You are on page 1of 57

‫محمد صلى الله‬

‫عليه وسلم‬
‫كأنك تراه‬
‫د‪ .‬عائض بن عبدال القرني‬

‫الطبعة الولى‬
‫‪ 1422‬هـ ـ ‪ 2002‬م‬
‫المؤلف في سطور‬
‫•عائض بن عبدال بن عائض آل مجدوع القرني‪.‬‬
‫•من مواليد عام ‪ 1379‬هـ ببلد القرن جنوب المملكة العربية السعودية‪.‬‬
‫•حصل على الشهادة الجامعية من كلية أصول الدين جامعة المام محمد بن سعود‬
‫السلمية عام ‪ 1403‬ـ ‪ 1404‬هـ‪.‬‬
‫•حصل على الماجستير في الحديث النبوي عام ‪ 1408‬هـ وعنوان رسالته " البدعة‬
‫وأثرها في الدراية والرواية"‪.‬‬
‫•حصل على الدكتوراه من جامعة المام عام ‪ 1422‬هـ بعنوان " دراسة وتحقيق‬
‫كتاب‪ :‬الفهم على صحيح مسلم للقرطبي"‪.‬‬
‫•له أكثر من ثمانمائة شريط كاسيت إسلمي في الخطب والدروس والمحاضرات‬
‫والمسيات الشعرية والندوات الدبية‪.‬‬
‫•يحفظ القرآن الكريم وكتاب بلوغ المرام ويستحضر ما يقارب من خمسة آلف حديث‬
‫وأكثر من عشرة آلف بيت شعر‪.‬‬
‫•له أربعة دواوين شعرية هي‪:‬‬
‫‪-1‬لحن الخلود‪.‬‬
‫‪-2‬تاج المدائح‪.‬‬
‫‪-3‬هدايا وتحايا‪.‬‬
‫‪-4‬قصة الطموح‪.‬‬
‫•أما مؤلفاته‪ :‬فقد ألف في الحديث والتفسير والفقه والدب والسيرة والتراجم‪ ،‬ومن‬
‫مؤلفاته التي أصدرها دار ابن حزم بلبنان‪:‬‬

‫‪ -2‬تاج المدائح‪.‬‬ ‫‪ -1‬السلم وقضايا العصر‪.‬‬


‫‪ -4‬دروس المسجد في رمضان‪.‬‬ ‫‪ -3‬ثلثون سببا للسعادة‪.‬‬
‫‪ -6‬مجتمع المثل‪.‬‬ ‫‪ -5‬فاعلم أنه ل إله إل ال‪.‬‬
‫‪ -8‬فقه الديل‪.‬‬ ‫‪ -7‬ورد المسلم والمسلمة‪.‬‬
‫‪ -10‬المعجزة الخالدة‪.‬‬ ‫‪ -9‬نونية القرني‪.‬‬
‫‪ -12‬تحف نبوية‪.‬‬ ‫‪ -11‬اقرأ باسم ربك‪.‬‬
‫‪ -14‬سياط القلوب‪.‬‬ ‫‪ -13‬حتى تكون أسعد الناس‪.‬‬
‫‪ -16‬هكذا قال لنا المعلم‪.‬‬ ‫‪ -15‬فتية آمنوا بربهم‪.‬‬
‫‪ -18‬من موحد الى ملحد‪.‬‬ ‫‪ -17‬ولكن كونوا ربانيين‪.‬‬
‫‪ -20‬وحي الذاكرة‪.‬‬ ‫‪ -19‬إمبراطور الشعراء‪.‬‬
‫‪ -22‬ترجمان السنة‪.‬‬ ‫‪ -21‬الى الذين أسرفوا على أنفسهم‪.‬‬
‫‪ -24‬العظمة‪.‬‬ ‫‪ -23‬حدائق ذات بهجة‪.‬‬
‫‪ -26‬وجاءت سكرة الموت بالحق‪.‬‬ ‫‪ -25‬ل تحزن‪.‬‬
‫‪ -28‬احفظ ال يحفظك‪.‬‬ ‫‪ -27‬مقامات القرني‪.‬‬
‫‪ -29‬أعذب الشعر‪.‬‬
‫•حضر عشرات الحاضرات والمسيات‪ ،‬وحضر مؤتمر الشباب العربي المسلم‬
‫ومؤتمر الكتاب والسنة بالوليات المتحدة الميركية‪ ،‬وحاضر في الندية الدبية‬
‫والرياضية‪ ،‬وحاضر في الجامعات والملتقيات الثقافية‪.‬‬
‫مقدمة‬
‫الحمد ل‪ ،‬والصلة والسلم على عبدال ورسوله محمد‪ ،‬وآله وصحبه‪ ،‬أما بعد‪:‬‬

‫ب إنسان الى قلبي‪ :‬محمد رسول ال صلى ال‬


‫فل أستطيع أن ألزم الحياد في كتابتي عن أح ّ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬إنني ل أكتب عن زعيم سياسي قدّم لشعبه أطروحته وعرض على أتباعه فكرته‪،‬‬
‫ليقيم دولة في زاوية من زوايا الرض‪ ،‬بل أكتب عن رسول ربّ العالمين‪ ،‬المبعوث رحمة‬
‫للناس أجمعين‪.‬‬

‫ولن ألزم الحياد وأنا أكتب عنه؛ لنني ل أكتب عن خليفة من الخلفاء له جنود وبنود ولديه‬
‫حشود وعنده قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسّومة والنعام والحرث‪ ،‬ولكنني‬
‫أكتب عن الرحمة المهداة والنعمة المسداة‪ :‬محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ولن ألزم الحياد لنني ل أتكلم عن سلطان من السلطين قهر الناس بسيفه وسوطه‪ ،‬وأخاف‬
‫الناس بسلطانه وهيمانه وصولجانه‪ ،‬لكنني أتكلم عن معصوم شرح ال صدره ووضع عنه‬
‫وزره‪ ،‬ورفع له ذكره‪.‬‬

‫ولن ألزم الحياد لنني ل أتكلم عن شاعر هدّار‪ ،‬أو خطيب ثرثار‪ ،‬أو متكلم موّار‪ ،‬أو‬
‫فيلسوف هائم‪ ،‬أو روائي متخيل‪ ،‬أو كاتب متصنّعن أو تاجر منعم‪ ،‬بل أتحدث عن نبي خاتم‪،‬‬
‫نزل عليه الوحي‪ ،‬وهبط عليه جبريل‪ ،‬ووصل سدرة المنتهى‪ ،‬له شفاعة كبرى‪ ،‬ومنزلة‬
‫عظمى‪ ،‬وحوض مورود‪ ،‬ومقام محمود‪ ،‬ولواء معقود‪ ،‬فكيف ألزم الحياد إذاً؟‬

‫أتريد أن أحبس عواطفي وأن أقيد ميولي وأن أربط على نبضات قلبي وأنا أكتب عن أحب‬
‫إنسان إلى قلبي وأغلى رجل وأعز مخلوق على نفسي؟ إن هذا لشسء عجاب!‬

‫أتريد مني أن أكفكف دموعي وأنا أخطّ سيرته‪ ،‬وأن أخمد لهيب روحي وأنا أسطّر أخباره‪،‬‬
‫وأن أجمد خلجات فؤادي وأنا أدبج ذكرياته؟! لن أستطيع هذا‪ ،‬كل وألف كل‪.‬‬

‫لنني أكتب عن أسوة وإمام معي بهداه في كل شاردة وواردة‪ ،‬أصلي فأذكره لنه يقول‪:‬‬
‫ج فأذكره لنه يقول‪ ":‬لتأخذوا عني‬ ‫"صلوا كما رأيتموني أصلي" البخاري ‪ ،631‬أح ّ‬
‫مناسككم" مسلم ‪ ،1297‬في كل طرفة عين أذكره لنه يقول‪ ":‬من رغب عن سنتي فليس‬
‫مني" البخاري ‪ 5063‬ومسلم ‪ ،1401‬وفي كل لحظة أذكره لن ال يقول‪َ {:‬ل َقدْ كَانَ َلكُ ْم فِي‬
‫رَسُو ِل اللّهِ أُسْوَ ٌة حَ َسنَ ٌة } الحزاب ‪.21‬‬

‫ل الناس وأفضل البشر وأزكى العالمين‪ ،‬مرجعي في ذلك‬


‫إنني أكتب عن أغلى الرجال وأج ّ‬
‫دفتر الحب المحفوظ في قلبي‪ ،‬ومصدري في ذلك ديوان العجاب المخطوط في ذاكرتي‪،‬‬
‫فكأنني أكتب بأعصاب جسمي وشرايين قلبي‪ ،‬وكأن مدادي دمي ودموعي‪:‬‬

‫إن كان أحببت بعد ال مثله في‬


‫بدو وحضر ومن عرب ومن عجم‬
‫فل اشتفى ناظري من منظر حسن‬
‫ول تفوّه بالقول السديد فمي‬
‫**‬
‫زمانك بستان وعهدك أخضر‬
‫وذكراك عصفور من القلب ينقر‬
‫وكنت فكانت في الحقول سنابل‬
‫وكانت عصافير وكان صنوبر‬
‫لمست أمانينا فصارت جداول‬
‫وأمطرتنا حبا ول زلت تمطر‬
‫تعاودني ذكراك كلّ عشيّة‬
‫ويورق فكري حين فيك أفكّر‬
‫وتأبى جراحي أن تضمّ شفاهها‬
‫كأن جرح الحب ل يتخثر‬
‫أحبّك ل تفسير عندي لصبوتي‬
‫أفسّر ماذا والهوى ل يُفسّر‬
‫تأخرت يا أعلى الرجال فليلنا‬
‫طويل وأضواء القناديل تسهر‬

‫**‬
‫قصة النبوة‬
‫محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم كأنك تراه‬
‫اسمه‪:‬‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬اسم على مسمّى‪ ،‬علم على رمز‪ ،‬ووصف على إمام‪ ،‬جمع المحامد‪،‬‬
‫وحاز المكارم‪ ،‬واستولى على القيم‪ ،‬وتفرّد بالمثل‪ ،‬وتميّز بالريادة‪ ،‬محمود عند ال لنه رسوله‬
‫المعصوم‪ ،‬ونبيّه الخاتم‪ ،‬وعبده الصالح‪ ،‬وصفوته من خلقه‪ ،‬وخليله من أهل الرض‪ ،‬ومحمود‬
‫عند الناس لنه قريب من القلوب‪ ،‬حبيب الى النفوس‪ ،‬رحمة مهداة‪ ،‬ونعمة مسداة‪ ،‬مبارك أينما‬
‫كان‪ ،‬محفوف بالعناية أينما وجد‪ ،‬محاط بالتقدير أينما حلّ وارتحل‪ ،‬حمدت طبائعه لنها هذّبت‬
‫بالوحي‪ ،‬وشرفت طباعه لنها صقلت بالنبوة‪ ،‬فال محمود ورسوله محمد‪:‬‬

‫وشقّ له من اسمه ليجلّه‬


‫فذو العرش محمود وهذا محمّد‬

‫واسمه أحمد‪ ،‬بشّر بذلك عيسى قومه‪ ،‬واسمه العاقب والحاشر والماحي‪ ،‬وهو خاتم الرسل‬
‫وخيرة النبياء‪ ،‬وخطيبهم إذا وفدوا‪ ،‬وإمامهم إذا وردوا‪.‬‬

‫صاحب الحوض المورود‪ ،‬واللواء المعقود‪ ،‬والمقام المحمود‪ ،‬صاحب الغرّة والتحجيل‪،‬‬
‫المذكور في التوراة والنجيل‪ ،‬المؤيّد بجبريل‪ ،‬حامل لواء العزّ في بني لؤي‪ ،‬وصاحب الطود‬
‫المنيف في بني عبدمناف بن قصي‪ ،‬أشرف من ذُكر في الفؤاد‪ ،‬وصفوة الحواضر والبوادي‪،‬‬
‫وأجلّ مصلح وهاد‪ ،‬جليل القدر‪ ،‬مشروح الصدر‪ ،‬مرفوع الذكر‪ ،‬رشيد المر‪ ،‬القائم بالشكر‪،‬‬
‫المحفوظ بالنصر‪ ،‬البريء من الوزر‪ ،‬المبارك في كل عصر‪ ،‬المعروف في كل مصر‪ ،‬في همة‬
‫الدهر‪ ،‬وجود البحر‪ ،‬وسخاء القطر‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه وآله وصحبه‪ ،‬ما نجمٌ بدا‪ ،‬وطائر‬
‫شدا‪ ،‬ونسيم غدا‪ ،‬ومسافر حدا‪.‬‬

‫واما نسبه‪:‬‬
‫فالرسول صلى ال عليه وسلم خيار من خيار‪ ،‬الى نسبه يعود كل مخار‪ ،‬وهو من نكاح ل من‬
‫سفاح‪ ،‬آباؤه سادات الناس‪ ،‬وأجداده رؤوس القبائل‪ ،‬جمعوا المكارم كابرا عن كابر‪ ،‬واستولى‬
‫على معالي المور‪ ،‬فلن تجد في صفة عبدالمطلب أجلّ منه‪ ،‬ول في قرن هاشم أنبل منه‪ ،‬ول في‬
‫ي أعلى كعبا منه‪ ،‬وهكذا دواليك‪ ..‬حتى ىدم عليه‬
‫أتراب عبدمناف اكرم منه‪ ،‬ول في رعيل قص ّ‬
‫السلم‪ ،‬فهو صلى ال عليه وسلم سيد من سيد يروي المكارم أبا عن جد‪:‬‬

‫نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى‬


‫نورا ومن فلق الصباح عمودا‬

‫وأما موطنه عليه الصلة والسلم‪:‬‬


‫ب البلد إليه سبحانه‪ ،‬البلد الحرام‪ ،‬والتربة‬
‫فقد اختار ال له من بقاع العالم ومن بين أصقاعها أح ّ‬
‫الطاهرة‪ ،‬والرض المقدسة‪ ،‬والوطن المحاط بالعناية المحروس بالرعايةن فولد صلى ال عليه‬
‫وسلم في مكة حيث صلى النبياء‪ ،‬وتهجّد المرسلون‪ ،‬وهبط الوحي‪ ،‬وطلع النور‪ ،‬وأشرقت‬
‫الرسالة‪ ،‬وسطعت النبوة‪ ،‬وانبلج فجر البعثة‪ ،‬وحيث البيت العتيق‪ ،‬والعهد الوثيق‪ ،‬والحب العميق‪،‬‬
‫فمكة مسقط رأس المعصوم‪ ،‬وفيها مهد طفولته‪ ،‬وملعب صباه‪ ،‬ومعاهد شبابه‪ ،‬ومراتع فتوّته‪،‬‬
‫ورياض أنسه‪.‬‬

‫بل ٌد نيطت عليّ تمائمي‬


‫س جلدي ترابها‬
‫وأوّل أرض م ّ‬

‫ففيها رضع لبن الطهر‪ ،‬ورشف ماء النبل‪ ،‬وحسا ينبوع الفضيلة‪ ،‬وفيها درج‪ ،‬ودخل وخرج‪،‬‬
‫وطلع وولج‪ ،‬فهي وطنه الول‪ ،‬بأبي هو وأمي‪ ،‬وهي بلدته العزيزة الى فؤاده‪ ،‬الحبيبة الى قلبه‪،‬‬
‫الثيرة الى روحه بنفسي هو‪.‬‬

‫وحبّب أوطان الرجال إليهم‬


‫معاهد قضاها الشباب هنالكا‬
‫إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو‬
‫عهود الصبا منها فحنّوا لذالكا‬

‫ث دعوته العظمى‪ ،‬وأرسل للعالمين خطابه الحا ّر‬ ‫فهناك في مكة صنع ملحمته الكبرى‪ ،‬وب ّ‬
‫الصادق‪ ،‬وبعث لهل الرض رسالته المشرقة الساطعة‪ ،‬حتى إنه لما أخرج من مكة ودّعها وداع‬
‫ت حِ ّل ِبهَذَا ا ْلبََلدِ(‪ } )2‬البلد‪.‬‬
‫الوفياء وفارقها وما كاد يتحمّل هذا الفراق‪ {:‬لَا ُأ ْقسِ ُم ِبهَذَا ا ْلبََل ِد (‪ )1‬وَأَن َ‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم طفل‪:‬‬


‫فإن الطهر ولد معه والبِشر صاحبه‪ ،‬والتوفيق رافقه‪ ،‬فهو طفل لكن ل كالطفال‪ ،‬براءة في‬
‫نجابة‪ ،‬وذكاء مع زكاء‪ ،‬وفطنه مع عناية‪ ،،‬فعين الرعاية تلحظه‪ ،‬ويد الحفظ تعاونه‪ ،‬وأغضان‬
‫الولية تظلله‪ ،‬فهو هالة النور بين الطفال‪ ،‬حفظه ال من الرعونة ومن كل خلق رديء ووصف‬
‫مقيت ومذهب سيء‪ ،‬لنه من ثغره مرشح لصلح العالم‪ ،‬مهيأ لسعاد البشرية‪ ،‬مع ّد بعناية‬
‫لخراج الناس من الظلمات الى التور‪ ،‬فهو الرجل لكن النبي‪ ،‬والنسان لكن الرسول‪ ،‬والعبد لكن‬
‫المعصوم‪ ،‬والبشر لكن الموحى إليه‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم ليس زعيما فحسب‪ ،‬لن الزعماء عدد شعر الرأس‪ ،‬لهم طموحات‬
‫من العلوم ومقاصد من الرئاسة ومآرب من الدنيا‪ ،‬أما هو فصالح مصلح‪ ،‬ها ٍد مهدي‪ ،‬معه كتاب‬
‫سنة‪ ،‬ونور وهدى‪ ،‬وعلم نافع وعمل صالح‪ ،‬فهو لصلح الدنيا والخرة‪ ،‬ولسعادة الروح والجسد‪.‬‬

‫ومحمد صلى ال عليه وسلم ليس عالما فحسب‪ ،‬بل يعلّم بإذن ال العلماء‪ ،‬ويفقه الفقهاء‪ ،‬ويرشد‬
‫صرَا ٍط مّ ْستَقِيمٍ(‪} )52‬‬
‫الخطباء‪ ،‬ويهدي الحكماء‪ ،‬ويدل الناس الى الصواب { َوِإّنكَ َل َت ْهدِي إِلَى ِ‬
‫الشورى‪.‬‬

‫فكلهم من رسول ال ملتمسٌ‬


‫غرفاً من البحر أو رشفاً من اليمّ‬

‫ومحمد صلى ال عليه وسلم ليس ملكا يبسط سلطانه وينشر جنوده وأعوانه‪ ،‬بل إمام معصوم‬
‫ونبي نرسل‪ ،‬وبشير ونذير لكل ملك ومملوك‪ ،‬وحر وعبد‪ ،‬وغني وفقير‪ ،‬وأبيض وأسود‪ ،‬وعربي‬
‫وعجمي { َومَا أَرْ َسْلنَاكَ إِلّا رَ ْحمَةً لّ ْلعَاَلمِي َن (‪ } )107‬النبياء‪ ،‬ويقول عليه الصلة والسلم‪ ":‬والذي‬
‫نفسي بيده ل يسمع بي أحد من هذه المة يهودي ول نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت‬
‫به إل كان من أصحاب النار"‪ .‬أخرجه مسلم ‪ 153‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬

‫وأما شبابه‪ ،‬فهو زينة الشباب وجمال الفتيان‪ ،‬عفة ومروءة وعقل وأمانة وفصاحة‪ ،‬لم يكن‬
‫يكذب كذبة واحدة‪ ،‬ولم تعلم له عثرة واحدة ول زلة واحدة ول منقصة واحدة‪ ،‬فهو طاهر الزار‬
‫ي الخلق‪ ،‬عذب‬ ‫مأمون الدخيلة‪ ،‬زاكي السر والعلن‪ ،‬وقور المقام‪ ،‬محترم الجانب‪ ،‬أريح ّ‬
‫السجايا‪ ،‬صادق المنطق‪ ،‬عفّ الخصال‪ ،‬حسن الخلل‪.‬‬

‫لم يستطع أعداؤه حفظ زلة عليه مع شدة عداوتهم وعظيم مكرهم وضراوة حقدهم‪ ،‬بل لم يعثروا‬
‫في ملف خلقه الكريم على ما يعيب‪ ،‬بل وجدوا والحمد ل كل ما غاظهم من نبل الهمة ونظافة‬
‫السجل‪ ،‬وطهر في السيرة‪ ،‬وجدوا الصدق الذي يباهي سناء الشمس‪ ،‬ووجدوا الطهر الذي يتطهر‬
‫به ماء الغمام‪ ،‬فهو بنفس الغاية في كل خلق شريف وفي كل مذهب عفيف‪ ،‬فكان في عنفوان‬
‫شبابه مستودع المانات ومردّ الراء ومرجع المحاكمات ومضرب المثل في البرّ والسموّ والرشد‬
‫والفصاحة {وَِإّنكَ َلعَلى خُُل ٍق عَظِيمٍ(‪ } )4‬القلم‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم رسول‪:‬‬


‫ن(‬
‫فهو النبأ العظيم‪ ،‬والحدث الهائل‪ ،‬والخبر العجيب‪ ،‬والشأن الفخم‪ ،‬والمر الضخم {عَ ّم َيتَسَاءلُو َ‬
‫‪ )1‬عَنِ الّنبَإِ ا ْلعَظِي ِم (‪ )2‬اّلذِي هُ ْم فِيهِ ُم ْختَلِفُو َن (‪ })3‬النبأ‪ ،‬فمبعثه حقيقة هو أروع النباء وأعظم‬
‫الخبار الذي سارت به الخبار‪ ،‬وتحدّث به السمّار‪ ،‬ورعاه الركبان‪ ،‬واندهش منه الدهر‪ ،‬وذهب‬
‫منه الزمن‪ ،‬فقد استدار له التاريخ ووقفت له اليام‪ ،‬فقصة إرساله عليه الصلة والسلم ل يلفها‬
‫الظلم ول تغطيها الريح ول يحجبها الغمام‪ ،‬فإنما هي قصة عبرت البحار واجتازت القفار‪،‬‬
‫ونزلت على العالم نزول الغيث‪ ،‬وأشرقت إشراق الشمس‪ ،‬فهو بإختصار نور‪ ،‬وهل يخفى‬
‫النور؟ {يُرِيدُونَ ِليُطْفِؤُوا نُورَ اللّ ِه بَِأفْوَا ِههِ ْم وَاللّ ُه ُمتِ ّم نُورِهِ وَلَ ْو كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ (‪ })8‬الصف‪.‬‬

‫ح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ ":‬مثل ما بعثني ال به من الهدى والعلم كمثل الغيث"‬
‫وص ّ‬
‫أخرجه البخاري ‪ ،79‬ومسلم ‪ 2282‬عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه‪.‬‬

‫عدوّك مذمومٌ بكل لسان‬


‫وإن كان أعداءك القمران‬
‫ول سرّ في علك وإنما‬
‫كلم الورى ضرب من الهذيان‬

‫فهو عليه الصلة والسلم بعث ليعبد ال وحده ل شريك له‪ ،‬بعث ليوحد ال‪ ،‬بعث ليقال في‬
‫الرض‪ :‬ل اله إل ال محمد رسول ال‪ ،‬بعث ليحقّ الحق ويبطل الباطل‪ ،‬بعث بالمحجة البيضاء‬
‫والملة الغرّاء والشريعة السمحاء‪ ،‬بعث بالعدل والحسان وإيتاء ذي القربى‪ ،‬بعث بالخير والسلم‬
‫والبرّ والمحبة والسعادة والصلح‪ ،‬والمن واليمان‪ ،‬بعث بالطهارة والصلة والزكاة والصوم‬
‫والحج والجهاد والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬بعث بمعالي المور ومكارم الخلق‬
‫ومحاسن الطباع ومجامع الفضيلة‪ ،‬بعث لدحض الشرك وسحق الصنام وكسر الوثان وطرد‬
‫الجهل ومحاربة الظلم وإزهاق الباطل ونفي الرذيلة‪ ،‬فما من خير إل دلّ عليه‪ ،‬وما من شرّ إل‬
‫حذّر منه‪.‬‬

‫وأما خلقه عليه الصلة والسلم فإن ال هو الذي أدّبه فأحسن تأديبه‪ ،‬فهو أحسن الناس خلقا‪،‬‬
‫وأسدّهم قول‪ ،‬وأمثلهم طريقة‪ ،‬وأصدقهم خبرا‪ ،‬وأعدلهم حكما‪ ،‬وأطهرهم سريرة‪ ،‬وأنقاهم سيرة‪،‬‬
‫وأفضلهم سجايا‪ ،‬وأجودهم يدا‪ ،‬وأسمحهم خاطرا‪ ،‬وأصفاهم صدرا‪ ،‬وأتقاهم لربه‪ ،‬وأخشاهم‬
‫لموله‪ ،‬وأعلمهم بالمة‪ ،‬وأوصلهم رحمة‪ ،‬وأزكاهم منبتا‪ ،‬وأكرمهم محتدا‪ ،‬وأشجعهم قلبا‪ ،‬وأثبتهم‬
‫جنانا‪ ،‬وأمضاهم حجة‪ ،‬وخيرهم نفسا ونسبا وخلقا ودينا‪.‬‬

‫فهو جميل الصفات مشرق المحيّا‪ ،‬قريب من القلوب‪ ،‬حبيب الى الرواح‪ ،‬سهل الخليقة‪ ،‬ميسّر‬
‫الطريقة‪ ،‬مبارك الحال‪ ،‬تعلوه مهابة وترافقه جللة‪ ،‬على وجهه نور الرسالة‪ ،‬وعلى ثغره بسمة‬
‫المحبة‪ ،‬حيّ القلب‪ ،‬ذكي الخاطر‪ ،‬عظيم الفطنة‪ ،‬سديد الرأي‪ ،‬ريان المشاعر بالخير‪ ،‬يسعد به‬
‫جليسه‪ ،‬وينعم به رفيقه‪ ،‬ويرتاح له صاحبه‪ ،‬يحبّ الفأل ويكره الطيرة‪ ،‬يعفو ويصفح‪ ،‬ويسخو‬
‫ويمنح‪ ،‬أجود من الريح المرسلة‪ ،‬وأكرم من الغيث الهاطل‪ ،‬وأبهى من البدر‪ ،‬وسع الناس بأخلقه‬
‫وطوّق الرجال بكرمه‪ ،‬وأسعد البشرية بدعوته‪ ،‬من رآه أحبّه‪ ،‬ومن عرفه هابه‪ ،‬ومن داخله أجلّه‪،‬‬
‫كلمه يأخذ بالقلوب‪ ،‬وسجاياه تأسر الرواح‪.‬‬

‫ثبّت ال قلبه فل يزيغ‪ ،‬وسدّد كلمه فل يجهل‪ ،‬وحفظ عينهفل تخون‪ ،‬وحصّن لسانه فل يزل‪،‬‬
‫ق عَظِي ٍم (‬
‫ورعى دينه فل يضل‪ ،‬وتولى أمره فل يضيع‪ ،‬فهو محفوظ مبارك ميمون {وَِإّنكَ َلعَلى خُُل ٍ‬
‫‪ })4‬القلم‪َ { ،‬ف ِبمَا رَ ْحمَ ٍة مّنَ اللّهِ لِنتَ َلهُ ْم } آل عمران ‪.159‬يقول عليه الصلة والسلم‪ ":‬إن أتقاكم‬
‫وأعلمكم بال أنا" أخرجه البخاري ‪ 20‬عن عائشة رضي ال عنها‪ .‬ويقول‪ ":‬خيركم خيركم لهله‬
‫وأنا خيركم لهله" أخرجه الترمذي ‪ 3895‬والبيهقي في السنن ‪ 15477‬عن عائشة‪ .‬ويروى عنه‬
‫أنه قال‪ ":‬إنما بعثت لتمم مكارم الخلق" أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ‪ .20571‬فسبحان‬
‫من اجتباه واصطفاه وتوله وحماه ورعاه وكفاه‪ ،‬ومن كل بلء حسن أبله‪.‬‬

‫وأما دينه‪:‬‬
‫غيْرَ‬
‫فهو السلم‪ ،‬دين الفطرة‪ ،‬دين الوسط‪ ،‬دين الفلح والنجاة‪ ،‬أحبّ الديان الى ال { َومَن َيبْتَ ِغ َ‬
‫ل ِم دِينا فَلَن يُ ْقبَ َل ِمنْهُ وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ (‪ } )85‬آل عمران‪ ،‬دين جاء لوضع الصار‬ ‫الِسْ َ‬
‫ت َلكُ ْم دِي َنكُمْ وََأ ْت َممْتُ عََل ْيكُ ْم ِن ْع َمتِي‬
‫والغلل عن المة‪ ،‬سهل ميسّر‪ ،‬عام شامل‪ ،‬كامل تام {ا ْليَوْمَ َأ ْكمَلْ ُ‬
‫َورَضِيتُ َلكُ ُم ا ِلسْلَ َم دِينا } المائدة ‪.3‬‬

‫ب العباد‪ ،‬ومن ضيق الدنيا الى سعة الخرة‪،‬‬‫دين جاء ليخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة ر ّ‬
‫ومن ظلمات الشرك الى نور التوحيد‪ ،‬ومن شقاء الكفر الى سعادة اليمان‪.‬‬

‫دين صالح لكل زمان ومكان‪ ،‬شرعه من يغفر الزلة‪ ،‬وهو الذي يعلم السرّ وأخفى‪ ،‬العالم بعلنية‬
‫العبد والنجوى‪.‬‬
‫وهو الدين الوسط الذي جاء بالعلم النافع والعمل الصالح‪ ،‬خلف ما كان عليه اليهود؛ لن عندهم‬
‫علم غير نافع لم يعملوا به‪ ،‬فغضب ال عليهم‪ ،‬وخلف النصارى؛ لن عندهم عمل بل علم‪،‬‬
‫فضلوا سواء السبيل‪ .‬فدين السلم صراط الذين أنعم ال عليهم غير المغضوب عليهم ول‬
‫الضالين‪ .‬فالرسول صلى ال عليه وشلم بعث أميا من الميين يتلو عليهم آيات ال ويزكيهم‬
‫ويعلمهم الكتاب والحكمة‪ ،‬وإن كانوا من قبله لمن الضالين‪ ،‬فجاء هذا الدين بتحريم الكذب في‬
‫القوال والزور في الشهادة‪ ،‬والظلم في الحكام‪ ،‬والجور في الولية‪ ،‬والتصفيف في المكيال‬
‫والميزان‪ ،‬والبغي على الناس والعتداء على الغير والضرار بالنفس والناس‪ ،‬فحفظ القلب‬
‫باليمان‪ ،‬والجسم بأسباب الصحة‪ ،‬والمال من التلف‪ ،‬والعرض من النتهاك‪ ،‬والدم من السفك‪،‬‬
‫والعقل من إذهابه وتغييره‪.‬‬

‫وأما كتابه‪:‬‬
‫فهو القرآن‪ ،‬أفضل الكتب وأجلّ المواثيق‪ ،‬وأحسن القصص وأحسن الحديث‪ ،‬فهو الحق المهيب‬
‫الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم حميد‪ ،‬كتاب فصّلت آياته ثم‬
‫أحكمت‪ ،‬مبارك في تلوته وتدبره والستشفاء به والتحاكم اليه والعمل به‪ ،‬كل حرف منه بعشر‬
‫حسنات‪ ،‬شافع مشفّع‪ ،‬وشاهد صادق‪ ،‬أنيس ممتع‪ ،‬وسمير مفيد‪ ،‬وصاحب أمين‪ ،‬معجز مؤثر‪ ،‬له‬
‫حلوة وعليه طلوة‪ ،‬يعلو ول يعلى عليه‪ ،‬ليس بسحر ول شعر ول بكهانة ول بقول بشر‪ ،‬بل هو‬
‫كلم ال‪ ،‬منه بدا وإليه يعود‪ ،‬نزل به الروح المين على قلب رسول ربّ العالمين ليكون من‬
‫المرسلين‪ ،‬بلسان عربي مبين‪ ،‬فهو الكتاب الذي بزّ فصاحة‪ ،‬وفاقها بلغة‪ ،‬وعل عليها حجة‬
‫وبيانا‪ ،‬وهو هدى ورحمة وموعظة وشفاء لما في الصدور‪ ،‬ونور وبرهان ورشد وسداد ونصيحة‬
‫وتعليم‪ ،‬محفوظ من التبديل‪ ،‬محروس من الزيادة والنقص‪ ،‬معجزة خالدة‪ ،‬عصمة لمن اتبعه ونجاة‬
‫لمن عمل به‪ ،‬وسعادة لمن استرشده‪ ،‬وفوز لمن اهتدى بهديه‪ ،‬وفلح لمن حكمه في حياته‪ .‬يقول‬
‫عليه الصلة والسلم‪ ":‬اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لصحابه" أخرجه مسلم ‪804‬‬
‫عن أبي أمامة الباهلي رضي ال عنه‪ ،‬وقال‪ ":‬خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه" أخرجه البخاري‬
‫‪ 5027‬عن عثمان رضي ال عنه‪ ،‬وقال‪ ":‬إن ال يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين"‬
‫أخرجه مسلم ‪ 817‬عن عمر رضي ال عنه‪ .‬وهو الكتاب الذي أفحم الشعراء‪ ،‬وأسكت الخطباء‪،‬‬
‫وغلب البلغاء‪ ،‬وقهر العرب العرباء‪ ،‬وأعجز الفصحاء‪ ،‬وأعجب العلماء وأذهل الحكماء {إِنّ‬
‫هَـذَا الْقُرْآنَ ِي ْهدِي لِّلتِي هِيَ َأ ْقوَمُ} السراء ‪.9‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم صادقا‪:‬‬


‫فهو أصدق من تكلم‪ ،‬كلمه حق وصدق وعدل‪ ،‬لم يعرف الكذب في حياته جادّا أو مازحا‪ ،‬بل‬
‫حرّم الكذب وذمّ أهله ونهى عنه‪ ،‬وقال‪ ":‬إنّ الصدق يهدي الى البر‪ ،‬وإن البرّ يهدي الى الجنة‪،‬‬
‫ول يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند ال صدّيقا‪ "..‬الحديث أخرجه البخاري‬
‫‪ 6094‬ومسلم ‪ 2607‬عن عبدال بن مسعود رضي ال عنه‪.‬‬

‫وأخبر ان المؤمن قد يبخل وقد يجبن‪ ،‬لكنه ل يكذب أبدا‪ ،‬وحذر من الكذب في المزاح لضحاك‬
‫القوم‪ ،‬فعاش عليه الصلة والسلم والصدق حبيبه وصاحبه‪ ،‬ويكفيه صدقا صلى ال عليه وسلم‬
‫أنه أخبر عن ال بعلم الغيب‪ ،‬وائتمنه ال على الرسالة‪ ،‬فأداها للمة كاملة تامة‪ ،‬لم ينقص حرفا‬
‫ولم يزد حرفا‪ ،‬وبلّغ المانة عن ربه بأتمّ البلغ‪ ،‬فكل قوله وعمله وحاله مبني على الصدق‪ ،‬فهو‬
‫صادق في سلمه وحربه‪ ،‬ورضاه وغضبه‪ ،‬وجدّ وهزله‪ ،‬وبيانه وحكمه‪ ،‬صادق مع القريب‬
‫والبعيد‪ ،‬والصديق والعدو‪ ،‬والرجل والمرأة‪ ،‬صادق في نفسه ومع الناس‪ ،‬في حضره وسفره‪،‬‬
‫وحلّه وإقامته‪ ،‬ومحاربته ومصالحته‪ ،‬وبيعه وشرائه‪ ،‬وعقوده وعهوده ومواثيقه‪ ،‬وخطبه‬
‫ورسائله‪ ،‬وفتاويه وقصصه‪ ،‬وقوله ونقله‪ ،‬وروايته ودرايته‪ ،‬بل معصوم من أن يكذب‪ ،‬فال مانعه‬
‫وحاميه من هذا الخلق المشين‪ ،‬قد أقام لسانه وسدّد لفظه‪ ،‬وأصلح نطقه وقوّم حديثه‪ ،‬فهو الصادق‬
‫المصدوق‪ ،‬الذي لم يحفظ له حرف واحد غير صادق فيه‪ ،‬ول كلمة واحدة خلف الحق‪ ،‬ولم‬
‫يخالف ظاهره باطنه‪ ،‬بل حتى كان صادقا في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه‪ ،‬وهو الذي يقول‪":‬‬
‫ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين" أخرجه أبو داود ‪ 4359‬والنسائي ‪ ،4067‬وذلك لما قال له‬
‫أصحابه‪ :‬أل أشرت لنا بعينك في قتل السير؟!‬

‫بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه‪ ،‬فكلمه صدق وسنّته صدق‪ ،‬ورضاه صدق وغضبه‬
‫صدق‪ ،‬ومدخله صدق ومخرجه صدق‪ ،‬وضحكه صدق وبكاؤه صدق‪ ،‬ويقظته صدق ومنامه‬
‫ن(‬
‫ص ْد ِقهِ ْم } الحزاب ‪{ ،8‬يَا َأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُو ْا اتّقُواْ اللّهَ َوكُونُو ْا مَعَ الصّا ِدقِي َ‬
‫سأَلَ الصّا ِدقِينَ عَن ِ‬ ‫صدق {ِليَ ْ‬
‫ص َدقُوا اللّهَ َلكَا َن َخيْرا ّلهُ ْم (‪ } )21‬محمد‪.‬‬
‫‪ })119‬التوبة‪{ ،‬فَلَ ْو َ‬

‫فهو صلى ال عليه وسلم صادق مع ربه‪ ،‬صادق مع نفسه‪ ،‬صادق مع الناس‪ ،‬صادق مع أهله‪،‬‬
‫ل لكان محمداً صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهل يُتعلم الصدق إل‬‫صادق مع أعدائه‪ ،‬فلو كان الصدق رج ً‬
‫منه بأبي هو وأم؟ وهل ينقل الصدق إل عنه بنفسي هو؟ فهو الصادق المين في الجاهلية قبل‬
‫السلم والرسالة‪ ،‬فكيف حاله بال بعد الوحي والهداية ونزول جبريل عليه ونبوّته وإكرام ال له‬
‫بالصطفاء والجتباء والختيار؟!‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم صابرا‪:‬‬


‫فل يعلم أحد مرّ به من المصائب والمصاعب والمشاق والزمات كما مرّ به صلى ال عليه‬
‫صبْ ُركَ ِإلّ بِاللّ ِه } النحل ‪ ،127‬صبرعلى اليتم والفقر‬
‫صبِرْ َومَا َ‬
‫وسلم‪ ،‬وهو صابر محتسب {وَا ْ‬
‫والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو أحيانا‪ ،‬وصبر على الطرد من‬
‫الوطن والخراج من الدار والبعاد عن الهل‪ ،‬وصبر على قتل القرابة والفتك بالصحاب‬
‫وتشريد التباع وتكالب العداء وتحزّب الخصوم واجتماع المحاربين وصلف المغرضين وكبر‬
‫الجبارين وجهل العراب وجفاء البادية ومكر اليهود وعت ّو النصارى وخبث المنافقين وضرواة‬
‫المحاربين‪ ،‬وصبر على تجهّم القريب وتكالب البعيد‪ ،‬وصولة الباطل وطغيان المكذبين‪ ..‬صبر‬
‫على الدنيا بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها‪ ،‬فلم يتعلق منها بشيء‪ ،‬وصبر على إغراء الولية‬
‫وبريق المنصب وشهوة الرئاسة‪ ،‬فصدف عن ذلك كله طلبا لمرضاة ربه‪ ،‬فهو صلى ال عليه‬
‫وسلم الصابر المحتسب في كل شأن من شؤون حياته‪ ،‬فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه‪،‬‬
‫صبِرْ َعلَى مَا يَقُولُو َن } طه ‪ ،130‬وكلما بلغ به الحال أشدّه والمر‬ ‫كلما أزعجه كلم أعدائه تذكّر {فَا ْ‬
‫صبْرٌ َجمِيلٌ } يوسف ‪ ،18‬وكلما راعه هول العدو وأقضّ مضجعه تخطيط الكفار‬ ‫أضيقه تذكّر { َف َ‬
‫صبَرَ ُأوْلُوا ا ْلعَ ْز ِم مِنَ الرّ ُسلِ } الحقاف ‪.35‬‬
‫صبِ ْر َكمَا َ‬
‫تذكّر{فَا ْ‬

‫وصبره صلى ال عليه وسلم صبر الواثق بنصر ال‪ ،‬المطمئن الى وعد ال‪ ،‬الراكن الى موله‪،‬‬
‫ل في عله‪ ،‬وصبره صبر من علم أن ال سوف ينصره ل محالة‪،‬‬ ‫المحتسب الثواب من ربّه ج ّ‬
‫وأن العاقبة له‪ ،‬وأن ال معه‪ ،‬وأن ال حسبه وكافيه‪ ،‬يصبر صلى ال عليه وسلم على الكلمة النابية‬
‫فل تهزه‪ ،‬وعلى اللفظة الجارحة فل تزعجه‪ ،‬وعلى اليذاء المتعمّد فل ينال منه‪.‬‬
‫مات عمه فصبر‪ ،‬وماتت زوجته فصبر‪ ،‬وقتل حمزة فصبر‪ ،‬وأبعد من مكة فصبر‪ ،‬وتوفي ابنه‬
‫فصبر‪ ،‬وتوفي ابنه فصبر‪ ،‬ورميت زوجته الطاهرة فصبر‪ ،‬و ُكذّب فصبر‪ ،‬قالوا له شاعر كاهن‬
‫ساحر مجنون كاذب مفتر فصبر‪ ،‬أخرجوه‪ ،‬آذوه‪ ،‬شتموه‪ ،‬سبّوه‪ ،‬حاربوه‪ ،‬سجنوه‪ ..‬فصبر‪ ،‬وهل‬
‫يتعلّم الصبر إل منه؟ وهل يُقتدى بأحد في الصبر إل به؟ فهو مضرب المثل في سعة الصدر‬
‫وجليل الصبر وعظيم التجمّل وثبات القلب‪ ،‬وهو إمام الصابرين وقدوة الشاكرين صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم جوادا‪:‬‬


‫فهو أكرم من خلق ال‪ ،‬وأجود البرية نفسا ويدا‪ ،‬فكفّه غمامة بالخير‪ ،‬ويده غيث الجود‪ ،‬بل هو‬
‫أسرع بالخير من الريح المرسلة‪ ،‬ل يعرف "ل" إل في التشهد‪:‬‬

‫كا قال "ل" قط إل في تشهدّه‬


‫لول التشهد كانت لؤه نعم‬

‫يعطي عليه الصلة والسلم عطاء من ل يخشى الفقر؛ لنه بعث بمكارم الخلق‪ ،‬فهو سيد‬
‫الجواد على الطلق‪ ،‬أعطى غنما بين جبلين‪ ،‬وأعطى كل رئيس قبيلة من العرب مائة ناقة‪،‬‬
‫وسأله سائل ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه‪ ،‬وكان ل يردّ طالب حاجة‪ ،‬قد وسع الناس برّه‪،‬‬
‫طعامه مبذول وكفه مدرار‪ ،‬وصدره واسع‪ ،‬وخلقه سهل‪ ،‬ووجه بسّام‪:‬‬

‫تراه إذا ما جئته متهلل‬


‫كأنك تعطيه الذي أنت سائله‬

‫ينفق مع العدم ويعطي مع الفقر‪ ،‬يجمع الغنائم ثو يوزعها في ساعة‪ ،‬ول يأخذ منها شيئا‪ ،‬مائدته‬
‫صلى ال عليه وسلم معروضة لكل قادم‪ ،‬وبيته قبلة لكل وافد‪ ،‬يضيف وينفق ويعطي الجائع بأكله‪،‬‬
‫ويؤثر المحتاج بذات يده‪ ،‬ويصل القريب بما يملك‪ ،‬ويواسي المحتاج بما عنده‪ ،‬ويقدّم الغريب‬
‫على نفسه‪ ،‬فكان صلى ال عليه وسلم آية في الجود والكرم‪ ،‬حتى ل يقارن به أجواد العرب كحاتم‬
‫وهرم ابن جدعان؛ لنه يعطي عطاء من ل يطلب الخلف إل من ال‪ ،‬ويجود جود من هانت عليه‬
‫نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه وموله‪ ،‬فهو أندى العالمين كفا‪ ،‬وأسخاهم يدا‪ ،‬وأكرمهم‬
‫محتدا‪ ،‬قد غمر أصحابه وأحبابه وأتباعه‪ ،‬بل حتى أعداءه ببرّه وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله‪،‬‬
‫أكل اليهود على مائدته‪ ،‬وجلس العراب على طعامه‪ ،‬وحفّ المنافقون بسفرته‪ ،‬ولم يُحفظ عنه‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه تبرّم بضيف أو تضجّر من سائل أو تضايق من طالب‪ ،‬بل جرّ أعرابي‬
‫برده حتى أثّر في عنقه وقال له‪ :‬أعطني من مال ال الذي عندك‪ ،‬ل من مال أبيك وأمّك‪ ،‬فالتفت‬
‫إليه صلى ال عليه وسلم وضحك وأعطاه‪ ،‬وجاءته الكنوز من الذهب والفضة وأنفقها في مجلس‬
‫واحد ولم يدّخر منها درهما ول دينارا ول قطعة‪ ،‬فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل‪ ،‬وكان‬
‫يأمر بالنفاق والكرم والبذل‪ ،‬ويدعو للجود والسخاء‪ ،‬ويذ ّم البخل والمساك‪ ،‬فيقول‪ ":‬من كان‬
‫بؤمن بال واليوم الخر فليكرم ضيفه" أخرجه البخاري [ ‪ ]6138 ،6136 ،6018‬ومسلم ‪47‬‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ ،‬وقال‪ ":‬كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس" أخرجه‬
‫ابن خزيمة في صحيحه ‪ ،2431‬وابن حبان في صحيحه ‪ .3310‬وقال‪ ":‬ما نقصت صدقة من‬
‫مال" أخرجه مسلم ‪ 2588‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم شجاعا‪:‬‬


‫هذا مما تناقلته الخبار وسار مسير الشمس في رابعة النهار‪ ،‬فكان أثبت الناس قلبا‪ ،‬وكان‬
‫كالطود ل يتزعزع ول يتزلزل‪ ،‬ول يخاف التهديد والوعيد‪ ،‬ول ترهبه المواقف والزمات‪ ،‬ول‬
‫تهزه الحوادث والملمّات‪ ،‬فوّض أمره لربه وتوكل عليه وأناب إليه‪ ،‬ورضي بحكمه واكتفى‬
‫بنصره ووثق بوعده‪ ،‬فكان عليه الصلة والسلم يخوض المعارك بنفسه ويباشر القتال بشخصه‬
‫الكريم‪ ،‬يعرّض روحه للمنايا ويقدّم نفسه للموت‪ ،‬غير هائب ول خائف‪ ،‬ولم يفرّ من معركة قط‪،‬‬
‫وما تراجع خطوة واحدة ساعة يحمي الوطيس وتقوم الحرب على ساق وتشرع السيوف وتمتشق‬
‫الرماح وتهوي الرؤوس ويدور كأس المنايا على النفوس‪ ،‬فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من‬
‫الخطر‪ ،‬يحتمون أحيانا وهو صامد مجاهد‪ ،‬ل يكترث بالعدوّ ولو كثر عدده‪ ،‬ول يأبه بالخصم ولو‬
‫قوي بأسه‪ ،‬بل كان يعدل الصفوف ويشجع المقاتلين ويتقدم الكتائب‪.‬‬

‫سبِيلِ اللّهِ لَ‬


‫ل فِي َ‬
‫وقد فرّ الناس يوم حنينن وما ثبت إل هو وستة من أصحابه‪ ،‬ونزل عليه { َفقَاتِ ْ‬
‫ض ا ْلمُ ْؤمِنِينَ} النساء ‪ ،84‬وكان صدره بارزا للسيوف والرماح‪ ،‬يصرع‬
‫سكَ َوحَرّ ِ‬
‫ل نَفْ َ‬
‫ُتكَلّفُ ِإ ّ‬
‫البطال بين يديه ويذبح الكماة أمام ناظريه وهو باسم المحيا‪ ،‬طلق الوجه‪ ،‬ساكن النفس‪.‬‬

‫وقفت وما في الموت شك لواقف‬


‫كأنك في جفن الرّدى وهو نائم‬
‫تمرّ بك البطال كلمى هزيمة‬
‫ووجهك وضّاح وثغرك باسم‬

‫وقد شُجّ عليه الصلة والسلم في وجهه وكسرت رباعيته‪ ،‬وقتل سبعون من أصحابه‪ ،‬فما وهن‬
‫ول ضعف ول خار‪ ،‬بل كان أمضى من السيف‪ .‬وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه‪ ،‬وخاض‬
‫ن الجهاد‬
‫ب عند سماع المنادي‪ ،‬بل هو الذي س ّ‬
‫غمار الموت بروحه الشريفة‪ .‬وكان أول من يه ّ‬
‫وحثّ وأمر به‪.‬‬

‫وتكالبت عليه الحزاب يوم الخندق من كل مكان‪ ،‬وضاق المر وحلّ الكرب‪ ،‬وبلغت القلوب‬
‫الحناجر‪ ،‬وظن بال الظنون‪ ،‬وزلزل المؤمنون زلزال شديدا‪ ،‬فقام صلى ال عليه وسلم يصلي‬
‫ويدعو ويستغيث موله حتى نصره ربّه ور ّد كيد عدوّه وأخزى خصومه وأرسل عليهم ريحا‬
‫وجنودا وباؤوا بالخسران والهوان‪.‬‬

‫ونام الناس ليلة بدر وما نام هو صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل قام يدعو ويتضرّع ويتوسل الى ربه‬
‫ويسأله نصره وتأييده‪ ،‬فيا له من إمام وما أشجعه! ل يقوم لغضبه أحد‪ ،‬ول يبلغ مبلغه في ثبات‬
‫الجأش وقوة القلب مخلوق‪ ،‬فهو الشجاع الفريد والصنديد الوحيد الذي كملت فيه صفات الشجاعة‬
‫وتمّت فيه سجايا القدام وقوة البأس‪ ،‬وهو القائل‪ ":‬والذي نفسي بيده لوددت أنني أقتل في سبيل‬
‫ال ثم أحيا ثم أقتل" أخرجه البخاري [‪ ]36،2797‬ومسلم ‪ 1876‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم زاهدا‪:‬‬


‫كان زهده صلى ال عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقصر‬
‫عمرها‪ ،‬وبقاء الخرة وما أعدّه ال لوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم وخلود دائم‪ ،‬فرفض‬
‫صلى ال عليه وسلم الخذ من الدنيا إل بدقر ما يسدّ الرمق ويقيم الود‪ ،‬مع العلم أن الدنيا‬
‫عرضت عليه وتزيّنت له وأقبلت إليه‪ ،‬ولو أراد جبال الدنيا أن تكون ذهبا وفضة لكانت‪ ،‬بل آثر‬
‫الزهد والكفاف‪ ،‬فربما بات جائعا ويمرّ الشهر ل توقد في بيته نار‪ ،‬ويستمر اليام طاويا ل يجد‬
‫رديء التمر يسدّ به جوعه‪ ،‬وما شبع من خبز الشعير ثلث ليال متواليات‪ ،‬وكان ينام على‬
‫الحصير حتى أثّر في جنبه‪ ،‬وربط الحجر على بطنه من الجوع‪ ،‬وكان ربما عرف أصحابه أثر‬
‫الجوع في وجهه عليه الصلة والسلم‪.‬‬

‫وكان بيته من طين‪ ،‬متقارب الطراف‪ ،‬داني السقف‪ ،‬وقد رهن درعه في ثلثين صاعا من‬
‫شعير عند يهودي‪ ،‬وربما لبس إزارا ورداء فحسب‪ ،‬وما أكل على خوان قط‪ ،‬وكان أصحابه ربما‬
‫أرسلوا له الطعام لما يعلمون من حاجته إليه‪ ،‬كل ذلك إكراما لنفسه عن أدران الدنيا‪ ،‬وتهذيبا‬
‫ف ُيعْطِيكَ َرّبكَ‬
‫لروحه وحفظا لدينه ليبقى أجره كامل عند ربه‪ ،‬وليتحقق له وعد موله { َولَسَوْ َ‬
‫َفتَ ْرضَى (‪ })5‬الضحى‪ ،‬فكان يقسم الموال على الناس ثم ل يحوز منها درهما واحدا‪ ،‬ويوّزع‬
‫البل والبقر والغنم على الصحاب والتباع والمؤلفة قلوبهم ثم ل يهب بناقة ول بقرة ول شاة‪ ،‬بل‬
‫يقول عليه الصلة والسلم‪ ":‬لو كان لي كعضاة ـ أي شجر ـ تهامة مال لقسمته ثم ل تجدوني‬
‫بخيل ول كذابا ول جبانا"‪ .‬أخرجه مالك في الموطأ ‪ ،977‬والطبراني في الوسط ‪ 1864‬والكامل‬
‫لبن عدي ‪.97\3‬‬

‫وراودته الجبال الشمّ من ذهب‬


‫عن نفسه فأراها أيما شمم‬

‫بل وكان عليه الصلة والسلم السوة العظمى في القبال على الخرة وترك الدنيا وعدم‬
‫اللتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها‪ ،‬فلم يبن قصرا‪ ،‬ولم‬
‫يدّحر مال‪ ،‬ولم يكن له كنز ول جنة يأكل منها‪ ،‬ولم يخلف بستانا ول مزروعة‪ ،‬وهو القائل‪ ":‬ل‬
‫نورّث‪ ،‬ما تركناه صدقة" أخرجه البخاري [‪ ]3712 ،3039‬ومسلم برقم ‪ ،1758‬وكان يدعو‬
‫بقوله وفعله وحاله الى الزهد في الدنيا والستعداد للخرة والعمل‪.‬‬

‫ما نظر إليه صلى ال عليه وسلم وهو إمام المسلمين وقائد المؤمنين وأفضل الناس أجمعين‬
‫يسكن في بيت طين وينام على حصير بال ويبحث عن تمرات تقيم صلبه‪ ،‬وربما اكتفى باللبن‪.‬‬

‫خيّر بين أن يكون ملكا رسول أو عبدا رسول فاختار أن يكون عبدا رسول‪ ،‬يشبع يوما‬
‫بل ُ‬
‫ويجوع يوما‪ ،‬حتى لقي ال عز وجل‪.‬‬

‫ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده كما تقدم‪ ،‬فكان ل يرد سائل ول يحجب طالبا ول يخيّب‬
‫قاصدا‪ ،‬وأخبر أن الدنيا ل تساوي عند ال جناح بعوضة‪ ،‬وقال‪ ":‬كن في الدنيا كأنك غريب او‬
‫عابر سبيل" أخرجه البخاري ‪ 6416‬عن ابن عمر رضي ال عنهما‪ .‬ويروى عنه أنه قال‪":‬‬
‫ازهد في الدنيا يحبك ال‪ ،‬وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" أخرجه ابن ماجه ‪4102‬‬
‫والطبراني في الكبير ‪ 10522‬والحاكم ‪ 7833‬عن سهل بن سعد الساعدي‪ .‬وقال‪ ":‬مالي وللدنيا‪،‬‬
‫إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها" أخرجه أحمد [‪،3701‬‬
‫‪ ]4196‬والترمذي ‪ ،2377‬وابن ماجه ‪ 4109‬عن عبدال بن مسعود وقال الترمذي حسن صحيح‪،‬‬
‫وقال‪ ":‬الدنيا ملعونة‪ ،‬ملعون ما فيها إل ذكر ال وما واله وعالما أو متعلما" أخرجه الترمذي‬
‫‪ 2322‬وابن ماجه ‪ 4112‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ ،‬وقال‪ ":‬ليس لك من مالك إل ما أكلت‬
‫فأفنيت‪ ،‬أو لبست فأبليت‪ ،‬أو تصدقت فأمضيت" أخرجه مسلم ‪.2958‬‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم متواضعا‪:‬‬
‫كان صلى ال عليه وسلم عجيبا في ذلك‪ ،‬فتواضعه تواضع من عرف ربّه مهابة‪ ،‬واستحيا منه‬
‫وعظمه وقدّره حقّ قدره‪ ،‬وتطامن له وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب‪ ،‬فسافرت روحه الى‬
‫ال وهاجرت نفسه الى الدار الخرة‪ ،‬فما عاد يعجبه شيء مما يعجب أهل الدنيا‪ ،‬فصار عبدا لربه‬
‫بحق‪ :‬يتواضع للمؤمنين‪ ،‬يقف مع العجوز ويزور المريض ويعطف على المسكين‪ ،‬ويصل‬
‫البائس ويواسي المستضعفين ويداعب الطفال ويمازح الهل ويكلم المة‪ ،‬ويواكل الناس ويجلس‬
‫على التراب وينام على الثرى‪ ،‬ويفترش الرمل ويتوسّد الحصير‪ ،‬قد رضي عن ربّه‪ ،‬فما طمع في‬
‫شهرة أو منزلة أو مطلب أرضي أو مقصد دنيوي‪ ،‬يكلم النساء بلطف‪ ،‬ويخاطب الغريب بودّ‪،‬‬
‫ويتألف الناس ويتبسّم في وجوه أصحابه يقول‪ ":‬إنما أنا عبد‪ :‬آكل كما يأكل العبد واجلس كما‬
‫يجلس العبد" أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد ‪ ،6\1‬وابن سعد في الطبقات ‪ 371\1‬وانظر كشف‬
‫الخفاء ‪ ، 17\1‬ولما رآه رجل ارتجف من هيبته قال‪":‬هوّن عليك‪ ،‬فإني ابن امرأة كانت تاكل‬
‫القديد بمكة" أخرجه ابن ماجه ‪ ،3312‬والحاكم ‪ 4366‬عن ابن مسعود‪ ،‬وانظر الكامل لبن عدي‬
‫‪.286\6‬‬
‫وكان يكره المدح‪ ،‬وينهى عن إطرائه ويقول‪ ":‬ل تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن‬
‫مريم‪ ،‬فإنما أنا عبدال ورسوله‪ ،‬فقولوا عبدال ورسوله" أخرجه البخاري ‪ 3445‬عن ابن عباس‬
‫رضي ال عنهما‪ ،‬وكان ينهى أن يقام له‪ ،‬وأن يوقف على رأسه‪ ،‬وكان يجلس حيثما انتهى به‬
‫المجلس‪ ،‬وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم‪ ،‬ويجيب الدعوة ويقول‪ ":‬لو دعيت الى كراع لجبت‪،‬‬
‫ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت" أخرجه البخاري [‪.]5178 ،2568‬‬
‫وكان يحب المساكين‪ ،‬ويروى عنه قوله‪ ":‬اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا‪ ،‬واحشرني في‬
‫زمرة المساكين" أخرجه الترمذي ‪ 2352‬عن أنس رضي ال عنه‪ ،‬وابن ماجه ‪ 4126‬والحاكم‬
‫‪ 7911‬عن أبي سعيد الخدري وصححه‪ .‬وكان يحرّم الكبر وينهى عنه‪ ،‬ويبغض أهله ويقول‪":‬‬
‫يحشر المتكبرون يوم القيامة في صورة الذر‪ ،‬يغشاهم الذل من كل مكان" أخرجه أحمد ‪،6639‬‬
‫والترمذي ‪ ،2492‬انظر كشف الخفاء ‪ .3236‬ويروي عن ربه أنه قال‪":‬الكبرياء ردائي‪،‬‬
‫والعظمة إزاري‪ ،‬فمن نازعني واحدا منها قذفته في النار" أخرجه مسلم ‪ 2620‬وأبو داود ‪4090‬‬
‫واللفظ له‪.‬‬
‫فكان صلى ال عليه وسلم محببا الى القلوب‪ :‬تأخذه الجارية بيده فيذهب معها‪ ،‬ويزور أم أيمن‬
‫وهي مولة‪ .‬ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا‪ :‬أنت خيرنا وأفضلنا وسيدنا وابن سيدنا‬
‫قال لهم‪ ":‬يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم‪ ،‬ل يستجريّنكم الشيطان" أخرجه أحمد‬
‫‪ 15876‬وأبو داود ‪ ،4806‬وغضب لما قال له رجل‪ :‬ما شاء ال وشئت‪ ،‬وقال‪ ":‬ويحك! أجعلتني‬
‫وال عدل؟ بل ما شاء ال وحده" أخرجه أحمد [‪ ]2557 ،1842‬والنسائي في السنن الكبرى‬
‫‪ 10825‬عن ابن عباس رضي ال عنهما‪.‬‬
‫وكان يحمل حاجة أهله ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس بيته ويحلب شاته ويقطع اللحم مع‬
‫أهله‪ ،‬ويقرّب الطعام لضيفه‪ ،‬ويباسط زوّاره ويسأل عن اخبارهم‪ ،‬ويتناوب ركوب الراحلة مع‬
‫رفيقه‪ ،‬ويلبس الصوف ويأكل الشعير‪ ،‬وربما مشى حافيا‪ ،‬وينام في المسجد‪ ،‬ويركب الحمار‪،‬‬
‫ويردف على الدابة‪ ،‬ويعاون الضعيف ويتفقد السرية‪ ،‬ويكون في آخرهم فيساعد من احتاج‪،‬‬
‫ويرافق الوحيد منهم‪..‬‬
‫فصلى ال عليه وسلم ما تحرّك بذكره اللسان‪ ،‬وسارت بأخباره الركبان‪ ،‬وردّد حديثه النس‬
‫والجان‪.‬‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم حليما‪:‬‬
‫ما دام أنه رسول ال فل بد أن يكون أحلم الناس وأوسعهم صدرا‪ ،‬وألينهم عريكة وأدمثهم خلقا‬
‫وألطفهم عشرة‪ ،‬فقد كان يطظم غيظه ويعفو ويصفح ويغفر لمن زلّ‪ ،‬ويتنازل عن حقوقه الخاصة‬
‫ما لم تكن حقوقا ل‪ .‬وقد عفا عمن ظلمه وطره من وطنه وآذاه وسبّه وشتمه وحاربه‪ ،‬فقال لهم يوم‬
‫الفتح‪ ":‬اذهبوا فأنتم الطلقاء" أخرجه الشافعي في الم ‪ ،361\7‬والطبري في تاريخه ‪161\2‬‬
‫والبيهقي في السنن الكبرى ‪ 18055‬انظر صحيح الجامع ‪ .4815‬وعفا عن ابن عمّه سفيان بن‬
‫الحارث يوم الفتح لما وقف أمامه وقال له‪ :‬تال لقد آثرك ال علينا وإن كنا لخاطئين‪ ،‬فقال عليه‬
‫ب عََل ْيكُمُ ا ْليَوْ َم َيغْ ِفرُ اللّهُ َلكُمْ وَهُ َو أَرْ َحمُ الرّا ِحمِينَ (‪ })92‬يوسف‪.‬‬
‫الصلة والسلم‪ {:‬لَ َتثْرَي َ‬

‫صفَحِ‬
‫وقد واجهه العراب بالجفاء وسوء الدب‪ ،‬فحلم وصفح‪ ،‬وقد امتثل أمر ربه في قوله‪ {:‬فَا ْ‬
‫الصّفْ َح الْ َجمِي َل (‪ })85‬الحجر‪ ،‬فكان ل يكافئ على السيئة بالسيئة‪ ،‬بل يعفو ويصفح‪ ،‬وكان ل ينفذ‬
‫غضبه إذا كان لنفسه‪ ،‬ول ينتقم لشخصه‪ ،‬بل إذا غضب ازداد حلما‪ ،‬وربّما تبسّم في وجه من‬
‫أغضبه‪ ،‬ونصح أحد أصحابه فقال‪":‬ل تغضب‪ ،‬ل تغضب‪ ،‬ل تغضب" أخرجه البخاري ‪.6116‬‬

‫وكان يبلغه الكلم السيء فيه‪ ،‬فل يبحث عمن قاله ول يعاتبه ول يعاقبه‪ .‬وورد عنه أنه قال‪ ":‬ل‬
‫يبلغني أحد منكم ما قيل فيّ‪ ،‬فإني أحب أن أخرج إليك وأنا سليم الصدر" أخرجه احمد ‪3750‬‬
‫وأبو داود ‪ 4860‬والترمذي ‪ 3896‬عن عبدال بن مسعود‪ .‬وبلّغه ابن مسعود كلما قيل فيه‪ ،‬فتغيّر‬
‫وجهه وقال‪ ":‬رحم ال موسى‪ ،‬أوذي بأكثر من هذا فصبر" أخرجه البخاري [ ‪]3405 ،3150‬‬
‫ومسلم ‪.1062‬‬

‫وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله‪ ،‬فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم‬
‫عليهم‪ ،‬وقال‪ ":‬من كف غضبه كف ال عنه عذابه" أخرجه أبو يعلى ‪ 4338‬والبيهقي في الشعب‬
‫‪ 8311‬وانظر العلل لبن أبي حاتم ‪ 1919‬ومجمع الزاوئد ‪ .298\10‬وقال له رجل‪ :‬اعدل‪ ،‬فقال‪":‬‬
‫خبت وخسرت إذا لم أعدل" أخرجه البخاري ‪ 3138‬ومسلم ‪ 1063‬واللفظ له عن جابر بن‬
‫عبدال‪ ،‬ولم يعاقبه بل صفح عنه‪ .‬وواجه بعص اليهود بما يكره‪ ،‬فعفا وصفح‪ ،‬وقد وسع بخلقه‬
‫سّيئَةَ نَحْنُ أَعَْلمُ‬
‫وتسامحه الناس‪ ،‬وأطفأ بحلمه نار العداوات ممتثل قول ربه‪ {:‬ا ْدفَ ْع بِاّلتِي هِيَ َأحْسَنُ ال ّ‬
‫صفُو َن (‪ })96‬المؤمنون‪.‬‬
‫ِبمَا يَ ِ‬

‫وكان مع أهله أحلم الناس‪ ،‬يمازحهم ويلطفهم ويعفو عنهم فيما يصدر منهم‪ ،‬ويدخل عليهم باسما‬
‫ضحاكا‪ ،‬يمل قلوبهم وبيوتهم أنسا وسعادة‪ ،‬يقول خادمه أنس بن مالك‪ :‬خدمت رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته‪ :‬لم فعلت هذا؟ ول شيء لم أفعله‪ :‬لم لم تفعل‬
‫هذا؟ وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق‪ ،‬وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة‪ ،‬بل كان كل من‬
‫رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه وودّه وحلمه ما يفوق الوصف‪ ،‬حتى تمكن حبّه من‬
‫القلوب فتعلقت به الرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية‪:‬‬

‫وإذا رحمت فأنت أمّ أو أب‬


‫هذان في الدنيا هم الرحماء‬
‫وإذا سخوت بلغت بالجود المدى‬
‫وفعلت ما لم تفعل النواء‬
‫وإذا صحبت رأى الوفاء مجسّما‬
‫في بُردك الصحاب والخلطاء‬
‫وأبديت حلمك للسفيه مداريا‬
‫حتى يضيق بحلمك السفهاء‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم رحيما‪:‬‬


‫وصفه ربه بقوله‪َ {:‬ومَا أَ ْرسَ ْلنَاكَ إِلّا رَ ْحمَةً لّ ْلعَاَلمِينَ (‪})107‬النبياء‪ ،‬فهو رحمة للبشرية‪ ..‬ورد عنه‬
‫أنه قال‪ ":‬إنما أنا رحمة مهداة" أخرجه الدارمي ‪ 15‬مرسل‪ ،‬والحاكم موصول عن أبي هريرة‬
‫برقم ‪ 100‬وصححه‪ .‬ورأى ولد إحدى بناته تفيض روحه‪ ،‬فبكى‪ ،‬فلما سئل عن ذلك قال‪ ":‬هذه‬
‫رحمة يضعها ال في قلب من يشاء من عباده‪ ،‬وإنما يرحم ال من عباه الرحماء" أخرجه البخاري‬
‫[ ‪ ]6655 ،1284‬ومسلم ‪ 923‬عن أسامة بن زيد رضي ال عنه‪.‬‬

‫وكان رحمة على القريب والبعيد‪ ،‬عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة‪ ،‬فكان يخفف بالناس‬
‫مراعاة لحوالهم‪ ،‬وربما أراد أن يطيل في الصلة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئل يشق على أمه‪.‬‬
‫ولما بكت أمامة بنت زينب ابنته حملها وهو يصلي بالناس‪ ،‬فإذا سجد وضعها‪ ،‬وإذا قام رفعها‪.‬‬
‫أخرجه البخاري ‪ ،516‬ومسلم ‪ 543‬عن أبي قتادة رضي ال عنه‪.‬‬
‫وسجد مرة فصعد الحسن على ظهره‪ ،‬فأطال السجود‪ ،‬فلما سلّم اعتذر للناس وقال‪ ":‬إن إبني هذا‬
‫ارتحلني‪ ،‬فكرهت أن أرفع رأسي حتى ينزل" أخرجه أحمد ‪ 27100‬والنسائي ‪ 1141‬عن شداد‬
‫بن الهاد رضي ال عنه‪ .‬وقال‪ ":‬من أ ّم منكم الناس فليخفف‪ ،‬فإن فيهم الكبير والصغير والمريض‬
‫وذا الحاجة" أخرجه البخاري ‪ 703‬ومسلم ‪ 467‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬وقال لمعاذ لمّا‬
‫طوّل بالناس‪ ":‬أفتّان أنت يا معاذ؟" أخرجه البخاري [ ‪ ]6106 ،705‬ومسلم ‪ 465‬عن جابر بن‬
‫عبدال رضي ال عنه‪ .‬وقال‪ ":‬لول أن أشق على أمتي لمرتهم بالسواك عند كل صلة" أخرجه‬
‫البخاري ‪ 887‬ومسلم ‪ 252‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬وربما ترك العمل خشية أن يفرض‬
‫على الناس‪ ،‬وكان يتخوّل أصحابه بالموعظة‪...‬‬

‫كل ذلك رحمة منه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان يقول‪ ":‬والقصد القصد تبلغوا" أخرجه البخاري‬
‫‪ 6463‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬ويقول‪ ":‬بُعثت بالحنيفية السمحة" أخرجه أحمد ‪21788‬‬
‫عن أبي أمامة رضي ال عنه‪ .‬ويقول‪ ":‬خير دينكم أيسره" أخرجه أحمد ‪ 15506‬وانظر مجمع‬
‫الزوائد ‪ .308\3‬ويقول‪ ":‬عليكم هديًا قاصداً" أخرجه أحمد [ ‪ ]22544 ،22454‬والبيهقي في‬
‫السنن الكبرى ‪ 4519‬عن بريدة السلمي‪ ،‬وانظر البيان والتعريف ‪ .109\2‬ويقول‪ :‬خذوا من‬
‫العمل ما تطيقون‪ ،‬فإن ال ل يمل حتى تملوا" أخرجه البخاري ‪ 5862‬ومسلم ‪ 782‬عن عائشة‬
‫رضي ال عنها‪ .‬وما خيّر بين أمرين إل اختار أيسرهما ما لم يكن إثما‪ ،‬وأنكر على الثلثة الذين‬
‫شدّدوا على أنفسهم في العبادة‪ ،‬وقال‪ ":‬وال إني لخشاكم ل وأتقاكم له‪ ،‬ولكنني أقوم وأنام‪،‬‬
‫وأصوم وأفطر‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فيس مني" أخرجه البخاري ‪ 5063‬ومسلم ‪ 1401‬عن‬
‫أنس بن مالك رضي ال عنه‪ .‬وأفطر في سفر في رمضان‪ ،‬وقصر الرباعية‪ ،‬وجمع بين الظهر‬
‫والعصر‪ ،‬وبين المغرب والعشاء في السفر‪ ،‬ونادى مؤذنه في المطر أن صلوا في رحالكم‪،‬‬
‫وقال‪ ":‬هلك المتنطعون" أخرجه مسلم ‪ 2670‬عن عبدال بن مسعود رضي ال عنه‪ .‬وقال‪ ":‬ما‬
‫كان الرفق في شيء إل زانه‪ ،‬وما نزع من شيء إل شانه" أخرجه مسلم ‪ 2594‬عن عائشة‬
‫رضي ال عنها‪ .‬وأنكر على عبدال بن عمرو بن العاص إرهاق نفسه بالعبادة‪ ،‬ويقول‪ ":‬إيّاكم‬
‫والغلو" أخرجه أحمد [ ‪ ]3238 ،1854‬والنسائي ‪ ،3057‬وابن ماجه ‪ 3029‬وابن أبي عاصم في‬
‫السنة ‪ 46\1‬عن ابن عباس رضي ال عنهما وصححه‪ .‬ويروى عنه قوله‪ ":‬أمتي أمة مرحومة"‬
‫أخرجه أحمد [ ‪ ]19253 ،19179‬وأبو داود ‪ 4276‬والحاكم ‪ 8372‬عن أبي موسى رضي ال‬
‫عنه وصححه‪ ،.‬وقال‪ ":‬إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" أخرجه البخاري ‪ 7288‬ومسلم‬
‫‪ 1337‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬وهذا اليسر في حياته عليه الصلة والسلم يوافق يسر‬
‫الملة وسهولة الشريعة‪ ،‬وهو امتثال منه صلى ال عليه وسلم لقول ربه‪َ {:‬وُنيَسّ ُركَ لِ ْليُ ْسرَى (‪})8‬‬
‫ط ْعتُمْ } التغابن ‪ {،16‬يُرِيدُ اللّهُ‬ ‫ستَ َ‬
‫س َعهَا } البقرة ‪{ ،286‬فاتّقُوا اللّ َه مَا ا ْ‬
‫ل ُيكَلّفُ اللّ ُه نَفْسا ِإلّ وُ ْ‬
‫العلى‪َ { ،‬‬
‫ِبكُمُ ا ْليُ ْسرَ َولَ يُرِيدُ ِبكُ ُم ا ْلعُسْ َر } القرة ‪َ {،185‬ومَا َجعَ َل عََل ْيكُ ْم فِي الدّي ِن مِنْ حَرَجٍ} الحج ‪ ..78‬وغيرها‬
‫من اليات‪.‬‬

‫فهو صلى ال عليه وسلم سهل ميسّر رحيم في رسالته ودعوته وعبادته وصلته وصومه‬
‫وطعامه وشرابه ولباسه وحله وترحاله وأخلقه‪ ،‬بل حياته مبنية على اليسر؛ لنه جاء لوضع‬
‫الصار والغلل عن المة‪ ،‬فليس اليسر أصل إل معه‪ ،‬ول يوجد اليسر إل في شريعته‪ ،‬فهو‬
‫اليسر كله‪ ،‬وهو الرحمة والرفق بنفسه‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم ذاكرا‪:‬‬


‫كان صلى ال عليه وسلم أكثر الناس ذكرا لربه‪ ،‬حياته كلها ذكر لموله‪ ،‬فدعوته ذكر وخطبه‬
‫ذكر ومواعظه ذكر وعبادته ذكر وفتاويه ذكر‪ ،‬وليله ونهاره وسفره وإقامته بل أنفاسه كلها ذكر‬
‫لموله عز وجل‪ ،‬فقلبه معلق بربه‪ ،‬تنام عينه ول ينام قلبه‪ ،‬بل النظر اليه يذكّر الناس بربّهم‪ ،‬وكل‬
‫ل في عله‪.‬‬‫مراسيم حياته ومناسباته وذكر لخالقه ج ّ‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم يحث الناس على ذكر ربهم‪ ،‬فيقول‪":‬سبق المفردون‪ :‬الذاكرون ال‬
‫كثيرا والذاكرات" أخرجه مسلم ‪ 2676‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ ،‬ويقول‪ ":‬مثل الذي يذكر‬
‫ربه والذي ل يذكره كمثل الحيّ والميت" أخرجه البخاري ‪ 6407‬ومسلم ‪ 779‬عن أبي موسى‬
‫رضي ال عنه‪ .‬ويقول‪ ":‬ل يزال لسانك رطبا من ذكر ال" أخرجه أحمد [ ‪]17245 ،17227‬‬
‫والترمذي ‪ 3375‬وابن ماجه ‪ 3793‬انظر المشكاة ‪ .2279‬وأخبر أن أفضل الناس أكثرهم ذكرا‬
‫لربه‪ ،‬وروى عن ربّه عز وجل قوله‪ ":‬أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت شفتاه" أخرجه البخاري‬
‫معلقا في كتاب التوحيد‪ ،‬باب قول ال { لتحرك به لسانك}‪ ،‬وأحمد[‪ ]10592 ،10585‬زابن‬
‫ماجه ‪ 3792‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬ويقول‪ ":‬من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‪ ،‬ومن‬
‫ذكرني في مل ذكرته في مل خير منهم" أخرجه البخاري ‪ 7405‬ومسلم ‪ 2675‬عن أبي هريرة‬
‫رضي ال عنه‪ .‬وله عليه الصلة والسلم عشرات الحاديث الصحيحة التي تحث على الذكر‬
‫وترغّب فيه‪ ،‬والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والحوقلة والستغفار والصلة والسلم عليه‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وكان يذكّر الناس بأجر الذكر وما يترتب على ذلك من ثواب‪ ،‬وذكر العداد في ذلك مع ذكر‬
‫المناسبات‪ ،‬وعمل اليوم والليلة‪ ،‬فهو صلى ال عليه وسلم الذاكر الشاكر الصابر‪ ،‬وهو الذي ذكّر‬
‫المة بربها وعلمها تعظيمه وتسبيحه‪ ،‬وبيّن لها فوائد الذكر ومنافعه‪ .‬فهو أسعد الناس بذكر ربه‪،‬‬
‫وأهنؤهم عيشا بهذه النعمة‪ ،‬وأصلحهم حال بهذا الفضل‪ ،‬فكان له أوراد من الذكار مع حضور‬
‫قلب وخشوع وخضوع وهيبة وخوف ومحبة ورجاء وطمع في فضل ربه‪.‬‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم داعيا‪:‬‬
‫ب دَعْوَةَ‬
‫عنّي فَِإنّي قَرِيبٌ ُأجِي ُ‬
‫عبَادِي َ‬
‫ك ِ‬
‫سأََل َ‬
‫جبْ َلكُمْ} غافر ‪ ،60‬ويقول‪ {:‬وَِإذَا َ‬
‫ستَ ِ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬ادْعُونِي أَ ْ‬
‫الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ } البقرة ‪ ،186‬ويقول صلى ال عليه وسلم‪ ":‬الدعاء هو العبادة" أخرجه أحمد [‬
‫‪ ]17919 ،17888‬وأبو داود ‪ 1479‬والترمذي [ ‪ ]3247 ،2969‬عن النعمان بن بشير‬
‫وصححه‪ .‬ويقول‪ ":‬من لم يسأل ال يغضب عليه" أخرجه البخاري في الدب المفرد ‪658‬‬
‫والترمذي ‪ 3373‬عن أبي هريرة رضي ال عنه وصححه‪ .‬وكان عليه الصلة والسلم لهجا‬
‫بدعاء ربه في كل حالته‪ ،‬قد فوّض أمره لموله‪ ،‬وأكثر اللحاح على خالقه يناشده رحمته‬
‫وعفوه‪ ،‬ويطلب برّه وكرمه‪ ،‬وكان يختار جوامع الدعاء الكامل الشامل كقوله‪ ":‬اللهم آتنا في الدنيا‬
‫حسنة وفي الخرة حسنة وقنا عذاب النار" أخرجه البخاري [ ‪ ]6389 ،4522‬ومسلم ‪ 2688‬عن‬
‫انس رضي ال عنه‪ .‬وقوله‪ ":‬اللهم إني أسألك العفو والعافية" أخرجه أحمد ‪ 4770‬وأبو داود‬
‫‪ 5074‬وابن ماجه ‪ 3871‬والحاكم ‪ 1902‬عن ابن عمر رضي ال عنهما وصححه‪.‬‬

‫وكان يكرر الدعاء ثلثا‪ ،‬ويبدأ بالثناء على ربه‪ ،‬وكان يستقبل القبلة عند دعائه‪ ،‬وربما توضأ‬
‫قبل الدعاء‪ ،‬وكان يعلم المة أدب الدعاء‪ ،‬كالبداية بحمد ال والصلة والسلم على رسوله‪ ،‬ودعاء‬
‫ال بأسمائه الحسنى‪ ،‬واللحاح في الدعاء‪ ،‬وتوخّي أوقات الجابة كأدبار الصلوات‪ ،‬وبين الذان‬
‫والقامة‪ ،‬وآخر ساعة من يوم الجمعة‪ ،‬ويوم عرفة‪ ،‬وفي حالة السجود والصوم والسفر‪ ،‬ودعوة‬
‫الوالد لولده‪ ،‬وكان عليه الصلة والسلم وقت الزمات يلحّ على ربه ويناشده‪ ،‬ويكرر السؤال مع‬
‫تمام الذلّ والخوف والحب وحسن الظن‪ ،‬وتمام الرجاء‪ ،‬كما فعل يوم بدر ويوم الخندق ويوم‬
‫عرفة‪.‬‬

‫وكان ال يجيب دعوته ويلبّي طلبه‪ ،‬كما حصل له على المنبر يوم استسقى فنزل الغيث مباشرة‪،‬‬
‫ويوم شق له القمر‪ ،‬وبارك له في الطعام والمال‪ ،‬ونصره في حروبه‪ ،‬ورفع دينه وأيّد حزبه‬
‫وخذل أعداءه‪ ،‬وكبت خصومه‪ ،‬حتى حقق ال له مقاصده وأكرم مثواه وجعل له العاقبة صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم طموحا‪:‬‬


‫ولدت همته عليه الصلة والسلم معه يوم ولد‪ ،‬فمنذ طفولته زنفسه مهاجرة الى معالي المور‬
‫ومكارم الخلق‪ ،‬ل يرضى بالدون ول يهوى السفاسف‪ ،‬بل هو الطموح والسبّاق المتفرّد والمبرز‬
‫المحظوظ‪ ،‬ولقد ذكر أهل السير أنه عليه الصلة والسلم وهو طفل كان لجده عبدالمطلب فراش‬
‫في ظل الكعبة ل يجلس عليه إل هو لمنزلته‪ ،‬فجاء محمد صلى ال عليه وسلم فنازع الخدم حتى‬
‫جلس عليه‪ ،‬وأبى أن يجلس دونه‪.‬‬

‫وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق‬
‫المين‪ ،‬ويرضون حكمه ويعودون اليه في أمورهم‪.‬‬

‫ن ال عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة‪ ،‬وهي أعلى درجة في الجنة‪ ،‬فسأل ال إياها‪،‬‬
‫فلما م ّ‬
‫وعلّمنا ان نسألها له من ربه‪ ،‬بلغ سدرة المنتهى‪ ،‬وحاز الكمال البشري المطلق‪ ،‬والفضيلة‬
‫النسانية‪ .‬ومن عل ّو همّته رفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولياتها ومناصبها‬
‫وقصورها ودورها‪.‬‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم في القرآن‬
‫{ يا أيها النبي حسبك ال}‬
‫حسبك ال يكفيك من كل ما أهمّك‪ ،‬فيحفظك في الزمات‪ ،‬ويرعاك في الملمّات‪ ،‬ويحميك في‬
‫المدلهمّات‪ ،‬فل تخش ول تخف ول تحزن ول تقلق‪.‬‬

‫حسبك ال فهو ناصرك على كل عدو‪ ،‬ومظهرك على كل خصم‪ ،‬ومؤيدك في كل أمر‪ ،‬ويعطيك‬
‫إذا سألت‪ ،‬ويغفر لك إذا استغفرت‪ ،‬ويزيدك إذا شكرت‪ ،‬ويذكرك إذا ذكرت‪ ،‬وينصرك إذا‬
‫حاربت‪ ،‬ويوفّقك إذا حكمت‪.‬‬

‫حسبك ال فيمنحك العز بل عشيرة‪ ،‬والغنى بل مال‪ ،‬والحفظ بل حرس‪ ،‬فأنت المظفّر لن ال‬
‫حسبك! وأنت المنصور لن ال حسبك‪ ،‬وأنت الموفق لن ال حسبك‪ ،‬فل تخف من عين حاسد‬
‫ول من كيد كائد‪ ،‬ول من مكر ماكر‪ ،‬ول من خبث كافر‪ ،‬ول من حيلة فاجر لن ال حسبك‪.‬‬

‫وإذا سمعت صولة الباطل‪ ،‬ودعاية الشرك‪ ،‬وجلبة الخصوم‪ ،‬ووعيد اليهود‪ ،‬وتربّص المنافقين‪،‬‬
‫وشماتة الحاسدين‪ ،‬فاثبت لن حسبك ال‪.‬‬

‫إذا ولّى الزمان‪ ،‬وجفا الخوان‪ ،‬وأعرض القريب‪ ،‬وشمت العدو‪ ،‬وضعفت النفس‪ ،‬وأبطأ‬
‫الفرج‪ ،‬فاثبت لن حسبك ال‪.‬‬

‫إذا داهمتك المصائب‪ ،‬ونازلتك الخطوب‪ ،‬وحفّت بك النكبات‪ ،‬وأحاطت بك الكوارث‪ ،‬فاثبت‬
‫لن حسبك ال‪ ،‬ل تلتفت الى أحد من الناس‪ ،‬ول تدع أحدا من اليشر‪ ،‬ول تتجه لكائن من كان‬
‫غير ال‪ ..‬لن حسبك ال‪.‬‬

‫إذا أل ّم بك مرض‪ ،‬وأرهقك دين‪ ،‬وحلّ بك فقر‪ ،‬أوعرضت لك حاجة‪ ،‬فل تحزن لن حسبك ال‪.‬‬

‫إذا أبطأ النصر‪ ،‬وتأخر الفتح‪ ،‬واشتد الكرب‪ ،‬وثقل الحمل‪ ،‬وادلهمّ الخطب‪ ،‬فل تحزن لن‬
‫حسبك ال‪ ،‬أنت محظوظ لنك بأعيننا‪ ،‬وأنت محروس لنك خليلنا‪ ،‬وأنت في رعايتنا لنك‬
‫رسولنا‪ ،‬وأنت في حمايتنا لنك عبدنا المجتبى ونبيّنا المصطفى‪.‬‬
‫{ل تحزن إن ال معنا}‬
‫هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها صلى ال عليه وسلم وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر‬
‫الصدّيق‪ ،‬وقد أحاط بهما الكفار‪ ،‬فقالها قوية في حزم‪ ،‬صادقة في عزم‪ ،‬صارمة في جزم‪ {:‬لَ‬
‫تَ ْحزَنْ إِنّ اللّ َه َم َعنَا } التوبة ‪ .40‬فما دام ال معنا فلم الحزن ولم الخوف ولم القلق‪ ،‬اسكن‪ ..‬اثبت‪..‬‬
‫اهدأ‪ ..‬اطمئن‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫ل نُغلب‪ ،‬ل نُهزم‪ ،‬ل نضل‪ ،‬ل نضيع‪ ،‬ل نيأس‪ ،‬ل نقنط‪ ،‬لن ال معنا‪ ،‬النصر حليفنا‪ ،‬الفرج‬
‫رفيقنا‪ ،‬الفتح صاحبنا‪ ،‬الفوز غايتنا‪ ،‬الفلح نهايتنا لن ال معنا‪.‬‬

‫من أقوى منا قلبا‪ ،‬من أهدى منا نهجا‪ ،‬من أجلّ من مبدأ‪ ،‬من أحسن منا سيرة‪ ،‬من أرفع مان‬
‫قدرا؟! لن ال معنا‪.‬‬

‫ل خصمنا‪ ،‬ما أحقر من حاربنا‪ ،‬ما أجبن من قاتلنا‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬


‫ما أضعف عدوّنا‪ ،‬ما أذ ّ‬

‫لن نقصد بشرا‪ ،‬لن نلتجئ الى عبد‪ ،‬لن ندعو إنسانا‪ ،‬لن نخاف مخلوقا‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫نحن أقوى عدة وأمضى سلحا‪ ،‬وأثبت جنانا وأقوم نهجا‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫نحن الكثرون الكرمون العلون العزّون المنصورون‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫يا أبا بكر اهجر همّك‪ ،‬وأزح غمّك‪ ،‬واطرد حزنك‪ ،‬وأزل يأسك‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫يا أبا بكر ارفع رأسك‪ ،‬وهدئ من روعك‪ ،‬وأرح قلبك‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫يا أبا بكر أبشر بالفوز‪ ،‬وانتظر النصر‪ ،‬وترقّب الفتح‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫غدا سوف تعلو رسالتنا وتظهر دعوتنا وتسمع كلمتنا‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫غدا سوف نُسمع أهل الرض روعة الذان وكلم الرحمن ونغمة القرآن‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫غدا سوف نخرج النسانية ونحرر البشرية من عبودية الوثان‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬
‫{وإنك لعلى خلق عظيم}‬
‫وال إنك لعظيم الخلق‪ ،‬كريم السجايا‪ ،‬مهذب الطباع‪ ،‬نقيّ الفطرة‪.‬‬

‫وال إنّك جمّ الحياء‪ ،‬حيّ العاطفة‪ ،‬جميل السيرة‪ ،‬طاهر السريرة‪.‬‬

‫وال إنك قمة الفضائل‪ ،‬ومنبع الجود‪ ،‬ومطلع الخير‪ ،‬وغاية الحسان‪.‬‬

‫وإنك لعلى خلق عظيم‪ ..‬يظلمونك فتصبر‪ ،‬يؤذونك فتغفر‪ ،‬يشتمونك فتحلك‪ ،‬يسبّونك فتعفو‪،‬‬
‫يجفونك فتصفح‪.‬‬

‫{ َوِإّنكَ َلعَلى خُلُ ٍق عَظِي ٍم (‪ })4‬القلم‪ ..‬يحبّك الملك والمملوك‪ ،‬والصغير والكبير‪ ،‬والرجل والمرأة‪،‬‬
‫والغني والفقير‪ ،‬والقريب والبعيد‪ ،‬لنك ملكت القلوب بعطفك‪ ،‬وأسرت الرواح بفضلك‪ ،‬وطوّقت‬
‫العناق بكرمك‪.‬‬

‫{ َوِإّنكَ َلعَلى خُلُ ٍق عَظِي ٍم (‪.. })4‬هذبّك الوحي‪ ،‬وعلمك جبريل‪ ،‬وهداك ربك‪ ،‬وصاحبتك العناية‪،‬‬
‫ورافقتك الرعاية‪ ،‬وحالفك التوفيق‪.‬‬

‫{ َوِإّنكَ َلعَلى خُلُ ٍق عَظِي ٍم (‪ .. })4‬البسمة على محياك‪ ،‬البِِشر على طلعتك‪ ،‬النور على جبينك‪ ،‬الحب‬
‫في قلبك‪ ،‬الجود في يدك‪ ،‬البركة فيك‪ ،‬الفوز معك‪.‬‬

‫من زار بابك لم تبرح جوارحه‬


‫تروي احاديث ما أوليت من منن‬
‫فالعين عن قرّة والكف عن صلة‬
‫والقلب عن جابر والسمع عن حسن‬

‫{ َوِإّنكَ َلعَلى خُلُ ٍق عَظِي ٍم (‪ .. })4‬ل تكذب ولو أن السيف على رأسك‪ ،‬ول تخون ولو حزت الدنيا‪،‬‬
‫ول تغدر ولو أعطيت الملك‪ ،‬لنبي نبيّ معصوم‪ ،‬وإمام قدوة‪ ،‬وأسوة حسنة‪.‬‬

‫{ َوِإّنكَ َلعَلى خُلُ ٍق عَظِي ٍم (‪ ..})4‬صادق ولو قابلتك المنايا‪ ،‬وشجاع ولو قاتلت السود‪ ،‬وجواد ولو‬
‫سئلت كل ما تملك‪ ،‬فأنت المثال الراقي والرمز السامي‪.‬‬

‫{ َوِإّنكَ َلعَلى خُلُ ٍق عَظِي ٍم (‪ ..})4‬سبقت العالم ديانة وأمانة وصيانة ورزانة‪ ،‬وتفوقت على الكل علما‬
‫وحلما وكرما ونبل وشجاعة وتضحية‪.‬‬
‫{ما أنت بنعمة ربك بمجنون}‬
‫لست مجنونا كما قال أعداؤك لكن عندك دواء المجانين‪ ،‬فلمجنون الطائش والسفيه التافه من‬
‫خالفك وعصاك وحاربك وجفاك‪.‬‬

‫ت بِ ِن ْعمَةِ َرّبكَ ِبمَ ْجنُو ٍن (‪ })2‬القلم‪ ..‬وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقل‪ ،‬وأتمّهم رشدا‪،‬‬
‫{مَا أَن َ‬
‫وأسدهم رأيا‪ ،‬وأعظمهم حكمة‪ ،‬واجلذهم بصيرة!‬

‫وكيف تكون مجنونا وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ‪ ،‬ويزيل الضلل‪ ،‬وينسف الباطل‪ ،‬ويمحو‬
‫الجهل‪ ،‬ويهدي العقل‪ ،‬وينير الطريق‪.‬‬

‫لست مجنونا أنك على هدى من ال‪ ،‬وعلى نور من ربك‪ ،‬وعلى ثقة من منهجك‪ ،‬وعلى بيّنة‬
‫من دينك‪ ،‬وعلى رشد من دعوتك‪ ،‬صانك ال من الجنون‪ ،‬بل عندك كل العقل وأكمل الرشد وأتم‬
‫الرأي وأحسن البصيرة‪ ،‬فأنت الذي يهتدي بك العقلء‪ ،‬ويستضيء بحكمتك الحكماء‪ ،‬ويقتدي بك‬
‫الراشدون المهديّون‪.‬‬

‫كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملت الرض حكمة والدنيا رشدا والعالم عدل‪ ،‬فأين‬
‫ل البركة إل معك؟ أنت أعقل العقلء‪،‬‬ ‫يوجد الرشد إل عندك؟ وأين تكون الحكمة إل لديم؟ وأين تح ّ‬
‫ل الحكماء‪ .‬كيف يكون محمد مجنونا وقد قدّم للبشرية أحسن تراث على وجه‬ ‫وأفضل النبلء‪ ،‬وأج ّ‬
‫ل تركة عرفها الناس‪ ،‬وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلء‪:‬‬ ‫الرض‪ ،‬وأهدى للعالم أج ّ‬

‫أخوك عيسى دعا ميتا فقام له‬


‫وأنت أحييت أجيال من الرمم‬
‫{ وإنك لتهدي الى صراط مستقيم}‬
‫أنت يا محمد مهمّتك الهداية‪ ،‬ووظيفتك الدللة‪ ،‬وعملك الصلح‪ ..‬أنت تهدي الى صراط‬
‫مستقيم‪ ،‬لنك تزيل الشبهات وتطرد الغواية وتذهب الضللة‪ ،‬وتمحو الباطل وتشيد الحق والعدل‬
‫والخير‪.‬‬

‫أنت تهدي الى صراد مستقيم‪ ،‬فمن أراد السعادة فليتبعك‪ ،‬ومن أحبّ الفلح فليقتد بك‪ ،‬ومن‬
‫رغب في النجاة فليهتد بهداك‪.‬‬

‫أحسن صلة صلتك‪ ،‬وأتمّ صيام صيامك‪ ،‬وأكمل حجّ حجك‪ ،‬وأزكى صدقة صدقتك‪ ،‬وأعظم‬
‫ذكرك لربك‪.‬‬

‫وأنت تهدي الى صراط مستقيم‪ ..‬من ركب سفينة هدايتك نجا‪ ،‬من دخل دار دعوتك أمن‪ ،‬من‬
‫تمسّك بحبل رسالتك سلم‪ .‬فمن تبعك ما ذلّ‪ ،‬وما ضلّ وزلّ وما قل‪ ،‬وكيف يذلّ والنصر معك؟‬
‫وكيف يضل وكل الهداية لديك؟ وكيف يزل والرشد كله عندك؟ وكيف يقلّ وال مؤيدك وناصرك‬
‫وحافظك؟‬

‫وإنك لتهدي الى صراط مستقيم لنك وافقت الفطرة وجئت بحنيفية سمحة‪ ،‬وشريعة غرّاء‪ ،‬وملة‬
‫كاملة‪ ،‬ودين تام‪.‬‬

‫هديت العقل من الزيغ‪ ،‬وطهّرت القلب من الريبة‪ ،‬وغسلت الضمير من الخيانة‪ ،‬وأخرجت المة‬
‫من الظلم‪ ،‬وحرّرت البشر من الطاغوت‪.‬‬

‫وإنك لتهدي الى صراط مستقيم‪ ،‬فكلمك هدى‪ ،‬وحالك هدى‪ ،‬وفعلك هدى‪ ،‬و مذهبك هدى‪،‬‬
‫فأنت الهادي الى ال‪ ،‬الدال على طريق الخير‪ ،‬المرشد لكل برّ‪ ،‬الداعي الى الجنة‪.‬‬
‫{ يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك}‬
‫أ ّد الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة‪ ،‬بلّغها تامّة مثلما حملتها تامة‪ ،‬ل تنقص منها حرفا‪ ،‬ول‬
‫تحذف كلمة‪ ،‬ول تغفل جملة‪.‬‬

‫بلّغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تُسأل عنها‪ ،‬فبلغها بنصّها وروحها ومضمونها‪.‬‬

‫بلّغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم والهدى المستقيم والشريعة المطهّرة‪ ،‬فأنت مبلّغ فحسب‪ ،‬ل‬
‫تزد في الرسالة حرفا‪ ،‬ول تضف من عندك على المتن‪ ،‬ل تُدخل شيئا في المضمون‪ ،‬لنك مرسل‬
‫حمّلت فأدّ‪.‬‬
‫فحسب‪ ،‬مبعوث ليس إل‪ ،‬مكلف ببلغ‪ ،‬مسؤول عن مهمة‪ .‬فمثلما سمعت بلغ‪ ،‬ومثلما ُ‬

‫بلّغ ما أنزل إليك‪ ،‬عرف من عرف‪ ،‬وأنكر من أنكر‪ ،‬استجاب من استجاب وأعرض من‬
‫أعرض‪ ،‬أقبل من أقبل وأدبرمن أدبر‪.‬‬

‫بلغ ما أنزل إليك‪ ،‬بلّغ الكل وادع الجميع‪ ،‬وانصح الكافة‪ ،‬الكبراء والمستضعفين‪ ،‬السادة والعبيد‪،‬‬
‫والنس والجن‪ ،‬الرجال والنساء‪ ،‬الغنياء والفقراء‪ ،‬الكبار والصغار‪.‬‬

‫بلّغ ما أنزل إليك‪ ..‬فل ترهب العداء ول تخف الخصوم‪ ،‬ول تخش الكفار‪ ،‬ول يهولك سيف‬
‫مصلت‪ ،‬أو رمح مشرع‪ ،‬أو منية كالحة‪ ،‬أو موت عابس‪ ،‬أو جيش مدجج‪ ،‬أو حركة حامية‪.‬‬

‫بلّغ ما أنزل إليك فل يغريك مال‪ ،‬ول يعجبك منصب‪ ،‬ول يزدهيك جاه‪ ،‬ول تغرّك دنيا‪ ،‬ول‬
‫يخدعك متاع‪ ،‬ول يردّك تحرّج‪.‬‬

‫ب طفل الهدى المحبوب متّشحا‬‫وش ّ‬


‫بالخير متّزرا بالنور والنار‬
‫في كفّه شعلة تهدي وفي دمه‬
‫ل جبّار‬
‫عقيدة تتحدّى ك ّ‬
‫وفي ملمحه وعد وفي يده‬
‫عزائم صاغها من قدرة الباري‬

‫{ وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}‪:‬‬

‫إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئا‪ ،‬وإن لم توصلها تامّة فكأنك ما قمت بها حق القيام‪،‬‬
‫ولو كتمت منها مقالة أو عطلت منها نصا أو أهملت منها عبارة فما بلّغت رسالة ال وما أدّيت‬
‫أمانة ال‪ ،‬نريد منك أن تبلّغ رسالتنا للناس كما أُلقيت عليك‪ ،‬وكما نزل بها جبريل وكما وعاها‬
‫قلبك‪.‬‬

‫{وال يعصمك من الناس}‪:‬‬

‫بلغ الرسالة كاملة ول تخف أحدا‪ ،‬وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك‬
‫ونذبّ عنك؟! لن يقتلك أحد لن ال يعصمك من الناس‪ ،‬ولن يطفئ نورك أحد لن ال يعصمك‬
‫من الناس‪ ،‬ولن يعطّل مسيرتك أحد لن ال يعصمك من الناس‪ ،‬اصدع بما تؤمر‪ ،‬وقل كلمتك‬
‫صريحة شجاعة قوية لن ال يعصمك من الناس‪ .‬اشرح دعوتك‪ ،‬وابسط رسالتك‪ ،‬وارفع صوتك‪،‬‬
‫وأعلن منهجك‪ ،‬وما عليك لن ال يعصمك من الناس‪.‬‬

‫ل جبروت في الدنيا ل يهزمك‪ ،‬كل طاغية في المعمورة‬


‫كل قوة في الرض لن تستطيع لك‪ ،‬ك ّ‬
‫لن يقهرك‪ ،‬لن ال يعصمك من الناس‪.‬‬

‫ظنّوا الحمام وظنّوا العنكبوت على‬


‫خير البريّة لم ينسج ولم يحم‬
‫عناية ال أغنت عن مضاعفه‬
‫من الروع وعن عالٍ من الطم‬
‫{ألم نشرح لك صدرك}‬
‫أما شرحنا لك صدرك فصار وسيعا فسيحا ل ضيق فيه‪ ،‬ول حرج ول همّ ول غمّ ول حزن‪ ،‬بل‬
‫ملناه لك نورا وسرورا وحبورا‪.‬‬

‫أما شرحنا لك صدرك وملناه حكمة ورحمة وإيمانا وبرا وإحسانا‪.‬‬

‫وشرحنا لك صدرك فوسعت أخلق الناس‪ ،‬وعفوت عن تقصيرهم‪ ،‬وصفحت عن أخطائهم‪،‬‬


‫وسترت عيوبهم‪ ،‬وحلمت على سفيههم‪ ،‬وأعرضت عن جاهلهم‪ ،‬ورحمت ضعيفهم‪.‬‬

‫شرحنا لك صدرك فكنت كالغيث جوادا‪ ،‬وكالبحر كرما‪ ،‬وكالنسيم لطفا‪ ،‬تعطي السائل‪ ،‬وتمنح‬
‫الراغب‪ ،‬وتكرم القاصد‪ ،‬وتجود على المؤمّل‪.‬‬

‫شرحنا لك صدرك فصار بردا وسلما يطفئ الكلمة الجافية‪ ،‬ويبرد العبارة الجارحة‪ ،‬فإذا العفو‬
‫والحلم والصفح والغفران‪.‬‬

‫شرحنا لك صدرك فصبرت على جفاء العراب‪ ،‬ونيل السفهاء‪ ،‬وعجرفة الجبابرة‪ ،‬وتطاول‬
‫التافهين‪ ،‬وإعراض المتكبرين‪ ،‬ومقت الحسدة‪ ،‬وسهام الشامتين‪ ،‬وتجهّم القرابة‪.‬‬

‫شرحنا لك صدرك فكنت بسّاما في الزمات‪ ،‬ضحّاكا في الملمّات‪ ،‬مسرورا وأنت في عين‬
‫العاصفة‪ ،‬مطمئنا وأنت في جفن الردى‪ ،‬تداهمك المصائب وأنت ساكن‪ ،‬وتلتفّ بك الحوادث‬
‫وأنت ثابت‪ ،‬لنك مشروح الصدر‪ ،‬عامر الفؤاد‪ ،‬حيّ النفس‪.‬‬

‫شرحنا لك صدرك فلم تكن فظا قاسيا غليظا جافيا‪ ،‬بل كنت رحمة وسلما وبرا وحنانا ولطفا‪،‬‬
‫فالحلم يُطلب منك‪ ،‬والجود يُتعلّم من سيرتك‪ ،‬والعفو يؤخذ من ديوانك‪.‬‬

‫{ووضعنا عنك وزرك}‪:‬‬

‫حططنا عنك خطاياك وغسلناك من آثار الذنوب‪.‬‬

‫ي طاهر من كل ذنب وخطيئة‪ ،‬ذنبك‬‫فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‪ ،‬وأنت الن نق ّ‬
‫مغفور‪ ،‬وسعيك مشكور‪ ،‬وعملك مبرور‪ ،‬وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور‪ ،‬فهنيئا لك هذا‬
‫الغفران‪ ،‬وطوبى لك هذا الفوز‪ ،‬وقرة عين لك هذا الفلح‪.‬‬

‫{الذي أنقض ظهرك}‪:‬‬

‫أثقل هذا الوزر كاهلك‪ ،‬وأضنى ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه‪ ،‬فالن أذهبنا هذا الثقل وأزلنا‬
‫هذه التبعة‪ ،‬وأعفيناك من هذا الخطب‪ ،‬وأرحناك من هذا الحمل‪ ،‬فاسعد بهذه البشرى‪ ،‬وتقبّل هذا‬
‫العطاء‪ ،‬وافرح بهذا التفضّل‪.‬‬

‫{ورفعنا لك ذكرك}‪:‬‬
‫ل أُذكر إل تذكر معي‪ ،‬يقرن ذكرك بذكري في الذان والصلة والخطب والمواعظ‪ ،‬فهل تريد‬
‫شرفا فوق هذا؟ يذكرك كل مصلّ وكل مسبّح وكل حاجّ وكل خطيب‪ ،‬فهل تطلب مجدا أعلى من‬
‫هذا؟‬

‫أنت مذكور في التوراة والنجيل‪ ،‬منوّه باسمك في الصحف الولى والدواوين السابقة‪ ،‬اسمك‬
‫يشاد به في النوادي‪ ،‬ويُتلى في الحواضر والبوادي‪ ،‬ويُمدح في المحافل‪ ،‬ويُكرر في المجامع‪.‬‬

‫رفعنا لك ذكرك فسار في الرض مسير الشمس‪ ،‬وعبر القارات عبور الريح‪ ،‬وسافر في الدنيا‬
‫سفر الضوء‪ ،‬فكل مدينة تدري بك‪ ،‬وكل بلد يسمع بك‪ ،‬وكل قرية تسأل عنك‪.‬‬

‫رفعنا لك ذكرك فصرت حديث الرّّكب‪ ،‬وقصة السّمر‪ ،‬وخبر المجالس‪ ،‬وقضية القضايا‪ ،‬والنبأ‬
‫العظيم في الحياة‪.‬‬

‫رفعنا لك ذكرك فما نُسي مع اليام‪ ،‬وما مُحي مع العوام‪ ،‬وما شُطب مع قائمة الخلود‪ ،‬وما‬
‫نُسخ من ديوان التاريخ‪ ،‬وما أغفل من دفتر الوجود‪ ،‬نُسي الناس إل أنت‪ ،‬وسقطت السماء إل‬
‫اسمك‪ ،‬وأغفل العظماء إل ذاتك‪ ،‬فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتّباعك‪ ،‬ومن حُفظ‬
‫اسمه فبسبب القتداء بك‪ .‬ذهبت آثار الدول وبقيت آثارك‪ ،‬ومُحيت مآثر السلطين وبقيت مآثرك‪،‬‬
‫وزالت أمجاد الملوك وخلّد مجدك‪ ،‬فليس في البشر أشرح منك صدرا‪ ،‬ول أرفع منك ذكرا‪ ،‬ول‬
‫أعظم منك قدرا‪ ،‬ول أحسن منك أثرا‪ ،‬ول أجمل منك سيرا‪.‬‬

‫إذا تشهّد متشهّد ذكرك معنا‪ ،‬وإذا تهجّد متهجّد سمّاك معنا‪ ،‬وإذا خطب خطيب نوّه بك معنا‪،‬‬
‫فاحمد ربّك لننا رفعنا لك ذكرك‪.‬‬

‫{ فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا}‪:‬‬

‫إذا ضاقت عليك السبل وبارت الحيل‪ ،‬وتقطعت الحبال وضاق الحال‪ ،‬فاعلم أن الفرج قريب‬
‫وأن اليسر حاصل‪.‬‬

‫ل تحزن‪ ،‬فإن بعد الفقر غنى‪ ،‬وبعد المرض شفاء‪ ،‬وبعد البلوى عافية‪ ،‬وبعد الضيق سعة‪ ،‬وبعد‬
‫الشدّة فرحا‪.‬‬

‫سوف يصلك اليسر أنت وأتباعك‪ ،‬فترزقون وتنصرون وتكرمون ويفتح عليك‪ ،‬ولكن ليس يسر‬
‫واحد بل يسران‪.‬‬

‫إنها سنة ثابتة وقاعدة مطّردة أن مع كل عسر يسرا‪ ،‬بعد الليل فجر صادق‪ ،‬وخلف جبل المشقة‬
‫سهل الراحة‪ ،‬ووراء صحراء الضيق روضة خضراء من السعة‪ ،‬إذا اشتد الحبل انقطع‪ ،‬وإذا‬
‫اكتمل الخطب ارتفع‪ ،‬سوف يصل الغائب‪ ،‬ويشفى المريض‪ ،‬ويعافى المبتلى‪ ،‬ويفكّ المحبوس‪،‬‬
‫ويغنى الفقير‪ ،‬ويشبع الجائع‪ ،‬ويروى الظمآن‪ ،‬ويسرّ المهموم‪ ،‬وسيجعل ال بعد عسر يسرا‪.‬‬

‫وهذه السورة نزلت عليه الصلة والسلم وهو في حال من الضيق‪ ،‬وتكالب العداء‪ ،‬واجتماع‬
‫الخصوم‪ ،‬وإعراض الناس‪ ،‬وقلة الناصر‪ ،‬وتعاظم المكر‪ ،‬وكثرة الكيد‪ ،‬فكان ل بد له من عزاء‬
‫وسلوة وتطمين وترويح‪ ،‬فنزلت هذه الكلمات له ولتباعه الى يوم القيامة وعدا صادقا وبشر‬
‫طيبة‪ ،‬وجائزة متقبّلة‪:‬‬
‫اشتدي أزمة تنفرجي‬
‫قد آذن ايلك بالبلج‬

‫{فإذا فرغت فانصب}‪:‬‬

‫إذا انتهيت من أعمالك الدنيوية وأشغالك الشخصية فانصب لنا بالعبادة‪ ،‬وتوجّه لنا بالطاعة‪،‬‬
‫وأكثر من ذكرنا ودعائنا‪.‬‬

‫إذا فرغت من الناس وقضايا الناس وأسئلة الناس فقم في محراب عظمتنا‪ ،‬وانطرح على بابنا‪،‬‬
‫واقرب منا‪ ،‬ومرّغ جبينك لنا‪ ،‬لتلقى الفوز والفلح والمن والنجاة‪.‬‬

‫إذا فرغت من الهل والولد والقريب والصاحب فاجعل لك وقتا معنا‪ ،‬ارفع فيه سؤالك‪ ،‬اعرض‬
‫فيه حاجتك‪ ،‬أكثر فيه دعاءك‪ ،‬ادعنا وسبّحنا واطلبنا واستغفرنا واشكرنا واذكرنا‪.‬‬

‫إذا فرغت من الحكام والقضايا والموعظة والفتيا والتعليم والرشاد والجهاد والنصيحة‪ ،‬فتعال‬
‫لتزداد من قوتنا قوة‪ ،‬ومن مددنا عونا‪ ،‬ومن رزقنا زادا‪ ،‬ومن فتحنا بصيرة وذخيرة‪.‬‬

‫نحن أولى بك منك‪ ،‬وأحق بفراغك من غيرنا‪ ،‬ويا له من توجيه له ولتباعه عليه الصلة‬
‫ل في عله‪ ،‬ليحصل‬ ‫والسلم في صرف الفراغ في العبودية‪ ،‬وملء هذا الزمن بذكره وشكره ج ّ‬
‫المقصود من الرضا والسكينة والفرج والعاقبة الحسنة وصلح الحال والمال‪ ،‬وعمار الدنيا‬
‫والخرة‪.‬‬

‫{وإلى ربّك فارغب}‪:‬‬

‫إلى ربك وحده فارغب‪ ،‬ول ترغب من غيره شيئا‪ ،‬وإليه وحده فاتجه وعليه توكّل‪ ،‬وفيه فأمل‪،‬‬
‫فإن الرغبة والرهبة ل تكون إل إليه لنه صاحب الثواب لمن أطاعه والعقاب لمن عصاه‪،‬‬
‫والرغائب الجليلة ل يملكها إل ال‪ ،‬فعنده مفاتح الخزائن ومقاليد المور‪ ،‬فهو أهل أن يدعى وأن‬
‫ل في عله‪:‬‬
‫يسأل وأن يؤمل وأن يقصد ج ّ‬

‫إليك وإل ل تشدّ الركائب‬


‫ومنك وإل فالمؤمّل خائب‬
‫وفيك وإل فالغرام مضيّع‬
‫وعنك وإل فالمحدث كاذب‬

‫وقد تنزلت هذه الكلمات على رسولنا صلى ال عليه وسلم في فترات عصيبة‪ ،‬وفي لحظات‬
‫حاسمة عاشها صلى ال عليه وسلم وتجرّع غصصها وحسا مرارتها‪.‬‬
‫{إنا فتحنا لك فتحا مبينا}‬
‫لقد فتحنا لك يا محمد فتحا بيّنا ظاهرا مباركا‪ ،‬فتحنا لك القلوب فغرست بها اليمان‪ ،‬وفتحنا لك‬
‫الضمائر فبنيت فيها الفضيلة‪ ،‬وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق‪ ،‬وفتحنا لك البلدان فنشرت‬
‫بها الهدى‪ ،‬وفتحنا لك كنز المعرفة وديوان العلم ومستودع التوفيق‪ ،‬وفتحنا بدعوتك القلوب الغلف‬
‫والعيون العني والذان الصمّ‪ ،‬وأسمعنا رسالتك الثقلين‪.‬‬

‫ح الجود من يمينك‪.‬‬
‫فتحنا لك فتدفّق العلم النافع من لسانك‪ ،‬وفاض الهدى المبارك من قلبك‪ ،‬وس ّ‬

‫وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها‪ ،‬وجمعت الرزاق ووزعتها‪ ،‬وحصلت على الموال وأنفقتها‪.‬‬

‫وفتحنا لك باب العلم وأنت الميّ الذي ما قرأ وكتب‪ ،‬فصار العلماء ينهلون من بحار علمك‪.‬‬

‫وفتحنا عليك الخير فوصلت القريب وأعطيت البعيد‪ ،‬وأشبعت الجائع وكسوت العاري‪ ،‬وواسيت‬
‫المسكين‪ ،‬وأغنيت الفقير‪ ،‬بفضلنا ورزقنا وكرمنا‪.‬‬

‫وفتحنا لك القلع والمدن والقرى‪ ،‬فهيمن دينك‪ ،‬وارتفعت رايتك‪ ،‬وانتصرت دولتك‪ ،‬فأنت‬
‫مفتوح عليك في كل خير وبرّ وإحسان ونصر وتوفيق‪.‬‬
‫{فاعلم أنه ل إله إل ال}‬
‫{فَاعْلَمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ} محمد ‪ ،19‬فل تشرك معه في عبوديته أحدا‪ ،‬ول تعد من دونه إلها آخر‪،‬‬
‫بل تصرف له عبادتك‪ ،‬وتخلص له طاعتك‪ ،‬وتوحّد قصدك له ومسألتك ودعاءك‪ ،‬فإذا سألت‬
‫فاسأل ال‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن بال‪ ،‬فل يستحق العبادة إل هو‪ ،‬ول يكشف الضرّ غيره‪ ،‬ول‬
‫يجيب دعوة المضطر سواه‪.‬‬

‫{فَاعْلَمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّ ُه } فهو أحق من شُكر وأعظم من ذكر‪ ،‬وأرأف من ملك‪ ،‬وأجود من‬
‫أعطى‪ ،‬وأحلم من قدر‪ ،‬وأقوى من أخذ‪ ،‬وأجلّ من قصد‪ ،‬وأكرم من ابتغي‪ ،‬فل يدعى إله سواه‪،‬‬
‫ول رب يطاع غيره‪ ،‬فالواجب أن يُعبد وأن يُوحّد وأن يُخاف وأن يُطاع وأن يُرهب وأن يُخشى‬
‫وأن يُحب‪.‬‬

‫{فَاعْلَمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ} المتفرد بالجمال والكمال والجلل‪ ،‬خلق الخلق ليعبدوه‪ ،‬وأوجد النس‬
‫والجن ليوحّدوه‪ ،‬وأنشأ البريّة ليطيعوه‪ ،‬فمن أطاعه فاز برضوانه‪ ،‬ومن أحبّه نال قربه‪ ،‬ومن‬
‫خافه أمن عذابه‪ ،‬ومن عظمه أكرمه‪ ،‬ومن عصاه أدّبه‪ ،‬ومن حاربه خذله‪ ،‬يذكر من ذكره‪ ،‬ويزيد‬
‫من شكره‪ ،‬ويذلّ من كفره‪ ،‬له الحكم وإليه ترجعون‪.‬‬

‫{فَاعْلَمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ} فأخلص له العبادة‪ ،‬لنه ل يقبل الشريك‪ ،‬وفوّض إليه المر لنه الكافي‬
‫القويّ‪ ،‬واسأله فهو الغني‪ ،‬وخف عذابه لنه شديد‪ ،‬واخش أخذه لنه أليم‪ ،‬ول تتعدّ حدوده لنه‬
‫يغار‪ ،‬ول تحارب أولياءه‪ ،‬لنه ينتقم‪ ،‬واستغفره فهو واسع المغفرة‪ ،‬واطمع في فضله لنه كريم‪،‬‬
‫ولذ بجنابه فهناك المن‪ ،‬وأدم ذكره لتنل محبته‪ ،‬وأدمن شكره لتحظى بالمزيد‪ ،‬وعظم شعائره‬
‫لتفوز بوليته‪ ،‬وحارب أعداءه ليخصّك بنصره‪.‬‬
‫{إقرأ}‬
‫تبدأ قصة النبوة بكلمة‪{:‬اقْرَأْ} يوم نزلت على رسولنا صلى ال عليه وسلم في الغار‪ ،‬ومن بداية‬
‫{ا ْقرَأْ} بدأنا‪ ،‬بدأ تاريخنا ومجدنا وحياتنا‪ ،‬ومن تاريخ نزول {ا ْقرَأْ} بدأت مسيرتنا المقدّسة‪ ،‬وتغيّر‬
‫بها وجه الرض وصفحة اليام ومعالم الدنيا‪ ،‬فتلك اللحظة هي أسعد لحظة في حياتنا نحن‬
‫المسلمين‪ ،‬وهي اللحظة الفاصلة بين الظلم والنور‪ ،‬والكفر واليمان‪ ،‬والجهل والعلم‪ ،‬واختيار‬
‫اقرأ من بين قاموس اللفاظ وديوان اللغة له سر عجيب ونبأ غريب‪ ،‬فلم يكن مكان {اقْرَأْ} غيرها‬
‫من الكلمات‪ ،‬ل " اكتب"‪ ،‬ول "ادع" ول "تكلم" ول "قل"‪ ،‬ول "اخطب"‪ ....‬إنما {ا ْقرَأْ}‪ ،‬ويا لها‬
‫من كلمة جليلة جميلة أصيلة‪.‬‬

‫اقرأ يا محمد قبل أن تدعو‪ ،‬واطلب العلم قبل أن تعمل {فَاعْلَمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ وَا ْس َتغْ ِفرْ ِلذَن ِبكَ }‬
‫محمد ‪.19‬‬

‫إن {اقْرَأْ} منهج حياة‪ ،‬ورسالة حية لكل حيّ تطالبه بتحصيل العلم النافع وطلب المعرفة‪ ،‬وأن‬
‫يطرد الجهل عن نفسه وأمته‪.‬‬

‫وأين يقرأ بأبي وأمي وما تعلّم على شيخ ول درس كتابا ول حمل قلما؟‬

‫يقرأ أول باسم ربه كلم ربّه‪ ،‬فمصدره الول الوحي يتلوه غضّا طريا‪ ،‬ويقرأ في كتاب الكون‬
‫المفتوح ليرى أسطر الحكمة تخطها أقلم القدرة‪ ،‬فيقرأ في الشمس الساطعة‪ ،‬والنجوم اللمعة‪،‬‬
‫والجدول والغدير‪ ،‬والتل والرابية‪ ،‬والحديقة والصحراء‪ ،‬والرض والسماء‪:‬‬

‫وكتابي الفضاء اقرأ فيه‬


‫صورا ما قرأتها في كتابي‬

‫وكلمة {اقْرَأْ} تدلك على فضل العلم وعل ّو مكانته‪ ،‬وأنه أول منازل الشرف الرافعة‪.‬‬

‫وإن كل سعادة وفلح سببها العلم‪ ،‬فرسالته صلى ال عليه وسلم علميّة عمليّة‪ ،‬لنه بعث بالعلم‬
‫النافع والعمل الصالح " مثل ما بعثني ال به من الهدى والعلم كمثل الغيث" أخرجه البخاري ‪79‬‬
‫ومسلم ‪ 2282‬عن أبي موسى رضي ال عنه‪.‬‬

‫فاليهود عندهم علم بل عمل‪ ،‬فغضب عليهم‪ ،‬والنصارى لديهم عمل بل علم فضلوا‪ ،‬فأمرنا‬
‫ب عَلَيهِمْ َولَ الضّالّينَ (‪ } )7‬الفاتحة‪.‬‬
‫بالستعاذة من سبيل الطائفتين {غَيرِ المَغضُو ِ‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم باكيا‪:‬‬
‫البكاء فضيلة عند رؤية التقصير أو خوف سوء المصير‪ ،‬وهو محمدة إذا تذكّر العبد ربه وخاف‬
‫ذنوبه‪ ،‬ودليل على تقوى القلب وسمّو النفس وطهر الضمير ورقّة العاطفة‪ ،‬مدح ال رسله بالبكاء‬
‫فقال‪ِ {:‬إذَا ُتتْلَى عََل ْيهِ ْم آيَاتُ الرّ ْحمَن خَرّوا سُجّدا َوُبكِيّا (‪ })58‬مريم‪.‬‬

‫ل ْذقَا ِن يَ ْبكُونَ َويَزِيدُهُمْ خُشُوعا (‪ } )109‬السراء‪.‬‬


‫خرّونَ لِ َ‬
‫ووصف أولياءه الصالحين بأنهم{ َويَ ِ‬

‫ولم أعداءه على القسوة والغلظة فقال‪ {:‬أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ول تبكون}‪.‬‬

‫ع َرفُو ْا مِنَ‬
‫ن ال ّدمْ ِع ِممّا َ‬
‫ع ُي َنهُمْ َتفِيضُ مِ َ‬
‫ل تَرَى أَ ْ‬
‫س ِمعُو ْا مَا أُن ِزلَ إِلَى الرّسُو ِ‬
‫وأثنى على قوم فقال‪ {:‬وَِإذَا َ‬
‫الْحَ ّق } المائدة ‪.83‬‬

‫وسيد الخاشعين لربّ العالمين‪ ،‬وإمام الخائفين من مالك يوم الدين هو خاتم المرسلين صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬فقد كان نديّ الجفن‪ ،‬سريع العبرة‪ ،‬سخيّ الدمع‪ ،‬رقيق القلب‪ ،‬جياش العاطفة‪ ،‬مشبوب‬
‫الحشا‪ ،‬تنطلق دمعته في صدق وطهر‪ ،‬ويسمع نشيجه في قنوت وإخبات‪ ،‬يترك بكاؤه في قلوب‬
‫أصحابه آثارا من التربية والقتداء والصلح ما ل تتركه الخطبة البليغة والمواعظ المؤثرة‪ ،‬فهو‬
‫يبكي صلى ال عليه وسلم عند تلوة القرآن‪ ،‬فقد قام ليلة من الليالي يكرر قوله تعالى‪ {:‬إِن ُت َعذّ ْبهُمْ‬
‫ت ا ْلعَزِيزُ الْ َحكِي ُم (‪ } )118‬المائدة‪ ،‬فيبكي غالب ليله‪.‬‬
‫عبَا ُدكَ وَإِن َتغْفِرْ َلهُ ْم َفِإّنكَ أَن َ‬
‫َفِإّنهُمْ ِ‬

‫وهو يبكي عند سماع القرآن‪ ،‬فقد صحّ عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال لبن مسعود‪":‬اقرأ عليّ‬
‫القرآن"‪ ،‬قال‪ :‬كيف أقرؤه عليك وعليك أُنزل؟ قال‪ ":‬اقرأ فإني أحبّ أن أسمعه من غيري" فيقرأ‬
‫ك عَلَى هَـؤُلء‬
‫ج ْئنَا ِب َ‬
‫شهِيدٍ وَ ِ‬
‫ل أمّ ٍة بِ َ‬
‫ج ْئنَا مِن كُ ّ‬
‫ابن مسعود من أول سورة النساء‪ ،‬حتى بلغ‪َ {:‬ف َكيْفَ ِإذَا ِ‬
‫َشهِيدا (‪ })41‬النساء‪ .‬قال‪ ":‬حسبك الن" فنظرت فإذا عيناه تذرفان‪ .‬أخرجه البخاري [ ‪،4582‬‬
‫‪ ]5055‬ومسلم ‪ 800‬عن عبدال بن مسعود‪.‬‬

‫وهو يخشع صلى ال عليه وسلم عند سماع القرآن‪ ،‬فقد صح أنه قام ليلة يستمع لبي موسى‬
‫الشعري وهو يقرأ القرآن ثم قال له في الصباح‪ ":‬لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك‪ ،‬لقد أوتيت‬
‫مزمارا من مزامير آل داود" أخرجه البخاري ‪ 5048‬ومسلم ‪ 793‬عن أبي موسى‪.‬‬
‫فيقول أبو موسى‪ :‬لو كنت أعلم أنك تستمع لي لحبّرته لك تحبيرا‪ .‬أي‪ :‬جوّدته وحسنته وجمّلته‪.‬‬
‫هذه الزيادة أخرجها البيهقي في الكبرى [ ‪ ]208421 ،4484‬وفي الشعب ‪.2604‬‬

‫وقال عبدال بن الشخير في حديث صحيح‪ :‬دخلت على رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو‬
‫يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء‪ ،‬وهو القدر إذا استجمع غليانا‪.‬‬

‫ويحضر صلى ال عليه وسلم جنازة ابنته زينب‪ ،‬ويجلس على القبر وتذرف عيناه من هول‬
‫المنظر‪ ،‬وتذكر العاقبة والتفكير في ذلك المصير‪ ،‬وأصحابه يشاهدون هذا المشهد المؤثر المعبّر‬
‫منه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ويخبر صلى ال عليه وسلم بفضل البكاء من خشية ال‪ ،‬فيذكر السبعة الذين يظلهم ال في ظله‬
‫يوم ل ظل إل ظله‪ ...":‬ورجل ذكر ال خاليا ففاضت عيناه" اخرجه البخاري[ ‪،1423 ،660‬‬
‫‪ ]6806‬ومسلم ‪ 1031‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬

‫ح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ ":‬عينان ل تمسّهما النار أبدا‪ :‬عين بكت وجل من خشية‬
‫وص ّ‬
‫ال‪ ،‬وعين باتت تحرس في سبيل ال" أخرجه الترمذي ‪ 1639‬والبيهقي في الشعب ‪ 796‬عن ابن‬
‫عباس‪.‬‬

‫فالبكاء السنّي الشرعي ما كان من خوف ال عز وجل‪ ،‬وتذكّر القدوم عليه والوقوف بين يديه‬
‫والتفكير في آياته الشرعية والكونية‪ .‬والبكاء من الوفاء‪ ،‬ومن أفضل أعمال الولياء‪ ،‬خاصة إذا‬
‫كان ندما من معصية وعند فوت طاعة‪ ،‬ووجل من عذاب‪ ،‬ورحمة لمصاب‪ ،‬ورقة عند موعظة‪،‬‬
‫وخشية عند تفكّر‪ .‬ول يحمد البكاء على الدنيا‪ ،‬فهي أقل وأرخص من يُبكى عليها‪ ،‬فليست أهل‬
‫لذلك‪.‬‬

‫ل وأفضل البكاء‪ ،‬وهو ما دلّ على يقين وعظمة خوف وشدة‬ ‫فكان بكاؤه صلى ال عليه وسلم أج ّ‬
‫رهبة من الجليل‪ ،‬وصدق معرفة وحسن علم بعاقبة‪ ،‬فأعماله صلى ال عليه وسلم كلها في أرقى‬
‫مقامات العمال وأسمى غايات الحوال‪.‬‬

‫ولم يكن صلى ال عليه وسلم بالهلوع الجزوع الذي يأسف على فوات الحظوظ الدنيوية‬
‫ويجزعلى ذهاب المكاسب الدنيّة‪ ،‬ولم يكن بالفرح البطر القاسي الذي ل تؤثر فيه المواقف ول‬
‫تحرّكه الزمات‪ ،‬بل كان بكاؤه وندمه وأسفه في مرضاة ربه‪ .‬وكان تبسّمه وضحكه وسروره في‬
‫طاعة خالقه‪ ،‬ففي كل خصلة من خصال النبل وفي كل صفة من صفات الفضل هو المثل العلى‬
‫والقدوة الحسنة‪ {:‬لَ َق ْد كَانَ َلكُ ْم فِي رَسُو ِل اللّهِ أُسْ َوةٌ حَ َسنَةٌ} الحزاب ‪.21‬‬

‫لقد كان أصحابه صلى ال عليه وسلم ينظرون إليه على المنبر ودموعه تذرف‪ ،‬ونشيجه يتعالى‪،‬‬
‫ل ينكس رأسه ويترك‬‫ولصدره أزيز ولصوته أزيمن حينها يتحول المسجد إلى بكاء ودموع‪ ،‬ك ّ‬
‫التعبير لعينيه أمام هذا المشهد الذي ل تمحوه اليام ول تنسيه الليالي‪.‬‬

‫يا ال! محمد رسول ال هكذا باكيا أمام الناس‪ ،‬هكذا تسحّ دموعه وتتساقط على وجنتيه وهو‬
‫أعرف الناس بال وأدراهم بالوحي وأعلمهم بالمصير!‬

‫يبكي من قلب ملؤه الخوف من ال‪ ،‬ومن نفس عمَرها حب ال‪ ،‬فتكاد دموعه تتحدث للناس‪،‬‬
‫ويكاد يكون بكاؤه أبلغ من كل موعظة وأفصح من كل كلمة‪.‬‬

‫قد كنت أشفق من دمعي على بصري‬


‫فاليوم كلّ عزيز بعدكم هانا‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم ضاحكا‪:‬‬
‫الضحك المعتدل بلسم للروح ودواء للنفس وراحة للخاطر المكدود وبعد الجد والعمل‪ ،‬والمقتصد‬
‫منه دليل على الريحية‪ ،‬وآية على اعتدال المزاج‪ ،‬وعلمة على صفاء الطويّة‪.‬‬

‫وكان رسولنا صلى ال عليه وسلم مع أهله إذا دخل عليهم ضحاكا بساما يمازح زوجاته‬
‫ويلطفهن ويؤنسهن ويحادثهن حديث الود والحب والحنان والعطف؛ لنه بُعث رحمة للعالمين‪،‬‬
‫وأحق الناس بهذه الرحمة أهله وقرابته وأحبابه وأصحابه‪ .‬وكانت تعلو محيّاه الطاهر البسمة‬
‫المشرقة الموحية‪ ،‬فإذا قابل بها الناس أسر قلوبهم أسرا فمالت نفوسهم بالكلية إليه وتهافتت‬
‫أرواحهم عليه‪ ،‬يبتسم عن مثل البرد في وجه أبهى من الشمس‪ ،‬وجبين أزهى من البدر‪ ،‬وفم‬
‫أطهر من القحوان‪ ،‬وخلق أندى من الرياض‪ ،‬وو ّد أرق من النسيم‪ ،‬يمزح ول يقول إل حقا‪،‬‬
‫فيكون مزحه على أرواح أصحابه أهنى من قطرات الماء على كبد الصادي وألطف من يد الوالد‬
‫الحاني على رأس ابنه الوديع‪ ،‬يمازحهم فتنشط أرواحهم وتنشرح صدورهم وتنطلق أسارير‬
‫وجوههم‪ ،‬فل وال ما يريدون الدنيا كلها في جلسة واحدة من جلساته‪ ،‬ول وال ل يرغبون في‬
‫القناطير المقنطرة من الذهب والفضة في كلمة حانية وادعة مشرقة من كلماته‪.‬‬

‫يقول جرير بن عبدال البجلي‪ :‬ما رآني رسول ال صلى ال عليه وسلم إل تبسّم في وجهي‪،‬‬
‫وجرير يفتخر بهذا العطاء ويعلن هذا السخاء‪ ،‬فهذه البسمة الوارفة الدافئة الصادقة أجلّ عند‬
‫جرير من كل الذكريات وأسمى من كل المنيات‪.‬‬

‫يبتسم في وجهه فكفى‪ ،‬يمل روحه برا وحنانا ولطفا‪ ،‬ويشبع قلبه سماحة ورحمة وودا‪ ،‬ول تظن‬
‫المسألة عادية أو أن الموقف سهل بسيطن لنك ما عشت الحدث وما لبست القضية‪.‬‬

‫والرسول صلى ال عليه وسلم في ضحكه ومزاحه ودعابته وسط بين من جفّ خلقه ويبس‬
‫طبعه وتجهّم محيّاه وعبس وجهه‪ ،‬وبين من أكثر من الضحك واستهتر في المزاح وأدمن الدعابة‬
‫والخفة‪ ،‬فكان صلى ال عليه وسلم يضحك في مناسبات حتى تبدو نواجذه‪ ،‬ولكنه لم يستغرق في‬
‫الضحك حتى يهتز جسمه أو يتمايل أو تبدو لهواته‪ ،‬وهي أقصى الحق‪.‬‬

‫وقد صحّ عنه أنه قال‪ ":‬وإيّاك والضحك‪ ،‬فإن كثرة الضحك تميت القلب" أخرجه أحمد ‪8034‬‬
‫والترمذي ‪ 2305‬وابن ماجه ‪ 4217‬عن أبي هريرة رضي ال عنه وانظر البيان والتعريف ‪\1‬‬
‫‪ 22‬وكشف الخفاء ‪.85‬‬

‫وقد ورد أنه مازح بعض أصحابه فقال له‪ :‬أريد أن تحملني يا رسول ال على جمل‪ ،‬قال‪ ":‬ل‬
‫أجد لك إل ولد الناقة" فولّى الرجال فدعاه وقال‪ ":‬وهل تلد البل إل النوق؟" أي أن الجمل أصل‬
‫ولد ناقة‪ .‬أخرجه أحمد ‪ 13405‬وأبو داود ‪ 4998‬والترمذي ‪ 1991‬عن أنس بن مالك‪.‬‬

‫ويروى أن عجوزا أتته صلى ال عليه وسلم تطلب منه أن يدعو لها بدخول الجنة‪ ،‬فقال‪ ":‬ل‬
‫ش ْأنَاهُنّ إِنشَاء (‬
‫يدخل الجنة عجوز" فولّت تبكي‪ ،‬فدعاها وقال‪ ":‬أما سمعت قول ال سبحانه‪ِ {:‬إنّا أَن َ‬
‫‪ )35‬فَ َجعَ ْلنَاهُنّ َأ ْبكَارا (‪ )36‬عُرُبا َأتْرَابا (‪ })37‬الواقعة‪ .‬أخرجه الطبراني انظر مجمع الزوائد ‪\10‬‬
‫‪.419‬‬
‫بل كان ضحكه طاعة لربه تعالى‪ ،‬وفيه من مقاصد القتدء والسوة ما يفوق الوصف‪ ،‬ولم يكن‬
‫ضحكه عبثا أو لهوا أو تزجية للوقت وقتل للزمن‪.‬‬

‫يركب صلى ال عليه وسلم راحلته مسافرا فيدعو بدعاء السفر ثم يقول‪ ":‬اللهم اغفر لي ذنبي‬
‫فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت" ثم يضحك صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيسأله أصحابه‪ :‬لم ضحكت يا‬
‫رسول ال؟ فقال‪ ":‬يضحك ربك إذا قال العبد‪ :‬اللهم اغفر لي ذنوبي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬علم عبدي أنه ل يغفر الذنوب إل أنا"‪ .‬أخرجه أحمد ‪ 932‬وأبو داود ‪ 2602‬والترمذي‬
‫‪ 3446‬عن علي رضي ال عنه‪.‬‬

‫ويتلو صلى ال عليه وسلم قصة الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة ويخرج من النار‪ ،‬ويسأل‬
‫ربه شيئا فشيئا حتى يعطيه ال عشرة أمثال ما تمنّى‪ ،‬فيقول الرجل‪ :‬أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟‬
‫فيضحك صلى ال عليه وسلم عند ذلك‪.‬‬

‫فمن هديه صلى ال عليه وسلم الذي هداه ال إليه ودلّه عليه أنه يعطي كل مقام حقه حتى ل‬
‫يصلح في ذلك المقام إل ما فعله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ففي وقت النس والفرح والسرور مزاح‬
‫مقتصد ودعابة وقورة ومرح معتدل‪ ،‬وفي وقت الموعظة والخوف والتذكر بكاء في خشية‬
‫ورهبة في ذكرى وتأثر في سكون‪ ،‬فمزاحه تأليف للقلوب‪ ،‬ودعابته أنس للرواح‪ ،‬وضحكه بلسم‬
‫للنفوس‪ ،‬بل كل مزحة مكتوبة في دواوين الحديث على أنها سنة‪ ،‬وكل دعابة نقلها الرواة على‬
‫أنها أثر وخلق من أخلقه الشريفة‪ ،‬فسبحان من رفع قدره حتى صار ضحكه يحفظ في بطون‬
‫السفار كأنه أعجب قصة من قصص العبر والعظات‪ ،‬وتبارك من شرّف منزلته حتى جعل‬
‫مزحه يرويه الثقات عن الثقات كأنه فريضة قائمة‪ ،‬فصلى ال عليه وعلى أصحابه وآله ما تنفس‬
‫صباح وعسعس ليل‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم شجاعا‪:‬‬


‫الرسول صلى ال عليه وسلم أشجع الناس قلبا‪ ،‬ويكفي شجاعته مثل أنه ما فرّ من معركة قط‪،‬‬
‫وما تأخر عن القتال‪ ،‬وما نكص عند النزال‪ ،‬بل كان إذا حمي الوطيس وقامت الحرب على ساق‬
‫واحمرّت الحدق وتطايرت الرؤوس على أطراف السيوف وتكسّرت الرماح على الجماجم‪ ،‬حينها‬
‫تجد سيد الخلق صلى ال عليه وسلم ثابت الجأش ساكن النفس‪ ،‬عنده من الطمأنينة والثقة بربّه ما‬
‫يكفي أمة وما يفيض على جيش‪.‬‬

‫أما كان في الغار مع أبي بكر الصديق وقد أحاط بالغار كفار قريش معهم السيوف المصلتة‬
‫والقلوب الحاقدة يريدون روحه صلى ال عليه وسلم بأي ثمن‪ ،‬وهو أعزل من السلح؟ فلما رأى‬
‫تخوف أبي بكر عليه قال‪ ":‬يا أبا بكر‪ ،‬ما ظنّك باثنين ال ثالثهما" أخرجه البخاري [ ‪،3653‬‬
‫‪ ]4663‬ومسلم ‪ 2381‬عن أبي بكر رضي ال عنه‪.‬‬

‫وهذا غاية الثبات ونهاية الشجاعة‪.‬‬

‫ويفرّ المسلمون في حنين ول يبقى إل ستة من الصحابة‪ ،‬فيتقدم صلى ال عليه وسلم على بغلته‬
‫الى جيش الكفار المدجج بالسلح الكثير العدد القوي البأس‪ ،‬فيرميهم بحفنة تراب بيده ويقول‪":‬‬
‫شاهت الوجوه" أخرجه مسلم ‪ 1777‬عن سلمة بن عمرو بن الكوع رضي ال عنه‪.‬‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم ممدوحا‪:‬‬
‫فذو العرش محمود وهذا محمد‪:‬‬

‫{عَسَى أَن َيبْ َع َثكَ َرّبكَ مَقَاما مّ ْحمُودا (‪ } )79‬السراء‪.‬‬

‫الشمس من حساده والنصر من‬


‫قرنائه والحمد من أسمائه‬
‫أين الثلثة من ثلث خلله‬
‫من حسنه وإبائه ومضائه‬
‫مضت الدهور وما أتين بمثله‬
‫ولقد أتى فعجزن عن نظرائه‬

‫محمد بن عبدال‪ ..‬هذا السم العلم‪ ،‬إذا ذكر ذكرت معه الفضيلة في أجمل صورها‪ ،‬وذكر‬
‫معه الطهر في أرقى مشاهده‪ ،‬وذكر معه العدل في أسمى معانيه‪.‬‬

‫محمد بن عبدال‪ ..‬اسم كتب بحروف من نور في قلوب الموحّدين‪ ،‬فلو شققت كل قلب لرأيته‬
‫محفورا في النياط مكتوبا في السويداء‪ ،‬مرسوما في العروق‪.‬‬

‫وال لو شقّ قلبي في الهوى قطعا‬


‫وأبصر اللحظ رسما في سويداه‬
‫لكنت أنت الذي في لوحه كتبت‬
‫ذكراه أو رسمت بالحب سيماه‬

‫محمد صاحب الغرة والتبجيل‪ ،‬المذكور في التوراة والنجيل‪ ،‬المؤيد بجبريل‪ ..‬حامل لواء العز‬
‫في بني لؤين وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي‪.‬‬

‫بشّرت به الرسل‪ ،‬وأخبرت به الكتب‪ ،‬وحفلت باسمه التواريخ‪ ،‬وتشرّفت به النوادي‪ ،‬وتضوعت‬
‫بذكره المجامع‪ ،‬وصدحت بذكراه المنائر‪ ،‬ولجلجت بحديثه المنابر‪.‬‬

‫ح ُبكُمْ َومَا غَوَى (‪ } )2‬النجم‪ ،‬وحفظ من الهوى‪َ {:‬ومَا‬


‫عصم من الضللة والغواية‪ {:‬مَا ضَلّ صَا ِ‬
‫يَنطِ ُق عَنِ ا ْلهَوَى (‪ })3‬النجم‪...‬‬

‫ي يُوحَى (‪})4‬النجم‪..‬‬
‫ن هُوَ ِإلّا َوحْ ٌ‬
‫فكلمه شريعة‪ ،‬ولفظه دين‪ ،‬وسنته وحي{إِ ْ‬

‫سجاياه طاهرة‪ ،‬وطبيعته فاضلة‪ ،‬وخصاله نبيلة‪ ،‬ومواقفه جليلة{ ِإّنكَ عَلَى الْ َحقّ ا ْل ُمبِي ِن (‪} )79‬‬
‫النمل‪.‬‬

‫تواضعه جمّ‪ ،‬وجوده عمّ‪ ،‬ونوره تمّ‪ ،‬فهو مرضي الفعال‪ ،‬صادق القوال‪ ،‬شريف الخصال{ َوِإّنكَ‬
‫َلعَلى خُلُ ٍق َعظِي ٍم (‪ } )4‬القلم‪.‬‬
‫ب لَنفَضّواْ‬
‫ت فَظّا غَلِيظَ الْقَ ْل ِ‬
‫حمَةٍ مّنَ اللّ ِه لِنتَ َلهُمْ وَلَ ْو كُن َ‬
‫ليّن الجانب‪ ،‬سهل الخليقة‪ ،‬يسير الطبع{ َف ِبمَا َر ْ‬
‫مِنْ حَ ْوِلكَ } آل عمران ‪.159‬‬

‫ظاهر العناية‪ ،‬ملحوظ بعين الرعاية‪ ،‬منصور الراية‪ ،‬موفق محظوظ‪ ،‬مظفّر مفتوح عليه {ِإنّا‬
‫ك َفتْحا ّمبِينا (‪ } )1‬الفتح‪.‬‬
‫حنَا َل َ‬
‫َفتَ ْ‬

‫أصلح ال قلبه‪ ،‬وأنار له دربه‪ ،‬وغفر له ذنبه {ِل َيغْ ِفرَ َلكَ اللّ ُه مَا تَ َقدّ َم مِن ذَن ِبكَ َومَا تَأَخّرَ} الفتح ‪.2‬‬

‫فهو المصلح الذي عمر ال به القلوب‪ ،‬وأسعد به الشعوب‪ ،‬وأعتق به الرقاب من عبودية‬
‫صرَا ٍط مّ ْستَقِي ٍم (‪ })52‬الشورى‪.‬‬
‫الطاغوت‪ ،‬وحرّر به النسان من رقّ الوثنية { َوِإّنكَ َل َت ْهدِي إِلَى ِ‬

‫وهو الذي أعفى البشرية من التكاليف الشاقة‪ ،‬وأراحها من المصاعب‪ ،‬وأبعدها من المعاطب‪،‬‬
‫ع ْنهُمْ ِإصْرَهُمْ وَالَغْلَلَ اّلتِي كَانَتْ‬
‫وسهل لها بإذن ال أمر الحياة‪ ،‬وبصّرها بسنن الفطرة { َويَضَ ُع َ‬
‫عََل ْيهِ ْم } العراف ‪.157‬‬

‫فهو رحمة للنسان‪ ،‬إذا علّمه الرحمن‪ ،‬وسكب في قلبه نور اليمان‪ ،‬ودلّه على طريق الجنان‪..‬‬

‫وهو رحمة للشيخ الكبير‪ ،‬إذ سهّل له العبادة‪ ،‬وأرشده لحسن الخاتمة‪ ،‬وأيقظه لتدارك العمر‬
‫واغتنام بقية اليام‪..‬‬

‫وهو رحمة للشاب إذ هداه إلى أجمل أعمال الفتوة وأكمل خصال الصبا‪ ،‬فوجّه طاقته لنبل‬
‫ل الخلق‪..‬‬ ‫السجايا وأج ّ‬

‫وهو رحمة للطفل‪ ،‬إذ سقاه مع لبن أمه دين الفطرة‪ ،‬وأسمعه ساعة المولد أذان التوحيد‪ ،‬وألبسه‬
‫في عهد الطفولة حلة اليمان‪..‬‬

‫وهو رحمة للمرأة‪ ،‬إذ أنصفها في عالم الظلم‪ ،‬وحفظ حقها في دنيا الجور‪ ،‬وصان جانبها في‬
‫مهرجان الحياة‪ ،‬وحفظ لها عفافها وشرفها ومستقبلها‪ ،‬فعاش أبا للمرأة وزوجا وأخا ومربيا‪..‬‬

‫وهو صلى ال عليه وسلم رحمة للولة والحكام‪ ،‬إذ وضع لهم ميزان العدالة‪ ،‬وحذّرهم من‬
‫متالف الجور والتعسف‪ ،‬وح ّد لهم حدود التبجيل والحترام والطاعة في طاعة ال ورسوله‪..‬‬

‫وهو رحمة للرعية‪ ،‬إذ وقف مدافعا عن حقوقها محرما الحيف ناهيا عن السلب والنهب والسفك‬
‫والبتزاز والضطهاد والستبداد‪.‬‬

‫إذا فهو رحمة للجميع ونعمة على الكل‪َ {:‬ومَا أَ ْرسَ ْلنَاكَ إِلّا رَ ْحمَةً لّ ْلعَاَلمِينَ (‪ })107‬النبياء‪.‬‬

‫وكان إذا تكلم عبل كلمه حدود النفس وتجاوز أقطار الروح‪ ،‬فغاص حديثه في أعماق الفئدة‪،‬‬
‫ونقش لفظه في صفحة الذاكرة‪ ،‬وخطّ على سويداء القلوب‪.‬‬

‫وكان إذا ضحك مل المكان أنسا‪ ،‬وأتحف الحضور بشرا‪ ،‬وعبّأ جلسه سعادة وحفاوة‪.‬‬
‫وكان إذا بكى خشع لبكائه الناس‪ ،‬وذرفت كل عين مخزونها‪ ،‬وأخرجت كل نفس مكنوناتها‪،‬‬
‫فكأن نذر القيامة على البواب‪ ،‬وكأن رسل الموت وقوف على الرؤوس‪ ،‬فل ترى إل دموعا‬
‫ض َحكُونَ َولَا َت ْبكُونَ (‪ })60‬النجم‪.‬‬
‫ن (‪َ )59‬وتَ ْ‬
‫جبُو َ‬
‫ث َتعْ َ‬
‫حدِي ِ‬
‫وخشوعا وخضوعا وإطراقا‪َ {:‬أ َفمِنْ َهذَا ا ْل َ‬

‫با ٍد هواك صبرت أن لم تصبر‬


‫وبكاك إذا لم يجر دمعك أو جرى‬

‫وكان إذا خطب هز المنابر‪ ،‬وأيقظ الضمائر‪ ،‬وحرّك السرائر‪ ،‬وألهب السامعين‪ ،‬وأذهل‬
‫المخاطبين‪ ،‬فلو أن للصخر عينا لبكت‪ ،‬ولو أن للجدار نفسا لخشعت‪ ،‬ولو أن لليام أذنا لنصتت‪.‬‬

‫ليت للدهر مقلة فلعل الذكر‬


‫يبكيه مثلما أبكاني‬
‫بحديث يغوص في القلب غوصا‬
‫وعليه جللة من معان‬

‫سبِيلِ اللّ ِه لَ‬


‫وكان إذا قاتل ثبت ثبوت الرجال‪ ،‬وتقدّم تقدّم السيل‪ ،‬وصمد صمود الحق {فَقَاتِلْ فِي َ‬
‫ُتكَلّفُ ِإ ّل نَفْ َسكَ} النساء ‪.84‬‬

‫فكان ل يعرف الفرار‪ ،‬ول يسمع بالهزيمة ول يستسلم للحباط‪ ،‬محيّاه باسم والغبار يمل‬
‫المكان‪ ،‬وقلبه مطمئن والرؤوس تعاف البدا‪ ،‬ونفسه ساكنة والنفوس شذر مذر على رؤوس‬
‫ت مِن‬
‫خلَ ْ‬
‫ل َقدْ َ‬
‫حمّدٌ ِإلّ رَسُو ٌ‬
‫الرماح‪ ،‬وطلعته ضاحكة والسيوف تخطّ بالدماء حروف الموت{ َومَا مُ َ‬
‫َقبْلِهِ الرّسُلُ َأ َفإِن مّاتَ أَ ْو ُقتِلَ ان َقَلبْتُ ْم عَلَى أَعْقَا ِبكُمْ } آل عمران ‪.144‬‬

‫ك لواقف‬
‫وقفت وما في الموت ش ّ‬
‫كأنّك في جفن الردى وهو نائم‬
‫تمرّ بك البطال كلمى هزيمة‬
‫ووجهك وضّاح وثغرك باسم‬

‫وكان إذا جاد بلغ المدى في السخاء‪ ،‬وفعل ما لم تفعله النواء‪ ،‬يعطي عطاء من ل يخشى الفقر‪،‬‬
‫ويهب هبة من أرخص الدنيا وزهد في الحطام وعاف البقاء ورجا من ال الخلف‪ ..‬يداه غمامة‬
‫أينما هلّت‪ ،‬وكفّه مدرارا أينما وقع نفع‪ ،‬جاد بمهجته فعرّضها للمنايا في سبيل ال‪ ،‬وقدّمها‬
‫لشفرات السيوف لرفع ل إله إل ال‪ ،‬فما شجاعته إل آية لجوده‪ ،‬وما إقدامه إل برهان على‬
‫سخائه‪:‬‬

‫أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة‬


‫أدّبت في هول الردى أبطالها‬
‫وإذا وعدت وفيت فيما قلته‬
‫ل من يكذّب قوله أفعالها‬
‫يعطي ما يملك في ساعة‪ ،‬ويهدي ما عنده في لحظة‪ ،‬هانت عليه الدنيا فمنح أجلف العرب‬
‫مئات البل‪ ،‬ورخصت عنده الموال فجاد بالغنائم على مسلمي الفتح‪ ":‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لو أن‬
‫لي بعدد عضاة تهامة مال لنفقته ثم ل تجدوني بخيل ول جبانا ول كذابا" مالك في الموطأ ‪.977‬‬

‫ما قال "ل" إل في التشهد‬


‫وما ترك "نعم" إل عند المناهي‬

‫سئل قميصه فخلعه وأعطاه‪ ،‬وجاد بقوته فعصب بطنه على حرّ الجوع وبلواه‪ ..‬جود حاتم‬
‫للصيت والسمعة والرياء‪ ،‬وجود خاتم النبياء لمرضاة رب الرض والسماء‪.‬‬

‫أنفق من فاقة‪ ،‬وأعطى من فقر‪ ،‬وآثر من حاجة‪ ،‬ووصل مع العوز‪.‬‬

‫وكان إذا عفا على الجاني أسره بإحسانه‪ ،‬فل يعاتبه ول يطالبه‪ ..‬ينسى الساءة ويدفن الزلة‬
‫صفَحِ الصّفْحَ الْ َجمِي َل (‪ })85‬الحجر‪.‬‬
‫ويمحو بحلمه لذنب‪ ،‬ويغطي بصفحه الجرم {فَا ْ‬

‫قاتله قومه ونازلوه‪ ،‬فآذوه وسبّوه وشتموه‪ ،‬وطردوه وحاربوه وجرحوه‪ ،‬فلما انتصر عفا‬
‫وصفح‪ ،‬وحلم وسمح‪ ،‬وصاح في الدهر صيحته المشهورة وكلمته العامرة‪":‬اذهبوا فأنتم الطلقاء"‪.‬‬

‫أنشودة أخلقه‪ ":‬إن ال أمرني أن أصل من قطعني‪ ،‬وأن أعفو عمن ظلمني‪ ،‬وأن أعطي من‬
‫حرمني"‪ .‬أخرجه رزين أنظر المشكاة ‪ 5358‬وتفسير القرطبي ‪.346\7‬‬

‫كل خلق كريم في القرآن فهو مترجم في سيرة هذا النسان‪ ،‬ولذلك قالت عائشة عنه صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ :‬كان خلقه القرآن‪.‬‬

‫وكان إذا وعد وفى‪ ،‬فلم يحفظ عنه أعداؤه خلفا لوعد‪ ،‬ول خيانة لعهد‪ ،‬مع حرصهم الشديد على‬
‫الظفر بعثرة له أو زلّة‪ ،‬ولكن هيهات‪ ،‬عاش عمره كله سلمًا وحربا ورضىً وغضباً وحلً‬
‫وترحالً‪ ،‬عاش حالة واحدة من الصدق والمانة‪ ،‬فهل الصدق إل ما كان عليه؟ وهل المانة إل‬
‫منه وإليه؟‬

‫لقد وعده رجل في مكان‪ ،‬فانتظر صلى ال عليه وسلم في ذلك المكان ثلثة أيام‪ ،‬ليفي بوعده‪.‬‬
‫لقد عاهد المشركين واليهود وهم أشد الناس عداوة له‪ ،‬فما خان ول خلف بالعهد‪ ،‬ول نقض‬
‫لميثاق‪ .‬وحق له أن يكون أوفى الناس بوعده وأصدقهم في عهده‪ ،‬وهو الذي جاء بشريعة الصدق‬
‫والوفاء‪ ،‬وحذّر من الخيانة ونقض الميثاق‪ ،‬أليس هو القائل‪ ":‬آية المنافق ثلث‪ :‬إذا حدّث كذب‪،‬‬
‫وإذا وعد أخلف‪ ،‬وإذا اؤتمن خان" أخرجه البخاري [ ‪ ]2682 ،33‬ومسلم ‪ 59‬عن أبي هريرة‬
‫سؤُولً (‪ ،} )34‬وقوله‪ {:‬اّلذِينَ‬
‫رضي ال عنه‪ .‬وهو الذي نزلت عليه‪ {:‬وََأ ْوفُو ْا بِا ْل َع ْهدِ إِنّ ا ْل َع ْهدَ كَانَ مَ ْ‬
‫يُوفُو َن ِب َعهْدِ اللّهِ َو َل يِنقُضُونَ ا ْلمِيثَا َق (‪ })20‬الرعد‪.‬‬

‫وإذا أخذت العهد أو أعطيته‬


‫فجميع عهدك ذمّة ووفاء‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم خطيبا‪:‬‬
‫{ َوقُل ّلهُ ْم فِي أَن ُف ِسهِ ْم قَ ْولً بَلِيغا (‪ } )63‬النساء‪.‬‬

‫يّ صارم‬
‫ولسانٌ صيرف ٌ‬
‫س قطع‬
‫كذباب السيف ما م ّ‬
‫منطق كالفجر أو كالغيث ما‬
‫شانه عيب كنورٍ قد سطع‬

‫طالع دفتر بيانه عليه الصلة والسلم‪ ،‬وتأمّل ديوان فصاحته‪ ،‬كلم لعمري يأخذ بالقلوب‪،‬‬
‫وحديث وال يأسر الرواح‪ ،‬صحة مخارج وإشراق عبارة وحسن ديباجة‪ ،‬وانتقاء ألفاظ‪،‬‬
‫ن حديثه روض فوّاح‪ ،‬أو حديقة غنّاء باكرها الغيث وصحبتها الصبا‪،‬‬
‫ورصانة جمل‪ ،‬حتى كأ ّ‬
‫وداعبها النسيم‪ ،‬وقد آتاه العجاز في إيجاز‪ ،‬والبلغة في اختصار‪ ،‬وقد أخبر بذلك فقال‪ ":‬أوتيت‬
‫جوامع الكلم" أخرجه البخاري ‪ 2977‬ومسلم ‪ 523‬واللفظ له عن أبي هريرة‪ ،‬وفي رواية‪":‬‬
‫واختصر لي الكلم اختصارا"‪ .‬أخرجه البيهقي في الشعب ‪ 1436‬عن عمر رضي ال عنه‬
‫وانظر كشف الخفاء ‪.15-14\1‬‬

‫ولكن إن تنظر فيما صحّ عنه من أحاديث قولية‪ ،‬وهي ما يقارب العشرة آلف حديث‪ ،‬فإذا هي‬
‫شملت كل فصول الحياة وأبواب الخرة وأخبار الماضي ومعجزات المستقبل‪ ،‬وإن شئت أن‬
‫تعرف سم ّو كلمه صلى ال عليه وسلم وجزالة لفظه وقوة عبارته ونصاعة بيانه‪ ،‬فقارنه بكلم‬
‫غيره من البشر مهما عظمت فصاحته‪ .‬ولو دخلت ناديا به لوحات من الكلمات الخالدة والعبارات‬
‫المؤثرة لخطباء العالم وشعراء الدنيا ونوابغ الدهر‪ ،‬ثم نظرت الى كلمه صلى ال عليه وسلم‬
‫لرأيت كلمه ناسخا لمحاسن كلم غيره‪ ،‬حتى كأنه ما أعجبك قبل كلمه كلم‪ ،‬ول هزك قبل‬
‫حديثه حديث‪ ،‬بل إنّك لتجد الرجل العامي الذي ما تمرّس على ضروب الكلم ول ميّز بين‬
‫مختلف الكلم‪ ،‬يجد للفظ الرسول صلى ال عليه وسلم وقعا خاصا ومذاقا آخر‪.‬‬

‫يريد عليه الصلة والسلم أن يوصي معاذ بن جبل وصية جامعة مانعة شافية كافية‪ ،‬فيأتي‬
‫بعبارة موجزة مليئة بالفوائد‪ ،‬حافلة بالشوارد‪ ،‬بديعة المنزع‪ ،‬مشرقة الديباجة‪ ،‬فيقول‪ ":‬اتق ال‬
‫حيثما كنت‪ ،‬وأتبع السيئة الحسنة تمحها‪ ،‬وخالق الناس بخلق حسن" أخرجه أحمد [ ‪،20847‬‬
‫‪ ]20894‬والترمذي ‪ 1987‬والدارمي ‪ 2791‬والمشكاة ‪ .5083‬ولو أن بليغا أراد أن يقول مثلها‬
‫لسهب في الوصية وأطال في النصح‪ ،‬فإما أن يجعل المعنى على حساب اللفظ فيبسط القول‬
‫ويختزل المعنى‪ ،‬أو أن يجعل اللفظ على حساب المعنى فيوجز الحديث ويشير الى المعنى إشارة‪.‬‬

‫سأله صلى ال عليه وسلم عقبة بن عامر عن النجاة ما هي؟ فل يتلعثم ول يتعثر ول يفكر‪ ،‬إنما‬
‫ينطلق فمه الشريف بجملة راشدة واعية موحية فيقول‪ ":‬كفّ عليك لسانك‪ ،‬وليسعك بيتك‪ ،‬وابك‬
‫على خطيئتك" أخرجه أحمد ‪ 21732‬والترمذي ‪ 2406‬وابن أبي عاصم في الزهد ‪15\1‬‬
‫وصححه عن عقبة بن عامر رضي ال عنه‪ .‬فانظر لحسن التقسيم الثلثي البديع‪ ،‬مع استيفاء‬
‫المعنى واختصار اللفظ دون تحضير سابق ول إعداد متقدم؛ لن السائل واقف يريد الجواب‪،‬‬
‫مستعجل يبتغي النصح‪.‬‬

‫ويركب صلى ال عليه وسلم راحلته ومعه ابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬فيوصيه صلى ال عليه‬
‫وسلم بوصية حضرته في الحال‪ ،‬فيخرجها في حلة من البيان تأسر اللباب‪ ،‬ويضعها في طبق من‬
‫الفصاحة يكاد يذهب ضوؤه بالبصار‪ ،‬يقول‪ ":‬يا غلم! إني أعلمك كلمات‪ :‬احفظ ال يحفظك‪،‬‬
‫احفظ ال تجده تجاهك‪ ،‬تعرّف على ال في الرخاء يعرفك في الشدة‪ ،‬وإذا سألت فاسأل ال وإذا‬
‫استعنت فاستعن بال‪ ،‬واعلم أن المة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إل بشيء قد‬
‫كتبه ال لك‪ ،‬ولو اجتمعوا ان يضروك لم يضروك إل بشيء قد كتبه ال عليك‪ ،‬رفعت القلم‬
‫وجفّت الصحف‪ .‬واعلم أن النصر مع الصبر‪ ،‬وأن الفرج مع الكرب‪ ،‬وأن مع العسر يسرا"‪.‬‬
‫أخرجه أحمد [‪ ]2800 ،2758 ،2664‬والترمذي ‪ ،2516‬والحاكم ‪ 6304‬عن ابن عباس رضي‬
‫ال عنهما وانظر المشكاة ‪ .5302‬والن أضعك أمام هذا النص الراقي من البيان‪ ،‬وأحاكمك الى‬
‫عقلك‪ :‬هل رأيت في كلم البشر كهذا الكلم؟ حسن فواصل وعذوبة لفظ‪ ،‬وقوة معان‪ ،‬وأسر‬
‫خطاب! فقوله‪ ":‬احفظ ال يحفظك" من الجمل المحفورة في ذاكرة البيان‪ ،‬والتي يسجد لها العقل‬
‫ي في محراب الفصاحة‪ ،‬فإنها جمعت الوصايا في وصية‪ ،‬واختصرت العظات في عظة‪ ،‬فلو‬ ‫السو ّ‬
‫كان غيره صلى ال عليه وسلم المتحدث لقال‪ :‬احفظ ال بأداء أوامره يحفظك بنعمه‪ ،‬واحفظ ال‬
‫بترك نواهيه يحفظك من عقابه‪ ،‬واحفظ ال في شبابك يحفظك في هرمك‪ ..‬إلى آخر تلك‬
‫المقابلت‪ ،‬وإلى قائمة طويلة من المقدمات والنتائج والبدايات والخواتم‪ ،‬ولكنه قال‪":‬احفظ ال‬
‫يحفظك" فل أبدع ول أروع ول أوجز ول أعجز من هذا الكلم الباهي الزاهي‪:‬‬

‫كأنه الروض حيّته الصّبا سحرا‬


‫وزاره الغيث فازدانت خمائله‬

‫ثم اقرأ الحديث جملة جملة‪ ،‬وقف إن كنت ذا ذائقة للبيان وذا دربة على سحر الخطاب‪:‬‬

‫إذا تغلغل فكر المرء في طرف‬


‫من حسنه غرقت فيه خمائله‬

‫وخذ أي حديث من أحاديثه العطرة الزكية‪ ،‬هل ترى فيها عوجا من الركاكة‪ ،‬أو أمتا من‬
‫التكلف؟ بل رقة في فخامة‪ ،‬وسهولة في إشراق‪ ،‬وأصالة في عمق‪ ،‬فسبحان من أجرى الحديث‬
‫على لسانه سلسا متدفقا أخاذا‪.‬‬

‫ويقول صلى ال عليه وسلم‪ ":‬إنما العمال بالنيات" أخرجه البخاري [‪ ]54، 1‬ومسلم ‪1907‬‬
‫عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ .‬فيكفي ويشفي ويفي المقصود‪ ،‬ويستولي على المعاني‬
‫ويطوي مسافات من الحكام والعقائد والداب والخلق في جملتين زاهيتين جامعتين‪ ،‬فتصبح‬
‫قاعدة للعلماء ومثل للحكماء وكلمة شاردة للدباء‪.‬‬

‫وخذ مثل كلمه على البديهة والفجاءة‪ :‬يدخل طفل من النصار له طائر يلعب به فمات فيقول‪":‬‬
‫يا أبا عمير ما فعل النغير؟" أخرجه البخاري [ ‪ ]6203 ،6129‬ومسلم ‪ 2150‬عن أنس بن مالك‬
‫رضي ال عنه‪ .‬انظر الى تقابل العبارة وحسن السجعة وموازنة الجملتين‪ ،‬ل وكس ول شطط‪.‬‬

‫ويقول في حنين على وجه العجلة‪:‬‬

‫" أنا النبي ل كذب‬


‫أنا ابن عبدالمطلب"‬
‫أخرجه البخاري [‪ ،]2874 ،2864‬ومسلم ‪ 1776‬عن البراء بن عازب رضي ال عنه‪.‬‬

‫فلو أن علماء الكلم وأساطين البيان أرادوا هذا الكلم على عجلة من أمرهم لما تأتّى لهم‪.‬‬
‫ول غرابة ان يكون صلى ال عليه وسلم أفصح الناس فإن معجزته الكبرى وآيته العظمى هو‬
‫القرآن الذي أدهش الفصحاء وأفحم الشعراء وأذهل العرب العرباء‪ ،‬فل بد أن يكون هذا النبي‬
‫الموحى إليه بدرجة سامية من البيان الخلب الجذاب الذي يستولي على اللباب‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم مفتيا‪:‬‬


‫ك فِي النّسَاء قُ ِل اللّ ُه يُ ْفتِيكُمْ }النساء ‪.127‬‬
‫س َت ْفتُونَ َ‬
‫{ َويَ ْ‬

‫ي إذا قضى‬ ‫يطاوعه اللفظ العص ّ‬


‫ويسعفه الرأي الصيل إذا جرى‬
‫ن ظنّا قلت صبحٌ مؤلقٌ‬‫إذا ظ ّ‬
‫كأنه صريح البرق من ظنّه سرى‬

‫كان عليه الصلة والسلم مؤيدا من ربه في علم الفتيا‪ ،‬فقد فتح ال عليه أبواب المعرفة وكنوز‬
‫الفهم‪ ،‬فكان عنده جواب لكل سائل على حسب حاله وما يصلح له وما ينفعه في دنياه وأخراه‪ .‬كان‬
‫الجواب ثوبا مفصل على السائل يفصّله تماما على الذي أحسن‪ ،‬مع جمال الداء وبهاء اللقاء‬
‫ومتعة التلقي منه‪ ،‬فكأنه قرأ حياة السائل قبل أن ياتيه‪ ،‬وألمّ بدخائله ومذاهبه قبل أن يستفتيه‪ ،‬وما‬
‫ذاك إل لقوّة أنوار النبوّة وبركة الوحي وأثر التوفيق والفتح الرباني‪.‬‬

‫يسأله شيخ كبير أدركه الهرم وأضناه الكبر عن عمل يداوم عليه‪ ،‬فأفتاه بعمل يسير يناسب حاله‬
‫على أفضل عمل وأسهل عبادة وأيسر طاعة‪ ،‬في لفظ وجيز‪ ،‬ول كان غيره لربما أوصى الرجل‬
‫بالجتهاد في الطاعة واغتنام آخر العمر بالجدّ في العبادة مع إغفال ضعفه وإهمال شيخوخته‪.‬‬

‫وانظر ما أجمل كلمة‪ ":‬ل يزال لسانك رطبا من ذكر ال" أخرجه أحمد [‪]17245 ،17227‬‬
‫والترمذي ‪ 3375‬وابن ماجه ‪ 3793‬وانظر المشكاة ‪ .2279‬وما فيها من حسن تصوير وبراعة‬
‫عرض وطلوة عبارة تهيج السامع على هذا العمل الجليل‪.‬‬

‫وجاءه غيلن الثقفي‪ ،‬وكان قوي البنية ضخم العضاء صلب الجسم‪ ،‬فسأله عن عمل يتقرب به‬
‫الى ال تعالى‪ ،‬فقال‪ ":‬عليك بالجهاد في سبيل ال" (لم يجد تخريجه)‪ ،‬فانظر لحسن اختياره للعمل‬
‫وملحظته استعداد الرجل وما يصلح له ويناسب حاله‪ ،‬فيا لها من فطنة باهرة وحكمة عامرة‪.‬‬

‫وسأله أبو ذر ـ وكان غضوبا حادّ الطباع ـ أن يوصيه فقال‪ ":‬ل تغضب" ثلثا‪ ،‬أخرجه البخاري‬
‫‪ 6116‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬فكان هذا دواءه وعلج حالته وبلسم حاله الذي ل يصرف‬
‫إل من صيدلية النبوة المباركة‪ .‬وصارت هذه الكلمة قاعدة من قواعد الدين وأصل من أصول‬
‫الشريعة‪.‬‬

‫ويرى أبا موسى الشعري يصعد جبل فيقول له‪ ":‬عليك بل حول ول قوة إل بال‪ ،‬فإنها كنز من‬
‫كنوز الجنة" أخرجه البخاري [ ‪ ]6610 ،4205‬ومسلم ‪ .2704‬فهذه الكلمة تناسب صعود الجبال‬
‫وحمل الثقال‪ ،‬لن فيها البراءة من قوة العبد وحوله وطلب المعونة من ال والمدد‪ ،‬فما أحسن‬
‫الختيار في هذا الرشاد مع مراعاة مقتضى المقام‪.‬‬
‫ويرى صلى ال عليه وسلم ضعف أبي ذر وقلة تحمّله فيأمره باجتناب المارة‪ ،‬لنه ضعيف‪،‬‬
‫وهي أمانة وخزي وندامة يوم القيامة‪ ،‬لن مثل أبي ذر له أبواب في الخير يجيدها غير باب‬
‫الولية‪ ،‬فانظر لفطنته صلى ال عليه وسلم ومعرفته بمواهب الناس{إِ ْن هُوَ إِلّا وَ ْحيٌ يُوحَى (‪} )4‬‬
‫النجم‪.‬‬

‫ويقول صلى ال عليه وسلم لمعاذ لما بعثه الى اليمن‪ ":‬إنك تأتي أقواما أهل كتاب" أخرجه‬
‫البخاري [ ‪ ]1496 ،1458‬ومسلم ‪ 19‬عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ .‬وذلك لينبّه معاذا الى‬
‫معرفة أقدار المخاطبين‪ ،‬والطلع على أحوالهم ليقول لهم ما يناسبهم‪.‬‬

‫ويوصي معاذا ـ وهو رديفه على حمار ـ بحق ال على العبيد وحق العبيد على ال؛ لن معاذا‬
‫عالم داعية تناسبه هذه الوصية الكبرى‪ ،‬وسوف يبلغها للمة‪ ،‬لنه في مكان التوجيه والرشاد‬
‫والنصح‪ ،‬وهذا الذي فعله معذا في حياته‪ .‬ولو كان أعرابيا لما ناسبه هذا الكلم‪.‬‬

‫وجاءه حصين بن عبيد فسأله‪":‬كم تعبد؟" قال‪ :‬سبعة‪ ،‬واحدا في السماء وستة في الرض‪ ،‬قال‪":‬‬
‫من لرغبك ورهبك؟" قال‪ :‬الذي في السماء‪ ،‬قال‪ ":‬فاترك التي في الرض واعبد الذي في‬
‫السماء" ثم قال له‪ ":‬قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من ش ّر نفسي" اخرجه الترمذي ‪3483‬‬
‫والللكائي في شرح اعتقاد أهل السنة ‪ 1184‬عن عمران بن حصين رضي ال عنه وانظر‬
‫المشكاة ‪ .2476‬فهذا الدعاء يناسب حال حصين بن عبيد وما كان فيه من أمر مريج ومن اشتباه‬
‫حال وشكّ مريب وفوات رشد وبعد صواب‪ ،‬فناسب أن يطلب الرشد من ربّه وأن يستعيذ من شرّ‬
‫نفسه كل بلء منها‪.‬‬

‫وأرشد صلى ال عليه وسلم علي ابن أبي طالب الى أن يقول‪":‬اللهم اهدني وسدّدني" اخرجه‬
‫مسلم ‪ 2725‬عن علي رضي ال عنه‪ .‬وهذا يناسب حال علي‪ ،‬فإنه عاش حتى أدرك اختلف‬
‫المور وظهور الفتن والتباس الحال التي تتطلب الهداية من ال في هذا الجو المظلم‪ ،‬وطلب‬
‫السداد من الحيّ القيوّم عند هذه الواردات والراء والهواء‪.‬‬

‫فسبحان من ألهم رسوله وفتح على نبيه وأفاض عليه من مكنون الفهم ومخزون الفقه ما فاق‬
‫الوصف وجلّ عن المدح‪:‬‬

‫قطف الرجال القول قبل نباته‬


‫وقطفت أنت القول لمّا نوّرا‬
‫فهو المشيع بالعيون‬
‫وهو المضاعف حسنه إن كرّرا‬

‫وليس كلمه صلى ال عليه وسلم بكلم شعر من الشعراء الذين يهرفون بما ل يعرفونن وفي‬
‫كل واد يهيمون‪ ،‬وإنما زخرفهم من خيالتهم الفاسدة ومن تصوراتهم الكاسدة‪ ،‬فأما هو فصانه ال‬
‫من ذلك‪ ،‬بل كلمه وحي يوحى وشرع يتلى‪ ،‬وليس قوله بقول سياسي يسترضي به المل وينافق‬
‫به الجمهور ويروّج به بضاعته المزجاة‪ ،‬بل كان صلى ال عليه وسلم نبيّا ربّانيا ورسول‬
‫معصوما ينقل عن جبريل عن ربّه حكمة راشدة وملة هاديةن ودينا قيّما‪.‬‬

‫ولم يكن صلى ال عليه وسلم اديبا يغرف من مخزون ثقافته ومن فيض ذاكرته التي جمعها هذا‬
‫الديب من نتاج الناس وزبد ثقافات البشر أبناء الطين وسللة التراب‪ ،‬بل كان صلى ال عليه‬
‫وسلم معلّما معصوما أن يزيغ‪ ،‬محفوظا أن يضلّ‪ ،‬مصانا أن يجازف‪.‬‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم طاهرا مطهرا‬
‫{يَا َأّيهَا النّبِيّ ِإنّا أَرْ َسْلنَاكَ شَاهِدا َو ُمبَشّرا َو َنذِيرا (‪َ )45‬ودَاعِيا إِلَى اللّ ِه بِِإ ْذنِهِ َوسِرَاجا ّمنِيرا (‪} )46‬‬
‫الحزاب‪.‬‬

‫كأن الثريّا علّقت بجبينه‬


‫وفي جيده الشّعرى وفي وجهه القمر‬
‫عليه جلل المجد لو أن وجهه‬
‫أضاء بليل هلّل البدو والحضر‬

‫لقد أكمل ال المحاسن لرسوله صلى ال عليه وسلم وأتمّ عليه نعمة الفضل‪ ،‬واختصّه بالعناية‬
‫حتى صار السوة الحسنة في كل فضيلة‪ ،‬فمنه تتعلم فنون المكارم‪ ،‬ومن برديه تنبع صفوة‬
‫المناقب؛ لن من لوازم القدوة أن يكون مثاليا جامعا لما تفرق في الخيار من سجايا حميدة‪ ،‬فكان‬
‫عليه الصلة والسلم ذاك النسان المجتبى من ربه المصطفى من خالقه‪ ،‬ليقود الناس الى أحسن‬
‫الخلق وأنبل العمال وأكرم المذاهب‪.‬‬

‫فأما مخبره عليه الصلة والسلم فهو الطاهر المبارك الذي غسل قلبه بماء الحياة فصار أبيض‬
‫نقيا مطهرا‪ ،‬وقد أذهب ال من صدره كلّ غيظ وحسد وحقد وغلّ وغش‪ ،‬فصار أرحم الناس‬
‫قاطبة‪ ،‬وأبرّهم كافة‪ ،‬وأكرمهم جميعا‪ ،‬فعمّ حلمه وكرمه وطيبه وجوده الحاضر والبادي والقريب‬
‫حقّ له أن يكون كذلك لنه‬ ‫والبعيد‪ ،‬فنفسه أذكى نفس‪ ،‬وباله أشرح بال‪ ،‬وضميره أطهر ضمير‪ ،‬و ُ‬
‫المرشّح لقيادة العالم وإصلح الكون وتقويم البشرية { َومَا أَرْ َسْلنَاكَ إِلّا رَ ْحمَةً لّ ْلعَاَلمِي َن (‪})107‬‬
‫النبياء‪.‬‬

‫إن البريّة يوم مبعث أحمد‬


‫نظر الله لها فبدّل حالها‬
‫بل كرّم النسان يوم اختار من‬
‫خير البرية نجمها وهللها‬

‫ينهى عن الغضب ويقول‪":‬ل تغضب"‪ ،‬ويكون أبعد الناس عن أسباب الغضب المشين دوافعه‪،‬‬
‫بل وسع الناس حلما وأمطرهم كرما وأوسعهم عفوا وصفحا‪.‬‬

‫ويقول‪ ":‬ل تحاسدوا"‪ .‬أخرجه البخاري [‪ ]6076 ،6116‬ومسلم ‪ 2559‬عن أنس بن مالك‬
‫رضي ال عنه‪ .‬ثم يكون المعافى من هذا الداء القاتل‪ ،‬فليس في كيانه ذرة من حسد‪ ،‬أو قطرة من‬
‫حقد‪ ،‬صانه ال من ذلك‪ ،‬بل هو الذي وزع الخير على العالم وقسم الفضل من ال على الناس‪.‬‬

‫ويقول‪ ":‬ول تدابروا‪ ،‬ول تقاطعوا" الحديث السابق‪ ،‬ثم يترجم هذا الخلق النبيل من الصلة والبر‬
‫والحسان‪ ،‬فيصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه‪ ،‬فأعظم عبد صحّت فيه آية‪{:‬‬
‫وَا ْلكَا ِظمِينَ ا ْل َغيْظَ وَا ْلعَافِي َن عَنِ النّاسِ } آل عمران ‪.134‬‬

‫ويقول‪ ":‬إن ال أوحى إليّ أن تواضعوا" أخرجه مسلم ‪ 2865‬عن عياض بن حمار رضي ال‬
‫عنه‪ .‬فيكون هو التواضع كله صورة ماثلة ومشهدا حيا وحقيقة قائمة‪ ،‬يركب الحمار‪ ،‬ويخصف‬
‫النعل‪ ،‬ويجلس على التراب‪ ،‬ويحلب الشاة‪ ،‬ويقف مع العجوز‪ ،‬ويذهب مع الجارية‪ ،‬ويخالط‬
‫المساكين‪ ،‬ويضيف العراب‪ ،‬ويجالس الفقراء‪.‬‬

‫ويقول‪":‬خيركم خيركم لهله وأنا خيركم لهلي" أخرجه الترمذي ‪ 3895‬والبيهقي في السنن‬
‫‪ 15477‬عن عائشة رضي ال عنها‪ .‬فيتمثل فيه هذا الحديث أعظم تمثيل‪ ،‬فإذا الرحيم الودود‬
‫بأهله يدخل عليهم ضحّاكا بسّاما‪ ،‬يداعبهم بأرق العبارات ويلطفهم بأحسن التعامل‪ ،‬يشاركهم‬
‫الخدمة ويجاذبهم أحلى الحديث ويبادلهم أجمل السمر بل فظاظة ول غلظة ول لوم ول تعنيف {‬
‫َوِإّنكَ َلعَلى خُلُ ٍق عَظِي ٍم (‪ })4‬القلم‪.‬‬

‫خلق أرق من النسيم إذا سرى‬


‫وشمائل كالمنديل الفوّاح‬

‫قال له رجل وهو يقسم الغنائم‪ :‬اعدل يا محمد‪ .‬فردّ عليه‪ ":‬خبت وخسرت فمن يعدل إذا لم‬
‫أعدل؟" أخرجه البخاري ‪ 3610‬ومسلم ‪ .1064‬وصدق وبرّ فيما قال‪ ،‬فليس في العالم أعدل منه‪،‬‬
‫وإذا لم يكن عادل صلى ال عليه وسلم فقد انتهى العدل في الدنيا‪ ،‬وطوي من الناس‪ ،‬وارتفع من‬
‫الرض‪ ،‬وهل العدل إل حكمه؟ ولو كان العدل شخصا ناطقا ثم سألته من أعدل البريّة؟ لقال‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وانظر الى عدله في أحكامه وإنصافه حتى من نفسه‪ ،‬بل طلب من بعض أصحابه أن يقت ّ‬
‫ص‬
‫منه‪ ،‬وأقسم لو أن فاطمة ابنته سرقت لقطع يدها‪ ،‬فكان ل يحابي أحدا في الحق‪ ،‬ول يشفع عنده‬
‫ب الناس إليه لما شفع في‬
‫بشر في الحدود‪ ،‬وقد صاح في وجه أسامة بن زيد وهو من أح ّ‬
‫المخزومية التي سرقت‪ ":‬أتشفع في حدّ من حدود ال" أخرجه البخاري[ ‪ ]6788 ،3475‬ومسلم‬
‫‪ 1688‬عن عائشة رضي ال عنها‪.‬‬

‫وحكم بين الزبير ورجل من النصار‪ ،‬فقال النصاري‪ :‬أن كان ابن عمتك؟ يعني أن الزبير ابن‬
‫جدُواْ فِي‬
‫ل يَ ِ‬
‫شجَ َر َبيْ َنهُ ْم ثُ ّم َ‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا َ‬
‫ى يُ َ‬
‫حتّ َ‬
‫ل يُ ْؤ ِمنُونَ َ‬
‫عمتك صفية فحكمت له؟ فأنزل ال‪ {:‬فَلَ وَ َرّبكَ َ‬
‫ضيْتَ َويُسَّلمُو ْا تَسْلِيما(‪ })65‬النساء‪ .‬فكفى بال شهيدا على عدل رسوله وصدق‬ ‫حرَجا ّممّا َق َ‬
‫سهِمْ َ‬
‫أَنفُ ِ‬
‫أحكامه وصحة قضائه‪:‬‬

‫وإذا حكمت فل ارتياب كأنما‬


‫جاء الخصوم من السماء قضاء‬

‫فهو مؤسس العدل في العالم‪ ،‬وهادم صرح الظلم‪ ،‬واعترف بذلك العدو والصديق والكاره‬
‫والمحب‪.‬‬

‫وقس على ذلك أخلقه الشريفة التي دعا إليها وكان أول عامل بها‪ ،‬فصدّق فعله قوله وباطنه‬
‫ظاهره‪ ،‬وجوارحه قلبه‪.‬‬

‫وأما جمال ظاهره صلى ال عليه وسلم فهو عنوان كتاب قيمه المثلى‪ ،‬وبوابة قصر محاسنه‬
‫الجلّى‪ ،‬فكان أجمل الناس وجها وأبهاهم محيّا‪ ،‬وأزهرهم جبينا وأنورهم طلعة‪ ،‬رقيق البشرة طيب‬
‫الرائحة‪ ،‬زكي الشذا‪ .‬عرقه كالجمان‪ ،‬وأنفاسه كالمسك‪ ،‬يقول أنس‪ :‬ما مسست حريرا ول ديباجا‬
‫ألين من كف رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول شممت مسكا ول عنبرا أزكى من رائحته‪.‬‬
‫أخرجه البخاري ‪ 3561‬ومسلم ‪ .2330‬يصافحه الرجل فيجد آثار الطيب في كفه أياما عديدة من‬
‫أثر مصافحته‪:‬‬

‫أل إن وادي الجزع أضحى ترابه‬


‫من المسك كافورا وأعواده رندا‬
‫وما ذاك إل أن هندا عشية‬
‫تمشّت وجرت في جوانبه بردا‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم حيّ العاطفة جيّاش الفؤاد‪ ،‬يضحك للنادرة ويهش للدعابة‪ ،‬ويتأثر‬
‫للموقف ويبكي رحمة‪ ،‬ويلين شفقة ويمتلئ خشية‪ ،‬إذا سالم فأوفى الوفياء وأكرم الصدقاء‪ ،‬وإذا‬
‫حارب فأعتى من الرياح النكباء وأمضى من الصعدة السمراء‪ ،‬وإذا أعطى فأجود من تحت‬
‫السماء وأسخى من شربة الماء‪ ،‬وإذا رضي مل القلوب سعادة وعمر المجلس حفاوة‪ ،‬وإذا غضب‬
‫في الحق كان أمضى من السيف حسما‪ ،‬وأقوى من اليام حزما‪.‬‬

‫يضحك بأسنان كالبرد‪ ،‬ويبكي بدموع كالمطر‪ ،‬ويعطي بكفّ الغيث‪ ،‬ويقابل بمحيّا كالفجر‪ ،‬ل‬
‫يملّ جليسه حديثه‪ ،‬ول يسأم رفيقه صحبته‪ ،‬ول يطيق من عرفه فراقه‪.‬‬

‫يخرج الى العيد في حلّة حمراء زاهية باهية‪ ،‬بوجه طلق بشوش‪ ،‬أجمل من العيد وأجل من تلك‬
‫الفرحة‪ ،‬فكان عيد الصحابة العظم رؤيته وسماع حديثه والتمتع بصحبته‪ ،‬ويحضر الستسقاء‬
‫متخشعا مبتذل متضرعا باكيا‪ ،‬فكان أعظم موعظة عند المسلمين رؤية ذاك الوجه الخاشع والنظر‬
‫الى تلك الدموع الصادقة والمنظر المؤثر‪.‬‬

‫ويخوض صلى ال عليه وسلم الحرب ويشعل المعركة بقلب وثّاب ونفس ثابتة وعزم صادق‪،‬‬
‫فتنهزم أمامه الصفوف وتتراجع من سطوته البطال‪ ،‬فأشجع الصحابة وقت الذروة يتقي به‪،‬‬
‫وأعتى الكماة لحظة الموت يحتمي به‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم محبوبا‪:‬‬


‫صرُوهُ وَاّت َبعُواْ النّورَ اّلذِيَ أُن ِز َل َمعَهُ } العراف ‪.157‬‬
‫عزّرُوهُ َونَ َ‬
‫ن آ َمنُو ْا بِهِ وَ َ‬
‫{فَاّلذِي َ‬

‫" ل يؤمن أحدكم حتى أكون احب إليه من والده وولده والناس أجمعين" أخرجه البخاري ‪15‬‬
‫ومسلم ‪ 44‬عن أنس رضي ال عنه‪.‬‬

‫أحبّك حبا ليس في غضاضة‬


‫وبعض مودات الرجال سراب‬
‫ومنحتك الود الصريح وإنه‬
‫عليه دليل ظاهر وكتاب‬

‫من يطالع سيرة الصحابة يرى ذلك الحب الصادق الفياض لشخص الرسول الكريم صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬حبا يستولي على النفس ويملك المشاعر‪ ،‬حبا ل يعدله حب الولد والوالد والبن‬
‫والزوجة‪ ،‬حبا يصل شغاف القلب ويمازج قرار الروح‪.‬‬
‫ولكن لماذا أحبّوه هذا الحب؟ إذ ل يوجد في التاريخ كله قوم أحبّوا إمامهم أو زعيمهم أو شيخهم‬
‫ب أصحاب محمد محمدا صلى ال عليه وسلم حتى افتدوه بالمهج‪،‬‬ ‫أو قائدهم أو أستاذهم كما أح ّ‬
‫وعرّضوا أجسامهم للسيوف دون جسمه‪ ،‬وضحوا بدمائهم لحمايته‪ ،‬وبذلوا أعراضهم دون‬
‫عرضه‪ ،‬فكان بعضهم ل يمل عينيه من النظر الى رسول ال صلى ال عليه وسلم إجلل له‪،‬‬
‫ومنهم من ذهب الى الموت طائعا ويعلم أنها النهاية وكأنه يذهب الى عرس‪ ،‬ومنهم من احتسى‬
‫ب محمدا ودعوته‪ .‬بل كانوا يتمنون رضاه على‬ ‫الشهادة في سبيل ال كالماء الزلل‪ ،‬لنه أح ّ‬
‫رضاهم‪ ،‬وراحته ولو تعبوا‪ ،‬وشبعه ولو جاعوا‪ ،‬فما كانوا يرفعون أصواتهم على صوته‪ ،‬ول‬
‫يقدمون أمرهم على أمره‪ ،‬ول يقطعون أمرا من دونه‪ ،‬فهو المطاع المحبوب‪ ،‬والسوة الحسنة‪،‬‬
‫والقدوة المباركة‪.‬‬

‫أما دواعي هذا الحب وأسبابه‪ ،‬فأعظمها أن هذا النسان هو رسول الرحمن‪ ،‬وصفوة النس‬
‫والجان‪ ،‬أرسله ال ليخرجهم من الظلمات الى النور‪ ،‬ويقودهم الى جنة عرضها السموات‬
‫والرض‪.‬‬

‫ثم إنهم وجدوا فيه صلى ال عليه وسلم المام الذي كملت فضائله وتمّت محاسنه‪ ،‬فقد أسرهم‬
‫بهذا الخلق العظيم والمذهب الكريم‪ ،‬فوجدوا في قربه واتباعه جنة وارفة من اليمان‪ ،‬بعد نار‬
‫تلظى من الكفر والجاهلية‪ ،‬فهو الذي غسل أرواحهم بإذن ال من أوضار الوثنية‪ ،‬وزكّى نفوسهم‬
‫من آثام الشرك‪ ،‬وطهّر ضمائرهم من لوثة الصنام‪ ،‬وعلمهم الحياة الكريمة‪ .‬مل صدورهم سعادة‬
‫بعد عمر من القلق والضطراب والغموم والهموم‪ ،‬بنى في قلوبهم صروح اليقين بعد خراب‬
‫الشك والريبة والنحراف‪.‬‬

‫كانوا قبل دعوته كالبهائم السائمة‪ ،‬ل إيمان‪ ،‬ول أدب ول صلة‪ ،‬ول زكاة‪ ،‬ول نور‪ ،‬ول‬
‫صلح‪ ،‬حياة مظلمة من عبادة الصنام وملبسة الفواحش ومعاقرة الخمر وسفك الدماء والسلب‬
‫والنهب‪ ،‬فليس لهم في الحياة رسالة‪ ،‬وما عندهم عن ال خبر‪ ،‬وما لديهم من أمر الدنيا نبأ‪ ،‬فهم في‬
‫غيّهم يعمهون‪.‬‬

‫قلوب أقسى من الحجارة‪ ،‬ونفوس أظلم من الليل‪ ،‬وبؤس أشد بشاعة من الموت‪ ،‬فل عقل‬
‫محفوظ‪ ،‬ول دم معصوم‪ ،‬ول مال حلل‪ ،‬ول عرض مصان‪ ،‬ول نفوس راضية‪ ،‬ول أخلق‬
‫قويمة‪ ،‬ول مجتمع يحترم الفضيلة‪ ،‬ول شعب يحمي المبادئ‪.‬‬

‫فلما أراد ال إنقاذ هذه البشرية وإسعادها وصلحها وفلحها بعث محمدا صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فكأن الناس ولدوا من جديد‪ ،‬وكأن وجه الدنيا تغير‪ ،‬وكأن الرض لبست ثوبا آخر‪ ،‬فالوحي يتنزل‬
‫على هذا المام من لدن لطيف خبير‪ ،‬وجبريل يغدو ويروح بشريعة نسخت الشرائع‪ ،‬فيها سعادة‬
‫العباد‪ ،‬وصلح البشر‪ ،‬وعمارة الرض‪ ..‬فمسجد يبنى‪ ،‬ورقبة تعتق‪ ،‬وصدر يعمر‪ ،‬وجسد يطهر‪،‬‬
‫وصلة تؤدى‪ ،‬ومصحف يتلى‪ ،‬وآية تفسّر‪ ،‬وحديث يشرح‪ ،‬وراية تعقد‪ ،‬وحضارة تبنى‪ ،‬وأمة‬
‫ح ْكمَةَ وَإِن كَانُوا‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫ل ّمنْهُ ْم َيتْلُو عََل ْيهِ ْم آيَاتِهِ َويُ َزكّيهِمْ َو ُيعَّل ُمهُمُ ا ْل ِكتَا َ‬
‫ث فِي الُْأ ّميّينَ رَسُو ً‬
‫تحرّر { هُ َو اّلذِي َبعَ َ‬
‫مِن َقبْلُ لَفِي ضَلَا ٍل ّمبِي ٍن (‪ } )2‬الجمعة‪.‬‬

‫ب الصحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم لنه وصلهم بال ودلّهم على رضوانه‪،‬‬ ‫لقد أح ّ‬
‫وهداهم الى صراطه المستقيم‪ .‬وإنهم لمعذورون في هذا الحب لنه أقل ما يجب عليهم نحو هذا‬
‫الرسول المعصوم والنبي الخاتم‪ ،‬الذي جاء إليهم وهم عاكفون على أصنامهم‪ ،‬فصاح بهم ‪":‬قولوا‬
‫ل إله إل ال تفلحوا" أخرجه أحمد ‪ 18525‬والحاكم ‪ ،39‬وصلى بهم وقال‪ ":‬صلوا كما رأيتموني‬
‫ج بهم وقال‪ ":‬خذوا عني مناسككم" أخرجه مسلم ‪،1297‬‬ ‫أصلي" أخرجه البخاري ‪ ،631‬وح ّ‬
‫وعلمهم السنة وقال‪ ":‬من رغب عن سنتي فليس مني" أخرجه البخاري ‪ 5063‬ومسلم ‪،1401‬‬
‫ودعاهم الى التقوى وقال‪ ":‬إن أتقاكم وأعلمكم بال أنا" أخرجه البخاري ‪ .20‬فال أنقذهم به من‬
‫النار‪ ،‬وبصّرهم من العمى‪ ،‬وعلّمهم به من الجهل‪ ،‬وأصلحهم بعد الفساد‪ ،‬وهداهم بعد الضللة‪،‬‬
‫وأرشدهم بعد الغي‪.‬‬

‫كيف ل يحبه أصحابه بل كل مسلم وهو ل يزاول طاعة إل والرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫نصب عينيه في طهارته وصلته وصيامه وزكاته وحجّه وذكره وعقيدته وخلقه وسلوكه‪ ،‬كيف‬
‫ل يحبه وكلما فعل خيرا فإنما إمامه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو قام بقربة فقدوته محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬أو أحسن في حياته فأسوته محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو أسدى جميل أو قدّم‬
‫معروفا فمثله العلى محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫المصلحون أصابع جمعت يدا‬


‫هي أنت بل أنت اليد البيضاء‬

‫ن في الذن ويعبر الى القلب بكل فضيلة وكل خلق شريف‬ ‫كيف ل يحبه النسان وحديثه ير ّ‬
‫وسجايا نبيلة‪ ،‬داعيا الى الصدق والعدل والسلم والرحمة والتآخي والحسان‪ ،‬محذرا من الفجور‬
‫والفسوق والعصيان والظلم والعتداء والبغي والجرام‪ ..‬فميلد النسان الميلد الثاني يوم اتبع‬
‫هذا الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬واقتدى بهذا النبي المي‪:‬‬

‫أخوك عيسى دعا ميتا فقام له‬


‫وأنت أحييت أجيال من الرمم‬

‫وسعادة العبد إنما هي في الهتداء بهدي هذا المام المعصوم‪ ،‬لنه الوحيد من الناس الذي يدور‬
‫معه الحق حيثما دار‪ ،‬فعلى قوله تعرض القوال‪ ،‬وعلى فعله توزن الفعال‪ ،‬وعلى حاله تقاس‬
‫الحوال‪{:‬وإنّك لتهدي الى صراط مستقيم}‪.‬‬

‫من نحن قبلك إل نقطة غرقت‬


‫في الي ّم أو دمعة خرساء في القدم‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم مباركا‪:‬‬


‫{ ُمبَارَكا َأيْنَ مَا كُنتُ َوأَوْصَانِي بِالصّلَاةِ وَال ّزكَا ِة مَا ُدمْتُ َحيّا (‪ } )31‬مريم‪.‬‬

‫إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا‬


‫كفى بالمطايا طيب ذكرك هاديا‬
‫وإني لستغثي وما بي غشوة‬
‫ل خيال منك يلقى خياليا‬
‫لع ّ‬

‫كانت البركة فيه ومعه وعنده عليه الصلة والسلم‪ ،‬فكلمه مبارك‪ ،‬يقول الكلمة الموجزة‬
‫فتحمل في طياتها العبر والعظات ما يدهش لروعتها العقل حسنا وبلغة‪ ،‬ويلقي الخطبة فيجعل‬
‫ال فيها من النفع والتأثير والبركة ما يبقى صداه في الجيال جيل بعد جيل‪.‬‬
‫والبركة في عمره صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد عاش ثلثا وعشرين سنة في إبلغ رسالته ليس إل‪،‬‬
‫فكان في هذه الفترة الوجيزة من الفتح والنصر والنفع والعلم واليمان والصلح ما ل يقوم به‬
‫غيره في قرون ول دهور‪ ،‬ففي ثلث وعشرين سنة فحسب‪ ،‬بلّغ الرسالة وأدّى المانة وعلّم‬
‫القرآن ونشر السنة‪ ،‬وقضى على الكفر‪ ،‬وأسّس دولة العدل‪ ،‬وأقام أعظم حضارة راشدة عرفتها‬
‫النسانية‪.‬‬

‫وانظر الى بركة يوم واحد من أيامه عليه الصلة والسلم‪ ،‬وهو يوم النحر‪ ،‬اليوم العاشر من‬
‫حجه صلى ال عليه وسلم على سبيل المثال‪ ،‬ففي هذا اليوم الواحد صلى الفجر بمزدلفة ودفع الى‬
‫منى وهو يلبّي ويذكر ال ويدعوه‪ ،‬ويعلم الناس المناسك‪ ،‬ويفتي الحجاج‪ ،‬ثم رمى جمرة العقبة‪ ،‬ثم‬
‫حلق ثم نحر ثم ذهب الى المسجد الحرام فطاف‪ ،‬ثم صلى الظهر‪ ،‬وهو مع ذلك يرشد الناس‬
‫ويوجّههم‪ ..‬هذا إلى صلة الظهر فقط‪ ،‬مع أن وسيلة النقل ناقته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مع بعد‬
‫المسافة وكثرة الزحام وحرارة الجو ووقوفه للناس يسألونه‪ ،‬فسبحان من بارك في لحظات عمره‬
‫ودقائق حياته‪:‬‬

‫مرّت سنين بالسعود وبالهنا‬


‫فكأنها من حسنها أيام‬

‫وبورك له صلى ال عليه وسلم في آثاره‪ ،‬فقد مرّ بصاحب قبرين يعذبان‪ ،‬أحدهما كان ل يتنزه‬
‫من البول‪ ،‬والخر كان يمشي بالنميمة بين الناس‪ ،‬فشقّ صلى ال عليه وسلم عصا خضراء كانت‬
‫معه وغرسها على القبرين وقال‪ ":‬أرجو أن يخفف عنهما من العذاب حتى تيبسا" أخرجه‬
‫البخاري [‪ ]218 ،216‬ومسلم ‪ 292‬عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ .‬وهذا خاص به‪ ،‬ول يكون‬
‫إل له صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لما جعل ال فيه من البركة‪.‬‬

‫ومرض علي ابن أبي طالب بالرمد يوم خيبر‪ ،‬حتى أصبح ل يرى شيئا‪ ،‬فنفث عليه صلى ال‬
‫عليه وسلم فأبصر بإذن ال في الحال لبركة دعائه ونفثه‪:‬‬

‫مرض الحبيب فزرته‬


‫فمرضت من خوفي عليه‬
‫وأتى الحبيب يزورني‬
‫فشفيت من نظري إليه‬

‫وكان الجيش في الخندق ألف رجل قد بلغ بهم الجوع مبلغا عظيما‪ ،‬فدعا جابر بن عبدال‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم وثلثة معه على عناق من ولد الماعز ذبحها وشيء من طعام‬
‫الشعير‪ ،‬فدعا صلى ال عليه وسلم الجيش جميعا وسبقهم‪ ،‬ودعا على الطعام ونفث‪ ،‬ثم أدخلهم‬
‫عشرة عشرة‪ ،‬فأكلوا جميعا وشبعوا جميعا وبقي الطعام بحاله‪ ،‬ووزع على أهل المدينة‪ ،‬فما بقي‬
‫بيت إل دخله من ذلك الطعام‪ .‬فل إله إل ال! يا لها من معجزة باهرة وآية ظاهرة على صدقه‬
‫وبركنه ونبوّته‪:‬‬

‫عل ّو في الحياة وفي الممات‬


‫بحق فيك كل المعجزات‬
‫عليك تحية الرحمن تسري‬
‫بتبريك عواد رائحات‬
‫وسافر معه جيش قوامه ألف وأربعمائة رجل‪ ،‬فانتهى ماؤهم وأشرفوا على الهلك‪ ،‬وانقطعوا‬
‫في البيداء‪ ،‬فدعا صلى ال عليه وسلم بقربة صغيرة فيها قليل من ماء‪ ،‬فصبّه على يده الشريفة‬
‫الطاهرة المباركة‪ ،‬فثارت من بين أصابعه أنهار الماء‪ ،‬فمل الناس أوعيتهم وعبأوا قربهم وسقوا‬
‫رواحلهم‪ ،‬وشربوا وتوضؤوا واغتسلوا جميعا { َأ َفسِحْ ٌر َهذَا أَ ْم أَنتُمْ لَا ُتبْصِرُو َن (‪ })15‬الطور‪.‬‬

‫وأبيض يستسقى الغمام بوجهه‬


‫ثمال اليتامى عصمة للرامل‬

‫فحيّا ال ذاك الكف الطاهر المبارك الذي ما خان ول غش ول غدر ول نهب ول سلب ول سرق‬
‫ول سفك‪.‬‬

‫يد بيضاء لو مدّت بليل‬


‫عظيم الهول أشرقت الليالي‬

‫وزار صلى ال عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وهو مريض ملتهب الجسم‪ ،‬فوضع يده المباركة‬
‫على صدر سعد‪ ،‬فوجد بردها كالثلج فشفي بإذن ال‪ .‬يقول سعد بعد سنوات طويلة‪ :‬وال لكأني أجد‬
‫بردها الن على صدري‪.‬‬

‫ش صلى ال عليه وسلم بقية وضوئه على جابر بن عبدال وهو مريض فشفي بإذن ال‪،‬‬ ‫ور ّ‬
‫وحلق رأسه صلى ال عليه وسلم بمنى يوم النحر‪ ،‬فأعطى شقّه اليمن أبا طلحة النصاري لن‬
‫صوته في الجيش كمائة فارس جائزة له‪ ،‬والنصف الخر وزع على الناس‪ ،‬فكادوا يقتتلون عليه‪،‬‬
‫فمنهم من حصل على شعرة‪ ،‬ومنهم من تقاسم هو وصاحبه شعرة واحدة‪ ،‬ومنهم من كان يضع‬
‫هذه الشعرة في الماء إذا أراد أن يشرب‪.‬‬

‫جعلت لعرّاف اليمامة حكمه‬


‫وعراف نجد إن هما شفياني‬
‫فوال ما من رقية يعلمانها‬
‫ول شربة إل بها سقياني‬
‫فجئت الى المعصوم حتى أعلّني‬
‫بشربة حقّ من هدى وبيان‬

‫ومسح صلى ال عليه وسلم رأس أبي محذورة وهو صغير‪ ،‬فأقسم أبو محذورة ل يحلق هذا‬
‫الشعر الذي مسّه كف الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبقي طيلة حياته حتى طال ودفن معه‪.‬‬

‫وكان الصبيان يأتونه صلى ال عليه وسلم بآنيتهم فيضع كفه المبارك في إناء الماء واللبن‪،‬‬
‫فيجدون فيه البركة والشفاء بإذن ال‪.‬‬

‫وقصص بركته ل تنتهي‪ ،‬وأحاديث معجزاته ل تنقضي‪ ،‬فهو المبارك أينما حل وأينما ارتحل‪،‬‬
‫وهو الموفّق أينما سار وأقام‪.‬‬

‫يا رب صلّ وسّلم ما أردت على‬


‫نزيل عرشك خير الرسل كلهم‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم مربيا‪:‬‬
‫{ يتلوا عليكم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} ‪.‬‬

‫هديتنا لسبيل الحق نسلكه‬


‫مسّكتنا حبل هدى غير منصرم‬
‫أنت المام الذي نرجو شفاعته‬
‫وأنت قدوتنا في حالك الظلم‬

‫كان صلى ال عليه وسلم مربيا كملت مناقب المربي فيه‪ ،‬فهو رفيق في تعليمه ويقول‪ ":‬إن ال‬
‫رفيق يحب الرفق‪ ،‬ويعطي على الرفق ما ل يعطي على العنف" أخرجه البخاري ‪ 6927‬ومسلم‬
‫‪ 2593‬عن عائشة رضي ال عنها‪ .‬ويقول‪ ":‬ما كان الرفق في شيء إل زانه‪ ،‬وما نزع من شيء‬
‫إل شانه" أخرجه مسلم ‪ 2594‬عن عائشة رضي ال عنها‪ .‬وكان يصل الى قلوب الناس بألين‬
‫ب لَن َفضّو ْا مِنْ‬
‫حمَ ٍة مّنَ اللّهِ لِنتَ َلهُمْ َولَ ْو كُنتَ َفظّا غَلِيظَ ا ْلقَلْ ِ‬
‫السبل حتى قال فيه ربه عز وجل‪َ {:‬فبِمَا رَ ْ‬
‫ك } آل عمران ‪ .159‬فهو أعظم من تمثل خلق القرآن‪ ،‬فتجده القريب منالنفوس‪ ،‬الحبيب الى‬ ‫حَوِْل َ‬
‫القلوب‪.‬‬

‫جاءه أعرابي فقال في التشهد‪ :‬ال ارحمني ومحمدا ول ترحم معنا أحدا‪ ،‬فقال له صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ":‬لقد حجرت واسعا" أخرجه البخاري ‪ 6010‬عن أبي هريرة‪ .‬أي أنه ضيّق رحمة ال التي‬
‫وسعت كل شيء‪ ،‬ثم قام العرابي فبال في طرف المسجد‪ ،‬فأراد الصحابة ضرب العرابي‪،‬‬
‫فمنعهم صلى ال عليه وسلم ودعا بدلو من ماء فصبّه على بول العرابي‪ ،‬ثم دعا العرابي برفق‬
‫ولين وحسن خلق فقال‪ ":‬إن هذه المساجد ل يصلح فيها شيء من الذى والقذر‪ ،‬وإنما هي للصلة‬
‫والذكر وقراءة القرآن" أخرجه مسلم ‪ 285‬عن أنس بن مالك رضي ال عنه‪ .‬فذهب هذا العرابي‬
‫الى قومه لما رأى منا لرفق واللين‪ ،‬فدعاهم الى السلم فأسلموا‪.‬‬

‫وجلس معه صلى ال عليه وسلم غلم على مائدة الطعام‪ ،‬فأخذت يد الغلم تطيش في الصحفة‪،‬‬
‫فما نهره ول زجره وإنما قال له برفق‪ ":‬سمّ ال وكل بيمينك وكل مما يليك" أخرجه البخاري [‬
‫‪ ]5378 ،5376‬ومسلم ‪ 2022‬عن عمر ابن أبي سلمة رضي ال عنه‪.‬‬

‫ودخل اليهود عليه صلى ال عليه وسلم فقالوا‪ :‬السام عليك‪ ،‬يعني الموت‪ ،‬فقالت عائشة‪ :‬عليكم‬
‫السام واللعنة‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪ ":‬يا عائشة‪ ،‬ما هذا؟ إن ال يكره الفحش والتفاحش‪ ،‬وقد‬
‫رددت عليهم ما قالوا‪ ،‬فقلت‪ :‬وعليكم" أخرجه البخاري [ ‪ ]6030 ،2935‬ومسلم ‪ 2165‬عن‬
‫عائشة رضي ال عنها‪ .‬وليس في قاموس حياته صلى ال عليه وسلم ول في معجم أدبه كلمة نابية‬
‫ول بذيئة ول فاحشة‪ ،‬وإنما طهر كله ونقاء وصفاء ولين ووفاء‪ ،‬لنه رحمة مهداة‪ ،‬ونعمة مسداة‪،‬‬
‫وبركة عامة‪ ،‬وخير متصل‪.‬‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم يتخوّل أصحابه بالموعظة كراهية السآمة والملل عليهم‪ ،‬أي يتركهم‬
‫فترات من الزمن بل وعظ ليكون أنشط لنفوسهم وأروح لقلوبهم‪ ،‬فكان إذا وعظهم أوجز وأبلغ‪،‬‬
‫وكان ينهى عن التطويل على الناس وإدخال المشقة عليهم‪ ،‬سواء في الصلة أو الخطب‪ ،‬ويقول‪":‬‬
‫إن قصر خطبة الرجل وطول صلته مئنة من فقهه" أخرجه مسلم ‪ 869‬عن عمار رضي ال‬
‫عنه‪ .‬أي علمة على فقهه‪ ،‬فقصّروا الخطبة وأطيلوا الصلة‪.‬‬
‫وأنكر عمر على الحبشة لعبهم بالحراب في مسجده صلى ال عليه وسلم فقال‪ ":‬دعهم يا عمر‪،‬‬
‫ليعلم يهود أن في ديننا فسحة" أخرجه أحمد [ ‪ ]25431 ،24334‬عن عائشة رضي ال عنها‬
‫أنظر كشف الخفاء‪.658 :‬‬

‫ودخل أبو بكر عليه صلى ال عليه وسلم في بيت عائشة رضي ال عنها وعندها جاريتان‬
‫تغنيان يوم العيد‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬أمزمار الشيطان في بيت رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فقال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ":‬دعهم يا أبا بكر‪ ،‬فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا" أخرجه البخاري [ ‪،952‬‬
‫‪ ]3931‬ومسلم ‪ 892‬عن عائشة رضي ال عنها‪.‬‬

‫وسأل صلى ال عليه وسلم عائشة عن زواج حضرته للنصار‪ ":‬هل كان معكم شيء من لهو؟ ـ‬
‫أي من طرب ـ فإن النصار يعجبهم اللهو" أخرجه البخاري ‪ 5163‬عن عائشة رضي ال عنها‪.‬‬
‫كل هذا في حدود المباح الذي يريح النفس ويذهب عنها السأم والملل‪ ،‬أما الحرام فكان أبعد الناس‬
‫عنه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم يربي أصحابه بالقدوة الحيّة الماثلة فيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكان‬
‫يدعوهم الى تقوى ال وهو أتقاهم‪ ،‬وينهاهم عن الشيء فيكون أشدّهم حذرا منه‪ ،‬ويعظهم ودموعه‬
‫على خدّه الشريف‪ ،‬ويوصيهم بأحسن الخلق‪ ،‬فإذا هو أحسنهم خلقا‪ ،‬ويندبهم الى ذكر ال وإذا به‬
‫أكثرهم ذكرا‪ ،‬ويناديهم الى البذل والعطاء ثم يكون أسخاهم يدا وأكرمهم نفسا‪ ،‬وينصحهم بحسن‬
‫العشرة مع الهل‪ ،‬ثم تجده أحسن الناس لهله رحمة وعطفا ورقة ولطفا‪:‬‬

‫يا صاحب الخلق السمى وهل حملت‬


‫روح الرسالت إل روح مختار‬
‫أعلى السجايا التي صاغت لصاحبها‬
‫من الهدى والمعالي نصب تذكار‬

‫والعجيب توصّله صلى ال عليه وسلم الى غرس هذه الفضيلة في نفوس أصحابه غرسا بقي‬
‫بقاء حياتهم‪ ،‬ودام دوام أعمارهم ونقله التباع عنهم‪ ،‬وأتباع التباع عن التباع الى اليوم‪ ،‬فكان‬
‫إذا لقيه الرجل يوما من الدهر أو ساعة من الزمن وآمن به‪ ،‬ترك عليه من الثر ما يبقى ملزما‬
‫له حتى الموت‪ ،‬فكأن ليس في حياة هذا الرجل إل ذلك اليوم أو تلك الساعة التي لقي فيها رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫قد يضيق العمر إل ساعة‬


‫وتضيق الرض إل موضعا‬

‫وما ذاك إل لصدق نبوته عليه الصلة والسلم وبركة دعوته‪ ،‬وعظيم إخلصه وجللة خلقه‬
‫ونبل فضائله‪:‬‬

‫فعليه ما سجع الحمام سلمنا‬


‫فيه إله العالمين هدانا‬
‫وجوب الصلة والسلم عليه صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ي يَا َأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا صَلّوا عََليْهِ وَسَّلمُوا تَسْلِيما (‪ } )56‬الحزاب‪.‬‬
‫علَى ال ّنبِ ّ‬
‫ن اللّهَ َومَلَا ِئ َكتَهُ يُصَلّونَ َ‬
‫{إِ ّ‬
‫صلى عليك ال يا علم الهدى‬
‫ن مشتاق الى لقياكا‬
‫ما ح ّ‬
‫وعليك ملء الرض من صلواتنا‬
‫وقلوبنا ذابت على ذكراك‬

‫الصلة على محمد صلى ال عليه وسلم جلء البصار‪ ،‬ونور البصائر‪ ،‬وبهجة القلوب‪ ،‬وراحة‬
‫الرواح‪ ،‬وقرة العيون‪ ،‬ومسك المجالس‪ ،‬وطيب الحياة‪ ،‬وزكاة العمر‪ ،‬وجمال اليام‪ ،‬وذهاب‬
‫الهموم‪ ،‬وطرد الحزان‪ ،‬وهي الجالبة للسرور وانشراح الصدور وتكامل الحبور وتعاظم النور‪.‬‬

‫ل النس وتحصل البركة وتنزل السكينة‪ ،‬وهي علمة‬ ‫بها يطيب السمر ويحلو الحديث ويح ّ‬
‫الحب وشاهد المتابعة وبرهان الموالة ودليل الصلح وطريق الفلح‪ ،‬يقول صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ":‬من صلى عليّ صلة واحدة صلى ال عليه بها عشر صلوات‪ ،‬ورفعه عشر درجات‪،‬‬
‫وكتبت له عشر حسنات‪ ،‬ومحي عنه عشر سيئات" أخرجه النسائي في الكبرى ‪ 9890‬وفي عمل‬
‫اليوم والليلة ‪ 63‬عن أنس بن مالك‪ .‬وقال‪ ":‬أكثروا عليّ من الصلة ليلة الجمعة ويوم الجمعة"‬
‫أخرجه ابن عدي في الكامل ‪ 102\3‬والبيهقي في الكبرى ‪ 5790‬وفي الشعب ‪ 3030‬عن أنس بن‬
‫مالك وانظر كشف الخفاء ‪ .190\1‬وقال‪ ":‬رغم أنف من ذكرت عنده ولم يصلّ عليّ" أخرجه‬
‫أحمد ‪ 7402‬والترمذي ‪ 3545‬والحاكم ‪ .2016‬وروي مرفوعا‪ ":‬البخيل من ذكرت عنده فلم‬
‫يصلّ عليّ" أخرجه أحمد ‪ 1738‬والترمذي ‪ 3546‬عن علي رضي ال عنه وانظر كشف الخفاء‬
‫‪ .332\1‬وورد‪ ":‬إن ل ملئكة سياحين في الرض يبلغونني من أمتي السلم" أخرجه أحمد [‬
‫‪ ]4198 ،3657‬والنسائي ‪ 1282‬والدارمي ‪ 2774‬والحاكم ‪ 3576‬عن عبدال بن مسعود‪ .‬ولما‬
‫قال أبيّ بن كعب‪ :‬سوف أجعل لك صلتي كلها‪ ،‬أي دعائي‪ ،‬قال‪ ":‬إذن يغفر ذنبك‪ ،‬وتكفي همّك"‬
‫أخرجه الترمذي ‪.2457‬‬

‫فيصلى عليه صلى ال عليه وسلم في التشهد الول والثاني‪ ،‬وعند ذكره‪ ،‬وفي خطبة الجمعة‪،‬‬
‫والعيد‪ ،‬والستسقاء‪ ،‬وفي خطبة النكاح‪ ،‬وفي مجلس العلم والمواعظ‪ ،‬والكتب والرسائل‪،‬‬
‫والمعاهدات‪ ،‬والصكوك‪ ،‬وعند لقاء الحباب‪ ،‬وعند الوداع‪ ،‬وفي الدعاء وأذكار الصباح والمساء‪،‬‬
‫وعند نزول الهموم وترادف الغموم وفقد الغراض وتزاحم الكرب وحدوث المصاب ووصول‬
‫المبشرات‪ ،‬وعند تأليف الكتب وشرح حديثه وكتابة سيرته وذكر أخباره وقصصه‪ ..‬إلى غير ذلك‬
‫من المناسبات‪ ،‬فصلّى ال عليه وسلم ما زهر فاح‪ ،‬وبلبل صاح‪ ،‬وسر باح‪ ،‬وحمام ناح‪ ،‬وصلى‬
‫ال عليه وسلم ما نسيم تدّفق وما دمع ترقرق‪ ،‬وما وجه أشرق‪ ،‬وصلى ال عليه وسلم ما اختلف‬
‫الليل والنهار‪ ،‬وهطلت المطار‪ ،‬ودنت الثمار واهتزت الشجار‪ ،‬وصلى ال عليه وسلم ما بدت‬
‫النجوم‪ ،‬وتلبدّت الغيوم وانقشعت الهموم‪ ،‬وتليت الخبار والعلوم‪ ،‬وعلى آله الطيبين البرار‪،‬‬
‫وأصحابه الخيار من المهاجرين والنصار‪ ،‬ومن تبعهم واقتفى الك الثار‪.‬‬

‫صلى عليه إلهه وخليله‬


‫ما دامت الغبراء والخضراء‬
‫فهو الذي فاق النام كرامة‬
‫واستبشرت بقدومه النباء‬
‫وجوب التأدب مع الرسول صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ضكُمْ ِل َبعْضٍ أَن‬
‫جهْ ِر َبعْ ِ‬
‫ل كَ َ‬
‫جهَرُوا لَ ُه بِا ْلقَوْ ِ‬
‫ن آ َمنُوا لَا تَ ْر َفعُوا َأصْوَا َتكُ ْم فَوْقَ صَ ْوتِ ال ّنبِيّ وَلَا تَ ْ‬
‫{يَا َأّيهَا اّلذِي َ‬
‫تَ ْحبَطَ أَ ْعمَاُلكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَ ْشعُرُونَ (‪ } )2‬الحجرات‪.‬‬

‫قحطان عدنان شادوا منك عزّتهم‬


‫بك التشرّف للتأريخ ل بهم‬
‫أكاد أقتلع الهات من حرقي‬
‫إذا ذكرتك أو أرتاع من ندمي‬

‫الدب معه صلى ال عليه وسلم شريعة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها‪ ،‬فالدب مع شخصه الكريم‬
‫بإجلله وإعزازه وتوقيره وتقديره واحترامه وانزاله المنزلة التي أنزله ال إياها‪ :‬ل غلوّ ول‬
‫جفاء‪ ،‬وعدم العتراض عليه صلى ال عليه وسلم أو مناقضة أقواله بأقوال غيره من الناس‪ ،‬أو‬
‫تقديم قول كائن من البشر مهما كان على قوله‪ ،‬أو أخذ حديثه على أنه كلم يصيب ويخطئ‪ ،‬بل‬
‫هو كلم نبيّ معصوم‪ ،‬أو التعرّض لصفة من صفاته بجفاء‪ ،‬أو رد قوله بعد التأكد من صحة‬
‫نسبته اليه‪ ،‬أو الشك في بعض قضاياه وأحكامه‪ ،‬أو مقارنته بالقادة والزعماء والملوك‪ ،‬فقد رفع‬
‫ال قدره على الجميع وأعلى منزلته على الكل‪.‬‬

‫بل يحرم كل ما فهم منه الجفاء والتنقص والعتراض عليه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والواجب على‬
‫كل من رضي به رسول واتبعه وآمن به حبه حبا صادقا أعظم من حب النفس والولد والوالد‬
‫والناس أجمعين‪ ،‬وتصديق ما أخبر به‪ ،‬وامتثال ما أمر به والنتهاء عما نهى عنه‪ ،‬والهتداء بهداه‬
‫والقتداء بسنته والرضى بحكمه والحرص على متابعته‪ ،‬وتوقير حديثه والصلة والسلم عليه إذا‬
‫ذكر صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعدم رفع الصوت عند ذكره وذكر حديثه‪ ،‬وعدم الضحك وقت تلوة‬
‫أخباره وكلمه وآثاره‪ ،‬والخشوع عند ذكر شيء من سنته‪ ،‬والتأدب عند الستشهاد بقوله‪،‬‬
‫والتسليم عند أمره ونهيه‪ ،‬واليمان بمعجزاته والذب عن جنابه الشريف وأهل بيته وأصحابه {‬
‫فالذين ءامنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}‪.‬‬

‫يا من تضوّع طيب القاع منزله‬


‫فطاب من طيب ذاك القاع والكم‬
‫نفسي الفداء لمجدٍ أنت حامله‬
‫فيه العفاف وفيه الجود والكرم‬

‫فعلى المسلم أن يفعل فعل أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم في التأدب معه‪ ،‬فمنهم من كان ل‬
‫يتكلم عنده إل بصوت خافض خاشع‪ ،‬وكان إذا تحدث كان على رؤوسهم الطير‪ ،‬ومنهم من جلس‬
‫في الطريق خارج المسجد لما سمعه يقول من داخل المسجد‪ ":‬يا أيها الناس اجلسوا" أخرجه أبو‬
‫داود ‪ 1091‬والحاكم ‪ 1056‬عن جابر رضي ال عنه‪ .‬ومنهم من ل يكلم ابنه حتى مات لنه‬
‫عارض حديث الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ..‬إلى آخر تلك الفعال الجميلة والخصال الحميدة من‬
‫تأدبهم معه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم مبشّرا‪:‬‬


‫ل َكبِيرا (‪ } )47‬الحزاب‪.‬‬
‫ن بِأَنّ َلهُم مّنَ اللّ ِه فَضْ ً‬
‫{ َوبَشّرِ ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬

‫" بشّروا ول تنفروا‪ ،‬ويسّروا ول تعسّروا"‪.‬‬

‫بشرى لنا السلم إن لنا‬


‫من العناية ركنا غير منهزم‬
‫لما دعا ال داعينا لطاعته‬
‫بأكرم الرسل كنا أكرم المم‬

‫من أعظم صفاته صلى ال عليه وسلم أنه مبشر‪ {:‬يَا َأّيهَا ال ّنبِيّ ِإنّا أَ ْرسَ ْلنَاكَ شَاهِدا َو ُمبَشّرا َونَذِيرا (‬
‫‪ })45‬الحزاب‪ ،‬فهو صلى ال عليه وسلم الذي أتى بالبشارة الكبرى‪ ،‬وهي اليمان بال والبشارة‬
‫بعفوه وغفرانه ورضوانه ورحمته‪ ،‬والبشارة بجنة عرضها السموات والرض‪ ،‬وقد بشّر صلى‬
‫ال عليه وسلم بتوبة ال على من تاب وعفوه عمن أناب‪ ،‬فجلّ الذين بشارة‪ ،‬فقد بشّر عليه الصلة‬
‫والسلم بان الوضوء يحطّ الخطايا وأن الصلة ورمضان والحج والعمرة كفارات لما بينها من‬
‫الذنوب إل الكبائر‪ ،‬وبشّر من فقد عينيه بالجنة‪ ،‬وبشر من فقد ابنه بقصر في الجنة‪ ،‬وبشّر من‬
‫أصابه مرض بأنه يمحو الخطايا‪ ،‬وأن من أراد ال به خيرا ابتله‪ ،‬وبشّر من انتظر الصلة أن‬
‫الملئكة تصلي عليه وتدعو له ما لم يحدث‪ ،‬وبشّر من سبح تسبيحة واحدة بغرس نخلة له في‬
‫الجنة‪ ،‬وأن من قال سبحان ال وبحمده مائة مرة حطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر‪ ،‬وأن‬
‫من أذنب ذنبا ثم توضأ وصلى ركعتين واستغفر ال غفر ال له‪ ،‬وبشّر أن من أصابه مرض أو‬
‫وصب أو نصب أو هم أو غمّ أو حزن حتى الشوكة يشاكها جعلها ال كفارة له من الذنوب‪.‬‬

‫وجاء بكتاب عظيم وذكر حكيم يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بان لهم أجرا حسنا‬
‫س مِن رّوْحِ اللّهِ ِإلّ الْقَ ْومُ ا ْلكَا ِفرُو َن (‪ })87‬يوسف‪.‬‬
‫ل يَيَْأ ُ‬
‫ونهاهم عن اليأس‪ِ {:‬إنّ ُه َ‬

‫وعن القنوط‪{:‬ومن يقنط من رحمة ربه إل الضالون}‪.‬‬

‫ونهاهم عن الحزن‪َ {:‬ولَ َت ِهنُوا َو َل تَحْ َزنُوا } آل عمران ‪.139‬‬

‫حمَةِ‬
‫سهِمْ لَا تَ ْقنَطُوا مِن رّ ْ‬
‫ي اّلذِينَ أَسْ َرفُوا عَلَى أَن ُف ِ‬
‫عبَادِ َ‬
‫ل يَا ِ‬
‫وفتح باب الغفران للتائبين من المسرفين‪ {:‬قُ ْ‬
‫ب َجمِيعا ِإنّ ُه هُوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِي ُم (‪ } )53‬الزمر‪.‬‬
‫اللّهِ إِنّ اللّ َه َيغْفِ ُر الذّنُو َ‬

‫ولما أرسل رسله الى البلدان ودعاة الى ال قال لهم‪ ":‬بشّروا ول تنفّروا‪ ،‬ويسّروا ول تعسّروا"‪،‬‬
‫وحذّر من التشديد والتنفير فقال‪ ":‬يا أيها الناس! إن منكم منفّرين‪ ،‬من صلى بالناس فليخفف‪ ،‬فإن‬
‫فيهم الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة" أخرجه البخاري [ ‪ ]702 ،90‬ومسلم ‪. 466‬‬

‫وذ ّم المتكلفين في الدين‪ ،‬وبشّر عائشة ببراءة ال لها‪ ،‬وبشر كعب بن مالك بتوبة ال عليه‪ ،‬وبشر‬
‫جابرا بأن ال كلم أباه‪ ،‬وبشر المسلمين بدخول زيد وجعفر وابن أبي رواحة الجنة‪ ،‬وبشر بلل‬
‫بأنه سمع دفي نعليه في الجنة‪ ،‬وبشّر أبيّ بن كعب بأن ال ذكره في المل العلى‪ ،‬وبشّر العشرة‬
‫بالجنة‪ ،‬وبشّر أهل بدر بأن ال قال لهم‪ ":‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" أخرجه البخاري [‬
‫‪ ]3983 ،3007‬ومسلم ‪ 2494‬عن علي رضي ال عنه‪ .‬وبشّر أهل البيعة تحت الشجرة برضوان‬
‫ال‪ ،‬وبشّر الذي لزم {قُ ْل هُ َو اللّهُ أَ َح ٌد (‪ })1‬الخلص‪ ،‬بأن ال يحبه‪ ،‬وبشّر رجل صلى معه وقد‬
‫أصاب حدّا بأن ال غفر له‪.‬‬

‫وبالجملة فمن أعظم خصاله الحميدة صلى ال عليه وسلم إدخال البشرى على الناس وإسعادهم‪.‬‬

‫بشرى من الغيب ألقت في فم الغار‬


‫وحياً وأفضت الى الدنيا بأسرار‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم معلما‪:‬‬


‫ضلُ اللّ ِه عََل ْيكَ َعظِيما (‪ } )113‬النساء‪.‬‬
‫ن فَ ْ‬
‫ن َتعْلَمُ َوكَا َ‬
‫ك مَا َل ْم َتكُ ْ‬
‫{وَعَّل َم َ‬

‫" من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل ال له به طريقا الى الجنة" أخرجه مسلم ‪ 2699‬عن أبي‬
‫هريرة رضي ال عنه‪.‬‬

‫كفاك بالعلم في المي معجزة‬


‫عند البريّة والتأديب في اليتم‬
‫فهو الذي تم في فضل وفي كرم‬
‫ثم اصطفاه رسول بارئ النسم‬

‫بعث صلى ال عليه وسلم معلما الناس يعلم الناس مكارم الخلق ومعالي المور وأشرف‬
‫الخصال وأنبل السجايا‪.‬‬

‫فعلّم صلى ال عليه وسلم بوعظه الذي كان يهز به القلوب فكأنه منذر جيش يقول صبّحكم‬
‫ومساكم‪ ،‬وكان إذا وعظ عل صوته واشتدّ غضبه واحمرّت عيناه‪ ،‬فل تسمع إل بكاء ونحيبا‬
‫وحنينا وأنينا وتفجّعا وتوجعّا وندما وحسرة وتوبة ورجوعا وإنابة‪.‬‬

‫وعلّم صلى ال عليه وسلم بخطبه القيمة الناعة في مناسبات العبادات‪ ،‬فكانت فيضا من الهدى‬
‫ونهرا من النور‪ ،‬تزيد اليمان وترفع اليقين‪.‬‬

‫وعلّم صلى ال عليه وسلم بفتواه لمن سأله‪ ،‬فكان أفقه الناس وأعظمهم إجابة وأكثرهم إصابة‪،‬‬
‫وأعرفهم بما يصلح للسائل‪.‬‬

‫وعلّم صلى ال عليه وسلم بوصاياه ونصائحه التي تصل الى القلوب وتمل النفوس تقوى‬
‫وصلحا‪.‬‬

‫وعلّم بضرب المثال التي يعرفها الناس‪ ،‬وتوضيح المعاني بأمور محسوسة تقرب المعنى‬
‫وتزيل الشكال وترفع الوهم‪.‬‬

‫وعلّم صلى ال عليه وسلم بالقصص الجذاب الخلب الذي يثير في النفوس العجاب والنصات‬
‫والستجابة‪.‬‬
‫وعلّم صلى ال عليه وسلم بالقدوة الحية المتمثلة في سيرته العطرة وأخلقه السامية وخصاله‬
‫الجليلة التي أجمع على حسنها العقلء وأحبها التقياء واقتدى بها الولياء‪.‬‬

‫وأول كلمة نزلت عليه صلى ال عليه وسلم كلمة "اقرأ"‪ ،‬وهي من أعظم أدلة فضل العلم وقيمة‬
‫المعرفة‪ ،‬وأمره ال أن يقول‪ :‬رب زدني علما‪ ،‬ولم يأمره بطلب زيادة إل من العلم لنه طريق‬
‫الرضوان وباب التوفيق وسبيل الفلح‪ ،‬وامتنّ عليه ربّه بأن علّمه ما لم يكن يعلم من المعارف‬
‫اليمانية والفتوحات الربانية والمواهب اللهية‪ ،‬وقال له ربه‪ {:‬فَاعَْلمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ } محمد ‪.19‬‬
‫فبدأ بالعلم قبل القول والعمل‪ ،‬فكان صلى ال عليه وسلم أسوة العلماء وقدوة طلبةا لعلم في‬
‫الستزادة من العلم النافع والعمل الصالح‪ ،‬وقال‪ ":‬مثل ما بعثني ال به من الهدى والعلم كمثل‬
‫الغيث" أخرجه البخاري ‪ 79‬ومسلم ‪ .2282‬فكانت مهمته الكبرى تعليم الكتاب والحكمة‪َ {:‬و ُيعَّلمُهُمُ‬
‫ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِح ْكمَةَ} البقرة ‪ .129‬حتى خرج من أصحابه صلى ال عليه وسلم علماء وفقهاء وحكماء‬
‫ومفسرون ومحدّثون ومفتون وخطباء ومربّون ملؤوا الدنيا علما وحكما ورشدا واستفاقة‪:‬‬

‫فكلهم من رسول ال ملتمس‬


‫غرفا من البحر أو رشفا من الديم‬

‫وقد حثّ عليه الصلة والسلم على العلم ونشره وتعليمه فقال كما في حجة الوداع‪ ":‬فليبلغ‬
‫الشاهد الغائب‪ ،‬فرب مبلغ أوعى من سامع" أخرجه البخاري [‪ ]7078 ،1741‬ومسلم ‪ 1679‬عن‬
‫أبي بكرة رضي ال عنه‪ .‬وقال‪ ":‬نضر ال امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها‪ ،‬فرب‬
‫حامل فقه الى من هو أفقه منه" أخرجه الترمذي ‪ 2658‬عن ابن مسعود رضي ال عنه وانظر‪:‬‬
‫كشف الخفاء ‪ .423\2‬وقال‪ ":‬بلّغوا عني ولو آية" أخرجه البخاري ‪ 3461‬عن عبدال بن عمرو‬
‫رضي ال عنهما‪ .‬وكانت حياته صلى ال عليه وسلم كلها تعليما لمته‪ ،‬فصلته وصيامه وصدقته‬
‫وحجه وذكره لربه وكلمه وقيامه وقعوده وأكله وشربه‪ ،‬كل هذا تعليم وأسوة لمن آمن به واتبعه‪،‬‬
‫وكان صلى ال عليه وسلم يتدرّج في التعليم‪ ،‬فما كان يلقي العلم على أصحابه جملة واحدة بل‬
‫حدَ ًة كَذَِلكَ‬
‫جمْلَةً وَا ِ‬
‫ن ُ‬
‫ل عََليْهِ ا ْلقُرْآ ُ‬
‫س عَلَى ُمكْثٍ} السراء ‪َ{ ،106‬لوْلَا نُزّ َ‬
‫شيئا فشيئا {فَ َر ْقنَاهُ ِلتَقْرََأ ُه عَلَى النّا ِ‬
‫ل (‪ } )32‬الفرقان‪ .‬فكان يمتثل هذا في تدريسه لصحابه‪ ،‬وكان يبدأ‬ ‫ت بِهِ فُؤَادَكَ وَ َرتّ ْلنَا ُه تَ ْرتِي ً‬
‫ِلُن َثبّ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم بكبار المسائل والهم فالمهم‪ ،‬ويكرر المسألة حتى تفهم عنه‪ ،‬ويعلّم تعليما‬
‫علميا بالقدوة‪ ،‬كالوضوء أمام الناس ليأخذوا عنه‪ ،‬وصلته لهم ليصلوا كصلته‪ ،‬وقوله‪ ":‬صلوا‬
‫كما رأيتموني أصلي" أخرجه البخاري ‪ 631‬عن مالك بن الحويرث رضي ال عنه‪ .‬وحجه بهم‬
‫وقوله‪ ":‬لتأخذوا عني مناسككم" أخرجه مسلم ‪ 1297‬عن جابر بن عبدال رضي ال عنهما‪.‬‬

‫**‬

‫ت ّم والحمد ل‬

You might also like