Professional Documents
Culture Documents
حول اختلف التوظيف السياسي للِمخرقة بين النظام العالمي الجديد والقديم
ل تستطيع السلطة ،أية سلطة ،أن تقف وحدها دون خطاب ما يشرعن وجودها .فالقوة العارية يمكن أن تكسب معركة أو حرب،
ويمكن أن تسهم باحتلل بلد أو إقامة إمبراطورية ،أما الحفاظ على السلطة ،فيحتاج مبررًا مقنعًا يخرس المحكومين ويوحد
الحاكمين ،أي يحتاج لحتلل العقل والفؤاد .فالسلطة التي تستنزف نفسها في معركة يومية ل تنتهي ل يمكن أن يكتب لها البقاء،
حتى لو كانت سلطة أمريكا في فيتنام أو سلطة الكيان الصهيوني في جنوب لبنان .فخطاب "الرسالة الحضارية" مكن
ل من أن تحكم مساحات شاسعة وعشرات المليين من المسَتعَمرين ببضعة آلف من الجنود والموظفين المبراطورية البريطانية مث ً
النكليز فحسب .وخطاب الديموقراطية وحقوق النسان يمثل القناع اليديولوجي للمبراطورية المريكية اليوم .والخطاب
الصليبي الملفق كان الذريعة اليديولوجية لما اسماه العرب عن وجه حق في القرون الوسطى :غزوات الفرنجة ،لنهم لم يعترفوا
ل.
بأن تلك الغزوات تعبر عن المسيحية فع ً
وبدون خطاب مقنع للشعوب المحكومة بعدل أو بظلم ،وموحٍد للشعوب الحاكمة ،ل يمكن أن ينعم مركز المبراطورية بالستقرار،
بل سوف يستهلك نفسه دومًا في معارك دموية ل نهاية لها .فل مناص إذن من اقتناع المحكوم بسلطة الحاكم الجنبي بالنهاية لبقاء
تلك السلطة ،ول مفر بالتالي من المقاومة في ميدان الفكر والثقافة ،وليس فقط في ميدان الحرب ،إذا أرادت الشعوب أن تتخلص من
الهيمنة الخارجية .فالهيمنة الخارجية قد تدخل بحجة القوة ولكنها ل تبقى إل بقوة الحجة ،ولذلك ،ل يمكن أن نفهم الموقف السلبي
لبعض القوى السلمية في العراق من كل مفهوم "الديموقراطية" والنتخابات اليوم إل ضمن هذا السياق ،سياق مقاومة الهيمنة
الخارجية التي حاولت استغلل الستفتاءات والنتخابات وما شابه لتشرعن وجودها؛ فإعلن تلك القوى رفض الديموقراطية
بالجملة هكذا لم يكن مطروحًا عندها بهذه الحدة من قبل مساخر المهرجانات "الديموقراطية".
ومن أصناف السلطة الخبيثة والخطاب الملفق ،تحتاج السلطة اليهودية في العالم اليوم بدورها إلى خطاب عالمي يشرعن وجودها
ويبرره .وهذا الخطاب هو خطاب "المحرقة" الذي تم تبنيه رسميًا في 1/11/2005في الجمعية العامة للمم المتحدة .وتستغل
ج لتاريخ بشري من "اللسامية" ،ل مجرد فص ٍ
ل دولة "إسرائيل" خطاب الِمخرقة أيضًا لتبرير وجودها ،باعتبار "المحرقة" تتوي ٌ
من فصول الحرب العالمية الثانية.
وقد سبق وتناولنا "المحرقة" وأساطيرها واستخداماتها السياسية في موضٍع أخر ،والزمة العالمية التي سببتها تصريحات الرئيس
اليراني محمود أحمدي نجاد حولها في .12/2005 /8وبعد حصد حركة الخوان المسلمين في مصر عشرين بالمئة من مقاعد
ل فرنسيالبرلمان المصري ،شكك المرشد العام للحركة محمد مهدي عاكف بالِمخرقة في ،22/12/2005مما أثار فورًا رد فع ٍ
رسمي شديد اللهجة ،فهذه القضية باتت من أكثر القضايا تفجرًا في عالم ما بعد الحرب الباردة.
ويلحظ في هذا الصدد أن السلميين على أنواعهم ،وبعض القوميين في الوطن العربي ،أقل تحسسًا من تناول أساطير الِمخرقة
بالنقد من غيرهم ،وأن العلمانيين واليساريين يفضلون تجنب الموضوع وطمسه ،أما اليساريون والعلمانيون الغربيون فتكاد تصيبهم
حالة من الصرع السياسي وانفلت الزنبركات العقلية حالما تطرح "المحرقة" للنقد أمامهم ،ل بل تتحالف اللوبيات اليهودية في
الغرب مع التيار الساسي في اليسار لقوننة تقديس "المحرقة" ورفعها فوق كل معاناة ،باعتبار مناهضة "اضطهاد اليهود" إحدى
الموضوعات "التقدمية" هناك!
ويزيد من هذه المشكلة حدًة أن معظم المؤرخين المراجعين الناقدين للِمخرقة ،باستثناء حفنة منهم مثل سيرج تيون وبيير غييوم
الفرنسيين اليساريين ،جاءوا من خلفيات يمينية عامًة أو حتى يمينية متطرفة ،مع العلم أن المراجعة التاريخية ليست أيديولوجيا بحد
ذاته ،بل منهج علمي ،نقدي تحليلي ،في دراسة وقائع الحرب العالمية الثانية بالتحديد ،يؤدي عند تبنيه إلى نسف أساطير "محرقة
اليهود" من أساسها.
تحاول المعالجة التالية ،بالتالي ،أن تستكشف السباب التاريخية لتمسك اليسار عامًة ،والغربي خاصًة ،بأساطير "المحرقة" منذ أيام
التحاد السوفياتي ،وتحاول من ثم أن تثبت أن دواعي ذلك التمسك قد زال تمامًا منذ انهارت المنظومة الشتراكية ،وتغيرت بالتالي
الوظيفة السلطوية لما يسمى "المحرقة" ،وما يصح أن يسمى عوضًا عن ذلك بالِمخرقة ،أي الشيء الخارق الذي ل يمكن تصديقه.
هذه إذن محاولة لطرح المسألة أمام المتأففين من نقد الِمخرقة بدوافَع يسارية أساسًا ،خوفًا من أن يؤدي نقد "المحرقة" للنجراف
إلى تأييد الفاشية أو النازية التي يفترض أنها ارتكبت جرائم "المحرقة" المزعومة ،وبالتالي النجراف لتأييد الفاشية بشكل عام،
والتعصب والعنصرية ،باسم مقارعة الصهيونية.
ولكن في البداية ،ل بد من التساؤل :هل هي صدفة أن تثار "المحرقة" بهذا الشكل غير المسبوق ،بعد مرور كل هذه العقود على
حدوثها المفترض ،بالذات بعد انهيار التحاد السوفياتي؟! هذا هو السؤال المفصلي الذي يجب أن ُيسأل ...وهو سؤال ترتبط إجابته
بالجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر ،عالم ما بعد الحرب الباردة ،ولكن ل بد للجابة عليه من شيٍء من التاريخ.
بعض المؤرخين المراجعين ،من الخلفية اليمينية المتطرفة ،يوردون الشواهد بأن التحاد السوفياتي كان البادئ باختلق أساطير
"المحرقة" ،ويعزون ذلك إلى زعمهم أن "الشيوعية اختراع يهودي" ،فالصحف والدوريات السوفياتية كانت البادئة بالحديث عن
مدى اضطهاد النازيين لليهود في الحرب العالمية الثانية ،وأفران الغاز ،ومنها اختلق قصص صنع أغلفة مصابيح المنازل Lamp
Shadesمن جلود اليهود.
ولكن التفسير السطحي الذي يربط تبني التحاد السوفياتي لقصص الِمخرقة بزعم أن "الشيوعية مؤامرة يهودية" ،وهو زعم يحتاج
لمعالجة أخرى ،ولكن يمكن دحضه بكل سهولة ،كما نفعل جزئيًا في الفقرات التالية ،يتجاهل حاجة السلطة لخطاب أيديولوجي مقنع،
وفي هذه الحالة ،حاجة السلطة السوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية لخطاب أيديولوجي يبررها خارج حدودها بناًء على مقررات
مؤتمر يالطا لقتسام العالم ،وقد كان ذلك الخطاب هو هزيمة الفاشية ،وليس "المحرقة" بالمناسبة.
في الواقع ،بذل التحاد السوفياتي عشرين مليونًا ،وفي بعض المصادر تجدها اثنين وعشرين أو حتى أربعًا وعشرين مليونًا ،من
ل ،ومن ثم أوروبا .وقد أجلت أمريكا إنزال النورماندي على شواطئ الشهداء لكسر الفاشية ودحرها عن التحاد السوفياتي نفسه أو ً
فرنسا عامين كاملين ،من عام 1942حتى عام ،1944حتى تمكن التحاد السوفياتي من دحر النازيين ،وبدأ يتقدم باتجاه قلب
أوروبا ،فخافت الدول الغربية من أن يتمكن من السيطرة على القارة الوروبية .وكانت أمريكا وبريطانيا ترغب بأن يستنزف
النازيون السوفيات ،والعكس بالعكس ،قبل أن يدخلوا معركة أوروبا بكل قواهم.
المهم ،دفع السوفيات ثمنًا عظيمًا ،لم يدفع مثله أي شعب في التاريخ ،لكسر النازية ،وكانوا قد عقدوا العزم على الحتفاظ بالسيطرة
على أوروبا الشرقية ،كحاجز جغرافي سياسي ،يدافعون به عن بلدهم ،خاصة أن نابليون أيضًا كان قد غزاهم قبلها بأكثر من قرن
ل مع تحريض السياسي البريطاني البارز ونستون تشرشل الدول الغربية عبر أوروبا الشرقية ،وأن خطر الدول الغربية ما يزال ماث ً
لستئناف الحرب ضد التحاد السوفياتي بعد هزيمة ألمانيا النازية.
وكان التحاد السوفياتي إذن يبرر سيطرته على أوروبا الشرقية بالثمن الباهظ الذي دفعه لتحرير شعوب تلك الدول من ألمانيا
النازية ،ولذلك ،كان التحاد السوفياتي يبالغ بوصف الوحشية التي يتسم بها النازيون ،ليجعل من التخلص منهم نصرًا أعظم ،ليس
فقط للسوفيات أنفسهم ،بل للشعوب التي كانوا يحكمونها خارج حدودهم.
ولنلحظ أن أمريكا اليوم عادت لمصادرة هذا الدور التاريخي للسوفيات لتبرر لنفسها بعض سلطتها العالمية زاعمًة أنها هي التي
حررت أوروبا من النازية! وما كانت أمريكا لتجرؤ على ادعاء مثل هذا الدور لنفسها بكل هذه الوقاحة لو كان التحاد السوفياتي ل
يزال قائمًا .فالنصر على الفاشية هو بالساس الخطاب الصيل للسلطة الوروبية السوفياتية ،ل المريكية ،وبما أن التحاد
السوفياتي ذهب مع الريح ،فل بأس من مصادرة بعض متاعه اليديولوجي.
في هذا السياق ،كان الخطاب السوفياتي المعادي للفاشية ،المقنع للشعوب الوروبية المحكومة ،يتألف من عدة عناصر ،إحداها
ظ بهذه الدرجة من الهتمام في الغرب حتى انهار التحاد السوفياتي.
قصة "المحرقة" ،ولذلك من المهم النتباه أن الِمخرقة لم تح َ
فما دام التحاد السوفياتي قائمًا ،كانت المبالغة في الِمخرقة أمرًا يعزز من مكانة ومشروعية السلطة السوفياتية خارج حدودها في
أوروبا المتنازع عليها مع أمريكا .ولذلك ،كان المؤرخون المراجعون في الدول الغربية خلل الحرب الباردة ،الذين يوصفون الن
بأنهم من أنصار النازية والفاشية ،يلقون قدرًا ل بأس به من الدعم والرعاية ،فيما يتعرضون للفلس ولقسى أنواع الضطهاد
اليوم.
ولنوضح أن المؤرخين المراجعين لم يكونوا يلقون الدعم والرعاية من الحركة الصهيونية بالتأكيد خلل الحرب الباردة ،لن
"المحرقة" كانت منذ البداية الخطاب السلطوي للحركة الصهيونية ولدولة "إسرائيل" ،فهذه بالضرورة نقطة تناقض بين المراجعين
وبين الحركة الصهيونية .ولكن النخب الحاكمة في الغرب كانت تتساهل مع المؤرخين المراجعين خلل الحرب الباردة ،ومع
أبحاثهم ومع تمويلها ،أكثر بعشرات الضعاف مما تفعل اليوم ،لن ذلك كان ينظر إليه وقتها كأحد الكوابح اليديولوجية للسلطة
السوفياتية .فكم تغير العالم اليوم!
وبأية حال ،من الهمية بمكان أن نركز أن التحاد السوفياتي روج للِمخرقة فقط كأحدى مفردات خطابه المعادي للفاشية ،وبالتالي
لسلطته ،وهذه نقطة تناقض حادة بينه وبين الحركة الصهيونية نفسها لن التحاد السوفياتي كان يرفض مقولة فرادة المعاناة
اليهودية في التاريخ ،بل كان يوظف الِمخرقة ضمن سياقه الخاص وخطابه هو ،أما الحركة الصهيونية فكانت تصر على مقولة
فرادة المعاناة اليهودية لنها تنتج أيديولوجيًا مقولة التفرد اليهودي ،وهي المقولة التي كان عليها أن تنتظر مجيء العولمة لفرضها
عالميًا.
وهنا نلفت النظر أن النسخة السوفياتية من "المحرقة" ،وهي نسخة كان يروجها الكتاب اليهود السوفيات بالساس ،ذكرت ولم
تركز على ما يسمى أفران الغاز ،بل على الرقام ،أي على إدعاء إبادة عدة مليين من اليهود في معسكرات العتقال النازية ،وهي
مليين تظل أقل بكثير من العشرين مليونًا ونيف الذين دفعهم السوفيات من أجل دحر النازية ،فل يجرؤ الصهاينة أن يقارعوا
السوفيات بالفرادة هنا .ولكن التحاد السوفياتي ،بالرغم من ذلك ،ترك ثغرة كبرى عندما تبنى ،ولو عرضًا ،قصة أفران الغاز
العجيبة ،لن هذا هو مصدر تفرد الِمخرقة المزعومة في التاريخ ،وليس عدد مليين ضحاياها.
وقد كانت موضوعة فرادة المعاناة اليهودية مسرحًا لصراع سياسي مرير بين التحاد السوفياتي والحركة الصهيونية .ومن ذلك
ل إصرار الصهاينة على وضع نصب للضحايا اليهود فقط في بابي يار في أوكرانيا ،فيما كان يريد السوفيات أن يكون النصبمث ً
لكل ضحايا النازية ،وقد كان هذا موضوع صراع حاد بين الطرفين في الخمسينات والستينات ،وفي النهاية رضخ السوفيات لنصب
يهودي فقط!
المهم أن تبني التحاد السوفياتي لساطير الِمخرقة وترويجه لها ،ولو بسياقه الخاص ،أدى لرتباط ذلك بالموقف المعادي للفاشية
والنازية والتعصب العرقي في صفوف كل اليساريين والتقدميين في العالم للسف ،ونحن إذ نؤكد أن وحشية النازية والفاشية ل
تحتاج لساطير الِمخرقة لثباتها ،نصر أن الوحشية الحقيقة التي نواجهها اليوم هي وحشية النظام الدولي الجديد ،المتعولم المتهود،
فيما الوحشية النازية باتت شيئًا من الماضي يثيره تحالف النخب المعولمة والمتهودة فقط لتسويغ سيطرته العالمية هنا والن! فعلينا
إذن أن ننتبه جيدًا أن الوظيفة السياسية ليديولوجية الِمخرقة اختلفت تمامًا منذ انهيار المنظومة الشتراكية ،فقد تم تضخيمها وإعادة
تصميمها وضخها إعلميًا بكثافة بالذات مع تصاعد مشروع العولمة.
قصة التحاد السوفياتي مع "المحرقة" :ليس دقيقًا من الناحية التاريخية المحض أن التحاد السوفياتي هو الذي اختلق أساطير
"المحرقة" .فما حدث في الواقع هو اختراق يهودي-صهيوني للسياسة السوفياتية ،ولكن فيما كان يظن السوفيات أنهم هم الذين
يخترقون اليهود .والقصة بدأت بتأسيس لجنة يهودية مناهضة للفاشية Jewish Anti-Fascist Committeeفي التحاد
السوفياتي كان يفترض بها أن تجند يهود العالم ،خاصة في الغرب ،لمصلحة الجهد السوفياتي في الحرب ضد النازية .ولكن اللجنة
انزلقت بسرعة للدعاية الصهيونية في التحاد السوفياتي ،وللدعوات "القومية اليهودية" ،وللتصال مع المنظمات الصهيونية
العالمية ،وتجاوزت المهمة الصلية التي كانت كلفت بها .ويبدو أن السوفيات كانوا قد استشعروا ذلك ،ولكنهم سكتوا على مضض،
لن حاجتهم للتحالف مع الغرب خلل الحرب العالمية الثانية وبعدها بقليل كانت تقتضي كسب اليهود ،أو على القل ،عدم
استعدائهم.
ولكن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ،في يوم 19/11/1946بالتحديد ،أشار تقرير رسمي سوفياتي ،كتبه ميخائيل سوسلوف )
،(1وتم تمريره لعضاء المكتب السياسي للحزب ولستالين حول دور ما يسمى اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية أن تلك اللجنة
"تتخذ طابعًا قوميًا صهيونيًا متزايدًا" ،وأنها كانت تدعم الحركة اليهودية القومية الرجعية في الخارج ،وأن نشراتها كانت تدعو
"لفكرة القومية اليهودية الواحدة ،الرجعية الطابع" ،وختم التقرير بتوصية تصفية اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية .ولكن اللجنة لم
تحل .والرجح أن السبب كان خوف ستالين من تحريض ونستون تشرشل )الذي لم يعد في الحكم وقتها( على شن حرب جديدة
ضد السوفيات ،وأمله في أن تقف الجاليات اليهودية في الغرب ضد ذلك التوجه ...وقد كان هذا العامل ،الحاجة لليهود في الغرب،
أحد أهم العوامل التي دفعت ستالين للعتراف بدولة "إسرائيل" في 15أيار/مايو 1948فيما بعد ،فقد كان السوفيات يأملون بكسب
اليهود لصفهم في الغرب ،بعد اعتقادهم أنهم سيكونون ممتنين لتحريرهم إياهم من النازية.
ل ما يؤخذ بعين العتبار :فحالما أعلن عن تأسيس "إسرائيل"، ولكن بعدها حدث تطور خطير من وجهة نظر القيادة السوفياتية قلي ً
خرجت موجة عارمة من اليهود السوفيات تعبيرًا عن حماسة بالغة "قومية يهودية" منقطعة النظير ،وهو ما يبدو أنه صدم ستالين
ل من أن يكونوا أحد أذرعه في الغرب ،كانوا في الواقع والقيادة السوفياتية بشدة ،ومنذ تلك اللحظة بدأ ستالين يدرك أن اليهود بد ً
طابورًا خامسًا للمبريالية في التحاد السوفياتي .وبدأ بذلك التحول ليس فقط بموقف التحاد السوفياتي من الكيان الصهيوني نفسه،
ولكن تم حل اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية ،ومحاكمة أعضائها بتهمة الدعوة لفرادة المعاناة اليهودية والعمالة ،وتمت إعدامهم
بالرصاص ،وتمت محاكمة وإعدام العميل اليهودي رودولف سلنسكي الرئيس الفعلي لتشيكوسلوفاكيا في 2/12/1952بتهمة
العمالة والتصال بالحركة الصهيونية العالمية) ،(2وفي نفس الوقت ،بدأت الستعدادات لمحاكمة أطباء يهود بتهمة محاولة اغتيال
ستالين وقادة سوفييت أخرين ،وهو ما عرف باسم مؤامرة الطباء ) .(3وقد نسبت هذه النزعة "اللسامية" عند العم ستالين في
سنواته الخيرة للخرف ،ولكنها كانت تعبر في الواقع عن إدراك حقيقي متجذر لحقيقة الدور اليهودي في التحاد السوفياتي ).(4
كانت الغلطة التاريخية بالعتراف بالكيان الصهيوني قد ارتكبت بالطبع ،ولو أن العلقات الديبلوماسية عادت لتقطع بعدها بقليل
بذريعة تفجير البعثة السوفياتية بتل أبيب.
ما يهمنا هنا هو مصدر النسخة السوفياتية من قصة "المحرقة" .فما حدث هو أن الكاتب اليهودي السوفياتي إيليا أهرنبرغ هو الذي
زعم أن أربعة مليين يهودي قتلوا في معسكر أوشفيتز ،في شهر كانون ثاني /يناير ،1945أي قبل تحرير المعسكر!! وأن
النازيين قتلوا ستة مليين من اليهود!! وكان أهرنبرغ أحد الذين يعملون على مشروع "الكتاب السود عن الضطهاد النازي
ل ،بل من العالم الصهيوني المعروف ألبرت أينشتين )وله كتا ٌ
ب لليهود" .ولم يبدأ هذا المشروع بمبادرة من اليهود السوفيات أص ً
معروف عن الصهيونية ،وصوٌر على النت مع كبار الصهاينة( ومن عدد من العلماء اليهود المريكيين الذين تمكنوا من إقناع
ممثلين لليهود السوفيات كانوا في زيارة لمريكا عام 1943بتبني فكرة الكتاب السود.
وأصبح الكتاب السود بعدها مشروع اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية في التحاد السوفياتي بالتعاون مع مجموعات يهودية
وصهيونية مختلفة حول العالم ،ولكن المحرر الساسي للكتاب كان الصهيوني أيليا أهرنبرغ ،والصهيوني فاسيلي غروسمان،
وتحت ذريعة وضع الكتاب ،تمت دعوة كل اليهود للتصال باللجنة للتبليغ عن المظالم التي تعرضوا لها لتوثيقها .وبعد نهاية
الحرب ،لم يسمح السوفيات للكتاب السود بأن يطبع ،بل اعتقلوا وحاكموا وأعدموا كل قيادات اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية
بتهمة الدعوة للقومية اليهودية ،وبتهمة العمالة لمريكا أو للكيان الصهيوني ،كما سبق الذكر .ولكن الخرافات التي وضعت في
الكتاب تم تعميمها عالميًا من قبل الحركة الصهيونية على أية حال.أما أهرنبرغ ،فقد كان حذرًا جدًا ،ولم يتورط أمنيًا مع اللجنة
اليهودية لمناهضة الفاشية ،فلم تثبت عليه التهامات بالعمالة ،ولذلك لم يعدم معهم ...ولكن المهم أن السوفيات في نهايات عهد
ستالين بدأوا بالتعامل بحزم مع الختراق اليهودي الصهيوني ،أما قصص الِمخرقة ،فلم تكن من اختراع السوفيات أنفسهم ،بل من
اختراع الختراق الصهيوني فيهم ،بالتحديد ،من صنع المنظمات اليهودية المريكية ،وامتدادها في التحاد السوفياتي كما سبق
وأوضحنا .وقد وجد السوفيات تلك الخرافات مناسبة لهم سياسيًا في الفترة الواقعة ما بين محاكمات نورمبرغ في نهايات الحرب
العالمية الثانية ومنتصف عام ،1948عندما تم العتراف بدولة "إسرائيل" .وقد طلب أندريه غروميكو المندوب السوفياتي في
المم المتحدة وقتها ملف اضطهاد اليهود من أهرنبرغ عام ،1944واستخدم الملف في محاكمات نورمبرغ ضد النازيين بعدها ،فلم
يعد ممكنًا التراجع...
ويبقى أن "المحرقة" طالما بقيت جزءًا من ملف مناهضة الفاشية ،ودور السوفيات في دحرها ،فإنها كانت أقل خطرًا علينا نحن
أيضًا مع أنها تبقى إحدى الساطير المؤسسة للسياسة "السرائيلية" بجميع الحوال .أما اليوم ،فقد انتهى التحاد السوفياتي،
وصادرت أمريكا إرثه المناهض للفاشية ،وأعادت هي والحركة الصهيونية إنتاج الِمخرقة بالشكل الذي يناسب الخطاب
اليديولوجي للنظام الدولي الجديد .ولول ذلك ،لما بذلنا نحن كل هذا المجهود في بحث وطرح المسألة ).(5
الملحظات:
) (2كان رودولف سلنسكي الشخص الذي يدير الشؤون اليومية للحزب فعليًا ،أما الرئيس السمي ،فقد كان كلمنت غوتولد.
وعندما أعدم سلنسكي ،عاد كلمنت غوتولد لدارة الدفة بحماية القيادة في موسكو .وقد حضر غوتولد جنازة ستالين في
،5/3/1953ليموت بعدها بتسعة أيام ،في سن السادسة والخمسين فقط!!!
) (3مؤامرة الطباء باتت في الغرب كلمة سر لتهام ستالين باللسامية .وخلصة قصة مؤامرة الطباء أن الفريق الطبي الذي
عالج مسئولين سوفييت كبار ،مثل الكسندر شربكوف وأندريه جدانوف و)البلغاري( جورجي ديمتروف ،كان من اليهود .وقد مات
كل المذكورين بين يدي ذلك الفريق الطبي المتكون من اليهود ،وكان يفترض أن يعالج ذلك الفريق ستالين نفسه .وقد بدأ التحقيق
في أوائل الخمسينات في مقتل شربكوف على يدي ذلك الفريق عام ،1945ومقتل جدانوف على يديه عام ،1948ثم مقتل جورجي
ديمتروف )صاحب مقولة الجبهة القومية المتحدة( عام .1949وهو أمر كان من المؤكد أن يثير شكوك أي عاقل ،خاصة أن
جدانوف وديمتروف لم يكونا كهلين عندما ماتا على يدي الفريق الطبي اليهودي.
) (4يبدو أن ستالين قد سبقنا في الوصول للستنتاجات التي وصلنا إليها حول اليهود )وليس الصهاينة منهم فقط( بحوالي خمسين
عامًا .فقد قال في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في التحاد السوفياتي في " :1/12/1952كل يهودي قومي النزعة
وعميل للمخابرات المريكية .والقوميون اليهود يؤمنون بأن أمتهم قد أنقذتها الوليات المتحدة المريكية )حيث تستطيع أن تصبح
غنيًا وبرجوازيًا هناك( .وهم يعتقدون أنهم مدينون للمريكيين .وبين الطباء يوجد العديد من القوميين اليهود" .ونورد هذه الفقرة
كمثال على التحول الذي جرى في موقف القيادة السوفيتيية في نهاية الربعينات وبداية الخمسينات ،حتى مات ستالين في
.5/3/1953وهو التحول الذي فضل أن يتجاهله كثيٌر من الشيوعيين.
) (5للمزيد حول الِمخرقة وخطورتها ،الرجاء الذهاب إلى الروابط التالية:
http://www.freearabvoice.org/arabi/maqalat/KalamA7madNajatee.htm
http://www.freearabvoice.org/arabi/kuttab/alMuarakhuna/muhatwiyatuLKaras.htm