Professional Documents
Culture Documents
إهداء
وشكر
محتوى الكتاب
الصفحة
3 المقدمة
4 نبذة عن حياة بياجيه
39 الخاتمة
40 المراجع
3
المقدمة
أعمال بياجيه عبارة عن بحر واسع من البحاث الكلينيكية المتأنية والملحظات الدقيقة والدراسات
التفصيلية المبنية على أسس بيولوجية ،والنظريات المعرفية التي تدور حول مبدأ التكيّف القائل بأن لكل كائن
حي قدرة على تنظيم بنيانه الجسدي والنفسي والعقلي وفقا ً لتجاربه الشخصية ،بيئية كانت أم اجتماعية ،حتى
يحقق لنفسه توازنا ً معرفيا ً يساعده على مواصلة التفاعل مع بيئته ومجتمعه ،بيولوجيا ً ونفسياً ،آخذا ً في تعديل
نظامه العقلي كلما مّر بتجربة جديدة ،بحيث يستوعب المواقف المستجدة والتجارب المستمرة ،إلى أن يتحقق
له التزان المعرفي ،أي ثبات حصيلة تجاربه في ذهنه .وبمعنى آخر :التعلّم.
أوجه هذا الكتاب إلى معلمة الروضة ،وأرضى بها حكما على ما فيه من أفكار بياجيه واتباعه.
بعد التعريف بجان بياجيه ،يتناول هذا الكتاب جانب واحد من أعماله المتعددة ،وذلك هو الجزء الذي
م معلمات الروضة. يتعلق بتطور عملية التعلم لدى الطفال في مرحلة الروضة وبالتالي يه ّ
يأتي في البداية شرح النظرية البيولوجية التي بنى عليها بياجيه أساس مفهومه للتطور المعرفي لدى
الكائن الحي ،ثم عرض موجز لمراحل التطور المعرفي لدى الطفال كما صنفها بياجيه ،ثم تفصيل لمرحلة
الذكاء الحدسي ،وهي المرحلة من عمر الطفل التي يقضيها في الروضة .وبذلك يتم إلقاء الضوء على أهم
مميزات تفكير الطفل في هذه السن ،وهي صفة الذاتية.
بعد ذلك يأتي عرض مفصل لمفهوم التعلم في مبادئ بياجيه ،فنرى كيف يبني الطفل معرفته وكيف
يتعلم ،كما نرى تأثير صفة الذاتية على خبراته و تجاربه الشخصية و طرق اكتسابه المعرفة ،ومن ثم نستعرض
صلها الطفل في الروضة. أنواع المعرفة التي يح ّ
1
وأخيرا تجد معلمة الروضة في هذا الكتاب نماذج لطرق التدريس المتطورة التي طورها تلميذ بياجيه
الذين اتبعوا مبادئه ،كما تجد بعض الساليب التعليمية القائمة على أهم مبدأ بياجيتي ،أل وهو مبدأ التسليم بأن:
التعلم وليد التجارب الحسية.
1
انظري المراجع صفحة 40كلما ورد اسم مؤلف أو مرجع
4
عزيزتي معلّمة الروضة ،أعرفك بجان بياجيه ،العالم النفسي السويسري الذي اشتهر باهتمامه بتطور
عقل الطفل .ولد بياجيه بمدينة نوشاتل في سويسرا عام 1896ميلدية ،وورث شغفه بالعلوم عن أبوين
يحترمان العلم والدقة والتنظيم احتراما ً بالغاً ،فنشأ على الهتمام بالتحصيل في المجالت التي تتطلب الملحظة
والبحث والتدقيق مثل علم الحياء؛ وعكف منذ صباه على دراسة اللفقريات والطيور والصداف ،كما عمل
بمتحف تاريخ العلوم الطبيعية بنوشاتل .ولم يكن بياجيه قد تجاوز الحادية عشرة من عمره عندما نشر أولى
1
مؤلفاته عن عصفور الدُوري.
ظل بياجيه يدرس الحياء حتى نال درجة الدكتوراه في علم اللفقريات عام ،1918وحتى أثر علم
الحياء على أبحاثه في مجال تطور العقل البشري .ثم تعددت اهتماماته بسائر العلوم مثل علم الجتماع
والفلسفة ،وعلم النفس الذي سعى من أجل دراسته إلى اللتحاق بجامعة السوربون بباريس في فرنسا عام
.1919
سو بجنيف (سويسرا) حيث تجرى البحاث العديدة في علم وفي عام 1921عيّن بياجيه مديرا ً لمعهد رو ّ
النفس والتربية ،وحيث يتم تدريب المعلّمين والمعلّمات على أسس تربوية علمية حديثة؛ فبدأ بياجيه يرسي
قواعد العمل الجليل الذي كرس له بقية حياته ،أل وهو اكتشاف نشأة المعرفة لدى النسان منذ الطفولة ،وكيف
يستخدم الطفل عقله في استيعاب واكتساب المعلومات ،وكيف يطور معارفه بواسطة تكيفه البيولوجي
والجتماعي و البيئي.
ولما كان بياجيه متعلما ً متميزا ً وعالما ً مبتكرا ً فقد أمضى نصف قرن من الزمن في العمل مع الطفال
بدءا ً بأطفاله ثم أطفال المدارس الخاصة بجنيف ،يجلس إليهم الساعات الطوال بدون ملل ويلحظ حركاتهم
وأفعالهم فيسجلها بدقة وبدون كلل ،ويستمع إليهم بصبر واهتمام بالغ ويناقشهم في شتى المسائل ويدوّن
مل في طرق تفكيرهم ويداعب خيالهم بأسئلته وأحاديثه المثيرة ،حتى أصبح شخصية مألوفة ومحبوبة آراءهم ويتأ ّ
لدى أطفال مدارس جنيف .الجدير بالذكر أن بياجيه لم يكن يجري اختبارات على الطفال بهدف قياس ذكائهم
بل بهدف استنباط آلية تفكيرهم منذ نعومة أظفارهم ،من الدراك الحسي والتعرف والتذكر ،إلى بلوغهم سن
التمييز والتعميم ثم التخيّل والتجريد.
واستمّرت حياة بياجيه تزخر بالعطاء العلمي حتى أغدق على دارسي العلوم النفسية والتربوية بما ل
يقل عن خمسين مؤلفا ً ومرجعا ً هاما .وفي عام 1955أسس بياجيه المركز الدولي لبحاث التطور المعرفي
الوراثي بجنيف ،حيث كان يحاضر في جموع رواد علوم النفس والتربية والتعليم ،ويشرف على البحاث
المتخصصة؛ وظل نشاطه مستمرا حتى قبيل وفاته سنة 1980بعامين.
لما كان بياجيه قد درس علم الحياء قبل انشغاله بأبحاث تطور الطفال فقد بات من الطبيعي أن يفسر
اكتشافاته تفسيرا ً علميا ً مرتكزا على الجانب البيولوجي من تطور النمو العقلي ،فدارت نظرياته التطورية حول
محور بيولوجي واحد هو :اشتراك جميع الكائنات الحية في الصفات التالية:
ل شك أن سبب استمرار تعلق الكائن الحي بالحياة هو التفاعل المتجدد بينه وبين محيطه البيولوجي
والنفسي والجتماعي والفكري ،وحاجته الملحة لمجابهة الظروف التي يعيشها ،ورغبته في التغلب على تحديات
البيئة ،وإصراره على الستفادة من عطائها.
لحظ بياجيه أن بعض الكائنات الحية التي تتعرض لتغير بيئي أو مناخي سرعان ما تبدأ بتعديل وظائفها
البيولوجية ،وكأنها تقوم بعملية إعادة تنظيم تركيبها البيولوجي الموروث بقصد مواجهة ظروفها البيئية والمناخية
الجديدة .ويستمر ذلك التعديل مع مرور الزمن واختلف الظروف حتى يطرأ علي الكائنات وعلى ذريتها تغير
فعلي في شكلها ووظائفها .وضرب بياجيه على ذلك مثلين :أحدهما عن نبتة تنمو أصل ً في مناخ دافئ تم نقلها
إلى مناخ بارد حيث أخذت وريقاتها تتقلص لتكثيف قدرتها على امتصاص أشعة الشمس ومقاومة البرد حتى
أصبحت تنبت ورقا صغير الحجم مختلف عن حجمها الصلي ( ،بولسكي ،1980صفحة ،) 8 -7والمثل الثاني
عن اللفقريات التي تعيش على شواطئ النهار ،فهي تضطر إلى تغيير سلوكها لمجابهة تغيّر اتجاه التيارات
المائية ،فيؤثر ذلك على شكل نموها بمرور الزمن فيتغير بالتالي شكل ذرياتها الواحدة تلو الخرى حتى تصبح
مختلفة تماما عن خصائصها البيولوجية الموروثة ( .بياجيه ،1977 ،صفحة ) 22
هذا النوع من التطور الذاتي يوجد بنماذج عديدة في البشر ،عند الشخاص الذين يفقدون حاسة البصر
مثلً ،يقوم جهازهم العصبي بإجراء التعديل البيولوجي اللزم لتكثيف حاستي السمع و اللّمس عوضا ً عن البصر.
والذي يفقد ذراعا في حادثة يحوّل تركيز قوته إلى عضلت قدميه؛ أما من ليس له أطراف فيركز إحساسه
وقوته العضلية في فمه وشفتيه ليلتقط ريشة رسم أو إبرة خياطة يعمل بها .إذا نظرنا إلى قدرة هؤلء على
التطوير الذاتي لمسنا قدرة الخالق سبحانه وتعالى على تطوير مخلوقاته من خلل جهازهم العصبي والعضلي
وبواسطة عقولهم التي وهب لهم.
هذا التطوّر الفطري هو ما يسميه بياجيه بالتنظيم الذاتي ( ) Auto-Regulationأي قدرة الكائن
الحي على تنظيم خصائصه البيولوجية الموروثة بدافع من رغبته في مواجهة ظروفه الحياتية.
وانتقل بياجيه من دراسة الحياء إلى ملحظة أطفاله ،محاول ً إثبات نظرية التنظيم الذاتي ،فوجد أن
الرضيع يبدأ في تحريك شفتيه حالما يشعر بالجوع ويبكي ،فتحمله أمه وهو يحرك رأسه عشوائياً ،فاغرا ً فمه،
باحثا ً عما يسد حاجته .وتتكرر هذه الحركات البدائية حتى تساعده أمه وتدله على صدرها فيرضع ويستقر.
وكلما تعددت الرضعات قلّت بالمقابل حركات الطفل العشوائية ،وهكذا حتى يتعلم كيفية الرضاعة بدون
عناء ( بياجيه ،1977 ،صفحة .) 31-28ثم تابع بياجيه حركات الطفل في مهده خلل الشهور الستة الولى من
عمره وسجل الملحظات التالية:
•كلما قّرب إليه أحد لعبة ،أخذ الطفل ينظر إليها ويحرك ذراعه.
•يرى الطفل ذراعه ممدودة بالقرب من اللعبة فيحاول المساك بها.
•إذا نجح الطفل في المساك باللعبة وضعها في فمه.
•إذا كانت اللعبة متدلية فوق مهده أخذ يضربها بيده محاول ً المساك بها.
•إذا تحركت اللعبة عمد الطفل إلى تكرار ضربها لكي تستمر في التحرك.
•فإذا أصدرت اللعبة صوتا راح الطفل يحركها مرارا ً وتكرارا ً لكي يستمتع بصوتها.
( بياجيه ،1977 ،صفحة )146 ،108 ،88
استنتج بياجه أن حركات الطفل العشوائية تنتهي بحركات مقصودة تؤدي إلى التعلم :يتعلم الطفل
كيفية التحكم في توجيه ذراعه ثم يده وأصابعه؛ أي أن الطفل يتصرف حسب نمط سلوكي مكتسب ثم يجد
نفسه أمام موقف جديد يضطره إلى تعديل النمط السلوكي السابق لحل مشكلة جديدة فيزداد بذلك خبرة
يضيفها تلقائيا ًً إلى خبراته السابقة ،وذلك هو التنظيم الذاتي.
6
واستمر بياجيه يسجل دراساته عن الطفال في مختلف أعمارهم حتى خلص إلى الفتراض التي:
يبني عقل الطفل هيكل ً معرفيا ً ( )Cognitive Structureمنبثقا ً من سلوكه العضوي والنفسي
الموروث والكامن في حركاته الفطرية الموجهة لشباع حاجاته .ويتكون هذا الهيكل المعرفي من أبنية معرفية
( )Schemataتتعدد وتتنوع بازدياد حركة الطفل وتطوره؛ فما هو هذا البناء المعرفي؟
البناء المعرفي هو نمط إدراكي يطوره عقل الطفل بناءا ً على سلوك يكتسبه من خبرة حسية/حركية؛
وكلما تعددت خبرات الطفل ازدادت أبنيته المعرفية .ويمتاز عقل النسان بالقدرة على تطوير أبنية معرفية
عديدة ،منها البنية الفزيولوجية المختصة بالنمو الجسدي ،ومنها البنية النفسية المنوطة بالنمو العاطفي ،فالبنية
الدراكية المتعلقة بالنمو العقلي .ويختزن العقل كل من هذه البنية المعرفية في الذاكرة أول ً بأول ليكوّن منها
مخزونا ً معرفيا ً يأخذ في التطور من مجرد منعكسات فطرية إلى أن يصبح نظاما ً شامل ً ومتكامل ً من العمليات
العقلية المتقدمة فالمعقدة.
( بولسكي ،1980 ،صفحة ) 236-235
إذن فالطفل يطور نفسه من خلل نشاطه الحسي/الحركي المستمر في بيئته ،وبواسطة التنظيم
الذاتي الذي يساعده على بناء معرفته وذكائه .و يفترض بياجيه أن مقدرة الطفل على التنظيم الذاتي تعمل في
نطاق
وظيفتين عقليتين ثابتتين ( ) Les Invarientes Fonctionnelles de l’Intelligenceوهما:
النظام و التكيّف:
النظام والتكيّف وجهان مختلفان ومتكاملن لعملية ذهنية واحدة هي :تحصيل المعرفة.
-1النظام عبارة عن قدرة عقلية على دمج وتصنيف وتبويب الخبرات والمعلومات في قوالب وأنماط
سلوكية ونفسية ،ثم الربط بينها بشكل منطقي لتكوين البنية المعرفية.
-2
-3التكيّف هو استعداد عقلي يؤهل الطفل للتصرف حيال ظروفه مستندا ً على خبراته السابقة المودعة
في بنائه المعرفي بما يلئم كل ظرف جديد .ومن هنا جاءت مقولة بياجيه المشهورة :
" الذكاء عبارة عن تكيف) L’intelligence est une Adaptation ( ".
( بياجيه ،1977 ،صفحة )10
يرتبط التكيّف ارتباطا ً وثيقا ً بحركة الطفل في البيئة ،ويمكننا القول بأن التكيّف هو نتيجة التفاعل بين
الطفل والبيئة ،كما هو السبب في تطور معرفته .ولكن المعرفة ل تحصل للطفل بمجرد أن يستجيب لمثيرات
البيئة . .المعرفة وليدة النشاط الحسي/الحركي والنفسي والجتماعي واللغوي الذي يقوم به الطفل في بيئته.
ول يعني ذلك أن نترك الطفل يعبث عشوائيا ،ول أن نجبره على نشاط معين كي يتعلم ،فالتكيف لن يحصل إل
برغبة الطفل في القبال على النشاط؛ وعندئذ فقط يتم التعلم.
ويمر التكيّف بتطورات دقيقة وحثيثة ،أطال بياجيه في تسجيلها وأسهب في شرحها في كتابه" :ولدة
الذكاء لدى الطفل" ( بياجيه ،1977 ،صفحة 25إلى ) 299ل نملك هنا سوى تلخيص مراحلها بتسلسل فيما
يلي:
-1التدرب على استعمال المنعكسات الفطرية( :من الولدة إلى شهر واحد)
ة لمثير خارجي مثل الضوء
ة لحاجة داخلية مثل الجوع ،أو استجاب ً
حركات بدائية يصدرها الطفل نتيج ً
والشياء المرئية.
-2التكيّف المكتسب ورد الفعل الوّلي 4 -1( :شهور)
يستوعب الطفل الخبرة الفطرية السابقة ،ويبدأ السلوك المنبثق عن إرادته كنوع من رد الفعل
المقصود إزاء المثيرات الخارجية.
كان ذلك موجزا ً مبسطا ً للمراحل التي يتدرج فيها تكيف عقل الطفل في السنتين الوليين من عمره
وسلوكه من خلل تطوره الجسدي والمعرفي ،كما صنفها بياجيه ( ،1977صفحة .) 300- 25
الستيعاب :يستقبل عقل الطفل الحاسيس والمثيرات والمعلومات من البيئة ،فيخلق منها أبنية معرفية
جديدة يختزنها ويضيف إليها ويكوّن منها نظامه المعرفي.
التوافق :ينتبه عقل الطفل إلى التغيرات الطارئة علي مواقفه وتجاربه ،ويحدث فيها تعديلت نمطية سلوكية
وفكرية لكي يستوعب المواقف المتغيرة ،فيخلق بذلك أبنية معرفية تتوافق مع التجارب الجديدة.
ويستمر الستيعاب والتوافق في الترادف والتعاقب والتكامل طوال حياة النسان أمام التجارب التي
يمر بها ،فيتكيف سلوكيا ً وفكريا ً مع بيئته.
ومن عدم توازن إلى توازن آخر يستمر الطفل مدفوعا ً بحاجته الفطرية للتطور ومن ثم إلى التعلم.
وينتهي المطاف عند شعور النسان بأن الرغبة في التوازن المعرفي قد أصبحت جزء ل يتجزأ منه؛ وهي حالة
يسميها بياجيه بالتزان ( .)Equilibration
هناك عوامل أساسية مقترنة بقدرة الطفل على تحقيق التزان ،تؤثر مباشرة على تطوره .فإذا تعطل
أحد هذه العوامل تأخر الباقي في دفع عملية البناء المعرفي .هذه العوامل هي:
المعرفة:
المعرفة عملية بنائية .والبناء يقتضي وجود عمل ( ) Actionأو نشاط يقوم به الطفل ليستخلص منه
المفاهيم؛ والنتيجة هي عملية عقلية ( ) Operationيختزنها الطفل في ذاكرته ويضيف إليها عمليات عقلية
أخرى كلما قام بنشاط جديد أثناء احتكاكه بالبيئة والمجتمع .وكل مجموعة متجانسة من العمليات العقلية تكوّن
بنية معرفية (.) Schemata
ومع تقدم الطفل في السن واستطراد نموه وازدياد تفاعله مع البيئة والناس ،تتكاثر أبنيته المعرفية
وتتجدّد وتتناسق حتى تصبح نظاما ً معرفيا ً مشتمل ً على المعلومات والمفاهيم والحقائق التي تتكون في ذهنه
بمساعدة عملياته العقلية التالية :الدراك والتذكر والتمييز والتعميم والتخيل والتجريد؛ كل ذلك يحقق المعرفة
التي ترتبط ،كما رأينا ،ارتباطا ً وثيقا ً بنشاط الطفل ،أي أنه ل وجود للذكاء بدون نشاط عملي.
9
يقسم بياجيه نشأة المعرفة لدى النسان السوي إلى أربع مراحل تبدأ منذ ولدته وتتطور حتى بلوغه
سن الخامسة عشر .وتتميز كل مرحلة باكتساب عقل الطفل أنماطا معرفية ملئمة لحتياجاته الجسمية
والنفسية والجتماعية .ولكن ذلك ل يعني وجود حدود فاصلة بين مراحل التطور المعرفي ،إنما تقوم كل مرحلة
على أساس المعرفة المكتسبة من قبلها وتمهد لبناء معرفة المرحلة التي تليها .لذلك يجب التنبيه إلى عدم
حصر كل مرحلة تطورية في حدود سن معينة ،والخذ في العتبار حدوث بعض التقدم أو التأخر في تطور
المعرفة تبعا للفروق الفردية بين الطفال .أما الرباط الوثيق الذي يربط بين المراحل التطورية الربعة فهو
التكيف المستمر بين ذهن الطفل وبين بيئته الطبيعية والجتماعية (وادزورث.)1978 ،
يحدد بياجيه العوامل التي تساعد الطفل في إكمال كل مرحلة معرفية والرتقاء إلى المرحلة التالية
بأربعة عوامل هي:
وفيما يلي شرح موجز لخصائص كل مرحلة من مراحل التطور المعرفي التي كانت ماري آن بولسكي
قد أوضحتها بإسهاب في كتابها المشهور “إدراك بياجيه” ()1980
المرحلة الولى :من الولدة إلى سنتين :الذكاء الحسي/الحركي ( )Sensorimotor Intelligence
في مرحلة الذكاء الحسي/الحركي ل يدرك الطفل سوى وجوده بالضافة لمن يقوم برعايته كالم أو من
يحل محلها ،ويتصف بالذاتية البيولوجية لعدم إدراكه أي شئ سوى ما يشبع حاجاته الجسدية ،فتظل معرفته في
هذه المرحلة مرتبطة ارتباطا ً وثيقا ً بشخصه وأفعاله وما يدور حوله فقط ،كما تقتصر المفردات اللغوية التي
يستعملها على كل ما يتعلق بشخصه وأفعاله ووجهة نظره لما يدور حوله؛ فل يمكنه أن يدرك شيئا ً أو يعبر عنه إذ
لم يكن قد رآه وتفاعل معه حسياً.
إذن فالمعرفة في المرحلة التطورية الولى عبارة عن نشاط عقلي يظهر في سلوك الطفل العملي؛
وبمعنى آخر :تفكير الطفل ينتج عن نشاطه الحسي/الحركي.
المرحلة الثانية :الذكاء الحدسي أو ذكاء ما قبل العمليات العقلية المحسوسة ،من ثلث إلى ست سنوات (
) Preoperational Intelligence
تغطى هذه المرحلة النشاط الذهني الذي يسبق العمليات العقلية المحسوسة ،وتسمى بالمرحلة
النتقالية لن من خللها ينتقل عقل الطفل من الدراك الحسي إلى العمليات العقلية المحسوسة التي تميز
المرحلة التطورية الثالثة .وتتميز مرحلة الذكاء الحدسي باقتصار تفكير الطفل على وجوده وذاته وما يتعلق
بشخصه ،ويرتبط تفكيره بما يراه رأي العين وما يشعر به فقط ،لذا كان وصف الطفل بالذاتية أو الناوية.
وسيتم تفصيل شرح المرحلة الثانية 2بعد إتمام العرض الموجز لبقية المراحل التطورية المعرفية.
المرحلة الثالثة :العمليات العقلية المحسوسة من 7إلى 11سنة () Concrete Operations
مى أيضا بالعمليات العقلية الراسخة ،وهي مرحلة الذكاء المنطقي حيث تتلشى صفة الذاتية وتس ّ
ويستطيع الطفل أن يرى المور من وجهة نظر الخرين ،وأن يميز بين مظاهر الشياء وحقيقتها ،كما يمكنه
القيام بالعمليات العقلية التالية :
وبالضافة إلى ذلك يفهم طفل المرحلة الثالثة ما يقصد من الحديث الموجه إليه ،ويستخدم
اللغة للتخطيط والتدبير ،كما يفهم القوانين المدرسية ويطبقها؛ وتلك هي بداية الذكاء المنطقي
الذي يمهد للتفكير المجرد في المرحلة التطورية الرابعة.
في هذه المرحلة ينتقل التطور المعرفي من التفكير في حلول منطقية للمسائل المحسوسة إلى إيجاد
حلول منطقية لجميع أنواع المشكلت ،فقد نضج الولد ( أو البنت) وبدأ عقله يحلّل الشياء والمواقف إلى
عناصرها الساسية؛ كما يستدل على وجود الشياء من ظواهرها ،ويستنتج الحلول استنادا ً إلى الفرضيات
(وادزورث .)1978وفي هذه المرحلة يدرك الولد ( أو البنت) أن له ضمير يفرض عليه احترام القوانين ومصالح
الخرين ،كما أن له شخصية تنفرد بالراء المستقلة التي يبنيها بطباعه وخلفيته الثقافية ومخزونه المعرفي
المتطور .وهكذا يصل الطفل التزان المعرفي .
يرى بياجيه أن تطور المعرفة عبارة عن عملية بناء معلومات على أساس تجارب وخبرات ينظمها
العقل في الذاكرة ويعيد تقييمها وتنظيمها حسب اقتضاء الحاجة .وتتطلب هذه العملية من الطفل القيام بنشاط
عملي يوفر له العناصر الحسية/الحركية التي تساعده على تكوين أجزاء معرفته جزءا ً جزءا ،فتنتقل التجربة في
ذهنه من الحيز المحسوس إلى الحيز الفكري .وقد سمى بياجيه هذا التطور المعرفي بالتكيف.
كما قسم بياجيه مراحل التطور المعرفي إلى أربع مراحل رئيسية يتميز الطفل في كل منها بخصائص
حسية وإدراكية تمهد له الرتقاء في تحصيل المعرفة تدريجيا.
0000000
11
هذا الطفل الذي يشغل فكرنا ووقتنا وقلوبنا ،كما شغل فكر العديد من علماء التربية والتعليم ،يظهر لنا
في ضوء جديد من خلل دراسات بياجيه واكتشافاته ،وجولته في خبايا تفكير الطفال في مرحلة الذكاء الحدسي،
حيث يعتبر بياجيه هذه المرحلة فترة انتقالية يخرج فيها عقل الطفل من المعرفة الحسية ليدخل طور المعرفة
الحدسية .وقد وصف بياجيه ذكاء الطفل في هذه المرحلة بالذكاء الحدسي
( )Intuitive Intelligenceلنه يعتمد في تفكيره على تصوراته المشبعة بأحاسيسه ويفسر المور كما يراها
ويشعر بها ،وليس كما هي في الواقع.
أمثلة:
يعتقد الطفل أنه طالما لم يتناول وجبة الغذاء فإن وقت الظهر لم يحن بعد.
يظن الطفل أن كمية الحليب المسكوب على المائدة قد زادت عما كانت عليه في الكوب لنه
يراها تغطي مساحة كبيرة على المائدة.
ف طويل.يعتقد الطفل أن عدد الزرار التي كانت في كومة صغيرة يزيد إذا وضعت الزرار في ص ّ
لذلك اعتبر بياجيه أن تفكير الطفل في هذه المرحلة شبه منطقي لنه يعتمد على
إدراكه البصري ( )Visual Perceptionأي أنه يفهم المور كما تراها عينيه.
تولد صفة الذاتية في الطفل منذ ولدته بشكل فزيولوجي طبيعي لكي تحركه نحو إشباع حاجاته الولية
فقط ،كما رأينا في المرحلة الحسية/الحركية ،ثم تتطور مع تطور الطفل وتوجه سلوكه حتى يبلغ المرحلة
النتقالية حيث تتسرب الذاتية إلى تفكيره وتسيطر على فهمه وتفسيره للمواقف بحيث يرى المور من وجهة
نظره الخاصة فقط ،جاهل أوجه نظر الخرين.
يعتقد الطفل أن الشمس قد خلقت لكي تجفف ملبسه ،والقطة خلقت لكي تلعب معه ،ويظن أن مثال:
من رآهم في منامه يعرفون ما دار فيه ،ويتصور أن الموجودين معه في نفس الغرفة يعرفون ما
يدور بخلده وهكذا .ففي هذه المرحلة من التطور المعرفي يعتقد الطفل أن الناس يفكرون مثله
ويشعرون نفس شعوره ويحسون برغباته ،وذلك ما يجعله يلح على والديه ويرغمهم على تنفيذ
رغباته بإصرار.
من هنا جاء العتقاد السائد أن صفة الذاتية هي نوع من النانية ،بينما هي في الحقيقة عجز الطفل عن
فهم منطق الخرين والحساس بشعورهم ورؤية المور من وجهة نظرهم .فإن تفكير الطفل في المرحلة
النتقالية يرتكز على إدراكه للمور مستندا ً إلى تجاربه الشخصية ،لذا يستعصي على ذهنه أن يتجاوز حدود هذه
التجارب.
حيوانات المزرعة ل تعني نفس الشيء للطفل الذي يعيش في المزرعة والطفل الذي يسكن مثال:
المدينة؛ فإن تجارب طفل المزرعة تؤثر في تفكيره وتعبيره عن الحيوانات ،فهو يساعد أباه في
العتناء بها وإطعامها وركوبها واستخدامها في العمل ،كما يعرف حجمها ولونها وملمسها ورائحتها.
أما طفل المدينة فقلما تتعدّى خبرته رؤية حيوانات المزرعة في الكتب والمجلت والتلفزيون ،حتى
إذا أراد التعبير عن الحصان مثلً ،قال أنه حيوان كبير لونه بني أو أبيض وله أربع قوائم و يركبه
الناس .
رأى بياجيه من خلل دراساته وتجاربه أن صفة الذاتية تجعل الطفال ينظرون إلى المور بنظرة فردية،
ويعتقدون أن العالم كله امتداد لشخصهم ،وأن الجميع يفكر بتفكيرهم ،وأن من يستمع لحديثهم يفهم كل ما
يقصدونه من معاني ،ويفسرون الحقائق بمنطق نابع من خبراتهم الشخصية كما سنرى في المثلة التالية التي
ذكرها كل من بيترسون و كولينز (:)1986
()Animism الحيائية:
يعتقد الطفل أن كل شئ في الوجود كائن حي فيقول أن القمر يمشي معه وينظر إليه،
والدمية تجوع فيطعمها وإذا انكسرت يريد أن يأخذها إلى الطبيب ...
()Artificialism الصطناعية:
إذا لم يتلقى الطفل أي نوع من التربية الدينية يعتقد أن الناس هم الذين صنعوا الجبال لكي
يتسلقوها ،والشجار لكي يأكلوا ثمارها ،والشمس لكي تدفئهم...
()Centering المركزية:
يركز الطفل اهتمامه على صفة واحدة فقط مما يعرض عليه من الشياء متعددة الصفات،
وعندما يطرأ على الشيء الواحد عدة تغيرات يركز اهتمامه على تغير واحد فقط .
ول ينتهي تأثير الذاتية عند هذا الحد بل يمتد ليشمل لغة الطفل ولعبه ومفهومه للخلق.
ففي مجال اللغة ،نلحظ أن الطفل كثيرا ما يلتقط كلمة جديدة ويرددها بكثافة وهو منهمك في اللعب،
ويظل لسانه يلوكها بنغمات مختلفة حتى يتغير لفظها ثم يعود إليها وكأنه يتحدث مع نفسه ،وهكذا حتى ينتهي
من اللعب .كما نراه يتحدث إلى ألعابه ويتكلم عن لسانها وهو في الواقع يعبر عن أحاسيسه ورغباته من خللها.
وإذا لعب مع بعض الطفال نسمعه يتحدث إليهم غير عابئ بالجابة بل ومتطوع بالرد علي نفسه.
في الواقع ،هذا الحوار المسرحي يساعد الطفل على التدرب اللفظي وامتلك المهارات اللغوية الضرورية
لتطوير المعرفة .وقد قسم بياجيه التطور اللغوي عند الطفال إلى قسمين متعاقبين هما:
اللغة الذاتية أو الفردية ،واللغة الجتماعية.
يقول بياجيه " :ل يهتم الطفل بمعرفة الشخص الذي يتحدث معه ،ول إذا كان
يصغي إليه ،إنما هو يحدّث نفسه ويستمتع بصحبة محدثه".
( بياجيه ،1976 ،صفحة ) 18
وللغة الذاتية ثلثة أطوار :التكرار أو الترديد – الحديث الفردي – الحديث الثنائي
يبدأ الطفل بممارسة لفظ الصوات والكلمات التي يسمعها ،ويسّره تكرارها التكرار أو الترديد:
والتدرب علي لفظها حتى يصبح لديه حصيلة وفيرة من العبارات قبل دخوله مرحلة الذكاء
الحدسي أي المرحلة النتقالية.
الحديث الفردي :أي التفكير بصوت مسموع أثناء اللعب وكأن الطفل يحدث نفسه.
الحديث الثنائي :يشترك الطفل مع غيره في الحديث دونما اكتراث لسماع رأيه ،وكأن محدثه مجرد مثير يدفعه
للستغراق في الكلم.
يقول بياجيه " :إن الحديث الذاتي يصاحب و يعّزز نشاط الطفل قبل أن
يستخدمه في التفكير الجتماعي ( ".بولسكي ،1980 ،صفحة ) 99
مع نهاية المرحلة النتقالية يكون الطفل قد تطور في تحصيل اللغة بحيث يمكنه المشاركة الفعلية في
حوار يستفيد منه ببعض المعلومات ويساهم فيه ببعض السئلة والجوبة والراء.
( بياجيه)1976 ،
اللغة تساعد الطفل على تنظيم أفكاره ،فهي الداة التي تعينه على فهم تجاربه ،وهي الجسر الذي
يربط بين أفكاره وأفعاله ،وهي الوسيلة التي يعبر بها عن وجهة نظره؛ ثم بعد ذلك تقربه اللغة من وجهات نظر
الخرين.
14
وفي مجال اللعب نجد الطفل يقلد الشخاص والحيوانات ويتخيل نفسه في مختلف المواقف النابعة من
بيئته أو المنسوجة في خياله بتأثير حادثة مرت به أو قصة سمعها .ويسمي بياجيه هذا النوع من اللهو باللعب
الرمزي ( )Jeu Symboliqueالذي يحتوي على قدر كبير من الواقع اليومي الخالي من القيود والمعايير
الجتماعية المفروضة عليه؛ لذلك فاللعب الرمزي يساعد الطفل على استيعاب أحداث حياته اليومية والتكيف
مع مواقفها ،خيرها وشرها ،والتعبير عن نفسه بالتقليد والتمثيل .ول يفوتنا هنا أن نذكر أهمية اللعب الرمزي في
مساعدة الطفل على امتصاص مخاوفه والتنفيس عن حزنه وفرحه والتعبير عن رغباته المكبوتة.
أما في مجال الخلق فإن مفهوم الطفل لمعايير الثواب والعقاب محدود بخبراته الحسية ومتشبع
بذكائه الحدسي؛ وحكمه على فاعل الخطأ ينبثق من وجهة نظره المحدودة .فإذا سألنا الطفل رأيه في العقاب
المناسب لكل من ولد سرق رغيفا وولد كسر ساعة ثمينة ،حكم بالعقاب الكبر على كاسر الساعة لنها ثمينة.
كان جل اهتمامنا بالمرحلة النتقالية أي مرحلة الذكاء الحدسي ,فتتبعنا تطور طفل الروضة الذي
وجدناه يفهم الحقائق من خلل تجاربه الشخصية ،ويدرك ماهية الشياء كما يبصرها ،ويفسر المور من وجهة
نظره فقط ،فيصعب عليه فهم العلقة بين السباب والنتائج وإدراك التسلسل الزمني للحداث وفهم القوانين؛
كل ذلك بسبب الذاتية التي تسيطر على تفكيره.
0000000
15
جهة وأعمال
إننا ندخل الروضات الحديثة اليوم ونرى فيها مختلف مظاهر التعليم الحديث من أنشطة مو ّ
مستقلّة ،فردية كانت أم جماعية؛ منها المقيّد ومنها المراقب ،فالمتحّرر من القيود .ونرى شتّى أنواع الوسائل
والدوات التعليمية التي يعكف عليها الطفال بالتركيب والبنيان والرسم واللعب؛ ونسمعهم يردّدون الغاني
ل ذلك إلى أذهانهم؟ ماذا يدركون منه وكم يتذكّرون؟ ونقرأ جب كيف يتسّرب ك ّ ويجيبون على السئلة فنتع ّ
الدراسات التربوية الحديثة ونتساءل :كيف يتعلّم الطفل؟ أهي البيئة التي تثير فضول الطفل وتدعوه للكتشاف؟
أم هي المعلّمة التي تشرح الدرس وتطرح السئلة وتجيب السائلين؟ أم هي المثيرات التي تدفع الطفل
جعه على مواصلة التعلّم؟ للستجابة؟ أم هو التعزيز الّذي يش ّ
سنأخذ في هذه المسألة برأي بياجيه وتلميذه ومتّبعيه من أمثال وادزورث ،وكامي ،وفورث ،وداكورث،3
وغيرهم ممن اتخذوا من مبادئ بياجيه قاعدة راسخة أطلقوا منها أبحاثهم ودراساتهم الخاصة في مجال التعليم،
والذين أجمعوا على أن التعلّم ل يقتصر على فهم الدرس والحصول على الجابات والحلول الصحيحة ،وإنما
يتعدّى حدود الدرس ليجوب بعقل الطفل في آفاق جديدة ل يحدّها سوى تدّرج ارتقائه في مراحل التطور
المعرفي.
ولكي نتحدث عن التعلّم يجب أن نصل إليه من خلل المقارنة بينه وبين التطور المعرفي ،فنجد بياجيه
ن التطور المعرفي عبارة عن: يفّرق بينهما من حيث طبيعة كل منهما ومصدره؛ فهو يعتبر أ ّ
أثناء ارتداء ثوبه يستخدم الطفل بعض البنية المعرفية السابق تكوينها لديه ،والتي تساوي في مثال:
مجموعها عملية تطورية واحدة هي :التناسق العضلي /البصري ( مسك أطراف الثوب ،رفعه إلى
أعلى ،سحبه إلى أسفل ،توجيه الرأس صوب فتحة الرقبة ،توجيه اليدين صوب فتحتي الكمام ،الخ
) وأثناء تلك العملية يكتشف الطفل أن رأسه ل تنفذ من فتحة الرقبة المغلقة بالزرار :مشكلة
ل لها ،سواء بمفرده أم بمساعدة شخص آخر ،فيتعلّم أن عليه ف ّ
ك الزرار أول قبل يبادر بإيجاد ح ّ
م يكمل عملية الرتداء فيجد نفسه أمام مشكلة جديدة هي أن الكمام طويلة تغطي ارتداء الثوب .ث ّ
ل ،فيجد نفسه أمام تعلّم جديد ،وهو رفعيديه وتعيق حركته .ومرة أخرى يحاول الطفل إيجاد ح ّ
الكمام أو ثنيها إلى أعلى.
نلحظ في المثال السابق أن الطفل يسلك مسلكا ً تكيّفيا ً واعيا يتكوّن من عمليّتين متعاقبتين ،هما
الستيعاب والتوافق:
الستيعاب :هو تطبيق نمط سلوكي مكتسب لمواجهة موقف مألوف أو مشكلة جديدة؛ فان نجح كان
الستيعاب.
التوافق :هو تغيير السلوك المكتسب في حالة الفشل ،أو تعديله ليصبح نمطا ً سلوكيا ً جديدا ً جاهزاً
للتطبيق في مواقف جديدة شبيهة بالموقف السابق.
انظرى المراجع صفحة 40كلما ورد اسم مؤلف أو مرجع . 4
16
عادة ما نميل إلى العتقاد بأن تكرار التجربة هو الذي يعلّم الطفل المهارات المتعلقة بخبراته
(مثلما في عملية ارتداء الثوب ) ،وننسى أنّه لول اكتشاف الطفل لبعض الصعوبات التي يضطر لمواجهتها ،لما
تعلّم شيئا ً جديداً.
اكتشف بياجيه أن الطفل يتعلم عن طريق ثلثة سبل متداخلة ومتكاملة ،هي:
-1الخبرة الشخصية
-2التفاعل الجتماعي
-3النتقال من الخبرة المحسوسة إلى الفكر المجرد عبر اللغة.
-1الخبرة الشخصية هي الخوض في اللعب أو العمل بأدوات وأشياء محسوسة لتجربتها شخصياً
للخروج من التجربة بتعلم جديد .والخبرة الشخصية العملية من أهم سبل التعلّم ،ولكن اكتشاف عناصر الخبرة
وخباياها هو الذي يؤدي إلى إحراز التقدم .والمقصود باكتشاف عناصر الخبرة هو أن يقوم الطفل بالبحث عن
السباب وإجراء التجارب ورؤية النتائج ،وإدراك العلقة بين معطيات التجربة وبين المفاهيم التي تؤخذ منها.
بدون الكتشاف يصبح التعلم مجرد تنفيذ لتعليمات المعلّمة ،وتكرار للمهارات المكتسبة ،وترديد للجابات
الصحيحة.
ن الكتشاف عامل أساسي في الخبرة العملية التي تساعد الطفل على التعلم .ولكن هل يكفي ذلك إ ّ
لجمع عدّة أطفال في غرفة مليئة بالدوات واللعاب لكي يجّربوا ويكتشفوا؟ كيف نضمن إقبالهم على التعلم؟ ل
بد ّ وأن يشعروا بشيء من الهتمام أو الفضول لكي يتفاعلوا مع البيئة التعليمية.
غالبا ً ما تكون البيئة التعليمية مغرية ،كما تكون طريقة المعلّمة في إثارة انتباه الطفال جذابة ،ومع
د
ذلك نجد بعضهم يخرج من الدرس كما دخل فيه ،يعني بدون تحصيل .إذن ل بد ّ أن يكون هناك شئ آخر يش ّ
ميه بياجيه :
الطفل إلى التعلم والتقدم ،وذلك هو الدافع الداخلي أو ما يس ّ
الحاجة إلى التوازن المعرفي (. )Disequilibrium
و الشعور بعدم التوازن المعرفي إزاء موقف جديد يغمر الطفل بالحيرة والتساؤل ويدفعه إلى التفكير
والرغبة الشديدة في القيام بتجربة شئ يختاره ويريد تنفيذه .وكلما أتيحت للطفل حرية العمل وفرصة التفكير،
كلما تكاثرت عملياته الذهنية ،وتطور بناء نظامه المعرفي ،وازدادت معلوماته واستمر في التعلم .ألم يقل بياجيه
أن الطفل هو الذي يبني معرفته بنفسه؟ وأن البيئة والمربين هم العوامل المساعدة على تحقيق هذا البناء؟
حة في
ن استطراد التعلم منوط بدوافع الطفل الداخلية للتطوّر وبناء المعرفة ،وبرغبته الفطرية المل ّإ ّ
الوصول إلى التوازن المعرفي؛ ول يعني ذلك إلغاء دور المثيرات الخارجية مثل البيئة التعليمية المثيرة والدوات
والوسائل التي ينفّذ بها الطفل نشاطه ،بل هو يستعين بها على سد ّ حاجته للتوازن المعرفي ،ومن ثم يحصل
على التعلم.
طفل كان قد تعّرف إلى بعض أنواع الحيوانات من خبرات سابقة ،يذهب إلى حديقة الحيوان مع مثال:
معلّمته وزملئه .وهناك يرى الزرافة لول مّرة ،فيشعر بالحيرة والغموض (عدم توازن) .وما هي إل
ثوان معدودة حتى يقوم ذهنه بنشاط مكثف من العمليات العقلية اللزمة لستيعاب هذه المعرفة
الجديدة .فمن خلل المقارنة والتصنيف والتعميم والتمييز يحاول الطفل إدخال هذه المعلومة
الجديدة في نظامه المعرفي :إنه قد رأى حيوانات لها أربع أرجل قبل ذلك ،ولكن أرجل هذا
الحيوان طويلة جدا ورفيعة .ولقد رأى حيوانات ضخمة مثل الفيل ولكن رقبة هذا الحيوان طويلة،
ورأسه صغير ولونه يختلف ...وهكذا يستمر عقل الطفل في توفيق هذه المعلومة الجديدة في
نظامه المعرفي حتى يستوعبها.
ويرى وادزورث ( )1978أن حالة عدم التوازن هذه ل تتساوى عند جميع الطفال في نفس العمر ،ول
ك أن خبرات الطفال الشخصية تختلف من طفل إلى آخر حتى لو كانوا يمّرون أمام نفس المثيرات؛ فل ش ّ
ّ
بنفس المرحلة التطورية .لكن مهما تباينت الفروق الفردية بين الطفال ،ظلت الحاجة إلى التوازن المعرفي هي
الدافع الداخلي للتعلم.
17
والفروق الفردية تخلق بين الطفال نوعا من التعاون الفكري ،إذ أن بعضهم يعرف مال يعرفه غيرهم،
فيتساءلون بينهم ويتجاذبون أطراف السؤال والجواب ،ويتعلمون من بعضهم البعض ،أو يلجئون إلى سؤال
المعلّمة ،فيحصل بذلك تبادل وتقارب فكرى يسميه بياجيه :التفاعل الجتماعي.
-2التفاعل الجتماعي له دور كبير في تعليم الطفل ما يستعصي عليه اكتسابه بمفرده مثل
المهارات اللغوية.
مثال :إذا لم يستطع الطفل الواقف أمام الزرافة أن يجد لها تصورا مقنعا في ذهنه ،لجأ إلى سؤال المعلّمة أو
بعض زملئه الكثر منه خبرة ،فيأتيه الجواب :هذه زرافة ،فيتعلم الطفل معلومة جديدة عن طريق التبادل
حة في تحقيق التوازنن فشل الطفل في استيعاب الموقف الجديد في بادئ المر ،ورغبته المل ّ الفكري .إ ّ
ل ذلك قد أدّى إلى عملية تفاعل اجتماعي. المعرفي ،واحتكاكه بالناس المتواجدين معه والتبادل الفكري معهم ،ك ّ
والتفاعل الجتماعي يتيح للطفل أن يتعلم من الكبار ما يصعب عليه استنتاجه دون الوقوع في الخطاء
مثل السلوك السليم للتعامل مع الخرين ،وما يستحيل تجربته دون التعرض للذى مثل قواعد السلمة من
الخطار .إذن يمكننا القول بأن التفاعل الجتماعي هو أيضا من أهم سبل التعلم.
ميات،
أما السبيل الخير للتعلم فهو استخدام الرموز ( )Symbolsللدّللة على المس ّ
والتمثل( )Representationللتعبير عن الفهم والسؤال عما يراد معرفته؛ إنها اللغة.
-3اللغــة هي وسيلة انتقال عقل الطفل من المرحلة الحسية إلى مرحلة التفكير المجرد .وتشكل
اللغة عنصرا ً هاما ً من عناصر الخبرة الشخصية ،كما أنها تلعب دورا كبيرا في تنشيط التفاعل الجتماعي ،فهي
م
العامل المساعد على التبادل الفكري واكتساب مهارات التصال التي تقوم عليها العلقات النسانية .لذا تهت ّ
التربية الحديثة بتشجيع الطفال على وصف أعمالهم وألعابهم والتعبير عما يفكرون فيه وما يشعرون به ،وذلك
لتنمية مهاراتهم اللغوية.
ولكن اللغة ل تشكّل القاعدة الساسية لتطور العمليات العقلية ،بمعنى أنها ل تولّد التفكير ،إنما التفكير
هو الذي يساعد على نشأة اللغة؛ والدليل على ذلك هو بدء تطور العمليات العقلية لدى الطفل قبل بلوغه
المقدرة على استخدام اللغة ،وظهور أثر تفكيره ،مثل الكلمات والعبارات الجديدة ،على نشاطه الحسي/
صم والبكم ،ووضوح أثر تفكيرهم في اللغة الحسيّة/ الحركي .وهناك دليل آخر :هو وجود العمليات العقلية لدى ال ّ
الحركية التي يعتمدون عليها للتصال بالمجتمع.
اللغــة عند بياجيه وتلميذه وليدة تطور المنطق العملي ( أي التفكير المبني على النشاط
الحسي /الحركي).
يردّد الطفال أناشيد عن الطبيعة في الربيع ،فمن كان منهم قد ترعرع في حضن بيئة طبيعية فهو مثال:
ما من لم ير في حياته كيف تتفتّح الزهور
يدرك معاني الكلمات ويمكنه التعبير عنها بلغته الخاصة .أ ّ
على الغصان ،ولم يعبث بالعشب الخضر الطّري ،ولم يشاهد الفراشات الملونة ،فهو ل يدرك
معنى ما يحفظه من كلمات النشيد ،ويصعب عليه التعبير عن الربيع.
لذا حث بياجيه على ضرورة مساعدة الطفل على تطوير مهاراته العملية المنطقية أي المهارات
الفكرية المبنية على أساس حسي /حركي ،قبل امتلكه للمهارات اللغوية.
يمكننا إذن القول بأن الطفل يتعلم اللغة كنتيجة لخبراته الحسيّة /الحركية وتفاعله الجتماعي ،وهو يستخدمها
في التصال الفكري مع الناس ،وينتقل بواسطتها من
الخبرة المحسوسة ( )Concrete experienceإلى الفكر المجّرد ()Abstract thinking
وهنا يجب التنبيه إلى أنه ل يمكن حدوث العكس ،كما ل يمكن أن يتعلم الطفل باللغة فقط .
إذا لحظنا الطفل جيدا ً أثناء لعبه أو عمله ،وجدناه يجرب سلوكا ً معيناً؛ فإذا لم يفلح في الوصول إلى ما
يريد أخذ يغير من سلوكه ،حتى ،إذا وصل إلى الهدف المطلوب ،نقول أنه قد تعلم؛ بينما هو في الحقيقة كان
يتعلم طوال الوقت أثناء التجربة كلها .كلما استوقفته مشكلة ،يغير من سلوكه لحلّها فيتعلم شيئا جديدا.
ويختلف السلوك التعلّمي من طفل إلى آخر :فبعضهم يفضل البناء بالمكعبات أو الرمل أو الصلصال،
ب الرسم ،والبعض الخر يجيد الف ّ
ك والتركيب ،وكثير منهم يهوي اللعب الوهمي ،ومنهم المتحدّث وبعضهم يح ّ
ضل ،كي ّ
الذي يعبر عن فهمه شفهيا ،ومنهم الخجول الذي يجب علينا نحن التعّرف على سلوكه التعلمي المف ّ
نساعده على الدراك والتعلم.
لذا وجب على المربّية أو المعلّمة التعّرف على شخصية كل طفل ،واللمام بمرحلته التطورية ،لتتبيّن ما
يعرفه مما يجهله وتبحث عن الطريقة التي يحسن بها التعبير عن إدراكه للمور .كما عليها التحلّي بالصبر
والتروّي إذا لم ينجح الطفل من محاولته الولى ،وأن تعطيه الفرص الكافية لتكرار تجاربه وقتما شاء وكيفما
شاء .عندئذ تستطيع المعلّمة تسهيل عملية التعلم على كل طفل ،بإدخال بعض التعديلت البيئية والزمنية
والعملية على برامجها ،لكي تحدث تقاربا بين ما يستطيع الطفل إدراكه وتنفيذه ،وبين ما لم يتعلمه بعد.
وفيما يلي بعض التوجيهات التي وضعها بياجيه وتلميذه لتحديد كل مبدأ من مبادئ التعلم الثلثة.
التعلم يجب أن يكون عملية نشطة ومحسوسة ،لن تكوين المعرفة يحدث في داخل المتعلّم ويتأث ّر
بخبراته الشخصية .والمقصود من المعنى التطبيقي لهذا المبدأ التطوّري الفكري هو كما قال بياجيه:
على الرغم من تبنّي الروضات الحديثة برامج التنمية الحسية /الحركية ،نجدها تركّز على إكساب
الطفال عدّة مهارات حسية /حركية ،تقيس من خللها تحقيق الهدف التربوي بالسلوك الظاهر الذي يقوم به
المتعلم ،وتهمش المهارات الفكرية التي هي جزء ل يتجزأ من الخبرة العملية ،فتؤجل بذلك إثارة عقول الطفال
وتطوير بناء ذكائهم.
الهتمام بدور التفاعل الجتماعي بين الصغار والكبار ،وبين الطفال وزملئهم يؤثر في تطور الذكاء
والتعلّم .يعتقد بياجيه أن حرمان الطفل من التفاعل الجتماعي يؤدي إلى ضياع فرصة إطّلعه على وجهات نظر
الخرين ،وبقاء تفكيره مقيّدا بوجهة نظره الذاتية.
إن تعارض آراء الطفال ونشوب الجدال بينهم يفتح أذهانهم على آراء جديدة وأوجه نظر مختلفة
يتعلمون منها أشياء عديدة ،ويمارسون من خللها مهارات لغوية متنوعة .والطفال المتقاربون في السن الذين
يمّرون بنفس المرحلة التطوّرية يفهمون بعضهم البعض أكثر من فهمهم للكبار ،ويمكنهم مساعدة بعضهم البعض
على إبداء آرائهم وتحرير أفكارهم من قيود الذاتية ،المر الذي يصعب على البالغين الوصول إليه.
ولننظر إلى حقيقة التفاعل الجتماعي في روضات اليوم؛ إنه أمر يسمح المعلّمون به ولكنهم ل
يشجعون الطفال عليه كممارسة فعلية تقتضي إعطائهم حرية الرأي ،وتبادل وجهات النظر المختلفة،
ض الجدال وكتم الصواتومناقشة القوانين في حدود النظام .إن ما يحدث اليوم هو إسراع المعلّمة إلى ف ّ
للحفاظ على الهدوء في الصف.
19
ينتقد بياجيه من ينادي بترك الطفل يعبث وينأى عن النظام تحت ستار الحرية ،ويؤكد على ضرورة
تطوير استقللية المتعلّم من خلل ترغيبه في النظام وفي التعاون مع الخرين في ظل الحرية المنظمة وليس
بفرض الطاعة العمياء .ويقتضي ذلك إعداد نظام صفّى سليم ،يمارس فيه الطفل السلوك الجتماعي الخلقي،
ويتعلم منه التمييز بين أنواع السلوك المختلفة ،والحكم عليها من حيث الصحة أو الخطأ ،شرط أن يصبح مفهوم
التفاعل الجتماعي إطارا للتعلّم وليس قناعا للسيطرة .كما يشدد بياجيه على أهمية تعليم الطفل كيف ينظّم
ّ
خبراته وأفكاره بدل من أن يضيّع وقته في العبث بالوسائل والدوات التعليمية؛ ويقتضي ذلك أن تتفاعل المعلمة
مع الطفال بصدق ودارية وإدراك لحاجتهم إلى التفكير الستنتاجي الواعي .كما يجب أن تمتـنع المعلّمة عن اتّباع
التـنظيم الصارم الذي يقيّد البرامج التعليمية ويش ّ
ل حركة التطوّر ويعيق التعلم.
تشاهد مرحلة الذكاء الحدسي تغيّران أساسيان في نمو الطفل العقلي ،هما:
-1بداية استقلل تفكيره عن أفعاله الحسية /الحركية ،بمعنى أن المفاهيم التي يدركها بحواسه تصبح
تدريجيا جزء من تفكيره ،يدركها ويتحدث عنها دون وجودها أمامه.
-2إزدياد إمكانياته اللغوية حيث يبدأ بالتعبير عن أفكاره مستخدما الرموز والتمثيل اللذان يساعدان
ذهنه على التطور من الفكر الحسي /الحركي إلى الفكر المجّرد.
أثناء المرحلة النتقالية ،أي مرحلة الذكاء الحدسي ،يتكوّن ذكاء الطفل من خلل الخبرة الشخصية،
ويتخذ المهارة اللغوية سبيل للرتقاء إلى التفكير المجّرد الذي يبلغه عند نهاية هذه المرحلة .ذلك لن النشاط
م في الفكري يقوم على أساس الخبرة الشخصية وليس على أساس تعلم وممارسة اللغة .فاللغة عامل ها ّ
ث بياجيه المربيّن على استغلل الفرص التي تتيحها التعلم ولكن ليس على حساب النشاط الفكري .لذا يح ّ
تغيرات المرحلة النتقالية لتطوير المهارة اللغوية لدى الطفال ،ولكن ليس على حساب التطوير الفكري
وتحصيل المعرفة .ويضع بياجيه المهارة اللغوية في المرتبة الثانية بعد التطوير الفكري ،ويعتبر اللغة بدون
المعرفة كالوعاء الفارغ؛ فالمهارة اللغوية وحدها ل تعكس فكرا ً راقيا ً ول ذكا ًء عالياً .
م عن الذكاء، " لكي نعلّم الطفال كيف يستخدمون اللغة بطريقة تن ّ
ل يوجد أفضل من تنمية ذكائهم" .
( وادزورث ،1987 ،صفحة ) 71
المقصود بتنمية الذكاء هو تعليم الطفال طرق التفكير المبنية على الخبرة الشخصية :البحث والتجربة
والمقارنة والربط بين السباب والنتائج ،ثم استخدام اللغة كعامل مساعد للتبادل الفكري والتعبير عن الفهم.
تعترف الروضات الحديثة بأهمية الخبرة العملية ،بل وتسمح للطفال بالتجارب ،ثم تعود فتمارس قياس
مستوياتهم عن طريق رصد الجابات الشفهية قبل التأكد من نضج مهاراتهم اللغوية .وكذلك نجد الصرار حتى
ض النظر عن مدى تأسيسهم الحسي /الحركي ومدى الن على تعليم أطفال الروضة القراءة والكتابة بغ ّ
استعدادهم الفكري.
المطلوب من المربّين هو إدراك طبيعة اللغة ودورها المزدوج وموقفها من التعلّم؛ فهي تارة وسيلة
للتعلّم ،وتارة أخرى ناتجة عنه كما نرى فيما يلي:
)1يقوم الطفل بنشاط فكري مثل التصنيف أوالتدريج أوالعدّ...الخ مستخدما المفردات
اللغوية التي تعلمها سابقا والتي تعينه على تصوّر التجربة المستمدّة من النشاط .ثم
يستخدم الطفل مهارته اللغوية من خلل الحوار والمناقشة مع المعلمة والزملء ،لكي
يعبّر عن مضمون النشاط الفكري الذي كان يعمل به ،فيفصح عما يميزه وما يفهمه
ويستفسر عما غاب عن ذهنه ويعرض نتائجه ويبدي ملحظاته .فاللغة هنا وسيلة للتعلم.
)2يقوم الطفل بنشاط عملي مثل البناء أوالتركيب أوالتجارب بالماء ،فيكتسب من عمله بالمواد
والدوات إدراكا حسيّا لمضمون النشاط؛ ثم يحتاج إلى التصال بالمعلّمة أو الزملء لستبدال إدراكه
الحسي برموز لغوية تعبر عن أطوار النشاط الذي قام به ،فيتعلم بذلك مفردات لغوية جديدة مثل:
مكعب كبير ،دائرة حمراء ،الحديد يغوص في الماء...الخ .وهنا تصبح اللغة نتيجة للتعلم.
وهكذا نرى أن مسار التعلم يجري من التطور الحسي /الحركي إلى التطور الفكري عبر التبادل الفكري
وبواسطة اللغة ،حتى ينتهي إلى التفكير المجرد .فإذا استطاع عقل الطفل النتقال من الدراك الحسي /الحركي
إلى التبادل الفكري اللغوي البسيط بدون صعوبات كبيرة ،فإنه يصبح على استعداد لتعلم القراءة والكتابة.
20
تكلمنا في معرض الحديث عن المعرفة ( )Cognitionحول تطورها وبنائها .و سنتحدث الن عن
صلها الطفل في الروضة.
المعرفة ( )Knowledgeفي مدلولها التحصيلي ،حول أنواع المعرفة التي يح ّ
يقسم بياجيه المعرفة التي يكتسبها الطفال إلى نوعان رئيسيان هما:
-1المعرفة الطبيعية ( ) Physical Knowledge
-2المعرفة المنطقية /الرياضية ( ) Logico - mathematical Knowledge
وتضيف إليهما الباحثة التربوية هرمينا سينكلير ( إحدى زميلت بياجيه ) نوعا ثالثا هو:
-3المعرفة الجتماعية ( ) Social Knowledge
ويشبّه بياجيه المعرفة الطبيعية بالكتشاف ،كما يشبّه المعرفة المنطقية الرياضية بالبتكار أو الختراع.
تقول كامي:
" إن بياجيه يقارن بين الكتشاف والختراع على النحو التالي :لم يخترع
كولومبوس قارة أمريكا ،فقد كانت دائما موجودة ،ولكنه اكتشفها؛ أما الطائرة
فقد اخترعها صاحبها ولم يكتشفها ،إذ لم تكن موجودة من قبل".
( شويبل وراف ،1973 ،صفحة ) 209
سه مباشرة ،إنما يتعلمها من خلل نشاطه صل الطفل هذين النوعين من المعرفة عن طريق حوا ّ ول يح ّ
الذهني المنبثق من عمله بالشياء المحسوسة ،وأثناء احتكاكه بالناس .فمنها ما يكتشفه بالتجربة ،ومنها ما
يبتكره بنشاطه الذهني ،ومنها ما يكتسبه بالتفاعل الجتماعي.
تعريفها:
هي اكتشاف الخصائص الطبيعية الموجودة في الشياء :صفاتها المميّزة ،وظائفها وردود أفعالها عند
العمل بها كالتغير والذوبان والجذب...الخ.
طرق تحصيلها:
سه وذهنه في العمل بالمواد والدوات ،فتصدر من الشياء التي يعمل بها يستخدم الطفل يديه وحوا ّ
ردود أفعال مختلفة وظاهرة بوضوح .تلك هي الخصائص الطبيعية التي يكتشفها الطفل؛ فهو عندما
يخلط لونين معا يظهر له لون ثالث مختلف ،وعندما يلقي بالملح في الماء يكاد ل يراه ولكن عندما
يلقي ببعض الرمل في الماء يراه مستقّرا في قاع الوعاء فيتعلم أن الرمل ل يذوب مثل الملح .وعندما
ك جلده ،فإذا جّرب حكّها على الخشب اكتشف أثر خشونتها عليه .وعندما يشكّل يلمس ورقة صنفرة تح ّ
م يغمسه في ّ ث ورةّ السب على الطباشير ّ
ك يح وعندما القلم، مثل صلبا وليس نالصلصال يكتشف أنه لي ّ
الماء ويجّرب استعماله مّرة أخرى على السبّورة يكتشف الفرق .وعندما يخلط كمية من الدوات
الصغيرة ( دبابيس -أزرار -مسامير ) ثم يقّرب منها المغناطيس يكتشف أن الشياء الحديدية هي التي
تعلق بالمغناطيس...الخ .كل هذه ردود أفعال موجودة في خصائص المواد المختلفة ،وهي تظهر كنتيجة
لما يفعله الطفل بالشياء ،فيكتشفها ويتعلم منها.
كيفية تدعيمها:
هذا النوع من المعرفة ل يحتاج إلى شرح مسبق وعرض أمثلة وتقديم نماذج وتعزيز الجابات الصحيحة.
إن تحوّلت المواد وردود أفعالها هي الشرح الكافي والنموذج المثل ووسيلة التعزيز الفعّالة التي تجعل
حح معلوماته تلقائيا.
سع مداركه ويص ّ
الطفل يكرر التجربة للمزيد من الكتشاف ،فيو ّ
21
تعريفها:
هي معلومات مجّردة ل توجد في خصائص الشياء ول تصدر عن ردود أفعال المادة ،إنما تأتي نتيجة
للعمليات العقلية الجارية في عقل الطفل أثناء عمله بالشياء وتصّرفه بها لستخراج الحلول الصحيحة؛
أي أن ذهن الطفل يبتكر أساليب لتنظيم العلقات بين الشياء والرموز ،والربط بين السباب والنتائج
لتحصيل المعرفة المنطقية الرياضية.
طرق تحصيلها:
يستخدم الطفل يديه وعقله وأشياء ل تملك ردود أفعال ول خصائص تدل على نتائج؛ ولكن عقل الطفل
هو الذي يجرب ويعالج ويعد ّ ويقيس ويقارن… وهكذا إلى أن يصل إلى النتيجة .فإذا كان أمامه كميّتان
من الخرز مثلً ،لهما نفس العدد ،إحداهما مكوّمة في كومة صغيرة والخرى مصفوفة في صف طويل،
أصبح على الطفل أن يعالج كل كمية على حدة بالعد ّ والفرز وتغيير شكل الكميّة كما يروق له،
وبالطريقة التي يختارها لكي يقارن بينها وبين الكمية الخرى؛ ثم يحكم عليهما إما بالتساوي أو باختلف
العدد .وإذا كان يصنف حسب الحجام أو الشكال فهو لن يقتـنع ولن يفهم إل بعد تكرار المقارنة
والقياس بالدوات التي يختارها وبالطريقة التي تروق له وتقـنعه وتساعده على الفهم.
كيفية تدعيمها:
إذا أرشدت المعلّمة الطفل إلى الطريقة الصحيحة للوصول إلى النتائج فإنه سيكررها أو يحفظها عن
ظهر قلب دون أن يستـفيد بها عقله ،وإذا أعطته الجواب الصحيح فلن يعني له شيئاً .من الفضل أن
تعطي المعلّمة للطفل فرصة العمل والتجارب وتوفر له الدوات المختلفة ،وتترك له حرية اختيار
الدوات التي تساعده على التفكير ،وحرية اختراع الطريقة التي يستخدم بها الدوات.
إن الدوات التي يعمل بها الطفل ل تدلّه على الجواب ،وإنما تساعد عقله على ابتكار الوسيلة التي
توصله إلى الحل؛ وتكرار التجربة بطرق مختلفة هو الذي يؤدي إلى تصحيح الخطاء.
يجب أن يأتي الجواب الصحيح من عقل الطفل وليس من عقل المعلّمة.
يؤكد بياجيه على ضرورة الهتمام بأنشطة التصنيف والكثار منها ،لن التصنيف من أهم العمليات
العقلية المنطقية التي تساعد الطفل على المقارنة والتمييز.
يركز الطفل في بادئ المر على صفة واحدة فقط من صفات التشابه أو الختلف ،ويصعب عليه
مقارنة الشياء المنتمية لصفتين أو أكثر ( ،)Class Inclusionومع ذلك يجب على المعلّمة
تطوير هذه المهارة لدى الطفل تدريجياً ،كأن تريه مكعبات حمراء صغيرة وكبيرة ومكعبات زرقاء صغيرة
وكبيرة ثم تطلب منه اختيار المكعبات الصغيرة والمكعبات الحمراء ،ثم ترى ماذا سيفعل الطفل.
وبإمكانها توجيه عملية التصنيف وسؤاله عن أسباب اختياره حتى يتبين له إن كان قد أحسن التصنيف أم
أخطأ .هذه المهارة تؤسس في عقل الطفل عمليات التفكير المنطقي ،وتعلمه النظر إلى المور من
عدة نواحي ،كما تعلمه الختيار والبتكار وحل المشكلت.
هذان المفهومان يؤديان إلى ارتقاء عقل الطفل من الذكاء الحدسي إلى العمليات العقلية المحسوسة،
ولسيما في مجال الحساب والرياضيات؛ إذ انهما يتعلقان بالكمية والعدد .فإن كان من حظ الطفال أن
تتيح لهم المعلّمة فرصة العمل في هذين المجالين مرارا ً وتكرارا ً وبشتى الطرق والدوات المختلفة،
أصبحوا قادرين على إدراك العناصر الساسية التي تحكم الكمية والعدد ،وبالتالي لن يلقوا صعوبات في
تعلم الحساب والرياضيات فيما بعد.
تعريفها:
المعرفة الجتماعية خبرة إنسانية ضرورية لستمرار حياة الطفل كفرد من أفراد المجتمع الذي يعيش
فيه .وبالنسبة لمجتمع الصف فإنها عملية تفاعل بين الطفال والمعلّمة تقتضي منهم إجراء تبادل
سلوكي على النحو التالي:
عمليا ً :الحترام ،التعاون ،اجتناب إيذاء النفس والخرين ،إتباع القوانين.
فكريا ً :المشورة ،إبداء الرأي ،التقييم ،التقدير.
لغويا ً :الحوار ،التعبير الشفهي.
طرق تحصيلها:
التفاعل يقتضي التبادل :الخذ والعطاء ،السؤال والجواب ،الصغاء والحديث ،المشورة والتنفيذ،
المساعدة وطلب العون؛ كل ذلك يعتمد كليّا على الوجود البشري :الناس والمجتمع.
الحتكاك المباشر بين الطفل والناس هو مصدر المعرفة الجتماعية .وفي هذا المجال ينفع التعليم من
خلل تمثيل الدوار ،أو اللعب التقليدي الذي يسمح للطفل أن يلعب دور شخصية أخرى ويرى من خللها
وجهة نظر مختلفة فيحاول أن يتفّهم سلوك هذه الشخصية ويتفاعل معها.
م والبكم .وكلماص ّ
واللغة عامل هام في ترسيخ المعرفة الجتماعية .وتحل الشارات محل اللغة عند ال ّ
اختلفت ظروف الطفل وتنوعت مواقـفه مع الناس كلما زادت حصيلته من المعرفة الجتماعية التي ل
يمكنه أن يكتشفها ول أن يخترعها ،إنما يدركها بالتفاعل المباشر مع الناس باستخدام اللغة؛
كيفية تدعيمها:
ليس للتجارب والكتشاف والعمليات العقلية أي دور في تدعيم هذه المعرفة؛ إنما الذي يلعب الدور
ضل التكرار والتذكير وتصحيح اللفظالرئيسي هنا هو :التعليم المباشر .وفيما يتعلق بتعليم اللغة ،يف ّ
وتأكيد المعاني وتعزيز الجابات الصحيحة .فيما يتعلق بتعليم السلوك الجتماعي ،فالقدوة والتعزيز لهما
تأثير بالغ في استمرار السلوك اليجابي وانطفاء السلوك السلبي .أما بقية أنواع النشطة الجتماعية
فتدع ّم بالتّوجيه والتكرار والتعزيز المباشر أيضا.
23
أثناء تعلم الطفل هذه النواع الثلثة من المعرفة ،يحتاج إلى اكتساب بعض
المهارات الدراكية ) )Perceptual Skillsالمبنية على مهارات حسية /حركية ،والتي ل يكتمل
بدونها بناء النظام المعرفي لدى الطفل .هذه المهارات هي الليات أي الوسائل التي تدع ّم استيعاب الطفل
للمعلومات.
يحتاج الطفل إلى التمييز السمعي والبصري لتعلّم القراءة والعد ّ ،كما يحتاج إلى المرونة العضلية مثال :
الدقيقة لتعلّم الكتابة ،والتي يكتسبها من خلل النشطة اليدوية والفنية التي تن ّ
مي لديه التحكّم في
حركة أصابع اليد.
القراءة والكتابة والعد ّ مهارات إدراكية لزمة لستكمال التعلّم ،لكنها ليست أهدافا
تعليمية في حد ّ ذاتها؛ بل هي مجرد أدوات تخدم ذكاء الطفل ،وليست مسبّبات له.
يجب علينا أن نميّز بوضوح تام الفرق بين إتقان الطفل لمهارة القراءة وبين إدراكه لما يقرأه ،لن
معاني الكلمات تختلف من مرحلة تطور معرفي إلى أخرى ،كما يجب أن نميّز الفرق بين إتقان الطفل لمهارة
الكتابة وبين إدراكه لمفهوم المساحات والمسافات والجهات ( فوق ،تحت ،في الوسط ،إلى اليمين ،إلى
اليسار ،أعلى ،أسفل) ،وأن نميّز الفرق بين إتقان الطفل لمهارة العد ّ وبين إدراكه لمفهوم العدد .فقبل أن
تطلب منه المعلّمة أن يعطيها خمسة أشياء يجب أن تتأكّد ماذا يعني له العدد خمسة .
ن إدراك الطفل لما وراء القراءة والكتابة والعد ّ هو الهدف التعليمي الذي ننشده ،
إ ّ
خرها لتنمية ذكاء الطفل.
وما المهارات الدراكية والحسية /الحركية سوى اللت التي نس ّ
إذا وضع الطفل مكعّب خشبي صغير في الماء ورآه يطفو على سطحه (معرفة طبيعية) فسيحاول مثال :
أن يجد مكعبا أكبر منه ظنا أن المكعب الكبر سيغوص في الماء لنه أثقل وأكبر (معرفة منطقية
رياضية) .ثم يجرب الطفل وضع أشياء أخرى من مواد مختلفة في الماء ،فينتهي به المر إلى
تصنيف المواد التي تغوص والتي تطفو(معرفة طبيعية)؛ وأثناء هذه العملية يتحدّث الطفل مع
زملئه أو معلّمته فيسأل ويجيب ،ويستفسر ويعطي رأيه ،ويتعلم أسماء الشياء التي يعمل بها،
ويتذكّر معلومات أخرى مثل التعاون مع زملئه في العمل ،وإعادة ترتيب الدوات (معرفة
اجتماعية).
وهكذا يستمر الطفل في استخدام قدراته الدراكية ومهاراته الحسية /الحركية لستكمال مشوار
تحصيل المعرفة والتصّرف في الحياة بذكاء .لذا كان من الواجب علينا ،إن أردنا الستفادة من مبادئ بياجيه ،أن
نضع الساس السليم لبناء النظام المعرفي المتكامل الذي يبدأه الطفل في الروضة.
نستخلص مما تقدم أن الطفل يتعلم من خلل اكتشافاته ونشاطاته الحسية والفكرية والجتماعية ثلثة
أنواع من المعرفة:
-1المعرفة الطبيعية :أي الحقائق الطبيعية التي يكتشفها الطفل في خصائص ومميزات المواد
والدوات التي يستخدمها.
-2المعرفة المنطقية الرياضية :أي العمليات الدراكية التي ينجزها عقل الطفل أثناء عمله بأدوات
العد ّ والتصنيف والتسلسل ...الخ.
-3المعرفة الجتماعية :أي المهارات السلوكية التي يكتسبها الطفل نتيجة لتفاعله مع المعلّمة
والطفال وسائر الشخاص في محيطه.
يتشبع عقل الطفل في المرحلة الحسية من عمره بالخبرة المحسوسة التي يستـقيها من تجاربه ،ثم
ينتقل منها إلى التفكير في المعلومات المستـقاة من هذه الخبرة تفكيرا ً مجّردا ً ومتدّرجاً ،وبمساعدة استخدام
المهارات اللغوية أي الرموز والتمثيل؛ وتتكرر الخبرات وتزداد حصيلة الطفل من المعلومات والحقائق
والمهارات اللغوية اللزمة للتعبير عنها ،حتى يصل إلى مرحلة التفكير المجرد.
0000000
25
ماحة التي ألقاها بياجيه في جمع من القائمين على تعليم الجيال ،ومع خواطر بياجيه بهذه الكلمة الل ّ
عن التعليم ننتقل من الحديث عن عملية التعلّم التي كان قوامها ذكاء الطفل ،لنتحدّث عن عملية التعليم التي
يصبح قوامها ذكاء المعلّمة .وإذا كنا قد ركّزنا من قبل على حقيقة بناء الطفل معرفته بنفسه حسب قواعد
مراحل تطوره العقلي ومن خلل تفاعله مع البيئة والناس ،فل يعني ذلك أننا تجاهلنا دور المعلّمة في تطوير عقل
الطفل وتغذيته بالمعرفة؛ بل لقد أصبح دور المعل ّمة أهم عامل من عوامل نجاح الطفل في تعليم نفسه ،إن هي
سط إمكانياتها التعليمية.
أدركت إلى أي مدى تصل قدرات الطفل ،وإلى أي حدود يمكنها (أي المعلمة) أن تب ّ
يصف وادزورث المعلّمة التي تطبق مبادئ بياجيه بالمعلّمة البياجيتية .أما نحن فسنصفها بالمعلّمة
المتطورة ،ل لكونها تنتهج مبادئ بياجيه فحسب ،بل لننا نريدها أن تعي حقيقة التطور المعرفي وأن تؤمن بقدرة
الطفل على تـنمية ذكائه في وجود الفرص الكافية .فما هو دور هذه المعلّمة المتطورة في تعليم الطفل على
نهج مبادئ بياجيه؟
هو دور الباحثة المتفهّمة لكل مرحلة من مراحل التطور المعرفي لكي تـفهم طبيعة كل طفل النفسية
والبيولوجية ،وتعرف مستواه العقلي وطريقة تفكيره وأسلوبه الخاص في التعلم ،فتحدّد اتجاهاته الفكرية وتتابع
اهتماماته باستمرار ،وتقيّم إنجازه للعمليات العقلية المميّزة لكل مرحلة تطورية عند بلوغه نهايتها.
وهو دور المتبصرة في عادات الطفال ،التي تلحظ تصّرفاتهم بدقّة وتـنصت لقوالهم باهتمام لكي
تكتسب معرفة جيّدة تخوّلها حق إبداء الرأي النزيه في تقييمها لكل طفل وأعماله.
وهو دور المحّركة لليات التفاعل الجتماعي الذي يساعد الطفال على الخروج من قوقعة الذاتية،
ويمنحهم فرص التعلم من بعضهم البعض.
وهو دور المربّية المعتدلة التي تحافظ على التوازن بين ممارسة السلطة وبين تشجيع الطفال على
وضع وتطبيق القواعد السلوكية المناسبة لمجتمع الصف.
وهـو دور النسـانة التـي تتمت ّـع بالضميـر اليقـظ ،فتحافـظ على شعور كـل طفـل وإحسـاسه بذاتـه واعتزازه
بأعماله؛ ل تــنتـقد عمـل الطفـل ول ترغمـه على تصـحيح أخطائه فيشعـر بعدم الثــقة ،بـل تــفهمه أسـباب أخطائه
وتســاعده على تصــحيحها .وهــي ل تحكــم على تطور ذكاء الطفــل بمجرد تقييــم مدى اكتســابه بعــض المهارات
الحسية الحركية ،بل بملحظة إنجازاته الدراكية الدالة على بلوغه نهاية كل مرحلة تطورية.
وهو دور المخط ّطة المبتكرة للبرامج الشاملة لجميع مستويات أطفال صفّها ،ومبدعة النشطة الملئمة
لتجاهاتهـم الفكريـة؛ فهـي تــنظر إلى المادة التعليميـة مـن وجهـة نظـر الطفال قبـل أن تراهـا مـن وجهـة نظرهـا
كمعل ّــمة ،لكــي تـــتـفقّد فيهــا توفّــر الشروط المطابقــة لمرحلة التطور التــي يمّرون بهــا ،وتلتقــط منهــا أصــداء
اهتماماتهم ومردود تفكيرهم.
ث المعلوماتجرة لطاقات الطفال العقلية والجسدية؛ ل تملي عليهم أفعالهم ول تب ّ وهو دور المف ّ
ث كل طفل على المبادرة ،وتثير تـفكيره وتـناقشه ،وتسأله عن الخطوات التي الجاهزة في أذهانهم؛ إنما هي تح ّ
اتبعها أثناء نشاطه لكي تـنبّهه إلى التطور الذي يحدث في عمله ،ولكي تعلّمه التأكّد بنفسه من ص ّ
حة نتائجه.
تقول كامي:
" إن نموذج المعلّم المثل الذي يود ّ بياجيه أن يراه هو الشخص البالغ الذي
كانت تطمح إلى تـنـشئته كل مدرسة تطبّق مبادئ بياجيه ،أي الشخص الذي
يستمر في التعلم طوال حياته ،متّبعا في ذلك معاييره الخاصة للمبادئ السليمة
القوية" .
( شويبل وراف ،1973 ،صفحة ) 213
26
مة المعلّمة المتطورة هي :تعليم الطفل كيف يفكّر وكيف يتعلّم؛ وذلك ما سنعرضه بالتفصيل
إذن فمه ّ
عند الحديث عن دور المعلّمة في كل من:
جه في هذا المجال بالحديث إلى المعلّمة المتطورة ونقوم معها بمعالجة المور التي تختلف لدى سنتو ّ
من سواهم من علماء التربية .هذه المور تتعلّق بما يلي :البياجيتيين ع ّ
يكمن الفرق بين المعلّمة التقليدية والمعلّمة المتطورة في طريقة إيصال المعلومات إلى ذهن الطفل؛
مة طبع المعرفة بشكل مباشر في أذهان الطفال بكل صدق فبينما تأخذ المعلّمة التقليدية على عاتقها مه ّ
وأمانة ،تأخذ المعلّمة المتطورة على عاتقها مه ّ
مة أدقّ وأصعب ،وتقوم بها أيضا بكل صدق وأمانة ،أل وهي فتح
ّ
أذهان الطفال على المعرفة بشكل غير مباشر وبالطرق التي تضمن لهم التفكير قبل التذكر ،والكتشاف قبل
التعلم .المعلّمة المتطورة ل توّزع المعرفة على الطفال بل تسهّل عليهم اكتشافها.
عزيزتي معلّمة الروضة ،إن التعليم المباشر هو التلقين والتحفيظ ،بينما التعليم غير المباشر هو إثارة
الذهان لكتشاف المعرفة .فإذا كنت قد سلّمت بأن اكتساب المعرفة عبارة عن عملية بنائية يقوم الطفل بالدور
الول فيها ،فل مبّرر لمحاولتك مساعدته بالتعليم المباشر في اكتساب النوعين الولين من المعرفة وهما:
المعرفة الطبيعية ،والمعرفة المنطقية/الرياضية .أنت كمعلّمة تشرحين الدروس وتجرين التجارب من منطلق
اقـتـناعك ببديهيّة الحقائق التي تعلّمينها للطفل ،ولكن الشيء الذي تعتقدين أنك تعلّمينه إياه قد يختلف تماما
ما يسجله ذهن الطفل. ع ّ
من السهل أن تشرحي للطفل أن العدد سبعة أكبر من العدد خمسة ،ولكن عندما يشك الطفل في مثال:
المر يتساءل عن السبب ويبادر إلى التجربة فيعد ّ ويحصي ويعيد الكّرة ويستخدم وسائل مختلفة،
فإذا وقع اختياره على خمس أشياء كبيرة وسبعة صغيرة ،اعتقد أن الخمسة أكبر من السبعة ،وإذا
استمر في التجربة فقد يكتشف بعض الحقائق التي ربما تكوني قد نسيت شرحها له من قبل.
إن توفيرك فرص التجارب للطفال ،وامتناعك عن التدخل بالمعلومات والسراع بالجابات ،ومحاولتك
مى بالتعليم غير المباشر الذي يساعد الطفل على اكتشاف
إثارة مزيد من التساؤلت في أذهانهم ،ذلك هو ما يس ّ
المعرفة الطبيعية و المعرفة المنطقية/الرياضية.
أما التعليم المباشر فيساعد الطفل على اكتساب المعرفة الجتماعية ولغة المحاكاة؛ كما أنه السبيل
الوحيد لتعليم الطفل المعلومات والمور التي ل يجوز ترك الطفل يكتشفها أو يجّربها ،مثل قوانين السلمة
والحفاظ على الصحة والنظافة وقواعد الخلق وسلوك التعامل مع الخرين.
وفي هذا المجال يمكنك التخفيف من مباشرة التعليم عن طريق تقديم أنشطة تجعل الطفال يفكّرون
في أسباب الحداث ونتائجها ،كأن تـناقشيهم في بعض المسائل المتعلّقة بالخطار والسلمة…الخ ،وتعززي
أفكارهم الصحيحة وتصححي معلوماتهم الخاطئة فورا وتكرري التحذير ،حتى تتأكدي من أنهم جميعا يتذكرون
القوانين الضرورية المتعلقة بسلمتهم وصحتهم وسلوكهم .وبعد ذلك يمكنك أن تسمحي لهم ببعض التطبيقات
العملية المأمونة من الخطر ،ولكن ل تـنتظري أن يجّرب الطفال بأنفسهم أي شئ تشكّين في سلمته حتى
يتعلموا ما هو المعنى الحقيقي للخطر.
27
والتعليم المباشر المدع ّم بالتعزيز له أثر فعّال في تعديل سلوك الطفال وتعليمهم الفرق بين السلوك
المقبول والسلوك المخالف .لكن وادزورث يحذ ّرك من الخلط بين تعلّم السلوك الناتج عن التعزيز ،وبين التعلّم
الناتج عن التطور المعرفي :إذا عّززت كل إجابة صحيحة يأتي بها الطفل ،عوّدته بذلك على الكتفاء بحفظ
المعلومات وتذكّرها بدل من البحث عن الحقائق والتفكير في السباب والنتائج؛ أما إذا ناقشت الطفل عن
أسباب إجاباته تكوني قد وفّرت له فرصة التـفكير والستيعاب والتوافق ومن ثم التعلّم .عليك إذن أن تستعملي
ذكائك في اختيار الموقف المناسب للتعزيز ،حتى ل تطغى على تطور ذكاء الطفل.
لحظ بياجيه أن الطفال يبدأون بالتساؤل عن كل ما يدور حولهم فيما بين الثالثة والرابعة من عمرهم،
ول يملّون من تكرار السؤال ول يهدأ لهم بال حتى يحصلوا على الجواب الذي يقنعهم .ومن أهم أسئلة الطفال،
سؤال :لماذا؟
ث بياجيه على ضرورة الهتمام بأسئلة الطفل ،نراه يحذ ّرك من السراع بالجابة عليها،وبينما يح ّ
وينصحك باتّخاذها كنقطة بداية لحساس الطفل بعدم التأكّد من صحة معلوماته وإثارة حاجته للتوازن المعرفي،
ضل بياجيه أنودفعه للبحث عن الجابة بنفسه واكتشاف أفكار جديدة .ولتحقيق هذا الهدف التربوي العظيم ،يف ّ
تعيدي طرح سؤال الطفل عليه لمعرفة رأيه في الموضوع ،مثال :قل لي أنت لماذا تعتقد أن…؟ بهذه الطريقة
يمكنك مساعدة الطفل على التفكير ومن ثم التطور التلقائي ،بينما أنت ترشدينه إلى المعرفة بشكل غير
مباشر ،لن الرشاد ل يعني تـلـقينه المعرفة وتقديم الحلول الجاهزة ،إنما الرشاد هو خلق المواقف التي تدفع
الطفل إلى التعلّم من تلقاء نفسه.
أحيانا تبدو لنا أسئلة الطفال غير منطقية ،لكنها في الواقع تطابق طريقة تفكيرهم في الوقت الذي
يطرحونها فيه ،مثل :لماذا انطفأت الشمس؟ يدل هذا السؤال على أن الطفل يعيش في المدينة حيث يكاد ل
يرى من الطبيعة شيئا ،ول يعرف عن مصدر الضوء سوى المفتاح الكهربائي الذي يضيئه ويطفئه .وهنا تكمن
فرصتك في إثارة تفكير الطفل بسؤاله :لماذا تعتقد أنت أن الشمس قد انطفأت؟ وكيف حدث هذا؟ ...وهكذا
تتركيه يبحث في ذهنه عن تفسير يشرحه لك بتعبيره الخاص .أما المعلومات الصحيحة فستوفرينها له من خلل
أنشطة المعرفة الطبيعية والتجارب الجغرافية الملئمة لمستواه العقلي .وينصحك بياجيه أن تأخذي أسئلة
الطفال مأخذ الجدية وأن تجعلي من كل سؤال فاتحة لدرس جديد .وفيما يلي بعض المثلة على أسئلة الطفال
الغريبة التي يمكنك استغللها في تعليمهم:
احرصي دائما ً على إيجاد دعوة مفتوحة باستمرار للمناقشة والتفكير والبحث والتجربة حتى يقـتـنع
الطفال بما يشبع فضولهم ،مهما استغرق ذلك من الوقت .
كل إنسان يحمل في ذهنه توقعات للمواقف التي يمر بها؛ وحينما تأتي الحداث بخلف ما يتوقعه
النسان ،يكون رد ّ فعله :المفاجأة .وتخلق المفاجأة في ذهن النسان محاولت سريعة لفهم الموقف ،وتستحوذ
على اهتمامه المركّز لفترة زمنية طويلة ،فتكون النتيجة :إما تعديل بسيط في الذاكرة أو تغيير شامل في بعض
البنية المعرفية ،وفقا لما تأتي به المفاجأة من تعلّم جديد .
تحدث المفاجأة عندما يخطئ الطفل في توقع حدث معيّن أو حين يفاجأ بسؤال ل يعرف جوابه ،وإذا لم يشعر
الطفل بالمفاجأة فمعنى ذلك أن تفكيره لم ينضج بعد .إذا لم تبدو الدهشة على وجه الطفل حين يجد أن
مجموعتين (من الخرز مثلً) تحتويان على نفس الكمية رغم الختلف الظاهر في حجميهما ،فذلك لن مفهوم
العلقة بين الكمية والحجم لم ينضج في ذهنه بعد.
28
جر المواقف المفاجئة في عقول الطفال طاقة ذهنية فائـقة ،ل سيّما أثناء مرورهم بالمرحلة تـف ّ
ما يؤدي إلى النتقالية ،حيث الذ ّكاء الحدسي والتفكير الذ ّاتي المحدود والتوقعات الخاطئة بسبب قلة الخبرة ،م ّ
التأثير الذهني المطلوب :محاولت مركّزة للفهم واهتمام بمعرفة النتائج .فالمواقف والسئلة المفاجئة لها نتائج
بعيدة عن توقعات الطفال وتحدث لديهم رد الفعل المثير للتعلم :أي التركيز على محاولة الفهم ومعرفة النتائج؛
ومن ثم تستمر أذهان الطفال في الستيعاب والتوافق لتحقيق التوازن المعرفي ،فيحاولون تغيير الموقف لجعله
أكثر مطابقة لتوقعاتهم.
لذلك يعتبر وادزورث المواقف غير المألوفة والقصص والسئلة المليئة بالمفاجآت أنشطة ذات قيمة
تعليمية عظيمة .أما المواقف والسئلة المألوفة فلها نتائج يتوقّعها معظم الطفال ول تحدث لديهم أي رد فعل
ذهني ،لذلك فهي ليست ذات قيمة تعليمية مفيدة.
باستطاعتك استغلل عنصر المفاجأة لثارة الحاجة للتوازن المعرفي لدى الطفال أثناء تعليمهم،
باتباعك الخطوط العريضة التالية:
-1اعرفي كمية ونوعية المعلومات التي يمتلكها الطفال ،ومدى استجاباتهم لنواع الموضوعات
التي تريدين عرضها عليهم.
-2إجري تغييرات بيئية وتعليمية كفيلة بإثارة التوقعات لدى الطفال ( وسائل جديدة ،أدوات
متعددة الهداف ،أنشطة مثيرة ).
-3أعدّي السئلة المفاجئة والحلول غير المألوفة لتحفيز الطفال منذ بداية الدرس ،مثال:عند
البدء بدرس جديد ل تقولي شيئا عن الدوات ،بل اعرضيها عليهم واسأليهم :ما هذه الدوات؟
فيم يمكننا استخدامها؟ وكيف نستخدمها؟ ماذا تتوقعون أن نفعل بهذه الشياء؟ ...وهكذا.
-4ل تكتفي بإجاباتهم ،بل حثيهم على القيام بالتجارب للتأكد من صحة توقعاتهم.
-5استغلّي فرصة اطمئنانهم إلى النتائج ،لثارة أفكارهم بمفاجأة أخيرة من السئلة المدخرة
ل ،مثال :في نهاية تجربة صيصا لختام الدرس بشكل مثير بدل من ختامه بالتلخيص المم ّ خ ّ
الشياء التي تغوص في الماء وتطفو ،وبعد ما يعتقد الطفال أنهم قد عرفوا كل شئ ،إسأليهم:
ماذا يحدث لو وضعتم في الماء كرة مطاطية بداخل علبة حديدية محمولة على قارب
خشبي؟ ...ثم اتركيهم يفكرون ،لكي يجربوا ويكتشفوا في الدرس التالي.
-6أما إذا شعر أحد الطفال بالملل ولم يعرك اهتماما ،فتأكدي أنه ل يتوقع شيئا من درسك؛
واعلمي أن بعض طرق التدريس التقليدية لها قدرة فائقة على تحطيم دوافع التلميذ الذين ل
يجدون في الدرس ما يغريهم.
سئ ِل بياجيه ذات مرة ،عما يمكن حدوثه لو أن المعلّم قام بتجربة ما أمام التلميذ ،بغية شرح كيفية
ُ
العمل فيها ،فكان جوابه:
" تصبح التجربة غير مفيدة .يجب أن يكتشف التلميذ بنفسه كيفية إجراء التجربة
من خلل عمله بها شخصيا ".
( وادزورث ،1978 ،صفحة
) 94
هناك نوع من السئلة يناسب استخدام عنصر المفاجأة في التعليم ،وهي السئلة التي تجعل الطفل
يجري في ذهنه عملية فرضية .ويمكنك استخدام هذه السئلة في جميع أنواع المعرفة ولكن ل بد ّ من طرحها قبل
البدء بالنشاط أو الدرس أو التجربة ،ويشترط تعقيبها بسؤال :لماذا؟
وفيما يلي بعض السئلة المصممة خصيصا لثارة خيال الطفال وابتكاراتهم ،ودعوتهم للتفكير في كيفية
مي هذا النوع من السئلة المهارات اللغوية والبتكار؛ مواجهة احتمالت غريبة ،والتفكير في حل المشاكل؛ وين ّ
كما يمكن تنويع السئلة حسب الهداف التعليمية المختلفة التي تقدّم للطفال.
29
المطلوب من المعلمة المتطورة أن تبتكر أسئلة كثيرة من أنواع مختلفة بهدف إثارة تفكير الطفال وخيالهم.
د ) تصحيح الخطاء:
" لقد اعتدنا التفكير في كل شئ من زاويتين فقط :الصواب والخطأ ،كما اعتدنا
معادلة الذكاء بالقدرة على اجتياز بضعة امتحانات".
(كامي في شويبل وراف ،1973 ،صفحة
) 226
المعرفة في رأي بياجيه ل تتطور من الصواب إلى الخطأ دفعة واحدة؛ كل طفل لديه خلفية معرفية
تحتوي على قدر يسير من المعلومات الصحيحة .ولقد فسر وادزورث هذا الرأي تفسيرا مقنعا حيث قال:
" في بداية المر ل يشكل بناء الطفل للحقائق صورة مطابقة للواقع ،بل صوراً
ذهنية تتغيّر وتتبدل باستمرار وتتحوّل تدريجيا إلى صورة شبيهة بالواقع ،وتستمر
في التطور حتى تصبح أكثر دقة وأكثر واقعية".
( وادزورث ،1978 ،صفحة ) 101
ححنا أخطاء الطفل وعلّمناه عن طريق الترديد والحفظ والتكرار ،فلن يغيّر ذلك من مستواهمهما ص ّ
المعرفي شيئا ،لنه ل بد له من استكمال مقوّمات التطور في المرحلة التي يمر بها لكي تتبلور صور الواقع في
ذهنه.
متك كمعلّمة في هذا المجال ليست في انتظار الطفل حتى يستكمل مقوّمات تطوره الذهني ،ول ومه ّ
في السراع بتصحيح معلومات الطفل كلما أخطأ ،إنما مهمتك هي خلق البيئة والمنهج المناسبين لمساعدة
الطفل في ارتقائه من مرحلة إلى أخرى في حدود إمكانياته الذهنية .فعليك بإثارة فضوله ،ليس لمعرفة الجابة
الصحيحة فحسب ،وإنما للبحث والتفكير واكتساب المعرفة التي تتناسب وقدراته العقلية .كما يجب أن تكفّي عن
مطالبة الطفل بالتفكير بمنطق البالغين .إتركيه يخطئ ويكرر الخطأ حتى يصل إلى الجابات الصحيحة بتفكيره
الخاص؛ فربما احتوت أفكاره الخاصة على قدر من الصواب ،حتى في إجاباته الخاطئة.
سمنا كتلة من العجين إلى كرتين صغيرتين ،يعتقد الطفل أن كمية العجين في الكرتين أكثر إذا ق ّ مثال:
منها في الكتلة الواحدة ،لنه يراها قد أصبحت قطعتين بدل من واحدة ،وبالتالي فهو مخطئ في
تقدير حجم العجين لكنه محقّ في تقدير العدد .ماذا تفعلين في مثل هذه الحالة؟ أتبادرين
بتصحيح الخطأ؟
أتعلمين كم من طفل يعتقد أن الجابات الصحيحة ل توجد سوى لدى المعلّمة ؟ وكم من طفل يرى
الحقائق كما تراها المعلّمة تماماً؟ من الجدر بك كمعلّمة متطورة أن تتريثي وتتنازلي عن رغبتك في إثبات صحة
رأيك ،وأن تحث ّي الطفل على الستمرار في البحث والتجربة حتى يرى الخطأ بعينيه ويتحقق بنفسه من صحة
معلوماته .وبإمكانك أن تساعديه على ذلك بالمثلة والتعليقات المناسبة ،على النحو التالي :كيف عرفت هذه
المعلومة؟ هل أنت متأكد من إجابتك؟ إذا أعدنا كرتي العجين إلى كتلة واحدة فهل يعود حجمها كما كان ،أم
يختلف؟ أتريد أن تتحقق بنفسك من النتيجة ؟
إن حرصك على تأكّد الطفل من صحة معلوماته بنفسه أكبر عامل من عوامل نجاحه ونجاحك؛ إنك
بذلك تزرعين فيه بذرة الدافع المتدفّـق داخل عقله لسد ّ حاجته إلى التوازن المعرفي ،كما تزرعين في نفسه
الثقة بقدرته على النجاح.
30
لقد تحدثت كونستانس كامي عن قدرة المعلّمة على تعليم الطفل بدون إعطائه كل الجابات الصحيحة،
فوصفتها بالفن العظيم الذي ل يوجد له شرح ول تفصيل في مصادر التعليم ومناهج المعلّمين ومراجعهم.
البيئة الصفّية من أهم عناصر التعليم المتطور .بيئة الصف يجب أن تقود الطفل إلى التعلم بدل ً من أن
ترغمه عليه ،وأن تسمح له بالنهماك في العمل الذي يثير اهتمامه وفي الوقت الذي يرغب فيه ،وأن يجّرب من
الدوات ما يوصله إلى استنباط عدة أفكار مختلفة .ول يعني ذلك خلوّ البيئة الصفية من الحدود النظامية؛ فلن
نجد معلّما واحدا يدّعي للفوضى أي منافع تربوية أو تعليمية.
والمعلّمة التي تريد تطبيق مبادئ بياجيه في صفها تحتاج إلى ممارسة مهارات تربوية أوسع نطاقا وأكثر
إحكاما مما هو متبع في نظام التدريس التقليدي؛ لنها تعلم جيدا أن النظام والتحكّم ل يعنيان جلوس الطفال
في مكان واحد طوال اليوم ،مرغمين على النصات إلى الشرح والعمل بصمت فيما تختاره لهم المعلّمة من
أنشطة وأدوات .إن إحلل النظام والتحكّم في بيئة الصف يمكن التخطيط له بمرونة بحيث يتجاوب مع ما أعدته
المعلّمة المتطورة من برامج تثير اهتمام الطفال بدل من أن تـفرض عليهم العلم فرضا .ولقد اخترنا لك في هذا
المجال بعض النصائح التي قدّمها لنا تلميذ بياجيه ليضاح دور معلّمة الروضة في إعداد البيئة والدوات.
)1يتعلم الطفل من تجاربه الحسية الحركية أكثر مما يتعلم من استماعه للمعلومات الشفهية .ول يعني
ذلك أن تتركيه يجري التجارب طوال النهار بدون حدود ،بل عليك أن توفّري البيئة المناسبة للتجارب
الحّرة الهادفة ،وأن تضعي لها البرامج الخاضعة للقوانين الزمنية التي تضمن لكل طفل الحساس
بالنظام والشعور بالتقدّم.
)2كل طفل يتعلم بطريقته الخاصة وحسب مستوى تطوّره وبدافع من اهتماماته الشخصية .لذا فأنت
بحاجة إلى التخطيط لبرامج تحوي النشطة المتـنوّعة في أهدافها ووسائلها ،والخبرات المختلفة
باختلف حاجات الطفال وسلوكهم التعلّمي الخاص .ويساعدك في ذلك إقامة مراكز التعلم المعدة
خصيصا للعمل المستقل والتي تحوي النشطة الملئمة لمختلف مستويات التفكير لدى الطفال،
وتستخدم فيها طرق التوجيه المناسبة لكل مستوى.
)1ليس من الضروري أن تكون الدوات والمواد التعليمية معقّدة وباهظة التكاليف ،فأي شئ بسيط
كفيل بإثارة خيال الطفال في هذه المرحلة النتقالية .ألم ترى طفل في يده قطعة من الخشب
يسيّرها على الرض كأنها سيارة ويجعل من الكراسي محطات ينزل فيها ركاب السيارة الخيالية،
ويصدر من فمه أصواتا ً مختلفة كأنها الموسيقى التصويرية ،ويتحدّث بلسان الشخصيات المختلفة في
القصة؟
)2من خلل هذا اللعب الوهمي يسترسل الطفل في عملية التعلم من خبراته .كلما كانت الداة بسيطة
سع
كلما أثارت خيال الطفل من خلل تـنويعه في استعمالها واللعب بها بطرق مختلفة ،وبالتالي تتو ّ
خبراته ويزداد تعلمه.
لكن إعلمي أن بعض الطفال سريعي الملل ،محبين للتغيير ،محتاجين للعديد من الدوات المختلفة؛
إذن فأنت بحاجة لتوفير العديد من الدوات البسيطة التي تؤمنها المدارس عادة والتي يمضي فيها
الطفل أوقات الفراغ بين الدرس والخر ،أو في أوقات النتظار ،مثل :مكعبات متنوعة الشكال
والحجام ،صلصال ،خرز ،ورق ،مغناطيس ،ميزان ،أقلم ،ألوان ...الخ .كما يجب أن تتعلمي استغلل
المواد الفائضة التي يمكن فكها وإعادة صنعها وتركيبها ،مثل مخلّفات المطبخ :أكواب ،علب ،زجاجات،
أغطية ،ملعق ،حبوب مختلفة ،سوائل ملونة ...الخ .ومن المخلّفات الصناعية :قطع من الخشب غير
متساوية من شأنها إثارة خيال الطفال لنها ل تقتصر على استعمال معين ،قطع بلستيكية ،فلّين،
إسفنج ،حبال ،براغي ...الخ .مثل هذه الشياء تسمح للطفل بالتعلم البداعي.
31
)3بالنسبة لتطوير المعرفة الطبيعية يحتاج الطفال إلى الدوات المذكورة أعله ،بالضافة إلى
المواد الطبيعية المتنوّعة التي تظهر خصائصها في ردود أفعالها من خلل التجارب المائية والهوائية
والمغناطيسية والوزن والقياس ...الخ ،مثل :قطع خشبية ومعدنية ومغناطيس وماء ورمل ...الخ.
وبالنسبة لتطوير المعرفة المنطقية/الرياضية ،ل يحتاج الطفال إلى أدوات معينة بحد ّ ذاتها،
لنهم يتعلمون من خلل عملهم الذهني أثناء قيامهم بالنشطة المختلفة؛ فيمكن للطفل أن يستخلص
مفهوم العدد أو الكمية أو الحجم مثل ،سواء كان يعد ّ بالخرز أو بالمكعبات أو قطع الفاكهة أو بأي
شئ يمكن تحريكه و تغييره .أما تطوير المعرفة الجتماعية فل يحتاج سوى البيئة الغنيّة
5
بالتفاعل.
إذا كانت إجاباتك نفيا على أي من هذه السئلة ،فأمرك يحتاج إلى دراسة من نوع آخر .أما إذا كان ردك
باليجاب ،فإن ويكنز يقدم لك النصيحة التالية :للمعلّمة حق اختيار ما تراه ضروريا لتعليم الطفال حسب
مستوياتهم الفكرية ،لكن عليها أن تعطيهم حرية اختيار الجوانب التي تثير اهتمامهم.
تختار المعلّمة الموضوع الذي تراه ضروريا لمستوى الطفال ،ثم تترك لكل طفل حرية اختيار جزء مثال:
من الموضوع لعمل أنشطة بطريقته الخاصة.
تترك المعلّمة للطفال حرية اختيار الموضوع الذي يريدونه ،ثم تحدد لهم طريقة العمل التي تراها أو:
ضرورية أو مناسبة لمستواهم.
ولكن ،كيف تغرس المعلّمة مبدأ حرية الختيار في نفوس الطفال وتدع ّمه في عاداتهم؟
والجواب هو :عن طريق دورها الفعال في تشجيع الطفال على التفاعل الجتماعي وترسيخ دعائمه
في مجتمع صفها.
)3من عوامل جذب اهتمام الطفال إلى التعلّم ،التأكد من فعالية الدوات ،ومطابقتها للشروط التالية:
•أل ّ يدل شكل الداة على هدفها من أوّل وهلة ،لكي يلعب عنصر المفاجأة دوره الفعال في
جذب اهتمام الطفال.
•أل ّ تمث ّل الداة شيئا محددا ،بل تسمح للمتعلّم أن يضفي عليها المعنى الذي يراه مناسبا
للنشاط أو التجربة التي يقوم بها.
•أن تكون الداة مفتوحة النهاية ،يمكن الضافة إليها أو إضافتها لغيرها من الدوات ،لتنويع
التجارب وتوسيع الخبرات وزيادة التعلم.
•أن تؤدي نتيجة العمل بالداة إلى تنمية التفكير الستقرائي ( Inductive
) Thinkingأي استنتاج الفكرة العامة من جمع الحقائق الجزئية.
•أن تتوافق الداة ومرحلة التطور التي يمر بها الطفل ،على النحو التالي:
في المرحلة الحسية الحركية يتعلم الطفل بشكل أفضل إذا استخدم الدوات التي تثير بصره وسمعه
ولمسه؛ كما يستفيد من الدوات التي تشغّل عضلته الكبيرة والصغيرة كالمكعبات والكرة والدّمى
وأدوات النجارة والخرز … الخ.
5إنظري التفاعل الجتماعي في الفصل الثالث ،صفحة ،16ودور المعلّمة في تطوير المعرفة الجتماعية،
صفحة 33
32
أما في المرحلة النتقالية فيستمر الطفل في التعلّم من خلل حواسه بالضافة إلى استعمال ذهنه ،لذا
يحتاج إلى الدوات التي تثير تفكيره ،مثل ألعاب التركيب واللغاز الخشبية وأدوات التجارب العملية
سمة ،والتعبير
والكتشاف والدوات التي تساعده على التعبير اللغوي مثل الصور ووسائل اليضاح المج ّ
بالرسم الحر والتشكيل بالصلصال… الخ
وفي مرحلة العمليات العقلية المحسوسة يستخدم الطفل الكتب والسطوانات والشرائط التسجيلية
السمعية والمرئية والخرائط ،ومختلف الدوات والوسائل التوضيحية؛ كما يجب أن يتعلم كيفية تشغيل
واستخدام وإعادة الدوات لماكنها.
•ضرورة إتباع التسلسل الطبيعي في تعليم الطفال باستخدام البيئة والدوات ،ابتداء من
الخبرات المحسوسة إلى الخبرات الرمزية كما يلي:
•القيام برحلة إلى البيئة المناسبة للهدف التعليمي المرغوب ،تتشبع خللها حواس الطفال بكل ما
يخص الموضوع التعليمي المختار.
•بعد الرحلة مباشرة :تخصيص حصة للبناء بالمكعبات أو التجسيم بالصلصال أو الرسم الحر للتعبير
عن الخبرة الحسية المأخوذة من الرحلة.
•يلي ذلك تعبير شفهي :حوار ومناقشة حول ما تم من الخبرات في كل من الرحلة والبناء والرسم،
وقراءة الكلمات المتعلقة بالموضوع والتي تكتبها المعلّمة بخط واضح وكبير أمام الطفال على لوحة
توضيحية.
•جمع العمال البنائية والفنية واللغوية التي نتجت عن الرحلة ،وعرضها في ركن بارز من الصف لمدة
أسبوع ،بغرض التذكير والمراجعة وتثبيت المعلومات ،وإحساس الطفال بالعتزاز بأعمالهم.
قد تحتاجين إلى إجراء بعض التعديلت البيئية والتعليمية في الصف لمواجهة اختلف مستويات الطفال
التطورية والفكرية .وفيما يلي بعض النصائح المناسبة:
)1ضعي تحديات مناسبة لمستوى كل طفل كي يبحث ويكتشف معرفة جديدة في كل نشاط وفي كل
مدي اختلق المشكلت الفكرية لثارة تساؤلت الطفال وحثّهم على النظر إلى كل مشكلة وقت .وتع ّ
من جميع جوانبها ،وعدم التركيز على جانب واحد فقط.
)2نبّهي وعي الطفل إلى طريقة تطور عمله؛ فلكل عمل بداية يجب النطلق منها وعناصر يجب
تـنسيقها ،وعلقات يجب الربط بينها ،وخطوات يجب إتباعها للوصول إلى النهاية .ولكي تحققي ذلك
يجب عليك أل ّ تسرعي في التعزيز وتصحيح الخطاء ،بل ناقشي الطفل وراجعي معه خطوات عمله
حتى ينتبه إلى التسلسل الطبيعي للعمل.
)5إختاري الدوات التي تجعل الطفل يفكّر في العمل بها ويتوقّع رد ّ الفعل فيها ،ويشاهد تغيّراتها
جهي انتباهوتحوّلتها ،ويقارن بين توقعاته وبين النتيجة التي يحصل عليها من الدوات .ول تنسي أن تو ّ
الطفل إلى تعدد طرق استخدام كل أداة ،وأن تساعديه على الفصاح عما يفهم من تجاربه.
)6ل تجعلي استخدام الدوات يقتصر على طفل واحد أو اثنين ،بل إجري بعض التعديلت على الدوات
بحيث تصلح لشتراك مجموعة صغيرة من الطفال ،وذلك لكي يرتفع مستوى التفاعل بينهم وتتقارب
مستوياتهم الفكرية.
33
)7ل تحصري اهتمامك في اختيار الدوات على اعتبار أهدافها الحسية والحركية والفكرية فحسب ،بل
تأكدي من توفر الخصائص التالية فيها:
•وجود علقات تربط بين الدوات وبعضها لكمال الهدف التعليمي المنشود منها.
•تنوّع وتعدد العمال الممكن تنفيذها بها.
•وضوح نتائج العمل عليها.
•سرعة فهم آليّاتها ( كيفية تشغيلها ).
•إمكانية استخلص مفاهيم جديدة ( بالضافة إلى هدفها الصلي ) من خلل العمل بها.
•إمكانية تطوير عدة تراكيب من هدفها الصلي ،فغالبا ما يعبث الطفل بالداة عشوائيا ثم يكتشف
شيئا في تركيبها يشدّه للعمل بها ،فيحدث فيها تطورات متنوعة تنتهي به إلى اختراع شئ جديد.
)8وأخيرا ً تؤكّد دومرون على ضرورة اتباع أوسط المور بين التقصير في توفير الدوات وبين المبالغة
في إعدادها ،وتحذ ّرك من إهدار وقتك وجهدك في إبراز مظاهر الوسائل التعليمية الجذابة على
حساب الهتمام بالمفاهيم المقصودة من استخدامها أو على حساب تعليم الطفال كيفية التفكير
فيها واستنباط المعلومات منها .
وتعطيك دومرون على ذلك المثل التالي :قامت معلّمة قديرة ذات خبرة واسعة بإعداد وحدة تعليمية
عن فصل الخريف ،وبذلت جهدا رائعا في تحضير النشطة والدوات ،وتزويد الصف بالوسائل المرئية
والمحسوسة ،فتطرقت إلى مفاهيم الشكل واللون وعملت على إبراز المفردات اللغوية الجديدة المتعلقة
شر تفاحة ويقطعها ويتذوقها. بالتفاح ولونه ومذاقه وأدوات تقشيره وتقطيعه ...الخ .وكان على كل طفل أن يق ّ
وفى تلك الثناء أخذت طفلة تقول لزميلها " :أنا عندي أكثر مما عندك" فقاطعتها المعلّمة قائلة " :كفّي عن
إزعاج زميلك واخبريني كيف تجدين طعم التفاح؟ " صحيح أنها لم تكن تهدف إلى تعليم مفهوم العدد في ذلك
اليوم ،ولكنها أضاعت على الطفلين فرصة التفكير المنطقي والمقارنة والتصنيف والمقابلة وثبات العدد وثبات
الكمية والعلقة بين الكل والجزء.
كان بإمكان تلك المعلّمة أن تستغل الفرصة النادرة لتسأل الطفال السئلة التالية :
كم قطعة أكلت ،وكم بقى معك؟ من لديه قطعة أكبر (أو أصغر) من هذه؟
بعد أن قطعنا التفاحة ،هل حصلنا على كمية اكبر أم اصغر مما كانت؟
إذا أعدنا تجميع القطع الباقية فكم تفاحة كاملة تصبح لدينا ؟ ...وهكذا
وهكذا كان بإمكان تلك المعلّمة إثارة تفكير الطفال بما يساعدهم على التطور الفكري في أقل من
خمس دقائق.
تتداخل أنواع المعرفة الثلثة فيما بينها وتتكامل مفاهيمها في عقل الطفل؛ فهو ل يفرق بين مصادرها،
بل يستوعبها ويبنيها في ذهنه ككل ل يتجزأ؛ فاحرصي على الربط بين أنواع المعرفة وأكثري من توفير مصادرها
وتنويع أساليبك التعليمية لها بحيث تتوافق مجالتها مع طرق تفكير الطفال.
يبنى الطفل معرفته الطبيعية من خلل اكتشافه لخصائص الشياء .وهو ل يدرك الشياء بمجرد أن يراها،
ولكن ل بد له من العمل فيها بالتحريك والمعالجة والتجربة لكي يكتشف ما يحدث لها من تغيّرات .والمهم هو أن
يعرف الطفل كيف كانت الشياء الطبيعية وكيف تغيرت ،وكيف أصبحت ،ولماذا ؟ وفي هذا المجال لن يفيده
الشرح ول التلقين لنه ل يدرك سوى ما يجربه بيده ،وما يشاهده بعينيه .وقد يخطئ كثيرا ً قبل أن يستنتج الهدف
من النشاط ،ورغم ذلك فإنه لن يستـفيد من التصويب والتصحيح ،لن خصائص الشياء الطبيعية التي يعمل بها
الطفل ،وما يكتشف فيها من تحولّت ،هي التي تدله على الصواب .
•ل تقلقي من وقوع الطفل في الخطاء ،طالما انه يعمل بالشياء الطبيعية التي تظهر فيها الحقائق ويتأكد
منها بنفسه مع تكرار التجربة ،ويتقبل ما يحدث من تحولت وتغيرات على أنها جزء من طبيعة المواد التي
يعمل بها ،فلن يشعر بالحباط ولن يفقد ثـقته في نفسه.
صل إلى اكتشافاته ،فإن كان جوابه صحيحا فاطلبي منه إثبات ذلك عمليا؛ •ناقشي الطفل واسأليه كيف تو ّ
وإن كان جوابه خطأ فاطلبي منه أن يحاول مرة أخرى وبأسلوب مختلف ،وذكّريه بالتأكّد من تسلسل
خطوات العمل وصحة النتيجة .
•أكثري من تنويع المواد الطبيعية المستخدمة في التجارب؛ فكلما تنوعت ردود أفعالها واستحوذت على
ل أخطاؤهم اهتمام الطفال ،كلما زادت فرص تحكّمهم في التجارب وصحة تنبؤهم بالنتائج ،وبالتالي تـق ّ
وتزيد ثـقتهم في أنفسهم.
يبني الطفل معرفته المنطقية/الرياضية بواسطة نشاطه الذهني الدراكي أثناء عمله بالشياء
المحسوسة :كالتفكير في العلقات التي تربط بين عناصر المشكلة ،والمقارنة بين أجزائها ...الخ لستخراج
الحلول ومعرفة النتائج بالطريقة التي يقتـنع بها.
لحظي في نوعية هذه السئلة أن الطفل هو الذي يفكّر ويدبّر ويخترع حلول المشاكل ،وهذا هو
المطلوب .
جعي الطفل على الفصاح عن أفكاره لكي تـقـفي على مدى فهمه وتتعرفي على مواطن القوة •ش ّ
والضعف في مستوى تفكيره ،وبالتالي يمكنك وضع خطة مناسبة إما لعلج الضعف أو لتعزيز جوانب القوة
بالسلوب المناسب.
35
وفيما يلي بعض المحاذير الواجب تذكّرها لتتجنبي فشل الطفل في تعلّم المعرفة المنطقية/الرياضية،
أو فشلك في تعليمه إياها:
•ل تـقدمي النماذج والمثلة ،فإن ذهن الطفل يتشبث بما يرى من أفعالك ويقلّدها معتقدا أنها الطرق
الصحيحة الوحيدة للعمل.
•ل تعّززي عمل الطفل ول تقدمي له الجواب الصحيح ،فإنك بذلك تحدين من إمكانيات تفكيره .تذكري أن
الجواب الصحيح يجب أن يأتي من عقل الطفل.
•ل تخالفي رأي الطفل ول تصّرحي له بأخطائه ،فذلك كفيل بزعزعة ثـقته بنفسه ،لنه ل يدرك معنى خطئه
ول يعرف لماذا تعتبرينه خطأ.
إذا أردت إشعار الطفل بالثـقة في تفكيره وفي عمله ،عليك بالسئلة التي تشغل فكره بالبحث عن
الجواب لكي يشعر بالفخر عندما يجد الحل الصحيح من تلقاء نفسه .فمثل ،بعد قيام الطفل بنشاط تصنيفي،
إسأليه:
ثم اتركي الطفل يجرب ويقارن عمليا ليميز الفرق بين فرشاة الشعر وفرشاة السنان؛ وبهذا تكوني قد رفعت
مستوى مقدرة الطفل على العتماد على ذكائه.
توجد المعرفة الجتماعية في التفاعل مع الناس ،ويغذيها التبادل الفكري بينهم؛ وهي الرض الخصبة
للتعليم المباشر حيث تتجلّى قدرات المعلّمة في التلقين والقناع ،وتظهر آثار جهودها على سلوك الطفال.
ويتطلّب تحصيل هذا النوع من المعرفة تـفاعلك معهم كمعلّمة ومربّية ومو ّ
جهة ومرشدة ومراقبة ومحّركة لللتين
اللتين تصنعان المعلومات الجتماعية ،وهما :التـفاعل واللغة.
لحظي أن دورك هنا يختلف عن دورك في المعرفة الطبيعية والمنطقية .فالمطلوب منك هو تقديم
المعلومات التي ل يمكن اكتشافها أو اختراعها .الطفل في حاجة لن يتلقّى منك المعرفة الجتماعية بشكل
مباشر ،ومصحوبة بالمثلة والنماذج الحية المتوفّرة في أقوالك وأفعالك؛ كما هو بحاجة ماسة إلى التعزيز الفوري
سواء لتأكيد سلوك إيجابي أو تصحيح معلومة خاطئة؛ والسبب في ذلك هو المبادرة إلى بعث الطمأنينة في نفس
الطفل وتزويده بالساس السليم للتكيف الجتماعي في المدرسة ،أل وهو :استيعاب الظروف البيئية الجديدة
والتوافق بين طباعه وطباع زملئه.
ودورك في تنظيم هذه العلقة بالغ الهمية وعميق الثر ،لنك ستقدمين للطفل نخبة من القواعد
الخلقية والسلوكية والثقافية التي ستصبح فيما بعد منهجه الجتماعي في الحياة ،بالضافة إلى مجموعة من
المهارات اللغوية التي تشكّل وسائله الخاصة للتصال الفكري بالمجتمع؛ وعلى هذا الساس يبني الطفل
شخصيته ومعرفته الجتماعية .كما يشترك معك كل من أسرة الطفل وأصدقائه وزملئه في التأثير السلوكي
واللغوي عليه .لذا يمتد دورك في هذا المجال إلى ملحظة ما يظهر من تأثير البيت على الطفل ،ومراقبة
خل السريع في الوقات المناسبة ،والتعزيز الكافي للحفاظ على المستوىالتفاعل بينه وبين زملئه ،والتد ّ
السلوكي واللغوي الذي ترضينه لطفالك.
تذكّرنا هذه الكلمات برأي بياجيه في اللغة؛ فاللغة في نظره ليست مصدرا للتفكير وإنما التفكير هو
الذي يشكّل اللغة ويستخدمها في إيصال المعلومات ،وأن التفكير الذاتي يؤثر في لغة الطفل فتصبح الكلمات
التي يفهمها ويعبّر بها محدودة بوجهة نظره وخبراته الشخصية .ومعنى ذلك بالنسبة للمعلّمة أن عليها مراعاة
تنويع الكلمات المستخدمة في حديثها مع الطفال ،حتى يجد كل طفل ما يلتقي بوجهة نظره ويوصل له المعاني
المطلوبة؛ وبمعنى آخر ،يجب عليك الوصول باللغة إلى ذهن الطفل من خلل فهمك لطريقة تفكيره.
36
كلمة "بحر" تثير صورا مختلفة في أذهان الطفال باختلف خبراتهم الشخصية ،فمنهم من اعتاد مثال:
ارتياد شواطئ البحر والسباحة في مياهه المالحة ،ومنهم من يراه فقط من نافذة السيارة في
طريقه من البيت إلى المدرسة فل يعرف سوى أنه شريط أزرق يمتد ّ على طول الطريق ،ومنهم
من يطلق كلمة بحر على البركة التي يسبح فيها في قريته .والمطلوب منك في هذه الحالة هو
سع في وصف البحر ومميّزاته وصفاته الحسية ،والمقارنة بينه وبين النهر أو البركة أو أي التو ّ
مفهوم آخر يعلق بذهن كل طفل ،والستعانة في ذلك بالكلمات المتنوعة ومرادفاتها والصور
الحسية المختلفة لكي تتضح فكرة البحر لكل طفل .هذا بالضافة إلى القيام برحلة إلى شاطئ
البحر ،إذا أمكن ذلك ،لتعزيز التعليم وتثبيت المعلومات.
إستنادا ً إلى مبادئ بياجيه ونظرياته عن تطوير اللغة لدى الطفال ،تقدم كل من دومرون ،وكامي،
خصها فيما يلي:
وداكورث ( ،في شويبل وراف ) 1973 ،بعض النصائح العملية لتنمية المهارات اللغوية ،والتي نل ّ
-1ميّزي بين التعبير اللغوي وبين التفكير ،وكفّي عن العتقاد بأن تكوين المفاهيم ينمو لدى الطفال
بتعليمهم المفردات اللغوية .إنك ل تعلّميهم الكلمات والجمل من أجل تسمية الشياء فحسب ،بل من
أجل فهم ما يعملون والتعبير عما يفهمون .فما فائدة الكلمات إذا لم يستوعب الطفل كل جزء من
تفاصيل أعماله ويتمثلها فكريا؟ وامتنعي كذلك عن تعليم الطفال التركيبات اللغوية المعقدة التي تعيق
تنمية التفكير المنطقي.
-2ل تقطعي على الطفل حبل أفكاره وهو منهمك في العمل بأسئلة غير ضرورية بداعي تنمية مهاراته
اللغوية ،مثل :ماذا تفعل؟ ما اسم هذا الشيء؟ ما هذا اللون؟ إن استغراق الطفل بالتفكير فيما يعمله
شط بناءه المعرفي ،فانتظري حتى يفرغ من عمله لكي تتيحي له فرصة تـنمية مهاراته اللغوية، ين ّ
صلت إلى صنعه؟ ماذا مستعينة في ذلك بأسئلة ذات تأثير لغوى بنّاء ومباشر ،مثل :ماذا صنعت؟ كيف تو ّ
استخدمت في هذا الجزء؟ هل كان العمل سهل أم صعبا؟ ما رأيك فيه؟ هل لك أن تشرحه لفلن؟ ...
الخ.
-3إربطي الكلمات بالشياء المحسوسة دائما لكي يعي الطفل معاني الشياء التي يتحدّث عنها،
فالكلمات الجوفاء لن تضيف أي شئ إلى معرفته إذا لم يدرك طبيعة الشياء بخبرته العملية.
-4عوّدي الطفال على طرح السئلة الذكيّة والتعليل ،وقدمي لهم ،ولكن بدون تد ّ
خل ،القتراحات
المناسبة في الوقت المناسب بطريقة تفاعلية تؤدي إلى استطراد التعلم بدل من التوقف عن العمل.
ليس من السهل على الشخص البالغ أن يعرف تماما متى يكون الوقت المناسب لطرح السؤال أو
التعليق المناسب على الطفل ،ولكن مع تكرار الممارسة والتعود على طباع كل طفل وسلوكه التعلّمي،
يمكنك الرتقاء بمستواه اللغوي.
ل شك أن الطفال يتعلمون اللغة عن طريق الحتكاك المباشر بالناس ،وما تزال القراءة والكتابة
تدّرس بشكل مباشر في كثير من مدارس العالم حتى اليوم ،وما يزال اللغز الكبير يحوم حول استفادة الطفال
من تعلم القراءة والكتابة بطرق التعليم المباشر :إذا كانت مجّرد رؤية شكل الحروف والكلمات ،وسماع لفظها،
وتكرارها ،من الكفاية بحيث يقرؤها الطفال ويكتبونها ،فلماذا يخطئ الكثيرون ويستمرون في الخطأ حتى
يصلون إلى مراحل متقدمة من التعليم دونما فائدة من تكرار تصحيح أخطائهم؟ ولماذا ل نجّرب تعليم اللغة عن
طريق التجارب والخبرات؟ ربما كانت النتائج أفضل.
حضرت ايليانور داكورث ذات يوم ،درسا ً في كتابة الحروف ،أثناء إحدى جولتها في المدارس ،فرأت
طفل يبدو سعيدا ً بتعلّمه حرفا ً جديداً ،ويشرع في كتابته بعناية وتشوق لرؤية نتيجة عمله ،غير مدرك أنه يكتب
الحرف بشكل صحيح ولكن في وضع مقلوب .فعلقت عليه معلّمته قائلة " :ليس هذا الحرف س ،بل هكذا يكتب
الحرف ".وكتبت له حرف س كما ينبغي أن يكون .وبعد ساعة كانت نفس المعلّمة تقدّم للطفال درسا ً عن
الشكال الهندسية ،فأخذت تضع الشكل المستطيل في أوضاع مقلوبة وتقول " :إن المستطيل ل يتغيّر مهما
غيّرنا وضعه ،يبقى دائما مستطيلً ".فاحتار الطفل في أمر هذه المعلّمة ولم يدري لماذا لم تقبل حرف س
الذي كان قد كتبه مقلوبا ً منذ ساعة ،أليس حرف س هو حرف س مهما غيّرنا وضعه؟
هكذا تفكير الطفال في مرحلة الذكاء الحدسي الذي وصفه بياجيه بالتفكير المنطقي .لم يكن ليضير
المعلّمة أن تقول للطفل " :إنه حقا حرف س ولكن يجب أن نكتبه معتدل ً هكذا ...لكي نتعّرف عليه ونقرأه
بسهولة .هناك عدّة طرق لكتابة الحرف لكن الشكل المقبول الذي يمكن قراءته يكتب بهذه الطريقة".
37
هناك أشياء يجب تعليمها للطفال كما هي لنها ل تُقبل سوى بشكلها المتعارف عليه؛ فلماذا ل نعطي
الطفال فرصة استعمال ذكائهم للتفكير في أسباب تمسكنا بالطرق التعليمية التقليدية التي ل تتغيّر؟ قرأت يوما
عن معلّمة ذكية تعطي أطفالها في المرحلة البتدائية فرصة تعليم أنفسهم الملء عن طريق التجربة والحكم
على الصواب والخطأ في التهجي ،بشكل جماعي .فهي تطلب منهم أن يكتبوا كلمة أو جملة معينة ،ثم تسألهم:
ما هي كل الطرق الممكنة لتهجي الكلمة؟ ثم تكتب جميع اقتراحات الطفال على السبورة وتسألهم :أيها
الصح؟ ولماذا؟ ثم تعطيهم فرصة للمناقشة والتصحيح ،فإن تعثّروا في الحكم ،طلبت منهم الرجوع إلى المصدر
الذي يجدون فيه التهجي الصحيح مثل الكتاب أو الوسيلة اليضاحية ،ثم تكتبها بخط واضح على السبورة وتقول:
" يمكننا كتابة هذه الكلمة بعدة طرق ولكن الطريقة الصحيحة الوحيدة هي تلك التي وجدتموها في
الكتاب أو القاموس ،فاحرصوا على تجنّب كتابتها بأي شكل آخر".
لحظي هنا أن هذه المعلّمة لم تصحح بنفسها أي كلمة ولم تدع أي طفل يشعر بالخجل من أخطائه بل
جعلت كل طفل يعلّم نفسه كيف وأين يجد المعلومة الصحيحة .إنها قد علمتهم مهارة لغوية مباشرة عن طريق
البحث والتجارب؛ ثم أوضحت لهم لماذا يتحتم عليهم كتابة المفردات بالطريقة التقليدية المطلوبة؛ إنها حقا
معلّمة متطورة.
أما في مجال التهيئة للقراءة فيمر الطفل بعدد من التطورات الحسية والحركية والدراكية التي
تساعده في التمثيل الذهني للمفاهيم قبل أن يصل إلى المستوى الفكري الذي يخوله تعلّم القراءة .ويسلسل
كل من شويبل وراف ( ) 1973هذه التطورات في ستة مراحل متتابعة ،نلخصها فيما يلي:
-1قبل أن يتعلّم الطفل الكلم ،يعبّر عن انطباعاته وأفكاره بحركات جسمه ،كتقليده حركة تناول الطعام
مه ومعبرا عن مفهومه للطهي .وهذه الحركات عند رؤيته للملعقة ،أو تحريك الملعقة في صحنه مقلّدا أ ّ
المعبرة تـنبع من ملحظات الطفل وتجاربه ،وتدل على أن لديه تصورات ذهنية لما يدور حوله ،وأفكار
سد الشياء التي يتمثل بها المفاهيم في ذهنه.
يعبر عنها بأفعاله ،إنه بذلك يج ّ
ميات ومعاني ومواقف معينة ،مثل :باي باي، -2بعد ذلك يستطيع الطفل التلفّظ بعبارات تدل على مس ّ
م ،بدل من :أريد أن آكل .كما يقلّد أعمال الكبار كدليل على تمثله
مم ّبدل من :أريد أن أخرج؛ و :ه ّ
لمعنى ما يقوم به من حركات.
-3ومع تقدّم نمو الطفل فكريا ً ولغوياً ،يتعلّم أسماء الشياء بالتلقين من الكبار ،فيمثلها أو يعبّر عنها ببناء
المكعبات أو بتشكيل الصلصال أو بتركيب اللعاب ...الخ
-4وبعد أن يتحكم في مسك القلم ( مع تطوّر نموّ عضلته الدقيقة ) يرسم الشياء التي يتصوّرها،
ويشبّهها بما يعرفه وما يلحظه من تفاصيل البيئة التي يعيش فيها والشخاص الذين يعيشون معه.
-5ثم يتطور نظام الطفل المعرفي بحيث يستطيع الربط بين الخبرة الحسية التي يمر بها ،وبين إدراكه
لها ذهنيا ،وذلك ما يسمى ب:
التشّرب الذهني بالمفاهيم( )Internalization of Conceptsحيث يتعّرف الطفل على
الشياء بمجرد أن يرى صورها ورموزها ،ويسميها بأسمائها ويعبر عنها لغوياً.
-6وأخيرا ً تصبح الصور والرموز بمثابة الجسر الذي يربط بين معرفة الطفل للشياء وتسميتها ،وبين
استعداده لتعلّم قراءة الكلمات التي تدل عليها؛ ولكن هذا الجسر اللغوي يعتبر واهيا ً إن لم نكن قد
دعمناه بالساس الحسي /الحركي والدراكي السليم ،من خلل النشطة المتسلسلة وفقا ً لتسلسل
التطورات التي ذكرناها .بدون هذا التسلسل المرحلي ،يصعب على الطفل استيعاب ما نحاول تعليمه
إياه بالتـلقين ،لكن يمكنه تكرار حفظ أشكال الحروف أو الكلمات ،وتذكّر لفظها دون أدنى تفكير فيما
تعنيه له.
" التفاعل الجتماعي هو سبيل المعلّمة إلى مساعدة الطفال على الختيار
واتخاذ القرار وتعديل سلوكهم وتنظيم علقاتهم بالخرين ،وممارسة تطبيق
القوانين التي يشاركون في وضعها ( بدل ً من القوانين المفروضة عليهم )
ممارسة واقعية يحّركها الحترام المتبادل ،والدراية التامة بأهمية التفاهم
والتعاون ،وأثرهما في نجاح العمال الجماعية".
( ديفيد ويكنز في شويبل وراف ، 1973 ،صفحة ) 191
38
كنا وما زلنا نعتبر أن الصف الهادئ هو المرآة التي تعكس قدرة المعلّمة الناجحة على سيادة الموقف،
متناسين دور الطفال في التعاون معها بمحض اختيارهم ،إذا هم شعروا بالمسؤولية وحرية التفاعل بينهم .ل
جع الطفال على ممارسته يكفي أن نعترف بضرورة التفاعل الجتماعي أو نسمح به في صفوفنا ،بل يجب أن نش ّ
في نطاق النظام المتّـفق عليه بيننا وبينهم.
جهة للتفاعل الجتماعي من أخطر عوامل التأثير في خلق جوّ من التحكّم الذاتي وحرية دورك كمو ّ
التعلم ،إذا أدركت أهمية اشتراك الطفال في عملية تحديد احتياجات الصف الجتماعية ،ووضع الهداف المناسبة
لتـلبيتها .ويمكنك أن تجّربي بعض النصائح التالية للتأكّد من تأثير دورك في هذا المجال:
)1إشتركي مع الطفال في وضع القوانين الصفّية المناسبة لسنّهم وتفكيرهم وبيئتهم ،وو ّ
ضحيها لهم
بالطريقة التي يفهمونها أكثر لكي يتبعوها عن اقـتـناع تام .وقدمي لهم أمثلة حية عن أسباب وجود
هذه القوانين :كالحفاظ على سلمتهم ،وتأمين راحتهم ،ونشر الهدوء اللزم للتركيز على أعمالهم،
وتحقيق المساواة في التعامل معهم.
)2وضحي لهم نتائج مخالفة قوانين الصف من انتشار الشغب والضوضاء ،والضرار بالخرين
والتعرض للنقد والعقاب .واستخدمي المردود المباشر ( التعزيز وتصحيح الخطاء ) لكي يشعر
الطفال بالفرق بين السلوك السليم والسلوك المخالف .فإذا أساء أحدهم التصّرف ،أيقظي وعيه
ما يفهمه من معايير السلوك ،ونبـهـيه إلى نوع
الجتماعي من خلل مناقشة هادئة؛ إسأليه ع ّ
السلوك الذي أتى به ،وساعديه على المقارنة بين ما يفهمه وما يفعله؛ كذلك واحرصي على كونك
القدوة المثلى للطفال في كل ما تـنصحيهم به.
)3يمكنك أن تطوّري التفاعل الجتماعي بين أطفال من نفس العمر و متـقاربي التفكير ،عن طريق
الربط المستمر بين مسببات السلوك ونتائجه.
مي لدى الطفال نوعا من التفكير المنطقي الذي يختلف ويرى ويكنز أن ممارسة التفاعل الجتماعي تـن ّ
باختلف أعمارهم ومراحل تطورهم ،لذلك فهو ينصح المعلّمة بتغيير سلوكها ليتـناسب مع تفكير الطفال
المنطقي حسب العمر والمرحلة التي تتعامل معها ،كما سنرى في المثلة التالية:
• في سن الثالثة من العمر:
إذا أخذ طفل جميع السيارات ،واحتج طفل آخر على ذلك ،طبّقي مفهوم العدد الذي يستوعبه الطفل في هذه
السن لكي تقسمي السيارات بينهما بالتساوي " :واحدة لك ،وواحدة لزميلك ،اثنان لك ،واثنان لزميلك ".وهكذا
على طريقة مقابلة واحد لواحد.
• في سن الخامسة:
إذا بنى طفل مركزا ً للطفاء بالمكعبات ،ووضع فيه كل سيارات الطفاء الموجودة بالصف ،ثم أراد زميله أن يأخذ
منها سيارة للعب بها في الرمل؛ أفهميه ضرورة وجود سيارات الطفاء في مركزها ،وأنه إذا أراد أخذ سيارة
إطفاء فعليه أن يبني لها مركز للطفاء يؤويها ويقوم بصيانتها فيه.
• في سن السادسة:
يتحتم عليك هنا أن تشركي الطفال في عملية تحديد المسؤوليات وقواعد اللعب والعمل ،لكي ينمو لديهم
مفهوم المنطق الذي يحكم التفاعل والتواصل بينهم .واكثري من السئلة التي تثير لديهم الحاجة للتوازن
المعرفي ( ماذا يحدث لو...؟ ) لكي يتعوّدون على البحث عن السباب والربط بينها وبين النتائج .وأفسحي
المجال في منهجك للنشطة المفاجئة التي تعلم الطفال التمييز بين القوانين الثابتة والظروف المتغيرة في
كل موقف ،وتكسبهم مرونة التفكير في حل المشاكل.
39
)4أثناء تفاعلك مع الطفال ،اجعلي سلوكك الشخصي يحثهم على التقييم الذاتي.
إذا طلب منك طفل أن تطّلعي على عمله ،افعلي ذلك دون إصدار أي حكم أو تـقييم ،بل إلفتي مثال:
نظر الطفل إلى التأمل في عمله واسأليه " :كيف توصلت إلى هذه النتيجة؟ هل تستطيع أن تشرح
لي ما فعلت؟ "
إنك بذلك تجعلينه يستعيد في ذاكرته الخطوات التي اتبعها في العمل ،وتلفتين نظره إلى التحقق من
صحة الطريقة التي اتبعها ،وتعدينه لبداء رأيه في النتيجة .وإذا طلب الطفل رأيك ،أجيبيه بالسؤال
التالي " :كيف ترى عملك؟ كيف تشعر نحوه؟ ما الذي يعجبك فيه؟ " ...وهكذا حتى يرتفع مستوى تفكير
الطفل إلى الموازنة ،والتفكير الذاتي والحكم على عمله؛ وعندئذ يجب عليك أن تحترمي رأى الطفل
مهما كان ،وأن تمتـنعي عن محاولة الطعن في حكمه أو النـقاص من تقديره لعمله؛ وإذا كان عمله غير
صحيح ،إتخذي من أخطائه فكرة جديدة تبدئين بها الدرس التالي ،مع التركيز على إيضاح النقاط
الغامضة وتذليل الصعوبات.
)5تذكّري أن سرد القصص والمثال الشفهية ل تكفي لخلق الوعي الجتماعي بكل تفاصيله التفاعلية
سدونالتي تشكّل قاعدة إدراك المفاهيم الخلقية المجّردة .وفّري الفرص التي تجعل الطفال يج ّ
مختلف أنماط التفاعل الجتماعي :مثل تمثيل الدوار ،والمواقف المفتعلة الشبيهة بالواقع ،والتي
تديرينها أنت بلباقة وبحذر لكي ل ينقلب المر إلى بلبلة وسوء تصّرف ،فيضيع الهدف المنشود.
)6ل تـقـلّلي من شأن التفاعل الجتماعي في تنمية المهارات اللغوية بحجة أنك تف ّ
ضلين الهدوء
جعي
والنظام في الصف .إذا كنت تعترفين بفائدة التفاعل في تعلم اللغة والتبادل الفكري ،فش ّ
الطفال على المناقشة والحوار الهادئ ،وعلّميهم أن :أول قاعدة من قواعد الحوار هي :حسن
ي على هذه القاعدة ،فإن أحسنت النصات النصات للمتحدث .ثم احرصي على كونك المثل الح ّ
إليهم مهما كانت الظروف ،تأكّدي أنك ستعوّدينهم على احترام حق المتحدّث في الكلم.
)7وأثناء المناقشة يمكنك تصحيح الخطاء اللغوية فورا ولكن بدون إحراج أي طفل ،مثال :إذا قال
أحدهم :أين القلم الكبير؟ قولي له :أتقصد القلم الطويل؟ هذا هو القلم الطويل .من لديه قلم
طويل آخر؟ وهكذا مع تكرار الكلمة الصحيحة في جمل مختلفة ،لكي يكتسب الطفل مفردات
لغوية جديدة.
)8تذكري أن صفة الذاتية التي تطغى على تفكير الطفل في المرحلة النتقالية تمنعه من إدراك
وجهات نظر الخرين وتجعله يؤمن بصواب نظرته الشخصية للمور .لكن هذه الصفة تتجه نحو
التغير مع كثرة اختلطه بأطفال من نفس المرحلة ،حيث تتلشى الحواجز الفكرية تدريجيا ،ويفهم
الطفال بعضهم البعض أكثر مما يفهمون البالغين .لذا كان من الضروري السماح لهم بممارسة
التفاعل الجتماعي أثناء تأدية أعمالهم بأنشطة المعرفة الطبيعية ،ومسائل المعرفة
المنطقية/الرياضية؛ فهم يستفيدون من تبادل الملحظات ومقارنة النتائج ،أكثر مما يستفيدون من
الشرح والمثلة.
40
بناء على أساس مبادئ بياجيه التطورية ،وضع كل من تلميذه بعض الرشادات التي من شأنها مساعدة
المعلّمين والمعلّمات على تطوير أساليبهم التعليمية إن أرادوا أن يساهموا في تطوير معرفة الطفل .وأنت
كمعلّمة لرياض الطفال يمكنك خوض هذه التجربة والستفادة من خبرات تلميذ بياجيه ،لكي تجددي من
أساليبك التعليمية على النحو التالي:
وفيما يتعلق بإعداد البيئة الصفية والدوات ،ابحثي عن الرشادات والفكار القيّمة الكفيلة بجعل بيئة
صفّك غنية بالمثيرات التي تبعث في الطفال روح الكتشاف وتشعرهم بحالة عدم التوازن المعرفي الذي
يدفعهم إلى التعلم.
أما دورك في تطوير بناء المعرفة لدى الطفال فهو :توفير التجارب العديدة ،وإثارة الشكوك والتفكير،
والمتناع عن الشرح في كل من المعرفة الطبيعية ،والمعرفة المنطقية/الرياضية.
وأما في المعرفة الجتماعية فعليك بتحريك التفاعل الجتماعي بينك وبين الطفال لكي تضمني
استمرار اهتمامهم بالتعلم ،من خلل التبادل الفكري ،مع الحتفاظ بالمستوى النظامي المطلوب في الصف،
دون الحاجة لكبت أصوات الطفال وإخماد أفكارهم وقتل دوافعهم الفطرية.
00000000
41
الخاتمة
عرفت أن نظريات بياجيه تدور حول محور واحد هو :تطوّر عقل الطفل و تفكيره من خلل لعبه
وحديثه ،وإحساسه بالمكان والزمان والسباب ،وأثناء عمله وتحصيله ،وفي تعامله مع الناس و تصوّره لمعاييرهم
الخلقية .ولكنّي أعترف أني لم أكتشف سّر اهتمام بياجيه بنمو عقل الطفل ،و ل إيمانه العميق بقدرة هذا
المخلوق الصغير على تطوير عملياته الذهنية بمجّرد رغبته في التكيّف مع البيئة و المجتمع.
قبل بياجيه ،كان جان جاك روسو قد فاجأ العالم بأن الطفل قادر على التعلّم من الطبيعة بمفرده.
ولكن بياجيه بدراساته التفصيلية المطوّلة ألـقى الضوء على كيفية حدوث التعلّم لدى الطفل ،و ف ّ
سر عملياته
العقلية بدقة علمية فائقة .فانطلق التعليم الحديث من هذه النقطة ليطوّر مفاهيم تعليمية جديدة للمدّرسين
والمدّرسات ،حتى أصبحوا أدوات فعّالة في تطوير معرفة الطفل ومساعدته على تعليم نفسه ،آخذين في
العتبار معالم كل مرحلة يمر بها الطفل كدليل لهم في وضع المناهج والساليب التعليمية الجديدة.
ل التقدم الحكيم الذي أحرزه مؤخرا ً تعليم الطفال ،يكشف لنا سر اهتمام بياجيه بعقل الطفل؛ هذاو لع ّ
السر الذي أصبحت بصماته تبدو واضحة على المناهج المستحدثة في بعض المدارس القليلة التي تضع تفكير
الطفل على رأس قائمة أهدافها التعليمية.
نعم إنه تفكير الطفل ،الذي خلقه الله سبحانه وتعالى ،توّاقا ً للبحث عن المعرفة ،محبّا ً لكتشاف
الحقائق ،دؤوبا ً على التطوّر .فل ِ َ
م ل نهتم نحن بتفكير هذا الطفل ،فنغذ ّيه بأساليب التنمية بدل ً من إخماده في
مهده ،و ندفعه للنطلق بدل ً من حبسه بين أسوار الذاتية ،ونشجعه على التطوّر بالبحث والكتشاف والتكيّف بدلً
من تركه فريسة للفراغ و الخمول؟
ضح لنا بياجيه ما يريده منّا؛ إنه يلقي على عاتـقنا مسؤولية مساعدة الطفل على تطوير ذكائه
لقد و ّ
لكي يعلّم نفسه ،كما أرادت له طبيعته البيولوجية.
ت بمبادئ بياجيه ،فل ترضي أن تكوني مجرد آلة تلقين فيا أيتها المعلّمة ،إن اقتنع ِ
حح .ل تعلّمي أطفالك القراءة والكتابة والحساب والعلوم،تسأل وتجيب ،وتشرح وتص ّ
بل علّميهم كيف يفكرون فيتعلمون.
42
المراجع
:باللغة العربية
.1982 ، بيروت، دار الكتاب اللبناني،" "تطوّر الطفل عند بياجيه، غسان يعقوب.د
:باللغة النجليزية
Peterson, R. & Collins, V. F., “The Piaget Handbook for Teachers and Parents”, Teachers
.College Press, NY, 1986
.Pulaski, M. A. S., “Understanding Piaget”, Harper & Row, Publishers, NY, 1980
Schwebel, M. & Raph, J., “Piaget in the Classroom” )Including chapters written by: Mireille
de Meuron, Eleanor Duckworth, David Wikins, and
.Constance Kamii), Basic Books, Inc. Publishers, NY, 1973
.Wadsworth, B. J., “Piaget for the Classroom Teacher”, Longman, Inc., NY, 1978
:باللغة الفرنسية
Piaget, J., “Le Langage et La Penseé chez l’Enfant”, Delachaux & Niestlé, Neuchâtel-Paris,
.1976
Piaget J., “La Naissance de l’Intelligence chez l’Enfant”, Delachaux & Niestlé, Neuchâtel-
.Paris, 1976