Professional Documents
Culture Documents
تصدر هذه الطبعة (عام 1398ه) ونن على مقربة من ناية القرن الرابع عشر الجري وبداية القرن
الامس عشر..
وما أحوجنا -ف هذه الفترة الدقيقة من حياتنا -أن نراجع مسيتنا خلل تلك القرون ،على ضوء الكتاب
والسنة ،اللذين أخرجا من قبل " خي أمة أخرجت للناس " واللذين ها معيار خيية هذه المة .فعلى قدر
استقامتها عليهما تتحقق خييتها ،وعلى قدر انرافها عنهما تظل تنحدر حت تصي إل ذلك الغثاء الذي
تدث عنه الرسول صلى ال عليه وسلم وهو يرى تلك الفترة العصيبة بنور الوحي " :يوشك أن تداعى
عليكم المم كما تداعى الكلة إل قصعتها .قالوا :أمن قلة نن يومئذ يا رسول ال؟ قال :ل! إنكم كثي،
ولكنكم غثاء كغثاء السيل" ..
واليوم تقوم -على هدي الكتاب والسنة كذلك -حركات بعث إسلمي ف كل أرجاء العال السلمي،
يرجى أن تنقذ هذا الغثاء من وهدته ،وتعيده (خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َجتْ لِلنّاسِ).
فما أحوجنا أن نتعرف على كتاب ربنا الكري ،وما أحوجنا كذلك أن نقبس "قبسات من الرسول" صلى
ال عليه وسلم نقوّم با ما أعوج ف حياتنا من خطوات..
وما زلت أرجو أن يصدر مزيد من الكتب والدراسات الت يتناول فيها الكتاب سية الرسول صلى ال عليه
وسلم وأحاديثه بالطريقة الت تقربا لذا اليل ،وتقرب هذا اليل كذلك من السلم.
ممد قطب
مقدمة الكتاب
ل أحسب أحداُ من البشر نال من الب والعجاب ما ناله ممد رسول ال صلى ال عليه وسلم.
فإن أتباعه الؤمني ل ينعهم من تقديسه شيء إل ني ال لم أن يتوجهوا بالعبادة والتقديس لحد سواه.
ومع ذلك فإن درجة الب الت يتوجهون با إل الرسول صلى ال عليه وسلم تكاد تفلت أحيانُا ف قلوب
بعض السلمي فل يسكها هذا النهي إل بهد جهيد! وإن بعضهم لتصيبه حالت من الوجد ف حب
الرسول حت لينسى نفسه ،وتتلج مشاعره وقسمات وجهه ،وتنهمر عيناه بالدموع ،ث ل يفيق من قريب!
حت بي " أجف " السلمي قلباُ ،وأغلظهم مشاعر (إن صح أنم مسلمون مع ذلك!) ،لن تد منهم من ل
يتوجه للرسول صلى ال عليه وسلم بالب والتعظيم ،ولو كان يعبد ال على حرف ،ول يقيم كثيُا من
قواعد الدين!
أما غي أتباعه فقد هاجه كثي منهم ،ومع ذلك فإن أغلبية عظيمة من هؤلء ل تلك نفسها من العجاب
بشخصه ،بصرف النظر عن دينه ،فقالوا عنه إنه رجل عظيم ،وقالوا إنه يلك الصفات الت تبب إليه الناس.
نعم ..ل أحسب أحدا من البشر نال من الب والعجاب ما ناله ممد رسول ال صلى ال عليه وسلم .
ومع ذلك فإن أحسب أن كثيا من السلمي ،وخاصة ف هذه العصر الديثة ،ل يقدرون الرسول حق
قدره ،حت وهم يتوجهون إليه بالب ،بل حت وهم ينحرفون بذا الب إل لون من التقديس!
ذلك أنه حب سلب ل صدى له ف واقع الياة!
وإن صورة الرسول صلى ال عليه وسلم ف قلوب هؤلء السلمي لتعان عزلة وجدانية عميقة.
إنه هنالك ف أعمق أعماقهم .إنه روح نورانية شفيفة ،إنه سنَى مشرق ،إنه ومضات من النور الرائق
والشعاع التألق .إنه روح سارية ف حنايا القلب وف أناء الكون ..ومع ذلك فهو ليس حقيقة واقعة!
إنه حقيقة " صوفية " منعزلة ف الوجدان ،واصلة إل آخر أعماقه ،ولكنه ليس صورة حية متحركة ف واقع
الياة ،شاخصة بلحمها ودمها ،وأفكارها ومشاعرها ،وتنظيماتا وتوجيهاتا ،وهدمها وبنائها ،ومادياتا
وروحانياتا سواء!
ول شك أن لذه العزلة أسبابا تاريية...
ففي عهد أب بكر وعمر رضي ال عنهما ل يكن الرسول صلى ال عليه وسلم منعزلً ف وجدان السلمي.
كان السلمون قريب العهد به ،ما زالوا يعيشون مع ذكراه الية ف نفوسهم ،وصوره الشاخصة ف ميلتهم،
ف غدوه ورواحه ،وحربه وسلمه ،وعبادته وعمله .صورة متكاملة تشمل الياة كلها ف أعماق الضمي وف
واقع الجتمع على السواء.
ولكن قرب العهد ل يكن وحده السبب ف إحساس السلمي به حيا ف نفوسهم ،متكاملً ف مشاعرهم.
وإنا كان إل جانب ذلك سبب على أعظم جانب من الهية ،هو امتداد تعاليم الرسول ومنهجه التربوي
ف تصرفات أب بكر وعمر وطريقة سياستهما لمور السلمي.
لقد أحس السلمون أن الرسول صلى ال عليه وسلم حي بتعاليمه ومنهجه ،حت وإن غابت ذاته الرفيعة
عنهم ف عال الس.
وما عال الس من واقع النفس؟
إن الشياء ل تقاس بوجودها أو عدم وجودها ف عال الس .وإنا تقاس بقدار ما توجد ف عال النفس،
وبالساحة الت تشغلها من الشاعر والفكار والسلوك.
ول شك أن الرسول صلى ال عليه وسلم كان " موجودا " ف نفوس السلمي على عهد أب بكر وعمر،
وعلى مدار الجيال الت ل تره بعد ذلك ،أضعاف أضعاف ما كان موجودا فـي نفس أب جهل أو غيه
من الشركي ،من رأوه رأي العي ،وجالدهم وجالدوه ،ولكنهم ل يؤمنوا به ،ول يقووا على حبه
فأبغضوه.
وعلى هذا الساس وحده نقيس وجود الرسول صلى ال عليه وسلم ف نفوس الؤمني وغي الؤمني.
وعلى عهد الشيخي كانت الياة كلها مكومة بتعاليم السلم وروحه ،وكان الشيخان على قمة البشرية
بعد ممد صلى ال عليه وسلم ،يتطلع الناس إليهما ف تصرفاتما ،وسلوكهما ،ومشاعرها ،وأفكارها
فيدركون القبس الالد الذي يقبسان منه ،ويرون الرسول صلى ال عليه وسلم رأي الواقع ف قلبيهما
الكبيين ،فيعيشون ف ظلهما مع الرسول فوق ما يعيشون معه ف ذكرياتم الاصة ،ووجداناتم الت كانت
بدورها قد شحنت بتلك القبسات الشرقة من قبسات الرسول.
وجاء عثمان فسار ف أول عهده على هدي الشيخي ما استطاع ،ولكن رويدا رويدا أخذ نفوذ مروان
بن الكم ومنهجه يغلبان على الكم ،وعثمان تثقله السن .وبدأ السلمون يسون بافتراق الطريق.
وبدأت الصورة التكاملة للرسول صلى ال عليه وسلم تنحسر شيئا فشيئا إل داخل النفوس ،بعد أن كانت
ملء النفوس وملء الياة معا وعلى نسق واحد.
وكلما انفرجت الشقة بي الواقع الشهود وبي تعاليم الرسول صلى ال عليه وسلم وتوجيهاته ،زادت
صورتـه انسارا ف نفوس السلمي ،حت ينتهي المـر إل أن تصبح " مثالً " متألقا ف أعماق الوجدان،
ل صورة حية ف العيان ،مثالً منعزلً عن واقع الياة ،ل يكمها ول يرسم منهجها ،ول يتجه الشعور إليه
لتسيي دفتها!
ولكن أجيالً متطاولة مضت قبل أن تتم العزلة ف صورتا العنيفة الت تقوم اليوم ف قلوب السلمي.
كان الكم ف البلد السلميـة -رغم بعده التدريي عن روح السلم -يقوم باسم السلم!
وكان الجتمع إسلميا رغم فساد الكام!
نعم .لقد ظل الجتمع ف الريف والدن البعيدة عن العواصم إسلميا قرابة ألف سنة ،ل يتأثر بفساد الكم،
ول تصل إليه العدوى من العاصمة النحلة الت فيها القصور الاجنة ،وصور الياة الدنسة.
وكان الرسول صلى ال عليه وسلم ل يكـم ف العاصمة ،ول يرسم سياسة الال ،ولكنه كان يُحكِم
الروابط بي قلوب السلمي ف الريف والدن البعيدة ،فتقوم بينها مبة السلم وتكافل السلم وتراحم
السلم ،ف الوقت الذي كانت " البيئة الزراعية " الماثلة ف أوربا تقوم على علقة السادة والعبيد :سادة
لم المر كله واللك كله ،وعبيد ليس لم من المر شيء سوى العبودية الطلقة والنعدام الذليل.
ف تلك الثناء كانت بقية من صورته صلى ال عليه وسلم ل تنعزل بعد ف وجدان السلمي .ورغم أن
الذاهب " الصوفية " كانت نشيطة ف الجتمع السلمي كله ف ذلك الوقت ،والصوفية تنح إل العزلة عن
الياة والبعد عن مالدتا ،إل أن هذه الذاهب قد أدت دورا تارييا ف منع الجتمع السلمي من التفكك،
والبقاء عليه مترابطا " بأخوة " الصوفية كما أنا ف غي قليل من الحيان كانت تدخل معترك السياسة ولو
من وراء ستار..
أما العزلة الكاملة الوحشة الرهوبة ،فقد تت وأحكمت حلقاتا حي َب ُعدَ الكم والجتمع كلها عن
السلم :اسه وروحه ،وصار الغرب هو الذي يكم السياسة والجتمع :باسه الصريح حينا ،وعلى يد
صنائعه النافرين من السلم حينا آخر .وصار الجتمع السلمي صورة متحللة فاسدة من الفكار الغريبة
عن الياة .ل هي إسلمية كما كانت ،ول هي نسيج واحد متميز ،ول تلك حت القوة الادية الت يلكها
الغرب ،وإنا هي مسخ مشوه ل وحدة له ول كيان.
عندئذ ل يعد الرسول صلى ال عليه وسلم " موجودا " أصلً ف واقع الياة .ل يعد كيانا حيا شاخصا
بلحمه ودمه ،وأفكاره ومشاعره ،وتنظيماته وتوجيهاته ،ومادياته وروحانياته ..وانصر وجوده ف مشاعر
الناس السلبية ،ف أعمق أعماقها ..ف حالت الوجد واليام ..أصبح صورة ..مرد صورة مثالية .ل يسكها
إل الب العنيف أن تكون أسطورة ملقة ف اليال!
يا حسرة على العباد!
كيف جاز لم أن يصنعوا ذلك؟ كيف جاز لم أن يبددوا أكب طاقة بشرية كونية ف هذا الوجود،
فينحسروا با ف عزلة عن الياة؟! وهل رسول ال ممد صلى ال عليه وسلم هو الذي يصنع معه هذا
الصنيع؟ الرسول الذي كان طاقة حية متحركة فعالة هادمة بناءة ل تكف لظة عن النشاط؟ الرجل الذي
كان كله حياة ف واقع الرض ،يصبح معزولً عن واقع الرض؟! ومن! من أتباعه ومبيه!
لو عاش صلى ال عليه وسلم ف صومعته..
لو كان " فيلسوفا " من ينشئون الفكار ويعجزون عن التنفيذ..
لو كان من يدثون عن " الحلم " الميلة و " الثل " الرفيعة ول يبي لم ف واقع الرض كيف تكون
الطريق.
لو أنه كان " شاعرا " أو " كاهنا "...
لو أنـه كان شيئا من هذا كلـه لاز للناس أن يعزلـوه ف وجدانم ،فيمنحـوه الب " النظري "
والعجاب الجرد ،ث ..ل يلتفتوا إليه وهم يواجهون عال الواقع ويضربون ف مناكب الرض.
أما وهو الذي بي لم كيف يضربون ف مناكب الرض ..أما وهو الذي أمسك العول بيده فهدم الباطل
أمام أعينهم وبن بدله صرح الق ..أما وهو الذي حارب معهم وأقام السلم ..وشيد بناء الدولة لم لبنة لبنة
حت قام شاهقا ل يطاوله بناء على الرض ..وأكل معهم وشرب ،وصحبهم وصحبوه ،وعاش أمامهم كل
لظة من لظات الياة ،وكل وجدان من وجداناتا وكل سلوك ،ورأوه " يتصرف " ف كل شأن من
الشئون كبيها وصغيها ،ليكون تصرفه سنة تتذى ،ويكون فيه أسوة حسنة للناس..
أما وهو هذا كله فأي جرم ف تبديد هذه الطاقة البشرية الكونية الكبى ،وحصرها ف داخل الوجدان؟!
وهل جاء ممد صلى ال عليه وسلم لينعزل ف الوجدان ،والدين الذي جاء به هو الدين الذي يأب النعزال
ف الوجدان؟!
إن أبرز سة ف هذا الدين أنه دين الظاهر والباطن على حد سواء .ل يرضى أن يكون الظاهر نظيفا والباطن
غي نظيف ،فيصبح رئاء الناس .ول يرضى أن يكون الباطن نظيفا ول صدى له ف الظاهر فيفقد مهمته
ومعناه .إنه الدين الذي يعل العمل عبادة ..ورسوله صلى ال عليه وسلم هو الرسول الذي ظل حياته كلها
يتعبد بالعمل ..العمل الثمر النافع الظاهر للعيان.
فكيف جاز بعد هذا كله أن يتحول ف قلوب السلمي إل مثال منعزل ،ولو كان أرفع مثال على الرض
وأنبل مثال؟!
***
ولقد كان إحساسي بالرسول الكري دائما هو إحساسي بالواقع الجسم ،ل باليال الحلق ف الفضاء.
وكانت تز وجدان هزا عنيفا هذه الصورة العروفة ف كتب السية كلما قرأتا " :كان يشي وكأنه يتقلع
من الرض " ...وترتسم ف خيال صورة رائعة ،حية شاخصة ،متلئة باليوية ،متوفزة النشاط ..عظيمة ف
هذا كله عظمة ل تد .وانظر إل الصورة الت تسمت ف خيال فأرى النور الرائق الصاف يشع من أعماق
روحه صلى ال عليه وسلم ،وينفذ إل أعماق نفسي ،ويغلبن الوجدان وأنا أنظر إل هذه الروح الصافية
العميقة الشفافة الشعة ،ومع ذلك فل تلبث صورته أن تتحرك ..وأراه صلى ال عليه وسلم يشي وكأنه
يتقلع من الرض .أراه ..بقدار ما تطيق روحي أن تصل إليه ..متحركا يضرب ف مناكب الرض ،ويشق
طريقه ف قوة وثبات وتكن ،ويقيم البناء كله لبنة لبنة ..وأراه ف مواقفه النفسية الدقيقة العميقة ،فأكاد
ألس النفس الياشة التحركة الدافقة .وأراه ف لظات تعبده ،والنور يتألق من روحه ومن طلعته ،فأحس
كأن هذا النور يتحرك ..يتحرك متدا حت يشمل الفضاء.
الركة الية التوفزة هي ف نفسي صورة الرسول صلى ال عليه وسلم.
ومن ث ل أحس با منعزلة ف الوجدان..
ث أرى العزلة الت تعانيها صورته ف وجدان السلمي ،فأعجب للناس كيف يبونه كل هذا الب ،ث ل
يتدبرون حياته للقدوة والسوة كما قال لم ربم ف كتابه البي؟!
***
وليس هذا كتابا ف سية الرسول صلى ال عليه وسلم !
وإنا هو جهد متواضع كل هي منه أن أحاول إخراج صورة الرسول من عزلتها الوحشة ف قلوب
السلمي.
هدف أن أقول للناس تدبروا بعض أقوال الرسول صلى ال عليه وسلم ،وانظروا كيف كانت كل كلمة
يقولا منهج تربية ومنهج سلوك ومنهج تفكي ومنهج حياة..
إنا متارات متفرقة من الحاديث ،أو " قبسات من الرسول " كما أسيتها ،كل منها يصلح أن يكون أحد
" مفاهيم " السلم ،مفاهيمه الواقعية الضاربة ف مناكب الرض ،التلبسة بصميم الياة.
وليست هذه الختارات استقصاء لكل الفاهيم ،ول استقصاء لكل ما قيل ف أي من هذه الفاهيم .وإنا هي
مرد متارات كتبتها كما خطرت ببال ،وحسب منها أن تفتح الطريق.
اللهم وفقن ..وأوزعن أن اشكر نعمتك الت أنعمت عليّ ..إن لا أنزلت إلّ من خي فقي...
فليغرسها
"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة ،فاستطاع أل تقوم حت يغرسها ،فليغرسها فله بذلك أجر"[.]1
ولعل آخر ما كان يدور ف ذهن السامعي أن يقول لم الرسول صلى ال عليه وسلم ذلك الديث!
ولعلهم توقعوا أن يقول لم الرسول الذي جاء ليذكر الناس بالخرة ،ويثهم على العمل لا ،ويدعوهم إل
تنظيف ضمائرهم وسلوكهم من أجل اليوم الكب :يوم الساب الذي تدان فيه النفوس ..لعلهم توقعوا أن
يقول لم :فليسرع كل منكم فليستغفر ربه عما قدمت يداه ،وليتوجه ل بدعوة خالصة أن ييته على اليان
ويقبل توبته ويبعثه على الدى ..ولعلهم توقعوا أن يقول لم :أسرعوا فانفضوا أيديكم من تراب الرض..
وتطهروا .اتركوا كل أمور الدنيا وتوجهوا بقلوبكم إل الخرة .انقطعوا عن كل ما يربطكم بالرض.
اذكروا ال وحده .توجهوا إليه خالصي من كل رغبة ف الياة ،حت إذا ذهبتم إل ربكم ،ذهبتم وقد
خلصت نفوسكم إليه ،فيقبل أوبتكم ويظلكم بظله ،حيث ل ظل إل ظله.
ولو قال لم ذلك فهل من عجب فيه؟!
أليس الطبيعي وقد تيقن الناس من القيامة أن ينصرفوا للحظة الرهوبة؟
أليس الطبيعي والول الهول على البواب أن ينسلخ الناس من كل وشيجة تربطهم بالرض ،ويتطلعوا ف
رهبة الائف وذهول الرتف إل قيام اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حل
حلها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ،ولكن عذاب ال شديد؟!
فإذا قال لم الرسول صلى ال عليه وسلم :ل تقفوا مذهولي مرجوفي مرعوبي ،ولكن توجهوا إل ال أن
ينقذكم من هذا الكرب العظيم ،أخلصوا له الدعاء فهو قريب ييب دعوة الداعي إذا دعاه .ول تيأسوا من
روح ال إنه ل ييأس من روح ال إل القوم الكافرون .هلموا تطهروا ،وصلوا إل ال خاشعي..
إذا قال لم الرسول ذلك وضع البلسم الشاف على الرواح الكلومة .وقد وضع يده الانية يربت با على
النفوس الهتزة الزلزلة الراجفة فتطمئن .وقد فتح الكوة الت يطل منها على القلوب الكفهرة الذعورة
بصيص المل والمن والرجاء..
ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يقل شيئا من ذلك كله الذي توقعه السامعون.
بل قال لم أغرب ما يكن أن يطر على قلب بشر!
قال لم :إن كان بيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها ..فله بذلك أجر!
يا أل! يغرسها؟! وما هي؟ فسيلة النخل الت ل تثمر إل بعد سني؟ والقيامة ف طريقها إل أن تقوم؟ وعن
يقي؟!
يا ال! لن يقول هذا إل نب السلم خات النبيي!
السلم وحده هو الذي يكن أن يوجه القلوب هذا التوجيه ،ونب السلم وحده هو الذي يكن أن يهتدي
هذا الدي ،ويهدي به الخرين!
وهذا تاريخ الرض كلها ..ليس فيه مثل هذه القبسة من قبسات الرسول!
***
وهي كلمة بسيطة ل غموض فيها ،ول صنعة ،ول " تفنن " .كلمة -رغم غرابتها لول وهلة ،وبدهها
للفكر على غرة -ترج بسيطة كبساطة الفطرة ،عميقة كعمق الفطرة ،شاملة واسعة فسيحة ،تضم بي
دفتيها منهج حياة ..منهج الياة السلمية.
كم من معن تستخلصه النفس من الكلمات البسيطة العميقة ف آن.
أول ما يطر على البال هو هذه العجيبة الت يتميز با السلم :أن طريق الخرة هو طريق الدنيا بل
اختلف ول افتراق!
إنما ليسا طريقي منفصلي :أحدها للدنيا والخر للخرة! وإنا هو طريق واحد يشمل هذه وتلك ،ويربط
ما بي هذه وتلك.
ليس هناك طريق للخرة اسه العبادة .وطريق للدنيا اسه العمل!
وإنا هو طريق واحد أوله ف الدنيا وآخره ف الخرة .وهو طريق ل يفترق فيه العمل عن العبادة ول العبادة
عن العمل .كلها شيء واحد ف نظر السلم .وكلها يسي جنبا إل جنب ف هذا الطريق الواحد الذي
ل طريق سواه!
العمل إل آخر لظة من لظات العمر .إل آخر خطوة من خطوات الياة! يغرسها والقيامة تقوم تقوم هذه
اللحظة .عن يقي!
وتوكيد قيمة العمل ،وإبرازه والض عليه ،فكرة واضحة شديدة الوضوح ف مفهوم السلم .ولكن الذي
يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب ،وإنا هو إبرازه على أنه الطريق إل الخرة الذي ل طريق
سواه.
وقد مرت على البشرية فترات طويلة ف الاضي والاضر ،كانت تس فيها بالفرقة بي الطريقي .كانت
تعتقد أن العمل للخرة يقتضي النقطاع عن الدنيا ،والعمل للدنيا يزحم وقت الخرة!
وكانت هذه الفرقة بي الدنيا والخرة عميقة الذور ف نفس البشرية ،ل تقف عند هذا الظهر وحده ،وإنا
تتعداه إل مفاهيم أخرى تتصل بالكيان البشري ف مموعه.
فالدنيا والخرة مفترقتان.
والسم والروح مفترقان.
والادي يفترق عن " اللمادي ".
والفيزيقا -بلغة الفلسفة -تفترق عن اليتافيزيقا.
والياة العملية تفترق عن الياة الثالية أو عن مفاهيم الخلق .إل آخر هذه التفرقات الت تنبع كلها من
نقطة واحدة ،هي التفرقة بي الدنيا والخرة ،أو بي الرض والسماء .وحي تعيش البشرية على هذه
الفكرة الفرقة الوزعة ،تعيش ول جرم ف صراع دائم مي مضلل .تعيش موزعة النفس منهوبة الشاعر .ل
تس بوحدة تمع كيانا ،أو رابط يربط أشتاتا .فل تعرف الراحة ول تعرف السلم.
والفرقة بي الهداف التعارضة شقوة قدية وقعت فيها البشرية وما تزال واقعة.
وقد كانت تؤدي ف القدي إل عزلة بعض الناس وتنسكهم ،وتكالب آخرين على الياة يعلونا ههم
الوحد ،ينتهبون ما فيها من متعة قبل وقت الفوات ،فتملكهم شهواتم ول يلكون نفسهم منها ،وتقتلهم
ف ناية المر ..يستوي أن توردهم موارد التف ،أو تشقيهم بالتعلق الدائم الذي ل يهنأ ول يستقر.
وما تزال هذه الفرقة تؤدي إل نتائجها تلك ف العال الديث .ولكنها تزيد ف " مدنيتنا " الاضرة حت
تبلغ مبلغ النون! وحالت الستريا ،وضغط الدم واضطراب العصاب ،والنون الكامل ،والنتحار..
تتزايد ف ظل الضارة الديثة إل درجة خطرة تؤذن بتدمي الطاقة البشرية وتفتيتها ،وهي صدى لتلك
الفرقة الت توزع النفس الواحدة ف وجهات شت ث ل تربط بينها برباط [.]2
والكيان النفسي بكم فطرته الت فطره ال عليها ..وحدة.
وحدة تشمل السم والعقل والروح .تشمل " الادة " و " اللمادة " تشمل شهوات السد ورغبات النفس
وتأملت العقل وسبحات الروح .تشمل نزوات الس الغليظة وتأملت الفكر الطليقة ورفرفات الروح
الطائرة.
ول شك أن جزئيات هذا الكيان متعارضة ،وأن كلً منها جانح ف اتاه..
ذلك إذا تركت وشأنا ،ينبت كل نابت منها على هواه!
ولكن العجيبة ف هذا الكيان البشري ،عجيبة الفطرة الت فطره ال عليها ،أن هذا الشتات النافر النتثر ،يكن
أن يتمع ،يكن أن يتوحد ،يكن أن يترابط ،ث يصبح -من عجب -ف وحدته تلك وترابطه ،أكب قوة
على الرض! ذلك حي تقبس الذرة الفانية من حقيقة الزل الالدة ،فتشتعل وتتوهج ،وتصبح طليقة،
كالنور ..تتزج فيها الادة واللمادة فهما سواء!
والطريق الكب لتوحيد هذا الشتات النافر النتثر ،وربطه كله ف كيان ،هو توحيد الدنيا والخرة ف طريق!
عندئذ ل تتوزع الياة عملً وعبادة منفصلي .ول تتوزع النفس جسما وروحا منفصلي .ول تتوزع
الهداف عملية ونظرية ،أو واقعية ومثالية ل تلتقيان!
حي يلتقي طريق الدنيا بطريق الخرة ،وينطبقان فهما شيء واحد ،يدث مثل هذا ف داخل النفس،
فتقترب الهداف التعارضة .ويلتقي الشتات التناثر ،ث ينطبق الميع فهو شيء واحد .وتلتقي النفس الفردة
-بكيانا الوحد -تلتقي بكيان الياة الكب ،وقد توحدت أهدافه وارتبط شتاته ،فتتلقى معه ،وتستريح
إليه ،وتنسجم ف إطاره ،وتسبح ف فضائه كما يسبح الكوكب الفرد ف فضاء الكون ل يصطدم بغيه من
الفلك ،وإنا يربطها جيعا قانون واحد شامل فسيح.
والسلم يصنع هذه العجيبة!
ويصنعها ف سهولة ويسر!
يصنعها بتوحيد الدنيا والخرة ف نظام.
(وَابَْتغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَل تَْنسَ َنصِيَبكَ ِمنَ الدّنْيَا) [.]3
(ُقلْ َمنْ حَ ّرمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْ َرجَ ِلعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ ِمنَ الرّزْقِ ُقلْ هِيَ ِلّلذِينَ آمَنُوا فِي اْلحَيَاةِ الدّنْيَا خَاِلصَةً
يَ ْومَ اْلقِيَامَةِ) [.]4
وقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم الترجة الكاملة الصادقة للحقيقة السلمية .ومن ث كانت الدنيا
والخرة ف نفسه طريقا واحدا ونجا واحدا و " حسبة " واحدة.
أي عمل من أعماله صلى ال عليه وسلم ل يكن مقصودا به وجه ال والخرة؟
واي لظة كف صلى ال عليه وسلم عن العمل ف الدنيا ،والعمل لصلح الرض؟
حت الصلة ..أل يكن صلوات ال وسلمه عليه يستعي فيها ال أن يكنه من أداء رسالته على الوجه
الكمل ،ورسالته هي هداية الناس ف الرض ،ليعرفوا ال واليوم الخر؟!
حلقة واحدة ل تنقطع :العمل والعبادة ،والدنيا والخرة ،والرض والساء!
والرسول صلى ال عليه وسلم هو القدوة والسوة السنة ،وهو واضع النهاج العملي لتحقيق السلم ف
عال الواقع .والرسول صلى ال عليه وسلم ل يعتزل الناس ليتطهر لربه ف معزل .فعباداته يقضيها أمامهم
ومعهم وهم ف صحبة منه .فإذا كان يلو إل ربه ف جنح الليل يتعبد ،فكل نفس بشرية تفو إل اللوة
حينا من الوقت ،وكل نفس تلك أن تصفو ف هذه اللوة فوق ما تصفو ف حضرة الخرين .ولكن الهم
أنه ف أعمق خلواته وأصفاها ل ينسى أنه رسول ال ،الكلف بأداء رسالة ال.
والرسول يارب ف سبيل ال .ويسال ف سبيل ال .ويدعو الناس إل سبيل ال .ويأكل باسم ال .ويتزوج
على سنة ال .ويهدم ويبن ،ويطم وينشئ ،ويهاجر ويتوطن ..كل ذلك ف سبيل ال ،واليوم الخر ،يوم
يلقى ال .فكل عمله إذن عبادة يتوجه با إل ال .والطريق أمامه طريق واحد ..هو الطريق إل ال...
وهو يسي ف هذا الطريق الوحد الذي ل طريق غيه ،يسي قدما ل يتلفت ول يتحول ..ول يكف عن
السي..
إل آخر لظة من حياته صلى ال عليه وسلم كان يسي ف الطريق.
كان يعمل ف الدنيا وهو يبغي الخرة ،ويعمل للخرة بالعمل ف الرض.
حت حي نزلت الية( :الْيَ ْومَ َأ ْك َملْتُ لَ ُكمْ دِينَ ُكمْ َوأَْت َم ْمتُ عَلَيْ ُكمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ لَ ُكمُ الِْأسْلمَ دِينا)
وأحس عمر أنا النهاية فدمعت عيناه ..حت ف مرض الوت ..حت ف اللحظة الخية ل يزايله انشغاله
بأمور الدنيا ..بأمور الناس ..بإصلح الرض ..بداية البشرية ..برسم النهج الذي يسيون عليه ..بتوطيد
أركان الدين وتوثيق عراه..
وكان يقول والوجع يشتد عليه صلى ال عليه وسلم " إيتون بكتاب أكتب لكم كتابا ل تضلوا بعده
أبدا." ..
كانت ف يده الفسيلة وكان يغرسها..
ول يدع يديه منها صلى ال عليه وسلم حت فاضت روحه الكرية الطاهرة إل موله..
***
وإن ف ذلك لدرسا يقتدي فيه السلمون بنبيهم ،ويهدون به البشرية الضالة إل سواء السبيل.
يتعلمون أن يربطوا طريق الدنيا بطريق الخرة.
يتعلمون أن الدين ليس عزلة عن الياة ،وإنا هو صميم الياة .ليس عزلة عن تيار الياة الصاخب الضطرب
فل يركبون فيه مركبهم مع الراكبي.
وأنم ل يرضون ربم ول يدمون دينهم إذا أحسوا أنه ينبغي عليهم أن ينسوا ال والدين إذا دخلوا معترك
الياة وعملوا لصلح الرض.
لن يرضوا ال ولن يدموا الدين إذا دخلوا الدرسة أو الامعة أو العمل أو الصنع أو التجر وف حسابم
أنم الن يعملون للرض ويعملون للدنيا ،وأنم ف لظة أخرى حي يفرغون من عمل الرض سيعودون -
إذا عادوا -إل ال ،فيعبدونه ويتوجهون إليه!
كل! ليس ذلك من السلم!
إنا السلم أن يأكلوا باسم ال ،ويتزوجوا باسم ال ،ويتعلموا باسم ال وف سبيل ال ،ويعملوا وينتجوا
ويتقووا ويستعدوا ..ف سبيل ال .ل تشغلهم الدنيا عن الخرة ،ول الخرة عن الدنيا ،لنما طريق واحد
ل يفترقان.
وحي يتعلم السلمون ذلك :حي يتعلمون أنم إذا درسوا الطاقة الذرية واستخدامها ف السلم والرب
يكن أن يكونوا متصلي بال وف سبيل ال .حي يتعلمون أنم وهم يدرسون النظم السياسية والقتصادية
والصلح الجتماعي ،أو يطبقونا على الناس وهم يسوسون أمورهم ،يكن أن يكونوا متصلي بال وف
سبيل ال .حي يتعلمون أنم وهم ف خلوتم مع أزواجهم يققون هدف الياة الكب ،يكن أن يذكروا
اسم ال ويكونوا ف سبيل ال..
حي يتعلمون أن عملً واحدا من أعمال الرض الكثية التفرقة ل يكن أن يرج عن الطريق إل الخرة
إذا أقدم عليه النسان وهو مسلم مؤمن بال متوجه إل ال..
بل حي يتعلمون أنه ل يكنهم أن يدموا الخرة إل بإصلح الدنيا ،ول يصلوا للخرة إل عن طريق
الرض ،وأن عليهم أن يظلوا إل آخر لظة من حياتم يعمرون الرض ويغرسون فسائلها ،وإل فلن يصلوا
إل رضوان ال..
حي ذلك يكونون مسلمي حقا..
وحي ذلك يكونون قدوة للمم كلها على سطح الرض ،كما كان الرسول صلى ال عليه وسلم هو
قدوتم.
(ِليَكُونَ الرّسُولُ شَهِيدا َعلَيْ ُكمْ وَتَكُونُوا شُ َهدَاءَ عَلَى النّاسِ).
عندئذ يكون لديهم ما يعلمونه للعال كله ،وللغرب الفتون خاصة .الغرب الذي أصابه النون فقام بربي
متواليتي ف ربع قرن ،وهو اليوم يستعد لتدمي الرض!
يستطيعون أن يقولوا للناس ف كل الرض :لقد ألغيتم " ال " من حسابكم لنكم ظننتم أنه يعوّقكم عن
تعمي الرض ،وعن تعلم العلم ،وعن استغلل طاقة الرض ،وعن الستمتاع بالياة!
ولكنه ف الواقع ليس كذلك!
إنه يدعو إل كل هذا الذي تفون إليهُ( :قلْ َمنْ حَ ّرمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْ َرجَ ِلعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ ِمنَ الرّزْقِ) وإنا
يريد فقط أن توحدوا طريقكم ،فل تعلوا طريقا للدنيا وطريقا للخرة منفصلتي ،وإنا طريق واحدة للدنيا
والخرة ،هي الطريق إل ال.
***
وليس هذا هو الدرس الوحيد الذي نتعلمه من هذا الديث العجيب.
فل يأس مع الياة!
والعمل ف الرض ل ينبغي أن ينقطع لظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة!
فحت حي تكون القيامة بعد لظة ،حي تنقطع الياة الدنيا كلها ،حي ل تكون هناك ثرة من العمل..
حت عندئذ ل يكف الناس عن العمل وعن التطلع للمستقبل ،ومن كان ف يده فسيلة فليغرسها!
إنا دفعة عجيبة للعمل والستمرار فيه والصرار عليه!
ل شيء على الطلق يكن أن ينع من العمل!
كل العوقات ..كل اليئسات ..كل " الستحيلت " ..كلها ل وزن لا ول حساب ..ول تنع عن العمل.
وبثل هذه الروح البارة تعمر الرض حقا وتشيد فيها الدنيات والضارات.
كل ما ف المر أن السلم وهو يدعو لتعمي الرض ،والعمل ف سبيلها ،ل ينحرف بالفكار والشاعر عن
طريق ال وطريق الخرة ،لنه ل يفصل بي الدنيا والخرة ،ول بي الياة العملية و " الخلق " .إنه ل
يقول -كما يقول الغرب النحرف -فلعمر الرض ،ول يعنين أن ترتفع أخلق الناس أو تبط ،فللعمل
مقاييس وللخلق مقاييس! ل تمن أخلق الرجل ما دام " إنتاجه " يعجبن! فهذه النظرة البتسرة الابطة
ل تلبث أن تدمر ف لظة ما بنته ف أجيال .وأن تيل العمار كله إل خراب! بل إن هذه النظرة البتسرة
الابطة لتوزع النفوس والفكار بي الي والشر ،وبي الواقع والثال ،فتكون النتيجة القريبة هي المراض
العصبية والنون والنتحار ،وذلك وحده تدمي للنفوس وتبديد للطاقة ،ولو ل يدث الدمار الشامل
والراب الرهيب.
وقد كان السلمون وهم يؤمنون بدينهم ويعملون به يبنون أروع حضارات الرض وينشئون أرفع
مفاهيمها ..ول ينحرفون عن طريق ال.
كانت طاقة " العمل " تدفعهم للنشاء والتعمي ،والفتح والنسياح ف الرض ،فبلغوا ف لحة خاطفة من
الزمن ما ل يبلغه غيهم ف قرون ،وأقاموا ف كل مكان مثلً للعدالة النسانية كانت -وما تزال -غريبة
على البشرية ،ينظرون إليها كما ينظرون للحلم والساطي.
حي أعاد أبو عبيدة الزية لهل الشام يوم علم باحتشاد جيش الروم وخشي أل يقدر على حايتهم ،وقال
لم " :إنا رددنا عليكم أموالكم لنه بلغنا ما جع لنا من الموع .وإنكم قد اشترطتم علينا أن ننعكم ،وإنا
ل نقدر على ذلك .وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن
نصرنا ال عليهم ".
حي صنع ذلك كان يقوم بإحدى العجزات الت أنشأها السلم على وجه الرض .يعمل .ويتهد ف عمله
إل أقصى الغاية ،ويضرب ف مناكب الرض .ويارب ويغزو .ول ينسى ال لظة واحدة ف ذلك كله ول
يفترق طريقه ف الدنيا عن طريقه إل الخرة ،لنه يعمل ذلك كله ف سبيل ال.
وحي ت النصر لصلح الدين ف الروب الصليبية وأمكنه ال من أعداء دينه الذين غدروا من قبل بعهد ال،
وذبوا السلمي داخل البيت القدس ،واعتدوا بغلظة ووحشية على كل حرمات البشرية ..ل يثأر لنفسه،
ول يثل بم ،ول يعمل ف رقابم السيف -وهو مأذون بذلك من كل شرائع السماء والرض معاملةً بالثل
-بل صفح وعفا ،وارتفع على نفسه وعلى النفس " البشرية " كلها..
حي ذلك كان يقوم بعجزة أخرى من معجزات السلم ..يعمل ويعمل ..ول ينسى ال ،ول يفترق
طريقه ف الرض عن طريقه إل الخرة.
وبذلك كان السلم فذا ف التاريخ..
وكان البناء الذي بناه السلم فريدا بالرغم ما أصابه من ضربات من الداخل ومن الارج على السواء.
لقد كان السلمون يقتدون برسولم وهو يثهم على العمل لتعمي الرض ،وغرس ما ف أيديهم من فسائل
تثمر حي يشاء لا ال ،وإنا عليهم فقط أن يغرسوها ،ويضوا إل غيها يغرسون ف مكان جديد! ويقتدون
به فيغرسون به ما يغرسون من نبتات الي ف كل مكان ،وهم يتجهون إل ال وحده وإل الخرة .ل
تدفعهم مطامع الرض النبتة عن طريق ال ،ول شهوات النفس النبتة عن تقوى ال.
وبذلك تيزوا وسادوا ،وكانوا النور الشرق ف ظلمات الرض ،والقدوة ف كل سوك وكل عمل وكل علم
وكل نظام .وأوربا ف ظلمة الاهلية تأكلها الفرقة والروب والتأخر والنطاط ..حت قبست قبسات من
السلم ف الروب الصليبية ،فأفاقت من غفوتا وبدأت " تنهض " ..ولكن على غي طريق ال وطريق
الخرة ..ومن ث ل تقوم إل كمن يتخبطه الشيطان من الس ..تنطلق كالجنون والوة ف آخر الطريق.
وإن أمام السلمي الكسال اليوم قدوة ف رسول ال تنفعهم إذا فتحوا لا بصائرهم وتدبروا معانيها .إن
عليهم أن يعملوا دائما ول يكلّوا ..يعملوا جهد طاقتهم ،وفوق الطاقة ليعوضوا القعود الطويل .يعملوا ف
كل ميدان من ميادين العمل :ف ميدان العلم وميدان الصناعة وميدان التجارة وميدان القتصاد وميدان
السياسة وميدان الفن وميدان الفكر..
يعملوا ول يقولوا :ما قيمة العمل؟ وماذا يكن أن نصل إليه؟
يغرسوا الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة .فإنا عليهم أن يعملوا ،وعلى ال تام النجاح!
***
والدعاة خاصة لم ف هذا الديث درس أي درس!
فالدعاة هم أشد الناس تعرضا لنوبات اليأس ،وأشدهم حاجة إل الثبات!
قد ييأس التاجر من الكسب ،ولكن دفعة الال ل تلبث أن تدفعه مرة أخرى إل السي ف الطريق.
قد ييأس السياسي من النصر ،ولكن تقلبات السياسة ل تلبث أن تفتح له منفذا فيستغله لصاله.
قد ييأس العال من الوصول إل النتيجة ..ولكن الثابرة على البحث والتدقيق كفيلة أن توصله إل النهاية.
كل ألوان البشر الحترفي حرفة معرضون لليأس ،وهم ف حاجة إل التشجيع الدائم والث الطويل،
ولكنهم مع ذلك ليسوا كالدعاة ف هذا الشأن ،فأهدافهم غالبا ما تكون قريبة ،وعوائقهم غالبا ما تكون
قابلة للتذليل.
وليس كذلك الصلحون.
إنم ل يتعاملون مع الادة ولكن مع " النفوس " والنفوس أعصى من الادة ،وأقدر على القاومة وعلى الزيغ
والنراف.
والسم الذي يأكل قلوب الدعاة هو انصراف الناس عن دعوتم ،وعدم اليان با فيها من الق ،بل
مقاومتها ف كثي من الحيان بقدر ما فيها من الق ،وعصيانا بقدر ما فيها من الصلح!
عندئذ ييأس الدعاة ..ويتهاوون ف الطريق.
إل من قبست روحه قبسة من الفق العلى الشرق الطليق .إل من أطاقت روحه أن يغرس الفسيلة ولو
كانت القيامة تقوم اللحظة عن يقي!
***
الدعاة أحوج الناس إل هذا الدرس .أحوج الناس أن يتعلموا عن الرسول صلى ال عليه وسلم هذا التوجيه
العجيب الذي تتضمنه تلك الكلمات القليلة البسيطة الالية من الزخرف والتنسيق.
هم أحوج الناس أن يقبسوا من قبسات الرسول هذه اللمحة الضيئة الكاشفة الدافعة الوحية ،فتني ف قلوبم
ظلمة اليأس ،وتغرس ف نفوسهم نبتة المل ،كما تغرس الفسيلة ف الرض لتثمر بعد حي.
إنه يقول لم :ليس عليكم ثرة الهد ،ولكن عليكم الهد وحده ،ابذلوه ول تتطلعوا إل نتائجه!
ابذلوه بإيان كامل أن هذا واجبكم وهذه مهمتكم ،وأن واجبكم ومهمتكم ينتهيان بكم هناك ،عند غرس
الفسيلة ف الرض ،ل ف التقاط الثمار!
وهو إذ يقول لم ذلك ل يغرر بم ول يضحك عليهم! إنا يقول لم الشيء الواحد الصواب!
فحي تسأل نفسك :مت تثمر الفسيلة وكيف تثمر ،وحولا الرياح والعاصي والشر من كل جانب؟
وحي يصل بك التفكي إل أن تطرح الفسيلة جانبا وتنفض منها يديك ..حينئذ كيف تثمر؟ وأنّى لا أن
تعيش؟
أما قتلتها أنت حي أفلتّها من يديك؟
ولكنك حي تغرسها ف الرض وترفع يديك ل بالدعاء ..حينئذ تكون أودعتها مكانا الق ،وعهدت با
إل الق الذي يرعاها ويرعاك.
ول يشغلك أن تسأل :مت تكون الثمار؟! ليس هذا من عملك أنت .لست مهيمنا على القدار .وليس لك
علم الغيب .و ل ف طوقك -لو علمته -أن تسك نفسك من الدوار!
ومن تكون أنت ف ملك ال الواسع الفسيح الذي ل حد له ول انتهاء؟!
وإنا أنت أنت :ملوق حي متحرك له كيان وله وزن وقوة ومكان ف تاريخ الرض ،حي تقبس روحك
قبسة من صانع الرض وصانع الكون ،وصانعك أنت من بي هذا الكون الكبي.
أفل تدع له إذن كصيك مطمئنا إليه؟ أو ل تدع له كذلك هذه الفسيلة الت غرستها يرعاها لك ويطلع لا
الثمار؟! أو ل تكتفي بدورك الطلوب منك ف اللكوت الائل الفسيح ،وتمد ال أن ل يمّلك سوى
دورك هذا الحدود اليسور؟!
وحي تصنع ذلك تطلع الثمار!
ل عجب ف ذلك ول سحر!
وإنا أنت تؤدي دورك وتضي ،فيجيء غيك فيعجب بك وما صنعت ،فيحبك ،فيذهب يتعهد فسيلتك الت
غرست ،فتنمو ،وتطلع الثمار.
وقد تكون " سعيدا " بقاييس الرض ،فترى الثمرة وأنت حي ف عمرك الحدود.
وقد تضي قبل أن ترى الثمار..
ولكن أين تضي؟ هل تضي لحد غي ال ،إل جوار غي جوار ال؟
فماذا إذن عليك حي تصل إل هناك ،أن تكون قد رأيت الثمرة هنا ،أو تراها وأنت هناك؟ كل! إنما ف
النهاية سيان.
وإنا ترضى وأنت ف جوار ربك أنك غرست الفسيلة ف الرض ول تدعها من يدك يقتلها اليأس والهال.
***
ليست إذن دعوة ف اليال حي يقول الرسول صلى ال عليه وسلم للناس :إن كان ف يد أحدكم فسيلة
فليغرسها.
وإنا هي صميم دعوة الق .الق الواقع ف الرض ،الشهود على مدار التاريخ.
والدعاة ف كل الرض أحوج الناس إليها حي تضيق بم السبل ويصل إل قلوبم سم اليأس القتال.
وهم أول الناس أن يتدبروا سية الرسول نفسه.
لقد كان يغرس الفسيلة وهو ما يدري ما يكون بعد لظات!
قد تأتر به قريش فتقتله.
قد يهلك جوعا ف الشعب هو ومن معه من الؤمني.
قد يلحق به الكفار وهو ف طريقه إل الغار فل يكون ثة غد ..أو تكون القيامة بعد لظة ..ومع ذلك
يغرس الفسيلة ،ويتعهدها بالرعاية حت يؤذن ال بالثمار ،وهو مطمئن دائما إل ال ما دام يؤدي الواجب
الطلوب.
ذلك هو الثل الذي يتاج الدعاة إل أن يقتدوا به حي يدعون إل الصلح.
من كان ف يده فسيلة فليغرسها!
ول يسأل نفسه :كيف تنمو وحولا الرياح والعاصي والشر من كل جانب؟
ل يسأل نفسه ،فليس ذلك شأنه..
فليدع ذلك ل
ولتطلب نفسه أنه أودعها مكانا الق ،وعهد با إل الق الذي يرعاها ويرعاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ]1ذكره علي بن العزيز ف النتخب بإسناد حسن عن أنس رضي ال عنه " .عمدة القارئ ف شرح صحيح البخاري لبدر الدين العين ،باب الرث والزراعة
".
[ ]2جاء ف إحصاء طب أن عشرة ف الائة من المريكيي مصابون بالصداع الدائم كمرض ،أي أنه ليس الصداع الطارئ الذي تشفيه السكنات ،وإنا هو
صداع دائم ل يشفى! ث قال التقرير إن هذه النسبة آخذة ف الرتفاع.
[ ]3سورة القصص [ .] 77
[ ]4سورة العراف [ .] 32
طلب العلم فريضة
***
ل يشعر السلمون قط أن الدنيا تنفصل ف إحساسهم عن الخرة أو أن الدين ينفصل عن الياة.
وبذه الروح الشاملة الواصلة -الت وجههم لا ال ورباهم عليها رسوله -كانوا يأخذون شئون الياة
كلها ،من عمل وعبادة ،وأفكار ومشاعر ،وشريعة ونظام..
وبذه الروح الشاملة الواصلة ذاتا كانوا يأخذون العلم ..على أنه " فريضة " تصل الرض بالسماء ،وتصل
العمل بالعقيدة ،وتصل " العرفة " ..بال.
كان للعلم ف " عقولم " هذا الدلول الشامل ..فهو ليس علم الرض وحدها .وليس علم السماء وحدها.
وليس علم النظريات وحدها أو علم التطبيقات .ولكنه ذلك كله ،مشمولً بالعقيدة ومرتبطا بال.
ومن ث امتدت " العلوم " ف نظرهم حت شلت العرفة كلها .فمنها علوم الدين من فقه وشريعة وتوحيد
وكلم .ومنها علوم اللغة .وعلوم الفلك والطبيعة والكيمياء والرياضيات ..إل آخر ما كان معروفا يومئذ
من العلوم.
ول يكن العرب -قبل السلم -أمة علم ،ول يكن تراثهم يمل شيئا ذا قيمة من العرفة .إنا كان ههم
الشعر والباعة اللغوية ..ولكن الزة البارة الت أحدثها السلم ف نفوسهم ،والطاقة العجيبة الت جعها ف
كيانم ،وأطلقها -من بعد -ف فجاج الرض ،قد حولتهم إل قوة هائلة تضرب ف كل ميدان .ف ميدان
العقيدة .وميدان الرب .وميدان السياسة .وميدان العرفة كذلك.
لقد أحسوا بالرغبة الشديدة ف العرفة تتأجج ف كيانم :العرفة من كل لون .وف كل ميدان .فشرقوا
وغربوا يطلبون العلم ،ويستحوذون على كل ما يدون منه ف الطريق .ويتفتحون لذلك كله ،ويهضمونه
ويثلونه ويصبغونه بصبغتهم السلمية الت تربط الياة كلها برباط العقيدة .ث يضفون إليه جديدا قيما
يشهد لم بالد والعزية ،كما يشهد بالباعة والقدرة ،والقوة والنماء.
كانت العرفة ف وقتهم مزدهرة ف اليونان من ناحية ،وف الند وفارس من ناحية .كما كانت الصي كذلك
زاخرة بالعلوم .وف الكمة القائلة " :أطلبوا العلم ولو ف الصي " ما يشي إل هذه القيقة ،وكان توجيه
الرسول صلى ال عليه وسلم للمسلمي أن يبذلوا أقصى الطاقة ف سبيل العلم ،فنشطوا ف سبيل ذلك ل
يبالون الصعاب.
وف سرعة خاطفة أل السلم بذا كله ،وتفقه السلمون ف معارف الرض العروفة ف ذلك الي ،ث
أخذوا ف البناء والضافة ،وظهر من بينهم حشد هائل من العباقرة ف كل جانب .عبقريات ف الفقه -
والفقه يشمل السس النظرية للحياة كلها با فيها من اقتصاد وسياسة وحرب وسلم وتنظيم اجتماعي -
وعبقريات ف العلوم النظرية وف العلوم العملية :ف الرياضة والفلك والطبيعة والكيمياء والطب ،يفظ منهم
التاريخ أساء خالدة ،دفعت بالعرفة البشرية خطوات جبارة إل المام .وظل بعضهم -كالسن بن اليثم
-أستاذا ف مادته وكشوفه العلمية حت القرن التاسع عشر ،يتتلمذ عليه الوربيون.
ولكن الهم ف ذلك كله هو " الروح " الت شلت العلم ف العال السلمي ..روح " الفريضة ".
كانت التعاليم الت استقوها من ال والرسول هي الت تظلل حياتم وتسيطر على مشاعرهم .وكانت العرفة
ف وجدانم فريضة يؤدونا ،بدافع الفريضة وف صورة الفريضة.
كان للعلم ف نفوس الناس قداسة كقداسة العقيدة .قداسة تشمل العلم كما تشمل الطلب .كلها يس
بالرهبة ،ويس بالتقوى ،ويس بالنظافة ،ويس بالراحة والفرحة ف رحاب ال.
إنه واجب مقدس ،يؤدى " من الداخل " .يؤدى من العماق.
الستاذ يصّل العلم لنه فريضة .ويؤديه إل الناس لن أداءه فريضة كذلك.
والطلب يسعون إل طلبه ،كما يسعون إل السجد للصلة.
كلها ملص وكلها نظيف.
والحصول العلمي الذي خلفه أولئك السلمون -سواء أعجبنا اليوم ونن ننظر إليه بعقلية العارف الديثة
أم ل " نتفضل " عليه بالعجاب -مصول يشهد بالهد الصادق العنيف الذي بذل فيه..
ل يكن واحد يؤلف ليكسب! يكسب الشهرة أو يكسب النقود! وإنا يؤلف لنه بث وجد واستنبط،
فوصل إل " شيء " فأذاعه على الناس.
و " النقطاع " للعلم كان وحده دليلً على هذا الصدق الذي ل تفسده الغراض.
ول يكن الصدق والخلص ها السمة الوحيدة ف " علم " السلمي .فذلك ل يستنفد كل معان "
الفريضة "!
وإنا كانت هناك مزيتان أخريان ،تركتا طابعا أصيلً ف الياة السلمية ما يقرب من ألف عام.
الزية الول أن العلم -وهو " فريضة " -كان يقرب القلوب إل ال ..ول يبعدها عن هداه.
نعم ..ل تدث ف السلم تلك الفرقة البغيضة بي العلم والدين!
وكيف تدث والعلم فريضة يتقرب با النسان إل ال؟ كيف يتقرب إليه بالبعد عنه والنفور منه؟!
كل! إن العلم نور ال .موهبته العجزة الت وهبها للنسان .وهي أول بالشكر ل بالكفران!
وكذلك أحس السلمون .أحسوا أن ف رقابم ،دينا ل يؤدونه .فهو قد وهب لم " الكمة " و " العرفة
" .وهب لم العقل الذي يفكر ويكتشف ويستنبط .وهب لم القدرة على الستفادة من التجربة .وهب لم
ذلك الشعاع العلوي الذي ل يكن ليوجد لول أن ال نفخ ف النسان من روحه ..فعليهم لقاء ذلك دين.
هو الشكر .الشكر ل النعم الوهاب.
ومن ث كان العلم يزيدهم إيانا .ويزيدهم تعلقا بال:
سمَاوَاتِ وَالَْأ ْرضِ وَاخْتِلفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ اّلذِينَ َي ْذكُرُونَ اللّهَ قِيَاما (إِنّ فِي َخ ْلقِ ال ّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ رَبّنَا مَا َخَل ْقتَ َهذَا بَاطِلً سُْبحَاَنكَ َفقِنَا َوُقعُودا َو َعلَى جُنُوبِ ِهمْ وَيََتفَكّرُونَ فِي َخ ْلقِ ال ّ
َعذَابَ النّارِ) [.]9
تلك روح الؤمن الذي " يتعلم " .الذي يتفكر ف خلق السماوات والرض .ويصل من تفكره ذلك إل
قواني ونظريات وحقائق وتطبيقات ،تزيد " معلوماته " وتفيده ف تعميه الرض وهو يشي ف مناكبها
ويأكل من رزق ال [ ]10فيدعوه ذلك كله إل معرفة ال .ومعرفة " القصد " ف خلق السماوات
والرض .القصد " الق "( :مَا َخلَ ْقتَ َهذَا بَاطِلً) فيسبح ال .ويتقرب إليه .ويتوقى النار ويطلب تقيق
وعد ال بالنعيم( :رَبّنَا إِنّنَا َس ِمعْنَا مُنَادِيا يُنَادِي ِللْإِيَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبّ ُكمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا َو َكفّرْ عَنّا
سَيّئَاتِنَا وََت َوفّنَا َمعَ الْأَبْرَارِ رَبّنَا وَآتِنَا مَا َو َعدْتَنَا َعلَى رُ ُسلِكَ وَل ُتخْزِنَا يَ ْومَ اْلقِيَامَةِ إِّنكَ ل ُتخْلِفُ اْلمِيعَادَ) [
.]11
ول يدث ف التاريخ السلمي أن عالا يبحث ف الطب أو يبحث ف الفلك أو يبحث ف الطبيعة أو يبحث
ف الكيمياء ..وجد نفسه معزولً عن العقيدة ،أو وجد أن العقيدة تعطله عن البحث العلمي الدقيق! ول تقم
الرب والصومة ف قلب مسلم بي العلم والعقيدة أو بي العلم والدين .وإنا عاش العلم ف ظلل العقيدة
يتقدم وينشط ،ويصل إل كشوف علمية هائلة ،أقر با التعنتون أنفسهم من علماء أوروبا ،دون أن يفترق
الطريق لظة أو يدث الشقاق.
ذلك أن العلم كان " فريضة " إل ال ،تؤدى كما تؤدى الصلة والصيام والزكاة!
***
والزية الثانية ف علوم السلمي -الناشئة كذلك من كون العلم فريضة -أنا ل تستخدم قط ف الشر أو
اليذاء!
وكيف يستخدم العلم ف الشر وهو فريضة وعبادة؟
" تعلموا العلم ،فإن تعلمه ل خشية ،وطلبه عبادة ،ومذاكرته تسبيح ،والبحث عنه جهاد ،وتعليمه لن ل
يعلمه صدقة ،وبذله لهله قربة " [.]12
فأين ينبغ الشر ف هذا الطريق الذي تفه خشية ال ،وعبادته ،وتسبيحه ،والتقرب إليه؟
ولقد يطر على البال أن علوم السلمي ل تستخدم ف الشر لنا كانت بدائية بسيطة ل تصلح للشر ،إذا
قيست بطاقة الذرة وعلوم " التدمي " ف القرن العشرين!
والواقع ليس كذلك! فإن علوما أدن من علوم السلمي وأبسط -ف مصر الفرعونية وبابل -كانت تقدر
على الشر وتستخدم فيه!
فقد استخدم الكهنة ف مصر القدية -وكانوا ف الغلب هم العلماء -استخدموا معارف الكيمياء والطب
والنجوم ف السحر ،والستحواذ على الموال بالباطل ،والتوصل إل السلطان الطلق على القلوب والرواح
والجسام والعقول ،والتحكم ف كل أمور الناس بالعبودية والذلل.
وكانوا يستأثرون بذا العلم ل يبيحونه للناس ،إيثارا لنفسهم بالنفع ،واستحواذا على السلطان الكافر الذي
يذلون به العبيد ..عبيد فرعون وعبيد الكهان ،وهم " الشعب " كله بل تفريق.
ولو أراد السلمون أن يستخدموا العلم للشر فلم تكن لتمنعهم بساطة علومهم ،ول تعجزهم عن عمل
السوء..
أقرب الشر أن يصرفوا به القلوب عن ال.
وأن يضحكوا به على السذج والهلء فينالوا الال التدفق وينالوا السلطان.
وأن يبسوه عن العامة..
وأن يتزلفوا به إل اللوك والسلطي..
وأن يلتووا به ليبروا مظال السلطان.
وهذا هو التاريخ ..صفحة رائقة مشرقة مضيئة ..تشهد أن العلم السلمي ل يسع للشر ول يستخدم للشر.
بل أراد دائما وجه ال وتوجه إل الي .ووقف ف مرات كثية أمام السلطان الائر يطالبه بق ال وحق
الكادحي..
ذلك أنه كان فريضة إل ال ،يتقرب با العلماء إل حاه.
***
والن نطوي تلك الصفحة الشرقة الضيئة لنطلع على صفحة أخرى ..صفحة الغرب.
أوربا هي وريثة المباطورية الرومانية والثقافة الغريقية .وما تزال حضارتا الادية وتياراتا الفكرية تستمد
من هذين النبعي ،بشعور من الوربيي أوبغي شعور.
وقد ورثت أوربا -فيما ورثته من تاريها البكر -طريقة إحساسها بال واعتقادها ف الدين.
وينبغي أن نعرف أن أوربا ل تكن نصرانية حقة ف يوم من اليام! على الرغم من انتشار السيحية فيها،
وتعصب الوربيي لا ف الروب الصليبية وماكم التفتيش .وعلى الرغم ما ل يزال يرد على بعض اللسنة
الغربية حي تتحدث عن " الضارة السيحية "!
كل! ل تكن تطبق الدين الق ف يوم من اليام .وإنا كان قصارى السيحية عندهم أن تلي لا قلوبم ف
العبد ،وتتأثر أرواحهم بأنغامها السجية وسبحاتا الروحية الرفرفة ،ولكنها ل تكم الياة العامة ،ول تكم
ف أمر هذه الرض .فإذا خرج الناس من صلتم ف العبد ارتدت عنهم روح الدين ،وعادوا إل الوثنية
الرومانية الغريقية القدية ،يستمدون منها أفكارهم ومشاعرهم ،وتشريعاتم وتنظيماتم وكل حضارتم
الادية العريقة!..
وأيا ما كان المر فقد ظلت ف ل شعور الوربيي -تت القشرة السيحية الرقيقة -تلك النظرة الغريقية
إل ال ،تؤثر ف وجدانم نوه ،وتطبع إحساسهم الدين ف العماق.
فكيف كانت السطورة الغريقية تصور ال ..أو اللة؟
لن نستعرض هنا الساطي كلها ،ول الصورة الزرية الت كانت تعرض با اللة ،فتصورهم -على أحسن
تقدير -بشرا فائقي القوة ،ولكن نفوسهم مشحونة بالنوات الطائشة والنرافات النقة الت يتورع عنها
البشر العاديون ..وإنا نستعرض أسطورة واحدة ذات دللة ف موضوع " العلم " هي برومثيوس سارق النار
القدسة!
هذه السطورة تصور العلقة بي البشر واللة علقة صراع دائم وضغينة وأحقاد .علقة ل ترف فيها
مشاعر الرحة أو العطف أو الودة ..ول يهدأ أوراها حت يشتعل من جديد.
والعركة قائمة على النار القدسة :نار " العرفة "! البشر يريدون أن يستولوا على هذه النار القدسة ،ليعرفوا
أسرار الكون كلها ،ويصبحوا آلة! واللة تردهم عنها ف وحشية وعنف ،لتنفرد وحدها بالقوة ،وتتفرد
دونم بالسلطان!
تلك إذن هي طبيعة العلقة بي البشر وال! العلقة الت اندست ف أوهام الوروبيي ،وصارت تصرف
أفكارهم ومشاعرهم بغي وعي .العجز وحده هو الذي يضعهم لشيئة ال! وهم غي راضي عن هذا العجز
ول ساكتي عنه .فهم ف ماولة دائمة يطلبون " القوة " ويطلبون " العرفة " .ياولون دائما أن يقهروا هذا
العجز .أو يقهروا -بلغتهم -قوة الطبيعة .أو -بلغتهم اللشعورية أيضا " -ينتزعون " السرار! ينتزعونا
من الله الوثن القدي الذي كانوا ياولون أن ينتزعوا منه ناره القدسة!
وبذا الدافع الفي الطبوع ف أعماق النفس الغربية -ف أعماق اللشعور -يس الغربيون أن كل خطوة
يطوها " العلم " ترفع النسان فوق نفسه درجة ،وتنل الله من عليائه بنفس القدر!
وتظل " العركة " هكذا دائرة :كل فتح جديد من فتوحات العلم يفض الله ويرفع النسان ،حت تأت
اللحظة الرقوبة الت يتحلب لا ريق الغرب ويتلهف إليها ،اللحظة الت " يلق " فيها النسان الياة ،ويصبح
هو ال!
وليس هذا التعبي من عندنا نصور به أفكار القوم .فهو نص تعبيهم ،قاله جوليان هكسلي ف كتابه "
النسان ف العال الديث " .كما قاله غيه من العلماء الوروبيي وهم ينددون بفكرة ال وفكرة الدين!
***
هذا الدافع الفي الطبوع ف أعماق النفس الغربية كان خانسا ل شك تت القشرة السيحية الت ظلت
تطبع النفوس الوربية بضعة قرون .وما كادت القشرة تتفتت بفعل الصراع العنيف الذي قام بي الكنيسة
ودارون ،أو بي الدين بفهومه الرسي وبي العلم ،حت برز على السطح ما كان متواريا من قبل ،وصار "
العلماء " يهرون بالعداوة السافرة ،ويتعمدون البعد عن الدين والعقيدة ،وينشرون هذه الراء الكافرة الت
تقول إن النسان هو الذي خلق ال ،وليس ال هو الذي خلق النسان!!
ومن أجل هذه الروح الوثنية ف حقيقتها -ولو تدينت ف ظاهرها -من أجل هذه الروح النافرة من
العقيدة ،الستكبة على العبادة ،ند هذه الفارقة العجيبة بي السن بن اليثم ف السلم ودارون ف أوربا.
فبينما السن بن اليثم وهو يكتب ف البصريات -ف موضوع علمي بت جاف ل ترفرف حوله نداوة
الشاعر ول أنوار العقيدة -يبدأ حديثه باسم ال ،ويمده ويطلب منه التوفيق ،ند دارون -وهو يكتب
عن " الياة " و " الحياء " و " التطور " ،عن موضوع يشهد بعجزة اللق ويكشف عن يد الالق البدعة
ف كل خطوة ،ويستجيش الوجدان بالشوع والعبادة -نده ينفر من ذكر ال ،ويروح يستتر ف " الطبيعة
" الت يقول عنها " إنا تلق كل شيء ول حد لقدرتا! " سبحان ال! وما ال إذن إن كانت هذه هي
الطبيعة؟ وكيف تقسو القلوب حت تنع نفسها منعا من ذكر ال بصريح لفظه وصفته ف هذا القام؟! ول
يكتفي بذلك -وهو واضح الدللة -فتعمى بصيته عن القصد والتدبي ف خلق الالق الدبر ،فيوح
يصف إله الديد الذي يسجد له -الطبيعة -بأنه يبط خبط عشواء! لغي شيء سوى أنه -وهو البشر
الحدود الطاقة الضئيل العلم -ل يستطع أن يدرك كل أسرار الياة!
وما نريد أن نظلمهم ..أولئك العلماء!
فربا كانت ظروفهم الحلية ف أوربا هي الت كفرتم من الدين! وربا كانت الوحشية البشعة الت كانت
الكنيسة الوربية تعامل با العلماء من أمثال كوبرنيكوس وجاليليو ،فتعذبم وترقهم من أجل نظرياتم
العلمية الت تالف العلومات " القدسة " الت تتشبث با الكنيسة ..ربا كانت هذه الوحشية هي الت
أوجدت الصومة والبغضاء بي " العلماء " والدين!
ولكننا نتبع فقط حوادث التاريخ..
فمنذ حدثت هذه الفرقة العنيفة بي الدين والعلم ف أوربا ..منذ سار كل منهما ف طريق يالف الخر
ويناصبه العداء ..شلت الغرب كله فلسفة مادية ملحدة كافرة ،ل تؤمن بال ،ول تكّمه ف أمر من أمور
الياة ،وف أمر العلم خاصة من بي كل أمور الياة!
ومضت الوجة الت أطلقها دارون تأخذ آخر مداها ..فتجرف من طريق العلم كل التراث النسان الالد
من عقيدة وأخلق وتقاليد..
وطلع إل الوجود من بعد دارون فرويد وماركس يلوثان العقيدة ويصوران النفس النسانية صورة بشعة
مليئة بالقذار ..أقذار النس عند فرويد ،وأحقاد الصراع الطبقي عند ماركس.
وطلع علماء كثيون ..ف الطبيعة والكيمياء والفلك والرياضة والطب ..يشتملون على عبقريات جبارة،
ويفتحون آفاقا جبارة ف هذه العلوم ..ولكنهم -مع السف -يرفضون السي ف طريق العقيدة ويتنكبون
-عن عمد -هدداية ال!
لقد وعت أوربا جانبا من الدرس ،حي اختلطت بالسلمي ف الندلس ،ونقلت عنهم العارف وطريقة
الدراسة.
أخذت عنهم الد والقصد والعزية ..والصب واللد والكفاح.
أخذت عنهم احترام العلم والتوفر على البحث والخلص ف الدراسة.
ولكنها أبت أن تأخذ ال ،وتأخذ العقيدة.
ولقد وقعت الشعلة القدسة -شعلة العرفة -من أيدي السلمي حي شغلتهم الفت واللذائذ عن الضي ف
الطريق ..فتلقفتها أوربا .وسارت با قدما ..خطوات جبارة ف كل ميدان .حت فجرت الذرة وأطلقت
طاقتها ف الفضاء..
ولكنها ل تكن تسي ف طريق ال .ل تكن تأخذ العلم فريضة كما وصفه الرسول صلى ال عليه وسلم .
فريضة تؤدى إل ال ،ويتقرب با النسان من حاه.
وإذا تلى العلم عن ال فقد تلقفه الشيطان ..وسار به ف طريق الشر ،وأبعد ف طريق الضلل.
أول الشر أن العلم -منحة ال إل النسان -يصبح أداة الكفر ،ويبعد النسان عن ال!
والعلم -النور الذي يهدي النسان إل الق -يصبح ذريعة الناس إل الباطل ،ف كل منحى من مناحي
الياة! ف البحوث الجتماعية والقتصادية والسياسية والدبية والفكرية والروحية ،وكل بث من البحوث!
والعلم -الذي " يعرف به اللل والرام " -يصبح أداة الفسق والروج على الخلق ،بنظريات "
علمية " تؤيد الفساد!
والعلم -طريق النسان إل الي البشري -يصبح أداة التحطيم لذه البشرية ،يهددها بالوت الرعب
كأبشع ما شهده النسان ..وما تزال تربته " الصغية " ف هيوشيما ونازاكي ماثلة ف الذهان!
ذلك لنه ل يعد " فريضة " ..وإنا مطية من مطايا الشهوات!
***
والسلمون اليوم ف حاجة إل حكمة رسولم يتدبرونا ،ويتشربونا إل العماق.
ف حاجة لن يُرجعوا إل العلم قداسته واحترامه .وقد صاروا يتلهون به ف عبث فاضح ل يليق بالبشر
العاديي فضلً عن السلمي.
إنم يأخذونه ف استخفاف العابث ..إن كانوا طلبة ف الدارس والعاهد ،أو " أساتذة " يدرسون للطلب!
غايته الوظيفة أو الكسب أو الشهرة من أقرب طريق .ووسيلته الغش والداع والتلفيق!
إنم ل يعطونه من الد والعناية والحترام حت ما تعطيه أوربا الكافرة ؛ وهم أول من الوربيي بالتقاليد
العلمية العريقة الت سار عليها جدودهم حي كانوا يعيشون ف ظل السلم ،ويستمدون من روح السلم.
لذلك هم ف حاجة لدي الرسول صلى ال عليه وسلم ،يردهم إل احترام العلم وتقديره ،ويعيدهم لروح
الد والخلص.
وهم ف حاجة إليه كذلك ليعيدوا السلم للقلب البشري المزق بي الدين والعلم ،والدين والياة ،الغارق
من جراء ذلك ف تيار الشر والضلل ،وهم -وحدهم ،حي يؤمنون بال ويؤمنون بأنفسهم -الذين
يستطيعون عقد السلم ف ذلك القلب ،بعقيدتم الفريدة الت توحد طريق الدين وطريق العلم ..بل توحد
السماء والرض ،وتصل العمل بالعبادة والدنيا بالخرة :وتصل العرفة بطريق ال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ]5رواه ابن ماجه.
[ ]6رواه أحد عن أنس بن مالك.
[ ]7من حديث رواه ابن عبد الب عن معاذ بن جبل رضي ال عنه.
[ ]8سورة فاطر [ .] 28
[ ]9سورة آل عمران [ .] 191 - 190
[ ..." ]10فَا ْمشُوا فِي َمنَا ِكِبهَا َو ُكلُوا ِم ْن ِر ْزقِهِ " سورة اللك [ .] 15
[ ]11سورة آل عمران [ .] 194 - 193
[ ]12رواه ابن عبد الب عن معاذ :الترغيب والترهيب ج 1ص 58رقم .8
قبل أن تدعوا فل أجيب
عن عائشة رضي ال عنها قالت :دخل عليّ النب صلى ال عليه وسلم فعرفت ف وجهه أن قد حضره
شيء ،فتوضأ وما كلم أحدا ،فلصقت بالجرة أستمع ما يقول ،فقعد على النب ،فحمد ال وأثن عليه،
وقال " :يا أيها الناس .إن ال يقول لكم :مروا بالعروف وانوا عن النكر قبل أن تدعوا فل أجيب لكم،
وتسألون فل أعطيكم ،وتستنصرون فل أنصركم " .فما زاد عليهن حت نزل .رواخ ابن ماجة وابن حبان
ف صحيحه [.]13
***
يا ال! أو حقا يدعو الناس فل يستجيب ال لم؟ ال الذي يقول :وسعت رحت كل شيء؟ ال الذي
يقول :وإذا سألك عبادي عن فإن قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان "؟
هل يكن أن يدث ذلك؟
صدق ال .وصدق رسوله .وما يكن أن يكون ذلك إل حقا!
وإنه لق ترتف له النفس فرقا ويقشعر الوجدان رعبا.
وماذا يبقى للناس إذن؟ ماذا يبقى لم إذا أوصدت من دونم رحة ال؟ ولن يلجئون ف هذا الكون العريض
كله وقد أوصد الباب الكب الذي توصد بعده جيع البواب ..ويبقى النسان ف العراء .العراء الكامل
الذي ل يستره شيء ،ول يميه شيء من لفحة الاجرة وقسوة الزمهرير؟
أل إنه الول البشع الذي يتحامى اليال ذاته أن يتخيله ..لنه أفظع من أن يطيقه اليال.
اليط الذي يسكه بالقدرة القاهرة القادرة قد انقطع ..فراح يهوي .يهوي إل حيث ل يعلم أحد ول
يلحقه خيال .يهوي ف الظلمات .يتقلب على الدوام .يصطدم ف كل شيء .يتحطم ..تتمزق أوصاله..
خطَفُهُسمَاءِ فََت ْ
يتناثر ف كل اتاه ..وكل " جزء " من نفسه يذوق من اللم ما ل يطيق( :فَكَأَّنمَا خَرّ ِمنَ ال ّ
الطّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ َسحِيقٍ) [.]14
ذلك هو الخلوق البائس الذي يدعو ال فل ييبه ،ويسأله فل يعطيه ،ويستنصره فل ينصره.
فهل كتب ال ذلك الول البشع على عباده -السلمي -الذين يدعونه ويسألونه ويستنصرونه؟!
نعم ..حي يكفون عن المر بالعروف والنهي عن النكر ..ولو بأضعف اليان.
***
لقد اقتضت إرادة ال أن يكون النسان خليفة ف الرض.
واقتضت إرادته كذلك أن يكون النسان -الذي يستمد قوته من ال -هو القوة الفعالة ف هذا الوجود.
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَْأ ْرضِ) [.]15
( َو َسخّرَ لَ ُكمْ مَا فِي ال ّ
النسان هو الذي يعمل .والنسان هو الذي ينتج .والنسان هو الذي غي الواقع ،والنسان هو الذي ينشئ
النظم ويقيم الوضاع.
النسان هو القوة اليابية ف الرض ،ف ذات اللحظة الت يسلم كيانه كله ل .بل من هذا السلم الكامل
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ َجمِيعا ل ،يستمد النسان طاقته اليابية كلها على الرض! (وَ َسخّرَ لَ ُكمْ مَا فِي ال ّ
مِنْهُ) [.]16
لقد اختار ال أن يكون النسان هو أداته العاملة ف الرضُ ( .سْبحَانَهُ إِذَا قَضَى َأمْرا فَإِّنمَا َيقُولُ لَهُ ُكنْ
فَيَكُونُ) وعلى ذلك جرت سنته منذ خلق الرض والنسان.
وال سبحانه وتعال ليس " مقيدا " بسنته على النحو الذي يتصوره العقل الغرب الاحد الضيق الغلق
البصية ،وهو يتحدث عن " القواني الطبيعية " وحتميتها الت ل يكن أن تتغي ..ومن ث ينكر العجزات!
كل! ليس ال مقيدا بسنته ول مكوما با ،سبحانه وتعال عن ذلك علوا كبيا .والدليل أنه يصنع الوارق
والعجزات حي يريد ،وفق حكمته الت يعلمها وحده ول يطلع عليها أحدا من خلقه.
ولكن مشيئته سبحانه هي الت اقتضت أن تسي المور على هذه السنة ،حت يعرف الناس النتائج حي
يعرفون السباب ،فيسيوا ف الرض على بصية ،حت وهم ل يعلمون الغيب الحجب عن البصار.
وكان ذلك رحة بالناس وهدى لبصائرهم.
فعلى أساس هذه السنة الثابتة -الت شاءت إرادة ال الرة القادرة أن تكون ثابتة -يستطيع الناس تفهم
الكون من حولم ،والتعرف على أسراره ،والتوفيق بي أنفسهم وبي الكون والياة.
وكل " العلم " الذي علمه الناس منذ البدء حت اليوم ،وكل الخترعات الت اخترعوها ،وكل الفوائد الت
جنوها ،والدمات الت حصلوا عليها ل تكن لتوجد لول ثبوت السنة واطرادها وعدم تلفها.
وكذلك الياة النسانية ف ميطها الشامل ..فكل النظم القائمة على تارب البشرية :النظم السياسية
والقتصادية والجتماعية والعمرانية ..ل تكن لتقوم لول ثبوت هذه السنة واطرادها .فهذا وحده هو الذي
يعل للتجربة قيمة ،ويعلها مالً للفائدة وملً للعتبار.
وإل فما قيمة التجارب -علمية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية -إذا كانت كل تربة منقطعة عن غيها،
قائمة بذاتا ،ل تتصل بشيء ول تنتهي إل شيء؟ وكيف يتعلم الناس أن هذا ضار وهذا نافع ،فيعرضوا عن
الول ويقبلوا على الخي؟
هي رحة ال إذن بالناس أن يعل لم سنة ثابتة ،ويعلها واضحة ،ويعلها ملً للعبة ،ويوجه إليها
الضمائر ،ويوقظ لا القلوب:
سيُوا فِي الَْأ ْرضِ فَاْنظُرُوا كَْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ اْلمُ َكذِّبيَ َهذَا َبيَانٌ لِلنّاسِ َوهُدىً
(َقدْ َخَلتْ ِمنْ قَبْلِ ُكمْ ُسَننٌ فَ ِ
َومَ ْو ِعظَةٌ ِل ْلمُّتقِيَ) [.]17
***
وقد اقتضت هذه السنة -كما قلنا -أن يكون البشر هم أدوات العمل ف الرض وهم كذلك أدوات
التغيي:
(إِنّ اللّهَ ل ُيغَيّرُ مَا ِبقَ ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَْن ُفسِ ِهمْ) [.]18
ولن يعجز ال سبحانه أن يغي ما بالقوم دون أن يغيوا ما بأنفسهم .فالسماوات والرض ومن فيهن ملكه.
وهو القاهر فوق عباده .وهو التصرف وحده ف الميع با يشاء وكيفما يشاء.
ولكنه هكذا شاء ..أن يكون النسان عنصرا إيابيا ف الياة .وأن يكون التغيي -وهو إرادة ال -مرتبطا
بإرادة النسان ،مقضيا عن طريقه ،نافذا من خلله ،متزجا بكيانه كله من عمل وفكر وشعور.
والمد ل من النسان أن جعل له كل هذه القيمة ف الرض ..وإل فما هو ف ذاته لول هذا العطف الربان
عليه؟ لول تلك النفخة اللية الت جعلت منه ما هو عليه .أليس هو من طي هذه الرض ،يستوي ف ذلك
مع الصرصار القي والوحش الكاسر واليوان البهيم؟
ولكن لذا التكري تبعاته ومقتضياته..
تبعاته أن يكون النسان قوة إيابية حقا ،وأن يعمل بقتضى ذلك ف واقع الياة.
تبعاته أن يعمل ،وأن يكافح ،وأن يصارع ،ول يسلّم ،ول ينخذل ،ول يستكي.
تبعاته أن يأمر بالعروف وينهى عن النكر ويؤمن بال( :كُنُْتمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِ َجتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِاْل َمعْرُوفِ
وََتنْهَوْنَ َعنِ اْلمُنْكَرِ وَُت ْؤمِنُونَ بِاللّهِ) [.]19
تبعاته إذا رأى النكر أن يغيه ..بيده ،فإن ل يستطع فبلسانه ..فإن ل يستطع فبقلبه ..وهو أضعف اليان.
***
وليس العروف أو النكر شيئا مدودا ف هذه الرض ،أو ميدانا دون ميدان.
كل شأن من شئون الناس ،كب أو صغر ،يكن أن يري بالعروف ويكن أن يري بالنكر .وتبعات
النسان تستلزم ملحقته لذه الشئون كلها ،والرقابة عليها ،والتأكد من جريها بالعروف وبعدها عن
النكر! وإل ..فالنتيجة هي الفساد!
تلك أيضا هي سنة ال .فقد اقتضت سنته أن يراقب الناس شئون الرض ،ويدفع بعضهم بعضا إل الصلح
س َدتِ الْأَ ْرضُ وَلَ ِكنّ اللّهَ ذُو َفضْلٍ
والرشد ،وإل فسدت الرض( :وَلَوْل َد ْفعُ اللّهِ النّاسَ َبعْضَ ُهمْ بَِب ْعضٍ َلفَ َ
عَلَى اْلعَاَل ِميَ) [.]20
وإنا لتبعة ثقيلة تنوء بملها الكتاف ..ولكنها كذلك هي السبيل الوحد لنتظام المور ،فحي يؤدي كل
إنسان واجبه من المر بالعروف والنهي عن النكر -مع اليان بال -ل يرؤ الباطل أن يعيش ،ول يرؤ
النكر أن يستأسد .ويظل الق هو القوة الغالبة الفعالة الت تسيطر على المور.
أما حي ينام عن هذا الواجب القدس فالشر يغري ،والشر يهيج ،والشر يسيطر على الياة.
وقد جرت سنة ال بذلك ف التاريخ..
أيا أمة حية متيقظة ،ترقب شئونا بنفسها ،وترص على أداء كل واجب ،وتنفر من كل تقصي ،فهي المة
الناجحة ،وهي الت تلك السلطان.
وأيا أمة تراخت وأهلت ،وتركت الباطل يسيطر على شئون الناس فلم تنصره ،فهي المة الفاشلة ،وهي
المة الت حل با الدمار.
وقوة الجتمع وضعفه رهي بذا وذاك.
فالجتمع الذي يتناصح الناس فيه بالي ويتناهون عن النكر ،هو الجتمع الترابط التساند القوي ،الذي
يتقدم إل المام حثيثا ،وينتقل من خي إل خي ،بكم تضافر الطاقة وتوجهها إل الصلح .والجتمع الذي
يأت النكر فيه كل إنسان على مزاجه ،ويتركه الخرون لا يفعل ،هو الجتمع الفكك النحل ،الذي يضي
إل الوراء حتما ،وينتقل من ضعف إل ضعف ،بكم تبدد الطاقة وانصرافها إل الشر.
(ُل ِعنَ اّلذِينَ كَفَرُوا ِمنْ َبنِي إِسْرائيلَ َعلَى ِلسَانِ دَاوُدَ َوعِيسَى اْبنِ مَرَْيمَ ذَِلكَ ِبمَا عَصَوْا َوكَانُوا َيعَْتدُونَ كَانُوا
ل يََتنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ َف َعلُوهُ لَِبْئسَ مَا كَانُوا َي ْفعَلُونَ) [.]21
وكذلك لعن الغرب ف التاريخ الديث.
أما السلمون الوائل ،الذين كانوا خي أمة أخرجت للناس ،والذين كانوا يأمرون بالعروف وينهون عن
النكر ويؤمنون بال ،فقد كانوا أمة قوية قاهرة غلبة .أمة متينة البناء وثيقة الساس .أمة استطاعت أن
تكافح كل قوى الشر وتعيش .تكافح الكومات الظالة من داخلها ،والغزاة البابرة من خارجها ،من التتار
مرة والصليبيي مرة ..وتصمد لذا الشر كله وتتغلب عليه.
فلما كفوا ..لا تعبوا من المر بالعروف والنهي عن النكر ..لا عادوا ل يتناهون عن منكر فعلوه ..جرت
عليهم السنة البدية الالدة الت بينها لم ال وحذرهم منها ..فصاروا فتاتا متهاويا تلتقمه قوى الشر من
الداخل والارج على السواء.
ولقد يبدو لول وهلة أن العال السلمي قد ضعف وهان واستُعمر لنه غرق ف الهالة والتأخر والنطاط
والمود .ولنه انقسم على بعضه فتنازعته الحقاد .ولن حكامه الطغاة كانوا مشغولي بلذائذهم عن أن
يلتفتوا لصلح الشعب .ولن الظال الجتماعية والقتصادية قسمت الناس إل طغمة ظالة من اللك تلك
كل شيء ،وعبيد من الشعب ل يلكون شيئا غي الذل والفقر والوان .ولن القوة الربية والنتاجية للعال
السلمي تضاءلت وانسرت بينما كانت أوربا تصعد ف كل ميدان..
وإنه لكذلك حقا وصدقا ..ولكن ما ذاك؟ ما هو ف حساب القائق إل السكوت عن النكر وعدم المر
بالعروف؟!
أل يأمر ال بالعدلَ ( :وإِذَا حَ َكمُْتمْ بَْينَ النّاسِ أَنْ َتحْ ُكمُوا بِاْل َع ْدلِ) [.]22
ضعَ ِفيَ فِي
وعدم السكوت للظلم( :إِنّ اّلذِينَ َت َوفّا ُهمُ اْلمَلئِكَةُ ظَاِلمِي أَْن ُفسِ ِهمْ قَالُوا فِيمَ كُنُْتمْ قَالُوا كُنّا مُسَْت ْ
الْأَ ْرضِ قَالُوا أََلمْ تَ ُكنْ أَ ْرضُ اللّهِ وَا ِسعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَِئكَ مَأْوَا ُهمْ جَ َهّنمُ وَسَا َءتْ َمصِيا) [،]23
ولكنهم تركوا حكامهم يظلمونم واستكانوا لم فلم يغيوا عليهم؟
أل يأمر ال بإعداد العدة واستحضار القوةَ ( :وَأ ِعدّوا َل ُهمْ مَا ا ْسَتطَعُْتمْ ِمنْ قُوّةٍ) [ ،]24ولكنهم سكتوا عن
الستعداد وضعفوا واستكانوا ،ول يطالبوا بالهاد ف سبيل ال ول يتجهوا إليه؟
أل يكرم ال العلم( :اقْ َرأْ وَرَّبكَ الَْأكْ َرمُ اّلذِي َعّلمَ بِاْل َقلَمِ َعّلمَ الْأِْنسَانَ مَا َلمْ َي ْعَلمْ) [ ،]25وحض عليه
رسوله " :طلب العلم فريضة " [ ،]26فلم يسعوا إل العلم وغرقوا ف الهالة؟
أل يأمر ال بأل يكون الال (دُولَةً بَْينَ الَْأغْنِيَاءِ مِنْ ُكمْ) [ ،]27فتركوه دولة بي القطاعيي ول يثوروا عليهم
إحقاقا لكلمة ال ف الرض ،وإحقاقا للعدل الذي أمر به ال؟
أل يأمر ال الرجال أن يعاشروا النساء بالعروف ( َوعَاشِرُو ُهنّ بِاْل َمعْرُوفِ) [ ،]28فعاشروهن بالظلم
وأجحفوا بقوقهن ،وتركوهن طعمة للجهل وانزواء الشخصية وضآلة الكيان -وهن صانعات الطفولة -
فخرجت من بي أيديهم أجيال من البشر هابطة النفس مدودة الفاق ضئيلة النسانية؟
فأي معروف أمروا به وأي منكر نوا عنه ،وأي إيان بال؟
عندئذ جرت عليهم سنة ال ..وغضب عليهم ال ..فاستعبدوا وهم العلون لو كانوا مؤمني( :وَل تَ ِهنُوا
وَل َتحْزَنُوا َوأَْنُتمُ الَْأ ْعلَوْنَ إِنْ كُنُْتمْ مُ ْؤمِِنيَ) [.]29
***
تلك سنة ال ..يأمرون بالعروف وينهون عن النكر ..أو يدعونه فل يستجيب لم ،ويسألونه فل يعطيهم،
ويستنصرونه فل ينصرهم..
لنم -شاءت حكمته ذلك -هم أدوات ال ف الرض .وعن طريقهم ينفذ ال أمره .كذلك اقتضت
سنته( :إِنّ اللّهَ ل ُيغَيّرُ مَا ِبقَ ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَْن ُفسِ ِهمْ) ل عجزا من ال -سبحانه -عن التغيي بغي تلك
الدوات ،أو بغي أدوات على الطلق ،ولكن تكريا لذا الليفة ف الرض ،ومنحَه حرية التصرف وحرية
السلوك.
وحي نفهم هذه السنة نفهم ذلك الديث الذي نطق به الرسول صلى ال عليه وسلم .
فإذا كانت الدوات جاهزة للعمل ،متوجهة إليه ،متوفرة له ..فإن السنة تضي ،والعمل ينفذ ،والصلح
يتم.
وإذا كانت الدوات معطلة أو فاسدة ..فإن السنة تضي كذلك ف طريقها .تضي بالبقاء على الفساد،
والزيادة فيه ،وعدم التغبي عليه ،وعدم الصلح فيه.
وعندما يدعو الناس وهم قاعدون عن العمل ،وحي يسألون وهم كسال ،وحي يستنصرون وهم ل يعدون
عدة النصر ..فعند ذلك ل يستجيب ال لم ول يعطيهم ول ينصرهم..
لنم ل يستحقون النصر..
وكيف يستحقون وهم قاعدون؟!
وكيف يثبتون عليه لو منحهم ال إياه؟!
هب أن ال غي سنته -سبحانه -فأنزل عليهم النصر وهم قاعدون .أَوَ يفظونه؟ أيدوم لم؟ وكيف
يفظونه وهم فاسدون مفسدون ،متهالكون متهاوون ،ل قدرة لم ول عزية ول دراية بأمر من المور؟
من أجل ذلك ل ينصرهمَ ( .ومَا كَانَ اللّهُ ِلَيظِْلمَ ُهمْ وَلَ ِكنْ كَانُوا أَْن ُفسَ ُهمْ َي ْظِلمُونَ) [.]30
إن طريق النصر والسستنصار واضحة .إن ال قد اختار أن يكون النسان هو أداته النفذة ف الرض ،حي
يستقيم إل ال ،ويهتدي إليه ،ويعمل من أجله ،ويبه ويشاه.
فمن أراد النصر ،من أراد أن يدعو ال فيجيبه ،ويسأله فيعطيه فليكن حيث يريده ال ،وحيث ُينْزِل عليه
نصره وعطاءه فينفع النصر ،وينفع العطاء.
وطريق ال واضحة .والنصر والعطاء من هذا الطريق وحده .فمن أراد النصر فليسر ف الطريق وليمض
قدما .فإنه ملق وعد ال الق .ول يلف ال وعده .أما إن هجر الطريق الوحد ،وراح يتسكع ف كل
طريق غيه ،فمن أين يصيبه النصر ،وهو منصرف عنه وموليه الدبار؟
***
ولقد وعت أوربا جانبا من سنة ال ف الرض -الانب الذي نسيه السلمون اليوم .ونسيت منها جانبا
آخر -الانب الذي وعاه السلمون!
ولقد وعت أوربا أن النسان هو القوة الفعالة ف الرض .وأن الطاقة البشرية هي أداة الصلح .من أجل
ذلك اتهت هتهم لتجنيد هذه الطاقة ،وتوجيهها إل العمل النتج ف واقع الياة.
ووصلوا ف ذلك إل درجة معجِبة من النشاط والتنظيم والدأب النتج العجيب.
ذلك ما نسيه السلمون اليوم وهم يتواكلون ويتقاعسون ،وينتظرون وهم قاعدون.
ولكن أوربا نسيت ال!
نسيت أن تعمل ف سبيله ،وتعيش ف سبيله ،وتنتج ف سبيله.
ومضت بطاقتها النتاجية الضخمة ف سبيل الشيطان.
ومن ث قام هذا الصراع الرهيب الذي يوشك أن يدمر وجه الرض.
والسلمون يعرفون ال.
ولكنهم يعرفونه ف ظاهر قلوبم ول يفظونه " :احفظ ال يفظك [." ]31
يعرفونه ول يأترون بأمره ول ينتهون بنهيه ول يعملون ف سبيله ،ويشركون به كثيا من قوى الرض
الادية أو البشرية سواءَ ( .ومَا َقدَرُوا اللّهَ َحقّ َقدْرِهِ) وما عبدوه حق عبادته .ومن ث فهم ل يسيون بعد
على الطريق.
وقد اقتضت سنة ال أن من يعمل ويتهد يصل إل شيء ..وإن كانت سنته قد اقتضت كذلك أنه يضيع
هذا الشيء ف النهاية ما ل يسر ف الطريق الذي رسه ال .وهو ما يوشك أن يدث ف الغرب اليوم.
ولكن من ل يعمل ل يد على الطلق ..ولو كان -نظريا -يعرف ال ويدعوه ويسأله العطاء!
والسلمون هم الكلفون أن يهدوا البشرية الضالة إل الطريقَ ( :و َكذَِلكَ َج َعلْنَا ُكمْ ُأمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُ َهدَاءَ
عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ َعلَيْ ُكمْ شَهِيدا [.)]32
ولن يهدوا الناس حت يهتدوا هم أولً إل ال ويسيوا على الطريق .والطريق معروف كما رسه ال " :إن
ال يقول لكم :مروا بالعروف وانوا عن النكر قبل أن تدعوا فل أجيب." ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ]13الترغيب والترهيب .ج 4ص 12رقم .29
[ ]14سورة الج [ .] 31
[ ]15سورة الاثية [ .] 13
[ ]16انظر " السلبية واليابية " ف فصل " خطوات متقابلة ف النفس البشرية " من كتاب " منهج التربية السلمية ".
[ ]17سورة آل عمران [ .] 138 - 137
[ ]18سورة الرعد [ .] 11
[ ]19سورة آل عمران [ .] 110
[ ]20سورة البقرة [ .] 251
[ ]21سورة الائدة [ .] 79 - 78
[ ]22سورة النساء [ .] 58
[ ]23سورة النساء [ .] 97
[ ]24سورة النفال [ .] 60
[ ]25سورة العلق [ .] 5 - 3
[ ]26انظر الفصل السابق بذا العنوان.
[ ]27سورة الشر [ .] 7
[ ]28سورة النساء [ .] 19
[ ]29سورة آل عمران [ .] 139
[ ]30سورة العنكبوت [ .] 40
[ ]31حديث رواه الترمذي.
[ ]32سورة البقرة [ .] 143
ل تفكروا ف ذات ال *
***
بل نرجع إل الوراء خطوة لنسأل:
ما تلك القوة العجيبة الكامنة ف البذرة ،فإذا هي تنمو ،وإذا هي ترج شطئا ينفذ من باطن الرض بقوة
ليظهر على السطح ،ث يطول ويورق ويزهر ويثمر ث يوت؟
وما تلك القوة العجيبة الكامنة ف البويضة واليوان النوي ،فإذا لقاؤها العجزة الكبى الت تنشئ الياة؟
بل ما تلك القوة الكامنة ف اللية الية .اللية الفردة الواحدة الت بدأت الياة منها على سطح الرض؟
بل ما تلك القوة العجيبة الكامنة ف اللية الامدة أو الت تال جامدة ف " الذرة " الجسمة ف الادة ،أو
النطلقة ف الشعاع.
هل يعرف النسان ما تلك القوة أو يلك أن يصل إل السرار؟
***
ذلك مبلغ النسان من " العلم " ومبلغه من " القيقة ".
ومع ذلك ل يعرف قدر نفسه ،ويروح يشطح ف الفاق.
يريد أن يعرف " القيقة " الكبى .يريد أن ييط بذات ال .فهل يقدر؟
هب أن أحدا ل ينعه ول ينهه من التفكي ..فكيف يصل؟ بأية أداة وأية وسيلة؟
العقل؟
أو ليس العقل ذاته هو الذي قال للنسان :إن الحدود ل ييط بغي الحدود ،والفان ل ييط بكن ل
يدركه الفناء.
فيم إذن تسخي العقل فيما يقول العقل ذاته إنه مستحيل؟
وهل وصل الناس إل شيء حي سخروا عقولم لذلك البحث الستحيل؟
هل وصلت " الفلسفة " ف جيع أطوارها وجيع ماولتا إل حقيقة واحدة مستقرة تكشف للناس عن
الجهول؟ أم باءت كلها بالفشل الازم والعجز الحتوم!
وهل هذه التخبطات الت كتبها الفلسفة ف شأن ال حقيقة بأن ينظر إليها عاقل ويوليها شيئا من اهتمامه؟
وفيم هذا العناء كله؟! ما وراء النطح ف الصخرة الت تطم الرءوس؟!
أيريد أن " يصل " إل ال؟ سبحان ال! فما له ل يصل عن الطريق العبد الفتوح؟ ما له يلف ويدور ،ويعود
" كالخووت " الذي ركبه البال!
يريد أن يصل إل ال؟ أما يس ف أعماق نفسه السبيل؟ أما يترك العنان للفطرة وهي تصل به إل هناك؟ أما
يدع روحه تلق وحدها ،عارفة طريقها إل النور الذي قبست منه وهي كائنة ف علم ال منذ الزال
والباد..؟
الطريق هو اليان!
والفطرة تعرف الطريق!
وما يتاج النسان إل إل أن يدع فطرته على سجيتها .ل يكبلها بقيود مصطنعة من فلسفة منحرفة أو علم
فطي .ول يغشيها بركام الشهوات الغليظة والنوات الابطة الت تجب شفافيتها وتنع عنها النور.
وهي وحدها تديه إل ال ..لن ال فطرها على الدى إليه!
وإن أراد عونا للفطرة وهي ف الطريق إل ال ..فليكن ذلك العون الكب هو تدبر آيات اللق ،والبحث
عن آيات القدرة ف صفحة الكون الافلة بالعجزات.
فذلك هو الذي يطيقه .وذلك هو الذي يعينه على السبيل.
سمَاوَاتِ وَالَْأ ْرضِ وَاخْتِلفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ اّلذِينَ َي ْذكُرُونَ اللّهَ قِيَاما (إِنّ فِي َخ ْلقِ ال ّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ رَبّنَا مَا َخَل ْقتَ َهذَا بَاطِلً سُْبحَاَنكَ َفقِنَا َوُقعُودا َو َعلَى جُنُوبِ ِهمْ وَيََتفَكّرُونَ فِي َخ ْلقِ ال ّ
َعذَابَ النّارِ) [.]37
وآيات ال ف الكون عميقة الغور جدا ،وهي ف الوقت ذاته معروضة ف وضوح ويسر لكل عي متفتحة
وكل قلب طليق.
( َويُرِي ُكمْ آيَاتِهِ فَأَيّ آيَاتِ اللّهِ تُنْكِرُونَ) [.]38
إن الكون كله آية ال .وف كل شيء منه آية لن أراد التذكر أو ألقى السمع وهو شهيد.
الليل والنهار .الشمس والقمر والفلك .السحاب والطر .النبتة الية الارجة من البة اليتة (ف ظاهر
العي) والطام اليت الذي ينتهي إليه النبات الي .الرض " اليتة " الت ترج الياة والياة الت تفضي ف
الحياء جيعا إل الوت .النسان الذي صوره ال فأحسن تصويره .الرض الت بث فيها من كل دابة.
التوافق بي الياة والحياء يبدو ف الشعة الكونية الت يرسلها الفضاء للرض فل تقوم بدونا الياة ،كما
يبدو ف النسب الضبوطة من البحر واليابس ،والكسجي واليدروجي والنتروجي ..ومدى صلبة القشرة
الرضية ،ومدى تأثر الرض بالاذبية ،ومدى بعدها عن الشمس ومدى سرعتها أمامها ..إل آخر هذه
الوافقات.
والرسول الكري صلى ال عليه وسلم يدعو الناس إل تدبر آيات ال ف اللق .والقرآن الكري يفصل هذه
اليات تفصيلً ،ل تكاد سورة واحدة تلو من ذكر آية منها أو آيات..
حبّ وَالنّوَى ُيخْرِجُ اْلحَيّ ِمنَ اْلمَّيتِ َو ُمخْرِجُ اْلمَّيتِ ِمنَ اْلحَيّ ذَلِ ُكمُ اللّهُ فَأَنّى تُ ْؤفَكُونَ فَالِقُ (إِنّ اللّهَ فَاِلقُ اْل َ
ش ْمسَ وَاْل َقمَرَ ُحسْبَانا ذَِلكَ َت ْقدِيرُ اْلعَزِيزِ اْلعَلِيمِ َوهُوَ اّلذِي َج َعلَ لَ ُكمُ الّنجُومَ الْإِصْبَاحِ وَ َج َعلَ اللّْيلَ سَكَنا وَال ّ
لِتَهَْتدُوا ِبهَا فِي ُظُلمَاتِ الْبَرّ وَالَْبحْرِ َقدْ َفصّلْنَا الْآياتِ ِلقَ ْومٍ َيعَْلمُونَ َوهُوَ اّلذِي أَْنشََأ ُكمْ مِنْ َن ْفسٍ وَا ِحدَةٍ
سمَاءِ مَاءً فََأخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ ُكلّ صلْنَا الْآياتِ ِلقَ ْومٍ َي ْفقَهُونَ َوهُوَ اّلذِي أَنْ َزلَ ِمنَ ال ّ َفمُسَْتقَرّ َو ُمسْتَوْدَعٌ َقدْ فَ ّ
شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ َخضِرا ُنخْ ِرجُ مِْنهُ َحبّا مُتَرَاكِبا َو ِمنَ الّنخْلِ ِمنْ َط ْلعِهَا قِْنوَانٌ دَانَِيةٌ َوجَنّاتٍ ِمنْ َأعْنَابٍ
وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُشْتَبِها َوغَيْرَ مُتَشَاِبهٍ اْنظُرُوا إِلَى َثمَرِهِ إِذَا أَْثمَرَ َويَْنعِهِ إِنّ فِي ذَلِ ُكمْ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ يُ ْؤمِنُونَ) [
.]39
سمَاوَاتِ وَالَْأ ْرضِ وَاخْتِلفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَاْل ُفلْكِ الّتِي َتجْرِي فِي الَْبحْرِ ِبمَا يَْن َفعُ النّاسَ َومَا (إِنّ فِي َخ ْلقِ ال ّ
سمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ َب ْعدَ مَوْتِهَا وََبثّ فِيهَا ِمنْ ُكلّ دَابّةٍ وََتصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ
سمَاءِ وَالْأَ ْرضِ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ َيعْ ِقلُونَ) [.]40 سخّرِ بَْينَ ال ّ اْلمُ َ
سقُطُ ِمنْ وَ َرقَةٍ إِلّا َي ْعَلمُهَا وَل حَبّةٍ فِي ( َوعِْن َدهُ َمفَاتِحُ اْلغَْيبِ ل َيعَْلمُهَا إِلّا هُوَ وََي ْعلَمُ مَا فِي الْبَرّ وَاْلَبحْرِ َومَا َت ْ
ُظُلمَاتِ الْأَ ْرضِ وَل رَ ْطبٍ وَل يَاِبسٍ إِلّا فِي كِتَابٍ مُِبيٍ) [.]41
( َو ِمنْ آيَاتِهِ أَنْ َخَلقَ ُكمْ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ إِذَا أَنُْتمْ َبشَرٌ تَنَْتشِرُونَ َو ِمنْ آيَاِتهِ أَنْ َخَلقَ لَ ُكمْ مِنْ أَْن ُفسِ ُكمْ أَزْوَاجا
سمَاوَاتِ لَِتسْكُنُوا إِلَْيهَا وَ َج َعلَ بَيْنَ ُكمْ مَوَدّةً وَرَ ْحمَةً إِنّ فِي ذَِلكَ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ يََتفَكّرُونَ َو ِمنْ آيَاتِهِ َخلْقُ ال ّ
وَالْأَ ْرضِ وَاخْتِلفُ أَْلسِنَتِ ُكمْ َوأَلْوَانِ ُكمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآياتٍ ِللْعَاِل ِميَ َو ِمنْ آيَاتِهِ مَنَامُ ُكمْ بِاللّْيلِ وَالنّهَارِ
س َمعُونَ َومِنْ آيَاتِهِ يُرِي ُكمُ اْلبَرْقَ َخوْفا وَ َطمَعا َويُنَ ّزلُ مِنَ ضلِهِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ َي ْ وَابِْتغَا ُؤ ُكمْ مِنْ َف ْ
سمَاءُ وَالَْأ ْرضُ السّمَاءِ مَاءً فَُيحْيِي بِهِ الْأَ ْرضَ َب ْعدَ مَ ْوتِهَا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ َي ْعقِلُونَ َو ِمنْ آيَاِتهِ أَنْ َتقُومَ ال ّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُكلّ َلهُ قَاِنتُونَ َوهُوَ بَِأمْرِهِ ُثمّ إِذَا َدعَا ُكمْ َدعْوَةً مِنَ الْأَ ْرضِ إِذَا أَنُْتمْ َتخْرُجُونَ وَلَهُ مَنْ فِي ال ّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َوهُوَ اْلعَزِيزُ اْلحَكِيمُ) [ اّلذِي َيبْدأُ اْلخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِيدُهُ َوهُوَ َأهْوَنُ َعلَيْهِ وَلَهُ اْلمََثلُ الَْأ ْعلَى فِي ال ّ
.]42
(وَآيَةٌ لَ ُهمُ الْأَ ْرضُ اْلمَْيتَةُ أَ ْحيَيْنَاهَا َوأَخْرَ ْجنَا مِْنهَا حَبّا َفمِنْهُ يَ ْأ ُكلُونَ وَ َج َعلْنَا فِيهَا جَنّاتٍ مِنْ َنخِيلٍ َوَأعْنَابٍ
َوَفجّرْنَا فِيهَا ِمنَ اْلعُيُونِ لَِي ْأكُلُوا مِنْ َثمَ ِرهِ َومَا َعمِلَتْهُ أَْيدِي ِهمْ َأفَل َيشْكُرُونَ سُْبحَانَ اّلذِي َخَلقَ الْأَزْوَاجَ ُكلّهَا
ش ْمسُ سلَخُ مِنْهُ النّهَارَ فَإِذَا ُهمْ ُمظِْلمُونَ وَال ّ ِممّا تُْنِبتُ الْأَ ْرضُ َومِنْ أَْن ُفسِ ِهمْ َو ِممّا ل َيعَْلمُونَ وَآَيةٌ لَ ُهمُ اللّْيلُ َن ْ
ش ْمسُ َتجْرِي ِل ُمسَْتقَرّ لَهَا ذَلِكَ َت ْقدِيرُ اْلعَزِيزِ الْ َعلِيمِ وَاْل َقمَرَ َقدّرْنَاهُ مَنَا ِزلَ حَتّى عَادَ كَاْلعُرْجُونِ اْل َقدِيِ ل ال ّ
يَنَْبغِي َلهَا أَنْ ُتدْرِكَ اْلقَمَرَ وَل اللّيْلُ سَاِبقُ النّهَارِ َوكُلّ فِي َفَلكٍ َيسَْبحُونَ وَآيَةٌ َل ُهمْ أَنّا َح َملْنَا ذُرّيّتَ ُهمْ فِي
شحُونِ وَ َخَلقْنَا لَ ُهمْ مِنْ مِْثلِهِ مَا يَ ْركَبُونَ َوإِنْ َنشَأْ ُنغْ ِرقْ ُهمْ فَل صَرِيخَ لَ ُهمْ وَل ُهمْ يُْن َقذُونَ إِلّا َر ْحمَةً اْلفُ ْلكِ اْلمَ ْ
مِنّا َومَتَاعا إِلَى ِحيٍ) [.]43
وهكذا وهكذا ل تلو سورة من إشارة عابرة أو مفصلة ليات القدرة القادرة البدعة العجزة الدبرة
الريدة.
وال هو فاطر هذه النفس البشرية العال بدروبا ومنسرباتا ،وبا يصلحها وما يصلح لا .وقد اقتضت
حكمته أن تكون الفطرة ذاتا مهتدية إل ال ،بالطريقة الفية الت هدى با كل شيء إليهَ( :أ ْعطَى ُكلّ
شَيْءٍ َخ ْلقَهُ ُثمّ َهدَى) [ ]44دونا كد ول جهد ول عناء ف الهتداء إليه ،كما يسي الكهرب ف الذرة ف
مساره الرسوم ،وتسي الذرة ف مادتا ف مسارها الرسوم ،وتسي الرض والكواكب والفلك ف مسارها
الرسوم ،ل تمل عناء السي ،ول تشق نفسها ف استكناهه ،وإنا تسلم نفسها ل العزيز العليم..
كما اقتضت حكمته -وقد خلق للنسان عقلً ميزه به من سائر اللق الذي نعرفه -أن يكون دور العقل
الواعي ف الهتداء إل ال مساندة الفطرة الفية السارب ،و " توعية " مسارها (أي جعله واعيا واضحا
مفهوما) ؛ ورسم لذلك منهجا واضحا وطريقا مستقيما ..هو تدبر آيات ال ف الكون.
وحقا إنه لكذلك ..فما يتدبر النسان هذه اليات بوعي يقظ وقلب متفتح إل هدته من فورها إل ال،
خالق الكون والياة.
ول يكلف ال نفسا إل وسعها ..إن ال ل يكلف الناس أن يبحثوا ف ذاته سبحانه .ل يكلفهم الهد الذي
يعلم -سبحانه -أنم لن يقدروا عليه قط ،وأن قصارى ما يدث لم حي ياولون أن تنفجر طاقتهم
وتتبدد ،كما تنفجر طاقة الذرة الت انرفت عن مسارها ،فتتحطم وتطم ما تلقاه ف الطريق!
وحي نى الرسول الكري أتباعه عن أن يفكروا ف ذات ال كيل يهلكوا ،ل يكن صلى ال عليه وسلم
يجر على تفكيهم أو يضع عليهم القيود.
كل! إنا كان يوفر جهدهم للنافع من العمال .كان يصون هذا الهد أن يتبدد سدى ،ويؤدي إل
الضلل .كان يريد للناس أن ينفقوا طاقتهم -بعد أن يقضوا حظهم من تدبر آيات ال ف الكون والهتداء
إليه -ف تعمي الرض وزيادة " النتاج " .النتاج بعناه الواسع الشامل العميق .النتاج الروحي والفكري
والادي .ف ميدان العقيدة وميدان الهاد وميدان العمل بعناه الصطلحي الفهوم.
ولقد حدث ذلك بالفعل...
حي صان السلمون طاقتهم أن تتبدد وتنفجر وتتناثر ف أودية الضلل ..كان لم إنتاج ضخم ،هو أكب
إنتاج ف التاريخ حي يقاس بقياس الزمن ومقياس الرقعة ومقياس القيم ومقياس الضارة الادية ومقياس
العلم ..وكل مقياس يصلح للقياس.
ففي فترة قصية ل مثيل لا ف التاريخ امتد العال السلمي من الحيط إل الحيط ،وامتدت معه مبادئ
السلم الشاملة للسماء والرض و العمل والعبادة والدنيا والخرة .وقامت " نظم " للحكم والسياسة
والال والقتصاد غي مسبوقة من قبل ،تمل ف أطوائها العدالة الجتماعية ،وتنشئ متمعا مترابطا متكافلً
متحابا متوادا ظل ألف سنة على ترابطه وتكافله حت بعد أن فسدت الكومات وابتعدت عن روح الدين.
وامتص السلم كل ما وجده نافعا من الضارات الادية السابقة له والعاصرة له ،ث أعطاها الياة..
فانطلقت تعمل ف تعمي الرض وقد اصطبغت بصبغة السلم وتشربت روحه ،فصارت تعمل ف الرض
وهي تتجه إل السماء .وتبن السلم كل ما وجده من العلم لدى الغريق والنود -من طب وفلك
ورياضة وطبيعة وكيمياء ..إل ،ث أضاف إليه إضافات شت بيويته وقوته الدافقة الدافعة إل المام..
ول يكن " الفكر " السلمي عاطلً ول مجورا عليه .وإنا كان -فيما عدا القلة الشاذة الت انرفت بتأثي
الفلسفة الغريقية بعض النراف (ل كله) -يتجه إل خي الناس ف الرض ،ويسعى إل سعادتم بكل
وسائل السعي .ويرى أنه حي يبحث ف العلوم -البحتة أو التطبيقية -وحي يتعمق ف الفقه الذي يشمل
سياسة الكم وسياسة القتصاد وموقف الفرد وموقف الدولة وموقف الجتمع وعلقات بعضهم ببعض ف
كل صغية وكبية من شئون الياة اليومية والياة العامة ،كما يشمل العبادات بكل تفريعاتا ،وحي يعمل
ف ميدان المال الفن ف صوره الت كانت ميسرة لم من رسم وزخرفة وعمارة وشعر ونثر ..إل يكون قد
قام بواجبه المثل وحقق وجوده الكامل .وأنه ترجم التدبر ف آيات ال إل فكر نافع وعمل نافع وقيم حية
متحركة ف واقع الرض ،ل ف البراج العاجية ،ول ف عال الثاليات.
وكان ناجحا ف رسالته الت استمدها من كتاب ال وسنة رسوله.
***
ولكننا نقلب صفحة أخرى لقوم ل ينتصحوا بنصيحة ال والرسول..
قوم ف أوربا راحوا ينفقون طاقة علمائهم ومفكريهم ف البحث ف ذات ال وما أشبه ذلك من المور.
ونعرض لنتاجهم الفكري ف هذا الباب عرضا " موضوعيا " فنجد ل شيء!
ومن كان ف شك من ذلك فليقرأ كل ما كتبته الفلسفة ف هذا الوضوع ،ث ليسأل نفسه :هل زاد معرفة
بال عن هذا الطريق؟ هل " وضحت " له العال؟ هل " وصل " إل شيء ل يكن يصل إليه وهو يتدبر آيات
ال ف الكون ويفتح بصيته على القدرة العجزة ف كل اتاه؟
أم العكس هو الصحيح؟ اختلطت ف ذهنه الشيات واللمح ،والتصورات والفكار؟ وتاه ف ميط من
الدل التناقض الذي ل يركن إل قرار؟!
صورة ف ذهن تتمثل لعمل أولئك الفلسفة! تلك مرآة لمعة يبصر فيها النسان وجهه بكل دقائقه ،ولكن
فيها قطعة " مغبشة " هنا أو قطعة مطموسة هناك ،فيوح هذا " الفيلسوف " ياول أن " يلوها " فيمسح
بأصابعه وجه الرآة ،فإذا القذر من أصابعه قد غبش الصفحة كلها ،وإذا الصورة الت كانت واضحة ل تعد
تبي!
ودعك من القيمة الوضوعية لذه الفكار ،وانظر كيف كانت النتيجة ..كيف كان عاقبة الذين أبوا أن
ينتصحوا بأمر ال ويهتدوا بسنة رسوله.
لقد " حلق " الفكرون والفلسفة ف أبراجهم العاجية وتركوا الناس ف الرض ..تركوا الناس يأكلهم الظلم
والقطاع والهل والمود والتفكك .فهذه الظال ترتكب كل يوم ،والكادحون تُمتص دماؤهم وهم
صاغرون مغلوبون على أمرهم ..بينما السادة الفكرون ف جدل أخرق ل هو يهتدي إل نتيجة ،ول هو
ينل إل الرض ليى آلم الناس وياول أن يبحث لم عن علج..
وكفر الناس ..وحق لم أن يكفروا..
كفروا بالفلسفة " الثالية " الت تلق ف عال اليال وعال الثل ،وتترك واقع الرض النت ينغل فيه الدود..
وقاموا يطمون هذه " الثالية " التعفنة الت ل قلب لا ول ضمي.
ومع الثالية الاوية حطموا -مع السف -فكرة ال والعقيدة.
حطموها ،لن هذه الثالية كانت تدور حول فكرة ال ،وتزعم أنا تصل إل " جوهر " العقيدة.
وعلى أنقاض فكرة ال والعقيدة ،وأنقاض الفلسفة الثالية الاوية قامت فلسفة مادية جاحدة ل تعرف ال
ول تؤمن بالعقيدة.
وتشعبت تلك الفلسفة حت شلت كل جوانب الياة..
دارون ،وماركس ،وفرويد ،والتجريبيون والسلوكيون ..التفسي الادي والتفسي القتصادي للتاريخ..
والوجودية والنللية واللدينية واللخلقية والل ..إنسانية!
ومضت أوربا ف طريقها الجنون الذي ل ينتج إل الدماء ف ناية الطريق.
إن أوربا ل تتقدم ف ميدان العلم والعمل إل حي أخذت بشق من نصيحة الرسول الكري ،فانتبذت التفكي
ف ذات ال ،ووجهت طاقتها لتعمي الرض ف واقع الياة ..وخطت خطوات جبارة ف هذا السبيل.
ولكنها -مع السف -ل تأخذ نصيحة الرسول كاملة ،ول تتد بديه السليم .ل تأخذ منها عبادة ال،
والتوجه إل ال.
ومن ث انطلقت -بقوتا الادية الائلة النامية التزايدة -انطلقت تعبد الشيطان.
( َوَيحْسَبُونَ أَنّ ُهمْ مُهَْتدُونَ)!
صلِحُونَ)!
حنُ مُ ْ
سدُوا فِي الْأَ ْرضِ قَالُوا إِّنمَا َن ْ
( َوإِذَا قِيلَ َل ُهمْ ل ُت ْف ِ
وكانت النتيجة هي القوة الادية الائلة الت تتمتع با أوربا ،والضلل البي الذي تغرق فيه.
الرأسالية هنا والشيوعية هناك..
كلها انراف عن استقامة البشرية ،وكلها قائم على أسس مادية خالصة ل تؤمن بال اليان الق .ول
تكمه ف أمر من أمور البشرية.
القيقة عندهم هي ما تستطيع الواس أن تدركه .وكل ما ل تستطيع الواس إدراكه فهو ساقط من
الساب.
وأمور العقيدة ف عال الغرب الرأسال أمور " تستعمل من الظاهر " وليس لا ف واقع الياة نصيب .ل ف
التوزيع القتصادي العادل الذي يرضي ال ورسوله ،والذي ل يكون فيه الال " دولة بي الغنياء منكم "
ول ف الخلق الت ترفع النسان عن مقاذر الشهوة وحيوانية الغريزة.
وأمور العقيدة ف الشرق الشيوعي مصادرة بأمر الدولة ،حت يكون الولء كله " للدولة " .وحي رفع
الظر هناك عن الدين والعقيدة -لسباب سياسية ،للدعاية ف الشرق السلمي خاصة -فقد رفع بعد أن
صار اللاد يدرس رسيا ف الدارس ،وتدعو له الكتب والصحافة والسينما والذاعة وكل وسائل الدعاية،
وصار الشباب الذي ترب ف ظل الذهب مصنا ضد " جرثومة " الدين!
والنتيجة الخية هي هذا الصراع الدمر الرهيب بي الشرق والغرب ،وبي كل قوى الرض.
حربان ف ربع قرن ..والثالثة على البواب!
ما أحوج الناس إل حكمة الرسول الكري صلى ال عليه وسلم ( ..وََلوْ أَنّ َأ ْهلَ اْلقُرَى آمَنُوا وَاّتقَوْا َلفََتحْنَا
سمَاءِ وَالْأَ ْرضِ).
عَلَيْ ِهمْ بَ َركَاتٍ ِمنَ ال ّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن ابن عباس رضي ال عنهما " تفكروا ف خلق ال ول تفكروا ف ال ".
[ ]34عن كتاب " مع ال ف السماء " تأليف الدكتور أحد زكي.
[ ]35عن كتاب " مع ال ف السماء " تأليف الدكتور أحد زكي.
[ ]36الرجع السابق.
[ ]37سورة آل عمران [ .] 191 - 190
[ ]38سورة غافر [ .] 81
[ ]39سورة النعام [ .] 99 - 95
[ ]40سورة البقرة [ .] 164
[ ]41سورة النعام [ .] 59
[ ]42سورة الروم [ .] 27 - 20
[ ]43سورة يس [ .] 44 - 33
[ ]44سورة طه [ .] 50
تعبد ال كانك تراه
" ..قال :فأخبن عن الحسان .قال أن تعبد ال كأنك تراه ،فإن ل تكن تراه فإنه يراك " [.]45
***
الحسان ..أن تسن الشيء فتجعله حسنا.
والحسان :أن تعبد ال كأنك تراه!
كان السؤال قبل ذلك عن السلم ،ث عن اليان .السلم درجة واليان بعد ذلك درجة ،وهذه هي
درجة الحسان .لكي يكون إسلمك حسنا وإيانك كذلك.
تعبد ال كأنك تراه..
تعبي عجيب يمل ف بساطته حقيقة هائلة.
وأروع ما يروعن -وقد يكون هذا تأثرا -أنه يفاجئك وأنت تقلب وجهك ف الفاق ،باحثا عن
الجابة ،يفاجئك بالقبلة الت ينبغي أن تتجه إليها! فإذا أنت -على غي توقّع منك -ترى النور..
النور الذي يبهر العي والقلب ويبهر الروح.
ترى ال...
(اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ...نُورٌ َعلَى نُورٍ َي ْهدِي اللّهُ ِلنُورِهِ مَنْ َيشَاءُ َوَيضْرِبُ اللّهُ الَْأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ
بِ ُكلّ شَيْءٍ َعلِيمٌ).
***
القاعدة الكبى الت يقيم عليها السلم بناءه كله :هي أن تعبد ال كأنك تراه.
يقيم عليها نظمه جيعا ،وتشريعاته وتيهاته جيعا..
نظام السياسة .نظام القتصاد .نظام الجتمع .موقف الفرد من الدولة وموقف الدولة من الفرد .نظام
السرة .معاملت الفراد ،معاملت الدول ف السلم وف الرب ..كل شيء ف هذه الياة!
ولقد يطر للنسان -أول ما يطر -أن هذه عبادة! أليست هي :أن " تعبد ال "؟!
بل قد يطر للنسان أنا العبادة القصوى ،الت ينقطع فيها النسان عن كل شيء ف الياة ،ليخلو إل ربه،
يلو له بوجدانه وحسه وقلبه ..هنالك ف عزلة عن الخرين!
وإنا لعبادة حقا ،ما ف ذلك شك ،وإنا لقصى العبادة كذلك.
ولكنها -وهي أقصى عبادة العبد للرب -لتعود من عزلتها وخلوتا ،فتتسع وتتسع حت تشمل كل ميط
النسانية!
بل إنا -منذ لظتها الول ،وف خلوتا -لي النور الساطع الذي يضيء جنبات الياة ،ف ذات اللحظة
الت يضيء فيها جنبات النفوس.
حقيقة واحدة ظاهرة وباطنة ،تشمل الفرد وحده وتشمله ف ميط الماعة ،فإذا هي شعور وسلوك ،وعبادة
وعمل ف آن!!
السلك كله هذه القيقة.
السلم -وحده -هو الذي يعل العبادة عملً والعمل عبادة ،والذي يربط النفس والسم ،والسماء
والرض ،والدنيا والخرة كلها ف نظام.
***
تعبد ال كأنك تراه..
إنه عال واسع يفيض بالب ،ويفيض بالتقوى ،ويفيض بالمل ،ويفيض بالرهبة ،ويفيض بالنور.
النسان ف مواجهة موله .ف مواجهة الذات العظمى الالقة القاهرة الستعلية الشرفة على جيع الكائنات.
والنور -نور السماوات والرض -يغمره من كل جانب ،وينفذ إل أعماقه ،فيضيء ثنايا قلبه ،ويستقر
فيه.
النسان ف مواجهة موله ...بنفسه جيعا .بكل جوارحها وكل خلجاتا .بظاهرها وباطنها ،بدقائقها
ولطائفها ،بأسرارها وما هو أخفى من السرار..
وكلها مكشوفة ل " ..فإن ل تكن تراه فإنه يراك "!
يا ال! إنا الرهبة والقشعريرة تل النفوس.
عي ال البصية النافذة إل كل شيء ف هذا الوجود ،إل كل نأمة وكل خاطرة وكل فكرة وكل شعور..
إنا تراك وترقبك .سواء كنت متيقظا لذه الراقبة أم غافلً عنها .وسواء أعددت نفسك لا أم كنت من
العرضي.
وإنه لي لك أن ترى ال كما يراك ..خي لك أن تتوجه إل حيث ترقبك العي البصية النافذة .فتأمن
الفاجأة!
إنا الرهبة ف الالي ..الرهبة ف حضرة الول العزيز العليم القوي البار ..ولكنها الرهبة والمل هنا،
والرهبة والذعر هناك!
الرهبة والمل وأنت متوجه إل ال ،ملص له قلبك ،عامل على رضاه..
والرهبة والذعر حي تتوجه بعيدا عنه وهو من ورائك ميط! فخي لك إذن أن تعبد ال كأنك تراه!
وحي تتوجه إليه بنفسك جيعا ،ظاهرها وباطنها ،وسرها ونواها ..وحي تتوجه إليه وف نفسك شعور
التقوى الاشعة والرهبة العميقة ..فل شك أنك ستنظف نفسك وترص على نظافتها.
إن ال ل تفى عليه خافية .فكيف تستتر منه وأنت مقبل عليه؟ كيف يكن أن تعمل عملً واحدا ل يراه؟
خفِي
( َوَنعَْلمُ مَا تُوَسْ ِوسُ ِبهِ َن ْفسُهُ َوَنحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ ِمنْ حَْبلِ اْلوَرِيدِ) [َ( ]46ي ْعلَمُ خَائَِنةَ الَْأعُْينِ َومَا ُت ْ
صدُورُ) [َ( ]47ي ْعلَمُ السّرّ َوَأ ْخفَى) [َ( ]48ي ْومَِئذٍ ُتعْرَضُونَ ل َتخْفَى مِنْ ُكمْ خَافِيَةٌ) [.]49 ال ّ
يا ال! حت خائنة العي! الائنة الت يظن النسان أنه وحده الذي يسها ويعرفها ،وأل أحد ف الوجود
كله يراها أو يفهمها؟
حت الوسوسة الت ل يطلع عليها أحد ،وصاحبها نفسه قد ينساق معها دون أن يتيقظ لا؟
حت السر .بل ما هو أخفى من السر .الطرات التائهة ف مسارب النفس ،ل تصل إل ظاهر الفكر ،ول
يتحرك با اللسان للتعبي!
يا ال! إنه ل ستر إذن ول استخفاء.
كل نفسك مكشوفة وأنت مقبل عليه .أفل تنظف نفسك إذن قبل التاه .أل تزكيها؟
( َوَن ْفسٍ َومَا َسوّاهَا فَأَلْ َهمَهَا ُفجُو َرهَا وََتقْوَاهَا َقدْ َأفْلَحَ َمنْ َزكّاهَا َوَقدْ خَابَ َمنْ دَسّاهَا).
فأما إن كنت معرضا عنه غي متوجه إليه .إن كنت ل تنظف له نفسك ول تزكيها .فلن يغي ذلك شيئا من
المر!
إنه يراك! يراك بكل ما تصنع بنفسك من " تدسية " ومن سوء .يراك ببائثك وأوضارك .يعلم خائنة العي
وما تفي الصدور.
يراك .فما الفائدة ف التستر والختفاء؟ بل ما الفائدة من العراض والنصراف؟ اللك غي ملك ال تذهب؟
سبَ اّلذِينَ َي ْع َملُونَ السّيّئَاتِ أَنْ َيسِْبقُونَا سَاءَ مَا و " ِبَيدِهِ َملَكُوتُ ُكلّ شَيْءٍ َوإِلَيْهِ تُرْ َجعُونَ "؟! " َأمْ َح ِ
َيحْ ُكمُونَ " .أم حسبوا أنم معجزون ف الرض؟ أم حسبوا أن يفلتوا من العقاب؟
كل! ما شيء من ذلك بستطاع .فخي لك أن تراه وهو يراك!
وإنه ل يكلفك من أمرك رهقا!
(هُوَ اجْتَبَا ُكمْ َومَا َج َعلَ َعلَيْ ُكمْ فِي الدّينِ ِمنْ حَ َرجٍ) [( .]50ل يُ َكلّفُ اللّهُ َنفْسا إِلّا وُ ْسعَهَا) [.]51
(فَاّتقُوا اللّهَ مَا اسَْت َطعُْتمْ.]52[ )..
إن رحة ال واسعة .وإنه ليعلم ضعف النسان وما ركب ف طبيعته من حب الشهوات( :زُّينَ لِلنّاسِ ُحبّ
الشّهَوَاتِ مِنَ الّنسَاءِ وَالْبَِنيَ وَاْلقَنَا ِطيِ اْل ُمقَْنطَرَةِ ِمنَ الذّ َهبِ وَاْل ِفضّةِ وَاْلخَْيلِ اْل ُمسَ ّومَةِ وَالْأَْنعَامِ وَاْلحَ ْرثِ[ )..
.]53ويعلم أن الهد شاق والسفر طويل.
لذلك يقول " :فَاّتقُوا اللّهَ مَا ا ْسَتطَعُْتمْ "..
جبْ لَ ُكمْ " .ادعون لكل شيء! وادعون -فيما تدعونن إليه -لعينكم على ويقول " :ا ْدعُونِي أَسَْت ِ
تنظيف أنفسكم من وعثاء الطريق!
هل جربت أن تستعينه ف هذا المر؟
صدق ال وصدق وعده الق.
ما يتوجه له إنسان يستعينه على نظافة النفس وطهارة القلب ،إل استجاب له وأعانه على ما يريد!
وما هو بسحر ساحر! ولكن هكذا يدث حي يتجه القلب إل ال ويلص ف دعواه .إنه يد المر عليه
هينا ،ويد نفسه أكب من الغريات وأقوى من العوقات .ويس -إحساسا ملموسا مسما -أن ال هو
الذي يعينه وييسر له السبيل!
ومع ذلك كله فقد تضعف ف الطريق وتور قواك .فهل يلفظك من رحته ويل غضبه عليك؟
كل! ما دمت ل تنكص على عقبيك ول تتنكب الطريق.
إنه يغفر .يغفر الذنوب جيعا ،وسعت رحته كل شيء.
حسِِنيَ وَاّلذِينَ إِذَا َفعَلُوا فَا ِحشَةً أَوْ َظَلمُوا أَْنفُسَ ُهمْ َذكَرُوا اللّهَ فَاسَْت ْغفَرُوا ِلذُنُوبِ ِهمْ َومَنْ َي ْغفِرُ
(وَاللّهُ ُيحِبّ اْل ُم ْ
الذّنُوبَ إِلّا اللّهُ وََلمْ ُيصِرّوا َعلَى مَا َف َعلُوا َو ُهمْ َي ْعَلمُونَ أُوَلِئكَ جَزَا ُؤ ُهمْ َمغْفِرَةٌ ِمنْ رَبّ ِهمْ َوجَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ
َتحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا وَِن ْعمَ أَجْرُ اْلعَامِِليَ) []54
(إِلّا َمنْ تَابَ وَآمَنَ َو َعمِلَ َعمَلً صَالِحا فَأُولَِئكَ ُيَب ّدلُ اللّهُ سَيّئَاتِ ِهمْ َحسَنَاتٍ َوكَانَ اللّهُ َغفُورا رَحِيما) [
.]55
(ُقلْ يَا عِبَادِيَ اّلذِينَ أَسْ َرفُوا عَلَى أَْن ُفسِ ِهمْ ل َتقَْنطُوا مِنْ َر ْحمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َجمِيعا) []56
كل! لن يلفظك من رحته ما دمت باقيا على الطريق .وما عليك إل أن تقوم من عثرتك وتنفض ثوبك
وتتجه إليه من جديد...
***
وحي تتوجه إليه .حي ترقبه كأنك تراه .حي تنظف نفسك وترص على أل تتلوث ف الطريق .حي
تاسب نفسك على كل صغية وكبية خشية ان تكون قد حدت .حي تراجع كل عمل عملته وكل
كلمة قلتها وكل خاطرة وسوست با نفسك وكل حركة تركتها جارحة من جوارحك..
حينئذ يستقيم المر كله ف هذه الياة.
أمر الاكم والحكوم .والفرد والجتمع .والرأة والرجل .والوالد والولد .والمة والمم على أوسع نطاق.
كيف يظلم الاكم حي يرقب ال كأنه يراه؟ كيف تتجه نفسه إل الشر والبطش وال يقول( :ا ْعدِلُوا هُوَ
َأقْرَبُ لِلّتقْوَى) [َ ( ]57وإِذَا حَ َكمُْتمْ بَْينَ النّاسِ أَنْ َتحْ ُكمُوا بِاْل َع ْدلِ) [ ]58وكيف يضع ف مكان العدل
الذي يطلبه ال نزواته هو وهواه؟
والعدل بالنسبة للحاكم ميدان واسع فسيح ،يشمل كل سياسة الكم ،وسياسة الال ،وكل معاملته "
الرسية " ومعاملته " الشخصية " .وهو مأمور ف كل منها أن يرقب ال ،ويعبده كأنه يراه.
ل يكن حينئذ أن يتعدى حدود ال أو يعتدي على حرمات ال.
فل يكن مثلً أن يعلن الرب أو يبم السلم إل ف سبيل ال و ف حدود ما بيّن ال .وال يقول( :وَل
حبّ اْل ُمعَْتدِينَ) .ويقول( :وَل َتهِنُوا وَل َتحْزَنُوا َوأَنُْتمُ الَْأعْلَ ْونَ إِنْ كُْنُتمْ مُ ْؤمِِنيَ) .ويقول: َتعَْتدُوا إِنّ اللّهَ ل ُي ِ
( َوَأ ِعدّوا َل ُهمْ مَا ا ْسَتطَعُْتمْ ِمنْ قُوّةٍ).
خذِ اْلمُ ْؤمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ِمنْ دُونِ
ول يركن إل أعداء ال ول يتخذ بطانة منهم فال يقول( :ل يَّت ِ
اْلمُ ْؤمِِنيَ َو َمنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ فَلَْيسَ ِمنَ اللّهِ فِي شَ ْيءٍ إِلّا أَنْ َتّتقُوا مِنْ ُهمْ ُتقَاةً) .ويقول( :يَا أَيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا ل
صدُو ُر ُهمْخذُوا ِبطَانَةً ِمنْ دُونِ ُكمْ ل يَأْلُونَ ُكمْ خَبَالً وَدّوا مَا عَِنّتمْ َقدْ َب َدتِ الَْب ْغضَاءُ ِمنْ َأفْوَاهِ ِهمْ َومَا ُتخْفِي ُ تَّت ِ
َأكْبَرُ َقدْ بَيّنّا لَ ُكمُ الْآياتِ إِنْ كُنُْتمْ َت ْعقِلُونَ).
وهكذا وهكذا حت يشمل ذلك سلوكه كله ،وتصرفاته كلها ،منذ يتسلم المانة حت يسلمها إل ال أو إل
الناس .ل يفلت عمل واحد ول فكرة ول رغبة من رقابة ال ورقابة الضمي.
***
والعبود كذلك حي يعبد ال كأنه يراه.
فعليه عمله يؤديه بالمانة اللزمة والجتهاد الواجب .ل يدع ول يغش ول يتكاسل ول يتشاغل .ول "
يسدد الانات " دون إنتاج حقيقي .ول يعمل على الضرر وهو عال به .ول يبغي الفتنة ول الفساد ف
الرض .ول يستغل مال الدولة .ول يطمع فيما ليس له.
ول يقبل الظلم كذلك! فهو مكلف أن يذود الظلم عن نفسه وعن غيه ،وإل فما هو بؤمن بال ،ول هو
ضعَ ِفيَ فِي الْأَ ْرضِ
يعبده كأنه يراه! (إِنّ اّلذِينَ تَ َوفّا ُهمُ اْلمَلئِكَةُ ظَاِلمِي أَْنفُسِ ِهمْ قَالُوا فِيمَ كُنُْتمْ قَالُوا كُنّا مُسَْت ْ
قَالُوا أََلمْ تَ ُكنْ أَ ْرضُ اللّهِ وَا ِسعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَِئكَ مَأْوَا ُهمْ جَهَّنمُ وَسَا َءتْ َمصِيا).
والزوج الذي يرعى ال ف زوجته .والزوجة الت ترعى ال ف زوجها .والوالد والولد .والار والصديق.
والندي والقائد .والصغي والكبي...
إن الجتمع كله كله ...ل شيء فيه البتة يرج من هذه الكلمة الصغية الت تشمل كل شيء :تعبد ال
كأنك تراه!
***
وحي كان السلمون الوائل يعبدون ال كأنم يرونه كانت تلك المة العجيبة الفريدة ف التاريخ! (كُْنُتمْ
خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْرِ َجتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِاْل َمعْرُوفِ وَتَْنهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ وَُت ْؤمِنُونَ بِاللّهِ).
كان الاكم يقول " :اسعوا وأطيعوا ما أطعت ال فيكم .فإن عصيت ال ورسوله فل طاعة ل عليكم ".
وكان يقول " :إن أحسنت فأعينون ،وإن أسأت فقومون "
وكان وهو يارب كسرى وقيصر ،ويواجه أكب إمباطوريتي ف التاريخ ،ل يضيق بالتقوي الذي طلبه من
الناس بنفسه .فيقبل من رجل من السلمي أن يقول له :ل سع لك علينا اليوم ول طاعة حت تبي لنا كذا
وكذا .فل يغضب ،بل ييبه ف الال إل طلبه ويبي له.
وكان يقول :لو أن بغلة بصنعاء عثرت لرأيتن مسئولً عنها!
وكان يعمل على توطيد العدالة الجتماعية ف الجتمع حت أمكنه -لول مرة ف التاريخ -أن يلغي الفقر
من الجتمع ،كما حدث أيام عمر بن عبد العزيز! وكان الندي يقول :أليس بين وبي النة إل أن أقتل
هذا الرجل أو يقتلن؟ ث يقتحم العركة ليصيب إحدى السنيي!
وكان القائد يُعزل ف زهوة النصر فل يضطغن ول يتمرد ول يترك ميدان القتال .وإنا يستمر ياهد ف
سبيل ال جنديا ل إمارة له ول سلطان.
وكان البائع يستحي من ال أن يكسب ما ليس له بق ،فيد نقودا أخذها صبيه دون علم منه من أحد
الشترين .ويصر على ردها إليه حت والشتري يلف بال أنه دفعها راضيا وأن البضاعة ف نظره تستحق.
وكان الزوج يعاشر زوجته بالعروف ،والزوجة تصون عرض زوجها ف غيبته .فيذهب إل ميدان القتال
ويغيب بالشهور وهو مطمئن إل بيته وعرضه وماله .ل يقربا السوء!
وكان الجتمع نظيفا...
ل تقوم علقات الناس على الغش ف البيع والشراء .ل يعهد النسان إل العامل أو الصانع بالعمل وهو
متوجس منه خيفة أن يغشه أو يدلس عليه أو يسرق المانة ويذهب إل غي رجوع!
ل يتحدث الرجل إل الرجل وهو يعلم أنه يكذب عليه ويدعه .ويبادله ف الوقت ذاته الكذب والداع!
ل يكذب الوالد على أبنائه فيعلمهم الكذب بالقدوة السيئة .ول يكذب البن على الوالد ،لنه ل يتعامل
معه ،وإنا يتعامل مع ال!
ول يسرق الشاب عرض امرأة متزوجة أو فتاة غريرة .ول ترج الفتاة متبجة ف سوق الفتنة تاول أن
توقع الشباب!
ل يكن الناس ملئكة! كانوا بشرا ما يزالون! ولكنهم بشر مستقيمو الفطرة ل عِوَج ف نفوسهم ول التواء.
متحابون إل ال .متعاونون على الب والتقوى ل متعاونون على الث والعدوان.
وكانت هناك جرية ..فإن وجه الرض ل يل من الرية ف وقت من الوقات .ولكنها كانت الشذوذ
الذي يثبت القاعدة .ول تكن القاعدة هي الشذوذ!!
***
ومن ث انطلقت هذه المة تنشئ تاريا ل يسبق ف التاريخ!
ليس الفتح وحده هو الذي يلفت النظر ،وإن كان حقيقا بالتسجيل ف سرعته الاطفة الت ل مثيل لا من
قبل ول من بعد ف التاريخ .ففي خسي عاما كان العال السلمي الذي بدأ من ل شيء قد امتد من
الحيط للمحيط .وكان كله -أو معظمه -قد اعتنق العقيدة الديدة ،وانقلب ماربا ف سبيلها ل يهدأ
حت يراها قد بلغت إل أفق جديد!
وإنا الذي يلفت النظر هو تلك القمم العالية الت بلغها ف كل اتاه .قمم العدالة الشامة والعظمات النفسية
والروحية الت تتكاثر وتتواكب ف هذه القبة الصغية من التاريخ.
واتساع الوانب وتعدد الفاق .ف الرب والسلم .ف السياسة والجتماع .ف الضارات الختلفة الت
استوعبها السلم ،ومثلها تثيلً رائعا فامتص ما فيها من خي ،وألقى بالزبد إل الفناء.
ف الروابط القوية التينة الت شلت العال السلمي كله ،وفاضت منه إل غي السلمي حت وهم يكيدون
للدين .وحت وهم ياربونه أبشع حرب وأدنسها ف أيام الصليبيي.
هذه الروابط التينة الت صنعت معجزة ل تتكرر ف غي السلم .إذ فسدت الكومة -مبكرا ،على أيدي
المويي والعباسيي -ولكن الجتمع ظل إسلميا ،متماسكا ،متكافلً ،تربطه روح الخوة والودة ما
يقرب من ألف من السني!!
***
ذلك كله كان أثر العبادة القة ،الت تعبد ال كأنا تراه!
ولقد كان القدوة الكبى ف ذلك دون شك هو الرسول العظم ،منشئ هذه المة ومرب قادتا وجنودها
على هدي ال وهدي السلم.
كان صلى ال عليه وسلم يرى ال كل لظة من لظات حياته الطويلة العريضة الشاملة الفسيحة.
كان يراه وهو يتلقى الوحي عنه -سبحانه -فتطيقه نفسه وتستوعبه إل العماق.
وكان يراه وهو ينطلق ف مناكب الرض يدعو الناس إل هذا الوحي لكي يهتدوا به إل ال.
وكان يراه وهو ف بيته زوجا وأبا ورب أسرة.
ويراه وهو مع الناس وقريبا ومعلما وهاديا إل سواء السبيل.
ويراه وهو يقاتل ف سبيل ال ،وهو يعقد السلم ويرجع من جهاد إل جهاد.
ول نتحدث عن العبادة ف اللوة فهي ف غي حاجة إل حديث.
يراه .ويعيش معه كل لظات حياته ،وكل مشاعر نفسه ،وكل خلجاتا وكل سرها ونواها.
ول تضعف نفسه عن التلقي ،ول يضعف قلبه عن استيعاب النور الذي يغمره كلما رآه.
هكذا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم وخات النبيي وسيد الرسلي
***
ث كان أصحابه الذين صنعهم على عينيه ،ورباهم تربية خبي عليم.
كانوا يرون ال بقدر ما تطيق نفوسهم وبقدر ما تصطب على الفق العلى الشرق الضيء الذي ل تتمله
النفوس ،إل أن تقبس قبسات من فيض ال الغامر ،وقبسات من الرسول.
ث كانت نفوس على مدار الزمن تتفرق أحيانا ،وتتمع أحيانا ،تعيش على حب ال والعمل ف سبيله،
وعبادته كأنا تراه.
وما تزال هذه النفوس حيثما لقيها النسان ،يس ف الال بالفارق الاسم بينها وبي الذين ل يعبدون ال،
أو الذين يعبدونه على حرف فإن أصابم خي اطمأنوا به وإن أصابم شر انقلبوا على أعقابم ..خسروا
الدنيا والخرة.
تس على الفور حي تلقى أحدا منهم أنك أمام " إنسان " .إنسان بذا العن الذي كرمه خالقه وفضله
على كثي من خلق .إنسان تأنس إليه وتستريح عنده ،تستريح ف تعاملك معه وف علقاتك .تستريح إل
الستقامة النظيفة الت ل عوج فيها ول التواء.
وتبه..
ل تلك إل أن تبه ولو خالفك ف أفكارك وأعمالك ومشاعرك واتاهاتك.
تبه لن فيه قبسة من نور ال ...وتاول -إن استطعت -أن تقفو خطاه..
ومن ث كان حرص السلم ونب السلم ،وهو يعلّم الناس دينهم .أن يبي لم الحسان .ويصفه لم ف
أخصر لفظ وأجله " .تعبد ال كأنك تراه " .ويوقظ قلوبم بوجدان التقوى وخشية ال " :فإن ل تكن تراه
فإنه يراك ".
ومن ث كذلك كان حرص السلم ونب السلم ،على أل يقف الناس عند أول مراتب السلم ول أول
مراتب اليان .إنا ياولون بلوغ الحسان ،وياولون على الدوام!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ]45رواه مسلم .من حديث طويل عن عمر بن الطاب رضي ال عنه ،قال " :بينما نن جلوس عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا
رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ل يرى عليه أثر السفر ول يعرفه منا أحد حت جلس إل النب صلى ال عليه وسلم فأسند ركبتيه ووضع كفيه على
فخديه وقال :يا ممد أخبن عن السلم .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :السلم أن تشهد أل إله إل ال وأن ممدا رسول ال وتقيم الصلة وتؤت
الزكاة وتصوم رمضان وتج البيت إن استطعت إليه سبيلً .قال :صدقت .فعجبنا له يسأله ويصدقه .قال :فأخبن عن اليان .قال :أن تؤمن بال وملئكته
وكتبه ورسله واليوم الخر وتؤمن بالقدر خيه وشره .قال :صدقت .قال :فأخبن عن الحسان .قال :أن تعبد ال كأنك تراه ،فإن ل تكن تراه فإنه يراك." ..
[ ]46سورة ق [ .] 16
[ ]47سورة غافر [ .] 19
[ ]48سورة طه [ .] 7
[ ]49سورة الاقة [ .] 18
[ ]50سورة الج [ .] 78
[ ]51سورة البقرة [ .] 286
[ ]52سورة التغابن [ .] 16
[ ]53سورة آل عمران [ .] 14
[ ]54سورة آل عمران [ .] 136 - 134
[ ]55سورة الفرقان [ .] 70
[ ]56سورة الزمر [ .] 53
[ ]57سورة الائدة [ .] 8
[ ]58سورة النساء [ .] 58
[ ]59رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وليح ذبيحته
" إن ال كتب الحسان على كل شيء ؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ،وإذا ذبتم فأحسنوا الذبة ،وليحد
أحدكم شفرته ،وليح ذبيحته " [.]59
***
يا ال! يا رحة نبيه!..
" وليح ذبيحته " ..ومت؟ وهو مقدم على ذبها!!
أل إنا رحة أنبياء .أل إنا روح ال.
إنه مرتقى للمشاعر البشرية يبلغ القمة الت ليس وراءها شيء .إل ذلك النور العظم الذي يني الكون كله
وينفذ إل قلوب الكائنات.
إنا الرحة الت ل تقف عند الناسى من اللق ،ول يكمها انياز النسان لنفسه واعتداده بنسه .وإنا
تتعداها إل الجال الواسع الفسيح الذي يشمل كل الحياء ف الكون.
ث ل تقف عند هذا الدى -وهو ف ذاته قمة عالية -وإنا ترتقي درجة أخرى!
فالرحة بالحياء درجة " مفهومة " على أي حال ،سواء وفق إليها القلب البشري أم انرف عنها وشذ.
مفهوم أن تقول ل :ل تقتل هذا العصفور .فإنه ضعيف مسكي .وهو جيل لطيف ل يستحق القتل.
ومفهوم أن تقول ل :ل تقتل هذه الفراشة الطائرة القافزة الرشيقة ،فإنك لن تستفيد شيئا من قتلها ،وهي ف
رشاقتها اللطيفة جال يسن أن تتع به حسك وروحك.
بل مفهوم أن تقول ل :ل تقتل هذه الزهرة الميلة -حت إن كانت ل تتأل للقتل -فهي على غصنها
هكذا جيلة ..أجل منها ف يدك أو ف عروة ثيابك.
كل ذلك مفهوم .والقلب البشري الطيب يكن أن يوجه إليه ف يسر ،فيعتاده فيصبح من طباعه.
ولكنها درجة -وراء هذا الفهوم -أعلى وأشف -أن أقول لك :هذه الذبيحة الت ستذبها ،والت لن
سنْ ذبتها ول تطل آلمها ول " تتها موتات " كما ذكر البخاري ف حديث تكون حية بعد لظات ..أ ْح ِ
قريب من هذا الديث [.]60
وليح ذبيحته!
إنا كلمة تز الوجدان هزا وهي تذبح .وهي تساق إل العدم .إل الفناء .إل حيث ل توجد ول تشعر.
ما القيمة " العملية " لراحة الذبيحة هذه الثوان العدودة الت تنتقل فيها من عال الوجود إل عال الفناء؟
بل ما قيمة إراحتها وأنت مقبل على إيلمها أشد أل يكن أن تتعرض له وهو الذبح؟
ف الظاهر ..ل شيء!
وف الباطن ..كل شيء!
إن الذبيحة ميتة ميتة .أرحتها أم ل ترحها .وهي متألة متألة ،سواء قطر قلبك رحة با أم كنت تذبها مرد
القلب من الشاعر متلبد الوجدان .وهي لن تلقاك بعد اليوم فتشكو إليك عنفك معها ،إن كنت من
يفهمون عن هذه اللئق ،وياوبون ما يصدر عنها من الحاسيس .ولن يضيها كثيا -وهي مسوقة إل
الفناء الكامل الوشيك -إنا ذاقت -قبل ذلك بلحظة -شيئا من الغلظة أو شيئا من الفاء!
إذن فما القيمة العملية بالنسبة للذبيحة ..ل شيء!
ولكن القيمة " العملية " لك أنت ..كل شيء!
وهل ثة شيء أكب من أن يكون لك قلب إنسان؟!
***
وكذلك الشأن ف أمر القتل..
" فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ".
والسلم -الخاطب بذا القول من جانب الرسول صلى ال عليه وسلم ل يقتل إل بالق( :وَل َتقُْتلُوا
حقّ) [َ ( ]61وعِبَادُ الرّ ْح َمنِ اّلذِينَ َي ْمشُونَ عَلَى الْأَ ْرضِ هَوْنا َوإِذَا خَاطَبَ ُهمُ الّن ْفسَ الّتِي حَ ّرمَ اللّهُ إِلّا بِاْل َ
حقّ) [ اْلجَاهِلُونَ قَالُوا سَلما ..وَاّلذِينَ ل َي ْدعُونَ َمعَ اللّهِ إِلَها آخَرَ وَل َيقُْتلُونَ الّن ْفسَ الّتِي حَ ّرمَ اللّهُ إِلّا بِاْل َ
َ ( ]62منْ قََتلَ َنفْسا ِبغَيْرِ َن ْفسٍ أَوْ َفسَادٍ فِي الْأَ ْرضِ فَكَأَّنمَا قََتلَ النّاسَ َجمِيعا) [ " ]63كل السلم على
السلم حرام :دمه وعرضه وماله " [.]64
ل شبهة إذن ف أن الشخص الذي يقتله السلم مستحق للقتل .مستحق لنه كافر ،أو مرتد ،أو قاتل ،أو
زان مصن ،أو مفسد ف الرض ،مثي للفتنة ،خارج على السلطان القائم على شريعة ال.
ول شبهة ف أن هذا القتل يتم بإذن من ال .بل بأمر منه وتريض( :وَحَ ّرضِ اْلمُ ْؤمِِنيَ) []65
ومع ذلك فالرسول صلى ال عليه وسلم يأمر بإحسان القتل!
ونعود إل قصة الذبيحة فنراها تنطبق مرة أخرى على القتيل.
إن القتيل لن يستفيد شيئا من أن تسن قتلته .فهو مفارق الدنيا .والل واقع به ما له عنه من ميص.
فيستوي أن تسن أو ل تسن أو أن الفارق ف القيقة ضئيل.
فما القيمة العملية من إحسان القتل بالنسبة للقتيل؟ ل شيء بطبيعة الال!
ولكن القيمة الكبى -مرة أخرى -هي لك أنت .هي أن يكون لك قلب إنسان!
***
ولكن حديث الرسول الكري ل يقف عند هذين المرين :الذبة والقتلة ،وإنا يسوقهما فقط على سبيل
الثال.
وبسبب هذين الثالي قد يغلب على الظن أن الرحة وحدها هي القصود من الديث.
ولكن المر ليس كذلك .فالقصود هو " الحسان " .والرحة صورة من صور الحسان.
" إن ال كتب الحسان على كل شيء " والحسان -هنا ،كما ف الديث السابق -هو الداء السن.
الداء الكامل .الداء التقن .الداء الميل.
والثالن الذكوران ها الشي الذي يبي التاه .التاه إل " النسانية ".
إن اللصة الستفادة من الثالي :أن النسان ل ينبغي أن يندفع مع دوافعه الطبيعية ويترك لا العنان .إنا
ينبغي وهو يأخذ ف التنفيذ أن يهذب الوسائل وينظف الداء ،ليكون جديرا بتكري ال له واللفة ف هذه
الرض.
ومن ث فالديث واسع شامل يشمل كل عمل وكل فكرة وكل شعور.
إنه بنص اللفظ يشمل " كل شيء " .هكذا على التساع .وهو يعب عن فكرة إسلمية أصيلة ،أو فكرتي
تلتقيان عند هدف واحد.
أن السلم ل يكتفي بأداء العمال -كل العمال -على أية صورة ،وإنا يتطلب " الحسان " ف الداء.
وإنه ل يقنع من الناس أن يؤدوا ضروراتم بل زيادة ،بجة أنا ضرورة ،وإنا يتطلب الحسان ف التنفيذ.
العن الول واضح ف قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :إن ال يب إذا عمل أحدكم عملً أن يتقنه
" [ ]66وواضح كذلك ف أمر الذبة والقتلة.
فالطلوب هو التقان الذي تصحبه مشاعر النسانية .ويصحبه الحساس بال ف قرارة الضمي ،والعمل من
أجل خشيته ومن أجل مثوبته ورضاه " .تعبد ال كأنك تراه ".
والعن الثان واضح ف سية الرسول وأحاديثه الكثية الت تدف إل تذيب النفس ،خاصة وهي تؤدي
ضروراتا الغليظة الت ليس عنها ميص.
ونضرب مثالي من أدق المثلة وأدلا على ما نريد :قضاء " الضرورة " وشئون النس.
" عن أب سعيد الدري أن النب صلى ال عليه وسلم قال :ل يتناجى اثنان على غائطهما ،ينظر كل
واحد منهما إل عورة صاحبه ،فإن ال يقت ذلك " رواه أبو داود وابن ماجه.
" عن جابر عن النب صلى ال عليه وسلم :اتقوا اللعن الثلث :الباز ف الوارد ،وقارعة الطريق
والظل " رواه أبو داود وابن ماجه
وعن أب أيوب " :إذا أتى أحدكم الغائط فل يستقبل القبلة ول يولا ظهره .شرقوا أو غربوا " رواه
البخاري.
" وعن أب هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :من ل يستقبل القبلة ول يستدبرها ف الغائط
كتب له حسنة ومُحي عنه سيئة " رواه الطبان.
والحاديث ف هذا الوضوع كثية من أن تورد كلها .وهدفها كلها واحد .هو تذيب القيام بذه
الضرورة ،وإحاطتها بآداب معينة تلطف غلظتها وتفف من معن " الضرورة " فيها .إذ تعلها سلوكا
وأدبا فيه " اختيار " وترفع.
وقد ل تبدو لنا اليوم -الدللة الكاملة لذه التوجيهات .إذ صار لقضاء الضرورة أدوات نظيفة ووسائل
مهذبة .ومع ذلك فما زال ف الدينة -وف العاصمة ذاتا -قوم يقضون حاجاتم على قارعة الطريق وأمام
الناس .أما الريف!...
ولكن الدللة النفسية ل ينبغي أن تفوتنا على أي حال .فالتهذيب فيها واضح .وواضح كذلك ماولة رفع "
النسان " عن مستوى اليوان ،حت وهو يقضي ضرورته الت يشترك فيها مع اليوان.
أما النس فأمره أعجب وأوضح دللة.
ليس ف الرض شريعة ول نظام يعترف بالنس نظيفا كريا كالسلم.
يكفي ان نذكر فقط أن السلم وهو يأت زوجه يذكر اسم ال الكري .وليس ف السلم أقدس من ذكر
ال ،ول أنظف ما يقرأ اسم ال عليه.
والباحة فيه -ف حدوده الشرعية ،أي الزواج -أوضح من أن تتاج إل دليل.
(ِنسَا ُؤ ُكمْ حَ ْرثٌ لَ ُكمْ فَأْتُوا حَ ْرثَ ُكمْ أَنّى شِئُْتمْ) []67
" إن ف بضع أحدكم لجرا .قالوا يا رسول ال إن أحدنا ليأت شهوته ث يكون له فيها أجر؟ قال :أرأيتم
لو وضعها ف حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها ف اللل كان له أجر " [.]68
وغيها وغيها كثي...
والرسول صلى ال عليه وسلم قد أخذ من هذا الباح بقسط كامل ل شبهة فيه ،واستمتع منه بكل ما يل
لسلم أن يستمتع به ف هذه الياة.
ومع ذلك فلينظر كيف كان المر...
تروي السية أنه صلى ال عليه وسلم كان يغطي وجه زوجته حي يضاجعها ف الفراش ..وروى الطيب
من حديث أم سلمة أن الرسول صلى ال عليه وسلم كان يغطي رأسه ويغض صوته ويقول لمرأته :عليك
بالسكينة.
***
الياء والترفع إل هذا الد!
ليس النس شهوة اليوان الائع الذي ل يلك نفسه أن يندفع هائجا إل التنفيذ.
وليس غلظة الشبق الت تتلمظ على متاع لذيذ.
وليس نزوة السد الفائر الت تتنق ف بارها عاطفة القلب وإشراقة الروح.
ومع ذلك فإن دعوة الرسول للناس أن يهذبوا العمل النسي ل تكن دعوة إل الزهادة أو إطفاء التعة أو
تبيد حرارتا.
كل! على العكس من ذلك .لقد كان يدعوهم إل التاع ويببهم فيه بل كان ف الواقع يوسع مساحته ف
النفس ،ويزيد من متعته ،حي يرفعه من لفة السد الالصة إل " عواطف " " ومشاعر " " ومودة ".
فقد كان ينهى عن الواقعة دون رسول يسبقها ويهد لا من مداعبة وعواطف جياشة.
وليست هذه دعوة الذي يريد أن يرم الناس من التاع أو يفسده عليهم .بل دعوة من يريد تذيبهم ورفعهم
من مستوى اليوان إل مستوى النسان ،مع " إحسان " تلذذهم بذا التاع ،حت يصبح متاعا " جيلً "
تدخل فيه كل عناصر النفس ،ويدخل فيه " الفن " بتعبيه الميل.
والقرآن يصف الصلة بي الرجل والرأة على أنا " سكن " و " مودة "َ ( :و ِمنْ آيَاتِهِ أَنْ َخلَقَ لَ ُكمْ ِمنْ
أَْنفُسِ ُكمْ أَ ْزوَاجا لَِتسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ َج َعلَ بَْينَ ُكمْ مَوَدّةً وَرَ ْح َمةً) [ .]69وهو تعبي جيل أخاذ يشمل كل
صلت النس ،ولكنه يشملها ف مستواها الرفع .ف مستوى " النسان ".
***
ذلك هو الحسان ف شئون النس .وهو أمر واضح الدللة على نظرة السلم لذه المور.
الضرورة تُقضى .نعم .ل كبت ول حجران .ول استقذار للدوافع الفطرية ف ذاتا .ول الحساس بالذنب
عند التيان .ولكنه التنظيف رغم ذلك وتذيب الوجدان.
والنس -من كثرة ما أبدى ف شأنه فرويد وأعاد -مظنة أن تكون الديان تستقذره وتنفّر منه .والسلم
باصة ل ينح لظة واحدة لذا الستقذار .لكنه -وهو يض على الحسان ف كل شيء -يض كذلك
عليه ف شئون النس ،حت وإن كان يشترك ف الضرورة مع اليوان.
والدليل القاطع على أن هذه قاعدة عامة ف السلم ل يتص با النس وحده ،وإنا تشمل كل تصرفات
النسان وضروراته ،الدليل على ذلك هو آداب الطعام.
فليس ثت شك ف أن الطعام طاهر نظيف مباح .بل مأمور به ( َو ُكلُوا وَاشْ َربُوا) [.]70
ومع ذلك فله آداب .آداب تذب تناوله ،وتكسر شراهته ،وترتفع به عن ميط اليوان إل ميط النسان.
" عن ابن عباس رضي ال عنهما أن النب صلى ال عليه وسلم نى أن يُتنفس ف الناء أو ينفخ فيه " رواه أو
داود والترمذي.
" عن أب جحيفة قال :أكلت ثريدة من خبز ولم ث أتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم فجعلت
أتشأ ،فقال :يا هذا كف عنا من جشائك! فإن أكثر الناس شبعا ف الدنيا أكثرهم جوعا يوم القيامة "!
رواه الاكم وقال صحيح السناد.
فهو الحسان إذن .وليس النع والجران.
***
ونن -ف القرن العشرين -أحوج ما نكون إل هذه الكمة من الرسول صلى ال عليه وسلم .
إننا نعيش ف قرن يؤمن بالحسان ف العمل بعن الخلص والتقان .وإن كنا نن مع السف -ف العال
السلمي الذي تلقى عن نبيه هذا التوجيه -ما نزال بعيدين عن هذه الروح.
ونن نعيش كذلك ف قرن يؤمن بالتهذيب ف كثي من أمور الدنيا :ف تناول الطعام ،وقضاء الضرورة،
والوقوف ف الصف أثناء شراء تذاكر السينما ،والعتذار الؤدب عن أقهل هفوة ،وإزجاء الشكر على
أبسط الدمات.
ولكنه مع ذلك ل يؤمن بالتهذيب ف شئون النس .ويقول عنه إنه نفاق!
ول نقصد بالتهذيب ما كان يصنع الرسول ف فراشه .فذلك مرتقى رفيع ل يطيقه الكثيون.
ول نقصد كذلك ما أوصاهم به ف فراشهم من تويل النس إل مشاعر ومودة وأخذ وعطاء ..فذلك
شأنم غن أرادوا أن يستفيدوا بنصيحة الرسول فلنفسهم الفائدة ،وهم الذين سيزدادون متعة وهم يوسعون
مساحة النس ف نفوسهم ،فل تقف عند متعة السد ،بل تصبح علقة جسد وعلقة قلب وعلقة روح
كلها ف آن.
وإنا نقصد مستوى أدن من ذلك وألصق بياة الماعة كلها ل بياة الفراد.
تلك هي " الفضيلة " بعناها الجتماعي .أن يكون النس ف حدوده الشروعة ول يكون نبا مباحا
للجساد الظامئة على قارعة الطريق..
ذلك هو الذي يسمونه نفاقا ف القرن العشرين!
ولاذا هو نفاق؟ لن النس " ضرورة " بيولوجية ،فل شأن له بالخلق!
وي!؟ والطعام ليس ضرورة؟ واللبس ليس ضرورة؟
فلماذا تتفلون كل هذا الحتفال " بآداب " الائدة و " أصول " اللبس ول تكتفون فيهما بقضاء
الضرورات؟
***
ونن نتحدث هنا عن " الحسان " ول نتحدث عن الخلق!
نريد أن نرتفع عن مستوى الضرورة .نريد أن نتذوق الفاق العليا الت يرفعنا إليها السلم.
نريد أن نتذوق طعم " النسانية " فإنه وال طعم جيل حي تتوجه له النفس ،وحي يؤمن النسان أنه
إنسان!
المال فطرة " الطبيعة " .فطرة الياة الت خلقها ال.
والياة ل تكتفي بقضاء الضرورة ،ولكنها تدف دائما إل الحسان ف الداء.
أرأيت هذه الزهرة الميلة الفياحة الشذى التناسقة اللوان؟
أتظن أن ذلك " ضرورة "؟
قالوا :لتجتذب إليها النحل فينتج منها العسل غذاء وشفاء للناس! وتساعد كذلك ف تلقيح النبات!
فهل تظن ذلك؟ هل من " الضرورة " بالقياس إل النحل أن يكون ف الزهرة كل هذا المال؟
كل وال! فالنحل َخلْق متواضع! وإنه ليحط على الزهرة الرائعة التناسق كما يط على الزهرة العادية
المال
فليس جال الزهرة إذن ضرورة! وكل الهداف " البيولوجية " يكن أن تتم ف أبسط زهرة كما تتم ف
أجل الزهار.
ورأيت هذه " الطبيعة "؟
رأيت حرة الشفق البدعة ورأيت جال الصبح الوليد؟
رأيت روعة البال تبهر النفاس وتز الوجدان؟
والبحر المتد إل غي ناية منسرب الوج ،تراه ف الليل الساكن كأنا تعمره الطياف ..أو الشباح؟
والليلة القمراء ..هل " ذقتها "؟ و " ذقت " طعم السحر ف ضوئها ،وظلها ،وأطيافها الساربة وحديثها
الهموس؟
هل تظن ذلك ضرورة؟
وأين هي الضرورة ف ذلك كله ،والياة مكنة ومستطاعة بغي هذا المال؟
ورأيت هذا الوجه الرائع؟
هاتان العينان الالتان اللتان يطل منهما عال عميق الغوار ..تلك التقاطيع النسقة ..هذا العن العب ..تلك
" الروح " الت تطل من وراء القسمات؟
تظن ذلك ضرورة؟ وما الضرورة؟
أليست كل العمليات " البيولوجية " من طعام وشراب وتنفس تتم ف أقبح وجه وأجل وجه على السواء؟
بل ..نداء النس ذاته .أل يتحقق ف كل أنثى وكل ذكر بصرف النظر عن ذلك المال؟
كل .إنه ليس " ضرورة " ..وإنا هو " جال ".
هو " إحسان " ف الداء ل مرد الداء!
تلك فطرة الياة كما خلقها ال ..فطرة " الطبيعة ".
والسلم دين الفطرة..
يلتقي مع ناموس الياة الكب .لنه منل من عند ال خالق الياة ،وخالق الفطرة الت يسي عليها الكون
والياة.
لذلك ل يكتفي السلم من النسان بجرد أداء الضرورة .لنه حينئذ يكون متخلفا عن الياة ،ناشزا عن
فطرتا ،متأخرا إل الوراء.
وهو الياة ف أعلى آفاقها -يريد أن يكون النسان واصلً إل الياة ،منسجما معها ،مساوقا لا ،ملتقيا
معها ف كل اتاه.
لذلك يعمد إل تذيب النفوس .يدخل ف أعماقها ،ويسكن ف أطوائها ،ويوجهها من باطنها .يوجهها إل
المال .إل الحسان .الحسان ف كل شيء .الحسان ف العمال والحسان ف الفكار والحسان ف
الشاعر.
" إن ال كتب الحسان على كل شيء "..
وحي تتجه النفس إل الحسان .حي تتهذب الشاعر وينظف السلوك .حي ترج الضرورة عن قهرها
القاهر فتصبح سلوكا مهذبا " تتاره " النفوس ،وتتفاضل ف أدائه..
حينئذ يلتقي النسان مع الكون والياة..
يلتقي معهما ف نظرة واحدة شاملة رفيعة .اسها الحسان .أو اسها المال.
وال جيل يب المال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ " ]60أتريد أن تيتها موتات؟ هل أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟ ".
[ ]61سورة السراء [ .] 33
[ ]62سورة الفرقان [ .] 68 - 63
[ ]63سورة الائدة [ .] 32
[ ]64رواه الشيخان.
[ ]65سورة النساء [ .] 84
[ ]66رواه البيهقي.
[ ]67سورة البقرة [ .] 223
[ ]68رواه مسلم.
[ ]69سورة الروم [ .] 21
[ ]70سورة العراف [ .] 31
وتبسمك ف وجه أخيك صدقة
" عن أب ذر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :ليس من نفس ابن آدم إل عليها صدقة ف كل يوم
طلعت فيه الشمس .قيل :يا رسول ال من أين لنا صدقة نتصدق با؟ فقال :إن أبواب الي لكثية :التسبيح
والتحميد والتكبي والتهليل والمر بالعروف والنهي عن النكر ،وتيط الذى عن الطريق وتسمع الصم
وتدي العمى وتدل الستدل عن حاجته .وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان الستغيث ،وتمل بشدة
ذراعيك مع الضعيف .فهذا كله صدقة منك على نفسك .رواه ابن حبان ف صحيحه والبيهقي متصرا.
وزاد ف رواية :وتبسمك ف وجه أخيك صدقة ،وإماطتك الجر والشوكة والعظم من طريق الناس صدقة،
وهديك الرجل ف أرض الضالة لك صدقة " [.]71
***
هذا الديث العجيب ل يلك النسان أن ير به دون أن يقف عنده لظات يتدبر بعض معانيه.
وإن له لياءات شت ،يدق بعضها ويلطف ،حت يصل إل أعماق النفس ،إل قرار الوجدان ،فيهزها هزا،
ويوقع على أوتار القلب لنا صافيا مشرقا جيلً يأخذ باللباب.
وسنختار هنا من العان الكثية الت يوحي با الديث معنيي رئيسيي :أولما تفجي منابع الي ف النفس
البشرية ،وثانيهما :ربط الجتمع برباط الب والودة والخاء .وقد نلم ببعض العان الخرى ف أثناء
الديث.
***
الصدقة ف مفهومها التقليدي نقود وأشياء مسوسة يساعد با الغن الفقي ،وينحها القوي للضعيف .وهي
بذا العن ضيقة الفهوم جدا ،وأثرها ف حياة الجتمع مدود .ولو أنا ظلت قرونا طويلة مظهرا من مظاهر
التكافل الجتماعي ،ورباطا من روابط الجتمع ،وأداة لتطهي الغنياء من الشح ،وإعانة الفقراء على
الياة..
وبصرف النظر عن هدف السلم الصيل ف أن يكتفي الناس بعملهم الاص فل يتاجون للصدقات -
ذلك الدف الذي تقق ف عهد عمر بن عبد العزيز إذ يقول يي بن سعيد " :بعثن عمر بن عبد العزيز
على صدقات إفريقية ،فاقتضيتها ،وطلبت فقراء نعطيها لم ،فلم ند با فقيا ،ول ند من يأخذها منا ،فقد
أغن عمر بن عبد العزيز الناس" ..
بصرف النظر عن هذا الدف النهائي ،فقد كانت الصدقات وسيلة احتياطية ف الجتمع ،طالا أن الفقر
موجود ،وإل أن تتمكن الدولة -كما تكنت ف عهد عمر بن عبد العزيز -من إغناء الناس عن غي هذا
الطريق.
ولكن الديث النبوي يرج بالصدقة من معناها التقليدي الضيق .من معناها السي ،إل معناها النفسي.
وهنا تنفتح على عال رحيب ليست له حدود.
كل خي صدقة ..وعلى كل امرئ صدقة..
هكذا ف شول واسع ل يترك شيئا ول يضيق عن شيء!
كل خي صدقة .أو ليس ذلك حقا؟!
ومن أين تنبع الصدقة التقليدية بعناها السي الضيق الدود؟
أو ليست تنبع من معي الي ف النفس البشرية؟ بلى! إن هذا هو معينها الوحيد .وإل فهي رياء كاذب،
وهي دنس ل يصدر عن نفس نظيفة .وليس ذلك بطبيعة الال هو القصود.
فإذا كانت الصدقة تنبع من معي الي ،فإن حديث الرسول الكري ل يزيد على أن يرجع مباشرة إل هذا
العي ،يستجيشه ويستدره ،ليتفتح ويفيض ،ويتدفق ف كل اتاه.
الي هو معي الصدقة .فليكن كل خي صدقة! كل ما ينبجس من هذا العي .كل ما يرج من هذا النبع
الطاهر النظيف ،هادفا إل الي مققا له ف واقع الياة.
والصدقة ما هي؟ أليست " إعطاء "؟
بلى ،إنا كذلك فليكن إذن كل إعطاء صدقة! حت تبسمك ف وجه أخيك ..صدقة!
إنه ذات النبع ؛ وهي عملية نفسية واحدة ف جيع الحوال!
إن " الركة " النفسية الت تدث ف داخل النفس وأنت تم بإعطاء القرش للرجل الحتاج ،أو تعي عاجزا
على اجتياز الطريق ،أو تساعد إنسانا على رفع حل ..إنا هي ذاتا الت تدث ف نفسك وأنت ترفع حجرا
من الطريق حت ل يعثر فيه الناس ،وهي ذاتا الت تدفع البتسامة إل وجهك حي ترى وجه أخيك..
إنك لو جسّمت مشاعر النفوس ،فتخيلتها جسوما متحركة ..لرأيت صورة واحدة ف كل مرة :صورة "
النفس " وهي ترك يدها من الداخل حركة العطاء!
خذ! خذ هذا القرش .أو خذ هذه العونة ..أو خذ هذا الشعور!
منبع واحد .وحركة واحدة ف جيع الحوال.
ودافع واحد..
فالذي يدفعك إل إعطاء الصدقة للمحتاج هو شعور " إنسان " .وقد يكون من الصعب أن تدد معن لذا
اللفظ الدقيق .فهو ف بساطته وشوله معجز كالنسانية!
قد يكون شعورك واضحا :هذا أخوك ف النسانية .تس بينك وبينه هذه الصرة الت تربط أفراد النس
الواحد ،وتقرب بينهم ،وتدعوهم إل التعاون الوثيق.
وقد يكون شعورك مبهما .وجدان غامض .خيوط خفية تنبع من قلبك حت تصل إل قلبه ،فتربط بينهما
برباط دقيق .أو هزات كالزات الغناطيسية أو الكهربائية الت تنتشر ف الو ،حت " يلتقطها " الستقبل من
بعيد.
هذا الشعور النسان -الواضح أو البهم -الذي يدفعك إل إعطاء الصدقة للمحتاج ،أليس هو ذاته الذي
ينيك على الجر فتلتقطه بعيدا عن أقدام الارة؟ أو ليس هو كذلك الذي يشيع البسمة ف وجهك حي
تلقى الناس؟!
هي عملية واحدة ف داخل النفس ..ولكننا ل ندركها دائما على حقيقتها.
والرسول الكري يلفتنا ف حديثه إليها .يلفتنا إل هذه القيقة النفسية الواحدة الت تكمن وراء كل عمل من
أعمال الي .لنعرف أنه الي ف منبعه وإن تعددت صوره وزواياه.
ولكن الرسول -صلى ال عليه وسلم ل يريدنا أن " نعرف " فحسب!
فالعرفة الت ل تنتهي إل شيء ليست هدفا من أهداف السلم ول من أهداف الياة العملية!
كل شيء ينبغي أن تكون له غاية .وغاية الغايات ف الرض أن يكون الي هو السيطر على حياة البشرية.
فالي هو كلمة ال .وكلمة ال هي العليا.
ومن هنا تلتقي الرض والسماء ،والدنيا والخرة ف رصيد السلم.
والرسول الكري يريد أن " يعودنا " على الي ،ل أن " يعرفنا " إياه فحسب.
" وعلى كل امرئ صدقة." ..
إنه يريد كلً منا أن تتحرك نفسه بالي .يريد أن يستثي تلك الركة الداخلية الت تد يدها بالعطاء .والياة
عادة .والعادة تعدى من نفس إل نفس .بل تعدى من شعور إل شعور ف باطن النفس!
حي تتعود النفس أن تستيقظ ،أن تنهض من سباتا وتتحرك ،وتد يدها من الداخل بعمل أو شعور .حي
يدث هذا مرة ،فسوف يدث مرة بعد مرة .وستتعدد صور العطاء حت تشمل من النفس أوسع نطاق..
حت تشمل ف الواقع كل تصرف وكل شعور.
وتبدو حكمة الرسول ف توسيع مدى الي ،وتعديد صوره وأشكاله ،وتبسيطها كذلك حت تصبح ف
متناول كل إنسان!
فلو كانت " الصدقة " أو الي قاصرا على الحسوسات والموال ،فسيعجز عنها كثي من أفراد البشرية،
وتبقى ينابيع ثرة ف باطن النفوس ،ل يستثمرها أحد ،ول يستنبط من معينها الغزير.
ولكن اليد الكيمة الاهرة تعرف كيف تسيل الي من هذه النفوس .لسات رفيقة حانية من هنا ومن هناك
تفتح الغلق وتبعث الكنون.
والرسول الكري يلطف ف معاملة البشرية كالب النون يلطف مع أولده ،وهو يطو معهم خطوة خطوة
ف الطريق .إنه ييسر لم المر .ويوحي إليهم أنه ف مقدورهم بل تعب ول مشقة .وحينئذ يصنعونه ولو
كان فيه مشقة!!
تلك أفضل وسائل التربية وأحبها إل النفوس.
وهي ليست ضحكا على الناس ول استدراجا لم! حاش ل!
إنا كلها حقيقة .فالي نبع واحد داخل النفس .وكل صوره صورة واحدة.
ولقد نظن ،لول وهلة ،أن بعض هذه " الصدقات " أهون من أن تكون صدقة .وأنا ل يوز أن تدرج مع
غيها ف سلك يشمل الميع.
وقد يكون أقرب شيء إل هذا الظن قول الرسول صلى ال عليه وسلم :وتبسمك ف وجه أخيك صدقة.
وإفراغك من دلوك ف دلو أخيك صدقة.
ومع ذلك فجربا إذا أردت .أو تتبعها ف ميط الناس..
إن تبسمك ف وجه أخيك ،الذي يبدو لك هينا حت ما يصح أن يوضع ف الصدقات ..لو أشق شيء على
النفس الت ل تتعود الي ول تتجه إليه!
هناك أناس ل يتبسمون أبدا ،ول تنفرج أساريرهم وهم يلقون غيهم من الناس!
إنم شريرون أو ف نفوسهم مرض .وينابيع الي مغلقة ف نفوسهم وعليها القفال.
وهناك ناس يبخلون عليك بقطرة من ماء! الاء القيقي ل على سبيل الجاز!
إن السألة ليست البسمة ول نقطة الاء .إنا العطاء .إنا الركة الت تتم ف داخل النفس .إنا فتح القفل
الغلق .أو ترك اليد النفسية وانبساطها إل المام..
عملية واحدة ف جيع الالت ..إما أن توجد ،فتقدر النفس على الي .تقدر على العطاء والودة .وإما
أل توجد ،فيستوي الي والعظيم ،وتغلق النفس عن جيع الصدقات.
***
والرسول الرب ل يريد أن يعرفنا بنابع الي فحسب ،ول أن يعودنا على الي فحسب .ولكن ألح من
وراء تعديد الصدقات ،وتبسيطها حت تصبح ف متناول الميع ،معن آخر..
العطاء حركة إيابية .ولذلك قيمة كبى ف تربية النفوس.
فالنفس الت تتعود الشعور باليابية نفس حية متحركة فاعلة .بعكس النفس الت تتعود السلبية فهي نفس
منكمشة منحسرة ضئيلة.
والرسول صلى ال عليه وسلم يريد للمسلم أن يكون قوة إيابية فاعلة ،ويكره له أن يكون قوة سلبية
حسية.
والشعور والسلوك صنوان ف عال النفس ،كلها يكمل الخر ويزيد ف قوته.
ومن هنا حرص الرسول صلى ال عليه وسلم على أن يصف حت العمال الصغية والينة بأنا صدقة .بأنا
إعطاء.
مرة أخرى كالب مع أبنائه..
فأنت حي توحي لطفلك أن الدور الذي قام به ف العمل دور هام ومثمر ،وقد أدى إل نتيجة ،فإنك
تشجعه على مزيد من العمل ومزيد من النتاج .أما إذا رحت تصغر من شأنه ،وتشعره أن أعماله تافهة
بالقياس إل الطلوب منه ،فإنك تشجعه على النسار داخل نفسه ،والنصراف عن كل عمل يتاج إل
مهود.
والرسول يشجع الناس على الحساس بإيابيتهم ،حت ف العمال الت قد تبدو صغية ف ظاهرها ،ليحسوا
أن كيانم يتحقق ف عال الواقع ،ف عال السلوك .فيزيدهم ذلك إقبا ًل على العمل ف ميدان الي،
ويشجعهم على الصعود باستمرار.
وف تسمية هذه العمال " بالصدقات " أمر آخر من وراء التعبي.
فالصدقات بعناها السي الضيق ،تقسم الناس آخذين ف جانب ومعطي ف جانب .وقد توحي إل
الخذين الشعور بالضآلة والضعف ،وتغري العطي باليلء والغرور.
وذلك تقسيم للمجتمع سيئ غاية السوء.
ولكن توسيع نطاق الصدقات حت تشمل كل شيء وكل عمل متجه إل الي ،يلغي التقسيم الول ،ويتيح
لكل إنسان -بصرف النظر عن فقره وغناه -أن يكون معطيا واهبا للخرين .ومن ث يعل الناس كلهم
-بركة واحدة -آخذين ومعطي على قدم الساواة ،وشركاء ف ميدان واسع فسيح!
وذلك ول شك منهج بارع ف تربية النفوس ،فوق أنه يقرر مفهوما آخر من مفاهيم السلم الصيلة :أن
القيم الت تكم الياة ليست هي القيم الادية وحدها .أو القتصادية وحدها .وإنا القيم الشعورية
والوجدانية كذلك .بل هذه الخية هي الصل الذي تقوم عليه علقات البشرية!
***
وقد افتت الناس دائما بالقيم الادية وحسبوها قوام الياة .القدماء ف ذلك والحدثون سواء .وحي تنطمس
بصائر الناس عن منابع الي القيقية ،وتنحسر نفوسهم عن حقيقة الكون الواسعة ،فإنم ل يرون إل القيم
الادية ،ول يدركون إل ما تدركه الواس .ولكن السلم حرص على توسيع الياة وتليتها ف صورتا
القيقية .ل يهمل عال الادة ،ول يهمل ضرورات الياة .بل أعطاها عنايته الكاملة كما يتضح ف
التفصيلت الدقيقة الت يشملها الشرع ،والضافات الدائمة الت أضافها الفقه السلمي على مدى القرون
ولكنه ل يقف عند هذه المور وحدها ،لن الياة ف واقعها ل تقف هناك .وإنا تتعداها إل آفاق أوسع
وأرحب ،وإل مستويات أكب وأعلى.
والسلم دين الياة الكامل ،ومن ث يشمل الياة كلها ف جيع الفاق وجيع الستويات ،على نظافة ف
الداء ونظافة ف السلوك.
إنه كصاحب الرض الصبة ل يزرع منها جانبا ويهمل الانب الخر ،أو يدعه تنبت فيه حشائش
السموم .إنه يس بالقيمة الكبى لتلك الرض الثمينة ،ويس بالسارة الت تنشأ من تعطيلها أو إهال
بعضها ،ومن أجل ذلك ينقب ف كل مكان ف النفس حت يكن أن تنبت فيه نبتة الي ،فيزرعها وين من
زرعها الثمار.
وحي يرص السلم على أن يظل ينبوع الي ف النفس النسانية ثرّا يفيض بالي ول ينضب ،فإنه يضمن
أن تقوم بي البشر روابط أمت بكثي وأوثق من تلك الت يكن أن يقيمها القتصاد أو تقيمها العلقات
الادية .بل يضمن أن تكون رابطة حية وخية ،ل يأكلها القد ،ول تسري إل القلوب مع " تنظيماتا "
الصلدة والفاف.
***
وأي رابطة يكن أن تربط القلوب أقوى من الودة والب؟
(َ ....وأَلّفَ بَْينَ ُقلُوبِ ِهمْ لَوْ أَْن َف ْقتَ مَا فِي الْأَ ْرضِ َجمِيعا مَا أَّلفْتَ بَْينَ ُقلُوبِ ِهمْ وَلَ ِكنّ اللّهَ أَلّفَ َبيْنَ ُهمْ) [.]72
إنا هبة ال..
والنعم الادية أو القتصادية كذلك هبة ال.
ولكن الية تضع كلً ف مكانه ف ميزان القلوب وميزان الياة!
ل يكفي الال وحده لتأليف القلوب .ول تكفي التنظيمات القتصادية والوضاع الادية.
ل بد أن يشملها ويغلفها ذلك الروح الشفيف الستمد من روح ال .أل وهو الب.
الب الذي يطلق البسمة من القلب فينشرح لا الصدر وتنفرج القسمات ..فيلقى النسان أخاه بوجه
طليق.
ذلك الب هو الذي يصنع العجزات .هو الذي يؤلف القلوب .هو الذي يقيم البناء الذي ل يهدمه شيء
ول يصل إليه شيء.
" جاء إل النب صلى ال عليه وسلم أعراب يوما يطلب منه شيئا فأعطاه ،ث قال له :أحسنت إليك؟ قال :ل
ول أجلت! فغضب السلمون وقاموا إليه ،فأشار إليهم أن كفوا .ث دخل منله فأرسل إل العراب وزاده
شيئا .ث قال .أحسنت إليك؟ قال نعم .فجزاك ال من أهل ومن عشية خيا .فقال له النب صلى ال عليه
وسلم :إنك قلت ما قلت وف نفس أصحاب شيء من ذلك ،فإذا جئت فقل بي أيديهم ما قلت بي يدي،
حت يذهب من صدورهم ما فيها عليك .قال :نعم ،فلما كان الغداة جاء ،فقال النب صلى ال عليه وسلم :
إن هذا العراب قال ما قال ،فزدناه ،فزعم أنه رضي .أكذلك؟ فقال العراب :نعم .فجزاك ال من أهل
وعشية خيا .فقال صلى ال عليه وسلم :إن مثلي ومثل هذا العراب كمثل رجل له ناقة وشردت عليه،
فتبعها الناس ،فلم يزيدوها إل نفورا ،فناداهم صاحب الناقة :خلوا بين وبي ناقت ،فإن أرفق با وأعلم.
فتوجه لا صاحب الناقة بي يديها ،فأخذ لا من قمام الرض ،فردها هونا هونا ،حت جاءت واستناخت،
وشد عليها رحلها ،واستوى عليها .وإن تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار!
هذا الدرس العجيب من حياة الرسول صلى ال عليه وسلم من سلوكه العملي -يشرح لنا القيم الت
أودعها أحاديثه الروية ف هذا التاه.
قد يكون الال الزائد هو الذي أرضى العراب -ف ظاهر المر -بعد ما كان ساخطا على العطاء القليل.
ولنفرض جدلً أنه كذلك.
ولكن فلننظر إل المر من جانب النب صلى ال عليه وسلم من جانب العطي -أكان يزيد ف عطاء الرجل
لو ل يكن هذا العي الفياض بالرحة والودة والب؟
ولننظر إل المر خاصة بعد أن قال العراب قولته النكرة الاحدة ..أوَ قد كان غي هذا القلب الكبي وهذا
الروح الشفيف يكن أن يقبل القولة الارحة ويرد عليها بعطاء جديد؟
إن الصدقة " الادية " الزائدة ليست هي حقيقة الوقف! إنا مرد التعبي الادي الجسم للشعور السامق
النبيل .إنا ترجة للصل وليست هي الصل! إنا الصدى والقلب هو القيقة!
هذا القلب هو الذي يربيه الرسول الكري هذه التربية البدعة ليقيم عليه رباط البشرية.
وما نريد أن ندخل حقائق " العلم " ف أمر روابط البشرية! ولكنا -برغمنا! ل ند ميصا من الشارة إل
هذه القائق الت غيت كل الفاهيم " الادية " الت سادت تفكي البشر ف القرون الخية .فقد أثبت العلم
أنه ليست هناك " مادة "! إنا الياة كلها " قوى " و " روابط "!
الذرة الت كان يظن من قبل أنا مادة راسية مستقرة ملموسة ظهر أنا كهارب! أنا طاقة كهربائية سالبة
وموجبة .وأن الرباط الذي يشد بعضها إل بعض هو الاذبية..
وذلك هو كل بناء الكون!
ل جرم يكون كذلك هو بناء البشرية!
ليس " الادة " .وليس " القتصاد "! ليس شيئا ما تقف عنده الواس وتظنه القيقة! وإنا هو شيء أعمق
وألطف وأدق..
الب رباط البشرية .والقلوب هي طاقتها.
وكما تصطدم الطاقات ف الذرة فتضطرب وتتناثر حي تفقد رباطها القوي يشدها بعضها إل بعض ،حي
تفقد رباط الاذبية ،كذلك تصطدم القلوب ف الياة البشرية فتتنافر وتتناثر حي تفقد رباطها القوي الذي
يشدها بعضها إل بعض ..حي تفقد الحبة.
والسلم دين ال.
ال الذي خلق اللق وهو أعلم بن خلق.
وهو دين الفطرة .الدين الذي يساير الفطرة أجل مسايرة ،ويصل من ذلك إل أجل النتائج.
والسلم هو الذي يعل رباط الحبة هو الرباط الول والوثق ف حياة البشرية ،ويقيم الوشائج كلها -من
مادية واقتصادية واجتماعية وفكرية وروحية -على هذا الساس التي.
صمُوا ِبحَْبلِ اللّهِ َجمِيعا وَل َتفَ ّرقُوا وَا ْذكُرُوا ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَيْ ُكمْ إِذْ كُنُْتمْ َأ ْعدَاءً
( َوأَلّفَ بَْينَ ُقلُوبِ ِهمْ)( .وَاعَْت ِ
فَأَلّفَ َبْينَ قُلُوبِ ُكمْ فَأَصَْبحُْتمْ بِِن ْعمَتِهِ ِإخْوَانا) [.]73
ورسول السلم -وهو الية البشرية الكونية الكبى -يدرك بفطرته اللتقية مع فطرة الكون العظم ،وبا
أدبه ربه فأحسن تأديبه ،أن الرحة والودة والخاء هي وحدها الت يكن أن يقوم عليها البناء الي القوي
التماسك ،فيدعو إل الب " :ل يؤمن أحدكم حت يب لخيه ما يب لنفسه " [ ]74ويلو القلوب
لتفيض بالب ،ويعلمها الوسيلة لكي ِتبّ وتَب :أن تلقى أخاك بوجه طليق!
وإن هذه البتسامة على الوجه الطلق لتعمل عمل السحر!
جربا!
جرب أن تلقى الناس بوجه طلق وعلى فمك ابتسامة مشرقة .ولن تندم على التجربة قط!
إنا لتستطيع -وحدها -أن تفتح مغالق النفوس وتنفذ إل العماق .تنفذ إل القلب! إل الطاقة الكنونة ف
الكيان البشري ،فتربط بينها وبينك برباط الاذبية!
حينئذ تصي قطعة من الكون العظم ،دائرة معه ف فلكه الفسيح ،لنك تلتقي بفطرتك الصحيحة مع فطرته
القة ،فتلتقيان ف الناموس الكبي!
وحينئذ ترى ال!
فهذا هو الطريق!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ]71الترغيب والترهيب ج 4ص 396رقم .7
[ ]72سورة النفال [ .] 63
[ ]73سورة آل عمران [ .] 103
[ ]74رواه البخاري ومسلم.
فقليله حرام
***
الدمان أول شيء يطر على البال حي تذكر المر ،ويذكر القليل فيها والكثي
والدمان -كما تثبت التجربة العلمية -خطر ماثل أمام البشرية حي تبيح لنفسها المر ،وحي تبيح
لنفسها أي أداء من أدواء الجتمع الكثية التعددة.
وهو ف المر يرتكز على أساس عصب -جسمان -وعلى أساس نفسي كذلك [.]76
كل شراب -بل كل دواء -ذي تأثي معي على العصاب ،منبه أو مسكن أو مثي أو ملطف ،يفقد أثره
على العصاب بعد قليل ،لنا تتحصن ضده وتتبلد عليه .ويتاج النسان -ل مالة -إل زيادة الرعة أو
تغيي " الصنف " لكي يس له بفعول.
هذا من الوجهة العصبية .أما من الوجهة النفسية فهناك العادة .والنفس تستريح لا تتعود عليه -كذلك
فطرها ال لكمة هو عالها -وتشتاق لا تعتاده من الركات والفعال والفكار والشاعر ،فيلتقي تأثر
العصاب ومتعة النفس على المر الواحد ف اللحظة الواحدة ،فيتجاوبان ،ويدفع كل منهما الخر ويقويه!
وهذا أمر ينطبق على كل شيء! حت لقمة البز وجرعة الاء ،وضجعة السرير وجلسة القعد ،وحديث
النسان إل نفسه أو حديثه إل الناس ،ورؤية فلن أو صحبة مكان أو ألف شيء من الشياء!
ولكن بعض هذه المور تداوي نفسها بنفسها فتكون بنجاة من الدمان -بعن السراف الضر -كما أن
بعضها ل يصل إل حد الطر ولو وصل إل الدمان!
الطعام والشراب عادة يتعودها السم وتتعودها النفس ،من حيث الكم والنواع والواعيد .ولكنها -ف
الالة السوية -تد الفرامل الضابطة ف إحساس الشبع وامتلء الفراغ الحدود.
ومع ذلك فقد تنحرف إل شَرَهٍ نَ ِهمٍ مسعور!
ولكنها ضرورة! ل تقوم الياة إل با ف حالتها العقولة السوية.
ومن ث أبيح القول العقول ،وحرم الزائد عن العقولَ ( :و ُكلُوا وَاشْرَبُوا وَل ُتسْ ِرفُوا) [ ]77ول يعل التحري
بتشريع لن ذلك مستحيل .وإنا ترك أمره للتوجيه والتهذيب وخشية ال وتقواه.
والنوم والراحة عادة من حيث الواعيد والقدار والطريقة والوسيلة -مترفة أو غي مترفة -ولكنها -ف
الالة السوية -تد فراملها الضابطة ف النشاط الذي تدثه ،والرغبة الذاتية ف تصريف هذا النشاط.
ومع ذلك فقد تنحرف إل كسل وتراخ وفتور.
ومن ث أبيح القدر العقول -إن لبدنك عليك حقا -وحرم الترف والتكاسل والقعود.
ورؤية الناس ومالطتهم عادة .ولكن لا ضوابطها الذاتية الت تنع السراف فيها -ف الالة السوية -وهي
رغبة النسان ف التقلب بي نزعته الفردية ونزعته الماعية ليضي هذه وتلك.
وإلف المكنة والشياء عادة ..ول ضرر ف الدمان عليها -ما دامت ف ذاتا نظيفة -ومع ذلك فاللل،
وهو عنصر بشري أصيل ،يد بطريقة طبيعية من الدمان عليها والسراف فيها..
ولكن المر وغيها من الدواء ليس كذلك!
حي يدث الدمان فليست له ضوابط .وكل شارب عرضة للدمان .لن العصاب ليست لا حصانة من
تأثي السموم!
ومع ذلك فسنفترض أن أغلبية من الناس تستطيع أن تشرب دون أن تبلغ حد الدمان -وهو قول غي
صحيح ف واقع المر -فمع ذلك ليس هذا بيت القصيد!
بيت القصيد هو الجيال القادمة...
ف مسألة المر بالذات ،يقول الطب إن أبناء السكارى يولدون وفيهم استعداد موروث لشرب المر،
ينتقل إليهم عن طريق النطفة قبل أن يلكوا لنفسهم القياد! ومن ث يصبحون ف الكب مدمني!
ويقول علم النفس إن أبناء السكي يصابون باضطرابات نفسية وعصبية عنيفة تؤثر ف مستقبل حياتم.
فالولد ينظر إل شخصية والده على أنه الثل العلى الكامل الذي يتلبس به وياول أن يتذيه .فإذا رأى ف
سلوكه خللً فإن ذلك يدث ف داخل نفسه انقساما بي شخصي كانا من قبل مؤتلفي بل متلبسي ،ها
شخصيته وشخصية والده .ومن ث يدث نزاع داخلي عنيف ،ينتهي إما بانطواء الولد على نفسه واعتزاله
الياة الية التحركة ،إما ببوزه ف هيئة مرم صغي ،يطم كل مقدس ،ويلوث كل نظيف.
أما الفتاة فيصيبها صراع من نوع آخر ينتهي با إل كراهية الرجال جيعا ،والنفور ف الستقبل من الزواج،
وما يصاحب ذلك من عقد جنسية متلفة ،أو ينتهي إل انرافها اللقي ووقوعها ف مهاوي الرذيلة.
وسنفترض مرة أخرى أن ذلك كله لن يقع -وهو أمر غي صحيح!
سنفترض أن النطفة ل تنقل إل الني عدوى المر وهو واغل ف الظلمات الثلث [ .]78وسنفرض أن
الوالد ل يطع أولده على سوء منه ،فلم يعلموا أنه يشرب المر ول يدث ف نفسهم الضطراب.
يبقى بعد ذلك كله شيء ل تستطع اتقاءه الجيال!
ما موقف الب الذي يعاقر المر حي يعلم أن أبناءه قد وقعوا فيما وقع هو فيه من قبل؟
أيزجرهم؟ أم يرخي لم العنان؟
ولاذا يا ترى يزجرهم وهو -بينه وبي نفسه -ل يؤمن بأن هناك ضررا ف المر؟ بل إنه ليؤمن أن تربته
الشخصية خي شاهد على ما يقول! ها هو ذا يشرب .فماذا حدث له؟ ل يبلغ حد الدمان .ل يفصل من
عمله نتيجة التأخر ف الصباح أو الهال وشرود البال .ل يؤثر الشرب ف مركزه الجتماعي .ل تتلف
أعصابه ول تفسد قدرته على التفكي .وإنا كلها كأس بي الي والخر ..ف الفلت وف الفراح!! فما
الضي على الولد إذا ساروا ف نفس الطريق ،وعند كبهم " يعقلون " وتسي المور...؟!
هنا موطن الطر ل يدركه الشارب ف أول جيل!
إنه ينسى! ينسى أنه هو شخصيا قد نشأ ف بيئة مافظة تستنكر المر وتَنْفر منها وتَنفّر منها ،وأنه نشأ وف
عقله الباطن فرامل قوية -مستمدة من هذه البيئة الحافظة -هي الت حالت بينه -دون أن يشعر -وبي
السراف والدمان .ف أعماق نفسه شخص معنوي أو شخص مسم ،يسك له العصا ويذره ،وينهال
عليه ضربا إذا تاوز الدود -ف صورة تقريع الضمي.
وصحيح أن هذا الشخص ل يبلغ من القوة ف نفسه أن ينعه البتة ،ول يستطع أن يقفل عليه الطريق ولكنه
مع ذلك موجود ل شك ف وجوده .وله الفضل كله ف الوقوف به عند درجة معينة ل تصل إل الدمان
البغيض.
أما البناء فأين هذا الشخص ف نفوسهم؟ من غرسه ف أخلدهم وهم صغار؟
أبوهم؟ أو الجتمع الذي يسرح فيه آباء كأبيهم؟
كل! لقد وجدت القدوة السيئة وانتهى المر ،ث ل توجد الزواجر الت منعت اليل الول من السراف!
أو قد توجد ،ولكنها أضعف من الزواجر ف أول جيل..
ومن ث يشرب البناء فيسرفون عن ذي قبل ،لن الشخص الذي ف نفوسهم ،والعصا الت ف يده لينة ل
تترك أثرا ف الضمي.
وينشأ بعد ذلك جيل ث أجيال ..ويتفي رويدا رويدا ذلك الشخص من الضمي .ويندفع الناس بل حاجز،
ويسرفون بل حدود.
تلك قصة المر على مدار الجيال..
جيل متقيظ ف أول المر ،عيونه على الرية.
ث أفراد يتسللون خفية من وراء الستار...
فإذا ظلوا ف استتارهم ،ل يتبجحون بالث ول يسمح لم الجتمع بذلك ،فثم أمل بقاء الجتمع -ف
عمومه -نظيفا من الرية فترة طويلة من الزمان .أما إذا َأمِنوا زجر الجتمع ،فخرجوا من خفيتهم ،وقعدوا
على قارعة الطريق ،فهنا ينشأ أول جيل منحرف .وهو انراف بسيط ف أول المر ل ينذر بالطر ول يبدو
فيه النكي .ولكن النراف البسيط يتد ،كما يتد ذراعا الزاوية من نقطة الصفر -نقطة البتداء -حت
تنفرج الشقة ويبعد الذراعان..
والاوية الحتومة ف ناية الطريق!
***
وهي قصة كل جرية من جرائم الخلق..
قصة الكذب والداع والنفاق والغش والتدليس.
قصة الغيبة والنميمة ونش العراض وكشف العورات.
قصة الرشوة والظلم والفساد.
قصة القعود عن نصرة الق والهاد ف سبيله.
قصة الترف والسرف والفجور والجون.
وهي على الخص قصة " التقاليد فيما يتص بالرجل والرأة والختلط والرية...
يبدأ الجتمع " نظيفا " متحفظا ل يسمح بالختلط ول يتهاون ف الرية.
ول نقصد " بالنظافة " أنه متمع من اللئكة الطهار قد خل من الرية .فهذا شيء ل يدث ف التاريخ!
ولكنا نقصدها بثل العن الذي يستخدم ف الشئون الصحية .فحي تقول اليئات الطبية إن الدينة " نظيفة "
تقصد أنا نظيفة من الوبئة الطرة ،ول تقصد أنا خالية من حالت فردية من هذه المراض.
ف هذا الجتمع النظيف توجد حالت فردية غي نظيفة .ولكنها قليلة ومستترة وعدواها مدودة .وذلك
نتيجة الرص الدائم الذي يبذله الجتمع ف عملية التنظيف.
ولكنه ف وقت من الوقات يتراخى...
عندئذ يأخذ الوباء ف النتشار التدريي البطيء.
وف حالة الوبئة السمية ينتشر الرض بسرعة وبطريقة ملموسة ميتة.
ومن هنا يهب الناس للوقاية والكفاح ف أسرع وقت ويتساندون ويتكاتفون لوقف الوباء.
ولكن الوبئة النفسية ذات طبيعة أخرى.
فالنفس بطبيعتها استجابة من السم .والناعة النفسية اللشعورية -حي توجد -تستطيع أن تقاوم الرض
أو على القل تفف حدته القاتلة مدى أجيال.
ولذلك فالفساد اللقي بطيء الفعول جدا .وقد تر أجيال كاملة على متمع منحل الخلق قبل أن ينهار.
بل إن النلل قد يستشري ف جيل من الجيال الخية إل حد يعييك فيه البحث عن جاعة واحدة
فاضلة .ومع ذلك فقد ل تقع الكارثة ف هذا اليل بالذات .ومن ث يغرى الناس بالظن أن كل النذر خرافة،
وأنم مستمتعون بكل ما يشتهون ،ث ناجون ما كانوا يذرون!
ولكن سنة ال ف النهاية تتحقق! ل تتخلف مرة واحدة ف التاريخ!
ل يدث أن استمتع الناس بشهواتم الزائدة إل غي حد ،ث استمروا إل البد أقوياء متماسكي قادرين على
الياة!
وهذه صفحة التاريخ مفتوحة لن يريد.
صفحة اليونان القدية وروما القدية وفارس القدية ،والعال السلمي حي غرق ف الشهوات ،ث صفحة
الغرب ف جاهليته العاصرة.
تبدأ الرية بسيطة خفيفة لطيفة..
اختلط بريء تت لشراف الباء أو غيهم من الشرفي..
ونزهات لطيفة أو نواد ظريفة ،ول بأس فيها من إتاحة شيء من اللوة " البيئة " بي شاب وفتاة.
وما الذي يكن أن يدث ف خلوة كهذه بريئة وعي الرقيب على بعد خطوات ..أو حجرات؟!
ابتسامة من هنا وكلمة إعجاب من هناك؟
وضمة خاطفة ف غفلة من الرقيب؟ وقبلة طائرة تطفئ الغلة أو تشعل اللهيب؟
" يا سيدي "!
ث يدث ما يدث ف المر..
الدمان..
الكأس الول تصبح بعد حي تافهة ضئيلة الفعول .ل بد من كأس ثانية.
والقبلة الول تغري دائما بالزيد ،ل يكن أن تتوقف ،ليس ذلك من طبائع الشياء.
ولكن اليل الول مع ذلك ل يسرف ف الرية ،ول يصل إل الدمان الجنون.
هنالك الشخص الواقف ف داخل النفس بالرصاد ،ومعه العصا ينذر ويذر ويهدد بعظائم المور .وهنالك
التقاليد الت تربط الجتمع ول يسهل الروج عليها دفعة واحدة .ومن ث ل تدث الرية كاملة ف أول
جيل ،وإنا " يتبحبح " الناس قليلً ويفكون القيود.
ويضي الجتمع ف طريقه منتشيا ل يس بالطر ،ول خطر -حت الن -هناك.
ويظن الجتمع -نظريا -أنه قادر على ذلك إل غي ناية .قادر على أن يفك القيود ومع ذلك ل يقع ف
الرية أو ل يصل إل السراف العيب.
وهو ملص ف عقيدته تلك الضالة لنه يقيس على نفسه ويغفل حقيقة المور.
يغفل الضوابط الفية الت أنشأها ف أعماق نفسه اليل السابق التحفظ .والت لن يلفها هو للجيل القبل
لنه غي مؤمن با ،يظنها تشددا بل ضرورة ول لزوم!
ينسى الرجل أنه قد رأى أمه متحفظة ل تتلط بالرجال ،ورآها مكتسية ل يتعرى من جسمها شيء ،ومن
ث تقاومه هذه الصورة على غي وعي منه وهو يدعو فتاة غريبة إل الختلط به ،ويدعوها إل تعرية نفسها
أو جسدها ليستمتع به.
نعم تقاومه حت وهو مندفع الشهوة ،فل يسرف ،ول يتبجح بالث.
والفتاة الت رأت أمها متحشمة وزرعت ف نفسها النفور من العري -النفسي والسدي -تتحفظ كذلك
-بوعي منها و بغي وعي -حت وهي تم بالنزلق ،فل تسرف ول تتبجح بالث.
ث يتراجع هذا اليل..
وييء جيل جديد تربية الم الت ذاقت ف شبابا " متعة " التحلل البسيط من القيود ،والب كذلك.
الم والب اللذان ذاقا شيئا من التعة ول يسقطا السقوط الكامل -والم خاصة -لن ينظرا إل التقاليد "
التزمتة " بعي الحترام.
علم التشدد؟ أل ينفلتا ها من هذا التشدد ول يدث شيء؟ " فليتبحبح " الولد " قليلً " ول ضي!
ومن ث ينشأ اليل الديد وقد ضعف الشخص الواقف ف داخل النفس بالرصاد ،ولنت العصا فلم تعد
تترك أثرا ف الضمي ،وتفككت التقاليد فلم تعد تنع الحظور.
ويتراجع هذا اليل..
ويأت جيل يرى أمة قد تعرت ،من شيء من الثياب وشيء ماثل من الفضيلة (والسم والنفس صنوان ف
هذه المور!)
الولد الذي يرى أمه عارية ل تثور ف نفسه نوة الرجولة والرص على العراض ،فقد زالت ف نفسه حرمة
السد ،وصار نبا يباح للعيون ،وبعد ذلك لا هو أكثر من العيون.
والبنت الت ترى أمها عارية ل تؤمن بالقيد.
ويلتقي هؤلء الولد والبنات ،يلتقون على شهوة السد الفائرة ،ويلتقون بل ضابط ول حدود ،وتتم
الدورة الحتومة ،والاوية ف آخر الطريق.
***
والبشرية -حي تترك وشأنا -قليلً ما تتذكر ،وقليلً ما تتدبر عبة التاريخ!
كل جيل يدفعه الغرور من ناحية ،والنشوة الفائرة من ناحية أخرى ،فيظن أن تربته جديدة ل تر على أحد
من قبل ،وأنه ليس مقيدا بسنة التاريخ.
ما أسهل ما يقول لنفسه :إن المة الفلنية قد انارت لكذا ،أو الشخص الفلن قد تطم لكيت .أما أنا
فلن أقع ف غلطته ولن يدث ل ما حدث هناك .لن يفلت من الزمام .لن أدع شيئا يغلبن .سأصحو قبل
أن أبلغ الاوية .أنا شيء آخر غي الناس من قبل.
وييء " العلم " ف القرن العشرين فينفخ ف الناس نفخة كاذبة .ييّل لم أنم خلق غي ما مر من الجيال
ف التاريخ كله .خلق ل تنطبق عليه سنة ول يضع لسابقة .إنه عصر الذرة وعصر الصاروخ .عصر يكتب
تاريه بنفسه ،ينشئه على مزاجه ،يلق جديدا كل يوم ؛ يفتح آفاقا ل تتفتح من قبل ؛ " يقهر " الطبيعة
ويسخرها بعد أن كانت هي الت تقهره وتسيه مرغما ف طريق ل يتره لنفسه ول يد له ف تكييفه!
كذلك ينفخ " العلم " ف نفوس الناس .أو ينفخ فيهم شيطان الغرور:
(أََلمْ َأعْ َهدْ إِلَيْ ُكمْ يَا بَنِي آ َدمَ أَنْ ل َتعُْبدُوا الشّْيطَانَ إِنّهُ لَ ُكمْ َعدُوّ مُِبيٌ َوأَنِ اعُْبدُونِي َهذَا صِرَاطٌ ُمسْتَقِيمٌ وََل َقدْ
ضلّ مِنْ ُكمْ ِجِبلّا كَثِيا َأفََلمْ تَكُونُوا َتعْ ِقلُونَ) [.]79 أَ َ
ولقد أضل الشيطان هذا اليل من البشرية كما ل يضل أحدا من البشر ،لنه أعرض بانبه ونأى عن ال.
وقالِ( :إّنمَا أُوتِيُتهُ َعلَى عِ ْلمٍ)! (ُثمّ إِذَا خَوّْلنَاهُ ِن ْعمَةً مِنّا قَالَ إِّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى ِع ْلمٍ َبلْ هِيَ فِتَْنةٌ وَلَ ِكنّ َأكْثَ َر ُهمْ
ل َي ْعَلمُونَ) [.]80
وهذا اليل من البشرية ييل له أن ناج من سنة ال الت خلت من قبل .وناج من حتمية النتائج حي توجد
السباب .وناج من الاوية الت تفغر فاها ف ناية الطريق!
هذا وهو يرى بعينيه أن العال كله مهدد بالدمار والراب الرهيب!
أي غفلة تصيب الناس حي ينأون عن طريق ال وحي يغترون ويستكبون؟!
( ..قَالَ إِّنمَا أُوتِيتُهُ َعلَى ِع ْلمٍ َبلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَ ِكنّ َأكْثَ َر ُهمْ ل َي ْعَلمُونَ َقدْ قَالَهَا اّلذِينَ ِمنْ قَْبلِ ِهمْ َفمَا َأغْنَى عَنْ ُهمْ
مَا كَانُوا يَ ْكسِبُونَ فَأَصَابَ ُهمْ َسيّئَاتُ مَا َكسَبُوا وَاّلذِينَ َظَلمُوا ِمنْ هَؤُلءِ َسُيصِيبُ ُهمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُوا َومَا ُهمْ
ِب ُم ْعجِزِينَ) [.]81
***
نعم .حي تترك البشرية وشأنا فقليلً ما تتذكر ،وقليلً ما تتدبر عبة التاريخ.
إنم ل يرون -ول يريدون أن يصدقوا -أن هذا الطوفان الائل من الفساد قد بدأ من نقطة الصفر! من
النقطة الت ينفرج فيها ذراعا الزاوية ،فرجة بسيطة للغاية ف مبدإ المر ،ث تتسع الشقة كلما مضى الزمن
وتتابعت الجيال.
ل يرون -ول يريدون أن يصدقوا -أن الكأس الول تتبعها الثانية .والقبلة الول تفتح الطريق للجرية.
ل يرون -ول يريدون أن يصدقوا -أن البشرية ل تقف يوما عند القليل الذي ل يضر ،ما دامت تبيحه
على أنه أمر واقع ،وأنه ل يضر! وإنا تاوزته حتما إل الكثي الذي يغرق كالطوفان.
ل يرون -ول يريدون أن يصدقوا -أن الجتمع -وهو النهر الذي يشرب منه الميع -ل يكن أن يظل
بنأى عن التلوث بينما القذار تلقى على الدوام فيه ،ول يكن أن يظل الشاربون على سلمتهم وهم
يشربون القذار.
ولكن السلم يصدق هذا لنه يراه.
السلم كلمة ال ف الرض .وال هو الذي خلق اللق وهو أدرى با فطرهم عليه:
(أَل َي ْعَلمُ مَنْ َخلَقَ َوهُوَ اللّطِيفُ اْلخَِبيُ) [.]82
وقد حرص السلم حرصا شديدا على هذا المر ،لنه يرى -بالعي البصية النافذة -تسلسل البشرية
وتعاقب الجيال وتاثل النتيجة عند تاثل السباب.
يرى الزاوية الت تبدأ من نقطة الصفر .ث تبعد الشقة بي ذراعيها ُب ْعدَ ما بي البيض والسود ،واللل
والرام.
يرى الكأس الول تتبعها الثانية ،والقبلة الول تؤدي إل الرية .ومن ث يقف ف يقظة دائمة لكل كأس
عابرة وكل قبلة حرام .ول يقبل ف ذلك حجج الستهترين كلهم وما يتمسحون به من التعللت.
ل يقبل قول الذي يقول :اسح ل بذه واطمئن أنن لن أسرف فيها ،ولن أتاوزها إل جديد!
ل يقبله لنه ليس له رصيد من الواقع ،وكله أوهام!
وقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم ،وهو الذي يشرح بأعماله وأقواله الصورة الفصلة للسلم،
ويلوها ف عال الواقع ..كان الرسول على ذكر دائم وبصية كاملة بذا التسلسل الذي يربط أجيال
البشرية ،والوحدة الت تشملها أفرادا وجاعات ،وأجيالً إثر أجيال.
كان على بصية من انتقال العدوى من شخص إل شخص ومن جيل إل جيل .بل بانتقال العدوى ف
النفس الواحدة من فكرة إل فكرة ومن شعور إل شعور!
وكان الدائم التنبيه لذا المر:
" اللل بيّن ،والرام بيّن .وبينهما أمور متشابات ،فمن اتقى الشبهات فقد استبأ لدينه ،ومن حام حول
المى أوشك أن يقع فيه! " [.]83
" إن أول ما دخل النقص على بن إسرائيل أن كان الرجل يلقى الرجل فيقول :يا هذا اتق ال ودع ما
تصنع ،فإنه ل يل لك .ث يلقاه من الغد وهو على حاله ،فل ينعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده،
فلما فعلوا ذلك ضرب ال قلوب بعضهم ببعض " [.]84
من أجل ذلك قال :ما أسكر كثيه فقليله حرام.
وأخذ عنه السلمون هذه القاعدة التشريعية الشاملة فقال فقهاؤهم إن وسيلة الحرم مرمة لنا تؤدي إليه.
فالفاحشة حرام ،والنظرة إل الجنبية حرام لنا تؤدي إل الفاحشة.
وسرت هذه القاعدة ف كل التشريع ..وسرت كذلك إل صميم الجتمع .فكان كل فرد دائم اليقظة إل
الناس يذر أن توجد الكأس الول الت تؤدي إل الطوفان " .أنت على ثغرة من ثغر السلم فل يؤتي من
قبلك "!
***
والسلم يعلم أنه مهما صنع فلن يبطل الرية ولن يلغي الفاحشة من البشرية!
نعم .يعلم ذلك على اليقي .ول يدفن رأسه كالنعامة ف الرمل ويقول :ما دمت ل أراه فهو غي موجود!
ولكنه -مع ذلك -ل يعترف بالرية كأمر واقع ،ول يقبلها على هذا الوضع!
موقف بالضبط كموقف الطبيب الشرف على وقاية الناس من المراض.
إنه يعلم أنه مهما صنع فلن ينع الرض من الوجود ،ولن يصبح الناس كلهم مصني!
ومع ذلك فل ينهزم أمام الرض ول يتركه يتفشى فيتحول إل وباء.
مهمته الدائمة هي العراك مع المراض.
ويعلم علم اليقي أنه ستظل هناك حالت فردية ل تنفع فيها الوقاية ،وقد ل ينفع كذلك العلج.
ولكنه يصر على القاومة ،ول يلجأ إل الزية ،ويقول -وهو صادق -إن الدينة " نظيفة " ما دامت خالية
من الوباء.
وكذلك يصنع السلم ف وقاية البشرية.
يقف لكل جرية مفردة ليحاول منعها من النتشار ،ول يستهي با مهما تكن من الضآلة ف مبدإ المر.
فجرثومة الكوليا الواحدة الفردة تقتل ف النهاية مئات اللوف ومئات الليي .وجرثومة الفساد الواحدة
تقتل شعبا بأكمله.
وهو يقف للجرية بكل وسائل الوقوف.
يقف لا داخل الضمي .فالناعة تنبت من داخل النفس.
ينظف هذا الضمي ويهذبه ويربطه بال " :تعبد ال كأنك تراه ".
ويقف لا ف الجتمع بإقامة التقاليد الت تعل الفضيلة عادة وتعل الرية منكرة مرهوبة.
ث يقف لا بالتشريع الذي يعاقب على الرية.
وحي تقع الرية ف هذا الو ،فهي كحالة الرض الفردة الت قد ل تنفع فيها الوقاية ول ينفع فيها العلج.
ولكن الوقاية والعلج يفلحان ف منع انتشارها وتولا ف النهاية إل وباء.
وقد أمر ال بنع الفاحشة ووضع لذلك الدود.
ث جاء الرسول صلى ال عليه وسلم يضع -الشرح الفصل للحدود حي قال " :ما أسكر كثيه فقليله
حرام ".
ول يكن صلى ال عليه وسلم متشددا ،متزمتا بل ضرورة.
إنا كانت الكمة الالصة الت فتح لا قلبَه اللطيف البي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ]75رواه أبو داود.
[ ]76انظر فصل " النفس والسم " من كتاب " ف النفس والجتمع ".
[ ]77سورة العراف [ .] 31
ث " سورة الزمر [ .] 6
خلُقُكُ ْم فِي ُبطُونِ أُ ّمهَاتِكُ ْم َخلْقا ِمنْ بَعْ ِد َخ ْلقٍ فِي ُظلُمَاتٍ ثَل ٍ
[َ " ]78ي ْ
[ ]79سورة يس [ .] 62 - 60
[ ]80سورة الزمر [ .] 49
[ ]81سورة الزمر [ .] 51 - 49
[ ]82سورة اللك [ .] 14
[ ]83رواه البخاري.
[ ]84رواه أبو داود.
ادرءوا الدود بالشبهات
***
" الشك يفسر ف صال التهم ".
تلك هي القمة النسانية الت بلغتها أوربا بعد السلم بأكثر من ألف عام!
ومع ذلك فهي ل تصل إليها ف سهولة ويسر ،ول تصدر فيها عن مشاعر إنسانية خالصة ،تس بقيمة "
النسان " ف ذاته ،وتقدر حرمته وكرامته وحقوقه ،وتعطف عليه حت وهو يطئ ف حق الماعة ،ويهبط
عن الستوى اللئق بالنسان ..وإنا جاء ذلك بعد صراع مستمر عنيف ،جرت فيه أنار من الدماء
وطاحت فيه كثي من الرءوس!
كان الوضع الذي استقر ف أوربا فترة طويلة من الزمان ،يقسم الناس إل سادة ف جانب وعبيد ف جانب.
سادة من " الشراف " يري ف عروقهم دم مقدس! من لون غي دماء البشر العاديي! سادة هم الذين
يلكون ويكمون ويشرعون .وعبيد ل يلكون شييئا ،ول يشرعون شيئا ،وكا ما لم هو الذل والوان
القيم.
وحت القانون الرومان الشهور بعدالته " الثالية! " والذي يعتب الصل الذي تستمد منه القواني الوربية
الديثة ف كثي من السائل ،حت هذا كان قانونا " للرومان فقط "! الذين يلكون حقوق الواطن الرومان.
وقليل ما هم! أما بقية الشعب ف إيطاليا نفسها ،ودع عنك الستعمرات واللحقات والبلد الغلوبة ،فلم
تكن تستمتع بذا العدل الرومان ،ول تكن لا حصانة من العسف والضطهاد .والفرق الائل بي عدد
الحرار وعدد العبيد يرينا إل أي حد كانت القلة القليلة تستمتع على حساب الكثرة الغلوبة .فقد كان
الحرار ف روما سنة 204ق .م 214 .ألفا ،وكان العبيد 20مليونا من البشر ف إيطاليا ،غي بقية
الستعمرات!
ووجدت ف بقاع الرض -ف أوربا وفارس والند وسواها -قواني صرية تفرق بي الشريف والعبد ف
طريقة العاملة أمام القضاء .وتنص على اختلف العقوبة على العمل الواحد .فالعبد السراق يقتل ،والشريف
السارق يكتفي برد ما لديه! والعتدي على الشريف -إن كان شريفا مثله -فالعي بالعي والسن بالسن.
أما العتدي على العبد فجزاؤه الغرامة! والغرامة ل تؤدى إليه إنا تؤدى للسيد الذي يلك العبد ،تعويضا له
عن " إتلف " بعض متلكاته! أما السيد ذاته فله على عبده حق القتل والبادة والتعذيب! وحت حي
كانت القواني تجل من هذه الصراحة فالتطبيق كان يأخذ نفس الروح :فالشريف ل يؤخذ بالظنة ،ول
ياكم إل حي تثبت عليه التهمة ،ويكم عليه بأخف العقاب .والعبد -أي الشعب ..يسام التنكيل لقل
شبهة ،ويعذب بوحشية ليعترف ،ث يوقع عليه العقاب البشع الذي ل يتناسب مع الرم ول يتناسب مع "
النسانية "!
ولكن استمرار الال على هذه الصورة البشعة ل يكن من الستطاع ،فل بد أن يثور العبيد لكرامتهم مهما
طال عليهم المد وطال منهم السكوت..
وقامت الثورات بالفعل مزلزلة مدمرة وأطاحت بالرءوس ..رءوس اللوك واللكات والشراف والنبلء..
وتقررت -نظريا على القل -بعض حقوق النسان .تقررت له حرماته وحقوقه وضماناته .وكان من
هذه الضمانات :ضمانة الياة فل يوت جوعا .وضمانة الياة فل يعتدى عليه بغي الق .وضمانة العيش
فل يوت جوعا .وضمانة الريات :حرية القول والجتماع والسفر واختيار العمل .وضمانة العدالة ف
القضاء فل يؤخذ التهم بالشبهة ،ول يؤثر عليه ف التحقيق بالوعيد ول بالوعد ..ويفسر الشك ف صال
التهم ،فل يكم عليه بالعقوبة الكاملة إل حي تثبت التهمة بالدليل القاطع الذي ل شبهة فيه.
ث كانت الثورة الصناعية ف انلترا ،وتلتها الركة الرأسالية ف بلد أوربا..
وللشيوعية رأي ف الرأسالية :أنا استعباد من رءوس الموال للكادحي ،وامتصاص لهدهم الذي يبذلون
فيه العرق والدماء والدموع ليتحول إل ثراء فاجر ف يد الرأساليي العتاة..
وإنا لكذلك..
ولكن التاريخ قد وعى -رغم ذلك -حركة هائلة من التحرر ف فترة الرأسالية ،نقلت الشعب من مقاع
العبودية الطلقة والوان الكامل ،إل وضع أقل ما يقال عنه إنه يمل من الضمانات السياسية والجتماعية
والقانونية ما يعترف بكرامة الفرد ويرد اعتباره إليه..
إنه يمل من الضمانات السياسية والجتماعية والقانونية ما يعترف بكرامة الفرد ويرد اعتباره إليه..
ول يكن ذلك تفضلً من " السادة " الكام واللك والشرعي .ول كان إحساسا منهم بالي الفياض ف
نفوسهم ،والتقدير " الر " لكرامة النسان كان صراعا طويلً عنيفا اصطدمت فيه القوى من الانبي كما
حدث من قبل ف صراع العبيد ضد القطاع ..وإن كانت ل تصحبه الثورات الدموية من الشعوب ضد
الكام ،لن الثورة الفرنسية كانت قد قررت لم البادئ ول يبق سوى التنفيذ ،ولن العمال كانوا يلكون
السلح الذي يواجهون به الرأسالية وهو سلح الضراب!
***
كل! ل تصل أوربا إل العدالة عن تقدير صادق للكرامة النسانية ،وشعور صادق بقيمة النسان! وإنا
كانت خطوة خطوة يتراجعها السادة الاكمون ليكسبها الشعب الاقد الغضبان!
وحت ف العصر الديث حي استقرت المور -بعض الشيء -وزال عنها شيء من شعور القد،
وأصبحت العدالة من أمور الياة العادية البديهية القررة ..وصار القبض على شخص واحد ف إنلترا مثلً
بدون تمة ،أو اعتقاله يوما بدون تقيق ،يثي البلد كلها ،ويقيمها ويقعدها ،وتستجوب عنه الكومة أمام
الشعب ..حت عندئذ ل يصطبغ القانون الورب أو الغرب عامة بالصبغة " النسانية " .فما تزال فيه السمة
الرومانية البغيضة الت كانت تقصر العدالة من قبل على الواطن الرومان ،وهي اليوم تقصرها على الرجل
البيض ،الذي يستمتع وحده بالقوق النسانية ويرم منها بقية بن النسان .والشواهد البشعة على ذلك
ف كل مكان على ظهر الرض وطئه الرجل البيض وما زال مسيطرا عليه ،ف أفريقيا وآسيا وأمريكا..
وبي البيض واللوني ف كل مكان!
أما السلم فلم يكن ف حاجة إل الثورة الزلزلة الت ترق الدماء وتقطع الرءوس!
بل ل يكن ف حاجة إل مرد الطالبة بالقوق!
بل لقد كان هو الذي ينح الناس الكرامة النسانية ،ويرضهم على التشبث با ،والحافظة عليها ،والكفاح
من أجلها ف وجوه الطغاة والظالي!
ينحها متفضلً ..ككل حق منحه للناس قبل أن يطلبوه ،ورباهم على اعتناقه ف ظل العقيدة ،كجزء من
العقيدة ،وطالبهم بإقامته -ف ظل العقيدة -كفرض من الفروض!
ول عجب ف ذلك .فالسلم كلمة ال .وال هو الانح ،والتفضل على البشر بكل نعمة من نعم الياة!
وقد قضى ال أن يكون الق والعدل قوام الياة...
حقّ) []87 سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِاْل َ الق الذي هو صنعة ال .والذي خلق ال به السماوات والرضَ ( :خلَقَ ال ّ
(رَبّنَا مَا َخَلقْتَ َهذَا بَاطِلً سُْبحَاَنكَ) [َ( ]88أَفحَسِبُْتمْ أَّنمَا َخلَقْنَا ُكمْ عَبَثا َوأَنّ ُكمْ إِلَْينَا ل تُرْ َجعُونَ فََتعَالَى
اللّهُ اْل َملِكُ اْلحَقّ ل إِلَهَ إِلّا هُوَ َربّ اْلعَرْشِ الْكَرِيِ) [ .]89الق الذي هو صفة كل شيء صدر عن إرادة
ال ،والذي ينبغي للبشر خلفائه ف الرض -أن يكموا به كذلك( :إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِاْل َع ْدلِ) [َ ( ]90وإِذَا
حَ َكمُْتمْ بَْينَ النّاسِ أَنْ َتحْ ُكمُوا بِاْل َع ْدلِ) [( .]91وَل َيجْ ِرمَنّ ُكمْ شَنَآنُ قَ ْومٍ َعلَى أَلّا َت ْعدِلُوا ا ْعدِلُوا هُوَ َأقْرَبُ
لِلتّقْوَى) [( ]92فَا ْعدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [.]93
وقد اقتضى الق والعدل أن يتساوى الناس كلهم أمام القانون ،لن الناس كلهم متساوون ف صدورهم عن
إرادة ال ،وصدورهم عن نفس واحدة خلقها ال ،ومتساوون أخيا ف مصيهم إل ال( :يَا أَيّهَا النّاسُ
اّتقُوا َربّ ُكمُ اّلذِي َخلَقَ ُكمْ ِمنْ َن ْفسٍ وَا ِح َدةٍ َو َخلَقَ مِنْهَا زَ ْوجَهَا وََبثّ مِْن ُهمَا ِرجَالً كَثِيا وَِنسَاءً) [( ]94يَا
أَيّهَا النّاسُ إِنّا َخلَقْنَا ُكمْ ِمنْ َذكَرٍ َوأُْنثَى َو َجعَلْنَا ُكمْ ُشعُوبا َوقَبَاِئلَ لَِتعَا َرفُوا إِنّ َأكْرَمَ ُكمْ عِْندَ اللّهِ أَْتقَا ُكمْ) [
َ ( ]95وإِنْ ُكلّ َلمّا َجمِيعٌ َلدَيْنَا ُمحْضَرُونَ) [ " ]96أنتم بنو آدم .وآدم من تراب " [.]97
من هذه الساواة الطلقة ف النشإ والصي قامت الساواة كاملة ف السلم أمام الشريعة .ل فرق بي سيد
وعبد ،ول بي شريف وحقي.
يقول الرسول الكري " :إنا أهلك الذين من قبلكم أنم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ،وإذا سرق
فيهم الضعيف أقاموا عليه الد .وأي ال لو أن فاطمة بنت ممد سرقت لقطعت يدها ]98[ .فيضع بذلك
حدا للمظال الت كانت قائمة ف الرض -والت ظلت قائمة ف غي السلم -بعد ذلك بألف عام! ويضع
حدا للخرافة البغيضة الت تفرق بي الناس ف اللقة ،وتفرق بينهم بعد ذلك ف القوق .ول يكن ذلك
القول خطبة حاسية جيلة لسترضاء الشعوب ،ول مبدأ مثاليا جيلً معلقا ف الفضاء .وإنا كان حقيقة
واقعة شهدها التطبيق العملي ف حياة السلمي .فقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم يقيد من نفسه ،أي
يدعو الناس للقصاص منه إذا كان أحدهم يظن أنه قد ظلمه أو اعتدى عليه!! وكان عمر يلد ابن عمر لنه
شرب المر ،وهو ابنه وهو شريف من قريش!
أما العبيد الرقاء بالفعل ،فقد عمل السلم على تريرهم ،وسلك إل ذلك مسالك شت .وإن كانت قد
بقيت منه بقية ف نطاق ضيق فذلك لن المر كان يرتبط ارتباطا أساسيا بأسرى الرب ،والعاملة فيهم
بالثل ،وكان الرق هو مصي أسرى الرب ف معظم الحوال [.]99
ولكن الهم -ونن بصدد التطبيق القانون -أن السلم -وهو يعترف بالرق كضرورة مؤقتة يعمل دائما
على اللص منها -ل يبح " للسادة " أن ييزوا أنفسهم على عبيدهم ،ول يبح لم التصرف " الر " ف
هؤلء العبيد:
" من قتل عبده قتلناه ،ومن جدع عبده جدعناه ،ومن أخصى عبده أخصيناه " [.]100
ول يكن ذلك أيضا كلمة تقال ف الواء ،ول مبدا مثاليا معلقا ف الفضاء .وإنا كان حقيقة واقعة شهدها
التطبيق العملي ف حياة السلمي .فقد أمر الرسول صلى ال عليه وسلم بالقصاص من رجل جبّ عبده.
وقصة عمر مع الشريف الذي لطم عبدا لنه داس عفوا على ذيله أثناء الطواف ف الج معروفة ،فقد أصر
عمر على القصاص ..على أن يلطم العبد ذلك الشريف ..وظل الشريف يرجو ويشفع وعمر يصر ..حت
فر الرجل أخيا وارتد عن السلم!
أما البلد الفتوحة ،فقصة القبطي الذي جاء يشكو ابن عمرو بن العاص لنه ضرب ابنه بغي حق ،فأمر عمر
بأن يضرب القبطي ابنَ عمرو ويقتص منه ..هذه القصة وحدها تمل الدليل!
***
تلك أول مراحل العدالة ف السلم! الساواة بي الناس كلهم أمام الشريعة..
ولكنها درحة واحدة وبعدها درجات..
فالسلم ل يكتفي بأن تكون العاملة للجميع واحدة ..ولكنه يعطي إل جانب ذلك شريعة هي ف ذاتا
عادلة فل يظلم ول ييف .فالشرع ل يعرف قول القائلي :الساواة ف الظلم عدل! وإنا هو العدل،
والساواة ف العدل!
وليس هنا مال التفصيل ف عدالة الشرع السلمي ..فقد عرضنا ذلك التفصيل ف فصل " الرية والعقاب
" ف كتاب " النسان بي الادية والسلم " ولكنا نقول هنا -بغاية ما نستطيع من إياز -إن الشرع
السلمي يبلغ قمة العدالة حي ينظر إل الفرد والجتمع ف آن واحد ،ليتأكد من أن كلً منهما يأخذ حظه
من القوق ،ويؤدي نصيبه من الواجبات .وأن أيا منهما ل يظلم لساب الخر ،أو يفتات على أخيه.
فبينما كانت القواني ف الدول القدية -وما زالت ف الدول الماعية ف الوقت الاضر -تشتط ف عقاب
الجرم ،لنه وهو فرد ضائع ل كيان له ،يعتدي على الكيان القدس ،كيان الماعة ؛ ويُتخذ ذلك ستارا
للتنكيل بكل فرد تدثه نفسه بالروج على السادة ذوي القداسة والسلطان..
وبينما تبالغ الدول الغربية الرأسالية ف إباحة الرية للفرد ،على أساس أنه هو الكائن القدس ول قداسة
للجماعة ول كيان ،وينشأ من ذلك تفيف العقوبة على الجرم وتلمس العذار له ..ند السلم يسك
اليزان من منتصفه ،فل ييل ف جانب الفرد ول جانب الماعة ،لنه ل يراها فردا وجاعة منفصلي ،ول
يعتبها معسكرين متقابلي تقوم بينهما العداوة والبغضاء ،ويرغب كل منهما ف تطيم الخر والقضاء
عليه ..بل ينظر إل الفرد والماعة على أنما كلّ متجاوب موحد الغاية متعاون ف الداء ..فإذا شذ فإنه
يُق ّومُ لكي يرد إل السبيل ؛ وسواء جاء الشذوذ من الفرد بفرده أو جاء من الماعة ..فكلها مطئ
وكلها ينبغي أن يرد إل الصواب!
وهو إذ ينظر مرة بعي الماعة ،فيى حقها ف الطمأنينة على نفسها ،والحافظة على حقوقها ،فيمنع
العدوان عليها ،ويعاقب العتدين ..فإنه ينظر ف ذات الوقت إل الفرد ،فيى دوافعه إل الرية ،سواء كانت
منبعثة من داخل النفس ،من نزوة الغريزة ،ودفعة الشهوات ،أو من الظروف الارجية ،الجتماعية
والقتصادية ،فيقدر هذه الدوافع ،وينظر إليها بعي العتبار ..ويعمل على إزالتها بكل طريقة مكنة قبل أن
يوقع العقوبة :بالتشريع الذي يكفل الضرورات مرة ،والتشريع الذي يصون الرمات مرة ،والتربية الت
تذب النفس وتنظف مساربا ،وتعل روح الب والتعاون والتكافل هي الروح السائدة ف الماعة ..أولً
وأخيا بالعقيدة الت تربط القلب بال ،وتوجهه لشيته والعمل على رضاه ..فإذا عجز ول المر عن إزالة
الدوافع لي سبب من السباب ،أو ساورته ف ذلك شبهة ،فعند ذلك يدرأ الدود بالشبهات!!
أي عدالة يكن أن تبلغ هذه العدالة؟!
" روي أن غلمانا لبن حاطب بن أب بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة ،فأتى بم عمر ،فأقروا ،فأمر كثي
بن الصلت بقطع أيديهم ،فلما ول رده .ث قال :أما وال لول أن أعلم أنكم تستعملونم وتيعونم حت إن
أحدهم لو أكل ما حرم ال عليه لل له ،لقطعت أيديهم .ث وجه القول لبن حاطب بن أب بلتعة فقال:
واين وال إذ ل أفعل ذلك لغرمنك غرامة توجعك! ث قال :يا مزن ،بكم أريدت منك ناقتك؟ قال:
بأربعمائة .قال عمر لبن حاطب :اذهب فأعطه ثانائة "!
فهذه حادثة واضحة الدللة على أن " الجرم " ل يؤخذ بذنبه حت ينظر الاكم أولً ف دوافع الرية،
فيزنا بيزان الق والعدل ،ويبحث عن السئول القيقي فيها ،فيوقع العقوبة عليه .وقد كان السئول ف هذا
الادث هو " السيد " الذي يثل اللك! بينما أعفى " الجرم " من العقاب ،لنه اعتبه واقعا تت ضغط
الضرورة الت تغلب النسان على نفسه وتدفعه إل النراف .وهي كذلك تطبيق عملي لديث الرسول
صلى ال عليه وسلم :ادرءوا الدود بالشبهات.
وإن الدول " الرة " الت تعطف اليوم على الجرم ،وتتلمس له العاذير ،وتف عنه العقوبة أو ترفعها عنه -
بعد أن كانت تشتد عليه وتقسو -هذه الدول تصنع ذلك بروح أخرى غي روح السلم! فعلم النفس
التحليلي ،وغيه من الدراسات النفسية والجتماعية ،يبر الرية اليوم على أساس سلبية النسان إزاء
الدوافع الداخلية أو الارجية ،وانعدام " الرادة " الت تقوم عليها " السئولية " .ولكن السلم ل يهبط إل
هذا الستوى ف نظرته إل النسان .إنه ل يلغي كيانه الياب الفاعل الريد .ول يسقط عنه مسئوليته
كإنسان .وإنا هو -مع ذلك -يعطف عليه ف لظة الضعف ،ويدرأ عنه الدود بالشبهات ..فهو ف
الواقع عطف مضاعف -بالنسبة للمستوى الرفيع الذي يطالب به النسان -وهو عطف أكرم ول شك
من ذلك الذي تارسه الدول " الرة " على كائن ل إرادة له ف نظرها ول كيان!
أما الدول الماعية الت تكفل للناس حاجاتم ،وتعل الدولة مسئولة عنها ،وتغن الناس -فيما تقول -عن
الرية ،فإنا تأخذ ثن ذلك دكتاتورية بشعة ،وتكما ف كل صغية وكبية ،واستعبادا للدولة .بينما كان
عمر -الذي طبق هذا البدأ ،مبدأ مسئولية الماعة ومسئولية الدولة عن حاجة الفراد [ - ]101هو الذي
يقول " :إن أحسنت فأعينون ،وإن وجدت ف اعوجاجا لقومناه بد السيف! " فل يغضب ،بل يقول ف
هدوء وطمأنينة:
" المد ل الذي جعل ف رعية عمر من يقومه بد سيفه! ".
***
الشريعة عادلة ف ذاتا ،ومطبقة بالساواة على الميع.
ولكن هذا وذاك ل يستنفدان كل معان العدالة ف شريعة السلم.
ما زالت هناك " الضمانات " الختلفة للفرد الذي يوجه له التام :ضمانة الصدق ف التام ذاته .وضمانة
حسن التحري .وضمانة التحقيق وضمانة التنفيذ.
(يَا أَيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا إِنْ جَا َء ُكمْ فَا ِسقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيّنُوا أَنْ ُتصِيبُوا قَوْما ِبجَهَالَةٍ فَُتصِْبحُوا َعلَى مَا َف َعلُْتمْ نَا ِد ِميَ) [
.]102
فهذه الضمانة الول ..ل يؤخذ أحد بالظنة .ول بد أن يوزن التام ذاته ليى مبلغه من الصدق ومبلغه من
الد ،فللناس حرماتم الصونة وكراماتم الت ل يوز أن تس ..إل بالق.
جسّسُوا) []103 (وَل َت َ
فهذه هي الضمانة الثانية ..ل تكون الاسوسية من وسائل الثبات!
وقد روي أن عمر مر ببيت رابته منه أصوات ..فتسور الدار فوجد قوما يشربون ويغنون فأراد أن
جسّسُوا) وأنت يعاقبهم ..فقام له صاحب االدار فقال عمر :وما ذاك؟ قال :إن ال تعال يقول( :وَل َت َ
تسست علينا .ويقولَ ( :وأْتُوا اْلبُيُوتَ ِمنْ أَبْوَاِبهَا) وأنت تسورت علينا! فلم يد عمر أمامه إل أن يستتيبه!
ث ضمانات التحقيق ..وهنا يرتفع السلم إل القمة الت ل تبلغها النسانية ف غي السلم إل منذ فترة
قريبة ،وبدافع الصراع الدموي الطويل الذي فصلناه من قبل ،ل بدافع النسانية الطليقة الت تكرم " النسان
" حت ف لظة البوط!
إن الحقق ليست مهمته اليقاع بالجرم وتضييق الناق عليه ف التحقيق! ول يوز له أن يستخدم وسيلة
من وسائل الرهاب تنتهي بالعتراف.
جاء ف سنن أب داود (ج 4ص " :)191حدثنا عبد الوهاب بن بدة ..أن قوما من الكلعيي سرق لم
متاع .فاتموا أناسا من الاكة ،فأتوا النعمان بن بشي صاحب النب صلى ال عليه وسلم فحبسهم أياما ث
خلى سبيلهم .فأتوا النعمان فقالوا :خليت سبيلهم بغي ضرب ول امتحان؟ فقال النعمان :ما شئتم! إن
شئتم أن أضربم ..فإن خرج متاعكم فذاك ،وإل أخذت من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهورهم! فقالوا:
هذا حكمك؟ فقال :هذا حكم ال وحكم رسوله صلى ال عليه وسلم " [.]104
أما الذي يعترف بنفسه ..فالقمة الت وصل إليها السلم بشأنه عجب عاجب ف التاريخ!
" حدثنا موسى بن إساعيل ..أن النب صلى ال عليه وسلم أُتِيَ بلص قد اعترف اعترافا ول يوجد معه
متاع ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما إخالك سرقت؟! " قال :بلى! فأعاد عليه مرتي أو ثلثا،
ث أمر فأقيم عليه الد " [.]105
أما قصة ماعز بن مالك الذي اعترف على نفسه بالزنا فهي قصة مشهورة .فقد ظل ييء إل الرسول مرة
بعد مرة يعترف لديه والرسول صلى ال عليه وسلم يرده ،حت اعترف أربع مرات ،فعاد الرسول يسأله
ويستوضحه وينفي له التهمة أو يفتح له طريق اللص! فيقول له " :لعلك قبّلت ،أو غمزت ،أو نظرت ".
وماعز يصر ويقول ل! فقال له " :أزنيت؟ " قال :نعم! قال " :فهل تدري ما الزنا؟ " [ .]106فما أقام
عليه الد حت اطمأن اطمئنانا كاملً أنه يصر على العتراف ول يريد أن يدرأ عن نفسه العذاب!
فإذا كان هذا هو جو التحقيق فل مال بطبيعة الال لشيء من الوسائل البشعة الت تتخذ ف غي السلم.
أما التنفيذ بعد كل هذه الضمانات ..التنفيذ ف مرم تثبت عليه التهمة من غي إكراه ،ووقعت عليه عقوبة
ف ذاتا عادلة ،ووقعت لنه ل شبهة ف الرية تدفع عنه الد ..التنفيذ بعد ذلك كله يمل ضماناته!
حدثنا أبو كامل ..عن أب هريرة عن النب صلى ال عليه وسلم قال " :إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه " [
.]107
وقال صلى ال عليه وسلم " :ل تعذبوا بعذاب ال " [( ]108أي النار).
وقال صلى ال عليه وسلم " :فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة " [.]109
ولكن هذا ليس كل ما هناك...
لقد بلغنا العدالة ول نبلغ بعد قمة السلم!
إن الجرم إذا وقعت عليه العقوبة بعد هذا الحتياط كله ..الجرم الذي ل شبهة ف جريته ..الجرم الذي ل
عذر له ف ارتكابا ..وإنا هي نزوة من نزوات النفس الشريرة ،ودفعة من دفعات البوط..
ذلك الجرم ل يرج بعد من دائرة النسانية ،بل ل يرج من دائرة الماعة السلمية! إنه ل ينبذ ول
يضطهد ..ول يعيّر بريته ..ول يذّكر با ..ول يول شيء قط بينه وبي أن يعود إل الماعة -ف لظته
-تائبا منيبا إل ال ،فيقبل فيها وتفتح له القلوب.
" حدثنا قتيبة بن سعيد ..عن أب هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أتى برجل قد شرب ،فقال" :
اضربوه " .قال أبو هريرة ،فمنا الضارب بيده ،والضارب بنعله ،والضارب بثوبه .فلما انصرف قال بعض
القوم :أخزاك ال! فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل تقولوا هكذا .ل تعينوا عليه الشيطان " [
.]110
وف حادث السارق الذي مر ذكره ،والذي أمر الرسول بإقامة الد عليه ،قال له الرسول " :استغفر ال
وتب إليه " فقال :استغفر ال وأتوب إليه ،فقال " :اللهم تب عليه اللهم تب عليه " ثلث مرات[.]111
نعم إن السلم ل يب أن يفقد نفسا واحدة يكن أن تتوب إل ال وتتدي إليه .إنه ل يصر على لظة
الضعف الت تصيب فردا من البشر ،ول يُعنِتُهُ من أجلها .وإنا يفتح له بابه لكي يعود ..يعود إل ال ويعود
إل الماعة ،فينطلق فيما هي منطلقة من الي ،ويأخذ لنفسه من ذلك الي بنصيب .ول تقف الرية
العابرة حاجزا ف حياته ،ول تسمم أحاسيسه وأفكاره ،ول توصد أمامه البواب فيصبح مرما مصرا على
الجرام بعد أن كان مرما بغي قصد .وذلك معن قول الرسول الكري " :ل تعينوا عليه الشيطان ".
ومع ذلك فإن تكري الرسول الكري للبشرية " ..للنسان " الذي خلقه ال ف أحسن تقوي ..حت وهو
يرتد ف لظة لسفل سافلي ..تكريه له ما دام ل يصر على الث ول يرد عليه ،ول يقف عند الحياء
الذين يرجوهم للجماعة ،ويستبقيهم لي يكن أن يصنعوه ف الرض ،أو ليتقي شراّ يكن أن يصدر عنهم
-أي لهداف " عملية " واقعية! -وإنا يتجاوز ذلك إل آفاق أخرى ،رفافة شفيفة ،نسيجها الرحة
الالصة ،والتكري الالص ..لوجه ال!
جاء ف قصة ماعز بن مالك .." :فأمر به فرجم ،فسمع النب صلى ال عليه وسلم رجلي من أصحابه يقول
أحدها لصاحبه :انظر إل هذا الذي ستر ال عليه فلم تدعه نفسه حت رجم رجم الكلب .فسكت عنهما،
ث سار ساعة حت مر بيفة حار شائل برجليه ،فقال " :أين فلن وفلن؟ " فقال :نن ذان يا رسول ال.
قال " :انزل فكل من جيفة هذا المار " .فقال :يا نب ال ،من يأكل من هذا؟ قال " :فما نلتما من عرض
أخيكما آنفا أشد من أكلٍ منه .والذي نفسي بيده إنه الن لفي أنار النة ينغمس فيها ".
يا ال ..ويا نب ال.
أل إنا آفاق ما بعدها آفاق ..أل إنه النور الذي يشع من هذا القلب الكون الذي يتصل بال ،ث يفيض
بالرحة والدى على عباد ال..
وذلك كله قبل أن يقول قولته علم الجتماع وعلم القتصاد ،وعلم النفس التحليلي وعلم الرية ،قبل أن
يتفلسف التفلسفون ف هذا اليدان بأكثر من ألف عام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ]85رواه عبد ال بن عباس (ورد ف كتاب الكامل لبن عدي وف مسند أب حنيفة للحارثي).
[ ]86ذكره صاحب مصابيح السنة ف الصحاح.
[ ]87سورة الزمر [ .] 5
[ ]88سورة آل عمران [ .] 191
[ ]89سورة الؤمنون [ .] 116 - 115
[ ]90سورة النحل [ .] 90
[ ]91سورة النساء [ .] 58
[ ]92سورة الائدة [ .] 8
[ ]93سورة النعام [ .] 152
[ ]94سورة النساء [ .] 1
[ ]95سورة الجرات [ .] 13
[ ]96سورة يس [ .] 32
[ ]97مسلم وأبو داود.
[ ]98رواه الستة.
[ ]99انظر بالتفصيل فصل " السلم والرق " ف كتاب " شبهات حول السلم ".
[ ]100الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
[ ]101مبدأ كفالة الدولة للفراد ومسئوليتها عن جيع أمورهم مبدأ صريح ف السلم ،وقد كان عمر يقول :لو أن بغلة عثرت بصنعاء لكنت مسئولً عنها
لِمَ لَم أسوّ لا الطريق! ويقول ابن حزم ف صراحة إن (الماعة) مسئولة عن كل فرد فيها ،وإن للنسان أن يقاتل من ف يده طعامه أو شرابه (إذا منعه عنه) فإن
قتل لهله الدية ،وإن قتل تدفع ل يقام عليه الد!
سفينة الجتمع
" مثل القائم ف حدود ال والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ،فصار بعضهم أعلها وبعضهم
أسفلها ،فكان الذين ف أسفلها إذا استقوا من الاء مروا على من فوقهم ،فقالوا :لو أنّا خرقنا ف نصيبنا
خرقا ،ول نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جيعا ،وإن أخذوا على أيديهم نوا ،ونوا جيعا
" [.]112
***
صورة عجيبة تلك الت تتمثل ف النفس من قراءة هذا الديث ..صورة حية شاخصة موحية معبة.
وإن هناك لمالً بديعا ف هذا التشبيه بالسفينة .فالياة كلها هذه السفينة الاخرة ف العباب ،ل تكاد
تسكن لظة حت تضطرب من جديد .ولن يكتب لا السلمة والستواء فوق الوج الضطرب حت يكون
كل شخص فيها على حذر ما يفعل ،ويقظة لا يريد.
والجتمع كله هذه السفينة ..يركب على ظهرها الب والفاجر ،والتيقظ والغفلن ،وهي تملهم جيعا
لوجهتهم ..ولكنها -وهي مكومة بالوج الضطرب والرياح من جانب ،وما يريده لا الربان من جانب -
لتتأثر بكل حركة تقع فيها ،فتهتز مرة ذات اليمي وتتز مرة ذات الشمال ،وقد تستقيم على الفق أحيانا
أو ترسب أحيانا إل العماق!..
وإن كثيا من الناس لينسى -ف غمرته -هذه القيقة .ينسى سفينة الجتمع أو سفينة الياة.
ينسى .فيخيل إليه أنه ثابت على الب ،راكز راسخ ل يضطرب ول يزول.
ومن أجل ذلك يفجر أو يطغى..
ولو تذكر من استكب وطغى أنه ليس راكزا على الب ؛ ليس دائما ف مكانه ،ول خالدا ف سطوته ،وإنا
هي رحلة قصية على سفينة الياة ..لو تذكر ذلك ما استكب ول طغى ،ول اغتر بقوته الزائلة عن القيقة
الالدة ،ولعاد لصدر القوة القيقية ف هذا الكون ،يستلهم منه الدى ،ويطلب منه الرشاد ،ويسي على
النهج الذي أمر به وارتضاه للناس.
ولو تذكر من يفجر وينحرف أنه ليس راكزا على الب ،وإنا هو منطلق على العباب ..وأن كل حركة
يأتيها تتأثر با السفينة فتهتز ..لو تذكر ذلك لا ترك نفسه لشهواته ولنرافاته ،ولعمل حسابا لكل خطوة
يطوها وكل حركة يتحركها حرصا على ناته هو وناة الخرين..
ولكنها الغفلة السادرة الت تيم على البشرية ..إل من آمن واتقى وعرف ربه واهتدى إليه.
والرسول الكري صلى ال عليه وسلم يدرك هذه الغفلة الت ترين على قلوب الناس ،فيحذرهم منها،
ويصورها لم ف صور شت ،من أعجبها أبلغها هذه الصورة الت يرسها هذا الديث ،صورة السفينة الاخرة
ف العباب..
***
حي قال القطاعيون لنفسهم :نلك الرض وكل من عليها عبيد..
وحي قال الرأساليون لنفسهم :نلك الصانع والعمال فيها عبيد..
وحي قال الباطرة القدسون :نلك اللك والرعايا عبيد..
وحي قال غيهم وغيهم من الظالي مثل قولتهم ،ل تكن غي نتيجة واحدة ف كل مرة ،غرقت السفينة
الخروقة ،وغرق من عليها من سادة ومن عبيد!
وانظر ف ثورات الرض الزلزلة الت أطارت الرءوس وأجرت الدماء ،وانظر إل الروب الدمرة الت تأكل
الخضر واليابس وتسمم الياة ،ل تكن غي ناية طبيعية للخرق الخروق ف السفينة ،تتدفق عن طريقه
الياه..
***
ج عليّ فيما أصنع؟ أفعل ما بدا ل ،وليس ويقوم شاب مفتون ينجرف ف تيار الشهوات ،يقول :من ي ّر ُ
لحد عليّ سلطان.
ويتركه الناس!
يتركونه يفسق ويفجر ،وينشر الفاحشة ف الجتمع.
يتركونه خوفا وطمعا إن كان من زمرة السادة الثرياء .أو يتركونه استصغارا لشأنه واستهتارا بعواقب
المور.
وقد يقول ف نفسه يبر فجوره :وهل يكن أن أؤثر ف الجتمع وأنا شخص واحد مفرد الكيان؟ هل أنا إل
قطرة ف الضم؟ فلتكن قطرة سم! فكيف تفسد الضم؟! هل قبلة ف الواء ،أو ضمة متلسة ف الظلم ،أو
ساعة متعة ف خلوة ،هل هذه يكن أن تؤثر ف الجتمع وتدم الخلق؟!
وإنه لينسى ..والساكتون عليه ينسون..
إنه يتصور نفسه شخصا واحدا ف الجتمع -قطرة واحدة ف الضم -وينسى والناس ينسون أن كل
واحد يقول ذلك وهو يلقى القطرة السامة ف الضم ..ول بد أن تتجمع ف النهاية السموم.
بل قد يتبجح الفت زيادة فيحدث نفسه أو يدث الناس :وهل أنا وحدي الذي سأصلح الجتمع الفاسد؟
لقد فسد وانتهى المر .فهب أنن امتنعت وحدي عن الرية واحتملت وحدي اضطراب النفس واحتراق
العصاب ..فأي جدوى من ذلك وأي نتيجة؟ أحترق ف النهاية وحدي ويستمتع الخرون!..
وقد يكون ذلك حقا!
ولكنه ل يكن كذلك حي فجر أول فاجر وتركه الناس! حي خرق أول مفتون مكانه ف السفينة فلم
يأخذوا على يديه .حي ظن أول خارج على الجتمع والخلق والتقاليد أنه لن يضر الناس شيئا ،وأنه
يرق مكانه وهو حر فيه..
وحي يصبح حقا ما يقوله الفت ..حي يكون الجتمع فاسدا إل الدى الذي ل يصلحه امتناع فرد ،ول
تؤثر فيه نظافة ضمي ..حي ذلك تصدق سنة ال وتصدق كلمة الرسول صلى ال عليه وسلم ..ينهار
الجتمع كله ،وتغرق السفينة الطافحة بالياه.
***
وتقوم فتاة مستهترة ،تتقصع ف مشيتها ،وتتكسر ف حديثها ،وتعري ما يلو لا من جسدها ،وتتعرض
للشباب تثي فتنة النس ونوازع اليوان ..تقول :من يرج عليّ فيما أصنع؟ أفعل ما بدا ل ،وليس لحد
عليّ سلطان.
ويتركها الناس!
وقد تقول لنفسها أو تقول للناس تبر جريتها :وأي شيء أصنع؟ هل أقتل نفسي كبتا وأترهب؟ أريد أن
أنطلق .أريد أن أستمتع بالياة .هذا حقي! كيف أناله؟ كيف أناله نظيفا إذا أردت؟ أما ترون كل شيء
حول فسد واشتد به الفساد؟ فإن تطهرت فكيف أعيش؟ كيف أحصل على نصيب الشروع من متعة
القلب ومتعة السد ومتعة الياة؟ وهل أنا الت أفسدت هؤلء الشبان أم إنم هم الفاسدون؟ إنم حيوانات.
إنم ذئاب! إنم هم يسعون إل الصيد ويوقعون بكل غرة ل تعرف وسائل الذئاب .فلست بدعا ف
الجتمع .ولن أصده أنا عن التيار!
وقد يكون ف كلمها شيء من القيقة.
ولكنه ل يكن حقيقة يوم فجرت أول فتاة فتركها الناس .حي خرجت أول فتاة مستهترة عابثة تطم
التقاليد وتزأ بالخلق ..يوم خرقت مكانا ف السفينة وقالت هو مكان ولن يضر غيي من الناس.
وحي يصبح ما تقول الفتاة حقا ..حي يفسد الجتمع إل الدى الذي تس الفتاة النظيفة أنا ل تد
نصيبها الشروع من متعة الياة ..حينئذ تتحقق سنة ال ،ويؤذن الجتمع كله بالنيار.
***
ويقوم كاتب يزين الفاحشة ويسنها للناس ،يقول :أنا حر فيما أكتب .أين حرية الرأي؟ أكتب ما بدا ل.
وليس لحد عليّ سلطان.
ويتركه الناس.
يتركونه يعيث ف الرض فسادا ،وينشر السموم ف النفوس .يستهترون بأمره ،أو يشغلون عنه ف زحة
الياة .ويهزون أكتافهم يقولون :هل نن به مكلفون؟
ويستفيد ذلك الكاتب ..يستفيد شهرة وثراء ،ونفوذا ف بعض الوساط .ول عجب ف ذلك فتجار
الخدرات وتار العراض يصلون إل الشهرة وإل الثراء.
ويغري النجاح غيه من الكتاب فينغمسون ف تيار الرية ،ويقولون إنم تقدميون .يقومون برسالة مقدسة،
رسالة القضاء على التقاليد " البالية " والتحضي لجتمع جديد.
وقد يتبجح كاتب أو صاحب صحيفة يبر الرية لنفسه ،أو يبرها للناس ..يقول :ماذا أصنع؟ لقد تسمم
الو كله وصار القراء ل يقبلون على الدب " البيض " والكلم النظيف .لقد تعودوا على الصحف العارية
والقصص العارية ،والفكار العارية .ول يعد يؤثر فيهم غي هذا اللون من النتاج .هب أنن أصدرت
صحيفة نظيفة فكيف تعيش؟ من يقرؤها؟ كيف تغطى نفقاتا؟ أل يكون ذلك انتحارا؟ أو غفلة؟ أو جنونا
ل يقدم عليه عاقل؟ وماذا يصنع كاتب واحد أو صحيفة واحدة ف التيار السموم؟ هل يصنع إل أن يفشل
ويثي بفشله شاتة الشامتي؟!
وقد يكون هذا حقا!
ولكنه ل يكن كذلك حي خرج أول كاتب يدعو إل الفاحشة وتركه الناس .يوم هزوا أكتافهم وقالوا:
هل نن به مكلفون؟
وحي تصل المور إل هذا الد ..يوم يصبح الكاتب النظيف ل يد المهور الذي يقرؤه أو الصحيفة الت
تنشر له ..يوم ل تستطيع الصحيفة النظيفة أن تعيش ..يومئذ تكون السفينة قد أثقلت با فيها من الاء،
واضطربت ما فيها من الروق ..وتتحقق سنة ال ف الرض ،ويؤذن الجتمع كله بالنيار.
ويقوم والد ضعيف الشخصية تكمه امرأته ،أو يكمه الترف والسترخاء ..يترك أولده يعيثون بل رقابة،
يقول :هم أولدي وأنا حر فيهم! أفعل ما بدا ل ،وليس لحد عليّ سلطان.
ويتركه الناس ..يتركونه تلقا ،أو يتركونه استخفافا ،يقولون :هو ف النهاية الاسر ،وما لنا عليه من سبيل.
ويستمتع الولد ..يستمتعون بالتحلل من الضوابط والنفلت من القيود.
ويستمتعون بلذة البوط!
وهي ل شك متعة للمزاج النحرف والكيان القلوب! فمن الثابت أن الكيان الناقص -حي ل يكمّل
بالطريق الصال ،ول يوجه التوجيه السليم -ينح إل التكملة من طريق هابط ،ويس " بالنضوج " "
والتميز " " والتعة " من هذا الطريق!
وهذه التعة تغري غيهم من الولد فينجرفون ف الطريق ..يدون اللذة النشودة ،والنضوج النحرف،
والتميز بي القران ..ويروحون يتمردون على أهليهم وينفلتون من القيود.
ويقول الولد لبيه :أنت رجعي .أنت متأخر .أنت تتجاوز حدودك .من تظنن أمامك .لست طفلً .أنا
رجل مثلك .أنا أتمل مسئولية نفسي .تريد أن تستعبدن با تنفق عليّ؟ كل! إنك ملزم بالنفاق .ولكنك
ل تلك التدخل ف شئون .أنا أدرى با يضر وما ينفع .أنا أعيش بعقلية جديدة متحررة متطورة .أنا أفهم
ما يدور ف الجتمع وأتطلع إل الستقبل ..إل المام ..فليس لك عليّ سلطان!
وتقول الفتاة لبيها وأمها :أين تعيشون! إنكم تعيشون بعقلية اليل الغابر ..التأخر ..الرجعي ..أما أنا
فأعيش بعقلية متحررة .ماذا تريدون من؟ هل تظنون أنكم أنتم الرقباء عليّ إن أردت أن أفسد؟ وأن
وصايتكم عليّ تمين من السقوط؟ أنا القيّم على نفسي .وأنا الرقيبة على أخلقي! وليست الخلق هي
اللبس أو هي العزلة عن الجتمع! ما الذي سيحدث حي أكشف ذراعيّ أو ساقيّ؟ أو أكشف جزءا من
صدري؟ هل ستنقص من قطعة؟ وماذا سيصنع ل الشبان حي ينظرون إلّ أو يكلمونن ف الطريق؟ هل
ستخرب الرض؟ إنكم تتصورون المور بعقلية جامدة ل تفهم " التطور " ول تفهم الياة! وعلى أي حال
فذلك شأن وحدي .وليس لحد عليّ سلطان!
ويشكو الباء! يشكون أن أبناءهم تردوا عليهم ،ول يعد ف مقدورهم أن يردوهم إل السبيل! ويقولون إن
الجتمع فاسد يفسد عليهم الولد!
وقد يكون ذلك حقا!
ولكنه ل يكن كذلك يوم فسد أول جيل من البناء فتركوهم يفسدون!
وحي يدث ذلك ..حي ينفلت الولد بل ضابط ،ل يكمهم أهلوهم ،ول يكمهم مدرسوهم ف
الدرسة ،لن الوالد قد أفسد على الدرس مهمة التوجيه ..حينذاك تتحقق السنة الاضية ،وتغرق السفينة
وكلها خروق!
***
ويقوم طالب يغش ف المتحان ،يقول :أصنع ما بدا ل .وليس لحد عليّ سلطان.
ويتركه الناس.
يتركونه " إشفاقا على مستقبله "! أو يتركونه استخفافا بالرية.
وينجح الطالب ،ويستمتع بذا النجاح اليسر البسيط التكاليف..
ويغري النجاح غيه ..فيوحون يعبثون العام كله ،يتسكعون ف الطرقات ،ويرون كالكلب الشاردة وراء
الفتيات ..ث يسهرون السبوع الخي يضّرون " البشام " من أجل المتحان.
ويس الخرون من الشرفاء أنم مظلومون! هم يسهرون العام كله ف العمل ،ث ل يبلغون -بالد والمانة
-ما يبلغه الغشاش بغشه ،وقد ينجح وهم يرسبون! وقد يصل إل " الوظيفة " وهم قاعدون!
ل جرم ينصرف أغلبهم عن النشاط العلمي الصادق ،وينقلبون إل مادعي غشاشي!
ول جرم تد بعد ذلك الوظف الذي يذهب ف الوعد وينصرف ف الوعد -إن شدد عليه ف الضور
والنصراف -ول يعمل عمل طيلة وقت " الديوان "!
ول جرم تد الهندس الذي ل يوافق على " مواصفات " البناء أو " الواصفات الصحية " وأنت تؤديها على
وجهها الكمل ،ث يوافق على أقل منها كثيا إن دسست ف يده " العلوم "!
ول جرم تد الطبيب الذي ل يعطيك العلج الكامل الذي يشفيك من أول مرة ،ويروح يطيل العلج
ويطلبك تر عليه مرة بعد مرة ليزداد منك كسبا ،وتكسب معه معامل الدوية الت " يتعامل " معها أو
يكسب الوردون!
كلهم غشاشون!
كلهم ذلك الطالب الول الذي تركه الناس غافلي.
وحي يصبح الغش هو " العملة " السارية ف الجتمع ،فل جرم يذهب الجتمع أسفل سافلي!
ويقوم موظف يرتشي ..يقول :من يرّج عليّ فيما أصنع؟ أفعل ما بدا ل ،وليس لحد عليّ سلطان.
ويتركه الناس!
يتركونه بدافع الاجة إل ما ف يده من الصال ،أو بدافع الوف إن كان من ذوي النفوذ.
ويستفيد ذلك الرتشي ..يستفيد ثروة سهلة الأخذ مضمونة الورود.
ويغري الثراء غيه من الوظفي ،فيندفعون ف تيار الشهوة ينهلون من هذا النهل الدنس ،ويلغون ف دماء
الحتاجي.
وتأخذ الوجة مداها ..حت تصبح المور كلها بالرشوة ،ومن غيها توصد البواب ف وجه أصحاب
القوق.
وقد يتبجح موظف يبر الرية لنفسه أو يبرها للناس ،يقول :هل أنا وحدي الذي أرتشي؟ هل أنا وحدي
الذي أشيع الفساد ..فهل تنتظم مصال الناس كلها ،وتفتح لم البواب؟ كل ما يدث أنن أحرم نفسي من
العي التاح ،وأظل فقيا وأنا رب أسرة وصاحب عيال.
وقد يكون هذا حقا..
ولكنه ل يكن كذلك حي بدأت الرشوة أول مرة وسكت عنها الناس ،أو شجعوها وأغروا با الرتشي.
وحي تصل المور إل هذا الد ..حي تصبح الرشوة هي الصل والنظافة هي الشذوذ ..حينذاك تقع الزة
الت تزلزل الجتمع كله من القواعد ،فل يلبث أن يتهاوى إل القرار..
***
صدق رسول ال .وصدقت حكمته:
ما أسكر كثيه فقليله حرام..
مروا بالعروف وأنوا عن النكر قبل أن تدعو فل أجيب..
إن حديث السفينة يمع ما ف الديثي السابقي ،ولكنه يضيف إليهما معان أخرى جديرة بالتدبر
والتفكي..
وإن أول ما يستلفت النظر ف الديث أن الرسول الكري ل يقسّم ركاب السفينة بسب أماكنهم الظاهرية
ف الجتمع ،علوا وسفل ،وثراء وفقرا ،وبروزا وتواضعا ..ل يعل " السادة " هم العلون و " الشعب "
هو السفل .كل .فما كانت هذه القيم هي الت تقسم الناس عند رسول ينطق بكمة ال ويبلغ رسالة ال.
إن العلى ف تقدير ال ورسوله " هو القائم ف حدود ال " .هو النفذ لشريعة ال .هو الهتدي بدي ال.
أياّ كان مكانه الظاهري ف الجتمع .فالقوة القيقية ل تستمد من عرض الرض ،ول من القيم الرضية
النقطعة عن ال .إنا تستمد من ال .من اليان به والعتزاز بذا اليان( .وَل َتهِنُوا وَل َتحْزَنُوا َوأَنُْتمُ
الَْأعْلَوْنَ إِنْ كُْنُتمْ مُ ْؤمِِنيَ) فاليان هو القوة القة ،وهو مصدر " العلو " ومصدر التوجيه .وكل قيمة سواه
زائفة ل تلبث أن تضيع.
أما " الواقع فيها " فهم العصاة النحرفون ف كل جانب من جوانب العصيان والنراف ،بصرف النظر عن
مركزهم " الظاهري " ف الجتمع .فهذا الركز ل يساوي شيئا ،ول يقي من ال شيئا حي يؤدي إل اليل
عن الطريق .بل إنه ل يساوي شيئا ف واقع الرض ،ول يقي من النتيجة الحتومة حي يأذن ال بتحقيق
السنة ف أوانا العلوم! فحي تغرق السفينة من شدة الفساد ل يقول السادة للشعب :اغرقوا أنتم وحدكم
ونن ناجون من اللك!
وحي يطلب الرسول من القائمي ف حدود ال أن يأخذوا على يد الواقعي فيها ل يدد مهمتهم براكزهم
الظاهرية ف الجتمع ،وإنا بأماكنهم القة ف سفينة الجتمع وسفينة الياة ،فما داموا مؤمني فهم القوة
القة .القوة الوجهة .القوة الخذة على أيدي العابثي .وهذه مهمتهم ،عليهم أن يعرفوها بصرف النظر عن
ثرائهم أو فققرهم ،ورئاستهم أو مرءوسيتهم ..فما بذا توزن المور..
***
والمر الثان هو وحدة الصلحة ف الجتمع ،وإن بدت الصال ظاهرة اللف!
إن كل المثلة الت أوردناها حول مور واحد ،مستمد من معن حديث الرسول صلى ال عليه وسلم.
فهؤلء قوم لم " مصال قريبة " يستنفعون منها على حساب الخرين .ولو تركهم الجتمع حقبة من الزمن
فسوف يستفيدون حتما من هذا السكون .يستفيدون توفي الهد ،وتوفي مغالبة الشهوات .ويأتيهم رزقهم
قريبا سهل ميسرا ل يتعبون فيه.
ولكن حقبة من الزمن تضي -طويلة أو قصية -ث يأخذ الفساد ف النتشار وتبدأ السفينة ف ناية
الطاف ..تغرق وتأخذ معها الظالي والظلومي على السواء! ومن ث فالصال النهائية واحدة .والخطار
النهائية واحدة ..ليست هناك مصلحة لفرد هي مصلحته وحده وشأنه بفرده .كل مصلحة هي مصلحتهم
جيعا وكل ضرر يصيبهم جيعا ..ول يستطيع أحد أن يتخلى عن مسئوليته ف هذا السبيل.
ضلّ إِذَا
وهنا تبز بعض الية إزاء الية الكرية( :يَا أَيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا عَلَيْ ُكمْ أَْن ُفسَ ُكمْ ل َيضُ ّر ُكمْ مَنْ َ
اهَْتدَيُْتمْ) [ .]113وهي حية وقع فيها السلمون الوائل أنفسهم فقام أبو بكر ينبههم إل طريق
الصواب.
قال :يأيها الناس إنكم تقرءون هذه الية ..وإن سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :إن الناس إذا
رأوا الظال فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم ال بعقاب من عنده (رواه أبو داود والترمذي).
نعم " عليكم أنفسكم " عليكم الجتمع الذي تعيشون فيه .وليس عليكم غيكم من الجتمعات أو الفراد
غي السلمي .فهؤلء ل يضرونكم مت اهتديتم وعملتم با يريده ال .أما العمال الت يقوم با السلمون ف
الجتمع السلم فليس حكمها كذلك .إنا مسألة حياة أو موت بالنسبة لذا الجتمع .فإما أن يس بوحدة
الصلحة فيأخذ على يد الظال -من أي نوع كان ظلمه ؛ لنفسه أو للخرين -فينجو الجتمع كله ،وإما
أن يترك المر خوفا وطمعا أو استهتارا وتاونا ..فتحدث الطامة الت تغرق الميع.
***
ومن وحدة الصلحة ينشأ الترابط بي أفراد الجتمع ترابطا ل يتخلخل ول تنقطع عراه .إنم ركاب سفينة
واحدة ،ناجية أو غارقة ،فكيف يكن ان ينفصل بعضهم عن بعض أو يتجاهل بعضهم وجود بعض؟
وإنه -وهو ترابط الصلحة الواحدة الت يلتقي عندها الميع -لو ف الوقت ذاته ترابط المر بالعروف
والنهي عن النكر واليان بال .ترابط التعاون على الب والتقوى وليس ترابط التعاون على الث والعدوان.
***
ترابط ل يقول فيه إنسان :ما شأن أنا بفلن ،فليصنع ما يشاء ولن أتدخل ف أمره!
ول يقول فيه إنسان لخر :ما شأنك ب! سأصنع ما أشاء ول تتدخل ف أمري!
كل! إن أمور الجتمع ل يكن أن تستقيم كذلك ..ل بد من يقظة كل فرد لعمال أخيه ،ول بد من رده
عن الطأ والسراف فيه.
وليس معن ذلك أن يتحول الجتمع إل منازعات ومشاحنات!
كل! فليس هذا هو الطريق!
سِل ِميَ وَل َتسْتَوِي اْلحَسَنَةُ وَل السّيّئَةُ
سنُ قَ ْولً ِممّنْ َدعَا إِلَى اللّهِ َو َع ِملَ صَالِحا َوقَالَ إِنّنِي ِمنَ اْلمُ ْ
( َو َمنْ أَ ْح َ
ا ْدَفعْ بِالّتِي هِيَ أَ ْحسَنُ فَإِذَا اّلذِي بَْيَنكَ وَبَْينَهُ َعدَا َوةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ َحمِيمٌ) [( ]114ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَّبكَ
بِاْلحِ ْكمَةِ وَاْلمَ ْوعِظَةِ اْلحَسَنَةِ) [.]115
هذا هو الطريق..
إن الترابط هو ترابط الب .ل البغضاء.
وإن النصيحة لتصدر من هذا النبع العذب .أنا أنصح أخي لنن أحبه .لنن أريد له الي .لنن أريد أن
آخذ بجزه أن يقع ف النار! وهو يتقبل من النصيحة على هذا الوضع ..لنه يبن ويثق ف نظافة النصح
والتوجيه.
أما " الخذ على اليد " با تمله من معن الزجر أو العنف فليست أول الطريق!
إنا هي النهاية حي تفشل الوسائل كلها ول يتبقى غي هذا الطريق!
***
ورب قائل أن يقول -عن إخلص نية -مقالة الفت الستهتر أو الفتاة الوجاء:
وهل أنا وحدي سأصلح الجتمع .هل أنا -حي أومن وأعمل صالا -سأنقذ السفينة الاوية إل القرار!
كل!
فحي توجد ف متمع يوشك أن يتحطم ،ف سفينة توشك على اللك ،فلن تقفها وحدك عن النهاية
الحتومة ،ولن تنقذها وحدك من اللك.
نعم .ولكنك تنقذ نفسك!
فحت حي تتحقق السنة الت ل تتخلف ..حت حي ينفذ الوعد الق وتتحطم السفينة.
حت حينئذ ..فشتان بي غريق وغريق!
غريق ف جهنم لنه فاجر.
وغريق ف النة لنه شهيد.
فمن ذا الذي يبيع الخرة بالدنيا ،ويسعى إل النار -وهو يغرق -ف حي يلك -حت وهو يغرق -أن
يسعى إل النعيم؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ]102سورة الجرات [ .] 6
[ ]103سورة الجرات [ .] 12
[ ]104رواه أبو داود.
[ ]105أبو داود.
[ ]106أبو داود من روايات متعددة.
[ ]107أبو داود.
[ ]108أبو داود.
[ ]109انظر فصل " وليح ذبيحته ".
[ ]110أبود داود.
[ ]111أبو داود.
[ ]112رواه البخاري والترمذي.
[ ]113سورة الائدة [ .] 105
[ ]114سورة فصلت [ .] 34 - 33
[ ]115سورة النحل [ .] 125
أنتم أعلم بأمور دنياكم
***
تلك قصة الديث..
وهي واضحة الدللة فيما تركه الرسول صلى ال عليه وسلم للناس من أمور يتصرفون فيها بعرفتهم ،لنم
أعلم با وأخب بدقائقها .إنا السائل " العلمية الفنية التطبيقية " الت تتناولا خبة الناس ف الرض ،منقطعة
عن كل عقيدة أو تنظيم سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي .وهي ف الوقت ذاته تصلح للتطبيق مع كل
عقيدة وكل تنظيم ،لنا ليست جزءا من أي عقيدة أو أي تنظيم ..بل إنا حقائق علمية مردة عن وجود
النسان ذاته بكل عقائده وكل تنظيماته .كحقيقة اتاد الكسجي واليدروجي لتكوين الاء ،وحقيقة
انصهار الديد ف درجة كذا مئوية .هي حقائق ليسن ناشئة عن وجود النسان .وإنا هي سابقة له،
موجودة منذ وجدت هذه العناصر ف الكون .وقصارى " تدخل " النسان فيها أن يكتشفها ويعرفها ،ث
يستغلها لصاله ،ويطبقها ف حياته العملية.
وقصة النخل ل ترج عن كونا حقيقة علمية اكتشفها النسان فطبقها ف حياته العملية :حقيقة التلقيح
والخصاب ف عال النبات .وهي عملية ل يتم بدونا تكون الثمرة ونضجها على النحو العروف .والرسول
صلى ال عليه وسلم ل يقطع فيها برأي -كما هو ظاهر من الديث -وإنا قال " :إنا ظننت ظنا ".
ولعل الشك الذي ساوره صلى ال عليه وسلم قد جاء من اعتقاده بأن ال ل بد أن يكون قد أودع فطرة
الياة ما تتم به عملياتا " البيولوجية " دون حاجة إل تدخل النسان !..وطالا خطر ف نفسي أنا هذا
السؤال :من كان يلقح النخيل ،وينقل فسائل النباتات الت ل تنمو بغي التنقيل ،قبل أن يوجد النسان على
ظهر الرض ،والنباتات كلها سابقة للنسان ف الليقة؟! ول شك أن علماء النبات لديهم لذا السؤال
جواب .ولكن أقول فقط :إنا خاطرة جديرة بأن تطر على قلب إنسان!
هي إذن السائل " التكنيكية " البحتة بتعبينا العلمي الديث .السائل الت يتحصل عليها الؤمنون والكفار
سواء .ول تؤثر بذاتا ف عقيدة القلب أو اتاه الشعور.
ومع ذلك فإن فريقا من الناس يريدون أن يفهموا منها غي ما قصده الرسول وحدده .يريدون أن يبسطوها
حت تشمل الياة الدنيا كلها ،بتشريعاتا وتطبيقاتا ،باقتصادياتا واجتماعياتا ،بسياساتا وتنظيماتا .فل
يدعون لدين ال ولرسول ال مهمة غي " تنظيف القلب البشري وهدايته " بالعن الروحي الالص ،الذي ل
شأن له بواقع الياة اليومي ،ول شأن له بتنظيم الجتمع وسياسة المور فيه .ث يسندون هذا اللون من
التفكي للرسول صلى ال عليه وسلم ،ويعلونه -هو -شاهدا عليه!!
وما أريد أن أبادر بسوء الظن! فقد يكون هذا الفريق من الناس ملصا ف تفكيه مطمئنا إليه! وقد يكون
ذلك بالنسبة إليه مهربا " ل شعوريا " من ضغط الفاهيم الوربية -الغربية أو الشرقية -عن الدين من
جانب ،و " العلوم " القتصادية والجتماعية النقطعة عن الدين من جانب آخر .مهربا يلجأ إليه العاجزون
الغلوبون ،ليحتفظوا بعقيدتم الشخصية ف ال ،ث يكونوا بعد ذلك تقدميي أو ترريي!!
ولكن قليلً من النظر كان جديرا أن يردهم إل التفكي الصائب والتقدير الصحيح ،ويرفع عنهم هذه الذلة
الفكرية الت يعانونا إزاء الغرب ،فتلوي أفكارهم -بوعي أو بغي وعي -وتفسد مشاعرهم فينحرفون عن
السبيل.
لو كان السلم رسالة " روحية " بالعن الفهوم لذا اللفظ -العن الوجدان الالص الذي ل شأن له
بواقع الياة اليومي -ففيم إذن كان هذا الشد الائل من التشريعات والتوجيهات ف القرآن والديث؟
خذُوهُ َومَا نَهَا ُكمْ عَنْهُ فَانَْتهُوا)! ث يعقب ف نفس
وفيم إذن يقول ال سبحانه وتعالَ ( :ومَا آتَا ُكمُ الرّسُولُ َف ُ
الية بالتهديد للمخالفي( :وَاّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َشدِيدُ اْل ِعقَابِ) []116؟!
فيم هذا كله إذا كانت السألة هي " تنظيف القلب " ليس غي؟!
***
وإن تنظيف القلب البشري لهمة ضخمة دون شك ..مهمة تتاج إل رسول!
وإنا -حي تنجح -لي الضمان الول لسلمة الياة كلها واستقامتها ونظافتها .فإن أخفقت ..فل
ضمان!
والسلم يوجه لذا القلب أكب عناية يكن أن يوجهها إليه نظام أو دين .فهو يربطه دائما بال ،ويوجهه
دائما لشيته وتقواه والعمل على رضاه .ث هو يتتبع هذا القلب ف كل نزعة من نزعاته ،وكل ميل من
ميوله ..ف العمال الظاهرة والشاعر الستترة ..ف السر الذي يفى على الناس ول يفى على ال ،بل فيما
هو أخفى من السر ،من الشاعر الساربة ف حنايا الضمي [ ..]117يتتبعه ف كل ذلك ،عملً عملً
وخاطرا خاطرا وفكرة فكرة ..فينظفها بشية ال ،والياء من رقابته الدائمة الت ليغيب عنها شيء ف
الرض ول ف السماء ..ويوجهه إل صفحة الكون الواسعة ،وما فيها من آيات القدرة العجزة ،ليمسح عنه
الغلظة الت تجر الشاعر ،والغبش الذي يجب عنه النور ..ويطلقه من إسار الشهوات والضرورات الت
تثقله وتشده إل الرض ،لينطلق خفيفا صافيا شفيفا يسبح ال ويفرح بداه..
نعم ..يبذل السلم ذلك الهد الضخم كله " لتنظيف القلب ".
ولكن السلم دين الفطرة ..الدين الذي يعرف أسرار الفطرة فيقدم لا ما يلصح لا وما يصلحها .الدين
الذي يعال الفطرة على أحسن وجه وأنسب طريقة ،ليخرج منها بأقصى ما تستطيع أن تنحه من الي.
الدين الذي يتلبس بالفطرة فيملؤها كلها ول يترك فراغا واحدا ل ينفذ إليه .الدين الذي يأخذ الفطرة كما
هي كلّ واحدا ل يتجزأ ،كلً يشمل السم والعقل والروح ،فيعالها العلج الشامل الذي يأخذ ف
حسابه الوانب كلها .ويأخذها مرتبطا بعضها ببعض ف نظام وثيق..
ومن ث ل يأخذ شعور النسان ويترك سلوكه .ل يأخذ " مبادئه " ويترك " تطبيقه " .ل يأخذ آخرته ويدع
دنياه ..وإنا يعمل حساب ذلك كله ف توجيهاته وتشريعاته سواء.
***
السلم يتناول الياة كلها ،بكل ما تشتمل عليه من تنظيمات .ويرسم للبشر صورة كاملة لا ينبغي أن
تكون عليه حياتم ف هذه الرض.
إنه يتناول النسان من يقظته ف الصباح الباكر حت يسلم جنبه للنوم ف آخر الساء .يعلمه ويلقنه ماذا يصنع
وماذا يقول أول مايفتح عينيه ،ث حي يقوم ،ث حي يقضي ضرورته ،ث حي يؤدي صلته ،ث حي يضرب
ف مناكب الرض باحثا عن رزقه :زارعا أو صانعا أو عاملً أو بائعا أو شاريا ..ث حي يتناول طعامه ،ث
حي يستريح من القيلولة ،ث حي يعود ف آخر اليوم ،ث حي يلقى زوجه وأطفاله ،ث حي يضع جنبه ،ث
حي يأخذ ف النوم ..بل إذا صحا كذلك ف وسط النوم فزعا أو غي مفزّع!
وكما تناول النسان فردا ف جيع أحواله ،فقد تناوله كذلك وهو يعيش ف الجتمع مع غيه من الفراد.
فعلم الجتمع ولقنه كيف تكون الصلت بي أفراده ،وكيف تكون العلقات .وكيف ينشئ تقاليده على
الودة والخاء والب ،والتكافل والتعاون .وكيف يشتري وكيف يبيع .وكيف يزرع وكيف ين .وكيف
يلك وكيف يوزع الثروة بي الفراد.
وكما تناول الفرد والجتمع تناول كذلك " الدولة " مثلة الجتمع .فأعطى ول المر حقوقا وأوجب عليه
واجبات .وعلمه ولقنه كيف يكم الناس ،وكيف يقيم بينهم العدل ،وكيف يوزع الال بينهم ،بأي نسب
وعلى أي الفئات ومن أي الوارد .وكيف يعلن الرب وكيف يقيم السلم ،وكيف يتعامل مع الدول
والماعات والفراد..
الياة كلها بميع دقائقها وتفصيلتا .الياة الادية والفكرية والروحية .الياة الفردية والجتماعية .الياة
بكل ما تشمله من مفاهيم .وكانت تلك هي طريقة السلم الفذة ف " تنظيف القلب "!
أ َو يعجب الناس من هذا القول؟! أيقولون ما للقلب والروح بواقع الرض؟ بالقتصاد والسياسة
والجتماع؟!
ويح الناس!
أليسوا هم الذين " اكتشفوا " ف القرن التاسع عشر والقرن العشرين أن " مشاعر " الناس مرتبطة بوضعهم
القتصادي وبعلقات النتاج؟!
فيم العجب إذن إن قيل لم إن السلم وهو " ينظف القلب " يضع ف حسابه إقامة نظام اقتصادي عادل،
ونظام اجتماعي متوازن ،ونظام سياسي راشد مكم الرباط؟
أم هم ُيدِلّون على ال بعلمهم؟ ويسبون أنم وحدهم الذين أدركوا هذه القيقة ،بينما ال الذي خلق
اللق وهو أدرى به ،قد فاته إدراكها؟! سبحانه وتعال عما يصفونه علوا كبيا..
كل! إن السلم قد تناول هذه القائق كلها قبل أن يصحو لا الناس .وبيّن أن الياة السليمة النظيفة
التكاملة ل يكن أن تتم ف داخل القلب معزولة عن واقع الياة .ل يكن أن تتم ف الوجدان والشاعر إن ل
يكن لا رصيد مواز لا من العمل والسلوك .ومن ث ل يعل الدين " عقيدة " كامنة ف الضمي .وإنا جعلها
نظاما قائما على عقيدة ،ومتمعا قائما على هذا النظام.
صحيح أنه ل ينل ف ذلك إل مهاوي الادية الابطة والذاهب القتصادية النحرفة .ل يعل الادة هي
الصل ،والنسان هو التابع الذليل الذي ل يلك نفسه إزاء التطورات التمية للقتصاد والنتاج ..وإنا
جعل النسان هو الصل .جعل القلب البشري هو الصدر الذي تصدر عنه الطاقة ويصدر عنه الشعاع.
ولكنه ف الوقت ذاته ل يشأ أن يعله معلقا ف البج العاجي ،يطلق شحنته الائلة ف الفضاء ف قفزات
اليال وسبحات الروح .وإنا أراد لذه الطاقة الضخمة أن تنتج ف واقع الرض ،وأن تنشئ متمعها
ونظامها بوحي من العقيدة وهدي من ال ،فيتوازن بذلك الشعور والعمل ،والوجدان والسلوك ،ويتوازن
بذلك " النسان ".
وكان هذا هو المر الطبيعي ما دام السلم " دين الفطرة ".
إن الشاعر الرفرفة والوجدان الشرق والفكار الميلة ل قيمة لا إذا ل تتحول إل قوة بانية ف عال الواقع،
إذا ل تتحول إل حقيقة ظاهرة ملموسة يس با الناس.
والعمال " العظيمة " والنتاج الباهر والركة الفاعلة ل قيمة لا إذا ل تستند إل شعور عميق بالي،
وإحساس حي بروابط الخوة النسانية واللتقاء إل ال.
بل ها -بدون هذا التزاوج -ينقلبان إل شر مدمر للبشرية:
الول تنقلب إل زهادة وعزلة تتوقف با الياة.
والثانية تنقلب إل طغيان كافر يدمر الياة على وجه الرض.
ول بد منهما معا لتستقيم الياة ،مرتبطي متمازجي ،ل انفصال بينهما ول افتراق!
تلك هي " الفطرة " البشرية.
والسلم دين الفطرة وكلمة ال.
ومن ث ل يكن بد -وهو " ينظف القلب البشري " -أن يعل ف حسابه الباطن والظاهر ،والشعور
والعمل ،والوجدان والسلوك.
وهو بذلك واقعي إل أقصى حدود الواقعية...
إنه يعن أشد العناية بعال الروح ونظافة الضمي .وإنه يثق ف أن القلب البشري مصدر الطاقة ومصدر
الشعاع .ولكنه -مع ذلك -ل يفترض ف الناس كلهم أنم من أول العزم! ل يفترض فيهم أنم
يستطيعون دائما أن يعيشوا بقلوب نظيفة ف متمع غي نظيف ،أو يارسوا العدالة ف متمع غي عادل ،أو
يرصوا على الفضائل ف متمع يرص على النكرات.
ضعِيفا).
ففي " الفطرة " البشرية ضعف يتاج إل سند ويتاج إل معونةَ ( :و ُخلِقَ الِْإْنسَانُ َ
هناك ثقلة الضرورة ودفعة الشهوات.
وهي " واقع " ل مصلحة ف تاهله ،ول سبيل إل نكرانه.
ول بد من تنظيمه ..ل بد من تنظيمه ليستطيع النسان أن يفرغ من ضغطه على العصاب والشاعر.
وينطلق حيث يشاء ،حيث يليق بليفة ال أن يكون.
من أجل ذلك يرص السلم على واقع الجتمع أن يكون نظيفا ليعاون الفرد على نظافة الضمي .ولن
تكون نظافة الجتمع إل بنظام اقتصادي عادل ،ونظام اجتماعي متوازن ،ونظام سياسي راشد مكم الرباط
بالعقيدة الصحيحة واليان الصحيح.
***
من صميم مهمة الدين إذن ف تنظيف القلب كانت هذه التشريعات وهذه التوجيهات الت تتناول السرة
والجتمع ،وسياسة الكم ،وسياسة الال .يستوي ف ذلك التشريع القتصادي ،والتشريع السياسي،
والتشريع النائي ،والتشريع الدن ،والتشريع الدول ..والتوجيهات العديدة التعلقة بكل هذه الشئون.
ول يكن السلم -وهو جاد ف تناول النسان والياة البشرية بالتنظيم والتنظيف -ليغفل هذه الشئون
الواقعية كلها ،وينصرف إل تذيب الضمي ف عال الثل والحلم .ول يكن رسول السلم صلى ال عليه
وسلم ليتخلى عن مهمته الائلة ف ذلك الشأن ،وينفض يديه منها ،ويقول للناس " :أنتم أعلم بأمور دنياكم
" أي تصرفوا أنتم ف تشريعاتكم وتنظيماتكم ،ف سياسة الال وف سياسة الكم ،ف علقات الجتمع ،وف
القواني الت تنظم الياة..
كل! ل يكن ليفعل ذلك .ولو فعل فما أدى إذن رسالة ال .وال هو الذي يقول له ف مال التكليفُ( :ثمّ
َج َعلْنَاكَ َعلَى شَرِيعَةٍ ِمنَ الَْأمْرِ فَاتِّبعْهَا وَل َتتِّبعْ َأهْوَاءَ اّلذِينَ ل َي ْعَلمُونَ) [.]118
***
ولكن هذا الفريق من الناس الذي ذكرناه آنفا ،أو فريقا غيه يقول :إن الياة تتطور .فكيف إذن يكن أن
يشرع ال أو يشرع رسوله للجيال التالية لعصر القرآن؟ إن ما كان يصلح منذ ألف وأربعمائة عام ل
يصلح اليوم .وما كان حركة تقدمية ثورية ف ذلك التاريخ يصبح اليوم أمرا رجعيا عتيقا متجمدا ل ياري
التطور ول يصلح للحياة ..ومن ث قال الرسول صلى ال عليه وسلم هذه الكلمة ليفتح الباب للتطور ،ول
يقف بالناس عند تشريعات وتنظيمات قد اقتضتها بيئة معينة وظروف معينة ،وإنا يتركهم يشرعون
وينظمون فيما هم أدرى به من المور.
" التطور " ..ويح الناس من التطور!
إنه هوس يصيب هذا القرن العشرين! هوس ييّل إليهم أن الياة كلها بل قواعد ،والكون كله بل ناموس!
لقد كانت فكرة التطور اكتشافا جديدا بالنسبة لوربا ف تاريها الديث ،بعد أن غرقت فترة طويلة ف
ظلم العصور الوسطى ،ل تعلم شيئا ول تساير ركب الياة .وف القرن التاسع عشر امتلت رءوس
الفكرين والعلماء بفكرة التطور ،ف العلم والسياسة والقتصاد والجتماع ،ث تلقفتها الماهي ف ناية
القرن الفائت وف خلل هذا القرن ..تلقفتها با يشبه اللوثة ..تفسر با كل شيء وتفسد با كل شيء!
بينما العال السلمي ل يكن غريبا عن فكرة التطور وآثاره ف حياة الماعة .فقد فطن إليها ابن خلدون ف
مقدمته وعالها علجا " علميا " وافيا يشهد له بالباعة والتدقيق .ولقد فطن إليها عمر بن عبد العزيز ف
صدر السلم إذ يقول " يدّ للناس من القضية بقدر ما يد لم من القضايا " وفطن إليها الفقه السلمي
كله ،وهو يضع التفريعات الدائمة ف كل شئون الياة النامية التجددة جيلً بعد جيل.
ولكن الفكر السلمي ل يرج عن صوابه وهو يس بالتطور ويساوق خطاه .فلم يفهم من التطور أن
الياة بل قواعد ،والكون بل ناموس! ل يفهم منه أن ينفصل عن الصول الثابتة وينطلق بل دليل!
وجاء " العلم " ف القرون الخية يؤيد الفهم السلمي للتطور ،ول يؤيد اللوثة الت أصابت الماهي ف
أوربا ،وأشباه العلماء هناك ،وانتقلت عن طريقهم إل الشرق ف عصرنا الخي.
***
الياة البشرية تتطور ،والكون كله يتطور ..نعم! ولكن هذا ل ينفي وجود قواعد ثابتة ف هذا الكون وف
الياة البشرية ..أولا وأبسطها ،وأقربا إل البديهة ،صدور الكون كله عن إرادة ال الالق الدبر ،وانتظام
سننه ونواميسه انتظاما دقيقا معجزا ل يل ثانية ول ثالثة ،ول قيد شعرة ف هذا الفضاء الائل الرهيب!
السدم تتطور إل نوم ..والنجوم تتطور وهو تدور ،فتسخن وتبد ،وتتكور وتنبعج .وتسرع وتبطئ..
ولكن شيئا واحدا من ذلك ل يدث بل قانون ،وشيئا واحدا من ذلك ل يدث مالفا للناموس الناموس
الذي يكشف العلم طرفا منه كلما تيسرت له الوسائل وأتيحت له الدوات.
ومموعتنا الشمسية الصغية الت نن جزء منها ،تتبع نواميس الكون وهي تتطور ،وتسي على النهج الذي
أراده لا ال منذ الزل ،ل تنحرف عنه لظة إل يي أو شال.
والرض الت نعيش عليها تكمها -ف تطورها -النواميس الزلية الت تكم الكون ،فيسي كل شيء على
سطحها كما أراده ال وفق قانونه الذي ارتضاه.
الكسجي هو الكسجي ..واليدروجي هو اليدروجي .ف الرض والشمس وجيع النجوم سواء .والاء
قدر من الكسجي وقدران من اليدروجي (أيد )2ل تتغي هذه النسبة سواء ركب الاء ف العمل أم
هطل من السماء ..والطر هو الطر ..بار يصعد من البحر ،فينطلق إل الو ،فيتكاثف ،فيتركز ويثقل،
فينل إل الرض ..سواء حدث ذلك " طبيعيا " أم أنزل صناعيا من السماء ..ل يتغي قانون واحد من
قوانينه ،ول يتل ف مساره عن الناموس.
والياة على الرض كذلك ..تطورت ..ل نعلم علم اليقي كيف ،وإن كنا ناول أن نصل إل اليقي..
ولكنا ند من أباث العلم ما يؤكد لنا تأكيدا قاطعا أن الياة ل تنشأ على الرض مصادفة ،ول يكن
استمرارها مئات اللوف من السني كذلك بالصادفة .وإنا هو نتيجة النظام الحدد القرر الذي بنيت به
الجموعة الشمسية وأخذت به مسارها ف الفضاء .بيث لو اختلت نسبة واحدة من النسب لنعدمت
بذلك الياة ..فهي إذن إرادة االالق ،وتدبيه الدقيق العجز .ولوله ل تقم حياة[.]119
والنسان بعد ذلك ..النسان الذي مله غرور العلم ..وأصابته لوثة التطور ..ذلك النسان يتطور .تتغي
حياته يوما بعد يوم ،ويستحدث جديدا كل يوم .ولكنه مع ذلك خاضع للنواميس .النواميس الت تدخل
التطور ف حسابا ،فإذا التطور ذاته جزء من القانون الثابت الذي يكم الكون ويكم الياة!
***
يتطور الكون ..فهل تغيت طبيعته؟ هل تغي تكوّنه من طاقة أو مموعة من الطاقات؟
كل! ل يقل بذلك أحد من العلماء! وإنا تتغي " صوره " و " حالته " ويظل جوهره ثابتا على ما هو
عليه.
ث ..هل تغيت القيقة السابقة على ذلك ..حقيقة الزل والبد وهي صدور الوجود عن إرادة ال؟
كل! ل يقول بذلك أحد من العقلء! فالكون ف وجوده ،كالكون ف تطوره .كالكون ف فنائه حي يقدر
له الفناء ،صادر عن إرادة ال ،مرتبط دائما بإرادة ال.
والنسان كذلك يتطور ..فهل تتغي طبيعته؟ أم تتغي صوره وحالته ويثبت الوهر الذي فيه؟
هل تتغي القائق الزلية ف تكوينه:
أنه صدر عن إرادة رَّبكََ ( :وإِذْ قَالَ َرّبكَ ِل ْلمَلئِ َكةِ إِنّي جَا ِعلٌ فِي الْأَ ْرضِ َخلِيفَةً) [.]120
وأن البشر جيعا من نفس واحدة( :يَا أَيّهَا النّاسُ اّتقُوا َربّ ُكمُ اّلذِي َخلَقَ ُكمْ ِمنْ َن ْفسٍ وَا ِح َدةٍ) [.]121
وأن من هذه النفس -أي من جنسها -قد خلق " الزوج " الذي يكملها ويلتقي با ويوائمهاَ ( :خَلقَ ُكمْ
مِنْ َنفْسٍ وَا ِحدَةٍ وَ َخَلقَ مِنْهَا زَوْ َجهَا) [َ ( ]122ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ َخَلقَ لَ ُكمْ ِمنْ أَْنفُسِ ُكمْ أَ ْزوَاجا لَِتسْكُنُوا إِلَيْهَا
وَ َج َعلَ بَْينَ ُكمْ مَوَدّةً وَرَ ْح َمةً) [.]123
وأن من هذه النفس وزوجها انبث اللق كلهم والقبائل والشعوب ( َخَلقَ ُكمْ مِنْ َنفْسٍ وَا ِحدَةٍ وَ َخَلقَ مِنْهَا
زَ ْوجَهَا وََبثّ مِنْ ُهمَا رِجَالً كَثِيا َوِنسَاءً) [َ ( .]124و َجعَلْنَا ُكمْ ُشعُوبا َوقَبَاِئلَ لَِتعَا َرفُوا إِنّ َأكْرَمَ ُكمْ عِْندَ اللّهِ
أَْتقَا ُكمْ) [.]125
وأن النسان قبضة من طي الرض ونفخة من روح ال .قبضى من طي الرض تتمثل فيها عناصر الرض
الادية من حديد وناس وكلسيوم وفوسفور وأكسجي وإيدروجي ،وتتمثل فيها شهوات الرض ودوافع
الرض .ونفخة من روح ال تتمثل فيها روح النسان الشفيفة القادرة على السمو والرفعة ،كما تتمثل فيها
الرادة الضابطة والقدرة على الختيار( :وََل َقدْ َخَلقْنَا الْأِْنسَانَ مِنْ سُللَةٍ ِمنْ ِطيٍ) [َ( ]126فإِذَا سَوّيْتُهُ
ختُ فِيهِ ِمنْ رُوحِي َفقَعُوا لَهُ سَا ِجدِينَ) [( ]127وََن ْفسٍ َومَا سَوّاهَا فَأَْل َهمَهَا ُفجُو َرهَا وََتقْوَاهَا َقدْ َأ ْفلَحَوََن َف ْ
مَنْ َزكّاهَا َوَقدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا) [.]128
هل تتغي هذه القائق الزلية مهما تغيت " مظاهر " الياة؟ أم تتغي الظاهر والصل ف ثبوته ل يزال؟
وهل النسان ف ذلك إل بضعة من الناموس الكب الذي يكم الكون ويكم الياة؟ بضعة مكومة بذلك
الناموس ،خاضعة لرادة ال؟
كل ما ف المر أن ال قد ميز هذا الخلوق وكرمه حي نفخ فيه من روحه؟ فجعله " واعيا " لعملية الثبوت
وعملية التطور .وجعل له الرادة الت يتار با طريقه :مع الط الواصل الهتدي إل ال ،أو مع الط الضال
النقطع عن ال .وجعل هذا الزدواج ف طبيعته هو الناموس الثابت بالنسبة لدوره ف الياة ،الذي يترتب
عليه الزاء ف أخراهَ( :قدْ َأ ْفلَحَ مَنْ َزكّاهَا َوَقدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا).
***
ف النسان إذن عنصر ثابت ل يتغي مهما تغيت ظروفه ،ومهما تطورت حياته على الرض .لنه يتصل
بقائق أزلية ل يدركها التغيي.
وفيه إل جانب ذلك عنصر متغي .أو قل " :صور " متغية من الوهر الثابت ،و " حالت " متطورة
للكيان الدائم .ولكنها ف تغيها وتطورها ل ترج بالنسان عن كونه النسان .ول تنفصل ف لظة واحدة
عن كيانه الدائم ،بكم ترابط النفس النسانية وشولا لكل ما يشتمل عليه النسان.
ومن هذا الثبوت وهذا التطور ف فطرة البشر -وهي كذلك فطرة الكون -نشأت ف حياة النسان قواعد
ثابتة وبانبها أحوال متغية ،ولكنها ف تغيها -كما أسلفنا -ل تنفصل عن القواعد الثابتة ف الياة.
فقد ترتب على القائق الزلية الالدة حقائق أخرى ،فصارت مثها خالدة دائمة ل تتغي.
ترتب عليها أن يس اللق -بفطرتم ما دامت سليمة -يسوا بعظمة ال بالقياس إل ضآلتهم ،فيعبدوه،
ويستمدوا منه العون ف الياة.
وترتب عليها أن يس الزوجان -اللذان خلقهما ال من نفس واحدة بني والتصاق بعضهما ببعض ،وأن
وجودها ل يتكامل إل متحدين متوادين متراحي.
وترتب عليها أن يس الناس -حي تصفو سريرتم وتنظف نفوسهم -بالخوة ف النسانية ،إذ هم جيعا
من نفس واحدة ذات رحم مع الميع ،فيتعاونوا ويتشاركوا ف الي..
تلك عناصر دائمة لنا ترتكز على أسس دائمة.
وثة عناصر أخرى تدّ كل يوم ،نتيجة تطور العلومات البشرية ،والتفاعل الدائم بي العقل والكون ،ياول
أن يتعرف أسراره ،ويستكنه كنهه ،ويستخرج كنوزه ،ويسخرها لنفعته ،فتقوم أوضاع جديدة ،وينتقل
الناس من بداوة إل حضارة ،ومن زرع إل صناعة ،ومن صناعة إل...؟
والسلم دين الفطرة ياري البشرية ف جانبيها جيعا ،با يناسبهما جيعا.
الانب الول يعطيه شرائع ثابتة .والانب الخر يعطيه أسسا ثابتة ،ث يترك له مال التطور الدائم ف إطار
هذه السس الثابتة ،متمشيا ف ذلك مع فطرة الكون وفطرة الياة.
الانب الول يعطيه العقيدة..
والعقيدة ليست ثابتة ف السلم وحده ،بل ثابتة ف جيع الديانات منذ أرسل ال الرسل للناس يربونم،
ويعلمونم حقيقة أزلية واحدة :أن ال واحد .وأن اللق كله خلقه .وأن حق اللوهية على العباد أن يعبدوه
ويلصوا له الدين.
وتلك العقيدة الواحدة ل تتغي ،لن الساس الذي تقوم عليه ثابت ل يتغي .وقد عن القرآن ببيان هذه
القيقة ،وخاصة ف السور الت تستعرض رسالة الرسل الواحدة الكررة على مر الزمان كسورة هود
وسورة العراف.
وإل جانب العقيدة يعطيه كذلك تشريعات الزواج والطلق ،والدود .وتشريعات مدنية متلفة.
الزواج والطلق -أو العلقة بي الرجل والرأة عامة -عنصر ثابت له تشريع ثابت ،لنه يرتكز على أسس
ل تتغي .هي الرجل من جهة والرأة من جهة ،والعلقة الشديدة الت تذب كلً منهما للخر وتشده إليه.
والياة تتغي ظروفها :الجتمع يتغي .والقتصاد يتغي .ونظم التعليم تتغي .والسياسة تتغي .ولكن ذلك ل
يغي شيئا من القيقة الت تكمها الفطرة بوظائفها وعملياتا اليوية ،وغددها وكيماوياتا ،وهي أن الرجل
رجل والرأة إمرأة ،ول غن لحدها عن الخر ،ول انفصال ول استقلل! [.]129
والدود -أي العقوبات الفروضة على الرائم -عنصر ثابت كذلك ،لنه يرتكز على شيء ثابت :هو
علقة النسان بأخيه النسان -أو علقة الفرد بالجتمع -وحرمة كل إنسان الت ل يوز أن يعتدي عليها
الخرون.
والياة تتغي ظروفها :ارتباطات العمل تتغي .وعلقات النتاج تتغي .وعلقات النسان " باللة " تتغي.
والنظم السياسية تتغي .ولكن ذلك ل يغي شيئا من القيقة الثابتة الت تكمها وقائع التاريخ البشري .وهي
أن الناس كلهم من نفس واحدة ،وعلقة الرحم تربط الميع [.]130
وكذلك بعض التشريعات الدنية لا صفة الثبوت كالبيع واليارة والرهن والدين والوكالة ..إل فكانت لا
تشريعات ثابتة .وما يلفت النظر ف هذا الشأن أن التشريع الفرنسي الديث ف السائل الدنية قد أخذ كثيا
عن فقه مالك ،إذ كان أقرب الفقهاء -جغرافيا -إل فرنسا بسسب انتشار مذهبه ف الشمال الفريقي!
كما أن الفقه الورب كله قد أخذ عن الفقه السلمي حي أعطى الرأة أخيا جدا حق اللك والتعامل
والتصرف الر ف الشئون الدنية [.]131
أما الانب التطور من الياة البشرية ،وهو ف الوقت ذاته متصل بالانب الثابت ،فهو سياسة الكم
وسياسة الال ،و " شكل " الجتمع أو شكل البيئة ،من بدوية إل زراعية إل تارية إل صناعية ...إل.
وتلك أمور كما قلنا تتطور بتطور العقل البشري وتفاعله مع الكون ،ولكنها ف تطورها ل تنفصل عن
الصل الثابت ،ول يكن أن تنفصل ،بكم وحدة النسان وترابطه ،واستحالة تزئته وتقطيعه وفصل بعضه
عن بعض.
وف هذه المور كان السلم حكيما غاية الكمة ،مساوقا للفطرة ،ملبيا لاجاتا ،فوضع الطوط العريضة
ول يضع التفصيلت .أو وضع " الطار " الذي يريد للبشرية أن تتطور ف حدوده ،وترك لكل جيل من
الجيال التعاقبة أن يضع " الصورة " ف داخل الطار .الصورة الت تناسبه ،وتتفق مع ظروفه الادية ومبلغ
من العلم والنتاج .بشرط واحد :هو أن تكون الصورة على قدر الطار ،ل أكب منه فيتحطم ،ول أصغر
منه فيبدو حولا الفراغ.
ف سياسة الكم وضع أساسي :العدل والشورى:
( َوإِذَا حَ َكمُْتمْ بَْينَ النّاسِ أَنْ َتحْ ُكمُوا بِاْل َع ْدلِ) []132
( َوَأمْ ُر ُهمْ شُورَى َبيْنَ ُهمْ) [.]133
ث ل يدد طريق الشورى .وهل يكون ملس واحد أو ملسان .وهل ينتخب الجلس أو يعي .وهل يكون
التمثيل شخصيا أو مهنيا ..إل ..إل وترك ذلك للتجارب البشرية واجتهادها ف التطبيق.
وف سياسة الال وضع مموعة من السس ذات طابع واحد يمعها ف النهاية .هو ضرورة اشتراك الناس ف
الي ،بيث ل يكون هناك مروم.
قرر القرآن أن الال ف الصل مال ال ،وهو أعطاه للجماعة( :آمِنُوا بِاللّهِ َورَسُولِهِ َوأَْن ِفقُوا ِممّا َج َعلَ ُكمْ
خلَ ِفيَ فِيهِ) [( ]134وَآتُو ُهمْ ِمنْ مَالِ اللّهِ اّلذِي آتَا ُكمْ) [.]135 مُسَْت ْ
وقرر أن الماعة هي صاحبة الق الول فيه ،وأن الفرد " موظف " فيه ،يستحقه بسن قيامه عليه ،فإذا ل
يسن القيام عليه عاد حق التصرف فيه إل الماعة( :وَل تُؤْتُوا السّفَهَاءَ َأمْوَالَ ُكمُ الّتِي َجعَلَ اللّهُ لَ ُكمْ قِيَاما)
[.]136
وقرر أن ال يكره حبسه ف يد فئة قليلة من الناس تتداوله فيما بينها ويرم منه مموع المة (كَيْ ل يَكُونَ
دُولَةً بَْينَ الَْأغْنِيَاءِ مِنْ ُكمْ) []137
وقرر فريضة الزكاة على الموال حقا معلوما للفقراء ،تأخذه لم الدولة وتعطيه لم من بيت الال( :إِّنمَا
صدَقَاتُ ِللْ ُفقَرَاءِ وَاْل َمسَا ِكيِ وَاْلعَامِِليَ َعلَيْهَا]138[ )..
ال ّ
والرسول صلى ال عليه وسلم يقول " :الناس شركاء ف ثلث :الاء والكل والنار " []139
ويقول :لن ينح أحدكم أخاه (أرضه) خي له من أن يأخذ خرجا معلوما " []140
وعمر بن الطاب يقول " :لول آخر السلمي ما فتحت قرية إل قسمتها بي أهليها .كما قسم النب
صلى ال عليه وسلم خيب " [.]141
ث ل يدد طريقة اشتراك الناس ف مال ال الذي أعطاه للجماعة وهل تكون بتأميم الرافق العامة .أم تكون
بإشراك العمال ف رأس الال ،أم تكون بإعطائهم الجور الت تكفل حاجاتم الضرورية الت بينها الرسول
صلى ال عليه وسلم على حديثه " :من ول لنا عملً وليس له منل فليتخذ منلً أو ليست له زوجة
فليتخذ زوجة ،أو ليس له خادم فليتخذ خادما ،أو ليست له دابة فليتخذ دابة"[.]142
ل يدد صورة معينة من هذه الصور ،وترك الجيال التعاقبة تفكر لنفسها ف الصورة الت تناسبها ،وتتلءم
مع إمكانياتا .ول يضع -ف سياسة الال أو سياسة الكم -تفصيلت ثابتة جامدة ،لكي ل تصطدم
بالنمو الطرد ف أحوال الماعة ،والتطور الستمر فيها .ولكنه مع ذلك ل يدع هذه المور تفلت من
الصول الثابتة .ول يدعها للناس يتصرفون فيها بل دليل ،بجة أنم أعلم بأمور " دنياهم "! فقد كان هذا
التصرف الر -ف أوربا ،وف خارج الطار السلمي عامة -شناعة بشعة يندى لا جبي النسانية "
التطورة "! كان القطاع ف أوربا ث كانت الرأسالية بكل ما فيها من مظال غنية عن الوصف .وكلها
حرام ف نظر السلم ،فهما يعلن الال -سواء ف صورة أرض أو رأس مال -دولة بي الغنياء
وحدهم ،ويرم منه بقية الناس .ث كان اللص منهما هو الشيوعية -أي العبودية الطلقة للدولة،
الدكتاتورية الطلقة على الفراد!
والسلم -كلمة ال لميع البشر على الرض ولميع الجيال -ل يكن ليترك الناس لثل هذا " التطور "
الذي يرسفون فيه ف الغلل ،وإنا يأخذ بيدهم دائما ويرشدهم ،حت وهو يترك لم حرية النمو وحرية
التكيف مع ما يدّ من الوضاع ،لكيل يشردوا عن الطريق ،ولكي يتفظوا بتحررهم الوجدان الدائم ف
جيع الوضاع وجيع الحوال.
***
تلك قصة التطور الت ُجنّ با الناس ف القرن العشرين! تطور ف أشكال الياة الظاهرة ،وثبات -مع ذلك
-ف الصول ..فالسلم ل يغفل ذلك التطور من حسابه .ل يقف ف سبيله .وف الوقت ذاته ل ينحسر
عنه ويترك الناس بل دليل .إنه يساوق التطور على الدوام ويفظه من التعثر والنراف .يفظه برده إل
القواعد الثابتة ف الياة البشرية .إل ال والعقيدة .والطار الدائم الذي يرسم العلقة الت ينبغي أن تكون
بي أفراد النس الواحد ،الذين انبثقوا من نفس واحدة ،وما تزال تصل بينهم الرحام.
وبذلك يكون السلم دين الفطرة.
وهو كذلك منهج الياة [.]143
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ]116سورة الشر [ .] 7
سرّ وَأَ ْخفَى " سورة طه [ ] 7انظر فصل " :تعبد ال كأنك تراه ".
[ " ]117يَ ْعلَمُ ال ّ
[ ]118سورة الاثية [ .] 18
[ ]119انظر بالتفصيل ف هذا الشأن كتاب " العلم يدعو لليان " تأليف أ .كريسي موريسون وترجة ممد صال الفلكي وكتاب " مع ال ف السماء " تأليف
الدكتور أحد زكي.
[ ]120سورة البقرة [ .] 30
[ ]121سورة النساء [ .] 1
[ ]122سورة النساء [ .] 1
[ ]123سورة الروم [ .] 21
[ ]124سورة النساء [ .] 1
[ ]125سورة الجرات [ .] 13
[ ]126سورة الؤمنون [ .] 12
[ ]127سورة الجر [ .] 29
[ ]128سورة الشمس [ .] 10 - 7
[ ]129ف كتاب " شبهات حول السلم " ف فصل :السلم والرأة ،بث تفصيلي لعلقة الرجل والرأة وطبيعتها ف السلم ،وقد بينت هناك كيف عال
السلم المر ف عدالة كاملة ،وكيف أن " التطور " الزعوم ل يضيف شيئا لذه العدالة أما التطور بعن الفساد اللقي أو بعن الساواة اللية بي الرأة والرجل،
فقد كانت له ظروف ملية ف أوربا -شرحتها هناك -وليس " قيمة " حقيقية من القيم النسانية.
[ ]130ف كتاب " النسان بي الادية والسلم " بث مفصل ف نظرة السلم للفرد والجتمع ،والرية والعقاب .وف هذا الكتاب فصل عنوانه " ادرءوا
الدود بالشبهات " يعرض العان النسانية الرفيعة ف تشريع الدود السلمي.
[ ]131تقول الشيوعية إن هذه العلقات كلها ل وجود لا إل حيث توجد اللكية الفردية .وحيث تلغى اللكية الفردية تزول هذه التشريعات .وهذا حق .ولكن
الشيوعية ذاتا قد بدأت تبيح اللكية الفردية من جديد .والبقية تأت!
[ ]132سورة النساء [ .] 58
[ ]133سورة الشورى [ .] 38
[ ]134سورة الديد [ .] 7
[ ]135سورة النور [ .] 33
[ ]136سورة النساء [ .] 5
[ ]137سورة الشر [ .] 7
[ ]138سورة التوبة [ .] 60
[ ]139ذكره صاحب مصابيح السنة ف السان.
[ ]140رواه البخاري.
[ ]141رواه البخاري.
[ ]142رواه أحد وأبو داود.
[ ]143انظر -إن شئت -كتاب " التطور والثبات ف حياة البشرية ".