You are on page 1of 5

‫عودة الميكروبات القاتلة‬

‫د‪ .‬نسرين أبو رميلة‬

‫في بداية النصف الثاني من هذا القرن بدا أن البشرية في طريقها لتحقيق انتصارات‬
‫كاسحة في صراعها ضد الميكروبات المرضية‪ .‬لقد أنعش القضاء على الموجات الوبائية‬
‫للطاعون والجدري و المل ريا والكوليرا والحمى الصفراء وغيرها و غيرها حتى بإمكانية‬
‫القضاء التام على مسببات المراض المعدية ‪.‬‬

‫ولكن هذا المل والحلم الجميل أخذ يخبو هذه اليام مع ظهور أنواع من الميكروبات‬
‫المقاومة حتى القوى واحدث أنواع المضادات الحيوية سلح الطباء الساسي في الصراع مع‬
‫المراض ‪ .‬ومسبباتها الرئيسية من الجراثيم والفيروسات ‪.‬‬

‫وليس مرض نقص المناعة المكتسب ( اليدز ) هو المثل الوحيد على عجز الطب الحديث‬
‫في صراعه مع الجراثيم والفيروسات ‪ .‬بل أن الميكروبات المعروفة والقديمة أخذت تكتسب‬
‫صفات وقدرات جديدة على اختراق الدفاعات البشرية ومقاومة المضادات الحيوية‪.‬‬

‫ومن المثلة على ذلك ميكروب السل الذي اخذ بالنتشار بالعديد من الدول المتقدمة ‪ ،‬وكذلك‬
‫موجات الوبئة التي تجتاح بعض بلدان العالم الثالث خاصة تلك المنكوبة بالحروب والكوارث‬
‫والزلزل والفقر والجفاف ‪ ،‬حيث أخذت تظهر موجات وبائية شديدة من الكوليرا و الدوسنطاريا‬
‫و الملريا وحتى الطاعون الذي ظهر في مدينة سورات الهندية مؤخراً ‪.‬‬

‫هل نحن أمام مرحلة جديدة من تراجع البشرية وعلومها الطبية في مواجهة تكيف البكتيريا‬
‫وصراعها مع أسلحتنا الدوائية ؟ وهل نحن بحاجة إلى إعادة تقييم عميقة ومن الساس‬
‫لفلسفتنا الطبية العلجية منها والوقائية نع هذه الموجة الجديدة ؟‬
‫هناك الكثير من الدلئل على أن أنواع من العدوى المميتة يزداد خطرها لكل إنسان وفي كل‬
‫مكان‪ .‬ول يقتصر المر في ذلك على دول العالم الثالث أو المناطق المنكوبة ‪ ،‬بل يمتد إلى أكثر‬
‫الدول تطوراً ‪ ،‬لقد كتبت مجلة " التايمز " في عددها قبل الخير بأنه ل يكاد يمر أسبوع إل‬
‫وتظهر تقارير عن موجات وبائية في الوليات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة ‪ ،‬وتنتشر‬
‫الميكروبات القاتلة بسرعة في كل اتجاه وتسافر في الطائرات وسفن الركاب الفخمة ‪.‬‬

‫ومن المثلة على ذلك ما أوردته التايمز في عدد ‪ ، 1994 / 5 / 14‬نفسه من أن إحدى السفن‬
‫اضطرت للعودة إلى ميناء لوس انجلوس لصابة ( ‪ ) 400‬من الركاب بتسمم غذائي مجهول‬
‫السباب ‪ ،‬وقبل ذلك بأسابيع توجب إخلء ( ‪ ) 1200‬من ركاب السفينة هورايزن في برمودا‬
‫لصابتهم بمرض رئوي حيث وجد لدى ( ‪ ) 11‬منهم نوع قاتل من اللتهاب الرئوي ‪ ،‬بالضافة‬
‫إلى‬

‫( ‪ ) 24‬حالة مشتبهة فيها لنفس النوع من الميكروبات ‪.‬‬

‫من المثلة الخرى إصابة بعض العلماء العاملين في المختبرات الطبية بال المريكية بنوع‬
‫من الفيروس المعروف بفيروس سابيا الذي ل يصيب النسان في العادة ‪ ،‬ولكنه سبب إصابات‬
‫بشرية في البرازيل ‪ ،‬وأرسلت العينات إلى أمريكا حيث دلت إصابة العاملين في المختبر على‬
‫تغيير طبيعة وسلوك الفيروس الذي لم يعرف عنه سابقا قابليته للنتشار عن طريق العدوى‬
‫المباشرة بين الناس ‪.‬‬

‫إن ما كتب خلل السنة الماضية عن البكتيريا ‪ -‬آكلة اللحم – يشد النتباه إلى أن هذه البكتيريا‬
‫والتي تتبع مجموعة المكورات العقدية فئة ( أ ) تسبب في العادة التهاب اللوزتين والحلق‬
‫العادي ‪ ،‬الحساسية الدائمة لبسط وأقدم المضادات الحيوية ( البنسلين ) وهذه البكتيريا أخذت‬
‫تكتسب بالضافة إلى مقاومتها للدوية خواص فتاكة تؤدي إلى الموت في حالة عدم التشخيص‬
‫والعلج المبكرين ‪.‬‬

‫حسب تقديرات المنظمات الصحية ‪ ،‬فإن البكتيريا آكلة اللحم تؤدي إلى آلف من الوفيات في‬
‫كل عام في أمريكا وأوروبا فقط ‪.‬‬

‫وقد أظهرت الحصائيات في ولية سينيناتي المريكية انه حدث ( ‪ ) 325‬إصابة بالسعال‬
‫الديكي في عام ‪ 93‬مقارنة بـ ( ‪ ) 542‬إصابة حدثت خلل ‪ 13‬سنة سابقة ‪ ،‬أي من ‪1979‬‬
‫وحتى ‪ 1992‬أي أن الزيادة أكثر من عشرة أضعاف ‪ .‬كذلك أظهر فحص طلب مدرسة في‬
‫إحدى مدن كاليفورنيا إثر إصابة احد الطلب بمرض التدرن الرئوي‪ ،‬أن ‪ % 30‬من طلب هذه‬
‫المدرسة لديهم فحص إيجابي للميكروب الذي اظهر مقاومة للمضادات الحيوية التي تستعمل‬
‫في علج السل ‪.‬‬

‫ومن الممكن إيراد العديد من المثلة المشابهة والتي تخص المراض الخرى ومنها‪،‬‬
‫الكوليرا حيث أظهرت موجات وبائية في جنوب روسيا التي ل تعاني من هذا المرض في العادة‪.‬‬

‫لكن المر المثير للقلق بالنسبة لهذا المرض ( الكوليرا ) هو ما حدث في مخيمات اللجئين‬
‫الهاربين من الحرب الهلية في رواندا ‪ ،‬حيث أدت إصابات الكوليرا إلى وفاة أكثر من ( ‪) 50‬‬
‫ألف شخص وحيث لم تنفع المضادات الحيوية العادية من مقاومة المرض ‪ ،‬واضطر الطباء‬
‫لستخدام عدة أنواع من الدوية بالضافة إلى السوائل في عملية تشبه عملية حل الكلمات‬
‫المتقاطعة للتوصل إلى التركيبة المثل للحد من انتشار الوباء ‪ .‬ويذكر الطباء الذين تخرجوا في‬
‫نهاية الستينات وبداية السبعينات جو الثقة الذي كان سائدًا آنذاك بإمكانية القضاء على‬
‫المراض المعدية‪.‬‬
‫وكانت النصيحة بعدم التخصص في هذا الفرع الذي هو في طريقه إلى النقراض ‪ ،‬وتوجيه‬
‫الهتمام للمشاكل الكبرى مثل السرطان وأمراض القلب ‪.‬‬

‫من ناحية أخرى فأن نجاحات الصناعة الدوائية في تطوير أنواع ومجموعات من المضادات‬
‫الحيوية‪ .‬أدت إلى إهمال الجسم الطبي بداية لظاهرة اكتساب البكتيريا القدرة على مقاومة‬
‫المضادات الحيوية ‪ ،‬حيث ساد اعتقاد خاطئ بأنه بالمكان تطوير مضادات سوبر ل يمكن‬
‫للميكروبات مقاومتها ‪.‬‬

‫ولكن ومع تطور مقاومة البكتيريا للنواع الجديدة ‪ ،‬وجد الطباء أنفسهم يتراجعون في‬
‫مقاومة الميكروبات ‪ .‬والسؤال هذه اليام هو أين ومتى سيظهر الميكروب أو الفيروس المقاوم‬
‫في المرة القادمة ‪ .‬إن عجز الطب الحديث عن تطوير لقاح وقائي أو دواء شافي ضد مرض‬
‫اليدز قد نسف من الساس الفكرة التي تكونت لدى الطباء وانتقلت مع اليام إلى معظم‬
‫الناس ‪ ،‬والتي تتلخص في أن المراض المعدية مهما بلغت شدتها ابتداء بالسل والطاعون‬
‫مروراً بالزهري والتهاب السجايا وانتهاء بالكوليرا هي أمراض يمكن معالجتها بالقراص أو‬
‫الحقن ‪.‬‬

‫كما اظهر ازدياد نسبة الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية الثمن الباهظ الذي تدفعه‬
‫والذي سوف تدفعه البشرية نتيجة الستعمال الخاطئ لهذه المضادات الحيوية ‪ .‬حيث أن‬
‫النسان يتوقف عن أخذ المضاد عند شعوره بالتحسن ‪ ,‬ولتكون النتيجة ظهور الميكروبات التي‬
‫اكتسبت صفة المقاومة للمضاد الحيوي ‪.‬‬

‫إن ازدياد مقاومة أنواع البكتيريا للمضادات الحيوية أدى إلى اهتمام الطباء بإنتاج اللقاحات‬
‫و المطاعيم الوقائية ‪ ،‬ولكن النجاح في إنتاج لقاحات للمراض الناتجة عن البكتيريا يقابله تعثر‬
‫وفشل أحيانا في إنتاج لقاحات للمراض الفيروسية ومنها على سبيل المثال مرض اليدز ‪،‬‬
‫الذي ل يوجد له لقاح وقائي الن علما بان أشهر واقدر مراكز البحاث في العالم عملت ول‬
‫تزال تعمل لنجاز هذه المهمة منذ أكثر من عشر سنوات ‪.‬‬
‫وهذا ينطبق على فيروس النفلونزا الذي يغير خواصه وتركيبه كل سنة مما يوجب تصميم‬
‫ل مختلفاً‬
‫لقاح جديد خلل فترات متقاربة ‪ .‬كل هذا يجعل من الفيروسات مشكلة تتطلب تعام ً‬
‫وجديداً ونوعيا من خلل تضافر جهود العلماء مع الجهزة الصحية المحلية والدولية ورفع‬
‫مستوى الوعي الصحي بطبيعة المراض المعدية وطرق منع انتشارها‪.‬‬

‫إن مثل هذا التعامل ل يحتمل التأجيل لن القتناع بالوضع الحالي وعدم اتخاذ إجراءات‬
‫فاعلة سيكون ثمنه المليين من حالت الوفاة ‪ .‬وكلنا يذكر وباء النفلونزا عام ‪ 1918‬حيث‬
‫كانت حصيلته أكثر من ‪ 20‬مليون حالة وفاة‪ ،‬فكيف سيكون الحال إذا ما حدثت موجة مشابهة‬
‫هذه اليام بعد أن أصبح العالم بمثابة قرية صغيرة مع تطور وسائل المواصلت وسرعتها‬
‫وانتشارها ؟ فالن ل يلزم أكثر من ساعات لنقل العدوى من أوروبا لمريكا‪ ،‬ول يمكن لي دولة‬
‫أن تنعزل عن العالم أو يعزلها العالم عن نفسه‪.‬‬

‫من كل ما تقدم يمكن القول بان تعاون الناس العاديين وتنفيذهم لتعليمات الوقاية ‪ ،‬وفهمهم‬
‫لطبيعة المراض والفرق بين البكتيريا والفيروسات ‪ ،‬وتنفيذهم الدقيق للتعليمات الطبية بشأن‬
‫الوقاية والعلج ‪ ،‬ووقاية أفراد السرة في حالة إصابة احدهم ‪ ..‬كل ذلك سيكون له تأثير هام‬
‫جداً في الحد من انتشار المراض المعدية ‪ .‬ولم يعد يكفي مجرد الحصول على الدواء‬
‫واستعماله كيفما اتفق لحين الشعور بالتحسن‪ ،‬فهذا إهمال يمكن أن ندفع ثمنه غالياً‪ .‬وإذا حالفنا‬
‫الحظ ولم ندفع ثمن الستخفاف بخطر ما نمارسه يومياً فإن أطفالنا وأحفادنا سيدفعون الثمن‬
‫بالتأكيد ‪ ،‬وفي ظروف أكثر صعوبة ومن خلل صراع مرير مع ميكروبات قاتلة مقاومة للكثير‬
‫من الدوية ‪ ،‬ل أحد يستطيع التكهن لمن ستكون الغلبة في النهاية ‪.‬‬

You might also like