Professional Documents
Culture Documents
هذه الوجوه التي تتلامح في آفاق الأزمنة والأمكنة ،والتي تُسا ِكننا ،وعيونُها ٌ
غياب
وحضور ،و َط ْرفُها أحن ْته أثقا ُل شهو ٍد تخ َّطى الوجود ،وعلى أبدانها تنطق ِخ َل ُع الولاية – نراها
بالعرفان متن ِّعمة ونحن جمي ًعا بها حيارى .من هو "الولي"؟ ما وظيفته في الكون؟ ولماذا بعد أن
َخ َت َم الله – ع َّز وج َّل – النبوة أ ْو َج َد الأولياء؟ ألا يكفي وجود النبي )ص( في حياة الإ نسان
المسلم؟ فما ضرورة وجود الولي؟ ك ُّل هذه الأسئلة يطرحها وجود الولي في مجتمعنا وجمعنا
المسلم ،ونحن فيها حيارى .نمد أيدينا إلى المكتبة الإ سلامية عامة ،والصوفية خاصة ،ونأمل
أن نحظى بجواب ُي َط ْم ِئ ُن العقل الحائر والوجدان السائل – ولكن عب ًثا! وأسباب ذلك كثيرة.
. ويمكن تلخيص واقع الولاية بعوالم ثلاثة ،نتوقف عندها فيما سيأتي
رضه غير الأرض ،واستمر يعيش حياته معنا كأنه هوَ ،ص َم َت منه
ٕان الولي الذي تبدَّلت أ ُ
اللسان ،ف َك َت َم س َّر ولايته عن الآخرين .فالولاية عنده ليست استعراضية؛ والولي ،على عكس
الساحر ،لا يقدِّم للمشاهد فنون الكرامة .ولكن للقُرب الإ لهي وللعطاء الرباني علامات ،إ ْن
ك َت َمها اللسان فضحها الوج ُه والبدن .فالأولياء سيماهم في وجوههم ،تشهد أيديهم وأرجلهم
ٍ
شهادات يراها الرفيق والصاحب والعشير .باختصار ،الولي باط ُنه عبودية بما يكتمون من القُرب
. ومظهره قدرة تش ِّوش الناظرين
ُ وعجز تام كامل،
وقد نتج عن سكوت الولي وامتناعه عن تأكيد ولايته – التي هي هويته الروحية بين أهل
امتنعت معرف ُة الولاية من داخل ،وأنها محض عبودية .ولكن ،حيث إن المراقب ْ الله – أن
سكوت الولي عن ولايته من السؤال ،تكاثرت الأسئلة عن الولاية
ُ والصاحب والسالك لم يمنعه
ونظرا لما يكنُّه الناس من احترام للأولياء ،فلم يطرح أحد من الناس
ومعناها وعن الولي وهويته؛ ً
على أحد من الأولياء سؤالا ً ً
مباشرا .مثلا ً لم يق ْل أح ٌد لولي :هل أنت من أولياء الله؟ واستمر
الناس على عقيدتهم في الأولياء" ،يولُّون" َمن تتلامح على ظاهره علاما ُت القُرب ،ويربطون
بين الولاية وبين هذه الوجوه من خارج من المظهر .وأخذت تتكون النظريات من نُ َت ِف ُج َم ٍل
التقطها السائل .ولكن الأهم منها هو كتابات الصوفيين ،الذين تك َّرسوا أولياء في نظر
محيطهم ،عن مشاهداتهم وفتوحاتهم.
يضا تصادفنا مشكلة أخرى :فبالإ ضافة إلى أن الصوفي يحتاج دائ ًما إلى ترجمان
وهنا أ ً
نصه من لغة الوجدان إلى لغة الناس ،فمفهوم "الولاية" نفسه تع َّرض للذبذبة التي تع َّرض
ينقل َّ
لها مفهوم "الصوفي" :فكما ع َّرف ك ُّل صوفي التصوف بحسب علمه وتجربته ،كذلك يع ِّرف
. الولي والولاية بحسب موقعه ومرتبته
ك ُّل مع ِّرف َّ
ذلك كلُّه جعل الولاية الصوفية مشروخة بين ثلاثة عوالم :عالم أهل الله – وهو عالم
الأولياء الذين يعيشون الولاية و ُيش ِفقون من أحمالها؛ وعالم الباحثين والمؤلِّفين والكتبة
الحافظين الذين يتت َّبعون مظاهر الولاية في النصوص والأشخاص ،ليرسموا منها نظرية يتوافق
فيها الفقه والتصوف والعقل الإ نساني؛ وعالم العامة الذين علَّقوا عيونهم على وجوه الصالحين
. وتت َّبعوا أقوالهم وأفعالهم ،يرصدون ظهور علامات الولاية عليهم
وبين هذه العوالم الثلاثة – عالم الأولياء الحقيقي ،وعالم الباحثين النظري ،وعالم العوام
الموهوم ،المزخرف بتقديس الإ نسان – تقوم مسافات لا تُق َطع ،برازخ لم يلامسها كاتب أو
إنسان .وقد جاء كتاب الأستاذ ميشيل شودكي ِفتش خاتم الأولياء :النبوة والولاية في مذهب ابن
عربي )باريس (١٩٨٦ ،ليردم هذه المسافات بين واقع عبودية الأولياء ،وبين تنظير مظاهر
الباحثين ،وبين خيال العوام وخرافاتهم وتو ُّهماتهم .باختصار ،كتاب الأستاذ شودكي ِفتش يق ِّرب
أجزاء صورة الولاية بعضها من بعض :يق ِّرب ظاهر الولي ]= قدرة ،علم ،الجانب الإ لهي من
الصورة[ ،من باطنه ]= عبودية ،عجز ،الجانب الإ نساني من الصورة[ ،حتى تتجلَّى حقيقتُه
على مقدارها للباحثين
.
***
وقبل أن نستعرض كتاب الأستاذ شودكي ِفتش فصلا ً فصلاً ،نقف على امتداد فصوله
العشرة ،لنلقي عليها نظرة واحدة شاملة جامعة – نظرة ترى المخ َّطط غير المكتوب الذي اتَّبعه
. المؤلِّف
لقد بدأ في الفصل الأول بدراسة مفرد "ولي" و"ولاية" لغو ًّيا ،ليرى ،أولاً ،أنه اسم
مشترك بين مس َّميين :أحدهما سلبي ،بمعنى الولاء لله ،وثانيهما إيجابي ،بمعنى الإ دارة
ثانيا ،أن اسم "ولي" هو أ ً
يضا مشترك بين الإ نسان وبين الله :فالإ نسان ولي، والإ مارة؛ وليرىً ،
.والله ولي
ثم في الفصول الثاني والثالث والرابع والخامس ،ب َّين شودكي ِفتش أن الولاية معناها
ال ُق ْرب .ولكن هؤلاء المق َّربين ،أي الأولياء ،ليسوا على مظهر واحد ،وليست لهم شخصية
ولي يظهر بشخصية وعلم وعمل وحال تختلف عن واحدة؛ بل ،على العكس ،نرى أن ك َّل ٍّ
غيره من الأولياء .ويرجع سبب اختلاف شخصيات الأولياء إلى اختلاف شخصيات الأنبياء:
. فالولي هو في الحقيقة وارث لنبي من الأنبياءَ ،ير ُِث عنه نمط العلم والعمل والحال
ثم في الفصلين السادس والسابع يب ِّين شودكي ِفتش أن هؤلاء المق َّربين الأولياء ،الذين
ورثوا شخصيتهم في الولاية عن نبي من الأنبياء ،لا يعيشون على هامش الكون ،بل يأخذ ك ٌّل
منهم مكانه ومنزله ويباشر منه مهامه .ويعدِّد شودكي ِفتش في هذين الفصلين منازل الأولياء
.وتو ُّزعهم على أركان الأرض وأبراج السماء
وفي الفصلين الثامن والتاسع يب ِّين شودكي ِفتش أنه يتبع عن ختم النبوة أن تُخ َتم الولاية
يضا ،لأنها إرث نبوي .ثم يرسم دوائر الولاية وأختامها :فالولاية المحمدية قد ُخ ِت َم ْت أ ً
بشخص لم تقطع النصوص في هويته؛ وبقي أن ُتخ َتم الولاية العامة بشخص عيسى )عليه
السلام( الذي يظهر في آخر الزمان؛ ويليه ختم ثالث هو خاتم الأولاد ،يولد في الصين ،وبعده
. يرتفع الإ يمان والعلم من قلوب الناس ،وتسرع الدنيا نحو الزوال
ثم في الفصل العاشر والأخير ب َّين شودكي ِفتش للناس طريق الولاية المفتوح :ولاية
كبيرا
يحفُّها التعب والمخاطر ،بشهادة الواصلين والسالكين .ونقول إنه مهما كان التعب ً
فالولاية هي إنسانية الإ نسان ،هي استمرار جنسه الراقي واستمرار الدنيا .لذلك نشعر من كتاب
شودكي ِفتش بأن الولاية هي الأمانة التي على الجنس البشري أن يحملها ،طو ًعا أو كر ًها ،وأن
. الصوفية هم الذين تقدَّموا ليحملوا أمانة الدنيا واستمرارها
***
وأحب هنا ،قبل أن أبدأ عرضي لكتاب الأستاذ شودكي ِفتش ،أن أقف عند بعض
الملاحظات حول الكاتب والكتاب
.
2.سيطر على طرح الولاية عند الأقدمين والمحدثين بعض المواضيع التي أخذت تتكرر
في ك ِّل بحث عن الولاية .فك ُّل من أراد أن يؤلِّف في الولاية يبدأ بفصل عن الولي وقواه
ولي ،شر ًعا ثم عقلاً؛ ويرجع إلى القرآن والحديث
الخارقة؛ ثم يث ِّني بالدفاع عن إمكانية وجود ٍّ
والصحابة ،ليب ِّين أن الولاية موجودة منذ البدايات ،وأن الكرامات غير مستب َعدة ،شر ًعا وعقلا ً.
باختصار ،ك ُّل الدراسات التي اهتمت بالولاية انحصرت تقري ًبا في الدفاع عنها أو في
مهاجمتها ،وفي ك ِّل الأحوال ،ظلت تنظر إلى الولاية من خارج ،تعتبرها مظاهر تظهر في علم
ل ُدنِّي وفي كرامات وخوارق .لذلك فهذه هي المرة الأولى التي نجد فيها بح ًثا في الولاية يفارق
هذا الطرح الذي أضحى تقليدًا ،ويدخل ٕالى عمق هذا المفهوم :يحلِّل معناه ،يب ِّين هوية الولي
ونسجل هنا ٕاكبارنا لإ نسان خرج بطرح الولاية
ِّ ودوره في الكون ،ويرتِّب عالم الروح والفعل.
عن التقليد الذي سيطر عليه قرونًا طويلة .قد يقول الأستاذ شودكي ِفتش – ُ
تواض ًعا – إنه ليس هو
الذي خرج بطرح الولاية عن التقليد الم َّتبع ،بل ابن عربي هو الذي خرج عن التقليد .نعم ،قد
صحيحا؛ ولكن قرونًا سبعة تفصلنا عن ابن عربي ،ولم َير أح ٌد الولاية عنده على هذا
ً يكون هذا
كر باحث أن يخرج بنظرته إلى ابن عربي عن التقليد الم َّتبع في طرح الولاية. الكمال ،ولم يف ِّ
3.تت َّبع الأستاذ شودكي ِفتش مفهوم الولاية عبر تحقُّقه في الأولياء ،وحاول أن يخلِّص
سجلت معنى الولاية من تجربة الأولياء الشخصية ،فرجع إلى النصوص الأصلية التي َّ
مشاهداتهم وأحوالهم وعلومهم – ك ُّل ذلك يجعل الكتاب جديدًا في نمطه .إذ جرى التقليد
أن يتبع الباحث مفهوم الولاية عبر التنظير السابق؛ ولكن شودكي ِفتش هنا ترك التنظير وما كُ ِت َب
عن الولاية ،ليتل َّمس نظرية يؤلِّفها بنفسه ويستقيها من حياة الأولياء .فتجربة الولي الشخصية،
وإن كانت لا تتكرر أبدًا ،إلا أنها تضيف ملامح جديدة إلى صورة الولي – هذه الصورة التي
كانت تتحدد تقاطي ُعها مع نصوص الأولياء.
4.إن كان الولي عند الكلاباذي في التع ُّرف "محفو ًظا من النظر إلى نفسه ،ومن آفات
توسع الباحثون في دائرة هذا "الحفظ" ،وتف َّننوا في إخراج الولي ليس من آفات
البشرية" ،فقد َّ
البشرية ،بل من البشرية نفسها! وكانت النتيجة أنه كلما انقطع الولي عن علائقه الدنيوية وفارق
دائرة عواطفه البشرية تك َّرس ول ًّيا في نظر الباحثين والناس .والولي – في نظر السوى – هو
وحبيب قلبه في الفؤاد
ُ وروحه سماوية ،أباح جس َمه لِ َمن أراد مجالسته،
إنسان بدنُه أرضي ُ
أنيسه؛ إنسان يعيش دون عواطف إنسانية ودون مشاعر بشرية ،لأن عواطفه ومشاعره كلَّها
الحب الإ نساني ،فوق مشاعر الأب َّوة والحنان .ولعلنا هنا – مست َلبة بال ِّ
حب الإ لهي؛ إنسان فوق ِّ
ولأول مرة – نقف متعاطفين مع صورة الولي كما ترسمها النصوص التي اختارها شودكي ِفتش،
ٓخرا ،إنسان يشعر ،يحب؛ وهو في أعلى وو َّظفها أحسن توظيف :فالولي هو إنسان ،أولا ً وا ً
درجات القرب يتق َّطع قلبه على طفله المحموم .وشودكي ِفتش هو أول من ألقى الضوء على
إنسانية الولي؛ إذ ك ُّل من سبقه من الدارسين اهتم بخوارق الولي وبمظاهر الألوهية المتجلِّية
فيه ،وجعله مفار ًقا لعالم البشرية ،وكأن ك َّل شعور بشري هو نقص وعلائق وسقوط يجرح عل َّوه
ومقامه .ونحن هنا نتابع شودكي ِفتش في نظرته ٕالى ٕانسانية الولي :فالفرق كبير بين أن يرقى
الإ نسان بمشاعره وعواطفه من آفات البشرية ٕالى آفاق الإ نسانية ،وبين أن يفارقها بالكلِّية.
فالولي ،كما يؤكد شودكي ِفتش بحق في آخر كتابه ،هو القريب من الله ،القريب من الناس.
إن الولي هو القريب من الله ،القريب من الناس .وهذا القرب من الناس هو امتداد
لقرب الأنبياء من الناس ،على عل ِّو مكانتهم عند الله .فالأنبياء – وهم السلالة المختارة من
الجنس البشري – عاشت مع الناس ،وظلت قريبة منهم ،تح ِّقق الوصل بين الأرض والسماء.
وليس للنبي وللولي ،من بعد أن يعتزل قومه ،أن يفارق الجمع ،لما له من دور ووظيفة .فموسى
)ع( ،حين خلَّف قومه وراءه ،وترك فيهم أخاه هارون ،و َع ِجل إلى ر ِّبه ليرضى ،أض َّل السامر ُّي
قريبا ،والولي يتابع هذا الدور ،لأنه الوريث والنائب ،يحمل أعباء
قو َمه .فالنبي يكون من الناس ً
قريبا منهم ،ليح ِّقق اتصال الأرض بالسماء ،واتصال التابعين
شريعة النبي ،ويعيش مع الناس ً
بالمتبوع .ويب ِّين شودكي ِفتش أن الولي يؤكِّد النبوة ،ويتابع دوره في البنية الدينية للمجتمع
.المؤمن
5.نحن في زمن يتع َّرض فيه وج ُه الإ سلام للكثير من التحريف والتشويه .لقد أمسك
أعداء الإ سلام بمرآة مق َّعرة الأعماق والجوانب ،تعكس الوجه على أبشع صورة .وتتوالى ال ُّتهم:
يصحح الرؤية، الإ سلام دموي ،إرهابيِ ،صدامي ،تط ُّرف ،تعصب ،إلخ .شودكي ِفتش هنا ِّ
ويكشف عن انفتاح الدين الإ سلامي على الأديان الأخرى ،مؤكدًا أن الدين الإ سلامي هو
الشريعة الكاملة والنهائية التي أفسحت فيها مكانًا لك ِّل الشرائع السابقة ،وأن النبي )ص( هو
رس َل رحم ًة للعالمين ،وجمع في شخصه النموذج الإ نساني الكامل ،صاحب الرسالة العامة ،أُ ِ
ك َّل ما يطلبه إنسا ٌن من نبي
.
خيرا ،نقول ،إن كتاب خاتم الأولياء يع ِّرف العالم الغربي على وجه من الإ سلام تغ ِّيبه
أ ً
وسائ ُل الإ علام والأغراض ،وإن الروح تحقِّق ً
لقاء كون ًّيا فوق مصالح المادة وتنا ُزع السياسة.
ومن المفيد جدًّا أن ي َّطلع ق َّر ُاء العربية على نتاج الغرب في الإ سلاميات ،وخاصة على
الدراسات الموثوقة والموضوعية ،التي تشهد ك َّل يوم أكثر على كمال الإ سلام ومقدرته على
تلبيته التحديات الحياتية
.
***
ﻋﺮﺽ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ
قسم الأستاذ شودكي ِفتش كتابه ٕالى مقدمة وعشرة فصول؛ نتناول ك َّل قسم بما يتناسب
َّ
:من التفصيل
ﺍﳌﻘﺪﻣﺔ )ﺹ (٢٧-١٣
بدأ شودكي ِفتش مقدمته مع مطالع ابن عربي على العالم الغربي .وكانت البداية مع
فلوغل .وبعدها ترجم له نيكلسون ديوانكتابه اصطلاحات الصوفية ،بترجمة غوستاف ِ
ترجمان الأشواق .وتوالت بعد ذلك أعمال نيبرغ وآسين بالاثيوس .ثم جاءت سنوات ما بعد
الحرب حاملة المزيد من النشر والترجمة والدراسة .وبرزت أسماء أمثال هنري كوربان
وتوشهيكو إيزوتسو .ويشير شودكي ِفتش إلى التضا ُرب الذي برز حول شخصية ابن عربي في
ِ
. العالم الغربي ،وذلك كما ورد في كتابات ماسينيون وكليمان ُهوار وكا َّرا ُد ْه فو
ولكن ابن عربي ،الذي جمع في شخصه الولاية إلى العبقرية ،وجمع في مؤلَّفاته العلوم
المتنوعة إلى ضروب أشكالها ،يفوق في نتاجه وشخصه ما كُ ِت َب عنه .وقد ظلت الدراسات
كلُّها جزئية وغير قادرة على الإ حاطة به؛ فلم يحصره كاتب ،ولم يعرف حقيق َة وجهه باحث.
ثم ينتقل شودكي ِفتش إلى الكلام على حياة ابن عربي ،وعلى أهميته الشخصية
كصوفي ،وعلى أهمية صوف َّيته كذلك وأثرها على الأعمال التي وضعها ،وخاصة الفتوحات.
ثم تكلَّم على موقف العالم الإ سلامي من الولاية والأولياء ،ومن مظاهر تقديس العوام لهم،
ليخلص إلى أن التصوف والولاية لا يفترقان :فالتصوف يوجد ويتغذى ويستمر في حياة الناس
من مفهوم الولاية ومن وجود الأولياء؛ بل وظيفة التصوف تكمن في أنه يساعد على ظهور
الأولياء ،وأنه السماء التي يرتفع فيها نج ُم هداية الأولياء .والصوفي يشعر بأن عليه أن يعطي
صورة الولي ،ويعكس جميع كمالات ال ُّتقى للناس .ومن جهة ثانية ،فإن بنية المجتمع
الإ سلامئ ،او بالأحرى التج ُّمع الديني ،تقوم على "خاصة" ،هم الأولياء العلماء الحقيقيون،
قطب الولي
. وعلى "عامة" ،هم شعب يستقطبهم ُ
وعلى الرغم من أن ابن عربي كان مسبو ًقا بك َّتاب وصوفية تناولوا موضوع الولاية ،فهو
أول من قدَّم فيها نظرية شاملة ،وتت َّبع صورها الموروثة من شخصيات أنبياء الأديان كافة :ولي
موسوي ،ولي عيسوي ،ولي إبراهيمي ،إلخ
.
وحيث إن العمل في ابن عربي شامل وصعب ،يرى شودكي ِفتش أنه من الأفضل أن
يرتكز على نصوصه خطوة خطوة ،وبطريقة مخلصة ،حتى يصل إلى توضيح رؤيته
.
ينتج من ك ِّل ما تقدَّم أن رؤية ابن عربي ليست نظرية تقوم على عدم التناقض الفكري،
يضا مستقاة من النصوص الإ سلامية ،كأية نظرية دينية أخرى ،بل هي تدوين لواقع وليست أ ً
. معيش ،يجد مصدره في تجربة شخصية وذوق وعيان
هذه "الفتوحات الربانية" التي ألهمت ابن عربي مباشر ٌة وغير مباشرة :الإ ملاء الإ لهي،
و َتوالي شهادات الغيب على صفحة كتبه ،ثم صعوبة التقاط مذهبه بك ِّل تد ُّرجاته وشموله –
ذلك كلُّه ِّ
يفسر جزئ ًّيا الهجوم العنيف الذي تع َّرض له ابن عربي ونظريته في الولاية؛ والباقي
.أكمله الظ ُّن السيئ والفهم المغلوط
يخصص شودكي ِفتش هذا الفصل لبحث معنى "ولي" ،كما َو َر َد ْت في معاجم اللغة: ِّ
يرجع إلى الجذر ،ويرى أن "ولي" تُط َلق على معنيين :الولي هو الصديق والقريب والتابع
والمحب ،والموالاة ضد المعاداة؛ والولي أ ً
يضا هو المد ِّبر والنصير من الإ دارة والإ مارة والحكم
والخلافة .فبالمعنى الأول ،الولاية هي الولاء لله؛ وبالمعنى الثاني ،الولي هو الذي يتولَّى أمو ًرا،
ويأخذ على عاتقه شريعة .مثلاً ،الولي المحمدي لا يعطي شريعة ،ولكن يأخذ على عاتقه
الشريعة المحمدية ،وهكذا دواليك.
ثم يب ِّين شودكي ِفتش أن الأصل العربي "ولي" لا يمكن ترجمته بكلمة مناسبة في
الديانات الأخرى ،وبالتالي ،في اللغات الأخرى ،لأن شكل القداسة في ك ِّل ديانة يباين شك َلها
في الفكر الإ سلامي – واللغة تدوين للفكر ليس ٕالا .فالقديس ، le Saintمثلاً ،من الأصل العربي
. َس ،يع ِّبر عن فكرة "الطهارة" ،ولا يعطى معنى الولاية ،وهكذا
قد َ
ومن حيث الوزن ،تُقرأ "ولاية" بفتح الواو وبكسرها .الولاية بالكسر ،على وزن ِفعالة،
وِلاية ،بمعنى عمل الولي أي إمارته )وكل ما كان من جنس الصناعة فهو مكسورِ ،
كخياطة
ِوقصارة( ،وعلى وزن َفعالة بالفتحَ ،ولاية ،وهي حال الولي ،ولاؤه لله .ولكن ً
كثيرا من
الكتابات الصوفية تتردد بين َولاية بالفتح ووِلاية بالكسر؛ واللغة المحكية تجنح إلى الكسر،
وِلايةٔ .اما الكاتب فيتابع ابن عربي في تفضيل َولاية )بالفتح( ،لانسجامها مع اللغة القرآنية.
وهكذا يتق َّرر لديه أن الولاية هي اسم مشترك بين مس َّميين :بين َمن له حال الولاية ،وبين من له
وظيفة الولاية
.
والولي كذلك هو اسم مشترك بين الله وبين الإ نسان :فـ"الولي" هو أحد الأسماء
يضا اسم ُيط َلق على الإ نسان" :الله ولي المؤمنين" )آل عمران " ،(٦٨الله ولي
الإ لهية؛ وهو أ ً
خوف عليهم
ٌ الذين آمنوا ُيخرِجهم من الظلمات إلى النور" )البقرة " ،(٢٥٧ألا إن أولياء الله لا
ولا هم يحزنون" )يونس .(٦٢ويحصر اللغويون المسلمون أمر هذا الاشتراك بوجهين" :اسم
. مفعول" ،يتبع مفهوم النسب والولاء ،و"اسم فاعل" يتبع مفهوم الخلافة والإ مارة
هذا وين ِّبه شودكي ِفتش إلى أن ك َّل مفردات الولي والولاية ومعانيهما تنبع من القرآن
وترجع إليه ،وأنها تجد بيانها في أحاديث مشهورة ،لعل أهمها" :من آذى لي ول ًّيا فقد آذن ُته
افترضت عليه .وما يزال عبدي يتقرب ُ لي عبدي بشيء أفضل من أداء ما
بالحرب .وما تقرب إ َّ
لي بالنوافل حتى أحبه .فإذا أحبب ُته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصره به ،ويده إ َّ
ب أشعث أغبر ذي طمرين ،لو أقسم على الله لأب َّره". التي يبطش بها" و" ُر َّ
ولعل من المفيد هنا أن أع ِّقب على هذا الاشتقاق الاسمي بأفضل ما سمعت في هذا
الموضوع؛ وهو ،على ٕايجازه الصوفي ،يرضي اللغويين .سألت مرة سيدي الفضل بن العباس،
أمير الأسرة الدندراوية" :من هو الولي؟" فقال" :اس ٌم ُيط َلق على من تولاَّه الله ،وعلى من ولاَّه
الله
".
يبدأ بابن تيمية ،الذي يرى أن الأولياء هم المق َّربون فقط ،أي ينظر إلى الولاية بالمعنى
الأول :فالولي عنده هو الذي تقدَّم في الصلاح ،حتى أصبح من أوائل الصالحين .والقرآن
يس ِّميهم بـ"السابقين" ،الذين هم أعلى من أهل اليمين وأهل الشمال .والجرجاني في
التعريفات يع ِّرف الولاية بأنها "القرب من الله" ،ويم ِّيز بين َولاية )بالفتح( ووِلاية )بالكسر(،
وأنهما يقابلان حال الولي ووظيفة الولي .أما ابن عجيبة )القرن الثامن عشر الميلادي( ،فيجعل
الولاية تقابِل "الأنس بالله"ً .
وكثيرا ما كان ابن عربي يؤ ِّكد على قضية النصرة في الولاية ،ويرى
أن الولي والأولياء هم الذين تولاَّهم الله بنصرتهم ،تولاَّهم في محاربتهم أعداءهم الأربعة:
. النفس ،والهوى ،والدنيا ،والشيطان
ولكن بعد هذه اللمحة السريعة مع ابن تيمية والجرجاني وابن عجيبة وابن عربي ،يقف
شودكي ِفتش ليقول إن هذه النصوص كلَّها متأخرة .فماذا كانت البداية في بدايات الإ سلام؟
كما حدث مع مفرد "صوفي" ،إذ سبق وجود الصوفي وجود اسمه ،كذلك في الولاية سبق
وجو ُد الولي وجو َد اسم الولاية .وبحسب الهجويري ،يرجع وجود الولي والولاية في اللغة
كتبه حاملة اسمها :علم
الصوفية إلى الحكيم الترمذي )القرن التاسع الميلادي( الذي توالت ُ
الأولياء ،ختم الأولياء ،سيرة الأولياء .فالترمذي ُي َع ُّد أول صوفي ب َّين معالم الولاية وطرح
مشاكلها ومسائلها .وهذا يفسر المكانة التي احتلَّ ْتها مؤلَّفاته في كتابات ابن عربي في
الموضوع نفسه .ثم يتناول شودكي ِفتش كتاب ختم الولايةً ،
مشيرا إلى أن الترمذي في هذا
النص كتب تجربته الروحية ،على الرغم من تس ُّتره وراء حجب اللغة الموضوعية واللهجة
ِّ
اللاشخصية.
يف ِّرق الترمذي بين طريقين للولاية :طريق الصدق والجهد والعبادة ،وطريق الم َّنة
تداخلهما ،يشيران إلى مرتبتين من مراتب الحياة وال َو ْهب والعبودية؛ وهذان الطريقان ،على ُ
الروحية ،أي مرتبتين من مراتب الولاية :مرتبة "ولي ح ِّق الله" ومرتبة "ولي الله حقًّا" .الولاية
يحصلها السالك بسيره في الطريق الأول ،وهو ممارسة الصدق؛ فالصدق أول خطوة الأولى ِّ
في الولاية ،وهو يفرض الأداء الكامل لك ِّل الفروض الداخلية والخارجية المترتبة عن العهود
الإ لهية ،صدق العهود مع الله ،وباختصار ،صدق العبادة .والولاية الثانية ينالها المؤمن بال َو ْهب
. والم َّنة الإ لهية؛ وتتصف بصدق العبودية
ٕان عبارة "ح ِّق الله" على المخلوقات تو ِهم بح ِّق المخلوقات على الخالق .لذلك فإن
"ولي ح ِّق الله" هو الذي تظهر ولاي ُته في خدمته للحقوق الإ لهية ،وهي :أداء الفروض ،حفظ
الجوارح ،الصبر على الشهوات ،التوكل في الرزق .يعطي ليأخذ :يعطي صدق العبادة ،فيم ُّن
الله عليه ويعطيه طريقًا أعلى في الولاية ،ويرقى إلى أن يكون "ولي الله حقًّا"؛ يجاهد المؤمن
نفسه في عبادة الله ،فتتوالى عليه أنوار العطاءات الربانية .فإن لم يقف عندها خلَّ َصه الله – ع َّز
وج َّل – لعبوديته ،وح َّرره من ك ِّل شيء،أ ورقَّاه في درجات الولاية ،وأنزله مح َّل قُربه .وهذا
الولي ،وإن كان لا يطلب المعاوضة بالخدمة ،إلا أن عبوديته المطلقة هي مساحة أعماقه التي
تحررت من ك ِّل شيء وامتلأت بالحضور الإ لهي .لذلك نجد أن أه َّم صفات الولاية الصادقة
عند الترمذي هي تن ُّزل السكينة على الولي ،أي الحضور الإ لهي .فالولي الفارغ من ك ِّل شيء،
الممتلئ بالحضور الإ لهي ،ينعكس هذا الحضور من باطنه إلى ظاهره ،ويصبح أحد المظاهر
ولياء بها ،وهي ال ُمشار إليها في الحديث الشريف بأن الأولياء هم الذين
الخارجية التي ُي ْعرف الا ٔ ُ
). تذكِّرنا رؤيتهم بالله )راجع :السيوطي ،الفتح الكبير٢١٤ :١ ،
طرح في ك ِّل نظرية روحية في الإ سلام :ما هي وينتقل شودكي ِفتش إلى السؤال الذي ُي َ
العلاقة بين الولي وبين النبي أو الرسول؟ هذا الموضوع بالذات – وقد أشار إليه الترمذي في
رسالة بدء الشأن – هو الذي أثار عليه ثورة الفقهاء .يرى الترمذي أن نب َّوة الأنبياء ورسالة الرسل
لهما نهاية وح ٌّد في هذه الدنيا؛ وتتوافق نهايتهما مع نهاية العالم ورجوع مخلوقاته إلى خالقها
في يوم الفصل العظيم .وعلى العكس من ذلك ،تستمر صفة الولاية أبدية .وهذا ما يفسر أن
"الولي" هو أحد الأسماء الإ لهية .وهذا الكلام لا يعني أن الولي "أفضل" من النبي أو الرسول؛
ولكن صفة الولاية في شخص الرسول أو النبي نفسه تستمر أبدية ،على حين أن فعل رسالته أو
. نب َّوته ينتهيان بانتهاء العالم
ض شودكي ِفتش للولاية عند الحكيم الترمذي ،يتساءل عن معنى "ختم وبعد أن َع َر َ
الأولياء" الذي َع ْن َو َن به الترمذي كتابه .هنا – يقول شودكي ِفتش – كان علينا أن ننتظر ابن عربي
حتى نعرف ماهية الختم وهو َّيته ونفهمهما .ذلك أن الإ شارات التي تلامحت عند الترمذي،
أمثال قوله إن ختم الأولياء هو "حجة الله على الأولياء" أو أنه "سيد الأولياء" و"حكيم
الحكماء" ،لا توضح شي ًئا .ويبقى أن الحكيم الترمذي أ ْو َر َد مجموعة أسئلة كانت تحد ًيا
للمدَّعين ،تحد ًيا لمن يتكلَّم كالأولياء وليس منهم .هذه الأسئلة المائة والسبعة والخمسون
ظلت تنتظر دون جواب زمن ابن عربي الذي واجه التحدي وأجاب في الفتوحات عن الأسئلة
جميعها )ف .(١٣٨-٤٠ :٢وأهم هذه الأسئلة :كم عدد منازل الأولياء؟ أين منازل أهل
القُربة؟ من الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق محمد )ص( خاتم النبوة؟ ما سبب الخاتم
وما معناه؟ أين مقام الأنبياء من الأولياء؟ ما سكينة الأولياء؟ إلخ
.
وكان من نتيجة طرح الترمذي للولاية وختمها وللعلاقة بين النبوة والرسالة والولاية
بشخص الرسول أو النبي أن تناول ك ُّل الباحثين بعده مفهوم الولاية بالحذر الشديد .وها هو
خصص كتا ًبا للبحث في الفرق بين الباقلاني )القرن العاشر الميلادي( الذي ،وإن كان َّ
معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ،إلا أنه اكتفى بأن يقف من الولاية عند حدود التأكيد على
. إمكانية الكرامات والخوارق في مقابل المعتزلة ،وع َّرف الأولياء بأنهم الصالحون فقط
أبو طالب المكي )ت ٣٩٠هـ( ،في فصل من كتابه قوت القلوب ،يتكلَّم على أهل
المقامات من المق َّربين ،ويف ِّرق بين ثلاثة أنواع من الأولياء" :أهل العلم بالله"" ،أهل الحب"،
". "أهل الخوف
يخصص فصلا ً أبو نصر الس َّراج )ت ٣٧٧هـ( ،في كتابه اللُّمع ،وعلى الرغم من أنه ِّ
يح ِّذر فيه القارئ م َّمن يضع الأولياء في مرتبة أعلى من الأنبياء ،وفصلا ً آخر لكرامات الأولياء،
عرضا أكثر عمقًا لمفهوم الولاية.
إلا أننا نحاول عب ًثا أن نستشف ً
الكلاباذي )ت ٣٨٥هـ( ،في كتابه التع ُّرفُ ،يفرِد فصلا ً للكرامات ،ويدافع عن
إمكانيتها وشرع َّيتها ،ويرى أن ظهور الكرامة هو تأييد للنب َّوة .وعلى السؤال الذي ُطر َِح على
الترمذي من أحد تلامذته :هل يعرف الولي أنه ولي؟ يجيب بالإ يجاب .وهو يف ِّرق بين نوعين
من الولاية :الولاية في معناها العام ،وتشمل ك َّل المؤمنين؛ وفي معناها الخاص الذي تأخذه في
الاصطلاح الصوفي ،هي عطاء مخصوص ،من أُ ْع ِط َيه كان محفو ًظا من النظر إلى نفسه ومن
.آفات البشرية
السلَمي )ت ٤١٢ ويتابع شودكي ِفتش ،مع ك َّتاب متأخرين نو ًعا ما عن الذين ذكرهمُّ :
هـ( ،في مقدمة كتابه طبقات الصوفية ،يرى أن الأولياء هم أتباع الأنبياء ،يخلفونهم في
الس َلمي ،عند بحثه لشخصياته ،يتابع هذه اللمحة ،بل العكس؛ فإننا ُس َن ِنهم .ولكننا لا نجد ُّ
نكاد لا نجد هذه الشخصيات تخرج عن الأسئلة التقليدية :الكرامة ،هل يعرف الولي أنه ولي،
. إلخ
الس َلمي ،يأخذ شودكي ِفتش كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني )ت
وبعد طبقات ُ
٤٣٠هـ( ،ويرى أنه يتركنا على جوعنا ،وعطشى لا نرتوي ،على الرغم من عنوانه وأجزائه التي
تبلغ العشرة ،وتضم أكثر من ستمائة وتسع وثمانين ترجمة .ولكننا نستطيع ،من خلال إشاراته،
قليلا ً قليلاً ،أن نرسم صورة للولي ،وأن نقارب نمطية الأولياء .ولكن جوهر الولاية ينفلت من
ك ِّل تعريف؛ وحصيلة ما يبقى لدينا بعد قراءة الحلية ينتظم تحت مقولات :الأولياء يذكِّرون
بالله ،الأولياء محفوظون من الفتنة ،الأولياء فقراءُ ،ز َّهاد ،قوم خالط القرآن لحومهم ودماءهم،
بحسب قول ذي النون المصري .ثم إن الولاية ليست استعراضية ،بل العكس؛ فإن الولي
. يتحاشى الظهور
وبعد الحلية يأخذ شودكي ِفتش رسالة القشيري )ت ٤٦٥هـ( ،حيث تستغرق الولاية
فصلاً كاملاً" :باب الولاية" .ولكن نجد أننا نقف أمام نفس السدود ،نفس الحذر .ويشير
القشيري إلى أن اسم "ولي" له معنيان :أحدهما سلبي ،فعيل بمعنى مفعول ،وهو من يتولَّى الله
– سبحانه – أ َمره )قال الله تعالى" :وهو يتولَّى الصالحين"( ،فلا َي ِك ْله إلى نفسه لحظة ،بل
يتولَّى الح ُّق – سبحانه – رعاي َته؛ والمعنى الثاني إيجابي ،فعيل مبالغة من الفاعل ،وهو الذي
يتولَّى عبادة الله تعالى وطاعته؛ فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخلَّلها عصيان .وكلا
الوصفين واجب حتى يكون الولي ول ًّيا .ومن شرط الولاية أن يكون الولي محفو ًظا ،كما أنه من
شرط النبي أن يكون معصو ًما .ويتابع القشيري مع الحوار الصوفي حول معرفة الولي بأنه ولي.
السلَمي" :نهايات الأولياء
ويع ِّقب القشيري على معنى الولاية بأقوال ،أهمها ما ينقله عن ُّ
بدايات الأنبياء" ،وقول أبي على الجوزجاني" :الولي هو الفاني في حاله" .ويخلص القشيري
إلى القول بأن الولي هو "ابن وقته" ،ليس له مستقبل فيخاف شي ًئا؛ وكما لا خوف له فلا رجاء
له ،لأن الرجاء انتظار؛ وكذلك لا حزن له .ثم ُيفرِد القشيري با ًبا ًّ
خاصا للكلام على كرامات
الأولياء ،دون أن يقدِّم جديدًا ُيذكَر.
أما إذا اتجهنا إلى تفسير القشيري للقرآن لطائف الإ شارات ،فنرى أن القشيري يفرق
بين "معصوم" و"محفوظ" :عصمة النبي تكمن في أنه لا يجد في نفسه الرغبة في معصية؛ أما
الولي ف ٕانه ليس في ملجأ من الإ غراء ،ويمكن أن يضعف أحيانًا أمام الغواية ،ولكن الم َّنة الإ لهية
تحفظه من الإ صرار على الخطأ
.
وبعد القشيري ،يرى شودكي ِفتش أن عبد الله الأنصاري )ت ٤٨١هـ( لم يقدِّم جديدًا
في كتبه المعروفة لدينا؛ والأمر كذلك بالنسبة للغزالي )ت ٥٠٥هـ( الذي انتقد في الإ حياء من
ينكر كرامات الأولياء .وهكذا يظل معنى الولاية مستو ًرا خلف صورها ومظاهرها وعلاماتها.
يضا عند نجم الدين كُبرى )ت ٦١٧هـ( في كتابه فوائح الجمال :من وهذا ما سنجده أ ً
علامات الولي أن يكون محفو ًظا ،مقبول الدعوة من الله – ع َّز وج َّل ،وأن يعرف اسم الله
الأعظم وأسماء الج ِّن والملائكة ،إلخ .والولاية عند كُبرى هي الدرجة الثالثة والأخيرة من
الحياة الروحية؛ إذ تتوالى عنده الثلاثيات المرتبة تدريج ًّيا:
عين اليقين
(فناء العارف في المعروف( حق اليقين
) (مكتسب
ويرى شودكي ِفتش أنه ،و ٕان كان كُبرى لا يعطينا المنطق العقلي لك ِّل المقولات التي
يطرحها في الولايةٕ ،الا أننا تقدَّمنا معه قليلا ً في معرفة الولاية .وكان يمكن أن تكون المعرفة
أكبر لو أراد أن يفصح؛ إذ إن المشاهدات التي يرويها في كتبه تكشف عن علمه الوافي بهذا
. الموضوع
و ُينهي شودكي ِفتش هذا الفصل بالكلام على نظرية الولاية عند معلِّم روحي كبير ،هو
روزبهان بقلي ،المتوفى في العام ٦٠٦هـ ،أي بعد وصول ابن عربي إلى المشرق .وروزبهان،
في كتابه مشرب الأرواح ،المستوحى من كتاب الأنصاري منازل السائرينُ ،يف ِر ُد فصلا ً عن
الولاية ،يرى فيه أن أول الطريق إرادة ،وهي مصحوبة بالمجاهدات ،ووسط الطريق محبة ،وهي
مصحوبة بالكرامات ،وآخر الطريق معرفة ،وهي مصحوبة بالمشاهدات .وعندما يكون المرء
متم ِّك ًنا من هذه الدرجات الثلاث ،لا يجري عليه تلوين ،ويسبح في بحار التوحيد وأسرار
التفريد .عندها يكون ول ًّيا ،نائب الأنبياء ،صاد ًقا بين الطاهرين .ويورد شودكي ِفتش من كتاب
روزبهان كشف الأسرار بعض المقاطع التي تروي تجربة الولاية عنده ،مقاطع يخاطب فيها
الح ُّق روزبهان ،نصوص تروي توليته واختياره للولاية وللمحبة .ويروي روزبهان أنه كان ذات
مرة يجلس ليلا ً قرب ابنه أحمد الذي يشكو ح َّمى ،وقلبه يكاد يذوب قلقًا؛ ثم فجأة شهد
الجمال الإ لهي ،فقال له" :ر ِّبي ،لم لا تكلِّمني كما كلَّمت موسى؟" فأجابه" :ألا يكفيك أن
َمن يحبك فقد أحبني ،وأن َمن يراك يراني؟"
وهكذا ،في هذا الفصلَ ،ر َد َم شودكي ِفتش المسافة بين بداية الكلام على الولاية مع
الترمذي وبين نهايته ،وختمه مع ابن عربي .قرون ثلاثة في الأبحاث الموضوعية والمشاهدات
الذاتية؛ وكلُّها يدور حول الولاية .وقد تناولها شودكي ِفتش بالدراسة والتحليل ،محاولا ً الوصول
إلى تعريف للولاية ،لحدودها وبنيتها ،قبل ابن عربي ،ولكن دون جدوى .لذلك يرى أن مفهوم
الولاية كان عليه أن ينتظر ابن عربي حتى يتحدَّد.
يضا في استخلاص بنية الولاية الصوفية ومعرفة تنوع ويفيدنا كتاب فصوص الحكم أ ً
فص من الفصوص .ففي شخصيات الأولياء ،وذلك من خلال الأنماط الروحية التي ُيب ِر ُزها ك ُّل ٍّ
فص من الفصوص نجد نم ًطا روح ًّيا يتحدَّد بالتقاء وجه من وجوه الحكمة الإ لهية مع ك ٍّل ٍّ
القابل الإ نساني الذي يحويها ويفرض عليها ،بالتالي ،شروطه الإ نسانية .ك ُّل نمط روحي هو
التقاء المطلق الإ لهي ،أي الحكمة الإ لهية ،بالمق َّيد الإ نساني ،أي بالكلمة.
ثم ينتقل شودكي ِفتش إلى بيان الظروف التي دفعت ابن عربي إلى نشر فصوص الحكم.
فابن عربي ،مع أنه ليس برسول ولا بنبيٕ ،الا أنه "وارث" يكتب ٕاملاء ٕاله ًّيا.
اعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام؛ ولهذا لم تنقطع .أما نبوة التشريع والرسالة
فمنقطعة .وفي محمد )ص( قد انقطعت؛ فلا نبي بعده :يعني مشتر ًعا أو مش ِّر ًعا له ،ولا
رسول ،وهو المش ِّرع .وهذا الحديث َق َص َم ظهور أولياء الله لأنه يتض َّمن انقطاع ذوق العبودية
الكاملة التامة
.
وهكذا ،بعد انقطاع النبوة ،امتنعت العبودية الكاملة التامة على الأولياء ،وبقي لهم أن
يقتسموا إرث العلوم والأفعال والأحوال .وهكذا فإن العلماء المشار إليهم في الحديث:
"العلماء ورثة الأنبياء" ينطبق بالأصالة على الأولياء :فالأولياء هم ورثة الأنبياء
.
ثم يقارب ابن عربي موضو ًعا طرحه الترمذي قبله ،ويتلخَّ ص بأن ولاية النبي أو الرسول
أعلى من نب َّوته أو رسالته .يقول ابن عربي:
ينتج مما تقدَّم عدة نتائج ،يرى شودكي ِفتش أنه من الصعب التوفيق بينها ظاهر ًّيا،
ويتركها دون تعليق .فمن جهة ،تظهر الولاية شامل ًة للنب َّوة وللرسالة ،وهي أعلى في الشخص
الذي يجمع هذه الصفات الثلاث؛ ومن جهة ثانية ،نرى الأولياء تابعين للأنبياء ،وارثين لهم،
وبالتالي ،فالنبوة أعلى من الولاية .وإن لم نستطع أن نوفِّق بين النتائج المتقدمة ،إلا أنه تق َّرر
الآن أن الولاية هي الإ رث النبوي ،أو أن الولي هو الوارث لنبي ،مع ملاحظة أنه لا ينال أحد
كمال الإ رث ،وإلا لأصبح نب ًّيا .فالنبوة والولاية تشتركان في ثلاثة أشياء :العلم ،والفعل
بالهمة ،ورؤية عالم الخيال بالحس؛ وتختلفان في الخطاب الإ لهي .ولعله من أهم نصوص ابن
عربي في هذا المجال هو عشرة فصول متتابعة من الفتوحات ) ،(١٦٢-١٥٢حيث يرسم دوائر
الولاية والنبوة والرسالة ،ويب ِّين العلاقة فيما بينها ،و ُينهي هذا المبحث بفصل عن "مقام القُربة"
الذي يمثل كمال الولاية وأعلى مراتبها.
وهكذا تتحدد طبيعة الولاية عند ابن عربي على أنها "قُربة"؛ ويتحدد شكلها بفعل
ولي ٍ
وارث لنبي فإنه لا يرثه الوراثة الموجود بين الولي الوارث والنبي الموروث .ولكن ك َّل ٍّ
مباشرة ،وإنما من حيث الحقيقة المحمدية .لذلك ك ُّل ولي هو ولي محمدي في شكل من
الأشكال .وهذا ما دفع شودكي ِفتش إلى التوقف عند "الحقيقة المحمدية" ومكانتها الوجودية
. في الفصل التالي
كل الأنبياء الذين تقدموا في الزمان على محمد )ص( هم ن َّوابه في عالم الخلق ،وهو لا
كنت نب ًّيا؟" فقال" :كنت نب ًّيا وآدم بين الماء
روحا مجر ًدا ونو ًرا مس َّوى .قيل له" :متى َ
يزال ً
م لنائب من نوابه. والطين ".إلى أن وصل زما ُن ظهور جسده المط َّهر )ص( ،فلم يب َق حك ٌ
نص ابن عربي هذا ،مع كثير غيره ،يحدِّد طبيعة الحقيقة يقول شودكي ِفتش إن َّ
المحمدية ودورها .وعلى الرغم من أن الحديث الوارد في ِّ
النص قد تع َّرض لكثير من الهجوم
واتُّ ِه َم بالبدعة ،إلا أن جمهور المحدِّثين انقسموا فيه بين مؤ ِّيدين ومعارضين .وابن عربي نفسه
– وهو دارس للحديث – يقول في عدة مناسبات أن "الكشف" وحده فقط هو القادر على
. القطع بصحة الحديث
ثم يب ِّين شودكي ِفتش أن عبارة "الحقيقة المحمدية" تجد جذورها القرآنية في عبارة النور
منيرا" ) .(٤٦ :٣٣و ٕان فكرة "النور
سراجا ًالمحمدي ،المستوحاة من قوله تعالىً " :
المحمدي" لها أصول في كتب السيرة ،نجدها فيما ُيروى عن النور الذي كان بين عيني والده
عبد الله ،ورأتْه سيد ٌة عشية زواجه بآمنة ،وفارقه عندما رأتْه ثانية صبيحة اليوم التالي .إنه نور
النب َّوة المنتقل في الأصلاب والأرحام.
ويشير شودكي ِفتش ٕالى الصوفيين الذين أكدوا أسبقية النور المحمدي في الظهور على
كافة المخلوقات ،كجعفر الصادق وسهل التستري والحكيم الترمذي والحلاج ،وإلى ارتباط
الحقيقة المحمدية بعبارة مفهوم الإ نسان الكامل ،الذي هو هدف ك ِّل حياة روحية وغاية ك ِّل
تعريف للولاية .وينتج عن ك ِّل ما يورده شودكي ِفتش أن ولاية الولي ليست إلا انتسابه إلى ولاية
. النبي
وهذه الوراثة عن محمد )ص( يمكن أن تكون مباشرة أو غير مباشرة ،كما رأينا .والورثة
صفات تم ِّيزهم عن غيرهم من الأولياء ،أي عن ٌ المحمديون بالطريق المباشر تظهر عليهم
الأولياء الذين لا ينتسبون للوراثة من النبي إلا بواسطة غيره من الأنبياء .فالوارث غير المحمدي
الناس ولاي َته بما يظهر على ظاهره من علاماتها ،كالكرامات والخوارق .وعلى العكس،
يرى ُ
فإن الوارث المحمدي يجهله الناس ،ولا يعرفه ٕالا النخبة ،لأن خوارق الطبيعة لا تظهر على
ظاهره ،و ٕانما تتن َّزل في قلبه على هيئة علوم وأحوال روحية .وهذا التمييز بين ورثة النبي بالطريق
غير المباشر وورثته بالطريق المباشر تفيدنا في تحديد صور الأولياء وملامح شخصياتهم.
وابن عربي نفسه يروي أن أستاذه أبا العباس العريبي أصبح عيسو ًّيا في آخر حياته ،وأنه
هو نفسه – ابن عربي – على العكس ،كان عيسو ًّيا في بداياته ،ثم أضحى موسو ًّيا ،ثم أمسى
ل الأنبياء ،وفي آخر مقام من محمد )ص( بنفسه. هود ًّيا ،ثم ورث على التوالي من ك ِّ
وهكذا يتكون من مزايا ك ِّل نبي ومعجزاته ُ
نمط شخصيته ،تظهر صورتُها على الولي
الوارث .فالولي العيسوي ،مثلاً ،تأتي كراماتُه على صورة معجزات عيسى )ع( ،فتراه يمشي
على الماء ،ويشفي المريض ،و ُيبرئ الأعمى .ويشير شودكي ِفتش إلى شخصيات معروفة في
الوسط الصوفي ،ويؤكد أنها كانت عيسوية الولاية ،كالحلاج وعين القضاة الحمداني ،مريد
أحمد الغزالي ،وعبد الله أحرار والشيخ العلوي ،كما يشير إلى أن أحمد البدوي موسوي .هذا
وفي استطاعة العارف ،إن تم َّرس في أحوال الولي ،أن يكتشف الطابع النبوي الذي يطبع
ظاهره .ولا تتعدد الأنماط الروحية للولاية الموروثة عن النبوة ٕالى ما لانهاية ،بل يحصر ابن
عربي صورها الرئيسة في كتاب فصوص الحكم بفصوله السبعة والعشرين.
وهكذا اخ ُتتمت النبوة ،واكتملت التشريعات ،ولم يب َق إلا الوراثة عن الأنبياء .يقطع
السالك طريق الجهد ،عسى يولِّيه الله – ع َّز وج َّل – ويورثه عل ًما نبو ًّيا ،فيرث عن نبي أو عن
.أكثر من نبي
ويروي خادم الشيخ عبد القادر الجيلاني قصة طويلة ،يخرج فيها الشيخ عبد القادر من
المدرسة في بغداد إلى نهاوند ،ويصل دون مسافة تُذكَر ،ليحضر وفاة أحمد الأبدال السبعة.
وهكذا يتابع شودكي ِفتش إشارات ،تظهر وتختفي سري ًعا ،عن أولياء مستورين لهم مهام كونية
.عالية ،ويشغلون منازلهم الجغرافية ،ك ُّل ولي يحتل منزلة بحسب رتبته
وكما في تحديد مفهوم الولاية وطبيعتها ،كان علينا أن ننتظر في التاريخ الصوفي ظهور
ابن عربي ،كذلك هنا ،لتحديد منازل الأولياء ،ومواقعهم في الأرض .وبعد ابن عربي يصبح
لك ِّل الإ شارات السابقة في التاريخ الصوفي معنى ،وتأخذ موقعها من نظرية الولاية ككل .وابن
عربي لا يفصل هذه المنازل نظر ًّيا ،ململ ًما النصوص الشرعية أو المرو َّيات الشعبية ،ولكنه
يصف هذه المنازل ويصف نازليها وصف الرائي لها ،العارف بها ،المشاهد لأهلها .ففي العام
٥٩٣هـ ،مثلاً ،التقى "قطب الوقت" في فاس .والإ شارة إلى هذا اللقاء تكثر في كتبه ،مما
يؤ ِّيد أن كلام ابن عربي في الولاية ليس نظرية ،بل يقين عياني ،يرتكز على رؤية مباشرة وتجربة
.حميمة
وفيما يتعلق بموضوع مراكز الأولياء الذين يمثلون قوى "الكون الفاعل" ،لعل َّ
النص
الأكمل هو ما نجده في بداية الجزء الثاني من الفتوحات؛ وهذا النص هو ما سيتخذه
شودكي ِفتش دليله في طريق تحديد عالم الأولياء .يبدأ ابن عربي الفصل بتحديد أفضلية مقام
الرسول على النوع الإ نساني عامة .ثم يمثل الدين بالبيت القائم بقيام أركانه الأربعة؛ وأركان
البيت الأربعة هي" :الرسالة" و"النبوة" و"الولاية" و"الإ يمان" .والرسالة هي الركن الجامع؛
وتحوي الأركان الثلاثة الأخرى .لذلك لا يخلو العالِم من رسول حي بجسمه يكون قطب
.العالم الإ نساني
يقول ابن عربي بأنه بعد وفاة محمد )ص( أبقى الله – ع َّز وج َّل – من الرسل أحياء
بأجسادهم في هذه الدار الدنيا ثلاثة وهم :إدريس والياس وعيسى )عليهم السلام( .إدريس
)ع( بقي ح ًّيا بجسده ،وأسكنه الله السماء الرابعة؛ والسموات السبع ه َّن من الدار الدنيا ،تبقى
ببقائها وتفنى صورتُها بفنائها ،لأن الدار الأخرى ُتبدَّل فيها السموات والأرضٔ .اما الياس
وعيسى )عليهما السلام( فقد بقيا في الأرض .وهذه الشخصيات الثلاث ُم ْج َمع على
رسالتهم .أما الخضر )ع( – وهو الرابع – فهو "من المخت َلف فيه" ،كما يقول ابن عربي،
عند غيرنا لا عندنا .فهؤلاء الرسل الأربعة باقون بأجسامهم في الدار الدنيا .فكلُّهم
الأوتاد ،واثنان منهم الإ مامان ،وواحد منهم القطب ،الذي هو موضع نظر الح ِّق من العالم .إذن
واحد من هؤلاء الأربعة ،الذين هم ٕادريس وعيسى والياس والخضر ،هو القطب ،وهو أحد
أركان بيت الدين ،وهو ركن الحجر الأسود؛ واثنان منهم هما الإ مامان ،وأربعتهم هم الأوتاد.
فبالواحد يحفظ الله الإ يمان ،وبالثاني يحفظ الله الولاية ،وبالثالث يحفظ الله النبوة ،وبالرابع
يحفظ الله الرسالة ،وبالمجموع يحفظ الله الدين الحنيف .ولك ِّل واحد من هؤلاء الأربعة من
. هذه الأمة في ك ِّل زمان شخص ولي على قلبه مع وجوده ،هو نائبه
ويع ِّقب شودكي ِفتش بقوله إن كانت هذه الشخصيات الأربع التي ذكرها ابن عربي –
اثنتان منها ،أي إدريس وعيسى ،في السموات ،واثنتان ،هما الياس والخضر ،في الأرض –
تعيش مستورة عن أعين العامة ،إلا أنه – للمرة الأولى – ُيشار إلى الوظائف العليا لهذه
الشخصيات .وهكذا ُيع ِلمنا ابن عربي بوجود الأنبياء الأحياء بأجسامهم في الدنيا ،وأنه بهم
يحفظ الله أركان بيت الدين الحنيف .ثم أعلمنا كذلك بوجود ن َّواب من الأولياء لهؤلاء
الأنبياء .ذلك كلُّه يؤكد علاقة النبوة بالولاية ،وأن دائرة الولاية ليست مستقلة ،ولكنها تابعة
إلى آخر الزمان لسلطة الأنبياء الأحياء بعد موت محمد )ص).
ثم يتابع شودكي ِفتش ابن عربي في تصويره لجغرافية العالم الروحي ،ويتت َّبع توزيع الأدوار
بين هؤلاء الأنبياء الأربعة :فإدريس )ع( هو القطب ،والإ مامان هما عيسى والياس )عليهما
السلام( ،والوتد الرابع هو الخضر )ع( .القطب عليه يدور الوجود ،ويجمع في شخصه ك َّل
الأحوال ،وك َّل المقامات ،وهو "وجه بلا قفا" ،لا يغيب عن نظره شيء ،لا تُطوى له الأرض،
وبناء على أمر إلهي فقط ،القوى
ولا يمشي في الهواء أو على الماء ،ولا يستخدم إلا ناد ًراً ،
الخارقة .والإ مامان ،أحدهما أعلى من الثاني ،وهما :إمام الشمال الذي يلقَّب بـ"عبد الرب"،
وهو يسهر على "صلاح العالم"؛ وإمام اليمين يلقَّب بـ"عبد الملك" ،وهو يسهر على "عالم
الأرواح".
وهؤلاء الأوتاد الأربعة – القطب والإ مامان ورابعهم الوتد – هم كالجبال للأرض :فكما
سكن الأرض ،فلا تميد ،كذلك هؤلاء الأربعة يحفظ الله بهم الجهات الأربع: الجبل ُي ِ
. الشرق ،الغرب ،الجنوب ،الشمال
و ُينهي شودكي ِفتش هذا الفصل بلفتة ابن عربي التحذيرية .فك ُّل ما يذكره هنا من
مقامات الرجال تحت اسم "الرجال" قد يكون منهم النساء .ويقول في مكان آخر" :لا توجد
صفة روحية يمتلكها الرجل وليس للمرأة فيها مشرب ".ويقول" :النساء لها نصيب في ك ِّل
الدرجات التي ينالها الرجل ،حتى في القطبية
".
وبعد الكلام على الأوتاد الأربعة التي َس َب َق تفصيلُها في الفصل السابق ،يتابع
شودكي ِفتش ابن عربي في الكلام على الأبدال ،وهم سبعة ،لا يزيدون ولا ينقصون ،يحفظ الله
تعالى بهم الأقاليم السبعة )= الأقاليم المناخية السبعة(؛ وك ُّل بدل "على قدم" نبي :الأول على
قدم إبراهيم ،والثاني على قدم موسى ،والثالث على قدم هارون ،والرابع على قدم إدريس،
والخامس على قدم يوسف ،والسادس على قدم عيسى ،والسابع على قدم آدم ،على الك ِّل
السلام .وتتأكد هنا ،مرة جديدة ،علاقة التبعية التي بين الأولياء والأنبياء .هناك ،ك ُّل ولي من
الحي بجسمه؛ وهنا ،ك ُّل بدل من الأبدال السبعة على قدم نبي الأوتاد الأربعة ينوب عن النبي ِّ
. من الأنبياء السبعة ،سكان السموات السبع
إن عبارة "ختم الولاية" لم َت ِر ْد في قرآن أو حديث؛ ولكن لما كان العلماء هم الأولياء
عند ابن عربي ،وهم ورثة الأنبياء ،ولما كانت النبوة ُخ ِت َم ْت بشخص سيدنا محمد )ص( ،ينشأ
عن ذلك أن تُخ َتم الولاية بشخص الختم .والترمذي )القرن الثالث الهجري( هو أول من وصل
إلى هذه النتيجة؛ ولكن نصوصه تشير ولا توضح ،يطرح السؤال ولا يجيب .والسؤال رقم ١٣
في أسئلة الترمذي ،يقول :و َمن الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق محمد )ص( خاتم
: النبوة؟ يقول ابن عربي في الجواب
الختم ختمان :ختم يختم الله به الولاية ،وختم يختم الله به الولاية المحمدية .فأما
ختم الولاية على الإ طلاق فهو عيسى عليه السلام؛ فهو الولي بالنبوة المطلقة في زمان هذه
الأمة .وقد حيل بينه وبين نبوة التشريع والرسالة ،فينزل في آخر الزمان وارثًا خات ًما ،لا ولي بعده
بنبوة مطلقة
]. [...
أما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب ،موجود في زمان ابن عربي .ويتابع
الشيخ الأكبر:
وكما ختم الله – ع َّز وج َّل – بمحمد )ص( نبوة الشرائع ،كذلك ختم الله بالختم
المحمدي الولاية التي تحصل من الوارث المحمدي ،لا التي تحصل من سائر الأنبياء ،وذلك
لأنه من الأولياء َمن يرث إبراهيم أو عيسى أو موسى؛ فهؤلاء يوجدون بعد هذا الختم
المحمدي ،ولكن لا يوجد بعده ولي على قلب أو على قدم محمد )ص).
وهكذا تتضح الرؤية :فختم الولاية المحمدية هو شخص لم يتحدَّد بشكل قاطع عند
ابن عربي – وهو الذي لا يوجد بعده ولي على قلب محمد )ص(؛ وختم الولاية العامة ،الذي
.هو عيسى ،والذي لا يوجد بعده ولي مطلقًا
ثم ينتقل شودكي ِفتش للكلام على ختم ثالث يشارك ختمي الولاية المحمدية والولاية
العامة في عنوان هذا الفصل" :الأختام الثلاثة" .والخاتم أو "الختم" الثالث لم يذكره ابن عربي
:إلا مرة واحدة ،وهو "ختم الأولاد" .يقول ابن عربي
على قدم شيث يكون آخر مولود من هذا النوع الإ نساني ،وهو حامل أسراره ،وليس
بعده ولد في هذا النوع .فهو خاتم الأولاد .وتولد معه أخت له فتخرج قبله ،ويخرج بعدها،
يكون رأسه عند رجليها .ويكون مولده بالصين ،ولغته لغة أهل بلده .ويسري العقم في الرجال
والنساء ،ويكثر النكاح من غير ولادة .هذا الخاتم يدعو الناس إلى الله فلا ُيجاب .فإذا َق َب َضه
ض مؤمني زمانه ،بقي من بقي مثل البهائم؛ ولا ُي ِحلُّون حلالاً ،ولا يح ِّرمون الله تعالى و َق َب َ
حرا ًما ،يتصرفون بحكم الطبيعة شهوة مجردة عن العقل والشرع .وعلى هؤلاء الناس تقوم
الساعة.
ويعلق شودكي ِفتش بأن عبارة "على قدم شيث"" التي تم ِّيز خلق "خاتم الأولاد" تشير،
يضا ولي "شيثي" ،ولن بما نفهمه من لغة ابن عربي ،إلى أن خاتم الأولاد هو من الأولياء ،وهو أ ً
يضا ،الولاية .ويتساءل شودكي ِفتش: ُيخ َلق بعده أ ُّي رجل ،وبالتالي أ ُّي ولي ،فيختم إذن ،هو أ ً
كيف نستطيع هاهنا أن نوفِّق بينه وبين عيسى الذي يختم الولاية العامة؟ وتظل القضية معلَّقة،
يرجع إليها عند بحثه لختم الولاية المحمدية الذي ُيف ِر ُد له الفصل التالي .ولكن شودكي ِفتش لا
يعطينا جوا ًبا عن هوية خاتم الأولاد ،كما لم تعطنا أ َّي جواب ك ُّل النصوص القديمة والشروح
التي تناولت فصوص الحكم بالبحث والدراسة ،وك ُّل الأسماء الكبيرة ،أمثال القونوي ،بالي
. أفندي ،القاشاني ،النابلسي ،القيصري
النص الوحيد الذي نمتلكه عن "خاتم الأولاد" والذي َّ وأرى هنا ،استنا ًدا إلى هذا
تضاربت حوله الشروح ،فرأى بعضهم أنه هو خاتم الولاية العامة ،الذي قيل عنه إنه عيسى،
ورأى بعضهم الآخر أنه مجرد ولد يولد في آخر الزمان ،ورأى بعضهم الثالث أن العبارة بجملتها
رمزية ،وأن خاتم الأولاد هو القلب وأخته هي النفس ،وهكذا – أرى أنه ،على الرغم من أن ابن
عربي لم يوضِّ ح ماهية هذا الختم ويب ِّينها ،أسوة بالأختام الثلاثة – ختم النبوة ،وختم الولاية
العامة ،وختم الولاية المحمدية – إلا أنه يمكنني ،استنا ًدا إلى النصوص ،أن ٔارى بوضوح في
.عالم ابن عربي َمن هو هذا الختم
أبدأ بمقدمة أولى وهي :أن ابن عربي يرى )الفتوحات (٥٠ :٢أن لك ِّل شيء من الدنيا
خت ًما ،وذلك لأنه لما كان للدنيا بدء ونهاية ،وهو ختمها ،فقد قضى الله – سبحانه – أن يكون
جميع ما فيها ،بحسب نفسها ،له بدء وختام .وكان من جملة ما فيها تنزيل الشرائع؛ فختم
الله هذا التنزيل بشرع محمد )ص( ،وكان من جملة ما فيها الولاية العامة ،وهكذا .ثم في
مقدمة ثانية ،يرى ابن عربي أن بيت النوع الإ نساني هو الدين ،وأن أركان بيت الدين أربعة،
وهي :الرسالة والنبوة والولاية والإ يمان .وقد كشف ابن عربي عن أوتاد أربعة ،هم أركان
الدين ،وهم الأنبياء الأحياء بأجسامهم بعد انتقال نبينا محمد )ص( ،وهم :إدريس وعيسى
والياس والخضر )وقد سبق الكلام على هذا الموضوع عند عرض الفصل السابع من هذا
). الكتاب
من هاتين المقدمتين ،أستطيع أن أخلص ٕالى نتائج واضحة توصلنا لتحديد هوية "ختم
": الأولاد
النتيجة الأولى :حيث إن لك ِّل شيء في الدنيا خت ًما ،وأن "الإ يمان" من جملة ما
. فيها ،لذلك ُيخ َت َتم الإ يمان بختم ،تما ًما كالنبوة والولاية
النتيجة الثانية :أركان بيت الدين الأربعة ،وهي :الرسالة والنبوة والولاية والإ يمان،
وإن كانت تُحفَظ في الدنيا بأركانها الأربعة وهم الأوتاد الأربعة ،إلا أن ذلك لم يمنع ابن عربي
من أن يرى خت ًما لك ِّل ركن .فالنبي – عليه الصلاة والسلام – هو خاتم الركنين الأولين ،أي
خاتم الرسالة والنبوة .والركن الثالث ،أي الولاية ،له ختمان :تُخ َتم الولاية العامة بعيسى )عليه
السلام( ،وتُخ َتم الولاية المحمدية بشخص لم تقطع فيه النصوص ،ويكون آخر الورثة
المحمديين الكاملين
.
ونلاحظ أن الركن الرابع لبيت الدين – وهو الإ يمان – قد ظ َّل دون ختم .فأين "خاتم
الإ يمان" الذي أشار إليه ابن عربي؟ وإذا دقَّقنا النظر في صفات "خاتم الأولاد" الذي أشار إليه
ابن عربي ،نرى أنه ينطبق تما ًما ليكون رابع الأختام ،وتكتمل به فكرة الختمية ،لأن كمال
التكوين في ك ِّل شيء يقوم على التربيع عند ابن عربي .فخاتم الأولادِّ ،
بنص ابن عربي ،يدعو
إلى الإ يمان ،وما من ُمه َت ٍد ولا مؤمن بعده .فارتباط اسمه باسم الإ يمان ،ثم كلمة "خاتم" أمام
اسمه – كل ذلك يدعو لأن أملا ٔ به مكان "ختم الإ يمان" الذي ظ َّل ً
شاغرا في بنية ابن عربي
فيفسرها كو ُن شيث ابن آدم هو أول
وفي رؤيته للولاية وأختامها .أما عبارة "على قدم شيث"ِّ ،
أولاد الجنس البشري الموجود عن التزاوج؛ وبخاتم الأولاد ُيخ َتم الجنس البشري الموجود عن
التزاوج ،لأنه بعد هذا الخاتم يسري العقم في الرجال والنساء ،ويكثر النكاح من غير ولادة.
ولي من الأولياء؟ فإن كان ول ًّيا ،فكيف يبقى أن نسأل أنفسنا :هل خاتم الأولاد هو ٌّ
يولد ولي وقد ُخ ِت َمت الولاية بعيسى ،وعيسى )ع( يظهر قبله في الزمان؟ ومن ث َّم فقد َط َر َح هذا
مفسري الفصوص ،وحاول الجميع أن يجد علاقة ونسبة بين عيسى )ع( وبين مشكل ًة عند ِّ
خاتم الأولاد .وأرى هنا أن الح َّل يأتينا من القرآن الكريم ،ومن الفصل الأول الذي طرح فيه
شودكي ِفتش أن الولاية "اسم مشترك" ،فنقول إن الولي اسم مشترك ُيط َلق على النخبة الروحية
التي ط َّهرها الله – ع َّز وج َّل – وأنزلها في منازل قربه ،وح َّملها الأمانات .فخاتم الأولاد هو خاتم
الإ يمان :فلا مؤمن بعده؛ وهو ولي ،ولكن بالمعنى العام للولاية ،أي الإ يمان.
ثم يستعرض الأستاذ شودكي ِفتش مؤلَّفات الصوفية ،وخاصة مؤلَّفات مؤ ِّيدي ابن عربي
وتلامذته ،فيرى أن الشعراني في الطبقات يشير ،عند ترجمته للصوفي الكبير محمد وفا )ت
٨٠١هـ( ،أن ابنه علي وفا يقول عن والده إنه ختم الأولياء .وهذا ما حدث في معظم ال ُط ُرق
الصوفية :إذ كانت تُظ ِهر رجالاتها الكبار على أنهم "ختم الأولياء" .فك ُّل ٍ
جمع تج َّمع حول
ولي كبير من أولياء الصوفية المتأخِّ رين رأى فيه ملامح الختم المحمدي .وتلامذة ابن عربي
ٍّ
كذلك يؤكدون أنه هو نفسه خاتم الولاية المحمدية .ويكثر الجدال حول شخص الختم.
ويخرج الأستاذ شودكي ِفتش من هذا المأزق بالالتفات إلى مفهوم "النيابة" عند ابن عربي،
و ُيثبِت أن شخص خاتم الولاية المحمدية هو ابن عربي ،بما يحويه من وظائف الختم ،وأن ك َّل
عت لول ِّيها مقام الختم فهي إنما ترى فيه "نائب" الختم المحمدي ،ترى على صفحة
طائفة ا َّد ْ
". ولايته "القمرية" انعكاس صفات ولاية الختم "الشمسية
ﱠ
ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﻌﺎﺷﺮ ،ﻭﻫﻮ ﺍﻷﺧﲑ" :ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺍﳌﺰﺩﻭﺝ" )ﺹ (٢٢١-١٨١
يلخِّ ص شودكي ِفتش في مطلع هذا الفصل ،وفي فقرة واحدة ،خلاصة نظرة ابن عربي
إلى الولاية ،ويرى أنها انتظمت على مفاهيم ثلاثة :الوراثة ،النيابة ،ال ُق ْربة .فالوراثة لأحد
تفسر أشكال الولاية وسبب وجودها على أنماط الأنماط النبوية في معرفة الله – ع َّز وج َّل – ِّ
وتفسر
متنوعة؛ والنيابة ،التي هي نيابة الولي في وظيفة ،ترجع في الواقع إلى الحقيقة المحمدية ِّ
مهمات الولاية ووظائفها؛ و ٔا ً
خيرا ال ُق ْربة ،وهي حقيقة الولاية ومعناها .وهذه ال ُق ْربة ،التي سبق
.الكلام عليها عند كلامنا على الدرجة العليا للولاية ،سوف تظهر لنا هنا في كامل تف ُّتحها
ونلاحظ نحن هنا أن الأستاذ شودكي ِفتش ،بعد أن شرح في الفصول التسعة المتقدمة
من كتابه معنى الولاية لغو ًّيا ،ثم ب َّين طبيعتها وأشكالها ووظيفتها ،ثم بحث في منازل الأولياء
وتو ُّزعهم على أبعاد الأرض والسماء ،يصل هنا إلى نهاية المطاف ،ليرسم للقارئ طريق الولاية:
إن الولاية ،التي انتشأت صو ُرها من فقرات فصوله ،وإن كانت واد ًيا مقد ًَّسإ ،الا أن هذا الوادي
ليس محظو ًرا على السالكين؛ فالطريق مفتوح ل َمن أراد أن يحمل زا َده ويرحل :يرحل عن
الكون إلى الله؛ وبعد أن يقطع مسافات في أرض الوجدان ،يعرف أن الولي هو القريب من
الله ،القريب من الإ نسان .وهذا ما سينتهي إليه شودكي ِفتش في تت ُّبعه لنصوص الشيخ الأكبر.
كيف نصبح أولياء؟ الولاية ،قبل ك ِّل شيء ،هي تجربة فردية ومجهود شخصي؛ وهي
دائ ًما غير مسبوقة بمثال .وهذا ما يؤكد عليه ابن عربي دائ ًما :فلا تتكرر تجربة أبدًا ،ولا يسلك
سالك آخر ،ولا يمر سالكان بطريق واحد .غير أن هذه الفردية في ال ُط ُرقسالكٌ أبدًا طريق ٍ
الموصلة إلى القُرب والولاية لا تمنع من وجود أنماط طرائقية ،يجمع ك َّل نمط منها مقاماتُه
ومخاطره .وهذا ما يب ِّرر وجود الشيخ المرشد المر ِّبي ،أي "المعلِّم الروحي" الخبير بأنماط
طرائق المجاهدات .ومن ناحية ثانية ،يظهر المعراج النبوي على أنه القدوة والمثال لك ِّل طريق؛
وك ُّل عروج وتر ٍّق يطمح إلى تق ُّرب وولاية يرقى في هذه المعارج .وهذا ما سيتَّضح ،كما يقول
شودكي ِفتش ،عند بحث مقامات القُرب عند ابن عربي.
يأخذ شودكي ِفتش كتاب ابن عربي رسالة الأنوار ويحاول ،استنا ًدا إليه وإلى كتاب
يخط طريقًا للولاية .ويؤكِّدَّ الإ سرا إلى المقام الأسرى وإلى فصل من الفتوحات ،أن
شودكي ِفتش على ضرورة أن يصل الولي إلى تمام الولاية :فهو يرى – استنا ًدا إلى النصوص – أن
رب العزة ،ووصل إلى حضرته تعالى ،ورجع به من عنده إلى الولي الكامل هو الذي سلك إلى ِّ
خلقه من غير مفارقته .بكلام آخر :الولي الكامل هو الواصل إلى الحق ،الراجع إلى الخلق.
يبدأ شودكي ِفتش ببيان الطريق للسالك ،منذ بداياته ،كما َّ
فصله ابن عربي في رسالة
: الأنوار ،حيث يقول لسائله
فأول ما أب ِّينه لك كيفية السلوك ٕالى الله ،ثم كيفية الوصول والوقوف بين يديه والجلوس
في بساط مشاهدته ،وما يقوله لك ،وكيفية الرجوع من عنده إلى حضرة أفعاله به وإليه،
.والاستهلاك فيه ،وهو مقام دون الرجوع
ثم يقول
:
واعلم ،أيها الأخ الكريمٔ ،ان الطرق شتى ،والطريق الموصل إلى الح ِّق هو مفرد ،وأفراد
هم الذين يسلكون طريق الحق .ومع أن طريق الح ِّق واحد فإن وجوهه تختلف بحسب
اختلاف سالكيه من اعتدال المزاج أو انحرافه ،ومن قوة الروحانية وضعفهأ ،او استقامة الهمة
وميلها .فمن السالكين من تجتمع له هذه الأوصاف ،ومنهم من يكون له بعضها؛ فقد يكون
. مطلب الروحانية شريفًا ،ولكن لا يساعده المزاج – وهكذا في ك ِّل ما بقي
وأول ما يبدأ به ابن عربي هو تعريف السالك بأ َّمهات ال َمواطن ،أي يع ِّرفه من أين جاء،
وأين هو ،وإلى أين يذهب ،حتى يعرف السالك ما يقتضيه ك ُّل موطن ،فيستعد لمعاملة الموطن
: الذي هو فيه بما يتناسب ويليق .ويقول ابن عربي للسالك من ِّب ًها
ينبغي لك أن تعرف ما يريده الح ُّق منك في ذلك الموطن ،ف ُتبا ِدر إليه من غير تثبيط ولا
كلفة .وال َمواطن ترجع إلى ستة :الأول هو موطن "ألست بربكم"؛ والموطن الثاني هو الدنيا
التي نحن الآن فيها؛ والثالث هو عالم البرزخ الذي نصير إليه بعد الموت الا ٔصغر ،أي الموت
السلوكي ،والموت الأكبر ،أي موت البدن وانتقاله؛ والموطن الرابع هو أرض الحشر؛ والموطن
الخامس هو الجنة والنار؛ والسادس هو موطن الكثيب خارج الجنة ،وهو ت ٌّل من مسك أبيض
. تكون الخلائق عليه عند رؤية الح ِّق سبحانه وتعالى
وبيان ابن عربي لهذه ال َمواطن الستة التي ينزلها ك ُّل كائن تسهم – على ما يقول
شودكي ِفتش – في تنبيه السالك إلى مخاطر الطريق الصوفي .فك ُّل عاقل ،كما يقول ابن عربي،
عليه أن يعلم أن السفر مبني على المشقة والمحن والبلايا والأخطار والأهوال ،وأنه من المحال
يضا أن لا يستعجل المشاهدة والفتح ،بل يعمل
أن يتن َّعم المسافر أو يستريح أو يلتذ ،وأن عليه أ ً
على تحصيل العلم ،لأن الوقت في هذه الدنيا يجب أن َّ
يخصص لتحصيل العلوم الروحية،
. استعدا ًدا ليوم البعث ،حيث يتجلَّى الله – ع َّز وج َّل – فيه لك ِّل إنسان في صورة عقيدته
وبعد أن يشرح ابن عربي للسالك ال َمواطن ،وين ِّبهه على المخاطر وعدم طلب
المشاهدة ،ويدعوه للالتفات إلى العلم ،يعطيه بعض القواعد التطبيقية التي تساعده في طريقه
: إلى الله .يقول له
لا ب َّد لك من العزلة عن الناس وإيثار الخلوة على الصحبة .فإنه على َق ْدر ُبعدك من
ظاهرا وباط ًنا .وأول ما يجب عليك ُ
طلب العلم الذي تقيم به الخلق يكون قربك من الح ِّقً ،
طلبه خاصة ،لا تزيد على ذلك شي ًئا –
طهارتك وصلاتك وصيامك وتقواك ،وما يفرض عليك ُ
وهذا هو أول باب الطريق والسلوك .ويأتي بعده العمل به ،ثم الورع ،ثم الزهد ،ثم التوكل.
وفي أول حال من أحوال التوكل يصبح يحصل لك أربع كرامات ،هي الدليل على حصولك
أول درجة في التوكل ،وهي :طي الأرض ،والمشي على الماء ،واختراق الهواء ،والأكل من
.الكون .ثم ،بعد ذلك ،تتوالى عليك المقامات والأحوال والكرامات والتن ُّزلات إلى الموت
ويرافق ابن عربي السالك معه على طريق الحضرة :فإن حقَّق شروط الخلوة ،وتحفَّظ
من الخيالات الفاسدة ،واشتغل بذكر الله ،وراعى اعتدال المزاج ،وف َّرق بين الواردات
الروحانية الملكية والواردات الروحانية النارية الشيطانية ،وحفظ عقيدته في الله عند دخوله
الخلوة بأن الله "ليس كمثله شيء" ،ولم يطلب في الخلوة من الله سواه ،ولم يعلق َو َل ُه اله َّمة
بغيره – إذا حقق السالك ذلك كلَّه فإن الله – ع َّز وج َّل – يبتليه بأشياء يفتنه فيها؛ فعليه أن لا
يقف مع شيء .ومن الأشياء التي يعرضها الله على السالك ابتلاء أن يكشف له عن العالم
الحسي الغائب عنه ،فلا تحجبه الجدران والظلمات ع َّما يفعله الخلق في بيوتهم؛ ثم ينتقل من
ِّ
الحسية؛ ثم ِّ الحسي إلى الكشف الخيالي ،وتتن َّزل عليه المعاني العقلية بالصورِّ الكشف
تُكشَ ف له أسرار الأحجار المعدنية ،فيعرف س َّر ك ِّل حجر وخاص َّيته في المضا ِّر والمنافع؛
و ُيكشَ ف له عن النباتات ،وتناديه ك ُّل عشبة بما تحمله من خواص المضا ِّر والمنافع؛ و ُير َفع له
عن الحيوانات ،فتسلِّم عليه وتع ِّرفه بما تحمله من الخواص .وهكذا ك ُّل عا َلم يع ِّرف السالك
. بحمده وتسبيحه
ثم ُي ِ
داخل شودكي ِفتش بين رسالة الأنوار وبين الفتوحات المكية ،ليخرج منهما برؤية
الحسي –
ِّ مكتملة للطريق الصوفي :فالسالك ،حين يقطع هذه الممالك الأربعة من العالم
مملكة المعادن والنبات والحيوان والإ نسان ،المتمثِّل بالسالك نفسه – يوازي المرحلة الأولى
من المعراج – هذه المرحلة التي توصل إلى السماء الأولى .وهكذا ك ُّل مرحلة من مراحل
رسالة الأنوار يمكن مقارن ُتها ومقابل ُتها بمراحل السموات السبع التي يرقاها السالك في المعراج
الوارد في الفتوحات المكية .فالعارج في الفتوحات لا يصل إلى السماء الأولى إلا بعد أن
يتحلَّل ويترك مركبات تكوينه :يترك ماءه وترابه وناره وهواءه .كذلك هنا ،أول ما ُيكشَ ف له
عن عوالم المعادن والنبات والحيوان؛ فإن لم يجت ْزها ،ووقف مع أ ِّي عا َلم منها ،فإنه ُيق َطع عليه
الطريق .فاجتياز العوالم ومفاتنها في رسالة الأنوار يقابل تحلُّل السالك من مركبات تكوينه في
الفتوحات .ويتابع شودكي ِفتش المداخلة بين الفتوحات وبين رسالة الأنوار ،كشفًا بكشف،
وسماء بسماء ،حتى ينتهي إلى نهاية العروج الإ نساني .وهنا الإ نسان ،في نهاية معراجه ،لا
يبقى منه إلا الس ُّر الإ لهي الذي لا يتحلَّل ولا ينقسم – هذا الس ُّر المنفوخ منذ بداية الخليقة في
طينة آدم
.
وإذا كان الوصول إلى الله هو نقطة النهاية في سلَّم العروج ،فهو ليس نهاية الطريق ،بل
يتجسد في سلَّم مزدوج :عندما يصل الولي إلى القمة ،عليه أن يرجع درجة َّ الوصول الكامل
درجة؛ ولكن هنا لا يرجع على نفس الدرجات التي صعد عليها .فالسالك أو الولي يصعد وهو
. يرى بعين نفسه ،ويرجع وهو يرى بعين ر ِّبه
وكما تحلَّل السالك من أثوابه كافة قبل عروجه ،فترك ماءه وترابه وناره وهواءه ،حتى
بقي س ًّرا إله ًّيا صر ًفا غير ممزوج ،نراه ،عند رجوعه ،يلبس أثوابه ،واحدًا واحدًا" ،يتركَّب"
حتى يعود إلى العالم المركَّب .ولكن التحليل والتركيب هما سلَّم مزدوج ،يصعد فيه السالك
بدرجات وينزل بدرجات مقابلة ،كأنها هي وليست هي .ويعود السالك ،يرجع الولي ،من
الوصول كأنه هو.
فالولاية ،على ح ِّد ما يع ِّرف بها شودكي ِفتش مرا ًرا في هذا الكتاب ،هي قُ ْرب ،ولكنه
قرب مزدوج :قرب من الله ،وقرب من الناس .فإذا كان "الإ نسان الكامل" شجرة أصلها ثابت
في الأرض وفرعها في السماء ،والحقيقة المحمدية " ً
برزخا" بين الح ِّق والخلق ،فالولي وريث
يجمع الأعلى والأسفل .و ُينهي شودكي ِفتش كتابه بأن الولاية ،و ٕان حملها الولي معه ٕالى ما بعد
الدنيإ ،الا أنه لها نهاية وختم في هذه الدنيا .فمع مجيء الختم الأول ،أصبحت أشكالها العليا
والكاملة ممنوعة إلى الأبد؛ ومع مجيء الختم الثاني أُق ِف َل نهائ ًّيا مقام القُر َبة ،وهو أعلى مقامات
روح الختم الثالث ،الذي هو آخر مولود من الجنس البشري ،وتصير القرب؛ وعندما يقبض الله َ
الناس كالبهائم ،و ُيمحى القرآن والعلم من القلوب ،يصبح عالمنا فار ًغا من ك ِّل ما يربط الأرض
بالسماء ،عال ًما بار ًدا يغرق في الموت :نهاية الأولياء ليست إلا اسم آخر لنهاية العالم
.
وقبل أن نطوي صفحات الولاية ،أقول إن الولاية مسؤولية :يرث الولي هموم الناس،
واقع أمة ومجتمع وبيئة؛ يقتلع وجدانه من أماكن القرب ويص ِّبرها في أرض الوقت ،ليكون
رت من أثر الرسول ،وارت َّد ْت
وج ُهه في ك ِّل زمن شاهدًا على الكمال المتروك .الولي قبضة تن َّو ْ
إلينا ،فتعلَّ ْ
قت بذ َّراتها أ ُ
رواحنا المس َّواة.١
١
هذه المقالة موجودة على الموقع "العلم والدين في الإ سلام"
http://science-islam.net/article.php3?id_article=633&lang=ar