You are on page 1of 6

‫المتيازات الجنبية في مصر ‪Middle East Transparent -‬‬

‫المتيازات الجنبية في مصر‬

‫الربعاء ‪ 28‬كانون الثاني (يناير) ‪2009‬‬

‫عندما بدأ النظام القطاعي في أوروبا يتهاوى‪ ،‬ونشطت حركة النتقال والبحار والتجارة‪ ،‬وجد‬
‫التجار من مدينة إلى مدينة‪ ،‬إختلفا في العادات بين الناس‪ ،‬وتباينا في العراف المحلية‪،‬‬
‫وتغايرا في طرائق الحماية ؛ كما شقّ عليهم ع ُسف السلطة التي لم تكن تتقيد بنظم محددة‬
‫مضمونة‪ ،‬واضطراب القوانين التي لم تكن واضحة منظمة‪ ،‬ومظالم القضاة الذين لم يكونوا‬
‫مستقلين ول متخصصين ول محايدين‪ .‬وإذ شرع ذلك في التأثير على حركة التجارة وتداول‬
‫البضائع وتنامي الثروة‪ ،‬فقد بدأت بيزنطة – عاصمة المبراطورية الرومانية الشرقية – في عقد‬
‫إتفاقيات مع بعض المدن اليطالية والفرنسية‪ ،‬بقصد تحرير التجارة‪ ،‬أدت إلى منح بعض‬
‫المتيازات إلى التجار‪ ،‬بما يكفل لهم المن والعدل والسلم‪.‬‬

‫ويلوح أن ما فعلته بيزنطة (القسطنطينية‪ ،‬والستانة الن) شاع في العلقات التجارية‬


‫والسياسية‪ .‬ففي القرن التاسع الميلدي حصل التجار العرب من السلطات الصينية في كانتون‬
‫على بعض المتيازات (‪.)Capitulations‬‬

‫وخلل التصالت التي حدثت بين هارون الرشيد (‪808 – 786‬م) وشارلمان (‪814 – 742‬م)‬
‫إمبراطور الغرب وملك الفرنجة ؛ تمت اتفاقيات بينهما للتسهيل التجاري وتنظيم حقوق المرور‬
‫في المناطق الخاضعة لنفوذهما‪ ،‬وتحديد مزايا قانونية للقناصل‪.‬‬

‫وفى ‪ 1251‬حصل سانت لويس ملك فرنسا من الخلفاء المسلمين على حقوق خاصة للقناصل‬
‫الفرنسيين في طرابلس (لبنان) وفى السكندرية‪ ،‬أكدها من بعده ابنه فيليب لي هاردى‪.‬‬

‫وفى ‪ 1290‬منح الملك المنصور (في مصر‪ ،‬وهو من المماليك) عهدا يتضمن إمتيازات إلى‬
‫منحت هذه المتيازات لفرسان رودس‬ ‫قنصل جنوا في السكندرية‪ .‬وفى القرن التالي ُ‬
‫وللفرنسيين‪ .‬وقد أكد هذه المتيازات سليم الول (‪1519 – 1512‬م) وابنه سليمان الثاني (‬
‫‪1566 – 1519‬م)‪.‬‬

‫سليم الول سلطان العثمانيين غزا مصر‪ ،‬مقر الخلفة العباسية آنذاك (‪ ،)1517‬وأكره الخليفة‬
‫(المتوكل على الله محمد بن المستمسك) على التنازل له عن الخلفة السلمية‪ ،‬ثم نقل سليم‬
‫الول مقر الخلفة من القاهرة إلى الستانة‪ ،‬بيزنطة والقسطنطينية من قبل‪ ،‬صاحبة التقاليد‬
‫التجارية العريقة التي منحت للتجار الجانب عنها إمتيازات تسهّل لهم التجارة وتنعش فيها‬
‫القتصاد وتجعل منها مركزا مهما في المنطقة كلها‪.‬‬

‫منحت قبل وليتهما‪ .‬غير‬


‫ووافق سليم ثم ابنه سليمان من بعده على المتيازات التي كانت قد ُ‬
‫أن إنتقال الخلفة السلمية إلى الستانة‪ ،‬وصيرورة السلطين العثمانيين في مسند الخلفة‪،‬‬
‫سحة السلمية على المتيازات الجنبية في بلد السلطنة‬ ‫م ْ‬
‫دعا إلى محاولت فقهية لضفاء ال ِ‬
‫العثمانية‪ ،‬ومنها مصر‪.‬‬

‫كان الفقه السلمي بعدما اتسع نفوذ الخلفتين الموية والعباسية وامتد إلى مناطق كثيرة‪ ،‬قد‬
‫ابتدع تخريجا مؤداه قسمة العالم إلى قسمين ‪ :‬دار السلم (أو دار السلم) وهى البلد التي‬
‫تخضع لحكم مسلم وتطبق فيها أحكام الشريعة السلمية (مع أنهم خلطوا بين الشريعة‬
‫والفقه)‪ ،‬ودار الحرب وهى أي بلد أو مكان آخر سوى دار السلم‪ .‬ومن مقتضى هذا التقسيم‪،‬‬
‫بمسمياته‪ ،‬أن البلد أو الماكن أو المم التي ل تندرج في دار السلم تدخل فيها تُعد ّ بلدا‬
‫وأماكن وأمما محاربة‪ ،‬ل يجوز عقد أي معاهدة معها تفرض السلم وتضع الحرب‪ ،‬إل أن تكون‬
‫هدنة مدتها على الكثر عشر سنوات‪ ،‬قياسا في ذلك على صلح الحديبية‪ ،‬الذي عقده‬
‫النبي(صلعم) مع العداء من أهل مكة (سنة ‪6‬هـ)‪ .‬وإعمال لهذا الفقه الذي اختلط بالشرع‪،‬‬
‫فامتزج ما هو إنساني بما هو مقدس‪ ،‬قوى التجاه بعدم عقد أي اتفاقيات تجارية مع بلد‬
‫أوروبا‪ ،‬التي تقع في نطاق دار الحرب‪ ،‬والستعاضة عنها بإجراء آخر‪ ،‬يوافق ظاهر الفكر‬
‫السلمي ويتحايل على المبدأ الفقهي (المظنون خطأ بأنه شرعي) والذي يمنع التعاهد والتعاقد‬
‫مع البلد والماكن والمم الكائنة في دار الحرب‪ ،‬بمعاهدة تزيد مدتها على عشر سنوات‪ ،‬ول‬
‫تكون هدنة في حرب‪ ،‬يسبقها قتال ويلحقها قتال‪ ،‬كما كان الوضع الذي ع ُقد فيه صلح الحديبية‪.‬‬
‫إذ ذاك تفتّق التحايل الفقهي عن فكرة أن يُصدر السلطان براءة سلطانية (أودكريتو أو فرمانا)‬
‫يتضمن وعودا مؤكدة بمنح من يصدر له المر امتيازات معينة (‪Imperial diplomas‬‬
‫‪ )containing sworn promises‬وبهذه البراءات (أو الديكريتو أو الفرامانات) تجنب‬
‫السلطين معاملة غير المسلمين من أهل دار الحرب معاملة تقوم على قدم المساواة بين‬
‫الطرفين‪ ،‬أو تُفرغ في هيئة معاهدات محظورة فقهيا (يُظَن أنها ممنوعة شرعياً)‪.‬‬

‫نتيجة لهذا الوضع‪ ،‬صار من اليسير غير العسير‪ ،‬أن يُصدر السلطان براءة (أو دكريتو أو فرمانا)‬
‫بمنح امتيازات خاصة لمن يريد من الجانب‪ ،‬أهل أوروبا‪ ،‬ومن ثم توالت المتيازات‪ ،‬والتي كان‬
‫منحت له ترتب التزامات على السلطنة‪ ،‬وإنما‬ ‫التقدير وقت إصدارها أنها ليست حقوقا ً لمن ُ‬
‫حزب أمر‬ ‫ن ذلك للسلطنة أو َِ‬‫هي إمتيازات ممنوحة يمكن الرجوع فيها أو العدول عنها‪ ،‬إذا ما ع َ ّ‬
‫إلى إلغائها ؛ وهو تقدير أتت اليام بعكسه‪ ،‬بعد أن قويت شوكة الدول الوروبية‪ ،‬فصارت‬
‫المتيازات حقوقا ً لصحابها ل يمكن الرجوع فيها أو العدول عنها‪ ،‬وكان أسوأ حال لذلك ما حدث‬
‫في مصر‪ ،‬على نحو ما سوف يلي‪.‬‬

‫حصلت انجلترا من السلطان العثماني على إمتيازات تجارية خاصة بالتجار وبمواطنيها وممثلها‬
‫القناصل سنة ‪ ،1579‬وتبعتها في ذلك هولندا سنة ‪ ،1598‬ثم هنجاريا (المجر) سنة ‪،1615‬‬
‫والروسيا سنة ‪ ،1700‬والسويد سنة ‪ ،1737‬ونابولي سنة ‪ ،1740‬والدنمارك سنة ‪،1756‬‬
‫وبروسيا سنة ‪ ،1781‬واسبانيا سنة ‪ ،1782‬والوليات المتحدة المريكية سنة ‪ ،1761‬وبلجيكا‬
‫سنة ‪ ،1838‬والتحاد اللماني (بروسيا وباقي البلد اللمانية) سنة ‪ ،1840‬والبرتغال سنة‬
‫‪ ،1843‬واليونان سنة ‪.1854‬‬

‫(المرجع الرئيسي‪E.SAMAD, La Question D’ Egypt, 1841 – 1939 , Paris , :‬‬


‫‪.)1938‬‬

‫بطبيعة الحال‪ ،‬كان المر (الدكريتو أو الفرمان) الذي يصدر عن السلطان العثماني يسرى على‬
‫كل البلد الخاضعة له‪ ،‬وأولها مصر؛ مما استتبع باللزوم والضرورة أن تسرى كل المتيازات‬
‫الجنبية السالف بيانها في مصر‪ ،‬ويتمتع بها أبناء البلد صاحبة المتيازات في التجارة وفى‬
‫القامة وفى التملك‪ .‬وساعد على ذلك موقع مصر الجغرافي الفريد‪ ،‬ومكانتها في التجارة‬
‫العالمية‪ ،‬والتنافس بين الدول الوروبية – وخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا والروسيا – للحصول‬
‫على وضع متميز فيها‪ ،‬وهجرة كثير من الوروبيين إليها‪ ،‬وكان أغلبهم يبحث عن عمل أو ينشد‬
‫صيداً‪.‬‬

‫وبينما كانت المتيازات أصل تهدف إلى أن تكون عونا للبلد مانحة المتياز صارت عبئا ثقيل‬
‫عليها‪ ،‬واستُغلت أسوأ استغلل من الشذ ّاب (عديمو النفع ممن ل موطن لهم) والفاقين بل‬
‫ومن المجرمين‪ .‬وع ُنى كثير ممن ليسوا من أهل البلد صاحبة المتياز أساسا بأن يحصلوا على‬
‫حماية بلد منها‪ ،‬حتى يجدوا أنفسهم في منعة من تطبيق القوانين أو النظم المحلية عليهم‪،‬‬
‫وعدم الخضوع لحكام الدارة ورقابتها أو المعاناة من انحراف السلطة وسوء استخدامها‪.‬‬

‫ساعد على ذلك حال النظام القانوني والقضائي في السلطنة العثمانية‪ ،‬وفى مصر‪ .‬فالقانون‬
‫بصفة عامة كان يعد في هذه السلطنة تعبيرا عن إرادة الحاكم (السلطان)‪ ،‬لصيقا به هو‪ ،‬ينتهي‬
‫العمل به بعد وفاته إل إذا صدر تجديد من السلطان التالي لستمرار العمل بأحكام قانون معين‬
‫أو قوانين بذاتها‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أنه لم يكن ثمة ضمان بوجود نظام قانوني عام ثابت‪ ،‬ما دام القانون مشخصنا ً في‬
‫السلطان‪ ،‬متعلقا بإرادته إن شاء أبقاه وإن شاء ألغاه‪ ،‬وهو – في كل الحالت – ساقط بوفاة‬
‫السلطان زائل بانتهاء وليته‪ .‬يضاف إلى ذلك أن السلطنة نفسها لم تكن مستقرة وطيدة‪،‬‬
‫فالحكم – طوال السلطنة العثمانية – لم يكن للشعب ول لشخاص مختارين منه‪ ،‬بل كان في‬
‫الغالب في يد ما يُعرف بنظام البادْشاه (أي ملك الملوك أو المبراطور) وهم أفراد يؤخذون‬
‫من مناطق مختلفة‪ ،‬كثيرا ً ما تكون بلد شرق أوروبا التي كانت ضمن بلد السلطنة‪ ،‬ثم يُدربون‬
‫على الحرب‪ ،‬ويختار منهم الوزراء وكبار رجال السلطنة‪ ،‬فيكون ولؤهم المطلق للسلطان‬
‫نفسه‪ ،‬لنهم بغير روابط مع الشعب ودون علقات عائلية‪ .‬ومع اليام قويت شوكة هؤلء‪،‬‬
‫وصارت السلطة الفعلية في أيديهم‪ ،‬بل واستطاعوا تغيير السلطين واغتيال من أرادوا‪.‬‬

‫لم تكن أحكام الشريعة ومبادىء الفقه مقننة في مواد‪ ،‬مرتبة في موضوعات ؛ وإنما كانت في‬
‫بطون الكتب وعلى حواشي المتون‪ ،‬غير معروفة للكثيرين‪ ،‬وغير محددة سلفا للمسلمين أو‬
‫لغير المسلمين‪ .‬وكانت أحكام الشريعة تطبق في مسائل الحوال الشخصية من زواج وطلق‬
‫ومواريث ووصية فقط‪ .‬وكان يوجد في مصر قاض لكل مذهب من المذاهب الربعة‪ :‬الحنفي‬
‫والمالكي والحنبلي والشافعي‪ .‬وفى سنة ‪ 928‬هـ رسم السلطان سليمان ابن سليم الول‬
‫ّ‬
‫بإبطال نظام قضاة المذاهب الربعة‪ ،‬ومنعهم من التصرف في القضاء بالديار المصرية وسلم‬
‫جميع الحكام لقاض واحد من قضاة الروم هو قاض العسكر (قاض عسكر‪ ،‬أي قاضى‬
‫حجة حتى تعرض على قاض‬ ‫عسكري) بحيث ل تصح عقود أو أوقاف أو وصايا أو عتق أو ُ‬
‫العسكر الرومي‪ .‬وكان القضاة – شأن قاضى العسكر – يُعينون من الستانة ول يقتضون‬
‫مرتبات‪ ،‬بل كانوا يفرضون رسوما على القضايا التي تُرفع إليهم فيحصلون منها على رواتب‬
‫لهم ويدفعون لدولة الحتلل العثمانية ما بقى‪ ،‬وما يلزم من رشوة لتجديد وليتهم‪.‬‬

‫وكان القضاة يفصلون في المواد المدنية فقط‪ ،‬بالضافة إلى مسائل الحوال الشخصية‪ .‬وفى‬
‫المسائل الجنائية كان يُعهد لقاض بالتحقيق إن كانت الواقعة قد حدثت بين طرفين (مثل واقعة‬
‫قتل شخص لخر‪ ،‬أو ضرب فرد لغيره‪ ،‬وهكذا) ثم يُترك أمر الحكم وتنفيذه للوالي أو للشرطة‪.‬‬
‫أما إذا كانت الواقعة الجنائية تتصل بأمن الدولة أو أمن الحكام فإن الحاكم أو نوابه كانوا هم ‪-‬‬
‫دون القضاة – ولة المر في التحقيق وتقدير العقوبة وتنفيذها‪ .‬مقتضى ذلك أن النظام‬
‫السياسي في السلطنة العثمانية وفى مصر – خاصة قبل محمد على – لم يكن مستقرا‪،‬‬
‫والنظام القانوني لم يكن محددا واضحا‪ ،‬والنظام القضائي لم يكن كفؤا مستقل ؛ وهى أمور‬
‫دعت الجانب إلى طلب المزيد من المتيازات لحماية أنفسهم وأموالهم من اضطراب السلطة‬
‫وغيوم القانون وغياب القضاء‪ ،‬ثم صارت المتيازات – التي كانت تُمنح ثم تُطلب – حقوقا‬
‫للجانب تُرتب التزامات على السلطات المحلية‪ .‬عندما احتلت بريطانيا مصر سنة ‪1882‬‬
‫سدت السلطة فيها تبينت أن المتيازات الجنبية تحد من سلطتها وتضع عراقيل أمامها‪ .‬وإذ‬ ‫وتو ّ‬
‫كانت تريد سلطانا مطلقا فقد ع ُنيت بدراسة هذه المتيازات ومحاولة إلغائها أو الحد ّ منها‪ .‬وفى‬
‫كتابه "مصر الحديثة ‪ "Modern Egypt‬أفرد كرومر (افلن بيرنج ‪ 5‬ابريل ‪)1917 – 1841‬‬
‫الوكيل العام والقنصل العام لبريطانيا في مصر من سنة ‪ 1883‬حتى ‪ 1917‬الفصل الثاني‬
‫عشر عن المتيازات الوروبية (‪ .)European Privilege‬وفى هذا الفصل ذكر أن الجانب غير‬
‫جونه عندما يحاول إلغاء المتيازات بأن البريطانيين أنفسهم طالبوا بهذه‬ ‫البريطانيين كانوا يحا ّ‬
‫المتيازات وحصلوا عليها‪ .‬وعلل دواعي الجانب في الحتفاظ بالمتيازات بأسباب ثلثة سلف‬
‫اللماح إليها‪ ،‬وهى‪:‬‬

‫أ‪ ..‬الخوف من تغوّل السلطة وتعسف الدارة وقلة إنضباط النظام الحكومي‪.‬‬

‫ب‪ ..‬عدم وجود نظام قانوني عصري‪ ،‬واضح ومحدد‪ ،‬يمكن على أساسه قيام جهاز حكومي‬
‫حديث‪ ،‬يعرف به الناس حقوقهم والتزاماتهم في كل تصرف‪.‬‬

‫ج‪ ..‬عدم وجود نظام قضائي كفء ومستقل‪.‬‬

‫وفى هذه السباب بعض الحقائق – فمما يتكرر دائما في كتب المؤرخين المسلمين عن فترة‬
‫حكم المماليك – قبل محمد على – عبارة بأن خاطر السلطان تغيّر على فلن (شخص ما)‬
‫فأرسل العساكر إلى حيث قتلوه هو وجميع أفراد أسرته‪ ،‬ونهبوا بيته‪ ،‬ثم أحرقوه حتى صار‬
‫رمادا‪ .‬وفى عهد محمد على‪ ،‬وإلى أن صدر دستور ‪ ،1923‬كان الحكم أوتوقراطيا ينفرد فيه‬
‫المير أو الباشا أو الخديوي أو السلطان بالرأي‪ ،‬ول يشاركه أحد في إتخاذ القرار‪ .‬وكان يقال‬
‫م‪.‬‬
‫حر ْ‬
‫م ْ‬
‫منِعْم ال ُ‬
‫ى النعم‪ ،‬وهى عبارة تدل على أنه المعز المذل‪ ،‬ال ُ‬
‫عنه إنه ول ّ‬

‫وقد أنف بيان المر بالنسبة للنظام القانوني‪ ،‬وبالنسبة للنظام القضائي‪ .‬ذلك بأنه لم يكن هناك‬
‫قانون بالمفهوم العلمي‪ ،‬وكان القضاة يحكمون بالفقه الذي يقولون إنه شريعة (فيما عدا‬
‫قواعد الزواج والطلق والمواريث والوصية التي وردت في القرآن)‪.‬‬

‫ولم تكن هناك إجراءات لرفع الدعاوى‪ ،‬ول أسباب (حيثيات) تُكتب للحكام‪ ،‬ول طعن‬
‫بالستئناف أو النقض على الحكام‪ ..‬وهكذا‪ .‬وكان الختصاص بالفصل في مسائل الحوال‬
‫الشخصية لغير المسلمين معهودا به إلى مجالسهم الملّية‪ ،‬التي تتعدد بتعدد الطوائف من‬
‫أقباط أرثوذكس وكاثوليك وروم وأرمن ويهود وغيرهم‪ .‬وفى هذا قال أحد رؤساء الوزارة في‬
‫مصر (نوبار باشا) إن هناك بلبلة قضائية‪ ،‬إذ كان يوجد ‪( 17‬سبعة عشر) جهة اختصاص قضائي‬
‫في مصر‪.‬‬

‫كان من اللزم‪ ،‬والحال كذلك‪ ،‬أن تعمد الحكومة المصرية إلى إجراء إصلحات يمكن معها‬
‫إتخاذ خطوات للغاء المتيازات وتأكيد السيادة المصرية‪ .‬بدأ ذلك بإنشاء المحاكم المختلطة‬
‫سنة ‪ 1875‬التي انتزعت إختصاصات المحاكم القنصلية في المسائل المدنية والتجارية فيما‬
‫يقع بين الجانب مختلفي الجنسيات‪ ،‬وبين هؤلء الجانب والمصريين‪.‬‬

‫في سنة ‪ 1883‬أجرت الحكومة تحديثا شامل للقضاء المصري (المحاكم الهلية) يجعله قضاء‬
‫عصريا وكفؤا ومستقل‪ .‬وحاولت الحكومة آنذاك تقنين أحكام الفقه السلمي (المسمى خطأ‬
‫شريعة إسلمية) فيما يتعلق بالمعاملت المدنية والتجارية‪ ،‬غير أن علماء الزهر رفضوا هذا‬
‫التقنين‪ ،‬مما دعا الحكومة إلى ترجمة المجموعة المدنية المعروفة باسم (‪)Code Napoleon‬‬
‫والتي كانت تطبق أمام المحاكم المختلطة لتطبق بالتالي في القضاء الهلي‪ ،‬خاصة وأن هذه‬
‫المجموعة لم تكن تختلف عن أحكام الفقه السلمي إل في القليل‪ ،‬وهو أمر ثبت على مدى‬
‫اليام‪ .‬ولن الحدود (العقوبات الربع الواردة في القرآن الكريم عن السرقة وقذف المحصنات‬
‫حرابة) لم تكن تطبق في مصر طوال الحتلل العثماني‪ ،‬بل وقبل ذلك بكثير‪ ،‬فقد‬ ‫والزنا وال ِ‬
‫كان قانون العقوبات بمثابة عقوبات تعزيرية فيما تضمنه‪.‬‬

‫وحتى يدفع الحتلل البريطاني الجانب المقيمين في مصر‪ ،‬من أصحاب المتيازات‪ ،‬إلى أداء‬
‫بعض الضرائب فقد أصدرت الحكومة البريطانية قرار في ‪ 17‬مارس ‪ 1885‬يلزم رعاياها دفع‬
‫الضرائب‪ ،‬مثلهم في ذلك مثل المصريين ؛ وهو ما أرادت هذه الحكومة أن تجعله أساسا ومثل‬
‫للزام باقي الجانب أداء ضرائب‪ .‬وبالفعل ساعد ذلك على موافقة الجانب على دفع بعض‬
‫الضرائب‪ ،‬وفى ‪ 18‬مارس ‪ 1891‬صدر دكريتو بإخضاع الجانب في مصر لبعض الضرائب‪.‬‬

‫في ‪ 31‬يناير ‪ 1889‬صدر دكريتو ينظم التشريع في المسائل الجنائية (العقوبات) بحيث ل يجوز‬
‫أن تُوقع على أي شخص عقوبة الغرامة التي تزيد عن جنية مصري أو الحبس الذي يزيد عن‬
‫سبعة أيام بغير قانون يصدر بذلك سلفاً‪ .‬هذا إلى أن تعرض الحكومة المصرية على الجمعية‬
‫العمومية للمحاكم المختلطة اقتراحاتها بسن تشريعات جنائية‪.‬‬

‫قامت ثورة ‪ 1919‬بزعامة سعد زغلول لتحقيق استقلل مصر من خلل محورين‪-:‬‬

‫أولهما‪ :‬إخراج المستعمر البريطاني فيها‪ ،‬وثانيها‪ :‬إصدار دستور ينظم الحكم ويرتب حقوق‬
‫المواطنين‪ .‬وفي ‪ 1923‬صدر دستور ينظم لول مرة في العالم العربي أسلوب الحكم وحقوق‬
‫وواجبات المواطنين‪ ،‬في صورة عصرية محددة‪ .‬وكان مما شمله الدستور مبدأ أن الملك يملك‬
‫ول يحكم إل من خلل وزارة تشكلها الغلبية السياسية وتكون مسئولة مسئولية تضامنية أمام‬
‫نواب ينتخبهم الشعب‪ ،‬ومبدأ الفصل بين السلطات الثلث ‪ :‬التنفيذية والتشريعية والقضائية‪،‬‬
‫واستقلل القضاء‪ ،‬والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات‪ ..‬إلى آخر ذلك‪.‬‬
‫اتجهت الحكومات المصرية المتعاقبة إلى التفاوض مع الحكومات البريطانية المتتالية للحصول‬
‫على الستقلل‪ ،‬وفى ‪ 1936‬توصل عدد من كبار الساسة المصريين بزعامة مصطفى النحاس‬
‫إلى توقيع معاهدة‪ ،‬كان المفهوم وفقا للظروف الدولية آنذاك أنها خطوة مهمة على طريق‬
‫الستقلل التام‪ .‬وأهم ثمار هذه المعاهدة إلغاء المتيازات الجنبية في مصر‪ .‬ففي المادتين ‪،12‬‬
‫‪ 13‬من المعاهدة أقرت بريطانيا بسيادة مصر على جميع الجانب المقيمين فيها وتعهدت‬
‫بالعمل على مساعدة مصر في إلغاء المتيازات الجنبية التي كانت تشكل حائل وعقبة أمام‬
‫هذه السيادة‪ .‬وفى ‪ 8‬مايو ‪ 1937‬ع ُقدت معاهدة مونتريه (بسويسرا) بين مصر والدول صاحبة‬
‫المتيازات‪ ،‬حيث تم التفاق على إلغاء المتيازات التشريعية والمالية والقضائية‪ .‬واستردت‬
‫مصر على الفور سيادتها في القضاء الجنائي على جميع المقيمين فيها من مصريين وأجانب‪،‬‬
‫بعد أن كان الفصل في المسائل الجنائية التي يكون أحد أطرافها أجنبي من اختصاص قنصل‬
‫بلده وحده‪ .‬وصدر قانون العقوبات سنة ‪ 1937‬ليُنفذ على الجميع‪ ،‬واتُّفق على إلغاء المحاكم‬
‫المختلطة بعد اثني عشر سنة‪ ،‬وبالفعل ألغيت في ‪ 14‬أكتوبر ‪ ،1949‬ونفذت المجموعة‬
‫المدنية الجديدة إعتبارا من اليوم التالي مباشرة‪ .‬وتل هذا إصدار قوانين للضرائب التي تسرى‬
‫على الجميع دون أي استثناء‪.‬‬

‫مفاد ذلك أن المتيازات الجنبية بدأت أصل في الستانة – وهى في المنشأ مدينة بيزنطة‬
‫والقسطنطينية – ذات التاريخ البعيد في منح المتيازات‪ .‬وقد كانت المتيازات تُمنح بمقتضى‬
‫براءة (أو فرمان أودكريتو) تصدر عن السلطان العثماني من جانب واحد ول تُفرغ في صورة‬
‫معاهدات أو إتفاقيات تنظم حقوق والتزامات الطرفين‪ ،‬وطريقة ومدة استعمال المتياز‪ ،‬على‬
‫تقدير فقهي (غير شرعي) بعدم جواز التعاقد مع حاكم أو أمة تقع في دار الحرب ول توجد في‬
‫دار السلم (أو السلم)‪ .‬غير أن هذا التقدير كان نظرا قاصرا مؤقتا‪ ،‬ذلك بأن المتيازات التي‬
‫كانت منحة صارت مع الوقت حقوقا لصحابها ترتب التزامات على السلطنة العثمانية‪ ،‬ول تضع‬
‫أي إلتزامات على المستفيدين منها‪ ،‬وهو ما لم يكن ليحدث لو كانت المتيازات قد تحددت‬
‫نتيجة معاهدات أو إتفاقيات مشتركة‪ .‬ورثت مصر المتيازات الجنبية من السلطة العثمانية‪،‬‬
‫باعتبارها إيالة لها (أي آلت إليها بالغزو فصارت من أملكها)‪ .‬وتفشت المتيازات في مصر‬
‫نتيجة لعوامل كثيرة فصارت انتقاصا ً كبيرا من سيادتها وعدوانا بالغا ً على أبنائها‪ .‬وحتى تستطيع‬
‫مصر التوصل إلى إلغاء المتيازات كان عليها أن تُنجز إصلحات مهمة لتحديث النظام الحكومي‬
‫وضمان استقراره وعدم تغوّل الدارة أو سوء استعمال السلطة (وهو ما حققه إلى حد كبير‬
‫دستور ‪ ،1923‬دون النظر إلى التطبيق السيء أو التأويل الفاسد)‪.‬‬

‫كذلك أن تعمل مصر على وضع قوانين بالسلوب العصري الذي يتضمن تقنين الحقوق‬
‫سرة مثل‬‫مي ّ‬
‫واللتزامات والجرائم والعقوبات في نصوص واضحة محددة‪ ،‬تضمها مجاميع ُ‬
‫القانون المدني وقانون العقوبات والقوانين الجرائية‪ ..‬إلى آخر ذلك‪ .‬وقد أنجزت مصر هذا‬
‫كله‪ ،‬بل وقننت أحكام الحوال الشخصية (الزواج والطلق والنفقة والحضانة‪ )..‬والمواريث‬
‫والوصية اعتبارا من العشرينيات‪.‬‬

‫يضاف إلى ذلك أنه كان من اللزم إنشاء نظام قضائي حديث كفء ومستقل؛ وهو ما عملت‬
‫الحكومات المصرية المتعاقبة على تحقيقه‪ .‬وفى سبيل ذلك فقد صدر قانون استقلل القضاء‬
‫سنة ‪ ،1943‬وأنشىء مجلس الدولة سنة ‪ ،1946‬وأهم ما فيه اختصاص القضاء الداري بإلغاء‬
‫القرارات الدارية إذا شابها عيب أو انبنت على سوء استعمال للسلطة‪ ،‬وقد كانت سلطة‬
‫القضاء من قبل تقتصر على التعويض عن آثار القرار الباطل أو المعيب دون إلغائه‪.‬‬

‫هذه العناصر الثلثة‪ :‬حكومية مدنية مسئولة‪ ،‬ونظام قانوني عصري‪ ،‬وقضاء كفء مستقل‪،‬‬
‫صارت هي المقومات الساسية للدولة في المفهوم الدولي المعاصر‪ ،‬وفى المجال النساني‬
‫العام‪ ،‬وهى التي يجب أن تكون واضحة مفهومة للجميع‪ ،‬وأن يؤكد عليها كل من يريد ويعمل‬
‫على احترام مجتمعه واستقلل بلده‪ .‬حتى ل تنفذ إليها قوى غريبة تفرض لنفسها إمتيازات‬
‫خاصة‪ ،‬تغلّفها بأسماء مختلفة وتسترها بعبارات ذات بريق‪ .‬أما من يحاول العدوان على هذه‬
‫المنظومة‪ ،‬وتفكيك عراها‪ ،‬بصورة أو أخرى‪ ،‬سواء كان ذلك بتخريب النظام الحكومي بالفساد‬
‫أو الرشوة أو التعسف أو بالعدوان عليه أو بتوهين قوائمه أو بتدمير قواعده ؛ أو كان ذلك‬
‫بتقويض النظام القانوني بعصيانه أو عدم إعماله أو ازدرائه أو نشر عدم احترامه‪ ،‬أو كان ذلك‬
‫بضرب السلطة القضائية بالهمال أو الغش أو الجهل أو التحيز أو سحب الضمانات أو استغلل‬
‫الحصانات‪ ..‬أو‪ ،‬أو‪ ،‬أو‪ ...‬من يفعل ذلك عامدا أو جاهل فهو في الحقيقة يضر وطنه ضررا‬
‫جسيما ويؤذى مجتمعه إيذاء بالغاً‪.‬‬

‫‪saidalashmawy@hotmail.com‬‬

‫• القاهرة‬

You might also like