You are on page 1of 19

‫ةة ةةةةة ةةة ةةةةةة ةةةة ةةةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة‬

‫)ةةةة ةةة ةةةةةةةة ةةة ةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة ةةة‬


‫ةةةةةةةة(‬

‫الكتاب ‪ :‬الدرة المضية في الرد على ابن تيمية‬


‫المؤلف ‪ :‬المام المجتهد تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد‬
‫الكافي السبكي النصاري الشافعي )‪ 756 - 683‬هـ(‬

‫ضّية‬ ‫الد ّّرةُ ال ْ ُ‬


‫م ِ‬
‫مّية‬
‫ن َتي ِ‬ ‫َ‬
‫في الّرد ّ على اب ِ‬
‫تصنيف‬
‫ّ‬
‫المام الفقيه الصولي المجتهد النظار‬
‫تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي‬
‫السبكي النصاري الشافعي‬
‫رحمه الله تعالى‬
‫)‪ 756 - 683‬هـ(‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫ل رسوَله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو‬ ‫الحمد لله الذي أرس َ‬
‫كره المشركون‪ ،‬يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إل أن يتم نوره‬
‫ولو كره الكافرون‪.‬‬
‫ف َ‬
‫ل‬ ‫مدٍ الذي نصر دينه بالجلد والجدال‪ ،‬وتك ّ‬ ‫والصلة والسلم على سيدنا مح ّ‬
‫مته أن ل يزالوا على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخَرهم الدجال‪ ،‬وعلى آله‬ ‫ل ّ‬
‫الطيبين‪ ،‬وأصحابه الذين وصفهم بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم‪،‬‬
‫وألحق التابعين بإحسان في رضاه بالسابقين الولين من المهاجرين والنصار‪،‬‬
‫وسلم تسليما ً كثيرًا‪.‬‬
‫أما بعد ‪...‬‬
‫ض من دعائم‬‫ث في أصول العقائد‪ ،‬ونق َ‬ ‫ن تيمية ما أحد َ‬ ‫ث اب ُ‬
‫فإنه لما أحد َ‬
‫السلم الركان والمعاقد‪ ،‬بعد أن كان مستترا ً بتبعية الكتاب والسنة‪ ،‬مظهرا ً‬
‫أنه داٍع إلى الحق هادٍ إلى الجنة‪ ،‬فخرج عن الّتباع إلى البتداع‪ ،‬وشذ ّ عن‬
‫جماعة المسلمين بمخالفة الجماع‪ ،‬وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في‬
‫الذات المقدسة‪ ،‬وأن الفتقار إلى الجزء ليس بمحال‪ ،‬وقال بحلول الحوادث‬
‫ه به بعد أن لم يكن‪ ،‬وأنه يتكلم‬ ‫ث تكّلم الل ُ‬ ‫ن القرآن محد َ ٌ‬ ‫بذات الله تعالى‪ ،‬وأ ّ‬
‫ويسكت ويحدث في ذاته الرادات بحسب المخلوقات‪ ،‬وتعدى في ذلك إلى‬
‫استلزام قدم العالم )والتزامه( بالقول بأنه ل أول للمخلوقات]‪ ،!![1‬فقال‬
‫بحوادث ل أول لها فأثبت الصفة القديمة حادثة‪ ،‬والمخلوق الحادث قديمًا‪،‬‬
‫ولم يجمع أحد هذين القولين في مل ّةٍ من الملل‪ ،‬ول نحلة من النحل‪ ،‬فلم‬
‫يدخل في فرقة من الفرق الثلثة والسبعين التي افترقت عليها المة‪ ،‬ول‬
‫وقفت به مع أمة من المم همة]‪.[2‬‬
‫ل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في‬ ‫ق ّ‬ ‫ل ذلك وإن كان كفرا ً شنيعا ً مما ت َ ِ‬ ‫وك ّ‬
‫ّ‬
‫م ذلك منه هم القلون]‪ ،[3‬والداعي‬ ‫الفروع‪ ،‬فإن متلقي الصول عنه وَفاهِ َ‬
‫حوققوا في ذلك أنكروه وفروا منه كما‬ ‫إليه من أصحابه هم الرذلون‪ ،‬وإذا ُ‬
‫يفرون من المكروه‪ ،‬ونبهاء أصحابه ومتدينوهم ل يظهر لهم إل مجّرد التبعية‬
‫للكتاب والسنة والوقوف عند ما دلت عليه من غير زيادة ول تشبيه ول تمثيل‪.‬‬
‫مت به البلوى‪ ،‬وهو الفتاء في تعليق‬ ‫وأما ما أحدثه في الفروع فأمٌر قد ع ّ‬
‫الطلق على وجه اليمين بالكفارة عند الحنث‪.‬‬
‫فت عليهم أحكام الطلق‪،‬‬ ‫خ ّ‬
‫مة إلى قوله وتسارعوا إليه و َ‬ ‫ح العا ّ‬
‫وقد استرو َ‬
‫ث ل تقع مجموعة إذا أرسلها الزوج على الزوجة‪،‬‬ ‫وتعدى إلى القول بأن الثل َ‬
‫ولة ومختصرة‪ ،‬أتى فيها بالعجب العجاب‪،‬‬ ‫س مط ّ‬ ‫وكتب في المسألتين كراري َ‬
‫ل باب]‪!![4‬‬ ‫وفتح من الباطل ك ّ‬
‫‪----------------------‬‬
‫]‪ [1‬وقد رد ّ عليه في هذه المسألة المام الخميمي‪ ،‬في رسالة مفردة‪،‬‬
‫مطبوعة مع تعليقات نفيسة للستاذ العلمة سعيد فودة حفظه الله تعالى‪،‬‬
‫ومنشورة على صفحات النترنت في موقع المام الرازي‪) .‬جلل(‬
‫]‪ [2‬للطلع على آراء ابن تيمية العقائدية‪ ،‬والوقوف على ما خالف فيه أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬انظر لزاما ً )الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية( تصنيف‬
‫الستاذ العلمة أبي الفداء سعيد فودة حفظه الله تعالى‪ ،‬وهو مطبوع‪ ،‬وقد‬
‫دقة والتحقيق‪ ،‬وقد اشترط أن كل رأي ينسبه‬ ‫امتاز عن غيره من الكتب بال ّ‬
‫إلى ابن تيمية ينقل فيه عدة نقول من كلمه من كتبه المتفرقة‪ ،‬ولذا لم‬
‫ما فيه‪ ،‬ول أن يشاغبوا عليه‪ ،‬ول يغرنك في هذا‬ ‫يستطع مدافعوه أن يجيبوا ع ّ‬
‫الباب الدعاية الكبيرة التي حظي بها ابن تيمية في هذا العصر‪ ،‬فلذلك أسبابه‬
‫السياسية المعروفة‪) .‬جلل(‬
‫]‪ [3‬وذلك أنهم يمنعون البحث في مسائل العقائد‪ ،‬ويعتبرون الحديث عنها من‬
‫البدع المحدثة في الدين‪ ،‬مع أن ابن تيمية قد غاص في مذموم الكلم بغير‬
‫إتقان‪ ،‬ففاه بما ل يقبله شرع‪ ،‬ول يصدق به عقل صحيح‪ ،‬ول يغرنك دعاوى‬
‫التحقيق في مقلديه اليوم‪ ،‬فجلهم ل يتقن علوم العقائد‪ ،‬وعند المباحثة يتجلى‬
‫مدى ما هم عليه من زيع‪ ،‬والله المستعان‪) .‬جلل(‬
‫ل الجهل إلى ترك‬ ‫]‪ [4‬حتى تعدى ذلك إلى زماننا‪ ،‬رغم بعد الزمان‪ ،‬فدعا أه ُ‬
‫أحكام الطلق بالجملة‪ ،‬وسهلوا على الناس عدم إيقاعه لدنى خلف شاذ أو‬
‫قول باطل ل اعتداد به‪ ،‬فأحلوا الفروج المحرمة‪ ،‬وخالفوا أمر الله تعالى في‬
‫هذا الباب‪.‬‬
‫وقد تصدى المام الكوثري رحمه الله تعالى لبعض هذه المحاولت في كتابه‬
‫)الشفاق على أحكام الطلق(‪ ،‬بين فيها مدى خطورة المر‪ ،‬ودحض بالدليل‬
‫والبرهان تسهيلت المتساهلين‪ ،‬رحمه الله تعالى‪) .‬جلل(‬

‫وكان الله تعالى قد وفّقَ لبيان خطئه وتهافت قوله ومخالفته لكتاب الله‬
‫وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المة‪.‬‬
‫ص العلماء ومن يفهم من عوام الفقهاء‪.‬‬ ‫وقد عرف ذلك خوا ّ‬
‫ل بذلك‬‫ث دعاته في أقطار الرض لنشر دعوته الخبيثة‪ ،‬وأض ّ‬ ‫ثم بلغني أنه ب ّ‬
‫جماعة من العوام ومن العرب والفلحين وأهل البلد البّرانية‪ ،‬ولّبس عليهم‬
‫مسألة اليمين بالطلق حتى أوهمهم دخولها في قوله تعالى‪) :‬ل يؤاخذكم الله‬
‫باللغو في أيمانكم( الية‪ ،‬وكذلك في قوله تعالى‪) :‬قد فرض الله لكم تحلة‬
‫أيمانكم(‪.‬‬
‫فعسر عليهم الجواب وقالوا‪ :‬هذا كتاب الله سبحانه!!‬
‫ه من قوله‪ ،‬حتى ذاكرني بذلك بعض المشايخ ممن جمع‬ ‫وبقي في قلوبهم ُ‬
‫شب َ ٌ‬
‫ل‪ ،‬ورأيُته‬ ‫ل‪ ،‬وبلغ من المقامات الفاخرة الموصلة إلى الخرة أم ً‬ ‫م ً‬‫علما ً وع َ‬
‫متطلعا ً إلى الجواب عن هذه الشبهة‪ ،‬وبيان الحق في هذه المسألة على وجه‬
‫مختصر يفهمه من لم يمارس كتب الفقه ول ناظر في الجدل‪ ،‬فكتبت هذه‬
‫ور الله قلبه وأحب لزوم الجماعة‪ ،‬وكره تبعية‬ ‫الوراق على وجهٍ ينتفع به من ن ّ‬
‫ت‪ ،‬وهو حسبي ونعم‬ ‫من شذ ّ من الشياطين‪ ،‬وبالله أستعين وعليه توكل ُ‬
‫الوكيل‪.‬‬
‫وقد رتبت الكلم على ثلثة فصول‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬في بيان حكم هذه المسألة‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬في كلم إجمالي يدفع الستدلل المذكور‪.‬‬
‫ل‪.‬‬‫الفصل الثالث‪ :‬في الجواب عن ذلك الستدلل بخصوصه تفصي ً‬
‫الفصل الول‬
‫]بيان مجمل عن أنواع الطلق[‬
‫م‪ ،‬ويسمى طلقَ البدعة‪ ،‬كالطلق في‬ ‫اعلم أن الطلق يقع على وجهٍ محّر ٍ‬
‫الحيض‪ ،‬وعلى وجهٍ غير محرم ويسمى الطلق السني‪.‬‬
‫وقد أجمعت المة على نفوذ الطلق البدعي كنفوذ السني‪ ،‬إل ما يحكى في‬
‫جمع الثلث على قولنا إنه بدعي‪ ،‬فإذا طلق امرأته على الوجه المنهي عنه‪،‬‬
‫ف يعتبر‪.‬‬‫وهذا ليس فيه بين المة خل ٌ‬
‫إل أن الظاهرية الذين يخالفون الجماع في مسائل من الطلق وغيره خالفوا‬
‫في هذه المسألة‪ ،‬وهم محجوجون بالجماع]‪ [1‬والحديث‪ ،‬فقد طّلق ابن عمر‬
‫رضي الله عنهما امرأته وهي حائض‪ ،‬فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه‬
‫مْره ُ فليراجعها‪ ،‬ثم ليمسكها حتى تطهر‪ ،‬ثم تحيض ثم‬ ‫وسلم عن ذلك فقال‪ُ ) :‬‬
‫ّ‬
‫تطهر‪ ،‬ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس‪ ،‬فتلك العدة التي أمر‬
‫الله أن تطّلق لها النساء(‪ ،‬وهو في الصحيحين‪.‬‬
‫ظ قال ابن عمر‪) :‬فطلقها وحسبت لها التطليقة التي طلقها(‪ ،‬وهو‬ ‫وفي لف ٍ‬
‫ف َ‬
‫ذ‪،‬‬ ‫ً‬
‫في الصحيح‪ ،‬مع أن أهل الظاهر يقولون لو طلقها في الحيض ثلثا ن َ َ‬
‫طهرٍ مسها فيه‪.‬‬ ‫وكذلك لو طلقها في ُ‬
‫ل عليه‬ ‫والقصد ُ أن الطلق في الحيض على وجه البدعة نافذ ٌ على ما د ّ‬
‫الحديث المذكور‪.‬‬
‫‪----------------------------‬‬
‫]‪ [1‬وولع مبتدعة العصر ومدعو الجتهاد ممن لم يحقق شروطه ول شم‬
‫رائحته‪ ،‬بإنكار حجية الجماع‪ ،‬والتقليل من شأنه‪ ،‬ظاهٌر في كل كتاباتهم‪ ،‬وما‬
‫فتئوا يصيحون بعدم حجيته وعدم إمكانية وقوعه‪ ،‬وكل ذلك باطل عند علماء‬
‫الصول‪ ،‬كما تجده مفصل ً في تلخيص إمام الحرمين الجويني رحمه الله‬
‫تعالى‪ ،‬وغيرها من كتب الصول‪) .‬جلل(‬

‫ي‬
‫وما ورد في بعض روايات هذا الحديث أن عبد الله بن عمر قال‪) :‬فرّدها عل ّ‬
‫ل على معنى الرواية الخرى‪.‬‬ ‫ولم يرها شيئًا( متأوّ ٌ‬
‫ل عند العلماء‪ ،‬ومحمو ٌ‬
‫وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما من غير وجهٍ العتداد ُ بتلك الطلقة‬
‫وإنفاُذها عليه‪ ،‬وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز‪) :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن( يعني لقبل عدتهن‪ ،‬وقد قرئ‬
‫كذلك‪.‬‬
‫ده‪ ،‬وإذا وقع‬ ‫دة بع َ‬
‫والمراد أن يوقع الطلق على وجه تستقبل المرأة الع ّ‬
‫الطلق في الحيض لم تعتد المرأة بأيام بقية الحيض من عدتها‪ ،‬فتطول عليها‬
‫العدة‪.‬‬
‫وقيل ليطلق في الطهر فربما كان الطلق في الحيض لعدم حل الوطء فيه‪.‬‬
‫وقد جاء في بعض ألفاظه هذا الحديث‪) :‬فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق‬
‫لها النساء(‪ ،‬يعني في هذه الية فقد دل الكتاب والسنة على أن الطلق في‬
‫الحيض محرم ومع ذلك فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بنفوذه‬
‫والعتداد به‪ ،‬وإن كان قد خالف الوجه الذي شرع الطلق فيه‪ ،‬فرأينا الشرع‬
‫أوقع بدعة الطلق كما أوقع سنته‪ ،‬وما ذلك إل لقوة الطلق ونفوذه‪ ،‬وكذلك‬
‫ف لوجه السنة في قول جماعة‬ ‫إذا جمع الطلقات الثلث في كلمةٍ فهو مخال ٌ‬
‫من السلف‪ ،‬بل أكثرهم‪ ،‬ومع ذلك يلزمونه الثلث‪.‬‬
‫ن عمك‬ ‫ً‬
‫ل فقال‪ :‬إن عمي طلق امرأته ثلثا‪ ،‬فقال‪ :‬إ ّ‬ ‫ن العباس رج ٌ‬ ‫وقد أتى اب َ‬
‫عصى الله‪ ،‬فأندمه الله ولم يجعل له مخرجا‪ً.‬‬
‫وعن أنس قال كان عمر رضي الله عنه إذا أتى برجل طلق امرته ثلثا ً في‬
‫مجلس واحدٍ أوجعه ضربا ً وفرق بينهما‪.‬‬
‫وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلثا ً‬
‫في مجلس قال‪ :‬أثم وحرمت عليه امرأته‪.‬‬
‫صى‬ ‫ً‬
‫وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما قال‪:‬من طلق امرأته ثلثا فقد عَ َ‬
‫رّبه‪ ،‬وبانت منه امرأته‪.‬‬
‫فهذه أقوال الصحابة في إثم من جمع الطلقات الثلث لمخالفته السنة‪ ،‬ومع‬
‫طلق ونفوذه‪.‬‬ ‫ذلك يوقعونها عليه‪ ،‬وما ذلك إل لقوة ال ّ‬

‫وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬ثلث جدهن جد وهزلهن جد النكاح‬
‫والطلق والرجعة(‪ ،‬فجعل هزل الطلق جدًا‪.‬‬
‫ولم نعرف بين المة خلفا ً في إيقاع طلق الهازل‪ ،‬وما ذلك إل لنه أطلق‬
‫ل َقيدِ نكاِح امرأته بذلك ول قصد‬
‫ح ّ‬‫لفظ الطلق مريدا ً معناه‪ ،‬ولكنه لم يقصد ِ‬
‫إيقاع الطلق عليها‪ ،‬بل هزل ولعب‪ ،‬ومع ذلك فلم يعتبر الشارع قصده وإنما‬
‫ألزمه موجب لفظه الذي أطلقه وواخذه به‪ ،‬وما ذلك إل لقوة الطلق ونفوذه‪.‬‬
‫جزًا‪ ،‬ويكون معّلقا ً على شرط‪:‬‬ ‫ثم إن الطلق يكون من ّ‬
‫ّ‬
‫فالمنجز كقوله‪) :‬أنت طالق(‪ ،‬والمعلق كقوله‪) :‬إذا جاء رأس الشهر فأنت‬
‫طالق‪ ،‬وإن دخلت الدار فأنت طالق(‪ ،‬وقد أجمعت المة على وقوع المعّلق‬
‫جز‪ ،‬فإن الطلق مما يقبل التعليق‪ ،‬لم يظهر الخلف في ذلك إل‬ ‫كوقوع المن ّ‬
‫عن طوائف من الروافض‪.‬‬
‫ولما حدث مذهب الظاهرية المخالفين لجماع المة المنكرين للقياس خالفوا‬
‫في ذلك فلم يوقعوا الطلق المعّلق‪ ،‬ولكنهم قد سبقهم إجماع المة فلم يكن‬
‫قولهم معتبرًا؛ لن من خالف الجماع لم يعتبر قوله‪ ،‬وقد سبق إجماع المة‬
‫على وقوع الطلق المعلق قبل حدوث الظاهرية‪.‬‬
‫وإنما اختلف العلماء إذا عّلق الطلق على أمرٍ واقع أو مقصوٍد‪ ،‬كقوله‪) :‬إذا‬
‫طلقُ من حين عّلق ول يتأخر إلى‬ ‫جاء رأس الشهر فأنت طالق(‪ ،‬هل يتنجز ال ّ‬
‫وقوع الشرط‪ ،‬وهو مجيء رأس الشهر‪ ،‬أو يتأخر إلى مجيء رأس الشهر؟‬
‫ما عُّلق على شرط واقع فقد قصد إيقاع‬ ‫فيه قولن للعلماء مشهوران؛ لنه ل ّ‬
‫الطلق ورضي به فتنجز من وقته‪.‬‬
‫وهذا ابن تيمية لم يخالف في تعليق الطلق‪ ،‬وقد صّرح بذلك‪ ،‬فليس مذهبه‬
‫كمذهب الظاهرية في منع نفوذ الطلق المعلق‪.‬‬
‫ثم إن الطلق المعّلق منه ما يعلق على وجه اليمين‪ ،‬ومنه ما يعّلق على غير‬
‫وجه اليمين‪ :‬فالطلق المعّلق على غير وجه اليمين كقوله‪) :‬إذا جاء رأس‬
‫الشهر فأنت طالق( أو )إن أعطيتني ألفا ً فأنت طالق(‪ ،‬والذي على وجه‬
‫اليمين كقوله‪) :‬إن كلمت فلنا ً فأنت طالق( أو )إن دخلت الدار فأنت طالق(‬
‫وهو الذي يقصد به الحث أو المنع أو التصديق‪ ،‬فإذا عّلق الطلق على هذا‬
‫الوجه ثم وجد المعلق عليه وقع الطلق‪.‬‬
‫وهذه المسألة التي ابتدأ ابن تيمية بدعته‪ ،‬وقصد التوصل بها إلى غيرها إن‬
‫تمت له‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد اجتمعت المة على وقوع الطلق المعلق‪ ،‬سواء كان على وجه اليمين أو‬
‫ل على وجه اليمين‪ ،‬هذا مما لم يختلفوا فيه وإجماع المة معصوم من الخطأ‪.‬‬
‫وكل من قال بهذا من العلماء لم يفّرق بين المعّلق على وجه اليمين أو ل‬
‫على وجه اليمين‪ ،‬بل قالوا‪ :‬الك ّ‬
‫ل يقع‪.‬‬
‫وقد لّبس ابن تيمية بوجود خلف في هذه المسألة‪ ،‬وهو كذب وافتراء وجرأة‬
‫منه على السلم‪.‬‬
‫وقد نقل إجماع المة على ذلك أئمة ل يرتاب في قولهم‪ ،‬ول يتوقف في‬
‫صحة نقلهم‪.‬‬
‫فممن نقل ذلك المام الشافعي رضي الله عنه‪ ،‬وناهيك به فانه المام‬
‫القرشي الذي مل طبق الرض علمًا‪ ،‬وثناء إمام هذا المبتدع الذي ينتسب إليه‬
‫وهو برئ من بدعته ‪-‬وهو المام أحمد رضي الله عنه‪ -‬على الشافعي‬
‫معروف‪ ،‬وتبعيته له ومشيه في ركابه وأخذه عنه مشهور‪.‬‬
‫وممن نقل الجماع على هذه المسألة المام المجتهد أبو عبيد‪ ،‬وهو من أئمة‬
‫الجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهما‪.‬‬
‫وكذلك نقله أبو ثور وهو من الئمة أيضا‪ً.‬‬
‫طبري‪ ،‬وهو‬‫وكذلك نقل الجماع على وقوع الطلق المام محمد بن جرير ال ّ‬
‫من أئمة الجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة‪.‬‬
‫وكذلك نقل الجماع المام أبو بكر بن المنذر‪.‬‬
‫ونقله أيضا ً المام الرباني المشهور بالولية والعلم محمد ابن نصر المروزي‪.‬‬

‫ونقله المام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه )التمهيد( و)الستذكار(‪،‬‬
‫وبسط القول فيه على وجهٍ لم يبق لقائل مقا ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ونقل الجماع المام ابن رشد في كتاب )المقدمات( له‪.‬‬
‫ونقله المام الباجي في )المنتقى(‪ ،‬وغير هؤلء من الئمة‪.‬‬
‫وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة‪ ،‬بل‬
‫صوا على وقوع الطلق وهذا مستقر بين المة‪ ،‬والمام أحمد أكثرهم‬ ‫كلهم ن ّ‬
‫نصا ً عليها‪ ،‬فإنه نص على وقوع الطلق ونص على أن يمين الطلق والعتاق‬
‫ليست من اليمان التي تكفر ول تدخل فيها الكفارة‪ ،‬وذكَر]‪ [1‬العتقَ وذكر‬
‫الثر الذي استدل به ابن تيمية فيه‪ ،‬وهو خبر ليلى بنت العجماء‪ ،‬الذي بنى‬
‫ح عنده‪ ،‬وهو أثر عمان بن‬ ‫جته عليه وعّلله ورّده‪ ،‬وأخذ بأثر آخر ص ّ‬
‫ابن تيمية ح ّ‬
‫حاضر‪ ،‬وفيه فتوى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر رضي الله عنهم‬
‫بإيقاع العتق على الحانث في اليمين به‪ ،‬ولم يعمل بأثر ليلى بنت العجماء‪،‬‬
‫ق في المسألة إلباسا ً رضي الله عنه‪ ،‬بل كان قصده الحق‪.‬‬ ‫ولم ُيب ِ‬
‫وإذا كانت المة مجمعة على وقوع الطلق لم يجز لحد مخالفتهم‪ ،‬فإن‬
‫الجماع من أقوى الحجج الشرعية‪ ،‬وقد عصم الله هذه المة عن أن تجتمع‬
‫على الخطأ فان إجماعهم صواب‪.‬‬
‫وقد أطلق كثيٌر من العلماء القول بأن مخالف إجماع المة كافٌر‪.‬‬
‫ط المفتي أن ل يفتي بقول يخالف أقوال العلماء المتقدمين‪ ،‬وإذا أفتى‬ ‫وشر ُ‬
‫منع من أخذ بقوله‪.‬‬ ‫ت فتواه و ُ‬‫بذلك رد ْ‬
‫ودل الكتاب والسنة على أنه ل يجوز مخالفة الجماع قال الله تعالى‪) :‬ومن‬
‫يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما‬
‫تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا(‪ ،‬فقد توعد على مخالفة سبيل المؤمنين‬
‫واتباع غير سبيلهم بهذا الوعيد العظيم‪ ،‬ومخالف إجماع المة متبع غير سبيل‬
‫المؤمنين فكيف يعتبر قوله‪.‬‬
‫‪-----------------------------‬‬
‫]‪ [1‬أي المام أحمد عليه رحمة الله تعالى ‪.‬‬

‫وقال تعالى‪) :‬وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس(‬
‫والوسط الخيار‪ ،‬والشهداء على الناس العدول عليهم‪ ،‬فل يجتمعون على‬
‫الخطأ‪.‬‬
‫وقال تعالى‪) :‬كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن‬
‫ل معروف وينهون عن كل‬ ‫المنكر( وهذا يدل على أن مجموعهم يأمرون بك ّ‬
‫منكر‪ ،‬فلوا أجمعوا على الخطأ لمروا ببعض المنكر ونهوا عن بعض‬
‫المعروف‪ ،‬ومحال أن يتصفوا بذلك وقد وصفهم الله بخلفه!!‬
‫ل مجموعه على عصمة جماعتهم لهن عن الخطأ‬ ‫وقد ورد في الحاديث ما يد ّ‬
‫والضلل‪ ،‬والمسألة مبسوطة مقررة في موضعها‪.‬‬
‫ة على وقوع هذا الطلق‪ ،‬فمن خالفهم فقد خالف‬ ‫ة مجتمع ٌ‬
‫والقصد هنا أن الم َ‬
‫الجماعة وخالف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بلزوم الجماعة‪ ،‬وكان‬
‫الشيطان معه فان الشيطان مع الواحد‪.‬‬
‫ثم إن هذا المبتدع ابن تيمية اّدعى أن هذا القول قال به طاوس‪ ،‬واعتمد على‬
‫ده في كتاب ابن حزم الظاهري عن مصنف عبد الرزاق‪.‬‬ ‫ج َ‬
‫ل شاذٍ و َ‬‫نق ٍ‬
‫ولم ُينقل هذا القول عن أحد ٍ بخصوصه في الطلق إل عن طاوس كما ذكر‬
‫وعن أهل الظاهر‪.‬‬
‫ح النقل عنه بخلف ذلك‪ ،‬وقد أفتى بوقوع الطلق في هذه‬ ‫أما طاوس فقد ص ّ‬
‫المسألة‪ ،‬ونقل ذلك عنه بالسند الصحيح في عدة مصنفات جليلة منها كتاب‬
‫)السنن( لسعيد بن منصور‪ ،‬ومنها )مصنف عبد الرزاق( الذي ادعى المخالف‬
‫ح كذبه في هذا النقل‪ ،‬فإن المنقول في‬ ‫ض َ‬‫أن النقل عنه بخلف ذلك‪ ،‬وقد وَ َ‬
‫مصّنف عبد الرزاق عن طاوس خلف هذا الذي نسبه ابن تيمية‪ ،‬والثر الذي‬
‫نقله عن طاوس إنما ذكره عبد الرزاق في طلق المكره‪ ،‬فلبس ابن حزم‬
‫الظاهري النقل وتبعه هذا المبتدع‪.‬‬
‫ة كثيرة غير هذا مبينة في كتابنا )الرد على‬‫ٌ‬ ‫أجوب‬ ‫ح عنه‬‫وعن كلم طاوس لو ص ّ‬
‫ابن تيمية(‪.‬‬

‫وأما أهل الظاهر فيقولون إن الطلق المعّلق كّله ل يقع‪ ،‬ولم يقل ابن تيمية‬
‫بذلك‪ ،‬وهم مخالفون للجماع ل يعتبر قولهم‪ ،‬ويقولون إن الطلق المعّلق‬
‫على وجه اليمين ل كفارة فيه‪ ،‬ولم يقل ابن تيمية بذلك‪ ،‬فهو مخالف لهم في‬
‫بدعته متمسك بقولهم الذي ل يعتبر‪.‬‬
‫وقد قال ابن حزم‪ :‬إن جميع المخالفين له ل يختلفون في أن اليمين بالطلق‬
‫والعتق ل كفارة في حنثه‪ ،‬بل إما الوفاء بالمحلوف عليه أو باليمين‪.‬‬
‫وقال هذا المبتدع‪ :‬إن هذه المسألة لم يتكلم فيها الصحابة‪ ،‬لنه لم يكن‬
‫يحلف بالطلق في زمانهم‪ ،‬ثم بعد هذا القول نسب إلى الصحابة رضوان الله‬
‫عليهم أنهم يقولون بقوله فكذب أول ً وآخرًا‪:‬‬
‫أما كذبه أول ً فلنه قال‪) :‬إن الصحابة لم تتكلم في هذه المسألة(‪ ،‬وليس‬
‫كذلك‪ ،‬ففي صحيح البخاري فتوى ابن عمر رضي الله عنهما باليقاع‪.‬‬
‫قال البخاري‪ :‬قال نافع‪ :‬طلق رجل امرأته البتة إن خرجت‪ ،‬فقال ابن عمر‪:‬‬
‫إن خرجت فقد بانت منه‪ ،‬وإن لم تخرج فليس بشيء‪.‬‬
‫وهذه فتوى ظاهرها في هذه المسألة بإيقاع الطلق البتة إن خرجت‪ ،‬وهو‬
‫وقوع المعّلق عليه‪ ،‬وبه يحصل الحنث‪ ،‬فأوقع ابن عمر الطلق على الحالف‬
‫به عند الحنث في يمينه‪ ،‬ومن مثل ابن عمر رضي الله عنهما في دينه وعلمه‬
‫وزهده وورعه وصحة فتاويه؟!‬
‫ف أحد ٌ من الصحابة خالف ابن عمر في هذه الفتوى ول أنكرها عليه‪،‬‬ ‫ول ُيعَر ُ‬
‫وقد قضى علي رضي الله عنه في يمين بالطلق بما يقتضي اليقاع‪ ،‬فإنهم‬
‫رفعوا الحالف إليه ليفرقوا بينه وبين الزوجة بحنثه في اليمين فاعتبر القضية‪،‬‬
‫فرأى فيها ما يقتضي الكراه‪ ،‬فرد ّ الزوجة عليه لجل الكراه‪ ،‬وهو ظاهٌر في‬
‫أنه يرى اليقاع لول الكراه‪.‬‬
‫وفي )سنن البيهقي( بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل‬
‫ت كذا وكذا فهي طالق ففعلته‪ ،‬قال‪ :‬هي واحدة‪ ،‬وهو‬ ‫قال لمرأته‪ :‬إن فعل ْ‬
‫أحقّ بها‪ ،‬فأوقع الطلق واحدة عند الحنث بمقتضى اللفظ ولم يوجب كفارة‪.‬‬

‫ومن مثل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال النبي صلى الله عليه‬
‫ضا ً كما أنزل‬
‫وسلم‪) :‬كنيف مليء علمًا(‪ ،‬وقال‪) :‬من أراد أن يقرأ القرآن غ ّ‬
‫فليقرأ على قراءة ابن أم عبد(‪ ،‬ولم يخالفه أحد من الصحابة رضي الله عنهم‬
‫في ذلك‪.‬‬
‫ة في قول جمهور العلماء‪ ،‬وقد أخبر النبي صلى‬ ‫ة شرعي ٌ‬ ‫ج ٌ‬‫وقول الصحابة ح ّ‬
‫م من هديهم‪.‬‬ ‫الله عليه وسلم في أنهم كالنجوم ُيهتدى بهم‪ ،‬فل هدي أت ّ‬
‫وأما كذبه ثانيا ً فلنه قال‪) :‬لم يكن يحلف بالطلق في عهد الصحابة(‪ ،‬وهذه‬
‫وقائع فيها الحلف بالطلق‪.‬‬
‫وُنقلت أيضا ً حكومة أخرى وقعت عند علي رضي الله عنه في رجل حلف‬
‫بالطلق أنه ل يطأ امرأته حتى يعظم ولده‪ ،‬بل نقل عن بعض الصحابة أنه‬
‫حلف بالطلق وهو أبو ذر رضي الله عنه لما سألته امرأته عن الساعة التي‬
‫يستجاب الدعاء فيها يوم الجمعة وأكثرت فقال لها‪) :‬زيغ الشمس( يشير إلى‬
‫ذراع فإن سألتني بعدها فأنت طالق‪ ،‬فحلف عليها بالطلق أن ل تعاود‬
‫المسألة‪ ،‬وفي ذلك آثار كثيرة غير هذا مذكورة في المصّنف المبسوط‪.‬‬
‫وأما كذبه آخرا ً فلنه نسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم القول بأن الطلق‬
‫ل يقع‪ ،‬وأنه تجب الكفارة‪ ،‬مع اعترافه أن ذلك لم يقع في عهدهم‪.‬‬
‫ب صريح‪ ،‬وقد قالت عائشة رضي الله عنها‪) :‬كل‬ ‫وهذه مكابرة قبيحة وكذ ٌ‬
‫يمين وإن عظمت ليس فيها طلق ول عتاق ففيها كفارة يمين(‪ ،‬فاستشنت‬
‫يمين الطلق ويمين العتاق من الكفارة‪.‬‬
‫ن عبد البر في )التمهيد( وفي )الستذكار( بهذا اللفظ‬ ‫وهذا الثر نقله اب ُ‬
‫مسندًا‪ ،‬ونقَله هذا المبتدع فأسقط منه قولها‪) :‬ليس فيها طلق ول عتاق(‬
‫ليوهم أن عائشة رضي الله عنها تقول بالكفارة في يمين الطلق والعتق‪،‬‬
‫)فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون(‪.‬‬
‫فهذا عصر الصحابة لم ينقل فيه إل الفتاء بالوقوع‪.‬‬

‫وأما التابعون رضي الله عنهم فأئمة العلم منهم معدودون معروفون‪ ،‬وهم‬
‫صا ً‬
‫الذين تنقل مذاهبهم وفتاويهم‪ ،‬ولم ينقل هذا المبتدع عن أحدٍ منهم بعينه ن ّ‬
‫في هذه المسألة غير ما نسبه إلى طاوس‪ ،‬مع أنه يدعي إجماعهم على قوله‬
‫مكابرة كما فعل في الصحابة‪.‬‬
‫وقد نقلنا من الكتب المعروفة الصحيحة )كجامع عبد الرزاق( و)مصنف ابن‬
‫أبي شيبة( و)سنن سعيد بن منصور( و)السنن الكبرى للبيهقي( وغيرها فتاوى‬
‫التابعين أئمة الجتهاد‪ ،‬وكلهم بالسانيد الصحيحة أنهم أوقعوا الطلق بالحنث‬
‫في اليمين ولم يقضوا بالكفارة‪ ،‬وهم‪ :‬سعيد بن المسيب أفضل التابعين‪،‬‬
‫والحسن البصري‪ ،‬وعطاء‪ ،‬والشعبي‪ ،‬وشريح‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬وطاوس‪،‬‬
‫ومجاهد‪ ،‬وقتادة‪ ،‬والزهري‪ ،‬وأبو مخلد‪.‬‬
‫والفقهاء السبعة فقهاء المدينة وهم‪ :‬عروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن‬
‫أبي بكر وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد وأبو بكر‬
‫بن عبد الرحمن وسالم بن عبد الله بن عمر وسليمان بن يسار‪ ،‬وهؤلء إذا‬
‫دما ً على غيرهم‪.‬‬
‫أجمعوا على مسألة كان قولهم مق ّ‬
‫وأصحاب ابن مسعود السادات وهم‪ :‬علقمة والسود ومسروق وعبيدة‬
‫السلماني وأبو وائل شقيق بن سلمة وطارق ابن شهاب وزر بن حبيش‪.‬‬
‫وغير هؤلء من التابعين مثل ابن شبرمة وأبو عمرو الشيباني وأبو الحوص‬
‫وزيد بن وهب والحكم وعمر بن عبد العزيز وخلس بن عمرو‪.‬‬
‫كل هؤلء نقلت فتاويهم بإيقاع الطلق لم يختلفوا في ذلك‪ ،‬ومن هم علماء‬
‫التابعين غير هؤلء‪.‬‬
‫فهذا عصر الصحابة وعصر التابعين كلهم قائلون باليقاع‪ ،‬ولم يقل أحد ٌ أن‬
‫هذا مما يجري به الكفارة‪.‬‬
‫وأما من بعد هذين العصرين فمذاهبهم معروفة مشهورة كلها تشهد بصحة‬
‫هذا القول‪ ،‬كأبي حنيفة وسفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق‬
‫وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر وابن جرير الطبري‪ ،‬وهذه مذاهبهم منقولة‬
‫بين أيدينا ولم يختلفوا في هذه المسألة‪.‬‬

‫فإذا كان الصدر الول وعصر الصحابة رضي الله عنهم وعصر التابعين لهم‬
‫بإحسان بعدهم وعصر تابعي التابعين لم ينقل عنهم خلف في هذه المسألة‪،‬‬
‫ن بعد هذه العصار الثلثة لم يقل إمام مجتهد بخلف‬ ‫وهذا المبتدع يسّلم أ ّ‬
‫ل استقر من زمن النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫قولنا‪ ،‬فكيف يسوغ مخالفة قو ٍ‬
‫ل مبتدٍِع يقصد نقض عرى السلم ومخالفة سلف المة ؟!‬ ‫والى الن‪ ،‬بقو ِ‬
‫أكان الحقّ قد خفي عن المة كلها في هذه العصار المتتابعة حتى ظهر هذا‬
‫الزائغ بما ظهر به؟!!‬
‫هيهات هيهات وهذا واضح لذوي البصائر وأرباب القلوب المنورة بنور اليقين‪،‬‬
‫)أفمن شرح الله صدره للسلم فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم‬
‫من ذكر الله أولئك في ضلل مبين( ولكن قد عميت البصائر والناس سراع‬
‫إلى الفتنة‪ ،‬راغبون في المحدثات‪ ،‬وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬كل‬
‫محدثة ضللة(‪.‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫في كلم إجمالي يدفع الستدلل المذكور‬
‫ن الناس على قسمين‪:‬‬ ‫وذلك أ ّ‬
‫عالم مجتهد متمكن من استخراج الحكام من الكتاب والسنة أو عامي مقلد‬
‫لهل العلم‪:‬‬
‫ووظيفة المجتهد إذا وقعت واقعة أن يستخرج الحكم فيها من الدلة‬
‫الشرعية‪ ،‬ووظيفة العامية أن يرجع إلى قول العلماء‪،‬‬
‫وليس لغير المجتهد إذا سمع آية أو حديثا ً أن يترك به أقوال العلماء‪ ،‬فإنه إذا‬
‫ل دّلهم على‬ ‫م أنهم إنما خالفوه لدلي ٍ‬‫رآهم قد خالفوا ذلك مع علمهم به عَل ِ َ‬
‫ذلك‪ ،‬وقد قال الله تعالى‪) :‬فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون( وقال‪:‬‬
‫)ولو رّدوه إلى الرسول وإلى أولي المر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم(‪.‬‬
‫ن غير العالم‬‫م ليس هذا موضع ذكره‪ ،‬والقصد أ ّ‬ ‫وللمفسرين في الية كل ٌ‬
‫م أو إطلقٌ لم يكن لهم‬ ‫المجتهد ‪-‬ول سيما العوام‪ ،-‬إذا سمعوا آية فيها عمو ٌ‬
‫أن يأخذوا بذلك العموم أو الطلق إل بقول العلماء‪ ،‬ول يعمل بالعمومات‬
‫ف الناسخ والمنسوخ‪ ،‬والعام والخاص‪ ،‬والمطلق‬ ‫والطلقات إل من عََر َ‬
‫والمقيد‪ ،‬والمجمل والمبين‪ ،‬والحقيقة والمجاز‪.‬‬

‫فإذا سمع قوله تعالى‪) :‬أو مما ملكت أيمانكم( وأخذ بعمومه في الجمع بين‬
‫الختين المملوكتين كان مخطئًا‪ ،‬فإذا سمع معه قوله تعالى‪) :‬وأن تجمعوا بين‬
‫الختين( قال‪ :‬هذا يعم الختين المملوكتين والمنكوحتين‪ ،‬فيتحير بأي‬
‫العمومين يعمل ؟ فإذا سمع قول عثمان رضي الله عنه‪) :‬أحلتها آية وحرمتها‬
‫خر غير‬ ‫ن العمل على دليل التحريم‪ ،‬وله ترجيحات أ ُ َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫آية والتحريم أولى(‪ ،‬عَل ِ َ‬
‫هذا يعرفها العلماء‪ ،‬فيعلم العامي أنه ل يمكنه الستقلل بأخذ الحكم من‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫وكذلك إذا سمع الدلة الدالة على تحريم اللواط والتأكيد‪ ،‬وسمع قوله تعالى‪:‬‬
‫ن هذا يقتضي حل المملوك‪ ،‬وقد خطر‬ ‫)أو ما ملكت أيمانكم(‪ ،‬فقد يخطر له أ ّ‬
‫ذلك لبعض الجهال‪ ،‬فإذا أخذ بهذا العموم ض ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫وقد قال بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه‪ :‬إن من تأول هذا التأويل‬
‫د‪ ،‬وأخطأ في هذا القول خطأ ً عظيمًا‪.‬‬ ‫ط عنه الح ّ‬‫سق َ‬
‫َ‬
‫ً‬
‫ن قائل قال‪ :‬يحل وطأ الزوجة في الدبر مستندا إلى قوله‬ ‫ً‬ ‫وكذلك إذا سمع أ ّ‬
‫ً‬
‫ن ذلك صحيحا‪ ،‬وأن‬ ‫َ‬
‫تعالى‪) :‬نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شيءتم(‪ ،‬ظ ّ‬
‫ل ذلك‪ ،‬وهو مخطئ؛ لن هذا القول شاّذ‪ ،‬يقال إنه رواية‬ ‫ح ّ‬ ‫ل على ِ‬ ‫القرآن د ّ‬
‫ح عن مالك تحريم ذلك‪ ،‬والية‬ ‫عن مالك ولم يصح‪ ،‬والمالكية ينكرونه‪ ،‬وص ّ‬
‫داّلة على التحريم بخلف ما يظن الجهال‪ ،‬فإن الحرث ل يكون إل في موضع‬
‫البذر‪ ،‬والحديث الصحيح في سبب نزول الية يوضح المعنى‪ ،‬وهو أن اليهود‬
‫كانوا يقولون‪ :‬إن الرجل إذا أتى امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول‪،‬‬
‫فأنزل الله هذه الية‪) :‬نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شيءتم( أي كيف‬
‫ظ‪) :‬غير أن ل‬ ‫شيءتم‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪) :‬في صمام واحد(‪ ،‬وفي لف ٍ‬
‫تأتوا في غير المأتي(‪.‬‬
‫فإذا لم يجمع النسان بين الدلة‪ ،‬وبين الكتاب والسنة‪ ،‬ويعرف سبب نزول‬
‫الية ومحملها‪ ،‬ل ينبغي أن يأخذ بظاهر من فهمه ل يعرف ما وراءه‪.‬‬
‫وإذا سمع العامي الحديث‪) :‬من شرب الخمر فاجلدوه( إلى أن قال في‬
‫الرابعة‪) :‬فإن شربها فاقتلوه(‪ ،‬فعمل به وقتل الشارب في الرابعة كان‬
‫مخطئًا؛ لن المة أجمعت على ترك العمل بهذا الحديث‪.‬‬
‫وكذلك إذا سمع حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم )أن‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلتين في المدينة من غير خوف ول‬
‫مطر(‪ ،‬وقد رواه مسلم من طرق عدة‪ ،‬فيقول العامي بهذا الحديث‪ ،‬ول يعلم‬
‫أن المة أجمعت على ترك العمل به‪ ،‬إل ما يروى عن ابن سيرين انه يجوز‬
‫ن عمر رضي الله عنه كتب‬ ‫الجمع في الحضر للحاجة‪ ،‬وقد روى أبو العالية أ ّ‬
‫ن جمع ما بين الصلتين‬ ‫إلى أبي موسى الشعري رضي الله عنه‪) :‬واعلم أ ّ‬
‫ي‪ ،‬وقال في آخر‬ ‫ج هذين الحديثين الترمذ ّ‬ ‫من الكبائر إل من عذر(‪ ،‬وقد أخر َ‬
‫ث ترك العمل به بالجماع سوى حديثين(‬ ‫كتابه‪) :‬ليس في كتابي هذا حدي ٌ‬
‫فذكر هذين الحديثين‪.‬‬
‫وكذلك حديث ابن عباس كان الطلق على عهد رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم وأبي بكر وصدر من خلفة عمر الثلث واحدة‪ ،‬فلما رآهم عمر قد‬
‫تتابعوا فيه قال‪ :‬أجيزوهن عليهم‪ ،‬وهذا الحديث متروك الظاهر بالجماع‪،‬‬
‫ومحمول عند العلماء على معان صحيحة‪ ،‬وقد صحت الرواية عن ابن عباس‬
‫بخلفه من وجوه عدة‪.‬‬
‫فإذا سمعه العامي وحده وقف عنده ولم يعلم أنه معارض بما يدفعه‪ ،‬ومردود‬
‫الظاهر بإجماع المة‪.‬‬
‫ح فعلها في زمن النبي صلى الله عليه‬ ‫ص ّ‬
‫وأحاديث المتعة صحيحة‪ ،‬وقد َ‬
‫ح النهي عنها‪ ،‬فأبيحت مرتين ونسخت مرتين‪ ،‬فإذا سمع العامي‬ ‫وسلم‪ ،‬وص ّ‬
‫ن أنها مباحة ولم يعلم أن ذلك نسخ‪ ،‬وقد وقع‬ ‫َ‬
‫الحاديث الصحيحة بإباحتها ظ ّ‬
‫هذا للمأمون وهو خليفة‪ ،‬فنادى بتحليل المتعة‪ ،‬فدخل عليه القاضي يحيى ابن‬
‫أكثم وقال له‪ :‬أحللت الزنى‪ ،‬وعّرفه الحديث الصحيح في النسخ‪ ،‬ولم يكن‬
‫سمعه‪ ،‬فنادى من وقته بتحريم المتعة‪.‬‬

‫ح‪ ،‬وكان قد شرب الخمر فرفع‬ ‫وحديث قدامة بن مظعون رضي الله عنه صحي ٌ‬
‫المر إلى عمر رضي الله عنه فاعترف وذكر أنه إنما شربها متأول ً قوله‬
‫تعالى‪) :‬ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فما طعموا( فرد ّ عليه‬
‫عمر وقال‪) :‬أخطأت التأويل ألم يقل الله سبحانه‪) :‬إذا ما اتقوا وآمنوا(‪ (.‬ولم‬
‫ده؛ لنه لم يستنبط الحكم استنباطا ً‬ ‫يجعل تأويله موجبا ً لسقاط الحد‪ ،‬بل ح ّ‬
‫صحيحًا‪ ،‬ولكّنه أخذ بعموم نفي الجناح في كل مطعوم وغفل عن القيد‬
‫المخصص وهو قوله‪) :‬إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات( إلى آخر الية‪.‬‬
‫وهذا يوضح أن العمل بالعموم بمجرده من غير نظر في أدّلة التخصيص‬
‫ل به‪ ،‬وأمثلة ذلك كثيرة ل نطيل بذكرها‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫والتقييد خطأ من العام ِ‬
‫دع وهي قوله تعالى‪) :‬ولكن يؤاخذكم بما عقدتم‬ ‫ج بها هذا المبت ِ‬
‫والية التي احت ّ‬
‫اليمان( إلى آخر الية والية الخرى وهي قوله تعالى‪) :‬قد فرض الله لكم‬
‫تحلة أيمانكم( إذا سمعها العامي يظن دخول يمين الطلق في ذلك وقال‪:‬‬
‫حة قول هذا المبتدع‬ ‫هي يمين‪ ،‬والله جعل في كل يمين كفارة‪ ،‬واعتقد ص ّ‬
‫وتلّبس عليه باطله‪ ،‬فإذا اعترف أنه ل ينبغي له أن يعمل بالعموم حتى يعرف‬
‫ض المر إلى أهله‪ ،‬وعلم أن‬ ‫صص ويعرف ما يعارضه من الدلة فوّ َ‬ ‫هل له مخ ّ‬
‫فوق كل ذي علم عليم‪.‬‬
‫وكذلك ل ينبغي أن يأخذ بأدلة الكتاب حتى يعلم ما في السنة مما يبينه أو‬
‫يخصصه أو يقّيده قال الله تعالى‪) :‬وأنزلنا إليك الكتاب لتبين للناس ما نزل‬
‫إليهم(‪ ،‬وقال صلى الله عليه وسلم‪) :‬ل ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه‬
‫المر من أمري فيقول ل أدري ما سمعنا في كتاب الله اتبعناه(‪..‬الحديث‪.‬‬

‫والحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه قال‪ :‬بعث رسول الله صلى الله‬
‫ة‪ ،‬واستعمل عليهم رجل ً من النصار‪ ،‬وأمرهم أن يسمعوا له‬ ‫عليه وسلم سري ً‬
‫ً‬
‫ويطيعوا‪ ،‬فأغضبوه في شيء‪ ،‬فقال‪ :‬اجمعوا لي حطبا‪ ،‬فجمعوا له‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫أوقدوا لي نارا‪ ،‬فأوقدوا‪ ،‬ثم قال‪ :‬ألم يأمركم رسول إليه صلى الله عليه‬
‫وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فادخلوها‪ ،‬فنظر بعضهم إلى‬
‫ض وقالوا‪ :‬إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار‪،‬‬‫بع ٍ‬
‫فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار‪ ،‬فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم فقال‪) :‬لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدًا(‪ ،‬وقال‪) :‬ل‬
‫طاعة في معصية الله‪ ،‬إنما الطاعة في المعروف(‪ ،‬ولم يعذرهم النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم في الخذ بإطلق قوله‪) :‬اسمعوا له وأطيعوا(‪ ،‬لما دلت الدلة‬
‫ن الطاعة إنما تكون فيما وافق الحق‪ ،‬ول طاعة في المعصية‪ ،‬مع أّنهم‬ ‫على أ ّ‬
‫قد ل يكونون ممن سمع تلك الدلة‪ ،‬فإن الممتنعين من الدخول فيها لم‬
‫يأخذوا إل بأنهم إنما أسلموا ليسلموا من النار‪ ،‬فكيف يؤمرون بالدخول فيها‪،‬‬
‫فقيدوا إطلق المر بالسمع والطاعة بدليل قياسي‪ ،‬ومع عدم علمهم بتلك‬
‫الدلة لم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬بل حكم باستمرارهم بالنار لو‬
‫دخلوها لتقصيرهم في البحث عن الدلة في محل الشكال‪.‬‬
‫فمن لم يعرف الكتاب والسنة وأقوال الئمة لم يكن له أن يقف عند دليل‬
‫يسمعه من غير إمام يرشده‪.‬‬
‫م إل وقد دخله‬ ‫ٌ‬ ‫عمو‬ ‫القرآن‬ ‫في‬ ‫ليس‬ ‫أنه‬ ‫الئمة‬ ‫وقد نقل عن جماعة من‬
‫التخصيص‪ ،‬إل قوله تعالى‪) :‬والله بكل شيء عليم(‪ ،‬وقوله تعالى‪) :‬كل شيء‬
‫هالك إل وجهه( إذا أريد بالوجه الذات والصفات المقدسة‪ ،‬حتى قالوا في‬
‫قوله‪) :‬خالق كل شيء( ليس محمول ً على عمومه‪ ،‬بل هو مخصوص‪ ،‬فإن‬
‫الله سبحانه شيء وليس مخلوقا ً تعالى عن ذلك‪.‬‬

‫م ل يليق بهذا الموضع‪ ،‬فعلمنا من ذلك أن قوله تعالى‪:‬‬ ‫وفي هذا ومثله كل ٌ‬
‫)ولكن يؤاخذكم بما عقدتم اليمان( الية‪ ،‬وقوله‪) :‬قد فرض الله لكم تحلة‬
‫أيمانكم( ل يعمل بعمومه حتى ننظر فيما يخصصه أو يعارضه من كتاب أو‬
‫سنة‪ ،‬فإذا تحقق المراد منه وأي مخرج خرج تبين ما فيه من الدليل أو عدمه‪.‬‬
‫من ل يعرف شروط الدلة‬ ‫ولكن هذا المبتدع قصده الترويج على العوام ِ و َ‬
‫ول عليهم بقوله‪ :‬هذا نص القرآن وهذا قول الله‪،‬‬ ‫وكيفية استخراج الحكم‪ ،‬ويه ّ‬
‫فتنخلع أفئدتهم لقوله‪ ،‬ول يعلمون ما وراء ذلك‪.‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫في الجواب عن استدلله باليتين المذكورتين على وجه التفصيل‬
‫أما الية الولى وهي قوله تعالى‪) :‬ل يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن‬
‫يؤاخذكم بما عقدتم اليمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما‬
‫تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام ذلك‬
‫كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم‬
‫تشكرون(‪.‬‬
‫وإنما يتم الستدلل بها إذا تبين دخول يمين الطلق في عموم قوله‪) :‬ذلك‬
‫كفارة أيمانكم إذا حلفتم( ولم يكن لذلك معارض يمنع دخولها فيه‪.‬‬
‫والكلم على هذه الية يلتفت على الكلم على الية الخرى في سورة‬
‫البقرة‪ ،‬قال الله تعالى‪) :‬ول تجعلوا الله عرضة ليمانكم أن تبروا وتتقوا‬
‫وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ل يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‬
‫ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم(‪.‬‬
‫وللمفسرين في معنى قوله تعالى‪) :‬ول تجعلوا الله عرضة ليمانكم أن تبروا(‬
‫قولن‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن المراد ل تجعلوا اليمين بالله تعالى متعرضة بينكم وبين أن تبروا‬
‫وتتقوا وتصلحوا بين الناس‪ ،‬فتحلفوا ل تفعلوا ذلك‪ ،‬فتبقى اليمين متعرضة‬
‫بين الحالف وبين البّر والتقوى‪ ،‬فنهاهم الله عن اليمين على ذلك‪ ،‬ثم شرع‬
‫لهم الكفارة للتخلص من هذا المنع؛ ليكون طريقا ً لحالف إلى الرجوع إلى‬
‫البر والتقوى والصلح‪.‬‬

‫ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬إني ل أحلف على يمين فأرى غيرها‬
‫خيرا منها إل كفرت عن يمين وأتيت الذي هو خير(‪.‬‬
‫والقول الثاني‪ :‬أن المراد ل تجعلوا اسم الله عرضة ليمانكم‪ ،‬فتبتذلوه‬
‫بالحلف به في كل شيء‪ ،‬وقوله‪) :‬أن تبروا( معناه إرادة أن تبروا‪ ،‬يعني إذا‬
‫لم تبتذلوا اسم الله في كل يمين قدرتم على البر‪.‬‬
‫ثم شرع لهم الكفارة لتكون جابرة لما يحصل من انتهاك حرمة السم‬
‫المعظم‪ ،‬ول شك أن اليمين بالله تعالى مراده في اليتين هي اليمين‬
‫ل‪ ،‬فالحالف يعقد اليمين بالله‬ ‫الشرعية‪ ،‬وهي التي شرعت الكفارة فيها أص ً‬
‫على أن يفعل كذا أو أن ل يفعل كذا فإذا قال‪ :‬والله ل أفعل أو والله لفعلن‬
‫كد عقده بهذا السم المعظم‪ ،‬كأنه يقول‪ :‬إن فعلت كذا فقد خالفت‬ ‫فقد أ ّ‬
‫موجب تعظيم ما عقدت به اليمين من السم المعظم‪ ،‬ولست معظما ً له ح ّ‬
‫ق‬
‫تعظيمه‪.‬‬
‫هذا موضوع اليمين فإذا عقدها على الوجه ثم خالف موجبها وحنث فقد لزمه‬
‫فارة‬ ‫ما ألزم نفسه من انتهاك حرمة السم بالمخالفة‪ ،‬فجعل الله سبحانه الك ّ‬
‫جابرة لهذا المر الذي ألزمه نفسه تعظيما ً لسمه المستحق للتعظيم‪.‬‬
‫ل‪ ،‬فل يشاركه غيره فيه‪ ،‬ولهذا نهي عن‬ ‫وهذا أمٌر ل يستحقه غير الله عز وج ّ‬
‫الحلف بغير الله عز وجل‪.‬‬
‫ونقل ابن عبد البر إجماع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي‬
‫عنها‪ ،‬ل يجوز لحد ٍ الحلف بها‪ ،‬ومن ههنا قال أهل الظاهر‪ :‬ل كفارة إل في‬
‫اليمين بأسماء الله عز وجل وصفاته‪ ،‬ول تجب الكفارة في يمين غير ذلك‪.‬‬
‫وممن قال بهذا القول الشعبي والحكم والحارث العكلي وابن أبي ليلى‬
‫ومحمد بن الحسن‪ ،‬نقله ابن عبد البر وقال‪ :‬هو الصواب عندنا‪ ،‬والحمد لله‪.‬‬
‫ن غيرها‪ ،‬لكن على سبيل‬ ‫وقال جمهور العلماء بوجوب الكفارة في أيما ٍ‬
‫اللحاق بها؛ لوجود علة وجوب الكفارة عندهم‪.‬‬
‫هذه أقوال المعتبرين من العلماء‪ ،‬وقد شذ ّ بعضهم بأقوال ل يعرج عليها ول‬
‫يتأتى بيان ذلك إل بتفصيل أنواع اليمان‪ ،‬وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى‪.‬‬
‫هذا مع اتفاق العلماء كلهم على أمرين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يمين الطلق ل كفارة فيها‪ ،‬ولو قلنا هي يمين‪.‬‬
‫ّ‬
‫ص‪ ،‬فل تجب الكفارة في كل ما يطلق عليه‬ ‫والثاني‪ :‬أن عموم الية مخصو ٌ‬
‫ة‪ ،‬وإذا كانت الكفارة ل تجب في كل ما يسمى يمينا ً في اللغة‬ ‫اسم اليمين لغ ً‬
‫لم تبق الية الكريمة مجراة على عمومها‪.‬‬
‫وحينئذ فالية إما محمولة على اليمين الشرعية‪ ،‬أو على اليمين اللغوية‪،‬‬
‫والحمل على الموضوع الشرعي أولى عند المحققين من العلماء‪ ،‬فإذا كان‬
‫ظ معنى في اللغة ومعنى في الشرع إما يقاربه وإما يباينه‪ ،‬ووجدنا ذلك‬ ‫للف ٍ‬
‫ذر حملناه‬‫اللفظ في خطاب الشارع حملناه على معناه في الشرع‪ ،‬فإن تع ّ‬
‫على معناه في اللغة والعرف‪.‬‬
‫ن الحمل فيها على الموضوع اللغوي يوجب‬ ‫وههنا في الية زيادة‪ ،‬وهي أ ّ‬
‫سِلم‬‫تخصيص عمومها‪ ،‬والحمل على المعنى الشرعي قد ل يوجب ذلك‪ ،‬وما َ‬
‫من التخصيص أو كان أقل تخصيصا ً كان أولى‪ ،‬فيتعين حمل اليمان في الية‬
‫الكريمة على المعنى الشرعي‪.‬‬
‫ً‬
‫واليمين الشرعية هي ما شرع الحلف به أو لم يكره شرعا ولم يحرم‪ ،‬وقد‬
‫قال النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت(‪،‬‬
‫ظ لمسلم‪) :‬من كان حالفا ً فل يحلف إل بالله(‪،‬‬ ‫وهو في الصحيحين‪ ،‬وفي لف ٍ‬
‫وكانت قريش تحلف بآبائها فقال‪) :‬ل تحلفوا بآبائكم(‪.‬‬
‫وفي سنن النسائي من رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‪:‬‬
‫)ل تحلفوا إل بالله ول تحلفوا إل وأنتم صادقون(‪ ،‬فنهى النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم عن كل يمين بغير الله عّز وجل‪ ،‬وما نهى عنه لم يكن شرعيًا‪ ،‬ول فرق‬
‫بين اليمين باسم الله عز وجل أو غيره من السماء الحسنى والصفات العليا‪،‬‬
‫والكل شرعي ينعقد‪ ،‬فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف فيقول‪) :‬ل‬
‫ومقلب القلوب(‪.‬‬

‫وفي حديث صفة الجنة أن جبريل قال‪) :‬وعزتك ل يسمع بها أحد إل دخلها(‪،‬‬
‫ولما حلف الصحابة بالكعبة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬قولوا ورب‬
‫الكعبة(‪ ،‬فكل هذه أيمان شرعية؛ لن المعنى في النهي عن الحلف بغير الله‬
‫أن الحلف تعظيم للمحلوف به على وجه ل يليق بغير الله عز وجل‪ ،‬فبأي‬
‫ظما ً لغير‬
‫ف لم يكن مع ّ‬
‫حل َ َ‬
‫اسم من أسماء الله عز وجل أو صفة من صفاته َ‬
‫الله تعالى‪.‬‬
‫فإذا كانت اليمين الشرعية هي اليمين بالله عز وجل وصفاته‪ ،‬كانت الية‬
‫محمولة على ذلك‪ ،‬فدلت الية على أن كل يمين بالله أو باسم من أسمائه أو‬
‫صفة من صفاته يوجب الكفارة عند الحنث؛ لن اللفظ شرعي فيحمل على‬
‫المعنى الشرعي‪ ،‬وتكون الية على عمومها في كل اليمان الشرعية؛ فل‬
‫تكون الية دالة على إيجاب الكفارة في شيء من اليمان سوى اليمان‬
‫الشرعية‪ ،‬وهي اليمان بالله وبأسمائه وصفاته‪.‬‬
‫ول تدخل اليمين بالطلق ول غيرها في ذلك‪.‬‬
‫ثم إن العلماء رأوا أن بعض اليمان ملحق باليمين بالله تعالى في إيجاب‬
‫الكفارة‪ ،‬فألحقوه بذلك لوجود المعنى الذي شرعت الكفارة لجله فيها‪ ،‬وعند‬
‫هذا اختلف نظرهم فمنهم من يلحق أنواعا ً كثيرًا‪ ،‬ومنهم من يلحق أقل من‬
‫ذلك على اختلف نظرهم واجتهادهم‪.‬‬
‫ويوجد هذا الختلف للصحابة والتابعين ومن بعدهم‪ ،‬فنتكلم فيما وعدنا به من‬
‫تفصيل اليمان التي جوَّز فيها العلماء المعتبرون الكفارة‪ ،‬ثم نتكلم على‬
‫الطلق والعَِتاق‪.‬‬
‫فمنها الّنذر الذي يسمى نذر اللجاج والغضب والغلق وقد قيل فيه بالوفاء‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬بالكفارة على وجه التخيير‪.‬‬
‫فاعلم أن النذر في أصله قربة‪ ،‬ووضعه الصلي أن يعلق التزام قربة على‬
‫ب يريده‪ :‬إما جلب نعمة أو دفع نقمة كقوله‪ :‬إن شفى الله مريضي‬ ‫مطلو ٍ‬
‫ي صوم شهر‪ ،‬أو إن رد ّ الله تعالى الغائب فلله علي أن أتصدق بكذا‪.‬‬ ‫فلله عل ّ‬

‫وهذا نذر شرعي‪ ،‬ويسمى عند الفقهاء نذر التبرر والوفاء اللزم‪ ،‬فإذا حصل‬
‫ما طلبه وهو المعّلق عليه وجب عليه الوفاء بما نذر‪ ،‬ول تجزئة في ذلك‬
‫كفارة يمين‪.‬‬
‫ة على غير مطلوب كقوله‪:‬‬ ‫ب ووضعه في الشرع‪ ،‬فإن التزم قرب ً‬ ‫هذا أص ُ‬
‫ل البا ِ‬
‫ً‬
‫لله علي أن أصوم كذا أو أن أتصدق بكذا‪ ،‬فهل يسمى هذا نذرا ؟ فيه خلف‪،‬‬
‫وأكثر العلماء على أنه نذر يجب الوفاء به‪.‬‬
‫ّ‬
‫ن الناس توسعوا في ذلك فصاروا يعلقون‬ ‫ولكن أصل الباب هو الّتعليق‪ ،‬ثم إ ّ‬
‫ن‬
‫ث عليه أو المنع منه‪ ،‬كقول القائل‪ :‬إ ْ‬ ‫لزوم القربة على ما يريدون الح ّ‬
‫ي صدقة وما أشبه‬ ‫ً‬
‫ط فلنا كذا فعل ّ‬
‫ن لم أع ِ‬ ‫ي صوم شهر‪ ،‬وإ ْ‬ ‫كلمت فلنا ً فعل ّ‬
‫ذلك‪ ،‬فهذا تعليقُ قربةٍ على أمرٍ يطالب وقوعه أو المنع منه‪ ،‬فهو تعليق قربة‬
‫على مطلوب فمن هذا الوجه هو نذر يشبه نذر الّتبرر؛ لما فيه من صريح‬
‫التعليق للقربة على مطلوب‪.‬‬
‫وفي معناه شبه اليمين من جهة أّنه ل على التزام القربة على وجه الّتقرب‪،‬‬
‫ث نفسه أو منعها بما عّلق من لزوم القربة التي إن خالف ولم‬ ‫بل قصد ح ّ‬
‫يلتزمها عند وقوع الشرط فقد ترك حق الله ولم يقم به ولم يعظمه حق‬
‫تعظيمه‪ ،‬فصار ذلك في المعنى كقول القائل‪ :‬والله لفعلن أو والله ل أفعل‪،‬‬
‫ن فعلت فقد خالفت ما عقدت به قولي من السم‬ ‫ن معنى كلمه إني إ ْ‬ ‫فإ ّ‬
‫ظم‪ ،‬فلست معظما ً له حق تعظيمه‪ ،‬فصار في هذا الّنذر شبه من اليمين‬ ‫المع ّ‬
‫في المعنى‪ ،‬وهو بلفظ النذر لجل الذي يجب الوفاء به‪ ،‬وقد مدح الله قوما ً‬
‫على الوفاء بالنذر فقال تعالى‪) :‬يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شّره‬
‫مستطيرًا( وذم النبي صلى الله عليه وسلم قوما ً على ترك الوفاء بالنذر‪،‬‬
‫فقال في حديث عمران بن حصين‪ ،‬وهو في الصحيح‪) ،‬خير أمتي قرني‪ ،‬ثم‬
‫الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم(‪ ،‬قال عمران‪ :‬فل أدري أذكر بعد قرنه قرنين‬
‫أو ثلثة‪) ،‬ثم إن من بعدهم قوما ً يشهدون ول يستشهدون ‪،‬ويخونون ول‬
‫يؤتمنون‪ ،‬وينذرون ول يوفون‪ ،‬ويظهر فيهم السمن(‪.‬‬

‫وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‪) :‬من نذر‬
‫أن يطيع الله فليطعه‪ ،‬ومن نذر أن يعصي الله فل يعصه(‪ ،‬وهو حديث صحيح‪.‬‬
‫فأوجب أول ً الوفاء‪ ،‬وهذا قول مالك رضي الله عنه في المشهور عنه ومن‬
‫تبعه‪ ،‬وقول ربيعة وإحدى الروايات عن أبي حنيفة‪ ،‬وقد روي عن ابن عمر‬
‫رضي الله عنهما أنه قال بوجوب الوفاء‪.‬‬
‫روى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الهيثم بن سنان أنه سمع ابن عمر وسأله‬
‫بعض أهله أنه كسى امرأته كسوةً فسخطتها‪ ،‬فقالت‪ :‬إن لبستها في رتاج‬
‫الكعبة‪ ،‬قال ابن عمر‪ :‬لتجعل مالها في رتاج الكعبة‪ ،‬قال‪ :‬إنما مالها في الغنم‬
‫والبل‪ ،‬قال ابن عمر‪ :‬ل ِت َِبع الغنم والبل في رتاج الكعبة‪.‬‬
‫وروي عن أنس رضي الله عنه مثل ذلك عن مالك بن دينار‪ ،‬وأن امرأة أتته‬
‫فقالت‪ :‬إن زوجها كساها كسوة وأنها غضبت فجعلتها هدية إلى بيت الله إن‬
‫لبستها‪ ،‬قال‪ :‬فانطلقت إلى أنس فسألته فقال‪ :‬إن لبستها فلتهدها‪ ،‬وإسناد‬
‫هذا الثر أيضا ً جيد‪.‬‬
‫ونقل هذا القول وهو وجوب الوفاء عن إبراهيم النخعي‪.‬‬
‫وإنما سقت هذه القوال لن هذا المبتدع قال‪ :‬إن القول بوجوب الوفاء لم‬
‫من ذكرنا‪.‬‬‫ح ذلك ع ّ‬‫ينقل عن الصحابة ول عن التابعين‪ ،‬وقد ص ّ‬
‫وسيأتي أثر آخر فيه ابن عمر وابن عباس والزبير وجابر رضي الله عنهم إن‬
‫شاء الله تعالى‪.‬‬
‫فر إن شاء ول يلزمه الوفاء به‪ ،‬وهؤلء أجروا هذا النذر‬ ‫وقال طائفة أخرى‪ :‬يك ّ‬
‫مجرى اليمين لما ذكرنا من حصول المعنى الذي شرعت الكفارة في اليمين‬
‫لجله‪ ،‬وهو أنه عقد يمينه بما التزمه من طاعة الله التي إن خالف عند‬
‫لزومها فقد انتهك حرمة الحق‪ ،‬فجبره بكفارة يمين كما يجبر انتهاك حرمة‬
‫السم المعظم إذا حنث بكفارة يمين‪.‬‬
‫وقد أفتى بذلك جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين‪.‬‬
‫وقد قال الشافعي رضي الله عنه‪ :‬إن هذا قول عائشة رضي الله عنها وعدد‬
‫من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ولهذا قال الشافعي في ذلك‪ :‬يتخير‬
‫بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين‪.‬‬

‫ومن العلماء من يفرق بين التزام الحج وغيره فيقول‪ :‬إن التزم حجا لزمه‬
‫وإن التزم غيره كان له الخروج بكفارة يمين‪.‬‬
‫ة ماِله كّله أو جعله في سبيل الله‬
‫ومنهم من فّرق أن يكون قد التزم صدق َ‬
‫فقال‪ :‬يجزئه الثلث من ماله؛ لحديث أبي لبابة بن عبد المنذر‪ ،‬فإنه قال للنبي‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ :‬إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة لله عز وجل‬
‫ولرسوله‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬يجزئ عنك الثلث(‪.‬‬
‫وفي الصحيحين في حديث كعب بن مالك ‪-‬أحد الثلثة الذين خلفوا وتاب الله‬
‫عليهم‪ ،-‬أنه قال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى‬
‫الله ورسوله‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬أمسك عليك بعض‬
‫ت‪ :‬إني أمسك سهمي بخيبر‪.‬‬ ‫مالك فهو خيٌر لك(‪ ،‬قال‪ :‬قل ُ‬
‫ومنهم من أوجب الصدقة بقدر الزكاة‪ ،‬ويروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس‪،‬‬
‫وسيأتي الثر بذلك إن شاء الله تعالى‪.‬‬
‫والقول بأن يتخير بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين هو القول المرضي‪،‬‬
‫وهو قول كثيرٍ من الصحابة والتابعين ومن بعدهم‪ ،‬وسببه ما ذكرنا أن اللفظ‬
‫لفظ نذر والمعنى معنى يمين‪ ،‬فإن وّفى فقد أتى بموجب اللفظ‪ ،‬وإن ك ّ‬
‫فر‬
‫فقد أتى بموجب المعنى‪ ،‬فهذا النوع يلحق باليمان الشرعية من هذا الوجه‪،‬‬
‫وليس يمينا ً في الحقيقة بما يعظم كالكعبة والنبي فل كفارة فيها‪.‬‬
‫وفي مذهب أبي حنيفة قول إنه تجب الكفارة بالحلف بالنبي؛ لن حقه من‬
‫حق الله عز وجل فأشبه اليمين بالله‪ ،‬وهو ضعيف وجمهور العلماء على‬
‫خلفه‪.‬‬
‫وأما الحلف بملة غير السلم فليس من اليمان الشرعية‪ ،‬ول ينبغي أن يعتقد‬
‫دخوله في قوله تعالى‪) :‬ذلك كفارة أيمانكم(‪ ،‬لنها يمين محرمة‪ ،‬والمحرم ل‬
‫يكون شرعيًا‪.‬‬
‫وأكثر العلماء على أن ل كفارة فيها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‪:‬‬
‫)من حلف على يمين بملة غير السلم كاذبا ً فهو كما قال‪ ،‬وان كان صادقا لم‬
‫يعد إلى السلم سالمًا(‪ ،‬وفيه غير ذلك‪.‬‬

‫وورد فيه أن كفارته قول ل إله إل الله‪ ،‬وفي مذهب أبي حنيفة إيجاب‬
‫الكفارة‪ ،‬وهذه اليمين ل تحتاج إلى ذكرها‪.‬‬
‫لكن هذا المبتدع جعل إيجاب من وأوجب الكفارة فيها حجة له‪ ،‬وقال‪ :‬لو‬
‫ت كذا فأنا‬
‫لزمه ما التزم لحكم بكفره؛ لنه التزم الكفر في قوله‪ :‬إن فعل ُ‬
‫يهودي أو نصراني‪ ،‬وهذا خطأ‪ ،‬فإن التكفير مداره على اعتقاد القلب‪،‬‬
‫ل على كفره في عقد قلبه‬ ‫واللسان ترجمان ذلك‪ ،‬فإذا صدر منه لفظ د ّ‬
‫حكمنا بكفره‪ ،‬وإذا صدر منه لفظ ل يدل على كفره في قلبه لم نحكم بكفره‪،‬‬
‫وإن تلفظ بالكفر‪ ،‬ولهذا لم نحكم بكفر المكره على التلفظ بالكفر‪ ،‬وقد قال‬
‫ت كذا فأنا‬‫الله تعالى‪) :‬إل من أكره وقبله مطمئن باليمان(‪ ،‬والقائل‪ :‬إن فعل ُ‬
‫يهودي أو نصراني‪ ،‬ل يقوله ليكون يهوديا ً أو نصرانيا ً بقلبه‪ ،‬ولكنه يمنع نفسه‬
‫من الفعل لئل يلزمه أن يكون يهوديا ً أو نصرانيًا‪ ،‬والممتنع من الفعل خشية‬
‫من هذا اللزوم لم يعقد قبله على الكفر‪ ،‬وإنما عقده على اليمان‪ ،‬فلم نحكم‬
‫بكفره‪.‬‬
‫وأما الطلق فمداره على إطلق اللفظ للمعنى‪ ،‬وان لم يقصد به حل قيد‬
‫النكاح‪ ،‬ولهذا اختلف العلماء في إيقاعه على المكره والسكران‪ ،‬وقد قال‬
‫كثير من الصحابة والتابعين بوقوع طلق السكران‪ ،‬بل الكثرون على ذلك‪،‬‬
‫فلم يعتبروا فيه قصد حل قيد النكاح‪ ،‬ولهذا يلزم الهازل ويقع عليه‪ ،‬وما ذلك‬
‫إل لطلق اللفظ‪.‬‬
‫ل على استهانته بالدين بقلبه‪ ،‬فهو كافر‬ ‫وإنما كفر الهازل بالكفر لن كفره د ّ‬
‫ل عليه لفظه‪ ،‬والمطّلق بالهزل مطلق اللفظ‪ ،‬ل بعقد‬ ‫بعقد القلب الذي د ّ‬
‫القلب على الطلق‪ ،‬فل يقاس أحد البابين على الخر‪.‬‬
‫وأما إيجاب الكفارة في مذهب أبي حنيفة في يمين الكفر فلنه إذا قال‪ :‬إن‬
‫فعلت كذا فأنا كافر‪ ،‬كان قد عّلق يمينه بتعظيم حق الله عز وجل على أن‬
‫يكفر به‪ ،‬فأشبه تعظيم اسم الله أن تنتهك حرمته إذا حلت به‪ ،‬فألحق باليمين‬
‫بالله تعالى في إيجاب الكفارة فله وجه من القياس‪ ،‬وان كان الصح أن‬
‫الكفارة ل تجب‪.‬‬

‫وأما يمين العتق وهو ما إذا قال‪ :‬إن فعلت كذا فعبدي حر‪ ،‬فإن جمهور‬
‫العلماء على لزوم العتق عند الحنث‪ ،‬وأنه ل تجزئ في ذلك كفارة يمين‪ ،‬هذا‬
‫هو القول المشهور الذي استقرت عليه المذاهب المتبوعة‪ ،‬حتى قال بعضهم‪:‬‬
‫إن المة مجمعة عليه‪.‬‬
‫وروي عن أبي عبيد وأبي ثور أنهما قال‪ :‬تجزئ فيه الكفارة‪ ،‬وأما الئمة‬
‫الربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فقالوا بالعتق‪ ،‬وهو مذهب عامة‬
‫علماء المصار‪.‬‬
‫وما يروى من أثر ليلى بنت العجماء أنها حلفت بالهدي والعتاق لتفرقن بين‬
‫عبدها وأمتها‪ ،‬فأفتاها ابن عمر وزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫وغيرهما بالكفارة‪ ،‬فهذا الثر تختلف اللفاظ في روايته روي من عدة‬
‫]طرق[‪ ،‬ومداره على أبي رافع مولى ليلى بنت العجماء‪ ،‬وبعضهم يذكر فيه‬
‫العتق وبعضهم ل يذكره‪ ،‬وقد ذكرنا عنه عدة أجوبة في الكتاب المطول‬
‫ظاهرة‪ ،‬وقد ذكر هذا الثر المام أحمد‪ ،‬ولم يأخذ به‪ ،‬بل قال بلزوم العتق‪،‬‬
‫وروى أثرا ً يعارضه عن عثمان بن حاضر‪ ،‬قال‪ :‬حلفت امرأة من ذي أصبح‬
‫فقالت‪ :‬مالي في سبيل الله وجاريتي حرة إن لم تفعل كذا وكذا‪ ،‬لشيء‬
‫ذكره زوجها أن تفعله‪ ،‬فذكر ذلك لبن عمر وابن عباس فقال‪ :‬أما الجارية‬
‫فتعتق‪ ،‬وأما قولها مالي في سبيل الله فلتتصدق بزكاة مالها‪.‬‬
‫وروي هذا الثر من طرق وفيه أيضا ً فتوى ابن الزبير وجابر بن عبد الله بذلك‪،‬‬
‫فهؤلء أربعة من الصحابة وعلمائهم أفتوا بالعتق‪.‬‬
‫وقد أخذ بهذا الثر المام أحمد بن حنبل إمام هذا المبتدع في غير بدعته‪ ،‬ورد‬
‫خبر ليلى بنت العجماء‪.‬‬
‫وقال الشيخ موفق الدين المقدسي الحنبلي‪ :‬إن أحمد رضي الله عنه قال‬
‫فري يمينك واعتقي‬ ‫في خبر ليلى بنت العجماء‪ :‬إن الصحابة قالوا لها‪ :‬ك ّ‬
‫جاريتك‪ ،‬وقال‪ :‬هذه زيادة يجب قبولها‪ ،‬فاتفق الخبران على لزوم العتق‪.‬‬
‫وقول عائشة‪) :‬كل يمين ليس فيها طلق ول عتاق ففيها كفارة يمين( يدل‬
‫على أنها ل ترى في العتق كفارة‪.‬‬

‫وقال الشافعي رضي الله عنه لما ذكر الكفارة في نذر اللجاج والغضب إن‬
‫هذا مذهب عائشة وعدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وأن من‬
‫قال هذا يقوله في كل ما يحنث فيه سوى العتق والطلق‪.‬‬
‫فالشافعي قد نقل عن عائشة والصحابة القائلين بالكفارة في نذر اللجاج‬
‫والغضب أنهم ل يقولون بالكفارة في العتق والطلق‪.‬‬
‫ثم إذا قلنا بالقول الشاذ الضعيف في إيجاب الكفارة في العتق فسببه أن‬
‫العتق قربة‪ ،‬فإذا التزمه فقد التزم قربة على تقدير المخالفة‪ ،‬كما التزمها‬
‫بالنذر الذي يخرج مخرج اليمين تجزئه الكفارة؛ لكونه قربة ملتزمة على‬
‫تقدير الحنث‪ ،‬فشبهوه باليمين من هذا الوجه كما قدمنا؛ لكونه التزم قربة لله‬
‫إن خالف ترك تعظيم حق لله فيها‪ ،‬وهذا المعني موجود في التزام العتق‬
‫فقالوا فيه بالكفارة‪ ،‬هذا توجيه المذهب الشاذ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ومن هنا يخرج الفرق بينه وبين الطلق‪ ،‬فإن الطلق يعلق ويقع معلقا كما‬
‫جزا ً بالجماع‪ ،‬فإذا عّلقه على وجه اليمين فهو لفظ تعليق‪ ،‬ولفظ‬‫يقع من ّ‬
‫التعليق في الطلق نافذ‪ ،‬وما عرض له من معنى اليمين ل يؤثر في إيجاب‬
‫الكفارة‪ ،‬لن الطلق ليس قربة حتى يقال‪ :‬التزم قربة إن تركها عند الحنث‬
‫لم يعظم حق الله فيها‪ ،‬كما أنه إذا حلف باسمه فخالف لم يعظم حرمة‬
‫اسمه‪ ،‬فلم تجب الكفارة فيه؛ لنها شرعت هناك للجبر في حرمة اسم الله‬
‫وفي القربة إليه‪ ،‬وليس كذلك في الطلق فنفذ تعليقه على وجهه‪.‬‬

‫ومن وجه آخر أّنا إذا أوجبنا الكفارة في باب القربة أمكننا أن نوجبها على‬
‫وجه التخيير فنقول‪ :‬قد لزمك ما التزمت من القربة‪ ،‬فان شئت أن تقوم به‬
‫فلك‪ ،‬وإن شئت أن تخرج منه بكفارة يمين فلك‪ ،‬وأما الطلق فل يقع مخيرا ً‬
‫إن شاء أمضاه بعد وقوعه وإن شاء دفعه بكفارة‪ ،‬هذا ل يقوله عاقل ول من‬
‫ل قيد النكاح‪ ،‬فإذا انح ّ‬
‫ل‬ ‫ح ّ‬
‫مارس الشريعة ول من فهم مقاصدها‪ ،‬فإن الطلقَ َ‬
‫فليت شعري ماذا عقده بعد حّله‪ ،‬ول سيما في يمين الثلث وقد قال الله‬
‫تعالى‪) :‬فإن طلقها فل تحل به من بعد حتى تنكح زوجا غيره(‪.‬‬
‫طى‬‫كر المسكين في منتهى قوله لستحيا من الله ومن الناس‪ ،‬ولكن غَ ّ‬ ‫فلو ف ّ‬
‫عليه الهوى ومحبة الرياسة والطاعة وقبول الكلمة !! اللهم أعذنا من هذه‬
‫البلوى‪ ،‬وقنا شر الهوى وحظوظ النفوس برحمتك‪.‬‬
‫ثم إنا نقول‪ :‬قد أجمعت المة على أن يمين الطلق ليست داخلة في أيمان‬
‫ل غيره‪ ،‬هذا أيضا ً‬ ‫ل عن الجماع‪ ،‬إذ ل ُيعارض الجماع ُ بدلي ٍ‬ ‫معدِ َ‬
‫الكفارة‪ ،‬فل َ‬
‫لم يقله أحد من المسلمين‪.‬‬
‫ً‬
‫ثم إن هذه اليمان التي ذكرناها هل تسمى أيمانا ؟‬
‫ف‪ ،‬والصح أنها ل تسمى أيمانًا‪.‬‬ ‫فيه خل ٌ‬
‫قال ابن عبد البر‪ :‬وأما الحلف بالطلق والعتق فليس بيمين عند أهل‬
‫موقِعٌ وقع‬ ‫التحصيل والنظر‪ ،‬وإنما هو طلقٌ بصفةٍ أو عتقٌ بصفةٍ إذا أوقعه ُ‬
‫ل على أصله‪.‬‬ ‫على حسب ما يجب في ذلك عند العلماء‪ ،‬ك ّ‬
‫م خرج على المتناع‬ ‫وقول المتقدمين‪) :‬اليمان بالطلق والعتق( إنما هو كل ٌ‬
‫والمجاز والتقريب‪ ،‬وأما الحقيقة فإنما هو طلقٌ على وصف وعتق على‬
‫وصف ما‪ ،‬ول يمين في الحقيقة إل بالله عز وجل‪.‬‬
‫فقد تبّين خروج يمين الطلق من الية الكريمة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأما الية الثانية‪ ،‬وهي قوله تعالى‪) :‬قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم(‪ ،‬فإن‬
‫ة‪ ،‬وأن الله‬ ‫ص ً‬
‫ن الكفارة َ وجبت في التحريم خا ّ‬ ‫هذا المبتدع تعّلق بها بناء على أ ّ‬
‫سبحانه وتعالى جعله يمينا ً وأجراه مجرى اليمين في الكفارة‪.‬‬

‫ونّبه على دخوله في الية المذكورة قبلها‪ ،‬وهذا ليس كذلك؛ فإن هذه الواقعة‬
‫قد قيل إنها في قصة مارّية‪ ،‬وقيل في قصة العسل‪.‬‬
‫ومن العلماء من لم يذكر فيها يمينا ً بالله تعالى وجعل الكفارة للتحريم‪ ،‬وعلى‬
‫ما تقدم‪.‬‬ ‫هذا القول يخرج الجواب م ّ‬
‫والنبي صلى الله عليه وسلم توقف عن الكفارة حتى قال له الله سبحانه ما‬
‫ما‬‫ة لعلم دخوله في الية الولى‪ ،‬فل ّ‬ ‫قال‪ ،‬فلو كان الحرام يسمى يمينا ً حقيق ً‬
‫ل على أنه لم يدخل في اليمين إل في الحكم ل‬ ‫احتاج إلى إعلم الله إياه د ّ‬
‫في السم الحقيقي‪.‬‬
‫وفي مسألة التحريم أقوال كثيرة للعلماء‪ ،‬وأكثرهم على أنه ليس بيمين على‬
‫الطلق‪ ،‬فل يدخل في الية الكريمة إل في الحكم ل في السم الحقيقي‪.‬‬
‫هذا على قول من يوجب الكفارة لكونه تحريمًا‪ ،‬وأما من لم يقل بذلك‬
‫فيقول‪ :‬الكفارة ليمين بالله تعالى اقترنت بالتحريم‪.‬‬
‫ف مع‬ ‫َ‬
‫حل َ‬‫وقد قال هذا المبتدع‪ :‬من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم َ‬
‫د!!‬ ‫الكفارة فقد قال ما لم يقله أح ٌ‬
‫وقد روى البيهقي بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت‪ :‬آلى رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم‪ ،‬فجعل الحلل حرامًا‪ ،‬وجعل في‬
‫اليمين الكفارة‪.‬‬
‫وروى أبو داود مرسل ً عن قتادة قال‪ :‬كان النبي صلى الله عليه وسلم في‬
‫بيت حفصة‪ ،‬فدخلت فرأت معه فقالت‪ :‬في بيتي وفي يومي!! فقال‪:‬‬
‫)اسكتي فوالله ل أقربها وهي علي حرام(‪.‬‬
‫وقد روى البيهقي مرسل ً أيضا ً عن مسروق أنه قال‪ :‬إن رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم حلف لحفصة أن ل يقرب أمته وقال‪) :‬هي علي حرام(‪ ،‬فنزلت‬
‫الكفارة ليمينه‪ ،‬وُأمر أن ل يحرم ما أحل الله له‪.‬‬
‫صة العسل وهي أشهر في سبب نزول الية‪ ،‬فروى البيهقي أن عبيد‬ ‫وأما ق ّ‬
‫بن عمير قال‪ :‬سمعت عائشة تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان‬
‫ل‪ ،‬فتواصيت أنا وحفصة أيتنا‬ ‫يمكث عند زينت بنت جحش ويشرب عندها عس ً‬
‫دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فليقل‪ :‬إني أجد منك ريح مغافير‪،‬‬
‫أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له‪ ،‬فقال‪ :‬بل شربت عسل ً‬
‫عند زينب‪ ،‬ولن أعود له‪ ،‬فنزلت )لم تحرم ما أحل الله لك( إلى )إن تتوبا إلى‬
‫الله( لعائشة وحفصة )وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا( لقوله‪ :‬بل‬
‫شربت عس ً‬
‫ل‪.‬‬
‫قال البيهقي‪ :‬رواه البخاري في الصحيح عن الحسن بن محمد‪ ،‬ورواه مسلم‬
‫عن محمد بن حاتم‪ ،‬كلهما عن حجاج‪.‬‬
‫قال البخاري‪ :‬وقال إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريح‬
‫ً‬
‫عن عطاء في هذا الحديث‪) :‬ولن أعود له وقد حلفت فل تخبري بذلك أحدا(‪.‬‬
‫قال ابن عبد البر‪ :‬وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى‪) :‬يا أيها‬
‫النبي لم تحرم ما أحل الله لك(‪ :‬والله ل أشرب العسل بعدها‪.‬‬
‫فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بالله فالكفارة لليمين بالله‪.‬‬
‫وهذا معني قول عائشة‪ :‬فجعل الحلل حرامًا‪ ،‬وجعل في اليمين الكفارة‪ ،‬فلم‬
‫تكن الكفارة إل في اليمين بالله تعالى‪ ،‬ول يحتاج إلى الجواب عن الية والله‬
‫أعلم‪.‬‬

‫]الخاتمة[‬
‫فهذه لمعة إقناعية لمن نظرها بعين النصاف‪ ،‬ووراء هذا من البحاث العقلية‬
‫ول‪.‬‬
‫والمنقولت الصحيحة والنظر الفقهي ما ل يسعه إل كتاب مط ّ‬
‫وقد ذكرنا في كتابنا في الرد ّ عليه كثيرا ً منها ومن دقيقها طرد الباب كّله‬
‫وجعل إيقاع الطلق في اليمين بالطلق نظيَر إيجاب الكفارة في اليمين بالله‬
‫ة التي أوجبت ثبوت الكفارة في‬ ‫تعالى عند الحنث‪ ،‬ومقتضى قياسه‪ ،‬فالعل ُ‬
‫اليمين بالله تعالى هي بعينها التي اقتضت إيقاع الطلق وإيقاع العتق عند‬
‫الحنث‪.‬‬
‫هذا ما ل يفهمه إل الفقيه المحقق‪ ،‬ول يدركه من دأبه التخبيط والهذر‪ ،‬وهو‬
‫في التحقيق على مفاوز‪.‬‬
‫أعاذنا الله من هوى يسد باب النصاف‪ ،‬ويصد ّ عن جميل الوصاف بمّنه‬
‫وكرمه‪.‬‬
‫الحمد لله رب العالمين‬
‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‬

You might also like