Professional Documents
Culture Documents
وكان الله تعالى قد وفّقَ لبيان خطئه وتهافت قوله ومخالفته لكتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المة.
ص العلماء ومن يفهم من عوام الفقهاء. وقد عرف ذلك خوا ّ
ل بذلكث دعاته في أقطار الرض لنشر دعوته الخبيثة ،وأض ّ ثم بلغني أنه ب ّ
جماعة من العوام ومن العرب والفلحين وأهل البلد البّرانية ،ولّبس عليهم
مسألة اليمين بالطلق حتى أوهمهم دخولها في قوله تعالى) :ل يؤاخذكم الله
باللغو في أيمانكم( الية ،وكذلك في قوله تعالى) :قد فرض الله لكم تحلة
أيمانكم(.
فعسر عليهم الجواب وقالوا :هذا كتاب الله سبحانه!!
ه من قوله ،حتى ذاكرني بذلك بعض المشايخ ممن جمع وبقي في قلوبهم ُ
شب َ ٌ
ل ،ورأيُته ل ،وبلغ من المقامات الفاخرة الموصلة إلى الخرة أم ً م ًعلما ً وع َ
متطلعا ً إلى الجواب عن هذه الشبهة ،وبيان الحق في هذه المسألة على وجه
مختصر يفهمه من لم يمارس كتب الفقه ول ناظر في الجدل ،فكتبت هذه
ور الله قلبه وأحب لزوم الجماعة ،وكره تبعية الوراق على وجهٍ ينتفع به من ن ّ
ت ،وهو حسبي ونعم من شذ ّ من الشياطين ،وبالله أستعين وعليه توكل ُ
الوكيل.
وقد رتبت الكلم على ثلثة فصول:
الفصل الول :في بيان حكم هذه المسألة.
الفصل الثاني :في كلم إجمالي يدفع الستدلل المذكور.
ل.الفصل الثالث :في الجواب عن ذلك الستدلل بخصوصه تفصي ً
الفصل الول
]بيان مجمل عن أنواع الطلق[
م ،ويسمى طلقَ البدعة ،كالطلق في اعلم أن الطلق يقع على وجهٍ محّر ٍ
الحيض ،وعلى وجهٍ غير محرم ويسمى الطلق السني.
وقد أجمعت المة على نفوذ الطلق البدعي كنفوذ السني ،إل ما يحكى في
جمع الثلث على قولنا إنه بدعي ،فإذا طلق امرأته على الوجه المنهي عنه،
ف يعتبر.وهذا ليس فيه بين المة خل ٌ
إل أن الظاهرية الذين يخالفون الجماع في مسائل من الطلق وغيره خالفوا
في هذه المسألة ،وهم محجوجون بالجماع] [1والحديث ،فقد طّلق ابن عمر
رضي الله عنهما امرأته وهي حائض ،فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه
مْره ُ فليراجعها ،ثم ليمسكها حتى تطهر ،ثم تحيض ثم وسلم عن ذلك فقالُ ) :
ّ
تطهر ،ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس ،فتلك العدة التي أمر
الله أن تطّلق لها النساء( ،وهو في الصحيحين.
ظ قال ابن عمر) :فطلقها وحسبت لها التطليقة التي طلقها( ،وهو وفي لف ٍ
ف َ
ذ، ً
في الصحيح ،مع أن أهل الظاهر يقولون لو طلقها في الحيض ثلثا ن َ َ
طهرٍ مسها فيه. وكذلك لو طلقها في ُ
ل عليه والقصد ُ أن الطلق في الحيض على وجه البدعة نافذ ٌ على ما د ّ
الحديث المذكور.
----------------------------
] [1وولع مبتدعة العصر ومدعو الجتهاد ممن لم يحقق شروطه ول شم
رائحته ،بإنكار حجية الجماع ،والتقليل من شأنه ،ظاهٌر في كل كتاباتهم ،وما
فتئوا يصيحون بعدم حجيته وعدم إمكانية وقوعه ،وكل ذلك باطل عند علماء
الصول ،كما تجده مفصل ً في تلخيص إمام الحرمين الجويني رحمه الله
تعالى ،وغيرها من كتب الصول) .جلل(
ي
وما ورد في بعض روايات هذا الحديث أن عبد الله بن عمر قال) :فرّدها عل ّ
ل على معنى الرواية الخرى. ولم يرها شيئًا( متأوّ ٌ
ل عند العلماء ،ومحمو ٌ
وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما من غير وجهٍ العتداد ُ بتلك الطلقة
وإنفاُذها عليه ،وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز) :يا أيها الذين
آمنوا إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن( يعني لقبل عدتهن ،وقد قرئ
كذلك.
ده ،وإذا وقع دة بع َ
والمراد أن يوقع الطلق على وجه تستقبل المرأة الع ّ
الطلق في الحيض لم تعتد المرأة بأيام بقية الحيض من عدتها ،فتطول عليها
العدة.
وقيل ليطلق في الطهر فربما كان الطلق في الحيض لعدم حل الوطء فيه.
وقد جاء في بعض ألفاظه هذا الحديث) :فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق
لها النساء( ،يعني في هذه الية فقد دل الكتاب والسنة على أن الطلق في
الحيض محرم ومع ذلك فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بنفوذه
والعتداد به ،وإن كان قد خالف الوجه الذي شرع الطلق فيه ،فرأينا الشرع
أوقع بدعة الطلق كما أوقع سنته ،وما ذلك إل لقوة الطلق ونفوذه ،وكذلك
ف لوجه السنة في قول جماعة إذا جمع الطلقات الثلث في كلمةٍ فهو مخال ٌ
من السلف ،بل أكثرهم ،ومع ذلك يلزمونه الثلث.
ن عمك ً
ل فقال :إن عمي طلق امرأته ثلثا ،فقال :إ ّ ن العباس رج ٌ وقد أتى اب َ
عصى الله ،فأندمه الله ولم يجعل له مخرجاً.
وعن أنس قال كان عمر رضي الله عنه إذا أتى برجل طلق امرته ثلثا ً في
مجلس واحدٍ أوجعه ضربا ً وفرق بينهما.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلثا ً
في مجلس قال :أثم وحرمت عليه امرأته.
صى ً
وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما قال:من طلق امرأته ثلثا فقد عَ َ
رّبه ،وبانت منه امرأته.
فهذه أقوال الصحابة في إثم من جمع الطلقات الثلث لمخالفته السنة ،ومع
طلق ونفوذه. ذلك يوقعونها عليه ،وما ذلك إل لقوة ال ّ
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم) :ثلث جدهن جد وهزلهن جد النكاح
والطلق والرجعة( ،فجعل هزل الطلق جدًا.
ولم نعرف بين المة خلفا ً في إيقاع طلق الهازل ،وما ذلك إل لنه أطلق
ل َقيدِ نكاِح امرأته بذلك ول قصد
ح ّلفظ الطلق مريدا ً معناه ،ولكنه لم يقصد ِ
إيقاع الطلق عليها ،بل هزل ولعب ،ومع ذلك فلم يعتبر الشارع قصده وإنما
ألزمه موجب لفظه الذي أطلقه وواخذه به ،وما ذلك إل لقوة الطلق ونفوذه.
جزًا ،ويكون معّلقا ً على شرط: ثم إن الطلق يكون من ّ
ّ
فالمنجز كقوله) :أنت طالق( ،والمعلق كقوله) :إذا جاء رأس الشهر فأنت
طالق ،وإن دخلت الدار فأنت طالق( ،وقد أجمعت المة على وقوع المعّلق
جز ،فإن الطلق مما يقبل التعليق ،لم يظهر الخلف في ذلك إل كوقوع المن ّ
عن طوائف من الروافض.
ولما حدث مذهب الظاهرية المخالفين لجماع المة المنكرين للقياس خالفوا
في ذلك فلم يوقعوا الطلق المعّلق ،ولكنهم قد سبقهم إجماع المة فلم يكن
قولهم معتبرًا؛ لن من خالف الجماع لم يعتبر قوله ،وقد سبق إجماع المة
على وقوع الطلق المعلق قبل حدوث الظاهرية.
وإنما اختلف العلماء إذا عّلق الطلق على أمرٍ واقع أو مقصوٍد ،كقوله) :إذا
طلقُ من حين عّلق ول يتأخر إلى جاء رأس الشهر فأنت طالق( ،هل يتنجز ال ّ
وقوع الشرط ،وهو مجيء رأس الشهر ،أو يتأخر إلى مجيء رأس الشهر؟
ما عُّلق على شرط واقع فقد قصد إيقاع فيه قولن للعلماء مشهوران؛ لنه ل ّ
الطلق ورضي به فتنجز من وقته.
وهذا ابن تيمية لم يخالف في تعليق الطلق ،وقد صّرح بذلك ،فليس مذهبه
كمذهب الظاهرية في منع نفوذ الطلق المعلق.
ثم إن الطلق المعّلق منه ما يعلق على وجه اليمين ،ومنه ما يعّلق على غير
وجه اليمين :فالطلق المعّلق على غير وجه اليمين كقوله) :إذا جاء رأس
الشهر فأنت طالق( أو )إن أعطيتني ألفا ً فأنت طالق( ،والذي على وجه
اليمين كقوله) :إن كلمت فلنا ً فأنت طالق( أو )إن دخلت الدار فأنت طالق(
وهو الذي يقصد به الحث أو المنع أو التصديق ،فإذا عّلق الطلق على هذا
الوجه ثم وجد المعلق عليه وقع الطلق.
وهذه المسألة التي ابتدأ ابن تيمية بدعته ،وقصد التوصل بها إلى غيرها إن
تمت له.
ّ
وقد اجتمعت المة على وقوع الطلق المعلق ،سواء كان على وجه اليمين أو
ل على وجه اليمين ،هذا مما لم يختلفوا فيه وإجماع المة معصوم من الخطأ.
وكل من قال بهذا من العلماء لم يفّرق بين المعّلق على وجه اليمين أو ل
على وجه اليمين ،بل قالوا :الك ّ
ل يقع.
وقد لّبس ابن تيمية بوجود خلف في هذه المسألة ،وهو كذب وافتراء وجرأة
منه على السلم.
وقد نقل إجماع المة على ذلك أئمة ل يرتاب في قولهم ،ول يتوقف في
صحة نقلهم.
فممن نقل ذلك المام الشافعي رضي الله عنه ،وناهيك به فانه المام
القرشي الذي مل طبق الرض علمًا ،وثناء إمام هذا المبتدع الذي ينتسب إليه
وهو برئ من بدعته -وهو المام أحمد رضي الله عنه -على الشافعي
معروف ،وتبعيته له ومشيه في ركابه وأخذه عنه مشهور.
وممن نقل الجماع على هذه المسألة المام المجتهد أبو عبيد ،وهو من أئمة
الجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهما.
وكذلك نقله أبو ثور وهو من الئمة أيضاً.
طبري ،وهووكذلك نقل الجماع على وقوع الطلق المام محمد بن جرير ال ّ
من أئمة الجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة.
وكذلك نقل الجماع المام أبو بكر بن المنذر.
ونقله أيضا ً المام الرباني المشهور بالولية والعلم محمد ابن نصر المروزي.
ونقله المام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه )التمهيد( و)الستذكار(،
وبسط القول فيه على وجهٍ لم يبق لقائل مقا ً
ل.
ونقل الجماع المام ابن رشد في كتاب )المقدمات( له.
ونقله المام الباجي في )المنتقى( ،وغير هؤلء من الئمة.
وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة ،بل
صوا على وقوع الطلق وهذا مستقر بين المة ،والمام أحمد أكثرهم كلهم ن ّ
نصا ً عليها ،فإنه نص على وقوع الطلق ونص على أن يمين الطلق والعتاق
ليست من اليمان التي تكفر ول تدخل فيها الكفارة ،وذكَر] [1العتقَ وذكر
الثر الذي استدل به ابن تيمية فيه ،وهو خبر ليلى بنت العجماء ،الذي بنى
ح عنده ،وهو أثر عمان بن جته عليه وعّلله ورّده ،وأخذ بأثر آخر ص ّ
ابن تيمية ح ّ
حاضر ،وفيه فتوى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر رضي الله عنهم
بإيقاع العتق على الحانث في اليمين به ،ولم يعمل بأثر ليلى بنت العجماء،
ق في المسألة إلباسا ً رضي الله عنه ،بل كان قصده الحق. ولم ُيب ِ
وإذا كانت المة مجمعة على وقوع الطلق لم يجز لحد مخالفتهم ،فإن
الجماع من أقوى الحجج الشرعية ،وقد عصم الله هذه المة عن أن تجتمع
على الخطأ فان إجماعهم صواب.
وقد أطلق كثيٌر من العلماء القول بأن مخالف إجماع المة كافٌر.
ط المفتي أن ل يفتي بقول يخالف أقوال العلماء المتقدمين ،وإذا أفتى وشر ُ
منع من أخذ بقوله. ت فتواه و ُبذلك رد ْ
ودل الكتاب والسنة على أنه ل يجوز مخالفة الجماع قال الله تعالى) :ومن
يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما
تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا( ،فقد توعد على مخالفة سبيل المؤمنين
واتباع غير سبيلهم بهذا الوعيد العظيم ،ومخالف إجماع المة متبع غير سبيل
المؤمنين فكيف يعتبر قوله.
-----------------------------
] [1أي المام أحمد عليه رحمة الله تعالى .
وقال تعالى) :وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس(
والوسط الخيار ،والشهداء على الناس العدول عليهم ،فل يجتمعون على
الخطأ.
وقال تعالى) :كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
ل معروف وينهون عن كل المنكر( وهذا يدل على أن مجموعهم يأمرون بك ّ
منكر ،فلوا أجمعوا على الخطأ لمروا ببعض المنكر ونهوا عن بعض
المعروف ،ومحال أن يتصفوا بذلك وقد وصفهم الله بخلفه!!
ل مجموعه على عصمة جماعتهم لهن عن الخطأ وقد ورد في الحاديث ما يد ّ
والضلل ،والمسألة مبسوطة مقررة في موضعها.
ة على وقوع هذا الطلق ،فمن خالفهم فقد خالف ة مجتمع ٌ
والقصد هنا أن الم َ
الجماعة وخالف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بلزوم الجماعة ،وكان
الشيطان معه فان الشيطان مع الواحد.
ثم إن هذا المبتدع ابن تيمية اّدعى أن هذا القول قال به طاوس ،واعتمد على
ده في كتاب ابن حزم الظاهري عن مصنف عبد الرزاق. ج َ
ل شاذٍ و َنق ٍ
ولم ُينقل هذا القول عن أحد ٍ بخصوصه في الطلق إل عن طاوس كما ذكر
وعن أهل الظاهر.
ح النقل عنه بخلف ذلك ،وقد أفتى بوقوع الطلق في هذه أما طاوس فقد ص ّ
المسألة ،ونقل ذلك عنه بالسند الصحيح في عدة مصنفات جليلة منها كتاب
)السنن( لسعيد بن منصور ،ومنها )مصنف عبد الرزاق( الذي ادعى المخالف
ح كذبه في هذا النقل ،فإن المنقول في ض َأن النقل عنه بخلف ذلك ،وقد وَ َ
مصّنف عبد الرزاق عن طاوس خلف هذا الذي نسبه ابن تيمية ،والثر الذي
نقله عن طاوس إنما ذكره عبد الرزاق في طلق المكره ،فلبس ابن حزم
الظاهري النقل وتبعه هذا المبتدع.
ة كثيرة غير هذا مبينة في كتابنا )الرد علىٌ أجوب ح عنهوعن كلم طاوس لو ص ّ
ابن تيمية(.
وأما أهل الظاهر فيقولون إن الطلق المعّلق كّله ل يقع ،ولم يقل ابن تيمية
بذلك ،وهم مخالفون للجماع ل يعتبر قولهم ،ويقولون إن الطلق المعّلق
على وجه اليمين ل كفارة فيه ،ولم يقل ابن تيمية بذلك ،فهو مخالف لهم في
بدعته متمسك بقولهم الذي ل يعتبر.
وقد قال ابن حزم :إن جميع المخالفين له ل يختلفون في أن اليمين بالطلق
والعتق ل كفارة في حنثه ،بل إما الوفاء بالمحلوف عليه أو باليمين.
وقال هذا المبتدع :إن هذه المسألة لم يتكلم فيها الصحابة ،لنه لم يكن
يحلف بالطلق في زمانهم ،ثم بعد هذا القول نسب إلى الصحابة رضوان الله
عليهم أنهم يقولون بقوله فكذب أول ً وآخرًا:
أما كذبه أول ً فلنه قال) :إن الصحابة لم تتكلم في هذه المسألة( ،وليس
كذلك ،ففي صحيح البخاري فتوى ابن عمر رضي الله عنهما باليقاع.
قال البخاري :قال نافع :طلق رجل امرأته البتة إن خرجت ،فقال ابن عمر:
إن خرجت فقد بانت منه ،وإن لم تخرج فليس بشيء.
وهذه فتوى ظاهرها في هذه المسألة بإيقاع الطلق البتة إن خرجت ،وهو
وقوع المعّلق عليه ،وبه يحصل الحنث ،فأوقع ابن عمر الطلق على الحالف
به عند الحنث في يمينه ،ومن مثل ابن عمر رضي الله عنهما في دينه وعلمه
وزهده وورعه وصحة فتاويه؟!
ف أحد ٌ من الصحابة خالف ابن عمر في هذه الفتوى ول أنكرها عليه، ول ُيعَر ُ
وقد قضى علي رضي الله عنه في يمين بالطلق بما يقتضي اليقاع ،فإنهم
رفعوا الحالف إليه ليفرقوا بينه وبين الزوجة بحنثه في اليمين فاعتبر القضية،
فرأى فيها ما يقتضي الكراه ،فرد ّ الزوجة عليه لجل الكراه ،وهو ظاهٌر في
أنه يرى اليقاع لول الكراه.
وفي )سنن البيهقي( بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل
ت كذا وكذا فهي طالق ففعلته ،قال :هي واحدة ،وهو قال لمرأته :إن فعل ْ
أحقّ بها ،فأوقع الطلق واحدة عند الحنث بمقتضى اللفظ ولم يوجب كفارة.
ومن مثل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال النبي صلى الله عليه
ضا ً كما أنزل
وسلم) :كنيف مليء علمًا( ،وقال) :من أراد أن يقرأ القرآن غ ّ
فليقرأ على قراءة ابن أم عبد( ،ولم يخالفه أحد من الصحابة رضي الله عنهم
في ذلك.
ة في قول جمهور العلماء ،وقد أخبر النبي صلى ة شرعي ٌ ج ٌوقول الصحابة ح ّ
م من هديهم. الله عليه وسلم في أنهم كالنجوم ُيهتدى بهم ،فل هدي أت ّ
وأما كذبه ثانيا ً فلنه قال) :لم يكن يحلف بالطلق في عهد الصحابة( ،وهذه
وقائع فيها الحلف بالطلق.
وُنقلت أيضا ً حكومة أخرى وقعت عند علي رضي الله عنه في رجل حلف
بالطلق أنه ل يطأ امرأته حتى يعظم ولده ،بل نقل عن بعض الصحابة أنه
حلف بالطلق وهو أبو ذر رضي الله عنه لما سألته امرأته عن الساعة التي
يستجاب الدعاء فيها يوم الجمعة وأكثرت فقال لها) :زيغ الشمس( يشير إلى
ذراع فإن سألتني بعدها فأنت طالق ،فحلف عليها بالطلق أن ل تعاود
المسألة ،وفي ذلك آثار كثيرة غير هذا مذكورة في المصّنف المبسوط.
وأما كذبه آخرا ً فلنه نسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم القول بأن الطلق
ل يقع ،وأنه تجب الكفارة ،مع اعترافه أن ذلك لم يقع في عهدهم.
ب صريح ،وقد قالت عائشة رضي الله عنها) :كل وهذه مكابرة قبيحة وكذ ٌ
يمين وإن عظمت ليس فيها طلق ول عتاق ففيها كفارة يمين( ،فاستشنت
يمين الطلق ويمين العتاق من الكفارة.
ن عبد البر في )التمهيد( وفي )الستذكار( بهذا اللفظ وهذا الثر نقله اب ُ
مسندًا ،ونقَله هذا المبتدع فأسقط منه قولها) :ليس فيها طلق ول عتاق(
ليوهم أن عائشة رضي الله عنها تقول بالكفارة في يمين الطلق والعتق،
)فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون(.
فهذا عصر الصحابة لم ينقل فيه إل الفتاء بالوقوع.
وأما التابعون رضي الله عنهم فأئمة العلم منهم معدودون معروفون ،وهم
صا ً
الذين تنقل مذاهبهم وفتاويهم ،ولم ينقل هذا المبتدع عن أحدٍ منهم بعينه ن ّ
في هذه المسألة غير ما نسبه إلى طاوس ،مع أنه يدعي إجماعهم على قوله
مكابرة كما فعل في الصحابة.
وقد نقلنا من الكتب المعروفة الصحيحة )كجامع عبد الرزاق( و)مصنف ابن
أبي شيبة( و)سنن سعيد بن منصور( و)السنن الكبرى للبيهقي( وغيرها فتاوى
التابعين أئمة الجتهاد ،وكلهم بالسانيد الصحيحة أنهم أوقعوا الطلق بالحنث
في اليمين ولم يقضوا بالكفارة ،وهم :سعيد بن المسيب أفضل التابعين،
والحسن البصري ،وعطاء ،والشعبي ،وشريح ،وسعيد بن جبير ،وطاوس،
ومجاهد ،وقتادة ،والزهري ،وأبو مخلد.
والفقهاء السبعة فقهاء المدينة وهم :عروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن
أبي بكر وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد وأبو بكر
بن عبد الرحمن وسالم بن عبد الله بن عمر وسليمان بن يسار ،وهؤلء إذا
دما ً على غيرهم.
أجمعوا على مسألة كان قولهم مق ّ
وأصحاب ابن مسعود السادات وهم :علقمة والسود ومسروق وعبيدة
السلماني وأبو وائل شقيق بن سلمة وطارق ابن شهاب وزر بن حبيش.
وغير هؤلء من التابعين مثل ابن شبرمة وأبو عمرو الشيباني وأبو الحوص
وزيد بن وهب والحكم وعمر بن عبد العزيز وخلس بن عمرو.
كل هؤلء نقلت فتاويهم بإيقاع الطلق لم يختلفوا في ذلك ،ومن هم علماء
التابعين غير هؤلء.
فهذا عصر الصحابة وعصر التابعين كلهم قائلون باليقاع ،ولم يقل أحد ٌ أن
هذا مما يجري به الكفارة.
وأما من بعد هذين العصرين فمذاهبهم معروفة مشهورة كلها تشهد بصحة
هذا القول ،كأبي حنيفة وسفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق
وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر وابن جرير الطبري ،وهذه مذاهبهم منقولة
بين أيدينا ولم يختلفوا في هذه المسألة.
فإذا كان الصدر الول وعصر الصحابة رضي الله عنهم وعصر التابعين لهم
بإحسان بعدهم وعصر تابعي التابعين لم ينقل عنهم خلف في هذه المسألة،
ن بعد هذه العصار الثلثة لم يقل إمام مجتهد بخلف وهذا المبتدع يسّلم أ ّ
ل استقر من زمن النبي صلى الله عليه وسلم قولنا ،فكيف يسوغ مخالفة قو ٍ
ل مبتدٍِع يقصد نقض عرى السلم ومخالفة سلف المة ؟! والى الن ،بقو ِ
أكان الحقّ قد خفي عن المة كلها في هذه العصار المتتابعة حتى ظهر هذا
الزائغ بما ظهر به؟!!
هيهات هيهات وهذا واضح لذوي البصائر وأرباب القلوب المنورة بنور اليقين،
)أفمن شرح الله صدره للسلم فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم
من ذكر الله أولئك في ضلل مبين( ولكن قد عميت البصائر والناس سراع
إلى الفتنة ،راغبون في المحدثات ،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم) :كل
محدثة ضللة(.
الفصل الثاني
في كلم إجمالي يدفع الستدلل المذكور
ن الناس على قسمين: وذلك أ ّ
عالم مجتهد متمكن من استخراج الحكام من الكتاب والسنة أو عامي مقلد
لهل العلم:
ووظيفة المجتهد إذا وقعت واقعة أن يستخرج الحكم فيها من الدلة
الشرعية ،ووظيفة العامية أن يرجع إلى قول العلماء،
وليس لغير المجتهد إذا سمع آية أو حديثا ً أن يترك به أقوال العلماء ،فإنه إذا
ل دّلهم على م أنهم إنما خالفوه لدلي ٍرآهم قد خالفوا ذلك مع علمهم به عَل ِ َ
ذلك ،وقد قال الله تعالى) :فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون( وقال:
)ولو رّدوه إلى الرسول وإلى أولي المر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم(.
ن غير العالمم ليس هذا موضع ذكره ،والقصد أ ّ وللمفسرين في الية كل ٌ
م أو إطلقٌ لم يكن لهم المجتهد -ول سيما العوام ،-إذا سمعوا آية فيها عمو ٌ
أن يأخذوا بذلك العموم أو الطلق إل بقول العلماء ،ول يعمل بالعمومات
ف الناسخ والمنسوخ ،والعام والخاص ،والمطلق والطلقات إل من عََر َ
والمقيد ،والمجمل والمبين ،والحقيقة والمجاز.
فإذا سمع قوله تعالى) :أو مما ملكت أيمانكم( وأخذ بعمومه في الجمع بين
الختين المملوكتين كان مخطئًا ،فإذا سمع معه قوله تعالى) :وأن تجمعوا بين
الختين( قال :هذا يعم الختين المملوكتين والمنكوحتين ،فيتحير بأي
العمومين يعمل ؟ فإذا سمع قول عثمان رضي الله عنه) :أحلتها آية وحرمتها
خر غير ن العمل على دليل التحريم ،وله ترجيحات أ ُ َ مأ ّ آية والتحريم أولى( ،عَل ِ َ
هذا يعرفها العلماء ،فيعلم العامي أنه ل يمكنه الستقلل بأخذ الحكم من
الكتاب.
وكذلك إذا سمع الدلة الدالة على تحريم اللواط والتأكيد ،وسمع قوله تعالى:
ن هذا يقتضي حل المملوك ،وقد خطر )أو ما ملكت أيمانكم( ،فقد يخطر له أ ّ
ذلك لبعض الجهال ،فإذا أخذ بهذا العموم ض ّ
ل.
وقد قال بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه :إن من تأول هذا التأويل
د ،وأخطأ في هذا القول خطأ ً عظيمًا. ط عنه الح ّسق َ
َ
ً
ن قائل قال :يحل وطأ الزوجة في الدبر مستندا إلى قوله ً وكذلك إذا سمع أ ّ
ً
ن ذلك صحيحا ،وأن َ
تعالى) :نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شيءتم( ،ظ ّ
ل ذلك ،وهو مخطئ؛ لن هذا القول شاّذ ،يقال إنه رواية ح ّ ل على ِ القرآن د ّ
ح عن مالك تحريم ذلك ،والية عن مالك ولم يصح ،والمالكية ينكرونه ،وص ّ
داّلة على التحريم بخلف ما يظن الجهال ،فإن الحرث ل يكون إل في موضع
البذر ،والحديث الصحيح في سبب نزول الية يوضح المعنى ،وهو أن اليهود
كانوا يقولون :إن الرجل إذا أتى امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول،
فأنزل الله هذه الية) :نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شيءتم( أي كيف
ظ) :غير أن ل شيءتم ،وفي الحديث الصحيح) :في صمام واحد( ،وفي لف ٍ
تأتوا في غير المأتي(.
فإذا لم يجمع النسان بين الدلة ،وبين الكتاب والسنة ،ويعرف سبب نزول
الية ومحملها ،ل ينبغي أن يأخذ بظاهر من فهمه ل يعرف ما وراءه.
وإذا سمع العامي الحديث) :من شرب الخمر فاجلدوه( إلى أن قال في
الرابعة) :فإن شربها فاقتلوه( ،فعمل به وقتل الشارب في الرابعة كان
مخطئًا؛ لن المة أجمعت على ترك العمل بهذا الحديث.
وكذلك إذا سمع حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم )أن
النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلتين في المدينة من غير خوف ول
مطر( ،وقد رواه مسلم من طرق عدة ،فيقول العامي بهذا الحديث ،ول يعلم
أن المة أجمعت على ترك العمل به ،إل ما يروى عن ابن سيرين انه يجوز
ن عمر رضي الله عنه كتب الجمع في الحضر للحاجة ،وقد روى أبو العالية أ ّ
ن جمع ما بين الصلتين إلى أبي موسى الشعري رضي الله عنه) :واعلم أ ّ
ي ،وقال في آخر ج هذين الحديثين الترمذ ّ من الكبائر إل من عذر( ،وقد أخر َ
ث ترك العمل به بالجماع سوى حديثين( كتابه) :ليس في كتابي هذا حدي ٌ
فذكر هذين الحديثين.
وكذلك حديث ابن عباس كان الطلق على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبي بكر وصدر من خلفة عمر الثلث واحدة ،فلما رآهم عمر قد
تتابعوا فيه قال :أجيزوهن عليهم ،وهذا الحديث متروك الظاهر بالجماع،
ومحمول عند العلماء على معان صحيحة ،وقد صحت الرواية عن ابن عباس
بخلفه من وجوه عدة.
فإذا سمعه العامي وحده وقف عنده ولم يعلم أنه معارض بما يدفعه ،ومردود
الظاهر بإجماع المة.
ح فعلها في زمن النبي صلى الله عليه ص ّ
وأحاديث المتعة صحيحة ،وقد َ
ح النهي عنها ،فأبيحت مرتين ونسخت مرتين ،فإذا سمع العامي وسلم ،وص ّ
ن أنها مباحة ولم يعلم أن ذلك نسخ ،وقد وقع َ
الحاديث الصحيحة بإباحتها ظ ّ
هذا للمأمون وهو خليفة ،فنادى بتحليل المتعة ،فدخل عليه القاضي يحيى ابن
أكثم وقال له :أحللت الزنى ،وعّرفه الحديث الصحيح في النسخ ،ولم يكن
سمعه ،فنادى من وقته بتحريم المتعة.
ح ،وكان قد شرب الخمر فرفع وحديث قدامة بن مظعون رضي الله عنه صحي ٌ
المر إلى عمر رضي الله عنه فاعترف وذكر أنه إنما شربها متأول ً قوله
تعالى) :ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فما طعموا( فرد ّ عليه
عمر وقال) :أخطأت التأويل ألم يقل الله سبحانه) :إذا ما اتقوا وآمنوا( (.ولم
ده؛ لنه لم يستنبط الحكم استنباطا ً يجعل تأويله موجبا ً لسقاط الحد ،بل ح ّ
صحيحًا ،ولكّنه أخذ بعموم نفي الجناح في كل مطعوم وغفل عن القيد
المخصص وهو قوله) :إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات( إلى آخر الية.
وهذا يوضح أن العمل بالعموم بمجرده من غير نظر في أدّلة التخصيص
ل به ،وأمثلة ذلك كثيرة ل نطيل بذكرها. ٌ
والتقييد خطأ من العام ِ
دع وهي قوله تعالى) :ولكن يؤاخذكم بما عقدتم ج بها هذا المبت ِ
والية التي احت ّ
اليمان( إلى آخر الية والية الخرى وهي قوله تعالى) :قد فرض الله لكم
تحلة أيمانكم( إذا سمعها العامي يظن دخول يمين الطلق في ذلك وقال:
حة قول هذا المبتدع هي يمين ،والله جعل في كل يمين كفارة ،واعتقد ص ّ
وتلّبس عليه باطله ،فإذا اعترف أنه ل ينبغي له أن يعمل بالعموم حتى يعرف
ض المر إلى أهله ،وعلم أن صص ويعرف ما يعارضه من الدلة فوّ َ هل له مخ ّ
فوق كل ذي علم عليم.
وكذلك ل ينبغي أن يأخذ بأدلة الكتاب حتى يعلم ما في السنة مما يبينه أو
يخصصه أو يقّيده قال الله تعالى) :وأنزلنا إليك الكتاب لتبين للناس ما نزل
إليهم( ،وقال صلى الله عليه وسلم) :ل ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه
المر من أمري فيقول ل أدري ما سمعنا في كتاب الله اتبعناه(..الحديث.
والحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه قال :بعث رسول الله صلى الله
ة ،واستعمل عليهم رجل ً من النصار ،وأمرهم أن يسمعوا له عليه وسلم سري ً
ً
ويطيعوا ،فأغضبوه في شيء ،فقال :اجمعوا لي حطبا ،فجمعوا له ،ثم قال:
أوقدوا لي نارا ،فأوقدوا ،ثم قال :ألم يأمركم رسول إليه صلى الله عليه
وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا :بلى ،قال :فادخلوها ،فنظر بعضهم إلى
ض وقالوا :إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار،بع ٍ
فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار ،فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال) :لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدًا( ،وقال) :ل
طاعة في معصية الله ،إنما الطاعة في المعروف( ،ولم يعذرهم النبي صلى
الله عليه وسلم في الخذ بإطلق قوله) :اسمعوا له وأطيعوا( ،لما دلت الدلة
ن الطاعة إنما تكون فيما وافق الحق ،ول طاعة في المعصية ،مع أّنهم على أ ّ
قد ل يكونون ممن سمع تلك الدلة ،فإن الممتنعين من الدخول فيها لم
يأخذوا إل بأنهم إنما أسلموا ليسلموا من النار ،فكيف يؤمرون بالدخول فيها،
فقيدوا إطلق المر بالسمع والطاعة بدليل قياسي ،ومع عدم علمهم بتلك
الدلة لم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم ،بل حكم باستمرارهم بالنار لو
دخلوها لتقصيرهم في البحث عن الدلة في محل الشكال.
فمن لم يعرف الكتاب والسنة وأقوال الئمة لم يكن له أن يقف عند دليل
يسمعه من غير إمام يرشده.
م إل وقد دخله ٌ عمو القرآن في ليس أنه الئمة وقد نقل عن جماعة من
التخصيص ،إل قوله تعالى) :والله بكل شيء عليم( ،وقوله تعالى) :كل شيء
هالك إل وجهه( إذا أريد بالوجه الذات والصفات المقدسة ،حتى قالوا في
قوله) :خالق كل شيء( ليس محمول ً على عمومه ،بل هو مخصوص ،فإن
الله سبحانه شيء وليس مخلوقا ً تعالى عن ذلك.
م ل يليق بهذا الموضع ،فعلمنا من ذلك أن قوله تعالى: وفي هذا ومثله كل ٌ
)ولكن يؤاخذكم بما عقدتم اليمان( الية ،وقوله) :قد فرض الله لكم تحلة
أيمانكم( ل يعمل بعمومه حتى ننظر فيما يخصصه أو يعارضه من كتاب أو
سنة ،فإذا تحقق المراد منه وأي مخرج خرج تبين ما فيه من الدليل أو عدمه.
من ل يعرف شروط الدلة ولكن هذا المبتدع قصده الترويج على العوام ِ و َ
ول عليهم بقوله :هذا نص القرآن وهذا قول الله، وكيفية استخراج الحكم ،ويه ّ
فتنخلع أفئدتهم لقوله ،ول يعلمون ما وراء ذلك.
الفصل الثالث
في الجواب عن استدلله باليتين المذكورتين على وجه التفصيل
أما الية الولى وهي قوله تعالى) :ل يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن
يؤاخذكم بما عقدتم اليمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما
تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام ذلك
كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم
تشكرون(.
وإنما يتم الستدلل بها إذا تبين دخول يمين الطلق في عموم قوله) :ذلك
كفارة أيمانكم إذا حلفتم( ولم يكن لذلك معارض يمنع دخولها فيه.
والكلم على هذه الية يلتفت على الكلم على الية الخرى في سورة
البقرة ،قال الله تعالى) :ول تجعلوا الله عرضة ليمانكم أن تبروا وتتقوا
وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ل يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم
ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم(.
وللمفسرين في معنى قوله تعالى) :ول تجعلوا الله عرضة ليمانكم أن تبروا(
قولن:
أحدهما :أن المراد ل تجعلوا اليمين بالله تعالى متعرضة بينكم وبين أن تبروا
وتتقوا وتصلحوا بين الناس ،فتحلفوا ل تفعلوا ذلك ،فتبقى اليمين متعرضة
بين الحالف وبين البّر والتقوى ،فنهاهم الله عن اليمين على ذلك ،ثم شرع
لهم الكفارة للتخلص من هذا المنع؛ ليكون طريقا ً لحالف إلى الرجوع إلى
البر والتقوى والصلح.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم) :إني ل أحلف على يمين فأرى غيرها
خيرا منها إل كفرت عن يمين وأتيت الذي هو خير(.
والقول الثاني :أن المراد ل تجعلوا اسم الله عرضة ليمانكم ،فتبتذلوه
بالحلف به في كل شيء ،وقوله) :أن تبروا( معناه إرادة أن تبروا ،يعني إذا
لم تبتذلوا اسم الله في كل يمين قدرتم على البر.
ثم شرع لهم الكفارة لتكون جابرة لما يحصل من انتهاك حرمة السم
المعظم ،ول شك أن اليمين بالله تعالى مراده في اليتين هي اليمين
ل ،فالحالف يعقد اليمين بالله الشرعية ،وهي التي شرعت الكفارة فيها أص ً
على أن يفعل كذا أو أن ل يفعل كذا فإذا قال :والله ل أفعل أو والله لفعلن
كد عقده بهذا السم المعظم ،كأنه يقول :إن فعلت كذا فقد خالفت فقد أ ّ
موجب تعظيم ما عقدت به اليمين من السم المعظم ،ولست معظما ً له ح ّ
ق
تعظيمه.
هذا موضوع اليمين فإذا عقدها على الوجه ثم خالف موجبها وحنث فقد لزمه
فارة ما ألزم نفسه من انتهاك حرمة السم بالمخالفة ،فجعل الله سبحانه الك ّ
جابرة لهذا المر الذي ألزمه نفسه تعظيما ً لسمه المستحق للتعظيم.
ل ،فل يشاركه غيره فيه ،ولهذا نهي عن وهذا أمٌر ل يستحقه غير الله عز وج ّ
الحلف بغير الله عز وجل.
ونقل ابن عبد البر إجماع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي
عنها ،ل يجوز لحد ٍ الحلف بها ،ومن ههنا قال أهل الظاهر :ل كفارة إل في
اليمين بأسماء الله عز وجل وصفاته ،ول تجب الكفارة في يمين غير ذلك.
وممن قال بهذا القول الشعبي والحكم والحارث العكلي وابن أبي ليلى
ومحمد بن الحسن ،نقله ابن عبد البر وقال :هو الصواب عندنا ،والحمد لله.
ن غيرها ،لكن على سبيل وقال جمهور العلماء بوجوب الكفارة في أيما ٍ
اللحاق بها؛ لوجود علة وجوب الكفارة عندهم.
هذه أقوال المعتبرين من العلماء ،وقد شذ ّ بعضهم بأقوال ل يعرج عليها ول
يتأتى بيان ذلك إل بتفصيل أنواع اليمان ،وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى.
هذا مع اتفاق العلماء كلهم على أمرين:
أحدهما :أن يمين الطلق ل كفارة فيها ،ولو قلنا هي يمين.
ّ
ص ،فل تجب الكفارة في كل ما يطلق عليه والثاني :أن عموم الية مخصو ٌ
ة ،وإذا كانت الكفارة ل تجب في كل ما يسمى يمينا ً في اللغة اسم اليمين لغ ً
لم تبق الية الكريمة مجراة على عمومها.
وحينئذ فالية إما محمولة على اليمين الشرعية ،أو على اليمين اللغوية،
والحمل على الموضوع الشرعي أولى عند المحققين من العلماء ،فإذا كان
ظ معنى في اللغة ومعنى في الشرع إما يقاربه وإما يباينه ،ووجدنا ذلك للف ٍ
ذر حملناهاللفظ في خطاب الشارع حملناه على معناه في الشرع ،فإن تع ّ
على معناه في اللغة والعرف.
ن الحمل فيها على الموضوع اللغوي يوجب وههنا في الية زيادة ،وهي أ ّ
سِلمتخصيص عمومها ،والحمل على المعنى الشرعي قد ل يوجب ذلك ،وما َ
من التخصيص أو كان أقل تخصيصا ً كان أولى ،فيتعين حمل اليمان في الية
الكريمة على المعنى الشرعي.
ً
واليمين الشرعية هي ما شرع الحلف به أو لم يكره شرعا ولم يحرم ،وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم) :من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت(،
ظ لمسلم) :من كان حالفا ً فل يحلف إل بالله(، وهو في الصحيحين ،وفي لف ٍ
وكانت قريش تحلف بآبائها فقال) :ل تحلفوا بآبائكم(.
وفي سنن النسائي من رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
)ل تحلفوا إل بالله ول تحلفوا إل وأنتم صادقون( ،فنهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن كل يمين بغير الله عّز وجل ،وما نهى عنه لم يكن شرعيًا ،ول فرق
بين اليمين باسم الله عز وجل أو غيره من السماء الحسنى والصفات العليا،
والكل شرعي ينعقد ،فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف فيقول) :ل
ومقلب القلوب(.
وفي حديث صفة الجنة أن جبريل قال) :وعزتك ل يسمع بها أحد إل دخلها(،
ولما حلف الصحابة بالكعبة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم) :قولوا ورب
الكعبة( ،فكل هذه أيمان شرعية؛ لن المعنى في النهي عن الحلف بغير الله
أن الحلف تعظيم للمحلوف به على وجه ل يليق بغير الله عز وجل ،فبأي
ظما ً لغير
ف لم يكن مع ّ
حل َ َ
اسم من أسماء الله عز وجل أو صفة من صفاته َ
الله تعالى.
فإذا كانت اليمين الشرعية هي اليمين بالله عز وجل وصفاته ،كانت الية
محمولة على ذلك ،فدلت الية على أن كل يمين بالله أو باسم من أسمائه أو
صفة من صفاته يوجب الكفارة عند الحنث؛ لن اللفظ شرعي فيحمل على
المعنى الشرعي ،وتكون الية على عمومها في كل اليمان الشرعية؛ فل
تكون الية دالة على إيجاب الكفارة في شيء من اليمان سوى اليمان
الشرعية ،وهي اليمان بالله وبأسمائه وصفاته.
ول تدخل اليمين بالطلق ول غيرها في ذلك.
ثم إن العلماء رأوا أن بعض اليمان ملحق باليمين بالله تعالى في إيجاب
الكفارة ،فألحقوه بذلك لوجود المعنى الذي شرعت الكفارة لجله فيها ،وعند
هذا اختلف نظرهم فمنهم من يلحق أنواعا ً كثيرًا ،ومنهم من يلحق أقل من
ذلك على اختلف نظرهم واجتهادهم.
ويوجد هذا الختلف للصحابة والتابعين ومن بعدهم ،فنتكلم فيما وعدنا به من
تفصيل اليمان التي جوَّز فيها العلماء المعتبرون الكفارة ،ثم نتكلم على
الطلق والعَِتاق.
فمنها الّنذر الذي يسمى نذر اللجاج والغضب والغلق وقد قيل فيه بالوفاء،
وقيل :بالكفارة على وجه التخيير.
فاعلم أن النذر في أصله قربة ،ووضعه الصلي أن يعلق التزام قربة على
ب يريده :إما جلب نعمة أو دفع نقمة كقوله :إن شفى الله مريضي مطلو ٍ
ي صوم شهر ،أو إن رد ّ الله تعالى الغائب فلله علي أن أتصدق بكذا. فلله عل ّ
وهذا نذر شرعي ،ويسمى عند الفقهاء نذر التبرر والوفاء اللزم ،فإذا حصل
ما طلبه وهو المعّلق عليه وجب عليه الوفاء بما نذر ،ول تجزئة في ذلك
كفارة يمين.
ة على غير مطلوب كقوله: ب ووضعه في الشرع ،فإن التزم قرب ً هذا أص ُ
ل البا ِ
ً
لله علي أن أصوم كذا أو أن أتصدق بكذا ،فهل يسمى هذا نذرا ؟ فيه خلف،
وأكثر العلماء على أنه نذر يجب الوفاء به.
ّ
ن الناس توسعوا في ذلك فصاروا يعلقون ولكن أصل الباب هو الّتعليق ،ثم إ ّ
ن
ث عليه أو المنع منه ،كقول القائل :إ ْ لزوم القربة على ما يريدون الح ّ
ي صدقة وما أشبه ً
ط فلنا كذا فعل ّ
ن لم أع ِ ي صوم شهر ،وإ ْ كلمت فلنا ً فعل ّ
ذلك ،فهذا تعليقُ قربةٍ على أمرٍ يطالب وقوعه أو المنع منه ،فهو تعليق قربة
على مطلوب فمن هذا الوجه هو نذر يشبه نذر الّتبرر؛ لما فيه من صريح
التعليق للقربة على مطلوب.
وفي معناه شبه اليمين من جهة أّنه ل على التزام القربة على وجه الّتقرب،
ث نفسه أو منعها بما عّلق من لزوم القربة التي إن خالف ولم بل قصد ح ّ
يلتزمها عند وقوع الشرط فقد ترك حق الله ولم يقم به ولم يعظمه حق
تعظيمه ،فصار ذلك في المعنى كقول القائل :والله لفعلن أو والله ل أفعل،
ن فعلت فقد خالفت ما عقدت به قولي من السم ن معنى كلمه إني إ ْ فإ ّ
ظم ،فلست معظما ً له حق تعظيمه ،فصار في هذا الّنذر شبه من اليمين المع ّ
في المعنى ،وهو بلفظ النذر لجل الذي يجب الوفاء به ،وقد مدح الله قوما ً
على الوفاء بالنذر فقال تعالى) :يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شّره
مستطيرًا( وذم النبي صلى الله عليه وسلم قوما ً على ترك الوفاء بالنذر،
فقال في حديث عمران بن حصين ،وهو في الصحيح) ،خير أمتي قرني ،ثم
الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم( ،قال عمران :فل أدري أذكر بعد قرنه قرنين
أو ثلثة) ،ثم إن من بعدهم قوما ً يشهدون ول يستشهدون ،ويخونون ول
يؤتمنون ،وينذرون ول يوفون ،ويظهر فيهم السمن(.
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال) :من نذر
أن يطيع الله فليطعه ،ومن نذر أن يعصي الله فل يعصه( ،وهو حديث صحيح.
فأوجب أول ً الوفاء ،وهذا قول مالك رضي الله عنه في المشهور عنه ومن
تبعه ،وقول ربيعة وإحدى الروايات عن أبي حنيفة ،وقد روي عن ابن عمر
رضي الله عنهما أنه قال بوجوب الوفاء.
روى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الهيثم بن سنان أنه سمع ابن عمر وسأله
بعض أهله أنه كسى امرأته كسوةً فسخطتها ،فقالت :إن لبستها في رتاج
الكعبة ،قال ابن عمر :لتجعل مالها في رتاج الكعبة ،قال :إنما مالها في الغنم
والبل ،قال ابن عمر :ل ِت َِبع الغنم والبل في رتاج الكعبة.
وروي عن أنس رضي الله عنه مثل ذلك عن مالك بن دينار ،وأن امرأة أتته
فقالت :إن زوجها كساها كسوة وأنها غضبت فجعلتها هدية إلى بيت الله إن
لبستها ،قال :فانطلقت إلى أنس فسألته فقال :إن لبستها فلتهدها ،وإسناد
هذا الثر أيضا ً جيد.
ونقل هذا القول وهو وجوب الوفاء عن إبراهيم النخعي.
وإنما سقت هذه القوال لن هذا المبتدع قال :إن القول بوجوب الوفاء لم
من ذكرنا.ح ذلك ع ّينقل عن الصحابة ول عن التابعين ،وقد ص ّ
وسيأتي أثر آخر فيه ابن عمر وابن عباس والزبير وجابر رضي الله عنهم إن
شاء الله تعالى.
فر إن شاء ول يلزمه الوفاء به ،وهؤلء أجروا هذا النذر وقال طائفة أخرى :يك ّ
مجرى اليمين لما ذكرنا من حصول المعنى الذي شرعت الكفارة في اليمين
لجله ،وهو أنه عقد يمينه بما التزمه من طاعة الله التي إن خالف عند
لزومها فقد انتهك حرمة الحق ،فجبره بكفارة يمين كما يجبر انتهاك حرمة
السم المعظم إذا حنث بكفارة يمين.
وقد أفتى بذلك جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه :إن هذا قول عائشة رضي الله عنها وعدد
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،ولهذا قال الشافعي في ذلك :يتخير
بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين.
ومن العلماء من يفرق بين التزام الحج وغيره فيقول :إن التزم حجا لزمه
وإن التزم غيره كان له الخروج بكفارة يمين.
ة ماِله كّله أو جعله في سبيل الله
ومنهم من فّرق أن يكون قد التزم صدق َ
فقال :يجزئه الثلث من ماله؛ لحديث أبي لبابة بن عبد المنذر ،فإنه قال للنبي
صلى الله عليه وسلم :إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة لله عز وجل
ولرسوله ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) :يجزئ عنك الثلث(.
وفي الصحيحين في حديث كعب بن مالك -أحد الثلثة الذين خلفوا وتاب الله
عليهم ،-أنه قال :يا رسول الله ،إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى
الله ورسوله ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) :أمسك عليك بعض
ت :إني أمسك سهمي بخيبر. مالك فهو خيٌر لك( ،قال :قل ُ
ومنهم من أوجب الصدقة بقدر الزكاة ،ويروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس،
وسيأتي الثر بذلك إن شاء الله تعالى.
والقول بأن يتخير بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين هو القول المرضي،
وهو قول كثيرٍ من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ،وسببه ما ذكرنا أن اللفظ
لفظ نذر والمعنى معنى يمين ،فإن وّفى فقد أتى بموجب اللفظ ،وإن ك ّ
فر
فقد أتى بموجب المعنى ،فهذا النوع يلحق باليمان الشرعية من هذا الوجه،
وليس يمينا ً في الحقيقة بما يعظم كالكعبة والنبي فل كفارة فيها.
وفي مذهب أبي حنيفة قول إنه تجب الكفارة بالحلف بالنبي؛ لن حقه من
حق الله عز وجل فأشبه اليمين بالله ،وهو ضعيف وجمهور العلماء على
خلفه.
وأما الحلف بملة غير السلم فليس من اليمان الشرعية ،ول ينبغي أن يعتقد
دخوله في قوله تعالى) :ذلك كفارة أيمانكم( ،لنها يمين محرمة ،والمحرم ل
يكون شرعيًا.
وأكثر العلماء على أن ل كفارة فيها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
)من حلف على يمين بملة غير السلم كاذبا ً فهو كما قال ،وان كان صادقا لم
يعد إلى السلم سالمًا( ،وفيه غير ذلك.
وورد فيه أن كفارته قول ل إله إل الله ،وفي مذهب أبي حنيفة إيجاب
الكفارة ،وهذه اليمين ل تحتاج إلى ذكرها.
لكن هذا المبتدع جعل إيجاب من وأوجب الكفارة فيها حجة له ،وقال :لو
ت كذا فأنا
لزمه ما التزم لحكم بكفره؛ لنه التزم الكفر في قوله :إن فعل ُ
يهودي أو نصراني ،وهذا خطأ ،فإن التكفير مداره على اعتقاد القلب،
ل على كفره في عقد قلبه واللسان ترجمان ذلك ،فإذا صدر منه لفظ د ّ
حكمنا بكفره ،وإذا صدر منه لفظ ل يدل على كفره في قلبه لم نحكم بكفره،
وإن تلفظ بالكفر ،ولهذا لم نحكم بكفر المكره على التلفظ بالكفر ،وقد قال
ت كذا فأناالله تعالى) :إل من أكره وقبله مطمئن باليمان( ،والقائل :إن فعل ُ
يهودي أو نصراني ،ل يقوله ليكون يهوديا ً أو نصرانيا ً بقلبه ،ولكنه يمنع نفسه
من الفعل لئل يلزمه أن يكون يهوديا ً أو نصرانيًا ،والممتنع من الفعل خشية
من هذا اللزوم لم يعقد قبله على الكفر ،وإنما عقده على اليمان ،فلم نحكم
بكفره.
وأما الطلق فمداره على إطلق اللفظ للمعنى ،وان لم يقصد به حل قيد
النكاح ،ولهذا اختلف العلماء في إيقاعه على المكره والسكران ،وقد قال
كثير من الصحابة والتابعين بوقوع طلق السكران ،بل الكثرون على ذلك،
فلم يعتبروا فيه قصد حل قيد النكاح ،ولهذا يلزم الهازل ويقع عليه ،وما ذلك
إل لطلق اللفظ.
ل على استهانته بالدين بقلبه ،فهو كافر وإنما كفر الهازل بالكفر لن كفره د ّ
ل عليه لفظه ،والمطّلق بالهزل مطلق اللفظ ،ل بعقد بعقد القلب الذي د ّ
القلب على الطلق ،فل يقاس أحد البابين على الخر.
وأما إيجاب الكفارة في مذهب أبي حنيفة في يمين الكفر فلنه إذا قال :إن
فعلت كذا فأنا كافر ،كان قد عّلق يمينه بتعظيم حق الله عز وجل على أن
يكفر به ،فأشبه تعظيم اسم الله أن تنتهك حرمته إذا حلت به ،فألحق باليمين
بالله تعالى في إيجاب الكفارة فله وجه من القياس ،وان كان الصح أن
الكفارة ل تجب.
وأما يمين العتق وهو ما إذا قال :إن فعلت كذا فعبدي حر ،فإن جمهور
العلماء على لزوم العتق عند الحنث ،وأنه ل تجزئ في ذلك كفارة يمين ،هذا
هو القول المشهور الذي استقرت عليه المذاهب المتبوعة ،حتى قال بعضهم:
إن المة مجمعة عليه.
وروي عن أبي عبيد وأبي ثور أنهما قال :تجزئ فيه الكفارة ،وأما الئمة
الربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فقالوا بالعتق ،وهو مذهب عامة
علماء المصار.
وما يروى من أثر ليلى بنت العجماء أنها حلفت بالهدي والعتاق لتفرقن بين
عبدها وأمتها ،فأفتاها ابن عمر وزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم
وغيرهما بالكفارة ،فهذا الثر تختلف اللفاظ في روايته روي من عدة
]طرق[ ،ومداره على أبي رافع مولى ليلى بنت العجماء ،وبعضهم يذكر فيه
العتق وبعضهم ل يذكره ،وقد ذكرنا عنه عدة أجوبة في الكتاب المطول
ظاهرة ،وقد ذكر هذا الثر المام أحمد ،ولم يأخذ به ،بل قال بلزوم العتق،
وروى أثرا ً يعارضه عن عثمان بن حاضر ،قال :حلفت امرأة من ذي أصبح
فقالت :مالي في سبيل الله وجاريتي حرة إن لم تفعل كذا وكذا ،لشيء
ذكره زوجها أن تفعله ،فذكر ذلك لبن عمر وابن عباس فقال :أما الجارية
فتعتق ،وأما قولها مالي في سبيل الله فلتتصدق بزكاة مالها.
وروي هذا الثر من طرق وفيه أيضا ً فتوى ابن الزبير وجابر بن عبد الله بذلك،
فهؤلء أربعة من الصحابة وعلمائهم أفتوا بالعتق.
وقد أخذ بهذا الثر المام أحمد بن حنبل إمام هذا المبتدع في غير بدعته ،ورد
خبر ليلى بنت العجماء.
وقال الشيخ موفق الدين المقدسي الحنبلي :إن أحمد رضي الله عنه قال
فري يمينك واعتقي في خبر ليلى بنت العجماء :إن الصحابة قالوا لها :ك ّ
جاريتك ،وقال :هذه زيادة يجب قبولها ،فاتفق الخبران على لزوم العتق.
وقول عائشة) :كل يمين ليس فيها طلق ول عتاق ففيها كفارة يمين( يدل
على أنها ل ترى في العتق كفارة.
وقال الشافعي رضي الله عنه لما ذكر الكفارة في نذر اللجاج والغضب إن
هذا مذهب عائشة وعدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،وأن من
قال هذا يقوله في كل ما يحنث فيه سوى العتق والطلق.
فالشافعي قد نقل عن عائشة والصحابة القائلين بالكفارة في نذر اللجاج
والغضب أنهم ل يقولون بالكفارة في العتق والطلق.
ثم إذا قلنا بالقول الشاذ الضعيف في إيجاب الكفارة في العتق فسببه أن
العتق قربة ،فإذا التزمه فقد التزم قربة على تقدير المخالفة ،كما التزمها
بالنذر الذي يخرج مخرج اليمين تجزئه الكفارة؛ لكونه قربة ملتزمة على
تقدير الحنث ،فشبهوه باليمين من هذا الوجه كما قدمنا؛ لكونه التزم قربة لله
إن خالف ترك تعظيم حق لله فيها ،وهذا المعني موجود في التزام العتق
فقالوا فيه بالكفارة ،هذا توجيه المذهب الشاذ.
ً ّ
ومن هنا يخرج الفرق بينه وبين الطلق ،فإن الطلق يعلق ويقع معلقا كما
جزا ً بالجماع ،فإذا عّلقه على وجه اليمين فهو لفظ تعليق ،ولفظيقع من ّ
التعليق في الطلق نافذ ،وما عرض له من معنى اليمين ل يؤثر في إيجاب
الكفارة ،لن الطلق ليس قربة حتى يقال :التزم قربة إن تركها عند الحنث
لم يعظم حق الله فيها ،كما أنه إذا حلف باسمه فخالف لم يعظم حرمة
اسمه ،فلم تجب الكفارة فيه؛ لنها شرعت هناك للجبر في حرمة اسم الله
وفي القربة إليه ،وليس كذلك في الطلق فنفذ تعليقه على وجهه.
ومن وجه آخر أّنا إذا أوجبنا الكفارة في باب القربة أمكننا أن نوجبها على
وجه التخيير فنقول :قد لزمك ما التزمت من القربة ،فان شئت أن تقوم به
فلك ،وإن شئت أن تخرج منه بكفارة يمين فلك ،وأما الطلق فل يقع مخيرا ً
إن شاء أمضاه بعد وقوعه وإن شاء دفعه بكفارة ،هذا ل يقوله عاقل ول من
ل قيد النكاح ،فإذا انح ّ
ل ح ّ
مارس الشريعة ول من فهم مقاصدها ،فإن الطلقَ َ
فليت شعري ماذا عقده بعد حّله ،ول سيما في يمين الثلث وقد قال الله
تعالى) :فإن طلقها فل تحل به من بعد حتى تنكح زوجا غيره(.
طىكر المسكين في منتهى قوله لستحيا من الله ومن الناس ،ولكن غَ ّ فلو ف ّ
عليه الهوى ومحبة الرياسة والطاعة وقبول الكلمة !! اللهم أعذنا من هذه
البلوى ،وقنا شر الهوى وحظوظ النفوس برحمتك.
ثم إنا نقول :قد أجمعت المة على أن يمين الطلق ليست داخلة في أيمان
ل غيره ،هذا أيضا ً ل عن الجماع ،إذ ل ُيعارض الجماع ُ بدلي ٍ معدِ َ
الكفارة ،فل َ
لم يقله أحد من المسلمين.
ً
ثم إن هذه اليمان التي ذكرناها هل تسمى أيمانا ؟
ف ،والصح أنها ل تسمى أيمانًا. فيه خل ٌ
قال ابن عبد البر :وأما الحلف بالطلق والعتق فليس بيمين عند أهل
موقِعٌ وقع التحصيل والنظر ،وإنما هو طلقٌ بصفةٍ أو عتقٌ بصفةٍ إذا أوقعه ُ
ل على أصله. على حسب ما يجب في ذلك عند العلماء ،ك ّ
م خرج على المتناع وقول المتقدمين) :اليمان بالطلق والعتق( إنما هو كل ٌ
والمجاز والتقريب ،وأما الحقيقة فإنما هو طلقٌ على وصف وعتق على
وصف ما ،ول يمين في الحقيقة إل بالله عز وجل.
فقد تبّين خروج يمين الطلق من الية الكريمة.
ّ
وأما الية الثانية ،وهي قوله تعالى) :قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم( ،فإن
ة ،وأن الله ص ً
ن الكفارة َ وجبت في التحريم خا ّ هذا المبتدع تعّلق بها بناء على أ ّ
سبحانه وتعالى جعله يمينا ً وأجراه مجرى اليمين في الكفارة.
ونّبه على دخوله في الية المذكورة قبلها ،وهذا ليس كذلك؛ فإن هذه الواقعة
قد قيل إنها في قصة مارّية ،وقيل في قصة العسل.
ومن العلماء من لم يذكر فيها يمينا ً بالله تعالى وجعل الكفارة للتحريم ،وعلى
ما تقدم. هذا القول يخرج الجواب م ّ
والنبي صلى الله عليه وسلم توقف عن الكفارة حتى قال له الله سبحانه ما
ماة لعلم دخوله في الية الولى ،فل ّ قال ،فلو كان الحرام يسمى يمينا ً حقيق ً
ل على أنه لم يدخل في اليمين إل في الحكم ل احتاج إلى إعلم الله إياه د ّ
في السم الحقيقي.
وفي مسألة التحريم أقوال كثيرة للعلماء ،وأكثرهم على أنه ليس بيمين على
الطلق ،فل يدخل في الية الكريمة إل في الحكم ل في السم الحقيقي.
هذا على قول من يوجب الكفارة لكونه تحريمًا ،وأما من لم يقل بذلك
فيقول :الكفارة ليمين بالله تعالى اقترنت بالتحريم.
ف مع َ
حل َوقد قال هذا المبتدع :من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم َ
د!! الكفارة فقد قال ما لم يقله أح ٌ
وقد روى البيهقي بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت :آلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم ،فجعل الحلل حرامًا ،وجعل في
اليمين الكفارة.
وروى أبو داود مرسل ً عن قتادة قال :كان النبي صلى الله عليه وسلم في
بيت حفصة ،فدخلت فرأت معه فقالت :في بيتي وفي يومي!! فقال:
)اسكتي فوالله ل أقربها وهي علي حرام(.
وقد روى البيهقي مرسل ً أيضا ً عن مسروق أنه قال :إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم حلف لحفصة أن ل يقرب أمته وقال) :هي علي حرام( ،فنزلت
الكفارة ليمينه ،وُأمر أن ل يحرم ما أحل الله له.
صة العسل وهي أشهر في سبب نزول الية ،فروى البيهقي أن عبيد وأما ق ّ
بن عمير قال :سمعت عائشة تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
ل ،فتواصيت أنا وحفصة أيتنا يمكث عند زينت بنت جحش ويشرب عندها عس ً
دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فليقل :إني أجد منك ريح مغافير،
أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له ،فقال :بل شربت عسل ً
عند زينب ،ولن أعود له ،فنزلت )لم تحرم ما أحل الله لك( إلى )إن تتوبا إلى
الله( لعائشة وحفصة )وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا( لقوله :بل
شربت عس ً
ل.
قال البيهقي :رواه البخاري في الصحيح عن الحسن بن محمد ،ورواه مسلم
عن محمد بن حاتم ،كلهما عن حجاج.
قال البخاري :وقال إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريح
ً
عن عطاء في هذا الحديث) :ولن أعود له وقد حلفت فل تخبري بذلك أحدا(.
قال ابن عبد البر :وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى) :يا أيها
النبي لم تحرم ما أحل الله لك( :والله ل أشرب العسل بعدها.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بالله فالكفارة لليمين بالله.
وهذا معني قول عائشة :فجعل الحلل حرامًا ،وجعل في اليمين الكفارة ،فلم
تكن الكفارة إل في اليمين بالله تعالى ،ول يحتاج إلى الجواب عن الية والله
أعلم.
]الخاتمة[
فهذه لمعة إقناعية لمن نظرها بعين النصاف ،ووراء هذا من البحاث العقلية
ول.
والمنقولت الصحيحة والنظر الفقهي ما ل يسعه إل كتاب مط ّ
وقد ذكرنا في كتابنا في الرد ّ عليه كثيرا ً منها ومن دقيقها طرد الباب كّله
وجعل إيقاع الطلق في اليمين بالطلق نظيَر إيجاب الكفارة في اليمين بالله
ة التي أوجبت ثبوت الكفارة في تعالى عند الحنث ،ومقتضى قياسه ،فالعل ُ
اليمين بالله تعالى هي بعينها التي اقتضت إيقاع الطلق وإيقاع العتق عند
الحنث.
هذا ما ل يفهمه إل الفقيه المحقق ،ول يدركه من دأبه التخبيط والهذر ،وهو
في التحقيق على مفاوز.
أعاذنا الله من هوى يسد باب النصاف ،ويصد ّ عن جميل الوصاف بمّنه
وكرمه.
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم