You are on page 1of 52

‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪1‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬

‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون المسبح‬


‫محمد أبو الهيثم‬
‫مقدمة‬
‫حدِيثًا‬
‫ن َ‬
‫عبْرَ ٌة لِأُولِي الْأَ ْلبَابِ مَا كَا َ‬
‫صهِمْ ِ‬
‫ص ِ‬
‫قال تعالى " لَقَ ْد كَانَ فِي َق َ‬
‫شيْءٍ وَهُدًى‬
‫يُ ْفتَرَى وَلَ ِكنْ َتصْدِيقَ الّذِي َب ْينَ يَ َديْهِ َوتَ ْفصِيلَ ُكلّ َ‬
‫وَ َرحْمَةً ِل َقوْمٍ ُيؤْمِنُونَ "‬
‫يقول المام الطبري رحمه ال ‪ :‬الْ َقوْل فِي تَ ْأوِيل َقوْله تَعَالَى ‪ { :‬لَ َقدْ‬
‫عبْرَة لِأُولِي الْأَ ْلبَاب } يَقُول تَعَالَى ذِكْره ‪ :‬لَ َقدْ كَانَ‬ ‫ن فِي َقصَصهمْ ِ‬ ‫كَا َ‬
‫عبْرَة ِلأَ ْهلِ الْحِجَا وَالْعُقُول يَعْ َتبِرُونَ ِبهَا‬
‫خوَته ِ‬
‫فِي َقصَص يُوسُف َوإِ ْ‬
‫وَ َم ْوعِظَة َيتّعِظُونَ ِبهَا ‪)1( .‬‬
‫فالقصة جسر يعبر من خلله المؤمن ليواقع أحداثها فيعبر من‬
‫واقعه إلى أحداث القصة حتى يكاد ينخلع قلبه مع موسى ومؤمني‬
‫قومه إذ يقترب منهم فرعون وجنوده ‪ ,‬وتنفرج أساريره ويتنفس‬
‫الصعداء عندما ينشق البحر فيعبر موسى وأتباعه‪ ,‬ثم تكتمل نجاته‬
‫معهم بغرق فرعون وجنوده وخروج موسى ومن معه سالمين‬
‫آمنين فيشعر كما شعروا بتمام المن والسلمة ‪.‬‬
‫لذا فهذه دعوة للنطلق عبر القرآن عابرين بأنفسنا معايشين‬
‫لصحاب الخدود وقائدهم الصغير ‪ ,‬سائرين إلى حيث ثبتوا‬
‫وتمسكوا بدينهم لنرى بأعيننا خسارة الملك بعدما قتل على اليمان‬
‫فتى أصحاب الخدود وقومه و قد خسر معهم ملكه وقد فازوا هم‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪2‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫بالجنة ‪ ,‬وهنا بيت القصيد ولب هذا البحث الذي يبرز انتصار أهل‬
‫الحق ولو خسروا في الظاهر ‪ ,‬ليظهر بجلء تناغم أهل اليمان مع‬
‫منظومة التوحيد الكونية وشذوذ أهل الكفر والطغيان عن هذه‬
‫المنظومة ‪ ,‬وليتبين أن الفائز من نجا بدينه والخاسر الهالك من باع‬
‫دينه بدنياه وارتضى الدنيا على الخرة ‪.‬‬
‫فقصة أصحاب الخدود مثال واضح جلي يبرز قضية التوحيد‬
‫وقضية منظومة التسبيح الكوني التي ل تفتر ‪ ,‬ويبين شذوذ الكفر‬
‫وأهله وخروجهم عن التناغم الكوني ونفورهم عنه ومنه ‪.‬‬
‫أحببت إبراز هذه القيمة في وقت يحاول أعداء التوحيد إظهار‬
‫التوحيد وأهله بمظهر الشاذ عن الشرعية الدولية بل والكونية‬
‫وإظهار الكفر والفحش بكل صوره مظهر المتناغم مع الكون‬
‫والشرعية وإلباس الباطل لباس العتدال ‪.‬‬
‫وهكذا يحاول أهل الكفر والجحود عبر التاريخ ‪ ,‬ألم تر قوم لوط‬
‫حين قالوا ‪:‬‬
‫طهّرُونَ" (‪ )56‬النمل ‪,‬‬
‫خرِجُوا آلَ لُوطٍ مّن َق ْر َيتِكُمْ إِ ّنهُمْ ُأنَاسٌ َيتَ َ‬
‫"أَ ْ‬
‫فأصبح الطهر جريمة و شذوذا بينما الشذوذ في منطقهم المقلوب‬
‫هو العتدال ‪.‬‬
‫لذا فهذه رؤية لقصة أصحاب الخدود من هذا المنطلق _منطلق‬
‫إبراز تناغم التوحيد مع الكون وخالق الكوان وشذوذ الباطل وأهله‬
‫عبر التاريخ‪.‬‬
‫(‪)1‬استقرار زائف‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪3‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬

‫يقول ال تعالى في سورة البروج ‪:‬‬

‫ب الْأُخْدُودِ (‪ )4‬النّارِ ذَاتِ ا ْلوَقُودِ (‪ )5‬إِذْ هُمْ عَ َل ْيهَا قُعُو ٌد‬ ‫" ُق ِتلَ أَصْحَا ُ‬
‫شهُو ٌد (‪ )7‬وَمَا نَقَمُوا ِمنْهُمْ إِلّا‬ ‫(‪ )6‬وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْ ُمؤْمِنِينَ ُ‬
‫أَن ُيؤْ ِمنُوا بِاللّ ِه الْعَزِيزِ ا ْلحَمِيدِ (‪ )8‬الّذِي لَ ُه مُ ْلكُ السّمَاوَاتِ‬
‫شهِيدٌ (‪ِ )9‬إنّ الّذِينَ َف َتنُوا الْ ُمؤْ ِمنِينَ‬‫شيْءٍ َ‬ ‫وَالْأَ ْرضِ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ب الْحَرِيقِ (‪)10‬‬ ‫ج َهنّمَ وَ َلهُمْ عَذَا ُ‬
‫عذَابُ َ‬‫وَالْ ُمؤْ ِمنَاتِ ثُمّ لَمْ َيتُوبُوا فَ َلهُمْ َ‬
‫" سورة البروج ‪.‬‬
‫يقول المام ابن كثير في تفسير اليات ‪:‬‬
‫ب الْأُخْدُودِ ) أَيْ لُ ِعنَ َأصْحَاب الْأُخْدُود وَجَمْعه أَخَادِيد‬ ‫( ُقتِلَ َأصْحَا ُ‬
‫عنْ َقوْم ِمنْ الْكُفّار عَ َمدُوا إِلَى َمنْ‬ ‫خبَر َ‬ ‫حفَر فِي الْأَرْض وَهَذَا َ‬ ‫وَ ِهيَ الْ ُ‬
‫جلّ فَ َقهَرُوهُ ْم َوأَرَادُوهُمْ َأنْ يَ ْرجِعُوا‬
‫عنْده ْم ِمنْ الْ ُمؤْ ِمنِينَ بِاَللّ ِه عَ ّز وَ َ‬ ‫ِ‬
‫عنْ دِينهمْ فَ َأ َبوْا عَ َل ْيهِمْ‬ ‫َ‬
‫‪.‬‬
‫ت ا ْلوَقُودِ) َفحَفَرُوا َلهُمْ فِي الْأَرْض أُخْدُودًا َوأَجّجُوا فِيهِ نَارًا‬ ‫(النّارِ ذَا ِ‬
‫َوَأعَدّوا َلهَا وَقُودًا يُسَعّرُونَهَا بِهِ ثُمّ أَرَادُوهُمْ فَلَمْ يَ ْقبَلُوا ِمنْهُمْ َفقَذَفُوهُمْ‬
‫شهُودٌ) أَيْ ُمشَا ِهدُونَ لِمَا يُفْعَل‬ ‫فِيهَا (وَهُ ْم عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْ ُمؤْ ِمنِينَ ُ‬
‫بِأُو َل ِئكَ الْ ُمؤْمِنِينَ ‪.‬‬
‫(وَمَا نَقَمُوا ِمنْهُمْ إِلّا أَن ُيؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِي ِز الْحَمِيدِ) أَيْ وَمَا كَا َ‬
‫ن‬
‫عنْدهمْ ِمنْ َذنْب إِلّا إِيمَانهمْ بِاَللّهِ الْعَزِيز الّذِي لَا ُيضَام َمنْ لَاذَ‬ ‫َلهُمْ ِ‬
‫شرْعه وَ َقدَره َوِإنْ‬ ‫جنَابِهِ الْ َمنِيع الْحَمِيد فِي جَمِيع أَ ْقوَاله َوأَفْعَاله وَ َ‬ ‫بِ َ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪4‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫عبَاده َهؤُلَاءِ هَذَا الّذِي وَقَ َع ِبهِمْ بِأَيْدِي الْكُفّار بِهِ‬
‫ن قَ ْد قَدّرَ عَلَى ِ‬
‫كَا َ‬
‫ن النّاس ‪.‬‬ ‫ك عَلَى َكثِير ِم ْ‬ ‫سبَب ذَ ِل َ‬
‫َف ُهوَ الْعَزِيز الْحَمِيد َوِإنْ خَ ِفيَ َ‬
‫شهِيدٌ) ثُمّ قَا َل‬ ‫شيْءٍ َ‬ ‫(الّذِي لَ ُه مُ ْلكُ السّمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَاللّ ُه عَلَى ُكلّ َ‬
‫ن تَمَام الصّفَة ِإنّهُ الْمَالِك‬ ‫تَعَالَى " الّذِي لَ ُه مُلْك السّ َموَات وَالْأَرْض " ِم ْ‬
‫ِلجَمِيعِ السّ َموَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِمَا وَمَا َبيْنهمَا " َواَللّه عَلَى ُكلّ‬
‫شيْء فِي جَمِيع السّ َموَات وَالْأَرْض‬ ‫عنْهُ َ‬ ‫ي لَا يَغِيب َ‬ ‫شهِيد " أَ ْ‬ ‫شيْء َ‬ ‫َ‬
‫ف أَهْل التّفْسِير فِي أَهْل هَ ِذهِ الْ ِقصّة‬ ‫ختَلَ َ‬‫وَلَا تَخْفَى عَ َليْهِ خَا ِفيَة وَ َقدْ اِ ْ‬
‫َمنْ هُمْ ؟ فَ َعنْ عَ ِليّ َأنّهُمْ أَهْل فَارِس حِين أَرَا َد مَلِكهمْ تَحْلِيل تَ ْزوِيج‬
‫حفْر أُخْدُود فَقَ َذفَ فِي ِه َمنْ‬ ‫الْمَحَارِم فَا ْم َتنَ َع عَ َليْهِمْ عُلَمَاؤُهُ ْم فَعَمَ َد إِلَى َ‬
‫ستَمَ ّر فِيهِمْ تَحْلِيل الْمَحَارِم إِلَى ا ْل َيوْم ‪َ .‬وعَنْهُ َأ ّنهُمْ‬ ‫َأنْكَرَ عَ َليْ ِه ِمنْهُمْ وَا ْ‬
‫ب ُمؤْ ِمنُوهُ ْم عَلَى‬ ‫شرِكُوهُمْ فَغَلَ َ‬ ‫كَانُوا َقوْمًا بِا ْليَ َمنِ اِ ْق َتتَلَ ُمؤْ ِمنُوهُمْ وَمُ ْ‬
‫كُفّاره ْم ثُمّ اِ ْقتَتَلُوا فَغَلَبَ الْكُفّار الْ ُمؤْ ِمنِينَ فَخَدّوا َلهُمْ الَْأخَادِيد‬
‫شيّ‬ ‫حبَ ِ‬
‫حبَشَة وَاحِدهمْ َ‬ ‫عنْهُ َأنّهُمْ كَانُوا ِمنْ أَهْل الْ َ‬ ‫َوأَحْ َرقُوهُمْ فِيهَا َو َ‬
‫خدُود النّار ذَات‬ ‫عبّاس " ُق ِتلَ َأصْحَاب الْأُ ْ‬ ‫عنْ ِابْن َ‬ ‫وَقَالَ الْ َعوْ ِفيّ َ‬
‫خدُودًا فِي الْأَرْض ثُمّ‬ ‫ا ْلوُقُود " قَا َل نَاس ِمنْ َبنِي إِسْرَائِيل خَدّوا أُ ْ‬
‫خدُود رِجَالًا َونِسَاء فَعُ ِرضُوا‬ ‫َأوْقَدُوا فِيهِ نَارًا ثُمّ أَقَامُوا عَلَى ذَ ِلكَ الْأُ ْ‬
‫عَ َل ْيهَا وَ َزعَمُوا َأنّهُ دَا ْنيَال َوأَصْحَابه وَهَ َكذَا قَالَ الضّحّاك بْن ُمزَاحِم‬
‫ح ّدثَنَا حَمّاد بْن‬‫غيْر ذَ ِلكَ وَ َقدْ قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَ ّد َثنَا عَفّان َ‬ ‫وَقِيلَ َ‬
‫ص َهيْب َأنّ رَسُول‬ ‫عنْ ُ‬ ‫عبْد الرّحْمَن بْن َأبِي َليْلَى َ‬ ‫عنْ َ‬ ‫عنْ ثَابِت َ‬ ‫سَلَمَة َ‬
‫ن َقبْلكُمْ مَلِك وَكَانَ لَهُ‬ ‫اللّه صَلّى اللّه عَ َليْهِ َوسَلّمَ قَالَ " كَانَ فِي َمنْ كَا َ‬
‫حضَ َر أَجَلِي‬ ‫سنّي وَ َ‬ ‫ك ِإنّي َقدْ َكبِرَ ِ‬ ‫سَاحِر فَلَمّا َكبِرَ السّاحِر قَالَ لِلْمَ ِل ِ‬
‫فَادْفَ ْع إِلَيّ غُلَامًا لُِأعَلّمهُ السّحْر َفدَفَعَ إِ َليْهِ غُلَامًا كَانَ يُعَلّمهُ السّحْر ‪,‬‬
‫وَكَانَ َبيْن السّاحِر َو َبيْن الْمَلِك رَاهِب فَ َأتَى الْغُلَام عَلَى الرّاهِب َفسَمِعَ‬
‫جبَ ُه نَحْوه وَكَلَامه وَكَانَ إِذَا َأتَى السّاحِر ضَ َربَهُ وَقَالَ‬ ‫ن كَلَامه فَ َأعْ َ‬ ‫ِم ْ‬
‫حبَسَك فَشَكَا ذَ ِلكَ إِلَى‬ ‫حبَسَك َوإِذَا َأتَى أَهْله ضَ َربُو ُه وَقَالُوا مَا َ‬ ‫مَا َ‬
‫سنِي أَهْلِي وَإِذَا أَرَادَ‬ ‫حبَ َ‬‫الرّاهِب فَقَا َل إِذَا أَرَادَ السّاحِر َأنْ َيضْرِبك فَ ُقلْ َ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪5‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫سنِي السّاحِر قَا َل َف َبيْنَمَا ُهوَ ذَات َيوْم إِذْ‬ ‫حبَ َ‬‫أَهْلُك َأنْ يَضْ ِربُوك فَ ُقلْ َ‬
‫ستَطِيعُونَ َأنْ‬ ‫ت النّاس فَلَا يَ ْ‬ ‫حبَسَ ْ‬ ‫َأتَى عَلَى دَابّة َفظِيعَة عَظِيمَة َقدْ َ‬
‫ب إِلَى اللّه أَمْ أَمْر السّاحِر‬ ‫يَجُوزُوا َفقَالَ ا ْل َيوْم َأعْلَم أَمْر الرّاهِب أَحَ ّ‬
‫حجَرًا َفقَالَ الّلهُمّ ِإنْ كَانَ أَمْر الرّاهِب أَحَبّ إِ َليْك َوأَ ْرضَى‬ ‫خذَ َ‬ ‫قَا َل فَأَ َ‬
‫حتّى يَجُوز النّاس َورَمَاهَا فَ َقتَ َلهَا‬ ‫ِمنْ السّاحِر فَا ْق ُتلْ َهذِهِ الدّابّة َ‬
‫ي ُبنَيّ َأنْتَ أَ ْفضَل ِمنّي‬ ‫خبَرَ الرّاهِب بِ َذِلكَ فَقَالَ أَ ْ‬ ‫وَ َمضَى النّاس فَأَ ْ‬
‫س ُتبْتَلَى فَ ِإنْ ُا ْبتُلِيت فَلَا تَ ُد ّل عَ َليّ فَكَانَ الْغُلَام ُيبْرِئ الْأَكْمَه‬‫َوِإنّك َ‬
‫وَالْ َأبْرَص وَسَائِر الْأَ ْدوَاء َويَشْفِيهِمْ وَكَانَ لِلْمَ ِلكِ جَلِيس فَعَ ِميَ َفسَمِعَ‬
‫بِهِ َفَأتَاهُ ِبهَدَايَا َكثِيرَة فَقَالَ اِشْ ِفنِي وَلَك مَا هَا ُهنَا أَجْمَع فَقَالَ مَا أَنَا‬
‫عوْت اللّه فَشَفَاك‬ ‫ج ّل فَ ِإنْ آ َمنْت بِهِ َد َ‬ ‫حدًا ِإنّمَا يَشْفِي اللّه عَزّ وَ َ‬ ‫أَشْفِي أَ َ‬
‫س ِمنْهُ نَحْو مَا كَانَ يَجْلِس‬ ‫فَآ َمنَ فَ َدعَا اللّه َفشَفَا ُه ‪ .‬ثُمّ أَتَى الْمَلِك فَجَلَ َ‬
‫فَقَالَ لَهُ الْمَلِك يَا فُلَان َمنْ َردّ عَ َليْك َبصَرك ؟ فَقَالَ َربّي َفقَالَ َأنَا ؟‬
‫غيْرِي ؟ قَالَ نَعَمْ َربّي َو َربّك اللّه‬ ‫ب َ‬ ‫قَا َل لَا َربّي وَ َربّك اللّه قَا َل وَلَك رَ ّ‬
‫ي ُبنَيّ بَلَ َغ ِمنْ‬ ‫حتّى َدلّ عَلَى الْغُلَام َفبَعَثَ إِ َليْهِ فَقَالَ أَ ْ‬ ‫فَلَ ْم يَ َزلْ يُعَذّبهُ َ‬
‫حدًا‬‫سِحْرك َأنْ ُتبْرِئ الْأَكْمَه وَالْ َأبْرَص وَ َهذِهِ الْ َأ ْدوَاء ؟ قَا َل مَا أَشْفِي أَ َ‬
‫غيْرِي ؟‬ ‫جلّ قَالَ َأنَا ؟ قَالَ لَا ‪ .‬قَا َل َأوَ لَك رَبّ َ‬ ‫ِإنّمَا يَشْفِي اللّه عَ ّز وَ َ‬
‫حتّى َدلّ عَلَى‬ ‫قَالَ َربّي وَ َربّك اللّه فَأَخَ َذهُ َأ ْيضًا بِالْعَذَابِ فَلَ ْم يَ َزلْ بِهِ َ‬
‫عنْ دِينك فَ َأبَى َف َوضَعَ الْ ِمنْشَار فِي‬ ‫جعْ َ‬ ‫الرّاهِب فَ َأتَى بِالرّاهِبِ َفقَالَ اِرْ ِ‬
‫عنْ دِينك فَ َأبَى‬ ‫حتّى وَقَعَ شِقّا ُه وَقَالَ لِلْ َأعْمَى اِرْجِ ْع َ‬ ‫مَ ْفرِق َرأْسه َ‬
‫حتّى وَقَعَ شِقّا ُه إِلَى الْ َأرْض ‪ .‬وَقَالَ‬ ‫َف َوضَعَ الْ ِمنْشَار فِي َمفْرِق َرأْسه َ‬
‫جبَل كَذَا وَكَذَا وَقَالَ‬ ‫عنْ دِينك َفَأبَى َفبَعَثَ بِهِ َمعَ نَفَر إِلَى َ‬ ‫جعْ َ‬‫لِلْغُلَا ِم اِرْ ِ‬
‫عنْ دِينه وَإِلّا فَدَ ْهدِهُو ُه فَذَ َهبُوا بِهِ فَلَمّا‬ ‫جعَ َ‬ ‫إِذَا بَلَ ْغتُمْ ذِ ْروَته فَ ِإنْ رَ َ‬
‫جبَل‬‫جفَ ِبهِمْ الْ َ‬ ‫شئْت فَرَ َ‬ ‫جبَل قَالَ ‪ :‬الّلهُمّ اِكْ ِفنِيهِمْ بِمَا ِ‬ ‫عَ َلوْا بِهِ الْ َ‬
‫خلَ عَلَى الْمَلِك َفقَالَ مَا‬ ‫حتّى دَ َ‬ ‫َفدُهْ ِدهُوا أَجْمَعُونَ وَجَاءَ الْغُلَام َيتَلَمّس َ‬
‫فَ َعلَ َأصْحَابك ؟ فَقَالَ كَفَانِيهِمْ اللّه تَعَالَى َفبَعَثَ بِهِ مَ َع نَفَر فِي قُرْقُور‬
‫عنْ دِينه َوإِلّا فَ َغرّقُو ُه فِي ا ْلبَحْر‬ ‫جتُمْ بِهِ ا ْلبَحْر فَ ِإنْ رَجَ َع َ‬‫جْ‬‫فَقَالَ إِذَا لَ َ‬
‫شئْت فَغَرِقُوا أَجْمَعُونَ‬ ‫فَ َلجَجُوا بِهِ ا ْلبَحْر فَقَالَ الْغُلَام الّلهُمّ اِكْ ِفنِيهِمْ بِمَا ِ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪6‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫خلَ عَلَى الْمَلِك فَقَا َل مَا فَ َعلَ َأصْحَابك ؟ َفقَالَ‬ ‫حتّى دَ َ‬ ‫وَجَاءَ الْغُلَام َ‬
‫حتّى تَفْعَل مَا‬ ‫كَفَانِيهِمْ اللّه تَعَالَى ‪ .‬ثُ ّم قَالَ لِلْمَ ِلكِ ‪ِ :‬إنّك لَسْت بِقَاتِلِي َ‬
‫ستَطِيع‬ ‫آمُرك بِ ِه فَ ِإنْ َأنْتَ فَعَلْت مَا آمُرك بِ ِه َقتَلْتنِي َوإِلّا فَ ِإنّك لَا تَ ْ‬
‫َقتْلِي قَا َل وَمَا ُهوَ ؟ قَالَ تَجْمَع النّاس فِي صَعِيد وَاحِد ثُمّ َتصْلُبنِي‬
‫ن ِكنَانَتِي ثُمّ ُقلْ بِسْ ِم اللّه َربّ الْغُلَام فَ ِإنّك‬ ‫سهْمًا ِم ْ‬ ‫جذْع َوتَأْخُذ َ‬ ‫عَلَى ِ‬
‫سهْم فِي َكبِد َقوْسه ثُمّ رَمَاهُ‬ ‫إِذَا فَعَلْت ذَ ِلكَ َقتَلْتنِي ‪ .‬فَفَ َعلَ َو َوضَعَ ال ّ‬
‫سهْم فِي صُدْغه َف َوضَعَ الْغُلَام يَده‬ ‫وَقَالَ بِسْ ِم اللّه رَبّ الْغُلَام َفوَقَعَ ال ّ‬
‫ب الْغُلَام ‪ .‬فَقِيلَ لِلْمَ ِلكِ‬ ‫ت فَقَالَ النّاس آ َمنّا بِرَ ّ‬ ‫سهْم وَمَا َ‬ ‫عَلَى َم ْوضِع ال ّ‬
‫أَ َرَأيْت مَا ُكنْت تَحْذَر ؟ فَقَ ْد َواَللّه نَ َزلَ بِك َقدْ آ َمنَ النّاس كُلّهمْ فَأَ َمرَ‬
‫ت فِيهَا النّيرَان وَقَالَ َمنْ‬ ‫خدّتْ فِيهَا الْأَخَادِيد َوُأضْرِمَ ْ‬ ‫بِأَ ْفوَاهِ السّكَك فَ ُ‬
‫ن فِيهَا‬ ‫عنْ دِينه َف َدعُوهُ َوإِلّا فََأقْحِمُو ُه فِيهَا قَالَ فَكَانُوا َيتَعَا َد ْو َ‬ ‫رَجَ َع َ‬
‫ت َأنْ تَقَع‬ ‫ت اِمْ َرأَة بِا ْبنٍ َلهَا تُ ْرضِعهُ فَكَ َأ ّنهَا تَقَاعَسَ ْ‬
‫َو َيتَدَافَعُونَ فَجَاءَ ْ‬
‫حقّ ‪.‬‬ ‫صبِرِي يَا أُمّا ُه فَ ِإنّك عَلَى ا ْل َ‬‫ص ِبيّ اِ ْ‬‫فِي النّار فَقَالَ ال ّ‬
‫عنْ حَمّاد‬ ‫عنْ ُه ْدبَة بْن خَالِد َ‬ ‫وَهَكَذَا َروَاهُ مُسْلِم فِي آخِر الصّحِيح َ‬
‫عثْمَان‬ ‫عنْ ُ‬ ‫عنْ أَحْمَد بْن سَلْمَان َ‬ ‫بْن سَلَمَة بِهِ نَحْوه وَ َروَا ُه النّسَا ِئيّ َ‬
‫عنْ ثَابِت بِهِ‬ ‫طرِيق حَمّاد بْن َزيْد كِلَاهُمَا َ‬ ‫عنْ حَمّاد بْن سَلَمَة وَ ِمنْ َ‬ ‫َ‬
‫جوّدَ ُه الْإِمَام َأبُو عِيسَى التّرْ ِمذِيّ َف َروَاهُ فِي‬ ‫خ َتصَرُوا َأوّله وَقَدْ َ‬ ‫وَا ْ‬
‫عبْد بْن حُ َميْد ‪ -‬الْمَ ْعنَى‬ ‫غيْلَان َو َ‬
‫عنْ مَحْمُود بْن َ‬ ‫تَفْسِير َهذِهِ السّورَة َ‬
‫عبْد‬‫عنْ َ‬ ‫عنْ ثَابِت ا ْل ُبنَانِيّ َ‬ ‫عنْ مَعْمَر َ‬ ‫عبْد الرّزّاق َ‬ ‫خبَ َرنَا َ‬‫وَاحِد ‪ -‬قَالَا أَ ْ‬
‫ص َهيْب قَالَ ‪ :‬كَانَ رَسُول اللّه صَلّى اللّه‬ ‫عنْ ُ‬ ‫الرّحْمَن بْن َأبِي َليْلَى َ‬
‫حرِيك‬ ‫س وَا ْلهَمْس فِي بَعْض َقوْلهمْ تَ ْ‬ ‫عَ َليْهِ وَسَلّ َم إِذَا صَلّى الْعَصْر هَمَ َ‬
‫شَ َف َتيْهِ كَ َأنّهُ َيتَكَلّم فَقِيلَ لَهُ ِإنّك يَا رَسُول اللّه إِذَا صَلّيْت الْعَصْر‬
‫ن يَقُوم‬ ‫ن َأعْجَب بِأُ ّمتِهِ فَقَالَ َم ْ‬ ‫ن الْ َأنْ ِبيَاء كَا َ‬
‫هَ َمسْت قَالَ " ِإنّ نَ ِبيّا ِم ْ‬
‫خيّ ْرهُمْ َبيْن َأنْ َأنْتَقِم ِم ْنهُمْ َو َبيْن َأنْ أُسَلّط‬‫ِل َهؤُلَا ِء فَ َأوْحَى اللّه إِ َليْهِ َأنْ َ‬
‫ت ِم ْنهُمْ‬ ‫ط اللّه عَ َل ْيهِمْ الْ َموْت فَمَا َ‬‫ختَارُوا النّقْمَة َفسَلّ َ‬ ‫عَ َل ْيهِمْ عَ ُدوّهُ ْم فَا ْ‬
‫ث ِبهَذَا‬‫ث ِبهَذَا الْحَدِيث حَدّ َ‬ ‫سبْعُونَ أَلْفًا " قَالَ وَكَانَ إِذَا حَدّ َ‬ ‫فِي َيوْم َ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪7‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫ك الْمَلِك كَاهِن‬ ‫ن الْمُلُوك وَكَانَ لِذَ ِل َ‬ ‫حدِيث الْآخَر قَالَ ‪ :‬كَانَ مَلِك ِم ْ‬ ‫الْ َ‬
‫طنًا َل ِقنًا‬
‫َيتَ َكهّن لَهُ فَقَا َل الْكَاهِن ُانْظُرُوا لِي غُلَامًا َفهِمًا َأوْ قَا َل فَ ِ‬
‫عزّ‬‫فَُأعَلّم ُه عِلْمِي هَذَا فَذَ َكرَ الْ ِقصّة ِبتَمَا ِمهَا وَقَالَ فِي آخِره يَقُول اللّه َ‬
‫حتّى بَلَ َغ ‪ -‬الْعَزِيز‬ ‫جلّ " ُق ِتلَ َأصْحَاب الْأُخْدُود النّار ذَات ا ْلوُقُود ‪َ -‬‬ ‫وَ َ‬
‫خ ِرجَ فِي زَمَان عُمَر بْن‬ ‫الْحَمِيد " قَالَ فَأَمّا الْغُلَام فَ ِإنّهُ دُ ِفنَ َفيُذْكَر َأنّهُ أُ ْ‬
‫صبُعه عَلَى صُدْغه كَمَا َوضَ َعهَا حِين ُق ِتلَ ثُمّ قَا َل التّرْ ِمذِيّ‬ ‫خطّاب َوُأ ْ‬ ‫الْ َ‬
‫غرِيب ‪)2( .‬‬ ‫حَسَن َ‬
‫والن نقف مع حديث المام أحمد ‪ ,‬ونعبر معه من واقعنا إلى‬
‫أحداث القصة والتي بدات بقول النبي صلى ال عليه وسلم (كَانَ‬
‫ن َقبْلكُمْ مَلِك ‪ ....‬إلى آخرها)‬
‫فِي َمنْ كَا َ‬
‫فهذا ملك ممكن له في الرض ‪ ,‬ملكه مستقر ‪ ,‬والمن سائد في‬
‫مملكته والكل يعبده ويقصده ‪ ,‬فهو في ذاته نظام حكم كامل ‪,‬‬
‫يرافقه ما يرافق أنظمة الحكم من آلت توطئ لها وتهيئ الجماهير‬
‫لستقبال منهجها في الحكم ‪ ,‬لذا اقترن الملك بالساحر ‪ ,‬الذي يري‬
‫الناس الباطل حقا والحق باطلً ‪.‬‬
‫وهنا نقف وقفة هامة مع الستقرار الذي عليه مملكة الملك ‪ ,‬وعلى‬
‫المن الذي يسودها ‪ ,‬هل هو استقرار حقيقي أم متوهم ‪ ,‬وهل‬
‫المن حقيقي أم متوهم ؟؟‬
‫الواقع الملموس للملك يقول بأن الستقرار هو استقرار ملموس فل‬
‫مناوشات ول اعتراضات بل إذعان مطلق ‪ ,‬ولكنه في الحقيقة‬
‫استقرار على الباطل وأمن موهوم ‪ ,‬فهذا الستقرار مخالف لناموس‬
‫السموات والرض ‪ ,‬مخالف لكل الكون المسبح بحمد ال‬
‫والمنضوي تحت ملكوته ‪ ,‬فبات استقرار هذا الملك نشاذا ً في‬
‫منظومة الناموس العلوي الكبرى التي تسير معها الفلك والممالك‬
‫العلوية والسفلية الخاضعة لملك ملك واحد وحكم حاكم واحد وقهر‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪8‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫وسلطان من بيده المر وحده والخلق والتدبير ‪ ,‬ومثل استقرار هذه‬
‫المملكة في نشاذها مثل أي نظام خالف ناموس السموات والرض‬
‫خالف ملكوت الله الواحد الحكم العدل ‪ ,‬ولو اجتمعت الرض كلها‬
‫على هذه المخالفة واستقرت على مخالفة ناموس السموات‬
‫والرض ومنهج ال منهج الحق المطلق فما ساوى اجتماع الرض‬
‫على المخالفة شيئا في عظيم الملكوت ولصارت نشاذا ضئيلً مخالفا‬
‫لمنهج التوحيد الذي يسبح بحمد ال في سائر أركان ملكه الممتد‬
‫ح لَهُ‬‫سبّ ُ‬
‫الذي ل يعلم أوله وآخره إل هو سبحانه يقول تعالى( تُ َ‬
‫سبّحُ‬
‫شيْءٍ ِإلّ يُ َ‬ ‫ض وَمَن فِيهِنّ َوإِن مّن َ‬ ‫سبْ ُع وَالَرْ ُ‬ ‫السّمَاوَاتُ ال ّ‬
‫حهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (‪))44‬‬ ‫سبِي َ‬
‫بِحَ ْمدَ ِه وَلَكِن لّ تَفْ َقهُونَ تَ ْ‬
‫سورة السراء ‪.‬يقول المام الطبري في تفسير هذه اليات وَ َقوْله ‪:‬‬
‫ن فِيهِنّ } يَقُول ‪َ :‬تنَزّهَ اللّه‬ ‫سبْع وَالْأَرْض وَ َم ْ‬ ‫سبّح لَهُ السّمَاوَات ال ّ‬ ‫{ تُ َ‬
‫َأ ّيهَا الْمُشْرِكُونَ عَمّا َوصَ ْفتُمُو ُه بِهِ ِإعْظَامًا لَهُ َوإِجْلَالًا ‪ ,‬السّمَاوَات‬
‫ن الْ ُمؤْمِنِينَ بِهِ ِمنْ الْمَلَائِكَة وَالْ ِإنْس‬
‫سبْع وَالْأَرْض ‪ ,‬وَ َمنْ فِيهِنّ ِم ْ‬ ‫ال ّ‬
‫عنْدكُمْ ‪ ,‬تَ ْفتَرُونَ‬ ‫جنّ ‪َ ,‬وَأنْتُمْ َمعَ ِإنْعَامه عَ َليْكُمْ ‪ ,‬وَجَمِيل أَيَادِيه ِ‬ ‫وَالْ ِ‬
‫عَ َليْهِ بِمَا تَ ْفتَرُونَ ‪)3(.‬‬
‫ويقول المام ابن كثير رحمه ال موضحا عظمة التسبيح واتساع‬
‫الكون المستقر على منهج التوحيد والتسبيح والتنزيه المطلق‬
‫للخالق عن الند والنظير وليفضح ضآلة المخالفين لمنهج التوحيد‬
‫وشذوذهم عن منظومة التسبيح الكونية يقول رحمه ال ‪:‬‬
‫شيْ ٍء ِإلّ‬‫ض وَمَن فِيهِنّ َوإِن مّن َ‬ ‫سبْ ُع وَالَرْ ُ‬ ‫ح لَهُ السّمَاوَاتُ ال ّ‬ ‫سبّ ُ‬
‫تُ َ‬
‫حلِيمًا غَفُورًا‬
‫حهُمْ ِإنّهُ كَانَ َ‬
‫سبِي َ‬
‫ح بِحَمْدَ ِه وَلَكِن لّ تَفْ َقهُونَ تَ ْ‬
‫سبّ ُ‬
‫يُ َ‬
‫ي ِمنْ‬ ‫سبْع وَالْأَرْض وَ َمنْ فِي ِهنّ أَ ْ‬ ‫يَقُول تَعَالَى تُقَدّسهُ السّمَاوَات ال ّ‬
‫الْمَخْلُوقَات َوتُنَزّههُ َوتُعَظّمهُ َو ُتبَجّلهُ َوتُ َكبّر ُه عَمّا يَقُول َهؤُلَاءِ‬
‫شهَد لَ ُه بِا ْلوَحْدَا ِنيّةِ فِي ُربُو ِبيّته َوإِ َل ِهيّته ‪ .‬فَفِي ُكلّ‬
‫شرِكُونَ َوتَ ْ‬
‫الْمُ ْ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪9‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫شيْء لَهُ آيَة تَ ُدلّ عَلَى َأنّهُ وَاحِد ‪ .‬كَمَا قَالَ تَعَالَى ‪ " :‬تَكَاد السّمَاوَات‬ ‫َ‬
‫عوْا لِلرّحْ َمنِ وَلَدًا‬ ‫جبَال هَدّا َأنْ َد َ‬ ‫َيتَفَطّ ْرنَ ِمنْهُ َو َتنْشَقّ الْ َأرْض َوتَخِ ّر الْ ِ‬
‫شيْء‬ ‫ي وَمَا ِمنْ َ‬ ‫سبّح بِحَ ْمدِهِ " أَ ْ‬ ‫شيْء إِلّا يُ َ‬ ‫" " وَ َقوْله ‪َ " :‬وإِنْ ِمنْ َ‬
‫سبِيحهمْ " أَيْ‬ ‫سبّح بِحَمْ ِد اللّه " وَلَ ِكنْ لَا تَفْ َقهُونَ تَ ْ‬ ‫ن الْمَخْلُوقَات إِلّا يُ َ‬ ‫ِم ْ‬
‫ف لُغَاتكُمْ وَهَذَا عَا ّم فِي‬ ‫خلَا ِ‬‫سبِيحهمْ أَ ّيهَا النّاس لِ َأ ّنهَا بِ ِ‬ ‫لَا تَفْ َقهُونَ تَ ْ‬
‫شهَر الْ َقوْ َل ْينِ كَمَا َثبَتَ فِي‬ ‫ح َيوَانَات وَالْجَمَادَات وَال ّنبَاتَات وَهَذَا أَ ْ‬ ‫الْ َ‬
‫سبِيح الطّعَام‬ ‫عنْ ِابْن َمسْعُود َأنّهُ قَا َل ُكنّا نَسْمَع تَ ْ‬ ‫ي َ‬ ‫صَحِيح ا ْلبُخَارِ ّ‬
‫خذَ‬
‫وَ ُهوَ ُيؤْكَل ‪ .‬وَفِي حَدِيث َأبِي ذَ ّر َأنّ ال ّن ِبيّ صَلّى اللّه عَ َليْهِ وَسَلّمَ أَ َ‬
‫حنِينِ النّحْل وَكَذَا فِي يَد َأبِي‬ ‫سبِيح كَ َ‬ ‫صيَات فَسَمِ َع َل ُهنّ تَ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫فِي يَده َ‬
‫شهُور فِي‬ ‫عنْهُمْ وَ ُهوَ حَدِيث مَ ْ‬ ‫عثْمَان َرضِيَ اللّه َ‬ ‫بَكْر َوعُمَر َو ُ‬
‫عبْد اللّه بْن عَمْرو قَالَ ‪َ :‬نهَى‬ ‫ن َ‬ ‫عْ‬ ‫سنَن النّسَائِيّ َ‬ ‫الْمَسَانِيد وَفِي ُ‬
‫عنْ َقتْل الضّفْدَع وَقَالَ " نَقِيقهَا‬ ‫رَسُول اللّه صَلّى اللّه عَ َليْهِ وَسَلّ َم َ‬
‫عبْد اللّه بْن عَمْرو َأنّ‬ ‫عنْ َ‬ ‫عبْد اللّه بْن ُأ َبيّ َ‬ ‫ن َ‬‫عْ‬ ‫سبِيح " وَقَالَ َقتَادَة َ‬ ‫تَ ْ‬
‫الرّجُل إِذَا قَا َل لَا إِلَه إِلّا اللّه َف ِهيَ كَلِمَة الْإِخْلَاص اّلتِي لَا يَ ْقبَل اللّه‬
‫حتّى يَقُولهَا َوإِذَا قَالَ الْحَمْد لِلّ ِه َف ِهيَ كَلِمَة الشّكْر اّلتِي‬ ‫ن أَحَد عَمَلًا َ‬ ‫ِم ْ‬
‫حتّى يَقُولهَا َوإِذَا قَالَ اللّه أَ ْكبَر َف ِهيَ تَمْلَأ مَا‬ ‫عبْد َقطّ َ‬ ‫لَ ْم يَشْكُر اللّه َ‬
‫سبْحَان اللّه َف ِهيَ صَلَاة الْخَلَائِق اّلتِي‬ ‫َبيْن السّمَاء وَالْأَرْض َوإِذَا قَالَ ُ‬
‫سبِيح ‪َ .‬وإِذَا قَالَ لَا‬ ‫حدًا ِمنْ خَلْقه إِلّا قَرّرَ ُه بِالصّلَاةِ وَالتّ ْ‬ ‫لَ ْم يَدَع اللّه أَ َ‬
‫ستَسْلَمَ ‪ .‬وَقَالَ عِكْرِمَة فِي‬ ‫عبْدِي وَا ْ‬ ‫حوْل وَلَا ُقوّة إِلّا بِاَللّهِ قَالَ أَسْلَمَ َ‬ ‫َ‬
‫سبّح‬‫طوَانَة تُ َ‬ ‫سُ‬‫سبّح بِحَ ْمدِ ِه " قَالَ الْأُ ْ‬ ‫شيْء إِلّا يُ َ‬ ‫َقوْله تَعَالَى " َوِإنْ ِمنْ َ‬
‫طوَانَة السّا ِريَة ‪ -‬وَقَا َل بَعْض السّلَف صَرِير‬ ‫سبّح ‪ -‬الُْأسْ ُ‬ ‫جرَة تُ َ‬ ‫وَالشّ َ‬
‫سبِيحه قَالَ اللّه تَعَالَى ‪َ " :‬وِإنْ ِمنْ‬ ‫سبِيحه َوخَرِير الْمَاء تَ ْ‬ ‫ا ْلبَاب تَ ْ‬
‫عنْ‬‫عنْ َم ْنصُور َ‬ ‫ي َ‬ ‫سبّح بِحَمْدِ ِه " وَقَالَ سُ ْفيَان ال ّثوْرِ ّ‬ ‫شيْء إِلّا يُ َ‬ ‫َ‬
‫شهَد ِلهَذَا الْ َقوْل آيَة السّجْدَة فِي الْحَجّ‬ ‫سبّح َويَ ْ‬ ‫ِإبْرَاهِيم قَالَ الطّعَام يُ َ‬
‫ح َيوَان َونَبَات‬ ‫ن فِيهِ رُوح يَ ْعنُونَ ِمنْ َ‬ ‫سبّح َمنْ كَا َ‬ ‫خرُونَ إِنّمَا يُ َ‬ ‫وَقَالَ آ َ‬
‫سبّح بِحَ ْمدِ ِه " قَالَ ُكلّ‬ ‫شيْء إِلّا يُ َ‬ ‫قَا َل َقتَادَة فِي َقوْله ‪َ " :‬وِإنْ ِمنْ َ‬
‫شيْء فِيهِ وَقَالَ الْحَسَن وَالضّحّاك‬ ‫سبّح ِمنْ شَجَر َأوْ َ‬ ‫شيْء فِيهِ رُوح يُ َ‬ ‫َ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪10‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫شيْء فِيهِ‬ ‫سبّح بِحَمْ ِدهِ " قَالَا ُكلّ َ‬ ‫شيْء إِلّا يُ َ‬ ‫فِي َقوْله ‪َ " :‬وِإنْ ِمنْ َ‬
‫حيَى بْن‬ ‫ح ّد َثنَا يَ ْ‬
‫ح ّد َثنَا مُحَمّد بْن حُ َميْد َ‬ ‫جرِير ‪َ :‬‬ ‫الرّوح ‪ .‬وَقَالَ ِابْن َ‬
‫خطّاب قَا َل ُكنّا مَ َع يَزِيد‬ ‫جرِير أَبُو الْ َ‬ ‫حبَاب قَالَا حَ ّد َثنَا َ‬ ‫وَاضِح وَ َزيْد بْن ُ‬
‫شيّ‬‫خوَان َفقَالَ يَزِيد الرّقَا ِ‬ ‫حسَن فِي طَعَام فَ َقدّمُوا ا ْل ِ‬ ‫شيّ وَمَعَهُ الْ َ‬ ‫الرّقَا ِ‬
‫خوَان‬ ‫سبّح َمرّة ‪ -‬قُلْت الْ ِ‬ ‫ن يُ َ‬‫خوَان ؟ فَقَالَ كَا َ‬ ‫سبّح َهذَا الْ ِ‬ ‫يَا َأبَا سَعْد يُ َ‬
‫ُه َو الْمَائِدَة ِمنْ الْخَشَب ‪ -‬فَكَ َأنّ ا ْلحَسَن رَحِمَ ُه اللّه َذهَبَ إِلَى أَنّهُ لَمّا‬
‫شبَة يَابِسَة ِانْقَطَعَ‬ ‫خ َ‬ ‫سبّح فَلَمّا ُقطِعَ َوصَارَ َ‬ ‫خضْرَة كَانَ يُ َ‬ ‫حيّا فِيهِ ُ‬ ‫كَانَ َ‬
‫عبّاس َأنّ َرسُول اللّه‬ ‫حدِيثِ ِابْن َ‬ ‫ستَ ْأنَس ِلهَذَا الْ َقوْل بِ َ‬ ‫سبِيحه وَ َقدْ يُ ْ‬ ‫تَ ْ‬
‫صَلّى اللّه عَ َليْهِ وَسَلّ َم مَ ّر بِ َقبْ َر ْينِ فَقَالَ ‪ِ " :‬إنّهُمَا َليُعَ ّذبَانِ وَمَا يُعَ ّذبَانِ‬
‫س َتنْزِه ِمنْ ا ْل َبوْل َوأَمّا الْآخَر فَكَانَ‬ ‫ن لَا يَ ْ‬ ‫فِي َكبِير أَمّا أَحَدهمَا فَكَا َ‬
‫طبَة فَشَ ّقهَا نِصْ َف ْينِ ثُمّ غَ َرزَ فِي ُكلّ‬ ‫جرِيدَة رَ ْ‬ ‫يَمْشِي بِالنّمِيمَةِ " ثُمّ أَخَذَ َ‬
‫ع ْنهُمَا مَا لَمْ َييْبَسَا " أَخْ َرجَا ُه فِي‬ ‫َقبْر وَاحِدَة ثُمّ قَالَ " لَعَلّ ُه يُخَفّف َ‬
‫ح ْينِ قَالَ بَعْض َمنْ تَكَلّمَ عَلَى َهذَا الْحَدِيث ِمنْ الْعُلَمَاء إِنّمَا قَالَ‬ ‫الصّحِي َ‬
‫خضْرَة َفإِذَا َيبِسَا ِانْقَطَعَ‬ ‫ن مَا دَامَ فِيهِمَا ُ‬ ‫سبّحَا ِ‬‫مَا لَمْ َي ْيبَسَا لِ َأ ّنهُمَا يُ َ‬
‫سبِيحهمَا َواَللّه َأعْلَم ‪)4(.‬‬ ‫تَ ْ‬
‫فبان مما سبق أن استقرار ملك الملك ليس استقرارا حقيقيا وإن‬
‫اجتمع معه كل أهل الرض على وثنيته وكفره ما كان هذا استقرارا‬
‫‪ ,‬وإنما هو نشاذ ضئيل في مقابلة الكون الفسيح المستقر على‬
‫توحيد الخالق واتباع ناموسه العلوي بمنهج التسبيح المطلق ‪.‬‬
‫ومن هنا فل يغتر المؤمن باستقرار أي مملكة من الممالك على‬
‫المخالفة ‪ ,‬وليطمئن قلب الموحد أن معه منظومة كونية مستقرة‬
‫على منهج التوحيد ولو بدا المؤمن وحده غريبا فردا في مقابلة‬
‫النظام الشاذ المخالف لمنهج التوحيد ‪ ,‬وهذا سر ثبات فتى قصتنا‬
‫العجيب ‪ ,‬فهو وافق ناموس الكون المسبح ل المعترف له‬
‫بالوحدانية الخاضع لحكمه وملكوته ‪ ,‬وخالف نشاذ الوثنية المحيطة‬
‫التي تعبر عن النشاذ المخالف للكون والفطرة السليمة ‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪11‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫(‪ )2‬آلت التخييل ومساندة الضلل‬

‫ولنكمل البحار في عالم قصتنا (وكان لـه ساحر) وهنا يأتي دور‬
‫التوجيه ‪ ,‬فناموس السموات والرض قائم على منهج واضح فريد‬
‫’ وقد بعث إله هذا الكون العظيم برسالته عبر وحي نزل على‬
‫رسله جميعا ليدلوا الناس عليه ويوضحوا لهم منهجه ‪ ,‬يقول الحق‬
‫سلً ّمبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ِل َئلّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ‬
‫تبارك وتعالى ( رّ ُ‬
‫س ِل وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (‪ ))165‬النساء‬ ‫حُجّةٌ بَعْدَ الرّ ُ‬
‫سلُ الْمُ ْرسَلِينَ ِإ ّل‬ ‫ويقول جل شأنه في سورة النعام ‪ :‬وَمَا نُ ْر ِ‬
‫خوْفٌ عَ َل ْيهِمْ َولَ هُمْ‬ ‫ُمبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَ َمنْ آ َمنَ َوَأصْلَحَ َفلَ َ‬
‫ح َزنُونَ (‪ , )48‬ويقول تعالى في سورة النحل موضحا منهج‬ ‫يَ ْ‬
‫التوحيد بجلء وسبب إرساله للرسل ‪ :‬وَلَ َقدْ بَ َع ْثنَا فِي ُكلّ أُمّةٍ رّسُولً‬
‫ج َتنِبُواْ الطّاغُوتَ فَ ِم ْنهُم ّمنْ هَدَى اللّهُ وَ ِم ْنهُم ّمنْ‬ ‫عبُدُواْ اللّهَ وَا ْ‬
‫َأنِ ا ْ‬
‫ف كَانَ عَا ِقبَةُ‬ ‫ض فَانظُرُواْ َكيْ َ‬ ‫حَقّتْ عَ َليْهِ الضّللَةُ َفسِيرُواْ فِي الَرْ ِ‬
‫الْمُكَ ّذبِينَ (‪ ) )36‬يقول المام ابن كثير في تفسير هذه الية ‪َ :‬وبَعَثَ‬
‫فِي ُك ّل أُمّة أَيْ فِي ُكلّ َقرْن وَطَائِفَة ِمنْ النّاس رَسُولًا وَكُلّهمْ يَ ْدعُونَ‬
‫عبُدُوا اللّه‬‫سوَاهُ " َأنْ ُا ْ‬ ‫عبَادَة مَا ِ‬ ‫عنْ ِ‬ ‫عبَادَة اللّه َو َينْ َه ْونَ َ‬‫إِلَى ِ‬
‫ج َتنِبُوا الطّاغُوت " فَلَ ْم يَ َزلْ تَعَالَى يُرْسِل إِلَى النّاس الرّسُل بِذَ ِلكَ‬ ‫وَا ْ‬
‫س َل إِ َليْهِمْ نُوح‬ ‫حدَثَ الشّرْك فِي َبنِي آدَم فِي َقوْم نُوح الّذِينَ أُرْ ِ‬ ‫ُمنْذُ َ‬
‫ختَ َمهُمْ بِمُحَمّدٍ‬ ‫وَكَانَ َأوّل َرسُول بَ َعثَهُ اللّه إِلَى أَهْل الْأَرْض إِلَى َأنْ َ‬
‫ن فِي الْمَشَارِق‬ ‫جّ‬ ‫عوَته الْ ِإنْس وَالْ ِ‬ ‫طبّقَتْ َد ْ‬ ‫صَلّى اللّه عَ َليْهِ وَسَلّ َم الّذِي َ‬
‫ن َقبْلك ِمنْ‬ ‫وَالْمَغَارِب وَكُلّهمْ كَمَا قَا َل اللّه تَعَالَى " وَمَا أَرْسَ ْلنَا ِم ْ‬
‫عبُدُونِي " وَ َقوْله تَعَالَى "‬ ‫رَسُول إِلّا نُوحِي إِ َليْهِ َأنّهُ لَا إِلَه إِلّا َأنَا فَا ْ‬
‫ن َقبْلك ِمنْ رُسُلنَا أَجَعَ ْلنَا ِمنْ دُون الرّحْمَن آ ِلهَة‬ ‫ن أَرْسَ ْلنَا ِم ْ‬
‫وَاسْ َألْ َم ْ‬
‫يُ ْعبَدُونَ " وَقَالَ تَعَالَى فِي هَ ِذهِ الْآيَة الْ َكرِيمَة " وَلَقَ ْد بَعَ ْثنَا فِي ُكلّ أُمّة‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪12‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫حدٍ ِم ْ‬
‫ن‬ ‫ج َت ِنبُوا الطّاغُوت " فَ َكيْف يَسُوغ لِأَ َ‬ ‫عبُدُوا اللّه وَا ْ‬ ‫رَسُولًا َأنْ ُا ْ‬
‫عبَ ْدنَا ِمنْ دُونه ِمنْ‬ ‫شرِكِينَ بَعْد َهذَا َأنْ يَقُول " َلوْ شَاءَ اللّه مَا َ‬ ‫الْمُ ْ‬
‫عنْ ذَ ِلكَ‬ ‫عنْهُمْ ُم ْنتَ ِفيَة لِ َأنّهُ َنهَاهُ ْم َ‬
‫عيّة َ‬
‫شيْء " فَمَشِيئَته تَعَالَى الشّ ْر ِ‬ ‫َ‬
‫سنَة رُسُله وَأَمّا مَشِيئَته الْ َك ْو ِنيّة وَ ِهيَ تَمْكِينهمْ ِمنْ ذَ ِلكَ قَ َدرًا‬ ‫عَلَى أَلْ ِ‬
‫شيَاطِين‬ ‫حجّة َلهُمْ فِيهَا لِ َأنّهُ تَعَالَى خَ َلقَ النّار َوأَهْلهَا ِمنْ ال ّ‬ ‫فَلَا ُ‬
‫حجّة بَالِغَة وَحِكْمَة‬ ‫وَالْكَفَرَة وَ ُهوَ لَا يَ ْرضَى لِ ِعبَادِ ِه الْكُفْر وَلَهُ فِي ذَ ِلكَ ُ‬
‫خبَرَ َأنّهُ َأنْكَرَ عَ َل ْيهِمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي ال ّد ْنيَا بَعْد‬
‫قَاطِعَة ثُمّ ِإنّهُ تَعَالَى قَ ْد أَ ْ‬
‫ِإنْذَار الرّسُل فَ ِلهَذَا قَالَ " فَ ِم ْنهُمْ َمنْ هَدَى اللّه وَ ِم ْنهُمْ َمنْ حَقّتْ عَ َليْهِ‬
‫ن عَا ِقبَة الْمُكَ ّذبِينَ " أَيْ‬ ‫الضّلَالَة َفسِيرُوا فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا َكيْف كَا َ‬
‫حقّ َكيْف " دَمّرَ‬ ‫اِسْأَلُوا عَمّا كَانَ ِمنْ أَمْر َمنْ خَالَفَ الرّسُل وَكَذّبَ الْ َ‬
‫ب الّذِينَ ِمنْ َقبْلهمْ‬ ‫اللّه عَ َليْهِمْ وَلِلْكَا ِفرِينَ أَ ْمثَالهَا " فَقَالَ " وَلَقَ ْد كَذّ َ‬
‫فَ َكيْف كَانَ نَكِير " ‪)5(.‬‬
‫وعلى النقيض من منهج التوحيد ومخالفة ناموس السموات‬
‫والرض نجد نظام ملك قصتنا ومعه كل نظام شاذ مخالف لمنهج‬
‫التوحيد يبحث عن آلة توصل للجماهير منهجه المتهالك وتصدهم‬
‫عن أي منهج مخالف ‪ ,‬وتساند شذوذه في مقابلة التسبيح الكوني ‪,‬‬
‫فل يجد إل السحر والتخييل ‪ ,‬في نخب تجتمع معه على الستقرار‬
‫الظاهر والمصالح الدنيوية البحتة ‪ ,‬جاهلة أو متجاهلة لحقيقة هذا‬
‫الستقرار ‪ ,‬ومشاركة بقصد أو بجهل في شذوذ هذا النظام عن‬
‫منظومة التوحيد والتسبيح الكونية ‪ ,‬ومن هنا فنظام الملك ل يستقر‬
‫بدون هذه النخب التخييلية التي تكون واسطة بينه وبين الجماهير‬
‫تزين لهم الباطل وتغير في أذهانهم المفاهيم وتزيف الحقائق ‪,‬‬
‫وساحر الملك هو صورة بدائية ساذجة من آلت التزييف وفي‬
‫واقعنا المعاصر تتضخم هذه اللة وتتنازل عن بدائيتها لتشمل‬
‫منظومة فكرية شاذة تخالف منهج التوحيد والتسبيح الكوني سواء‬
‫كانت نخب ثقافية أو إعلمية أو صحافية ‪ ,‬تجند الجنود في شتى‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪13‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫مناحي ووسائل التوجيه المباشر وغير المباشر وتعضدها اليد‬
‫الباطشة المتمثلة في اللة العسكرية التي تكرس كل طاقتها لتنفيذ‬
‫منهج هذه اللة التخييلية التي تثبت هذا النظام ‪.‬‬
‫ضرَ أَجَلِي فَادْفَعْ‬
‫ح َ‬
‫سنّي وَ َ‬
‫(فَلَمّا َكبِرَ السّاحِر قَا َل لِلْمَ ِلكِ ِإنّي قَ ْد َكبِرَ ِ‬
‫إِ َليّ غُلَامًا لُِأعَلّمهُ السّحْر)‬
‫وهذا هو البحث عن المتداد الزمني للمنهج المخالف ولللة‬
‫التخييلية والذي يؤدي لمتداد التأثير على الجماهير وباختلف‬
‫ظروف النظمة المخالفة للمنهج السماوي عبر التاريخ تختلف‬
‫اللت التخييلية المساندة لتلك النظمة وكيفية استغللها وانتشار‬
‫أثرها وامتداد تأثيرها زمنيا لتذلل مفاهيم الجماهير وتصوراتهم‬
‫وتوطئ الرض لثبات هذه النظمة واستقرارها الموهوم ‪.‬‬
‫يقول الشيخ رفاعي سرور في كتابه (أصحاب الخدود ) ‪:‬‬
‫وهنا يبرز معنى جديد وهو أن الساحر ‪ -‬لما كبر ‪ -‬وعاش عمره‬
‫في تهيئة الواقع للملك مستفيدا ومنعما لم يصبح المر بالنسبة لـه‬
‫منفعة ذاتية بل أصبح ذاته نفسها التي أحب أن تستمر في شخص‬
‫الغلم فقد قضى عمره ساحرا ولبد من امتداد لهذا العمر بعمر‬
‫جديد‪ ..‬فكان طلبه للغلم‪ ،‬ولكننا ل يجب أن نتوقف عند هذا الحد‬
‫في تفسير طلب الساحر للغلم إذ أننا نرى الدافع إلى هذا الطلب هو‬
‫الشيطان القائم على أمر الجاهلية بأجيالها الممتدة‪ ،‬حيث أن‬
‫الشيطان يملك تجربة الوجود النساني كله من بدايته والتي يستطيع‬
‫بها ربط الأجيال الجاهلية كلها جيلً بعد جيل ليستهلك تلك الجيال‬
‫كلها باستمرار الفساد وبقائه‪.‬‬

‫وبهذا يجب أن ندرك خطورة الوجود الجاهلي باعتباره وجودا ممتدا‬


‫وخطورة التفسير الذي يعطيه الجاهليون لبقائه في أجيال متعاقبة‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪14‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬

‫فليس المتداد تعاطفا بين الجيال لن الجيل الجاهلي مفتت ومشتت‬


‫ل يمكن أن يتعاطف حتى مع نفسه! وأي جيل جاهلي يدعي أنه‬
‫يعمل للمستقبل النساني إنما يكون كاذبا في اختلقه التعاطف مع‬
‫أبناء المستقبل كما كذب في اختلقه جذورا تاريخية لـه في هذا‬
‫الواقع النساني‪.‬كذلك فليس هذا المتداد الجاهلي (حتمية تاريخية)‬
‫مفروضة على الواقع النساني ل سبيل إلى إنهائها أو تغييرها لن‬
‫التاريخ وأحداثه ل يتحقق إل بقدر ال وحده‪ ،‬والمسلمون وحدهم‬
‫هم الذين يملكون بعقيدتهم وتصورهم سنن هذا القدر وأسباب‬
‫تحقيقه وهم وحدهم أيضا القادرون على إنهاء الوجود الجاهلي إذا‬
‫التزموا بتلك السنن وأخذوا بهذه السباب‪)6(.‬‬
‫نرجع الن لنعايش قصتنا ونتواجد بين أبطالها لنشاهد الساحر وقد‬
‫أتوه بغلم ليعلمه وليكون بمثابة الوريث للة التخييل ‪,‬‬
‫يقول صلى ال عليه وسلم (فَدَ َفعَ إِ َليْهِ غُلَامًا كَانَ يُعَلّمهُ السّحْر)‬
‫وليتخيل كل منا مدى تعلق الملك بهذا الوريث الجديد للة التخييل‬
‫التي تساند حكمه وتعضده وتوطئ ملكه وتعبد له الجماهير ‪ ,‬إن‬
‫هذا الغلم لبنة البناء الساسية للركن الذي تحمل عليه قواعد الملك‬
‫‪ ,‬وفي يدي هذا الغلم في حال وراثته للسحر الملط القوي الذي‬
‫يربط باقي لبنات المملكة ويقويها ‪.‬‬
‫فالساحر في نظام الملك أداة التصال الجماهيري القوية التي تساند‬
‫الستقرار الموهوم ‪ ,‬يقابل ذلك دور الرسل في ملكوت السموات‬
‫والرض وورثتهم من العلماء في مسألة التصال الجماهيري مع‬
‫الفارق الكبير بين منهج يضعه الساحر ومنهج إلهي ل يملك‬
‫الرسول منه إل التبليغ ومطلق الذعان ‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪15‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫لذا فالدور المرتقب لهذا الغلم دور كبير تتعلق عليه آمال الملك‬
‫وطموحاته في امتداد ملكه والستقرار الموهوم لمملكته ‪.‬‬
‫(‪ )3‬حتمية المتداد التاريخي للت التخييل‬
‫ولنكمل معايشتنا لحداث القصة مع بطلها الناشئ الذي تم اختياره‬
‫بعناية فائقة ليرث قيادة اللة التخييلية الموطئة لنظام الملك ‪.‬‬
‫حيث تتدخل العناية اللهية في توجيه الغلم ليكون سببا لكسر‬
‫كبرياء هذا الملك وإنهاء شذوذه عن منظومة التوحيد الكونية ‪.‬‬
‫يقول صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫(وَكَانَ َبيْن السّاحِر َو َبيْن الْمَلِك رَاهِب فَ َأتَى الْغُلَام عَلَى الرّاهِب‬
‫جبَهُ)‪.‬‬
‫عَ‬ ‫ن كَلَامه فَ َأ ْ‬
‫َفسَمِعَ ِم ْ‬
‫وهنا تكون هداية التوفيق من ال عز وجل والتي تقتضيها حكمته‬
‫البالغة في خلقه ‪ ,‬مصداقا لقوله تبارك وتعالى ‪ِ( :‬إنّ الّذِينَ كَفَرُواْ‬
‫سيُنفِقُو َنهَا ثُمّ تَكُونُ عَ َل ْيهِمْ‬
‫سبِيلِ اللّهِ فَ َ‬
‫يُنفِقُونَ أَ ْموَالَهُمْ ِل َيصُدّواْ عَن َ‬
‫شرُونَ (‪) )36‬النفال‬ ‫ج َهنّمَ يُحْ َ‬
‫حَسْ َرةً ثُمّ يُغْ َلبُونَ وَالّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى َ‬
‫سيُنْفِقُونَ أَ ْموَالهمْ فِي ذَ ِلكَ‬ ‫يقول المام الطبري في تفسير الية ‪َ :‬ف َ‬
‫حسْرَة } يَقُول ‪َ :‬تصِير نَدَامَة‬ ‫{ ثُمّ تَكُون } نَفَقَتهمْ تِ ْلكَ { عَ َل ْيهِمْ َ‬
‫عَ َل ْيهِمْ ‪ ,‬لِ َأنّ أَ ْموَالهمْ تَذْهَب ‪ ,‬وَلَا يَظْفَرُونَ بِمَا يَأْمُلُونَ وَيَطْمَعُونَ فِيهِ‬
‫ن إِطْفَاء نُور اللّه ‪َ ,‬وِإعْلَاء كَلِمَة الْكُفْر عَلَى كَلِمَة اللّه ‪ ,‬لِ َأنّ اللّه‬ ‫ِم ْ‬
‫مُ ْعلٍ كَلِمَته ‪ ,‬وَجَاعِل كَلِمَة الْكُفْر السّفْلَى ‪ ,‬ثُمّ يَغْلِبهُمْ الْ ُمؤْ ِمنُونَ ‪,‬‬
‫ج َهنّم ‪َ ,‬فيُعَ ّذبُونَ فِيهَا ‪,‬‬ ‫َويَحْشُر اللّه الّذِينَ كَفَرُوا بِهِ َوبِ َرسُولِهِ إِلَى َ‬
‫حيّ‬ ‫ك ! أَمّا الْ َ‬
‫ش ِم ْنهُمْ وَ َمنْ هَ َل َ‬
‫حسْرَة َونَدَامَة لِ َمنْ عَا َ‬ ‫عظِمْ ِبهَا َ‬
‫فَ َأ ْ‬
‫جعَ مَغْلُوبًا مَ ْقهُورًا‬ ‫غيْر َدرْك وَلَا نَفْع وَرَ َ‬ ‫َفحُرِ َم مَاله وَ َذهَبَ بَاطِلًا فِي َ‬
‫جلَ بِهِ إِلَى نَار اللّه‬ ‫ب َوعُ ّ‬ ‫َمحْزُونًا مَسْلُوبًا ; َوأَمّا ا ْلهَالِك ‪ :‬فَ ُق ِتلَ وَسُلِ َ‬
‫غضَبه ‪.‬‬ ‫يَخْلُد فِيهَا ‪ ,‬نَعُوذ بِاَللّ ِه ِمنْ َ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪16‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫فالملك أنفق الموال ليمتد أثر التخييل والدجل الموطئ لملكه وال‬
‫أراد أن تكون تلك النفقة لعلء كلمته ‪ ,‬ونشر دينه ‪ ,‬فنفس‬
‫الوسيلة التي يعدها الملك لتعبيد الجماهير هي نفسها التي وجهها‬
‫ال للدللة على ملكوته ‪( ,‬وَاللّهُ ُمتِمّ نُورِ ِه وَ َلوْ كَ ِرهَ الْكَا ِفرُونَ (‪))8‬‬
‫الصف ‪.‬‬
‫نجلس الن مع الغلم والراهب ونشاهد الحداث عن قرب مع‬
‫الغلم ونكمل‪:‬‬
‫ض َربُوهُ‬
‫حبَسَك َوإِذَا َأتَى أَهْله َ‬ ‫وَكَانَ إِذَا أَتَى السّاحِر ضَ َربَهُ وَقَا َل مَا َ‬
‫حبَسَك َفشَكَا ذَ ِلكَ إِلَى الرّاهِب َفقَالَ إِذَا أَرَادَ السّاحِر َأنْ‬‫وَقَالُوا مَا َ‬
‫سنِي‬
‫حبَ َ‬ ‫سنِي أَهْلِي َوإِذَا أَرَادَ أَهْلُك َأنْ َيضْ ِربُوك َف ُقلْ َ‬
‫حبَ َ‬
‫َيضْرِبك فَ ُقلْ َ‬
‫السّاحِر ‪.‬‬
‫وهنا نلمح بداية اختبار ال لعبده وتهيئته لمهمة أكبر فالغلم الن‬
‫يبتلى ليثبت تعلقه بالراهب ‪ ,‬فلو لم يتعلق الغلم بالراهب وبتعاليمه‬
‫ما تحمل الضرب واليذاء في سبيل الستماع إليه ‪.‬‬

‫حسِبَ النّاسُ أَن ُيتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آ َمنّا وَهُمْ لَا يُ ْف َتنُونَ‬ ‫قال تعالى ‪( :‬أَ َ‬
‫(‪ )2‬وَلَقَ ْد َف َتنّا الّذِينَ مِن َقبْ ِلهِمْ َفَليَعْلَ َمنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَ َليَعْلَ َمنّ‬
‫الْكَا ِذبِينَ (‪ . ) )3‬العنكبوت‬
‫وهنا سنة من السنن الكونية هي سنة البتلء ‪ ,‬فعلى المؤمن أن‬
‫يعي أن الختبار ليس كرها وبغضا من ال لشخصه وإنما هو‬
‫لحكمة بالغة ‪ ,‬يقول المام ابن كثير في تفسير هذه اليات ‪:‬‬
‫حسِبَ النّاسُ َأنْ ُيتْرَكُوا َأنْ يَقُولُوا آ َمنّا وَهُمْ لَا يُ ْف َتنُونَ‬
‫أَ َ‬
‫عبَاده‬
‫سبْحَانه َوتَعَالَى لَا بُدّ َأنْ َي ْبتَلِي ِ‬
‫ستِ ْفهَام ِإنْكَار وَمَعْنَا ُه َأنّ اللّه ُ‬
‫اِ ْ‬
‫ن الْإِيمَان كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الصّحِيح‬ ‫عنْدهمْ ِم ْ‬
‫حسَبِ مَا ِ‬ ‫الْ ُمؤْ ِمنِينَ بِ َ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪17‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫" أَشَ ّد النّاس بَلَاء الْ َأنْ ِبيَاء ثُمّ الصّالِحُونَ ثُمّ الْأَ ْمثَل فَا ْلأَ ْمثَل ُي ْبتَلَى‬
‫ن كَانَ فِي دِينه صَلَابَة زِي َد لَهُ فِي ا ْلبَلَاء "‬ ‫الرّجُل عَلَى حَسَب دِينه فَ ِإ ْ‬
‫سبْتُمْ َأنْ ُتتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَم اللّه الّذِينَ‬ ‫ح ِ‬
‫وَ َهذِ ِه الْآيَة كَ َقوْلِهِ ‪ " :‬أَمْ َ‬
‫جَاهَدُوا ِمنْكُمْ َويَعْلَم الصّابِرِينَ " وَمِثْلهَا فِي سُورَة بَرَاءَة وَقَالَ فِي‬
‫جنّة وَلَمّا يَ ْأتِكُمْ َمثَل الّذِينَ خَ َلوْا ِمنْ‬ ‫س ْبتُمْ َأنْ تَدْخُلُوا الْ َ‬
‫ح ِ‬
‫ا ْلبَقَرَة " أَمْ َ‬
‫حتّى يَقُول الرّسُول َواَلّذِينَ‬ ‫س ْتهُمْ الْبَأْسَاء وَالضّرّاء َوزُلْزِلُوا َ‬ ‫َقبْلكُمْ َم ّ‬
‫آ َمنُوا مَعَ ُه َمتَى َنصْر اللّه أَلَا ِإنّ َنصْر اللّه قَرِيب " ‪.‬‬
‫ن َقبْ ِلهِمْ فَ َليَعْلَ َمنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَ َليَعْلَ َمنّ‬
‫وَلَ َقدْ َف َتنّا الّذِينَ ِم ْ‬
‫الْكَا ِذبِينَ‬
‫وَ ِلهَذَا قَالَ َه ُهنَا " وَلَقَ ْد َف َتنّا الّذِينَ ِمنْ َقبْلهمْ فَ َليَعْلَ َمنّ اللّه الّذِينَ‬
‫عوَى الْإِيمَان مِ ّمنْ‬ ‫صَدَقُوا وَ َليَعْلَ َمنّ الْكَا ِذبِينَ " أَيْ الّذِينَ صَدَقُوا فِي َد ْ‬
‫ن وَمَا‬‫سبْحَانه َوتَعَالَى يَعْلَم مَا كَا َ‬ ‫عوَا ُه َواَللّه ُ‬ ‫ُه َو كَاذِب فِي َقوْله وَ َد ْ‬
‫عنْد َأئِمّة‬‫يَكُون وَمَا لَ ْم يَ ُكنْ َلوْ كَانَ َكيْف يَكُون ‪ .‬وَ َهذَا مُجْمَع عَ َليْهِ ِ‬
‫غيْره فِي ِمثْل َقوْله " إِلّا‬ ‫عبّاس َو َ‬ ‫سنّة وَالْجَمَاعَة َوبِهَذَا يَقُول ِابْن َ‬ ‫ال ّ‬
‫ِلنَعْلَم " إِلّا ِلنَرَى َوذَ ِلكَ لِ َأنّ ال ّر ْؤيَة إِنّمَا تَتَعَلّق بِالْ َموْجُودِ وَالْعِلْم َأعَمّ‬
‫ِمنْ ال ّر ْؤيَة فَ ِإنّهُ َيتَعَلّق بِالْمَ ْعدُومِ وَالْمَوْجُود ‪)7(.‬‬
‫(‪ )4‬مريد الحق وهداية التوفيق‬
‫ونلحظ هنا أن الراهب دعا الغلم إلى الخروج من المأزق باستخدام‬
‫الحيلة والخداع ‪ ,‬والحيلة هنا كانت استخدام الكذب في القول ‪,‬‬
‫وهذا اجتهاد واضح من الراهب في إفتاء الغلم في مسألة عين‬
‫يرى فيها جواز الكذب لمصلحة راجحة ودفع مفسدة محققة ‪,‬‬
‫والمر يتعلق بحالة بين مؤمن وطرف وثني معاند يمتلك إيذاءه ‪.‬‬
‫حبَسَ ْ‬
‫ت‬ ‫(قَالَ َف َبيْنَمَا ُهوَ ذَات َيوْم إِذْ َأتَى عَلَى دَابّة َفظِيعَة عَظِيمَة قَدْ َ‬
‫حبّ‬‫ستَطِيعُونَ َأنْ يَجُوزُوا فَقَالَ ا ْل َيوْم َأعْلَم أَمْر الرّاهِب أَ َ‬
‫النّاس فَلَا يَ ْ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪18‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫حجَرًا فَقَالَ الّلهُمّ ِإنْ كَانَ أَمْر‬ ‫خذَ َ‬
‫إِلَى اللّه أَمْ أَمْر السّاحِر قَا َل فَأَ َ‬
‫حتّى يَجُوز‬ ‫ب إِلَيْك َوأَ ْرضَى ِمنْ السّاحِر فَا ْق ُتلْ هَ ِذهِ الدّابّة َ‬ ‫الرّاهِب أَحَ ّ‬
‫خبَرَ الرّاهِب بِذَ ِلكَ فَقَالَ أَيْ‬ ‫النّاس َورَمَاهَا فَ َقتَ َلهَا وَ َمضَى النّاس فَ َأ ْ‬
‫س ُتبْتَلَى فَ ِإنْ ُا ْبتُلِيت َفلَا تَ ُدلّ عَ َليّ )‬
‫ت أَفْضَل ِمنّي َوِإنّك َ‬ ‫ُب َنيّ أَنْ َ‬
‫هنا ترسيخ لمسألة الختبار والبتلء هذه السنة الكونية التي يميز‬
‫ال بها الخبيث من الطيب ‪,‬ونتيجة الثبات تكون هداية التوفيق‬
‫( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) العنكبوت ‪.‬‬
‫ونلحظ من دعاء الغلم محبته وتعلقه بالراهب وبأمره لنه بدأ به ‪,‬‬
‫وكذا بيان أن هذا الراهب كان من طائفة موحدة تعتقد بوحدانية ال‬
‫لن الغلم في دعاءه وفي باقي القصة يتحدث عن ال وحده ‪ ,‬ولم‬
‫يتحدث عن المسيح أو عن ثلثة أقانيم ‪ ,‬وهذه الطائفة الموحدة‬
‫كانت مضطهدة متناثرة في البقاع في هذا الوقت ‪ ,‬وهذا ما بينه‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد‬
‫وغيرهما عن عياض بن حمار رضي ال عنه وأرضاه أن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم قال‪{ :‬إن ال تعالى قال‪ :‬كل مال نحلته عبدا‬
‫حلل‪ ،‬وإني خلقت عبادي كلهم حنفاء‪ ،‬وإنهم أتتهم الشياطين‬
‫فاجتالتهم عن دينهم‪ ،‬وحرمت عليهم ما أحللت لهم‪ ،‬وأمرتهم أن‬
‫يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطانا‪ ،‬وإن ال تبارك وتعالى نظر إلى‬
‫أهل الرض فمقتهم‪ ،‬عربهم وعجمهم‪ ،‬إل بقايا من أهل الكتاب}‬
‫ومن هؤلء طائفة تسمى الريوسية نسبة إلى أريوس الذي أرسى‬
‫عقيدة التوحيد والعتراف ببشرية عيسى عليه السلم ‪ ,‬ووجود مثل‬
‫هذه الطوائف وعقائدها يفسر دخول الكثير من النصارى في‬
‫السلم أثناء الفتوحات السلمية نظرا لن العقيدة السلمية هي‬
‫الوحيدة الموافقة لما تشير إليه هذه العقائد والتي كانت منتشرة‬
‫ومعروفة رغم اضطهاد أصحابها وتفرق أماكنهم‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪19‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫ويؤكد هذا القول باقي سياق القصة ‪:‬‬
‫(فَكَانَ الْغُلَام ُيبْرِئ الْأَكْمَه وَالْ َأبْرَص وَسَائِر الْ َأ ْدوَاء َويَشْفِيهِمْ وَكَانَ‬
‫لِلْمَ ِلكِ جَلِيس فَعَ ِميَ فَسَمِ َع بِهِ فَ َأتَا ُه ِبهَدَايَا َكثِيرَة فَقَا َل اِشْ ِفنِي وَلَك مَا‬
‫جلّ َفِإنْ‬
‫عزّ وَ َ‬‫حدًا ِإنّمَا يَشْفِي اللّه َ‬ ‫هَا ُهنَا أَجْمَع فَقَالَ مَا َأنَا أَشْفِي أَ َ‬
‫ن فَ َدعَا اللّه فَشَفَاهُ)‬ ‫عوْت اللّه فَشَفَاك فَآ َم َ‬ ‫آ َمنْت بِهِ َد َ‬
‫فالغلم يدعو إلى ال الواحد ‪ ,‬وينزهه عن الشريك ويرفض رفضا‬
‫قاطعا أن ينسب الشفاء لنفسه ‪ ,‬وهنا يتحول الغلم إلى أحد جنود‬
‫ملكوت السموات والرض ‪ ,‬وينتظم مع منهج التوحيد و التسبيح‬
‫الكوني ‪ ,‬ليمثل لؤلؤة مضيئة في هذا العقد الفريد ‪.‬‬
‫وهنا يتبين عظمة الستشفاء بالرقى الشرعية والدعاء ‪ ,‬فالغلم لم‬
‫يفعل أكثر من الدعاء بقلب موقن لهذا المريض ‪ ,‬في موقف تحدي‬
‫وفرقان بين الكفر واليمان فأيده ال تعالى وأظهر على يديه دلئل‬
‫الوحدانية ‪.‬‬
‫يقول تعالى ‪( :‬أَمّن يُجِيبُ الْ ُمضْطَ ّر إِذَا َدعَاهُ َويَكْشِفُ السّوءَ َويَجْعَلُكُ ْم‬
‫ض َأإِلَهٌ مّ َع اللّهِ قَلِيلًا مّا تَذَكّرُونَ (‪ ))62‬النمل يقول ابن‬ ‫خُلَفَاء الْأَرْ ِ‬
‫عوّ‬
‫كثير رحمه ال في تفسير هذه الية ‪ُ :‬ي َنبّه تَعَالَى َأنّهُ ُه َو الْمَ ْد ُ‬
‫عنْد النّوَازِل كَمَا قَالَ تَعَالَى ‪َ " :‬وإِذَا َمسّكُمْ‬ ‫جوّ ِ‬ ‫عنْد الشّدَائِد الْ َمرْ ُ‬
‫ِ‬
‫ن تَ ْدعُونَ إِلّا ِإيّاهُ " وَقَالَ تَعَالَى ‪ " :‬ثُمّ إِذَا‬ ‫الضّ ّر فِي ا ْلبَحْر ضَلّ َم ْ‬
‫طرّ‬‫َمسّكُمْ الضّرّ فَِإَليْهِ تَجْأَرُونَ " وَهَ َكذَا قَالَ َه ُهنَا " أَ ّمنْ يُجِيب الْ ُمضْ َ‬
‫إِذَا َدعَا ُه " أَيْ َمنْ ُه َو الّذِي لَا يَلْجَأ الْ ُمضْطَرّ إِلّا إِ َليْهِ َواَلّذِي لَا يَكْشِف‬
‫سوَا ُه قَالَ الْإِمَام أَحْمَد َأ ْنبَ َأنَا عَفّان َأ ْنبَأَنَا وُ َهيْب‬‫ضُ ّر الْ َمضْرُورِينَ ِ‬
‫جيْم قَالَ‬ ‫عنْ رَجُل ِمنْ بَ ْلهُ َ‬ ‫جيْ ِميّ َ‬ ‫عنْ َأبِي تَمِيمَة ا ْلهُ َ‬ ‫َأ ْنبَأَنَا خَالِد الْحَذّاء َ‬
‫قُلْت يَا رَسُول اللّه إِلَا َم تَ ْدعُو ؟ قَالَ " أَ ْدعُو إِلَى اللّه وَحْده الّذِي ِإنْ‬
‫عوْته‬ ‫ض قَفْر فَ َد َ‬ ‫عنْك َواَلّذِي ِإنْ َأضْلَلْت بِ َأرْ ٍ‬ ‫ف َ‬ ‫عوْته كَشَ َ‬ ‫َمسّك ضُ ّر فَ َد َ‬
‫صنِي‬ ‫عوْته َأنْبَتَ لَك " قَالَ قُلْت َأوْ ِ‬ ‫سنَة فَ َد َ‬
‫رَ ّد عَ َليْك وَاَلّذِي ِإنْ َأصَابَتْك َ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪20‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫حدًا وَلَا تَ ْزهَ َدنّ فِي الْمَ ْعرُوف وَ َلوْ َأنْ تَلْقَى أَخَاك‬ ‫س ّبنّ أَ َ‬
‫قَالَ " لَا تَ ُ‬
‫ستَقِي‬ ‫َوَأنْتَ ُم ْنبَسِط إِ َليْهِ وَجْهك وَ َل ْو َأنْ تُفْرِغ ِمنْ دَلْوك فِي ِإنَاء الْ ُم ْ‬
‫سبَال الْ ِإزَار‬ ‫وَاتّزِ ْر إِلَى ِنصْف السّاق فَ ِإنْ َأ َبيْت فَإِلَى الْكَ ْعبَ ْينِ َوِإيّاكَ وَإِ ْ‬
‫ب الْمَخِيلَة" وَ َقدْ َروَاهُ‬ ‫سبَال الْإِزَار ِمنْ الْمَخِيلَة َوِإنّ اللّه لَا يُحِ ّ‬ ‫ن إِ ْ‬
‫فَ ِإ ّ‬
‫ح ّدثَنَا عَفّان‬ ‫ن وَجْه آخَر َفذَكَرَ اِسْم الصّحَابِيّ فَقَالَ ‪َ :‬‬ ‫الْإِمَام أَحْمَد ِم ْ‬
‫ع َبيْدَة‬
‫عبَيْد حَ ّد َثنَا ُ‬‫ح ّد َثنَا يُونُس ُهوَ ِابْن ُ‬ ‫حَ ّد َثنَا حَمّاد بْن سَلَمَة َ‬
‫عنْ جَابِر بْن سُ َليْم‬ ‫جيْمِيّ َ‬ ‫ن أَبِي تَمِيمَة ا ْلهُ َ‬ ‫عْ‬ ‫عنْ َأبِيهِ َ‬ ‫جيْ ِميّ َ‬ ‫ا ْلهُ َ‬
‫حتَبٍ‬ ‫جيْ ِميّ قَالَ ‪َ :‬أتَيْت رَسُول اللّه صَلّى اللّه عَ َليْهِ وَسَلّمَ وَ ُهوَ ُم ْ‬ ‫ا ْلهُ َ‬
‫بِشَمْلَ ٍة وَقَ ْد وَقَعَ ُهدْبهَا عَلَى قَدَ َميْهِ فَقُلْت َأيّكُمْ مُحَمّد َرسُول اللّه ؟‬
‫فَ َأوْمَ َأ ِبيَدِهِ إِلَى نَفْسه فَقُلْت يَا َرسُول اللّه َأنَا ِمنْ أَهْل ا ْلبَا ِديَة وَ ِفيّ‬
‫ش ْيئًا وَ َلوْ َأنْ تَلْقَى‬ ‫ن الْمَعْرُوف َ‬ ‫حقِ َرنّ ِم ْ‬‫صنِي قَالَ " لَا تَ ْ‬ ‫جَفَاؤُهُمْ فَ َأ ْو ِ‬
‫ستَقِي َوِإنْ‬ ‫أَخَاك َووَجْهك ُمنْبَسِط وَ َلوْ َأنْ تُفْرِغ ِمنْ دَلْوك فِي ِإنَاء الْمُ ْ‬
‫شتُمهُ بِمَا تَعْلَم فِيهِ فَ ِإنّهُ يَكُون لَك‬ ‫شتَمَك بِمَا يَعْلَم فِيك َفلَا تَ ْ‬ ‫اِمْ ُرؤُ َ‬
‫سبَال الْإِزَار ِمنْ‬ ‫سبَال الْ ِإزَار َفِإنّ إِ ْ‬ ‫أَجْره َوعَلَيْهِ ِوزْره َوِإيّاكَ َوإِ ْ‬
‫س َببْت‬ ‫س ّبنّ أَحَدًا " قَالَ فَمَا َ‬ ‫ب الْمَخِيلَة وَلَا تَ ُ‬ ‫الْمَخِيلَة وَِإنّ اللّه لَا يُحِ ّ‬
‫حدًا وَلَا شَاة وَلَا بَعِيرًا وَقَدْ َروَى َأبُو دَاوُد وَالنّسَا ِئيّ ِلهَذَا‬ ‫بَعْده أَ َ‬
‫طرَف صَالِح ِمنْهُ وَقَا َل اِبْن َأبِي حَاتِم حَ ّد َثنَا‬ ‫عنْدهمَا َ‬ ‫طرُقًا َو ِ‬ ‫حدِيث ُ‬ ‫الْ َ‬
‫حجّاج‬ ‫ن عُمَر بْن الْ َ‬ ‫عْ‬‫عبْدَة بْن نُوح َ‬ ‫َأبِي حَ ّد َثنَا عَ ِليّ بْن هِشَام حَ ّد َثنَا َ‬
‫خلَ عَ َليّ طَاوُس يَعُودنِي فَ ُقلْت‬ ‫ع َبيْد اللّه بْن َأبِي صَالِح قَالَ ‪َ :‬د َ‬ ‫عنْ ُ‬ ‫َ‬
‫عبْد الرّحْمَن فَقَالَ اُ ْدعُ ِلنَفْسِك فَ ِإنّهُ يُجِيب‬ ‫لَ ُه اُ ْدعُ اللّه لِي يَا َأبَا َ‬
‫الْ ُمضْطَ ّر إِذَا َدعَاهُ وَقَا َل وَهْب بْن ُم َنبّه َق َرأْت فِي الْ ِكتَاب الْ َأوّل ِإنّ‬
‫ن ِاعْ َتصَمَ بِي فَ ِإنْ كَا َدتْهُ السّ َموَات‬ ‫اللّه تَعَالَى يَقُول ‪ :‬بِعِ ّزتِي ِإنّهُ َم ْ‬
‫بِ َمنْ فِي ِهنّ وَالْأَرْض بِ َمنْ فِي ِهنّ فَ ِإنّي أَجْعَل لَ ُه ِمنْ َبيْن ذَ ِلكَ َمخْ َرجًا‬
‫ن تَحْت َقدَ َميْهِ الْأَرْض فََأجْعَلهُ‬ ‫وَ َمنْ لَ ْم يَ ْعتَصِم بِي فَ ِإنّي أَخْسِف بِهِ ِم ْ‬
‫فِي ا ْل َهوَاء فَأَكِلُ ُه إِلَى نَفْسه‪ .‬وَذَ َكرَ الْحَافِظ ِابْن عَسَاكِر فِي تَ ْرجَمَة‬
‫ي الْمَعْرُوف بِالدّ ّقيّ‬ ‫عنْهُ َأبُو بَكْر ُمحَمّد بْن دَاوُد الدّي َنوَرِ ّ‬ ‫رَجُل حَكَى َ‬
‫الصّو ِفيّ قَالَ َهذَا الرّجُل ُكنْت أُكَارِي عَلَى بَغْل لِي ِمنْ دِمَشْق إِلَى بَلَد‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪21‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫عْ‬
‫ن‬ ‫ال ّز ْبدَا ِنيّ َفرَكِبَ مَعِي ذَات مَرّة رَجُل فَ َمرَ ْرنَا عَلَى بَعْض الطّرِيق َ‬
‫خ َيرَة‬ ‫غيْر َمسْلُوكَة فَقَالَ لِي خُ ْذ فِي َهذِ ِه فَ ِإ ّنهَا أَقْرَب فَقُلْت لَا ِ‬ ‫طَرِيق َ‬
‫لِي فِيهَا فَقَالَ َبلْ ِهيَ أَ ْقرَب َفسَلَ ْكنَاهَا فَا ْن َت َهيْنَا إِلَى مَكَان َوعْر َووَادٍ‬
‫حتّى َأنْزِل َفنَ َزلَ‬ ‫سكْ َرأْس ا ْلبَغْل َ‬ ‫عَمِيق وَفِيهِ َقتْلَى َكثِيرَة فَقَا َل لِي أَمْ ِ‬
‫سلّ سِكّينًا مَعَهُ وَ َقصَ َدنِي فَ َفرَرْت ِمنْ َبيْن‬ ‫َوتَشَمّ َر وَجَمَ َع عَ َليْهِ ِثيَابه َو َ‬
‫خذْ ا ْلبَغْل بِمَا عَ َليْهِ فَقَا َل ُهوَ لِي‬
‫شدْته اللّه وَقُلْت ُ‬ ‫يَ َديْهِ َو َتبِ َعنِي َفنَا َ‬
‫ستَسْلَمْت بَيْن يَ َديْهِ‬ ‫خوّفْته اللّه وَالْعُقُوبَة فَلَ ْم يَ ْقبَل فَا ْ‬ ‫َوِإنّمَا أُرِيد َقتْلك فَ َ‬
‫جلْ فَقُمْت‬ ‫عّ‬ ‫حتّى ُأصَلّي رَكْ َع َت ْينِ فَقَالَ َ‬ ‫وَقُلْت ِإنْ َرَأيْت َأنْ َتتْرُكنِي َ‬
‫حضُرنِي ِمنْهُ حَرْف وَاحِد َفبَقِيت وَاقِفًا‬ ‫ج عَ َليّ الْقُرْآن فَلَمْ يَ ْ‬ ‫ُأصَلّي فَأُ ْرتِ َ‬
‫جرَى اللّه عَلَى ِلسَانِي َقوْله تَعَالَى ‪" :‬‬ ‫غ فَأَ ْ‬‫حيّرًا وَ ُهوَ يَقُول هِيهِ اُفْ ُر ْ‬ ‫ُمتَ َ‬
‫طرّ إِذَا َدعَا ُه َويَكْشِف السّوء " فَإِذَا َأنَا بِفَارِسٍ َقدْ‬ ‫أَ ّمنْ يُجِيب الْ ُمضْ َ‬
‫طأَتْ ُفؤَاده‬ ‫أَ ْق َبلَ ِمنْ فَم ا ْلوَادِي َوبِيَ ِدهِ حَ ْربَة َفرَمَى ِبهَا الرّجُل فَمَا أَخْ َ‬
‫س وَقُلْت بِاَللّ ِه َمنْ َأنْتَ ؟ فَقَا َل أَنَا رَسُول‬ ‫َفخَ ّر صَرِيعًا َفتَعَلّقْت بِالْفَارِ ِ‬
‫الّذِي يُجِيب الْ ُمضْطَ ّر إِذَا َدعَاهُ َويَكْشِف السّوء قَالَ فََأخَذْت الْبَغْل‬
‫وَالْحِمْل َورَجَعْت سَالِمًا ‪.‬‬
‫وَ َقوْله تَعَالَى ‪َ " :‬ويَجْعَلكُمْ خُلَفَاء الْأَرْض " أَيْ يَخْلُف َق ْرنًا لِ َق ْرنٍ َقبْلهمْ‬
‫ن بَعْدكُمْ‬ ‫ستَخْلِف ِم ْ‬‫ف كَمَا قَالَ تَعَالَى ‪ِ " :‬إنْ يَشَأْ يُذْ ِهبْكُمْ َويَ ْ‬
‫وَخََلفًا ِلسَلَ ٍ‬
‫مَا يَشَاء كَمَا َأنْشَأَكُمْ ِمنْ ذُ ّريّة َقوْم آخَرِينَ " وَقَالَ تَعَالَى" وَ ُهوَ الّذِي‬
‫جَعَلَكُمْ خَلَائِف الْأَرْض َورَفَعَ بَعْضكُمْ َفوْق بَعْض دَ َرجَات " وَقَالَ تَعَالَى‬
‫ي َقوْمًا‬‫‪َ " :‬وإِذْ قَالَ َربّك لِلْمَلَائِكَةِ ِإنّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة " أَ ْ‬
‫يَخْلُف بَعْضهمْ بَعْضًا كَمَا قَدّ ْمنَا تَقْرِيره وَهَكَذَا هَ ِذهِ الْآيَة " َويَجْعَلكُمْ‬
‫خُلَفَاء الْأَرْض " أَيْ أُمّة بَعْد أُمّة وَجِيلًا بَعْد جِيل وَ َقوْمًا بَعْد َقوْم وَ َلوْ‬
‫شَاءَ َلَأوْجَدَهُ ْم كُلّهمْ فِي وَقْت وَاحِد وَلَمْ يَجْعَل بَعْضهمْ ِمنْ ذُ ّريّة بَعْض‬
‫َبلْ َلوْ شَا َء لَخَلَ َقهُمْ كُلّه ْم أَجْمَعِينَ كَمَا خَ َلقَ آدَم ِمنْ تُرَاب وَ َلوْ شَاءَ‬
‫حتّى تَكُون‬ ‫حدًا َ‬
‫َأنْ يَجْعَلهُمْ بَعْضهمْ ِمنْ ذُ ّريّة بَعْض وَلَ ِكنْ لَا يُمِيت أَ َ‬
‫ع ْنهُمْ الْأَرْض َو َتضِيق‬ ‫وَفَاة الْجَمِيع فِي وَقْت وَاحِد لَكَانَتْ َتضِيق َ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪22‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫ض وَلَ ِكنْ اِ ْقتَضَ ْ‬
‫ت‬ ‫عَ َل ْيهِمْ مَعَايِشهمْ َوأَكْسَابهمْ َويَ َتضَرّر بَعْضهمْ ِببَعْ ٍ‬
‫حِكْمَته وَقُدْرَته َأنْ يَخْلُقهُمْ ِمنْ نَفْس وَاحِدَة ثُمّ يُ َكثّرهُمْ غَايَة الْ َكثْرَة‬
‫حتّى‬‫َويَ ْذرَأهُمْ فِي الْأَرْض َويَجْعَلهُمْ ُقرُون بَعْد قُرُون َوأُمَمًا بَعْد أُمَم َ‬
‫َينْ َقضِي الْ َأجَل َوتَفْرُغ ا ْلبَ ِريّة كَمَا قَدّرَ ذَ ِلكَ َتبَا َركَ َوتَعَالَى وَكَمَا‬
‫عدّا ثُمّ يُقِيم الْ ِقيَامَة َو ُيوَفّي ُكلّ عَامِل عَمَله إِذَا بَلَغَ‬ ‫حصَاهُ ْم َوعَدّهُمْ َ‬ ‫أَ ْ‬
‫الْ ِكتَاب أَجَله وَ ِلهَذَا قَالَ تَعَالَى ‪ " :‬أَ ّمنْ يُجِيب الْ ُمضْطَرّ ِإذَا َدعَاهُ‬
‫َويَكْشِف السّوء َويَجْعَلكُمْ خُلَفَاء الْأَرْض َأإِلَه مَ َع اللّه " أَيْ يَ ْقدِر عَلَى‬
‫ذَ ِلكَ َأوْ َأإِلَه مَ َع اللّه يُ ْعبَد ؟ وَ َقدْ عُلِمَ َأنّ اللّه ُهوَ الْ ُمتَفَرّد بِفِ ْعلِ ذَ ِلكَ‬
‫ي مَا أَ َقلّ تَذَكّرهمْ فِيمَا‬ ‫وَحْده لَا شَرِيك لَ ُه ؟ " قَلِيلًا مَا تَذَكّرُونَ " أَ ْ‬
‫ستَقِيم (‪)8‬‬ ‫حقّ َو َيهْدِيهِمْ إِلَى الصّرَاط الْمُ ْ‬ ‫يُ ْرشِدهُ ْم إِلَى الْ َ‬
‫يقول الشيخ رفاعي سرور ‪:‬‬
‫وعندما قال الغلم‪( :‬أنا ل أشفي أحدا ولكن ال هو الذي يشفي)‬
‫إنما أكد بذلك عقيدته من خلل المنفعة التي قدمها للجليس‪ .‬وهذا‬
‫هو الساس الول الذي تقوم عليه فكرة تأليف القلوب في الدعوة إذ‬
‫أنه يجب أن ترتبط المنفعة المقدمة بالعقيدة المعروضة وهذا‬
‫الارتباط هو الذي سيعطي لتلك العقيدة قيمتها في نفوس الناس‬
‫ابتداءا‪ .‬فهناك فارق بين تقديم المنفعة لمجرد المنفعة والمنفعة‬
‫لتأكيد العقيدة ‪( .‬أصحاب الخدود – رفاعي سرور)‬
‫وفي موضع آخر يقول ‪ :‬قوله‪ ..( :‬إنما يشفي ال‪ )..‬ردا على‬
‫الجليس عندما طلب الشفاء‪ ،‬وردا على الملك عندما ادعى أن‬
‫مايفعله الغلم إنما هو سحر‪.‬‬

‫وقوله‪...( :‬كفانيهم ال) ردا على الملك بعد نجاته من الموت فوق‬
‫الجبل وفي السفينة‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪23‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫وقوله‪( :‬وأن تقول‪ :‬باسم ال رب الغلم ) عندما دل الملك على‬
‫الكيفية التي يستطيع أن يقتله بها‪.‬‬

‫ولكن هذه العبارات الثلث تمثل في الحقيقة ثلث نقاط في خط واحد‬


‫وهو خط الثبات العقيدي لقضايا الدعوة من خلل الواقع‪.‬‬

‫فال الشافي‪ ..‬وال الكافي‪ ..‬وال المحيي المميت‪ ..‬حقائق لم‬


‫يرددها الغلم كقضايا جدلية وكلمية‪.‬‬

‫ولكنه ذكرها كحقائق نهائية ثابتة في واقع قائم بحيث ل يمكن ردها‬
‫أو حتى مناقشتها‪ ،‬والحقيقة أن البداية لهذا الخط ‪-‬كما جاء في‬
‫القصة ‪-‬ترجع إلى إيمان الغلم نفسه‪ ..‬وذلك عندما طلب الغلم‬
‫اليقين من خلل الواقع فدعا ال أن يقتل هذه الدابة إذا كان أمر‬
‫الراهب أحب إليه سبحانه من أمر الساحر‪.‬‬

‫وهذا يعني أن طبيعة التلقي لحقائق هذا الدين واليقين به هي التي‬


‫تحدد طبيعة الدعوة إليه في خط واحد‪)9( .‬‬

‫‪-5‬اختبار على اليمان‬


‫س ِمنْهُ نَحْو مَا كَانَ يَجْلِس فَقَا َل لَهُ الْمَلِك يَا فُلَان‬ ‫"ثُ ّم أَتَى الْمَلِك فَجَلَ َ‬
‫َمنْ رَ ّد عَ َليْك َبصَرك ؟ َفقَالَ َربّي فَقَا َل َأنَا ؟ قَالَ لَا َربّي وَ َربّك اللّه‬
‫حتّى‬‫غيْرِي ؟ قَالَ نَعَمْ َربّي َو َربّك اللّه فَلَ ْم يَ َزلْ يُعَذّبهُ َ‬‫ب َ‬‫قَا َل وَلَك رَ ّ‬
‫َدلّ عَلَى الْغُلَام"‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪24‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫وفي هذه العبارة دليل قاطع شاف كاف للدللة على أن هذه الطائفة‬
‫لم تكن تعتقد بالتثليث مثلها مثل من ضل من عباد الصليب فالرجل‬
‫لم يقل للملك ربي يسوع أو ربي الروح القدس أو لي إله وله ابن ‪,‬‬
‫ولم يحدثه عن مخترعات القوم في اللهوت والناسوت مما زينه‬
‫لهم الشيطان ‪ ,‬فأصبحوا من الخسرين الضالين وهم يحسبون أنهم‬
‫يحسنون صنعا ‪.‬‬
‫إنما حدثه عن إله واحد متفرد بيده مقاليد السموات والرض وبيده‬
‫الضر والنفع وبيده الشفاء ‪,‬‬
‫وهنا بدأ الستقرار الموهوم لمملكة هذا الملك الوثني في‬
‫الهتزاز ‪ ,‬وظهر من يوحد ال في هذه المملكة التي ل تزيد في قوة‬
‫ثباتها واستقرارها عن بيت العنكبوت ( َم َثلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِن دُونِ‬
‫خذَتْ َب ْيتًا َوِإنّ َأوْ َهنَ ا ْلبُيُوتِ َل َبيْتُ‬
‫اللّ ِه أَوْ ِليَاء كَ َمثَلِ الْعَن َكبُوتِ اتّ َ‬
‫الْعَن َكبُوتِ َلوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (‪ِ )41‬إنّ اللّ َه يَعْلَمُ مَا يَ ْدعُونَ مِن دُونِهِ‬
‫شيْءٍ وَ ُهوَ الْ َعزِيزُ الْحَكِيمُ (‪َ )42‬وتِ ْلكَ الْأَ ْمثَالُ َنضْ ِر ُبهَا لِلنّاسِ‬ ‫مِن َ‬
‫وَمَا يَعْقُِلهَا إِلّا الْعَالِمُونَ (‪ ) )43‬العنكبوت‬
‫يقول المام ابن كثير ‪:‬‬
‫َهذَا َمثَل ضَ َربَهُ اللّه تَعَالَى لِلْ ُمشْرِكِينَ فِي ِاتّخَاذهمْ آ ِلهَة ِمنْ دُون اللّه‬
‫يَ ْرجُونَ َنصْرهمْ َورِزْقهمْ َو َيتَمَسّكُونَ ِبهِمْ فِي الشّدَائِد َفهُمْ فِي ذَ ِلكَ‬
‫َك َبيْتِ الْ َعنْكَبُوت فِي ضَعْفه َووَهَنه فَ َليْسَ فِي َأيْدِي َهؤُلَاءِ ِمنْ آ ِلهَتهمْ‬
‫ش ْيئًا فَ َلوْ عَلِمُوا‬
‫عنْهُ َ‬‫إِلّا كَ َمنْ َيتَمَسّك ِببَيْتِ الْ َعنْ َكبُوت فَ ِإنّهُ لَا يُجْدِي َ‬
‫ف الْمُسْلِم‬
‫َهذَا الْحَال لَمَا ِاتّخَذُوا ِمنْ دُون اللّه َأوْ ِليَاء وَ َهذَا بِخِلَا ِ‬
‫الْ ُمؤْمِن قَلْبه ِللّهِ وَ ُهوَ َمعَ َذِلكَ يُحْسِن الْعَمَل فِي اِ ّتبَاع الشّرْع فَ ِإنّهُ‬
‫ُمتَمَسّك بِالْعُ ْروَةِ ا ْل ُوثْقَى لَا ِانْ ِفصَام َلهَا ِل ُقوّ ِتهَا َو َثبَاتهَا ‪)10( .‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪25‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫وهنا بدأت دوائر صغيرة داخل المملكة تسير مع منظومة التسبيح‬
‫الكونية وتخالف شذوذ مملكتها الضالة التائهة عن ملكوت السموات‬
‫والرض ‪ ,‬وهنا بدأت المفاصلة ‪ ,‬وبدأ الختبار لظهار التمايز بين‬
‫أهل الحق والباطل ‪ ,‬وليبدأ الصراع البدي بين الكفر واليمان الذي‬
‫بدأ بمكيدة الشيطان لدم ولزال قائما حتى ساعتنا هذه ‪ ,‬وإلى أن‬
‫يرث ال الرض ومن عليها أو عندما تقوم الساعة على شرار‬
‫الخلق ول يقال في الرض ال ‪.‬‬
‫ولجوء الملك هنا إلى التعذيب مباشرة مع الجليس يدل على النفاد‬
‫الفوري لحجته ‪ ,‬واستخدامه أساليب القمع والعنف لوقف التيار‬
‫الجديد ‪ ,‬وهذا إنما دل فإنما يدل على ضعف ما هو عليه وعلمه بأن‬
‫ليس له حجة فيما يعتقد ‪ ,‬وهكذا فعلت ممالك الكفر والضلل على‬
‫مر العصور ‪.‬‬
‫عن خباب قال أتينا رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو متوسد‬
‫بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا أل تستنصر لنا أل تدعو ال‬
‫لنا فجلس محمرا وجهه فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر‬
‫له في الرض ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين ما‬
‫يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم‬
‫وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه وال ليتمن ال هذا المر حتى‬
‫يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إل ال تعالى‬
‫والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون أخرجه البخاري ومسلم ‪.‬‬
‫حتّىَ‬ ‫يقول تعالى ‪ :‬مّا كَانَ اللّهُ ِليَذَ َر الْ ُمؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَ َليْهِ َ‬
‫طيّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ ِليُطْلِعَكُ ْم عَلَى الْ َغيْبِ وَلَ ِكنّ اللّهَ‬ ‫ث ِمنَ ال ّ‬
‫خبِي َ‬
‫يَمِي َز الْ َ‬
‫ج َتبِي مِن رّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآ ِمنُواْ بِاللّهِ وَ ُرسُلِهِ َوإِن ُتؤْمِنُواْ َوتَتّقُواْ‬ ‫يَ ْ‬
‫فَلَكُ ْم أَجْ ٌر عَظِيمٌ (‪ )179‬آل عمران‬
‫يقول المام القرطبي ‪:‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪26‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫مَا كَانَ اللّهُ ِليَذَ َر الْ ُمؤْمِنِينَ عَلَى مَا َأ ْنتُمْ عَ َليْهِ‬
‫طوْا عَلَامَة يُ َفرّقُونَ ِبهَا َبيْن‬ ‫قَا َل أَبُو الْعَا ِليَة ‪ :‬سَ َأ َل الْ ُمؤْمِنُونَ َأنْ يُعْ َ‬
‫جلّ مَا كَانَ اللّه ِليَذَر الْ ُمؤْ ِمنِينَ‬ ‫الْ ُمؤْمِن وَالْ ُمنَافِق ; فَ َأنْ َزلَ اللّه عَ ّز وَ َ‬
‫ختَلَفُوا َمنْ الْمُخَاطَب بِالْآيَةِ عَلَى أَ ْقوَال ‪.‬‬ ‫عَلَى مَا َأ ْنتُمْ عَ َليْهِ الْآيَة ‪ .‬وَا ْ‬
‫عبّاس وَالضّحّاك وَمُقَاتِل وَالْكَ ْل ِبيّ َوأَكْثَر الْمُفَسّرِينَ ‪:‬‬ ‫فَقَالَ ِابْن َ‬
‫خطَاب لِلْ ُكفّا ِر وَالْمُنَافِقِينَ ‪ .‬أَيْ مَا كَانَ اللّه ِل َيذَر الْ ُمؤْمِنِينَ عَلَى مَا‬ ‫الْ ِ‬
‫َأ ْنتُمْ عَ َليْهِ ِمنْ الْكُفْر وَالنّفَاق َوعَدَاوَة النّ ِبيّ صَلّى اللّه عَ َليْهِ وَسَلّمَ ‪.‬‬
‫قَا َل الْكَ ْلبِيّ ‪ِ :‬إنّ قُ َريْشًا ِمنْ أَهْل مَكّة قَالُوا لِل ّن ِبيّ صَلّى اللّه عَ َليْهِ‬
‫وَسَلّمَ ‪ :‬الرّجُل ِمنّا تَ ْزعُم َأنّهُ فِي النّار ‪َ ,‬وَأنّهُ إِذَا تَ َركَ دِيننَا وَا ّتبَعَ‬
‫عنْ َهذَا ِمنْ َأ ْينَ ُهوَ ؟‬ ‫خبِ ْرنَا َ‬
‫جنّة ! فَ َأ ْ‬‫دِينك قُلْت ُه َو ِمنْ أَهْل الْ َ‬
‫جلّ " مَا‬ ‫ن يَ ْأتِيك ِمنّا ؟ وَ َمنْ لَمْ يَ ْأتِك ؟ ‪ .‬فَ َأنْ َز َل اللّه عَ ّز وَ َ‬‫خبِ ْرنَا َم ْ‬
‫َوأَ ْ‬
‫ن اللّه ِليَذَر الْ ُمؤْ ِمنِينَ عَلَى مَا َأ ْنتُمْ عَ َليْهِ " ِمنْ الْكُفْر وَالنّفَاق ‪.‬‬ ‫كَا َ‬
‫طيّبِ‬
‫خبِيثَ ِمنَ ال ّ‬
‫حتّى يَمِيزَ الْ َ‬
‫َ‬
‫شرِكِينَ ‪ .‬وَالْمُرَاد بِالْ ُمؤْ ِمنِينَ فِي َقوْله ‪ِ " :‬ليَذَر‬ ‫وَقِيلَ ‪ُ :‬هوَ خِطَاب لِلْمُ ْ‬
‫ن فِي الْ َأصْلَاب وَالْأَرْحَام مِ ّمنْ ُيؤْمِن ‪ .‬أَيْ مَا كَانَ اللّه‬ ‫الْ ُمؤْ ِمنِينَ " َم ْ‬
‫ِليَذَر َأوْلَادكُ ْم الّذِينَ حَكَ َم َلهُمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا َأ ْنتُمْ عَ َليْ ِه ِمنْ الشّرْك ‪,‬‬
‫ن اللّه ِليُطْلِعَكُمْ " كَلَام‬ ‫حتّى يُفَرّق َبيْنكُمْ َوبَيْنهمْ ; َوعَلَى هَذَا " وَمَا كَا َ‬ ‫َ‬
‫عبّاس َوأَكْثَر الْمُفَسّرِينَ ‪ .‬وَقِيلَ ‪ :‬الْخِطَاب‬ ‫ستَأْنَف ‪ .‬وَ ُهوَ َقوْل ِابْن َ‬ ‫ُم ْ‬
‫لِلْ ُمؤْ ِمنِينَ ‪ .‬أَيْ وَمَا كَانَ اللّه ِليَذَركُ ْم يَا مَعْشَر الْ ُمؤْ ِمنِينَ عَلَى مَا َأنْتُمْ‬
‫حنَةِ‬
‫حتّى يُ َميّز بَيْنكُمْ بِالْمِ ْ‬
‫ختِلَاط الْ ُمؤْمِن بِالْ ُمنَا ِفقِ ‪َ ,‬‬
‫ن اِ ْ‬
‫عَ َليْهِ ِم ْ‬
‫طيّب ‪ .‬وَقَدْ َميّزَ‬ ‫خبِيث ‪ ,‬وَالْ ُمؤْمِن ال ّ‬ ‫وَالتّكْلِيف ; َفتَعْرِفُوا الْ ُمنَافِق الْ َ‬
‫َيوْم أُحُد َبيْن الْفَرِي َق ْينِ ‪ .‬وَهَذَا َقوْل أَ ْكثَر أَهْل الْمَعَانِي ‪)11( .‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪27‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫َفبَعَثَ إِ َليْهِ َفقَالَ أَيْ ُب َنيّ بَلَغَ ِمنْ سِحْرك َأنْ ُتبْرِئ الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص‬
‫ج ّل قَالَ‬
‫حدًا ِإنّمَا يَشْفِي اللّه عَزّ وَ َ‬
‫وَ َهذِ ِه الْأَ ْدوَاء ؟ قَا َل مَا أَشْفِي أَ َ‬
‫غيْرِي ؟ قَالَ َربّي وَ َربّك اللّه‬ ‫َأنَا ؟ قَالَ لَا ‪ .‬قَا َل َأوَ لَك َربّ َ‬
‫هنا يحاول الملك أن يذكر الغلم بما له عليه من أفضال فهو ابنه‬
‫رباه على عينه وأنفق عليه لخدمة نظامه فبدأ معه بتلطف وتذكير‬
‫أنهما من بعض ‪ ,‬وليسا ببعيدين ‪ ,‬بل حاول الملك إعادة توجيه‬
‫الذهان إلى نظامه التخييلي وأن الغلم لم يخرج عن منظومته التي‬
‫أراده لها ‪ ,‬وأنه قد بلغ من رقيه وإتقانه في هذه المنظومة ما أذهل‬
‫العقول وحير الذهان لذا حاول إرجاع أفعال الغلم للسحر ولما نفى‬
‫الغلم تأثير السحر لم ييأس الملك وإنما أرجع الفضل لنفسه بادعائه‬
‫اللوهية فنفى الغلم هذه أيضا ‪.‬‬
‫وهنا كانت المفاجأة التي هدمت عليه بنيانه من القواعد بإتمام‬
‫الغلم إعلنه بانتمائه للمنظومة الكونية العلى والرقى والتي تسير‬
‫في مسارها الصحيح والتي تملك الحقيقة المطلقة لهذا الوجود‬
‫وتقوم عليه وهي قول الغلم للملك ‪ :‬ربي وربك ال ‪.‬‬

‫‪-6‬التوحيد بوابة لسلم وسده المنيع‬


‫وهنا اكتمل في فعل الغلم شرطي تحقيق توحيد اللوهية وهما‬
‫النفي والثبات ‪ ,‬فقد نفى الغلم ألوهية الملك الوثني وأعلن بجلء‬
‫ووضوح إثبات اللوهية ل الواحد القهار ‪.‬‬
‫وهنا تبرز بجلء قضية المفاصلة بين أهل الحق والباطل وبين‬
‫منظومة التسبيح الكونية وغيرها من دوائر الوثنية والشرك الشاذة‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪28‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫‪ ,‬لذا كان لزاما أن نفصل في قضية التوحيد التي قامت عليها‬
‫الشريعة السلمية الغراء ‪:‬‬

‫فدين السلم سمي توحيدا لن مبناه على اليمان بوحدانية ال‬


‫‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬في ربوبيته وأسمائه وصفاته وألوهيته؛ ولجل‬
‫هذا قال أهل العلم أخذا من كتاب ال وسنة نبيه ‪-‬صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ -‬واستقراءً لدلة الكتاب والسنة‪ :‬أن التوحيد الذي خلقنا‬
‫لجله وأوجدنا لتحقيقه ينقسم إلى أقسام ثلثة‪ :‬توحيد الربوبية‬
‫وتوحيد السماء والصفات وتوحيد اللوهية فهذه أقسام التوحيد‬
‫الثلثة‪ ،‬ول يكون العبد مؤمنا بال‪ ،‬ول موحدًا له ‪-‬سبحانه‬
‫وتعالى‪ -‬إل إذا وحده في ربوبيته ‪-‬جل وعل‪ -‬وفي أسمائه‬
‫وصفاته وفي ألوهيته‪.‬‬
‫وتوحيد ال في ربوبيته ‪-‬وهو النوع الول من أنواع التوحيد‪-‬‬
‫هو اليمان بوحدانية ال ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬في ربوبيته‪ ،‬أو اليمان‬
‫بوحدانية ال ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬بأفعاله كالخلق والرزق والحياء‬
‫والماته والتصرف والتدبير وغير ذلك من معاني الربوبية‪.‬‬
‫وتوحيد ال في هذه المور أن نؤمن بها‪ ،‬وأن نثبتها ل‬
‫‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬وأن نقر بها‪ ،‬وأن نجعل إيماننا بها إيمانا خاصًا‬
‫بالرب العظيم‪ ،‬فل يضاف شيء منها لغيره‪ ،‬ول يسند شيء منها‬
‫لسواه‪ ،‬وإنما هي خصائص ل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬تفرد بها‪ ،‬فتفرد‬
‫سبحانه وحده بالخلق‪ ،‬وتفرد وحده بالرزق‪ ،‬وتفرد وحده بالحياء‪،‬‬
‫وتفرد وحده بالتدبير ل شريك له في شيء من ذلك‪.‬‬
‫و توحيدنا ل في الربوبية و في بقية أنواع التوحيد لبد فيه من‬
‫إثبات ونفي‪ ،‬إثبات المر الموحد ال ‪-‬جل وعل‪ -‬به له سبحانه‬
‫ونفيه عمن سواه‪ ،‬فل توحيد إل بالمرين معًا‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪29‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫فتوحيدنا ل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬في ربوبيته أن نثبت له خصائص‬
‫الربوبية وأن ننفيها عمن سواه‪ ،‬فهو الخالق ل خالق سواه‪ ،‬الرازق‬
‫ل رازق سواه‪ ،‬المدبر ل مدبر سواه‪ ،‬ل نكون مؤمنين بهذا التوحيد‬
‫إل بالثبات والنفي‪ ،‬إثبات خصائص ال ‪-‬جل وعل‪ -‬له ونفيها‬
‫عمن سواه‪ ،‬هذا توحيد الربوبية‪.‬‬
‫وتوحيد السماء والصفات هو إيماننا بأسماء ال ‪-‬سبحانه‬
‫وتعالى‪ -‬وصفاته الثابتة له في كتابه وسنة نبيه ‪-‬صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ -‬نثبتها له ‪-‬جل وعل‪ -‬إثباتا خاصًا به لئقا بجلله وكماله‬
‫مع التنزيه له ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬عن مماثلة المخلوقات كما قال‬
‫شيْءٌ وَ ُهوَ السّمِيعُ ا ْل َبصِي ُر ﴾ [الشورى‪:‬‬
‫س كَ ِمثْلِهِ َ‬
‫‪-‬عز وجل‪َ ﴿ -‬ليْ َ‬
‫‪]11‬‬
‫أما توحيد اللوهية وهو النوع الثالث‪ :‬فهو أعظم أنواع التوحيد‬
‫وأجلها‪ ،‬وهو متضمن لنواع التوحيد السابقة ‪ ،‬وتوحيد ال في‬
‫ألوهيته أن نخلص العبادة له وأن نفرده ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬وحده‬
‫بالطاعة‪ ،‬وأن نعبده ول نعبد أحدًا سواه‪ ،‬هو تحقيق كلمة التوحيد‬
‫"ل إله إل ال" لن هذه الكلمة تعني إفراد ال ‪-‬سبحانه وتعالى‪-‬‬
‫بالعبادة ونفيها عمن سواه "ل إله إل ال" و لبد في التوحيد من‬
‫إثبات ونفي‪ ،‬ل يكفي في التوحيد الثبات وحده‪ ،‬ول يكفي في‬
‫التوحيد النفي وحده‪،‬‬
‫ويسمى توحيد العبادة‪ ،‬ويسمى توحيد اللوهية‪ ،‬ويسمى توحيد‬
‫الرادة والطلب‪ ،‬ويسمى توحيد القصد‪ ،‬ويسمى التوحيد العملي‪،‬‬
‫فهذه أسماء متعددة لهذا التوحيد باعتبار الوساط المتعلقة به‪ ،‬فهو‬
‫يسمى توحيد العبادة لن هذا التوحيد هو إفراد ل ‪-‬سبحانه‬
‫وتعالى‪ -‬بالعبادة ونفي لها عمن سواه‪ ،‬ويسمى توحيد اللوهية‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪30‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫واللهية لنه مبني على التأله وهو التعبد‪ ،‬يقال‪ :‬أله يأله إلهة‬
‫وتألهًا‪ ،‬أي‪ :‬تعبد‪ ،‬ومنه قول الشاعر‪:‬‬
‫ل در الغانيات المدهي *** سبحن واسترجعن من تألهي‬
‫أي‪ :‬من تعبدي ل‪.‬‬
‫وهنا يبرز سؤالً هاما؟؟‬
‫ترى ما الذي يجب علينا نحو التوحيد؟ إذا عرفنا أن التوحيد هو‬
‫أعظم المور وأجلها وأهم المطالب وأعظمها ؟‬
‫أولًا‪ :‬الواجب الول‪ :‬أن نتعلمه‪ ،‬كأي أمر أمرنا ال به وأعظم‬
‫الوامر هو توحيد ال‪ ،‬فأمرنا ال بالتوحيد‪ ،‬وأمرنا بالصلة‪ ،‬وأمرنا‬
‫بالصيام‪ ،‬أمرنا بالزكاة‪ ،‬كما أمرنا ببر الوالدين إلى غير ذلك من‬
‫الوامر‪ ،‬والتوحيد أول واجب علينا أن نتعلمه‪ ،‬وهذه هي البداية‬
‫ويُبدأ بالعلم والتعلم قبل كل شيء كما قال ال –تعالى‪ ﴿ : -‬فَاعْلَمْ‬
‫ستَغْفِرْ لِذَن ِبكَ ﴾ [محمد‪ ]19 :‬فبدأ بالعلم قبل‬
‫ل وَا ْ‬
‫َأنّهُ لَ إِلَ َه إِلّ ا ُ‬
‫القول والعمل‪ ،‬وقد كان نبينا ‪-‬عليه الصلة والسلم‪ -‬كما في حديث‬
‫أم سلمة في مسند المام أحمد وسنن ابن ماجه‪( :‬كان كل يوم يقول‬
‫بعد صلة الصبح‪ :‬اللهم إني أسألك علمًا نافعا‪ ،‬ورزقا طيبًا‪ ،‬وعملً‬
‫متقبلً) هذه دعوة كان يدعو بها نبينا ‪-‬صلوات ال وسلمه عليه‪-‬‬
‫كل يوم‪.‬‬
‫وهذه الدعوة ‪-‬لو تأملت‪ -‬هي في الحقيقة إضافة إلى كونها‬
‫دعوة واستعانة بال ‪-‬هي تحديد لهداف المسلم في يومه فتجد أن‬
‫المسلم ليس له في يومه إل هذه الثلثة أهداف ل يخرج عنها‪،‬‬
‫العلم النافع‪ ،‬الرزق الطيب‪ ،‬العمل الصالح وكان ‪-‬عليه الصلة‬
‫والسلم‪ -‬يدعو بهذه الدعوة‪ ،‬فبماذا بدأ؟ بدأ بالعلم‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪31‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫وهذا يدلنا على أن أولى أولويات المسلم وفي مقدمة اهتمامه‬
‫في يومه؛ بل في كل أيامه البدء بالعلم‪.‬‬
‫العلم قبل العمل‪ ،‬وقبل القول‪ ،‬وقبل الكسب؛ لنه ل يمكن أن تأتي‬
‫بالعمل الصالح ول بالقول السديد ول بالكسب الطيب إل إذا كان‬
‫عندك علم ‪.‬‬
‫وإذا لم يكن عندك علم ل تستطيع أن تميز بين عمل صالح وغير‬
‫صالح‪ ،‬ول بين قول سديد وغير سديد‪ ،‬ول بين رزق طيب أو رزق‬
‫خبيث‪ ،‬فالعلم هو الذي يميز للنسان الخبيث من الطيب‪ ،‬والحق من‬
‫الضلل والباطل‪.‬‬
‫وإذا نظرت إلى واقع كثير من الناس تجد أنهم في غفلة عن تعلم‬
‫التوحيد وعن الهتمام والعناية به ‪ ،‬وربما يهتم البعض بأمر من‬
‫المور يتعلمه ويتفقه فيه ويبرع فيه‪ ،‬ويشار إليه فيه بالبنان ولم‬
‫ط التوحيد من لحظاته كثيرا ول قليل من أجل أن يتعلمه!! وهذه‬ ‫يع ِ‬
‫مصيبة؛ لن ال ‪-‬عز وجل‪ -‬خلقك لهذا التوحيد‪ ،‬ثم تجتهد في‬
‫أمو ٍر أقل وأنت غافل عن التوحيد الذي خلقك ال لجله ل تتعلمه‬
‫ول تسأل عنه‪ ،‬ول تبحث عنه ول تتفقه فيه!!‪.‬‬
‫الواجب الثاني أن نحبه‪:‬‬
‫أن نحب كل ما أمرنا ال به‪ ،‬وأعظم الوامر التوحيد‬
‫فكل شيء أمرك ال به تحبه‪ ،‬وتجاهد نفسك‪ ،‬وتجاهد قلبك على‬
‫إمارته بمحبة ما أمرك ال به‪ ،‬وال ل يأمرك إل بما فيه سعادتك‬
‫وصلحك ورفعتك في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫وانظر اللفتة الكريمة في دعوة النبي ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫للتوحيد عندما كان يمشي في فجاج مكة وينادي‪( :‬قولوا ل إله إل‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪32‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫ال تفلحوا) يعني‪ :‬فلحكم في هذا التوحيد‪ ،‬سعادتكم في هذا‬
‫التوحيد‪ ،‬رفعتكم في الدنيا والخرة في هذا التوحيد‪.‬‬
‫وأوثق عرى اليمان الحب في ال‪ ،‬تحب ال‪ ،‬وتحب أنبياءه‪،‬‬
‫وتحب دينه‪ ،‬وتحب ما أمرك ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬به‪ ،‬ول تجد في‬
‫قلبك حرجا؛ لن هذا خير لك ورفعة وسعادة في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫حتى لو كان في ظاهره المشقة والتعب فالنبي ‪-‬صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ -‬قال‪( :‬حفت الجنة بالمكاره) فعندما ينادي المنادي لصلة‬
‫الفجر‪ :‬حي على الصلة‪ ،‬والجو شاتٍ‪ ،‬والماء بارد أحبب ذلك‪،‬‬
‫وادخل وأنت فرح محب مغتبط؛ لن هذا أمر لك فيه فلحك و فيه‬
‫سعادتك‪ ،‬أليس المنادي للصلة في كل الصلة يقول‪ :‬حي على‬
‫الفلح؟ إذن كيف ل تحب ما فيه فلحك؟‬
‫بعض الناس بسبب الهواء‪ ،‬وبسبب دعاة الباطل‪،‬و بسبب إثارة‬
‫الشبهات ‪-‬تجد نفسه قد تنقبض من التوحيد أو تنقبض من أوامر‬
‫ال ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬وهذا ل يكون إل بسبب ما اكتنفه هو من‬
‫شبهات‪.‬‬
‫إذن الواجب أن أطرح كل شيء وكل أمر يخالف ما أمرني ال‬
‫‪-‬جل وعل‪ -‬ول أجد وحشة‪ ،‬ول أجد غضاضة لنني إن نميت في‬
‫نفسي هذه الوحشة وهذه الغضاضة سأجد قلبي منقبضا عن أبواب‬
‫الخير وأبواب السعادة مثل ما قال ال ‪-‬عز وجل‪ -‬عن الكفار‬
‫‪-‬والعياذ بال‪ -‬أنه عند ذكر التوحيد تشمئز قلوبهم‪َ ﴿ :‬وإِذَا ذُ ِكرَ الّلهُ‬
‫َوحْدَهُ اشْ َمَأزّتْ قُلُوبُ الّذِينَ لَا يُؤْ ِمنُو َن بِالْآخِرَ ِة ۖ َوإِذَا ذُكِرَ الّذِينَ مِنْ‬
‫ستَْبشِرُونَ ﴾ [الزمر ‪]45‬‬ ‫دُوِنهِ إِذَا هُ ْم يَ ْ‬
‫الواجب الثالث‪:‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪33‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫عزم القلب على فعل التوحيد‪ ،‬والعزم هو حركة في القلب لفعل‬
‫هذا الشيء‪.‬‬
‫إذن تكون الولوية للتعلم ثم المحبة ثم تحرك القلب بالعزم على‬
‫فعل المحبوب‪.‬‬
‫وهنا مع العزم على الفعل قد يكتنف النسان الخوف من‬
‫التغيير ‪ ،‬سواء خوف على دنياه أو من إصابته بسوء جراء‬
‫عتَرَاكَ بَعْضُ‬
‫التغيير ‪ ،‬أرأيت الن ماذا قال الكفار ﴿ إِن نّقُولُ ِإلّ ا ْ‬
‫آ ِل َهتِنَا بِسُو ٍء ﴾ [هود‪]54 :‬‬
‫ربما يأتيه الشيطان ببعض الوساوس التي تجعله ينهزم وربما‬
‫ينكص‪ ،‬تجده علم وأحب وعزم على الفعل ثم انفرط منه المر‬
‫وذهب ذلك العزم بسبب ما احتوى أو اكتنف قلبه من أمور ردته‬
‫عنه لذا يجب على المسلم أن يحترز لنفسه من وساوس الشيطان و‬
‫النفس ويحترس اتباع الهوى ‪.‬‬
‫الواجب الرابع العمل‪:‬‬
‫علم ثم محبة ثم عزم قلبي ثم عمل بالتوحيد‪ ،‬بإخلص الدين ل‪،‬‬
‫وأفرد ال ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬بالعبادة‪ ،‬فأخصه ‪-‬جل وعل‪-‬‬
‫بالطاعة‪ ،‬ل أدعو غيره‪ ،‬ل أسأل غيره‪ ،‬ل أستغيث بغيره‪ ،‬ل أصرف‬
‫شيئا من عبادتي لغيره‪،‬‬
‫لحظ هنا أن بعض الناس قد يعلم‪ ،‬وقد يحب ويعزم‪ ،‬ثم لما يأتي‬
‫للمر الرابع وهو العمل يقول‪ :‬ماذا يقول الناس لو رأوني تركت ما‬
‫كنت عليه ؟ فتجده يمتنع بعد أن علم و أحب وعزم ثم يأتي إلى‬
‫مرحلة العمل فيقول‪ :‬أنا على طريقة أهل بلدي و على الشيء الذي‬
‫نشأت عليه‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪34‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫يخاف أن يطلع عليه من يعظمه من الناس وال أحق بالتعظيم‪،‬‬
‫الواجب الخامس‪ :‬أن يكون العمل خالصا صوابا ‪.‬‬
‫نوقع العمل خالصا ل‪ ،‬وصوابا على منهج رسول ال ‪-‬صلى ال‬
‫سنُ عَمَلًا ﴾ [الملك‪]2 :‬‬
‫ح َ‬
‫عليه وسلم‪ -‬قال تعالى‪ِ ﴿ :‬ل َيبُْلوَكُمْ َأيّكُمْ أَ ْ‬
‫قال الفضيل ‪-‬رحمه ال‪ -‬في معنى هذه الية‪ :‬أخلصه وأصوبه‪،‬‬
‫قيل يا أبا علي‪ ،‬وما أخلصه وأصوبه؟ قال‪ :‬إن العمل ل يقبل حتى‬
‫يكون خالصا صوابا‪ ،‬والخالص ما كان ل‪ ،‬والصواب ما كان على‬
‫السنة‪.‬‬
‫المر السادس‪ :‬الحذر من محبطات التوحيد‪.‬‬
‫فبعد أن جئنا بهذه المراتب نحذر من محبطات التوحيد‬
‫ومبطلته‪ ،‬وأيضًا نحذر من الشياء التي تنقصه‪ ،‬وتنقص كماله؛‬
‫ولهذا فالتوحيد له نواقض وله نواقص‪ ،‬له نواقض تفسده تمامًا‬
‫وتجتثه من أصله‪ ،‬وتذهبه من أصله‪ ،‬وله نواقص تنقص كماله‬
‫الواجب‬
‫إذن نحن نطالب كل مسلم أن يعرف الشرك لماذا؟ حتى يحذر منه‬
‫ويتجنبه‪.‬‬
‫يقول القائل‪" :‬تعلم الشر ل للشر‪ ،‬ولكن لتوقيه فإن من لم يعرف‬
‫الشر من الناس يقع فيه" يقول حذيفة بن اليمان كما في صحيح‬
‫البخاري‪( :‬كان أصحاب رسول ال ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬يسألونه‬
‫عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافته) وكثير من الناس يبتلى‬
‫بالوقوع في بعض النواقض أو النواقص لتوحيده بسبب جهله وعدم‬
‫تعلمه‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪35‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫الواجب السابع والخير‪ :‬هو الثبات على هذه المور والستقامة‬
‫حتّى يَ ْأتِ َيكَ ا ْليَقِينُ ﴿‪﴾﴾99‬‬ ‫عبُدْ َر ّبكَ َ‬ ‫عليها إلى الممات‪ ﴿ :‬وَا ْ‬
‫[الحجر‪ ]99 :‬يعني‪ :‬حتى يأتيك الموت‪ ،‬فتثبت على هذا المر‪ ،‬وال‬
‫‪-‬عز وجل‪ -‬لما ذكر آية التوحيد في ذلك المثل العجيب في سورة‬
‫ب الُ َمثَلًا كَلِمَةً‬ ‫إبراهيم ذكر عقبه أمر الثبات ﴿ أَلَمْ تَ َر َكيْفَ ضَرَ َ‬
‫ط ّيبَةٍ َأصُْلهَا ثَابِتٌ‬‫جرَةٍ َ‬ ‫ط ّيبَةً كَشَ َ‬ ‫طيّبَةً ﴾ هذه كلمة التوحيد ﴿كَلِمَةً َ‬ ‫َ‬
‫عهَا فِي السّمَا ِء ﴿‪ُ ﴾24‬ت ْؤتِي أُكُلَهَا ُكلّ حِينٍ بِإِ ْذنِ َر ّبهَا َو َيضْرِبُ‬ ‫وَ َف ْر ُ‬
‫جرَةٍ‬ ‫خبِيثَةٍ كَشَ َ‬ ‫س لَعَّلهُمْ َيتَذَكّرُونَ ﴿‪ ﴾25‬وَ َم َثلُ كَلِمَةٍ َ‬ ‫ل المْثَالَ لِلنّا ِ‬ ‫ا ُ‬
‫ج ُتثّتْ مِن َف ْوقِ الَ ْرضِ مَا َلهَا مِن َقرَا ٍر ﴿‪ُ ﴾26‬ي َثبّتُ الُ‬ ‫خبِيثَةٍ ا ْ‬ ‫َ‬
‫ضلّ الُ‬ ‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا وَفِي الَخِ َرةِ َو ُي ِ‬ ‫الّذِينَ آ َمنُوا بِالْ َق ْولِ الثّابِتِ فِي الْ َ‬
‫ل مَا يَشَاءُ ﴿‪[ ﴾﴾27‬إبراهيم‪ ]27 -24 :‬فيثبت‬ ‫الظّالِمِينَ َويَفْ َعلُ ا ُ‬
‫ستَقَامُوا‬ ‫النسان ويستقيم على المر ﴿ ِإنّ الّذِينَ قَالُوا َر ّبنَا الُ ثُ ّم ا ْ‬
‫ح َزنُونَ ﴿‪[ ﴾﴾13‬الحقاف‪ِ ﴿ ]13 :‬إنّ‬ ‫ف عَ َليْهِمْ َولَ هُمْ يَ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫َفلَ َ‬
‫لئِكَةُ ﴾ [فصلت‪:‬‬ ‫ستَقَامُوا َت َتنَ ّزلُ عَ َل ْيهِمُ الْ َم َ‬
‫الّذِينَ قَالُوا َر ّبنَا الُ ثُ ّم ا ْ‬
‫‪ ]30‬آيتان في كتاب ال‪ ،‬والرجل في حديث سفيان بن عبد ال‬
‫الثقفي الذي قال للرسول ‪-‬عليه الصلة والسلم‪( : -‬قل لي في‬
‫السلم قولًا ل أسأل عنه أحدًا غيرك‪ ،‬قال‪ :‬قل آمنت بال ثم استقم)‬
‫فيستقيم النسان على هذا المر إلى أن يتوفاه ال‪)12( .‬‬

‫‪-7‬الثبات على الحق‬


‫بعد هذه الرحلة مع عقيدة التوحيد في الشريعة السلمية نعود‬
‫لفتانا الهمام وما حدث بينيه وبين الملك الوثني ‪:‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪36‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫حتّى َد ّل عَلَى الرّاهِب فَ َأتَى‬ ‫فَ َأخَ َذهُ َأ ْيضًا بِالْعَذَابِ فَلَ ْم يَ َزلْ بِهِ َ‬
‫عنْ دِينك فَ َأبَى َف َوضَعَ الْ ِمنْشَار فِي مَ ْفرِق َرأْسه‬ ‫بِالرّاهِبِ فَقَا َل اِرْجِ ْع َ‬
‫عنْ دِينك فَ َأبَى َف َوضَعَ الْ ِمنْشَار‬‫حتّى وَقَعَ شِقّاهُ وَقَالَ لِلْ َأعْمَى اِ ْرجِعْ َ‬ ‫َ‬
‫حتّى وَقَعَ شِقّا ُه إِلَى الْ َأرْض ‪.‬‬ ‫فِي َمفْرِق َرأْسه َ‬
‫وهذه الحادثة تصدق قول النبي الكريم محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫في حديث خباب قال أتينا رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو‬
‫متوسد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا أل تستنصر لنا أل‬
‫تدعو ال لنا فجلس محمرا وجهه فقال قد كان من قبلكم يؤخذ‬
‫الرجل فيحفر له في الرض ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه‬
‫فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما‬
‫دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه وال ليتمن‬
‫ال هذا المر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما‬
‫يخاف إل ال تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون أخرجه‬
‫البخاري ومسلم ‪.‬‬
‫وهنا تبرز قضية الثبات على الحق" ُي َثبّتُ اللّهُ الّذِينَ آ َمنُواْ بِالْ َق ْو ِل‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا وَفِي الخِ َرةِ َو ُيضِلّ اللّهُ الظّالِمِينَ َويَفْ َعلُ اللّهُ‬
‫الثّابِتِ فِي الْ َ‬
‫مَا يَشَاء (‪ ))27‬سورة إبراهيم ‪.‬‬
‫حيَاة‬
‫ُي َثبّت اللّه الّذِينَ آ َمنُوا بِالْ َق ْولِ الثّابِت" ِهيَ كَلِمَة ال ّتوْحِيد "فِي الْ َ‬
‫عنْ َربّهمْ‬‫ن َ‬ ‫ي فِي الْ َقبْر لَمّا يَسْأَلهُمْ الْمَلَكَا ِ‬ ‫ال ّد ْنيَا وَفِي الْآخِرَة" أَ ْ‬
‫ضلّ‬
‫خ ْينِ " َويُ ِ‬
‫شيْ َ‬
‫صوَابِ كَمَا فِي حَدِيث ال ّ‬ ‫وَدِينهمْ َونَ ِبيّهمْ َفيُجِيبُونَ بِال ّ‬
‫صوَابِ َبلْ يَقُولُونَ لَا‬ ‫جوَابِ بِال ّ‬ ‫اللّه الظّالِمِينَ" الْكُفّار فَلَا َيهْتَدُونَ ِللْ َ‬
‫حدِيث (‪)13‬‬ ‫نَ ْدرِي كَمَا فِي الْ َ‬
‫يقول الشيخ ناصر بن محمد الحمد ‪:‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪37‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫إن صفة الثبات على السلم والستمرار على منهج الحق نعمة‬
‫عظيمة حبا ال بها أولياءه‪ ،‬وصفوة خلقه‪ ،‬وامتن عليهم بها‪ ،‬فقال‬
‫مخاطبا عبده ورسوله محمدا ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪{ :-‬وَ َل ْولَ أَن‬
‫ش ْيئًا قَلِيلً} [(‪ )74‬سورة السراء]‪.‬‬ ‫َث ّبتْنَاكَ َلقَدْ كِدتّ َترْ َكنُ إِ َليْهِمْ َ‬
‫إن الثبات على دين ال دليل على سلمة المنهج‪ ،‬وداعية إلى الثقة‬
‫به‪ ،‬كما أن الثبات على الدين ضريبة النصر والتمكين والطريق‬
‫الموصلة إلى المجد والرفعة‪.‬‬
‫والثبات طريق لتحقيق الهداف العظيمة والغايات النبيلة‪ ،‬فالنسان‬
‫الراغب في تعبيد الناس لرب العالمين‪ ،‬والعامل على رفعة دينه‪،‬‬
‫وإعلء رايته ل غنى له عن الثبات‪ ،‬قل آمنت بال ثم استقم‪.‬‬
‫إن الثبات يعني الستقامة على الهدى‪ ،‬والتمسك بالتقى‪ ،‬وقسر‬
‫النفس على سلوك طريق الحق والخير‪ ،‬والبعد عن الذنوب‬
‫والمعاصي‪ ،‬وصوارف الهوى والشيطان‪ ،‬وإليكَ أخي المسلمُ بعضا‬
‫من العوامل التي تُعينُ بإذنِ ال على الثبات على الدين والستقامة‬
‫عليه‬
‫العاملُ الول‪ :‬العتصامُ بالكتابِ والسنةِ والتمسكُ بما فيهما‪ :‬فالقرآنُ‬
‫الكريم حب ُل الِ المتين‪ ،‬والسنةُ النبوية مكملةً للقرآن وشارحةً له‪،‬‬
‫تُفصلُ ما أجمل‪ ،‬وتُفس ُر ما أشكل‪ ،‬وهما جميعا نورٌ وضّاء‪ ،‬يهتدي‬
‫بنورهما أُولو اللباب‪ ،‬وما فتئَ المصطفى ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫ك بهما‪ ،‬والرجوعُ إليهما حتى وافاهُ اليقين‪ ،‬ومما‬ ‫يدعو أمتهُ للتمس ِ‬
‫قال ُه ‪-‬عليه الصلة والسلم‪(( :-‬تركت فيكم أمرينِ لن تضلوا ما‬
‫ت هذا الصلِ القتداءُ‬ ‫ب ال وسنتي)) ويندرجُ تح َ‬ ‫تمسكتم بهما‪ :‬كتا ُ‬
‫بسلفِ الُمةِ الصالحين‪.‬‬
‫العاملُ الثاني‪ :‬استدامةُ الطاعة‪ :‬قال ال تعالى‪ِ{ :‬إنّ الّذِينَ قَالُوا َر ّبنَا‬
‫ستَقَامُوا َت َتنَ ّزلُ عَ َل ْيهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلّا تَخَافُوا وَلَا تَحْ َزنُوا‬
‫اللّ ُه ثُمّ ا ْ‬
‫جنّةِ اّلتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [(‪ )30‬سورة فصلت] فهذا وعدٌ‬ ‫َوَأبْشِرُوا بِالْ َ‬
‫من الِ أن يحفظَ ويُثبت الملتزمين بالطاعة‪ ،‬والمحافظين على فعلِ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪38‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫ما جاءت به الشريعةُ في الحيا ِة الدنيا وفي الخرة‪ ،‬إنّ الستمرارَ‬
‫ظ به المرءُ‬ ‫ت وتركِ المُحرمات‪ ،‬والعملَ بما يُوعَ ُ‬ ‫على فعلِ الطاعا ِ‬
‫أمرٌ عزي ٌز على النفس‪ ،‬ويحتاجُ إلى مُجاهدةٍ وترويض‪ ،‬لكنّهُ في‬
‫النهايةِ عاملٌ مُهمّ في الثبات {وَ َلوْ َأنّا َكتَ ْبنَا عَ َل ْيهِمْ َأنِ ا ْقتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‬
‫خرُجُواْ مِن ِديَارِكُم مّا فَعَلُو ُه إِلّ قَلِيلٌ ّمنْهُمْ وَ َلوْ َأ ّنهُمْ فَعَلُواْ مَا‬ ‫َأوِ ا ْ‬
‫شدّ َت ْثبِيتًا} [(‪ )66‬سورة النساء] وقال‬ ‫خيْرًا ّلهُمْ َوأَ َ‬
‫يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ َ‬
‫حيَاةِ ال ّدنْيَا وَفِي‬ ‫تعالى‪ُ { :‬يثَبّتُ اللّ ُه الّذِينَ آ َمنُواْ بِالْ َق ْولِ الثّابِتِ فِي الْ َ‬
‫ضلّ اللّهُ الظّالِمِينَ َويَفْ َعلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [(‪ )27‬سورة‬ ‫خرَةِ َو ُي ِ‬
‫ال ِ‬
‫إبراهيم] أمّا الكُسالى والمفرطون‪ ،‬والذين يُقدِمُون على الطاعةِ حينا‬
‫ويتهاونون فيها حينا آخر‪ ،‬فهؤلءِ على خطر‪ ،‬وهل يَضمنونَ‬
‫أنفسهم أن تخترمهم المنيةُ في حالِ تفريطهم‪ ،‬فيُختمُ لهم بسوء‬
‫الخاتمة‬
‫ثالثا‪ :‬الدعاءُ واللحاحُ على الِ بالثبات‪ :‬فكما أنّ الدعاءَ سبب‬
‫للهداية أصلً‪ ،‬فهو عام ٌل للثباتِ ثانيا‪ ،‬وإذا كانت القلوبُ هي أوعيةُ‬
‫الهداية‪ ،‬أو هي السببُ في الغوايةِ‪ ،‬فهي بينَ إصبعينِ من أصابعِ‬
‫ح أنّ أكثرَ دعائهِ‬ ‫ث الصحي ِ‬ ‫الرحمن يُقلبُها كيف شاءَ‪ ،‬وثبت في الحدي ِ‬
‫‪-‬صلى ال عليه وسلم‪(( :-‬يا مقلبَ القلوبِ ثبّت قلبي على دينك))‬
‫وحسبنا أن النبي ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬كان يدعو ربه ويسأله‬
‫الثبات‪ ،‬فيقول‪(( :‬اللهم إني أسألك الثبات في المر‪ ،‬والعزيمة على‬
‫الرشد)) ‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬اللتفافُ حولَ العلماءِ الصالحين‪ ،‬والدعاةِ الصادقين‪ :‬الذين‬


‫يُثبّتون الناسَ حين الفتنة‪ ،‬و ُيؤُمّنونهم حين الخوفِ والرهبة‪ ،‬أولئك‬
‫ل بهم قلوبَ العباد‪ ،‬وينتشلُ بهم آخرين من‬ ‫مصابيحُ الدُجى‪ ،‬يُحيي ا ُ‬
‫الفساد‪ ،‬ويتماسكُ على الطريقِ القويمِ بسببهم أممٌ وأقوام‪ ،‬كادوا أن‬
‫يقعوا في الهاوية‪ ،‬وهل نسى المسلمون دور أبي بكر ‪-‬رضي ال‬
‫عنه‪ -‬في الردةِ؟ أو يتناسى المؤمنونَ موقفَ المام أحمد يومَ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪39‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫المحنة؟ وهكذا يكونُ دو ُر الخيارِ في تثبيتِ المسلمين‪ ،‬فالزموا‬
‫صحبتهم‪ ،‬واطلبوا نصحهم‪ ،‬وهنا تبرز الخوة السلمية كمصدر‬
‫أساسي للتثبيت‪ ،‬فالصالحين هم العون في الطريق‪ ،‬والركن الشديد‬
‫الذي يأوي إليه المرء‪ ،‬فيثبتونه بما معهم من آيات ال والحكمة‪،‬‬
‫فالْزمْهم ِوعِش في أكنافهم‪ ،‬وإياك والوحدة فتخطفك الشياطين‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬صحة اليمان وصلبة الدين‪ :‬إن اليمان له قوته اليجابية‬
‫التي تعمل على تنمية المشاعر وتنقيتها‪ ،‬وأن القوة اليمانية تترك‬
‫بصماتها على الفرد والجماعة‪ ،‬وعلى سائر اتجاهات السلوك‬
‫النساني‪ ،‬ومتى صح اليمان ورسخت حلوته في قلب المؤمن‬
‫رزقه ال الثبات في المر‪ ،‬وكلما كان قويا في إيمانه‪ ،‬صلبا في‬
‫دينه‪ ،‬صادقا مع ربه‪ ،‬كلما ازداد ثباته‪ ،‬وقويت عزيمته‪ ،‬قال ال‬
‫تعالى‪ِ { :‬منَ الْ ُمؤْ ِمنِينَ رِجَالٌ صَ َدقُوا مَا عَا َهدُوا اللّهَ عَ َليْهِ فَ ِم ْنهُم مّن‬
‫ظرُ وَمَا َبدّلُوا تَبْدِيلًا} [(‪ )23‬سورة‬ ‫حبَهُ وَ ِم ْنهُم مّن يَنتَ ِ‬
‫َقضَى نَ ْ‬
‫الحزاب] وقال ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪(( :-‬المؤمن القوي خير‬
‫وأحب إلى ال من المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي كل خير))‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬تدبر القرآن والعمل به‪ :‬فالقرآن الكريم وسيلة التثبيت‬
‫الولى للمؤمنين‪ ،‬ولقد أنزل ال القرآن العظيم منجّما مفصلً‪ ،‬وجعل‬
‫الغاية منه هي التثبيت لقلب النبي ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬قال ال‬
‫حدَ ًة كَذَ ِلكَ‬
‫تعالى‪{ :‬وَقَالَ الّذِينَ كَ َفرُوا َلوْلَا نُ ّزلَ عَ َليْ ِه الْقُرْآنُ جُمْلَ ًة وَا ِ‬
‫ِل ُن َثبّتَ بِهِ ُفؤَا َدكَ َو َرتّلْنَا ُه تَ ْرتِيلًا} [(‪ )32‬سورة الفرقان] وأخبر بأنه‬
‫أنزل هذا الكتاب تثبيتا للمؤمنين‪ ،‬وهداية لهم وبشرى‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫حقّ ِليُ َثبّتَ الّذِينَ آ َمنُواْ وَ ُهدًى‬ ‫س مِن ّر ّبكَ بِا ْل َ‬ ‫{ ُق ْل نَزّلَهُ رُوحُ الْقُدُ ِ‬
‫َوبُشْرَى لِلْ ُمسْلِمِينَ} [(‪ )102‬سورة النحل]‪.‬‬
‫إن القرآن الكريم أعظم مصدر للتثبيت؛ لنه يزرع اليمان ويقوي‬
‫الصلة بال‪ ،‬كما أنه العاصم من الفتن‪ ،‬وكيد الشيطان وغوايته‪ ،‬كما‬
‫أنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع على‬
‫ضوئها أن يُقوّم الوضاع التي من حوله تقييما صحيحا‪ ،‬كما أن‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪40‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫القرآن بما اشتمل عليه من أحكام وأصول وقواعد وحكم وقصص‪،‬‬
‫يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء السلم من الكفار والمنافقين‪،‬‬
‫ومن سار على دربهم‪ ،‬فإن عُلم ذلك كله لزم على من أراد الثبات‬
‫في الدنيا والخرة والفوز بالنعيم المقيم‪ ،‬أن يتخذ القرآن سميره‬
‫وأنيسه‪ ،‬وأن يجعله رفيقه وجليسه على مر الليالي وتتابع اليام‪،‬‬
‫فل يقتصر على النظر فيه‪ ،‬بل يحمل نفسه على العمل به‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬الصبر والتصبر عند نزول المصائب والمحن‪ :‬إن الصبر من‬
‫أعظم المور والعوامل المعينة على الثبات‪ ،‬ذلك أن الصبر هو‬
‫حبس النفس عن الجزع واللسان عن الشكوى‪ ،‬والجوارح عن‬
‫التشويش‪ ،‬فالصبر إذن أعظم مظهر من مظاهر الثبات‪ ،‬ولقد أمرنا‬
‫ستَعِينُواْ بِالصّبْرِ‬
‫ال تعالى به فقال سبحانه‪{ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ ا ْ‬
‫صلَةِ ِإنّ اللّهَ َمعَ الصّابِرِينَ} [(‪ )153‬سورة البقرة]‪.‬‬ ‫وَال ّ‬
‫ثامنا‪ :‬اليقين والرضا بقضاء ال وقدره‪ :‬إن اليقين والرضا بقضاء‬
‫ال وقدره من أعظم السباب المعينة على الثبات‪ ،‬ذلك أن اليقين‬
‫هو جوهر اليمان‪ ،‬وإن مما ل شك فيه أن اليقين والرضا والتسليم‬
‫لقضاء ال وقدره من أقوى الدعائم والعوامل المعينة على الثبات‪.‬‬
‫العامل التاسع من عوامل الثبات على الدين‪ :‬ترك المعاصي والذنوب‬
‫صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها‪ :‬فإن الذنوب من أسباب زيغ‬
‫القلوب‪ ،‬فقد قال ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬فيما أخرجه البخاري‬
‫ومسلم عن أبي هريرة ‪-‬رضي ال عنه‪(( :-‬ل يزني الزاني حين‬
‫يزني وهو مؤمن‪ ،‬ول يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن‪ ،‬ول‬
‫يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) وقال ‪-‬صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ -‬عن الصغائر‪(( :‬إياكم ومحقرات الذنوب‪ ،‬فإنما مثل محقرات‬
‫الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد‪ ،‬فجاء ذا بعود‪ ،‬وجاء ذا بعود‪،‬‬
‫حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم)) لن محقرات الذنوب متى يأخذ‬
‫بها صاحبها تهلكه‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪41‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫العامل العاشر‪ :‬نصر دين ال ونصر أوليائه‪ :‬قال ال تعالى‪{ :‬يَا َأ ّيهَا‬
‫الّذِينَ آ َمنُوا إِن تَنصُرُوا اللّهَ يَنصُرْكُمْ َويُ َثبّتْ أَقْدَامَكُمْ} [(‪ )7‬سورة‬
‫محمد] ونصر دين ال تعالى وأوليائه يكون بطرائق عديدة ل يحدها‬
‫حد ول تقف عند رسم‪ ،‬فالدعوة إلى ال بجميع صورها نصر لدين‬
‫ال‪ ،‬وطلب العلم نصر لدين ال‪ ،‬والعمل بالعلم نصر لدين ال‪،‬‬
‫وجهاد الكفار والمنافقين والعصاة نصر لدين ال‪ ،‬والرد على‬
‫خصوم السلم‪ ،‬وكشف مخططاتهم نصر لدين ال‪ ،‬والبذل في سبيل‬
‫ال‪ ،‬والنفاق في وجوه البر نصر لدين ال‪ ،‬والذب عن أهل العلم‬
‫والدعوة وأهل الخير والصحوة نصر لدين ال‪ ،‬وطرائق نصر دين‬
‫ال وأوليائه كثيرة‪ ،‬جعلني ال وإياكم منهم‪ ،‬من أوليائه وأنصار‬
‫دينه‪ ،‬ول تحقرن من هذه العمال شيئا‪ ،‬فقاعدة الطريق‪(( :‬اتق‬
‫النار ولو بشق تمرة)) قال ابن القيم ‪-‬رحمه ال‪:-‬‬
‫هذا ونصر الدين فرض لزم‬
‫ل للكفاية بل على العيانِ‬
‫بيد وإما باللسان فإن عجزت‬
‫فبالتوجه والدعاء بجنانِ‬

‫الحادي عشر‪ :‬الرجوعُ إلى أهل الحق والتقى من العلماء والدعاة‪:‬‬


‫الذين هم أوتاد الرض‪ ،‬ومفاتيح الخير‪ ،‬ومغاليق الشر‪ ،‬فافزع إليهم‬
‫عند توالي الشبهات‪ ،‬وتعاقب الشهوات قبل أن تنشب أظفارها في‬
‫قلبك فتوردك المهالك‪ ،‬قال ابن القيم ‪-‬رحمه ال‪ -‬حاكيا عن نفسه‬
‫وأصحابه‪" :‬وكنا إذا اشتد بنا الخوف‪ ،‬وساءت بنا الظنون‪ ،‬وضاقت‬
‫بنا الرض أتيناه ‪-‬أي شيخ السلم ابن تيمية ‪-‬رحمه ال‪ -‬فما هو‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪42‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫إل أن نراه ونسمع كلمه فيذهب ذلك كله عنا‪ ،‬وينقلب انشراحا‬
‫وقوة ويقينا وطمأنينة"‪.‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬كثرة ذكر ال تعالى‪ ،‬كيف ل؟ وقد قال سبحانه‪َ{ :‬ألَ‬
‫بِذِ ْكرِ اللّ ِه تَطْ َم ِئنّ الْقُلُوبُ} [(‪ )28‬سورة الرعد] وقال ‪-‬صلى ال‬
‫عليه وسلم‪(( :-‬مثل الذي يذكر ربه والذي ل يذكر ربه مثل الحي‬
‫والميت)) وقد أمر ال تعالى عباده بالكثار من ذكره‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫سبّحُو ُه بُكْرَ ًة َوَأصِيلًا‬
‫{يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا اذْ ُكرُوا اللّهَ ذِ ْكرًا َكثِيرًا * وَ َ‬
‫* ُهوَ الّذِي ُيصَلّي عَ َليْكُمْ وَمَلَائِ َكتُهُ ِليُخْ ِرجَكُم ّمنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ‬
‫وَكَانَ بِالْ ُمؤْ ِمنِينَ رَحِيمًا} [(‪ )43-41‬سورة الحزاب] فذكر ال‬
‫ب لصَلته سبحانه وصَلة ملئكته التي‬ ‫كثيرا‪ ،‬وتسبيحه كثيرا سب ٌ‬
‫يَخرج بها العبد من الظلمات إلى النور‪ ،‬فيا حسرة الغافلين عن‬
‫ربهم‪ ،‬ماذا حرموا من خيره وفضله وإحسانه؟‪.‬‬

‫العامل الثالث عشر من عوامل الثبات على الدين‪ :‬ترك الظلم‪ ،‬فالظلم‬
‫عاقبته وخيمة‪ ،‬وقد جعل ال التثبيت نصيب المؤمنين والضلل حظ‬
‫الظالمين‪ ،‬فقال ‪-‬جل ذكره‪ُ { :-‬ي َثبّتُ اللّهُ الّذِينَ آ َمنُواْ بِالْ َق ْولِ الثّابِتِ‬
‫ضلّ اللّهُ الظّالِمِينَ َويَفْ َعلُ اللّهُ مَا‬ ‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا وَفِي الخِ َرةِ َو ُي ِ‬
‫فِي الْ َ‬
‫يَشَاء} [(‪ )27‬سورة إبراهيم]‬
‫الرابع عشر‪ :‬التأمل في قصص النبياء‪ ،‬وأخذ الدروس والعبر‬
‫سلِ مَا نُ َثبّتُ بِهِ‬ ‫منها‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬وَ ُكلّ نّ ُقصّ عَ َل ْيكَ ِمنْ أَنبَاء الرّ ُ‬
‫ُفؤَا َدكَ} [(‪ )120‬سورة هود] تأمل قوله تعالى‪{ :‬قَالُوا َ‬
‫حرّقُوهُ‬
‫وَانصُرُوا آ ِل َهتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُ ْلنَا يَا نَارُ كُونِي َبرْدًا وَسَلَامًا‬
‫خسَرِينَ} [(‪)70-68‬‬ ‫عَلَى ِإبْرَاهِيمَ * َوأَرَادُوا بِهِ َكيْدًا َفجَعَ ْلنَاهُمُ الْأَ ْ‬
‫سورة النبياء] قال ابن عباس‪ :‬كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في‬
‫النار‪ :‬حسبي ال ونعم الوكيل‪ ،‬أل تشعر بمعنىً من معاني الثبات‬
‫أمام الطغيان والعذاب‪ ،‬يدخل نفسك وأنت تتأمل هذه القصة‪ ،‬وهذا‬
‫موسى ‪-‬عليه السلم‪ -‬في وقت ملحقة الظالمين له يقول أتباعه‪:‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪43‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫س َيهْدِينِ} [(‪ )62-61‬سورة‬ ‫{ِإنّا لَ ُمدْرَكُونَ * قَالَ كَلّا ِإنّ مَ ِعيَ َربّي َ‬
‫الشعراء] ثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين‪.‬‬
‫الخامس عشر‪ :‬سلوك المرء طريق أهل السنة والجماعة‪ ،‬طريق‬
‫الطائفة المنصورة والفرقة الناجية‪ ،‬ذي العقيدة الصافية والمنهج‬
‫السليم‪ ،‬واتباع السنة والدليل‪ ،‬والتميّز عن أعداء ال‪ ،‬ومفاصلة‬
‫أهل الباطل‪ ،‬وإذا أردت أن تعرف أهمية ذلك الثبات فانظر في تلك‬
‫الفرق الضالة لماذا تخبّط أصحابها؟ وتنقّلوا في منازل البدع‬
‫والضلل من الفلسفة إلى الكلم والعتزال إلى التحريف‪ ،‬إلى‬
‫التصوف والتفويض والرجاء؟ بل إنهم عند الموت من أكثر الناس‬
‫شكا وتحيرا‪ ،‬وأما من هو على الجادة طريق أهل السنة والجماعة‬
‫فل يتركه عقله أبدا لكل هوى أو شهوة أو شبهة عرضت‪.‬‬
‫العامل السادس عشر‪ :‬من عوامل الثبات على الدين‪ :‬التربية‬
‫اليمانية الواعية القائمة على الدليل الصحيح‪ ،‬والحاطة بالواقع‬
‫علما‪ ،‬وبالحداث فهما وتقويما‪ ،‬التربية المتدرجة التي تسير‬
‫بالمسلم شيئا فشيئا ترتقي به في مدارج كماله‪ ،‬ل ارتجال فيها‪ ،‬ول‬
‫تسرع‪ ،‬ول حماس طائش‪.‬‬
‫السابع عشر‪ :‬الثقة بنصر ال وأن المستقبل لهذا الدين‪ :‬وقد كان‬
‫الرسول ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬يثبت أصحابه المعذبين‪ ،‬ويخبرهم‬
‫بأن المستقبل للسلم في أوقات التعذيب والمحن‪ ،‬فيقول‪(( :‬ليتمن‬
‫ال هذا المر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ل يخاف‬
‫إل ال والذئب على غنمه)) وأحاديث كثيرة تبشر بنصرة هذا الدين‪،‬‬
‫فما أشد الحاجة لها في أوقات الفتن‪ ،‬فإنها من أهم عوامل الثبات‬
‫على السلم‪ ،‬فعرْض أحاديث البشارة بأن المستقبل للسلم على‬
‫الناشئة مهمّ في تربيتهم على الثبات‪.‬‬
‫الثامن عشر‪ :‬البصيرة وفهم الواقع‪ :‬وأن تعرف الباطل وأن ل تغتر‬
‫به {لَ يَ ُغ ّر ّنكَ تَقَلّبُ الّذِينَ كَ َفرُواْ فِي ا ْل ِبلَدِ * َمتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمّ مَ ْأوَاهُمْ‬
‫جهَنّمُ َو ِبئْسَ الْ ِمهَادُ} [(‪ )197-196‬سورة آل عمران] فو ال إن‬ ‫َ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪44‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫الباطل وأهله ضعفاء جبناء‪ ،‬أصول مخططاتهم أوهى من بيت‬
‫العنكبوت‪ ،‬ويتبين ذلك كله لمن رزقه ال بصيرة واعية وحكمة‬
‫نافذة وعلما نافعا‪ ،‬ومع ذلك كله يجب أن نثق بنصر ال للمؤمنين‪،‬‬
‫{ َويَزِي ُد اللّهُ الّذِينَ ا ْهتَ َدوْا ُهدًى} [(‪ )76‬سورة مريم] {ِإنّا َلنَنصُرُ‬
‫شهَادُ} [(‪)51‬‬ ‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا َو َيوْمَ يَقُومُ الْأَ ْ‬
‫رُسُ َلنَا وَالّذِينَ آ َمنُوا فِي الْ َ‬
‫سورة غافر]‪)14(.‬‬

‫‪ -8‬بين إرادة الكفر وإرادة اليمان‬


‫نعود لنعيش محنة الغلم المؤمن ونصاحبه في رحلة ثباته ‪:‬‬
‫جبَل َكذَا وَكَذَا‬ ‫عنْ دِينك فَ َأبَى َفبَعَثَ بِهِ مَ َع نَفَر إِلَى َ‬ ‫"وَقَا َل لِلْغُلَامِ ِارْجِ ْع َ‬
‫عنْ دِينه َوإِلّا فَ َدهْدِهُو ُه فَ َذ َهبُوا بِهِ‬ ‫وَقَالَ إِذَا بَلَغْتُمْ ذِ ْروَته فَ ِإنْ َرجَعَ َ‬
‫جبَل‬
‫جفَ ِبهِمْ الْ َ‬ ‫شئْت َفرَ َ‬ ‫جبَل قَالَ ‪ :‬الّلهُمّ اِكْ ِفنِيهِمْ بِمَا ِ‬‫فَلَمّا عَ َلوْا بِهِ الْ َ‬
‫خلَ عَلَى الْمَلِك َفقَالَ مَا‬ ‫حتّى دَ َ‬‫َفدُهْ ِدهُوا أَجْمَعُونَ وَجَاءَ الْغُلَام َيتَلَمّس َ‬
‫فَ َعلَ َأصْحَابك ؟ فَقَالَ كَفَانِيهِمْ اللّه تَعَالَى"‬

‫هنا يتبين إصرار الملك الكذاب على كذبته وثبات المؤمن على‬
‫إيمانه فالملك يكمل الختبار ول يلين والغلم يرفع يده إلى السماء‬
‫بثبات المؤمن الواثق طالبا الكفاية من ال متوكلً محتسبا فيكون‬
‫الرد العملي ‪ :‬فسيكفيكهم ال‬
‫قال تعالى ‪ ( :‬فَ ِإنْ آ َمنُواْ بِ ِم ْثلِ مَا آمَنتُم بِ ِه فَقَ ِد ا ْهتَدَواْ ّوإِن َتوَّل ْواْ‬
‫سيَكْفِي َكهُمُ اللّهُ وَ ُهوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة‬ ‫فَ ِإنّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَ َ‬
‫‪137‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪45‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫ن أَهْل‬‫يقول المام ابن كثير ‪ :‬يَقُول تَعَالَى فَ ِإنْ آ َمنُوا يَ ْعنِي الْكُفّار ِم ْ‬
‫ن الْإِيمَان‬ ‫غيْره ْم بِمِ ْثلِ مَا آ َم ْنتُمْ بِهِ يَا َأ ّيهَا الْ ُمؤْ ِمنُونَ ِم ْ‬‫الْ ِكتَاب َو َ‬
‫بِجَمِي ِع ُكتُب اللّه وَ ُرسُله وَلَ ْم يُفَرّقُوا َبيْن أَحَد ِم ْنهُمْ " فَ َقدْ اِ ْهتَ َدوْا " أَيْ‬
‫حقّ إِلَى‬ ‫عنْ الْ َ‬ ‫حقّ َوأُ ْرشِدُوا إِ َليْهِ " َوِإنْ تَوَّلوْا " أَيْ َ‬ ‫فَ َقدْ َأصَابُوا الْ َ‬
‫سيَكْفِيكَهُمْ اللّهُ "‬ ‫ا ْلبَاطِل بَعْد ِقيَام الْحُجّة عَ َل ْيهِمْ " فَ ِإنّمَا هُ ْم فِي شِقَاق َف َ‬
‫س َينْصُرُك عَ َل ْيهِمْ َويُظْفِرك ِبهِمْ " وَ ُهوَ السّمِي ُع الْعَلِيمُ ‪)15( .‬‬ ‫أَيْ فَ َ‬
‫سيَكْفِي َكهُ ْم‬
‫يقول المام الطبري ‪ :‬الْ َقوْل فِي تَ ْأوِيل َقوْله تَعَالَى ‪َ { :‬ف َ‬
‫سيَكْفِيكَهُمْ‬ ‫اللّه وَ ُهوَ السّمِيع الْعَلِيم } ‪ .‬يَ ْعنِي تَعَالَى ذِكْره بِ َقوْلِهِ ‪َ { :‬ف َ‬
‫سيَكْفِيك اللّه يَا مُحَمّد َهؤُلَا ِء الّذِينَ قَالُوا لَك لِ َأصْحَابِك ‪:‬‬ ‫اللّه } فَ َ‬
‫{ كُونُوا هُودًا أَوْ َنصَارَى َت ْهتَدُوا } ِمنْ ا ْل َيهُود وَالنّصَارَى ‪ ,‬إنْ هُمْ‬
‫عنْ َأنْ ُيؤْمِنُوا بِ ِمثْلِ إيمَان َأصْحَابك بِاَللّهِ ‪َ ,‬وبِمَا ُأنْ ِزلَ إ َليْك ‪,‬‬ ‫َتوَّلوْا َ‬
‫غيْرهمْ ‪,‬‬ ‫سحَاق وَسَائِر الْ َأنْ ِبيَاء َ‬ ‫وَمَا أُنْ ِز َل إلَى إبْرَاهِيم َوإِسْمَاعِيل وَإِ ْ‬
‫جوَارك‬ ‫عنْ ِ‬ ‫سيْف ‪َ ,‬وإِمّا بِجَلَا ِء َ‬ ‫وَ َفرّقُوا بَيْن اللّه وَرُسُله ‪ ,‬إمّا بِ َقتْلِ ال ّ‬
‫ن اللّه ُهوَ السّمِيع لِمَا يَقُولُونَ لَك‬ ‫غيْر ذَ ِلكَ ِمنْ الْعُقُوبَات ‪ ,‬فَ ِإ ّ‬ ‫‪َ ,‬و َ‬
‫جهْل وَال ّدعَاء إلَى الْكُفْر وَالْمِلَل‬ ‫س َن ِتهِمْ َويُبْدُونَ لَك بِأَ ْفوَا ِههِمْ ِمنْ الْ َ‬
‫بِأَلْ ِ‬
‫طنُونَ لَك وَلِ َأصْحَابِك الْ ُمؤْ ِمنِينَ فِي َأنْفُسهمْ ِمنْ‬ ‫الضّالّة ‪ ,‬الْعَلِيم بِمَا ُيبْ ِ‬
‫حسَد وَا ْلبَ ْغضَاء ‪ .‬فَفَ َعلَ اللّه ِبهِمْ ذَ ِلكَ عَاجِلًا َوَأنْجَ َز َوعْده ‪ ,‬فَكَفَى‬ ‫الْ َ‬
‫حتّى َق َتلَ بَعْضهمْ‬ ‫َن ِبيّه صَلّى اللّه عَ َليْهِ وَسَلّمَ ِبتَسْلِيطِهِ إيّا ُه عَ َل ْيهِمْ َ‬
‫خزَاهُ بِا ْلجِ ْزيَةِ وَالصّغَار ‪)16( .‬‬ ‫َوأَجْلَى بَ ْعضًا َوأَ َذلّ بَعْضًا وَأَ ْ‬
‫الغلم ثبت على الحق وأخذ بأسباب النصر ثم التمس أسباب السماء‬
‫والتجأ إليها فنزلت المعجزة واكتمل النصر بهلك جنود الطاغية‬
‫ونجاة الغلم الذي لم يهرب بدوره بعد نجاته وإنما أصر على‬
‫دعوة الملك إلى ال وإعلمه بالمعجزة عسى أن يرعوي ويعود‬
‫لرشده فيدخل أهل مملكته في السلم بسبب إسلمه ‪ ,‬فحمل‬
‫الموقف إصرار الغلم على الثبات والدعوة إلى ال وكان موقف‬
‫الملك على ما سنرى ‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪46‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫عنْ‬‫جتُمْ بِ ِه ا ْلبَحْر َفِإنْ َرجَعَ َ‬‫َفبَعَثَ بِ ِه مَعَ نَفَر فِي ُقرْقُور فَقَالَ إِذَا لَجَ ْ‬
‫ججُوا بِ ِه ا ْلبَحْر َفقَالَ الْغُلَام الّلهُمّ‬
‫دِينه َوإِلّا فَغَرّقُو ُه فِي ا ْلبَحْر فَلَ َ‬
‫خ َل عَلَى الْمَلِك‬‫حتّى دَ َ‬ ‫شئْت فَ َغرِقُوا أَجْمَعُونَ وَجَا َء الْغُلَام َ‬ ‫اِكْ ِفنِيهِمْ بِمَا ِ‬
‫فَقَالَ مَا فَ َع َل أَصْحَابك ؟ فَقَالَ كَفَانِيهِمْ اللّه تَعَالَى ‪.‬‬
‫إصرار عجيب على الكفر والركون إلى الدنيا من الملك ومخالفة‬
‫منظومة التسبيح الكونية التي بدأت معالمها تتضح له على يد الغلم‬
‫‪ ,‬وثبات أعجب من غلم استعذب التضحية بنفسه في ذات ال ‪.‬‬
‫ويتكرر الموقف من محاولة الملك التخلص من الدعوة وأهلها‬
‫للرجوع للستقرار الموهوم داخل مملكته ‪ ,‬بعدما أيقن أن آلة‬
‫التخييل لم تعد تصلح لغلبة هذه الدعوة الجديدة التي استندت إلى‬
‫الحجة البالغة واحتمت بملك ل يستطيع الطاغية معه حيلة ول‬
‫مواجهة ‪.‬‬
‫يقول الشيخ رفاعي سرور‪:‬‬
‫إن اختيار الملك لسلوب القذف بالغلم في وسط البحر بعد محاولة‬
‫القذف به من فوق الجبل يعتبر نموذجا لطبيعة تطور المواجهة‬
‫الجاهلية المادية البحتة في مواجهة دعوة قائمة بقدر ال وحده‪.‬‬

‫تلك المادية البحتة التى أعمت أصحابها عن قدر ال السافر فوق‬


‫ذروة الجبل حيث اهتز الجبل فسقطوا هم وعاد هو سالما‪.‬‬

‫والتي أودت بأصحابها إلى اتباع الساليب التافهة الناتجة عن النظر‬


‫القاصر في المسافة اليابسة بين الجبل والقصر‪.‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪47‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫كيف لو كانت بحرا‪.‬‬
‫وكما اهتز الجبل فسقطوا ‪.‬‬
‫انكفأت السفينة فغرقوا‪.‬‬
‫وعاد هو سالما‪..‬‬

‫أحداث ناشئة بطبيعة واحدة‪ ،‬ناشئة عن إرادة إلهية غالبة بتمام‬


‫الدعوة‪.‬‬

‫أدرك الغلم هذه الحقيقة‪ ..‬فجاء يمشي إلى الملك‪.‬‬

‫ويقين الغلم بعجز الملك عن قتله وإن كان موقفا خاصا إل أنه‬
‫تضمن حقيقة اعتقادية مطلقة قالها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫لبن عباس في حديثه‪( :‬واعلم أن المة لو اجتمعت على أن ينفعوك‬
‫بشيء لن ينفعوك إل بشيء قد كتبه ال لك ولو اجتمعت على أن‬
‫يضروك بشيء لن يضروك إل بشيء قد كتبه ال عليك‪ ،‬رفعت‬
‫القلم وجفت الصحف ) (‪)17‬‬

‫‪ -10‬ما أحلى الجود بالنفس في سبيل ال‬


‫ن أَنْ َ‬
‫ت‬ ‫حتّى تَفْعَل مَا آمُرك بِهِ فَ ِإ ْ‬ ‫ثُمّ قَا َل لِلْمَ ِلكِ ‪ِ :‬إنّك لَسْت بِقَاتِلِي َ‬
‫ستَطِيع َقتْلِي قَا َل وَمَا ُه َو ؟‬ ‫فَعَلْت مَا آمُرك بِهِ َقتَلْتنِي َوإِلّا فَ ِإنّك لَا تَ ْ‬
‫سهْمًا‬‫جذْع َوتَأْخُذ َ‬ ‫قَا َل تَجْمَع النّاس فِي صَعِيد وَاحِد ثُ ّم تَصْلُبنِي عَلَى ِ‬
‫ب الْغُلَام فَ ِإنّك إِذَا فَعَلْت ذَ ِلكَ َقتَلْتنِي ‪.‬‬
‫ن ِكنَا َنتِي ثُمّ ُقلْ بِسْمِ اللّه رَ ّ‬
‫ِم ْ‬
‫ب الْغُلَام‬
‫سهْم فِي َكبِد َقوْسه ثُمّ رَمَا ُه وَقَالَ بِسْمِ اللّه رَ ّ‬ ‫فَفَ َع َل َووَضَعَ ال ّ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪48‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫سهْم وَمَاتَ‬
‫سهْم فِي صُدْغه َف َوضَعَ الْغُلَام يَده عَلَى َم ْوضِع ال ّ‬ ‫َفوَقَعَ ال ّ‬
‫فَقَالَ النّاس آ َمنّا ِبرَبّ الْغُلَام ‪.‬‬

‫هنا تكتمل الثارة المتمثلة في موقف غلم مؤمن قوي لم يهن ولم‬
‫يركن إلى الدعة وينظر إلى أقرانه ومن هم في مثل سنه ‪ ,‬أو يهرب‬
‫من المواجهة ويقول في نفسه يكفي هذا الطاغية ما سبق من آيات‬
‫‪ ,‬وإنما يضحي بنفسه من أجل إدخال الناس في دين ال أفواجا‬
‫وإظهار عوار الملك وإظهار نشاز مملكته عن منظومة التسبيح‬
‫والتوحيد الكونية ‪ ,‬ويفضح اعتقاد من اعتقد بألوهية ملك ل يملك‬
‫لنفسه النفع والضر ‪ ,‬بل ل يملك إيذاء من يستطيع إيذاءه إل بإذن‬
‫ال ملك الملوك ومدبر الكوان وخالق كل شيء‪.‬‬
‫الغلم يعري وثنية المملكة أمام أركانها مكتملة سواء من ناحية‬
‫النظام الفاسد الذي يريد تعبيد الناس لذاته وشهواته أو من ناحية‬
‫قوم سفهاء الحلم استخف ملكهم عقولهم فأطاعوه فكانوا قوما‬
‫كافرين ‪.‬‬
‫يقول تعالى حاكيا عن صورة مطابقة لصورة هذا الملك الكذاب وهي‬
‫صورة الكفر الفرعوني ‪:‬‬
‫ف َقوْمَهُ فَ َأطَاعُوهُ ِإ ّنهُمْ كَانُوا َقوْمًا فَاسِقِينَ (‪ ))54‬الزمر‬
‫ستَخَ ّ‬
‫(فَا ْ‬
‫ف َقوْمه "‬ ‫ستَخَ ّ‬‫يقول المام القرطبي في تفسيره ‪َ :‬قوْله تَعَالَى " فَا ْ‬
‫ج َهلَ َقوْمه " َفأَطَاعُوهُ " ِلخِفّةِ‬ ‫ستَ ْ‬
‫قَا َل اِبْن الْ َأعْرَا ِبيّ ‪ :‬الْمَعْنَى فَا ْ‬
‫خفّهُ الْفَرَح أَيْ أَ ْزعَجَ ُه ‪,‬‬
‫ستَ َ‬‫أَحْلَامه ْم وَقِلّة عُقُولهمْ ; يُقَال ‪ :‬اِ ْ‬
‫ستَخِفّنك الّذِينَ لَا‬ ‫جهْل ; وَ ِمنْهُ ‪ " :‬وَلَا يَ ْ‬ ‫ستَخَفّ ُه أَيْ حَمَلَ ُه عَلَى ا ْل َ‬
‫وَا ْ‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪49‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫يُو ِقنُونَ " [ الرّوم ‪ . ] 60 :‬وَقِيلَ ‪ :‬اِ ْ‬
‫ستَفَزّهُمْ بِالْ َق ْولِ فَأَطَاعُوهُ عَلَى ‪,‬‬
‫التّكْذِيب ‪.‬‬
‫جدَهُمْ خِفَاف الْعُقُول ‪ .‬وَ َهذَا لَا يَ ُدلّ عَلَى‬ ‫ف َقوْمه أَيْ وَ َ‬ ‫ستَخَ ّ‬ ‫وَقِيلَ ‪ :‬اِ ْ‬
‫جدَهُمْ خِفَاف‬ ‫َأنّهُ يَجِب َأنْ يُطِيعُو ُه ‪ ,‬فَلَا بُ ّد ِمنْ ِإضْمَار بَعِيد تَقْدِيره وَ َ‬
‫خفّ َقوْمه‬ ‫ستَ َ‬
‫الْعُقُول َف َدعَاهُمْ إِلَى الْ َغوَايَة فَأَطَاعُو ُه ‪ .‬وَقِيلَ ‪ :‬اِ ْ‬
‫ستَخَفّ بِهِ‬‫س َتثْقَلَهُ ‪ ,‬وَا ْ‬‫ستَخَفّهُ خِلَاف اِ ْ‬
‫حتّى ِاتّبَعُوهُ ; يُقَال ‪ :‬اِ ْ‬ ‫وَ َقهَ َرهُمْ َ‬
‫أَهَانَهُ ‪.‬‬
‫عنْ طَاعَة اللّه ‪)18( .‬‬
‫" ِإ ّنهُمْ كَانُوا َقوْمًا فَاسِقِينَ " أَيْ خَا ِرجِينَ َ‬
‫وهكذا كل نظام شاز عبر التاريخ يقود أتباعه تارة بآلت التخييل‬
‫المختلفة وتارة بالستجهال وأخرى بالقهر والتعذيب أو الفقار‬
‫وإرغامهم على الحاجة الدائمة للخضوع لنشاز النظام واختلله عن‬
‫منظومة التسبيح الكونية ‪.‬‬
‫ولما أصر الملك الطاغية على المضي في كذبه وأطاع الداعية‬
‫الذكي الزكي وقع فيما كان يخشى وكان النصر مصاحبا لتضحية‬
‫عظيمة من الغلم الداعية الذي قدم نفسه فداء لعلء كلمة ال‬
‫فكانت المفاجأة تحقق النصر المبين ودخول الناس في دين ال‬
‫أجمعين ‪.‬‬
‫‪-11‬شهداء الخدود لؤلؤة في عقد منظومة التسبيح الكوني‬
‫وهنا لنا وقفة وهي أن النصر قد يأتي حال حياة أصحابه وقد يأتي‬
‫حال موتهم أو وهم أموات ‪ ,‬ولكن التناغم الحقيقي مع منظومة‬
‫الكون المسبح بحمد ربه يمد حبل الحياة ويصحب النصر إلى حيث‬
‫صاحبه في جنات الخلود ولتكون نهاية القصة بما يلي‪:‬‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪50‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫ن النّاس‬ ‫فَقِيلَ ِللْمَ ِلكِ أَ َرَأيْت مَا ُكنْت تَحْذَر ؟ فَقَ ْد َواَللّه نَ َزلَ بِك َقدْ آ َم َ‬
‫ت فِيهَا النّيرَان‬ ‫خدّتْ فِيهَا الْأَخَادِيد َوأُضْرِمَ ْ‬ ‫كُلّهمْ َفأَمَ َر بِأَ ْفوَاهِ السّكَك فَ ُ‬
‫عنْ دِينه فَ َدعُو ُه َوإِلّا فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا قَا َل فَكَانُوا‬ ‫وَقَالَ َمنْ َرجَعَ َ‬
‫ت اِمْ َرأَة بِا ْبنٍ َلهَا تُ ْرضِعهُ فَكَ َأ ّنهَا‬
‫َيتَعَا َد ْونَ فِيهَا َو َيتَدَافَعُونَ َفجَاءَ ْ‬
‫ت َأنْ تَقَع فِي النّار فَقَا َل الصّ ِبيّ ِاصْبِرِي يَا أُمّا ُه فَ ِإنّك عَلَى‬ ‫تَقَاعَسَ ْ‬
‫حقّ ‪.‬‬ ‫الْ َ‬
‫وتتوالي الحداث ببزوغ فجر التوحيد في هذه المملكة السابحة في‬
‫الظلم وتتسابق الرواح إلى دخول الجنة وكان سوقا للفلح قد‬
‫انفتحت ‪:‬‬

‫وكأني أنظر إلى اكتمال نصر الغلم بصعود روحه الطاهرة إلي‬
‫السماء لتحلق في جوف طائر أخضر في الجنة ‪ ,,‬تكاد تلحقه أرواح‬
‫قوم نفضوا الكفر عن كواهلهم ‪ ,‬وغسلوا قلوبهم من الكفر بماء‬
‫التوحيد الطاهر وانتظموا في سلسلة التوحيد ومنظومة الكون‬
‫المسبح بحمد ال ففازوا بالجنات رغم احتراقهم في الدنيا ‪ ,‬وخسر‬
‫من عذبهم حيث استحق التحريق الحقيقي بنار الخلد البدية ‪ِ :‬إنّ‬
‫ج َهنّمَ‬
‫الّذِينَ َف َتنُوا الْ ُمؤْمِنِينَ وَالْ ُمؤْمِنَاتِ ثُ ّم لَمْ َيتُوبُوا فَ َلهُمْ عَذَابُ َ‬
‫ب الْحَرِيقِ (‪ )10‬البروج‬ ‫وَ َلهُمْ عَذَا ُ‬
‫وهنا تبدو المنظومة الكونية الحقيقية المتمثلة في مملكة التوحيد‬
‫واضحة فالحريق الحقيقي من نصيب أهل الكفر والنعيم البدي من‬
‫نصيب أهل التوحيد ومنظومة التسبيح ‪.‬‬
‫المكافأة الربانية للغلم كانت في نهاية القصة بإيمان قومه ليحقق‬
‫النتصار وإن كان الثمن حياته ‪ ,‬و الواقع الحقيقي لمنظومة الكون‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪51‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫أن حياته امتدت بهذه النهاية ولم تنقطع كما انقطعت حياة الكثيرين‬
‫غيره وهم أحياء يسيرون على وجه الرض ‪.‬‬
‫قوة النور وقوة الحق جعلت من رضيع ل يعقل ينطلق معبرا صارخا‬
‫بحقيقة التوحيد وموجها إلى الصراط المستقيم ومشيرا إلى طريق‬
‫الجنة‪.‬‬
‫فهنيئا لكم أصحاب الخدود مساكنكم في دار الخلود وقبلها تناغمكم‬
‫مع منظومة التوحيد الذي يسبح به هذا الوجود‪.‬‬

‫====================================‬
‫(‪)1‬تفسير الطبري‬
‫(‪)2‬تفسير ابن كثير‬
‫(‪)3‬تفسير الطبري‬
‫(‪)4‬تفسير ابن كثير‬
‫أصحاب الخدود ومنظومة الكون‬ ‫‪52‬‬

‫‪www.islamway.com‬‬
‫(‪)5‬تفسير ابن كثير‬
‫(‪)6‬أصحاب الخدود – رفاعي سرور‬
‫(‪)7‬تفسير ابن كثير‬
‫(‪)8‬تفسير ابن كثير‬
‫(‪)9‬رفاعي سرور (أصحاب الخدود)‬
‫(‪)10‬تفسير ابن كثير‬
‫(‪)11‬تفسير القرطبي‬
‫(‪)12‬بتصرف من محاضرة للشيخ‪ /‬عبد الرزاق بن عبد المحسن‬
‫العباد البدر‬
‫(‪)13‬تفسير الجللين‬
‫(‪)14‬ناصر بن محمد الحمد ‪ :‬خطبة (قل آمنت بال ثم‬
‫استقم) بتاريخ ‪14298-3-25‬هـ‬
‫(‪)15‬تفسير ابن كثير‬
‫(‪)16‬تفسير الطبري‬
‫(‪)17‬أصحاب الخدود – رفاعي سرور‬
‫(‪)18‬تفسير القرطبي‬
‫(‪)19‬‬

You might also like