You are on page 1of 41

‫ﺧﺎﰎ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎء ‪ :‬ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻭﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﰲ ﻣﺬﻫﺐ ﺍﺑﻦ ﻋﺮﺑﻲ‬

‫ﺗﺎﻟﻴﻒ‪ :‬ﻋﻠﻲ ﺷﻮﺩﻛﻴﻔِﺘﺶ‬

‫ﺗﺮﲨﺔ‪ :‬ﺍﲪﺪ ﺍﻟﻄﻴﺐ‬

‫ﺩﺭﺍﺳﺔ‪ :‬ﺩ‪ .‬ﺳﻌﺎﺩ ﺍﳊﻜﻴﻢ‬


‫ﺑﺴﻢ ﺍﷲ ﺍﻟﺮﲪﻦ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ‬
‫تقف أقدا ُمنا على شواطئ بِحار الولاية؛ يطول بها مقا ُم التر ُّدد بين المجاهدة‬
‫خوف الفناء والذهاب‪ ،‬وما تسمع عن الغرق في‬‫ُ‬ ‫والمسالمة؛ ولا يلبث أن يحبسها عن الذهاب‬
‫لُ َجج التوحيد؛ فتسترخي متعبة على رمال السلامة‪ ،‬ونرضى من العلم بما يلوح عن ُبعد‪.‬‬
‫وجها ُيطمئننا‬ ‫ٍ‬
‫مشتاق‪ ،‬علَّنا نجد ً‬
‫وجها يعرفنا‪ً ،‬‬ ‫طياف؛ نحدِّق بجه ِد‬
‫تتلامح في الأفق البعيد أ ٌ‬
‫على مصير السالكين‪ ،‬وعسانا نعبر – بفضل الله – مسافات الأهوال والقواطع‪ ،‬على طريق‬
‫‪.‬‬ ‫النداء المستقيم الواصل من عينيه إلينا‬

‫هذه الوجوه التي تتلامح في آفاق الأزمنة والأمكنة‪ ،‬والتي تُسا ِكننا‪ ،‬وعيونُها ٌ‬
‫غياب‬
‫وحضور‪ ،‬و َط ْرفُها أحن ْته أثقا ُل شهو ٍد تخ َّطى الوجود‪ ،‬وعلى أبدانها تنطق ِخ َل ُع الولاية – نراها‬
‫بالعرفان متن ِّعمة ونحن جمي ًعا بها حيارى‪ .‬من هو "الولي"؟ ما وظيفته في الكون؟ ولماذا بعد أن‬
‫َخ َت َم الله – ع َّز وج َّل – النبوة أ ْو َج َد الأولياء؟ ألا يكفي وجود النبي )ص( في حياة الإ نسان‬
‫المسلم؟ فما ضرورة وجود الولي؟ ك ُّل هذه الأسئلة يطرحها وجود الولي في مجتمعنا وجمعنا‬
‫المسلم‪ ،‬ونحن فيها حيارى‪ .‬نمد أيدينا إلى المكتبة الإ سلامية عامة‪ ،‬والصوفية خاصة‪ ،‬ونأمل‬
‫أن نحظى بجواب ُي َط ْم ِئ ُن العقل الحائر والوجدان السائل – ولكن عب ًثا! وأسباب ذلك كثيرة‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫ويمكن تلخيص واقع الولاية بعوالم ثلاثة‪ ،‬نتوقف عندها فيما سيأتي‬

‫رضه غير الأرض‪ ،‬واستمر يعيش حياته معنا كأنه هو‪َ ،‬ص َم َت منه‬
‫ٕان الولي الذي تبدَّلت أ ُ‬
‫اللسان‪ ،‬ف َك َت َم س َّر ولايته عن الآخرين‪ .‬فالولاية عنده ليست استعراضية؛ والولي‪ ،‬على عكس‬
‫الساحر‪ ،‬لا يقدِّم للمشاهد فنون الكرامة‪ .‬ولكن للقُرب الإ لهي وللعطاء الرباني علامات‪ ،‬إ ْن‬
‫ك َت َمها اللسان فضحها الوج ُه والبدن‪ .‬فالأولياء سيماهم في وجوههم‪ ،‬تشهد أيديهم وأرجلهم‬
‫ٍ‬
‫شهادات يراها الرفيق والصاحب والعشير‪ .‬باختصار‪ ،‬الولي باط ُنه عبودية‬ ‫بما يكتمون من القُرب‬
‫‪.‬‬ ‫ومظهره قدرة تش ِّوش الناظرين‬
‫ُ‬ ‫وعجز تام كامل‪،‬‬
‫وقد نتج عن سكوت الولي وامتناعه عن تأكيد ولايته – التي هي هويته الروحية بين أهل‬
‫امتنعت معرف ُة الولاية من داخل‪ ،‬وأنها محض عبودية‪ .‬ولكن‪ ،‬حيث إن المراقب‬ ‫ْ‬ ‫الله – أن‬
‫سكوت الولي عن ولايته من السؤال‪ ،‬تكاثرت الأسئلة عن الولاية‬
‫ُ‬ ‫والصاحب والسالك لم يمنعه‬
‫ونظرا لما يكنُّه الناس من احترام للأولياء‪ ،‬فلم يطرح أحد من الناس‬
‫ومعناها وعن الولي وهويته؛ ً‬
‫على أحد من الأولياء سؤالا ً ً‬
‫مباشرا‪ .‬مثلا ً لم يق ْل أح ٌد لولي‪ :‬هل أنت من أولياء الله؟ واستمر‬
‫الناس على عقيدتهم في الأولياء‪" ،‬يولُّون" َمن تتلامح على ظاهره علاما ُت القُرب‪ ،‬ويربطون‬
‫بين الولاية وبين هذه الوجوه من خارج من المظهر‪ .‬وأخذت تتكون النظريات من نُ َت ِف ُج َم ٍل‬
‫التقطها السائل‪ .‬ولكن الأهم منها هو كتابات الصوفيين‪ ،‬الذين تك َّرسوا أولياء في نظر‬
‫محيطهم‪ ،‬عن مشاهداتهم وفتوحاتهم‪.‬‬

‫يضا تصادفنا مشكلة أخرى‪ :‬فبالإ ضافة إلى أن الصوفي يحتاج دائ ًما إلى ترجمان‬
‫وهنا أ ً‬
‫نصه من لغة الوجدان إلى لغة الناس‪ ،‬فمفهوم "الولاية" نفسه تع َّرض للذبذبة التي تع َّرض‬
‫ينقل َّ‬
‫لها مفهوم "الصوفي"‪ :‬فكما ع َّرف ك ُّل صوفي التصوف بحسب علمه وتجربته‪ ،‬كذلك يع ِّرف‬
‫‪.‬‬ ‫الولي والولاية بحسب موقعه ومرتبته‬
‫ك ُّل مع ِّرف َّ‬
‫ذلك كلُّه جعل الولاية الصوفية مشروخة بين ثلاثة عوالم‪ :‬عالم أهل الله – وهو عالم‬
‫الأولياء الذين يعيشون الولاية و ُيش ِفقون من أحمالها؛ وعالم الباحثين والمؤلِّفين والكتبة‬
‫الحافظين الذين يتت َّبعون مظاهر الولاية في النصوص والأشخاص‪ ،‬ليرسموا منها نظرية يتوافق‬
‫فيها الفقه والتصوف والعقل الإ نساني؛ وعالم العامة الذين علَّقوا عيونهم على وجوه الصالحين‬
‫‪.‬‬ ‫وتت َّبعوا أقوالهم وأفعالهم‪ ،‬يرصدون ظهور علامات الولاية عليهم‬

‫الولي وبين َمن ولاَّه – سبحانه‪ :‬يحتفظ الأولياء بس ِّر الولاية‪،‬‬


‫وتظل الولاية س ًّرا بين ِّ‬
‫يعيشون عبوديتهم الخالصة‪ ،‬يض ُّنون بهذه المعرفة على غير أهلها؛ ويحتفظ الباحثون‬
‫بمظاهرها‪ ،‬يلملمون النصوص التي تُثبِت شرعية الخوارق والكرامات والعلوم الل ُدنِّية الإ لهامية‬
‫وعقل َّيتها‪ ،‬ويتحول الك َّتاب إلى محاولة إقناع بالولاية وبوجود أولياء لله مق َّربين من دون الكون؛‬
‫ويحتفظ العامة بك ِّل الخرافات والأوهام والحقائق التي تز ِّينها لهم عقولُهم عن عالم ٍّ‬
‫غيبي‬
‫مغ َّيب‪ ،‬عالم رجال خوارق تقطع مسافات‪ ،‬تمشي في الهواء وعلى الماء‪ ،‬تنفعل لها الأشياء‬
‫وتطيعها الحيوانات‬
‫‪.‬‬

‫وبين هذه العوالم الثلاثة – عالم الأولياء الحقيقي‪ ،‬وعالم الباحثين النظري‪ ،‬وعالم العوام‬
‫الموهوم‪ ،‬المزخرف بتقديس الإ نسان – تقوم مسافات لا تُق َطع‪ ،‬برازخ لم يلامسها كاتب أو‬
‫إنسان‪ .‬وقد جاء كتاب الأستاذ ميشيل شودكي ِفتش خاتم الأولياء‪ :‬النبوة والولاية في مذهب ابن‬
‫عربي )باريس‪ (١٩٨٦ ،‬ليردم هذه المسافات بين واقع عبودية الأولياء‪ ،‬وبين تنظير مظاهر‬
‫الباحثين‪ ،‬وبين خيال العوام وخرافاتهم وتو ُّهماتهم‪ .‬باختصار‪ ،‬كتاب الأستاذ شودكي ِفتش يق ِّرب‬
‫أجزاء صورة الولاية بعضها من بعض‪ :‬يق ِّرب ظاهر الولي ]= قدرة‪ ،‬علم‪ ،‬الجانب الإ لهي من‬
‫الصورة[‪ ،‬من باطنه ]= عبودية‪ ،‬عجز‪ ،‬الجانب الإ نساني من الصورة[‪ ،‬حتى تتجلَّى حقيقتُه‬
‫على مقدارها للباحثين‬
‫‪.‬‬

‫***‬

‫وقبل أن نستعرض كتاب الأستاذ شودكي ِفتش فصلا ً فصلاً‪ ،‬نقف على امتداد فصوله‬
‫العشرة‪ ،‬لنلقي عليها نظرة واحدة شاملة جامعة – نظرة ترى المخ َّطط غير المكتوب الذي اتَّبعه‬
‫‪.‬‬ ‫المؤلِّف‬

‫لقد بدأ في الفصل الأول بدراسة مفرد "ولي" و"ولاية" لغو ًّيا‪ ،‬ليرى‪ ،‬أولاً‪ ،‬أنه اسم‬
‫مشترك بين مس َّميين‪ :‬أحدهما سلبي‪ ،‬بمعنى الولاء لله‪ ،‬وثانيهما إيجابي‪ ،‬بمعنى الإ دارة‬
‫ثانيا‪ ،‬أن اسم "ولي" هو أ ً‬
‫يضا مشترك بين الإ نسان وبين الله‪ :‬فالإ نسان ولي‪،‬‬ ‫والإ مارة؛ وليرى‪ً ،‬‬
‫‪.‬‬‫والله ولي‬
‫ثم في الفصول الثاني والثالث والرابع والخامس‪ ،‬ب َّين شودكي ِفتش أن الولاية معناها‬
‫ال ُق ْرب‪ .‬ولكن هؤلاء المق َّربين‪ ،‬أي الأولياء‪ ،‬ليسوا على مظهر واحد‪ ،‬وليست لهم شخصية‬
‫ولي يظهر بشخصية وعلم وعمل وحال تختلف عن‬ ‫واحدة؛ بل‪ ،‬على العكس‪ ،‬نرى أن ك َّل ٍّ‬
‫غيره من الأولياء‪ .‬ويرجع سبب اختلاف شخصيات الأولياء إلى اختلاف شخصيات الأنبياء‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫فالولي هو في الحقيقة وارث لنبي من الأنبياء‪َ ،‬ير ُِث عنه نمط العلم والعمل والحال‬

‫ثم في الفصلين السادس والسابع يب ِّين شودكي ِفتش أن هؤلاء المق َّربين الأولياء‪ ،‬الذين‬
‫ورثوا شخصيتهم في الولاية عن نبي من الأنبياء‪ ،‬لا يعيشون على هامش الكون‪ ،‬بل يأخذ ك ٌّل‬
‫منهم مكانه ومنزله ويباشر منه مهامه‪ .‬ويعدِّد شودكي ِفتش في هذين الفصلين منازل الأولياء‬
‫‪.‬‬‫وتو ُّزعهم على أركان الأرض وأبراج السماء‬

‫وفي الفصلين الثامن والتاسع يب ِّين شودكي ِفتش أنه يتبع عن ختم النبوة أن تُخ َتم الولاية‬
‫يضا‪ ،‬لأنها إرث نبوي‪ .‬ثم يرسم دوائر الولاية وأختامها‪ :‬فالولاية المحمدية قد ُخ ِت َم ْت‬ ‫أ ً‬
‫بشخص لم تقطع النصوص في هويته؛ وبقي أن ُتخ َتم الولاية العامة بشخص عيسى )عليه‬
‫السلام( الذي يظهر في آخر الزمان؛ ويليه ختم ثالث هو خاتم الأولاد‪ ،‬يولد في الصين‪ ،‬وبعده‬
‫‪.‬‬ ‫يرتفع الإ يمان والعلم من قلوب الناس‪ ،‬وتسرع الدنيا نحو الزوال‬

‫ثم في الفصل العاشر والأخير ب َّين شودكي ِفتش للناس طريق الولاية المفتوح‪ :‬ولاية‬
‫كبيرا‬
‫يحفُّها التعب والمخاطر‪ ،‬بشهادة الواصلين والسالكين‪ .‬ونقول إنه مهما كان التعب ً‬
‫فالولاية هي إنسانية الإ نسان‪ ،‬هي استمرار جنسه الراقي واستمرار الدنيا‪ .‬لذلك نشعر من كتاب‬
‫شودكي ِفتش بأن الولاية هي الأمانة التي على الجنس البشري أن يحملها‪ ،‬طو ًعا أو كر ًها‪ ،‬وأن‬
‫‪.‬‬ ‫الصوفية هم الذين تقدَّموا ليحملوا أمانة الدنيا واستمرارها‬
‫***‬
‫وأحب هنا‪ ،‬قبل أن أبدأ عرضي لكتاب الأستاذ شودكي ِفتش‪ ،‬أن أقف عند بعض‬
‫الملاحظات حول الكاتب والكتاب‬
‫‪.‬‬

‫ﻣﻼﺣﻈﺎﺕ ﺣﻮﻝ ﺍﻟﻜﺎﺗﺐ ﻭﺍﻟﻜﺘﺎﺏ‪:‬‬


‫‪1.‬نبدأ بأن نلفت النظر إلى كمية النصوص الصوفية العربية المترجمة إلى الفرنسية –‬
‫وهي نصوص تصعب حتى على قارئ العربية؛ فلا نملك ٕالا أن نعجب بغربي يدخل ٕالى روح‬
‫اللغة العربية‪ ،‬يترجم نصوصها ترجمة توضِّ ح النص الأصلي‪ ،‬المبهم أحيانًا‪ ،‬ويظل أمي ًنا على‬
‫وارتقت مداركُه مع معلِّم‬
‫ْ‬ ‫َّفت أعماقُه‬
‫النصوص‪ .‬وليس هذا بمستغرب من إنسان متص ِّوف‪ ،‬تثق ْ‬
‫كبير هو الشيخ محيي الدين بن عربي‬
‫‪.‬‬

‫‪2.‬سيطر على طرح الولاية عند الأقدمين والمحدثين بعض المواضيع التي أخذت تتكرر‬
‫في ك ِّل بحث عن الولاية‪ .‬فك ُّل من أراد أن يؤلِّف في الولاية يبدأ بفصل عن الولي وقواه‬
‫ولي‪ ،‬شر ًعا ثم عقلاً؛ ويرجع إلى القرآن والحديث‬
‫الخارقة؛ ثم يث ِّني بالدفاع عن إمكانية وجود ٍّ‬
‫والصحابة‪ ،‬ليب ِّين أن الولاية موجودة منذ البدايات‪ ،‬وأن الكرامات غير مستب َعدة‪ ،‬شر ًعا وعقلا ً‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬ك ُّل الدراسات التي اهتمت بالولاية انحصرت تقري ًبا في الدفاع عنها أو في‬
‫مهاجمتها‪ ،‬وفي ك ِّل الأحوال‪ ،‬ظلت تنظر إلى الولاية من خارج‪ ،‬تعتبرها مظاهر تظهر في علم‬
‫ل ُدنِّي وفي كرامات وخوارق‪ .‬لذلك فهذه هي المرة الأولى التي نجد فيها بح ًثا في الولاية يفارق‬
‫هذا الطرح الذي أضحى تقليدًا‪ ،‬ويدخل ٕالى عمق هذا المفهوم‪ :‬يحلِّل معناه‪ ،‬يب ِّين هوية الولي‬
‫ونسجل هنا ٕاكبارنا لإ نسان خرج بطرح الولاية‬
‫ِّ‬ ‫ودوره في الكون‪ ،‬ويرتِّب عالم الروح والفعل‪.‬‬
‫عن التقليد الذي سيطر عليه قرونًا طويلة‪ .‬قد يقول الأستاذ شودكي ِفتش – ُ‬
‫تواض ًعا – إنه ليس هو‬
‫الذي خرج بطرح الولاية عن التقليد الم َّتبع‪ ،‬بل ابن عربي هو الذي خرج عن التقليد‪ .‬نعم‪ ،‬قد‬
‫صحيحا؛ ولكن قرونًا سبعة تفصلنا عن ابن عربي‪ ،‬ولم َير أح ٌد الولاية عنده على هذا‬
‫ً‬ ‫يكون هذا‬
‫كر باحث أن يخرج بنظرته إلى ابن عربي عن التقليد الم َّتبع في طرح الولاية‪.‬‬ ‫الكمال‪ ،‬ولم يف ِّ‬
‫‪3.‬تت َّبع الأستاذ شودكي ِفتش مفهوم الولاية عبر تحقُّقه في الأولياء‪ ،‬وحاول أن يخلِّص‬
‫سجلت‬ ‫معنى الولاية من تجربة الأولياء الشخصية‪ ،‬فرجع إلى النصوص الأصلية التي َّ‬
‫مشاهداتهم وأحوالهم وعلومهم – ك ُّل ذلك يجعل الكتاب جديدًا في نمطه‪ .‬إذ جرى التقليد‬
‫أن يتبع الباحث مفهوم الولاية عبر التنظير السابق؛ ولكن شودكي ِفتش هنا ترك التنظير وما كُ ِت َب‬
‫عن الولاية‪ ،‬ليتل َّمس نظرية يؤلِّفها بنفسه ويستقيها من حياة الأولياء‪ .‬فتجربة الولي الشخصية‪،‬‬
‫وإن كانت لا تتكرر أبدًا‪ ،‬إلا أنها تضيف ملامح جديدة إلى صورة الولي – هذه الصورة التي‬
‫كانت تتحدد تقاطي ُعها مع نصوص الأولياء‪.‬‬

‫‪4.‬إن كان الولي عند الكلاباذي في التع ُّرف "محفو ًظا من النظر إلى نفسه‪ ،‬ومن آفات‬
‫توسع الباحثون في دائرة هذا "الحفظ"‪ ،‬وتف َّننوا في إخراج الولي ليس من آفات‬
‫البشرية"‪ ،‬فقد َّ‬
‫البشرية‪ ،‬بل من البشرية نفسها! وكانت النتيجة أنه كلما انقطع الولي عن علائقه الدنيوية وفارق‬
‫دائرة عواطفه البشرية تك َّرس ول ًّيا في نظر الباحثين والناس‪ .‬والولي – في نظر السوى – هو‬
‫وحبيب قلبه في الفؤاد‬
‫ُ‬ ‫وروحه سماوية‪ ،‬أباح جس َمه لِ َمن أراد مجالسته‪،‬‬
‫إنسان بدنُه أرضي ُ‬
‫أنيسه؛ إنسان يعيش دون عواطف إنسانية ودون مشاعر بشرية‪ ،‬لأن عواطفه ومشاعره كلَّها‬
‫الحب الإ نساني‪ ،‬فوق مشاعر الأب َّوة والحنان‪ .‬ولعلنا هنا –‬ ‫مست َلبة بال ِّ‬
‫حب الإ لهي؛ إنسان فوق ِّ‬
‫ولأول مرة – نقف متعاطفين مع صورة الولي كما ترسمها النصوص التي اختارها شودكي ِفتش‪،‬‬
‫ٓخرا‪ ،‬إنسان يشعر‪ ،‬يحب؛ وهو في أعلى‬ ‫وو َّظفها أحسن توظيف‪ :‬فالولي هو إنسان‪ ،‬أولا ً وا ً‬
‫درجات القرب يتق َّطع قلبه على طفله المحموم‪ .‬وشودكي ِفتش هو أول من ألقى الضوء على‬
‫إنسانية الولي؛ إذ ك ُّل من سبقه من الدارسين اهتم بخوارق الولي وبمظاهر الألوهية المتجلِّية‬
‫فيه‪ ،‬وجعله مفار ًقا لعالم البشرية‪ ،‬وكأن ك َّل شعور بشري هو نقص وعلائق وسقوط يجرح عل َّوه‬
‫ومقامه‪ .‬ونحن هنا نتابع شودكي ِفتش في نظرته ٕالى ٕانسانية الولي‪ :‬فالفرق كبير بين أن يرقى‬
‫الإ نسان بمشاعره وعواطفه من آفات البشرية ٕالى آفاق الإ نسانية‪ ،‬وبين أن يفارقها بالكلِّية‪.‬‬
‫فالولي‪ ،‬كما يؤكد شودكي ِفتش بحق في آخر كتابه‪ ،‬هو القريب من الله‪ ،‬القريب من الناس‪.‬‬
‫إن الولي هو القريب من الله‪ ،‬القريب من الناس‪ .‬وهذا القرب من الناس هو امتداد‬
‫لقرب الأنبياء من الناس‪ ،‬على عل ِّو مكانتهم عند الله‪ .‬فالأنبياء – وهم السلالة المختارة من‬
‫الجنس البشري – عاشت مع الناس‪ ،‬وظلت قريبة منهم‪ ،‬تح ِّقق الوصل بين الأرض والسماء‪.‬‬
‫وليس للنبي وللولي‪ ،‬من بعد أن يعتزل قومه‪ ،‬أن يفارق الجمع‪ ،‬لما له من دور ووظيفة‪ .‬فموسى‬
‫)ع(‪ ،‬حين خلَّف قومه وراءه‪ ،‬وترك فيهم أخاه هارون‪ ،‬و َع ِجل إلى ر ِّبه ليرضى‪ ،‬أض َّل السامر ُّي‬
‫قريبا‪ ،‬والولي يتابع هذا الدور‪ ،‬لأنه الوريث والنائب‪ ،‬يحمل أعباء‬
‫قو َمه‪ .‬فالنبي يكون من الناس ً‬
‫قريبا منهم‪ ،‬ليح ِّقق اتصال الأرض بالسماء‪ ،‬واتصال التابعين‬
‫شريعة النبي‪ ،‬ويعيش مع الناس ً‬
‫بالمتبوع‪ .‬ويب ِّين شودكي ِفتش أن الولي يؤكِّد النبوة‪ ،‬ويتابع دوره في البنية الدينية للمجتمع‬
‫‪.‬‬‫المؤمن‬

‫‪5.‬نحن في زمن يتع َّرض فيه وج ُه الإ سلام للكثير من التحريف والتشويه‪ .‬لقد أمسك‬
‫أعداء الإ سلام بمرآة مق َّعرة الأعماق والجوانب‪ ،‬تعكس الوجه على أبشع صورة‪ .‬وتتوالى ال ُّتهم‪:‬‬
‫يصحح الرؤية‪،‬‬ ‫الإ سلام دموي‪ ،‬إرهابي‪ِ ،‬صدامي‪ ،‬تط ُّرف‪ ،‬تعصب‪ ،‬إلخ‪ .‬شودكي ِفتش هنا ِّ‬
‫ويكشف عن انفتاح الدين الإ سلامي على الأديان الأخرى‪ ،‬مؤكدًا أن الدين الإ سلامي هو‬
‫الشريعة الكاملة والنهائية التي أفسحت فيها مكانًا لك ِّل الشرائع السابقة‪ ،‬وأن النبي )ص( هو‬
‫رس َل رحم ًة للعالمين‪ ،‬وجمع في شخصه‬ ‫النموذج الإ نساني الكامل‪ ،‬صاحب الرسالة العامة‪ ،‬أُ ِ‬
‫ك َّل ما يطلبه إنسا ٌن من نبي‬
‫‪.‬‬

‫خيرا‪ ،‬نقول‪ ،‬إن كتاب خاتم الأولياء يع ِّرف العالم الغربي على وجه من الإ سلام تغ ِّيبه‬
‫أ ً‬
‫وسائ ُل الإ علام والأغراض‪ ،‬وإن الروح تحقِّق ً‬
‫لقاء كون ًّيا فوق مصالح المادة وتنا ُزع السياسة‪.‬‬
‫ومن المفيد جدًّا أن ي َّطلع ق َّر ُاء العربية على نتاج الغرب في الإ سلاميات‪ ،‬وخاصة على‬
‫الدراسات الموثوقة والموضوعية‪ ،‬التي تشهد ك َّل يوم أكثر على كمال الإ سلام ومقدرته على‬
‫تلبيته التحديات الحياتية‬
‫‪.‬‬
‫***‬

‫ﻋﺮﺽ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ‬
‫قسم الأستاذ شودكي ِفتش كتابه ٕالى مقدمة وعشرة فصول؛ نتناول ك َّل قسم بما يتناسب‬
‫َّ‬
‫‪:‬‬‫من التفصيل‬

‫ﺍﳌﻘﺪﻣﺔ )ﺹ ‪(٢٧-١٣‬‬
‫بدأ شودكي ِفتش مقدمته مع مطالع ابن عربي على العالم الغربي‪ .‬وكانت البداية مع‬
‫فلوغل‪ .‬وبعدها ترجم له نيكلسون ديوان‬‫كتابه اصطلاحات الصوفية‪ ،‬بترجمة غوستاف ِ‬
‫ترجمان الأشواق‪ .‬وتوالت بعد ذلك أعمال نيبرغ وآسين بالاثيوس‪ .‬ثم جاءت سنوات ما بعد‬
‫الحرب حاملة المزيد من النشر والترجمة والدراسة‪ .‬وبرزت أسماء أمثال هنري كوربان‬
‫وتوشهيكو إيزوتسو‪ .‬ويشير شودكي ِفتش إلى التضا ُرب الذي برز حول شخصية ابن عربي في‬
‫ِ‬
‫‪.‬‬ ‫العالم الغربي‪ ،‬وذلك كما ورد في كتابات ماسينيون وكليمان ُهوار وكا َّرا ُد ْه فو‬

‫ولكن ابن عربي‪ ،‬الذي جمع في شخصه الولاية إلى العبقرية‪ ،‬وجمع في مؤلَّفاته العلوم‬
‫المتنوعة إلى ضروب أشكالها‪ ،‬يفوق في نتاجه وشخصه ما كُ ِت َب عنه‪ .‬وقد ظلت الدراسات‬
‫كلُّها جزئية وغير قادرة على الإ حاطة به؛ فلم يحصره كاتب‪ ،‬ولم يعرف حقيق َة وجهه باحث‪.‬‬

‫ثم ينتقل شودكي ِفتش إلى الكلام على حياة ابن عربي‪ ،‬وعلى أهميته الشخصية‬
‫كصوفي‪ ،‬وعلى أهمية صوف َّيته كذلك وأثرها على الأعمال التي وضعها‪ ،‬وخاصة الفتوحات‪.‬‬
‫ثم تكلَّم على موقف العالم الإ سلامي من الولاية والأولياء‪ ،‬ومن مظاهر تقديس العوام لهم‪،‬‬
‫ليخلص إلى أن التصوف والولاية لا يفترقان‪ :‬فالتصوف يوجد ويتغذى ويستمر في حياة الناس‬
‫من مفهوم الولاية ومن وجود الأولياء؛ بل وظيفة التصوف تكمن في أنه يساعد على ظهور‬
‫الأولياء‪ ،‬وأنه السماء التي يرتفع فيها نج ُم هداية الأولياء‪ .‬والصوفي يشعر بأن عليه أن يعطي‬
‫صورة الولي‪ ،‬ويعكس جميع كمالات ال ُّتقى للناس‪ .‬ومن جهة ثانية‪ ،‬فإن بنية المجتمع‬
‫الإ سلامي‪ٔ ،‬او بالأحرى التج ُّمع الديني‪ ،‬تقوم على "خاصة"‪ ،‬هم الأولياء العلماء الحقيقيون‪،‬‬
‫قطب الولي‬
‫‪.‬‬ ‫وعلى "عامة"‪ ،‬هم شعب يستقطبهم ُ‬
‫وعلى الرغم من أن ابن عربي كان مسبو ًقا بك َّتاب وصوفية تناولوا موضوع الولاية‪ ،‬فهو‬
‫أول من قدَّم فيها نظرية شاملة‪ ،‬وتت َّبع صورها الموروثة من شخصيات أنبياء الأديان كافة‪ :‬ولي‬
‫موسوي‪ ،‬ولي عيسوي‪ ،‬ولي إبراهيمي‪ ،‬إلخ‬
‫‪.‬‬

‫وحيث إن العمل في ابن عربي شامل وصعب‪ ،‬يرى شودكي ِفتش أنه من الأفضل أن‬
‫يرتكز على نصوصه خطوة خطوة‪ ،‬وبطريقة مخلصة‪ ،‬حتى يصل إلى توضيح رؤيته‬
‫‪.‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻷﻭﻝ‪" :‬ﺍﺳﻢ ﻣﺸﱰﻙ" )ﺹ ‪(٣٩-٢٩‬‬


‫يبدأ الأستاذ شودكي ِفتش الفصل الأول بإيراد بعض رؤى منامية لابن عربي‪ ،‬يرى فيها‬
‫الأنبياء )ع( بمفردهم أو هم وأتباعهم‪ .‬ومن هذه الرؤى تظهر مكانة ابن عربي الروحية؛ ويظهر‬
‫له كذلك أن ابن عربي يرى‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬أن الأولياء لا ينفصلون عن الأنبياء مطلقًا‪ ،‬وأن الولاية‬
‫لا تستقل أبدًا عن النبوة‪ ،‬بل تتبعها دائ ًما‪ .‬فالولي هو "على َقدَم" نبي‪ ،‬يتبعه في العلم والعمل‬
‫والحال‪ .‬وهذه الرؤى يؤ ِّيدها كلا ُم تلميذه صدر الدين القونوي‪ ،‬الذي كان يقول إنه في طاقة‬
‫أستاذه أن يجتمع بروح من يشاء من الأولياء السابقين الراحلين‪ :‬وهذا كتاب التجلِّيات لابن‬
‫‪.‬‬ ‫عربي شاه ٌد على مثل هذه اللقاءات‬

‫ينتج من ك ِّل ما تقدَّم أن رؤية ابن عربي ليست نظرية تقوم على عدم التناقض الفكري‪،‬‬
‫يضا مستقاة من النصوص الإ سلامية‪ ،‬كأية نظرية دينية أخرى‪ ،‬بل هي تدوين لواقع‬ ‫وليست أ ً‬
‫‪.‬‬ ‫معيش‪ ،‬يجد مصدره في تجربة شخصية وذوق وعيان‬
‫هذه "الفتوحات الربانية" التي ألهمت ابن عربي مباشر ٌة وغير مباشرة‪ :‬الإ ملاء الإ لهي‪،‬‬
‫و َتوالي شهادات الغيب على صفحة كتبه‪ ،‬ثم صعوبة التقاط مذهبه بك ِّل تد ُّرجاته وشموله –‬
‫ذلك كلُّه ِّ‬
‫يفسر جزئ ًّيا الهجوم العنيف الذي تع َّرض له ابن عربي ونظريته في الولاية؛ والباقي‬
‫‪.‬‬‫أكمله الظ ُّن السيئ والفهم المغلوط‬

‫يخصص شودكي ِفتش هذا الفصل لبحث معنى "ولي"‪ ،‬كما َو َر َد ْت في معاجم اللغة‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫يرجع إلى الجذر‪ ،‬ويرى أن "ولي" تُط َلق على معنيين‪ :‬الولي هو الصديق والقريب والتابع‬
‫والمحب‪ ،‬والموالاة ضد المعاداة؛ والولي أ ً‬
‫يضا هو المد ِّبر والنصير من الإ دارة والإ مارة والحكم‬
‫والخلافة‪ .‬فبالمعنى الأول‪ ،‬الولاية هي الولاء لله؛ وبالمعنى الثاني‪ ،‬الولي هو الذي يتولَّى أمو ًرا‪،‬‬
‫ويأخذ على عاتقه شريعة‪ .‬مثلاً‪ ،‬الولي المحمدي لا يعطي شريعة‪ ،‬ولكن يأخذ على عاتقه‬
‫الشريعة المحمدية‪ ،‬وهكذا دواليك‪.‬‬

‫ثم يب ِّين شودكي ِفتش أن الأصل العربي "ولي" لا يمكن ترجمته بكلمة مناسبة في‬
‫الديانات الأخرى‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬في اللغات الأخرى‪ ،‬لأن شكل القداسة في ك ِّل ديانة يباين شك َلها‬
‫في الفكر الإ سلامي – واللغة تدوين للفكر ليس ٕالا‪ .‬فالقديس‪ ، le Saint‬مثلاً‪ ،‬من الأصل العربي‬
‫‪.‬‬ ‫َس‪ ،‬يع ِّبر عن فكرة "الطهارة"‪ ،‬ولا يعطى معنى الولاية‪ ،‬وهكذا‬
‫قد َ‬
‫ومن حيث الوزن‪ ،‬تُقرأ "ولاية" بفتح الواو وبكسرها‪ .‬الولاية بالكسر‪ ،‬على وزن ِفعالة‪،‬‬
‫وِلاية‪ ،‬بمعنى عمل الولي أي إمارته )وكل ما كان من جنس الصناعة فهو مكسور‪ِ ،‬‬
‫كخياطة‬
‫ِوقصارة(‪ ،‬وعلى وزن َفعالة بالفتح‪َ ،‬ولاية‪ ،‬وهي حال الولي‪ ،‬ولاؤه لله‪ .‬ولكن ً‬
‫كثيرا من‬
‫الكتابات الصوفية تتردد بين َولاية بالفتح ووِلاية بالكسر؛ واللغة المحكية تجنح إلى الكسر‪،‬‬
‫وِلاية‪ٔ .‬اما الكاتب فيتابع ابن عربي في تفضيل َولاية )بالفتح(‪ ،‬لانسجامها مع اللغة القرآنية‪.‬‬
‫وهكذا يتق َّرر لديه أن الولاية هي اسم مشترك بين مس َّميين‪ :‬بين َمن له حال الولاية‪ ،‬وبين من له‬
‫وظيفة الولاية‬
‫‪.‬‬
‫والولي كذلك هو اسم مشترك بين الله وبين الإ نسان‪ :‬فـ"الولي" هو أحد الأسماء‬
‫يضا اسم ُيط َلق على الإ نسان‪" :‬الله ولي المؤمنين" )آل عمران ‪" ،(٦٨‬الله ولي‬
‫الإ لهية؛ وهو أ ً‬
‫خوف عليهم‬
‫ٌ‬ ‫الذين آمنوا ُيخرِجهم من الظلمات إلى النور" )البقرة ‪" ،(٢٥٧‬ألا إن أولياء الله لا‬
‫ولا هم يحزنون" )يونس ‪ .(٦٢‬ويحصر اللغويون المسلمون أمر هذا الاشتراك بوجهين‪" :‬اسم‬
‫‪.‬‬ ‫مفعول"‪ ،‬يتبع مفهوم النسب والولاء‪ ،‬و"اسم فاعل" يتبع مفهوم الخلافة والإ مارة‬

‫هذا وين ِّبه شودكي ِفتش إلى أن ك َّل مفردات الولي والولاية ومعانيهما تنبع من القرآن‬
‫وترجع إليه‪ ،‬وأنها تجد بيانها في أحاديث مشهورة‪ ،‬لعل أهمها‪" :‬من آذى لي ول ًّيا فقد آذن ُته‬
‫افترضت عليه‪ .‬وما يزال عبدي يتقرب‬ ‫ُ‬ ‫لي عبدي بشيء أفضل من أداء ما‬
‫بالحرب‪ .‬وما تقرب إ َّ‬
‫لي بالنوافل حتى أحبه‪ .‬فإذا أحبب ُته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصره به‪ ،‬ويده‬ ‫إ َّ‬
‫ب أشعث أغبر ذي طمرين‪ ،‬لو أقسم على الله لأب َّره‪".‬‬ ‫التي يبطش بها" و" ُر َّ‬
‫ولعل من المفيد هنا أن أع ِّقب على هذا الاشتقاق الاسمي بأفضل ما سمعت في هذا‬
‫الموضوع؛ وهو‪ ،‬على ٕايجازه الصوفي‪ ،‬يرضي اللغويين‪ .‬سألت مرة سيدي الفضل بن العباس‪،‬‬
‫أمير الأسرة الدندراوية‪" :‬من هو الولي؟" فقال‪" :‬اس ٌم ُيط َلق على من تولاَّه الله‪ ،‬وعلى من ولاَّه‬
‫الله‬
‫"‪.‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ‪" :‬ﻣﻦ ﻳﺮﺍﻙ ﻳﺮﺍﻧﻲ" )ﺹ ‪(٦٤-٤١‬‬


‫في هذا الفصل يرجع شودكي ِفتش ٕالى بدايات ظهور الولاية كمفرد وكمفهوم في‬
‫النصوص الصوفية‪ ،‬ويتت َّبع تاريخ هذه الفكرة وتط ُّورها عند المسلمين‪ ،‬وصولا ً ٕالى ابن عربي‪:‬‬
‫متى ظهر مفرد "ولي"؛ كيف تحدَّد معنى "الولاية" عند المؤ ِّيدين والمعارضين؛ ما حدود‬
‫الإ ضافة التي شارك بها ك ُّل مفكر أو باحث أو ولي في صورة الولاية‪ .‬ويتأكد لديه أن مس َّمى‬
‫"الولي" الذي يتشاطره الاشترا ُك المب َّين في الفصل الأول أدى إلى شطر تاريخ الولاية بأكمله‬
‫نصفين‪ ،‬ك ُّل نصف ق َّيد معنى الولاية بمفهوم وحصره فيه‪ :‬فبعض الدارسين الإ سلاميين – ومن‬
‫بينهم أئمة – حصروا معنى الولاية في المس َّمى الأول‪ :‬أي أن الولي هو المؤمن عامة‪ ،‬وك ُّل‬
‫مؤمن ولي‪ ،‬ولم يرتضوا معنى "التولية" – وإن لم يحاربوا أو يناهضوا الكرامات وخرق العادة‬
‫والعلوم الإ لهامية؛ والبعض الثاني‪ ،‬وإن قبل معنى الولاية في المس َّمى الأول‪ ،‬إلا أنه اعتبر أن‬
‫التخصيص المراد بالولاية والمشار إليه في‬
‫ُ‬ ‫صفة الإ يمان التي تع ُّم ك َّل المؤمنين لا ينطبق عليها‬
‫رب أشعث أغبر‪ ."...‬وهكذا يستعرض‬ ‫الأحاديث المشهورة من نحو "من آذى لي ول ًّيا‪ "...‬و" َّ‬
‫شودكي ِفتش تاريخ فكرة الولاية‪ ،‬وقبل ُة أنظاره هذا الانقسام‪ .‬وأنا أس ِّميها مجا ًزا‪ :‬الولاية السلفية‬
‫‪.‬‬ ‫والولاية الصوفية‬

‫يبدأ بابن تيمية‪ ،‬الذي يرى أن الأولياء هم المق َّربون فقط‪ ،‬أي ينظر إلى الولاية بالمعنى‬
‫الأول‪ :‬فالولي عنده هو الذي تقدَّم في الصلاح‪ ،‬حتى أصبح من أوائل الصالحين‪ .‬والقرآن‬
‫يس ِّميهم بـ"السابقين"‪ ،‬الذين هم أعلى من أهل اليمين وأهل الشمال‪ .‬والجرجاني في‬
‫التعريفات يع ِّرف الولاية بأنها "القرب من الله"‪ ،‬ويم ِّيز بين َولاية )بالفتح( ووِلاية )بالكسر(‪،‬‬
‫وأنهما يقابلان حال الولي ووظيفة الولي‪ .‬أما ابن عجيبة )القرن الثامن عشر الميلادي(‪ ،‬فيجعل‬
‫الولاية تقابِل "الأنس بالله"‪ً .‬‬
‫وكثيرا ما كان ابن عربي يؤ ِّكد على قضية النصرة في الولاية‪ ،‬ويرى‬
‫أن الولي والأولياء هم الذين تولاَّهم الله بنصرتهم‪ ،‬تولاَّهم في محاربتهم أعداءهم الأربعة‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫النفس‪ ،‬والهوى‪ ،‬والدنيا‪ ،‬والشيطان‬

‫ولكن بعد هذه اللمحة السريعة مع ابن تيمية والجرجاني وابن عجيبة وابن عربي‪ ،‬يقف‬
‫شودكي ِفتش ليقول إن هذه النصوص كلَّها متأخرة‪ .‬فماذا كانت البداية في بدايات الإ سلام؟‬
‫كما حدث مع مفرد "صوفي"‪ ،‬إذ سبق وجود الصوفي وجود اسمه‪ ،‬كذلك في الولاية سبق‬
‫وجو ُد الولي وجو َد اسم الولاية‪ .‬وبحسب الهجويري‪ ،‬يرجع وجود الولي والولاية في اللغة‬
‫كتبه حاملة اسمها‪ :‬علم‬
‫الصوفية إلى الحكيم الترمذي )القرن التاسع الميلادي( الذي توالت ُ‬
‫الأولياء‪ ،‬ختم الأولياء‪ ،‬سيرة الأولياء‪ .‬فالترمذي ُي َع ُّد أول صوفي ب َّين معالم الولاية وطرح‬
‫مشاكلها ومسائلها‪ .‬وهذا يفسر المكانة التي احتلَّ ْتها مؤلَّفاته في كتابات ابن عربي في‬
‫الموضوع نفسه‪ .‬ثم يتناول شودكي ِفتش كتاب ختم الولاية‪ً ،‬‬
‫مشيرا إلى أن الترمذي في هذا‬
‫النص كتب تجربته الروحية‪ ،‬على الرغم من تس ُّتره وراء حجب اللغة الموضوعية واللهجة‬
‫ِّ‬
‫اللاشخصية‪.‬‬

‫يف ِّرق الترمذي بين طريقين للولاية‪ :‬طريق الصدق والجهد والعبادة‪ ،‬وطريق الم َّنة‬
‫تداخلهما‪ ،‬يشيران إلى مرتبتين من مراتب الحياة‬ ‫وال َو ْهب والعبودية؛ وهذان الطريقان‪ ،‬على ُ‬
‫الروحية‪ ،‬أي مرتبتين من مراتب الولاية‪ :‬مرتبة "ولي ح ِّق الله" ومرتبة "ولي الله حقًّا"‪ .‬الولاية‬
‫يحصلها السالك بسيره في الطريق الأول‪ ،‬وهو ممارسة الصدق؛ فالصدق أول خطوة‬ ‫الأولى ِّ‬
‫في الولاية‪ ،‬وهو يفرض الأداء الكامل لك ِّل الفروض الداخلية والخارجية المترتبة عن العهود‬
‫الإ لهية‪ ،‬صدق العهود مع الله‪ ،‬وباختصار‪ ،‬صدق العبادة‪ .‬والولاية الثانية ينالها المؤمن بال َو ْهب‬
‫‪.‬‬ ‫والم َّنة الإ لهية؛ وتتصف بصدق العبودية‬

‫ٕان عبارة "ح ِّق الله" على المخلوقات تو ِهم بح ِّق المخلوقات على الخالق‪ .‬لذلك فإن‬
‫"ولي ح ِّق الله" هو الذي تظهر ولاي ُته في خدمته للحقوق الإ لهية‪ ،‬وهي‪ :‬أداء الفروض‪ ،‬حفظ‬
‫الجوارح‪ ،‬الصبر على الشهوات‪ ،‬التوكل في الرزق‪ .‬يعطي ليأخذ‪ :‬يعطي صدق العبادة‪ ،‬فيم ُّن‬
‫الله عليه ويعطيه طريقًا أعلى في الولاية‪ ،‬ويرقى إلى أن يكون "ولي الله حقًّا"؛ يجاهد المؤمن‬
‫نفسه في عبادة الله‪ ،‬فتتوالى عليه أنوار العطاءات الربانية‪ .‬فإن لم يقف عندها خلَّ َصه الله – ع َّز‬
‫وج َّل – لعبوديته‪ ،‬وح َّرره من ك ِّل شيء‪،‬أ ورقَّاه في درجات الولاية‪ ،‬وأنزله مح َّل قُربه‪ .‬وهذا‬
‫الولي‪ ،‬وإن كان لا يطلب المعاوضة بالخدمة‪ ،‬إلا أن عبوديته المطلقة هي مساحة أعماقه التي‬
‫تحررت من ك ِّل شيء وامتلأت بالحضور الإ لهي‪ .‬لذلك نجد أن أه َّم صفات الولاية الصادقة‬
‫عند الترمذي هي تن ُّزل السكينة على الولي‪ ،‬أي الحضور الإ لهي‪ .‬فالولي الفارغ من ك ِّل شيء‪،‬‬
‫الممتلئ بالحضور الإ لهي‪ ،‬ينعكس هذا الحضور من باطنه إلى ظاهره‪ ،‬ويصبح أحد المظاهر‬
‫ولياء بها‪ ،‬وهي ال ُمشار إليها في الحديث الشريف بأن الأولياء هم الذين‬
‫الخارجية التي ُي ْعرف الا ٔ ُ‬
‫‪).‬‬ ‫تذكِّرنا رؤيتهم بالله )راجع‪ :‬السيوطي‪ ،‬الفتح الكبير‪٢١٤ :١ ،‬‬

‫طرح في ك ِّل نظرية روحية في الإ سلام‪ :‬ما هي‬ ‫وينتقل شودكي ِفتش إلى السؤال الذي ُي َ‬
‫العلاقة بين الولي وبين النبي أو الرسول؟ هذا الموضوع بالذات – وقد أشار إليه الترمذي في‬
‫رسالة بدء الشأن – هو الذي أثار عليه ثورة الفقهاء‪ .‬يرى الترمذي أن نب َّوة الأنبياء ورسالة الرسل‬
‫لهما نهاية وح ٌّد في هذه الدنيا؛ وتتوافق نهايتهما مع نهاية العالم ورجوع مخلوقاته إلى خالقها‬
‫في يوم الفصل العظيم‪ .‬وعلى العكس من ذلك‪ ،‬تستمر صفة الولاية أبدية‪ .‬وهذا ما يفسر أن‬
‫"الولي" هو أحد الأسماء الإ لهية‪ .‬وهذا الكلام لا يعني أن الولي "أفضل" من النبي أو الرسول؛‬
‫ولكن صفة الولاية في شخص الرسول أو النبي نفسه تستمر أبدية‪ ،‬على حين أن فعل رسالته أو‬
‫‪.‬‬ ‫نب َّوته ينتهيان بانتهاء العالم‬

‫ض شودكي ِفتش للولاية عند الحكيم الترمذي‪ ،‬يتساءل عن معنى "ختم‬ ‫وبعد أن َع َر َ‬
‫الأولياء" الذي َع ْن َو َن به الترمذي كتابه‪ .‬هنا – يقول شودكي ِفتش – كان علينا أن ننتظر ابن عربي‬
‫حتى نعرف ماهية الختم وهو َّيته ونفهمهما‪ .‬ذلك أن الإ شارات التي تلامحت عند الترمذي‪،‬‬
‫أمثال قوله إن ختم الأولياء هو "حجة الله على الأولياء" أو أنه "سيد الأولياء" و"حكيم‬
‫الحكماء"‪ ،‬لا توضح شي ًئا‪ .‬ويبقى أن الحكيم الترمذي أ ْو َر َد مجموعة أسئلة كانت تحد ًيا‬
‫للمدَّعين‪ ،‬تحد ًيا لمن يتكلَّم كالأولياء وليس منهم‪ .‬هذه الأسئلة المائة والسبعة والخمسون‬
‫ظلت تنتظر دون جواب زمن ابن عربي الذي واجه التحدي وأجاب في الفتوحات عن الأسئلة‬
‫جميعها )ف ‪ .(١٣٨-٤٠ :٢‬وأهم هذه الأسئلة‪ :‬كم عدد منازل الأولياء؟ أين منازل أهل‬
‫القُربة؟ من الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق محمد )ص( خاتم النبوة؟ ما سبب الخاتم‬
‫وما معناه؟ أين مقام الأنبياء من الأولياء؟ ما سكينة الأولياء؟ إلخ‬
‫‪.‬‬
‫وكان من نتيجة طرح الترمذي للولاية وختمها وللعلاقة بين النبوة والرسالة والولاية‬
‫بشخص الرسول أو النبي أن تناول ك ُّل الباحثين بعده مفهوم الولاية بالحذر الشديد‪ .‬وها هو‬
‫خصص كتا ًبا للبحث في الفرق بين‬ ‫الباقلاني )القرن العاشر الميلادي( الذي‪ ،‬وإن كان َّ‬
‫معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء‪ ،‬إلا أنه اكتفى بأن يقف من الولاية عند حدود التأكيد على‬
‫‪.‬‬ ‫إمكانية الكرامات والخوارق في مقابل المعتزلة‪ ،‬وع َّرف الأولياء بأنهم الصالحون فقط‬

‫يخصصون بح ًثا يتناول صراحة الولاية‬


‫وإن التفتنا ناحية الصوفية‪ ،‬نكاد لا نجدهم ِّ‬
‫والأولياء‪ ،‬بل يستترون بأسماء كـ"العارف" أو "الصوفي"‪ .‬وإن ظهرت أ ٌ‬
‫بحاث في الولاية لا‬
‫تلبث أن تختفي بسرعة‪ ،‬كما لاحظ الهجويري‪ .‬وإذا قلَّبنا صفحات الكتب الكبرى في‬
‫فصاحا‪ .‬ويعرض شودكي ِفتش‬
‫التصوف التي ألَّفها كُ َّتاب ُي َعرفون على أنهم أولياء لا نراها أكثر إ ً‬
‫أه َّم هذه الكتب ومؤلِّفيها‬
‫‪:‬‬

‫أبو طالب المكي )ت ‪ ٣٩٠‬هـ(‪ ،‬في فصل من كتابه قوت القلوب‪ ،‬يتكلَّم على أهل‬
‫المقامات من المق َّربين‪ ،‬ويف ِّرق بين ثلاثة أنواع من الأولياء‪" :‬أهل العلم بالله"‪" ،‬أهل الحب"‪،‬‬
‫‪".‬‬ ‫"أهل الخوف‬

‫يخصص فصلا ً‬ ‫أبو نصر الس َّراج )ت ‪ ٣٧٧‬هـ(‪ ،‬في كتابه اللُّمع‪ ،‬وعلى الرغم من أنه ِّ‬
‫يح ِّذر فيه القارئ م َّمن يضع الأولياء في مرتبة أعلى من الأنبياء‪ ،‬وفصلا ً آخر لكرامات الأولياء‪،‬‬
‫عرضا أكثر عمقًا لمفهوم الولاية‪.‬‬
‫إلا أننا نحاول عب ًثا أن نستشف ً‬
‫الكلاباذي )ت ‪ ٣٨٥‬هـ(‪ ،‬في كتابه التع ُّرف‪ُ ،‬يفرِد فصلا ً للكرامات‪ ،‬ويدافع عن‬
‫إمكانيتها وشرع َّيتها‪ ،‬ويرى أن ظهور الكرامة هو تأييد للنب َّوة‪ .‬وعلى السؤال الذي ُطر َِح على‬
‫الترمذي من أحد تلامذته‪ :‬هل يعرف الولي أنه ولي؟ يجيب بالإ يجاب‪ .‬وهو يف ِّرق بين نوعين‬
‫من الولاية‪ :‬الولاية في معناها العام‪ ،‬وتشمل ك َّل المؤمنين؛ وفي معناها الخاص الذي تأخذه في‬
‫الاصطلاح الصوفي‪ ،‬هي عطاء مخصوص‪ ،‬من أُ ْع ِط َيه كان محفو ًظا من النظر إلى نفسه ومن‬
‫‪.‬‬‫آفات البشرية‬

‫السلَمي )ت ‪٤١٢‬‬ ‫ويتابع شودكي ِفتش‪ ،‬مع ك َّتاب متأخرين نو ًعا ما عن الذين ذكرهم‪ُّ :‬‬
‫هـ(‪ ،‬في مقدمة كتابه طبقات الصوفية‪ ،‬يرى أن الأولياء هم أتباع الأنبياء‪ ،‬يخلفونهم في‬
‫الس َلمي‪ ،‬عند بحثه لشخصياته‪ ،‬يتابع هذه اللمحة‪ ،‬بل العكس؛ فإننا‬ ‫ُس َن ِنهم‪ .‬ولكننا لا نجد ُّ‬
‫نكاد لا نجد هذه الشخصيات تخرج عن الأسئلة التقليدية‪ :‬الكرامة‪ ،‬هل يعرف الولي أنه ولي‪،‬‬
‫‪.‬‬ ‫إلخ‬

‫الس َلمي‪ ،‬يأخذ شودكي ِفتش كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني )ت‬
‫وبعد طبقات ُ‬
‫‪ ٤٣٠‬هـ(‪ ،‬ويرى أنه يتركنا على جوعنا‪ ،‬وعطشى لا نرتوي‪ ،‬على الرغم من عنوانه وأجزائه التي‬
‫تبلغ العشرة‪ ،‬وتضم أكثر من ستمائة وتسع وثمانين ترجمة ‪.‬ولكننا نستطيع‪ ،‬من خلال إشاراته‪،‬‬
‫قليلا ً قليلاً‪ ،‬أن نرسم صورة للولي‪ ،‬وأن نقارب نمطية الأولياء‪ .‬ولكن جوهر الولاية ينفلت من‬
‫ك ِّل تعريف؛ وحصيلة ما يبقى لدينا بعد قراءة الحلية ينتظم تحت مقولات‪ :‬الأولياء يذكِّرون‬
‫بالله‪ ،‬الأولياء محفوظون من الفتنة‪ ،‬الأولياء فقراء‪ُ ،‬ز َّهاد‪ ،‬قوم خالط القرآن لحومهم ودماءهم‪،‬‬
‫بحسب قول ذي النون المصري‪ .‬ثم إن الولاية ليست استعراضية‪ ،‬بل العكس؛ فإن الولي‬
‫‪.‬‬ ‫يتحاشى الظهور‬

‫وبعد الحلية يأخذ شودكي ِفتش رسالة القشيري )ت ‪ ٤٦٥‬هـ(‪ ،‬حيث تستغرق الولاية‬
‫فصلاً كاملاً‪" :‬باب الولاية"‪ .‬ولكن نجد أننا نقف أمام نفس السدود‪ ،‬نفس الحذر‪ .‬ويشير‬
‫القشيري إلى أن اسم "ولي" له معنيان‪ :‬أحدهما سلبي‪ ،‬فعيل بمعنى مفعول‪ ،‬وهو من يتولَّى الله‬
‫– سبحانه – أ َمره )قال الله تعالى‪" :‬وهو يتولَّى الصالحين"(‪ ،‬فلا َي ِك ْله إلى نفسه لحظة‪ ،‬بل‬
‫يتولَّى الح ُّق – سبحانه – رعاي َته؛ والمعنى الثاني إيجابي‪ ،‬فعيل مبالغة من الفاعل‪ ،‬وهو الذي‬
‫يتولَّى عبادة الله تعالى وطاعته؛ فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخلَّلها عصيان‪ .‬وكلا‬
‫الوصفين واجب حتى يكون الولي ول ًّيا‪ .‬ومن شرط الولاية أن يكون الولي محفو ًظا‪ ،‬كما أنه من‬
‫شرط النبي أن يكون معصو ًما‪ .‬ويتابع القشيري مع الحوار الصوفي حول معرفة الولي بأنه ولي‪.‬‬
‫السلَمي‪" :‬نهايات الأولياء‬
‫ويع ِّقب القشيري على معنى الولاية بأقوال‪ ،‬أهمها ما ينقله عن ُّ‬
‫بدايات الأنبياء"‪ ،‬وقول أبي على الجوزجاني‪" :‬الولي هو الفاني في حاله"‪ .‬ويخلص القشيري‬
‫إلى القول بأن الولي هو "ابن وقته"‪ ،‬ليس له مستقبل فيخاف شي ًئا؛ وكما لا خوف له فلا رجاء‬
‫له‪ ،‬لأن الرجاء انتظار؛ وكذلك لا حزن له‪ .‬ثم ُيفرِد القشيري با ًبا ًّ‬
‫خاصا للكلام على كرامات‬
‫الأولياء‪ ،‬دون أن يقدِّم جديدًا ُيذكَر‪.‬‬

‫أما إذا اتجهنا إلى تفسير القشيري للقرآن لطائف الإ شارات‪ ،‬فنرى أن القشيري يفرق‬
‫بين "معصوم" و"محفوظ"‪ :‬عصمة النبي تكمن في أنه لا يجد في نفسه الرغبة في معصية؛ أما‬
‫الولي ف ٕانه ليس في ملجأ من الإ غراء‪ ،‬ويمكن أن يضعف أحيانًا أمام الغواية‪ ،‬ولكن الم َّنة الإ لهية‬
‫تحفظه من الإ صرار على الخطأ‬
‫‪.‬‬

‫وبعد القشيري‪ ،‬يرى شودكي ِفتش أن عبد الله الأنصاري )ت ‪ ٤٨١‬هـ( لم يقدِّم جديدًا‬
‫في كتبه المعروفة لدينا؛ والأمر كذلك بالنسبة للغزالي )ت ‪ ٥٠٥‬هـ( الذي انتقد في الإ حياء من‬
‫ينكر كرامات الأولياء‪ .‬وهكذا يظل معنى الولاية مستو ًرا خلف صورها ومظاهرها وعلاماتها‪.‬‬
‫يضا عند نجم الدين كُبرى )ت ‪ ٦١٧‬هـ( في كتابه فوائح الجمال‪ :‬من‬ ‫وهذا ما سنجده أ ً‬
‫علامات الولي أن يكون محفو ًظا‪ ،‬مقبول الدعوة من الله – ع َّز وج َّل‪ ،‬وأن يعرف اسم الله‬
‫الأعظم وأسماء الج ِّن والملائكة‪ ،‬إلخ‪ .‬والولاية عند كُبرى هي الدرجة الثالثة والأخيرة من‬
‫الحياة الروحية؛ إذ تتوالى عنده الثلاثيات المرتبة تدريج ًّيا‪:‬‬

‫العبودة العبودية العبادة‬

‫عين اليقين‬
‫(فناء العارف في المعروف( حق اليقين‬

‫(حال مستمرة( علم اليقين‬

‫)‬ ‫(مكتسب‬

‫التكوين التمكين التلوين‬

‫والتكوين يعطى لِ َمن فنيت إرادتُه الذاتية ً‬


‫فناء كاملا ً في الإ رادة الإ لهية‪ .‬ويرى كُبرى أن‬
‫‪.‬‬ ‫مسلك السالك لا يصل إلى الولاية إلا عندما ُيعطى "كن"‪ ،‬وهي كلمة التكوين‬

‫ويرى شودكي ِفتش أنه‪ ،‬و ٕان كان كُبرى لا يعطينا المنطق العقلي لك ِّل المقولات التي‬
‫يطرحها في الولاية‪ٕ ،‬الا أننا تقدَّمنا معه قليلا ً في معرفة الولاية‪ .‬وكان يمكن أن تكون المعرفة‬
‫أكبر لو أراد أن يفصح؛ إذ إن المشاهدات التي يرويها في كتبه تكشف عن علمه الوافي بهذا‬
‫‪.‬‬ ‫الموضوع‬

‫وهكذا تظل الولاية إشكالية وسؤالا ً ُي َ‬


‫طرح على ك ِّل عالم أو ولي يظهر ويلمع أمام العامة‬
‫أو الخاصة؛ ولكن جاءت إجاباتهم غامضة‪ ،‬مبهمة المعاني‪ ،‬لم يفك خزائن رموزها إلا‬
‫نصوص ابن عربي‪ .‬ومن أبرز وجوه تلك الفترة عبد القادر الجيلاني‪ ،‬المتوفى في بغداد في العام‬
‫‪ ٥٦١‬هـ‪ ،‬وهو نفس الوقت الذي ولد فيه ابن عربي في الأندلس‪ .‬ويكتفي الجيلاني بالقول بأن‬
‫‪".‬‬‫الولاية هي "ظل النبوة‬

‫و ُينهي شودكي ِفتش هذا الفصل بالكلام على نظرية الولاية عند معلِّم روحي كبير‪ ،‬هو‬
‫روزبهان بقلي‪ ،‬المتوفى في العام ‪ ٦٠٦‬هـ‪ ،‬أي بعد وصول ابن عربي إلى المشرق‪ .‬وروزبهان‪،‬‬
‫في كتابه مشرب الأرواح‪ ،‬المستوحى من كتاب الأنصاري منازل السائرين‪ُ ،‬يف ِر ُد فصلا ً عن‬
‫الولاية‪ ،‬يرى فيه أن أول الطريق إرادة‪ ،‬وهي مصحوبة بالمجاهدات‪ ،‬ووسط الطريق محبة‪ ،‬وهي‬
‫مصحوبة بالكرامات‪ ،‬وآخر الطريق معرفة‪ ،‬وهي مصحوبة بالمشاهدات‪ .‬وعندما يكون المرء‬
‫متم ِّك ًنا من هذه الدرجات الثلاث‪ ،‬لا يجري عليه تلوين‪ ،‬ويسبح في بحار التوحيد وأسرار‬
‫التفريد‪ .‬عندها يكون ول ًّيا‪ ،‬نائب الأنبياء‪ ،‬صاد ًقا بين الطاهرين‪ .‬ويورد شودكي ِفتش من كتاب‬
‫روزبهان كشف الأسرار بعض المقاطع التي تروي تجربة الولاية عنده‪ ،‬مقاطع يخاطب فيها‬
‫الح ُّق روزبهان‪ ،‬نصوص تروي توليته واختياره للولاية وللمحبة‪ .‬ويروي روزبهان أنه كان ذات‬
‫مرة يجلس ليلا ً قرب ابنه أحمد الذي يشكو ح َّمى‪ ،‬وقلبه يكاد يذوب قلقًا؛ ثم فجأة شهد‬
‫الجمال الإ لهي‪ ،‬فقال له‪" :‬ر ِّبي‪ ،‬لم لا تكلِّمني كما كلَّمت موسى؟" فأجابه‪" :‬ألا يكفيك أن‬
‫َمن يحبك فقد أحبني‪ ،‬وأن َمن يراك يراني؟"‬

‫وهكذا‪ ،‬في هذا الفصل‪َ ،‬ر َد َم شودكي ِفتش المسافة بين بداية الكلام على الولاية مع‬
‫الترمذي وبين نهايته‪ ،‬وختمه مع ابن عربي‪ .‬قرون ثلاثة في الأبحاث الموضوعية والمشاهدات‬
‫الذاتية؛ وكلُّها يدور حول الولاية‪ .‬وقد تناولها شودكي ِفتش بالدراسة والتحليل‪ ،‬محاولا ً الوصول‬
‫إلى تعريف للولاية‪ ،‬لحدودها وبنيتها‪ ،‬قبل ابن عربي‪ ،‬ولكن دون جدوى‪ .‬لذلك يرى أن مفهوم‬
‫الولاية كان عليه أن ينتظر ابن عربي حتى يتحدَّد‪.‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ‪" :‬ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ" )ﺹ ‪(٧٨-٦٥‬‬


‫في هذا الفصل سوف يحدِّد شودكي ِفتش تدريج ًّيا طبيعة الولاية عند ابن عربي ودورها‬
‫وأشكالها‪ .‬ويبدأ بأن يلفت النظر إلى أن مذهب ابن عربي في الولاية مض َّمن تحت أسماء كثيرة‬
‫– إلى جانب اسم الولي – أهمها‪" :‬العارف"‪" ،‬المح ِّقق"‪" ،‬الملامي"‪" ،‬الوريث"‪،‬‬
‫"الصوفي"‪"،‬العبد"‪" ،‬الرجل"‪ .‬لذلك سوف يستفيد‪ ،‬أولاً‪ ،‬من نصوص الولاية والأولياء‪،‬‬
‫نص في الولاية هو كتاب‬‫و ُيك ِمل صورته من النصوص التي وردت تحت أسماء أخرى‪ .‬وأهم ٍّ‬
‫مخصص لنبي‬ ‫فصوص الحكم الذي يتألف من مقدمة وسبعة وعشرين فصلاً‪ ،‬ك ُّل فصل فيها َّ‬
‫من الأنبياء‪ :‬الأول هو آدم‪ ،‬والآخر هو محمد )ص(‪ .‬ويلحظ شودكي ِفتش أن ترتيب الفصول‬
‫المخصص‬
‫َّ‬ ‫المخصص لعيسى يسبق‬
‫َّ‬ ‫المتعلقة بالأنبياء لا يتبع التوالي التاريخي‪ :‬فالفصل‬
‫يضا أن‬
‫المخصص لداود )عليهم السلام(‪ .‬ويلحظ أ ً‬
‫َّ‬ ‫لسليمان الذي‪ ،‬بدوره‪ ،‬يسبق الفصل‬
‫شخصيتين من هذه الشخصيات السبع والعشرين – وهما شيث وخالد بن سنان – لم ترِدا في‬
‫القرآن؛ على حين أن نبيين مذكورين في القرآن – هما ذو الكفل وأليسع – غائبان عن كتاب‬
‫يضا أن لقمان‪ ،‬الذي يعطي اسمه لأحد فصول الفصوص‪ ،‬هو في الواقع –‬ ‫ابن عربي‪ .‬ويلحظ أ ً‬
‫‪.‬‬‫قرآن ًّيا – حكيم أكثر منه نبي‬

‫يضا في استخلاص بنية الولاية الصوفية ومعرفة تنوع‬ ‫ويفيدنا كتاب فصوص الحكم أ ً‬
‫فص من الفصوص‪ .‬ففي‬ ‫شخصيات الأولياء‪ ،‬وذلك من خلال الأنماط الروحية التي ُيب ِر ُزها ك ُّل ٍّ‬
‫فص من الفصوص نجد نم ًطا روح ًّيا يتحدَّد بالتقاء وجه من وجوه الحكمة الإ لهية مع‬ ‫ك ٍّل ٍّ‬
‫القابل الإ نساني الذي يحويها ويفرض عليها‪ ،‬بالتالي‪ ،‬شروطه الإ نسانية‪ .‬ك ُّل نمط روحي هو‬
‫التقاء المطلق الإ لهي‪ ،‬أي الحكمة الإ لهية‪ ،‬بالمق َّيد الإ نساني‪ ،‬أي بالكلمة‪.‬‬

‫ثم ينتقل شودكي ِفتش إلى بيان الظروف التي دفعت ابن عربي إلى نشر فصوص الحكم‪.‬‬
‫فابن عربي‪ ،‬مع أنه ليس برسول ولا بنبي‪ٕ ،‬الا أنه "وارث" يكتب ٕاملاء ٕاله ًّيا‪.‬‬

‫نصوصا وإشارات هامة إلى علاقة النبوة‬


‫ً‬ ‫وفي الفصل المتعلق ب ُع َزير‪ ،‬يعطي ابن عربي‬
‫بالولاية‪ ،‬يقول‬
‫‪:‬‬

‫اعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام؛ ولهذا لم تنقطع‪ .‬أما نبوة التشريع والرسالة‬
‫فمنقطعة‪ .‬وفي محمد )ص( قد انقطعت؛ فلا نبي بعده‪ :‬يعني مشتر ًعا أو مش ِّر ًعا له‪ ،‬ولا‬
‫رسول‪ ،‬وهو المش ِّرع‪ .‬وهذا الحديث َق َص َم ظهور أولياء الله لأنه يتض َّمن انقطاع ذوق العبودية‬
‫الكاملة التامة‬
‫‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬بعد انقطاع النبوة‪ ،‬امتنعت العبودية الكاملة التامة على الأولياء‪ ،‬وبقي لهم أن‬
‫يقتسموا إرث العلوم والأفعال والأحوال‪ .‬وهكذا فإن العلماء المشار إليهم في الحديث‪:‬‬
‫"العلماء ورثة الأنبياء" ينطبق بالأصالة على الأولياء‪ :‬فالأولياء هم ورثة الأنبياء‬
‫‪.‬‬

‫ثم يقارب ابن عربي موضو ًعا طرحه الترمذي قبله‪ ،‬ويتلخَّ ص بأن ولاية النبي أو الرسول‬
‫أعلى من نب َّوته أو رسالته‪ .‬يقول ابن عربي‪:‬‬

‫فإذا رأيت النبي يتكلَّم خارج عن التشريع فمن حيث هو ٌّ‬


‫ولي عارف؛ ولهذا مقامه من‬
‫حيث هو عالم أتم من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع‪ .‬فإذا سمعت أحدًا من أهل الله‬
‫يقول أو ُينقَل إليك عنه أنه قال‪" :‬الولاية أعلى من النبوة"‪ ،‬فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه‪،‬‬
‫لا أن الولي التابع له ]أي النبي[ أعلى منه‪ .‬فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدًا فيما هو تابع له فيه‪.‬‬
‫فرجع الرسول والنبي المش ِّرع إلى الولاية والعلم‪) .‬فصوص ‪١٣٥-١٣٤ :١‬‬
‫)‬

‫ينتج مما تقدَّم عدة نتائج‪ ،‬يرى شودكي ِفتش أنه من الصعب التوفيق بينها ظاهر ًّيا‪،‬‬
‫ويتركها دون تعليق‪ .‬فمن جهة‪ ،‬تظهر الولاية شامل ًة للنب َّوة وللرسالة‪ ،‬وهي أعلى في الشخص‬
‫الذي يجمع هذه الصفات الثلاث؛ ومن جهة ثانية‪ ،‬نرى الأولياء تابعين للأنبياء‪ ،‬وارثين لهم‪،‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فالنبوة أعلى من الولاية‪ .‬وإن لم نستطع أن نوفِّق بين النتائج المتقدمة‪ ،‬إلا أنه تق َّرر‬
‫الآن أن الولاية هي الإ رث النبوي‪ ،‬أو أن الولي هو الوارث لنبي‪ ،‬مع ملاحظة أنه لا ينال أحد‬
‫كمال الإ رث‪ ،‬وإلا لأصبح نب ًّيا‪ .‬فالنبوة والولاية تشتركان في ثلاثة أشياء‪ :‬العلم‪ ،‬والفعل‬
‫بالهمة‪ ،‬ورؤية عالم الخيال بالحس؛ وتختلفان في الخطاب الإ لهي‪ .‬ولعله من أهم نصوص ابن‬
‫عربي في هذا المجال هو عشرة فصول متتابعة من الفتوحات )‪ ،(١٦٢-١٥٢‬حيث يرسم دوائر‬
‫الولاية والنبوة والرسالة‪ ،‬ويب ِّين العلاقة فيما بينها‪ ،‬و ُينهي هذا المبحث بفصل عن "مقام القُربة"‬
‫الذي يمثل كمال الولاية وأعلى مراتبها‪.‬‬
‫وهكذا تتحدد طبيعة الولاية عند ابن عربي على أنها "قُربة"؛ ويتحدد شكلها بفعل‬
‫ولي ٍ‬
‫وارث لنبي فإنه لا يرثه‬ ‫الوراثة الموجود بين الولي الوارث والنبي الموروث‪ .‬ولكن ك َّل ٍّ‬
‫مباشرة‪ ،‬وإنما من حيث الحقيقة المحمدية‪ .‬لذلك ك ُّل ولي هو ولي محمدي في شكل من‬
‫الأشكال‪ .‬وهذا ما دفع شودكي ِفتش إلى التوقف عند "الحقيقة المحمدية" ومكانتها الوجودية‬
‫‪.‬‬ ‫في الفصل التالي‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ‪" :‬ﺍﳊﻘﻴﻘﺔ ﺍﶈﻤﺪﻳﺔ" )ﺹ ‪(٩٤-٧٩‬‬


‫ك ُّل وارث من نبي من الأنبياء هو دائ ًما وارث من محمد )ص(‪ .‬ويقول ابن عربي في‬
‫الفتوحات إن‬

‫كل الأنبياء الذين تقدموا في الزمان على محمد )ص( هم ن َّوابه في عالم الخلق‪ ،‬وهو لا‬
‫كنت نب ًّيا؟" فقال‪" :‬كنت نب ًّيا وآدم بين الماء‬
‫روحا مجر ًدا ونو ًرا مس َّوى‪ .‬قيل له‪" :‬متى َ‬
‫يزال ً‬
‫م لنائب من نوابه‪.‬‬ ‫والطين‪ ".‬إلى أن وصل زما ُن ظهور جسده المط َّهر )ص(‪ ،‬فلم يب َق حك ٌ‬
‫نص ابن عربي هذا‪ ،‬مع كثير غيره‪ ،‬يحدِّد طبيعة الحقيقة‬ ‫يقول شودكي ِفتش إن َّ‬
‫المحمدية ودورها‪ .‬وعلى الرغم من أن الحديث الوارد في ِّ‬
‫النص قد تع َّرض لكثير من الهجوم‬
‫واتُّ ِه َم بالبدعة‪ ،‬إلا أن جمهور المحدِّثين انقسموا فيه بين مؤ ِّيدين ومعارضين‪ .‬وابن عربي نفسه‬
‫– وهو دارس للحديث – يقول في عدة مناسبات أن "الكشف" وحده فقط هو القادر على‬
‫‪.‬‬ ‫القطع بصحة الحديث‬

‫ثم يب ِّين شودكي ِفتش أن عبارة "الحقيقة المحمدية" تجد جذورها القرآنية في عبارة النور‬
‫منيرا" )‪ .(٤٦ :٣٣‬و ٕان فكرة "النور‬
‫سراجا ً‬‫المحمدي‪ ،‬المستوحاة من قوله تعالى‪ً " :‬‬
‫المحمدي" لها أصول في كتب السيرة‪ ،‬نجدها فيما ُيروى عن النور الذي كان بين عيني والده‬
‫عبد الله‪ ،‬ورأتْه سيد ٌة عشية زواجه بآمنة‪ ،‬وفارقه عندما رأتْه ثانية صبيحة اليوم التالي‪ .‬إنه نور‬
‫النب َّوة المنتقل في الأصلاب والأرحام‪.‬‬

‫ويشير شودكي ِفتش ٕالى الصوفيين الذين أكدوا أسبقية النور المحمدي في الظهور على‬
‫كافة المخلوقات‪ ،‬كجعفر الصادق وسهل التستري والحكيم الترمذي والحلاج‪ ،‬وإلى ارتباط‬
‫الحقيقة المحمدية بعبارة مفهوم الإ نسان الكامل‪ ،‬الذي هو هدف ك ِّل حياة روحية وغاية ك ِّل‬
‫تعريف للولاية‪ .‬وينتج عن ك ِّل ما يورده شودكي ِفتش أن ولاية الولي ليست إلا انتسابه إلى ولاية‬
‫‪.‬‬ ‫النبي‬

‫وهذه الوراثة عن محمد )ص( يمكن أن تكون مباشرة أو غير مباشرة‪ ،‬كما رأينا‪ .‬والورثة‬
‫صفات تم ِّيزهم عن غيرهم من الأولياء‪ ،‬أي عن‬ ‫ٌ‬ ‫المحمديون بالطريق المباشر تظهر عليهم‬
‫الأولياء الذين لا ينتسبون للوراثة من النبي إلا بواسطة غيره من الأنبياء‪ .‬فالوارث غير المحمدي‬
‫الناس ولاي َته بما يظهر على ظاهره من علاماتها‪ ،‬كالكرامات والخوارق‪ .‬وعلى العكس‪،‬‬
‫يرى ُ‬
‫فإن الوارث المحمدي يجهله الناس‪ ،‬ولا يعرفه ٕالا النخبة‪ ،‬لأن خوارق الطبيعة لا تظهر على‬
‫ظاهره‪ ،‬و ٕانما تتن َّزل في قلبه على هيئة علوم وأحوال روحية‪ .‬وهذا التمييز بين ورثة النبي بالطريق‬
‫غير المباشر وورثته بالطريق المباشر تفيدنا في تحديد صور الأولياء وملامح شخصياتهم‪.‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﳋﺎﻣﺲ‪" :‬ﻭﺭﺛﺔ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎء" )ﺹ ‪(١١٠-٩٥‬‬


‫ينطلق ابن عربي من أن محمدًا )ص( يحوي كلِّية الصور النبوية‪ ،‬ويحوي شخصه‪،‬‬
‫بالتالي‪ ،‬ك َّل المزايا الخصوصية التي لك ِّل واحد من الأنبياء‪ .‬ففي شخص النبي )ص( تجتمع‬
‫صفات الأنبياء كافة‪ ،‬وفي طاقته ما تحلُّوا به جمي ًعا من علوم وتصريف‪ .‬والولي‪ ،‬الذي هو‬
‫ُ‬
‫لنبي من الأنبياء‪ ،‬يرث من الحقيقة المحمدية الوجه الخاص بالنبي الموروث‪.‬‬
‫الوريث الروحي ٍّ‬
‫فمن الأولياء من يرث وجه عيسى من الحقيقة المحمدية‪ُ ،‬فيط َلق عليه اسم "عيسوي"‪ ،‬ومنهم‬
‫من يرث وجه موسى من الحقيقة المحمدية‪ ،‬ويطلق عليه اسم "موسوي"‪ ،‬وهذا "إبراهيمي"‪،‬‬
‫‪.‬‬‫وذاك "هودي"‪ ،‬وغيرهم‬

‫وابن عربي نفسه يروي أن أستاذه أبا العباس العريبي أصبح عيسو ًّيا في آخر حياته‪ ،‬وأنه‬
‫هو نفسه – ابن عربي – على العكس‪ ،‬كان عيسو ًّيا في بداياته‪ ،‬ثم أضحى موسو ًّيا‪ ،‬ثم أمسى‬
‫ل الأنبياء‪ ،‬وفي آخر مقام من محمد )ص( بنفسه‪.‬‬ ‫هود ًّيا‪ ،‬ثم ورث على التوالي من ك ِّ‬
‫وهكذا يتكون من مزايا ك ِّل نبي ومعجزاته ُ‬
‫نمط شخصيته‪ ،‬تظهر صورتُها على الولي‬
‫الوارث‪ .‬فالولي العيسوي‪ ،‬مثلاً‪ ،‬تأتي كراماتُه على صورة معجزات عيسى )ع(‪ ،‬فتراه يمشي‬
‫على الماء‪ ،‬ويشفي المريض‪ ،‬و ُيبرئ الأعمى‪ .‬ويشير شودكي ِفتش إلى شخصيات معروفة في‬
‫الوسط الصوفي‪ ،‬ويؤكد أنها كانت عيسوية الولاية‪ ،‬كالحلاج وعين القضاة الحمداني‪ ،‬مريد‬
‫أحمد الغزالي‪ ،‬وعبد الله أحرار والشيخ العلوي‪ ،‬كما يشير إلى أن أحمد البدوي موسوي‪ .‬هذا‬
‫وفي استطاعة العارف‪ ،‬إن تم َّرس في أحوال الولي‪ ،‬أن يكتشف الطابع النبوي الذي يطبع‬
‫ظاهره‪ .‬ولا تتعدد الأنماط الروحية للولاية الموروثة عن النبوة ٕالى ما لانهاية‪ ،‬بل يحصر ابن‬
‫عربي صورها الرئيسة في كتاب فصوص الحكم بفصوله السبعة والعشرين‪.‬‬

‫وهكذا اخ ُتتمت النبوة‪ ،‬واكتملت التشريعات‪ ،‬ولم يب َق إلا الوراثة عن الأنبياء‪ .‬يقطع‬
‫السالك طريق الجهد‪ ،‬عسى يولِّيه الله – ع َّز وج َّل – ويورثه عل ًما نبو ًّيا‪ ،‬فيرث عن نبي أو عن‬
‫‪.‬‬‫أكثر من نبي‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺴﺎﺩﺱ‪" :‬ﺍﻷﻭﺗﺎﺩ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ" )ﺹ ‪(١٢٧-١١١‬‬


‫بعد أن درس شودكي ِفتش في الفصول السابقة طبيعة الولاية وهوية الولي وأنماط‬
‫شخصيات الأولياء‪ ،‬ينتقل هنا من الطرح النمطي للولاية إلى الطرح الجغرافي‪ ،‬حيث يحتل ك ُّل‬
‫ولي مرك ًزا جغراف ًّيا من الأرض‪ ،‬بحسب مرتبته من الولاية‪ :‬لك ِّل ٍّ‬
‫ولي منزل‪ ،‬مركز جغرافي‬
‫يحتله‪ ،‬ومنه يباشر وظيفته وولايته‪ .‬ويبدأ شودكي ِفتش بتل ُّمس منازل الأولياء في النصوص‬
‫السابقة لابن عربي‪ ،‬ويجد حدي ًثا شريفًا عند السيوطي‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬يشير إلى سبعة يحفظ‬
‫الله بهم سكان الأرض‪ .‬وفي الأدب الصوفي كذلك تتلامح إشارات إلى "ديوان الأولياء"‪،‬‬
‫الس ْتر؛ فالولي هنا هو مستور‪ ،‬لا تظهر‬
‫إشارات لا تزال تنمو إلى يومنا هذا‪ ،‬وتغلب عليها صفة َّ‬
‫‪.‬‬‫مكان ُته للناس‬

‫ويروي خادم الشيخ عبد القادر الجيلاني قصة طويلة‪ ،‬يخرج فيها الشيخ عبد القادر من‬
‫المدرسة في بغداد إلى نهاوند‪ ،‬ويصل دون مسافة تُذكَر‪ ،‬ليحضر وفاة أحمد الأبدال السبعة‪.‬‬
‫وهكذا يتابع شودكي ِفتش إشارات‪ ،‬تظهر وتختفي سري ًعا‪ ،‬عن أولياء مستورين لهم مهام كونية‬
‫‪.‬‬‫عالية‪ ،‬ويشغلون منازلهم الجغرافية‪ ،‬ك ُّل ولي يحتل منزلة بحسب رتبته‬

‫وكما في تحديد مفهوم الولاية وطبيعتها‪ ،‬كان علينا أن ننتظر في التاريخ الصوفي ظهور‬
‫ابن عربي‪ ،‬كذلك هنا‪ ،‬لتحديد منازل الأولياء‪ ،‬ومواقعهم في الأرض‪ .‬وبعد ابن عربي يصبح‬
‫لك ِّل الإ شارات السابقة في التاريخ الصوفي معنى‪ ،‬وتأخذ موقعها من نظرية الولاية ككل‪ .‬وابن‬
‫عربي لا يفصل هذه المنازل نظر ًّيا‪ ،‬ململ ًما النصوص الشرعية أو المرو َّيات الشعبية‪ ،‬ولكنه‬
‫يصف هذه المنازل ويصف نازليها وصف الرائي لها‪ ،‬العارف بها‪ ،‬المشاهد لأهلها‪ .‬ففي العام‬
‫‪ ٥٩٣‬هـ‪ ،‬مثلاً‪ ،‬التقى "قطب الوقت" في فاس‪ .‬والإ شارة إلى هذا اللقاء تكثر في كتبه‪ ،‬مما‬
‫يؤ ِّيد أن كلام ابن عربي في الولاية ليس نظرية‪ ،‬بل يقين عياني‪ ،‬يرتكز على رؤية مباشرة وتجربة‬
‫‪.‬‬‫حميمة‬

‫وفيما يتعلق بموضوع مراكز الأولياء الذين يمثلون قوى "الكون الفاعل"‪ ،‬لعل َّ‬
‫النص‬
‫الأكمل هو ما نجده في بداية الجزء الثاني من الفتوحات؛ وهذا النص هو ما سيتخذه‬
‫شودكي ِفتش دليله في طريق تحديد عالم الأولياء‪ .‬يبدأ ابن عربي الفصل بتحديد أفضلية مقام‬
‫الرسول على النوع الإ نساني عامة‪ .‬ثم يمثل الدين بالبيت القائم بقيام أركانه الأربعة؛ وأركان‬
‫البيت الأربعة هي‪" :‬الرسالة" و"النبوة" و"الولاية" و"الإ يمان"‪ .‬والرسالة هي الركن الجامع؛‬
‫وتحوي الأركان الثلاثة الأخرى‪ .‬لذلك لا يخلو العالِم من رسول حي بجسمه يكون قطب‬
‫‪.‬‬‫العالم الإ نساني‬

‫يقول ابن عربي بأنه بعد وفاة محمد )ص( أبقى الله – ع َّز وج َّل – من الرسل أحياء‬
‫بأجسادهم في هذه الدار الدنيا ثلاثة وهم‪ :‬إدريس والياس وعيسى )عليهم السلام(‪ .‬إدريس‬
‫)ع( بقي ح ًّيا بجسده‪ ،‬وأسكنه الله السماء الرابعة؛ والسموات السبع ه َّن من الدار الدنيا‪ ،‬تبقى‬
‫ببقائها وتفنى صورتُها بفنائها‪ ،‬لأن الدار الأخرى ُتبدَّل فيها السموات والأرض‪ٔ .‬اما الياس‬
‫وعيسى )عليهما السلام( فقد بقيا في الأرض‪ .‬وهذه الشخصيات الثلاث ُم ْج َمع على‬
‫رسالتهم‪ .‬أما الخضر )ع( – وهو الرابع – فهو "من المخت َلف فيه"‪ ،‬كما يقول ابن عربي‪،‬‬

‫عند غيرنا لا عندنا‪ .‬فهؤلاء الرسل الأربعة باقون بأجسامهم في الدار الدنيا‪ .‬فكلُّهم‬
‫الأوتاد‪ ،‬واثنان منهم الإ مامان‪ ،‬وواحد منهم القطب‪ ،‬الذي هو موضع نظر الح ِّق من العالم‪ .‬إذن‬
‫واحد من هؤلاء الأربعة‪ ،‬الذين هم ٕادريس وعيسى والياس والخضر‪ ،‬هو القطب‪ ،‬وهو أحد‬
‫أركان بيت الدين‪ ،‬وهو ركن الحجر الأسود؛ واثنان منهم هما الإ مامان‪ ،‬وأربعتهم هم الأوتاد‪.‬‬
‫فبالواحد يحفظ الله الإ يمان‪ ،‬وبالثاني يحفظ الله الولاية‪ ،‬وبالثالث يحفظ الله النبوة‪ ،‬وبالرابع‬
‫يحفظ الله الرسالة‪ ،‬وبالمجموع يحفظ الله الدين الحنيف‪ .‬ولك ِّل واحد من هؤلاء الأربعة من‬
‫‪.‬‬ ‫هذه الأمة في ك ِّل زمان شخص ولي على قلبه مع وجوده‪ ،‬هو نائبه‬

‫ويع ِّقب شودكي ِفتش بقوله إن كانت هذه الشخصيات الأربع التي ذكرها ابن عربي –‬
‫اثنتان منها‪ ،‬أي إدريس وعيسى‪ ،‬في السموات‪ ،‬واثنتان‪ ،‬هما الياس والخضر‪ ،‬في الأرض –‬
‫تعيش مستورة عن أعين العامة‪ ،‬إلا أنه – للمرة الأولى – ُيشار إلى الوظائف العليا لهذه‬
‫الشخصيات‪ .‬وهكذا ُيع ِلمنا ابن عربي بوجود الأنبياء الأحياء بأجسامهم في الدنيا‪ ،‬وأنه بهم‬
‫يحفظ الله أركان بيت الدين الحنيف‪ .‬ثم أعلمنا كذلك بوجود ن َّواب من الأولياء لهؤلاء‬
‫الأنبياء‪ .‬ذلك كلُّه يؤكد علاقة النبوة بالولاية‪ ،‬وأن دائرة الولاية ليست مستقلة‪ ،‬ولكنها تابعة‬
‫إلى آخر الزمان لسلطة الأنبياء الأحياء بعد موت محمد )ص‪).‬‬

‫ثم يتابع شودكي ِفتش ابن عربي في تصويره لجغرافية العالم الروحي‪ ،‬ويتت َّبع توزيع الأدوار‬
‫بين هؤلاء الأنبياء الأربعة‪ :‬فإدريس )ع( هو القطب‪ ،‬والإ مامان هما عيسى والياس )عليهما‬
‫السلام(‪ ،‬والوتد الرابع هو الخضر )ع(‪ .‬القطب عليه يدور الوجود‪ ،‬ويجمع في شخصه ك َّل‬
‫الأحوال‪ ،‬وك َّل المقامات‪ ،‬وهو "وجه بلا قفا"‪ ،‬لا يغيب عن نظره شيء‪ ،‬لا تُطوى له الأرض‪،‬‬
‫وبناء على أمر إلهي فقط‪ ،‬القوى‬
‫ولا يمشي في الهواء أو على الماء‪ ،‬ولا يستخدم إلا ناد ًرا‪ً ،‬‬
‫الخارقة‪ .‬والإ مامان‪ ،‬أحدهما أعلى من الثاني‪ ،‬وهما‪ :‬إمام الشمال الذي يلقَّب بـ"عبد الرب"‪،‬‬
‫وهو يسهر على "صلاح العالم"؛ وإمام اليمين يلقَّب بـ"عبد الملك"‪ ،‬وهو يسهر على "عالم‬
‫الأرواح‪".‬‬

‫وهؤلاء الأوتاد الأربعة – القطب والإ مامان ورابعهم الوتد – هم كالجبال للأرض‪ :‬فكما‬
‫سكن الأرض‪ ،‬فلا تميد‪ ،‬كذلك هؤلاء الأربعة يحفظ الله بهم الجهات الأربع‪:‬‬ ‫الجبل ُي ِ‬
‫‪.‬‬ ‫الشرق‪ ،‬الغرب‪ ،‬الجنوب‪ ،‬الشمال‬

‫و ُينهي شودكي ِفتش هذا الفصل بلفتة ابن عربي التحذيرية‪ .‬فك ُّل ما يذكره هنا من‬
‫مقامات الرجال تحت اسم "الرجال" قد يكون منهم النساء‪ .‬ويقول في مكان آخر‪" :‬لا توجد‬
‫صفة روحية يمتلكها الرجل وليس للمرأة فيها مشرب‪ ".‬ويقول‪" :‬النساء لها نصيب في ك ِّل‬
‫الدرجات التي ينالها الرجل‪ ،‬حتى في القطبية‬
‫"‪.‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺴﺎﺑﻊ‪" :‬ﺍﻟﺪﺭﺟﺔ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ" )ﺹ ‪(١٤٣-١٢٩‬‬


‫في هذا الفصل يتابع شودكي ِفتش تفصيل الرجال ومنازلهم ومراتبهم عند ابن عربي‪،‬‬
‫منطلقًا من الباب الثالث والسبعين من الفتوحات‪ .‬ففي هذا الباب يعدِّد ابن عربي حوالى ثمانين‬
‫مرتبة من مراتب الرجال الروحانيين‪ ،‬من بينها ثلاثون محفوظة برجال يتق َّيدون في ك ِّل زمان‬
‫يفصل ك َّل ما أ ْو َر َد ابن عربي‪ ،‬لذلك اختار‬
‫بعدد مخصوص‪ .‬وحيث ٕان الكاتب لا يمكن أن ِّ‬
‫من هذه المراتب وهؤلاء الرجال الأهم والذين يساهمون في توضيح ك ِّلية صورة الولاية‪.‬‬

‫وبعد الكلام على الأوتاد الأربعة التي َس َب َق تفصيلُها في الفصل السابق‪ ،‬يتابع‬
‫شودكي ِفتش ابن عربي في الكلام على الأبدال‪ ،‬وهم سبعة‪ ،‬لا يزيدون ولا ينقصون‪ ،‬يحفظ الله‬
‫تعالى بهم الأقاليم السبعة )= الأقاليم المناخية السبعة(؛ وك ُّل بدل "على قدم" نبي‪ :‬الأول على‬
‫قدم إبراهيم‪ ،‬والثاني على قدم موسى‪ ،‬والثالث على قدم هارون‪ ،‬والرابع على قدم إدريس‪،‬‬
‫والخامس على قدم يوسف‪ ،‬والسادس على قدم عيسى‪ ،‬والسابع على قدم آدم‪ ،‬على الك ِّل‬
‫السلام‪ .‬وتتأكد هنا‪ ،‬مرة جديدة‪ ،‬علاقة التبعية التي بين الأولياء والأنبياء‪ .‬هناك‪ ،‬ك ُّل ولي من‬
‫الحي بجسمه؛ وهنا‪ ،‬ك ُّل بدل من الأبدال السبعة على قدم نبي‬ ‫الأوتاد الأربعة ينوب عن النبي ِّ‬
‫‪.‬‬ ‫من الأنبياء السبعة‪ ،‬سكان السموات السبع‬

‫ثم يأتي بعد الأبدال‪ ،‬النقباء‪ ،‬وهم اثنا عشر ً‬


‫نقيبا في ك ِّل زمان‪ ،‬لا يزيدون ولا ينقصون‪،‬‬
‫على عدد بروج الفلك‪ ،‬ك ُّل نقيب بخاصية ك ِّل برج‪ .‬وبعد النقباء يأتي النجباء‪ ،‬وهم ثمانية؛ ثم‬
‫شخصا في ك ِّل زمان‪ .‬ثم‬
‫ً‬ ‫الحواريون‪ ،‬وهو واحد في ك ِّل زمان؛ ثم الرجبيون‪ ،‬وهم أربعون‬
‫يتكلَّم على الأفراد‪ ،‬المساوين للقطب في المرتبة والخارجين عن نظره؛ ثم على الملامية؛ حتى‬
‫يصل إلى أعلى درجات الولاية‪ ،‬وهي مقام القُربة عند ابن عربي‪ .‬وهنا يؤكد شودكي ِفتش على‬
‫معنى الولاية الصوفية‪ ،‬وأنها تعني وتُرا ِدف القرب‪ .‬فالولاية هي القرب‪ .‬وهذا التعريف للولاية‪،‬‬
‫الذي استقاه من كتابات ابن عربي واستوحاه من أعلى مقامات الولاية‪ ،‬يتردد أكثر من مرة في‬
‫هذا الكتاب‬
‫‪.‬‬
‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻣﻦ‪" :‬ﺍﻷﺧﺘﺎﻡ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ" )ﺹ ‪(١٥٨-١٤٦‬‬
‫بعد أن تت َّبع شودكي ِفتش نصوص ابن عربي‪ ،‬وب َّين معنى الولاية وهويتها والأنماط‬
‫الروحية لشخصياتها‪ ،‬من جهة‪ ،‬ثم تكلَّم‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬على مهام الأولياء الروحية‪ ،‬وب َّين‬
‫ارتباط الأولياء في مهامهم بالأنبياء‪ ،‬ثم ب َّين توزيع الأولياء على منازل‪ ،‬تت َّبع الأرض وجغرافيتها‬
‫في الجهات والأقاليم‪ ،‬كما وردت عند الجغرافيين العرب‪ ،‬أمثال الاصطخري وابن حوقل‪،‬‬
‫وتت َّبع السماء وجغرافيتها في الأبراج‪ ،‬كما َو َر َد ْت عند المؤلِّفين العرب‪ ،‬كاليعقوبي والبيروني –‬
‫بعد تلك الفصول السبعة السالفة التي رسمت كرة الولاية‪ ،‬بخطوط طولها وعرضها‪ ،‬يصل‬
‫ليبحث موضوع ختم الولاية‪ ،‬أو "أختام الولاية"‪ ،‬على صيغة الجمع‪ ،‬ويرى أن الولاية‪ ،‬بحسب‬
‫نصوص ابن عربي‪ ،‬وبعد المتابعة التاريخية‪ ،‬مثلَّثة الختم‪.‬‬

‫إن عبارة "ختم الولاية" لم َت ِر ْد في قرآن أو حديث؛ ولكن لما كان العلماء هم الأولياء‬
‫عند ابن عربي‪ ،‬وهم ورثة الأنبياء‪ ،‬ولما كانت النبوة ُخ ِت َم ْت بشخص سيدنا محمد )ص(‪ ،‬ينشأ‬
‫عن ذلك أن تُخ َتم الولاية بشخص الختم‪ .‬والترمذي )القرن الثالث الهجري( هو أول من وصل‬
‫إلى هذه النتيجة؛ ولكن نصوصه تشير ولا توضح‪ ،‬يطرح السؤال ولا يجيب‪ .‬والسؤال رقم ‪١٣‬‬
‫في أسئلة الترمذي‪ ،‬يقول‪ :‬و َمن الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق محمد )ص( خاتم‬
‫‪:‬‬ ‫النبوة؟ يقول ابن عربي في الجواب‬

‫الختم ختمان‪ :‬ختم يختم الله به الولاية‪ ،‬وختم يختم الله به الولاية المحمدية‪ .‬فأما‬
‫ختم الولاية على الإ طلاق فهو عيسى عليه السلام؛ فهو الولي بالنبوة المطلقة في زمان هذه‬
‫الأمة‪ .‬وقد حيل بينه وبين نبوة التشريع والرسالة‪ ،‬فينزل في آخر الزمان وارثًا خات ًما‪ ،‬لا ولي بعده‬
‫بنبوة مطلقة‬
‫]‪. [...‬‬
‫أما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب‪ ،‬موجود في زمان ابن عربي‪ .‬ويتابع‬
‫الشيخ الأكبر‪:‬‬

‫وكما ختم الله – ع َّز وج َّل – بمحمد )ص( نبوة الشرائع‪ ،‬كذلك ختم الله بالختم‬
‫المحمدي الولاية التي تحصل من الوارث المحمدي‪ ،‬لا التي تحصل من سائر الأنبياء‪ ،‬وذلك‬
‫لأنه من الأولياء َمن يرث إبراهيم أو عيسى أو موسى؛ فهؤلاء يوجدون بعد هذا الختم‬
‫المحمدي‪ ،‬ولكن لا يوجد بعده ولي على قلب أو على قدم محمد )ص‪).‬‬

‫‪.‬‬‫بمعنى لا يوجد ولي يرث كامل الإ رث المحمدي‬

‫وهكذا تتضح الرؤية‪ :‬فختم الولاية المحمدية هو شخص لم يتحدَّد بشكل قاطع عند‬
‫ابن عربي – وهو الذي لا يوجد بعده ولي على قلب محمد )ص(؛ وختم الولاية العامة‪ ،‬الذي‬
‫‪.‬‬‫هو عيسى‪ ،‬والذي لا يوجد بعده ولي مطلقًا‬

‫مستوضحا العلاقة بين ختم الولاية العامة وبين‬


‫ً‬ ‫ثم يتابع شودكي ِفتش ُخطى ابن عربي‪،‬‬
‫ختم الولاية المحمدية‪ ،‬من ناحية‪ ،‬ثم بين خاتم الأنبياء وبين ختم الولاية المحمدية‪ ،‬من ناحية‬
‫ظاهرا – "خاتم الأنبياء"‪ ،‬وهو أ ً‬
‫يضا‪ ،‬من حيث‬ ‫ثانية‪ ،‬ليخلص إلى القول بأن محمد )ص( هو – ً‬
‫الباطن‪ ،‬خاتم الولاية العامة والولاية المحمدية؛ وظهور ختمية نب َّوته و ُبطون ختمية ولايته تجد‬
‫تفسيرها في أن نب َّوته )ص( ظاهرة؛ فظهرت بالتالي ختميته لها‪ ،‬وأن ولايته )ص( باطنة‪،‬‬
‫َفب ُط َن ْ‬
‫ت‪ ،‬بالتالي‪ ،‬ختميته للولاية‪.‬‬

‫ثم ينتقل شودكي ِفتش للكلام على ختم ثالث يشارك ختمي الولاية المحمدية والولاية‬
‫العامة في عنوان هذا الفصل‪" :‬الأختام الثلاثة"‪ .‬والخاتم أو "الختم" الثالث لم يذكره ابن عربي‬
‫‪:‬‬‫إلا مرة واحدة‪ ،‬وهو "ختم الأولاد"‪ .‬يقول ابن عربي‬
‫على قدم شيث يكون آخر مولود من هذا النوع الإ نساني‪ ،‬وهو حامل أسراره‪ ،‬وليس‬
‫بعده ولد في هذا النوع‪ .‬فهو خاتم الأولاد‪ .‬وتولد معه أخت له فتخرج قبله‪ ،‬ويخرج بعدها‪،‬‬
‫يكون رأسه عند رجليها‪ .‬ويكون مولده بالصين‪ ،‬ولغته لغة أهل بلده‪ .‬ويسري العقم في الرجال‬
‫والنساء‪ ،‬ويكثر النكاح من غير ولادة‪ .‬هذا الخاتم يدعو الناس إلى الله فلا ُيجاب‪ .‬فإذا َق َب َضه‬
‫ض مؤمني زمانه‪ ،‬بقي من بقي مثل البهائم؛ ولا ُي ِحلُّون حلالاً‪ ،‬ولا يح ِّرمون‬ ‫الله تعالى و َق َب َ‬
‫حرا ًما‪ ،‬يتصرفون بحكم الطبيعة شهوة مجردة عن العقل والشرع‪ .‬وعلى هؤلاء الناس تقوم‬
‫الساعة‪.‬‬

‫ويعلق شودكي ِفتش بأن عبارة "على قدم شيث"" التي تم ِّيز خلق "خاتم الأولاد" تشير‪،‬‬
‫يضا ولي "شيثي"‪ ،‬ولن‬ ‫بما نفهمه من لغة ابن عربي‪ ،‬إلى أن خاتم الأولاد هو من الأولياء‪ ،‬وهو أ ً‬
‫يضا‪ ،‬الولاية‪ .‬ويتساءل شودكي ِفتش‪:‬‬ ‫ُيخ َلق بعده أ ُّي رجل‪ ،‬وبالتالي أ ُّي ولي‪ ،‬فيختم إذن‪ ،‬هو أ ً‬
‫كيف نستطيع هاهنا أن نوفِّق بينه وبين عيسى الذي يختم الولاية العامة؟ وتظل القضية معلَّقة‪،‬‬
‫يرجع إليها عند بحثه لختم الولاية المحمدية الذي ُيف ِر ُد له الفصل التالي‪ .‬ولكن شودكي ِفتش لا‬
‫يعطينا جوا ًبا عن هوية خاتم الأولاد‪ ،‬كما لم تعطنا أ َّي جواب ك ُّل النصوص القديمة والشروح‬
‫التي تناولت فصوص الحكم بالبحث والدراسة‪ ،‬وك ُّل الأسماء الكبيرة‪ ،‬أمثال القونوي‪ ،‬بالي‬
‫‪.‬‬ ‫أفندي‪ ،‬القاشاني‪ ،‬النابلسي‪ ،‬القيصري‬

‫النص الوحيد الذي نمتلكه عن "خاتم الأولاد" والذي‬ ‫َّ‬ ‫وأرى هنا‪ ،‬استنا ًدا إلى هذا‬
‫تضاربت حوله الشروح‪ ،‬فرأى بعضهم أنه هو خاتم الولاية العامة‪ ،‬الذي قيل عنه إنه عيسى‪،‬‬
‫ورأى بعضهم الآخر أنه مجرد ولد يولد في آخر الزمان‪ ،‬ورأى بعضهم الثالث أن العبارة بجملتها‬
‫رمزية‪ ،‬وأن خاتم الأولاد هو القلب وأخته هي النفس‪ ،‬وهكذا – أرى أنه‪ ،‬على الرغم من أن ابن‬
‫عربي لم يوضِّ ح ماهية هذا الختم ويب ِّينها‪ ،‬أسوة بالأختام الثلاثة – ختم النبوة‪ ،‬وختم الولاية‬
‫العامة‪ ،‬وختم الولاية المحمدية – إلا أنه يمكنني‪ ،‬استنا ًدا إلى النصوص‪ ،‬أن ٔارى بوضوح في‬
‫‪.‬‬‫عالم ابن عربي َمن هو هذا الختم‬

‫أبدأ بمقدمة أولى وهي‪ :‬أن ابن عربي يرى )الفتوحات ‪ (٥٠ :٢‬أن لك ِّل شيء من الدنيا‬
‫خت ًما‪ ،‬وذلك لأنه لما كان للدنيا بدء ونهاية‪ ،‬وهو ختمها‪ ،‬فقد قضى الله – سبحانه – أن يكون‬
‫جميع ما فيها‪ ،‬بحسب نفسها‪ ،‬له بدء وختام‪ .‬وكان من جملة ما فيها تنزيل الشرائع؛ فختم‬
‫الله هذا التنزيل بشرع محمد )ص(‪ ،‬وكان من جملة ما فيها الولاية العامة‪ ،‬وهكذا‪ .‬ثم في‬
‫مقدمة ثانية‪ ،‬يرى ابن عربي أن بيت النوع الإ نساني هو الدين‪ ،‬وأن أركان بيت الدين أربعة‪،‬‬
‫وهي‪ :‬الرسالة والنبوة والولاية والإ يمان‪ .‬وقد كشف ابن عربي عن أوتاد أربعة‪ ،‬هم أركان‬
‫الدين‪ ،‬وهم الأنبياء الأحياء بأجسامهم بعد انتقال نبينا محمد )ص(‪ ،‬وهم‪ :‬إدريس وعيسى‬
‫والياس والخضر )وقد سبق الكلام على هذا الموضوع عند عرض الفصل السابع من هذا‬
‫‪).‬‬ ‫الكتاب‬

‫من هاتين المقدمتين‪ ،‬أستطيع أن أخلص ٕالى نتائج واضحة توصلنا لتحديد هوية "ختم‬
‫‪":‬‬ ‫الأولاد‬

‫النتيجة الأولى‪ :‬حيث إن لك ِّل شيء في الدنيا خت ًما‪ ،‬وأن "الإ يمان" من جملة ما‬
‫‪.‬‬ ‫فيها‪ ،‬لذلك ُيخ َت َتم الإ يمان بختم‪ ،‬تما ًما كالنبوة والولاية‬

‫النتيجة الثانية‪ :‬أركان بيت الدين الأربعة‪ ،‬وهي‪ :‬الرسالة والنبوة والولاية والإ يمان‪،‬‬
‫وإن كانت تُحفَظ في الدنيا بأركانها الأربعة وهم الأوتاد الأربعة‪ ،‬إلا أن ذلك لم يمنع ابن عربي‬
‫من أن يرى خت ًما لك ِّل ركن‪ .‬فالنبي – عليه الصلاة والسلام – هو خاتم الركنين الأولين‪ ،‬أي‬
‫خاتم الرسالة والنبوة‪ .‬والركن الثالث‪ ،‬أي الولاية‪ ،‬له ختمان‪ :‬تُخ َتم الولاية العامة بعيسى )عليه‬
‫السلام(‪ ،‬وتُخ َتم الولاية المحمدية بشخص لم تقطع فيه النصوص‪ ،‬ويكون آخر الورثة‬
‫المحمديين الكاملين‬
‫‪.‬‬
‫ونلاحظ أن الركن الرابع لبيت الدين – وهو الإ يمان – قد ظ َّل دون ختم‪ .‬فأين "خاتم‬
‫الإ يمان" الذي أشار إليه ابن عربي؟ وإذا دقَّقنا النظر في صفات "خاتم الأولاد" الذي أشار إليه‬
‫ابن عربي‪ ،‬نرى أنه ينطبق تما ًما ليكون رابع الأختام‪ ،‬وتكتمل به فكرة الختمية‪ ،‬لأن كمال‬
‫التكوين في ك ِّل شيء يقوم على التربيع عند ابن عربي‪ .‬فخاتم الأولاد‪ِّ ،‬‬
‫بنص ابن عربي‪ ،‬يدعو‬
‫إلى الإ يمان‪ ،‬وما من ُمه َت ٍد ولا مؤمن بعده‪ .‬فارتباط اسمه باسم الإ يمان‪ ،‬ثم كلمة "خاتم" أمام‬
‫اسمه – كل ذلك يدعو لأن أملا ٔ به مكان "ختم الإ يمان" الذي ظ َّل ً‬
‫شاغرا في بنية ابن عربي‬
‫فيفسرها كو ُن شيث ابن آدم هو أول‬
‫وفي رؤيته للولاية وأختامها‪ .‬أما عبارة "على قدم شيث"‪ِّ ،‬‬
‫أولاد الجنس البشري الموجود عن التزاوج؛ وبخاتم الأولاد ُيخ َتم الجنس البشري الموجود عن‬
‫التزاوج‪ ،‬لأنه بعد هذا الخاتم يسري العقم في الرجال والنساء‪ ،‬ويكثر النكاح من غير ولادة‪.‬‬

‫ولي من الأولياء؟ فإن كان ول ًّيا‪ ،‬فكيف‬ ‫يبقى أن نسأل أنفسنا‪ :‬هل خاتم الأولاد هو ٌّ‬
‫يولد ولي وقد ُخ ِت َمت الولاية بعيسى‪ ،‬وعيسى )ع( يظهر قبله في الزمان؟ ومن ث َّم فقد َط َر َح هذا‬
‫مفسري الفصوص‪ ،‬وحاول الجميع أن يجد علاقة ونسبة بين عيسى )ع( وبين‬ ‫مشكل ًة عند ِّ‬
‫خاتم الأولاد‪ .‬وأرى هنا أن الح َّل يأتينا من القرآن الكريم‪ ،‬ومن الفصل الأول الذي طرح فيه‬
‫شودكي ِفتش أن الولاية "اسم مشترك"‪ ،‬فنقول إن الولي اسم مشترك ُيط َلق على النخبة الروحية‬
‫التي ط َّهرها الله – ع َّز وج َّل – وأنزلها في منازل قربه‪ ،‬وح َّملها الأمانات‪ .‬فخاتم الأولاد هو خاتم‬
‫الإ يمان‪ :‬فلا مؤمن بعده؛ وهو ولي‪ ،‬ولكن بالمعنى العام للولاية‪ ،‬أي الإ يمان‪.‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺘﺎﺳﻊ‪" :‬ﺧﺘﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﶈﻤﺪﻳﺔ" )ﺹ ‪(١٧٩-١٥٩‬‬


‫يترك شودكي ِفتش في هذا الفصل مهمة ختم الولاية ووظيفته‪ ،‬ويهتم بشخص هذا‬
‫الختم‪ .‬فإن كان ختم الولاية العامة تحدَّد قط ًعا في نصوص ابن عربي بشخص عيسى )ع(‪،‬‬
‫فإن شخص ختم الولاية المحمدية وردت الإ شار ُة إليه مرا ًرا؛ ولكن في ك ِّل مرة كان يذهب‬
‫للنص في حيرة! فأحيانًا يقول ابن عربي إنه التقى‬
‫التعيين إلى شخص مختلف‪ ،‬مما أوقع المتت ِّبع ِّ‬
‫بشخص في فاس‪ ،‬هو ختم الولاية المحمدية؛ وأحيانًا أخرى يقول عن نفسه إنه هو ختم الولاية‬
‫تهادت إليه في رؤية منامية‪ ،‬ويؤكِّد‪ ،‬بعد وصوله إلى المشرق‪ ،‬أنه‬
‫ْ‬ ‫المحمدية‪ ،‬ويورد مبشِّ رات‬
‫‪.‬‬ ‫هو ختم الولاية المحمدية‬

‫ثم يستعرض الأستاذ شودكي ِفتش مؤلَّفات الصوفية‪ ،‬وخاصة مؤلَّفات مؤ ِّيدي ابن عربي‬
‫وتلامذته‪ ،‬فيرى أن الشعراني في الطبقات يشير‪ ،‬عند ترجمته للصوفي الكبير محمد وفا )ت‬
‫‪ ٨٠١‬هـ(‪ ،‬أن ابنه علي وفا يقول عن والده إنه ختم الأولياء‪ .‬وهذا ما حدث في معظم ال ُط ُرق‬
‫الصوفية‪ :‬إذ كانت تُظ ِهر رجالاتها الكبار على أنهم "ختم الأولياء"‪ .‬فك ُّل ٍ‬
‫جمع تج َّمع حول‬
‫ولي كبير من أولياء الصوفية المتأخِّ رين رأى فيه ملامح الختم المحمدي‪ .‬وتلامذة ابن عربي‬
‫ٍّ‬
‫كذلك يؤكدون أنه هو نفسه خاتم الولاية المحمدية‪ .‬ويكثر الجدال حول شخص الختم‪.‬‬
‫ويخرج الأستاذ شودكي ِفتش من هذا المأزق بالالتفات إلى مفهوم "النيابة" عند ابن عربي‪،‬‬
‫و ُيثبِت أن شخص خاتم الولاية المحمدية هو ابن عربي‪ ،‬بما يحويه من وظائف الختم‪ ،‬وأن ك َّل‬
‫عت لول ِّيها مقام الختم فهي إنما ترى فيه "نائب" الختم المحمدي‪ ،‬ترى على صفحة‬
‫طائفة ا َّد ْ‬
‫‪".‬‬ ‫ولايته "القمرية" انعكاس صفات ولاية الختم "الشمسية‬
‫ﱠ‬
‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﻌﺎﺷﺮ‪ ،‬ﻭﻫﻮ ﺍﻷﺧﲑ‪" :‬ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺍﳌﺰﺩﻭﺝ" )ﺹ ‪(٢٢١-١٨١‬‬
‫يلخِّ ص شودكي ِفتش في مطلع هذا الفصل‪ ،‬وفي فقرة واحدة‪ ،‬خلاصة نظرة ابن عربي‬
‫إلى الولاية‪ ،‬ويرى أنها انتظمت على مفاهيم ثلاثة‪ :‬الوراثة‪ ،‬النيابة‪ ،‬ال ُق ْربة‪ .‬فالوراثة لأحد‬
‫تفسر أشكال الولاية وسبب وجودها على أنماط‬ ‫الأنماط النبوية في معرفة الله – ع َّز وج َّل – ِّ‬
‫وتفسر‬
‫متنوعة؛ والنيابة‪ ،‬التي هي نيابة الولي في وظيفة‪ ،‬ترجع في الواقع إلى الحقيقة المحمدية ِّ‬
‫مهمات الولاية ووظائفها؛ و ٔا ً‬
‫خيرا ال ُق ْربة‪ ،‬وهي حقيقة الولاية ومعناها‪ .‬وهذه ال ُق ْربة‪ ،‬التي سبق‬
‫‪.‬‬‫الكلام عليها عند كلامنا على الدرجة العليا للولاية‪ ،‬سوف تظهر لنا هنا في كامل تف ُّتحها‬
‫ونلاحظ نحن هنا أن الأستاذ شودكي ِفتش‪ ،‬بعد أن شرح في الفصول التسعة المتقدمة‬
‫من كتابه معنى الولاية لغو ًّيا‪ ،‬ثم ب َّين طبيعتها وأشكالها ووظيفتها‪ ،‬ثم بحث في منازل الأولياء‬
‫وتو ُّزعهم على أبعاد الأرض والسماء‪ ،‬يصل هنا إلى نهاية المطاف‪ ،‬ليرسم للقارئ طريق الولاية‪:‬‬
‫إن الولاية‪ ،‬التي انتشأت صو ُرها من فقرات فصوله‪ ،‬وإن كانت واد ًيا مقد ًَّسا‪ٕ ،‬الا أن هذا الوادي‬
‫ليس محظو ًرا على السالكين؛ فالطريق مفتوح ل َمن أراد أن يحمل زا َده ويرحل‪ :‬يرحل عن‬
‫الكون إلى الله؛ وبعد أن يقطع مسافات في أرض الوجدان‪ ،‬يعرف أن الولي هو القريب من‬
‫الله‪ ،‬القريب من الإ نسان‪ .‬وهذا ما سينتهي إليه شودكي ِفتش في تت ُّبعه لنصوص الشيخ الأكبر‪.‬‬

‫كيف نصبح أولياء؟ الولاية‪ ،‬قبل ك ِّل شيء‪ ،‬هي تجربة فردية ومجهود شخصي؛ وهي‬
‫دائ ًما غير مسبوقة بمثال‪ .‬وهذا ما يؤكد عليه ابن عربي دائ ًما‪ :‬فلا تتكرر تجربة أبدًا‪ ،‬ولا يسلك‬
‫سالك آخر‪ ،‬ولا يمر سالكان بطريق واحد‪ .‬غير أن هذه الفردية في ال ُط ُرق‬‫سالكٌ أبدًا طريق ٍ‬
‫الموصلة إلى القُرب والولاية لا تمنع من وجود أنماط طرائقية‪ ،‬يجمع ك َّل نمط منها مقاماتُه‬
‫ومخاطره‪ .‬وهذا ما يب ِّرر وجود الشيخ المرشد المر ِّبي‪ ،‬أي "المعلِّم الروحي" الخبير بأنماط‬
‫طرائق المجاهدات‪ .‬ومن ناحية ثانية‪ ،‬يظهر المعراج النبوي على أنه القدوة والمثال لك ِّل طريق؛‬
‫وك ُّل عروج وتر ٍّق يطمح إلى تق ُّرب وولاية يرقى في هذه المعارج‪ .‬وهذا ما سيتَّضح‪ ،‬كما يقول‬
‫شودكي ِفتش‪ ،‬عند بحث مقامات القُرب عند ابن عربي‪.‬‬

‫يأخذ شودكي ِفتش كتاب ابن عربي رسالة الأنوار ويحاول‪ ،‬استنا ًدا إليه وإلى كتاب‬
‫يخط طريقًا للولاية‪ .‬ويؤكِّد‬‫َّ‬ ‫الإ سرا إلى المقام الأسرى وإلى فصل من الفتوحات‪ ،‬أن‬
‫شودكي ِفتش على ضرورة أن يصل الولي إلى تمام الولاية‪ :‬فهو يرى – استنا ًدا إلى النصوص – أن‬
‫رب العزة‪ ،‬ووصل إلى حضرته تعالى‪ ،‬ورجع به من عنده إلى‬ ‫الولي الكامل هو الذي سلك إلى ِّ‬
‫خلقه من غير مفارقته‪ .‬بكلام آخر‪ :‬الولي الكامل هو الواصل إلى الحق‪ ،‬الراجع إلى الخلق‪.‬‬
‫يبدأ شودكي ِفتش ببيان الطريق للسالك‪ ،‬منذ بداياته‪ ،‬كما َّ‬
‫فصله ابن عربي في رسالة‬
‫‪:‬‬ ‫الأنوار‪ ،‬حيث يقول لسائله‬

‫فأول ما أب ِّينه لك كيفية السلوك ٕالى الله‪ ،‬ثم كيفية الوصول والوقوف بين يديه والجلوس‬
‫في بساط مشاهدته‪ ،‬وما يقوله لك‪ ،‬وكيفية الرجوع من عنده إلى حضرة أفعاله به وإليه‪،‬‬
‫‪.‬‬‫والاستهلاك فيه‪ ،‬وهو مقام دون الرجوع‬

‫ثم يقول‬
‫‪:‬‬

‫واعلم‪ ،‬أيها الأخ الكريم‪ٔ ،‬ان الطرق شتى‪ ،‬والطريق الموصل إلى الح ِّق هو مفرد‪ ،‬وأفراد‬
‫هم الذين يسلكون طريق الحق‪ .‬ومع أن طريق الح ِّق واحد فإن وجوهه تختلف بحسب‬
‫اختلاف سالكيه من اعتدال المزاج أو انحرافه‪ ،‬ومن قوة الروحانية وضعفها‪ٔ ،‬او استقامة الهمة‬
‫وميلها‪ .‬فمن السالكين من تجتمع له هذه الأوصاف‪ ،‬ومنهم من يكون له بعضها؛ فقد يكون‬
‫‪.‬‬ ‫مطلب الروحانية شريفًا‪ ،‬ولكن لا يساعده المزاج – وهكذا في ك ِّل ما بقي‬

‫وأول ما يبدأ به ابن عربي هو تعريف السالك بأ َّمهات ال َمواطن‪ ،‬أي يع ِّرفه من أين جاء‪،‬‬
‫وأين هو‪ ،‬وإلى أين يذهب‪ ،‬حتى يعرف السالك ما يقتضيه ك ُّل موطن‪ ،‬فيستعد لمعاملة الموطن‬
‫‪:‬‬ ‫الذي هو فيه بما يتناسب ويليق‪ .‬ويقول ابن عربي للسالك من ِّب ًها‬

‫ينبغي لك أن تعرف ما يريده الح ُّق منك في ذلك الموطن‪ ،‬ف ُتبا ِدر إليه من غير تثبيط ولا‬
‫كلفة‪ .‬وال َمواطن ترجع إلى ستة‪ :‬الأول هو موطن "ألست بربكم"؛ والموطن الثاني هو الدنيا‬
‫التي نحن الآن فيها؛ والثالث هو عالم البرزخ الذي نصير إليه بعد الموت الا ٔصغر‪ ،‬أي الموت‬
‫السلوكي‪ ،‬والموت الأكبر‪ ،‬أي موت البدن وانتقاله؛ والموطن الرابع هو أرض الحشر؛ والموطن‬
‫الخامس هو الجنة والنار؛ والسادس هو موطن الكثيب خارج الجنة‪ ،‬وهو ت ٌّل من مسك أبيض‬
‫‪.‬‬ ‫تكون الخلائق عليه عند رؤية الح ِّق سبحانه وتعالى‬
‫وبيان ابن عربي لهذه ال َمواطن الستة التي ينزلها ك ُّل كائن تسهم – على ما يقول‬
‫شودكي ِفتش – في تنبيه السالك إلى مخاطر الطريق الصوفي‪ .‬فك ُّل عاقل‪ ،‬كما يقول ابن عربي‪،‬‬
‫عليه أن يعلم أن السفر مبني على المشقة والمحن والبلايا والأخطار والأهوال‪ ،‬وأنه من المحال‬
‫يضا أن لا يستعجل المشاهدة والفتح‪ ،‬بل يعمل‬
‫أن يتن َّعم المسافر أو يستريح أو يلتذ‪ ،‬وأن عليه أ ً‬
‫على تحصيل العلم‪ ،‬لأن الوقت في هذه الدنيا يجب أن َّ‬
‫يخصص لتحصيل العلوم الروحية‪،‬‬
‫‪.‬‬ ‫استعدا ًدا ليوم البعث‪ ،‬حيث يتجلَّى الله – ع َّز وج َّل – فيه لك ِّل إنسان في صورة عقيدته‬

‫وبعد أن يشرح ابن عربي للسالك ال َمواطن‪ ،‬وين ِّبهه على المخاطر وعدم طلب‬
‫المشاهدة‪ ،‬ويدعوه للالتفات إلى العلم‪ ،‬يعطيه بعض القواعد التطبيقية التي تساعده في طريقه‬
‫‪:‬‬ ‫إلى الله‪ .‬يقول له‬

‫لا ب َّد لك من العزلة عن الناس وإيثار الخلوة على الصحبة‪ .‬فإنه على َق ْدر ُبعدك من‬
‫ظاهرا وباط ًنا‪ .‬وأول ما يجب عليك ُ‬
‫طلب العلم الذي تقيم به‬ ‫الخلق يكون قربك من الح ِّق‪ً ،‬‬
‫طلبه خاصة‪ ،‬لا تزيد على ذلك شي ًئا –‬
‫طهارتك وصلاتك وصيامك وتقواك‪ ،‬وما يفرض عليك ُ‬
‫وهذا هو أول باب الطريق والسلوك‪ .‬ويأتي بعده العمل به‪ ،‬ثم الورع‪ ،‬ثم الزهد‪ ،‬ثم التوكل‪.‬‬
‫وفي أول حال من أحوال التوكل يصبح يحصل لك أربع كرامات‪ ،‬هي الدليل على حصولك‬
‫أول درجة في التوكل‪ ،‬وهي‪ :‬طي الأرض‪ ،‬والمشي على الماء‪ ،‬واختراق الهواء‪ ،‬والأكل من‬
‫‪.‬‬‫الكون‪ .‬ثم‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬تتوالى عليك المقامات والأحوال والكرامات والتن ُّزلات إلى الموت‬

‫ويرافق ابن عربي السالك معه على طريق الحضرة‪ :‬فإن حقَّق شروط الخلوة‪ ،‬وتحفَّظ‬
‫من الخيالات الفاسدة‪ ،‬واشتغل بذكر الله‪ ،‬وراعى اعتدال المزاج‪ ،‬وف َّرق بين الواردات‬
‫الروحانية الملكية والواردات الروحانية النارية الشيطانية‪ ،‬وحفظ عقيدته في الله عند دخوله‬
‫الخلوة بأن الله "ليس كمثله شيء"‪ ،‬ولم يطلب في الخلوة من الله سواه‪ ،‬ولم يعلق َو َل ُه اله َّمة‬
‫بغيره – إذا حقق السالك ذلك كلَّه فإن الله – ع َّز وج َّل – يبتليه بأشياء يفتنه فيها؛ فعليه أن لا‬
‫يقف مع شيء‪ .‬ومن الأشياء التي يعرضها الله على السالك ابتلاء أن يكشف له عن العالم‬
‫الحسي الغائب عنه‪ ،‬فلا تحجبه الجدران والظلمات ع َّما يفعله الخلق في بيوتهم؛ ثم ينتقل من‬
‫ِّ‬
‫الحسية؛ ثم‬ ‫ِّ‬ ‫الحسي إلى الكشف الخيالي‪ ،‬وتتن َّزل عليه المعاني العقلية بالصور‬‫ِّ‬ ‫الكشف‬
‫تُكشَ ف له أسرار الأحجار المعدنية‪ ،‬فيعرف س َّر ك ِّل حجر وخاص َّيته في المضا ِّر والمنافع؛‬
‫و ُيكشَ ف له عن النباتات‪ ،‬وتناديه ك ُّل عشبة بما تحمله من خواص المضا ِّر والمنافع؛ و ُير َفع له‬
‫عن الحيوانات‪ ،‬فتسلِّم عليه وتع ِّرفه بما تحمله من الخواص‪ .‬وهكذا ك ُّل عا َلم يع ِّرف السالك‬
‫‪.‬‬ ‫بحمده وتسبيحه‬
‫ثم ُي ِ‬
‫داخل شودكي ِفتش بين رسالة الأنوار وبين الفتوحات المكية‪ ،‬ليخرج منهما برؤية‬
‫الحسي –‬
‫ِّ‬ ‫مكتملة للطريق الصوفي‪ :‬فالسالك‪ ،‬حين يقطع هذه الممالك الأربعة من العالم‬
‫مملكة المعادن والنبات والحيوان والإ نسان‪ ،‬المتمثِّل بالسالك نفسه – يوازي المرحلة الأولى‬
‫من المعراج – هذه المرحلة التي توصل إلى السماء الأولى‪ .‬وهكذا ك ُّل مرحلة من مراحل‬
‫رسالة الأنوار يمكن مقارن ُتها ومقابل ُتها بمراحل السموات السبع التي يرقاها السالك في المعراج‬
‫الوارد في الفتوحات المكية‪ .‬فالعارج في الفتوحات لا يصل إلى السماء الأولى إلا بعد أن‬
‫يتحلَّل ويترك مركبات تكوينه‪ :‬يترك ماءه وترابه وناره وهواءه‪ .‬كذلك هنا‪ ،‬أول ما ُيكشَ ف له‬
‫عن عوالم المعادن والنبات والحيوان؛ فإن لم يجت ْزها‪ ،‬ووقف مع أ ِّي عا َلم منها‪ ،‬فإنه ُيق َطع عليه‬
‫الطريق‪ .‬فاجتياز العوالم ومفاتنها في رسالة الأنوار يقابل تحلُّل السالك من مركبات تكوينه في‬
‫الفتوحات‪ .‬ويتابع شودكي ِفتش المداخلة بين الفتوحات وبين رسالة الأنوار‪ ،‬كشفًا بكشف‪،‬‬
‫وسماء بسماء‪ ،‬حتى ينتهي إلى نهاية العروج الإ نساني‪ .‬وهنا الإ نسان‪ ،‬في نهاية معراجه‪ ،‬لا‬
‫يبقى منه إلا الس ُّر الإ لهي الذي لا يتحلَّل ولا ينقسم – هذا الس ُّر المنفوخ منذ بداية الخليقة في‬
‫طينة آدم‬
‫‪.‬‬
‫وإذا كان الوصول إلى الله هو نقطة النهاية في سلَّم العروج‪ ،‬فهو ليس نهاية الطريق‪ ،‬بل‬
‫يتجسد في سلَّم مزدوج‪ :‬عندما يصل الولي إلى القمة‪ ،‬عليه أن يرجع درجة‬ ‫َّ‬ ‫الوصول الكامل‬
‫درجة؛ ولكن هنا لا يرجع على نفس الدرجات التي صعد عليها‪ .‬فالسالك أو الولي يصعد وهو‬
‫‪.‬‬ ‫يرى بعين نفسه‪ ،‬ويرجع وهو يرى بعين ر ِّبه‬

‫وكما تحلَّل السالك من أثوابه كافة قبل عروجه‪ ،‬فترك ماءه وترابه وناره وهواءه‪ ،‬حتى‬
‫بقي س ًّرا إله ًّيا صر ًفا غير ممزوج‪ ،‬نراه‪ ،‬عند رجوعه‪ ،‬يلبس أثوابه‪ ،‬واحدًا واحدًا‪" ،‬يتركَّب"‬
‫حتى يعود إلى العالم المركَّب‪ .‬ولكن التحليل والتركيب هما سلَّم مزدوج‪ ،‬يصعد فيه السالك‬
‫بدرجات وينزل بدرجات مقابلة‪ ،‬كأنها هي وليست هي‪ .‬ويعود السالك‪ ،‬يرجع الولي‪ ،‬من‬
‫الوصول كأنه هو‪.‬‬

‫فالولاية‪ ،‬على ح ِّد ما يع ِّرف بها شودكي ِفتش مرا ًرا في هذا الكتاب‪ ،‬هي قُ ْرب‪ ،‬ولكنه‬
‫قرب مزدوج‪ :‬قرب من الله‪ ،‬وقرب من الناس‪ .‬فإذا كان "الإ نسان الكامل" شجرة أصلها ثابت‬
‫في الأرض وفرعها في السماء‪ ،‬والحقيقة المحمدية " ً‬
‫برزخا" بين الح ِّق والخلق‪ ،‬فالولي وريث‬
‫يجمع الأعلى والأسفل‪ .‬و ُينهي شودكي ِفتش كتابه بأن الولاية‪ ،‬و ٕان حملها الولي معه ٕالى ما بعد‬
‫الدنيا‪ٕ ،‬الا أنه لها نهاية وختم في هذه الدنيا‪ .‬فمع مجيء الختم الأول‪ ،‬أصبحت أشكالها العليا‬
‫والكاملة ممنوعة إلى الأبد؛ ومع مجيء الختم الثاني أُق ِف َل نهائ ًّيا مقام القُر َبة‪ ،‬وهو أعلى مقامات‬
‫روح الختم الثالث‪ ،‬الذي هو آخر مولود من الجنس البشري‪ ،‬وتصير‬ ‫القرب؛ وعندما يقبض الله َ‬
‫الناس كالبهائم‪ ،‬و ُيمحى القرآن والعلم من القلوب‪ ،‬يصبح عالمنا فار ًغا من ك ِّل ما يربط الأرض‬
‫بالسماء‪ ،‬عال ًما بار ًدا يغرق في الموت‪ :‬نهاية الأولياء ليست إلا اسم آخر لنهاية العالم‬
‫‪.‬‬

‫وقبل أن نطوي صفحات الولاية‪ ،‬أقول إن الولاية مسؤولية‪ :‬يرث الولي هموم الناس‪،‬‬
‫واقع أمة ومجتمع وبيئة؛ يقتلع وجدانه من أماكن القرب ويص ِّبرها في أرض الوقت‪ ،‬ليكون‬
‫رت من أثر الرسول‪ ،‬وارت َّد ْت‬
‫وج ُهه في ك ِّل زمن شاهدًا على الكمال المتروك‪ .‬الولي قبضة تن َّو ْ‬
‫إلينا‪ ،‬فتعلَّ ْ‬
‫قت بذ َّراتها أ ُ‬
‫رواحنا المس َّواة‪.١‬‬

‫‪١‬‬
‫هذه المقالة موجودة على الموقع "العلم والدين في الإ سلام"‬
‫‪http://science-islam.net/article.php3?id_article=633&lang=ar‬‬

You might also like