Professional Documents
Culture Documents
عندما بدأ النظام القطاعي في أوروبا يتهاوى ،ونشطت حركة النتقال والبحار والتجارة ،وجد
التجار من مدينة إلى مدينة ،إختلفا في العادات بين الناس ،وتباينا في العراف المحلية،
وتغايرا في طرائق الحماية ؛ كما شقّ عليهم ع ُسف السلطة التي لم تكن تتقيد بنظم محددة
مضمونة ،واضطراب القوانين التي لم تكن واضحة منظمة ،ومظالم القضاة الذين لم يكونوا
مستقلين ول متخصصين ول محايدين .وإذ شرع ذلك في التأثير على حركة التجارة وتداول
البضائع وتنامي الثروة ،فقد بدأت بيزنطة – عاصمة المبراطورية الرومانية الشرقية – في عقد
إتفاقيات مع بعض المدن اليطالية والفرنسية ،بقصد تحرير التجارة ،أدت إلى منح بعض
المتيازات إلى التجار ،بما يكفل لهم المن والعدل والسلم.
وخلل التصالت التي حدثت بين هارون الرشيد (808 – 786م) وشارلمان (814 – 742م)
إمبراطور الغرب وملك الفرنجة ؛ تمت اتفاقيات بينهما للتسهيل التجاري وتنظيم حقوق المرور
في المناطق الخاضعة لنفوذهما ،وتحديد مزايا قانونية للقناصل.
وفى 1251حصل سانت لويس ملك فرنسا من الخلفاء المسلمين على حقوق خاصة للقناصل
الفرنسيين في طرابلس (لبنان) وفى السكندرية ،أكدها من بعده ابنه فيليب لي هاردى.
وفى 1290منح الملك المنصور (في مصر ،وهو من المماليك) عهدا يتضمن إمتيازات إلى
منحت هذه المتيازات لفرسان رودس قنصل جنوا في السكندرية .وفى القرن التالي ُ
وللفرنسيين .وقد أكد هذه المتيازات سليم الول (1519 – 1512م) وابنه سليمان الثاني (
1566 – 1519م).
سليم الول سلطان العثمانيين غزا مصر ،مقر الخلفة العباسية آنذاك ( ،)1517وأكره الخليفة
(المتوكل على الله محمد بن المستمسك) على التنازل له عن الخلفة السلمية ،ثم نقل سليم
الول مقر الخلفة من القاهرة إلى الستانة ،بيزنطة والقسطنطينية من قبل ،صاحبة التقاليد
التجارية العريقة التي منحت للتجار الجانب عنها إمتيازات تسهّل لهم التجارة وتنعش فيها
القتصاد وتجعل منها مركزا مهما في المنطقة كلها.
كان الفقه السلمي بعدما اتسع نفوذ الخلفتين الموية والعباسية وامتد إلى مناطق كثيرة ،قد
ابتدع تخريجا مؤداه قسمة العالم إلى قسمين :دار السلم (أو دار السلم) وهى البلد التي
تخضع لحكم مسلم وتطبق فيها أحكام الشريعة السلمية (مع أنهم خلطوا بين الشريعة
والفقه) ،ودار الحرب وهى أي بلد أو مكان آخر سوى دار السلم .ومن مقتضى هذا التقسيم،
بمسمياته ،أن البلد أو الماكن أو المم التي ل تندرج في دار السلم تدخل فيها تُعد ّ بلدا
وأماكن وأمما محاربة ،ل يجوز عقد أي معاهدة معها تفرض السلم وتضع الحرب ،إل أن تكون
هدنة مدتها على الكثر عشر سنوات ،قياسا في ذلك على صلح الحديبية ،الذي عقده
النبي(صلعم) مع العداء من أهل مكة (سنة 6هـ) .وإعمال لهذا الفقه الذي اختلط بالشرع،
فامتزج ما هو إنساني بما هو مقدس ،قوى التجاه بعدم عقد أي اتفاقيات تجارية مع بلد
أوروبا ،التي تقع في نطاق دار الحرب ،والستعاضة عنها بإجراء آخر ،يوافق ظاهر الفكر
السلمي ويتحايل على المبدأ الفقهي (المظنون خطأ بأنه شرعي) والذي يمنع التعاهد والتعاقد
مع البلد والماكن والمم الكائنة في دار الحرب ،بمعاهدة تزيد مدتها على عشر سنوات ،ول
تكون هدنة في حرب ،يسبقها قتال ويلحقها قتال ،كما كان الوضع الذي ع ُقد فيه صلح الحديبية.
إذ ذاك تفتّق التحايل الفقهي عن فكرة أن يُصدر السلطان براءة سلطانية (أودكريتو أو فرمانا)
يتضمن وعودا مؤكدة بمنح من يصدر له المر امتيازات معينة (Imperial diplomas
)containing sworn promisesوبهذه البراءات (أو الديكريتو أو الفرامانات) تجنب
السلطين معاملة غير المسلمين من أهل دار الحرب معاملة تقوم على قدم المساواة بين
الطرفين ،أو تُفرغ في هيئة معاهدات محظورة فقهيا (يُظَن أنها ممنوعة شرعياً).
نتيجة لهذا الوضع ،صار من اليسير غير العسير ،أن يُصدر السلطان براءة (أو دكريتو أو فرمانا)
بمنح امتيازات خاصة لمن يريد من الجانب ،أهل أوروبا ،ومن ثم توالت المتيازات ،والتي كان
منحت له ترتب التزامات على السلطنة ،وإنما التقدير وقت إصدارها أنها ليست حقوقا ً لمن ُ
حزب أمر ن ذلك للسلطنة أو َِهي إمتيازات ممنوحة يمكن الرجوع فيها أو العدول عنها ،إذا ما ع َ ّ
إلى إلغائها ؛ وهو تقدير أتت اليام بعكسه ،بعد أن قويت شوكة الدول الوروبية ،فصارت
المتيازات حقوقا ً لصحابها ل يمكن الرجوع فيها أو العدول عنها ،وكان أسوأ حال لذلك ما حدث
في مصر ،على نحو ما سوف يلي.
حصلت انجلترا من السلطان العثماني على إمتيازات تجارية خاصة بالتجار وبمواطنيها وممثلها
القناصل سنة ،1579وتبعتها في ذلك هولندا سنة ،1598ثم هنجاريا (المجر) سنة ،1615
والروسيا سنة ،1700والسويد سنة ،1737ونابولي سنة ،1740والدنمارك سنة ،1756
وبروسيا سنة ،1781واسبانيا سنة ،1782والوليات المتحدة المريكية سنة ،1761وبلجيكا
سنة ،1838والتحاد اللماني (بروسيا وباقي البلد اللمانية) سنة ،1840والبرتغال سنة
،1843واليونان سنة .1854
بطبيعة الحال ،كان المر (الدكريتو أو الفرمان) الذي يصدر عن السلطان العثماني يسرى على
كل البلد الخاضعة له ،وأولها مصر؛ مما استتبع باللزوم والضرورة أن تسرى كل المتيازات
الجنبية السالف بيانها في مصر ،ويتمتع بها أبناء البلد صاحبة المتيازات في التجارة وفى
القامة وفى التملك .وساعد على ذلك موقع مصر الجغرافي الفريد ،ومكانتها في التجارة
العالمية ،والتنافس بين الدول الوروبية – وخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا والروسيا – للحصول
على وضع متميز فيها ،وهجرة كثير من الوروبيين إليها ،وكان أغلبهم يبحث عن عمل أو ينشد
صيداً.
وبينما كانت المتيازات أصل تهدف إلى أن تكون عونا للبلد مانحة المتياز صارت عبئا ثقيل
عليها ،واستُغلت أسوأ استغلل من الشذ ّاب (عديمو النفع ممن ل موطن لهم) والفاقين بل
ومن المجرمين .وع ُنى كثير ممن ليسوا من أهل البلد صاحبة المتياز أساسا بأن يحصلوا على
حماية بلد منها ،حتى يجدوا أنفسهم في منعة من تطبيق القوانين أو النظم المحلية عليهم،
وعدم الخضوع لحكام الدارة ورقابتها أو المعاناة من انحراف السلطة وسوء استخدامها.
ساعد على ذلك حال النظام القانوني والقضائي في السلطنة العثمانية ،وفى مصر .فالقانون
بصفة عامة كان يعد في هذه السلطنة تعبيرا عن إرادة الحاكم (السلطان) ،لصيقا به هو ،ينتهي
العمل به بعد وفاته إل إذا صدر تجديد من السلطان التالي لستمرار العمل بأحكام قانون معين
أو قوانين بذاتها.
ومعنى ذلك أنه لم يكن ثمة ضمان بوجود نظام قانوني عام ثابت ،ما دام القانون مشخصنا ً في
السلطان ،متعلقا بإرادته إن شاء أبقاه وإن شاء ألغاه ،وهو – في كل الحالت – ساقط بوفاة
السلطان زائل بانتهاء وليته .يضاف إلى ذلك أن السلطنة نفسها لم تكن مستقرة وطيدة،
فالحكم – طوال السلطنة العثمانية – لم يكن للشعب ول لشخاص مختارين منه ،بل كان في
الغالب في يد ما يُعرف بنظام البادْشاه (أي ملك الملوك أو المبراطور) وهم أفراد يؤخذون
من مناطق مختلفة ،كثيرا ً ما تكون بلد شرق أوروبا التي كانت ضمن بلد السلطنة ،ثم يُدربون
على الحرب ،ويختار منهم الوزراء وكبار رجال السلطنة ،فيكون ولؤهم المطلق للسلطان
نفسه ،لنهم بغير روابط مع الشعب ودون علقات عائلية .ومع اليام قويت شوكة هؤلء،
وصارت السلطة الفعلية في أيديهم ،بل واستطاعوا تغيير السلطين واغتيال من أرادوا.
لم تكن أحكام الشريعة ومبادىء الفقه مقننة في مواد ،مرتبة في موضوعات ؛ وإنما كانت في
بطون الكتب وعلى حواشي المتون ،غير معروفة للكثيرين ،وغير محددة سلفا للمسلمين أو
لغير المسلمين .وكانت أحكام الشريعة تطبق في مسائل الحوال الشخصية من زواج وطلق
ومواريث ووصية فقط .وكان يوجد في مصر قاض لكل مذهب من المذاهب الربعة :الحنفي
والمالكي والحنبلي والشافعي .وفى سنة 928هـ رسم السلطان سليمان ابن سليم الول
ّ
بإبطال نظام قضاة المذاهب الربعة ،ومنعهم من التصرف في القضاء بالديار المصرية وسلم
جميع الحكام لقاض واحد من قضاة الروم هو قاض العسكر (قاض عسكر ،أي قاضى
حجة حتى تعرض على قاض عسكري) بحيث ل تصح عقود أو أوقاف أو وصايا أو عتق أو ُ
العسكر الرومي .وكان القضاة – شأن قاضى العسكر – يُعينون من الستانة ول يقتضون
مرتبات ،بل كانوا يفرضون رسوما على القضايا التي تُرفع إليهم فيحصلون منها على رواتب
لهم ويدفعون لدولة الحتلل العثمانية ما بقى ،وما يلزم من رشوة لتجديد وليتهم.
وكان القضاة يفصلون في المواد المدنية فقط ،بالضافة إلى مسائل الحوال الشخصية .وفى
المسائل الجنائية كان يُعهد لقاض بالتحقيق إن كانت الواقعة قد حدثت بين طرفين (مثل واقعة
قتل شخص لخر ،أو ضرب فرد لغيره ،وهكذا) ثم يُترك أمر الحكم وتنفيذه للوالي أو للشرطة.
أما إذا كانت الواقعة الجنائية تتصل بأمن الدولة أو أمن الحكام فإن الحاكم أو نوابه كانوا هم -
دون القضاة – ولة المر في التحقيق وتقدير العقوبة وتنفيذها .مقتضى ذلك أن النظام
السياسي في السلطنة العثمانية وفى مصر – خاصة قبل محمد على – لم يكن مستقرا،
والنظام القانوني لم يكن محددا واضحا ،والنظام القضائي لم يكن كفؤا مستقل ؛ وهى أمور
دعت الجانب إلى طلب المزيد من المتيازات لحماية أنفسهم وأموالهم من اضطراب السلطة
وغيوم القانون وغياب القضاء ،ثم صارت المتيازات – التي كانت تُمنح ثم تُطلب – حقوقا
للجانب تُرتب التزامات على السلطات المحلية .عندما احتلت بريطانيا مصر سنة 1882
سدت السلطة فيها تبينت أن المتيازات الجنبية تحد من سلطتها وتضع عراقيل أمامها .وإذ وتو ّ
كانت تريد سلطانا مطلقا فقد ع ُنيت بدراسة هذه المتيازات ومحاولة إلغائها أو الحد ّ منها .وفى
كتابه "مصر الحديثة "Modern Egyptأفرد كرومر (افلن بيرنج 5ابريل )1917 – 1841
الوكيل العام والقنصل العام لبريطانيا في مصر من سنة 1883حتى 1917الفصل الثاني
عشر عن المتيازات الوروبية ( .)European Privilegeوفى هذا الفصل ذكر أن الجانب غير
جونه عندما يحاول إلغاء المتيازات بأن البريطانيين أنفسهم طالبوا بهذه البريطانيين كانوا يحا ّ
المتيازات وحصلوا عليها .وعلل دواعي الجانب في الحتفاظ بالمتيازات بأسباب ثلثة سلف
اللماح إليها ،وهى:
أ ..الخوف من تغوّل السلطة وتعسف الدارة وقلة إنضباط النظام الحكومي.
ب ..عدم وجود نظام قانوني عصري ،واضح ومحدد ،يمكن على أساسه قيام جهاز حكومي
حديث ،يعرف به الناس حقوقهم والتزاماتهم في كل تصرف.
وفى هذه السباب بعض الحقائق – فمما يتكرر دائما في كتب المؤرخين المسلمين عن فترة
حكم المماليك – قبل محمد على – عبارة بأن خاطر السلطان تغيّر على فلن (شخص ما)
فأرسل العساكر إلى حيث قتلوه هو وجميع أفراد أسرته ،ونهبوا بيته ،ثم أحرقوه حتى صار
رمادا .وفى عهد محمد على ،وإلى أن صدر دستور ،1923كان الحكم أوتوقراطيا ينفرد فيه
المير أو الباشا أو الخديوي أو السلطان بالرأي ،ول يشاركه أحد في إتخاذ القرار .وكان يقال
م.
حر ْ
م ْ
منِعْم ال ُ
ى النعم ،وهى عبارة تدل على أنه المعز المذل ،ال ُ
عنه إنه ول ّ
وقد أنف بيان المر بالنسبة للنظام القانوني ،وبالنسبة للنظام القضائي .ذلك بأنه لم يكن هناك
قانون بالمفهوم العلمي ،وكان القضاة يحكمون بالفقه الذي يقولون إنه شريعة (فيما عدا
قواعد الزواج والطلق والمواريث والوصية التي وردت في القرآن).
ولم تكن هناك إجراءات لرفع الدعاوى ،ول أسباب (حيثيات) تُكتب للحكام ،ول طعن
بالستئناف أو النقض على الحكام ..وهكذا .وكان الختصاص بالفصل في مسائل الحوال
الشخصية لغير المسلمين معهودا به إلى مجالسهم الملّية ،التي تتعدد بتعدد الطوائف من
أقباط أرثوذكس وكاثوليك وروم وأرمن ويهود وغيرهم .وفى هذا قال أحد رؤساء الوزارة في
مصر (نوبار باشا) إن هناك بلبلة قضائية ،إذ كان يوجد ( 17سبعة عشر) جهة اختصاص قضائي
في مصر.
كان من اللزم ،والحال كذلك ،أن تعمد الحكومة المصرية إلى إجراء إصلحات يمكن معها
إتخاذ خطوات للغاء المتيازات وتأكيد السيادة المصرية .بدأ ذلك بإنشاء المحاكم المختلطة
سنة 1875التي انتزعت إختصاصات المحاكم القنصلية في المسائل المدنية والتجارية فيما
يقع بين الجانب مختلفي الجنسيات ،وبين هؤلء الجانب والمصريين.
في سنة 1883أجرت الحكومة تحديثا شامل للقضاء المصري (المحاكم الهلية) يجعله قضاء
عصريا وكفؤا ومستقل .وحاولت الحكومة آنذاك تقنين أحكام الفقه السلمي (المسمى خطأ
شريعة إسلمية) فيما يتعلق بالمعاملت المدنية والتجارية ،غير أن علماء الزهر رفضوا هذا
التقنين ،مما دعا الحكومة إلى ترجمة المجموعة المدنية المعروفة باسم ()Code Napoleon
والتي كانت تطبق أمام المحاكم المختلطة لتطبق بالتالي في القضاء الهلي ،خاصة وأن هذه
المجموعة لم تكن تختلف عن أحكام الفقه السلمي إل في القليل ،وهو أمر ثبت على مدى
اليام .ولن الحدود (العقوبات الربع الواردة في القرآن الكريم عن السرقة وقذف المحصنات
حرابة) لم تكن تطبق في مصر طوال الحتلل العثماني ،بل وقبل ذلك بكثير ،فقد والزنا وال ِ
كان قانون العقوبات بمثابة عقوبات تعزيرية فيما تضمنه.
وحتى يدفع الحتلل البريطاني الجانب المقيمين في مصر ،من أصحاب المتيازات ،إلى أداء
بعض الضرائب فقد أصدرت الحكومة البريطانية قرار في 17مارس 1885يلزم رعاياها دفع
الضرائب ،مثلهم في ذلك مثل المصريين ؛ وهو ما أرادت هذه الحكومة أن تجعله أساسا ومثل
للزام باقي الجانب أداء ضرائب .وبالفعل ساعد ذلك على موافقة الجانب على دفع بعض
الضرائب ،وفى 18مارس 1891صدر دكريتو بإخضاع الجانب في مصر لبعض الضرائب.
في 31يناير 1889صدر دكريتو ينظم التشريع في المسائل الجنائية (العقوبات) بحيث ل يجوز
أن تُوقع على أي شخص عقوبة الغرامة التي تزيد عن جنية مصري أو الحبس الذي يزيد عن
سبعة أيام بغير قانون يصدر بذلك سلفاً .هذا إلى أن تعرض الحكومة المصرية على الجمعية
العمومية للمحاكم المختلطة اقتراحاتها بسن تشريعات جنائية.
قامت ثورة 1919بزعامة سعد زغلول لتحقيق استقلل مصر من خلل محورين-:
أولهما :إخراج المستعمر البريطاني فيها ،وثانيها :إصدار دستور ينظم الحكم ويرتب حقوق
المواطنين .وفي 1923صدر دستور ينظم لول مرة في العالم العربي أسلوب الحكم وحقوق
وواجبات المواطنين ،في صورة عصرية محددة .وكان مما شمله الدستور مبدأ أن الملك يملك
ول يحكم إل من خلل وزارة تشكلها الغلبية السياسية وتكون مسئولة مسئولية تضامنية أمام
نواب ينتخبهم الشعب ،ومبدأ الفصل بين السلطات الثلث :التنفيذية والتشريعية والقضائية،
واستقلل القضاء ،والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات ..إلى آخر ذلك.
اتجهت الحكومات المصرية المتعاقبة إلى التفاوض مع الحكومات البريطانية المتتالية للحصول
على الستقلل ،وفى 1936توصل عدد من كبار الساسة المصريين بزعامة مصطفى النحاس
إلى توقيع معاهدة ،كان المفهوم وفقا للظروف الدولية آنذاك أنها خطوة مهمة على طريق
الستقلل التام .وأهم ثمار هذه المعاهدة إلغاء المتيازات الجنبية في مصر .ففي المادتين ،12
13من المعاهدة أقرت بريطانيا بسيادة مصر على جميع الجانب المقيمين فيها وتعهدت
بالعمل على مساعدة مصر في إلغاء المتيازات الجنبية التي كانت تشكل حائل وعقبة أمام
هذه السيادة .وفى 8مايو 1937ع ُقدت معاهدة مونتريه (بسويسرا) بين مصر والدول صاحبة
المتيازات ،حيث تم التفاق على إلغاء المتيازات التشريعية والمالية والقضائية .واستردت
مصر على الفور سيادتها في القضاء الجنائي على جميع المقيمين فيها من مصريين وأجانب،
بعد أن كان الفصل في المسائل الجنائية التي يكون أحد أطرافها أجنبي من اختصاص قنصل
بلده وحده .وصدر قانون العقوبات سنة 1937ليُنفذ على الجميع ،واتُّفق على إلغاء المحاكم
المختلطة بعد اثني عشر سنة ،وبالفعل ألغيت في 14أكتوبر ،1949ونفذت المجموعة
المدنية الجديدة إعتبارا من اليوم التالي مباشرة .وتل هذا إصدار قوانين للضرائب التي تسرى
على الجميع دون أي استثناء.
مفاد ذلك أن المتيازات الجنبية بدأت أصل في الستانة – وهى في المنشأ مدينة بيزنطة
والقسطنطينية – ذات التاريخ البعيد في منح المتيازات .وقد كانت المتيازات تُمنح بمقتضى
براءة (أو فرمان أودكريتو) تصدر عن السلطان العثماني من جانب واحد ول تُفرغ في صورة
معاهدات أو إتفاقيات تنظم حقوق والتزامات الطرفين ،وطريقة ومدة استعمال المتياز ،على
تقدير فقهي (غير شرعي) بعدم جواز التعاقد مع حاكم أو أمة تقع في دار الحرب ول توجد في
دار السلم (أو السلم) .غير أن هذا التقدير كان نظرا قاصرا مؤقتا ،ذلك بأن المتيازات التي
كانت منحة صارت مع الوقت حقوقا لصحابها ترتب التزامات على السلطنة العثمانية ،ول تضع
أي إلتزامات على المستفيدين منها ،وهو ما لم يكن ليحدث لو كانت المتيازات قد تحددت
نتيجة معاهدات أو إتفاقيات مشتركة .ورثت مصر المتيازات الجنبية من السلطة العثمانية،
باعتبارها إيالة لها (أي آلت إليها بالغزو فصارت من أملكها) .وتفشت المتيازات في مصر
نتيجة لعوامل كثيرة فصارت انتقاصا ً كبيرا من سيادتها وعدوانا بالغا ً على أبنائها .وحتى تستطيع
مصر التوصل إلى إلغاء المتيازات كان عليها أن تُنجز إصلحات مهمة لتحديث النظام الحكومي
وضمان استقراره وعدم تغوّل الدارة أو سوء استعمال السلطة (وهو ما حققه إلى حد كبير
دستور ،1923دون النظر إلى التطبيق السيء أو التأويل الفاسد).
كذلك أن تعمل مصر على وضع قوانين بالسلوب العصري الذي يتضمن تقنين الحقوق
سرة مثلمي ّ
واللتزامات والجرائم والعقوبات في نصوص واضحة محددة ،تضمها مجاميع ُ
القانون المدني وقانون العقوبات والقوانين الجرائية ..إلى آخر ذلك .وقد أنجزت مصر هذا
كله ،بل وقننت أحكام الحوال الشخصية (الزواج والطلق والنفقة والحضانة )..والمواريث
والوصية اعتبارا من العشرينيات.
يضاف إلى ذلك أنه كان من اللزم إنشاء نظام قضائي حديث كفء ومستقل؛ وهو ما عملت
الحكومات المصرية المتعاقبة على تحقيقه .وفى سبيل ذلك فقد صدر قانون استقلل القضاء
سنة ،1943وأنشىء مجلس الدولة سنة ،1946وأهم ما فيه اختصاص القضاء الداري بإلغاء
القرارات الدارية إذا شابها عيب أو انبنت على سوء استعمال للسلطة ،وقد كانت سلطة
القضاء من قبل تقتصر على التعويض عن آثار القرار الباطل أو المعيب دون إلغائه.
هذه العناصر الثلثة :حكومية مدنية مسئولة ،ونظام قانوني عصري ،وقضاء كفء مستقل،
صارت هي المقومات الساسية للدولة في المفهوم الدولي المعاصر ،وفى المجال النساني
العام ،وهى التي يجب أن تكون واضحة مفهومة للجميع ،وأن يؤكد عليها كل من يريد ويعمل
على احترام مجتمعه واستقلل بلده .حتى ل تنفذ إليها قوى غريبة تفرض لنفسها إمتيازات
خاصة ،تغلّفها بأسماء مختلفة وتسترها بعبارات ذات بريق .أما من يحاول العدوان على هذه
المنظومة ،وتفكيك عراها ،بصورة أو أخرى ،سواء كان ذلك بتخريب النظام الحكومي بالفساد
أو الرشوة أو التعسف أو بالعدوان عليه أو بتوهين قوائمه أو بتدمير قواعده ؛ أو كان ذلك
بتقويض النظام القانوني بعصيانه أو عدم إعماله أو ازدرائه أو نشر عدم احترامه ،أو كان ذلك
بضرب السلطة القضائية بالهمال أو الغش أو الجهل أو التحيز أو سحب الضمانات أو استغلل
الحصانات ..أو ،أو ،أو ...من يفعل ذلك عامدا أو جاهل فهو في الحقيقة يضر وطنه ضررا
جسيما ويؤذى مجتمعه إيذاء بالغاً.
saidalashmawy@hotmail.com
• القاهرة