You are on page 1of 14

‫(فصــل)‬

‫ومما يبيّن من القرآن فضيلة أبي بكر في الغار أن ال تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال‬
‫ي اثْنَيْ نِ إِذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ ‪‬‬
‫التي يُخذل فيها عامة الخلق إل من نصره ال ‪ :‬إِذْ َأخْ َرجَ ُه الّذِي نَ َكفَرُوا ثَانِ َ‬
‫(‪ . )1‬أي أخرجوه فجي هذه القلة مجن العدد‪ ،‬لم يصجحبه إل الواحجد‪ ،‬فإن الواحجد أقجل مجا يوججد ‪ .‬فإذا لم‬
‫ل على أنه في غاية القلّة ‪.‬‬
‫يصحبه إل واحدٌ د ّ‬
‫ثم قال ‪  :‬إِذْ َيقُولُ لِ صَاحِ ِبهِ َل َتحْزَ نْ إِنّ اللّ هَ َمعَنَا ‪ . )2( ‬وهذا يدلّ على أن صاحبه كان مشفقا‬
‫عل يه محبّ ا له نا صرا له ح يث حزن‪ ،‬وإن ما يحزن الن سان حال الخوف على من يحبّه‪ ،‬وأ ما عدوه فل‬
‫يحزن إذا انعقد سبب هلكه ‪.‬‬
‫فلو كان أبو بكر مبغِضا كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن‪ ،‬بل كان يضمر الفرح‬
‫‪.‬‬ ‫))‬ ‫والسرور‪ ،‬ول كان الرسول يقول له ‪ (( :‬ل تحزن إن ال معنا‬
‫فإن قال المفترى ‪ :‬إنه خَ ِفيَ على الرسول حاله لمّا أظهر له الحزن‪ ،‬وكان في الباطن مبغضا ‪.‬‬
‫فهذا إخبار بأن ال معهما جميعا بنصره‪ ،‬ول يجوز للرسول‬ ‫قيل له ‪ :‬فقد قال ‪ :‬إِنّ اللّ َه َمعَنَا‬
‫أن يخبر بنصر ال لرسوله وللمؤمنين وأن ال معهم‪ ،‬ويجعل ذلك في الباطن منافقا‪ ،‬فإنه معصوم في‬
‫خبره عن ال‪ ،‬ل يقول عليه إل الحق ‪.‬‬
‫ل ل ي خف عل يه حال من ي صحبه في م ثل هذا السفر‪ ،‬الذي‬
‫وأي ضا فمعلوم أن أض عف الناس عق ً‬
‫يعاديجه فيجه المل الذيجن هجو بيجن أظهرهجم‪ ،‬ويطلبون قتله‪ ،‬وأولياؤه هناك ل يسجتطيعون نصجره‪ ،‬فكيجف‬
‫يصجحب واحدا ممجن يظهجر له موالتجه دون غيره‪ ،‬وقجد أظهجر له هذا حزنجه‪ ،‬وهجو مجع ذلك عد ّو فجي‬
‫الباطن‪ ،‬والمصحوب يعتقد أنه وليه‪ ،‬وهذا ل يفعله إل أحمق الناس وأجهلهم ‪.‬‬
‫ب رسجوله‪ ،‬الذي هجو أكمجل الخلق عقل وعلمجا وخجبرة‪ ،‬إلى مثجل هذه الجهالة‬
‫َسج َ‬
‫فقبّحج ال مجن ن َ‬
‫والغباوة ‪.‬‬

‫(فصــل)‬
‫وأما قول الرافضي ‪ :‬يجوز أن يستصحبه لئل يظهر أمره حذرا منه ‪.‬‬
‫والجواب ‪ :‬أن هذا باطل من وجوه كثيرة ل يمكن استتقصاؤها ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنه قد علم بدللة القرآن موالته له ومحبته‪ ،‬ل عداوته‪ ،‬فبطل ادعاؤه ‪.‬‬
‫مؤمنا به‪ ،‬ومن أعظم الخلق‬ ‫الثاني ‪ :‬أنه قد علم بالتواتر المعنوي أن أبا بكر كان محبا للنبي‬
‫اختصاصا به‪ ،‬أعظم مما تواتر من شجاعة عنترة‪ ،‬ومن سخاء حاتم ومن موالة عليّ ومحبته به‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك من التواترات المعنو ية ال تي ات فق في ها الخبار الكثيرة على مق صود وا حد‪ ،‬وال شك في مح بة أ بي‬

‫‪ ) (1‬الية ‪ 40‬من سورة التوبة ‪.‬‬


‫‪ ) (2‬الية ‪ 40‬من سورة التوبة ‪.‬‬
‫بكر كالشك في غيره وأشد‪ ،‬ومن الرافضة من ينكر كون أبي بكر وعمر مدفونين في الحجرة النبوية‪،‬‬
‫وبعض غلتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي معه في الغار‪ ،‬وليس هذا من بهتانهم ببعيد‪ ،‬فإن القوم‬
‫قوم ب هت‪ ،‬يجحدون المعلوم ثبو ته بالضطرار ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالضطرار فجي العقليات‬
‫والنقليات ‪.‬‬
‫الوجه الثالث ‪ :‬أن قوله ‪ (( :‬استصحبه حذرا من أن يظهر أمره )) ‪.‬‬
‫في خرو جه من م كة ظا هر‪ ،‬عر فه أ هل‬ ‫كلم من هو أج هل الناس ب ما و قع ؛ فإن أ مر ال نبي‬
‫م كة‪ ،‬وأر سلوا الطلب‪ ،‬فإ نه في الليلة ال تي خرج في ها عرفوا في صبيحتها أ نه خرج‪ ،‬وانت شر ذلك‪،‬‬
‫وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدّية لمن يأتي بأبي بكر‪ ،‬دليل على أنهم كانوا يعلمون موالته لرسول‬
‫ال ‪ ،‬وأنه كان عدوهم في الباطن‪ ،‬ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أنه إذا خرج ليل‪ ،‬كان وقت الخروج لم يعلم به أحد‪ ،‬فما يصنع بأبي بكر واستصحابه‬
‫معه ؟‬
‫فإن قيل ‪ :‬فلعله علم خروجه دون غيره ؟‬
‫ق يل ‪ :‬أول ‪ :‬قد كان يمك نه أن يخرج في و قت ل يش عر به‪ ،‬ك ما خرج في و قت لم يش عر به‬
‫المشركون‪ ،‬وكان يمكنه أن ل يعينه‪ ،‬فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة فلم‬
‫أعلمه بالهجرة في خلوة(‪. )3‬‬ ‫يأذن له حتى هاجر معه‪ ،‬والنبي‬
‫الو جه الخا مس ‪ :‬أ نه ل ما كان في الغار كان يأت يه بالخبار ع بد ال بن أ بي ب كر وكان معه ما‬
‫عامر بن أبي فهيرة كما تقدم ذلك‪ ،‬فكان يمكنه أن يعلمهم بخبره ‪.‬‬
‫ال سادس ‪ :‬أ نه إذا كان كذلك‪ ،‬والعدو قد جاء إلى الغار‪،‬ومشوا فو قه‪ ،‬كان يمك نه حينئذ أن يخرج‬
‫من الغار‪ ،‬وينذر العدو به‪،‬وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو‪ ،‬فمن يكون مبغضا لشخص‪،‬‬
‫طالبا لهل كه‪ ،‬ينت هز الفر صة في م ثل هذه الحال‪ ،‬ال تي ل يظ فر في ها عد ٌو بعدوه إل أخذه‪ ،‬فإ نه وحده‬
‫في الغار ‪.‬‬

‫(فصــل)‬
‫وأ ما قول الراف ضي ‪ (( :‬ال ية تدل على نق صه‪ ،‬لقوله تعالى ‪ :‬لَ َتحْ َز نْ إِنّ اللّ هَ َمعَنَا ‪ )4( ‬فإ نه‬
‫‪.‬‬ ‫))‬ ‫يدل على خوره‪ ،‬وقلة صبره‪ ،‬وعدم يقينه وعدم رضاه بمساواته للنبي ‪ ،‬وبقضاء ال وقدره‬
‫فإ نه إذا‬ ‫))‬ ‫إ نه ا ستصحبه حذرا م نه لئل يظ هر أمره‬ ‫((‬ ‫فالجواب ‪ :‬أول ‪ :‬أن هذا ينا قض قول كم ‪:‬‬
‫كان عدوه‪ ،‬وكان مبطنا لعِداه الذيجن يطلبونجه‪ ،‬كان ينبغجي أن يفرح ويسجرّ ويطمئن إذا جاءه العدو ‪.‬‬
‫وأيضا فالعدو قد جاءوا ومشوا فوق الغار‪ ،‬فكان ينبغي أن ينذرهم به ‪.‬‬

‫‪ ) (3‬انظر البخاري ج ‪ 5‬ص ‪ – 49‬مطبعة النهضة ‪.‬‬


‫‪ ) (4‬الية ‪ 40‬من سورة التوبة ‪.‬‬
‫وأيضا فكان الذي يأتيه بأخبار قريش ابنه عبد ال‪ ،‬فكان يمكنه أن يأمر ابنه أن يخبر بهم قريشا‬
‫‪.‬‬
‫وأيضجا فغلمجه عامجر بجن فهيرة هجو الذي كان معجه رواحلهمجا‪ ،‬فكان يمكنجه أن يقول لغلمجه ‪:‬‬
‫أخبرهم به ‪.‬‬
‫فكلمهم في هذا يبطل قولهم ‪ :‬إنه كان منافقا‪ ،‬ويثبت أنه كان مؤمنا به‪.‬‬
‫وأعلم أنه ليس في المهاجرين منافق‪ ،‬وإنما كان النفاق في قبائل النصار‪ ،‬لن أحدا لم يهاجر إل‬
‫باختياره‪ ،‬والكافر بمكة لم يكن يختار الهجرة‪ ،‬ومفارقة وطنه وأهله بنصر عدوه ‪.‬‬
‫وإذا كان هذا اليمان ي ستلزم إيما نه‪ ،‬فمعلوم أن الر سول ل يختار لم صاحبته في سفر هجر ته‪،‬‬
‫الذي هو أع ظم ال سفار خوفا‪ ،‬و هو ال سفر الذي جُ عل مبدأ التار يخ لجللة قدره في النفوس‪ ،‬ولظهور‬
‫أمره ؛ فإن التاريخ ل يكون إل بأمر ظاهر معلوم لعامة الناس – ل يستصحب الرسول فيه من يختص‬
‫بصحبته‪ ،‬إل وهو من أعظم الناس طمأنينة إليه‪ ،‬ووثوقا به ‪.‬‬
‫ويك في هذا في فضائل ال صدّيق‪ ،‬وتمييزه على غيره‪ ،‬وهذا من فضائل ال صدّيق ال تي لم يشر كه‬
‫عنده ‪.‬‬ ‫فيها غيره‪ ،‬ومما يدل على أنه أفضل أصحاب رسول ال‬

‫(فصــل)‬
‫‪.‬‬ ‫))‬ ‫إنه يدل على نقصه‬ ‫((‬ ‫وأما قوله ‪:‬‬
‫ص عمّن هو أكمل منه ‪.‬‬
‫فنقول ‪:‬أولً ‪ :‬النقص نوعان ‪ :‬نقص ينافي إيمانه‪ ،‬ونق ٌ‬
‫ق ِممّا‬
‫ن عَلَ ْيهِمْ َو َل تَكُ فِي ضَيْ ٍ‬
‫فإن أراد الول‪ ،‬فهو باطل ‪ .‬فإن ال تعالى قال لنبيه ‪َ : ‬ولَ َتحْزَ ْ‬
‫ن ‪. )5( ‬‬
‫َي ْمكُرُو َ‬
‫وقال للمؤمنين عامة ‪َ  :‬و َل َتهِنُوا َو َل َتحْزَنُواْ َوأَنْ ُتمُ ْالَعْ َلوْنَ (‪. )6‬‬
‫لَ َتمُدّنّ عَيْنَيْ كَ إِلَى مَا مَ ّتعْنَا بِ هِ‬ ‫*‬ ‫ن ا ْل َعظِي مُ‬
‫ك سَ ْبعًا مّ نَ ا ْلمَثَانِي وَالْقُرْآ َ‬
‫وَ َلقَدْ أَتَيْنَا َ‬ ‫وقال ‪:‬‬
‫ن عَلَ ْيهِ مْ ‪ . )7( ‬فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع‪ ،‬ونهى المؤمنين جملة‪،‬‬
‫أَ ْزوَاجًا مّ ْنهُ مْ َو َل َتحْزَ ْ‬
‫فعُلم أن ذلك ل ينافي اليمان ‪.‬‬
‫أكمل من حال أبي بكر‬ ‫وإن أراد بذلك أنه ناقص عمّن هو أكمل منه‪ ،‬فل ريب أن حال النبي‬
‫‪ .‬وهذا ل ينازع فيه أحدٌ من أهل السنّة ‪ .‬ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليّا أو عثمان أو عمر أو‬
‫في هذه الحال‪ ،‬ولو كانوا معه لم يُعلم حالهم يكون أكمل‬ ‫غيرهم أفضل منه‪ ،‬لنهم لم يكونوا مع النبي‬
‫من حال الصدّيق‪ ،‬بل المعروف من حالهم دائما وحاله‪ ،‬أنهم وقت المخاوف يكون الصدّيق أكمل منهم‬

‫‪ ) (5‬الية ‪ 127‬من سورة النحل ‪.‬‬


‫‪ ) (6‬الية ‪ 139‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫‪ ) (7‬اليتان ‪ 88 ،87‬من سورة الحجر ‪.‬‬
‫كلهم يقينا وصبرا‪ ،‬وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينا وطمأنينة‪ ،‬وعندما يتأذّى منه‬
‫النبي يكون الصديق أتبعهم لمرضاته‪ ،‬وأبعدهم عما يؤذيه ‪.‬‬
‫وبعد وفاته ‪.‬‬ ‫هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول ال‬
‫وأيضا فقصة يوم بدر في العريش‪ ،‬ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة‪ ،‬برز ذلك على‬
‫سائر الصحابة‪ ،‬فكيف ينسب إلى الجزع ؟!‬
‫وأيضا فقيامه بقتال المرتدّين ومانعي الزكاة‪ ،‬وتثبيت المؤمنين‪ ،‬مع تجهيز أسامة‪ ،‬مما يبيّن أنه‬
‫أعظم الناس طمأنينة ويقينا ‪.‬‬
‫وال سنّى ل ينازع في فضله عَلَى ع مر وعثمان‪ ،‬ول كن الراف ضي الذي ادّ عى أن عليّ ا كان أك مل‬
‫من الثلثة في هذه الصفات دعوا ُه بُهت وكذب وفرية؛ فإن من تدبّر سيرة عمر وعثمان علم أنهما كانا‬
‫في الصبر والثابت وقلة الجزع في المصائب أكمل من عليّ‪،‬فعثمان حاصروه وطلبوا خلعه من الخلفة‬
‫أو قتله‪ ،‬ولم يزالوا به حتى قتلوه‪ ،‬وهو يمنع الناس من مقاتلتهم‪ ،‬إلى أن قُتل شهيدا‪ ،‬وما دافع عن نفسه‬
‫‪ .‬فهل هذا إل من أعظم الصبر على المصائب ؟!‬
‫ومعلوم أن عليّ ا لم ي كن صبره ك صبر عثمان‪ ،‬بل كان يحصل له من إظهار التأذّي من ع سكره‬
‫الذ ين يقاتلون م عه‪ ،‬و من الع سكر الذ ين يقاتل هم‪ ،‬ما لم ي كن يظ هر مثله‪ ،‬ل من أ بي ب كر ول ع مر ول‬
‫عثمان ‪.‬‬

‫(فصــل)‬
‫قال الراف ضي ‪ (( :‬إن الية تدل على خَ َورِ ِه وقلة صبره‪ ،‬وعدم يقينه بال‪ ،‬وعدم رضاه بم ساواته‬
‫‪.‬‬ ‫))‬ ‫للنبي ‪ ،‬وبقضاء ال وقدره‬
‫فهذا كله ‪ :‬كذب منه ظاهر‪ ،‬ليس في الية ما يدل على هذا ‪ .‬وذلك من وجهين ‪:‬‬
‫أحده ما ‪ :‬أن النهي عن الشيء ل يدل على وقو عه‪ ،‬بل يدل على أنه ممنوع منه‪ ،‬لئل ي قع فيما‬
‫ن وَا ْلمُنَا ِفقِي نَ ‪ ،) )1‬فهذا ل يدل على أ نه‬
‫ب عد‪ ،‬كقوله تعالى ‪ :‬يَا أَيّهَا النّبِيّ اتّ قِ اللّ َه َولَ ُتطِ ِع ا ْلكَافِرِي َ‬
‫كان يطيعهم ‪.‬‬
‫لئل يُقتل فيذهب السلم‪ ،‬وكان يوّد‬ ‫الثاني ‪ :‬أنه بتقدير أن يكون حزن‪ ،‬فكان حزنه على النبي‬
‫أن يفدي النبي ‪ .‬ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة‪ ،‬كان يمشي أمامه تارة‪ ،‬وراءه تارة‪ ،‬فسأله النبي‬
‫أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون وراءك )) رواه أحمد ‪.‬‬ ‫((‬ ‫عن ذلك‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫‪ :‬ل بالمع نى الذي أراده الكاذب المفترى عل يه ‪ :‬أ نه لم‬ ‫وحينئذ لم ي كن ير ضى بم ساواة ال نبي‬
‫ويعيش هو‪ ،‬بل كان يختار أن يفديه‬ ‫يرض بأن يموتا جميعا‪ ،‬بل كان ل يرضى بأن يُقتل رسول ال‬
‫بنفسه وأهله وماله ‪.‬‬

‫(‪ )1‬الية ‪ 1‬من سورة الحزاب ‪.‬‬


‫وهذا واجب على كل مؤمن‪ ،‬والصدّيق َأقْوَم المؤمنين بذلك ‪ .‬قال تعالى‪  :‬النّبِيّ َأوْلَى بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ‬
‫أنه قال ‪ (( :‬ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب‬ ‫مِ نْ أَ ْنفُ سِ ِهمْ ‪ . )8( ‬وفي الصحيحين عن أنس عن النبي‬
‫إل يه من ولده ووالده والناس أجمع ين))(‪ )9‬وحز نه على ال نبي يدل على كمال موال ته ومحب ته‪ ،‬ون صحه‬
‫له‪ ،‬واحتراسه عليه‪ ،‬وذبّه عنه‪،‬ودفع الذى عنه ‪ .‬وهذا من أعظم اليمان ‪.‬‬

‫(فصــل)‬
‫وأما قوله ‪(( :‬إنه يدل على قلة صبره )) ‪.‬‬
‫فباطل‪ ،‬بل ول يدل على انعدام شيء من الصبر المأمور به‪ ،‬فإن الصبر على المصائب واجب‬
‫بالكتاب والسنّة‪ ،‬ومع هذا فحزن القلب ل ينافي ذلك ‪.‬‬
‫‪ (( :‬إن ال ل يؤاخذ على دمع العين‪ ،‬ول على حزن القلب‪ ،‬ولكن يؤاخذ على هذا –‬ ‫كما قال‬
‫يعني اللسان – أو يرحم ))(‪. )10‬‬
‫‪.‬‬ ‫))‬ ‫وقوله‪(( :‬إنه يدل على عدم يقينه بال‬
‫كذب وبهت ؛ فإن النبياء قد حزنوا‪ ،‬ولم يكن ذلك دليل على عدم يقينهم بال‪ ،‬كما ذكر ال عن‬
‫يعقوب ‪ .‬وث بت في ال صحيح أن ال نبي ل ما مات اب نه إبراه يم قال ‪ (( :‬تد مع الع ين‪ ،‬ويحزن القلب‪ ،‬ول‬
‫نقول إل ما يرضي الرب‪ ،‬وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ))(‪. )11‬‬
‫ن عَلَ ْي ِهمْ ‪. )12(‬‬
‫وقد نهى ال عن الحزن نبيه بقوله ‪َ  :‬و َل َتحْزَ ْ‬
‫يدل على الخور وعدم الرضا بقضاء ال وقدره )) ‪ .‬هو با طل‪ ،‬ك ما تقدم نظائره‬ ‫((‬ ‫وكذلك قوله ‪:‬‬
‫‪.‬‬

‫‪ ) (8‬الية ‪ 6‬من سورة الحزاب ‪.‬‬


‫‪ ) (9‬انظر البخاري ج ‪ – 1‬ص ‪ – 9‬مطبعة النهضة – ومسلم ج ‪ 1‬ص ‪. 67‬‬
‫‪ ) (10‬انظر البخاري ج ‪ 2‬ص ‪ 84‬ومسلم ج ‪ 2‬ص ‪. 636‬‬
‫‪ ) (11‬انظر البخاري ج ‪ 2‬ص ‪ 84 – 83‬ومسلم ج ‪ 4‬ص ‪. 1808 – 1807‬‬
‫‪ ) (12‬الية ‪ 127‬من سورة النحل ‪.‬‬
‫(فصــل)‬
‫ع نه‪ ،‬وإن كان مع صية كان ما ادّعوه‬ ‫و قو له ‪ (( :‬وإن كان الحزن طا عة ا ستحال ن هي ال نبي‬
‫‪.‬‬ ‫))‬ ‫فضيلةً رذيلة‬
‫ل عليجه‬
‫والجواب ‪ :‬أول ‪ :‬أنجه لم يدع أحجد أن مجرد الحزن كان هجو الفضيلة‪ ،‬بجل الفضيلة مجا د ّ‬
‫صرَهُ اللّهُ إِذْ َأخْ َرجَهُ الّذِي نَ َكفَرُوا ثَانِ يَ اثْنَيْ نِ إِذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ إِذْ َيقُولُ‬
‫صرُوهُ َفقَدْ نَ َ‬
‫قوله تعالى ‪ِ :‬إلّ تَنْ ُ‬
‫ن الّلهَ َمعَنَا ‪. )13(‬‬
‫لِصَاحِ ِبهِ لَ َتحْ َزنْ إِ ّ‬
‫واختصج بصجحبته‪ ،‬وكان له كمال‬
‫ّ‬ ‫فجي هذه الحال‪،‬‬ ‫فالفضيلة كونجه هجو الذي خرج مجع النجبي‬
‫له ‪ (( :‬إن ال معنجا )) ومجا يتضمنجه ذلك مجن كمال موافقتجه للنجبي ‪،‬‬ ‫الصجحبة مطلقجا‪ ،‬وقول النجبي‬
‫وموال ته‪ ،‬ف في هذه الحال من كمال إيما نه وتقواه ما هو‬ ‫ومحب ته وطمأنين ته‪ ،‬وكمال معون ته لل نبي‬
‫الفضيلة ‪.‬‬
‫حزِ نَ‪ ،‬مع أن القرآن لم يدل على أنه‬
‫هو الموجب لحزنه‪ ،‬إن كان َ‬ ‫وكمال محبته ونصره للنبي‬
‫ن كما تقدم ‪.‬‬
‫حزِ َ‬
‫َ‬
‫ن عَلَ ْيهِ مْ َولَ َت كُ فِي ضَ ْي قٍ‬
‫ويقال ‪ :‬ثانيا ‪ :‬هذا بعينه موجود في قوله عز وجل لنبيّه ‪َ  :‬و َل َتحْزَ ْ‬
‫(‪)15‬‬
‫ن عَلَ ْيهِ مْ ‪‬‬
‫ك إِلَى مَا مَ ّتعْنَا بِ ِه أَ ْزوَاجًا مّ ْنهُ مْ َولَ َتحْزَ ْ‬
‫ِممّ ا َي ْمكُرُو نَ ‪ ، )14( ‬وقوله ‪َ  :‬ل َتمُدّنّ عَيْنَيْ َ‬
‫ف سَ ُنعِيدُهَا سِيرَ َتهَا الُولَى‪. )16( ‬‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬بل في قوله تعالى لموسى ‪ :‬خُذْهَا َولَ َتخَ ْ‬
‫فيقال ‪ :‬إنجه أثمجر أن يطمئن ويثبجت‪ ،‬لن الخوف يحصجل بغيجر اختيار العبجد‪ ،‬إذا لم يكجن له مجا‬
‫يوجب المن‪ ،‬فإذا حصل ما يوجب المن زال الخوف‪.‬‬
‫ن هى عن الحزن مقرون ب ما يو جب‬ ‫وكذلك قول ال نبي ل صدّيقه ‪َ  :‬ل َتحْزَ نْ إِنّ اللّ هَ َمعَنَا‬
‫وإذا ح صل ال خبر ب ما يو جب زوال الحزن والخوف زال‪ ،‬وإل‬ ‫إِنّ اللّ هَ َمعَنَا‬ ‫زواله‪ ،‬و هو قوله ‪:‬‬
‫فهو يهجم على النسان بغير اختياره‪.‬‬
‫ويقال ‪ :‬ثال ثا ‪ :‬ل يس في نه يه عن الحزن ما يدل على وجوده ك ما تقدم‪ ،‬بل قد ين هى ع نه لئل‬
‫يو جد إذا و جد مقتض يه‪ ،‬وحينئذ فل يضر نا كو نه مع صية لو و جد‪ ،‬وإن و جد‪ ،‬فالن هي ‪ .‬قد يكون ن هي‬
‫ت سلية وتعز ية وت ثبيت وإن لم ي كن المن هي ع نه مع صية بل قد يكون مما يح صل بغير اختيار المن هي‪،‬‬
‫وقد يكون الحزن من هذا الباب ‪.‬‬

‫‪ ) (13‬الية ‪ 40‬من سورة التوبة ‪.‬‬


‫‪ ) (14‬الية ‪ 127‬من سورة النحل ‪.‬‬
‫‪ ) (15‬الية ‪ 88‬من سورة الحجر ‪.‬‬
‫‪ ) (16‬الية ‪ 21‬من سورة طه ‪.‬‬
‫ويقال ‪ :‬رابعا ‪ :‬عامجة عقلء بنجي آدم إذا عاشجر أحدهجم الخجر مدة يتجبين له صجداقته مجن‬
‫عداوته‪،‬فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة‪ ،‬ول يتبين له هل هو صديقه أو عدوه‪ ،‬وهو‬
‫يجتمع معه في دار الخوف ؟! وهل هذا إل قدح في الرسول ؟‬
‫ثم يقال ‪ :‬جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حسن المبعث إلى الموت فإنه أول من‬
‫آ من به من الرجال الحرار‪،‬ود عا غيره إلى اليمان به ح تى آمنوا‪ ،‬وبذل أمواله في تخل يص من كان‬
‫آمن به من المستضعفين‪ ،‬مثل بلل وغيره‪ ،‬وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى اليمان به‪،‬‬
‫كل يوم إلى بيته ‪ :‬إما غدوة وإما عشية‪ ،‬وقد آذاه الكفّار على إيمانه‪ ،‬حتى خرج من مكة‬ ‫ويأتي النبي‬
‫فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب – سيد القارة – وقال إلى أين ؟ وقد تقدم حديثه‪ ،‬فهل يشك من‬
‫له أدنى مسكة من عقل أن مثل هذا ل يفعله إل من هو في غاية الموالة والمحبة للرسول ولما جاء به‬
‫وأن موال ته ومحب ته بل غت به إلى أن يعادي قو مه‪ ،‬وي صبر على أذا هم‪ ،‬وين فق أمواله على من يحتاج‬
‫إليه من إخوانه المؤمنين ‪.‬‬
‫ولم يكن يحصل للنبي أذى قط من أبي بكر مع خلوته به واجتماعه به ليل ونهارا‪ ،‬وتمكنه مما‬
‫يريد المخادع من إطعام سم‪ ،‬أو قتل أو غير ذلك ‪.‬‬
‫وأيضا فكان حفظ ال لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السيئ‪ ،‬لو كان مضمرا‬
‫له سوءا‪ ،‬وهو قد أطلعه ال على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرا لليمان بنية الفتك به‪ ،‬وكان ذلك‬
‫في قعدة واحدة‪ ،‬وكذلك أطلعه على ما في نفس عُمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للسلم يريد‬
‫الفتك به‪ ،‬وأطلعه ال على المنافقين في غزوة تبوك‪ ،‬لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته‪.‬‬
‫وأبو بكر معه دائما ليل ونهارا‪ ،‬حضرا وسفرا‪ ،‬في خلوته وظهوره ‪ .‬ويوم بدر يكون معه وحده‬
‫ل يعلم ضمير ذلك قط‪ ،‬ومن له أدنى نوع فطنة‬ ‫في العريش‪ ،‬ويكون في قلبه ضمير سيئ‪ ،‬والنبي‬
‫و صدّيقه إل من هو – مجع فرط جهله‬ ‫يعلم ذلك فجي أقجل من هذا الجتماع‪ ،‬فهجل يَظُن ذلك بال نبي‬
‫وكمال ن قص عقله – من أع ظم الناس تنقّ صا للر سول‪ ،‬وطع نا ف يه‪ ،‬وقد حا في معرف ته ّ؟ فإن كان هذا‬
‫الجاهل – مع ذلك – محبا للرسول‪ ،‬فمن له أدنى خبرة بدين السلم يعلم أن مذهب الرافضة مناقض‬
‫له(‪. )17‬‬

‫(فصــل)‬
‫شرك معه المؤمنين‬ ‫وأما قول الرافضي ‪:‬إن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول ال‬
‫إل في هذا الموضع‪ ،‬ول نقص أعظم منه ‪.‬‬
‫فالجواب ‪ :‬أول ‪ :‬أن هذا يو هم أ نه ذَكَر ذلك في موا ضع متعددة‪ ،‬ول يس كذلك‪ ،‬بل لم يذ كر ذلك‬
‫إل في قصة حُنين ‪.‬‬

‫‪ ) (17‬أي مناقض للسلم كما هو الواقع لمن عرف مذهبهم ونظر أحوالهم ‪.‬‬
‫علَ ْيكُمُ الَرْضَ ِبمَا‬
‫ن عَ ْنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ َ‬
‫عجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُتكُمْ فَلَمْ ُتغْ ِ‬
‫كما قال تعالى ‪ :‬وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَ ْ‬
‫علَى ا ْل ُم ْؤمِنِي نَ َوأَنْ َزلَ جُنُودًا لّ مْ تَ َروْهَا‬
‫سكِينَ َتهُ عَلَى رَ سُو ِلهِ وَ َ‬
‫ت ُثمّ وَلّيْتُم مّدْبِرِي نَ * ُثمّ أَنْ َز َل اللّ ُه َ‬
‫َرحُبَ ْ‬
‫‪ )18( ‬فذكر إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين‪ ،‬بعد أن ذكر توليتهم مدبرين ‪.‬‬
‫وقد ذكر إنزال السكينة على المؤمنين وليس معهم الرسول في قوله‪ :‬إِنّا فَ َتحْنَا لَ كَ فَ ْتحًا مّبِينًا ‪‬‬
‫ي اللّ ُه عَ نِ‬
‫ض َ‬
‫سكِي َنةَ فِي قُلُو بِ ا ْل ُم ْؤمِنِي نَ ‪ )20( ‬الية‪ ،‬وقوله ‪َ :‬لقَدْ رَ ِ‬
‫ُهوَ الّذِي أَنْ َز َل ال ّ‬ ‫(‪ )19‬إلى قوله ‪:‬‬
‫شجَرَةِ َفعَ ِلمَ مَا فِي ُقلُو ِبهِمْ فَأَنْ َز َل السّكِي َنةَ عَلَ ْي ِهمْ ‪. )21(‬‬
‫ت ال ّ‬
‫ن إِذْ يُبَا ِيعُونَكَ َتحْ َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫ويقال ‪ :‬ثانيا ‪ :‬الناس قد تنازعوا في عَوْد الضمير في قوله تعالى ‪ :‬فَأَ ْن َزلَ الّلهُ سَكِينَ َتهُ عَلَيْهِ‬
‫‪ .‬ومن هم من قال ‪ :‬إ نه عائد إلى أ بي ب كر‪ ،‬ل نه أقرب‬ ‫‪ . )22( ‬فمن هم من قال ‪ :‬إ نه عائد إلى ال نبي‬
‫المذكورين‪ ،‬ولنه كان محتاجا إلى إنزال السكينة‪ ،‬فأنزل السكينة عليه‪ ،‬كما أنزلها على المؤمنين الذين‬
‫بايعوه تحت الشجرة ‪.‬‬
‫كان م ستغنيا عن ها في هذه الحال لكمال طمأنين ته‪ ،‬بخلف إنزال ها يوم حن ين‪ ،‬فإ نه كان‬ ‫وال نبي‬
‫محتاجا إليها لنهزام جمهور أصحابه‪ ،‬وإقبال العدو نحوه‪ ،‬وسوقه ببغلته إلى العدو ‪.‬‬
‫وعلى القول الول فيكون الضم ير عائدا إلى ال نبي ‪ ،‬ك ما عاد الضم ير إل يه في قوله ‪َ :‬وأَيّدَ هُ‬
‫ِبجُنُودٍ ّلمْ تَ َروْهَا ‪ . )23(‬ولن سياق الكلم كان في ذكره‪ ،‬وإنما ذكر صاحبه ضمنا وتبعا ‪.‬‬
‫هو المتبوع المطاع‪ ،‬وأ بو‬ ‫وال نبي‬ ‫إِنّ اللّ َه َمعَنَا‬ ‫ل كن يقال ‪ :‬على هذا ل ما قال ل صاحبه ‪:‬‬
‫بكر تابع مطيع‪ ،‬وهو صاحبه‪ ،‬وال معهما‪ ،‬فإذا حصل للمتبوع في هذه الحال سكينة وتأييد‪ ،‬كان ذلك‬
‫للتا بع أي ضا بح كم الحال‪ ،‬فإ نه صاحب تا بع لزم‪ ،‬ولم يح تج أن يذ كر ه نا أ بو ب كر لكمال الملز مة‬
‫في التأييد ‪.‬‬ ‫والمصاحبة‪ ،‬التي توجب مشاركة النبي‬

‫(فصــل)‬
‫قال الرافضي ‪ (( :‬وأما قوله ‪ :‬وَسَ ُيجَنّبُهَا الَتْقَى (‪ ، )24‬فإن المراد به أبو الدحداح حيث اشترى‬
‫على صاحب النخلة نخلة في الجنة‪ ،‬فسمع أبو الدحداح‪،‬‬ ‫نخلة لشخص لجل جاره‪ ،‬وقد عرض النبي‬
‫له بستانا عوضا في الجنة)) ‪.‬‬ ‫فاشتراها ببستان له ووهبها له الجار‪ ،‬فجعل النبي‬
‫والجواب ‪ :‬أن يُقال ‪ :‬ل يجوز أن تكون هذه اليجة مختصجة بأبجي الدحداح دون أبجي بكجر باتفاق‬
‫أهجل العلم بالقرآن وتفسجيره وأسجباب نزوله‪ ،‬وذلك أن هذه السجورة مكيّةج باتفاق العلماء ‪ .‬وقصجة أبجي‬

‫‪ ) (18‬اليتان ‪ 26 ،25‬من سورة التوبة ‪.‬‬


‫‪ ) (19‬الية ‪ 1‬من سورة الفتح ‪.‬‬
‫‪ ) (20‬الية ‪ 4‬من سورة الفتح‪.‬‬
‫‪ ) (21‬الية ‪ 18‬من سورة الفتح ‪.‬‬
‫‪ ) (22‬الية ‪ 40‬من سورة التوبة ‪.‬‬
‫‪ ) (23‬الية ‪ 40‬من سورة التوبة ‪.‬‬
‫‪ ) (24‬الية ‪ 17‬من سورة الليل ‪.‬‬
‫الدحداح كا نت بالمدي نة باتفاق العلماء ؛ فإ نه من الن صار‪ ،‬والن صار إن ما صحبوه بالمدي نة‪ ،‬ولم ت كن‬
‫البساتين – و هي الحدائق التي ت سمى بالحيطان – إل بالمدي نة‪ ،‬فمن الممت نع أن تكون ال ية لم تنزل إل‬
‫بعد قصة أبي الدحداح‪ ،‬بل إن كان قد قال بعض العلماء ‪ :‬إنها نزلت فيه‪ ،‬فمعناه أنه ممن دخل في الية‬
‫ويكون المراد بذلك أنها دلّت على هذا الحكم وتناولته‪ ،‬وأريد بها هذا الحكم ‪.‬‬ ‫))‬ ‫في كذا‬
‫ومنهم من يقول ‪ :‬بل قد تنزل الية مرتين ‪ :‬مرة لهذا السبب‪ ،‬ومرة لهذا السبب ‪.‬‬
‫فعلى قول هؤلء يمكن أنها نزلت مرة ثانية في قصة أبي الدحداح‪ ،‬وإل فل خلف بين أهل العلم‬
‫‪.‬‬ ‫أنها نزلت بمكة قبل أن يسلم أبو الدحداح‪ ،‬وقبل أن يهاجر النبي‬
‫وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في قصة أبي بكر ‪ .‬فذكر ابن جرير في تفسيره‬
‫بإسناده عن عبد ال بن الزبير وغيره أنها نزلت في أبي بكر ‪.‬‬
‫وكذلك ذكره ا بن أ بي حا تم – والثعل بي – أن ها نزلت في أ بي ب كر عن ع بد ال و عن سعيد بن‬
‫المسيب ‪.‬‬
‫ويدل على أنها نزلت في أبي بكر وجوه ‪:‬‬
‫إِنّ َأكْ َر َمكُمْ عِنْدَ اللّ ِه أَ ْتقَاكُمْ (‪ . )26‬فل بد‬ ‫أحدها ‪ :‬أنه قال ‪ :‬وَسَ ُيجَنّ ُبهَا الَ ْتقَى (‪ ، )25‬وقال ‪:‬‬
‫ل في هذه ال ية‪ ،‬و هو أكرم هم عند ال‪ ،‬ولم ي قل أ حد ‪ :‬إن أبا الدحداح ونحوه‬
‫أن يكون أتقى ال مة داخ ً‬
‫أفضل وأكرم من السابقين الوّلين من المهاجرين ‪.‬‬
‫الوجـه الثانـي ‪ :‬أ نه إذا كان الت قى هو الذي يؤتجي ماله يتزكجى‪ ،‬وأكرم الخلق أتقا هم‪ ،‬كان هذا‬
‫أف ضل الناس ‪ .‬والقولن المشهوران في هذه ال ية ‪ :‬قول أ هل ال سنة أن أف ضل الخلق أ بو ب كر‪ ،‬وقول‬
‫الشيعة عليّ‪ ،‬فلم يجز أن يكون التقى الذي هو أكرم الخلق على ال واحدا غيرهما‪ ،‬وليس منهما واحد‬
‫التقى )) وجب أن يكون أبا بكر داخل في‬ ‫((‬ ‫يدخل في التقى‪ ،‬وإذا ثبت أنه ل بد من دخول أحدهما في‬
‫الية‪ ،‬ويكون أوْلى بذلك من عليّ لسباب ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنه قال ‪ :‬الّذِي ُيؤْتِي مَالَ ُه يَتَ َزكّى (‪ . )27‬وقد ثبت في النقل المتواتر – في الصحاح‬
‫وغيرها – أن أبا بكر أنفق ماله‪ ،‬وأنه مقدّم في ذلك على جميع الصحابة ‪.‬‬
‫يمونه لما أخذه من أبي طالب لمجاعة حصلت في بمكة‪ ،‬وما زال عل يّ‬ ‫وأما عل يّ فكان النبي‬
‫فقيرا ح تى تزوّج بفاط مة و هو فق ير ‪.‬وهذا مشهور معروف ع ند أ هل ال سنة والشي عة‪ ،‬وكان في عيال‬
‫النبي ‪ ،‬لم يكن له ما ينفقه‪ ،‬ولو كان له مال لنفقه‪ ،‬لكنه كان منفقا عليه ل منفِقا‪.‬‬
‫السبب الثاني ‪ :‬قوله ‪َ :‬ومَا َلحَدٍ عِنْدَ هُ مِن ِن ْعمَ ٍة ُتجْزَى (‪ . )28‬وهذه لبي بكر دون عل يّ‪ ،‬لن‬
‫عنده نعمجة اليمان أن هداه ال بجه‪ ،‬وتلك النعمجة ل يجزى بهجا الخلق‪ ،‬بجل أججر‬ ‫أبجا بكجر كان للنجبي‬
‫‪ ) (25‬الية ‪ 17‬من سورة الليل ‪.‬‬
‫‪ ) (26‬الية ‪ 13‬من سورة الحجرات ‪.‬‬
‫‪ ) (27‬الية ‪ 18‬من سورة الليل ‪.‬‬
‫‪ ) (28‬الية ‪ 19‬من سورة الليل ‪.‬‬
‫ن (‪، )29‬‬
‫ن ا ْلمُتَكَّلفِي َ‬
‫ن أَجْ ٍر َومَا أَنَا مِ َ‬
‫ُق ْل مَا أَ سْئَُل ُكمْ عَـلَ ْي ِه مِ ْ‬ ‫الرسول فيها على ال‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫(‪. )30‬‬ ‫ن َأجْرٍ َف ُهوَ َل ُكمْ إِنْ َأجْ ِريَ ِإ ّل عَلَى الّل ِه‬
‫وقال ‪ُ :‬قلْ مَا سَأَلْ ُت ُكمْ مّ ْ‬
‫عنده نعمة الدنيا‪،‬‬ ‫وأما النعمة التي يُجزى بها الخلق فهي نعمة الدنيا‪ ،‬وأبو بكر لم تكن للنبي‬
‫عنده نعمة دنيا يمكن أن تُجزى ‪.‬‬ ‫بل نعمة دين‪ ،‬بخلف عليّ‪ ،‬فإنه كان للنبي‬
‫سبب يواليه لجله‪ ،‬ويخرج ماله‪ ،‬إل اليمان‪ ،‬ولم‬ ‫الثالث ‪ :‬أن الصدّيق لم يكن بينه وبين النبي‬
‫ين صره ك ما ن صره أ بو طالب ل جل القرا بة‪ ،‬وكان عمله كاملً في إخل صه ل تعالى‪ ،‬ك ما قال ‪ِ :‬إلّ‬
‫سوْفَ َيرْضَى ‪‬‬
‫جهِ رَ ّب ِه ْالَعْلَى * وَ َل َ‬
‫ابْ ِتغَا َء َو ْ‬

‫(فصــل)‬
‫عرَا بِ (‪. )31‬فإنه أراد الذين تخلّفوا عن‬
‫قال الرافضي ‪((:‬وأما قوله تعالى ‪ُ :‬قلْ لّ ْل ُمخَّلفِي نَ مِ نَ الَ ْ‬
‫(‪)32‬‬
‫ن تَتّ ِبعُونَا ‪‬‬
‫الحديبية ‪ .‬والتمس هؤلء أن يخرجوا إلى غنيمة خ ْيبَر‪ ،‬فمنعهم ال تعالى بقوله ‪ُ :‬قلْ لَ ْ‬
‫َابـ‬
‫عر ِ‬ ‫ِنـ ْالَ ْ‬
‫ِينـ م َ‬
‫قُل لّ ْل ُمخَّلف َ‬ ‫‪ ،‬لنجه تعالى جعجل غنيمجة خيجبر لمجن شهجد الحديبيجة ‪ .‬ثجم قال تعالى ‪:‬‬
‫إلى غزوات كثيرة كمؤ تة وحُن ين‬ ‫عوْنَ إِلَى َقوْ ٍم ُأوْلِي بَأْ سٍ شَدِي ٍد ‪ . )33( ‬و قد دعا هم ر سول ال‬
‫سَتُدْ َ‬
‫‪ .‬وأيضجا جاز أن يكون عليّاج قاتجل الناكثيجن والقاسجطين‬ ‫وتبوك وغيرهجا‪ ،‬وكان الداعجي رسجول ال‬
‫ي حر بك حر بي‪ ،‬وحرب ر سول ال‬
‫يا عل ّ‬ ‫((‬ ‫‪:‬‬ ‫والمارق ين‪ ،‬وكان رجوع هم إلى طاع ته إ سلما‪ ،‬لقوله‬
‫كفر )) ‪.‬‬
‫فالجواب ‪ :‬أما ال ستدلل بهذه ال ية على خل فة الصديق ووجوب طاع ته‪ ،‬ف قد استدل ب ها طائ فة‬
‫جعَكَ‬
‫من أهل العلم‪ ،‬منهم الشافعي والشعري وابن حزم وغيرهم ‪ .‬واحتجّوا بأن ال تعالى قال‪  :‬فَإِن ّر َ‬
‫ي عَ ُدوّا ‪ )34(‬قالوا ‪:‬‬
‫ن ُتقَاتِلُوا َمعِ َ‬
‫ي أَبَدًا وَلَ ْ‬
‫ن َتخْ ُرجُوا َمعِ َ‬
‫ك لِ ْلخُرُوجِ َف ُقلْ لّ ْ‬
‫اللّهُ إِلَى طَا ِئ َفةٍ مِ ْنهُمْ فَاسْتَأْذَنُو َ‬
‫فقد أمر ال رسوله أن يقول لهؤلء ‪ :‬لن تخرجوا معي أبدا‪ ،‬ولن تقاتلوا معي عدوا‪ ،‬فعُلم أن الداعي لهم‬
‫إلى القتال ليس رسول ال ‪ ،‬فوجب أن يكون من بعده‪ ،‬وليس إل أبا بكر‪ ،‬ثم عمر‪ ،‬ثم عثمان‪ ،‬الذين‬
‫‪.‬‬ ‫ُتقَاتِلُو َن ُهمْ َأوْ ُيسْ ِلمُونَ‬ ‫دعوا الناس إلى قتال فارس والروم وغيرهم أو يسلمون‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫س شَدِيدٍ ُتقَاتِلُو َنهُ مْ‬
‫ن إِلَى َقوْ مٍ ُأوْلِي َبأْ ٍ‬
‫عوْ َ‬
‫سَتُدْ َ‬ ‫فوجه الستدلل من الية أن يقال قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن ‪ )35(‬يدل على أنهم متصفون بأنهم أولو بأس شديد‪ ،‬وبأنهم يقاتلون أو يسلمون ‪ .‬قالوا ‪ :‬فل‬
‫َأوْ يُ سْ ِلمُو َ‬
‫يجوز أن يكون دَعَاهُم إلى قتال أ هل م كة وهوازن عق يب عام الف تح‪ ،‬لن هؤلء هم الذ ين دعوا إلي هم‬
‫‪ ) (29‬الية ‪ 86‬من سورة سبأ ‪.‬‬
‫‪ ) (30‬الية ‪ 47‬من سورة سبأ ‪.‬‬
‫‪ ) (31‬الية ‪ 16‬من سورة الفتح ‪.‬‬
‫‪ ) (32‬الية ‪ 15‬من سورة الفتح ‪.‬‬
‫‪ ) (33‬الية ‪ 16‬من سورة الفتح ‪.‬‬
‫‪ ) (34‬الية ‪ 83‬من سورة التوبة ‪.‬‬
‫‪ ) (35‬الية ‪ 16‬من سورة الفتح ‪.‬‬
‫عام الحديبية‪ ،‬ومن لم يكن منهم فهو من جنسهم‪ ،‬ليس هو أشد بأسا منهم‪ ،‬كلهم عربٌ من أهل الحجاز‪،‬‬
‫وأصحابه يوم بدر وأحد‬ ‫وقتالهم من جنس واحد‪ ،‬وأهل مكة ومن حولها كانوا أشد بأسا وقتال للنبي‬
‫والخندق من أولئك‪ ،‬وكذلك في غير ذلك من السرايا ‪.‬‬
‫لم يذ كر له إ سنادا‪ ،‬فل يقوم به ح جة‪ ،‬فك يف‬ ‫))‬ ‫و ما ذكره في الحد يث من قوله (( حر بك حر بي‬
‫وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث‪.‬‬
‫وأ ما قول الراف ضي ‪ (( :‬إن الدا عي جاز أن يكون عليّ ا – دون من قبله من الخلفاء – لمّا قا تل‬
‫الناكثين والقاسطين والمارقين )) يعني ‪ :‬أهل الجمل وصفين والحرورية والخوارج ‪.‬‬
‫فيقال له ‪ :‬هذا باطل قطعا من وجوه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن هؤلء لم يكونوا أشد بأسا من بني جنسهم‪ ،‬بل معلوم أن الذين قاتلوه يوم الجمل كانوا‬
‫أقل من عسكره‪ ،‬وجيشه كانوا أكثر منهم‪.‬‬
‫وكذلك الخوارج كان جيشجه أضعافهجم ‪ ،‬وكذلك أهجل صجفّين كان جيشجه أكثجر منهجم‪ ،‬وكانوا مجن‬
‫جنسهم‪ ،‬فلم يكن في وصفهم بأنهم أولو بأسٍ شديد ما يوجب امتيازهم عن غيرهم ‪.‬‬
‫ومعلوم أن بنجي حني فة وفارس والروم كانوا فجي القتال أشدّ بأ سا من هؤلء بكثيجر‪ ،‬ولم يح صل‬
‫ي من الخوارج من استحرار القتل ما حصل في جيش الصدّيق‪ ،‬الذين قاتلوا أصحاب‬
‫في أصحاب عل ّ‬
‫مسجيلمة ‪ .‬وأمجا فارس والروم فل يشجك عاقجل أن قتالهجم كان أشجد مجن قتال المسجلمين العرب بعضهجم‬
‫بع ضا‪ ،‬وإن كان قتال العرب للكفّار في أول ال سلم كان أف ضل وأع ظم‪ ،‬فذاك لقلة المؤمن ين وضعف هم‬
‫في أول المر‪ ،‬ل أن عدوهم كان أشدّ بأسا من فارس والروم ‪.‬‬
‫الو جه الثا ني ‪ :‬أن عليّ ا لم يدع نا سا بعيد ين م نه إلى قتال أ هل الج مل وقتال الخوارج‪ ،‬ول ما قدم‬
‫البصرة لم يكن في نيّته قتال أحدٍ‪ ،‬بل وقع القتال بغير اختيار منه ومن طلحة والزبير ‪ .‬وأما الخوارج‬
‫فكان بعض عسكره يكفيهم‪ ،‬لم يدع أحدا إليهم من أعراب الحجاز ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أ نه لو قُدّر أن عليّ ا ت جب طاع ته في قتال هؤلء‪ ،‬ف من الممت نع أن يأ مر ال بطا عة من‬
‫يقاتل أهل الصلة لردهم إلى طاعة ول يّ المر‪ ،‬ول يأمر بطاعة من يقاتل الكفار ليؤمنوا بال ورسوله‬
‫‪.‬‬
‫ومعلوم أن من خرج من طا عة عل يّ ل يس بأب عد عن اليمان بال ور سوله م من كذّب الر سول‬
‫والقرآن‪ ،‬ولم يقرّ بش يء م ما جاء به الر سول‪ ،‬بل هؤلء أع ظم ذن با‪ ،‬ودعاؤ هم إلى ال سلم أف ضل‪،‬‬
‫وقتالهم أفضل‪ ،‬وإن ُقدّر أن الذين قاتلوا عليّا كفّار ‪.‬‬
‫وإن قيل ‪ :‬هم مرتدّون‪ ،‬كما تقوله الرافضة ‪.‬‬
‫ل آ خر غ ير مح مد‪ ،‬كأتباع م سيلمة الكذّاب‪ ،‬ف هو‬
‫فمعلوم أن من كا نت ردّ ته إلى أن يؤ من بر سو ٍ‬
‫أعظم ردة ممن لم يقرّ بطاعة المام‪،‬مع إيمانه بالرسول ‪.‬‬
‫ب ل من قاتله عليّ إل وذ نب من قاتله الثل ثة أع ظم‪ ،‬ول يُذ كر فضلٌ ول‬
‫فب كل حال ل يُذ كر ذن ٌ‬
‫ثواب لمن قاتل مع عليّ إل والفضل والثواب لمن قاتل مع الثلثة أعظم ‪.‬‬
‫ي كافرا ‪ .‬ومعلوم أن هذا قول باطل‪ ،‬ل يقوله إل حثالة الشيعة‪،‬‬
‫هذا بتقدير أن يكون من قاتله عل ّ‬
‫وإل فعقلؤهم ل يقولون ذلك ‪ .‬وقد علم بالتواتر عن عل يّ وأهل بيته أنهم لم يكونوا يكفّرون من قاتل‬
‫عليّا‪ .‬وهذا كله إذا سُلّم أن ذلك القتال كان مأمورا به ‪ .‬كيف وقد عُرف نزاع الصحابة والعلماء بعدهم‬
‫في هذا القتال ‪ :‬هل كان من باب قتال البغاة الذي وجد في شرط وجوبه القتال فيه‪ ،‬أم لم يكن من ذلك‬
‫لنتفاء الشرط الموجب للقتال ؟!‬
‫والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفّين لم يكن من القتال المأمور به‪ ،‬وإن‬
‫تركه أفضل من الدخول فيه‪ ،‬بل عدّوه قتال فتنة ‪.‬‬
‫وعلى هذا جمهور أهل الحديث‪ ،‬وجمهور أئمة الفقهاء ‪.‬‬
‫ُتقَاتِلُو َنهُ مْ َأوْ يُ سْ ِلمُونَ‬ ‫الو جه الرا بع ‪ :‬أن ال ية ل تتناول القتال مع علي قط عا ً ل نه قال ‪:‬‬
‫فوصفهم بأنهم ل بد فيهم من أحد أمرين ‪ :‬المقاتلة‪ ،‬أو السلم‪ ،‬ومعلوم أن الذين دعا إليهم عليّ فيهم‬
‫خلق لم يقاتلوه ألب تة‪ ،‬بل تركوا قتاله فلم يقاتلوه ولم يقاتلوا م عه‪ ،‬فكانوا صنفا ثالثا ‪ :‬ل قاتلوه ول قاتلوا‬
‫معه ول أطاعوه‪ ،‬وكلهم مسلمون‪ ،‬وقد دل على إسلمهم القرآن والسنة وإجماع الصحابة ‪ :‬عليّ وغيره‬
‫‪.‬‬
‫صِلحُوا بَيْ َنهُمَا فَإِ نْ َبغَ تْ ِإحْدَاهُمَا عَلَى‬
‫َوإِ نْ طَا ِئفَتَا نِ مِ نَ ا ْل ُم ْؤمِنِي نَ اقْتَتَلُوا فَأَ ْ‬ ‫قال تعالى ‪ :‬‬
‫سطُوا إِنّ اللّهَ‬
‫ا ُلخْرَى َفقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي حَتّى َتفِي َء إِلَى َأمْ ِر اللّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْ ِلحُوا بَيْ َن ُهمَا بِا ْلعَ ْدلِ َوأَقْ ِ‬
‫سطِينَ ‪ ،) )1‬فوصفهم باليمان مع القتتال والبغي‪ ،‬وأخبَر أنهم إخوة وأن الُخوّة ل تكون إل‬
‫ُيحِبّ ا ْلمُقْ ِ‬
‫بين المؤمنين‪ ،‬ل بين مؤمن وكافر ‪.‬‬
‫وأ ما تكف ير هذا الراف ضي وأمثاله ل هم‪ ،‬وج عل رجوع هم إلى طا عة عل يّ إ سلما‪ ،‬لقوله ‪ -‬في ما‬
‫ي حربك حربي ‪.‬‬
‫زعمه – يا عل ّ‬
‫فيقال ‪ :‬من العجائب وأعظم المصائب على هؤلء المخذولين أن يثبتوا مثل هذا الصل العظيم‪،‬‬
‫بم ثل هذا الحد يث الذي ل يو جد في ش يء من دواو ين أ هل الحد يث ال تي يعتمدون علي ها‪ ،‬ل هو في‬
‫الصحاح ول في السنن ول المسانيد ول الفوائد‪ ،‬ول غير ذلك مما يتناقله أهل العلم بالحديث ويتداولونه‬
‫بينهجم‪ ،‬ول هجو عندهجم ل صجحيح ول حسجن ول ضعيجف‪ ،‬بجل هجو أخس ّج مجن ذلك‪ ،‬وهجو مجن أظهجر‬
‫‪ :‬مجن أنجه جعجل الطائفتيجن‬ ‫الموضوعات كذبجا‪ ،‬فإنجه خلف المعلوم المتواتجر مجن سجنة رسجول ال‬
‫مسلمين‪ ،‬وأنه جعل ترك القتال في تلك الفتنة خيرا من القتال فيها‪ ،‬وأنه أثنى على من أصلح به بين‬
‫الطائفتين ‪.‬‬

‫(‪ )1‬الية ‪ 9‬من سورة الحجرات ‪.‬‬


‫(فصــل)‬
‫كان أن سه‬ ‫قال الراف ضي ‪ (( :‬وأ ما كو نه أني سه في العر يش يوم بدر فل ف ضل ف يه‪ ،‬لن ال نبي‬
‫أن أمره ل بي ب كر بالقتال يؤدي إلى ف ساد الحال‪،‬‬ ‫بال مغن يا له عن كل أن يس‪ ،‬ل كن ل ما عرف ال نبي‬
‫))‬ ‫حيث هرب عدة مرار في غزواته‪ ،‬وأيّما أفضل ‪ :‬القاعد عن القتال‪ ،‬أو المجاهد بنفسه في سبيل ال ؟‬
‫‪.‬‬
‫الجواب ‪ :‬أن يُقال ‪ :‬لهذا المفترى الكذّاب ما ذكرته من أظهر الباطل من وجوه ‪.‬‬
‫هرب عدة مرار فجي غزواتجه )) ‪ .‬يقال له ‪ :‬هذا الكلم يدل على أن قائله‬ ‫((‬ ‫أحدهـا ‪ :‬أن قوله ‪:‬‬
‫وأحواله‪ ،‬والجهل بذلك غير منكر من الرافضة ؛ فإنهم من أجهل‬ ‫من أجهل الناس بمغازى رسول ال‬
‫الناس بأحوال الرسول‪ ،‬وأعظمهم تصديقا بالكذب فيها‪ ،‬وتكذيبا بالصدق منها ‪.‬‬
‫ول ل بي ب كر غزاة مع‬ ‫وذلك أن غزوة بدر هي أوّل مغازي القتال‪ ،‬لم ي كن قبل ها لر سول ال‬
‫الكفّار أصل ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن أبا بكر رضي ال عنه لم يهرب قط‪ ،‬حتى يوم أُحد لم ينهزم ل هو ول عمر‪ ،‬وإنما‬
‫عثمان تولّى‪ ،‬وكان من ع فا ال ع نه ‪ .‬وأ ما أ بو ب كر وع مر فلم ي قل أ حد قط ‪ :‬إنه ما انهز ما مع من‬
‫يوم حُن ين‪ ،‬ك ما تقدّم ذلك عن أ هل ال سيرة‪ ،‬ل كن ب عض الكذّاب ين ذ كر أنه ما‬ ‫انهزم‪ ،‬بل ثب تا مع ال نبي‬
‫أخذا الراية يوم حُنين‪ ،‬فرجعا ولم يُفتح عليهما ‪ .‬ومنهم من يزيد في الكذب ويقول‪ :‬إنهما انهزما مع من‬
‫انهزم‪ ،‬وهذا كذب كله ‪.‬‬
‫دون أ صحابه بأن يكون م عه في‬ ‫الثالث ‪ :‬أ نه لو كان في الج بن بهذه الحال لم يخ صّه ال نبي‬
‫العر يش‪ ،‬بل ل يجوز ا ستصحاب م ثل هذا في الغزو‪ ،‬فإ نه ل ينب غي للمام أن ي ستصحب مخذلً ول‬
‫مرجفا‪ ،‬فضل عن أن يقدّم على سائر أصحابه‪ ،‬ويجعله معه في عريشه ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أن يُقال ‪ :‬قد علم كل من علم السيرة أن أبا بكر كان أقوى قلبا من جميع الصحابة‪ ،‬ل‬
‫يقار به في ذلك أ حد من هم‪ ،‬فإ نه من ح ين ب عث ال ر سوله إلى أن مات أ بو ب كر لم يزل مجاهدا ثابتا‬
‫ضع فت قلوب أك ثر‬ ‫مقداما شجا عا‪ ،‬لم يُعرف قط أ نه ج بن عن قتال عدوّ‪ ،‬بل ل ما مات ر سول ال‬
‫الصحابة‪ ،‬وكان هو الذي يثبّت هم‪ ،‬حتى قال أنس ‪ (( :‬خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب‪ ،‬فما زال يشجّعنا‬
‫حتى صرنا كالسود))‪.‬‬
‫ورُوى أن ع مر قال ‪ :‬يا خلي فة ر سول ال تألّف الناس ‪ :‬فأ خذ بلحي ته وقال ‪ :‬يا ا بن الخطاب ‪:‬‬
‫أجبّار في الجاهلية خوّار في السلم ؟!علم أتألفهم ‪ :‬على حديث مفترى أم على شعر مفتعل ؟!‬
‫أيّما افضل ‪ :‬القاعد عن القتال أو المجاهد بنفسه في سبيل ال ؟)) ‪.‬‬ ‫((‬ ‫السادس ‪ :‬قوله ‪:‬‬
‫في هذه الحال هو من أف ضل الجهاد ؛ فإ نه هو الذي كان العدو‬ ‫فيقال ‪ :‬بل كو نه مع ال نبي‬
‫ث العسكر حوله يحفظونه من العدو‪ ،‬وثلثه اتّبع المنهزمين‪ ،‬وثلثه أخذوا الغنائم ‪ .‬ثم إن‬
‫يقصده‪ ،‬فكان ثُلُ ُ‬
‫ال قسمها بينهم كلهم ‪.‬‬
‫بربّه كان مُغنيا له عن كل أنيس))‪.‬‬ ‫السابع ‪ :‬قوله‪ (( :‬إن أنس النبي‬
‫فيقال ‪ :‬قول القائل ‪ :‬إنه كان أنيسه في العريش‪ ،‬ليس هو من ألفاظ القرآن والحديث ‪ .‬ومن قاله‪،‬‬
‫و هو يدري ما يقول‪ ،‬لم يُرد به أ نه يؤن سه لئل ي ستوحش‪ ،‬بل المراد أ نه كان يعاو نه على القتال‪ ،‬ك ما‬
‫كان من هو دونه يعاونه على القتال ‪.‬‬
‫عليج مشتركجة بينجه وبيجن سجائر‬
‫ّ‬ ‫ففضيلة الصجدّيق مختصجة بجه لم يشركجه فيهجا غيره‪ ،‬وفضيلة‬
‫الصحابة‪ ،‬رضي ال عنهم أجمعين ‪.‬‬
‫‪ -‬هو وأ بو ب كر – خر جا ب عد ذلك من العر يش‪ ،‬ورما هم ال نبي‬ ‫الو جه الثا من ‪ :‬أن ال نبي‬
‫ت وَ َلكِنّ اللّ هَ َرمَى (‪ )36‬والصدّيق قاتلهم حتى قال له ابنه‬
‫ت إِذْ َرمَيْ َ‬
‫الرمية التي قال ال فيها ‪َ :‬ومَا َرمَيْ َ‬
‫عبد الرحمن ‪ :‬قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك ‪ .‬فقال ‪ :‬لكنّي لو رأيتك لقتلتك ‪.‬‬

‫‪ ) (36‬الية ‪ 17‬من سورة النفال ‪.‬‬

You might also like