Professional Documents
Culture Documents
اليجــــــــابية
في حيــــــــــــاة الداعيـــــــــــة
مقدمة
ولكن لبد في الوقت نفسه ،من مناقشة مسألة قد تترافق مع هذا المفهوم الجيد
والواضح ،إذ أن بعض الممارسات الخاطئة والمبالغة في فهم الطاعة بمفهومها الضيق،
دون أن تترافق بمفهوم ) السمع ( الذي يعني التفهم والدراك والوعي ،والذي غالبا ً ما يرد
في النصوص الشرعية مع الطاعة ،قد أدى إلى ظهور سلبية كبيرة أل وهي اعتماد الدعاة
في عملهم و تنفيذاتهم اعتمادا ً كليا ً على الخطط ،وأن تكون جميع أعمالهم مرهونة بما
يصدر إليهم من توجيه ،دون العتماد على أنفسهم في إيجاد منافذ العمل ،أو اتخاذ زمام
المبادرة إلى الحركة والعطاء ،وإنما اتخاذ الموقف النسحابي وانتظار تنفيذ الوامر
فحسب.
إن هذه السلبية في الدعاة تحتاج إلى مناقشة ودراسة ،لنها أصبحت تشكل عائقا ً في
طريق العمل ،وأحد أسباب الفتور الواضحة .ول يمكن أن يقتصر تعليلها على رواسب
التربية الخاطئة بمفهوم الطاعة المجردة ،رغم أن من المؤكد أن بعض الممارسات
التربوية لها أثر في حصول هذه السلبية ،إضافة إلى تأثير مجموعة أخرى من العوامل،
لعل منها ضعف القابليات الفطرية ،والمناهج التربوية المدرسية القاصرة في مدارس
العالم السلمي ،التي ل تساعد على تفجير الطاقات البداعية مع عدم توفر الدوافع
النفسية والمادية ،وجنوح الفرد في المجتمعات الشرقية إلى النزواء والكسل ،وغير ذلك
من العوامل التي تشكل بمجموعها أثرا نفسيا بالغا في تكون النفس السلبية.
فردية التكليف
إن أول دوافع اليجابية التي يجب أن يتذكرها الداعية هو أن مناط التكليف فردي ،وأن كل
فرد سيحاسب يوم القيامة فردا ً ،وأنه ل تزر وازرة وزر أخرى ،وإن كان المرء يحاسب
عن عمله في الجماعة ،وبعض التكاليف ل تتم إل بجماعة ،أو من خلل تجمع جماعي،
ولكن الحساب بالثواب والعقاب ل يكون إل فرديًا ،ومن اليمان بهذا المنطلق يجب أن
ينحصر تفكير الداعية فيما يجلب له الجر ،ويقربه إلى الطاعة ،دون أن يكون تبعا ،وأن
يمتلك زمام المبادرة إلى الطاعات دون اللتفات إلى عمل فلن أو قول فلن ،ول يجب أن
تقعده نشوة الطاعة ،ول تثبطه أثقال المعصية ،ول ينتظر الذن بالعمل من شخص ما ،إل
ما كان جزءا من خطة ،بل يفكر الداعية بنفسه أنه سيحاسب يوم القيامة عن أعماله،
وعما قدم ،ول يسأل عن الخرين ،كما أن عليه أن ل يرنو ببصره إلى غيره ،فقد يكون لهم
من العذار ما يمنعهم عن شيء ما ،أو ليس لهم من الهمة والطاقة ما يمكنهم من أداء
عمل ما ،و يستطيع هو أداءه ،فل يثبطه الشيطان ،أو تقعد به ثقلة الحياة الدنيا ،والداعية _
بنفس الوقت _ عليه أن ينصب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قدوة عملية أمام
عينيه ،ول يجعل الشخاص الخرين -أيا ً كانوا مثال ً له ،فقد يفتح الله عليه من الهمة أكثر
من الخرين ،أو يوفقه الله _ تعالى _إلى عمل يتفرد به ،أو إلى فضل يؤثره فيه ،فلله في
خلفه شؤون ،وهو المتفضل على عباده ،وقد يختص برحمته من يشاء وكيفما يشاء.
ل تكلف إل نفسك
لقد توارد معنى اليجابية ،وتكرر في القرآن الكريم بصور شتى وأساليب متنوعة ،ليتركز
مفهوم فردية التكليف ،و بالتالي ذاتية العمل ،وما ينعكس عن ذلك من تثبيت مفهوم
إيجابية الداعية في العمل والمثابرة ،ومنها أوضح آية في كتاب الله_ تعالى _ تحدد معنى
اليجابية ،أل وهي قوله تعالى:
"فقاتل في سبيل الله ،ل تكلف إل نفسك ،وحرض المؤمنين ." ...والمعنى واضح في أمر
الله تعالى لنبيه في عدم تكليف أحد إل نفسه ،وأن ل ينتظر إعانة من أحد ،رغم أن
المعلوم من الشريعة أن المة كلها مكلفة بالجهاد ،ولكن المعنى أن يفترض كل مسلم من
المة_ والقدوة في ذلك نبيها_ صلى الله عليه وسلم _أنه وحده المكلف بالداء ،وأن الله
قادر على نصره ،وينحصر واجبه في تحريض المؤمنين.
)كأن هذا المعنى :ل تدع جهاد العدو ،والستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ،ولو
وحدك ،لنه وعده بالنصر..
قال الزجاج :أمر الله تعالى رسوله _ صلى الله عليه وسلم _ بالجهاد ،وإن قاتل وحده،
لنه قد ضمن له النصرة.
وقال ابن عطية :هذا ظاهر اللفظ ،إل أنه لم يجئ في خبر قط ،أن القتال فرض عليه دون
المة مدة ما ،فالمعنى_والله أعلم _ أنه خطاب له في اللفظ ،وهو مثال ما يقال لكل
واحد في خاصة نفسه ،أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له) :فقاتل في سبيل
الله ل تكلف إل نفسك( ،ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده ،ومن ذلك قول
النبي _صلى الله عليه وسلم " :والله لقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي " ،وقول أبي بكر _
وقت الردة :-ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي ([1]1
1
فلينظر _ بتأمل _لستنباط القرطبي )رحمه الله( أن يجاهد المسلم -ولو وحده -إقتداء
برسول الله صلى الله عليه وسلم ،-وما أدركه أبو بكر -رضي الله عنه -لليجابية من
خلل النصوص.
موقف من هدهد
ولعل كذلك إحدى الصور البليغة التي يستشهد بها من القرآن الكريم قصة الهدهد مع نبي
الله سليمان -عليه السلم ،-إذ يبرز مفهوم اليجابية واضحا ..إذ كيف سار الهدهد بمفرده
دون تكليف مسبق ،أو تنفيذ لمر صادر ،و جلب خبرا للقيادة المؤمنة أدى إلى دخول أمة
كاملة في السلم ،وبالطبع فإن تقفد المير للتباع ،وأخذه المر بالحزم ،ثم المحاسبة،
وتبين العذر ..كل ذلك من أسس الدارة ،وقواعد التخطيط ،ومناهج التربية ،وقد وصف
القرآن الكريم عمل هذا الهدهد بقوله" :فمكث غير بعيد ،قال أحطت بما لم تحط به،
وجئتك من سبأ بنبأ يقين .إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش
عظيم "[2]2
وبالطبع ،فل يعني الستدلل :الحرص على التسيب ،وإنما المقصود الخذ بمعنى اليجابية
الهادفة بضوابطها ،دون الخروج على أهداف الجماعة ووسائلها ،أو مبادئها العامة ،أو أن
تكون على حساب الوامر والعمال الراجحة ،وما إلى ذلك مما هو معلوم ،بل وإن نفس
القصة لتدل على ذلك حيث سمة اليقظة والدقة في العمل ،وتفقد الفراد والحرص
عليهم ،وضرورة الطاعة والمحاسبة عليها ،ثم الحزم القيادي وعدم التسيب في معالجة
المور ،ثم الصغاء للتباع ومعالجة المواقف ،وغير ذلك مما هو ليس مجال الستدلل له،
ولكن الستدلل لطبيعة الهدهد صاحب الذكاء والوعي والدراك واليمان ،حيث استغل
فرصة ما ليبلغ خبرا ً مهما ،حرصا ً منه على تبليغ الرسالة ،وطمعا ً في نشر التوحيد ،مع
براعة في حسن الداء ،وجودة العرض ،وشجاعة العتذار.
وما اختيار القصة إل للستدلل بها ،كي يؤخذ من ثناياها ثلثة أمور يستنبط
بالدنى منها على العلى
فالداعية أولى من الهدهد بالعمل اليجابي ،والسعي وراء المصالح ،والبحث عن
الخير ،فما من أفضلية خاصة لهذا الطائر العتيادي ،إذا تجاوزنا السرائيليات أو
المبالغات التي ل تسندها النصوص ،والمؤمن الداعية أدعى أن يقوم بالعمل المثمر،
دون انتظار أوامر أو تعليمات من المير.
والنظر إلى قيادات العمل السلمي في عدم توقعها القيام بكل الخطط ،وتوجيه
جميع الوامر أولى ،فهذا نبي الله المؤيد بالوحي من جهة ،وسخرت له الجن والطير،
لم يكن قادرا ً على الحاطة بجميع المور ،ولم يمكن ملما ً بجميع المعلومات ،فاحتاج
إلى معلومة صغيرة ،من طائر صغير ،فكانت إيجابية التابع عونا ً لعمل المير.
وكذلك يستدل بالعمل الصغير _ كنبأ ومشاهدة قوم يعبدون الشمس من دون الله
_ للهتمام بما هو أكبر من ذلك ،وقد تقوم إيجابية الداعية بجلب منافع أكبر من
الخبار ،وأهم من الشواهد.
2
وهكذا يستدل على التابع والمتبوع ونوع العمل من قصة الهدهد لستلهام ما
ينبغي أن يكون عليه الواقع الدعوي ،من إيجابية الدعاة ،وعدم العتماد _ في كل أمر _
على المراء ،مع تنوع العمال ،وعدم استصغار ما دقّ منها.
وقال ابن الجوزي :قد يكون النسان صحيحا ،ول يكون متفرغا ً لشغله بالمعاش ،وقد
يكون مستغنيا ً ول يكون
صحيحا ً ،فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون ،وتمام ذلك أن الدنيا
مزرعة الخرة ،وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الخرة ،فمن استعمل فراغه وصحته
في طاعة الله فهو المغبون ،ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون ،لن الفراغ
يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم ،ولو لم يعقبهن إل الهرم...
وقال الطيبي :ضرب النبي _ صلى الله عليه وسلم _ للمكلف مثل ً بالتاجر الذي له رأس
مال فهو يبتغي الريح مع سلمة رأس المال ،فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله،
ويلزم الصدق والحذق لئل يغبن ،ومجاهدة النفس وعدو الدين ،ليريح خيري الدنيا والخرة،
وقريب منه قول الله تعالى " :هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم " اليات،
وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ،ومعاملة الشيطان ،لئل يضيع رأس ماله مع الريح " ][3
3
3
بصير يخطط لحرب عصابات بعيدا عن بنود صلح الحديبية ،وعمر بن الخطاب يقرب سيفه
في نفس الهدنة من أبي جندل طمعا في أن يستله ويقتل أباه دون مؤاخذة على نقض
المعاهدة ،و يستلم خالد بن الوليد الراية يوم مؤتة بلتأمير ،رضي الله عنهم أجمعين.
والمتتبع لمعارك القادسية واليرموك ،والجسر والبويب ،يجد لكل صحابي فيها موقفا
مشهودا.
وللصحابة والتابعين بطولت وجولت ،نستل منها فقط قصة ذلك المجهول
في القادسية صاحب البداع عند ملقاة الفرس حيث نفرت خيل المسلمين من الفيلة..
)فعمد رجل منهم فصنع فيل من طين ،وأنس به فرسه ،حتى ألفه ،فلما أصبح :لم ينفر
فرسه من الفيل ،فحمل على الفيل الذي كان يقدمها ،فقيل له :إنه قاتلك ،قال :ل ضير أن
أقتل ،ويفتح للمسلمين([4]4
ولو ترك الجانب العسكري ،لرأينا في الجانب القتصادي ذلك الصحابي الذي تؤرقه كثرة
أبناء المهاجرين والنصار فينقل زراعة القمح للحجاز ،وعبد الرحمن بن عوف يختبر
السوق ،فيصفق لنفسه حتى ل يكون عيال ً على غيره ،وكل ذلك كان يتم دون أوامر ،بل
بمبادرات من الصحابة أنفسهم ،رغم اليمان التام بكفاية القائد المؤيد بالوحي ،ورغم
الستعداد التام للطاعة المطلقة ،وذلك ليمانهم الجازم بضرورة العمل اليجابي.
وكذلك في إطار الفكر والتربية يسارع عبد الله بن عمرو لتدوين الحديث،
وزيد ابن ثابت لجمع القرآن ،إضافة إلى مسارعته لتعلم العبرانية والسريانية إذ قال عن
نفسه:
) ...قال لي رسول الله :أتحسن السريانية؟ قلت :ل ،قال :فتعلمها ،فتعلمتها في سبعة
عشري وما([5]5
وابن عباس يجد بغيته الدعوية في الخروج للسواق والسلم على الناس ،وصحابية تطالب
الرسول -صلى الله عليه وسلم -بحق النساء فتجمعهن للسماع ،وتنقل أسماء بنت عميس
بعض تجارب أهل الحبشة في كفن المرأة ..وغير ذلك.
وفي الطار الجتماعي ،يسابق بعضهم بعضا ً في التزاور والضيافة ،ويتحاور
أبو الدرداء مع سلمان ليبت الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ في أمر المناقشة حول
حقوق العيال وقيام الليل.
وللجدد .. ..مواقف
وفي تاريخ من أسلم من النصارى عبر التاريخ ،قصص وعبر ،ومبادرات إيجابية ،وقصص
الندلس طافحة بهذه المثلة ،وقبلها ما حصل عند الروم ،وبينها مبادرات في إفريقية ،أو
في فتوحات العثمانيين في أوروبا ،كقصة البطل اللماني _ صانع المدافع _ الذي استشهد
في معارك جزيرة رودس ،وكل هؤلء البطال لهم سلف في عمل النجاشي _ رحمه الله
_ الذي أسلم ،وظل في قومه.
ويكتفى هنا بقصة المير القاضي أبو محمد عبيد الله بن صليعه ،الذي قرر مع رعيته
النصارى ،أن يخدع الفرنج ويظهر أمامهم بمظهر الخائن ،ووعدهم أن يعينهم إن هم تسللوا
4
5
إلى برج سماه لهم ،فكان من قائد الفرنج أن انتدب من شجعانهم ثلثمائة ،فطالعهم
النصارى في حبال ،وكلما طلع واحد ،قتله ابن صليعه ،حتى أباد الثلثمائة ...ثم حاصروه،
ودكوا برجه ،فأصبح وقد بناه في الليل([6]6
فانظر إلى العزيمة في الداء ،واليجابية في العمل ،دون النظر لما يقول
الخرون ،أو حبا ً لشهرة يراها المسلمون ،وللقصة تفصيل -ل مجال له هنا -كما أنها غيض
من فيض ،ولكن يكتفى بالقليل اعتبارا ً بها ،ودفعا للدعاة للبحث والنظر.
6