You are on page 1of 12

‫صور من ابتلء العلماء‬

‫وحيد عبد السلم بالي‬


‫مواقف مشرقة من تاريخ امتنا السلمية‬
‫مكتبة السلم ‪ -‬دار ابن حزم‬

‫يوم ينفخ في الصور‪ ,‬وأما العود فشجرة قطعت من‬ ‫بين سعيد بن جبير والحجاج الثقفي‬
‫غير حق!! وأما الوتار فمن الشاة تبعث يوم القيامة!!‪.‬‬
‫قال الحجاج‪ :‬ويلك يا سعيد‪.‬‬ ‫كان الحجاج بن يوسف‪ ,‬فاسق بني ثقيف‪ ,‬واليا لعبد‬
‫فقال ل ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة‪.‬‬ ‫الملك‪ ,‬يأخذ بالشبهات ويتحرى المناوئين في جميع‬
‫قال الحجاج‪ :‬اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟‪.‬‬ ‫البلد السلمية لحكم أميره وسيده‪ .‬فيصب المحن‬
‫فقال‪ :‬اختر أنت لنفسك فوالله ل تقتلني قتلة إل قتلك‬ ‫عليهم دون هوادة ول خوف من الله المقتدر الجبار‪,‬‬
‫الله مثلها في الخرة‪.‬‬ ‫وكان خالد بن عبد الملك القسري واليا على مكة‬
‫قال‪ :‬أتريد أن أعفو عنك؟‪.‬‬ ‫المكرمة وقد علم بوجود ابن جبير في وليته فألقى‬
‫فقال‪ :‬إن كان العفو فمن الله‪ ,‬وأما أنت فل براءة لك‬ ‫القبض عليه واعتقله‪ ,‬ثم أراد أن يتخلص منه فأرسله‬
‫ول عذر‪.‬‬ ‫مخفورا مع إسماعيل بن واسط البجلي إلي الحجاج بن‬
‫قال الحجاج‪ :‬اذهبوا به فاقتلوه‪ ,‬فلما خرج ضحك فأخبر‬ ‫يوسف‪.‬‬
‫الحجاج بذلك فردوه إليه‪.‬‬ ‫قال الحجاج‪ :‬ما أسمك؟‬
‫وقال‪ :‬ما أضحكك؟‪.‬‬ ‫سعيد‪ :‬سعيد بن جبير‪.‬‬
‫فقال‪ :‬عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك‪.‬‬ ‫الحجاج‪ :‬بل أنت شقي بن كسير‪.‬‬
‫فأمر بالنطع فبسط‪.‬‬ ‫سعيد‪ :‬بل كانت أمي أعلم باسمي منك‪.‬‬
‫وقال‪ :‬اقتلوه‪.‬‬ ‫الحجاج‪ :‬شقيت أمك وشقيت أنت‪.‬‬
‫فقال سعيد‪ :‬وجهت وجهي للذي فطر السموات‬ ‫سعيد‪ :‬الغيب يعلمه غيرك‪.‬‬
‫والرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين‪.‬‬ ‫الحجاج‪ :‬ل بد لك بالدنيا نارا تلظى‪.‬‬
‫قال الحجاج‪ :‬وجهوا به لغير القبلة‪.‬‬ ‫سعيد‪ :‬لو علمت أن ذلك بيدك لتخذتك إلها‪.‬‬
‫م وجه الله‪.‬‬‫قال سعيد‪ :‬فأينما تولوا فث ّ‬ ‫الحجاج‪ :‬ما قولك في محمد؟‪.‬‬
‫قال الحجاج‪ :‬كبوه على وجهه‪.‬‬ ‫سعيد‪ :‬نبي الرحمة وإمام الهدى‪.‬‬
‫قال سعيد‪ :‬منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم‬ ‫الحجاج‪ :‬ما قولك في علي‪ ,‬أهو في الجنة أم هو في‬
‫تارة أخرى‪.‬‬ ‫النار؟‪..‬‬
‫قال الحجاج‪ :‬اذبحوه‪.‬‬ ‫سعيد‪ :‬لو دخلتها وعرفت من فيها‪ ,‬عرفت أهلها‪.‬‬
‫قال سعيد‪ :‬أما أنا فأشهد أن ل اله إل الله وحده ل‬ ‫الحجاج‪ :‬ما قولك في الخلفاء؟‪.‬‬
‫شريك له وأن محمدا عبده ورسوله‪ ,‬خذها مني حتى‬ ‫سعيد‪ :‬لست عليهم بوكيل‪.‬‬
‫تلقاني بها يوم القيامة‪ ,‬اللهم ل تسلطه على أحد يقتله‬ ‫الحجاج‪ :‬فأيهم أعجب إليك؟‪.‬‬
‫بعدي‪.‬‬ ‫سعيد‪ :‬أرضاهم لخالقي‪.‬‬
‫)وفيّات العيان ‪.)371\2‬‬ ‫الحجاج‪ :‬فأيهم أرضى للخالق؟‪.‬‬
‫سعيد‪ :‬علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬أحب أن تصدقني‪.‬‬
‫بين حطيط والحجاج‬ ‫سعيد‪ :‬إن لم أحبك لن أكذبك‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬فما بالك لم تضحك؟‪.‬‬
‫جيء بالعالم حطيط الزيات إلي الحجاج‪ ,‬فلما دخل‬ ‫سعيد‪ :‬وكيف يضحك مخلوق خلق من طين‪ ,‬والطين‬
‫عليه‪..‬‬ ‫تأكله النار!!‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنت حطيط‪.‬‬ ‫الحجاج‪ :‬فما بالنا نضحك؟‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫سعيد‪ :‬لم تستو القلوب‪.‬‬
‫ما بدا لك‪ ,‬فإني عاهدت الله عند‬‫قال حطيط‪ :‬سل ع ّ‬ ‫ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت‪ ,‬فجمعه بين‬
‫المقام على ثلث خصال‪ :‬إن سئلت لصدقن‪ ,‬وإن‬ ‫يديه‪.‬‬
‫ابتليت لصبرن‪ ,‬وإن عوفيت لشكرن‪.‬‬ ‫قال سعيد‪ :‬إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم‬
‫ي؟‪.‬‬‫قال الحجاج‪ :‬فما تقول ف ّ‬ ‫القيامة فصالح وإل ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة‬
‫قال‪ :‬أقول فيك أنك من أعداء الله في الرض تنتهك‬ ‫عما أرضعت‪ ,‬ول خير في شيء من الدنيا إل ما طاب‬
‫المحارم وتقتل بالظنة‪.‬‬ ‫وزكا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن‬ ‫ثم دعا الحجاج بالعود والناي‪ ,‬فلما ضرب بالعود ونفخ‬
‫مروان؟‬ ‫بالناي بكى سعيد‪.‬‬
‫قال‪ :‬أقول أنه أعظم جرما منك‪ ,‬وإنما أنت خطيئة من‬ ‫فقال‪ :‬ما يبكيك؟ أهو اللعب؟‪.‬‬
‫خطاياه‪.‬‬ ‫قال سعيد‪ :‬هو الحزن‪ ,‬أما النفخ فذكرني يوما عظيما‬
‫الوجوه ما نظرت إليها مذ أربعين سنة‪ . 1‬ومنعوا الناس‬ ‫فأمر الحجاج أن يضعوا عليه العذاب‪ ,‬فانته به العذاب‬
‫أن يجالسوه فكان من ورعه إذا جاء إليه أحد يقول له‬ ‫إلى أن شقق له القصب‪ ,‬ثم جعلوه على لحمه وشدوه‬
‫قم من عندي‪ ,‬كراهية أن بسببه‪.‬‬ ‫بالحبال ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة‪ ,‬حتى انتحلوا‬
‫)وفيات العيانن ‪ , 377\2‬وسير أعلم النبلءن ‪ , 231\4‬والحليةن ‪\2‬‬ ‫لحمه‪ ,‬فما سمعوه يقول شيئا‪ ,‬فقيل للحجاج أنه في‬
‫آخر رمق‪.‬‬
‫‪.)170‬‬
‫فقال‪ :‬أخرجوه فارموا به في السوق‪.‬‬
‫قال جعفر (وهو الراوي)‪ :‬فأتيته أنا وصاحب له‪ ,‬فقلنا‬
‫بين أبي حازم وسليمان بن عبد الملك‬ ‫له‪ :‬يا حطيط ألك حاجة؟‪.‬‬
‫قال‪ :‬شربة ماء‪.‬‬
‫حين قدم سليمان بن عبد الملك المدينة وهو يريد‬ ‫فأتوه بشربة ثم استشهد‪ ,‬وكان عمره ثماني عشرة‬
‫مكة‪ ,‬أرسل إلى عالمها الجليل أبي حازم فلما دخل‬ ‫سنة رحمه الله‪.‬‬
‫عليه قال سليمان‪ :‬يا أبا حازم‪ ,‬ما لنا نكره الموت؟‪.‬‬ ‫)الحياء الجزء الخامس ص ‪.)54‬‬
‫فقال‪ :‬لنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم‪ ,‬فكرهتم‬
‫أن تنقلوا من العمران إلى الخراب‪.‬‬
‫بين سعيد بن المسيّب وهشام بن إسماعيل‬
‫فقال سليمان‪ :‬كيف القدوم على الله؟‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ,‬أما المحسن كالغائب يقدم على‬
‫أهله‪ ,‬وأما المسيء فكالبق يقدم على موله‪.‬‬ ‫قال يحيى بن سعيد‪ ,‬كتب هشام بن إسماعيل والي‬
‫فبكى سليمان وقال‪ :‬ليت شعري‪ ,‬ما لي عند الله؟‪.‬‬ ‫المدينة إلى عبد الملك بن مروان أن أهل المدينة قد‬
‫قال أبو حازم‪ :‬اعرض نفسك على كتاب الله حيث‬ ‫أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إل سعيد بن‬
‫قال‪ {:‬إن البرار لفي نعيم وان الفجار لفي جحيم}‪.‬‬ ‫المسيّب‪.‬‬
‫قال سليمان‪ :‬فأين رحمة الله؟‪.‬‬ ‫فكتب أن اعرضه على السيف‪ ,‬فان مضى فاجلده‬
‫قال‪ :‬قريب من المحسنين‪.‬‬ ‫خمسين جلدة وطف به في أسواق المدينة‪ ,‬فلما قدم‬
‫قال‪ :‬يا أبا حازم أي عباد الله أكرم؟‪.‬‬ ‫الكتاب على الوالي‪ ,‬دخل سليمان بن يسار وعروة بن‬
‫فقال‪ :‬أهل البر والتقوى‪.‬‬ ‫الزبير وسالم بن عبد الله على سعيد بن المسيّب‬
‫قال‪ :‬فأي العمال أفضل؟‪.‬‬ ‫وقالوا‪ :‬جئناك في أمر؛ قد قدم كتاب عبد الملك إن لم‬
‫فقال‪ :‬أداء الفرائض مع اجتناب المحارم‪.‬‬ ‫تبايع ضربت عنقك‪ ,‬ونحن نعرض عليك خصال ثلثا‬
‫قال‪ :‬أي الكلم أسمع؟‪.‬‬ ‫فأعطنا إحداهن‪ ,‬فان الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك‬
‫فقال‪ :‬قول الحق عند من تخاف وترجو‪.‬‬ ‫الكتاب فل تقل ل ول نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأي المؤمنين أخسر؟‪.‬‬ ‫قال‪ :‬يقول الناس بايع سعيد بن المسيّب‪ ,‬ما أنا بفاعل‪.‬‬
‫فقال‪ :‬رجل أخطأ في هوى أخيه وهو ظالم‪ ,‬فباع آخرته‬ ‫وكان إذا قال (ل) لم يستطيعوا أن يقولوا نعم‪.‬‬
‫بدنياه‪.‬‬ ‫قالوا‪ :‬تجلس في بيتك ول تخرج إلى الصلة أياما‪ ,‬فانه‬
‫قال سليمان‪ :‬ما تقول فيما نحن فيه؟‪.‬‬ ‫يقبل منك إذا طلبك من مجلسك فل يجدك‪.‬‬
‫فقال‪ :‬أو تعفيني؟‪.‬‬ ‫ي‬
‫ي على الصلة ح ّ‬ ‫قال‪ :‬أنا أسمع الذان فوق أذني ح ّ‬
‫ى‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل بد‪ ,‬فإنها نصيحة تلقيها إل َّ‬ ‫على الصلة‪ ,‬ما أنا بفاعل‪.‬‬
‫فقال‪ :‬إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا‬
‫الملك عنوة من غير مشورة المسلمين ول رضا منهم‪,‬‬
‫حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وقد ارتحلوا فل شعرت‬ ‫قالوا‪ :‬فانتقل من مجلسك إلى غيره‪ ,‬فانه يرسل إلى‬
‫بما قالوا وما قيل لهم‪.‬‬ ‫مجلسك فان لم يجدك أمسك عنك‪.‬‬
‫فقال رجل من جلسائه‪ :‬بئسما قلت‪.‬‬ ‫قال‪ :‬أفرقا من مخلوق!! ما أنا متقدم شبرا ول متأخر‪.‬‬
‫قال أبو حازم‪ :‬إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء‬ ‫فخرجوا وخرج إلى صلة الظهر فجلس في مجلسه‬
‫ليبيننه للناس ول يكتمونه‪.‬‬ ‫الذي كان فيه‪ ,‬فلما صلى الوالي بعث إليه فأتي به‪.‬‬
‫فقال سليمان‪ :‬يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح للناس؟‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا‬
‫قال‪ :‬تدع الصلف وتستمسك بالعروة وتقسم بالسويّة‪.‬‬ ‫عنقك‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف المأخذ به؟‪.‬‬ ‫قال‪ :‬نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين‪:‬‬
‫قال‪ :‬أن تأخذ المال في حقه وتضعه في أهله‪.‬‬ ‫بيعة للوليد ومثلها لسليمان في وقت واحد‪ ,‬فلما رآه‬
‫ي حوائجك؟‪.‬‬ ‫قال‪ :‬يا أبا حازم ارفع إل ّ‬ ‫لم يجب أخرج إلى السدة فمدت عنقه وسلّت‬
‫قال‪ :‬تنجيني من النار وتدخلني الجنة؟‪.‬‬ ‫السيوف‪ ,‬فلما رآه قد مضى أمر به فجّرد فإذا عليه‬
‫ي‪.‬‬
‫قال‪:‬ليس ذلك إل ّ‬ ‫ثياب من شعر‪.‬‬
‫قال‪ :‬فل حاجة لي غيرها‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬لو علمت ذلك ما اشتهرت بهذا الشأن‪ ,‬فضربه‬
‫ثم قام فأرسل إليه بمائة دينار فردها إليه ولم يقبلها‪.‬‬ ‫خمسين سوطا ثم طاف به أسواق المدينة‪ .‬فلما ردّوه‬
‫والناس منصرفين من صلة العصر قال‪ :‬إن هذه‬

‫‪ 1‬لنه كان ل ينظر إلى قفا رجل في الصلة‪ .‬إذ كان‬


‫يصلي في الصف الول ولم تفته تكبيرة الحرام رضي‬
‫الله عنه‪.‬‬
‫(وفيات العيان ‪.)423\2‬‬
‫بين مكحول ويزيد بن عبد الملك‬
‫بين عالم وسليمان بن عبد الملك‬
‫جلس التابعي الجليل مكحول عالم أهل الشام في‬
‫مجلسه يلقي درسه كعادته وحوله طلب العلم يأخذون‬ ‫دخل أحدهم على سليمان بن عبد الملك‪ ,‬فقال له‬
‫عنه‪ ,‬إذ أقبل الخليفة الموي يزيد بن عبد الملك في‬ ‫سليمان‪ :‬تكلّم‪.‬‬
‫زينته وتبختره وجاء إلى حلقة مكحول‪ ,‬فأراد الطلب‬ ‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين اني مكلمك بكلم فاحتمله وان‬
‫أن يوسعوا له‪.‬‬ ‫كرهته‪ ,‬فان وراءه ما تحب إن قبلته‪.‬‬
‫فقال مكحول‪ :‬دعوه يتعلم التواضع‪.‬‬
‫(سير أعلم النبلء ‪.)150\5‬‬ ‫فقال‪ :‬إنا نجود بسعة الحتمال على من نرجو نصحه ول‬
‫نأمن غشه‪ ,‬فكيف بمن نأمن غشه ونرجو نصحه‪.‬‬
‫بين طاووس وهشام بن عبد الملك‬ ‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين انه تكنّفك رجال أساءوا الختيار‬
‫لنفسهم وابتاعوا دنياهم بدينهم‪ ,‬ورضاك بسخط ربهم‪,‬‬
‫إن هشام بن عبد الملك قدم حاجا إلى مكة فلما‬ ‫خافوك في الله تعالى ولم يخافوا الله فيك‪ ,‬حرب‬
‫دخلها قال‪ :‬ائتوني برجل من الصحابة‪.‬‬ ‫الخرة سلم الدنيا‪ ،‬فل تأمنهم على من ائتمنك الله‬
‫فقيل‪ :‬يا أمير المؤمنين قد تفانوا‪.‬‬ ‫مة‬‫عليه‪ ,‬فانهم لم يألوا في المانة تضييعا وفي ال ّ‬
‫فقال‪ :‬من التابعين‪.‬‬ ‫خسفا وعسفا‪ ,‬وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا‬
‫فأتي بطاووس اليماني العالم الجليل رحمه الله‪.‬‬ ‫بمسؤولين عما اجترحت‪ ,‬فل تصلح دنياهم بفساد‬
‫فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم‬ ‫آخرتك‪ ,‬فان أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا‬
‫عليه بإمرة المؤمنين‪.‬‬ ‫غيره‪.‬‬
‫ولكن قال‪ :‬السلم عليك يا هشام‪ .‬ولم يكنه وجلس‬ ‫فقال له سليمان‪ :‬أما أنك قد سللت لسانك وهو أقطع‬
‫بازائه‪.‬‬ ‫من سيفك‪.‬‬
‫وقال‪ :‬كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضبا شديدا‬ ‫قال‪ :‬أجل يا أمير المؤمنين ولكن ل عليك‪.‬‬
‫م بقتله‪.‬‬‫حتى ه ّ‬ ‫)الحياء الجزء الخامس ص ‪.)122‬‬
‫فقيل له‪ :‬أنت في حرم الله وحرم رسوله‪ ,‬ول يمكنك‬
‫ذلك‪.‬‬ ‫بين غلم وعمر بن عبد العزيز‬
‫فقال‪ :‬يا طاووس‪ ,‬ما الذي حملك على ما صنعت؟‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما الذي صنعت‪.‬‬ ‫ي الخلفة عمر بن عبد العزيز‪ ,‬وفدت الوفود من‬ ‫لما ول ّ‬
‫قال هشام‪ :‬خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبّل‬ ‫كل بلد لبيان حاجتها وللتهنئة‪ ,‬فوفد عليه الحجازيون‬
‫يدي ولم تسلم بإمرة المؤمنين ولم تكنني وجلست‬ ‫فتقدم غلم هاشمي للكلم وكان حديث السن‪.‬‬
‫بازائي دون إذني وقلت كيف أنت يا هشام؟!‪.‬‬ ‫ن منك‪.‬‬ ‫فقال عمر‪ :‬لينطق من هو أس ّ‬
‫فقال‪ :‬أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك‬ ‫فقال الغلم‪ :‬أصلح الله أمير المؤمنين‪ ,‬إنما المرء‬
‫فإني أخلعها بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات‬ ‫بأصغريه‪ :‬قلبه ولسانه‪ ,‬فإذا منح الله عبدا لسانا لفظا‬
‫ي‪ ,‬وأما قولك لم تقب ّل يدي‬ ‫ول يعاقبني ول يغضب عل ّ‬ ‫وقلبا حافظا استحق الكلم وعرف فضله من سمع‬
‫فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‬ ‫خطابه‪ ,‬ولو أن المر يا أمير المؤمنين بالسن لكان في‬
‫ل لرجل أن يقبّل يد أحد إل امرأته‬ ‫الله عنه يقول‪ :‬ل يح ّ‬ ‫المة من هو أحق بمجلسك من هذا منك‪.‬‬
‫من شهوة أو ولده من رحمة‪.‬‬ ‫فقال عمر‪ :‬صدقت‪ ,‬قل ما بدا لك‪.‬‬
‫ي بإمرة المؤمنين فليس كل‬ ‫وأما قولك لم تسلم عل ّ‬ ‫فقال الغلم‪ :‬أصلح الله أمير المؤمنين‪ :‬ونحن وفد تهنئة‬
‫الناس راضين بإمرتك‪ ,‬فكرهت أن أكذب‪ ,‬وأما قولك‬ ‫ن علينا بك‪,‬‬‫ن الله الذي م ّ‬ ‫ل وفد مرزئة‪ ,‬وقد أتيناك لم ّ‬
‫مى أنبياءه وأولياءه فقال يا داود‬ ‫لم تكنني فان الله س ّ‬ ‫ولم يقدمنا إليك إل رغبة ورهبة‪.‬‬
‫ويا يحيى ويا عيسى‪ ,‬وكن ّى أعداءه فقال تب ّت يدا أبي‬ ‫أما الرغبة فقد أتيناك من بلدنا‪ ،‬وأما الرهبة فقد أمنا‬
‫لهب وتب‪ .‬وأما قولك جلست بازائي فإني سمعت أمير‬ ‫جورك بعدلك‪.‬‬
‫المؤمنين عليا رضي الله عنه يقول‪ :‬إذا أردت أن تنظر‬ ‫فقال عمر‪ :‬عظني يا غلم‪.‬‬
‫إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله‬ ‫فقال‪ :‬أصلح الله أمير المؤمنين‪ ,‬إن ناسا من الناس‬
‫قوم قيام‪.‬‬ ‫غّرهم حلم الله عنهم وطول أملهم وكثرة ثناء الناس‬
‫فقال هشام‪ :‬عظني‪.‬‬ ‫عليهم‪ ,‬فزلّت بهم القدام فهووا في النار‪.‬‬
‫قال‪ :‬سمعت أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه يقول‪:‬‬ ‫فل يغّرنك حلم الله عنك وطول أملك وكثرة ثناء الناس‬
‫إن في جهن ّم حيّات كالقلل وعقارب كالبغال تلدغ كل‬ ‫عليك‪ ,‬فتزل قدمك فتلحق بالقوم‪.‬‬
‫أمير ل يعدل في رعيّته‪ .‬ثم قام وخرج‪.‬‬ ‫فل جعلك الله منهم وألحقك بصالحي هذه المة‪.‬‬
‫)وفيّات العيان ‪.)510\2‬‬ ‫ثم سكت‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬كم عمر الغلم؟‬
‫بين طاووس وابن نجيح‬ ‫فقيل له ابن إحدى عشرة سنة‪ ,‬ثم سأل عنه فإذا هو‬
‫من ولد سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهم‪ ,‬فأثنى‬
‫عن ابن طاووس قال‪ :‬كنت ل أزال أقول لبي أنه‬ ‫عليه خيرا ودعا له‪.‬‬
‫ينبغي أن يخرج على هذا السلطان‪ ,‬وإن يفعل به‪.‬‬
‫عن المام الشافعي رحمه الله تعإلى‪ ,‬قال‪ :‬حدثني‬ ‫قال‪ :‬فخرجنا حجاجا فنزلنا في بعض القرى وفيها عامل‬
‫عمي محمد بن علي قال‪ :‬اني لحاضر مجلس أمير‬ ‫_يعني لمير اليمن_ يقال له ابن نجيح وكان من أخبث‬
‫المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب وكان‬ ‫مالهم‪ ,‬فشهدنا صلة الصبح في المسجد‪ ,‬فجاء ابن‬ ‫ع ّ‬
‫والي المدينة الحسن بن يزيد‪.‬‬ ‫نجيح فقعد بين يدي طاووس فسلم عليه فلم يجبه‪ ,‬ثم‬
‫قال‪ :‬فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبي جعفر شيئا من‬ ‫كلمه فأعرض عنه‪ ,‬ثم عدل إلى الشق الخر فأعرض‬
‫أمر الحسن بن يزيد‪.‬‬ ‫عنه‪ ,‬فلما رأيت ما به قمت إليه فمددت يده وجعلت‬
‫فقال الحسن‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ,‬سل عنهم ابن أبي‬ ‫أسائله‪ ,‬وقلت له‪ :‬إن أبا عبد الرحمن لم يعرفك‪ ,‬فقال‬
‫ذؤيب‪.‬‬ ‫العامل‪ :‬بلى‪ ,‬معرفته لي فعلت ما رأيت‪ .‬قال‪ :‬فمضى‬
‫قال‪ :‬نسأله‪.‬‬ ‫أبي ل يقول لي شيئا فلما دخلت المنزل قال‪ :‬أي لكع‬
‫فقال‪ :‬ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب؟‪.‬‬ ‫بينما أنت زعمت تريد أن تخرج عليهم بسيفك لم‬
‫فقال‪ :‬أشهد أنهم يحطمون في أعراض الناس‪ ,‬كثيرو‬ ‫تستطع أن تحبس عنه لسانك‪.‬‬
‫الذى عليهم‪.‬‬ ‫(سير أعلم النبلء ‪.)41\5‬‬
‫فقال أبو جعفر‪ :‬أفسمعتم؟‪.‬‬
‫فقال الغفاريون‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ,‬سله عن الحسن بن‬ ‫بين طاووس وسليمان بن عبد الملك‬
‫يزيد‪.‬‬
‫فقال‪ :‬يا ابن أبي ذؤيب‪ ,‬ما تقول في الحسن بن يزيد؟‪.‬‬ ‫جاء الخليفة سليمان بن عبد الملك يوما إلى طاووس‬
‫فقال‪ :‬أشهد أنه يحكم بغير الحق ويتبع هواه‪.‬‬ ‫فلم ينظر إليه فقيل له في ذلك‪.‬‬
‫فقال‪ :‬سمعت يا حسن ما قال فيك وهو الشيخ‬ ‫فقال‪ :‬أردت أن يعلم أن لله رجال يزهدون فيما لديه‪.‬‬
‫الصالح؟‪.‬‬
‫(وفيات العيان ‪.)424\2‬‬
‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ,‬سله عن نفسك‪.‬‬
‫ي؟‪.‬‬‫فقال‪ :‬ما تقول ف ّ‬
‫قال‪ :‬تعفيني يا أمير المؤمنين‪.‬‬ ‫بين طاووس والمنصور‬
‫قال‪ :‬أسألك بالله إل أخبرتني؟‪.‬‬
‫قال‪ :‬تسألني بالله كأنك لم تعرف نفسك!!‪.‬‬ ‫ورد أن أبا جعفر المنصور استدعى طاووس _أحد‬
‫قال‪ :‬والله لتخبرني؟‪.‬‬ ‫علماء عصره_ ومعه مالك بن أنس_ رحمهما الله‬
‫قال‪ :‬أشهد أنك أخذت المال من غير حقه فجعلته في‬ ‫تعالى‪ .‬فلما دخل عليه‪ ,‬أطرق ساعة ثم التفت إلى‬
‫غير أهله وأشهد أن الظلم ببابك فاش‪.‬‬ ‫طاووس‪.‬‬
‫قال‪ :‬فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا‬ ‫فقال له‪ :‬حدثني عن أبيك يا طاووس (ابن كيسان‬
‫ابن أبي ذؤيب فقبض عليه‪.‬‬ ‫التابعي)‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬أما والله لول أني جالس هاهنا لخذت فارس‬ ‫فقال‪ :‬حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫والروم والديلم والترك بهذا المكان منك‪.‬‬ ‫قال‪ ":‬أشد ّ الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله‬
‫قال‪ :‬فقال ابن أبي ذؤيب‪ :‬يا أمير المؤمنين قد ولّي أبو‬ ‫في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله"‪.‬‬
‫بكر وعمر وأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء‬ ‫فأمسك ساعة‪.‬‬
‫فارس والروم وأصغرا أنوفهم‪.‬‬ ‫قال مالك‪ :‬فضممت ثيابي مخافة أن يملني من دمه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فخلّى أبو جعفر قفاه وخلى سبيله‪.‬‬ ‫ثم التفت إليه أبو جعفر‪ ,‬فقال‪ :‬عظني يا طاووس‪.‬‬
‫قال‪ :‬والله لول أني أعلم أنك صادق لقتلتك‪.‬‬ ‫قال‪ :‬نعم يا أمير المؤمنين‪ ,‬إن الله تعإلى يقول‪ {:‬ألم‬
‫فقال ابن أبي ذؤيب‪ :‬والله يا أمير المؤمنين اني لنصح‬ ‫ترى كيف فعل ربك بعاد ارم ذات العماد التي لم‬
‫لك من ابنك المهدي‪.‬‬ ‫يخلق مثلها في البلد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد‬
‫قال‪ :‬فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لما انصرف من مجلس‬ ‫وفرعون ذي الوتاد الذين طغوا في البلد فأكثروا‬
‫المنصور لقيه سفيان الثوري‪.‬‬ ‫ب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك‬ ‫فيها الفساد فص ّ‬
‫فقال‪ :‬يا أبا الحارث‪ :‬لقد سّرني ما خاطبت به هذا‬ ‫لبالمرصاد}‪.‬‬
‫الجبار ولكن ساءني قولك له "ابنك المهدي"‪.‬‬ ‫قال مالك‪ :‬فضممت ثيابي مخافة أن يملني من دمه‪.‬‬
‫فقال‪ :‬يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي‪ ,‬كلنا كان‬ ‫فأمسك عنه ثم قال‪ :‬ناولني الدواة‪ ,‬فأمسك ساعة‬
‫في المهد‪.‬‬ ‫حتى اسود ّ ما بيننا وبينه‪ ,‬ثم قال‪ :‬يا طاووس‪ ,‬ناولني‬
‫)الحياء الجزء السابع ص ‪.)27‬‬ ‫هذه الدواة‪.‬‬
‫فأمسك عنه‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ما يمنعك أن تناولنيها؟‪.‬‬
‫بين الحسن البصري والحجاج الثقفي‬
‫فقال‪ :‬أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك‬
‫فيها‪ .‬فلما سمع ذلك قال‪ :‬قوما عني‪.‬‬
‫لما ولي الحجاج بن يوسف الثقفي العراق وطغى في‬ ‫قال طاووس‪ :‬ذلك ما كنا نبغ منذ اليوم‪.‬‬
‫وليته وتجبّر‪ ,‬كان الحسن البصري أحد الرجال القلئل‬ ‫قال مالك‪ :‬فما زلت أعرف لطاووس فضله‪.‬‬
‫الذين تصدوا لطغيانه وجهروا بين الناس بسوء أفعاله‬
‫)تذكرة الحفاظ ‪ .160\1‬وفيات العيان ‪.)511\2‬‬
‫وصدعوا بكلمة الحق في وجهه‪ ,‬من ذلك أن الحجاج‬
‫بنى لنفسه بناء في واسط‪ ,‬فلما فرغ منه نادى في‬
‫بين ابن أبي ذؤيب وأبي جعفر المنصور‬
‫أن يأتيه الله من القواعد فيهدمه على من بناه وأعان‬ ‫الناس أن يخرجوا للفرجة عليه والدعاء له بالبركة‪.‬‬
‫عليه‪ .‬فل تضيّعن ما قلدك الله من أمر هذه المة‬ ‫فلم يشأ الحسن أن يفو ّت على نفسه فرصة اجتماع‬
‫الرعية‪ ,‬فان القوة في العمل بإذن الله‪ ,‬ل تؤخر عمل‬ ‫الناس هذه‪ ,‬فخرج إليهم ليعظهم ويذكّرهم ويزهدهم‬
‫اليوم إلى الغد‪ ,‬فانك إذا فعلت ذلك أضعت‪ ,‬إن الجل‬ ‫بعرض الدنيا ويرغبهم بما عند الله عز وجل‪ ,‬ولما بلغ‬
‫دون المل‪ ,‬فبادر الجل بالعمل فانه ل عمل بعد الجل‪,‬‬ ‫المكان ونظر إلى جموع الناس وهي تطوف بالقصر‬
‫إن الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى ربه‬ ‫المنيف مأخوذة بروعة بنائه مدهوشة بسعة أرجائه‬
‫فأتم الحق فيما ولك الله وقلدك ولو ساعة من نهاره‪,‬‬ ‫مشدودة إلى براعة زخارفه‪ ,‬وقف فيهم خطيبا‪ ,‬وكان‬
‫ن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راع سعدت‬ ‫فا ّ‬ ‫في جملة ما قاله‪ :‬لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الخبثين‬
‫رعيّته‪ ,‬ول تزغ فتزيغ رعيّتك‪ ,‬وإياك والمر بالهوى‬ ‫فوجدنا أن فرعون شيد أعظم مما شيّد وبنى أعلى مما‬
‫والخذ بالغضب وذا نظرت إلى أمرين‪ ,‬أحدهما للخرة‬ ‫بنى ثم أهلك الله فرعون وأتى على ما بنى وشيّد‪.‬‬
‫والخر للدنيا فاختر أمر الخرة على الدنيا‪ ,‬فان الخرة‬ ‫ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه‪ ,‬وأن أهل‬
‫تبقى والدنيا تفنى ولكن من خشية على حذر‪ ,‬واجعل‬ ‫الرض قد غّروه‪..‬‬
‫الناس عندك في أمر الله سواء القريب والبعيد‪ ,‬ول‬ ‫ومضى يتدفق على هذا المنوال حتى أشفق عليه أحد‬
‫تخف في الله لومة لئم‪ ,‬وأحذر فان الحذر في بالقلب‬ ‫السامعين من نقمة الحجاج فقال له‪ :‬حسبك يا أبا‬
‫وليس باللسان‪ ,‬اتق الله فإنما التقوى بالتوقي‪ ,‬ومن‬ ‫سعيد‪ ..‬حسبك‪ ,‬فقال له الحسن‪ :‬لقد أخذ الله الميثاق‬
‫يتقي الله يتقه‪.‬‬ ‫على أهل العلم ليبيننه للناس ول يكتمونه‪.‬‬
‫اني أوصيك يا أمير المؤمنين بحفظ ما أستحفظك الله‪,‬‬ ‫وفي اليوم التالي دخل الحجاج إلى مجلسه وهو يتميز‬
‫ورعاية ما استرعاك الله‪ ,‬وأل تنظر في ذلك إل إليه‬ ‫من الغيظ وقال لجلسه‪ :‬تبا لكم وسحقا‪ ,‬يقوم عبد من‬
‫وله‪ ,‬فانك إن ل تفعل تتوع ّر عليك سهولة الهدى وتعمى‬ ‫عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما يشاء أن يقول ثم ل‬
‫في عينيك وتتخفى رسومه‪ ,‬ويضيق عليك رحبه‪ ,‬وتنكر‬ ‫يجد فيكم من يرد ّه أو ينكر عليه‪ ,‬والله لسقينّكم من‬
‫منه ما تعرف‪ ,‬وتعرف منه ما تنكر‪ ,‬فخاصم نفسك‬ ‫دمه يا معشر الجبناء‪ .‬ثم أمر بالسيف والنطع فأحضرا‪،‬‬
‫خصومة من الفلج لها ل عليها‪ ,‬فان الراعي المضيّع‬ ‫ودعا بالجلد فمثل واقفا بين يديه‪ ,‬ثم وجه إلى الحسن‬
‫يضمن ما هلك على يديه ما لو شاء رده عن مواطن‬ ‫البصري بعض شرطة وأمرهم أن يأتوا به‪ .‬وما هو إل‬
‫الهلكة بإذن الله‪.‬‬ ‫قليل حتى حضر الحسن‪ ،‬فشخصت إليه البصار‬
‫وأورده أماكن الحياة والنجاة فان ترك ذلك أضاعه وان‬ ‫ووجفت عليه القلوب‪ ,‬فلما رأى الحسن السيف والنطع‬
‫تشاغل بغيره كانت الهلكة عليه أسرع وبه آخذ‪ .‬وإذا‬ ‫والجلد حّرك شفتيه‪ ,‬ثم أقبل على الحجاج وعليه جلل‬
‫أصلح كان أسعد من هنالك بذلك‪ ,‬ووفاه الله أضعاف ما‬ ‫المؤمن وعزة المسلم ووقار الداعية إلى الله‪.‬‬
‫وفى له‪.‬‬ ‫فلما رآه الحجاج على حاله هذا هابه أشد الهيبة وقال‬
‫فاحذر أن تضيع رعيّتك فيستوفي ربها حقها منك‬ ‫له‪ :‬هاهنا يا أبا سعيد‪ ..‬هاهنا‪ ..‬ثم ما زال يوسع له‬
‫ويضيّعك بما أضعت أجرك‪ ,‬وإنما يدعم البنيان قبل أن‬ ‫ويقول‪ :‬هاهنا‪ ..‬الناس ينظرون إليه بدهشة واستغراب‬
‫ينهدم‪ ,‬وإنما لك من عملك ما عملت فيمن ول الله‬ ‫حتى أجلسه على فراشه‪.‬‬
‫أمره‪ ,‬فلست تنسى ول تغفل عنهم وعما يصلحهم‪,‬‬ ‫ولما أخذ الحسن مجلسه التفت إليه الحجاج وجعل‬
‫فليس يغفل عنك ول يضيع حقك من هذه الدنيا‪.‬‬ ‫يسأله عن بعض أمور الدين‪ ,‬والحسن يجيبه كل مسألة‬
‫وأوصيك في هذه الليالي واليام بكثرة تحريك لسانك‬ ‫بجنان ثابت وبيان ساحر وعلم واسع‪ .‬فقال له الحجاج‪:‬‬
‫في نفسك بذكر الله تسبيحا وتهليل وتمجيدا والصلة‬ ‫أنت سي ّد العلماء يا أبا سعيد‪ ,‬ثم دعا بغالية وطي ّب له‬
‫على رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة‬ ‫بها لحيته وودّعه‪.‬‬
‫وإمام الهدى‪.‬‬ ‫ولما خرج الحسن من عنده تبعه حاجب الحجاج وقال‬
‫(مقدمة كتاب الخراج للمام أبي يوسف القاضي)‪.‬‬ ‫له‪ :‬يا أبا سعيد لقد دعاك الحجاج بغير ما فعل بك‪,‬‬
‫وإني رأيتك عندما أقبلت ورأيت السيف والنطع‬
‫بين أبي حنيفة والمنصور )‪)1‬‬ ‫فحّركت شفتيك‪ ,‬فماذا قلت؟‪.‬‬
‫فقال الحسن‪ :‬لقد قلت‪ :‬يا ولي نعمتي وملذي عند‬
‫ي كما جعلت النار‬ ‫كربتي‪ ,‬اجعل نقمته بردا وسلما عل ّ‬
‫انتفض أهل الموصل على أبي جعفر المنصور‪ ,‬وقد‬
‫بردا وسلما على إبراهيم‪.‬‬
‫اشترط المنصور عليهم أنهم إن انتفضوا تحل دماؤهم‬
‫له‪ ,‬فجمع المنصور الفقهاء وفيهم المام أبو حنيفة‪.‬‬ ‫(صور من حياة التابعين ‪.)17\2‬‬
‫فقال‪ :‬أليس صحيحا أنه عليه السلم قال‪":‬المؤمنون‬
‫عند شروطهم"؟ وأهل الموصل قد شرطوا أل يخرجوا‬ ‫بين أبي يوسف القاضي وهارون الرشيد‬
‫ي‪ ,‬وقد خرجوا على عاملي وقد حلّت دماؤهم‪.‬‬ ‫عل ّ‬
‫فقال رجل منهم‪ :‬يدك مبسوطة عليهم وقولك مقبول‬ ‫عندما طلب هارون الرشيد من أبي يوسف القاضي‬
‫فيهم‪ ,‬فان عفوت فأنت أهل العفو وان عاقبت فبما‬ ‫وضع كتاب الخراج لم يفت القاضي أن يقدم النصيحة‬
‫يستحقون‪.‬‬ ‫للخليفة في مقدمة الكتاب فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ :‬إن‬
‫فقال لبي حنيفة‪ :‬ما تقول أنت يا شيخ؟ ألسنا في‬ ‫الله وله الحمد‪ ,‬قد قلّدك أمرا عظيما‪ ,‬ثوابه أعظم‬
‫خلفة نبوة وبيت أمان؟‪.‬‬ ‫الثواب‪ ,‬وعقابه أشد العقاب‪ ,‬قلدك أمر هذه المة‪,‬‬
‫فأجاب‪ :‬انهم شرطوا لك ما ل يملكون (وهو استحلل‬ ‫فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير‪ ,‬قد‬
‫دمائهم) وشرطت عليهم ما ليس لك‪ ,‬لن دم المسلم‬ ‫استرعاكهم الله وأتمنك عليهم وابتلك بهم وولك‬
‫أمرهم‪ ,‬وليس يلبث البنيان إذا أسس على غير التقوى‬
‫فقلت‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ":‬ل يح ّ‬
‫ل‬ ‫ل يحل إل بأحد معان ثلث‪.2‬‬
‫دم امرئ مسلم ال بإحدى ثلث‪ ,‬النفس بالنفس‪,‬‬ ‫فأمرهم المنصور بالقيام فتفرقوا فدعاه وحده‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫والثيّب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة"‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬يا شيخ‪ ,‬القول ما قلت‪ .‬انصرف إلى بلدك ول‬
‫فنكت أشد من ذلك‪.‬‬ ‫تفت الناس بما هو شين على إمامك فتبسط أيدي‬
‫ثم قال‪ :‬ما تقول في أموالهم؟‪.‬‬ ‫الخوارج‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن كانت في أيديهم فهي حرام عليك أيضا‪ ,‬وان‬ ‫)المناقب لبن الجوزي ج ‪ 2‬ص ‪.)17‬‬
‫كانت حلل فل تحل لك إل بطريق شرعي‪.‬‬
‫فنكت أشد ما ينكت قبل ذلك‪.‬‬
‫بين أبي حنيفة المنصور (‪)2‬‬
‫ثم قال‪ :‬أل نوليك القضاء؟‪.‬‬
‫ي في ذلك‪ ,‬اني‬ ‫قلت‪ :‬إن أسلفك لم يكونوا يشقون عل ّ‬
‫أحب ما ابتدأوني به من الحسان‪.‬‬ ‫أراد أبو جعفر المنصور أن يول ّ ي أبا حنيفة القضاء‬
‫فقال‪ :‬كأنك تحب النصراف؟‪.‬‬ ‫ن‪ ,‬فحلف أبو حنيفة أل يفعل‪,‬‬ ‫فأبى‪ ,‬فحلف عليه ليفعل ّ‬
‫ن‬ ‫عليه‬ ‫القيام‬ ‫يحتجن‬ ‫ن‬ ‫وه‬ ‫فقال‪ :‬إن من ورائي حرما‬ ‫فقال الربيع بن يونس الحاجب‪ :‬أل ترى أمير المؤمنين‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وسترهن وقلوبهن مشغولة بسببي‪.‬‬ ‫يحلف؟‪.‬‬
‫انتظرت رأسي أن يسقط بين يدي‪ ,‬فأمرني‬ ‫فقال أبو حنيفة‪ :‬أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر‬
‫بالنصراف‪.‬‬ ‫مني على كفارة أيماني‪ ,‬وأبى أن يلبّي المر‪.‬‬
‫قال الربيع‪ :‬رأيت المنصور ينازل أبا حنيفة في أمر‬
‫)مجلة العربي العدد ‪ 71‬سنة ‪ 1964‬م ‪ :‬الوزاعي فقيه أهل الشام)‪.‬‬
‫القضاء وهو يقول‪ :‬اتق الله ول ترعي أمانتك إل من‬
‫يخاف الله‪ ,‬والله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون‬
‫مأمون الغضب؟ لو اتجه الحكم عليك‪ ,‬ثم هددتني أن‬
‫تغرقني في الفرات أو تلي الحكم لخترت أن أغرق‪,‬‬
‫بين الوزاعي والمنصور‬ ‫ولك حاشية يحتاجون من يكرمهم لك‪ ,‬ول أصلح لذلك‬
‫فقال له‪ :‬كذبت أنت تصلح‪ ,‬فقال له‪ :‬قد حكمت لي‬
‫وهذا المام عبد الرحمن بن عمرو الوزاعي قال‬ ‫على نفسك‪ ,‬كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك‬
‫محدثا عن نفسه‪ :‬بعث إلى أبو جعفر المنصور أمير‬ ‫وهو كذاب؟!!‬
‫المؤمنين وأنا بالساحل‪ ,‬فأتيته‪ ,‬فلما وصلت إليه‬ ‫)وفيات العيان ‪)407\5‬‬
‫ي واستجلسني‪ ,‬ثم قال‬ ‫سلّمت عليه بالخلفة‪ ,‬فرد عل ّ‬
‫لي‪ :‬ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟‪.‬‬ ‫بين الوزاعي وعبد ال بن علي‬
‫قلت‪ :‬وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟‪.‬‬
‫قال‪ :‬أريد الخذ عنكم والقتباس منكم‪.‬‬ ‫لما دخل عبد الله بن علي دمشق‪ ,‬بعد أن أجلى بني‬
‫قلت‪ :‬انظر يا أمير المؤمنين انك ل تجهل شيئا مما‬ ‫أمي ّة عنها‪ ,‬طلب الوزاعي‪ ,‬فتغي ّب عنه ثلثة أيام‪ ،‬ثم‬
‫أقول‪.‬‬ ‫حضر بين يديه‪ ,‬قال الوزاعي‪ :‬دخلت عليه وهو على‬
‫قال‪ :‬وكيف ل أجهله وأنا أسألك عنه‪ ,‬وفيه وجهت إليك‬ ‫سريره وفي يده خيزرانة والمسودة عن يمينه وشماله‬
‫وأقدمتك له‪.‬‬ ‫معهم السيوف مصلتة‪ ,‬والغمد والحديد‪ ,‬فسلمت عليه‬
‫قلت‪ :‬أخاف أن تسمعه ثم ل تعمل به‪.‬‬ ‫فلم يرد‪ .‬نكت بتلك الخيزرانة التي في يده‪.‬‬
‫قال الوزاعي‪ :‬فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف‬ ‫ثم قال‪ :‬يا أوزاعي ما ترى فيما صنعناه من إزالة أيدي‬
‫فانتهره المنصور وقال‪ :‬هذا مجلس مثوبة ل مجلس‬ ‫أولئك الظلمة عن العباد والبلد؟ أجهادا ورباطا هو؟‬
‫عقوبة‪.‬‬ ‫فقلت‪ :‬أيها المير سمعت يحيى بن سعيد النطاري‬
‫فطابت نفسي وانبسطت في الكلم‪ ,‬فقلت‪ :‬يا أمير‬ ‫التيمي يقول‪ :‬سمعت محمد بن إبراهيم يقول سمعت‬
‫المؤمنين حدثني مكحول بن عطية بن بشر قال‪ :‬قال‬ ‫علقمة بن وقاص يقول‪ :‬قال عمر بن الخطاب رضي‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ":‬أيما عبد جاءته‬ ‫الله عن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سيقت‬ ‫يقول‪ ":‬إنما العمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى‪,‬‬
‫إليه‪ ,‬فان قبلها بشكر وإل كانت حجة من الله عليه‬ ‫فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله‪ ,‬فهجرته إلى الله‬
‫ليزداد إثما ويزداد الله بها سخطا عليه"‪.‬‬ ‫ورسوله‪ ,‬ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة‬
‫يا أمير المؤمنين‪ :‬من كره الحق فقد كره الله‪ ,‬إن الله‬ ‫‪3‬‬
‫ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"‪.‬‬
‫هو الحق المبين‪ ,‬إن الذي لي ّن قلوب أمتكم لكم حين‬
‫فنكت بالخيزرانة أشد ّ ما ينكت وجعل من حوله‬
‫ولكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه‬
‫يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم‪.‬‬
‫وسلم‪ ,‬وقد كان بهم رؤوفا رحيما مواسيا لهم بنفسه‬
‫ثم قال‪ :‬يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أميّة؟‪.‬‬
‫من ذات يده محمودا عند الله وعند الناس‪ ,‬فحقيق بك‬
‫أن تقوم له بالحق‪ ,‬وأن تكون بالقسط لهم فيهم قائما‪,‬‬
‫‪ 2‬يشير المام أبي حنيفة رحمه الله تعإلى إلى قوله‬
‫ولعوراتهم ساترا‪ ,‬ول تغلق عليك دونهم البواب ول تقم‬
‫ل دم امرئ مسلم ال‬ ‫عليه الصلة والسلم‪ ":‬ل يح ّ‬
‫دونهم الحجاب‪ ,‬تبتهج بالنعمة وتبتئس بما أصابهم من‬
‫بإحدى ثلث‪ :‬الثي ّ ب الزاني والنفس بالنفس والتارك‬
‫سوء‪.‬‬
‫لدينه المفارق للجماعة"‪ .‬متفق عليه‪.‬‬

‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪4‬‬


‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫قلت‪ :‬فما عذرك غدا إذا وقفت بين يدي الله تعإلى‬ ‫يا أمير المؤمنين‪ :‬قد كنت في شاغل من خاصة نفسك‬
‫ن عمر بن الخطاب رضي الله عنه‬ ‫فسألك عن ذلك؟ لك ّ‬ ‫عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم‬
‫لما حج قال لغلمه كم أنفقت في سفرنا هذا؟‪.‬‬ ‫وأسودهم ومسلمهم وكافرهم‪ .‬وكل له عليك نصيب‬
‫قال‪ :‬يا أمير المؤمنين ثمانية عشر دينارا‪.‬‬ ‫من العدل‪ ,‬فكيف إذا انبعث منهم فئام وراء فئام‪,‬‬
‫فقال‪ :‬ويحك أجحفنا بيت مال المسلمين‪.‬‬ ‫وليس منهم أحد إل وهو يشكو بلي ّ ة أدخلتها عليه‪,‬‬
‫وقد علمت ما حدثنا به منصور عن السود بن علقمة‬ ‫وظلمة سقتها إليه‪.‬‬
‫عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫يا أمير المؤمنين‪ :‬إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل‬
‫ب متخوّ ض في مال الله ومال رسوله فيما‬ ‫قال‪ ":‬ر ّ‬ ‫إليك‪ ,‬وكذا ل يبقى لك كما لم يبقى لغيرك‪.‬‬
‫شاءت نفسه له النار غدا"‪ ,‬فيقول أبو عبيد الكاتب‪:‬‬ ‫يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله‬
‫أمير المؤمنين يستقبل بمثل هذا؟‪.‬‬ ‫عنه قال‪":‬لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة‬
‫فيجيبه سفيان بقوة المؤمن وعزة المسلم‪ :‬اسكت‪,‬‬ ‫لخشيت أن أسأل عنها" فكيف بمن حرم عدلك وهو‬
‫إنما أهلك فرعون هامان وهامان فرعون‪.‬‬ ‫على بساطك؟ يا أمير المؤمنين‪ :‬قد سأل جدك العباس‬
‫)المسند للستاذ أحمد شاكر‪ :‬الجزء الول_ وفيات العيان ‪.)387\2‬‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم إمارة مكة أو الطائف أو‬
‫اليمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم‪ ":‬يا عباس يا‬
‫وهذا موقف ثان له‪:‬‬ ‫عم النبي! نفس تحييها خير من إمارة ل تحصيها"‪.‬‬
‫نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه ل يغني عنه‬
‫من الله شيئا إذ أوحى الله إليه‪ {:‬وأنذر عشيرتك‬
‫في يوم قال الخليفة المهدي للخيزران‪ :‬أريد أن‬
‫القربين}‪ ,‬فقال‪ :‬يا عباس‪ ,‬يا صفي ّة عمة النبي‪ ,‬ويا‬
‫ي‪ ,‬قال‪ :‬بلى‪,‬‬
‫ل لك أن تتزوج عل ّ‬ ‫أتزوج‪ ,‬فقالت له‪ :‬ل يح ّ‬
‫فاطمة بنت محمد‪ ,‬اني لست أغني عنكم من الله‬
‫قالت له‪ :‬بيني وبينك من شئت‪.‬‬
‫شيئا‪ ,‬لي عملي ولكم عملكم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أترضين سفيان الثوري؟‬
‫وقال عمر بن الخطاب المراء أربعة‪:‬‬
‫قالت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في‬
‫فوجه إلى سفيان فقال‪ :‬إن أم الرشيد تزعم أنه ل يحل‬
‫سبيل الله‪ ,‬يد الله باسطة عليه بالرحمة؛ وأمير فيه‬
‫لي أن أتزوج عليها وقد قال تعإلى‪ {:‬فأنكحوا ما طاب‬
‫ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا‬
‫لكم من النساء مثنى وثلث ورباع} ثم سكت‪ ,‬فقال‬
‫هلك إل أن يرحمه الله؛ وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه‬
‫له سفيان أتم الية‪ ,‬يريد قوله تعإلى‪ {:‬فان خفتم أل‬
‫فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله صلى الله‬
‫تعدلوا فواحدة}‪ ,‬وأنت ل تعدل‪.‬‬
‫عليه وسلم‪ ":‬ش ّر الرعاة الحطمة" فهو الهالك وحده؛‬
‫فأمر له بعشرة آلف درهم فأبى أن يقبلها‪.‬‬
‫وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعا‪.‬‬
‫)وفيات العيان ‪.)389\2‬‬ ‫ثم قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ,‬إن أشد ّ الشد ّ ة القيام لله‬
‫بحقه‪ ,‬وان أكرم الكرم عند الله التقوى‪ ,‬وانه من طلب‬
‫وهذا موقف ثالث له‪:‬‬ ‫العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه‪ ,‬ومن طلبه بمعصية‬
‫الله أذله الله ووضعه‪ ,‬فهذه نصيحتى إليك والسلم‬
‫قال القعقاع بن حكيم‪ :‬كنت عند المهدي وأتى سفيان‬ ‫عليك‪ .‬ثم نهضت فقال لي‪ :‬إلى أين؟‬
‫الثوري كبير علماء المسلمين في عصره‪ ,‬فلما دخل‬ ‫فقلت‪ :‬إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء‬
‫عليه سلّم ولم يسلّم بالخلفة‪ ,‬والربيع قائم على رأسه‬ ‫الله‪.‬‬
‫متكئ على سيفه يرقب أمره‪ ,‬فأقبل عليه المهدي‬ ‫فقال‪ :‬أذنت لك وشكرت نصحك وقبلتها‪.‬‬
‫بوجه طلق‪ ,‬وقال له‪ :‬يا سفيان انظر هاهنا وهاهنا‪ ,‬أو‬ ‫قال محمد بن مصعب‪ :‬فأمر له بمال يستعين به على‬
‫تظن أن لو أردناك بسوء لم نقدر عليك‪ ,‬فقد قدرنا‬ ‫خروجه فلم يقبله‪.‬‬
‫عليك الن‪ ,‬أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟‪.‬‬ ‫وقال‪ :‬أنا في غنى عنه وما كنت لبيع نصيحتي بعرض‬
‫ي يحكم فيك ملك قادر يفرق‬ ‫قال سفيان‪ :‬إن تحكم ف ّ‬ ‫الدنيا‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫بين الحق والباطل‪.‬‬ ‫وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك‬
‫فقال الربيع له‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ,‬ألهذا الجاهل أن‬
‫يستقبلك بمثل هذا؟ أتأذن لي أن أضرب عنقه؟‪.‬‬ ‫)روى هذه النصيحة الحافظ ابن أبي الدنيا في مواعظ الخلفاء)‪.‬‬
‫فقال له المهدي‪ :‬اسكت! ويلك‪ ,‬وهل يريد هذا وأمثاله‬
‫إل أن نقتلهم فنشقى لسعادتهم! اكتبوا عهده على‬
‫بين سفيان الثوري والخليفة المهدي‬
‫قضاء الكوفة على أن ل يعترض عليه في حكم‪ ,‬فكتب‬
‫عهده ورفعه إليه‪ ,‬فأخذه وخرج ورمى به في دجلة‬
‫وغاب عن أنظار الناس‪ ,‬فطلب في كل بلد فلم يوجد‬ ‫قال المام سفيان الثوري‪ :‬لما حج المهدي قال‪ :‬ل بد‬
‫فتولى القضاء مكانه شريك النخعي‪.‬‬ ‫لي من سفيان‪ ,‬فوضعوا لي الرصد حول البيت‪,‬‬
‫فأخذوني بالليل‪ .‬فلما مثلت بين يديه قال لي‪ :‬لي‬
‫)تذكرة الحفاظ ‪ ,160\1‬وفيات العيان ‪.)390\2‬‬
‫شيء ل تأتينا فنستشيرك في أمرنا؟ فما أمرتنا من‬
‫شيء صرنا إليه وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه‪.‬‬
‫وهذا موقف رابع له‪:‬‬ ‫فقلت له‪ :‬كم أنفقت في سفرك هذا؟‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل أدرى‪ ,‬لي أمناء ووكلء‪.‬‬
‫دخل على أبي جعفر المنصور‪ ,‬العالم الجليل سفيان‬
‫أي لم يغضب عليه‪.‬‬ ‫‪5‬‬
‫ادّعيت من حجة‪ ,‬أو ركبت من شبهة لم يصح لك فيها‬ ‫الثوري‪ ,‬وسأله أن يرفع إليه حاجته فأجابه‪ :‬اتق الله‬
‫برهان من الله‪ ,‬حل بك من سخط الله بقدر ما تجاهلته‬ ‫فقد ملت الرض ظلما وجورا‪ ,‬فطأطأ المنصور رأسه‬
‫من العلم أو أقدمت عليه من شبهة الباطل‪ ,‬واعلم أن‬ ‫ثم أعاد السؤال عليه‪ ,‬فأجابه‪ :‬إنما نزلت هذه المنزلة‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم خصم من خالف‬ ‫بسيوف المهاجرين والنصار‪ ,‬وأبناؤهم يموتون جوعا‪,‬‬
‫أمته‪ ,‬يبتزها أحكامها‪ ,‬ومن كان محمد صلى الله عليه‬ ‫فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم‪ ,‬فطأطأ المنصور‬
‫وسلم كان الله خصمه‪ ,‬فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة‬ ‫شاكرا ثم كّرر السؤال‪ ,‬ولكن سفيان تركه وانصرف‪.‬‬
‫رسوله حججا تضمن لك النجاة‪ ,‬أو استسلم للهلكة‪.‬‬ ‫)الحياء الجزء الخامس ص ‪.)120‬‬
‫واعلم أ‪ ،‬أبطأ الصرعى نهضة صريع الهوى‪ ,‬وأن أثبت‬
‫الناس قدما يوم القيامة آخذهم بكتاب الله وسنة نبيّه‬ ‫بين حمّاد بن سلمة ومحمد بن سليمان‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ,‬فمثلك ل يكابر بتجديد المعصية‬
‫ولكن تمثل له الساءة إحسانا‪ ,‬ويشهد عليه خونة‬
‫قال ابن سليمان‪ ,‬دخلت على حماد بن سلمة فإذا‬
‫العلماء وبهذه الحبالة تصيدت الدنيا نظرائك‪ ,‬فأحسن‬
‫ليس في البيت إل حصير‪ ,‬وهو جالس وفي يديه‬
‫الحمل فقد أحسنت إليك الداء‪.‬‬
‫مصحف يقرأ فيه وجراب فيه عملة ومطهرة يتوضأ‬
‫فبكى المهدي ثم أمر له بشيء فلم يقبله‪.‬‬
‫منها‪ ,‬فبينما أنا جالس إذ دق الباب‪.‬‬
‫وحكى بعض الكتاب أنه رأى هذا الكلم مكتوبا في‬
‫ماد‪ :‬يا حبيبة اخرجي فانظري من هذا؟‪.‬‬ ‫فقال ح ّ‬
‫دواوين المهدي‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬رسول محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة‪,‬‬
‫)وفيات العيان ‪.)494\2‬‬ ‫فأذن له بالدخول‬
‫فقال بعد أن سلّم‪ :‬أما بعد فصبّحك الله بما صب ّح به‬
‫بين المام مالك وجعفر بن سليمان‬ ‫أولياءه وأهل طاعته‪.‬‬
‫وقعت مسألة فأتينا نسألك عنها‪ ,‬والسلم‪.‬‬
‫سعي بالمام مالك إلى جعفر بن سليمان بن علي بن‬ ‫فقال‪ :‬يا حبيبة‪ ,‬هلم الدواة‪.‬‬
‫عبد الله بن عباس وهو ابن عم أبي جعفر المنصور‬ ‫ثم قال لي‪ :‬اقلب كتابه‪ ,‬واكتب أما بعد‪:‬‬
‫وقالوا له‪ :‬انه ل يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء‪ ,‬فغضب‬ ‫فأنت صبّحك الله بما صب ّح به أولياءه وأهل طاعته‪ ,‬إنا‬
‫جعفر ودعا به وجّرده وضربه بالسياط‪ ,‬ومدت يده حتى‬ ‫أدركنا العلماء وهو ل يأتون لحد‪ ,‬فان وقعت لك مسألة‬
‫انخلعت كتفه وارتكب منه أمرا عظيما‪ ,‬فلم يزل بعد‬ ‫فأتنا وسل ما بدا لك وان أتيتني فل تأتني بخيلك ورجلك‬
‫ذلك الضرب في علو ورفعة‪.‬‬ ‫فل أنصحك‪ ,‬ول أنصح إل تقيّا‪ ,‬والسلم‪.‬‬
‫وذكر ابن الجوزي في )شذور العقود) في سنة سبع‬ ‫فبينما أنا جالس إذ دق الباب‪.‬‬
‫وأربعين ومائة وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين‬ ‫فقال‪ :‬يا حبيبة فانظري من هذا؟‪.‬‬
‫سوطا لجل فتوى ل توافق غرض السلطان‪.‬‬ ‫قالت‪ :‬محمد بن سليمان‪.‬‬
‫) وفيات العيان ‪.)137\4‬‬ ‫قال‪ :‬قولي له يدخل وحده‪ ,‬فدخل وجلس بين يديه‬
‫وبدأ‪.‬‬
‫بين الفضيل بن عياض والرشيد‬ ‫فقال‪ :‬ما لي إذا نظرت فيك امتلت منك رعبا؟‪.‬‬
‫ماد‪ :‬حدثني ثابت البناني قال سمعت أنسا يقول‪:‬‬ ‫قال ح ّ‬
‫سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‪ ":‬إن‬
‫قال الفضيل بن الربيع‪ :‬كنت بمنزلي ذات يوم وقد‬
‫العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء‪ ,‬وإذا أراد‬
‫خلعت ثيابي وتهيأت للنوم‪ ,‬فإذا بقرع شديد على بابي‪,‬‬
‫أن يكنز الكنوز هاب من كل شيء"‪.‬‬
‫فقلت في قلق‪ :‬من هذا؟‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ما تقول _رحمك الله_ في رجل له ابنان وهو‬
‫قال الطارق‪ :‬أجب أمير المؤمنين‪ ,‬فخرجت مسرعا‬
‫على أحدهما أرضى‪ ,‬فأراد أن يجعل له في حياته ثلثي‬
‫أتعثر في خطوي‪ ,‬فإذا بالرشيد قائما على بابي وفي‬
‫ماله؟‪.‬‬
‫وجهه تجه ّم حزين‪ ,‬فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين لو أرسلت‬
‫فقال حماد‪ :‬ل يفعل_ رحمك الله_ فإني سمعت أنسا‬
‫إلى لتيتك‪.‬‬
‫يقول ‪ :‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫فقال‪ :‬ويحك قد حاك في نفسي شيء أطار النوم من‬
‫يقول‪ ":‬إذا أراد الله أن يعذب عبدا من عباده في حياته‬
‫أجفاني وأزعج وجداني شيء ل يذهب به إل عالم تقي‬
‫وفقه إلى وصيّة جائرة"‪.‬‬
‫من زهادك‪ ,‬فانظر لي رجل أسأله‪.‬‬
‫فعرض عليه مال فلم يقبل وخرج‪.‬‬
‫ثم يقول ابن الربيع‪ :‬حتى جئت به إلى الفضيل بن‬
‫عياض‪.‬‬ ‫)السلم بين العلماء والحكام ص ‪.)99‬‬
‫فقال الرشيد‪ :‬امض بنا إليه‪ ,‬فأتيناه‪ ,‬وإذا هو قائم‬
‫يصلي في غرفته وهو يقرأ قوله تعإلى‪ {:‬أم حسب‬ ‫بين صالح المرّي والمهدي‬
‫الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين أمنوا‬
‫وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم‪ ,‬ساء ما‬ ‫بعث المهدي إلى صالح المّري‪ ,‬قال صالح‪ :‬فلما‬
‫يحكمون}‪.‬‬ ‫دخلت عليه قلت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ,‬احمل لله ما أكلمك‬
‫فقال الرشيد‪ :‬إن انتفعنا بشيء فبهذا‪.‬‬ ‫به اليوم‪ ,‬فان أولى الناس بالله أحملهم لغلظة النصيحة‬
‫فقرعت الباب‪.‬‬ ‫فيه‪ ,‬وجدير بمن له قرابة برسول الله صلى الله عليه‬
‫فقال الفضيل‪ :‬من هذا؟‪.‬‬ ‫م بهديه‪ ,‬وقد ورثك الله من‬
‫وسلم أن يرث أخلقه ويأت ّ‬
‫قلت‪ :‬أجب أمير المؤمنين‪.‬‬ ‫فهم العلم وإنارة الحجة ميراثا قطع به عذرك‪ .‬فمهما‬
‫تكافئني بمثل هذا‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬ما لي ولمير المؤمنين‪.‬‬
‫قال ابن الربيع‪ :‬فخرجنا من عنده‪.‬‬ ‫فقلت‪ :‬سبحان الله‪ ,‬أما عليك طاعته؟‪.‬‬
‫فقال هارون الرشيد‪ :‬إذا دللتني على رجل فدلني على‬ ‫فنزل ففتح الباب‪ ,‬ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج‪,‬‬
‫مثل هذا‪ ,‬هذا سيّد المسلمين اليوم‪.‬‬ ‫ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة‪ ,‬فجعلنا نجول عليه‬
‫)ير أعلم النبلء ‪.)378\8‬‬ ‫بأيدينا فسبقت كف الرشيد كفي إليه‪.‬‬
‫فقال‪ :‬يا لها من كف ما ألينها إن نجت من عذاب الله‬
‫ويحكى أن الرشيد قال له يوما‪ :‬ما أزهدك! فقال‬ ‫تعإلى غدا‪.‬‬
‫الفضيل‪ :‬أنت أزهد مني‪ ,‬قال‪ :‬وكيف ذلك؟‪.‬‬ ‫قال ابن الربيع فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلم‬
‫قال‪ :‬لني أزهد في الدنيا‪ ,‬وأنت تزهد في الخرة‪,‬‬ ‫نقي من قلب تقي‪.‬‬
‫والدنيا فانية والخرة باقية‪.‬‬ ‫فقال الرشيد‪ :‬خذ فيما جئناك له يرحمك الله‪.‬‬
‫ملت نفسك ذنوب‬ ‫فقال الفضيل‪ :‬وفيما جئت وقد ح ّ‬
‫)وفيات العيان ‪.)48\4‬‬
‫الرعي ّة التي سمتها هوانا‪ ,‬وجميع من معك من بطانتك‬
‫وولتك تضاف ذنوبهم إليك يوم الحساب‪ ,‬فبك بغوا وبك‬
‫بين شعيب بن حرب وهارون الرشيد‬ ‫جاروا وهم مع هذا أبغض الناس لك وأسرعهم فرارا‬
‫منك يوم الحساب‪ ,‬حتى لو سألتهم عند انكشاف‬
‫قال شعيب بن حرب‪ :‬بينما أنا في طريق مكة‪ ,‬إذ‬ ‫الغطاء عنك وعنهم أن يحملوا عنك سقطا _جزءا_ من‬
‫رأيت هارون الرشيد‪ ,‬فقلت في نفسي‪ :‬قد وجب عليك‬ ‫ذنب ما فعلوه‪ ,‬ولكان أشدهم حبا لك أشدهم هربا‬
‫المر والنهي‪ ,‬فقالت لي‪ :‬ل تفعل فان هذا رجل جبار‬ ‫منك‪.‬‬
‫ومتى أكرته ضرب عنقك‪.‬‬ ‫ي الخلفة دعا‬ ‫ّ‬ ‫ول‬ ‫لما‬ ‫العزيز‬ ‫عبد‬ ‫بن‬ ‫عمر‬ ‫إن‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ثم‬
‫فقلت في نفسي‪ :‬ل بد من ذلك‪ .‬فلما دنا مني صحت‪:‬‬ ‫سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب ورجاء بن حيوة _‬
‫يا هارون‪ ,‬قد آذيت المة وأتعبت البهائم‪ ,‬فقال‪ :‬خذوه‪.‬‬ ‫وهو ثلثة من العلماء الصالحين_ فقال لهم‪ :‬اني قد‬
‫ثم أدخلت عليه وهو على كرسي وفي يده عمود يلعب‬ ‫ي‪ .‬فعد ّ الخلفة بلء‬ ‫ابتليت بهذا البلء فأشيروا عل ّ‬
‫به‪.‬‬ ‫وعددتها أنت وأصحابك نعمة‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ممن الرجل؟‪.‬‬ ‫فقال سالم بن عبد الله‪ :‬إن أردت النجاة غدا من‬
‫فقلت‪ :‬من أفناء الناس‪.‬‬ ‫عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا‪ ,‬وأوسطهم‬
‫فقال‪ :‬ممن ثكلتك أمك؟‪.‬‬ ‫عندك أخا‪ ,‬وأصغرهم عندك ابنا‪ ,‬فوقر أباك وأكرم أخاك‬
‫قال‪ :‬من البناء‪.‬‬ ‫وتحنن على ولدك‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما حملك أن تدعوني باسمي؟‪.‬‬ ‫وقال رجاء بن حيوة‪ :‬إن أردت النجاة غدا من عذاب‬
‫فقلت‪ :‬أنا أدعو الله باسمه فأقول يا الله‪ ,‬يا رحمن‪ ,‬وما‬ ‫ب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما‬ ‫الله فأح ّ‬
‫ينكر من دعائي باسمك‪ ,‬وقد رأيت الله سمى في كتابه‬ ‫تكره لنفسك‪ ,‬ثم مت إن شئت‪ ,‬وإني أقول لك يا‬
‫أحب الخلق إليه محمدا‪ ,‬وكنى أبغض الخلق إليه أبا‬ ‫هارون اني أخاف عليك أشد ّ الخوف يوما تذل فيه‬
‫لهب‪.‬‬ ‫القدام فبكى هارون‪.‬‬
‫فقال‪ :‬أخرجوه‪.‬‬ ‫قال ابن الربيع‪ :‬فقلت أرفق بأمير المؤمنين‪.‬‬
‫)وفيات العيان ‪.)470\2‬‬ ‫فقال‪ :‬تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟‬
‫ثم قال‪ :‬يا حسن الوجه‪ ,‬أنت الذي يسألك الله عز وجل‬
‫بين منذر بن سعيد والخليفة الناصر‬ ‫عن هذا الخلق يوم القيامة‪ ,‬فان استطعت أن تقي هذا‬
‫الوجه فافعل‪ ,‬وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك‬
‫غش لحد من رعيّتك‪ ,‬فان النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫لقد أقبل الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله على‬
‫عمارة الزهراء أيما إقبال‪ ,‬وأنفق من أموال الدولة في‬ ‫قال‪ ":‬من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة"‪.6‬‬
‫تشييدها وزخرفتها ما أنفق‪ ,‬وهي في حقيقة حالها‬ ‫فبكى الرشيد‪.‬‬
‫مجموعة من القصور الفاخرة‪ .‬وكان يشرف بنفسه‬ ‫ثم قال‪ :‬هل عليك دين؟‪.‬‬
‫على شؤون البناء والزخرفة حتى شغله ذلك ذات مّرة‬ ‫فقال‪ :‬نعم دين لربي لم يحاسبني عليه‪ ,‬فالويل لي إن‬
‫عن شهود صلة الجمعة‪,‬وكان منذر بن سعيد يتولى‬ ‫سألني والويل لي إن ناقشني والويل لي إن لم ألهم‬
‫خطبة الجمعة والقضاء‪ ,‬ورأى_ خروجا من تبعة التقصير‬ ‫حجتي‪.‬‬
‫فيما أوجبه الله على العلماء_ أن يلقي على الخليفة‬ ‫قال الرشيد‪ :‬إنما أعني دين العباد‪.‬‬
‫الناصر درسا بليغا يحاسبه فيه على إسرافه وإنفاقه‬ ‫فقال‪ :‬إن ربي لم يأمرني بهذا وقد قال عز وجل‪ {:‬وما‬
‫في مدينة الزهراء‪ ,‬ورأى أن يكون ذلك على مل من‬ ‫ما أريد منهم من‬ ‫خلقت الجن والنس إل ليعبدون‬
‫الناس في المسجد الجامع بالزهراء فلما كان يوم‬ ‫إن الله هو الرزاق ذو‬ ‫رزق وما أريد أن يطعمون‬
‫الجمعة اعتلى المنبر والخليفة الناصر حاضر والمسجد‬ ‫القوة المتين}‪.‬‬
‫ص بالمصلين وابتدأ خطبته فقرأ قوله تعإلى‪ {:‬أتبنون‬ ‫فقال الرشيد‪ :‬هذه ألف دينار خذها وأنفقها على عيالك‬
‫غا ّ‬
‫وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون‬ ‫بكل ريع آية تعبثون‬ ‫وتقو بها على عبادتك‪.‬‬
‫ّ‬
‫وإذا بطشتم بطشتم جبّارين فاتقوا الله وأطيعون‬ ‫قال‪ :‬سبحان الله‪ .‬أنا أدلك على طريق النجاة وأنت‬
‫واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمدّكم بأنعام وبنين‬
‫اني أخاف عليكم عذاب يوم‬ ‫وجنّات وعيون‬ ‫رواه البخاري( ‪ )142( )112\13‬في كتاب اليمان‪.‬‬ ‫‪6‬‬
‫فضة ومعارج عليها يظهرون}‪ .‬الزخرف(‪.)33‬‬ ‫عظيم}‪ .‬سورة الشعراء (‪.)135_128‬‬
‫فوجم الخليفة ونكس رأسه مليا‪ ,‬وجعل دموعه تنحدر‬ ‫ثم مضى في ذم السراف على البناء بكل كلم جزل‬
‫على لحيته ثم أقبل على المنذر وقال له‪:‬‬ ‫وقول شديد‪ ,‬ثم تل قوله تعإلى‪ {:‬أفمن أسس بنيانه‬
‫جزاك اله خيرا وعن الدين خيرا‪ ,‬فالذي قلت هو الحق‪.‬‬ ‫على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه‬
‫ثم قام من مجلسه‪ ,‬وأمر بنقض سقف القبة وأعاده‬ ‫على شفا جرف هاو فانهار به في نار جهنّم‪ ,‬والله ل‬
‫أميرها ترابا على صفة غيرها‪.‬‬ ‫يهدي القوم الظالمين}‪ .‬التوبة (‪.)109‬‬
‫)مقالن نبينن نخليفةن نوقاضن نفين نمجلةن نالزهرن نلشهرن نرمضان ن ‪1371‬‬ ‫وراح يحذر وينذر ويحاسب حتى ادكر من حضر من‬
‫للستاذ عبد الحميد لبعبادي‪ ,‬وانظر السلم بين العلماء والحكام ‪.)93‬‬ ‫الناس وخشعوا وأخذ الناصر من ذلك بأوفر نصيب‪ ,‬وقد‬
‫علم أنه المقصود به فبكى وندم على تفريطه‪ .‬غير أن‬
‫الخليفة لم يحتمل صدره لتلك المحاسبة العلنيّة ولشدة‬
‫ما سمع‪.‬‬
‫بين الكيلني والمقتفي‬
‫مدني بخطبته‬ ‫فقال شاكيا لولده الحكم‪ :‬والله لقد تع ّ‬
‫ي وأفرط في تقريعي‪..‬‬ ‫وما عنى بها غيري‪ ,‬فأسرف عل ّ‬
‫وهذا الشيخ عبد القادر الكيلني _ رحمه الله تعإلى_‬ ‫ثم استشاط غيظا عليه متذكّرا كلماته وأراد أن يعاقبه‬
‫يقف على منبره محاسبا المقتفي لمر الله‪ ,‬ومنكرا‬ ‫لذلك!!‪.‬‬
‫عليه توليه يحيى بن سعيد المشهور بابن المزاحم‬ ‫فأقسم أن ل يصلي خلفه صلة جمعة‪ ,‬وجعل يلزم‬
‫الظالم القضاء‪ ,‬فقال له مخاطبا‪ :‬ولّيت على المسلمين‬ ‫صلتها وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع فرطبة‪.‬‬
‫أظلم الظالمين وما جوابك غدا عند أرحم الراحمين؟‪.‬‬ ‫ولكن لما رأى ولده الحكم تعلق والده بالزهراء والصلة‬
‫فارتعد الخليفة وعزل المذكور لوقته‪.‬‬ ‫في مسجدها العظيم‪.‬‬
‫)قلئد الجواهر ص ‪.)8‬‬ ‫قال له‪ :‬ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلة به‬
‫إذا كرهته؟ ولكن الناصر زجره قائل‪ :‬أمثل منذر بن‬
‫بين العز بن عبد السلم ونجم الدين أيوب‬ ‫م لك) يعزل لرضاء‬ ‫سعيد في فضله وخيره وعلمه (ل أ ّ‬
‫نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد؟‪.‬‬
‫كان لمماليك التراك نفوذ في الدولة السلمية في‬ ‫هذا ما ل يكون‪ ,‬وإني لستحي من الله أل أجعل بيني‬
‫أواخر حكم العباسيين‪ ,‬وامتد نفوذهم حتى أصبحوا‬ ‫وبينه في صلة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه‬
‫أمراء في الدولة أيام حكم نجم الدين أيوب في مصر‪,‬‬ ‫وصدقه‪ ,‬ولكن أحرجني فأقسمت‪ ,‬ولوددت أن أجد‬
‫وكان الشيخ العز قاضيا للقضاة فيها‪ ,‬وقام _ رحمه‬ ‫سبيل إلى كفارة يميني بملكي‪ ,‬بل يصلي منذر بالناس‬
‫الله_ مصلحا لمر القضاء منفذا بحزم أحكام الشرع‪ ,‬ل‬ ‫حياته وحياتنا إن شاء الله‪ ,‬فما أظن أنا نعتاض منه أبدا‪.‬‬
‫تأخذه في ذلك لومة لئم‪ ,‬فنظر في حقيقة قضية‬ ‫ولما اشتدت الفجوة بين الشيخ منذر بن سعيد‬
‫أولئك المراء التي أثارها هو ثم أصدر قضاءه التي‪:‬‬ ‫والخليفة عبد الرحمن نتيجة محاسبة المنذر له في‬
‫قال السبكي‪ :‬ذكر كائنة الشيخ مع أمراء الدولة من‬ ‫إسرافه على بناء الزهراء‪ ,‬أراد ولده الحكم أن يزيل ما‬
‫التراك وهو جماعة‪ ,‬ذكروا أن الشيخ لم يثبت عنده‬ ‫بينهما فاعتذر له عند الخليفة‪.‬‬
‫أنهم أحرار وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال‬ ‫فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين انه رجل صالح وما أراد إل‬
‫المسلمين‪ .‬فبلغهم ذلك‪ ,‬فعظم الخطب فيه واحتدم‬ ‫خيرا‪ ,‬لو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك )‬
‫المر‪ ,‬والشيخ مصمم ل يصحح لهم بيعا ول شراء ول‬ ‫ويريد بالبنية هنا القبة التي بناها الناصر بالزهراء واتخذ‬
‫نكاحا‪ ,‬وتعطلت مصالحهم بذلك‪ ,‬وكان من جملتهم‬ ‫قرامدها من فضة وبعضها مغش بالذهب‪ ,‬وجعل سقفها‬
‫نائب السلطنة فاشتاط غضبا واجتمعوا وأرسلوا إليه‪.‬‬ ‫نوعين صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة يستلب البصار‬
‫فقال‪ :‬نعقد لكم مجلسا وينادى عليكم لبيت مال‬ ‫شعاعها)‪.‬‬
‫المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي‪ ,‬فرفعوا‬ ‫فلما قال له ولده ذلك أمر ففرشت بفرش الديباج‬
‫المر إلى السلطان‪ ,‬فبعث إليه فلم يرجع فجرت من‬ ‫وجلس فيها لهل دولته‪.‬‬
‫السلطان كلمة فيها غلظة‪ ,‬حاصلها النكار على الشيخ‬ ‫ثم قال لقرابته وزرائه‪ :‬أرأيتم أم سمعتم ملكا كان‬
‫في دخوله في هذا المر‪ ,‬وأنه ل يتعل ّ ق به‪ ,‬فغضب‬ ‫قبلي صنع مثل ما صنعت؟‪.‬‬
‫الشيخ وحمل حوائجه على حمار‪ ,‬وأركب عائلته على‬ ‫فقالوا‪ :‬ل والله يا أمير المؤمنين‪ ,‬وانك الوحد في‬
‫حمير أخرى‪ ,‬ومشى خلفهم من القاهرة قاصدا الشام‬ ‫شأنك‪.‬‬
‫فلم يصل إلى نحو نصف بريد حتى لحقه غالب‬ ‫فبينما هم على ذلك‪ ,‬إذ دخل منذر بن سعيد ناكسا‬
‫المسلمين‪ ,‬لم تكد امرأة ول صبي ول رجل ل يؤبه له‬ ‫رأسه‪ ,‬فلما أخذ مجلسه قال له ما قال لقرابته‪ ,‬فأقبلت‬
‫يتخلف‪ ,‬ول سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم‪,‬‬ ‫دموع المنذر تنحدر على لحيته لسوء ما رأى‪.‬‬
‫فبلغ السلطان الخبر‪ ,‬وقيل له متى راح ذهب ملكك‬ ‫وقال‪ :‬والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان‬
‫قبله‪ ,‬فرجع واتفق معه على أن ينادى على المراء‬ ‫يبلغ منك هذا المبلغ‪ ,‬ول أن تمكنه من قيادتك هذا‬
‫فأرسل نائب السلطنة بالملطفة‪ ,‬فلم يفد فيه‪ ,‬فانزعج‬ ‫التمكن مع ما آتاك الله وفضلك به على المسلمين‬
‫النائب‪.‬‬ ‫حتى ينزلك منازل الكافرين‪.‬‬
‫فقال‪ :‬كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك‬ ‫فاقشعر الخليفة من قوله‪.‬‬
‫الرض؟ والله لضربنّه بسيفي هذا‪.‬‬ ‫وقال له‪ :‬انظر ما تقول كيف أنزلني الله منازلهم؟‪.‬‬
‫فركب بنفسه في جماعة‪ ,‬وجاء إلى بيت الشيخ‬ ‫فقال‪ :‬نعم‪ ,‬أليس الله يقول‪ {:‬لول أن يكون الناس أمة‬
‫واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقف من‬
‫هوايته المفضلة وواجبه المقد ّ س المر بالمعروف‬ ‫والسيف مسلول في يده‪ ,‬فطرق الباب‪ ,‬فخرج ولد‬
‫والنهي عن المنكر‪ ,‬فطلب الهجرة من دمشق قاصدا‬ ‫الشيخ‪ ..‬فرأى من نائب السلطنة ما رأى فعاد إلى أبيه‬
‫مصر‪ .‬وأفرج عنه بعد محاورات ومراجعات فأقام‬ ‫وشرح له الحال‪ ,‬فما اكترث لذلك ول تغيّر‪.‬‬
‫بدمشق ثم انتزع منها إلى بيت المقدس‪ .‬فوافاه الملك‬ ‫ل من أن يقتل في سبيل الله‪,‬‬ ‫وقال‪ :‬يا ولدي أبوك أق ّ‬
‫الناصر داود في الفور فقطع عليه الطريق وأخذه وأقام‬ ‫ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة‪,‬‬
‫بنابلس مدة وجدت له معه خطوب‪ ,‬ثم انتقل إلى بيت‬ ‫فحين وقع بصره على النائب وسقط السيف منها‬
‫المقدس حيث أقام مدة‪ ,‬ثم جاء الصالح إسماعيل‬ ‫ارتعدت مفاصله‪ ,‬فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له‪,‬‬
‫والملك المنصور صاحب حمص وملوك الفرنج‬ ‫وقال‪ :‬يا سيدي‪ ,‬خير أي شيء تعمل؟‪.‬‬
‫بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار‬ ‫قال‪ :‬أنادي عليكم وأبيعكم‪.‬‬
‫المصرية‪ ,‬فسير الصالح إسماعيل بعض خواصه إلى‬ ‫قال‪ :‬ففيم تصرف ثمنا؟‪.‬‬
‫الشيخ بمنديله‪ ,‬وقال له‪ :‬تدفع منديلي إلى الشيخ‬ ‫قال‪ :‬في مصالح المسلمين‪.‬‬
‫وتلطف له غاية التلطف وتستنزله وتعده بالعودة إلى‬ ‫قال‪ :‬من يقبضه؟‪.‬‬
‫ي‪,‬‬
‫مناصبه على أحسن حال‪ ,‬فان وافقك فتدخل به عل ّ‬ ‫م له ما أراد ونادى على المراء واحدا واحدا‬ ‫قال‪ :‬أنا‪ .‬فت ّ‬
‫وان خالفك فاعتقله في خيمة إلى جانب خيمتي‪ .‬فلما‬ ‫وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير _‬
‫اجتمع الرسول بالشيخ‪ ,‬شرع في مسايسته وملينته‪.‬‬ ‫وهذا لم يسمع قبله أحد رحمه الله ورضي عنه‪.‬‬
‫ثم قال له‪ :‬بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت‬ ‫)السلم بين العلماء والحكام ‪.)197‬‬
‫عليه زيادة أن تنكسر للسلطان وتقبل يده ل غير‪.‬‬
‫فقال الشيخ‪ :‬والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي‬ ‫بين العز بن عبد السلم والصالح إسماعيل‬
‫فضل عن أقب ّل يده‪,‬يا قوم أنت في واد وأنا في واد‬
‫الحمد لله الذي عافاني مما ابتلكم به‪.‬‬
‫إن خلفا نشأ واشتد‪ ,‬وخصاما طفق منذرا بالكيد‬
‫فقال الرسول‪ :‬يا شيخ قد رسم لي أن توافق على ما‬
‫والحرب بين الخوين‪ :‬سلطان الشام الملك الصالح‬
‫يطلب وإل اعتقلتك‪.‬‬
‫إسماعيل‪ ,‬وسلطان مصر الصالح نجم الدين أيوب وقد‬
‫فقال الشيخ‪ :‬افعلوا ما بدا لكم‪ .‬فأخذه واعتقله في‬
‫أوجس إسماعيل خيفة من نجم الدين أيوب فاستعان‬
‫خيمة إلى جانب خيمة السلطان وكان الشيخ يقرأ‬
‫بالصليبين أعداء السلم‪ ,‬وتحالف معهم على قتال‬
‫القرآن في معتقله والسلطان يسمعه‪.‬‬
‫أخيه‪ ,‬وأعطاهم مقابل ذلك مدينة صيدا على رواية‬
‫فقال يوما لملوك الفرنج‪ :‬تسمعون هذا الشيخ الذي‬
‫المقريزي وغيره‪ ,‬وأمعن إسماعيل في هذه الخيانة‬
‫يقرأ القرآن؟‪.‬‬
‫فسمح للصليبين أن يدخلوا دمشق ويشتروا منها‬
‫فقالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫السلح وآلت الحرب وما يريدون‪ ,‬وأثار هذا الصنيع‬
‫قال‪ :‬هذا أكبر قساوسة المسلمين‪ ,‬وقد حبسته لنكاره‬
‫المنكر استياء المسلمين وعلماءهم‪ .‬فهب الشيخ العز‬
‫علي تسليمي لكم حصون المسلمين وعزلته عن‬
‫بن عبد السلم واقفا في وجه الخيانة والخائنين‪ ,‬وأفتى‬
‫الخطابة بدمشق وعن مناصبه ثم أخرجته فجاء إلى‬
‫بتحريم بيع السلح لهم‪ ,‬وصعد على منبر جامع الموي‬
‫القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لجلكم!!‪.‬‬
‫بدمشق في يوم الجمعة‪ ,‬حيث كان خطيبه الرسمي‬
‫فقالت له ملوك الفرنج‪" :‬لو كان هذا قسيسنا لغسلنا‬
‫وأعلن الفتوى وشدد في النكار على السلطان يومئذ‪,‬‬
‫رجليه وشربنا مرقتها"‪.‬‬
‫وصار يدعو بدعاء " اللهم أبرم لهذه المة إبرام رشد‬
‫)وإسلماه لحمد باكثير ‪ ,100‬وانظر الطبقات للسبكي)‪.‬‬ ‫يعز فيه أولياؤك ويذل فيه أعداؤك ويعمل فيه بطاعتك‬
‫وينهى فيه عن معصيتك" والمصلون يضجون بالتأمين‬
‫بين النووي والظاهر بيبرس‬ ‫على دعائه‪ ,‬ولم يكن السلطان حاضرا لتلك الخطبة‪ ,‬إذ‬
‫كان خارج دمشق‪ ,‬ولما أعلمه رجاله بذلك أمر بعزل‬
‫لما خرج الظاهر بيبرس إلى قتال التتار بالشام‪ ,‬أخذ‬ ‫الشيخ عن خطبة الجمعة واعتقاله مع صاحبه الشيخ‬
‫فتاوى العلماء بجواز أخذ مال من الرعي ّة يستنصر به‬ ‫ابن الحاجب المالكي لشتراكه معه في هذا النكار‪.‬‬
‫على قتالهم‪ ,‬فكتب له فقهاء الشام بذلك فأجازوه‪.‬‬ ‫وكان أنصار الشيخ قد أشاروا عليه بأن يغادر البلد‬
‫فقال‪ :‬هل بقي أحد؟‪.‬‬ ‫وينجو بنفسه من يد السلطان وأعدوا له وسائل‬
‫فقيل له‪ :‬نعم بقي الشيخ محيى الدين النووي‪.‬‬ ‫حوا عليه‪ ,‬فأصر على الباء‪,‬‬ ‫الهرب‪ ,‬ولكن ّه أبى ذلك‪ ,‬وأل ّ‬
‫فطلبه فحضر‪.‬‬ ‫فعرضوا عليه أن يختبئ في مكان أمين ل يهتدي إليه‬
‫فقال له‪ :‬اكتب خطابك مع الفقهاء‪ ,‬فامتنع‪.‬‬ ‫السلطان ورجاله‪ ,‬فرفض هذا الغرض أيضا وقال‪":‬‬
‫فقال‪ :‬ما سبب امتناعك؟‪.‬‬ ‫والله ل أهرب ول أختبئ وإنما نحن في بداية الجهاد‬
‫فقال‪ :‬أنا أعرف أنك كنت في الرق للمير) بندقار)‬ ‫ولم نعمل شيئا بعد‪ ,‬وقد وطنت نفسي على احتمال ما‬
‫ن الله عليك وجعلك ملكا وسمعت‬ ‫وليس لك مال‪ ,‬ثم م ّ‬ ‫ألقى في هذا السبيل‪ ,‬والله ل يضيع عمل الصابرين"‪.‬‬
‫عندك ألف مملوك‪ ,‬كل مملوك له حياصة من ذهب‪,‬‬ ‫ثم لما قدم إسماعيل إلى دمشق أفرج عنهما بعد‬
‫ي‪ ,‬فإذا‬
‫وعندك مائتا جارية لكل جارية حق من الحل ّ‬ ‫العتقال‪ ,‬ولكن العز بن عبد السلم أمر بملزمة داره‬
‫أنفقت ذلك كله وبقيت مماليكك بالبنود والصرف بدل‬ ‫وأن ل يفتي ول يجتمع بأحد البتة‪ ,‬فاستأذنه في صلة‬
‫ي‪,‬‬
‫من الحوائص وبقيت الجواري بثيابهن دون الحل ّ‬ ‫الجمعة مؤتما بإمامها وأن يعيد إليه طبيب أو مزين إذا‬
‫أفتيتك بأخذ المال من الرعية‪ .‬فغضب الظاهر من‬ ‫احتاج إليهما وأن يدخل الحمام فأذن له في ذلك‪,‬‬
‫كلمه‪.‬‬ ‫ومّرت اليام والشيخ في إقامته الجبرية وقد منع من‬
‫وقال‪ :‬أخرج من بلدي _ يعني دمشق‪.‬‬ ‫الفتاء والتصال بأحد من إخوانه أو طلبه‪ ,‬وتعطلت‬
‫وكنت أنا من جملة من كان معه‪ ,‬وأما أولئك الذين أبوا‬ ‫فقال‪ :‬السمع والطاعة‪ ,‬وخرج إلى نوى‪.‬‬
‫أ‪ ،‬يصحبوه‪ ,‬فخرج عليهم جماعة من التتار فشلحوهم‬ ‫فقال الفقهاء‪ :‬ان هذا من كبار علمائنا وصلحائنا وممن‬
‫أي سلبوهم ثيابهم وما معهم‪.‬‬ ‫يقتدى به‪ ,‬فأعده إلى دمشق‪.‬‬
‫)مختصر منهاج السنة للذهبي ص ‪.)332‬‬ ‫فرسم برجوعه‪ ,‬فامتنع الشيخ‪.‬‬
‫وقال‪ :‬ل أدخلها والظاهر فيها‪ ,‬فمات بعد شهر‪.‬‬
‫الخاتمة‬ ‫)من أخلق العلماء الجزء التاسع)‪.‬‬

‫م جمعه واختياره من المواقف‬ ‫بين ابن تيمية وغازان‬


‫وبعد‪ ,‬فهذا آخر ما ت ّ‬
‫التاريخية‪ ,‬وأسأل الله تعإلى أن ينفع بها إخوانى‬
‫المسلمين‪ ,‬وسبحانك اللهم وبحمدك وأشهد أن ل اله‬ ‫وردت النباء في أواخر سنة ‪698‬ه ‪ ,‬بزحف غازان‬
‫إل أنت أستغفرك وأتوب إليه‪.‬‬ ‫التتري وجيشه من إيران نحو حلب‪ .‬وفي وادي سليمة‬
‫وكتبه وحيد بالي‬ ‫يوم ‪ 27‬ربيع الول سنة ‪ 699‬التقى جمع غازان بجمع‬
‫عفا الله عنه وعن جميع إخوانه المسلمين‬ ‫الناصر بن قلوون‪ ,‬وبعد معركة حامية الوطيس هزم‬
‫آمين‬ ‫جمع الناصر وولى الجند والمراء الدبار‪ ,‬ونزح أعيان‬
‫الحمد لله الذي وفقني إلى إخراج هذا العمل والحمد‬ ‫دمشق إلى مصر يتبعون سير الناصر‪ ,‬حتى خلت‬
‫لله رب العالمين أخوكم (السلمى)‪.‬‬ ‫دمشق من حاكم أو أمير أو أعيان البلد‪ ,‬لكن شيخ‬
‫السلم ابن تيمية بقي صامدا مع عامة الناس فاجتمع‬
‫شيخ السلم مع من بقي من أعيان البلد‪ ,‬واتفق معهم‬
‫على تولي المور‪ ,‬وأن يذهب هو على رأس وفد من‬
‫الشام لمقابلة غازان‪ .‬فقابله في بلدة البنك‪ ,‬وقد دارت‬
‫بينهما مناقشة عنيفة‪ .‬قال البالسي‪ :‬قال الشيخ ابن‬
‫تيمية لغازان وترجمانه يترجم كلم الشيخ‪ :‬أنت تزعم‬
‫أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما‬
‫بلغنا‪ ,‬فغزوتنا وبلغت بلدنا على ماذا؟ وأبوك وجدك كانا‬
‫كافرين وما غزوا بلد السلم بعد أن عاهدونا‪ ,‬وأنت‬
‫عاهدت فغدرت‪ ,‬وقلت فما وفيّت‪.‬‬
‫وجرع مع ابن تيمية وغازان أمور قام بها ابن تيمية كلها‬
‫لله‪ ,‬ثم قرب غازان إلى الوفد طعاما فأكلوا إل ابن‬
‫تيمية فقيل له‪ :‬أل تأكل؟‪.‬‬
‫فقال‪ :‬كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتموه من‬
‫أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟‪.‬‬
‫وغازان مصغ لما يقول شاخص إليه ل يعرض عنه‪ ,‬وان‬
‫غازان من شدة ما أوقع في قلبه من الهيبة والمحبة‬
‫سأل‪ :‬من هذا الشيخ؟؟ اني لم أر مثله‪ ,‬ول أثبت قلبا‬
‫منه‪ ,‬ول أ‪,‬قع من حديثه في قلبي ول رأيتني أعظم‬
‫انقيادا لحد منه‪..‬‬
‫فأخبر بحاله‪ ,‬وما هو عليه من العلم والعمل‪ .‬ثم طلب‬
‫منه غازان الدعاء‪.‬‬
‫فقام الشيخ يدعو فقال‪ :‬اللهم إن كان عبدك ها إنما‬
‫يقاتل لتكون كلمتك العليا وليكون الدين كله لك‪,‬‬
‫فانصره وأيّده‪ ,‬وملّكه البلد والعباد‪ ,‬وان كان قد قام‬
‫رياء وسمعة وطلبا للدنيا ولتكون كلمته هي العليا ليذل‬
‫مره واقطع دابره‪,‬‬ ‫السلم وأهله فاخذله وزلزله ود ّ‬
‫من على دعائه ويرفع يديه‪ .‬قال البالسي‪:‬‬ ‫وغازان يؤ ّ‬
‫فجعلنا نجمع ثيابنا خوفا من أن نتلوّث بدم ابن تيمية إذا‬
‫أمر بقتله‪ ,‬فلما خرجنا من عنده قال قاضي القضاة‬
‫نجم الدين وغيره‪:‬‬
‫كدت تهلكنا وتهلك نفسك‪ ,‬والله ل نصحبك من هنا‪,‬‬
‫فقال‪ :‬وإني والله ل أصحبكم‪.‬‬
‫قال البالسي‪ :‬فانطلقوا عصبة وتأخر هو في خاصة‬
‫نفسه ومعه جماعة من أصحابه‪ ,‬فتسامعت به الخواتين‬
‫والمراء وأصحاب غازان فأتوه يتبّركون بدعائه وهو‬
‫سائر إلى دمشق‪ ,‬والله ما وصل إلى دمشق إل في‬
‫نحو ثلثمائة فارس في ركابه‪.‬‬

You might also like