You are on page 1of 175

‫الحقوق كافة‬

‫مـحــــفــــوظـة‬
‫لتـحــاد الـكـتـاب‬
‫‪: unecriv@net.sy E-mail‬‬ ‫اللكتروني‪:‬‬ ‫البريد‬
‫‪aru@net.sy‬‬
‫موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة النترنت‬
‫‪http://www.awu-dam.org‬‬

‫تصميم الغلف للفنان ‪ :‬عبد الرحمن مهنا‬


‫‪‬‬
‫منقور عبد الجليل‬

‫علــم الدللـة‬
‫‪ -‬دراســــة ‪-‬‬

‫من منشورات اتحاد الكتاب العرب‬


‫دمشق ‪2001 -‬‬

‫‪-2-‬‬
‫الهــــداء‪:‬‬

‫إلى كل من يروم أن يغتني بالبحث عن كينونته وسط تراكم معرفي زاخر…‬


‫إلى الذين ل يسأمون أن يرفعوا اللبنة فوق اللبنة ليس لبناء جدار عازل بل لتشييد‬
‫شرفة لنطل من عليائها على ماضينا السحيق ونستشرف من عليها معالم مستقبلنا…‬
‫وأخيرا ً إلى من كان صدره رحباً‪ ..‬لعزلتي ووحدتي مع البحث‪ ..‬إلى أسرتي‪..‬‬
‫أهدي إلى أولئك جميعا ً هذا العمل‪.‬‬

‫‪-3-‬‬
-4-
‫الباب الول ‪:‬‬

‫مدخل نظري لعلم الدللة‬

‫‪-5-‬‬
-6-
‫مــدخل عام‬
‫إن السهامات اللغوية لسلفنا المفكرين في التراث العربي‪ ،‬لم ينل البحث فيها ما يستحقه من عناية واهتمام‪ ،‬فما زالت‬
‫مجالت كثيرة في التراث العربي اللغوي بكرا تحتاج إلى نظرة لغوية علمية واعية وإن وجدت هناك أبحاث لغوية ذات قيمة إل‬
‫أنها محمولة على الرصيد المعرفي للتراث العربي‪ ،‬وتجتر عطاءً معرفيا لسلفنا الباحثين‪ ،‬ولم يخرج جهدها إذ ذاك من عملية‬
‫نقل أو تصنيف دون أن يكون لروح العصر الحديث لمسات على هذا التراث ليبعث فيه التجديد‪ .‬وفي غمرة الصراع بين دعاة‬
‫الصالة وأنصار المعاصرة يضيع البحث اللغوي‪ ،‬ويتجرد من كل خلفية علمية حضارية‪ ،‬فإذا نظرنا إلى المعوّل عليه عند دعاة‬
‫الصالة‪ ،‬فإنه ل يعدو أن يكون جردا سلبيا رتيبا دون أدنى جهد لخرق تلك الرتابة والولوج داخل التراث المعرفي لبحث بنيته‬
‫الداخلية لكي يسهم في تحقيق النظرية اللسانية العامة‪ ،‬أما فئة أنصار المعاصرة فإنها أقحمت المعطيات اللسانية الغربية في‬
‫دراستها للظواهر اللغوية العربية‪ ،‬دون أدنى اعتبار لصالة وخصوصيات الفكر واللسان العربيين وهذا الخلل المنهجي أحدث‬
‫قطيعة معرفية بين التراث العربي والحتياجات العلمية اللغوية للنسان المعاصر‪ ،‬وكان وراء التخلف في مجال البحث العلمي‬
‫اللغوي المعاصر عند الدارسين العرب‪ ،‬بينما إذا نظرنا‪ -‬على سبيل المقارنة‪ -‬إلى الفكر اللغوي الغربي فإننا ل نلمس تلك‬
‫القطيعة المعرفية بين تراثه العلمي واللساني‪ ،‬ومتطلبات العصر اللغوية ولذلك جاءت أبحاث الدارسين في الغرب‪ ،‬امتدادا لجهود‬
‫أسلفهم اللغويين وكانت نظرياتهم تتويجا لتراكمات معرفية في تراثهم التاريخي‪.‬‬
‫إذا أردنا أن نؤسس فكرا عربيا معاصرا في مجال البحث اللغوي‪ ،‬فإننا ملزمون ضرورة بالقيام بعملية جرد للفكر اللغوي‬
‫لتراثنا العربي‪ ،‬وتمحيصه وتحديد مجالته وفرز عطاءاته اليجابية وسقطاته على مستوى السس المعرفية في الموضوع‬
‫والمنهج‪ ،‬وهذا ل يتم إل بعودة تقويمية حضارية إلى الفكر العربي بشكل عام‪ ،‬والفكر اللغوي بشكل خاص‪ ،‬وتتم هذه العودة‬
‫عبر تتبع المسار التطوري للدرس اللغوي عند العرب القدمين والبحث عن السس المعرفية والفلسفية التي انبنى عليها التراث‬
‫الفكري العربي‪ ،‬وذلك بربطه بالعلوم النسانية المختلفة‪ ،‬فنحفظ أصالة تراثنا المعرفي ونقف على المنهج الفكري الذي كان‬
‫يشرف على تأطير البحاث والدراسات في هذا التراث‪ ،‬وبذلك يتحقق مشروع النظرية اللسانية العربية المعاصرة‪ ،‬ويظهر‬
‫منهجها في مجال العطاء الفكري النساني‪ ،‬وبالتالي تكون شرعية النشأة على المستوى المعرفي‪ .‬هذا المشروع اللساني العربي‬
‫ل يستقيم له أمر إل إذا أخذنا بما حققته النظريات اللسانية الغربية‪ ،‬واستوعبنا مادتها استيعابا واعيا‪ ،‬وحاولنا تكييف هذه‬
‫النظريات مع خصوصيات اللسان العربي في المجالت المختلفة‪ ،‬وأجرينا إسقاطات منهجية على التراث اللغوي العربي بعد‬
‫تقويمه وتمحيصه من أجل بعثه بعثا جديدا وإعادة صياغته صياغة تدفعه لمواكبة التطور الحضاري للمجتمع البشري‪ ،‬مع‬
‫ضرورة الخذ بالمناخ الفكري الذي ساد نشأة وترعرع الفكر اللغوي العربي‪" ،‬لن فهم المنهج العربي في أي علم من العلوم‬
‫العربية التراثية ينبغي أن يلتمس من داخل الحياة العقلية العربية ومن خلل المناخ العقلي العام الذي نشأ وتطور وتأصل في‬
‫ظل القرآن‪ ،‬فمن المعلوم أن المفكرين المسلمين بدأوا بما هو عملي قبل أن يصلوا إلى وضع "منهج نظري" لكل فرع من فروع‬
‫البحث‪ ،‬وكانت‪ -‬مثلً‪ -‬قراءة القرآن عن طريق التلقي والعرض أسبق من وضع كتب تحدد منهج القراءات…"(‪ .)1‬فإذا تحققت‬
‫هذه العملية في إطارها العلمي المنهجي ستؤدي حتما إلى تفكير لساني حديث تتمخض عنه نظرية لسانية عربية قادرة على‬
‫تقديم التفسير الكافي لكل مستويات الدراسة اللغوية الصوتية والتركيبية والدللية‪ ،‬بهذه الطريقة نربط الفكر اللغوي العربي القديم‬
‫بالفكر اللساني العالمي الحديث‪ ،‬لن التحول العلمي للنظرية اللسانية في العصر الحديث أضحى يتوخى الشمولية في التعامل‬

‫() د‪.‬علي سامي النشار‪ -‬مناهج البحث عند مفكري السلم‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪-7-‬‬
‫العلمي مع الظاهرة اللغوية‪ ،‬بوصفها طبيعية إنسانية‪ .‬قد تغطي اهتمامات النسان المعاصر‪ ،‬إذ لم تعد تعترف بالحدود المعرفية‬
‫مع انتقال العالم اللساني إلى بحث اللسان البشري بحثا موضوعيا متخذا اللغة النسانية مادة للتطبيق باعتبارها تخضع لنواميس‬
‫متجانسة تسمح بوضع منهج لساني عام يشمل كل اللغات‪ ،‬وبمثل هذا التعامل الواعي نحمي تراثنا اللغوي بأن ننفخ فيه من روح‬
‫العصرنة والحداثة فينبعث ليساير التطور النساني في كل مجالت الفكر العلمي‪ ،‬ونعيد الصلة التي انبتّت بين تطلعاتنا الفكرية‬
‫اللغوية المعاصرة‪ ،‬والجهود النظرية المنهجية التي أغنى بها أسلفنا تراثنا المعرفي‪.‬‬
‫وفي هذا المجال النظري البين المعالم يندرج هذا البحث كخطوة مرحلية نحو معاينة لعطاءات التراث العربي في حقل‬
‫اللغة‪ ،‬مستحضرا الهتمام في إسهامات عالم من علماء أصول الفقه‪ ،‬وربما كان ارتباط علم الدللة‪ -‬موضوع بحثنا النظري‪-‬‬
‫بعلم أصول الفقه‪ ،‬أقوى من ارتباطه بأي علم آخر من العلوم‪ ،‬ذلك أن علماء الصول قدموا نماذج متقدمة جدا في تعاملهم مع‬
‫اللغة كمنظومة من العلمات اللسانية الدالة تخضع في حركيتها الخطابية إلى نواميس متحكمة في أداء وظائفها الدللية‪،‬‬
‫وساهموا منذ أوّل الماد المبكرة في معالجة مشكلت لغوية‪ ،‬وما أضفى على نتاجهم المعرفي طابع الدقة والموضوعية هو‬
‫اتخاذهم القرآن الكريم منطلقا لستنباط أحكامهم الفقهية العامة بالستناد على الحكام اللغوية التي من أظهر خصوصياتها‬
‫الدللة‪ ،‬وقد كان هؤلء العلماء يحملون وعيا معرفيا أملى عليهم أن يتعاملوا مع القرآن الكريم باعتباره كتاب لغة محكمة يحمل‬
‫شبكة من النواميس العميقة التي تتحكم في ضبط الدللة بأدوات وقفوا عليها وحددوا على أساسها أحكاما وقواعد أضحت فيما‬
‫بعد مبادئ للتشريع‪ .‬إذن‪ ،‬فالتناول الدللي في التراث المعرفي العربي كان ضمن اهتمامات لغوية أخرى‪ ،‬امتزج البحث فيه‬
‫بضروب معارف مختلفة من غير أن يحمل عنوانا مميزا‪ ،‬له استقلل في موضوعاته ومعاييره الخاصة‪ .‬فسعيا منا إلى تحقيق‬
‫مقاربة علمية بين تراثنا الدللي المتنوع‪ ،‬والمناهج الغربية الحديثة في ميدان علم السيمياء‪ ،‬حصرنا بحثنا في استنطاق بنية‬
‫التراث اللغوي الدللي‪ ،‬عند عالم أصولي يعد مفخرة القرن السادس الهجري بما توافر بين يديه من تراكم معرفي زاخر‪،‬‬
‫أخرجه في كتابه الموسوم "بالحكام في أصول الحكام" هذا العالم هو سيف الدين المدي الذي نوه بعلمه المؤرخ ابن خلدون‬
‫وذكره ضمن أربعة علماء متقدمين في علم أصول الفقه‪..‬‬
‫إن منهجنا في عرض بنية التفكير الدللي عند المدي يقوم على أساس تفكيكها‪ ،‬والطلع على أسسها العلمية‪ ،‬لنعيد‬
‫تشكيلها تشكيلً يحفظ لها طابعها المعرفي الصيل برؤى تتطلع إلى استفادة تخدم العصر وتحرك فاعلية تلك الصول التراثية‬
‫الدللية وتساعد على تنمية قدراتها في عصرنا‪ ،‬خاصة إذا علمنا أن علم الدللة حديثا يلقى من بالغ الهتمام في عصرنا في كل‬
‫أنحاء العالم‪ ،‬ما يجعله نقطة التقاء لنواع من التفكير النساني يقول (ليش‪( )Leach :‬السيمانتيك نقطة التقاء لنواع من التفكير‬
‫والمناهج مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم اللغة‪ ،‬وإن اختلفت اهتمامات كلّ لختلف نقطة البداية(‪".)1‬‬
‫يقع هذا البحث في بابين رئيسيين‪ :‬باب نظري عام يضم ثلثة فصول‪ ،‬حاولت أن أبسط فيها معالم الدرس الدللي الحديث‬
‫مستهلً بالبحث عن نشأة علم الدللة‪ ،‬منذ عهد الهنود الوائل ثم اليونان فالرومان وصولً إلى العصر الوسيط فعصر النهضة‬
‫إلى أن أعلن (بر) عن ميلد علم جديد يعتني بدراسة المعنى اصطلح على تسميته "بالسيمانتيك سنة ‪1883‬م‪ .‬ولم يفتني أن‬
‫ل كاملً في الباب‬
‫أعاين اهتمامات اللغويين والعلماء العرب القدامى بشأن الدللة‪ ،‬معاينة سريعة ما دمت خصصت لذلك فص ً‬
‫الثاني من البحث‪ ،‬كما اجتهدت أن أرسم إطارا مفهوميا لماهية الدللة انطلقا من قواميس اللغة‪ ،‬وورودها في القرآن الكريم‪،‬‬
‫وأقوال بعض العلماء العرب القدامى وبعض علماء الدللة المحدثين من الغرب‪ ،‬وقدمت أهم المباحث التي تشكل موضوعات‬
‫علم الدللة الحديث‪ ،‬وختمت ذلك بفصل عرضت فيه لمختلف النظريات الدللية التي أسست الفكر الدللي الحديث‪.‬‬
‫أما الباب الثاني فهو باب تطبيقي‪ ،‬استهللته بتلخيص للمناخ المعرفي العام الذي وفّر‪ -‬بدون شك‪ -‬للمدي‪ ،‬الجو المناسب‬
‫لكي يؤسس أفكاره الدللية في كتابه "الحكام"‪ ،‬واهتديت إلى أن أمثل لكل قرن معرفي تقريبا بعالم تكون لعطاءاته العلمية أكبر‬
‫الثر في عصره‪ ،‬وما بعد عصره‪ ،‬وبدأت ذلك من القرن الثاني الهجري إلى القرن الخامس الهجري‪.‬‬
‫هذا كان في الفصل الول أما الفصول‪ ،‬الثاني‪ ،‬الثالث والرابع‪ ،‬فقد عرضت فيهم ما تناوله المدي من مسائل تخص‬

‫‪ ،Semantics‬ص ‪.9‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬

‫‪-8-‬‬
‫الدللة محاولً أن أبرز جهوده في ضوء ما خلصت إليه البحوث الدللية الحديثة‪ ،‬وذلك خدمة للهداف التي أومأنا إليها في‬
‫المدخل‪ ،‬ول أدعي أني أتيت على تحقيق تلك الهداف كلها‪ ،‬فحسبي إثارتي لمسائل ل زالت لم تمتد إليها اهتمامات الباحثين‬
‫المعاصرين امتدادا ترتد على إثره تلك المسائل‪ ،‬حية فاعلة في التفكير اللساني الحديث‪ ،‬مع اعتقادي أن الدرس اللغوي بمختلف‬
‫فروعه هو عند غير اللغويين من علمائنا أغزر وأدق مما هو عند اللغويين في تراثنا المعرفي‪ ،‬وهذا ما يشجع‪ -‬حقيقة‪ -‬على‬
‫استثمار جهود أولئك العلماء فيما يخص إرساء نظرية لغوية شاملة‪..‬‬
‫إن مسالك البحث في التراث المعرفي تكتنفها الوعور الصعبة‪ ،‬التي ل تقطعها دون أن تنال منك نيلً يتبدى‪ -‬دون شك‪-‬‬
‫في مباحثك‪ .‬فهناك تعترضك اللغة وهي في كامل عنفوانها ونضجها وسلطتها‪ ،‬لغة تنفق معها‪ -‬ضرورة‪ -‬صبرا كبيرا لتصل‬
‫إلى فك شبكتها والولوج إلى نصوصها‪ ،‬وهذا ما عايشته مع لغة المدي المنطقية‪ ،‬العلمية‪ ،‬فضلً على ذلك فإن الرجوع إلى‬
‫المصادر التي أفاد منها العالم أو التي ذللت مضان كتابه أمر ل غنى عنه‪ ،‬خاصة وأن المدي مزج في كتابه "الحكام" بين‬
‫علوم العربية وعلم المنطق وعلم أصول الفقه‪.‬‬
‫ول يفوتني أن أشيد بصنيع جميع أساتذة معهد الدب‪ -‬بوهران‪ -‬معي فلم يدخروا نصحا أو ملحظة دون أن يبدو لي بها‪،‬‬
‫وأخص بالتنويه منهم أستاذي المحترم سليمان عشراتي الذي صاحبني مع نشأة بحثي مرحلة مرحلة‪ ،‬ولطالما كنت محتاجا إلى‬
‫دفع معنوي فكان يحثني على المضي قدما في أطوار بحثي‪ ،‬وإني مدين كذلك للستاذ المحترم أحمد حساني الذي لقيت عنده كل‬
‫التشجيع‪ ،‬وكانت لملحظاته القيمة أكبر الثر في تدرجي في البحث‪ ،‬وكنت آخذ من وقته القسط الكبير ليشرف على مراجعة ما‬
‫كنت أدونه من فصول… فلساتذتي جميعا مني الشكر والمتنان… وال ولي التوفيق…‬
‫‪‬‬

‫‪-9-‬‬
‫الفصل الول‪:‬‬
‫علم الدللة‪ :‬النشأة والماهية‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫يرى فريق من الدارسين أن البحث عن المصطلح العلمي في التراث المعرفي العربي القديم‪ ،‬قد ل يقدم للدرس‬
‫اللغوي الحديث شيئا ذا أهمية عدا أنه يضع يد الباحث‪ ،‬على التاريخ الول لميلد المصطلح ويطلعه على الطار العام‬
‫الذي دارت حوله موضوعات "الدراسة" في طورها البدائي‪ ،‬وقد يحصل تطور جذري في مفهوم المصطلح‪ ،‬فينتقل‬
‫مفهومه من حقل دللي معين‪ ،‬إلى حقل دللي آخر خاضعا لسنن التطور الدللي الذي يمس بنية اللغة وعناصرها عبر‬
‫مسارها التاريخي المتجدد‪ ،‬ويخشى على الباحث أن يضيع جهده سدى في خضم البحث عن الولدة الولية لصيغة‬
‫المصطلح ودللته‪.‬‬
‫لكن الموضوعية العلمية في الدرس اللغوي الحديث‪ ،‬تملي بل تفرض على الباحثين ضرورة تأطير بحثهم تأطيرا‬
‫علميا دقيقا‪ ،‬خاصة إذا كان البحث يتوخى تأصيل الدراسة‪ ،‬والتنقيب عن جذورها في التراث المعرفي المتنوع‪ ،‬سعيا‬
‫منه إلى ربط الحقائق العلمية الحديثة بأصولها الولى‪ ،‬وإذا كان دور التأريخ للمصطلح العلمي ينحصر في تحديد نشأة‬
‫هذا المصطلح‪ ،‬وماهيته الولى تحديدا دقيقا أو يحيل على الظاهرة اللغوية التي يمكن أن يشرف عليها المصطلح‬
‫ل علميا في غاية الهمية خاصة إذا صحب ذلك وعي الباحث وتمكنه من أدوات‬ ‫العلمي الحديث‪ ،‬فإن ذلك يعد فض ً‬
‫بحثه بكيفية تعينه على الغوص في التراث المعرفي بمنهجية دقيقة ووسائل ملئمة‪ ،‬مما يتيح فرصة التوصل إلى نتائج‬
‫علمية مؤكدة قد تلقي أضواء على جوانب هامة من التراث العلمي الزاخر وبالتالي تفتح مجالت واسعة لعادة‬
‫اكتشاف هذا التراث اكتشافا علميا واعيا‪ ،‬بإدراجه ضمن حركية العلوم الحديثة‪ ،‬وسعيا منا إلى تأطير هذه الدراسة‬
‫وضعنا منهجية واضحة تمثل قاعدة هذا البحث وهي تشمل فصلً أولً بعنصريه‪ :‬نشأة علم الدللة‪ ،‬والذي عرضنا فيه‬
‫للمسار التطوري الذي تبلور من خلله علم الدللة الذي انفصل من جملة علوم لغوية مختلفة ليختص بجانب المعنى‬
‫والدللة‪ ،‬وآخر علم كان لعلم الدللة معه وشائج متصلة وهو علم اللسنية بمختلف مباحثه‪ .‬أما العنصر الثاني من هذا‬
‫الفصل فقد بسطنا فيه ماهية علم الدللة‪ ،‬ومختلف المفاهيم التي وردت بها كلمة "دللة" وما يراد فيها بدءا من‬
‫نصوص القرآن الكريم باعتباره كتاب ضبط اللغة العربية وأول أسلوب بياني عجز من مجاراته فصحاء العرب‬
‫وبلغائهم‪ ،‬وإليه انتهى النتاج الدبي واللغوي الذي يمثل قمة ما أبدعته القريحة العربية الجاهلية‪ ،‬ثم نقلنا الشروحات‬
‫التي وردت في معاجم اللغة المشهورة وتتبعنا مادة "دلّ" وما اشتق منها‪ .‬وأنهينا هذا العنصر من الفصل الول بتقديم‬
‫تعاريف ومفاهيم كل من اللغويين والعلماء العرب القدمين‪ ،‬وعلماء الغرب المحدثين حول الدللة ومتعلقاتها وحقول‬
‫مباحثها‪.‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫أولً‪ -‬نشأة علم الدللة‬

‫‪-1‬نشأة علم الدللة‪ :‬المسار التطوري التاريخي‪:‬‬


‫لقد استقطبت اللغة اهتمام المفكرين منذ أمد بعيد‪ ،‬لن عليها مدار حياة مجتمعاتهم الفكرية والجتماعية‪ ،‬وبها قوام‬
‫فهم كتبهم المقدسة‪ ،‬كما كان شأن الهنود قديما حيث كان كتابهم الديني (الفيدا) منبع الدراسات اللغوية واللسنية على‬
‫الخصوص التي قامت حوله‪ ،‬ومن ثمة غدت اللسانيات الطار العام الذي اتخذت فيه اللغة مادة للدراسة والبحث‪.‬‬
‫وكان الجدل الطويل الذي دار حول نشأة اللغة قد أثار عدة قضايا تعد المحاور الرئيسية لعلم اللسنية الحديث فمن‬
‫جملة الراء التي أوردها العلماء حول نشأة اللغة قولهم‪" :‬بوجود علقة ضرورية بين اللفظ والمعنى شبيهة بالعلقة‬
‫اللزومية بين النار والدخان‪ )1(".‬إن المباحث الدللية قد أولت اهتماما كبيرا علقة اللفظ بالمعنى‪ ،‬وارتبط هذا بفهم‬
‫طبيعة المفردات والجمل من جهة وفهم طبيعة المعنى من جهة أخرى‪ ،‬فلقد درس الهنود مختلف الصناف التي تشكل‬
‫عالم الموجودات‪ ،‬وقسموا دللت الكلمات بناء على ذلك إلى أربعة أقسام‪:‬‬
‫‪-1‬قسم يدل على مدلول عام أو شامل (مثل لفظ‪ :‬رجل)‬
‫‪-2‬قسم يدل على كيفية (مثل كلمة‪ :‬طويل)‬
‫‪-3‬قسم يدل على حدث (مثل الفعل‪ :‬جاء)‬
‫(‪)2‬‬
‫‪-4‬قسم يدل على ذات (مثل السم‪ :‬محمد)‬
‫إن دراسة المعنى في اللغة بدأ منذ أن حصل للنسان وعي لغوي‪ ،‬فلقد كان هذا مع علماء اللغة الهنود‪ ،‬كما كان‬
‫لليونان أثرهم البين في بلورة مفاهيم لها صلة وثيقة بعلم الدللة‪ ،‬فلقد حاور أفلطون أستاذه سقراط حول موضوع‬
‫العلقة بين اللفظ ومعناه‪ ،‬وكان أفلطون يميل إلى القول بالعلقة الطبيعية بين الدال ومدلوله‪ ،‬أما أرسطو فكان يقول‬
‫باصطلحية العلقة‪ ،‬وذهب إلى أن قسم الكلم إلى كلم خارجي وكلم داخلي في النفس‪ ،‬فضلً على تمييزه بين‬
‫الصوت والمعنى معتبرا المعنى متطابقا مع التصور الذي يحمله العقل عنه‪ .‬وقد تبلورت هذه المباحث اللغوية عند‬
‫اليونان حتى غدا لكل رأي أنصاره من المفكرين فتأسست بناء على ذلك مدارس أرست قواعد هامة في مجال دراسة‬
‫اللغة كمدرسة الرواقيين‪ )3(.‬ومدرسة السكندرية ثم كان لعلماء الرومان جهد معتبر في الدراسات اللغوية خاصة ما‬
‫تعلق منها بالنحو‪ ،‬وإليهم يرجع الفضل في وضع الكتب المدرسية التي بقيت صالحة إلى حدود القرن السابع عشر بما‬
‫حوته من النحو اللتيني‪ ،‬وبلغت العلوم اللغوية من النضج والثراء مبلغا كبيرا في العصر الوسيط مع المدرسة‬
‫السكولئية (‪ )Scolastique‬والتي احتدم فيها الصراع حول طبيعة العلقة بين الكلمات ومدلولتها‪ ،‬وانقسم المفكرون‬
‫في هذه المدرسة إلى قائل بعرفية العلقة بين اللفاظ ودللتها وقائل بذاتية العلقة‪.‬‬
‫وبقي الهتمام بالمباحث الدللية يزداد عبر مراحل التاريخ‪ ،‬ولم يدخر المفكرون أي جهد من أجل تقديم‬
‫التفسيرات الكافية لمجمل القضايا اللغوية التي فرضت نفسها على ساحة الفكر‪ ،‬ففي عصر النهضة‪ ،‬أين سادت‬
‫"الكلسيكية" بأنماطها في التفكير والتأليف امتازت الدراسات اللغوية في هذه المرحلة بالمنحى المنطقي العقلي‪ ،‬وأحسن‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ -‬ص ‪.19‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرواقيون ( ‪ )stoiciens‬ينتسبون إل ريتون القيسيون (ت ‪244‬ق‪.‬م) ربطوا السائل اللغوية بالفلسفة‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫من يمثل هذه الفترة رواد مدرسة (بوررويال) الذين رفعوا مقولة‪ :‬أن اللغة ما هي إل صورة للعقل‪ ،‬وأن النظام الذي‬
‫(‪)1‬‬
‫يسود لغات البشر جميعا قوامه العقل والمنطق‪.‬‬
‫وفي حدود القرن التاسع عشر الميلدي‪ ،‬تشعبت الدراسات اللغوية‪ ،‬فلزم ذلك تخصص البحث في جانب معين‬
‫من اللغة‪ ،‬فظهرت النظريات اللسانية وتعددت المناهج‪ ،‬فبرزت الفونولوجيا التي اهتمت بدراسة وظائف الصوات إلى‬
‫جانب علم الفونتيك الذي يهتم بدراسة الصوات المجردة‪ ،‬كما برزت التيمولوجيا التي اعتنت بدراسة الشتقاقات في‬
‫اللغة‪ ،‬ثم علم البنية والتراكيب الذي يختص بدراسة الجانب النحوي وربطه بالجانب الدللي في بناء الجملة‪.‬‬
‫وفي الجانب الخر من العالم‪ ،‬كان المفكرون العرب قد خصصوا للبحوث اللغوية حيزا واسعا في إنتاجهم‬
‫الموسوعي الذي يضم إلى جانب العلوم النظرية كالمنطق والفلسفة علوما لغوية قد مست كل جوانب الفكر عندهم‪،‬‬
‫سواء تعلق المر بالعلوم الشرعية كالفقه والحديث‪ ،‬أو علوم العربية‪ ،‬كالنحو والصرف والبلغة‪ ،‬بل إنهم كانوا يعدون‬
‫علوم العربية نفسها وتعلمها من المفاتيح الضرورية للتبحر في فهم العلوم الشرعية‪ ،‬ولذلك "تأثرت [العلوم اللغوية]‬
‫بعلوم الدين وخضعت لتوجيهاتها‪ .‬وقد تفاعلت الدراسات اللغوية مع الدراسات الفقهية‪ ،‬وبنى اللغويون أحكامهم على‬
‫أصول دراسة القرآن والحديث والقراءات‪ ،‬وقالوا في أمور اللغة بالسماع والقياس والجماع والستصلح تماما كما‬
‫فعل الفقهاء في معالجة أمور علوم الدين"‪ )2(.‬ولما كانت علوم الدين تهدف إلى استنباط الحكام الفقهية ووضع القواعد‬
‫الصولية للفقه‪ ،‬اهتم العلماء بدللة اللفاظ والتراكيب وتوسعوا في فهم معاني نصوص القرآن والحديث‪ .‬واحتاج ذلك‬
‫منهم إلى وضع أسس نظرية‪ ،‬فيها من مبادئ الفلسفة والمنطق ما يدل على تأثر العرب بالمفاهيم اليونانية ولذلك يؤكد‬
‫عادل الفاخوري أنه "ليس من مبالغة في القول إن الفكر العربي استطاع أن يتوصل في مرحلته المتأخرة إلى وضع‬
‫نظرية مستقلة وشاملة يمكن اعتبارها أكمل النظريات التي سبقت البحاث المعاصرة‪ )3(".‬فالبحاث الدللية في الفكر‬
‫العربي التراثي‪ ،‬ل يمكن حصرها في حقل معين من النتاج الفكري بل هي تتوزع لتشمل مساحة شاسعة من العلوم‬
‫لنها مدينة "للتحاور بين المنطق وعلوم المناظرة وأصول الفقه والتفسير والنقد الدبي والبيان‪ )4(".‬هذا التلقح بين هذه‬
‫العلوم النظرية واللغوية هو الذي أنتج ذلك الفكر الدللي العربي‪ ،‬الذي أرسى قواعد تعد الن المنطلقات الساسية لعلم‬
‫الدللة وعلم السيمياء على السواء‪ ،‬بل إنك ل تجد كبير فرق بين علماء الدللة في العصر الحديث وبين علماء العرب‬
‫القدامى الذين ساهموا في تأسيس وعي دللي هام‪ ،‬يمكن رصده في نتاج الفلسفة واللغويين وعلماء الصول والفقهاء‬
‫والدباء‪" ،‬فالبحوث الدللية العربية تمتد من القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية إلى سائر القرون التالية لها‪،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫وهذا التأريخ المبكر إنما يعني نضجا أحرزته العربية وأصّله الدارسون في جوانبها‪".‬‬
‫إن هذه الجهود اللغوية في التراث العربي لسلفنا الباحثين‪ ،‬وتلك البحاث التي اضطلع بها اللغويون القدامى من‬
‫الهنود واليونان واللتين وعلماء العصر الوسيط وعصر النهضة الوروبية‪ ،‬فتحت كلها منافذ كبيرة للدرس اللغوي‬
‫الحديث وأرست قواعد هامة في البحث اللسني والدللي‪ ،‬استفاد منها علماء اللغة المحدثون بحيث سعوا إلى تشكيل‬
‫هذا التراكم اللغوي المعرفي في نمط علمي يستند إلى مناهج وأصول ومعايير‪ ،‬وهو ما تجسم في تقدم العالم الفرنسي‬

‫() زبي دراقي ماضرات ف اللسانيات العامة والتاريية‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬

‫() فنون التعقيد وعلوم اللسنية‪ :‬ص ‪.26‬‬ ‫‪2‬‬

‫() علم الدللة عند العرب‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪4‬‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 12 -‬‬
‫(ميشال بر ‪ )M.Breal‬في الربع الخير من القرن التاسع عشر إلى وضع مصطلح يشرف من خلله على البحث‬
‫في الدللة‪ ،‬واقترح دخوله اللغة العلمية‪ ،‬هذا المصطلح هو "السيمانتيك" يقول بر‪" :‬إن الدراسة التي ندعو إليها القارئ‬
‫هي نوع حديث للغاية بحيث لم تسم بعد‪ ،‬نعم‪ ،‬لقد اهتم معظم اللسانيين بجسم وشكل الكلمات‪ ،‬وما انتبهوا قط إلى‬
‫القوانين التي تنتظم تغير المعاني‪ ،‬وانتقاء العبارات الجديدة والوقوف على تاريخ ميلدها ووفاتها‪ ،‬وبما أن هذه‬
‫(‪)1‬‬
‫الدراسة تستحق اسما خاصا بها‪ ،‬فإننا نطلق عليها اسم "سيمانتيك" للدللة على علم المعاني‪.‬‬
‫إن العالم اللغوي (بر) انطلق‪ -‬دون ريب‪ -‬في تحديد موضوع علم الدللة ومصطلحه من جهود من سبقه من‬
‫علماء اللغة الذين وفروا مفاهيم مختلفة تخص المنظومة اللغوية من جميع جوانبها يقول الدكتور كمال محمد بشر‪" :‬إن‬
‫دراسة المعنى بوصفه فرعا مستقلً عن علم اللغة‪ ،‬قد ظهرت أول ما ظهرت سنة ‪ ،1839‬لكن هذه الدراسة لم تعرف‬
‫(‪)2‬‬
‫بهذا السم (السيمانتيك) إل بعد فترة طويلة أي سنة ‪ 1883‬عندما ابتكر العالم الفرنسي (م‪.‬بر) المصطلح الحديث‪".‬‬
‫إل أن المؤرخين اللغويين لظهور علم الدللة يجمعون على أن فضل (بر) يكمن في تخصيصه كتابا استقل بدراسة‬
‫المعنى هو كتاب (محاولة في علم المعاني) بسط فيه القول عن ماهية علم الدللة‪ ،‬وأبدع منهجا جديدا في دراسة‬
‫المعنى هو المنهج الذي ينطلق من الكلمات نفسها لمعاينة الدللت دون ربط ذلك بالظواهر اللغوية الخرى‪ .‬ويمكن‬
‫أن نرسم معالم هذا المنهج اللغوي الجديد انطلقا من النص الذي أورده (بر) في سياق تعريفه بعلم الدللة‪:‬‬
‫أولً‪ :‬إذا كانت اللسانيات تهتم بشكل الكلمات‪ ،‬فإن علم الدللة (السيمانتيك) يهتم بجوهر هذه الكلمات ومضامينها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الهدف الذي ينشده علم الدللة هو الوقوف على القوانين التي تنتظم تغيّر المعاني وتطورها‪ ،‬والقواعد التي‬
‫تسير وفقها اللغة‪ ،‬وذلك بالطلع على النصوص اللغوية بقصد ضبط المعاني المختلفة بأدوات محددة وفي‬
‫هذا سعي حثيث إلى التنويع في التراكيب اللغوية لداء وظائف دللية معينة‪ ،‬وهذا التنويع هو الذي يثري‬
‫اللغة إثراء يحفظ أصول هذه اللغة‪ ،‬ول يكون حاجزا أمام تطورها وتجددها ويمكن في خضم البحث عن‬
‫هذه النواميس "خلق" نواميس لغوية جديدة لكي تشرف على النظام الكلمي بين أهل اللغة لن "عالم اللسان‬
‫(‪)3‬‬
‫يكون همه الوعي باللغة عبر إدراك نواميس السلوك الكلمي"!!‬
‫ثالثا‪ :‬اتباع المنهج التطوري التأصيلي الذي يقف على ميلد الكلمات ويتتبعها في مسارها التاريخي‪ ،‬وقد يردها‬
‫إلى أصولها الولى "لن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها نواميس مفروضة على الفراد‪ ،‬تتناقلها الجيال‬
‫بضرب من الحتمية التاريخية‪ ،‬إذ كل ما في اللغة‪ -‬راهنا‪ -‬إنما هو منقول عن أشكال سابقة هي الخرى‬
‫منحدرة من أنماط أكثر بدائية‪ ،‬وهكذا إلى الصل الوحد أو الصول الولية المتعددة"(‪ )4‬فالنظام اللغوي‪،‬‬
‫نظام متجدد ما دامت الكلمات ل تخضع لقانون ثابت يلزمها بمدلولتها‪ ،‬فاللغة تنتظمها نواميس خفية تعود‬
‫إلى اقتضاءات تعبيرية هي جزء من النظام الكلي الذي تسير وفقه اللغة‪ ،‬وتصرف دللت تراكيبها‪.‬‬
‫هذه النقاط الثلث هي الطر الكبرى التي يندرج ضمنها منهج (ميشال بر) في علم الدللة ومعه تحديد لمجمل‬
‫فروع البحث في هذا المجال‪.‬‬

‫() ‪.Les grands courrants de la linguistique moderne. Le roy Maurice- p.46‬‬ ‫‪1‬‬

‫() تأليف ستيفن أولن‪ ،‬دور الكلمة ف اللغة‪ ،‬مقدمة‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪ .‬عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ .‬ص ‪104‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.161‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫‪-2‬بين علم الدللة وعلم اللسانيات‪:‬‬
‫إن نشأة علم الدللة‪ ،‬لم تكن نشأة مستقلة عن علوم اللغة الخرى‪ .‬إنما كان يعد هذا العلم جزءا لصيقا بعلم‬
‫اللسانيات الذي كان يهتم بدراسة اللسان البشري‪ ،‬إل أن عدم اهتمام علماء اللسانيات بدللة الكلمات‪ -‬كما أشار إلى‬
‫ذلك (بر)‪ -‬هو الذي كان دافعا لبعض العلماء اللغويين إلى البحث عن مجال علمي يضم بحثا في جوهر الكلمات‬
‫ودللتها‪ ،‬لكي يحددوا ضمنه موضوعاته ومعاييره وقواعده ومناهجه وأدواته وما كان ذلك يسيرا خاصة إذا علمنا‬
‫ذلك التداخل المتشابك الذي كان يجمع بين علوم اللغة مجتمعة وعلم اللسنية الذي ذهب علماؤه إلى تفريعه إلى‬
‫مباحث جمعت بين حقول مختلفة من العلوم كما هو شأن اللسانيات النفسية (‪ ،)psycolinguistique‬ومبحث‬
‫اللسانيات العصبية ‪ neuro-linguistique‬وما إلى ذلك‪ .‬إن العلم اللساني كان يهتم بوصف الجوانب الصورية للغة‬
‫ويتجنب الخوض في استبطان جوهر الكلمات ومعانيها الذي أصبح من اهتمامات علم الدللة (الحديث)‪ ،‬ثم إن‬
‫ضرورة الحاطة ببعد اللغة الجتماعي والثقافي والنفسي وتتبع سيرورة المعنى الديناميكي كل هذه حواجز وقفت أمام‬
‫علماء اللسانيات‪ ،‬فاستبعدوا بذلك الخوض في دراسة المعنى وركزوا بحوثهم على شكل الكلمات‪ ،‬إلى أن برز علم‬
‫الدللة ليسد هذا الفراغ في الدراسات اللغوية من جهة ويعمق البحث في الجانب الدللي للغة من جهة أخرى‪ ،‬ويجتاز‬
‫تلك الحواجز التي حالت دون أن يخوض اللسانيون في دراسة المعنى‪" ،‬لن علم الدللة هو ميدان يتجاوز حدود‬
‫اللسانيات التي يتعين عليها وصف الجوانب الصورية للغة قبل كل شيء‪ ،‬فالدللة ليست ظاهرة لغوية صرفا وإذا كان‬
‫بالمكان بناء الحقول الدللية فإنه ينبغي آنذاك العتماد على المعطيات الخارجية فقط‪)…( ..‬‬
‫إن بعد اللغة الجتماعي والثقافي من العوائق التي تقف أمام الدراسات الدللية الحديثة ويمكن تحديد ذلك فيما‬
‫يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬تعدد القيم الحافة بدللة اللفاظ المركزية‪.‬‬
‫ب‪ -‬إن دللة اللفظ ليست ظاهرة قارة ذلك أنه يمكنها أن تعتني دوما بحسب التجارب الجديدة (اللغوية وغيرها‬
‫التي يخبرها المتكلم)"(‪.)1‬‬
‫إن هذه المباحث المتشعبة التي هي من صميم اهتمامات علم الدللة‪ ،‬هي التي دفعت علماء اللسنية ومنهم‬
‫التوزيعيين(‪ )2‬إلى إبعاد دراسة الدللة من اللسانيات‪ .‬والحقيقة التي ل مراء فيها أن دراسة المعنى لم تخل منه أي‬
‫مباحث لغوية سواء أكانت قديمة أم حديثة‪ ،‬ذلك أنه ل يمكن تصور دراسة الكلمات وهي جوفاء خالية من الدللت‪.‬‬
‫وهذا ما عبر عنه سوسير في سياق حديثه عن الدال والمدلول وشبه اتحاد الكلمات ودللتها بوجهي الورقة الواحدة‪.‬‬
‫إن علم الدللة كمبحث من المباحث اللغوية حسب ماهية اللسانيات‪ ،‬يهتم بحلقة من حلقات علم اللسان البشري‪،‬‬
‫هذه الحلقة تكمن في المظهر البلغي وما يتعلق به‪ ،‬فالرسالة البلغية هي التي تضطلع بنقل دللة الخطاب إلى‬
‫المتلقي بحيث يتم‪ -‬في الحالت العادية‪ -‬استيعابها استيعابا كافيا‪" ،‬فالدراسة اللسانية ل تقف عند تشخيص الحدث‬
‫اللغوي في مستواه الدائي‪ ،‬ولكن في سلكه الدائري إذ تهتم اللسانيات بتولد الحدث وبلوغه وظيفته ثم بتحقيقه مردوده‬
‫عندما يولد رد الفعل المنشود‪ ،‬وهكذا يكون موضوع علم اللسان اللغة في مظهرها الدائي ومظهرها البلغي وأخيرا‬

‫() سال شاكر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ترجة ممد يباتي‪ ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪1‬‬

‫() التوزيعية‪ :‬نظرية تزعمها العال اللغوي المريكي بلومفيلد وهي نظرية عامة لللسنية ترى أن اللغة تتألف من إشارات معبة تتدرج جيعا ضمن نظام‬ ‫‪2‬‬

‫اللغة لنطق يكون التعبي على مستويات متلفة والملة تمل إل مؤلفاتا الباشرة بواسطة قواعد التوزيع والتعويض والستبدال‪.‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫(‪)1‬‬
‫في مظهرها التواصلي‪.‬‬
‫لقد ولجت اللسانيات كل مجالت التصالت النسانية حتى غدت ملتقى لكل العلوم النسانية واعتمدت في‬
‫الخطاب بأنواعه‪ ،‬ول يمكن أن نقيم هذا الدور الرائد في مجالت الحياة لللسنية دون أن نقر بحضور الدللة في ذلك‪،‬‬
‫كفرع أساسي ومهم في فعالية الخطاب "فاللسانيات تستلهم الظاهرة اللغوية ونواميسها من مصادر لسانية وغير لسانية‬
‫فتعمد إلى إجراء مقطع عمودي على كل منتجات الفكر‪ ،‬بمنظور مخصوص فبعد البحث عن خصائص الخطاب‬
‫الخباري والخطاب الشعري الدبي‪ ،‬تعمد اللسانيات إلى دراسة نواميس الخطاب العلمي والقضائي والشهاري‬
‫(‪)2‬‬
‫والديني والمذهبي‪.‬‬
‫ولم يكن لللسنية هذا الهتمام الواسع باللغة النسانية‪ ،‬إل بعد أن ظهرت في أوربا مدارس بنيوية عاينت‬
‫الظاهرة اللغوية من كل جوانبها‪ :‬الجانب الصوتي‪ ،‬والجانب المعجمي‪ ،‬والجانب التركيبي والجانب الدللي‪ ،‬واستقر‬
‫لديها أن "اللسنية هي دراسة اللغة بحد ذاتها دراسة علمية‪ ،‬وتحليل خصائصها النوعية‪ ،‬بغية الوصول إلى نواميس‬
‫عملها"(‪ .)3‬وأن "اللغة تنظيم‪ ،‬وهذا التنظيم وظيفي‪ ،‬يتوسله النسان للتعبير عن أغراضه ولعملية التواصل" فلم تعد‬
‫اللسنية تهتم بشكل الكلمات فحسب‪ ،‬بل أعطت لجوهر هذه الكلمات أهمية كبيرة‪ ،‬وذلك بعد ما تأكد لدى علماء‬
‫اللسنية‪ ،‬أن البحث اللسني يبقى ناقصا ما لم يهتم بجوانب اللغة جميعها‪ ،‬ويظل حكمه على الظواهر اللغوية يفتقد إلى‬
‫طابع المعيارية التي تسم ديناميكية اللغة وفعاليتها بسمة التقعيد‪ .‬ولم يحصل هذا الوعي اللغوي في البحث اللسني إل‬
‫مع العلماء اللغويين المتأخرين كالعالم المريكي "بلومفيلد" الذي كان يرى أن الدراسة اللسنية‪ ،‬ل تنحصر بدراسة‬
‫الصوات والدللت اللغوية بذاتها‪ ،‬بل تشمل دراسة الرتباط القائم بين أصوات معينة ودللت معينة (…)‪ ،‬وجدير‬
‫(‪)4‬‬
‫بالذكر أن مفهوم ارتباط الصوت اللغوي بالدللة‪ ،‬قد تبنته اللسنية بصورة عامة‪.‬‬
‫وبعد هذا التزاوج الذي لزم علم اللسنية الخذ به‪ ،‬تبين لعلماء اللغة المحدثين أن الجانب الدللي في اللغة ل يزال‬
‫ل كما كان في القديم‪ ،‬وأنه محتاج إلى نظرة أخرى على مستوى البحث وعلى مستوى المنهج‪ ،‬رغم ما‬ ‫البحث فيه هزي ً‬
‫قدمته العلوم المستحدثة من نظريات أنارت جوانب مهمة من علم الدللة كنظريات العلم والتواصل والمعلوماتية‪ .‬يقول‬
‫في ذلك الكاتبان‪ :‬ريمون طحان ودينر بيطار طحان‪" :‬يقترن الكلم أو الصوات‪ ،‬بنظريات الدللة العامة‪ ،‬وكان علم‬
‫الدللة الجزء الهزيل من النظريات اللسنية‪ ،‬وقد أصبح يفضل نظريات العلم والتواصل والمعلوماتية‪ ،‬مزودا بمؤشرات‬
‫سليمة منها أن المتكلمين بلغة واحدة يتبنون المعنى الواحد في الكلم الواحد أو الجملة الواحدة"(‪.)5‬‬
‫وبعد ذلك توفر لعلم الدللة وجود مستقل‪ ،‬وإن بقيت تربطه بعلوم اللغة الخرى‪ -‬وخاصة اللسنية‪ -‬وشائج‬
‫تتجلى بصورة واضحة في مجالت البحث‪ .‬حيث يبرز التقاطع بين هذه العلوم مجتمعة‪ .‬ولكن ما يميز البحث الدللي‪،‬‬
‫هو عمق الدراسة في معنى الكلمات والتراكيب متخذا في ذلك منهجا خاصا يتوخى المعيارية في اللغة والكلم‪،‬‬
‫"والعلوم إذا اختلفت في المنهج تباينت في الهوية وقوام العلوم ليست فحسب مواضيع بحثها وإنما يستقيم العلم‬

‫() د‪.‬عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.81‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.168‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ريون طحان‪ ،‬دينر بيطار‪ ،‬فنون التقعيد وعلوم اللسنية‪ ،‬ص ‪.92‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬انظر اللسنية (علم اللغة الديث)‪ :‬ص ‪.233 -232‬‬ ‫‪4‬‬

‫() فنون التقعيد وعلوم اللسنية‪ ،‬ص ‪.105‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫بموضوع ومنهج"‪ )1(.‬وتبعا لذلك اتسع نطاق البحث الدللي‪ ،‬وأحرز علماء العرب سبقا في هذا المجال حيث برز‬
‫لغويون كثيرون وضعوا نظريات مختلفة وأرسوا بذلك قواعد أضحت مدارس دللية‪ ،‬تنظر إلى قضية "المعنى"‬
‫بنظريات مختلفة‪ ،‬وداخل المنهج الوحد للبحث الدللي ظهرت مناهج فرعية رأى أصحابها نجاعتها في تقديم الجوبة‬
‫الكافية لمختلف المسائل التي طرحت في الدراسات الدللية‪ ،‬والتي عجز عنها البحث اللغوي قبلها‪ ،‬ولكن ما هي‬
‫القضايا الساسية التي طرحها الدرس الدللي الحديث؟ وما هي المباحث اللغوية التي اختص بها علم الدللة حتى‬
‫غدت مجالً خاصة به‪ ،‬تعبر عن خصوصية هذا العلم واستقلله عن بقية العلوم اللغوية الخرى؟‬
‫هذا ما سنحاول الجابة عليه في المباحث التالية‪.‬‬

‫ثانياً‪ -‬ماهية الدللة بين القديم والحديث‬

‫‪-I‬مصطلح "الدللة" في القرآن الكريم ومعجمات اللغة‪:‬‬


‫تمهيد‪ :‬الحديث عن المصطلح الدللي‪ -‬كيف نشأ وكيف تطور‪ -‬يدعو إلى تحديد المفهوم اللغوي الول لهذا‬
‫المصطلح‪ ،‬لن الوضع اللغوي الذي تصالح عليه أهل اللغة قديما‪ ،‬يلقي بظلله الدللية على المعنى العلمي المجرد في‬
‫الدرس اللساني الحديث "فالمصطلح يتشكل مع نمو الهتمام في أبواب العلم وبالحتكاك الثقافي‪ )2(".‬وقد وقع اختلف‬
‫بين علماء اللغة المحدثين في تعيين المصطلح العربي الذي يقابل مصطلح "السيمانتيك" بالجنبية الذي أطلقه العالم‬
‫اللغوي "بريل" سنة ‪ 1883‬على تلك الدراسة الحديثة‪ ،‬التي تهتم بجوهر الكلمات في حالتها الفرادية المعجمية وفي‬
‫حالتها التركيبية السياقية وآلياتها الداخلية التي هي أساس عملية التواصل والبلغ‪ ،‬فاهتدى بعض علماء اللغة العرب‬
‫إلى مصطلح "المعنى" باعتباره ورد في متون الكتب القديمة لعلماء أشاروا إلى الدراسة اللغوية التي تهتم بالجانب‬
‫المفهومي للفظ كالجرجاني الذي يعرف الدللة الوضعية‪ ،‬بأنها كون اللفظ بحيث متى أطلق أو تخيل فهم منه معناه‬
‫للعلم بوضعه‪ )3(.‬ومن علماء العرب المحدثين الذي استعمل مصطلح "المعنى" الدكتور تمام حسان إذ يقول‪ ،‬في سياق‬
‫حديثه عن العلقة بين الرمز والدللة‪" :‬ولبيان ذلك نشير إلى تقسيم السيميائيين للعلقة بين الرمز والمعنى إلى علقة‬
‫طبيعية وعلقة عرفية وعلقة ذهنية‪ )4(".‬وفي مقام آخر يستعمل الكاتب نفسه مصطلحي الدال والمدلول في حديثه عن‬
‫العلقة الطبيعية بين الرمز الدبي ومعناه إذ يقول‪" :‬وهناك طريقة أخرى للكشف عن هذه الرموز الطبيعية في الدب‬
‫(‪)5‬‬
‫الطريقة هي عزل الدال عن المدلول أو الشكل عن المضمون‪ ،‬ثم النظر إلى تأثير الدال في النفس بعد ذلك"‪.‬‬
‫وقد آثر لغويون آخرون استعمال مصطلح "الدللة" مقابلً للمصطلح الجنبي‪" :‬لنه يعين على اشتقاقات فرعية‬
‫مرنة نجدها في مادة (الدللة‪ - :‬الدال‪ -‬المدلول‪ -‬المدلولت‪ -‬الدللت‪ -‬الدللي)"(‪ .)6‬ولنه لفظ عام يرتبط بالرموز‬
‫اللغوية وغير اللغوية‪ ،‬أما مصطلح "المعنى" فل يعني إل اللفظ اللغوي بحيث ل يمكن إطلقه على الرمز غير اللغوي‪،‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪1‬‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ :‬ص ‪.77‬‬ ‫‪2‬‬

‫() السيد شريف الرجان‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص ‪.215‬‬ ‫‪3‬‬

‫() تام حسان‪ ،‬الصول‪ ،‬ص ‪.318‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.321‬‬ ‫‪5‬‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.9‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫ل على ذلك أنه يعد أحد فروع الدرس البلغي وهو علم المعاني‪.‬‬
‫فض ً‬
‫فدرءا للبس وتحديدا لطار الدراسة العلمية‪ ،‬استقر رأي علماء اللغة المحدثين على استعمال مصطلح "علم‬
‫الدللة"‪ ،‬مرادفا لمصطلح "السيمانتيك" بالجنبية وأبعدوا مصطلح "المعنى" وحصروه في الدراسة الجمالية لللفاظ‬
‫والتراكيب اللغوية وهو ما يخص "علم المعاني" في البلغة العربية‪.‬‬
‫‪-1‬لفظ "الدللة" في القرآن الكريم‪:‬‬
‫لقد أورد القرآن الكريم صيغة "دلّ" بمختلف مشتقاتها في مواضع سبعة تشترك في إبراز الطار اللغوي‬
‫المفهومي لهذه الصيغة‪ ،‬وهي تعني الشارة إلى الشيء أو الذات سواء أكان ذلك تجريدا أم حسا ويترتب على ذلك‬
‫وجود طرفين‪ :‬طرف دال وطرف مدلول يقول تعالى في سورة "العراف" حكاية عن غواية الشيطان لدم وزوجه‪:‬‬
‫"فدلّهما بغرور"(‪ .)1‬أي أرشدهما إلى الكل من تلك الشجرة التي نهاهما ال عنها‪ .‬فإشارة الشيطان دال والمفهوم الذي‬
‫استقر في ذهن آدم وزوجه وسلكا وفقه هو المدلول أو محتوى الشارة‪ ،‬فبالرمز ومدلوله تمت العملية البلغية بين‬
‫الشيطان من جهة‪ ،‬وآدم وزوجه من جهة ثانية‪ ،‬وإلى المعنى ذاته‪ ،‬يشير قوله تعالى حكاية عن قصة موسى عليه‬
‫السلم‪" :‬وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون"(‪ )2‬كما ورد قوله‬
‫تعالى في سورة "طه" حكاية عن إبليس‪" :‬قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك ل يبلى"(‪ .)3‬فهاتان اليتان‬
‫تشيران بشكل بارز إلى الفعل الدللي المرتكز على وجود باث يحمل رسالة ذات دللة‪ .‬ومتقبل يتلقى الرسالة‬
‫ويستوعبها وهذا هو جوهر العملية البلغية التي تنشدها اللسانيات الحديثة‪ ،‬فإذا تم التصال البلغي فواضح أن‬
‫القناة التواصلية سليمة بين الباث والمتقبل‪ .‬وتبرز العلقة الرمزية بين الدال والمدلول‪ -‬قطبي الفعل الدللي‪ -‬في قوله‬
‫تعالى من سورة الفرقان‪" :‬ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلً"‪ )4(.‬فلول‬
‫الشمس ما عرف الظل‪ ،‬فالشمس تدل على وجود الظل فهي شبيهة بعلقة النار بالدخان الذي يورده علماء الدللة مثالً‬
‫للعلقة الطبيعية التي تربط الدال بمدلوله‪ ،‬ويمكن تمثل هذه العلقة في أي صيغة أخرى‪ ،‬ولقد دلت الرضة‪ ،‬التي‬
‫أكلت عصا سليمان عليه السلم حتى خرّ‪ ،‬أنه ميت في قوله تعالى من سورة سبأ‪" :‬فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم‬
‫(‪)5‬‬
‫على موته إل دابة الرض تأكل منسأته فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين"‪.‬‬
‫فتعيين طرفي الفعل الدللي كما تحدده الية‪ ،‬ضروري ليضاح المعنى؛ فالدابة وأكلُها العصا دال‪ ،‬وهيئة سليمان وهو‬
‫ميت مدلول‪ ،‬فلول وجود "الرضة" (الدال) لما كان هناك معرفة موت سليمان‪ -‬عليه السلم‪( -‬دال عليه)‪ ،‬ومن‬
‫السورة السابقة ورد قوله تعالى‪" :‬وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق‬
‫جديد‪ )6(".‬فهذه الية تؤكد على ضرورة وجود إطار للفعل الدللي‪ ،‬عناصره الدال والمدلول والرسالة الدللية التي‬
‫تخضع لقواعد معينة‪ ،‬تشرف على حفظ خط التواصل الدللي بين المتخاطبين‪ ،‬وإلى المفهوم اللغوي ذاته يشير قوله‬
‫تعالى على لسان أخت موسى عليه السلم‪" :‬إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقرّ‬

‫() الية رقم ‪ ،22‬انظر تفسي القرطب‪ :‬الامع لحكام القرآن‪ ،‬ج ‪ ،13‬ص ‪.37‬‬ ‫‪1‬‬

‫() سورة القصص‪ :‬الية ‪ ،12‬انظر تفسي الكشاف للمام الزمشري‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.217‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الية‪ ،120 :‬انظر تفسي ابن كثي‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.542‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الية‪ ،45 :‬انظر تفسي الكشاف للمام الزمشري‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.120‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الية‪ ،14 :‬انظر تفسي الكشاف للمام الزمشري‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪.62‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الية‪ ،7 :‬انظر تفسي القرطب‪ :‬الامع لحكام القرآن‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫(‪)1‬‬
‫عينها ول تحزن‪".‬‬
‫هذه اليات التي ورد ذكر لفظ "دلّ" بصيغه المختلفة‪ ،‬تشترك في تعيين الصل اللغوي لهذا اللفظ‪ ،‬وهو ل يختلف‬
‫كثيرا عن المصطلح العلمي الحديث ودللته‪ ،‬فإذا كان معنى اللفظ "دلّ" وما صيغ منه في القرآن الكريم يعني العلم‬
‫والرشاد والشارة والرمز‪ ،‬فإن المصطلح العلمي للدللة الحديثة ل يخرج عن هذه المعاني إل بقدر ما يضيف من‬
‫تحليل عميق للفعل الدللي‪ ،‬كالبحث عن البنية العميقة للتركيب اللغوي بملحظة بنيته السطحية‪ ،‬أو افتراض وجود‬
‫قواعد دللية على مستوى الذهن تكفل التواصل بين أهل اللغة الواحدة‪ ،‬وهو يفسر توليد المتكلم لجمل جديدة لم يكن قد‬
‫تعلمها من قبل‪ .‬كما تنص على ذلك القواعد التوليدية التي أشار إليها (تشومسكي) ضمن نظريته التوليدية‪ ،‬فما يمتاز‬
‫(‪)2‬‬
‫به متكلم اللغة قدرته على إنتاج وفهم جمل لم يسبق له أن أنتجها أو سمعها من قبل"‪.‬‬
‫‪-2‬لفظ "دل" في معاجم اللغة‪:‬‬
‫الصورة المعجمية لي لفظ في اللغة العربية تمثل المرجعية الولى لهذا اللفظ في القاموس الخطابي‪ ،‬باعتبار‬
‫دللته الولى "فالحالة المعجمية لللفاظ تمثل الصورة الساسية لمحيطها الدللي(‪ .")3‬وكتاب القرآن الكريم‪ ،‬يمثل ذروة‬
‫ما وصل إليه الخطاب اللغوي القديم من فصاحة اللغة وجودة التعبير والدللة‪ ،‬فلو تتبعنا لفظ "دل"‪ ،‬وما صيغ منه‪ ،‬في‬
‫معاجم اللغة المعروفة‪ ،‬للفينا دللته ل تبتعد عن ذلك المجال الذي رسمه القرآن الكريم‪ ،‬فيورد ابن منظور قوله حول‬
‫معاني لفظ دل‪" :‬الدليل ما يستدل به‪ ،‬والدليل الدال‪ .‬وقد دله على الطريق يدله دللة (بفتح الدال أو كسرها أو ضمها)‬
‫والفتح أعلى‪ ،‬وأنشد أبو عبيد‪ :‬إني امرؤ بالطرق ذو دللت‪ .‬والدليل والدليلي الذي يدلك"‪ .‬ويسوق ابن منظور قول‬
‫سيبويه وعلي‪ -‬كرم ال وجهه‪ -‬وقد تضمن قولهما لفظ "دل" يقول سيبويه‪" :‬والدليلي علمه بالدللة ورسوخه فيها"‪.‬‬
‫وفي حديث علي‪ -‬رضي ال عنه‪ -‬في صفة الصحابة‪" :‬ويخرجون من عنده أدلة" وهو جمع دليل أي بما قد علموا‬
‫(‪)4‬‬
‫فيدلون عليه الناس يعني‪ :‬يخرجون من عنده فقهاء‪ ،‬فجعلهم أنفسهم أدلة‪ ،‬مبالغة‪".‬‬
‫إن ابن منظور‪ -‬بما جمع من أمثلة‪ -‬يرسم الطار المعجمي للفظ "دل" محددا المعنى الحقيقي الذي ينحصر في‬
‫دللة الرشاد أو العلم بالطريق الذي يدل الناس ويهديهم‪ .‬وهذا التصور للدللة‪ ،‬ل يختلف عن التصور الحديث مما‬
‫يعني أن المصطلح العلمي (الدللة) يستوحي معناه من تلك الصورة المعجمية التي نجدها في أساليب الخطاب اللغوي‬
‫القديم‪.‬‬
‫وإلى المعنى ذاته يشير الفيروز أبادي محددا الوضع اللغوي للفظ "دل" فيقول‪ …" :‬والدالة ما تدل به على‬
‫حميمك‪ ،‬ودله عليه دللة (ويثلثه) ودلولة فاندل‪ :‬سدده إليه (‪ )..‬وقد دلت تدل والدال كالهدي(‪ …")5‬وبهذا الشرح يؤكد‬
‫الفيروز أبادي ما نص عليه ابن منظور من أن الصل اللغوي للفظ "دل" يعني هدى وسدد وأرشد‪.‬‬
‫ويترتب على هذا التصور المعجمي توفر عناصر الهدي والرشاد والتسديد أي توفر‪ :‬مرشِد ومرشَد ووسيلة‬
‫إرشاد وأمر مرشَد إليه‪ .‬وحين يتحقق الرشاد تحصل الدللة‪ ،‬وتقابل اللسانيات الحديثة هذا التصور‪ ،‬بتعيين الباث‬

‫() سورة طه‪ :‬الية ‪ ،40‬انظر تفسي ابن كثي‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.506‬‬ ‫‪1‬‬

‫() عبد القاهر غذامي الفهري‪ ،‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.370‬‬ ‫‪2‬‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ابن منظور‪ ،‬انظر لسان العرب‪ ،‬ص ‪.395 -394‬‬ ‫‪4‬‬

‫() القاموس الحيط‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.377‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫والمتقبل ووسيلة البلغ والتواصل وشروطها‪ ،‬ثم المرجع المفهومي الذي تحيل عليه الرسالة البلغية‪ ،‬وبناء على‬
‫ذلك فالعمل المعجمي هو عمل دللي وإن كان (جورج مونان) كما نقل د‪.‬فايز الداية ينبه إلى أنه من الضروري عدم‬
‫الخلط بين علم الدللة (‪ )semantique‬والدراسة المعجمية (‪ ،)lexicographie‬هذه التي ل تهتم إل بوصف فحوى‬
‫الكلمات كما نراها‪ -‬في الحالة التقليدية‪ -‬حين تسجيلها في المعجم(‪ .")1‬ولكن إذا كان المعجم ل يفي بالغرض في نقل‬
‫دللة اللفظ التي تشعب بها الخطاب اللغوي الحديث‪ ،‬فإن إيراد المعنى المركزي هو الذي يعين على مجموعة الحالت‬
‫الجزئية التي تتباين وتتغاير بعدد السياقات التي تحل فيها(‪ ،)2‬وعلى ذلك فإن الدراسات المعجمية‪ -‬كما قام بها علماء‬
‫المعجم‪ -‬ل يمكن إغفالها أو إسقاطها من الجهود الدللية العربية‪ -‬ويبقى السياق المحدد الرئيسي لدللة اللفظ المتجددة‪،‬‬
‫إذ ذهب بعض العلماء إلى التأكيد أن معنى الكلمة هو مجموع استعمالتها المختلفة في السياقات المتعددة‪" ،‬وعلى‬
‫العموم فإن معاني (دللت) الكلمات هي نتائج ل يتوصل إليها إل من خلل تفاعل المكانيات التفسيرية لكامل الكلم‬
‫كما يرى إمبسون‪ )3(".‬هذا التحديد اللغوي للفظ "دل" كما جاء به الفيروز آبادي ينطوي على جملة من المعطيات‬
‫اللغوية‪ ،‬يفسرها الدرس اللساني والدللي الحديث ويحدد أبعادها المعرفية‪.‬‬
‫أما الزبيدي في معجمه فيشرح لفظ "دل" لغويا فيقول‪ …" :‬وامرأة ذات دل أي شكل تدل به" وينقل عن الزهري‬
‫في كتابه "التهذيب" قوله‪ :‬دللت بهذا الطريق دللة عرفته ودللت به أدل دللة‪ ،‬ثم إن المراد بالتسديد إراءة الطريق‪ ،‬دل‬
‫عليه يدله دللة ودلولة فاندل على الطريق (سدده إليه)‪ .‬وأنشد ابن العرابي‪:‬‬

‫وكيف يندل امرؤ وعثول‬ ‫ما لك يا أعور ل تندل‬

‫ومما يستدرك عليه الدليل ما يستدل به‪ ،‬وأيضا الدال وقيل هو المرشد وما به الرشاد‪ ،‬الجمع أدلة وأدلء‪ ،‬قول‬
‫الشاعر‪:‬‬

‫من أهل كاظمة بسيف البحر‬ ‫شدوا المطي على دليل دائب‬

‫أي على دللة دليل كأنه قال معتمدين على دليل… قال ابن العرابي‪ :‬دل فلن إذا هدى(‪ .)4‬وتجمع قواميس اللغة‬
‫على أن الدللة‪ ،‬تعني الهدي والرشاد‪ ،‬فدله على الشيء وعليه أرشده وهداه‪.‬‬
‫‪-3‬ماهية الدللة بين القديم والحديث‪:‬‬

‫أولً‪ :‬الدللة في تعريفات علماء العرب القدامى‬


‫(السس والمبادئ النظرية)‪:‬‬
‫إن السس النظرية التي انبنى عليها المصطلح العلمي القديم نشأت في رحاب الدرس الفقهي‪ ،‬الذي يتوخى فهم‬
‫كتاب ال واستنباط الحكام منه‪ ،‬ولذلك نجد مختلف علوم التراث المعرفي العربي تشترك‪ -‬إلى حد بعيد‪ -‬في أدوات‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.205 -204‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.217‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.223‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الزبيدي‪ ،‬تاج العروس‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪.325 -324‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫البحث ومصطلحاته العلمية‪ ،‬ول أدل على ذلك أن ظهر فرع من علوم العربية أطلق عليه مصطلح "فقه اللغة"(‪ )1‬على‬
‫غرار فقه الشرع‪ ،‬كما استخدم اللغويون القدامى مصطلحات هي من لوازم الفقه الشرعي نذكر منها‪ :‬مصطلح القياس‬
‫والسماع والجماع واستصحاب الحال والستحسان(‪ )2‬وما إلى ذلك‪ ،‬ولم يشذ الدرس الدللي في التراث العربي عن‬
‫هذه السس النظرية باعتباره كان يدور في فلك العلوم التي كانت تهدف إلى فهم كتاب القرآن‪ ،‬بتذليل معانيه واستنباط‬
‫دللته‪ ،‬واقتباس سننه في النشاء والتعبير‪ .‬ويمكن أن نلمس هذا الهتمام بالدللة‪ -‬لدى المتقدمين من العلماء العرب‪-‬‬
‫في ميادين مختلفة من المعارف والعلوم كالمنطق والفلسفة‪ ،‬وأصول الفقه‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والنقد‪ ،‬وبناء على هذه العلوم‬
‫سنبين تعريفات للدللة عند كل من‪ :‬أبي نصر الفرابي (ت ‪339‬هـ)‪ ،‬والمام أبي حامد الغزالي (ت ‪505‬هـ)‪ ،‬وعبد‬
‫الرحمن بن خلدون (ت ‪808‬هـ)‪ ،‬والشريف الجرجاني (ت ‪816‬هـ)‪ ،‬واختيارنا لهؤلء العلم ارتكز أساسا على‬
‫عدة اعتبارات كان أهمها وضوح الهتمام بالتنظير الدللي الذي يبدو بارزا في مؤلفات هؤلء العلماء‪ ،‬وسنقتصر‬
‫على تقديم ماهية الدللة عند علماء العرب القدامى تقديما موجزا بالقدر الذي يبرز مفاهيمها وتعريفاتها‪ ،‬ذلك أن‬
‫دراسة الدللة في التراث العربي القديم بكيفية مفصلة سيشتمل عليه الفصل الول من المدخل التطبيقي الذي يحمل‬
‫عنوان‪ :‬جهود العرب القدامى في الدراسة الدللية‪..‬‬

‫‪-I‬مفاهيم الدللة عند الفرابي (ت ‪339‬هـ)‪:‬‬


‫لقد اقترن اسم الفرابي في التراث العربي بميدانين من ميادين الثقافة السلمية وهما‪ :‬ميدان علم المنطق وميدان‬
‫علم الفلسفة‪ ،‬وصلة هذين الميدانين بعلوم اللغة ل تخفى على أي مطلع ودارس للتراث المعرفي العربي‪ ،‬فالفرابي كان‬
‫يرى ضرورة الخذ بعلوم العربية وقوانينها وسننها في التعبير والخطاب‪ ،‬لنها أدوات أساسية في البحث المنطقي‬
‫والفلسفي‪ ،‬واهتمام الفرابي بعلوم العربية يستشف من خلل مؤلفاته في المنطق والفلسفة‪ ،‬ول نكاد نعثر عنده على‬
‫تنظير للدللة ومتعلقاتها‪ ،‬إل بقدر ما له ارتباط بهذين العلمين‪ ،‬ومن جملة المسائل الدللية التي بحثها الفرابي ما يلي‪:‬‬
‫أ‪-‬أقسام اللفاظ باعتبار دللتها‪:‬‬
‫اهتم الفرابي اهتماما بالغا باللفاظ‪ ،‬فصنفها إلى تصنيفات عدة‪ ،‬بل إنه وضع لها علما خاصا سماه "علم اللفاظ"‬
‫الذي عده من فروع علوم اللسان التي قسمها إلى سبعة أقسام وهي‪" :‬علم اللفاظ المفردة وعلم اللفاظ المركبة‪ ،‬وعلم‬
‫قوانين اللفاظ عندما تكون مفردة‪ ،‬وقوانين اللفاظ عندما تركب وقوانين تصحيح الكتابة‪ ،‬وقوانين تصحيح القراءة‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وقوانين الشعر‪".‬‬
‫ودراسة الفرابي لللفاظ ل يمكن تصورها بمعزل عن الدللة‪ ،‬فل وجود للفاظ فارغة الدللة في علمي المنطق‬
‫والفلسفة‪ ،‬إنما اللفاظ ودللتها وجهان لعملة واحدة‪ ،‬مما سيسمح ذلك في القرون المتأخرة إلى إبراز جملة من‬
‫العلقات الدللية الناتجة عن اتحاد الدال بمدلوله‪ ،‬وهو ما ظهر جليا في العصر الحديث في مباحث دسوسير الذي‬
‫وضع مصطلح الدليل اللساني (‪ )le signe linguistique‬على اتحاد اللفظ بالمعنى‪ ،‬قطبي الفعل الدللي‪.‬‬
‫إن المستوى الذي تتم فيه الدراسة الدللية عند الفرابي هو مستوى الصيغة الفرادية وهو يطلق عليه في الدرس‬
‫اللسني الحديث بالدراسة المعجمية‪ ،‬التي تتناول اللفاظ بمعزل عن سياقها اللغوي‪ ،‬فتدرس دللتها وأقسامها ضمن‬

‫() أول مؤلف حل عنوان فقه اللغة هو كتاب الصاحب ف فقه اللغة وسنن العرب ف كلمها لبن فارس‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ريون طحان‪ ،‬دينر بيطار ضحاك‪ ،‬فنون التقعيد وعلوم اللسنية‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الفراب‪ ،‬إحصاء العلوم‪ ،‬ص ‪.159‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫حقول دللية تنتظم فيها وفق قوانين حددها علماء الدللة وذلك لدماجها في استعمال لغوي أمثل‪ .‬يقول الفرابي مشيرا‬
‫إلى هذه الدراسة‪" :‬اللفاظ الدالة منها مفردة تدل على معان مفردة ومنها مركبة تدل على معان مفردة… واللفاظ‬
‫الدالة على المعاني المفردة ثلثة أجناس‪ :‬اسم وكلمة [فعل] وأداة [حرف] وهذه الجناس الثلثة تشترك في أن كل‬
‫واحد منها دال على معنى مفرد"(‪ )1‬فأقسام اللفاظ باعتبار دللتها تنتظم في قسمين‪ ،‬ألفاظ مفردة ذات دللة مفردة‪،‬‬
‫ومعيار اللفظ المفرد هو ما يدل جزؤه على جزء معناه‪ ،‬فدللته قابلة للتجزئة‪ ،‬أما قسم اللفاظ المركبة ذات الدللة‬
‫المفردة فهي على نقيض اللفاظ المفردة‪ ،‬إذ هي غير قابلة لن تتجزأ دللتها‪ ،‬وتعرف بأنها ما ل يدل جزؤه على‬
‫جزء معناه‪ ،‬يقدم ابن سينا تمثيلً لذلك بقوله‪" :‬اللفظ المفرد‪ :‬هو الذي ل يراد بالجزء منه دللة أصلً حين هو جزؤه‬
‫مثل تسميتك إنسانا بعبد ال فإنك حين تدل بهذا على ذاته‪ ،‬ل على صفته من كونه "عبد ال" فلست تريد بقولك "عبد"‬
‫شيئا أصلً‪ .‬فكيف إذا سميته بـ"عيسى"؟ بلى‪ ،‬في موضع آخر تقول "عبد ال" وتعني بـ"عبد" شيئا‪ ،‬وحينئذ يكون "عبد‬
‫ال" نعتا له‪ ،‬ل اسما وهو مركب ل مفرد"‪ )2(.‬ولم يخرج تقسيم ابن سينا لللفاظ عما وضعه الفرابي قبله في كتابه "في‬
‫المنطق"‪.‬‬
‫ب‪-‬ما يقوم به مقام اللفظ المفرد من الدوات الدالة‪:‬‬
‫لقد قسم الفرابي اللفاظ الدالة إلى ثلثة أقسام‪ :‬السم والفعل والداة‪ .‬وإذا كانت دللة السم والفعل واضحة‪ ،‬فإن‬
‫دللة الداة قد يكتنفها غموض‪ ،‬يشرح الفرابي في كتابه "الحروف" هذه المسألة ويفيض البحث فيها‪ ،‬ففي مقام حصره‬
‫لستخدامات الحرف "ما" يقول‪" :‬يستعمل [ما] في السؤال عن شيء ما مفرد‪ ،‬وقد يقرن باللفظ المفرد والذي للدللة‬
‫عليه أولً وهو الشيء الذي جعل ذلك اللفظ دالً عليه"‪ )3(.‬فالحروف ليست لها دللة في ذاتها إنما قيمتها الدللية فيما‬
‫تشير إليه‪ ،‬واللفظ ل يدل على ذاته إنما يدل على المحتوى الفكري الذي في الذهن‪ ،‬وفي هذا الطار يشرح الفرابي‬
‫استعمالت لفظ "موجود" فيقول‪" :‬الموجود لفظ مشترك يقال على جميع المقولت والفضل أن يقال إنه اسم لجنس من‬
‫(‪)4‬‬
‫الجناس العالية على أنه ليست له دللة في ذاته‪".‬‬
‫ج‪-‬الدللة محتواه في النفس‪:‬‬
‫إن العلقة التي تربط الدال بمدلوله في علم المنطق‪ ،‬ل يمكن أن تترك دون قواعد أو قوانين‪ ،‬لن علم المنطق‬
‫يهدف إلى عقلنة الفكار بإخضاعها إلى قوانين تنتظم في إطارها‪ ،‬ولهذا يطلق الفرابي على المعاني أو الدللت‬
‫مصطلح منطقي هو "المعقولت" التي يكون محلها النفس التي يتم فيها تصحيح المفاهيم برؤية منطقية‪ ،‬يقول الفرابي‬
‫في ذلك‪" :‬وأما موضوعات المنطق وهي التي تعطي القوانين فهي المعقولت‪ ،‬من حيث تدل عليها اللفاظ‪ ،‬واللفاظ‬
‫من حيث هي دالة على المعقولت وذلك أن الرأي إنما نصححه عند أنفسنا بأن نفكر ونروّي ونقيم في أنفسنا أمورا‬
‫(‪)5‬‬
‫ومعقولت شأنها أن تصحح ذلك الرأي‪".‬‬
‫فالنظرية الدللية عند الفرابي‪ ،‬ل تخرج عن إطار علقة اللفاظ بالمعاني ضمن القوانين المنطقية‪ ،‬ويمكن أن‬
‫نجمل تعريف الفرابي لعلم الدللة بأنه الدراسة التي تنتظم وتتناول اللفاظ ومدلولتها‪ ،‬وتتبع سنن الخطاب والتعبير‬

‫() الفراب‪ ،‬العبارة‪ ،‬كتاب ف النطق‪ ،‬ص ‪.74‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.191‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الروف‪ ،‬ص ‪.166‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.115‬‬ ‫‪4‬‬

‫() إحصاء العلوم‪ ،‬ص ‪.167‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫لتقنينه وتقعيده‪.‬‬

‫‪-II‬مفاهيم الدللة عند الغزالي (ت‪:)505 :‬‬


‫إن مفهوم الدللة عند الغزالي ينبغي أن ينظر إليه من زاوية الثقافة الصولية‪ ،‬ذلك أن الحكام التي استنبطها من‬
‫القرآن الكريم‪ -‬خاصة‪ -‬استند فيها على أسس نظرية نجدها بشكل واضح في كتابه "المستصفى من علم الصول"‪.‬‬
‫ل إلى فهم عميق للدللة‪" ،‬وإن كانت وضعت لتطبق في فهم النصوص الشرعية‪ ،‬ولكنها تطبق‬ ‫وتعود هذه السس أص ً‬
‫(‪)1‬‬
‫أيضا في معاني أي نص غير شرعي ما دام مصوغا في لغة عربية" والتفسير الدللي الذي توصل إليه الغزالي‪،‬‬
‫يدل على أن هذا العالم الفيلسوف قد تجاوز البحث عن ماهية الدللة إلى البحث عن جوهر الدللة وفروعها‪ ،‬فبنظرة‬
‫مقتضبة إلى بعض نصوصه في كتابه المشار إليه آنفا‪ ،‬تجده يذكر أصنافا لمعان قد حددها علماء الدللة المحدثون‬
‫كالمعنى الرشادي أو اليمائي‪ ،‬والمعنى التساعي‪ ،‬والمعنى السياقي‪ ،‬وإن كان الغزالي يسميها بمصطلحات أصولية‬
‫وهي على الترتيب دللة الشارة ودللة القتضاء وفحوى الخطاب‪ ،‬وكل دللة عند الغزالي قد تنقسم إلى دللت‬
‫فرعية يقول معرفا دللة القتضاء‪ ،‬بأنها هي التي ل يدل عليها اللفظ ول يكون منطوقا بها ولكن تكون من ضرورة‬
‫اللفظ‪ )2(.‬وكيف تكون دللة القتضاء من ضرورة اللفظ يا ترى؟ يوضح ذلك الغزالي بقوله‪" :‬أما من حيث ل يمكن‬
‫(‪)3‬‬
‫كون المتكلم صادقا إل به‪ ،‬أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إل به أو من حيث يمتنع ثبوته عقلً إل به"‪.‬‬
‫إن إدراك دللة القتضاء تتم إما باعتبار طبيعة حال المتكلم فهي بناء على ذلك طبيعية ل يكون المتكلم عندها إل‬
‫صادقا وإما باعتبار طريق العقل فالدللة إذن عقلية منطقية‪.‬‬
‫وسيشير الغزالي إلى ما يمكن أن يصحب العملية التواصلية من حركة وإيماء وإشارة من قبل المتكلم فتنصرف‬
‫الدللة من المعنى الرئيسي‪ ،‬إلى المعنى اليمائي أو ما يسمى في علم الدللة الحديث "بالقيم الحافة"‪ ،‬وهي تعني جملة‬
‫القيم الثقافية والجتماعية وغيرها التي تصحب عملية التواصل أو البلغ فلكي نؤدي دللة معينة ل نعتمد فحسب‬
‫على اللفاظ أو الرموز‪ ،‬إنما يقتضي ذلك تضافر عدة أنظمة إبلغية "إذا كان النظام الكلمي أهمها فإن سائرها يواكبه‬
‫مكملً إياه"(‪ )4‬من ذلك النظام الشاري‪ ،‬والنظام النبري "فوق المقطعي"‪ ،‬والنظام اليحائي‪ ،‬والنظام السياقي‪ ،‬ونظام‬
‫المقام أو الحال‪ ،‬يقول الغزالي محددا بعض هذه النظمة الدللية في سياق تعريفه لدللة الشارة‪" :‬وهي [أي دللة‬
‫الشارة] ما يؤخذ من إشارة اللفظ ل من اللفظ ونعني به ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه‪ ،‬فكما أن المتكلم قد‬
‫يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلمه ما ل يدل عليه نفس اللفظ فيسمى إشارة فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به‬
‫(…) وهذا ما قد يسمى إيماء وإشارة‪ )5(".‬أما النظام السياقي الذي يشرف على تحميل الصيغة دللت إضافية‪ ،‬عدها‬
‫الدرس الدللي الحديث دللت أساسية‪ ،‬يقدمه الغزالي بقوله أنه فهم غير المنطوق به من المنطوق بدللة سياق الكلم‬
‫(‪)6‬‬
‫ومقصوده‪".‬‬

‫() عبد القادر عودة‪ ،‬التشريع النائي السلمي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.156‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الستصفى من علم الصول‪ ،‬ص ‪.187‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الستصفى من علم الصول‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.188‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.190‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫إن هذه التصنيفات للدللة التي حددها الغزالي‪ ،‬تمثل وعيا عميقا صحب فكر هذا العالم‪ ،‬ومكنه من أن يسهم في‬
‫تأسيس الفكر النظري في مجال الدللة‪ .‬وهذه السهامات العلمية‪ ،‬لن تقدر حق قدرها ما لم ينظر إليها بمنظار‬
‫"المعرفة" التي تأسس وفقها تراث القرن الخامس والسادس الهجريين‪ ،‬وقد أبان الغزالي على نحو علمي راق علقات‬
‫اللفاظ بالمعاني‪ ،‬ولم يخرج عن تلك المحددة قبلً عند العلماء‪ ،‬وهي علقة المطابقة وعلقة التضامن وعلقة اللتزام‬
‫أو الستتباع‪ )1(.‬كما بحث الغزالي قسم اللفاظ من حيث إفرادها وتركيبها وأحصى في ذلك ثلثة أقسام‪ :‬ألفاظ مفردة‬
‫وألفاظ مركبة ناقصة‪ ،‬وألفاظ مركبة تامة‪ ،‬فاللفظ المفرد عند الغزالي‪ ،‬ل يخرج عن تصور من سبقه من العلماء‬
‫خاصة الفرابي وابن سينا يقول الغزالي‪" :‬المفرد وهو الذي ل يراد بالجزء منه دللة على شيء أصلً حين هو جزؤه‬
‫كقولك عيسى وإنسان‪ ،‬فإن جزئي عيسى وهما "عي وسا" وجزئي إنسان وهما "إن وسان" ما يراد بشيء منهما الدللة‬
‫على شيء أصلً(‪ .)2‬أما المركب فهو الذي يدل كل جزء فيه على معنى‪ ،‬والمجموع يدل دللة تامة بحيث يصح‬
‫السكوت عليه من ذلك قولهم‪ :‬زيد يمشي والناطق حيوان أما قولهم‪ :‬في الدار أو النسان في‪ ،‬مركب ناقص لنه‬
‫مركب من اسم وأداة‪ )3(.‬وما يلحظ في تقسيمات الفرابي وابن سينا والغزالي لللفاظ باعتبار الفراد والتركيب‪ ،‬هو‬
‫إسنادهم في ذلك كله على القصد والرادة‪ ،‬فإن أريد بمركب اسمي أو فعلي دللة مفردة‪ ،‬كانت تلك الدللة‪ ،‬وإن أريد‬
‫بهما غير تلك الدللة لم تكن‪.‬‬
‫وإن تتبعنا تقسيمات الغزالي لللفاظ‪ ،‬للفيناها تتعدد لتعطي ذلك المفهوم العام الذي استقر لدى هذا العالم حول‬
‫الدللة وفروعها ومتعلقاتها‪ ،‬ويمكن أن يشير في هذا المجال إلى تقسيمه لللفاظ باعتبار الكلي والجزئي‪ ،‬وعموم‬
‫المعنى وخصوصه‪ ،‬كما أقام تقسيمات لللفاظ باعتبار نسبتها إلى المعاني وحدد أربعة أصناف يقول‪" :‬اعلم أن اللفاظ‬
‫من المعاني على أربعة منازل‪ :‬المشتركة والمتواطئة والمترادفة والمتزايلة‪ )4(".‬ويشرح الغزالي على نحو تفصيلي‬
‫مرتب‪ ،‬العلقة بين الصور المحفوظة في الذاكرة للمدلولت المادية والمجردة‪ ،‬واللفاظ والكتابة التي هي أدوات دالة‬
‫فيقول‪" :‬اعلم أن المراتب فيما نقصده أربع واللفظ في الرتبة الثالثة‪ ،‬فإن للشيء وجودا في العيان ثم في الذهان ثم‬
‫في اللفاظ ثم في الكتابة‪ ،‬فالكتابة دالة على اللفظ‪ ،‬واللفظ دال على المعنى الذي في النفس‪ ،‬والذي في النفس هو مثال‬
‫(‪)5‬‬
‫الموجود في العيان‪".‬‬
‫وعلى هذا الساس وبحسب تقسيمات الغزالي‬
‫‪-‬فالكتابة دال فقط باعتبارها واسطة تمثيل للملفوظ فهي إشارة لشارة كما يقول (جاك دريدا)(‪.)6‬‬
‫‪-‬اللفظ دال باعتبار ومدلول باعتبار آخر‪.‬‬
‫‪-‬المعنى الذي في النفس (الصور الذهنية) مدلول فقط وليست بدال‪.‬‬

‫() معيار العلم ف النطق‪ ،‬ص ‪.43 -42‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ :‬ص ‪.49‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.50 -49‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ال صدر نف سه‪ ،‬ص ‪ .52‬الشتر كة‪( :‬الشترك اللف ظي)‪ ،‬التواطئة‪ :‬أعيان متعددة بع ن وا حد مشترك بين ها كدللة ا سم اليوان على الفرس والط ي‬ ‫‪4‬‬

‫والسد‪ ،‬والترادفة‪( :‬الترادف)‪ ،‬التزايلة‪ :‬هي الساء التباينة الت ليست بينها شيء من هذه النسب‪.‬‬
‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.47 -46‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الكتابة جاءت لتمل فراغا لتكون امتدادا للملفوظ خاصة إذا وجدت لغات ل يكن إل أن تكون مكتوبة ول نستطيع تريدها بالنطق كما هو شأن‬ ‫‪6‬‬

‫لغة الب ف الرياضيات‪ ،‬انظر ذلك ف كتاب‪)De La Grammatologie jaque derrida (p 429 :‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫‪-‬الموجود في العيان (المور الخارجية) مدلول فقط وليست بدال‪.‬‬
‫وعلى هذا العتبار وبحسب ركني العملية الدللية (الدال‪ -‬المدلول)‪.‬‬
‫‪-‬الكتابة‪ ،‬اللفاظ‪ :‬دال‪.‬‬
‫‪-‬الصور الذهنية‪ -‬المور الخارجية‪ :‬مدلول‪.‬‬
‫إن تلك الشارات العابرة‪ ،‬إلى ما قدمه المام الغزالي في مجال التأسيس النظري للدللة‪ ،‬يبرز ما مدى ثراء‬
‫تراثنا المعرفي الذي اتخذ من النص القرآني كمعطى مثالي من أجل وضع أسس لنظرية معرفية شاملة خاصة إذا‬
‫علمنا أن العلماء القدامى‪ ،‬قد امتلكوا الدوات المختلفة اللغوية والمنطقية والفلسفية من أجل إبراز كل الجوانب الهامة‬
‫في النص المقدس‪ ،‬وإن الحيطة التي أخذوها في التعامل مع أحكام القرآن زادت من منطقية معارفهم وصدق‬
‫مفاهيمهم‪ ،‬والغزالي يعد المازج الحقيقي للمنطق الرسططاليسي(‪ .)1‬بعلوم المسلمين‪ ،‬وظاهر ذلك من المقدمة المنطقية‬
‫التي صدّر بها كتابه "المستصفى" وذكر فيها أن من ل يحيط بالمنطق ومعاني اللغة وأسرارها لثقة بعلومه قطعا‪.‬‬
‫ومنذ عهد الغزالي دأب الصوليون المتكلمون يستهلون كتبهم بمقدمات كلمية ومنهم صاحب كتاب "الحكام في‬
‫أصول الحكام" سيف الدين المدي‪ ،‬موضوع هذا البحث‪ ،‬وقد أظهر الغزالي قدرة عميقة في فهم تلك السنن التي‬
‫ينطوي عليها نظام اللغة‪ ،‬وذلك استجابة للمبحث الصولي الذي يتجاوز الفهم السطحي "النحوي" للغة‪ ،‬إلى استقراء‬
‫دقيق لمعانيها‪ ،‬ل يتعرض لها اللغوي المشتغل بصناعة النحو‪.‬‬

‫‪-III‬مفاهيم الدللة عند ابن خلدون (ت‪808:‬هـ)‪:‬‬


‫ل نكاد نعثر لبن خلدون عن تعريف بيّن للدللة‪ ،‬وإنما باستقراء نصوص "مقدمته" نجد دراسات في الدللة قد‬
‫تجاوزت‪ -‬بل شك‪ -‬الماهية إلى البحث العميق عن جوهر الدللة وطرق تأديتها‪ ،‬واضحة من غير لبس يقول موضحا‬
‫ذلك وشارحا‪" :‬واعلم بأن الخط بيان عن القول والكلم‪ ،‬كما أن القول والكلم بيان عما في النفس والضمير من‬
‫(‪)2‬‬
‫المعاني‪ ،‬فل بد لكل منهما أن يكون واضح الدللة‪".‬‬
‫فابن خلدون‪ -‬على نهج الغزالي‪ -‬يوضح العلقة القائمة بين المعاني المحفوظة في النفس‪ ،‬والكتابة واللفاظ‬
‫ويحصرها في ثلثة أصناف‪:‬‬
‫أ‪-‬الكتابة الدالة على اللفظ‪.‬‬
‫ب‪-‬اللفظ الدال على المعاني التي في النفس والضمير‪( .‬الصورة الذهنية)‪ :‬وهذه المعاني إن لم تكن مجردة فإنها‬
‫تدل على موجود في العيان وعلى هذا الساس فالصنف الثالث للدللة‪:‬‬
‫ج‪-‬المعاني الدالة على المور الخارجية‪.‬‬
‫ويعطي ابن خلدون للخط والكتابة أبعادا مهمة في العملية التواصلية‪ ،‬باعتبارها أداتين مهمتين من أدوات التعليم‬
‫والتعلّم الشيء الذي كان يشغل فكر ابن خلدون كثيرا يقول معرفا "الخط" وأداءه للدللة‪" :‬الخط وهو رسوم وأشكال‬

‫() ممود سامي النشار‪ ،‬منهج البحث عند مفكري السلم‪ ،‬ص ‪.90‬‬ ‫‪1‬‬

‫() القدمة‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.509‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس‪ ،‬فهو ثاني رتبة عن الدللة اللغوية‪ ")1(.‬فابن خلدون‬
‫يصنف الخط في المرتبة الثانية‪ -‬كما فعل ذلك الغزالي‪ -‬وذلك في تأديته للدللة اللغوية بعد اللفاظ‪ ،‬فالخط دال على‬
‫اللفاظ واللفاظ دالة على المعاني‪.‬‬
‫ل من [صور] الحروف‬ ‫ويوضح ابن خلدون هذه المسألة التي تخص أصناف الدوال فيقول‪" :‬إن في الكتابة انتقا ً‬
‫الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال‪ ،‬ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل أبدا من‬
‫(‪)2‬‬
‫دليل إلى دليل ما دام ملتبسا بالكتابة وتتعود النفس ذلك فيحصل لها ملكة النتقال من الدلة إلى المدلولت‪".‬‬
‫بهذا التعريف للدللة اللفظية يكون ابن خلدون قد أشار إلى ما سماه "أندري مارتيني" بالتلفظ المزدوج (‪double‬‬
‫‪ )articulation‬اشتهر ذلك المصطلح في اللسنية الحديثة‪ .‬إن التلفظ الول هو الطريقة التي تترتب فيها الخبرة‬
‫اللغوية المشتركة بين جميع أعضاء بيئة معينة‪ ،‬وتقوم كل وحدة من وحدات التلفظ الول على دللة وعلى صورة‬
‫صوتية ول يمكن تحليلها إلى وحدات أصغر ذات معنى‪ ،‬أما التلفظ الثاني فهو إمكانية تحليل الصورة الصوتية إلى‬
‫(‪)3‬‬
‫وحدات صوتية مميزة تحتوي هذه الوحدات على شكل صوتي ول تحمل بذاتها أية دللة‪.‬‬
‫فصور الحروف الخطية‪ -‬عند ابن خلدون‪ -‬هي التي تمثل التلفظ الثاني وهو تقسيم الكلمة (المورفيم) إلى وحدات‬
‫صوتية (فونيم) ل تحمل بذاتها أية دللة‪ ،‬فضلً على ذلك يرسم ابن خلدون العملية التواصلية أو البلغية رسما بينا‪،‬‬
‫فالخط يدل على الكلمات اللفظية التي في الخيال‪ ،‬والكلمات هذه تدل على المعاني التي في النفس‪ ،‬والكلمات اللفظية‬
‫التي في الخيال هو اختصار للعلقة القائمة بين اللفظ ومعناه‪ ،‬فابن خلدون ينظر إلى هذين الطرفين (اللفظ والمعنى)‬
‫باعتبارهما طرفا واحدا‪ ،‬ذلك أن اللفظ قد ارتبط بتصور في الخيال وإلى هذا أشار ابن سينا في تعريفه للدللة بقوله‪:‬‬
‫"معنى دللة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع‪ ،‬ارتسم في النفس معناه فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا‬
‫المفهوم فكلما أورده الحس على النفس التفتت النفس إلى معناه‪ ،‬وهو معنى الدللة‪.‬‬
‫فاللفظ يرتسم في الخيال كصورة صوتية ذات دللة‪ ،‬فترتسم في النفس مقاصد هذه الدللة وعلى هذا الساس‬
‫يمكن تمثيل ذلك على النحو التالي‪:‬‬
‫اللفظ قيمة صوتية تصور في الخيال المعاني الموضوع الخارجي‪ ،‬ثم يحصل للنفس ملكة النتقال من‬
‫الدلة إلى المدلولت‪ ،‬فتربط بالبداهة بين السم ومسماه أي بين الدال والمدلول‪ .‬فإذا كان المدلول شيئا ماديا يكون‬
‫النتقال من اللفظ المسموع إلى الموضوع الخارجي وإذا كان المدلول من المجردات يكون النتقال حينئذ من اللفظ إلى‬
‫المعاني الذهنية‪.‬‬
‫إن هذه المفاهيم التي قدمها ابن خلدون للدللة ورسم على أساسها العملية الدللية‪ ،‬ل تختلف عن تلك النظرية‬
‫التي توصل إليها العالم اللساني دوسوسير حول الدليل اللساني يقول في تعريفه‪" :‬فالدليل اللساني ل يجمع الشيء أو‬
‫المادة والسم وإنما المفهوم أو المعنى المجرد والصورة السمعية‪ ،‬وليست هذه الخيرة الصوت المادي بعينه بقدر ما‬
‫هي الثر السيكولوجي له أو التمثيل المؤدى من طرف مدركاتنا الحسية(‪ ")4‬فالكلمات ليست سوى صور سمعية حسب‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.502‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.518‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ابن سينا‪ ،‬العبارة‪ ،‬من الشفاء‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪.Cours de linguistique generale- F. de sausure, P.98‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫تعريف "دوسسير"‪ ،‬وأن العلمة اللسانية أو (الدليل) هي التأليف بين التصور الذهني‬
‫(‪ )concept‬والصور السمعية (‪ .)image accoustique‬وإلى الفكرة ذاتها ذهب ابن خلدون في سياق شرحه للعملية‬
‫الدللية حين قال‪" :‬الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس" وأوضح المسألة أكثر‪ ،‬حيث قال‪" :‬كما أن القول‬
‫والكلم بيان عما في النفس والضمير من المعاني"‪ )1(.‬هذه التقريرات تبين عن إدراك ابن خلدون لهمية الجانب‬
‫السيكولوجي في الفعل الدللي‪ ،‬وقد دأب سوسير على التركيز على هذا الجانب في كتابه المحاضرات حيث عرف‬
‫(‪)2‬‬
‫الدال بكونه الدراك النفساني للكلمة الصوتية‪ ،‬والمدلول هو الفكرة أو مجموعة الفكار التي تقترن بالدال‪.‬‬
‫لقد أسهم ابن خلدون في إرساء قواعد علم التربية مؤكدا على ضرورة الحاطة باللفاظ ودللتها على المعاني‬
‫الذهنية‪ ،‬وحصر تحصيل تلك المعاني في طريقتين‪:‬‬
‫‪-1‬طريق القراءة والتعلّم من الكتاب‪.‬‬
‫‪-2‬طريق التعلم بالمشافهة والتلقين‪.‬‬
‫وعلى أساس هذا التنظير التعليمي‪ ،‬يحدد ابن خلدون مراتب الدوال بحسب أدائها للدللت‪ ،‬ويشير إلى ضرورة‬
‫إدراك السنن والقوانين التي تنتظم المعاني في الذهن‪ ،‬وهي كما نرى عملية سيكولوجية بحتة تصل اللفاظ بمحتواها‬
‫الذهني‪ ،‬يشرح ابن خلدون هذه المسألة بقوله‪" :‬ثم من دون هذا المر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من‬
‫التعليم‪ ،‬وهي معرفة اللفاظ ودللتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان‬
‫بالخطاب‪ ،‬فأولً دللة الكتابة المرسومة على اللفاظ المقولة وهي أخفها ثم دللة اللفاظ المقولة على المعاني‬
‫(‪)3‬‬
‫المطلوبة‪ ،‬ثم القوانين في ترتيب المعاني للستدلل في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق"‪.‬‬
‫هذه‪ -‬بإجمال‪ -‬نظرة ابن خلدون لعلم الدللة‪ ،‬وأقسام المعنى باعتبار اللفاظ ودللتها‪ ،‬وهي نظرة مع قدمها إل‬
‫أنها ذات قيمة علمية معتبرة في الدراسة الدللية الحديثة‪.‬‬

‫‪-IV‬ماهية الدللة عند الشريف الجرجاني (ت‪816:‬هـ)‪:‬‬


‫إن ما يبعث على تقدير جهود الجرجاني حق قدرها في ميدان علم الدللة‪ ،‬هو عمق تحليله وحسن تصنيفه لقسام‬
‫الدللة‪ ،‬وقد قام عدة باحثين في العصر الحديث على إجراء مقاربة علمية بين ما توصل إليه الجرجاني في تقسيماته‬
‫للدللة وما توصل إليه علماء الدللة في العصر الحديث‪ ،‬ومنهم العالم المريكي (بيرس)‪ .‬يعرف الجرجاني الدللة من‬
‫منطلق الثقافة الصولية فيقول‪" :‬الدللة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر‪ ،‬والشيء الول هو‬
‫الدال والثاني هو المدلول‪ ،‬وكيفية دللة اللفظ على المعنى باصطلح علماء الصول محصورة في عبارة النص‬
‫(‪)4‬‬
‫وإشارة النص واقتضاء النص‪.‬‬
‫وعلى أساس هذا التعريف للدللة‪ ،‬فأقسامها عند الجرجاني اثنان‪:‬‬

‫() القدمة‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.520‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ‪.Cours de linguistique generale- F. de sausure‬‬ ‫‪2‬‬

‫() القدمة‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.698‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الشريف الرجان‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص ‪.215‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫أ‪ -‬الدللة اللفظية‪ :‬إذا كان الشيء الدال لفظا‪.‬‬
‫ب‪ -‬الدللة غير اللفظية‪ :‬إذا كان الشيء الدال غير لفظ‪.‬‬
‫بتحديده لطبيعة العلقة بين الدال والمدلول‪ ،‬يحصي الجرجاني ثلثة مستويات صورية تنتج عنها ثلث دللت‪ ،‬دللة‬
‫العبارة ودللة الشارة ودللة القتضاء‪ ،‬وقد م ّر معنا تعريف المام الغزالي لدللتي الشارة والقتضاء‪ ،‬أما دللة العبارة‬
‫أو النص فهي "المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من صيغة النص وهو الذي قصده الشارع من وضع النص‪ ،‬لن المشرّع‬
‫حين يضع النص يختار له من اللفاظ والعبارات ما يدل دللة واضحة على غرضه ثم يصوغه بعد ذلك بحيث يتبادر‬
‫(‪)1‬‬
‫المعنى المقصود من النص إلى ذهن المطلع بمجرد الطلع عليه‪".‬‬
‫إن هذا الفهم العميق للدللة ينم عن مدى النضج المعرفي الذي أحرزه علماء القرن الثامن الهجري والذي تبلور‬
‫بعد تلك الدراسات الدللية القيمة التي تطورت منذ القرن الثالث الهجري‪ ،‬فالجرجاني يتجاوز بتعريفه الدللة ليشير‬
‫إلى علم آخر أعم من الدللة (‪ )semantique‬وهو ما يعرف بعلم الرموز أو بالسيمياء (‪ )simiologie‬وذلك عندما‬
‫نص على أن "الدللة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر فذكره "الشيء" بدل "اللفظ" يدل على‬
‫إشارته إلى هذا العلم الذي يعني بالرموز والعلمات اللغوية وغير اللغوية‪ ،‬وقد نلمس بعض القصور في سعي‬
‫الجرجاني في بلورة مفهوم عام يخص الدللة وأنواعها ذلك "لن العرب المتقدمين لم يكونوا يعنون بعلم الدللة‪ ،‬كما‬
‫يحاول العلماء اليوم بناءه‪ ،‬نظرا لتعقد الحضارة وارتباطها الوثيق باستعمال العلمات (‪ )signes‬بالمعارف والفنون‬
‫التي ل تتحقق إل في أنساق من العلمات‪ )2(".‬هذه التصنيفات الثلثة التي حددها الجرجاني في تعريفه تبلورت في علم‬
‫الدللة الحديث على يد علماء أمريكيين وأوروبيين اهتموا بما سمي بالدللت اليحائية‪ ،‬حيث يمير العالم المريكي‬
‫هياكوا (‪ )S.J.Hayakwa‬بين نوعين من المعاني‪ :‬المعنى القصدي (‪ )Sens intentionnel‬والمعنى التساعي (‬
‫‪ ،)Sens extentionnel‬أو كما يسمى في اللسنية الحديثة المعنى اليمائي‪ ،‬وتحت هذين الصنفين يمكن أن ندرج‬
‫دللت الجرجاني الثلث (دللة العبارة‪ -‬دللة الشارة‪ -‬دللة القتضاء)‪ ،‬وإلى التقسيم ذاته نزع العالم اللغوي‬
‫الوروبي غرينبرغ (‪( )J.H.Greenberg‬حيث أقام تقسيمه باعتبار القصد واليماء إلى‪ :‬المعنى الداخلي (‪Sens‬‬
‫‪ )internal‬والمعنى الخارجي(‪ )Sens external( )3‬فالدللة‪ -‬إذن‪ -‬في ضوء معالم الدرس الحديث تتضح عند‬
‫الجرجاني بكونها العلقة بين المحتوى الفكري واللفظ‪ ،‬وعلى هذا الساس يخضع ظهور الدللة أو خفاؤها إلى قرائن‬
‫لغوية تحدد الدللة المقصودة‪ ،‬فهناك السياق الذي يحمل دللة ل تقبل مجازا ول تأويلً‪ ،‬كما يسوق معنى ل يصح‬
‫حمله على غير ظاهره‪ ،‬إذ اللفظ منصرف إلى الحقيقة باعتبار الظاهر بما هو الكلم الذي يظهر المراد منه للسامع‬
‫بنفس الصيغة ويكون محتملً للتأويل والتخصيص(‪ .)4‬ولقد أدرك الجرجاني العلقة بين طرفي العملية الدللية‪ ،‬الدال‬
‫والمدلول‪ ،‬وحدد طبيعتها في وجود صلة مباشرة بين الدال والمحتوى الفكري الذي يتحدد وفقه المرجع أو الموضوع‪،‬‬
‫وإن كان ل يحدّد تحديدا بيّنا طبيعة المدلول‪ ،‬إل أن تجريد عملية الحالة المرجعية يقتضي بداهة التمييز بين المحتوى‬
‫الذهني للعلمة وموضوعها الخارجي‪ .‬والمهم في تعريف الجرجاني أن الدللة تتمثل في وجهة صرف الدال إلى‬
‫مدلوله‪ ،‬ول يمكن أن يغفل الجرجاني عن ذلك المقام الذي ارتقى إليه التفكير الدللي في عصره‪ ،‬بل نرى عالما ناقدا‬
‫قبله بقرنين وهو الكاتب حازم القرطاجيني (ت ‪684‬هـ) يحلل الدللة بقوله‪ …" :‬قد تبيّن أن المعاني لها حقائق‬
‫() عبد القادر عودة‪ ،‬التشريع النائي السلمي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.187 -186‬‬ ‫‪1‬‬

‫() علم الدللة عند العرب‪ :‬عاطف القاضي ص ‪ .127‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪ 19 -18‬السنة‪.1982 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫() مدخل إل علم الدللة اللسن‪ ،‬د‪.‬موريس أبو ناضر‪ ،‬ص ‪ -33‬ملة الفكر العرب‪ ،‬عدد‪ 19 -18 :‬السنة‪.1982 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫() منهاج البلغاء ومعراج الدباء‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫موجودة في العيان‪ ،‬ولها صور موجودة في الذهان‪ ،‬ولها من جهة على ما يدل على تلك الصور من اللفاظ وجود‬
‫(‪)1‬‬
‫في الفهام والذهان"‪.‬‬
‫هذه مفاهيم للدللة لم توجد مبوبة مفصلة‪ ،‬كما هي عليه في الدراسات الحديثة‪ ،‬إنما كانت أساس الدراسات‬
‫اللغوية في التراث المعرفي وخصت جميع العلوم بحيث وجدت في ثنايا كتب اللغة والمنطق والفقه وما إلى ذلك‪،‬‬
‫وهي تبرز من جهة أخرى حضور الدرس الدللي بأبوابه الرئيسية في شتى معارف تراثنا‪ .‬كما أن ظهور التحليلت‬
‫العميقة في عدة مستويات من الدللة عند العلماء العرب المتقدمين واتساع اهتماماتهم في كل العلوم ساعدهم على‬
‫تأسيس نظرة دللية ازدادت قيمتها مع مرور الزمن وتبلورت لدى المتأخرين من علماء القرن التاسع الهجري وما‬
‫بعده‪ .‬فقد ألفينا الجاحظ يصنف العلمات الدالة ويعطيها التمثيلت الجرائية في واقع المجتمع العربي‪ ،‬واشتغاله‬
‫بالبيان والمنطق قد كرس عنده دقة التمييز مع عمق التحليل‪ .‬وكذلك لمسنا عند علماء آخرين وضوح الرؤية الدللية‬
‫ضمن كتاباتهم‪ ،‬وحسبنا أن نقرأ بعضا من أبواب ما كتبه سيبويه والجرجاني وابن جني‪ ،‬بل يكاد يجزم النقاد العرب‬
‫المحدثون أن اللغة السيميائية قد مارسها شعراء أقدمون عبروا بها عن مكنوناتهم الوجدانية‪ ،‬وأشاحوا اهتماماتهم في‬
‫مواضع كثيرة عن اللغة الطبيعية المألوفة وقد أشار إلى ذلك الدكتور عبد المالك مرتاض في موضوعه حول السمة‬
‫والسيميائية‪ )2(".‬وإن المسار التاريخي لعلم السيمياء ليؤكد على إفادة هذا العلم من تلك الروافد التي جعلته يستقطب‬
‫اهتمام المشتغلين في حقول شتى من العلوم يقول في ذلك الدكتور عبد المالك مرتاض‪" :‬وكذلك ابتدأت السيميائية طبية‬
‫فلسفية‪ ،‬ثم لغوية خالصة ثم تشعبت إلى أدبية‪ ،‬مع احتفاظها بوضعها اللساني‪ )3(".‬وما يعضد هذا الرأي ما أجمع عليه‬
‫الباحثون في نشأة الدللة على أنها بدأت بالمحسوسات ثم تطورت إلى الدللت المجردة بتطور العقل النساني ورقيه‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫فكلما ارتقى التفكير العقلي جنح إلى استخراج الدللت المجردة وتوليدها والعتماد عليها في الستعمال‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬الدللة في تعريفات العلماء المحدثين‪:‬‬


‫(المصطلح والبعاد) أو (الماهية والمشروع)‪:‬‬
‫لقد حدث تطور كبير في مفاهيم المصطلحات القديمة في العصر الحديث‪ ،‬واتخذت أبعادا أخرجتها من تلك‬
‫الدراسة "الولية" ووسعت مجال البحث فيها‪ ،‬ومصطلح "الدللة" هو من ضمن تلك المصطلحات التي تبلورت‬
‫مفاهيمها في العصر الحديث وشملت الدراسة فيها ميادين عدة من حياة الناس‪ ،‬بل أضحت ملتقى لهتمامات كثير من‬
‫المعارف النسانية الحديثة‪ ،‬بدءا بعلم النفس ثم علم الجتماع والمنطق وعلوم التصال والشارة‪ .‬وإن هذه الصورة‬
‫التي برز فيها علم الدللة كأساس لعدة معارف حديثة هي نتاج للدراسة اللغوية المتخصصة ذلك "أن معالجة قضايا‬
‫الدللة بمفهوم العلم‪ ،‬وبمناهج بحثه الخاصة وعلى أيدي لغويين متخصصين إنما تعد ثمرة من ثمرات الدراسات‬
‫(‪)5‬‬
‫اللغوية الحديثة‪".‬‬
‫وتبعا لتساع مجالت البحث الدللي الحديث‪ ،‬فلم تعد الدللة حكرا على النظام اللغوي وحسب‪ ،‬وإنما شملتها‬
‫أنظمة سيميولوجية أزاحت الهيمنة اللغوية بل صارت معها في البحث جنبا إلى جنب‪ ،‬ومع ذلك بقيت اللغة إحدى‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬

‫() عبد الالك مرتاض‪ :‬السمة والسيميائية‪ ،‬ص ‪ ،19‬ملة الداثة‪ ،‬عدد ‪ ،2‬يونيو ‪.1993‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫‪3‬‬

‫() إبراهيم أنيس‪ ،‬انظر ذلك ف كتاب دللة اللفاظ‪ ،‬ص ‪.158‬‬ ‫‪4‬‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.22‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫أنجع وسائل نظام البلغ والتواصل والخطاب‪ ،‬وأقدرها على الطلق على التجديد والتطور والتكيف بل ل مندوحة‬
‫من القول أن النظمة السيميولوجية التي تتخذ العلمة المطلقة كمدخل أساسي لي مستوى من مستويات الدراسة‬
‫الدللية‪ ،‬ل تستغني في الحوال الغالبة عن اللغة خاصة على مستوى القراءة التعليلية التبيينية‪.‬‬
‫ومقاربة لماهية الدللة وحقولها الدراسية في العصر الحديث‪ ،‬عجنا نسائل البحث الدللي عند لفيف من اللغويين‬
‫وذلك بقصد رسم إطار بين تتضح من خلله معالم الدرس الدللي الحديث إن على مستوى الماهية والمصطلح وما‬
‫أفرزه من تفريعات زادت من توسيع دائرة البحث الدللي‪ ،‬أو على مستوى البعاد والمشروع الذي تأسس بناء على‬
‫اختلف الرؤى والهداف بين مجموع المشتغلين في حقل البحث الدللي والسيميولوجي العام‪ ".‬يرمي [هذا المشروع‬
‫السيميولوجي] من وجهة نظر "إينو" إلى تأسيس وعي بنيوي للستقراء الدللي‪ )1(".‬ولن حلقة تأسيس الدرس الدللي‬
‫لم تكتمل دائرتها بعد‪ ،‬اقتصرنا في مساءلتنا لمعالم البحث الدللي الحديث على بعض اللغويين الذين بدأت معهم عملية‬
‫التأسيس والتشكيل والتقعيد‪ ،‬وبعض المشتغلين في حقول النقد والدب حيث غدا عندهم الدرس الدللي السيميائي أحد‬
‫أهم المناهج النقدية الحديثة‪.‬‬

‫أ‪-‬ماهية الدللة بين الوصفية والمعيارية‪:‬‬


‫بدأ البحث الدللي في العصر الحديث بمنهج وصفي يعاين جزئيات الظاهرة اللغوية معاينة وصفية تعتمد طريقة‬
‫الملحظة والتحليل فالستنتاج‪ .‬وهي طريقة تعد امتدادا "لمنهج" البحث اللغوي القديم‪ .‬ثم ارتقى الدرس الدللي إلى‬
‫مرحلة محاولة التنظير والتقعيد‪ ،‬فغدا يعتمد على المنهج المعياري وذلك لنزوع الباحثين اللغويين نحو تشكيل معالم‬
‫مشروع دللي بدءا ببلورة جهود السابقين في ميدان البحوث اللغوية المختلفة‪ ،‬وارتقاء إلى "بناء هيكل نظري ينظم‬
‫الركام الذي هو هيئة المعلومات السابقة‪ ،‬وبهذا تغدو الدراسة مقدمة لتاليات لها فيدفع العلم خطوات إلى حقول‬
‫جديدة"‪ )2(.‬هذا الندفاع نحو بناء وعي دللي يساهم في تشكيله علماء محدثون تعددت رؤاهم وتكاملت جهودهم التي‬
‫عكفوا من خللها على إبراز اللغة بمفهومها العام‪ ،‬نظاما لتحقيق التواصل والبلغ فبحثوا جزئياتها وغاصوا في‬
‫عوالمها مستعينين في سبيل ذلك بعلوم أخرى‪ ،‬فتوسعت مجالت البحث اللغوي وغدا المبحث الدللي ملتقى لعلوم‬
‫إنسانية واجتماعية وأدى ذلك إلى تنوع الدراسات‪ ،‬وإذا رمنا حصر العلماء الذين ساهموا في تشكيل معالم الدرس‬
‫الدللي والسميولوجي الحديث فإنه يعجزنا ذلك‪.‬‬
‫وقصدا إلى تقديم صورة لماهية الدللة في العصر الحديث استجمعنا آراء للفيف من اللغويين والمشتغلين في حقل‬
‫الدب والنقد‪.‬‬
‫لقد أعلن بر ميلد علم يختص بجانب المعنى في اللغة وهو علم الدللة الذي أتى ليسد تلك الثغرة في الدراسات‬
‫اللغوية التي كانت تهتم بشكل الكلمات ومادتها‪ ،‬أما دراسة المعنى فيها فتمثل الجانب الهزيل قال بر‪" :‬إن الدراسة‬
‫التي ندعو إليها القارئ هي من نوع حديث للغاية بحيث لم تسم بعد‪ ،‬نعم‪ ،‬لقد اهتم معظم اللسانين بجسم وشكل‬
‫الكلمات وما انتبهوا قط إلى القوانين التي تنظم تغيّر المعاني وانتقاء العبارات الجديدة والوقوف على تاريخ ميلدها‬
‫ووفاتها‪ .‬وبما أن هذه الدراسة تستحق اسما خاصا بها فإننا نطلق عليها اسم (‪ )semantique‬للدللة على علم‬

‫() د‪.‬فيدوج عبد القادر‪ ،‬دللية النص الدب‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫‪1‬‬

‫() فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.99‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫المعاني(‪ ")1‬فعلم الدللة‪ -‬عند العالم بر‪ -‬يعني بتلك القوانين التي تشرف على تغير المعاني‪ ،‬ويُعاين الجانب التطوري‬
‫لللفاظ اللغوية ودللتها‪ ،‬ويكون بر بذلك أول من وجه الهتمام إلى دراسة المعاني ذاتها‪ ،‬لكن أهمية التفاتة بر إلى‬
‫جوهر الكلمات لم تقدر حق قدرها قبل محاولة النجليزيين أوجدن (‪ )C.K.Orgdon‬وريتشاردز (‪)I.A.Richards‬‬
‫اللذين أحدثا ضجة في الدراسة اللغوية بإصدار كتابهما عام ‪ 1923‬تحت اسم "معنى المعنى" وفيه تساءل العالمان عن‬
‫ماهية المعنى من حيث هو عمل ناتج عن اتحاد وجهي الدللة أي الدال والمدلول(‪ .)2‬وأضحى علم الدللة ابتداء من‬
‫ذلك يهتم بالصورة المفهومية‪ ،‬باعتبار أن ل علقة مباشرة بين السم ومسماه‪ ،‬إنما العلقة المباشرة تربط الدال‬
‫بالمحتوى الفكري الذي في الذهن يقول مازن الوعر في هذا الصدد في تقديمه لكتاب "علم الدللة" لبيار جيرو‪" :‬إذا‬
‫كانت الصوتيات واللغويات تدرسان البنى التعبيرية وإمكانية حدوثها في اللغة‪ ،‬فإن الدلليات تدرس المعاني التي يمكن‬
‫أن يعبر عنها من خلل البنى الصوتية والتركيبية"(‪.)3‬‬
‫ويوضح سالم شاكر أكثر فيقول‪" :‬إن علم الدللة يعني بظواهر مجردة هي الصورة المفهومية"(‪ .)4‬ونزع علم‬
‫الدللة في العصر الحديث إلى تمثل المنهج الوصفي في بعض مراحل الدراسة خاصة فيما يتعلق برصد تطور الدللة‬
‫وتغيرها وبناء الحقول الدللية يقول ميشال زكريا‪" :‬أما علم الدللت فهو مستوى من مستويات الوصف اللغوي‪،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ل في تطور معنى الكلمة ويقارن بين الحقول الدللية المختلفة"‪.‬‬
‫ويتناول كل ما يتعلق بالدللة أو بالمعنى فيبحث مث ً‬
‫إن المجال الواسع الذي حظيت به الدراسات الدللية الحديثة‪ ،‬يرجع بالساس إلى تلك الطر المميزة التي رسمها‬
‫العالمان أوجدن وريشاردز وبعدهما بر‪ ،‬ومع تقدم الدراسة بدأت البحوث الدللية تشهد عقبات تكمن صعوبتها في‬
‫استحالة حصرها‪ ،‬وتحديدها من ذلك أن عكف الدرس الدللي الحديث على البحث في ماهية الصورة المفهومية‪،‬‬
‫بحيث استحال معها الحاطة بكل ما يشكل عالم المتكلم حتى يمكن فهم وإدراك المحتوى الفكري المجرد‪ .‬يقول‬
‫(كولردج) محددا مجال البحث الجديد لعلم الدللة‪" :‬ول يتضمن معنى اللفظة في رأيي مجرد الموضوع الذي يقابلها‪،‬‬
‫بل يشمل أيضا جميع الرتباطات التي تبعثها اللفظة في أذهاننا فطبيعة اللغة ل تمكنها من نقل الموضوع فحسب‪،‬‬
‫(‪)6‬‬
‫وإنما تجعلها أيضا تنقل شخصية المتكلم الذي يعرض الموضوع ونواياه"‪.‬‬
‫إن الحديث عن البنى العميقة التي تتحكم في إنتاج الدللة من وجهة نظر مجردة‪ ،‬يبقى بعيد المرام‪ ،‬ولذلك فإن‬
‫جل علماء الدللة والسيمياء المحدثين يركزون أبحاثهم أكثر‪ ،‬على ما يحيط عملية تأدية الدللة من ظواهر منطقية‬
‫نفسية‪ .‬يقول بيار جيرو موضحا ذلك‪" :‬ويبقى علم الدللة بالنسبة لبر واتباعه متجها نحو السمات المنطقية‪ ،‬النفسية‬
‫(‪)7‬‬
‫والتاريخية للظواهر أكثر من اتجاهه نحو عللها اللسانية"‪.‬‬
‫لقد خطا العالمان كاتر وفودر بالبحث الدللي خطوة بعيدة إذ تناوله من ناحية تفاعل مركبات الحدث الكلمي‪،‬‬
‫بل إنهما طرحا إشكالية أساسية تتمحور حول تخصيص العلقة التي يمكن إقامتها بين صورة الجملة ودللتها في لغة‬

‫() ‪.Les grands courants de la linguistique moderne (Maurice le roy) P.45‬‬ ‫‪1‬‬

‫() موريس أبو ناضر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة اللسن‪ ،‬ملة الفكر العاصر‪ ،‬العدد ‪ ،18/19‬السنة ‪ ،1982‬ص ‪.32‬‬ ‫‪2‬‬

‫() بيار جيو‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ترجة منذر عياشي‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪3‬‬

‫() سال شاكر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ترجة ممد جباتي‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪4‬‬

‫() ميشال زكريا‪ ،‬اللسنية‪ :‬علم اللغة الديث‪ ،‬ص ‪.211‬‬ ‫‪5‬‬

‫() ممد مصطفى بدوي‪ ،‬كلوردج‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪6‬‬

‫() بيار جيو‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ترجة منذر عياشي‪ ،‬ص ‪.133‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫معينة في غياب النحو‪ ،‬إذ قد تصل العملية التواصلية التي تضطلع بأمر نقل الدللة إلى مستوى من التعقيد ل يمكن‬
‫للنحو أن يشرح فيه ذلك‪ ،‬لن السيمانتيك من وجهة نظر هذين العالمين يتناول قدرة المتكلم على إرسال وفهم الجمل‬
‫الجديدة في ميدان يعجز عن شرحها النحو(‪ .)1‬إن البعاد التي اتخذها البحث الدللي الحديث عبر دراسات معمقة‪،‬‬
‫أخرجت النظريات الدللية والفرضيات العلمية اللسانية من مجال التخمين والتقدير إلى ميدان التحقيق والتطبيق‪،‬‬
‫رسمت إطارا مفتوحا على المستقبل لمشروع دللي أوسع يلج من خلل الدرس السيمائي إلى كل مجال من مجالت‬
‫المعرفة والبحث العلمي‪ ،‬ويكفي أن نتأمل كتب (أ‪.‬ج‪ .‬غريماس) مثل كتاب "علم الدللة البنيوي" ‪" ،1966‬السيميوتيكا‬
‫والعلوم الجتماعية" ‪" ،1976‬في المعنى" ‪ ،1970‬لندرك المصاف الذي بلغه علم الدللة بعد ما كان علما يفتقد إلى‬
‫المنهج والموضوع معا‪ ،‬إذ كان منشأه في إطار علم اللسنية العام‪.‬‬
‫يحتل اسم (غريماس) مكانا عليا ضمن الباحثين في الحقل الدللي الحديث ويرجع ذلك إلى قدرته على تحقيق‬
‫الرؤية في قراءاته النقدية للخطاب الدبي‪ ،‬الشعري والنثري‪ .‬لقد تجاوز غريماس المعطى الدللي‪ ،‬الني مفترضا‬
‫وجود معطى ممكن تتجلى فيه العوالم الدللية التي تتمظهر في بنى دللية‪ ،‬وعلى أساس وجود هذه العوالم يتم تنظير‬
‫البنيات الدللية والكشف عن آلياتها‪ ،‬وقد يطرح العالم الدللي فرضية وجود البينة الدللية والعوالم الدللية فيقول‪:‬‬
‫"يجب أن نفهم بالبنية الدللية ذلك الشكل العام لنظام العوالم الدللية‪ -‬المعطى‪ ،‬أو الممكن‪ ،‬ذي الطبيعة الجتماعية‬
‫والفردية (ثقافات أو أفراد) والسؤال عما إذا كانت البينة الدللية ماثلة في عالم الدللة أو تحضن هذا العالم"(‪ .)2‬إن‬
‫احتواء العوالم الدللية في بناء من صنع ألسني للتعبير عنها يفترض وجود مشاكلة بين مستوى التعبير ومكوناته‬
‫ومستوى المعنى وسماته"(‪ .)3‬ذلك أن عالم المعنى يتمظهر في التلفظ ‪ articulation‬ويتموقع في البنى التعبيرية يوضح‬
‫غريماس ذلك بقوله‪" :‬إن فرضية المشاكلة بين المستويين تسمح إذن بالنظر إلى بنية المعنى وكأنها تلفظ لعالم الدللة‬
‫حسب وحداته المعنوية الصغرى [أي السمات] وما يقابلها من سمات مميزة على مستوى التعبير‪ ،‬هذه الوحدات‬
‫(‪)4‬‬
‫الدللية مكونة بالطريقة نفسها المكونة بها سمات التعبير‪ ،‬من فئات سمات ثنائية"‬
‫على الرغم من تباين آراء علماء الدللة حول جوهر العملية الدللية‪ ،‬فإن البحث الدللي أخذ مسارات جديدة بعد‬
‫وقوع التأكيد على أن اللغة هي نظام تتظافر فيه جملة من النظمة الفرعية كنظام البنى التركيبية‪ ،‬ونظام البنى‬
‫المعجمية‪ ،‬والبنى الصوتية‪ ،‬والبنى الدللية‪ ،‬ضمن نسق محكم أطلق عليه العلماء مصطلح النحو الكلي (‪Universal‬‬
‫‪ ،)Grammar‬واتجه الباحثون إلى الكشف عن هذا النسق وتحديد معالمه وسماته‪ ،‬وهذه مرحلة مهمة ارتقى إليها‬
‫البحث الدللي حيث "يلحظ تشومسكي أن ما طبع البحث اللغوي في السنوات الخيرة‪ -‬هو تحول من العناية باللغة‬
‫إلى العناية بالنحو‪ ،‬وهو تحول من تجميع العينات وتنظيمها أو دراسة لغة خاصة أو الخصائص العامة لكثير من‬
‫ل في الدماغ وتساهم في تفسير الظواهر الملحظة"(‪ .)5‬وقد‬ ‫اللغات أو كل اللغات إلى دراسة النساق التي توجد فع ً‬
‫أسهمت فكرة تشومسكي في توليد جملة من الفكار طُرحت كاستفهامات تقتضي أجوبة ولو على وجه الفتراض‪ ،‬من‬
‫ذلك السؤال حول كيف تنتظم اللغة كجملة من البنى في شكل أنساق نظرية داخل الدماغ؟ إن وجود هذه النساق داخل‬

‫() ‪Initiation aux problemes des linguistiques contemporaines, C.Fuches et P. le Goffic,‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.P.72‬‬
‫() ج‪.‬غرياس‪ ،‬البنية الدللية‪ ،‬ص ‪ 97‬من ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬ترجة ميشال زكريا‪ ،‬العدد ‪ 18/19‬السنة ‪.1982‬‬ ‫‪2‬‬

‫() سات العن‪ :‬وحدات العن الصغرى‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪4‬‬

‫() عبد القادر الفاسي‪ ،‬الفهم ف اللسانيات واللغة العربية‪ ..‬ص ‪.45‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫الدماغ يترتب عليه الكشف عن المعرفة اللغوية الباطنية لمتكلم اللغة وضمنها الهتمام بالجهاز الداخلي الذهني‬
‫للمتكلمين عوض الهتمام بسلوكهم الفعلي‪ ،‬وأقصى ما وصلت إليه البحوث اللغوية الدللية هو بروز نموذج جديد‬
‫للتفكير في نظام اللغة‪ ،‬المركب من أنساق مختلفة بحيث بزغ زمن التركيب مع نظرية تشومسكي(‪ )1‬في النحو التوليدي‬
‫التي تقوم على أساس تحليل السلسلة الكلمية إلى وحدات من الرموز‪ ،‬لتعيد تشكيل ليس السلسلة الكلمية وحسب بل‬
‫سلسل كلمية ل متناهية‪ ،‬وذلك إشارة إلى أن الدماغ البشري مركب فيه قواعد إنتاج لحداث كلمية سليمة في‬
‫التركيب والدللة معا‪ ،‬وعلى الرغم من أن تشومسكي قد أغفل في بحوثه الولى النسق الدللي إل أنه تدارك ذلك‪،‬‬
‫خاصة بعد تلك السهامات التي تقدم بها العالمان كاتر وفودور‪ ،‬وأعاد العتبار إلى الوظيفة الدللية للتركيب‪ ،‬وعدّل‬
‫في رسمه البياني الذي تناول فيه السمات البنيوية التي تتألف منها الجملة‪ ،‬مضيفا المكون الدللي وإن كانت البنية‬
‫الدللية محتواة في ما سماه تشومسكي "بالسلسل المعقدة" وتوضيح ذلك فيما يلي‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫الرسم قبل التعديل‪:‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.66‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫قواعد مركبية‬

‫تحولت إجبارية‬

‫سلسل نووية‬ ‫مكون تركيبي‬

‫تحولت اختيارية‬

‫سلسل معقدة‬

‫قواعد صوتية‬
‫مكون صوتي‬
‫تمثيل صوتي‬
‫ما يلحظ هو غياب المكون الدللي في الرسم البياني‪ ،‬إل أن هناك مرحلة مهمة تقع بين المكون التركيبي‬
‫والمكون الصوتي وهو ما سيغير فيه تشومسكي في الرسم الثاني وذلك بتحليله للسلسل المعقدة‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫الرسم بعد التعديل‪:‬‬
‫قاعد السقاط تمثيلت دللية‬ ‫‪ -1‬قواعد مقولية‬ ‫مكون تركيبي‬
‫‪ -2‬معجم (قواعد معجمية) بنية عميقة‬ ‫قاعدة‬

‫بنية عميقة‬
‫قواعد تحويليلة أحادية‬

‫بنية سطحية‬ ‫مكوّن‬


‫صوتي‬
‫قواعد صوتية‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫ما يلحظ هو بروز البنية العميقة والبنية السطحية ولعل ذلك ما خول تشومسكي إضافة الحلقة المفقودة في الرسم‬
‫الول‪ ،‬ونعني بها‪ ،‬المكون الدللي‪ ،‬إذ البنية العميقة هي التي تنطوي على التمثيل الدللي الذي يتحول إلى بنية‬
‫سطحية وفق قواعد التحويل متشكلً في تمثيل صوتي‪.‬‬
‫وغدا المبحث الدللي‪ ،‬واسع الرجاء بحيث انكب الدارسون يتناولون جانبا واحدا من جوانبه‪ ،‬فيبدو عميقا‬
‫متشعبا فمن ذلك أن اهتدوا إلى وضع قواعد سلمة التركيب‪ ،‬وسلمة الدللة‪ ،‬مستوحين ذلك من قواعد السقاط التي‬
‫وضعها تشومسكي‪ ،‬فلكي يؤدي التركيب الدللة المعنية‪ ،‬وجب أن يكون سليما في عناصره‪ ،‬وكذلك الشأن لسلمة‬
‫(‪)1‬‬
‫الدللة وهو ما يوضحه الرسم البياني التالي‪:‬‬

‫قواعد سلمة الدللة‬ ‫قواعد سلمة‬ ‫معجم‬

‫بنى دللية‬ ‫قواعد السقاط‬ ‫بنى تركيبية‬

‫وبعد تخصيص الدللة في التركيب اللغوي‪ ،‬توسعت الدللة لتشمل ما هو لغوي وغير لغوي من الرموز‬
‫والشارات والسمات‪ ،‬وهو ما انبنى عنه ميلد السيميولوجيا كمنهج جديد في دراسة الدللة بحيث لم تعد اللغة المحتكر‬
‫الوحيد في البحث‪ ،‬إنما برزت أنظمة إبلغية أخرى أهمها النظام الشاري‪" :‬فالسيميولوجية [كما تقول كريستيفا] هي‬
‫لحظة التفكير في قوانين التدليل دون أن تبقى أسيرة اللغة التواصلية التي تخلو من مكان الذات"(‪ .)2‬إذن هناك وسائل‬
‫اتصال‪ -‬واللغة إحداها‪ -‬تستدعي دراسة في ماهيتها وعلقاتها وكيفية حدوثها ثم القوانين التي تنتظمها كما قال‬
‫الدكتور فيدوج‪" :‬إنتاج العلم عبر إشارات هو الموضوع الساسي لعلم السيميولوجية الذي هو بحث في ماهية هذه‬
‫الشارات وعلتها وكيفية حدوثها أو إنتاجها ووظيفتها والقوانين التي تتحكم بها"(‪ .)3‬إن الطلع على القواعد العامة‬
‫التي تتحكم في حياة الدلئل‪ ،‬يسمح بوضح أسس لمشروع سيميولوجي يعنى بمعاينة إنتاج الدللة ويحدد طرق وقواعد‬
‫ذلك كما يبيّنه الكاتب فيدوج بقوله‪" :‬والسيميولوجية منهج يهتم بدراسة حياة الدلئل داخل الحياة الجتماعية ويحيلنا إلى‬
‫معرفة كنه هذه الدلئل وعلتها وكينونتها ومجمل القوانين التي تحكمها‪ ،‬ويعمل من جهة على دراستها بكل أبعادها‬
‫واستعمالتها وتعقيداتها دراسة شاملة وعامة لكل مظاهرها العلمية لن ذلك يشكل جوهر ما يندرج ضمن أهدافها‬
‫(‪)4‬‬
‫وغاياتها ومطامحها في تحقيق المشروع السيميولوجي‪.‬‬
‫إن هذا التحديد المسهب لعلم السيمياء جعله يحتل مكانه المؤثر ضمن المنظومة الجتماعية‪ ،‬إذ أضحى يشمل‬
‫الشارات الدالة اللغوية وغير اللغوية وتشترك جميعها في أدائها للقيمة الدللية وفق شروط عامة‪.‬‬
‫في بحوثه حول فعالية الكلم والكتابة‪ ،‬ميّز (رومان جاكبسون) بين عدة نظم تواصلية تتوزع في إطارين‪:‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬فيدوج‪ ،‬دلئلية النص الدب‪ ،‬ص ‪.9‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.10 -9‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.7 -6‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫الطار الول‪ :‬نظم لسانية تستخدم التراكيب اللغوية للتواصل والبلغ‪.‬‬
‫والطار الثاني‪ :‬نظم سيمولوجية مستقلة نسبيا‪ ،‬عن النظام اللسني‪.‬‬
‫ثم ميز في النظم اللسانية بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة‪ ،‬والذي يوضحها ذلك التمايز التاريخي الذي أشار‬
‫إليه اللغويون في بحوثهم حول الصوت والحرف وتمييزهم بين السامع والقارئ وبالتالي بين فعالية الكلم وفعالية‬
‫الكتابة‪ ،‬وخلص إلى أن الكتابة تبقى الداة الكثر فعالية في الخطاب التواصلي والبلغي كونها تضمن استمرارية‬
‫(‪)1‬‬
‫ومنفذ إلى المتلقي مهما تباعد المكان والزمان‪.‬‬
‫لقد تطور البحث الدللي تطورا سريعا منذ عهد بر ودسوسير‪ ،‬حتى غدا فيه التنوع والختلف بين العلماء سمة‬
‫مميزة وذلك لغراقه في بحث المجرد‪ ،‬ولتساع مساحة الدرس وظهور نظم جديدة زاحمت النظام اللغوي "إذ لم تعد‬
‫اللغة إل مجرد نقطة في فضاء رحيب تهيمن عليه امبراطورية السمات"(‪ .)2‬وأضحى النموذج السيميولوجي أحد‬
‫النماذج الكثر حضورا في القراءات النقدية الدبية باعتبار النص شبكة من العلمات الدالة‪ ،‬وإن أهم مظهر تطوري‬
‫بدا عليه علم الدللة ضمن السيميولوجية الحديثة هو اقترانه بالتفكير الفلسفي "ويعتبر موريس من الذين قدموا نموذجا‬
‫سيميولوجيا فلسفيا بحيث استطاع أن يميز بين البعاد الدللية والبعاد التركيبية والبعاد الوظيفية للشارة‪ .‬فطبقا لرأيه‬
‫فإن العلقة بين الشارة والمجموعة الجتماعية هي علقة دللية‪ ،‬والعلقة بين الشارة والشارات الخرى هي‬
‫(‪)3‬‬
‫علقة تركيبية أما العلقة بين الشارة ومستعمليها فهي علقة وظيفية"‬
‫إن العامل النفسي في إدراك القيمة الدللية للعلمة ذو أهمية بالغة‪ ،‬فافتراض وجود الكفاية اللغوية عند المتكلم‬
‫يتوق إلى تحليل نفسي (للمتكلم) لضبط هذه الكفاية مرورا بتحليل التركيب اللساني‪ ،‬ولذلك فالتحليل موحد بين‬
‫اللسانيات النفسية‪ ،‬أوعلم النفس اللساني (‪ )psycholinguistiques‬دون إغفال المركب الدللي في العملية التي‬
‫تتناول السلوك الكلمي بقصد الوقوف على البنى الذهنية المشكلة لدللته‪ ،‬فالحاطة بالجانب التصوري في العملية‬
‫التواصلية يساهم بقسط وفير في اكتمال حلقات الفعل الدللي…‬
‫إن ماهية علم الدللة‪ -‬كما أوضحناها‪ -‬تنأى عن كل تأطير وحصر‪ ،‬كما أن المباحث اللغوية الحديثة لتخاذها‬
‫طابع الشمولية في التناول والطرح‪ ،‬ل زال معها الدرس الدللي يراوح مكانه ضمن المبحث السيميولوجي العام بين‬
‫تحديد الماهية العامة‪ ،‬وتحقيق البعاد في إطار النظرية السيميولوجية الشاملة التي تحاول وضع المفاهيم الدللية رهن‬
‫التحقيق في المنظومة الجتماعية الحديثة التي عجت فيها المعارف والعلوم‪ ،‬واحتيج في سبيل استثمارها لنساق‬
‫لسانية دقيقة قد تضاف إلى النظم السيميائية غير اللغوية لحداث وعي سيميولوجية‪ ،‬تتحقق معه النهضة المبتغاة‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫)(‬
‫‪Essais de linguistique generale Roman Jakobson, P.101-102.‬‬
‫‪ )( 2‬د‪.‬عبد الالك مرتاض‪ ،‬بي السمة والسيميائية‪ ،‬ص ‪ 9‬ملة الداثة‪ ،‬العدد الثان‪.1993 ،‬‬
‫‪ )( 3‬دلئلية النص الدب‪ ،‬فيدوج‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫مباحث علم الدللة الحديث‬

‫تمهـــيد‪:‬‬
‫إن المجال الذي يندرج في إطاره البحث الدللي‪ ،‬يمكن حصره في دراسة طرفي الفعل الدللي‪ -‬الدال‬
‫والمدلول‪ -‬وما يتفرع عن ذلك من أبحاث تخص الدال من جهة والمدلول من جهة أخرى والعلقة التي تجمع بينهما‪،‬‬
‫وبناء على هذه الدراسة حدد موضوع علم الدللة الذي يضم مباحث لغوية مختلفة ومتباينة لكنها مترابطة ومتكاملة‪،‬‬
‫فبحث موضوع اللغة من جوانب مختلفة‪ ،‬كما تناول الدلليون مسألة التطور الدللي فدرسوا أشكاله وأسبابه‪ ،‬ونشأت‬
‫عن مبحث علقة الدال بالمدلول مواضيع أخرى كموضوع أنواع الدللة وأقسامها ومبحث الحقول الدللية وما توصل‬
‫إليه اللغويون في هذا المجال من نظريات وآراء علمية‪ ،‬كما برز موضوع المجاز بمفهومه العام وعلقته بالتعبير‬
‫الدللي‪ ،‬وفي هذا السياق سنحدد مباحث علم الدللة في العصر الحديث لنشاكل بها المباحث الدللية التي تناولها‬
‫المدي في مجال الدرس الصولي وهذا من أجل مقاربة علمية بين جانب من مباحث التراث المعرفي والمضامين‬
‫الدللية الحديثة لن المنهج المتوخى في المعارف اللغوية الحديثة يتراوح بين تقديم المضامين اللسانية والبحث عن‬
‫الصول الولية لها من دعائم ذهنية‪،‬وضوابط منهجية‪ ،‬ومصادرات استدللية واستثمارات نفعية‪.)1(.‬‬

‫المبحث الول‪ :‬اللغة‬


‫لقد بحث موضوع اللغة في بداية نشأة علم الدللة وعلوم اللسنية بوجه عام‪ ،‬من الجانب التاريخي‪ ،‬حيث اتسع‬
‫مجال البحث في نشأة اللغة‪ ،‬وهي مسألة شغلت اهتمام العلماء قديما وحديثا‪ ،‬أما في المرحلة الثانية فقد بحث موضوع‬
‫اللغة بمنهج وصفي آني وهو منهج يأخذ دراسة اللغة من جانب بنيتها الداخلية باعتبار اللغة نظاما من الرموز اللسانية‬
‫أو مجموعة من الصوات الدالة‪ .‬كما تناول علماء الدللة وظائف اللغة والنواميس الخفية التي تتحكم في نظام بنيتها‬
‫وحركيتها(‪ )2‬التي وسموها بالتعقيد‪ .‬يظهر ذلك من اختلفهم في تعريفها‪ .‬فيعرفها أحدهم بأنها نظام من الرموز‬
‫والشارات ويعرفها آخر بأنها مجموعة الصوات الدالة أو أداة للفكر‪ ،‬بينما يحددها أنيس فريحة بقوله‪" :‬الواقع أن‬
‫اللغة أكثر من مجموعة أصوات‪ ،‬وأكثر من أن تكون أداة للفكر أو تعبيرا عن عاطفة اللغة جزء من كياننا‬
‫البسيكولوجي الروحي وهي عملية فيزيائية اجتماعية بسيكولوجية على غاية من التعقيد(‪.)3‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ .‬ص ‪7‬‬ ‫‪1‬‬

‫() أطلق عليها سوسي مصطلح "ميكانيزم" ماضرات ف اللسانيات العامة ص ‪.177‬‬ ‫‪2‬‬

‫() أنيس فرية نظريات ف اللغة ص ‪11‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫إن البحث في أصل اللغة من المسائل الفكرية الصعبة التي بقي معها فكر العلماء يدور في حلقة مفرغة‪ ،‬بحيث‬
‫انقسمت آراؤهم حول تحديد نشأة اللغة‪ ،‬وبرزت في ثلثة اتجاهات‪ :‬اتجاه يذهب إلى أن اللغة توقيفية طبيعية‪ ،‬واتجاه‬
‫يذهب إلى أن اللغة عرفية اصطلحية واتجاه ثالث يجمع بين الرأيين‪ .‬وكان جل العلماء اللغويين يأملون التوصل إلى‬
‫تفسير شامل لهذه المسألة‪ ،‬ولكنه لم يتمكنوا من ذلك وأضحت أبحاثهم ل تقدم لمسألة نشأة اللغة أي حل مقنع قد يفتح‬
‫المجال أمام جهود الباحثين في هذا الميدان‪ ،‬بل إن المسألة ازدادت تعقيدا‪ ،‬بكثرة الراء والنظريات التي نشأت حولها‬
‫مما حدا بالجمعية اللغوية الفرنسية (‪ )la societe de linguistique‬إلى إصدار قانون يمنع إلقاء محاضرات في‬
‫موضوع نشأة اللغة‪ .‬إن اعتماد النظريات اللغوية الحديثة على معطيات مبنية على الحدس والفتراض‪ ،‬هو الذي‬
‫أبعدها من التوصل إلى نتائج علمية دقيقة‪ ،‬ولقيت بعض هذه النظريات اعترافا علميا‪ ،‬لنها استندت في تعليلها لنشأة‬
‫اللغة على معطيات لغوية ملموسة من ذلك نظرية (‪ )bow waw‬التي تذهب إلى أن أصل اللغة هو محاكاة لصوات‬
‫استقاها النسان من الطبيعة‪ ،‬تدعم رأيها بوجود ألفاظ مأخوذة من أصوات تصدرها عناصر من الطبيعة كالزقزقة‬
‫والخرير‪ ،‬والحفيف‪ ،‬والخشخشة‪ ،‬والعواء‪ ،‬والمواء وما إلى ذلك‪ ،‬رأي مماثل تذهب إليه نظرية الصوات التعجبية‬
‫العاطفية‪ ،‬وتفيد أن الكلمات الولى التي نطق بها النسان‪ ،‬كانت أصوات تعجبية عاطفية تعبر عن ألم أو دهشة أو‬
‫فرح من تلك الكلمات "أف" وي "أنين" وغير ذلك(‪.)1‬‬
‫إن المنهج الوصفي الني‪ ،‬يرمي إلى تحليل البنية الداخلية للغة‪ ،‬وذلك باستنباط الشبكة التنظيمية التي تبدو‬
‫كنواميس خفية تنتظم في إطارها اللغة‪ .‬يرى جان بياجي أن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها نواميس خفية مفروضة‬
‫على الفراد‪ ،‬تتناولها الجيال بضرب من الحتمية التاريخية إذ كل ماضي اللغة –راهنا‪ -‬إنما هو منقول عن أشكال‬
‫سابقة‪ ،‬هي الخرى منحدرة من أنماط أكثر بدائية‪ ،‬وهكذا إلى الصل الوحد أو الصول الولية المتعددة(‪.)2‬‬
‫هذه القوانين الخفية التي تنتظم في إطارها اللغة‪ ،‬تعود إلى الصول الولية للغة الخطاب وهي تشكل النظام‬
‫اللغوي‪ ،‬وبذلك سعى اللغويون وعلماء الدللة بوجه خاص‪ ،‬إلى تفكيك بنية هذا النظام لكتشاف اللغة اكتشافا علميا‪ ،‬قد‬
‫ل لمشكلت لغوية‪ ،‬في عالم أصبح يعتمد على اللغة في التصال والعلم في مستويات رفيعة وهامة‬ ‫يقدم تفسيرا مقبو ً‬
‫يقول بيار جيرو‪" :‬إنّ اللغة نظام من الشارات وهي تخدمنا في إيصال الفكار واستدعاء صور مفاهيم الشياء التي‬
‫تكونت في أذهاننا إلى ذهن الخرين(‪.)3‬‬
‫إن الدرس الدللي الحديث يهدف أساسا إلى التعرف على القوانين التي تشرف على النظام اللغوي‪ ،‬وذلك بتحليل‬
‫نصوص لغوية بقصد ضبط المعاني المختلفة بأدوات محددة وفي هذا سعي إلى تنويع التراكيب اللغوية لداء وظائف‬
‫دللية معينة‪ ،‬وهذا التنويع هو الذي يثري اللغة إثراء يحفظ أصول هذه اللغة ول يكون حاجزا أمام تطورها وتجددها‪،‬‬
‫ويمكن في خضم هذا البحث على النواميس الخفية "خلق" نواميس لغوية جديدة لتشرف على النظام الكلمي والخطابي‬
‫بين أفراد المجتمع الواحد‪ ،‬يقول عبد السلم المسدي شارحا ذلك بتعريفه لدور النحوي‪" :‬أما النحوي – نعني فقيه اللغة‬
‫بالصطلح المطرد‪ -‬فمرامه أن يعي وجود اللسان من خلل وجود الكلم‪ ،‬ويأتي عالم اللسان ليكون همه الوعي‬
‫باللغة عبر إدراك نواميس السلوك الكلمي(‪ )4‬وأشارت البحوث الدللية‪ ،‬في خضم بحثها في موضوع اللغة‪ ،‬إلى أن‬
‫اكتساب التراكيب اللغوية يخضع إلى التلقائية والعفوية أثناء الحدث الكلمي‪ ،‬غير أن هذه التلقائية تحمل في جوهرها‬
‫() أنيس فرية نظريات ف اللغة ص ‪18 -17‬‬ ‫‪1‬‬

‫() عبد السلم السدي اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.161‬‬ ‫‪2‬‬

‫() بيار جيو‪ ،‬ترجة د‪ .‬منذر عياشي علم الدللة – ص ‪51‬‬ ‫‪3‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ :‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.104‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫تلك القواعد التي تحدد للغة الخطاب والتواصل إطارها‪ ،‬ويتعرف المجتمع اللغوي على سننها ويتمرس في توظيفها‪،‬‬
‫يوضح عبد السلم المسدي ذلك قائلً‪" :‬إن الحدث الكلمي يكتسب تلقائيا عن طريق التحصيل بالمومة‪ ،‬غير أن هذا‬
‫الكتساب المومي‪ ،‬سرعان ما يتحول إلى ضرب من الدراك الخفي بقوانين تلك اللغة ذلك أن الظاهرة اللسانية من‬
‫شروطها الولية‪ ،‬أنها عقد جماعي يلتزم به الفرد ضمنيا بعد أن يحذق استخدام ما تنص عليه بنوده الصوتية والنحوية‬
‫والمعجمية والدللية"(‪ .)1‬وإلى هذه السنن اللغوية ذاتها أشار نوام تشومسكي في سياق حديثه عن البنية السطحية والبنية‬
‫العميقة للغة‪ ،‬محددا مسألة الداء الكلمي والكفاية اللغوية التي تتيح للفرد التوصل إلى نسج جمل كثيرة وجديدة‪،‬‬
‫بواسطة ما يحمل ذهنه من قواعد وسنن لغوية‪ .‬يشرح ريمون طحان هذه العملية اللغوية بكيفية مفصلة فيقول‪" :‬إن‬
‫البنى السطحية نتيجة آلية وميكانيكية لبني كانت في العماق ودفعتها اللغة إلى السطح‪ ،‬ويبدو أن البنى العميقة هي‬
‫أسس التفكير وهي التي تستوعب المفاهيم‪ ،‬وأن البنى السطحية تقوم فقط بصوغ المفهوم على شكل جملة أصولية‪،‬‬
‫ويبدو أن هناك تماثل بين هياكل اللغة وهياكل الذهن‪ ،‬وتصبح البنى الفكرية الخفية‪ ،‬قوالب لغوية بارزة واللسان مرآة‬
‫صادقة تعكس صورة الفكر"(‪.)2‬‬
‫إن تعميق البحث العلمي في اللغة‪ ،‬مكن من تجاوز البنى السطحية لهذه اللغة إلى بنى عميقة تكشف عن الشبكة‬
‫الداخلية التي تصنف الداءات اللغوية وتستمر معها عملية التواصل والبلغ إذ‪" ،‬ليس للساني من مهمة في خاتمة‬
‫المطاف‪ ،‬سوى استنباط الشبكة التصنيفية التي تقوم عليها الظاهرة اللغوية مما يتيح له استطلع مقومات النتظام‬
‫الداخلي عبر اكتشاف النواميس المحددة لبنية اللغة والمحركة لوظيفتها في آن معا"(‪.)3‬‬
‫إن اللغة تشكل مجموعة الخبرات اللغوية للمجتمع والتي تراكمت عبر مراحل التاريخ‪ ،‬وهي لهذا نظام كامل ل‬
‫يمكن أن يوجد لدى فرد واحد‪ .‬وقد عبر أفلطون عن ذلك بقوله‪" :‬إن النسان لن يجرؤ على أن يعبر باللغة على كل‬
‫ما يدور بخلده من أفكار وأشياء"(‪ )4‬ولذلك تقف اللغة عاجزة عن اللمام بكل ما يريد أن يفصح عنه النسان‪ ،‬من أفكار‬
‫ومشاعر‪ ،‬ومع ذلك تبقى اللغة الداة الساسية للتعبير ولتمييز اللغة كنظام واستخدام النسان لهذا النظام قسم سوسير‬
‫دراسة اللغة إلى قسمين‪:‬‬
‫‪ -1‬دراسة جوهرية موضوعها اللغة المعنية التي هي اجتماعية في جوهرها ومتكاملة في نظامها‪.‬‬
‫‪ -2‬دراسة تتناول الستخدام الفردي للغة باعتباره تطبيقا علميا لنظام اللغة المتكامل الذي هو عبارة عن مجموعة‬
‫من العلمات المختزنة في العقل الجمعي‪ ،‬ول تنطق لنها ليست فردية(‪ .)5‬يشرح سوسير بكيفية مفصلة‬
‫التقابل الذي تشكله اللغة بنظامها‪ ،‬والداء الفردي لهذا النظام مشبها اللغة بالقاموس الذي توجد فيه الكلمات‬
‫صامتة غير منطوقة‪ ،‬صالحة للنطق والستعمال‪ ،‬وإنما يستخرج منه الفرد بحسب الحاجة إليها وبحسب‬
‫الختيار وهي القاسم المشترك بين أفراد المجتمع اللغوي وتوجد في حاصل جمع عقولهم جميعا وإذا استطعنا‬
‫أن نستخرج الصور الكلمية المختزنة في عقول جميع الفراد في مجتمع لغوي واحد‪ ،‬فإننا سنلمس تلك‬
‫الرابطة الجتماعية التي تربطهم جميعا وهي ما يسمى "باللغة المعينة" وهي ل تمكن أن تكون كاملة في ذهن‬

‫() الرجع السابق ص ‪.31‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ريون طحان ‪ :‬اللسنية العربية ص ‪.144‬‬ ‫‪2‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ :‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ستيفن أولان ترجة ك مسلم كمال بشر‪ :‬دور الكلمة ف اللغة ص ‪.6‬‬ ‫‪4‬‬

‫() ‪p cours de linguistique generale f. de saussure :38-37‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫(‪)1‬‬
‫‪1=1+1+1+1+1‬‬ ‫أي فرد بعينه‪ ،‬بل ل تكتمل إل في الوعي الجمعي وتمثلها هذه المعادلة الحسابية‪:‬‬
‫وما يلحظ على المناهج التي تناولت اللغة كمادة للبحث‪ ،‬أنها تختلف من مرحلة لخرى لختلف النمط الفكري‬
‫والعلمي السائدين في العصر‪ ،‬فيمكن أن نذكر المنهج السلوكي‪ ،‬الذي يعتبر اللغة مجموعة عادات صوتية يكيفها حافز‬
‫البيئة‪ ،‬ويفترض أصحاب هذا المنهج حصول الستجابة الكلمية للحافز على نحو شبيه في الواقع إلى حد كبير بما‬
‫يحصل عند الحيوان‪ .‬وهناك المنهج العقلي المستمد أساسا من فلسفة ديكارت‪ ،‬وينظر هذا المنهج إلى الداء الكلمي‪،‬‬
‫كونه يخفي وراءه معرفة ضمنية بقواعد معينة‪ ،‬ويحرص العقلنيون على تبيان السنن القاعدية في النظام اللغوي‪،‬‬
‫بغية التوصل إلى إدراك اللية العقلية المحركة لعمل اللغة(‪.)2‬‬
‫هذا التناول اللغوي الموسوم بالتحليل العميق لبنية اللغة الداخلية‪ ،‬يبين المدى الذين توصلت إليه الدراسات‬
‫اللسانية والدللية في العصر الحديث‪ ،‬فلم تعد الدراسة تكتفي بالوصف السطحي للظاهرة اللغوية فحسب‪ ،‬وإنما تلقح‬
‫العلوم الحديثة من فلسفية ونفسية واجتماعية‪ ،‬أثرى المنهج اللغوي المعتمد في استنباطات سنن اللغة وقواعد نظامها‪،‬‬
‫وتمكن العلماء معه إلى تحديد وظائف اللغة حسب العملية التواصلية‪ ،‬حيث يميز رومان جاكسون في الحديث اللساني‬
‫(‪)3‬‬
‫ست وظائف هي‬
‫‪ -1‬الوظيفة المرجعية (‪ :)referentielle‬وهي تعني إشارة اللغة إلى محتوى معين ليصاله إلى أذهان الخرين‬
‫وتبادل الرأي معهم‪.‬‬
‫‪ -2‬الوظيفة التعبيرية أو النفعالية (‪ :)emotive‬وهي التي تشير فيها اللغة إلى موقف المرسل من مختلف‬
‫القضايا التي يتحدث عنها‪.‬‬
‫‪ -3‬الوظيفة النشائية (‪ :)conative‬تظهر في اللغة التي يتوجه بها إلى المخاطب قصد لفت انتباهه إلى أمر أو‬
‫طلب منه القيام بعمل معين‪.‬‬
‫‪ -4‬الوظيفة الورألسنية (‪ :)Metalinguistique‬وهي تعكس شعور المعبّر بنظام التواصل وتتمحور حول اللغة‬
‫نفسها‪.‬‬
‫‪ -5‬وظيفة التصال (‪ :)phatique‬وهي تقوم على تعابير تتيح للمرسل إقامة التصال أو قطعه ‪.‬‬
‫ل من المعاني والقيم الدللية‪.‬‬
‫‪ -6‬الوظيفة الشعرية (‪ :)poetique‬وهي تتمحور حول اللغة باعتبارها تحمل ظل ً‬
‫هذه الوظائف الست هي التي تتمحور في إطارها العملية البلغية التي تتخذ اللغة كخطاب يؤدي الدللت‬
‫المقصودة في الحوال العادية‪ ،‬وهي تشير إلى مدى العمق العلمي التحليلي الذي سارت عليه الدراسات اللغوية‬
‫الحديثة‪ ،‬من أجل إبراز القيم الجوهرية في اللغة باعتبارها أهم نظام للتواصل‪ .‬يقول سوسير‪" :‬إن اللغة هي نظام من‬
‫العلمات المعبرة عن أفكار‪ ،‬وبهذا ومقارنة بالنظمة التواصلية الخرى كنظام لغة الصم البكم أو نظام الطقوس‬

‫() الرجع السابق ص ‪. 38 -37‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪ .‬ميشال زكريا‪ :‬اللسنية (علم اللغة الديث) البادئ والعلم ص ‪.74 -73‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر الرجع السابق ص ‪ 54‬وكتاب ‪intiation aux problemes des lingustiques contemporaires c. fuchs‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪et p. le goffi c. p. 115-116‬‬


‫‪- 39 -‬‬
‫والشعائر أو الشارات العسكرية‪ ،‬وما إلى ذلك تبقى اللغة الهم من هذه النظمة"(‪.)1‬‬
‫ويدعم هذه الفكرة الدكتور أحمد مختار عمر بقوله‪" :‬ورغم اهتمام علم الدللة بدراسة الرموز وأنظمتها حتى ما‬
‫كان منها خارج نطاق اللغة‪ ،‬فإنه يركز على اللغة من بين أنظمة الرموز باعتبارها ذات أهمية خاصة بالنسبة‬
‫للنسان‪.)2(.‬‬
‫هذه الجوانب من مبحث اللغة كما تناولته الدراسات اللسنية والدللية الحديثة‪ ،‬والتي كانت ترمي إلى تأسيس‬
‫رؤية علمية شاملة‪ ،‬تبرز الدور الوظيفة الساسي للغة‪ ،‬وذلك بتفكيك بنيتها الداخلية للتعرف على الشبكة التنظيمية‬
‫التي تشرف على عملية التواصل والبلغ‪ ،‬وهو ما دأب عليه علماء اللسانيات والدللة في دراسات مستفيضة‪،‬‬
‫استعانت بمناهج علمية مختلفة أحدثت في مبحث اللغة نقلة نوعية‪ ،‬وأنتجت نظريات – رغم قدمها‪ -‬ما زالت تعتمد‬
‫كمراجع في البحث اللغوي المعاصر‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬الدال والمدلول‪:‬‬


‫من أهم القضايا الدللية التي تناولها علماء اللسنية والدللة‪ ،‬مسألة الدال والمدلول والعلقة بينهما‪ ،‬كانت القضية‬
‫في بداية طرحها في الدرس اللغوي‪ ،‬تقتصر على اللفظ والمعنى وباتساع مجال علم الدللة أضحت المسألة تتعلق‬
‫بالدال والمدلول سواء أكان الدال لفظا أو غير لفظ‪ ،‬واللغة في الخير ما هي إل علقات تربط دال بمدلوله‪ ،‬ضمن‬
‫شبكة تنظيمية‪ ،‬ذلك أن الدال ل يحمل دللته في ذاته إنما منبع الدللة هي تلك التقابلت الثنائية التي تتم على مستوى‬
‫الرصيد اللغوي‪ ،‬يقول في ذلك د‪ .‬عبد السلم المسدي‪" :‬اللغة هي مجموعة من العلقات الثنائية القائمة بين جملة‬
‫العلمات المكونة لرصيد اللغة ذاتها‪ ،‬وعندئذ نستسيغ أيضا ما دأب عليه اللسانيون من تعريف العلمة بأنها تشكل ل‬
‫يستمد قيمته ول دللته من ذاته‪ ،‬وإنما يستمدهما من طبيعة العلقات القائمة بينه وبين سائر العلمات الخرى"(‪.)3‬‬
‫وقد خصص سوسير حيزا واسعا لدراسة مسألة الدال والمدلول‪ ،‬وأطلق مصطلح الدليل اللساني على وجهي‬
‫العملية الدللية (الدال والمدلول) فالدال هو القيمة الصوتية أو الصورة الكوستيكية‪ ،‬أما المدلول فهو المحتوى الذهني‬
‫أو الفكري(‪.)4‬‬
‫إن علم الدللة‪ ،‬يقوم على أساس تحديد العلقة بين الدال والمدلول وهي علقة ل يمكن ضبطها إل إذا تعرفنا‬
‫على طبيعة كل من الدال والمدلول وخواصهما‪ ،‬وفي هذا الطار فإن الدال اللغوي ل يمكن بحال من الحوال أن‬
‫يحيلنا على الشيء الذي يعنيه في العالم الخارجي مباشرة‪ ،‬وإنما مرورا بالمدلول أو المحتوى الذهني الذي يرجعنا إلى‬
‫الشيء الذي تشير إليه العلمة اللسانية‪ ،‬فالعلمات اللسانية حسب النموذج السوسيري تقتضي توفر ثلثة شروط‪:‬‬
‫أ‪-‬أن تكون العلمة اللسانية دالة على المعنى‪.‬‬
‫ب‪-‬أن تكون مستعملة في مجتمع لساني يفهمها‪.‬‬

‫() ‪cours de linguistiques generale f .de sausure‬‬ ‫‪1‬‬

‫() علم الدللة ص ‪.12‬‬ ‫‪2‬‬

‫() عبد السلم السدي‪ :‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪cours de linguistiques generale f. de saussure p. 99‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫ج‪-‬أن تنتمي إلى نظام من العلمات اللغوية‪.‬‬
‫ويمكن تقديم علقة العلمة اللسانية بالمدلول والموجود في العيان على النحو التالي‪:‬‬
‫‪Signfie‬المدلول‬

‫‪Signe‬‬
‫الدليل (الرمز)‬

‫‪( Referent‬المرجع)‬
‫فالمرجع يعني الشيء الخارجي الذي يحيلنا عليه الدليل اللساني‪ ،‬وهو عالم غير لغوي‪ ،‬وهو ل يحدد فقط‬
‫بالشياء المادية المحسوسة‪ ،‬فكثير من المراجع ل توجد إل في إطار الخطاب اللغوي فمثلً "حب" أو "صداقة" تسجل‬
‫في الخطاب اللساني‪ ،‬ولكن ل نجد قيمتها الدللية الحقيقية إل داخل المجتمع اللغوي‪ .‬وهذا المثلث‪ ،‬الذي يوضح‬
‫العلقات التي يقيمها الرمز اللغوي مع الدال والمدلول والمرجع‪ ،‬يبرز أن العلقة بين الدال والمرجع هي منقطه وذلك‬
‫للدللة على أن استحضار المرجع يمر غالبا عبر المدلول‪ ،‬وتترك حالت قليلة يمكن أن يستحضر فيها المرجع‬
‫ل في السماء العلم(‪.)1‬‬ ‫بواسطة الدال وذلك مث ً‬
‫واتخذ منحى دراسة الدليل اللساني في المباحث الدللية‪ ،‬عدة أبعاد ترمي إلى تعميق الدراسة لرصد العلقة التي‬
‫تجمع الدال بالمدلول‪ ،‬وأخذ علم الدللة بالمبادئ اللسانية التي كتب لها النجاح في علم الصوات الوظيفي‪ ،‬ورسم‬
‫العلماء منهجا لدراسة طرفي الفعل الدللي‪ ،‬أو الدليل اللساني بمصطلح سوسير وحددوا جانبين رئيسيين لهذه الدراسة‪:‬‬
‫‪-1‬التحليل الداخلي للدليل وذلك بتحليل المدلول بأساليب مختلفة برده واختزاله إلى صفاته الدللية‪.‬‬
‫‪-2‬التحليل الخارجي للدليل‪ ،‬أي تحليل علقات الدليل ببقية المعجم في إطار الحقول الدللية(‪ )2‬وتفرعت المباحث‬
‫الدللية في العصر الحديث لتشمل عناصر الدللة الثلث‪ :‬الدال والمدلول والمرجع‪ ،‬وحرص العلماء على‬
‫التأكيد أن علم الدللة يختص بدراسة المدلول محددا في سبيل ذلك معايير علمية "فالمدلول يتحدد بواسطة‬
‫الوحدات المجاورة له‪ ،‬وكل تغير يصيب وحدة ما من وحدات النظام يمكن أن ينعكس على مجموع أو جزء‬
‫من هذا النظام(…) فقيمة وحدة ما هي ذات طبيعية علئقية (‪ )relationnel‬وهذا ل ينفي على كل حال‬
‫الوجود اليجابي للمدلول كوحدة معجمية"(‪.)3‬‬
‫ويمكن أن تجمع عناصر الدللة‪ ،‬في دراسة متكاملة تدخل ضمن مباحث الحقول الدللية‪ ،‬التي تنتظم وفقا للمنهج‬
‫التصنيفي التنظيمي في دراسة الدلة ومحتوياتها‪ ،‬لن الدراسة التي تناولها الدال تنسحب بالضرورة لتتناول المدلول‬

‫() ‪linguistique francaises, intiation a la problematique structurale tomel j. L. chiss. J.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪filliolet, d p. 118-119 maigueneau‬‬


‫() سال شاكر ترجة ممد يياتي مدخل إلىعلم الدللة‪ ،‬ص ‪21‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق ص ‪.18‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫ومن ثم المرجع‪ .‬فتقسيم الدراسة العلمية لمؤلفات الدللة الثلثة ليس سوى تيسير منهجي‪ ،‬يعتمد في تفكيك البنية‬
‫الواحدة ذات المكونات المتحدة ليعيد تركيبها مرة أخرى لتكون الدراسة ذات طابع شمولي متكامل‪.‬‬
‫إذا كانت اللسانيات تركز اهتمامها على دراسة "الدال" من جوانبه المختلفة‪ ،‬فإن علم الدللة‪ -‬كما أسلفنا‪ -‬يعني‪،‬‬
‫بالخص‪ ،‬بالجانب المفهومي "للدال" فيتناول ضمن مباحثه العلقة التي يقيمها "المدلول" مع الشياء‪ ،‬وعلقته ببقية‬
‫المدلولت داخل السياق اللغوي‪ ،‬يوضح موريس أبو ناضر ذلك بقوله‪" :‬يعرف علم المعاني أو علم الدللة بأنه العلم‬
‫الذي يعنى بدراسة الدللت اللسنية‪ ،‬وعلى الخص الجانب المعنوي من هذه الدللت‪ ،‬أي المدلول‪ ،‬والمدلول يدرس‬
‫على ضوء هذا العلم من عدة جوانب‪:‬‬
‫أ‪-‬الجانب الول‪ :‬يتمثل في العلقات التي يقيمها المدلول مع الشياء التي يومئ إليها أو يعبر عنها (المفاهيم –‬
‫العواطف‪ -‬معطيات العالم الخارجي)‪.‬‬
‫ب‪-‬الجانب الثاني‪ :‬يتمثل في العلقات التي يقيمها المدلول مع غيره من المدلولت‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ج‪-‬الجانب الثالث‪ :‬يتمثل في العلقات التي تنشأ بين السمات الساسية التي تتكون منها المدلولت‬
‫فقد يكون للدال أكثر من مدلول يتحدد وفق السياق اللغوي‪ ،‬ومن ثم قد يكون المعنى أساسيا أو ثانويا تصريحيا أو‬
‫إيمائيا‪ ،‬وقد يحمل الدال قيما دللية تسمى القيم التعبيرية أو السلوبية يذهب بيار جيرو إلى التأكيد أن للكلمة أكثر من‬
‫معنى تصريحي وآخر إيمائي‪ ،‬نظرا للتداعيات التي يمكن أن تحدثها أثناء الستعمال‪ ،‬فأي كلمة قد تستدعي قيما‬
‫اجتماعية أو ثقافية أو حتى قيما انفعالية‪ ،‬تعكس صورة قائلها وتحدد بعض ملمح الجانب النفسي فيه (‪.)2‬‬
‫وتوصل علماء الدللة في العصر الحديث‪ ،‬إلى تصنيف للمدلولت بالعتماد على عدة طرق‪ ،‬حددها الدكتور‬
‫موريس أبو ناضر منها‪.‬‬
‫‪-1‬الطريقة الشكلية‪ :‬وهي تعني تصنيف المدلولت وفقا للشكل الذي يجمعها في بنية واحدة بتفرعها عن أصل‬
‫واحد يبرز القرابة بينها مثل‪ :‬علم‪ -‬يعلم‪ -‬تعليم‪ -‬معلم‪..‬‬
‫‪-2‬الطريقة السياقية‪ :‬وتفيد أن المدلولت تصنف باعتبار المعنى الذي ترد من خلله في السياقات المختلفة‪.‬‬
‫‪-3‬الطريقة الموضعية‪ :‬وهي تعني أن المدلول يتحدد من خلل الموضع والموقف الذي يكون فيهما المتكلم‪.‬‬
‫‪-4‬الحقول الدللية‪ :‬وهي تكشف عن القرابة المعنوية بين المدلولت‪.‬‬
‫‪-5‬التحليل المؤلفاتي‪ :‬وهو يفيد أن المدلول يعيّن انطلقا من مؤلفات الكلمة الساسية أو ما يطلق عليه باللكسيم‬
‫"مثل لكسيم" امرأة يحوي المؤلفات التالية‪ :‬أنثى ‪+‬بالغ ‪+‬بشر(‪.)3‬‬
‫أما دراسة (المرجع) عند علماء الدللة فإنها لم تحسم ذلك الجدل الدائر حول تحديد الموجودات في عالم العيان‪،‬‬
‫بحيث أن المرجع الذي يحدّد في السياق اللغوي أو في الصيغة المعجمية ل يمكنه أن يحيل إلى الشيء المعين في‬
‫العالم الخارجي إحالة دقيقة‪ ،‬ذلك أن الموجودات في العالم الخارجي‪ ،‬تتميز بالتصنيف المتعدد والمتداخل حتى داخل‬

‫() انظر مقال‪ :‬مدخل إل علم الدللة اللسن د‪ .‬موريس أبو ناضر‪ ،‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬العدد ‪ ،19 -18‬السنة ‪ ،1982‬ص ‪.34‬‬ ‫‪1‬‬

‫() بيار جيو‪ ،‬انظر علم الدللة‪ ،‬ترجة د‪ .‬منذر عياشي ص ‪.63 -62 -61‬‬ ‫‪2‬‬

‫() مقال‪ :‬مدخل إل علم الدللة النسي‪ .‬موريس أو ناضر‪ :‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬العدد ‪ ،18/19‬السنة ‪ ،1982‬ص ‪.35 -34‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫الحقل الواحد الذي يضم موجودات متماثلة‪ ،‬ذلك "أن التحديد المرجعي يقع في الخطأ اعتبار علقة‪ :‬دال‪ -‬مدلول‬
‫علقة تسمية (…) في حين يتعين علينا أول عند إقدامنا على وصف المدلول‪ ،‬استنباط الصفات المشتركة التي تلزم‬
‫(المراجع) التي قد ينطبق عليها (دليل) ما فكوننا قد شاهدنا كرسيا واحدا‪ ،‬ل يخبرنا بالخصائص (الفيزيائية والوظيفية)‬
‫اللصيقة بمجموعة ل متناهية من الشياء التي تكوّن جنس الكرسي"(‪ )1‬وإلى الفكرة ذاتها يشير كولردج بقوله‪" :‬ول‬
‫يتضمن" معنى "اللفظة في رأيي مجرد الموضوع الذي يقابلها بل يشمل أيضا جميع الرتباطات التي تبعثها اللفظة في‬
‫أذهاننا"(‪.)2‬‬
‫ويبقى تحديد الشيء الخارجي في عالم الموجودات بكيفية ل تعيق عملية البلغ والتواصل‪ ،‬من المسائل التي ما‬
‫زالت تشغل اهتمام علماء الدللة في العصر الحديث‪ ،‬خاصة وأنهم توصلوا إلى تنظيم دللي في هذا المجال مفاده أن‬
‫معرفة شيء من الشياء‪ ،‬ينبغي فيه اعتباره جميع مستلزمات هذا الشيء بحيث يتميز عن غيره ول يلتبس في تحديده‬
‫أو تعيينه‪.‬‬
‫أما المسألة الخرى في المبحث الدللي والتي كانت مدار الدارس اللغوي في التراث المعرفي إحدى أسس‬
‫الدرس اللساني الحديث‪ ،‬فهي العلقة بين الدال والمدلول أهي عرفية اصطلحية أم اعتباطية ل تخضع لية معيارية‬
‫قسرية تخلو من العلل؟ وأثارت قضية اعتباطية الدليل اللساني أو عرفيته – منذ سوسير –كثيرا من الجدل‪ ،‬وكان‬
‫دوسوسير أول من وضع نظرية لسانية تنم عن فهم عميق لطبيعة العلقة بين العلمة اللسانية ومدلولها‪ ،‬حيث يقول‬
‫توليودومورو (‪ )tullio de mauro‬وهو يعاين هذه المسألة في كتاب سوسير "محاضرات في اللسانيات العامة"‪" :‬إن‬
‫سوسير وجد في مبدأ اعتباطية العلمة اللساني‪ ،‬ما كان يصبو إليه من أجل إرساء نظرية لسانية‪ ،‬إضافة إلى أن‬
‫سوسير في سياق حديثه عن اعتباطية العلقة بين الدال والمدلول – في بدء إلقاء دروسه على تلميذه‪ -‬لم ينته سوى‬
‫من الخطوة الولى في طريق الفهم العميق لمبدأ العتباطية‪ .‬هذا يعني أن المفهوم العميق لهذا المبدأ عند سوسير‪ ،‬ل‬
‫ينبغي تحديده انطلقا من الصفحتين ‪ 102-101‬من الكتاب لكن من قراءته كله"(‪.)3‬‬
‫إن العتباطية في القتران العرضي بين الدال والمدلول‪ ،‬تعتبر الخلية الحيوية التي تشرف على عملية التوالد‬
‫الداخلي في اللغة‪ ،‬إذ يتم استحداث تراكيب وصيغ لغوية جديدة في صلب اللغة وابتكار مدلولت لها ذلك أن اللفاظ‬
‫تمتلك من المرونة ما يمكنها من عبور المجالت الدللية باعتماد معيار النقل الدللي‪ ،‬أو تغيير مجال الستعمال‪ ،‬وإن‬
‫المدلولت تستطيع كذلك أن تجتاز سلسلة من الدلة مرتدية بعضها مكان البعض الخر‪ ،‬وذلك إذا اعتمدت في سياقات‬
‫معينة يحددها الموقف المعين‪ .‬يشرح ذلك الدكتور عبد السلم المسدي بقوله‪" :‬إن التوالد المستمر في رصيد اللغة سببه‬
‫سمة العرضية في حصول اللفاظ دوال على المعاني‪ ،‬وبهذا يتسنى الجرم بطواعية اللفاظ على عبور المجالت‬
‫الدللية واحدا بعد آخر وبطواعية المدلولت على ارتداء اللفاظ بعضها مكان بعض‪ ،‬كما تسنى البت‪ -‬بحكم علقة‬
‫النسان باللغة وموقعه الفاعل منها – في أمر استحداث المركبات الدللية أصلً بابتكار المدلول الذي لم يكن‪ ،‬ثم‬
‫صناعة دال له فيلتحمان‪ ،‬ومن التحامهما يتكون مثلث دللي جديد"(‪.)4‬‬
‫ول تتوفر للغة هذه الحركية المتجددة في بنيتها‪ ،‬إذا لم تخضع علقة الدال بالمدلول إلى (معيار) العتباطية الذي‬

‫() سال شاكر‪ :‬ترجة ممد جبان‪ ،‬مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ص ‪ .23‬يياتي‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ممد مضطفى‪ :‬بدوي كولردج ص ‪97‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ‪notes bio – graphiques et critiques de cours de hnguistique generale p. 343‬‬ ‫‪3‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.95‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫ل يقيد دال بمدلوله‪ ،‬وإنما يكسب اللغة مرونة وقدرة على تجديدها كلها بابتكار مكونات أخرى‪ .‬وتعميق البحث اللغوي‬
‫في مسألة العلقة بين طرفي الفعل الدللي‪ ،‬أدى إلى العتقاد بأن اتصال الدال بمدلوله لم يبن على(معيار) العتباطية‬
‫إنما الذي يوحي بوجود هذا المبدأ‪ ،‬هو قدم العلة التي ربطت الدال بمدلوله‪ ،‬حتى ليخال إلينا أنه ل وجود لعلة تجمع‬
‫بينهما‪ .‬يوضح بيار جيرو ذلك بقوله‪" :‬إن كل الكلمات تحتوي على العلة في البداية وتحتفظ غالبيتها بها زمنا طويلً‬
‫إلى حد ما‪ .‬وعلى هذا فإن العلة تكون إذن إحدى السمات الرئيسية للشارة اللسانية"(‪.)1‬‬
‫إن (معيار) العتباطية في العلقة الدللية المعتمد في النظام اللغوي‪ ،‬تتحدد على أساسه العملية البلغية‬
‫والتواصلية‪ ،‬ذلك أنه كلما تحققت العلقة العتباطية بكثافة في لغة الخطاب‪ ،‬كلما بلغ النظام التواصلي مداه وانتهى‬
‫الجهاز البلغي إلى حده الوفى‪ .‬ويدل ذلك على الطاقة التعبيرية الكبيرة التي تتوفر عليها اللغة المبينة علقتها‬
‫الدللية على أساس القتران العرضي أو التعسفي‪ ،‬يبيّن المسدي ذلك بقوله‪" :‬إن مقبولية العلقة بين الدال والمدلول في‬
‫كل نظام تواصلي على أساس القتران المنطقي‪ ،‬تتناسب تناسبا عكسيا مع طاقة ذلك النظام المعتمد في البلغ(…)‬
‫فكلما ثقلت كثافة التعسف القتراني في أي نظام إخباري‪ ،‬نزع نسقه الدللي إلى طاقته القصوى‪ .‬فالشحنة العتباطية‬
‫في كل واقعة تواصلية هي المولد الدائم لسعة القدرة البلغية التي تلتئم فيها"(‪.)2‬‬
‫فالدللة تكون قابلة للتساع‪ ،‬كلما كانت العلة مختفية غير معروفة ذلك أن الرتباط القسري الذي جمع الدال‬
‫بمدلوله‪ ،‬كان في البدء عن طريق علة جوهرية هي التي أعطت لهذا الرتباط مرونته‪ ،‬بحيث يحدث امتداد في المجال‬
‫الدللي للفظ‪" ،‬فيجب على العلة أن تختفي إذن لمصلحة المعنى أما إذا حدث العكس فإنها ستقلص المعنى وتهدمه" (‪.)3‬‬
‫هذه – مجملة‪ -‬هي المباحث الدللية التي تناولت في مجالها الدراسي مسألة الدال والمدلول‪ ،‬وما تفرع عنها من‬
‫مسائل أخرى‪ ،‬أضحت مواد الدرس الدللي الحديث الذي اعتمد منهج التحليل والتفكيك لبنية النظام اللغوي‪ ،‬وإظهار‬
‫مكوناته الساسية قصد بحثها‪ ،‬وإيجاد العلئق التي تجمع بينها‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬أقسام الدللة‬


‫من المباحث اللغوية التي أثارها الدرس الدللي‪ ،‬بناء على العلقات التي تجمع الدال بمدلوله‪ ،‬مبحث أقسام الدللة‬
‫وأنواع المعنى‪ .‬فإذا كان تحديد معنى الكلمة يتم بالرجوع إلى القاموس اللغوي‪ ،‬فإن ذلك ل يمكن أن ينسحب على‬
‫جميع الكلمات التي ترد مفردة أو في السياق‪ ،‬ولذلك ميز اللغويون بين معان كثيرة أهمها‪:‬‬
‫‪-1‬المعنى الساسي أو التصوري‪ :‬وهو المعنى الذي تحمله الوحدة المعجمية حينما ترد مفردة ‪.‬‬
‫‪-2‬المعنى الضافي أو الثانوي‪ :‬وهو معنى زائد على المعنى الساسي يدرك من خلل سياق الجملة ‪.‬‬
‫‪-3‬المعنى السلوبي‪ :‬وهو الذي يحدد قيم تعبيرية تخص الثقافة أو الجتماع‪.‬‬
‫‪-4‬المعنى النفسي‪ :‬وهو الذي يعكس الدللت النفسية للفرد المتكلم‪.‬‬

‫() بيار جيو علم الدللة – ترجة د‪ .‬منذر عياشي ص ‪.46‬‬ ‫‪1‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ :‬ص ‪74‬‬ ‫‪2‬‬

‫() بيار جيو علم الدللة – ترجة د‪ .‬منذر عياشي‪ ،‬ص ‪50‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫‪-5‬المعنى اليحائي‪ :‬وهو ذلك النوع من المعنى الذي يتصل بالكلمات ذات القدرة على اليحاء نظرا لشفافيتها(‪.)4‬‬
‫وتقسيم المعنى في علم الدللة يخضع لمبدأ عام ملخصه أن القيمة الدللية للوحدة المعجمية ل يمكن اعتبارها‬
‫دللة قارة‪ ،‬إنما يخضع تحديد تلك القيمة لمجموع استعمالت هذه الصيغة في السياقات المختلفة‪ ،‬ولقد قسم العلماء‬
‫الدللت اعتمادا على معايير أخرى ترتكز على الدراك لطبيعة العلقة بين قطبي الفعل الدللي‪ ،‬وهو ل يخرج عن‬
‫ثلث‪ :‬اعتبار العرف‪ ،‬أو اعتبار الطبيعة أو اعتبار العقل‪ ،‬وعلى ذلك فالدللة إما عرفية أو طبيعية أو عقلية‪ .‬وأخضع‬
‫علماء الدللة تصنيف الدللت بناء على أداء السياق للمعنى‪" ،‬فالكلم إما أن يساق ليدل على تمام معناه‪ ،‬وإما أن‬
‫(‪)2‬‬
‫يساق ليدل على بعض معناه‪ ،‬وإما أن يساق ليدل على معنى آخر خارج عن معناه إل أنه لزم له عقل أو عرفا"‬
‫واستنادا إلى ذلك فالدللت ثلثة أصناف‪.‬‬
‫دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة اللتزام‪ ،‬وهذه الدللت الثلثة تندرج ضمن دللة عامة هي الدللة‬
‫الوضعية التي هي قسم من القسام الدللة اللفظية‪ ،‬وبناء على ذلك فأقسام الدللة في العصر الحديث تتفرع إلى ستة‬
‫أصناف يمكن تمثيلها في الترسيمة التالية‪:‬‬
‫الدللة‬

‫غير لفظية‬ ‫لفظية‬

‫طبيعية‬ ‫وضعية عقلية‬ ‫طبيعية‬ ‫عقلية‬ ‫وضعية‬

‫مطابقة تضمن التزام‬


‫ويمكن تحديد مفاهيم هذه الصناف الدللية‪ ،‬كما درج على تعريفها علماء الدللة‪ .‬فالدللة اللفظية العرفية ل‬
‫تنعقد إل بتوفر ثلثة أركان‪" :‬اللفظ‪ ،‬وهو نوع من الكيفيات المسموعة‪ ،‬والمعنى الذي جعل اللفظ بإزائه‪ ،‬وإضافة‬
‫عارضة بينهما هي الوضع‪ ،‬أي جعل اللفظ بإزاء المعنى‪ ،‬على أن المخترع قال‪ :‬إذا أطلق هذا اللفظ فافهموا هذا‬
‫المعنى"(‪ )3‬فالدللة الوضعية‪ ،‬هي الدللة العرفية أو الصطلحية‪ ،‬حيث يتواضع الناس في اصطلحهم على دللة‬
‫شيء ما‪ ،‬وبعد ذلك فالدللة الوضعية يقتضي لدراكها العلم المسبق بطبيعة الرتباط بين الدال ومدلوله‪ ،‬ففي الدللة‬
‫العرفية يقول المسدي‪" :‬ل يتسنى للعقل البشري من تلقاء مكوناته الفطرية ول الثقافية أن يهتدي إلى إدراك فعل الدللة‬
‫إل إذا ألم سلفا بمفاتيح الربط بين ما هو دال وما هو مدلول‪ ،‬وهذا اللمام ليس بفعل الطبيعة ول هو من مقومات‬
‫العقل الخالص ولكنه من المواضعات التي يصطنعها المجتمع"(‪.)4‬‬
‫أما الدللة العقلية وتسمى كذلك الدللة المنطقية‪ ،‬فهي التي يكون فيها العقل أمر إدراك طبيعة العلقة التي تربط‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ :‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.39 -38 -37 -36‬‬ ‫‪4‬‬

‫() عبد الرحن حسن حبنكه اليدان ضوابط العرفة وأصول الستدلل والناظرة ص ‪27‬‬ ‫‪2‬‬

‫() شرح مطالع النوار‪ :‬التحتاطي ص ‪ .28‬نقلة عادل الفاخوري ف كتابه علم الدللة عند العرب‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪3‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 45 -‬‬
‫الدال بمدلوله‪ ،‬ويمثل لتعريفها عادة بدللة الدخان على النار إذ يتم استحضار الدللة الغائبة بحقيقة حاضرة والذي‬
‫يربط بين المرين هو العقل وعلى هذا سميت الدللة المستحضرة بالدللة العقلية‪ ،‬يحدد المسدي هذه الدللة وطرق‬
‫إدراكها بقوله‪" :‬وفيها (أي الدللة العقلية) يتحول الفكر من الحقائق الحاضرة إلى حقيقة غائبة عن طريق المسالك‬
‫العقلية بمختلف أنواعها"(‪ )1‬هذه المسالك المعتمد عليها في رصد الدللة المنطقية تتحدد في ثلثة‪:‬‬
‫‪-1‬مسلك البرهان القاطع‪ :‬وهو الذي يتقيد بقيود المنطق العقلي‪ ،‬فإذا سألت عن جنس الحاضرين فأجبت بأن‬
‫بعضهم ذكور عرفت أن بينهم إناث‪.‬‬
‫‪-2‬مسلك القرائن الراجحة‪ :‬وهو الذي يفضي إلى تسليم ظني يأخذ في البدء بمعطيات هي في منزلة "العلمات‬
‫الدالة" وبواسطة القرائن المنطقية يستكشف "مدلول" تلك العلمات‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫‪-3‬مسلك الستدلل الرياضي‪ :‬وهو يعني النتقال من المعلوم فرضا إلى المجهول تقديرا‬
‫أما الدللة الثالثة فهي الدللة الطبيعية‪ ،‬التي يعتمد في إدراكها على علقة طبيعية يتم على أساسها النتقال من‬
‫الدال إلى المدلول‪ ،‬يقول عادل الفاخوري في تعريفها‪" :‬هي الدللة‪ ،‬يجد العقل بين الدال والمدلول علقة طبيعية ينتقل‬
‫لجلها منه إليه‪ ،‬كدللة الحمرة على الخجل والصفرة على الوجل"(‪.)3‬‬
‫فالدللة الطبيعية – إذن‪ -‬فيها ربط بين حقيقة ظاهرة وحقيقة غائبة يتم على أساسها اقتران الدال بمدلوله اقترانا‬
‫طبيعيا وهذا القتران الطبيعي "يتمثل في الرابطة التي تكوّن ما يقع عليه الحس النساني وبين تفسير النسان لهذا‬
‫المحسوس‪ ،‬فأعراض المراض محسوسات يفسرها الطبيب تغيرات تربط بين كل منها وبين مرض معين" (‪ )4‬ويعزى‬
‫وجود هذا الرتباط بين الدال والمدلول إلى السنن الكونية التي تسير وفقها الطبيعة‪ ،‬فالحدث الطبيعي إذا تكرر أمكن‬
‫للعقل المدرك أن يعقد بينه وبين الشيء الذي أحدثه‪ ،‬وبناء على ذلك "فالدللة الطبيعية هي التي ليس بين الملزوم‬
‫واللزم فيها ارتباط عقلي‪ ،‬إل أن النظام الذي وضعه ال في الطبيعة قد أوجد هذا الترابط فإذا سألنا العقل المجرد عن‬
‫ملحظة النظام الموجود في الطبيعة لم يجد تعليلً عقليا له غير أن الختيار المتكرر للحداث الطبيعية‪ ،‬قد نبه على‬
‫وجود هذا الترابط في الواقع" (‪.)5‬‬
‫أما الدللة من حيث المفهوم فإنها تصنف كذلك إلى ثلثة أصناف –أشرنا إليها سابقا‪ -‬هي التي تمثل القسام‬
‫الثلثة للدللة الوضعية اللفظية وهي‪ :‬دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة اللتزام "فدللة اللفظ على تمام معناه‬
‫الحقيقي والمجازي هي دللة المطابقة ودللة اللفظ على بعض معناه الحقيقي أو المجازي هي دللة التضمن‪ ،‬ودللة‬
‫اللفظ على معنى آخر خارج عن معناه لزم له عقل أو عرفا هي دللة اللتزام‪ ،‬واللفظ الدال يحمل مقومات تمثل‬
‫مؤلفاته التمييزية فلكسيم "إنسان" يحمل المقومات التمييزية التالية‪" :‬الجسم الحي‪ ،‬الحساس‪ ،‬الناطق"‪ .‬وعليه تكون دللة‬
‫المطابقة‪ ،‬دللة اللفظ الكلّي على مجموع هذه المقومات التي تؤلف الذات أو الكنه‪ ،‬وتكون دللة التضمن دللته على‬
‫ل أو‬‫بعض هذه المقومات ل كلّها‪ .‬فهكذا كلمة "إنسان" تدل بالمطابقة على الحيوان الناطق‪ ،‬وبالتضمن على الجسم مث ً‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪47‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪51 -50‬‬ ‫‪2‬‬

‫() عادل الفاخوري علم الدللة‪ ،‬ص ‪42‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪ .‬تام حسان‪ -‬الصول‪ -‬دراسة إبستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب‪ ،‬ص ‪.319‬‬ ‫‪4‬‬

‫() عبد الرحن حسن حبنكة اليدان‪ ،‬ضوابط العرفة وأصول الناظرة والستدلل‪ ،‬ص ‪26‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫على الناطق أو على الجسم الحي"(‪ )1‬أما دللة اللتزام فإنها تكون خارج اللكسيم ذاته بشيء يلزمه‪ ،‬وعلى ذلك" فدللة‬
‫اللتزام تكون دللة جزء على الجزء المجاور له ضمن مجموعة مرتبة من الجزاء كدللة الحاجب على العين"(‪.)2‬‬
‫وبما أن العلقة بين الدال والمدلول تخضع أساسا لفعل الدراك لطبيعة هذه العلقة‪ ،‬وبناء على ذلك تتحدد‬
‫النساق الدللية‪ ،‬فإن للسياق اللغوي إضافات نوعية على مستوى تحديد الصناف الدللية‪ ،‬فتتميز بذلك الدللة العامة‬
‫من الدللة الخاصة‪ ،‬والدللة الظاهرة من الدللة الخفية اللتان يتحكم فيهما التصريف المزدوج لستعمال اللغة وهو ما‬
‫يمكن أن يدرج تحت ما يسمى بالدللة الصلية والدللة المحولة‪ ،‬فالتراكيب السياقية هي التي تشرف أساسا على‬
‫تحديد الدللة المعينة للصيغة "فإذا استطاع اسم من السماء أن تكون له معان عديدة فيجب أن نعلم أنها معان محتملة‬
‫وأن أحد هذه المعاني يتحدد ضمن سياق معين"(‪ )3‬إن الدللة السياقية‪ ،‬تشير إلى ذلك الترابط العضوي بين عناصر‬
‫الجملة وهو ما يشكل بنية اللغة‪ ،‬بل إن مفهوم الدللة السياقية يتسع ليشمل مجموع الجمل التي تكون النص يوضح‬
‫ستيفن أولمان ذلك قائلً‪" :‬إن السياق‪ ،‬ينبغي أن يشمل – ل الكلمات والجمل الحقيقية السابقة والملحقة –فحسب‪ -‬بل‬
‫والقطعة كلها والكتاب كله – كما ينبغي أن يشمل بوجه من الوجوه كل ما يتصل بالكلمة من ظروف وملبسات"(‪.)4‬‬
‫إن الجملة التي تؤدي قيما دللية‪ ،‬يفترض أن تكون ذات وحدة بنيوية ووظائفية‪ ،‬وهو ما يكرّس مبدأ التركيب‬
‫السياقي ودوره الدائي‪ ،‬وقد تستقل الجملة بدللتها داخل النسيج الدللي للخطاب وهذا ل يعني نفي أية صلة بينها وبين‬
‫السياق العام للنص بحكم انتمائها إلى نفس المجال الدللي للجمل الخرى داخل النص الواحد‪ .‬يبيّن عبد السلم‬
‫المسدي ذلك بقوله‪" :‬إن استقلل التركيب ل يعزل وجود ارتباط معنوي‪ ،‬فالنص بأكمله مجال دللي واحد‪ ،‬والجمل‬
‫من النص تقوم على تسلسل معنوي عام بحكم انتمائها إلى نفس المجال الدللي"(‪.)5‬‬
‫وإضافة إلى الدللة السياقية‪ ،‬يشير الدرس الدللي الحديث إلى دللة أخرى تتحدد وفق موقع الصيغة من السياق‪،‬‬
‫ووفق تركيب عناصر الجملة وترتيبها‪ ،‬وهو ما اصطلح على تسميتها بالدللة الموقعية‪ ،‬فقد تتكون الجملتان من نفس‬
‫الوحدات لكن ترتيبها في كل جملة يختلف فتتميز الدللة تبعا لذلك‪ ،‬إن السياق اللغوي قد يحيل إلى دللت مختلفة‬
‫تتحدد بضوابط خاصة من ذلك المعاني الحافة الجتماعية والفردية‪ ،‬وهي عبارة عن قيم عاطفية إضافية تسمى القيم‬
‫التعبيرية أو السلوبية والتي أضحت من مباحث علم السلوب الذي يهدف إلى الجابة على التساؤل التالي‪" :‬ما الذي‬
‫يجعل الخطاب الدبي الفني مزدوج الوظيفة والغاية يؤدي ما يؤديه الكلم عادة وهو إبلغ الرسالة الدللية‪ ،‬ويسلط مع‬
‫ذلك على المتقبل تأثيرا ضاغطا به ينفعل للرسالة المبلغة انفعالً ما" (‪.)6‬‬
‫وشبيهة بالقيم السلوبية‪ ،‬تلك الدللة التي أطلق عليها مصطلح الدللة النحوية وهي تجمع بين المعنى الموقعي‬
‫والمعنى فوق الدللي أو التعبيري‪ ،‬فالكلمة في سياق الجملة وفي موقع إعرابي معين تشير إلى دللة معينة‪ .‬يشرح‬
‫ذلك فايز الداية بقوله‪" :‬وأما الضافة الثانية فهي الدللة النحوية أي أن الكلمة تكتسب تحديدا وتبرز جزءا من الحياة‬
‫الجتماعية والفكرية‪ ،‬عندما تحل في موقع نحوي معين في التركيب السنادي وعلقاته الوظيفية‪ :‬الفاعلية‪ ،‬المفعولية‪،‬‬

‫() عادل الفاخوري علم الدللة عند الغرب – دراسة مقارنة مع السيمياء الديثة –ص ‪43‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪43‬‬ ‫‪2‬‬

‫() بيار جيو علم الدللة‪ ،‬ترجة د‪ .‬منذر عياشي‪ ،‬ص ‪56‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ترجة دور الكلمة ف اللغة ستيفن أولان د‪ .‬كمال ممد بشر‪ ،‬ص ‪62‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الدكتور عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ :‬ص ‪153‬‬ ‫‪5‬‬

‫() د‪.‬ميي الدين صبحي‪ ،‬نظرية النقد العرب وتطورها إل عصرنا‪ ،‬ص ‪194‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫النعتية‪ ،‬الضافة‪ ،‬التمييز‪ ،‬الطرفية‪ ،‬فمثلً‪" :‬خاطبت الطحان في شأن تحسين عمله وزيادة مقدار إنتاجه فكلمة "طحان"‬
‫في موقع المفعول به تبرز في جهة من العلقة الجتماعية هي موقع المحاسبة والمسؤولية وهناك من يحاسبها أو‬
‫يسألها"(‪.)1‬‬
‫هذه هي مختلف البحاث الدللية التي دارت حول محور دراسة طرفي الدللة‪ -‬الدال والمدلول‪ -‬تناولت طبيعة‬
‫كل منهما كما عاينت العلئق المختلفة التي تنشأ من اتحاد الدال بمدلوله والتي أنتجت أقساما وأنواعا للدللة‪.‬‬

‫المبحث الرابع‪ :‬التطور الدللي‬


‫لقد كان اهتمام علماء الدللة بمسألة التطور الدللي‪ ،‬منذ أوائل القرن التاسع عشر‪ ،‬حاولوا خلله تأطير تغير‬
‫المعنى بقواعد وقوانين‪ ،‬فبحثوا في هذا المجال أسباب تغير الدللة وأشكاله وصوره‪ ،‬وقد أدركوا أن التطور الدللي‪،‬‬
‫هو تغيير اللفاظ لمعانيها‪ ،‬ذلك أن اللفاظ ترتبط بدللتها ضمن علقة متبادلة فيحدث التطور الدللي كلما حدث تغير‬
‫في هذه العلقة‪ ،‬ول يكون التطور في مفهوم علم الدللة في اتجاه متصاعد دائما إنما قد يحدث وأن يضيف المعنى أو‬
‫يخصص‪ ،‬كما يتسع أو يعمم‪ ،‬فيكون النتقال من المعنى الضيق أو الخاص إلى المعنى التساعي أو العام وقد يحدث‬
‫العكس‪ ،‬ولذلك يفضل بعض علماء اللغة المحدثين مصطلح تغير المعنى عوض مصطلح التطور الدللي يقول المسدي‬
‫في ذلك‪" :‬إن الحقيقة العلمية التي لمراء فيها اليوم هي أن كل اللسنة البشرية ما دامت تتداول فإنها تتطور‪ ،‬ومفهوم‬
‫التطور هنا ل يحمل شحنة معيارية ل إيجابا ول سلبا وإنما هو مأخوذ في معنى أنها تتغير إذ يطرأ على بعض‬
‫أجزائها تبدل نسبي في الصوات والتركيب من جهة ثم في الدللة على وجه الخصوص ولكن هذا التغير هو من‬
‫البطء بحيث يخفى عن الحس الفردي المباشر"(‪.)2‬‬
‫إن التغير الدللي ظاهرة طبيعية‪ ،‬يمكن رصدها بوعي لغوي لحركية النظام اللغوي المرن‪ ،‬إذ تنتقل العلمة‬
‫اللغوية من مجال دللي معين إلى مجال دللي آخر‪ ،‬وهو ما يمكن أن يدرس في مباحث المجاز‪ ،‬وفي حركية اللغة‬
‫الدائبة قد تتخلف الدللة الساسية للكلمة فاسحة مكانها للدللة السياقية أو لقيمة تعبيرية أو أسلوبية‪ ،‬وبذلك تغدو الكلمة‬
‫ذات مفهوم أساسي جديد وقد يحدث أن ينزاح هذا المفهوم بدوره ليحل مكانه مفهوم آخر‪ ،‬وهكذا يستمر التطور‬
‫الدللي في حركة ل متناهية تتميز بالبطء والخفاء‪ .‬يشرح بيار جيرو ذلك بقوله‪" :‬يتغير المعنى لننا نعطي اسما عن‬
‫عمد لمفهوم ما من أجل غايات ادراكية أو تعبيرية‪ ،‬إننا نسمي الشياء ويتغير المعنى لن إحدى المشتركات الثانوية‬
‫(‪)3‬‬
‫(معنى سياقي‪ ،‬قيمة تعبيرية‪ ،‬قيمة اجتماعية) تنزلق تدريجيا إلى المعنى الساسي وتحل محله فيتطور المعنى"‬
‫إن التغيير الذي يطرأ على بنية اللغة‪ ،‬ل يحدث إل إذا توفرت عوامل موضوعية وأخرى ذاتية تدفع العناصر‬
‫اللغوية إلى تغيير دللتها‪ ،‬وقد حصر علماء الدللة هذه العوامل في ثلثة‪ :‬عوامل اجتماعية ثقافية‪ ،‬عوامل نفسية‪،‬‬
‫وعوامل لغوية‪ ،‬وقد توجد غير هذه العوامل تتحكم في التطور الدللي‪ .‬يوضح ذلك ستيفن أولمن بقوله‪" :‬هذه النواع‬
‫الثلثة مجتمعة تستطيع فيما بينها أن توضح حالت كثيرة من تغير المعنى‪ ،‬ولكنها مع ذلك ليست جامعة بحال من‬
‫الحوال"(‪ )4‬وأهم عوامل التطور الدللي‪:‬‬

‫() فايز الداية علم الدللة العرب‪ -‬النظرية والتطبيق‪ -‬ص ‪.21‬‬ ‫‪1‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.38‬‬ ‫‪2‬‬

‫() علم الدللة‪ :‬ترجة منذر عياشي‪ ،‬ص ‪.99‬‬ ‫‪3‬‬

‫() دور الكلمة ف اللغة‪ :‬ترجة كمال ممد بشر‪ ،‬ص ‪.157‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫‪-1‬العامل الجتماعي الثقافي‪:‬‬
‫حيث يتم النتقال من الدللة الحسية إلى الدللة التجريدية‪ ،‬نتيجة لرقي العقل النساني ويكون ذلك تدريجيا‪ ،‬ثم قد‬
‫تندثر الدللة الحسية فاسحة مجالها للدللة التجريدية‪ ،‬وقد تظل مستعملة جنبا إلى جنب مع الدللة التجريدية لفترة من‬
‫الزمن(‪ )1‬فالنمو اللغوي لدى النسان الول‪ ،‬عرف في بداية تسمية العالم الخارجي الدللة الحسية فحسب‪ ،‬ومع تطور‬
‫العقل النساني إنزوت تلك الدللت الحسية وحلت محلها الدللت التجريدية‪.‬‬
‫وقد يحدث أن تضيق الدللة بعد أن كانت متسعة أو عامة‪ ،‬ويمكن تمثل ذلك في الدللت التي كانت مستعملة‬
‫قبل السلم مثل الصلة والزكاة والحج‪ ،‬ثم بعد السلم مالت دللت هذه الصيغ اللغوية نحو التخصيص وهذه سنن‬
‫لغوية تنسحب على كل عناصر النظام اللغوي‪ ،‬وقد تتسع الدللة بعد أن كانت ضيقة مثال ذلك يذكر اللغويون ألفاظا‬
‫مثل‪" :‬الدلو‪ ،‬و"القصعة" و"السفينة" وغيرها إذ كانت تدل هذه الكلمات على أشياء مصنوعة من مادة الخشب أو الطين‬
‫ولكن رغم التغير الذي حصل في شكل ومادة هذه الشياء في العصر الحديث‪ ،‬إل أن هذه اللفاظ ما زالت دللتها‬
‫القديمة تشملها ضمن مجالها الدللي‪.‬‬

‫‪-2‬العامل النفسي‪:‬‬
‫قد تعدل اللغة بإشراف المجتمع عن استعمال بعض الكلمات لما لها من دللت مكروهة‪ ،‬أو يمجها الذوق‬
‫النساني وهو ما يعرف باللمساس‪ ،‬ويخضع ذلك لثقافة المجتمع ونمط تفكيره وحسه التربوي‪ ،‬فيلجأ المجتمع اللغوي‬
‫إلى تغيير ذلك اللفظ ذي الدللة المكروهة والممجوجة بلفظ آخر ذي دللة يستحسنها الذوق‪ ،‬فكأن اللمساس يؤدي إلى‬
‫تحايل في التعبير أو ما يسمى بالتلطف‪ ،‬وهو في حقيقته إبدال الكلمة الحادة بالكلمة القل حدة‪ ،‬وهذا النزوع نحو‬
‫التماس التلطف في استعمال الدللت اللغوية هو السبب في تغير المعنى(‪.)2‬‬

‫‪-3‬العامل اللغوي‪:‬‬
‫قد يحدث في صلب اللغة فجوات معجمية ل تجد معها اللفظ الذي يعبر عن الدللة الجديدة فيلجأ اللغويون إلى‬
‫سدها عن طريق القتراض اللغوي أو الشتقاق‪ ،‬وقد يتجه المجتمع اللغوي نحو المجاز فيتم ابتداع دللة جديدة أو‬
‫يحصل نقل لدللة من حقل دللي إلى آخر‪ ،‬وأمثلة ذلك كثيرة في اللغة العربية كقولنا‪ :‬أسنان المشط فدللة "السنان"‬
‫تم نقلها من مجال دللي يخص الكائن الحي بوجه عام إلى مجال آخر يبدو بعيدا ويخص "المشط" ومثل ذلك قولنا‪:‬‬
‫"أرجل الكرسي" و"ظهر السيف" و"كبد السماء" وغيرها من التراكيب اللغوية‪ .‬إن الكلمة قد تقترض معنى جديدا ضمن‬
‫الخطاب اللغوي فنصبح ذات دللة إضافية متداولة مع مجموع المتخاطبين يشرح ذلك بيارجيرو بقوله‪" :‬إني ل أرى‬
‫بأسا من التكرار فأقول مجددا إني أعتقد –مع سوسير‪ -‬بضرورة وجود مفهومين للقيمة البنيوية والمضمون الدللي‪،‬‬
‫ول تنفي هاتان القيمتان بعضها بعضا بل تتكاملن‪ ،‬فالكلمة من جهة أولى منفتحة على إمكانات من العلقة تعدها بنية‬
‫النظام اللساني‪ ،‬ولكن من جهة أخرى كلما تحققت العلقات الفتراضية ضمن الخطاب وعرفها المتكلمون‪ ،‬نجد أن أثر‬
‫المعنى الناتج عنها يتخزن في الذاكرة وانطلقا من هذه اللحظة يتعلق المعنى بالشارة ويعطيها مضمونا(‪.)3‬‬

‫() د‪ .‬إبراهيم أنيس‪ ،‬دللة اللفاظ‪ ،‬ص ‪.162 -161‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.240‬‬ ‫‪2‬‬

‫() علم الدللة‪ ،‬ترجة منذر عياش‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫هذه السباب تعد أهم العوامل التي تتحكم في التطور الدللي أو تغيّر المعنى وقد عقد إبراهيم أنيس فصلً في‬
‫كتابه "دللة اللفاظ" وضح فيه أسباب تغيّر المعنى ومظاهره‪ ،‬والتي شبهها بمظاهر وأعراض المرض وحصرها في‬
‫خمس مظاهر هي‪ :‬تخصيص الدللة‪ ،‬تعميم الدللة‪ ،‬انحطاط الدللة‪ ،‬رقي الدللة‪ ،‬وتغيير مجال الستعمال‬
‫(المجاز)(‪.)1‬‬
‫وتخصيص الدللة‪ ،‬يعني تحويل الدللة من المعنى الكلي‪ ،‬إلى المعنى الجزئي أو تضييق مجال استعمالها‪ ،‬أما‬
‫تعميم الدللة فمعناها أن يصبح عدد ما تشير إليه الكلمة أكثر من السابق‪ ،‬أو يصبح مجال استعمالها أوسع من قبل‪ .‬أما‬
‫رقي الدللة وانحطاطها فيدرجه علماء الدللة تحت مصطلح "نقل المعنى" إذ قد تتردد الكلمة بين الرقي والنحطاط في‬
‫سلم الستعمال الجتماعي‪ ،‬بل قد تصعد الكلمة الواحدة إلى القمة وتهبط إلى الحضيض في وقت قصير‪ ،‬فكانت دللة‬
‫طول اليد كناية عن السخاء والكرم وهي قيمة عليا لكنها أضحت وصفا للسارق إذ يقال له‪ :‬هو طويل اليد‪ ،‬أما تغيير‬
‫مجال الستعمال بنقل الدللة من مجالها الحقيقي إلى مجال المجاز فيمثلون لها بكلمة "رسول" التي كانت تطلق على‬
‫الشخص الذي يرسل لداء مهمة ما‪.‬‬
‫فحوّل مجال استعمالها الدللي فأضحت تطلق على شخص "النبي" بحيث تتبادر إلى الذهن كلما استعملت ضمن‬
‫الخطاب اللغوي العادي(‪.)2‬‬
‫هذه التبدلت التي تحدثت في صلب النظام اللغوي هي من التعقيد والبطء بحيث ل يمكن رصد ذلك إل بوعي‬
‫علمي‪ ،‬متمكن صاحبه من أدوات رصد التطور أو التغير الدللي‪ ،‬ثم إن اللغة ما دامت تخضع علقتها الدللية لمعيار‬
‫العتباطية‪ ،‬فإنها تتطور وتتغير وتنزع نحو احتواء التغيرات الجتماعية والثقافية التي تحدث في المجتمع اللغوي‪ ،‬فما‬
‫اللغة إل انعكاس للمجتمع بكل مكوناته وعناصره وإن المجتمع يؤثر في اللغة سلبا وإيجابا وعلى ذلك فمسألة التطور‬
‫أو التغير الدللي تأخذ في مجالها كل هذه العتبارات الجتماعية والفكرية واللغوية والنفسية التي تخص المجتمع‬
‫اللغوي‪.‬‬

‫المبحث الخامس‪ :‬الحقيقة والمجاز‪:‬‬


‫يوصف الرصيد اللغوي باللمتناهي بناء على تداخل البنى التعبيرية بين حقوله الدللية وتتراوح هذه البنى عند‬
‫الستعمال في مد وجزر بين المعنى الصلي والمعنى المجازي‪ ،‬ذلك أن مرونة النظام اللغوي تسمح بوجود هذا‬
‫التداخل المستمر حتى لتغدو الدللة المجازية بالستعمال المتداول دللة حقيقة تعايش الدللة الصلية القديمة فتخرج‬
‫من مجالها "الستثنائي" إلى مجال الستعمال الحقيقي يوضح الدكتور عبد السلم المسدي ذلك بقوله‪" :‬فاستعمال اللغة‬
‫يقتضي تصريفا مزدوجا لللفاظ بين دللة بالوضع الول وهي الدللة الحقيقية ودللة بالوضع الطارئ وهي الدللة‬
‫المجازية التي تعتبر دللة منقولة ومحوّلة‪ ،‬فكلمات اللغة في وظيفتها الدللية متعددة البعاد تبعا لموقعها من البنى‬
‫التركيبية ومن وراء ذلك الموقع موقف يتخذه المتكلم من أدواته التعبيرية وهو ما يجعل رصيد اللغة ل متناهيا في‬
‫دللته بحكم حركة المد والجزر الواقعة بين حقولها المعنوية طبقا لما تستوعبه الدوال"(‪.)3‬‬
‫إن هذا المد والجزر الواقع بين الحقول الدللية تقتضيه بنية اللغة التي تنزع إلى التجدد والتطور "والعبارات كلما‬

‫() إبراهيم أنيس‪ ،‬دللة اللفاظ‪ ،‬ص ‪ -152‬إل ص ‪.167‬‬ ‫‪1‬‬

‫()د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬انظر علم الدللة‪ ،‬ص ‪.248 -245 -243‬‬ ‫‪2‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ :‬ص ‪.96‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫كثر دورانها على اللسن بدأت مفهوماتها المحددة تتسع وقد تنحرف إلى مدلولت مغايرة من بعض الوجوه لمدلولها‬
‫القديم"(‪ )1‬إن صورة الدللة الجديدة‪ ،‬تحمل سمات الدللة القديمة بحكم أنها كانت دللة أصلية حلت مكانها الدللة‬
‫المجازية التي قد تنزاح أمام حكم الستعمال اللغوي لتنقل إلى مجال دللي آخر‪ ،‬وقد تعود تلك الدللة الصلية القديمة‬
‫إلى مكانها الول يقول السيد أحمد خليل في سياق حديثه عن هذا التداخل بين الحقيقة والمجاز‪" :‬وحتى ذلك اللفظ‬
‫المجاز ل يظل مجازا على طول الزمن وإنما يعرض له أن يكون حقيقة متعارفا عليها في بيئة من البيئات أو لهجة‬
‫من اللهجات‪ ،‬ومتى استقر في البيئة مدلوله وتحدد معناه إلى ما كان عليه أولً من تسميته بالحقيقة مقيدة بعرف هذه‬
‫البيئة وتواضعها"(‪.)2‬‬
‫تملك اللغة –إذن القدرة على وضع أنظمة إبلغية جديدة داخل النظام اللغوي العام‪ ،‬وذلك بوصفها نظاما من‬
‫العلئق الدللية وتبقى الصلة – مع ذلك‪ -‬قائمة بين مختلف أنظمتها اللغوية‪ ،‬فدللة المجاز ل يمكن أن نتصورها على‬
‫أنها دللة جديدة تنفصم كليا عن الدللة الصلية‪ ،‬وإنما يبقى المجال الدللي للفظ المجاز يحتفظ بخيط‪ -‬مهما دقّ‪-‬‬
‫يربطه بالمجال الدللي للفظ الحقيقي "فكل التحولت داخل نظام اللغة تبقى معقودة بنمط تواصلي يفسر ما إذا كان‬
‫المجاز يراد به المستعار بعد أن تجوز عن وضعه أم يراد به ما يقتضي الحقيقة"(‪.)3‬‬
‫إن العلقة التي تربط الدللة الحقيقية بالدللة المجازية‪ ،‬ل تخرج عن تلك النساق الدللية العامة التي تربط الدال‬
‫ل (وهو الدللة الحقيقية) يقود إلى مدلول‬‫بمدلوله‪ ،‬فالبحث في دللة المجاز هو بحث في معنى المعنى‪ .‬إذ أن مدلولً أو ً‬
‫ثان (وهو الدللة المجازية) والنساق الدللية التي حددها علماء الدللة ثلثة‪ :‬دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة‬
‫اللتزام‪ .‬ويمكن أن نلمس هذه الصناف من الدللت في المجاز بأنواعه وهو يشمل كل لفظ أو تركيب حوّل عن‬
‫معناه الصلي وبقيت تربطه معه علقات تحدد عن طريق قرائن ذكرها علماء البيان والبلغة‪ ،‬فالمعنى الذي تفيده‬
‫"الكناية" كصورة بيانية يمكن أن يؤخذ بدللته الصلية أو دللته المجازية فالمدلول الول الصلي مقصود مع المدلول‬
‫الثاني المجازي‪ ،‬فالدللة بناء على ذلك دللة مطابقة‪ ،‬فالكناية في عرف البلغيين هي استعمال اللفظ والتركيب‬
‫ل مع إمكان إيراد المعنى الحقيقي‪.‬‬
‫اللغوي في غير ما وضعا له أص ً‬
‫أما دللة المجاز‪ ،‬ذي العلقة الجزئية حيث يذكر المعنى الجزئي ويراد به المعنى الكلي‪ ،‬فهو يعبر عن دللة‬
‫التضمن الذي يكون فيها المدلول الول وهو الدللة الصلية المذكورة في السياق – محتوى ومتضمن في المدلول‬
‫الثاني‪ -‬وهو الدللة المجازية المرادة من السياق مثال ذلك قوله تعالى‪" :‬والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما‬
‫قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به‪ ،‬وال بما تعملون خبير"(‪ )4‬فاستعمل لفظ "رقبة" وأريد به "العبد‬
‫الذي يعيش الرق" والرقبة هي جزء من الجسم وعلى ذلك فدللتها متضمنة في دللة الجسم‪ .‬وإذا كان المجاز ذا علقة‬
‫كلية بحيث يعبر بالكل ويراد به الجزء فهو إشارة كذلك إلى دللة التضمن ولكن في اتجاه عكسي ذلك أن المدلول‬
‫الثاني –الدللة المجازية المرادة‪ -‬تكون محتواة ومتضمنة في المدلول الول – الدللة الحقيقية المذكورة‪.‬‬
‫وإذا كان بين الدللة الصلية والدللة المجازية علقة تشابه وهي ما تفيده "الستعارة"‪ ،‬إذ تشير هذه الصورة‬
‫البيانية إلى اشتراك في صفة أو أكثر بين مدلول أول ومدلول ثان‪ ،‬فعلقة المدلول الول بالصفة أو الصفات التي‬

‫() د‪ .‬عز الدين إساعيل‪ ،‬السس المالية ف النقد العرب‪ ،‬ص ‪378‬‬ ‫‪1‬‬

‫() دراسات ف القرآن‪ :‬ص ‪.31‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪ .‬عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪3‬‬

‫() سورة الجادلة الية ‪.3‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 51 -‬‬
‫تجمعه بالمدلول الثاني هي علقة تضمن‪ .‬أما علقة الصفة ذاتها أو الصفات بالمدلول الثاني فهي علقة التزام ومثال‬
‫ذلك قولنا‪" :‬رأيت أسدا في المعركة "فعلقة السد" "بالشجاعة"‪ -‬وهي الدللة المرادة‪ -‬هي علقة تضمن من جهة‪،‬‬
‫وهي علقة إلتزام من جهة أخرى إذ اعتبرت الشجاعة أحد المقومات الساسية "للسد" أما علقة "الشجاعة بالرجل‬
‫المشبه بالسد فهي علقة التزام أيضا باعتبار "الشجاعة" ليست صفة ثابتة في الرجل ومقوم أساسي له إنما هي صفة‬
‫عرضية‪ .‬يشرح عادل الفاخوري علقة الدللة المجازية بالدللة الحقيقة بمنهج نظري فيقول‪" :‬بما أن مدلول اللفاظ‬
‫عامة يؤلف مجموعة من الصفات من حيث المفهوم أو مجموعة من الجزاء من جهة كونه أمرا خارجيا‪ ،‬كان من‬
‫البديهي لتعيين العلقة بين المدلول الصلي والمدلول المجازي أن ينطلق علم البيان من النسب القائمة بين أية‬
‫مجموعتين من الصفات أو من الجزاء"(‪.)1‬‬
‫إن المجاز يعد مبحثا خصبا لعلم الدللة‪ ،‬إذ فيه تتجلى مرونة النظام اللغوي وانفتاحه على كل تغير للمعنى‪ ،‬وهو‬
‫يؤكد من جانب آخر على مطاوعة اللغة لساليب التعبير التي يفرضها الموقف ويتم في صلب النظام اللغوي استحداث‬
‫أنظمة إبلغية جديدة تحافظ على نقل الرسالة البلغية‪ ،‬وهي غاية ما يرمي إليه أي نظام لغوي‪.‬‬

‫المبحث السادس‪ :‬الحقول الدللية‪:‬‬


‫يعد مبحث الحقول الدللية من المباحث التي لم تتبلور فيها نظرية دللية جامعة رغم الجهود اللغوية لعلماء‬
‫اللسنية والدللة‪ ،‬والتي أنتجت رؤى مختلفة حول تصور للحقول الدللية‪ ،‬فقد أشار سوسير في مجال حديثه عن‬
‫اللسانيات الوصفية في باب العلقات الترابطية (‪ )les rapports associatifs‬أن الدليل اللساني بإمكانه أن يخضع‬
‫إلى نوعين من العلقات‪:‬‬
‫‪-1‬علقة مبنية على معايير صورية مثل كلمة "تعليم" توحي بكلمات أخرى مشتقة منها وتنتمي إلى نفس المجال‬
‫الدللي مثل‪ :‬علم‪ ،‬نعلم‪.‬‬
‫‪-2‬علقة مبنية على المعايير الدللية فكلمة "تعليم" توحي بكلمات أخرى مثل‪ :‬تربية‪ ،‬تعلم‪ ،‬تكوين‪ )2(.‬وبذلك‬
‫وضع سوسير الطار العام الذي يمكن أن تدرس فيه الدلة اللغوية‪ ،‬وذلك ببحث العلقات التي تجمعها‬
‫وتصنفها ضمن حقول دللية‪ ،‬وبرزت بعد نظرية سوسير عدة نظريات رائدة في مجال استنباط العلقات‬
‫الساسية بين الدلة واضعة معايير مختلفة من ذلك‪:‬‬
‫أ‪-‬بناء حقول دللية باعتبار العلقات التراتبية بين الدلة اللغوية كنسبة الفرد إلى الجنس‪ ،‬خضوع الجزء‬
‫للكل‪ ،‬خضوع الخاص للعام من أمثلة ذلك‪ :‬رأس ‪/‬جسم‪ ،‬جسم‪ /‬يد‪ ،‬زيد‪ /‬رجال‪.‬‬
‫ب‪-‬وضع حقول دللية بناء على علقة التقابل أو التضاد مثال ذلك‪ :‬نهار ‪/‬ليل‪ ،‬موت‪ /‬حياة‪.‬‬
‫ج‪-‬وضع حقول دللية بناء على علقة البدء بالعاقبة مثال ذلك‪ :‬تعلم ‪/‬معرفة‪ ،‬علج‪ /‬شفاء‪ ،‬سافر‪ /‬وصول‪.‬‬
‫د‪-‬حقول دللية باعتبار علقة التدرج أو التعاقب مثال ذلك‪ :‬غال –دافئ‪ -‬مائل للبرودة –بارد –قارس‪-‬‬
‫متجمد(‪.)3‬‬

‫() علم الدللة عند العرب‪ -‬دراسة مقارنة مع السيمياء الديثة – ص ‪.53‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ‪Cours linguistiques generale f. de saussure p. 173-174‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 52 -‬‬
‫هـ‪-‬وضع حقول دللية بناء على علقة الترادف‪ :‬يتحقق الترادف حين يوجد تضمن من الجانبين يكون (أ)‬
‫و(ب) مترادفين إذا كان (أ) يتضمن (ب) ‪ ،‬و(ب) يتضمن (أ) كما في كلمة "أم" و"والدة(‪.)1‬‬
‫و‪-‬وضع حقول دللية بناء على علقة الشتمال‪ :‬تختلف هذه العلقة عن علقة الترادف في أنه تضمن من‬
‫طرف واحد يكون (أ) مشتملً على (ب) حين يكون (ب) أعلى في التقسيم التصنيفي أو التفريعي (‬
‫‪ )Taxonomic‬مثل "فرس" الذي ينتمي إلى فصيلة أعلى "حيوان" وعلى هذا فمعنى "فرس" يتضمن معنى‬
‫(‪)2‬‬
‫"حيوان"‬
‫(‪)3‬‬
‫فالحقول الدللية بنا ًء على ذلك هي –مجموعة من الكلمات ترتبط دللتها وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها"‬
‫وانتهى علم الدللة إلى تصنيف للحقول الدللية باعتبار ما تتضمن من الدلة اللغوية‪ ،‬وما تحيله عليه في عالم‬
‫العيان والذهان‪ ،‬وهو ل يخرج عن جنسين من المدلولت‪ :‬مدلولت محسوسة ومدلولت تجريدية‪.‬‬
‫والمدلولت المحسوسة تتفرع إلى قسمين‪ :‬محسوسات متصلة ومحسوسات منفصلة وبنا ًء على ذلك توصل‬
‫أولمان إلى تقسيم الحقول الدللية إلى أنواع ثلثة هي‪:‬‬
‫‪-1‬الحقول المحسوسة المتصلة مثل التي تشتمل على اللوان‪.‬‬
‫‪-2‬الحقول المحسوسة المنفصلة مثل التي تشتمل على الُسر‬
‫‪-3‬الحقول التجريدية وهي تضم عالم الفكار المجردة(‪.)4‬‬
‫إن نظرية الحقول الدللية‪ ،‬قد أسهمت بشكل بارز في إيجاد حلول لمشكلت لغوية كانت تعتبر إلى زمن قريب‪-‬‬
‫مستعصية‪ ،‬وتتسم بالتعقيد ومن جملة تلك الحلول الكشف عن الفجوات المعجمية التي توجد داخل الحقل الدللي‪،‬‬
‫وتسمى هذه بالفجوة الوظيفية أي عدم وجود الكلمات المناسبة لشرح فكرة معينة أو التعبير عن شيء ما‪ ،‬كذلك إيجاد‬
‫التقابلت وأوجه الشبه والختلف بين الدلة اللغوية داخل الحقل الدللي الواحد‪ ،‬وعلقتها باللفظ العم الذي يجمعها‬
‫ويمكن بناء على ذلك إيجاد تقارب بين عدة حقول معجمية‪ .‬كما تتمثل أهمية الحقول الدللية في تجميع المفردات‬
‫اللغوية بحسب السمات التمييزية لكل صيغة لغوية‪ ،‬مما يرفع ذلك اللبس الذي كان يعيق المتكلم أو الكاتب في استعمال‬
‫المفردات التي تبدو مترادفة أو متقاربة في المعنى‪ ،‬وتوفر له معجما من اللفاظ الدقيقة الدللة التي تقوم بالدور‬
‫الساسي في أداء الرسالة البلغية أحسن الداء(‪.)5‬‬
‫هذه التفريعات التي بحثها العلماء‪ ،‬تعتبر أسس الدراسة في مبحث الحقول الدللية الذي برز في شكله الولي في‬
‫صورة المعاجم اللغوية التي صنفت الشياء الموجودة في عالم العيان‪ ،‬ونتيجة لتقدم العلوم وتشعب المعارف‪ ،‬احتاج‬
‫النسان إلى تصنيف علمي جديد يؤطر معارفه ويمنع عنه اللبس المصاحب لستعمال اللغة التي هي أداة المعرفة‬

‫() سال شاكر‪ ،‬انظر مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ترجة ممد يياتي ص ‪.44‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.98‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق ص ‪.99‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع نفسه ص ‪.79‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪s. ullman meaming and style p. 27-31‬‬ ‫‪4‬‬

‫() د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬انظر ف ذلك علم الدلة‪ ،‬ص ‪112 -111 -110‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 53 -‬‬
‫والعلم‪ ،‬فتوصل إلى وضع معاجم لغوية جامعة ومصنفة لمفردات اللغة بشكل دقيق‪ ،‬اصطلح على تسميتها –نظرا‬
‫لسيادة النظرة الطبيعية العلمية في ذلك العصر‪ -‬بالحقول الدللية‪.‬‬

‫الخلصة‪:‬‬
‫هذه المباحث التي أجملناها‪ ،‬تمثل مجال الدراسة الدللية التي تهتم بالمعنى وما يتعلق به‪ ،‬فهي تتناوله في صيغته‬
‫الفرادية كما تتناوله في صيغته التركيبية‪ .‬وأوّل ما بحث الدرس الدللي‪ ،‬مسألة اللغة باعتبارها نظام من الرموز‬
‫اللغوية‪ ،‬فتناولها –في البدء‪ -‬من الجانب التاريخي كما تناولها القدمون من العلماء‪ ،‬وبقيت النتائج التي أحرزها‬
‫العلماء في هذا المجال مجرد افتراضات تفتقد إلى الدقة العلمية لنها تكشف عن عالم للغة ل تتوفر حوله معطيات‬
‫كثيرة إنما هو أشبه بالبحث في مسألة ميتافزقية‪ ،‬ولذلك تعددت النظريات حول نشأة اللغة وإن كانت تعود إلى أحد‬
‫التجاهين التاليين‪:‬‬
‫‪-‬اتجاه يقول بعرفية اللغة ومواضعة الناس حول تسمية عالم الشياء ‪.‬‬
‫‪-‬اتجاه يذهب إلى أن اللغة توقيفية طبيعية في النسان‪.‬‬
‫وداخل كل اتجاه‪ ،‬توجد آراء مختلفة ومتباينة مما حدا ببعض الهيئات العلمية إلى منع إلقاء محاضرات‪ ،‬أو إجراء‬
‫بحوث تخص النشأة التاريخية للغة‪.‬‬
‫وتناول البحث الدللي والنسني بصفة عامة جوهر العملية الدللية باعتبارها أساس التواصل والبلغ‪ ،‬وبما أن‬
‫موضوع علم الدللة المعنى‪ ،‬فإنه كان لزاما على الباحثين الدلليين أن يتناولوا طبيعة الدال‪ ،‬كما تناولوا طبيعة‬
‫المدلول‪ .‬ولقد أطلق سوسير‪ -‬اختصارا‪ -‬على الدال والمدلول باعتبارهما وجهين لعملة واحدة مصطلح الدليل اللساني‪،‬‬
‫وفي مجال هذا التناول الدللي اهتم علماء الدللة بالعلقة التي تربط طرفي العملية الدللية‪ -‬الدال والمدلول –‬
‫وبرزت على أساس ذلك‪ ،‬نظريات أرادت تأسيس رؤية موحدة تُظهر من خللها القوانين اللغوية التي تنتظم الدليل‬
‫اللساني‪ ،‬فظهر في هذا المجال مبحث العلقات الدللية والتي قسمها العلماء إلى ثلثة أقسام رئيسية هي‪ :‬العلقة‬
‫الوضعية‪ ،‬والعلقة الطبيعية‪ ،‬والعلقة العقلية‪.‬‬
‫إن دراسة طبيعة المدلول‪ ،‬أوحى للعلماء تقسيما آخر للدللة بالعتماد على معايير معينة فإذا كان الدال في‬
‫صيغته الفرادية فالدللة –إذن‪ -‬دللة معجمية وسماها علماء الدللة المعنى المركزي أو التصوري أو المفهومي أو‬
‫الدراكي‪ ،‬أما إذا كان الدال في صيغته التركيبية فالدللة سياقية‪ ،‬وقد أكد كثير من علماء الدللة أن معنى الكلمة هو‬
‫حصيلة مجموع استعمالتها في السياقات اللغوية‪ ،‬وعلى هذا الساس فتكون الدللة موحية لمعان نفسية أو اجتماعية‪،‬‬
‫أو ثقافية‪ ،‬وقد يفيد السياق معانيا فوق دللية اصطلح على تسميتها بالقيم تمييزا لها عن الدللة وهي القيم السلوبية أو‬
‫التعبيرية‪ ،‬وقد اعتمدت معايير أخرى في تقسيم الدللة على أساس المفهوم من جهة‪ ،‬وعلى أساس المجزوء من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬وبناء على ذلك‪ ،‬فالدللة تتوزع إلى ثلثة أقسام‪ :‬دللة مطابقة ودللة تضمن ودللة التزام‪.‬‬
‫ودرس علم الدللة في جملة مباحثه‪ ،‬مسألة التطور الدللي وهو مبحث اتخذ المنهج التاريخي الوصفي أسلوبا في‬
‫الدراسة والتحليل‪ ،‬يتتبع الصيغة في مراحلها المختلفة دارسا تغيرها الدللي واقفا في هذا المجال على أسباب هذا‬
‫التغير وأشكاله وانحصرت هذه العوامل في‪ :‬العامل الجتماعي الثقافي‪ ،‬العامل اللغوي‪ ،‬والعامل النفسي كما بين‬
‫الدرس الدللي الحديث‪ ،‬مظاهر هذا التغير في المعنى منها‪ :‬التخصيص والتعميم‪ ،‬وانحطاط ورقي المعنى‪ ،‬وتغير‬

‫‪- 54 -‬‬
‫مجال الستعمال وهو ما يسمى بمبحث المجاز الذي يعد مبحثا خاصا من مباحث علم الدللة‪ ،‬وذلك لعتماده في‬
‫التخاطب والتواصل اللغوي‪ ،‬فالتعبير اللغوي إما أن يكون ذا دللة أصلية أو دللة مجازية‪ ،‬وعلى هذا الساس فدرس‬
‫المجاز والحقيقة تنتظم فيه معظم مباحث علم الدللة‪ ،‬ففيه تبرز طبيعة العلقة بين الدال والمدلول‪ ،‬وانتقال المدلول‬
‫لن يكون دالً لمدلول آخر وبناء على ذلك فمبحث المجاز هو دراسة لمعنى المعنى‪ ،‬ويمكن أن نلمس في هذا المبحث‬
‫مختلف النساق الدللية من دللة المطابقة والتضمن واللتزام‪ ،‬ومن الدللة العرفية والطبيعية والعقلية‪ ،‬كما يتناول‬
‫درس المجاز مسألة التطور الدللي باعتبار أن وظيفة المجاز تتمثل في توسيع المعنى أو تضييقه‪ ،‬أو نقله من مجال‬
‫دللي إلى مجال دللي آخر‪.‬‬
‫وتمثل نظرية الحقول الدللية "الطريقة الكثر حداثة في علم الدللة فهي ل تسعى إلى تحديد البنية الداخلية‬
‫لمدلول المونمات [الكلمات] فحسب‪ ،‬وإنما إلى الكشف عن بنية أخرى تسمح لنا بالتأكيد أن هناك قرابة دللية بين‬
‫مدلولت عدد معين من المونمات‪ .)1(،‬فتصنيف المدلولت إلى قوائم تشكل كل قائمة حقلً دلليا يتيح استعمال أمثل‬
‫لمفردات اللغة‪ ،‬وفي سبيل ذلك اتخذت معايير معينة منها استنباط العلقات الساسية بين الدلة اللغوية‪ ،‬فقد تكون هذه‬
‫العلقة مبنية على أساس التضاد أو التقابل‪ ،‬أو على أساس التماثل أو الترادف أو على أساس التدرج أو التعاقب‪ ،‬أو‬
‫غير ذلك من العلقات التي يتشكل على أساسها الحقل الدللي وميّز علماء الدللة بين ثلثة أنواع من الحقول الدللية‪.‬‬
‫الحقول الدللية المحسوسة المنفصلة‪ ،‬والحقول الدللية المحسوسة المتصلة‪ ،‬والحقول الدللية التجريدية‪.‬‬
‫وجملة القول‪ ،‬فإن هذه المباحث –مجتمعة‪ -‬تشكل مادة لعلم الدللة‪ ،‬ومن أجل تأسيس نظرة علمية شاملة تؤطر‬
‫هذه المادة‪ ،‬وضع علماء الدللة نظريات مختلفة تباينت نظرتها إلى المعنى لتباين المناهج المعتمدة في البحث‬
‫والدراسة‪ ،‬إذ تأثرت هذه النظريات بالمنحى العلمي والعقلي السائد في العصر‪ ،‬فأخذ بعضها بالمنهج النفسي السلوكي‬
‫في تفسير الظاهرة الدللية وأخذ البعض الخر بالمنهج العقلي التصوري‪ ،‬كما انبنت نظريات أخرى على أسس فكرية‬
‫وفلسفية مختلفة‪.‬‬
‫والفصل التالي فيه عرض لمختلف هذه النظريات التي تناولت مسألة الدللة من جوانبها المتعددة‪ ،‬إذ سنبرز فيه‬
‫أهم النظريات الوربية من جهة والنظريات المريكية من جهة أخرى‪ .‬وسنرسم السس العامة التي ارتكزت عليها‬
‫هذه النظريات بما فيها المنهج العلمي المعتمد في التحليل والدراسة الدللية‪.‬‬

‫‪‬‬

‫() د‪ .‬موريس أبو ناصر‪ .‬مدخل إل علم الدللة اللسن‪ ،‬ص ‪ .35‬ملة الفكر العرب العاصر العدد ‪ 18/19‬السنة ‪.1982‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫النظريات الدللية الحديثة‬

‫توطئة‪:‬‬
‫إن النزوع نحو تأسيس نظري للمبحث الدللي العام‪ ،‬كان ول يزال دأب الدراسات التي تناولت مسألة ”المعنى"‪،‬‬
‫ورمت إلى بلورة أفكارها ضمن رؤى تنظيرية تتوخى الشمولية في الدراسة والعالمية في الهداف‪ .‬وإن التراكم‬
‫الفكري اللغوي منذ مدرسة "براغ" التي ركزت اهتمامها على الصوت والدللة‪ ،‬ومدرسة "كوبنهاجن" التي اهتمت‬
‫بدراسة العلمة اللغوية‪ ،‬قد رسم للغويين المحدثين اتجاها يكاد يكون واضحا نحو إرساء علمي لنظرية الدللة‪ ،‬ول‬
‫يمكن في هذا الوضع إغفال الجهد المضني الذي قدمه العالم اللغوي دي سوسير‪ ،‬إذ كانت لفكاره وآرائه ومنهجه في‬
‫الدراسة اللسنية‪ ،‬أكبر الثر في مسار علم الدللة الحديث‪.‬‬
‫إن مصطلح "النظرية اللغوية" يدل على اكتمال في الرؤية وحصول النتيجة العلمية‪ ،‬غاية البحث وإطراد في‬
‫السنن اللغوية‪ ،‬لكن المبحث الدللي الحديث لم تكتمل حلقاته بعد‪ ،‬فل زالت توجد الضافات العلمية التي تقدم تأويلت‬
‫جديدة لظاهرة لغوية تخص الدللة‪ ،‬ومع ذلك تأسست نظريات تناولت مسألة "المعنى" من كل جوانبها‪ ،‬مما أدّى إلى‬
‫تشعب البحث في متعلقات المعنى اللغوية وغير اللغوية‪ ،‬وحاولت تقديم معايير موضوعية تنحسم معها كل قضايا‬
‫الدللة موضوع الخلف بين اللغويين‪ ،‬غير أنها فتحت عوالم أخرى جديدة لتتسع معها رقعة البحث الذي تباينت فيه‬
‫آراء العلماء في التناول وطرائقه‪ ،‬والتأويل ومعاييره‪ ،‬ووجدت بين ذلك أفكار رغم أهميتها إل أنها لم ترتق إلى‬
‫مصاف النظرية العلمية‪ ،‬وذلك لفتقارها لصفة الشمولية في التناول ووقوعها أسيرة لمناخ فكري –أيديولوجي‪ -‬ساد‬
‫العصر‪.‬‬
‫الختلف في الرؤية التنظيرية بين العلماء يرجع إلى اختلف في المنهج أو الطريقة المعتمدة في الدراسة‪ ،‬وإذا‬
‫تأملنا مختلف النظريات الغربية الحديثة التي عكفت على البحث في الدللة‪ ،‬نلقى أغلبها يتوزع على خمسة حقول‬
‫تخضع لخمسة مناهج تبناها اللغويون في التنظير‪ :‬أما المنهج الول فهو المنهج الشكلي الصوري الذي يصف‬
‫المدلولت بالنظر إلى الشكل الذي يجمعها في بنية واحدة وهو تفرعها عن أصل واحد‪ .‬أما المنهج الثاني فهو المنهج‬
‫السياقي الذي يتم من خلله تصنيف المدلولت لعتبارات تركيبة وتعبيرية وأسلوبية‪ .‬أما المنهج الموضوعي المقامي‬
‫النفسي فهو المنهج الثالث الذي يحدد معه مدلول اللفظ والخطاب اللغوي‪ ،‬باعتبار حال المتكلم ومقامه وموقفه‪ ،‬أما‬
‫المنهج الرابع فهو منهج الحقول الدللية المهتم بتحديد البنية الداخلية للمدلول‪ ،‬واعتبار القرابة الدللية والعلئقية بين‬
‫المدلولت (المفاهيم)‪ ،‬أما المنهج الخامس فهو منهج التحليل المؤلفاتي الذي تنكشف معه البنية العميقة للخطاب بتحليل‬
‫اللفظ إلى مؤلفاته وعناصره‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫وتجدر الشارة إلى أن النظريات العربية في أي حقل من حقول العلم والمعرفة‪ ،‬ومنها حقل الدراسة الدللية‪ ،‬لها‬
‫مرجعيتها التاريخية والفكرية‪ ،‬وتخضع لتصورات اجتماعية معينة ل يمكن اسقاطها من أي مقاربة علمية‪ ،‬وهو ما‬
‫حدا ببعض علماء العرب المحدثين إلى الدعوة لضرورة تجديد التراث من داخله دون إغفال "المفاتيح" العلمية الحديثة‪،‬‬
‫ول بد معها من احتياطات منهجية على النتائج التي نصل إليها‪ .‬ومع ذلك ل يثنينا شيء عن إجراء اسقاطات منهجية‬
‫ونظرية واعية على المنظومة المعرفية التراثية‪ ،‬وكون النظريات الغربية استمدت معالم قواعدها وتطبيقاتها من لغات‬
‫أجنبية غير اللغة العربية‪ ،‬ل يعد مانعا من الستفادة من أفكارها في تعاملنا مع التراث العربي‪ ،‬ذلك أن "اللغة العربية‬
‫بصفتها "لغة" تنتمي إلى مجموعة اللغات الطبيعية وتشترك معها في عدد من الخصائص (الصوتية والتركيبة‬
‫والدللية) وتضبطها قيود ومبادئ تضبط غيرها من اللغات"(‪.)1‬‬
‫وتحديدا للطار النظري العام لعلم الدللة‪ ،‬سنعرض لبعض النظريات التي قدمت معايير أولية لمسألة المعنى وما‬
‫تفرع عنها وسنقتصر في عرضنا على أهم معالم النظرية وقواعدها وذلك بما يخدم غايات البحث وأهدافه‪.‬‬

‫‪-1‬النظرية الشارية‪:‬‬
‫تشكل هذه النظرية في مسار علم الدللة الحديث أولى مراحل النظر العلمي في نظام اللغة‪ ،‬بل إلى أصحابها‬
‫يرجع الفضل في تمييز أركان المعنى وعناصره‪ ،‬معتمدين في ذلك على النتائج التي توصل إليها فردينالد دي سوسير‬
‫في أبحاثه اللسانية التي خص بها الشارة اللغوية باعتبارها "الوحدة اللغوية المتكونة من دال ومدلول‪ ،‬الدال هو‬
‫الدراك النفساني للكلمة الصوتية والمدلول هو الفكرة أو مجموعة الفكار التي تقترن بالدال"(‪ . )2‬ورغم أن أصحاب‬
‫هذه النظرية ل يكادون يجمعون على رأي واحد فإن أغلبهم أطلق على هذه النظرية مصطلح "النظرية السمية في‬
‫المعنى (‪ )theory of meanings naming‬التي تنظر إلى الدللة على أنها هي مسماها ذاته‪.‬‬
‫إن الذي منح لهذه النظرية الصبغة العلمية هما العالمان النجليزيان أوجدن وريتشاردز اللذان اشتهرا بمثلثهما‬
‫الذي يميز عناصر الدللة بدءا بالفكرة أو المحتوى الذهني ثم الرمز أو الدال‪ ،‬وانتهاء إلى المشار إليه أو الشيء‬
‫الخارجي‪.‬‬
‫الفكرة‪ -‬المحتوى الذهني‬

‫الرمز ‪ -‬الكلمة‬ ‫الشيء الخارجي‪ -‬المشار إليه‬


‫إن هذا التقسيم المتميز للمعنى يعد خطوة جريئة في عصره‪ ،‬وأعطى للمبحث الدللي نفسا جديدا سوف يتولد عنه‬
‫نظريات جديدة وأفكار مهمة‪ ،‬إن الدراسات الدللية التي اضطلع بها العلماء المتأخرون تدور كلها في فلك مثلث‬
‫أوجدن وريتشاردز ذلك أنها تناولت في مباحثها أحد عناصر المثلث بتحليل عميق أو عنصرين اثنين‪ ،‬ومنها ما‬
‫تناولت العناصر الثلثة كلها استنادا على أن "معنى الكلمة هو إشارتها إلى شيء غير نفسها وهنا يوجد رأيان‪:‬‬
‫أ‪-‬رأي يرى أن معنى الكلمة هو ما تشير إليه‪.‬‬

‫() عبد القادر الفاسي الفهري‪ ،‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.56‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ميشال زكريا‪ ،‬اللسنية‪ .‬علم اللغة الديث‪ ،‬ص ‪.180 -178‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫ب‪-‬رأي يرى أن معنى الكلمة هو العلقة بين التعبير وما يشير إليه‪.‬‬
‫فدراسة المعنى على الرأي الول تقتضي الكتفاء بدراسة جانبين من المثلث وهما جانبا الرمز والمشار إليه‪.‬‬
‫وعلى الرأي الثاني تتطلب دراسة الجوانب الثلثة لن الوصول إلى المشار إليه يكون عن طريق الفكرة أو الصورة‬
‫الذهنية"(‪.)1‬‬
‫وعلى أساس هذا التقسيم نشأت نظريات المدلول التي تناولت أنواع الدللة وأقسامها‪ ،‬كما برزت نظريات عكفت‬
‫على دراسة الشارة اللغوية وأحصت أقسامها‪ ،‬وفي إطارها نشأت فكرة العلمة أو السمة مما ساهم في ميلد علم‬
‫جديد هو علم العلمية أو السيميولوجية‪ .‬وأهم مبحث شكل عقبة كأداء أمام علم الدللة هو دراسة الصورة الذهنية التي‬
‫تتميز بالتجريد‪ ،‬مما فتح المجال واسعا أمام الباحثين في اكتناه عوالم خفية أطلق عليها بعضهم "عالم المفاهيم" وسماها‬
‫البعض الخر "العوالم الدللية"‪ ،‬التي تمثل إحدى الدعامات الرئيسية في نظرية الوضاع التي تشكل المتداد الطبيعي‬
‫للنظرية الشارية‪ ،‬إن مصدر الدللة كما ترمي إلى ذلك نظرية الوضاع –يكمن بالساس في المراجع الموجودة في‬
‫العالم الخارجي وتبرز دللة ما لصيغة معينة بواسطة مجموع العلئق المتشابكة بين جملة الوضاع يقول الدكتور‬
‫الفاسي‪" :‬المكان الطبيعي للمعنى هو العالم الخارجي لن المعنى يبرز في العلئق المطردة بين الوضاع‪ ،‬والمعنى‬
‫اللغوي يجب أن ينظر إليه في إطار هذه الصورة العامة للعالم‪ ،‬عالم مليء بالمعلومات وأجسام موفقة للتقاط جزء من‬
‫هذه المعلومات"(‪ .)2‬وحقيقة أن الدللة ل يتم التعرف عليها معجميا وإنما مرورا برصد جملة العلئق التي تحددها‬
‫الوضاع في العالم الخارجي‪ ،‬إذن "الفكرة الرائدة في دللة الوضاع هي أن معنى جملة يتحدد بعلقة الكلم والوضع‬
‫الموصوف"(‪ .)3‬وتدعيما للنظرية الشارية التي حصل توسع في مفهومها لحظ العالم اللغوي (بوتمن) ‪ putman‬أن‬
‫عالم المفاهيم المودع في العالم الخارجي أضخم بكثير مما هو في الرأس فالمفاهيم هي الساس الذي انبنت عليه‬
‫نظرية الوضاع التي تنظر إلى المعنى أنه علقة بين الكلم المنتج والوضاع الموصوفة‪ ،‬وهذه النظرية ترتكز كذلك‬
‫على الدللة الخارجية للغة وانصهار المعلومات اللغوية ضمن التيار المعلوماتي‪ ،‬وما دفع إلى القول بذلك‪ ،‬أن المعنى‬
‫ل يتموضع في العالم الخارجي ول في النفس وإنما يتموضع في عالم المفاهيم كما ذهب إلى ذلك العالم اللغوي‬
‫(فريجة) الذي اعتبر المفاهيم هي الوسيط الذي يربط العناصر الثلثة‪ :‬الذهان تمسك بالمفاهيم‪ ،‬والكلمات تعبر عنها‪،‬‬
‫والشياء يحل عليها بواسطتها(‪.)4‬‬

‫‪-2‬النظرية التصورية‪:‬‬
‫إن هذه النظرية تمثل مستوى آخر من مستويات الدراسة الدللية‪ ،‬فإذا كانت النظرية الشارية قد عكفت على‬
‫دراسة الشارة كأساس للولوج إلى دراسة ما يتعلق بها من عناصر المعنى‪ ،‬فإن النظرية التصورية ترتكز على مبدأ‬
‫التصور الذي يمثله المعنى الموجود في الذهن‪ ،‬وإذا أردنا أن نقف على جذور هذه النظرية فإننا نلفيها تعود إلى‬
‫الفيلسوف النجليزي (جون لوك) (القرن السابع عشر) الذي سماها النظرية العقلية ونادى فيها بأن استعمال الكلمات‬
‫يجب أن يكون الشارة الحساسة إلى الفكار‪ .‬والفكار التي تمثلها تعد مغزاها المباشر الخاص"(‪.)5‬‬

‫() د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫‪1‬‬

‫() عبد القادر الفاسي الفهري‪ ،‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.386‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق ص ‪.386‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع نفسه ص ‪.381‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫وقد أطلق بعض الباحثين على هذه النظرية اسم النظرية الفكرية لن "الكلمة تشير إلى فكرة في الذهن وأن هذه‬
‫الفكرة هي معنى الكلمة"(‪ )1‬ونتيجة للطابع التجريدي الذي وسم النظرية التصورية‪ ،‬فإن العلماء المتأخرين أسسوا‬
‫أفكارهم على معطيات حسية تقع تحت الملحظة والمشاهدة‪ ،‬وأرجعوا الدللت كلها إلى تلك التصورات التي تحقق‬
‫الثر العلمي‪ ،‬وهذه الفكرة قريبة من فكرة النظرية السلوكية التي تنبني على مبدأ المنبه والستجابة‪ ،‬إل أن تحديد‬
‫مرجعية الثار إلى التصورات الذهنية‪ ،‬تلحق تلك الفكرة بالنظرية التصورية‪ .‬لقد أسس (تشارلز بيرس) نظريته‬
‫البراجماتية واعتبرت امتدادا للنظرية التصورية‪" :‬رأى بيرس أن تصورنا لشيء ما يتألف من تصورنا لثاره العملية‪،‬‬
‫فالتيار الكهربي مثل ل يعني مرور موجة غير مرئية في مادة ما‪ ،‬وإنما يعني مجموعة من الوقائع مثل إمكان شحن‬
‫مولد كهربي أو أن يدق جرس‪ ،‬وأن تدور اللة‪ ،‬وإذن فمعنى كهرباء هو ما تفعله‪ ،‬وإذن فالتصورات المختلفة التي‬
‫تحقق نتيجة عملية واحدة إنما هي تصور واحد أو معنى واحد‪ ،‬والتصورات التي ل ينتج عنها آثار ل معنى لها"(‪.)2‬‬
‫إن عالم الفكار عالم مستقل بذاته فالدللت واحدة في جميع اللغات وإنما الختلف أتى من تباين اللسنة‪،‬‬
‫وذهب علماء اللسنية المحدثون إلى افتراض وجود عوالم دللية يجب البحث عن معالمها وسننها بناء على البنية‬
‫الدللية حتى أن اللغويين المتأخرين اعتبروا‪ ،‬أن التصورات والفكار هي كيان مستقل قد يستغني عن اللغة إذا أراد‬
‫الفراد ذلك يقول د‪ .‬أحمد مختار عمر‪" :‬الفكار التي تدور في أذهاننا تملك وجودا مستقل‪ .‬ووظيفة مستقلة عن اللغة‬
‫وإذا قنع كل منا بالحتفاظ بأفكاره لنفسه كان من الممكن الستغناء عن اللغة"(‪.)3‬‬
‫وما دام أن النظرية التصويرية تعتبر أن المعنى هو التصور الذي يحمله المتكلم ويحصل للسامع حتى يتم‬
‫التواصل والبلغ‪ ،‬فإن عالم الشياء غير متجانس‪ ،‬كما أن التصورات متباينة من فرد لخر‪ ،‬فتصور "شجرة" مثلً‪،‬‬
‫يحمل جملة من الدللت المختلفة اختلفا قد يكثر أو يقل بحسب وجود هذا التصور داخل عالم الشياء‪ ،‬كما أن هناك‬
‫كلمات ل تحمل تصورا باعتبارها ل تنتمي لعالم الشياء كالدوات والحروف وما إلى ذلك‪" .‬وقد كان رفض النظرية‬
‫التصورية‪ ،‬للمآخذ التي ذكرنا‪ ،‬وغيرها‪ ،‬هو المنطلق لمعظم المناهج الحديثة التي ظهرت خلل هذا القرن"(‪ .)4‬وهو ما‬
‫سيتبلور في نظريات أكثر موضوعية وعلمية‪.‬‬

‫‪-3‬النظرية السلوكية‪:‬‬
‫إن التجديد الذي طبع النظرية التصورية أدى إلى نشأة اتجاه آخر في البحث الدللي‪ ،‬يستبعد الفكار المجردة‪،‬‬
‫وتمثل في النظرية السلوكية‪ ،‬وقد خضع أصحاب هذه النظرية للمنحى العلمي الذي طغى على ساحة البحث وقتذاك‪.‬‬
‫وهو منحى يرتكز على الملحظة والمشاهدة‪ ،‬فقد ولى عهد العلوم التجريدية النظرية‪ ،‬وأعطت هذه النظرية السلوكية‬
‫اهتماما للجانب الممكن ملحظته علنية وهي بهذا تخالف النظرية التصورية التي تركز على الفكرة أو التصور(‪ .)5‬إن‬
‫البحث عن ماهية الدللة وآلية حصونها أدى بالعالم اللغوي المريكي (بلو مفيلد) إلى هجر التجاه العقلي والبحث عن‬

‫() د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.57‬‬ ‫‪5‬‬

‫() د‪ .‬ممود فهمي زيدان‪ ،‬ف فلسفة اللغة‪ ،‬ص ‪.96‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪2‬‬

‫() علم الدللة‪ ،‬ص ‪.57‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الرجع نفسه ص ‪59‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫الدللة في السلوك اللغوي الظاهر‪ ،‬وبعد تحقق الفكار التي مال إليها (بلومفيلد) تجلى التجاه السلوكي لدى هذا العالم‬
‫وقد "عرف معنى الصيغة اللغوية بأنه الموقف الذي ينطقها المتكلم فيه‪ ،‬والستجابة التي تستدعيها من السامع فعن‬
‫طريق نطق صيغة لغوية يحث المتكلم سامعه على الستجابة لموقف‪ .‬هذا الموقف وتلك الستجابة هما المعنى اللغوي‬
‫للصيغة"(‪ .)1‬والقول بمبدأ المثير والستجابة يستدعي الخذ كذلك بالمقام الذي حصل فيه الحدث الكلمي‪ ،‬ولكي يتم‬
‫تحديد دللة صيغة لغوية تحديدا دقيقا وجب حصر جميع المقامات التي صاحبت استعمال الصيغة في الحدث‬
‫الكلمي‪ ،‬ومعرفة شاملة لكل ما يشكل عالم المتكلم‪" :‬فدللة صيغة لغوية ما إنما هي المقام الذي يفصح فيه المتكلم عن‬
‫هذه الدللة والرد اللغوي أو السلوكي الذي يصدر عن المخاطب"‪ )2(..‬لن المقام هو المميّز بين المكانيات المتعددة‬
‫للدللة خاصة وإن الصيغة اللغوية قد أخذت أبعادا اجتماعية وثقافية‪ ،‬وتعلقت بها قيم أسلوبية وتعبيرية مما يعيق‬
‫التواصل والبلغ‪ ،‬وتداخل المعنى الرئيسي والهامشي‪ ،‬ولذا فالخذ بالعلقة المتينة بين القول والمقام سوف يزيل‬
‫كثيرا من اللبس في الحداث الكلمية "إذ أن اللجوء إلى المقام أو حال الخطاب يساعد على الخصوص في‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ استكشاف مرجع الصيغ اللغوية للقول‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ اختيار وإيثار تأويل بعينه في حالة الكلم الملبس أو المبهم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ استكشاف قيمة القول (تهديد‪ ،‬وعد‪ ،‬وعيد (…)…)‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تحديد خاصة القول (هل هو موسوم أو غير موسوم) صيغ لغوية خاصة بالفلحين مثلً"(‪..)3‬‬
‫والحقيقة أن النظرية السلوكية بقدر ما كشفت عن عوالم خفية ودفعت بالبحث الدللي خطوات نحو المام‪ ،‬بقدر‬
‫ما فتحت أبوابا عن عوالم أخرى بقيت خفية‪ ،‬ذلك أن الخذ بمبدأ دراسة الفعال الكلمية القابلة للملحظة والمشاهدة‪،‬‬
‫لم يقدم الجوبة الكافية عن تلك التساؤلت حول ضبط دللة الصيغة اللغوية ضبطا يخضع لمعايير علمية دقيقة‬
‫تنسحب على كل الصيغ والتراكيب اللغوية‪ ،‬فوجود القيم الحافة وتكوّن المعنى الديناميكي الذي ل يأخذ صورة قارة‬
‫ثابتة‪ ،‬شكّل أهم العوائق أمام نظرية (بلو مفيلد) السلوكية‪ ،‬وقد تطورت هذه النظرية على يد الفيلسوف المريكي‬
‫(شارل موريس )ـ (‪ )Charles Morris‬الذي لحظ أنه قد تتعدد الستجابات لمثير واحد‪ ،‬يعني اشتراك دللت في‬
‫صيغة لغوية واحدة‪ ،‬وذلك أن المنطوق قد يحمل قيما أسلوبية ومعان حافة يتولد عنها استجابات متنوعة‪ ،‬وقد أخرج‬
‫(موريس) من معنى الصيغة‪ ،‬الستجابة أو رد الفعل‪ ،‬واكتفى بمجرد الميل أو الرغبة"‪ ،‬ويعني ذلك أنه إذا وجد ميل أو‬
‫رغبة صريحة للقيام باستجابة معينة لمثير (منطوق لغوي) فدللة على وجود ارتباط يجعل الستجابة تكون لذلك‬
‫(‪)4‬‬
‫المثير‪ ،‬وهذا الرتباط بمثابة الشتراط وقد مثل ذلك بالعلقة‪" :‬إذا كانت ط حينئ ٍذ تكون س"‪ ،‬حيث ط = اشتراط‪.‬‬
‫ورغم هذا التطور الحاصل في النظرية السلوكية‪ ،‬بلجوء موريس إلى فكرة الميل أو المزاج‪ ،‬فإنه وجدت تراكيب‬
‫وعبارات لغوية ل تخضع لمعايير هذه النظرية‪ .‬وبالتالي وجدت فجوات علمية واضحة لم تستطع النظرية السلوكية‬
‫سدها‪ ،‬مما عجل بميلد اتجاه آخر في الدرس الدللي حاول الجابة عن التساؤلت المطروحة حول تحديد علمي‬
‫موضوعي دقيق للدللة وطرق ضبطها‪..‬‬

‫() الرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.61‬‬ ‫‪1‬‬

‫() سال شاكر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫‪ 4‬ـ النظرية السياقية‪:‬‬
‫إن نظام اللغة نظام متشابك العلقات بين وحداته‪ ،‬ومفتوح دوما على التجديد والتغيير في بنياته المعجمية‬
‫والتركيبية‪ ،‬حتى غدا تحديد دللة الكلمة يحتاج إلى تحديد مجموع السياقات التي ترد فيها‪ ،‬وهذا ما نادت به النظرية‬
‫السياقية التي نفت عن الصيغة اللغوية دللتها المعجمية‪ ،‬يقول مارتيني‪" :‬خارج السياق ل تتوفر الكلمة على‬
‫المعنى"(‪ .)1‬إن منهج النظرية السياقية يعد من المناهج الكثر موضوعية ومقاربة للدللة‪ ،‬ذلك أنه يقدم نموذجا فعليا‬
‫لتحديد دللة الصيغ اللغوية‪ ،‬وقد تبنى كثير من علماء اللغة هذا المنهج منهم العالم (وتغنشتين) ـ (‪)Wittgenstein‬‬
‫الذي صرح قائلً‪" :‬ل تفتش عن معنى الكلمة وإنما عن الطريقة التي تستعمل فيها"(‪ )2‬إن هذه الطريقة التي تستعمل‬
‫فيها الكلمة هي التي تصنف دللة هذه الكلمة ضمن الدللة الرئيسية أو القيم الحافة التي تتحدد معها الصور‬
‫السلوبية‪ ،‬لن السياق يحمل حقائق إضافية تشارك الدللة المعجمية للكلمة في تحديد الدللة العامة التي قصدها الباث‬
‫يقول ستيفن أولمن‪" :‬السياق وحده هو الذي يوضح لنا ما إذا كانت الكلمة ينبغي أن تؤخذ على أنها تعبير موضوعي‬
‫صرف أو أنها قصد بها أساسا؛ التعبير عن العواطف والنفعالت"(‪ .)3‬لقد حصل تطور هام في مفهوم السياق إذ لم‬
‫يعد يقتصر على الجانب اللغوي في إيضاح دللة الصيغة اللغوية‪ ،‬وإنما وجدت جوانب أخرى قد تنحسم معها الدللة‬
‫المقصودة للكلمة‪ ،‬كالوضع والمقام الذي يحدث فيه التواصل أو الملمح الفيزيولوجية النفسية للمتكلم التي تصاحبه‬
‫يقول الدكتور عبد القادر الفهري الفاسي في ذلك‪" :‬اختيار مفهوم ملئم من بين لئحة المفاهيم التي يعبر عنها اللفظ‬
‫المشترك يتطلب مجهودا معرفيا خاصا ويتسبب أحيانا في أخطاء ويقع رفع اللتباس عن طريق السياق اللغوي‬
‫(‪)4‬‬
‫المباشر‪ ،‬أو السياق الخطابي أو الوضع الذي يحدث فيه التواصل أي كل مصادر المعلومات المتوفرة لرفع اللبس" ‪.‬‬
‫إن تعدد المفاهيم التي يدل عليها اللفظ تعني أن هذا اللفظ له معنى مركزي هو "النواة"‪ ،‬ومعان هامشية ثانوية اكتسبها‬
‫بفعل دورانه المتجدد في أنساق كلمية مختلفة‪ ،‬حتى أضحى المعنى المركزي يدور في فلك المعاني الثانوية التي ل‬
‫تفاضل بينهما وأصبح طريق رفع اللبس في الدللة يمر عبر السياق اللغوي أو الخطابي أو معاينة المقام الذي يتمثل‬
‫في المعطيات الخارجية والنفسية‪ .‬ويتضح في ذلك خاصة عند استعمال المشترك اللفظي (‪ )polysemie‬وتبعا لذلك‬
‫فإن دللة الكلمة تتعدد بتعدد السياقات وتنوعها أي تبعا لتوزعها اللغوي وقد توصل العلماء إلى تمييز بين أربعة أنواع‬
‫من السياق‪.)5(:‬‬
‫‪ 1‬ـ السياق اللغوي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ السياق العاطفي النفعالي‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ سياق الموقف أو المقام‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ السياق الثقافي أو الجتماعي‪.‬‬

‫() سال شاكر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬موريس أبو ناضر ‪ ،‬مدخل إل علم الدللة اللسن‪ ،‬ص ‪ ،33‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬العددج رقم ‪،18/19‬السنة ‪.1982‬‬ ‫‪2‬‬

‫() دور الكلمة ف اللغة‪ :‬ستيفن أولن‪ ،‬ترجة ممد كمال بشي‪ ،‬ص ‪.63‬‬ ‫‪3‬‬

‫() اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.372‬‬ ‫‪4‬‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫‪ 1‬ـ السياق اللغوي‪:‬‬
‫فالسياق اللغوي يشرف على تغيير دللة الكلمة تبعا لتغيير يمس التركيب اللغوي‪ ،‬كالتقديم والتأخير في عناصر‬
‫الجملة فقولنا‪" :‬زيد أتم قراءة الكتاب"‪ ،‬تختلف دللتها اللغوية عن جملة‪":‬قراءة الكتاب أتمها زيد"(‪..)1‬‬

‫‪ 2‬ـ السياق العاطفي النفعالي‪.‬‬


‫أما السياق العاطفي النفعالي فهو يحدد دللة الصيغة أو التركيب من معيار قوة أو ضعف النفعال‪ ،‬فبالرغم من‬
‫اشتراك وحدتين لغويتين في أصل المعنى إل أن دللتها تختلف‪ ،‬مثل ذلك الفرق بين دللة الكلمتين‪( :‬اغتال) و(قتل)‪،‬‬
‫بالضافة إلى القيم الجتماعية التي تحددها الكلمتان فهناك إشارة إلى درجة العاطفة والنفعال الذي تصاحب الفعل‪،‬‬
‫فإذا كان الول يدل على أن المغتال ذو مكانة اجتماعية عالية‪ ،‬وأن الغتيال كان لدوافع سياسية‪ ،‬فإن الفعل الثاني‬
‫يحمل دللت مختلفة عن الول وهي دللت تشير إلى أن القتل قد يكون بوحشية وأن آلة القتل قد تختلف عن آلة‬
‫الغتيال فضلً على أن المقتول ل يتمتع بمكانة اجتماعية عالية‪..‬‬

‫‪ 3‬ـ سياق الموقف أو المقام‪:‬‬


‫وهو يعني الموقف الخارجي الذي يمكن أن تقع فيه الكلمة فتتغير دللتها تبعا لتغير الموقف أو المقام وقد أطلق‬
‫اللغويون على هذه الدللة مصطلح "الدللة المقامية"‪..‬‬

‫‪ 4‬ـ السياق الثقافي‪:‬‬


‫وهي القيم الثقافية والجتماعية التي تحيط بالكلمة‪ ،‬إذ تأخذ ضمنه دللة معينة‪ .‬وقد أشار علماء اللغة إلى‬
‫ضرورة وجود هذه المرجعية الثقافية عند أهل اللغة الواحدة لكي يتم التواصل والبلغ‪ ،‬وتخضع القيم الثقافية للطابع‬
‫الخصوصي الذي يلون كل نظام لغوي بسمة ثقافية معينة وهو ما يكون أحد العوائق الموضوعية في تعلم اللغات…‬
‫وتعتبر النظرية السياقية بنموذجها النظري التطبيقي من النظريات العملية الكثر تعلقا بالنظام اللغوي‪ ،‬بل إنها‬
‫بطريقتها الجرائية في تحديد جملة السياقات وما يصاحبها من العوامل الخارجية كالمقام والحال تعد بذلك مرحلة‬
‫تمهيدية مهمة بالنسبة للنظرية التحليلية حيث "يرى أولمن أنه بعد أن يجمع المعجمي عددا من السياقات المتمثلة التي‬
‫ترد فيها كلمة معينة‪ ،‬وحينما يتوقف أي جمع آخر للسياقات عن إعطاء أي معلومات جديدة‪ ،‬يأتي الجانب العملي إلى‬
‫(‪)2‬‬
‫نهايته‪ ،‬ويصبح المجال مفتوحا أمام المنهج التحليلي"‪.‬‬
‫كان آخر ما توصل إليه علماء اللغة في إطار النظرية السياقية هو فكرة "الرصف"‪ ،‬وهو يعني مراعاة وقوع‬
‫الكلمات مجاورة لبعضها حيث يعد هذا الوقوع أحد معايير تحديد دللة الكلمة‪ ،‬إن تسييق الصيغة اللغوية يعد المنفذ‬
‫المهم لتحديد مجالها الدللي‪ ،‬فل يمكن أن ترد الصيغة اللغوية بمعزل عن السياق النفسي أو الجتماعي الثقافي‪ ،‬بل‬
‫يحصل التجاور بين مجموع الصيغ اللغوية داخل التركيب وهو ما يمكن التعبير عنه بمصطلح "النظم"‪ ،‬كما سماه قديما‬

‫() التقد ي والتأخ ي ف الكلم ي ضع لقا صد دلل ية‪ ،‬حدد ها البلغيون ف مبحث هم حول ت صيص الدللة‪ ،‬و قد تبلور ذلك ض من مفاه يم ل سانية‬ ‫‪1‬‬

‫منهامصطلح "التبئي" الذي يعن الهتمام ببؤرة خاصة ف الملة‪...‬‬


‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ .،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫عبد القاهر الجرجاني في كتابه‪" :‬دلئل العجاز"‪ ..‬وقد اعتبر فيرث *(‪ )Firht‬أن قائمة الكلمات المتراصفة مع كل‬
‫كلمة تعد جزءا من معناها(‪ ،)1‬بحيث يستدعي حضور كلمة ما حضور سلسلة من الكلمات التي تتراصف معها سياقيا‬
‫وتتوافق معها في الوقوع‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ النظرية التحليلية‪:‬‬


‫تهتم هذه النظرية بتحليل الكلمات إلى مكونات وعناصر‪ ،‬وقد قدم كاتزو فورد "تحليلً مميزا للكلمات ودللتها‬
‫وأحصيا في ذلك ثلثة عناصر اتخذت كمفاتيح للتحليل وتحديد المؤلفات التي تشكل الكلمة وذلك لتعيين دللتها وهذه‬
‫العناصر هي‪ :‬المحدّد النحوي والمحدّد الدللي والمميز وأهمية هذه النظرية تكمن في طابعها الوظيفي إذ تستخدم في‬
‫كثير من مجالت اللغة كالمجاز والترادف والمشترك اللفظي ولن نظرية الحقول الدللية تهتم بالنمط التصنيفي‬
‫ودللتها بناء على تحليل تفريعي للصيغة‪ ،‬فإنها تلتقي مع النظرية التحليلية التي تعنى بتحديد مؤلفات الكلمة عبر‬
‫خصائصها ومميزاتها الداخلية‪ ،‬فالمحدد الدللي يقوم بتخصيص معنى شامل لكل تركيب‪ ،‬انطلقا من الدللت الفردية‬
‫للمورفامات التي تؤلفه وتبعا للطريقة التي تتألف بها هذه المورفمات(‪ )2‬والمميز يشرف على تلك الوظيفة التمييزية‬
‫ويقتضي ذلك وجود تضاد بين الوحدات المميزة من ذلك التضاد الصوتي القادر على التمييز بين كلمتين من حيث‬
‫المعنى كالتمييز بين الكلمتين‪( :‬تاب) و(ناب) فوجود التاء في (تاب) مكان النون في (ناب) قد ميز بين دللة هاتين‬
‫الكلمتين‪ )3(.‬ويقوم المحدّد النحوي بوظيفة التمييز بين دللتين لصيغة واحدة تأخذ إحداها في التركيب وظيفة "الفعلية"‬
‫والخرى وظيفة "الفاعلية"‪ ،‬كما هو الشأن في كلمة "يريد" إن تحديد دللت الصيغة اللغوية يتم بمقاربة هذه الصيغ‬
‫بصيغ أخرى داخل الحقل المعجمي كما ذهب إلى ذلك العالم دي سوسير بحيث نظر إلى المعنى على أساس أنه‬
‫مجموع تقابلت الصيغة المنتجَة مع بقية الصيغ الخرى "فكل لغة تنتظم في حقول دللية‪ ،‬وكل حقل دللي له جانبان‪:‬‬
‫حقل معجمي وحقل تصوري‪ .‬ومدلول الكلمة مرتبط بالكيفية التي تعمل بها مع كلمات أخرى في نفس الحقل‬
‫المعجمي لتغطية أو تمثيل الحقل الدللي‪ ،‬وتكون كلمتان في نفس الحقل الدللي إذا أدى تحليلها إلى عناصر تصورية‬
‫مشتركة وبقدر ما يكثر عدد العناصر المشتركة بقدر ما يصغر الحقل الدللي"(‪ )4‬إن المكون التركيبي يقوم "بخلق"‬
‫دللت إضافية للصيغة وذلك لحتوائه على المكون الساسي الذي هو جملة من القواعد (إعادة الكتابة) والمكون‬
‫التحويلي الذي تحدد معه المداخل المعجمية‪ ،‬وبكتابة التركيب ببنيته العميقة تتم عملية الستبدال بتحويل القواعد إلى‬
‫جمل وتراكيب (سطحية)‪ ،‬ثم إن تحليل الصيغة إلى مكوناتها هو الذي يحدد مجالها الدللي بتطابقها مع صيغ أخرى‬
‫لها المكونات نفسها‪ ،‬ويكون للصيغة المعجمية دللتها المميزة إذا حوت على مكونات تمييزية يوضح ذلك أحمد مختار‬
‫فيقول‪" :‬إن معنى الكلمة طبقا للنظرية التحليلية هو "طاقم الملمح أو الخصائص التمييزية"‪ ،‬وكلما زادت الملمح‬
‫لشيء ما قل عدد أفراده‪ ،‬والعكس صحيح كذلك‪ ،‬وعلى هذا يمكن تضييق المعنى وتوسيعه عن طريق إضافة ملمح‬
‫(‪)5‬‬
‫أو حذف ملمح"‪.‬‬
‫لقد أحصى أصحاب نظرية الحقول الدللية علقات يتم بموجبها تعيين قيمة الصيغة اللغوية داخل الحقل‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.77‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬اللسنية (علم اللغة الديث)‪ ،‬البادئ والعلم‪ ،‬ص ‪.213‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.238‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪.‬عبد القادر الفاسي ‪ ،‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.370‬‬ ‫‪4‬‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.126‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫المعجمي‪ ،‬فقد أكد ستيفن أولمان ذلك بقوله‪" :‬الكلمة هي مكانها في نظام من العلقات التي تربطها بكلمات أخرى في‬
‫المادة اللغوية(‪ ،)1‬هذه العلقات التي تم إحصاؤها هي كالتالي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ علقة الترادف‪:‬‬


‫وهي تعني أن الكلمتين أو أكثر بمنطق النظرية التحليلية تتضمن نفس المكونات ولديها عناصر تصورية متماثلة‪،‬‬
‫ويكون الترادف إذا كان هناك تضمن من جانبين فـ(أ) و(ب) مترادفان إذا كان (أ) يتضمن (ب) و(ب) يتضمن (أ)‬
‫مثل (أب) و(والد)‪ .‬وعليه تصنف الوحدات المعجمية ضمن حقول بمعيار الترادف‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ علقة الشتمال‪:‬‬


‫ل على (ب) حين يكون (ب) أعلى في‬
‫هي تشبه علقة الترادف إل أنها تضمن من جانب واحد يكون (أ) مشتم ً‬
‫التقسيم أو التفريعي مثل‪( :‬النسان) و(خالد)‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ علقة الجزء بالكل‪:‬‬


‫مثل علقة اليد بالجسم والعجلة بالسيارة‪ ،‬والفرق بين هذه العلقة وعلقة الشتمال أو التضمن واضح‪ ،‬فاليد‬
‫ليست نوعا من الجسم ولكنها جزء منه بخلف (خالد) الذي هو نوع أو جنس من النسان وليس جزءا منه‪.‬‬
‫والسؤال الذي طرحه اللغويون في هذا المجال هو هل يتعدى جزء الجزء فيصبح جزءا للكل؟…‬
‫والجواب أنه قد يتعدى جزء الجزء فينتج جزء كل وقد ل يتعدى‪..‬‬
‫فبالنسبة للحالة الولى مثل (أظافر ـ أصابع) وعلقة جزئية‪( .‬أصابع ‪-‬يد) علقة جزئية‪ ،‬أما علقة الجزء‬
‫(‪)2‬‬
‫بالكل فهي (أظافر ـ يد )‪.‬‬
‫أما الحالة الثانية مثل‪( :‬مقبض ـ باب) علقة جزئية‪( ،‬باب ـ دار)‪ ،‬علقة جزئية ولكن ل علقة جزئية بين‬
‫(مقبض ـ دار) وينسحب هذا المثال على أنواع كثيرة من العلقات‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ التضاد‪ :‬وهو أنواع‪:‬‬


‫أ‪ .‬التضاد الحاد‪ :‬وي سمى التضاد غ ير المتدرج م ثل ( حي ـ م يت) فه ما كلمتان متقابلتان في الدللة ون في أ حد‬
‫طرفي التقابل يعني العتراف بالخر‪.‬‬
‫ب‪ .‬التضاد المتدرج‪ :‬ويصفه المناطقة بأن الحدين فيه ل يستنفدان كل عالم المقال‪ ،‬ولذا فإنهما قد يكذبان معا‪،‬‬
‫بمعنى أن شيئا قد ل ينطبق عليه أحدهما‪ ،‬إذ بينهما وسط‪ ،‬فقولنا‪ :‬الحساء ليس ساخنا ل يعني العتراف‬
‫ضمنيا بأنه بارد فربما يكون فاترا أو دافئا أو ما إلى ذلك‪..‬‬

‫‪..Meaning and style, p31 201‬‬ ‫()‬ ‫‪1‬‬

‫أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.101 -99 -98‬‬ ‫()‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 64 -‬‬
‫جـ‪ .‬تضاد التضايف‪ :‬ويسميه المناطقة "الضافة"‪ ،‬وهي نسبة بين معنيين كل منهم مرتبط بإدراك الخر‬
‫كإدراك البوة والبنوة‪ ،‬فإن أحدهما ل يدرك إل مع إدراك الخر‪..‬‬
‫د‪.‬علقة التنافر‪ :‬أو ما يطلق عليه في علم المنطق بعلقة التخالف وهي النسبة بين معنى ومعنى آخر من جهة‬
‫إمكان اجتماعهما وإمكان ارتفاعهما‪ ،‬مع اتحاد المكان والزمان أي‪ :‬يمكن اجتماعهما معا في شيء واحد في‬
‫زمان واحد‪ ،‬ويمكن ارتفاعهما معا عن شيء واحد في زمان واحد مثل (أكل ـ باع)‪ ،‬و(الطول ـ البياض)‬
‫(‪.)1‬‬
‫إن العتقاد بضرورة إحداث تقابلت بين مجموع اللفاظ المتماثلة أو المتباينة‪ ،‬يعكس حقيقة العملية الدللية التي‬
‫تتم في مستوى ذهني معقد‪ ،‬إذ التقاطُ دللة صيغة ما يتم بعد سلسلة من التقابلت الذهنية التي يقوم بها السامع‪ ،‬ولذلك‬
‫ذهب سوسير إلى القول بأن إنتاج دللة صيغة ما يتم بواسطة عملية التقابل بينهما وبين صيغ أخرى بإحدى العلقات‬
‫التي حددها اللغويون والتي أشرنا إليها سابقا…‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ النظرية التوليدية‪:‬‬


‫تعتبر النظرية التوليدية من أشهر النظريات اللغوية حاليا‪ ،‬ويعد (نوام تشومسكي) رائد هذه النظرية‪ ،‬وبالرغم من‬
‫أن تشومسكي عاد بالبحث الدللي إلى الطابع العقلني الذهني إل أن نظريته استطاعت أن تقدم تفسيرات علمية‬
‫لظواهر لغوية تخص الدللة‪ ،‬وتستند هذه النظرية على آلية توليد جمل صحيحة اعتمادا على كفاية المتكلم (الكاتب)‬
‫اللغوي ويعني ذلك توفر قواعد تنظيمية ذهنية في عقل متكلم اللغة تتيح له ما شاء من الجمل‪ ،‬وقد انطلق‬
‫(تشومسكي) للتدليل على وجود هذه الكفاية‪ ،‬من تعلم اللغة عند الطفل‪ ،‬بحيث ألفى الطفل ينتج جملً لم يسبق له أن‬
‫سمعها من قبل بناء على القواعد الكائنة ضمن كفايته اللغوية‪ ،‬والنظرية التوليدية "تتخذ شكل قاعدة "إعادة كتابة" أي‬
‫أنها تعيد كتابة رمز يشير إلى عنصر معين من عناصر الكلم برمز آخر أو بعدة رموز"(‪ .)2‬وتكون هذه الكتابة‬
‫بالنسبة للجملة المشتملة على ركن فعلي (مؤلف من فعل وفاعل ومفعول به وشبه جملة عائدة للفعل)‪ ،‬وعلى شبه‬
‫جملة‪ .‬على النحو التالي‪:‬‬
‫رف ‪ +‬شج (حيث ج‪ :‬ترمز إلى الجملة)‪ ،‬وعليه يمكن كتابة الركن الفعلي بمؤلفاته على النحو التالي‪:‬‬ ‫ج‬
‫ف ‪ +‬رأ ‪ +‬رأ ‪ +‬شج (حيث ف ترمز إلى الفعل‪ ،‬ورأ ترمز إلى الركن السمي ويتم اشتقاق الجملة‪:‬‬ ‫رف‬
‫رف شج‪.‬‬ ‫ج‬
‫ف ‪ +‬رأ ‪ +‬رأ ‪ +‬شج‪.‬‬ ‫رف‬
‫تعر ‪ +‬رأ (تعر ترمز إلى تعريف)‪.‬‬ ‫رأ‬
‫ج ‪ +‬رأ ‪.‬‬ ‫شج‬
‫ال‪.‬‬ ‫تعر‬

‫() عبد الرحان حسن حبنكة اليدان‪ ،‬انظر ف ذلك‪:‬ضوابط العرفة‪ :‬ص ‪ .56 -53‬ود‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة ‪ ،‬ص ‪.105 -103 -102‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪ .‬ميشال زكريا‪ ،‬اللسنية‪ ،‬علم اللغة الديث‪ ،‬ص ‪.203‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫كتب ‪ ،‬ذهب‪ ،‬سأل‪…،‬‬ ‫ف‬
‫رجل‪ ،‬رسالة‪ ،‬أستاذ‪ ،‬أمس‪..‬‬ ‫أ‬
‫وباستبدال الرموز بعناصر الكلم في نظام اللغة تحصل جمل كثيرة من بينها الجملة‪:‬‬
‫كتب الرجل الرسالة إلى الستاذ بالمس‪ .‬ويمكن رسم تلك الرموز التي تدل على القواعد التنظيمية ضمن كفاية‬
‫المتكلم اللغوية" بالمشجر(‪."arbre" )1‬‬

‫ويبدو أن اعتماد هذه القواعد من شأنه أن يعقد عملية التواصل والبلغ‪ ،‬ولذلك تشترط القاعدة التوليدية وجود‬
‫متكلم ومتقبل مثاليين‪ ،‬لن عملية التحام المعنى بالبنى اللغوية هي ليست بالعملية السهلة ذلك أنها تقتضي علما كافيا‬
‫بقواعد السقاط وبناء على ذلك "يحتوي المكون الدللي إذا على المعجم أو اللئحة بمفردات اللغة وعلى القواعد‬
‫السقاطية التي تشكل قدرة المتكلم على استدلل معنى الجمل من خلل معنى المفردات"(‪..)2‬‬
‫لقد تحدث (تشومسكي) على وجهي الظاهرة اللغوية السطحي والعميق‪ ،‬أو كما سماه الظاهر والخفي وعليه حدد‬
‫مصطلح "الكفاية اللغوية" و"الداء اللغوي" وقد أرجع العلماء هذه الفكرة إلى أصول فلسفية تعود إلى نظرية أفلطون‬
‫حول العالم‪ " .‬تقول نظرية أفلطون أن للعالم وجه ظاهري نعتمد في إدراكه على شهادة الحواس وقد تكون هذه‬
‫الحواس خادعة ل موضوعية فيها ووجه خفي حقيقي يدرك بالعقل‪ ..‬أو كما يقول كانط أن العالم الظاهري يخفي‬
‫عالما حقيقيا(‪ ،)3‬فالداء اللغوي يمثل ظاهرة الخطاب في النظرية التوليدية‪ ،‬والكفاية اللغوية تمثل حقيقة الخطاب‪،‬‬
‫وعلى اللغوي ـ كما يقول (تشومسكي)ـ أن ل يبني أحكامه على بنية اللغة السطحية‪ ،‬وإنما عليه أن يصل إلى البنية‬
‫التحتية العميقة‪ ،‬ليطلع على القواعد الذهنية التي تنتظم اللغة‪ .‬وقد توصل (تشومسكي) إلى أن العقل النساني يحوي‬
‫آلية مكونة من مجموعة قواعد متناهية بمقدورها تحليل الجمل ومساعدة متكلم اللغة على إنتاج جمل ل متناهية بمعجم‬

‫() د‪ .‬ميشال زكريا‪ ،‬انظر اللسنية‪ ،‬علم اللغة الديث‪ ،‬ص ‪ 202‬إل ‪.205‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬الكون الدلل ف القواعد التوليدية والتحويلية‪ ،‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬رقم ‪ ،18/19‬لسنة ‪.1982‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪.‬ممد فهمي زيدان‪ .‬ف فلسفة اللغة‪ ،‬ص ‪.142‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫ل على فهم الجمل التي لم يسبق له أن سمعها‪ ،‬ورصد اللتباس الحاصل في الجملة‪ ،‬وقد أضاف‬ ‫لغوي متناه فض ً‬
‫(تشومسكي) فكرة جريئة ل زالت موضع بحث وجدل بين علماء اللغة وهو ما سمي بالعموميات اللغوية‪ ،‬وتعني أن‬
‫جميع اللغات متشابهة في بنياتها الداخلية وهو ما يفسر خضوع التركيب في أي لغة لتلك المدخلت العميقة‪ ،‬وما يشد‬
‫من عضد هذه الفكرة هو أن المعاني كما تنص نظرية الوضاع ـ ل تتموقل في عالم اللغة إنما توجد في عالم‬
‫الوضاع وقد تمخض عن هذه الفكرة‪ ،‬البحث عن العلقة بين البنية الدللية والعوالم الدللية "فإن كانت الكلمة على‬
‫مستوى الدال عبارة عن صرّة من الصوات"‪ ،‬وإذا كانت كذلك فلم ل تكون على مستوى المعنى "صرّة من الوحدات‬
‫البدائية للمعنى"(‪ .)1‬وعوّض التحليل المفهومي في النظرية التوليدية التحليل التوزيعي‪ ،‬الذي اتبعته النظريات السابقة‬
‫في اللغة‪ ،‬فما الدللة إل مجموعة سمات تتحدد بواسطة المشير الدللي وذلك "في تعيين العلقات الدللية بين الكلمات‬
‫المترادفة والمتزايلة أو المتضمنة الواحدة الخرى"(‪..)2‬‬
‫إن الهدف السمى الذي رسمته النظرية التوليدية هو معرفة الطاقة الكامنة في اللغة على مستوى التعبير ولذلك‬
‫تأثرا بآراء المدرسة الفلسفية العقلنية التي سادت القرن السابع عشر‪ ،‬اتخذ ( تشومسكي) منهجا عميقا ل يعتمد‬
‫الوصف‪ ،‬وإنما التحليل والتفسير للوصول إلى وضع معايير تحدد قدرة اللغة على الخلق والبداع والبتكار بإعادة بناء‬
‫"نسق المعاني" عن طريق قواعد التوليد والتحويل‪ ،‬ولذلك عُدّت النظرية التحويلية التوليدية من أحدث النظريات التي‬
‫قدمت تفسيرا علميا موضوعيا لنظام اللغة ووضعت قواعد مرنة تصلح لي لغة‪ ،‬لنها قواعد تتسم بالشمولية‬
‫والعالمية‪ ،‬وهذه المرونة في التقعيد النظري ضرورية للنظام اللغوي الذي ينزع نحو التجدد والتكيف والتطور فضلً‬
‫على شمولية التناول والدراسة‪ ،‬وغدا (تشومسكي) يرسم المنهج القويم في الدرس اللغوي مميزا بين الميتودولوجيا‬
‫والنظرية‪ ،‬فقد كان اشتغال البنيويين ـ قبل تشومسكي ـ منحصرا على وصف التجاه ووضع نظريات تقوم بتطبيق‬
‫مجموعة عمليات وإجراءات على العينات اللغوية‪ ،‬مهمتها معاينة الوحدات الدالة الصغرى‪ ،‬فأشار (تشومسكي) في‬
‫كتابه (البنى التركيبية) إلى ضرورة الهتمام بالمنهج الذي يكمن في الطرق التي تمكن من بناء النحاء‪ ،‬وغدا‬
‫ل من الهتمام بسلوكهم الفعلي‪ ،‬فلم يعد‬ ‫المبحث اللساني مع (تشومسكي) يهتم بالجهاز الداخلي الذهني للمتكلمين بد ً‬
‫النتاج الكلمي الذي هو عبارة عن سلسل فيزيائية بمفهوم الفونولوجيا قادرا على تقديم تفسير كاف لليات حدوث‬
‫التركيب اللغوي‪ ،‬ولذلك اتجه الدرس اللساني‪ ،‬ل إلى تحديد ما هو موجود من السلسل اللغوية السليمة فحسب‪ ،‬بل‬
‫أيضا إلى ما يمكن أن يوجد من التراكيب اللغوية غير اللحنة بواسطة مجموعة من القواعد التوليدية‪ .‬يكون بذلك‬
‫موقف (تشومسكي) قد انحرف بالدرس اللغوي إلى وجهة جديدة تختلف عن وجهة البنيويين الذين لم يميزوا بين‬
‫صورة النحو‪ ،‬والوسيلة التي تقود إلى اكتشافه‪ ،‬وهو ما عكف تشومسكي على اتخاذه مبدأ للدراسة اللغوية بحيث فرق‬
‫بين المنهج والنظرية وولج بذلك إلى كل ما يشكل العالم الداخلي الذهني للمتكلم‪ ،‬وشأن كل نظرية دللية فإن النظرية‬
‫التوليدية‪ ،‬وصلت إلى الباب المسدود‪ ،‬وإن نجحت في الكشف عن البنية العميقة لعدد ل متناه من الجمل إل أنها‬
‫عجزت عن تفسير عدم التوافق بين معاني المفردات المنتظمة في جملة واحدة‪ ،‬وهو ما فسح المجال لنظرية كاتز‬
‫وفودر التي تعتبر مكملً لقواعد (تشومسكي) التوليدية التي ارتكزت على ما يسمى بالمؤلفات الساسية لمعاني الكلمات‬
‫وهي مؤلفات تتجاوز الرموز التي اعتمدها (تشومسكي) في القواعد التوليدية‪ ،‬وعلى ضوء نظرية كاتزوفودر يمكن‬
‫مثلً تحليل كلمة "رجل" على النحو التالي‪:‬‬
‫اسم ‪ +‬محسوس ‪ +‬معدود ‪ +‬حي ‪ +‬بشري ‪ +‬ذكر ‪ +‬بالغ‪..‬‬

‫() علم الدللة‪ ،‬بيار جيو ترجة‪ :‬د‪.‬منذر عياش ‪ ،‬ص ‪.187‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬الكون الدلل ف القواعد التوليدية والتحويلية‪ ،‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬العدد رقم ‪ 18/19‬السنة ‪.1982‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 67 -‬‬
‫وتختلف عنها كلمة "امرأة" بمؤلف "الجنس" فقط(‪ )1‬وهكذا بالنسبة للكلمات الخرى‪..‬‬

‫(‪)2‬‬
‫‪ 7‬ـ نظرية الوضعية المنطقية في المعنى‪:‬‬
‫تصور معنى الكلمة أو الجملة عند أصحاب نظرية الوضعية المنطقية‪ ،‬ينبني على نظرات متباينة‪ ،‬وإن كانت كل‬
‫نظرة من هذه النظرات هي عبارة عن امتداد معرفي لفكار سبقتها وتأسست فلسفتها على جملة من النتقادات التي‬
‫وجهها لها علماء اللغة عامة وأهل المنطق والفلسفة خاصة‪ ،‬من رواد هذه النظرية "مورتس شليك (‪")M.Chilik‬‬
‫المؤسس الول‪ .‬والعالم "أتونيراث" (‪ ، )A/ NEURATH‬وهمبل (‪ ،)Hempel‬و"كارنب (‪ ،")Carnap( )3‬و"الفرد‬
‫جولر أير (‪ ،")A.J.Ayer‬و"فردريك وايزمان (‪ ،")F. Waisman‬ذهب "شليك" (‪ )1882-1936‬إلى أن معنى قضية‬
‫ما‪ ،‬هو طريقة تحقيقها وذلك بتوفر شروط للتحقيق تكون على إثرها القضية صادقة‪ ،‬من ذلك الواقع التجريبي للمعنى‬
‫وهو ما وسم نظريته "بالنظرية التجريبية في المعنى"‪ ،‬وقد وضع "شليك" معايير ثلثة لتحديد معنى الكلمة‪ :‬إما‬
‫بالشارة إلى مسماها المعيّن (الشيء في العالم الخارجي)‪ ،‬أو بالتكافؤ والترادف ويخص ذلك الكلمات التي تعتبر‬
‫محمولت تجريبية مثل‪:‬مربع‪ ،‬شجرة‪ …،‬أو بالستخدام في السياق اللغوي وذلك خاص بالكلمات التي ل تعتبر‬
‫محمولت تجريبية مثل‪:‬إذا‪ ،‬الن‪ …،‬وغيرها من الصيغ التي ل معنى لها إل داخل السياق‪ .‬ماذا يعني "شليك"‬
‫بمصطلح "التحقيق"؟‪ ..‬التحقيق عند "شليك" يعني مطابقة المعنى للواقع ممايدل على صدق القضية في الواقع‬
‫التجريبي‪ ،‬ول يشترط أن يكون التحقيق بالمعنى القوي فتلك غاية بعيدة الحصول وإنما يعني "شليك" التحقيق بالمعنى‬
‫الضعيف‪ ،‬أو ما سماه بإمكان التحقيق‪ .‬والمكان كما يوضح "شليك" نوعان‪ :‬إمكان تجريبي‪ :‬وهو المعنى الذي يتسق‬
‫وقوانين الواقع والطبيعة‪ ،‬وإمكان منطقي‪ :‬وهو ما يطابق قواعد التركيب والنحو واستخدامنا المألوف للكلمات وفق‬
‫نسق صحيح‪ ،‬والحقيقة أن نظرية "شليك" توقفت عن العطاء العلمي وتقديم التفسيرات الكافية لتمثيلت من المعنى لم‬
‫تخضع لقواعد هذه النظرية ومعاييرها‪ ،‬وذلك لنحصار نظرية "شليك" في تفسير الكلمات ذات الواقع الحسي بينما‬
‫وجدت قضايا وصيغ ل يشملها الدراك الحسي المباشر لكنها محققة المعنى مثال ذلك تركيب الذرة الذي قال عنه‬
‫"شليك" أن ل معنى له‪.‬‬
‫ويأتي بعد "شليك" العالمان "أوتونيراث" (‪ ،)1945-1882‬و"همبل" (‪ ،)-1905‬اللذان دعيا إلى معيار جديد‬
‫يعتمد في رصد المعنى ل يرتد إلى الواقع التجريبي كما كان يقول "شليك" وإنما يرتد إلى قضية "بروتوكول" وتعني‬
‫تسجيل دقيق لما عاناه المتكلم في خبرته‪ ،‬ويشترط في هذه القضية أن تصدر بضمير المتكلم وتلحق كل جملة بحسب‬
‫اتساقها مع جمل بروتوكول سبق وأن قبلناها وذلك للحكم بصدقها‪ ،‬وإن تنافرت معها كان الحكم بكذبها وعدم تحققها‪،‬‬
‫فالمعيار الذي اعتمده "نيراث وهمبل"‪ ،‬هاهنا هو معيار التساق (‪.)consistance‬‬
‫أما كارنب (‪ )1975-1891‬بعد جملة أفكار قدمها حول تصوره لمعنى الجملة أو القضية‪ ،‬انتهى إلى رد ذلك‬
‫إلى الواقع التجريبي وذلك بعد إدراكه أن اللغة هي حاملة لواقع ومعبرة عنه وليس عبارة فقط عن تراكيب وأنساق‬
‫لغوية‪.‬‬

‫() موريس أبو ناضر‪ ،‬مدخل إل علم الدللة اللسن‪ :‬ص ‪ ،26‬ملة الفكر العرب العاصر العدد ‪ ،18/19‬السنة ‪.1982‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪ .‬ممد فهمي زيدان‪ .‬ف فلسفة اللغة‪ ،‬ص ‪ 125‬إل ‪.128‬‬ ‫‪2‬‬

‫() إن إسهام "كارنب" ف مال السيميولوجيا الديثة قد عد عم ًل ف غاية الهية‪ ،‬خاصة وأن سعي هذا العال الفيلسوف كان يتجه إل بناء لغة مثالية‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫(علم الشارة ـ بيار جيو ـ الوعي) القدمة مازن الوعر‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫وبالرغم مما وجهت لنظرية الوضعية المنطقية من انتقادات‪ ،‬إل أنها قدمت للدرس الدللي الحديث طرقا أخرى‬
‫للبحث عن المعنى تتسم بالعمق في التحليل‪ ،‬وإن كان أصحاب هذه النظرية قد وقعوا تحت سلطة النظرة الحسية‬
‫للشياء وهو ما جعلهم يخلطون بين البحث في المعنى وبين صدق الجملة‪ .‬وذلك ما سوف يعرض نظريتهم إلى مآخذ‬
‫شديدة أدت إلى تعديل في مواقفهم بحيث عزفوا عن القول بمبدأ التحقيق التجريبي بالمعنى القوي‪ ،‬إلى القول بمبدأ‬
‫التحقيق التجريبي بالمعنى الضعيف‪ ،‬ويعني ذلك نسبية تحقيق معنى الجمل والكلمات والقضايا واستحالة تحقيقها تحقيقا‬
‫مطلقا تاما بينما ظل موقف القائلين بالتساق في الحكم بصدق ومعنى الجملة ثابتا‪ ،‬بالرغم من الملحظات الكثيرة‬
‫التي وجهت إليهم وهو ما جعل موقفهم يضعف مما أدى إلى إجراء تعديل في المصطلح "تحقيق" الذي استبدل‬
‫بمصطلح تدعيم (‪ )confrmation‬وسوف ينشأ اتجاه آخر على يد "ألفريد جولزير (‪ ")Ayer‬و(فردريك وايزمان) (‪F.‬‬
‫‪..)waisman‬‬
‫يذهب "أير" إلى أنه ل يكون للجملة معنى إل إذا أمكن تدعيمها إلى درجة كبيرة بإشارتها إلى واقع يمكن‬
‫ملحظته‪ .‬ول يعد هذا تحديدا تاما لمعنى الجملة وإنما مجرد تدعيم لها‪ ،‬بحيث يكون لها احتمال كبير في المعنى‬
‫المحدد بواسطة التدعيم‪ ،‬خاصة وأن الجملة مسندة إلى ضمير المتكلم وبالتالي فهي تعبر عن إحساسات وإدراكات‬
‫ذاتية وقد وصل "أير" إلى قناعة علمية تتلخص في المتناع عن اعتماد معيار عام لمعنى الجملة‪ ،‬وربط ذلك المعنى‬
‫بمجموعة الخبرات التي تحققت بفعل الملحظة المباشرة عن طريق التحقيق التجريبي الذي يصدقه الواقع وحتى في‬
‫(‪)1‬‬
‫هذه الحالة تصدق الجملة صدقا احتماليا ل صدقا تاما‪.‬‬
‫أما (وايزمان) فقد سار على نهج "أير" ولكن بأسلوب مختلف وذلك بدعوته إلى أن البحث عن مكافئ تام يشرح‬
‫معنى الجملة سيبقى مفتوحا لنه ناقص‪ ،‬ذلك أن الجملة المطلوب رصد معناها تحوي على حالت جزئية يصعب‬
‫حصرها وتحديدها‪ ،‬كما أن التركيب المعد لقامة تحقيق القضية لن يكون هو التركيب الخير المناسب‪ ،‬وإنما قد‬
‫نحصل على تركيب جديد يشرح أو يحلل أو يضيف إلى معنى الجملة الصلية‪ .‬معان جديدة وبالرغم من الجهود‬
‫المضنية في البحث عن تصور ثابت للمعنى بقي البحث بين دور وآخر يفاجأ‪ ،‬بمسائل جديدة مرتبطة بمسألة "المعنى"‪،‬‬
‫فيخوض من أجل تفسيرها وتحليلها ودراسات مستفيضة‪ ،‬فالقول باعتماد معيار الترادف لتحديد معنى القضية أدى‬
‫إلى البحث حول‪ ،‬ماهية الترادف‪ ،‬وهل الترادف خال من المعنى؟‪ ..‬بالطبع ل يقدم الترادف تفسيرا لمعنى الجملة‬
‫حتى يكون للجملة المرادفة معنى كذلك‪ ،‬وهو يحتاج إلى إيجاد مكافئ له في المعنى‪ ،‬وهكذا يقع الدرس في هذا‬
‫المجال‪ ،‬في حلقة مفرغة‪..‬‬

‫(‪)2‬‬
‫‪ 8‬ـ النظرية البراجماتية‪:‬‬
‫قريبة هي نظرية (تشارلز بيرس ـ (‪ ))CH. Pierce‬من نظرية أصحاب الوضعية المنطقية وذلك في اعتمادها‬
‫على الملحظة الحسية المباشرة‪ ،‬وتحقق المعنى في الواقع التجريبي‪ ،‬وقد أشار (أير) إلى نظرية (بيرس) لنها تعد‬
‫تدعيما لرأيه وموقفه‪ ،‬يرى (بيرس) أن تصورنا لشيء ما يتألف من تصورنا لثاره العملية فالطابع الوظيفي للشيء‬
‫ل ل يعني مرور موجة غير مرئية في مادة ما وإنما يعني مجموعة‬ ‫هو الذي يحدد تصورنا حوله فالتيار الكهربي مث ً‬

‫() إن الشارة إل السس الفلسفية الت أرسيت عليها قواعد النظرية النطقية ف العن‪ ،‬تقدم الصورة القيقية لوظيفة اللغة الت ل تقتصر على اليصال‬ ‫‪1‬‬

‫والبلغ فحسب أو تسمية الواقع الفيزيائي للنسان وإنا ف فهم هذا الواقع وخلقه باستمرار‪ ،‬وتستأثر هذه النظرية بالهتمام التزايد لكونا تتناول‬
‫اللغة ف شكلها السياقي التعدد‪...‬‬
‫() د‪.‬ممود فهمي زيدان ‪ ،‬ف فلسفة اللغة‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫من الوقائع مثل‪ :‬إمكان شحن مولد كهربي أو أن يدق جرس أو أن تدور آلة‪ ،‬وإذن فمعنى لفظ "كهرباء" هو ما تفعله‪،‬‬
‫ويبقى همّ نظرية "بيرس" هو إثبات المعادل المادي للشيء‪ ،‬حتى يتحقق معناه‪ ،‬فمع أن الكهرباء غير مرئية فل يمكن‬
‫أن ننفي وجودها وإنما ننظر إلى آثارها العملية ولذلك رأى "بيرس" أن التصورات التي ل تنتج عنها آثار‪ ،‬ل معنى‬
‫لها‪ ،‬وقد أوضحنا في نظرية (بلومفيلد) السلوكية(‪ ،)1‬التي تقترب منها نظرية (بيرس)‪ ،‬من حيث المبدأ‪ ،‬كيف عجزت‬
‫معاييرها عن تقديم تفسير كاف لجمل وعبارات ل يبدي أمامها المتلقي أية استجابة‪ ،‬هل يعني ذلك حسب (بيرس) أنها‬
‫ل تشتمل على معنى‪ ،‬ومع ذلك يبقى (بيرس) أهم فيلسوف مؤسس لعلم الشارات لم تقدر جهوده حق قدرها إل بعد‬
‫موته سنة ‪ ،1914‬حيث استثمر العالمان رومان جاكسون وشارل موريس جهوده في علم الشارات فحاول تطبيق‬
‫نظرياته على علم اللغة العام‪ ،‬ول يمكن أن نغفل تلك التصانيف التي وضعها (بيرس) حول الشارات محددا في ذلك‬
‫نظاما سيميائيا يضم العلمات اللغوية وغير اللغوية‪ ،‬وما يلفت النتباه في حديث (بيرس) عن الشارات هو ربطه‬
‫للشارة مع مدلولها من جهة والمرسل إليه من جهة ثانية إذ قد تكون الشارة رمزا (‪ )symbole‬أو إيقونة (‪)Icone‬‬
‫أو قرينة (‪ ،)Indice‬وأثناء عملية التواصل قد تستعمل الشارة نفسها تارة رمزا وتارة أخرى أيقونة أو قرينة‪ ،‬يتوقف‬
‫استعمال الشارة للتواصل والبلغ على معرفة مسبقة بدللتها الصطلحية فرمز "الدخان" على سبيل المثال هو‬
‫إشارة طبيعية أو قرينة قد تدل على النار أو علمة تدل على الخطر أو رمز التصال كما عند بعض قبائل الهنود‬
‫الحمر"(‪..)2‬‬

‫(‪)3‬‬
‫‪ 9‬ـ نظرية ‪":‬مور ـ كواين" ‪:‬‬
‫يرى جورج مور (‪ )G.Moore‬أن تصور معنى كلمة أو جملة يمر عبر إجراءات تحليل صحيح يقوم على‬
‫خطوتين‪ :‬التقسيم والتمييز وعلى معايير ثلث هي‪ :‬التكافؤ المنطقي والترجمة والترادف‪ .‬ويقصد (مور) بالتقسيم‪،‬‬
‫تحليل تصور معنى ما إلى مؤلفاته ويعني ذلك أن تصور المعنى مركب من جملة تصوراته الجزئية‪ ،‬وشبيه تقسيم‬
‫(مور) بتصنيفات أصحاب النظرية التحليلية الذين قسموا معنى الكلمات إلى ما يؤلفها‪ ،‬من سمات دللية(‪ .)4‬أما‬
‫التمييز فله ارتباط عند (جورج مور) باستخدام الكلمة في السياق اللغوي وذلك بإحصاء جملة الستخدامات الممكنة‬
‫للكلمة الحاملة لتصور المعنى موضوع البحث‪ ،‬ومحاولة جمع الخصائص المشتركة التي تجمعها وتميزها عن المعنى‬
‫الذي نحن بصدد البحث عنه‪ ،‬وإذا تحقق ذلك تميز تصور المعنى عما عداه من التصورات الخرى‪..‬‬
‫أما معايير التحليل الصحيح فهي تهدف إلى إيجاد معادل دللي للمعنى‪ ،‬فمعيار التكافؤ المنطقي عند "مور" يعني‬
‫تحليل مقارب لتصور المعنى (موضوع البحث) إلى جملة تصورات أخرى تكافئه وتساويه وذلك من أجل التحقق من‬
‫المعنى‪..‬‬
‫أما معيار الترجمة فليس يعني نقل كلمة من لغة إلى أخرى وإنما يعني ترجمة التصور إلى تصورات تصل معه‬
‫إلى حد التكافؤ وينتج عن ذلك تساو في المعنى بين التحليل وموضوعه‪ ،‬وهو ما يسمى بـ"الترادف"‪ .‬فالترجمة تفضي‬
‫إلى التكافؤ الذي يفضي بدوره إلى الترادف‪.‬‬
‫() انظر‪" :‬النظرية السلوكية" ص ‪ ،63‬للعال المريكي بلومفيلد‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر‪ :‬ذلك ف مقال "الشارة‪ ،‬الذور الفلسفية والنظرية اللسانية"‪ ،‬بسام بركة‪ ،‬ص ‪ ،51 -50‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬العدد رقم ‪،31 -30‬‬ ‫‪2‬‬

‫سنة ‪.1984‬‬
‫() د‪.‬ممود فهمي زيدان‪ ،‬ف فلسفة اللغة‪ :‬ص ‪.105 -103 -100 -99‬‬ ‫‪3‬‬

‫() انظر "النظرية التحليلية"‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫وبالرغم مما سجلته نظرية (مور) من تقدم في البحث حول المعنى إل أنها تعرضت لمآخذ وانتقادات كثيرة‬
‫كانت وراء نشوء نظريات أخرى قدمت البديل لنظرية (مور) ومن تلك النظريات نظرية (كواين (‪W.V.Quine‬‬
‫‪ ))1908‬الذي تتلمذ على (كارنب (‪ ،))Carnap‬بدأ (كواين) من حيث انتهى عنده (مور) الذي قال‪ :‬أن تصور معنى‬
‫الكلمة هو التيان بتصورات أخرى تكافئه منطقيا ويسمى المعنى الناتج ترادفا‪ ،‬ولكنه يجد نفسه قد وقع في حلقة‬
‫مفرغة أشرنا إليها من قبل عند أصحاب نظرية الوضعية المنطقية وهو أن المعنى يعتمد على التيان بترادف‪ ،‬لكن‬
‫الترادف غير ممكن إل إذا كان المعنى قد استقر في ذهننا من قبل‪ ،‬فخاض كواين بحثه الول في مسألة الترادف‬
‫كأساس للبحث عن المعنى‪ ،‬فاستعان في بادئ المر بالنظرية السلوكية التي تنبني على مبدأي المنبه والستجابة؛ أي‬
‫أن معنى جملة ما بالنسبة لشخص ما تحدده مجموعة المنبهات التي تفضي إلى تقبل الشخص للجملة‪ ،‬ويعني (كواين)‪،‬‬
‫بذلك أن القول بأن جملة ما أو كلمات تعتبر مترادفة إذ حققت استجابة واحدة‪ ،‬ولكن هذه النظرية ل تشتمل كل الجمل‬
‫أو الكلمات‪ ،‬كما أوضحنا ذلك في النظرية البراجماتية (لبيرس) ذلك أن أساس تصور المعنى ـ عند هذه النظرية ـ‬
‫نفسي‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬يختلف من شخص لخر‪ ،‬فعدّل (كواين) من نظريته واعتمد على معيار (الصدق)‪ .‬نقول عن جملتين‬
‫أو كلمتين أنهما مترادفتان إذا كانتا لهما قيمة صدق واحدة‪ ،‬وكانتا تشترك في المصادقات‪ .‬و(كواين) يربط تصوره‬
‫حول المعنى بتحققه في الواقع‪ ،‬ويرتد(كواين) إلى ما آلت إليه نظرية المعنى التجريبي عند (شليك) ويقر بصعوبة‬
‫البحث عن المعنى باعتماد معيار الترادف‪..‬‬
‫(‪)1‬‬
‫(‪.)- )Frege‬‬ ‫ـ دللة العوالم الممكنة عند (فريجة‬
‫لم يرتق (فريجة) بأفكاره حول تصور المعنى إلى مستوى النظرية‪ ،‬وإنما لهمية ما طرحه في هذا المجال‬
‫ارتأينا الشارة إليه‪.‬‬
‫ما يميز فكر (فريجة) في بحثه حول المعنى هو افتراضه لوجود عالم دللي مستقل‪ .‬كيف وصل (فريجة) إلى‬
‫ذلك؟‪ ..‬لقد تبلورت فكرته هذه منذ أن أثبت التمييز بين معنى اسم العلم وإشارته‪ ،‬بحيث فرق بين السم ومسماه من‬
‫جهة ودللته من جهة ثانية‪ ،‬وخلص إلى أن المسمى ليس هو المعنى‪ ،‬وهو ما استقر لدى علماء اللسنية والدللة‬
‫المحدثين فيما يخص السماء كلها الدالة على معنى أو على ذات‪ ،‬ارتقى (فريجة) إلى التمييز بين الصورة الحسية‬
‫التي تنشأ عن إدراك ضمني سابق لشيء ما أوتوهم هذا الدراك‪ ،‬وهذه الصورة تختلط بالمشاعر والنطباعات الذاتية‪،‬‬
‫ولذلك يختلف الدراك الحسي من شخص لخر فكانت عندئ ٍذ الصورة الحسية ذاتية‪ ،‬أما المعنى فله موضوعيته‬
‫(‪)2‬‬
‫واستقلله ومن هنا تأتي فكرة (فريجة) من افتراض عالم المعاني‬
‫بحيث يكون السعي لكتشافه ل لخلقه‪ ،‬وهو ما طرحه العالم الفرنسي (غريماس) في موضوعه "البنية‬
‫الدللية"(‪ ،)3‬وقد ميز (فريجة) في العالم الدللي ثلثة عوالم هي‪:‬‬
‫العالم المادي (عالم الشياء) والعالم الذاتي (عالم التصورات والفكار)‪ ،‬وعالم المعاني‪ .‬إل أن افتراض (فريجة)‬
‫بوجود دللة العوالم الممكنة (‪ )4( )possible world semantics‬قد قوبل بالنتقاد وذلك لستحالة الحديث عن عالم‬
‫غامض ل نعرف كيف نكتشفه‪ .‬وقد كان (فريجة) نفسه قد أعلن أن المعاني ليست في حاجة إلى البحث عن معيار‬

‫() د‪.‬ممود فهمي زيدان‪ ،‬ف فلسفة اللغة‪ :‬الصفحة ‪.117 -116 -115‬‬ ‫‪1‬‬

‫() أخذت السيميولوجيا الديثة أبعادها الفلسفية على يد الفيلسوف (فرية) خاصة‪ ،‬انظر علم الشارة‪ ،‬السيميولوجيا‪ ،‬بيار جيو‪ ،‬ص ‪.15‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر مقالة "البنية الدللية" ف ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪ ،18/19‬سنة ‪ ،1982‬ص ‪.97‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪.‬عبد القادر الفاسي الفهري‪ ،‬انظر اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪..351‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫بفضله نستطيع تحديد معنى كلمة أو جملة ما‪ ،‬ولكن يجب أن ننطلق من مبدأ أن فكرة معنى كلمة هي فكرة معروفة‬
‫لدى كل من يتكلم اللغة‪ ،‬وبالتالي فهي متروكة لعتبارات أخرى تتضح بفعل الستخدام لعناصر اللغة والتعامل في‬
‫مجال البلغ والتواصل‪.‬‬
‫وجملة القول‪ ،‬أن البحث عن ماله معنى في اللغة وما ل معنى له‪ ،‬قد أخذ من فكر العلماء المحدثين كثيرا وما‬
‫استقر لديهم هو صعوبة المسلك نحو تحديد معنى الجملة‪ ،‬تحديدا تاما‪ ،‬واستحالة إقامة معيار صارم ثابت يمكن‬
‫بواسطته رصد دللة الجملة‪ ،‬وما يمكن تسجيله‪:‬‬
‫أ ـ إن الب حث في دللة الج مل أو القضا يا‪ ،‬ب حث يت سم بالخطورة وذلك لطبي عة الل غة ال تي تنزع ن حو التطور‬
‫والتجدد وترفض أبدا منطق "المعيارية"‪..‬‬
‫ب ـ إن ما توصل إليه العلماء في مجال بحثهم عن المعنى‪ ،‬يفتقر إلى طابع الشمولية والعموم ولذلك وجدت‬
‫ثغرات في نظرياتهم التي ضعفت على إثرها وزال تأثيرها‪..‬‬
‫ج ـ إن اعتماد معيار التحقيق أو مطابقة الواقع أو معيار التّساق أو معيار التدعيم كما نادى بذلك العلماء ـ‬
‫الذين استعرضنا أفكارهم ـ يربط اللغة بالتحقيق المادي للدللة‪ ،‬والملحظة المباشرة للمعنى وهو ما فتح‬
‫المجال لعتماد معيار "الصدق والكذب"‪ ،‬بالنسبة للقضايا أو الجمل‪..‬‬
‫د ـ إن النزوع نحو هدف إثبات معنى محدد للكلمة أو الجملة‪ ،‬كان دأب علماء اللغة والفلسفة والمنطق‪ ،‬آخذين‬
‫في سبيل ذلك‪ ،‬بمستويين اثنين هما‪ :‬مستوى التركيب ومستوى المضمون وهما معياران أساسيان ولكنهما ل‬
‫يكفيان لتحديد شامل كامل لدللة الجملة أو الكلمة‪ ،‬وإنما وجب تظافر عدة أنظمة تأخذ في اعتبارها عالم‬
‫المتكلم وعالم المتلقي وطبيعة الخطاب وعناصره‪ ،‬والمقام الذي يجمع ذلك كله…‬

‫‪‬‬

‫‪- 72 -‬‬
- 73 -
‫الباب الثاني ‪:‬‬

‫الدللـــة عند المــدي‬

‫الفصل الول‪ :‬جهود العرب القدامى في الدراسات الدللية‪.‬‬


‫الفصل الثاني‪ :‬العلمة اللسانية عند المدي‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الخطاب البلغي عند المدي‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬الحقيقة والمجاز عند المدي‪.‬‬

‫‪- 74 -‬‬
- 75 -
‫الفصل الول‪:‬‬
‫جهود العرب القدامى في الدراسات الدللية‬
‫الشافعي ـ الجاحظ ـ ابن جني ـ ابن سينا ـ الجرجاني‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫مما يكاد يجمع حوله جل علماء اللغة والدب المحدثين أنه ل يمكن عزل النص عن سياقه الحيوي الذي نشأ في‬
‫أجوائه وتأثر بمناخه المعرفي‪ ،‬بل لولوج فضاء النص العام وتفكيك بنيتة تفكيكا يبرز الصول التي تتحكم في نتاج‬
‫العصر المعرفي والضافات التي جاء النص بها وأبعادها الفلسفية‪ ،‬وجب مراعاة الروافد المعرفية التي أفاد النص‬
‫منها أو اتخذ موقفا إزاءها يقول مطاع الصفدي‪" :‬ل يمكن تأويل نص إل باسترجاع السياق اللغوي والبيئي‬
‫والنثربولوجي العام الذي نما وترعرع النص فيه"(‪ ،)1‬ثم إن مفهوم التراث المعرفي ل ينحصر زمانيا في الماضي‪،‬‬
‫وإنما المفهوم الحديث الذي بلوره غادامير (‪ )Hans – Gorg Gadamer‬هو امتزاج التراث مع ذاتية الباحث عنه‬
‫والملتمس لسس بنائه‪ ،‬وهذا التراث الحاصل كل مشكل من جدلية الحاضر مع الماضي‪ ،‬فل وجود لتراث ساكن لنه‬
‫ل جدوى منه وإنما الفهم المعاصر المتوافق وكينونتنا الراهنة هو الذي يعطي للتراث أبعاده وذلك بما يتحدد على‬
‫أساسه من رواسب ثقافية محمولة في وعاء لغوي‪ ،‬ومعنى ذلك أن مساءلتنا للتراث العربي تقوم على أساس من‬
‫الحوار العادل إذ يتحول التراث إلى ذات محاورة تمتلك رواسبها الثقافية ذات أبعاد معرفية وفلسفية‪ ،‬وتقوم ذاتنا‬
‫المحملة بمعارف مسبقة تشتمل كل خصائص الوجود الثقافي العلمي الراهن وبذلك ينتفي أي تسلط من أي طرف‪،‬‬
‫وتتغير نظرتنا إلى اللغة الحاملة للفكر التراثي عن كونها كومة رموز خالية من أي عمق دللي ذلك‪" :‬إن إرجاع‬
‫النص إلى مجرد كومة رموز لعمق دللي وراءها هو منهج مادي ساذج‪ ،‬يريد أن يناقض المنهج التجريدي الساذج‬
‫( )‬
‫كذلك الذي يجرد عالم الدللت بمعزل عن النص وسياقه الحيوي الذي قيل أو خط ضمن إطاره ‪ ، 2‬وفي هذا الطار‬
‫النظري العام تأتي ضرورة تحديد المناخ المعرفي الذي أنتج فيه المدي كتابه "الحكام في أصول الحكام"‪ ،‬بما اشتمل‬
‫عليه من مفاهيم دللية ولسانية تستند ـ بالطبع ـ إلى منهج يملك رؤية معينة في التعامل مع النصوص اللغوية‬
‫وتأويل دللتها بما يتوافق والوعي بعمق الحدث اللغوي مكتوبا أو منطوقا أو مسموعا‪ ،‬خاصة إذا علمنا أن المدي‬
‫عاش في عصر الملخصات للنتاج التراثي المتقدم الذي تأثر بحركة النقل في القرنين الثاني والثالث الهجريين واللذين‬
‫شهدا ترجمة لعلوم وآداب اليونان والفرس وغيرهما من القوام‪ ،‬وظهر جليا أثر الفلسفة اليونانية عامة والمنطق‬

‫() استراتيجية التسمية‪ ،‬التأويل وسؤال التراث ـ ملة الفكر العرب العاصر ص ‪ 4‬ـ عدد ‪30/31‬ـ ‪.1984‬‬ ‫‪1‬‬

‫() مطاع الصفدي‪ ،‬الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.5 -4‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 76 -‬‬
‫ل عن الفلسفة المسلمين الذين اتخذوا‬ ‫الرسطوطاليسي خاصة في مؤلفات علماء الصول من المتكلمين(‪ .)1‬فض ً‬
‫مواقف متباينة من المنطق اليوناني‪ ،‬فحرصا منا لمقاربة المنهج المعرفي الذي اعتمده المدي في تقديم قراءاته‬
‫التأويلية لبنية الخطاب اللغوي في القرآن الكريم‪ ،‬عجنا نسائل مجموعة من العلماء الذين افتخر بهم عصرهم‪ ،‬وذلك‬
‫بما قدموه من عطاءات أسهمت بشكل بارز وواضح في بلورة العلوم النسانية في شتى مجالتها في العصر الحديث‪،‬‬
‫وقد اعتمدنا في سبيل ذلك التدرج الزمني بدءا بالقرن الثاني الهجري وانتها ًء إلى القرن الذي سبق المدي‪ ،‬وحددنا‬
‫مجالت معرفية تتباين من قرن لخر‪ ،‬ففي مجال علم أصول الفقه اخترنا الشافعي ـ رضي ال عنه ـ لكونه أول‬
‫من سن قواعد عامة لستنباط الحكام والدللت من القرآن الكريم‪ ،‬معتمدا أساسا على القياس والفهم العميق لمعاني‬
‫اللغة العربية‪ ،‬وقد كان اعتمادنا لبراز إسهامات الشافعي في مجال الدللة على كتابه "الرسالة" خاصة‪ ،‬وملخصه‬
‫كتاب‪" :‬أحكام القرآن" وبما أن البلغة وفن النظم لها صلة أساسية بعلقة اللفظ بالمعنى والتركيب بالدللة السياقية‪،‬‬
‫أبرزنا إسهامات علماء البلغة ملخصة في كتابي الجاحظ "البيان والتبيين"‪ ،‬خاصة وكتاب "الحيوان" إل أن القرن‬
‫الخامس الهجري قد شهد بروز عالم فذ له حس لغوي نافذ في مجال النظم وهو عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلئل‬
‫العجاز"‪ ،‬ولم نكتف بالجاحظ كمسهم في إرساء نظرية بلغية ذات أهمية بالغة لكون عبد القاهر قد تخطى المفاهيم‬
‫الولية التي كانت معروفة بها البلغة العربية إلى مفاهيم جديدة ل زالت أحكامها نافذة إلى يومنا هذا رغم تقادم‬
‫الزمان وبعد المسافة بيننا وبين صاحبها ـ الجرجاني ـ… وقبل الجرجاني توقفنا عند صاحب كتاب "الخصائص"‬
‫لنجليَ فيه بعض الحكام اللغوية التي أضحت سننا مطردة في فن النشاء والتعبير اللغويين‪ ،‬ول تخفى على أي مطلع‬
‫على التراث اللغوي العربي مكانة ابن جني في التأسيس لبنية الخطاب اللغوي‪ ،‬بما أرساه من نظريات في اللغة انبنت‬
‫بطول المعاينة للياتها في التشكيل الحرفي واللفظي والسياقي‪ ،‬تنم عن امتلك حقيقي لدوات المساءلة اللغوية لسنن‬
‫العرب في كلمها‪ ،‬وآخر ما ختمنا به رسم الجواء المعرفية التي ول شك أفاد منها المدي ـ هو الشيخ الرئيس‬
‫ابن سينا فرصدنا عطاءاته التي تخص الدللة في كتبه‪" :‬منطق المشرقين"‪ ،‬وكتابه "العبارة"‪ ،‬و"الشفاء" ثم كتابه‬
‫"الشارات والتنبيهات"‪ ..‬وقد حاولنا في كل ذلك أن نقدم مجمل السهامات في مجال الدرس اللغوي عامة والدللي‬
‫على وجه الخصوص التي يكون علي بن محمد المدي قد أفاد منها إفادة تدل على النضج المنهجي الذي وسم أبحاثه‬
‫في كتابه الحكام‪ ،‬وقد اكتفينا عند بعض المتقدمين ـ ممن وقع عليهم اختيارنا كنماذج لقرن معرفي معين ـ ببعض‬
‫كتبهم عن البعض الخر وذلك خاضع للبرنامج الذي سطرناه حيث ل ينبغي أن نخوض في مباحث الدللة عند عالم‬
‫من هؤلء المتقدمين خوضا شاملً وعميقا وكأنه موضوع البحث الذي عكفنا فيه على تجلية جهود المدي اللسانية‬
‫والدللية‪ ،‬واضعين مقاربة علمية نحاول من خللها ممارسة فعل الحفر والبناء في عطاءات المدي اللغوية بناء ل‬
‫يسلب التراث اللغوي خصائصه وسماته وأبعاده المعرفية‪ ،‬كما ل يقدم تقديما مشوها ومزيفا نتيجة لتلك الدوات‬
‫ل معرفيا لغويا نراعي فيه شروط المثاقفة التي تتنافى وشروط المشاكلة‪،‬‬ ‫النظرية الحديثة التي عقدنا من خللها جد ً‬
‫فيغدو كتاب المدي مشروعا ثقافيا متجدد الفعالية يطلب قراءة لغوية تتماشى وسنن الكلم والكتابة آنذاك وبذلك نكون‬
‫قد وصلنا بين حلقات المعرفة اللغوية‪ ،‬وإن لم نعرض لكل فعاليات التراث اللغوي قبل عصر المدي‪ ،‬ولكن حسبنا أن‬
‫نثير مسائل تخص حقل الدللة المعرفي عند بعض العلماء‪ ،‬الذين اعتبروا كمقدمات مهمة لم تتضح معالم نتائجها إل‬
‫في القرون التالية لها‪ ،‬وخاصة مع المدي الذي تعد أبحاثه وأفكاره حلقة مهمة ل يمكن إسقاطها في عطاءات القرنين‬
‫السادس والسابع الهجريين…‬

‫() سنعرض لذه الفكرة ف مبحثنا حول الشافعي ‪ ،‬وطرق الستدلل عنده‪ ،‬والمدي ف كتابه "الحكام ف أصول الحكام"‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫‪ 1‬ـ الجهود الدللية عند الشافعي (‪ 150‬هـ ‪204‬هـ)‪:‬‬
‫من خلل كتابه "الرسالة"‪.‬‬
‫يعد المام الشافعي أول من وضع البواب الولى لعلم أصول الفقه‪ ،‬بحيث بيّن العام من اللفاظ والخاص‪ ،‬كما‬
‫أشار إلى طرق تخصيص الدللة وتعميمها باعتماد القرائن اللفظية والعقلية‪ ،‬وكيفية استنباط الحكام بالعتماد على‬
‫التحليل المستند على النقل‪ ،‬يقول الشافعي‪ :‬و"رسول ال عربي اللسان والدار‪ ،‬فقد يقول القول عاما يريد به العام‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وعاما يريد به الخاص"‪.‬‬
‫وأقدم ما وصلنا مكتوبا في علم أصول الفقه هو كتاب "الرسالة" للشافعي يُجمع على ذلك العلماء المحدثون‬
‫والقدمون على السواء‪ ،‬وكان الكتاب محاولة لوضع قواعد لفهم النصوص القرآنية وتحديد الدللة المقصودة وفق‬
‫منهج أظهر مافيه هو القياس الفقهي‪ .‬يقول الدكتور علي سامي النشار‪":‬يجمع مؤرخو "علم الصول" على أن أول‬
‫محاولة لوضع مباحث الصول كعلم نجدها عند الشافعي‪ ،‬وأنه لم يكن قبل هذا العهد ثمة محاولت لوضع منهج‬
‫أصولي عام يحدد للفقيه الطرائق التي يجب أن يسلكها في استنباط الحكام" ولم ينفرد المحدثون من باحثي المسلمين‬
‫أو من المستشرقين بهذا القول وحدهم‪ .‬بل إن علماء المسلمين القدمين شاركوا فيه بحيث نرى إماما عظيما كابن‬
‫حنبل (‪ 214‬هـ ـ ‪285‬هـ)‪ ،‬يقول‪" :‬لم نكن نعرف العموم والخصوص حتى ورد الشافعي"‪ ،‬كما يقول الجويني‬
‫(شارح ممتاز من شراح الرسالة)‪" :‬أنه لم يسبق الشافعي أحد في تصنيف الصول ومعرفتها"‪ ،‬كما يقول ابن رشد‪:‬‬
‫"النظر في القياس الفقهي وأنواعه هو شيء استنبط بعد الصدر الول(‪ )2‬تلك المصطلحات التي أعطاها الشافعي أبعاده‬
‫الدللية‪ ،‬وأضحت معروفة الحدود في علم أصول الفقه إلى يومنا هذا‪ ،‬ل يمكن أن نعطيها قدرها من البداع العلمي‪،‬‬
‫إل إذا أخذناها في عصرنا الول الذي ظهرت فيه‪ ،‬ذلك أنه ليس من اليسير أن يتوصل عالم إلى حصر أدوات علمه‬
‫النظرية في بداية تشكل بنية العقل العربي‪ ،‬وخاصة وأن فقه القرآن وتأويل معانيه الراجحة‪ ،‬كانت آنذاك تعتمد على‬
‫النقل والثر لقرب عهدها بعصر الرسول ـ عليه الصلة والسلم ـ وقد طرح هذا النضج المبكر لدى الشافعي‬
‫بمعرفته طرق تحديد الدللت عدة أسئلة تحاول إيجاد التحليل الكافي لذلك النضج المعرفي المبكر‪ ،‬وتقف على أصول‬
‫منهج الشافعي وروافده المعرفية‪ ،‬فمن المحققين من رد تلك القواعد الفقهية التي استنبطها الشافعي إلى تلك‬
‫الرهاصات الولية التي تمظهرت في تعامل جمهور الصحابة العلماء مع المسائل المستجدة بعد وفاة النبي ـ صلى‬
‫ال عليه وسلم ـ‪ ،‬يقول ابن خلدون‪":‬ثم نظرنا في طرق استدلل الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقايسون‬
‫الشباه منها بالشباه‪ ،‬ويناظرون المثال بالمثال بإجماع منهم (…)‪ ،‬فإن كثيرا من الواقعات بعده ـ صلوات ال‬
‫عليه وسلمه ـ لم تندرج في النصوص الثابتة فقايسوه بما ثبت وألحقوها بما نص عليه‪ ،‬بشروط في ذلك اللحاق‪،‬‬
‫تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين (…) واتفق جمهور العلماء على أن هذه هي "أصول الدلة"(‪ )3‬ويكاد‬
‫يجمع المؤرخون أن مناهج العلماء المسلمين مدينة بشكل بارز إلى منهج الشافعين بل إن من تل الشافعي ما وسعه‬
‫إل أن يقتفي أثر منهجه ويسير على سنن القواعد الصولية‪ ،‬التي أرساها والتي يكون قد أخذها‪ ،‬أو استوحاها ممن‬
‫سبقه من العلماء الحناف ومن جمهور الصحابة الفقهاء‪ ،‬يقول الدكتور سامي النشار‪ …":‬وفي الحقيقة إن تاريخ‬
‫وضع المنهج الصولي يذهب إلى حد أبعد من عصر الشافعي بكثير‪ ،‬بحيث ل يجب أن نلتمسه فقط عند العلماء‬
‫الحناف في السنوات التي تسبق عصر الشافعي‪ ،‬بل في عصر الصحابة أنفسهم ولدى الكثير من فقهائهم‪ ،‬وعن هؤلء‬
‫() الرسالة ـ ص ‪.213‬‬ ‫‪1‬‬

‫() فصل القال فيما بي الكمة والشريعة من التصال ـ ص ‪.15‬‬ ‫‪2‬‬

‫() القدمة ـ ص ‪.551‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫الفقهاء أخذت معظم القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الحكام"(‪ )1‬ونشير في هذا المجال إلى تلك البحاث التي‬
‫أثارها المتكلمون معتمدين على المنهج العقلني في تحليل الحكام وتأويل النصوص‪ ،‬ولشك أن علماء الصول بدءا‬
‫من الشافعي قد أفادوا من طرق المتكلمين في استنباط الحكام ومقايسة الشباه وإلحاق المثال ببعضها لتشكيل القانون‬
‫المنطقي المطرد‪ ،‬وقد أخذ العلماء الحناف بالقياس العقلي حيث كانوا يلحقون الصول بالفروع على نقيض الشافعي‬
‫الذي سوف يطلع فيما بعد بمنهج يقيم فيه الفروع على الصول(‪ )2‬ويتجاوز القياس الحنفي إلى نظرية للمعرفة تعتمد‬
‫أساسا على النصوص المنقولة وعلى علقة اللفاظ بالمعاني يقول فخر الدين الرازي‪" :‬كان الناس قبل الشافعي‬
‫يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون‪ ،‬ولكن ماكان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلئل‬
‫الشريعة‪ ،‬وفي كيفية معارضتها وترجيحها‪ ،‬فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه ووضع للخلق قانونا كليا يرجع في‬
‫(‪)3‬‬
‫معرفة مراتب أدلة الشرع إليه‪.‬‬
‫بينما يذهب بعض المؤرخين إلى إلحاق فكر الشافعي في استنباط الحكام وتحديد القواعد الصولية‪ ،‬بفكر‬
‫اليونان ويسوقون لذلك علل وأدلة ترجح ذلك‪ ،‬منها أن كتب اليونان في المنطق والفلسفة كانت قد نقلت إلى اللغة‬
‫ل على ذلك كان المام ـ كما يذكر هؤلء المؤرخون ـ على معرفة باللغة اليونانية‪ .‬كما‬ ‫العربية قبل الشافعي‪ ،‬فض ً‬
‫(‪)4‬‬
‫ذهب ابن القيم إلى أن الشافعي في قوله بالقياس الصولي يشارك أرسطو في قوله بالتمثيل ظنيا ‪ ،‬أي كل من‬
‫قياس الشافعي وتمثيل أرسطو ل يفضيان إلى اليقين‪ .‬غير أن هذه العلل والدلة وغيرها مما ذكره المتقدمون أو‬
‫المتأخرون من المؤرخين ل تثبت إثباتا قطعيا تأثر الشافعي بالمنطق الرسطي خاصة إذا علمنا أن الشافعي في طرق‬
‫الستدلل ل يعتمد على العقل إل لمما‪ ،‬بل إن اعتماده يكاد يقتصر كليا على النقل‪ ،‬ومقارنة النصوص ببعضها‪،‬‬
‫وإسناد بعضها ببعض في إثبات الدللة يقول مصطفى عبد الرازق وهو يصف منهج الشافعي في كتابه "الرسالة"‪:‬‬
‫ل ثم الخذ في التقسيم مع التمثيل والستشهاد لكل قسم‪ ،‬وقد يعرض‬ ‫"التجاه المنطقي إلى وضع الحدود والتعاريف أو ً‬
‫الشافعي لسرد التعاريف المختلفة ليقارن بينها‪ ،‬وينتهي به التمحيص إلى تخيير ما يقتضيه منها ـ ومنها أسلوبه في‬
‫الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه‪ ،‬حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث ولطف الفهم وحسن التصرف‬
‫في الستدلل والنقض ومراعاة النظام المنطقي حوارا فلسفيا على رغم اعتماده على النقل أولً وبالذات واتصاله‬
‫بأمور شرعية خالصة"‪ )5(.‬وما هو ثابت لدى المحققين في حياة الشافعي العلمية‪ ،‬أنه كان يدعو إلى ضرورة اللمام‬
‫الشامل بفنون اللغة العربية‪ ،‬لن فهم النصوص ل يتأتى بغير ذلك‪ ،‬فأصحاب العربية أخلق بتأويل وفهم معاني القرآن‬
‫والسنة‪ ،‬ينقل معروف الدواليبي إشادة الشافعي بأهل العربية فيقول‪" :‬أصحاب العربية جن النس يبصرون ما ل‬
‫يبصر غيرهم"(‪ ..)6‬ومصطلح "العربية" كان يطلق عصرئ ٍذ على علوم العربية كالنحو والبلغة‪ ،‬ويعني ذلك أن‬
‫الشافعي كان ذا اطلع واسع بعلم العربية‪ ،‬وطرق تأدية المعاني من غير لبس‪ ،‬وظاهر ذلك من المباحث اللسانية‬
‫والدللية التي أثارها في كتابه "الرسالة"‪ ،‬وملخصه كتاب‪":‬أحكام القرآن"‪ ،‬لقد عقد المام الشافعي بابا عن الختلف‬
‫بين الحاديث في رسالته مثبتا أن اتفاق العبارات ل يعني اتفاق المدلولت‪ .‬يقول الشافعي موضحا وكاشفا أسرار‬

‫() منهج البحث عند مفكري السلم ـ ص ‪.81‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق ـ ص ‪.82‬‬ ‫‪2‬‬

‫() مناقب الشافعي ـ ص ‪ 102 -98‬ـ نقله د‪ .‬سامي النشار ف كتابه منهج البحث عند مفكري السلم ـ ص ‪.83‬‬ ‫‪3‬‬

‫() مفتاح السعادة ـ ج ‪ 2‬ـ ص ‪.232‬‬ ‫‪4‬‬

‫() تهيد لتاريخ الفلسفة السلمية ـ ص ‪.245‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الدخل وإل علم أصول الفقه ـ ص ‪.76‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫بلغة الحديث الشريف‪" :‬ويسن بلفظ مخرجه عام جملة بتحريم شيء أو بتحليله ويسن في غيره خلف الجملة فيستدل‬
‫على أنه لم يرد بما حرم ما أحل ول بما أحل ما حرم"(‪ ..)1‬إن هذا الفهم العميق لمقاصد الكلم ينم عن امتلك الشافعي‬
‫لحس لغوي‪ ،‬مطّلع على سنن القول ودللته‪ ،‬ومراس طويل للفصيح من لسان العرب‪ ،‬بل إن رصف اللفاظ وحسن‬
‫وقوعها في سياق الجملة‪ ،‬مما يبين عن دللة اللفظ الذي كان مبهما في صيغته المعجمية‪ ،‬وهي إشارة إلى فضل‬
‫تسييق اللفظ من أجل تحديد دللته‪ ،‬وهو ما نادت به النظرية السياقية (‪ )Theorie Contextuelle‬حيث استقر لدى‬
‫أصحابها من علماء الدللة‪ ،‬أنْ ليس للفظ من دللة إل دللته السياقية‪ ،‬يقول الشافعي في إشارته إلى معنى اللفظ‬
‫السياقي عند العرب في كلمها‪" :‬وتبتدئ الشيء من كلمها يبين أول لفظها فيه عن آخره‪ ،‬وتبتدئ الشيء يبين آخر‬
‫لفظها منه عن أوله(‪ ،)2‬وتأكيدا لذلك يضع المام عنوانا لباب سماه‪":‬الصنف الذي يبين سياقه معناه"(‪ ..)3‬ويمكن أن‬
‫نلمس نظرية الشافعي المعرفية بعرض السبل التي يدرك بها النسان معنى السياق وقد حصرها المام في النصوص‬
‫الدينية وفي اللغة العربية وسنن العرب في كلمها فضلً عن الحس السليم في تمييز الخاص والعام والظاهر والخفي‬
‫الدللة ونظرية المعرفة تعني الطرق المنطقية التي توصلنا إلى إدراك ماهية المور المعقولة والمحسوسة وهي نظرية‬
‫أسقطت من تناولها البحث في ذات ال تعالى‪ ،‬وفي الفضاء والقدر (الجبر والختيار)‪ ،‬وفي الخلود (بعد الموت) كما‬
‫قال بذلك كبار الفلسفة(‪ ،)4‬ومن تمام المعرفة اللغوية التي ينص عليها الشافعي‪ ،‬هو العلم بمعاني اللغة واتساع لسانها‪،‬‬
‫وهي الشارة إلى وجود المجاز الذي عدّ عند أهل العربية القدامى من طرق توسيع المعنى‪ ،‬وكذلك ينبه الشافعي إل‬
‫أن الكلم قد يخرج عن ظاهره كما يخرج عن عمومه وطريق معرفة ذلك هي القرينة اللفظية‪ ،‬يقول موضحا ذلك‬
‫كله‪ ،‬ومحددا طرق المعرفة والستدلل‪" :‬فإنما خاطب ال بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها‪ ،‬وكان مما‬
‫تعرف من معانيها اتساع لسانها‪ ،‬وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر ويستغني بأول‬
‫هذا منه عن آخره‪ ،‬وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص‪ ،‬فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه وعاما‬
‫ظاهرا يراد به الخاص‪ ،‬وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهرة(‪ ،)5‬إن هذا التعيين الدقيق لمنافذ المعرفة‪،‬‬
‫وهذا التقسيم الواضح لصناف اللفظ والدللة‪ ،‬يؤكد أن الشافعي في الصدر الول كان ذا وعي لغوي كبير بمستويات‬
‫الكلم‪ ،‬وهو ما جعله حقيقة في طليعة العلماء الذين وضعوا منهجا بيّنا في استنباط الحكام‪ ،‬وحصر الدللت‬
‫المختلفة‪ ،‬بالنظر الدقيق لظاهر الخطاب اللغوي وباطنه‪ ،‬ثم إن المادة اللغوية التي كان الشافعي يرتكز عليها أساسا‬
‫لصدار السنن الدللية المطردة هو نصوص القرآن الكريم وما صح من الحديث الشريف‪ ،‬وهذا ما يعطي لتلك‬
‫الحكام مكانتها من الدقة وصيرورتها لن تكون شاملة لكلم العرب‪ ،‬وسننها في فن القول والكتابة‪ ،‬ويكفي أن نعرض‬
‫لعناوين بعض البواب التي بحثها الشافعي لنستشف عمق التقسيم لمستويات الكلم عنده‪ ،‬يقول‪":‬باب بيان ما أنزل من‬
‫الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص"‪" ،‬باب ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام‬
‫والخصوص"‪"،‬باب مانزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص(‪ ،)6‬وغيرها من البواب‪ ،‬إن أحاديث النبي ـ‬
‫صلى ال عليه وسلم ـ وهي أدنى مستوى من الفصاحة وحسن التأليف من القرآن الكريم تكتسي عند الشافعي مقاما‬
‫رفيعا وهي أقرب إلى كلم العرب الفصحاء‪ ،‬مستوى من القرآن الكريم الذي يبقى من أعلى مستويات الكلم على‬

‫() كتاب الرسالة ـ ص ‪.214‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫‪3‬‬

‫() بوث ومقارنات ف تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة ف السلم‪ ،‬ص ‪.107‬‬ ‫‪4‬‬

‫() كتاب "الرسالة"‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.58 -56 -53‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫الطلق‪ .‬وفي ذلك مايجيز سحب تلك القوانين التي خصها الشافعي أحاديث النبي على كلم العرب‪ .‬والقصد من ذلك‬
‫تبيين معالم المشروع اللساني الذي يهدف اللغويون إلى وضعه في العصر الحديث‪ ،‬بحيث تكتسب تلك القواعد‬
‫الصولية التي شملت نصوص القرآن والحديث الشريف طابع الشمولية لكل أقسام الكلم في اللغة العربية‪ ،‬وقد ربط‬
‫الشافعي تحليله لبنية الخطاب على أساس موقعه من المتلقي الذي يتخذ منه موقفا من محموله‪ ،‬وذلك ظاهر في أن‬
‫الخطاب يحمل تأليفا لمدلولته ليس غريبا عما اعتاد سماعه المتلقي الذي يقوم بعملية تفكيك لبنية الخطاب بعد حصر‬
‫مدلولته‪ ،‬والوقوف على مقاصد صاحب الخطاب‪ .‬ويقول الشافعي مبينا موقف المسلمين الفقهاء من الحديث النبوي‬
‫الذي التبست دللته فلم يعرف أظاهر عام هو أم باطن خاص‪ .…" :‬وهكذا غير هذا من حديث رسول ال ـ صلى‬
‫ال عليه وسلم ـ هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدللة عنه كما وصفت [بطرق تحديد الدللة لفظيا] أو بإجماع‬
‫المسلمين‪ :‬أنه على باطن دون ظاهر‪ ،‬وخاص دون عام‪ ،‬فيجعلونه بما جاءت عليه الدللة ويطيعونه في المرين‬
‫(‪)1‬‬
‫جميعا"‪.‬‬
‫كما كان للشافعي رؤية دلئلية للعلمة غير اللغوية إذ في معرض تفسيره للفظ "العلمات" الوارد في القرآن‬
‫الكريم‪ .‬استند في تحديد مدلولها على العقل‪ ،‬يقول ال تعالى‪" :‬وعلمات وبالنجم هم يهتدون"(‪ )2‬قال الشافعي‪" :‬فخلق ال‬
‫لهم (أي للمسلمين) علمات ونصب لهم المسجد الحرام‪ ،‬وأمرهم أن يتوجهوا إليه‪ .‬إنما توجههم إليه بالعلمات التي‬
‫خلق لهم‪ ،‬والعقول التي ركبها فيهم التي استدلوا بها على معرفة العلمات(‪ )3‬وأثار الشافعي مسألة الترادف في اللغة‬
‫وقد أثبته في معرض بحثه عن دللة لفظ "شطر" الوارد ذكره في قوله تعالى مخاطبا نبيه ـ عليه الصلة والسلم‬
‫ـ‪" :‬ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام"(‪ ،)4‬لقد أحصى الشافعي ألفاظا تناظر لفظ "شطر" في الدللة‬
‫منها‪ :‬وجهة ـ قصد ـ تلقاء‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬وكلها بمعنى واحد وإن كانت بألفاظ مختلفة"(‪ )5‬وقد أُدرج موضوع "الترادف" ضمن مباحث الدللة في‬
‫العصر الحديث‪ ،‬لكونه له ارتباط بتأدية المعنى بأشكال لغوية مختلفة وهي مسألة أضحت مدار جدل كبير بين علماء‬
‫اللغة المحدثين أثبتها البعض وأنكرها البعض الخر‪ ،‬كما ناقشها القدمون وانقسموا إلى قسمين‪ :‬مثبت للترادف ومنكر‬
‫لوجوده في اللغة‪ ،‬وقد ألف هؤلء كتبا عديدة للتدليل على صحة زعمهم‪ ،‬نذكر من بينهم الرّماني صاحب كتاب‬
‫"اللفاظ المترادفة"‪ ،‬وكراع النمل صاحب كتاب "المنتخب" والفيروز آبادي الذي ألف كتابا أسماه "الروض المسلوف‬
‫فيما له اسمان إلى ألوف"‪ .‬أما المنكرون لوجود الترادف من القدمين فنذكر منهم‪ :‬ابن فارس في كتابه "الصاحبي"‬
‫وأبو هلل العسكري في كتابه "الفروق في اللغة"‪..‬‬
‫أما المحدثون فقد وسعوا من دائرة الجدل اللغوي حول مسألة الترادف‪ ،‬وساق كل فريق دلئل تثبت أو تنكر‬
‫وجود الترادف في اللغة النسانية كلها‪ ،‬فقال المثبتون أنه ل خلف في وجود الترادف بأقسامه‪( :‬المتقارب دلليا ـ‬
‫شبه الترادف ـ الترجمة ـ التفسير)(‪ )6‬وإنما الخلف في وجود الترادف الكامل بين لفظين أو أكثر ذلك أن هذا النوع‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.322‬‬ ‫‪1‬‬

‫() سورة النحل‪ ،‬الية ‪.16‬‬ ‫‪2‬‬

‫() كتاب "أحكام القرآن"‪ ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪3‬‬

‫() سورة البقرة‪ ،‬الية ‪.150‬‬ ‫‪4‬‬

‫() كتاب الحكام‪ ،‬ص ‪.69 -68‬‬ ‫‪5‬‬

‫() د‪.‬أحد متار عمر‪ ،‬انظر علم الدللة‪ ،‬ص ‪.223 -221 -220‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫يقتضي التطابق التام بين المكونات الساسية لجميع اللفاظ التي تبدو مترادفة فضلً عن التناظر التام بين سماتها‬
‫الدللية‪ ،‬أما المنكرون فقد استندوا على نفي الترادف‪ ،‬لكون الختلف الفونولوجي بين اللفاظ يقتضي اختلفا في‬
‫المعنى(‪ )1‬ويبدو أن ما قدمه المثبتون من العلل ومن التقسيم لصناف الترادف في اللغة‪ ،‬هو أرجح وأقوى مما قدمه‬
‫المنكرون‪ ،‬وذلك هو ما مال إليه الشافعي بعد معاينته لتلك العلقات التي تربط اللفاظ ببعضها في القرآن الكريم‪ ،‬ول‬
‫يفوتنا أن نسجل كذلك إثارة الشافعي لمسألة المشترك اللفظي في لسان العرب ففي تفسيره لقوله تعالى في حق نبيه‬
‫الكريم‪" :‬وأزواجه أمهاتهم"(‪ )2‬حيث يقول‪" :‬مثل ما وصفت‪ :‬من اتساع لسان العرب وأن الكلمة الواحدة تجمع معان‬
‫مختلفة"(‪ )3‬وبذلك غدا الشافعي بما خطه من القواعد ووضعه من السنن‪ ،‬مصدر إلهام لجميع علماء الصول‪ ،‬بحيث‬
‫اتخذت "رسالته" كأساس لي استنباط دللي من القرآن الكريم‪ ،‬والحديث الشريف‪ ،‬وغدت أبوابها معروفة لدى علماء‬
‫الدين الذين عكفوا عليها شرحا وتمحيصا‪ .‬يقول الدكتور سامي النشار‪" :‬واستمرت رسالة الشافعي سنوات طويلة‬
‫تسيطر على المناهج الصولية في العالم السلمي‪ .‬ولم يبدأ التحقيق والتمحيص فيها إل بعد أكثر من قرن حين بدأ‬
‫(‪)4‬‬
‫المام محمد بن عبد ال أبو بكر الصيرفي (‪320‬هـ ـ ‪ )932‬يضع شرحه عليها‪ .‬وقد حفظ لنا التاريخ أسماء تسعة‬
‫من شراح الرسالة"(‪ ،)5‬وكما أثبت المؤرخون إفادة الشافعي من تلك الحركة العلمية التي قام بها المتكلمون‪ ،‬فقد أعطى‬
‫الشافعي دفعا قويا لعلم الكلم‪ ،‬وذلك أن أضحى بفضله صنف من الصوليين يمزجون بين طريقة المتكلمين وطريقة‬
‫الفقهاء في الستدلل آخذين بالمنهج الذي أرسى أطره الشافعي‪ ،‬من ذلك تجريد القواعد العامة من المسائل الفقهية‪،‬‬
‫كما صنع صاحب الحكام في أصول الحكام‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الجهود الدللية عند الجاحظ (‪ 160‬هـ ـ ‪255‬هـ)‪:‬‬


‫من خلل كتابيه (البيان والتبيين والحيوان)‪:‬‬
‫إن الجاحظ في علم البلغة والجمال‪ ،‬يضاهي مكانة الشافعي في علم أصول الفقه‪ ،‬فهو أول من فتق أبواب‬
‫البيان‪ ،‬وأبان عن مكامن اللغة العربية الجمالية‪ ،‬آخذا في ذلك جمع الصور اللفظية وغير اللفظية التي تحتضن الفكر و‬
‫تعبر عن الدللت والمعاني المختلفة‪ .‬كما عكف على الدراسة الصوتية للحرف واللفظ لكون ذلك يفضي إلى استقامة‬
‫البيان وحصول البلغ‪ ،‬بحيث يراعي فيه حسن التأليف بين الحرف والكلمة‪ ،‬وقد أشار الجاحظ في هذا المجال إلى‬
‫تلك المراض النطقية التي تؤدي إلى اختلل في آلة التعبير خاصة في مخارج الصوات وعدّ منها الكثير(‪ .)6‬وقد‬
‫أضحى ذلك في العصر الحديث فرعا من اللسانيات وقد التمس له العلماء أسبابا فوجدوها عصبية نفسية تؤدي إلى‬
‫اضطراب أساسي في بنى اللغة وأطلقوا على ذلك المبحث العصب السني (‪ )7()Neurolinguistique‬تناول الجاحظ‬
‫في كتابيه‪" :‬البيان والتبيين" وكتاب "الحيوان"‪ .‬مباحث لها ارتباط وثيق بموضوع الدللة‪ ،‬وعلقتها بطرق تأديتها فلقد‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.224‬‬ ‫‪1‬‬

‫() سورة الحزاب‪ ،‬الية ‪.06‬‬ ‫‪2‬‬

‫() أحكام القرآن‪ ،‬ص ‪.167‬‬ ‫‪3‬‬

‫() هؤلء التسعة هم‪ :‬الصيف ‪ :‬النيسابوري‪ .‬حسان بن ممد‪ .‬القفال ممد بن علي‪ ،‬الافظ أبو بكر الورف‪ ،‬أبو زيد الروي‪ ،‬يوسف بن عمر ‪ .‬جال‬ ‫‪4‬‬

‫الدين الفهمسي أو ابن الفاكهان وأبو قاسم عيسى بن ناجي‪.‬‬


‫() منهج البحث عند مفكري السلم‪ ،‬ص ‪.87‬‬ ‫‪5‬‬

‫() من هذه الفات الت تصيب النطق‪ :‬التعتع‪ ،‬التمتمة ـ البسة ـ العقدة ـ العقلة… انظر البيان والتبيي باب عيوب البيان‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪6‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬انظر ذلك ف كتاب‪" :‬اللسنة‪ ،‬علم اللغة الديث ـ ص ‪.70‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫قسم العلقة إلى أصناف‪ ،‬كما وقف على وظائف الكلم‪ ،‬لن ذلك هو جوهر البيان وفي إطاره تناول الدللة السياقية‪،‬‬
‫واختيار المكان والمقام الملئمين لموقع اللفظ والمعنى‪ ،‬كما خاض الجاحظ في ذلك الجدل الذي دار حول نشأة اللغة‪:‬‬
‫أتوفيقية هي أم اصطلحية توفيقية؟… تلك بعض البحاث التي تناولها الجاحظ ضمن مباحث البيان‪ ،‬نحاول أن نعبر‬
‫إليها بغية اقتناص ما نستطيع أن نعثر عليه من مفاهيم لسانية‪ ،‬ودللية…‬

‫أ ـ حسن التأليف بين الحروف واللفاظ‪:‬‬


‫إن دراسة أصوات اللغة في الدرس اللساني الحديث تتم ضمن نمطين اثنين‪..‬‬
‫‪ 1‬ـ الدراسة الصوتية النطقية ‪ Articulation‬التي تتوخى وصف كيفية إنتاج أصوات الكلم‪ ،‬ووصف مخارج‬
‫الحروف التي تشكل الصوت اللغوي الصحيح بحيث ل تتنافر الحروف مراعاة ليسر النطق وثبات الصوت‬
‫في الستعمال إذ تأكد لدى علماء اللغة أن الكلمات المندثرة كان أغلبها مؤلفا من حروف صعبة التجاور‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أما النمط الثاني فهي الدراسة الصوتية السمعية ‪ Acoustique‬التي تدرس الخصائص الفيزيائية للصوت‬
‫اللغوي المنطوق‪ ،‬يقول الجاحظ وهو يعرض صفات الحروف التي تتوافق لتشكل لفظا صحيحا والحروف‬
‫المتنافرة التي تجتمع ليس في لسان العرب فحسب‪ ،‬بل وفي ألسنة العجم من الفرس والجناس غير‬
‫العربية(‪" :)1‬فأما في اقتران الحروف فإن الجيم ل تقارن الظاء ول القاف ول الطاء ول الغين‪ ،‬بتقديم ول‬
‫بتأخير‪ ،‬والزاي ل تقارن الظاء ول السين ول الضاد ول الذال بتقديم ول بتأخير"(‪ .)2‬إن الجاحظ بهذا‬
‫التحليل لطبيعة الحروف يحاول وضع أسس للصوت بحسب قوته من الجهر أو الهمس‪ ،‬فالحروف التي‬
‫تختلف في السمات الصوتية تكون أقرب إلى المجاورة من الحروف التي تتفق في ذلك‪ ،‬فالجيم صوت‬
‫مجهور ل يقع مجاورا لصوت الظاء أو القاف أو الطاء ول الغين لكون هذه الحروف لها سمات الجهر‬
‫كذلك‪ ،‬وهو ما استخلصته اللسنية الحديثة التي صنفت الحروف إلى مخارج وتأكد استحالة تأليف لفظ من‬
‫حروف تنتمي لذات المخرج النطقي وإنما اللفظ الذي تتوفر فيه سمات النطق الصحيح هو المؤلف من‬
‫حروف متباعدة المخارج مختلفة السمات الصوتية‪..‬‬
‫والبيان ـ عند الجاحظ ـ يقتضي عدم التنافر بين مجموع اللفاظ التي تؤلف الجملة حتى أنه ينقل قول الشاعر‪:‬‬

‫وليس قرب قبر حرب قبر‪.‬‬ ‫وقبر حرب بمكان قفر‬

‫ولصعوبة إنشاده ثلث مرات متتالية ظن البعض من اللغويين أنه من أشعار الجن‪ ،‬وذلك لما بين كلماته من‬
‫تنافر يعسر نطقها مجتمعة في سياق واحد‪ ،‬ولما في إنشادها من الستكراه والنبو‪ ،‬والبلغة عند الجاحظ ليس إل أن‬
‫تؤلف في نسق صحيح بين كلمات أو بين حروف اللفظ ثم تراعي حسن موقع المعنى من ذلك لتقذفه إلى سمع‬
‫المتكلم فإذا هو يعيَه ويستوعبه يقول الجاحظ‪" :‬ل يكون الكلم يستحق اسم البلغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه‬
‫معناه‪ ،‬فل يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك"(‪ ،)3‬ثم إن القدر المساوي بين اللفظ والمعنى يقتضي أن‬
‫يصرف المتكلم كلمه على وجه ل إطناب فيه‪ ،‬ول حشو لن تآليف الكلم سليمة واقتضاؤها للمعنى صحيح يقول‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.51‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.77‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 83 -‬‬
‫الجاحظ‪" :‬وإنما اللفاظ على أقدار المعاني فكثيرها لكثيرها وقليلها لقليلها‪ ،‬وشريفها لشريفها‪ ،‬وسخيفها لسخيفها‪،‬‬
‫والمعاني المصغرة البائنة بصورها وجهاتها تحتاج من اللفاظ إلى أقل ما تحتاج إليه المعاني المشتركة والجهات‬
‫الملتبسة"(‪ )1‬فعلى قدر المعاني تأتي اللفاظ‪ ،‬فقد تكفي الشارة الحقيقية للمعنى الظاهر البعيد عن اللبس وقد تتطلب‬
‫المعاني الخفية التي تحتمل دللت كثيرة إلى ألفاظ كثيرة قصد إجلء الدللت المشتركة والبانة عن المعنى المراد‪.‬‬
‫وإن إدراك الجاحظ إلى أن اللفظ هو عبارة عن مقاطع صوتية تنتج عنها حروف وأصوات‪ ،‬ليعبر عن القدرة التي‬
‫أوتيها في معاينة اللغة يضاهي في ذلك ما أشار إليه أندري مارتينه في قوله بالتلفظ المزدوج ‪Double articulation‬‬
‫يقول الجاحظ‪" :‬الصوت وهو آلة اللفظ والجوهر الذي يقوم به التقطيع وبه يوجد التأليف… ول تكون الحروف كلما‬
‫(‪)2‬‬
‫إل بالتقطيع والتأليف"‬

‫ب ـ أصناف العلمة عند الجاحظ‪:‬‬


‫إن الدللة كامنة مستترة ل ظهور لها دون العلمة التي تجسدها وتحققها في الواقع اللغوي‪ ،‬هذه العلمة عند‬
‫الجاحظ تشمل كل الوسائل التعبيرية الممكنة‪ ،‬اللغوية وغير اللغوية‪ ،‬وبذلك يكون قد أوضح المسألة الدللية في بعدها‬
‫الكلي وهو ما أضحى يعرف بعلم الرموز (‪ ،)semiologie‬فقد عدّ الجاحظ خمسة أصناف من العلمة هي‪ :‬اللفظ‬
‫والشارة والعقد والخط والحال أو النصبة‪ .‬يقول الجاحظ موضحا أدوات البيان الخمس‪" :‬وجميع أصناف الدللت‬
‫على المعاني من لفظ وغير لفظ‪ .‬خمسة أشياء ل تنقص ول تزيد‪ :‬أولها اللفظ‪ ،‬ثم الشارة‪ ،‬ثم العقد‪ ،‬ثم الخط‪ ،‬ثم‬
‫الحال‪ ،‬التي تسمى نصبة(…‪ ،).‬ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها‪ ،‬وحيلة مخالفة لحيلة‬
‫أختها‪ ،‬وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة‪ ،‬ثم عن حقائقها في التفسير…"(‪ )3‬وكان الجاحظ قد أشار‬
‫إلى أن هذه التقسيم لدوات البيان كان من الحسن أن يكون في أول الكتاب‪ ،)4(،‬وذلك لشمولية تلك الدوات لكل‬
‫مرامي البيان‪ ،‬ومستويات الكلم البليغ‪.‬‬
‫إن الداة الولى للبيان هو اللفظ اللغوي ـ كما ينص على ذلك الجاحظ ـ وذلك لن اللغة تبقى في إمبراطورية‬
‫ص الجاحظ اللفظ الدال بجملة سمات تعني بنيته الدللية وبنيته‬ ‫العلمات‪ ،‬تهيمن على كل النظمة البلغية‪ ،‬وقد خ ّ‬
‫الصورية يقول الجاحظ‪" :‬ثم إن حكم المعاني خلف حكم اللفاظ‪ ،‬لن المعاني مبسوطة إلى غير نهاية وممتدة إلى‬
‫غير نهاية‪ ،‬وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة"(‪ .)5‬إن تصورا لنفصالية العلقة بين اللفظ والمعنى‬
‫يكرسه تعريف الجاحظ للفظ أو للمعنى فهما ـ كما أشار إلى ذلك دو سوسوسير ـ أشبه بوجهي الورقة الواحدة أو‬
‫العملة الواحدة‪ ،‬فنرى الجاحظ في كتبه يبرزهما دائما في شكل ثنائية تقابلية‪ ،‬إن اللفاظ ـ على نقيض المعاني ـ‬
‫متناهية‪ ،‬محدودة‪ ،‬لنها مشكلة من أصوات‪ ،‬والصوت محدود معدود‪ ،‬ولذلك كانت المعاني مما يتوصل إليها بأشكال‬
‫مختلفة من اللفاظ‪ ،‬فاللغة قاصرة على أن تحيط بعالم المتكلم أو بالعوالم الدللية كما سماها "غريماس"‪.‬‬
‫أما الشارة فهي علمة غير لغوية تشمل التعبير عن حالت نفسية وبيولوجية مختلفة‪ ،‬وتكون بأعضاء النسان‬

‫() اليوان‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪.08‬‬ ‫‪1‬‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ 1‬ص‪.84 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.82‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.82‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫كاليد والرأس أو بأشياء أخرى خارجة عن أعضائه كالثوب والسيف‪ .‬والحقيقة أن الجاحظ قد استطاع أن يحصر‬
‫الشارة غير اللفظية حصرا يتجاوز به عصره الذي نشأ فيه إلى عصر انبثاق علم الرموز‪ .‬يقول الجاحظ‪" :‬فأما‬
‫الشارة فباليد وبالرأس وبالعين والحاجب والمنكب إذا تباعد الشخصان وبالثوب وبالسيف‪ ،‬وقد يتهدد رافع السيف أو‬
‫السوط فيكون ذلك زاجرا ومانعا رادعا ويكون وعيدا وتحذيرا"‪ )1(.‬أما علقة الشارة باللفظ فهي تفصح عن مدلوله‬
‫وقد تنوب عنه في الدللة عليه‪ ،‬كما تعتبر الشارة إيجازا أو حذفا أستغني فيه اللفظ في موضع ل يختل فيه البيان‬
‫بالشارة‪ .‬يقول الجاحظ‪" :‬والشارة واللفظ شريكان‪ .‬ونعم العون هي له ونعم الترجمان هي عنه وما أكثر ما تنوب‬
‫عن اللفظ وما تغني عن الخط… ولول الشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص‪ )2(:‬إن للشارة مجالها الوظيفي‬
‫قد ل يلجه اللفظ‪ ،‬وهو الدللة على "معنى خاص الخاص"‪ ،‬ويقصد به الجاحظ المعنى الموجز إيجازا‪ ،‬ل يكون إل‬
‫بالشارة دون غيرها من أدوات البيان الخمس‪ ،‬وقد يكون اللفظ ناقصا في الدللة على المعنى ل يرفع عنه النقص إل‬
‫بمصاحبة الشارة له‪ .‬يوضح الجاحظ ذلك بقوله‪" :‬وحسن الشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان"(‪ ،)3‬أما‬
‫الدللة بالعقد أو الحساب فهي كذلك من شمول أصناف البيان الخمس‪ ،‬فالرقم الحسابي الذي تضمنته آيات القرآن‬
‫الكريم يحمل دللت ومنافع جليلة‪ ،‬بل إن دللة الرقم الرياضي هي من الدللت المنطقية‪ ،‬فسواء كانت مفردة أو‬
‫أضيفت لبعضها البعض فإنما هي دوال تهدي إلى مدلولت‪ ،‬إذ تُتخذ مدرجا يُرتقى به من المعلوم فرضا إلى المجهول‬
‫تقديرا‪ .‬يقول الجاحظ‪ ،‬مؤكدا على قيمة دللة العقد ضمن أنظمة البلغ الخرى‪ .." :‬والحساب يشمل على معانٍ‬
‫ل ـ معنى الحساب في‬ ‫كثيرة‪ ،‬ومنافع جليلة‪ ،‬ولول معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن ال ـ عز وج ّ‬
‫الخرة‪ ،‬وفي عدم اللفظ وفساد الخط‪ ،‬والجهل بالعقد فساد جل النعم وفقدان جمهور المنافع واختلل كل ما جعله ال ـ‬
‫ل ـ لنا قواما ومصلحة ونظاما"(‪..)4‬‬
‫عزّ وج ّ‬
‫أما الدللة بالنصبة أو الحال‪ ،‬فهي في حقيقتها امتداد للدللة بالشارة لنها دللة كل صامت أو ماكان في حكمه‬
‫من جماد أو إنسان أو حيوان‪ ،‬فصورته المرئية أو المسموعة تحمل مدلولت ترتبط بشكل علئقي مع دوالها‪ .‬وبذلك‬
‫يكون الجاحظ قد نظر إلى عالم الشارة نظرة شاملة وهو في ذلك يستلهم أحكامه من القرآن الكريم‪ ،‬الذي جعل ال فيه‬
‫ل ـ يقول‬‫كل شيء هو آية أو علمة من علمات الكون الفسيح ودليل من دلئلية ألوهيته وربوبيته ـ عزّ وج ّ‬
‫الجاحظ‪" :‬وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد‪ ،‬وذلك ظاهر في خلق السموات والرض‪،‬‬
‫وفي كل صامت وناطق‪ ،‬وجامد ونام ومقيم‪ ،‬وظاعن وزائد وناقص‪ .‬فالدللة التي في الموت الجامد‪ .‬كالدللة التي في‬
‫الحيوان الناطق‪ .‬فالصامت ناطق من جهة الدللة والعجماء معربة من جهة البرهان"(‪ .)5‬إن البلغة عند الجاحظ ـ‬
‫إذن ـ تهدف إلى تحقيق غاية من الكلم البشري تتلخص في حسن البلغ بوسائل مختلفة ذات نسق تنظيمي محكم‪،‬‬
‫وهو بذلك يؤسس لمفاهيم لسانية ودللية تتوخى الشمولية في التناول‪ ،‬منطلقاتها شروط توصيل الدللة كما يقصد إليها‬
‫المتكلم مع وعي دقيق بأوضاع المستمع المتلقي‪ ،‬وأجوائه النفسية والحالية العامة‪ .‬يقول الجاحظ ملخصا ذلك كله‪:‬‬
‫"وعلى قدر وضوح الدللة وصواب الشارة وحسن الختصار ودقة المدخل يكون إطار المعنى"(‪ ..)6‬ويحصل ثمة‬

‫‪.83‬‬ ‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪.83‬‬ ‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.84‬‬ ‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‬ ‫‪3‬‬

‫‪.85‬‬ ‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.86‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.89‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫البلغ بتوافر سمات تعود إلى الشارة وإلى طريق تأديتها من دقة الختيار وتناسبها مع المعنى المؤدي‪ ،‬دون النظر‬
‫إلى أداة ذلك من أدوات البيان الخمس‪ .‬وقد أورد الجاحظ تلخيص هذه الدوات في كتاب الحيوان إل أنه لم يشر‬
‫صراحة إلى أداة النصبة أو الحال وذلك لكون الكتاب كان قد ألفه قبل كتاب البيان والتبيين الذي وردت فيه الدوات‬
‫خمسا مفصلة ومحددة‪ ،‬يقول الجاحظ‪" :‬وجعل [ال] آلة البيان التي بها يتعارفون (الناس) معانيهم والترجمان الذي إليه‬
‫يرجعون عند اختلفهم في أربعة أشياء‪ ،‬وفي خصلة خامسة وإن نقصت عن بلوغ هذه الربعة في جهاتها‪ ،‬فقد نزل‬
‫بجنسها الذي وضعت له‪ ،‬وصرفت إليه‪ .‬وهذه الخصال هي‪ :‬اللفظ والخط والشارة والعقد‪ ،‬والخصلة الخامسة ما‬
‫أوجد من صحة الدللة‪ ،‬وصدق الشهادة ووضوح البرهان‪ ،‬في الجرام الجامدة والصامتة والساكنة"(‪..)1‬‬

‫ج ـ وظائف الكلم عند الجاحظ‪:‬‬


‫لقد أوضح "رومان جاكبسون (‪ ")R.Jackobson‬الوظائف التي يؤديها الخطاب اللغوي انطلقا من فحوى‬
‫ل عدة من ردود الفعل تجاه‬ ‫مضمونه الذي يحدد قصد المتكلم‪ ،‬وغايته من إعلم السامع‪ ،‬الذي بدوره يتخذ أشكا ً‬
‫الخطاب اللغوي الذي استفزّه وأثاره‪ ،‬هذه الوظائف هي ‪ :‬الوظيفة المرجعية‪ ،‬والوظيفة النفعالية‪ ،‬أو التعبيرية‪،‬‬
‫والوظيفة النشائية‪ ،‬ووظيفة إقامة التصال‪ ،‬والوظيفة الشعرية‪ ،‬والوظيفة ما بعد اللسنية…‪ )2(.‬بعض هذه الوظائف‬
‫يمكن مقاربتها بوظائف أشار إليها الجاحظ في معرض حديثه عن البيان‪ .‬يقول‪" :‬ل يعرف النسان ضمير صاحبه‬
‫ول حاجة أخيه وخليطه ول معنى شريكه المعاون له على أموره وعلى ما ل يبلغه من حاجات نفسه إل بغيره‪ ،‬وإنما‬
‫يحيي تلك المعاني ذكرهم لها وإخبارهم عنها واستعمالهم إياها"(‪ …)3‬وذلك أن المعاني كامنة مستترة ل يمكن أن‬
‫يعلمها (الخر) إل إذا تمظهرت في أنماط مقولية‪ ،‬بها يطلع على ما في ضمير مخاطبه‪ ،‬ول ينعقد التصال العلمي‬
‫بينهما حتى يفصح أحدهما عما في نفسه من الحاجات للخر‪ ،‬فكأن تلك المعاني كانت ميتة فأحييت بالذكر والخبار‬
‫والستعمال‪ ،‬وهذا مايكاد (جاكبسون) يعنيه من الوظيفتين المرجعية (‪ )referentielle‬والوظيفة التعبيرية أو النفعالية‬
‫(‪ )emotive‬إذ الولى تعني التخاطب بهدف الشارة إلى محتوى معين نرغب في إيصاله إلى الخرين وتبادل الراء‬
‫(‪)4‬‬
‫معهم‪ ،‬أما الثانية فهي تتمحور حول إبراز موقف المتكلم ـ خاصة ـ من مختلف القضايا موضوع حديثه‪.‬‬
‫وكان الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين " يسوق نصوصا وأخبارا تخص بعض البلغاء وبعض الذين استشهد‬
‫بكلمهم‪ ،‬قصد تعليل رؤيته اللغوية حول قضية من قضايا اللغة‪ ،‬ويمكن أن نلتمس وظيفة التصال (‪ )Phatique‬في‬
‫حوار أقامه مع صديق له يقول الجاحظ‪" :‬فقلت له ـ أي للعتابي ـ قد عرفت العادة والحبسة [وهما من عيوب‬
‫النطق] فما الستعانة؟ قال‪ :‬أما تراه إذا تحدث قال عند مقاطع كلمه‪ :‬يا هناه‪ ،‬ويا هذا ويه هيه‪ ،‬واسمع مني واستمع‬
‫إليّ‪ ،‬وافهم عني أو لست تفهم أو لست تعقل…"‪ )5(.‬فالجاحظ يرصد هاهنا بعض "المداخل" اللغوية التي كانت توظف‬
‫لعادة إقامة التصال الذي قد يتعرض لضطراب في قناته‪ .‬فتأتي هذه "المداخل" لتضمن وتؤمن للتصال‬
‫استمراريته‪ .‬هذه بعض الوظائف التي رصدناها من خلل معاينة ما أورده الجاحظ في كتابه‪ ،‬وهي تعبر بصدق عن‬
‫امتلك قوي وكبير لناصية اللغة وآلياتها في البلغ والتواصل‪..‬‬

‫() اليوان‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.40‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ‪ .Essais de linguistique generale. p. 98‬ـ وانظر شرح ذلك ف الباب الول‪ :‬مبحث اللغة‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪2‬‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪3‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا ‪" :‬اللسنية‪ ،‬علم اللغة الديث" ص ‪.54‬‬ ‫‪4‬‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.112‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫د ـ أصل اللغة عند الجاحظ ‪:‬‬
‫يذهب الجاحظ في البحث عن أصل اللغة مذهب القائلين بالتوقيف ل التوفيق‪ ،‬ويقدم لصحة مذهبه أدلة وحجج‬
‫منها كلم عيسى ـ عليه السلم ـ بالحكمة وهو صبي‪ ،‬كما أن آدم وحواء كانا محتاجين للغة‪ ،‬للتفاهم والتحاور‬
‫والتشاور فأخذ ال بأيديهم وألهمهم لغة‪ ،‬وحيا من عنده‪ ،‬ثم إن القرآن الكريم قد أتى بألفاظ لم يعرفها العرب في‬
‫جاهليتهم وذكر الجاحظ بعضا منها كتسمية كتاب ال قرآن‪ ،‬والتيمم مسح على التراب‪ ،‬والقذف فسق‪ ،‬إن ذلك كله لم‬
‫يكن في لغة أهل الجاهلية‪ )1(.‬ومع ذلك أقر الجاحظ بوجود ألفاظ جديدة كانت ثمرة للتواضع والصطلح بين أهل‬
‫اللغة استدعتها ظروف مستجدة‪ ،‬وعلوم فرضت مصطلحات جديدة حتى غدا لجمهور الفقهاء وعلماء أصول الفقه‬
‫وأهل اللغة والدب‪ ،‬لكل معجمه الخاص‪ ،‬فكان ذلك اصطلح على نظام علمي داخل نظام علمي عام‪ .‬فالجاحظ‬
‫كان يميل إلى القول بأن اللغة إلهام في الصل إل أنه يقول بالصطلح كذلك لن المعاني غير متناهية‪ ،‬والعالم‬
‫الدللي غير محصور ولذلك قد يلجأ المتكلم إلى الحتيال على نفسه وعلى اللغة‪ ،‬وذلك ليغطي عن قصوره‬
‫وقصورها‪ ،‬لنه ل يستطيع أن يحيط بعالم المعنى كما أن اللغة ل يمكنها أن تعبر عن كل ما يشكل عالمه الدللي‪،‬‬
‫فيلجأ عندئ ٍذ إلى اختراع أنظمة جديدة للتواصل يكون للصطلح فيها المحل الول ولكنها ـ هذه النظمة الجديدة ـ‬
‫تعيش داخل نظام كلي عام هو اللغة الصلية الولى‪.‬‬

‫هـ ـ الدللة السياقية عند الجاحظ ‪:‬‬


‫إن مفهوم الجاحظ للمعنى ينبني على رصد موقعه من جملة المعاني ومقابلته باللفظ‪ ،‬فيحدد المعنى بأنه مدلول‬
‫الكلمة من الشياء والفكار والمشاعر(‪ ،)2‬كما أن طبيعة المعنى تخالف طبيعة اللفظ‪ ،‬فالمعنى مستتر خفي واللفظ هو‬
‫المستخدم لبيانه وظهوره وعلى ذلك فالمعاني محلها النفس وصورتها في الذهن‪ ،‬كما أن الفكر هو الذي يشكلها‬
‫ويحدثها‪ .‬يقول الجاحظ ‪" :‬قال بعض جهابذة اللفاظ ونقاد المعاني‪ :‬المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في‬
‫أذهانهم والمختلجة في نفوسهم والمتصلة بخواطرهم والحادثة عن فكرهم"(‪ )3‬هذه هي مواصفات المعنى عند الجاحظ‬
‫يضاف إليها ل محدوديتها ول نهائيتها مقابل لمحدودية اللفاظ ونهائيتها‪ .‬يقول الجاحظ في ذلك‪":‬ثم إن حكم المعاني‬
‫خلف حكم اللفاظ‪ ،‬لن المعاني مبسوطة وممتدة إلى غير نهاية وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة‬
‫محدودة"(‪.)4‬‬
‫وبعد أن أوضح الجاحظ مقام المعاني بالنسبة لللفاظ ومقامها في ذهن المتكلم إذ هي أقدار وأحوال وليست‬
‫على درجة واحدة من الستعمال‪ ،‬فما يصلح لهذا المقام والحال قد ل يصلح لمقام وحال آخرين‪ ،‬وهذا ما عنته‬
‫النظرية المقامية‪ ،‬يقول الجاحظ كاشفا عن الدللة المقامية أنه ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني‪ ،‬ويوازن بينها‬
‫وبين أقدار المستمعين وحالتهم‪ ،‬فيجعل لكل طبقة منهم كلما يخصهم به حتى يقسم بالتساوي أقدار الكلم على أقدار‬
‫المعاني ويقسم المعاني على أقدار المقامات التي هم عليها المستمعون وحالتهم(‪ .)5‬فالمعاني إذن تصنف وترتب‬

‫() انظر اليوان‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.281 -280‬‬ ‫‪1‬‬

‫() د‪.‬ميشال عاصي‪ ،‬مفاهيم المالية والنقد ف أدب الاحظ‪ ،‬ص ‪.166‬‬ ‫‪2‬‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.131‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 87 -‬‬
‫بحسب أصناف الناس في المجتمع وتباين مقاماتهم وأحوالهم‪ .‬وتلك رؤية علمية في غاية الدّقة لطبيعة وجوهر العملية‬
‫البلغية‪ ،‬التي يراعى فيها الشروط الموضوعية (الخارجية) والشروط الذاتية التي يتصف بها الخطاب وصاحبه وهو‬
‫ما تنادي به بعض المدارس اللسانية الحديثة التي تدعو إلى ضرورة الحاطة بوضع المتلقي النفسي والجتماعي حتى‬
‫ل يقع المعنى في انسداد دللي‪ .‬وتلك إشارة إلى وجوب التوفيق عند المتكلم بين خطابه ومقام المستمع المتلقي‪ ،‬ويعني‬
‫ذلك أن المتكلم كان قد قام بمطابقات تركيبية تشمل المطابقة النحوية (التأليف على سمت كلم العرب)‪ ،‬والمطابقة‬
‫ل على المطابقة بين اللفظ والمعنى وحسن موقع الكلمة من السياق‪ ،‬وهو ما‬ ‫البلغية (معرفية الفصل من الوصل) فض ً‬
‫تشير إليه نظرية الوقوع أو الرصف (‪ )collocational theory‬حيث يعرف ستيفن أولمان الوقوع أو الرصف‬
‫بقوله‪" :‬هو الرتباط العتيادي لكلمة ما في لغة ما بكلمات أخرى معينة"‪ )1(.‬ثم إن عرض الجاحظ لموضوع التنافر‬
‫الحادث بين الكلمات يقدم التقدير الكافي لمنع الوقوع أو الرصف في بعض السياقات‪ ،‬وقد أكدت دراسات دللية تالية‬
‫في النظرية السياقية‪ ،‬أن الجملة ل تعتبر كاملة المعنى إل إذا صيغت طبقا لقواعد النحو‪ ،‬وراعت توافق الوقوع بين‬
‫مفردات الجملة وتقبلها أبناء اللغة بحيث يعطونها تفسيرا ملئما وهو ما سمي باسم التقبلية(‪ ،)Acceptability( )2‬كما‬
‫اتضح في الدرس الدللي الحديث أنه كلما كان المتلقي على علم مسبق بفحوى الخطاب‪ ،‬كلما كان استيعابه للدللة‬
‫ل مفصلً‬ ‫أكثر‪ ،‬واتخذ الخطاب نمط اليجاز والقتصاد‪ ،‬أما إذا كان المتلقي ممن ل يستوعب الخطاب إل إذا كان كام ً‬
‫لعتبارات شتى‪ ،‬فإنّ ذلك يقتضي التبسيط في بنيته ولذلك يقول الجاحظ‪" :‬رأينا ال تبارك وتعالى إذا خاطب العرب‬
‫والعراب‪ ،‬أخرج الكلم مخرج الشارة والوحي والحذف‪ ،‬وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطا‬
‫وزاد في الكلم"(‪ .)3‬وقد يبلغ الحذف تمامه في الضراب حيث يزول كل شيء وتبقى المعاني عارية "غفلً غير‬
‫موسومة"(‪.)4‬‬
‫إن المقام ومحدودية الدراسة‪ ،‬ل تسمح لنا أن نفيض في المباحث اللغوية التي أثارها الجاحظ‪ ،‬ولو استرسلنا في‬
‫عرض عطاءات الجاحظ اللسانية والدللية لضاق بنا المجال ولحتاج ذلك لدراسة مستقلة‪ ،‬تحاول أن تقارب بين ما‬
‫أبدعه الجاحظ وما قررته الدراسات اللغوية الحديثة‪ .‬وحسب الجاحظ –من خلل ما قدمناه من عرض مقتضب‪ -‬أنه‬
‫كرّس رؤية علمية شاملة‪ ،‬إذ نظر إلى بنية اللغة نظرة كلية آخذا في ذلك بمبدأ أن الدللة ل تتحقق إل بتفاعل النساق‬
‫اللغوية المختلفة‪ ،‬منها ما يخص المرسل ومنها ما يخص المتلقي من أهل اللغة‪ ،‬كما لم يغفل نسق المحتوى‬
‫والمضمون فضلً على قناة الرسال وعنى بها التركيب وسماته الصورية من تآلف الكلم وفق قواعد التركيب والنحو‪،‬‬
‫وما أظهره الجاحظ هو مرونة النظام اللغوي‪ ،‬وقابلية الشكل والمحتوى إلى التغيير في ظل معطيات البلغ‬
‫والتواصل‪ ،‬وأقرب تمثيل لذلك هو النزياح الدللي المعبر عنه بالمجاز‪.‬‬

‫‪-3‬الجهود الدللية عند ابن جني‪320( :‬هـ‪392-‬هـ)‬


‫من خلل كتابه "الخصائص"‪:‬‬
‫في القرن الرابع الهجري‪ ،‬ينهض ابن جني عالما لغويا‪ ،‬قدم دراسات كانت ولزالت لها فاعليتها في الثقافة‬
‫اللغوية‪ ،‬والنشاط الفكري‪ ،‬إنْ على المستوى النظري المنهجي أو على المستوى الجرائي التطبيقي‪ .‬ولذلك يعد ابن‬
‫() ‪Meaning and style… p.. 10‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر علم الدللة‪،‬د‪.‬احد متار عمر‪ ،‬ص ‪.77‬‬ ‫‪2‬‬

‫() اليوان‪،‬ج ‪،1‬ص ‪.94‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ممد الصغي بنان‪ ،‬النظريات اللسانية والبلغية والدبية عند الاحظ –من خلل البيان والتبيي‪ ،‬ص ‪.270‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫جني من أعظم العلماء الذين قدموا نموذجا مشرقا لمباحث اللغة في التراث العربي المعرفي‪ ،‬فبدت اللغة العربية في‬
‫"خصائصه" لغة ل تدانيها لغة لما اشتملت عليه من سمات حسن تصريف الكلم‪ ،‬والبانة عن المعاني بأحسن وجوه‬
‫الداء‪ ،‬كما فتح أبوابا بديعة في العربية ل عهد للناس بها قبله كوضعه لصول الشتقاق بأقسامه‪ ،‬ومناسبة اللفاظ‬
‫للمعاني(‪ )1‬ومنها "تصاقب اللفاظ لتصاقب المعاني"‪ ،‬كما ناقش ابن جني مسألة نشأة اللغة التي كانت تشغل مكانا مهما‬
‫في البحوث اللغوية آنذاك‪ ،‬وأوضح بتعليل منطقي أن اللغة أكثرها مجاز صار في حكم الحقيقة‪ ،‬وما يبرز قدرة ابن‬
‫جني على رصد الظواهر اللغوية وتحليلها بمنطق علمي‪ ،‬هو ما قدمه حول التفريع الدللي للفعل في "خصائصه"‪.‬‬
‫وفيما يلي سنعرض لبعض تلك المسائل عرضا نحاول من خلله إبراز جهود ابن جني في ميدان "الدللة"‪.‬‬

‫أ‪-‬اللفظ والمعنى‪:‬‬
‫تناول ابن جني في كتابه الخصائص عرض ثلث علئق متصلة هي‪ :‬العلقة بين اللفظ والمعنى‪ ،‬والعلقة بين‬
‫اللفظ واللفظ‪ ،‬ثم العلقة بين الحروف ببعضها‪ .‬وأفرد لذلك أبوابا من ذلك "باب في تلقي المعاني على اختلف‬
‫الصول والمباني" حيث عرض فيه لشتراك السماء في المعنى الواحد ورده لوجود تقارب دللي بين تلك السماء‪،‬‬
‫يقول في مستهل هذا الباب‪" :‬هذا فصل من العربية حسن كثير المنفعة‪ ،‬قوي الدللة على شرف هذه اللغة‪ ،‬وذلك أن‬
‫تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة‪ ،‬فتبحث عن أصل كل اسم منها فتجده مفضي المعنى إلى معنى صاحبه "وفي ذلك‬
‫إشارة إلى وقوع الترادف في اللغة الذي كان ينكره بعض علماء اللغة في عصر ابن جني ومنهم أستاذه أبو علي‬
‫الفارسي‪ .‬وما اشتهر به صاحب الخصائص هو إبراز لظاهرة لغوية تتمثل في تقارب الدللت لتقارب حروف‬
‫اللفاظ‪ ،‬وهو ما سماه "تصاقب اللفاظ لتصاقب المعاني" سجل فيه أن مخارج حروف اللفظ التي تقترب من مخارج‬
‫حروف لفظ آخر‪ ،‬هما متقاربان دلليا لتقاربهما فنولوجيا وتلك خاصية من خصائص اللغة العربية‪ .‬وهذه الملحظة‬
‫تنم عن دقة وعمق رؤية ابن جني لنظام اللغة ففي شرحه للفظ "أزا" الوارد ذكره في قوله تعالى‪" :‬ألم تر أنا أرسلنا‬
‫الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا"(‪ )2‬يقول ابن جني في قوله تعالى‪" :‬تأزهم أزا"‪ :‬أي تزعجهم وتقلقهم‪ ،‬فهذا في معنى‬
‫تهزهم هزا والهمزة أخت الهاء‪ ،‬فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين‪ ،‬وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لنها أقوى من‬
‫الهاء‪ ،‬وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز‪ ،‬لنك قد تهز مال بال له‪ ،‬كالجذع وساق الشجرة‪ ،‬ونحو ذلك"(‪ .)3‬كما‬
‫قدم ابن جني تطبيقات أخرى مست ألفاظا وجد بين حروفها اشتراكا في الصفات الفنولوجية‪ ،‬فأفضى ذلك إلى تقاربها‬
‫في الدللة من ذلك المقابلة بين فعل (ج ع د) والفعل (ش ح ط)‪ .‬يقول ابن جني‪" :‬فالجيم أخت الشين والعين أخت‬
‫الحاء والدال أخت الطاء"‪ .‬كما كان يرى أن هناك مناسبة طبيعية بين الصيغة المعجمية ودللتها‪ ،‬وذلك فيما يخص‬
‫أصوات الطبيعة‪ .‬وهي مسألة لم تكن محل خلف بين العلماء في عصره‪ ،‬إل أن ابن جني قدم تعليلً بديعا‪ ،‬للخليل بن‬
‫أحمد ولسيبويه‪ ،‬يفسر العلقة الطبيعية بين الصوت ودللته‪ ،‬فيقول الخليل‪" :‬كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة‬
‫ومدا فقالوا‪ :‬صر وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا‪ :‬صرصر"‪ .‬ويقول سيبويه في المصادر التي جاءت على‬
‫وزن فعلن أنها تأتي للضطراب والحركة نحو القفزان والغليان‪ ،‬والغثيان فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي‬
‫حركات الفعال"(‪ .)4‬وهذا ما أدرجه ابن جني في باب "إمساس اللفاظ أشباه المعاني"‪ ،‬إذ التأليف الصوري للفظ يرسم‬
‫القيمة الدللية للمعنى الذي يقابله‪ ،‬وإن كان ذلك صعبا تطبيقه على كل عناصر النظام اللغوي إل أن ذلك يبقى طرحا‬
‫() الصائص‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ .28 -27‬كان لستاذه أب علي الفارسي تقسيمات ف الشتقاق ولكن ليست كتقسيماته خاصة ف الشتقاق الكبي‪،‬انظر‬ ‫‪1‬‬

‫كذلك ج ‪ -2‬ص ‪.133‬‬


‫() سورة مري‪ ،‬الية ‪.83‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصائص‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.146‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 89 -‬‬
‫جريئا من قبل ابن جني له قيمته العلمية وسبقه المعرفي في عصره‪ ،‬وهي محاولت كانت تنتظر من يعطيها طابع‬
‫النظرية الشاملة بعد ابن جني‪ ،‬ولكن وجد أتباع لم يكملوا ما بدأه أبو الفتح ابن جني وإنما انتحلوا بحوثه ونسبوها إلى‬
‫أنفسهم كابن سيده صاحب كتاب "المحكم" المتوفى سنة ‪458‬هـ(‪ .)1‬وقد قام ابن جني بذات الصنيع في باب الشتقاق‪،‬‬
‫خاصة في تلك التقلبات المورفولوجية الستة التي تنتج عن الصيغة المعجمية الثلثية‪ ،‬إل أنه بعد أن ربط تلك الصيغ‬
‫دلليا بالصيغة الم‪ ،‬وجد صيغا مهملة ل واقع لغوي لها‪ ،‬وكان في بعض الحيان يلحق المثلة قسرا بالقاعدة وتلك‬
‫ملحظة أخذه عنها علماء اللغة‪ ،‬بل إن ابن جني نفسه قد أقر بصعوبة المسلك في إجراء التقلبات الستة وربطها بدللة‬
‫الصل الثلثي فقال‪" :‬وهذا أعوص مذهبا‪ ،‬وأحزن مضطربا وذلك أنا عقدنا تقاليب الكلم الستة على القوة‬
‫والشدة…"(‪ )2‬إن علقة الرمز اللغوي بدللته ل يمكن –كما قرر الدرس اللساني الحديث‪ -‬أن تكون قسرية ول طبيعية‪،‬‬
‫لن ذلك سيبقى النظام اللغوي في حالة من الجمود ولكن القول بالعلقة العتباطية أو الكيفية (‪ )arbitraire‬بين اللفظ‬
‫ودللته‪ ،‬يعطي للغة‪ ،‬المرونة اللزمة خلل التغيّر الذي يطرأ على البنية اللغوية من جراء الحداث الناجمة عن‬
‫الستعمال اللغوي وعن تطور بعض المدلولت‪ ،‬ما كان التغير ليحصل لو لم تكن الشارة بالحقيقة "كيفية" أي‬
‫اعتباطية"(‪.)3‬‬
‫ب‪-‬التفريع الدللي للفعل‪ :‬يعقد ابن جني تفريعا دلليا للفعل يضبط سماته الذاتية والنتقائية‪ ،‬فأبرز معايير تنتظم‬
‫ص ابن جني الفعل وكان يسميه اللفظ‪ .‬بهذا التوزيع لكونه "يعد القطب الرئيسي في‬ ‫وفقها العلمة اللسانية الدالة‪ ،‬وقد خ ّ‬
‫العملية البلغية إذ أنه النواة الدافعة للحركة المتجددة المتوخاة من الحداث المحققة في الواقع اللغوي‪ ،‬ولذلك فإن‬
‫الفعال كما قال آدم سميث (‪ )A.smith‬نطفة اللغات(‪ .)4‬فالفعل يحمل دللة بنيته المورفولوجية‪ ،‬كما يقدم لنا سمات‬
‫الفاعل ومكوناته الساسية‪ ،‬إضافة إلى الدللة الزمانية التي تعين على تحديد قيمة الدللة العامة للصيغة المعجمية‪.‬‬
‫يقسم ابن جني الدللة إلى ثلثة أقسام‪ :‬الدللة اللفظية والدللة الصناعية والدللة المعنوية‪ ،‬ويفاضل بينها جاعلً الدللة‬
‫اللفظية على رأس الدللت الثلثة ثم تليها الدللة الصناعية فالمعنوية‪ .‬يقول ابن جني‪" :‬فمنه جميع الفعال‪ ،‬ففي كل‬
‫واحد منها الدلة الثلثة‪ .‬أل ترى إلى قام و(دللة لفظه على مصدره) ودللة بنائه على زمانه‪ ،‬ودللة معناه على‬
‫فاعله فهذه ثلث دلئل من لفظه وصيغته ومعناه"(‪ )5‬ويمكن توضيح ذلك بالرسم التالي‪:‬‬
‫الدللة اللفظية (المعنى)‪.‬‬
‫الدللة الصناعية (الزمن)‪.‬‬ ‫الدللة التفريعية للفعل‬
‫الدللة المعنوية (الفاعل)‪.‬‬
‫‪-1‬الدللة اللفظية‪ :‬وهي الدللة المعجمية ودللة البنية المورفولوجية على الحدث‪ ،‬وقد عدّها ابن جني على رأس‬
‫الدللت الثلثة لنها "دللة أساسية تعد جوهر المادة اللّغوية المشترك في كل ما يستعمل من اشتقاقاتها‬

‫() الصدر السابق‪،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ 152‬وانظر الكتاب لسيبويه‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.14‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه –ج ‪ -1‬ص ‪( 29‬كلم الحقق ممد علي النجار)‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه –ج ‪ -2‬ص ‪.135 -134‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪.‬ميشال زكريا‪ ،‬اللسنية (علم اللغة الديث) –ص ‪.183‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الكون الدلل للفعل ف اللسان العرب –ص ‪.33‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصائص –ج ‪-3‬ص ‪.98‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫وأبنيتها الصرفية"(‪ )1‬ففعل "قعد" مثلً يدل بصيغته المعجمية على حدث خاص ذي دللة معينة وهو المصدر‬
‫"القعود"‪ ،‬وإنه متعلق بفاعل تعلقا معنويا‪ ،‬ومنه اشتقت صيغ أخرى لها ارتباط بالدللة الساسية للفعل منها‪:‬‬
‫مقعد –متقاعد‪ -‬قاعدة وما إلى ذلك من الصيغ‪ .‬وما يجدر ذكره أن قيمة الدللة الساسية للصيغة الصرفية‪،‬‬
‫تعتبر المركز الذي يستقطب كل الدللت المتفرعة عنه‪ ،‬بحيث تدْخل في علئق وظيفية مختلفة وتبقى‬
‫مشدودة إلى الدللة اللفظية للفعل‪.‬‬
‫‪-2‬الدللة الصناعية‪ :‬وهي دللة بنية (اللفظ) المورفولوجية على الزمن‪ ،‬وهي تلي الدللة اللفظية لن اللفظ‬
‫يحمل صورة الحدث الدللي المستغرق لحيز زماني يقول ابن جني "وإنما كانت الدللة الصناعية أقوى من‬
‫المعنوية من قبل إنها وإن لم تكن لفظا فإنها صورة يحملها اللفظ‪ ،‬ويخرج عليها ويستقر على المثال المعتزم‬
‫بها‪ ،‬فلما كانت كذلك لحقت بحكمه وجرت مجرى اللفظ المنطوق به فدخل بذلك في باب المعلوم‬
‫بالمشاهدة"(‪ .)2‬فكانت الدللة الصناعية مع أنها دللة غير لفظية وإنما يستلزمها اللفظ في حكم الدللة اللفظية‪،‬‬
‫التي هي صورة تلزم الفعل‪ ،‬فأين كان هو مشاهدا معلوما كان الزمن المقترن به معلوما بالمشاهدة أيضا‪،‬‬
‫من مسموع اللفظ‪ ،‬وينظر ابن جني في هذا المجال إلى المصدر على أنه مجال مفتوح على الزمنة الثلثة‬
‫فيقول‪" :‬وكذلك الضرب والقتل‪ :‬نفس اللفظ يفيد الحدث فيهما‪ ،‬ونفس الصيغة تفيد فيهما صلحهما للزمنة‬
‫الثلثة على ما نقوله في المصادر"(‪.)3‬‬
‫‪-3‬الدللة المعنوية‪ :‬إن الفعل يحدّد سمات فاعله الذاتية والنتقائية‪ ،‬الساسية والعرضية‪ ،‬وذلك من جهة دللته‪،‬‬
‫ويعرف ذلك بطريق الستدلل‪ ،‬فيتحدد جنس الفاعل‪ ،‬وعدده‪ ،‬وحاله‪ ،‬ليس من الصيغة الفونولوجية للفعل بل‬
‫من مؤشرات خارجة عن الفعل‪ .‬ففعل (قعد) يدل على حادث مقترن بزمن ماض‪ ،‬وقد يتعرض مجاله‬
‫الزمني إلى التّساع ليشمل زمن الحاضر أو المضارع المستقبل في سياق لغوي يحمل خصائص تركيبية‬
‫ودللية ومقامية معينة‪ ،‬أما دللته على (الفاعل) فهي دللة إلزام‪ ،‬يقول ابن جني "أل تراك حين تسمع‬
‫(ضَرَب) قد عرفت حدثه وزمانه‪ ،‬ثم تنظر فيما بعد‪ ،‬فتقول‪ :‬هذا فعل ولب ّد له من فاعل‪ ،‬فليث شعري من‬
‫هو؟ وماهو؟ فتبحث حينئذ إلى أن تعلم الفاعل من هو وما حاله‪ ،‬من موضع آخر ل من وضع مسموع‬
‫ل غير مفصّل"(‪ .)4‬إن السمات‬
‫ل مذكر يصحّ منه الفعل مجم ً‬
‫ضرب‪ ،‬أل ترى أنه يصلح أن يكون فاعله ك ّ‬
‫المعنوية التي رصدها ابن جني في هذا المقام يمكن على ضوئها وضع نسق تفريعي لفئة (الفاعل) تخصّ‬
‫كل فعل من اللسان العربي وتوضيحه كالتي‪:‬‬
‫فعل يلزم فاعل مكوناته الذاتية والنتقائية‬
‫حاله‬
‫جنسه‬
‫فعل يلزم فاعل مكوناته الذاتية والنتقالية‬

‫() د‪.‬فايز الداية علم الدللة العرب‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصائص –ج ‪ ، 3‬ص ‪.98‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.101‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.99 -89‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫عدده‬
‫تعيينه‬
‫ص الفعل‬‫ويورد ابن جني تفريعا دلليا لصيغ مختلفة من اللفاظ (الفعال)‪ ،‬يحدّد على ضوئها سمات عامّة تخ ّ‬
‫وصاحبه فيقول‪" :‬وكذلك (قطّع) و(كسّر)‪ ،‬فنفس اللفظ ها هنا يفيد معنى الحدث‪ ،‬وصورته تفيد شيئين‪ :‬أحدهما‬
‫الماضي‪ ،‬والخر تكثير الفعل‪ ،‬كما أن (ضارب) يفيد بلفظه الحدث‪ ،‬وببنائه الماضي‪ ،‬وكون الفعل من اثنين‪ ،‬وبمعناه‬
‫أنّ له فاعلً فتلك أربعة معان…"(‪ )1‬فالتفريع الدللي الضافي الذي يكمل به ابن جني تفريعه الول يمكن توضيحه‬
‫كالتالي‪:‬‬

‫الدللة اللفظية (دللة الحدث)‬


‫الدللة الصناعية (دللة الزمن)‬
‫ل –(فعّل) (مضعف العين) على‬
‫يد ّ‬
‫الدللة اللفظية (دللة إضافية (تكبير الفعل))‬
‫الدللة المعنوية (مكونات الفاعل الجوهرية والعرضية)‬

‫إن هذه السمات الدللية للفعل وما ينضوي تحتها من سمات فرعية محدّدة‪ ،‬هي في جورها سمات مميزة للفعل‬
‫ل عمّا‬
‫(كسّر)‪ ،‬الذي له توارد خاص في سياق معيّن‪ ،‬ويستلزم فاعلً يحمل مكونات تمييزية جوهرية وعرضية‪ ،‬فض ً‬
‫يوحيه (الفعل) فيما يخص (المفعول به)‪ ،‬وذلك بحسب قواعد الوقوع أو الرصف التي تتحكم في بنية التركيب‬
‫ل معيّنا أيضا…‬
‫الصحيح‪ ،‬حيث يستدعي الفعل‪ ،‬فاعلً معيّنا‪ ،‬ومفعو ً‬
‫أمّا فعل (ضَارَب) وهو ذو لصيغة مورفولوجية مختلفة عن (كسّر) يمكن توضيح سماته على النحو التالي‪:‬‬
‫الدللة اللفظية (الحدث)‬
‫الدللة الصناعية (زمن الماضي)‬
‫ب –(فاعل) على‬
‫ضار َ‬

‫الدللة المعنوية (مكونات الفاعل خاصة (العدد))‬


‫الدللة المعنوية (دللة إضافية (المشاركة في الحدث))‬

‫إن جملة التفريعات التي أوردها ابن جني للركن الفعلي تؤكد على أهمية (الفعل) في الموروث اللساني إذ غدا‬
‫ص كلّ متعلقاته‪ ،‬التي يحدّد معها تواردا سياقيا صحيحا‪ ،‬ويمكن أن يتخذ ذلك‬
‫حقلً ألسنيا يغطي مفاهيم مختلفة‪ ،‬تخ ّ‬

‫() الصائص‪ ،‬ص ‪.101‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫كتصنيف مهم في حصر السمات الدللية وضبطها ضبطا محكما لتغتدي فيصلً فارزا للمداخل المعجمية‪ ،‬وهي‬
‫المداخل التي تكتسب مجالها الدللي من خلل توافقها‪ ،‬أو عدم توافقها مع السمة المميزة(‪ )1‬وإنّ تلك النماط التي‬
‫عقدها ابن جني مع كل بنية مورفولوجية ل تختلف كبير اختلف‪ ،‬مع تلك السمات المميزة المعتمدة في الدرس الدللي‬
‫الحديث(‪ .)2‬حيث تلعب الملمح المشتركة بين وحدات السياق اللغوي دورا مهمّا في تأمين التوارد الصحيح‪.‬‬
‫ج‪-‬الحقيقة والمجاز‪ :‬في مبحث الحقيقة والمجاز يعقد ابن جني بابين أولهما في‪:‬‬
‫الفرق بين الحقيقة والمجاز‪ ،‬وثانيهما في‪ :‬أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة‪.‬‬
‫في الباب الوّل تناول أبو الفتح بن جني تعريف الحقيقة والمجاز على أساس الوضع الوّل الذي يحدّد الستعمال‬
‫الصلي للصيغة‪ ،‬أمّا دواعي انتقال اللفظ من دللته الحقيقية إلى دللة المجاز فقد حصرها ابن جني في ثلث‪ :‬التساع‬
‫والتوكيد والتشبيه‪ .‬فانتقاء هذه الدواعي يبقي اللفظ على دللته الحقيقية‪ ،‬يعرّف ابن جني الحقيقة والمجاز فيقول‪:‬‬
‫"الحقيقة‪ :‬ما أق ّر في الستعمال على أصل وضعه في اللغة‪ .‬والمجاز‪ :‬ما كان ض ّد ذلك"(‪ .)3‬ثم يحدد دواعي التجوز‬
‫فيقول‪" :‬وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلثة‪ ،‬وهي‪ :‬التساع والتوكيد والتشبيه‪ ،‬فإن عدم هذه‬
‫الوصاف كانت الحقيقة البتة"(‪ .)4‬فالمجاز في أصله هو إضافة معنى جديد إلى المعنى القديم (الحقيقة)‪ ،‬وفي ذلك توكيد‬
‫للمعنى وتشبيه المعنيين الوّل بالثاني‪.‬‬
‫أمّا التساع فلن في لئحة الملمح الحقيقية للدال يُضاف ملمح جديد على سبيل المجاز‪ ،‬يقرّر ابن جني بتطبيق‬
‫إجرائي فيقول"… وكذلك قول ال سبحانه‪( :‬وأدخلناه في رحمتنا) هذا هو مجاز‪ ،‬وفيه الوصاف الثلثة‪ ،‬أمّا السعة‬
‫ل اسما هو الرحمة‪ ،‬وأمّا التشبيه فلنه شبّه الرحمة ‪ -‬وإن لم يصح دخولها –‬‫فلنه كأنه زاد في أسماء الجهات والمحا ّ‬
‫بما يجوز دخوله فلذلك وضعها موضعه‪ .‬وأمّا التوكيد فلنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر‪ .‬وهذا تعال‬
‫بالعرض‪ ،‬وتفخيم منه إذ صيّر إلى حيز ما يشاهد ويلمس ويعاين"(‪ .)5‬وإنّ تحقق هذه المعاني مرتبط بوجود قرينة‬
‫صارفة من إتيان المعنى الحقيقي لفظية في المجاز اللغوي وعقلية في المجاز المرسل‪.‬‬
‫أمّا في الباب الثاني فبعد طول معاينة للغة‪ ،‬يرى ابن جني أنّ أكثر كلم العرب إنّما هو مجاز وذلك ناتج عن‬
‫كثرة دوران اللفظ على اللسنة‪ ،‬بدللته المجازية اكتسب سمة الدللة الحقيقية‪ ،‬وإنّ تلك التراكيب اللغوية التي تخالها‬
‫ذات دللة حقيقية هي في الصل ذات دللة مجازية محققة لتلك المعاني الثلثة التي ذكرنا‪ ،‬ويسوق ابن جني في‬
‫سبيل أمثلة كثيرة‪ ،‬يقول‪" :‬إعلم أن أكثر اللغة مع تأملّه مجاز ل حقيقة‪ ،‬وذلك عامّة الفعال‪ ،‬نحو قام زيد‪ ،‬وقعد عمرو‬
‫(…‪ ).‬وجاء الصيف‪ ،‬وانهزم الشتاء…"(‪ )6‬ويلمس ابن جني البحث في الزمن الطويل الغابر‪ ،‬عن الصل الذي وظّفت‬
‫لسببه الكلمة وهو محاولة الجمع بين التكوين اللغوي للكلمة ودللتها المتداولة آنيا‪ ،‬ففي بحثه عن أصل فعل (ع ق ر)‬
‫ل قطعت إحدى رجليه فرفعها‪ ،‬ووضعها على‬ ‫ودللته على الصوت في قولنا‪( :‬رفع عقيرته) يقول ابن جني‪" :‬أنّ رج ً‬

‫() الستاذ أحد حسّان‪ ،‬الكون الدلل للفعل ف اللسان العرب – ‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر الباب الول من البحث –الفصل الثالث‪ :‬النظرية التحليلية –ص ‪.72‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصائص ج ‪ ،2‬ص ‪.442‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.442‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.443‬‬ ‫‪5‬‬

‫() انظر الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ 2‬من‪ ،‬ص ‪ 442‬إل ص ‪.458‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 93 -‬‬
‫الخرى ثم صرخ بأعلى صوته فقال الناس (رفع عقيرته)(‪ .)1‬فكان الصل في استعمال (ع ق ر) للدللة على الصوت‬
‫المرتفع كالصراخ ولكن خفيت أسباب التسمية لبعدها الزمني فأضحت تدل على من رفع رجله دللة حقيقية مع أنها‬
‫في أصل وضعها كانت تدل على الصوت‪ .‬فحصل نقل لدللة اللفظ من مجال إلى مجال‪ ،‬انتقلت عبره المجازات إلى‬
‫الستعمال العادي الحقيقي‪ .‬ويلجأ ابن جني إلى تقديم العلل المنطقية الفلسفية(‪ )2‬على صحة ما ذهب إليه‪ .‬وإن كنّا نرى‬
‫أن رؤيته هذه في علقة الدللة بالحقيقة والمجاز أن فيها بعض التعسف لنه إذا قلنا أن أكثر اللغة مجاز وحاولنا أن‬
‫نردّ كل صيغة إلى دللتها الصلية للفينا صيغا قد تعرّضت لحركة نقل متتالية فنردّها إلى أصل هو بذاته مجاز‪،‬‬
‫ل على الفروع‪ .‬وهذا حقيقة ماهو سمة في اللغة التي من مميزاتها المرونة والتغيير‬ ‫ولظللنا نتبع الصول فل نعثر إ ّ‬
‫ورفض كل قاعدة تريد أن تبقيها متحجرة جامدة‪.‬‬
‫ل ذلك‬ ‫‪-5‬نشأة اللغة‪ :‬يناقش ابن جني قضية نشأة اللغة التي نجد لها حضورا مكثّفا في مؤلفات القدمين ولع ّ‬
‫راجع إلى ارتباط هذه القضية بمشكلة كانت نقطة خلف كبيرة بين العلماء‪ ،‬بل تعدّ سبب الصطدام الذي حصل بين‬
‫السياسي والديني ونعني بها مشكلة "خلق القرآن" يعرض ابن جني لراء علماء عصره في مسألة نشأة اللغة فيصرح‬
‫في باب القول على أصل اللغة أنها إلهام أم اصطلح‪" :‬هذا موضع محوج إلى فصل تأمّل‪ ،‬غير أن أكثر أهل النظر‬
‫على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلح ل وحي وتوقيف‪ .‬إل أن أبا علي رحمه ال –قال لي يوما‪ :‬هي من‬
‫عند ال‪ ،‬واحتج بقوله سبحانه‪" :‬وعلّم آدم السماء كلها"(‪ )3‬وهذا ل يتناول موضع الخلف‪ .‬وذلك أنّه قد يجوز أن يكون‬
‫تأويله‪ :‬أقدر آدم على أن واضع عليها‪ ،‬وهذا المعنى من عند ال سبحانه ل محالة"(‪ .)4‬وبهذا التعليق الخير على قول‬
‫أبي علي الفارسي يكون ابن جني قد أفصح عن مذهبه فكان أميل إلى القول بعرفية الدللة اللغوية مقدّما تأويلً للية‬
‫الكريمة السابقة الذكر‪ .‬يكاد يجمع عليه أغلب العلماء الذين قالوا بالصطلح‪ ،‬يعني‪ ،‬أن النسان قد ركّبت فيه‬
‫استعدادات فطرية‪ ،‬وقواعد ذهنية بها يستطيع أن يسمّي الشياء‪ ،‬ويضع نظاما علميا مطردا مع كل الشياء الجديدة‬
‫على غرار وضعه للرموز التي تخصّ نظام المرور أو تلك المستعملة في نظام الملحة البحرية (الشارات الضوئية)‬
‫فهذا كلّه من باب التواضع والتوفيق‪ ،‬والحقيقة أن ابن جني ل يكاد يستقّر على رأي حيث ذكر مذهب الذين قالوا‬
‫بطبيعية اللغة‪ ،‬المستلهمة من أصوات الطبيعة‪ ،‬واستحسنه وقبله‪ .‬يقول في ذلك‪" :‬وذهب بعضهم (أي بعض العلماء)‬
‫ي الريح‪ ،‬وحنين الرعد‪ ،‬وخرير الماء‪ .‬وشحيح‬ ‫إلى أن أصل اللغات كلها إنّما هو من الصوات المسموعات كدو ّ‬
‫الحمار‪ ،‬ونعيق الغراب وصهيل الفرس وتريب الظبي‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ثم وُلدت اللغات عن ذلك بينما بعد‪ .‬وهذا عندي‬
‫وجه صالح‪ ،‬ومذهب متقبل"(‪ .)5‬ولكن ابن جني ما يلبث أن يقوي في نفسه شعور يجذبه إلى العتقاد بكون اللغة توقيفا‬
‫من عند ال تعالى‪ ،‬وذلك ظاهر من تناسق أجزائها وموافقتها لكل حال ومقام‪ ،‬ثمّ ما اجتمع لديه من أقوال العلماء من‬
‫أساتذته من أنّ اللغة وحي وإلهام من عند ال‪ .‬كل ذلك دفع ابن جني إلى ترجيح المذهب القائل بتوقيفية اللغة يقول في‬
‫ذلك‪" :‬إنّني إذا ما تأملت حال هذه اللغة الشريفة‪ ،‬الكريمة اللطيفة‪ ،‬وجدت فيها من الحكمة والدقة والرهاف والرقّة ما‬
‫يملك عليّ جانب الفكر‪ ،‬حتى يكاد يطمح به أمام غلوة(‪)6‬السحر‪ ،‬فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا –رحمهم ال‪ ،-‬ومنه ما‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.66‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ :488‬انظر التعليل الذي قدمه للتركيب (قام زيد) على اعتباره تعبيا مازيا‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫() سورة البقرة الية‪.31 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصائص ج ‪ ،1‬ص ‪.41 -40‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصائص‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.46‬‬ ‫‪5‬‬

‫() غلوة السحر‪ :‬الغاية ف سباق اليل‪ ،‬يريد أنه يدنو من غاية السحر‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫حذوته على أمثلتهم‪ ،‬فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وأماده صحّة ما وفّقوا لتقديمه منه"(‪.)1‬‬
‫وخلصة موقف ابن جني من نشأة اللغة أنه وقف موقفا وسطا فقال باللهام والصطلح معا‪ ،‬يوضّح ذلك ما‬
‫ختم به هذا الباب حيث افترض أن يكون ال تعالى قد خلق قبلنا أقواما كانت لهم القدرة التي مكنتهم على الصطلح‬
‫والتواضع في تسمية الشياء‪ ،‬يقول أبو الفتح موضحا موقفه ومعبّرا في ذات الوقت عن حيرته بين القول بعرفية اللغة‬
‫أو القول باللهام‪" :‬فأقف بين تين الخلتين (اللهام والعرف) حسيرا‪ ،‬وأكاثرهما فأنكفئ مكثورا وإن خطر خاطر فيما‬
‫بعد‪ ،‬يعلّق الكف بإحدى الجهتين ويكفها (أو يفكها) عن صاحبتها قلنا به"(‪ .)2‬وما يجدر ملحظته هو أن موضوع نشأة‬
‫اللغة كان من ضمن المواضيع التي أسهب البحث فيه علماء اللغة المحدثون‪ ،‬وجدّوا في تقديم العلل الراجحة لذلك‪،‬‬
‫تهدف إلى تأسيس رؤية موضوعية تأخذ الظواهر اللغوية النموذجية (القرآن الكريم –الحاديث الشريفة –كلم العرب‬
‫الفصيح) كمعطى لوضع معايير مطردة تتناول اللغة في بعدها الشامل وفي جميع مستوياتها المعجمية والتركيبية‪ ،‬وإنّ‬
‫ذلك من شأنه أن ينقل البحث في أصل اللغة –الذي عدّه بعض اللغويين بحثا ميتافيزيقيا –إلى البحث في آلياتها التي‬
‫تشرف على ضبط الدللت المختلفة‪ ،‬خاصة إذا علمنا أن الدللة قد ولجت كل مجالت المعرفة والثقافة في العصر‬
‫الحديث بل وكل ميادين الحياة‪.‬‬

‫‪-4‬الجهود الدللية عند ابن سينا (‪373‬هـ‪427-‬هـ)‪:‬‬


‫ن ما يميز التحليل الدللي عند ابن سينا هو وقوفه على البعد النفسي والذهني اللذين يصاحبان العملية الدللية‪،‬‬ ‫إّ‬
‫وهو ما يعطي لتحليله طابع الدقة والعمق اللزمين خاصة إذا استحضرنا دراية ابن سينا بعلم النفس واعتماده منهج‬
‫التشريح‪ ،‬وذلك ما يتطابق مع نشاطه كطبيب وفيلسوف في آن واحد(‪ ،)3‬فهو يكثر من ذكر الوجود الذهني للعلمات‬
‫اللغوية وارتسامها في النفس والخيال في رصده لمراحل العملية الدللية‪ ،‬حيث يتم نقل المفاهيم المودعة في الذهن‬
‫لمدلولت في العالم الخارجي إلى أدوات دالة كاللفاظ والكتابة‪ ،‬وبما أنّ اللفظ اللغوي يع ّد أساس العملية الدللية أقام له‬
‫ابن سينا تقسيما بحسب الفراد والتركيب والتأليف‪ ،‬وبحسب الكلي والجزئي ثم أبان عن اللفظ الخاص واللفظ المشترك‬
‫والجامع بين الصفتين‪ ،‬أما الدللة فقد صنفها ابن سينا إلى أصناف لم تخرج عن تلك التي كانت متداولة بين‬
‫معاصريه‪ ،‬من العلماء وممن سبقه من الفلسفة كالفارابي(‪( )4‬ت ‪339‬هـ)‪ ،‬وفيما يلي عرض لهذه المسائل التي أثارها‬
‫ابن سينا وجمعناها في ثلثة عناوين وهي‪ :‬أقسام اللفظ –أقسام الدللة‪-‬العملية الدللية‪.‬‬
‫أ‪-‬أقسام اللفظ‪ :‬يحدّد ابن سينا ماهية اللفظ المفرد بالنظر إلى دللته‪ ،‬فما كانت دللته واحدة ل تتجرأ فهو اللفظ‬
‫المفرد‪ ،‬ثم بحيث إذا تجزأت دللته لم تفصح عنه وإنما تتحول إلى دال غيره‪ ،‬ومعنى ذلك أن اللفظ المفرد قد يكون‬
‫لفظا مركبا فقولنا "عبد شمس" فإنّه وإن جاز فيه أن يجزأ إلى "عبد" و "شمس" ولكن ل تكون دللته من حيث يراد أن‬
‫يقال "عبد شمس" يعرف ابن سينا اللفظ المفرد فيقول‪ :‬اللفظ الدّال المفرد هو اللفظ الذي ل يريد الدال به على معناه أن‬
‫يدل بجزء منه البتة على شيء"(‪ .)5‬وقريبة ماهية دللة اللفظ المفرد عند ابن سينا بماهية المعنى التعييني (‪Sens‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.47‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ،47‬وانظر باب ف اللغة‪ :‬أف باب واحد وضعت أم تلحق تابع منها بفارط –ج ‪ -2‬ص ‪.30 -29 -28‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪.‬فايز الداية‪ ،‬علم الدللة العرب –ص ‪.13‬‬ ‫‪3‬‬

‫() انظر مبحث‪ :‬مفاهيم الدللة عند الفاراب‪ -‬الفصل الول‪ :‬ماهية علم الدللة كما عرفها القدمون‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪4‬‬

‫() منطق الشرقيي –ص ‪.31‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫‪ )denotatif‬عند اللسنيين المحدثين ومنهم العالم الدللي جون ليونز (‪ )John Lyons‬وهو ل يختلف كثيرا عن‬
‫معنى الرجاع الذي تتحدد معه العلقة القائمة بين الوحدة المعجمية وماهو خارج من النظام اللغوي من أشخاص‬
‫ل أنّ (ليونز) يميّز بين التعيين والرجاع في أنّ الول يحدّد مدلول الوحدة المعجمية خارج السياق‬ ‫وأماكن وأشياء‪ .‬إ ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫اللغوي أما الثاني فيحدّد مدلولها داخل العبارات المرتبطة بالسياق ‪ .‬يبرز ابن سينا المعنى التعييني للفظ المفرد‬
‫فيقول‪" :‬والمعنى المفرد –هو المعنى من حيث يلتفت إليه الذهن كما هو‪ ،‬ول يلتفت إلى شيء منه يتقوم أو معه‬
‫يحصل‪ ،‬وإن كان للذهن أن يلتفت وقتا آخر إلى معان أخرى فيه ومعه أو لم يكن"(‪ .)2‬وكإشارة إلى صعوبة تعيين‬
‫دللة اللفظ المفرد يرى ابن سينا أنه لكي تحصل الدللة المعينة وجب أن يرجع إلى معنى اللفظ المفرد دون متعلقاته‪،‬‬
‫وإن كان ذلك يبقى مجرد شرط نظري بحيث أن الذهن يُضمّن الصورة المفهومية للفظ متعلقات أخرى وهو ما يشكل‬
‫إحدى العقبات القائمة أمام التحديد التام لرجاع دللة اللفظ في العالم الخارجي‪ ،‬وقد طرح (ليونز) الشكالية ذاتها في‬
‫حديثه عن التعيين ووصل إلى حدّ القول بوقوع البهام في البحث عن تعيين بعض العبارات والجمل‪ ،‬بل ووجد بعض‬
‫(‪)3‬‬
‫الصيغ التي تخلو من التعيين مثل الصفات والنعوت منها‪ :‬جميل‪ ،‬قبيح‪ ،‬زكي‪ ،‬شريف وغيرها‪..‬‬
‫وما نلحظه في تعريف ابن سينا للفظ المفرد أنه تعريف يختلف عن التعريف الذي أورده في كتابه "الشارات‬
‫والتنبيهات" حيث يقول‪" :‬اللفظ المفرد هو الذي ل يراد بالجزء منه دللة أصلً‪ ،‬حين هو جزؤه مثل تسميتك إنسانا‬
‫بعبد ال فإنك حين تدل بهذا على ذاته ل على صفته من كونه "عبد ال" فلست تريد بقولك "عبد" شيئا أصلً‪ ،‬فكيف إذ‬
‫سميته بـ"عيسى"؟ بلى‪ ،‬في موضع آخر قد تقول "عبد ال" وتعني بـ"عبد" شيئا‪ ،‬وحينئذ يكون "عبد ال" نعتا له‪ ،‬ل‬
‫اسما‪ ،‬وهو مركب ل مفرد"(‪.)4‬‬
‫ومدار الدللة عند ابن سينا هو القصد والرادة‪ ،‬لنها "دللة وضعية متعلقة بإرادة المتلفظ الجارية على قانون‬
‫الوضع فما يتلفظ به ويراد به معنى ما‪ ،‬ويفهم منه ذلك المعنى‪ ،‬يقال له‪ :‬إنه دال على ذلك المعنى‪ ،‬وما سوى ذلك‬
‫المعنى‪ ،‬مما ل تتعلق به إرادة التلفظ‪ ،‬وإن كان ذلك اللفظ أو جزء منه –بحسب تلك اللغة‪ ،‬أو لغة أخرى أو بإرادة‬
‫أخرى‪ -‬يصلح لن يدل به عليه فل يقال له‪ :‬إنه دال عليه‪ -‬أو ل يراد"(‪ .)5‬ولذلك قد يقال أن جزء "عبد ال" يحمل‬
‫دللة في نفسه ولكن ليست دللة مقصودة يقول ابن سينا موضحا ذلك‪" :‬إذا لم يرد باللفظ دللة لم يكن دالً‪ .‬لن معنى‬
‫قولنا‪" :‬لفظ دال" هو أنه يراد به الدللة ل أن له نفسه حقا من الدللة"(‪ .)6‬والواقع اللغوي يؤكد على أهمية التحقق من‬
‫بنية الكلمة لرصد دللتها وضرورة الوقوف على قصد المتكلم من الصيغ المتشابهة‪ ،‬خاصّة ما يشكل عالمه الدللي‬
‫وهو مرمى مستحيل التحقيق‪ ،‬لن اللغة وجدت للمحاورة والمشاركة لوجود المجاورة كما قال ابن سينا ولو احتفظ كل‬
‫إنسان بعالمه الدللي لما احتجنا إلى اللغة‪ ،‬فالتواصل والبلغ يقتضي أن يكون قدر من الشتراك في سنن اللغة بين‬
‫جمهور المتكلمين من أهلها لنها ثمرة لتواضع بينهم‪ ،‬ولذلك نجد من يعترض على تعريف ابن سينا للفظ المفرد‪ ،‬وما‬

‫() ان ظر الف صل‪ :‬التعي ي ( ‪ )denotation‬من كتا به ( ‪ )Element de semantique‬وان ظر مقال التعي ي والتضم ي ف علم الدللة –‬ ‫‪1‬‬

‫الدكتور جوزيف شاري عدد ‪ 18/17‬سنة ‪ 1982‬ملة الفكر العرب العاصر‪.‬‬


‫() منطق الشرقيي –ص ‪.32‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر‪ .‬فصل "التعيي" ف كتابه‪ )Element desemantique ( :‬ص ‪.85‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ص ‪( 192‬الشارات والتنبيهات)‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصفحة نفسها‪ .‬والصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫() منطق الشرقيي‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫سبب ذلك إل سوء في الفهم وقلة العتبار لما ينبغي أن يفهم ويعتبر(‪ .)1‬وقد شرح العالم المريكي هياكوا (‪S.J.Haya‬‬
‫‪ )kwa‬كيف تحمل الكلمات المعاني اليحائية التي لها إسقاطات نفسية تخص المتكلم وقد ل يتنبه المتلقي لها وميّز بين‬
‫نوعين من المعنى‪ :‬المعنى التصريحي (‪ )Sens intentionnel‬والمعنى الثانوي أو اليحائي (‪Sens‬‬
‫‪ )extensionnel‬أو كما سمى ذلك غرينيبزغ (‪ )J.H.Greeberg‬المعنى الداخلي مقابل المعنى الخارجي وقد "علّق‬
‫الشارح على التعديل الذي أدْخله ابن سينا على تعريفه الول للفظ المفرد بقوله قد‪" :‬زاد في الرسم القديم ذكر (الرادة)‬
‫تنبيها على أن المرجع في دللة اللفظ هو إرادة المتلفظ"(‪.)2‬‬
‫ويورد ابن سينا تفريعا آخر للفظ الدال بحسب ما يغطيه من الدوال الفرعية فكأنه لكسيم رئيسي يشرف على حقل‬
‫ل واحدا ل غير وهنا يحصل التطابق التام بين اللفظ العم وما يضمه‪ ،‬يسمي ابن‬
‫من اللفاظ‪ ،‬قد يضم هذا الحقل دا ً‬
‫سينا ذلك النوع من اللفاظ‪:‬‬
‫بالخاص المطلق‪ ،‬يقول في ذلك‪" :‬إعلم أن أصناف الدال على ما هو من غير تغيير العرف (وفي نسخة "مفهوم‬
‫العرف") ثلثة‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬بالخصوصية المطلقة مثل دالة الحد على ماهية السم مثل دللة الحيوان الناطق على النسان"(‪ .)3‬فالمثال‬
‫الذي قدمه ابن سينا يخصّ الحدود والتعاريف وينسحب على الوحدات المعجمية‪ ،‬كما تقوم به نظرية الحقول الدللية‬
‫فالتعريف‪" :‬الحيوان الناطق" يعد لكسيما رئيسيا يغطي أو يتضمن الدللة على ماهية لفظ النسان‪ .‬معنى ذلك أن النوع‬
‫يشتمل على الجنس من حيث المفهوم‪ ،‬لن النوع يحتوي صفات الجنس كلها مضافا إليها الفصول النوعية في حين‬
‫يكون الجنس أشمل من النوع من حيث الماصدق كما يقول المناطقة(‪.)4‬‬
‫أما النوع الثاني من اللفاظ فهي تلك التي تغطي ألفاظا فرعية غير متجانسة‪ ،‬وهي ذات حقل من الفراد تشترك‬
‫في أن اللفظ العام يتحقق فيها مفهومه الذهني‪ ،‬يقول ابن سينا موضحا ذلك‪" :‬والثاني‪ :‬بالشركة المطلقة مثل ما يجب أن‬
‫يقال –حين يسأل عن جماعة مختلفة فيها مثلً‪ :‬فرس وثور وإنسان‪ :‬ماهي؟ وهناك ل يجب ول يحسن إل الحيوان"(‪.)5‬‬
‫إن تحديد العلقات التقابلية داخل الحقل المعجمي بناء على معجم المفاهيم‪ ،‬يوضح مجالت الستعمال أكثر مما‬
‫يوضحه المعجم التقليدي‪ ،‬ويسمح ذلك بمعرفة أن هذا اللفظ يدرس ضمن مجموعة مترابطة مع ألفاظ أخرى لنها‬
‫تنتمي إلى حقل مفهومي مشترك‪.‬‬
‫ل أوسع مما خص به النوعين الوليين‪،‬‬ ‫أما النوع الثالث من أنواع اللفظ المفرد‪ ،‬فيقيم على أساسه ابن سينا حق ً‬
‫وذلك لن هذا النوع يحمل سمات الخصوصية المطلقة والشركة وهما صفتا النوعين السابقين‪ .‬يقول ابن سينا في‬
‫تحديد هذا النوع من اللفظ المفرد‪" :‬وأما الثالث فهو ما يكون بشركة وخصوصية معا‪ ،‬مثل ما إنّه إذا سئل عن جماعة‬
‫هم‪ :‬زيد وعمرو وخالد‪ ،‬ماهم؟ كان الذي يصلح أن يجاب به على الشرط المذكور أنّهم أناس"(‪ .)6‬ومن ضمن العلقات‬

‫() انظر تعليق الشارح‪ :‬من كتاب الشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.192‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الشارات والتنبيهات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.193‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.244‬‬ ‫‪3‬‬

‫() انظر الامش ف كتاب‪ :‬علم الدللة ص ‪ .99‬أحد متار عمر‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() انظر الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الشارات والتنبيهات –ج ‪ ،1‬ص ‪.227‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫التي حددها علماء الدللة داخل الحقل المعجمي‪ ،‬علقة الجزء بالكل‪ ،‬ذلك أن مجموع السمات التي يحملها الكل تنطبق‬
‫ص جزءا واحدا فقط‪ ،‬ويشرح المناطقة هذه العلقة بكون الكل يضم تحته أجزاء ل‬
‫على جزئياته ول يمكن أن تخ ّ‬
‫جزئيات وهذه الجزاء مجتمعة في هيئتها التركيبية يطلق عليها اسم الكل ول يصح إطلق الكل على جزء من‬
‫أجزائه(‪ )1‬فلفظ "أناس" لفظ كلّ يضم تحته أجزاء من اللفاظ‪ ،‬ل يطلق عليها إل وهي مجتمعة ل مفردة‪.‬‬
‫وعلى أساس هذه الصناف الثلثة للفظ المفرد يمكن بناء العلقات الدللية بين جملة الحقول التي يؤسسها وبين‬
‫الدللة التي يحملها‪ .‬فالنوع الول يشير إلى علقة المطابقة بين النسان والحيوان الناطق‪ ،‬أما النوع الثاني والثالث‬
‫فهو يحقق علقة التضمن‪ ،‬وما هو حريّ بالملحظة في هذا المقام هو أن ابن سينا يسعى إلى وضع قواعد كلية تنتظم‬
‫اللفاظ‪ ،‬وهذا هو "دأب المناطقة‪ ،‬بل إنه لينادي بأن تكون تلك القواعد عامّة لجميع اللغات ينتفع بها كل القوام خاصة‬
‫فيما تعلق بالجانب الدللي الذي يسعى المنطقي إلى تحقيقه بضبطه لللفاظ في حالتها الفرادية والتركيبية يقول ابن‬
‫(‪)2‬‬
‫سينا‪" :‬يلزم المنطقي أيضا أن يراعي جانب اللفظ المطلق من حيث ذلك غير مقيد بلغة قوم دون قوم‪ .‬إل فيما يقل" ‪.‬‬
‫فابن سينا بخبرته في التحليل يدرك أن بين اللغات قدرا من الشتراك وتبقى كل لغة تتميّز بخصوصيتها‬
‫الموفورلوجية‪ ،‬والفونولوجية بحيث تتفاوت في ذلك اللغات‪ ،‬وتختلف‪.‬‬
‫ب‪-‬أقسام الدللة‪ :‬إنّ تعيين العلقة بين اللفظ والمعنى‪ ،‬تناوله ابن سينا من جوانب ثلثة‪- :‬دللة المطابقة ودللة‬
‫التضمن ودللة اللتزام‪ ،‬فإذا كان النتقال بواسطة العقل من الدال إلى مدلوله‪ ،‬لعلمه بعلقة الوضع وأنّه كلّما تحقق‬
‫مسموع اسم ارتسم في الخيال مدلوله‪ ،‬فإن الدللة عندئذ دللة وضعية تمنع من وقوع اللتباس بين الدللت الثلث‪.‬‬
‫لنّه قد يطلق اللفظ ول يعني به مدلوله المطابق له كما إذا أطلقنا لفظ "الشمس" وعنينا به "الجرم" كانت الدللة بينهما‬
‫مطابقة وإذا عنينا به "الضوء" كانت العلقة بينهما تضمن"‪.‬‬
‫ولكن بتدخل الوضع وتوسط العرف الصلي يمنع انتقاض الدللت بعضها ببعض يورد ابن سينا أمثلة يوضح‬
‫فيها كل قسم من أقسام الدللة الثلث فدللة المطابقة هي التطابق الحاصل بين اللفظ وما يدل عليه كالنسان فإنه يدل‬
‫على الحيوان الناطق‪ ،‬أمّا دللة التضمن فهو ما يتضمنه اللفظ من معان جزئية تدخل في ماهيته كقولهم النسان فإنه‬
‫يتضمن الحيوان‪ .‬أما دللة اللتزام فهي تحتاج إلى أمر خارجي لعقد الصلة بين الدال ولزمه‪ ،‬فقولنا الب يلتزم البن‬
‫يقول ابن سينا معرفا ذلك‪" :‬أصناف دللة اللفظ على المعنى ثلثة‪:‬‬
‫دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة اللتزام"(‪ .)3‬وهي دللت تجمع النساق كلّها‪ .‬ويشرح علقة اللتزام‬
‫فيقول‪" :‬ودللة اللتزام مثل دللة المخلوق على الخلق والب على البن والسقف على الحائط والنسان على‬
‫الضاحك‪ ،‬وذلك أن يدل أولً دللة المطابقة على المعنى الذي يدّل عليه أولً‪ ،‬ويكون ذلك المعنى يصحبه معنى آخر‪،‬‬
‫فينتقل الذهن أيضا إلى ذلك المعنى الثاني الذي يوافق المعنى الول ويصحبه‪ .‬وتشترك دللة المطابقة ودللة التضمن‬
‫في أن كل منها ليس دللة على أمر خارج عن الشيء"(‪ .)4‬وينصّ ابن سينا هاهنا على أمر مهم يخصّ العلقة بين‬
‫دللة المطابقة ودللة اللتزام إذ الوصول إلى دللة اللفظ على معناه بطريق اللتزام يمرّ عبر إجراء دللة المطابقة‬
‫بين اللفظ وما يطابقه من مدلولت بتوسط الذهن الذي ينجز هاتين المرحلتين (بشكل سريع جدا) فدللة الب على‬

‫() ضوابط العرفة ص ‪ .32‬حسن حبنكة اليدان‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الشارات والتنبيهات –ج ‪ ،1‬ص ‪.181‬‬ ‫‪2‬‬

‫() منطق الشرقيي –ص ‪.37‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الشارات والتنبيهات –ج ‪ ،1‬ص ‪.189‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫البن دللة التزام ولكن هذه الدللة لم تنعقد حتى وجد العقل أن بين الب ومدلوله (أنه والد له أبناء) هناك علقة‬
‫مطابقة‪ ،‬ثمّ تختلف دللة اللتزام عن دللتي التضمن والمطابقة في أنها تستدعي مدلولً خارجا عن اللفظ‪ ،‬أما دللتا‬
‫التضمن والمطابقة فإنهما تستدعيان مدلولهما من لفظيهما‪ .‬لن دللة اللفظ على كل أجزائه هي دللة مطابقة‪ ،‬أما‬
‫علقته بجزء من هذه الجزاء فهي علقة تضمن‪ ،‬ولذلك نجد ابن سينا في حصره للعلقة القائمة نظريا بين اللفظ‬
‫والمعنى ل يقيّدها فيقول في ذلك‪" :‬ولن بين اللفظ والمعنى علقة ما"(‪ .)1‬ثم لتعيين العلقة بين الدال والدلول يستدعي‬
‫إدراك العلقة بين المدلول والشيء الخارجي وذلك ما أشارت إليه المباحث اللسانية الحديثة التي أكدت أنْ ل علقة‬
‫مباشرة بين الدال والمدلول وإنما العلقة الحقيقية هي بين الرمز اللغوي ومحتواه الذهني (‪ ،)concept‬إل أن وعي‬
‫النسان اعتاد على ربط الدال بالشيء الخارجي ربطا مباشرا دون وعي بالمحتوى الذهني في العلقة الدللية بين‬
‫الدال والمدلول‪ ،‬ولذلك يرى ابن سينا أن العلقة الدللية تنعقد بين المعنى (المدلول) والشيء في العالم الخارجي تأكيدا‬
‫أن ل علقة مباشرة بين الدال والمدلول يقول موضحا ذلك‪" :‬فما يخرج بالصوت يدل على ما في النفس وهي التي‬
‫تسمى آثارا والتي في النفس تدل على المور وهي التي تسمى معاني"(‪ .)2‬ويمكن توضيح ذلك بالمثلث التالي‪:‬‬
‫ما في النفس (المحتوى الذهني)‬

‫الصوت (الرمز اللغوي)‬ ‫المور الخارجية (المعاني)‬


‫ول تكفينا المقارنة لنقارب مثلث ابن سينا الدللي بمثلث ريشتاردز وأوجدن‪ ،‬بل إن ابن سينا كان أعمق في‬
‫إدراك جوهر الدللة من المحدثين‪ ،‬فسمى الرمز اللغوي (صوتا) وذلك إشارة كذلك إلى الرمز غير اللغوي‪ ،‬فما كل‬
‫صوت‪ ،‬لفظ لغوي‪ ،‬ثم سمّى ما في النفس آثارا وذلك لنّ ارتسام صورة الرمز في النفس يشكل آثارا تتحول إلى‬
‫تراكمات للمعاني الذهنية في الذاكرة فكلما تحقق مسموع صوت ارتسمت في الخيال صورته‪.‬‬
‫إنّ أهمية مباحث ابن سينا في الدللة ل تكمن في عمق تصورّها لجوهر الفعل الدللي فحسب‪ ،‬وإنما في بعدها‬
‫الشمولي للسان البشري‪ ،‬وهو هدف يعكف عليه علماء الدللة المحدثين وعلى رأسهم (نوام تشومسكي) في بحثه عن‬
‫القواسم المشتركة بين اللغات يحاول وضع قواعد أو نحو كلي (‪ )Universal Grammar‬ينتظم اللسان البشري‪ .‬إن‬
‫ما يجمع بين اللغات هو اشتراكها في التصورات الذهنية اشتراكا عاما أما ما يفرقها فهي النساق الدللية وكيفية‬
‫تحقيقها في واقع اللغة‪ ،‬مع أنّ العالم الدللي واحد في كل اللغات‪ ،‬يعني ذلك –حسب تشومسكي‪ -‬أن البنية العميقة‬
‫مشتركة بين جميع اللغات أما الختلف فيكمن في البنية السطحية‪ ،‬ودليله في ذلك أن الطفل في طور تعرّفه الول‬
‫على الشياء المحيطة به تتحكم في منطقه البنية العميقة أو الكفاية اللغوية وهذا ما يفسّر اشتراك الطفال من مختلف‬
‫الجناس في ترميزهم للمدلولت في العالم الخارجي‪ ،‬والتعبير عن أحوالهم السيكولوجية يقول ابن سينا شارحا ذلك‪:‬‬
‫"وأمّا دللة ما في النفس على المور فدللة طبيعية ل يختلف الدال ول المدلول عليه‪ ،‬كما في الدللة بين اللفظ والثر‬
‫النفساني‪ ،‬فإن المدلول عليه وإن كان غير مختلف‪ ،‬فإن الدال مختلف ول كما في الدللة بين اللفظ والكتابة‪ ،‬فإن الدال‬
‫والمدلول عليه جميعا قد يختلفان"(‪ .)3‬ثم إن الصورة السمعية (‪)Image acoustique‬هي التي تعكس مفهوم المدلول‬

‫() الشارات والتنبيهات –ج ‪ ،1‬ص ‪.189‬‬ ‫‪1‬‬

‫() العبارة من الشفاء‪ ،‬ص ‪.4 -2‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫في النفس فيكون المعنى‪ ،‬ويرتسم في الذهن‪ ،‬ضمن الذاكرة اللغوية ارتباط اللفظ بمعناه‪ ،‬فكلما ت ّم ارتسام مسموع السم‬
‫في الخيال توارد إلى النفس معناه‪ ،‬وذلك تأكيد على ما سجلناه عند ابن سينا من أن العلقة الحقيقية الدللية هي بين‬
‫الدال والصورة والذهنية يقول ابن سينا مبرزا ذلك‪" :‬فمعنى دللة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم‪،‬‬
‫ارتسم في النفس معنى‪ ،‬فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم‪ ،‬فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى‬
‫معناه"(‪.)1‬‬
‫ج‪-‬العملية الدللية‪ :‬يشير ابن سينا‪ ،‬في رصده لليات الفعل الدللي‪ ،‬إلى تلك القدرة التي أوتيها النسان المتكلم‪،‬‬
‫بحيث مكنته من نقل المفاهيم التي التقطها من العالم الخارجي إلى نفسه وقد انتقل معها من الحس إلى التجريد‬
‫ويطالعنا في هذا الموضوع الدرس الدللي بأبحاث مستفيضة حول معاينة وجود العوالم الدللية‪ ،‬ومن ضمن المواضع‬
‫التي أظهرها العلماء مواضع أربع وهي‪ :‬الفكار و الحداث و الوضاع و المفاهيم‪( .‬ففريجه) ‪ Frege‬ذهب إلى أن‬
‫تموضع العوالم الدللية هو عالم المفاهيم لنها الوسيط الذي يربط الفكار والحداث والوضاع‪ :‬الذهان تمسك‬
‫بالمفاهيم والكلمات تعبّر عنها والشياء يحال عليها بواسطتها"(‪ .)2‬فأين يرى ابن سينا تموضع العوالم الدللية؟ يقول في‬
‫ذلك‪" :‬إن النسان قد أوتي قوة حسية ترتسم فيها صور المور الخارجية وتتأدى عنها إلى النفس فترتسم فيها ارتساما‬
‫ثانيا ثابتا‪ ،‬وإن غاب عن الحس‪ .‬فللمور وجود في العيان ووجود في النفس يكوّن آثارا في النفس‪ .‬ولمّا كانت‬
‫الطبيعة النسانية محتاجة إلى المحاورة لضطرارها إلى المشاركة والمجاورة انبعثت إلى اختراع شيء يتوصل به‬
‫إلى ذلك (…) فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت ووفقت من عند الخالق بآلت تقطيع الحروف وتركيبها معا‪ ،‬ليدل‬
‫بها على ما في النفس من أثر‪ .‬ثم وقع اضطرار ثان إلى إعلم الغائبين من الموجودين في الزمان أو من المستقبلين‬
‫إعلما بتدوين ما علم… فاحتيج إلى ضرب آخر من العلم غير النطق‪ ،‬فاخترعت أشكال الكتابة"(‪ .)3‬إن هذا النص‬
‫يحمل دللة علمية عميقة‪ ،‬يقف فيه ابن سينا على تاريخ وجود الدللة وأشكالها المقولية صوتا وكتابة‪ ..‬فقد جعل‬
‫النسان ذاته‪ ،‬مستودع للبنيات الدللية التي عكست صورا من العالم الخارجي إلى النفس‪ ،‬ولكنها ليست نفس الصور‬
‫وإنّما أخذَت شكلً ثانيا ليس هو شكلها الوّل ولكنّه شكل ثابت ل يتغيّر من هنا تنسج العمليات الدللية –بحسب ابن‬
‫سينا‪ -‬حيث تأخذ الطابع التجريدي البحث في غياب صور عالم العيان‪ .‬وتحتاج عندئذ لنماط مقولية بعد المواضعة‬
‫عليها وهنا يشير ابن سينا إلى الطابع الجتماعي للغة فلول الحاجة الجتماعية للمحاورة التي اقتضاها المجتمع‬
‫ل ما يبقي الصلت الجتماعية راسخة‪ .‬ولكن‬ ‫البشري لستغنى عن اللغة‪ ،‬فاللغة حاملة للقيم الجتماعية وهي وعاء لك ّ‬
‫ابن سينا يميل إلى القول بأن اللغة إلهام من عند ال تعالى الذي وهب النسان (آلت) لنتاج تقاطيع صوتية اصطلح‬
‫عليها‪ ،‬وحمّلها مدلولت متعلقة بها‪ ،‬وكان الصوت اللغوي يقوم بالعملية الدللية‪ ،‬التي هي جوهر فعل البلغ‬
‫والتواصل‪ ،‬في حيّز زماني ومكان ضيّق‪ ،‬ولما احتاج النسان إلى نقل معارفه إلى الغائبين من الموجودين‪ ،‬أو ما كان‬
‫في حكمهم من التين مستقبلً‪ ،‬كانت الكتابة شكلً متطورا‪ .‬وقد ميّز في الدرس اللساني الحديث العالم اللغوي (رومان‬
‫جاكسون) بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة وفي إطار ذلك قابل بين الصوت والحرف‪ ،‬والمستمع والقارئ ووقف‬
‫على فعالية الكلم وفعالية الكتابة وخلص إلى أن الكتابة ستبقى الداة الكثر فعالية في الخطاب التواصلي والبلغي‬
‫كونها تضمن له استمرارية كبرى ومنفذا إلى المتلقين مهما تباعد المكان والزمان‪ .‬وأن الكتابة تفضل الكلم المنطوق‪،‬‬
‫في أن المستمع بعد أن يقوم بتركيب ثان لسلسلة الكلم المنطوق قد يحصل له بعض المعنى لنه ستكون عندئذ‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪1‬‬

‫() اللسانيات واللغة العربية –ص ‪ .381‬د‪.‬عبد القادر الفاسي الفهري‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الشفاء (العبارة)‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫عناصر الكلم قد تلشت(‪.)1‬‬
‫ويكون ابن سينا بما أوتي من سبر عميق لبنية اللغة‪ ،‬وتحليل علمي لفعاليات الدللة قد وضع أسس نظرية لغوية‬
‫ذات رؤية متميزة في التراث العربي‪ ،‬ظهر فيها بوضوح أهمية العامل النفسي والذهني في تقديم التفسيرات الكافية‬
‫للفعل الدللي الموصوف بالتعقيد‪ ،‬وإنّ الذي أعان الشيخ الرئيس في استنباط تلك القواعد‪ ،‬التي تنتظم العالم الدللي‪،‬‬
‫هو امتلكه للمنهج المنطقي القائم على الستدلل والتعليل الذي يسوّغ رسم الصول بأكبر قدر من التفصيل والتدقيق‪،‬‬
‫وقد كان للبحث الدللي الحظ الوفر في أنه تُ ُنوّل ضمن اهتمامات لغوية أخرى اتخذت الموضوع الدللي كمنفذ‬
‫أساسي لبسط مصنفاتها خاصة تلك العلوم التي ورثت منهجا علميا في غاية الدقة كعلم المنطق‪ ،‬الذي اشتغل به ابن‬
‫سينا‪ ،‬وكان يهدف معه إلى وضع قوانين المعنى بكشف أسراره وإيضاح أنماطه وتمظهراته في الواقع اللغوي وذلك‬
‫حتى يغدو أداة عاصمة من الوقوع في اللحن بإحداث اضطراب في سنن النظام اللغوي‪ ،‬ويتماشى مع علم المنطق‬
‫الذي يسعى أهله من العلماء إلى تبيّن معالمه ليَعصِم من الوقوع في الزلل والغلط‪.‬‬

‫‪-5‬الجهود الدللية عند عبد القاهر الجرجاني (ت ‪421‬هـ)‪:‬‬


‫من خلل كتابه‪" :‬دلئل العجاز"‪ .‬ل يمكن بحال أن نغلق حلقات البحث البلغي من وجهة نظر دللية وأسلوبية‪،‬‬
‫بما قدّمه الجاحظ في هذا المجال‪ ،‬رغم قيمته العلمية‪ ،‬دون أن نضيف إليها حلقة مهمّة وأساسية تتلخص في جهود عبد‬
‫القاهر الجرجاني في إرساء نظرية النظم‪ .‬ويمكن أن نجزم بأن البحث في (المعاني) باعتبارها جوهر عملية تأليف‬
‫الكلم وإتقان نظمه‪ ،‬بدأت بإسهامات الجاحظ وتعريفه‪ ،‬بأدوات البيان ومصطلحات (النظم) وتأسست على يد عبد‬
‫القاهر الجرجاني من خلل كتابه "دلئل العجاز" الذي لم يرد من وراء تأليفه إثبات إعجاز القرآن على سمت‬
‫المتكلمين والمناطقة‪ ،‬وإنّما رام به الكشف عن إعجاز القرآن من زاوية نظرة لسانية وأسلوبية‪ ،‬فتناول ضمنها مباحث‬
‫تتمحور كلها حول قيمة اللفظ في حالتيه الفرادية والتركيبية‪ ،‬وعلقته بالمعنى وما تفرع عنهما من مباحث أخر‪،‬‬
‫وسنبسط ها هنا الكلم عن بعض هذه المباحث بما يجلّي إسهامات الجرجاني في الحقل الدللي‪ ،‬وقيمة ذلك بالنظر إلى‬
‫التطور الحاصل في ميدان علم اللغة بشكل عام‪.‬‬
‫أ‪-‬العلمة اللسانية (علقة اللفظ بالمعنى)‪ :‬هناك –كما تشير إليه السلوبية‪ -‬عمليتان تتمان مع كل تلفظ أو إنشاء‬
‫كلمي‪ ،‬إحداهما سابقة على الخرى فأما الولى فتتمثل في انتظام المعاني في الذهن ويصحبها حسن اختيار الدللت‬
‫المناسبة للموقف الكلمي‪ ،‬أمّا الثانية فتتمثل في انتظام المعاني في ألفاظ وتراكيب بأنساق مختلفة يحدّد الجرجاني‬
‫بصورة دقيقة كيفية اختيار المتكلم للمعاني واللفاظ أثناء الموقف الكلمي‪ .‬فيقول‪" :‬إن اللفاظ إذا كانت أوعية للمعاني‬
‫فإنها ل محالة تتبع المعاني في مواقعها‪ ،‬فإذا وجب لمعنى أن يكون أولً في النفس وجب للفظ الدال عليه أن يكون‬
‫مثله أولً في النطق"(‪ )2‬وما يلحظ أن الجرجاني يعطي السبقية للمعاني في الوجود النفسي واللفاظ تابعة لها في‬
‫الواقع الكلمي‪ ،‬وهذا ما يفسّر ل نهائية المعاني التي أقرّها علماء الدللة المحدثون مقابلة نهائية اللفاظ‪ ،‬واستخلصوا‬
‫أن المتكلم يلجأ‪ ،‬لذلك –في غالب الحيان‪ -‬إلى توظيف النزياح الدللي لس ّد ثغرة دللية ل يستطيع المعجم ملها‬
‫وهو "احتيال من النسان على اللغة وعلى نفسه لس ّد قصوره وقصورها معا‪ ،‬لن النسان عاجز عن الحاطة باللغة‬
‫وطرائقها‪ ،‬مثلما هي عاجزة عن نقل كل ما في نفسه"(‪ .)3‬ويضع الجرجاني تعليلً منطقيا لسبقية المعاني على اللفاظ‬

‫() ‪P.101-102 Essais de linguistique generale‬‬ ‫‪1‬‬

‫() دلئل العجاز‪،‬ص ‪.68‬‬ ‫‪2‬‬

‫() نظرية النقد العرب‪ ،‬وتطورها إل عصرنا –ص ‪ ،202‬د‪.‬مي الدين صبحي‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫مستندا على معيار التغيّر الذي يطرأ على المعنى دون اللفظ وهذا ما يؤكد على اعتباطية الدليل اللساني الذي يعطي‬
‫للغة مرونتها في ملءمة الوضاع المختلفة ومسايرة الحوال المتغيرة‪ ،‬فلو كان اللفظ له ارتباط طبيعي بدللته لما‬
‫وسع اللغة أن تتميّز بطابعها الجتماعي حيث تماشِي المجتمع في تطوراته النفسية والعلمية‪ .‬يقول الجرجاني في ذلك‪:‬‬
‫ل أن تتغيّر المعاني واللفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها فلما‬‫"لو كانت المعاني تكون تبعا لللفاظ في ترتيبها لكان محا ً‬
‫رأينا المعاني قد جاز فيها التغيّر من غير أن تتغيّر اللفاظ وتزول عن أماكنها علمنا أن اللفاظ هي التابعة والمعاني‬
‫هي المتبوعة"(‪ .)1‬كما أن الدرس الدللي الحديث يقرّ أن الصيغة المعجمية تكتسب دللة ثانية عندما تدخل في تجاور‬
‫سياقي مع وحدات كلمية أخرى يُراعىَ في ذلك حسن التناسق بين المعاني وحسن الموقع لللفاظ فل تبدو نابية ول‬
‫مستكرهة وبذلك تكتسب الصيغة المعجمية داخل التركيب (الفضيلة) وفي ذلك تأكيد على أهمية التلزم بين مكونات‬
‫الجملة بالنظر إلى الوظيفة الدللية لهذه المكونات يشرح ذلك الجرجاني بقولـه‪" :‬فقد اتضح إذن اتضاحا ل يدع للشك‬
‫ل أن اللفاظ ل تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجرّدة ول من حيث هي كلم مفردة‪ ،‬وإنما اللفاظ تثبت لها الفضيلة‬ ‫مجا ً‬
‫(‪)2‬‬
‫وخلفها في ملءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما ل تعلق له بصريح اللفظ" ‪ .‬إنّ تلك المزايا‬
‫التي كان يخص بها أهل الشعر ومحترفو صناعة النقد في التراث الدبي العربي للفظ دون المعنى يعطيه الجرجاني‬
‫تأويلً آخر‪ ،‬إذ ينظر إلى اللفظ والمعنى كطرفين ل ينفكان يشكلن ما سمّاه علماء اللسنة المحدثون بالعلمة اللسانية‬
‫ض الطرف‬ ‫أو الدليل اللساني (‪ )Signe linguistique‬ومنهم العالم دوسوسير الذي يقيمه على الدال والمدلول ويغ ّ‬
‫على مفهوم المدلول في عالم الماديات وتعيينه كطرف ثالث في العملية الدللية(‪ .)3‬فأولئك النقاد الذين عناهم الجرجاني‬
‫ل يبنون انطباعهم الجمالي على الصورة الصوتية للكلمة بمعزل عمّا توحيه من دللة بديعة بل ينظرون إلى اشتراك‬
‫اللفظ والمعنى معا في إحداث صورة دللية‪ .‬فالجرجاني يضيف طرفا ثالثا في معادلة الفعل الدللي ويجدر التنبيه ها‬
‫هنا أن طبيعة المعنى عند اللغويين القدامى ل تختلف عن الشيء الخارجي الذي يومئ إليه اللفظ وهو المدلول‪،‬‬
‫فيحصل أن الصورة الخاصة التي حدثت في المعنى إنّما يعني بها الجرجاني ما عناه علماء الدللة واللسنية المحدثون‬
‫بالمحتوى الذهني للشارة اللغوية‪ .‬يفصّل ذلك الجرجاني بقوله‪" :‬فيعلموا (أي محترفو الشعر والنقد) أنّهم لم يوجبوا ما‬
‫أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ‬
‫وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى والخاصّة التي حدثت فيه"(‪.)4‬‬
‫ويمكن على أساس هذا النص مقاربة رؤية الجرجاني للدليل اللساني برؤية المحدثين من العلماء الذين أوضحوا‬
‫المكونات الثلثة للعلمة اللغوية وهي‪ :‬الدال والمدلول والمحتوى الذهني على الشكل الذي بيّناه بمثلث ابن سينا في‬
‫هذا المجال والذي قاربنا به مثلث أوجدن وريتشاردز(‪ .)5‬فالجرجاني يحدّد ثلثة مكونات تنشأ عن علقة اللفظ بالمعنى‬
‫وهي‪ :‬اللفظ –المعنى (الشيء الخارجي)‪ -‬الصورة الذهنية‪ ،‬والمثلث التالي يوضّح توزيع هذه المكونات‪.‬‬
‫الصورة الذهنية (محتوى الدال الفكري)‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.338‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.60‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ‪Cour de linguistique generale p.100‬‬ ‫‪3‬‬

‫() دلئل العجاز ص ‪.425‬‬ ‫‪4‬‬

‫() انظر ذلك ف مبحث أقسام الدللة عند ابن سينا‪ ،‬ص ‪.112‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫اللفظ (الدال)‬ ‫المعنى (الشيء الخارجي) –المدلول‬
‫إنّ اللغة عند الجرجاني تتمظهر في تقابلت ثنائية قطباها اللفظ والمعنى‪ ،‬وهي أعمق ممّا قيّدها به بعض‬
‫البلغيين الذين وضعوا معايير منطقية ونحوية (قواعدية) تمكن كل من قدر على النطق بها مراعيا أدواتها‪ ،‬من أن‬
‫يبلغ الغاية من البيان في اللغة‪ ،‬وكأن النقص في بلوغ البيان يكمن فقط في النقص من جهة العلم باللغة‪ ،‬ومعرفة‬
‫الشارة بالعين وبالرأس ودللتهما والخط والعقد والحال واتصالهم بتحقيق البيان‪ .‬إن الذي يعطي المزية لخطاب لغوي‬
‫هو مراعاته للسرار والدقائق التي تتعلق بجوهر اللغة ل بمظهرها‪ ،‬آخذا من أجل بلوغ الغاية التي ل مبلغ بعدها تلك‬
‫الرتباطات الدللية التي يلتحم فيها الدال بمدلوله ضمن شبكة من العلقات‪ ،‬تقتضي معرفة بالصول القواعدية‪،‬‬
‫ل عن ذلك العلقة اللغوية كتجسيد لدللة هي‬ ‫ووعي بأسرارها‪ ،‬حيث ل تقف عند حدود المنطق والنحو إنّما تأخذ فض ً‬
‫عبارة عن نسيج حي متشعب الصور‪ .‬يقول الجرجاني في ذلك متجاوزا نظرة الجاحظ إلى البيان المؤسّس على‬
‫معايير هي أشبه بالقواعد النحوية‪" :‬ترى كثيرا منهم ل يرى له (أي للنحو) معنى أكثر مما يرى للشارة بالرأس‬
‫والعين وما تجده للخط والعقد يقول‪ :‬إنّما هو خبر واستخبار وأمر ونهي‪ .‬ولكل من ذلك لفظ قد وضع له‪ ،‬وجعل دليلً‬
‫عليه فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات عربية كانت أو فرنسية وعَرَف المغزى من ذلك من كل لفظة ثم ساعده‬
‫اللسان على النطق بها وعلى تأدية أجراسها وحروفها فهو بيّن في تلك اللغة كامل الداة‪ ،‬بالغ عن البيان المبلغ الذي‬
‫ل مزيد عليه‪ .‬مُنت ٍه إلى الغاية التي ل مذهب بعدها (‪ )..‬وجملة المر أنه ل يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك‬
‫إل من جهة نقصه في علم اللغة‪ ،‬ل يعلم أن هاهنا دقائق وأسرار‪ ،‬طريق العلم بها الرواية والفكر ولطائف مستقاها‬
‫العقل‪.)1("...‬‬
‫وبذلك يكون الجرجاني قد أعطى للنحو قيمته في اللغة‪ ،‬فهو ليس جملة من القواعد الجافة التي تعتني بضبط‬
‫أواخر الكلمات وتعيين المبني منها والمعرب‪ ،‬إنّما النحو هو النظم الذي يكشف عن المعاني ويعطي لللفاظ البعد‬
‫المطلوب من أجل الفصاح عن الدللة‪ ،‬وتوليد المواقف المطلوبة المناسبة للتعبير فهو بذلك يساير اللغة في تجدّدها‬
‫وتطورها لتحتضن المواقف الجديدة عبر الزمان والمكان ونلحظ أن الجرجاني ناقم على تلك التجاهات التي كانت‬
‫تنظر إلى النحو نظرة تفضي إلى أن تجمد اللغة‪ ،‬وتبقى عاجزة عن احتواء المواقف‪ ،‬وذلك بتكبيل تراكيبها بقيود‬
‫النحو والقواعد‪ ،‬كما أنّ النقاد الذين سبقوا الجرجاني كانوا يسرفون في الهتمام باللفظ (الشكل) ويعطون له شرف‬
‫إصابة الغرض وبلوغ البيان دون أن يكون للمعنى أثر في ذلك‪ ،‬ولذلك نرى ردّ فعل الجرجاني معاكسا لهذا التجاه‬
‫فهو يقيم نظريته في النظم على المعاني(‪ )2‬وليس على اللفاظ يقول معبّرا عن هذا التجاه‪" :‬أتتصوّر أن تكون معتبرا‬
‫مفكرا في حال اللفظ مع اللفظ حتى تضعه بجنبه أو قبله‪ ،‬وأن تقول هذه اللفظة إنما صلحت هاهنا لكونها على صفة‬
‫كذا؟ أم ل يعقل إل أن تقول‪ :‬صلحت هاهنا لن معناها كذا‪ ،‬ولدللتها على كذا‪ ،‬ولن معنى الكلم والغرض فيه‬
‫يوجب كذا‪ ،‬ولن معنى ما قبلها يقتضي معناها؟ فإن تصوّرت الول فقل ما شئت‪ ،‬واعلم أن ما ذكرناه باطل‪ .‬وإن لم‬
‫تتصوّر إل الثاني فل تخدعن نفسك بالضاليل ودع النظر إلى ظواهر المور‪ ،‬واعلم أن ما ترى أنه لب ّد منه من‬
‫ترتيب اللفاظ وتواليها على النظام الخاص ليس هو الذي طلبته بالفكر‪ ،‬ولكنه شيء يقع بسبب الول ضرورة من‬
‫حيث أن اللفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها ل محالة تتبع المعاني في مواضيعها"(‪ .)3‬إن احتفاء الجرجاني بالمعنى‬
‫وإعطائه القيمة العليا في العملية الدللية‪ ،‬وإحلله المحل الول في النشاء لكونه يعبر عن المقاصد والغراض‪ ،‬يمكن‬

‫() دلئل العجاز ‪ ،‬ص ‪.21 -20‬‬ ‫‪1‬‬

‫() قضايا النقد الدب بي القدي والديث‪ :‬ص ‪– 291‬د‪.‬ممد زكي العشماوي‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.68 -67‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫ص باهتمام كبير لدى النقاد الذين سبقوا الجرجاني في تقديمهم للشكل على‬
‫أن نجد له تعليلً في أن اللفظ قد خ ّ‬
‫المضمون‪ ،‬هذا الهتمام المفرط باللفظ على حساب المعنى سعى الجرجاني إلى الحدّ منه وذلك بالنظر إلى أن اللغة‬
‫تذوب فيها ثنائية اللفظ والمعنى‪ ،‬وهذا ما كرّسه في نظرية النظم التي أقامها على النحو (العلم بالتركيب) وعلم المعاني‬
‫(العلم بالدللة)‪.‬‬
‫‪-2‬دللة الحدث الكلمي‪ :‬تأكد بما ل يدع للشك مجالً‪ ،‬أنّه كلّما كان المخاطب على علم بمحتوى الخطاب‬
‫اللغوي‪ ،‬كلما كانت الدللة أسرع إلى فهمه وإدراكه‪ ،‬وكلما كان جهله بمحتوى الخطاب كلما صعب عليه إدراك‬
‫الدللة‪ ،‬ووسعه الخذ بجملة من المعطيات الموضوعية والذاتية في سبيل ذلك‪ ،‬يعني أن هناك تناسبا عكسيا بين طاقة‬
‫التصريح في الكلم وعلم السامع بمضمون الرسالة يقول الدكتور عبد السلم المسدي‪" :‬ويتعين علينا –ونحن على‬
‫مسار تحديد الطاقة الستيعابية في اللغة‪ -‬استنباط قانون من التناسب بين طاقة التصريح في الكلم وعلم السامع‬
‫بمضمون الرسالة الدللية إذ بموجبه تكون الطاقة الختزالية ممكنة بقدر ما يكون السامع مستطلعا على مضمونها‬
‫الخبري"(‪ .)1‬ويشرح الجرجاني هذه الطاقة التي يتضمنها الخطاب والتي يكون على إثرها قابلً للمتداد أو التقلص‬
‫ل بذلك‪ ،‬فإن كان عالما‬‫فيقول‪" :‬ل يخلو السامع من أن يكون عالما باللغة وبمعاني اللفاظ التي يسمعها أو يكون جاه ً‬
‫لم يتصوّر أن يتفاوت حال اللفاظ معه فيكون معنى اللفظ أسرع إلى قلبه من معنى لفظ آخر وإن كان جاهلً كان ذلك‬
‫في وصفه أبعد"(‪ .)2‬وحتى على مستوى الخطاب الذي يكون للسامع علم بمحتواه‪ ،‬تتفاوت اللفاظ فيه والمعاني من‬
‫حيث وقوعها من إدراك المتلقي فبعضها يكون أسرع إلى الفهم من بعضها الخر‪ ،‬وهذا يتوقف أساسا على بنية‬
‫الخطاب وموقعها من التعقيد والبساطة‪ ،‬وعلى قدرة المتلقي في تفكيك الخطاب بحسب ما توفر له ذاكرته اللغوية‪ .‬كما‬
‫يردّ الجرجاني وضوح دللة الخطاب إلى حسن التأليف بين أجزائه ونظم كلماته‪ ،‬وإلى توخي معاني النحو وأحكامه‬
‫فيقول‪" :‬إذا كان النظم سويا والتأليف مستقيما‪ ،‬كان وصول المعنى إلى قلبك تلو وصول اللفظ إلى سمعك وإذا كان‬
‫على خلف ما ينبغي وصل اللفظ إلى السمع وبقيت في المعنى تطلب وتتعب فيه وإذا أفرط المر في ذلك صار إلى‬
‫التعقيد الذي قالوا إنه يستهلك المعنى"(‪ .)3‬إن ما أوضحه الجرجاني في مقام سلمة الدللة في الحدث الكلمي قد بحثه‬
‫ص مادّة الحدث الكلمي ومحتواه معا‪،‬‬ ‫علماء الدللة في العصر الحديث حيث وضعوا قواعد تضمن وضوح الدللة تخ ّ‬
‫أطلقوا على الولى قواعد سلمة التركيب وعلى الثانية قواعد سلمة الدللة وهي قواعد تنهض بعملية توصيل الدللة‪،‬‬
‫وكل واحدة من هاتين القاعدتين تتوفر على وجود مستقل وإنّما يتم التعالق بينهما بقواعد السقاط‪ ،‬ويجدر التنبيه أن‬
‫الباث للحدث الكلمي والمتلقي‪ ،‬وجب أن يكونا على وعي بهذه القواعد المنتجة للتمثيلت الدللية والتمثيلت التركيبية‬
‫في الحدث الكلمي الرامي إلى البلغ ويمكن توضيح ذلك بما يلي‪:‬‬

‫قواعد سلمة الدللة‪.‬‬ ‫قواعد حسن النظم واستقامة التأليف‬

‫بنى دللية سليمة‬ ‫قواعد السقاط‬ ‫بنى تركيبية سليمة‬

‫إن هذه القواعد ل تحقق الغاية من التواصل والبلغ إل في وجود باث ومتلق واعيين بآليات الحدث الكلمي‪،‬‬
‫ذلك أنّ الحفاظ على خط التواصل سليما ليس بالمر الهيّن‪ ،‬فقد يتعرض قانون التخاطب إلى تعديل فيحصل بين‬
‫() اللسانيات رأسها العرفية‪ :‬ص ‪.767‬‬ ‫‪1‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.254‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.257‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫المتخاطبين تواضع جديد واصطلح غير مطرد وهنا يتعرض الحدث الكلمي إلى موجة من الشحن التعبيري يتحول‬
‫بواسطته المدلول إلى دال على ملول ثان على النحو التي‪:‬‬
‫مدلول ‪1‬‬ ‫دال‬
‫مدلول ‪2‬‬ ‫مدلول‬
‫يحلّل ذلك الجرجاني بقوله‪" :‬ومن الصفات التي تجدهم يجرونها على اللفظ ثم ل تعترضك شبهة ول يكون منك‬
‫توقف في أنّها ليست له ولكن لمعناه قولهم‪ :‬ل يكون الكلم يستحق اسم البلغة حتّى يسابق معناه لفظة معناه‪ ،‬ول‬
‫يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك وقولهم‪ :‬يدخل في الذن بل إذن فهذا مما ل يشك العاقل في أنه يرجع‬
‫إلى دللة المعنى على المعنى وأنّه ل يتصوّر أن يراد به دللة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة"(‪.)1‬‬
‫فالجرجاني بتحليله هذا يعطي تأويلً لقول الجاحظ‪" :‬ل يكون الكلم يستحق اسم البلغة حتّى يسابق معناه لفظه معناه‪،‬‬
‫ول يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك"(‪ .)2‬ويرسم به ما يعرف في علم الدللة الحديث بتعالق البنية‬
‫الدللية والبنية التصورية فالمعجم الذهني التصوّري يحمل بنى دللية تتعالق مع مجموعة من المفاهيم التي ترتبط بها‪.‬‬
‫وعند إنتاج الحدث الكلمي في عملية التواصل يتم إحضار كل هذه التصوّرات والمفاهيم مما يؤدّي إلى التوالد‬
‫الدللي‪ .‬فالمعنى التصوّري –باعتبار أن الذاكرة المعجمية للفرد تعلّق كل كلمة بتصور دللي واحد‪ -‬يتولّد عنه معنى‬
‫مفهومي أو معان مفهومية وجدت نتيجة لتعالق البنية الدللية بالبنية التصوّرية‪ ،‬ولذلك نرى الجرجاني يميّز بين‬
‫الصنفين فيقول‪" :‬أن تقول المعنى ومعنى المعنى تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة‪،‬‬
‫وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"(‪ .)3‬ويكفي الجرجاني بما قدّمه من‬
‫جهود أنّه أثار قضية البحث في معنى المعنى‪ ،‬وهي قضية أحدث بها العالمان ريتشاردز وأوجدن ضجّة بإصدار‬
‫كتابيهما‪" :‬معنى المعنى" (‪ The meaning of meaning) 1923‬وفيه يتساءل العالمان ليس عن تطور المعنى كما‬
‫كان سائدا آنذاك في الدرس اللسني التاريخي‪ ،‬وإنما عن ماهية المعنى(‪ .)4‬وتشعّب البحث الدللي في قضية "المعنى"‪.‬‬
‫فأثيرت مسألة تموضع الدّللة فخاض العلماء اللغويون غمار ذلك وانطلقوا من معطيات منطقية إذ أدركوا أن المعاني‬
‫موجودة قبل اللفاظ‪ ،‬بل قبل الرموز التي اتّخذها النسان القديم للتواصل والبلغ ودليلهم على ذلك أن العوالم الدللية‬
‫غير محدّدة و ل تقبل التحديد بينما الدوات الدالة على بعض هذه العوالم معلومة محدّدة سواء اللغوية منها أو غير‬
‫ل عليها‪،‬‬ ‫اللغوية‪ ،‬فالمعاني غير متناهية ولزال النسان يضع للمعاني‪ ،‬التي توّصل إلى إدراكها‪ ،‬حديثا اللفاظ التي تد ّ‬
‫إذن أين تتموضع المعاني؟ لقد افترض "غريماس" وجود عالم دللي معطى وذلك ليقابل به البنيات الدللية في تقسيمها‬
‫إلى سمات صوتية صغرى (‪ )Phemes‬فشرع في تقسيم العالم الدللي المفترض إلى سمات (‪ ،)Semes‬والحقيقة أنّ‬
‫عمل غريماس‪ ،‬لم يرق إلى مستوى العمل الجرائي الذي يخرج الفرضيات والنظريات إلى الواقع اللغوي‪ ،‬فإذا كان‬
‫قد استطاع تحليل البنية الدللية إلى سماتها الصوتية فإن تحليل الدللة إلى سمات قد ل يقدّم للبحث اللغوي –الدللي‬
‫شيئا عدا الوقوف على السمات الدللية (‪ )Semantic markers‬التي تعتبر –إضافة إلى المميزات‪ -‬البجدية الدللية‬
‫التي تؤلف منها القراءات‪ ،‬إذ المميز يمثل ماهو خاص في معنى وحدة معجمية‪ .‬وتمثل السمة الدللية ماهو نسقي أو‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.253‬‬ ‫‪1‬‬

‫() البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.81‬‬ ‫‪2‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.251‬‬ ‫‪3‬‬

‫() مدخل إل علم الدللة‪ .‬د‪.‬موريس أبو ناضر‪ .‬ملة الفكر العرب العاصر‪ -‬عدد ‪ .19 -18‬ص ‪ .31‬سنة ‪.1982‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫علئقي في المعنى‪ ،‬أي ما يربط بين المفردة ومفردات أخرى(‪ .)1‬بينما موضع علماء آخرون المعنى في عالم المفاهيم‬
‫ومنهم العالم (‪ ،)Frdge‬لكنّ علماء التُراث المعرفي العربي كانوا يربطون إنتاج الحدث الكلمي بتشكل المعنى في‬
‫النفس ومنهم الجاحظ وابن سينا‪ ،‬والجرجاني الذي يقول محدّدا تموضع المعنى‪" :‬إنّ الخبر وجميع الكلم معان ينشئها‬
‫النسان في نفسه ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه‪ ،‬ويراجع فيها عقله‪ ،‬وتوصف بأنّها مقاصد وأغراض‪ ،‬وأعظمها‬
‫شأنا الخبر الذي يتصوّر بالصور الكثيرة"(‪.)2‬‬
‫ج‪-‬النظام السنادي والدللة‪ :‬يضع الجرجاني للدللة التي يؤديها الخطاب اللغوي أثناء عملية التواصل "معيار‬
‫العلم المقصود" إما عن طريق نفي الخبر أو إثباته‪ ،‬فليس كل ما يحمله الخطاب يوصف بأنّه (دللة) إنّما الدللة كما‬
‫يقول الجرجاني – "هو الحكم بوجود المخبر به من المخبر عنه أو فيه إذا كان الخبر إثباتا‪ ،‬والحكم بعدمه إذا كان‬
‫نفيا"(‪ ،)3‬فالدللة تتوقف على أمر خارجي غير لغوي يرجعه الجرجاني إلى قصد المتكلم من إعلم السامع‪ ،‬إذ يدلّ‬
‫صدقا على وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه‪ ،‬أمّا إن نقل المتكلم الخبر ليعلم السامع على وجود المخبر‬
‫به من المخبر عنه‪ ،‬دون إثبات أو نفي فكأنه أخلى اللفظ من معناه والخطاب من محتواه‪ ،‬وجلّ الدراسات الدللية‬
‫واللسنية الحديثة أضحت تركّز في رصدها للعملية البلغية والتواصلية على "الباث" أو ما سمّاه الجرجاني "المُخبر"‬
‫حتى صارت طبيعة الدللة المحمولة في الكلم موقوفة على قصد المتكلم في إعلمه المتلقي بالخبر‪ ،‬وذلك أمام‬
‫ل من خلل سلسلة الكلم وحدها‪ ،‬خاصّة أنّه تأكد على يد علماء الدللة المحدثون‬ ‫صعوبة تحديد المعنى تحديدا كام ً‬
‫ومنهم العالم (بيرس) (‪ )Pierce‬أن المعنى ليس ما تحمله الوحدة المعجمية في نظام علئقي مع وحدات معجمية‬
‫أخرى‪ ،‬وإنما المعنى عبارة عن علقة معقدة بين أحداث كلمية وأوجه أخرى للواقع الموضوعي‪ .‬ويذهب العالم‬
‫اللغوي بيار جيرو (‪ )Piere Giraud‬إلى العتقاد بأن للكلمة أكثر من معنى تصريحي وآخر إيمائي نظرا للتداعيات‬
‫التي يمكن أن تحدثها أثناء الستعمال"(‪ .)4‬يقول الجرجاني محدّدا أهمية إسناد الخبر إلى المخبر والخذ بقصده في‬
‫الخبر‪" :‬الدللة على شيء هي ل محالة إعلمك السامع إياه‪ ،‬وليس بدليل ما أنت ل تعلم به مدلولً عليه‪ ،‬وإذا كان‬
‫كذلك وكان مما يعلم ببداءة المعقول أن الناس إنما يكلم بعضهم بعضا ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده‪ ،‬فينبغي‬
‫أن ينظر إلى مقصود المخبر من خبره وماهو؟ أهو أن يعلم السامع وجود المخبِر به من المخبَر عنه؟ أم أن يعلمه‬
‫إثبات المعنى المخبِر به للمخبَر عنه؟(‪ .)5‬فالجرجاني يرتكز هاهنا في تحديد الدللة على‪:‬‬
‫أ‪-‬إثباتُ الخبر للمخبر عنه= علقة المسند بالمسند إليه‪.‬‬
‫ب‪-‬إثبات الخبر من المخبر عنه= علقة المسند بناقل السناد‪.‬‬
‫ولذلك فإن الجرجاني يقيم دللة الخطاب اللغوي على قاعدة السناد التي توفر لنا النظر إلى ثلثة أطراف في‬
‫عملية البلغ وهي‪:‬‬
‫‪-‬المسنَد –والمسنَد إليه‪ -‬وناقل السناد‪.‬‬

‫() اللسانيات واللغة العربية –ص ‪ -363‬د‪.‬عبد القادر الفاسي الفهري‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.460‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.463‬‬ ‫‪3‬‬

‫() علم الدللة‪ ،‬ص ‪ .63‬ترجة د‪.‬منذر عياشي‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.642‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫فالمسنَد هو محتوى الخطاب البلغي (العلمي) وهو يقتضي جملة من القواعد الدللية المعيارية التي توفّق‬
‫بين المفهوم المجرّد للمعنى والماصدق الذي يغطيه الخطاب‪ ،‬ويتحقق فيه المفهوم المجرّد لمحتواه الدللي‪ ،‬فالجملة‬
‫الخبرية (كوحدة اتصال) يجب أن تخبر السامع ما يعتبر بالنسبة إليه جديدا في الموقف الكلمي الراهن(‪ .)1‬وهو ما‬
‫يحققه (المسنَد) الذي يظهر محمولً في‪ :‬البنية الشكلية للجملة‪ .‬أمّا المسنَد إليه (المخبَر عنه) فعليه يتوّقف حقيقة‬
‫(الخبَر) وذلك بناء على الحكم بوجود المعنى أو عدمه وهو مرتبط بحصول الفائدة للسامع من الكلم البلغي‪،‬‬
‫والجرجاني بذلك ل يهتم إلّ بالتراكيب السنادية أمّا التراكيب غير السنادية فإنّها جمل غير وظيفية لنها ل تضطلع‬
‫بمهمة البلغ‪ ،‬فالفائدة الدللية من الكلم متلزمة ونظام السناد‪ ،‬وأيّ تغيير في البنية الشكلية للتركيب يترتب عليه‬
‫تغيير في المعنى‪ ،‬فالسياق الكلمي عند الجرجاني يتميّز بمستويين‪:‬‬
‫أ‪-‬مستوى البنية النحوية الساكنة التي تتحدد بتحقّق السناد‪.‬‬
‫ب‪-‬مستوى البنية البلغية المتغيرة حسب المقام والتي تتحدد بتحقق الفائدة من الخبر(‪.)2‬‬
‫أما ناقل السناد أو المخبِر ‪-‬بمصطلح الجرجاني‪ -‬أو الباث‪ -‬بمصطلح اللسنية الحديثة‪ ،‬فهو الذي يثبت وجود‬
‫المعنى للمخبَر عنه (المسند إليه) وقبل ذلك يكون (ناقل السناد) قد قام بترتيب الخطاب في نفسه قبل أن يصرفه إلى‬
‫المتلقي‪ ،‬وقد أخذ في ذلك مقام (المتلقي) وحاله‪ .‬يعيب الجرجاني على الذين جعلوا اللفظ أساس النظم والبلغ فيقول‪:‬‬
‫"فترى الرجل منهم يرى ويعلم أن النسان ل يستطيع أن يجيء باللفاظ مرتبة إل من بعد أن يفكر في المعاني‬
‫ويرتبها في نفسه على ما أعلمناك‪ ،‬ثم تفتشه فتراه ل يعرف المر بحقيقته‪ ،‬وتراه ينظر إلى حال السامع فإذا رأى‬
‫المعاني ل تقع مرتبة في نفسه‪ ،‬إل من بعد أن تقع اللفاظ مرتبة في سمعه نسي حال نفسه واعتبر حال من يسمع منه‪.‬‬
‫وسبب ذلك قصر الهمة وضعف العناية وترك النظر والنس بالتقليد‪ ،‬وما يغني وضوح الدللة مع من ل ينظر فيها‪،‬‬
‫وإنّ الصبح ليمل الفق ثم يراه النائم ومن قد أطبق جفنه"(‪ .)3‬أمّا ما يجب اعتباره أثناء عملية البلغ فيراه الجرجاني‬
‫في النظر إلى حال المتكلم وكيف يصرف المعاني ويرتبها فيقول‪" :‬فإن العتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلم‬
‫والمؤلف له‪ ،‬والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه ل مع السامع"(‪.)4‬‬
‫نلمح من هذا كله أن الجرجاني الذي اهتم بطرق صرف الدللة على وجهها الصحيح‪ ،‬اتخذ من النظر إلى لغة‬
‫إعجاز القرآن مطية إلى رصد القواعد النمطية التي تزخر بها اللغة العربية‪ ،‬وبعرضه لتعالق النظام النحوي (النظام‬
‫السنادي) بالنظام السياقي العام في تحديد دللة الخبر يكون الجرجاني قد سَبق إلى وضع نظرية في التّصال‬
‫والبلغ‪.‬‬
‫الخلصة‪ :‬وجملة القول عن ذلك المناخ المعرفي الذي سبق علي بن محمد المدي‪ ،‬أن الدرس اللغوي بدءا من‬
‫القرن الثاني الهجري إلى القرن الخامس قد تحدّدت مسائله‪ ،‬ووضُحت أسسه وطرائقه‪ ،‬فقد أرسى الشافعي قواعد للفهم‬
‫والتأويل وإن كانت خاصّة بالنص الديني إل أنّها تنسحب على كلّ تأليف كلمي انتظمت ألفاظه ومعانيه باللغة التي‬
‫أحكمت بها دللت النص الديني‪ ،‬كما أثار الشافعي مسألتين دار حولهما حديث كثير وهما‪ :‬الترادف والمشترك‬
‫اللفظي وذهب إلى القول بوقوعهما في اللغة‪ ،‬كما أبان عن دور السياق في تحديد دللة اللفظ القابلة للتساع وهي‬

‫() التراكيب النحوية وسياقاتا الختلفة ‪،‬عند عبد القاهر الرجان‪ ،‬ص ‪ ،96‬صال بلعيد‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫() دلئل العجاز‪ ،‬ص ‪.466‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.375‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫إشارة إلى قضية "المجاز"‪ .‬وما يجدر ذكره عند الشافعي هو قدرته على وضع منهج بيّن في استنباط الحكام‪ ،‬يعتمد‬
‫التقسيم والتمثيل وحسن التصرف في الستدلل والنقض‪ ،‬ومراعاة النظام المنطقي إل أنّ أظهر ما يميّز الشافعي هو‬
‫بسطه للقياس الفقهي الذي ذهب بعض المؤرخين للحاقه بالتمثيل عند أرسطو‪ ،‬لكن وُجد أن القياس الفقهي يفضي إلى‬
‫اليقين على نقيض التمثيل الرسطي المبني على الظن ول يفضي إلى اليقين‪ .‬وقد استفاد علماء الصول من جهود‬
‫الشافعي خاصّة في اقتباسه لبعض طرائق علماء الكلم‪ ،‬وكان من نتائج ذلك ظهور علماء أصول الفقه الذين مزجوا‬
‫بين طرائق الستدلل الفقهي‪ ،‬والعتماد أساسا على النقل‪ ،‬وبين طرائق المتكلمين في الستدلل العقلي‪ ،‬وقياس الغائب‬
‫على الشاهد‪ ،‬وأطلق على هؤلء‪ ،‬المصطلح‪" :‬الصوليون المتكلمون" ومنهم‪ :‬علي بن محمد المدي‪.‬‬
‫وفي القرن الهجري ذاته الذي عاش فيه الشافعي يبرز في حقل معرفي آخر عمرو بن بحر الجاحظ‪ ،‬علَم من‬
‫أعلم البلغة والبيان‪ ،‬ومؤسس مهمّ لمباحث لغوية لزالت مرجعا لدراسات لسانية ودللية معاصرة‪ ،‬فلقد عكف‬
‫الجاحظ على الدراسة الصورية لعناصر اللغة موضحا قيمتها الصوتية وأهمية ذلك في حسن التأليف بين الحروف‬
‫قصد تشكيل الوحدات الكلمية‪ ،‬أدوات البيان‪ ،‬وفي ذلك يفصح الجاحظ عن الوظائف التي يضطلع بها الخطاب‬
‫س لغوي كبير أظهر صاحب "البيان والتبيين" أبعاد العلمة في التُراث المعرفي مقسما إياها إلى العلمة‬ ‫البلغي‪ ،‬وبح ّ‬
‫اللسانية والعلمة غير اللسانية وجمع ذلك فيما سماه "أدوات البيان" الخمس‪ ،‬كما أثار الجاحظ قضية نشأة اللغة وأبان‬
‫عن موقفه من ذلك‪ ،‬وقد استمر في إرساء قواعد البيان والكشف عن قوانين اللغة إلى منتصف القرن الثالث الهجري‪.‬‬
‫أمّا ابن جني "بخصائصه" فقد مثل فعاليات القرن الرابع الهجري ول يمكن أن نقدّر ما قدّمه هذا العالم حقّ قدره إلّ إذا‬
‫نظرنا إلى جرأته في وضع قواعد تنتظم اللغة على الرغم مما آخذه عليها علماء عصره ومن تأخّر منهم‪ ،‬كقوله‬
‫بالتقلبات الستة للوحدة المعجمية وربطها بدللة أصلية واحدة‪ ،‬وذلك التفريع الدللي الذي خصّ به الفعل محدّدا دللته‬
‫الثلث‪ ،‬كما أثار قضية نشأة اللغة ومبحث الحقيقة والمجاز‪.‬‬
‫أمّا ابن سينا فيمثّل حقلً معرفيا أفاد منه الدرس الدللي كثيرا‪ ،‬خاصّة وأنّ الدللة هي بحث في المعنى وطرق‬
‫تشكله وتمظهره في أنماط مقولية مختلفة‪ ،‬فابن سينا العالم النفساني الخبير بمكامن وأسرار النفس‪ ،‬والمشرّح البارع‬
‫الممتلك لدواته الجرائية في التشريح‪ ،‬قد استطاع أن يلج إلى عالم الدللة ليرصد لنا آليات الفعل الدللي وأقسام‬
‫ل عن أقسام اللفظ باعتبار الشركة والخصوصية‪ ،‬وعلى أساس ذلك يمكن بناء‬ ‫الدللة والعلقة بين هذه القسام‪ ،‬فض ً‬
‫ص السماء‪ ،‬وما يمكن إبرازه هاهنا هو العلقة التي عقدها ابن سينا بين اللفظ والمعنى "والثار" التي‬‫حقول دللية تخ ّ‬
‫في النفس‪ ،‬وهي تقارب ما وضعه اللسنيون المحدثون في ذلك ممثلً إياه بالمثلث –كمثلث (‪)ogden et richards‬‬
‫المعروف‪ ،‬والذي ينص أن ل علقة مباشرة بين اللفظ والمعنى‪ ،‬أو ما يصطلح عليه بالدال والمدلول وهو ما يوضحه‬
‫الخط المنقط في قاعدة المثلث‪ .‬وما ختمنا به جهود العرب القدامى في ميدان الدللة هو جهود العالم اللغوي عبد‬
‫القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم‪ ،‬التي ولدت مع الجاحظ وتبلورت مع ابن جني‪ ،‬وتأسست على يد الجرجاني‬
‫قاعدة بيّنة المعالم واضحة الهداف تأخذ (النحو) بمفهومه الواسع أساسا لضبط قواعد سلمة التركيب‪ ،‬والنظام الدللي‬
‫العام‪ .‬وما يميّز جهود الجرجاني هو تحديده بشكل دقيق لليات الفعل البلغي‪ ،‬واضعا في سبيل ذلك أسسا تتلخص‬
‫في ضرورة الهتمام بالسياق العام لكل عناصر البلغ بدءا بالمخبر ومرورا بالخبر وانتها ًء إلى المستمع المتلقي‬
‫للخبر‪ ،‬ثم هناك علقة مهمة بين المخبِر والخبَر من جهة والخَبر والمتلقي من جهة ثانية وعليها تتحدد دللة الحدث‬
‫الكلمي المتضمن للخبر‪ .‬فإدراك الجرجاني هذه العناصر كلها في عملية البلغ‪ ،‬جعله يتبوأ مكانة كبيرة في‬
‫عطاءات الدرس اللساني الحديث عامّة والدللي خاصّة‪ .‬ويكفيه جهدا أنّه أعاد للمعنى مكانته في الدرس اللغوي‪،‬‬
‫وعدّل الكفّة بينه وبين اللفظ لنهما معا جوهر العملية الدللية‪ ،‬وبذلك يأتي الجرجاني في قسم البلغة ليضع حدّا لذلك‬
‫الفراط في العلء من شرف اللفظ وقداسة الشكل عند من سبقه من نقاد الشعر‪.‬‬
‫‪- 108 -‬‬
‫في هذه الجواء المفعمة بالنشاط اللغوي الدؤوب والمتنوع‪ ،‬وبعد وضع أسس لنظرية معرفية تعطي السلطة‬
‫الكبرى لفهم معاني اللغة‪ ،‬واللمام بطرقها في التعبير‪ ،‬ووضوح منهج البحث الذي استفاد من روافد معرفية وافدة‬
‫يأتي العالم الصولي المتكلم سيف الدين المدي في منتصف القرن السادس لتتضح على يده معالم ذلك المشروع‬
‫المعرفي الشامل الذي بدأه الشافعي وتبلور على يد من تعاقب من العلماء ليتأسس على يد المدي علما أصوليا واضح‬
‫البواب بيّن المسائل طيّع الدوات وهذا ما سوف نلمسه في كتابه "الحكام في أصول الحكام"‪.‬‬

‫‪- 109 -‬‬


‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫العلمة اللسانية عند المدي‬

‫‪-1‬مدخل عام‬

‫‪ -1‬علم أصول الفقه والدللة‪:‬‬


‫لمّا كان عهد النبوة وإشعاعه المعرفي ل يزال يؤثر في مجرى المعارف والعلوم‪ ،‬لم يحتج العرب إلى علوم‬
‫يبسطون فيها قواعد النظر والستنباط‪ .‬ولكن ما إن تقادم عهد النبوة‪ ،‬ودخلت أجناس مختلفة إلى المصار السلمية‬
‫وبدأت تتفشى العجمة في اللغة العربية‪ ،‬وتبدت مناهج الفلسفة والمنطق الوافدة من علوم الفرس واليونان‪ ،‬رأيت نزوع‬
‫العلماء نحو الشتغال العقلي‪ ،‬ومزج فنون النقل بعلوم العقل فكان لزاما عصرئذ من وضع طرق للستنباط والنظر‬
‫خاصّة ما تعلّق منها بنصوص مقدّسة كالقرآن الكريم وأحاديث الرسول الشريفة‪ ،‬فاهتدى العلماء إلى وضع علم‬
‫أصول الفقه‪ .‬وكان أوّل من فتق قواعد هذا العلم وأجراه مجرى التطبيق هو صاحب أول مصنّف في هذا المجال‬
‫المام الشافعي –رضي ال عنه‪ -‬في كتابه "الرسالة"‪ .‬وموقع أصول الفقه بالنسبة للفقه هو كموقع المنطق بالنسبة‬
‫للفلسفة‪ ،‬إذ به تبرز الطرق الموصلة إلى إدراك ماهية المعاني والحكام المستنبطة من مظانها‪ ،‬كذلك المنطق به‬
‫بعضهم الذهن من الوقوع في الخطأ‪ ،‬يقول الدكتور علي سامي النشار‪" :‬وأول مسألة ينبغي توضيحها‪ :‬هي اعتبار علم‬
‫الصول بالنسبة إلى الفقه كاعتبار المنطق بالنسبة إلى الفلسلفة (…) وفي الواقع أن اعتبار الصول بالنسبة إلى الفقه‪،‬‬
‫كاعتبار المنطق بالنسبة إلى الفلسفة‪ ،‬يبدو واضحا تماما إذا ما بحثنا في علم الصول نفسه"(‪ )1‬وحقيقة إن علم أصول‬
‫الفقه يضع أدوات الستنباط هي أشبه بأدوات المنطق في ضبط القضايا‪ .‬يقول المام الزركشي في كتابه "البحر‬
‫المحيط" معرفا أصول الفقه‪" :‬فأصول الفقه هو مجموع طرق الفقه من حيث أنها على سبيل الجمال وكيفية الستدلل‬
‫بها وحالة المستدل بها"(‪ )2‬ويتقدم المدي قبل الزركشي في تعريف علم أصول الفقه فيقول‪" :‬فأصول الفقه هي أدلة‬
‫الفقه وجهات دللتها على الحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها"(‪ .)3‬ث ّم احتاج علم أصول الفقه في مرحلة من‬
‫مراحل تشكله إلى ضوابط لغوية أخذها من تقسيمات المناطقة لللفاظ من حيث دللتها على المعاني ومن حيث‬
‫عمومها وخصوصها ومن حيث إفرادها وتركيبها‪ .‬وإنّ نظرة عجلى إلى استهللت كتب الصوليين وتلك التي في‬
‫كتب المنطق لتؤكد ما مدى صلة علم أصول الفقه بالمنطق‪ ،‬خاصّة‪ ،‬يقول الدكتور علي سامي النشار وهو يتحدث عن‬

‫() منهاج البحث عند مفكري السلم‪ .‬ص ‪.79‬‬ ‫‪1‬‬

‫() البحر الحيط‪ ،‬ج ‪ -1‬ص ‪.19‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ -1‬ص ‪.7‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫تلك المداخل اللغوية في كتب الصوليين‪" :‬وتبدأ هذه البحاث اللفظية كما تبدأ كتب المنطق الخرى بالبحث المشهور‬
‫"دللة اللفاظ على المعاني"(‪ )1‬ومنذ عهد الغزالي دأب الصوليون المتكلمون يستهلون كتبهم بمقدمات كلمية كمظهر‬
‫من مظاهر تأثرهم بالمنطق اليوناني ومنهم المدي صاحب كتاب "الحكام في أصول الحكام" وقد عدّت المباحث‬
‫اللغوية في تلك الكتب من مسائل المنطق لن الصوليين المتكلمين خاصّة‪ ،‬نصّوا على قواعد نظرية المعرفة وذكروا‬
‫من ضمنها المبحث اللغوي الذي يتناول اللفظ والمعنى وما يتفرع عنه من مسائل‪ ،‬وقد أطلقوا على تلك المقدمات‬
‫اللغوية المنطقية بشكل عام اسم الكلمية وذلك لعتبارهم أن المنطق جزء من علم الكلم‪ ،‬إل أنّ ما يجدر ذكره هو‬
‫عمق النظرة اللغوية عند الصوليين بلجوئهم إلى طرق وأدلة خاصّة في تعاملهم مع اللغة‪ ،‬ل يتوفر عليها اللغويون‬
‫أنفسهم يقول الدكتور علي سامي النشار‪" :‬إن المباحث الصولية اللغوية ليست من نوع علوم اللغة أو النحو العادية‪.‬‬
‫فقد دقق الصوليون نظرهم في فهم أشياء من كلم العرب لم يتوصل إليها اللغويون أو النحاة‪ .‬إن كلم العرب متسع‬
‫وطرق البحث فيه متشعبة‪ ،‬فكتب اللغة تضبط اللفاظ والمعاني الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي يتوصل إليها‬
‫(‪)2‬‬
‫الصولي باستقراء يزيد على استقراء اللغوي‪ .‬فهناك دقائق ل يتعرض لها اللغوي ول تقتضيها صناعة النحو" ‪ .‬إن‬
‫المباحث اللغوية ومنها الدللية على الخصوص‪ ،‬في كتب الصوليين تتسم بعمق ودقّة الستقراء‪ ،‬فتخريج الدللة يتم‬
‫عبر تفكيك لبنية الخطاب بتحليل عناصره وربط ذلك بالمقام العام الذي يقتضي تلك الدللة دون غيرها‪ .‬إن اللغة‬
‫منظومة لسانية وسيمائية بأنماطها المختلفة في التعبير وأسرار البيان تبدو بارزة بشكل ناضج في بحوث غير‬
‫اللغويين‪ ،‬كالصوليين الذين أسقطوا منهج الستقراء والتدقيق في الجزئيات على اللغة‪ ،‬ذلك لعتقادهم أن من السس‬
‫الرئيسة لنظرية المعرفة هي اللغة فخاضوا في أقسام اللفاظ والدللت‪ ،‬فبحثوا الشتراك والترادف وأفاضوا الجدل‬
‫حولهما وقسّموا الدللت بحسب المنطوق والمفهوم من الخطاب‪ ،‬كما أبانوا عن قدرة لغوية في تحديد أدوات ضبط‬
‫الدللة المعيّنة فبحثوا الستغراق والعموم والشرط والستثناء والتقديم والتأخير والطلق والتقييد وغير ذلك مما سيرد‬
‫ل على وضوح المنهج الصولي الذي يبدأ بما هو عملي وإجرائي قبل‬ ‫ذكره في مباحث المدي في هذا المجال‪ ،‬وفض ً‬
‫مناقشة المسائل النظرية المجردة فقد أكّد الصوليون على ضرورة اللمام الشامل بحيثيات الخطاب وظروفه وتجاوز‬
‫البنية اللسانية للخطاب إلى رصد المعالم الدللية العميقة‪ ،‬وذلك من أجل الفهم الكلي لفحوى الخطاب‪ ،‬وهو ما أشار‬
‫إليه علماء الدللة المحدثون ومنهم (تشومسكي) الذي ذهب إلى أنّه لفهم جملة ما يجب أن يكون لدينا معارف أخرى‬
‫تتجاوز التحليل اللساني لهذه الجملة في كل مستوى لساني‪ ،‬ويجب كذلك أن نعرف مرجع ومعنى المورفامات أو‬
‫الكلمات التي تؤلفها"(‪.)3‬‬

‫‪-2‬لمحة عن حياة المدي وكتابه الحكام في أصول الحكام‪:‬‬


‫إن الركام المعرفي الذي اجتمع في القرن السادس الهجري‪ ،‬كان له أكبر الثر في بروز أعلم سخّروا حياتهم‬
‫لعادة ترتيب ذلك الركام المعرفي وتمحيصه وتذليله حتى يدخل في تفاعل جدلي مع عطاءات القرن‪ ،‬وحاجات أهله‬
‫من المعرفة والعلم‪ .‬لقد وقر في الذهان أن فكر النسان ل يمكن أن يعزل عن مجرى عصره وحوادث زمانه‬
‫ونتوءات أيامه البارزة‪ ،‬فالطار التاريخي الحضاري الذي نشأ في أجوائه المدي جعله يتبوأ مكانة عليّة في عصره‪،‬‬
‫خاصّة وأنّه أتى بعد أولئك العلم الذين رسموا المنهاج القويم في العلوم وتركوا آثارا بقيت على مرّ الزمن‪ ،‬معالم‬

‫() منهاج البحث عند مفكري السلم‪ .‬ص ‪.45‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.91‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ص ‪ Structures syntaxique ,N. chomsky 117‬ترجه إل الفرنسية‪ .‬ميشال برودو ( ‪.)Michel Braudeau‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫بارزة ومنارات نيّرة يهتدي بها كل عالم متأخر‪ .‬فقد سبق المدي –كما أوضحنا في الفصل السابق‪ -‬الشافعي‪ -‬رضي‬
‫ال عنه‪ -‬والجاحظ وابن جني وابن سينا وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم‪.‬‬
‫المدي هو سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي‪ .‬كانت ولدته في سنة إحدى‬
‫وخمسين وخمسمائة‪ ،‬ففيه أصولي مقدّم في زمانه‪ ،‬اعجب علماء عصره بحسن كلمه وقوّة حجته في الجدل‬
‫والمناظرة يقول عنه معاصره بن أبي أصيبعة‪ ،‬الذي كانت تجمع أباه والمدي مودة أكيدة‪" :‬كان أذكى أهل زمانه‬
‫وأكثرهم معرفة بالعلوم الحكمية‪ ،‬والمذاهب الشرعية والمبادئ الطبية (…) فصيح الكلم جيّد التصنيف"(‪ .)1‬بدأ المدي‬
‫يشتغل بالمذهب الحنبلي مدّة من الزمن ثم ما لبث أن انتقل إلى المذهب الشافعي‪ ،‬وقد عدّه ابن السبكي فيما ع ّد من‬
‫علماء الشافعية في كتابه "طبقات الشافعية"‪ ،‬كَثُر ترحال المدي كما كَثُر حسّاده من العلماء الذين ألّبوا عليه المراء‬
‫والحكام بحجة الشتغال بالمنطق والفلسفة حتّى وصل بهم المر‪ ،‬إلى استحلل دمه‪ ،‬وأمضوا في عارضة قدموها إلى‬
‫حاكم مصر فخرج متخفيا إلى الشام يقول عنه ابن خلكان‪" :‬كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب (…) وبقي على ذلك‬
‫مدّة ثم انتقل إلى مذهب المام الشافعي رضي ال عنه‪ .‬ثم انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول وحفظ منه الكثير‬
‫وتمهر فيه وحصّل منه شيئا كثيرا ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم"(‪ .)2‬لمّا قدم إلى دمشق أكرمه الملك‬
‫المعظم شرف الدّين بن أيوب وأنعم عليه وولّه التدريس‪ .‬وكان نابغة في الشام‪ ،‬لم يرق إلى مقامه أحد من العلماء‬
‫يقول ابن أبي أصيبعة في ذلك‪" :‬وكان إذا نزل وجلس في المدرسة وألقى الدرس والفقهاء عنده يتعجب الناس من‬
‫حسن كلمه في المناظرة والبحث‪ ،‬ولم يكن أحد يماثله في سائر العلوم"(‪ .)3‬للمدي منهاج فريد في التصنيف والمحاجة‬
‫إلى درجة تبعث على الندهاش‪ ،‬وذلك لتمكنه الشديد من أدوات الجدل والكلم‪ ،‬ومنها اللغة وعلومها والمنطق ومسائله‬
‫ولذلك "كان (المدي) قوي العارضة كثير الجدل واسع الخيال‪ ،‬كثير التشقيقات في تفصيل المسائل‪ ،‬والترديد والسبر‬
‫والتقسيم في الدلة إلى درجة قد تنتهي بالقارئ أحيانا إلى الحيرة"(‪.)4‬‬
‫وقد نقل الذهبي في كتابه "الميزان" أمورا هي محل ريبة وشك تخصّ عقيدة المدي وهي أنّه كان مستهترا تاركا‬
‫للصلة‪ ،‬وقد لوحظ ذلك بأن وضعت علمة من الحبر في أسفل قدمه بينما هو نائم ثم تبين أنّ تلك العلمة لم َتزُل من‬
‫تحت قدمه بعد ذلك اليوم‪ ،‬وقد ر ّد ابن كثير هذه الشكوك في كتابه "البداية والنهاية" خاصّة وأنّ هناك من العلماء من‬
‫ل يرى الدّلك في الوضوء من فرائض الطهارة بل إنّ الحبر قد يبقى أياما ول يزول بفعل الوضوء‪ ،‬ومهما يكن فإنّ‬
‫المصنفات التي تركها المدي وخاصّة كتابه "الحكام في أصول الحكام" يدل على احترام ظاهر وتقدير عالم ورع‬
‫ليات ال وأحاديث رسوله الكريم وقد نقل عنه ولده جمال الدين محمد بعض ممّا أنشده أبوه لنفسه(‪ )5‬من ذلك قوله‪:‬‬

‫ول غريبة إل وهو منشأها‬ ‫فل فضيلة إلّ من فضائله‬

‫به الممالك لما أن تولها‬ ‫حاز الفخار بفضل العلم وارتفعت‬

‫() عيون النباء ف طبقات الطباء ج ‪ -3‬ص ‪.285‬‬ ‫‪1‬‬

‫() وفيات العيان‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.293‬‬ ‫‪2‬‬

‫() عيون النباء ف طبقات الطباء‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.285‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام (القدمة) الشيخ عبد الرزاق عفيفي‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() عيون النباء ف طبقات الطباء‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪.285‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 112 -‬‬


‫وهو الطريق إلى الزلفى بأخراها‬ ‫فهو الوسيلة في الدنيا لطالبها‬

‫لقد ترك المدي مصنّفات تربو على العشرين مصنّفا اختصر بعضها في كتاب جامع‪ ،‬من ذلك كتاب "أبكار‬
‫الفكار" في علم الكلم اختصره في كتاب‪ ،‬سمّاه "منائح القرائح" وله كتاب "رموز الكنوز" و "دقائق الحقائق" ولباب‬
‫اللباب" و "كتاب منتهى السؤل في علم الصول" و "كتاب كشف التمويهات في شرح التنبيهات" و كتاب "غاية المل‬
‫في علم الجدل" وغير ذلك من الكتب فضلً على كتاب "الحكام في أصول الحكام"‪.‬‬
‫ل في بيته‬
‫وأقام المدي في آخر حياته بدمشق مدرسا بالمدرسة العزيزية ثم ما لبث أن عزل منها وأقام بطا ً‬
‫(‪)1‬‬
‫وتوفي على تلك الحال في رابع صفر يوم الثلثاء سنة إحدى وثلثين وستمائة ودفن بسفح جبل قاسيون بدمشق‬
‫‪-‬رحمه ال‪.-‬‬

‫‪-‬كتاب "الحكام في أصول الحكام"‪ :‬موضوعه وخطته‪:‬‬


‫أهم دافع يحفّز على قراءة كتاب "الحكام في أصول الحكام" قراءة دللية‪ ،‬هو وضوح منهجه ودقة موضوعاته‪،‬‬
‫وبسطه لقواعد لغوية وسنن كلمية وتعبيرية‪ ،‬تبدو فيه اللغة العربية منظومة دللية في حاجة إلى الحاطة بأسرارها‬
‫ومعانيها وقدراتها على تحديد المعاني‪ ،‬تحديدا يتجاوز النص المكتوب إلى رؤية تأويلية تعطي لفحوى النص أبعاده‬
‫الدللية الخاصّة‪ .‬وقد أشاد علماء كثيرون بقيمة كتاب "الحكام في أصول الحكام" وعدّوه أحد العمدة الساسية التي‬
‫أقامت علم أصول الفقه‪ ،‬علما له قواعده وأصوله وطرائقه ومناهجه‪ ،‬فقد اعتبر ابن خلدون علم أصول الفقه من العلوم‬
‫المستحدثة في الملّة وذكر علماء هذا الفن السابقين فقال‪" :‬وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون‪ ،‬كتاب البرهان لمام‬
‫الحرمين(‪ ،)2‬والمستصفى للغزالي وهما من أشعرية‪ ،‬وكتب (العمد) لعبد الجبّار وشرحه "المعتمد" لبي الحسين‬
‫البصري وهما من المعتزلة‪ ،‬وكانت الربعة قواعد هذا الفن وأركانه ثمّ لخّص هذه الكتب الربعة فحلن من المتكلمين‬
‫المتأخرين‪ ،‬وهما المام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول‪ ،‬وسيف الدين المدي في كتاب الحكام"(‪.)3‬‬
‫كان مشروعنا الول‪ ،‬هو دراسة أفكار المدي الدللية من خلل كتبه أو على القل من خلل أهم كتبه التي بسط‬
‫فيها هذه الفكار‪ ،‬لكننا ما إن قطعنا بعض الخطوات في دراسة كتاب "الحكام في أصول الحكام" حتّى تبيّن لنا‬
‫استحالة ذلك‪ ،‬وأدركنا أن ما جاء في هذا الكتاب وحده ل يمكن أن نفيَ بدراسته في هذا المقام فعدلنا عن الهدف الوّل‬
‫واقتصرنا على دراسة جهود المدي الدللية من خلل كتابه الحكام معتمدين على الطريقة الستقرائية التي استندنا‬
‫فيها على ما قررته الدراسات الدللية والسيميائية الحديثة‪ ،‬وحاولنا إعادة قراءة ما كتبه المدي في الحكام قراءة‬
‫جديدة آخذين بعين الحذر صعوبة إجراء إسقاطات علمية منهجية لها مرجعيتها التاريخية والبستيمولوجية‪ ،‬على فترة‬
‫معرفية من فترات التراث العربي‪ ،‬واحتطنا على ذلك بإجراء مقاربات بين ما أرساه المدي من قواعد وسنن لغوية‬
‫ص الخطاب اللغوي بتجلياته المختلفة‪ ،‬وبين ما تأسّس حديثا من أفكار ونظريات سيميائية‬ ‫وضوابط دللية وسيميائية تخ ّ‬
‫لدى بعض علماء السيمياء المحدثين‪.‬‬
‫لقد اعتمدنا في دراستنا حول جهود المدي الدللية على كتابه "الحكام في أصول الحكام" بتحقيق وشرح‬

‫() وفيات العيان –ابن خلكان‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.294‬‬ ‫‪1‬‬

‫() القدمة‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.554‬‬ ‫‪2‬‬

‫() إمام الرمي هو عبد ال بن يوسف الوين الشافعي‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 113 -‬‬


‫العلمة الشيخ عبد الرزاق عفيفي‪ ،‬ونسخة ذات طبعة ثانية بسنة ‪1402‬هـ الموافق لـ ‪1981‬م‪ ،‬هذه الطبعة التي‬
‫نشرت في دار "المكتب السلمي" في أربعة أجزاء يضمّها مجلّدان‪ ،‬لكننا كنّا نرجع بين الفينة والخرى إلى طبعتين‬
‫أخريين هما‪ :‬طبعة دار الكتب العلمية بشرح وتعليق الشيخ إبراهيم العجوز‪ ،‬وهي طبعة أولى بسنة ‪1402‬هـ الموافق‬
‫‪1985‬م‪ .‬أما النسخة الثانية التي كنت أرجع إليها هي طبعة دار الكتاب العربي‪ ،‬بشرح وتحقيق الدكتور سيّد الجميلي‬
‫في طبعة ثانية سنة ‪1406‬هـ الموافق‬
‫لـ ‪1986‬م‪.‬‬
‫لقد رسم المدي في كتابه "الحكام" المنهج والخطة الواضحة لبحثه بحيث يتخذ طرق النظر والملحظة العميقة‬
‫مع الجمع بين البحث في المبنى والمعنى كليهما‪ ،‬وفي ذلك تحديد مسبق لطار الدراسة التي تهدف إلى الكشف عن‬
‫أفكار الموضوع مادة البحث‪ .‬ول عجب في ذلك إذا علمنا أنّ المدي قد برع في السبر والتقسيم وتفريع المسائل‪،‬‬
‫وكان أستاذا يلقن قواعد البحث للمتعلمين وصاحب منهج في التدريس لم يعرف أحسن منه في عصره‪ ،‬بعد تبيانه‬
‫لمكانة الحكام الشرعية‪ ،‬والقضايا الفقهية وفضلها على مصالح العباد في الدنيا والدين وضّح المدي السبيل إلى‬
‫استثمار ذلك فقال‪" :‬وحيث كان ل سبيل لستثمارها دون النظر في مسالكها ول مطمع في اقتناصها من غير التفات‬
‫إلى مداركها‪ .‬كان من اللزمات والقضايا الواجبات البحث في أغوارها والكشف عن أسرارها والحاطة بمعانيها‬
‫والمعرفة بمبانيها حتى تذلل طرق الستثمار وينقاد جموع غامض الفكار"(‪ .)1‬ث ّم إنّ تحديد الدللت اللفظية يم ّر عبر‬
‫معرفة الحكام اللغوية في علم العربية كالحقيقة والمجاز وموضوعاتهما الفرعية‪ ،‬والتعميم والتخصيص وأدواتهما‬
‫ل مهمّا لستنباط الحكام وقاعدة‬‫والضمار والتنبيه والطلق والتقييد والمفهوم والمنطوق وغير ذلك ممّا يعد مدخ ً‬
‫ينطلق منها الصولي من أجل إثبات حكم أو نفيه أو تأويله‪ ،‬يحدّد المدي أدوات البحث الصولي فيحصرها في‬
‫ثلث‪ :‬علم الكلم‪ ،‬وعلم العربية‪ ،‬والحكام الشرعية فيشرح علم العربية فيقول‪" :‬أما علم العربية فلتوقف معرفة‬
‫دللت الدلة اللفظية من الكتاب والسنة‪ ،‬وأقوال أهل الحل والعقد من المة‪ ،‬على معرفة موضوعاتها لغة‪ ،‬من جهة‬
‫الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والطلق والتقييد والحذف والضمار والمنطوق والمفهوم والقتضاء والشارة‬
‫والتنبيه واليماء وغيره ممّا ل يعرف في غير علم العربية"(‪.)2‬‬
‫إن المباحث اللغوية التي ذكرها المدي تعدّ مفاتيح ضرورية للولوج إلى المسالك المتعلقة بأصول الفقه الذي‬
‫يتناول القرآن الكريم والسنة الصحيحة‪ ،‬كمادتين للبحث عن قواعد علمية موضوعية‪ ،‬لضبط دللة نصوصهما ضبطا‬
‫ل يحتمل تأويلت قد تفقد النص دللته التي تقف وراءها مصالح أمّة بأسرها‪ ،‬أو ضرورة من الضرورات الشرعية‪.‬‬
‫ولذلك كان لزاما التحقق من الدلة الفقهية ودللتها وموقع المستدل بها‪ ،‬يقول المدي شارحا ذلك‪" :‬فأصول الفقه هي‬
‫أدلة الفقه وجهات دللتها على الحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها"(‪ .)3‬وهو بذلك كأنه يشير إلى علم الدللة‬
‫الحديث الذي يقتضي وجود أدلة لغوية وغير لغوية ودللت الدلة ثم مراعاة حال المتكلم ومقامه وحال المخاطب‬
‫وموقعه‪.‬‬
‫لقد نصّ المدي في مقدمة كتابه على دواعي تأليفه "للحكام" بحيث جعله خاصا بالملك المعظم شرف الدين بن‬
‫أيوب ملك دمشق وأهداه إليه وجعل كتابه هذا "حاويا لجميع مقاصد قواعد الصول‪ ،‬مشتملً على حل ما انعقد من‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ص ‪.3‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 114 -‬‬


‫غوامضها على أرباب العقول‪ ،‬متجنبا للسهاب وغث الطناب مميطا للقشر عن اللباب…"(‪ )1‬وقد حدّد المدي مسائل‬
‫هذا الكتاب وقسمها إلى أربع‪:‬‬
‫‪ -‬المسألة الولى‪ :‬في مفهوم أصول الفقه ومبادئه وموضوعه وغاياته تناول فيه المبادئ الكلمية واللغوية‪،‬‬
‫وأقسام اللفظ ودللته‪ ،‬كما بحث موضوع الحقيقة والمجاز والفعل وأقسامه والحرف وأصنافه وعرض لنشأة‬
‫اللغة وأصلها‪.‬‬
‫‪ -‬المسألة الثانية‪ :‬في مفهوم الدليل الشرعي وأقسامه وما يتعلق به من أحكام‪ ،‬فبحث مسائل شرعية مختلفة‬
‫تخصّ الكتاب الكريم والسنة المطهرة بالخصوص فبحث الخبر‪ ،‬والخطاب وأقسامه فعرض للمر والنهي‬
‫وبسط القول فيهما‪ ،‬كما تناول موضوع العموم والخصوص وأدلة التعميم والتخصيص‪ ،‬كما أسهب القول في‬
‫الطلق والتقييد والجمال والضمار والتأويل‪.‬‬
‫‪ -‬المسألة الثالثة‪ :‬في أحكام المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين‪.‬‬
‫‪ -‬المسألة الرابعة‪ :‬في الترجيحات الواقعة بين الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصوّرية والحدود‬
‫الموصلة إلى التصديقات‪ ،‬تحدث فيها كذلك عن القياس والجتهاد‪.‬‬

‫‪-2‬العلمة اللسانية أنماطها وأنساقها الدللية عند المدي‪:‬‬


‫لقد خصص المدي في كتابه "الحكام" مجالً واسعا‪ ،‬تناول من خلله ما يصطلح على تسميته في الدرس الدللي‬
‫الحديث بأنماط العلمة اللسانية من خلل البناء الصوري منها وبنائها المفهومي فبحث الشكال التي تتمظهر فيها‬
‫العلمة اللسانية ضمن نمطية تخضع لطراد مفهومي تحدده معايير لغوية من ذلك تناوله للفظ المطلق واللفظ المقيد‬
‫واللفظ المجمل وما إلى ذلك مما سيرد الكلم عنه‪ ،‬كما قدم المدي تحليلً مستوفيا لقضية أثارها الدرس اللساني‬
‫الحديث على يد العالم اللغوي دي سوسير‪ ،‬ونعني بها اعتباطية العلمة اللسانية‪ ،‬وقد تناول ذلك المدي في إطار بحثه‬
‫حول نشأة اللغة‪ ،‬وقد أبان فيه عن قدرة كبيرة على التصنيف والتحليل خاصة في تحديده للنساق الدللية أو العلقات‬
‫الدللية التي تربط الدال بمدلوله‪ ،‬أو الدول ببعضها البعض أو المدلولت مما يعرف بالحقول الدللية‪.‬‬

‫أنماط العلمة اللسانية‪:‬‬


‫يتخذ المدي في تحديده لنواع العلمة اللسانية مسلكين اثنين‪ :‬مسلك صوري ومسلك مفهومي يقول في تعيين‬
‫اللفظ المطلق‪" :‬أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الثبات أو هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه"(‪ .)2‬إن‬
‫ل من اللفاظ تتحدد صورته نحويا‪ ،‬فهو نكرة في سياق الثبات من ذلك قوله تعالى‪:‬‬ ‫اللفظ المطلق الذي يغطي حق ً‬
‫(فتحرير رقبة مؤمنة)‪ .‬هذا من ناحية القيود الشكلية‪ ،‬أما من ناحية القيود المفهومية فاللفظ المطلق يدل على اشتراك‬
‫غير محدد في الدللة بينه وبين حقل من المدلولت‪ ،‬فالمدي يأخذ في العتبار مظهرين متكاملين لكل مدلول في‬
‫الحقل المفهومي‪ ،‬المظهر الول يظهر من خلل العلقة الحتمية التي تربطه بالدال وهذه العلقة تسجل مكان الدال إل‬
‫أنها ل تسمح لنا بتحديده بكيفية إيجابية‪ .‬والمظهر الثاني يقوم على علقة هذا المدلول بكل المدلولت الخرى داخل‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ -‬ج ‪ .3‬ص ‪.3‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫منظومة العلمات‪ ،‬فكل لفظة يشار بها إلى كثرة مختلفة الصور تغطيها صورة اللفظ المطلق‪ ،‬وموقعه من حقل‬
‫مدلولته هو موقع اللكسيم الرئيسي في الحقول الدللية كما صنفها علماء الدللة المحدثون‪ ،‬ويمكن أن نجد تقاسيم‬
‫مشتركة بين اللفظ المطلق وبين اللفظ العام واللفظ الكلي‪ ،‬بحيث يكمن اللتقاء بينها في اتساع مجال إرجاع كل منها‪،‬‬
‫وفي مقابل اللفظ المطلق يأتي اللفظ المقيد وفيه تتحقق الوظيفة الرجاعية بحيث يعين اللفظ مرجعا محددا في عالم‬
‫العيان والذهان‪ ،‬وهذا التعيين يرتكز على أساسين اثنين‪ :‬أولهما تعيين أسماء العلم(‪ )1‬التي لها مرجع واحد محدد ل‬
‫ل للبس مثل قولنا‪ :‬هذا‬ ‫أكثر وقد تقوم (السابقة) (‪ )prefixe‬بالدور الحاسم في تحديد المرجع تحديدا لها يترك معه مجا ً‬
‫الرجل‪ ،‬وهذه المرأة‪ ،‬وذلك المكان وما إلى ذلك‪ .‬وثاني الساسين هو التعيين بالصفة وهذا ما بحثه العالم اللساني (‬
‫‪ )pierre leriat‬في كتابه(‪ )2‬حيث يقول‪ :‬التعيين "هو عملية مرتبطة بالكلم ترتكز على تعيين أشياء (خارج النظام‬
‫اللغوي‪ ،‬قد تكون حسية أو مجردة‪ ،‬مادية أو تحليلية)‪ ،‬نسمي الرجاع الوظيفة التعيينية والمرجع الشيء المعين الذي‬
‫قد يكون شيئا ماديا أو مفهوما مجردا‪ .‬وقد أحصى المدي طرق تقييد المطلق فذكر منها التعيين باسم العلم والتعيين‬
‫بصفة زائدة يقول موضحا ذلك‪" :‬وأما المقيد فإنه يطلق باعتبارين‪:‬‬
‫الول‪ :‬ما كان من اللفاظ الدالة على مدلول معين كزيد وعمرو‪ ،‬وهذا الرجل ونحوه‪.‬‬
‫ل على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك دينار مصري ودرهم مكي‪،‬‬
‫الثاني‪ :‬ما كان من اللفاظ دا ً‬
‫وهذا النوع من المقيد‪ .‬وإن كان مطلقا في جنسه من حيث هو دينار مصري ودرهم مكي‪.‬‬
‫غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم فهو مطلق من وجه ومقيد من وجه"(‪ .)3‬وفي هذا الموضع يجري‬
‫المدي تقاطعا تمييزيا بين اللفظ المطلق واللفظ المقيد‪ ،‬فالمطلق قد تضيق دللته فيضحي مقيدا إل أن اللفظ المقيد قد‬
‫يقع بين الطلق والتقييد كما بين ذلك المدي من المثلة التي ساقها آنفا‪ ،‬ول يأخذ صاحب الحكام مفهوم الطلق أو‬
‫التقييد قاصرا إياه على الصيغة المعجمية فحسب‪ ،‬بل ويتناوله في سياقات التركيب المختلفة ولذلك يطرح إشكالت‬
‫نوعية منها إذا وجدت جملتان قد ورد في إحداهما لفظ مطلق وفي الثانية لفظ مقيد من جنس واحد‪ ،‬هل يجوز إلحاق‬
‫المطلق بالمقيد أو العكس؟‪.‬‬
‫يستند المدي في حل هذا الشكال على اتحاد السبب واختلفه بين جملة الطلق وجملة التقييد‪ ،‬فإذا اتحد السبب‬
‫كان اللحاق وإذا اختلف السبب فالنظر إلى العلة الموجبة لللحاق وإل ل يلحق مطلق بمقيد‪.‬‬
‫يشرح ذلك في قوله‪" :‬العهدة على اتحاد السبب واختلفه فإذا اتحد السبب فل خلف في إلحاق المطلق بالمقيد كما‬
‫لو جاء في الظهار‪" :‬اعتقوا رقبة" ثم جاء "اعتقوا رقبة مؤمنة"‪ .‬أما إذا اختلف السبب فالنظر حينئ ٍذ إلى العلة الموجبة‬
‫لللحاق وإل فل ينزل المطلق منزلة المقيد كما لو جاء في الظهار قولهم‪" :‬فتحرير رقبة" وفي القتل الخطأ‪" :‬فتحرير‬
‫رقبة مؤمنة(‪ .)4‬إن ما أثاره المدي في موضوع اللفظ المطلق يمكن فهمه على ضوء ما حدده (ليونز) (‪ )j. Lyons‬في‬
‫مناقشة العلقة بين التعيين ‪ denotation‬والرجاع ‪.)5(Reference‬‬

‫() انظر فعل مباحث علم الدللة الديث‪ :‬الدال والدلول‪ :‬ص ‪.42‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ‪.Semantique descriptive, p65-66‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ .‬ج ‪ .3‬ص ‪.4‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ .‬ج ‪.3‬ص ‪.5‬‬ ‫‪4‬‬

‫() انظر –التعيي والتضمي ف علم الدللة‪( -‬د‪ .‬جوزيف شري)‪ -‬ملة الفكر العاصر‪ ،‬عدد ‪ 18/19‬سنة ‪ .1982‬ص ‪.73 -72‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫ل معجميا مفتوحا وغير محصور‪ ،‬فإن التعيين هو العلقة القائمة بين وحدة‬ ‫فإذا كان اللفظ المطلق يحدد حق ً‬
‫معجمية وما تعينه خارج النظام اللغوي من أشياء أو أشخاص أو غير ذلك‪ ،‬ولنسق لذلك مثل كلمة (رجل) فإنها‬
‫تشرف على حقل غير محصور من جنس معين له سمات ومميزات مخصوصة وإذا كان لكل كلمة تعيينها فإن ذلك‬
‫يحدد إرجاعها‪ ،‬إل أن الرجاع مرتبط أساسا بتسييق الوحدة المعجمية وهذا ما يكاد يكون سمة عامة عند المدي الذي‬
‫يأخذ الصيغة المعجمية غالبا‪ ،‬داخل سياقات مختلفة لن ذلك هو التعيين الساسي لدللتها‪.‬‬
‫إذا ورد لفظ دال على معنيين أو أكثر ويتعين كلهما عند إطلقه‪ ،‬فهو اللفظ المشترك ويدخل في باب المشترك‬
‫اللفظي‪ ،‬أو ما سماه المدي باللفظ المجمل‪ ،‬يقول في تعريفه‪" :‬المجمل ماله دللة على أحد أمرين ل مزية لحدهما‬
‫على الخر بالنسبة إليه"(‪ .)1‬وهذا التصنيف للدوال‪ ،‬يرتكز أساسا على المدلول المتعدد كقولهم‪ :‬العين‪ :‬للذهب وللشمس‬
‫ولمورد الماء‪ ،‬وإذا ورد هذا اللفظ في سياق عام لم يتعين أحد هذه المدلولت مثل قولنا‪" :‬رأيت العين"‪ .‬فلفظ "العين"‬
‫ل دلليا وهو ما رصده المدي في تسجيل ذلك التردد في إنزال اللفظ على أحد المدلولين‬ ‫يطرح في هذا السياق إشكا ً‬
‫بسبب التردد في عود الضمير‪ ،‬أو بسبب تردد اللفظ بين جمع الجزاء‪ ،‬وجمع الصفات أو بسبب الوقف والبتداء أو‬
‫بسبب تردد الصفة أو تردد اللفظ بين مجازاته المتعددة عند تعذر حمله على حقيقته فقولك‪" :‬كل ما علمه الفقيه فهو‬
‫كما علمه "فإن الضمير (هو) متردد بين العود إلى الفقيه أو ما علمه الفقيه‪ ،‬وتعدد هذه القضايا اللغوية من المسائل‬
‫التي أثارها علماء الدللة المحدثون‪ ،‬يسجل ذلك الدكتور الفاسي الفهري فيقول‪" :‬إختيار مفهوم ملئم من بين لئحة‬
‫المفاهيم التي يعبر عنها اللفظ المشترك يتطلب مجهودا معرفيا خاصا ويتسبب أحيانا في أخطاء(‪ )2‬ولكن كيف يرفع‬
‫اللبس الدللي ويتعين مفهوم واحد من جملة المفاهيم التي يحتوي عليها المعجم الذهني‪ ،‬حول لفظ (العين) في المثال‬
‫السابق يقول المدي‪" :‬والصل في كل ما يتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقة إما بالوضع الصلي أو بعرف الستعمال‪:‬‬
‫والجمال منتف بكل واحد منهما ولهذا كان الجمال منتفيا عند قول القائل‪" :‬رأيت دابة" لما كان المتبادر إلى الفهم‬
‫ذوات الربع بعرف الستعمال وإن كان على خلف الوضع الصلي"(‪ )3‬فالمدي يحدد منفذين لتعيين مفهوم ملئم من‬
‫جملة لئحة من المدلولت يختزنها المعجم الذهني وهما‪ :‬الوضع الصلي وحقيقة اللفظ أما الثاني هو عرف‬
‫الستعمال‪ ،‬إذ اللفظ قد اكتسب عبر السياق اللغوي وقوعا خاصا‪ ،‬لنه أضحى بؤرة لتجميع كل حيثيات المقام الذي‬
‫يستعمل فيه‪.‬‬
‫يقول الدكتور الفاسي الفهري محددا طرق رفع اللبس عن اللفظ المجمل وتعيين مدلول واحد له‪" :‬ويقع رفع‬
‫اللتباس عن طريق السياق اللغوي المباشر أو السياق الخطابي أو الوضع الذي يحدث فيه التواصل أي كل مصادر‬
‫المعلومات المتوفرة لرفع اللبس"(‪ .)4‬ولكن رغم تسييق الصيغة المعجمية‪ ،‬أو بالنظر إلى إطارها التواصلي‪ ،‬فإن اللبس‬
‫قد ل يرفع وهذا ما كان يشكل نقطة الخلف بين جمهور علماء الصول في تأويل النصوص القرآنية المتشابهة التي‬
‫يحمل فيها اللفظ أكثر من مدلول واحد‪ ،‬ولذلك دأب علماء الدللة المحدثون يبلورون مشروعا يقضي بأن يكون لكل‬
‫لفظ معنى نواة‪ ،‬وذلك بالرجوع إلى حقيقة الوضع الصلي الذي أنتج فيه تعدد المدلولت حول الدال الواحد‪ ،‬ولذلك‬
‫نرى المدي يسوق الشاهد ويردفه بتأويل اللفظ المشترك‪ ،‬ففي قوله تعالى‪( :‬والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلثة‬
‫قروء)‪ .‬يقول العلماء‪ :‬القرء هو الحيض أو الطهر‪ ،‬وقد ترتب عن ذلك الختلف في تحديد مدلول واحد للفظ (القرء)‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.10‬‬ ‫‪1‬‬

‫() اللسانيات واللغة العربية‪ .‬ج‪ .‬ص ‪.372‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫() اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.372‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫اختلف بين علماء الصول محل تحديد مدة مكوث المرأة المطلقة معتّدة‪ .‬ومع ذلك عَدّ بعض اللغويين المحدثين تعدد‬
‫ل على حيوية اللغة‪ ،‬لن اللفظ أحادي المدلول قد يرهق الجهد الذاكري‪ ،‬يقول الدكتور الفاسي‬ ‫مفاهيم اللفظ الواحد دلي ً‬
‫في ذلك‪" :‬وعليه يكون تعدد المعاني دليلً على حيوية اللغة ورواجها فكيف يمكن أن ننادي بتركه لفائدة أحادية‬
‫المعنى؟ علما بأن أحادية المعنى ل يمكن أن تقوم إل بتحجير اللغة والقضاء على حركيتها‪ ،‬أي قتلها‪ ،‬وعلما كذلك بأن‬
‫المجاز والسياق يعرضان اللفظ للتوسع الدائم"(‪ .)1‬وعموما فإن لتعيين المدلول الرئيسي للفظ المجمل أو المشترك‪ ،‬هو‬
‫في حاجة إلى مزيد من الوعي اللغوي بحيث ل يلزم من تحديد مدلوله النواة‪ ،‬تعطيل لمطاطية اللفاظ داخل النظام‬
‫اللغوي التي هي طبيعة كل عناصر اللغات التي تنزع نحو التجدد والتغير والتكيف مع الوضاع المستجدة‪ ،‬وإن كان‬
‫الغالب من العناصر اللغوية هي المفيدة لمدلول واحد نواة‪ .‬ومن جهة ثانية فإن محاولة إثارة قضايا تخص الدللة من‬
‫قبل المدي‪ ،‬تؤخذ على أنها وعي لغوي بأهمية الليات الذاتية للجملة العربية‪ ،‬معتمدا في ذلك سبيل تفكيك عناصرها‪،‬‬
‫والوقوف على بؤرة الفعل الدللي فيها‪ ،‬وذلك قصد استنباط قواعد عامة تصلح لن تكون قوانين مطردة‪ ،‬لفهم كل‬
‫الجمل وإمكانية إعادة الكتابة‪.‬‬
‫إن الشكال الدللي الذي يكتنف السياق اللغوي يمكن حله بصيغ التوضيح والتأويل‪ ،‬تلك الصيغ أطلق عليها‬
‫المدي مصطلح "البيان"‪ .‬وهو ل يخرج في مفهومه عن الدليل الذي يفضي إلى العلم أو الظن‪.‬‬
‫يقول المدي معرفا "البيان"‪ :‬أما البيان فاعلم أنه لما كان متعلقا بالتعريف والعلم بما ليس بمعروف ول‬
‫معلوم‪ ،‬وكان ذلك مما يتوقف على الدليل‪ ،‬والدليل مرشد إلى المطلوب وهو العلم أو الظن الحاصل عن الدليل ولم‬
‫يخرج البيان عن التعريف‪ ،‬والدليل والمطلوب الحاصل من الدليل"(‪ .)2‬ورغم أن الدليل ل يوصل إلى العلم اليقيني بل‬
‫إلى الظن‪ ،‬يبقى في عرف المدي بيانا‪ ،‬لنه يعتقد أن الظن هو في حد ذاته مطلوب خبري يترتب عليه دللة خاصة‬
‫ليست هي بالتأكيد دللة القطع واليقين‪ ،‬وللبيان صيغ متعددة قد تكون حسية أو عقلية أو شرعية أو عرفية‪ ،‬بل إن‬
‫السكوت يعد بيانا إذ يقول المدي‪" :‬فحد البيان ما هو حد الدليل(…) ويعم ذلك كل ما يقال له دليل كان مفيدا للقطع أو‬
‫ل أو سكوتا أو فعلً أو ترك فعل "إلى غير ذلك"‪ )3(.‬فإذا‬
‫الظن وسواء كان عقليا أو حسيا أو شرعيا أو عرفيا أو قو ً‬
‫اتضح مفهوم البيان وصيغته التي قد تكون صيغا لغوية أو غير لغوية‪ ،‬فهل كل سياق لغوي في حاجة إلى بيان أم أن‬
‫هناك سياقات مخصوصة لذلك؟ إن السياق اللغوي ل يخلو إما أن يكون واضح الدللة‪ ،‬أو حد المعنى‪ ،‬معين المدلول‪،‬‬
‫فهو في طبيعته التركيبية والدللية مبيّن‪ ،‬أو يكون السياق اللغوي مجمل المعنى‪ ،‬عام اللفظ‪ ،‬مطلق الدللة فهو يحتاج‬
‫لظهار دللته وتعيينها إلى صيغ البيان‪ ،‬وقد بُحث موضوع "البيان" في الدرس اللغوي الحديث تحت مصطلح التأويل‬
‫الذي عُدّ البحث في لغة اللغات‪ ،‬أي فيما يجعل منظومات الرموز مؤسسة بالنسبة للمتكلم والمخاطب‪ ،‬للكاتب والقارئ‪،‬‬
‫والتأسيس هنا يعني إقامة الروابط الطبيعية والبيئية بين الخطاب وسياقه الحيوي من اجتماعي وانثربولوجي وذاتي"(‪.)4‬‬
‫إن ذلك النص الذي يحتاج إلى بيان أو تأويل لمنظومات رموزه‪ ،‬وكشف القناع عن سياقه الحيوي سماه المدي‬
‫"المبيّن" الذي يحتوي على بؤرة فاعلة في تركيبه تعطّل مفهوم دللته الكلية يقول المدي شارحا ذلك‪" :‬وأما المبيّن فقد‬
‫يطلق‪ .‬ويراد به ما كان من الخطاب المبتدئ المستغني بنفسه عن بيان‪ ،‬وقد يراد به ما كان محتاجا إلى البيان وقد‬
‫ورد عليه بيانه‪ ،‬وذلك كاللفظ المجمل إذا بيّن المراد منه‪ ،‬والعام بعد التخصيص والمطلق بعد التقييد والفعل إذا اقترنت‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.374‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.25‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ ،3‬ص ‪.26‬‬ ‫‪3‬‬

‫() استراتيجية التسمية‪ ،‬التأويل وسؤال التراث‪ ،‬مطاع الصفدي‪ ،‬ص ‪ ،4‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪ 31 -30‬سنة ‪.1984‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫به ما يدل على الوجه الذي قصد منه إلى غير ذلك"(‪ )1‬ولعل أهم كاتب خص البيان بشرح مستوف لجوانبه هو بل‬
‫ريب "الجاحظ" الذي عاش في حدود القرن الثاني الهجري‪ ،‬يقول الجاحظ معرفا البيان‪" :‬والبيان اسم جامع لكل شيء‬
‫كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير‪ ،‬حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائنا ما‬
‫كان ذلك البيان‪ ،‬ومن أي جنس كان الدليل‪ ،‬لن مدار المر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع‪ ،‬إنما هو الفهم‬
‫والفهام‪ ،‬فأي شيء بلغت الفهام‪ ،‬وأوضحت على المعنى‪ ،‬فذلك هو البيان في ذلك الموضع"(‪ .)2‬والظاهر أن المدي‬
‫قد حصل مفهوم البيان من تعريف الجاحظ ذلك أنه ليس هناك كبير اختلف بين التعريفين‪ ،‬إل أن المدي كان أعمق‬
‫بيان من الجاحظ ذلك لربطه بين البيان كأداة لتأويل الدللة‪ ،‬ووضوح المدلول وتعيينه‪ ،‬وعموم مصطلح البيان لدللتي‬
‫العلم والظن معا‪ ،‬لن حاصل البيان قد يكون علما وقد يكون ظنا‪ ،‬أما الجاحظ فالغاية عنده من البيان هو الفهم‬
‫والفهام بأي شيء حصل ذلك‪ ،‬ولعل مرد التباين بين العالمين إلى مادة تطبيق كل منهما‪ ،‬فالمدي إذا كان قد اتخذ من‬
‫نصوص القرآن والحاديث الشريفة مادة لتطبيقاته اللغوية ولستنباط القواعد والسنن المطردة في كل خطاب لغوي‬
‫عربي‪ ،‬فإن الجاحظ يكاد يقصر مفاهيمه اللغوية على كلم العرب وما فيه من عيّ وفصيح‪ ،‬وضرورة تحقيق غاية‬
‫الفهم والفهام من الخطاب اللغوي‪ ،‬على نقيض المدي‪ ،‬والصوليين بصفة عامة‪ ،‬الذين تعارفوا على وجود دللت‬
‫مختلفة منها‪ :‬الدللة القطعية والدللة الظنية‪.‬‬
‫إن المبيّن يتفاوت إجماله وإيهامه‪ ،‬فهو ليس على درجة واحدة‪ ،‬وتبعا لذلك فإن البيان وجب أن يجانس المبيّن‬
‫ولقد أوضح المدي هذه المسألة وأظهر أن البيان ل يخلو من أحد المظهرين‪ :‬إما أن يكون أقوى دللة من المبيّن أو‬
‫أدنى دللة منه‪ ،‬إما أن يتساويا في ذلك فهو ممتنع يقول في ذلك‪" :‬إن كان المبيّن مجملً‪ ،‬كفى في تعيين أحد احتماليه‬
‫أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عاما أو مطلقا‪ ،‬فلبد وأن يكون المخصص والمقيد في دللته أقوى من دللة العام على‬
‫صورة التخصيص ودللة المطلق على صورة التقييد"(‪ .)3‬فالبيان يكون أدنى من المبيّن إذا كان المبيّن مجملً وذلك في‬
‫تحديد أحد مدلولته من ضمن لئحة قد تطول من المدلولت‪ ،‬أما إذا كان المبيّن مطلقا فالبيان يكون أقوى منه في‬
‫الدللة على التقييد وإذا كان المبيّن عاما كذلك في دللة البيان عن التخصيص‪ .‬إن هذا التدقيق في رفع العموم المطلق‬
‫أو الجمال القائم في دللة الخطاب اللغوي يدل على عمق التحليل الذي وسم تفكير المدي بسعيه إلى تأسيس قواعد‬
‫شاملة بناء على ملحظات تشمل البنية اللسانية وعلقتها بالبنية الدللية‪ ،‬وما يجب التنبيه عليه هو أن المدي يجعل‬
‫غايته دائما في أي تحليل لساني لبنية الجملة أو النص‪ ،‬هو طبيعة وهيئة الدللة لنها مدار المر كله في منظومة‬
‫التصال والبلغ‪.‬‬
‫إن حاجة "اللغة" إلى بيان حاجة ل تعود إلى ذات المتكلم فحسب بل إلى قدرة المتلقي على تفكيك رسالة الخطاب‪.‬‬
‫ولذلك عد المدي الخطاب المجمل غير صالح للتواصل والبلغ لنه بمثابة لغة تخص المتكلم أنشأها بنفسه‪ .‬يقول‬
‫المدي في ذلك‪" :‬إنه ل فرق بين الخطاب باللفظ المجمل الذي ل يعرف له مدلول من غير بيان‪ ،‬وبين الخطاب بلغة‬
‫يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان"(‪ .)4‬ثم إن غاية الخطاب هو إيصال دللة الرسالة إلى المتلقي وبذلك تحصل‬
‫الفائدة من البلغ‪ ،‬أما وأن يترك الخطاب المجمل دون بيان فسماه المدي لغوا‪ ،‬لنه قصور عن نقل المدركات‬
‫الذهنية إلى من نريد إبلغهم بذلك‪ ،‬وقد حدّد العلماء القول الشارح لغاية إفادة المخاطب بتصور مفرد أو لتمييز‬

‫() الحكام‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.26‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الاحظ‪ ،‬البيان والتبيي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.82‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.31‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ :‬ج ‪ 3‬ص ‪.45‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫(‪)1‬‬
‫متشابه‪ ،‬حملوا الباث تبعة الشرح والتعريف‪.‬‬
‫إن حصول الفائدة من الخطاب متعلقة بتحقيق الفهم من خلل المضمون الدللي المحمول في سياق الخطاب‪ ،‬أما‬
‫إذا تعذر الفهم لم تحصل الفائدة وكان الخطاب لغوا يقول المدي مبينا ذلك‪" :‬إنما المقصود من الخطاب إنما هو‬
‫التفاهم‪ ،‬والمجمل الذي ل يعرف مدلوله من غير بيان له في الحال ل يحصل منه التفاهم‪ ،‬فل يكون مفيدا ومال فائدة‬
‫فيه ل تحسن المخاطبة به لكونه لغوا‪.)2(.‬‬
‫إن من تقسيمات المدي لللفاظ‪ ،‬قسما سماه "اللفظ الظاهر" وهو اللفظ الواضح المعنى المنكشف الدللة وهو‬
‫الدال دللة حقيقية أصلية‪ ،‬أو جعلَه العرف اللغوي ذا دللة أصلية راجحة يقول المدي في تعريفه لهذا اللفظ‪" :‬اللفظ‬
‫الظاهر ما دل على المعنى بالوضع الصلي أو العرفي‪ ،‬ويحتمل غيره احتمالً مرجوحا(‪ .)3‬إن دللة اللفظ الظاهر‬
‫مفتوحة على التأويل المرجوح بدليل‪ ،‬وبالنظر إلى دللة الظاهر الصلية أو العرفية‪ ،‬يتأرجح اللفظ بينهما مع احتماله‬
‫الدللة على معنى آخر يسنده دليل‪ ،‬ويتمصرف اللفظ إلى مدلوله غير الظاهر بتأويل مقبول‪ ،‬يتراوح بين القوة‬
‫والضعف بحسب طبيعة اللفظ‪ ،‬ويضطلع بالتأويل متلق مثالي له القدرة على تفكيك بنية الخطاب‪ ،‬والوقوف على بنية‬
‫الدللة العميقة متمكنا من تحديد طبيعة الظاهر من اللفاظ‪ ،‬وما يناسبه من التأويل قوة أو ضعفا وما يوافقه من الدليل‬
‫الكاشف عن مدلوله الراجح‪ .‬ففي قوله تعالى‪( :‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فلفظ "الفقراء" لفظ ظاهر‪ ،‬وتأويله هو‬
‫القتصار على البعض من الفقراء دون الكل‪ ،‬لن الهدف هو رفع حاجة هؤلء البعض في توفير الصدقة لهم وكذلك‬
‫المر بالنسبة للفظ "المساكين"‪ .‬إن اللفظ الظاهر ل يحوّل من مدلوله بوجود قرينة صارفة إل إذا كان في سياق لغوي‪،‬‬
‫ويعني ذلك أن اللفظ قد اكتسب دللت هامشية إضافية عن مدلوله‪ ،‬وهو ما تنص عليه المباحث اللسانية الحديثة التي‬
‫تجمع أن ل معنى للكلمة خارج سياقها اللغوي(‪ .)4‬فاللفظ الظاهر على أساس ذلك‪ ،‬ل يتوقف فهم المراد منه على أمر‬
‫خارجي وإنما الدللة المقصودة تأتي من سياقه‪ ،‬ويبقى في أمر استجابة المتلقي للخطاب المتضمن لصيغ من اللفظ‬
‫الظاهر أن يكون على وعي أن الصل في اللفظ عدم صرفه عن ظاهر إل إذا اقتضى ذلك دليل راجع باحتماله‬
‫التأويل وإرادة معناه غير الحقيقي‪ ،‬من ذلك إذا كان اللفظ الظاهر حقيقة يحتمل أن يراد به المعنى المجازي‪ ،‬وإذا كان‬
‫عاما يحتمل التخصيص‪ ،‬وإذا كان مطلقا يحتمل التقييد وغير ذلك من وجوه التأويل في حقل أصول الفقه‪.‬‬
‫إنما هو حري بأن يشار إليه بعد هذه التفريعات لحقل الدلة اللغوية‪ ،‬أن هذا النجاز يعد كسبا مرحليا في مسار‬
‫التحوّل المنهجي للنظرية الدللية‪ ،‬إذ بلغ المدي الغاية في وضع الحدود وحصر المفارقات الدللية القائمة على أساس‬
‫سبر عميق لبنية الخطاب لسكتناه حقيقة البنية الدللية‪ ،‬إذ الوصول إلى حصر سمات تمييزية بين خطاب وآخر يدل‬
‫على أنه ثمة إمكانية منهجية‪ ،‬لرساء قواعد علمية تغدو نموذجا متكاملً لضبط آليات الحداث الكلمية بالوقوف على‬
‫ما يشكل نسقها السياقي العام الذي ينتظم العناصر اللسانية في الخطاب البلغي على وجه التحديد‪ .‬إن ما أنهى‬
‫المدي به كتابه "الحكام" هو مبحثه في المفاضلة بين التعاريف الموصلة إلى كشف المعنى عن المبيّن باعتماد معايير‬
‫موضوعية‪ ،‬ضمن المقاييس التي تعطي للحد المعرف صفة الشمولية المقرونة بالعمق في التعريف أن يكون الحد‪:‬‬
‫"مشتملً على ألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب من غير تجوز ول استعارة ول اشتراك ول غرابة ول‬
‫اضطراب ول ملزمة‪ "،‬بل أن يكون الحد مشاكلً للمعرف بطريق المطابقة أو التضمن (…) فهو أولى لكونه أقرب‬
‫() عبد الرحن حسن حبنكة اليدان ضوابط العرفة وأصول الستدلل والناظرة‪ .‬ص ‪.62‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪52‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ .3‬ص ‪.52‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪..Element de linguistique generale, Andre Martine, P.65‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫من الفهم وأبعد عن الخلل والضطراب‪ ،‬ولتحقيقه لغاية البلغ وهو حصول الفهام بل زيادة ول نقصان(‪ .)1‬إن القيمة‬
‫التفسيرية للتعريف‪ ،‬تستمد بعدها الدللي من الحد المعرف حتى يغدو التعريف والمعرف‪ ،‬ثنائية ترسم مجالً دلليا‬
‫يحصل فيه امتداد المعنى‪ ،‬لكنه امتداد يحتفظ بنفس متصورات الخطاب الذاتية مع تحول حتمي في النسق البنيوي‬
‫للمداخل المعجمية‪ ،‬التي تشكل الخطاب المطلوب تفسيره وتأويله‪.‬‬
‫إن الغرض المتوخى من إدراج الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصورية ضمن الهتمام الدللي عند‬
‫المدي‪ ،‬هو محاولة تأسيس رؤية نظرية قادرة على إيجاد كل التفسيرات لمستويات الخطاب‪ ،‬فيغدو بذلك المدي‬
‫بمرتكزاته المعرفية حول اللسان العربي‪ ،‬أحد المؤسسين لنظرية لسانية تخص اللغة العربية التي تأخذ في ثنائية‬
‫متلزمة‪ ،‬كل حيثيات النتاج اللغوي بدءا بماهية الحدث الدللي‪ ،‬وانتقالً إلى فاعل الدللة وقدراته الذاتية الكامنة‬
‫وانتهاء عند متلقي الرسالة البلغية وموقعه النفسي والجتماعي والثقافي‪ ،‬هذه الثنائية المتلزمة التي نلخصها في‬
‫مباحث المدي‪ ،‬طرفها الجانب المعرفي النظري الذي يؤسس لنظرية لغوية منطلقاتها‪ -‬غالبه النص القرآني بأنظمته‬
‫الخطابية وسننه في البلغ‪ ،‬وطرفها الخر التطبيق الجرائي الذي يسعى إلى إخراج القاعدة اللغوية من حيز التنظيم‬
‫والتجريد إلى حيز التطبيق والتمثيل‪ ،‬أو من حيز القوة إلى حيز الفعل‪ .‬ومن هنا تتبدى أهمية الضوابط الحاصرة‬
‫لنتظام العناصر اللسانية الدالة في الخطاب‪ ،‬فنلقى السياق اللغوي ليس على درجة واحدة من وضوح الحالة‬
‫المرجعية‪ ،‬إّذ قد يتعطل الرجاع لوجود خلل في متن الخطاب فتتحدد الدللت ببروز المجال المرجعي وذلك بانتقاء‬
‫عناصر استبدال تلغي عناصر الخطاب الخر‪ ،‬أو تقوم بكتابتها بنمط مغاير لنها قصُرت عن إيصال الدللة‪ ،‬وذلك ما‬
‫أفاض المدي الحديث حوله في مجال البيان والتأويل والتعريف…‬

‫‪-3‬اعتباطية الدليل اللساني‪:‬‬


‫في مبحث "مبدأ اللغات وطرق معرفتها" يتناول المدي قضية لغوية كانت مدار جدل كبير بين العلماء في‬
‫عصره‪ ،‬بل وفي تاريخ البشرية الطويل‪ ،‬وقد أعيد تناول هذه القضية مع اللغوي فرديناند دي سوسير في العصر‬
‫الحديث‪ ،‬وهي قضية علقة الدال بمدلوله‪ ،‬أو السم بمسماه هل تعود إلى مناسبة طبيعية أم هي غير معلّلة؟ انبثقت‬
‫عن هذا الموضوع مواضيع فرعية أبرزت من خللها جوانب مهمة في اللغة‪ ،‬وقد ذهب دي سوسير إلى اعتبار‬
‫العلقة بين الدال والمدلول علقة اعتباطية‪ ،‬كيفية‪ ،‬لن الدال ل يستمد معناه وقيمته الدللية من بنيته الصوتية‪ .‬وقد‬
‫جمع سويسر الدال والمدلول في مصطلح واحد سماه "الدليل اللساني‪.)2()Le signe l,inguistique( .‬‬
‫أما المدي فقد سار على منهج علمي‪ ،‬عرض في ‪/‬أوله لراء‪ /‬العلماء حول مسألة العلقة بين الدال والمدلول‪،‬‬
‫وسَاق أدلتهم في ذلك‪ ،‬منهم المعتزلة الذين اعتبروا العلقة بين الدال والمدلول علقة طبيعية أي ليست اعتباطية‪،‬‬
‫فالمدلول في رأيهم يستدعي دالً يناسبه ويشاكله ول يستدعي دالً آخر‪ .‬يقول المدي عارضا هذا الرأي‪" :‬ذهب أرباب‬
‫علم التكسير وبعض المعتزلة إلى ذلك‪ ،‬مصيرا منهم إلى أنه لو لم يكن بين اللفظ ومعناه مناسبة طبيعية‪ ،‬لما كان‬
‫اختصاص ذلك المعنى بذلك اللفظ أولى من غيره‪ .‬ويرى المدي غير ما رآه المعتزلة‪ ،‬ومن ذهب مذهبهم من‬
‫العلماء‪ ،‬إذ ل يعتبر العلة التي استند عليها المعتزلة وغيرهم في القول باعتباطية الدليل اللساني قوية‪ ،‬ذلك أن الوضع‬
‫الول لما ربط اللفظ بمعناه كان يمكن أن يختار لفظا آخر أو نقيضه‪ ،‬بدليل وجود المشترك اللفظي في اللغة كلفظ‬
‫الجون الذي يدل على اللون البيض والسود‪ ،‬ولفظ القرء الذي يعني الحيض والطهر وغيرها من اللفاظ‪ ،‬فل مناسبة‬

‫() انظر الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪282‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر فصل الدال والدلول ف الباحث الدللية الديثة‪ .‬ص ‪.42‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫طبيعة بين طرفي الدليل اللساني‪ ،‬وإنما اتصل الدال بمدلوله لغرض من الغراض المخصوصة وليست لعلة ذاتية‪.‬‬
‫يقول المدي موضحا ذلك‪" :‬فإننا نعلم أن الواضع في ابتداء الوضع‪ ،‬لو وضع لفظ الوجود على العدم والعدم على‬
‫الوجود‪ ،‬واسم كل ضد على مقابله لما كان ممتنعا كيف وقد وضع ذلك كما في اسم الجون والقرء‪ ،‬ونحوه‪ ،‬والسم‬
‫الواحد ل يكون مناسبا لطبيعة الشيء ولعدمه‪ ،‬وحيث خصص الواضع بعض اللفاظ ببعض المدلولت إنما كان ذلك‬
‫نظرا إلى الرادة المخصصة"(‪ .)1‬وإذا ثبت عند المدي أن القول باعتباطية الدليل اللساني متمتع بالتعليل الذي تقدم به‪،‬‬
‫فالقول بالوضع الختياري يبدو مناسبا لوصف العلقة غير المعللة بين وجهي "الشارة اللغوية"‪ ،‬وذلك بما يتوفر من‬
‫الشواهد النقلية خاصة التي استند عليها أصحاب هذا المذهب‪ .‬يقول المدي‪" :‬وإذا بطلت المناسبة الطبيعية وظهر أن‬
‫مستند تخصيص بعض اللفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع الختياري فقد يختلف الصوليون فيه"(‪ .)2‬فإذا لم يكن‬
‫الوضع اللغوي قد أخضع اللفظ لمعناه لمناسبة طبيعية بينهما‪ ،‬فمن أين جاءت العلقة بين الدال والمدلول؟ وكيف‬
‫ارتبط الدال بمدلوله ولم يرتبط بمدلول آخر؟ هذه السئلة تعتبر إشكالت أساسية طرحها الدرس التراثي الذي حاول‬
‫فيه العلماء تخصيص العلقة بين الدال ومدلوله‪ ،‬أو بين صورة اللفظ ومعناه‪ .‬فالرأي الول يمثله الشاعرة والظاهرية‬
‫وجماعة من الفقهاء الذين أرجعوا طبيعة العلقة الدللية بين اللفظ ومعناه إلى التوقيف اللهي الذي كان بالوحي‬
‫المباشر‪ ،‬مع تضمين الكتاب المنزل ألفاظا ذات دللت‪ ،‬أو بأن يخلق في الناس الستعداد الذاتي لمعرفة أن هذه‬
‫الصوات والحروف خلقت للدللة على تلك المعاني‪ ،‬واستند أصحاب هذا الرأي على آيات من القرآن الكريم منها‬
‫قولـه تعالى‪( :‬وعلم آدم السماء كلها ثم عرضهم على الملئكة فقال‪ :‬أنبئوني بأسماء هؤلء إن كنتم صادقين‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫سبحانك‪ ،‬ل علم لنا إل ما علمتنا‪ .‬إنك أنت العليم الحكيم)‪ .‬قالوا‪" :‬دل على أن آدم والملئكة ل يعلمون إل بتعليم ال‪،‬‬
‫ومنها قولـه تعالى‪( :‬علم النسان ما لم يعلم)(‪ )3‬بينما يمثل الرأي الثاني فرقة البهشمية وبعض المتكلمين الذين اعتبروا‬
‫أن ل علقة دللية قائمة بين طرفي الدليل اللساني وإنما العلقة حدثت لصطلح بين أهل اللغة ولغراض ودواع ثم‬
‫حصل توسيع في الستعمال‪ ،‬يقدم المدي رأي البهشمية ولبعض المتكلمين الذين اعتبروا اللغة إحدى أهم وسائل‬
‫التواصل‪ ،‬مشيرين إلى وجود أدوات أخرى للتواصل والبلغ وهي الشارات والرموز‪ ،‬ومؤكدين أن القول بالتوقيف‬
‫اللغوي غير صحيح‪ ،‬لن اللغة سابقة على الوحي يقول المدي‪" :‬وذهبت البهشمية وجماعة من المتكلمين إلى أن ذلك‬
‫من وضع أرباب اللغات واصطلحهم‪ ،‬وأن واحد أو جماعة انبعثت داعيته أو دواعيهم‪ ،‬إلى وضع هذه اللفاظ بإزاء‬
‫معانيها ثم حصل تعريف الباحثين بالشارة والتكرار‪ ،‬كما يفعل الوالدان بالولد الرضيع وكما يعرف الخرس ما في‬
‫ضميره بالشارة والتكرار مرة بعد أخرى‪ ،‬محتجين على ذلك بقوله تعالى‪( :‬وما أرسلنا من رسول إل بلسان قومه)‬
‫وهذا دليل على تقدم اللغة على البعثة والوحي‪.)4(.‬‬
‫ويعرض المدي لرأي القاضي أبي بكر ليجمع بين القول بوجود علقة طبيعية بين الدال والمدلول وبعدم وجود‬
‫تلك العلقة‪ ،‬ذلك أن تعيين الصطلح دون التوقيف أو العكس‪ ،‬ل يسنده دليل قاطع قوي فيقول المدي باسطا رأي‬
‫أبي بكر القاضي‪" :‬وذهب القاضي أبو بكر وغيره من أهل التحقيق إلى أن كل واحد من هذه المذاهب ممكن‪ ،‬بحيث لو‬
‫فرض وقوعه لم يلزم عنه محال لذاته وأما وقوع البعض دون البعض فليس عليه دليل قاطع‪ ،‬والظنون فمتعارضة‬

‫() الحكام ف أصول الحكام ج ‪ .1‬ص ‪.73‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 1‬ص ‪.75 -74‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.74‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.75‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 122 -‬‬


‫يمتنع معها المصير إلى التعيين"(‪ .)1‬وقد يرجح المدي بعض هذه المذاهب لقوة حجتها بالنسبة للمذاهب الخرى‪ ،‬كما‬
‫ذهب إلى الميل إلى رأي الشعري القائل بالتوقيف بينما نراه يعلن عن رجاحة مذهب القاضي أبي بكر حيث يقول‪:‬‬
‫"والحق أن يقال إن كان المطلوب في هذه المسألة يقين الوقوع لبعض هذه المذاهب‪ ،‬فالحق ما قاله القاضي أبو بكر إذ‬
‫ل يقين من شيء منها"(‪ .)2‬ويدحض المدي آراء من قالوا بالتوقيف‪ ،‬مؤوّلً النصوص القرآنية التي استندوا عليها من‬
‫ذلك تأويله (العلم) الوارد في قوله تعالى‪" :‬وعلم آدم السماء كلها"(‪ .)3‬باللهام‪ .‬يقول شارحا ذلك‪" :‬وليس تأويلها‬
‫بالحمل على اللغات أولى من تأويلها بالحمل على القدار على اللغات‪ ،‬كيف وإن التوقيف يتوقف على معرفة كون‬
‫تلك اللفاظ دالة على تلك المعاني وذلك ل يعرف إل بأمر خارج عن تلك اللفاظ"(‪ .)4‬فالمدي ينص صراحة على‬
‫وجود كفاية في ذات النسان‪ ،‬ذلك أن متكلم اللغة‪ ،‬أي لغة‪ ،‬مزود مسبقا بقواعد ذهنية تحدد له عوالم دللية وتخول له‬
‫إنتاج جمل وتراكيب لم يتعلمها من قبل‪ ،‬وهو ما جعله تشومسكي دعامة لنظريته في النحو التوليدي(‪ .)5‬في حديث عن‬
‫الداء اللغوي (‪ )competence‬والكفاية اللغوية (‪ )Perfomance‬التي عبر عنها المدي (بالقدار على اللغات)‬
‫ونظرا لقوة نزوح العلماء إلى الدليل القرآني‪ ،‬نرى المدي في نهاية باب البحث في أصل اللغات‪ ،‬يميل إلى القول‬
‫بالعلقة الطبيعية بين الدال والمدلول وذلك لعتبار اللغة توقيفية معلوم توقيفها إما بالوحي أو بخلق اللغات بخلق‬
‫الستعداد الفطري‪ .‬لمعرفة أن ذلك اللفظ وضع لذلك المعنى‪ .‬يقول المدي‪" :‬بل جاز أن يكون أصل التوقيف معلوما‪،‬‬
‫إما بالوحي من غير واسطة‪ ،‬وإما بخلق اللغات‪ ،‬وخلق العلم الضروري للسامعين بأن واضعا وضعها لتلك‬
‫المعاني"(‪.)6‬‬

‫‪-4‬النساق الدللية (أنواع العلقات وأقسامها)‪:‬‬


‫لقد بحث الدرس الدللي الحديث‪ ،‬أنواع الدللت واعتمد في سبيل تصنيفها على معايير تخضع لمقياس الطبيعة‬
‫أو لمقياس العقل أو لمقياس العرف‪ ،‬فأحصوا بناء على ذلك أنواعا من الدللت كالدللة الطبيعية‪ ،‬والدللة المنطقية‬
‫العقلية‪ ،‬والدللة العرفية الوضعية‪ .‬كما تناول علماء الدللة الدللت الهامشية التي يكتسبها اللفظ داخل السياق اللغوي‬
‫وسموا ذلك قيما أسلوبية أو تعبيرية‪ ،‬أما دللة المطابقة ودللة التضمن واللتزام‪ ،‬فقد اعتمد في تصنيفها على معيار‬
‫النتماء والحتواء والستلزام‪ .‬وإن كان العلماء يجمعون ذلك كله تحت الدللة الوضعية‪.‬‬
‫إن المدي قد أفاض في تقسيم الدللت متخذا معايير لفظية لغوية ومعايير عقلية منطقية‪ ،‬مستندا في ذلك على‬
‫قصد المتكلم من خطابه‪ ،‬وطبيعة السياق اللغوي‪ ،‬يقول محددا النزياح الدللي الذي تنشأ عنه دللة إيحائية ومعرفا‬
‫مصطلح دللة غير المنظوم "وهو ما دللته ل بصريح صيغته ووضعه"(‪ .)7‬فاللفظ قد ينزاح عن دللته الصلية‬
‫ويخرج من نطاق الوضع والتعارف‪ ،‬يكيفه قصد المتكلم الذي يتمظهر في بنية الكلم‪ ،‬فالدللة التي ينتجها السياق‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.75‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫() فقد تعرض الاحظ لتأويل هذه الية حيث ساق أقوال العلماء ف القول بعرفية العلقة الدللية انظر ذلك من البحث ص ‪.98‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.76‬‬ ‫‪4‬‬

‫() انظر ذلك ف مبحث النظريات الدللية الديثة‪ -‬النظرية التوليدية ص ‪.75‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.78‬‬ ‫‪6‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 3‬ص ‪.64‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫النفسي المقامي للمتكلم‪ -‬كما يوضح المدي‪ -‬هي دللة إيمائية إيحائية غير وضعية(‪.)1‬‬
‫إن اللفظ الذي يضمر مدلوله ويوصل إلى فهمه‪ ،‬إما لصدق المتكلم أو لتطابق مفهومه مع الملفوظ به سمى‬
‫المدي دللته دللة اقتضاء‪ ،‬وهي دللة منطقية لكون السياق الخطابي يقتضيها اقتضاء‪ ،‬فإذا ما دل الخطاب اللغوي‬
‫على سياق مضموني فإنه يمكن أن نقف على ما ينضوي تحت هذا السياق من مدلولت ل تخرج عن صدق الخطاب‬
‫ول عن بنية اللغوية‪ ،‬أي بناء على شكله المعجمي التعبيري‪ ،‬ومحتواه التصوري المفهومي‪ .‬يقول المدي موضحا ذلك‬
‫ومشيرا إلى اللفظ غير المنظوم (الدللة القصدية)‪" :‬إما أن يكون مدلوله مقصودا للمتكلم‪ ،‬أو غير مقصود فإن كان‬
‫مقصودا‪ ،‬فل يخلو إما أن يتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه‪ ،‬أو ل يتوقف‪ ،‬فإن توقف‪ ،‬فدللة اللفظ عليه‬
‫تسمى دللة القتضاء‪ ،‬فقول الرسول عليه الصلة والسلم‪" :‬رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"‪.‬‬
‫فالمدلول المضمر الذي يقتضيه سياق الحديث هو العقاب فكانت دللة الخطاب النبوي على مدلول العقاب دللة‬
‫اقتضاء(‪.)2‬‬
‫أما الدللت التي يحملها سياق الخطاب وتضطلع بإبرازها عناصر لغوية‪ ،‬فقد أحصى فيها المدي ثلث دللت‪،‬‬
‫دللة التنبيه واليماء‪ ،‬ودللة المفهوم ودللة الشارة‪ ،‬وهي دللت تتوقف على شيئين اثنين‪ :‬صدق المتكلم وهو أمر‬
‫نفسي خارج عن النظام اللغوي‪ ،‬وصحة الملفوظ به في نصه على المدلول‪ ،‬وأمر لغوي يتمظهر في الخطاب والسياق‪.‬‬
‫يقول المدي موضحا دللة التنبيه واليماء‪" :‬وذلك بأن يكون التعليل لزما من مدلول النفط وضعا ل أن يكون اللفظ‬
‫ل بوضعه على التعليل"(‪ .)3‬فالخطاب اللغوي الذي يحمل دللة اليماء والتنبيه ل يشير صراحة إلى علة الحكم التي‬ ‫دا ً‬
‫تومئ إليها عناصره‪ ،‬وإنما هي محتواه في سياقها المضموني (فإذا قلنا "عظم العالم" فدللة اليماء (الدللة الخفية) هي‬
‫كون التعظيم كان للعالم لعلمه‪ ،‬وهي قريبة إلى المعنى اليحائي الذي يتصل بكلمات ذات قدرة على اليماء‪ ،‬واليحاء‬
‫نظرا لشفافيتها(‪.)4‬‬
‫وأما الدللة الثانية فهي دللة المفهوم وهي تقابل دللة المنطوق‪ ،‬من حيث أن المنطوق هو محمول اللفظ الظاهر‬
‫في محل النطق‪ ،‬فدللته دللة ظاهرة‪ ،‬ل يختلف في إدراكها اثنان ولذلك لم يبحث فيها علماء الصول‪ .‬يقول المدي‬
‫في تعريف دللة المفهوم‪" :‬هو ما فهم من اللفظ في غير محل النطق"(‪.)5‬‬
‫ويميز في دللة المفهوم نوعين‪ :‬دللة الموافقة ودللة المخالفة‪ ،‬وهي في الواقع اللغوي امتداد لدللة القتضاء‬
‫لكونها تتأسس ليس على بنية اللفظ وإنما على ما يحمله مدلوله من دللة تشاكل دللة مدلول آخر أو تخالفه‪ ،‬فهو إذن‬
‫بحث في معنى المعنى أو في مدلول المدلول إما موافقة أو مخالفة فقوله تعالى في حق الوالدين‪" :‬ول تقل لهما أفّ ول‬
‫تنهرهما" فلفظ "أف" في هذا السياق قد تحول مدلوله إلى دال على معنى الضرب والهانة وغير ذلك مما هو أشنع من‬
‫إبداء التذمر والتضجر بلفظ أف‪ .‬وقد كان انطلق البحث الدللي في العصر الحديث وانفصاله عن اللسانيات عندما بدأ‬
‫يبحث في المدلول‪ ،‬الذي كان يمثل الجانب الهزيل في دراسات اللسنيين القدامى(‪ .)6‬إن هذا التصال العلئقي بين‬

‫() أحد متار عمر‪ -‬انظر علم الدللت ص ‪.37 -36‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪.254‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 3‬ص ‪253 .25‬‬ ‫‪3‬‬

‫() أحد متار عمر‪ .‬علم الدللة‪ ،‬ص‪.31 .‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الحكام ج ‪ 3‬ص ‪.66‬‬ ‫‪5‬‬

‫() أصدر أوجدن وريشاردز لكاتبها "معن العن" سنة ‪ 1932‬وأحدثوا به ضجة ف عال اللغة‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫دللتين إحداهما ظاهرة وأخرى خفية‪ ،‬يشير إلى قدرة النظام اللغوي على اختزال المعاني غير المتناهية في عناصره‬
‫اللغوية المتناهية‪ ،‬وهي إشارة كذلك إلى قدرة الذهن البشري على إجراء تقابلت دللية تقوم على السلب أو اليجاب‪،‬‬
‫واللحاق أو العزل وهي عملية تتم عبر كل إصدار لغوي أو تلق لسلسلة من الرسائل الخطابية‪.‬‬
‫إن دللة المفهوم‪ ،‬ل تخلو إما أن تكون أدنى من دللة المنطوق أو أعلى منها‪ ،‬كما تكون دللتها أسبق في الحكم‬
‫من دللة المنطوق‪ ،‬فإذا قال ال تعالى في حق الوالدين "ول تقل لهما أف" كانت دللة المسكوت عنه (دللة المفهوم)‬
‫أقوى وأسبق في الحكم من دللة المنطوق‪ .‬يقول المدي شارحا ذلك‪" :‬والدللة في جميع هذه القسام ل تخرج عن‬
‫(‪)1‬‬
‫قبيل التنبيه بالدنى على العلى وبالعلى على الدنى‪ ،‬ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق" ‪.‬‬
‫أما القسم الثاني‪ ،‬من دللة المفهوم فهو ما سماه المدي دللة المخالفة وهو نقيض لدللة الموافقة‪ ،‬إذ المسكوت‬
‫عنه (دللة المفهوم) ل يكون امتدادا في الدللة للمنطوق‪ ،‬وإنما المسكوت عنه يخالف دللة المنطوق‪ .‬يشرح ذلك‬
‫المدي فيقول‪" :‬وأما مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفا لمدلولـ ه في محل النطق‬
‫ويسمى دليل الخطاب أيضا"(‪ .)2‬إن الربط بين دللة حاضرة ودللة غائبة يجد العقل بينهما علقة طبيعية ينتقل من‬
‫إحداها إلى الخرى‪ ،‬قد أشار إليه علماء الدللة المحدثون في حديثهم عن الدللة الطبيعية‪ ،‬وإن كانوا قد حصروا ذلك‬
‫بالظواهر الطبيعية‪ ،‬والعراض المرضية وما إلى ذلك(‪ )3‬وإن لتحديد دللة المخالفة‪-‬وهي دللة غائبة‪ -‬نص المدي‬
‫على جملة من الطرق اتخذت معايير لخراج الدللة الغائبة من حكم الدللة الحاضرة فإذا قلت‪" :‬اليوم قمت باكرا" دل‬
‫السياق أنك بالمس لم تقم باكرا وهو مفهوم مخالفة‪ .‬ومن ضمن ما ذكر المدي من معايير تخصيص الدللة الغائبة‬
‫(دللة المخالفة) التخصيص بالصفة كقولنا‪" :‬الرجل العالم أكرمه" يقتضي أن غير العالم ل يستحق الكرام‪.‬‬
‫والتخصيص بالشرط والجزاء كقولنا‪" :‬إن دخلت داري أكرمتك"‪ ،‬والتخصيص بالغاية وبالستثناء والعدد‪ ،‬وحصر‬
‫(‪)4‬‬
‫المبتدأ في الخبر‪.‬‬
‫ويبرز الهتمام السيمولوجي عند المدي في تعريفه لدللة الشارة وهي دللة إضافية تدرك من خلل السياق‬
‫الخطاب اللغوي‪ ،‬ل يقصد إليها المتكلم قصدا‪ ،‬وإنما مدلول اللفظ في السياق استدعى مدلولً آخر أو عدة مدلولت وقد‬
‫قال في تعريفه الغزالي‪ ،‬هو "ما يؤخذ من إشارة اللفظ‪ ،‬ل من اللفظ ونعني به ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه‬
‫فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلمه مال يدل عليه نفس اللفظ فسمي إشارة‪ ،‬فكذلك قد يتبع اللفظ‪،‬‬
‫ما لم يقصد به ويبني عليه"(‪.)5‬‬
‫فدللة الشارة تتصل أساسا بقدرة اللفظ على استحضار جملة المعاني الضافية التي هي امتداد لمدلول منطوقه‪،‬‬
‫ويترتب على ذلك أن بنية الخطاب اللغوي تكون ذات واقع نفسي‪ ،‬بحيث تكون الفكار المحمولة في الخطاب منسجمة‬
‫ومتكاملة مع مدلوله السطحي الظاهر من ملفوظه‪ ،‬ويورد المدي أمثلة إجرائية لدللة الشارة من ذلك "دللة مجموع‬
‫قوله تعالى‪( :‬وحمله وفصاله ثلثون شهرا) وقوله تعالى‪( :‬وفصاله في عامين) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وإن‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 3‬ص ‪67‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 3‬ص ‪69‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر ذلك ف "مبحث أقسام الدللة" الدللة الطبيعية ص ‪47‬‬ ‫‪3‬‬

‫() انظر الحكام ج ‪ 3‬ص ‪.70‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الستصفى ج ‪ 2‬ص ‪.128‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫لم يكن ذلك مقصودا من اللفظ"(‪.)1‬‬
‫ويبقى انجلء هذه الدللت أو خفاؤها‪ ،‬قائما على معرفة المقصود من الحكم في مستوى النطق من سياق الكلم‪،‬‬
‫أما إذا انتفت هذه المعرفة فليس لنا إلى إدراك حقيقة الدللة من سبيل إل التأويل الذي قد يخطئ وقد يصيب‪ ،‬إن الخذ‬
‫بهذه النساق الدللية التي كانت مادتها المنظومة اللغوية العربية في تجلياتها المختلفة على مستوى النص المقدس أو‬
‫على مستوى كلم العرب‪ ،‬يفضي إلى النظر إلى ظاهرة الدللة على أنها ظاهرة مركبة من فعل الدلء وآلياته‬
‫وأنحائه‪ ،‬وفاعل ذلك الفعل وأجوائه النفسية ومقصوده وغايته‪ ،‬كما تشمل متلقي ذلك الفعل واستعداداته المعرفية‬
‫ووعيه بين الخطاب ومضامينه ومسالك العبور من المنطوق إلى المفهوم‪ ،‬عبور تحكمه مقاييس دقيقة تقضي إلى‬
‫متصورات دللية منطقية‪.‬‬
‫في مقام نصه على ماهية الجتهاد‪ ،‬وحقيقة المجتهد فيه‪ ،‬أثبت المدي شروط العالم المجتهد من ضمنها المعرفة‬
‫اللغوية بطرق إثبات الدللة واختلف مراتبها وأقسامها من دللة المطابقة والتضمن واللتزام‪ ،‬وهي دللت بحثها‬
‫علماء اللغة المحدثون والقدماء على السواء وأفاضوا في الحديث حولها‪ ،‬وقد عدها المدي أرضية أساسية لي‬
‫استنطاق لبنية الخطاب الشرعي واستنباط الحكم منه‪ ،‬وهي إشارة إلى البعد اللغوي بمستوياته التركيبية والمعجمية‬
‫والدللية الذي ينطوي عليه التراث العربي المعرفي ومنه على الخصوص التراث الديني‪ ،‬والصولي بصفة أخص‪.‬‬
‫يحدد المدي معيار بيان العلقات الدللية على أساس خصائص الحتواء والنتماء أو الستلزام‪-‬كما أوضحنا‬
‫سابقا‪ ،-‬وفي دللت تندرج ضمن الدللة الوضعية التي هي قسم من أقسام الدللة اللفظية(‪ .)2‬يقول المدي في اللفظ‬
‫المفرد‪" :‬إما أن تكون دللته لفظية أو غير لفظية واللفظية إما أن تعتبر بالنسبة لكمال المعنى الموضوع له اللفظ وإلى‬
‫بعضه‪ .‬فالول دللة المطابقة‪ ،‬كدللة لفظ النسان على معناه‪ .‬والثاني دللة التضمن كدللة لفظ النسان على ما في‬
‫معناه من الحيوان أو الناطق‪ ،‬والمطابقة أعم من التضمن لجواز أن يكون المدلول بسيطا ل جزء له(‪ )3‬ويمكن توضيح‬
‫ذلك بالرسم التي‪:‬‬
‫الدللة‬

‫لفظية‬ ‫منطقية (غير لفظية)‬

‫تضمن‬ ‫مطابقة‬ ‫إلتزام‬

‫إن دللة اللتزام يعتبرها المدي غير لفظية كون اللزم هو خارج عن مدلول اللفظ‪ ،‬إذ ل يعتبر اللزم جزءا‬
‫ل في مدلول اللفظ ولذلك عدت دللة التضمن دللة‬‫من مدلول اللفظ بخلف دللة التضمن التي يعتبر فيها الجزء داخ ً‬
‫لفظية‪ .‬وبين علقة المطابقة والتضمن هناك مساواة بشرط انتفاء وجود لزم لمدلول اللفظ المطابق‪ .‬يوضح ذلك‬
‫المدي في قوله "ودللة اللتزام وإن شاركت دللة التضمن في افتقارهما إلى نظر عقلي يعرف اللزم في اللتزام‪،‬‬

‫() الحكام ج ‪ 3‬ص ‪.65‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر ذلك ف الترسيمية ف "مبحث أقسام الدللة" ص ‪.47‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 1‬ص ‪51‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 126 -‬‬


‫والجزء في دللة التضمن‪ ،‬غير أنه في التضمن لتعريف كون الجزء داخلً في مدلول اللفظ لتعريف كونه خارجا عن‬
‫مدلول اللفظ‪ ،‬فلذلك كانت دللة التضمن لفظية بخلف دللة اللتزام‪ ،‬ودللة اللتزام مساوية لدللة المطابقة ضرورة‬
‫امتناع خلو مدلول اللفظ المطابق عن لزم‪ ،‬وأعم من دللة التضمن‪ ،‬بجواز أن يكون اللزم لما ل جزء له"(‪ )1‬ويمكن‬
‫تمثيل ذلك بالرسم التالي‪:‬‬

‫وقد كانت النسب بين الدللت محل خلف كبير بين جمهور العلماء‪ ،‬والمدي يخالف بتصنيفه لقسام الدللة‬
‫تقسيم العلماء المحدثين الذين أدرجوا دللة اللتزام ضمن الدللة اللفظية‪ .‬إن دللة اللتزام تحدّد على مستوى ذهني‪،‬‬
‫فبين معنى اللفظ ومدلوله الخارجي اللزم له تلزم ذهني ولذلك كانت الدللة‪ ،‬دللة عقلية بحيث يجد العقل بين الدال‬
‫والمدلول علقة ذاتية ينتقل لجلها منه إليه كما قال التهاوني(‪.)2‬‬
‫ولن معنى اللفظ ل يرتبط بأي معنى خارجي‪ ،‬احتيج لتحديد علقة اللزوم إلى آلية ضبط هو النتقال الذهني‬
‫بحيث يكون المر الخارجي لزما لمسمى اللفظ بحيث يلزم من تصور المسمى تصوره‪ ،‬بحيث إذا انتفى وجود‬
‫النتقال الذهني لستحال تحديد اللزم لدللة اللفظ‪ ،‬ولما كانت الدللة اللتزامية يعتمد في إدراكها المسلك العقلي‪،‬‬
‫كانت إذن دللة عقلية وبما أن دللة اللتزام بتعبير المناطقة هي شاهد على غائب عدّها بعض اللغويين دللة منطقية‬
‫لن الفكر ينتقل انتقالً منطقيا من الحقائق الحاضرة إلى حقائق غائبة‪..‬‬
‫إن ما حققه المدي في رحاب التفريع لعالم الدللة‪ ،‬كان له أثر التحول المنهجي لمسار المقاربة العلمية للظاهرة‬
‫اللغوية‪ ،‬مما يعين على التفكير في إيجاد نسق تفريعي دللي للخطاب اللغوي في كامل مستوياته‪ ،‬والمعتمد في‬
‫التواصل والبلغ‪ ،‬وقد يعوّل عليه كثيرا في حصر السمات الدللية الدقيقة وضبطها ضبطا محكما لتغدو مداخل مهمة‬
‫في التعامل مع الظواهر اللغوية المتجددة‪ ،‬لن اللغة العربية علمية في سننها التعبيرية‪ ،‬ذهنية في انتظام قواعدها‪،‬‬
‫وتخضع لنظام علمي متكامل الجزاء‪ ،‬دقيق العناصر‪ ،‬وإن تجلياتها على مستوى النص القرآني خاصة وسعي‬
‫العلماء نحو اكتشاف القوالب المقولية والنظم الخطابية وتأسيسها تأسيسا علميا‪ ،‬سيفتح المجال الواسع لدخال المنظومة‬
‫اللغوية في تفاعل خصب قصد تفجير طاقاتها الكامنة‪ ،‬موازاة مع المستجدات الحاصلة على المستوى المفهومي لعالم‬
‫الدللة أو عالم العيان والشياء…‬

‫‪-5‬أسس الحقول الدللية‪:‬‬


‫لقد نص الدرس الدللي الحديث‪ ،‬على أن علم الدللة ل يهتم فقط بإطلق السماء‪ ،‬فالهم من ذلك طريقة‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪52‬‬ ‫‪1‬‬

‫() عادل الفاخوري‪ ،‬انظر ذلك ف كتاب علم الدللة عند العرب‪ :‬ص ‪.16‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 127 -‬‬


‫تصنيف الشياء التي سنعطيها السماء(‪ )1‬كما قسم أولمن الحقول الدللية إلى أنواع ثلثة‪:‬‬
‫‪-1‬حقول محسوسة متصلة‪ :‬كحقل اللوان‪ ،‬والعناصر التي تشكل حقلً متلحما‪.‬‬
‫‪-2‬حقول محسوسة منفصلة‪ :‬كحقل القرابة والسر‪..‬‬
‫(‪)2‬‬
‫‪-3‬حقول تجريبية مفهومية (عالم الفكار)‬
‫أما المدي فقد أسس نظرة لغوية حول مفهوم الحقل المعجمي بناء على علقات متعددة‪ ،‬منها علقة العموم‪،‬‬
‫وعلقة الشتراك والترادف‪ ،‬وعلقة الكل بالجزء‪.‬‬
‫في معرض حديثه عن الخبر‪ ،‬يناقش المدي مسألة كانت موضع خلف في عصره بين جمهور العلماء‪ ،‬هذه‬
‫المسألة لها علقة بما أضحى يسمى في العصر الحديث بمبحث الحقول الدللية التي تخضع عناصرها لعلقات مختلفة‬
‫نصنف على أساسها إلى "عائلت لغوية تحت غطاء لفظ أعم‪ ،‬يكون مفهومه موضع اشتراك بين جميع العناصر التي‬
‫تحته‪ .‬يقول المدي في تعريفه للفظ العم‪ ،‬وهو في مقام الرد على من اعتبر أن اللفظ العم مدلوله جزء من مدلولت‬
‫أجزائه‪" .‬فإنه ل معنى لكون العم مشتركا فيه أنه موجود في النواع أو الشخاص التي هي أخص منه‪ :‬بل بمعنى‬
‫أن حد الطبيعة التي عرض لها إن كانت كلية مطلقة مطابق لحد طبائع المور الخاصة تحتها"(‪ .)3‬فالساس الول الذي‬
‫يبني عليه المدي نظريته في العم والخص هو وجود سمات متطابقة موجودة في النواع التي تقع تحت اللفظ‬
‫العم‪ ،‬وهذا التحديد النوعي للعلقة بين العم والخص يعد سبقا علميا للمدي‪ ،‬إذ تصنيف المدلولت إلى حقول ل‬
‫يتوقف على القرابة اللغوية الموجودة بينهما وبين اللفظ العم وإنما تتعداها إلى إحداث قرابة مبنية على أساس المفهوم‬
‫أو الترادف والتماثل والسببية وما إلى ذلك مما فصل فيه علماء الدللة المحدثون(‪ .)4‬فأشار المدي إلى تلك السس‬
‫بقاعدة عامة شاملة لكل الضروب بقوله (مطابق لحد طبائع المور الخاصة) يعد ذلك كله وعيا ناضجا بأبعاد الدللة‬
‫الوظيفية في تجميع المفردات اللغوية بحسب سماتها التمييزية(‪ ،)5‬التي يتخذها المدي معايير تعتمد في تصنيف الدوال‬
‫في شكل حقول دللية يشرف عليها لفظ غطاء‪ ،‬فليس إل السمات الساسية الجوهرية التي تقوم برسم الحدود بين حقل‬
‫وآخر أما الغراض العامة فل تعد فيصلً دقيقا في تمييز الحقول‪ ،‬يقول المدي في ذلك‪" :‬ليس كل عام يكون جزءا‬
‫من معنى الخاص‪ ،‬ومقوما له بجواز أن يكون من الغراض العامة الخارجة عن مفهوم المعنى الخاص‪ ،‬كالسود‬
‫والبيض بالنسبة إلى ما تحتهما من معنى النسان والفرس ونحوه"(‪ .)6‬فل تقابل إذن يبقى بين لفظ البيض ككلمة‬
‫غطاء وبين النسان والفرس كعناصر في الحقل الدللي‪ ،‬ذلك أن اللون المذكور ل يعد سمة تمييزية للفظ النسان أو‬
‫الفرس‪ ،‬إنما هناك تصنيف آخر لمثل هذه العناصر يقال على أساس علقة التنافر‪ .‬لن الدرس الدللي الحديث أفاد أنه‬
‫إذا كان الحقل المعجمي يتضمن بيان العلقة بين الكلمات التي تتقابل بردجماتيا‪ ،‬فكذلك تحليله يتضمن بيان العلقة بين‬
‫الكلمات التي تتقابل سنتجماتيا(‪.)7‬‬
‫() أحد متار عمر‪ :‬علم الدللة‪ .‬ص ‪.86‬‬ ‫‪1‬‬

‫() ‪.Meaming and style P27-31‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام ج ‪ 3‬ص ‪.5‬‬ ‫‪3‬‬

‫() أحد متار‪ .‬علم الدللة‪ :‬ص ‪ 99‬وانظر مدخل إل علم الدللة‪ -‬بسام شاكر ص ‪.44‬‬ ‫‪4‬‬

‫() هذا ما اعتمدته النظرية التحليلية ف نضريتها نظرتا للحقول الدللية انظر ذلك ص ‪ 72‬من البحث‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الحكام ج ‪ ،1‬ص ‪.5‬‬ ‫‪6‬‬

‫() أحد متار عمر‪ :‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.80‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪- 128 -‬‬


‫والحقل عند المدي قد يضيق حتى أنه ليحتوي عنصرين اثنين وقد يتسع ليشمل عناصر كثيرة‪ ،‬وقد يبقى مجا ً‬
‫ل‬
‫مفتوحا ل نهائيا‪ ،‬كما قد يكون هناك تقاطع بين حقل وآخر إّذ ينتمي لفظ غطاء‪ ،‬يعامل على أنه لكسيم رئيسي‪ ،‬ويوجد‬
‫مع ذلك كعنصر فرعي داخل حقل أعم يقول المدي محددا ذلك‪" :‬العام هو اللفظ الواحد الدال على مسمين فصاعدا‬
‫مطلقا معا"(‪ .)1‬فالحد الدنى لحجم الحقل عند المدي هو احتواؤه على عنصرين فصاعدا مطلقا‪ ،‬كما أن هناك ألفاظا‬
‫خاصة بالنسبة لما هو أعم منها وأخرى خاصة ل أخص منها‪ ،‬ولذلك لم يفت المدي ذكر هذا القسم فقال‪" :‬ما‬
‫خصوصيته بالنسبة إلى ما هو أعم منه وحده أنه اللفظ الذي يقال عن مدلوله وعلى غير مدلوله لفظ آخر من جهة‬
‫واحدة كلفظ النسان فإنه خاص ويقال مدلوله وعلى غيره كالفرس والحمار‪ .‬لفظ الحيوان من جهة واحدة"(‪ )2‬فلفظ‬
‫الحيوان لفظ عام يضم تحته ألفاظا خاصة منها‪ :‬النسان والفرس والحمار… فهذا البناء للحقول الدللية قد أشار إليه‬
‫الدرس الدللي‪ ،‬فقد حددت هذه الحقول على أنها مجموعة من الكلمات ترتبط دللتها وتوضع عادة تحت لفظ عام‬
‫يجمعها(‪ .)3‬تقوم على أساس علئق ترابطية تعود إلى مقياس التدرج أو التقابل أو الشتقاق أو الترتيب وما إلى ذلك‪،‬‬
‫وقد سعت جل البحاث الدللية إلى تمثل منهج خصب لبناء نظم مغلقة‪ ،‬ومع ذلك توصلت إلى بناء أنظمة حقولية‬
‫تفتقر إلى الشمولية والتحديد العلمي الدقيق‪ ،‬ويمكن في خضم ما توصلت إليه هذه البحاث من نتائج إدراج محاولة‬
‫المدي في بناء حقول دللية مؤسسة على أمارات صورية تعتمد معيار الجزء والكل والخصوص والعموم وهو ما‬
‫(‪)4‬‬
‫اصطلح على تسميته في الدرس الدللي الحديث في مبحث الحقول الدللية‪ ،‬بالعلقات التراتبية‪.‬‬
‫ل مهما لفهم ما‬
‫إن المشاكلة بين مستويي اللغة‪ ،‬مستوى التعبير ومستوى الدللة‪ ،‬التي طرحها سوسير تعد مدخ ً‬
‫سماه غريماس بالبنية الدللية أو العوالم الدللية‪ ،‬إذ كما تحلل الكلمة إلى أصوات وفونامات يحلل المعنى إلى سمات‬
‫معنوية صغرى‪ ،‬إن فرضية المشاكلة هذه تجعل بنية المعنى وكأنها تلفظ لعالم الدللة بحسب وحداته الدللية‬
‫الصغرى‪ ،‬هذه الوحدات مشكلة بالنمط الذي تتشكل به وحدات التعبير(‪ .)5‬وفي هذا السياق النظري يبحث المدي‬
‫مسألة لفظ العموم الذي يعد لكسيما رئيسيا تنطوي تحته جملة من اللفاظ الجزئية أو الخاصة‪ ،‬فهل العموم في اللفظ‬
‫يستلزم عموما في المعنى؟ يجيب المدي على هذا الطرح بأن اللفظ الكلي يكون‪ ،‬معناه عاما يضم تحته عناصر من‬
‫ل من المدلولت الخاصة على غرار حقل الدوال الخاصة‪ .‬يوضح ذلك المدي فيقول‪" :‬إنه وإن تعذر‬ ‫المعاني تشكل حق ً‬
‫عروض العموم للمعاني الجزئية الواقعة في امتداد الشارة إليها حقيقة‪ ،‬فليس في ذلك ما يدل على امتناع عروضه‬
‫للمعاني الكلية المتصورة في الذهان‪ ،‬كالمتصورة من معنى النسان المجرد من المور الموجبة لتشخيصه وتعيينه‪،‬‬
‫فإنه مع اتحاده مطابق لمعناه وطبيعته لمعاني الجزئيات الداخلة تحته من زيد وعمر ومن جهة واحدة كمطابقة اللفظ‬
‫الواحد العام لمدلولته"(‪ .)6‬وفي ذلك إشارة صريحة إلى أن اللفظ العام له تصور ذهني يجب أن يتخذ كمعطى لفهم ما‬
‫يحتوي من معاني جزئية متحدة‪ ،‬ول يمكن أن يتضح ذلك إل إذا جردنا هذا اللفظ العام من التعيين في العالم الخارجي‬
‫أو عالم العيان‪ .‬ويذكر المدي في نهاية مبحثه حول العموم والخصوص القيود الشكلية التي تعمل على تعميم الدللة‬
‫فيقول‪" :‬وعلى هذا يكون الكلم في جميع الظروف المستعملة للشرط والستفهام مثل‪ :‬ما‪ ،‬وأي‪ ،‬ومتى‪ ،‬وأين‪ ،‬وكم‪،‬‬

‫() الحكام ج ‪ 2‬ص ‪196‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 2‬ص ‪197‬‬ ‫‪2‬‬

‫() أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.79‬‬ ‫‪3‬‬

‫() سال شاكر‪ ،‬انظر مدخل إل علم الدللة‪ :‬ص ‪.44‬‬ ‫‪4‬‬

‫() غرياس‪ .‬انظر‪-‬البنية الدللية‪ -‬ص ‪ -97‬ملة للفكر العرب العاصر‪ -‬عدد ‪ /18/9‬سنة ‪.1982‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الحكام ج ‪ 2‬ص ‪.199‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 129 -‬‬


‫وكيف‪ ،‬ونحوه‪ ،‬ومؤكداتها مثل‪ :‬كل وجميع فإنها للعموم(…) والجمع المعرف من غير العهد والنكرة المنفية نفي‬
‫(‪)1‬‬
‫جنس‪..‬‬
‫إن أهمية معرفة العلقات بين العناصر اللغوية وبين مدلولتها تكمن في الحاجة الشديدة لتوظيف سليم للغة‬
‫التخاطب‪ ،‬فقد يؤدي اللبس الحاصل في تعيين اللفظ العام أو الخاص إلى انقطاع التواصل والبلغ نتيجة لوجود خلل‬
‫في الفهم‪ ،‬إذ المتلقي لرسالة الخطاب ل يملك القدرة على رد اللفظ إلى مدلول واحد على وجه الحقيقة‪ ،‬فهو غير‬
‫متمكن من معرفة القرينة التي تفيد أن صيغة ما وردت دالة على العموم ل على الخصوص أو العكس‪.‬‬

‫‪-6‬بناء الحقول الدللية‪:‬‬


‫يتناول المدي ضمن مبحث الحقول الدللية‪ ،‬موضوع المشترك اللفظي والترادف باعتبار معيار الشتراك‬
‫والترادف من المعايير المعتمدة في وضع الحقول الدللية‪ ،‬وقد اعتبر المشترك اللفظي من العلقات المهمة في‬
‫تصنيف المدلولت إلى حقول‪ ،‬ذلك لرتباط اللفظ بمجموعة من العناصر التي تشكل معه حقلً دلليا بالعتماد فيها‬
‫على العلقات الترابطية التي تكون نظاما من المدلولت اللغوية ففي باب التفريع الدللي للسم يذكر المدي المشترك‬
‫اللفظي حيث يقول‪" :‬وأما إن كان السم واحدا والمسمى مختلفا‪ ،‬فإما أن يكون موضعا على الكل حقيقة بالوضع الول‬
‫أو هو مستعار في بعضها‪ ،‬فإن كان الول فهو المشترك‪ ،‬وسواء كانت المسميات متباينة كالجون للسواد والبياض أو‬
‫غير متباينة"(‪ .)2‬وفي هذا إشارة إلى اللفظ الذي اشتمل على حقل من المدلولت المتقابلة والمتضادة هو كذلك من‬
‫المشترك اللفظي‪ ،‬فإذا كان التضاد هو وقوع اللفظ غطاء لمعنيين مختلفين فأكثر‪ ،‬فكذلك المشترك اللفظي هو وقوع‬
‫اللفظ غطاء لمعنيين مترادفين فأكثر‪.‬‬
‫ل كبيرا بين اللغويين العرب فنفاه البعض وأثبت وقوعه‬
‫لقد أثارت مسألة المشترك اللفظي ووقوعه في اللغة‪ ،‬جد ً‬
‫آخرون وهم الكثر(‪ ،)3‬وحجج النافين لوقوع المشترك مستندة أساسا على غرض الفهام‪ ،‬إذ المشترك اللفظي في‬
‫عرفهم يوقع السامع في لبس وإبهام لختيار الدللة المرادة من السياق‪ ،‬وأن ال تعالى ل يضع اللفاظ قصد البهام‬
‫واللبس ولكن قصد تحديد الدللة تحديدا كاملً‪ ،‬أما حجج المثبتين لوقوع المشترك فهي حجج تستند على العقل‪ ،‬فل‬
‫يمنع أن يضع الواحد من أهل اللغة لفظا على معنيين مختلفين على طريق البدل ثم يتواضع عليه الباقون من أهل اللغة‬
‫الواحدة‪ ،‬وقد تضع القبيلة لفظا بإزاء معنى وتضعه أخرى بإزاء معنى آخر من غير شعور ثم يشتهر الوضعان‪)4(.‬وهو‬
‫دليل ثابت في تاريخ اللغة إذ صح وضع كلمة"سرحان" التي تعني السد في لهجة هذيل وهو مشهور الدللة‬
‫على"الذئب"‪ .‬وهناك دواع أخرى أدت إلى وقوع المشترك من ذلك أن وضع اللفظ يخضع لغرض الواضع حيث قد‬
‫يعرفه لغيره مفصلً أو مجملً ويكون ذلك علة لوقوع المشترك اللفظي‪ .‬يقول في ذلك المدي‪" :‬وأن وضع اللفظ تابع‬
‫لغرض الواضع‪ ،‬والوضع كما أنه قد يقصد تعريف الشيء لغيره مفصلً‪ ،‬فقد يقصد تعريفه مجملً غير مفصل‪ ،‬إما‬
‫لنه علمه كذلك ولم يعلمه مفصلً أو لمحذور يتعلق بالتفصيل دون الجمال فل يبعد لهذه الفائدة منهم وضع لفظ يدل‬
‫عليه من غير تفصيل"(‪ .)5‬ويردف المدي دليلً آخر لوقوع المشترك اللفظي‪ ،‬يتمثل في أنه لو انتفى المشترك اللفظي‬
‫لقصرت السماء على تغطية المسميات وهي غير متناهية‪ ،‬ومع ذلك ل يميل المدي إلى هذا الدليل كثيرا لكون وضع‬
‫() الصدر السابق ج ‪ 2‬ص ‪.204‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.18‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر الزهر لسبون ج ‪( 1‬ص ‪ )386 -369‬فيه حديث مستفيض حول اهتمام بالشترك اللفظي واختلفهم ف إثباته ونفيه…‬ ‫‪3‬‬

‫() الحكام ج ‪ 1‬ص ‪.19‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 130 -‬‬


‫السم إزاء مسماه عائدا إلى قصر الواضع‪ ،‬والقول بتناهي السماء قول غير سديد وإنما العمدة على الغرض من‬
‫وضع اللفاظ‪ ،‬فل يعقل أن تغطي المسميات كلها بأن يوضع إزاءها السماء ولذلك وجدت معان كثيرة لم تضع‬
‫(‪)1‬‬
‫العرب إزاءها أسماء‪ ،‬لن النسان لن يجرؤ أن يعبر عن كل ما يدور بخلده من أفكار وأشياء‪ ،‬كما قال أفلطون ‪.‬‬
‫لن اللغة متناهية على خلف عالم الشياء فهو غير متناهٍ ول محدود‪ .‬يوضح المدي هذه المسألة بقوله‪" :‬فقد قال قوم‬
‫أنه لو لم تكن اللفاظ المشتركة واقعة في اللغة مع أن المسميات غير متناهية والسماء متناهية ضرورة تركبها من‬
‫الحروف المتناهية‪ ،‬لخلت أكثر المسميات عن اللفاظ الدالة عليها مع دعوى الحاجة إليها‪ ،‬غير أن وضع السماء على‬
‫مسمياتها مشروط بكون واحد من المسميات مقصودا بالوضع‪ ،‬وما ل نهاية له مما يستحيل فيه ذلك‪ ،‬ولئن سلمنا أنه‬
‫غير ممتنع ولكن ل يلزم من ذلك الوضع‪ ،‬ولهذا فإن كثيرا من المعاني لم تضع العرب بإزائها ألفاظا تدل عليها إل‬
‫بطريق الشتراك ول التفصيل كأنواع الروائح‪ ،‬وكثير من الصفات"(‪ .)2‬وينبري المدي يذود عن فكرته القائلة بوجود‬
‫المشترك اللفظي في اللغة‪ ،‬بل وفي القرآن الكريم ذلك أنه إذا انتفى الفهام من الصيغة اللغوية الواقعة مشتركا لفظياً‪،‬‬
‫فإن سياق الجملة يقوم كقرينة لتحديد دللة الصيغة‪ ،‬ثم إن التفصيل ليس سمة قارة في اللغة بدليل وجود أسماء مجملة‪،‬‬
‫ووقوع اللفظ المشترك مفيدا لعموم الدللة في كلم ال تعالى‪ ،‬وانتفاء ذلك عنه في مواضع أخرى لدليل على حصول‬
‫الفهام في المشترك اللفظي‪ ،‬ولقد أكد علماء الدللة المحدثون على صعوبة تخصيص العلقة التي يمكن إقامتها بين‬
‫صورة الجملة ومعناها في لغة معينة‪ ،‬إذ هي أحد الشكالت المطروحة في النظرية الدللية الحديثة(‪ ،)3‬وحصول حد‬
‫أدنى من الفهم أثناء البلغ والتواصل وليس بلوغ فهم التفصيلت هو ما يطلب في علقة المحمول بالموضوع‪ ،‬وإل‬
‫كانت العلقة ضربا من لغو الكلم‪ .‬يقول المدي مشيرا إلى هذه المسألة‪" :‬قلنا وإن اختل فهم التفصيل على ما ذكروه‪ ،‬فل‬
‫يختل معه الفهم من جهة الجملة‪ ،‬وليس فهم التفصيل لغة‪ ،‬من الضروريات بدليل وضع أسماء الجناس فإنها تفاصيل مع‬
‫تحتها(…) وإذا عرف وقوع الشتراك لغة‪ ،‬فهو أيضا واقع في‬
‫كلم ال تعالى‪ .‬والدليل عليه قوله تعالى‪( :‬والليل إذا عسعس) فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره‪ ،‬وهما ضدان‪ ،‬هكذا‬
‫ذكره صاحب الصحاح"(‪.)4‬‬
‫ولوجود المشترك اللفظي في كلم ال‪ ،‬أثبته الصوليون كنوع من أنواع العموم يدل على ثبوت اللفظ ذي الدللة‬
‫العامة‪ .‬إن العلقة الترابطية بين اللفاظ ودللتها‪ ،‬تتحكم فيها نسب تراعى لتحديد جنس العلقة‪ ،‬وقد تتعدد هذه النسب‬
‫كما أوضحها البحث اللغوي الحديث (بنى موزاييكية‪ -‬بنى على شكل متدرج‪ -‬بنى على شكل متناقض‪ -‬بنى‬
‫اشتقاقية)(‪ ،)5‬إلى درجة أن يصعب علينا وضع الحدود بين الحقول التي انقسمت إلى حقول أصغر بفعل الضافات‬
‫المتكررة إلى المعجم اللغوي‪ ،‬وفي هذا المجال نرى المدي يضبط علقتين قد يظن أنهما علقة واحدة وهما علقة‬
‫الشتراك وعلقة التواطؤ بينما هما علقتان مختلفتان‪ .‬يشرح ذلك المدي فيقول‪" :‬قد ظن في أشياء أنها مشتركة‬

‫‪ )( 5‬الصدر السابق ج ‪ 1‬ص ‪.19‬‬


‫‪ )( 1‬كمال بشر دور الكلمة ف الضفة العربية ستيفن أولن‪ ،‬ص ‪6‬‬
‫‪ )( 2‬الحكام ج ‪ 1‬ص ‪.20‬‬
‫‪ )( 3‬د‪ .‬الفاسي الفهري اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪ )( 4‬الحكام ج ‪ 1‬ص ‪.22 -21‬‬
‫‪ )( 5‬ريون طحان‪ ،‬بيطار طحان‪ ،‬فنون التقعيد وعلوم اللسنية‪ .‬ص ‪.207 -206‬‬
‫موازييكية‪ :‬تنوع ف القل العجمي وانقسامه إل مكعبات صغية ل تلبث أن تتفرع هي الخرى إل مكعبات أصغر وهكذا‪.‬‬

‫‪- 131 -‬‬


‫[اشتراكا لفظيا] وهي متواطئة [مشتركة اشتراكا معنويا] وفي أشياء أنها متواطئة وهي مشتركة"(‪ .)1‬أما المشترك‬
‫اللفظي فقد عرفناه‪ ،‬أما التواطؤ وهو مصطلح يتداوله أهل المنطق ويعني "نسبة وجود معنى كلي في أفراده‪ ،‬ذلك‬
‫حينما يكون وجوده في الفراد متوافقا غير متفاوت نظرا إلى المفهوم الذي وضع له اللفظ الكلي"(‪.)2‬‬
‫مثل ذلك لفظ "نقطة" لفظ كلي موضوع لما ليس له طول ول عرض ول عمق ول بعد‪ ،‬ووجود هذا المعنى في‬
‫جميع أفراده وجود متوافق ل تفاوت فيه‪ ،‬إذ كل نقطة فيها تمام هذا المعنى دون تفاوت‪ ،‬إن هذه الرؤية تسمح ببناء‬
‫حقول مفهومية على أساس نسبة التواطؤ تختص بالمدلولت المشتركة في الدللة‪ ،‬على نقيض الشتراك الذي يسمح‬
‫ل مفهوميا‪ ،‬يتألف‬ ‫ببناء حقول معجمية في اتجاه معاكس لتجاه التواطؤ‪ ،‬وهو ما يمهد لعلقة الترادف التي تشكل حق ً‬
‫من مجموعة من المفردات المرتبطة بمعناها‪ ،‬وإن المفردة تشبه حجرة الفسيفساء الصغيرة والمكعبة التي تنضم إلى‬
‫باقي المكعبات لتؤلف صورة كاملة ذات دللة عامة‪ ،‬أي أن الكلمات التي تعود إلى حقل معين تشبه لوحة الفسيفساء‬
‫ل مفهوميا معينا"(‪.)3‬‬
‫التي تقع فيها الكلمات المكعبة الواحدة بجانب الخرى التي تنظم مجتمعة‪ ،‬لتغطي حق ً‬
‫لقد وقف القدماء من مسألة الترادف في اللغة موقفهم من مسألة المشترك اللفظي‪ ،‬بل هناك من اللغويين من ربط‬
‫المسألتين وأجرى عليهما نفس الحكم‪ ،‬من ذلك قول بعضهم أنه كما ل يجوز أن يدل اللفظ الواحد على معنيين فكذلك‬
‫ل يجوز أن يكون اللفظان يدلن على معنى واحد‪ ،‬لن ذلك تكثير لقاموس اللغة دون فائدة‪ ،‬بل ومن العلماء من ألف‬
‫كتابا ينفي فيه وجود الترادف في اللغة كأبي هلل العسكري في كتابه "الفروق في اللغة" حيث جهد نفسه في أن يثبت‬
‫لكل صيغة معجمية مدلولها الخاص‪ )4(.‬إنّ الصل عند المدي هو وقوع الترادف في اللغة‪ ،‬وذلك بما ذهب إليه السواد‬
‫العظم من العلماء‪ .‬ينعت المدي الذين خالفوا هذا الصل بالشذوذ إذ يقول‪ :‬ذهب شذوذ من الناس إلى امتناع وقوع‬
‫الترادف في اللغة مصيرا منهم إلى أنّ الصل عند تعدد السماء تعدد المسميات‪ ،‬واختصاص كل إسم بمسمى غير‬
‫مسمى الخر"‪ )5(.‬ويستند هؤلء الشذوذ من العلماء على حجج يعرضها المدي ثم ينقضها‪ ،‬من ذلك قولهم أن الترادف‬
‫يلزم منه تعطيل فائدة اللفظ لمكاننا على الستغناء بلفظ آخر لكونهما يؤديان مدلولً واحدا‪ ،‬ث ّم إن تعدد المسميات‬
‫وكثرتها أمام السماء تدل على أن كل إسم مقصود بالوضع مما ينفي وقوع ظاهرة الترادف في اللغة‪ ،‬فالغاية من‬
‫وجود الترادف تعرقل تيسير التخاطب‪ ،‬وتخفيف المشقة في الحفظ ولذلك ليس هناك مدعاة لتكثير الدوال أمام محدودية‬
‫المدلولت (المسميات) فذلك أقرب إلى حدوث التواصل بين أهل اللغة على نقيض لو كثرت الدوال أدى ذلك إلى أن‬
‫يحفظ كل فرد مجموع هذه الدوال فيشق عليه ذلك‪ ،‬يبسط ذلك المدي فيقول مستندا على أدّلة وقوع المشترك اللفظي‬
‫في إثبات وجود الترادف‪" :‬إنّه ل يمتنع عقلً أن يضع واحد لفظين على مسمى واحد‪ ،‬ثم يتفق الكل عليه‪ .‬أو أن تضع‬
‫إحدى القبيلتين أحد السمين على مسمى‪ ،‬وتضع الخرى له إسما آخر من غير شعور كل قبيلة بوضع الخرى‪ ،‬ثم‬
‫يشيع الوضعان بعد ذلك"‪ )6(.‬إنّ هذا المعيار الذي استند عليه المدي يقارب ما اعتمدته أغلب النظريات الدللية‬
‫الحديثة في تناولها لقضية الترادف‪ ،‬فأصحاب النظرية التصورية يرون الترادف إذا كان التعبيران يدلن على نفس‬
‫الفكرة العقلية‪ ،‬أمّا النظرية الشارية فيرى أصحابها أن تحقق الترادف يقتضي أن يستعمل التعبيران للشارة إلى نفس‬

‫() الحكام ج ‪ 1‬ص ‪.22‬‬ ‫‪1‬‬

‫() حبنكة اليدان ضوابط العرفة ص ‪.51‬‬ ‫‪2‬‬

‫() ريون طحان‪ ،‬بيطار طحان‪ ،‬فنون التقعيد وعلوم واللسنية ص ‪.204 -203‬‬ ‫‪3‬‬

‫() بدأ أبو هلل كتابه‪ -‬الفروق ف اللغة‪ -‬بعنوان‪" :‬باب ف البانة عن كون اختلف العبارات والساء موجبا لختلف العان ف كل لغة"‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫() اإأحكام‪ -‬ج ‪ ،1‬ص ‪.23‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر السابق ‪ 1‬ص ‪.24‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 132 -‬‬


‫الشيء بنفس الكيفية‪ ،‬بينما تنظر النظرية السلوكية إلى تحقق الترادف إذا كان التعبيران يخضعان لنفس المثير‬
‫والستجابة‪ ،‬أمّا النظرية التحليلية فالترادف عندها يكمن في خضوع التعبيرين إلى نفس التفريع بحيث ينتج عنه سمات‬
‫(‪)1‬‬
‫تمييزية متماثلة‪.‬‬
‫إن القول بأن اشتراك اسمين في مدلول واحد‪ ،‬ينفي إمكانية وجود أحدهما لمكانية الستغناء عنه يراه المدي‬
‫تضييقا للمنظومة اللغوية‪ ،‬حيث تقتضي تكثير إمكانيات الختيار بين عناصر قصد التخاطب والتواصل‪ ،‬وذلك دللة‬
‫على وجود الحرية الكاملة في اختيار طرق الخطاب بخلف لو كان هناك طريق واحد ل غير‪ .‬يشرح ذلك المدي‬
‫بقوله‪ :‬فإنه (أي الترادف) يلزم منه التوسعة في اللغة وتكثير الطرق المفيدة للمطلوب‪ ،‬فيكون أقرب إلى الوصول إليه‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫حيث أنه ل يلزم من تعذر حصول أحد الطريقين تعذر الخر‪ ،‬بخلف ما إذا اتحد الطريق‪.‬‬
‫وهذه إشارة مهمة من المدي بحيث يوقف مسألة وقوع الترادف على فائدتها في اللغة الوظيفية التي ترمي إلى‬
‫أداء مهمة البلغ والتخاطب‪ ،‬وذلك بخلق قنوات عدة تسمح للمتخاطبين اختيار الملئم منها للظروف النفسية‬
‫والجتماعية‪ ،‬والمقامية بصفة عامة‪ ،‬وتبدو اللغة مع الترادف فضفاضة مرنة توسع المعاني المختلفة وتوائم المقامات‬
‫المتباينة المتعددة‪ ،‬فأهل الشعر يجدون ضالتهم في البحث عن اللفظ الملئم في حقل الترادف قصد التنويع في‬
‫الدللت‪ ،‬وأهل النثر‪ ،‬بميلهم إلى ترصيع الخطاب والمشاكلة بين أجزائه‪ ،‬يميلون إلى حقل الترادف كذلك‪ .‬يوضح‬
‫المدي‪ ،‬تلك الفوائد من الترادف بقوله‪" :‬وقد يتعلق به فوائد أخر في النظم والنثر بمساعدة أحد اللفظين في الحرف‬
‫الروي‪ ،‬ووزن البيت‪ ،‬والجناس‪ ،‬والمطابقة‪ ،‬والخفة في النطق به‪ ،‬إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة لرباب الدب‬
‫(‪)3‬‬
‫وأهل الفصاحة‪.‬‬
‫إن اللغة الرحبة التي يجد فيها أهلها سعة في إختيار الكلم المناسب وخاصة المشتغلين في حقل البداع والتأليف‪،‬‬
‫يكون ذلك عاملً لتجويد وإغناء قاموسها المعجمي بالتجديد في عناصره وإبداع طرق أخرى‪ ،‬تبقى اللغة معها محافظة‬
‫على مرونتها وسعة نظامها مما ينجر عنه حدوث تقسيمات في بنية الحقل المفهومي‪ ،‬بحيث تبرز المدلولت المتطابقة‬
‫لتطابق دوانها‪ ،‬والمدلولت القل تطابقا‪ ،‬والمدلولت المتقاربة دلليا‪ ،‬وتلك سنن يخضع لها النظام اللغوي الذي ينزع‬
‫دائما نحو التجدد والتغير وهذا ما حدا بالعلماء المحدثين في علم الدللة‪ ،‬إلى إحصاء أنواع مختلفة من الترادف منها‪:‬‬
‫الترادف الكامل أو التام‪ ،‬والترادف المتقارب‪ ،‬والترادف الستلزامي وما إلى ذلك من النواع‪ )4(،‬وإلى ذات القضية‬
‫يشير المدي في آخر مبحثه حول الترادف‪ ،‬ويميز بين مصطلحات قد يشكل في إلحاق دوانها بحقل مفهومي معين‬
‫كالتباين ومصطلح المؤكد‪ ،‬فالتباين كما عرفه أهل المنطق هو النسبة بين معنى ومعنى آخر له في المفهوم ول ينطبق‬
‫أي واحد منهما على أي فرد مما ينطبق عليه الخر‪ ،‬فهما بحسب تعبير أهل هذا الفن مختلفان مفهوما مختلفان‬
‫مصداقا‪ )5(.‬يقول المدي مميزا بين الترادف والتباين والتأكيد‪" :‬وقد ظن بأسماء مترادفة وهي متباينة‪ ،‬وذلك عندما إذا‬
‫كانت السماء لموضوع واحد باعتبار صفاته المختلفة‪ ،‬كالسيف‪ ،‬والصارم‪ ،‬والهندي‪ ،‬أو باعتبار صفته وصفة صفته‬
‫كالناطق والفصيح‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬ويفارق المرادف المؤكد من جهة أن اللفظ المرادف ل يريد مرادفه إيضاحا‪ ،‬ول‬

‫() انظر علم الدللة‪ ،‬د‪ .‬أحد متار عمر‪ ،‬ص ‪.224 -223‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.24‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.24‬‬ ‫‪3‬‬

‫() أحد متار عمر‪ .‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪.222 -220‬‬ ‫‪4‬‬

‫() حبنكة اليدان‪ ،‬ضوابط العرفة ص ‪.47‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 133 -‬‬


‫يشترط تقدم أحدهما على الخر‪ ،‬ول يرادف الشيء بنفسه بخلف المؤكد‪ ،‬والتابع في اللفظ‪ ،‬فمخالف لهما فإنه لبد‬
‫وأن يكون على وزن المتبوع‪ ،‬وأنه قد ل يفيد معنى أصلً‪ ،‬كقولهم‪ :‬حسن بسن‪ ،‬وشيطان ليطان ولهذا‪ ،‬قال ابن دريد‬
‫(‪)1‬‬
‫سألت أبا حاتم عن معنى قولهمُ بسنُ فقال‪ :‬ما أدري ما هو‪.‬‬
‫إن معيار الشتراك والترادف من المعايير التي اعتمدت حديثا في بناء الحقول الدللية‪ )2(،‬ولذلك يعد المدي من‬
‫أوائل العلماء الذين أسسوا أفكارا لبناء حقول دللية‪ ،‬وإن لم يشر إلى ذلك صراحة إل أن ما أرساه من قواعد وقيود‬
‫تنظيمية في هذا المجال يمكن اعتماده لوضع حقول مفهومية تصور لنا بشكل عملي وواضح الوشائج التي تقوم بين‬
‫مفردتين أو أكثر‪ ،‬خاصة وأن المدي لم يكتف بوضع معايير لبناءات صورية فحسب‪ ،‬بل وقد تعداها إلى وضع‬
‫معايير لبناءات مفهومية تقوم على تجميع وحدات من المدلولت المشتركة التي يغطيها لفظ‪ ،‬يوضع كمدخل للحقل‬
‫الدللي‪ ،‬ويمكن تلخيص معايير المدي التي تدخل في بناء الحقول الدللية فيما يأتي‪:‬‬
‫‪-1‬معيار المشترك اللفظي‪ :‬دللت كثيرة مشتركة في لفظ واحد يجمعها‪.‬‬
‫‪-2‬معيار العموم والخصوص‪ :‬لفظ عام يضم تحته ألفاظا خاصة تشكل حقلً دلليا‪.‬‬
‫‪-3‬معيار الكل والجزء‪ :‬لفظ كلي يتضمن ويستلزم ألفاظا جزئية‪.‬‬
‫‪-4‬معيار التنافر أو التباين‪ :‬كعموم اللفاظ العربية التي ل علقة بينها ل مفهوما ول مصداقا‪.‬‬
‫‪-5‬معيار الترادف‪ :‬مدلول كلي يشرف على حقل من اللفاظ عكس المشترك اللفظي‪.‬‬
‫‪-6‬معيار التواطؤ‪ :‬وهو نسبة وجود معنى كلي في أفراده يشكل معها حقلً دلليا‪.‬‬
‫‪-7‬معيار التوكيد‪ :‬استلزام ألفاظ مخصوصة لمؤكداتها وفق علقة لزومية‪.‬‬
‫‪-8‬معيار التباع‪ :‬طلب اللفاظ وفق وزنها الصرفي ألفاظا تجانسها وزنا قد ترادفها وقد ل يكون لها معنى‪،‬‬
‫والمعيار هذا معيار صرفي‪.‬‬
‫هذه مجملة هي النسب التي استنبطناها من بحث المدي في موضوع العلقات بين الدلة اللغوية‪ ،‬فيما يخص‬
‫تفريعه للركن السمي وبحثه حول الترادف والمشترك اللفظي‪.‬‬

‫‪‬‬

‫() الحكام ج ‪ ،1‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬

‫() أحد متار عمر‪ ،‬علم الدللة‪ ،‬ص ‪ A Jolles .80‬أول عام اعتب ألفاظ الترادف والتضاد من القول الدللية‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 134 -‬‬


‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫الخـــطاب البلغـــــــي‬
‫وحداته ومقوماته عند المدي‬

‫‪-1‬وحدات الخطاب اللغوي‪:‬‬


‫إن الثنائية التقابلية التي وضعها سوسير‪ ،‬اللغة‪/‬الكلم‪ ،‬كانت الرضية التي تأسست عليها رؤى مختلفة حول‬
‫مفهوم الخطاب (‪ )le discoure‬وما يقابله وهو المنطوق (‪ )Penonce‬وقد أفضى ذلك إلى التمييز بين ما هو أساسي‪،‬‬
‫وما هو عرضي‪ .‬يشرح ذلك العالم اللساني جسبن (‪ )L. Guespin‬معرفا الخطاب بقوله‪" :‬هو تعبير يخضع لليات‬
‫وشروط متحكمة‪ ،‬فإذا ما رمنا الدراسة اللسانية لشروط إنتاج نص ما كنا بصدد دراسة خطابه‪ ،‬وإذا ما ألقينا نظرة‬
‫على ذلك النص من وجهة نظر تركيبه أو بنائه اللغوي كنا بصدد دراسة منطوقة"‪ )1(.‬وقد عرض المدي لوحدات‬
‫الخطاب اللغوي وهي‪ :‬الحرف والفعل والسم‪.‬‬

‫أ‪-‬الحرف‪:‬‬
‫فالخطاب اللغوي عند المدي يضطلع بتوفير الليات التعبيرية التي تبدأ من أدنى صيغة إلى أكبر تركيب‪،‬‬
‫فالتفريع الدللي للحرف يمثل إحدى أهم الدوات في الخطاب الشرعي لدى المدي فضلً عن الركن السمي والركن‬
‫الفعلي‪ .‬ولذلك نجد المدي في كتابه الحكام يقيم للحروف جدولً تفريعيا من زاوية وظيفته الدللية‪ ،‬فالحرف ما دل‬
‫على معنى في غيره وهو أصناف منها حرف الضافة‪ ،‬وهو ما يفضي بمعاني الفعال إلى السماء وهو ثلثة أقسام‪،‬‬
‫لكل منها دللت معينة مقيدة بضوابط محكمة‪ ،‬فمن الحروف مال يكون إل حرفا (ك ِمنْ) التي تؤدي دللة التبعيض‬
‫ودللة بيان الجنس وبداية الغاية وما إلى ذلك‪ ،‬ومنها مال يكون حرفا وإسما معا (ك َعنْ) التي تؤدي دللة المباعدة‪،‬‬
‫وقد تكون إسما مجرورا بإحدى أدوات الجر‪ ،‬ومن الحروف ما يكون حرفا وفعلً (‪-‬كخل وحاشا‪ )-‬اللتين تفيدان‬
‫الستثناء‪ )2(،‬ويمكن توضح ذلك الرسم التفريعي التي‬
‫الدللة الحرفية‬
‫الدللة السمية‬ ‫التفريغ الدللي للحرف‬

‫() ‪Initiation aux methodes de l,analyse du discours D. Maingueneau P.11‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.61‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 135 -‬‬


‫الدللة الفعلية‬
‫ويقف المدي وقفة طويلة في مبحث حروف العطف‪ ،‬ويعرض لراء العلماء في ذلك ثم ينقضها‪ .‬وقد حصل‬
‫الختلف في دللة (الواو) أهي للجمع المطلق‪ ،‬أم للترتيب فيشترك إذن مع (الفاء) و(ثم)‪ .‬فهناك من العلماء‪ -‬ممن‬
‫عارض المدي رأيهم‪ -‬يذهب إلى حمل (الواو) على دللة الترتيب مجازا لنه يتعذر حملها على ذلك في بعض‬
‫التراكيب الخالية من القرائن‪ ،‬ففي قول السيد في خطابه لعبده‪( :‬أيت بزيد وعمرو) أنه كان يجب على العب الترتيب‪،‬‬
‫يرد المدي على هذا الرأي قائلً‪" :‬أنه لم يجب على العبد الترتيب نظرا إلى قرينة الحال المقتضية لرادة جهة‬
‫(‪)1‬‬
‫التجوز‪ ،‬حتى لو أنه فرض عدم القرينة لقد كان ذلك موجبا للترتيب‪.‬‬
‫فالسند الذي اعتمده المدي في تصريف دللة ذلك الخطاب من الدللة الحقيقية إلى الدللة المجازية‪ ،‬هو "قرينة‬
‫الحال" وذلك ما درسه البحث الدللي واللساني الحديث فيما سمي بالدللة المقامية‪ ،‬ويقابل المدي مقابلة علئقية بين‬
‫(الواو) التي تدل على الجمع المطلق أصلً‪ ،‬وبين (الفاء) و(ثم) اللتين تدلن على الترتيب‪ ،‬فتكون دللة مطابقة بين‬
‫(الواو) وبين دللة الجمع المطلق‪ ،‬ودللة تضمن والتزام بين (الواو) وبين دللة الترتيب المشترك‪ ،‬وتبعا لذلك كانت‬
‫ل على معنى الجمع المطلق بحيث يشترك المعطوف والمعطوف عليه في القضية والحكم‪.‬‬ ‫(الواو) دالة حقيقة وأص ً‬
‫وتدل (الواو) كذلك من جهة التجوز فتقيد الترتيب‪ ،‬يشرح ذلك المدي فيقول‪ :‬فنحن إنما نجعل (الواو) في‬
‫الترتيب المطلق المشترك بين (الفاء) و(ثم) وذلك مما تدل عليه (الفاء) و(ثم) دللة مطابقة‪ ،‬بل أما بجهة التضمن أو‬
‫اللتزام‪ ،‬وكما أنها تدل على الترتيب المشترك بدللة التضمن أو اللتزام‪ ،‬فتدل على الجمع المطلق هذه الدللة‪ ،‬وعند‬
‫(‪)2‬‬
‫ذلك فليس إخلء الترتيب المشترك عن لفظ يطابقه أولى من إخلء الجمع المطلق‪.‬‬
‫ويورد المدي أمثلة تطبيقية تميز بين حروف العطف (ثم‪ ،‬الفاء‪ ،‬حتى) التي تشترك في الدللة على الترتيب‪،‬‬
‫ولكنها تحدها دللت هامشية ضرورية لمقتضى الحال وسياق الخطاب‪ ،‬وإن مرد ذلك إلى الدللة الزمانية التي تكون‬
‫محل اختلف وتفاوت بين كل حدث وآخر مما تشرف عليه هذه الحروف الثلثة‪ ،‬وتسهم في تحديده وتأويل مدلوله‪،‬‬
‫يقول المدي في ذلك‪.‬‬
‫"وأما الفاء وثم وحتى‪ ،‬فإنها تقتضي الترتيب وتختلف من جهات أخرى‪ ،‬فأما الفاء‪ ،‬فمقتضاها إيجاب الثاني بعد‬
‫الول من غير مهلة(…) وأما ثم‪ ،‬فإنها توجب الثاني بعد الول بمهلة…‬
‫وقيل أنها ترد بمعنى الواو‪ ،‬وأما حتى‪ ،‬فموجبه لكون المعطوف جزءا من المعطوف عليه نحو قولك‪ :‬مات الناس‬
‫حتى النبياء…‪ .‬وثلثة منها تشترك في تعليق الحكم بأحد المذكورين وهي‪ :‬أو‪ ،‬إما‪ ،‬وأم… وثلثة منها تشترك في أن‬
‫المعطوف مخالف للمعطوف عليه في حكمه وهي‪ :‬ل‪ ،‬بل‪ ،‬ولكن‪ )3(،‬ويربط المدي التفريع الدللي للحروف بما يتعلق به‬
‫من سمات تمييزية في الجملة‪ ،‬فالحرف (حتى) يؤدي دللة تميز بين المعطوف والمعطوف عليه بكون المعطوف جزءا‬
‫من المعطوف عليه‪ ،‬ويكون عادة المعطوف مقدم في الفضلية على المعطوف عليه بناء على عملية السناد‪ .‬أما الحروف‬
‫(أو‪ ،‬أما‪ ،‬أم) وإن كانت‬
‫تشترك في أداء دللة التخيير إل أنها تتمايز بسمات ذاتية تتمثل في تلك الهوامش الدللية التي تتحدد مع نسق‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.64‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.66 -56‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.69‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫الخطاب ونوعه فـ(أما) و (أو)‪ ،‬مع نسق الخطاب الخبري فتفيد دللة الشك في أحد المرين أما مع نسق خطاب‬
‫المر‪ ،‬فإنهما يفيدان التخيير مطلقا والباحة‪ ،‬أما (أم)‪ ،‬فتفيد دللة الشك في تعيين المرين معا مع اليقين في وجود‬
‫أحدهما(‪.)1‬‬
‫إن هذا التفريع المتميز للحروف ينبني عن وعي معرفي متقدم‪ ،‬وسبر عميق لجوهر حقيقة البنية الدللية وذلك‬
‫من أجل حصر الخصائص والسمات التي أُخذت كمعايير دللية تنتظم وفقها الحروف التي غدت في تراثنا المعرفي‬
‫حقلً ألسنيا يغطي مجالت شتى من المفاهيم تتعلق بصيغة الحدث وبزمانه وهيأته‪ ،‬كما تتعلق بالمسند إليه وبدللة‬
‫الخطاب بحسب نسقه‪.‬‬
‫ولذلك انبرى نفر غير قليل إلى تخصيص مؤلفات تتناول حقل الحروف‪ ،‬ومنهم من ساقها في مدخل كتابه‬
‫كوحدات أساسية في بناء الخطاب اللغوي إذ تأخذ مع الفعل والسم مسارها البلغي وفق النمط التأليفي‪ ،‬الذي يستمد‬
‫أصوله من النظام القواعدي للسان ما(‪.)2‬‬
‫وقد شهد العلماء والدباء قديما وحديثا‪ ،‬اختلفات قد امتدت عبر الزمان والمكان حول تأويل آية أو حديث أو‬
‫بيت شعر أو جملة نثر‪ ،‬وذلك لختلفهم في تحديد القيمة الدللية المرجعية لحرف أو لقصورهم عن إدراك النزياح‬
‫الدللي الحاصل للحرف لضرورة إبلغية اقتضاها السياق الخطابي فخرج بدللة الحرف عن المألوف‪.‬‬
‫إن إقرار المدي بوجود قواعد كلية مشتركة بين الوحدات التعبيرية للخطاب‪ ،‬ليعطي للحرف قيمته التأسيسية في‬
‫بنية الخطاب اللغوي في رحاب عملية التشكل المتجدد لمكوناته الدللية‪.‬‬

‫ب‪-‬الفعل‪:‬‬
‫إن التفريع الدللي للفعل له وجود متميز في كتاب المدي‪ ،‬فبعد تمييزه بين الماضي والمضارع والمر تمييزا‬
‫صوريا وزمانيا‪ ،‬يقف المدي على التمييز بين رؤية النحاة ورؤية المناطقة للفعل‪ ،‬فالبنية الشكلية لصيغة الفعل لها‬
‫دللتها التمييزية ضمن المقولت النحوية‪ ،‬فالنحاة يرون أن الفعل كلمة مفردة سواء أكان هذا الفعل ماضيا أو مضارعا‬
‫أو أمرا‪ ،‬أما المناطقة فيرون أن الفعل المفرد هو الماضي دون المضارع‪ ،‬فالمفرد هو الذي يدل على شيء مخصوص‬
‫ول جزء له يدل على شيء أصلً‪ ،‬بخلف غير المفرد وهو الذي يدل على شيء مخصوص‪ ،‬وله جزء يدل على‬
‫شيء مخصوص كذلك‪ .‬يقول المدي‪" :‬والفعل وإن كان كلمة مفردة عند النحاة مطلقا فعند الحكماء‪ ،‬المفرد منه إنما‬
‫هو الماضي دون المضارع وذلك لن حرف المضارعة في المضارع هو الدال على الموضوع‪ ،‬معينا كان أو غير‬
‫معين‪ ،‬والمفرد هو الدال الذي ل جزء له يدل على شيء أصلً (…) وهو بخلف الماضي‪ ،‬فإنه وإن دل على الفعل‬
‫وعلى موضوعه‪ .‬فليس فيه حرف يدل على الموضوع فكان مفردا"(‪.)3‬‬
‫لقد بحث يمسلف (‪ )Hjelmslev‬الدللة التي قد تؤديها أجزاء من الكلمة‪ ،‬فكل لغة تكمن في نظام من العلمات‬
‫يعني ذلك نظام من الوحدات التعبيرية التي تتصل بمحتوى (المعنى)‪ ،‬فالكلمات هي بالطبع علمات لكن أجزاء من‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ 1‬ص ‪.69‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الستاذ أحد حسان‪ ،‬الكون الدلل للفعل ف لسان العرب ص ‪.124‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول‪ ،‬الحكام ج ‪ ،1‬ص ‪.61 -60‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 137 -‬‬


‫الكلمات قد تكون علمات كذلك(‪ ،)1‬فاللغة تفرض سننها في التركيب والبناء‪ ،‬تظل مطردة مع كل تشكيل متجدد لبنيتها‪،‬‬
‫تنتظم معها عملية الوقوع أو الرصف بين عناصر الكلمة الواحدة‪ ،‬أو عناصر التركيب‪ ،‬قد يكون للكلمات المركبة‬
‫دللة لعناصرها وقد ل تكون لها دللة‪ ،‬وهو ما سماه (يمسلف) بالعلمات الدالة (‪ )les signes‬والمقاطع غير الدالة‬
‫(‪ )les syllabes‬يقول يشرح ذلك‪" :‬هناك في بنية اللغة قواعد خاصة لنتظام المقاطع(‪.)2‬‬
‫فالفعل الماضي عند المدي كلمة مفردة باعتبارها ل جزء لها‪ ،‬أما الفعل المضارع فأجزاؤه حروف المضارعة‬
‫ل عن دللة الفعل على الحدث المقترن بزمن‬ ‫كضمير الغائب وضمير المتكلم‪ ،‬فإنها تدل على صاحب الحدث فض ً‬
‫الحال أو المستقبل‪ ،‬وقد أفضى التفريع الدللي للفعل عند المدي أن ع ّد المضارع الذي ل يدل حرفه على شيء‬
‫مخصوص‪ ،‬مفردا كالماضي الذي ل جزء له ولكن الختلف بيّن كما يوضح ذلك قوله‪" :‬وقد ألحق بعضهم ما كان‬
‫من المضارع الذي في أوله الياء بالماضي في الفراد دون غيره لشتراكهما في الدللة على الفعل‪ ،‬وعلى موضوع‬
‫له غير معيّن‪ ،‬وليس بحق‪ ،‬فإنهما وإن اشتركا في هذا المعنى‪ ،‬فمفترقان من جهة دللة الياء على الموضوع الذي ليس‬
‫معيّنا‪ ،‬بخلف الماضي حيث أنه لم يوجد منه حرف يدل على الموضوع كما سبق"(‪.)3‬‬
‫وقد يتوضح السبيل أكثر إذا ما اعتمدنا الشكل التالي لتوضيح ما نحن بشأنه‪.‬‬
‫دللة على الحدث‬
‫(بحسب السمات الدللية المميزة له)‪.‬‬
‫دللة على الزمن‪.‬‬ ‫‪-‬الدللة التفريعية للفعل الماضي‬
‫فاعله غير معيّن‪.‬‬

‫‪-‬دللة على الحدث‬


‫(بحسب السمات الدللية المميزة له)‬
‫‪-‬دللة على الزمن‪.‬‬ ‫‪-‬الدللة التفريعية للفعل المضارع‬
‫فاعله معيّن في إطار حقل مفهومي‪.‬‬
‫إن الفعل الماضي (مرّ) على سبيل المثال وإن كان يدل على حدث المرور في زمن معين فإنه ل يدل على‬
‫السمات النتقائية لفاعله الذي يبقى مجهولً في دائرة من السماء قد ل تقع تحت حصر‪ ،‬خاصة في ظل النزياح‬
‫الدللي مع بروز الدللت المجازية‪ ،‬وإذا صغنا من هذا الفعل (مر) فعلً مضارعا (يمر) أو (نمر)‪ ،‬فإن الفعل عندئذ‬
‫يستدعي سمات انتقائية لفاعله يمكن إبرازها في‪+ :‬مفرد‪ + ،‬جمع‪+ ،‬حركة ‪ +‬لزم‪ +‬حالة عارضة‪.‬‬
‫إن البنية المورفولوجية للفعل المضارع في النظام اللسني العربي‪ ،‬وما توفره من سمات انتقائية إضافية تعد‬
‫البنية التأسيسية الرئيسية التي تنشئ تلك العلئق التي ينتظم وفقها الخطاب‪ ،‬فهو يحدث إحالة مرجعية يقتضيها‬

‫() ‪.Louis Hjelmslev P. 55 Le language‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الرجع السابق‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.61‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 138 -‬‬


‫موضوع الفعل اقتضاء‪ ،‬تقوم على أساس الفرز الستبدالي لفئات الكلم‪ ،‬كما يسميه الستاذ أحمد حساني الذي حدد‬
‫أهمية التفريع الدللي للفعل وحصر سماته النتقائية إذ يخوّل لنا ذلك بقياس توارد الفعل في اللسان العربي تواردا‬
‫يمنع اللبس والبهام(‪ )1‬وإن كانت السمات النتقائية في الخطاب اللغوي الحديث قد تعرضت لنوع من (التشتيت) فغدت‬
‫في بعض الحيان غير قادرة على ضبط محكم لفئات الكلم التي ترد في رصف مع الفعل بحسب سماته الدللية وذلك‬
‫راجع لحركية العلمة اللغوية في محيط سيميائي‪ ،‬قد شكل فيه النزياح الدللي أنماطا تعبيرية جديدة‪ ،‬أعادت النظر‬
‫في تلك العلئق الدللية التي ترتد إلى العرف اللغوي‪ ،‬الذي لم يعد يلئم الخريطة الجديدة للنظام العلئقي للعلمات‬
‫اللغوية‪.‬‬

‫ج‪-‬السم‪:‬‬
‫يقيم المدي تقسيمات المفرد على تفريع دللي يأخذ كمعيار دللته الخبارية أو عدم حمله لهذه الدللة‪ .‬فالسم هو‬
‫الذي يصلح لبناء الجمل الخبرية من جنسه خلفا للفعل الذي ل يصح منه ذلك‪ .‬يقول المدي في ماهية السم المفرد‬
‫"هو إما أن يصح جعله أحد جزئي القضية الخبرية التي هي ذات جزءين فقط أو ل يصح فإن كان الول فإما أن‬
‫يصبح تركيب القضية الخبرية من جنسه أو ل يصبح‪ ،‬فإن كان الول فهو السم وإن كان الثاني فهو الفعل‪ ،‬وأما قسيم‬
‫القسم الول فهو الحرف"‪ )2(،‬وقد احتاط المدي في الحد الذي عرف به السم‪ ،‬وذلك بأن أخرج منه السماء الناقصة‬
‫والمضمرة التي ل تدل على معين معلوم في عالم الدللة‪ ،‬بحيث يتعذر بناء قضية خبرية ذات محتوى دللي من‬
‫أسماء مبهمة أو ناقصة يقول شارحا ذلك‪" :‬ول يلزم على ما ذكرناه (في السم)‪ ،‬السماء النواقص كالذي والتي‪،‬‬
‫والمضمرات كهو وهي‪ ،‬حيث إنه ل يمكن جعلها أحد ج ْزءَي القضية الخبرية عند تجردها ول تركب القضية الخبرية‬
‫منها"(‪.)3‬‬
‫فالسم عنصر أساسي في أي سياق لغوي‪ ،‬تقتضي دللته إرجاعا في عالم العيان أو الذهان بوصفه شيئا له‬
‫مميزات خاصة‪ ،‬ينقل (بيار لورة (‪ )Pierre Lerat‬تعريف أرسطو‪" :‬الذي أجمل مدونة أجزاء الخطاب وعرف السم‬
‫كالتي‪ :‬هو مقطع صوتي يقصد به دللة متعارف عليها‪ ،‬خال من أي مرجع إلى الزمن ول يدل كل جزء منه على‬
‫دللة عندما يؤخذ مستقلً"(‪ )4‬إن ماهية السم عند المدي تكاد تنحصر في اسم العلم‪ ،‬إذ يحيل اسم العلم مباشرة على‬
‫مفهومه الذهني بحيث إذا سمع اسم تبادر إلى الذهن مسماه‪ ،‬على خلف السماء العادية التي ل يخضع حقلها‬
‫المفهومي إلى حصر أو تعيين‪ .‬وفي معرض تفريع السم تفريعا‪ ،‬يعتمد معيار الفراد والتركيب في إحداث أنساق من‬
‫الحقول المفهومية‪ ،‬يقول المدي‪" :‬ثم ل يخلو إما أن يكون السم واحدا‪ ،‬أو متعددا‪ ،‬فإن كان واحدا فمسماه إما أن‬
‫يكون واحدا‪ ،‬أو متعددا‪ ،‬فإن كان واحدا فمفهومه منقسم على وجوه‪ :‬القسمة الولى‪ :‬أنه إما أن يكون بحيث يصح أن‬
‫يشترك في مفهومه كثيرون‪ ،‬أو ل يصح فإن كان الول فهو كلي‪ ،‬وسواء وقعت فيه الشركة بالفعل‪ ،‬ما بين أشخاص‬
‫متناهية كاسم الكوكب أو غير متناهية كاسم النسان أو لم تقع إما لمانع من خارج كاسم العالم (بفتح اللم) والشمس‬
‫والقمر أو بحكم التفاق كاسم عنقاء مغرب‪ ،‬أو جبل من ذهب"(‪.)5‬‬

‫() الستاذ أحد حسان‪ ،‬الكون الدلل للفعل ف اللسان العرب‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.16‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق ج ‪ 1‬ص ‪.16‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪.Semantique descriptive P. 40‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.16‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 139 -‬‬


‫بهذا التحديد المتناهي‪ ،‬يرسم المدي معالم تصلح لن تتخذ لبناء حقول دللية ينتظم وفقها اللسان العربي‪ ،‬وهو‬
‫ينم عن كسب منهجي أحرزه الدرس التراثي العربي‪.‬‬
‫فالحقل المفهومي العام يحدد في السم قسمين اثنين‪ :‬السم المفرد والسم المركب أو المؤلف(‪ ،)1‬فالمفرد قد يدل‬
‫دللة مفردة‪ ،‬أو قد يدل دللت متعددة‪ ،‬وهو ما يندرج تحت مصطلح المشترك اللفظي‪ ،‬فالسم ذو الدللة المفردة أو‬
‫المتعددة يضم قسمين بارزين هما اللفظ الكلي واللفظ الجزئي وهما يتفرعان إلى أصناف‪ .‬إن اللفظ الكلي كما حدده‬
‫المدي‪ ،‬هو ما يسمى في السيمائتيك الحديث بالكلمة الغطاء التي تشرف على حقل دللي‪ ،‬معلومة عناصره أو غير‬
‫محددة من ذلك كلمة (إنسان) فهي تضم مجموعة من العناصر البشرية تصح أن يطلق على كل منها لفظ (إنسان)‬
‫وهي عناصر‪ ،‬غير متناهية‪ ،‬فحقلها الدللي ذو مجال مغلق من جهة ومفتوح من جهة ثانية على الشكل التالي‪ :‬إنسان‬
‫[عدد ل متناه من البشر…] وقد يكون الحقل الدللي محدد العناصر متناهي الجزاء كأيام السبوع أو شهور السنة أو‬
‫رتب الترقية عند الجند وما إلى ذلك‪ ،‬فكلمة أسبوع على سبيل المثال لفظ كلي يغطي حقلً معينة عناصره ومغلق‬
‫مجاله من الجهتين على الشكل التالي‪ :‬أسبوع [السبت‪-‬الحد – الثنين‪ -‬الثلثاء‪ -‬الربعاء‪ -‬الخميس‪ -‬الجمعة]‪.‬‬
‫لقد أحصى المدي أصنافا للفظ الكلي بناء على مجالها الجرائي أو مجالها النظري‪ ،‬إذ الكلمة الغطاء تحوي‬
‫أسماء مشكلة حقلً دلليا ل شركة بينها بالفعل إنما بالفعل كاسم العالم أو الكون‪ ،‬وأسماء واقعة موقع اللفظ الكلي بفعل‬
‫التواضع والصطلح كاسم العنقاء فرغم أنه اسم وهمي إل أن له عناصر تنضوي تحته ليس بالفعل والجراء وإنما‬
‫بالعقل والنظر‪ ،‬إن هذا التحديد الدقيق لحقول الدلة يعد ضرورة لغوية ملحة ترسم لعالم اللغة إطارا واضحا للتعامل‬
‫بوعي مع حقيقة المصطلح‪ ،‬وذلك من أجل الولوج إلى مقاربة وظيفية لستنباط الحكام من النص‪ ،‬فل عجب إذن أن‬
‫نرى المدي يخوض في تقسيمات السم فيذكر السم المتواطئ والسم المشكك(‪ )2‬وهما يقابلن على التوالي اسم الذات‬
‫واسم المعنى‪ ،‬فالمتواطئ ما تواضع حول دللته المجتمع اللغوي بحيث ل اختلف في تعيين إرجاعه في عالم‬
‫العيان‪ ،‬أما المشكك فهو على نقيض المتواطئ بحيث لم يقع حوله تواضع عام بين أهل اللغة فمدلوله غير موحد‬
‫الدللة كلفظ الوجود والبيض وما إلى ذلك‪ ،‬وهو إشارة إلى ضرورة أخذ الحيطة العلمية في التعامل مع السم‬
‫بتفريعاته‪ ،‬خاصة إذا تعلق المر باستنباط دللت الحكام من نصوص القرآن الكريم‪.‬‬
‫أما القسم الثاني المفرد فهو السم المركب أو المؤلف‪ ،‬ويدرج تحت السم المفرد الجزئي وهو يشكل أحد عناصر‬
‫السم المفرد الكلي الذي سبق الحديث عنه‪ .‬يقول المدي في ذلك‪" :‬وإما أن يكون مفهوم (السم) غير صالح لشتراك‬
‫كثيرين فيه فهو الجزئي وهو إما أن ل يكون فيه تأليف أو فيه"(‪.)3‬‬
‫إن اللفظ الجزئي في عرف المناطقة يثير في الذهن الصورة التي يعرفها محددة في عالم العيان وهو قد يكون‬
‫مشتقا من اسم أو فعل أو صوت وهو المسمى السم المنقول‪ ،‬أو ل يكون كذلك فهو السم المرتجل الذي ليس بينه‬
‫وبين ما نقل عنه مناسبة‪ ،‬وهو ما يقابله في الدرس النحوي السم المشتق والسم الجامد على التوالي‪ ،‬كما أشار‬
‫المدي في السم إلى المؤلف الجزئي يقول في ذلك‪ ،‬وإن كان (السم الجزئي) مؤلفا فإما من اسمين مضافين كعبد ال‬
‫أو غير مضافين‪ ،‬وأحدهما عامل في الخر أو غير عامل والول كتسمية بعض الناس زيد منطلق‪ ،‬والثاني كبعلبك‬

‫() لقد وضع الفاراب (ت ‪339‬هـ) علما خاصا ساه علم اللفاظ ب ثَ فيه بإسهاب تفريعات اللفاظ الفردة والركبة‪ -‬انظر الفصل الاص بهود‬ ‫‪1‬‬

‫الفاراب ف تديد ماهية الدللة ف القدي‪ ،‬ص ‪.16‬‬


‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.17‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.18‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 140 -‬‬


‫وحضرموت وإما من فعلين كقام وقعد وإما من حرفين كتسميته إنما‪ ،‬وإما من اسم وفعل نحو تأبط شرا‪ ،‬وإما من‬
‫حرف واسم كتسميته بزيد وإما من فعل وحرف كتسميته قام على وبهذ يكون المدي بحث فيه حصر عام لسماء في‬
‫مركبات اسمية وفعلية وحرفية‪ ،‬على النحو التي‪:‬‬

‫السم‬

‫مؤلف (مركب)‬ ‫مفرد‬

‫جزئي‬ ‫كلي‬

‫منقول‬ ‫مرتجل‬ ‫مشكك‬ ‫متواطئ‬


‫اسم مشتق‬ ‫اسم جامد‬ ‫اسم معنى‬ ‫اسم ذات‬

‫إن المدي كما نلحظ‪ ،‬ل يؤسس أحكامه اللغوية النظرية انطلقا من الواقع اللغوي الجرائي فحسب‪ ،‬بل إنه‬
‫يرسم قواعد كلية تتموضع فيها تراكيب اللغة وعناصرها المعجمية في إطار مشروع لغوي ل يتفاعل بالواقع فحسب‬
‫بل ويفعل في الواقع‪ ،‬وهو ما نكاد نلمسه في المباحث اللغوية في التراث المعرفي عند علماء اللغة كسيبويه والمبّرد‬
‫والفّراء وغيرهم فقد يتعاملون مع تركيب (زيد منطلق) كركن اسمي مع انتفاء هذا السم في واقع اللغة ويبنون عليه‬
‫قواعد نظرية تخص أنحاء اللغة‪.‬‬

‫‪-2‬مقومات الخطاب البلغي‪:‬‬


‫هذه الوحدات أو عناصر الخطاب(‪ ،)1‬سوف تضطلع بمهمة تمثيل البنية الدللية على مستوى التركيب اللغوي‪ ،‬إذ‬
‫يقول المدي "ومن اختلف تركيبات المقاطع الصوتية حدثت الدلئل الكلمية والعبارات اللغوية"(‪ ،)2‬فاللغة بناء على‬
‫هذا المفهوم تقوم على أساسين أو مستويين‪ :‬المستوى الول هو المستوى الفونولوجي‪ ،‬بحيث يحدث التلفظ الول‬
‫لمقاطع صوتية تكون ذات دللة إذا ما كان تركيبها مختلفة أصواته‪ ،‬أما المستوى الثاني فهو المستوى التركيبي حيث‬
‫يتم إنشاء دلئل كلمية وعبارات لغوية‪ ،‬إن هذا التفصيل في تشكيل الصوت العربي الذي يدخل مع أصوات أخرى‬
‫مختلفة ليحدُث المقطع‪ ،‬ينم حقيقة عن إلمام عميق بآليات الكلم في اللغة العربية‪ ،‬فهي تتشكل من مقاطع كلمية‬
‫سميت في الدرس اللساني بالمورفامات المشكّلة هي الخرى من أصوات مفردة سميت بالفونامات‪ ،‬وإلى ذات التقسيم‬
‫اهتدى أندريه مارتينه إلى ما سماه بالتلفظ المزدوج (‪ )Double articulation‬وهو تحليل يسير باتجاه معاكس لتحليل‬
‫المدي‪ ،‬إذ يقرر مارتينه أن "كلً من الوحدات الكلمية الحاصلة وفق تلفظ أول هي بدورها ملفوظة بواسطة وحدات‬

‫() يعن‪ :‬السم والفعل والرف‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.19‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 141 -‬‬


‫من نوع آخر"(‪ ،)1‬فمارتينه ينطلق في نظريته من المستوى التركيبي (التلفظ الول) لينتقل إلى المستوى الفونولوجي‬
‫(التلفظ الثاني) بينما يرى المدي أن المقاطع الصوتية واختلف تركيبات أصواتها تحدث عنه الدلئل الكلمية‬
‫(المورفامات) والعبارات الصوتية (التركيب اللغوي)‪.‬‬

‫أ‪-‬الخبر وأبعاده الدللية‪:‬‬


‫إن التركيب اللغوي ل يشكل خطابا لغويا إل ضمن لئحة من الشروط الذاتية والموضوعية وضعها المدي في‬
‫إطار معيارية لقياس محمول الخطاب اللغوي وهو الخبر‪ ،‬ففي باب حقيقة الخبر وأقسامه "يطرح المدي قضية القراءة‬
‫ل أن اسم الخبر يطلق على الشارات الحالية والدلئل‬
‫العميقة لبنية الخبر‪ ،‬يقول في ذلك‪" :‬أما حقيقة الخبر‪ ،‬فاعلم أو ً‬
‫(‪)2‬‬
‫المعنوية‪ ،‬كما في قولهم‪ :‬عيناك تخبرني بكذا‪ ،‬والغراب يخبر بكذا" ‪.‬‬
‫إن المدي ل يكتفي بالقراءة المورفولوجية للجملة بل يعرضها عرضا سيميائيا ظاهرا‪ ،‬فجملة (عيناك تخبرني‬
‫بكذا) يقع فيها الركن السمي (عيناك) كرمز سيميولوجي لدللة خفية تقوم بدللة الخبر وقد سمي المدي ذلك "إشارة‬
‫حالية" أو "دليل معنوي" وهو بذلك ينص على أنّ تلك الشارة السيميولوجية تعد الملمح الساس الذي يتمظهر فيه‬
‫انفعال المتكلم‪.‬‬
‫وقد اعتمد "كاسيير (‪ )Kassirer‬الرمز السيميولوجي لستبطان دواخل النسان المتكلم حيث ذهب إلى أن‬
‫النسان حيوان رامز‪ ،‬يتمظهر واقعه الدللي في لئحة من الرموز والدوال"(‪ ،)3‬وقد زحفت (إمبراطورية) الرموز‬
‫والعلمات شيئا فشيئا باسطة سلطتها على عالم الشياء‪ ،‬فأضحينا نحمل في أذهاننا أشياء كثيرة من العالم الخارجي‬
‫في شكل علمات لغوية‪ ،‬وقد اعتبر "روبنز (‪ ، )R.H. Robins‬اللغة الموهبة الكثر نوعية التي مُنِحَها النسان الذي‬
‫سعى باحثا عبر تاريخه الفكري الطويل عن بلوغ أفضل معرفة بذاته(‪ )4‬بواسطة اللغة‪.‬‬
‫يميز المدي في تحديده لمفهوم الخطاب بين التركيب الخبري والتركيب الكلمي‪ ،‬فالخبر متعلق بالعملية‬
‫السنادية سلبا أو إيجابا‪ ،‬أما الكلم فمتعلق بقيمة الفادة ذلك لرتباطه بالبلغ‪ ،‬يقول المدي معرفا الخبر‪" :‬الخبر‬
‫عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم إلى معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة‬
‫إلى إتمام‪ ،‬مع قصد المتكلم به الدللة على النسبة أو سلبها"(‪ ،)5‬فالمسألة التي كانت مدار خلف بين العلماء في عصر‬
‫المدي هي حول تحديد مفهوم الخبر‪ ،‬فكان شائعا عصرئذ التعريف القائل‪ :‬الخبر ما احتمل الصدق أو الكذب ولكن‬
‫بعض العلماء ومنهم المدي خالف هذا التعريف لوجود جمل خبرية ولكن ل يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب‬
‫كقول أحدهم‪" :‬محمد ومسيلمة صادقان في دعوة النبوة" فل يدخله الصدق وإل كان مسيلمة صادقا(‪ )6‬كذلك الناقل‬
‫للجملة الخبرية في حاجة إلى تصديق لن ذلك متوقف على الصدق في السناد (إسناد المسند إليه)‪ ،‬فالخبر عند‬
‫المدي إذن تواضع مؤسّس على النسبة وقصد المتكلم في إثباتها أو سلبها‪.‬‬

‫() ميشان زكريا‪ ،‬اللسنية‪ ،‬علم اللغة الديث‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.3‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪ .‬عبد القادر الفاسي القهري‪ ،‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬ص ‪.381‬‬ ‫‪3‬‬

‫() ‪.Breve histoire de la linguistique de platon a chomsky P. 249-250‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.9‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.6‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 142 -‬‬


‫إن الحتكام إلى معيار الصدق والكذب في تحديد قيمة الخبر ل يمكن أن نفصل في جدواه إذا لم نتبين واضحا‬
‫مفهوم الصدق والكذب‪ ،‬ولذلك يخصص المدي حيزا مهما في سبيل تعيين مفهومها يقول في ذلك" إن الخبر ينقسم إلى‬
‫صادق وكاذب لنه ل يخلو إما أن يكون مطابقا للمخبر به أو غير مطابق فإن كان الول‪ ،‬فهو الصادق وإن كان‬
‫الثاني فهو الكاذب"(‪ ،)1‬ويعترض المدي بناء على ذلك على الجاحظ في تقسيمه الخبر إلى ثلثة أقسام‪ :‬صادق وكاذب‬
‫وما ليس بصادق ول كاذب‪ ،‬ويؤسس المدي اعتراضه على عنصر "القصد" في الخبر"‪.‬‬
‫فإذا انتفى هذا العنصر ل يمكن أن نسمي سياقا ما خبرا‪ ،‬أما إذا وجد القصد واعتقد المتلقي كذب محتوى الخبر‪،‬‬
‫كان الخبر كاذبا(‪ )2‬ولذلك ل يخرج السياق الخبري من أمرين ل ثالث لهما‪ :‬إما أن يكون الخبر صادقا أو كاذبا بناء‬
‫على معايير موضوعية تخضع للواقع اللغوي‪ ،‬أو ل يكون السياق خبرا لفتقاده لمقومات وخصائص السياق الخبري‬
‫منها وعي المتكلم بفحوى الخبر‪ ،‬وقصده من ورائه‪.‬‬
‫وبذلك يكون المدي قد أدرك أهمية سلمة البنية التركيبية وعلقتها بالكفاية الذاتية التي يمتلكها المتكلم‪ ،‬بحيث‬
‫يموقع فيها وعيه الكامل بمضمون الخبر الذي ينقله‪ ،‬إذ ل معنى لعدم وضوح الدللة في بنية الخبر أنه يصح وصفه‬
‫بالكذب‪ ،‬إذ الخبر قد يخرج من دللته الحقيقية إلى دللة مجازية‪ ،‬كما هو عليه بعض آيات القرآن الكريم‪ ،‬فمتعلق ذلك‬
‫بقصد المتكلم‪ .‬يشرح ذلك المدي بقوله‪" :‬وصرف اللفظ عن أحد مدلوليه إلى الخر ل يكون كاذبا‪ ،‬وسواء كان ذلك‬
‫اللفظ من قبيل اللفاظ المشتركة أو المجازية ولهذا‪ :‬فإن من أخبر بلفظ مشترك وأراد به بعض مدلولته دون البعض‬
‫كما قال (رأيت عينا) وأراد به العين الجارية دون الباصرة والعكس فإنه ل يعد كاذبا‪ ،‬وكذلك من أخبر بلفظ هو حقيقة‬
‫في شيء ومجاز في شيء وأراد جهة المجاز دون الحقيقة‪ ،‬فإنه ل يعد كاذبا وذلك كما لو قال (رأيت أسدا) وأراد به‬
‫المجمل المجازي دون الحقيقي وهو النسان"(‪.)3‬‬
‫إلّ أن ثنائية الصدق والكذب كمعيارية للحكم على فحوى الخبر‪ ،‬ل تلبث عند المدي أن تتحول إلى ثلثية كان‬
‫قد انتقضها وعارضها عند الجاحظ‪ ،‬وإن كان ذلك مرتبط بالخبر الشرعي ولكن ينسحب على كل خبر لغوي توافرت‬
‫فيه شروط تعود إلى متنه ومضمونه وإلى ناقله بالخصوص ومتلقيه والمقام العام الذي يصرف فيه ويبث‪ ،‬يطلعنا‬
‫المدي بتقسيم جديد للخبر فيقول‪" :‬إن الخبر ينقسم إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه وإلى ما ل يعلم صدقه ول‬
‫كذبه"(‪ ،)4‬والشيء الذي يعتمد في تعيين إثبات أو سلب المضمون الخبري هو طبيعة ناقل الخبر أساسا‪ ،‬والحقيقة أن‬
‫الحاطة بعالم ناقل الخبر أو المتكلم أمر ل زال محل بحث عند علماء الدللة المحدثين‪ ،‬لن قيمة دللة التركيب‬
‫الخبري تضطلع بتحصيلها عدة عوامل تخص التركيب نفسه من سلمة بُناه‪ ،‬وحسن رصف عناصره‪ ،‬وتوظيف‬
‫متمكن لقواعد سلمة السقاط‪ ،‬ثم‪ ،‬وهو أمر مهم‪ ،‬موقع المرسل والمرسل إليه‪ ،‬فناقل الخبر هو المنتج أو المركب‬
‫للخبر مبنى ومعنى مع وعي ملزم أثناء عملية البلغ‪.‬‬
‫إن أهم ما قررته الدراسات اللسانية الحديثة في مبحث قيمة الرسالة البلغية‪ ،‬هو وجود مستمع أو متلق مثالي‬
‫مستعد لستقبال الرسالة البلغية خال ذهنه من فحواها مسبقا‪ ،‬وإلى ذات الفكرة يشير المدي في حديثه عن الخبر‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.10‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر نظرية الوضعية النطقية ومذهب (شليك) ف الكم على صدق القضية (الملة) وربطه بالتحقيق التجريب ف فصل (النظريات الدللية الديثة)‬ ‫‪2‬‬

‫ص ‪.78‬‬
‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.12 -11‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.12‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 143 -‬‬


‫فيقول‪" :‬وأما ما يرجع إلى المستمعين‪ ،‬فأن يكون المستمع متأهلً لقبول العلم بما أخبر به‪ ،‬غير عالم به قبل ذلك وإل‬
‫كان فيه تحصيل الحاصل"(‪ ،)1‬وقد نصت النظرية السياقية والمقامية إلى ذلك التطور الحاصل في مفهوم السياق(‪)2‬إذ لم‬
‫يعد القتصار على الجانب اللغوي في إيضاح الدللة وإنما وجدت جوانب أخرى تنحسم معها الدللة المقصودة‬
‫كالوضع والمقام الذي يحيط بالتواصل والحالت السيكولوجية التي تطبع وضع المتلقي خاصة‪ ،‬لقد ذهب بعض العلماء‬
‫في عصر المدي وقبله إلى تحديد معيار العلم بالخبر‪ ،‬إلى تساوي المستمعين في فهم دللته‪ ،‬إل أن المدي يعترض‬
‫على ذلك مؤكدا على ضرورة الخذ بمقام المتلقي وأحواله النفسية‪ ،‬إذ الفعل الدللي ل ينتج بمعزل عن محيطه النفسي‬
‫والجتماعي‪ ،‬إذ ل بد من مراعاة كل ذلك‪ .‬يقول المدي‪" :‬ذهب القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري إلى أن كل‬
‫عدد وقع العلم بخبره في واقعة لشخص‪ ،‬ل بد أن يكون مفيدا للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه‪،‬‬
‫وهذا إنما يصح على إطلقه إذا كان العلم قد حصل من نفس خبر ذلك العدد مجردا كما صنف به من القرائن العائدة‬
‫إلى أخبار المخبرين‪ ،‬وأحوالهم واستقراء السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمداوله مع فرض التساوي في‬
‫القرائن"(‪ ،)3‬ولكن ذلك غير ممكن فالستعدادات الذاتية بين جمهور المتلقين متفاوتة وغير متجانسة‪ ،‬يشرح المدي ذلك‬
‫بقوله‪" :‬كما اختص به من القرائن التي ل وجود لها في غيره وبتقدير اتحاد الواقعة وقرائنها ل يلزم من حصول العلم‬
‫بذلك العدد لبعض الشخاص حصوله لشخص آخر"(‪.)4‬‬
‫ومرد ذلك الختلف‪ ،‬إلى مقام كل مستمع النفسي والجتماعي والثقافي‪ ،‬فالخبر تحيط بهم قيم حافة هامشية ترتد‬
‫إلى الفرد أو المجتمع وثقافته‪ ،‬وهو ما سمي في النظرية السياقية بالقيم السلوبية أو التعبيرية‪ ،‬فالتفاوت الحاصل بين‬
‫الشخاص على فهم الخبر يرجع إلى قوة الدراك والفهم للقرائن‪ ،‬إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك ظاهر جدا‪ ،‬حتى‬
‫إن منهم من له قوة فهم أدق المعاني وأغمضها في أدنى دقيقة من غير ك ّد أو تعب‪ ،‬ومنهم من انتهى في البلدة إلى‬
‫حد ل قدرة له على فهم أظهر ما يكون من المعاني مع الجد والجتهاد في ذلك‪ ،‬ومنهم من حاله متوسطة بين‬
‫الدرجتين وهذا أمر واضح ل مراء فيه"(‪.)5‬‬
‫وما الفهم المتمكن من دللة الخطاب الخبري إل تعبير من المتلقي على قوة إدراكه لمختلف القرائن المصاحبة‬
‫للخبر‪ ،‬ووقوع ذلك موقعا مجانسا لواقعه النفسي والثقافي والجتماعي‪ ،‬أما الذي تلكأ في إدراك دللة ذلك الخطاب مع‬
‫وضوح قرائنه‪ ،‬فلوجود هوامش في الخطاب لم تكن للمتلقي المرجعية الكافية لفك رموزها والتقاط دللتها‪ ،‬وبذلك‬
‫نفسر ميل المدي إلى الخذ بتأويلت الصحابي الراوي لحديث نبوي فيه ألفاظ مجملة وذلك لعلمه أنه ممن أطلعوا‬
‫على المقام الذي أنتج فيه ذلك الحديث النبوي والقيم الهامشية التي حفت به‪ ،‬يبين المدي هذه المسألة فيقول‪" :‬فل‬
‫نعرف خلفا في وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه‪ ،‬لن الظاهر من حال النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫ل ينطق باللفظ المجمل لقصد التشريع وتعريف الحكام ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلم‪،‬‬
‫والصحابي الراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره"(‪.)6‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر النظرية السياقية ف مبحث النظريات الدللية الديثة‪ ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.31 -30‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.32‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه والصفحة نفسها‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.115‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 144 -‬‬


‫وفي معرض تحديده ماهية الخطاب الشرعي‪ ،‬يومئ المدي إلى وجوب تكييف الخطاب اللغوي بما يجعل‬
‫(‪)1‬‬
‫المتلقي يتهيأ لفهم دللته‪ ،‬ول يرى المدي التعريف القائل بأن الخطاب "هو الكلم الذي يفهم المستمع منه شيئا"‬
‫تعريفا صائبا لكونه أهمل موقع المستمع من هذا الخطاب فهو بذلك يفتقر إلى الحاطة الشمولية بماهية الخبر الذي‬
‫يتمظهر في شكل "محمول" يتموقع في بنية الخطاب الدللية‪ ،‬فنحن إذن إزاء عملية تواصل وإبلغ وجب توفير كل‬
‫آلياتها حتى يتم فيها نقل الدللة إلى السامع من غير لبس في المعنى ول إبهام‪ ،‬وليحيط السامع بحيثيات الخبر المنقول‬
‫إليه وما يتصل بناقله لن ذلك مشمول في احتواء الدللة الكاملة‪ .‬يقول عبد السلم المسدي في ذلك‪" :‬على أن السامع‬
‫إذ يقارن بين نظامه الخاص ونظام محدثه يتسنى له الستدلل على أصل مخاطبه وعلى درجة ثقافته وعلى انتمائه‬
‫الجتماعي‪ ،‬كما أن مميزات صوته الطبيعية تعرفه على جنسه وسنه وفصيلته على المستوى الفيزيولوجي‬
‫النفساني"(‪.)2‬‬
‫وإلى ذات الفكرة يذهب المدي مستندا على أساسين هما قوام كل خطاب موضوع لخبر‪ ،‬ويعني بهما‪ :‬القصد‬
‫عند الباث‪ ،‬والستعداد والتهيؤ عند المتلقي وإذا انتفى أحد هذين الساسين فقد الخبر قيمته البلغية‪ .‬يقول المدي‬
‫موضحا ماهية الخطاب‪" :‬والحق أنه اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه‪( ،‬فاللفظ) احتراز‬
‫عما وقعت المواضعة عليه من الحركات والشارات المفهمة (والمتواضع عليه) احتراز عن اللفاظ المهملة‪،‬‬
‫(والمقصود بها الفهام) احتراز عما ورد على الحد الول"(‪.)3‬‬
‫إن هذا التعريف بماهية الخطاب اللغوي عند المدي ينسجم مع الداء الوظيفي الذي يقوم به من الفهم والفهام‪،‬‬
‫وإن أهم وسيلة لتحقيق ذلك هي اللفاظ المنتظمة في سياقات لغوية سليمة‪ ،‬ثم إن إشارة المدي إلى اللغة السيميولوجية‬
‫(وهي الشارة والرموز والحركات ذات دللت) دليل قوي على الهتمام بالمنحى السيميائي العام‪ ،‬والرؤية الشمولية‬
‫التي كانت تطبع الدرس التراثي عند المدي ومعاصريه‪ ،‬إذ تناولوا "اللغة" تناولً كليا تحدده قنوات التواصل المتعددة‪.‬‬

‫ب‪-‬الكلم وقيمته البلغية‪:‬‬


‫لقد ميز البحث الدللي الحديث بين مفاهيم ثلثة عدت أسسا في الدراسة المنهجية الحديثة‪ ،‬على نقيض الدرس‬
‫اللغوي التراثي الذي كان غالبا ما يخلط بينها في الستعمال وهذه المفاهيم الثلثة هي‪ :‬اللغة واللسان والكلم‪ ،‬فاللغة‬
‫مفهوم كلي عام واللسان مفهوم نمطي نوعي أما الكلم فمفهوم فردي إجرائي‪ ،‬أو كما يشرح ذلك المسدي بقوله‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫"فمتصور اللغة يجسم صورة القانون ولسان الجماعة يشكل نموذج العرف أما كلم الفراد فيشخص مثال السلوك ‪،‬‬
‫وهو التمثيل الفردي للغة وقد شرح ذلك دي سوسير في كتابه "دروس في اللسانيات العامة" ضمن تلك الثنائيات التي‬
‫عقدها بين مجموعة من المفاهيم منها‪ :‬اللغة والكلم‪ ،‬أما نظرة المدي إلى الكلم فتتمثل في كونه مركب من اللفاظ‬
‫وله مظهران‪ :‬مظهر لساني ومظهر نفسي يقول مبينا ذلك تحت عنوان‪" :‬في تحقيق مفهوم المركب من مفردات‬
‫اللفاظ‪ ،‬وهو الكلم‪ :‬اعلم أن اسم الكلم قد يطلق على العبارات الدالة بالوضع تارة‪ ،‬وعلى مدلولها القائم بالنفس تارة‪،‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.95‬‬ ‫‪1‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.76 -75‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.95‬‬ ‫‪3‬‬

‫() اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.86‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 145 -‬‬


‫والمقصود ها هنا إنما هو معنى الكلم اللساني دون النفساني"(‪.)1‬‬
‫وظاهر أن المدي يميز‪ ،‬ها هنا بين الصيغة في حالتها الفرادية والصيغة في حالتها التركيبية والتي تتشكل في‬
‫"الكلم" وبذلك تتضح لدى المدي رؤية لسانية متقدمة‪ ،‬في نصّه على القيمة الدللية التي تكتسبها اللفاظ ضمن‬
‫"الكلم" وهو ما تؤكده الدراسات الدللية الحديثة واللسانية بصفة عامة‪ ،‬حيث أشار سوسير إلى أن القيمة اللغوية‬
‫للكلمة تكمن في صلتها ببقية الكلمات الخرى باعتبار السياق الكلمي نسيج متشعب من العناصر والصور‪ ،‬كما يتبدى‬
‫تمييز المدي بين الصورة السمعية والثر السيكولوجي لها‪ ،‬وذلك بإشارته إلى المدلول القائم بالنفس وعلى أساس ذلك‬
‫يكون المدي قد أشار ضمنيا إلى المثلث اللساني لريشاردز وأوجدن الذي يحدد الجوانب الثلثة بما سماه دي سوسير‬
‫"الدليل اللساني (‪ )Le signe linguistigue‬وهي‪ :‬الدال (الصورة السمعية)‪ -‬المدلول (الشيء الخارجي) – الثر‬
‫السيكولوجي المحتوى الفكري)‪.‬‬
‫إن الكلم النفساني عند المدي‪ ،‬ينحصر في تلك المعاني المترددة في النفس‪ ،‬فهي تشكل عوامل دللية تتمظهر‬
‫في أشكال لغوية متعددة لسانية وغير لسانية‪ ،‬وإن المقاطع الصوتية التي تدخل في تشكيلها الحروف هي التي تكوّن‬
‫الكلم اللساني‪ ،‬وإذا انتظمت هذه المقاطع بحيث كانت لها ولصواتها دللة كان للكلم قيمة وظيفية أما إذا لم تخضع‬
‫تلك المقاطع إلى نظام تتشكل وفقه أصواتها كان الكلم تركيبا خاليا من الدللة‪" ،‬فالكلم اللساني قد يطلق تارة على ما‬
‫ألف من الحروف والصوات من غير دللة على شيء يسمى مهملً وإلى ما يدل"(‪.)2‬‬
‫إن مصطلح "الكلم" في التراث المعرفي العربي‪ ،‬كان قد حدد بصورة علمية قد ل تختلف عن تلك التي حددها‬
‫علماء اللسانيات المحدثون‪ ،‬وظاهر ذلك من خلل تلك الراء والفكار التي عرضها المدي لعلماء عصره الذين‬
‫اختلفوا في حصر دقيق لماهية الكلم‪ ،‬فمنهم من عد الكلمة الواحدة المؤلفة من حرفين فصاعدا كلما‪ ،‬كما اعتبر‬
‫بعضهم الكلم هو الصوات المسموعة الدالة وذلك احتراز من حروف الكتابة فإنها ليست كلما‪ ،‬كما تباينت الراء‬
‫في اعتبار التركيب غير المنتظم العناصر‪ ،‬كلم‪ ،‬فذهب بعض العلماء إلى أنه كلم لن عناصره في حالتها الفرادية‬
‫ذات دللة بينما رفض البعض الخر أن تعد كلما لن السياق العام ل يؤدي دللة‪ ،‬يقدم المدي رأي الصوليين في‬
‫ذلك فيقول‪" :‬فذهب أكثر الصوليين إلى أن الكلمة الواحدة‪ ،‬إذا كانت مركبة من حرفين فصاعدا كلم‪ ،‬ول جرم‪ ،‬قالوا‬
‫في حده‪ :‬هو ما انتظم من الحروف المسموعة المميزة المتواضع على استعمالها الصادرة عن مختار واحد"(‪.)3‬‬
‫وفي مقام تصويبه للتراكيب الكلمية‪ ،‬يعتمد المدي معيارية الفادة في ضرورة وجود قواعد ضابطة تجعل‬
‫الكلم مفيدا‪ ،‬وهو في ذلك يسوق تعريف الزمخشري للكلم حيث يقول‪" :‬الكلم هو المركب من كلمتين أسندت‬
‫إحداهما إلى الخرى"(‪.)4‬‬
‫وعلى أساس ذلك يقتضي السياق الكلمي مستويين‪:‬‬
‫* المستوى الول‪ :‬مستوى البنية النحوية التي تتمثل في وجود عملية السناد‪.‬‬
‫* المستوى الثاني‪ :‬هو مستوى البنية البلغية والتي تتحدد بتوافر عنصر الفائدة في الكلم‪.‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.71‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر السابق‪ .،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.71‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.72‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.72‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 146 -‬‬


‫فنلحظ إذا من خلل قول المدي تقاطع علقتين في إنشاء الكلم‪:‬‬
‫علقة ذهنية عقلية في ترتيب عناصر العملية السنادية بحسب التأليف بين طرفي السناد ومراعاة‬ ‫‪-‬‬
‫قواعد السلمة النحوية‪.‬‬
‫وعلقة منطقية في محمول عملية السناد‪ ،‬إذ الفائدة الدللية شرط في عملية البلغ التي يضطلع بها‬ ‫‪-‬‬
‫الكلم‪.‬‬
‫فالمدي يؤسس نظريته حول الكلم على عنصري الفادة وحسن السناد‪ ،‬فإذا انتفت الفادة مع وجود السناد ل‬
‫يسمى التركيب كلما‪ ،‬وهو ما يؤكد شمولية الهتمام –عند المدي‪ -‬بالوظيفة الساسية للكلم وهي البلغ‪ ،‬فالنظم‬
‫الحسن ينشئ الكلم(‪ )1‬المفيد‪ ،‬يقول المدي‪" :‬الكلم ما تألف من كلمتين تأليفا يحسن السكوت عليه"(‪.)2‬‬
‫إن معيار الكلم المؤلف تأليفا سليما يتمظهر في القناة السليمة‪ ،‬التي يتم عبرها نقل الرسالة الدللية ليحصل‬
‫البلغ‪ ،‬ويتحقق التواصل حيث يكون مقياس ذلك هو سكوت المتخاطبين عن لغة الرسالة‪ ،‬وقواعدها‪ ،‬وآلياتها‪ ،‬تعبيرا‬
‫منهم أن التأليف صحيح في تركيبه واتساق عناصره‪.‬‬

‫ج‪ -‬الخطاب البلغي وأنماطه‪:‬‬


‫لم يتناول المدي الخطاب اللغوي من زاوية دللته النية عندما يوظف للتصال والبلغ‪ ،‬وإنما كذلك من زاوية‬
‫دللته الزمانية‪ .‬وإن ذلك متعلق بالكلم المكتوب وفي هذا السياق قدم المدي خطاب النهي على أنه ل يفيد التكرار‬
‫والدوام وإنما يفيد الدللة على المرة الواحدة في حالته العادية أما إذا دل على الدوام كان ذلك لوجود قرينة يقول في‬
‫ذلك‪" :‬النهي حيث ورد غير مراد به الدوام‪ ،‬يجب أن يكون ذلك لقرينه"(‪.)3‬‬
‫وقد تدخل الخطاب اللغوي عناصر تعدل في دللته العامة التي تتعرض للتخصيص بفعل أدوات لفظية‪،‬‬
‫كالستثناء والشرط والصفة‪ ،‬وقد دار جدال بين جمهور العلماء في مسائل تتعلق بتخصيص الخطاب بإحدى أدوات‬
‫التخصيص‪ ،‬هل يكون العموم في المخصص حقيقة أو مجازا؟ بمعنى هل اللفظ العام المستغرق للجنس يجوز حمله‬
‫على البعض؟ بعدما يعرض المدي آراء العلماء في هذه المسألة يتقدم برأيه فيقول‪" :‬والمختار تفريعا على القول‬
‫ل أو منفصلً‪ ،‬عقليا أو‬
‫بالعموم أنه يكون مجازا في المستبقى واحدا كان أو جماعة‪ ،‬وسواء كان المخصص متص ً‬
‫لفظيا‪ ،‬باستثناء أو شرط أو تقييد بصفة"(‪ ،)4‬إن فعل "التخصيص" ل يتحقق إل في خطاب يتصور فيه العموم أما‬
‫الخطاب الخالي من العموم فل يمكن تخصيصه" لن التخصيص على ما عرف‪ ،‬صرف اللفظ عن جهة العموم إلى‬
‫جهة الخصوص وما ل عموم فيه ل يتصور فيه هذا الصرف وأما ما يتصور فيه الشمول والعموم فيتصور فيه‬
‫التخصيص"(‪.)5‬‬
‫وقد خصص علماء اللغة المحدثون مباحث هامة تناولوا من خللها موضوع تغير الدللة وعاينوا مظاهرها‬

‫() انظر ف ذلك ف الفصل السابق‪ ،‬نظرية النظم عند الرجان‪ ،‬ص ‪.119‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.73‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.194‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.228‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.287‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 147 -‬‬


‫كالنحطاط والرقي‪ ،‬والتضييق والتوسيع وغير ذلك من المظاهر(‪ ،)1‬إل أن علماء الصول كانوا أعمق في تناول تغير‬
‫الدللة‪ ،‬ذلك أن من مظاهر الخطاب اللغوي الكثر ورودا في التوظيف اللغوي العام هو الوعي بالليات المحددة‬
‫لشمولية الدللة أو لخصوصيتها‪ ،‬فإذا كان حمل اللفظ على جميع محامله في الخطاب اللغوي يستند إلى خلو الخطاب‬
‫من أدوات التخصيص‪ ،‬فإن تعيين محمول مخصوص يرجع إلى وجود إحدى هذه الدوات‪ ،‬ولذلك انبرى المدي‬
‫يعرف هذه الدوات مستندا في ذلك على تقديم المثلة ومناقشتها فيقول في الستثناء‪" :‬الستثناء‪ ،‬عبارة عن لفظ‬
‫متصل بجملة ل يستقل بنفسه دال بحرف (إل) أو أخواتها‪ ،‬على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به ليس بشرط ول‬
‫صفة ول غاية"(‪ ،)2‬فالستثناء طريق من طرق التخصيص في اللفظ العام‪ ،‬ونحويا يعرف بأنه إخراج حكم ما بعد إل‬
‫وأخواتها عن حكم ما قبلها‪ ،‬وبذلك تتضح دللة الخطاب اللغوي اعتمادا على هذا الوعي ببنية التركيب‪ ،‬ومن طرق‬
‫تضييق الدللة كذلك الشرط وله طرائق ثلث‪ :‬الشرط العقلي والشرط الشرعي والشرط اللغوي‪ ،‬فتحقيق دللة‬
‫التركيب الشرطي مرتبط بدللة التزام بين الشرط والمشروط يقول المدي محددا أقسام الشرط‪" :‬وهو منقسم (أي‬
‫الشرط) إلى شرط عقلي كالحياة للعلم والرادة وإلى شرعي كالطهارة للصلة والحصان للرجم وإلى لغوي وصيغه‬
‫كثيرة وهي‪ :‬إن الخفيفة وإذا ومن وما ومهما وحيثما وأينما وإذما"(‪.)3‬‬
‫إن السياق الذي يتضمن التركيب الشرطي يحمل دللت إضافية ل يكون المتلقي على علم بها‪ ،‬لول وجود‬
‫الشرط‪ ،‬ولذلك يسوق المدي مثالً ينص على أن التخصيص بالشرط قد أخرج من الدللة العامة دللة خاصة‪ ،‬ولوله‬
‫لدى الخطاب دللة الشمول والتعميم‪ ،‬يقول المدي في ذلك‪" :‬إنه (أي الشرط) يخرج منه ما ل يعلم خروجه دونه‬
‫كقوله‪( :‬أكرم بَنِي تميم إن دخلوا الدار) فإنه يخرج منه حالة عدم دخول الدار‪ ،‬ولول الشرط لعم الكرام جميع‬
‫الحوال‪ ،‬ولم يكن العلم بعدم الكراه حالة عدم دخول الدار حاصلً لنا فكان مخصصا للعموم"(‪.)4‬‬
‫ومثل الشرط هناك طريق التخصيص بالصفة وهي تأتي بعد اللفظ العام فتخصصه‪ ،‬وتخرج الدللة الخاصة من‬
‫الدللة العامة‪ ،‬كما تعد (الغاية) إحدى أدوات التخصيص وتضييق دللة الخطاب العامة وصيغها معلومة في اللغة‬
‫وهي‪ :‬إلى وحتى وما كان في معناهما من الحروف والدوات‪ ،‬وأثر الغاية في دللة التركيب أنها تحد الحكم ول‬
‫تتركه مطلقا‪ ،‬والغاية نوعان‪ :‬غاية زمانية وغاية مكانية يقول المدي‪:‬‬
‫"قولـه" أكرم ببني تميم أبدا إلى أن يدخلوا الدار"‪ ،‬فإن دخول الدار يقتضي اختصاص الكرام بما قيل الدخول‬
‫وإخراج ما بعد الدخول عن عموم اللفظ ولول ذلك لعم الكرام حالة ما بعد الدخول"(‪.)5‬‬
‫بهذا الوعي العميق لليات تضييق الخطاب يحلل المدي مفهوم الحدث البلغي الذي تتحكم فيه شبكة شديدة‬
‫التركيب من العناصر والدوات والصيغ والقواعد‪ .‬إن أدوات التخصيص الربعة (الستثناء – الشرط‪ -‬الصفة‪-‬‬
‫الغاية) تعد إحدى الطرق المنهجية الدقيقة التي وظفها المدي في تعامله مع النص القرآني‪ ،‬ومن ثمة أضحى الخطاب‬
‫اللغوي يخضع لقيود شكلية تتحكم في سياقه المضموني فبدت تلك القيود معايير تعتمد لستنباط الحكم الصحيح‪ ،‬ول‬
‫يمكن أن نسعى إلى تأسيس وعي دللي ما لم نكن على دراية عميقة بمقتضيات التواصل والبلغ‪ ،‬ومع كل إنتاج‬

‫() إبراهيم أنيس‪ ،‬انظر ذلك ف كتاب دللة اللفاظ‪ ،‬ص ‪ 152‬إل ‪.167‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.287‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.309‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.10‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.313‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 148 -‬‬


‫كلمي للباث توضع قواعد للتركيب وأخرى للدللة‪ ،‬ل تخلق خلقا بل تنقل من حيز القوة إلى حيز الفعل‪ ،‬إن المشكّل‬
‫للخطاب اللغوي (الباث) يعد المركز الذي تجمع إليه كل فعاليات الحدث البلغي‪ ،‬فله القدرة على "استفزاز" المتلقي‬
‫أو السامع‪ ،‬وحمله على الدخول في عالمه الدللي الذي هو مصدر تشكل الخطاب بأنساقه وأنماطه وصيغه‪ ،‬يقول‬
‫ميشال فوكو‪ ،‬إن المؤلف ليس هو الذي يتحدث أو ينطق أو يكتب نصا بل المؤلف كمبدأ تجميع الخطاب‪ ،‬كوحدة‬
‫وأصل لدللت الخطاب‪ ،‬وكبؤرة لتناسقها"(‪.)1‬‬
‫إن تشكيل الخطاب اللغوي بمراعاة تشابك عناصره الداخلية والخارجية‪ ،‬يقتضي أن يقوم الباث أو المؤلف‬
‫باختيار ألفاظه ثم يركبها وفق معيار النحو والبيان آخذا لحظة إبداعه للخطاب‪ ،‬مقتضى حال المخاطب وقدرته ليس‬
‫على فهم الرسالة البلغية فحسب‪ ،‬بل وعلى تبني مضمونها بفك أنماطها الذاتية وسننها العلمية‪ ،‬وقد أشار المدي‬
‫في مبحث تخصيص الخطاب‪ ،‬إلى أدوات التخصيص غير اللفظية وعنى بها الدليل العقلي والدليل الحسي وهي من‬
‫الدلة المنفصلة كونها أدلة خارجة عن بنية الخطاب وترتد إلى استعداد المتلقي المثالي‪ ،‬على إخراج بعض الدللت‬
‫الخاصة من دللت الخطاب العامة بقدرته العقلية والحسية…(‪.)2‬‬
‫ومن ضمن أنماط الخطاب البلغي يشير المدي إلى خطاب "المر" وهو يتعلق بالدللة التركيبية التي يشرف‬
‫على تعيينها السياق‪ ،‬وع ّد قسما من أقسام الكلم سواء في نمطه الفونولوجي أو نمطه الخطي‪ ،‬إن صيغة المر ل‬
‫(‪)3‬‬
‫تنعقد دللتها إل بتوافر قرائن منها ما يعود للمر وهي تشمل القصد في إحداث المر‪ ،‬ومنها ما يعود إلى المأمور‬
‫وهو المتثال للمر إل أن المدي ل يرى شرط المتثال للمر قرينة محددة لصيغه‪ ،‬فالمأمور قد يتخذ من خطاب‬
‫المر موقفا إيجابيا وقد يكون موقفه سلبيا‪ ،‬بعدم المتثال‪ ،‬وتحديد المدي لهذه المسألة ينم عن وعي كبير بجوهر‬
‫العملية البلغية والتواصلية يقول شارحا ذلك‪" :‬إن المر الذي هو مدلول الصيغة إما أن يكون هو الصيغة أو غير‬
‫الصيغة‪ ،‬فإن كان هو نفس الصيغة‪ ،‬كان الكلم متهافتا من حيث إن حاصله يرجع إلى أن الصيغة دالة على الصيغة‪،‬‬
‫والدال غير المدلول‪ ،‬وإن كان هو غير الصيغة‪ ،‬فيمتنع أن يكون المر هو الصيغة"(‪.)4‬‬
‫إن المدي يحصر المر في الطلب على جهة الستعلء‪ ،‬ويعترض على تفسيره بالصيغة والرادة لن ذلك أدخل‬
‫في تعريف المر‪ ،‬بما هو أخفى منه‪ ،‬ومع ذلك لم يحسم المدي الخلف حول حد المر واكتفى بحصر ما اتفق‬
‫العلماء بشأنه من كون المر قسما من كلم العرب‪ ،‬أما ما بقي فهو محل نزاع لفظي‪ ،‬وقد ارتأى المدي إنهاء هذا‬
‫الخلف العلمي بهذا الشكل‪ ،‬لن المر إذا أدى دللته من غير لبس أو غموض بناء على توافر عناصره‪ ،‬فقد استوفى‬
‫حده‪ .‬يقول مبينا هذا المر‪" :‬إجماع العقلء منعقد على أن المر قسم من أقسام الكلم وأنه واقع موجود ل ريب فيه‪،‬‬
‫وقد بينا امتناع تفسيره بالصيغة والرادة بما سبق‪ .‬فما وراء ذلك هو المعنى بالطلب‪ ،‬والنزاع في تسميته بالطلب بعد‬
‫الموافقة على وجوده‪ ،‬فأيل إلى خلف لفظي(‪ ،)5‬وواضح أن المدي وظيفي في تحليله‪ ،‬فهو يعتمد أساسا على معيار‬
‫الستعمال الوظيفي(‪ )6‬ول يكتفي بالتنظير المجرد‪ ،‬فهو يرى أن المر يدل دللة الحقيقة على الطلب حتى ولو كان‬

‫() ميشال فوكو‪ ،‬نظام الطاب‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.315‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر ف ذلك النظرية السياقية الت أعطت للمتلقي دورا ف ربط الطاب بالقام‪ ،‬فالقول البحث عن مقامه غالبا ما يستعصي عن التأويل‪ ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.140‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.145‬‬ ‫‪5‬‬

‫() وهذا ما يؤكده رائد الدرسة التجريدية "إدوارد ساميي" ف كتابه –اللغة‪ -‬ص ‪.37 -34‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪- 149 -‬‬


‫مجردا من القرائن الدالة على ذلك‪ ،‬وقد يتعلل البعض على صرف دللته من الحقيقة إلى وجود عرف لغوي‬
‫(استثنائي) من هذا النزلق الدللي للمر من الطلب إلى دللت أخرى كالباحة والتعجيز والتهديد وما إلى ذلك مما‬
‫هو ميسر في كتب البلغة العربية‪ ،‬فبعد أن بين المدي أن صيغة (افعل) إذا وردت في الخطاب وجاءت قرائن تدل‬
‫على أنها للطلب‪ ،‬كانت كذلك‪ ،‬ول يمكن أن نصرفها إلى دللت أخرى‪ ،‬يرد على العلماء الذين ذهبوا إلى أن المر‬
‫قد يخرج لدللت أخرى لعرف طارئ فيقول‪" :‬فإن قيل‪ :‬يحتمل أن يكون ذلك بناء على عرف طارئ على الوضع‬
‫اللغوي‪ ،‬كما في لفظ الدابة والغائط قلنا جواب الول أن الصل عدم العرف الطارئ‪ ،‬وبقاء الوضع الصلي على‬
‫حاله"(‪.)1‬‬
‫إن خطاب المر هو شكل من أشكال العقد الواعي بين الباث والمتلقي‪ ،‬فالباث للرسالة الدللية التي يحملها‬
‫خطاب المر يستجيب لمنبهات تحمله إلى صوغ أسلوب إبلغي يحاول من خلله أن يدفع المتلقي ل إلى فهم الرسالة‬
‫البلغية‪ ،‬بل وإلى تقمص مضمونها والستجابة لخطابها بكيفية إيجابية‪ ،‬هذا ما تقرّر في الدرس الدللي الحديث حول‬
‫نظام البلغ في الخطاب‪ ،‬وفي هذا المجال يربط المدي دللة المر بالستجابة لصيغتها فتلك هي مفهومها مطلقا أما‬
‫الدللة على الترك واتخاذ الموقف السلبي من فحواها فله أسلوبه الخاص وهو خطاب النهي‪ ،‬كما ل يمكن أن نتصور‬
‫أن المتلقي سيرضخ لسلطة الخطاب المري وإنما سيتحرك في مساحة من الختيار فيها الندب والواجب‪ ،‬إذ قد يماشي‬
‫المتلقي الباث للخطاب في أمره وقد يخالفه‪ .‬يشرح ذلك المدي بقولـه‪" :‬إن المكلف إذا نظر فظهر لـه أن المر‬
‫للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود المر"‪ ،‬إن تحقق مضمون خطاب المر يستدعي معرفة عميقة بآليات‬
‫صياغته‪ ،‬خاصة وأن المتلقي مدعو إلى إحداث نقلة نوعية لهذا الخطاب تدل على استيعاب سليم لدللته بعد تحليل‬
‫لنظامه العلمي‪ ،‬ولذلك طرحت قديما مسألة وجود القرائن التي تعيّن الدللة في أسلوب المر‪ ،‬وبالتالي اقتضاء المر‬
‫التكرار والدوام أو المرة الواحدة‪ ،‬فالمدي يميل إلى دللة المر على المرة الواحدة إذا كان السلوب عريا من القرائن‬
‫الصارفة واحتمال التكرار في وجود القرائن‪ .‬يقول موضحا ذلك‪" :‬والمختار أن المرة الواحدة ل بد منها في المتثال‬
‫وهو معلوم قطعا‪ ،‬والتكرار محتمل فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه‪ ،‬وإل كان القتصار‬
‫على المرة الواحدة كافيا"(‪ ،)2‬كما يذهب المدي إلى أن سياق خطاب المر ينبغي أن يراعى فيه الستغراق الزمني‪،‬‬
‫لن عليه يتوقف تحديد دللة المر على التكرار أو المرة الواحدة‪ ،‬معنى ذلك أن الستغراق في المر مجاله الزمني‬
‫ل متنا ٍه بينما المرة الواحدة مجالها الزمني ضيق محدد بفترة معينة‪ ،‬ويقابل ذلك المدي بين دللة الفور ودللة‬
‫التراخي في خطاب المر‪ ،‬وهي مسألة من الهمية بمكان خاصّة وأنها ذات صلة بالتعامل اللغوي النساني(‪ ،)3‬إن‬
‫دللة المر على الفور والتحقيق الني لمضمونها متعلق بوجود قرينة أو أكثر دالة على ذلك في الخطاب‪ ،‬أما دللة‬
‫التراخي فل تحتاج إلى قرينة‪ .‬يحدد ذلك المدي بقوله‪" :‬فمن قال بالتراخي ل يحتاج إلى دليل آخر‪ ،‬لن مقتضى‬
‫المر المطلق عند تخيير المأمور في إيقاع الفعل في أي وقت شاء من ذلك الوقت‪ ،‬ومن قال بالفور فل بد له من دليل‬
‫ثاني الحال"(‪.)4‬‬
‫إن أهم ما انصب حوله اهتمام علماء اللغة المحدثون‪ ،‬هو البحث في كل مستويات الحدث اللغوي من مرحلة‬
‫ميلده إلى مرحلة بلوغه وظيفته ثم بتحقيق مردوده عندما يولّد رد الفعل المنشود وبذلك تناولوا اللغة في مظاهرها‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.144‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.155‬‬ ‫‪2‬‬

‫() د‪ .‬كمال ممد بشر‪ ،‬انظر دور الكلمة ف اللغة ف القدمة‪ ،‬ص ‪ 6‬من كتاب (ستيفن أولن)‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.159‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 150 -‬‬


‫الثلثة‪ :‬المظهر الدائي والمظهر البلغي ثم المظهر التواصلي‪ ،‬وفي إطار ذلك بحثوا طواعية الرمز اللغوي لكي‬
‫يكون له معادل موضوعي في واقع الستعمال اللغوي‪ ،‬وأكدوا أن ل انفصال في الزمن بين قيام الرمز وحصول‬
‫دللته عند متقبله(‪.)1‬‬
‫إل أن المدي كان أعمق تحليلً في نصه على عامل الزمن‪ ،‬في تحقيق دللة خطاب المر الذي هو نمط من‬
‫أنماط المنظومة اللسانية‪ ،‬التي تتكون من رموز لغوية دالة‪ ،‬ومن ذلك فإن خفيت القرينة المحددة للدللة الزمنية‬
‫لخطاب المر وألبس على المتلقي تحديد الغاية‪ ،‬كان مخيرا بين الفور والتراخي‪ .‬يشير إلى ذلك المدي فيقول‪" :‬قولهم‬
‫بالتعجيل أحوط للمكلف (يعني القول بالفور) قلنا الحتياط إنما هو بإتباع المكلف ما أوجبه ظنه‪ ،‬فإن ظن الفور‪ ،‬وجب‬
‫عليه إتباعه‪ ،‬وإن ظن التراخي وجب عليه إتباعه"(‪.)2‬‬
‫إن اللفظ الغطاء الذي يشرف على مدلولت جزئية تشكل حقلً دلليا يخضع لروابط علئقية تشترك في الدللة‬
‫الكلية التي ل تتموقع في عالم العيان وإنما محلها عالم الذهان‪ ،‬فمثلً لفظ (البيع) هو لفظ ينضوي تحته حقل من‬
‫المدلولت الجزئية كالبيع بالتقسيط‪ ،‬والبيع الغرر وما إلى ذلك من أشكال البيوع المشروعة أو المحرمة‪ ،‬فإذا نص‬
‫خطاب المر على اللفظ الكلي فهل إتيان المأمور لمعنى جزئي منه هو تحقيق للخطاب أم ل؟ لقد أسس المدي بناء‬
‫على هذه الرؤية نظرته للتدليل على أن طلب وقوع فعل المر ل يكون إل بالجزئيات‪ ،‬الواقعة في عالم العيان‪ ،‬ول‬
‫يكون بالدللة الكلية لنه ل وجود لها إل في عالم الذهان‪ ،‬فإذا ورد سياق المر مجردا من قرينة صارفة لدللته‬
‫وكان فهم المتلقي لدللته المطلقة‪ ،‬صح الفهم وصدق الموقف وهي رؤية تبناها بعض علماء الدللة المحدثين وتفرعت‬
‫عندهم إلى مسائل مختلفة من ذلك افتراض وجود دللة العوالم الممكنة عند فريجة (‪)Possible world semantics‬‬
‫وإن كان قد قوبل بالنتقاد الشديد من قبل علماء عصره(‪ ،)3‬وهذه الفكرة تبلورت عند غريمارس في ذلك التشاكل‬
‫الحاصل بين السمات المعنوية الصغرى (‪ )Semes‬والسمات الصوتية الصغرى(‪ )Phemes( )4‬في هذا النحو يقدم‬
‫المدي مثالً توضيحيا حول اقتضاء المر للدللة الجزئية‪ ،‬فيقول‪" :‬وإن سلم أن المر متعلق بالمعنى الكلي المشترك‬
‫وهو المسمى بالبيع‪ ،‬فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات كالبيع بالغبن الفاحش‪ ،‬فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به‬
‫الموكل فيه‪ ،‬فوجب أن يصح نظر إلى مقتضى صيغة المر المطلق بالبيع‪ ،‬وإن قيل بالبطلن‪ ،‬فل يكون ذلك لعدم‬
‫دللة المر به‪ ،‬بل لدليل معارض"(‪.)5‬‬
‫والحقيقة أن هذه الرؤية المدية تعد ذات أهمية بالغة لمستوى التواصل بين باث ينتظم الخطاب في ذهنه قبل‬
‫انتظامه في ألفاظه وبين متلقٍ له مرجعيته الذاتية يستطيع وفقها تفكيك الخطاب وإدراك دللته‪ ،‬إل أن المدي‪ -‬كما‬
‫هو شأن معظم علماء الدللة واللسانيات المحدثين‪ -‬يركز على ناقل الخطاب (الباث) الذي يملك وعيا لغويا يجعله‬
‫يكيف خطابه البلغي حسب أصناف الناس المتلقين للخطاب‪ ،‬ومع ذلك يتحمل نسبة كبيرة مما قد تتعرض له رسالته‬
‫البلغية من تحويل أو تحوير في فهم مضمونها الدللي‪.‬‬
‫إن الحدث البلغي بتجلياته على مستوى التركيب والتنسيق وعلى مستوى النمط التنظيمي لعناصره شكل في‬

‫() د‪ .‬عبد السلم السدي‪ ،‬انظر ف ذلك اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪ ،64‬ص ‪.81‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.169‬‬ ‫‪2‬‬

‫() انظر اللسانيات واللغة العربية د‪ .‬الفاسي‪ ،‬ص ‪.381‬‬ ‫‪3‬‬

‫() انظر فصل ماهية الدللة عند الحدثي (غريارس)‪ ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.184‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫كتاب "الحكام" المحور الساسي الذي انتظمت في دائرته تلك الحكام اللغوية التي أجراها المدي مجرى السنن‬
‫والقوانين المتحكمة في أي إنتاج كلمي‪ ،‬وقد أبان ذلك التحليل المستوفي لجوانب الخطاب قدرة النظام اللغوي العربي‬
‫على احتواء التنظيمات الخاصة بصرف الدللت إلى أوجهها الصحيحة‪ .‬كما أوضح المدي أن ل مناص لعالم‬
‫الصول المشتغل في حقل الفقه من أدوات لغوية دقيقة تقع من حقله هذا‪ ،‬موقع المنطق من الفلسفة‪ ..‬ونحن على يقين‬
‫أن دراسة النظام البلغي كما حدده المدي بكل آلياته ومتعلقاته‪ ،‬يستحق مجالً خاصا تستجلى من خلله تلك القواعد‬
‫العميقة المجردة التي تقف وراء هذا التناسق المعياري الدقيق لمنظومة الخطاب‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 152 -‬‬


‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫الحقيقة والمجاز عند المدي‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫إن المنظومة اللغوية تنزع نحو التمدد والتغير اللزمين لتغطية مجمل الحاجات اللغوية التي يقتضيها الخطاب‬
‫البلغي في الحوال المختلفة‪ ،‬ولذلك استقر في أذهان اللغويين المحدثين أن محاولة البقاء على معنى قار دون أن‬
‫يخضع لعوامل التغيير الدللي هو ضرب من النمطية التي يرفضها النظام اللغوي المتجدد‪.‬‬
‫ولعل أبرز العوامل التي تنتظم التغيّر الدللي هو الطابع الجتماعي للغة‪ ،‬الذي يلقي بتأثيره على الطابع الذهني‬
‫والفكري لدى أهل هذه اللغة إذ تغدو المنظومة اللغوية حاملة للقيم الجتماعية والفكرية المستجدة‪ .‬وفي ضوء ذلك‬
‫نفسر مذهب "رونالد بارت (‪ "، )Roland Barthes‬واتباع نظرية سيمولوجية الدللة الذين اعتبروا المعنى المعجمي‬
‫معنى مشوشا دائما لنه معرض للتغيير والتطور بفعل الستعمال الجتماعي للرمز الدللي(‪ )1‬إذ يفتح أمامه إمكانية‬
‫تغيير المجال الدللي وهو ما بحث مظاهره اللغويون محددين مستويات مختلفة منها‪ :‬مستوى النقل ومستوى التغيير‬
‫النحطاطي أو المتسامي‪ ،‬وذلك بتخصيص الدللة أو تعميمها(‪ ،)2‬ثم مستوى الحذف والتعويض وذلك بملء الفجوة‬
‫الدللية التي تركها اللفظ المندثر بدللة جديدة تستدعيها الظروف اللغوية‪ ،‬وقد يحدث أن يعاد اللفظ القديم (المندثر)‬
‫ليحمل دللة جديدة تلئم الحاجة اللغوية المستجدة‪ ،‬هذه الحركية أو الدينامية التي تميز العناصر اللغوية داخل النظام‬
‫اللساني‪ ،‬يمكن حصرها في تقاطع حقلين رئيسيين على جميع مستويات التغيير الدللي هما‪ :‬حقل الحقيقة وحقل‬
‫المجاز‪ ،‬حقل الدللة الصلية‪ ،‬وحقل الدللة المحوّلة ولما كان المجاز يعد الجسر اللغوي الذي تنتقل عبره الدوال إلى‬
‫المدلولت الجديدة أو العكس‪ ،‬كان ذلك مظهرا على قوة الطاقة التعبيرية في اللغة ول أدل على ذلك أن ظاهرة المجاز‬
‫ظاهرة عامة لكل اللسنة يلجأ إليها المجتمع اللغوي لتوليد المعاني الضرورية خاصة في إغناء الرصيد المصطلحاتي‬
‫الخاص بالتواصل العلمي المعرفي‪ ،‬فهو إذن ضرب من العقلنة في باطن منظومة أساسها ومنطلقها العتباط المحض‪،‬‬
‫لن مبعثه هو القتران العرفي الذي ل يلبث أن يتحول إلى إطراد معقول يأخذ اللغة من الحاجة إلى الكفاف ومن‬
‫التوحد الدللي إلى طواعية التكاثر فيصبح هذا التولّد المستمر ينبوعا في اللغة ل ينضب(‪ .)3‬إذن فمهمة المجاز تقوم‬
‫على أساس التحديد المفهومي للحقل الدللي إذ تستوعب اللغة المدلولت المستحدثة بتفجير طاقاتها التعبيرية الكامنة‬

‫() ‪…Introduction à la sémiologie, P 21. Dalila Morsly, Francois chevaldonne et autres‬‬ ‫‪1‬‬

‫() انظر ذلك ف كتاب‪ :‬دور الكلمة ف اللغة‪ :‬ستيفن أولن‪ ،‬ترجة كمال بشر‪ ،‬ص ‪ .161‬وكتاب‪ :‬علم اللغة‪ :‬د‪ .‬ممود السعران ص ‪.401 -388‬‬ ‫‪2‬‬

‫وكتاب‪ :‬دللة اللفاظ‪ .‬إبراهيم أنيس‪ ،‬ص ‪.155 -148‬‬


‫() د‪ .‬عبد السلم السدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.97 -96‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 153 -‬‬


‫القادرة على موازاة ما طرأ من جديد في عالم المفاهيم أو عالم الشياء‪ .‬يقول عبد السلم المسدي في ذلك‪[" :‬المجاز]‬
‫هو محرك الطاقة التعبيرية في ازدواجها بين تصريحية وإيحائية‪ ،‬بين طاقة موضوعة جدولية‪ ،‬وطاقة سياقية جافة‬
‫فمكمن المجاز استعداد اللغة لنجاز تحولت دللية بين أجزائها‪ ،‬يتحرك الدال فينزاح عن مدلوله ليلبس مدلولً قائما‬
‫أو مستحدثا‪ ،‬وهكذا يصبح المجاز جسر العبور تمتطيه الدوال بين الحقول المفهومية"(‪ .)1‬بهذا التنظير العلمي تنكشف‬
‫طبيعة النظام اللغوي وتتضح حركيته التي تغدو بعد حين تلقائية مطردة‪.‬‬
‫لقد كان هذا الوعي المعرفي الذي بلورته البحاث اللغوية الحديثة‪ ،‬أس تعامل علمائنا القدامى مع جميع صنوف‬
‫البحث الذي يتخذ اللغة العربية مادة أو وسيلة للدراسة‪ , ،‬ول عجب أن يطالعنا ابن رشد بمصطلح "التأويل" شارحا‬
‫أبعاده بقوله‪" :‬ومعنى التأويل‪ ،‬هو إخراج دللة اللفظ من الدللة الحقيقية إلى الدللة المجازية‪ ،‬من غير أن يخل في‬
‫ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الشياء‬
‫التي عددت في تعريف أصناف الكلم المجازي"(‪.)2‬‬
‫ويزداد اهتمام العلماء بدقة البحث مع اهتمام بحسن التأويل كما شرحه ابن رشد‪ ،‬كلما تعلق المر بالقرآن الكريم‬
‫واستنباط أحكامه وذلك لكمال نظامه اللغوي وانطوائه على النواميس المصرفة للكلم‪ ،‬وفي هذا المجال يبرز جمهور‬
‫الصوليين وقد امتلكوا وعيا معرفيا لغويا يحدوهم لن يتعاملوا مع نصوص القرآن الكريم تعاملً حذرا‪ ،‬آخذين في‬
‫سبيل تأويل دللته كل الدوات المناسبة وفي مقدمتها اللغة وطاقاتها التعبيرية‪ .‬وسننها في النشاء والقول‪ ،‬وتصانيف‬
‫الكلم التي من ضمنها‪ :‬الحقيقة والمجاز وما يتعلق بهما من أقسام‪ ،‬ومعايير ضابطة لطبيعتها‪ .‬وعلقة كل منهما‬
‫بالخر وغير ذلك مما هو مبسوط الكلم حوله في مداخل كتب الصوليين وفي ثناياها ومنها كتاب "الحكام" للمدي‪،‬‬
‫إذ فصل فيه القول حول ماهية الحقيقة والمجاز‪ ،‬وأقسامها‪ ،‬والمعايير المميزة لكل قسم وقد جر ذلك المدي إلى‬
‫الحديث عن بداءة السماء الشرعية هل هي حقيقة أم مجاز؟‪ .‬وعلقة الجزء بالكل وهل تكون الدللة الشرعية‪ ،‬عندئذ‪،‬‬
‫شاملة؟ وغير ذلك مما سنبرزه في موضعه من هذا المبحث‪.‬‬

‫‪-1‬ماهية الحقيقة وأقسامها‪:‬‬


‫يؤسس المدي تعريفه للحقيقة باعتبار مفهومها اللغوي‪ ،‬ذلك أنه بين المفهوم اللغوي لها والمفهوم الصطلحي‬
‫علقة ظاهرة‪ ،‬إذ الحقيقة في المفهوم العام تعني الصورة الثابتة للشيء في أذهان الناس‪ ،‬يجمع كلهم أو السواد العظم‬
‫منهم على أنها الحقيقة وهي نقيض الباطل أو الزيف وقولنا عن اللفظ أنه حقيقة يعني دللته أصلية فيه‪ ،‬ثابتة بالوضع‬
‫اللغوي الول يوضح المدي هذه المسألة بقوله‪( :‬أما الحقيقة) فهي في اللغة مأخوذة من الحق‪ ،‬والحق هو الثابت‬
‫اللزم‪ ،‬وهو نقيض الباطل‪ ،‬ومنه يقال حق الشيء حقه‪ ،‬ويقال حقيقة الشيء أي ذاته الثابتة اللزمة ومنه قوله تعالى‪:‬‬
‫(ولكن حقّت كلمة العذاب على الكافرين) أي وجبت‪ ،‬وكذلك قوله تعالى‪( :‬حقيق علي أن ل أقول) أي واجب عليّ"(‪.)3‬‬
‫أما مفهوم "الحقيقة" الصطلحي فيؤسسه المدي على اعتبار الوضع أو القتران العرفي بين الدال والمدلول‪ ،‬ولذلك‬
‫فالحقيقة كمبحث في اللغة هي من عوارض اللفاظ التي تخضع دللتها لتواضع عام "أوّلي" يخرج من حيز القوة إلى‬
‫ل في اللغة‪،‬‬
‫حيز الفعل‪ .‬يشرح ذلك المدي بقوله‪" :‬والحق في ذلك أن يقال‪ :‬هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أو ً‬

‫() عبد السلم السدي‪ :‬النواميس اللغوية والظاهرة الصطلحية‪ ،‬ص ‪ ،23‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪ ،31 -30‬سنة ‪.1984‬‬ ‫‪1‬‬

‫() فصل القام فيما بي الكمة والشريعة من التصال‪ :‬ص ‪.20 -19‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.26‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 154 -‬‬


‫كالسد المستعمل في الحيوان الشجاع العريض العالي‪ ،‬والنسان في الحيوان الناطق"(‪ .)1‬وواضح أن المدي قد وقف‬
‫من تعريفات الصوليين واللغويين للحقيقة في عصره‪ ،‬موقف المتحفظ متخذا بناء على ذلك تقسيمات للحقيقة الوضعية‬
‫إلى ثلثة أنواع وهي موضّحة فيما يأتي‪:‬‬
‫الحقيقة الوضعية‬

‫الحقيقة العرفية الحقيقة الشرعية‬ ‫الحقيقة اللغوية‬


‫ويخضع كل قسم حسب رأي المدي إلى طبيعة الواضع‪ ،‬فإذا كان صاحب الوضع هو اللغوي كانت الحقيقة‬
‫لغوية وإذا تعارف الناس واصطلحوا حول اقتران دال بمدلول كانت الحقيقة عرفية أما إذا كان الواضع هو الشارع‬
‫فإن الحقيقة هي حقيقة شرعية‪ ،‬وقد يخضع كل قسم إلى تفريع داخلي من ذلك تخصيص الحقيقة العرفية العامة ويتم‬
‫بتحويل دللة اللفظ من العموم إلى الخصوص‪ ،‬مثل ذلك لفظ (الدابة) كان في وضعه الول يدل على كل ما يدب على‬
‫الرض فحصل تخصيص محل دللته بأن أضحى يدل على ذوات الربع عرفا‪ .‬يقول المدي معرفا ذلك‪" :‬أن يكون‬
‫السم قد وضع لمعنى عام ثم يخصص بعرف استعمال أهل اللغة ببعض مسمياته‪ ،‬كاختصاص لفظ الدابة بذوات‬
‫الربع عرفا وإن كان في أصل اللغة لكل ما دب وذلك إما لسرعة دبيبه أو كثرة مشاهدته أو كثرة استعماله أو غير‬
‫ذلك"(‪ .)2‬وأطلق على هذا النوع من التغيّر الدللي "بتضيق المعنى" وذلك بتحويل اللفظ من الدللة الكلية إلى الدللة‬
‫الجزئية‪ ،‬أو من العموم إلى الخصوص‪ ،‬ثم هناك التحول في الدللة الناشئ عن ظاهرة الل مساس أو التلطف في‬
‫التعبير (‪ )Taboo‬فيحصل انزياح دللي للمعنى إذ يخضع إلى تعبير في مجاله مراعاة لمقتضى العرف الجتماعي‪.‬‬
‫يوضح المدي ذلك فيقول‪" :‬أن يكون السم في أصل اللغة بمعنى‪ ،‬ثم يشتهر في عرف استعمالهم بالمجاز الخارج عن‬
‫الموضوع اللغوي‪ ،‬بحيث أنه ل يفهم من اللفظ عند إطلقه غيره‪ ،‬كاسم الغائط‪ ،‬فإنه وإن كان في أصل اللغة للموضع‬
‫المطمئن من الرض‪ ،‬غير أنه قد اشتهر في عرفهم بالخارج المستقذر من النسان‪ ،‬حتى أنه ل يفهم من ذلك اللفظ‬
‫عند اطلقه غيره‪ ،‬ويمكن أن يكون شهرة استعمال لفظ الغائط في الخارج المستقذر من النسان‪ ،‬لكثرة مباشرته وغلبة‬
‫التخاطب به مع الستنكاف من ذكر السم الخاص به‪ ،‬لنفرة الطباع عنه‪ ،‬فكنوا عنه بلزمه أو بمعنى آخر"(‪.)3‬‬
‫إن التغير الدللي الذي يمس اللفظ بنقل دللته من مجال دللي إلى آخر أو بتقييدها‪ ،‬هل ذلك يخص اللفظ أم‬
‫الدللة أم العلقة بينهما؟ إن ذلك التغير الذي تنقل معه الدللة أو تضيق أو توسع‪ ،‬يمس أساسا البنية الدللية وتبقى‬
‫البنية اللسانية الصوتية تحتفظ بنمطها الصوري مع حصول تعديل في ماهية الدليل‪ ،‬ذلك أن العلقة بين الدال‬
‫والمدلول تخضع لنمطية أخرى تناظر التحول الناشئ في ماهية المرجع‪ ،‬فينشأ متكلم اللغة على نمطية جديدة في‬
‫تصريف الخطاب اللغوي وفق معايير قد تكون خفية فيبدو النظام اللغوي أصيلً في عناصره‪ ،‬وإن كان قد اعتراه‬
‫تغيير في عوالمه الدللية مع بقاء معجم الدلة دون تغيير‪.‬‬
‫هذه الحركية المستمرة التي تتسم بها المنظومة اللغوية‪ ،‬تنم عن الطابع الوظيفي الجتماعي للغة حيث يبقى‬
‫المتحكم في آليات الستعمال للمعجم اللغوي هو العرف الجتماعي الذي هو خلصة لتراكمات نفسية وثقافية متشابكة‪،‬‬
‫وهذا ما يتضح من تأكيد المدي على الصلة الوثيقة بين النظام اللغوي والعرف الجتماعي وذلك في تحديد ماهية‬

‫() الصدر السابق‪ .،‬ج ‪ .،1‬ص ‪.27‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.27‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.27‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 155 -‬‬


‫الدللة الحقيقية العرفية‪.‬‬
‫ويصل المدي إلى تعيين الدللة الشرعية بالعتماد على معيار التحول الدللي الناشئ عن نقل دللة اللفظ من‬
‫المجال اللغوي إلى المجال الشرعي‪ ،‬وتعني دللة السم التي وضعت أولً في الشرع وقد خصها الشارع بمحتوى‬
‫دللي أضحى يشكل صيغتها المعجمية إن سمعت أو قرأت تبادر إلى الذهن تلك الدللة الشرعية دون سواها يقول‬
‫المدي‪" :‬وأما الحقيقة الشرعية فهي استعمال السم الشرعي فيما كان موضوعا له أو ل في الشرع"(‪ .)1‬وإشارة‬
‫المدي إلى الدللة الشرعية يقود إلى الهتمام بالتطور الدللي الحاصل في بنية النظام اللغوي‪ ،‬إذ الحقيقة الشرعية ما‬
‫هي إل تكريس لعرف لغوي سائد أو خلصة لتراكمات لغوية دللية استقرت الصيغة اللغوية بعدها على دللة خاصة‪،‬‬
‫فل يمكن إذن أن نسلم بالوضع اللغوي الول للحقيقة الشرعية ولذلك يستطرد المدي ليقف على تحديد دقيق لماهية‬
‫الوضع الشرعي الول‪ ،‬خاصة وأنه استقر لدى كثير من أهل اللغة أن الدللة الشرعية ما هي إل امتداد محور لدللة‬
‫سابقة وليست دللة بالوضع الول‪ ،‬يفصل المدي الكلم في ذلك بقوله‪" :‬وسواء كان السم الشرعي ومسماه ل‬
‫يعرفهما أهل اللغة‪ ،‬أو هما معروفان لهم‪ ،‬غير أنهم لم يضعوا ذلك السم لذلك المعنى‪ ،‬أو عرفوا المعنى ولم يعرفوا‬
‫السم أو عرفوا السم ولم يعرفوا ذلك المعنى‪ ،‬كاسم الصلة…"(‪ )2‬هذه حالة أولى ذكرها المدي معللً نشأة الحقيقة‬
‫الشرعية‪ ،‬فقد يكون الدال ومدلوله مجهولين لدى أهل اللغة أصلً‪ ،‬أو يكون الدال مشهورا بمدلول فيأتي الشارع ليقيد‬
‫له مدلولً جديدا أو يكون المدلول معروفا بدون دال أو العكس‪ ،‬وبهذا الوصف تكون الدللة الحقيقية الشرعية دللة‬
‫أصلية بالوضع الول‪ ،‬فالقتران بين الدال ومدلوله كان باعتبار الواضع وهو الشارع…‬
‫أما الحالة الثانية التي يحدّدها الصوليون لنشأة الحقيقة الشرعية‪ ،‬فتبدو الدللة فيها محوّلة منقولة عن وضع‬
‫لغوي أول‪ ،‬وذلك على اعتبار أن يكون أهل اللغة قد عرفوا الحقيقة الشرعية بمعرفة اللفظ والمعنى إل أنهم عرفوا‬
‫اللفظ بمفرده دون معناه الشرعي‪ ،‬أو عرفوا المعنى الشرعي دون لفظه الصلي‪ ،‬وتعد الحقيقة الشرعية بهذا الوصف‬
‫من قسم المنقول الذي قال عنه العلماء الصول أنه المعنى اللغوي الذي نقل إلى المعنى الشرعي أو العرفي‪ .‬وبعد هذه‬
‫التفريعات التي أقام على أساسها المدي تقسيم "الحقيقة" يخلص إلى تعريف جامع مانع للدللة الحقيقية ويربطها بالفعل‬
‫الجرائي المتمثل في الستعمال لقصد التخاطب فيقول‪" :‬وإن شئت أن تجد الحقيقة على وجه يعم جميع هذه‬
‫العتبارات قلت‪" :‬الحقيقة هي اللفظة المستعملة فيما وضع له أولً في الصطلح الذي به التخاطب"‪ .‬فإنه جامع‬
‫مانع"(‪.)3‬‬

‫‪-2‬ماهية المجاز‬
‫يستهل المدي مبحثه حول المجاز بالتعريف اللغوي الذي يعنى النتقال من حال إلى حال‪ ،‬أي تجوز اللفظ‬
‫لدللته الصلية إلى دللة جديدة‪ ،‬فالدللة الولى هي الدللة الحقيقية والدللة الثانية هي الدللة المجازية‪ .‬فيقول‬
‫المدي‪" :‬وأما المجاز فمأخوذ في اللغة من الجواز‪ ،‬وهو النتقال من حال إلى حال ومنه يقال جاز فلن من جهة إلى‬
‫جهة كذا"(‪ .)4‬ولما كان المجاز تابعا للحقيقة وكانت الحقيقة تقسّم إلى لغوية وعرفية ووضعية وشرعية‪ ،‬كان المجاز في‬
‫التقسيم تابعا كذلك للحقيقة‪ ،‬ول تنفصم عرى التصال بين دللة اللفظ الحقيقية ودللته المجازية بل يبقى رباط خفي‬
‫() الصدر نفسه ج ‪ ،1‬ص ‪.27‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.27‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.28‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.28‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 156 -‬‬


‫دقيق يصل الدللتين ولذلك ل يتسنى لمتكلم أن يستعير لفظا هو جار مجرى المجاز‪ ،‬في الحقل الذي يريد اقتراضه‬
‫منه فمستعار المستعار متعذر ول سبب لتعذره إل كونه فاصما لذلك السلك المعقود الضامن لوصول الرسالة الدللية‬
‫من طرف باث إلى طرق متقبل(‪ ،)1‬فالتعلق كما يسميه المدي أساس الستعمال اللغوي السليم للمجاز وهو الجسر‬
‫الصلب الذي يتم عبره النقل الدللي‪ ،‬دونما لبس أو تعقيد‪ .‬يشرح المدي هذه المسألة فيقول‪" :‬وعند هذا نقول‪ :‬من‬
‫اعتقد كون المجاز وضعيا‪ ،‬قال في حد المجاز في اللغة الوضعية‪" :‬هو اللفظ المتواضع على استعماله من غير ما‬
‫ل في اللغة‪ ،‬لما بينهما من التعلق‪ ،‬ومن لم يعتقد كونه وضعيا‪ ،‬أبقى الحد بحاله وأبدل المتواضع عليه‬ ‫وضع له أو ً‬
‫بالمستعمل"(‪ .)2‬ثم يحدد المدي وضعين مختلفين للمجاز‪ ،‬أولهما أن اللفظ المجاز يتواضع على استعماله أهل اللغة‬
‫فيجرونه بينهم ويدخلونه في نظام تعاملهم اللغوي‪ ،‬وثاني الوضعين هو استعمال اللفظ في مجال دللي جديد بمعنى نقل‬
‫دللة اللفظ الصلية إلى دللة مجازية إما بالعرف العام أو بالعرف الخاص‪ .‬ويؤكد المدي على الوظيفة الدللية التي‬
‫يناط بها اللفظ المجاز وهي وظيفة التواصل والبلغ فيقول في تعريف المجاز‪" :‬هو اللفظ المتواضع على استعماله أو‬
‫المستعمل في غير ما وضع له أولً في الصطلح الذي به المخاطبة لما بينهما من التعلق"(‪ .)3‬فالمجاز من وجهة نظر‬
‫المدي طريق من طرق التوليد في النظام اللغوي‪ ،‬فما دام اللفظ الحقيقة ل يمكنه التعبير عن كل أغراض المجتمع‬
‫احتيج إلى هذا التوليد المتمثل في الدللة المجازية‪ ،‬ثم إن نظام اللغة يتمدد عبر المكان (المقام) والزمان (الحال) ليوائم‬
‫كل التحولت والتغيرات التي تطرأ على بنية المجتمع فيعبر عن حاجاته اللغوية أو النفسية أو الجتماعية الثقافية‪،‬‬
‫وذلك بخلق أنظمة إبلغية جديدة ما تلبث أن تصبح محل تعارف واصطلح بين أفراد المجتمع اللغوي‪.‬‬
‫وقد تقادم الستعمال المجازي حتى ينسى أصل دللته الحقيقية ويعامل معاملة اللفظ الحقيقة‪ ،‬ولذلك قد يلتبس في‬
‫أمر دللة اللفظ أمجازية هي أم حقيقية؟ فينبري المدي أمام انتقاص مخالفيه للحد الذي عرف به المجاز‪ ،‬ويحاول أن‬
‫يعطي لتعريفه طابع الشمولية‪ ،‬إذ اعتبر بعض اللغويين ألفاظا مجازا عدها المدي حقيقة أو العكس من ذلك ما قال به‬
‫أهل اللغة في لفظ (الدابة) الذي حصل في دللته تضييق حيث خصص للدللة على ذوات الربع فعد مجازا مع أنه‬
‫مستعمل في ما وضع له أولً –كما قال المدي‪ -‬لدخول ذوات الربع في الدللة الصلية‪ ،‬فير ّد المدي على هذا‬
‫الزّعم بتمييزه بين الدللة المطلقة للفظ والدللة المقيدة فيقول‪" :‬فإن كان لفظ الدابة حقيقة في مطلق دابة‪ ،‬فاستعماله في‬
‫ل له في غير ما وضع له أولً"(‪.)4‬‬‫الدابة المقيدة على الخصوص يكون استعما ً‬

‫‪-3‬معايير الحقيقة والمجاز‬


‫يتخذ المدي‪ ،‬من مؤاخذات العلماء له‪ ،‬في حدّه المجاز لرساء معايير تمييزية بين الدللة الحقيقية للفظ والدللة‬
‫المجازية‪ ،‬فما ل يمكن نفيه من السم فهو حقيقة فيه أما ما يمكن نفيه فهو مجاز يقول المدي‪" :‬والحقيقة العرفية وإن‬
‫كانت حقيقة بالنظر إلى تواضع أهل العرف عليها فل تخرج عن كونها مجازا بالنسبة إلى استعمال اللفظ في غير ما‬
‫وضع له أولً‪ ،‬ول تناقض‪ ،‬وإذا عرف معنى الحقيقة والمجاز‪ ،‬فمهما ورد لفظ المعنى‪ ،‬وتردد بين القسمين‪ ،‬فقد‬
‫يعرف كونه مجازا بصحة نفيه في نفس المر ويعرف حقيقة بعدم ذلك"(‪ .)5‬وتلك إشارة إلى الصعوبة اللغوية التي‬

‫() د‪ .‬عبد السلم السدي… اللسانيات وأسسها العرفية‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام ج ‪ .1‬ص ‪.28‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪.28‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.29‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.30‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 157 -‬‬


‫تكتنف عملية التخاطب على مستوى الصوت أو مستوى الكتابة‪ ،‬بحيث قد يتواضع أهل اللغة على الدللة الحقيقية للفظ‬
‫ل لدللة‬
‫ثم يستعمل هذا اللفظ للدللة على غير ما وضع له أولً‪ ،‬إما توسيعا في الدللة الصلية‪ ،‬أو تضييقا فيها‪ ،‬أو نق ً‬
‫مجازية لها صلة بالدللة الصلية‪ .‬ويمثل المدي لذلك بقوله‪" :‬ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن يسمى من الناس حمارا‬
‫لبلذته أنه ليس بحمار‪ .‬ول يصح أن يقال ليس بإنسان في نفس المر لما كان حقيقة فيه"(‪ .)1‬إن التعلق بين الدللة‬
‫الحقيقية والدللة المجازية للفظ‪ ،‬تحفظ دوما طبيعة الوضع (الستثنائي) الذي اتخذته اللغة‪ ،‬لن قيمة الدللة المجازية‬
‫في كل الحوال ليست في نفس مرتبة قيمة الدللة الحقيقية خاصة ما تعلق منها بنصوص مقدسة كنصوص القرآن‬
‫الكريم‪ .‬وإذا ما حدث أن أنبتت الصلة بين الدللة الحقيقية والدللة المجازية‪ ،‬كان وضع الدللة المجازية ابتداءً أي‬
‫وضعا مستحدثا يلحق بالمشترك اللفظي‪.‬‬
‫يقول المدي شارحا ذلك‪" :‬وبقولنا‪" :‬لما بينهما من التعلق" لنه لو لم يكن كذلك‪ .‬كان ذلك الستعمال ابتداء وضع‬
‫آخر‪ ،‬وكان اللفظ مشتركا ل مجازا"(‪ .)2‬إن سيرورة الحركة الجدلية في استعمال اللغة تجعل المجاز يعرف تحولت‬
‫على مستوى الحقل المفهومي وعلى مستوى البنية العامة فيتم تحويل اللفظ المجاز مع تعاقب الستعمال إلى لفظ ذي‬
‫دللة حقيقية‪ ،‬قابل لن يدخل هو الخر في مفاعلت اللغة بقصد إفراز وتوليد دللت مجازية‪ ،‬وقد اشتهر ابن جني‬
‫بقوله في شأن المجاز أن أكثر اللغة مجاز ل حقيقة‪ ،‬يقول عبد السلم المسدي‪" :‬فالمجاز يتفاعل مع الستعمال على‬
‫مر الزمن فيؤول إلى تواتر بحيث إذا اقترن المجاز مع عامل الزمن اضمحلت الصيغة المجازية منه وحلت محلها‬
‫الصيغة المصطلحية"(‪.)3‬‬
‫ل على معيار الثبات والنفي الذي اعتمد عليه المدي في تفسير الشكال الناشئ من صعوبة التمييز بين‬ ‫فض ً‬
‫الدللة الحقيقية والدللة المجازية‪ ،‬يضيف المدي معايير أخرى منها‪ ،‬معيار النتشار لدللة اللفظ الحقيقية‪ ،‬بحيث إذا‬
‫ما أطلق اللفظ تبادرت إلى الفهم دللته وأبعدت الدللة المجازية‪ ،‬يوضح المدي ذلك بقوله‪" :‬ومنها أن يكون المدلول‬
‫مما يتبادر إلى الفهم من إطلق اللفظ من غير قرينة مع عدم العلم بكونه مجازا‪ ،‬بخلف غيره من المولدات‪ ،‬فالمتبادر‬
‫إلى الفهم هو الحقيقة‪ ،‬وغيره هو المجاز(‪ .")4‬ويفهم من قول المدي أن اللفظ المجاز قد يأخذ حكم الحقيقة إذا شاع‬
‫استعماله‪ ،‬وجرى في اللسنة‪ ،‬لن النظام اللغوي نظام متجدد متغير ل تثبت فيه إل النواميس والمعايير الخفية أما‬
‫المادة اللغوية ودللتها فهي آيلة مع مرور الزمن للتغيير والتطور وهذه سمة في كل اللغات‪.‬‬
‫ويورد المدي معيارا آخر للتمييز بين دللة اللفظ الحقيقية ودللته المجازية‪ ،‬ويحصره في "عدم الطراد في‬
‫مدلول اللفظ" وانحصاره في دائرة ضيقة من الستعمال يقول في ذلك‪" :‬ومنها أن يكون اللفظ مطردا في مدلوله‪ ،‬مع‬
‫(‪)5‬‬
‫عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الطراد‪ ،‬وذلك كتسمية الطويل نخلة إذ هو غير مطرد في كل طويل" ‪.‬‬
‫والمدي ل يرى أن الطراد في دللة اللفظ هو بالضرورة مدلول حقيقي بل إن عدم الطراد هو الملمح على أن‬
‫مدلول اللفظ مجازي‪ ،‬ولقد انبرى المدي يفند بعض الشكالت التي أثارها بعض اللغويين مدعين أن حد المدي‬
‫لمعيار الطراد ليس شاملً لكل الصيغ التعبيرية في اللغة العربية‪ ،‬فقد وجد أن اسم (السخي) حقيقة في القرآن الكريم‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.30‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.29‬‬ ‫‪2‬‬

‫() النواميس الشعرية والظاهرة الصطلحية‪ ،‬ص ‪ ،23‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪.1984 /31 -30‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.30‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.31‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 158 -‬‬


‫وهذا المدلول موجود في حق ال تعالى ول يقال له سخي‪ ،‬كما أن القارورة سميت كذلك لستقرار المائعات فيها ومع‬
‫أن الجرة والكوز تستعمل لذلك ولكن ل تسمى قارورة‪ .‬ولكن المدي كان قد وضع ضوابط في كلمه عن "الطراد"‬
‫الذي هو ملمح الدللة الحقيقية للفظ وأشار إليها بقوله‪" :‬مع عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الطراد(‪.")1‬‬
‫أما المعيار الرابع الذي اعتمده المدي لتمييز الحقيقة من المجاز في دللة اللفظ هو معيار صوري يستند على‬
‫البنية الصرفية للفظ‪ ،‬فاللفظ المجاز جمعه مخالف لجمع اللفظ الحقيقية مع حصول تعارف بين أهل اللغة يفضي إلى‬
‫كون اللفظ حقيقة في غير المدلول المذكور‪ .‬يقول المدي‪" :‬ومنها أن يكون السم قد اتفق على كونه حقيقة في غير‬
‫المسمى المذكور‪ .‬يقول المدي‪" :‬ومنها أن يكون السم قد اتفق على كونه حقيقة في غير المسمى المذكور وجمعه‬
‫مخالف لجمع المسمى المذكور فنعلم أنه مجاز فيه"‪ .‬من ذلك لفظ (أمر فإن جمعه على جهة الحقيقة (أوامر) ومن جهة‬
‫الفعل (المجاز) (أمور)‪ ،‬لكن هذا القيد قد يكون سببا لشكالت تعبيرية خاصة وأن اللغة مفتوحة دوما على أنظمة‬
‫إبلغية جديدة‪ ،‬قد تأسست على ظاهر لغوية مختلفة كالنقل والحذف والتعويض والختصار وما إلى ذلك‪ ،‬فكان اعتماد‬
‫معيار (الجمع) عند المدي للتفريق بين الدللة الحقيقية للفظ ودللته المجازية‪ ،‬ل يرتقي إلى الداة العلمية الدقيقة التي‬
‫ل تتعطل معها حركية اللغة بتفاعلها مع المقام والحال‪ .‬أما المعيار الخامس فيؤسسه المدي على اعتبار وجود القرينة‬
‫المانعة من إيراد الدللة الحقيقية‪ ،‬فالصل في اللفظ الطلق وهو ملمح على دللته الحقيقية‪ .‬يشرح المدي هذا المر‬
‫بقوله‪" :‬ومنها أن يكون قد ألِف من أهل اللغة أنهم إذا استعملوا لفظا بإزاء معنى أطلقوه إطلقا‪ ،‬وإذا استعمله بإزاء‬
‫غيره قرنوا به قرينة فيدل ذلك على كونه حقيقة فيما أطلقوه مجازا في الغير(‪.)2‬‬
‫ومن مظاهر الحيوية والحركية في النظام اللغوي‪ ،‬القدرة على الختزال في الطاقة التعبيرية دون إخلل بالوظيفة‬
‫البلغية‪ ،‬وينشأ ذلك من إقصاء بعض عناصر التعبير مع البقاء على أدائهم السنادي وهذا ما يدخل في (القتصاد‬
‫اللغوي) الذي يرمي إليه كل نظام لغوي‪ ،‬والمجاز يؤدي وظيفة أساسية في تكريس مبدأ الختزال اللغوي‪ ،‬إذ تُعرف‬
‫الدللة المجازية للفظ إذا أسندت إليه الصفة أو الحكم إسنادا‪ ،‬يفهم من خلله أنه لمتعلق آخر علقته بالصفة أو الحكم‬
‫علقة حقيقية من ذلك قولنا (الرحمة تغمر أهل الجنة) فللرحمة متعلق آخر هو ال تعالى‪ ،‬الرحمن‪ ،‬فكانت دللة‬
‫الرحمة ها هنا دللة مجازية يقول المدي موضحا هذه الفكرة‪ ،‬ومشيرا إلى معيار آخر لتمييز الدللة الحقيقية من‬
‫الدللة المجازية‪" :‬ومنها أنه كان اللفظ حقيقة في معنى ولذلك المعنى متعلق‪ ،‬فإطلقه بإزاء ما ليس له ذلك المتعلق‬
‫يدل على كونه مجازا فيه‪ ،‬كإطلق اسم القدرة على الصفة المؤثرة في اليجاد‪ .‬فإن لها مقدور"(‪.)3‬‬
‫وإذا عدنا إلى أصل الوضع الول لنقف على مبدأ تطور اللفظ مع دللته‪ ،‬أيمكن أن نسمي ذلك اللفظ حقيقة أو‬
‫مجازا؟ يرسي المدي في تفسير هذا الشكال اللغوي قاعدة عامة في مبحث الحقيقة والمجاز‪ ،‬وذلك بالوقوف على‬
‫ماهية اللفظ قبل الوضع حيث تنتفي عنه صفة الحقيقة وبالتالي صفة المجاز‪ ،‬ويعني ذلك أن اللفظ ل يزال (خاما) ولم‬
‫يدخل في تفاعل حركي مع النظام اللغوي المفتوح على حاجات أهل اللغة المتجددة‪ ،‬فأسماء العلم‪ ،‬وآلت أرباب‬
‫الحرف المخترعة‪ ،‬وأدوات أهل الصناعة والزراعة المستحدثة وغيرها‪ ،‬ل يمكن أن تكون ذات دللت حقيقية لنها‬
‫لم تَلِج بعد مجال الستعمال اللغوي‪.‬‬
‫يوضح المدي هذه المسألة بقوله‪" :‬فاللفاظ الموضوعة أولً في ابتداء الوضع في اللغة ل توصف بكونها حقيقة‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.33‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.33‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 159 -‬‬


‫ول مجازا‪ ،‬وإل كانت موضوعة قبل الوضع وهو خلف العرض وكذلك كل وضع ابتدائي حتى السماء المخترعة‬
‫لرباب الحرف والصناعات لدواتهم وآلتهم وإنما تصير حقيقة ومجازا باستعمالها بعد ذلك"(‪ .)1‬ويلحق بذلك أسماء‬
‫العلم‪ ،‬لن الحقيقة هي استعمال اللفظ في ما وضع له أولً‪ ،‬والمجاز في غير ما وضع له أولً‪ ،‬ويقتضي ذلك أن‬
‫اللفاظ قبل التواضع ليست حقيقة ول مجازا‪ ،‬يقول المدي في ذلك‪" :‬وتشترك الحقيقة والمجاز في امتناع اتصاف‬
‫أسماء العلم بها‪ :‬كزيد وعمرو"(‪ .)2‬إذن فأساس التصنيف الذي يقوم عليه بناء الحقل المفهومي للحقيقة من جهة‬
‫وللمجاز من جهة ثانية‪ ،‬هو الستعمال الذي هو نقطة تقاطع القدرة البلغية مع القدرة النشائية البداعية في اللغة‬
‫لتحصل معهما الوظيفة التوليدية‪ ،‬ومع تواتر الدللة (الوليدة) مع عرف الستعمال اللغوي تكتسب صفة الحقيقي التي‬
‫تكون مؤهلة هي الخرى للتوليد مع مراعاة شروط التواضع والصطلح‪ ،‬فل تكفي العلقة بين المعنى الحقيقي‬
‫والمعنى المجازي في إطلق السم على جهة المجاز‪ ،‬وإنما يؤكد المدي على ضرورة حصول تعارف أهل اللغة‬
‫على صحة نقل الدللة من مجال الحقيقة إلى مجال المجاز‪ ،‬وتكون حينئذ دللة المجاز عرفية‪ ،‬يقول المدي في‬
‫وجوب حدوث تواضع لنقل الدللة‪" :‬وهو أن تنص العرب نصا كليا على جواز إطلق السم الحقيقي على كل ما كان‬
‫بينه وبينه علقة منصوص عليها من قبلهم‪ ،‬كما بيناه‪ ،‬ول معنى للمجاز إل هذا‪ ،‬وهو غير خارج عن لغتهم"(‪.)3‬‬
‫ويعطي المدي لمبدأ التواضع اللغوي‪ ،‬صفة المعيار الذي يسمح عن طريقه انتقال اللفظ إلى المعجم العربي‪ ،‬ذلك أن‬
‫اللفظ قبل أن يتواضع عليه أهل اللغة العربية لم يكن عربيا وإنما أضحى كذلك بحصول التواضع فألصقت به دللت‬
‫عربية‪ .‬يوضح ذلك المدي فيقول‪" :‬وذلك لن كون اللفظ عربيا ليس لذاته وصورته بل لدللته على ما وضعه أهل‬
‫اللغة بإزائه‪ .‬وإل كانت جميع ألفاظهم قبل التواضع عليها عربية وهو ممتنع"(‪ .)4‬فاللفظ إذن ل يكتسب عربيته بالنظر‬
‫إلى بنيته المعجمية فحسب وإنما كذلك بالنظر إلى دللته‪ ،‬وتلك إشارة من المدي إلى أن النظام اللغوي نظام قوامه‬
‫الدللة التي تصرف بحسب تواضع أهل اللغة‪ ،‬وهي إشارة لها قيمتها المعرفية خاصة إذا عرفنا أن الهتمام بشأن‬
‫الدللة في اللغة لم ينشأ إل حديثا‪ ،‬ذلك أن المشتغلين في الحقل اللساني أعطوا جل اهتمامهم للجانب الفونولوجي‬
‫والمورفولوجي للغة وكانت الدللة في أبحاثهم تمثل الجانب الهزيل‪ ،‬وقد يستبد ببعض اللغويين رأيهم وهم عاجزون‬
‫على تصريف أنماط الكلم العربي تصريفا ل يلغي بعضه البعض‪ ،‬فقد يذهبون إلى الدعوة إلى الستغناء عن المجاز‬
‫ويستصغرون قيمته لنه ل يفيد معنى إل مع وجود قرينة صارفة‪.‬‬
‫وهم ل يريدون أنهم بدعوتهم تلك يسعون إلى أن تكون اللغة العربية عقيما عاجزة عن البداع والتوليد الدللي‪،‬‬
‫يغضون الطرف عن الفوائد الكثيرة التي يحققها المجاز يوضح المدي تلك الفوائد فيقول‪:‬‬
‫"إن الفائدة في استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقي‪ ،‬قد تكون لختصاصه بالخفة على اللّسان‪ ،‬أو لمساعدته في‬
‫وزن الكلم نظما ونثرا‪ ،‬والمطابقة‪ ،‬والمجانسة والسجع‪ ،‬وقصد التعظيم والعدول عن الحقيقي للتحقير إلى غير ذلك‬
‫من المقاصد المطلوبة في الكلم"(‪ .)5‬ويمكن إيجاز تلك الفوائد التي نص عليها المدي في‪ :‬الفوائد الصوتية‪ ،‬والفوائد‬
‫الجمالية‪ ،‬والفوائد الدللية‪ .‬ومن تلك الفوائد التي تتحقق مع المجاز اللغوي هو اليجاز في الكلم فقد يعبر بالجزء‬
‫ويراد به الكل‪ ،‬أو العكس صحيح أيضا‪ ،‬ومدار الجمع بين الكل والجزء في الكلم مع إضمار أحدهما في التعبير‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.34‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه ج ‪ ،1‬ص ‪.33‬‬ ‫‪2‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.53‬‬ ‫‪3‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.36‬‬ ‫‪4‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.46‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪- 160 -‬‬


‫أساسه المشاركة في المعنى‪ ،‬أما إذا انتفت المشاركة انتفت العلقة بين الدللة الحقيقية للفظ والدللة المجازية‪ ،‬وكان‬
‫كل وضع للفظ ابتداء‪ .‬يشرح ذلك المدي فيقول‪" :‬فإن جزء الشيء إذا شارك كله في معناه كان مشارك له في اسمه‪،‬‬
‫ولهذا يقال إن بعض اللحم لحم وبعض العظم عظم وبعض الماء ماء‪ ،‬لشتراك الكل والبعض في المعنى المسمى بذلك‬
‫السم‪ ،‬وإنما يمتنع ذلك فيما كان البعض فيه غير مشارك للكل في المعنى المسمى بذلك السم‪ ،‬ولهذا ل يقال‪ :‬بعض‬
‫العشرة عشرة وبعض المائة مائة وبعض الرغيف رغيف‪ ،‬وبعض الدار دار إلى غير ذلك"(‪ .)1‬وهذه المسألة ذات‬
‫أهمية كبيرة إذا نظرنا إليها من زاوية إجراء الحكم على جميع عناصر اللفظ الكلي‪ ،‬كما إذا أطلقنا على القرآن الكريم‬
‫صفة "العربي" كما سماه ال تعالى مع أنه تضمن ألفاظا غير عربية فسمى ذلك المدي "تخصيص السم ببعض‬
‫مسمياته في اللغة" وقال بأن إطلق السم العربي على القرآن الكريم مجازا ل حقيقة‪ ،‬وإن كان بعض اللغويين‬
‫والفقهاء قد خالفوا المدي في رأيه معتبرين أن القرآن الكريم قد أجرى الصيغ الدخيلة مجرى الصيغ العربية فكانت‬
‫بذلك عربية‪ ،‬وأزال أعجميتها‪.‬‬
‫وبنظرية عامة يفصح المدي عن المكانية المطلقة لثراء الرصيد اللغوي‪ ،‬ذلك أن اعتباطية العلقة بين الدال‬
‫والمدلول‪ ،‬تنسحب على ظاهرة المجاز‪ ،‬لن ذلك يعد اصطلحا داخل اصطلح كما أنه اعتباط داخل اعتباط وهو ما‬
‫ل عن دللته الحقيقية‪ ،‬يقول المدي في ذلك‪:‬‬ ‫يسمح عن طواعية‪ ،‬بالقتران العرفي بين اللفظ ودللته المجازية فض ً‬
‫"فإن دللت السماء على المعاني ليس لذواتها‪ ،‬ول السم واجب للمعنى‪ ،‬بدليل انتفاء السم قبل التسمية‪ ،‬وجواز إبدال‬
‫اسم البياض بالسواد في ابتداء الوضع‪ ،‬وكما في أسماء العلم‪ ،‬والسماء الموضوعة لرباب الحرف والصناعات‬
‫لدواتهم وآلتهم"(‪ .)2‬فالدال ل يستمد معناه وقيمته الدللية من بنيته الصوتية‪ ،‬وإنما العوالم الدللية مفتوحة على العوالم‬
‫اللسانية‪ ،‬مما يفسر إمكانية تحريك الطاقة التعبيرية في اللغة‪ ،‬لنشاء أنماط كلمية تكون مبنية على أساس القتران‬
‫التعسفي‪ ،‬وهو أمر جار في المجاز باعتباره امتدادا في الدللة لحقل الحقيقة‪ .‬يقول عبد السلم المسدي‪" :‬يمد المجاز‬
‫أمام ألفاظ اللغة جسورا وقتية تتحول عليها من دللة الوضع الول‪ ،‬إلى دللة الوضع الطارئ‪ ،‬ولكن الذهاب والياب‬
‫قد يبلغان حدا من التواتر يستقر به اللفظ في الحقل الجديد فيقطع عليه طريق الرجوع"(‪.)3‬‬
‫ويدخل اللفظ بعد ذلك في حقل الحقيقة وبواسطة تواتر الستعمال يتقادم ذلك الخيط الذي كان يصله بوضعه‬
‫الول ويمد هو جسرا ليعقد علقة تنتقل عبرها دللته إلى حقل المجاز‪ ،‬ليبرز من خلل هذا التشكل المستمر‪ ،‬الطابع‬
‫الوظائفي للغة في تزاوج نظامها التواصلي وطبيعة مكوناتها الدللية القائمة على مبدأ الستيعاب والتماثل لصنوف‬
‫النساق الكلمية التي يقتضيها الموقف الخطابي‪.‬‬
‫إن القتران التعسفي بين الدال والمدلول كما قررته البحاث اللسانية الحديثة –وأشار إليه المدي قبل ذلك‪،-‬‬
‫يعطي للنظام اللغوي طابع المرونة والتمدد قصد احتواء ما ج ّد من أنساق دللية‪ ،‬وفي الوقت ذاته يجعل من حصول‬
‫القتران العرفي الذي يشرف عليه أهل اللغة يمتد عبر زمن ليحصل التواتر اللزم‪ ،‬وفي ضوء هذه الفكرة يرد‬
‫المدي على الذين أنكروا حداثة السماء الشرعية وبذاءة دللتها‪ ،‬متعللين بعدم حصول الفهم من قبل المكلفين‪ ،‬ذلك‬
‫لن الشارع لم يطلعهم على حيثيات النقل الذي تم به تغيير في دللة السماء الشرعية‪ .‬يقول المدي‪" :‬قوله التفهيم‪،‬‬
‫إنما يكون بالنقل ل نسلم‪ ،‬وما المانع أن يكون تفهيمهم بالتكرير والقرائن المتضافرة مرة بعد مرة‪ ،‬كما يفعل الوالدان‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.37‬‬ ‫‪1‬‬

‫() الصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.39‬‬ ‫‪2‬‬

‫() النواميس اللغوية والظاهرة الصطلحية‪ ،‬ص ‪ ،23‬ملة الفكر العرب العاصر‪ ،‬عدد ‪ 30/31‬سنة ‪.1984‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫بالولد الصغير‪ ،‬والخرس في تعريفه لما في ضميره لغيره بالشارة"(‪ .)4‬وفي ذلك اهتمام من المدي بخصوص‬
‫ل من‬ ‫استحداث اللفاظ وتعليقها بدللة قديمة أو العكس‪ ،‬أو توليد صيغ جديدة بدللتها‪ ،‬فالقتران العرفي يتخذ أشكا ً‬
‫التواضع منها التكرار وهو ما اصطلح على تسميته بتواتر الستعمال‪ ،‬إذ يقذف اللفظ الجديد ليدخل في تفاعل مع‬
‫عناصر النظام اللغوي حتى يشيع استعماله وتثبت دللته في الذهان‪ .‬ثم هناك القرائن المتضافرة التي تأخذ تعليم اللفظ‬
‫الجديد وتوسيع دائرة استعماله عن طريق المشابهة والمجاورة والمشاكلة والتمثيل‪ ،‬وهي أساليب تُعتمد في تلقين‬
‫الطفال الصول الولى للكلم القائم على التدريج والتدريب‪ .‬والمر الذي يجدر بيانه في هذا المقام هو طبيعة القناة‬
‫البلغية التي يتخذها الخرس قصد تواصله مع المجتمع اللغوي‪ ،‬وقد اختصرت لغته في نظام علمي يقوم على‬
‫أساس الرمز والشارة‪ .‬ويكون المدي قد تجاوز في اهتماماته اللغوية المنحى الدللي الذي يخص العلمة اللسانية إلى‬
‫منحى أشمل يعنى بالعلمة في مفهومها الواسع‪ ،‬لسانية كانت أم غير لسانية وهو ما أضحى يعرف في الدراسات‬
‫اللغوية الحديثة" بالسيمياء (‪ ، )la semiologie‬وإذا أردنا أن نعطي لحديث المدي عن لغة الخرس أبعادا لسانية‬
‫للفيناها تصب في مبحث لساني حديث تناول ضمنه اللسنيون العاقات الكلمية التي تحول دون تشكيل المقول‬
‫الدللي في بنى كلمية‪ ،‬والتي ترجع بسبب ذلك إلى أمراض عصبية ذات تأثير لساني اصطلح على تسميتها‬
‫(بالعصب‪ -‬ألسني) (‪ ،)Neurolinguistique‬والخلل يكمن في الداء الكلمي مع وجود الكفاية اللغوية وهي المعرفة‬
‫الضمنية بقواعد ونظام اللغة‪ ،‬وهو ما يجعل الخرس أو الذي يعاني أمراضا في النطق يهتدي إلى أنساق دللية يبلغها‬
‫عن طريق الكتابة أو الشارة‪ ،‬قد ل يهتدي إليها من أوتي نطقا صحيحا وقادرا على الداء الكلمي السليم‪.‬‬
‫وجملة القول أن مبحث الحقيقة والمجاز عند المدي‪ ،‬يمثل جانبا خصبا في جهوده الدللية‪ ،‬وقد أبان من خلله‬
‫عن منهج مكتمل في بلورة مفاهيمه النظرية في تشكل أنماط إجرائية تبرز المنظومة اللغوية من خلله ذات طاقة‬
‫تعبيرية ل متناهية قادرة على التوليد لتشاكل النساق الدللية المستحدثة‪ .‬وبوضعه للمعايير المميزة للحقل المفهومي‬
‫لكل من الحقيقة والمجاز يكون المدي من اللغويين النوادر الذين حاولوا أن يؤطروا التحولت الحاصلة في صلب‬
‫النظام اللغوي حتى يبقى مظهرا على سلمة البنى النسقية التي تتمثل في سعة الكفاية الضمنية في اللغة وطاقاتها‬
‫الستيعابية لمجمل الحاجات اللغوية‪ ،‬وبقدر ما يؤدي المجاز من وظائف هامة في المنظومة اللغوية‪ ،‬له من الفوائد‬
‫كذلك ما يجعله يقترن باستحداث سمات نوعية على مستوى الكلم‪ ،‬لخصها المدي في الوظيفة الجمالية الفنية التي‬
‫عندها يصبح المجاز أداة بيد النسان في خلق البنية الفنية انطلقا من بنية لغوية مشاعة بين أهل اللغة‪ ،‬ثم هناك‬
‫الوظيفة الصوتية المتمثلة في النزوع نحو خفة النطق مع البحث عن القتصاد في الكلم‪ ،‬أما الوظيفة الدللية فهي‬
‫أساس ما يضطلع به المجاز وهو صنو الوظيفة البلغية التواصلية مع زيادة في السمة النوعية على مستوى الخطاب‬
‫اللغوي‪.‬‬
‫إن أهمية ما تقدم به المدي في هذا المبحث‪ ،‬يكمن في إرساء قواعد علمية تخص مبدأ التولد الدللي‪ ،‬ويمكن‬
‫استثمار ذلك في وضع المصطلحات العلمية‪ ،‬وفي تلقين ما استحدث في نظام اللغة من عناصر وعلمات لسانية لهل‬
‫اللغة‪ ،‬توسيعا لنطاق التخاطب وإذاعة للمفاهيم الجديدة‪.‬‬

‫خاتمة البحث‪:‬‬
‫ليس من المبالغة في شيء‪ ،‬إذا جزمنا أن المدي في كتابه "الحكام" قد أرسى نظرية علمية بينة المعالم‪ ،‬واضحة‬

‫() الحكام ف أصول الحكام‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.36‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 162 -‬‬


‫المقاصد‪ ،‬تتناول اللغة في شموليتها وأبعاد دللتها‪ .‬وقد ساهمت آراؤه في بلورة مفاهيم دللية لم نطلع عليها إل في‬
‫المدارس اللسانية الغربية‪ ،‬مع أنها وردت بارزة في مضان تراثنا المعرفي‪ ،‬تحمل طابع الشمولية في التنظير للسان‬
‫البشري‪ ،‬ويكفي أن نقارب حديث المدي في مبدأ اعتباطية الدليل اللساني وما انتهى إليه علماء اللسنية المحدثون‬
‫وفي مقدمتهم العالم دوسوسير‪ ،‬وما استقر لدى نوام تشومسكي في بحثه الدؤوب حول القواعد التوليدية والتحويلية‬
‫ليخلص إلى وجود ما سماه "بالكفاية اللغوية"‪ ،‬ويتمظهر في البنية اللغوية العميقة للجملة أو التركيب‪ ،‬وما تقدم به‬
‫المدي في تفسيره للية الكريمة‪" :‬وعلم آدم السماء كلها"‪ .‬ليستخلص أن "التعليم" الوارد في الية له بعد "القدار على‬
‫اللغات" بحيث ركبت في النسان القدرة على توليد الصيغ التعبيرية والتواضع عليها بين أهل اللغة‪ .‬وما هو قمين‬
‫بالشارة إليه هو نص المدي في مقومات الخطاب البلغي على وجوب توافر عنصر "القصد" في البلغ والتواصل‬
‫لدى الباث‪ ،‬وعنصر الستعداد والتهيؤ لدى المتلقي‪ ،‬وهما عنصران كانا مدار علم اللسنية الحديث في تناوله لوظائف‬
‫الخطاب اللغوي‪ ،‬كما أقام المدي تفريعات لعناصر الكلم الصغرى‪ ،‬وأفاض البحث فيها‪ ،‬وقدم الدللة في أنساق‬
‫مختلفة تتأسس بالنظر إلى طبيعة الخطاب وعناصره المشكلة له‪ ،‬وبالنظر كذلك لقصد المتكلم‪ ،‬وهي أنساق دللية‬
‫شاملة لمختلف أنماط الكلم‪ ،‬لم يضف إليها البحث الدللي الحديث إضافات ذات قيمة‪ ،‬عدا عمق التحليل الذي أرفق‬
‫به تلك النساق في سياق تناول مسائل الرجاع والتعيين والتضمين‪ ،‬في تحديده لدللة المطابقة ودللة التضمن ودللة‬
‫اللتزام‪ ،‬والنسب الموجودة بينها‪.‬‬
‫وما يثير الباحث في كتاب الحكام للمدي‪ ،‬هو إحساسه بعمق المنتهى المعرفي الذي سعى إلى تحقيقه هذا العالم‬
‫الًصولي‪ ،‬فقد ينقل آراء مخالفيه حول مسألة من المسائل الصولية أو اللغوية‪ ،‬ليس ليفندها‪ ،‬ويظهر جوانب النقص‬
‫فيها‪ ،‬وإنما ليعمق البحث في تلك المسألة أو يزيد التعريف الذي حد به مصطلحا أصوليا أو لغويا أو منطقيا‪ ،‬شمولً‬
‫أكثر وإحاطة أعم‪.‬‬
‫إذن فمجمل المباحث التي أثارها الدرس الدللي الحديث لها وجود في كتاب المدي بدءا بالعلمة اللسانية وغير‬
‫اللسانية‪ ،‬وما تعلق بها من مباحث كطبيعة العلقة الدللية وبين وجهي العلمة‪ ،‬وأنماط تلك العلمة وأصنافها‪ ،‬وكذلك‬
‫بالنسبة لقسام الدللة وأنواعها‪ ،‬كما نجد المدي يضع نموذجا لبناء الحقول الدللية‪ ،‬قائما على نسب مختلفة كالشتراك‬
‫اللفظي‪ ،‬والعموم والخصوص والتنافر والتباين‪ ،‬والترادف والتواطؤ وغير ذلك‪ ،‬مما يسمح بوضع رؤية علمية لغوية‬
‫تفضي إلى تعميق البحث في ما تقدم به المدي في مجال الحقول الدللية‪ ،‬وبالقيمة ذاتها تؤخذ آراء المدي في إرسائه‬
‫لقواعد تخص الدللة الحقيقية والدللة المجازية‪ ،‬وبيانه بصفة دقيقة المعايير الموضوعية التي تعتمد في التمييز بين‬
‫الدللتين في سياق الخطاب اللغوي ذي النسيج المتشعب من العناصر والصور‪ .‬ونرى مبحث المجاز يغدو عند المدي‬
‫ل خصبا في تنمية قدرات اللغة الكامنة‪ ،‬في التعبير وتشكيل صور مختلفة من الصيغ الكلمية‪ ،‬لها فوائدها البينة على‬ ‫مجا ً‬
‫مستوى التخاطب والتواصل بل وحتى على المستوى الجمالي الفني وعلى المستوى الفونولوجي كما يؤكد ذلك المدي‪.‬‬
‫إن كتابا واحدا يشع بهذه المعارف اللسانية والدللية وهو كتاب "الحكام" للمدي‪ ،‬ينم على غزارة التفكير‬
‫المعرفي لدى هذا العالم‪ ،‬فما بالنا بجميع كتبه التي طبعت والتي لم تطبع بعد‪ ،‬بل إن دراسة واحدة ل تكفي حتى كتاب‬
‫"الحكام" من أجل بلورة كل أفكاره ومسائله‪ ،‬وقراءتها قراءة عصرية جديدة تأخذ في اعتبارها المنطلقات الفكرية‬
‫للهتمام اللساني والدللي الحديث‪ .‬فل يزال الكتاب المذكور يحتفظ بثراء معرفي ذي قيمة كبيرة يغتني به الدارسون‬
‫والباحثون الذين يسعون إلى إحداث وثبة فكرية راقية‪ ،‬تحرك فاعلية الصول التراثية لتدخل في جدل معرفي مع‬
‫المتطلبات اللغوية والعلمية والفكرية للنسان المعاصر‪ ،‬لتربط الماضي بالحاضر في توأمة منهجية دقيقة‪.‬‬

‫‪- 163 -‬‬


- 164 -
‫‪-1‬المصادر والمراجع العربية‬

‫‪-1‬المدي (سيف الدين محمد بن علي)‪:‬‬


‫‪-‬الحكام في أصول الحكام‪ ،‬تحقيق عبد الرازق عفيفي‪ ،‬المكتب السلمي بيروت‬
‫ط ‪.1981 1‬‬
‫‪-‬الحكام في أصول الحكام‪ ،‬تحقيق د‪ .‬سيد الجميلي‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت ط ‪.1986 2‬‬
‫‪-‬الحكام في أصول الحكام‪ ،‬كتب هوامشه الشيخ إبراهيم العجوز‪ ،‬دار العلمية بيروت ط ‪.1985 1‬‬
‫‪-2‬د‪ .‬إبراهيم أنيس‪:‬‬
‫‪-‬دللة اللفاظ‪ ،‬مكتبة أنجلو المصرية‪ -‬ط ‪.1972 2‬‬
‫‪-3‬ابن أبي أصيبعة (موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم)‪:‬‬
‫‪-‬عيون النباء في طبقات الطباء‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت ط ‪.1981 3‬‬
‫‪-4‬ابن جني (أبو الفتح عثمان)‪:‬‬
‫‪-‬الخصائص‪ ،‬تحقيق محمد علي النجار‪ ،‬دار الكتاب العربي بيروت ط ‪.1955‬‬
‫‪-5‬ابن خلدون (عبد الرحمان)‪:‬‬
‫‪-‬المقدمة‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬أبريل ‪.1984‬‬
‫‪-6‬ابن خلكان (أبو العباس أحمد بن محمد)‪:‬‬
‫‪-‬وفيات العيان وأبناء أبناء الزمان‪ ،‬تحقيق إحسان عباس دار الثقافة‪ ،‬بيروت ‪.1970‬‬
‫‪-7‬أحمد حساني‪:‬‬
‫‪-‬المكون الدللي للفعل في اللسان العربي ‪.‬‬
‫‪-8‬د‪ .‬أحمد خليل –دراسات في القرآن‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية ط ‪.1993 1‬‬
‫‪-9‬د‪ .‬أحمد مختار عمر‪:‬‬
‫‪-‬علم الدللة‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت ط ‪.1988 2‬‬
‫‪-10‬ابن رشد (أبو الوليد محمد بن أحمد)‪:‬‬
‫‪-‬فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من التصال‪ ،‬دار الفاق الجديدة‪ ،‬بيورت ط ‪.1979 2‬‬

‫‪- 165 -‬‬


‫‪-11‬ابن سينا (أبو علي الحسن بن عبد ال)‪:‬‬
‫‪-‬الشارات والتنبيهات‪ ،‬شرح نصر الدين الطوسي‪ ،‬تحقيق د‪ .‬سليمان دينا‪ .‬دار المعارف‪ ،‬مصر ط ‪.1960 2‬‬
‫‪-‬منطق المشرقيين‪ ،‬دار الحداثة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1982 1‬‬
‫‪-‬العبارة (الشفاء)‪ ،‬تحقيق محمود الحضري‪ ،‬الهيئة المصرية العامة القاهرة ‪.1970‬‬
‫‪-12‬ابن القيم الجوزية (محمد بن أبي بكر الزرعي)‪:‬‬
‫‪-‬مفتاح دار السعادة ومنشور ولية العلم والرادة‪ ،‬دار نجد للنشر والتوزيع الرياض ط ‪.1982‬‬
‫‪-13‬ابن كثير (الحافظ عماد الدين)‪:‬‬
‫‪-‬تفسير ابن كثير‪ ،‬دار الندلس‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1984 ،6‬‬
‫‪-14‬ابن منظور (أبو الفضل جمال الدين)‪:‬‬
‫‪-‬لسان العرب‪ ،‬علق عليه علي شيري‪ ،‬دار إحياء التراث العربي ط ‪.1988 ،1‬‬
‫‪-15‬أبو هلل العسكري‪:‬‬
‫‪-‬الفروق في اللغة‪ ،‬منشورات دار الفاق بيروت‪.1970 ،‬‬
‫‪-16‬أنيس فريحة‪:‬‬
‫‪-‬نظريات في اللغة‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬ط ‪.1981 2‬‬
‫‪-17‬بيار جيرو‪:‬‬
‫‪-‬علم الشارة‪ ،‬السميولوجيا‪ ،‬ترجمة د‪ .‬منذر عياشي‪ ،‬دار طلس‪ ،‬دمشق ط ‪.1988 1‬‬
‫‪-‬علم الدللة‪ ،‬ترجمة د‪ .‬منذر عياشي‪ ،‬دار طلس‪ ،‬دمشق ط ‪.1988 1‬‬
‫‪-18‬تمام حسان‪:‬‬
‫‪-‬الصول‪ ،‬دراسة أبستمولوجية للفكر اللغوي عند العرب‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪.1982 ،‬‬
‫‪-19‬الجاحظ (عمرو بن بحر)‪:‬‬
‫‪-‬البيان والتبيين‪ ،‬دار مكتبة الهلل‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1988 1‬‬
‫‪-‬الحيوان‪ ،‬تحقيق محمد عبد السلم هارون‪ ،‬القاهرة ‪.1969‬‬
‫‪-20‬الجرجاني (الشريف علي محمد)‪:‬‬
‫‪-‬كتاب التعريفات‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬بيروت ‪.1985‬‬
‫‪-21‬الجرجاني (عبد القاهر)‪:‬‬
‫‪-‬دلئل العجاز‪ ،‬مرقم للنشر ‪.1991‬‬
‫‪-22‬حازم القرطاجني‪:‬‬
‫‪-‬منهاج البقاء وسراج الدباء‪ ،‬دار الكتب المصرية‪.1966 ،‬‬
‫‪-23‬ريمون طحان‪:‬‬

‫‪- 166 -‬‬


‫‪-‬اللسنية العربية‪ ،‬ج ‪ ،1‬ج ‪ ،2‬دار الكتاب اللبناني ط ‪.1981 ،2‬‬
‫‪-24‬ريمون طحان‪ ،‬دنيز بيطار طحان‪:‬‬
‫‪-‬فنون التقعيد وعلوم اللسنية‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬ط ‪.1983 ،1‬‬
‫‪-25‬الزبيدي (محمد مرتضى)‪:‬‬
‫‪-‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ ،‬دار مكتبة الحياة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1968 ،3‬‬
‫‪ -26‬زبير دراقي – محاضرات في اللسانيات العامة والتاريخية‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر ‪.1990‬‬
‫‪-27‬الزمخشري (أبو القاسم محمود بن عمر)‪:‬‬
‫‪-‬الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون القاويل في وجوه التأويل تحقيق وتعليق محمد مرسي عامر‪ ،‬دار المصحف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪.1977 3‬‬
‫‪-28‬سالم شاكر‪:‬‬
‫‪-‬مدخل إلى علم الدللة‪ ،‬ترجمة محمد يحياتن‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر سنة ‪.1992‬‬
‫‪-29‬سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر)‪:‬‬
‫‪-‬الكتاب‪ ،‬تحقيق وشرح عبد السلم هارون‪ ،‬مطبعة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪.1988 3‬‬
‫‪-30‬ستيفن أولمن‪:‬‬
‫‪-‬دور الكلمة في اللغة‪ ،‬ترجمة د‪ .‬كمال محمد بشر‪ ،‬مكتبة الشباب ‪.1988‬‬
‫‪-31‬السيوطي (جلل الدين)‪:‬‬
‫‪-‬المزهر في علوم اللغة وأنواعها‪ ،‬شرح محمد أحمد جاد المولى وغيره ط ‪ ،4‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬مصر ‪.1958‬‬
‫‪-32‬الشافعي (محمد بن إدريس)‪:‬‬
‫‪-‬أحكام القرآن‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت ط‪.1980 ،‬‬
‫‪-‬الرسالة‪ ،‬تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر‪ ،‬دار النشر أنجاد‪ ،‬بدون تاريخ الطبعة‪.‬‬
‫‪-33‬صالح عيد‪:‬‬
‫‪-‬التراكيب النحوية وسياقاتها المختلفة عند عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط ‪.1994‬‬
‫‪-34‬عادل الفاخوري‪:‬‬
‫‪-‬علم الدللة عند العرب‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1985 ،1‬‬
‫‪-35‬عبد الرحمان حسن حبنكة الميداني‪:‬‬
‫‪-‬ضوابط المعرفة وأصول الستدلل والمناظرة‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق ط ‪.1988 3‬‬
‫‪-36‬د‪ .‬عبد السلم المسدي‪:‬‬
‫‪-‬اللسانيات وأسسها المعرفية‪ ،‬المطبعة العربية‪ ،‬تونس ط‪.1986 ،‬‬
‫‪-37‬عبد القادر عودة‪:‬‬
‫‪-‬التشريع الجنائي السلمي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪ .4‬سنة ‪.1985‬‬

‫‪- 167 -‬‬


‫‪-38‬د‪ .‬عبد القادر الفاسي الفهري‪:‬‬
‫‪-‬اللسانيات واللغة العربية‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1986 .1‬‬
‫‪-39‬د‪ .‬عبد القادر فيدوح‪:‬‬
‫‪-‬دلئلية النص الدبي‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬وهران‪ ،‬ط ‪.1993 1‬‬
‫‪-40‬د‪ .‬عز الدين إسماعيل‪:‬‬
‫‪-‬السس الجمالية في النقد العربي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت ط ‪.1955‬‬
‫‪-41‬د‪ .‬عمر فروخ‪:‬‬
‫‪-‬بحوث ومقارنات في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة في السلم‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1986 2‬‬
‫‪-42‬الغزالي (أبو حامد محمد بن محمد)‪:‬‬
‫‪-‬المستصفى من علم الصول‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1943 1‬‬
‫‪-‬معيار العلم في فن المنطق تحقيق د‪ .‬سليمان دنيا‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر ‪.1969‬‬
‫‪-43‬الفارابي‪:‬‬
‫‪-‬العبارة (كتاب في المنطق) تحقيق محمد سليم‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب العرب سنة ‪.1976‬‬
‫‪-‬كتاب الحروف‪ ،‬تحقيق وتعليق وتقديم محسن مهدي‪ ،‬دار المشرق بيروت سنة ‪.1970‬‬
‫‪-‬إحصاء العلوم‪ ،‬تحقيق وتعليق وتقدم د‪ .‬عثمان أمين‪ ،‬دار الفكر العربي القاهرة ط ‪ 2‬سنة ‪1949‬‬

‫‪-44‬د‪ .‬فايز الداية‪:‬‬


‫‪-‬علم الدللة العربي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط ‪.1985 ،1‬‬
‫‪-45‬الفيروز آبادي (مجد الدين محمد بن يعقوب)‪:‬‬
‫‪-‬القاموس المحيط‪ ،‬دار العلم للجميع‪ ،‬بيروت‪ ،‬بدون تاريخ الطبعة‪.‬‬
‫‪-46‬القرطبي (أبو عبد ال محمد بن أحمد)‪:‬‬
‫‪-‬الجامع لحكام القرآن دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪.1985 ،‬‬
‫‪-47‬د‪ .‬محمد زكي العشماوي‪:‬‬
‫‪-‬قضايا النقد الدبي بين القديم والحديث‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت ‪.1984‬‬
‫‪-48‬محمد الصغير بناني‪:‬‬
‫‪-‬النظريات اللسانية والبلغية والدبية عند الجاحظ‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر ‪.1983‬‬
‫‪-49‬د‪ .‬علي سامي النشار‪:‬‬
‫‪-‬مناهج البحث عند مفكري السلمي‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪.1984 ،‬‬
‫‪-50‬د‪ .‬محمود السعران‪:‬‬
‫‪-‬علم اللغة‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر ‪.1962‬‬

‫‪- 168 -‬‬


‫‪-51‬د‪ .‬محمود فهمي زيدان‪:‬‬
‫‪-‬في فلسفة اللغة‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪.1985 ،‬‬
‫‪-52‬د‪ .‬محيي الدين صبحي – نظرية النقد وتطورها إلى عصرنا‪ -‬دار ط‬
‫‪-53‬د‪ .‬مصطفى بدوي‪:‬‬
‫‪-‬كولردج‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪.1957 ،‬‬
‫‪-54‬د‪ .‬مصطفى عبد الرازق‪:‬‬
‫‪-‬تمهيد لتاريخ الفلسفة السلمية‪ ،‬القاهرة‪.1944 ،‬‬
‫‪-55‬معروف الدواليبي‪:‬‬
‫‪-‬المدخل إلى علم أصول الفقه‪ ،‬مطبعة جامعة دمشق‪ ،‬ط ‪.1959 3‬‬
‫‪-56‬د‪ .‬ميشال زكريا‪:‬‬
‫‪-‬اللسنية‪ ،‬علم اللغة الحديث‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت ط ‪.1983 ،2‬‬
‫‪-57‬د‪ .‬ميشال عاصي‪:‬‬
‫‪-‬مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ‪ ،‬مؤسسة نوفل‪ ،‬بيروت ط ‪.1981 2‬‬
‫‪-58‬د‪ .‬ميشال فوكو‪:‬‬
‫‪-‬نظام الخطاب‪ ،‬ترجمة د‪ .‬محمد سبيل‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1984 1‬‬

‫‪-‬الدوريات‪:‬‬
‫‪-‬مجلة تجليات الحداثة‪ ،‬معهد اللغة العربية وآدابها‪ ،‬جامعة وهران عدد ‪ ،2‬سنة ‪.1993‬‬
‫‪-‬مجلة الفكر العربي المعاصر‪ ،‬عدد ‪ 18/19‬سنة ‪ ،1982‬وعدد ‪ 31 -30‬سنة ‪ ،1984‬بيروت –لبنان‪.‬‬

‫‪- 169 -‬‬


:‫المراجع الجنبية‬
1-CHISS (J-L) FILLIOLET, D. Maingeneau:
-Initiation à la problematique structurale, tome 1 librairie Hachette, Paris 1977.
2-DERRIDE (Jacques);
De la grammatologie, les éditions de minuit, paris 1967.
3-Fuchs –Le GOFFIC (P)
-initiation aux problémes des linguistiques contemporaines, librairie Hachette, Paris 1975.
4-Hj ELMESLEV (L):
-Le langlage, traduit du danois par Michel Oslen préface de Algirdas Julien GREIMAS les editions de
minuit 1966.
5-JADOBSON (R):
-Essais de linguistique générale. Éditions de minuit, Paris 1973.
6-Leech (G):
-SEMANTICS, penguin BOOks 1974.
7-Lerlat (p):
-Semantique descriptive, Hachette, paris 1983.
8-Leroy (M):
-Les grands courants de la linguistique moderne, université de Bruxelles. 1971.
9-Lyons (John):
-Eléments de semantique, Larousse. Paris. 1978.
10-Malgueneau (D):
-Initiation aux méthodes de l’analyse du discours, Hachette université, Paris. 1976.
11-Martinet (A):
-Eléments de linguistique générale. ARM and colin, paris 1980.
12-Morsly (D), Chevaldonne (F), BUFFAC (M), Mollet (J):
-introduction à la semiologie (Texte-Image). O. P. U. Alger 1980.
13-Robins (R-H):
-Bréve histoire de la linguistique de Platon à Chomsky, traduit de l’anglais par Maurise Borel editions du
seuil, Paris, 1976.
14-Sapir (E):
-Le langage, traduit par Guillemin (S.M) Payot, Paris 1967.
15-Saussure (F. De):
-Cours de linguistique generale Payot. Paris 1986.
16-Shomsky (N):
-Structure syntaxique. Traduit par Michel Braudeau, éditions du seuil 1969.
17-Ullman (S):
-Meaning and style. Oxford. London 1973.

- 170 -

- 171 -
‫الفهرس‬

‫الهــــداء‪3................................................................:‬‬
‫الباب الول ‪:‬‬

‫مدخل نظري لعلم الدللة‪5 ..............................................‬‬


‫مــدخل عام‪7..................................................................‬‬
‫الفصل الول‪:‬‬
‫علم الدللة‪ :‬النشأة والماهية‪10..................................................‬‬
‫‪10 .....................................................................................................................................:‬‬
‫‪11 ..........................................................................................‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪-1‬نشأة علم الدللة‪ :‬المسار التطوري التاريخي‪11...............................................................................................................:‬‬
‫‪-2‬بين علم الدللة وعلم اللسانيات‪14................................................................................................................................:‬‬
‫‪16 .........................................‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪-I‬مصطلح "الدللة" في القرآن الكريم ومعجمات اللغة‪16......................................................................................................:‬‬
‫‪-1‬لفظ "الدللة" في القرآن الكريم‪17...........................................................................................................................:‬‬
‫‪-2‬لفظ "دل" في معاجم اللغة‪18..................................................................................................................................:‬‬
‫‪-3‬ماهية الدللة بين القديم والحديث‪19.........................................................................................................................:‬‬
‫‪:‬‬
‫(‪19 ..................................................................................:‬‬ ‫)‬
‫‪-I‬مفاهيم الدللة عند الفرابي )ت ‪339‬هـ)‪20......................................................................................................................:‬‬
‫أ‪-‬أقسام اللفاظ باعتبار دللتها‪20................................................................................................................................:‬‬
‫ب‪-‬ما يقوم به مقام اللفظ المفرد من الدوات الدالة‪21........................................................................................................:‬‬
‫ج‪-‬الدللة محتواه في النفس‪21...................................................................................................................................:‬‬
‫‪-II‬مفاهيم الدللة عند الغزالي )ت‪22......................................................................................................................:)505 :‬‬
‫‪-III‬مفاهيم الدللة عند ابن خلدون )ت‪808:‬هـ)‪24...............................................................................................................:‬‬
‫‪-IV‬ماهية الدللة عند الشريف الجرجاني )ت‪816:‬هـ)‪26......................................................................................................:‬‬
‫‪:‬‬ ‫‪:‬‬
‫(‪28 ........................................:‬‬ ‫)‬ ‫(‬ ‫)‬
‫أ‪-‬ماهية الدللة بين الوصفية والمعيارية‪29........................................................................................................................:‬‬
‫الرسم قبل التعديل‪32............................................................................................................................................)):‬‬
‫الرسم بعد التعديل‪33............................................................................................................................................)):‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫مباحث علم الدللة الحديث ‪36...................................................‬‬
‫‪36 ........................................................................................................................... :‬‬
‫‪36 ................................................................................................‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪40 ..................................................................:‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪44 ......................................................................‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪48 ...................................................................‬‬ ‫‪:‬‬

‫‪- 172 -‬‬


‫‪-1‬العامل الجتماعي الثقافي‪49......................................................................................................................................:‬‬
‫‪-2‬العامل النفسي‪49....................................................................................................................................................:‬‬
‫‪-3‬العامل اللغوي‪49....................................................................................................................................................:‬‬
‫‪50 ...............................................................:‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪52 ...............................................................:‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪54 ...............................................................................................................................:‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫النظريات الدللية الحديثة ‪56.....................................................‬‬
‫‪56 .....................................................................................................................................:‬‬
‫‪57 ................................................................................................ :‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪58 .................................................................................................:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫‪59 .................................................................................................:‬‬ ‫‪-3‬‬
‫‪61 ............................................................................................. :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪ 1‬ـ السياق اللغوي‪62..................................................................................................................................................:‬‬
‫‪ 2‬ـ السياق العاطفي النفعالي‪62......................................................................................................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ سياق الموقف أو المقام‪62....................................................................................................................................... :‬‬
‫‪ 4‬ـ السياق الثقافي‪62................................................................................................................................................. :‬‬
‫‪63 .......................................................................................... :‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪ 1‬ـ علقة الترادف‪64................................................................................................................................................ :‬‬
‫‪ 2‬ـ علقة الشتمال‪64................................................................................................................................................ :‬‬
‫‪ 3‬ـ علقة الجزء بالكل‪64.............................................................................................................................................:‬‬
‫‪ 4‬ـ التضاد‪ :‬وهو أنواع‪64........................................................................................................................................... :‬‬
‫‪65 .......................................................................................... :‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪68 ...............................................() :‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪69 ..................................................................................():‬‬ ‫‪8‬‬
‫" ‪70 ......................................................................................():‬‬ ‫‪":‬‬ ‫‪9‬‬
‫ـ دللة العوالم الممكنة عند )فريجة )) )‪71.......................................................................................................Frege) -).‬‬
‫الباب الثاني ‪:‬‬

‫الدللـــة عند المــدي ‪74 .......................................‬‬


‫الفصل الول‪:‬‬
‫جهود العرب القدامى في الدراسات الدللية‪76...................................‬‬
‫الشافعي ـ الجاحظ ـ ابن جني ـ ابن سينا ـ الجرجاني ‪76....................‬‬
‫‪76 .................................................................................................................................... :‬‬
‫(‪78 .................................. :‬‬ ‫‪204‬‬ ‫) ‪150‬‬ ‫‪1‬‬
‫(‪82 ................................. :‬‬ ‫‪255‬‬ ‫) ‪160‬‬ ‫‪2‬‬
‫أ ـ حسن التأليف بين الحروف واللفاظ‪83........................................................................................................................ :‬‬
‫ب ـ أصناف العلمة عند الجاحظ‪84............................................................................................................................... :‬‬
‫ج ـ وظائف الكلم عند الجاحظ‪86................................................................................................................................ :‬‬
‫د ـ أصل اللغة عند الجاحظ ‪87......................................................................................................................................:‬‬
‫هـ ـ الدللة السياقية عند الجاحظ ‪87............................................................................................................................... :‬‬
‫( ‪88 .........................................‬‬ ‫‪392 -‬‬ ‫‪320 ) :‬‬ ‫‪-3‬‬
‫أ‪-‬اللفظ والمعنى‪89.....................................................................................................................................................:‬‬
‫(‪95 ......................................:‬‬ ‫‪427 -‬‬ ‫) ‪373‬‬ ‫‪-4‬‬

‫‪- 173 -‬‬


‫‪101 ............‬‬ ‫(‪:‬‬ ‫‪421‬‬ ‫)‬ ‫‪-5‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫العلمة اللسانية عند المدي‪110.................................................‬‬
‫‪110 .........................................................................................................................‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪ -1‬علم أصول الفقه والدللة‪110....................................................................................................................................:‬‬
‫‪-2‬لمحة عن حياة المدي وكتابه الحكام في أصول الحكام‪111..............................................................................................:‬‬
‫‪-‬كتاب "الحكام في أصول الحكام"‪ :‬موضوعه وخطته‪113..................................................................................................:‬‬
‫‪-2‬‬
‫‪115 ..................................................................:‬‬
‫أنماط العلمة اللسانية‪115............................................................................................................................................:‬‬
‫‪121 ............................................................................:‬‬ ‫‪-3‬‬
‫(‪123 .........................:‬‬ ‫)‬ ‫‪-4‬‬
‫‪127 .........................................................................................:‬‬ ‫‪-5‬‬
‫‪130 .....................................................................................:‬‬ ‫‪-6‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫الخـــطاب البلغـــــــي‬
‫وحداته ومقوماته عند المدي‪135...............................................‬‬
‫‪135 .........................................................................................:‬‬ ‫‪-1‬‬
‫أ‪-‬الحرف‪135...........................................................................................................................................................:‬‬
‫ب‪-‬الفعل‪137............................................................................................................................................................:‬‬
‫ج‪-‬السم‪139............................................................................................................................................................:‬‬
‫‪141 ...............................................................................:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫أ‪-‬الخبر وأبعاده الدللية‪142......................................................................................................................................... :‬‬
‫ب‪-‬الكلم وقيمته البلغية‪145..................................................................................................................................... :‬‬
‫ج‪ -‬الخطاب البلغي وأنماطه‪147................................................................................................................................ :‬‬
‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫الحقيقة والمجاز عند المدي‪153................................................‬‬
‫‪153 ...................................................................................................................................:‬‬
‫‪154 .............................................................................. :‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪156 ..............................................................................................................‬‬ ‫‪-2‬‬
‫‪157 ................................................................................‬‬ ‫‪-3‬‬
‫‪162 ...................................................................................................................:‬‬
‫‪165 ..........................................................................‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪-‬الدوريات‪169..........................................................................................................................................................:‬‬
‫المراجع الجنبية‪170..................................................................................................................................................:‬‬
‫‪172 .................................................................................................................................‬‬
‫‪175 .....................................................‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 174 -‬‬


‫العربي‪ :‬دراسة‪ /‬منقور عبد الجليل– دمشق‪ :‬اتحاد الكتاب العرب‪،‬‬ ‫علم الدللة‪ :‬أصوله ومباحثه في التراث‬
‫‪ 251 – 2001‬ص؛‬
‫‪24‬سم‪.‬‬

‫‪ -2‬العنوان‬ ‫‪ 412 -1‬ع ب د ع‬

‫‪ -3‬عبد الجليل‬

‫مكتبة السد‬ ‫ع‪2001/2287/11 -‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 175 -‬‬

You might also like