You are on page 1of 106

‫َقبَسَـاتٌ‬

‫مِنَ الرسول صلى‬


‫ال عليه وسلم‬
‫ممد قطب‬
‫مقدمة الطبعة الشرعية الامسة‬

‫تصدر هذه الطبعة (عام ‪ 1398‬ه) ونن على مقربة من ناية القرن الرابع عشر الجري وبداية القرن‬
‫الامس عشر‪..‬‬
‫وما أحوجنا ‪ -‬ف هذه الفترة الدقيقة من حياتنا ‪ -‬أن نراجع مسيتنا خلل تلك القرون‪ ،‬على ضوء الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬اللذين أخرجا من قبل " خي أمة أخرجت للناس " واللذين ها معيار خيية هذه المة‪ .‬فعلى قدر‬
‫استقامتها عليهما تتحقق خييتها‪ ،‬وعلى قدر انرافها عنهما تظل تنحدر حت تصي إل ذلك الغثاء الذي‬
‫تدث عنه الرسول صلى ال عليه وسلم وهو يرى تلك الفترة العصيبة بنور الوحي‪ " :‬يوشك أن تداعى‬
‫عليكم المم كما تداعى الكلة إل قصعتها‪ .‬قالوا‪ :‬أمن قلة نن يومئذ يا رسول ال؟ قال‪ :‬ل! إنكم كثي‪،‬‬
‫ولكنكم غثاء كغثاء السيل‪" ..‬‬
‫واليوم تقوم ‪ -‬على هدي الكتاب والسنة كذلك ‪ -‬حركات بعث إسلمي ف كل أرجاء العال السلمي‪،‬‬
‫يرجى أن تنقذ هذا الغثاء من وهدته‪ ،‬وتعيده (خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َجتْ لِلنّاسِ)‪.‬‬
‫فما أحوجنا أن نتعرف على كتاب ربنا الكري‪ ،‬وما أحوجنا كذلك أن نقبس "قبسات من الرسول" صلى‬
‫ال عليه وسلم نقوّم با ما أعوج ف حياتنا من خطوات‪..‬‬
‫وما زلت أرجو أن يصدر مزيد من الكتب والدراسات الت يتناول فيها الكتاب سية الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم وأحاديثه بالطريقة الت تقربا لذا اليل‪ ،‬وتقرب هذا اليل كذلك من السلم‪.‬‬

‫وال الوفق إل ما فيه الي‬

‫ممد قطب‬
‫مقدمة الكتاب‬

‫ل أحسب أحداُ من البشر نال من الب والعجاب ما ناله ممد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فإن أتباعه الؤمني ل ينعهم من تقديسه شيء إل ني ال لم أن يتوجهوا بالعبادة والتقديس لحد سواه‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن درجة الب الت يتوجهون با إل الرسول صلى ال عليه وسلم تكاد تفلت أحيانُا ف قلوب‬
‫بعض السلمي فل يسكها هذا النهي إل بهد جهيد! وإن بعضهم لتصيبه حالت من الوجد ف حب‬
‫الرسول حت لينسى نفسه‪ ،‬وتتلج مشاعره وقسمات وجهه‪ ،‬وتنهمر عيناه بالدموع‪ ،‬ث ل يفيق من قريب!‬
‫حت بي " أجف " السلمي قلباُ‪ ،‬وأغلظهم مشاعر (إن صح أنم مسلمون مع ذلك!)‪ ،‬لن تد منهم من ل‬
‫يتوجه للرسول صلى ال عليه وسلم بالب والتعظيم‪ ،‬ولو كان يعبد ال على حرف‪ ،‬ول يقيم كثيُا من‬
‫قواعد الدين!‬
‫أما غي أتباعه فقد هاجه كثي منهم‪ ،‬ومع ذلك فإن أغلبية عظيمة من هؤلء ل تلك نفسها من العجاب‬
‫بشخصه‪ ،‬بصرف النظر عن دينه‪ ،‬فقالوا عنه إنه رجل عظيم‪ ،‬وقالوا إنه يلك الصفات الت تبب إليه الناس‪.‬‬
‫نعم‪ ..‬ل أحسب أحدا من البشر نال من الب والعجاب ما ناله ممد رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن أحسب أن كثيا من السلمي‪ ،‬وخاصة ف هذه العصر الديثة‪ ،‬ل يقدرون الرسول حق‬
‫قدره‪ ،‬حت وهم يتوجهون إليه بالب‪ ،‬بل حت وهم ينحرفون بذا الب إل لون من التقديس!‬
‫ذلك أنه حب سلب ل صدى له ف واقع الياة!‬
‫وإن صورة الرسول صلى ال عليه وسلم ف قلوب هؤلء السلمي لتعان عزلة وجدانية عميقة‪.‬‬
‫إنه هنالك ف أعمق أعماقهم‪ .‬إنه روح نورانية شفيفة‪ ،‬إنه سنَى مشرق‪ ،‬إنه ومضات من النور الرائق‬
‫والشعاع التألق‪ .‬إنه روح سارية ف حنايا القلب وف أناء الكون‪ ..‬ومع ذلك فهو ليس حقيقة واقعة!‬
‫إنه حقيقة " صوفية " منعزلة ف الوجدان‪ ،‬واصلة إل آخر أعماقه‪ ،‬ولكنه ليس صورة حية متحركة ف واقع‬
‫الياة‪ ،‬شاخصة بلحمها ودمها‪ ،‬وأفكارها ومشاعرها‪ ،‬وتنظيماتا وتوجيهاتا‪ ،‬وهدمها وبنائها‪ ،‬ومادياتا‬
‫وروحانياتا سواء!‬
‫ول شك أن لذه العزلة أسبابا تاريية‪...‬‬
‫ففي عهد أب بكر وعمر رضي ال عنهما ل يكن الرسول صلى ال عليه وسلم منعزلً ف وجدان السلمي‪.‬‬
‫كان السلمون قريب العهد به‪ ،‬ما زالوا يعيشون مع ذكراه الية ف نفوسهم‪ ،‬وصوره الشاخصة ف ميلتهم‪،‬‬
‫ف غدوه ورواحه‪ ،‬وحربه وسلمه‪ ،‬وعبادته وعمله‪ .‬صورة متكاملة تشمل الياة كلها ف أعماق الضمي وف‬
‫واقع الجتمع على السواء‪.‬‬
‫ولكن قرب العهد ل يكن وحده السبب ف إحساس السلمي به حيا ف نفوسهم‪ ،‬متكاملً ف مشاعرهم‪.‬‬
‫وإنا كان إل جانب ذلك سبب على أعظم جانب من الهية‪ ،‬هو امتداد تعاليم الرسول ومنهجه التربوي‬
‫ف تصرفات أب بكر وعمر وطريقة سياستهما لمور السلمي‪.‬‬
‫لقد أحس السلمون أن الرسول صلى ال عليه وسلم حي بتعاليمه ومنهجه‪ ،‬حت وإن غابت ذاته الرفيعة‬
‫عنهم ف عال الس‪.‬‬
‫وما عال الس من واقع النفس؟‬
‫إن الشياء ل تقاس بوجودها أو عدم وجودها ف عال الس‪ .‬وإنا تقاس بقدار ما توجد ف عال النفس‪،‬‬
‫وبالساحة الت تشغلها من الشاعر والفكار والسلوك‪.‬‬
‫ول شك أن الرسول صلى ال عليه وسلم كان " موجودا " ف نفوس السلمي على عهد أب بكر وعمر‪،‬‬
‫وعلى مدار الجيال الت ل تره بعد ذلك‪ ،‬أضعاف أضعاف ما كان موجودا فـي نفس أب جهل أو غيه‬
‫من الشركي‪ ،‬من رأوه رأي العي‪ ،‬وجالدهم وجالدوه‪ ،‬ولكنهم ل يؤمنوا به‪ ،‬ول يقووا على حبه‬
‫فأبغضوه‪.‬‬
‫وعلى هذا الساس وحده نقيس وجود الرسول صلى ال عليه وسلم ف نفوس الؤمني وغي الؤمني‪.‬‬
‫وعلى عهد الشيخي كانت الياة كلها مكومة بتعاليم السلم وروحه‪ ،‬وكان الشيخان على قمة البشرية‬
‫بعد ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬يتطلع الناس إليهما ف تصرفاتما‪ ،‬وسلوكهما‪ ،‬ومشاعرها‪ ،‬وأفكارها‬
‫فيدركون القبس الالد الذي يقبسان منه‪ ،‬ويرون الرسول صلى ال عليه وسلم رأي الواقع ف قلبيهما‬
‫الكبيين‪ ،‬فيعيشون ف ظلهما مع الرسول فوق ما يعيشون معه ف ذكرياتم الاصة‪ ،‬ووجداناتم الت كانت‬
‫بدورها قد شحنت بتلك القبسات الشرقة من قبسات الرسول‪.‬‬
‫وجاء عثمان فسار ف أول عهده على هدي الشيخي ما استطاع‪ ،‬ولكن رويدا رويدا أخذ نفوذ مروان‬
‫بن الكم ومنهجه يغلبان على الكم‪ ،‬وعثمان تثقله السن‪ .‬وبدأ السلمون يسون بافتراق الطريق‪.‬‬
‫وبدأت الصورة التكاملة للرسول صلى ال عليه وسلم تنحسر شيئا فشيئا إل داخل النفوس‪ ،‬بعد أن كانت‬
‫ملء النفوس وملء الياة معا وعلى نسق واحد‪.‬‬
‫وكلما انفرجت الشقة بي الواقع الشهود وبي تعاليم الرسول صلى ال عليه وسلم وتوجيهاته‪ ،‬زادت‬
‫صورتـه انسارا ف نفوس السلمي‪ ،‬حت ينتهي المـر إل أن تصبح " مثالً " متألقا ف أعماق الوجدان‪،‬‬
‫ل صورة حية ف العيان‪ ،‬مثالً منعزلً عن واقع الياة‪ ،‬ل يكمها ول يرسم منهجها‪ ،‬ول يتجه الشعور إليه‬
‫لتسيي دفتها!‬
‫ولكن أجيالً متطاولة مضت قبل أن تتم العزلة ف صورتا العنيفة الت تقوم اليوم ف قلوب السلمي‪.‬‬
‫كان الكم ف البلد السلميـة ‪ -‬رغم بعده التدريي عن روح السلم ‪ -‬يقوم باسم السلم!‬
‫وكان الجتمع إسلميا رغم فساد الكام!‬
‫نعم‪ .‬لقد ظل الجتمع ف الريف والدن البعيدة عن العواصم إسلميا قرابة ألف سنة‪ ،‬ل يتأثر بفساد الكم‪،‬‬
‫ول تصل إليه العدوى من العاصمة النحلة الت فيها القصور الاجنة‪ ،‬وصور الياة الدنسة‪.‬‬
‫وكان الرسول صلى ال عليه وسلم ل يكـم ف العاصمة‪ ،‬ول يرسم سياسة الال‪ ،‬ولكنه كان يُحكِم‬
‫الروابط بي قلوب السلمي ف الريف والدن البعيدة‪ ،‬فتقوم بينها مبة السلم وتكافل السلم وتراحم‬
‫السلم‪ ،‬ف الوقت الذي كانت " البيئة الزراعية " الماثلة ف أوربا تقوم على علقة السادة والعبيد‪ :‬سادة‬
‫لم المر كله واللك كله‪ ،‬وعبيد ليس لم من المر شيء سوى العبودية الطلقة والنعدام الذليل‪.‬‬
‫ف تلك الثناء كانت بقية من صورته صلى ال عليه وسلم ل تنعزل بعد ف وجدان السلمي‪ .‬ورغم أن‬
‫الذاهب " الصوفية " كانت نشيطة ف الجتمع السلمي كله ف ذلك الوقت‪ ،‬والصوفية تنح إل العزلة عن‬
‫الياة والبعد عن مالدتا‪ ،‬إل أن هذه الذاهب قد أدت دورا تارييا ف منع الجتمع السلمي من التفكك‪،‬‬
‫والبقاء عليه مترابطا " بأخوة " الصوفية كما أنا ف غي قليل من الحيان كانت تدخل معترك السياسة ولو‬
‫من وراء ستار‪..‬‬
‫أما العزلة الكاملة الوحشة الرهوبة‪ ،‬فقد تت وأحكمت حلقاتا حي َب ُعدَ الكم والجتمع كلها عن‬
‫السلم‪ :‬اسه وروحه‪ ،‬وصار الغرب هو الذي يكم السياسة والجتمع‪ :‬باسه الصريح حينا‪ ،‬وعلى يد‬
‫صنائعه النافرين من السلم حينا آخر‪ .‬وصار الجتمع السلمي صورة متحللة فاسدة من الفكار الغريبة‬
‫عن الياة‪ .‬ل هي إسلمية كما كانت‪ ،‬ول هي نسيج واحد متميز‪ ،‬ول تلك حت القوة الادية الت يلكها‬
‫الغرب‪ ،‬وإنا هي مسخ مشوه ل وحدة له ول كيان‪.‬‬
‫عندئذ ل يعد الرسول صلى ال عليه وسلم " موجودا " أصلً ف واقع الياة‪ .‬ل يعد كيانا حيا شاخصا‬
‫بلحمه ودمه‪ ،‬وأفكاره ومشاعره‪ ،‬وتنظيماته وتوجيهاته‪ ،‬ومادياته وروحانياته‪ ..‬وانصر وجوده ف مشاعر‬
‫الناس السلبية‪ ،‬ف أعمق أعماقها‪ ..‬ف حالت الوجد واليام‪ ..‬أصبح صورة‪ ..‬مرد صورة مثالية‪ .‬ل يسكها‬
‫إل الب العنيف أن تكون أسطورة ملقة ف اليال!‬
‫يا حسرة على العباد!‬
‫كيف جاز لم أن يصنعوا ذلك؟ كيف جاز لم أن يبددوا أكب طاقة بشرية كونية ف هذا الوجود‪،‬‬
‫فينحسروا با ف عزلة عن الياة؟! وهل رسول ال ممد صلى ال عليه وسلم هو الذي يصنع معه هذا‬
‫الصنيع؟ الرسول الذي كان طاقة حية متحركة فعالة هادمة بناءة ل تكف لظة عن النشاط؟ الرجل الذي‬
‫كان كله حياة ف واقع الرض‪ ،‬يصبح معزولً عن واقع الرض؟! ومن! من أتباعه ومبيه!‬
‫لو عاش صلى ال عليه وسلم ف صومعته‪..‬‬
‫لو كان " فيلسوفا " من ينشئون الفكار ويعجزون عن التنفيذ‪..‬‬
‫لو كان من يدثون عن " الحلم " الميلة و " الثل " الرفيعة ول يبي لم ف واقع الرض كيف تكون‬
‫الطريق‪.‬‬
‫لو أنه كان " شاعرا " أو " كاهنا "‪...‬‬
‫لو أنـه كان شيئا من هذا كلـه لاز للناس أن يعزلـوه ف وجدانم‪ ،‬فيمنحـوه الب " النظري "‬
‫والعجاب الجرد‪ ،‬ث‪ ..‬ل يلتفتوا إليه وهم يواجهون عال الواقع ويضربون ف مناكب الرض‪.‬‬
‫أما وهو الذي بي لم كيف يضربون ف مناكب الرض‪ ..‬أما وهو الذي أمسك العول بيده فهدم الباطل‬
‫أمام أعينهم وبن بدله صرح الق‪ ..‬أما وهو الذي حارب معهم وأقام السلم‪ ..‬وشيد بناء الدولة لم لبنة لبنة‬
‫حت قام شاهقا ل يطاوله بناء على الرض‪ ..‬وأكل معهم وشرب‪ ،‬وصحبهم وصحبوه‪ ،‬وعاش أمامهم كل‬
‫لظة من لظات الياة‪ ،‬وكل وجدان من وجداناتا وكل سلوك‪ ،‬ورأوه " يتصرف " ف كل شأن من‬
‫الشئون كبيها وصغيها‪ ،‬ليكون تصرفه سنة تتذى‪ ،‬ويكون فيه أسوة حسنة للناس‪..‬‬
‫أما وهو هذا كله فأي جرم ف تبديد هذه الطاقة البشرية الكونية الكبى‪ ،‬وحصرها ف داخل الوجدان؟!‬
‫وهل جاء ممد صلى ال عليه وسلم لينعزل ف الوجدان‪ ،‬والدين الذي جاء به هو الدين الذي يأب النعزال‬
‫ف الوجدان؟!‬
‫إن أبرز سة ف هذا الدين أنه دين الظاهر والباطن على حد سواء‪ .‬ل يرضى أن يكون الظاهر نظيفا والباطن‬
‫غي نظيف‪ ،‬فيصبح رئاء الناس‪ .‬ول يرضى أن يكون الباطن نظيفا ول صدى له ف الظاهر فيفقد مهمته‬
‫ومعناه‪ .‬إنه الدين الذي يعل العمل عبادة‪ ..‬ورسوله صلى ال عليه وسلم هو الرسول الذي ظل حياته كلها‬
‫يتعبد بالعمل‪ ..‬العمل الثمر النافع الظاهر للعيان‪.‬‬
‫فكيف جاز بعد هذا كله أن يتحول ف قلوب السلمي إل مثال منعزل‪ ،‬ولو كان أرفع مثال على الرض‬
‫وأنبل مثال؟!‬

‫***‬
‫ولقد كان إحساسي بالرسول الكري دائما هو إحساسي بالواقع الجسم‪ ،‬ل باليال الحلق ف الفضاء‪.‬‬
‫وكانت تز وجدان هزا عنيفا هذه الصورة العروفة ف كتب السية كلما قرأتا‪ " :‬كان يشي وكأنه يتقلع‬
‫من الرض‪ " ...‬وترتسم ف خيال صورة رائعة‪ ،‬حية شاخصة‪ ،‬متلئة باليوية‪ ،‬متوفزة النشاط‪ ..‬عظيمة ف‬
‫هذا كله عظمة ل تد‪ .‬وانظر إل الصورة الت تسمت ف خيال فأرى النور الرائق الصاف يشع من أعماق‬
‫روحه صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وينفذ إل أعماق نفسي‪ ،‬ويغلبن الوجدان وأنا أنظر إل هذه الروح الصافية‬
‫العميقة الشفافة الشعة‪ ،‬ومع ذلك فل تلبث صورته أن تتحرك‪ ..‬وأراه صلى ال عليه وسلم يشي وكأنه‬
‫يتقلع من الرض‪ .‬أراه‪ ..‬بقدار ما تطيق روحي أن تصل إليه‪ ..‬متحركا يضرب ف مناكب الرض‪ ،‬ويشق‬
‫طريقه ف قوة وثبات وتكن‪ ،‬ويقيم البناء كله لبنة لبنة‪ ..‬وأراه ف مواقفه النفسية الدقيقة العميقة‪ ،‬فأكاد‬
‫ألس النفس الياشة التحركة الدافقة‪ .‬وأراه ف لظات تعبده‪ ،‬والنور يتألق من روحه ومن طلعته‪ ،‬فأحس‬
‫كأن هذا النور يتحرك‪ ..‬يتحرك متدا حت يشمل الفضاء‪.‬‬
‫الركة الية التوفزة هي ف نفسي صورة الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ومن ث ل أحس با منعزلة ف الوجدان‪..‬‬
‫ث أرى العزلة الت تعانيها صورته ف وجدان السلمي‪ ،‬فأعجب للناس كيف يبونه كل هذا الب‪ ،‬ث ل‬
‫يتدبرون حياته للقدوة والسوة كما قال لم ربم ف كتابه البي؟!‬

‫***‬
‫وليس هذا كتابا ف سية الرسول صلى ال عليه وسلم !‬
‫وإنا هو جهد متواضع كل هي منه أن أحاول إخراج صورة الرسول من عزلتها الوحشة ف قلوب‬
‫السلمي‪.‬‬
‫هدف أن أقول للناس تدبروا بعض أقوال الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وانظروا كيف كانت كل كلمة‬
‫يقولا منهج تربية ومنهج سلوك ومنهج تفكي ومنهج حياة‪..‬‬
‫إنا متارات متفرقة من الحاديث‪ ،‬أو " قبسات من الرسول " كما أسيتها‪ ،‬كل منها يصلح أن يكون أحد‬
‫" مفاهيم " السلم‪ ،‬مفاهيمه الواقعية الضاربة ف مناكب الرض‪ ،‬التلبسة بصميم الياة‪.‬‬
‫وليست هذه الختارات استقصاء لكل الفاهيم‪ ،‬ول استقصاء لكل ما قيل ف أي من هذه الفاهيم‪ .‬وإنا هي‬
‫مرد متارات كتبتها كما خطرت ببال‪ ،‬وحسب منها أن تفتح الطريق‪.‬‬
‫اللهم وفقن‪ ..‬وأوزعن أن اشكر نعمتك الت أنعمت عليّ‪ ..‬إن لا أنزلت إلّ من خي فقي‪...‬‬
‫فليغرسها‬

‫"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة‪ ،‬فاستطاع أل تقوم حت يغرسها‪ ،‬فليغرسها فله بذلك أجر"[‪.]1‬‬
‫ولعل آخر ما كان يدور ف ذهن السامعي أن يقول لم الرسول صلى ال عليه وسلم ذلك الديث!‬
‫ولعلهم توقعوا أن يقول لم الرسول الذي جاء ليذكر الناس بالخرة‪ ،‬ويثهم على العمل لا‪ ،‬ويدعوهم إل‬
‫تنظيف ضمائرهم وسلوكهم من أجل اليوم الكب‪ :‬يوم الساب الذي تدان فيه النفوس‪ ..‬لعلهم توقعوا أن‬
‫يقول لم‪ :‬فليسرع كل منكم فليستغفر ربه عما قدمت يداه‪ ،‬وليتوجه ل بدعوة خالصة أن ييته على اليان‬
‫ويقبل توبته ويبعثه على الدى‪ ..‬ولعلهم توقعوا أن يقول لم‪ :‬أسرعوا فانفضوا أيديكم من تراب الرض‪..‬‬
‫وتطهروا‪ .‬اتركوا كل أمور الدنيا وتوجهوا بقلوبكم إل الخرة‪ .‬انقطعوا عن كل ما يربطكم بالرض‪.‬‬
‫اذكروا ال وحده‪ .‬توجهوا إليه خالصي من كل رغبة ف الياة‪ ،‬حت إذا ذهبتم إل ربكم‪ ،‬ذهبتم وقد‬
‫خلصت نفوسكم إليه‪ ،‬فيقبل أوبتكم ويظلكم بظله‪ ،‬حيث ل ظل إل ظله‪.‬‬
‫ولو قال لم ذلك فهل من عجب فيه؟!‬
‫أليس الطبيعي وقد تيقن الناس من القيامة أن ينصرفوا للحظة الرهوبة؟‬
‫أليس الطبيعي والول الهول على البواب أن ينسلخ الناس من كل وشيجة تربطهم بالرض‪ ،‬ويتطلعوا ف‬
‫رهبة الائف وذهول الرتف إل قيام اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حل‬
‫حلها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى‪ ،‬ولكن عذاب ال شديد؟!‬
‫فإذا قال لم الرسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل تقفوا مذهولي مرجوفي مرعوبي‪ ،‬ولكن توجهوا إل ال أن‬
‫ينقذكم من هذا الكرب العظيم‪ ،‬أخلصوا له الدعاء فهو قريب ييب دعوة الداعي إذا دعاه‪ .‬ول تيأسوا من‬
‫روح ال إنه ل ييأس من روح ال إل القوم الكافرون‪ .‬هلموا تطهروا‪ ،‬وصلوا إل ال خاشعي‪..‬‬
‫إذا قال لم الرسول ذلك وضع البلسم الشاف على الرواح الكلومة‪ .‬وقد وضع يده الانية يربت با على‬
‫النفوس الهتزة الزلزلة الراجفة فتطمئن‪ .‬وقد فتح الكوة الت يطل منها على القلوب الكفهرة الذعورة‬
‫بصيص المل والمن والرجاء‪..‬‬
‫ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يقل شيئا من ذلك كله الذي توقعه السامعون‪.‬‬
‫بل قال لم أغرب ما يكن أن يطر على قلب بشر!‬
‫قال لم‪ :‬إن كان بيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها‪ ..‬فله بذلك أجر!‬
‫يا أل! يغرسها؟! وما هي؟ فسيلة النخل الت ل تثمر إل بعد سني؟ والقيامة ف طريقها إل أن تقوم؟ وعن‬
‫يقي؟!‬
‫يا ال! لن يقول هذا إل نب السلم خات النبيي!‬
‫السلم وحده هو الذي يكن أن يوجه القلوب هذا التوجيه‪ ،‬ونب السلم وحده هو الذي يكن أن يهتدي‬
‫هذا الدي‪ ،‬ويهدي به الخرين!‬
‫وهذا تاريخ الرض كلها‪ ..‬ليس فيه مثل هذه القبسة من قبسات الرسول!‬
‫***‬
‫وهي كلمة بسيطة ل غموض فيها‪ ،‬ول صنعة‪ ،‬ول " تفنن "‪ .‬كلمة ‪ -‬رغم غرابتها لول وهلة‪ ،‬وبدهها‬
‫للفكر على غرة ‪ -‬ترج بسيطة كبساطة الفطرة‪ ،‬عميقة كعمق الفطرة‪ ،‬شاملة واسعة فسيحة‪ ،‬تضم بي‬
‫دفتيها منهج حياة‪ ..‬منهج الياة السلمية‪.‬‬
‫كم من معن تستخلصه النفس من الكلمات البسيطة العميقة ف آن‪.‬‬
‫أول ما يطر على البال هو هذه العجيبة الت يتميز با السلم‪ :‬أن طريق الخرة هو طريق الدنيا بل‬
‫اختلف ول افتراق!‬
‫إنما ليسا طريقي منفصلي‪ :‬أحدها للدنيا والخر للخرة! وإنا هو طريق واحد يشمل هذه وتلك‪ ،‬ويربط‬
‫ما بي هذه وتلك‪.‬‬
‫ليس هناك طريق للخرة اسه العبادة‪ .‬وطريق للدنيا اسه العمل!‬
‫وإنا هو طريق واحد أوله ف الدنيا وآخره ف الخرة‪ .‬وهو طريق ل يفترق فيه العمل عن العبادة ول العبادة‬
‫عن العمل‪ .‬كلها شيء واحد ف نظر السلم‪ .‬وكلها يسي جنبا إل جنب ف هذا الطريق الواحد الذي‬
‫ل طريق سواه!‬
‫العمل إل آخر لظة من لظات العمر‪ .‬إل آخر خطوة من خطوات الياة! يغرسها والقيامة تقوم تقوم هذه‬
‫اللحظة‪ .‬عن يقي!‬
‫وتوكيد قيمة العمل‪ ،‬وإبرازه والض عليه‪ ،‬فكرة واضحة شديدة الوضوح ف مفهوم السلم‪ .‬ولكن الذي‬
‫يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب‪ ،‬وإنا هو إبرازه على أنه الطريق إل الخرة الذي ل طريق‬
‫سواه‪.‬‬
‫وقد مرت على البشرية فترات طويلة ف الاضي والاضر‪ ،‬كانت تس فيها بالفرقة بي الطريقي‪ .‬كانت‬
‫تعتقد أن العمل للخرة يقتضي النقطاع عن الدنيا‪ ،‬والعمل للدنيا يزحم وقت الخرة!‬
‫وكانت هذه الفرقة بي الدنيا والخرة عميقة الذور ف نفس البشرية‪ ،‬ل تقف عند هذا الظهر وحده‪ ،‬وإنا‬
‫تتعداه إل مفاهيم أخرى تتصل بالكيان البشري ف مموعه‪.‬‬
‫فالدنيا والخرة مفترقتان‪.‬‬
‫والسم والروح مفترقان‪.‬‬
‫والادي يفترق عن " اللمادي "‪.‬‬
‫والفيزيقا ‪ -‬بلغة الفلسفة ‪ -‬تفترق عن اليتافيزيقا‪.‬‬
‫والياة العملية تفترق عن الياة الثالية أو عن مفاهيم الخلق‪ .‬إل آخر هذه التفرقات الت تنبع كلها من‬
‫نقطة واحدة‪ ،‬هي التفرقة بي الدنيا والخرة‪ ،‬أو بي الرض والسماء‪ .‬وحي تعيش البشرية على هذه‬
‫الفكرة الفرقة الوزعة‪ ،‬تعيش ول جرم ف صراع دائم مي مضلل‪ .‬تعيش موزعة النفس منهوبة الشاعر‪ .‬ل‬
‫تس بوحدة تمع كيانا‪ ،‬أو رابط يربط أشتاتا‪ .‬فل تعرف الراحة ول تعرف السلم‪.‬‬
‫والفرقة بي الهداف التعارضة شقوة قدية وقعت فيها البشرية وما تزال واقعة‪.‬‬
‫وقد كانت تؤدي ف القدي إل عزلة بعض الناس وتنسكهم‪ ،‬وتكالب آخرين على الياة يعلونا ههم‬
‫الوحد‪ ،‬ينتهبون ما فيها من متعة قبل وقت الفوات‪ ،‬فتملكهم شهواتم ول يلكون نفسهم منها‪ ،‬وتقتلهم‬
‫ف ناية المر‪ ..‬يستوي أن توردهم موارد التف‪ ،‬أو تشقيهم بالتعلق الدائم الذي ل يهنأ ول يستقر‪.‬‬
‫وما تزال هذه الفرقة تؤدي إل نتائجها تلك ف العال الديث‪ .‬ولكنها تزيد ف " مدنيتنا " الاضرة حت‬
‫تبلغ مبلغ النون! وحالت الستريا‪ ،‬وضغط الدم واضطراب العصاب‪ ،‬والنون الكامل‪ ،‬والنتحار‪..‬‬
‫تتزايد ف ظل الضارة الديثة إل درجة خطرة تؤذن بتدمي الطاقة البشرية وتفتيتها‪ ،‬وهي صدى لتلك‬
‫الفرقة الت توزع النفس الواحدة ف وجهات شت ث ل تربط بينها برباط [‪.]2‬‬
‫والكيان النفسي بكم فطرته الت فطره ال عليها‪ ..‬وحدة‪.‬‬
‫وحدة تشمل السم والعقل والروح‪ .‬تشمل " الادة " و " اللمادة " تشمل شهوات السد ورغبات النفس‬
‫وتأملت العقل وسبحات الروح‪ .‬تشمل نزوات الس الغليظة وتأملت الفكر الطليقة ورفرفات الروح‬
‫الطائرة‪.‬‬
‫ول شك أن جزئيات هذا الكيان متعارضة‪ ،‬وأن كلً منها جانح ف اتاه‪..‬‬
‫ذلك إذا تركت وشأنا‪ ،‬ينبت كل نابت منها على هواه!‬
‫ولكن العجيبة ف هذا الكيان البشري‪ ،‬عجيبة الفطرة الت فطره ال عليها‪ ،‬أن هذا الشتات النافر النتثر‪ ،‬يكن‬
‫أن يتمع‪ ،‬يكن أن يتوحد‪ ،‬يكن أن يترابط‪ ،‬ث يصبح ‪ -‬من عجب ‪ -‬ف وحدته تلك وترابطه‪ ،‬أكب قوة‬
‫على الرض! ذلك حي تقبس الذرة الفانية من حقيقة الزل الالدة‪ ،‬فتشتعل وتتوهج‪ ،‬وتصبح طليقة‪،‬‬
‫كالنور‪ ..‬تتزج فيها الادة واللمادة فهما سواء!‬
‫والطريق الكب لتوحيد هذا الشتات النافر النتثر‪ ،‬وربطه كله ف كيان‪ ،‬هو توحيد الدنيا والخرة ف طريق!‬
‫عندئذ ل تتوزع الياة عملً وعبادة منفصلي‪ .‬ول تتوزع النفس جسما وروحا منفصلي‪ .‬ول تتوزع‬
‫الهداف عملية ونظرية‪ ،‬أو واقعية ومثالية ل تلتقيان!‬
‫حي يلتقي طريق الدنيا بطريق الخرة‪ ،‬وينطبقان فهما شيء واحد‪ ،‬يدث مثل هذا ف داخل النفس‪،‬‬
‫فتقترب الهداف التعارضة‪ .‬ويلتقي الشتات التناثر‪ ،‬ث ينطبق الميع فهو شيء واحد‪ .‬وتلتقي النفس الفردة‬
‫‪ -‬بكيانا الوحد ‪ -‬تلتقي بكيان الياة الكب‪ ،‬وقد توحدت أهدافه وارتبط شتاته‪ ،‬فتتلقى معه‪ ،‬وتستريح‬
‫إليه‪ ،‬وتنسجم ف إطاره‪ ،‬وتسبح ف فضائه كما يسبح الكوكب الفرد ف فضاء الكون ل يصطدم بغيه من‬
‫الفلك‪ ،‬وإنا يربطها جيعا قانون واحد شامل فسيح‪.‬‬
‫والسلم يصنع هذه العجيبة!‬
‫ويصنعها ف سهولة ويسر!‬
‫يصنعها بتوحيد الدنيا والخرة ف نظام‪.‬‬
‫(وَابَْتغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَل تَْنسَ َنصِيَبكَ ِمنَ الدّنْيَا) [‪.]3‬‬
‫(ُقلْ َمنْ حَ ّرمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْ َرجَ ِلعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ ِمنَ الرّزْقِ ُقلْ هِيَ ِلّلذِينَ آمَنُوا فِي اْلحَيَاةِ الدّنْيَا خَاِلصَةً‬
‫يَ ْومَ اْلقِيَامَةِ) [‪.]4‬‬
‫وقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم الترجة الكاملة الصادقة للحقيقة السلمية‪ .‬ومن ث كانت الدنيا‬
‫والخرة ف نفسه طريقا واحدا ونجا واحدا و " حسبة " واحدة‪.‬‬
‫أي عمل من أعماله صلى ال عليه وسلم ل يكن مقصودا به وجه ال والخرة؟‬
‫واي لظة كف صلى ال عليه وسلم عن العمل ف الدنيا‪ ،‬والعمل لصلح الرض؟‬
‫حت الصلة‪ ..‬أل يكن صلوات ال وسلمه عليه يستعي فيها ال أن يكنه من أداء رسالته على الوجه‬
‫الكمل‪ ،‬ورسالته هي هداية الناس ف الرض‪ ،‬ليعرفوا ال واليوم الخر؟!‬
‫حلقة واحدة ل تنقطع‪ :‬العمل والعبادة‪ ،‬والدنيا والخرة‪ ،‬والرض والساء!‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم هو القدوة والسوة السنة‪ ،‬وهو واضع النهاج العملي لتحقيق السلم ف‬
‫عال الواقع‪ .‬والرسول صلى ال عليه وسلم ل يعتزل الناس ليتطهر لربه ف معزل‪ .‬فعباداته يقضيها أمامهم‬
‫ومعهم وهم ف صحبة منه‪ .‬فإذا كان يلو إل ربه ف جنح الليل يتعبد‪ ،‬فكل نفس بشرية تفو إل اللوة‬
‫حينا من الوقت‪ ،‬وكل نفس تلك أن تصفو ف هذه اللوة فوق ما تصفو ف حضرة الخرين‪ .‬ولكن الهم‬
‫أنه ف أعمق خلواته وأصفاها ل ينسى أنه رسول ال‪ ،‬الكلف بأداء رسالة ال‪.‬‬
‫والرسول يارب ف سبيل ال‪ .‬ويسال ف سبيل ال‪ .‬ويدعو الناس إل سبيل ال‪ .‬ويأكل باسم ال‪ .‬ويتزوج‬
‫على سنة ال‪ .‬ويهدم ويبن‪ ،‬ويطم وينشئ‪ ،‬ويهاجر ويتوطن‪ ..‬كل ذلك ف سبيل ال‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬يوم‬
‫يلقى ال‪ .‬فكل عمله إذن عبادة يتوجه با إل ال‪ .‬والطريق أمامه طريق واحد‪ ..‬هو الطريق إل ال‪...‬‬
‫وهو يسي ف هذا الطريق الوحد الذي ل طريق غيه‪ ،‬يسي قدما ل يتلفت ول يتحول‪ ..‬ول يكف عن‬
‫السي‪..‬‬
‫إل آخر لظة من حياته صلى ال عليه وسلم كان يسي ف الطريق‪.‬‬
‫كان يعمل ف الدنيا وهو يبغي الخرة‪ ،‬ويعمل للخرة بالعمل ف الرض‪.‬‬
‫حت حي نزلت الية‪( :‬الْيَ ْومَ َأ ْك َملْتُ لَ ُكمْ دِينَ ُكمْ َوأَْت َم ْمتُ عَلَيْ ُكمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ لَ ُكمُ الِْأسْلمَ دِينا)‬
‫وأحس عمر أنا النهاية فدمعت عيناه‪ ..‬حت ف مرض الوت‪ ..‬حت ف اللحظة الخية ل يزايله انشغاله‬
‫بأمور الدنيا‪ ..‬بأمور الناس‪ ..‬بإصلح الرض‪ ..‬بداية البشرية‪ ..‬برسم النهج الذي يسيون عليه‪ ..‬بتوطيد‬
‫أركان الدين وتوثيق عراه‪..‬‬
‫وكان يقول والوجع يشتد عليه صلى ال عليه وسلم " إيتون بكتاب أكتب لكم كتابا ل تضلوا بعده‬
‫أبدا‪." ..‬‬
‫كانت ف يده الفسيلة وكان يغرسها‪..‬‬
‫ول يدع يديه منها صلى ال عليه وسلم حت فاضت روحه الكرية الطاهرة إل موله‪..‬‬

‫***‬
‫وإن ف ذلك لدرسا يقتدي فيه السلمون بنبيهم‪ ،‬ويهدون به البشرية الضالة إل سواء السبيل‪.‬‬
‫يتعلمون أن يربطوا طريق الدنيا بطريق الخرة‪.‬‬
‫يتعلمون أن الدين ليس عزلة عن الياة‪ ،‬وإنا هو صميم الياة‪ .‬ليس عزلة عن تيار الياة الصاخب الضطرب‬
‫فل يركبون فيه مركبهم مع الراكبي‪.‬‬
‫وأنم ل يرضون ربم ول يدمون دينهم إذا أحسوا أنه ينبغي عليهم أن ينسوا ال والدين إذا دخلوا معترك‬
‫الياة وعملوا لصلح الرض‪.‬‬
‫لن يرضوا ال ولن يدموا الدين إذا دخلوا الدرسة أو الامعة أو العمل أو الصنع أو التجر وف حسابم‬
‫أنم الن يعملون للرض ويعملون للدنيا‪ ،‬وأنم ف لظة أخرى حي يفرغون من عمل الرض سيعودون ‪-‬‬
‫إذا عادوا ‪ -‬إل ال‪ ،‬فيعبدونه ويتوجهون إليه!‬
‫كل! ليس ذلك من السلم!‬
‫إنا السلم أن يأكلوا باسم ال‪ ،‬ويتزوجوا باسم ال‪ ،‬ويتعلموا باسم ال وف سبيل ال‪ ،‬ويعملوا وينتجوا‬
‫ويتقووا ويستعدوا‪ ..‬ف سبيل ال‪ .‬ل تشغلهم الدنيا عن الخرة‪ ،‬ول الخرة عن الدنيا‪ ،‬لنما طريق واحد‬
‫ل يفترقان‪.‬‬
‫وحي يتعلم السلمون ذلك‪ :‬حي يتعلمون أنم إذا درسوا الطاقة الذرية واستخدامها ف السلم والرب‬
‫يكن أن يكونوا متصلي بال وف سبيل ال‪ .‬حي يتعلمون أنم وهم يدرسون النظم السياسية والقتصادية‬
‫والصلح الجتماعي‪ ،‬أو يطبقونا على الناس وهم يسوسون أمورهم‪ ،‬يكن أن يكونوا متصلي بال وف‬
‫سبيل ال‪ .‬حي يتعلمون أنم وهم ف خلوتم مع أزواجهم يققون هدف الياة الكب‪ ،‬يكن أن يذكروا‬
‫اسم ال ويكونوا ف سبيل ال‪..‬‬
‫حي يتعلمون أن عملً واحدا من أعمال الرض الكثية التفرقة ل يكن أن يرج عن الطريق إل الخرة‬
‫إذا أقدم عليه النسان وهو مسلم مؤمن بال متوجه إل ال‪..‬‬
‫بل حي يتعلمون أنه ل يكنهم أن يدموا الخرة إل بإصلح الدنيا‪ ،‬ول يصلوا للخرة إل عن طريق‬
‫الرض‪ ،‬وأن عليهم أن يظلوا إل آخر لظة من حياتم يعمرون الرض ويغرسون فسائلها‪ ،‬وإل فلن يصلوا‬
‫إل رضوان ال‪..‬‬
‫حي ذلك يكونون مسلمي حقا‪..‬‬
‫وحي ذلك يكونون قدوة للمم كلها على سطح الرض‪ ،‬كما كان الرسول صلى ال عليه وسلم هو‬
‫قدوتم‪.‬‬
‫(ِليَكُونَ الرّسُولُ شَهِيدا َعلَيْ ُكمْ وَتَكُونُوا شُ َهدَاءَ عَلَى النّاسِ)‪.‬‬
‫عندئذ يكون لديهم ما يعلمونه للعال كله‪ ،‬وللغرب الفتون خاصة‪ .‬الغرب الذي أصابه النون فقام بربي‬
‫متواليتي ف ربع قرن‪ ،‬وهو اليوم يستعد لتدمي الرض!‬
‫يستطيعون أن يقولوا للناس ف كل الرض‪ :‬لقد ألغيتم " ال " من حسابكم لنكم ظننتم أنه يعوّقكم عن‬
‫تعمي الرض‪ ،‬وعن تعلم العلم‪ ،‬وعن استغلل طاقة الرض‪ ،‬وعن الستمتاع بالياة!‬
‫ولكنه ف الواقع ليس كذلك!‬
‫إنه يدعو إل كل هذا الذي تفون إليه‪ُ( :‬قلْ َمنْ حَ ّرمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْ َرجَ ِلعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ ِمنَ الرّزْقِ) وإنا‬
‫يريد فقط أن توحدوا طريقكم‪ ،‬فل تعلوا طريقا للدنيا وطريقا للخرة منفصلتي‪ ،‬وإنا طريق واحدة للدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬هي الطريق إل ال‪.‬‬

‫***‬
‫وليس هذا هو الدرس الوحيد الذي نتعلمه من هذا الديث العجيب‪.‬‬
‫فل يأس مع الياة!‬
‫والعمل ف الرض ل ينبغي أن ينقطع لظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة!‬
‫فحت حي تكون القيامة بعد لظة‪ ،‬حي تنقطع الياة الدنيا كلها‪ ،‬حي ل تكون هناك ثرة من العمل‪..‬‬
‫حت عندئذ ل يكف الناس عن العمل وعن التطلع للمستقبل‪ ،‬ومن كان ف يده فسيلة فليغرسها!‬
‫إنا دفعة عجيبة للعمل والستمرار فيه والصرار عليه!‬
‫ل شيء على الطلق يكن أن ينع من العمل!‬
‫كل العوقات‪ ..‬كل اليئسات‪ ..‬كل " الستحيلت "‪ ..‬كلها ل وزن لا ول حساب‪ ..‬ول تنع عن العمل‪.‬‬
‫وبثل هذه الروح البارة تعمر الرض حقا وتشيد فيها الدنيات والضارات‪.‬‬
‫كل ما ف المر أن السلم وهو يدعو لتعمي الرض‪ ،‬والعمل ف سبيلها‪ ،‬ل ينحرف بالفكار والشاعر عن‬
‫طريق ال وطريق الخرة‪ ،‬لنه ل يفصل بي الدنيا والخرة‪ ،‬ول بي الياة العملية و " الخلق "‪ .‬إنه ل‬
‫يقول ‪ -‬كما يقول الغرب النحرف ‪ -‬فلعمر الرض‪ ،‬ول يعنين أن ترتفع أخلق الناس أو تبط‪ ،‬فللعمل‬
‫مقاييس وللخلق مقاييس! ل تمن أخلق الرجل ما دام " إنتاجه " يعجبن! فهذه النظرة البتسرة الابطة‬
‫ل تلبث أن تدمر ف لظة ما بنته ف أجيال‪ .‬وأن تيل العمار كله إل خراب! بل إن هذه النظرة البتسرة‬
‫الابطة لتوزع النفوس والفكار بي الي والشر‪ ،‬وبي الواقع والثال‪ ،‬فتكون النتيجة القريبة هي المراض‬
‫العصبية والنون والنتحار‪ ،‬وذلك وحده تدمي للنفوس وتبديد للطاقة‪ ،‬ولو ل يدث الدمار الشامل‬
‫والراب الرهيب‪.‬‬
‫وقد كان السلمون وهم يؤمنون بدينهم ويعملون به يبنون أروع حضارات الرض وينشئون أرفع‬
‫مفاهيمها‪ ..‬ول ينحرفون عن طريق ال‪.‬‬
‫كانت طاقة " العمل " تدفعهم للنشاء والتعمي‪ ،‬والفتح والنسياح ف الرض‪ ،‬فبلغوا ف لحة خاطفة من‬
‫الزمن ما ل يبلغه غيهم ف قرون‪ ،‬وأقاموا ف كل مكان مثلً للعدالة النسانية كانت ‪ -‬وما تزال ‪ -‬غريبة‬
‫على البشرية‪ ،‬ينظرون إليها كما ينظرون للحلم والساطي‪.‬‬
‫حي أعاد أبو عبيدة الزية لهل الشام يوم علم باحتشاد جيش الروم وخشي أل يقدر على حايتهم‪ ،‬وقال‬
‫لم‪ " :‬إنا رددنا عليكم أموالكم لنه بلغنا ما جع لنا من الموع‪ .‬وإنكم قد اشترطتم علينا أن ننعكم‪ ،‬وإنا‬
‫ل نقدر على ذلك‪ .‬وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن‬
‫نصرنا ال عليهم "‪.‬‬
‫حي صنع ذلك كان يقوم بإحدى العجزات الت أنشأها السلم على وجه الرض‪ .‬يعمل‪ .‬ويتهد ف عمله‬
‫إل أقصى الغاية‪ ،‬ويضرب ف مناكب الرض‪ .‬ويارب ويغزو‪ .‬ول ينسى ال لظة واحدة ف ذلك كله ول‬
‫يفترق طريقه ف الدنيا عن طريقه إل الخرة‪ ،‬لنه يعمل ذلك كله ف سبيل ال‪.‬‬
‫وحي ت النصر لصلح الدين ف الروب الصليبية وأمكنه ال من أعداء دينه الذين غدروا من قبل بعهد ال‪،‬‬
‫وذبوا السلمي داخل البيت القدس‪ ،‬واعتدوا بغلظة ووحشية على كل حرمات البشرية‪ ..‬ل يثأر لنفسه‪،‬‬
‫ول يثل بم‪ ،‬ول يعمل ف رقابم السيف ‪ -‬وهو مأذون بذلك من كل شرائع السماء والرض معاملةً بالثل‬
‫‪ -‬بل صفح وعفا‪ ،‬وارتفع على نفسه وعلى النفس " البشرية " كلها‪..‬‬
‫حي ذلك كان يقوم بعجزة أخرى من معجزات السلم‪ ..‬يعمل ويعمل‪ ..‬ول ينسى ال‪ ،‬ول يفترق‬
‫طريقه ف الرض عن طريقه إل الخرة‪.‬‬
‫وبذلك كان السلم فذا ف التاريخ‪..‬‬
‫وكان البناء الذي بناه السلم فريدا بالرغم ما أصابه من ضربات من الداخل ومن الارج على السواء‪.‬‬
‫لقد كان السلمون يقتدون برسولم وهو يثهم على العمل لتعمي الرض‪ ،‬وغرس ما ف أيديهم من فسائل‬
‫تثمر حي يشاء لا ال‪ ،‬وإنا عليهم فقط أن يغرسوها‪ ،‬ويضوا إل غيها يغرسون ف مكان جديد! ويقتدون‬
‫به فيغرسون به ما يغرسون من نبتات الي ف كل مكان‪ ،‬وهم يتجهون إل ال وحده وإل الخرة‪ .‬ل‬
‫تدفعهم مطامع الرض النبتة عن طريق ال‪ ،‬ول شهوات النفس النبتة عن تقوى ال‪.‬‬
‫وبذلك تيزوا وسادوا‪ ،‬وكانوا النور الشرق ف ظلمات الرض‪ ،‬والقدوة ف كل سوك وكل عمل وكل علم‬
‫وكل نظام‪ .‬وأوربا ف ظلمة الاهلية تأكلها الفرقة والروب والتأخر والنطاط‪ ..‬حت قبست قبسات من‬
‫السلم ف الروب الصليبية‪ ،‬فأفاقت من غفوتا وبدأت " تنهض "‪ ..‬ولكن على غي طريق ال وطريق‬
‫الخرة‪ ..‬ومن ث ل تقوم إل كمن يتخبطه الشيطان من الس‪ ..‬تنطلق كالجنون والوة ف آخر الطريق‪.‬‬
‫وإن أمام السلمي الكسال اليوم قدوة ف رسول ال تنفعهم إذا فتحوا لا بصائرهم وتدبروا معانيها‪ .‬إن‬
‫عليهم أن يعملوا دائما ول يكلّوا‪ ..‬يعملوا جهد طاقتهم‪ ،‬وفوق الطاقة ليعوضوا القعود الطويل‪ .‬يعملوا ف‬
‫كل ميدان من ميادين العمل‪ :‬ف ميدان العلم وميدان الصناعة وميدان التجارة وميدان القتصاد وميدان‬
‫السياسة وميدان الفن وميدان الفكر‪..‬‬
‫يعملوا ول يقولوا‪ :‬ما قيمة العمل؟ وماذا يكن أن نصل إليه؟‬
‫يغرسوا الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة‪ .‬فإنا عليهم أن يعملوا‪ ،‬وعلى ال تام النجاح!‬
‫***‬
‫والدعاة خاصة لم ف هذا الديث درس أي درس!‬
‫فالدعاة هم أشد الناس تعرضا لنوبات اليأس‪ ،‬وأشدهم حاجة إل الثبات!‬
‫قد ييأس التاجر من الكسب‪ ،‬ولكن دفعة الال ل تلبث أن تدفعه مرة أخرى إل السي ف الطريق‪.‬‬
‫قد ييأس السياسي من النصر‪ ،‬ولكن تقلبات السياسة ل تلبث أن تفتح له منفذا فيستغله لصاله‪.‬‬
‫قد ييأس العال من الوصول إل النتيجة‪ ..‬ولكن الثابرة على البحث والتدقيق كفيلة أن توصله إل النهاية‪.‬‬
‫كل ألوان البشر الحترفي حرفة معرضون لليأس‪ ،‬وهم ف حاجة إل التشجيع الدائم والث الطويل‪،‬‬
‫ولكنهم مع ذلك ليسوا كالدعاة ف هذا الشأن‪ ،‬فأهدافهم غالبا ما تكون قريبة‪ ،‬وعوائقهم غالبا ما تكون‬
‫قابلة للتذليل‪.‬‬
‫وليس كذلك الصلحون‪.‬‬
‫إنم ل يتعاملون مع الادة ولكن مع " النفوس " والنفوس أعصى من الادة‪ ،‬وأقدر على القاومة وعلى الزيغ‬
‫والنراف‪.‬‬
‫والسم الذي يأكل قلوب الدعاة هو انصراف الناس عن دعوتم‪ ،‬وعدم اليان با فيها من الق‪ ،‬بل‬
‫مقاومتها ف كثي من الحيان بقدر ما فيها من الق‪ ،‬وعصيانا بقدر ما فيها من الصلح!‬
‫عندئذ ييأس الدعاة‪ ..‬ويتهاوون ف الطريق‪.‬‬
‫إل من قبست روحه قبسة من الفق العلى الشرق الطليق‪ .‬إل من أطاقت روحه أن يغرس الفسيلة ولو‬
‫كانت القيامة تقوم اللحظة عن يقي!‬

‫***‬
‫الدعاة أحوج الناس إل هذا الدرس‪ .‬أحوج الناس أن يتعلموا عن الرسول صلى ال عليه وسلم هذا التوجيه‬
‫العجيب الذي تتضمنه تلك الكلمات القليلة البسيطة الالية من الزخرف والتنسيق‪.‬‬
‫هم أحوج الناس أن يقبسوا من قبسات الرسول هذه اللمحة الضيئة الكاشفة الدافعة الوحية‪ ،‬فتني ف قلوبم‬
‫ظلمة اليأس‪ ،‬وتغرس ف نفوسهم نبتة المل‪ ،‬كما تغرس الفسيلة ف الرض لتثمر بعد حي‪.‬‬
‫إنه يقول لم‪ :‬ليس عليكم ثرة الهد‪ ،‬ولكن عليكم الهد وحده‪ ،‬ابذلوه ول تتطلعوا إل نتائجه!‬
‫ابذلوه بإيان كامل أن هذا واجبكم وهذه مهمتكم‪ ،‬وأن واجبكم ومهمتكم ينتهيان بكم هناك‪ ،‬عند غرس‬
‫الفسيلة ف الرض‪ ،‬ل ف التقاط الثمار!‬
‫وهو إذ يقول لم ذلك ل يغرر بم ول يضحك عليهم! إنا يقول لم الشيء الواحد الصواب!‬
‫فحي تسأل نفسك‪ :‬مت تثمر الفسيلة وكيف تثمر‪ ،‬وحولا الرياح والعاصي والشر من كل جانب؟‬
‫وحي يصل بك التفكي إل أن تطرح الفسيلة جانبا وتنفض منها يديك‪ ..‬حينئذ كيف تثمر؟ وأنّى لا أن‬
‫تعيش؟‬
‫أما قتلتها أنت حي أفلتّها من يديك؟‬
‫ولكنك حي تغرسها ف الرض وترفع يديك ل بالدعاء‪ ..‬حينئذ تكون أودعتها مكانا الق‪ ،‬وعهدت با‬
‫إل الق الذي يرعاها ويرعاك‪.‬‬
‫ول يشغلك أن تسأل‪ :‬مت تكون الثمار؟! ليس هذا من عملك أنت‪ .‬لست مهيمنا على القدار‪ .‬وليس لك‬
‫علم الغيب‪ .‬و ل ف طوقك ‪ -‬لو علمته ‪ -‬أن تسك نفسك من الدوار!‬
‫ومن تكون أنت ف ملك ال الواسع الفسيح الذي ل حد له ول انتهاء؟!‬
‫وإنا أنت أنت‪ :‬ملوق حي متحرك له كيان وله وزن وقوة ومكان ف تاريخ الرض‪ ،‬حي تقبس روحك‬
‫قبسة من صانع الرض وصانع الكون‪ ،‬وصانعك أنت من بي هذا الكون الكبي‪.‬‬
‫أفل تدع له إذن كصيك مطمئنا إليه؟ أو ل تدع له كذلك هذه الفسيلة الت غرستها يرعاها لك ويطلع لا‬
‫الثمار؟! أو ل تكتفي بدورك الطلوب منك ف اللكوت الائل الفسيح‪ ،‬وتمد ال أن ل يمّلك سوى‬
‫دورك هذا الحدود اليسور؟!‬
‫وحي تصنع ذلك تطلع الثمار!‬
‫ل عجب ف ذلك ول سحر!‬
‫وإنا أنت تؤدي دورك وتضي‪ ،‬فيجيء غيك فيعجب بك وما صنعت‪ ،‬فيحبك‪ ،‬فيذهب يتعهد فسيلتك الت‬
‫غرست‪ ،‬فتنمو‪ ،‬وتطلع الثمار‪.‬‬
‫وقد تكون " سعيدا " بقاييس الرض‪ ،‬فترى الثمرة وأنت حي ف عمرك الحدود‪.‬‬
‫وقد تضي قبل أن ترى الثمار‪..‬‬
‫ولكن أين تضي؟ هل تضي لحد غي ال‪ ،‬إل جوار غي جوار ال؟‬
‫فماذا إذن عليك حي تصل إل هناك‪ ،‬أن تكون قد رأيت الثمرة هنا‪ ،‬أو تراها وأنت هناك؟ كل! إنما ف‬
‫النهاية سيان‪.‬‬
‫وإنا ترضى وأنت ف جوار ربك أنك غرست الفسيلة ف الرض ول تدعها من يدك يقتلها اليأس والهال‪.‬‬

‫***‬
‫ليست إذن دعوة ف اليال حي يقول الرسول صلى ال عليه وسلم للناس‪ :‬إن كان ف يد أحدكم فسيلة‬
‫فليغرسها‪.‬‬
‫وإنا هي صميم دعوة الق‪ .‬الق الواقع ف الرض‪ ،‬الشهود على مدار التاريخ‪.‬‬
‫والدعاة ف كل الرض أحوج الناس إليها حي تضيق بم السبل ويصل إل قلوبم سم اليأس القتال‪.‬‬
‫وهم أول الناس أن يتدبروا سية الرسول نفسه‪.‬‬
‫لقد كان يغرس الفسيلة وهو ما يدري ما يكون بعد لظات!‬
‫قد تأتر به قريش فتقتله‪.‬‬
‫قد يهلك جوعا ف الشعب هو ومن معه من الؤمني‪.‬‬
‫قد يلحق به الكفار وهو ف طريقه إل الغار فل يكون ثة غد‪ ..‬أو تكون القيامة بعد لظة‪ ..‬ومع ذلك‬
‫يغرس الفسيلة‪ ،‬ويتعهدها بالرعاية حت يؤذن ال بالثمار‪ ،‬وهو مطمئن دائما إل ال ما دام يؤدي الواجب‬
‫الطلوب‪.‬‬
‫ذلك هو الثل الذي يتاج الدعاة إل أن يقتدوا به حي يدعون إل الصلح‪.‬‬
‫من كان ف يده فسيلة فليغرسها!‬
‫ول يسأل نفسه‪ :‬كيف تنمو وحولا الرياح والعاصي والشر من كل جانب؟‬
‫ل يسأل نفسه‪ ،‬فليس ذلك شأنه‪..‬‬
‫فليدع ذلك ل‬
‫ولتطلب نفسه أنه أودعها مكانا الق‪ ،‬وعهد با إل الق الذي يرعاها ويرعاه‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫[‪ ]1‬ذكره علي بن العزيز ف النتخب بإسناد حسن عن أنس رضي ال عنه‪ " .‬عمدة القارئ ف شرح صحيح البخاري لبدر الدين العين‪ ،‬باب الرث والزراعة‬
‫"‪.‬‬
‫[‪ ]2‬جاء ف إحصاء طب أن عشرة ف الائة من المريكيي مصابون بالصداع الدائم كمرض‪ ،‬أي أنه ليس الصداع الطارئ الذي تشفيه السكنات‪ ،‬وإنا هو‬
‫صداع دائم ل يشفى! ث قال التقرير إن هذه النسبة آخذة ف الرتفاع‪.‬‬
‫[‪ ]3‬سورة القصص [ ‪.] 77‬‬
‫[‪ ]4‬سورة العراف [ ‪.] 32‬‬
‫طلب العلم فريضة‬

‫" طلب العلم فريضة على كل مسلم " [‪.]5‬‬


‫العلم‪ ..‬هذا النور الذي يهدي ال به ف مسالك الرض‪ ،‬ويني لم السبيل‪ " :‬إن مثل العلماء ف الرض‬
‫كمثل النجوم يهتدى با ف ظلمات الب والبحر‪ ،‬فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الداة" [‪.]6‬‬
‫العلم‪ ..‬تلك النافذة الضخمة الفتوحة على " الجهول " والشعاع النافذ إل الظلمات‪.‬‬
‫العلم‪ ..‬تلك الطاقة الائلة الت يد با النسان حياته‪ ،‬ويوسع كيانه‪ ،‬فل ينحصر ف ذات نفسه‪ ،‬ول ينحصر‬
‫ف واقعه الضيق القريب‪ ،‬ول ينحصر ف جيله الذي يعيش فيه‪ .‬بل ل ينحصر ف ميط الرض‪ .‬وإنا يشمل‬
‫هذا كله ويزيد عليه‪ ،‬فينفذ إل الاضي‪ ،‬وياول أن يفهم الستقبل على ضوء الاضر‪ ،‬ويرقب الكون على‬
‫اتساعه من خلل مناظيه ونظرياته‪ ..‬وينطلق‪ ..‬كما تنفلت " الادة " الحسوسة من نطاقها الضيق وتصبح‬
‫شعاعا يدور ف الفاق‪ " ..‬النيس ف الوحشة‪ ،‬والصاحب ف الغربة‪ ،‬والحدث ف اللوة‪ ،‬والدليل على‬
‫السراء والضراء‪ ،‬والسلح على العداء‪..‬‬
‫وبه يعرف اللل من الرام‪ .‬وهو إمام العمل والعمل تابعه‪.]7[ " ..‬‬
‫العلم‪ ..‬تلك النحة الربانية العجيبة الت منحها ال للنسان‪ ،‬وكرّمه با وفضّله‪ .‬وهي إحدى معجزات‬
‫اللق‪ .‬نر با غافلي لننا تعودناها!‬
‫ول نفتح أفواهنا من العجب‪ ،‬ول تفق قلوبنا من البهر إل حي يقع العلم على سر هائل من أسرار الكون‪،‬‬
‫أو يفتح بابا جديدا على الجهول‪ ..‬مع أن العجزة ف الصغي والكبي سواء! كشأن " الياة " تُعجز ف‬
‫اللية الفردة كما تعجز ف أعقاد الحياء!‬
‫هذا العلم‪ ..‬لقد كان السلم حريا أن يتفل به ويعظمه‪ ،‬وهو الذي يتفل بطاقات الياة كلها ويعظمها‪،‬‬
‫وهو الذي يوجه القلوب لكل منحة منحها ال‪ ،‬وكل آية من آيات ال‪..‬‬
‫ولقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم حريا أن يث على العلم ويرفع منلته‪ ،‬وهو الذي نزل عليه الوحي‬
‫فعلمه‪( :‬اقْ َرأْ وَرَّبكَ الَْأكْ َرمُ اّلذِي َعّلمَ بِاْل َقَلمِ عَّلمَ الْأِْنسَانَ مَا َلمْ َيعَْلمْ) فذاق حلوة العلم‪ ،‬وتفتحت له به‬
‫الفاق‪ .‬ث هو الذي يتلو من هذا الوحي‪:‬‬
‫خشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ اْلعَُلمَاءُ)! [‪.]8‬‬ ‫(إِّنمَا َي ْ‬
‫ولكن التعبي الذي استخدمه الرسول صلى ال عليه وسلم وهو يث على العلم‪ ،‬يظل عجيبا مع هذا كله‪،‬‬
‫وتظل له دللته الاصة وإياءاته الاصة‪ ،‬وتوجيهاته الت ل تصدر إل عن رسول‪ ،‬وصول بال‪ ،‬واصل إل‬
‫حاه!‬
‫طلب العلم " فريضة "!‬
‫هذه الكلمة الفردة تشع وحدها أمواجا من النور‪ ،‬وتفتح وحدها آفاقا من الياة‪.‬‬
‫فريضة‪ ..‬فلننظر ما تعن الفريضة ف قلوب الؤمني‪.‬‬
‫إنا أول ً‪ :‬واجب مفروض على النسان أن يؤديه‪ .‬ل يوز أن تشغله عنه الشاغل‪ .‬ول أن تقعده العقبات‪.‬‬
‫وهي ثانيا‪ :‬واجب يؤديه النسان إل ال ويتعبد به إليه‪ ،‬ومن ث فهو يؤديه بأمانة‪ .‬ويؤديه بنظافة‪ .‬ويؤديه‬
‫بإخلص‪.‬‬
‫وهي ثالثا‪ :‬عمل يقرب العبد إل الرب‪ ،‬فكلما قام النسان بذه الفريضة‪ ،‬أو بذه العبادة‪ ،‬أحس أنه يقترب‬
‫من ال‪ .‬فيزداد به إيانا وتعلقا‪ ،‬ويزداد له خشية وحبا‪ ،‬ويزداد إحساسا بالرضا ف رحابه‪ ،‬والشكر على‬
‫عطاياه‪.‬‬
‫تلك بعض معان " الفريضة " ف القلب الؤمن‪ .‬وتلك كانت معان " العلم " ف نفوس السلمي!‬

‫***‬
‫ل يشعر السلمون قط أن الدنيا تنفصل ف إحساسهم عن الخرة أو أن الدين ينفصل عن الياة‪.‬‬
‫وبذه الروح الشاملة الواصلة ‪ -‬الت وجههم لا ال ورباهم عليها رسوله ‪ -‬كانوا يأخذون شئون الياة‬
‫كلها‪ ،‬من عمل وعبادة‪ ،‬وأفكار ومشاعر‪ ،‬وشريعة ونظام‪..‬‬
‫وبذه الروح الشاملة الواصلة ذاتا كانوا يأخذون العلم‪ ..‬على أنه " فريضة " تصل الرض بالسماء‪ ،‬وتصل‬
‫العمل بالعقيدة‪ ،‬وتصل " العرفة "‪ ..‬بال‪.‬‬
‫كان للعلم ف " عقولم " هذا الدلول الشامل‪ ..‬فهو ليس علم الرض وحدها‪ .‬وليس علم السماء وحدها‪.‬‬
‫وليس علم النظريات وحدها أو علم التطبيقات‪ .‬ولكنه ذلك كله‪ ،‬مشمولً بالعقيدة ومرتبطا بال‪.‬‬
‫ومن ث امتدت " العلوم " ف نظرهم حت شلت العرفة كلها‪ .‬فمنها علوم الدين من فقه وشريعة وتوحيد‬
‫وكلم‪ .‬ومنها علوم اللغة‪ .‬وعلوم الفلك والطبيعة والكيمياء والرياضيات‪ ..‬إل آخر ما كان معروفا يومئذ‬
‫من العلوم‪.‬‬
‫ول يكن العرب ‪ -‬قبل السلم ‪ -‬أمة علم‪ ،‬ول يكن تراثهم يمل شيئا ذا قيمة من العرفة‪ .‬إنا كان ههم‬
‫الشعر والباعة اللغوية‪ ..‬ولكن الزة البارة الت أحدثها السلم ف نفوسهم‪ ،‬والطاقة العجيبة الت جعها ف‬
‫كيانم‪ ،‬وأطلقها ‪ -‬من بعد ‪ -‬ف فجاج الرض‪ ،‬قد حولتهم إل قوة هائلة تضرب ف كل ميدان‪ .‬ف ميدان‬
‫العقيدة‪ .‬وميدان الرب‪ .‬وميدان السياسة‪ .‬وميدان العرفة كذلك‪.‬‬
‫لقد أحسوا بالرغبة الشديدة ف العرفة تتأجج ف كيانم‪ :‬العرفة من كل لون‪ .‬وف كل ميدان‪ .‬فشرقوا‬
‫وغربوا يطلبون العلم‪ ،‬ويستحوذون على كل ما يدون منه ف الطريق‪ .‬ويتفتحون لذلك كله‪ ،‬ويهضمونه‬
‫ويثلونه ويصبغونه بصبغتهم السلمية الت تربط الياة كلها برباط العقيدة‪ .‬ث يضفون إليه جديدا قيما‬
‫يشهد لم بالد والعزية‪ ،‬كما يشهد بالباعة والقدرة‪ ،‬والقوة والنماء‪.‬‬
‫كانت العرفة ف وقتهم مزدهرة ف اليونان من ناحية‪ ،‬وف الند وفارس من ناحية‪ .‬كما كانت الصي كذلك‬
‫زاخرة بالعلوم‪ .‬وف الكمة القائلة‪ " :‬أطلبوا العلم ولو ف الصي " ما يشي إل هذه القيقة‪ ،‬وكان توجيه‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم للمسلمي أن يبذلوا أقصى الطاقة ف سبيل العلم‪ ،‬فنشطوا ف سبيل ذلك ل‬
‫يبالون الصعاب‪.‬‬
‫وف سرعة خاطفة أل السلم بذا كله‪ ،‬وتفقه السلمون ف معارف الرض العروفة ف ذلك الي‪ ،‬ث‬
‫أخذوا ف البناء والضافة‪ ،‬وظهر من بينهم حشد هائل من العباقرة ف كل جانب‪ .‬عبقريات ف الفقه ‪-‬‬
‫والفقه يشمل السس النظرية للحياة كلها با فيها من اقتصاد وسياسة وحرب وسلم وتنظيم اجتماعي ‪-‬‬
‫وعبقريات ف العلوم النظرية وف العلوم العملية‪ :‬ف الرياضة والفلك والطبيعة والكيمياء والطب‪ ،‬يفظ منهم‬
‫التاريخ أساء خالدة‪ ،‬دفعت بالعرفة البشرية خطوات جبارة إل المام‪ .‬وظل بعضهم ‪ -‬كالسن بن اليثم‬
‫‪ -‬أستاذا ف مادته وكشوفه العلمية حت القرن التاسع عشر‪ ،‬يتتلمذ عليه الوربيون‪.‬‬
‫ولكن الهم ف ذلك كله هو " الروح " الت شلت العلم ف العال السلمي‪ ..‬روح " الفريضة "‪.‬‬
‫كانت التعاليم الت استقوها من ال والرسول هي الت تظلل حياتم وتسيطر على مشاعرهم‪ .‬وكانت العرفة‬
‫ف وجدانم فريضة يؤدونا‪ ،‬بدافع الفريضة وف صورة الفريضة‪.‬‬
‫كان للعلم ف نفوس الناس قداسة كقداسة العقيدة‪ .‬قداسة تشمل العلم كما تشمل الطلب‪ .‬كلها يس‬
‫بالرهبة‪ ،‬ويس بالتقوى‪ ،‬ويس بالنظافة‪ ،‬ويس بالراحة والفرحة ف رحاب ال‪.‬‬
‫إنه واجب مقدس‪ ،‬يؤدى " من الداخل "‪ .‬يؤدى من العماق‪.‬‬
‫الستاذ يصّل العلم لنه فريضة‪ .‬ويؤديه إل الناس لن أداءه فريضة كذلك‪.‬‬
‫والطلب يسعون إل طلبه‪ ،‬كما يسعون إل السجد للصلة‪.‬‬
‫كلها ملص وكلها نظيف‪.‬‬
‫والحصول العلمي الذي خلفه أولئك السلمون ‪ -‬سواء أعجبنا اليوم ونن ننظر إليه بعقلية العارف الديثة‬
‫أم ل " نتفضل " عليه بالعجاب ‪ -‬مصول يشهد بالهد الصادق العنيف الذي بذل فيه‪..‬‬
‫ل يكن واحد يؤلف ليكسب! يكسب الشهرة أو يكسب النقود! وإنا يؤلف لنه بث وجد واستنبط‪،‬‬
‫فوصل إل " شيء " فأذاعه على الناس‪.‬‬
‫و " النقطاع " للعلم كان وحده دليلً على هذا الصدق الذي ل تفسده الغراض‪.‬‬
‫ول يكن الصدق والخلص ها السمة الوحيدة ف " علم " السلمي‪ .‬فذلك ل يستنفد كل معان "‬
‫الفريضة "!‬
‫وإنا كانت هناك مزيتان أخريان‪ ،‬تركتا طابعا أصيلً ف الياة السلمية ما يقرب من ألف عام‪.‬‬
‫الزية الول أن العلم ‪ -‬وهو " فريضة " ‪ -‬كان يقرب القلوب إل ال‪ ..‬ول يبعدها عن هداه‪.‬‬
‫نعم‪ ..‬ل تدث ف السلم تلك الفرقة البغيضة بي العلم والدين!‬
‫وكيف تدث والعلم فريضة يتقرب با النسان إل ال؟ كيف يتقرب إليه بالبعد عنه والنفور منه؟!‬
‫كل! إن العلم نور ال‪ .‬موهبته العجزة الت وهبها للنسان‪ .‬وهي أول بالشكر ل بالكفران!‬
‫وكذلك أحس السلمون‪ .‬أحسوا أن ف رقابم‪ ،‬دينا ل يؤدونه‪ .‬فهو قد وهب لم " الكمة " و " العرفة‬
‫"‪ .‬وهب لم العقل الذي يفكر ويكتشف ويستنبط‪ .‬وهب لم القدرة على الستفادة من التجربة‪ .‬وهب لم‬
‫ذلك الشعاع العلوي الذي ل يكن ليوجد لول أن ال نفخ ف النسان من روحه‪ ..‬فعليهم لقاء ذلك دين‪.‬‬
‫هو الشكر‪ .‬الشكر ل النعم الوهاب‪.‬‬
‫ومن ث كان العلم يزيدهم إيانا‪ .‬ويزيدهم تعلقا بال‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْأ ْرضِ وَاخْتِلفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ اّلذِينَ َي ْذكُرُونَ اللّهَ قِيَاما‬ ‫(إِنّ فِي َخ ْلقِ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ رَبّنَا مَا َخَل ْقتَ َهذَا بَاطِلً سُْبحَاَنكَ َفقِنَا‬ ‫َوُقعُودا َو َعلَى جُنُوبِ ِهمْ وَيََتفَكّرُونَ فِي َخ ْلقِ ال ّ‬
‫َعذَابَ النّارِ) [‪.]9‬‬
‫تلك روح الؤمن الذي " يتعلم "‪ .‬الذي يتفكر ف خلق السماوات والرض‪ .‬ويصل من تفكره ذلك إل‬
‫قواني ونظريات وحقائق وتطبيقات‪ ،‬تزيد " معلوماته " وتفيده ف تعميه الرض وهو يشي ف مناكبها‬
‫ويأكل من رزق ال [‪ ]10‬فيدعوه ذلك كله إل معرفة ال‪ .‬ومعرفة " القصد " ف خلق السماوات‬
‫والرض‪ .‬القصد " الق "‪( :‬مَا َخلَ ْقتَ َهذَا بَاطِلً) فيسبح ال‪ .‬ويتقرب إليه‪ .‬ويتوقى النار ويطلب تقيق‬
‫وعد ال بالنعيم‪( :‬رَبّنَا إِنّنَا َس ِمعْنَا مُنَادِيا يُنَادِي ِللْإِيَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبّ ُكمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا َو َكفّرْ عَنّا‬
‫سَيّئَاتِنَا وََت َوفّنَا َمعَ الْأَبْرَارِ رَبّنَا وَآتِنَا مَا َو َعدْتَنَا َعلَى رُ ُسلِكَ وَل ُتخْزِنَا يَ ْومَ اْلقِيَامَةِ إِّنكَ ل ُتخْلِفُ اْلمِيعَادَ) [‬
‫‪.]11‬‬
‫ول يدث ف التاريخ السلمي أن عالا يبحث ف الطب أو يبحث ف الفلك أو يبحث ف الطبيعة أو يبحث‬
‫ف الكيمياء‪ ..‬وجد نفسه معزولً عن العقيدة‪ ،‬أو وجد أن العقيدة تعطله عن البحث العلمي الدقيق! ول تقم‬
‫الرب والصومة ف قلب مسلم بي العلم والعقيدة أو بي العلم والدين‪ .‬وإنا عاش العلم ف ظلل العقيدة‬
‫يتقدم وينشط‪ ،‬ويصل إل كشوف علمية هائلة‪ ،‬أقر با التعنتون أنفسهم من علماء أوروبا‪ ،‬دون أن يفترق‬
‫الطريق لظة أو يدث الشقاق‪.‬‬
‫ذلك أن العلم كان " فريضة " إل ال‪ ،‬تؤدى كما تؤدى الصلة والصيام والزكاة!‬

‫***‬
‫والزية الثانية ف علوم السلمي ‪ -‬الناشئة كذلك من كون العلم فريضة ‪ -‬أنا ل تستخدم قط ف الشر أو‬
‫اليذاء!‬
‫وكيف يستخدم العلم ف الشر وهو فريضة وعبادة؟‬
‫" تعلموا العلم‪ ،‬فإن تعلمه ل خشية‪ ،‬وطلبه عبادة‪ ،‬ومذاكرته تسبيح‪ ،‬والبحث عنه جهاد‪ ،‬وتعليمه لن ل‬
‫يعلمه صدقة‪ ،‬وبذله لهله قربة " [‪.]12‬‬
‫فأين ينبغ الشر ف هذا الطريق الذي تفه خشية ال‪ ،‬وعبادته‪ ،‬وتسبيحه‪ ،‬والتقرب إليه؟‬
‫ولقد يطر على البال أن علوم السلمي ل تستخدم ف الشر لنا كانت بدائية بسيطة ل تصلح للشر‪ ،‬إذا‬
‫قيست بطاقة الذرة وعلوم " التدمي " ف القرن العشرين!‬
‫والواقع ليس كذلك! فإن علوما أدن من علوم السلمي وأبسط ‪ -‬ف مصر الفرعونية وبابل ‪ -‬كانت تقدر‬
‫على الشر وتستخدم فيه!‬
‫فقد استخدم الكهنة ف مصر القدية ‪ -‬وكانوا ف الغلب هم العلماء ‪ -‬استخدموا معارف الكيمياء والطب‬
‫والنجوم ف السحر‪ ،‬والستحواذ على الموال بالباطل‪ ،‬والتوصل إل السلطان الطلق على القلوب والرواح‬
‫والجسام والعقول‪ ،‬والتحكم ف كل أمور الناس بالعبودية والذلل‪.‬‬
‫وكانوا يستأثرون بذا العلم ل يبيحونه للناس‪ ،‬إيثارا لنفسهم بالنفع‪ ،‬واستحواذا على السلطان الكافر الذي‬
‫يذلون به العبيد‪ ..‬عبيد فرعون وعبيد الكهان‪ ،‬وهم " الشعب " كله بل تفريق‪.‬‬
‫ولو أراد السلمون أن يستخدموا العلم للشر فلم تكن لتمنعهم بساطة علومهم‪ ،‬ول تعجزهم عن عمل‬
‫السوء‪..‬‬
‫أقرب الشر أن يصرفوا به القلوب عن ال‪.‬‬
‫وأن يضحكوا به على السذج والهلء فينالوا الال التدفق وينالوا السلطان‪.‬‬
‫وأن يبسوه عن العامة‪..‬‬
‫وأن يتزلفوا به إل اللوك والسلطي‪..‬‬
‫وأن يلتووا به ليبروا مظال السلطان‪.‬‬
‫وهذا هو التاريخ‪ ..‬صفحة رائقة مشرقة مضيئة‪ ..‬تشهد أن العلم السلمي ل يسع للشر ول يستخدم للشر‪.‬‬
‫بل أراد دائما وجه ال وتوجه إل الي‪ .‬ووقف ف مرات كثية أمام السلطان الائر يطالبه بق ال وحق‬
‫الكادحي‪..‬‬
‫ذلك أنه كان فريضة إل ال‪ ،‬يتقرب با العلماء إل حاه‪.‬‬
‫***‬
‫والن نطوي تلك الصفحة الشرقة الضيئة لنطلع على صفحة أخرى‪ ..‬صفحة الغرب‪.‬‬
‫أوربا هي وريثة المباطورية الرومانية والثقافة الغريقية‪ .‬وما تزال حضارتا الادية وتياراتا الفكرية تستمد‬
‫من هذين النبعي‪ ،‬بشعور من الوربيي أوبغي شعور‪.‬‬
‫وقد ورثت أوربا ‪ -‬فيما ورثته من تاريها البكر ‪ -‬طريقة إحساسها بال واعتقادها ف الدين‪.‬‬
‫وينبغي أن نعرف أن أوربا ل تكن نصرانية حقة ف يوم من اليام! على الرغم من انتشار السيحية فيها‪،‬‬
‫وتعصب الوربيي لا ف الروب الصليبية وماكم التفتيش‪ .‬وعلى الرغم ما ل يزال يرد على بعض اللسنة‬
‫الغربية حي تتحدث عن " الضارة السيحية "!‬
‫كل! ل تكن تطبق الدين الق ف يوم من اليام‪ .‬وإنا كان قصارى السيحية عندهم أن تلي لا قلوبم ف‬
‫العبد‪ ،‬وتتأثر أرواحهم بأنغامها السجية وسبحاتا الروحية الرفرفة‪ ،‬ولكنها ل تكم الياة العامة‪ ،‬ول تكم‬
‫ف أمر هذه الرض‪ .‬فإذا خرج الناس من صلتم ف العبد ارتدت عنهم روح الدين‪ ،‬وعادوا إل الوثنية‬
‫الرومانية الغريقية القدية‪ ،‬يستمدون منها أفكارهم ومشاعرهم‪ ،‬وتشريعاتم وتنظيماتم وكل حضارتم‬
‫الادية العريقة‪!..‬‬
‫وأيا ما كان المر فقد ظلت ف ل شعور الوربيي ‪ -‬تت القشرة السيحية الرقيقة ‪ -‬تلك النظرة الغريقية‬
‫إل ال‪ ،‬تؤثر ف وجدانم نوه‪ ،‬وتطبع إحساسهم الدين ف العماق‪.‬‬
‫فكيف كانت السطورة الغريقية تصور ال‪ ..‬أو اللة؟‬
‫لن نستعرض هنا الساطي كلها‪ ،‬ول الصورة الزرية الت كانت تعرض با اللة‪ ،‬فتصورهم ‪ -‬على أحسن‬
‫تقدير ‪ -‬بشرا فائقي القوة‪ ،‬ولكن نفوسهم مشحونة بالنوات الطائشة والنرافات النقة الت يتورع عنها‬
‫البشر العاديون‪ ..‬وإنا نستعرض أسطورة واحدة ذات دللة ف موضوع " العلم " هي برومثيوس سارق النار‬
‫القدسة!‬
‫هذه السطورة تصور العلقة بي البشر واللة علقة صراع دائم وضغينة وأحقاد‪ .‬علقة ل ترف فيها‬
‫مشاعر الرحة أو العطف أو الودة‪ ..‬ول يهدأ أوراها حت يشتعل من جديد‪.‬‬
‫والعركة قائمة على النار القدسة‪ :‬نار " العرفة "! البشر يريدون أن يستولوا على هذه النار القدسة‪ ،‬ليعرفوا‬
‫أسرار الكون كلها‪ ،‬ويصبحوا آلة! واللة تردهم عنها ف وحشية وعنف‪ ،‬لتنفرد وحدها بالقوة‪ ،‬وتتفرد‬
‫دونم بالسلطان!‬
‫تلك إذن هي طبيعة العلقة بي البشر وال! العلقة الت اندست ف أوهام الوروبيي‪ ،‬وصارت تصرف‬
‫أفكارهم ومشاعرهم بغي وعي‪ .‬العجز وحده هو الذي يضعهم لشيئة ال! وهم غي راضي عن هذا العجز‬
‫ول ساكتي عنه‪ .‬فهم ف ماولة دائمة يطلبون " القوة " ويطلبون " العرفة "‪ .‬ياولون دائما أن يقهروا هذا‬
‫العجز‪ .‬أو يقهروا ‪ -‬بلغتهم ‪ -‬قوة الطبيعة‪ .‬أو ‪ -‬بلغتهم اللشعورية أيضا ‪ " -‬ينتزعون " السرار! ينتزعونا‬
‫من الله الوثن القدي الذي كانوا ياولون أن ينتزعوا منه ناره القدسة!‬
‫وبذا الدافع الفي الطبوع ف أعماق النفس الغربية ‪ -‬ف أعماق اللشعور ‪ -‬يس الغربيون أن كل خطوة‬
‫يطوها " العلم " ترفع النسان فوق نفسه درجة‪ ،‬وتنل الله من عليائه بنفس القدر!‬
‫وتظل " العركة " هكذا دائرة‪ :‬كل فتح جديد من فتوحات العلم يفض الله ويرفع النسان‪ ،‬حت تأت‬
‫اللحظة الرقوبة الت يتحلب لا ريق الغرب ويتلهف إليها‪ ،‬اللحظة الت " يلق " فيها النسان الياة‪ ،‬ويصبح‬
‫هو ال!‬
‫وليس هذا التعبي من عندنا نصور به أفكار القوم‪ .‬فهو نص تعبيهم‪ ،‬قاله جوليان هكسلي ف كتابه "‬
‫النسان ف العال الديث "‪ .‬كما قاله غيه من العلماء الوروبيي وهم ينددون بفكرة ال وفكرة الدين!‬

‫***‬
‫هذا الدافع الفي الطبوع ف أعماق النفس الغربية كان خانسا ل شك تت القشرة السيحية الت ظلت‬
‫تطبع النفوس الوربية بضعة قرون‪ .‬وما كادت القشرة تتفتت بفعل الصراع العنيف الذي قام بي الكنيسة‬
‫ودارون‪ ،‬أو بي الدين بفهومه الرسي وبي العلم‪ ،‬حت برز على السطح ما كان متواريا من قبل‪ ،‬وصار "‬
‫العلماء " يهرون بالعداوة السافرة‪ ،‬ويتعمدون البعد عن الدين والعقيدة‪ ،‬وينشرون هذه الراء الكافرة الت‬
‫تقول إن النسان هو الذي خلق ال‪ ،‬وليس ال هو الذي خلق النسان!!‬
‫ومن أجل هذه الروح الوثنية ف حقيقتها ‪ -‬ولو تدينت ف ظاهرها ‪ -‬من أجل هذه الروح النافرة من‬
‫العقيدة‪ ،‬الستكبة على العبادة‪ ،‬ند هذه الفارقة العجيبة بي السن بن اليثم ف السلم ودارون ف أوربا‪.‬‬
‫فبينما السن بن اليثم وهو يكتب ف البصريات ‪ -‬ف موضوع علمي بت جاف ل ترفرف حوله نداوة‬
‫الشاعر ول أنوار العقيدة ‪ -‬يبدأ حديثه باسم ال‪ ،‬ويمده ويطلب منه التوفيق‪ ،‬ند دارون ‪ -‬وهو يكتب‬
‫عن " الياة " و " الحياء " و " التطور "‪ ،‬عن موضوع يشهد بعجزة اللق ويكشف عن يد الالق البدعة‬
‫ف كل خطوة‪ ،‬ويستجيش الوجدان بالشوع والعبادة ‪ -‬نده ينفر من ذكر ال‪ ،‬ويروح يستتر ف " الطبيعة‬
‫" الت يقول عنها " إنا تلق كل شيء ول حد لقدرتا! " سبحان ال! وما ال إذن إن كانت هذه هي‬
‫الطبيعة؟ وكيف تقسو القلوب حت تنع نفسها منعا من ذكر ال بصريح لفظه وصفته ف هذا القام؟! ول‬
‫يكتفي بذلك ‪ -‬وهو واضح الدللة ‪ -‬فتعمى بصيته عن القصد والتدبي ف خلق الالق الدبر‪ ،‬فيوح‬
‫يصف إله الديد الذي يسجد له ‪ -‬الطبيعة ‪ -‬بأنه يبط خبط عشواء! لغي شيء سوى أنه ‪ -‬وهو البشر‬
‫الحدود الطاقة الضئيل العلم ‪ -‬ل يستطع أن يدرك كل أسرار الياة!‬
‫وما نريد أن نظلمهم‪ ..‬أولئك العلماء!‬
‫فربا كانت ظروفهم الحلية ف أوربا هي الت كفرتم من الدين! وربا كانت الوحشية البشعة الت كانت‬
‫الكنيسة الوربية تعامل با العلماء من أمثال كوبرنيكوس وجاليليو‪ ،‬فتعذبم وترقهم من أجل نظرياتم‬
‫العلمية الت تالف العلومات " القدسة " الت تتشبث با الكنيسة‪ ..‬ربا كانت هذه الوحشية هي الت‬
‫أوجدت الصومة والبغضاء بي " العلماء " والدين!‬
‫ولكننا نتبع فقط حوادث التاريخ‪..‬‬
‫فمنذ حدثت هذه الفرقة العنيفة بي الدين والعلم ف أوربا‪ ..‬منذ سار كل منهما ف طريق يالف الخر‬
‫ويناصبه العداء‪ ..‬شلت الغرب كله فلسفة مادية ملحدة كافرة‪ ،‬ل تؤمن بال‪ ،‬ول تكّمه ف أمر من أمور‬
‫الياة‪ ،‬وف أمر العلم خاصة من بي كل أمور الياة!‬
‫ومضت الوجة الت أطلقها دارون تأخذ آخر مداها‪ ..‬فتجرف من طريق العلم كل التراث النسان الالد‬
‫من عقيدة وأخلق وتقاليد‪..‬‬
‫وطلع إل الوجود من بعد دارون فرويد وماركس يلوثان العقيدة ويصوران النفس النسانية صورة بشعة‬
‫مليئة بالقذار‪ ..‬أقذار النس عند فرويد‪ ،‬وأحقاد الصراع الطبقي عند ماركس‪.‬‬
‫وطلع علماء كثيون‪ ..‬ف الطبيعة والكيمياء والفلك والرياضة والطب‪ ..‬يشتملون على عبقريات جبارة‪،‬‬
‫ويفتحون آفاقا جبارة ف هذه العلوم‪ ..‬ولكنهم ‪ -‬مع السف ‪ -‬يرفضون السي ف طريق العقيدة ويتنكبون‬
‫‪ -‬عن عمد ‪ -‬هدداية ال!‬
‫لقد وعت أوربا جانبا من الدرس‪ ،‬حي اختلطت بالسلمي ف الندلس‪ ،‬ونقلت عنهم العارف وطريقة‬
‫الدراسة‪.‬‬
‫أخذت عنهم الد والقصد والعزية‪ ..‬والصب واللد والكفاح‪.‬‬
‫أخذت عنهم احترام العلم والتوفر على البحث والخلص ف الدراسة‪.‬‬
‫ولكنها أبت أن تأخذ ال‪ ،‬وتأخذ العقيدة‪.‬‬
‫ولقد وقعت الشعلة القدسة ‪ -‬شعلة العرفة ‪ -‬من أيدي السلمي حي شغلتهم الفت واللذائذ عن الضي ف‬
‫الطريق‪ ..‬فتلقفتها أوربا‪ .‬وسارت با قدما‪ ..‬خطوات جبارة ف كل ميدان‪ .‬حت فجرت الذرة وأطلقت‬
‫طاقتها ف الفضاء‪..‬‬
‫ولكنها ل تكن تسي ف طريق ال‪ .‬ل تكن تأخذ العلم فريضة كما وصفه الرسول صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫فريضة تؤدى إل ال‪ ،‬ويتقرب با النسان من حاه‪.‬‬
‫وإذا تلى العلم عن ال فقد تلقفه الشيطان‪ ..‬وسار به ف طريق الشر‪ ،‬وأبعد ف طريق الضلل‪.‬‬
‫أول الشر أن العلم ‪ -‬منحة ال إل النسان ‪ -‬يصبح أداة الكفر‪ ،‬ويبعد النسان عن ال!‬
‫والعلم ‪ -‬النور الذي يهدي النسان إل الق ‪ -‬يصبح ذريعة الناس إل الباطل‪ ،‬ف كل منحى من مناحي‬
‫الياة! ف البحوث الجتماعية والقتصادية والسياسية والدبية والفكرية والروحية‪ ،‬وكل بث من البحوث!‬
‫والعلم ‪ -‬الذي " يعرف به اللل والرام " ‪ -‬يصبح أداة الفسق والروج على الخلق‪ ،‬بنظريات "‬
‫علمية " تؤيد الفساد!‬
‫والعلم ‪ -‬طريق النسان إل الي البشري ‪ -‬يصبح أداة التحطيم لذه البشرية‪ ،‬يهددها بالوت الرعب‬
‫كأبشع ما شهده النسان‪ ..‬وما تزال تربته " الصغية " ف هيوشيما ونازاكي ماثلة ف الذهان!‬
‫ذلك لنه ل يعد " فريضة "‪ ..‬وإنا مطية من مطايا الشهوات!‬

‫***‬
‫والسلمون اليوم ف حاجة إل حكمة رسولم يتدبرونا‪ ،‬ويتشربونا إل العماق‪.‬‬
‫ف حاجة لن يُرجعوا إل العلم قداسته واحترامه‪ .‬وقد صاروا يتلهون به ف عبث فاضح ل يليق بالبشر‬
‫العاديي فضلً عن السلمي‪.‬‬
‫إنم يأخذونه ف استخفاف العابث‪ ..‬إن كانوا طلبة ف الدارس والعاهد‪ ،‬أو " أساتذة " يدرسون للطلب!‬
‫غايته الوظيفة أو الكسب أو الشهرة من أقرب طريق‪ .‬ووسيلته الغش والداع والتلفيق!‬
‫إنم ل يعطونه من الد والعناية والحترام حت ما تعطيه أوربا الكافرة ؛ وهم أول من الوربيي بالتقاليد‬
‫العلمية العريقة الت سار عليها جدودهم حي كانوا يعيشون ف ظل السلم‪ ،‬ويستمدون من روح السلم‪.‬‬
‫لذلك هم ف حاجة لدي الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬يردهم إل احترام العلم وتقديره‪ ،‬ويعيدهم لروح‬
‫الد والخلص‪.‬‬
‫وهم ف حاجة إليه كذلك ليعيدوا السلم للقلب البشري المزق بي الدين والعلم‪ ،‬والدين والياة‪ ،‬الغارق‬
‫من جراء ذلك ف تيار الشر والضلل‪ ،‬وهم ‪ -‬وحدهم‪ ،‬حي يؤمنون بال ويؤمنون بأنفسهم ‪ -‬الذين‬
‫يستطيعون عقد السلم ف ذلك القلب‪ ،‬بعقيدتم الفريدة الت توحد طريق الدين وطريق العلم‪ ..‬بل توحد‬
‫السماء والرض‪ ،‬وتصل العمل بالعبادة والدنيا بالخرة‪ :‬وتصل العرفة بطريق ال‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫[‪ ]5‬رواه ابن ماجه‪.‬‬
‫[‪ ]6‬رواه أحد عن أنس بن مالك‪.‬‬
‫[‪ ]7‬من حديث رواه ابن عبد الب عن معاذ بن جبل رضي ال عنه‪.‬‬
‫[‪ ]8‬سورة فاطر [ ‪.] 28‬‬
‫[‪ ]9‬سورة آل عمران [ ‪.] 191 - 190‬‬
‫[‪ ..." ]10‬فَا ْمشُوا فِي َمنَا ِكِبهَا َو ُكلُوا ِم ْن ِر ْزقِهِ " سورة اللك [ ‪.] 15‬‬
‫[‪ ]11‬سورة آل عمران [ ‪.] 194 - 193‬‬
‫[‪ ]12‬رواه ابن عبد الب عن معاذ‪ :‬الترغيب والترهيب ج ‪ 1‬ص ‪ 58‬رقم ‪.8‬‬
‫قبل أن تدعوا فل أجيب‬

‫عن عائشة رضي ال عنها قالت‪ :‬دخل عليّ النب صلى ال عليه وسلم فعرفت ف وجهه أن قد حضره‬
‫شيء‪ ،‬فتوضأ وما كلم أحدا‪ ،‬فلصقت بالجرة أستمع ما يقول‪ ،‬فقعد على النب‪ ،‬فحمد ال وأثن عليه‪،‬‬
‫وقال‪ " :‬يا أيها الناس‪ .‬إن ال يقول لكم‪ :‬مروا بالعروف وانوا عن النكر قبل أن تدعوا فل أجيب لكم‪،‬‬
‫وتسألون فل أعطيكم‪ ،‬وتستنصرون فل أنصركم "‪ .‬فما زاد عليهن حت نزل‪ .‬رواخ ابن ماجة وابن حبان‬
‫ف صحيحه [‪.]13‬‬

‫***‬
‫يا ال! أو حقا يدعو الناس فل يستجيب ال لم؟ ال الذي يقول‪ :‬وسعت رحت كل شيء؟ ال الذي‬
‫يقول‪ :‬وإذا سألك عبادي عن فإن قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان "؟‬
‫هل يكن أن يدث ذلك؟‬
‫صدق ال‪ .‬وصدق رسوله‪ .‬وما يكن أن يكون ذلك إل حقا!‬
‫وإنه لق ترتف له النفس فرقا ويقشعر الوجدان رعبا‪.‬‬
‫وماذا يبقى للناس إذن؟ ماذا يبقى لم إذا أوصدت من دونم رحة ال؟ ولن يلجئون ف هذا الكون العريض‬
‫كله وقد أوصد الباب الكب الذي توصد بعده جيع البواب‪ ..‬ويبقى النسان ف العراء‪ .‬العراء الكامل‬
‫الذي ل يستره شيء‪ ،‬ول يميه شيء من لفحة الاجرة وقسوة الزمهرير؟‬
‫أل إنه الول البشع الذي يتحامى اليال ذاته أن يتخيله‪ ..‬لنه أفظع من أن يطيقه اليال‪.‬‬
‫اليط الذي يسكه بالقدرة القاهرة القادرة قد انقطع‪ ..‬فراح يهوي‪ .‬يهوي إل حيث ل يعلم أحد ول‬
‫يلحقه خيال‪ .‬يهوي ف الظلمات‪ .‬يتقلب على الدوام‪ .‬يصطدم ف كل شيء‪ .‬يتحطم‪ ..‬تتمزق أوصاله‪..‬‬
‫خطَفُهُ‬‫سمَاءِ فََت ْ‬
‫يتناثر ف كل اتاه‪ ..‬وكل " جزء " من نفسه يذوق من اللم ما ل يطيق‪( :‬فَكَأَّنمَا خَرّ ِمنَ ال ّ‬
‫الطّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ َسحِيقٍ) [‪.]14‬‬
‫ذلك هو الخلوق البائس الذي يدعو ال فل ييبه‪ ،‬ويسأله فل يعطيه‪ ،‬ويستنصره فل ينصره‪.‬‬
‫فهل كتب ال ذلك الول البشع على عباده ‪ -‬السلمي ‪ -‬الذين يدعونه ويسألونه ويستنصرونه؟!‬
‫نعم‪ ..‬حي يكفون عن المر بالعروف والنهي عن النكر‪ ..‬ولو بأضعف اليان‪.‬‬

‫***‬
‫لقد اقتضت إرادة ال أن يكون النسان خليفة ف الرض‪.‬‬
‫واقتضت إرادته كذلك أن يكون النسان ‪ -‬الذي يستمد قوته من ال ‪ -‬هو القوة الفعالة ف هذا الوجود‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَْأ ْرضِ) [‪.]15‬‬
‫( َو َسخّرَ لَ ُكمْ مَا فِي ال ّ‬
‫النسان هو الذي يعمل‪ .‬والنسان هو الذي ينتج‪ .‬والنسان هو الذي غي الواقع‪ ،‬والنسان هو الذي ينشئ‬
‫النظم ويقيم الوضاع‪.‬‬
‫النسان هو القوة اليابية ف الرض‪ ،‬ف ذات اللحظة الت يسلم كيانه كله ل‪ .‬بل من هذا السلم الكامل‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ َجمِيعا‬ ‫ل‪ ،‬يستمد النسان طاقته اليابية كلها على الرض! (وَ َسخّرَ لَ ُكمْ مَا فِي ال ّ‬
‫مِنْهُ) [‪.]16‬‬
‫لقد اختار ال أن يكون النسان هو أداته العاملة ف الرض‪ُ ( .‬سْبحَانَهُ إِذَا قَضَى َأمْرا فَإِّنمَا َيقُولُ لَهُ ُكنْ‬
‫فَيَكُونُ) وعلى ذلك جرت سنته منذ خلق الرض والنسان‪.‬‬
‫وال سبحانه وتعال ليس " مقيدا " بسنته على النحو الذي يتصوره العقل الغرب الاحد الضيق الغلق‬
‫البصية‪ ،‬وهو يتحدث عن " القواني الطبيعية " وحتميتها الت ل يكن أن تتغي‪ ..‬ومن ث ينكر العجزات!‬
‫كل! ليس ال مقيدا بسنته ول مكوما با‪ ،‬سبحانه وتعال عن ذلك علوا كبيا‪ .‬والدليل أنه يصنع الوارق‬
‫والعجزات حي يريد‪ ،‬وفق حكمته الت يعلمها وحده ول يطلع عليها أحدا من خلقه‪.‬‬
‫ولكن مشيئته سبحانه هي الت اقتضت أن تسي المور على هذه السنة‪ ،‬حت يعرف الناس النتائج حي‬
‫يعرفون السباب‪ ،‬فيسيوا ف الرض على بصية‪ ،‬حت وهم ل يعلمون الغيب الحجب عن البصار‪.‬‬
‫وكان ذلك رحة بالناس وهدى لبصائرهم‪.‬‬
‫فعلى أساس هذه السنة الثابتة ‪ -‬الت شاءت إرادة ال الرة القادرة أن تكون ثابتة ‪ -‬يستطيع الناس تفهم‬
‫الكون من حولم‪ ،‬والتعرف على أسراره‪ ،‬والتوفيق بي أنفسهم وبي الكون والياة‪.‬‬
‫وكل " العلم " الذي علمه الناس منذ البدء حت اليوم‪ ،‬وكل الخترعات الت اخترعوها‪ ،‬وكل الفوائد الت‬
‫جنوها‪ ،‬والدمات الت حصلوا عليها ل تكن لتوجد لول ثبوت السنة واطرادها وعدم تلفها‪.‬‬
‫وكذلك الياة النسانية ف ميطها الشامل‪ ..‬فكل النظم القائمة على تارب البشرية‪ :‬النظم السياسية‬
‫والقتصادية والجتماعية والعمرانية‪ ..‬ل تكن لتقوم لول ثبوت هذه السنة واطرادها‪ .‬فهذا وحده هو الذي‬
‫يعل للتجربة قيمة‪ ،‬ويعلها مالً للفائدة وملً للعتبار‪.‬‬
‫وإل فما قيمة التجارب ‪ -‬علمية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية ‪ -‬إذا كانت كل تربة منقطعة عن غيها‪،‬‬
‫قائمة بذاتا‪ ،‬ل تتصل بشيء ول تنتهي إل شيء؟ وكيف يتعلم الناس أن هذا ضار وهذا نافع‪ ،‬فيعرضوا عن‬
‫الول ويقبلوا على الخي؟‬
‫هي رحة ال إذن بالناس أن يعل لم سنة ثابتة‪ ،‬ويعلها واضحة‪ ،‬ويعلها ملً للعبة‪ ،‬ويوجه إليها‬
‫الضمائر‪ ،‬ويوقظ لا القلوب‪:‬‬
‫سيُوا فِي الَْأ ْرضِ فَاْنظُرُوا كَْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ اْلمُ َكذِّبيَ َهذَا َبيَانٌ لِلنّاسِ َوهُدىً‬
‫(َقدْ َخَلتْ ِمنْ قَبْلِ ُكمْ ُسَننٌ فَ ِ‬
‫َومَ ْو ِعظَةٌ ِل ْلمُّتقِيَ) [‪.]17‬‬

‫***‬
‫وقد اقتضت هذه السنة ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬أن يكون البشر هم أدوات العمل ف الرض وهم كذلك أدوات‬
‫التغيي‪:‬‬
‫(إِنّ اللّهَ ل ُيغَيّرُ مَا ِبقَ ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَْن ُفسِ ِهمْ) [‪.]18‬‬
‫ولن يعجز ال سبحانه أن يغي ما بالقوم دون أن يغيوا ما بأنفسهم‪ .‬فالسماوات والرض ومن فيهن ملكه‪.‬‬
‫وهو القاهر فوق عباده‪ .‬وهو التصرف وحده ف الميع با يشاء وكيفما يشاء‪.‬‬
‫ولكنه هكذا شاء‪ ..‬أن يكون النسان عنصرا إيابيا ف الياة‪ .‬وأن يكون التغيي ‪ -‬وهو إرادة ال ‪ -‬مرتبطا‬
‫بإرادة النسان‪ ،‬مقضيا عن طريقه‪ ،‬نافذا من خلله‪ ،‬متزجا بكيانه كله من عمل وفكر وشعور‪.‬‬
‫والمد ل من النسان أن جعل له كل هذه القيمة ف الرض‪ ..‬وإل فما هو ف ذاته لول هذا العطف الربان‬
‫عليه؟ لول تلك النفخة اللية الت جعلت منه ما هو عليه‪ .‬أليس هو من طي هذه الرض‪ ،‬يستوي ف ذلك‬
‫مع الصرصار القي والوحش الكاسر واليوان البهيم؟‬
‫ولكن لذا التكري تبعاته ومقتضياته‪..‬‬
‫تبعاته أن يكون النسان قوة إيابية حقا‪ ،‬وأن يعمل بقتضى ذلك ف واقع الياة‪.‬‬
‫تبعاته أن يعمل‪ ،‬وأن يكافح‪ ،‬وأن يصارع‪ ،‬ول يسلّم‪ ،‬ول ينخذل‪ ،‬ول يستكي‪.‬‬
‫تبعاته أن يأمر بالعروف وينهى عن النكر ويؤمن بال‪( :‬كُنُْتمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِ َجتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِاْل َمعْرُوفِ‬
‫وََتنْهَوْنَ َعنِ اْلمُنْكَرِ وَُت ْؤمِنُونَ بِاللّهِ) [‪.]19‬‬
‫تبعاته إذا رأى النكر أن يغيه‪ ..‬بيده‪ ،‬فإن ل يستطع فبلسانه‪ ..‬فإن ل يستطع فبقلبه‪ ..‬وهو أضعف اليان‪.‬‬

‫***‬
‫وليس العروف أو النكر شيئا مدودا ف هذه الرض‪ ،‬أو ميدانا دون ميدان‪.‬‬
‫كل شأن من شئون الناس‪ ،‬كب أو صغر‪ ،‬يكن أن يري بالعروف ويكن أن يري بالنكر‪ .‬وتبعات‬
‫النسان تستلزم ملحقته لذه الشئون كلها‪ ،‬والرقابة عليها‪ ،‬والتأكد من جريها بالعروف وبعدها عن‬
‫النكر! وإل‪ ..‬فالنتيجة هي الفساد!‬
‫تلك أيضا هي سنة ال‪ .‬فقد اقتضت سنته أن يراقب الناس شئون الرض‪ ،‬ويدفع بعضهم بعضا إل الصلح‬
‫س َدتِ الْأَ ْرضُ وَلَ ِكنّ اللّهَ ذُو َفضْلٍ‬
‫والرشد‪ ،‬وإل فسدت الرض‪( :‬وَلَوْل َد ْفعُ اللّهِ النّاسَ َبعْضَ ُهمْ بَِب ْعضٍ َلفَ َ‬
‫عَلَى اْلعَاَل ِميَ) [‪.]20‬‬
‫وإنا لتبعة ثقيلة تنوء بملها الكتاف‪ ..‬ولكنها كذلك هي السبيل الوحد لنتظام المور‪ ،‬فحي يؤدي كل‬
‫إنسان واجبه من المر بالعروف والنهي عن النكر ‪ -‬مع اليان بال ‪ -‬ل يرؤ الباطل أن يعيش‪ ،‬ول يرؤ‬
‫النكر أن يستأسد‪ .‬ويظل الق هو القوة الغالبة الفعالة الت تسيطر على المور‪.‬‬
‫أما حي ينام عن هذا الواجب القدس فالشر يغري‪ ،‬والشر يهيج‪ ،‬والشر يسيطر على الياة‪.‬‬
‫وقد جرت سنة ال بذلك ف التاريخ‪..‬‬
‫أيا أمة حية متيقظة‪ ،‬ترقب شئونا بنفسها‪ ،‬وترص على أداء كل واجب‪ ،‬وتنفر من كل تقصي‪ ،‬فهي المة‬
‫الناجحة‪ ،‬وهي الت تلك السلطان‪.‬‬
‫وأيا أمة تراخت وأهلت‪ ،‬وتركت الباطل يسيطر على شئون الناس فلم تنصره‪ ،‬فهي المة الفاشلة‪ ،‬وهي‬
‫المة الت حل با الدمار‪.‬‬
‫وقوة الجتمع وضعفه رهي بذا وذاك‪.‬‬
‫فالجتمع الذي يتناصح الناس فيه بالي ويتناهون عن النكر‪ ،‬هو الجتمع الترابط التساند القوي‪ ،‬الذي‬
‫يتقدم إل المام حثيثا‪ ،‬وينتقل من خي إل خي‪ ،‬بكم تضافر الطاقة وتوجهها إل الصلح‪ .‬والجتمع الذي‬
‫يأت النكر فيه كل إنسان على مزاجه‪ ،‬ويتركه الخرون لا يفعل‪ ،‬هو الجتمع الفكك النحل‪ ،‬الذي يضي‬
‫إل الوراء حتما‪ ،‬وينتقل من ضعف إل ضعف‪ ،‬بكم تبدد الطاقة وانصرافها إل الشر‪.‬‬
‫(ُل ِعنَ اّلذِينَ كَفَرُوا ِمنْ َبنِي إِسْرائيلَ َعلَى ِلسَانِ دَاوُدَ َوعِيسَى اْبنِ مَرَْيمَ ذَِلكَ ِبمَا عَصَوْا َوكَانُوا َيعَْتدُونَ كَانُوا‬
‫ل يََتنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ َف َعلُوهُ لَِبْئسَ مَا كَانُوا َي ْفعَلُونَ) [‪.]21‬‬
‫وكذلك لعن الغرب ف التاريخ الديث‪.‬‬
‫أما السلمون الوائل‪ ،‬الذين كانوا خي أمة أخرجت للناس‪ ،‬والذين كانوا يأمرون بالعروف وينهون عن‬
‫النكر ويؤمنون بال‪ ،‬فقد كانوا أمة قوية قاهرة غلبة‪ .‬أمة متينة البناء وثيقة الساس‪ .‬أمة استطاعت أن‬
‫تكافح كل قوى الشر وتعيش‪ .‬تكافح الكومات الظالة من داخلها‪ ،‬والغزاة البابرة من خارجها‪ ،‬من التتار‬
‫مرة والصليبيي مرة‪ ..‬وتصمد لذا الشر كله وتتغلب عليه‪.‬‬
‫فلما كفوا‪ ..‬لا تعبوا من المر بالعروف والنهي عن النكر‪ ..‬لا عادوا ل يتناهون عن منكر فعلوه‪ ..‬جرت‬
‫عليهم السنة البدية الالدة الت بينها لم ال وحذرهم منها‪ ..‬فصاروا فتاتا متهاويا تلتقمه قوى الشر من‬
‫الداخل والارج على السواء‪.‬‬
‫ولقد يبدو لول وهلة أن العال السلمي قد ضعف وهان واستُعمر لنه غرق ف الهالة والتأخر والنطاط‬
‫والمود‪ .‬ولنه انقسم على بعضه فتنازعته الحقاد‪ .‬ولن حكامه الطغاة كانوا مشغولي بلذائذهم عن أن‬
‫يلتفتوا لصلح الشعب‪ .‬ولن الظال الجتماعية والقتصادية قسمت الناس إل طغمة ظالة من اللك تلك‬
‫كل شيء‪ ،‬وعبيد من الشعب ل يلكون شيئا غي الذل والفقر والوان‪ .‬ولن القوة الربية والنتاجية للعال‬
‫السلمي تضاءلت وانسرت بينما كانت أوربا تصعد ف كل ميدان‪..‬‬
‫وإنه لكذلك حقا وصدقا‪ ..‬ولكن ما ذاك؟ ما هو ف حساب القائق إل السكوت عن النكر وعدم المر‬
‫بالعروف؟!‬
‫أل يأمر ال بالعدل‪َ ( :‬وإِذَا حَ َكمُْتمْ بَْينَ النّاسِ أَنْ َتحْ ُكمُوا بِاْل َع ْدلِ) [‪.]22‬‬
‫ضعَ ِفيَ فِي‬
‫وعدم السكوت للظلم‪( :‬إِنّ اّلذِينَ َت َوفّا ُهمُ اْلمَلئِكَةُ ظَاِلمِي أَْن ُفسِ ِهمْ قَالُوا فِيمَ كُنُْتمْ قَالُوا كُنّا مُسَْت ْ‬
‫الْأَ ْرضِ قَالُوا أََلمْ تَ ُكنْ أَ ْرضُ اللّهِ وَا ِسعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَِئكَ مَأْوَا ُهمْ جَ َهّنمُ وَسَا َءتْ َمصِيا) [‪،]23‬‬
‫ولكنهم تركوا حكامهم يظلمونم واستكانوا لم فلم يغيوا عليهم؟‬
‫أل يأمر ال بإعداد العدة واستحضار القوة‪َ ( :‬وَأ ِعدّوا َل ُهمْ مَا ا ْسَتطَعُْتمْ ِمنْ قُوّةٍ) [‪ ،]24‬ولكنهم سكتوا عن‬
‫الستعداد وضعفوا واستكانوا‪ ،‬ول يطالبوا بالهاد ف سبيل ال ول يتجهوا إليه؟‬
‫أل يكرم ال العلم‪( :‬اقْ َرأْ وَرَّبكَ الَْأكْ َرمُ اّلذِي َعّلمَ بِاْل َقلَمِ َعّلمَ الْأِْنسَانَ مَا َلمْ َي ْعَلمْ) [‪ ،]25‬وحض عليه‬
‫رسوله‪ " :‬طلب العلم فريضة " [‪ ،]26‬فلم يسعوا إل العلم وغرقوا ف الهالة؟‬
‫أل يأمر ال بأل يكون الال (دُولَةً بَْينَ الَْأغْنِيَاءِ مِنْ ُكمْ) [‪ ،]27‬فتركوه دولة بي القطاعيي ول يثوروا عليهم‬
‫إحقاقا لكلمة ال ف الرض‪ ،‬وإحقاقا للعدل الذي أمر به ال؟‬
‫أل يأمر ال الرجال أن يعاشروا النساء بالعروف ( َوعَاشِرُو ُهنّ بِاْل َمعْرُوفِ) [‪ ،]28‬فعاشروهن بالظلم‬
‫وأجحفوا بقوقهن‪ ،‬وتركوهن طعمة للجهل وانزواء الشخصية وضآلة الكيان ‪ -‬وهن صانعات الطفولة ‪-‬‬
‫فخرجت من بي أيديهم أجيال من البشر هابطة النفس مدودة الفاق ضئيلة النسانية؟‬
‫فأي معروف أمروا به وأي منكر نوا عنه‪ ،‬وأي إيان بال؟‬
‫عندئذ جرت عليهم سنة ال‪ ..‬وغضب عليهم ال‪ ..‬فاستعبدوا وهم العلون لو كانوا مؤمني‪( :‬وَل تَ ِهنُوا‬
‫وَل َتحْزَنُوا َوأَْنُتمُ الَْأ ْعلَوْنَ إِنْ كُنُْتمْ مُ ْؤمِِنيَ) [‪.]29‬‬

‫***‬
‫تلك سنة ال‪ ..‬يأمرون بالعروف وينهون عن النكر‪ ..‬أو يدعونه فل يستجيب لم‪ ،‬ويسألونه فل يعطيهم‪،‬‬
‫ويستنصرونه فل ينصرهم‪..‬‬
‫لنم ‪ -‬شاءت حكمته ذلك ‪ -‬هم أدوات ال ف الرض‪ .‬وعن طريقهم ينفذ ال أمره‪ .‬كذلك اقتضت‬
‫سنته‪( :‬إِنّ اللّهَ ل ُيغَيّرُ مَا ِبقَ ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا بِأَْن ُفسِ ِهمْ) ل عجزا من ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬عن التغيي بغي تلك‬
‫الدوات‪ ،‬أو بغي أدوات على الطلق‪ ،‬ولكن تكريا لذا الليفة ف الرض‪ ،‬ومنحَه حرية التصرف وحرية‬
‫السلوك‪.‬‬
‫وحي نفهم هذه السنة نفهم ذلك الديث الذي نطق به الرسول صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫فإذا كانت الدوات جاهزة للعمل‪ ،‬متوجهة إليه‪ ،‬متوفرة له‪ ..‬فإن السنة تضي‪ ،‬والعمل ينفذ‪ ،‬والصلح‬
‫يتم‪.‬‬
‫وإذا كانت الدوات معطلة أو فاسدة‪ ..‬فإن السنة تضي كذلك ف طريقها‪ .‬تضي بالبقاء على الفساد‪،‬‬
‫والزيادة فيه‪ ،‬وعدم التغبي عليه‪ ،‬وعدم الصلح فيه‪.‬‬
‫وعندما يدعو الناس وهم قاعدون عن العمل‪ ،‬وحي يسألون وهم كسال‪ ،‬وحي يستنصرون وهم ل يعدون‬
‫عدة النصر‪ ..‬فعند ذلك ل يستجيب ال لم ول يعطيهم ول ينصرهم‪..‬‬
‫لنم ل يستحقون النصر‪..‬‬
‫وكيف يستحقون وهم قاعدون؟!‬
‫وكيف يثبتون عليه لو منحهم ال إياه؟!‬
‫هب أن ال غي سنته ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فأنزل عليهم النصر وهم قاعدون‪ .‬أَوَ يفظونه؟ أيدوم لم؟ وكيف‬
‫يفظونه وهم فاسدون مفسدون‪ ،‬متهالكون متهاوون‪ ،‬ل قدرة لم ول عزية ول دراية بأمر من المور؟‬
‫من أجل ذلك ل ينصرهم‪َ ( .‬ومَا كَانَ اللّهُ ِلَيظِْلمَ ُهمْ وَلَ ِكنْ كَانُوا أَْن ُفسَ ُهمْ َي ْظِلمُونَ) [‪.]30‬‬
‫إن طريق النصر والسستنصار واضحة‪ .‬إن ال قد اختار أن يكون النسان هو أداته النفذة ف الرض‪ ،‬حي‬
‫يستقيم إل ال‪ ،‬ويهتدي إليه‪ ،‬ويعمل من أجله‪ ،‬ويبه ويشاه‪.‬‬
‫فمن أراد النصر‪ ،‬من أراد أن يدعو ال فيجيبه‪ ،‬ويسأله فيعطيه فليكن حيث يريده ال‪ ،‬وحيث ُينْزِل عليه‬
‫نصره وعطاءه فينفع النصر‪ ،‬وينفع العطاء‪.‬‬
‫وطريق ال واضحة‪ .‬والنصر والعطاء من هذا الطريق وحده‪ .‬فمن أراد النصر فليسر ف الطريق وليمض‬
‫قدما‪ .‬فإنه ملق وعد ال الق‪ .‬ول يلف ال وعده‪ .‬أما إن هجر الطريق الوحد‪ ،‬وراح يتسكع ف كل‬
‫طريق غيه‪ ،‬فمن أين يصيبه النصر‪ ،‬وهو منصرف عنه وموليه الدبار؟‬

‫***‬
‫ولقد وعت أوربا جانبا من سنة ال ف الرض ‪ -‬الانب الذي نسيه السلمون اليوم‪ .‬ونسيت منها جانبا‬
‫آخر ‪ -‬الانب الذي وعاه السلمون!‬
‫ولقد وعت أوربا أن النسان هو القوة الفعالة ف الرض‪ .‬وأن الطاقة البشرية هي أداة الصلح‪ .‬من أجل‬
‫ذلك اتهت هتهم لتجنيد هذه الطاقة‪ ،‬وتوجيهها إل العمل النتج ف واقع الياة‪.‬‬
‫ووصلوا ف ذلك إل درجة معجِبة من النشاط والتنظيم والدأب النتج العجيب‪.‬‬
‫ذلك ما نسيه السلمون اليوم وهم يتواكلون ويتقاعسون‪ ،‬وينتظرون وهم قاعدون‪.‬‬
‫ولكن أوربا نسيت ال!‬
‫نسيت أن تعمل ف سبيله‪ ،‬وتعيش ف سبيله‪ ،‬وتنتج ف سبيله‪.‬‬
‫ومضت بطاقتها النتاجية الضخمة ف سبيل الشيطان‪.‬‬
‫ومن ث قام هذا الصراع الرهيب الذي يوشك أن يدمر وجه الرض‪.‬‬
‫والسلمون يعرفون ال‪.‬‬
‫ولكنهم يعرفونه ف ظاهر قلوبم ول يفظونه‪ " :‬احفظ ال يفظك [‪." ]31‬‬
‫يعرفونه ول يأترون بأمره ول ينتهون بنهيه ول يعملون ف سبيله‪ ،‬ويشركون به كثيا من قوى الرض‬
‫الادية أو البشرية سواء‪َ ( .‬ومَا َقدَرُوا اللّهَ َحقّ َقدْرِهِ) وما عبدوه حق عبادته‪ .‬ومن ث فهم ل يسيون بعد‬
‫على الطريق‪.‬‬
‫وقد اقتضت سنة ال أن من يعمل ويتهد يصل إل شيء‪ ..‬وإن كانت سنته قد اقتضت كذلك أنه يضيع‬
‫هذا الشيء ف النهاية ما ل يسر ف الطريق الذي رسه ال‪ .‬وهو ما يوشك أن يدث ف الغرب اليوم‪.‬‬
‫ولكن من ل يعمل ل يد على الطلق‪ ..‬ولو كان ‪ -‬نظريا ‪ -‬يعرف ال ويدعوه ويسأله العطاء!‬
‫والسلمون هم الكلفون أن يهدوا البشرية الضالة إل الطريق‪َ ( :‬و َكذَِلكَ َج َعلْنَا ُكمْ ُأمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُ َهدَاءَ‬
‫عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ َعلَيْ ُكمْ شَهِيدا [‪.)]32‬‬
‫ولن يهدوا الناس حت يهتدوا هم أولً إل ال ويسيوا على الطريق‪ .‬والطريق معروف كما رسه ال‪ " :‬إن‬
‫ال يقول لكم‪ :‬مروا بالعروف وانوا عن النكر قبل أن تدعوا فل أجيب‪." ...‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫[‪ ]13‬الترغيب والترهيب‪ .‬ج ‪ 4‬ص ‪ 12‬رقم ‪.29‬‬
‫[‪ ]14‬سورة الج [ ‪.] 31‬‬
‫[‪ ]15‬سورة الاثية [ ‪.] 13‬‬
‫[‪ ]16‬انظر " السلبية واليابية " ف فصل " خطوات متقابلة ف النفس البشرية " من كتاب " منهج التربية السلمية "‪.‬‬
‫[‪ ]17‬سورة آل عمران [ ‪.] 138 - 137‬‬
‫[‪ ]18‬سورة الرعد [ ‪.] 11‬‬
‫[‪ ]19‬سورة آل عمران [ ‪.] 110‬‬
‫[‪ ]20‬سورة البقرة [ ‪.] 251‬‬
‫[‪ ]21‬سورة الائدة [ ‪.] 79 - 78‬‬
‫[‪ ]22‬سورة النساء [ ‪.] 58‬‬
‫[‪ ]23‬سورة النساء [ ‪.] 97‬‬
‫[‪ ]24‬سورة النفال [ ‪.] 60‬‬
‫[‪ ]25‬سورة العلق [ ‪.] 5 - 3‬‬
‫[‪ ]26‬انظر الفصل السابق بذا العنوان‪.‬‬
‫[‪ ]27‬سورة الشر [ ‪.] 7‬‬
‫[‪ ]28‬سورة النساء [ ‪.] 19‬‬
‫[‪ ]29‬سورة آل عمران [ ‪.] 139‬‬
‫[‪ ]30‬سورة العنكبوت [ ‪.] 40‬‬
‫[‪ ]31‬حديث رواه الترمذي‪.‬‬
‫[‪ ]32‬سورة البقرة [ ‪.] 143‬‬
‫ل تفكروا ف ذات ال *‬

‫سبحانه‪ ،‬وهل يطيق بشر أن يفكر ف ذاته؟‬


‫هل تطيق الذرة الائمة التائهة الفانية الحدودة أن تيط بقيقة الزل والبد‪ ،‬الت ل آخر لا ول حدود؟!‬
‫وإن اهتدت‪ ..‬إن وصلت واتصلت بال‪ ..‬فما حاجتها إل " التفكي " ف ذات ال وهي واصلة إل حاه؟!‬
‫وهل فرغ النسان من تدبر أسرار الكون‪ ،‬ليفكر ف ذات الالق سبحانه‪ ،‬ليس كمثله شيء؟‬
‫هل وصل ف " علمه " إل حقيقة جوهرية واحدة من حقائق الكون؟ أم إنه ما يزال ف ميط " الظواهر " ل‬
‫يرؤ على الدخول ف العماق؟‬
‫لقد دفعه القدام مرة فتقدم فحطم الذرة وكاد يصل إل الجهول‪ ..‬ولكنه فجأة تراجع‪ ..‬من هول‬
‫النفجار!‬
‫ل يكن تفجر الذرة وانطلق طاقتها الائلة الروعة هو الذي أصابه بالذعر وأصابه بالذهول! وإنا كان "‬
‫الكشف " الديد الذي وصل إليه‪ ،‬فأعاده إل حيث كان من أسرار الوجود‪.‬‬
‫لقد اكتشف أنه ليس ثة " مادة "‪ ،‬وإنا هناك " طاقة "‪ ،‬وأن هذه الطاقة هي " الجهول " الذي بث عنه‬
‫ألوفا من السني أو مليي‪ ،‬ث عاد من حيث بدأ‪ ،‬ل يزد علما إل بظواهر الشياء‪.‬‬
‫الشياء الوجودة ف الكون ل يعرف النسان " ذاتا "‪ .‬ل يعرف جوهرها‪ .‬وإنا يعرف من صفاتا‬
‫ومظاهرها‪.‬‬
‫فأي قفزة ف الفضاء منونة تلك الت تدفعه إل أن يترك الشياء الخلوقة الحدودة الصغية‪ ،‬الت يعجز عن‬
‫معرفة ذاتا‪ ،‬فيحاول أن ييط بالذات اللية‪ ،‬ويصل إل " حقيقتها "؟!‬
‫خبل ليستقيم مع التفكي السليم‪.‬‬
‫فأبسط قواعد " النطق " أنك إذا عجزت عن الصغي فأنت أعجز عن الكبي‪ .‬وإذا عجزت عن أن تسي‬
‫ل فستهلكك مئات الميال فضلً عن اللوف والليي‪.‬‬ ‫مي ً‬
‫والكون أمام النسان واسع هائل عريض‪..‬‬
‫فهل فرغ من أمره؟ هل وصل إل آخر أبعاده؟ هل أحاط به علما‪ ،‬بل تصورا وخيالً؟‬
‫فلنسمع هنا كلم العلم الرسي فإنه وحده يبهر اليال ويذهل الرءوس!‬
‫" إن أقرب نم إلينا يبعد عن الشمس فوق الربع من السنوات الضوئية‪ .‬أي أن النور‪ ،‬وسرعته ‪186000‬‬
‫ميل ف الثانية‪ ،‬يقطع السافة من الشمس إل أقرب نم ف نو أربع سنوات‪ .‬إنه على مسافة تبلغ نوا من‬
‫‪ 26 ???000 ???000 ???000 ???000‬ميل‪ .‬إنك لو مثلت الشمس بنقطة أخرى تبعد عن النقطة‬
‫الول بنحو ‪ 4‬أميال " [‪.]34‬‬
‫" الجرة قرص عظيم‪ .‬وهي قرص مفرطح‪ ،‬كالرغيف‪ ...‬وقطر القرص نو من ‪ 100 ???000‬سنة‬
‫ضوئية‪ .‬والسنة الضوئية مسافة مقدارها ‪ 6‬مليون مليون ميل‪ .‬فقطر هذا القرص نو من ‪ 600‬ألف مليون‬
‫مليون ميل‪ .‬وارتفاعه نو عشر ذلك " [‪.]35‬‬
‫وهناك مرات أخرى كثية ف الكون غي الجرة الت تتبعها مموعتنا الشمسية‪.‬‬
‫" هذه الدنييات‪ ،‬الت تشبه مرتنا‪ ..‬كم عددها؟ مائة؟ ألف؟ ألفان؟ ل‪ .‬إنا مائة مليون من الجرات‪ .‬مائة‬
‫مليون جزيرة ف فضاء هذا الكون الواسع وقد تزيد "!! [‪.]36‬‬
‫هذا ف " الحيط الارجي " للكون‪ .‬وهو مظهر واحد يعجز عن حله اليال وتعجز العقول‪.‬‬
‫فلننظر ف الرض وحدها‪ .‬تلك الذرة الائمة ف الفضاء‪ .‬هباءة منثورة ف ميط الكون‪ ،‬ل تسكها إل القدرة‬
‫القادرة الالقة البدعة‪.‬‬
‫كم جبلً با وكم نرا وكم برا وكم بية؟! كم كهفا ف جبالا وكم حفرة ف أراضيها؟ كم نقطة من‬
‫الطر تبط إليها وكم ذرة من البخار تصعد منها آناء الليل وأطراف النهار؟‬
‫وكم با من أنواح الياة؟ الياة النباتية واليوانية والنسانية؟‬
‫كم ألفا من صنوف النبات على وجه الرض؟ وأي دقائق تفرق بي نبات ونبات متلف ألوانه " يسقى من‬
‫ماء واحد ونفضل بعضها على بعض ف الكل "؟‬
‫وكم ألفا من صنوف اليوان والطي والشرات ف السهول والفياف والقفار والوديان والغابات؟‬
‫وكم مليونا من البشر من متلف اللوان واللغات والعقائد والفكار؟‬
‫بل النبات الواحد واليوان الواحد والنسان الواحد‪ ..‬كم فيه من معجزات اللق؟‬
‫الزهرة الواحدة البديعة التناسق العجزة التلوين‪ .‬هل يفرغ النسان من تأملها؟‬
‫إن أمهر الصورين وأقدر الرسامي ليعجز عن الحاطة " بالفن " الذي تثله زهرة واحدة من تلك الزهور‪.‬‬
‫فإن ما فيها من تعداد اللوان‪ ،‬وتدرجها‪ ،‬وتناسقها‪ ،‬وما فيها من جاذبية للعي والس‪ ،‬زائدا كله عن‬
‫عنصر الضرورة الذي يستلزم أعضاء التذكي وأعضاء التأنيث ول زيادة‪ ..‬إن هذا كله لية تبهر النفوس‪.‬‬
‫و " التخصص " الذي ييز عضوا من عضو ف كيان النبات الذر والساق والوراق والزهور‪ ..‬وكلها من‬
‫حبة واحدة تبدو للعي شيئا واحدا ل تصص فيه ول تييز!‬
‫وعملية التمثيل الضوئي الت تول " طاقة " الشمس إل " مادة "!‬
‫وتوزع النبات على سطح الرض بسب توزيع الرارة والبودة والفاف والرطوبة‪ ..‬بل بسب توزيع‬
‫النور والظلم! فقد أثبت العلم أن " اختلف الليل والنهار " بعن انتظام دورتما الت يلف فيها أحدها‬
‫الخر‪ ،‬وبعن اختلف طولما كذلك‪ ..‬هو الذي يوزع النبات على سطح الرض! فلكل نبات زهرة‪.‬‬
‫والزهرة تتكون ف فترة الظلم ل ف فترة النهار! وكل زهرة تتاج إل فترة معينة من الظلم حت تطلع!‬
‫ومن ث تتوزع أنواع النبات على أطوال الليل والنهار بسب حاجة كل زهرة إل الظلم! وإذا أخذت نباتا‬
‫يتاج إل ظلمة اثنت عشرة ساعة لكي يزهر‪ ،‬وزرعته ف مكان ليله ل يزيد عن عشر ساعات‪ ،‬فإنه قد‬
‫ينبت‪ ،‬ولكنه ل يزهر‪ ،‬ومن ث ل يصل إل الثار!‬
‫واليوان الواحد كم فيه من موافقات عجيبة ومعجزات؟!‬
‫الواس وحدها معجزة‪ .‬واللد والشعر معجزة‪ .‬والنياب والظافر معجزة‪ .‬وجهاز الضم والتنفس‬
‫والنسال كلها معجزات‪.‬‬
‫كل عضو مصص لوظيفة‪ .‬وهي كلها ف الصل بويضة واحدة أو حيوان منوي ‪ -‬ف رأي العي ‪ -‬غي ميز‬
‫الجزاء‪.‬‬
‫والنسان‪ ..‬قمة الياة على سطح الرض وسيد الخلوقات فيها‪ ..‬كم معجزة ف خلقه؟‬
‫ودعك من خواصه " اليوانية " كلها‪ ،‬وإن كان ف كل منها ما يي العقل ويذهل الفكر‪ ،‬من شدة الدقة‬
‫وعجيب التناسق وعظمة القدرة الت تيئ لكل خلق ما يصلح له وما يعينه على أداء وظيفته‪.‬‬
‫ودعك من أن هذه الصائص الت يشترك فيها مع اليوان قد ارتفعت ف النسان وصارت أروع وأعجب‬
‫وأدق وأكمل‪.‬‬
‫وانظر ف خصائصه الت تفرد با وتيز على كل اللق‪ .‬انظر إل عقله وانظر إل روحه‪ .‬أي إعجاز‪ .‬أي‬
‫إعجاز!‬
‫ما العقل؟ كيف يفكر؟ كيف يصل إل القائق؟ كيف يرتب بعضها على بعض ويستنبط بعضها من بعض؟‬
‫وما التفكي؟ كهرباء هو أم مادة؟ أم طاقة؟ وكيف تيزت عن الطاقات الخرى كلها وتفردت عنها؟‬
‫وما الروح؟ ذلك الجهول؟‬
‫كيف يتسن للنسان الضعيف القوة‪ ،‬الحدود الطاقة‪ ،‬الحدود مدى الواس‪ ،‬أن يتصل بالجهول العظم‬
‫ويقبس منه قبسات؟‬
‫كيف يدث التليباثي (التخاطر من بعد) كما حدث لعمر بن الطاب حي صاح يا سارية البل! وسعه‬
‫سارية على بعد ألوف الميال؟‬
‫كيف يدث اللم التنبئي الذي يكشف جانبا من الجهول الذي ل يدث بعد ف ميط الواس؟‬
‫بل كيف يدث " العلوم " من حب وكره‪ ،‬ونسيان وتذكر‪ ،‬وخصام وألفة‪ ،‬ونثر وشعر‪ ،‬وعمل وتفكي؟‬

‫***‬
‫بل نرجع إل الوراء خطوة لنسأل‪:‬‬
‫ما تلك القوة العجيبة الكامنة ف البذرة‪ ،‬فإذا هي تنمو‪ ،‬وإذا هي ترج شطئا ينفذ من باطن الرض بقوة‬
‫ليظهر على السطح‪ ،‬ث يطول ويورق ويزهر ويثمر ث يوت؟‬
‫وما تلك القوة العجيبة الكامنة ف البويضة واليوان النوي‪ ،‬فإذا لقاؤها العجزة الكبى الت تنشئ الياة؟‬
‫بل ما تلك القوة الكامنة ف اللية الية‪ .‬اللية الفردة الواحدة الت بدأت الياة منها على سطح الرض؟‬
‫بل ما تلك القوة العجيبة الكامنة ف اللية الامدة أو الت تال جامدة ف " الذرة " الجسمة ف الادة‪ ،‬أو‬
‫النطلقة ف الشعاع‪.‬‬
‫هل يعرف النسان ما تلك القوة أو يلك أن يصل إل السرار؟‬
‫***‬
‫ذلك مبلغ النسان من " العلم " ومبلغه من " القيقة "‪.‬‬
‫ومع ذلك ل يعرف قدر نفسه‪ ،‬ويروح يشطح ف الفاق‪.‬‬
‫يريد أن يعرف " القيقة " الكبى‪ .‬يريد أن ييط بذات ال‪ .‬فهل يقدر؟‬
‫هب أن أحدا ل ينعه ول ينهه من التفكي‪ ..‬فكيف يصل؟ بأية أداة وأية وسيلة؟‬
‫العقل؟‬
‫أو ليس العقل ذاته هو الذي قال للنسان‪ :‬إن الحدود ل ييط بغي الحدود‪ ،‬والفان ل ييط بكن ل‬
‫يدركه الفناء‪.‬‬
‫فيم إذن تسخي العقل فيما يقول العقل ذاته إنه مستحيل؟‬
‫وهل وصل الناس إل شيء حي سخروا عقولم لذلك البحث الستحيل؟‬
‫هل وصلت " الفلسفة " ف جيع أطوارها وجيع ماولتا إل حقيقة واحدة مستقرة تكشف للناس عن‬
‫الجهول؟ أم باءت كلها بالفشل الازم والعجز الحتوم!‬
‫وهل هذه التخبطات الت كتبها الفلسفة ف شأن ال حقيقة بأن ينظر إليها عاقل ويوليها شيئا من اهتمامه؟‬
‫وفيم هذا العناء كله؟! ما وراء النطح ف الصخرة الت تطم الرءوس؟!‬
‫أيريد أن " يصل " إل ال؟ سبحان ال! فما له ل يصل عن الطريق العبد الفتوح؟ ما له يلف ويدور‪ ،‬ويعود‬
‫" كالخووت " الذي ركبه البال!‬
‫يريد أن يصل إل ال؟ أما يس ف أعماق نفسه السبيل؟ أما يترك العنان للفطرة وهي تصل به إل هناك؟ أما‬
‫يدع روحه تلق وحدها‪ ،‬عارفة طريقها إل النور الذي قبست منه وهي كائنة ف علم ال منذ الزال‬
‫والباد‪..‬؟‬
‫الطريق هو اليان!‬
‫والفطرة تعرف الطريق!‬
‫وما يتاج النسان إل إل أن يدع فطرته على سجيتها‪ .‬ل يكبلها بقيود مصطنعة من فلسفة منحرفة أو علم‬
‫فطي‪ .‬ول يغشيها بركام الشهوات الغليظة والنوات الابطة الت تجب شفافيتها وتنع عنها النور‪.‬‬
‫وهي وحدها تديه إل ال‪ ..‬لن ال فطرها على الدى إليه!‬
‫وإن أراد عونا للفطرة وهي ف الطريق إل ال‪ ..‬فليكن ذلك العون الكب هو تدبر آيات اللق‪ ،‬والبحث‬
‫عن آيات القدرة ف صفحة الكون الافلة بالعجزات‪.‬‬
‫فذلك هو الذي يطيقه‪ .‬وذلك هو الذي يعينه على السبيل‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْأ ْرضِ وَاخْتِلفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ اّلذِينَ َي ْذكُرُونَ اللّهَ قِيَاما‬ ‫(إِنّ فِي َخ ْلقِ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ رَبّنَا مَا َخَل ْقتَ َهذَا بَاطِلً سُْبحَاَنكَ َفقِنَا‬ ‫َوُقعُودا َو َعلَى جُنُوبِ ِهمْ وَيََتفَكّرُونَ فِي َخ ْلقِ ال ّ‬
‫َعذَابَ النّارِ) [‪.]37‬‬
‫وآيات ال ف الكون عميقة الغور جدا‪ ،‬وهي ف الوقت ذاته معروضة ف وضوح ويسر لكل عي متفتحة‬
‫وكل قلب طليق‪.‬‬
‫( َويُرِي ُكمْ آيَاتِهِ فَأَيّ آيَاتِ اللّهِ تُنْكِرُونَ) [‪.]38‬‬
‫إن الكون كله آية ال‪ .‬وف كل شيء منه آية لن أراد التذكر أو ألقى السمع وهو شهيد‪.‬‬
‫الليل والنهار‪ .‬الشمس والقمر والفلك‪ .‬السحاب والطر‪ .‬النبتة الية الارجة من البة اليتة (ف ظاهر‬
‫العي) والطام اليت الذي ينتهي إليه النبات الي‪ .‬الرض " اليتة " الت ترج الياة والياة الت تفضي ف‬
‫الحياء جيعا إل الوت‪ .‬النسان الذي صوره ال فأحسن تصويره‪ .‬الرض الت بث فيها من كل دابة‪.‬‬
‫التوافق بي الياة والحياء يبدو ف الشعة الكونية الت يرسلها الفضاء للرض فل تقوم بدونا الياة‪ ،‬كما‬
‫يبدو ف النسب الضبوطة من البحر واليابس‪ ،‬والكسجي واليدروجي والنتروجي‪ ..‬ومدى صلبة القشرة‬
‫الرضية‪ ،‬ومدى تأثر الرض بالاذبية‪ ،‬ومدى بعدها عن الشمس ومدى سرعتها أمامها‪ ..‬إل آخر هذه‬
‫الوافقات‪.‬‬
‫والرسول الكري صلى ال عليه وسلم يدعو الناس إل تدبر آيات ال ف اللق‪ .‬والقرآن الكري يفصل هذه‬
‫اليات تفصيلً‪ ،‬ل تكاد سورة واحدة تلو من ذكر آية منها أو آيات‪..‬‬
‫حبّ وَالنّوَى ُيخْرِجُ اْلحَيّ ِمنَ اْلمَّيتِ َو ُمخْرِجُ اْلمَّيتِ ِمنَ اْلحَيّ ذَلِ ُكمُ اللّهُ فَأَنّى تُ ْؤفَكُونَ فَالِقُ‬ ‫(إِنّ اللّهَ فَاِلقُ اْل َ‬
‫ش ْمسَ وَاْل َقمَرَ ُحسْبَانا ذَِلكَ َت ْقدِيرُ اْلعَزِيزِ اْلعَلِيمِ َوهُوَ اّلذِي َج َعلَ لَ ُكمُ الّنجُومَ‬ ‫الْإِصْبَاحِ وَ َج َعلَ اللّْيلَ سَكَنا وَال ّ‬
‫لِتَهَْتدُوا ِبهَا فِي ُظُلمَاتِ الْبَرّ وَالَْبحْرِ َقدْ َفصّلْنَا الْآياتِ ِلقَ ْومٍ َيعَْلمُونَ َوهُوَ اّلذِي أَْنشََأ ُكمْ مِنْ َن ْفسٍ وَا ِحدَةٍ‬
‫سمَاءِ مَاءً فََأخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ ُكلّ‬ ‫صلْنَا الْآياتِ ِلقَ ْومٍ َي ْفقَهُونَ َوهُوَ اّلذِي أَنْ َزلَ ِمنَ ال ّ‬ ‫َفمُسَْتقَرّ َو ُمسْتَوْدَعٌ َقدْ فَ ّ‬
‫شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ َخضِرا ُنخْ ِرجُ مِْنهُ َحبّا مُتَرَاكِبا َو ِمنَ الّنخْلِ ِمنْ َط ْلعِهَا قِْنوَانٌ دَانَِيةٌ َوجَنّاتٍ ِمنْ َأعْنَابٍ‬
‫وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُشْتَبِها َوغَيْرَ مُتَشَاِبهٍ اْنظُرُوا إِلَى َثمَرِهِ إِذَا أَْثمَرَ َويَْنعِهِ إِنّ فِي ذَلِ ُكمْ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ يُ ْؤمِنُونَ) [‬
‫‪.]39‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْأ ْرضِ وَاخْتِلفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَاْل ُفلْكِ الّتِي َتجْرِي فِي الَْبحْرِ ِبمَا يَْن َفعُ النّاسَ َومَا‬ ‫(إِنّ فِي َخ ْلقِ ال ّ‬
‫سمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ َب ْعدَ مَوْتِهَا وََبثّ فِيهَا ِمنْ ُكلّ دَابّةٍ وََتصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ‬ ‫أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ‬
‫سمَاءِ وَالْأَ ْرضِ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ َيعْ ِقلُونَ) [‪.]40‬‬ ‫سخّرِ بَْينَ ال ّ‬ ‫اْلمُ َ‬
‫سقُطُ ِمنْ وَ َرقَةٍ إِلّا َي ْعَلمُهَا وَل حَبّةٍ فِي‬ ‫( َوعِْن َدهُ َمفَاتِحُ اْلغَْيبِ ل َيعَْلمُهَا إِلّا هُوَ وََي ْعلَمُ مَا فِي الْبَرّ وَاْلَبحْرِ َومَا َت ْ‬
‫ُظُلمَاتِ الْأَ ْرضِ وَل رَ ْطبٍ وَل يَاِبسٍ إِلّا فِي كِتَابٍ مُِبيٍ) [‪.]41‬‬
‫( َو ِمنْ آيَاتِهِ أَنْ َخَلقَ ُكمْ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ إِذَا أَنُْتمْ َبشَرٌ تَنَْتشِرُونَ َو ِمنْ آيَاِتهِ أَنْ َخَلقَ لَ ُكمْ مِنْ أَْن ُفسِ ُكمْ أَزْوَاجا‬
‫سمَاوَاتِ‬ ‫لَِتسْكُنُوا إِلَْيهَا وَ َج َعلَ بَيْنَ ُكمْ مَوَدّةً وَرَ ْحمَةً إِنّ فِي ذَِلكَ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ يََتفَكّرُونَ َو ِمنْ آيَاتِهِ َخلْقُ ال ّ‬
‫وَالْأَ ْرضِ وَاخْتِلفُ أَْلسِنَتِ ُكمْ َوأَلْوَانِ ُكمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآياتٍ ِللْعَاِل ِميَ َو ِمنْ آيَاتِهِ مَنَامُ ُكمْ بِاللّْيلِ وَالنّهَارِ‬
‫س َمعُونَ َومِنْ آيَاتِهِ يُرِي ُكمُ اْلبَرْقَ َخوْفا وَ َطمَعا َويُنَ ّزلُ مِنَ‬ ‫ضلِهِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ َي ْ‬ ‫وَابِْتغَا ُؤ ُكمْ مِنْ َف ْ‬
‫سمَاءُ وَالَْأ ْرضُ‬ ‫السّمَاءِ مَاءً فَُيحْيِي بِهِ الْأَ ْرضَ َب ْعدَ مَ ْوتِهَا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ َي ْعقِلُونَ َو ِمنْ آيَاِتهِ أَنْ َتقُومَ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُكلّ َلهُ قَاِنتُونَ َوهُوَ‬ ‫بَِأمْرِهِ ُثمّ إِذَا َدعَا ُكمْ َدعْوَةً مِنَ الْأَ ْرضِ إِذَا أَنُْتمْ َتخْرُجُونَ وَلَهُ مَنْ فِي ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َوهُوَ اْلعَزِيزُ اْلحَكِيمُ) [‬ ‫اّلذِي َيبْدأُ اْلخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِيدُهُ َوهُوَ َأهْوَنُ َعلَيْهِ وَلَهُ اْلمََثلُ الَْأ ْعلَى فِي ال ّ‬
‫‪.]42‬‬
‫(وَآيَةٌ لَ ُهمُ الْأَ ْرضُ اْلمَْيتَةُ أَ ْحيَيْنَاهَا َوأَخْرَ ْجنَا مِْنهَا حَبّا َفمِنْهُ يَ ْأ ُكلُونَ وَ َج َعلْنَا فِيهَا جَنّاتٍ مِنْ َنخِيلٍ َوَأعْنَابٍ‬
‫َوَفجّرْنَا فِيهَا ِمنَ اْلعُيُونِ لَِي ْأكُلُوا مِنْ َثمَ ِرهِ َومَا َعمِلَتْهُ أَْيدِي ِهمْ َأفَل َيشْكُرُونَ سُْبحَانَ اّلذِي َخَلقَ الْأَزْوَاجَ ُكلّهَا‬
‫ش ْمسُ‬ ‫سلَخُ مِنْهُ النّهَارَ فَإِذَا ُهمْ ُمظِْلمُونَ وَال ّ‬ ‫ِممّا تُْنِبتُ الْأَ ْرضُ َومِنْ أَْن ُفسِ ِهمْ َو ِممّا ل َيعَْلمُونَ وَآَيةٌ لَ ُهمُ اللّْيلُ َن ْ‬
‫ش ْمسُ‬ ‫َتجْرِي ِل ُمسَْتقَرّ لَهَا ذَلِكَ َت ْقدِيرُ اْلعَزِيزِ الْ َعلِيمِ وَاْل َقمَرَ َقدّرْنَاهُ مَنَا ِزلَ حَتّى عَادَ كَاْلعُرْجُونِ اْل َقدِيِ ل ال ّ‬
‫يَنَْبغِي َلهَا أَنْ ُتدْرِكَ اْلقَمَرَ وَل اللّيْلُ سَاِبقُ النّهَارِ َوكُلّ فِي َفَلكٍ َيسَْبحُونَ وَآيَةٌ َل ُهمْ أَنّا َح َملْنَا ذُرّيّتَ ُهمْ فِي‬
‫شحُونِ وَ َخَلقْنَا لَ ُهمْ مِنْ مِْثلِهِ مَا يَ ْركَبُونَ َوإِنْ َنشَأْ ُنغْ ِرقْ ُهمْ فَل صَرِيخَ لَ ُهمْ وَل ُهمْ يُْن َقذُونَ إِلّا َر ْحمَةً‬ ‫اْلفُ ْلكِ اْلمَ ْ‬
‫مِنّا َومَتَاعا إِلَى ِحيٍ) [‪.]43‬‬
‫وهكذا وهكذا ل تلو سورة من إشارة عابرة أو مفصلة ليات القدرة القادرة البدعة العجزة الدبرة‬
‫الريدة‪.‬‬
‫وال هو فاطر هذه النفس البشرية العال بدروبا ومنسرباتا‪ ،‬وبا يصلحها وما يصلح لا‪ .‬وقد اقتضت‬
‫حكمته أن تكون الفطرة ذاتا مهتدية إل ال‪ ،‬بالطريقة الفية الت هدى با كل شيء إليه‪َ( :‬أ ْعطَى ُكلّ‬
‫شَيْءٍ َخ ْلقَهُ ُثمّ َهدَى) [‪ ]44‬دونا كد ول جهد ول عناء ف الهتداء إليه‪ ،‬كما يسي الكهرب ف الذرة ف‬
‫مساره الرسوم‪ ،‬وتسي الذرة ف مادتا ف مسارها الرسوم‪ ،‬وتسي الرض والكواكب والفلك ف مسارها‬
‫الرسوم‪ ،‬ل تمل عناء السي‪ ،‬ول تشق نفسها ف استكناهه‪ ،‬وإنا تسلم نفسها ل العزيز العليم‪..‬‬
‫كما اقتضت حكمته ‪ -‬وقد خلق للنسان عقلً ميزه به من سائر اللق الذي نعرفه ‪ -‬أن يكون دور العقل‬
‫الواعي ف الهتداء إل ال مساندة الفطرة الفية السارب‪ ،‬و " توعية " مسارها (أي جعله واعيا واضحا‬
‫مفهوما) ؛ ورسم لذلك منهجا واضحا وطريقا مستقيما‪ ..‬هو تدبر آيات ال ف الكون‪.‬‬
‫وحقا إنه لكذلك‪ ..‬فما يتدبر النسان هذه اليات بوعي يقظ وقلب متفتح إل هدته من فورها إل ال‪،‬‬
‫خالق الكون والياة‪.‬‬
‫ول يكلف ال نفسا إل وسعها‪ ..‬إن ال ل يكلف الناس أن يبحثوا ف ذاته سبحانه‪ .‬ل يكلفهم الهد الذي‬
‫يعلم ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أنم لن يقدروا عليه قط‪ ،‬وأن قصارى ما يدث لم حي ياولون أن تنفجر طاقتهم‬
‫وتتبدد‪ ،‬كما تنفجر طاقة الذرة الت انرفت عن مسارها‪ ،‬فتتحطم وتطم ما تلقاه ف الطريق!‬
‫وحي نى الرسول الكري أتباعه عن أن يفكروا ف ذات ال كيل يهلكوا‪ ،‬ل يكن صلى ال عليه وسلم‬
‫يجر على تفكيهم أو يضع عليهم القيود‪.‬‬
‫كل! إنا كان يوفر جهدهم للنافع من العمال‪ .‬كان يصون هذا الهد أن يتبدد سدى‪ ،‬ويؤدي إل‬
‫الضلل‪ .‬كان يريد للناس أن ينفقوا طاقتهم ‪ -‬بعد أن يقضوا حظهم من تدبر آيات ال ف الكون والهتداء‬
‫إليه ‪ -‬ف تعمي الرض وزيادة " النتاج "‪ .‬النتاج بعناه الواسع الشامل العميق‪ .‬النتاج الروحي والفكري‬
‫والادي‪ .‬ف ميدان العقيدة وميدان الهاد وميدان العمل بعناه الصطلحي الفهوم‪.‬‬
‫ولقد حدث ذلك بالفعل‪...‬‬
‫حي صان السلمون طاقتهم أن تتبدد وتنفجر وتتناثر ف أودية الضلل‪ ..‬كان لم إنتاج ضخم‪ ،‬هو أكب‬
‫إنتاج ف التاريخ حي يقاس بقياس الزمن ومقياس الرقعة ومقياس القيم ومقياس الضارة الادية ومقياس‬
‫العلم‪ ..‬وكل مقياس يصلح للقياس‪.‬‬
‫ففي فترة قصية ل مثيل لا ف التاريخ امتد العال السلمي من الحيط إل الحيط‪ ،‬وامتدت معه مبادئ‬
‫السلم الشاملة للسماء والرض و العمل والعبادة والدنيا والخرة‪ .‬وقامت " نظم " للحكم والسياسة‬
‫والال والقتصاد غي مسبوقة من قبل‪ ،‬تمل ف أطوائها العدالة الجتماعية‪ ،‬وتنشئ متمعا مترابطا متكافلً‬
‫متحابا متوادا ظل ألف سنة على ترابطه وتكافله حت بعد أن فسدت الكومات وابتعدت عن روح الدين‪.‬‬
‫وامتص السلم كل ما وجده نافعا من الضارات الادية السابقة له والعاصرة له‪ ،‬ث أعطاها الياة‪..‬‬
‫فانطلقت تعمل ف تعمي الرض وقد اصطبغت بصبغة السلم وتشربت روحه‪ ،‬فصارت تعمل ف الرض‬
‫وهي تتجه إل السماء‪ .‬وتبن السلم كل ما وجده من العلم لدى الغريق والنود ‪ -‬من طب وفلك‬
‫ورياضة وطبيعة وكيمياء‪ ..‬إل‪ ،‬ث أضاف إليه إضافات شت بيويته وقوته الدافقة الدافعة إل المام‪..‬‬
‫ول يكن " الفكر " السلمي عاطلً ول مجورا عليه‪ .‬وإنا كان ‪ -‬فيما عدا القلة الشاذة الت انرفت بتأثي‬
‫الفلسفة الغريقية بعض النراف (ل كله) ‪ -‬يتجه إل خي الناس ف الرض‪ ،‬ويسعى إل سعادتم بكل‬
‫وسائل السعي‪ .‬ويرى أنه حي يبحث ف العلوم ‪ -‬البحتة أو التطبيقية ‪ -‬وحي يتعمق ف الفقه الذي يشمل‬
‫سياسة الكم وسياسة القتصاد وموقف الفرد وموقف الدولة وموقف الجتمع وعلقات بعضهم ببعض ف‬
‫كل صغية وكبية من شئون الياة اليومية والياة العامة‪ ،‬كما يشمل العبادات بكل تفريعاتا‪ ،‬وحي يعمل‬
‫ف ميدان المال الفن ف صوره الت كانت ميسرة لم من رسم وزخرفة وعمارة وشعر ونثر‪ ..‬إل يكون قد‬
‫قام بواجبه المثل وحقق وجوده الكامل‪ .‬وأنه ترجم التدبر ف آيات ال إل فكر نافع وعمل نافع وقيم حية‬
‫متحركة ف واقع الرض‪ ،‬ل ف البراج العاجية‪ ،‬ول ف عال الثاليات‪.‬‬
‫وكان ناجحا ف رسالته الت استمدها من كتاب ال وسنة رسوله‪.‬‬

‫***‬
‫ولكننا نقلب صفحة أخرى لقوم ل ينتصحوا بنصيحة ال والرسول‪..‬‬
‫قوم ف أوربا راحوا ينفقون طاقة علمائهم ومفكريهم ف البحث ف ذات ال وما أشبه ذلك من المور‪.‬‬
‫ونعرض لنتاجهم الفكري ف هذا الباب عرضا " موضوعيا " فنجد ل شيء!‬
‫ومن كان ف شك من ذلك فليقرأ كل ما كتبته الفلسفة ف هذا الوضوع‪ ،‬ث ليسأل نفسه‪ :‬هل زاد معرفة‬
‫بال عن هذا الطريق؟ هل " وضحت " له العال؟ هل " وصل " إل شيء ل يكن يصل إليه وهو يتدبر آيات‬
‫ال ف الكون ويفتح بصيته على القدرة العجزة ف كل اتاه؟‬
‫أم العكس هو الصحيح؟ اختلطت ف ذهنه الشيات واللمح‪ ،‬والتصورات والفكار؟ وتاه ف ميط من‬
‫الدل التناقض الذي ل يركن إل قرار؟!‬
‫صورة ف ذهن تتمثل لعمل أولئك الفلسفة! تلك مرآة لمعة يبصر فيها النسان وجهه بكل دقائقه‪ ،‬ولكن‬
‫فيها قطعة " مغبشة " هنا أو قطعة مطموسة هناك‪ ،‬فيوح هذا " الفيلسوف " ياول أن " يلوها " فيمسح‬
‫بأصابعه وجه الرآة‪ ،‬فإذا القذر من أصابعه قد غبش الصفحة كلها‪ ،‬وإذا الصورة الت كانت واضحة ل تعد‬
‫تبي!‬
‫ودعك من القيمة الوضوعية لذه الفكار‪ ،‬وانظر كيف كانت النتيجة‪ ..‬كيف كان عاقبة الذين أبوا أن‬
‫ينتصحوا بأمر ال ويهتدوا بسنة رسوله‪.‬‬
‫لقد " حلق " الفكرون والفلسفة ف أبراجهم العاجية وتركوا الناس ف الرض‪ ..‬تركوا الناس يأكلهم الظلم‬
‫والقطاع والهل والمود والتفكك‪ .‬فهذه الظال ترتكب كل يوم‪ ،‬والكادحون تُمتص دماؤهم وهم‬
‫صاغرون مغلوبون على أمرهم‪ ..‬بينما السادة الفكرون ف جدل أخرق ل هو يهتدي إل نتيجة‪ ،‬ول هو‬
‫ينل إل الرض ليى آلم الناس وياول أن يبحث لم عن علج‪..‬‬
‫وكفر الناس‪ ..‬وحق لم أن يكفروا‪..‬‬
‫كفروا بالفلسفة " الثالية " الت تلق ف عال اليال وعال الثل‪ ،‬وتترك واقع الرض النت ينغل فيه الدود‪..‬‬
‫وقاموا يطمون هذه " الثالية " التعفنة الت ل قلب لا ول ضمي‪.‬‬
‫ومع الثالية الاوية حطموا ‪ -‬مع السف ‪ -‬فكرة ال والعقيدة‪.‬‬
‫حطموها‪ ،‬لن هذه الثالية كانت تدور حول فكرة ال‪ ،‬وتزعم أنا تصل إل " جوهر " العقيدة‪.‬‬
‫وعلى أنقاض فكرة ال والعقيدة‪ ،‬وأنقاض الفلسفة الثالية الاوية قامت فلسفة مادية جاحدة ل تعرف ال‬
‫ول تؤمن بالعقيدة‪.‬‬
‫وتشعبت تلك الفلسفة حت شلت كل جوانب الياة‪..‬‬
‫دارون‪ ،‬وماركس‪ ،‬وفرويد‪ ،‬والتجريبيون والسلوكيون‪ ..‬التفسي الادي والتفسي القتصادي للتاريخ‪..‬‬
‫والوجودية والنللية واللدينية واللخلقية والل‪ ..‬إنسانية!‬
‫ومضت أوربا ف طريقها الجنون الذي ل ينتج إل الدماء ف ناية الطريق‪.‬‬
‫إن أوربا ل تتقدم ف ميدان العلم والعمل إل حي أخذت بشق من نصيحة الرسول الكري‪ ،‬فانتبذت التفكي‬
‫ف ذات ال‪ ،‬ووجهت طاقتها لتعمي الرض ف واقع الياة‪ ..‬وخطت خطوات جبارة ف هذا السبيل‪.‬‬
‫ولكنها ‪ -‬مع السف ‪ -‬ل تأخذ نصيحة الرسول كاملة‪ ،‬ول تتد بديه السليم‪ .‬ل تأخذ منها عبادة ال‪،‬‬
‫والتوجه إل ال‪.‬‬
‫ومن ث انطلقت ‪ -‬بقوتا الادية الائلة النامية التزايدة ‪ -‬انطلقت تعبد الشيطان‪.‬‬
‫( َوَيحْسَبُونَ أَنّ ُهمْ مُهَْتدُونَ)!‬
‫صلِحُونَ)!‬
‫حنُ مُ ْ‬
‫سدُوا فِي الْأَ ْرضِ قَالُوا إِّنمَا َن ْ‬
‫( َوإِذَا قِيلَ َل ُهمْ ل ُت ْف ِ‬
‫وكانت النتيجة هي القوة الادية الائلة الت تتمتع با أوربا‪ ،‬والضلل البي الذي تغرق فيه‪.‬‬
‫الرأسالية هنا والشيوعية هناك‪..‬‬
‫كلها انراف عن استقامة البشرية‪ ،‬وكلها قائم على أسس مادية خالصة ل تؤمن بال اليان الق‪ .‬ول‬
‫تكمه ف أمر من أمور البشرية‪.‬‬
‫القيقة عندهم هي ما تستطيع الواس أن تدركه‪ .‬وكل ما ل تستطيع الواس إدراكه فهو ساقط من‬
‫الساب‪.‬‬
‫وأمور العقيدة ف عال الغرب الرأسال أمور " تستعمل من الظاهر " وليس لا ف واقع الياة نصيب‪ .‬ل ف‬
‫التوزيع القتصادي العادل الذي يرضي ال ورسوله‪ ،‬والذي ل يكون فيه الال " دولة بي الغنياء منكم "‬
‫ول ف الخلق الت ترفع النسان عن مقاذر الشهوة وحيوانية الغريزة‪.‬‬
‫وأمور العقيدة ف الشرق الشيوعي مصادرة بأمر الدولة‪ ،‬حت يكون الولء كله " للدولة "‪ .‬وحي رفع‬
‫الظر هناك عن الدين والعقيدة ‪ -‬لسباب سياسية‪ ،‬للدعاية ف الشرق السلمي خاصة ‪ -‬فقد رفع بعد أن‬
‫صار اللاد يدرس رسيا ف الدارس‪ ،‬وتدعو له الكتب والصحافة والسينما والذاعة وكل وسائل الدعاية‪،‬‬
‫وصار الشباب الذي ترب ف ظل الذهب مصنا ضد " جرثومة " الدين!‬
‫والنتيجة الخية هي هذا الصراع الدمر الرهيب بي الشرق والغرب‪ ،‬وبي كل قوى الرض‪.‬‬
‫حربان ف ربع قرن‪ ..‬والثالثة على البواب!‬
‫ما أحوج الناس إل حكمة الرسول الكري صلى ال عليه وسلم ‪( ..‬وََلوْ أَنّ َأ ْهلَ اْلقُرَى آمَنُوا وَاّتقَوْا َلفََتحْنَا‬
‫سمَاءِ وَالْأَ ْرضِ)‪.‬‬
‫عَلَيْ ِهمْ بَ َركَاتٍ ِمنَ ال ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫* عن ابن عباس رضي ال عنهما " تفكروا ف خلق ال ول تفكروا ف ال "‪.‬‬
‫[‪ ]34‬عن كتاب " مع ال ف السماء " تأليف الدكتور أحد زكي‪.‬‬
‫[‪ ]35‬عن كتاب " مع ال ف السماء " تأليف الدكتور أحد زكي‪.‬‬
‫[‪ ]36‬الرجع السابق‪.‬‬
‫[‪ ]37‬سورة آل عمران [ ‪.] 191 - 190‬‬
‫[‪ ]38‬سورة غافر [ ‪.] 81‬‬
‫[‪ ]39‬سورة النعام [ ‪.] 99 - 95‬‬
‫[‪ ]40‬سورة البقرة [ ‪.] 164‬‬
‫[‪ ]41‬سورة النعام [ ‪.] 59‬‬
‫[‪ ]42‬سورة الروم [ ‪.] 27 - 20‬‬
‫[‪ ]43‬سورة يس [ ‪.] 44 - 33‬‬
‫[‪ ]44‬سورة طه [ ‪.] 50‬‬
‫تعبد ال كانك تراه‬

‫"‪ ..‬قال‪ :‬فأخبن عن الحسان‪ .‬قال أن تعبد ال كأنك تراه‪ ،‬فإن ل تكن تراه فإنه يراك " [‪.]45‬‬

‫***‬
‫الحسان‪ ..‬أن تسن الشيء فتجعله حسنا‪.‬‬
‫والحسان‪ :‬أن تعبد ال كأنك تراه!‬
‫كان السؤال قبل ذلك عن السلم‪ ،‬ث عن اليان‪ .‬السلم درجة واليان بعد ذلك درجة‪ ،‬وهذه هي‬
‫درجة الحسان‪ .‬لكي يكون إسلمك حسنا وإيانك كذلك‪.‬‬
‫تعبد ال كأنك تراه‪..‬‬
‫تعبي عجيب يمل ف بساطته حقيقة هائلة‪.‬‬
‫وأروع ما يروعن ‪ -‬وقد يكون هذا تأثرا ‪ -‬أنه يفاجئك وأنت تقلب وجهك ف الفاق‪ ،‬باحثا عن‬
‫الجابة‪ ،‬يفاجئك بالقبلة الت ينبغي أن تتجه إليها! فإذا أنت ‪ -‬على غي توقّع منك ‪ -‬ترى النور‪..‬‬
‫النور الذي يبهر العي والقلب ويبهر الروح‪.‬‬
‫ترى ال‪...‬‬
‫(اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ‪ ...‬نُورٌ َعلَى نُورٍ َي ْهدِي اللّهُ ِلنُورِهِ مَنْ َيشَاءُ َوَيضْرِبُ اللّهُ الَْأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ‬
‫بِ ُكلّ شَيْءٍ َعلِيمٌ)‪.‬‬

‫***‬
‫القاعدة الكبى الت يقيم عليها السلم بناءه كله‪ :‬هي أن تعبد ال كأنك تراه‪.‬‬
‫يقيم عليها نظمه جيعا‪ ،‬وتشريعاته وتيهاته جيعا‪..‬‬
‫نظام السياسة‪ .‬نظام القتصاد‪ .‬نظام الجتمع‪ .‬موقف الفرد من الدولة وموقف الدولة من الفرد‪ .‬نظام‬
‫السرة‪ .‬معاملت الفراد‪ ،‬معاملت الدول ف السلم وف الرب‪ ..‬كل شيء ف هذه الياة!‬
‫ولقد يطر للنسان ‪ -‬أول ما يطر ‪ -‬أن هذه عبادة! أليست هي‪ :‬أن " تعبد ال "؟!‬
‫بل قد يطر للنسان أنا العبادة القصوى‪ ،‬الت ينقطع فيها النسان عن كل شيء ف الياة‪ ،‬ليخلو إل ربه‪،‬‬
‫يلو له بوجدانه وحسه وقلبه‪ ..‬هنالك ف عزلة عن الخرين!‬
‫وإنا لعبادة حقا‪ ،‬ما ف ذلك شك‪ ،‬وإنا لقصى العبادة كذلك‪.‬‬
‫ولكنها ‪ -‬وهي أقصى عبادة العبد للرب ‪ -‬لتعود من عزلتها وخلوتا‪ ،‬فتتسع وتتسع حت تشمل كل ميط‬
‫النسانية!‬
‫بل إنا ‪ -‬منذ لظتها الول‪ ،‬وف خلوتا ‪ -‬لي النور الساطع الذي يضيء جنبات الياة‪ ،‬ف ذات اللحظة‬
‫الت يضيء فيها جنبات النفوس‪.‬‬
‫حقيقة واحدة ظاهرة وباطنة‪ ،‬تشمل الفرد وحده وتشمله ف ميط الماعة‪ ،‬فإذا هي شعور وسلوك‪ ،‬وعبادة‬
‫وعمل ف آن!!‬
‫السلك كله هذه القيقة‪.‬‬
‫السلم ‪ -‬وحده ‪ -‬هو الذي يعل العبادة عملً والعمل عبادة‪ ،‬والذي يربط النفس والسم‪ ،‬والسماء‬
‫والرض‪ ،‬والدنيا والخرة كلها ف نظام‪.‬‬

‫***‬
‫تعبد ال كأنك تراه‪..‬‬
‫إنه عال واسع يفيض بالب‪ ،‬ويفيض بالتقوى‪ ،‬ويفيض بالمل‪ ،‬ويفيض بالرهبة‪ ،‬ويفيض بالنور‪.‬‬
‫النسان ف مواجهة موله‪ .‬ف مواجهة الذات العظمى الالقة القاهرة الستعلية الشرفة على جيع الكائنات‪.‬‬
‫والنور ‪ -‬نور السماوات والرض ‪ -‬يغمره من كل جانب‪ ،‬وينفذ إل أعماقه‪ ،‬فيضيء ثنايا قلبه‪ ،‬ويستقر‬
‫فيه‪.‬‬
‫النسان ف مواجهة موله‪ ...‬بنفسه جيعا‪ .‬بكل جوارحها وكل خلجاتا‪ .‬بظاهرها وباطنها‪ ،‬بدقائقها‬
‫ولطائفها‪ ،‬بأسرارها وما هو أخفى من السرار‪..‬‬
‫وكلها مكشوفة ل‪ " ..‬فإن ل تكن تراه فإنه يراك "!‬
‫يا ال! إنا الرهبة والقشعريرة تل النفوس‪.‬‬
‫عي ال البصية النافذة إل كل شيء ف هذا الوجود‪ ،‬إل كل نأمة وكل خاطرة وكل فكرة وكل شعور‪..‬‬
‫إنا تراك وترقبك‪ .‬سواء كنت متيقظا لذه الراقبة أم غافلً عنها‪ .‬وسواء أعددت نفسك لا أم كنت من‬
‫العرضي‪.‬‬
‫وإنه لي لك أن ترى ال كما يراك‪ ..‬خي لك أن تتوجه إل حيث ترقبك العي البصية النافذة‪ .‬فتأمن‬
‫الفاجأة!‬
‫إنا الرهبة ف الالي‪ ..‬الرهبة ف حضرة الول العزيز العليم القوي البار‪ ..‬ولكنها الرهبة والمل هنا‪،‬‬
‫والرهبة والذعر هناك!‬
‫الرهبة والمل وأنت متوجه إل ال‪ ،‬ملص له قلبك‪ ،‬عامل على رضاه‪..‬‬
‫والرهبة والذعر حي تتوجه بعيدا عنه وهو من ورائك ميط! فخي لك إذن أن تعبد ال كأنك تراه!‬
‫وحي تتوجه إليه بنفسك جيعا‪ ،‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬وسرها ونواها‪ ..‬وحي تتوجه إليه وف نفسك شعور‬
‫التقوى الاشعة والرهبة العميقة‪ ..‬فل شك أنك ستنظف نفسك وترص على نظافتها‪.‬‬
‫إن ال ل تفى عليه خافية‪ .‬فكيف تستتر منه وأنت مقبل عليه؟ كيف يكن أن تعمل عملً واحدا ل يراه؟‬
‫خفِي‬
‫( َوَنعَْلمُ مَا تُوَسْ ِوسُ ِبهِ َن ْفسُهُ َوَنحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ ِمنْ حَْبلِ اْلوَرِيدِ) [‪َ( ]46‬ي ْعلَمُ خَائَِنةَ الَْأعُْينِ َومَا ُت ْ‬
‫صدُورُ) [‪َ( ]47‬ي ْعلَمُ السّرّ َوَأ ْخفَى) [‪َ( ]48‬ي ْومَِئذٍ ُتعْرَضُونَ ل َتخْفَى مِنْ ُكمْ خَافِيَةٌ) [‪.]49‬‬ ‫ال ّ‬
‫يا ال! حت خائنة العي! الائنة الت يظن النسان أنه وحده الذي يسها ويعرفها‪ ،‬وأل أحد ف الوجود‬
‫كله يراها أو يفهمها؟‬
‫حت الوسوسة الت ل يطلع عليها أحد‪ ،‬وصاحبها نفسه قد ينساق معها دون أن يتيقظ لا؟‬
‫حت السر‪ .‬بل ما هو أخفى من السر‪ .‬الطرات التائهة ف مسارب النفس‪ ،‬ل تصل إل ظاهر الفكر‪ ،‬ول‬
‫يتحرك با اللسان للتعبي!‬
‫يا ال! إنه ل ستر إذن ول استخفاء‪.‬‬
‫كل نفسك مكشوفة وأنت مقبل عليه‪ .‬أفل تنظف نفسك إذن قبل التاه‪ .‬أل تزكيها؟‬
‫( َوَن ْفسٍ َومَا َسوّاهَا فَأَلْ َهمَهَا ُفجُو َرهَا وََتقْوَاهَا َقدْ َأفْلَحَ َمنْ َزكّاهَا َوَقدْ خَابَ َمنْ دَسّاهَا)‪.‬‬
‫فأما إن كنت معرضا عنه غي متوجه إليه‪ .‬إن كنت ل تنظف له نفسك ول تزكيها‪ .‬فلن يغي ذلك شيئا من‬
‫المر!‬
‫إنه يراك! يراك بكل ما تصنع بنفسك من " تدسية " ومن سوء‪ .‬يراك ببائثك وأوضارك‪ .‬يعلم خائنة العي‬
‫وما تفي الصدور‪.‬‬
‫يراك‪ .‬فما الفائدة ف التستر والختفاء؟ بل ما الفائدة من العراض والنصراف؟ اللك غي ملك ال تذهب؟‬
‫سبَ اّلذِينَ َي ْع َملُونَ السّيّئَاتِ أَنْ َيسِْبقُونَا سَاءَ مَا‬ ‫و " ِبَيدِهِ َملَكُوتُ ُكلّ شَيْءٍ َوإِلَيْهِ تُرْ َجعُونَ "؟! " َأمْ َح ِ‬
‫َيحْ ُكمُونَ "‪ .‬أم حسبوا أنم معجزون ف الرض؟ أم حسبوا أن يفلتوا من العقاب؟‬
‫كل! ما شيء من ذلك بستطاع‪ .‬فخي لك أن تراه وهو يراك!‬
‫وإنه ل يكلفك من أمرك رهقا!‬
‫(هُوَ اجْتَبَا ُكمْ َومَا َج َعلَ َعلَيْ ُكمْ فِي الدّينِ ِمنْ حَ َرجٍ) [‪( .]50‬ل يُ َكلّفُ اللّهُ َنفْسا إِلّا وُ ْسعَهَا) [‪.]51‬‬
‫(فَاّتقُوا اللّهَ مَا اسَْت َطعُْتمْ‪.]52[ )..‬‬
‫إن رحة ال واسعة‪ .‬وإنه ليعلم ضعف النسان وما ركب ف طبيعته من حب الشهوات‪( :‬زُّينَ لِلنّاسِ ُحبّ‬
‫الشّهَوَاتِ مِنَ الّنسَاءِ وَالْبَِنيَ وَاْلقَنَا ِطيِ اْل ُمقَْنطَرَةِ ِمنَ الذّ َهبِ وَاْل ِفضّةِ وَاْلخَْيلِ اْل ُمسَ ّومَةِ وَالْأَْنعَامِ وَاْلحَ ْرثِ‪[ )..‬‬
‫‪ .]53‬ويعلم أن الهد شاق والسفر طويل‪.‬‬
‫لذلك يقول‪ " :‬فَاّتقُوا اللّهَ مَا ا ْسَتطَعُْتمْ "‪..‬‬
‫جبْ لَ ُكمْ "‪ .‬ادعون لكل شيء! وادعون ‪ -‬فيما تدعونن إليه ‪ -‬لعينكم على‬ ‫ويقول‪ " :‬ا ْدعُونِي أَسَْت ِ‬
‫تنظيف أنفسكم من وعثاء الطريق!‬
‫هل جربت أن تستعينه ف هذا المر؟‬
‫صدق ال وصدق وعده الق‪.‬‬
‫ما يتوجه له إنسان يستعينه على نظافة النفس وطهارة القلب‪ ،‬إل استجاب له وأعانه على ما يريد!‬
‫وما هو بسحر ساحر! ولكن هكذا يدث حي يتجه القلب إل ال ويلص ف دعواه‪ .‬إنه يد المر عليه‬
‫هينا‪ ،‬ويد نفسه أكب من الغريات وأقوى من العوقات‪ .‬ويس ‪ -‬إحساسا ملموسا مسما ‪ -‬أن ال هو‬
‫الذي يعينه وييسر له السبيل!‬
‫ومع ذلك كله فقد تضعف ف الطريق وتور قواك‪ .‬فهل يلفظك من رحته ويل غضبه عليك؟‬
‫كل! ما دمت ل تنكص على عقبيك ول تتنكب الطريق‪.‬‬
‫إنه يغفر‪ .‬يغفر الذنوب جيعا‪ ،‬وسعت رحته كل شيء‪.‬‬
‫حسِِنيَ وَاّلذِينَ إِذَا َفعَلُوا فَا ِحشَةً أَوْ َظَلمُوا أَْنفُسَ ُهمْ َذكَرُوا اللّهَ فَاسَْت ْغفَرُوا ِلذُنُوبِ ِهمْ َومَنْ َي ْغفِرُ‬
‫(وَاللّهُ ُيحِبّ اْل ُم ْ‬
‫الذّنُوبَ إِلّا اللّهُ وََلمْ ُيصِرّوا َعلَى مَا َف َعلُوا َو ُهمْ َي ْعَلمُونَ أُوَلِئكَ جَزَا ُؤ ُهمْ َمغْفِرَةٌ ِمنْ رَبّ ِهمْ َوجَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ‬
‫َتحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا وَِن ْعمَ أَجْرُ اْلعَامِِليَ) [‪]54‬‬
‫(إِلّا َمنْ تَابَ وَآمَنَ َو َعمِلَ َعمَلً صَالِحا فَأُولَِئكَ ُيَب ّدلُ اللّهُ سَيّئَاتِ ِهمْ َحسَنَاتٍ َوكَانَ اللّهُ َغفُورا رَحِيما) [‬
‫‪.]55‬‬
‫(ُقلْ يَا عِبَادِيَ اّلذِينَ أَسْ َرفُوا عَلَى أَْن ُفسِ ِهمْ ل َتقَْنطُوا مِنْ َر ْحمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َجمِيعا) [‪]56‬‬
‫كل! لن يلفظك من رحته ما دمت باقيا على الطريق‪ .‬وما عليك إل أن تقوم من عثرتك وتنفض ثوبك‬
‫وتتجه إليه من جديد‪...‬‬

‫***‬
‫وحي تتوجه إليه‪ .‬حي ترقبه كأنك تراه‪ .‬حي تنظف نفسك وترص على أل تتلوث ف الطريق‪ .‬حي‬
‫تاسب نفسك على كل صغية وكبية خشية ان تكون قد حدت‪ .‬حي تراجع كل عمل عملته وكل‬
‫كلمة قلتها وكل خاطرة وسوست با نفسك وكل حركة تركتها جارحة من جوارحك‪..‬‬
‫حينئذ يستقيم المر كله ف هذه الياة‪.‬‬
‫أمر الاكم والحكوم‪ .‬والفرد والجتمع‪ .‬والرأة والرجل‪ .‬والوالد والولد‪ .‬والمة والمم على أوسع نطاق‪.‬‬
‫كيف يظلم الاكم حي يرقب ال كأنه يراه؟ كيف تتجه نفسه إل الشر والبطش وال يقول‪( :‬ا ْعدِلُوا هُوَ‬
‫َأقْرَبُ لِلّتقْوَى) [‪َ ( ]57‬وإِذَا حَ َكمُْتمْ بَْينَ النّاسِ أَنْ َتحْ ُكمُوا بِاْل َع ْدلِ) [‪ ]58‬وكيف يضع ف مكان العدل‬
‫الذي يطلبه ال نزواته هو وهواه؟‬
‫والعدل بالنسبة للحاكم ميدان واسع فسيح‪ ،‬يشمل كل سياسة الكم‪ ،‬وسياسة الال‪ ،‬وكل معاملته "‬
‫الرسية " ومعاملته " الشخصية "‪ .‬وهو مأمور ف كل منها أن يرقب ال‪ ،‬ويعبده كأنه يراه‪.‬‬
‫ل يكن حينئذ أن يتعدى حدود ال أو يعتدي على حرمات ال‪.‬‬
‫فل يكن مثلً أن يعلن الرب أو يبم السلم إل ف سبيل ال و ف حدود ما بيّن ال‪ .‬وال يقول‪( :‬وَل‬
‫حبّ اْل ُمعَْتدِينَ)‪ .‬ويقول‪( :‬وَل َتهِنُوا وَل َتحْزَنُوا َوأَنُْتمُ الَْأعْلَ ْونَ إِنْ كُْنُتمْ مُ ْؤمِِنيَ)‪ .‬ويقول‪:‬‬ ‫َتعَْتدُوا إِنّ اللّهَ ل ُي ِ‬
‫( َوَأ ِعدّوا َل ُهمْ مَا ا ْسَتطَعُْتمْ ِمنْ قُوّةٍ)‪.‬‬
‫خذِ اْلمُ ْؤمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ِمنْ دُونِ‬
‫ول يركن إل أعداء ال ول يتخذ بطانة منهم فال يقول‪( :‬ل يَّت ِ‬
‫اْلمُ ْؤمِِنيَ َو َمنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ فَلَْيسَ ِمنَ اللّهِ فِي شَ ْيءٍ إِلّا أَنْ َتّتقُوا مِنْ ُهمْ ُتقَاةً)‪ .‬ويقول‪( :‬يَا أَيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا ل‬
‫صدُو ُر ُهمْ‬‫خذُوا ِبطَانَةً ِمنْ دُونِ ُكمْ ل يَأْلُونَ ُكمْ خَبَالً وَدّوا مَا عَِنّتمْ َقدْ َب َدتِ الَْب ْغضَاءُ ِمنْ َأفْوَاهِ ِهمْ َومَا ُتخْفِي ُ‬ ‫تَّت ِ‬
‫َأكْبَرُ َقدْ بَيّنّا لَ ُكمُ الْآياتِ إِنْ كُنُْتمْ َت ْعقِلُونَ)‪.‬‬
‫وهكذا وهكذا حت يشمل ذلك سلوكه كله‪ ،‬وتصرفاته كلها‪ ،‬منذ يتسلم المانة حت يسلمها إل ال أو إل‬
‫الناس‪ .‬ل يفلت عمل واحد ول فكرة ول رغبة من رقابة ال ورقابة الضمي‪.‬‬

‫***‬
‫والعبود كذلك حي يعبد ال كأنه يراه‪.‬‬
‫فعليه عمله يؤديه بالمانة اللزمة والجتهاد الواجب‪ .‬ل يدع ول يغش ول يتكاسل ول يتشاغل‪ .‬ول "‬
‫يسدد الانات " دون إنتاج حقيقي‪ .‬ول يعمل على الضرر وهو عال به‪ .‬ول يبغي الفتنة ول الفساد ف‬
‫الرض‪ .‬ول يستغل مال الدولة‪ .‬ول يطمع فيما ليس له‪.‬‬
‫ول يقبل الظلم كذلك! فهو مكلف أن يذود الظلم عن نفسه وعن غيه‪ ،‬وإل فما هو بؤمن بال‪ ،‬ول هو‬
‫ضعَ ِفيَ فِي الْأَ ْرضِ‬
‫يعبده كأنه يراه! (إِنّ اّلذِينَ تَ َوفّا ُهمُ اْلمَلئِكَةُ ظَاِلمِي أَْنفُسِ ِهمْ قَالُوا فِيمَ كُنُْتمْ قَالُوا كُنّا مُسَْت ْ‬
‫قَالُوا أََلمْ تَ ُكنْ أَ ْرضُ اللّهِ وَا ِسعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَِئكَ مَأْوَا ُهمْ جَهَّنمُ وَسَا َءتْ َمصِيا)‪.‬‬
‫والزوج الذي يرعى ال ف زوجته‪ .‬والزوجة الت ترعى ال ف زوجها‪ .‬والوالد والولد‪ .‬والار والصديق‪.‬‬
‫والندي والقائد‪ .‬والصغي والكبي‪...‬‬
‫إن الجتمع كله كله‪ ...‬ل شيء فيه البتة يرج من هذه الكلمة الصغية الت تشمل كل شيء‪ :‬تعبد ال‬
‫كأنك تراه!‬

‫***‬
‫وحي كان السلمون الوائل يعبدون ال كأنم يرونه كانت تلك المة العجيبة الفريدة ف التاريخ! (كُْنُتمْ‬
‫خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْرِ َجتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِاْل َمعْرُوفِ وَتَْنهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ وَُت ْؤمِنُونَ بِاللّهِ)‪.‬‬
‫كان الاكم يقول‪ " :‬اسعوا وأطيعوا ما أطعت ال فيكم‪ .‬فإن عصيت ال ورسوله فل طاعة ل عليكم "‪.‬‬
‫وكان يقول‪ " :‬إن أحسنت فأعينون‪ ،‬وإن أسأت فقومون "‬
‫وكان وهو يارب كسرى وقيصر‪ ،‬ويواجه أكب إمباطوريتي ف التاريخ‪ ،‬ل يضيق بالتقوي الذي طلبه من‬
‫الناس بنفسه‪ .‬فيقبل من رجل من السلمي أن يقول له‪ :‬ل سع لك علينا اليوم ول طاعة حت تبي لنا كذا‬
‫وكذا‪ .‬فل يغضب‪ ،‬بل ييبه ف الال إل طلبه ويبي له‪.‬‬
‫وكان يقول‪ :‬لو أن بغلة بصنعاء عثرت لرأيتن مسئولً عنها!‬
‫وكان يعمل على توطيد العدالة الجتماعية ف الجتمع حت أمكنه ‪ -‬لول مرة ف التاريخ ‪ -‬أن يلغي الفقر‬
‫من الجتمع‪ ،‬كما حدث أيام عمر بن عبد العزيز! وكان الندي يقول‪ :‬أليس بين وبي النة إل أن أقتل‬
‫هذا الرجل أو يقتلن؟ ث يقتحم العركة ليصيب إحدى السنيي!‬
‫وكان القائد يُعزل ف زهوة النصر فل يضطغن ول يتمرد ول يترك ميدان القتال‪ .‬وإنا يستمر ياهد ف‬
‫سبيل ال جنديا ل إمارة له ول سلطان‪.‬‬
‫وكان البائع يستحي من ال أن يكسب ما ليس له بق‪ ،‬فيد نقودا أخذها صبيه دون علم منه من أحد‬
‫الشترين‪ .‬ويصر على ردها إليه حت والشتري يلف بال أنه دفعها راضيا وأن البضاعة ف نظره تستحق‪.‬‬
‫وكان الزوج يعاشر زوجته بالعروف‪ ،‬والزوجة تصون عرض زوجها ف غيبته‪ .‬فيذهب إل ميدان القتال‬
‫ويغيب بالشهور وهو مطمئن إل بيته وعرضه وماله‪ .‬ل يقربا السوء!‬
‫وكان الجتمع نظيفا‪...‬‬
‫ل تقوم علقات الناس على الغش ف البيع والشراء‪ .‬ل يعهد النسان إل العامل أو الصانع بالعمل وهو‬
‫متوجس منه خيفة أن يغشه أو يدلس عليه أو يسرق المانة ويذهب إل غي رجوع!‬
‫ل يتحدث الرجل إل الرجل وهو يعلم أنه يكذب عليه ويدعه‪ .‬ويبادله ف الوقت ذاته الكذب والداع!‬
‫ل يكذب الوالد على أبنائه فيعلمهم الكذب بالقدوة السيئة‪ .‬ول يكذب البن على الوالد‪ ،‬لنه ل يتعامل‬
‫معه‪ ،‬وإنا يتعامل مع ال!‬
‫ول يسرق الشاب عرض امرأة متزوجة أو فتاة غريرة‪ .‬ول ترج الفتاة متبجة ف سوق الفتنة تاول أن‬
‫توقع الشباب!‬
‫ل يكن الناس ملئكة! كانوا بشرا ما يزالون! ولكنهم بشر مستقيمو الفطرة ل عِوَج ف نفوسهم ول التواء‪.‬‬
‫متحابون إل ال‪ .‬متعاونون على الب والتقوى ل متعاونون على الث والعدوان‪.‬‬
‫وكانت هناك جرية‪ ..‬فإن وجه الرض ل يل من الرية ف وقت من الوقات‪ .‬ولكنها كانت الشذوذ‬
‫الذي يثبت القاعدة‪ .‬ول تكن القاعدة هي الشذوذ!!‬

‫***‬
‫ومن ث انطلقت هذه المة تنشئ تاريا ل يسبق ف التاريخ!‬
‫ليس الفتح وحده هو الذي يلفت النظر‪ ،‬وإن كان حقيقا بالتسجيل ف سرعته الاطفة الت ل مثيل لا من‬
‫قبل ول من بعد ف التاريخ‪ .‬ففي خسي عاما كان العال السلمي الذي بدأ من ل شيء قد امتد من‬
‫الحيط للمحيط‪ .‬وكان كله ‪ -‬أو معظمه ‪ -‬قد اعتنق العقيدة الديدة‪ ،‬وانقلب ماربا ف سبيلها ل يهدأ‬
‫حت يراها قد بلغت إل أفق جديد!‬
‫وإنا الذي يلفت النظر هو تلك القمم العالية الت بلغها ف كل اتاه‪ .‬قمم العدالة الشامة والعظمات النفسية‬
‫والروحية الت تتكاثر وتتواكب ف هذه القبة الصغية من التاريخ‪.‬‬
‫واتساع الوانب وتعدد الفاق‪ .‬ف الرب والسلم‪ .‬ف السياسة والجتماع‪ .‬ف الضارات الختلفة الت‬
‫استوعبها السلم‪ ،‬ومثلها تثيلً رائعا فامتص ما فيها من خي‪ ،‬وألقى بالزبد إل الفناء‪.‬‬
‫ف الروابط القوية التينة الت شلت العال السلمي كله‪ ،‬وفاضت منه إل غي السلمي حت وهم يكيدون‬
‫للدين‪ .‬وحت وهم ياربونه أبشع حرب وأدنسها ف أيام الصليبيي‪.‬‬
‫هذه الروابط التينة الت صنعت معجزة ل تتكرر ف غي السلم‪ .‬إذ فسدت الكومة ‪ -‬مبكرا‪ ،‬على أيدي‬
‫المويي والعباسيي ‪ -‬ولكن الجتمع ظل إسلميا‪ ،‬متماسكا‪ ،‬متكافلً‪ ،‬تربطه روح الخوة والودة ما‬
‫يقرب من ألف من السني!!‬

‫***‬
‫ذلك كله كان أثر العبادة القة‪ ،‬الت تعبد ال كأنا تراه!‬
‫ولقد كان القدوة الكبى ف ذلك دون شك هو الرسول العظم‪ ،‬منشئ هذه المة ومرب قادتا وجنودها‬
‫على هدي ال وهدي السلم‪.‬‬
‫كان صلى ال عليه وسلم يرى ال كل لظة من لظات حياته الطويلة العريضة الشاملة الفسيحة‪.‬‬
‫كان يراه وهو يتلقى الوحي عنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فتطيقه نفسه وتستوعبه إل العماق‪.‬‬
‫وكان يراه وهو ينطلق ف مناكب الرض يدعو الناس إل هذا الوحي لكي يهتدوا به إل ال‪.‬‬
‫وكان يراه وهو ف بيته زوجا وأبا ورب أسرة‪.‬‬
‫ويراه وهو مع الناس وقريبا ومعلما وهاديا إل سواء السبيل‪.‬‬
‫ويراه وهو يقاتل ف سبيل ال‪ ،‬وهو يعقد السلم ويرجع من جهاد إل جهاد‪.‬‬
‫ول نتحدث عن العبادة ف اللوة فهي ف غي حاجة إل حديث‪.‬‬
‫يراه‪ .‬ويعيش معه كل لظات حياته‪ ،‬وكل مشاعر نفسه‪ ،‬وكل خلجاتا وكل سرها ونواها‪.‬‬
‫ول تضعف نفسه عن التلقي‪ ،‬ول يضعف قلبه عن استيعاب النور الذي يغمره كلما رآه‪.‬‬
‫هكذا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم وخات النبيي وسيد الرسلي‬

‫***‬
‫ث كان أصحابه الذين صنعهم على عينيه‪ ،‬ورباهم تربية خبي عليم‪.‬‬
‫كانوا يرون ال بقدر ما تطيق نفوسهم وبقدر ما تصطب على الفق العلى الشرق الضيء الذي ل تتمله‬
‫النفوس‪ ،‬إل أن تقبس قبسات من فيض ال الغامر‪ ،‬وقبسات من الرسول‪.‬‬
‫ث كانت نفوس على مدار الزمن تتفرق أحيانا‪ ،‬وتتمع أحيانا‪ ،‬تعيش على حب ال والعمل ف سبيله‪،‬‬
‫وعبادته كأنا تراه‪.‬‬
‫وما تزال هذه النفوس حيثما لقيها النسان‪ ،‬يس ف الال بالفارق الاسم بينها وبي الذين ل يعبدون ال‪،‬‬
‫أو الذين يعبدونه على حرف فإن أصابم خي اطمأنوا به وإن أصابم شر انقلبوا على أعقابم‪ ..‬خسروا‬
‫الدنيا والخرة‪.‬‬
‫تس على الفور حي تلقى أحدا منهم أنك أمام " إنسان "‪ .‬إنسان بذا العن الذي كرمه خالقه وفضله‬
‫على كثي من خلق‪ .‬إنسان تأنس إليه وتستريح عنده‪ ،‬تستريح ف تعاملك معه وف علقاتك‪ .‬تستريح إل‬
‫الستقامة النظيفة الت ل عوج فيها ول التواء‪.‬‬
‫وتبه‪..‬‬
‫ل تلك إل أن تبه ولو خالفك ف أفكارك وأعمالك ومشاعرك واتاهاتك‪.‬‬
‫تبه لن فيه قبسة من نور ال‪ ...‬وتاول ‪ -‬إن استطعت ‪ -‬أن تقفو خطاه‪..‬‬
‫ومن ث كان حرص السلم ونب السلم‪ ،‬وهو يعلّم الناس دينهم‪ .‬أن يبي لم الحسان‪ .‬ويصفه لم ف‬
‫أخصر لفظ وأجله‪ " .‬تعبد ال كأنك تراه "‪ .‬ويوقظ قلوبم بوجدان التقوى وخشية ال‪ " :‬فإن ل تكن تراه‬
‫فإنه يراك "‪.‬‬
‫ومن ث كذلك كان حرص السلم ونب السلم‪ ،‬على أل يقف الناس عند أول مراتب السلم ول أول‬
‫مراتب اليان‪ .‬إنا ياولون بلوغ الحسان‪ ،‬وياولون على الدوام!‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫[‪ ]45‬رواه مسلم‪ .‬من حديث طويل عن عمر بن الطاب رضي ال عنه‪ ،‬قال‪ " :‬بينما نن جلوس عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا‬
‫رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ل يرى عليه أثر السفر ول يعرفه منا أحد حت جلس إل النب صلى ال عليه وسلم فأسند ركبتيه ووضع كفيه على‬
‫فخديه وقال‪ :‬يا ممد أخبن عن السلم‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬السلم أن تشهد أل إله إل ال وأن ممدا رسول ال وتقيم الصلة وتؤت‬
‫الزكاة وتصوم رمضان وتج البيت إن استطعت إليه سبيلً‪ .‬قال‪ :‬صدقت‪ .‬فعجبنا له يسأله ويصدقه‪ .‬قال‪ :‬فأخبن عن اليان‪ .‬قال‪ :‬أن تؤمن بال وملئكته‬
‫وكتبه ورسله واليوم الخر وتؤمن بالقدر خيه وشره‪ .‬قال‪ :‬صدقت‪ .‬قال‪ :‬فأخبن عن الحسان‪ .‬قال‪ :‬أن تعبد ال كأنك تراه‪ ،‬فإن ل تكن تراه فإنه يراك‪." ..‬‬
‫[‪ ]46‬سورة ق [ ‪.] 16‬‬
‫[‪ ]47‬سورة غافر [ ‪.] 19‬‬
‫[‪ ]48‬سورة طه [ ‪.] 7‬‬
‫[‪ ]49‬سورة الاقة [ ‪.] 18‬‬
‫[‪ ]50‬سورة الج [ ‪.] 78‬‬
‫[‪ ]51‬سورة البقرة [ ‪.] 286‬‬
‫[‪ ]52‬سورة التغابن [ ‪.] 16‬‬
‫[‪ ]53‬سورة آل عمران [ ‪.] 14‬‬
‫[‪ ]54‬سورة آل عمران [ ‪.] 136 - 134‬‬
‫[‪ ]55‬سورة الفرقان [ ‪.] 70‬‬
‫[‪ ]56‬سورة الزمر [ ‪.] 53‬‬
‫[‪ ]57‬سورة الائدة [ ‪.] 8‬‬
‫[‪ ]58‬سورة النساء [ ‪.] 58‬‬
‫[‪ ]59‬رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه‪.‬‬
‫وليح ذبيحته‬

‫" إن ال كتب الحسان على كل شيء ؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة‪ ،‬وإذا ذبتم فأحسنوا الذبة‪ ،‬وليحد‬
‫أحدكم شفرته‪ ،‬وليح ذبيحته " [‪.]59‬‬

‫***‬
‫يا ال! يا رحة نبيه‪!..‬‬
‫" وليح ذبيحته "‪ ..‬ومت؟ وهو مقدم على ذبها!!‬
‫أل إنا رحة أنبياء‪ .‬أل إنا روح ال‪.‬‬
‫إنه مرتقى للمشاعر البشرية يبلغ القمة الت ليس وراءها شيء‪ .‬إل ذلك النور العظم الذي يني الكون كله‬
‫وينفذ إل قلوب الكائنات‪.‬‬
‫إنا الرحة الت ل تقف عند الناسى من اللق‪ ،‬ول يكمها انياز النسان لنفسه واعتداده بنسه‪ .‬وإنا‬
‫تتعداها إل الجال الواسع الفسيح الذي يشمل كل الحياء ف الكون‪.‬‬
‫ث ل تقف عند هذا الدى ‪ -‬وهو ف ذاته قمة عالية ‪ -‬وإنا ترتقي درجة أخرى!‬
‫فالرحة بالحياء درجة " مفهومة " على أي حال‪ ،‬سواء وفق إليها القلب البشري أم انرف عنها وشذ‪.‬‬
‫مفهوم أن تقول ل‪ :‬ل تقتل هذا العصفور‪ .‬فإنه ضعيف مسكي‪ .‬وهو جيل لطيف ل يستحق القتل‪.‬‬
‫ومفهوم أن تقول ل‪ :‬ل تقتل هذه الفراشة الطائرة القافزة الرشيقة‪ ،‬فإنك لن تستفيد شيئا من قتلها‪ ،‬وهي ف‬
‫رشاقتها اللطيفة جال يسن أن تتع به حسك وروحك‪.‬‬
‫بل مفهوم أن تقول ل‪ :‬ل تقتل هذه الزهرة الميلة ‪ -‬حت إن كانت ل تتأل للقتل ‪ -‬فهي على غصنها‬
‫هكذا جيلة‪ ..‬أجل منها ف يدك أو ف عروة ثيابك‪.‬‬
‫كل ذلك مفهوم‪ .‬والقلب البشري الطيب يكن أن يوجه إليه ف يسر‪ ،‬فيعتاده فيصبح من طباعه‪.‬‬
‫ولكنها درجة ‪ -‬وراء هذا الفهوم ‪ -‬أعلى وأشف ‪ -‬أن أقول لك‪ :‬هذه الذبيحة الت ستذبها‪ ،‬والت لن‬
‫سنْ ذبتها ول تطل آلمها ول " تتها موتات " كما ذكر البخاري ف حديث‬ ‫تكون حية بعد لظات‪ ..‬أ ْح ِ‬
‫قريب من هذا الديث [‪.]60‬‬
‫وليح ذبيحته!‬
‫إنا كلمة تز الوجدان هزا وهي تذبح‪ .‬وهي تساق إل العدم‪ .‬إل الفناء‪ .‬إل حيث ل توجد ول تشعر‪.‬‬
‫ما القيمة " العملية " لراحة الذبيحة هذه الثوان العدودة الت تنتقل فيها من عال الوجود إل عال الفناء؟‬
‫بل ما قيمة إراحتها وأنت مقبل على إيلمها أشد أل يكن أن تتعرض له وهو الذبح؟‬
‫ف الظاهر‪ ..‬ل شيء!‬
‫وف الباطن‪ ..‬كل شيء!‬
‫إن الذبيحة ميتة ميتة‪ .‬أرحتها أم ل ترحها‪ .‬وهي متألة متألة‪ ،‬سواء قطر قلبك رحة با أم كنت تذبها مرد‬
‫القلب من الشاعر متلبد الوجدان‪ .‬وهي لن تلقاك بعد اليوم فتشكو إليك عنفك معها‪ ،‬إن كنت من‬
‫يفهمون عن هذه اللئق‪ ،‬وياوبون ما يصدر عنها من الحاسيس‪ .‬ولن يضيها كثيا ‪ -‬وهي مسوقة إل‬
‫الفناء الكامل الوشيك ‪ -‬إنا ذاقت ‪ -‬قبل ذلك بلحظة ‪ -‬شيئا من الغلظة أو شيئا من الفاء!‬
‫إذن فما القيمة العملية بالنسبة للذبيحة‪ ..‬ل شيء!‬
‫ولكن القيمة " العملية " لك أنت‪ ..‬كل شيء!‬
‫وهل ثة شيء أكب من أن يكون لك قلب إنسان؟!‬

‫***‬
‫وكذلك الشأن ف أمر القتل‪..‬‬
‫" فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة "‪.‬‬
‫والسلم ‪ -‬الخاطب بذا القول من جانب الرسول صلى ال عليه وسلم ل يقتل إل بالق‪( :‬وَل َتقُْتلُوا‬
‫حقّ) [‪َ ( ]61‬وعِبَادُ الرّ ْح َمنِ اّلذِينَ َي ْمشُونَ عَلَى الْأَ ْرضِ هَوْنا َوإِذَا خَاطَبَ ُهمُ‬ ‫الّن ْفسَ الّتِي حَ ّرمَ اللّهُ إِلّا بِاْل َ‬
‫حقّ) [‬ ‫اْلجَاهِلُونَ قَالُوا سَلما‪ ..‬وَاّلذِينَ ل َي ْدعُونَ َمعَ اللّهِ إِلَها آخَرَ وَل َيقُْتلُونَ الّن ْفسَ الّتِي حَ ّرمَ اللّهُ إِلّا بِاْل َ‬
‫‪َ ( ]62‬منْ قََتلَ َنفْسا ِبغَيْرِ َن ْفسٍ أَوْ َفسَادٍ فِي الْأَ ْرضِ فَكَأَّنمَا قََتلَ النّاسَ َجمِيعا) [‪ " ]63‬كل السلم على‬
‫السلم حرام‪ :‬دمه وعرضه وماله " [‪.]64‬‬
‫ل شبهة إذن ف أن الشخص الذي يقتله السلم مستحق للقتل‪ .‬مستحق لنه كافر‪ ،‬أو مرتد‪ ،‬أو قاتل‪ ،‬أو‬
‫زان مصن‪ ،‬أو مفسد ف الرض‪ ،‬مثي للفتنة‪ ،‬خارج على السلطان القائم على شريعة ال‪.‬‬
‫ول شبهة ف أن هذا القتل يتم بإذن من ال‪ .‬بل بأمر منه وتريض‪( :‬وَحَ ّرضِ اْلمُ ْؤمِِنيَ) [‪]65‬‬
‫ومع ذلك فالرسول صلى ال عليه وسلم يأمر بإحسان القتل!‬
‫ونعود إل قصة الذبيحة فنراها تنطبق مرة أخرى على القتيل‪.‬‬
‫إن القتيل لن يستفيد شيئا من أن تسن قتلته‪ .‬فهو مفارق الدنيا‪ .‬والل واقع به ما له عنه من ميص‪.‬‬
‫فيستوي أن تسن أو ل تسن أو أن الفارق ف القيقة ضئيل‪.‬‬
‫فما القيمة العملية من إحسان القتل بالنسبة للقتيل؟ ل شيء بطبيعة الال!‬
‫ولكن القيمة الكبى ‪ -‬مرة أخرى ‪ -‬هي لك أنت‪ .‬هي أن يكون لك قلب إنسان!‬

‫***‬
‫ولكن حديث الرسول الكري ل يقف عند هذين المرين‪ :‬الذبة والقتلة‪ ،‬وإنا يسوقهما فقط على سبيل‬
‫الثال‪.‬‬
‫وبسبب هذين الثالي قد يغلب على الظن أن الرحة وحدها هي القصود من الديث‪.‬‬
‫ولكن المر ليس كذلك‪ .‬فالقصود هو " الحسان "‪ .‬والرحة صورة من صور الحسان‪.‬‬
‫" إن ال كتب الحسان على كل شيء " والحسان ‪ -‬هنا‪ ،‬كما ف الديث السابق ‪ -‬هو الداء السن‪.‬‬
‫الداء الكامل‪ .‬الداء التقن‪ .‬الداء الميل‪.‬‬
‫والثالن الذكوران ها الشي الذي يبي التاه‪ .‬التاه إل " النسانية "‪.‬‬
‫إن اللصة الستفادة من الثالي‪ :‬أن النسان ل ينبغي أن يندفع مع دوافعه الطبيعية ويترك لا العنان‪ .‬إنا‬
‫ينبغي وهو يأخذ ف التنفيذ أن يهذب الوسائل وينظف الداء‪ ،‬ليكون جديرا بتكري ال له واللفة ف هذه‬
‫الرض‪.‬‬
‫ومن ث فالديث واسع شامل يشمل كل عمل وكل فكرة وكل شعور‪.‬‬
‫إنه بنص اللفظ يشمل " كل شيء "‪ .‬هكذا على التساع‪ .‬وهو يعب عن فكرة إسلمية أصيلة‪ ،‬أو فكرتي‬
‫تلتقيان عند هدف واحد‪.‬‬
‫أن السلم ل يكتفي بأداء العمال ‪ -‬كل العمال ‪ -‬على أية صورة‪ ،‬وإنا يتطلب " الحسان " ف الداء‪.‬‬
‫وإنه ل يقنع من الناس أن يؤدوا ضروراتم بل زيادة‪ ،‬بجة أنا ضرورة‪ ،‬وإنا يتطلب الحسان ف التنفيذ‪.‬‬
‫العن الول واضح ف قول الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬إن ال يب إذا عمل أحدكم عملً أن يتقنه‬
‫" [‪ ]66‬وواضح كذلك ف أمر الذبة والقتلة‪.‬‬
‫فالطلوب هو التقان الذي تصحبه مشاعر النسانية‪ .‬ويصحبه الحساس بال ف قرارة الضمي‪ ،‬والعمل من‬
‫أجل خشيته ومن أجل مثوبته ورضاه‪ " .‬تعبد ال كأنك تراه "‪.‬‬
‫والعن الثان واضح ف سية الرسول وأحاديثه الكثية الت تدف إل تذيب النفس‪ ،‬خاصة وهي تؤدي‬
‫ضروراتا الغليظة الت ليس عنها ميص‪.‬‬
‫ونضرب مثالي من أدق المثلة وأدلا على ما نريد‪ :‬قضاء " الضرورة " وشئون النس‪.‬‬
‫" عن أب سعيد الدري أن النب صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬ل يتناجى اثنان على غائطهما‪ ،‬ينظر كل‬
‫واحد منهما إل عورة صاحبه‪ ،‬فإن ال يقت ذلك " رواه أبو داود وابن ماجه‪.‬‬
‫" عن جابر عن النب صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اتقوا اللعن الثلث‪ :‬الباز ف الوارد‪ ،‬وقارعة الطريق‬
‫والظل " رواه أبو داود وابن ماجه‬
‫وعن أب أيوب‪ " :‬إذا أتى أحدكم الغائط فل يستقبل القبلة ول يولا ظهره‪ .‬شرقوا أو غربوا " رواه‬
‫البخاري‪.‬‬
‫" وعن أب هريرة قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬من ل يستقبل القبلة ول يستدبرها ف الغائط‬
‫كتب له حسنة ومُحي عنه سيئة " رواه الطبان‪.‬‬
‫والحاديث ف هذا الوضوع كثية من أن تورد كلها‪ .‬وهدفها كلها واحد‪ .‬هو تذيب القيام بذه‬
‫الضرورة‪ ،‬وإحاطتها بآداب معينة تلطف غلظتها وتفف من معن " الضرورة " فيها‪ .‬إذ تعلها سلوكا‬
‫وأدبا فيه " اختيار " وترفع‪.‬‬
‫وقد ل تبدو لنا اليوم ‪ -‬الدللة الكاملة لذه التوجيهات‪ .‬إذ صار لقضاء الضرورة أدوات نظيفة ووسائل‬
‫مهذبة‪ .‬ومع ذلك فما زال ف الدينة ‪ -‬وف العاصمة ذاتا ‪ -‬قوم يقضون حاجاتم على قارعة الطريق وأمام‬
‫الناس‪ .‬أما الريف‪!...‬‬
‫ولكن الدللة النفسية ل ينبغي أن تفوتنا على أي حال‪ .‬فالتهذيب فيها واضح‪ .‬وواضح كذلك ماولة رفع "‬
‫النسان " عن مستوى اليوان‪ ،‬حت وهو يقضي ضرورته الت يشترك فيها مع اليوان‪.‬‬
‫أما النس فأمره أعجب وأوضح دللة‪.‬‬
‫ليس ف الرض شريعة ول نظام يعترف بالنس نظيفا كريا كالسلم‪.‬‬
‫يكفي ان نذكر فقط أن السلم وهو يأت زوجه يذكر اسم ال الكري‪ .‬وليس ف السلم أقدس من ذكر‬
‫ال‪ ،‬ول أنظف ما يقرأ اسم ال عليه‪.‬‬
‫والباحة فيه ‪ -‬ف حدوده الشرعية‪ ،‬أي الزواج ‪ -‬أوضح من أن تتاج إل دليل‪.‬‬
‫(ِنسَا ُؤ ُكمْ حَ ْرثٌ لَ ُكمْ فَأْتُوا حَ ْرثَ ُكمْ أَنّى شِئُْتمْ) [‪]67‬‬
‫" إن ف بضع أحدكم لجرا‪ .‬قالوا يا رسول ال إن أحدنا ليأت شهوته ث يكون له فيها أجر؟ قال‪ :‬أرأيتم‬
‫لو وضعها ف حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها ف اللل كان له أجر " [‪.]68‬‬
‫وغيها وغيها كثي‪...‬‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم قد أخذ من هذا الباح بقسط كامل ل شبهة فيه‪ ،‬واستمتع منه بكل ما يل‬
‫لسلم أن يستمتع به ف هذه الياة‪.‬‬
‫ومع ذلك فلينظر كيف كان المر‪...‬‬
‫تروي السية أنه صلى ال عليه وسلم كان يغطي وجه زوجته حي يضاجعها ف الفراش‪ ..‬وروى الطيب‬
‫من حديث أم سلمة أن الرسول صلى ال عليه وسلم كان يغطي رأسه ويغض صوته ويقول لمرأته‪ :‬عليك‬
‫بالسكينة‪.‬‬

‫***‬
‫الياء والترفع إل هذا الد!‬
‫ليس النس شهوة اليوان الائع الذي ل يلك نفسه أن يندفع هائجا إل التنفيذ‪.‬‬
‫وليس غلظة الشبق الت تتلمظ على متاع لذيذ‪.‬‬
‫وليس نزوة السد الفائر الت تتنق ف بارها عاطفة القلب وإشراقة الروح‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن دعوة الرسول للناس أن يهذبوا العمل النسي ل تكن دعوة إل الزهادة أو إطفاء التعة أو‬
‫تبيد حرارتا‪.‬‬
‫كل! على العكس من ذلك‪ .‬لقد كان يدعوهم إل التاع ويببهم فيه بل كان ف الواقع يوسع مساحته ف‬
‫النفس‪ ،‬ويزيد من متعته‪ ،‬حي يرفعه من لفة السد الالصة إل " عواطف " " ومشاعر " " ومودة "‪.‬‬
‫فقد كان ينهى عن الواقعة دون رسول يسبقها ويهد لا من مداعبة وعواطف جياشة‪.‬‬
‫وليست هذه دعوة الذي يريد أن يرم الناس من التاع أو يفسده عليهم‪ .‬بل دعوة من يريد تذيبهم ورفعهم‬
‫من مستوى اليوان إل مستوى النسان‪ ،‬مع " إحسان " تلذذهم بذا التاع‪ ،‬حت يصبح متاعا " جيلً "‬
‫تدخل فيه كل عناصر النفس‪ ،‬ويدخل فيه " الفن " بتعبيه الميل‪.‬‬
‫والقرآن يصف الصلة بي الرجل والرأة على أنا " سكن " و " مودة "‪َ ( :‬و ِمنْ آيَاتِهِ أَنْ َخلَقَ لَ ُكمْ ِمنْ‬
‫أَْنفُسِ ُكمْ أَ ْزوَاجا لَِتسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ َج َعلَ بَْينَ ُكمْ مَوَدّةً وَرَ ْح َمةً) [‪ .]69‬وهو تعبي جيل أخاذ يشمل كل‬
‫صلت النس‪ ،‬ولكنه يشملها ف مستواها الرفع‪ .‬ف مستوى " النسان "‪.‬‬

‫***‬
‫ذلك هو الحسان ف شئون النس‪ .‬وهو أمر واضح الدللة على نظرة السلم لذه المور‪.‬‬
‫الضرورة تُقضى‪ .‬نعم‪ .‬ل كبت ول حجران‪ .‬ول استقذار للدوافع الفطرية ف ذاتا‪ .‬ول الحساس بالذنب‬
‫عند التيان‪ .‬ولكنه التنظيف رغم ذلك وتذيب الوجدان‪.‬‬
‫والنس ‪ -‬من كثرة ما أبدى ف شأنه فرويد وأعاد ‪ -‬مظنة أن تكون الديان تستقذره وتنفّر منه‪ .‬والسلم‬
‫باصة ل ينح لظة واحدة لذا الستقذار‪ .‬لكنه ‪ -‬وهو يض على الحسان ف كل شيء ‪ -‬يض كذلك‬
‫عليه ف شئون النس‪ ،‬حت وإن كان يشترك ف الضرورة مع اليوان‪.‬‬
‫والدليل القاطع على أن هذه قاعدة عامة ف السلم ل يتص با النس وحده‪ ،‬وإنا تشمل كل تصرفات‬
‫النسان وضروراته‪ ،‬الدليل على ذلك هو آداب الطعام‪.‬‬
‫فليس ثت شك ف أن الطعام طاهر نظيف مباح‪ .‬بل مأمور به ( َو ُكلُوا وَاشْ َربُوا) [‪.]70‬‬
‫ومع ذلك فله آداب‪ .‬آداب تذب تناوله‪ ،‬وتكسر شراهته‪ ،‬وترتفع به عن ميط اليوان إل ميط النسان‪.‬‬
‫" عن ابن عباس رضي ال عنهما أن النب صلى ال عليه وسلم نى أن يُتنفس ف الناء أو ينفخ فيه " رواه أو‬
‫داود والترمذي‪.‬‬
‫" عن أب جحيفة قال‪ :‬أكلت ثريدة من خبز ولم ث أتيت رسول ال صلى ال عليه وسلم فجعلت‬
‫أتشأ‪ ،‬فقال‪ :‬يا هذا كف عنا من جشائك! فإن أكثر الناس شبعا ف الدنيا أكثرهم جوعا يوم القيامة "!‬
‫رواه الاكم وقال صحيح السناد‪.‬‬
‫فهو الحسان إذن‪ .‬وليس النع والجران‪.‬‬

‫***‬
‫ونن ‪ -‬ف القرن العشرين ‪ -‬أحوج ما نكون إل هذه الكمة من الرسول صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫إننا نعيش ف قرن يؤمن بالحسان ف العمل بعن الخلص والتقان‪ .‬وإن كنا نن مع السف ‪ -‬ف العال‬
‫السلمي الذي تلقى عن نبيه هذا التوجيه ‪ -‬ما نزال بعيدين عن هذه الروح‪.‬‬
‫ونن نعيش كذلك ف قرن يؤمن بالتهذيب ف كثي من أمور الدنيا‪ :‬ف تناول الطعام‪ ،‬وقضاء الضرورة‪،‬‬
‫والوقوف ف الصف أثناء شراء تذاكر السينما‪ ،‬والعتذار الؤدب عن أقهل هفوة‪ ،‬وإزجاء الشكر على‬
‫أبسط الدمات‪.‬‬
‫ولكنه مع ذلك ل يؤمن بالتهذيب ف شئون النس‪ .‬ويقول عنه إنه نفاق!‬
‫ول نقصد بالتهذيب ما كان يصنع الرسول ف فراشه‪ .‬فذلك مرتقى رفيع ل يطيقه الكثيون‪.‬‬
‫ول نقصد كذلك ما أوصاهم به ف فراشهم من تويل النس إل مشاعر ومودة وأخذ وعطاء‪ ..‬فذلك‬
‫شأنم غن أرادوا أن يستفيدوا بنصيحة الرسول فلنفسهم الفائدة‪ ،‬وهم الذين سيزدادون متعة وهم يوسعون‬
‫مساحة النس ف نفوسهم‪ ،‬فل تقف عند متعة السد‪ ،‬بل تصبح علقة جسد وعلقة قلب وعلقة روح‬
‫كلها ف آن‪.‬‬
‫وإنا نقصد مستوى أدن من ذلك وألصق بياة الماعة كلها ل بياة الفراد‪.‬‬
‫تلك هي " الفضيلة " بعناها الجتماعي‪ .‬أن يكون النس ف حدوده الشروعة ول يكون نبا مباحا‬
‫للجساد الظامئة على قارعة الطريق‪..‬‬
‫ذلك هو الذي يسمونه نفاقا ف القرن العشرين!‬
‫ولاذا هو نفاق؟ لن النس " ضرورة " بيولوجية‪ ،‬فل شأن له بالخلق!‬
‫وي!؟ والطعام ليس ضرورة؟ واللبس ليس ضرورة؟‬
‫فلماذا تتفلون كل هذا الحتفال " بآداب " الائدة و " أصول " اللبس ول تكتفون فيهما بقضاء‬
‫الضرورات؟‬

‫***‬
‫ونن نتحدث هنا عن " الحسان " ول نتحدث عن الخلق!‬
‫نريد أن نرتفع عن مستوى الضرورة‪ .‬نريد أن نتذوق الفاق العليا الت يرفعنا إليها السلم‪.‬‬
‫نريد أن نتذوق طعم " النسانية " فإنه وال طعم جيل حي تتوجه له النفس‪ ،‬وحي يؤمن النسان أنه‬
‫إنسان!‬
‫المال فطرة " الطبيعة "‪ .‬فطرة الياة الت خلقها ال‪.‬‬
‫والياة ل تكتفي بقضاء الضرورة‪ ،‬ولكنها تدف دائما إل الحسان ف الداء‪.‬‬
‫أرأيت هذه الزهرة الميلة الفياحة الشذى التناسقة اللوان؟‬
‫أتظن أن ذلك " ضرورة "؟‬
‫قالوا‪ :‬لتجتذب إليها النحل فينتج منها العسل غذاء وشفاء للناس! وتساعد كذلك ف تلقيح النبات!‬
‫فهل تظن ذلك؟ هل من " الضرورة " بالقياس إل النحل أن يكون ف الزهرة كل هذا المال؟‬
‫كل وال! فالنحل َخلْق متواضع! وإنه ليحط على الزهرة الرائعة التناسق كما يط على الزهرة العادية‬
‫المال‬
‫فليس جال الزهرة إذن ضرورة! وكل الهداف " البيولوجية " يكن أن تتم ف أبسط زهرة كما تتم ف‬
‫أجل الزهار‪.‬‬
‫ورأيت هذه " الطبيعة "؟‬
‫رأيت حرة الشفق البدعة ورأيت جال الصبح الوليد؟‬
‫رأيت روعة البال تبهر النفاس وتز الوجدان؟‬
‫والبحر المتد إل غي ناية منسرب الوج‪ ،‬تراه ف الليل الساكن كأنا تعمره الطياف‪ ..‬أو الشباح؟‬
‫والليلة القمراء‪ ..‬هل " ذقتها "؟ و " ذقت " طعم السحر ف ضوئها‪ ،‬وظلها‪ ،‬وأطيافها الساربة وحديثها‬
‫الهموس؟‬
‫هل تظن ذلك ضرورة؟‬
‫وأين هي الضرورة ف ذلك كله‪ ،‬والياة مكنة ومستطاعة بغي هذا المال؟‬
‫ورأيت هذا الوجه الرائع؟‬
‫هاتان العينان الالتان اللتان يطل منهما عال عميق الغوار‪ ..‬تلك التقاطيع النسقة‪ ..‬هذا العن العب‪ ..‬تلك‬
‫" الروح " الت تطل من وراء القسمات؟‬
‫تظن ذلك ضرورة؟ وما الضرورة؟‬
‫أليست كل العمليات " البيولوجية " من طعام وشراب وتنفس تتم ف أقبح وجه وأجل وجه على السواء؟‬
‫بل‪ ..‬نداء النس ذاته‪ .‬أل يتحقق ف كل أنثى وكل ذكر بصرف النظر عن ذلك المال؟‬
‫كل‪ .‬إنه ليس " ضرورة "‪ ..‬وإنا هو " جال "‪.‬‬
‫هو " إحسان " ف الداء ل مرد الداء!‬
‫تلك فطرة الياة كما خلقها ال‪ ..‬فطرة " الطبيعة "‪.‬‬
‫والسلم دين الفطرة‪..‬‬
‫يلتقي مع ناموس الياة الكب‪ .‬لنه منل من عند ال خالق الياة‪ ،‬وخالق الفطرة الت يسي عليها الكون‬
‫والياة‪.‬‬
‫لذلك ل يكتفي السلم من النسان بجرد أداء الضرورة‪ .‬لنه حينئذ يكون متخلفا عن الياة‪ ،‬ناشزا عن‬
‫فطرتا‪ ،‬متأخرا إل الوراء‪.‬‬
‫وهو الياة ف أعلى آفاقها ‪ -‬يريد أن يكون النسان واصلً إل الياة‪ ،‬منسجما معها‪ ،‬مساوقا لا‪ ،‬ملتقيا‬
‫معها ف كل اتاه‪.‬‬
‫لذلك يعمد إل تذيب النفوس‪ .‬يدخل ف أعماقها‪ ،‬ويسكن ف أطوائها‪ ،‬ويوجهها من باطنها‪ .‬يوجهها إل‬
‫المال‪ .‬إل الحسان‪ .‬الحسان ف كل شيء‪ .‬الحسان ف العمال والحسان ف الفكار والحسان ف‬
‫الشاعر‪.‬‬
‫" إن ال كتب الحسان على كل شيء "‪..‬‬
‫وحي تتجه النفس إل الحسان‪ .‬حي تتهذب الشاعر وينظف السلوك‪ .‬حي ترج الضرورة عن قهرها‬
‫القاهر فتصبح سلوكا مهذبا " تتاره " النفوس‪ ،‬وتتفاضل ف أدائه‪..‬‬
‫حينئذ يلتقي النسان مع الكون والياة‪..‬‬
‫يلتقي معهما ف نظرة واحدة شاملة رفيعة‪ .‬اسها الحسان‪ .‬أو اسها المال‪.‬‬
‫وال جيل يب المال‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫[‪ " ]60‬أتريد أن تيتها موتات؟ هل أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟ "‪.‬‬
‫[‪ ]61‬سورة السراء [ ‪.] 33‬‬
‫[‪ ]62‬سورة الفرقان [ ‪.] 68 - 63‬‬
‫[‪ ]63‬سورة الائدة [ ‪.] 32‬‬
‫[‪ ]64‬رواه الشيخان‪.‬‬
‫[‪ ]65‬سورة النساء [ ‪.] 84‬‬
‫[‪ ]66‬رواه البيهقي‪.‬‬
‫[‪ ]67‬سورة البقرة [ ‪.] 223‬‬
‫[‪ ]68‬رواه مسلم‪.‬‬
‫[‪ ]69‬سورة الروم [ ‪.] 21‬‬
‫[‪ ]70‬سورة العراف [ ‪.] 31‬‬
‫وتبسمك ف وجه أخيك صدقة‬

‫" عن أب ذر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬ليس من نفس ابن آدم إل عليها صدقة ف كل يوم‬
‫طلعت فيه الشمس‪ .‬قيل‪ :‬يا رسول ال من أين لنا صدقة نتصدق با؟ فقال‪ :‬إن أبواب الي لكثية‪ :‬التسبيح‬
‫والتحميد والتكبي والتهليل والمر بالعروف والنهي عن النكر‪ ،‬وتيط الذى عن الطريق وتسمع الصم‬
‫وتدي العمى وتدل الستدل عن حاجته‪ .‬وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان الستغيث‪ ،‬وتمل بشدة‬
‫ذراعيك مع الضعيف‪ .‬فهذا كله صدقة منك على نفسك‪ .‬رواه ابن حبان ف صحيحه والبيهقي متصرا‪.‬‬
‫وزاد ف رواية‪ :‬وتبسمك ف وجه أخيك صدقة‪ ،‬وإماطتك الجر والشوكة والعظم من طريق الناس صدقة‪،‬‬
‫وهديك الرجل ف أرض الضالة لك صدقة " [‪.]71‬‬

‫***‬
‫هذا الديث العجيب ل يلك النسان أن ير به دون أن يقف عنده لظات يتدبر بعض معانيه‪.‬‬
‫وإن له لياءات شت‪ ،‬يدق بعضها ويلطف‪ ،‬حت يصل إل أعماق النفس‪ ،‬إل قرار الوجدان‪ ،‬فيهزها هزا‪،‬‬
‫ويوقع على أوتار القلب لنا صافيا مشرقا جيلً يأخذ باللباب‪.‬‬
‫وسنختار هنا من العان الكثية الت يوحي با الديث معنيي رئيسيي‪ :‬أولما تفجي منابع الي ف النفس‬
‫البشرية‪ ،‬وثانيهما‪ :‬ربط الجتمع برباط الب والودة والخاء‪ .‬وقد نلم ببعض العان الخرى ف أثناء‬
‫الديث‪.‬‬

‫***‬
‫الصدقة ف مفهومها التقليدي نقود وأشياء مسوسة يساعد با الغن الفقي‪ ،‬وينحها القوي للضعيف‪ .‬وهي‬
‫بذا العن ضيقة الفهوم جدا‪ ،‬وأثرها ف حياة الجتمع مدود‪ .‬ولو أنا ظلت قرونا طويلة مظهرا من مظاهر‬
‫التكافل الجتماعي‪ ،‬ورباطا من روابط الجتمع‪ ،‬وأداة لتطهي الغنياء من الشح‪ ،‬وإعانة الفقراء على‬
‫الياة‪..‬‬
‫وبصرف النظر عن هدف السلم الصيل ف أن يكتفي الناس بعملهم الاص فل يتاجون للصدقات ‪-‬‬
‫ذلك الدف الذي تقق ف عهد عمر بن عبد العزيز إذ يقول يي بن سعيد‪ " :‬بعثن عمر بن عبد العزيز‬
‫على صدقات إفريقية‪ ،‬فاقتضيتها‪ ،‬وطلبت فقراء نعطيها لم‪ ،‬فلم ند با فقيا‪ ،‬ول ند من يأخذها منا‪ ،‬فقد‬
‫أغن عمر بن عبد العزيز الناس‪" ..‬‬
‫بصرف النظر عن هذا الدف النهائي‪ ،‬فقد كانت الصدقات وسيلة احتياطية ف الجتمع‪ ،‬طالا أن الفقر‬
‫موجود‪ ،‬وإل أن تتمكن الدولة ‪ -‬كما تكنت ف عهد عمر بن عبد العزيز ‪ -‬من إغناء الناس عن غي هذا‬
‫الطريق‪.‬‬
‫ولكن الديث النبوي يرج بالصدقة من معناها التقليدي الضيق‪ .‬من معناها السي‪ ،‬إل معناها النفسي‪.‬‬
‫وهنا تنفتح على عال رحيب ليست له حدود‪.‬‬
‫كل خي صدقة‪ ..‬وعلى كل امرئ صدقة‪..‬‬
‫هكذا ف شول واسع ل يترك شيئا ول يضيق عن شيء!‬
‫كل خي صدقة‪ .‬أو ليس ذلك حقا؟!‬
‫ومن أين تنبع الصدقة التقليدية بعناها السي الضيق الدود؟‬
‫أو ليست تنبع من معي الي ف النفس البشرية؟ بلى! إن هذا هو معينها الوحيد‪ .‬وإل فهي رياء كاذب‪،‬‬
‫وهي دنس ل يصدر عن نفس نظيفة‪ .‬وليس ذلك بطبيعة الال هو القصود‪.‬‬
‫فإذا كانت الصدقة تنبع من معي الي‪ ،‬فإن حديث الرسول الكري ل يزيد على أن يرجع مباشرة إل هذا‬
‫العي‪ ،‬يستجيشه ويستدره‪ ،‬ليتفتح ويفيض‪ ،‬ويتدفق ف كل اتاه‪.‬‬
‫الي هو معي الصدقة‪ .‬فليكن كل خي صدقة! كل ما ينبجس من هذا العي‪ .‬كل ما يرج من هذا النبع‬
‫الطاهر النظيف‪ ،‬هادفا إل الي مققا له ف واقع الياة‪.‬‬
‫والصدقة ما هي؟ أليست " إعطاء "؟‬
‫بلى‪ ،‬إنا كذلك فليكن إذن كل إعطاء صدقة! حت تبسمك ف وجه أخيك‪ ..‬صدقة!‬
‫إنه ذات النبع ؛ وهي عملية نفسية واحدة ف جيع الحوال!‬
‫إن " الركة " النفسية الت تدث ف داخل النفس وأنت تم بإعطاء القرش للرجل الحتاج‪ ،‬أو تعي عاجزا‬
‫على اجتياز الطريق‪ ،‬أو تساعد إنسانا على رفع حل‪ ..‬إنا هي ذاتا الت تدث ف نفسك وأنت ترفع حجرا‬
‫من الطريق حت ل يعثر فيه الناس‪ ،‬وهي ذاتا الت تدفع البتسامة إل وجهك حي ترى وجه أخيك‪..‬‬
‫إنك لو جسّمت مشاعر النفوس‪ ،‬فتخيلتها جسوما متحركة‪ ..‬لرأيت صورة واحدة ف كل مرة‪ :‬صورة "‬
‫النفس " وهي ترك يدها من الداخل حركة العطاء!‬
‫خذ! خذ هذا القرش‪ .‬أو خذ هذه العونة‪ ..‬أو خذ هذا الشعور!‬
‫منبع واحد‪ .‬وحركة واحدة ف جيع الحوال‪.‬‬
‫ودافع واحد‪..‬‬
‫فالذي يدفعك إل إعطاء الصدقة للمحتاج هو شعور " إنسان "‪ .‬وقد يكون من الصعب أن تدد معن لذا‬
‫اللفظ الدقيق‪ .‬فهو ف بساطته وشوله معجز كالنسانية!‬
‫قد يكون شعورك واضحا‪ :‬هذا أخوك ف النسانية‪ .‬تس بينك وبينه هذه الصرة الت تربط أفراد النس‬
‫الواحد‪ ،‬وتقرب بينهم‪ ،‬وتدعوهم إل التعاون الوثيق‪.‬‬
‫وقد يكون شعورك مبهما‪ .‬وجدان غامض‪ .‬خيوط خفية تنبع من قلبك حت تصل إل قلبه‪ ،‬فتربط بينهما‬
‫برباط دقيق‪ .‬أو هزات كالزات الغناطيسية أو الكهربائية الت تنتشر ف الو‪ ،‬حت " يلتقطها " الستقبل من‬
‫بعيد‪.‬‬
‫هذا الشعور النسان ‪ -‬الواضح أو البهم ‪ -‬الذي يدفعك إل إعطاء الصدقة للمحتاج‪ ،‬أليس هو ذاته الذي‬
‫ينيك على الجر فتلتقطه بعيدا عن أقدام الارة؟ أو ليس هو كذلك الذي يشيع البسمة ف وجهك حي‬
‫تلقى الناس؟!‬
‫هي عملية واحدة ف داخل النفس‪ ..‬ولكننا ل ندركها دائما على حقيقتها‪.‬‬
‫والرسول الكري يلفتنا ف حديثه إليها‪ .‬يلفتنا إل هذه القيقة النفسية الواحدة الت تكمن وراء كل عمل من‬
‫أعمال الي‪ .‬لنعرف أنه الي ف منبعه وإن تعددت صوره وزواياه‪.‬‬
‫ولكن الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ل يريدنا أن " نعرف " فحسب!‬
‫فالعرفة الت ل تنتهي إل شيء ليست هدفا من أهداف السلم ول من أهداف الياة العملية!‬
‫كل شيء ينبغي أن تكون له غاية‪ .‬وغاية الغايات ف الرض أن يكون الي هو السيطر على حياة البشرية‪.‬‬
‫فالي هو كلمة ال‪ .‬وكلمة ال هي العليا‪.‬‬
‫ومن هنا تلتقي الرض والسماء‪ ،‬والدنيا والخرة ف رصيد السلم‪.‬‬
‫والرسول الكري يريد أن " يعودنا " على الي‪ ،‬ل أن " يعرفنا " إياه فحسب‪.‬‬
‫" وعلى كل امرئ صدقة‪." ..‬‬
‫إنه يريد كلً منا أن تتحرك نفسه بالي‪ .‬يريد أن يستثي تلك الركة الداخلية الت تد يدها بالعطاء‪ .‬والياة‬
‫عادة‪ .‬والعادة تعدى من نفس إل نفس‪ .‬بل تعدى من شعور إل شعور ف باطن النفس!‬
‫حي تتعود النفس أن تستيقظ‪ ،‬أن تنهض من سباتا وتتحرك‪ ،‬وتد يدها من الداخل بعمل أو شعور‪ .‬حي‬
‫يدث هذا مرة‪ ،‬فسوف يدث مرة بعد مرة‪ .‬وستتعدد صور العطاء حت تشمل من النفس أوسع نطاق‪..‬‬
‫حت تشمل ف الواقع كل تصرف وكل شعور‪.‬‬
‫وتبدو حكمة الرسول ف توسيع مدى الي‪ ،‬وتعديد صوره وأشكاله‪ ،‬وتبسيطها كذلك حت تصبح ف‬
‫متناول كل إنسان!‬
‫فلو كانت " الصدقة " أو الي قاصرا على الحسوسات والموال‪ ،‬فسيعجز عنها كثي من أفراد البشرية‪،‬‬
‫وتبقى ينابيع ثرة ف باطن النفوس‪ ،‬ل يستثمرها أحد‪ ،‬ول يستنبط من معينها الغزير‪.‬‬
‫ولكن اليد الكيمة الاهرة تعرف كيف تسيل الي من هذه النفوس‪ .‬لسات رفيقة حانية من هنا ومن هناك‬
‫تفتح الغلق وتبعث الكنون‪.‬‬
‫والرسول الكري يلطف ف معاملة البشرية كالب النون يلطف مع أولده‪ ،‬وهو يطو معهم خطوة خطوة‬
‫ف الطريق‪ .‬إنه ييسر لم المر‪ .‬ويوحي إليهم أنه ف مقدورهم بل تعب ول مشقة‪ .‬وحينئذ يصنعونه ولو‬
‫كان فيه مشقة!!‬
‫تلك أفضل وسائل التربية وأحبها إل النفوس‪.‬‬
‫وهي ليست ضحكا على الناس ول استدراجا لم! حاش ل!‬
‫إنا كلها حقيقة‪ .‬فالي نبع واحد داخل النفس‪ .‬وكل صوره صورة واحدة‪.‬‬
‫ولقد نظن‪ ،‬لول وهلة‪ ،‬أن بعض هذه " الصدقات " أهون من أن تكون صدقة‪ .‬وأنا ل يوز أن تدرج مع‬
‫غيها ف سلك يشمل الميع‪.‬‬
‫وقد يكون أقرب شيء إل هذا الظن قول الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ :‬وتبسمك ف وجه أخيك صدقة‪.‬‬
‫وإفراغك من دلوك ف دلو أخيك صدقة‪.‬‬
‫ومع ذلك فجربا إذا أردت‪ .‬أو تتبعها ف ميط الناس‪..‬‬
‫إن تبسمك ف وجه أخيك‪ ،‬الذي يبدو لك هينا حت ما يصح أن يوضع ف الصدقات‪ ..‬لو أشق شيء على‬
‫النفس الت ل تتعود الي ول تتجه إليه!‬
‫هناك أناس ل يتبسمون أبدا‪ ،‬ول تنفرج أساريرهم وهم يلقون غيهم من الناس!‬
‫إنم شريرون أو ف نفوسهم مرض‪ .‬وينابيع الي مغلقة ف نفوسهم وعليها القفال‪.‬‬
‫وهناك ناس يبخلون عليك بقطرة من ماء! الاء القيقي ل على سبيل الجاز!‬
‫إن السألة ليست البسمة ول نقطة الاء‪ .‬إنا العطاء‪ .‬إنا الركة الت تتم ف داخل النفس‪ .‬إنا فتح القفل‬
‫الغلق‪ .‬أو ترك اليد النفسية وانبساطها إل المام‪..‬‬
‫عملية واحدة ف جيع الالت‪ ..‬إما أن توجد‪ ،‬فتقدر النفس على الي‪ .‬تقدر على العطاء والودة‪ .‬وإما‬
‫أل توجد‪ ،‬فيستوي الي والعظيم‪ ،‬وتغلق النفس عن جيع الصدقات‪.‬‬

‫***‬
‫والرسول الرب ل يريد أن يعرفنا بنابع الي فحسب‪ ،‬ول أن يعودنا على الي فحسب‪ .‬ولكن ألح من‬
‫وراء تعديد الصدقات‪ ،‬وتبسيطها حت تصبح ف متناول الميع‪ ،‬معن آخر‪..‬‬
‫العطاء حركة إيابية‪ .‬ولذلك قيمة كبى ف تربية النفوس‪.‬‬
‫فالنفس الت تتعود الشعور باليابية نفس حية متحركة فاعلة‪ .‬بعكس النفس الت تتعود السلبية فهي نفس‬
‫منكمشة منحسرة ضئيلة‪.‬‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم يريد للمسلم أن يكون قوة إيابية فاعلة‪ ،‬ويكره له أن يكون قوة سلبية‬
‫حسية‪.‬‬
‫والشعور والسلوك صنوان ف عال النفس‪ ،‬كلها يكمل الخر ويزيد ف قوته‪.‬‬
‫ومن هنا حرص الرسول صلى ال عليه وسلم على أن يصف حت العمال الصغية والينة بأنا صدقة‪ .‬بأنا‬
‫إعطاء‪.‬‬
‫مرة أخرى كالب مع أبنائه‪..‬‬
‫فأنت حي توحي لطفلك أن الدور الذي قام به ف العمل دور هام ومثمر‪ ،‬وقد أدى إل نتيجة‪ ،‬فإنك‬
‫تشجعه على مزيد من العمل ومزيد من النتاج‪ .‬أما إذا رحت تصغر من شأنه‪ ،‬وتشعره أن أعماله تافهة‬
‫بالقياس إل الطلوب منه‪ ،‬فإنك تشجعه على النسار داخل نفسه‪ ،‬والنصراف عن كل عمل يتاج إل‬
‫مهود‪.‬‬
‫والرسول يشجع الناس على الحساس بإيابيتهم‪ ،‬حت ف العمال الت قد تبدو صغية ف ظاهرها‪ ،‬ليحسوا‬
‫أن كيانم يتحقق ف عال الواقع‪ ،‬ف عال السلوك‪ .‬فيزيدهم ذلك إقبا ًل على العمل ف ميدان الي‪،‬‬
‫ويشجعهم على الصعود باستمرار‪.‬‬
‫وف تسمية هذه العمال " بالصدقات " أمر آخر من وراء التعبي‪.‬‬
‫فالصدقات بعناها السي الضيق‪ ،‬تقسم الناس آخذين ف جانب ومعطي ف جانب‪ .‬وقد توحي إل‬
‫الخذين الشعور بالضآلة والضعف‪ ،‬وتغري العطي باليلء والغرور‪.‬‬
‫وذلك تقسيم للمجتمع سيئ غاية السوء‪.‬‬
‫ولكن توسيع نطاق الصدقات حت تشمل كل شيء وكل عمل متجه إل الي‪ ،‬يلغي التقسيم الول‪ ،‬ويتيح‬
‫لكل إنسان ‪ -‬بصرف النظر عن فقره وغناه ‪ -‬أن يكون معطيا واهبا للخرين‪ .‬ومن ث يعل الناس كلهم‬
‫‪ -‬بركة واحدة ‪ -‬آخذين ومعطي على قدم الساواة‪ ،‬وشركاء ف ميدان واسع فسيح!‬
‫وذلك ول شك منهج بارع ف تربية النفوس‪ ،‬فوق أنه يقرر مفهوما آخر من مفاهيم السلم الصيلة‪ :‬أن‬
‫القيم الت تكم الياة ليست هي القيم الادية وحدها‪ .‬أو القتصادية وحدها‪ .‬وإنا القيم الشعورية‬
‫والوجدانية كذلك‪ .‬بل هذه الخية هي الصل الذي تقوم عليه علقات البشرية!‬

‫***‬
‫وقد افتت الناس دائما بالقيم الادية وحسبوها قوام الياة‪ .‬القدماء ف ذلك والحدثون سواء‪ .‬وحي تنطمس‬
‫بصائر الناس عن منابع الي القيقية‪ ،‬وتنحسر نفوسهم عن حقيقة الكون الواسعة‪ ،‬فإنم ل يرون إل القيم‬
‫الادية‪ ،‬ول يدركون إل ما تدركه الواس‪ .‬ولكن السلم حرص على توسيع الياة وتليتها ف صورتا‬
‫القيقية‪ .‬ل يهمل عال الادة‪ ،‬ول يهمل ضرورات الياة‪ .‬بل أعطاها عنايته الكاملة كما يتضح ف‬
‫التفصيلت الدقيقة الت يشملها الشرع‪ ،‬والضافات الدائمة الت أضافها الفقه السلمي على مدى القرون‬
‫ولكنه ل يقف عند هذه المور وحدها‪ ،‬لن الياة ف واقعها ل تقف هناك‪ .‬وإنا تتعداها إل آفاق أوسع‬
‫وأرحب‪ ،‬وإل مستويات أكب وأعلى‪.‬‬
‫والسلم دين الياة الكامل‪ ،‬ومن ث يشمل الياة كلها ف جيع الفاق وجيع الستويات‪ ،‬على نظافة ف‬
‫الداء ونظافة ف السلوك‪.‬‬
‫إنه كصاحب الرض الصبة ل يزرع منها جانبا ويهمل الانب الخر‪ ،‬أو يدعه تنبت فيه حشائش‬
‫السموم‪ .‬إنه يس بالقيمة الكبى لتلك الرض الثمينة‪ ،‬ويس بالسارة الت تنشأ من تعطيلها أو إهال‬
‫بعضها‪ ،‬ومن أجل ذلك ينقب ف كل مكان ف النفس حت يكن أن تنبت فيه نبتة الي‪ ،‬فيزرعها وين من‬
‫زرعها الثمار‪.‬‬
‫وحي يرص السلم على أن يظل ينبوع الي ف النفس النسانية ثرّا يفيض بالي ول ينضب‪ ،‬فإنه يضمن‬
‫أن تقوم بي البشر روابط أمت بكثي وأوثق من تلك الت يكن أن يقيمها القتصاد أو تقيمها العلقات‬
‫الادية‪ .‬بل يضمن أن تكون رابطة حية وخية‪ ،‬ل يأكلها القد‪ ،‬ول تسري إل القلوب مع " تنظيماتا "‬
‫الصلدة والفاف‪.‬‬

‫***‬
‫وأي رابطة يكن أن تربط القلوب أقوى من الودة والب؟‬
‫(‪َ ....‬وأَلّفَ بَْينَ ُقلُوبِ ِهمْ لَوْ أَْن َف ْقتَ مَا فِي الْأَ ْرضِ َجمِيعا مَا أَّلفْتَ بَْينَ ُقلُوبِ ِهمْ وَلَ ِكنّ اللّهَ أَلّفَ َبيْنَ ُهمْ) [‪.]72‬‬
‫إنا هبة ال‪..‬‬
‫والنعم الادية أو القتصادية كذلك هبة ال‪.‬‬
‫ولكن الية تضع كلً ف مكانه ف ميزان القلوب وميزان الياة!‬
‫ل يكفي الال وحده لتأليف القلوب‪ .‬ول تكفي التنظيمات القتصادية والوضاع الادية‪.‬‬
‫ل بد أن يشملها ويغلفها ذلك الروح الشفيف الستمد من روح ال‪ .‬أل وهو الب‪.‬‬
‫الب الذي يطلق البسمة من القلب فينشرح لا الصدر وتنفرج القسمات‪ ..‬فيلقى النسان أخاه بوجه‬
‫طليق‪.‬‬
‫ذلك الب هو الذي يصنع العجزات‪ .‬هو الذي يؤلف القلوب‪ .‬هو الذي يقيم البناء الذي ل يهدمه شيء‬
‫ول يصل إليه شيء‪.‬‬
‫" جاء إل النب صلى ال عليه وسلم أعراب يوما يطلب منه شيئا فأعطاه‪ ،‬ث قال له‪ :‬أحسنت إليك؟ قال‪ :‬ل‬
‫ول أجلت! فغضب السلمون وقاموا إليه‪ ،‬فأشار إليهم أن كفوا‪ .‬ث دخل منله فأرسل إل العراب وزاده‬
‫شيئا‪ .‬ث قال‪ .‬أحسنت إليك؟ قال نعم‪ .‬فجزاك ال من أهل ومن عشية خيا‪ .‬فقال له النب صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ :‬إنك قلت ما قلت وف نفس أصحاب شيء من ذلك‪ ،‬فإذا جئت فقل بي أيديهم ما قلت بي يدي‪،‬‬
‫حت يذهب من صدورهم ما فيها عليك‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬فلما كان الغداة جاء‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫إن هذا العراب قال ما قال‪ ،‬فزدناه‪ ،‬فزعم أنه رضي‪ .‬أكذلك؟ فقال العراب‪ :‬نعم‪ .‬فجزاك ال من أهل‬
‫وعشية خيا‪ .‬فقال صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن مثلي ومثل هذا العراب كمثل رجل له ناقة وشردت عليه‪،‬‬
‫فتبعها الناس‪ ،‬فلم يزيدوها إل نفورا‪ ،‬فناداهم صاحب الناقة‪ :‬خلوا بين وبي ناقت‪ ،‬فإن أرفق با وأعلم‪.‬‬
‫فتوجه لا صاحب الناقة بي يديها‪ ،‬فأخذ لا من قمام الرض‪ ،‬فردها هونا هونا‪ ،‬حت جاءت واستناخت‪،‬‬
‫وشد عليها رحلها‪ ،‬واستوى عليها‪ .‬وإن تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار!‬
‫هذا الدرس العجيب من حياة الرسول صلى ال عليه وسلم من سلوكه العملي ‪ -‬يشرح لنا القيم الت‬
‫أودعها أحاديثه الروية ف هذا التاه‪.‬‬
‫قد يكون الال الزائد هو الذي أرضى العراب ‪ -‬ف ظاهر المر ‪ -‬بعد ما كان ساخطا على العطاء القليل‪.‬‬
‫ولنفرض جدلً أنه كذلك‪.‬‬
‫ولكن فلننظر إل المر من جانب النب صلى ال عليه وسلم من جانب العطي ‪ -‬أكان يزيد ف عطاء الرجل‬
‫لو ل يكن هذا العي الفياض بالرحة والودة والب؟‬
‫ولننظر إل المر خاصة بعد أن قال العراب قولته النكرة الاحدة‪ ..‬أوَ قد كان غي هذا القلب الكبي وهذا‬
‫الروح الشفيف يكن أن يقبل القولة الارحة ويرد عليها بعطاء جديد؟‬
‫إن الصدقة " الادية " الزائدة ليست هي حقيقة الوقف! إنا مرد التعبي الادي الجسم للشعور السامق‬
‫النبيل‪ .‬إنا ترجة للصل وليست هي الصل! إنا الصدى والقلب هو القيقة!‬
‫هذا القلب هو الذي يربيه الرسول الكري هذه التربية البدعة ليقيم عليه رباط البشرية‪.‬‬
‫وما نريد أن ندخل حقائق " العلم " ف أمر روابط البشرية! ولكنا ‪ -‬برغمنا! ل ند ميصا من الشارة إل‬
‫هذه القائق الت غيت كل الفاهيم " الادية " الت سادت تفكي البشر ف القرون الخية‪ .‬فقد أثبت العلم‬
‫أنه ليست هناك " مادة "! إنا الياة كلها " قوى " و " روابط "!‬
‫الذرة الت كان يظن من قبل أنا مادة راسية مستقرة ملموسة ظهر أنا كهارب! أنا طاقة كهربائية سالبة‬
‫وموجبة‪ .‬وأن الرباط الذي يشد بعضها إل بعض هو الاذبية‪..‬‬
‫وذلك هو كل بناء الكون!‬
‫ل جرم يكون كذلك هو بناء البشرية!‬
‫ليس " الادة "‪ .‬وليس " القتصاد "! ليس شيئا ما تقف عنده الواس وتظنه القيقة! وإنا هو شيء أعمق‬
‫وألطف وأدق‪..‬‬
‫الب رباط البشرية‪ .‬والقلوب هي طاقتها‪.‬‬
‫وكما تصطدم الطاقات ف الذرة فتضطرب وتتناثر حي تفقد رباطها القوي يشدها بعضها إل بعض‪ ،‬حي‬
‫تفقد رباط الاذبية‪ ،‬كذلك تصطدم القلوب ف الياة البشرية فتتنافر وتتناثر حي تفقد رباطها القوي الذي‬
‫يشدها بعضها إل بعض‪ ..‬حي تفقد الحبة‪.‬‬
‫والسلم دين ال‪.‬‬
‫ال الذي خلق اللق وهو أعلم بن خلق‪.‬‬
‫وهو دين الفطرة‪ .‬الدين الذي يساير الفطرة أجل مسايرة‪ ،‬ويصل من ذلك إل أجل النتائج‪.‬‬
‫والسلم هو الذي يعل رباط الحبة هو الرباط الول والوثق ف حياة البشرية‪ ،‬ويقيم الوشائج كلها ‪ -‬من‬
‫مادية واقتصادية واجتماعية وفكرية وروحية ‪ -‬على هذا الساس التي‪.‬‬
‫صمُوا ِبحَْبلِ اللّهِ َجمِيعا وَل َتفَ ّرقُوا وَا ْذكُرُوا ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَيْ ُكمْ إِذْ كُنُْتمْ َأ ْعدَاءً‬
‫( َوأَلّفَ بَْينَ ُقلُوبِ ِهمْ)‪( .‬وَاعَْت ِ‬
‫فَأَلّفَ َبْينَ قُلُوبِ ُكمْ فَأَصَْبحُْتمْ بِِن ْعمَتِهِ ِإخْوَانا) [‪.]73‬‬
‫ورسول السلم ‪ -‬وهو الية البشرية الكونية الكبى ‪ -‬يدرك بفطرته اللتقية مع فطرة الكون العظم‪ ،‬وبا‬
‫أدبه ربه فأحسن تأديبه‪ ،‬أن الرحة والودة والخاء هي وحدها الت يكن أن يقوم عليها البناء الي القوي‬
‫التماسك‪ ،‬فيدعو إل الب‪ " :‬ل يؤمن أحدكم حت يب لخيه ما يب لنفسه " [‪ ]74‬ويلو القلوب‬
‫لتفيض بالب‪ ،‬ويعلمها الوسيلة لكي ِتبّ وتَب‪ :‬أن تلقى أخاك بوجه طليق!‬
‫وإن هذه البتسامة على الوجه الطلق لتعمل عمل السحر!‬
‫جربا!‬
‫جرب أن تلقى الناس بوجه طلق وعلى فمك ابتسامة مشرقة‪ .‬ولن تندم على التجربة قط!‬
‫إنا لتستطيع ‪ -‬وحدها ‪ -‬أن تفتح مغالق النفوس وتنفذ إل العماق‪ .‬تنفذ إل القلب! إل الطاقة الكنونة ف‬
‫الكيان البشري‪ ،‬فتربط بينها وبينك برباط الاذبية!‬
‫حينئذ تصي قطعة من الكون العظم‪ ،‬دائرة معه ف فلكه الفسيح‪ ،‬لنك تلتقي بفطرتك الصحيحة مع فطرته‬
‫القة‪ ،‬فتلتقيان ف الناموس الكبي!‬
‫وحينئذ ترى ال!‬
‫فهذا هو الطريق!‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫[‪ ]71‬الترغيب والترهيب ج ‪ 4‬ص ‪ 396‬رقم ‪.7‬‬
‫[‪ ]72‬سورة النفال [ ‪.] 63‬‬
‫[‪ ]73‬سورة آل عمران [ ‪.] 103‬‬
‫[‪ ]74‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫فقليله حرام‬

‫" ما أسكر كثيه فقليله حرام " [‪.]75‬‬


‫لعل ظاهر اللفظ يوحي بأن المر وحدها هي القصودة بالديث‪.‬‬
‫ولكن ألح أنه قاعدة تشريعية شاملة‪ ،‬تنطبق على المنوع كله والرام كله‪ ،‬وتنطبق على المر والربا‪،‬‬
‫والسرقة والغصب‪ ،‬والغمز واللمز‪ ،‬والغيبة والنميمة‪ ،‬والكذب والنفاق‪ ..‬وعلى الرية اللقية خاصة!‬
‫وقليل المر ل يسكر‪ .‬وقليل كل شيء ل ضرر فيه‪..‬‬
‫ما شربة خر؟ ما كأس بي الي والخر؟ ف الفلت مثلً والفراح؟!‬
‫وما كذبة بي الي والي بيضاء أو غي بيضاء؟‬
‫وما القروش القليلة يتلسها من مبلغ ضخم ل يكن أن تؤثر فيه؟‬
‫وما الضرر ف قليل من النفاق تسي به المور و " تشحم " عجلة الياة فل يقع فيها احتكاك ول صدام؟‬
‫وما نظرة عابرة إل فتاة؟‬
‫أو ابتسامة؟‬
‫أو كلمات؟‬
‫أو شيء قليل من الداعبة ل يبلغ حد الرية‪ ..‬قبلة أو ضمة أو ما أشبه؟‬
‫فلتكن الرية!‬
‫جرية عابرة‪ ..‬تتم ف الظلم‪ ،‬خلسة‪ ،‬ل يعلم با أحد‪ ،‬ول تؤثر ف خط سي الياة‪ ..‬هل تنهد الدنيا إذا‬
‫حدث ذلك أو تنهار الخلق؟‬
‫كذلك تبدو المور للوهلة الول‪ ..‬سهلة هينة ل تستلزم التشديد ول توجب الهتمام!‬
‫ومع ذلك فهي حكمة بالغة تلك الت نطق با الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودراية عميقة بالنفس البشرية‪،‬‬
‫ونظر بعيد ل يقف عند الزئية الصغية‪ ،‬ول عند الفرد الواحد‪ ،‬ول اليل الواحد من الجيال!‬
‫إنا النظرة الفاحصة الشاملة الت تأخذ ف حسابا الفرد والجتمع‪ ،‬والنسان كله على امتداد حياته ف تلك‬
‫الرض‪.‬‬
‫نظرة القلب الدرك البصي الذي ينفذ إل صميم السلم فيستلهم روحه العميقة الدقيقة‪ ،‬وتنفتح له مغاليق‬
‫الكمة وغوامض السرار‪.‬‬
‫ومن غي رسول ال صلى ال عليه وسلم أجدر بأن يدرك روح السلم النقية الصافية‪ ،‬ويترجم عنها‪ ،‬وهو‬
‫نب ال وصفيه‪ ،‬الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه‪ ،‬وشرح صدره‪ ..‬شرح صدره للسلم‪ ،‬وللحق الاثل ف‬
‫الكون الكبي‪ ،‬فكان هو النموذج الكامل للسلم‪ ،‬والقمة البشرية؟!‬

‫***‬
‫الدمان أول شيء يطر على البال حي تذكر المر‪ ،‬ويذكر القليل فيها والكثي‬
‫والدمان ‪ -‬كما تثبت التجربة العلمية ‪ -‬خطر ماثل أمام البشرية حي تبيح لنفسها المر‪ ،‬وحي تبيح‬
‫لنفسها أي أداء من أدواء الجتمع الكثية التعددة‪.‬‬
‫وهو ف المر يرتكز على أساس عصب ‪ -‬جسمان ‪ -‬وعلى أساس نفسي كذلك [‪.]76‬‬
‫كل شراب ‪ -‬بل كل دواء ‪ -‬ذي تأثي معي على العصاب‪ ،‬منبه أو مسكن أو مثي أو ملطف‪ ،‬يفقد أثره‬
‫على العصاب بعد قليل‪ ،‬لنا تتحصن ضده وتتبلد عليه‪ .‬ويتاج النسان ‪ -‬ل مالة ‪ -‬إل زيادة الرعة أو‬
‫تغيي " الصنف " لكي يس له بفعول‪.‬‬
‫هذا من الوجهة العصبية‪ .‬أما من الوجهة النفسية فهناك العادة‪ .‬والنفس تستريح لا تتعود عليه ‪ -‬كذلك‬
‫فطرها ال لكمة هو عالها ‪ -‬وتشتاق لا تعتاده من الركات والفعال والفكار والشاعر‪ ،‬فيلتقي تأثر‬
‫العصاب ومتعة النفس على المر الواحد ف اللحظة الواحدة‪ ،‬فيتجاوبان‪ ،‬ويدفع كل منهما الخر ويقويه!‬
‫وهذا أمر ينطبق على كل شيء! حت لقمة البز وجرعة الاء‪ ،‬وضجعة السرير وجلسة القعد‪ ،‬وحديث‬
‫النسان إل نفسه أو حديثه إل الناس‪ ،‬ورؤية فلن أو صحبة مكان أو ألف شيء من الشياء!‬
‫ولكن بعض هذه المور تداوي نفسها بنفسها فتكون بنجاة من الدمان ‪ -‬بعن السراف الضر ‪ -‬كما أن‬
‫بعضها ل يصل إل حد الطر ولو وصل إل الدمان!‬
‫الطعام والشراب عادة يتعودها السم وتتعودها النفس‪ ،‬من حيث الكم والنواع والواعيد‪ .‬ولكنها ‪ -‬ف‬
‫الالة السوية ‪ -‬تد الفرامل الضابطة ف إحساس الشبع وامتلء الفراغ الحدود‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد تنحرف إل شَرَهٍ نَ ِهمٍ مسعور!‬
‫ولكنها ضرورة! ل تقوم الياة إل با ف حالتها العقولة السوية‪.‬‬
‫ومن ث أبيح القول العقول‪ ،‬وحرم الزائد عن العقول‪َ ( :‬و ُكلُوا وَاشْرَبُوا وَل ُتسْ ِرفُوا) [‪ ]77‬ول يعل التحري‬
‫بتشريع لن ذلك مستحيل‪ .‬وإنا ترك أمره للتوجيه والتهذيب وخشية ال وتقواه‪.‬‬
‫والنوم والراحة عادة من حيث الواعيد والقدار والطريقة والوسيلة ‪ -‬مترفة أو غي مترفة ‪ -‬ولكنها ‪ -‬ف‬
‫الالة السوية ‪ -‬تد فراملها الضابطة ف النشاط الذي تدثه‪ ،‬والرغبة الذاتية ف تصريف هذا النشاط‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد تنحرف إل كسل وتراخ وفتور‪.‬‬
‫ومن ث أبيح القدر العقول ‪ -‬إن لبدنك عليك حقا ‪ -‬وحرم الترف والتكاسل والقعود‪.‬‬
‫ورؤية الناس ومالطتهم عادة‪ .‬ولكن لا ضوابطها الذاتية الت تنع السراف فيها ‪ -‬ف الالة السوية ‪ -‬وهي‬
‫رغبة النسان ف التقلب بي نزعته الفردية ونزعته الماعية ليضي هذه وتلك‪.‬‬
‫وإلف المكنة والشياء عادة‪ ..‬ول ضرر ف الدمان عليها ‪ -‬ما دامت ف ذاتا نظيفة ‪ -‬ومع ذلك فاللل‪،‬‬
‫وهو عنصر بشري أصيل‪ ،‬يد بطريقة طبيعية من الدمان عليها والسراف فيها‪..‬‬
‫ولكن المر وغيها من الدواء ليس كذلك!‬
‫حي يدث الدمان فليست له ضوابط‪ .‬وكل شارب عرضة للدمان‪ .‬لن العصاب ليست لا حصانة من‬
‫تأثي السموم!‬
‫ومع ذلك فسنفترض أن أغلبية من الناس تستطيع أن تشرب دون أن تبلغ حد الدمان ‪ -‬وهو قول غي‬
‫صحيح ف واقع المر ‪ -‬فمع ذلك ليس هذا بيت القصيد!‬
‫بيت القصيد هو الجيال القادمة‪...‬‬
‫ف مسألة المر بالذات‪ ،‬يقول الطب إن أبناء السكارى يولدون وفيهم استعداد موروث لشرب المر‪،‬‬
‫ينتقل إليهم عن طريق النطفة قبل أن يلكوا لنفسهم القياد! ومن ث يصبحون ف الكب مدمني!‬
‫ويقول علم النفس إن أبناء السكي يصابون باضطرابات نفسية وعصبية عنيفة تؤثر ف مستقبل حياتم‪.‬‬
‫فالولد ينظر إل شخصية والده على أنه الثل العلى الكامل الذي يتلبس به وياول أن يتذيه‪ .‬فإذا رأى ف‬
‫سلوكه خللً فإن ذلك يدث ف داخل نفسه انقساما بي شخصي كانا من قبل مؤتلفي بل متلبسي‪ ،‬ها‬
‫شخصيته وشخصية والده‪ .‬ومن ث يدث نزاع داخلي عنيف‪ ،‬ينتهي إما بانطواء الولد على نفسه واعتزاله‬
‫الياة الية التحركة‪ ،‬إما ببوزه ف هيئة مرم صغي‪ ،‬يطم كل مقدس‪ ،‬ويلوث كل نظيف‪.‬‬
‫أما الفتاة فيصيبها صراع من نوع آخر ينتهي با إل كراهية الرجال جيعا‪ ،‬والنفور ف الستقبل من الزواج‪،‬‬
‫وما يصاحب ذلك من عقد جنسية متلفة‪ ،‬أو ينتهي إل انرافها اللقي ووقوعها ف مهاوي الرذيلة‪.‬‬
‫وسنفترض مرة أخرى أن ذلك كله لن يقع ‪ -‬وهو أمر غي صحيح!‬
‫سنفترض أن النطفة ل تنقل إل الني عدوى المر وهو واغل ف الظلمات الثلث [‪ .]78‬وسنفرض أن‬
‫الوالد ل يطع أولده على سوء منه‪ ،‬فلم يعلموا أنه يشرب المر ول يدث ف نفسهم الضطراب‪.‬‬
‫يبقى بعد ذلك كله شيء ل تستطع اتقاءه الجيال!‬
‫ما موقف الب الذي يعاقر المر حي يعلم أن أبناءه قد وقعوا فيما وقع هو فيه من قبل؟‬
‫أيزجرهم؟ أم يرخي لم العنان؟‬
‫ولاذا يا ترى يزجرهم وهو ‪ -‬بينه وبي نفسه ‪ -‬ل يؤمن بأن هناك ضررا ف المر؟ بل إنه ليؤمن أن تربته‬
‫الشخصية خي شاهد على ما يقول! ها هو ذا يشرب‪ .‬فماذا حدث له؟ ل يبلغ حد الدمان‪ .‬ل يفصل من‬
‫عمله نتيجة التأخر ف الصباح أو الهال وشرود البال‪ .‬ل يؤثر الشرب ف مركزه الجتماعي‪ .‬ل تتلف‬
‫أعصابه ول تفسد قدرته على التفكي‪ .‬وإنا كلها كأس بي الي والخر‪ ..‬ف الفلت وف الفراح!! فما‬
‫الضي على الولد إذا ساروا ف نفس الطريق‪ ،‬وعند كبهم " يعقلون " وتسي المور‪...‬؟!‬
‫هنا موطن الطر ل يدركه الشارب ف أول جيل!‬
‫إنه ينسى! ينسى أنه هو شخصيا قد نشأ ف بيئة مافظة تستنكر المر وتَنْفر منها وتَنفّر منها‪ ،‬وأنه نشأ وف‬
‫عقله الباطن فرامل قوية ‪ -‬مستمدة من هذه البيئة الحافظة ‪ -‬هي الت حالت بينه ‪ -‬دون أن يشعر ‪ -‬وبي‬
‫السراف والدمان‪ .‬ف أعماق نفسه شخص معنوي أو شخص مسم‪ ،‬يسك له العصا ويذره‪ ،‬وينهال‬
‫عليه ضربا إذا تاوز الدود ‪ -‬ف صورة تقريع الضمي‪.‬‬
‫وصحيح أن هذا الشخص ل يبلغ من القوة ف نفسه أن ينعه البتة‪ ،‬ول يستطع أن يقفل عليه الطريق ولكنه‬
‫مع ذلك موجود ل شك ف وجوده‪ .‬وله الفضل كله ف الوقوف به عند درجة معينة ل تصل إل الدمان‬
‫البغيض‪.‬‬
‫أما البناء فأين هذا الشخص ف نفوسهم؟ من غرسه ف أخلدهم وهم صغار؟‬
‫أبوهم؟ أو الجتمع الذي يسرح فيه آباء كأبيهم؟‬
‫كل! لقد وجدت القدوة السيئة وانتهى المر‪ ،‬ث ل توجد الزواجر الت منعت اليل الول من السراف!‬
‫أو قد توجد‪ ،‬ولكنها أضعف من الزواجر ف أول جيل‪..‬‬
‫ومن ث يشرب البناء فيسرفون عن ذي قبل‪ ،‬لن الشخص الذي ف نفوسهم‪ ،‬والعصا الت ف يده لينة ل‬
‫تترك أثرا ف الضمي‪.‬‬
‫وينشأ بعد ذلك جيل ث أجيال‪ ..‬ويتفي رويدا رويدا ذلك الشخص من الضمي‪ .‬ويندفع الناس بل حاجز‪،‬‬
‫ويسرفون بل حدود‪.‬‬
‫تلك قصة المر على مدار الجيال‪..‬‬
‫جيل متقيظ ف أول المر‪ ،‬عيونه على الرية‪.‬‬
‫ث أفراد يتسللون خفية من وراء الستار‪...‬‬
‫فإذا ظلوا ف استتارهم‪ ،‬ل يتبجحون بالث ول يسمح لم الجتمع بذلك‪ ،‬فثم أمل بقاء الجتمع ‪ -‬ف‬
‫عمومه ‪ -‬نظيفا من الرية فترة طويلة من الزمان‪ .‬أما إذا َأمِنوا زجر الجتمع‪ ،‬فخرجوا من خفيتهم‪ ،‬وقعدوا‬
‫على قارعة الطريق‪ ،‬فهنا ينشأ أول جيل منحرف‪ .‬وهو انراف بسيط ف أول المر ل ينذر بالطر ول يبدو‬
‫فيه النكي‪ .‬ولكن النراف البسيط يتد‪ ،‬كما يتد ذراعا الزاوية من نقطة الصفر ‪ -‬نقطة البتداء ‪ -‬حت‬
‫تنفرج الشقة ويبعد الذراعان‪..‬‬
‫والاوية الحتومة ف ناية الطريق!‬

‫***‬
‫وهي قصة كل جرية من جرائم الخلق‪..‬‬
‫قصة الكذب والداع والنفاق والغش والتدليس‪.‬‬
‫قصة الغيبة والنميمة ونش العراض وكشف العورات‪.‬‬
‫قصة الرشوة والظلم والفساد‪.‬‬
‫قصة القعود عن نصرة الق والهاد ف سبيله‪.‬‬
‫قصة الترف والسرف والفجور والجون‪.‬‬
‫وهي على الخص قصة " التقاليد فيما يتص بالرجل والرأة والختلط والرية‪...‬‬
‫يبدأ الجتمع " نظيفا " متحفظا ل يسمح بالختلط ول يتهاون ف الرية‪.‬‬
‫ول نقصد " بالنظافة " أنه متمع من اللئكة الطهار قد خل من الرية‪ .‬فهذا شيء ل يدث ف التاريخ!‬
‫ولكنا نقصدها بثل العن الذي يستخدم ف الشئون الصحية‪ .‬فحي تقول اليئات الطبية إن الدينة " نظيفة "‬
‫تقصد أنا نظيفة من الوبئة الطرة‪ ،‬ول تقصد أنا خالية من حالت فردية من هذه المراض‪.‬‬
‫ف هذا الجتمع النظيف توجد حالت فردية غي نظيفة‪ .‬ولكنها قليلة ومستترة وعدواها مدودة‪ .‬وذلك‬
‫نتيجة الرص الدائم الذي يبذله الجتمع ف عملية التنظيف‪.‬‬
‫ولكنه ف وقت من الوقات يتراخى‪...‬‬
‫عندئذ يأخذ الوباء ف النتشار التدريي البطيء‪.‬‬
‫وف حالة الوبئة السمية ينتشر الرض بسرعة وبطريقة ملموسة ميتة‪.‬‬
‫ومن هنا يهب الناس للوقاية والكفاح ف أسرع وقت ويتساندون ويتكاتفون لوقف الوباء‪.‬‬
‫ولكن الوبئة النفسية ذات طبيعة أخرى‪.‬‬
‫فالنفس بطبيعتها استجابة من السم‪ .‬والناعة النفسية اللشعورية ‪ -‬حي توجد ‪ -‬تستطيع أن تقاوم الرض‬
‫أو على القل تفف حدته القاتلة مدى أجيال‪.‬‬
‫ولذلك فالفساد اللقي بطيء الفعول جدا‪ .‬وقد تر أجيال كاملة على متمع منحل الخلق قبل أن ينهار‪.‬‬
‫بل إن النلل قد يستشري ف جيل من الجيال الخية إل حد يعييك فيه البحث عن جاعة واحدة‬
‫فاضلة‪ .‬ومع ذلك فقد ل تقع الكارثة ف هذا اليل بالذات‪ .‬ومن ث يغرى الناس بالظن أن كل النذر خرافة‪،‬‬
‫وأنم مستمتعون بكل ما يشتهون‪ ،‬ث ناجون ما كانوا يذرون!‬
‫ولكن سنة ال ف النهاية تتحقق! ل تتخلف مرة واحدة ف التاريخ!‬
‫ل يدث أن استمتع الناس بشهواتم الزائدة إل غي حد‪ ،‬ث استمروا إل البد أقوياء متماسكي قادرين على‬
‫الياة!‬
‫وهذه صفحة التاريخ مفتوحة لن يريد‪.‬‬
‫صفحة اليونان القدية وروما القدية وفارس القدية‪ ،‬والعال السلمي حي غرق ف الشهوات‪ ،‬ث صفحة‬
‫الغرب ف جاهليته العاصرة‪.‬‬
‫تبدأ الرية بسيطة خفيفة لطيفة‪..‬‬
‫اختلط بريء تت لشراف الباء أو غيهم من الشرفي‪..‬‬
‫ونزهات لطيفة أو نواد ظريفة‪ ،‬ول بأس فيها من إتاحة شيء من اللوة " البيئة " بي شاب وفتاة‪.‬‬
‫وما الذي يكن أن يدث ف خلوة كهذه بريئة وعي الرقيب على بعد خطوات‪ ..‬أو حجرات؟!‬
‫ابتسامة من هنا وكلمة إعجاب من هناك؟‬
‫وضمة خاطفة ف غفلة من الرقيب؟ وقبلة طائرة تطفئ الغلة أو تشعل اللهيب؟‬
‫" يا سيدي "!‬
‫ث يدث ما يدث ف المر‪..‬‬
‫الدمان‪..‬‬
‫الكأس الول تصبح بعد حي تافهة ضئيلة الفعول‪ .‬ل بد من كأس ثانية‪.‬‬
‫والقبلة الول تغري دائما بالزيد‪ ،‬ل يكن أن تتوقف‪ ،‬ليس ذلك من طبائع الشياء‪.‬‬
‫ولكن اليل الول مع ذلك ل يسرف ف الرية‪ ،‬ول يصل إل الدمان الجنون‪.‬‬
‫هنالك الشخص الواقف ف داخل النفس بالرصاد‪ ،‬ومعه العصا ينذر ويذر ويهدد بعظائم المور‪ .‬وهنالك‬
‫التقاليد الت تربط الجتمع ول يسهل الروج عليها دفعة واحدة‪ .‬ومن ث ل تدث الرية كاملة ف أول‬
‫جيل‪ ،‬وإنا " يتبحبح " الناس قليلً ويفكون القيود‪.‬‬
‫ويضي الجتمع ف طريقه منتشيا ل يس بالطر‪ ،‬ول خطر ‪ -‬حت الن ‪ -‬هناك‪.‬‬
‫ويظن الجتمع ‪ -‬نظريا ‪ -‬أنه قادر على ذلك إل غي ناية‪ .‬قادر على أن يفك القيود ومع ذلك ل يقع ف‬
‫الرية أو ل يصل إل السراف العيب‪.‬‬
‫وهو ملص ف عقيدته تلك الضالة لنه يقيس على نفسه ويغفل حقيقة المور‪.‬‬
‫يغفل الضوابط الفية الت أنشأها ف أعماق نفسه اليل السابق التحفظ‪ .‬والت لن يلفها هو للجيل القبل‬
‫لنه غي مؤمن با‪ ،‬يظنها تشددا بل ضرورة ول لزوم!‬
‫ينسى الرجل أنه قد رأى أمه متحفظة ل تتلط بالرجال‪ ،‬ورآها مكتسية ل يتعرى من جسمها شيء‪ ،‬ومن‬
‫ث تقاومه هذه الصورة على غي وعي منه وهو يدعو فتاة غريبة إل الختلط به‪ ،‬ويدعوها إل تعرية نفسها‬
‫أو جسدها ليستمتع به‪.‬‬
‫نعم تقاومه حت وهو مندفع الشهوة‪ ،‬فل يسرف‪ ،‬ول يتبجح بالث‪.‬‬
‫والفتاة الت رأت أمها متحشمة وزرعت ف نفسها النفور من العري ‪ -‬النفسي والسدي ‪ -‬تتحفظ كذلك‬
‫‪ -‬بوعي منها و بغي وعي ‪ -‬حت وهي تم بالنزلق‪ ،‬فل تسرف ول تتبجح بالث‪.‬‬
‫ث يتراجع هذا اليل‪..‬‬
‫وييء جيل جديد تربية الم الت ذاقت ف شبابا " متعة " التحلل البسيط من القيود‪ ،‬والب كذلك‪.‬‬
‫الم والب اللذان ذاقا شيئا من التعة ول يسقطا السقوط الكامل ‪ -‬والم خاصة ‪ -‬لن ينظرا إل التقاليد "‬
‫التزمتة " بعي الحترام‪.‬‬
‫علم التشدد؟ أل ينفلتا ها من هذا التشدد ول يدث شيء؟ " فليتبحبح " الولد " قليلً " ول ضي!‬
‫ومن ث ينشأ اليل الديد وقد ضعف الشخص الواقف ف داخل النفس بالرصاد‪ ،‬ولنت العصا فلم تعد‬
‫تترك أثرا ف الضمي‪ ،‬وتفككت التقاليد فلم تعد تنع الحظور‪.‬‬
‫ويتراجع هذا اليل‪..‬‬
‫ويأت جيل يرى أمة قد تعرت‪ ،‬من شيء من الثياب وشيء ماثل من الفضيلة (والسم والنفس صنوان ف‬
‫هذه المور!)‬
‫الولد الذي يرى أمه عارية ل تثور ف نفسه نوة الرجولة والرص على العراض‪ ،‬فقد زالت ف نفسه حرمة‬
‫السد‪ ،‬وصار نبا يباح للعيون‪ ،‬وبعد ذلك لا هو أكثر من العيون‪.‬‬
‫والبنت الت ترى أمها عارية ل تؤمن بالقيد‪.‬‬
‫ويلتقي هؤلء الولد والبنات‪ ،‬يلتقون على شهوة السد الفائرة‪ ،‬ويلتقون بل ضابط ول حدود‪ ،‬وتتم‬
‫الدورة الحتومة‪ ،‬والاوية ف آخر الطريق‪.‬‬
‫***‬
‫والبشرية ‪ -‬حي تترك وشأنا ‪ -‬قليلً ما تتذكر‪ ،‬وقليلً ما تتدبر عبة التاريخ!‬
‫كل جيل يدفعه الغرور من ناحية‪ ،‬والنشوة الفائرة من ناحية أخرى‪ ،‬فيظن أن تربته جديدة ل تر على أحد‬
‫من قبل‪ ،‬وأنه ليس مقيدا بسنة التاريخ‪.‬‬
‫ما أسهل ما يقول لنفسه‪ :‬إن المة الفلنية قد انارت لكذا‪ ،‬أو الشخص الفلن قد تطم لكيت‪ .‬أما أنا‬
‫فلن أقع ف غلطته ولن يدث ل ما حدث هناك‪ .‬لن يفلت من الزمام‪ .‬لن أدع شيئا يغلبن‪ .‬سأصحو قبل‬
‫أن أبلغ الاوية‪ .‬أنا شيء آخر غي الناس من قبل‪.‬‬
‫وييء " العلم " ف القرن العشرين فينفخ ف الناس نفخة كاذبة‪ .‬ييّل لم أنم خلق غي ما مر من الجيال‬
‫ف التاريخ كله‪ .‬خلق ل تنطبق عليه سنة ول يضع لسابقة‪ .‬إنه عصر الذرة وعصر الصاروخ‪ .‬عصر يكتب‬
‫تاريه بنفسه‪ ،‬ينشئه على مزاجه‪ ،‬يلق جديدا كل يوم ؛ يفتح آفاقا ل تتفتح من قبل ؛ " يقهر " الطبيعة‬
‫ويسخرها بعد أن كانت هي الت تقهره وتسيه مرغما ف طريق ل يتره لنفسه ول يد له ف تكييفه!‬
‫كذلك ينفخ " العلم " ف نفوس الناس‪ .‬أو ينفخ فيهم شيطان الغرور‪:‬‬
‫(أََلمْ َأعْ َهدْ إِلَيْ ُكمْ يَا بَنِي آ َدمَ أَنْ ل َتعُْبدُوا الشّْيطَانَ إِنّهُ لَ ُكمْ َعدُوّ مُِبيٌ َوأَنِ اعُْبدُونِي َهذَا صِرَاطٌ ُمسْتَقِيمٌ وََل َقدْ‬
‫ضلّ مِنْ ُكمْ ِجِبلّا كَثِيا َأفََلمْ تَكُونُوا َتعْ ِقلُونَ) [‪.]79‬‬ ‫أَ َ‬
‫ولقد أضل الشيطان هذا اليل من البشرية كما ل يضل أحدا من البشر‪ ،‬لنه أعرض بانبه ونأى عن ال‪.‬‬
‫وقال‪ِ( :‬إّنمَا أُوتِيُتهُ َعلَى عِ ْلمٍ)! (ُثمّ إِذَا خَوّْلنَاهُ ِن ْعمَةً مِنّا قَالَ إِّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى ِع ْلمٍ َبلْ هِيَ فِتَْنةٌ وَلَ ِكنّ َأكْثَ َر ُهمْ‬
‫ل َي ْعَلمُونَ) [‪.]80‬‬
‫وهذا اليل من البشرية ييل له أن ناج من سنة ال الت خلت من قبل‪ .‬وناج من حتمية النتائج حي توجد‬
‫السباب‪ .‬وناج من الاوية الت تفغر فاها ف ناية الطريق!‬
‫هذا وهو يرى بعينيه أن العال كله مهدد بالدمار والراب الرهيب!‬
‫أي غفلة تصيب الناس حي ينأون عن طريق ال وحي يغترون ويستكبون؟!‬
‫(‪ ..‬قَالَ إِّنمَا أُوتِيتُهُ َعلَى ِع ْلمٍ َبلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَ ِكنّ َأكْثَ َر ُهمْ ل َي ْعَلمُونَ َقدْ قَالَهَا اّلذِينَ ِمنْ قَْبلِ ِهمْ َفمَا َأغْنَى عَنْ ُهمْ‬
‫مَا كَانُوا يَ ْكسِبُونَ فَأَصَابَ ُهمْ َسيّئَاتُ مَا َكسَبُوا وَاّلذِينَ َظَلمُوا ِمنْ هَؤُلءِ َسُيصِيبُ ُهمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُوا َومَا ُهمْ‬
‫ِب ُم ْعجِزِينَ) [‪.]81‬‬

‫***‬
‫نعم‪ .‬حي تترك البشرية وشأنا فقليلً ما تتذكر‪ ،‬وقليلً ما تتدبر عبة التاريخ‪.‬‬
‫إنم ل يرون ‪ -‬ول يريدون أن يصدقوا ‪ -‬أن هذا الطوفان الائل من الفساد قد بدأ من نقطة الصفر! من‬
‫النقطة الت ينفرج فيها ذراعا الزاوية‪ ،‬فرجة بسيطة للغاية ف مبدإ المر‪ ،‬ث تتسع الشقة كلما مضى الزمن‬
‫وتتابعت الجيال‪.‬‬
‫ل يرون ‪ -‬ول يريدون أن يصدقوا ‪ -‬أن الكأس الول تتبعها الثانية‪ .‬والقبلة الول تفتح الطريق للجرية‪.‬‬
‫ل يرون ‪ -‬ول يريدون أن يصدقوا ‪ -‬أن البشرية ل تقف يوما عند القليل الذي ل يضر‪ ،‬ما دامت تبيحه‬
‫على أنه أمر واقع‪ ،‬وأنه ل يضر! وإنا تاوزته حتما إل الكثي الذي يغرق كالطوفان‪.‬‬
‫ل يرون ‪ -‬ول يريدون أن يصدقوا ‪ -‬أن الجتمع ‪ -‬وهو النهر الذي يشرب منه الميع ‪ -‬ل يكن أن يظل‬
‫بنأى عن التلوث بينما القذار تلقى على الدوام فيه‪ ،‬ول يكن أن يظل الشاربون على سلمتهم وهم‬
‫يشربون القذار‪.‬‬
‫ولكن السلم يصدق هذا لنه يراه‪.‬‬
‫السلم كلمة ال ف الرض‪ .‬وال هو الذي خلق اللق وهو أدرى با فطرهم عليه‪:‬‬
‫(أَل َي ْعَلمُ مَنْ َخلَقَ َوهُوَ اللّطِيفُ اْلخَِبيُ) [‪.]82‬‬
‫وقد حرص السلم حرصا شديدا على هذا المر‪ ،‬لنه يرى ‪ -‬بالعي البصية النافذة ‪ -‬تسلسل البشرية‬
‫وتعاقب الجيال وتاثل النتيجة عند تاثل السباب‪.‬‬
‫يرى الزاوية الت تبدأ من نقطة الصفر‪ .‬ث تبعد الشقة بي ذراعيها ُب ْعدَ ما بي البيض والسود‪ ،‬واللل‬
‫والرام‪.‬‬
‫يرى الكأس الول تتبعها الثانية‪ ،‬والقبلة الول تؤدي إل الرية‪ .‬ومن ث يقف ف يقظة دائمة لكل كأس‬
‫عابرة وكل قبلة حرام‪ .‬ول يقبل ف ذلك حجج الستهترين كلهم وما يتمسحون به من التعللت‪.‬‬
‫ل يقبل قول الذي يقول‪ :‬اسح ل بذه واطمئن أنن لن أسرف فيها‪ ،‬ولن أتاوزها إل جديد!‬
‫ل يقبله لنه ليس له رصيد من الواقع‪ ،‬وكله أوهام!‬
‫وقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهو الذي يشرح بأعماله وأقواله الصورة الفصلة للسلم‪،‬‬
‫ويلوها ف عال الواقع‪ ..‬كان الرسول على ذكر دائم وبصية كاملة بذا التسلسل الذي يربط أجيال‬
‫البشرية‪ ،‬والوحدة الت تشملها أفرادا وجاعات‪ ،‬وأجيالً إثر أجيال‪.‬‬
‫كان على بصية من انتقال العدوى من شخص إل شخص ومن جيل إل جيل‪ .‬بل بانتقال العدوى ف‬
‫النفس الواحدة من فكرة إل فكرة ومن شعور إل شعور!‬
‫وكان الدائم التنبيه لذا المر‪:‬‬
‫" اللل بيّن‪ ،‬والرام بيّن‪ .‬وبينهما أمور متشابات‪ ،‬فمن اتقى الشبهات فقد استبأ لدينه‪ ،‬ومن حام حول‬
‫المى أوشك أن يقع فيه! " [‪.]83‬‬
‫" إن أول ما دخل النقص على بن إسرائيل أن كان الرجل يلقى الرجل فيقول‪ :‬يا هذا اتق ال ودع ما‬
‫تصنع‪ ،‬فإنه ل يل لك‪ .‬ث يلقاه من الغد وهو على حاله‪ ،‬فل ينعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده‪،‬‬
‫فلما فعلوا ذلك ضرب ال قلوب بعضهم ببعض " [‪.]84‬‬
‫من أجل ذلك قال‪ :‬ما أسكر كثيه فقليله حرام‪.‬‬
‫وأخذ عنه السلمون هذه القاعدة التشريعية الشاملة فقال فقهاؤهم إن وسيلة الحرم مرمة لنا تؤدي إليه‪.‬‬
‫فالفاحشة حرام‪ ،‬والنظرة إل الجنبية حرام لنا تؤدي إل الفاحشة‪.‬‬
‫وسرت هذه القاعدة ف كل التشريع‪ ..‬وسرت كذلك إل صميم الجتمع‪ .‬فكان كل فرد دائم اليقظة إل‬
‫الناس يذر أن توجد الكأس الول الت تؤدي إل الطوفان‪ " .‬أنت على ثغرة من ثغر السلم فل يؤتي من‬
‫قبلك "!‬

‫***‬
‫والسلم يعلم أنه مهما صنع فلن يبطل الرية ولن يلغي الفاحشة من البشرية!‬
‫نعم‪ .‬يعلم ذلك على اليقي‪ .‬ول يدفن رأسه كالنعامة ف الرمل ويقول‪ :‬ما دمت ل أراه فهو غي موجود!‬
‫ولكنه ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬ل يعترف بالرية كأمر واقع‪ ،‬ول يقبلها على هذا الوضع!‬
‫موقف بالضبط كموقف الطبيب الشرف على وقاية الناس من المراض‪.‬‬
‫إنه يعلم أنه مهما صنع فلن ينع الرض من الوجود‪ ،‬ولن يصبح الناس كلهم مصني!‬
‫ومع ذلك فل ينهزم أمام الرض ول يتركه يتفشى فيتحول إل وباء‪.‬‬
‫مهمته الدائمة هي العراك مع المراض‪.‬‬
‫ويعلم علم اليقي أنه ستظل هناك حالت فردية ل تنفع فيها الوقاية‪ ،‬وقد ل ينفع كذلك العلج‪.‬‬
‫ولكنه يصر على القاومة‪ ،‬ول يلجأ إل الزية‪ ،‬ويقول ‪ -‬وهو صادق ‪ -‬إن الدينة " نظيفة " ما دامت خالية‬
‫من الوباء‪.‬‬
‫وكذلك يصنع السلم ف وقاية البشرية‪.‬‬
‫يقف لكل جرية مفردة ليحاول منعها من النتشار‪ ،‬ول يستهي با مهما تكن من الضآلة ف مبدإ المر‪.‬‬
‫فجرثومة الكوليا الواحدة الفردة تقتل ف النهاية مئات اللوف ومئات الليي‪ .‬وجرثومة الفساد الواحدة‬
‫تقتل شعبا بأكمله‪.‬‬
‫وهو يقف للجرية بكل وسائل الوقوف‪.‬‬
‫يقف لا داخل الضمي‪ .‬فالناعة تنبت من داخل النفس‪.‬‬
‫ينظف هذا الضمي ويهذبه ويربطه بال‪ " :‬تعبد ال كأنك تراه "‪.‬‬
‫ويقف لا ف الجتمع بإقامة التقاليد الت تعل الفضيلة عادة وتعل الرية منكرة مرهوبة‪.‬‬
‫ث يقف لا بالتشريع الذي يعاقب على الرية‪.‬‬
‫وحي تقع الرية ف هذا الو‪ ،‬فهي كحالة الرض الفردة الت قد ل تنفع فيها الوقاية ول ينفع فيها العلج‪.‬‬
‫ولكن الوقاية والعلج يفلحان ف منع انتشارها وتولا ف النهاية إل وباء‪.‬‬
‫وقد أمر ال بنع الفاحشة ووضع لذلك الدود‪.‬‬
‫ث جاء الرسول صلى ال عليه وسلم يضع ‪ -‬الشرح الفصل للحدود حي قال‪ " :‬ما أسكر كثيه فقليله‬
‫حرام "‪.‬‬
‫ول يكن صلى ال عليه وسلم متشددا‪ ،‬متزمتا بل ضرورة‪.‬‬
‫إنا كانت الكمة الالصة الت فتح لا قلبَه اللطيف البي‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫[‪ ]75‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫[‪ ]76‬انظر فصل " النفس والسم " من كتاب " ف النفس والجتمع "‪.‬‬
‫[‪ ]77‬سورة العراف [ ‪.] 31‬‬
‫ث " سورة الزمر [ ‪.] 6‬‬
‫خلُقُكُ ْم فِي ُبطُونِ أُ ّمهَاتِكُ ْم َخلْقا ِمنْ بَعْ ِد َخ ْلقٍ فِي ُظلُمَاتٍ ثَل ٍ‬
‫[‪َ " ]78‬ي ْ‬
‫[‪ ]79‬سورة يس [ ‪.] 62 - 60‬‬
‫[‪ ]80‬سورة الزمر [ ‪.] 49‬‬
‫[‪ ]81‬سورة الزمر [ ‪.] 51 - 49‬‬
‫[‪ ]82‬سورة اللك [ ‪.] 14‬‬
‫[‪ ]83‬رواه البخاري‪.‬‬
‫[‪ ]84‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫ادرءوا الدود بالشبهات‬

‫" ادرءوا الدود بالشبهات " [‪.]85‬‬


‫" ادرءوا الدود عن السلمي ما استطعتم‪ ،‬فمن كان له ملجأ فخلوا سبيله‪ ،‬فإن المام إن يطئ ف العفو‬
‫خي من أن يطئ ف العقوبة " [‪.]86‬‬

‫***‬
‫" الشك يفسر ف صال التهم "‪.‬‬
‫تلك هي القمة النسانية الت بلغتها أوربا بعد السلم بأكثر من ألف عام!‬
‫ومع ذلك فهي ل تصل إليها ف سهولة ويسر‪ ،‬ول تصدر فيها عن مشاعر إنسانية خالصة‪ ،‬تس بقيمة "‬
‫النسان " ف ذاته‪ ،‬وتقدر حرمته وكرامته وحقوقه‪ ،‬وتعطف عليه حت وهو يطئ ف حق الماعة‪ ،‬ويهبط‬
‫عن الستوى اللئق بالنسان‪ ..‬وإنا جاء ذلك بعد صراع مستمر عنيف‪ ،‬جرت فيه أنار من الدماء‬
‫وطاحت فيه كثي من الرءوس!‬
‫كان الوضع الذي استقر ف أوربا فترة طويلة من الزمان‪ ،‬يقسم الناس إل سادة ف جانب وعبيد ف جانب‪.‬‬
‫سادة من " الشراف " يري ف عروقهم دم مقدس! من لون غي دماء البشر العاديي! سادة هم الذين‬
‫يلكون ويكمون ويشرعون‪ .‬وعبيد ل يلكون شييئا‪ ،‬ول يشرعون شيئا‪ ،‬وكا ما لم هو الذل والوان‬
‫القيم‪.‬‬
‫وحت القانون الرومان الشهور بعدالته " الثالية! " والذي يعتب الصل الذي تستمد منه القواني الوربية‬
‫الديثة ف كثي من السائل‪ ،‬حت هذا كان قانونا " للرومان فقط "! الذين يلكون حقوق الواطن الرومان‪.‬‬
‫وقليل ما هم! أما بقية الشعب ف إيطاليا نفسها‪ ،‬ودع عنك الستعمرات واللحقات والبلد الغلوبة‪ ،‬فلم‬
‫تكن تستمتع بذا العدل الرومان‪ ،‬ول تكن لا حصانة من العسف والضطهاد‪ .‬والفرق الائل بي عدد‬
‫الحرار وعدد العبيد يرينا إل أي حد كانت القلة القليلة تستمتع على حساب الكثرة الغلوبة‪ .‬فقد كان‬
‫الحرار ف روما سنة ‪ 204‬ق‪ .‬م‪ 214 .‬ألفا‪ ،‬وكان العبيد ‪ 20‬مليونا من البشر ف إيطاليا‪ ،‬غي بقية‬
‫الستعمرات!‬
‫ووجدت ف بقاع الرض ‪ -‬ف أوربا وفارس والند وسواها ‪ -‬قواني صرية تفرق بي الشريف والعبد ف‬
‫طريقة العاملة أمام القضاء‪ .‬وتنص على اختلف العقوبة على العمل الواحد‪ .‬فالعبد السراق يقتل‪ ،‬والشريف‬
‫السارق يكتفي برد ما لديه! والعتدي على الشريف ‪ -‬إن كان شريفا مثله ‪ -‬فالعي بالعي والسن بالسن‪.‬‬
‫أما العتدي على العبد فجزاؤه الغرامة! والغرامة ل تؤدى إليه إنا تؤدى للسيد الذي يلك العبد‪ ،‬تعويضا له‬
‫عن " إتلف " بعض متلكاته! أما السيد ذاته فله على عبده حق القتل والبادة والتعذيب! وحت حي‬
‫كانت القواني تجل من هذه الصراحة فالتطبيق كان يأخذ نفس الروح‪ :‬فالشريف ل يؤخذ بالظنة‪ ،‬ول‬
‫ياكم إل حي تثبت عليه التهمة‪ ،‬ويكم عليه بأخف العقاب‪ .‬والعبد ‪ -‬أي الشعب‪ ..‬يسام التنكيل لقل‬
‫شبهة‪ ،‬ويعذب بوحشية ليعترف‪ ،‬ث يوقع عليه العقاب البشع الذي ل يتناسب مع الرم ول يتناسب مع "‬
‫النسانية "!‬
‫ولكن استمرار الال على هذه الصورة البشعة ل يكن من الستطاع‪ ،‬فل بد أن يثور العبيد لكرامتهم مهما‬
‫طال عليهم المد وطال منهم السكوت‪..‬‬
‫وقامت الثورات بالفعل مزلزلة مدمرة وأطاحت بالرءوس‪ ..‬رءوس اللوك واللكات والشراف والنبلء‪..‬‬
‫وتقررت ‪ -‬نظريا على القل ‪ -‬بعض حقوق النسان‪ .‬تقررت له حرماته وحقوقه وضماناته‪ .‬وكان من‬
‫هذه الضمانات‪ :‬ضمانة الياة فل يوت جوعا‪ .‬وضمانة الياة فل يعتدى عليه بغي الق‪ .‬وضمانة العيش‬
‫فل يوت جوعا‪ .‬وضمانة الريات‪ :‬حرية القول والجتماع والسفر واختيار العمل‪ .‬وضمانة العدالة ف‬
‫القضاء فل يؤخذ التهم بالشبهة‪ ،‬ول يؤثر عليه ف التحقيق بالوعيد ول بالوعد‪ ..‬ويفسر الشك ف صال‬
‫التهم‪ ،‬فل يكم عليه بالعقوبة الكاملة إل حي تثبت التهمة بالدليل القاطع الذي ل شبهة فيه‪.‬‬
‫ث كانت الثورة الصناعية ف انلترا‪ ،‬وتلتها الركة الرأسالية ف بلد أوربا‪..‬‬
‫وللشيوعية رأي ف الرأسالية‪ :‬أنا استعباد من رءوس الموال للكادحي‪ ،‬وامتصاص لهدهم الذي يبذلون‬
‫فيه العرق والدماء والدموع ليتحول إل ثراء فاجر ف يد الرأساليي العتاة‪..‬‬
‫وإنا لكذلك‪..‬‬
‫ولكن التاريخ قد وعى ‪ -‬رغم ذلك ‪ -‬حركة هائلة من التحرر ف فترة الرأسالية‪ ،‬نقلت الشعب من مقاع‬
‫العبودية الطلقة والوان الكامل‪ ،‬إل وضع أقل ما يقال عنه إنه يمل من الضمانات السياسية والجتماعية‬
‫والقانونية ما يعترف بكرامة الفرد ويرد اعتباره إليه‪..‬‬
‫إنه يمل من الضمانات السياسية والجتماعية والقانونية ما يعترف بكرامة الفرد ويرد اعتباره إليه‪..‬‬
‫ول يكن ذلك تفضلً من " السادة " الكام واللك والشرعي‪ .‬ول كان إحساسا منهم بالي الفياض ف‬
‫نفوسهم‪ ،‬والتقدير " الر " لكرامة النسان كان صراعا طويلً عنيفا اصطدمت فيه القوى من الانبي كما‬
‫حدث من قبل ف صراع العبيد ضد القطاع‪ ..‬وإن كانت ل تصحبه الثورات الدموية من الشعوب ضد‬
‫الكام‪ ،‬لن الثورة الفرنسية كانت قد قررت لم البادئ ول يبق سوى التنفيذ‪ ،‬ولن العمال كانوا يلكون‬
‫السلح الذي يواجهون به الرأسالية وهو سلح الضراب!‬

‫***‬
‫كل! ل تصل أوربا إل العدالة عن تقدير صادق للكرامة النسانية‪ ،‬وشعور صادق بقيمة النسان! وإنا‬
‫كانت خطوة خطوة يتراجعها السادة الاكمون ليكسبها الشعب الاقد الغضبان!‬
‫وحت ف العصر الديث حي استقرت المور ‪ -‬بعض الشيء ‪ -‬وزال عنها شيء من شعور القد‪،‬‬
‫وأصبحت العدالة من أمور الياة العادية البديهية القررة‪ ..‬وصار القبض على شخص واحد ف إنلترا مثلً‬
‫بدون تمة‪ ،‬أو اعتقاله يوما بدون تقيق‪ ،‬يثي البلد كلها‪ ،‬ويقيمها ويقعدها‪ ،‬وتستجوب عنه الكومة أمام‬
‫الشعب‪ ..‬حت عندئذ ل يصطبغ القانون الورب أو الغرب عامة بالصبغة " النسانية "‪ .‬فما تزال فيه السمة‬
‫الرومانية البغيضة الت كانت تقصر العدالة من قبل على الواطن الرومان‪ ،‬وهي اليوم تقصرها على الرجل‬
‫البيض‪ ،‬الذي يستمتع وحده بالقوق النسانية ويرم منها بقية بن النسان‪ .‬والشواهد البشعة على ذلك‬
‫ف كل مكان على ظهر الرض وطئه الرجل البيض وما زال مسيطرا عليه‪ ،‬ف أفريقيا وآسيا وأمريكا‪..‬‬
‫وبي البيض واللوني ف كل مكان!‬
‫أما السلم فلم يكن ف حاجة إل الثورة الزلزلة الت ترق الدماء وتقطع الرءوس!‬
‫بل ل يكن ف حاجة إل مرد الطالبة بالقوق!‬
‫بل لقد كان هو الذي ينح الناس الكرامة النسانية‪ ،‬ويرضهم على التشبث با‪ ،‬والحافظة عليها‪ ،‬والكفاح‬
‫من أجلها ف وجوه الطغاة والظالي!‬
‫ينحها متفضلً‪ ..‬ككل حق منحه للناس قبل أن يطلبوه‪ ،‬ورباهم على اعتناقه ف ظل العقيدة‪ ،‬كجزء من‬
‫العقيدة‪ ،‬وطالبهم بإقامته ‪ -‬ف ظل العقيدة ‪ -‬كفرض من الفروض!‬
‫ول عجب ف ذلك‪ .‬فالسلم كلمة ال‪ .‬وال هو الانح‪ ،‬والتفضل على البشر بكل نعمة من نعم الياة!‬
‫وقد قضى ال أن يكون الق والعدل قوام الياة‪...‬‬
‫حقّ) [‪]87‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِاْل َ‬ ‫الق الذي هو صنعة ال‪ .‬والذي خلق ال به السماوات والرض‪َ ( :‬خلَقَ ال ّ‬
‫(رَبّنَا مَا َخَلقْتَ َهذَا بَاطِلً سُْبحَاَنكَ) [‪َ( ]88‬أَفحَسِبُْتمْ أَّنمَا َخلَقْنَا ُكمْ عَبَثا َوأَنّ ُكمْ إِلَْينَا ل تُرْ َجعُونَ فََتعَالَى‬
‫اللّهُ اْل َملِكُ اْلحَقّ ل إِلَهَ إِلّا هُوَ َربّ اْلعَرْشِ الْكَرِيِ) [‪ .]89‬الق الذي هو صفة كل شيء صدر عن إرادة‬
‫ال‪ ،‬والذي ينبغي للبشر خلفائه ف الرض ‪ -‬أن يكموا به كذلك‪( :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِاْل َع ْدلِ) [‪َ ( ]90‬وإِذَا‬
‫حَ َكمُْتمْ بَْينَ النّاسِ أَنْ َتحْ ُكمُوا بِاْل َع ْدلِ) [‪( .]91‬وَل َيجْ ِرمَنّ ُكمْ شَنَآنُ قَ ْومٍ َعلَى أَلّا َت ْعدِلُوا ا ْعدِلُوا هُوَ َأقْرَبُ‬
‫لِلتّقْوَى) [‪( ]92‬فَا ْعدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [‪.]93‬‬
‫وقد اقتضى الق والعدل أن يتساوى الناس كلهم أمام القانون‪ ،‬لن الناس كلهم متساوون ف صدورهم عن‬
‫إرادة ال‪ ،‬وصدورهم عن نفس واحدة خلقها ال‪ ،‬ومتساوون أخيا ف مصيهم إل ال‪( :‬يَا أَيّهَا النّاسُ‬
‫اّتقُوا َربّ ُكمُ اّلذِي َخلَقَ ُكمْ ِمنْ َن ْفسٍ وَا ِح َدةٍ َو َخلَقَ مِنْهَا زَ ْوجَهَا وََبثّ مِْن ُهمَا ِرجَالً كَثِيا وَِنسَاءً) [‪( ]94‬يَا‬
‫أَيّهَا النّاسُ إِنّا َخلَقْنَا ُكمْ ِمنْ َذكَرٍ َوأُْنثَى َو َجعَلْنَا ُكمْ ُشعُوبا َوقَبَاِئلَ لَِتعَا َرفُوا إِنّ َأكْرَمَ ُكمْ عِْندَ اللّهِ أَْتقَا ُكمْ) [‬
‫‪َ ( ]95‬وإِنْ ُكلّ َلمّا َجمِيعٌ َلدَيْنَا ُمحْضَرُونَ) [‪ " ]96‬أنتم بنو آدم‪ .‬وآدم من تراب " [‪.]97‬‬
‫من هذه الساواة الطلقة ف النشإ والصي قامت الساواة كاملة ف السلم أمام الشريعة‪ .‬ل فرق بي سيد‬
‫وعبد‪ ،‬ول بي شريف وحقي‪.‬‬
‫يقول الرسول الكري‪ " :‬إنا أهلك الذين من قبلكم أنم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه‪ ،‬وإذا سرق‬
‫فيهم الضعيف أقاموا عليه الد‪ .‬وأي ال لو أن فاطمة بنت ممد سرقت لقطعت يدها‪ ]98[ .‬فيضع بذلك‬
‫حدا للمظال الت كانت قائمة ف الرض ‪ -‬والت ظلت قائمة ف غي السلم ‪ -‬بعد ذلك بألف عام! ويضع‬
‫حدا للخرافة البغيضة الت تفرق بي الناس ف اللقة‪ ،‬وتفرق بينهم بعد ذلك ف القوق‪ .‬ول يكن ذلك‬
‫القول خطبة حاسية جيلة لسترضاء الشعوب‪ ،‬ول مبدأ مثاليا جيلً معلقا ف الفضاء‪ .‬وإنا كان حقيقة‬
‫واقعة شهدها التطبيق العملي ف حياة السلمي‪ .‬فقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم يقيد من نفسه‪ ،‬أي‬
‫يدعو الناس للقصاص منه إذا كان أحدهم يظن أنه قد ظلمه أو اعتدى عليه!! وكان عمر يلد ابن عمر لنه‬
‫شرب المر‪ ،‬وهو ابنه وهو شريف من قريش!‬
‫أما العبيد الرقاء بالفعل‪ ،‬فقد عمل السلم على تريرهم‪ ،‬وسلك إل ذلك مسالك شت‪ .‬وإن كانت قد‬
‫بقيت منه بقية ف نطاق ضيق فذلك لن المر كان يرتبط ارتباطا أساسيا بأسرى الرب‪ ،‬والعاملة فيهم‬
‫بالثل‪ ،‬وكان الرق هو مصي أسرى الرب ف معظم الحوال [‪.]99‬‬
‫ولكن الهم ‪ -‬ونن بصدد التطبيق القانون ‪ -‬أن السلم ‪ -‬وهو يعترف بالرق كضرورة مؤقتة يعمل دائما‬
‫على اللص منها ‪ -‬ل يبح " للسادة " أن ييزوا أنفسهم على عبيدهم‪ ،‬ول يبح لم التصرف " الر " ف‬
‫هؤلء العبيد‪:‬‬
‫" من قتل عبده قتلناه‪ ،‬ومن جدع عبده جدعناه‪ ،‬ومن أخصى عبده أخصيناه " [‪.]100‬‬
‫ول يكن ذلك أيضا كلمة تقال ف الواء‪ ،‬ول مبدا مثاليا معلقا ف الفضاء‪ .‬وإنا كان حقيقة واقعة شهدها‬
‫التطبيق العملي ف حياة السلمي‪ .‬فقد أمر الرسول صلى ال عليه وسلم بالقصاص من رجل جبّ عبده‪.‬‬
‫وقصة عمر مع الشريف الذي لطم عبدا لنه داس عفوا على ذيله أثناء الطواف ف الج معروفة‪ ،‬فقد أصر‬
‫عمر على القصاص‪ ..‬على أن يلطم العبد ذلك الشريف‪ ..‬وظل الشريف يرجو ويشفع وعمر يصر‪ ..‬حت‬
‫فر الرجل أخيا وارتد عن السلم!‬
‫أما البلد الفتوحة‪ ،‬فقصة القبطي الذي جاء يشكو ابن عمرو بن العاص لنه ضرب ابنه بغي حق‪ ،‬فأمر عمر‬
‫بأن يضرب القبطي ابنَ عمرو ويقتص منه‪ ..‬هذه القصة وحدها تمل الدليل!‬

‫***‬
‫تلك أول مراحل العدالة ف السلم! الساواة بي الناس كلهم أمام الشريعة‪..‬‬
‫ولكنها درحة واحدة وبعدها درجات‪..‬‬
‫فالسلم ل يكتفي بأن تكون العاملة للجميع واحدة‪ ..‬ولكنه يعطي إل جانب ذلك شريعة هي ف ذاتا‬
‫عادلة فل يظلم ول ييف‪ .‬فالشرع ل يعرف قول القائلي‪ :‬الساواة ف الظلم عدل! وإنا هو العدل‪،‬‬
‫والساواة ف العدل!‬
‫وليس هنا مال التفصيل ف عدالة الشرع السلمي‪ ..‬فقد عرضنا ذلك التفصيل ف فصل " الرية والعقاب‬
‫" ف كتاب " النسان بي الادية والسلم " ولكنا نقول هنا ‪ -‬بغاية ما نستطيع من إياز ‪ -‬إن الشرع‬
‫السلمي يبلغ قمة العدالة حي ينظر إل الفرد والجتمع ف آن واحد‪ ،‬ليتأكد من أن كلً منهما يأخذ حظه‬
‫من القوق‪ ،‬ويؤدي نصيبه من الواجبات‪ .‬وأن أيا منهما ل يظلم لساب الخر‪ ،‬أو يفتات على أخيه‪.‬‬
‫فبينما كانت القواني ف الدول القدية ‪ -‬وما زالت ف الدول الماعية ف الوقت الاضر ‪ -‬تشتط ف عقاب‬
‫الجرم‪ ،‬لنه وهو فرد ضائع ل كيان له‪ ،‬يعتدي على الكيان القدس‪ ،‬كيان الماعة ؛ ويُتخذ ذلك ستارا‬
‫للتنكيل بكل فرد تدثه نفسه بالروج على السادة ذوي القداسة والسلطان‪..‬‬
‫وبينما تبالغ الدول الغربية الرأسالية ف إباحة الرية للفرد‪ ،‬على أساس أنه هو الكائن القدس ول قداسة‬
‫للجماعة ول كيان‪ ،‬وينشأ من ذلك تفيف العقوبة على الجرم وتلمس العذار له‪ ..‬ند السلم يسك‬
‫اليزان من منتصفه‪ ،‬فل ييل ف جانب الفرد ول جانب الماعة‪ ،‬لنه ل يراها فردا وجاعة منفصلي‪ ،‬ول‬
‫يعتبها معسكرين متقابلي تقوم بينهما العداوة والبغضاء‪ ،‬ويرغب كل منهما ف تطيم الخر والقضاء‬
‫عليه‪ ..‬بل ينظر إل الفرد والماعة على أنما كلّ متجاوب موحد الغاية متعاون ف الداء‪ ..‬فإذا شذ فإنه‬
‫يُق ّومُ لكي يرد إل السبيل ؛ وسواء جاء الشذوذ من الفرد بفرده أو جاء من الماعة‪ ..‬فكلها مطئ‬
‫وكلها ينبغي أن يرد إل الصواب!‬
‫وهو إذ ينظر مرة بعي الماعة‪ ،‬فيى حقها ف الطمأنينة على نفسها‪ ،‬والحافظة على حقوقها‪ ،‬فيمنع‬
‫العدوان عليها‪ ،‬ويعاقب العتدين‪ ..‬فإنه ينظر ف ذات الوقت إل الفرد‪ ،‬فيى دوافعه إل الرية‪ ،‬سواء كانت‬
‫منبعثة من داخل النفس‪ ،‬من نزوة الغريزة‪ ،‬ودفعة الشهوات‪ ،‬أو من الظروف الارجية‪ ،‬الجتماعية‬
‫والقتصادية‪ ،‬فيقدر هذه الدوافع‪ ،‬وينظر إليها بعي العتبار‪ ..‬ويعمل على إزالتها بكل طريقة مكنة قبل أن‬
‫يوقع العقوبة‪ :‬بالتشريع الذي يكفل الضرورات مرة‪ ،‬والتشريع الذي يصون الرمات مرة‪ ،‬والتربية الت‬
‫تذب النفس وتنظف مساربا‪ ،‬وتعل روح الب والتعاون والتكافل هي الروح السائدة ف الماعة‪ ..‬أولً‬
‫وأخيا بالعقيدة الت تربط القلب بال‪ ،‬وتوجهه لشيته والعمل على رضاه‪ ..‬فإذا عجز ول المر عن إزالة‬
‫الدوافع لي سبب من السباب‪ ،‬أو ساورته ف ذلك شبهة‪ ،‬فعند ذلك يدرأ الدود بالشبهات!!‬
‫أي عدالة يكن أن تبلغ هذه العدالة؟!‬
‫" روي أن غلمانا لبن حاطب بن أب بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة‪ ،‬فأتى بم عمر‪ ،‬فأقروا‪ ،‬فأمر كثي‬
‫بن الصلت بقطع أيديهم‪ ،‬فلما ول رده‪ .‬ث قال‪ :‬أما وال لول أن أعلم أنكم تستعملونم وتيعونم حت إن‬
‫أحدهم لو أكل ما حرم ال عليه لل له‪ ،‬لقطعت أيديهم‪ .‬ث وجه القول لبن حاطب بن أب بلتعة فقال‪:‬‬
‫واين وال إذ ل أفعل ذلك لغرمنك غرامة توجعك! ث قال‪ :‬يا مزن‪ ،‬بكم أريدت منك ناقتك؟ قال‪:‬‬
‫بأربعمائة‪ .‬قال عمر لبن حاطب‪ :‬اذهب فأعطه ثانائة "!‬
‫فهذه حادثة واضحة الدللة على أن " الجرم " ل يؤخذ بذنبه حت ينظر الاكم أولً ف دوافع الرية‪،‬‬
‫فيزنا بيزان الق والعدل‪ ،‬ويبحث عن السئول القيقي فيها‪ ،‬فيوقع العقوبة عليه‪ .‬وقد كان السئول ف هذا‬
‫الادث هو " السيد " الذي يثل اللك! بينما أعفى " الجرم " من العقاب‪ ،‬لنه اعتبه واقعا تت ضغط‬
‫الضرورة الت تغلب النسان على نفسه وتدفعه إل النراف‪ .‬وهي كذلك تطبيق عملي لديث الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ادرءوا الدود بالشبهات‪.‬‬
‫وإن الدول " الرة " الت تعطف اليوم على الجرم‪ ،‬وتتلمس له العاذير‪ ،‬وتف عنه العقوبة أو ترفعها عنه ‪-‬‬
‫بعد أن كانت تشتد عليه وتقسو ‪ -‬هذه الدول تصنع ذلك بروح أخرى غي روح السلم! فعلم النفس‬
‫التحليلي‪ ،‬وغيه من الدراسات النفسية والجتماعية‪ ،‬يبر الرية اليوم على أساس سلبية النسان إزاء‬
‫الدوافع الداخلية أو الارجية‪ ،‬وانعدام " الرادة " الت تقوم عليها " السئولية "‪ .‬ولكن السلم ل يهبط إل‬
‫هذا الستوى ف نظرته إل النسان‪ .‬إنه ل يلغي كيانه الياب الفاعل الريد‪ .‬ول يسقط عنه مسئوليته‬
‫كإنسان‪ .‬وإنا هو ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬يعطف عليه ف لظة الضعف‪ ،‬ويدرأ عنه الدود بالشبهات‪ ..‬فهو ف‬
‫الواقع عطف مضاعف ‪ -‬بالنسبة للمستوى الرفيع الذي يطالب به النسان ‪ -‬وهو عطف أكرم ول شك‬
‫من ذلك الذي تارسه الدول " الرة " على كائن ل إرادة له ف نظرها ول كيان!‬
‫أما الدول الماعية الت تكفل للناس حاجاتم‪ ،‬وتعل الدولة مسئولة عنها‪ ،‬وتغن الناس ‪ -‬فيما تقول ‪ -‬عن‬
‫الرية‪ ،‬فإنا تأخذ ثن ذلك دكتاتورية بشعة‪ ،‬وتكما ف كل صغية وكبية‪ ،‬واستعبادا للدولة‪ .‬بينما كان‬
‫عمر ‪ -‬الذي طبق هذا البدأ‪ ،‬مبدأ مسئولية الماعة ومسئولية الدولة عن حاجة الفراد [‪ - ]101‬هو الذي‬
‫يقول‪ " :‬إن أحسنت فأعينون‪ ،‬وإن وجدت ف اعوجاجا لقومناه بد السيف! " فل يغضب‪ ،‬بل يقول ف‬
‫هدوء وطمأنينة‪:‬‬
‫" المد ل الذي جعل ف رعية عمر من يقومه بد سيفه! "‪.‬‬

‫***‬
‫الشريعة عادلة ف ذاتا‪ ،‬ومطبقة بالساواة على الميع‪.‬‬
‫ولكن هذا وذاك ل يستنفدان كل معان العدالة ف شريعة السلم‪.‬‬
‫ما زالت هناك " الضمانات " الختلفة للفرد الذي يوجه له التام‪ :‬ضمانة الصدق ف التام ذاته‪ .‬وضمانة‬
‫حسن التحري‪ .‬وضمانة التحقيق وضمانة التنفيذ‪.‬‬
‫(يَا أَيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا إِنْ جَا َء ُكمْ فَا ِسقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيّنُوا أَنْ ُتصِيبُوا قَوْما ِبجَهَالَةٍ فَُتصِْبحُوا َعلَى مَا َف َعلُْتمْ نَا ِد ِميَ) [‬
‫‪.]102‬‬
‫فهذه الضمانة الول‪ ..‬ل يؤخذ أحد بالظنة‪ .‬ول بد أن يوزن التام ذاته ليى مبلغه من الصدق ومبلغه من‬
‫الد‪ ،‬فللناس حرماتم الصونة وكراماتم الت ل يوز أن تس‪ ..‬إل بالق‪.‬‬
‫جسّسُوا) [‪]103‬‬ ‫(وَل َت َ‬
‫فهذه هي الضمانة الثانية‪ ..‬ل تكون الاسوسية من وسائل الثبات!‬
‫وقد روي أن عمر مر ببيت رابته منه أصوات‪ ..‬فتسور الدار فوجد قوما يشربون ويغنون فأراد أن‬
‫جسّسُوا) وأنت‬ ‫يعاقبهم‪ ..‬فقام له صاحب االدار فقال عمر‪ :‬وما ذاك؟ قال‪ :‬إن ال تعال يقول‪( :‬وَل َت َ‬
‫تسست علينا‪ .‬ويقول‪َ ( :‬وأْتُوا اْلبُيُوتَ ِمنْ أَبْوَاِبهَا) وأنت تسورت علينا! فلم يد عمر أمامه إل أن يستتيبه!‬
‫ث ضمانات التحقيق‪ ..‬وهنا يرتفع السلم إل القمة الت ل تبلغها النسانية ف غي السلم إل منذ فترة‬
‫قريبة‪ ،‬وبدافع الصراع الدموي الطويل الذي فصلناه من قبل‪ ،‬ل بدافع النسانية الطليقة الت تكرم " النسان‬
‫" حت ف لظة البوط!‬
‫إن الحقق ليست مهمته اليقاع بالجرم وتضييق الناق عليه ف التحقيق! ول يوز له أن يستخدم وسيلة‬
‫من وسائل الرهاب تنتهي بالعتراف‪.‬‬
‫جاء ف سنن أب داود (ج ‪ 4‬ص ‪ " :)191‬حدثنا عبد الوهاب بن بدة‪ ..‬أن قوما من الكلعيي سرق لم‬
‫متاع‪ .‬فاتموا أناسا من الاكة‪ ،‬فأتوا النعمان بن بشي صاحب النب صلى ال عليه وسلم فحبسهم أياما ث‬
‫خلى سبيلهم‪ .‬فأتوا النعمان فقالوا‪ :‬خليت سبيلهم بغي ضرب ول امتحان؟ فقال النعمان‪ :‬ما شئتم! إن‬
‫شئتم أن أضربم‪ ..‬فإن خرج متاعكم فذاك‪ ،‬وإل أخذت من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهورهم! فقالوا‪:‬‬
‫هذا حكمك؟ فقال‪ :‬هذا حكم ال وحكم رسوله صلى ال عليه وسلم " [‪.]104‬‬
‫أما الذي يعترف بنفسه‪ ..‬فالقمة الت وصل إليها السلم بشأنه عجب عاجب ف التاريخ!‬
‫" حدثنا موسى بن إساعيل‪ ..‬أن النب صلى ال عليه وسلم أُتِيَ بلص قد اعترف اعترافا ول يوجد معه‬
‫متاع‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ما إخالك سرقت؟! " قال‪ :‬بلى! فأعاد عليه مرتي أو ثلثا‪،‬‬
‫ث أمر فأقيم عليه الد " [‪.]105‬‬
‫أما قصة ماعز بن مالك الذي اعترف على نفسه بالزنا فهي قصة مشهورة‪ .‬فقد ظل ييء إل الرسول مرة‬
‫بعد مرة يعترف لديه والرسول صلى ال عليه وسلم يرده‪ ،‬حت اعترف أربع مرات‪ ،‬فعاد الرسول يسأله‬
‫ويستوضحه وينفي له التهمة أو يفتح له طريق اللص! فيقول له‪ " :‬لعلك قبّلت‪ ،‬أو غمزت‪ ،‬أو نظرت "‪.‬‬
‫وماعز يصر ويقول ل! فقال له‪ " :‬أزنيت؟ " قال‪ :‬نعم! قال‪ " :‬فهل تدري ما الزنا؟ " [‪ .]106‬فما أقام‬
‫عليه الد حت اطمأن اطمئنانا كاملً أنه يصر على العتراف ول يريد أن يدرأ عن نفسه العذاب!‬
‫فإذا كان هذا هو جو التحقيق فل مال بطبيعة الال لشيء من الوسائل البشعة الت تتخذ ف غي السلم‪.‬‬
‫أما التنفيذ بعد كل هذه الضمانات‪ ..‬التنفيذ ف مرم تثبت عليه التهمة من غي إكراه‪ ،‬ووقعت عليه عقوبة‬
‫ف ذاتا عادلة‪ ،‬ووقعت لنه ل شبهة ف الرية تدفع عنه الد‪ ..‬التنفيذ بعد ذلك كله يمل ضماناته!‬
‫حدثنا أبو كامل‪ ..‬عن أب هريرة عن النب صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه " [‬
‫‪.]107‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ل تعذبوا بعذاب ال " [‪( ]108‬أي النار)‪.‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة " [‪.]109‬‬
‫ولكن هذا ليس كل ما هناك‪...‬‬
‫لقد بلغنا العدالة ول نبلغ بعد قمة السلم!‬
‫إن الجرم إذا وقعت عليه العقوبة بعد هذا الحتياط كله‪ ..‬الجرم الذي ل شبهة ف جريته‪ ..‬الجرم الذي ل‬
‫عذر له ف ارتكابا‪ ..‬وإنا هي نزوة من نزوات النفس الشريرة‪ ،‬ودفعة من دفعات البوط‪..‬‬
‫ذلك الجرم ل يرج بعد من دائرة النسانية‪ ،‬بل ل يرج من دائرة الماعة السلمية! إنه ل ينبذ ول‬
‫يضطهد‪ ..‬ول يعيّر بريته‪ ..‬ول يذّكر با‪ ..‬ول يول شيء قط بينه وبي أن يعود إل الماعة ‪ -‬ف لظته‬
‫‪ -‬تائبا منيبا إل ال‪ ،‬فيقبل فيها وتفتح له القلوب‪.‬‬
‫" حدثنا قتيبة بن سعيد‪ ..‬عن أب هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أتى برجل قد شرب‪ ،‬فقال‪" :‬‬
‫اضربوه "‪ .‬قال أبو هريرة‪ ،‬فمنا الضارب بيده‪ ،‬والضارب بنعله‪ ،‬والضارب بثوبه‪ .‬فلما انصرف قال بعض‬
‫القوم‪ :‬أخزاك ال! فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ل تقولوا هكذا‪ .‬ل تعينوا عليه الشيطان " [‬
‫‪.]110‬‬
‫وف حادث السارق الذي مر ذكره‪ ،‬والذي أمر الرسول بإقامة الد عليه‪ ،‬قال له الرسول‪ " :‬استغفر ال‬
‫وتب إليه " فقال‪ :‬استغفر ال وأتوب إليه‪ ،‬فقال‪ " :‬اللهم تب عليه اللهم تب عليه " ثلث مرات[‪.]111‬‬
‫نعم إن السلم ل يب أن يفقد نفسا واحدة يكن أن تتوب إل ال وتتدي إليه‪ .‬إنه ل يصر على لظة‬
‫الضعف الت تصيب فردا من البشر‪ ،‬ول يُعنِتُهُ من أجلها‪ .‬وإنا يفتح له بابه لكي يعود‪ ..‬يعود إل ال ويعود‬
‫إل الماعة‪ ،‬فينطلق فيما هي منطلقة من الي‪ ،‬ويأخذ لنفسه من ذلك الي بنصيب‪ .‬ول تقف الرية‬
‫العابرة حاجزا ف حياته‪ ،‬ول تسمم أحاسيسه وأفكاره‪ ،‬ول توصد أمامه البواب فيصبح مرما مصرا على‬
‫الجرام بعد أن كان مرما بغي قصد‪ .‬وذلك معن قول الرسول الكري‪ " :‬ل تعينوا عليه الشيطان "‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن تكري الرسول الكري للبشرية‪ " ..‬للنسان " الذي خلقه ال ف أحسن تقوي‪ ..‬حت وهو‬
‫يرتد ف لظة لسفل سافلي‪ ..‬تكريه له ما دام ل يصر على الث ول يرد عليه‪ ،‬ول يقف عند الحياء‬
‫الذين يرجوهم للجماعة‪ ،‬ويستبقيهم لي يكن أن يصنعوه ف الرض‪ ،‬أو ليتقي شراّ يكن أن يصدر عنهم‬
‫‪ -‬أي لهداف " عملية " واقعية! ‪ -‬وإنا يتجاوز ذلك إل آفاق أخرى‪ ،‬رفافة شفيفة‪ ،‬نسيجها الرحة‬
‫الالصة‪ ،‬والتكري الالص‪ ..‬لوجه ال!‬
‫جاء ف قصة ماعز بن مالك‪ .." :‬فأمر به فرجم‪ ،‬فسمع النب صلى ال عليه وسلم رجلي من أصحابه يقول‬
‫أحدها لصاحبه‪ :‬انظر إل هذا الذي ستر ال عليه فلم تدعه نفسه حت رجم رجم الكلب‪ .‬فسكت عنهما‪،‬‬
‫ث سار ساعة حت مر بيفة حار شائل برجليه‪ ،‬فقال‪ " :‬أين فلن وفلن؟ " فقال‪ :‬نن ذان يا رسول ال‪.‬‬
‫قال‪ " :‬انزل فكل من جيفة هذا المار "‪ .‬فقال‪ :‬يا نب ال‪ ،‬من يأكل من هذا؟ قال‪ " :‬فما نلتما من عرض‬
‫أخيكما آنفا أشد من أكلٍ منه‪ .‬والذي نفسي بيده إنه الن لفي أنار النة ينغمس فيها "‪.‬‬
‫يا ال‪ ..‬ويا نب ال‪.‬‬
‫أل إنا آفاق ما بعدها آفاق‪ ..‬أل إنه النور الذي يشع من هذا القلب الكون الذي يتصل بال‪ ،‬ث يفيض‬
‫بالرحة والدى على عباد ال‪..‬‬
‫وذلك كله قبل أن يقول قولته علم الجتماع وعلم القتصاد‪ ،‬وعلم النفس التحليلي وعلم الرية‪ ،‬قبل أن‬
‫يتفلسف التفلسفون ف هذا اليدان بأكثر من ألف عام‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫[‪ ]85‬رواه عبد ال بن عباس (ورد ف كتاب الكامل لبن عدي وف مسند أب حنيفة للحارثي)‪.‬‬
‫[‪ ]86‬ذكره صاحب مصابيح السنة ف الصحاح‪.‬‬
‫[‪ ]87‬سورة الزمر [ ‪.] 5‬‬
‫[‪ ]88‬سورة آل عمران [ ‪.] 191‬‬
‫[‪ ]89‬سورة الؤمنون [ ‪.] 116 - 115‬‬
‫[‪ ]90‬سورة النحل [ ‪.] 90‬‬
‫[‪ ]91‬سورة النساء [ ‪.] 58‬‬
‫[‪ ]92‬سورة الائدة [ ‪.] 8‬‬
‫[‪ ]93‬سورة النعام [ ‪.] 152‬‬
‫[‪ ]94‬سورة النساء [ ‪.] 1‬‬
‫[‪ ]95‬سورة الجرات [ ‪.] 13‬‬
‫[‪ ]96‬سورة يس [ ‪.] 32‬‬
‫[‪ ]97‬مسلم وأبو داود‪.‬‬
‫[‪ ]98‬رواه الستة‪.‬‬
‫[‪ ]99‬انظر بالتفصيل فصل " السلم والرق " ف كتاب " شبهات حول السلم "‪.‬‬
‫[‪ ]100‬الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي‪.‬‬
‫[‪ ]101‬مبدأ كفالة الدولة للفراد ومسئوليتها عن جيع أمورهم مبدأ صريح ف السلم‪ ،‬وقد كان عمر يقول‪ :‬لو أن بغلة عثرت بصنعاء لكنت مسئولً عنها‬
‫لِمَ لَم أسوّ لا الطريق! ويقول ابن حزم ف صراحة إن (الماعة) مسئولة عن كل فرد فيها‪ ،‬وإن للنسان أن يقاتل من ف يده طعامه أو شرابه (إذا منعه عنه) فإن‬
‫قتل لهله الدية‪ ،‬وإن قتل تدفع ل يقام عليه الد!‬
‫سفينة الجتمع‬

‫" مثل القائم ف حدود ال والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة‪ ،‬فصار بعضهم أعلها وبعضهم‬
‫أسفلها‪ ،‬فكان الذين ف أسفلها إذا استقوا من الاء مروا على من فوقهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو أنّا خرقنا ف نصيبنا‬
‫خرقا‪ ،‬ول نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جيعا‪ ،‬وإن أخذوا على أيديهم نوا‪ ،‬ونوا جيعا‬
‫" [‪.]112‬‬

‫***‬
‫صورة عجيبة تلك الت تتمثل ف النفس من قراءة هذا الديث‪ ..‬صورة حية شاخصة موحية معبة‪.‬‬
‫وإن هناك لمالً بديعا ف هذا التشبيه بالسفينة‪ .‬فالياة كلها هذه السفينة الاخرة ف العباب‪ ،‬ل تكاد‬
‫تسكن لظة حت تضطرب من جديد‪ .‬ولن يكتب لا السلمة والستواء فوق الوج الضطرب حت يكون‬
‫كل شخص فيها على حذر ما يفعل‪ ،‬ويقظة لا يريد‪.‬‬
‫والجتمع كله هذه السفينة‪ ..‬يركب على ظهرها الب والفاجر‪ ،‬والتيقظ والغفلن‪ ،‬وهي تملهم جيعا‬
‫لوجهتهم‪ ..‬ولكنها ‪ -‬وهي مكومة بالوج الضطرب والرياح من جانب‪ ،‬وما يريده لا الربان من جانب ‪-‬‬
‫لتتأثر بكل حركة تقع فيها‪ ،‬فتهتز مرة ذات اليمي وتتز مرة ذات الشمال‪ ،‬وقد تستقيم على الفق أحيانا‬
‫أو ترسب أحيانا إل العماق‪!..‬‬
‫وإن كثيا من الناس لينسى ‪ -‬ف غمرته ‪ -‬هذه القيقة‪ .‬ينسى سفينة الجتمع أو سفينة الياة‪.‬‬
‫ينسى‪ .‬فيخيل إليه أنه ثابت على الب‪ ،‬راكز راسخ ل يضطرب ول يزول‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك يفجر أو يطغى‪..‬‬
‫ولو تذكر من استكب وطغى أنه ليس راكزا على الب ؛ ليس دائما ف مكانه‪ ،‬ول خالدا ف سطوته‪ ،‬وإنا‬
‫هي رحلة قصية على سفينة الياة‪ ..‬لو تذكر ذلك ما استكب ول طغى‪ ،‬ول اغتر بقوته الزائلة عن القيقة‬
‫الالدة‪ ،‬ولعاد لصدر القوة القيقية ف هذا الكون‪ ،‬يستلهم منه الدى‪ ،‬ويطلب منه الرشاد‪ ،‬ويسي على‬
‫النهج الذي أمر به وارتضاه للناس‪.‬‬
‫ولو تذكر من يفجر وينحرف أنه ليس راكزا على الب‪ ،‬وإنا هو منطلق على العباب‪ ..‬وأن كل حركة‬
‫يأتيها تتأثر با السفينة فتهتز‪ ..‬لو تذكر ذلك لا ترك نفسه لشهواته ولنرافاته‪ ،‬ولعمل حسابا لكل خطوة‬
‫يطوها وكل حركة يتحركها حرصا على ناته هو وناة الخرين‪..‬‬
‫ولكنها الغفلة السادرة الت تيم على البشرية‪ ..‬إل من آمن واتقى وعرف ربه واهتدى إليه‪.‬‬
‫والرسول الكري صلى ال عليه وسلم يدرك هذه الغفلة الت ترين على قلوب الناس‪ ،‬فيحذرهم منها‪،‬‬
‫ويصورها لم ف صور شت‪ ،‬من أعجبها أبلغها هذه الصورة الت يرسها هذا الديث‪ ،‬صورة السفينة الاخرة‬
‫ف العباب‪..‬‬
‫***‬
‫حي قال القطاعيون لنفسهم‪ :‬نلك الرض وكل من عليها عبيد‪..‬‬
‫وحي قال الرأساليون لنفسهم‪ :‬نلك الصانع والعمال فيها عبيد‪..‬‬
‫وحي قال الباطرة القدسون‪ :‬نلك اللك والرعايا عبيد‪..‬‬
‫وحي قال غيهم وغيهم من الظالي مثل قولتهم‪ ،‬ل تكن غي نتيجة واحدة ف كل مرة‪ ،‬غرقت السفينة‬
‫الخروقة‪ ،‬وغرق من عليها من سادة ومن عبيد!‬
‫وانظر ف ثورات الرض الزلزلة الت أطارت الرءوس وأجرت الدماء‪ ،‬وانظر إل الروب الدمرة الت تأكل‬
‫الخضر واليابس وتسمم الياة‪ ،‬ل تكن غي ناية طبيعية للخرق الخروق ف السفينة‪ ،‬تتدفق عن طريقه‬
‫الياه‪..‬‬

‫***‬
‫ج عليّ فيما أصنع؟ أفعل ما بدا ل‪ ،‬وليس‬ ‫ويقوم شاب مفتون ينجرف ف تيار الشهوات‪ ،‬يقول‪ :‬من ي ّر ُ‬
‫لحد عليّ سلطان‪.‬‬
‫ويتركه الناس!‬
‫يتركونه يفسق ويفجر‪ ،‬وينشر الفاحشة ف الجتمع‪.‬‬
‫يتركونه خوفا وطمعا إن كان من زمرة السادة الثرياء‪ .‬أو يتركونه استصغارا لشأنه واستهتارا بعواقب‬
‫المور‪.‬‬
‫وقد يقول ف نفسه يبر فجوره‪ :‬وهل يكن أن أؤثر ف الجتمع وأنا شخص واحد مفرد الكيان؟ هل أنا إل‬
‫قطرة ف الضم؟ فلتكن قطرة سم! فكيف تفسد الضم؟! هل قبلة ف الواء‪ ،‬أو ضمة متلسة ف الظلم‪ ،‬أو‬
‫ساعة متعة ف خلوة‪ ،‬هل هذه يكن أن تؤثر ف الجتمع وتدم الخلق؟!‬
‫وإنه لينسى‪ ..‬والساكتون عليه ينسون‪..‬‬
‫إنه يتصور نفسه شخصا واحدا ف الجتمع ‪ -‬قطرة واحدة ف الضم ‪ -‬وينسى والناس ينسون أن كل‬
‫واحد يقول ذلك وهو يلقى القطرة السامة ف الضم‪ ..‬ول بد أن تتجمع ف النهاية السموم‪.‬‬
‫بل قد يتبجح الفت زيادة فيحدث نفسه أو يدث الناس‪ :‬وهل أنا وحدي الذي سأصلح الجتمع الفاسد؟‬
‫لقد فسد وانتهى المر‪ .‬فهب أنن امتنعت وحدي عن الرية واحتملت وحدي اضطراب النفس واحتراق‬
‫العصاب‪ ..‬فأي جدوى من ذلك وأي نتيجة؟ أحترق ف النهاية وحدي ويستمتع الخرون‪!..‬‬
‫وقد يكون ذلك حقا!‬
‫ولكنه ل يكن كذلك حي فجر أول فاجر وتركه الناس! حي خرق أول مفتون مكانه ف السفينة فلم‬
‫يأخذوا على يديه‪ .‬حي ظن أول خارج على الجتمع والخلق والتقاليد أنه لن يضر الناس شيئا‪ ،‬وأنه‬
‫يرق مكانه وهو حر فيه‪..‬‬
‫وحي يصبح حقا ما يقوله الفت‪ ..‬حي يكون الجتمع فاسدا إل الدى الذي ل يصلحه امتناع فرد‪ ،‬ول‬
‫تؤثر فيه نظافة ضمي‪ ..‬حي ذلك تصدق سنة ال وتصدق كلمة الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ..‬ينهار‬
‫الجتمع كله‪ ،‬وتغرق السفينة الطافحة بالياه‪.‬‬

‫***‬
‫وتقوم فتاة مستهترة‪ ،‬تتقصع ف مشيتها‪ ،‬وتتكسر ف حديثها‪ ،‬وتعري ما يلو لا من جسدها‪ ،‬وتتعرض‬
‫للشباب تثي فتنة النس ونوازع اليوان‪ ..‬تقول‪ :‬من يرج عليّ فيما أصنع؟ أفعل ما بدا ل‪ ،‬وليس لحد‬
‫عليّ سلطان‪.‬‬
‫ويتركها الناس!‬
‫وقد تقول لنفسها أو تقول للناس تبر جريتها‪ :‬وأي شيء أصنع؟ هل أقتل نفسي كبتا وأترهب؟ أريد أن‬
‫أنطلق‪ .‬أريد أن أستمتع بالياة‪ .‬هذا حقي! كيف أناله؟ كيف أناله نظيفا إذا أردت؟ أما ترون كل شيء‬
‫حول فسد واشتد به الفساد؟ فإن تطهرت فكيف أعيش؟ كيف أحصل على نصيب الشروع من متعة‬
‫القلب ومتعة السد ومتعة الياة؟ وهل أنا الت أفسدت هؤلء الشبان أم إنم هم الفاسدون؟ إنم حيوانات‪.‬‬
‫إنم ذئاب! إنم هم يسعون إل الصيد ويوقعون بكل غرة ل تعرف وسائل الذئاب‪ .‬فلست بدعا ف‬
‫الجتمع‪ .‬ولن أصده أنا عن التيار!‬
‫وقد يكون ف كلمها شيء من القيقة‪.‬‬
‫ولكنه ل يكن حقيقة يوم فجرت أول فتاة فتركها الناس‪ .‬حي خرجت أول فتاة مستهترة عابثة تطم‬
‫التقاليد وتزأ بالخلق‪ ..‬يوم خرقت مكانا ف السفينة وقالت هو مكان ولن يضر غيي من الناس‪.‬‬
‫وحي يصبح ما تقول الفتاة حقا‪ ..‬حي يفسد الجتمع إل الدى الذي تس الفتاة النظيفة أنا ل تد‬
‫نصيبها الشروع من متعة الياة‪ ..‬حينئذ تتحقق سنة ال‪ ،‬ويؤذن الجتمع كله بالنيار‪.‬‬

‫***‬
‫ويقوم كاتب يزين الفاحشة ويسنها للناس‪ ،‬يقول‪ :‬أنا حر فيما أكتب‪ .‬أين حرية الرأي؟ أكتب ما بدا ل‪.‬‬
‫وليس لحد عليّ سلطان‪.‬‬
‫ويتركه الناس‪.‬‬
‫يتركونه يعيث ف الرض فسادا‪ ،‬وينشر السموم ف النفوس‪ .‬يستهترون بأمره‪ ،‬أو يشغلون عنه ف زحة‬
‫الياة‪ .‬ويهزون أكتافهم يقولون‪ :‬هل نن به مكلفون؟‬
‫ويستفيد ذلك الكاتب‪ ..‬يستفيد شهرة وثراء‪ ،‬ونفوذا ف بعض الوساط‪ .‬ول عجب ف ذلك فتجار‬
‫الخدرات وتار العراض يصلون إل الشهرة وإل الثراء‪.‬‬
‫ويغري النجاح غيه من الكتاب فينغمسون ف تيار الرية‪ ،‬ويقولون إنم تقدميون‪ .‬يقومون برسالة مقدسة‪،‬‬
‫رسالة القضاء على التقاليد " البالية " والتحضي لجتمع جديد‪.‬‬
‫وقد يتبجح كاتب أو صاحب صحيفة يبر الرية لنفسه‪ ،‬أو يبرها للناس‪ ..‬يقول‪ :‬ماذا أصنع؟ لقد تسمم‬
‫الو كله وصار القراء ل يقبلون على الدب " البيض " والكلم النظيف‪ .‬لقد تعودوا على الصحف العارية‬
‫والقصص العارية‪ ،‬والفكار العارية‪ .‬ول يعد يؤثر فيهم غي هذا اللون من النتاج‪ .‬هب أنن أصدرت‬
‫صحيفة نظيفة فكيف تعيش؟ من يقرؤها؟ كيف تغطى نفقاتا؟ أل يكون ذلك انتحارا؟ أو غفلة؟ أو جنونا‬
‫ل يقدم عليه عاقل؟ وماذا يصنع كاتب واحد أو صحيفة واحدة ف التيار السموم؟ هل يصنع إل أن يفشل‬
‫ويثي بفشله شاتة الشامتي؟!‬
‫وقد يكون هذا حقا!‬
‫ولكنه ل يكن كذلك حي خرج أول كاتب يدعو إل الفاحشة وتركه الناس‪ .‬يوم هزوا أكتافهم وقالوا‪:‬‬
‫هل نن به مكلفون؟‬
‫وحي تصل المور إل هذا الد‪ ..‬يوم يصبح الكاتب النظيف ل يد المهور الذي يقرؤه أو الصحيفة الت‬
‫تنشر له‪ ..‬يوم ل تستطيع الصحيفة النظيفة أن تعيش‪ ..‬يومئذ تكون السفينة قد أثقلت با فيها من الاء‪،‬‬
‫واضطربت ما فيها من الروق‪ ..‬وتتحقق سنة ال ف الرض‪ ،‬ويؤذن الجتمع كله بالنيار‪.‬‬
‫ويقوم والد ضعيف الشخصية تكمه امرأته‪ ،‬أو يكمه الترف والسترخاء‪ ..‬يترك أولده يعيثون بل رقابة‪،‬‬
‫يقول‪ :‬هم أولدي وأنا حر فيهم! أفعل ما بدا ل‪ ،‬وليس لحد عليّ سلطان‪.‬‬
‫ويتركه الناس‪ ..‬يتركونه تلقا‪ ،‬أو يتركونه استخفافا‪ ،‬يقولون‪ :‬هو ف النهاية الاسر‪ ،‬وما لنا عليه من سبيل‪.‬‬
‫ويستمتع الولد‪ ..‬يستمتعون بالتحلل من الضوابط والنفلت من القيود‪.‬‬
‫ويستمتعون بلذة البوط!‬
‫وهي ل شك متعة للمزاج النحرف والكيان القلوب! فمن الثابت أن الكيان الناقص ‪ -‬حي ل يكمّل‬
‫بالطريق الصال‪ ،‬ول يوجه التوجيه السليم ‪ -‬ينح إل التكملة من طريق هابط‪ ،‬ويس " بالنضوج " "‬
‫والتميز " " والتعة " من هذا الطريق!‬
‫وهذه التعة تغري غيهم من الولد فينجرفون ف الطريق‪ ..‬يدون اللذة النشودة‪ ،‬والنضوج النحرف‪،‬‬
‫والتميز بي القران‪ ..‬ويروحون يتمردون على أهليهم وينفلتون من القيود‪.‬‬
‫ويقول الولد لبيه‪ :‬أنت رجعي‪ .‬أنت متأخر‪ .‬أنت تتجاوز حدودك‪ .‬من تظنن أمامك‪ .‬لست طفلً‪ .‬أنا‬
‫رجل مثلك‪ .‬أنا أتمل مسئولية نفسي‪ .‬تريد أن تستعبدن با تنفق عليّ؟ كل! إنك ملزم بالنفاق‪ .‬ولكنك‬
‫ل تلك التدخل ف شئون‪ .‬أنا أدرى با يضر وما ينفع‪ .‬أنا أعيش بعقلية جديدة متحررة متطورة‪ .‬أنا أفهم‬
‫ما يدور ف الجتمع وأتطلع إل الستقبل‪ ..‬إل المام‪ ..‬فليس لك عليّ سلطان!‬
‫وتقول الفتاة لبيها وأمها‪ :‬أين تعيشون! إنكم تعيشون بعقلية اليل الغابر‪ ..‬التأخر‪ ..‬الرجعي‪ ..‬أما أنا‬
‫فأعيش بعقلية متحررة‪ .‬ماذا تريدون من؟ هل تظنون أنكم أنتم الرقباء عليّ إن أردت أن أفسد؟ وأن‬
‫وصايتكم عليّ تمين من السقوط؟ أنا القيّم على نفسي‪ .‬وأنا الرقيبة على أخلقي! وليست الخلق هي‬
‫اللبس أو هي العزلة عن الجتمع! ما الذي سيحدث حي أكشف ذراعيّ أو ساقيّ؟ أو أكشف جزءا من‬
‫صدري؟ هل ستنقص من قطعة؟ وماذا سيصنع ل الشبان حي ينظرون إلّ أو يكلمونن ف الطريق؟ هل‬
‫ستخرب الرض؟ إنكم تتصورون المور بعقلية جامدة ل تفهم " التطور " ول تفهم الياة! وعلى أي حال‬
‫فذلك شأن وحدي‪ .‬وليس لحد عليّ سلطان!‬
‫ويشكو الباء! يشكون أن أبناءهم تردوا عليهم‪ ،‬ول يعد ف مقدورهم أن يردوهم إل السبيل! ويقولون إن‬
‫الجتمع فاسد يفسد عليهم الولد!‬
‫وقد يكون ذلك حقا!‬
‫ولكنه ل يكن كذلك يوم فسد أول جيل من البناء فتركوهم يفسدون!‬
‫وحي يدث ذلك‪ ..‬حي ينفلت الولد بل ضابط‪ ،‬ل يكمهم أهلوهم‪ ،‬ول يكمهم مدرسوهم ف‬
‫الدرسة‪ ،‬لن الوالد قد أفسد على الدرس مهمة التوجيه‪ ..‬حينذاك تتحقق السنة الاضية‪ ،‬وتغرق السفينة‬
‫وكلها خروق!‬

‫***‬
‫ويقوم طالب يغش ف المتحان‪ ،‬يقول‪ :‬أصنع ما بدا ل‪ .‬وليس لحد عليّ سلطان‪.‬‬
‫ويتركه الناس‪.‬‬
‫يتركونه " إشفاقا على مستقبله "! أو يتركونه استخفافا بالرية‪.‬‬
‫وينجح الطالب‪ ،‬ويستمتع بذا النجاح اليسر البسيط التكاليف‪..‬‬
‫ويغري النجاح غيه‪ ..‬فيوحون يعبثون العام كله‪ ،‬يتسكعون ف الطرقات‪ ،‬ويرون كالكلب الشاردة وراء‬
‫الفتيات‪ ..‬ث يسهرون السبوع الخي يضّرون " البشام " من أجل المتحان‪.‬‬
‫ويس الخرون من الشرفاء أنم مظلومون! هم يسهرون العام كله ف العمل‪ ،‬ث ل يبلغون ‪ -‬بالد والمانة‬
‫‪ -‬ما يبلغه الغشاش بغشه‪ ،‬وقد ينجح وهم يرسبون! وقد يصل إل " الوظيفة " وهم قاعدون!‬
‫ل جرم ينصرف أغلبهم عن النشاط العلمي الصادق‪ ،‬وينقلبون إل مادعي غشاشي!‬
‫ول جرم تد بعد ذلك الوظف الذي يذهب ف الوعد وينصرف ف الوعد ‪ -‬إن شدد عليه ف الضور‬
‫والنصراف ‪ -‬ول يعمل عمل طيلة وقت " الديوان "!‬
‫ول جرم تد الهندس الذي ل يوافق على " مواصفات " البناء أو " الواصفات الصحية " وأنت تؤديها على‬
‫وجهها الكمل‪ ،‬ث يوافق على أقل منها كثيا إن دسست ف يده " العلوم "!‬
‫ول جرم تد الطبيب الذي ل يعطيك العلج الكامل الذي يشفيك من أول مرة‪ ،‬ويروح يطيل العلج‬
‫ويطلبك تر عليه مرة بعد مرة ليزداد منك كسبا‪ ،‬وتكسب معه معامل الدوية الت " يتعامل " معها أو‬
‫يكسب الوردون!‬
‫كلهم غشاشون!‬
‫كلهم ذلك الطالب الول الذي تركه الناس غافلي‪.‬‬
‫وحي يصبح الغش هو " العملة " السارية ف الجتمع‪ ،‬فل جرم يذهب الجتمع أسفل سافلي!‬
‫ويقوم موظف يرتشي‪ ..‬يقول‪ :‬من يرّج عليّ فيما أصنع؟ أفعل ما بدا ل‪ ،‬وليس لحد عليّ سلطان‪.‬‬
‫ويتركه الناس!‬
‫يتركونه بدافع الاجة إل ما ف يده من الصال‪ ،‬أو بدافع الوف إن كان من ذوي النفوذ‪.‬‬
‫ويستفيد ذلك الرتشي‪ ..‬يستفيد ثروة سهلة الأخذ مضمونة الورود‪.‬‬
‫ويغري الثراء غيه من الوظفي‪ ،‬فيندفعون ف تيار الشهوة ينهلون من هذا النهل الدنس‪ ،‬ويلغون ف دماء‬
‫الحتاجي‪.‬‬
‫وتأخذ الوجة مداها‪ ..‬حت تصبح المور كلها بالرشوة‪ ،‬ومن غيها توصد البواب ف وجه أصحاب‬
‫القوق‪.‬‬
‫وقد يتبجح موظف يبر الرية لنفسه أو يبرها للناس‪ ،‬يقول‪ :‬هل أنا وحدي الذي أرتشي؟ هل أنا وحدي‬
‫الذي أشيع الفساد‪ ..‬فهل تنتظم مصال الناس كلها‪ ،‬وتفتح لم البواب؟ كل ما يدث أنن أحرم نفسي من‬
‫العي التاح‪ ،‬وأظل فقيا وأنا رب أسرة وصاحب عيال‪.‬‬
‫وقد يكون هذا حقا‪..‬‬
‫ولكنه ل يكن كذلك حي بدأت الرشوة أول مرة وسكت عنها الناس‪ ،‬أو شجعوها وأغروا با الرتشي‪.‬‬
‫وحي تصل المور إل هذا الد‪ ..‬حي تصبح الرشوة هي الصل والنظافة هي الشذوذ‪ ..‬حينذاك تقع الزة‬
‫الت تزلزل الجتمع كله من القواعد‪ ،‬فل يلبث أن يتهاوى إل القرار‪..‬‬

‫***‬
‫صدق رسول ال‪ .‬وصدقت حكمته‪:‬‬
‫ما أسكر كثيه فقليله حرام‪..‬‬
‫مروا بالعروف وأنوا عن النكر قبل أن تدعو فل أجيب‪..‬‬
‫إن حديث السفينة يمع ما ف الديثي السابقي‪ ،‬ولكنه يضيف إليهما معان أخرى جديرة بالتدبر‬
‫والتفكي‪..‬‬
‫وإن أول ما يستلفت النظر ف الديث أن الرسول الكري ل يقسّم ركاب السفينة بسب أماكنهم الظاهرية‬
‫ف الجتمع‪ ،‬علوا وسفل‪ ،‬وثراء وفقرا‪ ،‬وبروزا وتواضعا‪ ..‬ل يعل " السادة " هم العلون و " الشعب "‬
‫هو السفل‪ .‬كل‪ .‬فما كانت هذه القيم هي الت تقسم الناس عند رسول ينطق بكمة ال ويبلغ رسالة ال‪.‬‬
‫إن العلى ف تقدير ال ورسوله " هو القائم ف حدود ال "‪ .‬هو النفذ لشريعة ال‪ .‬هو الهتدي بدي ال‪.‬‬
‫أياّ كان مكانه الظاهري ف الجتمع‪ .‬فالقوة القيقية ل تستمد من عرض الرض‪ ،‬ول من القيم الرضية‬
‫النقطعة عن ال‪ .‬إنا تستمد من ال‪ .‬من اليان به والعتزاز بذا اليان‪( .‬وَل َتهِنُوا وَل َتحْزَنُوا َوأَنُْتمُ‬
‫الَْأعْلَوْنَ إِنْ كُْنُتمْ مُ ْؤمِِنيَ) فاليان هو القوة القة‪ ،‬وهو مصدر " العلو " ومصدر التوجيه‪ .‬وكل قيمة سواه‬
‫زائفة ل تلبث أن تضيع‪.‬‬
‫أما " الواقع فيها " فهم العصاة النحرفون ف كل جانب من جوانب العصيان والنراف‪ ،‬بصرف النظر عن‬
‫مركزهم " الظاهري " ف الجتمع‪ .‬فهذا الركز ل يساوي شيئا‪ ،‬ول يقي من ال شيئا حي يؤدي إل اليل‬
‫عن الطريق‪ .‬بل إنه ل يساوي شيئا ف واقع الرض‪ ،‬ول يقي من النتيجة الحتومة حي يأذن ال بتحقيق‬
‫السنة ف أوانا العلوم! فحي تغرق السفينة من شدة الفساد ل يقول السادة للشعب‪ :‬اغرقوا أنتم وحدكم‬
‫ونن ناجون من اللك!‬
‫وحي يطلب الرسول من القائمي ف حدود ال أن يأخذوا على يد الواقعي فيها ل يدد مهمتهم براكزهم‬
‫الظاهرية ف الجتمع‪ ،‬وإنا بأماكنهم القة ف سفينة الجتمع وسفينة الياة‪ ،‬فما داموا مؤمني فهم القوة‬
‫القة‪ .‬القوة الوجهة‪ .‬القوة الخذة على أيدي العابثي‪ .‬وهذه مهمتهم‪ ،‬عليهم أن يعرفوها بصرف النظر عن‬
‫ثرائهم أو فققرهم‪ ،‬ورئاستهم أو مرءوسيتهم‪ ..‬فما بذا توزن المور‪..‬‬

‫***‬
‫والمر الثان هو وحدة الصلحة ف الجتمع‪ ،‬وإن بدت الصال ظاهرة اللف!‬
‫إن كل المثلة الت أوردناها حول مور واحد‪ ،‬مستمد من معن حديث الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فهؤلء قوم لم " مصال قريبة " يستنفعون منها على حساب الخرين‪ .‬ولو تركهم الجتمع حقبة من الزمن‬
‫فسوف يستفيدون حتما من هذا السكون‪ .‬يستفيدون توفي الهد‪ ،‬وتوفي مغالبة الشهوات‪ .‬ويأتيهم رزقهم‬
‫قريبا سهل ميسرا ل يتعبون فيه‪.‬‬
‫ولكن حقبة من الزمن تضي ‪ -‬طويلة أو قصية ‪ -‬ث يأخذ الفساد ف النتشار وتبدأ السفينة ف ناية‬
‫الطاف‪ ..‬تغرق وتأخذ معها الظالي والظلومي على السواء! ومن ث فالصال النهائية واحدة‪ .‬والخطار‬
‫النهائية واحدة‪ ..‬ليست هناك مصلحة لفرد هي مصلحته وحده وشأنه بفرده‪ .‬كل مصلحة هي مصلحتهم‬
‫جيعا وكل ضرر يصيبهم جيعا‪ ..‬ول يستطيع أحد أن يتخلى عن مسئوليته ف هذا السبيل‪.‬‬
‫ضلّ إِذَا‬
‫وهنا تبز بعض الية إزاء الية الكرية‪( :‬يَا أَيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا عَلَيْ ُكمْ أَْن ُفسَ ُكمْ ل َيضُ ّر ُكمْ مَنْ َ‬
‫اهَْتدَيُْتمْ) [‪ .]113‬وهي حية وقع فيها السلمون الوائل أنفسهم فقام أبو بكر ينبههم إل طريق‬
‫الصواب‪.‬‬
‫قال‪ :‬يأيها الناس إنكم تقرءون هذه الية‪ ..‬وإن سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬إن الناس إذا‬
‫رأوا الظال فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم ال بعقاب من عنده (رواه أبو داود والترمذي)‪.‬‬
‫نعم " عليكم أنفسكم " عليكم الجتمع الذي تعيشون فيه‪ .‬وليس عليكم غيكم من الجتمعات أو الفراد‬
‫غي السلمي‪ .‬فهؤلء ل يضرونكم مت اهتديتم وعملتم با يريده ال‪ .‬أما العمال الت يقوم با السلمون ف‬
‫الجتمع السلم فليس حكمها كذلك‪ .‬إنا مسألة حياة أو موت بالنسبة لذا الجتمع‪ .‬فإما أن يس بوحدة‬
‫الصلحة فيأخذ على يد الظال ‪ -‬من أي نوع كان ظلمه ؛ لنفسه أو للخرين ‪ -‬فينجو الجتمع كله‪ ،‬وإما‬
‫أن يترك المر خوفا وطمعا أو استهتارا وتاونا‪ ..‬فتحدث الطامة الت تغرق الميع‪.‬‬

‫***‬
‫ومن وحدة الصلحة ينشأ الترابط بي أفراد الجتمع ترابطا ل يتخلخل ول تنقطع عراه‪ .‬إنم ركاب سفينة‬
‫واحدة‪ ،‬ناجية أو غارقة‪ ،‬فكيف يكن ان ينفصل بعضهم عن بعض أو يتجاهل بعضهم وجود بعض؟‬
‫وإنه ‪ -‬وهو ترابط الصلحة الواحدة الت يلتقي عندها الميع ‪ -‬لو ف الوقت ذاته ترابط المر بالعروف‬
‫والنهي عن النكر واليان بال‪ .‬ترابط التعاون على الب والتقوى وليس ترابط التعاون على الث والعدوان‪.‬‬

‫***‬
‫ترابط ل يقول فيه إنسان‪ :‬ما شأن أنا بفلن‪ ،‬فليصنع ما يشاء ولن أتدخل ف أمره!‬
‫ول يقول فيه إنسان لخر‪ :‬ما شأنك ب! سأصنع ما أشاء ول تتدخل ف أمري!‬
‫كل! إن أمور الجتمع ل يكن أن تستقيم كذلك‪ ..‬ل بد من يقظة كل فرد لعمال أخيه‪ ،‬ول بد من رده‬
‫عن الطأ والسراف فيه‪.‬‬
‫وليس معن ذلك أن يتحول الجتمع إل منازعات ومشاحنات!‬
‫كل! فليس هذا هو الطريق!‬
‫سِل ِميَ وَل َتسْتَوِي اْلحَسَنَةُ وَل السّيّئَةُ‬
‫سنُ قَ ْولً ِممّنْ َدعَا إِلَى اللّهِ َو َع ِملَ صَالِحا َوقَالَ إِنّنِي ِمنَ اْلمُ ْ‬
‫( َو َمنْ أَ ْح َ‬
‫ا ْدَفعْ بِالّتِي هِيَ أَ ْحسَنُ فَإِذَا اّلذِي بَْيَنكَ وَبَْينَهُ َعدَا َوةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ َحمِيمٌ) [‪( ]114‬ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَّبكَ‬
‫بِاْلحِ ْكمَةِ وَاْلمَ ْوعِظَةِ اْلحَسَنَةِ) [‪.]115‬‬
‫هذا هو الطريق‪..‬‬
‫إن الترابط هو ترابط الب‪ .‬ل البغضاء‪.‬‬
‫وإن النصيحة لتصدر من هذا النبع العذب‪ .‬أنا أنصح أخي لنن أحبه‪ .‬لنن أريد له الي‪ .‬لنن أريد أن‬
‫آخذ بجزه أن يقع ف النار! وهو يتقبل من النصيحة على هذا الوضع‪ ..‬لنه يبن ويثق ف نظافة النصح‬
‫والتوجيه‪.‬‬
‫أما " الخذ على اليد " با تمله من معن الزجر أو العنف فليست أول الطريق!‬
‫إنا هي النهاية حي تفشل الوسائل كلها ول يتبقى غي هذا الطريق!‬

‫***‬
‫ورب قائل أن يقول ‪ -‬عن إخلص نية ‪ -‬مقالة الفت الستهتر أو الفتاة الوجاء‪:‬‬
‫وهل أنا وحدي سأصلح الجتمع‪ .‬هل أنا ‪ -‬حي أومن وأعمل صالا ‪ -‬سأنقذ السفينة الاوية إل القرار!‬
‫كل!‬
‫فحي توجد ف متمع يوشك أن يتحطم‪ ،‬ف سفينة توشك على اللك‪ ،‬فلن تقفها وحدك عن النهاية‬
‫الحتومة‪ ،‬ولن تنقذها وحدك من اللك‪.‬‬
‫نعم‪ .‬ولكنك تنقذ نفسك!‬
‫فحت حي تتحقق السنة الت ل تتخلف‪ ..‬حت حي ينفذ الوعد الق وتتحطم السفينة‪.‬‬
‫حت حينئذ‪ ..‬فشتان بي غريق وغريق!‬
‫غريق ف جهنم لنه فاجر‪.‬‬
‫وغريق ف النة لنه شهيد‪.‬‬
‫فمن ذا الذي يبيع الخرة بالدنيا‪ ،‬ويسعى إل النار ‪ -‬وهو يغرق ‪ -‬ف حي يلك ‪ -‬حت وهو يغرق ‪ -‬أن‬
‫يسعى إل النعيم؟!‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫[‪ ]102‬سورة الجرات [ ‪.] 6‬‬
‫[‪ ]103‬سورة الجرات [ ‪.] 12‬‬
‫[‪ ]104‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫[‪ ]105‬أبو داود‪.‬‬
‫[‪ ]106‬أبو داود من روايات متعددة‪.‬‬
‫[‪ ]107‬أبو داود‪.‬‬
‫[‪ ]108‬أبو داود‪.‬‬
‫[‪ ]109‬انظر فصل " وليح ذبيحته "‪.‬‬
‫[‪ ]110‬أبود داود‪.‬‬
‫[‪ ]111‬أبو داود‪.‬‬
‫[‪ ]112‬رواه البخاري والترمذي‪.‬‬
‫[‪ ]113‬سورة الائدة [ ‪.] 105‬‬
‫[‪ ]114‬سورة فصلت [ ‪.] 34 - 33‬‬
‫[‪ ]115‬سورة النحل [ ‪.] 125‬‬
‫أنتم أعلم بأمور دنياكم‬

‫قصة هذا الديث معروفة‪..‬‬


‫فقد مر الرسول صلى ال عليه وسلم ف الدينة على قوم يؤبرون النخل ‪ -‬أي يلقحونه ‪ -‬فقال‪ " :‬لو ل‬
‫يفعلوا لصلح له " فامتنع القوم عن تلقيح النخل ف ذلك العام ظنا منهم أن ذلك من أمر الوحي‪ ،‬فلم ينتج‬
‫النخل إل شيصا (أي بلحا غي ملقح‪ ،‬وهو مر ل يؤكل) فلما رآه النب صلى ال عليه وسلم على هذه‬
‫الصورة سأل عما حدث له فقالوا‪ " :‬قلت كذا وكذا‪ " ..‬قال‪ " :‬أنتم أعلم بأمور دنياكم " عن عائشة وعن‬
‫ثابت وعن أنس)‪ :‬وف صحيح مسلم عن موسى بن طلحة عن أبيه أن النب صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬ما‬
‫أظن يغن ذلك شيئا "‪ ..‬ث قال‪ " :‬إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه‪ .‬فإن إنا ظننت ظنا فل تؤاخذون‬
‫بالظن‪ .‬ولكن إذا حدثتكم عن ال شيئا فخذوا به "‪.‬‬

‫***‬
‫تلك قصة الديث‪..‬‬
‫وهي واضحة الدللة فيما تركه الرسول صلى ال عليه وسلم للناس من أمور يتصرفون فيها بعرفتهم‪ ،‬لنم‬
‫أعلم با وأخب بدقائقها‪ .‬إنا السائل " العلمية الفنية التطبيقية " الت تتناولا خبة الناس ف الرض‪ ،‬منقطعة‬
‫عن كل عقيدة أو تنظيم سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي‪ .‬وهي ف الوقت ذاته تصلح للتطبيق مع كل‬
‫عقيدة وكل تنظيم‪ ،‬لنا ليست جزءا من أي عقيدة أو أي تنظيم‪ ..‬بل إنا حقائق علمية مردة عن وجود‬
‫النسان ذاته بكل عقائده وكل تنظيماته‪ .‬كحقيقة اتاد الكسجي واليدروجي لتكوين الاء‪ ،‬وحقيقة‬
‫انصهار الديد ف درجة كذا مئوية‪ .‬هي حقائق ليسن ناشئة عن وجود النسان‪ .‬وإنا هي سابقة له‪،‬‬
‫موجودة منذ وجدت هذه العناصر ف الكون‪ .‬وقصارى " تدخل " النسان فيها أن يكتشفها ويعرفها‪ ،‬ث‬
‫يستغلها لصاله‪ ،‬ويطبقها ف حياته العملية‪.‬‬
‫وقصة النخل ل ترج عن كونا حقيقة علمية اكتشفها النسان فطبقها ف حياته العملية‪ :‬حقيقة التلقيح‬
‫والخصاب ف عال النبات‪ .‬وهي عملية ل يتم بدونا تكون الثمرة ونضجها على النحو العروف‪ .‬والرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم ل يقطع فيها برأي ‪ -‬كما هو ظاهر من الديث ‪ -‬وإنا قال‪ " :‬إنا ظننت ظنا "‪.‬‬
‫ولعل الشك الذي ساوره صلى ال عليه وسلم قد جاء من اعتقاده بأن ال ل بد أن يكون قد أودع فطرة‬
‫الياة ما تتم به عملياتا " البيولوجية " دون حاجة إل تدخل النسان‪ !..‬وطالا خطر ف نفسي أنا هذا‬
‫السؤال‪ :‬من كان يلقح النخيل‪ ،‬وينقل فسائل النباتات الت ل تنمو بغي التنقيل‪ ،‬قبل أن يوجد النسان على‬
‫ظهر الرض‪ ،‬والنباتات كلها سابقة للنسان ف الليقة؟! ول شك أن علماء النبات لديهم لذا السؤال‬
‫جواب‪ .‬ولكن أقول فقط‪ :‬إنا خاطرة جديرة بأن تطر على قلب إنسان!‬
‫هي إذن السائل " التكنيكية " البحتة بتعبينا العلمي الديث‪ .‬السائل الت يتحصل عليها الؤمنون والكفار‬
‫سواء‪ .‬ول تؤثر بذاتا ف عقيدة القلب أو اتاه الشعور‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن فريقا من الناس يريدون أن يفهموا منها غي ما قصده الرسول وحدده‪ .‬يريدون أن يبسطوها‬
‫حت تشمل الياة الدنيا كلها‪ ،‬بتشريعاتا وتطبيقاتا‪ ،‬باقتصادياتا واجتماعياتا‪ ،‬بسياساتا وتنظيماتا‪ .‬فل‬
‫يدعون لدين ال ولرسول ال مهمة غي " تنظيف القلب البشري وهدايته " بالعن الروحي الالص‪ ،‬الذي ل‬
‫شأن له بواقع الياة اليومي‪ ،‬ول شأن له بتنظيم الجتمع وسياسة المور فيه‪ .‬ث يسندون هذا اللون من‬
‫التفكي للرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويعلونه ‪ -‬هو ‪ -‬شاهدا عليه!!‬
‫وما أريد أن أبادر بسوء الظن! فقد يكون هذا الفريق من الناس ملصا ف تفكيه مطمئنا إليه! وقد يكون‬
‫ذلك بالنسبة إليه مهربا " ل شعوريا " من ضغط الفاهيم الوربية ‪ -‬الغربية أو الشرقية ‪ -‬عن الدين من‬
‫جانب‪ ،‬و " العلوم " القتصادية والجتماعية النقطعة عن الدين من جانب آخر‪ .‬مهربا يلجأ إليه العاجزون‬
‫الغلوبون‪ ،‬ليحتفظوا بعقيدتم الشخصية ف ال‪ ،‬ث يكونوا بعد ذلك تقدميي أو ترريي!!‬
‫ولكن قليلً من النظر كان جديرا أن يردهم إل التفكي الصائب والتقدير الصحيح‪ ،‬ويرفع عنهم هذه الذلة‬
‫الفكرية الت يعانونا إزاء الغرب‪ ،‬فتلوي أفكارهم ‪ -‬بوعي أو بغي وعي ‪ -‬وتفسد مشاعرهم فينحرفون عن‬
‫السبيل‪.‬‬
‫لو كان السلم رسالة " روحية " بالعن الفهوم لذا اللفظ ‪ -‬العن الوجدان الالص الذي ل شأن له‬
‫بواقع الياة اليومي ‪ -‬ففيم إذن كان هذا الشد الائل من التشريعات والتوجيهات ف القرآن والديث؟‬
‫خذُوهُ َومَا نَهَا ُكمْ عَنْهُ فَانَْتهُوا)! ث يعقب ف نفس‬
‫وفيم إذن يقول ال سبحانه وتعال‪َ ( :‬ومَا آتَا ُكمُ الرّسُولُ َف ُ‬
‫الية بالتهديد للمخالفي‪( :‬وَاّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َشدِيدُ اْل ِعقَابِ) [‪]116‬؟!‬
‫فيم هذا كله إذا كانت السألة هي " تنظيف القلب " ليس غي؟!‬

‫***‬
‫وإن تنظيف القلب البشري لهمة ضخمة دون شك‪ ..‬مهمة تتاج إل رسول!‬
‫وإنا ‪ -‬حي تنجح ‪ -‬لي الضمان الول لسلمة الياة كلها واستقامتها ونظافتها‪ .‬فإن أخفقت‪ ..‬فل‬
‫ضمان!‬
‫والسلم يوجه لذا القلب أكب عناية يكن أن يوجهها إليه نظام أو دين‪ .‬فهو يربطه دائما بال‪ ،‬ويوجهه‬
‫دائما لشيته وتقواه والعمل على رضاه‪ .‬ث هو يتتبع هذا القلب ف كل نزعة من نزعاته‪ ،‬وكل ميل من‬
‫ميوله‪ ..‬ف العمال الظاهرة والشاعر الستترة‪ ..‬ف السر الذي يفى على الناس ول يفى على ال‪ ،‬بل فيما‬
‫هو أخفى من السر‪ ،‬من الشاعر الساربة ف حنايا الضمي [‪ ..]117‬يتتبعه ف كل ذلك‪ ،‬عملً عملً‬
‫وخاطرا خاطرا وفكرة فكرة‪ ..‬فينظفها بشية ال‪ ،‬والياء من رقابته الدائمة الت ليغيب عنها شيء ف‬
‫الرض ول ف السماء‪ ..‬ويوجهه إل صفحة الكون الواسعة‪ ،‬وما فيها من آيات القدرة العجزة‪ ،‬ليمسح عنه‬
‫الغلظة الت تجر الشاعر‪ ،‬والغبش الذي يجب عنه النور‪ ..‬ويطلقه من إسار الشهوات والضرورات الت‬
‫تثقله وتشده إل الرض‪ ،‬لينطلق خفيفا صافيا شفيفا يسبح ال ويفرح بداه‪..‬‬
‫نعم‪ ..‬يبذل السلم ذلك الهد الضخم كله " لتنظيف القلب "‪.‬‬
‫ولكن السلم دين الفطرة‪ ..‬الدين الذي يعرف أسرار الفطرة فيقدم لا ما يلصح لا وما يصلحها‪ .‬الدين‬
‫الذي يعال الفطرة على أحسن وجه وأنسب طريقة‪ ،‬ليخرج منها بأقصى ما تستطيع أن تنحه من الي‪.‬‬
‫الدين الذي يتلبس بالفطرة فيملؤها كلها ول يترك فراغا واحدا ل ينفذ إليه‪ .‬الدين الذي يأخذ الفطرة كما‬
‫هي كلّ واحدا ل يتجزأ‪ ،‬كلً يشمل السم والعقل والروح‪ ،‬فيعالها العلج الشامل الذي يأخذ ف‬
‫حسابه الوانب كلها‪ .‬ويأخذها مرتبطا بعضها ببعض ف نظام وثيق‪..‬‬
‫ومن ث ل يأخذ شعور النسان ويترك سلوكه‪ .‬ل يأخذ " مبادئه " ويترك " تطبيقه "‪ .‬ل يأخذ آخرته ويدع‬
‫دنياه‪ ..‬وإنا يعمل حساب ذلك كله ف توجيهاته وتشريعاته سواء‪.‬‬

‫***‬
‫السلم يتناول الياة كلها‪ ،‬بكل ما تشتمل عليه من تنظيمات‪ .‬ويرسم للبشر صورة كاملة لا ينبغي أن‬
‫تكون عليه حياتم ف هذه الرض‪.‬‬
‫إنه يتناول النسان من يقظته ف الصباح الباكر حت يسلم جنبه للنوم ف آخر الساء‪ .‬يعلمه ويلقنه ماذا يصنع‬
‫وماذا يقول أول مايفتح عينيه‪ ،‬ث حي يقوم‪ ،‬ث حي يقضي ضرورته‪ ،‬ث حي يؤدي صلته‪ ،‬ث حي يضرب‬
‫ف مناكب الرض باحثا عن رزقه‪ :‬زارعا أو صانعا أو عاملً أو بائعا أو شاريا‪ ..‬ث حي يتناول طعامه‪ ،‬ث‬
‫حي يستريح من القيلولة‪ ،‬ث حي يعود ف آخر اليوم‪ ،‬ث حي يلقى زوجه وأطفاله‪ ،‬ث حي يضع جنبه‪ ،‬ث‬
‫حي يأخذ ف النوم‪ ..‬بل إذا صحا كذلك ف وسط النوم فزعا أو غي مفزّع!‬
‫وكما تناول النسان فردا ف جيع أحواله‪ ،‬فقد تناوله كذلك وهو يعيش ف الجتمع مع غيه من الفراد‪.‬‬
‫فعلم الجتمع ولقنه كيف تكون الصلت بي أفراده‪ ،‬وكيف تكون العلقات‪ .‬وكيف ينشئ تقاليده على‬
‫الودة والخاء والب‪ ،‬والتكافل والتعاون‪ .‬وكيف يشتري وكيف يبيع‪ .‬وكيف يزرع وكيف ين‪ .‬وكيف‬
‫يلك وكيف يوزع الثروة بي الفراد‪.‬‬
‫وكما تناول الفرد والجتمع تناول كذلك " الدولة " مثلة الجتمع‪ .‬فأعطى ول المر حقوقا وأوجب عليه‬
‫واجبات‪ .‬وعلمه ولقنه كيف يكم الناس‪ ،‬وكيف يقيم بينهم العدل‪ ،‬وكيف يوزع الال بينهم‪ ،‬بأي نسب‬
‫وعلى أي الفئات ومن أي الوارد‪ .‬وكيف يعلن الرب وكيف يقيم السلم‪ ،‬وكيف يتعامل مع الدول‬
‫والماعات والفراد‪..‬‬
‫الياة كلها بميع دقائقها وتفصيلتا‪ .‬الياة الادية والفكرية والروحية‪ .‬الياة الفردية والجتماعية‪ .‬الياة‬
‫بكل ما تشمله من مفاهيم‪ .‬وكانت تلك هي طريقة السلم الفذة ف " تنظيف القلب "!‬
‫أ َو يعجب الناس من هذا القول؟! أيقولون ما للقلب والروح بواقع الرض؟ بالقتصاد والسياسة‬
‫والجتماع؟!‬
‫ويح الناس!‬
‫أليسوا هم الذين " اكتشفوا " ف القرن التاسع عشر والقرن العشرين أن " مشاعر " الناس مرتبطة بوضعهم‬
‫القتصادي وبعلقات النتاج؟!‬
‫فيم العجب إذن إن قيل لم إن السلم وهو " ينظف القلب " يضع ف حسابه إقامة نظام اقتصادي عادل‪،‬‬
‫ونظام اجتماعي متوازن‪ ،‬ونظام سياسي راشد مكم الرباط؟‬
‫أم هم ُيدِلّون على ال بعلمهم؟ ويسبون أنم وحدهم الذين أدركوا هذه القيقة‪ ،‬بينما ال الذي خلق‬
‫اللق وهو أدرى به‪ ،‬قد فاته إدراكها؟! سبحانه وتعال عما يصفونه علوا كبيا‪..‬‬
‫كل! إن السلم قد تناول هذه القائق كلها قبل أن يصحو لا الناس‪ .‬وبيّن أن الياة السليمة النظيفة‬
‫التكاملة ل يكن أن تتم ف داخل القلب معزولة عن واقع الياة‪ .‬ل يكن أن تتم ف الوجدان والشاعر إن ل‬
‫يكن لا رصيد مواز لا من العمل والسلوك‪ .‬ومن ث ل يعل الدين " عقيدة " كامنة ف الضمي‪ .‬وإنا جعلها‬
‫نظاما قائما على عقيدة‪ ،‬ومتمعا قائما على هذا النظام‪.‬‬
‫صحيح أنه ل ينل ف ذلك إل مهاوي الادية الابطة والذاهب القتصادية النحرفة‪ .‬ل يعل الادة هي‬
‫الصل‪ ،‬والنسان هو التابع الذليل الذي ل يلك نفسه إزاء التطورات التمية للقتصاد والنتاج‪ ..‬وإنا‬
‫جعل النسان هو الصل‪ .‬جعل القلب البشري هو الصدر الذي تصدر عنه الطاقة ويصدر عنه الشعاع‪.‬‬
‫ولكنه ف الوقت ذاته ل يشأ أن يعله معلقا ف البج العاجي‪ ،‬يطلق شحنته الائلة ف الفضاء ف قفزات‬
‫اليال وسبحات الروح‪ .‬وإنا أراد لذه الطاقة الضخمة أن تنتج ف واقع الرض‪ ،‬وأن تنشئ متمعها‬
‫ونظامها بوحي من العقيدة وهدي من ال‪ ،‬فيتوازن بذلك الشعور والعمل‪ ،‬والوجدان والسلوك‪ ،‬ويتوازن‬
‫بذلك " النسان "‪.‬‬
‫وكان هذا هو المر الطبيعي ما دام السلم " دين الفطرة "‪.‬‬
‫إن الشاعر الرفرفة والوجدان الشرق والفكار الميلة ل قيمة لا إذا ل تتحول إل قوة بانية ف عال الواقع‪،‬‬
‫إذا ل تتحول إل حقيقة ظاهرة ملموسة يس با الناس‪.‬‬
‫والعمال " العظيمة " والنتاج الباهر والركة الفاعلة ل قيمة لا إذا ل تستند إل شعور عميق بالي‪،‬‬
‫وإحساس حي بروابط الخوة النسانية واللتقاء إل ال‪.‬‬
‫بل ها ‪ -‬بدون هذا التزاوج ‪ -‬ينقلبان إل شر مدمر للبشرية‪:‬‬
‫الول تنقلب إل زهادة وعزلة تتوقف با الياة‪.‬‬
‫والثانية تنقلب إل طغيان كافر يدمر الياة على وجه الرض‪.‬‬
‫ول بد منهما معا لتستقيم الياة‪ ،‬مرتبطي متمازجي‪ ،‬ل انفصال بينهما ول افتراق!‬
‫تلك هي " الفطرة " البشرية‪.‬‬
‫والسلم دين الفطرة وكلمة ال‪.‬‬
‫ومن ث ل يكن بد ‪ -‬وهو " ينظف القلب البشري " ‪ -‬أن يعل ف حسابه الباطن والظاهر‪ ،‬والشعور‬
‫والعمل‪ ،‬والوجدان والسلوك‪.‬‬
‫وهو بذلك واقعي إل أقصى حدود الواقعية‪...‬‬
‫إنه يعن أشد العناية بعال الروح ونظافة الضمي‪ .‬وإنه يثق ف أن القلب البشري مصدر الطاقة ومصدر‬
‫الشعاع‪ .‬ولكنه ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬ل يفترض ف الناس كلهم أنم من أول العزم! ل يفترض فيهم أنم‬
‫يستطيعون دائما أن يعيشوا بقلوب نظيفة ف متمع غي نظيف‪ ،‬أو يارسوا العدالة ف متمع غي عادل‪ ،‬أو‬
‫يرصوا على الفضائل ف متمع يرص على النكرات‪.‬‬
‫ضعِيفا)‪.‬‬
‫ففي " الفطرة " البشرية ضعف يتاج إل سند ويتاج إل معونة‪َ ( :‬و ُخلِقَ الِْإْنسَانُ َ‬
‫هناك ثقلة الضرورة ودفعة الشهوات‪.‬‬
‫وهي " واقع " ل مصلحة ف تاهله‪ ،‬ول سبيل إل نكرانه‪.‬‬
‫ول بد من تنظيمه‪ ..‬ل بد من تنظيمه ليستطيع النسان أن يفرغ من ضغطه على العصاب والشاعر‪.‬‬
‫وينطلق حيث يشاء‪ ،‬حيث يليق بليفة ال أن يكون‪.‬‬
‫من أجل ذلك يرص السلم على واقع الجتمع أن يكون نظيفا ليعاون الفرد على نظافة الضمي‪ .‬ولن‬
‫تكون نظافة الجتمع إل بنظام اقتصادي عادل‪ ،‬ونظام اجتماعي متوازن‪ ،‬ونظام سياسي راشد مكم الرباط‬
‫بالعقيدة الصحيحة واليان الصحيح‪.‬‬

‫***‬
‫من صميم مهمة الدين إذن ف تنظيف القلب كانت هذه التشريعات وهذه التوجيهات الت تتناول السرة‬
‫والجتمع‪ ،‬وسياسة الكم‪ ،‬وسياسة الال‪ .‬يستوي ف ذلك التشريع القتصادي‪ ،‬والتشريع السياسي‪،‬‬
‫والتشريع النائي‪ ،‬والتشريع الدن‪ ،‬والتشريع الدول‪ ..‬والتوجيهات العديدة التعلقة بكل هذه الشئون‪.‬‬
‫ول يكن السلم ‪ -‬وهو جاد ف تناول النسان والياة البشرية بالتنظيم والتنظيف ‪ -‬ليغفل هذه الشئون‬
‫الواقعية كلها‪ ،‬وينصرف إل تذيب الضمي ف عال الثل والحلم‪ .‬ول يكن رسول السلم صلى ال عليه‬
‫وسلم ليتخلى عن مهمته الائلة ف ذلك الشأن‪ ،‬وينفض يديه منها‪ ،‬ويقول للناس‪ " :‬أنتم أعلم بأمور دنياكم‬
‫" أي تصرفوا أنتم ف تشريعاتكم وتنظيماتكم‪ ،‬ف سياسة الال وف سياسة الكم‪ ،‬ف علقات الجتمع‪ ،‬وف‬
‫القواني الت تنظم الياة‪..‬‬
‫كل! ل يكن ليفعل ذلك‪ .‬ولو فعل فما أدى إذن رسالة ال‪ .‬وال هو الذي يقول له ف مال التكليف‪ُ( :‬ثمّ‬
‫َج َعلْنَاكَ َعلَى شَرِيعَةٍ ِمنَ الَْأمْرِ فَاتِّبعْهَا وَل َتتِّبعْ َأهْوَاءَ اّلذِينَ ل َي ْعَلمُونَ) [‪.]118‬‬

‫***‬
‫ولكن هذا الفريق من الناس الذي ذكرناه آنفا‪ ،‬أو فريقا غيه يقول‪ :‬إن الياة تتطور‪ .‬فكيف إذن يكن أن‬
‫يشرع ال أو يشرع رسوله للجيال التالية لعصر القرآن؟ إن ما كان يصلح منذ ألف وأربعمائة عام ل‬
‫يصلح اليوم‪ .‬وما كان حركة تقدمية ثورية ف ذلك التاريخ يصبح اليوم أمرا رجعيا عتيقا متجمدا ل ياري‬
‫التطور ول يصلح للحياة‪ ..‬ومن ث قال الرسول صلى ال عليه وسلم هذه الكلمة ليفتح الباب للتطور‪ ،‬ول‬
‫يقف بالناس عند تشريعات وتنظيمات قد اقتضتها بيئة معينة وظروف معينة‪ ،‬وإنا يتركهم يشرعون‬
‫وينظمون فيما هم أدرى به من المور‪.‬‬
‫" التطور "‪ ..‬ويح الناس من التطور!‬
‫إنه هوس يصيب هذا القرن العشرين! هوس ييّل إليهم أن الياة كلها بل قواعد‪ ،‬والكون كله بل ناموس!‬
‫لقد كانت فكرة التطور اكتشافا جديدا بالنسبة لوربا ف تاريها الديث‪ ،‬بعد أن غرقت فترة طويلة ف‬
‫ظلم العصور الوسطى‪ ،‬ل تعلم شيئا ول تساير ركب الياة‪ .‬وف القرن التاسع عشر امتلت رءوس‬
‫الفكرين والعلماء بفكرة التطور‪ ،‬ف العلم والسياسة والقتصاد والجتماع‪ ،‬ث تلقفتها الماهي ف ناية‬
‫القرن الفائت وف خلل هذا القرن‪ ..‬تلقفتها با يشبه اللوثة‪ ..‬تفسر با كل شيء وتفسد با كل شيء!‬
‫بينما العال السلمي ل يكن غريبا عن فكرة التطور وآثاره ف حياة الماعة‪ .‬فقد فطن إليها ابن خلدون ف‬
‫مقدمته وعالها علجا " علميا " وافيا يشهد له بالباعة والتدقيق‪ .‬ولقد فطن إليها عمر بن عبد العزيز ف‬
‫صدر السلم إذ يقول " يدّ للناس من القضية بقدر ما يد لم من القضايا " وفطن إليها الفقه السلمي‬
‫كله‪ ،‬وهو يضع التفريعات الدائمة ف كل شئون الياة النامية التجددة جيلً بعد جيل‪.‬‬
‫ولكن الفكر السلمي ل يرج عن صوابه وهو يس بالتطور ويساوق خطاه‪ .‬فلم يفهم من التطور أن‬
‫الياة بل قواعد‪ ،‬والكون بل ناموس! ل يفهم منه أن ينفصل عن الصول الثابتة وينطلق بل دليل!‬
‫وجاء " العلم " ف القرون الخية يؤيد الفهم السلمي للتطور‪ ،‬ول يؤيد اللوثة الت أصابت الماهي ف‬
‫أوربا‪ ،‬وأشباه العلماء هناك‪ ،‬وانتقلت عن طريقهم إل الشرق ف عصرنا الخي‪.‬‬

‫***‬
‫الياة البشرية تتطور‪ ،‬والكون كله يتطور‪ ..‬نعم! ولكن هذا ل ينفي وجود قواعد ثابتة ف هذا الكون وف‬
‫الياة البشرية‪ ..‬أولا وأبسطها‪ ،‬وأقربا إل البديهة‪ ،‬صدور الكون كله عن إرادة ال الالق الدبر‪ ،‬وانتظام‬
‫سننه ونواميسه انتظاما دقيقا معجزا ل يل ثانية ول ثالثة‪ ،‬ول قيد شعرة ف هذا الفضاء الائل الرهيب!‬
‫السدم تتطور إل نوم‪ ..‬والنجوم تتطور وهو تدور‪ ،‬فتسخن وتبد‪ ،‬وتتكور وتنبعج‪ .‬وتسرع وتبطئ‪..‬‬
‫ولكن شيئا واحدا من ذلك ل يدث بل قانون‪ ،‬وشيئا واحدا من ذلك ل يدث مالفا للناموس الناموس‬
‫الذي يكشف العلم طرفا منه كلما تيسرت له الوسائل وأتيحت له الدوات‪.‬‬
‫ومموعتنا الشمسية الصغية الت نن جزء منها‪ ،‬تتبع نواميس الكون وهي تتطور‪ ،‬وتسي على النهج الذي‬
‫أراده لا ال منذ الزل‪ ،‬ل تنحرف عنه لظة إل يي أو شال‪.‬‬
‫والرض الت نعيش عليها تكمها ‪ -‬ف تطورها ‪ -‬النواميس الزلية الت تكم الكون‪ ،‬فيسي كل شيء على‬
‫سطحها كما أراده ال وفق قانونه الذي ارتضاه‪.‬‬
‫الكسجي هو الكسجي‪ ..‬واليدروجي هو اليدروجي‪ .‬ف الرض والشمس وجيع النجوم سواء‪ .‬والاء‬
‫قدر من الكسجي وقدران من اليدروجي (أيد ‪ )2‬ل تتغي هذه النسبة سواء ركب الاء ف العمل أم‬
‫هطل من السماء‪ ..‬والطر هو الطر‪ ..‬بار يصعد من البحر‪ ،‬فينطلق إل الو‪ ،‬فيتكاثف‪ ،‬فيتركز ويثقل‪،‬‬
‫فينل إل الرض‪ ..‬سواء حدث ذلك " طبيعيا " أم أنزل صناعيا من السماء‪ ..‬ل يتغي قانون واحد من‬
‫قوانينه‪ ،‬ول يتل ف مساره عن الناموس‪.‬‬
‫والياة على الرض كذلك‪ ..‬تطورت‪ ..‬ل نعلم علم اليقي كيف‪ ،‬وإن كنا ناول أن نصل إل اليقي‪..‬‬
‫ولكنا ند من أباث العلم ما يؤكد لنا تأكيدا قاطعا أن الياة ل تنشأ على الرض مصادفة‪ ،‬ول يكن‬
‫استمرارها مئات اللوف من السني كذلك بالصادفة‪ .‬وإنا هو نتيجة النظام الحدد القرر الذي بنيت به‬
‫الجموعة الشمسية وأخذت به مسارها ف الفضاء‪ .‬بيث لو اختلت نسبة واحدة من النسب لنعدمت‬
‫بذلك الياة‪ ..‬فهي إذن إرادة االالق‪ ،‬وتدبيه الدقيق العجز‪ .‬ولوله ل تقم حياة[‪.]119‬‬
‫والنسان بعد ذلك‪ ..‬النسان الذي مله غرور العلم‪ ..‬وأصابته لوثة التطور‪ ..‬ذلك النسان يتطور‪ .‬تتغي‬
‫حياته يوما بعد يوم‪ ،‬ويستحدث جديدا كل يوم‪ .‬ولكنه مع ذلك خاضع للنواميس‪ .‬النواميس الت تدخل‬
‫التطور ف حسابا‪ ،‬فإذا التطور ذاته جزء من القانون الثابت الذي يكم الكون ويكم الياة!‬

‫***‬
‫يتطور الكون‪ ..‬فهل تغيت طبيعته؟ هل تغي تكوّنه من طاقة أو مموعة من الطاقات؟‬
‫كل! ل يقل بذلك أحد من العلماء! وإنا تتغي " صوره " و " حالته " ويظل جوهره ثابتا على ما هو‬
‫عليه‪.‬‬
‫ث‪ ..‬هل تغيت القيقة السابقة على ذلك‪ ..‬حقيقة الزل والبد وهي صدور الوجود عن إرادة ال؟‬
‫كل! ل يقول بذلك أحد من العقلء! فالكون ف وجوده‪ ،‬كالكون ف تطوره‪ .‬كالكون ف فنائه حي يقدر‬
‫له الفناء‪ ،‬صادر عن إرادة ال‪ ،‬مرتبط دائما بإرادة ال‪.‬‬
‫والنسان كذلك يتطور‪ ..‬فهل تتغي طبيعته؟ أم تتغي صوره وحالته ويثبت الوهر الذي فيه؟‬
‫هل تتغي القائق الزلية ف تكوينه‪:‬‬
‫أنه صدر عن إرادة رَّبكَ‪َ ( :‬وإِذْ قَالَ َرّبكَ ِل ْلمَلئِ َكةِ إِنّي جَا ِعلٌ فِي الْأَ ْرضِ َخلِيفَةً) [‪.]120‬‬
‫وأن البشر جيعا من نفس واحدة‪( :‬يَا أَيّهَا النّاسُ اّتقُوا َربّ ُكمُ اّلذِي َخلَقَ ُكمْ ِمنْ َن ْفسٍ وَا ِح َدةٍ) [‪.]121‬‬
‫وأن من هذه النفس ‪ -‬أي من جنسها ‪ -‬قد خلق " الزوج " الذي يكملها ويلتقي با ويوائمها‪َ ( :‬خَلقَ ُكمْ‬
‫مِنْ َنفْسٍ وَا ِحدَةٍ وَ َخَلقَ مِنْهَا زَوْ َجهَا) [‪َ ( ]122‬ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ َخَلقَ لَ ُكمْ ِمنْ أَْنفُسِ ُكمْ أَ ْزوَاجا لَِتسْكُنُوا إِلَيْهَا‬
‫وَ َج َعلَ بَْينَ ُكمْ مَوَدّةً وَرَ ْح َمةً) [‪.]123‬‬
‫وأن من هذه النفس وزوجها انبث اللق كلهم والقبائل والشعوب ( َخَلقَ ُكمْ مِنْ َنفْسٍ وَا ِحدَةٍ وَ َخَلقَ مِنْهَا‬
‫زَ ْوجَهَا وََبثّ مِنْ ُهمَا رِجَالً كَثِيا َوِنسَاءً) [‪َ ( .]124‬و َجعَلْنَا ُكمْ ُشعُوبا َوقَبَاِئلَ لَِتعَا َرفُوا إِنّ َأكْرَمَ ُكمْ عِْندَ اللّهِ‬
‫أَْتقَا ُكمْ) [‪.]125‬‬
‫وأن النسان قبضة من طي الرض ونفخة من روح ال‪ .‬قبضى من طي الرض تتمثل فيها عناصر الرض‬
‫الادية من حديد وناس وكلسيوم وفوسفور وأكسجي وإيدروجي‪ ،‬وتتمثل فيها شهوات الرض ودوافع‬
‫الرض‪ .‬ونفخة من روح ال تتمثل فيها روح النسان الشفيفة القادرة على السمو والرفعة‪ ،‬كما تتمثل فيها‬
‫الرادة الضابطة والقدرة على الختيار‪( :‬وََل َقدْ َخَلقْنَا الْأِْنسَانَ مِنْ سُللَةٍ ِمنْ ِطيٍ) [‪َ( ]126‬فإِذَا سَوّيْتُهُ‬
‫ختُ فِيهِ ِمنْ رُوحِي َفقَعُوا لَهُ سَا ِجدِينَ) [‪( ]127‬وََن ْفسٍ َومَا سَوّاهَا فَأَْل َهمَهَا ُفجُو َرهَا وََتقْوَاهَا َقدْ َأ ْفلَحَ‬‫وََن َف ْ‬
‫مَنْ َزكّاهَا َوَقدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا) [‪.]128‬‬
‫هل تتغي هذه القائق الزلية مهما تغيت " مظاهر " الياة؟ أم تتغي الظاهر والصل ف ثبوته ل يزال؟‬
‫وهل النسان ف ذلك إل بضعة من الناموس الكب الذي يكم الكون ويكم الياة؟ بضعة مكومة بذلك‬
‫الناموس‪ ،‬خاضعة لرادة ال؟‬
‫كل ما ف المر أن ال قد ميز هذا الخلوق وكرمه حي نفخ فيه من روحه؟ فجعله " واعيا " لعملية الثبوت‬
‫وعملية التطور‪ .‬وجعل له الرادة الت يتار با طريقه‪ :‬مع الط الواصل الهتدي إل ال‪ ،‬أو مع الط الضال‬
‫النقطع عن ال‪ .‬وجعل هذا الزدواج ف طبيعته هو الناموس الثابت بالنسبة لدوره ف الياة‪ ،‬الذي يترتب‬
‫عليه الزاء ف أخراه‪َ( :‬قدْ َأ ْفلَحَ مَنْ َزكّاهَا َوَقدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا)‪.‬‬

‫***‬
‫ف النسان إذن عنصر ثابت ل يتغي مهما تغيت ظروفه‪ ،‬ومهما تطورت حياته على الرض‪ .‬لنه يتصل‬
‫بقائق أزلية ل يدركها التغيي‪.‬‬
‫وفيه إل جانب ذلك عنصر متغي‪ .‬أو قل‪ " :‬صور " متغية من الوهر الثابت‪ ،‬و " حالت " متطورة‬
‫للكيان الدائم‪ .‬ولكنها ف تغيها وتطورها ل ترج بالنسان عن كونه النسان‪ .‬ول تنفصل ف لظة واحدة‬
‫عن كيانه الدائم‪ ،‬بكم ترابط النفس النسانية وشولا لكل ما يشتمل عليه النسان‪.‬‬
‫ومن هذا الثبوت وهذا التطور ف فطرة البشر ‪ -‬وهي كذلك فطرة الكون ‪ -‬نشأت ف حياة النسان قواعد‬
‫ثابتة وبانبها أحوال متغية‪ ،‬ولكنها ف تغيها ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬ل تنفصل عن القواعد الثابتة ف الياة‪.‬‬
‫فقد ترتب على القائق الزلية الالدة حقائق أخرى‪ ،‬فصارت مثها خالدة دائمة ل تتغي‪.‬‬
‫ترتب عليها أن يس اللق ‪ -‬بفطرتم ما دامت سليمة ‪ -‬يسوا بعظمة ال بالقياس إل ضآلتهم‪ ،‬فيعبدوه‪،‬‬
‫ويستمدوا منه العون ف الياة‪.‬‬
‫وترتب عليها أن يس الزوجان ‪ -‬اللذان خلقهما ال من نفس واحدة بني والتصاق بعضهما ببعض‪ ،‬وأن‬
‫وجودها ل يتكامل إل متحدين متوادين متراحي‪.‬‬
‫وترتب عليها أن يس الناس ‪ -‬حي تصفو سريرتم وتنظف نفوسهم ‪ -‬بالخوة ف النسانية‪ ،‬إذ هم جيعا‬
‫من نفس واحدة ذات رحم مع الميع‪ ،‬فيتعاونوا ويتشاركوا ف الي‪..‬‬
‫تلك عناصر دائمة لنا ترتكز على أسس دائمة‪.‬‬
‫وثة عناصر أخرى تدّ كل يوم‪ ،‬نتيجة تطور العلومات البشرية‪ ،‬والتفاعل الدائم بي العقل والكون‪ ،‬ياول‬
‫أن يتعرف أسراره‪ ،‬ويستكنه كنهه‪ ،‬ويستخرج كنوزه‪ ،‬ويسخرها لنفعته‪ ،‬فتقوم أوضاع جديدة‪ ،‬وينتقل‬
‫الناس من بداوة إل حضارة‪ ،‬ومن زرع إل صناعة‪ ،‬ومن صناعة إل‪...‬؟‬
‫والسلم دين الفطرة ياري البشرية ف جانبيها جيعا‪ ،‬با يناسبهما جيعا‪.‬‬
‫الانب الول يعطيه شرائع ثابتة‪ .‬والانب الخر يعطيه أسسا ثابتة‪ ،‬ث يترك له مال التطور الدائم ف إطار‬
‫هذه السس الثابتة‪ ،‬متمشيا ف ذلك مع فطرة الكون وفطرة الياة‪.‬‬
‫الانب الول يعطيه العقيدة‪..‬‬
‫والعقيدة ليست ثابتة ف السلم وحده‪ ،‬بل ثابتة ف جيع الديانات منذ أرسل ال الرسل للناس يربونم‪،‬‬
‫ويعلمونم حقيقة أزلية واحدة‪ :‬أن ال واحد‪ .‬وأن اللق كله خلقه‪ .‬وأن حق اللوهية على العباد أن يعبدوه‬
‫ويلصوا له الدين‪.‬‬
‫وتلك العقيدة الواحدة ل تتغي‪ ،‬لن الساس الذي تقوم عليه ثابت ل يتغي‪ .‬وقد عن القرآن ببيان هذه‬
‫القيقة‪ ،‬وخاصة ف السور الت تستعرض رسالة الرسل الواحدة الكررة على مر الزمان كسورة هود‬
‫وسورة العراف‪.‬‬
‫وإل جانب العقيدة يعطيه كذلك تشريعات الزواج والطلق‪ ،‬والدود‪ .‬وتشريعات مدنية متلفة‪.‬‬
‫الزواج والطلق ‪ -‬أو العلقة بي الرجل والرأة عامة ‪ -‬عنصر ثابت له تشريع ثابت‪ ،‬لنه يرتكز على أسس‬
‫ل تتغي‪ .‬هي الرجل من جهة والرأة من جهة‪ ،‬والعلقة الشديدة الت تذب كلً منهما للخر وتشده إليه‪.‬‬
‫والياة تتغي ظروفها‪ :‬الجتمع يتغي‪ .‬والقتصاد يتغي‪ .‬ونظم التعليم تتغي‪ .‬والسياسة تتغي‪ .‬ولكن ذلك ل‬
‫يغي شيئا من القيقة الت تكمها الفطرة بوظائفها وعملياتا اليوية‪ ،‬وغددها وكيماوياتا‪ ،‬وهي أن الرجل‬
‫رجل والرأة إمرأة‪ ،‬ول غن لحدها عن الخر‪ ،‬ول انفصال ول استقلل! [‪.]129‬‬
‫والدود ‪ -‬أي العقوبات الفروضة على الرائم ‪ -‬عنصر ثابت كذلك‪ ،‬لنه يرتكز على شيء ثابت‪ :‬هو‬
‫علقة النسان بأخيه النسان ‪ -‬أو علقة الفرد بالجتمع ‪ -‬وحرمة كل إنسان الت ل يوز أن يعتدي عليها‬
‫الخرون‪.‬‬
‫والياة تتغي ظروفها‪ :‬ارتباطات العمل تتغي‪ .‬وعلقات النتاج تتغي‪ .‬وعلقات النسان " باللة " تتغي‪.‬‬
‫والنظم السياسية تتغي‪ .‬ولكن ذلك ل يغي شيئا من القيقة الثابتة الت تكمها وقائع التاريخ البشري‪ .‬وهي‬
‫أن الناس كلهم من نفس واحدة‪ ،‬وعلقة الرحم تربط الميع [‪.]130‬‬
‫وكذلك بعض التشريعات الدنية لا صفة الثبوت كالبيع واليارة والرهن والدين والوكالة‪ ..‬إل فكانت لا‬
‫تشريعات ثابتة‪ .‬وما يلفت النظر ف هذا الشأن أن التشريع الفرنسي الديث ف السائل الدنية قد أخذ كثيا‬
‫عن فقه مالك‪ ،‬إذ كان أقرب الفقهاء ‪ -‬جغرافيا ‪ -‬إل فرنسا بسسب انتشار مذهبه ف الشمال الفريقي!‬
‫كما أن الفقه الورب كله قد أخذ عن الفقه السلمي حي أعطى الرأة أخيا جدا حق اللك والتعامل‬
‫والتصرف الر ف الشئون الدنية [‪.]131‬‬
‫أما الانب التطور من الياة البشرية‪ ،‬وهو ف الوقت ذاته متصل بالانب الثابت‪ ،‬فهو سياسة الكم‬
‫وسياسة الال‪ ،‬و " شكل " الجتمع أو شكل البيئة‪ ،‬من بدوية إل زراعية إل تارية إل صناعية‪ ...‬إل‪.‬‬
‫وتلك أمور كما قلنا تتطور بتطور العقل البشري وتفاعله مع الكون‪ ،‬ولكنها ف تطورها ل تنفصل عن‬
‫الصل الثابت‪ ،‬ول يكن أن تنفصل‪ ،‬بكم وحدة النسان وترابطه‪ ،‬واستحالة تزئته وتقطيعه وفصل بعضه‬
‫عن بعض‪.‬‬
‫وف هذه المور كان السلم حكيما غاية الكمة‪ ،‬مساوقا للفطرة‪ ،‬ملبيا لاجاتا‪ ،‬فوضع الطوط العريضة‬
‫ول يضع التفصيلت‪ .‬أو وضع " الطار " الذي يريد للبشرية أن تتطور ف حدوده‪ ،‬وترك لكل جيل من‬
‫الجيال التعاقبة أن يضع " الصورة " ف داخل الطار‪ .‬الصورة الت تناسبه‪ ،‬وتتفق مع ظروفه الادية ومبلغ‬
‫من العلم والنتاج‪ .‬بشرط واحد‪ :‬هو أن تكون الصورة على قدر الطار‪ ،‬ل أكب منه فيتحطم‪ ،‬ول أصغر‬
‫منه فيبدو حولا الفراغ‪.‬‬
‫ف سياسة الكم وضع أساسي‪ :‬العدل والشورى‪:‬‬
‫( َوإِذَا حَ َكمُْتمْ بَْينَ النّاسِ أَنْ َتحْ ُكمُوا بِاْل َع ْدلِ) [‪]132‬‬
‫( َوَأمْ ُر ُهمْ شُورَى َبيْنَ ُهمْ) [‪.]133‬‬
‫ث ل يدد طريق الشورى‪ .‬وهل يكون ملس واحد أو ملسان‪ .‬وهل ينتخب الجلس أو يعي‪ .‬وهل يكون‬
‫التمثيل شخصيا أو مهنيا‪ ..‬إل‪ ..‬إل وترك ذلك للتجارب البشرية واجتهادها ف التطبيق‪.‬‬
‫وف سياسة الال وضع مموعة من السس ذات طابع واحد يمعها ف النهاية‪ .‬هو ضرورة اشتراك الناس ف‬
‫الي‪ ،‬بيث ل يكون هناك مروم‪.‬‬
‫قرر القرآن أن الال ف الصل مال ال‪ ،‬وهو أعطاه للجماعة‪( :‬آمِنُوا بِاللّهِ َورَسُولِهِ َوأَْن ِفقُوا ِممّا َج َعلَ ُكمْ‬
‫خلَ ِفيَ فِيهِ) [‪( ]134‬وَآتُو ُهمْ ِمنْ مَالِ اللّهِ اّلذِي آتَا ُكمْ) [‪.]135‬‬ ‫مُسَْت ْ‬
‫وقرر أن الماعة هي صاحبة الق الول فيه‪ ،‬وأن الفرد " موظف " فيه‪ ،‬يستحقه بسن قيامه عليه‪ ،‬فإذا ل‬
‫يسن القيام عليه عاد حق التصرف فيه إل الماعة‪( :‬وَل تُؤْتُوا السّفَهَاءَ َأمْوَالَ ُكمُ الّتِي َجعَلَ اللّهُ لَ ُكمْ قِيَاما)‬
‫[‪.]136‬‬
‫وقرر أن ال يكره حبسه ف يد فئة قليلة من الناس تتداوله فيما بينها ويرم منه مموع المة (كَيْ ل يَكُونَ‬
‫دُولَةً بَْينَ الَْأغْنِيَاءِ مِنْ ُكمْ) [‪]137‬‬
‫وقرر فريضة الزكاة على الموال حقا معلوما للفقراء‪ ،‬تأخذه لم الدولة وتعطيه لم من بيت الال‪( :‬إِّنمَا‬
‫صدَقَاتُ ِللْ ُفقَرَاءِ وَاْل َمسَا ِكيِ وَاْلعَامِِليَ َعلَيْهَا‪]138[ )..‬‬
‫ال ّ‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬الناس شركاء ف ثلث‪ :‬الاء والكل والنار " [‪]139‬‬
‫ويقول‪ :‬لن ينح أحدكم أخاه (أرضه) خي له من أن يأخذ خرجا معلوما " [‪]140‬‬
‫وعمر بن الطاب يقول‪ " :‬لول آخر السلمي ما فتحت قرية إل قسمتها بي أهليها‪ .‬كما قسم النب‬
‫صلى ال عليه وسلم خيب " [‪.]141‬‬
‫ث ل يدد طريقة اشتراك الناس ف مال ال الذي أعطاه للجماعة وهل تكون بتأميم الرافق العامة‪ .‬أم تكون‬
‫بإشراك العمال ف رأس الال‪ ،‬أم تكون بإعطائهم الجور الت تكفل حاجاتم الضرورية الت بينها الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم على حديثه‪ " :‬من ول لنا عملً وليس له منل فليتخذ منلً أو ليست له زوجة‬
‫فليتخذ زوجة‪ ،‬أو ليس له خادم فليتخذ خادما‪ ،‬أو ليست له دابة فليتخذ دابة"[‪.]142‬‬
‫ل يدد صورة معينة من هذه الصور‪ ،‬وترك الجيال التعاقبة تفكر لنفسها ف الصورة الت تناسبها‪ ،‬وتتلءم‬
‫مع إمكانياتا‪ .‬ول يضع ‪ -‬ف سياسة الال أو سياسة الكم ‪ -‬تفصيلت ثابتة جامدة‪ ،‬لكي ل تصطدم‬
‫بالنمو الطرد ف أحوال الماعة‪ ،‬والتطور الستمر فيها‪ .‬ولكنه مع ذلك ل يدع هذه المور تفلت من‬
‫الصول الثابتة‪ .‬ول يدعها للناس يتصرفون فيها بل دليل‪ ،‬بجة أنم أعلم بأمور " دنياهم "! فقد كان هذا‬
‫التصرف الر ‪ -‬ف أوربا‪ ،‬وف خارج الطار السلمي عامة ‪ -‬شناعة بشعة يندى لا جبي النسانية "‬
‫التطورة "! كان القطاع ف أوربا ث كانت الرأسالية بكل ما فيها من مظال غنية عن الوصف‪ .‬وكلها‬
‫حرام ف نظر السلم‪ ،‬فهما يعلن الال ‪ -‬سواء ف صورة أرض أو رأس مال ‪ -‬دولة بي الغنياء‬
‫وحدهم‪ ،‬ويرم منه بقية الناس‪ .‬ث كان اللص منهما هو الشيوعية ‪ -‬أي العبودية الطلقة للدولة‪،‬‬
‫الدكتاتورية الطلقة على الفراد!‬
‫والسلم ‪ -‬كلمة ال لميع البشر على الرض ولميع الجيال ‪ -‬ل يكن ليترك الناس لثل هذا " التطور "‬
‫الذي يرسفون فيه ف الغلل‪ ،‬وإنا يأخذ بيدهم دائما ويرشدهم‪ ،‬حت وهو يترك لم حرية النمو وحرية‬
‫التكيف مع ما يدّ من الوضاع‪ ،‬لكيل يشردوا عن الطريق‪ ،‬ولكي يتفظوا بتحررهم الوجدان الدائم ف‬
‫جيع الوضاع وجيع الحوال‪.‬‬

‫***‬
‫تلك قصة التطور الت ُجنّ با الناس ف القرن العشرين! تطور ف أشكال الياة الظاهرة‪ ،‬وثبات ‪ -‬مع ذلك‬
‫‪ -‬ف الصول‪ ..‬فالسلم ل يغفل ذلك التطور من حسابه‪ .‬ل يقف ف سبيله‪ .‬وف الوقت ذاته ل ينحسر‬
‫عنه ويترك الناس بل دليل‪ .‬إنه يساوق التطور على الدوام ويفظه من التعثر والنراف‪ .‬يفظه برده إل‬
‫القواعد الثابتة ف الياة البشرية‪ .‬إل ال والعقيدة‪ .‬والطار الدائم الذي يرسم العلقة الت ينبغي أن تكون‬
‫بي أفراد النس الواحد‪ ،‬الذين انبثقوا من نفس واحدة‪ ،‬وما تزال تصل بينهم الرحام‪.‬‬
‫وبذلك يكون السلم دين الفطرة‪.‬‬
‫وهو كذلك منهج الياة [‪.]143‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫[‪ ]116‬سورة الشر [ ‪.] 7‬‬
‫سرّ وَأَ ْخفَى " سورة طه [ ‪ ] 7‬انظر فصل‪ " :‬تعبد ال كأنك تراه "‪.‬‬
‫[‪ " ]117‬يَ ْعلَمُ ال ّ‬
‫[‪ ]118‬سورة الاثية [ ‪.] 18‬‬
‫[‪ ]119‬انظر بالتفصيل ف هذا الشأن كتاب " العلم يدعو لليان " تأليف أ‪ .‬كريسي موريسون وترجة ممد صال الفلكي وكتاب " مع ال ف السماء " تأليف‬
‫الدكتور أحد زكي‪.‬‬
‫[‪ ]120‬سورة البقرة [ ‪.] 30‬‬
‫[‪ ]121‬سورة النساء [ ‪.] 1‬‬
‫[‪ ]122‬سورة النساء [ ‪.] 1‬‬
‫[‪ ]123‬سورة الروم [ ‪.] 21‬‬
‫[‪ ]124‬سورة النساء [ ‪.] 1‬‬
‫[‪ ]125‬سورة الجرات [ ‪.] 13‬‬
‫[‪ ]126‬سورة الؤمنون [ ‪.] 12‬‬
‫[‪ ]127‬سورة الجر [ ‪.] 29‬‬
‫[‪ ]128‬سورة الشمس [ ‪.] 10 - 7‬‬
‫[‪ ]129‬ف كتاب " شبهات حول السلم " ف فصل‪ :‬السلم والرأة‪ ،‬بث تفصيلي لعلقة الرجل والرأة وطبيعتها ف السلم‪ ،‬وقد بينت هناك كيف عال‬
‫السلم المر ف عدالة كاملة‪ ،‬وكيف أن " التطور " الزعوم ل يضيف شيئا لذه العدالة أما التطور بعن الفساد اللقي أو بعن الساواة اللية بي الرأة والرجل‪،‬‬
‫فقد كانت له ظروف ملية ف أوربا ‪ -‬شرحتها هناك ‪ -‬وليس " قيمة " حقيقية من القيم النسانية‪.‬‬
‫[‪ ]130‬ف كتاب " النسان بي الادية والسلم " بث مفصل ف نظرة السلم للفرد والجتمع‪ ،‬والرية والعقاب‪ .‬وف هذا الكتاب فصل عنوانه " ادرءوا‬
‫الدود بالشبهات " يعرض العان النسانية الرفيعة ف تشريع الدود السلمي‪.‬‬
‫[‪ ]131‬تقول الشيوعية إن هذه العلقات كلها ل وجود لا إل حيث توجد اللكية الفردية‪ .‬وحيث تلغى اللكية الفردية تزول هذه التشريعات‪ .‬وهذا حق‪ .‬ولكن‬
‫الشيوعية ذاتا قد بدأت تبيح اللكية الفردية من جديد‪ .‬والبقية تأت!‬
‫[‪ ]132‬سورة النساء [ ‪.] 58‬‬
‫[‪ ]133‬سورة الشورى [ ‪.] 38‬‬
‫[‪ ]134‬سورة الديد [ ‪.] 7‬‬
‫[‪ ]135‬سورة النور [ ‪.] 33‬‬
‫[‪ ]136‬سورة النساء [ ‪.] 5‬‬
‫[‪ ]137‬سورة الشر [ ‪.] 7‬‬
‫[‪ ]138‬سورة التوبة [ ‪.] 60‬‬
‫[‪ ]139‬ذكره صاحب مصابيح السنة ف السان‪.‬‬
‫[‪ ]140‬رواه البخاري‪.‬‬
‫[‪ ]141‬رواه البخاري‪.‬‬
‫[‪ ]142‬رواه أحد وأبو داود‪.‬‬
‫[‪ ]143‬انظر ‪ -‬إن شئت ‪ -‬كتاب " التطور والثبات ف حياة البشرية "‪.‬‬

You might also like