You are on page 1of 26

‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪1‬‬

‫لفضيلة الشيخ‬
‫محمد حسين يعقوب‬

‫‪1‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪2‬‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫إنّ الحمد ل نحمده ونستعينه ونستغفره ‪ ،‬ونعوذ بال تعالى من شرور أنفسنا ‪ ،‬ومن سيئات أعمالنا ‪،‬‬
‫من يهده ال فل مضل له ‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له ‪.‬‬
‫وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له ‪ ،‬وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله ‪.‬‬
‫اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ‪ ،‬كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ‪.‬‬
‫اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ‪ ،‬كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ‪.‬‬
‫]‬ ‫عمران‪102/‬‬ ‫[ آل‬ ‫" يَا َأيّهَا اّلذِينَ آ َمنُواْ ا ّتقُواْ اللّهَ َحقّ ُتقَاتِهِ وَلَ تَمُوتُنّ إِلّ َوأَنتُم ّمسْلِمُونَ "‬
‫" يَا َأيّهَا النّاسُ ا ّتقُواْ َر ّب ُكمُ اّلذِي خَ َل َقكُم مّن ّنفْسٍ وَا ِ‬
‫ح َدةٍ وَخَ َلقَ ِمنْهَا زَوْجَهَا َو َبثّ ِمنْهُمَا رِجَا ًل َكثِيرًا‬
‫"[ النساء ‪] 1/‬‬ ‫َونِسَاء وَا ّتقُواْ اللّهَ اّلذِي َتسَاءلُونَ ِبهِ وَالَرْحَامَ إِنّ اللّ َه كَانَ عَ َل ْي ُكمْ رَقِيبًا‬
‫" يَا َأيّهَا اّلذِينَ آ َمنُوا ا ّتقُوا اللّهَ َوقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ُيصْلِحْ َل ُكمْ أَعْمَا َل ُكمْ َو َي ْغفِرْ َل ُك ْم ُذنُو َب ُكمْ وَمَن يُطِعْ‬
‫[ الحزاب‪] 71-70/‬‬ ‫اللّهَ وَ َرسُوَلهُ َف َقدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا "‬
‫ـ أما بعد ـ‬
‫فإنّ أصدق الحد يث كلم ال تعالى ‪ ،‬وإن خير الهدي هدي مح مد صلى ال عليه وعلى آله و سلم ‪،‬‬
‫وشر المور محدثاتها ‪ ،‬وكل محدثة بدعة ‪ ،‬وكل بدعة ضللة ‪ ،‬وكل ضللة في النار ‪.‬‬
‫إخوتي في ال ‪..‬‬
‫والذي برأ الحبة وخلق النسمة إنّي أحبكم في ال ‪ ،‬وأسأل ال جل جلله أن يجمعنا بهذا الحب في‬
‫ظل عرشه يوم ل ظل إل ظله ‪ ،‬اللهم اجعل عملنا كله صالحًا ‪ ،‬واجعله لوجهك خالصًا ‪ ،‬ول تجعل فيه‬
‫لحد غيرك شيئًا ‪.‬‬
‫أحبتي في ال ‪..‬‬
‫كثيرًا ما سألتكم وما يزال السؤال مطروحًا إلى الن ‪ ،‬لماذا دبّ الوهن فينا ؟ لماذا ل يعتقد أي منّا‬
‫أنه أهل لن يمكن له ؟ لماذا انتكس من انتكس ؟ لماذا تولى من تولى ؟ لماذا صرنا إلى نقصان بعد أن كنا‬
‫في زيادة ؟…‪ .‬إنه داء الفتور في اللتزام ‪.‬‬
‫أخي في ال ‪..‬‬
‫هل كنت تحفظ القرآن ثم تركت ؟!‬
‫هل كنت تقوم الليل ثم نمت ؟!‬

‫‪2‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪3‬‬

‫هل كنت ممن يطلب العلم ثم فترت ؟!‬


‫هل كنت ممن يعمل في الدعوة ثم تكاسلت ؟!‬
‫هذا واقع مرير يمر به كثير من شباب المة ‪ ،‬نسأل ال لنا ولكم العافية ‪ ،‬وتمام العافية ‪ ،‬ودوام‬
‫العافية ‪ ،‬والشكر على العافية ‪.‬‬
‫فكم من أعمال بدأت ولم تتم بسبب مرض الفتور !!‬
‫وكم من أعمال بمجرد أن بدأت ماتت وانتهت ‪ ،‬وهي مازالت مشروعات على الوراق !‬
‫وكم من أناس ما زال الفتور بهم ‪ ،‬وتقديم التنازلت حتى وصل إلى ترك الدين بالكلية ‪ ،‬والبعد عن‬
‫الدين بالمرة ‪ ،‬ونسيان ال بالجملة ‪.‬‬
‫كم من أناس هم موتى اليوم ‪ ،‬وهم ل يشعرون ول يعلمون ‪ ،‬هل هم أحياء أم ميتون ؟!! نسأل ال‬
‫أن يحيي قلوبنا ‪.‬‬
‫أحبتي في ال ‪..‬‬
‫رسالتنا هذه تحمل اسم " الجدية في اللتزام " ‪ ،‬فإنّ أكبر سبب من أسباب الفتور هو فقدان الجدية ‪،‬‬
‫فأنت ترى الجدية واضحة عند كثير من المسلمين في طلب الدنيا ‪ ،‬فهو إذا افتتح مصنعًا أو شركة أو دكانًا‬
‫أو نحو ذلك فإنه يبذل أقصى جهده ‪ ،‬ويستولي هذا العمل على جهده ليلً ونهارًا ‪ ،‬يستولي عمله على كل‬
‫قوته ‪ ،‬وكل تفكيره ‪ ،‬وكل إمكانياته ‪ ،‬فهو يعيش وينام لهذا العمل الدنيوي ‪.‬‬
‫أما أهل الدين ففي الخذلن والكسل والتواني والخلد إلى الرض والرغبة في الدعة والراحة ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫إنني ـ وال ـ أتعجب من لعبي الكرة كيف يبذلون جهدهم وطاقتهم إخلصًا للكرة !! وهؤلء‬
‫الممثلون في إخلصهم من أجل الشهرة ‪ ،‬والمطربون والمغنيين إخلصًا للموسيقى ‪ ،‬ونفقد نحن هذا‬
‫الخلص في الملتزمين بشريعة رب العالمين ‪.‬‬
‫فمن يعملون لجل جنة عرضها السموات والرض متكاسلون فاترون ‪ ،‬وللسف الشديد إنّ أحدنا‬
‫ليستحي من لعب كرة يتدرب ليل نهار ‪ ،‬ويلعب ليل نهار‪ ،‬من أجل حطام الدنيا الفاني ‪ ،‬للسف الشديد إنّ‬
‫أي طالب في الثانوية العامة يبذل جهدًا أضعاف أضعاف أي طالب علم يطلب العلم ل ‪ ،‬أليس المر كذلك‬
‫أم أنّ هذا الكلم غير واقعي ؟!‬
‫يا شباب السلم ‪..‬‬
‫إنه واقع مر يستوجب منا وقفات ‪ ،‬لماذا يدب الوهن في قلوبنا ؟ لماذا تفتر سريعًا عزائمنا ؟ لماذا‬
‫يولي بعضنا الدبار عند أول صدمة ؟!!‬
‫‪3‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪4‬‬

‫والجواب ‪ :‬لننا أخذنا ديننا بضعف ‪ ،‬كانت لي محاضرة قديمة بعنوان " بين سحر الحواة ولعب‬
‫الهواة ضاع الدين " ضاع الدين لن كثيرًا من شباب المسلمين حملوا هذا الدين هواية ‪ ،‬كهواية جمع‬
‫طوابع البريد ‪ ،‬وهواية المراسلة ‪ ،‬وهواية لعب الكرة ‪ ،‬فدخل الدين هواية ‪ ،‬ونحن نواجه ملحدين‬
‫محترفين ‪ ،‬نواجه كفارًا محترفين ‪ ،‬ول يمكن للهواة أن يقفوا في وجه هؤلء ‪ ،‬فلبد ـ إخوتاه ـ من‬
‫احتراف الدين ‪.‬‬
‫إنني ل أطلب منك أن تترك دراسة الهندسة ‪ ،‬ول الطب ‪ ،‬ول الزراعة ؛ لتطلب العلم الشرعي ‪ ،‬ل‬
‫أطال بك بشيءٍ من هذا ‪ ،‬وإن ما أطال بك أن تكون مهند سًا محترفًا في أعمال الهند سة وإخضاع ها للدعوة إلى‬
‫ال ‪ ،‬وخدمة الدين ‪.‬‬
‫أطالبك أن تكون طبيبًا ولكنك احترفت الطب لخدمة الدين ‪ ،‬أطالبك أن تكون تاجرًا ولكن عبدتّ‬
‫المال لخدمة رب العالمين ‪.‬‬
‫من أنت ؟!!‬
‫أخي في ال ‪..‬‬
‫من أنت ؟!!‬ ‫لو أنني سألتك هذا السؤال وقلت لك ‪ :‬ما اسمك عند رب العالمين ؟ فبم تجيب ؟‬
‫هل أنت فلن الكذاب ‪ ،‬أو الغشاش ‪ ،‬أو المرائي ‪ ،‬أو المنافق ‪ ،‬أو ‪ ..‬أو ؟!‬
‫أم أنت فلن المؤمن ‪ ،‬أو الموحد ‪ ،‬أو القوّام ‪ ،‬أو الصوام ‪ ،‬أو القائم بالقسط ‪ ،‬أو الذكير‪ ،‬أو‬
‫الصديق ‪ ..‬آهٍ ‪ ..‬آهٍ من أنت ؟!‬
‫أجبني ـ أخي ـ الن ‪ ،‬قبل أن تنبأ به غدًا على رؤوس الشهاد يوم تبلى السرائر ‪ ،‬يوم الفضيحة‬
‫الكبرى فل أبأس ول أشقى ول أذل منك يومئذٍ ‪.‬‬
‫إني أريد أن أسألك ما هي وظيفتك عند ال ؟!!‬
‫إن أكثرنا يعمل لحساب نفسه ‪ ،‬ونسي ال الذي خلقه ‪ ،‬ما هي وظيفتك في خدام ال ؟! إن قلت لي ‪:‬‬
‫ل شيء ‪ .‬فأنت ـ أيضًا ـ ل شيء ‪ ،‬فإن لم يكن لك وظيفة عند ربك فل نفع لك في هذه الدنيا ‪ ،‬ول‬
‫قيمة لك عند ال ‪ ،‬فإنما قيمة العبد عند ال حين يعظم العبد ال ‪ ،‬فيعظم ال في قلبه ‪ ،‬وإذا عظم ال في‬
‫قلبك فأبدًا ل تطيق ول تستطيع أن تجلس هكذا ل تدعو إلى طريق مولك ‪.‬‬
‫أخي الحبيب ‪..‬‬
‫ل تخادع نفسك ‪ ،‬فأنت على نفسك بصير ‪ ،‬ل تقل ‪ :‬كنت وكان وسوف ‪ ،‬فإنها حبائل الشيطان ‪ ،‬بل‬
‫سل نفسك بصدق وفي الحال ‪ :‬من أنا عند ال ؟!‬

‫‪4‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪5‬‬

‫فإن أدركت أنك في الحضيض ‪ ،‬فقل لها ‪ :‬وحتى متى ؟! فإن تسرب إليك هاتف من يأس فذكرها‬
‫بال الرحيم ‪ ،‬فإن تعلقت بالرحمة ولم تعمل فهذا عين الغرور ‪ ،‬فمن يحسن الظن بال يحسن العمل ‪ ،‬وما‬
‫مآل المغترين إل أن يبدو لهم من ال ما لم يكونوا يحتسبون ‪.‬‬
‫وإن كنت على خير فإياك أول أن تغتر أو تعجب ‪ ،‬بل سل نفسك حينئذٍ ‪ :‬أين شكر النعم ؟! وهل‬
‫ما أنا فيه استدراج ؟ ومدار النجاة في أن تكون دائمًا في زيادة ‪ ،‬فإن كنت في نقصان فهنا البلية الكبرى ‪،‬‬
‫لنّ الموت قد يفجأك على هذه الحالة ‪ ،‬ومازلت أنت تذكر ليلة قمتها ‪ ،‬ويوم بعيد صمته ‪ ،‬وتركن على‬
‫أعمال هزيلة ل تغني عنك من ال شيئًا ‪ ،‬فما عساك تصنع حينها ؟‬
‫قال ابن مسعود ‪ :‬إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة ‪ ،‬وأعمال محفوظة ‪ ،‬والموت يأتي‬
‫بغتة ‪ ،‬فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبته ‪ ،‬ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة ‪ ،‬ولكل زارع‬
‫مثل ما زرع ل يسبق بطيء بحظه ‪ ،‬ول يدرك حريص ما لم يقدر له ‪.‬‬
‫أخي ‪..‬‬
‫أفق من غفوتك ‪ ،‬وانهض من رقدتك ‪ ،‬فالعمر قليل ‪ ،‬والعمل كثير ‪ ،‬فإلى متى النكوص والفتور‬
‫والتواني والكسل ‪ ،‬إلى متى هجران الطاعات ؟ وترك المندوبات ؟ بل قل ‪ :‬ترك الواجبات ‪ ،‬وآكد‬
‫الفرائض المحتمات ‪ ،‬واستمراء المعاصي والسيئات ‪ ،‬والجتراء على الوقوع في المهلكات ‪.‬‬
‫إلى متى ؟! إلى متى ؟‬
‫يا نفس ‪ :‬بال أجيبيني !! مادمت تعرفين أنّك ل تساوين شيئًا عند ال ‪ ،‬وأنّك رضيت بالهوان‬
‫فآثرت نعيمًا فانيًا ‪ ،‬وزهدت في جنات خالدة ‪ ،‬أما تنظرين إلى من ساروا في هذا الدرب كيف فتنوا ؟ كيف‬
‫ذلوا وصغروا ؟ كيف شقوا فما وال سعدوا ؟‬
‫ثمّ بعد ذلك إلى الردى تريدين !!‬
‫ل ‪ ..‬ل لن أنصت لحديثك مرة أخرى ‪ .‬بل سأبدأ من اللحظة ‪ ،‬سأبدأ في الحال صفحة جديدة في‬
‫عمري ل شعار لي فيها إل الجدية في اللتزام ‪.‬‬
‫ومن هنا البداية ‪ ،‬فاعرف اولًا من أين أوتيت ؟ وكيف قهرت جيوش النفس والشيطان حصون‬
‫قلبك فأردتك ‪ ،‬ضع يدك في يدي ‪ ،‬وتعال نعمل سويًا لجل رضا ربنا ‪ ،‬حتى نصل بإذن ال إلى الجنة‪.‬‬

‫أسباب ضعف اللتزام‬


‫إخوتاه‬
‫ما هي السباب وراء ضعف اللتزام ؟‬
‫‪5‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪6‬‬

‫السبب الول‪ :‬عدم الجدية في أخذ الدين ‪.‬‬


‫فإننا لم نأخذ هذا الدين في الصل بجد ‪ ،‬بل دخلنا فيه هوى وهواية ‪ ،‬وكثيرًا جدًا ما أطالبكم بأن‬
‫يراجع كل منا نفسه ‪ ،‬فيبدأ بسبب التزامه الول ‪ ،‬تدري عندما أصرخ فيمن ل يصلي لماذا ل تصلي ؟‬
‫أحتاج ـ أيضًا ـ أن أوجه صرخة أخرى لمعاشر المصلين وأنتم لماذا تصلون ؟‬
‫نعم لماذا تصلي ؟! نعم يا من أعفيت لحيتك لماذا أعفيتها ؟ لماذا ـ أخي ـ قصرت ثوبك ؟! لماذا‬
‫تركت أشرطة الغاني وأقبلت على سماع القرآن ؟! لماذا خل بيتك من الدش والفيديو والتليفزيون ؟ لماذا‬
‫؟!!‬
‫لماذا اقتنيت مصحفًا ؟ لماذا بدأت تقرأ القرآن ؟ لماذا تحفظ القرآن ؟ لماذا تحضر دروس العلم ؟‬
‫لماذا ل تصاحب إل مؤمنًا ؟ …‪.‬لماذا ‪ ..‬لماذا ؟‬
‫‪ .‬إن لم يكن كل هذا ل فإنه مردود عليك ‪ ،‬فيضمحل ويتلشى ويتواري ويعود كأن لم يكن‬
‫عمَلٍ فَ َجعَ ْلنَاهُ َهبَاء مّنثُورًا " [ الفرقان ‪23 /‬‬
‫] قال تعالى ‪ " :‬وَ َقدِ ْمنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ َ‬
‫لبد أن نمحص نياتنا على جمرات الخلص ‪ ،‬ارجع إلى البدايات الولى ‪ ،‬اتهم نيتك ‪ ،‬فكثير منا‬
‫التزم الد ين في ظروف غ ير طبيع ية قد تكون دفع ته أو اضطر ته إلى اللتزام ‪ ،‬وبعض نا ـ ول الح مد ـ‬
‫التزم ل مخلصًا ‪ ،‬نسأل ال أن يجعلنا وإياكم منهم ‪ ،‬لكن ارجع وصحح نيتك فهذه هو الصل ‪.‬‬
‫السبب الثاني ‪ :‬الترف‬
‫والترف مفسد أي مفسد ‪ ،‬إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا ‪ ،‬وللسف الشديد إنّ أكثر المة اليوم يعيش ترفًا‬
‫غريبًا عجيبًا دخيلً علينا ‪.‬‬
‫فالفقراء يحاولون أن يفتعلوا الترف ‪ ،‬ولو في بعض الشياء ‪ ،‬تجده ل يجد إل قوته الضروري ولكنه يقتطع‬
‫منه من أجل أن يقتني المحمول ‪ ،‬ويشتري أفخر الثاث ‪ ،‬ويشتري أحدث الجهزة ‪ ،‬ليشتري الدش فيدخل‬
‫الفساد على أهله ويقره في بيته دياثة ‪ ،‬وهذا يقتطع من قوت أطفاله لكي يصيّف هنا أو هناك ‪ ،‬والقائمة‬
‫طويلة تعرفونها جيدًا ‪ ،‬وإلى ال المشتكى ‪.‬‬
‫ترف وللسف الشديد أمر يخجل ‪ ،‬فلجل ال يشح ويبخل ‪ ،‬ويقدم لك العتذارات لضيق الوقت وضيق‬
‫ذات اليد و … و… الخ لكن للدنيا وللشهوات يحارب ويدبر ويفكر ‪.‬‬
‫إنه التنافس على الدنيا ‪ ،‬وكأنه لو لم يحصل هذه المور سيعيش في الضنك ‪ ،‬وسيبلغ به الحرج المدى ‪،‬‬
‫ول وال فما الزيادة في الدنيا إل زيادة في الخسران ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪7‬‬

‫عنّي‬ ‫فالغني يصاب بالبطر والكبر ‪ ،‬ويصبح ماله نقمة عليه في الخرة فيصرخ يوم القيامة ‪ " :‬مَا أَ ْ‬
‫غنَى َ‬
‫ن ذِرَاعًا‬
‫سبْعُو َ‬
‫خذُوهُ َفغُلّوهُ ُثمّ الْجَحِيمَ صَلّوهُ ُثمّ فِي سِ ْلسِلَ ٍة ذَرْعُهَا َ‬
‫عنّي سُلْطَانِيهْ ُ‬
‫مَالِيهْ هَلَكَ َ‬
‫سكِينِ فَ َليْسَ لَهُ ا ْليَ ْومَ هَا ُهنَا حَمِيمٌ‬
‫طعَامِ الْ ِم ْ‬
‫علَى َ‬
‫فَاسُْلكُوهُ ِإنّ ُه كَانَ لَا يُ ْؤمِنُ بِاللّهِ ا ْلعَظِيمِ وَلَا يَحُضّ َ‬
‫[ الحاقة ‪]37-28/‬‬ ‫غسْلِينٍ لَا يَ ْأكُلُهُ ِإلّا الْخَا ِطؤُونَ "‬
‫طعَامٌ إِلّا مِنْ ِ‬
‫وَلَا َ‬
‫والفقير يحلق دينه بالحقد والحسد ‪ ،‬ناهيك عمّن يتكبر وهو معوز فيدخل في قول رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم وآله وسلم ‪ " :‬ثلثة ل يكلمهم ال يوم القيامة ول يزكيهم ول ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ‬
‫زان وملك كذاب وعائل مستكبر " ‪.1‬‬
‫فرجل كبير السن يزني ‪ ،‬وملك يكذب على رعيته ول يحتاج لذلك فإذا كذب غش ‪ ،‬فهنا ـ كما يقول‬
‫العلماء ـ ضعف الداعي ‪ ،‬وتم الفعل ‪ ،‬فعظم الوزر‪.‬‬
‫إنها عقوبة تروع قلب أي مسلم أل يكلمه ال ‪ ،‬انظر لكعب بن مالك لما خاصمه رسول ال صلى ال عليه‬
‫و سلم كادت رو حه تز هق ‪ ،‬تف كر في حالك ولو أت يت من ت حب فوجد ته معرضًا ع نك أو خا صمك ك يف‬
‫تكون حينها ؟! أل تشعر أنّ الدنيا اسودت في وجهك ‪ ،‬ويحل بك من الضيق والحزن ما يقطع قلبك ‪ ،‬فما‬
‫بالك أن يقاطعك ال ‪ ،‬ل يكلمك ‪ ،‬ل ينظر إليك ‪ ،‬يعرض عنك ‪ ،‬ل يزكيك ‪ ،‬هذا أشد من عذاب جهنم عند‬
‫الموقنين المحبين الموحدين ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬عائل أي فقير وهو مع هذا مستكبر ‪ ،‬فأن يطغى الغني بالمال هذا أمر معروف قال تعالى ‪:‬‬
‫س َتغْنَى " [ العلق ‪ ] 7-6/‬لكن فقير يتكبر فلماذا ـ يا عبد ال ـ ؟ !!‬ ‫" إِنّ الْإِنسَانَ َليَ ْ‬
‫طغَى أَن رّآهُ ا ْ‬
‫وكذلك فقير مترف هذا شيء يبغضه ال تعالى ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫ول شك أنّ الترف أفسد أبناءنا ‪ ،‬فوجدنا فينا من يتفاخر يقول ‪ :‬أنا ل أجعل ابني في احتياج إلى شيء أبدًا‬
‫فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته ‪.‬‬
‫ومثل هذا يظن أنه أحسن إلى ولده ‪ ،‬وأنا أعرف أنّ العاطفة لها دخل كبير في هذا ‪ ،‬بل من ل يستطيع أن‬
‫يفعل ذلك يظل مهمومًا بهذه الرغبات من الولد والتي ل يستطيع أن يلبيها لهم ‪ ،‬والحقيقة أنّ هذا ليس من‬
‫التربية في شيء ‪ ،‬فأنت بذلك تفسد الولد ‪ ،‬إننا نفتقد الحكمة في التربية ‪ ،‬نفتقد التربية اليمانية الصحيحة‬
‫لولدنا ‪.‬‬

‫أخرجه مسلم (‪ )107‬ك اليمان ‪ ،‬باب بيان غلظ تحريم إسبال الزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلثة‬ ‫‪1‬‬

‫الذين ل يكلمهم ال يوم القيامة ول ينظر إليهم ول يزكيهم ولهم عذاب أليم ‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪8‬‬

‫لماذا ل تربي ولدك منذ البداية على أن يتعلق بال ‪ ،‬فإذا طلب شيئًا مفيدًا ولم تستطع أن تجيبه فقل له ‪ :‬هيا‬
‫يا بني نصلي ركعتين وند عو ال فيه ما ‪ ،‬فإنّ ال هو الرزاق ‪ ،‬وهو ربنا المدبر لمور نا ‪ ،‬فإذا لم يمنحنا‬
‫المال الذي أستطيع به أن آتيك بما تريد ‪ ،‬فاعلم أنّ هذا ليس مفيدًا لنا الن ؛ لنّ ال صرفه عنّا ‪.‬‬
‫فتعلمه قول النبي صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إذا سألت فاسأل ال ‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن بال "‪ ، 1‬وليس‬
‫من التربية أن تلبي جميع متطلبات أولدك فينشأ الواحد منهم عبد شهواته‪ ،‬كلما تاقت نفسه إلى شيء طلبه‬
‫فإنّه إن لم يجده سيسرق ويزنى ويخون من أجل أن يحقق ما يشتهي ‪.‬‬
‫إن لبنك حقًا أعظم من الدنيا ‪ ،‬وهو أن تعلمه كيف ينجو من النار ‪ ،‬اللهم نجنا وأولدنا من النار ‪ .‬قال ال‬
‫تعالى ‪ " :‬يَا َأيّهَا اّلذِينَ آ َمنُوا قُوا أَن ُف َ‬
‫س ُكمْ وَأَهْلِي ُكمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَا َرةُ عَ َل ْيهَا مَلَا ِئكَةٌ غِلَاظٌ‬
‫[التحريم ‪] 6 /‬‬ ‫شدَادٌ لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا أَمَ َر ُهمْ َو َي ْفعَلُونَ مَا يُؤْ َمرُون "‬
‫ِ‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫نحتاج إلى صفات " الرجولة " ‪ ،‬والرجل الحق ل يعرف الترف ‪.‬‬
‫قال عمر ‪ :‬اخشوشنوا فإنّ النعمة ل تدوم ‪.‬‬
‫وقالت العرب قديما ‪ :‬وعند الصباح يحمد القوم السّري ‪.2‬‬
‫قال الشاعر ‪:‬‬
‫ِإنّما المـرُ سهـولٌ وحزونْ‬ ‫ل كله‬
‫ليسَ أمرُ المرءِ سه ً‬
‫مُرْمضٍ قد سخنتْ عنه عيونْ‬ ‫ن بشجى‬
‫ربما قـ ّرتْ عيو ٌ‬
‫خابَ من يطلبُ شيئا ل يكونْ‬ ‫تطلبُ الراحةَ في دارِ العنا‬
‫أيها الحبة في ال ‪..‬‬
‫مع أ بي‬ ‫مو قف لط يف جرى ب ين عالم ين جليل ين ‪ ،‬ف قد اجت مع يومًا ا بن حزم الندل سي الفق يه الظاهري‬
‫الوليد الباجي الفقيه المالكي‪ ،‬وجرت بينهما مناظرة سنة ‪ 440‬من الهجرة ‪ ،‬فلما انقضت المناظرة قال أبو‬
‫الوليد الباجي لبن حزم ‪ :‬تعذرني فإن أكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس ‪.‬‬

‫أخرجه الترمذي (‪ )2516‬ك صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول ال ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫السّرى ‪ :‬سير عامة الليل ‪ .‬وهو مثل يضرب في الرجل يحتمل المشقة من أجل الراحة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن خالد بن الوليد هو‬ ‫‪2‬‬

‫أول من قاله ‪.‬‬


‫‪8‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪9‬‬

‫فأبو الوليد الباجي كان فقيرًا ل يجد مالً ‪ ،‬ل يجد مصباحًا في بيته ‪ ،‬فاعتذر لبن حزم لن قراءته‬
‫ومذاكرته وطلبه للعلم كان على مصابيح الحراس ‪ ،‬فالحراس كانوا يمشون في الليل بمشاعل لحماية البلد‬
‫من اللصوص ‪ ،‬فكان هو يسير وراءهم يقرأ في الكتاب ‪ ،‬ويذاكر على ضوء مصابيح الحراس ‪.‬‬
‫سبحان ال العظيم !! وهذا بقي بن مخلد المحدث المشهور صاحب المسند ‪ ،‬وهو أكبر من مسند المام‬
‫أحمد بن حنبل ‪ ،‬الشاهد قال لتلميذه يومًا ‪ :‬أنتم تطلبون العلم !!‬
‫إنني كنت أطلب العلم فل أجد ما أتقوت به فأجمع من على المزابل أوراق الكرنب الخضراء لكلها ‪،‬‬
‫وأتعشى بها ‪ ،‬حتى أتي اليوم الذي بعت فيه سراويلي من أجل أن أشتري أوراقًا أكتب بها ‪ ،‬وجلست بل‬
‫سراويل ‪.‬‬
‫قال ياقوت الحموى ‪ :‬فالغني أضيع لطلب العلم من الفقر ‪.‬‬
‫وقال بعض المحققين ‪ :‬كثرة المال وطيب العيش تسد مسالك العلم إلى النفوس ‪ ،‬فل تتجه النفوس إلى العلم‬
‫مع الترف غالبًا ‪ ،‬فإن الغني قد يسهل اللهو ويفتح بابه ‪ ،‬وإذا انفتح باب اللهو سد باب النور والمعرفة ‪،‬‬
‫فلذائذ الحياة وكثرتها تطمس نور القلب ‪ ،‬وتعمي البصيرة ‪ ،‬وتذهب بنعمة الدراك ‪ ،‬أما الفقير وإن شغله‬
‫طلب القوت ‪ ،‬فقد سدت عنه أبواب اللهو ‪ ،‬فأشرقت النفس ‪ ،‬وانبثق نور الهداية وال الموفق والمستعان ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫هذه هي القضية أن الترف مفسد ‪ ،‬وكثرة المال تلهى ‪ ،‬فاللهم أعطنا ما يكفينا ‪ ،‬وعافنا مما يطغينا ‪.‬‬
‫وللسف الشديد الناس في هذا الزمان ل يطلبون ما يكفيهم ‪ ،‬بل يطلبون ما يطغيهم ‪ ،‬ل يكتفون بما‬
‫يرضيهم بل يطلبون ما يعليهم ‪.‬‬
‫انظر لطلبة العلم الن ‪ ،‬فأكثرهم لم يختم القرآن حفظًا ‪ ،‬والحفاظ أصبحوا ندرة ‪ ،‬فإذا سئلت لماذا لم تحفظ‬
‫القرآن ؟!! فالجواب عادة ‪ :‬لنني ل أجد الوقت ‪.‬‬
‫لماذا ـ أخي ـ ل وقت عندك ‪ ،‬لنك تضيعه في طلب الدنيا أو طلب شهوات النفس ‪ ،‬أليس ل حق في‬
‫وقتك ‪ ،‬فاتقِ ال ‪ .‬ول حول ول قوة إل بال ‪.‬‬
‫السبب الثالث ‪ :‬رواسب الجاهلية‬
‫من أسباب ضعف اللتزام رواسب الجاهلية ‪ ،‬فإن أكثرنا يدخل طريق اللتزام وفي داخلة نفسه‬
‫رواسب من رواسب الجاهلية مثل ‪ :‬حب الدنيا ‪ ،‬والعتزاز بالنفس ‪ ،‬والمال الدنيوية العريضة ‪ ،‬وعدم‬
‫قبول النصيحة ‪ ،‬وكثرة الكل ‪ ،‬وكثرة النوم ‪ ،‬وكثرة الكلم ‪ ،‬و‪ ..‬و…الخ ‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪10‬‬

‫قال ال جل جلله عن قوم موسى الذين لم يستطيعوا أن يدخلوا معه الرض المقدسة قال عنهم ‪ " :‬فَمَا‬
‫ل ذُ ّريّةٌ مّن َقوْ ِمهِ عَلَى خَوْفٍ مّن ِفرْعَوْنَ َومَ َلئِ ِهمْ أَن َي ْف ِتنَ ُهمْ " [يونس ‪. ] 83/‬‬
‫آمَنَ ِلمُوسَى إِ ّ‬
‫هؤلء الذين أسلموا لموسى بعد السحرة ‪ ،‬يخبرنا ال أنهم أسلموا على خوف ‪ ،‬إنهم ربّوا على القهر والذل‬
‫والستعباد ‪ ،‬وسياقهم كالقطيع ‪ ،‬نشأوا على ذلك ‪ ،‬عاشوا على هذا ‪ ،‬فلما آمنوا ظلت فيهم رواسب من هذا‬
‫فلم ينجحوا مع موسى عليه وعلى نبينا الصلة و السلم ‪ ،‬فاتعبوه ‪ ،‬وبدأت الجاهليات تظهر ‪ ،‬فتارةً‬
‫طعَامٍ‬
‫صبِرَ عَلَىَ َ‬
‫حتّى نَرَى اللّهَ جَهْ َرةً " [ البقرة ‪ ، ] 55/‬وتارة قالوا ‪ " :‬لَن ّن ْ‬
‫قالوا ‪ " :‬لَن نّ ْؤمِنَ لَكَ َ‬
‫حدٍ " [ البقرة ‪ ، ] 61/‬وتارةً " قَالُواْ يَا مُوسَى ِإنّا لَن ّندْخُلَهَا َأ َبدًا مّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْ َهبْ أَنتَ وَ َربّكَ‬
‫وَا ِ‬
‫عدُونَ " [المائدة ‪. ] 24/‬‬
‫َفقَاتِل ِإنّا هَا ُهنَا قَا ِ‬
‫والشاهد أن سبب هذا أنهم آمنوا أصلً على خوف من فرعون وملهم ‪ ،‬فإذا اجتمع اللتزام مع رواسب‬
‫الجاهلية ‪ ،‬تظل الرواسب تشدك للماضي ‪.‬‬
‫كم من شباب التزم ثم نكص على عقبيه ‪ ،‬وأنت تعلمون أنّي ـ وال ـ أحبكم في ال ‪ ،‬فل تغضبوا‬
‫م ني ‪ ،‬فإ ني أحاول أن ن صل معًا إلى حل ‪ ،‬إلى علج لتلك المراض ال تي ت فت في عضد نا ‪ ،‬وتط مس‬
‫الجهود الدعوية المبذولة لعلء كلمة ال في الرض ‪ ،‬فلكي نصل إلى الجنة لبد من تحمل مرارة الدواء‪،‬‬
‫فهل يعز عليكم تحمل هذا في سبيل الوصول للجنة ؟‍ !!‬
‫لذلك تعالوا بنا إلى بعض السبل العلجية لظاهرة ضعف اللتزام والفتور ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪11‬‬

‫طرق العلج من ضعف اللتزام‬


‫أول‪ :‬قف مع نفسك وقفة صادقة جادة ‪.‬‬
‫لبد من وقفة جادة مع النفس ‪ ،‬اصدق مع نفسك ‪ ،‬ول تبخل في بذل النصح لها ‪.‬‬
‫قل لها ‪ :‬ثمّ ماذا ‍؟ ما هي النهاية لكل ما أنت فيه من إعراض عن سبيل ال ؟‍‬
‫هذا أول سبيل للعلج ‪ ،‬سل نف سك ‪ :‬ماذا تريد ين ؟ هل تريد ين الج نة أم النار ؟ فإن قلت ‪ :‬الج نة‬
‫فبماذا تطمعين فيها وأنت في هذا البلء‪ ،‬وأنت تعصين ال في السر والعلن ‪ ،‬في الليل والنهار ‪ ،‬حالك هذا‬
‫وال ل يرضي ال ‪ ،‬إنّ هذا لهو الغرور عينه ‪.‬‬
‫سل نفسك ‪ :‬مالك تشتهين الدنيا وقد علمت حقيقتها ؟‬
‫أليس نعيمها منغصًا ؟ أليس كل فيها يزول ويفنى ؟ فمالك تريدين الدنيا وهي إلى رحيل ول تعملين‬
‫للجنة وهي دار الخلود ؟‬
‫ا صدق مع نف سك في الجواب ‪ ،‬وإياك من التلون والخداع ‪ ،‬إياك أن تظ فر بك نف سك في الت سويف‬
‫والقنوط ‪.‬‬
‫بعضنا إذا سالته ‪ :‬هل تريد الدنيا أم الخرة ؟ يقول ‪ :‬الخرة قطعًا ‪ ،‬وحاله شاهد على كذبه ‪.‬‬
‫وآخرون ل يدرون ماذا يريدون ؟ وبعضنـا ل يريـد أن يفوت الدنيـا ول الخرة ‪ ،‬والجمـع بيـن‬
‫النقيضين محال ‪.‬‬
‫كـم مـن شاب يمنـي نفسـه بالعروس الجميلة ذات المؤهـل العالي والمركـز الجتماعـي المرموق ‪،‬‬
‫وبطبيعة الحال كل سلعة لها ثمن ‪ ،‬ففي المقابل ستجد التكاليف الباهظة من مهر وشقة ومستلزمات …لخ ‪،‬‬
‫وهكذا تظل تعمل من أجل الدنيا ‪ ،‬فتتملكك ثمّ تقول ‪ :‬أريد الدنيا والخرة ‍‍!!‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫أهل الخرة يكفي أحدهم أقل القليل من حطام الدنيا ‪ ،‬فمن كان همّه الخرة لم يبالِ بما حصّل الناس‬
‫من الدنيا ‪ ،‬إذا رأى الناس يتنافسون في الحصول على المرأة الجميلة تذكر هو قول ال في الحور العين ‪:‬‬
‫جعَ ْلنَاهُنّ َأ ْبكَارًا عُ ُربًا َأتْرَابًا لّ َأصْحَابِ ا ْل َيمِينِ " [ الواقعة ‪ ، ]38-35/‬فصرف‬
‫" ِإنّا أَنشَ ْأنَاهُنّ إِنشَاء فَ َ‬
‫رغبته إليهن ‪ ،‬وشمّر عن ساعد الجد لنيلهن ‪ ،‬وهكذا تلمح دائمًا الفرق بين أهل الدنيا وأهل الخرة فممن‬
‫أنت ؟‍!‬
‫‍الشاهد أننا نريد موقفًا جديًا ‪ ،‬نمحص به نياتنا ‪ ،‬نعيد من خلله ترتيب أهدافنا ‪ ،‬وابدأ بسؤال نفسك‬
‫ماذا تريدين ؟ ثم المر يحتاج بعد ذلك إلى قرارات صارمة ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪12‬‬

‫ثانيًا ‪ :‬مخالفة النفس طريق الهدى‬


‫انظر لربك وهو يعاتب موسى عليه وعلى نبينا الصلة والسلم في تربية قومه يقول ال عز وجل ‪:‬‬
‫ك يَ ْأخُذُواْ‬
‫خذْهَا بِ ُقوّةٍ وَ ْأ ُمرْ َق ْومَ َ‬
‫شيْءٍ فَ ُ‬
‫ظةً َوتَ ْفصِيلً لّ ُكلّ َ‬
‫ح مِن ُكلّ شَيْ ٍء ّموْعِ َ‬
‫" وَ َك َتبْنَا َلهُ فِي ا َل ْلوَا ِ‬
‫حسَ ِنهَا " لماذا ؟ " سَُأرِيكُمْ دَارَ ا ْلفَاسِقِينَ " [ العراف ‪ ، ] 145/‬فهذا أول السبيل تهذيب النفس بمخالفة‬
‫بَِأ ْ‬
‫الهوى ‪ ،‬فل تتابع نفسك في كل ما تشتهي ‪ ،‬فل تجبها في كل ما تطلب ‪.‬‬
‫مثال ذلك ‪ :‬أن تعرف من نف سك أن ها ل ت صبر على طا عة ‪ ،‬فإذا قالت لك ‪ :‬ه يا لنأ كل أو لنذ هب‬
‫لزيارة فلن أو نحو ذلك من المباحات ‪ ،‬فقل لها ‪ :‬ليس قبل أن أقرأ وردي من القرآن ‪ .‬فستظل تلح عليك‬
‫فإن خالفت ها ولم تف عل ما تطل به م نك المرة ب عد المرة ف سوف تتح كم في ها ‪ ،‬و من ه نا تعلو هم تك ‪ ،‬وتكون‬
‫صاحب إرادة ‪ ،‬وهذه هي الرجولة الحقيقية فتأمل ‪.‬‬
‫كذلك أنت ـ أيتها الخت المسلمة ـ إذا حادثتك النفس في أن تكلمي فلنة أو فلنة ‪ ،‬فقولي لها ‪:‬‬
‫ل ليس قبل أن أنتهي من حفظ هذا الجزء من القرآن ‪ ،‬أو ليس قبل أن أنتهي من أذكار الصباح والمساء ‪،‬‬
‫ليس قبل أن أقول ‪ :‬ل إله إل ال وحده ل شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة‪،‬‬
‫وهكذا خالفيها في المباحات فإنّها ل تأمرك بفعل المكروهات ‪ ،‬ومن باب أولى المحرمات ‪.‬‬
‫فمن تابع نفسه في كل ما تطلب أهلكته ‪ ،‬لذلك قال تعالى في عاقبة من يخالف نفسه في هواها " وََأمّا مَنْ‬
‫جنّةَ ِهيَ الْمَ ْأوَى " [ النازعات ‪ ]41-40/‬وقد بين لنا‬
‫خَافَ َمقَامَ َربّهِ َونَهَى ال ّنفْسَ عَنِ الْ َهوَى فَإِنّ الْ َ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ "‬ ‫ربنا حقيقة النفس فقال ‪ " :‬إِنّ ال ّنفْسَ لَمّا َرةٌ بِالسّوءِ إِلّ مَا رَ ِ‬
‫حمَ َر ّبيَ إِنّ َربّي َ‬
‫[ يوسف‪. ]53/‬‬
‫خذَ إِلَ َههُ‬
‫فالنفس قد تكون طاغوتًا يعبد من دون ال دون أن يدري النسان منا ‪ ،‬قال تعالى " أَفَ َرَأ ْيتَ مَنِ اتّ َ‬
‫غشَا َوةً َفمَن يَ ْهدِيهِ مِن َبعْدِ‬
‫جعَلَ عَلَى َبصَ ِرهِ ِ‬
‫خ َتمَ عَلَى سَ ْم ِعهِ وَقَ ْل ِبهِ وَ َ‬
‫هَوَاهُ وََأضَلّهُ اللّهُ عَلَى عِ ْلمٍ وَ َ‬
‫[ الجاثية ‪] 23/‬‬ ‫اللّهِ َأفَلَا َت َذكّرُونَ "‬
‫فاتباع الهوى سبب الضلل ‪ ،‬قال تعالى ‪َ " :‬فإِن ّلمْ َيسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْ َلمْ َأنّمَا َي ّت ِبعُونَ َأهْوَاء ُهمْ وَمَنْ‬
‫]‬ ‫‪50‬‬ ‫[ القصص‪/‬‬ ‫ضلّ مِمّنِ ا ّتبَعَ هَوَاهُ ِب َغيْرِ ُهدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لَا يَ ْهدِي ا ْلقَ ْومَ الظّالِمِين "‬
‫َأ َ‬
‫فاللهم اهدنا بفضلك فيمن هديت ‪ ،‬وعافنا فيمن عافيت ‪ ،‬وقنا شر أنفسنا ‪ ،‬واجعلنا من المرحومين ‪.‬‬
‫أخي الحبيب ‪..‬‬
‫هذب نفسك ‪ ،‬وأعلمْها حقيقتها ‪ ،‬فهي أمة ل الكبير المتعال ‪ ،‬فلبد أن تقيم حاكمية ال على النفس ‪ ،‬فال‬
‫هو الذي يحكم نفسك ‪ ،‬وليست الشهوات ‪ ،‬ول الشيطان ‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪13‬‬

‫إنك تتعجب حين تطالع سير سلفنا الصالح ‪ ،‬كان الواحد يأكل في اليوم مرة ‪ ،‬ويشرب في اليوم مرتين‬
‫فقط ‪ ،‬كما أثر هذا عن المام أحمد وغيره ‪.‬‬
‫فأي رجال كان هؤلء ‪ ،‬لكن من عاش ليأكل ويشرب ‪ ،‬فهذا قد يكون عبدًا لبطنه ‪ ،‬طالع سير السلف‬
‫لتعرف قدرك جيدًا ‪.‬‬
‫سئل بعض السلف ‪ :‬الرجل يأكل في اليوم أكلة ؟ قال ‪ :‬طعام المتقين ‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬فالرجل يأكل في اليوم مرتين ‪ .‬قال ‪ :‬طعام المؤمنين ‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬فالرجل يأكل في اليوم ثلث مرات ‪ .‬قال ‪ :‬قل لهله ‪ :‬ابنوا له معلفًا ‪.‬‬
‫فالناس اليوم تعمل من أجل أن تأكل من أفخر الطعمة ‪ ،‬إنه شره النفس ‪ ،‬فليس المر ما يسد الحاجة ‪،‬‬
‫ل ‪ ..‬ل ‪ ..‬إنه يريد أن يحاكي هذا وذاك ‪ ،‬وأعداء السلم ل ينفكون في تزيين الباطل للناس ‪ ،‬حتى‬
‫تتحطم عقيدة المسلمين في خضم الشهوات والملذات ‪ ،‬إنها كما قيل ‪ :‬صناعة الغفلة ‪ ،‬نسأل ال لنا ولكم‬
‫العافية ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫خذِ ا ْل ِكتَابَ ِبقُ ّوةٍ وَآ َت ْينَاهُ‬ ‫انظر لما أراد ال أن يربي يحيى ليحكم صبيًا قال ربنا جل جلله ‪ " :‬يَا يَ ْ‬
‫حيَى ُ‬
‫ص ِبيّا " [ مريم ‪ ، ] 12/‬وهو صبي يحكم لنه تربى على الج ّد والرجولة ‪ ،‬ل على الترف ‪ ،‬ول على‬
‫ح ْكمَ َ‬
‫الْ ُ‬
‫خذِ ا ْل ِكتَابَ‬ ‫الشهوات ‪ ،‬ول على متابعة النفس ‪ ،‬ومطاوعة الرغبات ‪ ،‬ول على توفير المطالب ‪ " ،‬يَا يَ ْ‬
‫حيَى ُ‬
‫جبّارًا‬
‫حنَانًا مّن ّل ُدنّا َو َزكَاةً َوكَانَ َت ِقيّا {‪َ }13‬وبَرّا بِوَا ِل َديْهِ وَ َلمْ َيكُن َ‬
‫ص ِبيّا " وَ َ‬
‫ح ْكمَ َ‬
‫ِبقُ ّوةٍ وَآ َت ْينَاهُ الْ ُ‬
‫صيّا " [ مريم ‪ ] 14– 12/‬فأين هذه الصفات في شبابنا الن ؟!!‬
‫ع ِ‬
‫َ‬
‫أيها الحبة في ال ‪..‬‬
‫ال أمرنا بالجدية في السلم فقال ‪ِ " :‬إنّهُ َلقَوْلٌ َفصْلٌ َومَا ُهوَ بِالْ َهزْلِ " [ الطارق ‪ ]14-13/‬فالمر ليس‬
‫هزلًا ‪ ،‬اليوم نرى سمات الصالحين في الظاهر ‪ ،‬ولكن على قلوب فارغة ‪ ،‬على عقول فارغة ‪ ،‬وأنا آسف‬
‫إن قلت هذا ‪ ،‬ولكن هذا واقع للمة لبد من تصحيحه ؛ لنه عار علينا ‪ ،‬ووصمة للدعوة ‪ ،‬وقد بدأت‬
‫تظهر أمور ل تمت بصلة للسلم ‪ ،‬في المعاملت وأكل أموال الناس بالباطل ‪ ،‬والمشاكل السرية‬
‫والطلق ‪ ،‬والولد الذين كنّا نعقد عليهم آمالنا ‪ ،‬أولد الملتزمين الذين لم يعرفوا الجاهلية التي مرّ بها‬
‫آباؤهم ‪ ،‬فوجدنا من كبر منهم ـ وللسف ـ بعضهم أسوأ من أبيه ‪.‬‬
‫فلبد من وقفة للتصحيح ‪ ،‬لبد من ضبط مواقع القدام ‪ ،‬قبل أن تذل بنا في جهنم ‪ ،‬قال تعالى ‪َ " :‬ف َتزِلّ‬
‫[ النحل‪] 94/‬‬ ‫سبِيلِ الّلهِ "‬
‫صدَدتّمْ عَن َ‬
‫َق َدمٌ َب ْعدَ ُثبُو ِتهَا َو َتذُوقُواْ ا ْلسّوءَ ِبمَا َ‬
‫‪13‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪14‬‬

‫أيها الحبة في ال‬ ‫‪..‬‬

‫من طرق العلج ‪:‬‬


‫ثالثًا ‪ :‬التخلص من مظاهر عدم الجدية‬
‫ومن أخطر تلك المظاهر ‪ :‬الرضا بالظواهر والشكليات ‪ ،‬ونسيان القلب والعمال ‪.‬‬
‫فليس جل الدين في اللحية والقميص القصير والنقاب ‪ ،‬إنها من شعائر السلم ‪ ،‬وينبغي علينا أن نلتزم بها‪،‬‬
‫لكن لنّ هذه السنن صارت شعارًا لهل اليمان ومعشر الملتزمين في هذا الزمان ‪ ،‬فل شك تسرب بينهم‬
‫من ليس منهم ‪ ،‬واكتفى بهذه المور ‪ ،‬ومن هنا عدنا نقول ‪ :‬الملتزم هو الصوّام القوّام ‪ ،‬الملتزم هو القائم‬
‫بالقسط ‪ ،‬الملتزم هو من خل بيته من المنكرات ‪ ،‬من يتفقه في دينه ‪ ،‬من يفهم عن ربه ‪ ،‬من يعمل في‬
‫تزكية نفسه ‪ ،‬هذه هي المعايير الن ‪ ،‬ومن ابتعد عن هذا فليس من الملتزمين ‪ ،‬فقف لتحاسب نفسك ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫أسألكم بال عليكم ‪ :‬منذ أن التزم الواحد منكم ماذا حصّل من العلم الشرعي الذي زاده قربًا إلى ربه ؟‬
‫ماذا حصّلت من العقيدة ؟ ماذا درست في الفقه ؟ كم كتاب قرأت ؟ وعلى من تعلمت ؟‬
‫هل تجيد قراءة القرآن الذي هو فرض عين عليك ؟‬
‫كم حفظت منذ أن التزمت من القرآن ؟‬
‫ما أخبار قيام الليل وصيام النهار والمحافظة على الذكار ؟!!‬
‫أيها الخ الحبيب ‪..‬‬
‫ينبغي أن يكون الفرق بينك الن وبين أيام الجاهلية شاسعًا ‪ ،‬لبد أن تتغير جذريًا ‪ ،‬فاللسان يلهج بالذكر ‪،‬‬
‫والعين تبكي خشية ل ‪ ،‬القدم تورم من القيام ‪ ،‬قلبك ل تجده إل في دروس العلم‪ ،‬أذنك تعودت على سماع‬
‫القرآن وهجرت الموسيقى والغناء ‪.‬‬
‫لبد من هذا ‪ ،‬فإنك ل تعدم أن ترى الطفال يدندنون بالعلنات والغاني وتحزن أنك ل ترى أبناء‬
‫الملتزمين وهم يدندنون بالقرآن ‪.‬‬
‫أين ابنك الذي حفظ القرآن ‪ ،‬ثمّ حفظ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (البخاري ومسلم)‪ ،‬والذي‬
‫فيه أصح الحاديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وأكثرها قوة ‪.‬‬
‫هل رأيت مثل هؤلء ؟ اللهم إل النادر القليل ‪ ،‬والنادر ل حكم له ‪.‬‬
‫لماذا يحدث هذا ؟ لماذا لهل الباطل الغلبة والتأثير ؟ أهم أكثر منكم إخلصًا ؟!!‬
‫ما نحن فيه الن يجعلنا جميعًا في قفص التهام ‪ ،‬وعليك أن تثبت لي عكس هذا ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪15‬‬

‫قال الحسن البصري ـ وقد صح عنه موقوفًا وهو ضعيف مرفوعًا ـ ‪ :‬ليس اليمان بالتمني ول بالتحلي‬
‫ولكن ما وقر في القلب وصدقته العمال ‪ ،‬وإن قومًا خرجوا من الدنيا ول حسنة لهم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬نحسن الظن‬
‫بال ‪ .‬وكذبوا ‪ ،‬لو أحسنوا الظن لحسنوا العمل ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫أين الخلص ؟! أين حملة الدين ؟ أما رأيتم الرويبضة وهم يمرقون من الدين ‪ ،‬إن هؤلء ما تجرأوا على‬
‫الدين إل بسبب تقصيرنا ؟ تقصير في طاعة ال ‪ ،‬تقصير في الدعوة إلى ال ‪ ،‬والواحد منّا جل ما يصنع‬
‫أن يقول ‪ :‬أنا مقصّر ‪ ،‬ادعُ ال لي !! ‪ .‬مقصر!! فلبد من علج ‪ ،‬فليس المر أن تتهم نفسك في العلن ‪،‬‬
‫ثمّ ل يتبع ذلك ندم وتوبة ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫نحن ل نيأس من رحمة ال ‪ ،‬وال وعدنا إنْ أصلحنا من أنفسنا أن يغير ما نحن فيه من غربة‪ ،‬فالمل‬
‫سيظل معقودًا أبدًا ‪ ،‬والمستقبل للسلم ‪ ،‬وإن كره الملحدون والكافرون ‪ ،‬والتمكين للدين آتٍ بإذن ال ‪،‬‬
‫نسأل ال أن يمكن لدينه في الرض ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪.‬‬
‫من طرق العلج ‪:‬‬
‫رابعًا ‪ :‬زيادة الطاعات وعدم الغترار بالعمل اليسير ‪.‬‬
‫معتقد أهل السنة والجماعة أنّ اليمان يزيد وينقص ‪ ،‬يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ‪ ،‬فإن لم يكن يزيد‬
‫فإنه ينقص ‪.‬‬
‫أريد أن يزيد إيمانك كل يوم ‪ ،‬تقرب إلى ال بما تستطيع ‪ ،‬ول تغتر بالعمل اليسير ‪ ،‬ول تكثر التشدق‬
‫بالنجازات ‪ ،‬لنّ هذا قد يورث العجب والفرح بالعمل والشتغال بالنعمة عن المنعم ‪،‬‬
‫مثال ذلك ‪:‬‬
‫تجد أن الخ إذا وجد نفسه مقيمًا للصلوات في الجماعة ‪ ،‬وقام ليلة أو ليلتين ‪ ،‬ظن نفسه من أولياء ال‬
‫الصالحين ‪ ،‬وهذا قد يبتلى بترك العمل ‪ ،‬لنه لم يشكر النعمة وإنما نسب الفضل لنفسه ‪ ،‬ولذلك كان‬
‫المؤمنون هم أكثر الناس وجلًا ‪ ،‬فليس الشأن في العمل وإنما في قبوله ‪ ،‬قال تعالى ‪ " :‬وَاّلذِينَ يُ ْؤتُونَ مَا‬
‫]‬ ‫‪60‬‬ ‫[ المؤمنون ‪/‬‬ ‫آتَوا وّ ُقلُوبُ ُهمْ وَجَِلةٌ َأنّ ُهمْ إِلَى َربّ ِهمْ رَا ِجعُونَ "‬
‫فالغترار بالعمل القليل اليسير ‪ ،‬وكثرة الكلم عن العمال التي يقوم بها ‪ ،‬هذا دليل أنه لن يكمل ‪ ،‬ولن يتم‬
‫فاستر نفسك ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪16‬‬

‫قال المام ابن القيم في مدارج السالكين ‪ " :‬ول در أبي مدين حيث يقول ‪ :‬ومتى رضيت نفسك وعملك ل‪،‬‬
‫فاعلم أن ال عنك غير راضٍ ‪ ،‬ومن عرف نفسه وعرف ربه علم أن ما معه من البضاعة ل ينجيه من‬
‫النار ‪ ،‬ولو أتى بمثل عمل الثقلين " ‪.‬‬
‫نعم الذي يرى نفسه مؤمنًا خالصًا فهذا معجب مغتر بنفسه ‪ ،‬لبد أن ترى دائمًا نفسك بعين النقص‬
‫والعيب ‪ ،‬لبد أن تنكس رأسك وتذل ل ‪.‬‬
‫ن الولد إذا رضي عن نفسه في علم من العلوم يبدأ يهجر مدارسته ‪ ،‬ثمّ‬
‫ول المثل العلى ‪ :‬فأنت تعرف أ ّ‬
‫بعد هذا تأتي الرياح بما ل تشتهي السفن ‪ ،‬وقد يرسب في هذا العلم ‪ ،‬بسبب تهاونه وعجبه ‪.‬‬
‫وهذه قضية المن على اليمان ‪ ،‬وقد قال ال ‪ " :‬أَفَ َأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَى أَن يَ ْأ ِتيَ ُهمْ بَ ْأ ُ‬
‫سنَا َبيَاتا وَ ُهمْ نَآئِمُونَ‬
‫سنَا ضُحًى وَ ُهمْ يَ ْل َعبُونَ أَفَ َأ ِمنُواْ َم ْكرَ الّلهِ فَلَ يَأْمَنُ َمكْرَ اللّهِ ِإلّ ا ْلقَ ْومُ‬
‫َأوَ أَمِنَ أَهْلُ ا ْلقُرَى أَن يَ ْأ ِتيَ ُهمْ بَ ْأ ُ‬
‫الْخَاسِرُونَ " [ العراف‪ ]99-97/‬فل تأمن ‪ ،‬فإنّ إبراهيم الخليل عليه السلم لم يأمن على توحيده ‪ ،‬بل‬
‫" [ إبراهيم‪] 35/‬‬ ‫صنَام‬ ‫ابتهل إلى ربه وقال ‪ " :‬وَا ْ‬
‫ج ُن ْبنِي َو َب ِنيّ أَن ّن ْع ُبدَ ا َل ْ‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫من طرق العلج ‪:‬‬
‫خامسًا ‪ :‬عدم التسويف ‪.‬‬
‫فمن مظاهر عدم الجدية في اللتزام كثرة الوعود والماني مع التسويف ‪ ،‬فتجد المرء منّا يمني نفسه ‪،‬‬
‫تقول له ‪ :‬احفظ القرآن ‪ .‬فيقول ‪ :‬سأحفظ إن شاء ال عندما أجد الوقت ‪ .‬وبطبيعة الحال ل يجد الوقت فهو‬
‫مهموم دائمًا ‪ ،‬يقول ‪ :‬عندما أنتهي من الدراسة سأتعلم العلم الشرعي ‪ ،‬وأتفرغ للدعوة إلى ال ‪ ،‬ثمّ يدخل‬
‫الجيش فيقول ‪ :‬عندما أنتهي من هذه الفترة الشاقة سأصنع ما أريد بإذن ال ‪ ،‬ثمّ تنتهي مدة الجيش فيبدأ في‬
‫البحث عن العمل ‪ ،‬ثمّ يقول ‪ :‬لبد أن أتزوج ‪ ،‬فيظل مهمومًا بأمر الزوجة والبحث عنها ‪ ،‬ثمّ يجدها فيهتم‬
‫بأمر الشقة وتجهيز المنزل ‪ ،‬ثمّ يتزوج فيبدأ في السعي لتحسين وضعه الجتماعي ‪ ،‬ثمّ يرزق بالولد‬
‫فيظل مهمومًا بأمورهم هكذا دواليك ‪.‬‬
‫والعجيب أنّك قد تجد رجلًا من هؤلء في النهاية قد رضي بهذا الضنك ‪ ،‬ويقول ‪ :‬هذه سنة الحياة !!‬
‫سنة الحياة أن تعبد الدنيا وتنسى أمر الخرة !! سنة الحياة أن تهجر الطاعات من أجل الهوى والشهوات !!‬

‫إخوتاه ‪..‬‬

‫‪16‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪17‬‬

‫بسيف التسويف قُتل أناس كثيرون ‪ ،‬فالتسويف رأس كل فساد ‪ ،‬فمن أجّل الطاعات لغد وبعد غد ل يلبث‬
‫أن يتركها بالكلية ‪ ،‬فالشيطان يسول له ‪ ،‬ويمنيه ‪ ،‬ويغريه بطول المل ‪ ،‬والموت يأتي بغتة ‪ ،‬والقبر‬
‫صندوق العمل ‪.‬‬
‫في قصة الثلثة الذين خلفوا ‪ ،‬كان كعب لديه المال ‪ ،‬يقول كعب بن مالك ‪ " :‬فطفقت أغدو لكي أتجهز‬
‫معهم فأرجع ‪ ،‬ولم أقض شيئا ‪ ،‬فأقول في نفسي ‪ :‬أنا قادر عليه ‪ .‬فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس‬
‫الجد ‪ ،‬فأصبح رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمون معه ‪ ،‬ولم أقض من جهازي شيئا ‪ ،‬فقلت ‪:‬‬
‫أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ‪ ،‬ثم غدوت ‪،‬‬
‫ثم رجعت ولم أقض شيئا ‪ ،‬فلم يزل بي حتى أسرعوا ‪ ،‬وتفارط الغزو ‪ ،‬وهممت أن أرتحل فأدركهم ‪،‬‬
‫وليتني فعلت ‪ ،‬فلم يقدر لي ذلك ‪ ،‬فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪1‬‬
‫فطفت فيهم أحزنني أنّي ل أرى إل رجل مغموصا عليه النفاق ‪ ،‬أو رجل ممن عذر ال من الضعفاء ‪.‬‬
‫وهكذا في نهاية المطاف وجد نفسه في وسط المنافقين ‪ ،‬وهذا من جراء التسويف ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫الحذر الحذر من التسويف ‪ ،‬وطول المل ‪ ،‬قبل فجأة الموت ‪ ،‬وحسرة الفوت ‪.‬‬
‫يا من تعمل في أعمال محرمة ‪ ،‬إياك أن تسوّف ‪ ،‬فقد تموت قبل أن تتخلص منه ‪ ،‬هيا الن ‪ ،‬ل تؤجل ‪،‬‬
‫ل تعطل ‪ ،‬واتخذ هذا القرار الحاسم في حياتك فهذا دليل توبتك حقًا ‪ ،‬ل أن تتشدق بالوهام ‪.‬‬
‫يا من يريد حفظ القرآن قل ‪ :‬سأبدأ حفظ القرآن اليوم ‪ ،‬كل يوم ربع أو ربعين ‪ ،‬وتلزم نفسك بذلك إلزامًا‬
‫صارمًا ‪ ،‬ول تتهاون في عقاب نفسك إن قصرت ‪ ،‬وإل فستصبح من أصحاب المظهرية الجوفاء الذين‬
‫يكثرون من الوعود والماني ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫من طرق العلج ‪:‬‬
‫سادسًا ‪ :‬أخذ الدين بشموليته ‪.‬‬
‫فمن مظاهر عدم الجدية في اللتزام الكتفاء ببعض الجوانب في الدين دون الشمولية ‪ ،‬وقد قال ال ‪ " :‬يَا‬
‫َأيّهَا اّلذِينَ آ َمنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّ ْل ِم كَآفّة " [ البقرة ‪ ، ] 208/‬فكثير من الملتزمين يدخل في الدين ‪ ،‬ويلتزم‬
‫ببعض الجزئيات التي أحبها في الدين ‪ ،‬وقد يكون ذلك هوى ‪ ،‬فليس الهوى في فعل المحرمات ‪ ،‬بل وفي‬

‫متفق عليه ‪ .‬أخرجه البخاري (‪ )4418‬ك المغازي ‪ ،‬باب حديث كعب بن مالك ‪ ،‬ومسلم (‪ )2769‬ك التوبة ‪ ،‬باب حديث‬ ‫‪1‬‬

‫توبة كعب بن مالك وصاحبيه ‪.‬‬


‫‪17‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪18‬‬

‫فعل الطاعات أيضًا ‪ ،‬قال ال تعالى لنبيه داود عليه وعلى نبينا الصلة والسلم ‪" :‬يَا دَاوُودُ ِإنّا جَعَ ْلنَاكَ‬
‫سبِيلِ اللّه " [ ص ‪ ]26/‬وقد كان‬
‫س بِالْحَقّ وَلَا َتتّبِعِ ا ْل َهوَى َف ُيضِلّكَ عَن َ‬
‫خلِي َفةً فِي ا ْل َأرْضِ فَاحْكُم َبيْنَ النّا ِ‬
‫َ‬
‫هواه في العبادة ‪.‬‬
‫فملحظة الشمولية في الدين أمر ضروري ‪ ،‬فإنني أريدك متكاملً في جانب العبادة صوام قوام ذكار ل‬
‫تتلو القرآن فتصبح ذا شخصية متألهة متنسكة ‪ ،‬وعلى الجانب العلمي فأنت طالب علم مجتهد ‪ ،‬حافظ‬
‫للقرآن ‪ ،‬ذو عقل وفكر نير واستيعاب شامل ‪ ،‬وفي الجانب الدعوي فنشاط متقدم ‪ ،‬سرعة واستجابة ‪،‬‬
‫وعدم رضا بالواقع ‪ ،‬وتفكير متواصل في الطرق الشرعية لتحويل وتغيير مجرى الحياة ‪ ،‬ذو تأثير ملحوظ‬
‫في المحيط الذي تعيش فيه ‪ ،‬كما قال ال تعالى في وصف نبيه عيسى عليه وعلى نبينا الصلة والسلم ‪:‬‬
‫ن مَا كُنتُ " [ مريم ‪] 31/‬‬
‫" وَجَ َعَلنِي ُمبَارَكًا َأيْ َ‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫هذه هي الشخصية التي نبحث عنها ‪ ،‬هؤلء هم الرجال الذين يحق أن يمكن لهم في الرض ‪ ،‬أما الرضا‬
‫ببعض جوانب الدين ‪ ،‬وتقسيم الدين إلى لباب وقشور ‪ ،‬فهذه بدعة منكرة جرت من ورائها تنازلت كثيرة‪،‬‬
‫وشقت الصف ل جمعته ‪.‬‬
‫تجد بعض الشباب رضي بالجانب العلمي وترك باقي الجوانب ‪ ،‬تقول لحدهم ‪ :‬لماذا ل تقوم الليل ؟‍!‬
‫فيقول ‪ :‬طلب العلم يستحوذ على كل وقتي ‪.‬‬
‫وأنا أعجب من هذه التفرقة التي ل أصل لها ‪ ،‬من قال أنّ علماء السلف تركوا الجتهاد في العبادة والدعوة‬
‫من أجل طلب العلم ؟!!‬
‫وتجد آخرين ل همّ لهم إل الدعوة ‪ ،‬يتجولون على الناس لدعوتهم وربطهم بالمساجد ‪ ،‬وهذا في حد ذاته‬
‫جيد ‪ ،‬لكن دعوة بدون علم ‪ ،‬هذا سرعان ما ينقلب على عقبيه ‪ ،‬لنه لم يفهم دينه ‪ ،‬فربما يستجيب مرة أو‬
‫مرتين بسيف الحياء ‪ ،‬أو بفعل تحمس مؤقت ‪ ،‬ثمّ بعد ذلك ل تجده ‪.‬‬
‫وآخرون ارتضوا من الدين بالعبادة فل تعلموا ول دعوا ‪ ،‬فمن أين لهؤلء بهذا ؟!!‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫الدين كلُ واحد ‪ ،‬ل يصلح فيه الترقيع " ادْخُلُواْ فِي السّ ْلمِ كَآفّة " [ البقرة ‪ ] 208/‬أي جملة واحدة بجميع‬
‫جوانبه‬
‫ولبد أن توزع طاقاتك من أجل خدمة هذه الجوانب الثلثة ‪ ،‬علم وعمل ودعوة ‪ ،‬ومتى ضاع منك الوقت‬
‫دون أن تثمر شيئًا في هذه الجوانب فاعلم أنّ هذا من الخذلن ‪ ،‬وأنّ هذا ل يكون إل بكسبك ‪ ،‬فينبغي أن‬

‫‪18‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪19‬‬

‫تتوب سريعًا ‪ ،‬وإل فمن يدريك أن الموت لن يكون أسرع مما تتوقع ‪ ،‬وعلى هذا نتعاهد ونتواصى ‪،‬‬
‫وليأخذ كل منكم بيد أخيه ‪ ،‬فإنها النجاة ‪.‬‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫سابعًا ‪ :‬التعاهد على الثبات حتى الممات ‪.‬‬
‫فمن مظاهر عدم الجدية التفلت من اللتزام لول عارض ‪ ،‬فمن أول شبهة أو أول وارد من شهوة يتفلت ‪،‬‬
‫وسرعان ما تتتابع التنازلت ‪ ،‬مرة ترك النوافل ‪ ،‬ثمّ مرة ترك الجماعة ‪ ،‬بدأ يترك رفقة الصالحين ‪ ،‬وفي‬
‫الملتزمات تجدها تتنازل يوم عرسها فتخلع الحجاب ‪ ،‬لماذا ؟ لنه يوم الزفاف ول حرج ‪ ،‬أو تتنازل‬
‫فتتزوج من غير الملتزمين ‪ ،‬وهكذا ‪ ،‬تبدأ في خلطة غير الملتزمات ‪ ،‬تبدأ في مشاهدة التلفاز ‪ ،‬تبدأ في‬
‫الختلط بالرجال ‪ ،‬ثمّ ل تسل بعد ذلك أين هي الن ؟!!‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫يقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة (‪ : )1/140‬وقال لي شيخ السلم ابن تيمية ـ رضي ال عنه ـ وقد‬
‫جعلت أُورد عليه إيرادًا بعد إيراد ‪ :‬ل تجعل قلبك لليرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فل ينضج‬
‫إل بها ‪ ،‬ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ‪ ،‬ول تستقر فيها ‪ ،‬فيراها بصفائه ‪،‬‬
‫ويدفعها بصلبته ‪ ،‬وإل فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرًا للشبهات أو كما قال ‪.‬‬
‫يقول ابن القيم ‪ :‬فما أعلم أنّي انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك ‪.‬‬
‫خ ّفنّكَ اّلذِينَ لَا يُو ِقنُونَ " [ الروم‪ ، ]60/‬ولهذا‬
‫ستَ ِ‬
‫وهذا هو السبيل ‪ ،‬فل تكن خفيفًا ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ " :‬وَلَا يَ ْ‬
‫من يتأثر بأدنى شبهة فهذا ل يقين عنده ‪ ،‬وأهل العلم واليقين هم الذين يثبتون ‪ ،‬فلهذا أقول لك ‪ :‬ل تقف مع‬
‫الشبهات ‪ ،‬وخـذ بنصـيحة رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم ‪ " :‬ف من اتقـى الشبهات ف قد اسـتبرأ لدي نه‬
‫‪1‬‬
‫وعرضه " ‪.‬‬
‫فل تلتفت ـ أخي ـ لكل شبهة ولكل شاردة وواردة ‪ ،‬مثلًا ‪ :‬الخ بعدما أعفى لحيته يأتي الختبار والبلء‬
‫فيجد من يقول له ‪ :‬من قال أنّ اللحية فرض ؟ اللحية سنة ؟ أو هي من العادات ؟ وفلن وفلن قال ذلك ‪.‬‬
‫فالخفيف الذي لم يفقه سرعان ما يلتبس عليه المر ‪ ،‬ومع أول مضايقة يفر ‪ ،‬وهذا يعني عدم الخلص‬
‫وعدم اليقين ‪ ،‬وأصل كل المشاكل اليمانية يدور حول هذين المرين ‪ ،‬لذلك أقول لك ‪ :‬لبد أن تتعلم أولً‪،‬‬
‫ثم تعمل بما تعلم ‪ ،‬ثمّ تدعو إلى ما وفقك ال له ‪.‬‬

‫متفق عليه ‪ .‬أخرجه البخاري (‪ )52‬ك اليمان ‪ ،‬باب فضل من استبرأ لدينه ‪ ،‬ومسلم (‪ )1599‬ك المساقاة‪ ،‬باب أخذ‬ ‫‪1‬‬

‫الحلل وترك الشبهات ‪.‬‬


‫‪19‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪20‬‬

‫صوْا‬
‫صوْا بِالْحَقّ َو َتوَا َ‬
‫ع ِملُوا الصّاِلحَاتِ َو َتوَا َ‬
‫سرٍ إِلّا الّذِينَ آ َمنُوا وَ َ‬
‫خ ْ‬
‫صرِ إِنّ ا ْلإِنسَانَ لَفِي ُ‬
‫قال تعالى ‪ " :‬وَا ْل َع ْ‬
‫ص ْبرِ " [ سورة العصر‬
‫] بِال ّ‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫كثيرًا ما أحزن عندما تنتشر بعض القاويل الباطلة ‪ ،‬وعندما ينفث أعداء الدين بشبهاتهم ‪ ،‬فتجد بعض‬
‫الخوة متخبطًا ‪ ،‬يقول لك ‪ :‬ماذا أصنع ؟! كيف نرد عليهم ؟!! أن تسأل هذا جيد ‪ ،‬ولكن متى تقف على‬
‫أرض صلبة ‪ ،‬متى تفهم عن ال ؟ متى ل يتسرب إليك الشك سريعًا عند كل شبهة ؟‬
‫هذا ما يورث الفتور وعدم الجدية ‪ ،‬فبهذه النفسيات ل يمكن أن يمكن لنا ‪ ،‬لذلك لبد من أن نقف على‬
‫أرض صلبة ‪ ،‬لبد أن نثبت على الدين وإن قويت الرياح ‪ ،‬ل نتزعزع ‪ ،‬ل تكن انهزاميًا ‪.‬‬
‫مثلًا ‪ :‬تجد من يعمل في ساعة مبكرة من النهار يضيع منه الفجر مرة فأخرى ‪ ،‬ثمّ يبدأ يتنازل وتجده‬
‫يقول ‪ :‬ل يمكن أن أستيقظ للفجر ‪ ،‬فإذا أراد أن ينام يضبط المنبه على ميعاد العمل ‪ ،‬وينسى صلة الفجر‪،‬‬
‫وأخشى أن يكون هذا إصرارًا على تضييع الصلة في وقتها ‪ ،‬فيكون هذا نذير شرك والعياذ بال ‪.‬‬
‫أنا أريدك موقنًا بما في يد ال ‪ ،‬أريدك موقنًا بأنّ ال هو الرزاق ‪ ،‬أريدك إذا عصفت الرياح قويًا تفهم سنن‬
‫ال الكونية ‪ ،‬وتصبر على البلء حتى يقضي ال أمرًا كان مفعولً ‪.‬‬
‫بعض الخوة إذا أصابه شيء من القهر يجزع سريعًا ‪ ،‬وآخرون يقعون في أول اختبار في شهوة ‪ ،‬فإذا‬
‫فتحت عليه الدنيا شيئًا ما نسي ما قدمت يداه ‪ ،‬فأين الثبات على الدين ؟ أين الستقامة على شريعة رب‬
‫العالمين ؟‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫إنّ هؤلء الذين يتفلتون من اللتزام لول عارض شبهة أو أول وارد شهوة يضيعون قبل ورود العوارض‬
‫والموارد ‪ ،‬لنهم مهيؤون نفسيًا للوقوع والسقوط ‪.‬‬
‫والعلج هو اليقين ‪ ،‬هو الثبات حتى الممات ‪ ،‬هو العقيدة الصحيحة الصلبة ‪ ،‬والمنهجية في العلم والعمل‬
‫والدعوة ‪ ،‬وهذا يحتاج إلى صبر وتحمل ‪ ،‬ول يكون ذلك كله إذا لم يخلص العبد في الستعانة بربه تبارك‬
‫وتعالى فالزم ‪.‬‬

‫إخوتاه ‪..‬‬
‫من طرق العلج أيضًا ‪:‬‬
‫ثامنًا ‪ :‬عدم إكثار الشكوى وتضخيم المشاكل‬

‫‪20‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪21‬‬

‫فمن مظاهر عدم الجدية في اللتزام ‪ :‬كثرة الشكوى وتضخيم المشاكل وإيجاد المبررات ‪ ،‬فدائمًا أبدًا‬
‫شكاء ‪ ،‬ل يرضى ‪ ،‬وكل مشكلة صغيرة يضخمها ‪ ،‬وهذا من البطالة وعدم الجدية ‪.‬‬
‫وآخر صاحب منطق تبريري ‪ ،‬فل يريد أن يواجه نفسه ويلقي باللئمة عليها ‪ ،‬بل يتذرع ويعلل ويبرر ‪،‬‬
‫وهو يدري أنّه على غير الحق ‪.‬‬
‫ومنهم ‪ :‬من إذا التزم بالدين صار عالة على الدعاة ‪ ،‬ولسان حاله يقول ‪ :‬أنا صنعت ما قلتم لي ‪ ،‬فعليكم‬
‫أن توجدوا لي الحلول لكل مشكلتي ‪ ،‬وهل لما التزمت التزمت من أجل فلن وفلن أم ابتغاء وجه رب‬
‫العالمين ؟!‬
‫فإذا كنت كذلك فتعلم ‪ " :‬إذا سألت فاسأل ال ‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن بال " ‪ ،‬ل تكثر الشكوى خوفًا أن‬
‫‪1‬‬

‫تتسخط على قدر ال ‪ ،‬وتلك بلية عظيمة أعيذك بال أن تقع فيها ‪.‬‬
‫أريد أن تتعلم أن تلجأ إلى ال ‪ ،‬ل تتوكل على أحد سوى ال ‪ ،‬وال هو القادر على أن يدفع عنك ‪ " ،‬إِنّ‬
‫الحج‪38/‬‬ ‫"[‬ ‫] اللّهَ ُيدَافِعُ عَنِ اّلذِينَ آ َمنُوا‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫كثرة الشكوى وتضخيم المشاكل وإيجاد المبررات سبيل للنكوص ولبد ‪ ،‬واستصحب دائمًا هذه النصيحة‬
‫النبو ية الذهبية " واستعن بال ول تعجز " " واعلم أن المة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم‬
‫‪2‬‬

‫ينفعوك إل بش يء قد كت به ال لك ‪ ،‬ولو اجتمعوا على أن يضروك بش يء لم يضروك إل بش يء قد‬


‫كتبه ال عليك ‪ ،‬رفعت القلم وجفت الصحف "‬

‫تقدم تخريجه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫جزء من حديث أخرجه مسلم ( ‪ )2664‬ك القدر ‪ ،‬باب في المر بالقوة وترك العجز والستعانة بال ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪21‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪22‬‬

‫نصيحة أخيرة‬
‫أريد بعد هذا كله أن أسألكم سؤالًا حتميًا ‪ ،‬وأرجو أن يجيب كل واحد منكم نفسه بصدق ‪.‬‬
‫هل أنتم جادون في طلب الخلص مما أنتم فيه ؟ وما الدليل على هذا ؟!!‬
‫ك ما قلت ل كم من ق بل ‪ :‬وق فة جادة مع الن فس ‪ ،‬والتزام بمن هج وا ضح في العلم والع مل والدعوة ‪ ،‬واعتبار‬
‫ذلك فرضًا حتميًا ل ينبغي الحيد عنه ‪ ،‬وقفة ل تقبل التأجيل ‪ ،‬وقفة من الن ‪.‬‬
‫قل لنفسك ‪ :‬منذ متى وأنا ملتزم فماذا قدمت لدين ال ؟‍‍!‬
‫هل أنا أعمل ل أم من أجل نفسي ؟!‬
‫ثمّ بعد أن تمحص نيتك ل تفتر ‪ ،‬ول تقنط ‪ ،‬بل عليك أن تسعى في العلج بقوة ‪ ،‬انتهز أوقات النشاط في‬
‫مضاعفة الطاعات ‪.‬‬
‫وهذا منهج تربوي عليك أن تبدأ به ‪.‬‬
‫‪.1‬اح فظ كل يوم ولو ع شر آيات ‪ ،‬وارت بط بمقرأة لتتعلم أحكام التلوة ‪ ،‬وإذا ك نت أتقنت ها فحا فظ علي ها‬
‫مـن أجـل أن تكون مـن القوم الذيـن يجتمعون فـي بيوت ال لتلوة القرآن ومدارسـته فتحفهـم الملئكـة‬
‫وتنزل عليهم السكينة ويذكرهم ال فيمن عنده ‪..‬‬
‫‪ .2‬حافظ على أذكار الصباح والمساء ‪ ،‬وأكثِر من الستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل‬
‫‪ .3‬حافظ على درس علم أسبوعي ‪.‬‬
‫‪ .4‬ل بد أن يكون لك حظ من الل يل ‪ ،‬وابدأ الن بركعت ين خفيفت ين ‪ ،‬ثمّ ابدأ في الزيادة شيئًا فشيئًا ‪ ،‬ول‬
‫يلهي نك الشيطان عن هذا الورد ‪ ،‬إن لم ت كن تح فظ فام سك بالم صحف و صلّ ‪ ،‬واعتادك ذلك سيكون‬
‫عونًا لك على الحفظ بإذن ال ‪ ،‬لنّ القراءة من حفظك لها شأن آخر ‪.‬‬
‫‪.5‬امكث في المسجد بعد صلة الفجر إلى أن تشرق الشمس ‪ ،‬وصل ركعتي الضحى لتكتب لك كل يوم‬
‫أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة ‪.‬‬
‫وإن لم تو فق لذلك فاجلس ب ين المغرب والعشاء لتنت ظر ال صلة ب عد ال صلة فإن ها من أع ظم الكفارات ‪،‬‬
‫وترفع بها الخطايا وتعلي الدرجات ‪.‬‬
‫وهكذا ابدأ في زيادة الطاعات والقربات لتح صن نف سك ‪ ،‬أ ما إذا لم يؤ ثر ف يك كل ذلك ‪ ،‬وإذا لم ت جد من‬
‫نف سك القوة والرغ بة وال صرار على بذل الج هد ل ‪ ،‬فاعلم أنّ قل بك مات فاد عُ ال أن يردك عل يك قل بك‬
‫المطموس ‪.‬‬

‫إخوتاه ‪..‬‬
‫‪22‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪23‬‬

‫انظروا لحال ال سلف ال صالح ‪ ،‬وك يف كا نت أشواق هم تط ير ب هم إلى طا عة ال تعالى ‪ ،‬ك يف كانوا يتغلبون‬
‫على الفتور والكسل بالشوق والخوف ‪.‬‬
‫يقول ابن القيم في كلم غال ثمين لو تأملته ‪ :‬إذا جن الليل وقع الحرب بين النوم والسهر ‪ ،‬فكان الشوق‬
‫والخوف في مقد مة ع سكر اليق ظة ‪ ،‬و صار الك سل والتوا ني في كتي بة الغفلة ‪ ،‬فإذا ح مل الغر يم حملة‬
‫صادقة هزم جنود الفتور والنوم فح صل الظ فر والغني مة ‪ ،‬ف ما يطلع الف جر إل و قد ق سمت ال سهمان و ما‬
‫‪1‬‬
‫عند النائمين خبر ‪.‬‬
‫فأين شوقك لرضا ال ؟ أين وجل قلبك وقد أمهلت كثيرًا ‪ ،‬وما نهاية ذلك إل سوء الخاتمة ؟ فلماذا تأكلك‬
‫الغفلة ؟ لماذا صرت أمير الكسل ؟‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫إننـا نحتاج إلى إخوة جاديـن فـي كـل شؤون حياتهـم ‪ ،‬تبدو عليهـم تلك السـمات فـي أفعالهـم ‪ ،‬جاديـن فـي‬
‫تفكيرهم ‪ ،‬الهم الول عندهم هو الدين ‪ ،‬ثمّ تأتي سائر الهموم بعد ذلك ‪ ،‬فل شيء يقدم على دين ال ‪.‬‬
‫في صحيح البخاري عن السود بن يزيد النخعي قال ‪ :‬سألت عائشة ما كان النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫يصنع في بيته ‪.‬‬
‫قالت ‪ :‬كان يكون في مهنة أهله تعني خدمة أهله فإذا حضرت الصلة خرج إلى الصلة ‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫فهكذا فقس نفسك ‪ ،‬هل إذا قيل لك ‪ :‬حي على الصلة ‪ ،‬حي على العمل الصالح ‪ ،‬حي على حضور درس‬
‫العلم النافع ‪ ،‬حي على النفاق في سبيل ال ‪ ،‬فما بالك حينها ؟!‬
‫حيَاةِ‬
‫سبِيلِ اللّهِ اثّاقَ ْل ُتمْ إِلَى الَرْضِ أَ َرضِيتُم بِالْ َ‬
‫" يَا َأيّهَا اّلذِينَ آ َمنُواْ مَا َل ُكمْ ِإذَا قِيلَ َل ُكمُ انفِرُواْ فِي َ‬
‫س َت ْبدِلْ‬
‫عذَابًا َألِيمًا َو َي ْ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا فِي الخِ َرةِ ِإلّ قَلِيلٌ إِلّ تَنفِرُواْ ُيعَ ّذ ْب ُكمْ َ‬
‫ال ّدنْيَا مِنَ الخِ َرةِ َفمَا َمتَاعُ الْ َ‬
‫[التوبة ‪]39-38/‬‬ ‫شيْءٍ َقدِيرٌ…‪".‬‬
‫ش ْيئًا وَاللّهُ عَلَى كُ ّل َ‬
‫غ ْي َر ُكمْ وَلَ َتضُرّو ُه َ‬
‫َقوْمًا َ‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫يخيل إلىّ أنني لو راجعت كل واحد منكم فسرد لي قائمة اهتماماته لستحييت من ذكرها ‪ ،‬أمور تافهة ل‬
‫قيمة لها تشغل تفكيرك ‪ ،‬وربما تحول بينك وبين ال ‪ ،‬ونحن موقنون أنّ ال يعلم السر وأخفى ‪ ،‬وأنّ ال‬
‫عليم بذات الصدور ‪ ،‬ولكن رفع الحياء ‪ ،‬ول حول ول قوة إل بال ‪.‬‬
‫أين حياؤك من ال العزيز القهار ؟! أين وجل قلبك من العلي الكبير المتعال ؟!‬

‫بدائع الفوائد (‪)3/752‬‬ ‫‪1‬‬

‫أخرجه البخاري (‪ )676‬ك الذان ‪ ،‬باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلة فخرج ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪23‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪24‬‬

‫إنه لو قدر لبشر أن يعرف ما بداخل صدر أخيه لوقع الجميع في حرج شديد ‪ ،‬فما بالك تستحيي من الناس‬
‫ول تستحي من ال وهو معك !!‬
‫فابدأ ـ أ خي ـ من الن إجراء هذه العمل ية الضرور ية ‪ ،‬عمل ية تطه ير للفكار ‪ ،‬نر يد جد ية في‬
‫الهتمامات ‪ ،‬إن بعضنا يكاد يقتل نفسه من كثرة التفكير ‪ ،‬يفكر في وضعه بين الناس ‪ ،‬كيف يفكر الناس‬
‫فيـه ؟! ماذا يقول الناس عنـه ؟! ولعله لم يخطـر للناس على بال ‪ ،‬ولو شغـل نفسـه بحاله مـع ال لكفاه ‪،‬‬
‫حينئذٍ عليك أن تردد في نفسه ‪ :‬ماذا أنت فاعل بي يا غفار الذنوب ؟ وما اسمي عندك يا علم الغيوب ؟‬
‫ل تهتم كثيرًا بالناس ‪ ،‬فاصلح ما بينك وبين رب الناس يكفك أمر الناس ‪.‬‬
‫تجد بعضهم يقع في مشكلت نفسية وعندما تفتش عن السباب تجدها أمور تافهة ‪ ،‬وهذا حال أهل البطالة‬
‫سافلو الهمة ‪ ،‬فإنّ النفوس العلوية ل تنظر لمثل هذه السفاهات ‪ ،‬وإل أخلّ ذلك بها ‪ ،‬لكنه فراغ القلب من‬
‫ال ‪.‬‬
‫أمـا أهـل الهمـة العاليـة ‪ ،‬والجادون فـي التزامهـم فإنهـم مشغولون بأمور أخرى ‪ ،‬مشغول بحفـظ القرآن ‪،‬‬
‫بالدعوة إلى ال ‪ ،‬بكيف ية إ صلح ف ساد قل به ‪ ،‬مشتاق ل سجدة يقبل ها ال م نه ‪ ،‬مشتاق لت سبيحة يش عر مع ها‬
‫بحلوة اليمان ‪ ،‬هذا شأن عباد ال الصالحين ‪ ،‬فمن أي الفريقين أنت ؟!‬
‫إخوتاه ‪..‬‬
‫منذ كم عام وأنت ملتزم ؟ فماذا صنعت ؟ هل ذقت حلوة اليمان أم لم تشعر بها بعد ؟‬
‫هل تنقل قلبك في رياض اليمان فشعرت بالسعادة الحقيقية ؟ واحسرتاه على من قضى عمره في وهم كبير‬
‫شيده في ذهنه ‪ ،‬ووضع له السياج اللئق به ‪ ،‬فكذب على نفسه ‪ ،‬ثم استمرأ الكذب فخادع نفسه ‪ ،‬فصدق‬
‫كذبه !!‬
‫وإن أخشى ما أخشاه أ نْ يكون التزامك هذا وهمًا ‪ ،‬ول أراني أشعر بأفعال تطيح بهذا الهاجس المقلق من‬
‫نفسي على شباب الصحوة !!‬
‫هذه ـ إذًا ــ قضيتـك الولى ‪ ،‬هـل أ نت ملتزم أم ل ؟ هـل اعتاد لسـانك الذ كر ف صار رطبًا منـه ؟ هـل‬
‫اعتادت جوار حك القيام بأداء حقوق ال ف صرت تش عر بالوح شة إذا لم تؤدِ شيئًا ي سيرًا من ها ؟ إنّ ه إدمان‬
‫الطا عة ‪ ،‬حين ها ت جد الر جل يقول ‪ :‬ال صلة صارت تجري في د مي ‪ ،‬ل أ ستطيع أن أترك ورد القرآن ‪،‬‬
‫أشعر بأنّي ل أتمالك نفسي ‪ ،‬وهكذا ساعتها تعيش السلم لنه يعيش فيك ‪ ،‬فتحفظ من التفلت والنتكاس ‪.‬‬

‫إخوتاه ‪..‬‬

‫‪24‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪25‬‬

‫تبدو أو ضح مظا هر الجد ية في التعا مل مع الوقات ‪ ،‬كث ير من الناس يشتكون من قلة الو قت ‪ ،‬وض يق‬
‫الوقت ‪ ،‬وهذا دليل على عدم الجدية ‪.‬‬
‫يقول ابن القيم في تعريف اليقظة ‪ :‬هي انزعاج القلب لروعة النتباه من رقدة الغافلين ‪ ،‬وهي على ثلثة‬
‫مراتب ‪:‬‬
‫(‪)1‬لحـظ القلب إلى النعمـة على اليأس مـن عدهـا ‪ ،‬والوقوف على حدهـا ‪ ،‬ومعرفـة المنـة بهـا ‪ ،‬والعلم‬
‫بالتقصير في حقها ‪.‬‬
‫(‪)2‬مطالعة الجناية على التخلص من رقها ‪ ،‬وطلب التمحيص بها ‪ ،‬والثبات على التوبة بعدها‪.‬‬
‫(‪)3‬معرفة الزيادة والنقصان من اليام ‪ ،‬فيلتزم الضنّ بباقيها ‪ ،‬وتعمير تالفها ‪ ،‬واستدراك فائتها‪.‬‬
‫هنا محل الشاهد ‪ ،‬فهذا هو الملتزم الحق ‪ ،‬الذي دفن جاهلياته ‪ ،‬وشمّر عن ساعد الجد لستدراك ما فاته‬
‫طيلة عمره ‪.‬‬
‫وسنة ال الكونية على أنّه ل يأتي زمان إل والذي بعده شر منه ‪ ،‬فالطالب في الكلية عندما يلتزم يندم على‬
‫أيام ثانوي ‪ ،‬والذي يتخرج يندم على أيام الجامعة ‪ ،‬والذي يتزوج يندم على أيام قبل الزواج ‪ ،‬وهكذا ‪.‬‬
‫فاليوم الذي يذ هب ل يأتي مثله ‪ ،‬مصداق ذلك حد يث أنس بن مالك في البخاري مرفوعًا إلى ال نبي صلى‬
‫‪1‬‬
‫ال عليه وسلم ‪ :‬ل يأتي عليكم زمان إل الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ‪.‬‬
‫فانت به إلى الجد ية في التعا مل مع الوقات ‪ ،‬ل تض يع وق تك في ما ل ينف عك غدًا ‪ ،‬كل ن فس من أنفا سك‬
‫محسوب عليك ‪.‬‬
‫المام ابن عقيل الحنبلي شيخ ابن الجوزي يقول ‪ :‬أنا ل أحل لنفسي أن تضيع لحظة من عمري ‪ ،‬فأنا إما‬
‫أكتب ‪ ،‬وإ ما أقرأ ‪ ،‬وإما أطالع ‪ ،‬وإما أدرس ‪ ،‬وإما أصلي ‪ ،‬وإما أذكر ‪ ،‬أو اتذاكر حتى إذا تعبت فارقد‬
‫على جنبي وأسرح بخيالي في مسائلي فإذا عمت لي مسألة قمت وكتبتها ‪.‬‬
‫وهذا المام أبـو حنيفـة فـي سـياق الموت وتلميذه حوله قال ‪ :‬هلم مسـألة ‪ ،‬تعالوا نتدارس مسـألة‪ .‬قالوا ‪:‬‬
‫وفي مثل هذه الحال ‪ .‬قال ‪ :‬لعله ينجو بها ناج ‪.‬‬
‫ولن تعدم الوسيلة ‪ ،‬تحفظ القرآن ‪ ،‬تقرأ في كتب العلم ‪ ،‬تسمع شريطًا ‪ ،‬تخرج في زيارة لشيخ ‪ ،‬أو زيارة‬
‫لمكتبة ‪ ،‬أو زيارة لشخص تدعوه إلى ال ‪.‬‬

‫إخوتاه‬
‫أخيرًا عليكم بالقتصاد في الهزل والمزاح ‪.‬‬

‫أخرجه البخاري (‪ )7068‬ك الفتن ‪ ،‬باب ل يأتي زمان إل الذي بعده شر منه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪25‬‬
‫الجدية في اللتزام‬ ‫‪26‬‬

‫فلقـد صـار الهزل وكثرة الضحـك شعار الشباب فـي هذه اليام ‪ ،‬وليسـت المشكلة فـي الدعابـة اليسـيرة ‪،‬‬
‫والمزاح القل يل الذي ل يخرج ع ند حدود الدب ‪ ،‬وإن ما في هذا الفراط والمبال غة ح تى أن ب عض الشباب‬
‫يقلب أكثر المواقف جدية إلى هزل وفكاهة ‪ ،‬والذي ل يصنع هكذا يتهم بأنه مصاب بالجمود والنغلق …‬
‫الخ‬
‫آ هٍ … للسف الشديد ونحن في ذلة وصغار واستضعاف صرنا نعبث ونلهو حتى كأن العصر هو عصر‬
‫الهزل ‪ ،‬والن هناك أماكن مخصصة للضحك ‪ ،‬مسرحيات بالساعات للضحك واللهو والعبث ‪ ،‬وكل ذلك‬
‫بالكذب ‪.‬‬
‫أين الجد في حياتنا يا شباب السلم ؟‬
‫الذي يحلق ببصره ويطوف شرقًا وغربًا ليرى حال المسلمين ل يمكن أن يكون هذا حاله ‪.‬‬
‫قال أبو الدرداء الصحابي الجليل ‪ :‬أضحكني ثلث ‪ ،‬وأبكاني ثلث ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬أبكاني رجل ضاحك ملء فيه وهو ل يدري أرضي ال عنه أم سخط ‪.‬‬
‫وبعد‬
‫ل للمؤمن ين للرجوع إلى الجادة ‪ ،‬ون فض هذا الغبار الذي‬
‫ا سأل ال العلي ال كبير أن تكون هذه الر سالة سبي ً‬
‫لطخهم ‪ ،‬لنتعاون سويًا لنصرة دين ال تعالى ‪.‬‬
‫وما كان من خطأ أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان ‪ ،‬وأعوذ بال أن أذكركم بال وأنساه ‪ ،‬فاللهم اجعل‬
‫كلمنا هذا حجة لنا ل علينا ‪ ،‬واربط على قلوبنا ‪ ،‬وعمّنا برحمتك أنت أرحم الراحمين ‪.‬‬

‫وكتب‬
‫محمد بن حسين بن يعقوب‬
‫غفر ال له ولهله وأحفاده والمسلمين أجمعين ‪.‬‬

‫* أصل هذه الرسالة كان محاضرة ألقاها فضيلته‪.‬‬


‫* تنبيه هام ‪ :‬هذه الطبعة ليست الطبعة النهائية التى خرج بعدها الكتاب إلى عالم المنشورات‪ ،‬ولكنها‬
‫طبعة قبل الزيادات والتنقيحات !‬

‫‪26‬‬

You might also like