You are on page 1of 5

‫لماذا يتحسس اليسار من نقد أساطير المحرقة‬

‫حول اختلف التوظيف السياسي للِمخرقة بين النظام العالمي الجديد والقديم‬

‫ل تستطيع السلطة‪ ،‬أية سلطة‪ ،‬أن تقف وحدها دون خطاب ما يشرعن وجودها‪ .‬فالقوة العارية يمكن أن تكسب معركة أو حرب‪،‬‬
‫ويمكن أن تسهم باحتلل بلد أو إقامة إمبراطورية‪ ،‬أما الحفاظ على السلطة‪ ،‬فيحتاج مبررًا مقنعًا يخرس المحكومين ويوحد‬
‫الحاكمين‪ ،‬أي يحتاج لحتلل العقل والفؤاد‪ .‬فالسلطة التي تستنزف نفسها في معركة يومية ل تنتهي ل يمكن أن يكتب لها البقاء‪،‬‬
‫حتى لو كانت سلطة أمريكا في فيتنام أو سلطة الكيان الصهيوني في جنوب لبنان‪ .‬فخطاب "الرسالة الحضارية" مكن‬
‫ل من أن تحكم مساحات شاسعة وعشرات المليين من المسَتعَمرين ببضعة آلف من الجنود والموظفين‬ ‫المبراطورية البريطانية مث ً‬
‫النكليز فحسب‪ .‬وخطاب الديموقراطية وحقوق النسان يمثل القناع اليديولوجي للمبراطورية المريكية اليوم‪ .‬والخطاب‬
‫الصليبي الملفق كان الذريعة اليديولوجية لما اسماه العرب عن وجه حق في القرون الوسطى‪ :‬غزوات الفرنجة‪ ،‬لنهم لم يعترفوا‬
‫ل‪.‬‬
‫بأن تلك الغزوات تعبر عن المسيحية فع ً‬

‫ل‪ ،‬فليس هذا المهم هنا‪ ،‬المهم أن‬


‫وقد تكون السلطة موضع البحث حميدة أو خبيثة‪ ،‬وقد يكون خطابها اليديولوجي مزيفًا أو أصي ً‬
‫القانون الموضوعي للقوة العارية التي تتمدد خارج حدودها الصلية هو احتياجها بالضرورة إلى خطاب أيديولوجي مقنع يسوغها‬
‫ل‪ :‬كان خطاب التحاد السوفياتي السابق هو الممية‬ ‫للمحكوم‪ ،‬ويقنع الشعب في الدولة الحاكمة ببذل التضحيات في سبيلها‪ ،‬مث ً‬
‫ل موحداً للعرب مقنعًا لغيرهم‪ ،‬وخطاب الطموح‬ ‫الشيوعية‪ ،‬وكان خطاب المبراطوريات العربية الولى إسلميًا أصي ً‬
‫المبراطوري الفارسي إسلميًا من نوع أخر‪ ،‬وخطاب العثمانيين إسلميًا ل يرتبط بالضرورة بالعرب أو العروبة )وإل توجب‬
‫عليهم أن يتنازلوا عن السلطة للعرب(‪...‬‬

‫وبدون خطاب مقنع للشعوب المحكومة بعدل أو بظلم‪ ،‬وموحٍد للشعوب الحاكمة‪ ،‬ل يمكن أن ينعم مركز المبراطورية بالستقرار‪،‬‬
‫بل سوف يستهلك نفسه دومًا في معارك دموية ل نهاية لها‪ .‬فل مناص إذن من اقتناع المحكوم بسلطة الحاكم الجنبي بالنهاية لبقاء‬
‫تلك السلطة‪ ،‬ول مفر بالتالي من المقاومة في ميدان الفكر والثقافة‪ ،‬وليس فقط في ميدان الحرب‪ ،‬إذا أرادت الشعوب أن تتخلص من‬
‫الهيمنة الخارجية‪ .‬فالهيمنة الخارجية قد تدخل بحجة القوة ولكنها ل تبقى إل بقوة الحجة‪ ،‬ولذلك‪ ،‬ل يمكن أن نفهم الموقف السلبي‬
‫لبعض القوى السلمية في العراق من كل مفهوم "الديموقراطية" والنتخابات اليوم إل ضمن هذا السياق‪ ،‬سياق مقاومة الهيمنة‬
‫الخارجية التي حاولت استغلل الستفتاءات والنتخابات وما شابه لتشرعن وجودها؛ فإعلن تلك القوى رفض الديموقراطية‬
‫بالجملة هكذا لم يكن مطروحًا عندها بهذه الحدة من قبل مساخر المهرجانات "الديموقراطية"‪.‬‬

‫ومن أصناف السلطة الخبيثة والخطاب الملفق‪ ،‬تحتاج السلطة اليهودية في العالم اليوم بدورها إلى خطاب عالمي يشرعن وجودها‬
‫ويبرره‪ .‬وهذا الخطاب هو خطاب "المحرقة" الذي تم تبنيه رسميًا في ‪ 1/11/2005‬في الجمعية العامة للمم المتحدة‪ .‬وتستغل‬
‫ج لتاريخ بشري من "اللسامية"‪ ،‬ل مجرد فص ٍ‬
‫ل‬ ‫دولة "إسرائيل" خطاب الِمخرقة أيضًا لتبرير وجودها‪ ،‬باعتبار "المحرقة" تتوي ٌ‬
‫من فصول الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫وقد سبق وتناولنا "المحرقة" وأساطيرها واستخداماتها السياسية في موضٍع أخر‪ ،‬والزمة العالمية التي سببتها تصريحات الرئيس‬
‫اليراني محمود أحمدي نجاد حولها في ‪ .12/2005 /8‬وبعد حصد حركة الخوان المسلمين في مصر عشرين بالمئة من مقاعد‬
‫ل فرنسي‬‫البرلمان المصري‪ ،‬شكك المرشد العام للحركة محمد مهدي عاكف بالِمخرقة في ‪ ،22/12/2005‬مما أثار فورًا رد فع ٍ‬
‫رسمي شديد اللهجة‪ ،‬فهذه القضية باتت من أكثر القضايا تفجرًا في عالم ما بعد الحرب الباردة‪.‬‬

‫ويلحظ في هذا الصدد أن السلميين على أنواعهم‪ ،‬وبعض القوميين في الوطن العربي‪ ،‬أقل تحسسًا من تناول أساطير الِمخرقة‬
‫بالنقد من غيرهم‪ ،‬وأن العلمانيين واليساريين يفضلون تجنب الموضوع وطمسه‪ ،‬أما اليساريون والعلمانيون الغربيون فتكاد تصيبهم‬
‫حالة من الصرع السياسي وانفلت الزنبركات العقلية حالما تطرح "المحرقة" للنقد أمامهم‪ ،‬ل بل تتحالف اللوبيات اليهودية في‬
‫الغرب مع التيار الساسي في اليسار لقوننة تقديس "المحرقة" ورفعها فوق كل معاناة‪ ،‬باعتبار مناهضة "اضطهاد اليهود" إحدى‬
‫الموضوعات "التقدمية" هناك!‬

‫ويزيد من هذه المشكلة حدًة أن معظم المؤرخين المراجعين الناقدين للِمخرقة‪ ،‬باستثناء حفنة منهم مثل سيرج تيون وبيير غييوم‬
‫الفرنسيين اليساريين‪ ،‬جاءوا من خلفيات يمينية عامًة أو حتى يمينية متطرفة‪ ،‬مع العلم أن المراجعة التاريخية ليست أيديولوجيا بحد‬
‫ذاته‪ ،‬بل منهج علمي‪ ،‬نقدي تحليلي‪ ،‬في دراسة وقائع الحرب العالمية الثانية بالتحديد‪ ،‬يؤدي عند تبنيه إلى نسف أساطير "محرقة‬
‫اليهود" من أساسها‪.‬‬

‫تحاول المعالجة التالية‪ ،‬بالتالي‪ ،‬أن تستكشف السباب التاريخية لتمسك اليسار عامًة‪ ،‬والغربي خاصًة‪ ،‬بأساطير "المحرقة" منذ أيام‬
‫التحاد السوفياتي‪ ،‬وتحاول من ثم أن تثبت أن دواعي ذلك التمسك قد زال تمامًا منذ انهارت المنظومة الشتراكية‪ ،‬وتغيرت بالتالي‬
‫الوظيفة السلطوية لما يسمى "المحرقة"‪ ،‬وما يصح أن يسمى عوضًا عن ذلك بالِمخرقة‪ ،‬أي الشيء الخارق الذي ل يمكن تصديقه‪.‬‬
‫هذه إذن محاولة لطرح المسألة أمام المتأففين من نقد الِمخرقة بدوافَع يسارية أساسًا‪ ،‬خوفًا من أن يؤدي نقد "المحرقة" للنجراف‬
‫إلى تأييد الفاشية أو النازية التي يفترض أنها ارتكبت جرائم "المحرقة" المزعومة‪ ،‬وبالتالي النجراف لتأييد الفاشية بشكل عام‪،‬‬
‫والتعصب والعنصرية‪ ،‬باسم مقارعة الصهيونية‪.‬‬

‫ولكن في البداية‪ ،‬ل بد من التساؤل‪ :‬هل هي صدفة أن تثار "المحرقة" بهذا الشكل غير المسبوق‪ ،‬بعد مرور كل هذه العقود على‬
‫حدوثها المفترض‪ ،‬بالذات بعد انهيار التحاد السوفياتي؟! هذا هو السؤال المفصلي الذي يجب أن ُيسأل‪ ...‬وهو سؤال ترتبط إجابته‬
‫بالجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر‪ ،‬عالم ما بعد الحرب الباردة‪ ،‬ولكن ل بد للجابة عليه من شيٍء من التاريخ‪.‬‬

‫حول التحاد السوفياتي و"المحرقة"‪ :‬لمحة تاريخية‬

‫بعض المؤرخين المراجعين‪ ،‬من الخلفية اليمينية المتطرفة‪ ،‬يوردون الشواهد بأن التحاد السوفياتي كان البادئ باختلق أساطير‬
‫"المحرقة"‪ ،‬ويعزون ذلك إلى زعمهم أن "الشيوعية اختراع يهودي"‪ ،‬فالصحف والدوريات السوفياتية كانت البادئة بالحديث عن‬
‫مدى اضطهاد النازيين لليهود في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وأفران الغاز‪ ،‬ومنها اختلق قصص صنع أغلفة مصابيح المنازل ‪Lamp‬‬
‫‪ Shades‬من جلود اليهود‪.‬‬

‫ولكن التفسير السطحي الذي يربط تبني التحاد السوفياتي لقصص الِمخرقة بزعم أن "الشيوعية مؤامرة يهودية"‪ ،‬وهو زعم يحتاج‬
‫لمعالجة أخرى‪ ،‬ولكن يمكن دحضه بكل سهولة‪ ،‬كما نفعل جزئيًا في الفقرات التالية‪ ،‬يتجاهل حاجة السلطة لخطاب أيديولوجي مقنع‪،‬‬
‫وفي هذه الحالة‪ ،‬حاجة السلطة السوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية لخطاب أيديولوجي يبررها خارج حدودها بناًء على مقررات‬
‫مؤتمر يالطا لقتسام العالم‪ ،‬وقد كان ذلك الخطاب هو هزيمة الفاشية‪ ،‬وليس "المحرقة" بالمناسبة‪.‬‬

‫في الواقع‪ ،‬بذل التحاد السوفياتي عشرين مليونًا‪ ،‬وفي بعض المصادر تجدها اثنين وعشرين أو حتى أربعًا وعشرين مليونًا‪ ،‬من‬
‫ل‪ ،‬ومن ثم أوروبا‪ .‬وقد أجلت أمريكا إنزال النورماندي على شواطئ‬ ‫الشهداء لكسر الفاشية ودحرها عن التحاد السوفياتي نفسه أو ً‬
‫فرنسا عامين كاملين‪ ،‬من عام ‪ 1942‬حتى عام ‪ ،1944‬حتى تمكن التحاد السوفياتي من دحر النازيين‪ ،‬وبدأ يتقدم باتجاه قلب‬
‫أوروبا‪ ،‬فخافت الدول الغربية من أن يتمكن من السيطرة على القارة الوروبية‪ .‬وكانت أمريكا وبريطانيا ترغب بأن يستنزف‬
‫النازيون السوفيات‪ ،‬والعكس بالعكس‪ ،‬قبل أن يدخلوا معركة أوروبا بكل قواهم‪.‬‬

‫المهم‪ ،‬دفع السوفيات ثمنًا عظيمًا‪ ،‬لم يدفع مثله أي شعب في التاريخ‪ ،‬لكسر النازية‪ ،‬وكانوا قد عقدوا العزم على الحتفاظ بالسيطرة‬
‫على أوروبا الشرقية‪ ،‬كحاجز جغرافي سياسي‪ ،‬يدافعون به عن بلدهم‪ ،‬خاصة أن نابليون أيضًا كان قد غزاهم قبلها بأكثر من قرن‬
‫ل مع تحريض السياسي البريطاني البارز ونستون تشرشل الدول الغربية‬ ‫عبر أوروبا الشرقية‪ ،‬وأن خطر الدول الغربية ما يزال ماث ً‬
‫لستئناف الحرب ضد التحاد السوفياتي بعد هزيمة ألمانيا النازية‪.‬‬

‫وكان التحاد السوفياتي إذن يبرر سيطرته على أوروبا الشرقية بالثمن الباهظ الذي دفعه لتحرير شعوب تلك الدول من ألمانيا‬
‫النازية‪ ،‬ولذلك‪ ،‬كان التحاد السوفياتي يبالغ بوصف الوحشية التي يتسم بها النازيون‪ ،‬ليجعل من التخلص منهم نصرًا أعظم‪ ،‬ليس‬
‫فقط للسوفيات أنفسهم‪ ،‬بل للشعوب التي كانوا يحكمونها خارج حدودهم‪.‬‬

‫ولنلحظ أن أمريكا اليوم عادت لمصادرة هذا الدور التاريخي للسوفيات لتبرر لنفسها بعض سلطتها العالمية زاعمًة أنها هي التي‬
‫حررت أوروبا من النازية! وما كانت أمريكا لتجرؤ على ادعاء مثل هذا الدور لنفسها بكل هذه الوقاحة لو كان التحاد السوفياتي ل‬
‫يزال قائمًا‪ .‬فالنصر على الفاشية هو بالساس الخطاب الصيل للسلطة الوروبية السوفياتية‪ ،‬ل المريكية‪ ،‬وبما أن التحاد‬
‫السوفياتي ذهب مع الريح‪ ،‬فل بأس من مصادرة بعض متاعه اليديولوجي‪.‬‬

‫في هذا السياق‪ ،‬كان الخطاب السوفياتي المعادي للفاشية‪ ،‬المقنع للشعوب الوروبية المحكومة‪ ،‬يتألف من عدة عناصر‪ ،‬إحداها‬
‫ظ بهذه الدرجة من الهتمام في الغرب حتى انهار التحاد السوفياتي‪.‬‬
‫قصة "المحرقة"‪ ،‬ولذلك من المهم النتباه أن الِمخرقة لم تح َ‬
‫فما دام التحاد السوفياتي قائمًا‪ ،‬كانت المبالغة في الِمخرقة أمرًا يعزز من مكانة ومشروعية السلطة السوفياتية خارج حدودها في‬
‫أوروبا المتنازع عليها مع أمريكا‪ .‬ولذلك‪ ،‬كان المؤرخون المراجعون في الدول الغربية خلل الحرب الباردة‪ ،‬الذين يوصفون الن‬
‫بأنهم من أنصار النازية والفاشية‪ ،‬يلقون قدرًا ل بأس به من الدعم والرعاية‪ ،‬فيما يتعرضون للفلس ولقسى أنواع الضطهاد‬
‫اليوم‪.‬‬

‫ولنوضح أن المؤرخين المراجعين لم يكونوا يلقون الدعم والرعاية من الحركة الصهيونية بالتأكيد خلل الحرب الباردة‪ ،‬لن‬
‫"المحرقة" كانت منذ البداية الخطاب السلطوي للحركة الصهيونية ولدولة "إسرائيل"‪ ،‬فهذه بالضرورة نقطة تناقض بين المراجعين‬
‫وبين الحركة الصهيونية‪ .‬ولكن النخب الحاكمة في الغرب كانت تتساهل مع المؤرخين المراجعين خلل الحرب الباردة‪ ،‬ومع‬
‫أبحاثهم ومع تمويلها‪ ،‬أكثر بعشرات الضعاف مما تفعل اليوم‪ ،‬لن ذلك كان ينظر إليه وقتها كأحد الكوابح اليديولوجية للسلطة‬
‫السوفياتية‪ .‬فكم تغير العالم اليوم!‬

‫وبأية حال‪ ،‬من الهمية بمكان أن نركز أن التحاد السوفياتي روج للِمخرقة فقط كأحدى مفردات خطابه المعادي للفاشية‪ ،‬وبالتالي‬
‫لسلطته‪ ،‬وهذه نقطة تناقض حادة بينه وبين الحركة الصهيونية نفسها لن التحاد السوفياتي كان يرفض مقولة فرادة المعاناة‬
‫اليهودية في التاريخ‪ ،‬بل كان يوظف الِمخرقة ضمن سياقه الخاص وخطابه هو‪ ،‬أما الحركة الصهيونية فكانت تصر على مقولة‬
‫فرادة المعاناة اليهودية لنها تنتج أيديولوجيًا مقولة التفرد اليهودي‪ ،‬وهي المقولة التي كان عليها أن تنتظر مجيء العولمة لفرضها‬
‫عالميًا‪.‬‬

‫وهنا نلفت النظر أن النسخة السوفياتية من "المحرقة"‪ ،‬وهي نسخة كان يروجها الكتاب اليهود السوفيات بالساس‪ ،‬ذكرت ولم‬
‫تركز على ما يسمى أفران الغاز‪ ،‬بل على الرقام‪ ،‬أي على إدعاء إبادة عدة مليين من اليهود في معسكرات العتقال النازية‪ ،‬وهي‬
‫مليين تظل أقل بكثير من العشرين مليونًا ونيف الذين دفعهم السوفيات من أجل دحر النازية‪ ،‬فل يجرؤ الصهاينة أن يقارعوا‬
‫السوفيات بالفرادة هنا‪ .‬ولكن التحاد السوفياتي‪ ،‬بالرغم من ذلك‪ ،‬ترك ثغرة كبرى عندما تبنى‪ ،‬ولو عرضًا‪ ،‬قصة أفران الغاز‬
‫العجيبة‪ ،‬لن هذا هو مصدر تفرد الِمخرقة المزعومة في التاريخ‪ ،‬وليس عدد مليين ضحاياها‪.‬‬

‫وقد كانت موضوعة فرادة المعاناة اليهودية مسرحًا لصراع سياسي مرير بين التحاد السوفياتي والحركة الصهيونية‪ .‬ومن ذلك‬
‫ل إصرار الصهاينة على وضع نصب للضحايا اليهود فقط في بابي يار في أوكرانيا‪ ،‬فيما كان يريد السوفيات أن يكون النصب‬‫مث ً‬
‫لكل ضحايا النازية‪ ،‬وقد كان هذا موضوع صراع حاد بين الطرفين في الخمسينات والستينات‪ ،‬وفي النهاية رضخ السوفيات لنصب‬
‫يهودي فقط!‬

‫المهم أن تبني التحاد السوفياتي لساطير الِمخرقة وترويجه لها‪ ،‬ولو بسياقه الخاص‪ ،‬أدى لرتباط ذلك بالموقف المعادي للفاشية‬
‫والنازية والتعصب العرقي في صفوف كل اليساريين والتقدميين في العالم للسف‪ ،‬ونحن إذ نؤكد أن وحشية النازية والفاشية ل‬
‫تحتاج لساطير الِمخرقة لثباتها‪ ،‬نصر أن الوحشية الحقيقة التي نواجهها اليوم هي وحشية النظام الدولي الجديد‪ ،‬المتعولم المتهود‪،‬‬
‫فيما الوحشية النازية باتت شيئًا من الماضي يثيره تحالف النخب المعولمة والمتهودة فقط لتسويغ سيطرته العالمية هنا والن! فعلينا‬
‫إذن أن ننتبه جيدًا أن الوظيفة السياسية ليديولوجية الِمخرقة اختلفت تمامًا منذ انهيار المنظومة الشتراكية‪ ،‬فقد تم تضخيمها وإعادة‬
‫تصميمها وضخها إعلميًا بكثافة بالذات مع تصاعد مشروع العولمة‪.‬‬

‫قصة التحاد السوفياتي مع "المحرقة"‪ :‬ليس دقيقًا من الناحية التاريخية المحض أن التحاد السوفياتي هو الذي اختلق أساطير‬
‫"المحرقة"‪ .‬فما حدث في الواقع هو اختراق يهودي‪-‬صهيوني للسياسة السوفياتية‪ ،‬ولكن فيما كان يظن السوفيات أنهم هم الذين‬
‫يخترقون اليهود‪ .‬والقصة بدأت بتأسيس لجنة يهودية مناهضة للفاشية ‪ Jewish Anti-Fascist Committee‬في التحاد‬
‫السوفياتي كان يفترض بها أن تجند يهود العالم‪ ،‬خاصة في الغرب‪ ،‬لمصلحة الجهد السوفياتي في الحرب ضد النازية‪ .‬ولكن اللجنة‬
‫انزلقت بسرعة للدعاية الصهيونية في التحاد السوفياتي‪ ،‬وللدعوات "القومية اليهودية"‪ ،‬وللتصال مع المنظمات الصهيونية‬
‫العالمية‪ ،‬وتجاوزت المهمة الصلية التي كانت كلفت بها‪ .‬ويبدو أن السوفيات كانوا قد استشعروا ذلك‪ ،‬ولكنهم سكتوا على مضض‪،‬‬
‫لن حاجتهم للتحالف مع الغرب خلل الحرب العالمية الثانية وبعدها بقليل كانت تقتضي كسب اليهود‪ ،‬أو على القل‪ ،‬عدم‬
‫استعدائهم‪.‬‬

‫ولكن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية‪ ،‬في يوم ‪ 19/11/1946‬بالتحديد‪ ،‬أشار تقرير رسمي سوفياتي‪ ،‬كتبه ميخائيل سوسلوف )‬
‫‪ ،(1‬وتم تمريره لعضاء المكتب السياسي للحزب ولستالين حول دور ما يسمى اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية أن تلك اللجنة‬
‫"تتخذ طابعًا قوميًا صهيونيًا متزايدًا"‪ ،‬وأنها كانت تدعم الحركة اليهودية القومية الرجعية في الخارج‪ ،‬وأن نشراتها كانت تدعو‬
‫"لفكرة القومية اليهودية الواحدة‪ ،‬الرجعية الطابع"‪ ،‬وختم التقرير بتوصية تصفية اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية‪ .‬ولكن اللجنة لم‬
‫تحل‪ .‬والرجح أن السبب كان خوف ستالين من تحريض ونستون تشرشل )الذي لم يعد في الحكم وقتها( على شن حرب جديدة‬
‫ضد السوفيات‪ ،‬وأمله في أن تقف الجاليات اليهودية في الغرب ضد ذلك التوجه‪ ...‬وقد كان هذا العامل‪ ،‬الحاجة لليهود في الغرب‪،‬‬
‫أحد أهم العوامل التي دفعت ستالين للعتراف بدولة "إسرائيل" في ‪ 15‬أيار‪/‬مايو ‪ 1948‬فيما بعد‪ ،‬فقد كان السوفيات يأملون بكسب‬
‫اليهود لصفهم في الغرب‪ ،‬بعد اعتقادهم أنهم سيكونون ممتنين لتحريرهم إياهم من النازية‪.‬‬

‫ل ما يؤخذ بعين العتبار‪ :‬فحالما أعلن عن تأسيس "إسرائيل"‪،‬‬ ‫ولكن بعدها حدث تطور خطير من وجهة نظر القيادة السوفياتية قلي ً‬
‫خرجت موجة عارمة من اليهود السوفيات تعبيرًا عن حماسة بالغة "قومية يهودية" منقطعة النظير‪ ،‬وهو ما يبدو أنه صدم ستالين‬
‫ل من أن يكونوا أحد أذرعه في الغرب‪ ،‬كانوا في الواقع‬ ‫والقيادة السوفياتية بشدة‪ ،‬ومنذ تلك اللحظة بدأ ستالين يدرك أن اليهود بد ً‬
‫طابورًا خامسًا للمبريالية في التحاد السوفياتي‪ .‬وبدأ بذلك التحول ليس فقط بموقف التحاد السوفياتي من الكيان الصهيوني نفسه‪،‬‬
‫ولكن تم حل اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية‪ ،‬ومحاكمة أعضائها بتهمة الدعوة لفرادة المعاناة اليهودية والعمالة‪ ،‬وتمت إعدامهم‬
‫بالرصاص‪ ،‬وتمت محاكمة وإعدام العميل اليهودي رودولف سلنسكي الرئيس الفعلي لتشيكوسلوفاكيا في ‪ 2/12/1952‬بتهمة‬
‫العمالة والتصال بالحركة الصهيونية العالمية)‪ ،(2‬وفي نفس الوقت‪ ،‬بدأت الستعدادات لمحاكمة أطباء يهود بتهمة محاولة اغتيال‬
‫ستالين وقادة سوفييت أخرين‪ ،‬وهو ما عرف باسم مؤامرة الطباء )‪ .(3‬وقد نسبت هذه النزعة "اللسامية" عند العم ستالين في‬
‫سنواته الخيرة للخرف‪ ،‬ولكنها كانت تعبر في الواقع عن إدراك حقيقي متجذر لحقيقة الدور اليهودي في التحاد السوفياتي )‪.(4‬‬

‫كانت الغلطة التاريخية بالعتراف بالكيان الصهيوني قد ارتكبت بالطبع‪ ،‬ولو أن العلقات الديبلوماسية عادت لتقطع بعدها بقليل‬
‫بذريعة تفجير البعثة السوفياتية بتل أبيب‪.‬‬

‫ما يهمنا هنا هو مصدر النسخة السوفياتية من قصة "المحرقة"‪ .‬فما حدث هو أن الكاتب اليهودي السوفياتي إيليا أهرنبرغ هو الذي‬
‫زعم أن أربعة مليين يهودي قتلوا في معسكر أوشفيتز‪ ،‬في شهر كانون ثاني‪ /‬يناير ‪ ،1945‬أي قبل تحرير المعسكر!! وأن‬
‫النازيين قتلوا ستة مليين من اليهود!! وكان أهرنبرغ أحد الذين يعملون على مشروع "الكتاب السود عن الضطهاد النازي‬
‫ل‪ ،‬بل من العالم الصهيوني المعروف ألبرت أينشتين )وله كتا ٌ‬
‫ب‬ ‫لليهود"‪ .‬ولم يبدأ هذا المشروع بمبادرة من اليهود السوفيات أص ً‬
‫معروف عن الصهيونية‪ ،‬وصوٌر على النت مع كبار الصهاينة( ومن عدد من العلماء اليهود المريكيين الذين تمكنوا من إقناع‬
‫ممثلين لليهود السوفيات كانوا في زيارة لمريكا عام ‪ 1943‬بتبني فكرة الكتاب السود‪.‬‬

‫وأصبح الكتاب السود بعدها مشروع اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية في التحاد السوفياتي بالتعاون مع مجموعات يهودية‬
‫وصهيونية مختلفة حول العالم‪ ،‬ولكن المحرر الساسي للكتاب كان الصهيوني أيليا أهرنبرغ‪ ،‬والصهيوني فاسيلي غروسمان‪،‬‬
‫وتحت ذريعة وضع الكتاب‪ ،‬تمت دعوة كل اليهود للتصال باللجنة للتبليغ عن المظالم التي تعرضوا لها لتوثيقها‪ .‬وبعد نهاية‬
‫الحرب‪ ،‬لم يسمح السوفيات للكتاب السود بأن يطبع‪ ،‬بل اعتقلوا وحاكموا وأعدموا كل قيادات اللجنة اليهودية لمناهضة الفاشية‬
‫بتهمة الدعوة للقومية اليهودية‪ ،‬وبتهمة العمالة لمريكا أو للكيان الصهيوني‪ ،‬كما سبق الذكر‪ .‬ولكن الخرافات التي وضعت في‬
‫الكتاب تم تعميمها عالميًا من قبل الحركة الصهيونية على أية حال‪.‬أما أهرنبرغ‪ ،‬فقد كان حذرًا جدًا‪ ،‬ولم يتورط أمنيًا مع اللجنة‬
‫اليهودية لمناهضة الفاشية‪ ،‬فلم تثبت عليه التهامات بالعمالة‪ ،‬ولذلك لم يعدم معهم‪ ...‬ولكن المهم أن السوفيات في نهايات عهد‬
‫ستالين بدأوا بالتعامل بحزم مع الختراق اليهودي الصهيوني‪ ،‬أما قصص الِمخرقة‪ ،‬فلم تكن من اختراع السوفيات أنفسهم‪ ،‬بل من‬
‫اختراع الختراق الصهيوني فيهم‪ ،‬بالتحديد‪ ،‬من صنع المنظمات اليهودية المريكية‪ ،‬وامتدادها في التحاد السوفياتي كما سبق‬
‫وأوضحنا‪ .‬وقد وجد السوفيات تلك الخرافات مناسبة لهم سياسيًا في الفترة الواقعة ما بين محاكمات نورمبرغ في نهايات الحرب‬
‫العالمية الثانية ومنتصف عام ‪ ،1948‬عندما تم العتراف بدولة "إسرائيل"‪ .‬وقد طلب أندريه غروميكو المندوب السوفياتي في‬
‫المم المتحدة وقتها ملف اضطهاد اليهود من أهرنبرغ عام ‪ ،1944‬واستخدم الملف في محاكمات نورمبرغ ضد النازيين بعدها‪ ،‬فلم‬
‫يعد ممكنًا التراجع‪...‬‬

‫ويبقى أن "المحرقة" طالما بقيت جزءًا من ملف مناهضة الفاشية‪ ،‬ودور السوفيات في دحرها‪ ،‬فإنها كانت أقل خطرًا علينا نحن‬
‫أيضًا مع أنها تبقى إحدى الساطير المؤسسة للسياسة "السرائيلية" بجميع الحوال‪ .‬أما اليوم‪ ،‬فقد انتهى التحاد السوفياتي‪،‬‬
‫وصادرت أمريكا إرثه المناهض للفاشية‪ ،‬وأعادت هي والحركة الصهيونية إنتاج الِمخرقة بالشكل الذي يناسب الخطاب‬
‫اليديولوجي للنظام الدولي الجديد‪ .‬ولول ذلك‪ ،‬لما بذلنا نحن كل هذا المجهود في بحث وطرح المسألة )‪.(5‬‬

‫الملحظات‪:‬‬

‫ل سوفييتيًا رئيسيًا عندما كتب‬


‫)‪ (1‬ميخائيل سوسلوف اسم مألوف لمن كانوا يتابعون الدبيات السوفياتية‪ ،‬ومع أنه لم يكن مسؤو ً‬
‫تقريره ضد اللجنة اليهودية المناهضة للفاشية عام ‪ ،1946‬فقد لمع نجمه من أواسط الستينات حتى توفي في كانون ثاني ‪ /‬يناير‬
‫‪.1982‬‬

‫)‪ (2‬كان رودولف سلنسكي الشخص الذي يدير الشؤون اليومية للحزب فعليًا‪ ،‬أما الرئيس السمي‪ ،‬فقد كان كلمنت غوتولد‪.‬‬
‫وعندما أعدم سلنسكي‪ ،‬عاد كلمنت غوتولد لدارة الدفة بحماية القيادة في موسكو‪ .‬وقد حضر غوتولد جنازة ستالين في‬
‫‪ ،5/3/1953‬ليموت بعدها بتسعة أيام‪ ،‬في سن السادسة والخمسين فقط!!!‬

‫)‪ (3‬مؤامرة الطباء باتت في الغرب كلمة سر لتهام ستالين باللسامية‪ .‬وخلصة قصة مؤامرة الطباء أن الفريق الطبي الذي‬
‫عالج مسئولين سوفييت كبار‪ ،‬مثل الكسندر شربكوف وأندريه جدانوف و)البلغاري( جورجي ديمتروف‪ ،‬كان من اليهود‪ .‬وقد مات‬
‫كل المذكورين بين يدي ذلك الفريق الطبي المتكون من اليهود‪ ،‬وكان يفترض أن يعالج ذلك الفريق ستالين نفسه‪ .‬وقد بدأ التحقيق‬
‫في أوائل الخمسينات في مقتل شربكوف على يدي ذلك الفريق عام ‪ ،1945‬ومقتل جدانوف على يديه عام ‪ ،1948‬ثم مقتل جورجي‬
‫ديمتروف )صاحب مقولة الجبهة القومية المتحدة( عام ‪ .1949‬وهو أمر كان من المؤكد أن يثير شكوك أي عاقل‪ ،‬خاصة أن‬
‫جدانوف وديمتروف لم يكونا كهلين عندما ماتا على يدي الفريق الطبي اليهودي‪.‬‬

‫)‪ (4‬يبدو أن ستالين قد سبقنا في الوصول للستنتاجات التي وصلنا إليها حول اليهود )وليس الصهاينة منهم فقط( بحوالي خمسين‬
‫عامًا‪ .‬فقد قال في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في التحاد السوفياتي في ‪" :1/12/1952‬كل يهودي قومي النزعة‬
‫وعميل للمخابرات المريكية‪ .‬والقوميون اليهود يؤمنون بأن أمتهم قد أنقذتها الوليات المتحدة المريكية )حيث تستطيع أن تصبح‬
‫غنيًا وبرجوازيًا هناك(‪ .‬وهم يعتقدون أنهم مدينون للمريكيين‪ .‬وبين الطباء يوجد العديد من القوميين اليهود"‪ .‬ونورد هذه الفقرة‬
‫كمثال على التحول الذي جرى في موقف القيادة السوفيتيية في نهاية الربعينات وبداية الخمسينات‪ ،‬حتى مات ستالين في‬
‫‪ .5/3/1953‬وهو التحول الذي فضل أن يتجاهله كثيٌر من الشيوعيين‪.‬‬

‫)‪ (5‬للمزيد حول الِمخرقة وخطورتها‪ ،‬الرجاء الذهاب إلى الروابط التالية‪:‬‬

‫‪http://www.freearabvoice.org/arabi/maqalat/KalamA7madNajatee.htm‬‬

‫‪http://www.freearabvoice.org/arabi/kuttab/alMuarakhuna/muhatwiyatuLKaras.htm‬‬

You might also like