You are on page 1of 266

‫شرح العقيدة‬

‫الطحاوية‬
‫تأليف‬
‫فضيلة الشيخ عبدالرحمن‬
‫بن ناصر البراك‬

‫إعداد‬
‫عبدالرحمن بن صالح السديس‬

‫مؤسسة شبكة نور السلم‬


‫‪www.islamlight.net‬‬

‫اشتراكك في جوال نور السلم ‪ ..‬دعم لمسيرتنا‬


‫الدعوية‬
‫لمعرفة الباقات أرسل رسالة فارغة إلى الرقم )‬
‫‪(81877‬‬
‫ريع الجوال صدقة جارية‬
‫الحمد لله وصلى الله وسلم على عبده ورسوله أما بعد‪:‬‬

‫فهذا شرح العقيدة الطحاوية للشيخ عبد الرحمن البراك‬


‫حفظه الله على صيغة وورد لغرض الستفادة منه في النقل‬
‫والقتنباس‪.‬‬
‫وقد سبق نشره على صيغة كتاب مصور ‪pdf‬‬

‫تنبيه‪ :‬الحواشي مكتوبة باللون الحمر بين معكوفين كهذه ] [‬


‫‪.‬‬

‫هناك مواضع كثيرة في الحالت في الكتاب مغفلة الرقام‬


‫كهذه ‪:‬‬
‫]تقدم تخرجه في ص[ أو ]تقدم في ص[ أو ]ص[ وهي في‬
‫المطبوع مكتوبة الرقام لن الحالت ضبطت بعد صفه ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه‪ ،‬وصلى الله وسلم‬
‫على محمد عبد ِ الله ورسوِله‪ ،‬أرسله بين يدي الساعة بشيرا‬
‫ونذيرا‪ ،‬فبلغ الرسالة‪ ،‬وأدى المانة‪ ،‬ونصح المة‪ ،‬وجاهد في الله‬
‫حق جهاده حتى أتاه اليقين‪ ،‬وعلى آله وصحبه والتابعين لهم‬
‫أما بعد‪:‬‬ ‫بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬
‫م السنة‬ ‫م‪ ،‬لزو ُ‬
‫م نعمة على العبد بعد السل ِ‬ ‫فإن أعظ َ‬
‫والجماعة‪ ،‬والسلمة من البدع والهواء؛ فقد وقع في هذه المة‬
‫ما أخبر به النبي ‪ ‬من التفرق‪ ،‬والبتداع في الدين‪ ،‬ـ كما وقع‬
‫في من قبلها ـ فانحرفت هذه الفرق عن الصراط المستقيم‪ ،‬ولم‬
‫يستقيموا على سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وأئمة‬
‫الهدى؛ بل اتبعوا أهواءهم‪ ،‬وقدموا عقولهم القاصرة‪ ،‬وجعلوها‬
‫حكما على الشريعة في مسائل أصول الدين‪ ،‬وهم في هذا‬
‫النحراف متفاوتون؛ فمنهم الغالي‪ ،‬ومنهم دون ذلك‪ ،‬ومنهم‬
‫المعاند المتعصب لبدعته‪ ،‬ومنهم المجتهد المخطئ‪ ،‬فتصدى أئمة‬
‫السنة للرد على المبتدعين‪ ،‬وكشف شبهاتهم‪ ،‬مع العدل في‬
‫م َفاع ْد ُِلوْا{]النعام‪[152:‬‬‫ذا قُل ْت ُ ْ‬
‫أحكامهم عمل بقوله تعالى‪} :‬وَإ ِ َ‬
‫فكتبوا في ذلك‪ ،‬وفي بيان مذهب أهل السنة كتبا كثيرة‪ ،‬مطولة‬
‫م أبو جعفر الطحاوي ـ‬ ‫وقصيرة‪ ،‬وكان من هؤلء العلم ِ الما ُ‬
‫رحمه الله ـ ‪ ،‬فقد كتب رسالة في عقيدة أهل السنة والجماعة‪،‬‬
‫صغيرة الحجم كثيرة المعاني‪ ،‬ذكر فيها جمل من أصول مذهب‬
‫أهل السنة من غير تفصيل ول تدليل‪.‬‬
‫وقد تصدى لشرحها جمع من العلماء منهم‪ :‬العلمة أبو‬
‫الحسن علي بن علي بن محمد المشهور بابن أبي العز الحنفي‬
‫المتوفى سنة ‪792‬هـ ـ رحمه الله ـ ‪ ،‬وقد اعتمد في أكثر شرحه‬
‫على كتب شيخ السلم ابن تيمية والعلمة ابن القيم ـ رحمهما‬
‫الله ـ ‪ ،‬فجاء شرحا عظيما‪ ،‬حافل بالتقريرات النفيسة‪ ،‬والبحوث‬
‫المتينة‪ ،‬والردود الشافية على أهل البدع‪.‬‬
‫وكان ممن تولى شرحها للطلب في هذا العصر‪ :‬فضيلة‬
‫الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك ـ حفظه الله ـ فشرحها في‬
‫مجالس علمية متعددة‪ ،‬ومن ذلك شرحه لها في جامع المام‬
‫علي بن المديني ـ رحمه الله ـ في مدينة الرياض ضمن الدورات‬
‫العلمية المكثفة في الصيف في أربعة أعوام من عام ‪ 1422‬إلى‬
‫عام ‪1425‬هـ‪.‬‬
‫ت على الشيخ ـ حفظه الله ـ فكرة العناية بهذا‬ ‫فعرض ُ‬
‫الشرح‪ ،‬وتهيئته للطباعة؛ لما يرجى من نفع ذلك‪ ،‬فوافق على‬
‫طلبي‪ ،‬أجزل الله مثوبته‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫فاستعنت بالله على ذلك‪ ،‬وسار العمل في الخراج على‬
‫ما يلي ‪:‬‬
‫‪ -1‬كتابة ما في الشرطة من الشرح‪ ،‬ولم أدخل السئلة‪.‬‬
‫‪ -2‬صححت المكتوب وهيئته ونسقته ليناسب الطباعة‪.‬‬
‫‪ -3‬أثبت نصوص الحاديث والثار والنقول على ما جاءت في‬
‫مصادرها‪.‬‬
‫‪ -4‬عزوت اليات إلى مواضعها من كتاب الله‪ ،‬وخرجت‬
‫الحاديث‪ ،‬والثار‪،‬‬
‫والطريقة في التخريج ما يلي‪:‬‬
‫)أ( إذا كان الحديث في الصحيحين‪ ،‬أو أحدهما اقتصرت في‬
‫العزو عليه‪.‬‬
‫)ب( إذا كان الحديث في غير الصحيحين خرجته من أشهر‬
‫وأهم المصادر من غير استيعاب‪ ،‬ونقلت ما تيسر من كلم أهل‬
‫العلم عليه تصحيحا‪ ،‬أو تضعيفا باختصار‪ ،‬إذ ليس هذا موضع‬
‫استقصاء‪ ،‬وقد أحيل للكتب المتخصصة في التخريج لمن أراد‬
‫التوسع والزيادة في المواضع التي تحتاج لذلك‪.‬‬
‫‪ -5‬وثقت النقول‪ ،‬وأحلت في مواضع كثيرة من الشرح إلى‬
‫كتب الئمة خصوصا شيخ السلم ابن تيمية زيادة في التوثيق‪،‬‬
‫والفائدة لمن أرد التوسع‪.‬‬
‫‪ -6‬اعتمدت في متن العقيدة الطحاوية على طبعة الرئاسة‬
‫العامة لدارات البحوث العلمية والفتاء والدعوة والرشاد عام‬
‫‪1404‬هـ مع مراجعة المتن الذي مع شرح ابن أبي العز‪ ،‬وبعض‬
‫المخطوطات عند الحاجة‪ ،‬والفرق الذي ل يترتب عليه اختلف‬
‫في المعنى لن أنبه عليه حفظا لوقت القارئ‪ ،‬وقد ميزت المتن‬
‫بتعريض الخط ووضعه بين أقواس صغيرة كهذه »«‪.‬‬
‫‪ -7‬وضعت عناوين في بداية المقاطع المشروحة من المتن‬
‫في إطار للتوضيح‪.‬‬
‫‪ -8‬قرأت الشرح كامل على الشيخ ـ حفظه الله ـ فأضاف‪،‬‬
‫دل‪ ،‬وغّير ما رآه مناسبا‪.‬‬‫وحذف‪ ،‬وع ّ‬
‫‪ -9‬وضعت بين يدي الكتاب ترجمة مختصرة للمام‬
‫الطحاوي وأخرى للشيخ البراك‪.‬‬
‫‪ -10‬وضعت فهرسا للحاديث‪ ،‬وقائمة بالمراجع التي عزوت‬
‫لها‪ ،‬وفهرسا شامل لمسائل الكتاب‪ ،‬وفهرسا إجماليا لموضوعات‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫هذا وأسأل الله أن يجزي الشيخ عبد الرحمن البراك خير‬
‫الجزاء‪ ،‬وأن يمد في عمره على طاعته‪ ،‬وأن ينفع به المسلمين‪،‬‬
‫إنه تعالى جواد كريم‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫كتبه‬
‫عبد الرحمن بن صالح بن عبد الله السديس‬
‫الرياض‪/‬‬
‫‪assdais@gmail.com‬‬

‫]ترجمة المام الطحاوي[‬


‫اسمه ونسبه ‪:‬‬
‫أحمد بن محمد بن سلمة بن سلمة بن عبد الملك الزدي‬
‫المصري الطحاوي‪ ،‬نسبة لقرية »طحا« في صعيد مصر‪.‬‬
‫كنيته‪:‬‬
‫أبو جعفر‪.‬‬
‫مولده‪:‬‬
‫اختلف في سنة ولدته فقيل‪ 239 :‬هـ وقيل‪238 :‬هـ والكثر‬
‫على الول‪.‬‬
‫شيوخه ‪:‬‬
‫يونس بن عبد العلى‪ ،‬ومحمد بن عبدالله بن عبد الحكم‪،‬‬
‫والربيع بن سليمان المرادي‪ ،‬وخاله إسماعيل المزني ‪ ،‬وبكار بن‬
‫قتيبة‪ ،‬ويزيد بن سنان‪ ،‬وأحمد بن أبي عمران‪ ،‬ويحيى بن محمد‬
‫دبه وعلمه القرآن‪.‬‬
‫بن عمروس‪ ،‬وهو الذي أ ّ‬
‫رحلته‪:‬‬

‫‪5‬‬
‫رحل إلى الشام سنة ‪268‬هـ‪ ،‬ولقي القاضي أبا خازم عبد‬
‫الحميد بن عبد العزيز‪ ،‬وتفقه عليه‪ ،‬وتنقل بين مدن الشام وسمع‬
‫من جماعة من المحدثين‪.‬‬
‫مذهبه الفقهي‪:‬‬
‫كان الطحاوي في أول أمره شافعيا‪ ،‬ثم تحول إلى مذهب‬
‫أبي حنيفة‪ ،‬وسببه‪:‬‬
‫أنه كان يقرأ على خاله المزني الفقيه الشافعي‪ ،‬فمرت‬
‫مسألة دقيقة فلم يفهمها أبو جعفر‪ ،‬فبالغ المزني في تقريبها‪،‬‬
‫فلم يتفق ذلك‪ ،‬فغضب المزني‪ ،‬فقال‪ :‬والله ل جاء منك شيء‪،‬‬
‫فغضب أبو جعفر من ذلك‪ ،‬وانتقل إلى مجلس القاضي الحنفي‬
‫ابن أبي عمران‪.‬‬
‫وقال الخليلي‪ :‬سمعت عبد الله بن محمد الحافظ يقول‪:‬‬
‫سمعت أحمد بن محمد الشروطي يقول‪ :‬قلت للطحاوي‪ :‬لم‬
‫خالفت خالك واخترت مذهب أبي حنيفة ؟ قال‪ :‬لني كنت أرى‬
‫خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة‪ ،‬فلذلك انتقلت إليه ‪.‬‬
‫وقال أبو سليمان بن َزْبر‪ :‬قال لي الطحاوي‪ :‬أول من كتبت‬
‫عنه الحديث‪ :‬المزني‪ ،‬وأخذت بقول الشافعي‪ ،‬فلما كان بعد‬
‫سنين‪ ،‬قدم أحمد بن أبي عمران قاضيا على مصر‪ ،‬فصحبته‪،‬‬
‫وأخذت بقوله‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫له مؤلفات كثيرة منها‪» :‬شرح مشكل الثار«‪ ،‬و » معاني‬
‫الثار «و»اختلف العلماء « و » الشروط «‪ ،‬و »المختصر« و‬
‫»أحكام القرآن « و»الوصايا« و »شرح الجامع الكبير« »شرح‬
‫الجامع الصغير« و »الفرائض« وغيرها‪.‬‬
‫تلميذه‪:‬‬
‫يوسف بن القاسم الميانجي‪ ،‬وأبو القاسم الطبراني‪ ،‬وأبو‬
‫بكر بن المقرئ‪ ،‬وأحمد بن عبد الوارث الزجاج‪ ،‬وعبد العزيز بن‬
‫محمد الجوهري قاضي الصعيد‪ ،‬ومحمد بن المظفر الحافظ‪،‬‬
‫وخلق سواهم من الرحالين في الحديث‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه ‪:‬‬
‫قال ابن يونس‪ :‬كان ثقة ثبتا فقيها عاقل‪ ،‬لم يخلف مثله‪.‬‬
‫قال مسلمة بن قاسم‪ :‬كان ثقة جليل القدر‪ ،‬فقيه البدن‪،‬‬
‫عالما باختلف العلماء‪ ،‬بصيرا بالتصنيف‪ ،‬وكان يذهب مذهب أبي‬
‫حنيفة‪ ،‬وكان شديد العصبية فيه‪.‬‬
‫قال الخليلي في الرشاد‪ :‬للطحاوي كتب مصنفات في‬
‫الحديث ‪ ،‬وكان عالما بالحديث‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وقال ابن عبد البر‪ :‬كان من أعلم الناس بسير القوم ـ أي‪:‬‬
‫أبي حنفيو أصحابه ـ وأخبارهم؛ لنه كان كوفي المذهب‪ ،‬وكان‬
‫عالما بجميع مذاهب الفقهاء‪.‬‬
‫وقال السمعاني‪ :‬وكان ثقة ثبتا فقيها عالما لم يخلف مثله‪.‬‬
‫وقال الذهبي‪ :‬المام العلمة الحافظ الكبير‪ ،‬محدث الديار‬
‫المصرية وفقيهها‪ ،‬وقال‪ :‬من نظر في تواليف هذا المام علم‬
‫محله من العلم‪ ،‬وسعة معارفه‪.‬‬
‫وقال ابن كثير‪ :‬الفقيه الحنفي صاحب المصنفات المفيدة‬
‫والفوائد‪ ،‬وهو أحد الثقات الثبات‪ ،‬والحفاظ الجهابذة‪.‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫توفي بمصر ليلة الخميس مستهل ذي القعدة سنة ‪321‬هـ‪.‬‬

‫مصادر الترجمة‪:‬‬
‫الرشاد في معرفة علماء الحديث ص ‪ ،110‬وجامع بيان‬
‫العلم ‪ ،2/78‬والنساب ‪4/73‬و ‪ ، ،9/53‬وتاريخ دمشق ‪،5/369‬‬
‫ووفيات العيان ‪ ،1/71‬وسير أعلم النبلء ‪ ،15/27‬والبداية‬
‫والنهاية ‪ ،15/72‬والجواهر المضية ‪ ،1/271‬ولسان الميزان‬
‫‪.1/415‬‬

‫]ترجمة الشيخ عبد الرحمن البراك[‬


‫اسمه ونسبه ‪:‬‬

‫‪7‬‬
‫عبد الرحمن بن ناصر بن براك بن إبراهيم البراك ‪ ،‬ينحدر‬
‫نسبه من بطن العرينات من قبيلة سبيع ‪.‬‬
‫ميلده ونشأته ‪:‬‬
‫ولد الشيخ في بلدة البكيرية من منطقة القصيم في شهر‬
‫ذي القعدة سنة ‪1352‬هـ ‪.‬‬
‫وتوفي والده وعمره سنة‪ ،‬فنشأ في طفولته في بيت أخواله‬
‫مع أمه‪ ،‬فتربى خير تربية ‪.‬‬
‫ولما بلغ الخامسة من عمره سافر مع أمه إلى مكة‪ ،‬وكان‬
‫في كفالة زوج أمه محمد بن حمود البراك ‪.‬‬
‫وفي مكة التحلق الشيخ بالمدرسة الرحمانية‪ ،‬وهو في السنة‬
‫الثانية البتدائية قدر الله أن يصاب بمرض في عينيه تسبب في‬
‫ذهاب بصره‪ ،‬وهو في العاشرة من عمره‪.‬‬
‫طلبه للعلم ومشايخه‪:‬‬
‫عاد من مكة إلى البكيرية مع أسرته‪ ،‬فحفظ القرآن‬
‫وعمره عشر سنين تقريبا على عمه عبد الله بن منصور البراك‪،‬‬
‫ثم قرأ على مقرئ البلد عبد الرحمن بن سالم الكريديس رحمهم‬
‫الله‪.‬‬
‫وفي حدود عام ‪ 1364‬و ‪1365‬هـ بدأ الشيخ حضور الدروس‬
‫والقراءة على العلماء‪ ،‬فقرأ على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله‬
‫السبيل جملة من كتاب »التوحيد«‪ ،‬و»الجرومية«‪ ،‬وقرأ على‬
‫الشيخ محمد بن مقبل »الثلثة الصول« ‪.‬‬
‫ثم سافر إلى مكة مرة أخرى في عام ‪1366‬هـ تقريبا‪،‬‬
‫ومكث بها ثلث سنين‪ ،‬فقرأ في مكة على الشيخ عبد الله بن‬
‫محمد الخليفي إمام المسجد الحرام في »الجرومية«‪ ،‬وهناك‬
‫التقى بعالم فاضل من كبار تلميذ العلمة محمد بن إبراهيم‪،‬‬
‫وهو‪ :‬الشيخ صالح بن حسين العلي العراقي ـ رحمه الله ـ‪ ،‬وكان‬
‫من أصدقاء المام عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ فجالسه‬
‫واستفاد منه‪ ،‬ولما ع ُّين الشيخ صالح بن حسين العلي العراقي‬
‫مديرا للمدرسة العزيزة في بلدة الدلم أحب الشيخ صالح أن‬
‫يرافقه الشيخ عبد الرحمن حفاوة به‪ ،‬فصحبه لطلب العلم على‬
‫الشيخ ابن باز حين كان قاضيا في بلدة الدلم‪ ،‬فرحل معه في‬
‫ربيع الول من عام ‪1369‬هـ‪ ،‬والتحق بالمدرسة العزيزة بالصف‬
‫الرابع‪ ،‬وكان من أهم ما استفاده في تلك السنة اللمام بقواعد‬
‫التجويد الساسية‪.‬‬
‫وفي نفس السنة سافر مع جمع من الطلب مع الشيخ ابن‬
‫باز إلى الحج‪ ،‬وبعد عودته ترك الدراسة في المدرسة العزيزة‪،‬‬
‫وآثر حفظ المتون مع طلب الشيخ عبد العزيز بن باز‪ ،‬ولزم‬

‫‪8‬‬
‫دروس الشيخ ابن باز المتنوعة‪ ،‬فقد كان ُيقرأ عليه في‪ :‬كتاب‬
‫»التوحيد« ‪ ،‬و»الصول الثلثة« ‪ ،‬و»عمدة الحكام« ‪ ،‬و»بلوغ‬
‫المرام« ‪ ،‬و»مسند أحمد« ‪ ،‬و»تفسير ابن كثير« ‪ ،‬و»الرحبية«‪،‬‬
‫و»الجرومية«‪.‬‬
‫ومكث في الدلم في رعاية الشيخ صالح العراقي‪ ،‬فقد كان‬
‫مقيما في بيته‪ ،‬ودرس عليه علم العروض‪.‬‬
‫فظ في بلدة الدلم كتاب »التوحيد«‪ ،‬و»الصول الثلثة«‪،‬‬ ‫ح ِ‬
‫و َ‬
‫و»الجرومية«‪ ،‬و»قطر الندى«‪ ،‬و»نظم الرحبية« ‪ ،‬وقدرا من‬
‫»ألفية ابن مالك«‪ ،‬ومن »ألفية العراقي« في علوم الحديث‪.‬‬
‫وبقي في الدلم إلى أواخر سنة ‪ ،1370‬وكانت إقامته في‬
‫الدلم لها أثر كبير في حياته العلمية‪.‬‬
‫ثم لما فتح المعهد العلمي في الرياض في عام ‪1370‬هـ‬
‫انتقل إليه كثير من طلب المشايخ‪ ،‬ومنهم طلب الشيخ عبد‬
‫العزيز ابن باز‪ ،‬فاضطر الشيخ للتسجيل فيه‪ ،‬وبدأت دراسة أول‬
‫دفعة فيه في محرم ‪1371‬هـ‪ ،‬وكانت الدراسة في المعهد تتكون‬
‫من مرحلتين‪ :‬تمهيدي للمبتدئين الصغار‪ ،‬وثانوي لمن بعدهم‪،‬‬
‫والتحق به كثير من طلب العلم في وقتها‪ ،‬وكانت الدراسة‬
‫الثانوية أربع سنوات فتخرج عام ‪1374‬هـ‪ ،‬والتحق بكلية‬
‫الشريعة‪ ،‬وتخرج فيها سنة ‪1378‬هـ ‪.‬‬
‫وتتلمذ في المعهد والكلية على مشايخ كثيرين من أبرزهم‪:‬‬
‫العلمة عبد العزيز ابن باز‪ ،‬والعلمة محمد المين الشنقيطي‬
‫ـ رحمه الله ـ ‪ ،‬ودّرسهم في المعهد في التفسير‪ ،‬وأصول الفقه‪،‬‬
‫والعلمة عبد الرزاق عفيفي ـ رحمه الله ـ ودّرسهم في التوحيد‪،‬‬
‫والنحو‪ ،‬وأصول الفقه‪ ،‬والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة‪ ،‬والشيخ‬
‫عبد العزيز بن ناصر الرشيد‪ ،‬والشيخ عبد الرحمن الفريقي‪،‬‬
‫والشيخ عبد اللطيف سرحان درس عليه النحو‪ ،‬وآخرين رحمهم‬
‫الله جميعا‪.‬‬
‫وكان في تلك المدة يحضر بعض دروس العلمة محمد بن‬
‫إبراهيم آل الشيخ في المسجد‪.‬‬
‫و أكبر مشايخه عنده‪ ،‬وأعظمهم أثًرا في نفسه المام‬
‫العلمة عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ فقد أفاد منه أكثر من‬
‫خمسين عاما بدءا من عام ‪1369‬هـ إلى وفاته في عام ‪1420‬هـ‪،‬‬
‫ثم شيخه العراقي الذي استفاد منه حب الدليل‪ ،‬ونبذ التقليد‪،‬‬
‫والتدقيق في علوم اللغة‪ ،‬كالنحو‪ ،‬والصرف‪ ،‬والعروض‪.‬‬
‫العمال التي تولها ‪:‬‬
‫عّين الشيخ مدرسا في »المعهد العلمي« في مدينة الرياض‬
‫عام ‪1379‬هـ وبقي فيه ثلثة أعوام‪ ،‬ثم ُنقل إلى »كلية الشريعة«‬

‫‪9‬‬
‫بالرياض‪ ،‬وتولى تدريس العلوم الشرعية‪ ،‬ولما افتتحت كلية‬
‫صّنف الشيخ في أعضاء هيئة التدريس‬ ‫أصول الدين عام ‪1396‬هـ ُ‬
‫في قسم »العقيدة والمذاهب المعاصرة«‪ ،‬ونقل إليها‪ ،‬وتولى‬
‫كليتين إلى أن تقاعد في عام ‪1420‬هـ‪ ،‬وأشرف‬ ‫التدريس في ال ُ‬
‫خللها على عشرات الرسائل العلمية ‪.‬‬
‫وبعد التقاعد رغبت الكلية التعاقد معه؛ فعمل مدة ثم تركه‪،‬‬
‫كما طلب منه سماحة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ أن يتولى‬
‫العمل في الفتاء مرارا فتمّنع‪ ،‬فرضي منه الشيخ ابن باز أن ينيبه‬
‫على الفتاء في دار الفتاء في الرياض في فصل الصيف حين‬
‫ينتقل المفتون إلى مدينة الطائف‪ ،‬فأجاب الشيخ حياًء ‪ ،‬إذ تولى‬
‫العمل في فترتين ثم تركه‪.‬‬
‫وبعد وفاة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ طلب منه سماحة‬
‫المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أن يكون عضوا في الفتاء‪،‬‬
‫َ‬
‫ح عليه في ذلك فامتنع‪ ،‬وآثر النقطاع للتدريس في المساجد‪.‬‬ ‫وأل َ ّ‬
‫جهوده في نشر للعلم‪:‬‬
‫جلس الشيخ للتعليم في مسجده الذي يتولى إمامته ـ‬
‫مسجد الخليفي بحي الفاروق ـ‪ ،‬ومعظم دروسه فيه‪ ،‬وقرئ عليه‬
‫عشرات الكتب في شتى الفنون؛ كالفقه وأصوله‪ ،‬والتفسير‬
‫وأصوله‪ ،‬والحديث‪ ،‬والعقيدة‪ ،‬والنحو‪ ،‬وغيرها‪ ،‬كما أنه له دروسا‬
‫في بيته مع بعض خاصة طلبه‪ ،‬وله دروس منتظمة في مساجد‬
‫أخرى في مدينة الرياض‪ ،‬وله مشاركات متكررة في الدورات‬
‫العلمية المكثفة التي تقام في الصيف‪ ،‬إضافة للقائه كثيرا من‬
‫المحاضرات والكلمات الدعوية‪ ،‬وإجابته على السئلة المعروضة‬
‫عليه من عدد من أشهر المواقع السلمية في الشبكة العالمية‪.‬‬
‫طلبه ‪:‬‬
‫تصدى الشيخ لنشر قبل نصف قرن تقريبا‪ ،‬وتتلمذ عليه أمم‬
‫من طلب العلم يتعذر على العاد حصرهم‪ ،‬وكثير من أساتذة‬
‫جامعاتنا الشرعية‪ ،‬والدعاة المعروفين‪ ،‬قد تتلمذوا عليه‪.‬‬
‫وبعد أن يسر الله جملة من الوسائل الحديثة‪ ،‬كالشبكة‬
‫العالمية تمكن كثير من طلب العلم في خارج البلد من متابعة‬
‫دروس الشيخ على الهواء مباشرة‪ ،‬عن طريق موقع البث‬
‫السلمي‪www.liveislam.net :‬‬
‫احتسابه ‪:‬‬
‫للشيخ جهود كبيرة في المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫ومناصحة المسؤلين‪ ،‬والكتابة لهم‪ ،‬والصلح بين الناس‪ ،‬والتحذير‬
‫من البدع‪ ،‬وسائر النحرافات والمخالفات‪ ،‬وله في ذلك فتاوى‬

‫‪10‬‬
‫كثيرة‪ ،‬وله مشاركة مع بعض المشايخ في عدد من البيانات‬
‫والنصائح الموجهة لعموم المسلمين‪.‬‬
‫اهتمامه بأمور المسلمين‪:‬‬
‫للشيخ ـ حفظه الله ـ اهتمام بالغ بأمور المسلمين في جميع‬
‫أنحاء العالم‪ ،‬فيتابع لخبارهم‪ ،‬ويحزن ويتألم لما يحدث لهم من‬
‫نكبات‪ ،‬وفي أوقات الزمات يبادر بالدعاء لهم ‪ ،‬والدعاء على‬
‫أعدائهم‪ ،‬ويبذل النصح والتوجيه لهم‪ ،‬وللمسلمين فيما يجب‬
‫نحوهم‪.‬‬
‫إنتاجه العلمي ‪:‬‬
‫الشيخ انصرف عن التأليف مع توفر آلته‪ ،‬وبذل معظم وقته‬
‫في تعليم العلم‪ ،‬والجابة على السئلة‪ ،‬وقد ُقرئت عليه عشرات‬
‫الكتب في مختلف الفنون‪ ،‬وقد سجل بعضها‪ ،‬وما لم يسجل‬
‫أكثر‪ ،‬ول زالت دروسه عامرة كما كانت‪.‬‬
‫وقد صدر للشيخ من المطبوعات‪» :‬شرح الرسالة‬
‫التدمرية«‪ ،‬و»جواب في اليمان ونواقضه«‪ ،‬و»موقف المسلم‬
‫من الخلف«‪ ،‬و»التعليقات على المخالفات العقدية في فتح‬
‫الباري«‪ ،‬و»توضيح مقاصد الواسطية«‪.‬‬
‫وفي حياة الشيخ جوانب كثيرة مشرقة أعلم أنه يكره ذكرها‪،‬‬
‫أسأل الله أن يبارك في عمره‪ ،‬و يمد فيه على الطاعة‪ ،‬وينفع‬
‫المسلمين بعلمه‪ ،‬إنه سميع قريب‪.‬‬

‫]المقدمة[‬
‫الحمد لله رب العالمين‪ ،‬وصلى الله وسلم وبارك على عبده‬
‫ورسوله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه‪ .‬أما بعد‪:‬‬
‫فالعقيدة المعروفة بـ » الطحاوية « ـ نسبة إلى مؤلفها‬
‫المام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله ـ من المؤلفات المختصرة‬
‫في عقيدة أهل السنة والجماعة‪ ،‬وأهل العلم درجوا على التأليف‬

‫‪11‬‬
‫في أصناف علوم الشريعة على مناهج متنوعة؛ فمنهم من ينهج‬
‫نهج البسط والتفصيل والتدليل‪ ،‬ومنهم من ينهج طريق الختصار‪،‬‬
‫ولكل منهما خصائصه ومزاياه‪.‬‬
‫والمختصرات تتميز بأنها ميسورة الحفظ ‪ ،‬ويمكن اللمام بها‬
‫ل المسائل على سبيل الختصار‬ ‫ج ّ‬‫م الطالب ب ِ ُ‬‫بوقت قصير‪ ،‬فَي ُل ّ ُ‬
‫في وقت وجيز‪ ،‬فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يمدنا وإياك‬
‫بالتوفيق والفتح منه سبحانه وتعالى‪ ،‬وأن يعلمنا ما ينفعنا‪ ،‬وأن‬
‫يهدينا سواء السبيل‪.‬‬
‫)قال العلمة حجة السلم أبو جعفر الوراق الطحاوي ـ‬
‫بمصرـ رحمه الله‪:‬‬
‫هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء‬
‫الملة‪ :‬أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي‪ ،‬وأبي يوسف يعقوب‬
‫بن إبراهيم النصاري‪ ،‬وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني‬
‫رضوان الله عليهم أجمعين‪ ،‬وما يعتقدون من أصول الدين‬
‫وَيدينون به رب العالمين(‪.‬‬
‫َ‬
‫هذه مقدمة مختصرة تناسب المضمون والمؤلف المختصر‪.‬‬
‫قوله‪ » :‬هذا ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة « أي‪ :‬ذكر ما‬
‫يعتقده أهل السنة والجماعة‪ ،‬وأكثر ما يعبر أهل العلم بالعتقاد‪،‬‬
‫والمراد بالعقيدة والعتقاد‪ :‬نفس عقد القلب‪ ،‬وجزمه ويقينه‪.‬‬
‫قد المعلوم‪ ،‬فتقول‬ ‫وتارة يطلق العتقاد على نفس الشيِء المعت َ‬
‫في الول‪ :‬إن فلنا اعتقاده قوي‪ ،‬واعتقاده سليم‪ ،‬واعتقاده‬
‫جازم‪.‬‬
‫ويقال في الثاني‪ :‬ـ مثل ـ اعتقاد أهل السنة والجماعة‪ :‬هو‬
‫اليمان بالله وملئكته ‪ ...‬كما قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه‬
‫الله في العقيدة الواسطية‪ » :‬فهذا اعتقاد الفرقة الناجية‬
‫المنصورة إلى قيام الساعة ـ أهل السنة والجماعة ـ ‪ :‬اليمان‬
‫بالله وملئكته وكتبه ورسله ‪] « ...‬الواسطية ص ‪. [21‬ففسر‬
‫العتقاد باليمان بالله وملئكته وكتبه ورسله ‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫قد‪،‬‬
‫وكذلك العقيدة فعيلة بمعنى مفعولة أي‪ :‬الشيء المعت َ‬
‫فتقول هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة‪ ،‬يقول المام الطحاوي‪:‬‬
‫» على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي‪،‬‬
‫وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم النصاري‪ ،‬وأبي عبد الله محمد‬
‫بن الحسن الشيباني « لو قال ‪ :‬على مذهب فقهاء الملة منهم‪:‬‬
‫أبو حنيفة‪ ،‬وأبو يوسف‪ ،‬ومحمد بن الحسن كان أولى؛ لن هؤلء‬
‫الئمة لشك أنهم من فقهاء المة‪ ،‬لكن ليست المامة والفقه‬
‫ظر إلى كونه ينتمي إلى أبي حنيفة‪ ،‬وقد‬ ‫محصورة فيهم‪ ،‬ولكنه ن َ‬
‫ذكر في ترجمته أنه كان شافعيا‪ ،‬ثم تمذهب على مذهب أبي‬ ‫ُ‬

‫‪12‬‬
‫حنيفة وتفقه على فقه أبي حنيفة ‪ ،‬وهو فقيه محدث‪ ،‬كما يدل‬
‫على ذلك كتاباه‪» :‬معاني الثار«‪ ،‬و»شرح مشكل الثار«‪ ،‬فرحمه‬
‫الله‪ ،‬ورحم أئمة الدين‪ ،‬وجزاهم الله عن السلم والمسلمين‬
‫خيرا‪.‬‬
‫يقول‪ » :‬وما يعتقدون في أصول الدين‪ ،‬ويدينون به رب‬
‫العالمين « هذا هو المقصود‪ :‬بيان ما يعتقدونه في أصول الدين‪،‬‬
‫ويدينون به لرب العالمين‪ ،‬وغلب على تعبير كثير من أهل العلم‬
‫إطلق أصول الدين على مسائل العتقاد‪ ،‬والواقع أن أصول‬
‫الدين ل تختص بأمور العتقاد‪ ،‬بل أصول الدين منها‪ :‬اعتقادية‬
‫كأصول اليمان الستة‪ ،‬وهي‪ :‬اليمان بالله‪ ،‬وملئكته‪ ،‬وكتبه‪،‬‬
‫ورسله‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬والقدر هذه من أصول الدين العتقادية‬
‫العلمية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬عملية كأصول السلم الخمسة‪ ،‬وهي‪ :‬شهادة أن ل إله إل‬
‫الله وأن محمدا رسول الله‪ ،‬وإقام الصلة وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم‬
‫رمضان‪ ،‬والحج‪ ،‬وهذه أوصل الدين العملية؛ لن مسائل الدين‬
‫نوعان‪ :‬مسائل علمية‪ ،‬ومسائل عملية‪ ،‬فكل من القسمين له‬
‫ذا؛ ل يختص اسم أصول الدين في مسائل‬ ‫أصول وله فروع‪ ،‬إ ً‬
‫العتقاد‪ ،‬ول يختص اسم الفروع بالمسائل العملية‪ ،‬كما حرر ذلك‬
‫شيخ السلم ابن تيمية ] منهاج السنة ‪ ، 5/87‬ومجموع الفتاوى‬
‫‪ 6/56‬و ‪ ، [19/207‬وأنكر على من يجعل جميع مسائل العتقاد‬
‫من أصول الدين‪ ،‬بل الدين له أصول وله فروع علمية وعملية‪،‬‬
‫اعتقادية وعبادات عملية‪.‬‬
‫]قول أهل السنة في التوحيد[‬
‫يقول رحمه الله‪) :‬نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق‬
‫الله‪ :‬إن الله واحد ل شريك له‪ ،‬ول شيء مثله‪ ،‬ول شيء ُيعجزه‪،‬‬
‫ول إله غيره(‪.‬‬
‫يقول رحمه الله‪ » :‬نقول « هذا شروع في بيان ما قصد إليه‬
‫» نقول « نحن أهل السنة‪ ،‬هو يعبر عن نفسه‪ ،‬وعمن ذكر من‬
‫الئمة وغيرهم من أئمة الدين » نقول « بألسنتنا » معتقدين «‬
‫بقلوبنا‪ ،‬فجمع بين القرار باللسان‪ ،‬والعتقاد بالجنان » نقول في‬
‫توحيد الله « يعني نقول في موضوع التوحيد‪ ،‬و الصل في معنى‬
‫التوحيد جعل الشيء واحدا‪ ،‬واعتقاده واحدا‪ ،‬والمراد بتوحيد الله‬
‫يعني في شأن وحدانيته تعالى واعتقاد تفرده فهو تعالى واحد‪،‬‬
‫والتوحيد‪ :‬هو اليمان بأنه واحد في ربوبيته وإلهيته وأسمائه‬
‫وصفاته‪ ،‬وتخصيصه وإفراده بالعبادة‪ ،‬هذا هو توحيد الله‪.‬‬
‫فالتوحيد صفة العبد وفعله‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫أما الوحدانية فصفة الرب تعالى كما يدل على ذلك اسمه‬
‫الواحد والحد فهو واحد في كل شؤونه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫والله تعالى يوحد نفسه بمعنى أنه يثني على نفسه بذلك‪،‬‬
‫ه إ ِلّ‬ ‫شهد الل َ‬
‫ه ل إ ِل َ َ‬ ‫ه أن ّ ُ‬‫ُ‬ ‫وُيعّلم عباده بأنه واحد‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ِ َ ) :‬‬
‫ة (]آل عمران‪ [18:‬فهذه شهادة منه تعالى لنفسه‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫هُوَ َوال ْ َ‬
‫بالوحدانية تتضمن علمه بأنه واحد‪ ،‬وذكره لنفسه بتفرده باللهية‪،‬‬
‫وأمره عباده بذلك‪ ،‬وقد ذكر ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ في‬
‫الشرح كلما مستفيضا على هذه الية‪ ،‬وهو منقول من مدارج‬
‫السالكين لبن القيم؛ فليرجع إليه‪].‬شرح الطحاوية ص ‪،44‬‬
‫ومدارج السالكين ‪[3/418‬‬
‫يقول‪ » :‬نقول في توحيد الله معتقدين « هذا فيه تنبيه على‬
‫أنه ل بد من الجمع بين اعتقاد القلب وإقرار اللسان‪ ،‬فل يكفي‬
‫أحدهما دون الخر‪ ،‬ل بد في التوحيد من اعتقاد القلب وهو‪ :‬العلم‬
‫والتصديق الجازم بأنه تعالى واحد‪ ،‬وإقرار اللسان بذلك‪.‬‬
‫ثم يقول‪ » :‬بتوفيق الله « هذه لها دللة عظيمة‪ ،‬وهي‪ :‬أن‬
‫إيماننا وقولنا واعتقادنا إنما يتحقق لنا بتوفيقه سبحانه وتعالى‬
‫وهدايته‪ ،‬فنحن نقول ونعتقد ما نعتقده بتوفيقه سبحانه‪ ،‬وهذا‬
‫يتضمن اليمان بالشرع والقدر جميعا‪.‬‬
‫) إن الله واحد ل شريك له ( هذا هو ما نقوله وما نعتقده في‬
‫وحدانيته الله تعالى‪ ) :‬إن الله واحد ل شريك له( واحد اسم من‬
‫و‬
‫أسمائه جاء في القرآن في مواضع مقرونا باسمه القهار ) وَهُ َ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫خي ٌْر أم ِ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ن َ‬‫فّرُقو َ‬ ‫مت َ َ‬
‫ب ُ‬ ‫قّهاُر ( ]الرعد‪ )) ،[16:‬أأْرَبا ٌ‬ ‫حد ُ ا ل ْ َ‬ ‫وا ِ‬‫ال ْ َ‬
‫قّهاُر ((]يوسف‪ ،[39:‬فهو الواحد قال تعالى‪ )) :‬وَإ ِل َهُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫حد ُ ا ل ْ َ‬ ‫وا ِ‬‫ال ْ َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫م ((]البقرة‪ )) [163:‬وَ َ‬ ‫حي ُ‬‫ن الّر ِ‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ الّر ْ‬
‫حد ٌ ل إ ِل َ َ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫إ ِل َ ٌ‬
‫حد ٌ ((]المائدة‪.[73:‬‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫إ ِل َهٍ إ ِّل إ ِل َ ٌ‬
‫) إن الله واحد( هو واحد‪ ،‬والوحدة تنافي الشريك‪ ،‬ولهذا‬
‫ب‬‫أكدها بقوله‪) :‬ل شريك له(‪ ،‬فهو متفرد عن الشركاء‪ ،‬فهو الر ُ‬
‫ل شيء‪ ،‬فهو واحد في ربوبيته في‬ ‫بك ِ‬ ‫ب غيره‪ ،‬فهو ر ُ‬ ‫ول ر َ‬
‫أفعاله‪ ،‬فل خالق ول رازق ول مدبر لهذا الوجود سواه‪ ،‬وهو واحد‬
‫في إلهيته فل إله غيره‪ ،‬ول شريك له‪ ،‬ول معبود بحق سواه‪ ،‬وهو‬
‫واحد في أسمائه وصفاته‪ ،‬فل شبيه له في شيء من صفاته‬
‫وأفعاله‪.‬‬
‫) إن الله واحد ل شريك له ( إذًا؛ هذه الجملة ضمنها المؤلف‬
‫أصل الدين‪ ،‬وهو التوحيد‪ ،‬فالتوحيد بكل معانيه هو أصل دين‬
‫الرسل من أولهم إلى آخرهم‪ ،‬خصوصا توحيد العبادة‪.‬‬
‫وقد أخبر سبحانه وتعالى عن الرسل إجمال وتفصيل بذلك‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫حي إ ِل َي ْهِ أن ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ل إ ِّل ُنو ِ‬‫سو ٍ‬‫ن َر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬‫م ْ‬‫سل َْنا ِ‬
‫ما أْر َ‬
‫قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬

‫‪14‬‬
‫ن ((]النبياء‪ [25:‬وقال تعالى‪ )) :‬وَل َ َ‬ ‫َ‬
‫قد ْ ب َعَث َْنا‬ ‫دو ِ‬ ‫ه إ ِّل أَنا َفاع ْب ُ ُ‬ ‫ل إ ِل َ َ‬
‫جت َن ُِبوا ال ّ‬ ‫َ‬ ‫في ك ُ ّ ُ‬
‫ت ((]النحل‪:‬‬ ‫غو َ‬ ‫طا ُ‬ ‫ه َوا ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫ن اع ْب ُ ُ‬ ‫سول ً أ ِ‬ ‫مةٍ َر ُ‬ ‫لأ ّ‬ ‫ِ‬
‫‪ ،[36‬وأخبر عن أنبيائه‪ :‬نوح وهود وصالح وشعيب أنهم قالوا‬
‫ن إ ِل َهٍ غ َي ُْره ُ (( ]المؤمنون ‪:‬‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫لقوامهم‪ )) :‬اع ْب ُ ُ‬
‫‪23‬والعراف‪65 :‬و ‪73‬و ‪[85‬‬
‫فالتوحيد هو أصل دين الرسل‪ ،‬وهو أول واجب على‬
‫المكلفين‪ ،‬كما قال ‪ ) : ‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن‬
‫ل إله إل الله وأن محمدا رسول الله( ]رواه البخاري )‪،(25‬‬
‫ومسلم )‪ (22‬من حديث ابن عمر رضي الله عنهما‪ [ .‬مع شهادة‬
‫أن محمدا رسول الله؛ لن الشهادتين متلزمتان ل تصح إحداهما‬
‫إل بالخرى‪ ،‬فلبد منهما جميعا‪ ،‬ولهذا قال النبي ‪ ) :‬بني‬
‫السلم على خمس‪ :‬شهادة أن ل إله إل الله وأن محمدا رسول‬
‫الله( ]رواه البخاري )‪ ،(8‬ومسلم )‪ (16‬من حديث ابن عمر رضي‬
‫الله عنهما‪ [.‬فَعَد ّ هذه الشهادة واحدا من المباني الخمسة‪.‬‬
‫فالكافر الصلي أو النصراني أو اليهودي أو المشرك إنما‬
‫يدخل في السلم بإقراره بالشهادتين‪ :‬شهادة أن ل إله إل الله‪،‬‬
‫وأن محمدا رسول الله‪ ،‬مع التزامه بالشرائع الخرى كما قال‬
‫َ‬
‫م ((‬ ‫سِبيل َهُ ْ‬ ‫خّلوا َ‬ ‫كاة َ فَ َ‬ ‫وا الّز َ‬ ‫صلة َ َوآت َ ُ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ن َتاُبوا وَأَقا ُ‬ ‫تعالى‪ )) :‬فَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫م ِفي‬ ‫وان ُك ُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫كاة َ فَإ ِ ْ‬‫وا الّز َ‬ ‫صلة َ َوآت َ ُ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ن َتاُبوا وَأَقا ُ‬ ‫]التوبة‪ )) ،[5:‬فَإ ِ ْ‬
‫ن ((]التوبة‪ [11:‬وقال بعض أهل الكلم ]درء تعارض العقل‬ ‫دي ِ‬ ‫ال ّ‬
‫‪7/352‬و ‪405‬و ‪ ،8/3‬ومدارج السالكين ‪ : [3/412‬إن أول واجب‬
‫هو النظر‪ ،‬ويريدون بالنظر التفكر في الدلة الكونية مثل‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫إن أول واجب هو النظر‪ ،‬وبعضهم تنطع وقال‪ :‬بل أول واجب‬
‫القصد إلى النظر‪ ،‬وأقبح من هذا وذاك من قال منهم‪ :‬إن أول‬
‫واجب هو الشك! يعني أول واجب أن يشك النسان في الحقائق‪،‬‬
‫فيشك في وجود الله وفي إلهيته‪ ،‬ثم بعد ذلك ينظر في الدلة!‬
‫ن جعلوا الكفر هو أول واجب؛ لن الشك بالله‬ ‫بئس ما قالوا أ ْ‬
‫كفر‪.‬‬
‫وهذه القوال ظاهرة الفساد والبطلن‪.‬‬
‫والنظر مشروع لكن ل يقال‪ :‬إنه أول واجب‪ ،‬والنظر قد‬
‫ندب الله إليه العباد‪ ،‬فمن كان عنده توقف أو شك مثل حال‬
‫الكفار فعليه أن ينظر ويتأمل في الدلة‪ ،‬وينظر في اليات ويتفكر‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫خل َقَ الل ّ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ت َوالْر َِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫كو ِ‬ ‫مل َ ُ‬ ‫م ي َن ْظ ُُروا ِفي َ‬ ‫)) أوَل َ ْ‬
‫َ‬
‫م ((]الروم‪:‬‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫فك ُّروا ِفي أن ْ ُ‬ ‫م ي َت َ َ‬ ‫يٍء ((]العراف‪ )) ،[185:‬أوَل َ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫‪.[8‬‬
‫والنظر من السباب التي َيقوى بها إيمان المؤمن‪ ،‬ولهذا‬
‫أثنى الله على أولياءه أولي اللباب أثنى عليهم بالتفكر‬

‫‪15‬‬
‫ما‬ ‫َْ‬ ‫ن ِفي َ ْ‬ ‫فك ُّرو َ‬
‫ض َرب َّنا َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خل ِ‬ ‫بالمخلوقات )) وَي َت َ َ‬
‫ب الّنارِ ((]آل عمران‪ [191:‬و‬ ‫ذا َ‬ ‫قَنا ع َ َ‬ ‫ك فَ ِ‬ ‫حان َ َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ذا َباط ِل ً ُ‬ ‫ت هَ َ‬ ‫ق َ‬ ‫خل َ ْ‬‫َ‬
‫كان النبي ‪ ‬إذا قام من الليل يرفع بصره إلى السماء‪ ،‬ويقرأ‬
‫هذه اليات ويتفكر ]رواه البخاري )‪ ،(4569‬ومسلم )‪ (763‬من‬
‫حديث ابن عباس رضي الله عنهما[ ‪ ،‬فالتفكر في اليات الكونية‪،‬‬
‫والتدبر لليات الشرعية القرآنية هما من روافد اليمان‪ ،‬ومما‬
‫يسقي شجرة اليمان‪ ،‬فاليمان يزيد بالتفكر في مخلوقات الله‪.‬‬
‫المقصود‪ :‬أن النظر مشروع‪ ،‬لكن ل يقال‪ :‬إنه أول واجب‪،‬‬
‫بل أول واجب هو شهادة أن ل إله إل الله‪.‬‬
‫يقول المؤلف‪ ) :‬إن الله واحد ل شريك له ( فالله تعالى نزه‬
‫ن ((‬ ‫كو َ‬ ‫شر ُ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ع َ ّ‬ ‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬‫نفسه عن الشركاء في مواضع )) ُ‬
‫شْيئا ً‬ ‫خل ُقُ َ‬ ‫ما ل ي َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫]الطور‪ ،[43:‬وفي الية الخرى )) أ َي ُ ْ‬
‫ل‬‫ن ((]العراف‪ ، [191:‬وقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬وَقُ ِ‬ ‫قو َ‬ ‫خل َ ُ‬
‫م يُ ْ‬ ‫وَهُ ْ‬
‫ك ((‬ ‫مل ْ ِ‬ ‫ك ِفي ال ْ ُ‬ ‫ري ٌ‬ ‫ش ِ‬‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫خذ ْ وََلدا ً وَل َ ْ‬ ‫م ي َت ّ ِ‬ ‫ذي ل َ ْ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫]السراء‪ ،[111:‬أي ل شريك له في ملكه ول شريك له في‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫ن َزع َ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫عوا ال ّ ِ‬ ‫ل اد ْ ُ‬ ‫تدبيره‪ ،‬ول شريك له في إلهيته‪ )) ،‬قُ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ما‬
‫ض وَ َ‬ ‫ت َول ِفي الْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ل ذ َّرةٍ ِفي ال ّ‬ ‫قا َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كو َ‬ ‫مل ِ ُ‬‫ن الل ّهِ ل ي َ ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫ُ‬
‫ة‬‫فاع َ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫فعُ ال ّ‬ ‫ن ظ َِهيرٍ * َول ت َن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ه ِ‬ ‫ما ل َ ُ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫شْر ٍ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫م ِفيهِ َ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫َ‬
‫ه ((]سـبأ‪ [23-22:‬هذه الية قد قيل فيها‪» :‬‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫ن أذ ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫عن ْد َه ُ إ ِّل ل ِ َ‬ ‫ِ‬
‫إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب «]كتاب التوحيد‬
‫للمام محمد بن عبد الوهاب ص ‪ ،[33‬فليس لشرك المشركين‬
‫أي شبهة يمكنهم التعويل عليها فكلها باطلة‪ ،‬فشركاؤهم ل‬
‫يملكون مثقال ذرة‪ ،‬وليس لهم شرك في ذرة من السماوات‬
‫والرض‪ ،‬وليس أحد منهم معينا لله‪ ،‬ول أحد منهم يملك أن يشفع‬
‫عند الله إل بإذنه‪.‬‬
‫الملئكة ل أحد منهم يشفع عند الله إل بإذنه كما قال سبحانه‬
‫شْيئا ً‬ ‫م َ‬ ‫فاع َت ُهُ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ت ل ت ُغِْني َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ك ِفي ال ّ‬ ‫مل َ ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫وتعالى‪ )) :‬وَك َ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ضى((]النجم‪.[26:‬‬ ‫شاُء وَي َْر َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫ه لِ َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ن ي َأذ َ َ‬ ‫ن ب َعْد ِ أ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫إ ِّل ِ‬
‫]أقسام التوحيد[‬
‫في هذا المقام يحسن ذكر أقسام التوحيد‪ ،‬فأهل السنة‬
‫والجماعة يقسمون التوحيد ثلثة أقسام ]انظر‪ :‬كتاب المختصر‬
‫المفيد في بيان دلئل أقسام التوحيد[ ‪ ،‬ومنهم من يجعل التوحيد‬
‫قسمين وهما طريقتان متفقتان ل منافاة بينهما‪ ،‬فمنهم من‬
‫يقول‪ :‬إن التوحيد ثلثة‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬توحيد العبادة‪ ،‬وتوحيد‬
‫السماء والصفات‪.‬‬
‫ما معنى توحيد الربوبية؟‬

‫‪16‬‬
‫معناه‪ :‬توحيد الله في شؤون الربوبية؛ كالخلق والرزق‬
‫والتدبير والحياء والماتة‪ ،‬ولهذا يعبر عنه بتوحيد الرب بأفعاله‪،‬‬
‫وذلك بالقرار بأنه ل شريك له في أفعاله‪.‬‬
‫وتوحيد اللهية‪ :‬هو إفراد الله بالعبادة‪ ،‬هو القرار بأنه ل‬
‫معبود بحق سواه‪ ،‬فهو الله الحق الذي ل يستحق العبادة سواه‪،‬‬
‫وتحقيق ذلك بالفعل وهو‪ :‬تخصيصه تعالى بالعبادة‪.‬‬
‫وتوحيد السماء والصفات هو القرار بتفرده سبحانه وتعالى‬
‫بما له من السماء والصفات‪ ،‬بأنه متفرد ل شبيه له في ذاته ول‬
‫في صفاته ول في أفعاله ‪.‬‬
‫أما من يجعل التوحيد قسمين ـ والعبارات تختلف لكن‬
‫المؤدى واحد ]مدارج السالكين ‪ ،3/417‬واجتماع الجيوش‬
‫السلمية ص ‪ [93‬ـ يقول‪ :‬توحيد في المعرفة والثبات‪ ،‬وبعبارة‬
‫أخرى‪ :‬توحيد في العلم والقول‪ ،‬أو‪ :‬التوحيد العلمي الخبري‪ ،‬هذه‬
‫كلها عبارات عن شيء واحد‪ ،‬هو التوحيد العتقادي‪ ،‬توحيد علمي‬
‫اعتقادي معرفي‪ ،‬وهذا القسم يشمل‪ :‬توحيد الربوبية وتوحيد‬
‫السماء والصفات‪ ،‬فاندرج قسمان من الثلثة في هذا القسم‪،‬‬
‫في التوحيد العلمي الخبري‪ ،‬أو في توحيد المعرفة والثبات؛ لن‬
‫توحيد الربوبية وتوحيد السماء والصفات كل منهما توحيد يتعلق‬
‫بالعلم‪ ،‬فهو اعتقادي علمي فقط‪ ،‬والنصوص الدالة عليهما كلها‬
‫نصوص خبرية‪ ،‬يعني من نوع الخبر؛ لن الكلم قسمان‪ :‬خبر‬
‫وإنشاء‪.‬‬
‫القسم الثاني على الطريقة الثانية‪ :‬توحيد اللهية‪ ،‬أو توحيد‬
‫العبادة‪ ،‬أو توحيد الرادة والقصد والعمل‪ ،‬أو التوحيد الطلبي؛ لن‬
‫ل هُو الل ّ َ‬
‫حد ٌ * الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫هأ َ‬ ‫ُ‬ ‫نصوصه طلبيه‪ ،‬انظر سورة الخلص }قُ ْ َ‬
‫َ‬
‫د{ ]سورة‬ ‫ح ٌ‬
‫وا أ َ‬ ‫ف ً‬‫ه كُ ُ‬ ‫كن ل ّ ُ‬‫م يَ ُ‬ ‫م ُيول َد ْ * وَل َ ْ‬
‫م ي َل ِد ْ وَل َ ْ‬
‫مد ُ * ل َ ْ‬
‫ص َ‬
‫ال ّ‬
‫الخلص‪ [4-1:‬جمل خبرية‪ ،‬كل نصوص السماء والصفات تجدها‬
‫دوا‬ ‫خبرية‪ ،‬لكن توحيد العبادة اليات الواردة فيها إنشاء )) َواع ْب ُ ُ‬
‫شيًئا ((]النساء‪ )) [36:‬وقَضى رب َ َ‬
‫دوا‬‫ك أّل ت َعْب ُ ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ َ‬ ‫كوا ب ِهِ َ ْ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ه َول ت ُ ْ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ((‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬ ‫دا وَأن ْت ُ ْ‬ ‫دا ً‬ ‫جعَُلوا ل ِل ّهِ أن َ‬ ‫إ ِّل إ ِّياه ُ ((]السراء‪َ )) [23:‬فل ت َ ْ‬
‫خل َ َ‬ ‫َ‬
‫م ((]البقرة‪:‬‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫دوا َرب ّك ُ ُ‬‫س اع ْب ُ ُ‬ ‫]البقرة‪َ )) [22:‬يا أي َّها الّنا ُ‬
‫‪ [21‬فل منافاة بين الطريقتين‪ ،‬فمن يجعل التوحيد قسمين يدرج‬
‫توحيد الربوبية وتوحيد السماء والصفات في التوحيد في المعرفة‬
‫والثبات الذي هو التوحيد العلمي الخبري‪ ،‬فلحظ هذا ول يشكل‬
‫عليك تنوع التقسيم‪.‬‬
‫وهذا التقسيم مستمد من استقراء النصوص‪ ،‬وبعض أهل‬
‫البدع يشنع على أهل السنة ويقول‪ :‬إن هذا التقسيم مبتدع‪ ،‬وهذا‬
‫تشنيع باطل]انظر‪ :‬كتاب المختصر المفيد في بيان دلئل أقسام‬

‫‪17‬‬
‫التوحيد[ ‪ ،‬نعم العبارات والتقسيمات هي اصطلح جديد كما‬
‫قسم الفقهاء ـ مثلـ أفعال الصلة إلى‪ :‬أركان وواجبات وسنن‪،‬‬
‫أخذا من الدلة؛ لن أفعال الصلة ليست على مرتبة واحدة‪،‬‬
‫وكذلك أفعال الحج‪ :‬أركان وواجبات وسنن‪ ،‬أخذا من الدلة‪،‬‬
‫كذلك في مسائل العتقاد هذه التقسيمات مستمدة من‬
‫النصوص‪.‬‬
‫وقد دلت النصوص على وجوب توحيد الله في ربوبية‪ ،‬وذلك‬
‫باعتقاد أنه رب كل شيء ومليكه‪ ،‬وأن ما شاء كان‪ ،‬وما لم يشأ‬
‫لم يكن‪ ،‬هذا حق‪.‬‬
‫ودلت النصوص على وجوب اعتقاد أنه الله الحق الذي ل‬
‫يستحق العبادة سواه كما قال تعالى في خطابه لموسى عليه‬
‫ه إ ِّل أ ََنا َفاع ْب ُد ِْني ((]طه‪ ، [14:‬وقال‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬
‫َ‬
‫السلم‪ )) :‬إ ِن ِّني أَنا الل ّ ُ‬
‫حد ٌ ((]المائدة‪ ،[73:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ن إ ِل َهٍ إ ِّل إ ِل َ ٌ‬
‫م ْ‬ ‫ما ِ‬‫تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫حد ٌ ((]البقرة‪.[163:‬‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫م إ ِل َ ٌ‬‫)) وَإ ِل َهُك ُ ْ‬
‫و‬
‫ل هُ َ‬ ‫وفي باب السماء والصفات قال سبحانه وتعالى‪)) :‬قُ ْ‬
‫الل ّ َ‬
‫و‬
‫يٌء وَهُ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫مث ْل ِهِ َ‬‫س كَ ِ‬ ‫حد ٌ ((]الخلص‪ ،[1:‬وقال تعالى‪ )) :‬ل َي ْ َ‬ ‫هأ َ‬ ‫ُ‬
‫هَ‬
‫نل ُ‬ ‫ُ‬
‫م ي َك ْ‬ ‫َ‬
‫صيُر ((]الشورى‪ ،[11:‬وقال تعالى‪ )) :‬وَل ْ‬ ‫ميعُ الب َ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ال ّ‬
‫حد ٌ ((]الخلص‪.[4:‬‬ ‫َ‬ ‫كُ ُ‬
‫وا أ َ‬ ‫ف ً‬
‫ذا؛ هذا تقسيم مستمد من الكتاب والسنة‪ ،‬دال على أنه‬ ‫إ ً‬
‫تعالى واحد في هذا كله‪ ،‬وهل التقسيم له ثمرة؟‬
‫نعم؛ بهذا عرفنا أن القرار بتوحيد الربوبية وحده ل يكفي‪،‬‬
‫فإن المشركين كانوا مقرين بهذا التوحيد قال تعالى‪ )) :‬وَل َئ ِ ْ‬
‫ن‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ه ((]لقمان‪[25:‬‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫قول ُ ّ‬ ‫ض ل َي َ ُ‬
‫ت َوالْر َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬ ‫خل َقَ ال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫سأل ْت َهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ذا؛‬‫لكنهم جعلوا مع الله آلهة أخرى‪ ،‬وعبدوا مع الله آلهة سواه‪ ،‬إ ً‬
‫النحراف الذي عندهم هو في توحيد العبادة‪ ،‬ولهذا قال أهل‬
‫العلم‪ » :‬إن توحيد العبادة هو الذي وقعت فيه الخصومة بين‬
‫الرسل وأممهم« ] كتاب التوحيد للمام محمد بن عبد الوهاب‬
‫ص ‪ ، [6‬كما قال المشركون ـ لما قال لهم الرسول ‪» : ‬‬
‫ن هَ َ‬
‫ذا‬ ‫ة إ ِل ًَها َوا ِ‬ ‫جعَ َ‬ ‫َ‬
‫دا إ ِ ّ‬‫ح ً‬ ‫ل الل ِهَ َ‬ ‫قولوا‪ :‬ل إله إل الله « ـ ‪ )) :‬أ َ‬
‫ب ((]ص‪] .[5:‬رواه أحمد ‪ ،1/227‬وصححه الترمذي )‬ ‫جا ٌ‬ ‫يٌء ع ُ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫لَ َ‬
‫‪ ،(3232‬و ابن حبان )‪ ،(6686‬والحاكم ‪ 2/432‬من حديث ابن‬
‫عباس رضي الله عنهما‪[.‬‬
‫وهؤلء المبتدعة الطاعنون على أهل السنة في هذا التقسيم‬
‫يقسمون التوحيد تقسيما مبتدعا مشتمل على الباطل‪ ،‬كما ذكر‬
‫شيخ السلم عن كثير من أهل الكلم أنهم يقولون‪ » :‬إن التوحيد‬
‫اسم لثلثة‪ :‬توحيد الذات‪ ،‬وتوحيد الصفات‪ ،‬وتوحيد الفعال‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬إن الله تعالى واحد في ذاته ل قسيم له‪ ،‬وواحد في‬

‫‪18‬‬
‫صفاته ل شبيه له‪ ،‬وواحد في أفعاله ل شريك له « ]درء تعارض‬
‫العقل والنقل ‪ ،1/225‬والرسالة التدمرية ص ‪ ، [ 440‬والكلم‬
‫على هذا يطول‪ ،‬ولكن خلصة القول‪ :‬إن هذا التقسيم على‬
‫طريقتهم قد أدخلوا في التوحيد ما ليس فيه‪ ،‬فأدخلوا في مسمى‬
‫التوحيد نفي الصفات‪ ،‬وهذا إلحاد‪ ،‬وأخرجوا عن مسمى التوحيد‬
‫توحيد العبادة فل ذكر له عندهم‪ ،‬وأحسن ما يذكرون هو توحيد‬
‫الربوبية‪ ،‬وهو توحيد الرب بأفعاله‪ ،‬فيقولون‪ :‬هو واحد في أفعاله‬
‫ل شريك له‪ ،‬وهو أن خالق العالم واحد‪ ،‬وهذا حق‪] .‬انظر‪ :‬تقسيم‬
‫الطوائف للتوحيد في‪ :‬التدمرية ص ‪ ،440‬ومجموع الفتاوى‬
‫‪ ،4/150‬ومدارج السالكين ‪[3/415‬‬
‫]نفي المثل عن الله تعالى [‬
‫وقوله‪) :‬ول شيء مثله( نلحظ أن الجمل التالية كأنها تفصيل‬
‫للجملة الولى‪ ،‬فالجملة الولى فيها نوع من الشمول‪ ،‬لكن‬
‫الجمل التي تلتها هي تفصيل لها‪ ،‬من ذلك قوله‪) :‬ول شيء مثله(‬
‫هذه الجملة قد دلت على نفي المثل عن الله‪ ،‬وأنه ل مثيل له‬
‫مث ْل ِ ِ‬
‫ه‬ ‫من خلقه‪ ،‬ل شيء يماثله‪ ،‬ودليل ذلك قوله تعالى‪ )) :‬ل َي ْ َ‬
‫س كَ ِ‬
‫يٌء ((]الشورى‪ [11:‬وهذا نص في نفي مشابهة المخلوق‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫للخالق‪ ،‬فل شيء يماثله سبحانه‪ ،‬وقوله تعالى‪ )) :‬وَل َ ْ‬
‫م ي َك ُ ْ‬
‫فوا له‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫حد ٌ ((]الخلص‪ [4:‬أي ليس أحد ك ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫كُ ُ‬
‫وا أ َ‬ ‫ف ً‬
‫َ‬
‫دا ((]البقرة‪[22:‬؛ لنه تعالى ل ند له ول مثل‬ ‫جعَُلوا ل ِل ّهِ أن َ‬
‫دا ً‬ ‫)) َفل ت َ ْ‬
‫له ‪ ،‬والند والكفو والمثل والسمي ألفاظ متقاربة كلها تفسر‬
‫بالنظير والشبيه ونحو ذلك‪.‬‬
‫)ل شيء مثله( هذا من اعتقاد أنه سبحانه وتعالى واحد ل‬
‫شريك له‪ ،‬فمضمون هذه الجملة في الحقيقة يندرج في الجملة‬
‫الولى‪.‬‬
‫يجب اليمان بأنه تعالى موصوف بصفات الكمال‪ ،‬وأن إثبات‬
‫صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ليست من التشبيه في‬
‫شيء خلفا للمعطلة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم؛ فإنهم‬
‫يزعمون أن إثبات الصفات تشبيه ]منهاج السنة ‪ ،2/105‬ومجموع‬
‫الفتاوى ‪ ،4/150‬و ‪5/110‬و ‪ ، [6/33‬فينفونها بهذه الشبهة‪،‬‬
‫وبشبهٍ أخرى لكن هذه من أشهر شبههم‪ ،‬فينفون عن الله ما‬
‫وصف به نفسه زاعمين أن إثبات هذه الصفات يستلزم التشبيه‪،‬‬
‫والله تعالى منزه عن التشبيه‪ ،‬حقا إنه منزه عن التشبيه‪ ،‬ولكن‬
‫ة إثبات‬ ‫ليس إثبات الصفات من التشبيه في شيء‪ ،‬وتسمي ُ‬
‫الصفات تشبيها هذا من التلبيس والتمويه‪ ،‬وأصل هذه الشبهة‬
‫قولهم‪ :‬المخلوق يوصف بأنه عليم وأنه سميع وأنه بصير وأنه حي‬

‫‪19‬‬
‫وأنه يرضى ويغضب ويحب‪ ،‬فلو أثبتنا هذه الصفات لله كان مماثل‬
‫للمخلوق‪.‬‬
‫وقد رد عليهم أهل السنة]الرسالة التدمرية ص ‪ ،96‬ومنهاج‬
‫السنة ‪ [2/111‬واحتجوا عليهم بما يفحمهم‪ ،‬ومن ذلك أن يقال‪:‬‬
‫يلزمكم أن تقولوا‪ :‬إن وصفه تعالى بالوجود تشبيه‪ ،‬فالمخلوق‬
‫موجود‪ ،‬وهذا ظاهر الفساد والبطلن‪ ،‬فالله تعالى موجود‬
‫والمخلوق موجود‪ ،‬ولكل منهما وجود يخصه‪ ،‬وليس الموجود‬
‫كالموجود‪.‬‬
‫وإن كان بين الوجودين قدر مشترك‪ ،‬وهو مطلق الوجود‬
‫الذي هو ضد العدم‪ ،‬ونقول مثل ذلك في سائر ما سمى ووصف‬
‫به نفسه سبحانه‪ ،‬فالله تعالى الحي‪ ،‬والمخلوق الحي‪ ،‬قال‬
‫ت ((]الفرقان‪ ،[58:‬وقال‬ ‫مو ُ‬ ‫ذي ل ي َ ُ‬ ‫ي ال ّ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل ع ََلى ال ْ َ‬ ‫تعالى‪ )) :‬وَت َوَك ّ ْ‬
‫ي{ ] الروم‪:‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ج ال ْ َ‬
‫مي ّ َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫ت وَي ُ ْ‬ ‫مي ّ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ي ِ‬ ‫ج ال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫تعالى}ي ُ ْ‬
‫‪ [19‬ولكن ليس الحي كالحي‪ ،‬فالله تعالى الحي بحياة تخصه‬
‫وهي الحياة التامة‪ ،‬وهي الحياة الواجبة وهي الحياة التي ل‬
‫ذي ل‬ ‫ي ال ّ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل ع ََلى ال ْ َ‬
‫ح‬ ‫يعتريها نقص ول نوم ول سنة )) وَت َوَك ّ ْ‬
‫ْ‬
‫ة َول‬ ‫خذ ُه ُ ِ‬
‫سن َ ٌ‬ ‫ت ((]الفرقان‪ [58:‬وقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬ل ت َأ ُ‬ ‫مو ُ‬‫يَ ُ‬
‫م ((]البقرة‪ [255:‬والمخلوق يوصف بالحياة التي تناسبه وهي‬ ‫ن َوْ ٌ‬
‫ن‬
‫فُرو َ‬ ‫ف ت َك ْ ُ‬ ‫الحياة المحدثة بعد موت والمتبوعة بالموت‪ )) ،‬ك َي ْ َ‬
‫َ‬ ‫كنت َ‬
‫م ((]البقرة‪[28:‬‬ ‫حِييك ُ ْ‬‫م يُ ْ‬‫م ثُ ّ‬ ‫ميت ُك ُ ْ‬‫م يُ ِ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫حَياك ُ ْ‬ ‫واًتا فَأ ْ‬ ‫م َ‬
‫مأ ْ‬ ‫ِبالل ّهِ وَ ُ ُ ْ‬
‫وهي حياة ناقصة‪ ،‬وهي حياة موهوبة للمخلوق‪ ،‬فالله هو الذي‬
‫يحيي ويميت‪ ،‬وأما حياة الرب فليست كحياة المخلوق‪ ،‬بل حياة‬
‫لزمة لذاته‪ ،‬وهي أكمل حياة‪.‬‬
‫وإن اتفق السمان عند الطلق بمعنى أن كل من السمين‬
‫يدل على الحياة التي تقابل الموت‪ ،‬فليس الحي كالحي‪ ،‬وقُ ْ‬
‫ل‬
‫مثل هذا في بقية السماء والصفات‪.‬‬
‫ذا؛ إثبات السماء والصفات لله ل يقتضي تشبيها‪ ،‬والقدر‬ ‫إ ً‬
‫المشترك بين اسم الخالق واسم المخلوق أو بين صفة الخالق‬
‫وصفة المخلوق ليست من التشبيه في شيء‪ ،‬فإن القدر‬
‫المشترك ل يمكن نفيه عن الموجودات‪ ،‬فكل الموجدات تشترك‬
‫في مطلق الوجود‪ ,‬وكل الحياء تشترك في مطلق الحياة‪ ،‬وكل‬
‫المحسوسات تشترك في مطلق الحس‪ ،‬كما بين ذلك أهل العلم‬
‫وبسطوه‪.‬‬
‫]نفي العجر عن الله تعالى[‬
‫)ول شيء يعجزه( ل شيء يعجز الرب‪ ،‬هذا فيه نفي العجز‬
‫المنافي لكمال القدرة عن الله‪ ، ،‬وقد صرح الله سبحانه وتعالى‬
‫ت َول‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬ ‫يٍء ِفي ال ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫جَزه ُ ِ‬ ‫ه ل ِي ُعْ ِ‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫في قوله‪ )) :‬وَ َ‬

‫‪20‬‬
‫ديًرا ((]فاطر‪ ،[44:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ما قَ ِ‬
‫ن ع َِلي ً‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ض إ ِن ّ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِفي ال َْر‬
‫ما‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫)) وَل َ َ‬
‫ست ّةِ أّيام ٍ وَ َ‬ ‫ما ِفي ِ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬‫س َ‬ ‫قَنا ال ّ‬ ‫قد ْ َ‬
‫ما ((‬‫فظ ُهُ َ‬ ‫ح ْ‬‫ب ((]ق‪ ،[38:‬وقال تعالى‪َ )) :‬ول ي َُئود ُه ُ ِ‬ ‫ن ل ُُغو ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫سَنا ِ‬ ‫م ّ‬ ‫َ‬
‫]البقرة‪ ،[255:‬يعني ل يتعبه ول يشق عليه ول يلحقه كلل ول‬
‫تعب ول إعياء‪ ،‬وذلك لكمال القدرة‪.‬‬
‫سنة والنوم واللغوب‬ ‫فالله تعالى يوصف بنفي النقائص؛ كال ِ‬
‫والعجز والظلم والغفلة والنسيان‪ ،‬لكن كل ما يوصف الله به من‬
‫النفي فإنه متضمن لثبات كمال‪ ،‬هذه قاعدة‪ ،‬فالله تعالى ل‬
‫يوصف بنفي محض ل يدل على ثبوت؛ فإن النفي المحض ليس‬
‫فيه مدح‪ ،‬وإنما المدح في النفي المتضمن للكمال‪] .‬التدمرية ص‬
‫‪ ،184‬ومجموع الفتاوى ‪ ،10/250‬وجواب أهل العلم واليمان‬
‫‪17/109‬و ‪ ،142‬ومنهاج السنة ‪ ،2/319‬ودرء تعارض العقل‬
‫والنقل ‪[6/167‬‬
‫فكل ما جاء في صفات الكمال من النفي فإنه متضمن‬
‫مل‬ ‫قّيو ُ‬‫ي ال ْ َ‬‫ح ّ‬‫ه إ ِّل هُوَ ال ْ َ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬ ‫لثبات كمال الضد‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬الل ّ ُ‬
‫ْ‬
‫سنة والنوم متضمنة‬ ‫م ((]البقرة‪ [255:‬فنفي ال ِ‬ ‫ة َول ن َوْ ٌ‬ ‫سن َ ٌ‬ ‫خذ ُه ُ ِ‬ ‫ت َأ ُ‬
‫ب ((‬ ‫ن ل ُُغو ٍ‬ ‫م ْ‬‫سَنا ِ‬ ‫م ّ‬ ‫ما َ‬ ‫لكمال حياته وقيوميته‪ ،‬وقوله تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫]ق‪ [38:‬متضمن لثبات كمال قدرته ونهاية قوته‪ ،‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫ل ذ َّرةٍ ((]سبأ‪ [3:‬يتضمن كمال العلم‪ ،‬ونف ُ‬
‫ي‬ ‫قا ُ‬ ‫مث ْ َ‬‫ه ِ‬ ‫ب ع َن ْ ُ‬ ‫)) ل ي َعُْز ُ‬
‫ذي ل‬ ‫ي ال ّ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ل ع ََلى ال ْ َ‬ ‫الظلم يتضمن كمال العدل‪ )) ،‬وَت َوَك ّ ْ‬
‫ت ((]الفرقان‪ [58:‬نفي الموت عن الله يتضمن كمال الحياة‪،‬‬ ‫مو ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫ونفي العجز يتضمن كمال القدرة‪.‬‬
‫أما المعطلة فإنهم يصفونه بالنفي المحض؛ لنهم قد‬
‫يقولون‪ :‬إن الله ل يجهل‪ ،‬وقد يقولون‪ :‬إن الله ل يعجز‪ ،‬فيصفونه‬
‫بالنفي‪ ،‬لكنهم ل يثبتون الضداد‪ ،‬فيصفونه بالنفي المحض‪.‬‬
‫ولهذا جاء في المناظرة التي جرت بين عبد العزيز الكناني‬
‫]عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم الكناني المكي‪:‬‬
‫سمع من سفيان بن عيينة والشافعي‪ ،‬وقدم بغداد في أيام‬
‫المأمون‪ ،‬وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في القرآن‪،‬‬
‫وكان من أهل الفضل والعلم‪ ،‬وله مصنفات عدة‪ ،‬وكان ممن‬
‫تفقه بالشافعي واشتهر بصحبته‪ ،‬توفي بعد الثلثين ومائتين‪ .‬تاريخ‬
‫بغداد ‪ ،10/449‬وتقريب التهذيب ص ‪ [617‬ـ رحمه الله ـ وبين‬
‫سي أنه لما طالبه بوصف الله بالعلم قال‪ :‬أقول الله‬ ‫مرِي ْ ِ‬ ‫بشر الـ َ‬
‫ل يجهل! ]الحيدة ص ‪[31‬لن عنده أن نفي الجهل ل يستلزم‬
‫إثبات علم‪ ،‬فيقول‪ :‬الله ل يجهل‪.‬‬
‫فهذه قاعدة لبد من ملحظتها‪ ،‬وهي‪ :‬أن الله موصوف‬
‫بالثبات والنفي‪ ،‬إثبات الكمال ونفي النقائص والعيوب والفات‬

‫‪21‬‬
‫ومماثلة المخلوقات‪ ،‬فإثبات الكمالت يتضمن نفي أضدادها‪،‬‬
‫فوصفه بالعلم يتضمن نفي الجهل عنه ونفي النسيان ونفي‬
‫الغفلة‪ ،‬ووصفه بالسمع والبصر يتضمن نفي الصمم والعمى عن‬
‫الله‪ ،‬قال النبي ‪ » : ‬إنكم ل تدعون أصما ول غائبا إنما تدعون‬
‫سميعا بصيرا «]رواه البخاري)‪ (6610‬ـ واللفظ له ـ ‪ ،‬ومسلم)‬
‫‪ (2704‬من حديث أبي موسى الشعري ‪ ، [‬فالنصوص‬
‫اشتملت على وصف الله بالكمالت‪ ،‬وعلى تنزيهه عن النقائص‪،‬‬
‫فالله تعالى موصوف بالثبات والنفي‪ ،‬فيجب إثبات ما أثبته الله‬
‫لنفسه من السماء والصفات من غير تحريف ول تعطيل ول‬
‫تكييف ول تمثيل‪ ،‬وتنزيهه تعالى عن النقائص بنفي ما نفاه عن‬
‫نفسه ونفاه عنه رسوله ‪.‬‬
‫]كلمة التوحيد وما تتضمنه[‬
‫قال المؤلف‪) :‬ول إله غيره( هذه كلمة التوحيد‪ ،‬ولما سبق‬
‫ذكر السم الشريف الذي هو لفظ الجللة » الله « رد المؤلف‬
‫الضمائر إلى ذلك السم الظاهر‪ ،‬وهذه الكلمة يأتي فيها ذكر الله‬
‫بالسم الظاهر‪ ،‬وبضمير المتكلم والخاطب والغائب‪ ،‬قال تعالى‬
‫ه إ ِّل أ ََنا فاعبدني((]طه‪ ،[14:‬وقال يونس عليه‬ ‫لموسى‪ )) :‬ل إ ِل َ َ‬
‫َ‬
‫شهِد َ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ت ((]النبياء‪ [87:‬وقال تعالى } َ‬ ‫ه إ ِّل أن ْ َ‬‫السلم‪ )) :‬ل إ ِل َ َ‬
‫َ‬
‫و{ ]آل عمران‪ [18 :‬فإذا خاطب النسان ربه قال‪:‬‬ ‫ه ل َ إ ِل َ َ‬
‫ه إ ِل ّ هُ َ‬ ‫أن ّ ُ‬
‫ل إله إل أنت‪ ،‬وإذا كان يخبر يقول‪ :‬ل إله إل الله‪ ،‬أو يقول‪ :‬ل إله‬
‫إل هو‪ ،‬أو يقول‪ :‬ل إله غيره‪.‬‬
‫أما إذا أراد أن يذكر ربه فيقول‪ :‬ل إله إل الله‪ ،‬سبحان الله ‪،‬‬
‫م َل إ ِل َ َ‬
‫ه‬ ‫ل ل َهُ ْ‬
‫ذا ِقي َ‬ ‫م َ‬
‫كاُنوا إ ِ َ‬ ‫والحمد لله فيأتي بالسم الظاهر ))إ ِن ّهُ ْ‬
‫ن((]الصافات‪.[35:‬‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫إ ِّل الل ّ ُ‬
‫وأما الذكر باللفظ المفرد أو بالضمير فهو ذكر مبتدع كما‬
‫يفعل الصوفية ]العبودية ‪ ،10/226‬وطريق الهجرتين ص ‪[339‬‬
‫يذكرون الله بالسم المفرد )الله( ويكررونها‪ ،‬أو )هو( ويكررونها‪،‬‬
‫ويعتبرون هذا ذكرا !‬
‫وهذا ذكر مبتدع باطل لغة وعقل وشرعا‪ ،‬فقول‪) :‬هو هو( أو‬
‫)الله الله( ليس فيه ذكر‪ ،‬ول إيمان‪ ،‬ول كفر‪ ،‬فكلمة )الله( وحدها‬
‫ل تفيد حكما بالنسبة للعبد‪ ،‬فمن سمعناه يقول )الله( ل نقول‪:‬‬
‫إنه يذكر ربه‪ ،‬ول نقول‪ :‬إنه يسبح ‪.‬‬
‫فكلمة )الله( يقولها الموحد إذا جعلها في كلم مركب فيقول‬
‫)سبحان الله( أو )ل إله إل الله( أو )الله أكبر(‪ ،‬ويقولها الكافر إذا‬
‫قال‪ :‬الله ل وجود له‪ ،‬فيكون بهذا كافرا ملحدا‪.‬‬
‫ذا؛ يجب أن يكون الذكر بالجملة التامة‪ :‬ل إله إل الله‪،‬‬ ‫إ ً‬
‫وسبحان الله‪ ،‬والحمد لله‪ ،‬والله أكبر‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫مفعول‪ ،‬مثل كتاب‬ ‫)ل إله غيره( إله على وزن ِفعال بمعنى َ‬
‫بمعنى مكتوب‪ ،‬فإله بمعنى مألوه‪ ،‬من َأله َيأله بمعنى ع ََبد‪،‬‬
‫فمعنى )ل إله إل الله( أي‪ :‬ل معبود َ إل الله‪ ،‬أو ل معبود َ غيُر الله‪،‬‬
‫لكن يرد على هذا بأن في الكون معبودات كثيرة مثل آلهة‬
‫ما‬ ‫َ‬ ‫ل َيا أ َي َّها ال ْ َ‬ ‫المشركين‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬قُ ْ‬
‫ن * ل أع ْب ُد ُ َ‬ ‫كافُِرو َ‬
‫ة إ ِل ًَها‬ ‫ل الل ِهَ َ‬ ‫جعَ َ‬ ‫َ‬
‫ن ((]الكافرون‪ ،[2-1:‬وقال تعالى‪ )) :‬أ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ت َعْب ُ ُ‬
‫ذا؛ هذا التقدير ل يستقيم‪،‬‬ ‫دا ((]ص‪ [5:‬فلهم معبودات‪ ،‬إ ً‬ ‫ح ً‬ ‫َوا ِ‬
‫در‪ :‬ل إله حق‪ ،‬أو‪ :‬ل معبود بحق‪ ،‬أما المعبودات‬ ‫والصواب أن ُيق ّ‬
‫بباطل؛ فهي منتشرة في الرض‪ ،‬كل طائفة لهم معبود‪ ،‬ويقول‬
‫الله تعالى لهم يوم القيامة ‪ »:‬لتتبع كل أمة ما كانت تعبد«‪].‬رواه‬
‫البخاري )‪ ، (4581‬ومسلم )‪ (183‬من حديث أبي سعيد ‪، [‬‬
‫فمنهم من يعبد الشمس‪ ،‬ومنهم من يعبد القمر‪ ،‬ومنهم من يعبد‬
‫البقر‪ ،‬ومنهم من يعبد الصنام المختلفة‪ ،‬ومنهم من يعبد الصليب‪،‬‬
‫لكن ل معبود بحق إل الله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ذا؛ هذه الجملة مركبة من النفي والثبات‪ ،‬نفي اللهية بحق‬ ‫إ ً‬
‫عن كل أحد إل الله‪ ،‬فالله تعالى هو الله الحق‪ ،‬وكل معبود سواه‬
‫َ‬ ‫باطل‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬ذ َل َ َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ي َد ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫حقّ وَأ ّ‬ ‫ه هُوَ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ك ب ِأ ّ‬ ‫ِ‬
‫ي ال ْك َِبيُر ((]الحج‪ [62:‬فالنفي‬ ‫دون ِه هُو ال ْباط ُ َ‬
‫ه هُوَ ال ْعَل ِ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ل وَأ ّ‬ ‫ُ ِ َ َ ِ‬
‫هو الكفر بالطاغوت‪ ،‬والثبات هو اليمان بالله قال تعالى‪ )) :‬ل‬
‫ت‬
‫غو ِ‬ ‫طا ُ‬ ‫فْر ِبال ّ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ي فَ َ‬ ‫ن الغَ ّ‬ ‫م َ‬ ‫شد ُ ِ‬ ‫ن الّر ْ‬ ‫ن قَد ْ ت َب َي ّ َ‬ ‫إ ِك َْراه َ ِفي ال ّ‬
‫دي ِ‬
‫قى ((]البقرة‪.[256:‬‬ ‫ك ِبال ْعُْروَةِ ال ْوُث ْ َ‬ ‫س َ‬ ‫م َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫قد ِ ا ْ‬ ‫ن ِبالل ّهِ فَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَي ُؤ ْ ِ‬
‫)ل إله إل الله( بما تتضمنه من إيمان وكفر‪ ،‬تتضمن اليمان‬
‫بالله والكفر بالطاغوت‪ ،‬وتتضمن التولي لله ومحبته وإجلله‪،‬‬
‫والبراءة من كل معبود سواه كما قال الخليل لبيه وقومه‪:‬‬
‫ن ((‬ ‫دي ِ‬ ‫سي َهْ ِ‬‫ه َ‬ ‫ذي فَط ََرِني فَإ ِن ّ ُ‬ ‫ن * إ ِّل ال ّ ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت َعْب ُ ُ‬‫م ّ‬ ‫)) إ ِن ِّني ب ََراٌء ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫م َ‬ ‫]الزخرف‪ [27-26:‬وفي آية أخرى يقول‪ )) :‬أفََرأي ْت ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫مي َ‬‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫م ع َد ُوّ ِلي إ ِّل َر ّ‬ ‫ن * فَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫م القْد َ ُ‬ ‫م َوآَباؤ ُك ُ ُ‬ ‫ن * أن ْت ُ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ت َعْب ُ ُ‬
‫ة‬ ‫ُ‬ ‫قد ْ ب َعَث َْنا ِفي ك ُ ّ‬ ‫((]الشعراء‪ ،[77-75:‬وقال تعالى‪ )) :‬وَل َ َ‬
‫م ٍ‬ ‫لأ ّ‬
‫جت َن ُِبوا ال ّ‬ ‫َ‬
‫ت ((]النحل‪ [36:‬فما بعث‬ ‫غو َ‬ ‫طا ُ‬ ‫ه َوا ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫ن ا ُع ْب ُ ُ‬ ‫سوًل أ ِ‬ ‫َر ُ‬
‫الله به رسله متضمن لمضمون هذه الكلمات‪ ،‬فقوله تعالى‪:‬‬
‫ت ((]النحل‪ [36:‬هو معنى )ل إله إل‬ ‫غو َ‬ ‫جت َن ُِبوا ال ّ‬
‫طا ُ‬ ‫ه َوا ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫))ا ُع ْب ُ ُ‬
‫الله( فـ)اعبدوا الله( مقتضى الثبات‪ ،‬و)اجتنبوا الطاغوت(‬
‫َ‬
‫جت َن ُِبوا‬ ‫ه َوا ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫ن ا ُع ْب ُ ُ‬ ‫مقتضى النفي‪ ،‬فتضمنت هذه الية )أ ِ‬
‫ت( آمنوا بالله وخصوه بالعبادة‪ ،‬واجتنبوا عبادة ما سواه‬ ‫غو َ‬ ‫طا ُ‬ ‫ال ّ‬
‫واكفروا به ‪.‬‬
‫]دوام الرب تعالى أزل وأبدا[‬

‫‪23‬‬
‫قوله‪ ) :‬قديم بل ابتداء‪ ،‬دائم بل انتهاء‪ ،‬ل يفنى ول يبيد‪ ،‬و ل‬
‫يكون إل ما يريد‪ ،‬ل تبلغه الوهام‪ ،‬ول تدركه الفهام‪ ،‬ول يشبه‬
‫النام (‬
‫لما ذكر المام الطحاوي بعض ما يجب تنزيه الله تعالى عنه‬
‫قدم‬ ‫ن مما يجب إثباته لله ال ِ‬ ‫جر‪ ،‬ذكر أ ّ‬ ‫من‪ :‬الشريك والشبيه والعَ ْ‬
‫والدوام ـ أي ـ دوام الوجود أزل وأبدا‪ ،‬فهو تعالى دائم أزل وأبدا‪،‬‬
‫فل ابتداء ول نهاية لوجوده ‪.‬‬
‫مَر‬‫ق َ‬‫والقديم في اللغة ضد الحديث‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وال ْ َ‬
‫م{ ]يس‪ ،[39:‬وقال عن‬ ‫دي ِ‬ ‫ق ِ‬‫ن ال ْ َ‬‫جو ِ‬ ‫كال ْعُْر ُ‬
‫عاد َ َ‬
‫حّتى َ‬ ‫ل َ‬ ‫مَنازِ َ‬‫قَد ّْرَناه ُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م َوآَباؤ ُك ُ ُ‬
‫م‬ ‫ن * أنت ُ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َعْب ُ ُ‬ ‫ما ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫ل أفََرأي ُْتم ّ‬ ‫إبراهيم ‪َ} :‬قا َ‬
‫َ‬
‫ن{ ]الشعراء‪75:‬و ‪ ،[76‬وأصل القديم المتقدم على غيره‬ ‫مو َ‬ ‫اْلقْد َ ُ‬
‫فيشمل التقدم المطلق‪ ،‬والتقدم النسبي؛ فالتقدم النسبي‬
‫للمخلوقات فبعضها متقدم على بعض‪ ،‬وأما التقدم المطلق فهو‬
‫لله تعالى‪ ،‬فهو سابق في وجوده لكل شيء‪ ،‬ول بداية لوجوده‪،‬‬
‫ولهذا احتاج المؤلف أن يقول‪) :‬بل ابتداء(‪ .‬ويقال‪ :‬أزلي‪ ،‬فالزل‪:‬‬
‫هو الماضي الذي ل حد له‪ ،‬فالزل والبد متقابلن هذا في‬
‫الماضي‪ ،‬وهذا في المستقبل‪.‬‬
‫وهذان الوصفان حق؛ فالله تعالى دائم البقاء أزل وأبدا‪ ،‬لكن‬
‫ليس هذان السمان من أسمائه الحسنى التي يثنى عليه بها‪،‬‬
‫ويدعى بها‪ ،‬فل يقال‪ :‬يا قديم‪ ،‬أو سبحان القديم‪ ،‬كما ل يقال‪ :‬يا‬
‫موجود‪ ،‬أو سبحان الموجود؛ فإن هذا ل يحصل به التخصيص‬
‫والتعيين؛ بل يقال‪ :‬سبحان الله‪ ،‬سبحان ذي الملك والملكوت‪،‬‬
‫والعزة والجبروت‪ ،‬سبحان الحي الذي ل يموت‪.‬‬
‫فإن القديم والدائم لم يردا في الكتاب والسنة‪ ،‬وإنما الوارد‪:‬‬
‫ظاه ُِر َوال َْباط ِ ُ‬
‫ن‬ ‫خُر َوال ّ‬ ‫ل َواْل ِ‬ ‫الول والخر‪ ،‬كما قال تعالى‪} :‬هُوَ اْل َوّ ُ‬
‫م{ ] الحديد‪ ،[3:‬وفي السنة ـ في دعاء النبي‬ ‫يٍء ع َِلي ٌ‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬
‫‪ ‬ـ‪ » :‬اللهم أنت الول فليس قبلك شيء ‪ ،‬وأنت الخر فليس‬
‫بعدك شيء«‪] ،‬رواه مسلم )‪ (2713‬من حديث أبي هريرة‬
‫‪.[‬وهذا الحديث يفسر الية ‪.‬‬
‫فهذان اسمان من أسمائه الحسنى التي سمى الله بها‬
‫نفسه‪ ،‬وسماه بها رسوله ‪ ‬أعلم الخلق به‪.‬‬
‫وغلب على أهل الكلم إطلق لفظ )القديم( على الله تعالى‬
‫فيقولون‪ :‬هذا يجوز على القديم‪ ،‬وهذا ل يجوز على القديم؛‬
‫فجعلوه اسما لله تعالى‪ ،‬وهذا من أغلطهم‪ ،‬والواجب أن يقولوا‪:‬‬
‫هذا يجوز على الله؛ فالله هو اسم رب العالمين‪.‬‬
‫لكن القديم والدائم يصح الخبار بهما عن الله مثل أن تقول‪:‬‬
‫الله موجود‪ ،‬والله شيء‪ ،‬والله له ذات‪ ،‬والله قديم‪ ،‬والله دائم‪،‬‬

‫‪24‬‬
‫لكن ل تقل‪ :‬من أسمائه )قديم( بل من أسمائه )الول( قال‬
‫ماء ال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫سَنى َفاد ْ ُ‬
‫عوه ُ ب َِها { ففي الدعاء إنما‬ ‫ح ْ‬ ‫تعالى‪) :‬وَل ِل ّهِ ال ْ‬
‫س َ‬
‫يدعى الله بما سمى به نفسه‪ ،‬أو سماه به رسوله ‪]. ‬مجموع‬
‫الفتاوى ‪[6/142‬‬

‫قوله‪) :‬ل يفنى ول يبيد( هذه تأكيد لقوله )بل انتهاء( ومن‬
‫أجل تحصيل السجع مع ما بعده‪ ،‬والفناء والبيد معناهما واحد قال‬
‫ن ((]الرحمن‪ ،[26:‬وقال الكافر صاحب‬ ‫ن ع َل َي َْها َفا ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫تعالى‪ )):‬ك ُ ّ‬
‫دا ((]الكهف‪) ،[35:‬ل يفنى ول‬ ‫َ‬ ‫الجنة‪ )) :‬ما أ َظ ُ َ‬
‫ن ت َِبيد َ هَذ ِهِ أب َ ً‬ ‫نأ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫يبيد( سبحانه‪ ،‬وإنما الذي يفنى الخلق ‪.‬‬
‫]إثبات الرادة لله تعالى[‬
‫د{‬ ‫ري ُ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ل لّ َ‬ ‫قوله‪) :‬و ل يكون إل ما يريد( فإنه تعالى }فَّعا ٌ‬
‫]سورة البروج‪ ، [16:‬وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء‪ ،‬وهو‬
‫رب كل شيء‪ ،‬وهو الخالق لكل شيء‪ ،‬فما شاء الله كونه ل بد‬
‫َ‬ ‫شيٍء إ َ َ‬
‫ن ((‬ ‫كو ُ‬ ‫ن فَي َ ُ‬ ‫ه كُ ْ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قو َ‬ ‫ن نَ ُ‬ ‫ذا أَرد َْناه ُ أ ْ‬ ‫ما قَوْل َُنا ل ِ َ ْ ِ‬ ‫أن يكون )) إ ِن ّ َ‬
‫دا‪.‬‬ ‫]النحل‪ ،[40:‬وما لم يشأ ل يكون أب ً‬
‫ذا؛ كل ما يجري في الوجود من ‪:‬حركات الفلك‪ ،‬وجريان‬ ‫إ ً‬
‫النجوم‪ ،‬والشمس والقمر‪ ،‬وتقلب الليل والنهار‪ ،‬وأمواج البحار‬
‫بمشيئة الله‪ ،‬وكل ما يقع من العباد‪ ،‬فما تلفظ ول تحرك شفتيك‬
‫إل بمشيئة الله‪ ،‬ول تفتح عينك إل بمشيئة الله ولو شاء الله ما‬
‫فتحت عينك‪.‬‬
‫)ول يكون إل ما يريد(‪.‬‬
‫والرادة هنا هي الرادة الكونية الشاملة للوجود‪ ،‬ونقول‪:‬‬
‫الرادة الكونية؛ لن الرادة المضافة لله نوعان‪ :‬إرادة كونية‪،‬‬
‫وإرادة شرعية‪] .‬مجموع الفتاوى ‪ ،8/188‬والفرقان بين أولياء‬
‫الرحمن وأولياء الشيطان ‪ ،11/266‬وشفاء العليل ص ‪[280‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫هأ ْ‬ ‫ن ي ُرِد ِ الل ّ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫فمن شواهد الرادة الكونية‪ :‬قوله تعالى‪ )) :‬فَ َ‬
‫َ‬
‫ما‬‫ل لِ َ‬ ‫ه (( وقوله‪ )) :‬فَّعا ٌ‬ ‫ضل ّ ُ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫ن ي ُرِد ْ أ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ((‪ ،‬وقوله‪ )):‬وَ َ‬ ‫ي َهْد ِي َ ُ‬
‫َ‬
‫ريد ُ ((‪ ،‬وفي معناه المشيئة‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ي َهْ ِ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫ريد ُ (( وقوله‪ )) :‬وَأ ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫شاُء ((‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫شاُء وَي َهْ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫شاُء (( )) ي ُ ِ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫فعَ ُ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫)) إ ِ ّ‬
‫ما‪.‬‬ ‫فالرادة الكونية بمعنى المشيئة تما ً‬
‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫والرادة الشرعية من شواهدها‪ :‬قوله تعالى‪ )) :‬ي ُ ِ‬
‫ض‬
‫ن ع ََر َ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫سَر (( وقوله تعالى‪ )) :‬ت ُ ِ‬ ‫م ال ْعُ ْ‬ ‫ريد ُ ب ِك ُ ُ‬ ‫سَر َول ي ُ ِ‬ ‫م ال ْي ُ ْ‬ ‫ب ِك ُ ُ‬
‫ريد ُ‬‫ه يُ ِ‬ ‫م (( )) َوالل ّ ُ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫ه ل ِي ُب َي ّ َ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬ ‫خَرة َ (( )) ي ُ ِ‬ ‫ريد ُ اْل ِ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫الد ّن َْيا َوالل ّ ُ‬
‫َ‬
‫م ((‪ .‬فهذه إرادة شرعية‪.‬‬ ‫ب ع َل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن ي َُتو َ‬ ‫أ ْ‬
‫والفرق بين الرادتين منوجهين‪:‬‬

‫‪25‬‬
‫الول‪ :‬أن الرادة الكونية‪ :‬عامة لكل ما يكون ل يخرج عنها‬
‫شيء‪ ،‬فتشمل ما يحبه الله وما يبغضه الله‪.‬‬
‫فإيمان المؤمنين وطاعة المطيعين‪ ،‬وكفر الكافرين ومعصية‬
‫العاصين‪ ،‬كل ذلك بإرادته الكونية‪.‬‬
‫وأما الرادة الشرعية‪ :‬فإنها تختص بما يحبه الله سبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫ذا؛ الرادة الكونية عامة‪ ،‬وهذه خاصة‪.‬‬ ‫إ ً‬
‫الرادة الكونية ل تستلزم المحبة‪ ،‬وأما الرادة الشرعية فإنها‬
‫تستلزم المحبة‪.‬‬
‫والفرق الثاني‪ :‬أن الرادة الكونية ل يتخلف مرادها أبدا‪ ،‬وأما‬
‫الرادة الشرعية ‪ :‬فإنه ل يلزم منها وقوع المراد‪.‬‬
‫وتجتمع الرادتان في إيمان المؤمن‪ ،‬فهو مراد ٌ لله كونا‪،‬‬
‫ومراد ٌ شرعا‪ ،‬فهو مراد ٌ بالرادتين‪.‬‬
‫وتنفرد الرادة الكونية في كفر الكافر ومعصية العاصي‪ ،‬فهو‬
‫مراد ٌ بالرادة الكونية ل الشرعية‪ ،‬إذ ليس ذلك بمحبوب بل‬
‫مسخوط ومبغوض لله سبحانه‪.‬‬
‫وتنفرد الرادة الشرعية في إيمان الكافر الذي لم يقع؛ لنا‬
‫نقول‪ :‬إنه مراد ٌ من أبي جهل أن يؤمن بالرادة الشرعية‪ ،‬لكنه لم‬
‫يقع ‪.‬‬
‫لكن الرادة الشرعية ل تفسر بالمشيئة‪ ،‬فل نقول‪ :‬إن الله‬
‫شاء اليمان من أبي جهل‪ ،‬لكن نقول‪ :‬إن الله أراد منه اليمان‪،‬‬
‫يعني‪ :‬الرادة الشرعية‪ ،‬وأمره باليمان المر الشرعي‪ ،‬وبهذه‬
‫المناسبة الصحيح أن المشيئة ل تنقسم‪ ،‬فل يقال‪ :‬إن المشيئة‬
‫نوعان شرعية وكونية‪.‬‬
‫بل المشيئة كونية فقط‪ ،‬وليس لمن قال‪) :‬إن المشيئة‬
‫نوعان( ما يدل على قوله؛ بل المشيئة كونية فقط‪ ،‬وهي عامة‬
‫)ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن(‪.‬‬
‫وتقسيم الرادة إلى كونية‪ ،‬وشرعية يجري مثله في معاني‬
‫متعددة في القرآن‪ ،‬فمما يضاف إلى الله الذن‪ ،‬وهو‪ :‬شرعي‬
‫وقدري ـ والقدري هو الكوني ـ والقضاء‪ ،‬والتحريم‪ ،‬والبعث‪،‬‬
‫والرسال‪ ،‬وغيرها كلها يجري فيها هذا التقسيم‪].‬الفرقان بين‬
‫أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ‪ ،11/265‬وشفاء العليل ص‬
‫‪. [280‬‬
‫مثل‪ :‬الذن منه كوني وشرعي‪ ،‬قال الله تعالى في شأن‬
‫ن الل ّهِ ((]البقرة‪:‬‬ ‫السحرة )) وما هُم بضارين به م َ‬
‫حد ٍ إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِ‬
‫نأ َ‬‫ْ ِ َ ّ َ ِ ِ ِ ْ‬ ‫َ َ‬
‫‪ [102‬فالسحرة ل يضرون أحدا بسحرهم إل بإذنه الكوني‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫من ّلين َةٍ أ َْو‬ ‫ما قَط َعُْتم ّ‬ ‫وأما الذن الشرعي فقوله تعالى )) َ‬
‫ن الل ّهِ (( ] الحشر‪[5:‬‬ ‫ُ‬
‫صول َِها فَب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫ة ع ََلى أ ُ‬ ‫م ً‬ ‫ها َقائ ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ت ََرك ْت ُ ُ‬
‫ب‬‫ل ِفي ال ْك َِتا ِ‬ ‫سرائي َ‬ ‫ضي َْنا إ َِلى ب َِني إ ِ ْ‬ ‫والقضاء‪ :‬قال تعالى‪ )) :‬وَقَ َ‬
‫ن ((]السراء‪ [4:‬هذا قضاء كوني ‪ ،‬وقال‬ ‫َْ‬ ‫ل َت ُ ْ‬
‫م َّرت َي ْ ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫سد ُ ّ‬ ‫ف ِ‬
‫دوا إ ِّل إ ِّياه ُ ((]السراء‪ [23:‬هذا‬ ‫ك أّل ت َعْب ُ ُ‬ ‫ضى َرب ّ َ‬ ‫تعالى )) وَقَ َ‬
‫القضاء الشرعي ‪.‬‬
‫ضعَ (( هذا تحريم‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مَنا ع َلي ْهِ ال َ‬ ‫حّر ْ‬ ‫والتحريم‪ :‬قال تعالى )) وَ َ‬
‫ت‬‫م ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ة (( و)) ُ‬ ‫مي ْت َ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬‫ت ع َل َي ْك ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حّر َ‬‫كوني‪ ،‬لكن قوله تعالى )) ُ‬
‫ع َل َيك ُ ُ‬
‫م (( هذا تحريم شرعي‪.‬‬ ‫مَهات ُك ُ ْ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ْ ْ‬
‫المقصود‪ :‬أن قول الطحاوي‪ ) :‬ول يكون إل ما يريد( فيه‬
‫تقرير واثبات للرادة الكونية‪ ،‬وفي هذا رد على المعتزلة؛ فإنهم‬
‫ينفون الرادة الكونية‪ ،‬ومن أصولهم الباطلة ما يسمونه بالعدل‪،‬‬
‫ويدرجون فيه نفي القدر‪ ،‬ومن نفيهم للقدر‪ ،‬نفيهم عموم‬
‫المشيئة‪ ،‬فعندهم أن مشيئة الله ليست عامة‪ ،‬فكل أفعال العباد‬
‫عندهم ليست بمشيئة الله‪] ،‬التدمرية ص ‪ [488‬فالنسان يقوم‬
‫ويقعد‪ ،‬ويذهب ويجيء‪ ،‬ويقاتل كل ذلك ليس بمشيئة الله! تًبا‬
‫لهم تًبا لهم‪ ،‬ما أضلهم‪ ،‬فقد أخرجوا عن ملك الله كثيرا مما في‬
‫ب العالمين إلى العجز‪ ،‬تعالى الله عن قولهم‬ ‫الوجود‪ ،‬ونسبوا ر َ‬
‫وا كبيًرا‪.‬‬ ‫عل ً‬
‫بل أفعال العباد ل خروج لها عن حكم سائر الموجودات‪،‬‬
‫وكل الموجودات محكومة بمشيئة الله وقدرته سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫]تنزيه الله تعالى عن الحاطة به[‬
‫قوله ‪) :‬ل تبلغه الوهام‪ ،‬ول تدركه الفهام(‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬وتقدم بعض ما يجب تنزيه الله تعالى‬ ‫هذا فيه تنزيه أي ً‬
‫عنه لكن المؤلف ي ُث َّني‪ ،‬فيذكر بعض ما يجب تنزيه الله تعالى‬
‫عنه‪ ،‬وما يجب إثباته له سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫)ل تبلغه الوهام( يعني الظنون والخيال‪ ،‬فل تبلغه ظنون‬
‫الظانين‪ ،‬ول خيال المتخيلين‪ ،‬فل يمكن للعباد أن يدركوا حقيقة‬
‫ذات الرب أو شيٍء من صفاته بوهم وتخيل أبدا‪.‬‬
‫)ول تدركه الفهام( فالعباد يعرفون ربهم بما هداهم سبحانه‬
‫وتعالى به من الوحي‪ ،‬ومن اليات الكونية‪ ،‬لكنهم ل يحيطون به‬
‫علما؛ لذلك قال‪) :‬ل تدركه( الدراك فيه الحاطة‪ ،‬ولم يقل ل‬
‫تعرفه الفهام ول يعرفه العباد ! ل‪ ،‬العباد ُ يعرفون ربهم على‬
‫حسب مراتبهم في معرفة ربهم لكنهم ل يحيطون به علما‪ ،‬قال‬
‫عْلما ً‬ ‫حي ُ‬ ‫َ‬
‫ن ب ِهِ ِ‬ ‫طو َ‬ ‫صاُر (( وقال تعالى‪َ )) :‬ول ي ُ ِ‬ ‫ه اْلب ْ َ‬ ‫تعالى‪ )) :‬ل ت ُد ْرِك ُ ُ‬
‫يٌء (( وهذا يتضمن أن‬ ‫ش ْ‬ ‫مث ْل ِهِ َ‬ ‫س كَ ِ‬ ‫(( والله سبحانه وتعالى‪ )) :‬ل َي ْ َ‬

‫‪27‬‬
‫ط بما يعرفه‪ ،‬والله تعالى‬ ‫تخيل النسان وظنونه إنما هو مرتب ٌ‬
‫ليس كمثله شيء‪.‬‬
‫ويقول بعض المتكلمين‪) :‬كل ما خطر ببالك فإن الله تعالى‬
‫بخلف ذلك( ]الرد على الجهمية والزنادقة ص ‪ ، 99‬والستقامة‬
‫‪[118‬‬
‫ظ مبتدع لم يأت في نص من كتاب ول سنة‪،‬‬ ‫م ولف ٌ‬
‫وهذا كل ٌ‬
‫فيجب أن يحكم عليه بحكم اللفاظ المبتدعة المجملة ‪.‬‬
‫)كل ما خطر ببالك( إن أراد من الكيفيات فصحيح‪ ،‬والله‬
‫بخلف ذلك؛ لن كل ما يخطر ببالك من الكيفيات فإنه راجعٌ إلى‬
‫مث ْل ِ ِ‬
‫ه‬ ‫شيء من المخلوقات‪ ،‬والله تعالى بخلف ذلك )) ل َي ْ َ‬
‫س كَ ِ‬
‫يٌء (( ‪.‬‬ ‫َ‬
‫ش ْ‬
‫فكيفية ذات الرب وكيفية صفاته ل سبيل للعباد إلى‬
‫معرفتها ‪.‬‬
‫أما ما خطر ببالك من أنه فوق السماوات فهذا علم وحق‪،‬‬
‫وليس بخاطر‪ ،‬ويجب اليمان بأنه فوق السماوات‪ ،‬وما يخطر‬
‫ببالك أنه سبحانه وتعالى ينزل كما أخبر الرسول ‪] ‬بقوله‪» :‬‬
‫ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل‬
‫الخر ‪ « ...‬رواه البخاري )‪ ، (1145‬ومسلم )‪ (758‬من حديث‬
‫أبي هريرة ‪ [‬فهذا حق‪ ،‬فكل ما يخطر ببالك من المعاني الثابتة‬
‫فهو حق‪.‬‬
‫ذا؛ هذا التعبير ل يصح على الطلق‪ ،‬فهو لفظ مبتدع مجمل‪،‬‬ ‫إ ً‬
‫فل بد فيه من التفصيل‪ ،‬فالخواطر إما أن تكون مما يعلم بطلنه‪،‬‬
‫أو مما يعلم صحته‪ ،‬أو مما ل يعلم صحته ول بطلنه‪ ،‬فيمسك‬
‫عنه‪ ،‬ول يقال‪ :‬إن الله بخلف ذلك‪.‬‬
‫]تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه[‬

‫قوله‪) :‬ول يشبه النام(‬


‫أي ل يشبه الناس‪ ،‬ول يشبه شيئا من المخلوقات‪ .‬قال شيخ‬
‫السلم ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في »الرسالة التدمرية« ]ص‬
‫‪ :[392‬ـ في تقرير نفي المثل عن الله ـ » فُيعلم قطًعا أنه‬
‫سبحانه ليس من جنس المخلوقات‪ ،‬ل الملئكة ول السموات ول‬
‫الكواكب‪ ،‬ول الهواء ول الماء ول الرض‪ ،‬ول الدميين ول أبدانهم‬
‫ول أنفسهم‪ ،‬ول غير ذلك‪ ،‬بل ُيعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء‬
‫من الموجودات أبعد من سائر الحقائق‪ ،‬وأن مماثلته لشيء منها‬
‫أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق‬
‫آخر«؛ لنه تعالى ليس كمله شيء‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫)ل يشبه النام( في حاشية الشرح ]ص ‪ [88‬أن في بعض‬
‫النسخ )ول يشبهه النام( وكأن الشارح ابن أبي العز رجح هذه‬
‫النسخة‪ ،‬وعندي أن الصواب بدون الضمير )ول يشبه النام( لنك‬
‫ى جديد ٌ‬‫إذا قلت‪) :‬ول يشبهه النام( ل يكون في العبارة معن ً‬
‫ي لتمثيل‬ ‫يختلف عن قوله‪) :‬ل شيء مثله( فـ)ل شيء مثله( نف ٌ‬
‫المخلوق بالخالق‪.‬‬
‫و التمثيل الذي يجب نفيه عن الله نوعان ‪:‬‬
‫تمثيل الخالق بالمخلوق‪ ،‬وتمثيل المخلوق بالخالق‪ ،‬وضابط‬
‫ه للخالق‬ ‫ذلك‪ :‬وصف الخالق بخصائص المخلوق هذا تشبي ٌ‬
‫ه للمخلوقين‬ ‫بالمخلوق‪ ،‬ووصف المخلوق بخصائص الخالق تشبي ٌ‬
‫بالخالق‪.‬‬
‫ذا؛ فكل المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى قد‬ ‫إ ً‬
‫شبهوا المخلوق بالخالق؛ لنهم شبهوا ما يعبدونه برب السماوات‬
‫والرض فجعلوا لذلك المخلوق ما هو من خصائص الرب وهو‬
‫اللهية‪ ،‬ومن وصف الله بالفقر أو العجز والبخل ـ كما قالت‬
‫اليهود ـ فقد شبه الخالق بالمخلوق؛ لن العجز و البخل كل هذه‬
‫من خصائص المخلوق‪.‬‬
‫ي لتمثيل المخلوق‬ ‫إذًا؛ فقول المؤلف )ول شيء مثله( هذا نف ٌ‬
‫ي لمماثلة الخالق للمخلوق‪،‬‬ ‫بالخالق‪ ،‬وقوله )ول يشبه النام( نف ٌ‬
‫فاختلف مدلول الجملتين‪ ،‬وأفادت الجملتان نفي التشبيه أو نفي‬
‫التمثيل بنوعيه‪ ،‬وهذا هو المطلوب‪.‬‬
‫]إثبات الحياة والقيومية لله تعالى[‬

‫ي ل يموت‪ ،‬قيوم ل ينام (‪.‬‬‫قال رحمه الله ‪) :‬ح ٌ‬


‫يقول رحمه الله ـ في ذكر بعض أسماء الرب وصفاته‬
‫ي( أي‪ :‬نقول في توحيد الله معتقدين‬ ‫وتنزيهه عن ما يضادها ـ )ح ٌ‬
‫م ل ينام( الحي القيوم‬ ‫ي ل يموت‪ ،‬قيو ٌ‬
‫بتوفيق الله‪ :‬إن الله )ح ٌ‬
‫اسمان من أسمائه الحسنى التي سمى بها نفسه‪.‬‬
‫فأما )الحي( فقد ورد في مواضع كثيرة في القرآن‪ ،‬وأما‬
‫)القيوم( فقد ورد في ثلثة مواضع مقرونا بالحي‪ :‬في آية‬
‫ت‬‫الكرسي‪ ،‬وأول سورة آل عمران‪ ،‬وفي سورة طه )) وَع َن َ ِ‬
‫قّيوم ِ (( حتى قيل‪ :‬إنهما )السم العظم(‪] .‬عن‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫جوه ُ ل ِل ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ال ْوُ ُ‬
‫أبي أمامة ‪ :‬عن النبي ‪ ‬قال ‪ » :‬إن اسم الله العظم لفي‬
‫ثلث سور من القرآن في سورة البقرة‪ ،‬و آل عمران‪ ،‬و طه«‬
‫رواه ابن ماجه )‪ ،(3856‬والطحاوي في شرح مشكل الثار‬
‫‪ ،1/162‬والطبراني في الكبير )‪ ،(7758‬والحاكم ‪1/505‬و ‪.506‬‬
‫[‬

‫‪29‬‬
‫ل ع ََلى‬ ‫وأما الحي فقد ورد غير مقرون بهذا السم )) وَت َوَك ّ ْ‬
‫ن‬
‫صي َ‬ ‫خل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عوه ُ ُ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ َفاد ْ ُ‬
‫ي َل إ ِل َ َ‬‫ح ّ‬‫ت (( }هُوَ ال ْ َ‬ ‫مو ُ‬ ‫ذي ل ي َ ُ‬ ‫ي ال ّ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ح ّ‬
‫ن{ فمن أسمائه الحسنى أنه‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ح ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫لَ ُ‬
‫الحي القيوم‪ ،‬واسمه الحي يدل على إثبات الحياة له‪ ،‬فهو الحي‬
‫والحياة صفته‪ ،‬فله الحياة التامة التي ل تشبه حياة المخلوق‪،‬‬
‫الحياة المتضمنة لكل ما هو كمال للحياة‪ ،‬وهو القيوم‪ ،‬وقيل في‬
‫معناه ]تفسير الطبري ‪ ،4/529‬والكافية الشافية ص ‪ :[182‬أنه‬
‫القائم بنفسه‪ ،‬فليس مفتقًرا إلى غيره في وجوده‪ ،‬ول في شيء‬
‫من صفاته وأفعاله سبحانه وتعالى‪ ،‬وقيل‪ :‬بأنه القائم‬
‫بالمخلوقات]تفسير الطبري ‪ ،4/529‬والكافية الشافية ص ‪،[182‬‬
‫فكل المخلوقات ل قيام لها‪ ،‬ول وجود لها‪ ،‬ول بقاء لها‪ ،‬ول صلح‬
‫دا إل به سبحانه‪ ،‬فهو المبدع الخالق لها ‪ ،‬وهو الممد لها بما‬ ‫لها أب ً‬
‫تحتاج‪ ،‬وهو المبقي لما شاء بقاءه‪ ،‬وهو القائم على كل نفس بما‬
‫كسبت‪.‬‬
‫قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ‪ :‬إن هذين السمين يتضمنان‬
‫جميع الصفات‪ ،‬فاسمه الحي يتضمن جميع الصفات الذاتية من‪:‬‬
‫العلم‪ ،‬والسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والقدرة والعزة‪ ،‬والحكمة‪ ،‬والرحمة‪.‬‬
‫واسمه القيوم يتضمن جميع الصفات الفعلية من‪ :‬الخلق‪،‬‬
‫والتدبير‪ ،‬والحياء‪ ،‬والماتة‪ ،‬والعزاز والذلل‪ ،‬والعطاء والمنع‪،‬‬
‫والخفض والرفع‪ .‬معنى كلمه‪] .‬بدائع الفوائد ‪ ،2/678‬والكافية‬
‫الشافية ص ‪[45-44‬‬
‫والله تعالى لما ذكر هذين السمين أكد مضمونهما بقول‪:‬‬
‫ْ‬
‫م ((‪.‬‬ ‫ة َول ن َوْ ٌ‬ ‫سن َ ٌ‬‫خذ ُه ُ ِ‬ ‫)) ل ت َأ ُ‬
‫فنفي السنة والنوم عن الله يتضمن ويؤكد كمال الحياة‬
‫سنة التي هي مبادئ النوم‬ ‫والقيومية؛ لن النوم أخو الموت‪ ،‬وال ِ‬
‫ذي ل‬ ‫ي ال ّ ِ‬‫ح ّ‬‫ل ع ََلى ال ْ َ‬ ‫نقص‪ ،‬وأكد ذلك في آية أخرى )) وَت َوَك ّ ْ‬
‫ت (( فأثبت لنفسه الحياة‪ ،‬ونفى عنه كل ما يضاد الحياة‪.‬‬ ‫مو ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫ي ل يموت‪ ،‬قيوم ل ينام( وهذا تفريق منه‬ ‫يقول المؤلف‪) :‬ح ٌ‬
‫حين ربط نفي الموت بإثبات الحياة‪ ،‬ونفي النوم بإثبات القيومية‪،‬‬
‫وإل فالله تعالى ربط نفي النوم بالسمين جميعا فقال‪ )) :‬ل‬
‫ْ‬
‫م (( ؛ لن النوم ينافي كمال السمين‪ ،‬والصواب‬ ‫ة َول ن َوْ ٌ‬ ‫سن َ ٌ‬‫خذ ُه ُ ِ‬ ‫ت َأ ُ‬
‫ة ول‬ ‫ي ل يموت‪ ،‬ول ينام‪ ،‬ول تأخذه سن ٌ‬ ‫أن نقول‪ :‬إنه تعالى ح ٌ‬
‫نوم‪ ،‬فالموت والسنة والنوم كلها تنافي هذين السمين‪.‬‬
‫]تنزيه الله تعالى عن الحاجة والخوف والمشقة[‬
‫قوله‪) :‬خالقٌ بل حاجة‪ ،‬رازقٌ بل مؤونة ( خالقٌ للخلق بدون‬
‫ه لم يخلق الخلق ليتكّثر بهم من قلة‪ ،‬أو يتعزز‬ ‫حاجةٍ إليهم‪ ،‬الل ُ‬
‫ت‬‫ق ُ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ما َ‬ ‫بهم من ذلة‪ ،‬أو ليستغني بهم من فقر‪ ،‬قال تعالى )) وَ َ‬

‫‪30‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫ما أِريد ُ أ ْ‬ ‫ق وَ َ‬ ‫ن رِْز ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ما أِريد ُ ِ‬ ‫ن* َ‬ ‫دو ِ‬ ‫س إ ِّل ل ِي َعْب ُ ُ‬ ‫ن َواْل ِن ْ َ‬ ‫ج ّ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ن (( فهو الذي ُيطعم‬ ‫مِتي ُ‬ ‫قوّةِ ال ْ َ‬ ‫ذو ال ْ ُ‬ ‫ه هُوَ الّرّزاقُ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن * إِ ّ‬ ‫مو ِ‬ ‫ي ُط ْعِ ُ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ول يطعم‪ ،‬وهو الرزاق ذو القوة المتين )) َيا أ َي َّها الّنا‬
‫س أن ْت ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ْ‬ ‫قراُء إَلى الل ّه والل ّه هو ال ْغني ال ْحميد * إن ي َ ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ت‬ ‫م وَي َأ ِ‬ ‫شأ ي ُذ ْه ِب ْك ُ ْ‬ ‫َ ِ ُ ِ ْ َ‬ ‫ِ َ ُ ُ َ َِ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ف َ َ‬
‫ديد ٍ وما ذلك على الله بعزيز ((‪.‬‬ ‫ج ِ‬ ‫ق َ‬ ‫بِ َ ْ‬
‫خل ٍ‬
‫فالخلق كلهم فقراء إليه في وجودهم‪ ،‬وفي جميع أحوالهم‪،‬‬
‫ي الغنى التام عن كل ما سواه‪.‬‬ ‫وشؤونهم‪ ،‬والله تعالى غن ٌ‬
‫ذي‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫)رازقٌ بل مؤونة( فالله هو الخالق الرازق )) الل ّ ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫كائ ِك ُ ْ‬ ‫شَر َ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫م هَ ْ‬ ‫حِييك ُ ْ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ميت ُك ُ ْ‬ ‫م يُ ِ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫م َرَزقَك ُ ْ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫خل َ َ‬ ‫َ‬
‫يٍء (( رازق بل مؤنه‪ ،‬أي‪ :‬بل كلفة ول‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫فعَ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬
‫ل رِْزقََها الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫داب ّةٍ ل ت َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫مشقة يرزق كل العباد )) وَك َأي ّ ْ‬
‫َ‬
‫ن ن َْرُزقُهُ ْ‬
‫م‬ ‫ح ُ‬ ‫ق نَ ْ‬ ‫مل ٍ‬ ‫ة إِ ْ‬ ‫شي َ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫م َ‬ ‫قت ُُلوا أْولد َك ُ ْ‬ ‫م (( )) َول ت َ ْ‬ ‫ي َْرُزقَُها وَإ ِّياك ُ ْ‬
‫ض إ ِّل ع ََلى الل ّهِ رِْزقَُها (( والله‬ ‫َْ‬
‫داب ّةٍ ِفي الْر ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫م ((‪ )) ،‬وَ َ‬ ‫وَإ ِّياك ُ ْ‬
‫تعالى خير الرازقين‪ ،‬وفي الصحيحين » يمين الله ملى ل يغيضها‬
‫نفقة سحاء الليل والنهار« ‪ ] .‬رواه البخاري )‪ ،(7419‬ومسلم )‬
‫‪ (993‬من حديث أبي هريرة ‪[ ‬‬
‫ث بل مشقة( الله تعالى منزهٌ‬ ‫ت بل مخافة‪ ،‬باع ٌ‬ ‫قوله‪ ) :‬ممي ٌ‬
‫ل لما يريد‪ ،‬يميت من‬ ‫عن الخوف‪ ،‬فل يخاف من أحد وهو فعا ٌ‬
‫يشاء‪ ،‬فلو شاء أن يميت العالم كله؛ فإنه ل يخاف‪ ،‬فليس فوقه‬
‫أحد؛ بل هو تعالى المالك لكل شيء‪.‬‬
‫ولعل مما يستشهد به في هذا المعنى قوله تعالى‪:‬‬
‫ها ((‬ ‫قَبا َ‬ ‫ف عُ ْ‬ ‫خا ُ‬ ‫ها * َول ي َ َ‬ ‫وا َ‬ ‫س ّ‬‫م فَ َ‬ ‫م ب ِذ َن ْب ِهِ ْ‬ ‫م َرب ّهُ ْ‬ ‫م ع َل َي ْهِ ْ‬ ‫مد َ َ‬ ‫)) فَد َ ْ‬
‫]الشمس‪.[15-14:‬‬
‫) باعث بل مشقة( سيبعث الموات في اليوم الموعود )) ألَ‬
‫يظ ُن ُأول َئ ِ َ َ‬
‫ب‬
‫س ل َِر ّ‬ ‫م الّنا ُ‬ ‫قو ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫ظيم ٍ * ي َوْ َ‬ ‫ن * ل ِي َوْم ٍ ع َ ِ‬ ‫مب ُْعوُثو َ‬ ‫م َ‬ ‫ك أن ّهُ ْ‬ ‫َ ّ‬
‫ن*‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن ((]المطففين‪ )) [6-4:‬قُ ْ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َوال ِ‬ ‫ن الوِّلي َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫مي َ‬
‫معُْلوم ٍ ((]الواقعة‪ [50-49:‬يبعث‬ ‫ت ي َوْم ٍ َ‬ ‫قا ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ن إ َِلى ِ‬ ‫عو َ‬ ‫مو ُ‬ ‫ج ُ‬ ‫م ْ‬ ‫لَ َ‬
‫الموات من أولهم إلى آخرهم من غير أن تلحقه مشقة‪ ،‬ولهذا‬
‫َ‬
‫م ي ُِعيد ُهُ‬ ‫خل ْقَ ث ُ ّ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫ف ي ُب ْد ِئُ الل ّ ُ‬ ‫م ي ََرْوا ك َي ْ َ‬ ‫يقول سبحانه وتعالى‪)) :‬أوَل َ ْ‬
‫ة‬
‫حد َ ٍ‬ ‫س َوا ِ‬ ‫ف ٍ‬ ‫م إ ِّل ك َن َ ْ‬ ‫م َول ب َعْث ُك ُ ْ‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫خل ْ ُ‬‫ما َ‬ ‫سيٌر(( )) َ‬ ‫ك ع ََلى الل ّهِ ي َ ِ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ن ع َل َي ْهِ ((]الروم‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م ي ُِعيد ُه ُ وَهُوَ أهْوَ ُ‬ ‫خل ْقَ ث ُ ّ‬ ‫ذي ي َْبدأ ال ْ َ‬ ‫(( )) وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫‪ [27‬وهذا في الحتجاج على المكذبين بالبعث بأن الذي بدأ‬
‫الخلق هو على العادة أقدر إنما أريد به أنه أقدر في معقول‬
‫الناس ) أن العادة أهون من البدء( ولكن بالنسبة إلى الله ليس‬
‫ن وأهون‪ ،‬ول يقال ‪ :‬إن الله على كذا أقدر منه‬ ‫في الشياء هي ٍ‬
‫على كذا‪ ،‬بل قدرته على كل شيء واحدة‪ ،‬فقدرته تعالى على‬

‫‪31‬‬
‫خلق السماوات والرض‪ ،‬أو خلقه لذرة من المخلوقات واحدة‪،‬‬
‫بمعنى أنه ل يعجزه شيء‪ ،‬فليس شيٌء أهون عليه من شيء‪.‬‬
‫ن ع َل َي ْهِ (( فقد قيل‪ :‬إن )أهون( بمعنى‬ ‫َ‬
‫أما قوله تعالى‪ )) :‬وَهُوَ أهْوَ ُ‬
‫هين‪ ،‬وهو هين عليه‪ ،‬فيكون من أفعل التفضيل الذي على غير‬
‫بابه‪ .‬كما يقول النحاة ‪] .‬شرح ابن عقيل ‪ ،1/406‬و شرح الرضي‬
‫على الكافية ‪[3/460‬‬
‫أو إن هذا من خطاب العباد بما يعقلونه وما يدركونه‪ ،‬فالناس‬
‫مفطورون على إن العادة أهون من البتداء فخوطبوا على‬
‫حسب معقولهم‪ ،‬ومفهومهم‪].‬زاد المسير ‪ ،6/155‬والجامع‬
‫لحكام القرآن ‪[ 16/418‬‬
‫ولهذا الله تعالى يحتج عليهم في إنكارهم للبعث بالنشأة‬
‫ي‬
‫م وَه ِ َ‬ ‫حِيي ال ْعِ َ‬
‫ظا َ‬ ‫ن يُ ْ‬‫م ْ‬‫ل َ‬ ‫ه َقا َ‬
‫ق ُ‬‫خل ْ َ‬‫ي َ‬ ‫س َ‬ ‫ب ل ََنا َ‬
‫مث َل ً وَن َ ِ‬ ‫ضَر َ‬‫الولى )) وَ َ‬
‫م ((‬ ‫ْ‬ ‫مّرةٍ وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ها أوّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذي أن ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫م * قُ ْ‬
‫ق ع َِلي ٌ‬
‫خل ٍ‬ ‫ل َ‬ ‫ل َ‬ ‫شأ َ‬ ‫حِييَها ال ِ‬
‫ل يُ ْ‬ ‫مي ٌ‬
‫َر ِ‬
‫]ّيـس‪ [79:‬واليات في هذا كثيرة‪.‬‬

‫]إثبات الكمال المطلق لله تعالى أزل وأبدا[‬


‫قوله‪ ) :‬مازال بصفاته قديما قبل خلقه‪ ،‬لم يزدد بكونهم شيئا‬
‫لم يكن قبلهم من صفته‪ ،‬وكما كان في صفاته أزلًيا كذلك ل يزال‬
‫عليها أبدًيا(‪.‬‬
‫ما زال ول يزال فعلن يدلن على الستمرار والدوام‪ ،‬ما زال‬
‫يدل على الدوام في الماضي‪ ،‬ول يزال في المستقبل‪ ،‬فالله‬
‫تعالى مازال ول يزال موصوفا بصفات الكمال في الزل والقدم‬
‫الذي ل نهاية له‪ ،‬ول يزال كذلك موصوفا بصفاته سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫)قبل خلقه( قبل وجود الخلق )لم يزدد بكونهم( يعني لم‬
‫يزدد بوجودهم‪.‬‬
‫الله تعالى لم يزدد بوجودهم شيًئا من كماله لم يكن قبل‬
‫خلقهم ووجودهم؛ بل مازال موصوفا بصفات الكمال‪ ،‬ول يتوقف‬
‫في شيٍء من صفات الكمال على وجود شيء من المخلوقات‪.‬‬
‫)وكما كان في صفاته أزليا( أزلي نسبة للزل‪ ،‬والزل‪ :‬يقابل‬
‫البد‪ ،‬والبد في المستقبل الدائم الذي لنهاية له‪ ،‬هذا هو الصل‬
‫في معنى البد‪ ،‬ويقابله الزل‪ ،‬ويقال للموصوف‪ :‬هذا أزلي ‪،‬‬
‫أبدي‪.‬‬
‫)وكما كان في صفاته أزلًيا كذلك ل يزال عليها أبدًيا(‬
‫أفاد في هذه الجملة أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال‬
‫أزل وأبدا‪ ،‬ل يتجدد له شيء من الكمال لم يكن‪ ،‬ول يعدم سبحانه‬
‫وتعالى شيء من كماله‪ ،‬فهو الموصوف بصفات الكمال على‬
‫الدوام أزل وأبدا‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫صيرًا(‪ )) ،‬إن الله‬
‫ميعا ً ب َ ِ‬
‫س ِ‬
‫ن َ‬‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫قال الله تعالى‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫كان عزيزا ً حكيما ً ((‪ )) ،‬إن الله كان عليما ً حكيما ً ((‪ )) ،‬إن الله‬
‫كان غفورا ً رحيما ً (( كان هذه في مثل هذا تفيد الستمرار‪ ،‬كان‬
‫ول يزال؛ لن حدوث الكمال يستلزم سبق النقص‪ ،‬والله تعالى‬
‫منزه ٌ عن النقص‪ ،‬فحياته لم تسبق بموت تعالى الله‪ ،‬وعلمه لم‬
‫يسبق بجهل‪ ،‬فل يقال‪ :‬إنه تعالى علم بعد أن لم يكن عالما‪،‬‬
‫وكان سميعا بعد أن لم يكن‪ ،‬أو بصيرا بعد أن لم يكن تعالى الله‪،‬‬
‫فهذا شأن المخلوق‪ ،‬فهو الذي كان بعد أن لم يكن‪ ،‬وتكلم بعد أن‬
‫لم يكن متكلما‪ ،‬أما الخالق سبحانه وتعالى فلم يزل عالما‪ ،‬ولم‬
‫يزل سميعا بصيرا‪ ،‬عزيزا حكيما‪ ،‬غفورا رحيما‪ ،‬حيا قيوما‪ ،‬لم يزل‬
‫فعال لما يريد لم يزل على كل شيء قدير‪ ،‬لم يزل متكلما إذا‬
‫شاء بما شاء ول يزل كذلك‪.‬‬
‫وهذه كلمة عامة من المصنف في كل الصفات )مازال‬
‫بصفاته(‪ ،‬لم يخص شيئا من الصفات‪.‬‬
‫]صفات الله نوعان‪ :‬ذاتية وفعلية[‬
‫وصفات الله نوعان‪ :‬صفات ذاتية‪ ،‬وهي‪ :‬اللزمة لذات الرب‬
‫ـ التي ل تنفك عن الذات ـ كـالعلم‪ ،‬والسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والحياة‪،‬‬
‫ت ذاتية‪.‬‬
‫والقدرة‪ ،‬والعزة‪ ،‬والرحمة‪ ،‬والقّيومّية‪ ،‬فهي صفا ٌ‬
‫ت فعلية مثل‪ :‬الستواء على العرش‪ ،‬و النزول‪ ،‬و‬ ‫وصفا ٌ‬
‫المجيء‪ ،‬والغضب ‪.‬‬
‫فكل ما تستطيع أن تقول فيه )مازال كذا( فهي ذاتية‪.‬‬
‫وضابط الذاتية والفعلية )أن الذاتية ل تتعلق بها المشيئة‪،‬‬
‫وأما الفعلية فتتعلق بها المشيئة(‪.‬‬
‫فتقول‪ :‬إن الله تعالى ينزل إذا شاء‪ ،‬واستوى على العرش‬
‫حين شاء‪ ،‬ويجيء يوم القيامة إذا شاء‪ ،‬فهذه فعلية‪.‬‬
‫ولكن ل يصح أن تقول‪ :‬إنه يعلم إذا شاء‪ ،‬ويسمع إذا شاء‪،‬‬
‫ي إذا شاء؛ لن هذه من لوازم ذاته سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫وهو ح ٌ‬
‫وهناك صفات ذاتية فعلية]مجموع الفتاوى ‪ ،[12/435‬مثل‪:‬‬
‫الكلم‪ ،‬والخلق‪ ،‬والَرزق‪.‬‬
‫فيصح أن تقول‪ :‬إنه مازال متكلما إذا شاء؛ لن الكلم من‬
‫جهة القدرة عليه معنى ذاتي‪ ،‬فيقال للمتكلم مازال متكلما‪ ،‬وهو‬
‫ة‪ ،‬خلفا لمن قال‪ :‬إن كلم الله قديم مطلقا‪.‬‬ ‫يتكلم بمشيئ ٍ‬
‫والمعطلة المبتدعة أنواع]مجموع الفتاوى ‪:[6/51‬‬
‫الجهمية نفوا كل الصفات ـ الذاتية والفعلية ـ ‪ ،‬ولم يثبتوا إل‬
‫ذاتا مجردة‪ ،‬وتبعهم المعتزلة في ذلك‪.‬‬
‫فقوا واضطربوا أخذوا من هذا في جانب‪،‬‬ ‫وهناك طوائف ل ّ‬
‫ومن هذا في جانب مثل‪ :‬الك ُّلبية ينفون الصفات الفعلية‪ ،‬وهي‬

‫‪33‬‬
‫المتعلقة بالمشيئة‪ ،‬وكذلك الشاعرة ينفون كثيرا من الصفات ـ‬
‫الذاتية والفعلية ـ فيقولون ‪ :‬إنه تعالى ل تقوم به الفعال‬
‫الختيارية‪.‬‬
‫الفعال الختيارية‪ :‬هي المتعلقة بالمشيئة‪ ،‬مثل‪ :‬النزول‬
‫)فعل اختياري( يفعله الرب بمشيئته‪ ،‬والستواء )فعل اختياري(‬
‫يفعله الرب بمشيئته‪ ،‬والغضب والرضا والحب‪ ،‬فيغضب إذا شاء‪،‬‬
‫من شاء إذا شاء‪.‬‬ ‫ويرضى إذا شاء‪ ،‬ويحب َ‬
‫وُنفاة الفعال الختيارية بنوه على شبهة باطلة ل أصل لها‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬إنه تعالى منـزه عن حلول الحوادث‪ ،‬فيقال‪ :‬هذا لف ٌ‬
‫ظ‬
‫محدث فليس في القرآن ول في السنة أن الله تعالى منـزه عن‬
‫حلول الحوادث ‪.‬‬
‫ظ مجمل يحتمل حقا وباطل؛ فمن قال‪ :‬الله‬ ‫وهو أيضا‪ :‬لف ٌ‬
‫منـزه عن حلول الحوادث‪ ،‬نقول‪ :‬ما معنى قولك‪) :‬منـزه عن‬
‫حلول الحوادث( ؟‬
‫فإن قال‪ :‬الله منـزه أن يحل فيه شيٌء من المخلوقات‪.‬‬
‫ه ل يحل في ذاته شيء من‬ ‫نقول‪ :‬نعم هذا حق‪ ،‬الل ُ‬
‫مخلوقاته‪.‬‬
‫وإن قال‪ :‬إنه منـزه ٌ ـ أيضاـ عن أن تقوم به الفعال الحادثة‬
‫التي تكون بالمشيئة‪.‬‬
‫نقول‪ :‬هذا باطل‪ ،‬الله تعالى يفعل ما يشاء‪ ،‬إذا شاء‪ ،‬كيف‬
‫شاء‪ ،‬فهو تعالى فّعال لما يريد‪.‬‬
‫وأهل البدع منهم من نفى الفعال الختيارية مطلقا حذرا مما‬
‫صلوه وهو نفي حلول الحوادث‪.‬‬ ‫أ ّ‬
‫ومنهم من يثبت الفعال لكن يقول‪ :‬إنها ل تتعلق بها‬
‫المشيئة‪ ،‬وهم الكلبية‪ ،‬فيقولون‪ :‬إنه يتكلم ويغضب ويرضى ل‬
‫بمشيئة؛ بل هذه الصفات قديمة‪ ،‬فهو لم يزل متكلما‪ ،‬وغاضبا عن‬
‫من هو أهل للغضب‪ ،‬و راضيا عن من هو أهل للرضا‪.‬‬
‫والشاعرة ينفون‪ ،‬ول يثبتون إل الصفات السبع على ما في‬
‫ب واضطراب ‪.‬‬ ‫إثباتهم من تذبذ ٍ‬
‫والجهمية‪ ،‬والمعتزلة يقولون‪ :‬إنه صار متكلما بعد أن لم يكن‬
‫ـ ليس متكلما بمعنى أنه يقوم به الكلم ـ بل يريدون أنه خلق‬
‫كلما؛ لن الكلم عندهم مخلوق‪ ،‬والقرآن مخلوق‪ ،‬وصار فاعل‬
‫بعد أن لم يكن‪ ،‬وليس معنى ذلك أنه يقوم به الفعل‪ ،‬وأنه يفعل‬
‫فعل ً يقوم بذاته‪ ،‬ولهذا يقول ابن القيم في الشافية الكافية ]ص‬
‫‪ [26‬عن الجهم ‪:‬‬
‫ن‬
‫ها ِ‬‫م ِبه ب ِل َ ُبر َ‬
‫ِفعل ً َيقو ُ‬ ‫ل *‬ ‫ع ٍ‬ ‫ن الله َلي َ‬
‫س بفا ِ‬ ‫وَقَ َ‬
‫ضى ِبأ ّ‬

‫‪34‬‬
‫فقضى بأن الله ليس بفاعل فعل يقوم به؛ بل الفعل عند‬
‫جهم‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬والشاعرة هو نفس المفعول‪.‬‬
‫والحق المعقول أن المور ثلثة‪) :‬فعل‪ ،‬وفاعل‪ ،‬ومفعول(‬
‫فالمفعول يقتضي فاعل‪ ،‬وفعل يقوم به‪ ،‬هذا هو الشيء البدهي‬
‫غرست في قلبه‬ ‫المعقول‪ ،‬ول يعمى عن هذا إل من ل ُّبس عليه‪ ،‬و ُ‬
‫الشبهات‪ ،‬وعاش على التقليد‪ ،‬والتبعية‪.‬‬
‫وهؤلء الجهمية‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬ومن تبعهم في نفي قيام الفعال‬
‫الختيارية به سبحانه وتعالى قالوا‪ :‬إنه يجب أن تكون لجنس‬
‫المخلوقات بداية‪ ،‬وقبل هذه البداية يمتنع دوام الحوادث‪ ،‬أو‬
‫تسلسل المخلوقات‪ ،‬أو دوام المخلوقات‪ ،‬أو حوادث ل أول لها‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬هذا مستحيل‪ ،‬ممتنع لذاته‪ ،‬وإذا كان دوام الحوادث ممتنعا‬
‫فالرب تعالى غير قادرٍ على أن يخلق في الزل! و كفى بهذا‬
‫تنقصا لرب العالمين !‬
‫لن الممتنع ل تتعلق به القدرة ‪.‬‬
‫ومن يقول‪ :‬إن دوام الحوادث ممتنع‪ ،‬والرب لم يزل قادرا‬
‫عليها؛ فقد جمع بين النقيضين؛ لن كونه قادرا يقتضي أن يكون‬
‫دوام الحوادث ممكنا‪ ،‬فكأنه يقول‪ :‬إن دوام الحوادث ممكن‬
‫ممتنع‪ ،‬وهذا جمعٌ بين النقيضين‪.‬‬
‫وجمهور المتكلمين على امتناع دوام الحوادث في الماضي‪.‬‬
‫لكن ينبغي فهم معنى دوام الحوادث‪ ،‬أو تسلسل الحوادث ـ‬
‫أي‪ :‬المخلوقات ـ أو حوادث ل أول لها فمعناه‪ :‬هل يمكن أن‬
‫يكون ما من مخلوق إل قبله مخلوق‪ ،‬وقبل المخلوق مخلوق‪،‬‬
‫وقبل المخلوق مخلوق إلى ما ل نهاية له‪ ،‬هل هذا ممتنع ؟ هذا‬
‫هو معنى الكلم‪.‬‬
‫وفي تسلسل المخلوقات ثلثة مذاهب‪] :‬انظر‪ :‬منهاج السنة‬
‫‪ ،1/146‬ودرء تعارض العقل والنقل ‪ ،1/351‬وموقف ابن تيمية‬
‫من الشاعرة ‪ ،3/996‬وِقدم العالم وتسلسل الحوداث[‬
‫قال جهم‪ :‬بامتناع دوام الحوادث في الماضي والمستقبل‬
‫فجنس الحوادث عنده لها بداية‪ ،‬ويمتنع دوامها في المستقبل‪،‬‬
‫ولهذا قال بفناء الجنة والنار‪.‬‬
‫وجمهور المتكلمين قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي‪،‬‬
‫وجوازه في المستقبل‪.‬‬
‫ة عليهم‪،‬‬
‫ج ٌ‬‫ح ّ‬‫وإقرارهم بدوام الحوادث في المستقبل ُ‬
‫والصواب هو‪ :‬جواز دوام الحوادث في الماضي والمستقبل؛ لنه‬
‫جائز ـ أي‪ :‬ممكن ل مانع منه ـ فإذا كان الرب لم يزل على كل‬
‫شيٍء قدير‪ ،‬فلم يزل الفعل ممكنا‪ ،‬ومن يقول‪ :‬إنه لم يخلق في‬
‫الزل فعليه الدليل‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫والمر الذي نقطع ببطلنه قول من يقول‪ :‬بامتناع دوام‬
‫الحوادث في الماضي‪.‬‬
‫ل لما يريد فهذا هو الحق‪،‬‬ ‫أما إذا قيل‪ :‬إنه ممكن‪ ،‬والله فعا ٌ‬
‫وأهم شيء أن تعلم أن هذا ل يستلزم محذورا كما ضنه الضانون‬
‫والجاهلون؛ لنه على هذا التقدير ـ دوام الحوادث ـ معناه‪:‬أن كل‬
‫مخلوق فإنه مسبوق بعدم نفسه‪ .‬ـ أي محدث بعد أن لم يكن ـ‬
‫والله تعالى متقدم على كل شيء‪ ،‬مهما ُيفرض من مخلوقات‬
‫متسلسلة فالله تعالى سابق لها‪ ،‬فكل مخلوق فالله تعالى خالقه‪،‬‬
‫ث والله تعالى لم يزل‪.‬‬‫والمخلوق محد ٌ‬
‫كل على كثير من الناس؛ لكن يجب أن‬ ‫وهذه في الحقيقة ُتش ِ‬
‫تؤمن أيها المسلم بأن الله لم يزل على كل شيء قدير‪ ،‬ولم يزل‬
‫فعال لما يريد‪ ،‬وإذا آمنت بأن الله لم تحدث له قدرة ـ أي ـ لم‬
‫يصر قادرا بعد أن لم يكن قادرا‪ ،‬ولم يصر فعال بعد أن لم يكن‬
‫فعال‪ ،‬فإذا آمنت بهذا حصل المطلوب سواء فهمت المسألة أو ما‬
‫فهمت‪.‬‬
‫لكن نقول لك‪ :‬إذا استقر في نفسك هذا فهمت أن هذا‬
‫يقتضي جواز وإمكان دوام الحوادث في الماضي‪ ،‬مادام أن ربك‬
‫لم يزل على كل شيء قدير‪ ،‬ولم يزل فعال لما يريد‪.‬‬
‫وأهم شيء هو الصل‪ :‬اليمان بكمال ودوام قدرة وفاعلية‬
‫الرب‪ ،‬وأنه تعالى لم يزل فعال لما يريد‪ ،‬ولم يزل على كل شيء‬
‫قدير‪ ،‬هذا هو الذي يجب أن تستمسك به‪.‬‬
‫والمسلمون هذه فطرتهم‪ ،‬وهذه عقيدتهم‪ ،‬ول يتكلمون في‬
‫مسألة التسلسل‪ ،‬لكن ألجأ إلى الكلم في ذلك أهل البدع‬
‫المعطلة ـ الجهمية‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬والذين تأثروا بهم ـ حين تكلموا‬
‫وقالوا‪ :‬يمتنع دوام الحوادث!‬
‫فلزم بيان الحق‪ ،‬وهو أن الله تعالى لم يزل على كل شيء‬
‫قدير‪ ،‬ولم يزل فعال لما يريد‪ ،‬ولم يزل خالقا‪ ،‬ولم يزل قادرا‪،‬‬
‫وهكذا )مازال بصفاته قديما قبل خلقه(‬
‫بعد هذه الجملة العامة المجملة‪ ،‬ذكر بعد ذلك جمل تفصيلية‬
‫فيقول‪:‬‬

‫]وصف الله تعالى بالخالق والبارئ قبل خلقه للخلق[‬


‫)ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم »الخالق«‪ ،‬ول بإحداث‬
‫البرية استفاد اسم »البارئ« له معنى الربوبية ول مربوب‪،‬‬
‫ومعنى الخالق ول مخلوق(‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫هو الخالق والخّلق ولو لم يخلق‪ ،‬والخالق البارئ اسمان‬
‫ق‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫خال ِ ُ‬ ‫من أسمائه الحسنى التي سمى بها نفسه }هُوَ الل ّ ُ‬
‫صوُّر {‬ ‫ال َْبارِئُ ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫خلق(‪ :‬يأتي بمعنى التقدير‪ ،‬وبمعنى اليجاد‪.‬‬ ‫و)ال َ‬
‫و)البارئ(‪ :‬هو الذي يحدث الشيء من العدم إلى الوجود ‪.‬‬
‫يقول‪) :‬له معنى الربوبية ول مربوب‪ ،‬ومعنى الخالق ول‬
‫مخلوق( و هذه الجملة من جنس التي قبلها‪ ،‬فهو سبحانه‬
‫موصوف بالربوبية‪ ،‬والخالقّية‪ ،‬ولو لم يكن هناك مخلوق ول‬
‫مربوب‪ ،‬فليس مفتقرا في أسمائه وصفاته إلى خلقه‪.‬‬
‫قوله‪) :‬وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا‪ ،‬استحق هذا‬
‫السم قبل إحيائهم‪ ،‬كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم‪،‬‬
‫ي قدير( كما أنه استحق السم )محيي‬ ‫ذلك بأنه على كل ش ٍ‬
‫الموتى( قبل إحياء الموتى‪ ،‬كذلك استحق اسم )الخالق( قبل‬
‫إنشائهم‪.‬‬
‫ن‬
‫وفي هذه العبارة‪ :‬تدليل وتعليل وتفصيل لما تقدم من أ ّ‬
‫أسماَءه‪ ،‬وصفاته ل تتوقف على ما يخلقه أو ما يفعله‪ ،‬فهو تعالى‬
‫مستحقٌ لوصفه بإحياء الموتى‪ ،‬وأنه يحيي ويميت قبل إحياء‬
‫الموتى‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق(‬
‫يحتمل أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي؛ لنه حين‬
‫يقول‪) :‬ليس بعد خلق الخلق(‪) ،‬وله معنى الربوبية ول مربوب(‬
‫كأنه يفهم منه أن لجنس المخلوقات بداية‪.‬‬
‫لكن هل يقول‪ :‬إن دوام الحوادث ممتنع ؟ أو يقول‪ :‬إنه‬
‫ممكن لكنه غير واقع ؟‬
‫فيه احتمال‪.‬‬
‫والمنكر هو القول بامتناع تسلسل الحوادث في الماضي‪،‬‬
‫لكن هل هو واقع ـ أي‪ :‬أن المخلوقات لم تزل فعل ً ـ أو يمكن‬
‫دوامها وتسلسلها في الماضي لكنه لم يقع ؟‬
‫المر في هذا واسع‪.‬‬

‫]إثبات كمال قدرته وغناه تعالى‪ ،‬وفقر خلقه إليه[‬


‫ثم قال‪ ) :‬ذلك بأنه على كل شيء قدير‪ ،‬وكل شيٍء إليه‬
‫فقير‪ ،‬وكل أمرٍ عليه يسير ل يحتاج إلى شيء(‪.‬‬
‫هذا تعليل لما سبق من أنه سبحانه وتعالى لم يزل هو‬
‫الخالق‪ ،‬البارئ‪ ،‬المصور‪ ،‬المحيي‪ ،‬المميت ذلك بأنه لم يزل على‬
‫كل شيٍء قدير‪ ،‬وهذا وصف قد أثنى الله به على نفسه في‬
‫ه ع ََلى ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫مواضع كثيرة من القرآن كما قال تعالى‪ )) :‬إ ِ ّ‬

‫‪37‬‬
‫ه ع ََلى ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ديٌر (( )) وَ َ‬ ‫م قَ ِ‬ ‫ه ع َِلي ٌ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ديٌر (( )) إ ِ ّ‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫من‬ ‫ذاًبا ّ‬ ‫م عَ َ‬‫ث ع َل َي ْك ُ ْ‬ ‫قاد ُِر ع ََلى أن ي َب ْعَ َ‬ ‫ل هُوَ ال ْ َ‬ ‫درا ً (( ))قُ ْ‬ ‫قت َ ِ‬‫م ْ‬ ‫يٍء ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫م(( الية‪.‬‬ ‫فَوْقِك ُ ْ‬
‫وِذكر هذا السم في القرآن كثير جدا فهو القادر‪ ،‬وهو‬
‫القدير‪ ،‬وهو المقتدر سبحانه وتعالى‪ .‬والدلة على كمال قدرته‬
‫ت‬ ‫ماَوا ِ‬‫س َ‬ ‫قَنا ال ّ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ت أخرى متنوعة قال تعالى‪ )) :‬وَل َقَد ْ َ‬ ‫بدلل ٍ‬
‫َ‬
‫ض (( فإخباره تعالى بخلق السماوات والرض‪ ،‬وخلق كل‬ ‫َواْلْر َ‬
‫ت‬
‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫قَنا ال ّ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫شيء يستلزم إثبات كمال قدرته )) وَل َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ق‪[38:‬‬ ‫ب ((] ّ‬ ‫ن ل ُُغو ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫سَنا ِ‬ ‫م ّ‬ ‫ما َ‬ ‫ست ّةِ أّيام ٍ وَ َ‬ ‫ما ِفي ِ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫َواْلْر َ‬
‫و‬
‫حد َةٍ (( )) وَهُ َ‬ ‫س َوا ِ‬ ‫ف ٍ‬ ‫م إ ِّل ك َن َ ْ‬ ‫م َول ب َعْث ُك ُ ْ‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫خل ْ ُ‬
‫ما َ‬ ‫قال سبحانه‪َ )) :‬‬
‫َ‬ ‫ذي ي َْبدأ ُ ال ْ َ‬
‫ن عليه ((‪.‬‬ ‫م ي ُِعيد ُه ُ وَهُوَ أهْوَ ُ‬ ‫خل ْقَ ث ُ ّ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫)ذلك بأنه على كل شيء قدير( فل خروج لشيء عن قدرته؛‬
‫فكل الموجودات إنما وجدت بمشيئته وقدرته سبحانه وتعالى‪ ،‬ول‬
‫خروج لشيء عن قدرته‪ ،‬وفي هذا رد ٌ على القدرية؛ كالمعتزلة‪،‬‬
‫الذين يخرجون أفعال العباد عن قدرة الله وعن مشيئته‪،‬‬
‫]الرسالة التدمرية ص ‪ [488‬فأفعال العباد عندهم ل تتعلق بها‬
‫بمشيئة الله وقدرته وخلقه! فالعباد هم الخالقون لفعالهم‬
‫دا‪،‬‬
‫يتصرفون بدون مشيئة الله‪ ،‬والله ل يقدر أن يجعل القائم قاع ً‬
‫ما‪ ،‬ول المؤمن كافرا‪ ،‬ول الكافر مؤمنا‪ ،‬فكل ما يجري‬ ‫والقاعد قائ ً‬
‫في الوجود من أفعال العباد‪ ،‬بل وأفعال الحيوان‪ ،‬خارج عن‬
‫مشيئة الله‪ ،‬والله تعالى ل يقدر على أن يمنع شيئا من هذه‬
‫المور! فالقتال الذي يجري بين الناس لمختلف السباب‬
‫والدوافع ليس بمشيئة الله بزعمهم‪ ،‬والله تعالى يقول )) وَل َ ْ‬
‫و‬
‫ريد ُ ((]البقرة‪[253:‬‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫فعَ ُ‬‫ه يَ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ما اقْت َت َُلوا وَل َك ِ ّ‬ ‫ه َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫شَر َ‬
‫كاؤ ُهُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ل أْولد ِه ِ ْ‬ ‫ن قَت ْ َ‬ ‫كي َ‬‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ل ِك َِثيرٍ ِ‬ ‫ك َزي ّ َ‬ ‫)) وَك َذ َل ِ َ‬
‫ما‬
‫م وَ َ‬ ‫ما فَعَُلوه ُ فَذ َْرهُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫م وَل َوْ َ‬ ‫م ِدين َهُ ْ‬ ‫سوا ع َل َي ْهِ ْ‬ ‫م وَل ِي َل ْب ِ ُ‬ ‫دوهُ ْ‬ ‫ل ِي ُْر ُ‬
‫ن ((]النعام‪[137:‬‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫هذا مضمون هذا المذهب القبيح المنكر‪.‬‬
‫س‬ ‫َ‬
‫وقوله‪) :‬وكل شيٍء إليه فقير( قال تعالى‪َ )) :‬يا أي َّها الّنا ُ‬
‫قَراُء (( كل شيء إليه فقير وهو الغني بذاته عن كل من‬ ‫ف َ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫أن ْت ُ ُ‬
‫سواه‪.‬‬
‫فالغنى المطلق من لوازم ذات الرب تعالى‪ ،‬والفقر من‬
‫لوازم المخلوق‪ ،‬فالفقر صفة ذاتية للمخلوق‪ ،‬والغنى صفة ذاتية‬
‫للخالق‪.‬‬
‫فالمخلوق فقير إلى الله من جميع الوجوه‪ ،‬والله غني عن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قَراُء إ َِلى الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ف َ‬‫م ال ْ ُ‬ ‫س أن ْت ُ ُ‬ ‫خلقه من جميع الوجوه )) َيا أي َّها الّنا ُ‬
‫ميد ُ ((]فاطر‪.[15:‬‬ ‫ح ِ‬‫ي ال ْ َ‬ ‫ه هُوَ ال ْغَن ِ ّ‬ ‫َوالل ّ ُ‬

‫‪38‬‬
‫فكل شيٍء مفتقر إلى الله في وجوده‪ ،‬وفي بقائه‪ ،‬وفي‬
‫مصالحه‪ ،‬وفي كل شؤونه‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وكل شيٍء عليه يسير(‬
‫كل شيٍء عليه هين‪ ،‬وهذا يؤكد أنه على كل شيٍء قدير‪،‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫جَزه ُ ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه ل ِي ُعْ ِ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫فليس هناك ما يصعب عليه‪ ،‬ويعجزه )) وَ َ‬
‫َ‬ ‫َْ‬
‫م ي ََرْوا ك َي ْ َ‬
‫ف ي ُب ْد ِئُ‬ ‫ض (( )) أوَل َ ْ‬ ‫ت َول ِفي الْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫يٍء ِفي ال ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫سيٌر ((]العنكبوت‪.[19:‬‬ ‫ك ع ََلى الل ّهِ ي َ ِ‬
‫ن ذ َل ِ َ‬
‫م ي ُِعيد ُه ُ إ ِ ّ‬‫خل ْقَ ث ُ ّ‬
‫ه ال ْ َ‬
‫الل ّ ُ‬
‫وقوله‪) :‬ل يحتاج إلى شيء(‬
‫هذا يؤكد كمال غناه‪ ،‬فهو الغني بذاته عن كل ما سواه‪.‬‬
‫لو قال المؤلف‪) :‬ذلك بأنه على كل شيٍء قدير‪ ،‬وكل شيٍء‬
‫عليه يسير‪ ،‬وكل شيٍء إليه فقير ل يحتاج إلى شيء( لكان أكثر‬
‫تناسبا؛ لن الجملة الثالثة مناسبة للجملة الولى‪ ،‬والجملة الرابعة‬
‫مناسبة للجملة الثانية‪ ،‬لكن كأنه فعل ذلك لمراعاة السجع‪.‬‬

‫]إثبات صفاته تعالى‪ ،‬ونفي مماثلته للمخلوقات[‬


‫وقوله‪ ) :‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصير( هذه بعض‬
‫آية من القرآن ]الشورى‪ [11:‬تتضمن الدللة على المذهب الحق‬
‫في باب أسماء الله وصفاته‪ ،‬ورد الباطل؛ فهي تدل على أنه‬
‫تعالى موصوف بصفات الكمال‪ ،‬منزه ٌ عن مماثلة المخلوقات‪.‬‬
‫ومذهب أهل السنة والجماعة يقوم على إثبات ما أثبته الله‬
‫تعالى لنفسه‪ ،‬وأثبته له رسوله ‪ r‬من غير تحريف ول تعطيل‪ ،‬ول‬
‫تكييف‪ ،‬ول تمثيل‪.‬‬
‫يٌء (( رد ٌ على أهل التشبيه‪،‬‬ ‫ش ْ‬ ‫مث ْل ِهِ َ‬ ‫فقوله‪ )) :‬ل َي ْ َ‬
‫س كَ ِ‬
‫والتكييف‪.‬‬
‫صيُر (( رد ٌ على أهل التعطيل‪.‬‬ ‫ميعُ الب َ ِ‬‫س ِ‬ ‫وقوله‪ )) :‬وَهُوَ ال ّ‬
‫فدلت على الحق ورد الباطل‪ ،‬وفيها ركائز المذهب الحق‪،‬‬
‫وهو‪) :‬إثبات صفات الكمال لله تعالى‪ ،‬ونفي مماثلته للمخلوقات‪،‬‬
‫ونفي العلم بالكيفية(؛ فإنه إذا كان تعالى ل مثل له؛ فل يعلم‬
‫كيف هو إل هو‪.‬‬
‫ولهل التفسير واللغة ]تفسير الطبري ‪ ،20/477‬والتبيان‬
‫في إعراب القرآن ص ‪ ،339‬والبحر المحيط ‪ ،7/510‬ومغني‬
‫اللبيب ص ‪ [203‬كلم حول ) ليس كمثله شيء( فقيل‪ :‬إن الكاف‬
‫صلة ـ زائدة ـ للتوكيد‪ ،‬والمعنى‪ :‬ليس شيٌء مثَله‪ ،‬هذا أنسب‬
‫وأقرب وأسهل ما يقال في معنى هذا التركيب وإعرابه )) ليس‬
‫هَ‬
‫نل ُ‬ ‫كمثله شيء (( فتكون هذه الية نظير قوله تعالى‪ )) :‬وَل َ ْ‬
‫م ي َك ُ ْ‬
‫َ‬
‫فوا ً أ َ‬
‫حد ٌ ((‪.‬‬ ‫كُ ُ‬

‫‪39‬‬
‫وهو )السميع البصير( اسمان من أسمائه الحسنى داّلن‬
‫على صفتين من صفاته العلى‪ ،‬فهو السميع وهو ذو السمع‪ ،‬وهو‬
‫البصير و ذو بصر‪ ،‬فتدل الية على إثبات السمين‪ ،‬وما تضمناه‬
‫من صفة السمع‪ ،‬والبصر‪.‬‬

‫]إثبات علم الله تعالى‪ ،‬وتقديره القدار‪ ،‬وضربه الجال[‬


‫وقوله‪) :‬خلق الخلق بعلمه‪ ،‬وقدر لهم أقدارًا‪ ،‬وضرب لهم‬
‫ل‪ ،‬ولم يخف عليه شيٍء قبل أن يخلقهم‪ ،‬وعلم ما هم عاملون‬ ‫آجا ً‬
‫قبل أن يخلقهم(‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫خلق الخلق عالما بهم‪ ،‬والخلق يستلزم العلم‪ )) :‬أل ي َعْل ُ‬
‫خِبيُر ((]الملك‪ [14:‬فالله علم أحوال الخلق‬ ‫ف ال ْ َ‬ ‫خل َقَ وَهُوَ الل ّ ِ‬
‫طي ُ‬ ‫َ‬
‫وأعمالهم بعلمه القديم‪ ،‬واليمان بذلك هو أحد مراتب اليمان‬
‫بالقدر‪.‬‬
‫وفيه إثبات العلم لله‪ ،‬والدلة على إثبات العلم لله كثيرة في‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬وهو من الصفات الثابتة بالعقل والسمع‪ ،‬فالله‬
‫تعالى اسمه العليم‪ ،‬وأخبر بأنه بكل شيٍء عليم‪ ،‬يعلم ما كان وما‬
‫يكون‪ ،‬وما ل يكون لو كان كيف يكون‪ ،‬يعلم الدقيق والجليل‪،‬‬
‫َ‬
‫ما‬‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫موا ْ أ ّ‬ ‫صل ذلك في كتابه ))َواع ْل َ ُ‬ ‫والله تعالى قد ف ّ‬
‫ح‬
‫فات ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫عن ْد َه ُ َ‬ ‫م بذات الصدور ((‪ )) ،‬وَ ِ‬ ‫م((‪ )) ،‬إن الله علي ٌ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ِفي َأن ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ط ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫س ُ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫حرِ وَ َ‬ ‫ما ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مَها إ ِّل هُوَ وَي َعْل َ ُ‬ ‫ب ل ي َعْل َ ُ‬ ‫ال ْغَي ْ ِ‬
‫س إ ِّل‬ ‫َ‬
‫ب َول َياب ِ ٍ‬ ‫ض َول َرط ْ ٍ‬ ‫ت الْر َ ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫حب ّةٍ ِفي ظ ُل ُ َ‬ ‫مَها َول َ‬ ‫وََرقَةٍ إ ِّل ي َعْل َ ُ‬
‫يٍء‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ع ََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ن ((]النعام‪ ))[59:‬ل ِت َعْل َ ُ‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ب ُ‬ ‫ِفي ك َِتا ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ((]الطلق‪.[12:‬‬ ‫عل ْ ً‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ط ب ِك ُ ّ‬ ‫حا َ‬ ‫ه قَد ْ أ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ديٌر وَأ ّ‬ ‫قَ ِ‬
‫ط بالشياء‪ ،‬أحاط علمه بأعمال العباد‪،‬‬ ‫علمه تعالى محي ٌ‬
‫وأقوالهم‪ ،‬وأحوالهم‪ ،‬يعلم الخواطر التي ترد على النفوس‪ ،‬ويعلم‬
‫ما في قلوب العباد‪ :‬الملئكة‪ ،‬والنبياء‪ ،‬وكل الناس يعلم ما في‬
‫قلوبهم من أفكار‪ ،‬وخواطر‪ )) ،‬يعلم خائنة العين (( اللحظة التي‬
‫خفية ما يدري عنها أحد‪ ،‬الله يعلمها )) يعلم‬ ‫يرسلها النسان ُ‬
‫خائنة العين وما تخفي الصدور ((‪.‬‬
‫يعلم دقائق الشياء‪ )):‬إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردل فتكن‬
‫في صخرة أو في السماوات أو في الرض يأتي بها الله ((‪،‬‬
‫ب مبين ((‪.‬‬ ‫)) وما من غائبة في السماء والرض إل في كتا ٍ‬
‫والله تعالى من أسمائه العليم‪ ،‬وعلم الغيوب‪ ،‬وعالم الغيب‬
‫والشهادة‪.‬‬
‫والعلم من صفاته تعالى‪ ،‬ومن أهل البدع من ينكر هذا !‬

‫‪40‬‬
‫فالجهمية ينفون عن الله أسماَءه وصفاِته ويقولون‪ :‬هذه‬
‫السماء إضافتها إلى الله مجاز‪ ،‬وإل فهي أسماء لبعض‬
‫المخلوقات‪.‬‬
‫والمعتزلة ينفون الصفات‪ ،‬ويقولون ‪ :‬اسمه عليم لكنه بل‬
‫ة قائمة به‪ ،‬وقدير بل قدرة‪ ،‬وسميع بصير‬ ‫علم‪ ،‬فليس العلم صف ً‬
‫بل سمع ول بصر! كذا حكى أهل العلم عنهم ]التمهيد ‪،7/145‬‬
‫والتدمرية ص ‪ ،92‬ومجموع الفتاوى ‪ ،3/335‬والنبوات ‪.[1/577‬‬
‫وأما الحق الذي دل عليه كتاب الله‪ ،‬وسنة رسوله ‪ ، r‬ودل‬
‫عليه العقل‪ ،‬وأجمع عليه سلف المة‪ ،‬والذين اّتبعوهم بإحسان‬
‫فهو أنه عليم بعلم‪ ،‬وأن العلم صفته سبحانه وتعالى‪ ،‬وجاء ذكر‬
‫العلم في القرآن‪ ،‬قال تعالى‪)) :‬أنزله بعلمه(( )) ول يحيطون‬
‫سّنة‪ ،‬قال النبي ‪ » :‬اللهم إني‬ ‫بشيٍء من علمه ((‪ ،‬وفي ال ُ‬
‫أستخيرك بعلمك « ]رواه البخاري )‪ (1162‬من حديث جابر ‪[t‬‬
‫وهذا تصريح بلفظ العلم‪ ،‬ولو لم ترد هذه النصوص لكان ذكر‬
‫السم كافيا في الدللة على إثبات الصفة‪.‬‬
‫وعلمه تعالى أزلي ل يتجدد ـ بمعنى ـ أنه يصير عالما ً بعد أن‬
‫لم يكن‪ ،‬ويعلم الشيء بعد أن لم يكن عالما به! فهذا نقص‪ ،‬والله‬
‫منزه عنه‪ ،‬كما تقدم ]ص[ في التنبيه على دوام كماله )ما زال‬
‫في صفاته قديما قبل خلقه(‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬ما زال بكل شيٍء عليما‪ ،‬وعلمه تعالى مطابق‬
‫للواقع؛ لن ما لم يطابق الواقع جهل‪.‬‬
‫وأما ما جاء في القرآن مما قد يفهم منه تجدد العلم‪ ،‬كقوله‬
‫ع‬
‫ن ي َت ّب ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ت ع َل َي َْها إ ِّل ل ِن َعْل َ َ‬
‫م َ‬ ‫ة ال ِّتي ُ‬
‫كن َ‬ ‫قب ْل َ َ‬
‫جعَل َْنا ال ْ ِ‬
‫ما َ‬
‫تعالى )) وَ َ‬
‫ل((]البقرة‪ [143:‬وقوله تعالى‪ )) :‬أفحسبتم أن تدخلوا‬ ‫سو َ‬ ‫الّر ُ‬
‫الجنة ولما يعلم الله ((‪ ،‬وقوله تعالى‪ )):‬أحسب الناس أن يتركوا‬
‫أن يقولوا آمنا وهم ل يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم‬
‫فليعلمن الله الذين صدقوا ((‪ ،‬فالمراد به علمه تعالى بالشيء‬
‫موجودًا‪.‬‬
‫ولهذا بعضهم يعّبر عنه بـ)علم الظهور‪ ،‬أوعلم الوجود(‪.‬‬
‫فالله تعالى قبل أن يخلق الخلق يعلم أحوالهم‪ ،‬وصفاتهم‪،‬‬
‫ومن يطيعه‪ ،‬ومن يعصيه‪ ،‬لكن هل يعلمهم موجودين ؟ ل؛ بل‬
‫يعلم أن ذلك الشيء سيكون‪ ،‬فإذا وجد علمه موجودًا‪.‬‬
‫فهو تعالى يعلم من يجاهد‪ ،‬ومن ل يجاهد‪ ،‬ومن يصبر‪ ،‬ومن‬
‫ل يصبر‪ ،‬ويعلم من يقبل تشريعه في أمر القبلة‪ ،‬ومن ل يقبل‪،‬‬
‫ومن يتبع الرسول‪ ،‬ومن ل يتبع الرسول‪ ...‬إلخ‬

‫‪41‬‬
‫يعلم أنه سيكون وهم غير موجودين‪ ،‬فإذا وجدوا علمهم‬
‫ب على ما يوجد بالفعل‪ ،‬هذا‬ ‫موجودين‪ ،‬والثواب والعقاب مرت ٌ‬
‫مقتضى عدله وحكمته‪.‬‬
‫فالله ل يجزي العباد بموجب علمه قبل خلقهم؛ بل يجزيهم‬
‫على ما وقع منهم بالفعل‪.‬‬
‫والله تعالى يعلم ما ل يكون لو كان كيف يكون‪ ،‬وشاهد هذا‬
‫دوا لعادوا لما نهوا عنه ((‬ ‫في القرآن قوله تعالى‪ )) :‬ولو ُر ّ‬
‫م ع ََلى قَْري َ ٍ‬
‫ة‬ ‫حَرا ٌ‬ ‫دون )) وَ َ‬ ‫]النعام‪ ،[28:‬وقد حكم الله بأنهم ل ُير ّ‬
‫ن ((]النبياء‪[95:‬‬ ‫أ َهْل َك ْنا َ َ‬
‫جُعو َ‬ ‫م ل ي َْر ِ‬ ‫ها أن ّهُ ْ‬ ‫َ‬
‫وكما دل السمع على إثبات صفة العلم؛ دل العقل عليها‪،‬‬
‫وبيان ذلك‪ :‬أن إيجاد المخلوقات وإحكام هذا الخلق العظيم‬
‫الواسع لبد أن يكون عن علم يقوم بالرب تعالى‪ ،‬ول يتصور أن‬
‫ما يقول الجاهلون علوا كبيرا‪.‬‬ ‫يكون بل علم تعالى الله ع ّ‬
‫ومن الطرق العقلية ـ أيضا ـ أن العلم يوصف به المخلوق‬
‫على يليق به‪ ،‬وهو صفة كمال‪ ،‬فلو لم يتصف الخالق سبحانه‬
‫بالعلم لزم أن يكون المخلوق أكمل من الخالق؛ وهذا ممتنع‬
‫ة‪.‬‬
‫بداه ً‬
‫در لهم أقدارا( قال تعالى‪ )) :‬وخلق كل شيٍء‬ ‫وقوله‪) :‬وق ّ‬
‫فقدره تقديرا ً (( )) إنا كل شيٍء خلقناه بقدر ((‪.‬‬
‫وجاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي‬
‫در الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والرض‬ ‫‪ r‬قال‪) :‬ق ّ‬
‫بخمسين ألف سنة(‪] .‬رواه أحمد ‪2/169‬ـ والفظ له ـ ‪ ،‬ومسلم )‬
‫‪ ،(2653‬والترمذي )‪ ،(2156‬وابن حبان )‪ (6138‬وصححاه‪ ،‬وعند‬
‫مسلم‪» :‬كتب«[‬
‫مقادير تكون من جهة الزمان‪ ،‬والمكان‪ ،‬والذات‪ ،‬فكل إنسان‬
‫َ‬
‫مى ((‬ ‫س ّ‬‫م َ‬‫ل ُ‬ ‫ج ٍ‬‫شاُء إ َِلى أ َ‬ ‫ما ن َ َ‬‫حام ِ َ‬ ‫قّر ِفي ال َْر َ‬‫قدر الله له زمنا )) وَن ُ ِ‬
‫در‪ ،‬هذا ستة‬ ‫]الحج‪ [5:‬يعني مقدار ل ُْبث الجنين في الرحم مق ّ‬
‫أشهر‪ ،‬وذا تسعة‪ ،‬وذا عشرة‪ ،‬وذا أكثر‪.‬‬
‫در جميع الشياء‪.‬‬ ‫در‪ ،‬وق ّ‬ ‫در‪ ،‬ورزقهم مق ّ‬ ‫وعملهم مق ّ‬
‫در الله المقادير( كلمة قصيرة لكن مفهومها‬ ‫وقوله ‪) ‬ق ّ‬
‫واسع جدا‪ ،‬ل نحيط به ول نتصوره لكن نفهمه إجمال‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وضرب لهم آجال(‬
‫وعطف هذه الجملة على التي قبلها من عطف الخاص على‬
‫العام‪) ،‬ضرب لهم آجال( حدد للخلق أجال‪ ،‬والجل‪ :‬يطلق على‬
‫نهاية المدة المقدرة‪ ،‬أو على نفس المدة المقدرة كلها‪ ،‬فالدنيا‬
‫ن ثُ ّ‬
‫م‬ ‫طي ٍ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫خل َ َ‬
‫قك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫لها أجل‪ ،‬ينتهي بيوم القيامة )) هُوَ ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عن ْد َه ُ ((]النعام‪.[2:‬‬ ‫مى ِ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬‫ل ُ‬ ‫جًل وَأ َ‬
‫ج ٌ‬ ‫ضى أ َ‬ ‫قَ َ‬

‫‪42‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫والمم لها آجال )) ل ِك ُ ّ ُ‬
‫م َفل‬ ‫جل ُهُ ْ‬
‫جاَء أ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ل إِ َ‬ ‫ج ٌ‬‫مة ٍ أ َ‬‫لأ ّ‬
‫ن ((]يونس‪ [49:‬كل أمة لها أجل‬ ‫ْ‬
‫مو َ‬ ‫قد ِ ُ‬ ‫ست َ ْ‬
‫ة َول ي َ ْ‬ ‫ساع َ ً‬ ‫ن َ‬ ‫خُرو َ‬ ‫ست َأ ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ثم تنتهي كيف شاء الله‪ ،‬وفي تاريخ المسلمين‪ ،‬الدولة الموية لها‬
‫تاريخ وانتهت‪ ،‬ثم الدولة العباسية وانتهت‪ ،‬وهكذا غيرها‪.‬‬
‫وكذلك آجال مختصة بكل فرد مثل ما جاء في حديث ابن‬
‫مسعود ‪ t‬عن النبي ‪) :r‬فيؤمر بأربع كلمات‪ :‬بكتب رزقه وأجله(‬
‫ما‬‫]رواه البخاري )‪ ،(3208‬ومسلم )‪ ،[(2643‬قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫جًل ((]آل عمران‪:‬‬ ‫َ‬
‫ن الل ّهِ ك َِتاًبا ُ‬
‫مؤ َ ّ‬ ‫ت إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ن تَ ُ‬‫سأ ْ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ن ل ِن َ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫‪.[145‬‬
‫ذا؛ بأي شيء يموت النسان ؟‬ ‫إ ً‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ما َ‬
‫سأ ْ‬ ‫ف ٍ‬‫ن ل ِن َ ْ‬
‫كا َ‬ ‫هو ميت بأجله‪ ،‬وفي الوقت المحدود )) وَ َ‬
‫جًل ((]آل عمران‪ [145:‬فالمقتول‬ ‫مؤ َ ّ‬ ‫ن الل ّهِ ك َِتاًبا ُ‬ ‫ت إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫تَ ُ‬
‫سّنة‪ ،‬خلفا ً للمعتزلة‪ ،‬فإنهم يقولون‪:‬‬ ‫ميت بأجله هذا عند أهل ال ُ‬
‫إن المقتول قد قطع القاتل عليه أجله‪ ،‬فيمكن أنه سيعيش مائة‬
‫سنة لكن اعتدى عليه القاتل فقتله وهو ابن عشرين سنة فضّيع‬
‫عليه القاتل ثمانين سنة! ]مجموع الفتاوى ‪[8/516‬‬
‫نعوذ بالله من الجهالة‪ ،‬والضللة؛ بل المقتول ميت بأجله‪،‬‬
‫والجال جعل الله لنقضائها أسبابا؛ فمن الناس من يموت‬
‫ب‬‫بأسباب سماوية ل دخل لحد ٍ من الناس فيها‪ ،‬ومنها ماله تسب ٌ‬
‫ب مبين‪ ،‬معلوم لرب‬ ‫ل في كتا ٍ‬ ‫من الناس؛ مثل المقتول‪ ،‬وك ٌ‬
‫مرِهِ إ ِّل ِفي‬ ‫ن عُ ُ‬ ‫م ْ‬
‫ص ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫مرٍ َول ي ُن ْ َ‬ ‫معَ ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫مُر ِ‬ ‫ما ي ُعَ ّ‬ ‫العالمين‪ )) ،‬وَ َ‬
‫ب ((]فاطر‪.[11:‬‬ ‫ك َِتا ٍ‬
‫فالجال‪ ،‬والعمار كلها مقدرة‪ ،‬ودلت النصوص على أن‬
‫لطول العمر وقصره أسبابا كونية‪ ،‬و شرعية‪ ،‬فمن السباب‬
‫الشرعية‪ :‬صلة الرحم‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬ففي الصحيحين عن النبي‬
‫‪) :‬من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل‬
‫رحمه( ]البخاري )‪ ،(5986‬ومسلم )‪ (2557‬من حديث أنس ‪[‬‬
‫و في الحديث الخر قال النبي ‪) :‬ول يزيد في العمر إل البر(‬
‫]أحمد ‪ ،5/277‬وابن ماجه )‪ ، (90‬وصححه ابن حبان )‪(872‬‬
‫والحاكم ‪ ،1/493‬وحسنه العراقي فيما نقله البوصيري في‬
‫مصباح الزجاجة )‪ (33‬من حديث ثوبان ‪ [‬والتحقيق أنه ل ينافي‬
‫القدر‪ ،‬فليس معناه أن هذا سبق في علم الله وكتابه أن عمره‬
‫ستون سنة‪ ،‬ثم يحدث أنه يبر بوالديه فيزاد في عمره‪ ،‬ل؛ بل هذا‬
‫مد الله في عمره جزاًء له؛ قد سبق في علم‬ ‫صل رحمه‪ ،‬و َ‬ ‫الذي و َ‬
‫الله وفي كتابه أنه يطول عمره بهذا السبب‪ ،‬وكل المور جارية‬
‫على السباب والمسببات‪ ،‬ومندرجة في قدر الله التام‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ض أهل البدع يقول‪ :‬الدعاء ل‬ ‫ويقال مثل هذا في الدعاء‪ ،‬وبع ُ‬
‫در هذا المطلوب فل حاجة للدعاء‪ ،‬فهو‬ ‫فائدة منه؛ فإن كان الله ق ّ‬
‫حاصل دعوت أو لم تدع‪ ،‬وإن كان غير مقدر فل فائدة في‬
‫الدعاء؛ لنه لن يحدث!‬
‫وهذا فهم باطل مبني على عدم تأثير السباب في مسب ََباتها‪،‬‬
‫ويلزمهم أن يقولوا مثل هذا في كل السباب‪.‬‬
‫در سببه‪ ،‬وقد ل‬ ‫وما قدر الله حصوله في هذا الدعاء قد ُيق ّ‬
‫يقدر‪ ،‬فما لم يقدر سببه ل يحصل بالدعاء‪ ،‬وما قدر سببه يحصل‬
‫ب‪.‬‬
‫السبب‪ ،‬والمسب َ َ‬
‫فتارة يقدر الله السبب‪ ،‬ولم يقدر المسَبب‪.‬‬
‫وتارة يقدر هذا المر بدون هذا السبب‪.‬‬
‫در السبب‪ ،‬والمسَبب‪ ،‬وهذا موضوع معناه‬ ‫وتارة يكون المق ّ‬
‫واسع جدا‪ ،‬فالرزق للنسان يحصل بسبب الطلب والكدح‪ ،‬و‬
‫أحيانا يحصل بدون سعي ول جهد‪].‬مجموع الفتاوى ‪8/192‬و‬
‫‪[14/143‬‬
‫وهذا كله يرجع إلى اليمان بالقدر أحد أصول اليمان‪،‬‬
‫در لهم أقدارا‪ ،‬وضرب‬ ‫والمؤلف لما قال ‪) :‬خلق الخلق بعلمه‪ ،‬وق ّ‬
‫لهم آجال( يريد تقرير الصل السادس‪ ،‬وإن كان سُيثّني ويردد‬
‫الكلم في القدر‪.‬‬
‫ثم أكد المصنف قوله‪) :‬خلق الخلق بعلمه‪ ،‬وقدر لهم أقدارا‪،‬‬
‫وضرب لهم آجال( بقوله‪) :‬لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم(‬
‫أكده بالنفي‪ ،‬فالول إثبات‪ ،‬والثاني سلب‪.‬‬
‫ثم قال‪) :‬وعلم ما هم عاملون( وهذا أيضا تأكيد‪ ،‬لكن الجملة‬
‫مة‪.‬‬
‫الولى عا ّ‬
‫)علم ما هم عاملون( سبق علمه بأعمالهم‪ :‬المؤمن‪،‬‬
‫والكافر‪ ،‬والمطيع‪ ،‬والعاصي قبل أن يخلقهم‪ ،‬وكتب ذلك وقضاه‬
‫دره في أم الكتاب‪.‬‬ ‫وق ّ‬
‫وفي التقدير الثاني‪ :‬قال النبي ‪) :‬فيؤمر بأربع كلمات ‪:‬‬
‫بكتب رزقه‪ ،‬وأجله‪ ،‬وعمله ( ]تقدم تخرجه في ص[‬

‫]وجوب اليمان بالشرع والقدر[‬


‫وقوله‪) :‬وأمرهم بطاعته‪ ،‬ونهاهم عن معصيته( في هذا‬
‫التنبيه على وجوب اليمان بالشرع مع اليمان بالقدر؛‬
‫اليمان بأن الله علم ما العباد عاملون بعلمه القديم‪ ،‬وكتب‬
‫ذلك‪ ،‬وأن كل شيء يجري بمشيئة الله‪،‬‬
‫واليمان بأن الله أمر عباده بطاعته‪ ،‬ونهاهم عن معصيته‬
‫َ‬
‫جعَُلوا ل ِل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫دوا َرب ّك ُ ُ‬
‫م ((]البقرة‪َ )) [21:‬فل ت َ ْ‬ ‫س اع ْب ُ ُ‬
‫)) َيا أي َّها الّنا ُ‬

‫‪44‬‬
‫َ‬
‫شي ًْئا ((‬ ‫كوا ب ِهِ َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ه َول ت ُ ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫دا ((]البقرة‪َ )) [22:‬واع ْب ُ ُ‬ ‫دا ً‬
‫أن َ‬
‫]النساء‪ )) [36:‬وقَضى رب َ َ‬
‫ن‬ ‫دوا إ ِّل إ ِّياه ُ وَِبال ْ َ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫ك أّل ت َعْب ُ ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ َ‬
‫ساًنا ((]السراء‪.[23:‬‬ ‫ح َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ل بد للستقامة على الصراط المستقيم في هذا المقام من‬
‫اليمان بالشرع‪ ،‬والقدر جميعا‪.‬‬
‫أما اليمان بالقدر فهو الصل السادس‪ ،‬وأما اليمان بالشرع‬
‫فهو موجب اليمان بكتب الله ورسله‪.‬‬
‫فأهل الهدى والفلح يؤمنون بهذا وهذا‪ ،‬ويؤمنون بحكمة‬
‫الرب في شرعه وقدره‪.‬‬
‫وأما فرق الضلل فالمشركون‪ ،‬وأتباعهم من الجبرّية فإنهم‬
‫يثبتون القدر‪ ،‬ولكنهم ينكرون الشرع أو يعرضون عن الشرع كما‬
‫ما‬
‫ه َ‬‫شاء الل ّ ُ‬ ‫كوا ْ ل َوْ َ‬ ‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫سي َ ُ‬ ‫قال الله عن المشركين‪َ } :‬‬
‫شَرك َْنا {]النعام‪[148:‬‬ ‫أَ ْ‬
‫قولهم ‪) :‬لو شاء الله ما أشركنا( هذا يتضمن أنهم ُيقّرون‬
‫بالقدر‪ ،‬وبمشيئة الله‪ ،‬ولكنها كلمة حق أريد بها باطل‪ ،‬فهم‬
‫ة لما جاءت به الرسل من المر بعبادة الله‬ ‫يقولون ذلك معارض ً‬
‫وحده ل شريك له‪ ،‬ونهيهم عن الشرك به‪.‬‬
‫والجبرية ـ المنتسبين للمسلمين ـ يقال لهم‪ :‬مشركّية؛ لنهم‬
‫بمنهجهم ذلك شابهوا المشركين الذين قالوا‪ )) :‬لو شاء الله ما‬
‫أشركنا ((‪.‬‬
‫ويقابلهم المجوسية وهم‪) :‬القدرية( كالمعتزلة فإنهم ينفون‬
‫تعلق مشيئة الله بأفعال العباد‪ ،‬ويخرجون أفعال العباد عن‬
‫مشيئته وقدرته‪ ،‬وملكه‪ ،‬مع أنهم يقرون بالشرع‪.‬‬
‫وأسلفهم الولون الذين ظهروا في عهد الصحابة ينفون‬
‫القدر كله بمراتبه الربع‪ :‬العلم‪ ،‬والكتابة‪ ،‬والمشيئة‪ ،‬والخلق‪.‬‬
‫وطائفة قالت‪ :‬إن الشرع والقدر فيهما تناقض‪ ،‬وإن أثبتتهما ‪،‬‬
‫فطعنت في حكمة الرب سبحانه‪ ،‬وتسمى‪ :‬البليسية ؛ فزعيمهم‬
‫في هذا إبليس ‪ ،‬فهو الذي أعترض على الرب‪ ،‬وطعن في‬
‫حكمته‪ ،‬مع إقراره بخلق الله وأمره ‪ ،‬فكان هو إمام هذه الطائفة‬
‫المخذولة ‪.‬‬
‫هذه فرق الضلل من الخائضين في القدر كما ُيعّبـر شيخ‬
‫السلم ابن تيمية رحمه الله‪] .‬الرسالة التدمرية ص ‪[488‬‬
‫]إثبات عموم مشيئة الله تعالى[‬
‫قال رحمه الله تعالى‪) :‬وكل شيء يجري بتقديره ومشيئِته‪،‬‬
‫ومشيئُته تنفذ ل مشيئة للعباد إل ما شاء لهم‪ ،‬فما شاء لهم كان‪،‬‬
‫وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضل‪ ،‬ويضل‬
‫من يشاء ويخذل ويبتلي عدل(‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫يقرر المؤلف في هذه الجملة عموم مشيئة الله‪ ،‬وأنها‬
‫شاملة لكل شيء‪ ،‬فكل شيٍء يجري بتقديره ومشيئته؛ كحركات‬
‫الفلك‪ ،‬وتصريف الرياح‪ ،‬وحركات الناس كلها تجري بعلمه‬
‫وبمشيئته قد سبق بها العلم‪ ،‬والكتاب‪.‬‬
‫)ل مشيئة للعباد إل ما شاء لهم( فالعباد لهم مشيئة‪،‬‬
‫وأفعالهم نوعان‪:‬‬
‫اختيارية؛ فالنسان يذهب ويجيء‪ ،‬ويأكل ويشرب‪ ،‬ويتكلم‪،‬‬
‫ويضرب‪ ،‬هذه حركات اختيارية‪.‬‬
‫وأفعال ل اختيارية كحركة النائم‪ ،‬و المرتعش‪ ،‬فهذه يقال‬
‫لها‪ :‬ل إرادية‪.‬‬
‫شاَء‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ومشيئة العباد مقيدة بمشيئة الله‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬ل ِ َ‬
‫َ‬ ‫منك ُ َ‬
‫ن‬‫ن إ ِّل أ ْ‬ ‫شاُءو َ‬ ‫ما ت َ َ‬ ‫م (( بإثبات المشيئة للعباد )) وَ َ‬ ‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ِ ْ ْ‬
‫ن ((]التكوير‪ [29:‬ففي هذه الية رد على‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫ب الَعال ِ‬‫ْ‬ ‫ه َر ّ‬ ‫ّ‬
‫شاَء الل ُ‬ ‫يَ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫مأ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫شاَء ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫طائفتين‪ :‬الجبرية‪ ،‬والقدرية؛ فقوله‪ )) :‬ل ِ َ‬
‫َ‬
‫ه (( رد على‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م (( رد على الجبرية‪ ،‬وقوله‪ )) :‬إ ِّل أ ْ‬ ‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬‫يَ ْ‬
‫القدرية نفاةِ القدر‪.‬‬
‫)ل مشيئة للعباد إل ما شاء لهم( وهذا الذي نعّبر عنه بقولنا‪:‬‬
‫ما شاء الله كان‪ ،‬أما مشيئة النسان فقد تتحقق‪ ،‬وقد ل تتحقق‪،‬‬
‫فيشاء العبد ما ل يكون‪ ،‬كالعاجز يريد شيئا ول يكون‪ ،‬وقد يكون‬
‫ما ل يريد‪ ،‬كالمكره يجري عليه من المور ما ل يريده‪.‬‬
‫أما الرب القدير على كل شيء فما شاء كان‪ ،‬وما لم يشأ ل‬
‫يكون‪ ،‬سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضل(‬
‫ريد ُ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ل لِ َ‬ ‫أدلة هذا في القرآن كثيرة‪ ،‬قال الله تعالى‪ )) :‬فَّعا ٌ‬
‫((]البروج‪ [16:‬هذا دليل عام‪.‬‬
‫شاُء ((]النحل‪:‬‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫شاُء وَي َهْ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫وقال تعالى‪ )) :‬ي ُ ِ‬
‫ْ‬
‫ط‬
‫صَرا ٍ‬ ‫ه ع ََلى ِ‬ ‫جعَل ْ ُ‬ ‫شأ ي َ ْ‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫ضل ِل ْ ُ‬‫ه يُ ْ‬ ‫شإ ِ الل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫‪َ )) [93‬‬
‫قيم ٍ ((]النعام‪[39:‬‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫وقوله‪) :‬يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضل( يوفق من‬
‫يشاء لسبل الخيرات‪ ،‬والعمال الصالحات‪ ،‬ويعصم من الوقوع‬
‫في الزّلت والسيئات‪ ،‬ويعافي من يشاء‪ ،‬وكل ذلك بفضله تعالى‪:‬‬
‫م‬ ‫م وَك َّره َ إ ِل َي ْك ُ ُ‬ ‫ه ِفي قُُلوب ِك ُ ْ‬ ‫ن وََزي ّن َ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫لي َ‬
‫م ا ُِ‬ ‫ب إ ِل َي ْك ُ ُ‬ ‫حب ّ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫)) وَل َك ِ ّ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫ضًل ِ‬ ‫ن * فَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫م الّرا ِ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ن أوْل َئ ِ َ‬ ‫صَيا َ‬ ‫سوقَ َوال ْعِ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫فَر َوال ْ ُ‬ ‫ال ْك ُ ْ‬
‫ن‬ ‫ل من الله )) وَل َك ِ ّ‬ ‫م((]الحجرات‪ [8-7:‬فض ٌ‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ع َِلي ٌ‬ ‫ة َوالل ّ ُ‬ ‫م ً‬ ‫وَن ِعْ َ‬
‫شاُء ((]إبراهيم‪[11:‬‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ع ََلى َ‬ ‫م ّ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫الل ّ َ‬
‫فهو يهدي من يشاء بفضله وحكمته فيضع وليته في موضعها‬
‫م ((‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ع َِلي ٌ‬ ‫فضل منه وحكمة‪ ،‬ولهذا قال سبحانه‪َ )) :‬والل ّ ُ‬

‫‪46‬‬
‫]النساء‪ )) ، [26:‬الل ّ َ‬
‫ه ((]النعام‪،[124:‬‬ ‫سال َت َ ُ‬
‫ل رِ َ‬ ‫جعَ ُ‬ ‫ث يَ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه أع ْل َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ما ((]النساء‪.[70:‬‬ ‫فى ِباللهِ ع َِلي ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن اللهِ وَك َ‬ ‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬‫ك ال ْ َ‬ ‫)) ذ َل ِ َ‬
‫وقوله‪) :‬ويضل من يشاء( هذا قد نص الله عليه في كتابه‬
‫في مواضع]الرعد‪ ،27:‬والنحل‪ ،93 :‬وفاطر‪ [8:‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫شاُء(( ]إبراهيم‪.[4:‬‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫شاُء وَي َهْ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض ّ‬ ‫)) فَي ُ ِ‬
‫وقوله‪) :‬ويخذل ويبتلي عدل( الخذلن‪ :‬عدم التوفيق‪ ،‬ويبتلي‪:‬‬
‫يصيب من يشاء بالبلء‪ ،‬عدل‪ :‬أي‪ :‬بعدله وحكمته ‪.‬‬
‫والهداية المضافة إلى الله المتعلقة بالمكلف نوعان ‪:‬‬
‫هداية عامة ـ للمؤمن‪ ،‬والكافر ـ وهي‪ :‬هداية الدللة‪ ،‬والبيان‪،‬‬
‫ن ((‬ ‫جد َي ْ ِ‬‫والرشاد لسبيل الخير والشر‪ ،‬قال تعالى‪ )):‬وَهَد َي َْناه ُ الن ّ ْ‬
‫م ((]فصلت‪ [17:‬أي‪ :‬دّلـُهم‪،‬‬ ‫َ‬
‫مود ُ فَهَد َي َْناهُ ْ‬ ‫ما ث َ ُ‬ ‫]البلد‪ )) ،[10:‬وَأ ّ‬
‫حا‬‫صال ِ ً‬‫م َ‬ ‫خاهُ ْ‬ ‫مود َ أ َ َ‬ ‫سل َْنا إ َِلى ث َ ُ‬
‫وبين لهم بإرسال رسوله )) ول َ َ َ‬
‫قد ْ أْر َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن ((]النمل‪.[45:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ص ُ‬ ‫خت َ ِ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫قا ِ‬ ‫ري َ‬ ‫م فَ ِ‬ ‫ذا هُ ْ‬ ‫ه فَإ ِ َ‬ ‫دوا الل َ‬ ‫ن اع ْب ُ ُ‬ ‫أ ِ‬
‫والنوع الثاني‪ :‬هداية التوفيق لقبول الحق‪ ،‬وإلهام الرشد‪،‬‬
‫ح‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫وشرح الصدر‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬فَمن يرد الل ّ َ‬
‫شَر ْ‬ ‫ن َيهد ِي َ ُ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ُ ِ ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫سلم ِ‬ ‫صد َْره ُ ل ِل ِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ح الل ُ‬ ‫شَر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫سلم ِ ((]النعام‪ )) [125:‬أفَ َ‬ ‫صد َْره ُ ل ِل ِ ْ‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّهِ ((]الزمر‪ [22:‬فهاتان هدايتان‪:‬‬ ‫م ْ‬ ‫فَهُوَ ع َلى ُنورٍ ِ‬‫َ‬
‫الولى تسمى‪) :‬الهداية العامة(‪ ،‬والثانية‪) :‬الهداية الخاصة(‪.‬‬
‫أما الهداية الخاصة فل يملكها إل الله تعالى‪.‬‬
‫وأما الهداية العامة فالله قد جعلها للرسل ـ أيضا ـ قال‬
‫قيم ٍ ((]الشورى‪،[52:‬‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫دي إ َِلى ِ‬ ‫ك ل َت َهْ ِ‬ ‫تعالى‪ )) :‬وَإ ِن ّ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ي َهْ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ت وَل َك ِ ّ‬ ‫حب َب ْ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫دي َ‬ ‫ك ل ت َهْ ِ‬ ‫وقال تعالى‪ )) :‬إ ِن ّ َ‬
‫شاُء((]القصص‪ [56:‬نفى عنه أن يهدي من يحب‪ ،‬وأثبتها لنفسه‬ ‫يَ َ‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬فبين اليتين تعارض في الظاهر‪ ،‬والجمع بينهما‬
‫بمراعاة التقسيم‪.‬‬
‫وأنكرت المعتزلة هداية التوفيق؛ لنهم أخرجوا أفعال العباد‬
‫دس‪ ،‬فعندهم أن الله ل يقدر‬ ‫عن مشيئة الرب وقدرته تعالى وتق ّ‬
‫أن يهدي أحدا‪ ،‬وإنما أثبتوا الهداية العامة‪ :‬هداية الدللة والرشاد‪.‬‬
‫كم له بالهداية‪،‬‬ ‫ح َ‬ ‫وقالوا‪) :‬يضل( و)يهدي( أي‪ :‬من اهتدى َ‬
‫ومن ضل سماه ضال‪ ،‬أما أنه يجعل هذا مهتديا أو هذا ضال فل!‬
‫تعالى عن قول الظالمين والمفترين علوا كبيرا‪.‬‬

‫]إثبات الحكمة لله تعالى في أفعاله[‬


‫وقوله‪) :‬وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله(‪.‬‬
‫من تتمةِ قوِله )يهدي من يشاء ويعصم‪ ،‬ويعافي فضل‪ ،‬ويضل‬
‫من يشاء ويخذل ويبتلي عدل( قوُله )فكل الخلق يتقلبون بين‬
‫فضله وعدله( هذه النتيجة‪ ،‬والله تعالى حكيم يضع فضله حيث‬

‫‪47‬‬
‫شاء‪ ،‬وعدله حيث شاء له الحكمة البالغة‪ ،‬فالله يهدي من يشاء‬
‫بفضله وحكمته‪ ،‬ويضل من يشاء بعدله وحكمته‪.‬‬
‫فالحكمة معتبرة وجارية وواقعة في الكل له الحكمة البالغة‬
‫في هدايته لمن شاء من عباده‪ ،‬وخذلنه لمن شاء‪ ،‬وكان من‬
‫المناسب أن ينبه المؤلف إلى هذا‪.‬‬
‫والدلة على حكمة الرب كثيرة فاسمه الحكيم يدل على‬
‫فى ِبالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ن الل ّهِ وَك َ َ‬‫م َ‬‫ل ِ‬‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫الحكمة‪ ،‬وكذلك قوله‪ )) :‬ذ َل ِ َ‬
‫َ‬
‫ه ((]النعام‪:‬‬ ‫سال َت َ ُ‬ ‫ل رِ َ‬ ‫جعَ ُ‬‫ث يَ ْ‬‫حي ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫ه أع ْل َ ُ‬ ‫ما ((]النساء‪ )) [70:‬الل ّ ُ‬
‫ع َِلي ً‬
‫‪.[124‬‬
‫وأفعال الرب معللة ]منهاج السنة ‪ ،1/141‬وشفاء العليل ص‬
‫‪ ،190‬وانظر‪ :‬ص عند قوله‪ :‬تعالى عن الحدود والغايات[ لكن من‬
‫العلل والحكم ما نعلمه بالنص عليه في الكتاب أو السنة‪ ،‬ومنها‬
‫ما ُيهتدى إليه بالتدّبر‪ ،‬ومنها ما ل يعلم؛ فالعباد ل يحيطون بحكمة‬
‫الرب كما ل يحيطون بسائر الصفات‪.‬‬
‫فكل الخلق يتقلبون بين فضله وعدله‪ ،‬حتى في الساعة‬
‫الواحدة يكون للنسان حظ من فضل الرب سبحانه وتعالى‬
‫بالتوفيق‪ ،‬أو يكون في حالة ابتلء وخذلن‪ ،‬واقرأ ما كتبه ابن‬
‫القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين ]‪»]1/414‬فالعبيد‬
‫متقلبون بين توفيقه وخذلنه؛ بل العبد في الساعة الواحدة ينال‬
‫نصيبه من هذا وهذا‪ .‬فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه‬
‫له‪ ،‬ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلنه له‪ ،‬فهو دائر‬
‫بين توفيقه وخذلنه؛ فإن وفقه فبفضله ورحمته‪ ،‬وإن خذله‬
‫فبعدله وحكمته‪ ،‬وهو المحمود على هذا وهذا له أتم حمد وأكمله‪،‬‬
‫ولم يمنع العبد شيئا هو له‪ ،‬وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه‬
‫وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله«‪ [[.‬في مشاهد الخلق في‬
‫المعصية في مشهد التوفيق والخذلن‪.‬‬

‫]تنزيه الله تعالى أن يكون ضد أو ند[‬


‫ل عن الضداد والنداد(‪.‬‬ ‫وقوله‪) :‬وهو سبحانه وتعالى متعا ٍ‬
‫ما‬ ‫َ‬
‫ه وَت ََعالى ع َ ّ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫وصف الرب بالتعالي كثيٌر في القرآن )) ُ‬
‫ن ((‬ ‫فو َ‬ ‫ص ُ‬‫ما ي َ ِ‬‫ه وَت ََعاَلى ع َ ّ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫ن ((]يونس‪ُ )) [18:‬‬ ‫شرِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫يُ ْ‬
‫ن ((]العراف‪[190:‬‬ ‫شرِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫ه عَ ّ‬ ‫]النعام‪ )) [100:‬فَت ََعاَلى الل ّ ُ‬
‫دس وتنّزه وترّفع‪ ،‬فهذا اللفظ يدل على التنزيه‪ ،‬فنقول‪:‬‬ ‫تعالى‪ :‬تق ّ‬
‫تعالى الله عن الصاحبة والولد ‪ ،‬وتعالى الله عن السنة والنوم‬
‫والموت‪ ،‬وتعالى الله عن الشركاء‪ ،‬والضداد والنداد‪ ،‬فل ضد له‬
‫ول ند له‪.‬‬
‫فالمضاد‪ :‬المقاوم المدافع‪ ،‬والند‪ :‬المثل‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫فل ضد يضاد أمره وحكمه سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫]نفاذ قضائه وحكمه تعالى[‬


‫وقوله‪) :‬ل راد لقضائه‪ ،‬ول معقب لحكمه‪ ،‬ول غالب لمره(‪.‬‬
‫هذا تفصيل لما قبله ؛ فل ضد له يرد قضاءه }وإ َ َ‬
‫ذا أَراد َ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫َِ‬
‫ه{]الرعد‪.[11:‬‬ ‫مَرد ّ ل َ ُ‬ ‫سوًءا فَل َ َ‬ ‫قوْم ٍ ُ‬ ‫بِ َ‬
‫وقوله‪) :‬ول معقب لحكمه( أي‪ :‬مؤخر لحكمه فحكم الله‬
‫ن أ َط َْرافَِها‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫صَها ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫ض ن َن ْ ُ‬
‫م ي ََرْوا أّنا ن َأِتي الْر َ‬ ‫ماض قال تعالى‪ )) :‬أوَل َ ْ‬
‫ب ((]الرعد‪.[41:‬‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ريعُ ال ْ ِ‬‫س ِ‬‫مهِ وَهُوَ َ‬ ‫حك ْ ِ‬‫ب لِ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫معَ ّ‬‫مل ُ‬ ‫حك ُ ُ‬‫ه يَ ْ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫وقوله‪) :‬ول غالب لمره( هذه الجمل الثلث معناها متقارب‬
‫ب ل ُيغلب‪.‬‬ ‫كلها تفيد أن أمر الله وحكمه وقضاءه نافذ‪ ،‬وأنه غال ٌ‬
‫وقوله‪) :‬آمّنا بذلك كله‪ ،‬وأيقنا أن كل من عنده(‪.‬‬
‫هذه الشارة ترجع إلى كل ما ذكره من قوله‪) :‬نقول في‬
‫توحيد الله معتقدين بتوفيق الله‪ ...‬الخ(‬
‫)وأيقنا( اليقين‪ :‬اليمان الذي ل يخالجه شك‪) ،‬أن كل من‬
‫عنده( أي‪ :‬كل ما يجري في الوجود فهو بتدبيره وتقديره سبحانه‬
‫م‬
‫صب ْهُ ْ‬‫ن تُ ِ‬ ‫عن ْد ِ الل ّهِ وَإ ِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫قوُلوا هَذ ِهِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ة يَ ُ‬
‫سن َ ٌ‬‫ح َ‬ ‫م َ‬ ‫صب ْهُ ْ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫وتعالى‪ )) :‬وَإ ِ ْ‬
‫عن ْد ِ الل ّهِ ((]النساء‪[78:‬‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫ل كُ ّ‬‫ك قُ ْ‬ ‫عن ْد ِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قوُلوا هَذ ِهِ ِ‬ ‫سي ّئ َ ٌ‬
‫ة يَ ُ‬ ‫َ‬
‫ويحتمل أن المؤلف أراد )آمنا بذلك كله( أي‪ :‬ما قرره من أمر‬
‫الهداية والضلل‪ ،‬ونفاذ المشيئة‪ ،‬والتقدير‪ ،‬ويحتمل أنه يريد عموم‬
‫ما تقدم‪.‬‬

‫]وجوب اعتقاد أن محمدا عبد الله ورسوله‪ ،‬وذكر ما تثبت به‬


‫النبوة[‬
‫وقوله‪) :‬وإن محمدا عبده المصطفى‪ ،‬ونبيه المجتبى‪،‬‬
‫ورسوله المرتضى(‪.‬‬
‫قرر المؤلف في الكلم المتقدم التوحيد بأنواعه الثلثة‪ ،‬ثم‬
‫ذكر بعض السماء‪ ،‬ثم ذكر أشياء مما هو من توحيده سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬ثم ذكر ما يتعلق بالقدر‪ ،‬فما تقدم كله يتضمن تقرير‬
‫توحيده بأنواعه الثلثة‪ ،‬و أنواع التوحيد الثلثة كلها تندرج في‬
‫شهادة أن ل إله إل الله‪.‬‬
‫فكأن مجمل قوله‪ :‬نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق‬
‫الله إن الله رب كل شيء ومليكه‪ ،‬وأنه ل إله غيره‪ ،‬وأنه سبحانه‬
‫ص وعيب‪،‬‬‫وتعالى الموصوف بصفات الكمال المنّزه عن كل نق ٍ‬
‫وهذا هو مضمون شهادة أن ل إله إل الله‪ ،‬وبهذا تتضح المناسبة‬
‫دا عبده المصطفى‪ ،‬ـ يعني ـ نقول في توحيد‬ ‫في قوله ‪ :‬وإن محم ً‬
‫الله معتقدين بتوفيق الله‪ :‬إن الله واحد ٌ ل شريك له‪ ،‬ونقول في‬

‫‪49‬‬
‫شأن محمد ‪ ‬معتقدين بتوفيق الله‪ :‬إن محمدا عبده المصطفى‬
‫ن ( ؛ لنها مقو ُ‬
‫ل القول‪.‬‬ ‫بكسر همزة ) إ ّ‬
‫وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد‬
‫مناف الهاشمي القرشي من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما‬
‫وعلى نبينا الصلة والسلم‪.‬‬
‫ومحمد هو أشهر أسمائه ‪ ، ‬وإل فله أسماء فإنه قال ‪» :‬‬
‫أنا محمد‪ ،‬وأنا أحمد‪ ،‬وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر‪ ،‬وأنا‬
‫الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي‪ ،‬وأنا العاقب« والعاقب‬
‫الذي ليس بعده نبي‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(4896‬ومسلم )‪ (2354‬ـ‬
‫واللفظ له ـ من حديث جبير بن مطعم ‪[‬‬
‫وأسماؤه ‪ ‬أعلم وصفات‪ ،‬فاسمه محمد علم وصفة يدل‬
‫مد‪،‬‬
‫ح ّ‬
‫على كثرة محامده‪ ،‬وكثرة حامديه؛ لنه اسم مفعول من ُ‬
‫مد ‪] .‬انظر‪ :‬جلء الفهام ص ‪[.183‬‬ ‫ح ِ‬
‫وهو أبلغ من ُ‬

‫وقوله‪) :‬وإن محمدا عبده المصطفى(‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫ما َقا َ‬
‫م‬ ‫هل ّ‬ ‫مما تجب الشهادة به للنبي ‪ ‬أنه عبدالله )) وَأن ّ ُ‬
‫ن‬
‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬
‫دا ((]الجن‪ُ )) [19:‬‬ ‫ن ع َل َي ْهِ ل ِب َ ً‬
‫كوُنو َ‬ ‫دوا ي َ ُ‬ ‫عوه ُ َ‬
‫كا ُ‬ ‫ع َب ْد ُ الل ّهِ ي َد ْ ُ‬
‫ما ن َّزل َْنا‬ ‫َ‬
‫م ّ‬ ‫ب ِ‬ ‫م ِفي َري ْ ٍ‬ ‫كنت ُ ْ‬‫ن ُ‬ ‫سَرى ب ِعَب ْد ِهِ ((]السراء‪ )) [1:‬وَإ ِ ْ‬ ‫ذي أ ْ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ن ع ََلى‬ ‫فْرَقا َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫ذي ن َّز َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫ع ََلى ع َب ْد َِنا ((]البقرة‪ )) [23:‬ت ََباَر َ‬
‫ف له‪ ،‬وثناء عليه‬ ‫ع َب ْد ِهِ ((]الفرقان‪ [1:‬في هذه اليات وص ٌ‬
‫بالعبودية‪ ،‬وهي العبودية الخاصة‪ ،‬وفيها إضافته ‪ ‬إلى ربه فالله‬
‫أضافه في هذه المواضع إلى نفسه إضافة تشريف‪ ،‬فهو أكمل‬
‫الناس وأقومهم بالعبودية لله‪ ،‬فل بد في الشهادة من شهادة أنه‬
‫عبد الله ورسوله خلفا لمن يغلوا فيه ويجعل له بعض خصائص‬
‫اللهية‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬المصطفى( المختار‪ ،‬والصطفاء‪ ،‬والختيار‪ :‬طلب‬
‫خير الشيئين ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ي منبأ بالوحي الذي‬ ‫وقوله‪) :‬ونبيه المجتبى( هو ‪ ‬عبد ٌ نب ٌ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫حي َْنا إ ِل َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫ح‬‫حي َْنا إ ِلى ُنو ٍ‬ ‫ما أوْ َ‬ ‫ك كَ َ‬ ‫أنزله الله إليه‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬إ ِّنا أوْ َ‬
‫ن ب َعْد ِهِ ((]النساء‪.[163:‬‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫َوالن ّب ِّيي َ‬
‫والجتباء‪ :‬قريب من معنى الصطفاء ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ورسوله المرتضى( فهو نبي رسول ‪ ،‬والمرتضى‪:‬‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ضى ِ‬ ‫ن اْرت َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫الذي ارتضاه الله‪ ،‬قال سبحانه وتعالى‪ )) :‬إ ِّل َ‬
‫دا ((]الجن‪.[27:‬‬ ‫ص ً‬‫فهِ َر َ‬ ‫خل ْ ِ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َد َي ْهِ وَ ِ‬
‫ن ب َي ْ ِ‬‫م ْ‬
‫ك ِ‬ ‫سل ُ ُ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫ل فَإ ِن ّ ُ‬ ‫سو ٍ‬ ‫َر ُ‬
‫ونلحظ هنا إن المصنف قد أحسن في تناسب هذه الكلمات‬
‫حيث ربط الصطفاء بالعبودية‪ ،‬فقال )عبده المصطفى(‪،‬‬
‫والجتباء بالنبوة )ونبيه المجتبى(‪ ،‬والرتضاء بالرسالة )ورسوله‬

‫‪50‬‬
‫المرتضى(؛ فإن هذا موافق لما جاء في القرآن‪ ،‬فقد قال سبحانه‬
‫فى ((‬ ‫صط َ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫عَباد ِهِ ال ّ ِ‬‫م ع ََلى ِ‬ ‫سل ٌ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ وَ َ‬ ‫ح ْ‬‫ل ال ْ َ‬ ‫وتعالى‪ )) :‬قُ ِ‬
‫]النمل‪ [59:‬وفي سورة النعام لما ذكر الله إبراهيم‪ ،‬ومن هدى‬
‫حا هَد َي َْنا‬ ‫ب ك ُّل هَد َي َْنا وَُنو ً‬ ‫قو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫س َ‬‫ه إِ ْ‬ ‫الله من ذريته‪ )) :‬وَوَهَب َْنا ل َ ُ‬
‫م‬‫ن آَبائ ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ذ ُّري ّت ِهِ ((]النعام‪ [84:‬قال بعد ذلك‪ )) :‬وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬
‫ل وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫م ((]النعام‪ [87:‬فوصف هؤلء‬ ‫جت َب َي َْناهُ ْ‬‫م َوا ْ‬ ‫وان ِهِ ْ‬‫خ َ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬‫وَذ ُّرّيات ِهِ ْ‬
‫الصفوة من النبياء بالجتباء‪.‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ضى ِ‬ ‫ن اْرت َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫وأما الرتضاء ففي قوله تعالى‪ )) :‬إ ِّل َ‬
‫ل ((]الجن‪ ،[27:‬فكأنه استوحى هذا من اليات‪.‬‬ ‫سو ٍ‬ ‫َر ُ‬
‫ي ورسول‪ ،‬والله خاطبه بـ )يا أيها النبي(‬ ‫والنبي محمد ٌ ‪ ‬نب ٌ‬
‫في آيات ]وعددها )‪ (13‬آية‪ ،‬منها‪» :‬النفال‪64:‬و ‪65‬و ‪،[«70‬‬
‫وبـ)يا أيها الرسول( في آيتين ]المائدة‪41:‬و ‪ [67‬فخاطبه‬
‫بالصفتين‪ :‬النبوة‪ ،‬والرسالة‪.‬‬
‫نبي؛ لنه منبأ‪ ،‬فقد أنزل الله عليه النبأ العظيم ـ القرآن ـ ‪.‬‬
‫س إ ِّني‬ ‫َ‬ ‫ل إلى الناس كافة‪ )) :‬قُ ْ‬ ‫وهو رسول مرس ٌ‬
‫ل َيا أي َّها الّنا ُ‬
‫ك إ ِّل‬‫سل َْنا َ‬ ‫َ‬
‫ما أْر َ‬ ‫ميًعا ((]العراف‪ )) [158:‬وَ َ‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫ل الل ّهِ إ ِل َي ْك ُ ْ‬‫سو ُ‬ ‫َر ُ‬
‫َ‬
‫فى ِبالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫سوًل وَك َ َ‬ ‫س َر ُ‬ ‫ك ِللّنا ِ‬ ‫سل َْنا َ‬
‫س ((]سبأ‪ )) [28:‬وَأْر َ‬ ‫ة ِللّنا ِ‬ ‫كافّ ً‬ ‫َ‬
‫دا (( ]النساء‪.[79:‬‬ ‫شِهي ً‬ ‫َ‬
‫وأكثر ما ُيذكر ‪ ‬بصفة الرسالة؛ لنها هي المتعلقة‬
‫بالمكلفين‪ ،‬والمقتضية للبلغ‪.‬‬
‫لكن ما الفرق بين النبي والرسول؟‬
‫فإن الله سبحانه وتعالى قال‪ )) :‬ولقد فضلنا بعض النبيين على‬
‫بعض وأتينا داود زبورا ً (( وقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬تلك الرسل‬
‫فضلنا بعضهم على بعض (( فنجد آيات فيها ذكر النبياء وآيات‬
‫فيها ذكر الرسل‪.‬‬
‫والفرق المشهور بين النبي والرسول‪ :‬أن النبي من أوحي‬
‫إليه بشرٍع ولم يؤمر بتبليغه‪.‬‬
‫والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه‪.‬‬
‫فلفظة نبي ل تشعر بالتبليغ‪ ،‬وكأن هذا التعريف مستمد من‬
‫لفظة )نبي(‪ ،‬ولفظة )رسول( ليس إل‪ ،‬وهذا تعريف غير مستقيم؛‬
‫لن قولهم‪ :‬إن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه‪.‬‬
‫فيه ملحظتان ‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أنه أوحي إليه بشرع يدل على أنه يكون على شريعة‬
‫يستقل بها‪.‬‬
‫وثانيا‪ :‬أنه ل يؤمر بالتبليغ؛ بل إنما هو مكلف بنفسه؛ فكأن‬
‫صه‪ ،‬هذا‬ ‫ة به فيتدين بدين يخ ّ‬ ‫الشريعة التي أوحي بها إليه مختص ٌ‬
‫ما يفيده هذا التعريف‪ ،‬ومعناه أنه ل يؤمر‪ ،‬ول يدعو‪ ،‬ول ينهى!‬

‫‪51‬‬
‫وهذا خلف ما وصف الله به النبياء؛ كأنبياء بني إسرائيل‪ ،‬قال‬
‫َ‬
‫حك ُ ُ‬
‫م ب َِها‬ ‫سبحانه وتعالى‪} :‬إ ِّنا أنَزل َْنا الت ّوَْراة َ ِفيَها هُ ً‬
‫دى وَُنوٌر ي َ ْ‬
‫دوْا{ ])‪ (44‬سورة المائدة[ فكان‬ ‫النبيون ال ّذي َ‬
‫ها ُ‬
‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫موا ْ ل ِل ّ ِ‬
‫سل َ ُ‬
‫نأ ْ‬‫ِ َ‬ ‫ِّّ َ‬
‫أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة‪ ،‬وكانوا يسوسون الناس كما‬
‫جاء في الحديث عن النبي ‪) :‬كانت بنو إسرائيل تسوسهم‬
‫النبياء كلما هلك نبي خلفه نبي‪ ،‬وإنه ل نبي بعدي(‪] .‬رواه‬
‫البخاري )‪ ،(3455‬ومسلم )‪[(1842‬‬
‫ل مأمور بالتبليغ‪ ،‬لكن الرسال‬ ‫والصواب‪ :‬أن كل نبي رسو ٌ‬
‫على نوعين ‪:‬‬
‫هم‪ ،‬والحكم ِ بينهم‪.‬‬ ‫مِهم‪ ،‬وفتوا ُ‬ ‫الرسال إلى قوم مؤمنين بتعلي ِ‬
‫والرسال إلى قوم كفار مكذبين لدعوتهم إلى الله‪.‬‬
‫وبهذا يحصل الفرق بين النبي‪ ،‬والرسول‪.‬‬
‫وهذا هو التعريف الذي اعتمده شيخ السلم ابن تيمية في‬
‫كتاب » النبوات« ]‪. [2/714‬‬
‫ذا؛ فالرسال الشرعي فيه هذا التفصيل قال الله تعالى‪:‬‬ ‫إ ً‬
‫ل ول نبي (( فأثبت الرسال‬ ‫)) وما أرسلنا من قبلك من رسو ٍ‬
‫للنبي أيضا‪ ،‬فإذا ورد ذكر النبياء بإطلق فإنه يشمل الرسل‪ ،‬وإذا‬
‫ذكر الرسل بإجمال فإنه يشملهم كلهم‪.‬‬
‫فإذا جاء ذكر نبي ورسول فل بد من هذا التفصيل‪ ،‬كما قال‬
‫الله تعالى‪ )) :‬تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض (( وهذا‬
‫يشمل نوحا ومن بعده‪ ،‬وكذلك قول الله تعالى‪ )) :‬ولقد فضلنا‬
‫بعض النبيين على بعض (( يشمل نوحا ومن بعده‪.‬‬
‫مى الله تعالى أنبياء بني إسرائيل رسل‪ )) :‬ولقد أتينا‬ ‫ولذا س ّ‬
‫موسى بالكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم‬
‫ل بما ل تهوى‬ ‫البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جائكم رسو ٌ‬
‫أنفسكم استكبرتم((‬
‫فإذا أردنا أن نصنف في ضوء التعريف المختار؛ فنوح‪ ،‬وهود‪،‬‬
‫وصالح‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬ولوط‪ ،‬وشعيب‪ ،‬وموسى‪ ،‬وعيسى؛ هؤلء رسل‬
‫قص الله علينا أخبارهم مع أممهم‪.‬‬
‫وزكريا‪ ،‬ويحيى‪ ،‬وداود‪ ،‬سليمان وأيوب أنبياء ‪.‬‬
‫وذهبت المعتزلة أن النبوة ل تثبت إل بالمعجزات‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫عصى موسى‪ ،‬ويده‪ ،‬وغيرهما من اليات‪ ،‬ومثل‪ :‬انشقاق القمر‬
‫لمحمد ‪. ‬‬
‫وهذا باطل؛ فإن من النبياء من لم يذكر الله لهم آيات‪ ،‬لكن‬
‫قال النبي ‪) :‬ما من النبياء نبي إل أعطي ما مثُله آمن عليه‬
‫البشر( ]رواه البخاري)‪ ،(4981‬ومسلم)‪ (152‬من حديث أبي‬

‫‪52‬‬
‫دعي‬ ‫م ّ‬ ‫هريرة ‪ [ ‬فالنبوة تثبت بغير المعجزات‪ ،‬بأدلة من حال ال ُ‬
‫للنبوة‪ ،‬ومن حال ما جاء به‪ ،‬وما يدعوا إليه‪.‬‬
‫ففي الصحيحين أن خديجة رضي الله عنها لما جاءها النبي‬
‫‪ ‬يرجف ويقول‪ » :‬إني خشيت على نفسي« قالت له ‪» :‬كل‪،‬‬
‫أبشر‪ ،‬فوالله ل يخزيك الله أبدا‪ ،‬إنك لتصل الرحم‪ ،‬وتصدق‬
‫الحديث‪ ،‬وتحمل الكل‪ ،‬وتكسب المعدوم‪ ،‬وتقري الضيف‪ ،‬وتعين‬
‫على نوائب الحق«‪] .‬رواه البخاري)‪ ،(4953‬ومسلم)‪ (160‬من‬
‫حديث عائشة رضي الله عنها[‬
‫فاستدّلت على صدقه‪ ،‬وحفظ الله له‪ ،‬ووقايته من شر‬
‫الشيطان بما هو عليه من الفضائل العظيمة ‪.‬‬
‫ج به على النبوة في القرآن أنه ‪ ‬عاش بين‬ ‫وكذلك مما احت ُ ّ‬
‫أهله ولم ُيجرب عليه كذب‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وإذا تتلى عليهم آياتنا‬
‫دله قل‬ ‫بينات قال الذين ل يرجون لقائنا إئت بقرآن غير هذا أو ب ّ‬
‫ه من تلقاء نفسي إن أتبع إل ما يوحى إلي‬ ‫دل ُ‬ ‫ما يكون لي أن أب ّ‬
‫إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم ٍ عظيم * قل لو شاء الله ما‬
‫تلوته عليكم ول أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا ً من قبله أفل‬
‫تعقلون ((‬
‫س أربعين سنة من عمره ‪] .‬رواه البخاري)‬ ‫فإنه ن ُّبأ على رأ ٍ‬
‫‪ ،(3547‬ومسلم )‪ (2347‬من حديث أنس ‪[‬‬
‫وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن هرقل استدل على‬
‫نبوته ‪ ‬بما تضمنه جواب المسائل العشر التي سأل عنها أبا‬
‫سفيان بن حرب‪] .‬البخاري)‪ ،(7‬ومسلم)‪[(1773‬‬
‫وعقلء الناس يفرقون بين النبي الصادق‪ ،‬والمتنبي الكاذب‪،‬‬
‫ت‪ ،‬لكن من له‬ ‫وإن كان المتنبي يمكن أن يأتي بخوارقَ وشعوذا ٍ‬
‫صادق؛ بل‬ ‫ذاب بالنبي ال ّ‬ ‫عقل حسن ل يلتبس عليه المتنبي الك ّ‬
‫يعرف ذلك من ملمحه‪] ،‬قال عبد الله بن رواحة ‪ ‬يمدح النبي‬
‫‪:‬‬
‫ر‪.‬‬
‫خب َ ِ‬ ‫ه ُتنبي َ‬
‫ك ِبال َ‬ ‫ة * كاَنت َبديهَت ُ ُ‬ ‫مب َي ّن َ ٌ‬
‫ت ُ‬
‫كن فيهِ آيا ٌ‬ ‫َلو َلم ت َ ُ‬
‫الصابة ‪ [4/75‬ومن سيرته‪ ،‬ومن أقواله‪ ،‬ومن أفعاله‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ك أثيم‬ ‫)) هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أّفا ٍ‬
‫* يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ((‪.‬‬
‫فالصواب‪ :‬أن النبوة تثبت بأدلةٍ كثيرة‪ ،‬ول يتوقف إثبات‬
‫النبوة على مجرد المعجزات‪.‬‬
‫وتأمل قوَله سبحانه وتعالى‪ )) :‬وما كنت تتلوا من قبله من‬
‫كتاب ول تخطه بيمينك إذا ً لرتاب المبطلون (( فمن أدلة صدقه‬
‫‪ ‬إنه جاء بهذا الكتاب العظيم‪ ،‬وهو ‪ ‬أمي ل يقرأ ول يكتب؛ بل‬
‫ب ويقرأ له أصحاُبه رضي الله عنهم‪.‬‬ ‫يكت ُ‬

‫‪53‬‬
‫فكونه بهذه المثابة من الصدق‪ ،‬والمانة‪ ،‬والطهر‪ ،‬والشرف‪،‬‬
‫والفضائل‪ ،‬ول يقرأ‪ ،‬ول يكتب‪ ،‬ول اتصل بأحد يمكن أن يتلقى‬
‫عنه‪ ،‬ثم يأتي بهذا القرآن العظيم المحكم؛ هذا أعظم دليل على‬
‫ت من ربه قل‬ ‫صدقه‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وقالوا لو ل أنزل عليه آيا ٌ‬
‫إنما اليات عند الله وإنما أنا نذيٌر مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا‬
‫عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم ٍ‬
‫يؤمنون ((‪.‬‬

‫]من خصائصه ‪ ‬أنه خاتم النبياء‪ ،‬وسيد المرسلين[‬


‫قوله‪ ) :‬وإنه خاتم النبياء‪ ،‬وإمام التقياء‪ ،‬وسيد المرسلين(‬
‫أي الذي ختم به النبياء فل نبي بعده‪ ،‬وقد دل على ذلك قوله‬
‫سبحانه‪ )) :‬ما كان محمد ٌ أبا أحد ٍ من رجالكم ولكن رسول الله‬
‫ل قد خلت‬ ‫وخاتم الّنبّيين ((‪ ،‬وقال تعالى‪ )) :‬وما محمد ٌ إل رسو ٌ‬
‫من قبله الرسل (( فجميع الرسل‪ ،‬والنبياء قد مضوا قبله‪ ،‬فل‬
‫نبي‪ ،‬ول رسول بعده ‪.‬‬
‫ص كثيرة من السنة على أنه ‪ ‬ل نبي بعده‪،‬‬ ‫وقد دلت نصو ٌ‬
‫فمن أسمائه ‪ ‬العاقب وهو الذي جاء بعد النبياء‪ ،‬فل نبي بعده‪.‬‬
‫]تقدم في ص [‬
‫وفي حديث ثوبان ‪ ) : ‬إنه سيكون في أمتي كذابون ثلثون‬
‫كلهم يزعم أنه نبي‪ ،‬وأنا خاتم النبيين ل نبي بعدي ( ]رواه أحمد‬
‫‪ ،5/278‬وأبو داود )‪ (4252‬والترمذي )‪ (2219‬وصححه‪ ،‬ونحوه‬
‫في البخاري )‪ ،(3609‬ومسلم في الفتن )‪ (157‬من حديث أبي‬
‫هريرة ‪[ ‬‬
‫ة من دين السلم بالضرورة ليس في‬ ‫ة معلوم ٌ‬‫وهذه قضي ٌ‬
‫ذلك اختلف‪ ،‬ول خفاء بل هو أمٌر ظاهر مثل الشمس‪ ،‬ومن شك‬
‫دعي النبوة‪ ،‬أو‬ ‫في أنه ‪ ‬خاتم النبيين فهو كافر‪ ،‬فضل عن من ي ّ‬
‫صدق مدعيها ‪.‬‬ ‫يُ ّ‬
‫دا رسول الله من اليمان بأنه‬ ‫ذا؛ فل بد في شهادة أن محم ً‬ ‫إ ً‬
‫خاتم النبياء‪.‬‬
‫ول بد من الشهادة أنه ‪ ‬رسول إلى جميع الناس‪ ،‬وهذه ـ‬
‫أيضا ـ من ضرورات الدين‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬قل يا أيها الناس إني‬
‫ة للّناس ((‬ ‫رسول الله إليكم جميعا ً (( )) وما أرسلناك إّل كافّ ً‬
‫)) تبارك الذي نّزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ً ((‬
‫ة للعالمين ((‪.‬‬
‫)) وما أرسلناك إلى رحم ً‬
‫دا يسعه الخروج عن شريعة محمد ‪ ‬فهو‬ ‫فمن اعتقد أن أح ً‬
‫كافر‪ ،‬فضل عن من ادعى ذلك لنفسه‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ومن اعتقد أن اليهود والنصارى ل يلزمهم اتباع محمد ٍ ‪ ‬فهو‬
‫كافر‪ ،‬قال النبي ‪ ) :‬والذي نفس محمد بيده ل يسمع بي أحد‬
‫من هذه المة يهودي ول نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي‬
‫أرسلت به إل كان من أصحاب النار ( ]رواه مسلم )‪ (153‬من‬
‫حديث أبي هريرة ‪ ،[‬وقال ‪): ‬لو كان موسى حيا ما وسعه إل‬
‫اتباعي( ]رواه ابن أبي شيبة ‪ ،13/459‬وأحمد ‪ 3/338‬من حديث‬
‫جابر ‪ ، ‬وانظر‪ :‬إرواء الغليل ‪[6/34‬‬
‫وعيسى عليه السلم ينزل في آخر الزمان‪ ،‬ويحكم بشريعة‬
‫محمد ‪] ‬رواه مسلم )‪ (155‬من حديث أبي هريرة ‪.[‬‬
‫فشريعة محمد‪ ،‬ودعوة محمد ‪ ‬لزمة لجميع البشرية‪ ،‬ول‬
‫ج عن شريعته ‪. ‬‬ ‫دا الخرو ُ‬
‫يسع أح ً‬

‫قوله‪) :‬وإمام التقياء (‬


‫مُهم‪ ،‬فجميع المتقين‬ ‫مقد ّ َ‬‫التقياء ‪ :‬جمع تقي‪ ،‬وإمامهم ـ أي ـ ُ‬
‫من النبيين فمن دونهم إمامهم مطلقا محمد ‪ ، ‬لكن يمكن‬
‫للنسان أن يكون إماما لجنس من المتقين‪ ،‬ولهذا كان من دعاء‬
‫عباد الرحمن‪ )) :‬واجعلنا للمتقين إماما ً ((]الفرقان‪ [74:‬فيمكن‬
‫أن تقول‪ :‬اللهم اجعلني إماما للمتقين ـ أي ـ قدوة في الخير‪،‬‬
‫ويقتدي به المتقون‪.‬‬
‫قوله‪) :‬وسيد المرسلين(‬
‫أي‪ :‬أفضلهم‪ ،‬ودليل ذلك قوله ‪ ) : ‬أنا سيد ولد آدم يوم‬
‫القيامة (‪] .‬رواه مسلم )‪ (2278‬من حديث أبي هريرة ‪[‬‬
‫أي‪ :‬هو أفضل ذرية آدم من أولهم إلى آخرهم بما فيهم من‬
‫النبياء والمرسلين‪ ،‬ومن الدلة ـ أيضا ـ أنه يوم القيامة عندما‬
‫دونها حتى‬‫يطلب الناس الشفاعة من آدم‪ ،‬وأولي العزم فيترا ّ‬
‫ينتهي المر إلى النبي ‪ ، ‬فيقول‪ ) :‬أنا لها فأستأذن على ربي‬
‫فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها ل تحضرني الن فأحمده‬
‫بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل‬
‫يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع ( ‪] .‬رواه البخاري )‪(7510‬‬
‫ومسلم )‪ (192‬من حديث أنس ‪[‬‬
‫ه به قال‬
‫ضل ُ‬
‫ه الله به وف ّ‬ ‫ص ُ‬‫وهذا هو المقام المحمود الذي خ ّ‬
‫دا (( ]السراء‪[79:‬‬ ‫مو ً‬‫ح ُ‬‫م ْ‬‫ما ّ‬
‫قا ً‬
‫م َ‬
‫ك َ‬ ‫سى َأن ي َب ْعَث َ َ‬
‫ك َرب ّ َ‬ ‫تعالى‪)) :‬ع َ َ‬
‫]تفسير الطبري ‪[15/43‬‬
‫ول شك أن النبياء‪ ،‬والرسل متفاضلون بنص القرآن‪،‬‬
‫فأفضلهم على الطلق محمد ‪ ،‬ويليه إبراهيم‪ ،‬ويليه بقية أولوا‬
‫العزم‪ ،‬وهم في المشهور عند أهل العلم أنهم خمسة‪ :‬نوح‪،‬‬
‫وإبراهيم‪ ،‬وموسى‪ ،‬وعيسى‪ ،‬ومحمد‪ ،‬وهم المذكورون في قوله‬

‫‪55‬‬
‫م‬
‫هي َ‬ ‫ح وَإ ِب َْرا ِ‬ ‫من ّنو ٍ‬ ‫ك وَ ِ‬ ‫من َ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫ميَثاقَهُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن الن ّب ِّيي َ‬‫م َ‬ ‫خذ َْنا ِ‬‫تعالى‪} :‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫ظا{ ]الحزاب‪:‬‬ ‫ميَثاًقا غ َِلي ً‬ ‫من ُْهم ّ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫م وَأ َ َ‬‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ِ‬ ‫عي َ‬ ‫سى وَ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫وَ ُ‬
‫ذي‬ ‫حا َوال ّ ِ‬ ‫صى ب ِهِ ُنو ً‬ ‫ما وَ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫كم ّ‬ ‫شَرع َ ل َ ُ‬ ‫‪ ،[7‬وقوله تعالى‪َ } :‬‬
‫سى { ]الشورى‪:‬‬ ‫حي َْنا إ ِل َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫عي َ‬ ‫سى وَ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫م وَ ُ‬‫هي َ‬ ‫صي َْنا ب ِهِ إ ِب َْرا ِ‬ ‫ما وَ ّ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫أوْ َ‬
‫ذا؛ فأفضل النبياء والرسل هم أولوا العزم‪ ،‬وأفضلهم‬ ‫‪ [13‬إ ً‬
‫خذ َ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫الخليلن‪ ،‬فالله تعالى قد أخبر أنه اتخذ إبراهيم خليل }َوات ّ َ‬
‫ل{ ]النساء‪ ،[125:‬وأخبر النبي ‪ ‬أن الله اتخذه خليل‬ ‫خِلي ً‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫إ ِب َْرا ِ‬
‫كما اتخذا إبراهيم خليل ]سيذكره بلفظه في ص )بعد صفحة([‬
‫أما ما جاء من النهي عن التفضيل في قوله ‪ ‬قال‪) :‬ل‬
‫تفضلوا بين أنبياء الله( فهذا محمول عند أهل العلم بالتفضيل‬
‫قص الخر‪ ،‬كما يبينه سبب‬ ‫على وجه التّعصب الذي يتضمن تن ّ‬
‫الحديث الصحيح‪ :‬أن يهوديا عرض سلعة له فأعطي بها شيئا‬
‫كرهه فقال‪ :‬ل والذي اصطفى موسى عليه السلم على البشر‪،‬‬
‫فسمعه رجل من النصار فلطم وجهه‪ ،‬قال‪ :‬تقول والذي‬
‫اصطفى موسى عليه السلم على البشر ورسول الله ‪ ‬بين‬
‫أظهرنا‪ ،‬فذهب اليهودي إلى رسول الله ‪ ‬فقال‪ :‬يا أبا القاسم‬
‫إن لي ذمة وعهدا‪ ،‬وقال‪ :‬فلن لطم وجهي‪ ،‬فقال رسول الله ‪:‬‬
‫» لم لطمت وجهه «؟ قال‪ :‬قال يا رسول الله‪ :‬والذي اصطفى‬
‫موسى عليه السلم على البشر‪ ،‬وأنت بين أظهرنا‪ ،‬قال‪ :‬فغضب‬
‫رسول الله ‪ ‬حتى عرف الغضب في وجهه‪ ،‬ثم قال‪ » :‬ل‬
‫تفضلوا بين أنبياء الله‪ ،‬فإنه ينفخ في الصور‪ ،‬فيصعق من في‬
‫السماوات ومن في الرض إل من شاء الله‪ ،‬قال‪ :‬ثم ينفخ فيه‬
‫أخرى فأكون أول من بعث فإذا موسى عليه السلم آخذ بالعرش‬
‫فل أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي«‪] .‬رواه‬
‫البخاري )‪ ،(3414‬ومسلم )‪ (2373‬من حديث أبي هريرة ‪[‬‬
‫فالنهي عن التفضيل على سبيل التّعصب‪ ،‬أو الذي يتضمن‬
‫قص النبياء‪ ،‬أما التفضيل لبيان الواقع ولعتقاد الحق‪ ،‬وإنزال‬ ‫تن ّ‬
‫كل منزلته فهذا ل بد منه‪ ،‬فالرسول ‪ ‬نوه بفضله؛ لنه ل يعلم‬
‫إل من جهته أو من القرآن‪ ،‬والله تعالى نص على التفاضل بين‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫من ك َل ّ َ‬ ‫من ُْهم ّ‬ ‫ض ّ‬ ‫م ع َلى ب َعْ ٍ‬
‫ضه ُ ْ َ‬ ‫ضل َْنا ب َعْ َ‬ ‫ل فَ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ك الّر ُ‬ ‫النبياء }ت ِل ْ َ‬
‫َ‬
‫ح‬
‫ت وَأي ّد َْناه ُ ب ُِرو ِ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ِ‬‫مْري َ َ‬‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ت َوآت َي َْنا ِ‬ ‫جا ٍ‬ ‫م د ََر َ‬ ‫ضهُ ْ‬ ‫وََرفَعَ ب َعْ َ‬
‫س{ ]البقرة‪[253:‬‬ ‫قد ُ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬

‫]إثبات الخلة له ‪ ‬كإبراهيم عليه السلم[‬


‫وقوله‪) :‬وحبيب رب العالمين(‬
‫)حبيب( بمعنى محبوب له سبحانه وتعالى‪ ،‬والله تعالى يحب‬
‫ظ من محبة الله‬‫الرسل والنبياء‪ ،‬والصالحين ‪ ،‬وكل مؤمن له ح ٌ‬

‫‪56‬‬
‫تعالى؛ فإن الله تعالى يحب المتقين‪ ،‬والتوابين‪ ،‬والمتطهرين‪،‬‬
‫ن‬ ‫ب ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫والمقسطين‪ ،‬والصابرين‪ ،‬والمجاهدين )) إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫ص ((]الصف‪ [4:‬إ ً‬
‫ذا؛‬ ‫صو ٌ‬ ‫مْر ُ‬ ‫ن َ‬
‫م ُبنَيا ٌ‬‫فا ك َأن ّهُ ْ‬
‫ص ّ‬
‫سِبيل ِهِ َ‬ ‫قات ُِلو َ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫يُ َ‬
‫وصفه ‪ ‬بأنه حبيب رب العالمين ل تظهر فيه خصوصية؛ فكل‬
‫نبي‪ ،‬وكل مؤمن فهو حبيب لرب العالمين‪ ،‬فمثل‪ :‬علي ‪ ‬حبيب‬
‫رب العالمين قال النبي ‪) :‬يحب الله ورسوله‪ ،‬ويحبه الله و‬
‫رسوله( ]رواه البخاري)‪ ،(3009‬ومسلم )‪ (2406‬من حديث‬
‫سهل بن سعد ‪ ،[‬ولهذا كان اللئق بالمؤلف أن يقول‪ :‬وخليل‬
‫رب العالمين؛ لن المحبة مشتركة بين جميع المؤمنين‪ ،‬وعباد‬
‫الله الصالحين‪.‬‬
‫أما الخلة فمن خصائصه ‪ ‬مع إبراهيم عليه السلم‪ ،‬والخلة‬
‫أعلى مراتب المحبة؛ فالخليل هو أحب العباد إلى الله‪ ،‬والله أخبر‬
‫خِلي ً‬
‫ل{‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬‫ه إ ِب َْرا ِ‬‫خذ َ الل ّ ُ‬‫في كتابه أن الله اتخذ إبراهيم خليل }َوات ّ َ‬
‫]النساء‪ [125:‬وثبت في السنة الصحيحة أن الله اتخذ محمدا ‪‬‬
‫خليل‪ ،‬ففي الحديث الصحيح أن النبي ‪ ‬قال‪) :‬أل إني أبرأ إلى‬
‫خله‪ ،‬ولو كنت متخذا خليل لتخذت أبا بكر خليل إن‬ ‫خل من ِ‬‫كل ِ‬
‫صاحبكم خليل الله( ]رواه مسلم )‪ (2383‬من حديث ابن مسعود‬
‫‪ ،[(‬وفي الحديث الخر‪) :‬إن الله اتخذني خليل كما اتخذ إبراهيم‬
‫خليل( ]رواه مسلم )‪ (532‬من حديث جندب ‪[‬فإبراهيم ومحمد‬
‫خليل رب العالمين‪ ،‬ففيه إثبات صفة المحبة لله‪ ،‬وأنه يحب‬
‫إبراهيم ومحمدا محبة تامة‪ ،‬وذلك؛ لنهما أكمل النبياء توحيدا‪،‬‬
‫ومباعدة من الشرك والمشركين‪ ،‬فكان المناسب أن يقول‬
‫المؤلف‪ :‬وخليل رب العالمين‪.‬‬
‫وكثيٌر من الصوفية يعبر عن الرسول ‪ ‬بأنه )حبيب الله(‬
‫ويرددون مثل هذا‪ ،‬ول يعلمون أن هذه ليس فيها خصوصية‪،‬‬
‫ومزّية بّينة‪].‬العبودية ‪ ،10/204‬وروضة المحبين ص ‪ ،47‬وانظر‪:‬‬
‫ص[‬
‫وقد روي أن النبي ‪ ‬قال‪ ) :‬إن إبراهيم خليل الله ‪ ...‬وأنا‬
‫حبيب الله ول فخر( ]رواه الدارمي )‪ ،(47‬والترمذي )‪ (3616‬ـ‬
‫وقال‪ :‬حديث غريب ـ من طريق‪ :‬زمعة بن صالح عن سلمة بن‬
‫ضّعف‪ ،‬وخصوصا إن روى عنه‬ ‫وهرام‪ ،‬وزمعة ضعيف‪ ،‬وسلمة ُ‬
‫زمعة ‪ .‬تهذيب التهذيب ‪ ،1/635‬و ‪ [ 2/79‬فجعل الخلة لبراهيم‪،‬‬
‫والمحبة له‪ ،‬وهو حديث ضعيف معارض للحاديث الصحيحة‪ ،‬ول‬
‫يصح سندا ول متنا‪.‬‬

‫]حكم دعوى النبوة بعد محمد ‪[‬‬

‫‪57‬‬
‫ي وإبطال‬ ‫ي وهوى( هذا نف ٌ‬ ‫قوله‪) :‬وكل دعوى النبوة بعده فغ ٌ‬
‫لدعوى النبوة بعد النبي ‪ ،‬وهذا هو مقتضى أنه خاتم النبياء‪،‬‬
‫فإذا علم بالضرورة أنه خاتم النبياء‪ ،‬فيعلم بالضرورة أن كل‬
‫دعوى للنبوة بعده فهي دعوى باطلة‪ ،‬وهي من الغي ضد الرشد‪،‬‬
‫ومن الهوى ضد الهدى‪.‬‬
‫فكل دعوى النبوة بعد مبعثه ‪ ‬سواء كانت في حياته أو بعد‬
‫مماته فهي دعوى باطلة‪ ،‬ومن يدعي النبوة بعد رسالته ‪ ‬فهو‬
‫من أكذب و أظلم الخلق قال الله تعالى‪ )) :‬وم َ‬
‫ن‬
‫م ِ‬‫م ّ‬
‫م ِ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬‫َ َ ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫يٌء وَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ح إ ِلي ْهِ ش ْ‬ ‫ي وَل َ ْ‬
‫م ُيو َ‬ ‫ي إ ِل َ ّ‬ ‫ل ُأو ِ‬
‫ح َ‬ ‫افْت ََرى ع ََلى الل ّهِ ك َذ ًِبا أ َوْ َقا َ‬
‫ه ((]النعام‪.[93:‬‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫ما َأنَز َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ َ‬
‫ل ِ‬‫سُأنزِ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل َ‬
‫وقد ادعى النبوة في حياته ‪ ‬مسيلمة الكذاب‪ ،‬والسود‬
‫العنسي ]البخاري )‪3620‬و ‪ (3621‬ومسلم )‪2273‬و ‪، [(2274‬‬
‫وادعاها غيرهما بعده ‪ ، ‬وأخبر ‪ ‬عن ذلك في حديث ثوبان‪:‬‬
‫)وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلثون كلهم يدعون أنهم نبي‪،‬‬
‫وأنه ل نبي بعدي( ]تقدم ص[ فكل من يدعي النبوة فهو كذاب‪،‬‬
‫ول نحتاج إلى أن ننظر في ما عنده إل لبيان كذبه لمن قد يلتبس‬
‫عليه أمره‪.‬‬

‫]عموم بعثته ‪ ‬للجن والنس[‬


‫قوله‪) :‬وهو المبعوث إلى عامة الجن‪ ،‬وكافة الورى( وهو‬
‫المبعوث ‪ ‬إلى عامة الجن‪ ،‬وكافة الورى ـ أي ـ الناس‪ ،‬وهذا‬
‫كله مراعاة للسجع لينسجم هذا الكلم مع ما تقدم من العبارات ‪.‬‬
‫فهو ‪ ‬مرسل إلى الثقلين ـ الجن والنس ـ وهذا تقريٌر‬
‫م من الدين بالضرورة ]انظر‪:‬‬ ‫لعموم رسالته ‪ ،‬و هذا معلو ٌ‬
‫إيضاح الدللة في عموم الرسالة للثقلين لشيخ السلم ابن‬
‫تيمية[ ‪ ،‬ول يكون النسان شاهدا بأن محمدا رسول الله حتى‬
‫يشهد بأنه رسول الله إلى الناس كافة قال تعالى‪ )) :‬قل يا أيها‬
‫الناس إني رسول الله إليكم جميعا ً ((‪ )) ،‬وما أرسلناك إل كافة‬
‫للناس (( إلى غير ذلك من اليات‪.‬‬
‫ومن الدلة على إرساله للجن سورة الجن‪ ،‬واليات من‬
‫سورة الحقاف‪ ،‬وخطاب الثقلين في سورة الرحمن‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫حي إل َ َ‬ ‫)) قُ ْ ُ‬
‫معَْنا قُْرآًنا‬ ‫س ِ‬ ‫قاُلوا إ ِّنا َ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫ج ّ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫فٌر ِ‬ ‫معَ ن َ َ‬ ‫ست َ َ‬
‫ها ْ‬ ‫ي أن ّ ُ‬‫ل أو ِ َ ِ ّ‬
‫َ‬
‫دا ((]الجن‪:‬‬ ‫ح ً‬
‫ك ب َِرب َّنا أ َ‬‫شرِ َ‬ ‫ن نُ ْ‬ ‫مّنا ب ِهِ وَل َ ْ‬ ‫شد ِ َفآ َ‬ ‫دي إ َِلى الّر ْ‬ ‫جًبا * ي َهْ ِ‬ ‫عَ َ‬
‫‪ [2-1‬إلى آخر السورة‪.‬‬
‫ن‬
‫ج ّ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫فًرا ِ‬ ‫ك نَ َ‬‫صَرفَْنا إ ِل َي ْ َ‬ ‫وفي سورة الحقاف )) وَإ ِذ ْ َ‬
‫وا إ َِلى‬ ‫َ‬
‫ي وَل ّ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫ما قُ ِ‬ ‫صُتوا فَل َ ّ‬ ‫ضُروه ُ َقاُلوا أن ْ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن فَل َ ّ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫قْرآ َ‬ ‫مُعو َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن ((]الحقاف‪ [29:‬اليات‪.‬‬ ‫من ْذ ِِري َ‬
‫م ُ‬ ‫مه ِ ْ‬‫قَوْ ِ‬

‫‪58‬‬
‫وفي سورة الرحمن ذكر الله خلق الثقلين‪ ،‬وخاطبهما وذكر‬
‫جزاءهما قال تعالى‪ )) :‬يا معشر الجن والنس (( ‪ )) ،‬يرسل‬
‫س ول‬ ‫ظ من نار ((‪ )) ،‬فيومئذ ٍ ل يسأل عن ذنبه إن ٌ‬ ‫عليكما شوا ٌ‬
‫جان ((‪ ،‬وفي الثواب )) ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلء‬
‫ربكما تكذبان (( إل آخر السورة‪.‬‬
‫ل إلى‬ ‫ويظهر من آيات الحقاف أن موسى ‪ ‬كذلك مرس ٌ‬
‫ن‬‫مُعو َ‬ ‫ست َ ِ‬‫ن يَ ْ‬ ‫ج ّ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫فًرا ِ‬ ‫ك نَ َ‬ ‫صَرفَْنا إ ِل َي ْ َ‬ ‫الجن قال تعالى‪ )) :‬وَإ ِذ ْ َ‬
‫َ‬
‫م‬
‫مهِ ْ‬ ‫وا إ َِلى قَوْ ِ‬ ‫ي وَل ّ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫ما قُ ِ‬ ‫صُتوا فَل َ ّ‬ ‫ضُروه ُ َقاُلوا أن ْ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن فَل َ ّ‬ ‫قْرآ َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫سى‬ ‫مو َ‬ ‫ن ب َعْد ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫معَْنا ك َِتاًبا أ ُن ْزِ َ‬ ‫س ِ‬ ‫مَنا إ ِّنا َ‬ ‫ن * َقاُلوا َيا قَوْ َ‬ ‫من ْذ ِِري َ‬ ‫ُ‬
‫ن ي َد َي ْهِ ((]الحقاف‪.[30-29:‬‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫واختلف الناس هل من الجن رسل‪ ،‬أم الرسل كلهم من‬
‫النس؟‬
‫جمهور أهل العلم على أن الرسل من البشر‪ ،‬وأما الجن‬
‫ذر‪] ،‬تفسير الطبري ‪ ،9/561‬ومجموع الفتاوى‬ ‫دعاة‪ ،‬ون ُ ُ‬ ‫فمنهم ُ‬
‫‪ ،4/234‬وطريق الهجرتين ص ‪ [416‬قال تعالى‪ )) :‬وما أرسلنا‬
‫من قبلك إل رجال ً نوحي إليهم من أهل القرى (( وإذا صح وعلم‬
‫ل إلى الجن‪ ،‬وموسى كذلك؛ علم أن‬ ‫بالوحي أن الرسول ‪ ‬مرس ٌ‬
‫إرسال النس إلى الجن يحصل به قيام الحجة عليهم‪.‬‬
‫شَر‬ ‫معْ َ‬ ‫واستدل أهل القول الثاني بقول الله تعالى‪َ )) :‬يا َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫م آَياِتي‬ ‫ن ع َل َي ْك ُ ْ‬ ‫صو َ‬ ‫ق ّ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬ ‫م ُر ُ‬‫م ي َأت ِك ُ ْ‬ ‫س أل َ ْ‬ ‫لن ِ‬ ‫ن َوا ِ‬ ‫ج ّ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ذا ((]النعام‪ [130:‬فخوطب الجميع‪:‬‬ ‫م هَ َ‬‫مك ُ ْ‬ ‫قاَء ي َوْ ِ‬ ‫م لِ َ‬ ‫وَُينذ ُِرون َك ُ ْ‬
‫ل منكم‪.‬‬ ‫الجن والنس ألم يأتكم رس ٌ‬
‫والجمهور قالوا‪ :‬إن هذه الية محتملة‪ ،‬وليست صريحة‪،‬‬
‫والمراد من المجموع؛ لن الخطاب للجميع‪.‬‬
‫والمر في هذا سهل‪ ،‬والمقصود إن الجن والنس كلهم‬
‫مكلفون ‪ ،‬وقد خلقهم الله لعبادته‪ ،‬وأقام الحجة عليهم‪ ،‬وكلهم‬
‫منهم المؤمن والكافر‪ ،‬والصالح‪ ،‬والطالح‪.‬‬
‫م غيب وإن ظهروا للناس وتمثلوا بأشكال مختلفة‪،‬‬ ‫والجن عال َ ُ‬
‫وهم كثير‪ ،‬ويعيشون على الرض مع الناس‪ ،‬ولهم صفاتهم‪،‬‬
‫ويأكلون ويشربون‪ ،‬ومنهم الذكور والناث‪ ،‬ويتوالدون‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫َ‬
‫م‬
‫دوهُ ْ‬ ‫ن فََزا ُ‬ ‫ج ّ‬‫ن ال ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫جا ٍ‬ ‫ن ب ِرِ َ‬ ‫ذو َ‬ ‫س ي َُعو ُ‬ ‫لن ِ‬ ‫نا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ن رِ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫)) وَأن ّ ُ‬
‫قا ((]الجن‪ [6:‬وفي القرآن وفي السنة من الخبار عنهم شيٌء‬ ‫َرهَ ً‬
‫كبير‪ ،‬ومن ينكر وجود الجن؛ فهو كافر‪.‬‬
‫]فضل رسالته‪ ،‬وكمال شريعته ‪[‬‬
‫وقوله‪) :‬بالحق والهدى‪ ،‬وبالنور والضياء(‬
‫أي فمحمد ‪ ‬مرسل بالحق والهدى‪ ،‬والنور والضياء‪،‬‬
‫ل إليهم بالحق‪ ،‬وهو ضد‬ ‫والمؤلف ينوع في التعبير‪ ،‬فهو ‪ ‬مرس ٌ‬

‫‪59‬‬
‫الباطل‪ ،‬والهدى‪ ،‬وهو ضد الضلل‪ ،‬وبالنور والضياء‪ ،‬يدل على‬
‫ذلك قوله تعالى‪ )) :‬هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ((‬
‫وقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬إنا أرسلناك بالحق بشيرا ً ونذيرا ً ((‬
‫بالحق في المور العتقادية‪ ،‬والعملية‪ ،‬وهذا الحق الذي جاء به‬
‫‪ ‬نور وهدى للناس )) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ((‬
‫)) فالذين آمنوا به وعّزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه‬
‫أولئك هم المفلحون (( نوٌر يبصر به المهتدون طريق السعادة‪،‬‬
‫ومن حرم هذا النور؛ تخبط في ظلمات‪ :‬الجهل‪ ،‬والغفلة‪ ،‬والكفر‪،‬‬
‫وأكثر البشرية تتخبط في الظلمات فل طريق لمعرفة الحقائق‪،‬‬
‫والحق من الباطل‪ ،‬والحلل والحرام إل من طريق الوحي‪.‬‬
‫فهذا الذي ذكره المؤلف جملة من خصائص الرسول ‪ ،‬وله‬
‫ضل بها على سائر النبياء‪ ،‬منها ما يختص به‪،‬‬ ‫خصائص كثيرة فُ ّ‬
‫ومنها ما يتعلق بأمته‪ ،‬مثل قوله ‪) :‬أعطيت خمسا لم يعطهن‬
‫أحد قبلي‪ :‬نصرت بالرعب مسيرة شهر‪ ،‬وجعلت لي الرض‬
‫مسجدا وطهورا؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلة فليصل‪،‬‬
‫وأحلت لي المغانم ولم تحل لحد قبلي‪ ،‬وأعطيت الشفاعة‪ ،‬وكان‬
‫النبي يبعث إلى قومه خاصة‪ ،‬وبعثت إلى الناس عامة( ]رواه‬
‫البخاري )‪ (335‬ـ واللفظ له ـ‪ ،‬ومسلم )‪ (521‬من حديث جابر‬
‫ت على النبياء بست‪ :‬أعطيت جوامع‬ ‫ضل ُ‬‫‪ [‬وفي حديث آخر‪ ) :‬فُ ّ‬
‫الكلم‪ ،‬ونصرت بالرعب‪ ،‬وأحلت لي الغنائم‪ ،‬وجعلت لي الرض‬
‫طهورا ومسجدا‪ ،‬وأرسلت إلى الخلق كافة‪ ،‬وختم بي النبيون(‬
‫]رواه مسلم )‪ (523‬من حديث أبي هريرة ‪ [‬وخصائص‬
‫عني أهل العلم بجمعها ]كـ » بداية السول في‬ ‫الرسول ‪ ‬كثيرة ُ‬
‫تفضيل الرسول « للعز بن عبد السلم‪،‬و »الخصائص الكبرى«‬
‫للسيوطي‪ ،‬و»خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء « للدكتور‬
‫الصادق بن محمد[‬
‫فأما حقه على أمته فهو اليمان به‪ ،‬وبما جاء به‪ ،‬ومحبته‬
‫فوق محبة الهل والولد ‪ ،‬والمال ‪ ،‬والنفس‪ ،‬قال النبي ‪) :‬ثلث‬
‫من كن فيه وجد حلوة اليمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه‬
‫ث‪] .‬رواه البخاري )‪ ، (16‬ومسلم )‪(43‬‬ ‫مما سواهما‪ ( ...‬الحدي َ‬
‫من حديث أنس ‪[‬‬
‫و قال ‪) :‬ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده‬
‫وولده والناس أجمعين( ]رواه البخاري )‪ ، (15‬ومسلم )‪ (44‬من‬
‫حديث أنس ‪[‬‬
‫وتحقيق متابعته ‪ ‬بامتثال أمره‪ ،‬واجتناب نهيه‪ ،‬وتصديقه‬
‫بكل ما أخبر به‪ ،‬والتقيد في عبادة الله بشريعته وما جاء به ‪،‬‬
‫ومن ذلك تحكيمه ‪ ‬والتحاكم إلى شريعته‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬فل‬

‫‪60‬‬
‫وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا في‬
‫أنفسهم حرجا ً مما قضيت ويسلموا تسليما ً ((‬
‫والناس في شأن الرسول ‪ ‬ثلثة أقسام‪:‬‬
‫منهم‪ :‬من يغلو فيه ‪ ‬ويجعل له بعض خصائص اللهية‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬الجافون المقصرون‪ ،‬وشرهم المكذبون له‪ ،‬وكذلك‬
‫المعرضون عن سنته‪ ،‬والمقصرون في تحقيق متابعته‪ ،‬وطاعته‪،‬‬
‫وتحكيمه ‪.‬‬
‫والوسط من آمن به‪ ،‬وصدقه‪ ،‬واتبع أمره‪ ،‬وترك نهيه‪ ،‬وعَبد‬
‫الله بشرعه ‪.‬‬

‫]عقيدة أهل السنة في القرآن‪ ،‬والرد على المخالفين[‬


‫وقوله‪) :‬وإن القرآن كلم الله منه بدا بل كيفية قول‪ ،‬وأنزله‬
‫قا‪ ،‬وأيقنوا أنه‬
‫على رسوله وحًيا‪ ،‬وصدقه المؤمنون على ذلك ح ً‬
‫كلم الله تعالى بالحقيقة‪ ،‬ليس بمخلوق ككلم البرية‪ ،‬فمن‬
‫سمعه فزعم أنه كلم البشر فقد كفر‪ ،‬وقد ذمه الله وعابه و‬
‫أوعده سقر حيث قال تعالى‪ )) :‬سأصليه سقر (( فلما أوعد الله‬
‫بسقر لمن قال‪ )) :‬إن هذا إل قول البشر (( علمنا وأيقنا أنه قول‬
‫خالق البشر‪ ،‬ول يشبه قول البشر‪ ،‬ومن وصف الله بمعنى من‬
‫معاني البشر فقد كفر‪ ،‬فمن أبصر هذا اعتبر‪ ،‬وعن مثل قول‬
‫الكفار انزجر‪ ،‬وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر (‬
‫قوله‪) :‬وإن( هذا عطف على ما سبق‪ ،‬مثل ما قلنا في قوله‪:‬‬
‫)وإن محمدا( ]ص[ يعني‪ :‬ونقول في القرآن معتقدين بتوفيق‬
‫قّر ونعتقد أن الكتاب المنزل‬ ‫الله‪) :‬إن القرآن كلم الله( أي‪ :‬ن ُ ِ‬
‫على محمد ‪ ،‬المبدوء بسورة الفاتحة‪ ،‬والمختوم بسورة الناس‬
‫هو كلم الله‪ ،‬تكلم به تعالى‪ ،‬وأنزله على رسوله ‪ ،‬كما قال‬
‫سبحانه وتعالى‪ )) :‬وإن أحد ٌ من المشركين استجارك فأجره حتى‬
‫يسمع كلم الله (( وقوله‪ )) :‬أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان‬
‫فريقٌ منهم يسمعون كلم الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه‬
‫وهم يعلمون (( وقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬يريدون أن يبدلوا كلم‬
‫م الله‬
‫الله ((‪ ،‬فالقرآن كله »كلم الله‪ ،‬حروفه ومعانيه‪ ،‬ليس كل ُ‬
‫ف دون المعاني‪ ،‬ول المعاني دون الحروف« ]الواسطية‬ ‫الحرو َ‬
‫ص ‪ )) [197‬الم (( كلم الله )) ذلك الكتاب ل ريب فيه (( كلم‬
‫الله تكلم به تعالى بما فيه من أوامر‪ ،‬ونواهي‪ ،‬وأخبار‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬منه بدا( أي‪ :‬ظهر‪ .‬أو بدأ‪ :‬ابتدأ ظهوره ونزوله من‬
‫ل الكتاب من الله العزيز‬‫الله‪ ،‬ودليل ذلك قوله تعالى‪ )) :‬تنزي ُ‬
‫ل من الرحمن الرحيم(( )) قل نزله روح القدس‬ ‫الحكيم (( )) نزي ٌ‬

‫‪61‬‬
‫من( في هذه اليات لبتداء الغاية‪ ،‬فنزول القرآن‬ ‫من ربك (( فـ) ِ‬
‫مبتدأ من الله نزل به الروح المين جبريل عليه السلم‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬بل كيفية( يعني‪ :‬كيفية معقولة لنا‪ ،‬ل بد من هذا‬
‫التقييد‪ ،‬فل نقول‪ :‬إن الله تكلم على هيئة كذا وكذا‪ ،‬أو بصفة كذا‬
‫وكذا‪.‬‬
‫كد لقوله‪) :‬منه بدا بل كيفية(‪ ،‬أي‪ :‬بدا‬ ‫ل( مصدٌر مؤ ِ‬ ‫وقوله‪) :‬قو ً‬
‫دا ‪ ،‬وأهل‬ ‫ل‪ ،‬وبلغه محم ً‬ ‫من الله كلما مسموعا‪ ،‬سمعه جبري ُ‬
‫ل غير مخلوق‪ ،‬منه بدا‪،‬‬ ‫السنة يقولون‪» :‬إن القرآن كلم الله منز ٌ‬
‫وإليه يعود «‪] .‬الواسطية ص ‪ ،[197‬ومعنى إليه يعود‪ ،‬ما ورد في‬
‫الثار أن القرآن ُيسرى عليه في آخر الزمان‪ ،‬ويرفع من الصدور‬
‫والمصاحف‪ ،‬فل يبقى له وجود ٌ في الرض‪ ] ،‬مصنف عبد الرزاق‬
‫‪ ،3/362‬ومصنف ابن أبي شيبة ‪ ،15/528‬وسنن الدارمي‬
‫‪ ،2/895‬و انظر‪ :‬الدر المنثور ‪ .336-5/334‬وذكر شيخ السلم‬
‫في مناظرة الواسطية ‪ :3/174‬أن الحافظ أبا الفضل بن ناصر‪،‬‬
‫مَعا ما في ذلك من الثار عن‬ ‫ج َ‬
‫والحافظ أبا عبد الله المقدسي َ‬
‫النبي ‪ ،‬والصحابة‪ ،‬والتابعين‪ [.‬وهذا عندما يعطل‪ ،‬وينتهي الجل‬
‫المعدود‪ ،‬والمحدود بتكليف العباد‪ ،‬وأمرهم ونهيهم بهذا القرآن ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وأنزله على رسوله وحًيا( بدأ من الله قول‪ ،‬وأنزله‬
‫حًيا على رسوله محمد ٍ ‪ ‬بواسطة الرسول جبريل عليه‬ ‫و ْ‬
‫السلم‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬نزل به الروح المين * على قلبك لتكون‬
‫ي مبين (( وقال سبحانه وتعالى‪:‬‬ ‫ن عرب ٍ‬
‫من المنذرين * بلسا ٍ‬
‫)) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما ً ل ُد ّا ً ((‪.‬‬
‫قا( صدق المؤمنون‬ ‫وقوله‪) :‬وصدقه المؤمنون على ذلك ح ً‬
‫الرسول ‪ ‬فيما جاء به تصديقا‪ ،‬والنبي ‪ ‬لما أرسله الله ودعا‬
‫فهوه‪ ،‬ووصفوه بالشعر‪ ،‬والكهانة‪ ،‬والجنون‪،‬‬ ‫الناس رموه وس ّ‬
‫دقه من صدقه‪ ،‬وأول من صدقه خديجة بنت خويلد‬ ‫والسحر‪ ،‬وص ّ‬
‫رضي الله عنها أم المؤمنين السيدة العظيمة‪ ،‬وفازت بهذا‬
‫الفضل العظيم‪ ،‬ثم آمن به بعض الناس على قلة من الحرار‬
‫والعبيد‪ :‬واحد‪ ،‬واثنين‪ ،‬وثلثة‪ ،‬حتى تتابع الناس على اليمان‪ ،‬حتى‬
‫دقوا بأن القرآن‬ ‫دخلوا في دين الله أفواجا‪ ،‬وهؤلء المؤمنون ص ّ‬
‫كلم الله‪ ،‬وأن محمدا ‪ ‬رسول الله‪ ،‬وأن ما جاء به من عند‬
‫الله‪.‬‬
‫كد لقوله )صدقوه(؛ كأنه قال‪ :‬صدقوه‬ ‫وقوله )حقا( مصدر مؤ ِ‬
‫كد يشترط أن يكون من لفظ الفعل‪ ،‬كما‬ ‫تصديقا‪ ،‬والمصدر المؤ ِ‬
‫إذا قلت‪ :‬قمت قياما‪ ،‬أو من معناه كما إذا قلت‪ :‬قمت وقوفا‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وأيقنوا أنه كلم الله تعالى بالحقيقة‪ ،‬ليس بمخلوق‬
‫دقوا‪ :‬أنه كلم الله‬ ‫ككلم البرية(أي‪ :‬وأيقن المؤمنون الذين ص ّ‬

‫‪62‬‬
‫على الحقيقة ل المجاز؛ فإن المعطلة من الجهمّية‪ ،‬والمعتزلة‬
‫يقولون‪ :‬إنه كلم الله‪ ،‬لكنه مخلوق‪ ،‬فإضافته إلى الله إضافة‬
‫ق إلى خالقه‪ ،‬فليس هو كلم الله على الحقيقة؛ لنهم‬ ‫مخلو ٍ‬
‫يعتقدون أن الله ل يتكلم!‬
‫ذا؛ فالقرآن عندهم ليس كلما تكلم الله به‪ ،‬ول يخصون‬ ‫إ ً‬
‫القرآن بهذا؛ فكل كلم الله عندهم مخلوق حتى الخطاب الذي‬
‫نودي به موسى عليه السلم في الوادي المقدس زعموا أن الله‬
‫خلق كلما في الشجرة سمعه موسى!‬
‫ورد ّ عليهم أهل السنة بأن هذا يقتضي أن الشجرة هي التي‬
‫قالت‪ )) :‬إني أنا الله ل إله إل أنا ((؛ لن الله إذا خلق كلما في‬
‫بعض مخلوقاته؛ فالكلم ل يوصف به إل من قام به الكلم‪.‬‬
‫وهذه المسألة هي التي نشأت عنها فتنة القول بخلق‬
‫حن‬ ‫حمل الناس على هذه البدعة بالقوة ‪ ،‬وامت ُ ِ‬ ‫القرآن‪ ،‬حتى ُ‬
‫م أحمد ـ رحمه الله‬ ‫م أهل السنة الما ُ‬‫العلماُء ‪ ،‬وعلى رأسهم إما ُ‬
‫ـ ‪] .‬انظر‪" :‬ذكر محنة المام أحمد" لحنبل بن إسحاق ‪ ،‬و"مناقب‬
‫المام أحمد" لبن الجوزي ص ‪ ،432‬و"سير أعلم النبلء"‬
‫‪[11/232‬‬
‫والقول بخلق القرآن قول مبتدع باطل مبني على باطل‪ ،‬فهو‬
‫ة‪.‬‬
‫ل الجهميةِ والمعتزل ِ‬ ‫مبني على أن الله ل يقوم به كلم‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫والشاعرة ُ مذهبهم في القرآن ملفق‪ ،‬فيثبتون الكلم لله ‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬إنه تعالى متكلم‪ ،‬والكلم يقوم به‪] .‬انظر مذاهب‬
‫الناس في كلم الله‪ ،‬وتقرير مذهب أهل السنة في‪ :‬منهاج السنة‬
‫‪ ،2/358‬ومجموع الفتاوى ‪ ،12/162‬والكافية الشافية ص ‪،47‬‬
‫ومختصر الصواعق ‪[ 4/1302‬‬
‫لكن ما هو الكلم الذي يثبتونه ؟ يقولون‪ :‬إن كلم الله معنى‬
‫نفسي قديم واحد‪.‬‬
‫ى واحد ٌ قديم‬ ‫هذا ضابط كلم الله عندهم‪ ،‬فهو عندهم‪ :‬معن ً‬
‫م لذاته ل تتعلق به المشيئة‪ ،‬ليس بحروف‬ ‫قائم به سبحانه لز ٌ‬
‫وأصوات‪ ،‬ول يسمع من الله‪ ،‬هذا تحرير مذهبهم‪.‬‬
‫وعلى هذا؛ فالقرآن المسموع‪ ،‬المتلو‪ ،‬المحفوظ‪ ،‬المكتوب؛‬
‫عبارة عن ذلك المعنى النفسي!‬
‫ذا؛ فحقيقة قولهم‪ :‬إن هذا القرآن مخلوقٌ للدللة على ذلك‬ ‫إ ً‬
‫المعنى النفسي‪.‬‬
‫فالجهمية والمعتزلة‪ ،‬والشاعرة‪ ،‬كلهم يقولون‪ :‬القرآن كلم‬
‫ل على أصله‪.‬‬ ‫الله‪ ،‬لكن ك ٌ‬
‫فالجهمية‪ ،‬والمعتزلة‪ :‬يريدون أنه مخلوقٌ لله‪ ،‬وإضافته إلى‬
‫الله من إضافة المخلوق إلى الخالق‪ .‬والشاعرة يقولون‪ :‬إنه‬

‫‪63‬‬
‫ل على المعنى‬ ‫كلم الله‪ ،‬فهذا الكلم المكتوب في المصاحف دلي ٌ‬
‫النفسي‪ ،‬وفي هذه يقتربون جدا من الجهمية‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬فليس‬
‫ق؛ لن النزاع في هذا القرآن الذي يحفظه‬ ‫بينهم كبير فر ٍ‬
‫المسلمون‪ ،‬ويسمعونه‪ ،‬ويتلونه‪ ،‬ويكتبونه‪.‬‬
‫وأهل السنة والجماعة عندهم‪ :‬أن القرآن كلم الله على‬
‫وا‪.‬‬
‫الحقيقة كيف ما تصرف‪ :‬مكتوبا‪ ،‬ومحفوظا‪ ،‬ومسموعا‪ ،‬ومتل ّ‬
‫فالكلم المكتوب في المصاحف هو كلم الله‪ ،‬وما في صدوِر‬
‫فظ َةِ القرآن هو كلم الله‪ ،‬وما يتلوه التالون هو كلم الله‪ ،‬لكن‬‫ح َ‬
‫َ‬
‫الصوت صوت القارئ‪ ،‬والكلم المتلو كلم البارئ‪ ،‬وكل عاقل‬
‫يفرق بين الكلم الذي يبتدؤه المتحدث‪ ،‬وبين كلم غيره حين‬
‫ة إلى من قاله مبتدئا ل إلى من‬ ‫يقرأه‪ ،‬فالكلم إنما يضاف حقيق ً‬
‫قاله مبلغا مؤديا‪.‬‬
‫فإذا سمعت إنسانا يقرأ حديث » إنما العمال بالنيات «‬
‫]رواه البخاري )‪ ،(1‬ومسلم )‪ (1907‬من حديث عمر ‪ [‬تقول‪:‬‬
‫هذا قول الرسول ‪ ،‬ول تقول هذا كلم الذي قرأ الحديث؛ لن‬
‫القارئ يقرأ كلم النبي ‪.‬‬
‫وإذا سمعته ينشد قصيدة للشاعر امرئ القيس فإنك ل‬
‫تقول‪ :‬هذا كلم فلن الذي ينشد القصيدة بل تقول‪ :‬هذا كلم‬
‫امرئ القيس‪] .‬درء تعارض العقل والنقل ‪ ،1/259‬ومناظرة‬
‫الواسطية ‪[3/176‬‬
‫فالقرآن هو )كلم الله تعالى بالحقيقة‪ ،‬ليس بمخلوق(‪ ،‬كما‬
‫تقول‪ :‬الجهمية‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬والشاعرة )ككلم البرية( فالبشر‬
‫وكلمهم‪ ،‬وأفعالهم‪ ،‬وصفاتهم مخلوقة‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬فمن سمعه فزعم أنه كلم البشر فقد كفر‪ ،‬وقد‬
‫ذمه الله وعابه‪ ،‬وأوعده بسقر حيث قال تعالى‪} :‬سأصليه سقر{‬
‫(‪.‬‬
‫من سمع القرآن فزعم أنه كلم البشر‪ ،‬أنشأه محمد فهو‬
‫كافر‪ ،‬مكذب للرسول ‪ ، ‬مفتر على الله تعالى‪ ،‬وعلى رسوله‬
‫‪.‬‬
‫ويشير المؤلف إلى اليات من سورة المدثر النازلة في‬
‫الوليد بن المغيرة‪ ،‬فإنه جاء إلى النبي ‪ ‬فسمع القرآن فرق له‪،‬‬
‫فجاء إلى قريش فأثنى على القرآن‪ ،‬فعابوه ‪ ،‬فلما عيروه بذلك‬
‫أراد أن يحتفظ بمكانته ـ نسأل الله العافية ـ فقال ما أخبر الله به‬
‫عنه‪ )) :‬ذرني ومن خلقت وحيدا ً * وجعلت له مال ً ممدودا ً * وبنين‬
‫شهودا ً * ومهدت له تمهيدا ً * ثم يطمع أن أزيد * كل إنه كان‬
‫لياتنا عنيدا ً * سأرهقه صعودا ً * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر *‬

‫‪64‬‬
‫ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر‬
‫* فقال إن هذا إل سحٌر يؤثر * إن هذا إل قول البشر * سأصليه‬
‫ة للبشر *‬ ‫سقر * وما أدراك ما سقر * ل تبقي ول تذر * لواح ٌ‬
‫عليها تسعة عشر ((‪] .‬رواه الطبري في تفسيره ‪،23/429‬‬
‫والحاكم ‪ 2/506‬ـ وصححه من حديث ابن عباس ـ وعنه البيهقي‬
‫في دلئل النبوة ‪ ،2/198‬وقال‪ :‬هكذا حدثناه موصول‪ ،‬وفي حديث‬
‫حماد بن زيد‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن عكرمة قال‪ :‬جاء الوليد بن‬
‫المغيرة ‪ ...‬وهذا فيما رواه يوسف بن يعقوب القاضي‪ ،‬عن‬
‫سليمان بن حرب‪ ،‬عن حماد‪ ،‬هكذا مرسل‪ .‬وكذلك رواه معمر‬
‫عن عباد بن منصور‪ ،‬عن عكرمة مرسل ‪ .‬ورواه أيضا‪ :‬معتمر بن‬
‫سليمان‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬فذكره أتم من ذلك مرسل‪ .‬وكل ذلك يؤكد‬
‫بعضه بعضا[‬
‫وقوله‪) :‬فلما أوعد الله بسقر لمن قال‪ )) :‬إن هذا إل قول‬
‫البشر (( علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر‪ ،‬ول يشبه قول البشر(‬
‫عد من قال‪ :‬إنه قول البشر؛ علمنا‬ ‫م وتو ّ‬ ‫لما علمنا أن الله ذ ّ‬
‫أنه قول رب العالمين‪ ،‬ل قول البشر‪ ،‬ول يشبه قول البشر‪ ،‬ولهذا‬
‫كان القرآن معجزا تحدى الله الثقلين أن يأتوا بمثله‪ ،‬أو بعشر‬
‫سور‪ ،‬أوبسورةٍ من مثله قال تعالى‪ )) :‬قل لئن اجتمعت النس‬
‫والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ل يأتون بمثله ولو كان‬
‫َ‬
‫ن افْت ََراه ُ قُ ْ‬
‫ل‬ ‫قوُلو َ‬‫م يَ ُ‬ ‫ض ظهيرا ً ((‪ ،‬وقال تعالى‪} :‬أ ْ‬ ‫بعضهم لبع ٍ‬
‫ن‬
‫دو ِْ‬ ‫من ُ‬ ‫ست َط َعُْتم ّ‬‫نا ْ‬ ‫م ِ‬‫عوا ْ َ‬‫ت َواد ْ ُ‬
‫فت ََرَيا ٍ‬
‫م ْ‬‫مث ْل ِهِ ُ‬
‫سوَرٍ ّ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫فَأ ُْتوا ْ ب ِعَ ْ‬
‫ل فَأُتوا ْ‬ ‫َ‬
‫ن افْت ََراه ُ قُ ْ‬‫قوُلو َ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫ن{ وقال تعالى‪} :‬أ ْ‬ ‫صاد ِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫كنت ُ ْ‬‫الل ّهِ ِإن ُ‬
‫م‬ ‫ن الل ّهِ ِإن ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ست َط َعُْتم ّ‬
‫نا ْ‬ ‫عوا ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫مث ْل ِهِ َواد ْ ُ‬ ‫سوَرةٍ ّ‬ ‫بِ ُ‬
‫ب مما نّزلنا على عبدنا‬ ‫ن{ وقال تعالى‪ )) :‬وإن كنتم في ري ٍ‬ ‫صاد ِِقي َ‬ ‫َ‬
‫فأتوا بسورةٍ من مثله ((‬
‫وقوله‪) :‬ول يشبه قول البشر( ل في بيانه وفصاحته‪ ،‬ول في‬
‫معناه؛ لشتماله على المعاني العظيمة في أخباره‪ ،‬فقد بلغ الغاية‬
‫م‬
‫ل من حكي ٌ‬ ‫في الصدق في أخباره‪ ،‬والعدل في أحكامه )) تنـزي ٌ‬
‫ل من الرحمن الرحيم (( )) تنـزيل الكتاب من‬ ‫حميد (( )) تنـزي ٌ‬
‫ل البشر‪ ،‬مع أنه كلم‪ ،‬وقول‬ ‫الله العزيز الحكيم ((‪ ،‬ل يشبه قو َ‬
‫البشر كلم‪ ،‬ولذا قال بعض أهل العلم ]الكشاف ‪ ،1/69‬والجامع‬
‫لحكام القرآن ‪ ،1/238‬وتفسير ابن كثير ‪ :[ 1/160‬إن افتتاح‬
‫السور بالحروف المقطعة فيه تنبيه على العجاز‪ ،‬وأن القرآن‬
‫ف من هذه الحروف التي يتألف منها سائر الكلم‪) :‬ا ل‬ ‫كلم مؤل ٌ‬
‫م رص ط هـ ك ع ق ( فهو حروف وكلمات‪ ،‬وسور وآيات‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫وقوله‪) :‬ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر‪،‬‬
‫فمن أبصر هذا اعتبر‪ ،‬وعن مثل قول الكفار انزجر‪ ،‬وعلم أنه‬
‫بصفاته ليس كالبشر(‬
‫يعني من شبه الله بخلقه فقد كفر؛ لنه تكذيب لقوله تعالى‪:‬‬
‫)) ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ((‪ )) ،‬ولم يكن له كفوا ً‬
‫أحد ((‪.‬‬
‫فالله تعالى ليس كمثله شيء ل في ذاته ول في صفاته ول‬
‫في أفعاله‪ ،‬قال المام نعيم بن حماد]نعيم بن حماد الخزاعي‬
‫المام العلمة صاحب التصانيف كان صلبا في السنة شديدا على‬
‫الجهمية ‪ ،‬روى عن ابن المبارك والفضيل وابن عيينة ‪ ،‬وغيرهم ‪.‬‬
‫وروى عنه يحيى بن معين ‪ ،‬والبخاري وأبو داود وغيرهم ‪ .‬قال‬
‫الخطيب‪ :‬إن أول من جمع المسند وصنفه نعيم‪ .‬توفي عام‬
‫‪229‬هـ‪ .‬سير أعلم النبلء ‪) :[10/595‬من شبه الله بخلقه كفر‪،‬‬
‫ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر‪ ،‬وليس في ما وصف الله‬
‫به نفسه ول رسوله تشبيه(‪] .‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة ص‬
‫‪ ،587‬وتاريخ دمشق ‪ ،62/163‬والعلو ‪[2/1093‬‬
‫وقوله‪ ) :‬فمن أبصر هذا اعتبر(‬
‫من أبصر هذا بعقله وبصيرته اعتبر وحذر من حال المكذبين‪،‬‬
‫وانزجر عن المقالت الباطلة‪ ،‬كقول الوليد بن المغيرة‪ ،‬وقول‬
‫الجهمّية والمعتزلة والشاعرة‪.‬‬
‫فالقرآن كلم الله‪ ،‬والله تعالى يتكلم بما شاء إذا شاء‪ ،‬وكلم‬
‫الله يسمعه من شاء الله بل واسطة‪.‬‬
‫والدلة على إثبات كلم الله كثيرة ومتنوعة ففي القرآن قال‬
‫ل‬‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫م{ }َوالل ّ ُ‬ ‫صد ْقُهُ ْ‬‫ن ِ‬ ‫صاد ِِقي َ‬ ‫فعُ ال ّ‬ ‫م َين َ‬ ‫ذا ي َوْ ُ‬ ‫ه هَ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫تعالى‪َ} :‬قا َ‬
‫ت ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫قو ْ َ‬ ‫ن ائ ْ ِ‬
‫سى أ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ك ُ‬ ‫دى َرب ّ َ‬ ‫ل{ }وَإ ِذ ْ َنا َ‬ ‫سِبي َ‬ ‫دي ال ّ‬ ‫حقّ وَهُوَ ي َهْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ل ما َ َ‬
‫ن{ )) وكلم‬ ‫سِلي َ‬‫مْر َ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫جب ْت ُ ُ‬‫ذا أ َ‬ ‫قو ُ َ‬ ‫م فَي َ ُ‬‫م ي َُناِديهِ ْ‬ ‫ن{ }وَي َوْ َ‬ ‫مي َ‬‫ظال ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫الله موسى تكليما ً (( )) ولما جاء موسى بميقاتنا وكلمه ربه ((‬
‫م{‬ ‫حي ُ‬ ‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫ه هُوَ الت ّ ّ‬ ‫ب ع َل َي ْهِ إ ِن ّ ُ‬ ‫ت فََتا َ‬ ‫ما ٍ‬ ‫من ّرب ّهِ ك َل ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫قى آد َ ُ‬ ‫}فَت َل َ ّ‬
‫فقد جاء ذكر الكلم بلفظ القول‪ ،‬والكلم‪ ،‬والكلمات‪ ،‬والنداء‪،‬‬
‫والمناجاة‪.‬‬
‫والله كلم موسى‪ ،‬وناداه‪ ،‬وناجاه ناداه بصوت مرتفع‪ ،‬وناجاه‬
‫بصوت خفي‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وناديناه من جانب الطور اليمن‬
‫وقربناه نجّيا (( فموسى كليم الله‪ ،‬ونجي الله؛ لن الله ناجاه‪،‬‬
‫وهو تعالى يوصف بالمناداة‪ ،‬والمناجاة‪ ،‬والتكليم‪.‬‬
‫والمخلوق يوصف بالمناداة‪ ،‬والمناجاة‪ ،‬والتكليم‪ ،‬ولكن نقول‪:‬‬
‫ليس التكليم كالتكليم‪ ،‬ول المناداة كالمناداة‪ ،‬ول المناجاة‬
‫كالمناجاة‪ ،‬كما نقول‪ :‬إن حياته سبحانه وتعالى ليست كحياة‬

‫‪66‬‬
‫المخلوقين‪ ،‬ول علمه كعلمهم‪ ،‬ول قدرته كقدرتهم‪ ،‬فالقول في‬
‫الصفات واحد ول فرق ‪ ،‬وهذا أصل معقول صحيح‪.‬‬

‫]إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الخرة[‬


‫قال رحمه الله تعالى‪ ) :‬والرؤية حقّ لهل الجنة بغير إحاطة‬
‫ضَرة ٌ * إ َِلى‬ ‫مئ ِذ ٍ َنا ِ‬ ‫جوه ٌ ي َوْ َ‬ ‫ول كيفية‪ ،‬كما نطق به كتاب رّبنا‪ )) :‬وُ ُ‬
‫َرب َّها َناظ َِرة ٌ ((]القيامة ‪ ،[23 -22‬وتفسيره على ما أراد الله‬
‫تعالى‪ ،‬وعلمه(‬
‫أي رؤية المؤمنين لربهم بأبصارهم ثابتة وواقعة‪ ،‬فيجب‬
‫اليمان بأن المؤمنين يرون رّبهم يوم القيامة عيانا ً بأبصارهم‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬بغير إحاطة( أي‪ :‬يرونه ول ُيحيطون به‪ ،‬فل يرونه‬
‫ط به‬‫رؤية يدركونه بها من كل وجه‪ ،‬فهو تعالى أعظم من أن ُيحي َ‬
‫ما ((]طه‪ ،[110:‬وكذلك ل‬ ‫عل ْ ً‬‫ن ب ِهِ ِ‬
‫طو َ‬‫حي ُ‬ ‫العباد‪ ،‬فإنهم‪ )) :‬ل ي ُ ِ‬
‫َ‬
‫صاُر ((]النعام‪[103:‬‬ ‫ه الب ْ َ‬ ‫ن به رؤية‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬ل ت ُد ْرِك ُ ُ‬ ‫ُيحيطو َ‬
‫ط به البصار‪.‬‬ ‫يعني‪ :‬ل ُتحي ُ‬
‫وقوله‪) :‬ول كيفية( هذا يصح إن أريد به نفي العلم بالكيفية‪،‬‬
‫وإل فرؤية المؤمن لربه لها كيفية‪ ،‬وله تعالى كيفية‪ ،‬لكن ل‬
‫متعل ّقٌ بالعلم‪ ،‬فيكون المعنى‪ :‬بغير‬ ‫نعلمها‪ ،‬فالنفي للكيفية ُ‬
‫إحاطة ول كيفية معلومة لنا‪.‬‬
‫ومسألة الرؤية‪ ،‬مسألة عظيمة افترقت فيها المة‪ ،‬فأهل‬
‫السنة والجماعة يؤمنون بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة‬
‫عيانا بأبصارهم‪ ،‬يرونه في عرصات القيامة ـ يعني‪ :‬في مواقف‬
‫القيامة ـ ‪ ،‬ويرونه في الجنة‪ ،‬كما يشاء سبحانه وتعالى‪ ،‬يرونه‬
‫ضَرة ٌ *‬ ‫مئ ِذ ٍ َنا ِ‬
‫جوه ٌ ي َوْ َ‬ ‫ويسعدون‪ ،‬وينعمون بالنظر إلى ربهم‪ )) ،‬وُ ُ‬
‫إ َِلى َرب َّها َناظ َِرة ٌ ((]القيامة‪ [23-22:‬وفي الية الخرى‪ )) :‬ع ََلى‬
‫ضَرة َ الن ِّعيم ِ ((‬ ‫م نَ ْ‬ ‫جوه ِهِ ْ‬ ‫ف ِفي وُ ُ‬ ‫ن * ت َعْرِ ُ‬ ‫ك َينظ ُُرو َ‬‫ال ََرائ ِ ِ‬
‫]المطففين‪.[24-23:‬‬
‫ل على مسألة رؤية المؤمنين لربهم القرآن‪ ،‬والسنة‬ ‫وقد د ّ‬
‫المتواترة عن النبي ‪] r‬انظر‪ :‬رؤية الله للدارقطني ‪ ،‬شرح أصول‬
‫اعتقاد أهل السنةص ‪ ،520‬وحادي الرواح ‪ ،2/625‬ونظم المتناثر‬
‫من الحديث المتواتر ص ‪[250‬‬
‫‪ ،‬وأجمع على ذلك أهل السنة والجماعة؛ فأما القرآن فأصرح‬
‫جوهٌ‬‫دليل في ذلك آية سورة القيامة التي ذكرها المصنف‪ )) :‬وُ ُ‬
‫ة )) إ َِلى َرب َّها َناظ َِرة ٌ ((‬ ‫ة حسن ٌ‬ ‫ة مشرِقَ ٌ‬ ‫ضَرة ٌ (( أي‪ :‬بهي ّ ٌ‬ ‫مئ ِذ ٍ َنا ِ‬
‫ي َوْ َ‬
‫يعني‪ :‬تنظر إلى ربها‪ ،‬وهذا الفعل‪» :‬ن َظ ََر« يأتي على وجوه في‬
‫اللغة العربية ]حادي الرواح ‪:[2/623‬‬

‫‪67‬‬
‫ديا »بنفسه« فيكون بمعنى النتظار‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫يأتي متع ّ‬
‫ْ‬
‫ه ((]العراف‪ [53:‬أي‪ :‬هل ينتظرون إل‬ ‫ن إ ِّل ت َأِويل َ ُ‬ ‫ل َينظ ُُرو َ‬ ‫)) هَ ْ‬
‫تأويله‪.‬‬
‫ديا بـ»في« فيكون معناه‪ :‬التفكر‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫ويأتي متع ّ‬
‫مل َ ُ‬ ‫َ‬
‫ت والرض ((]العراف‪[185:‬‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬‫ت ال ّ‬ ‫كو ِ‬ ‫م َينظ ُُروا ِفي َ‬ ‫)) أوَل َ ْ‬
‫م ((]الروم‪.[8:‬‬ ‫سهِ ْ‬‫ف ِ‬‫فك ُّروا ِفي َأن ُ‬ ‫م ي َت َ َ‬ ‫َ‬
‫وقال تعالى‪ )) :‬أوَل َ ْ‬
‫دا بـ »إلى« فُيراد ُ به نظر العين‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫مع ّ‬ ‫ويأتي ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م ((]ق‪ [6:‬وقال تعالى‪ )) :‬أَفل‬ ‫ماِء فَوْقَهُ ْ‬ ‫س َ‬ ‫م ي َن ْظ ُُروا إ َِلى ال ّ‬ ‫)) أفَل َ ْ‬
‫ل ((]الغاشية‪.[17:‬‬ ‫ن إ َِلى ال ِب ِ ِ‬ ‫ي َن ْظ ُُرو َ‬
‫ل بها على إثبات الرؤية من القرآن قوُله تعالى‪:‬‬ ‫ومما أسُتد ّ‬ ‫ُ‬
‫)) ل ِل ّذي َ‬
‫سَنى وَزَِياد َة ٌ ((]يونس‪ ،[26:‬وقد بّين النبي ‪r‬‬ ‫ح ْ‬ ‫سُنوا ال ْ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ِ َ‬
‫أن الزيادة‪ :‬هي النظر إلى وجه الله الكريم ]رواه مسلم )‪(181‬‬
‫عن صهيب ‪ ،t‬وانظر‪ :‬حادي الرواح ‪ ،[2/609‬وفي معناها‪ :‬قوله‬
‫زيد ٌ ((]ق‪] [35:‬شرح‬ ‫ن ِفيَها وَل َد َي َْنا َ‬
‫م ِ‬ ‫شاُءو َ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫م َ‬ ‫تعالى‪ )) :‬ل َهُ ْ‬
‫أصول اعتقاد أهل السنةص ‪ ،519‬وحادي الرواح ‪،2/617‬‬
‫وتفسير ابن كثير ‪[7/407‬‬
‫كما استدل أهل السنة بقوله تعالى في الكفار‪ )) :‬ك َّل إ ِن ّهُ ْ‬
‫م‬
‫ن (( ]المطففين‪ ،[15:‬فلو كان‬ ‫جوُبو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫مئ ِذ ٍ ل َ َ‬
‫م ْ‬ ‫م ي َوْ َ‬
‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫عَ ْ‬
‫المؤمنون ل يرونه؛ لستووا هم والكفار‪.‬‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫ل به من القرآن قوله تعالى‪ )) :‬ع ََلى الَرائ ِ ِ‬ ‫ومما اسُتد ّ‬
‫ضَرة َ الن ِّعيم ِ (( قيل‪ :‬ينظر بعضهم‬ ‫م نَ ْ‬ ‫جوه ِهِ ْ‬ ‫ف ِفي وُ ُ‬ ‫ن * ت َعْرِ ُ‬ ‫َينظ ُُرو َ‬
‫ذبون‪ ،‬فيغتبطون‬ ‫هم ُيع ّ‬‫إلى بعض‪ ،‬وقيل‪ :‬ينظرون إلى الكفار و ُ‬
‫جاهم وعافاهم‪ ،‬وقيل‪ :‬ينظرون إلى ما‬ ‫بنعمة الله عليهم أن ن ّ‬
‫أعطاهم الله من النعيم‪ ،‬وقيل‪ :‬ينظرون إلى ربهم‪ ،‬أقاويل في‬
‫تفسيرها للسلف ]الجامع لحكام القرآن ‪ [22/150‬كما هي‬
‫ل عليه الية‪ ،‬قال ابن القيم ـ رحمه‬ ‫عادتهم يذكرون بعض ما تد ّ‬
‫الله ـ‪ :‬ولقد هضم معنى الية من قال‪ :‬ينظرون إلى أعدائهم‬
‫يعذبون‪ ،‬أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم‪ ،‬أو ينظر بعضهم‬
‫إلى بعض‪ ،‬وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره‪ ،‬وإنما المعنى‪:‬‬
‫ينظرون إلى وجه ربهم‪ ،‬ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم‬
‫لمحجوبون‪] .‬إغاثة اللهفان ‪[1/41‬‬
‫وأما السنة فقد تواترت النصوص عن النبي ‪ ‬في إثبات‬
‫الرؤية‪ ،‬ومن ذلك قوله ‪ :‬حين سألوه‪ :‬هل نرى ربنا؟ قال‪ ) :‬هل‬
‫تضاّرون في القمر ليلة البدر؟ قالوا‪ :‬ل يا رسول الله‪ ،‬قال‪ :‬فهل‬
‫ُتضاّرون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا‪ :‬ل يا رسول الله‪،‬‬
‫قال‪ :‬فإنكم ترونه كذلك( ]رواه البخاري )‪7437‬و ‪،(7438‬‬
‫ومسلم )‪ (182‬من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله‬

‫‪68‬‬
‫عنهما‪ ،[.‬وقال ‪ ) :‬إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ل‬
‫مون في رؤيته ( ]رواه البخاري )‪ ، (554‬ومسلم )‪ (633‬من‬ ‫ُتضا ُ‬
‫حديث جرير بن عبد الله ‪[.‬‬
‫ذا؛ رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ثابتة بالكتاب والسنة‬ ‫إ ً‬
‫وإجماع أهل السنة‪ ،‬وهي من مطالب المؤمنين‪ ،‬ومما يرجون‬
‫الفوز به‪ ،‬ولهذا جاء في دعاء النبي ‪ ) :‬أسألك لذة النظر إلى‬
‫وجهك ( ]رواه أحمد ‪ ،30/265‬والنسائي ‪ ،3/62‬وصححه ابن‬
‫خزيمة في التوحيد ص ‪ ،12‬وابن حبان )‪ (1971‬والحاكم ‪1/524‬‬
‫من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما‪ ،‬ورواه أحمد‬
‫‪ ،35/520‬وصححه ابن خزيمة في التوحيد ص ‪ ،14‬والحاكم‬
‫‪ 1/516‬من حديث زيد بن ثابت ‪.[‬‬
‫س عليهم الشيطان‪،‬‬ ‫ي عنها من لب ّ َ‬
‫عم َ‬‫ومع هذه الدلة قد َ‬
‫فأضّلهم عن سواء السبيل من الجهمية والمعتزلة‪ ،‬ومن وافقهم‬
‫فقالوا‪ :‬إنه تعالى ل ُيرى‪ ،‬وهذا ليس غريبا منهم‪ ،‬فالذين ينفون‬
‫عن الله كل الصفات حقيق بأن يقولوا‪ :‬إنه تعالى ل ُيرى‪ ،‬بل لعل‬
‫قولهم‪ :‬إنه ل ُيرى هو من لوازم نفيهم لجميع الصفات؛ لن نفي‬
‫جميع الصفات يستلزم نفي الذات‪ ،‬والمعدوم ل ُيرى‪ ،‬فقولهم‬
‫ب لمذهبهم في التعطيل‪.‬‬ ‫بنفي الرؤية مناس ٌ‬
‫ومن شبهاتهم في ذلك استدللهم بقوله تعالى‪ )) :‬ل ت ُد ْرِك ُ ُ‬
‫ه‬
‫صاُر ((]النعام‪ [103:‬فقالوا‪ :‬معناه ل تراه البصار‪.‬‬ ‫َ‬
‫الب ْ َ‬
‫وُأجيب]منهاج السنة ‪ ،2/317‬وبيان تلبيس الجهمية ‪،4/420‬‬
‫وعنه في حادي الرواح ‪ [2/618‬عن هذا بأن قوله تعالى‪ )) :‬ل‬
‫َ‬
‫صاُر (( نفي للحاطة‪ ،‬ونفي الخص ل يستلزم نفي‬ ‫ه الب ْ َ‬ ‫ت ُد ْرِك ُ ُ‬
‫العم‪ ،‬وعلى هذا فالية دالة على إثبات الرؤية ل على نفيها‪،‬‬
‫لكنها دالة على إثبات الرؤية من غير إحاطة‪.‬‬
‫و قد قيل في تفسير هذه الية‪ :‬ل ُتدركه البصار في الدنيا‪،‬‬
‫أو ل ُتدركه أبصار الكفار ]تفسير الطبري ‪ ،[465-9/464‬وهذان‬
‫تفسيران مرجوحان‪:‬‬
‫ص من مطلق الرؤية‪ ،‬وليس المنفي‬ ‫أول‪ :‬لن الدراك أخ ّ‬
‫الرؤية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إنه على هذا التفسير لبد من التقييد أو التخصيص‪ ،‬أما‬
‫على التفسير الول ل تدركه‪ ،‬فالية على إطلقها‪.‬‬
‫ومن صفات ربنا أنه ل ُتدركه البصار‪ ،‬وهذه صفة سلبية‪،‬‬
‫وتقدم ]ص عند قول الطحاوي‪ :‬ول يعجزه شيء[ أن النفي الذي‬
‫من صفات الله تعالى لبد أن يتضمن ثبوتا‪ ،‬فأما النفي الذي ل‬
‫ي في صفاته‬ ‫ن ثبوتا؛ ل يدخل في صفاته تعالى‪ ،‬بل ك ّ‬
‫ل نف ٍ‬ ‫م ُ‬ ‫يتض ّ‬

‫‪69‬‬
‫ت كمال‬ ‫ن إثبا َ‬ ‫م ُ‬‫ن لثبات‪ ،‬فنفي إدراك البصار له يتض ّ‬ ‫م ٌ‬
‫متض ّ‬‫فإنه ُ‬
‫ل عظمته ل ُتدركه البصار‪.‬‬ ‫عظمته سبحانه‪ ،‬فِلكما ِ‬
‫من لثبات مدح‪ ،‬قال شيخ السلم ابن‬ ‫متض ّ‬ ‫ذا؛ فهذا نفي ُ‬ ‫إ ً‬
‫تيمية ـ رحمه الله ـ ‪» :‬ومعلوم أن كونه الشيء ل ُيرى ليس صفة‬
‫مدح؛ لن النفي المحض ل يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا؛‬
‫ولن المعدوم ل ُيرى‪ ،‬والمعدوم ل ُيمدح‪ ،‬فعلم أن مجرد نفي‬
‫الرؤية ل مدح فيه«‪].‬منهاج السنة ‪[2/319‬‬
‫أما اليات؛ التي فيها إثبات الرؤية فإنهم ُيحّرفونها‪ ،‬فأظهر آية‬
‫ضَرة ٌ * إ َِلى َرب َّها‬‫مئ ِذ ٍ َنا ِ‬
‫جوه ٌ ي َوْ َ‬
‫في الدللة على إثبات الرؤية‪ )) :‬وُ ُ‬
‫سرون‬ ‫َناظ َِرة ٌ ((]القيامة‪ [23:‬قالوا‪ :‬ناظرة إلى ثواب ربها‪ ،‬أو ُيف ّ‬
‫النظر بالنتظار!‬
‫و تقدم ]ص[ إن هذا ل يتفق مع قاعدة اللغة‪.‬‬
‫و قد جاء في الحديث‪ :‬تشبيه رؤية المؤمنين لربهم برؤية‬
‫ه الرؤية‬ ‫الشمس والقمر‪ ،‬فالمشّبه والمشّبه به هو الرؤية‪ ،‬فشب ّ َ‬
‫بالرؤية‪ ،‬ولم ُيشّبه المرئي بالمرئي‪ ،‬فل ُيقال‪ :‬إن الله تعالى‬
‫كالشمس والقمر‪ ،‬فقوله ‪) :‬إنكم سترون ربكم كما ترون(‬
‫يعني‪ :‬ترون ربكم رؤية كرؤيتكم للشمس والقمر‪ ،‬ووجه الشبه‬
‫بين الرؤيتين‪:‬‬
‫أول‪ :‬إنها رؤية بصرية ل علمية‪ ،‬ونفاة الرؤية يفسرون هذه‬
‫الرؤية بالرؤية العلمية‪ ،‬ـ أي ـ يزداد علمهم بالله يوم القيامة‪ ،‬ل‬
‫أنهم يرونه بأبصارهم‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إنهم يرونه في العلو كما ُيرى القمران في العلو‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬إنها رؤية من غير إحاطة‪ ،‬فالمؤمنون يرون ربهم يوم‬
‫القيامة من غير إحاطة‪ ،‬كما أن الناس في الدنيا يرون الشمس‬
‫والقمر من غير إحاطة‪.‬‬
‫فماذا يصنعون بهذا الحديث وغيره ؟!‬
‫يزعمون أنها أخبار آحاد‪ ،‬ومن أصولهم الباطلة‪ :‬أن أخبار‬
‫ج بها في مسائل العتقاد!‬ ‫الحاد ل ُيحت ّ‬
‫أو يردونها‪ ،‬طاعنين في بعض رواتها‪ ،‬مع أنهم ليسوا أهل أن‬
‫يتكّلموا في ذلك‪.‬‬
‫ل باطل مردود بالكتاب والسنة‬ ‫فقول الجهمية والمعتزلة قو ٌ‬
‫والجماع‪ ،‬وإنكار الرؤية كفر؛ لنه إنكار لمر معلوم من دين‬
‫السلم بالضرورة‪ ،‬إذ إنه جحد لما دّلت عليه هذه النصوص‬
‫المستفيضة من القرآن‪ ،‬ومن الحديث‪ ،‬ولما اتفق عليه الصحابة‬
‫والتابعون لهم بإحسان‪.‬‬
‫وأما الشاعرة‪ :‬فيقولون‪ :‬إنه ُيرى ل في جهة! فل ُيرى من‬
‫فوق ول تحت ‪ ،‬ول يمين ول شمال‪ ،‬ول أمام ول خلف!‬

‫‪70‬‬
‫فأضحكوا عليهم العقلء‪ ،‬وفتحوا باًبا للمعتزلة فاحتجوا‬
‫عليهم‪ ،‬وكأنهم ما أثبتوا الرؤية‪ .‬فقول الشاعرة فيه تلفيق‪ ،‬وهذه‬
‫عادتهم‪ ،‬فهم في باب الصفات يثبتون بعضا من الصفات‪ ،‬وينفون‬
‫كثيًرا منها‪ ،‬وفي الكلم ـ كما تقدم ـ ]ص[ يثبتون الكلم‪ ،‬لكن‬
‫ليس على الوجه المعقول الذي دّلت عليه نصوص الكتاب‬
‫والسنة‪.‬‬
‫وهكذا الرؤية إثباتهم ليس على ما دلت عليه نصوص الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬بل ول على الوجه المعقول‪.‬‬
‫وهذا يرجع إلى أن من أصولهم الباطلة نفي علو الله على‬
‫خلقه‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن الرؤية تحتاج إلى مقابلة‪.‬‬
‫نعم فليكن‪ ،‬الله تعالى في العلو والعباد ينظرون إلى ربهم‬
‫كيف شاء سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫وقال رحمه الله‪) :‬وتفسيره على ما أراده الله تعالى‬


‫مه(‪.‬‬‫وع َل ِ َ‬
‫هذه العبارة مضمونها التفويض‪ ،‬يعني‪ :‬ونحن ل نعلم معاني‬
‫تلك النصوص‪ ،‬لكن ل يصح أن ُيريده المؤلف؛ لنه أثبت الرؤية‪،‬‬
‫فقال‪) :‬بغير إحاطة ول كيفية( فأثبت رؤية حقيقية‪ ،‬فل يصح أن‬
‫يقال‪ُ :‬يريد المؤلف بهذا إنا ل نعلم تفسير ما ورد في هذه‬
‫النصوص من ذكر الرؤية؛ بل تفسيرها على ما أراد الله!‬
‫ن مراد الله من ذلك أنهم ينظرون إلى ربهم‪ ،‬كما دلت‬ ‫فإ ّ‬
‫على ذلك السنة الصحيحة الصريحة‪ ،‬فما أراد الله من معانيها‬
‫معلوم لنا‪ ،‬وما أراد الله من حقائق ذلك وكيفياته هو الذي ل‬
‫ميًعا‬‫س ِ‬ ‫ن َ‬‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫نعلمه‪ ،‬فنحن نعلم مراد الله بقوله‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫صيًرا ((]النساء‪ [58:‬أنه ذو سمع وبصر‪ ،‬هذا مراد ٌ معلوم لنا‪،‬‬ ‫بَ ِ‬
‫والله أراد منا أن نعلمه‪ ،‬فعّلمنا إياه وعّرفنا به‪ ،‬وهكذا نقول في‬
‫الرؤية‪.‬‬
‫وكذلك قول الرسول ‪ ) :‬إنكم سترون ربكم ( ]ص[ مراده‬
‫أن نعلم أننا نرى ربنا يوم القيامة‪.‬‬
‫والذي يظهر لي من مراد المؤلف بالتفسير‪ :‬معرفة الحقيقة‬
‫والكيفية؛ فذلك الذي ل نعلمه ‪ ،‬كما سيأتي ]ص[ في الكلم على‬
‫مه‪.‬‬‫التأويل ‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬وكيفية ذلك على ما أراد الله وع َل ِ َ‬
‫]وجوب التصديق بخبر الرسول ‪ r‬وحمله على مراده[‬
‫وقوله ـ رحمه الله ـ ‪ ) :‬وكل ما جاء في ذلك من الحديث‬
‫الصحيح عن الرسول ‪ ، ‬فهو كما قال‪ ،‬ومعناه على ما أراد‪ ،‬ل‬
‫متأّولين بآرائنا‪ ،‬ول متوهمين بأهوائنا؛ فإنه ما سلم‬ ‫ندخل في ذلك ُ‬

‫‪71‬‬
‫في دينه إل من سّلم لله عز وجل ولرسوله ‪ ،‬ورد ّ علم ما‬
‫اشتبه عليه إلى عالمه (‬
‫يعني‪ :‬ما جاء عن الله تعالى في كتابه هو على ما أراده‬
‫ح من سنته؛ فهو كما قال‪ ،‬فقد‬ ‫مه‪ ،‬وما جاء عن النبي ‪ ‬وص ّ‬ ‫وع َل ِ َ‬
‫قال ‪ ) :‬إنكم سترون ربكم ( فسنرى ربنا كما قال‪ ،‬وهذا معناه‬
‫التصديق‪ ،‬فما جاء عن النبي ‪ ‬من الحديث الصحيح فهو ح ّ‬
‫ق‬
‫كما أخبر‪ ،‬هذا معنى )كما قال( فنحن نؤمن به مصدقين لخبر الله‬
‫تعالى‪ ،‬و خبر رسوله ‪ ،‬وهذا بيان لوجوب اليمان بما أخبر الله‬
‫به‪ ،‬وما أخبر به رسوله ‪ ‬في هذه المسألة وغيرها‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ومعناه على ما أراد( الكلم في هذا كالكلم فيما‬
‫قبله‪ ،‬فقوله ‪ ) :‬إنكم سترون ربكم ( ماذا أراد ‪ ‬؟ أراد الرؤية‬
‫ض‪،‬‬
‫البصرية‪ ،‬ونعلم أنه أراد ذلك يقينا‪ ،‬وليس المقصود ُ التفوي َ‬
‫فنقول‪ :‬الله أعلم بمراده ومراد رسوله؛ بل نقول‪ :‬نعم هو كما‬
‫قال‪ ،‬ومعناه على ما أراد‪ ،‬ونحن نعلم المعنى الذي أراده من‬
‫قوله ‪ ) :‬إنكم سترون ربكم (؛ لنه ُيخاطبنا بكلم واضح مبين‬
‫سر ل إجمال فيه ول إبهام‪ ،‬فل يجوز أن يكون المراد‬ ‫مف ّ‬
‫ستعلمون ربكم؛ لن العباد يعلمون ربهم وهم في الدنيا قبل أن‬
‫ما ((]طه‪ [110:‬يعرفون ربهم أنه‬ ‫عل ْ ً‬
‫ن ب ِهِ ِ‬ ‫حي ُ‬
‫طو َ‬ ‫يموتوا‪َ )) :‬ول ي ُ ِ‬
‫خالقهم‪ ،‬وخالق كل شيء‪ ،‬وأنه الله الذي ل إله غيره‪ ،‬فل يجوز‬
‫أن ُيراد بقوله ‪) : ‬سترون ربكم( يعني‪ :‬تعلمون‪ ،‬وتكون الرؤية‬
‫علمية؛ فإنه ‪ ‬قال‪) :‬كما ترون الشمس‪ ..‬كما ترون القمر‪(..‬‬
‫هذا كلم واضح قاطع مبطل لكل التحريفات‪.‬‬
‫وهذه الكلمات توهم التفويض‪ ،‬لكن ل يصح أن نقول‪ :‬إن‬
‫وض في هذه النصوص؛ لن التفويض ل يجري إل على‬ ‫المصنف ُيف ّ‬
‫مذهب من ينفي حقيقة الرؤية‪ ،‬والمصنف بريء من هذا‪ ،‬فإنه‬
‫يثبت الرؤية‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ل ندخل في ذلك متأولين بآرائنا(‬
‫التأول بمعنى التأويل‪ ،‬فل ندخل في ذلك متأولين لتلك‬
‫النصوص برأينا المحض فنؤولها على خلف ظاهرها‪.‬‬
‫قال المام ابن تيمية‪ » :‬إن التأويل صار مستعمل في ثلثة‬
‫معان‪:‬‬
‫الول‪ :‬التأويل في اصطلح كثير من المتأخرين المتكلمين‬
‫في الفقه وأصوله‪ :‬صرف اللفظ عن الحتمال الراجح إلى‬
‫احتمال مرجوح لدليل يقترن به‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التأويل بمعنى‪ :‬التفسير وهذا هو الغالب على‬
‫اصطلح المفسرين‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫الثالث‪ :‬التأويل بمعنى‪ :‬الحقيقة التي يؤول إليها الكلم«‪.‬‬
‫]التدمرية ص ‪ 262‬باختصار[‬
‫والمأثور من هذه المعاني هو الثاني والثالث‪ ،‬وأما الول فهو‬
‫اصطلح حادث‪ ،‬وهو نوع ٌ من التفسير‪ ،‬لكن الصل إن الكلم‬
‫ُيحمل على ظاهره‪ ،‬ول يجوز صرفه عن ظاهره إل بدليل يجب‬
‫المصير إليه‪ ،‬فهذه النصوص ل يجوز صرفها عن ظاهرها‪ ،‬بل‬
‫يجب إجراؤها على ظاهرها‪ ،‬كالقول في سائر نصوص الصفات‪،‬‬
‫وظاهرها هو إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة عيانا‬
‫ة‬
‫بأبصارهم‪ ،‬ول يجوز صرفها عن هذا الظاهر؛ لنه ليس هناك حج ٌ‬
‫صحيحة توجب صرف هذه النصوص عن ظاهرها‪.‬‬
‫متأّول؛ معناه‪ :‬أنه‬
‫مأّول‪ ،‬أو ُ‬
‫وإذا قال الصوليون‪ :‬هذا ُ‬
‫مصروف عن ظاهره إلى غيره‪ ،‬لكن تارة يكون بحجة صحيحة‪،‬‬
‫ة‬
‫فيكون هذا التأويل صحيحا‪ ،‬وتارة يكون ذلك التأويل بغير حج ٍ‬
‫صحيحة‪ ،‬كتأويل المبتدعة للنصوص المخالفة لصولهم‪ ،‬فكل‬
‫تأويلت المبتدعة للنصوص المخالفة لصولهم من نوع التأويل‬
‫الباطل‪ ،‬والسم المطابق لتأويلهم‪ ،‬هو التحريف؛ فإن صرف‬
‫ل مرجوح‪ ،‬أو صرفه عن‬ ‫اللفظ عن الحتمال الراجح إلى احتما ٍ‬
‫ظاهره إلى غيره بغير دليل يوجب ذلك‪ ،‬هو من تحريف الكلم عن‬
‫مواضعه‪.‬‬

‫قوله‪) :‬ول متوهمين بأهوائنا(‬


‫ول نتوهم فيها خلف ظاهرها بدافع الهوى؛ فإن من التأويل‬
‫ما ل دليل عليه غير وهم باعثه الهوى؛ فإن النسان إذا كان له‬
‫هوى في شيء يكون في عقله تصورات واعتقادات تنبعث من‬
‫هواه‪ ،‬وهذا هو الذي يرمي إليه المؤلف بقوله‪) :‬ل ندخل في ذلك‬
‫متأولين بآرائنا( فنحرف النصوص ونصرفها عن ظاهرها بموجب‬
‫آراء وشبهات‪ ،‬بل يجب أن ُنجري النصوص على ظاهرها‪ ،‬ونفهمها‬
‫على موجب ما دل عليه اللسان العربي‪ ،‬وعلى موجب فهم‬
‫السلف الصالح؛ فإن أي فهم لية أو حديث يتناقض مع فهم‬
‫الصحابة‪ ،‬أو فهم السلف الصالح؛ فهو باطل ‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬فإنه ما سلم في دينه إل من سّلم لله عز وجل‬


‫عل ْ َ‬
‫م ما اشتبه عليه إلى عالمه(‬ ‫ولرسوله ‪ ،‬ورد ِ‬
‫هذا تعليل لقوله‪) :‬ل ندخل في ذلك متأولين بآرائنا‪ ،‬ول‬
‫متوهمين بأهوائنا(‪ ،‬بل نؤمن به على مراد الله‪ ،‬ومراد رسوله ‪،‬‬
‫فإن الواجب علينا اليمان بهذه النصوص‪ ،‬والتسليم لما أخبر الله‬
‫به‪ ،‬فما علمنا منه آمنا به على ما فهمنا منه‪ ،‬وما لم نعلمه نكل‬

‫‪73‬‬
‫علمه إلى عالمه‪ ،‬هذا هو الواجب على المؤمن إذا ورد عليه آية‬
‫من كتاب الله‪ ،‬أو حديث صحيح عن رسوله ‪ ‬يجب عليه أن‬
‫يؤمن به فورا ول يتوقف‪ ،‬فهم معناه أو لم يفهمه‪ ،‬يجب أن يقابل‬
‫ما أخبر الله به ورسوله ‪ ‬باليمان والذعان‪.‬‬
‫فإنه ما سلم عبد ٌ في دينه؛ إل إذا انقاد لله بالتصديق وإخلص‬
‫العبادة ‪ ،‬وانقاد للرسول ‪ ‬بالتصديق والمتابعة‪ ،‬ومن عارض‬
‫النصوص بعقله فليس عابدا لله تعالى‪ ،‬ول متبعا لرسوله ‪ ،‬بل‬
‫وى‬ ‫ما ت َهْ َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫ن إ ِّل الظ ّ ّ‬ ‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬‫متبع لهواه‪ ،‬قال الله تعالى‪ )) :‬إ ِ ْ‬
‫س ((]النجم‪ [23:‬وكل أهل الباطل ينطلقون من هذين‬ ‫ف ُ‬ ‫ال َن ْ ُ‬
‫الصلين‪ :‬الظن‪ ،‬أو الهوى‪.‬‬
‫خرص‪ ،‬و ليست مبنية على‬ ‫فمذاهبهم مبنية على الظنون‪ ،‬وال َ‬
‫ن‬
‫حجج وبينات‪ ،‬بل على شبهات واهيات‪ ،‬وعلى الهوى‪ )) :‬إ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫وى ال َن ْ ُ‬
‫ن ِفي‬ ‫م ْ‬ ‫ن ت ُط ِعْ أك ْث ََر َ‬
‫س ((‪ )) ،‬وَإ ِ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ما ت َهْ َ‬
‫ن وَ َ‬ ‫ن إ ِّل الظ ّ ّ‬ ‫ي َت ّب ُِعو َ‬
‫م إ ِّل‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫ن إ ِّل الظ ّ ّ‬ ‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫ل الل ّهِ إ ِ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫ضّلو َ‬ ‫ض يُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال َْر‬
‫ك َفاع ْل َ َ‬ ‫جيُبوا ل َ َ‬
‫ما‬
‫م أن ّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ست َ ِ‬‫م يَ ْ‬‫ن لَ ْ‬ ‫ن ((]النعام‪ )) ،[116:‬فَإ ِ ْ‬ ‫صو َ‬ ‫خُر ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫م ((]القصص‪ [50:‬فإنهم قد يكونون على علم‬ ‫َ‬
‫واَءهُ ْ‬
‫ن أهْ َ‬ ‫ي َت ّب ُِعو َ‬
‫بالحق‪ ،‬لكن يمنعهم من اتباعه الهوى‪ ،‬وقد يضلون عن الحق‬
‫بسبب ظنونهم‪ ،‬وآرائهم‪ ،‬وشبهاتهم‪ ،‬وفي كثير من الحيان يجتمع‬
‫ة والهوى؛ فالذين‬ ‫ل الشبه ُ‬ ‫ث على ذلك الباط ِ‬ ‫المران‪ :‬فيكون الباع ُ‬
‫كمون عقولهم ـ مثل ـ في باب الصفات؛ كالجهمية والمعتزلة‬ ‫ُيح ّ‬
‫أصلهم هو تحكيم العقل الفاسد؛ لن العقل الصحيح ل ُيناقض‬
‫كموا‬ ‫كموا عقولهم الفاسدة‪ ،‬ولو ح ّ‬ ‫دا‪ ،‬لكنهم ح ّ‬ ‫النقل الصحيح أب ً‬
‫العقل الصريح لكان موافقا لما جاءت به الرسل‪ » ،‬فإن الرسل‬
‫دا‪ ،‬لكن قد ُيخبرون بما ل تدركه‬ ‫ه العقول أب ً‬ ‫ل يأتون بما ُتحيل ُ ُ‬
‫العقول‪ ،‬أو بما تحار فيه العقول‪ ،‬ول يأتون بما تقطع العقول‬
‫السليمة ببطلنه«‪] .‬مجموع الفتاوى ‪2/312‬و ‪ ،17/444‬والفرقان‬
‫‪ ،11/243‬ودرء تعارض العقل والنقل ‪5/297‬و ‪،7/327‬‬
‫والصواعق المرسلة ‪ [3/829‬فما تأتي به الرسل إما أن يكون‬
‫العقل شاهدا ومصدقا على صدقه وحسنه‪ ،‬أو يكون العقل واقفا‬
‫جاهل‪ ،‬والجاهل عليه أن ينقاد و ُيسّلم‪.‬‬
‫فأخبار الرسل دائرة بين المرين‪ ،‬أما شيء ُيحيله العقل فل‬
‫والله ل تأتي به الرسل؛ لن العقل الصريح والقضايا العقلية‬
‫القطعية ل تتناقض‪ ،‬والحق ل يتناقض‪ ،‬وهذه القضية الكبيرة‬
‫أعني‪ :‬الوفاق بين العقل والنقل‪ ،‬أّلف فيها المام العلم شيخ‬
‫السلم ابن تيمية كتابه العظيم‪) :‬العقل والنقل( أو )درء تعارض‬
‫العقل والنقل( الذي قال فيه ابن القيم‪:‬‬

‫‪74‬‬
‫ظيٌر َثا ِ‬
‫ن‬ ‫جود ِ ل َ ُ‬
‫ه نَ ِ‬ ‫ما ِفي الوُ ُ‬
‫ذي‬‫ل ال ِ‬
‫َ‬ ‫ل َوالّنق ِ‬‫ب الَعق ِ‬‫َواقَرأ ك َِتا َ‬
‫]الكافية الشافية ص ‪[197‬‬
‫يعني في بابه‪.‬‬
‫وقوله‪ ) :‬فإنه ما سلم في دينه إل من سلم لله عز وجل‬
‫علم ما اشتبه عليه إلى عالمه(‪.‬‬ ‫ولرسوله ‪ r‬ورد ِ‬
‫هذا فيه تقرير وجوب التسليم لله‪ ،‬والنقياد لحكمه‪ ،‬وحكم‬
‫الله نوعان‪:‬‬
‫حكم كوني‪.‬‬
‫وحكم شرعي‪.‬‬
‫ويجب على العبد الرضا عن الله في تدبيره وحكمه الكوني‬
‫وحكمه الشرعي‪ ،‬فل يعارض حكم الله برأي ول ذوق ول‬
‫استحسان‪ ،‬هذا بالنسبة للحكم والقضاء الكوني‪.‬‬
‫وأما المور المكونة والمقضية فهذه يجب أن يعمل فيها من‬
‫حيث الستسلم والدفع والطلب بموجب الشرع‪ ،‬فيحكم شرع‬
‫الله‪ ،‬فما أمره الله بفعله فعله‪ ،‬وما أمره بتركه تركه‪ ،‬فيحب ما‬
‫أحبه الله‪ ،‬ويبغض ما أبغضه الله‪ ،‬ويأتي ما أمره الله به‪ ،‬ويذر ما‬
‫نهاه الله تعالى عنه‪ ،‬ويصبر على ما أوجب الله عليه فيه الصبر‪،‬‬
‫ويدفع ما أوجب الله عليه دفعه من المكروهات‪.‬‬
‫وهذه العمال من طلب أو دفع للمقدرات تجري فيها‬
‫الحكام التكليفية‪ :‬الواجب والمحرم والمكروه والمستحب‬
‫والمباح‪.‬‬
‫فل بد من التسليم لحكم الله؛ بالرضا بحكمه وتدبيره‪ ،‬وأنه‬
‫حكيم عليم‪ ،‬وذلك بعدم العتراض عليه في قضائه الكوني‬
‫وقضائه الشرعي‪.‬‬
‫وجهلة الصوفية وغلتهم يرون أن من التسليم للقدر‬
‫الستسلم لكل ما يجري على النسان‪ ،‬بحيث ل يطلب خلف ما‬
‫يجري عليه‪ ،‬ول يدفع شيئا من المكروه‪ ،‬حتى يقول قائلهم‪ :‬إن‬
‫العارف ل حظ له! أو إنه يصير كالميت بين يدي الغاسل!‬
‫قال المام ابن تيمية‪ » :‬فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته‬
‫التي لم يؤمر بها‪ ،‬وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه‪ ،‬وأنه كالميت‬
‫في طلب ما لم يؤمر بطلبه‪ ،‬وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه«‪.‬‬
‫]التدمرية ص ‪ [518‬وهذا كلم باطل‪ ،‬ول يمكن تحقيقه في الواقع‬
‫أبدا‪.‬‬

‫]وجوب التسليم لحكم الله تعالى ورسوله ‪ ،r‬وتقديمه على‬


‫الراء[‬

‫‪75‬‬
‫وقوله‪) :‬ما سِلم في دينه إل من سّلم لله عز وجل ولرسوله‬
‫‪ (r‬كأنه يظهر من سياق الكلم أنه يريد التسليم لشرع الله في‬
‫المسائل العلمية العتقادية‪ ،‬وفي المسائل العملية؛ فإن الدين‬
‫يتضمن قسمين‪:‬‬
‫هَ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫سول ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ذي أْر َ‬ ‫اعتقادات‪ ،‬وأعمال‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬هُوَ ال ِ‬
‫حقّ ((]التوبة‪ [33:‬الهدى هو‪ :‬العلم النافع‪ ،‬ودين‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫دى وَِدي‬ ‫ِبال ْهُ َ‬
‫ما ً ((]النعام‪،[114:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حك َ َ‬ ‫الحق‪ :‬العمل الصالح‪ )) ،‬أفَغَي َْر الل ّهِ أب ْت َِغي َ‬
‫ك ِفي‬ ‫شرِ ُ‬ ‫م إ ِّل ل ِل ّهِ ((]النعام‪ ،[57:‬قال تعالى‪َ )) :‬ول ي ُ ْ‬ ‫حك ْ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫)) إ ِ ِ‬
‫حد َا ً ((]الكهف‪ ،[26:‬قال تعالى في تحكيم الرسول‪َ )) :‬فل‬ ‫َ‬
‫مه ِ أ َ‬ ‫حك ْ ِ‬‫ُ‬
‫دوا ِفي‬ ‫ج ُ‬ ‫م ل يَ ِ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫جَر ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫ش َ‬‫ما َ‬ ‫ك ِفي َ‬ ‫مو َ‬ ‫حك ّ ُ‬‫حّتى ي ُ َ‬‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ك ل ي ُؤ ْ ِ‬ ‫وََرب ّ َ‬
‫ما ً ((]النساء‪ [65:‬ل بد‬ ‫سِلي َ‬‫موا ت َ ْ‬ ‫سل ّ ُ‬
‫ت وَي ُ َ‬ ‫ضي ْ َ‬‫ما قَ َ‬ ‫م ّ‬‫جا ً ِ‬‫حَر َ‬ ‫م َ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫َأن ُ‬
‫من التسليم لحكم رسول الله ‪ ،r‬وقبوله بانشراح صدر‪ ،‬وطيب‬
‫مو َ‬
‫ك‬ ‫حك ّ ُ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫نفس‪ ،‬ل يتحقق اليمان كامل إل بهذه الشروط‪َ )) :‬‬
‫(( وذلك باليمان به‪ ،‬وأن ما جاء به حق من عند الله‪ ،‬وأن ما‬
‫حكم به في كل مسائل الدين هو الحق والعدل والصواب‪ ،‬فإنه ‪r‬‬
‫طاع َ الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫قد ْ أ َ َ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫سو َ‬ ‫ن ي ُط ِِع الّر ُ‬ ‫م ْ‬
‫إنما يحكم بشرع الله وحكمه‪َ )) ،‬‬
‫ه‬
‫م ع َن ْ ُ‬ ‫ما ن ََهاك ُ ْ‬ ‫ذوه ُ وَ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ل فَ ُ‬‫سو ُ‬ ‫م الّر ُ‬ ‫ما آَتاك ُ ُ‬ ‫((]النساء‪ )) ،[80:‬وَ َ‬
‫َ‬
‫ما‬ ‫م ّ‬ ‫جا ً ِ‬ ‫حَر َ‬ ‫م َ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫دوا ِفي أن ُ‬ ‫ج ُ‬‫م ل يَ ِ‬ ‫َفان ْت َُهوا ((]الحشر‪ )) ،[7:‬ث ُ ّ‬
‫ما ً ((]النساء‪.[65:‬‬ ‫سِلي َ‬
‫موا ت َ ْ‬ ‫سل ّ ُ‬ ‫ت وَي ُ َ‬ ‫ضي ْ َ‬ ‫قَ َ‬
‫وقد خرج عن هذا السبيل المبتدعة على اختلف بدعهم‪ ،‬فلم‬
‫يقنعوا بما جاء به الرسول ‪ ،r‬فالمعطلة يرون أن كل ما في‬
‫القرآن والسنة من صفات الرب سبحانه وتعالى؛ ليس المراد‬
‫منها ظاهرها‪ ،‬وأهل التفويض يرون أنها ل معنى لها‪ ،‬وهذا خروج‬
‫عن تحكيم الرسول ‪ ،r‬وعن الرضا بحكمه‪ ،‬والتسليم له‪ ،‬فعندهم‬
‫أن الحق في معرفة الله‪ ،‬وفيما يجوز عليه وما ل يجوز عليه؛ هو‬
‫ما عرفوه بعقولهم‪ ،‬ومضمون هذا الكلم أن الرسول ‪ r‬لم يبين‬
‫للناس ما يجب أن يعتقدوه في ربهم‪ ،‬فترك هذا العلم العظيم‬
‫الذي هو أهم العلوم وأجل المطالب بل بيان‪.‬‬
‫وقد فند شيخ السلم ابن تيمية في مقدمة العقيدة الحموية‬
‫]ص ‪ [195‬هذا التصور الساقط الباطل‪ ،‬وذكر وجوها من دللت‬
‫العقل على بطلن هذا القول‪ ،‬فكيف يبين الرسول ‪ r‬كل صغير‬
‫وكبير للناس حتى آداب قضاء الحاجة‪ ،‬ثم ل يبين ما يجب على‬
‫العباد أن يعتقدوه في ربهم؟! هذا من أبطل الباطل‪.‬‬
‫ومن الوجوه التي ذكر‪» :‬إن كان ما يقوله هؤلء المتكلمون‬
‫المتكلفون هو العتقاد الواجب وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته‬
‫على مجرد عقولهم وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل‬

‫‪76‬‬
‫عليه الكتاب والسنة نصا أو ظاهرا؛ لقد كان ترك الناس بل كتاب‬
‫ول سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ بل كان وجود الكتاب‬
‫والسنة ضررا محضا في أصل الدين« ]ص ‪[235‬؛لنهم يقولون‪:‬‬
‫إن نصوص السماء والصفات ظاهرها التشبيه‪ ،‬ثم يلجئون‬
‫للتخلص من ذلك إما بالتفويض فيقولون‪ :‬هذه نصوص الله أعلم‬
‫بمراده منها‪ ،‬فنحن ل نفهمها وليس علينا أن نتدبرها‪ ،‬بل علينا أن‬
‫نتلوها ألفاظا‪ ،‬والكثرون منهم يسلكون طريق التأويل‪ ،‬وهو‬
‫تفسير النصوص بمعان بعيدة مخالفة لظاهرها‪ ،‬ولما دلت عليه‬
‫سائر النصوص الخرى الموضحة لها‪ ،‬فكل اليات والحاديث‬
‫الواردة ـ مثل ـ في اليدين مؤولة عندهم بخلف ظاهرها‪،‬‬
‫فيجعلون ذلك كله من قبيل المجاز والتخييل‪ ،‬وهذا كله ضد‬
‫التسليم للرسول ‪ ،r‬فحكموا عقولهم‪ ،‬ولم يحكموا النبي ‪،r‬‬
‫فضلوا ضلل بعيدا‪ ،‬وهذا ما يتضمنه قول المؤلف‪) :‬فإنه ما سلم‬
‫في دينه إل من سلم لله عز وجل ولرسوله ‪ ،r‬ورد ما اشتبه عليه‬
‫علمه إلى عالمه( وهذا هو الواجب‪ ،‬فما خفي على النسان فهمه‬
‫وأشكل عليه؛ فعليه أن يقول‪ :‬الله أعلم‪ ،‬والله تعالى يعلم نبيه ‪r‬‬
‫َ‬
‫م ((]الكهف‪ )) ،[22:‬قُ ِ‬
‫ل‬ ‫ل َرّبي أع ْل َ ُ‬
‫م ب ِعِد ّت ِهِ ْ‬ ‫ويعلمنا بقوله‪ )) :‬قُ ْ‬
‫س لَ َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه‬
‫ك بِ ِ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬
‫ف َ‬ ‫ما ل َب ُِثوا ((]الكهف‪َ )) ،[ 26:‬ول ت َ ْ‬
‫ق ُ‬ ‫ه أع ْل َ ُ‬
‫م بِ َ‬ ‫ُ‬
‫م ((]السراء‪ [36:‬فالواجب على المكلف فيما لم يعلم أن‬ ‫عل ْ ٌ‬
‫ِ‬
‫يفوض علم ذلك إلى الله‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ورد ما اشتبه عليه علمه إلى عالمه( فهناك أمور‬
‫استأثر الله بعلمها‪ ،‬كحقائق ما أخبر الله سبحانه عن نفسه من‬
‫أسمائه وصفاته‪ ،‬وحقائق اليوم الخر‪ ،‬فهذا كله مما يخفى على‬
‫العباد ول يمكنهم معرفته؛ فالواجب في هذا هو التفويض‪ ،‬ورد‬
‫علم ذلك إلى الله‪.‬‬
‫أما معاني النصوص؛ فالصل أنها كلها يمكن فهمها‪ ،‬فما أخبر‬
‫الله به عن نفسه‪ ،‬وما أخبر به عن اليوم الخر هذه ل بد أن تكون‬
‫معلومة لنا من جهة معانيها‪ ،‬لكن قد يخفى بعضها على بعض‬
‫الناس في بعض الحوال‪ ،‬فهنا قبل أن يعرف المراد‪ ،‬يرد ما‬
‫اشتبه عليه؛ فيقول‪ :‬الله أعلم به‪ ،‬ثم هذا ل يمنع التدبر والبحث‬
‫لمعرفة المراد‪ ،‬ولهذا ذكر شيخ السلم ابن تيمية في القاعدة‬
‫الخامسة من الرسالة التدمرية ]ص ‪» [251‬إنا نعلم ما أخبرنا به‬
‫من وجه دون وجه«‬
‫وقوله‪) :‬ورد ما اشتبه عليه علمه إلى عالمه( هذا أدب رفيع‪،‬‬
‫وهو مقتضى علم العبد بربه وعلمه بنفسه‪ ،‬فل يتجاوز حده‬
‫فيدعي علم ما ل علم له به‪ ،‬ول يتكلف في البحث عما ل سبيل‬

‫‪77‬‬
‫إلى معرفته‪ ،‬فما علمه قال به واعتقده وآمن به‪ ،‬وما خفي عليه‬
‫رد علمه إلى عالمه‪.‬‬

‫وقوله ـ رحمه الله ـ‪) :‬ول تثبت قدم السلم إل على ظهر‬
‫التسليم والستسلم‪ ،‬فمن رام علم ما حظر عنه علمه‪ ،‬ولم يقنع‬
‫بالتسليم فهمه‪ ،‬حجبه مرامه عن خالص التوحيد‪ ،‬وصافي‬
‫المعرفة وصحيح اليمان(‬
‫هذا تعبير فيه شيء من التشبيه والستعارة على طريقة أهل‬
‫البيان‪ ،‬فقوله‪) :‬ل يثبت قدم السلم إل على ظهر التسليم(‬
‫م بأنه‬
‫م كأن له قدم يقوم عليها‪ ،‬والتسلي َ‬ ‫ف السل َ‬ ‫فيصور المؤل ُ‬
‫مركب ثابت إذا اعتمد النسان عليه استقر وأمن من السقوط‬
‫والضطراب‪.‬‬
‫فل يستقر إسلم العبد‪ ،‬وتحصل له الطمأنينة إل إذا ثبتت‬
‫تلك القدم على ظهر التسليم‪.‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫والستسلم‪ ،‬والتسليم معناهما متقارب‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫ن ((]لقمان‪[22:‬‬ ‫س ٌ‬
‫ح ِ‬ ‫ه إ َِلى الل ّهِ وَهُوَ ُ‬
‫م ْ‬ ‫جه َ ُ‬
‫م وَ ْ‬
‫سل ِ ْ‬
‫يُ ْ‬
‫السلم‪ :‬الستسلم والنقياد‪ ،‬وهذا يقتضي عدم المنازعة؛‬
‫لن من ينازع لم يسلم‪ ،‬وهذا الكلم يؤكد قوَله السابق‪) :‬فإنه ما‬
‫سلم في دينه إل من سلم لله عز وجل ولرسوله ‪.(‬‬
‫صلت أصل الدين‪ :‬اليمان بالله‬ ‫والتسليم أصل مهم‪ ،‬فإذا أ ّ‬
‫ورسوله وكتابه‪ ،‬واليمان بالله يتضمن أنه تعالى هو الله الحق‬
‫الذي ل يستحق العبادة سواه‪ ،‬وأنه تعالى رب كل شيء ومليكه‪،‬‬
‫وأنه سبحانه وتعالى موصوف بالكمال منزه عن النقص‪ ،‬فل ظلم‬
‫ول عبث في خلقه وشرعه وقدره؛ بل هو تعالى حكيم في ذلك‬
‫كله‪ ،‬إذا حققت هذا؛ فكل ما يرد عليك عن الله تعالى وعن‬
‫رسوله ‪ ‬فل بد أن يقوم على التسليم؛ لن المعارضة والمنازعة‬
‫ما تجيء إل من ضعف اليمان بعدل الرب‪ ،‬ومن ضعف اليمان‬
‫بحكمة الرب‪.‬‬
‫وكل ما يعارض الحق فهو باطل؛ لكن تارة تكون المعارضة‬
‫وقحة صريحة‪ ،‬كما يفعل الكفرة أو الذين قد تزلزل إيمانهم‪ ،‬أو‬
‫كاد أن يزول‪ ،‬فهؤلء يتكلمون بالمعارضات في شرع الله وقدره‪،‬‬
‫وأحياًنا ل يتكلم بها لكن تكون في النفس‪.‬‬
‫والمسلم يجب عليه أن يدفع كل المعارضات التي تخطر‬
‫بباله‪ ،‬أو يسمعها على ألسن الشياطين‪ ،‬أو ألسن الجاهلين‪ ،‬يدفع‬
‫ذلك باليمان بأن الله تعالى حكم عدل‪ ،‬حكيم عليم‪.‬‬
‫وهذا ل يقتضي أن الشرع مخالف للعقل؛ بل العقل الصريح‬
‫ل يناقض النقل الصحيح؛ لكن العقل مع النقل له طاقة وله‬

‫‪78‬‬
‫حدود‪ ،‬فل يمكن لعقل النسان أن يدرك ويحيط بكل شيء؛ بل له‬
‫حدود يقف عندها؛ لن النسان ناقص‪ ،‬فل يمكن أن كل سؤال‬
‫تجيب عليه‪ ،‬أو يجاب عليه‪ ،‬فل بد من أن تقول‪ :‬الله أعلم‪ ،‬الله‬
‫حكيم عليم‪.‬‬
‫فإذا سلم النسان استراح كثيرا وأراح‪ ،‬وما يرد عليك من‬
‫المعارضات‪:‬‬
‫إما أن تدفعه بالبينات والحجج الكاشفة لزيف تلك الشبهات‬
‫الواردة‪.‬‬
‫وإن لم يتهيأ ذلك لقلة العلم فادفعه بهذا الصل وقل‪ :‬آمنت‬
‫بالله ورسوله‪ ،‬فإن الشيطان يلقي الوساوس في النفوس‪.‬‬
‫والرسول ‪ ‬ما ترك شيئا يقرب أمته إلى الجنة‪ ،‬ويبعدهم‬
‫من النار إل دلهم عليه‪ ،‬ول ترك أمرا يحتاجون إليه في دينهم إل‬
‫ن أحدكم فيقول‪ :‬من خلق كذا‪،‬‬ ‫بينه‪ ،‬وقد قال ‪) : ‬يأتي الشيطا ُ‬
‫من خلق كذا‪ ،‬حتى يقول‪ :‬من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله‬
‫ولينته(‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(3276‬ومسلم )‪ (134‬من حديث أبي‬
‫هريرة ‪[‬‬
‫وفي لفظ آخر‪) :‬فليقل‪ :‬آمنت بالله ورسله( ]عند مسلم في‬
‫الموضع السابق[‬
‫فهل بعد هذا الوسواس وسواس؟!‬
‫فإن ورد عليك ادفعه بسرعة بالعلج النبوي‪:‬‬
‫فقاطع الوسواس‪ ،‬ول تسترسل معه‪ ،‬واترك التفكير‪ ،‬وقل‪:‬‬
‫أعوذ بالله من الشيطان‪ ،‬آمنت بالله ورسله؛ فأنك إذا تفكرت فيه‬
‫زاد وطمع الشيطان فيك؛ لنه وجد عندك قابلية للوسواس‪.‬‬
‫وانظر إلى إيمان الصحابي الذي وجد مثل هذا‪ ،‬فجاء مذعورا‬
‫يتذمر‪ ،‬ويقول‪ ) :‬يا رسول الله‪ ،‬إني أحدث نفسي بالشيء ما لو‬
‫أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به‪ .‬فقال النبي ‪ :‬الله‬
‫أكبر‪ ،‬الله أكبر‪ ،‬الله أكبر‪ ،‬الحمد لله الذي رد كيده إلى‬
‫الوسوسة { ]رواه أحمد ‪1/235‬ـ واللفظ له ـ‪ ،‬وأبو داود )‬
‫‪ ،(5112‬وصححه ابن حبان )‪ (147‬من حديث ابن عباس ‪[‬‬
‫وقال في لفظ آخر‪ } :‬ذاك صريح اليمان { ]رواه مسلم )‬
‫‪ (132‬من حديث أبي هريرة ‪[‬‬
‫والمراد كراهة هذا الوسواس‪ ،‬وبغضه والخوف منه‪ ،‬وهذا‬
‫نابع من اليمان‪ ،‬فبقدر إيمان العبد وقوته يكون موقفه من تلك‬
‫الفكار والوساوس‪.‬‬
‫وهذا كله يرجع إلى التسليم فأي شبهة‪ ،‬أو فكر‪ ،‬أو خاطر‪ ،‬أو‬
‫قول يعارض الحق فهو باطل‪ ،‬وهذا المبدأ عصمة للمسلم من‬
‫كثير من الشرور والشبهات والضللت‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫فالتسليم لله ولرسوله ‪ ،‬معتصم للمسلم أمام كل باطل‬
‫وكل مجادل‪ ،‬فل يعط لعقله الحرية التي تسمى حرية العقل‪،‬‬
‫وليست حرية للعقل؛ بل عبودية للشيطان‪ ،‬وخروج عن عبودية‬
‫الله‪ ،‬فليكن هذا الصل على بالك‪ ،‬فكل ما يخالف الحق الذي جاء‬
‫عن الله تعالى ورسوله ‪ ‬؛ فهو باطل من الوهلة الولى‪ ،‬وليس‬
‫بلزم أن يكون النسان عنده القدرة على تزييف تلك الشبهة‪،‬‬
‫المهم أن الحق عنده ثابت‪ ،‬فما ُيدعى أن هذا يعارضه فهو مردود‬
‫مدفوع‪ ،‬فاعتصم بالحق واثبت عليه واطرح كل ما خالفه‪.‬‬
‫وأحببت أن أؤكد على هذا فإنه ينفع المسلم ويريح باله عند‬
‫ورود الشبهات على قلبه‪]،‬اليمان الكبير ‪ ،7/282‬ومفتاح دار‬
‫السعادة ‪ [1/140‬فقد انفتح على الناس أبواب شر في هذا‬
‫العصر ممثلة في وسائل العلم‪ ،‬وفي الشبكة العنكبوتية‪ ،‬فهي‬
‫وسائل عظيمة الثر في الخير والشر؛ ولكن أكثر ما تستعمل في‬
‫الشر؛ لن أكثر الناس على غير هدى‪ ،‬فكن على حذر مما يطرح‬
‫في هذه الوسائل‪ ،‬فقد أصبح الناس في فتنة مدلهمة‪ ،‬فكل‬
‫يستطيع أن يتكلم بما يريد‪ ،‬الملحد والمبتدع والذي ينتسب للسنة‬
‫فإن من المنتسبين للسنة من تسربت إليه أفكار وتوجهات‬
‫فيحملها ويحمل لواءها‪ ،‬فيصير ـ والعياذ بالله ـ داعي فتنة‪ ،‬سواء‬
‫مما يتعلق بالعتقادات أو بالسلوكيات‪.‬‬
‫وقوله رحمه الله‪) :‬فمن رام علم ما حظر عنه علمه‪ ،‬ولم‬
‫يقنع بالتسليم فهمه‪ ،‬حجبه مرامه عن خالص التوحيد‪ ،‬وصافي‬
‫المعرفة‪ ،‬وصحيح اليمان( ‪.‬‬
‫هذا بيان لثر عدم التسليم‪) ،‬من رام( يعني‪ :‬طلب )ما حظر‬
‫عنه علمه( يعني‪ :‬حجب عنه ومنع من علمه‪) ،‬ولم يقنع بالتسليم(‬
‫فهو كثير العتراض والسؤال‪ ،‬فيقول‪ :‬ـ مثل ـ لم خلق الله‬
‫الحشرات؟ لم خلق الله هذه المؤذيات؟ لم خلق الله الناس هذا‬
‫دميم‪ ،‬و هذا قصير؟ لم أضل من أضل من الخلق؟ لم أغنى هذا‬
‫كم الله في تقديراته‪ ،‬ففي نفسه‬ ‫ح ِ‬
‫وأفقر هذا؟ في تساؤلت عن ِ‬
‫اعتراضات!‬
‫ومن الشياء التي تجري على بعض اللسن ـ وهي نابعة من‬
‫عدم التسليم ـ‪) :‬فلن والله ما يستحق أنه يبتلى بهذه المراض‬
‫والوجاع والمصائب أو يبتلى بالفقر( هذا اعتراض على تدبير‬
‫أحكم الحاكمين‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬فمن رام علم ما حظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم(‬
‫فيريد أن يفهم كل شيء‪ ،‬وهذا ل يمكن؛ لن عقل النسان له‬
‫كم الله في‬‫ح ِ‬
‫حد‪ ،‬فل يمكن أن يعرف أسرار الوجود‪ ،‬وتفاصيل ِ‬
‫أقداره‪ ،‬وإن لم يسلم لله؛ )حجبه مرامه عن خالص التوحيد‬

‫‪80‬‬
‫وصافي المعرفة وصحيح اليمان( هذه هي النتيجة‪ ) ،‬حجبه‬
‫مرامه( أي‪ :‬منعه طلبه وتكلفه‪ ،‬معرفة ما هو محجوب عنه‪ ،‬عن‬
‫خالص التوحيد وصحيح اليمان‪ ،‬فالتكلف وطلب ما ل سبيل إلى‬
‫معرفته ينافي تحقيق التوحيد‪ ،‬فتحقيق التوحيد يقتضي التسليم؛‬
‫لن التسليم والستسلم لله هو موجب التوحيد واليمان الصحيح‬
‫ن‬ ‫عل ْ ٌ‬
‫م إِ ّ‬ ‫س لَ َ‬
‫ك ب ِهِ ِ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬
‫ف َ‬ ‫ق ُ‬ ‫والمعرفة الحقة‪ ،‬قال تعالى‪َ )) :‬ول ت َ ْ‬
‫سُئول ً ((]السراء‪:‬‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ن ع َن ْ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ك َ‬‫ل أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ؤاد َ ك ُ ّ‬ ‫صَر َوال ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫معَ َوال ْب َ َ‬
‫س ْ‬
‫ال ّ‬
‫َ‬
‫ن ((]البقرة‪ [169:‬ومما‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬‫قوُلوا ع ََلى الل ّهِ َ‬ ‫ن تَ ُ‬
‫‪ )) ،[36‬وَأ ْ‬
‫ن أن يقول النسان على الله ما ل يعلم‪.‬‬ ‫يأمر به الشيطا ُ‬

‫]سوء عاقبة من لم يسلم لخبر الله تعالى ورسوله ‪[r‬‬


‫وقوله‪) :‬فيتذبذب بين الكفر واليمان‪ ،‬والتصديق والتكذيب‪،‬‬
‫والقرار والنكار‪ ،‬موسوسا تائها‪ ،‬شاكا زائغا(‪.‬‬
‫من ) لم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه ‪ ( ...‬فيبقى‬
‫ك ((]النساء‪:‬‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫ن ب َي ْ َ‬‫مذ َب ْذ َِبي َ‬ ‫متذبذبا مترددا كحال المنافق )) ُ‬
‫ؤلِء ((‬ ‫ؤلِء َول إ َِلى هَ ُ‬ ‫‪ [143‬بين المؤمنين والكفار )) ل إ َِلى هَ ُ‬
‫]النساء‪ [143:‬فبسبب عدم التسليم والنقياد لما جاء به الرسول‬
‫‪ ‬يبقى مترددا‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬فيتذبذب بين الكفر واليمان( إما أنه يقع في الكفر‬
‫العظم ِفعل فيصير مرتدا ثم يرجع‪ ،‬وهذا يحصل تارة ظاهرا‪ ،‬كما‬
‫فُروا ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫م كَ َ‬‫مُنوا ث ُ ّ‬ ‫مآ َ‬ ‫فُروا ث ُ ّ‬ ‫م كَ َ‬ ‫مُنوا ث ُ ّ‬‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قال الله‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫فَرا ً ((]النساء‪.[137:‬‬ ‫دوا ك ُ ْ‬ ‫دا ُ‬‫اْز َ‬
‫ويحصل تارة داخل القلب فقط‪ ،‬فل يتبين أمره‪ ،‬وقد يرجع‬
‫إلى اليمان‪ ،‬وقد ل يرجع ـ والعياذ بالله ـ‪ ،‬وقد يتردد ويكون عنده‬
‫حالة من الحرج والضيق فيما جاء وحكم به الرسول ‪ ، ‬ولهذا‬
‫جَر‬‫ش َ‬ ‫ما َ‬ ‫ك ِفي َ‬‫مو َ‬ ‫حك ّ ُ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ك ل ي ُؤ ْ ِ‬ ‫قال سبحانه‪َ )) :‬فل وََرب ّ َ‬
‫ت ((]النساء‪.[65:‬‬ ‫ضي ْ َ‬ ‫ما قَ َ‬ ‫م ّ‬‫جا ً ِ‬ ‫حَر َ‬ ‫م َ‬ ‫سه ِ ْ‬
‫ف ِ‬‫دوا ِفي َأن ُ‬ ‫ج ُ‬ ‫م ل يَ ِ‬ ‫م ثُ ّ‬‫ب َي ْن َهُ ْ‬

‫وقوله‪) :‬والتصديق والتكذيب‪ ،‬والقرار والنكار( هذه الكلمات‬


‫متقاربة‪ ،‬فالكفر يكون بالتكذيب والنكار‪ ،‬واليمان يكون‬
‫بالتصديق والقرار‪ ،‬فهذا تنويع في التعبير‪ ،‬وإن كانت اللفاظ‬
‫مختلفة المعاني لكنها متلزمة‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬موسوسا تائها(‬
‫فيبقى متذبذبا بين هذه الضداد )موسوسا تائها( فالوساوس‬
‫التي يلقيها الوسواس الخناس تجعله في حيرة‪ ،‬فما يخطر بالبال‬
‫من شبهات وأفكار تعارض الحق كلها من إلقاء الشيطان‪ ،‬فهو‬
‫مسلط على النسان‪ ،‬والنسان مبتلى بالشيطان‪ ،‬هو عدو خفي‪،‬‬

‫‪81‬‬
‫والله سبحانه وتعالى أقدره على أن يوسوس للنسان‪ ،‬والقلب‬
‫بين حالتين‪:‬‬
‫مةِ الشيطان؛ فلمة الملك لقلب المؤمن‬ ‫مةِ الملك‪ ،‬وَلـ ّ‬
‫بين َلـ ّ‬
‫المسلم‪ ،‬أما الكافر فقد أحاط الشيطان به‪ ،‬وليس للملك فيه‬
‫لمة‪ » ،‬فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ‪ ،‬ولمة الشيطان‬
‫إيعاد بالشر وتكذيب بالحق« ‪]،‬رواه الترمذي )‪ ،(2988‬والبزار )‬
‫‪ ،(2027‬والنسائي في الكبرى )‪ ،(11051‬وابن حبان )‪ (997‬من‬
‫حديث ابن مسعود ‪ ،‬ورجح الئمة وقفه‪ ،‬انظر‪ :‬علل الترمذي‬
‫الكبير )‪ ،(654‬والعلل لبن أبي حاتم )‪ ،(2224‬ومصادر التخريج[‬
‫فالشيطان يوسوس‪ ،‬فيبقى هذا المتكلف الذي لم يوفق للتسليم‬
‫متذبذبا موسوسا‪ ،‬فقلبه في هذه الوساوس فتجعله في تردد‪،‬‬
‫ن ((‬‫دو َ‬
‫م ي َت ََرد ّ ُ‬ ‫كما قال سبحانه في المنافقين‪ )) :‬فَهُ ْ‬
‫م ِفي َري ْب ِهِ ْ‬
‫]التوبة‪ [45:‬فهو يتقلب‪ ،‬فتارة يكون مؤمنا‪ ،‬وتارة كافرا‪ ،‬وتارة‬
‫حائرا‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬شاكا زائغا( أي‪ :‬مترددا تائها‪ ،‬زائغا منحرفا‪ ،‬قال‬


‫تعالى‪ )) :‬فَل َما زا ُ َ‬
‫ما‬‫ذا َ‬ ‫م ((]الصف‪ )) [5:‬وَإ ِ َ‬ ‫ه قُُلوب َهُ ْ‬ ‫غوا أَزاغ َ الل ّ ُ‬ ‫ّ َ‬
‫َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ُ‬
‫حد ٍ ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ي ََراك ُ ْ‬ ‫ض هَ ْ‬ ‫لى ب َعْ ٍ‬ ‫ضه ُ ْ‬‫سوَرة ٌ ن َظ ََر ب َعْ ُ‬ ‫ت ُ‬ ‫أنزِل َ ْ‬
‫َ‬
‫ن ((]التوبة‪[127:‬‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬
‫م ل يَ ْ‬ ‫م قَوْ ٌ‬ ‫م ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ه قُُلوب َهُ ْ‬ ‫ف الل ّ ُ‬ ‫صَر َ‬ ‫صَرُفوا َ‬ ‫ان َ‬
‫سّلما لله عز‬ ‫م َ‬ ‫فهذه آثار عدم التسليم‪ ،‬وعكس ذلك من كان ُ‬
‫وجل‪ ،‬ولرسوله ‪ ‬قد قام دينه على التسليم‪ ،‬فأصبح ثابت القلب‬
‫ليس عنده تردد ول تذبذب ول حيرة ول قلق‪ ،‬بل هو يسير على‬
‫َ‬
‫صراط واضح مستقيم‪ ،‬يمشي بنور من الله‪ ،‬قال تعالى‪َ )) :‬يا أي َّها‬
‫ه‬
‫مت ِ ِ‬
‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م كِ ْ َ‬ ‫سول ِهِ ي ُؤ ْت ِك ُ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫فلي ْ ِ‬ ‫مُنوا ب َِر ُ‬ ‫ه َوآ ِ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬
‫ن ب ِهِ ((]الحديد‪ [28:‬فالمؤمن الصحيح‬ ‫شو َ‬ ‫م ُ‬ ‫م ُنوَرا ً ت َ ْ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬
‫جعَ ْ‬ ‫وَي َ ْ‬
‫التوحيد يمشي في هذه الحياة بنور الحق‪ ،‬فيعرف مواقع أقدامه‪،‬‬
‫َ‬
‫ما ً َفات ّب ُِعوهُ‬ ‫قي َ‬‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫طي ُ‬ ‫صَرا ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫والطريق الذي يسير عليه )) وَأ ّ‬
‫ل ((]النعام‪ [153:‬لكن هذا المتذبذب ل يدري أين‬ ‫سب ُ َ‬ ‫َول ت َت ّب ُِعوا ال ّ‬
‫طريق النجاة‪ ،‬فهو متذبذب متردد بين التصديق والتكذيب‬
‫والقرار والنكار فهو في حيرة دائمة؛ لن الشك والحيرة عذاب‪،‬‬
‫أما المؤمن فقلبه في نعيم‪ ،‬وكلمنا هذا في إنسان ينتمي‬
‫للسلم‪ ،‬أما الكافر فهو غارق في بحر الضلل والكفر‪ ،‬فليس‬
‫عنده تفكير‪ ،‬وتردد بين حق وباطل وإقرار وإنكار وإيمان وكفر؛‬
‫بل عنده كفر خالص وإنكار دائم تام؛ لكن هذا الذي ينتمي للدين‪،‬‬
‫ويدعي اليمان‪ ،‬ولكنه لم يكن مستقيما مسلما مستسلما‪ ،‬فهذا‬
‫الذي يحصل له ما يحصل من الضطراب والقلق‪ ،‬فإما أن يعصمه‬
‫الله ويثبته ويوفقه؛ فيثبت على اليمان وينجو من هذه الوساوس‬

‫‪82‬‬
‫والشكوك‪ ،‬وإما أن يقوى في قلبه سلطان الباطل؛ فيصير إلى‬
‫الكفر دائما ول يكون عنده تردد ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ل مؤمنا مصدقا ول جاحدا مكذبا‪ ،‬ول يصح اليمان‬
‫بالرؤية لهل دار السلم لمن اعتبرها منهم بوهم‪ ،‬أو تأولها بفهم‪،‬‬
‫إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ‬
‫بترك التأويل‪ ،‬ولزوم التسليم‪ ،‬وعليه دين المسلمين(‪.‬‬
‫هذا كأنه كلم معترض من قوله‪) :‬ل ندخل في ذلك متأولين‬
‫بآرائنا ول متوهمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه‪ (...‬واسترسل‬
‫في هذه الكلمات في التأكيد والحث على التسليم والستسلم‬
‫والتحذير من ضد ذلك‪ ،‬وبيان الثار المترتبة على عدم التسليم‬
‫والستسلم‪ ،‬فكل هذا الكلم معترض في ثنايا كلمه في تقرير‬
‫رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة‪ ،‬وب َّين أن من أثبت الرؤية على‬
‫خلف ظاهر النصوص‪ ،‬أو تخيل كيفيتها بوهم‪ ،‬أو تأولها بفهم‪ ،‬كما‬
‫صنع المعطلة نفاة الرؤية‪ ،‬فل يصح إيمانه برؤية المؤمنين‬
‫لربهم ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى‬
‫الربوبية ـ بترك التأويل ولزوم التسليم‪ ،‬وعليه دين المسلمين(‪.‬‬
‫فالصراط المستقيم والمنهج القويم‪ :‬بترك التأويل الذي‬
‫معناه‪ :‬صرف الكلم عن ظاهره إلى غيره‪ ،‬أو صرف اللفظ عن‬
‫الحتمال الراجح إلى احتمال مرجوح‪.‬‬
‫فتأويل الرؤية يعني‪ :‬تفسيرها‪ ،‬وتفسير كل معنى يضاف إلى‬
‫الرب من صفاته سبحانه وتعالى بترك التفسير‪ ،‬ومثل هذه‬
‫العبارة توهم ـ أيضا ـ التفويض‪ ،‬كقول السلف‪» :‬أمروها كما‬
‫جاءت بل كيف«‪ ،‬فتفسيرها بترك تفسيرها‪ ،‬وهذا ل يقصده‬
‫السلف‪ ،‬فإنه قد علم أن أهل السنة يثبتون حقيقة الرؤية‪ ،‬وأنها‬
‫رؤية بصرية‪ ،‬ويصرحون بذلك‪ ،‬ويثبتون لله الصفات بالمعاني‬
‫المعقولة المفهومة من النصوص‪ ،‬فإذا جاءت مثل هذه العبارات‬
‫فل بد أن نفهمها على وجهها الصحيح‪ ،‬أمروها كما جاءت‪ :‬أجروها‬
‫على ظاهرها‪ ،‬مثبتين لما دلت على ثبوته‪ ،‬بل بحث عن الكيفية‪،‬‬
‫ول تحديد ل ِك ُن ْهِ تلك الصفات‪ ،‬وليس المقصود‪ :‬أمروها ألفاظا من‬
‫غير فهم للمعنى! هذا باطل؛ لن معناه أننا ما أثبتنا شيئا‪.‬‬
‫فتفسيرها أن نجريها على ظاهرها بترك صرفها عن ظاهرها‪،‬‬
‫بترك التأويل في اصطلح المتأخرين‪ ،‬ونجد في كلم بعض الئمة‬
‫مثل نحو هذه الكلمة‪ :‬الواجب في هذه النصوص عدم تأويلها‪ ،‬أو‬
‫إجراؤها على ظاهرها بترك التأويل‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫ك التفسير مطلقا‪ ،‬فيكون كلما ل يفهم‬ ‫ك التأويل ليس تر َ‬
‫وتر ُ‬
‫معناه؛ لن الكلم الذي ل يفهم معناه ل فائدة منه‪ ،‬تعالى الله‬
‫عما يقول الجاهلون والظالمون علوا كبيرا‪.‬‬
‫المقصود‪ :‬أن عبارة الطحاوي من جنس عبارات بعض‬
‫السلف التي توهم أنه يقرر التفويض وليس كذلك‪ ،‬إذ كيف يقول‪:‬‬
‫)الرؤية حق لهل الجنة( إذا كانت الرؤية ل تفسر ول تفهم‪ ،‬فل‬
‫معنى لقوله‪) :‬حق(‪.‬‬
‫فمن يقول‪ :‬إن الله خاطب عباده بما ل يفهم منه شيء ل‬
‫يجوز أن يتكلم في النصوص بأنها تدل على كذا‪ ،‬أو ل تدل على‬
‫كذا‪ ،‬كما أوضح ذلك شيخ السلم ابن تيمية في آخر القاعدة‬
‫الخامسة من الرسالة التدمرية‪ ،‬يقول‪) :‬وهؤلء( يعني‪ :‬أهل‬
‫التفويض )قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما ل يفهمه أحد‪ ،‬أو‬
‫بما ل معنى له‪ ،‬أو بما ل يفهم منه شيء‪ ،‬وهذا مع أنه باطل فهو‬
‫متناقض( إلى آخره‪] .‬التدمرية ص ‪[329‬‬

‫]مذهب أهل السنة في إثبات الصفات وسط بين المعطلة‬


‫والمشبهة[‬
‫وقوله‪) :‬ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه(‬
‫الناس في باب السماء والصفات ثلث طوائف‪:‬‬
‫الطائفة الولى‪ :‬المعطلة نفاة السماء والصفات‪ :‬الجهمية‬
‫ورأسهم الجهم بن صفوان ومن تبعه‪ ،‬والمعتزلة ومن وافقهم‪.‬‬
‫والطائفة الثانية‪ :‬المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه‪.‬‬
‫فهما طائفتان متقابلتان على طرفي نقيض‪ ،‬المعطلة‬
‫يزعمون أنهم بنفيهم للصفات يقصدون تنزيه الله عن مشابهة‬
‫المخلوقات‪ ،‬فأظهروا الباطل بصورة من الحق‪ ،‬فأفرطوا في‬
‫التنزيه‪ ،‬وتجاوزوا الحدود حتى وقعوا في اللحاد والضلل البعيد‪.‬‬
‫والمشبهة أثبتوا لله الصفات لكنهم شبهوه بخلقه‪ ،‬يقول‬
‫قائلهم‪ :‬له سمع كسمعنا وبصر كبصرنا‪ ،‬فأفرطوا في الثبات‬
‫حتى شبهوا الله بخلقه‪.‬‬
‫وكلتا الطائفتين زائغتان عن الصراط المستقيم‪.‬‬
‫والطائفة الثالثة‪ :‬أهل الصراط المستقيم ـ أهل السنة‬
‫والجماعة ـ الذين آمنوا بكل ما أخبر الله به عن نفسه‪ ،‬وأخبر به‬
‫عنه رسوله ‪ ، ‬فهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه‪ ،‬أو‬
‫وصفه به رسوله ‪ ‬من غير تحريف ول تعطيل‪ ،‬ول تكييف ول‬
‫تمثيل‪ ،‬فمذهبهم بريء من التحريف والتعطيل‪ ،‬والتكييف‬
‫والتمثيل‪ ،‬ولهذا قال نعيم بن حماد ـ رحمه الله ـ ذلك الثر‬
‫الجليل‪) :‬من شبه الله بخلقه كفر‪ ،‬ومن جحد ما وصف الله به‬

‫‪84‬‬
‫نفسه كفر‪ ،‬وليس فيما وصف الله به نفسه ول رسوله تشبيه(‬
‫]تقدم[ليس إثبات الصفات من التشبيه في شيء؛ بل إثبات‬
‫الصفات هو التوحيد‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ومن لم يتوق( يجتنب ويحذر )من النفي( نفي‬
‫السماء والصفات‪ ،‬وهو التعطيل‪) ،‬والتشبيه( من لم يجتنب‬
‫ويحذر هذين المذهبين الباطلين )زل( زلت قدمه عن الصراط‬
‫المستقيم )ولم يصب التنزيه( يعني‪ :‬المعطلة زعموا أنهم ينزهون‬
‫الله‪ ،‬وما نزهوا الله؛ بل تنقصوه تعالى أعظم تنقص‪ ،‬والمشبهة‬
‫الذين قالوا‪ :‬إن الله له سمع كسمعنا‪ ،‬هؤلء وإن كان مذهبهم‬
‫باطل؛ فإنهم خير من المعطلة النفاة‪ ،‬ولهذا قال بعض أهل العلم‪:‬‬
‫)إن المعطل يعبد عدما‪ ،‬والمشبه يعبد صنما( ]مجموع الفتاوى‬
‫‪[5/261‬؛ لن نفي السماء والصفات يستلزم نفي الذات‪ ،‬فكلهم‬
‫مبطلون؛ لكن الذي يعبد موجودا أعقل من الذي يعبد معدوما‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬فإن ربنا جل وعل موصوف بصفات الوحدانية‪،‬‬


‫منعوت بنعوت الفردانية‪ ،‬ليس في معناه أحد من البرية(‪.‬‬
‫المصنف ـ رحمه الله ـ يتحرى السجع؛ لنه يروق للسامع‪،‬‬
‫فهو من جنس الشعر )فإن ربنا موصوف بصفات الوحدانية( هذه‬
‫الكلمات فيها تنويع في التعبير‪ ،‬وتحسينات لفظية مترادفة تقريبا‪،‬‬
‫والوحدانية نسبة للواحد بزيادة )نون(‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬منعوت بنعوت الفردانية( نسبة للفرد‪) ،‬ليس في‬
‫ل من خلقه‪ ،‬فالجمل الثلث‬ ‫مث ٌ‬ ‫معناه أحد من البرية( ليس له ِ‬
‫مدلولها واحد‪ ،‬و تتضمن أمرين‪:‬‬
‫إثبات أنه الواحد‪.‬‬
‫ونفي الشريك والمثيل عنه سبحانه وتعالى؛ فهو الواحد الذي‬
‫م ُيول َد ْ *‬ ‫ل هُو الل ّ َ‬
‫م ي َل ِد ْ وَل َ ْ‬
‫مد ُ * ل َ ْ‬‫ص َ‬‫ه ال ّ‬ ‫حد ٌ * الل ّ ُ‬
‫هأ َ‬‫ُ‬ ‫ل نظير له )) قُ ْ َ‬
‫َ‬
‫حد ٌ ((]الخلص‪.[4:‬‬ ‫فوَا ً أ َ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه كُ ُ‬ ‫وَل َ ْ‬
‫م ي َك ُ ْ‬
‫حد ُ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫وا ِ‬ ‫ن إ ِل َهٍ إ ِّل الل ّ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫واسم )الواحد( ثابت في القرآن } وَ َ‬
‫َ‬
‫حد ٌ ((]الخلص‪.[1:‬‬ ‫هأ َ‬ ‫ل هُوَ الل ّ ُ‬ ‫قّهاُر{ ]ص‪ [65:‬وهو الحد )) قُ ْ‬ ‫ال ْ َ‬

‫]الواجب في اللفاظ المحدثة في صفاته تعالى[‬


‫وقوله‪) :‬وتعالى عن الحدود والغايات‪ ،‬والركان والعضاء‬
‫والدوات‪ ،‬ل تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات(‪.‬‬
‫كلمة )تعالى( تفيد التنزيه‪ ،‬وجاءت في القرآن في مواضع‪)) :‬‬
‫ن{‬ ‫شرِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫ما ي ُ ْ‬
‫ه عَ ّ‬ ‫ه وَت ََعاَلى ((]النعام‪)) ،[100:‬ت ََعاَلى الل ّ ُ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫ك ((]العراف‪:‬‬ ‫ه (( و)) ت ََباَر َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫]النمل‪ ،[63:‬وهي من جنس )) ُ‬
‫‪ [54‬فكلها ألفاظ تفيد التنزيه‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫)تعالى( تنزه وتقدس‪ ،‬وهذه اللفاظ التي استعملها المام‬
‫الطحاوي ـ عفا الله عنا وعنه ـ لم ترد في كتاب ول سنة‪ ،‬فليس‬
‫في شيء من النصوص هذا النوع من النفي‪ ،‬فليته لم يأت بهذه‬
‫العبارات التي هي من جنس عبارات أهل البدع؛ فإنهم يأتون‬
‫بألفاظ محدثة ومجملة‪ ،‬والقاعدة في اللفاظ المحدثة المجملة‪:‬‬
‫التوقف عن الحكم على قائلها أو عليها إل بعد الستفصال؛ فإن‬
‫قا قبلنا ما أراد‪ ،‬وإن أراد باطل؛ رددنا الباطل‪ ،‬وإن‬
‫أراد منها ح ً‬
‫أراد حقا وباطل؛ وقفنا اللفظ‪ ،‬وقبلنا الحق‪ ،‬ورددنا الباطل‪.‬‬
‫]التدمرية ص ‪ ،204‬ومجموع الفتاوى ‪ ،3/347‬و ‪ ،5/305‬و‬
‫‪ ،12/114‬ومنهاج السنة ‪2/217‬و ‪ ،554‬ودرء تعارض العقل‬
‫‪1/76‬و ‪[238‬‬
‫وهذا الموقف هو موقف العدل والنصاف‪ ،‬فإن الموافقة‬
‫على مثل ذلك يؤدي إلى الوقوع في الباطل وموافقة المبطل‪،‬‬
‫والمبادرة بالرد يؤدي إلى رد الحق؛ لن المتكلم بذلك قد يريد‬
‫حقا‪ ،‬فكان التوقف والستفصال فيه مخرج من التورط برد الحق‪،‬‬
‫أو الموافقة على الباطل‪ ،‬هذه قاعدة مقررة معروفة‪ ،‬وهي منهج‬
‫من مناهج الجدل والمناظرة‪.‬‬
‫ونأتي لهذه الكلمات‪) :‬تعالى عن الحدود( هذا لفظ مجمل‪،‬‬
‫والحد يطلق ويراد به تحديد الماهية‪ ،‬مثل الحد عند المناطقة‪،‬‬
‫أي‪ :‬التعريف الذي يتضمن تحديد كنه الشيء وماهيته؛ فإن أريد‬
‫هذا فهو ممتنع‪ ،‬إذ ل سبيل إلى تحديد الرب تعالى وذكر حقيقته‪،‬‬
‫فتعالى عن أن يحده الحادون‪ ،‬وأن يصلوا إلى معرفة كنهه‬
‫وحقيقته‪ ،‬قال شيخ السلم‪» :‬أهل العقول هم أعجز عن أن‬
‫يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها« ]التدمرية‬
‫ص ‪ ، [179‬فهذا المعنى حق‪ ،‬تعالى الله عن أن يدرك أحد حقيقة‬
‫ذاته أو حقيقة صفاته‪.‬‬
‫ويأتي لفظ )الحد( ويراد به أنه سبحانه وتعالى ليس ساريا‬
‫في العالم حال في المخلوقات؛ بل هو فوق سماواته‪ ،‬وهذا‬
‫المعنى جاء عن المام ابن المبارك‪ ،‬لما قيل له‪ :‬بماذا نعرف‬
‫ربنا؟ قال‪» :‬بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه‪ .‬قيل‪:‬‬
‫بحد؟ قال‪ :‬بحد« ]نقض عثمان بن سعيد ص ‪ 57‬والرد على‬
‫الجهمية ص ‪ ،48‬والسنة لعبد الله بن أحمد ‪ ،1/174‬والبانة‬
‫‪ ، 3/158‬وانظر‪ :‬بيان تلبيس الجهمية ‪[3/42‬‬
‫وقوله‪) :‬والغايات( الغاية تطلق ويراد بها النهاية‪ ،‬وتطلق‬
‫ويراد بها المقصود من الفعل‪ ،‬أي‪ :‬الحكمة منه‪ ،‬فإذا أريد أن الله‬
‫تعالى منزه عن أن تكون له غايات في أفعاله؛ فهذا باطل؛ لن‬
‫الله له الحكمة البالغة في خلقه وفي شرعه‪ ،‬يقول شيخ السلم‬

‫‪86‬‬
‫ـ رحمه الله ـ في التدمرية ]ص ‪ » :[123‬والغايات المحمودة في‬
‫مفعولته ومأموراته ـ وهي ما تنتهي إليه مفعولته ومأموراته من‬
‫العواقب الحميدة ـ تدل على حكمته البالغة«‪.‬‬
‫ومن العلل والحكم ما علمناه بالنص عليه في الكتاب أو‬
‫السنة‪ ،‬ومنها ما ُيهتدى إليه بالتدّبر والتفكر‪ ،‬ومنها ما طوى الله‬
‫علمه عن عباده ؛ فالعباد ل يحيطون بحكمته تعالى‪] .‬وانظر‪ :‬ص[‬
‫عند قوله‪ :‬وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله[‬
‫وكذلك إذا أريد بنفي الغايات‪ :‬نفي أن يكون الله في السماء‬
‫فوق العرش؛ وأنه في كل مكان‪ ،‬كقول الجهمية الحلولية‪.‬‬
‫فنفي الغايات من النفي المحدث لمعان أو ألفاظ مجملة‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬والركان والعضاء والدوات( ل حول ول قوة إل‬
‫بالله! عفا الله عن المؤلف وغفر الله لنا وله! ماذا يريد بالركان‬
‫و العضاء والدوات؟! لقد كان في غنى عن هذا الكلم‪ ،‬أين الية‬
‫أو الحديث الذي فيه هذا اللفاظ؟‬
‫الركان‪ :‬الجوانب‪ ،‬والعضاء التي في النسان والحيوان هي‬
‫أجزاؤه التي يمكن أن تتبعض والمخلوق يتبعض‪ ،‬فالنسان يتجزأ‪،‬‬
‫وأجزاؤه يقال لها‪ :‬أعضاء؛ لنه يمكن انفصالها‪.‬‬
‫فنفي العضاء بمعنى تعالى أنه منزه عن التجزؤ‪ ،‬حق فالله‬
‫دث‬‫منزه عن التجزؤ‪ ،‬فهو تعالى أحد صمد؛ لكن هذا التعبير المح َ‬
‫يمكن أن يفهم منه المبطل نفي بعض الصفات؛ لن قوله‪:‬‬
‫)والعضاء( يحتمل نفي بعض الصفات الذاتية كالوجه والعينين‬
‫واليدين‪ ،‬فيقول المبطل‪ :‬هذه أعضاء‪ ،‬فننفي العضاء‪ ،‬وهذا‬
‫باطل‪ ،‬ونرجو أن المؤلف لم يرد هذا‪ ،‬وإنما أراد نفي ما يحصل ما‬
‫به مماثلة المخلوق للخالق‪ ،‬لسيما أنه قال‪) :‬موصوف بصفات‬
‫الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية‪ ،‬ليس في معناه أحد من‬
‫البرية( فهو في مقام تنزيه الله عن مماثلة المخلوقات‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬ل تحويه الجهات الست(‪.‬‬


‫الجهات الست‪ :‬فوق وتحت‪ ،‬وأمام وخلف‪ ،‬ويمين وشمال‪.‬‬
‫والمبدعات‪ :‬المخلوقات‪.‬‬
‫وهذه ـ أيضا ـ من اللفاظ المجملة؛ فنفي الجهة عن الله‬
‫لفظ مجمل مبتدع‪ ،‬ليس في كتاب الله تعالى ول سنة ‪‬؛ أن‬
‫و‬
‫الله ليس في جهة؛ بل النصوص مصرحة بأنه تعالى فوق‪ )) :‬وَهُ َ‬
‫ماِء ((‬ ‫ََ‬ ‫قاه ُِر فَوْقَ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫س َ‬
‫ن ِفي ال ّ‬
‫م ْ‬
‫م َ‬ ‫منت ُ ْ‬
‫عَباد ِهِ ((]النعام‪ )) [18:‬أأ ِ‬
‫ش‬ ‫ْ‬ ‫م ُ َ‬
‫ن ع َلى العَْر ِ‬ ‫ح َ‬
‫]الملك‪ [16:‬فهو سبحانه في العلو‪ )) ،‬الّر ْ‬
‫وى ((]طه‪ [5:‬والعرش فوق المخلوقات‪ ،‬والله فوق العرش‪.‬‬ ‫ست َ َ‬‫ا ْ‬

‫‪87‬‬
‫قال شيخ السلم رحمه الله‪ » :‬لفظ الجهة قد يراد به شيء‬
‫موجود غير الله فيكون مخلوًقا‪ ،‬كما إذا أريد بالجهة نفس‬
‫العرش‪ ،‬أو نفس السماوات‪ .‬وقد يراد به ما ليس بموجود غير‬
‫الله تعالى‪ ،‬كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم«‪] .‬التدمرية ص‬
‫‪ ،205‬وانظر‪ :‬منهاج السنة ‪2/321‬و ‪558‬و ‪ ،648‬وبيان تلبيس‬
‫الجهمية ‪ ،3/305‬ودرء تعارض العقل ‪5/58‬و ‪[7/15‬‬
‫فإذا ُأريد بالجهة ما وراء العالم فالنافي للجهة مبطل‪ ،‬إذ‬
‫ليس وراء العالم شيء مخلوق؛ بل وليس وراء العالم شيء‬
‫موجود إل الله تعالى‪.‬‬
‫وإذا أريد بالجهة شيء مخلوق‪ ،‬مثل أن يراد بالجهة نفس‬
‫السماء أو العرش‪ ،‬وأن الرب سبحانه حال في ذلك؛ فالنافي لهذا‬
‫محق والمثبت له مبطل‪.‬‬
‫فإذا أريد بكلمة )الجهات( أشياء موجودة مخلوقة؛ فالله منزه‬
‫من أن يحيط به شيء من المخلوقات؛ بل هو تعالى أعظم وأكبر‬
‫من أن يحيط به شيء من المخلوقات؛ لنه تعالى العظيم الذي ل‬
‫ض ((‬ ‫َ‬ ‫سعَ ك ُْر ِ‬
‫ت َوالْر َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬‫ه ال ّ‬ ‫سي ّ ُ‬ ‫أعظم منه فهو الذي )) وَ ِ‬
‫ن ت َُزول ((‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫س ُ‬
‫ضأ ْ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬‫س َ‬‫ك ال ّ‬ ‫م ِ‬‫]البقرة‪ ،[255:‬وهو الذي )) ي ُ ْ‬
‫م ال ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫سماَوا ُ‬ ‫مةِ َوال ّ‬‫قَيا َ‬ ‫ه ي َوْ َ‬ ‫ميًعا قَب ْ َ‬
‫ضت ُ ُ‬ ‫ج ِ‬
‫ض َ‬‫]فاطر‪} [41:‬واْلْر ُ‬
‫ه{]الزمر‪ [67:‬ل يحيط به شيء من الجهات؛ لكنه‬ ‫مين ِ ِ‬ ‫مط ْوِّيا ٌ‬
‫ت ب ِي َ ِ‬ ‫َ‬
‫في العلو فوق جميع المخلوقات‪ ،‬بائن من خلقه‪ ،‬ليس في ذاته‬
‫شيء من مخلوقاته‪ ،‬ول في المخلوقات شيء من ذاته‪.‬‬
‫وقد وقف الشارح ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ في هذا‬
‫الموضع ]ص ‪ ، [260‬وتكلم على هذه اللفاظ‪ ،‬فجزاه الله خيرا‬
‫على ما فعل‪ ،‬وقد أحسن كثيرا بهذا الشرح‪ ،‬الذي لزم فيه منهج‬
‫أهل السنة‪.‬‬

‫]مذهب أهل السنة والجماعة في السراء والمعراج[‬


‫عرج بشخصه‬ ‫وقوله‪) :‬والمعراج حق‪ ،‬وقد أسري بالنبي ‪ ،‬و ُ‬
‫في اليقظة إلى السماء‪ ،‬ثم إلى حيث شاء الله من العل‪ ،‬وأكرمه‬
‫ما َرَأى(‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫ف َ‬
‫ؤاد ُ َ‬ ‫ما ك َذ َ َ‬
‫الله بما شاء‪ ،‬وأوحى إليه ما أوحى‪َ ) ،‬‬
‫]النجم‪ ،[11:‬فـ ‪ ‬في الخرة والولى(‪.‬‬
‫المام الطحاوي ـ رحمه الله ـ في هذا المؤَلف المختصر في‬
‫مسائل العتقاد لم يلتزم بالتنسيق بين المسائل‪ ،‬وضم كل نوع‬
‫وع؛ فتارة يذكر المسائل المتعلقة بالتوحيد‬ ‫إلى ما يناسبه؛ بل ن ّ‬
‫وبأسماء الله وصفاته‪ ،‬والمسائل التي تخص الرسول ‪،‬‬
‫ومسائل أخرى كثيرة تتصل بالقدر‪ ،‬والملئكة‪ ،...‬فتجده يتنقل؛‬
‫فمثل‪ :‬قال هنا‪) :‬والمعراج حق‪ ،‬وقد أسري بالنبي ‪ (‬فالسراء‬

‫‪88‬‬
‫صَله المؤلف عما تقدم‬ ‫والمعراج مما يتصل بخصائص نبينا ‪ ،‬فَ َ‬
‫من كلمه ]ص[ في رسالة نبينا محمد ‪ ،‬وما ذكره من بعض‬
‫خصائصه‪.‬‬
‫معَْراج( في اللغة‪ :‬آلة العروج ]في القاموس‬ ‫وأصل كلمة ) ِ‬
‫صَعد[‪ ،‬والعروج‪ :‬الصعود‪،‬‬ ‫م ْ‬ ‫سّلم وال َ‬ ‫ج‪ :‬ال ُ‬ ‫مْعرا ُ‬ ‫ص ‪ :253‬ال ِ‬
‫فتقول‪:‬عرج إلى السطح وإلى الجبل وإلى السماء‪ ،‬أي‪ :‬صعد‪،‬‬
‫ح ((]المعارج‪ [4:‬وفي الحديث‪:‬‬ ‫ة َوالّرو ُ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫قال تعالى‪ )) :‬ت َعُْر ُ‬
‫)ثم يعرج الذين باتوا فيكم( ]رواه البخاري )‪ ،(555‬ومسلم )‬
‫‪ (632‬من حديث أبي هريرة ‪ [.‬وليس المراد هو إثبات اللة أو‬
‫الوسيلة التي عرج بها النبي ‪‬؛ بل إثبات عروج النبي ‪ ‬إلى‬
‫السماوات‪ ،‬وإلى حيث شاء الله من العل‪ ،‬فكأن المصنف يقول‪:‬‬
‫وعروج نبينا ‪ ‬إلى ما شاء الله حق؛ لكن صار لفظ )اِلمعراج(‬
‫ع ََلم على هذا المر‪.‬‬
‫وقد أشار الله إلى العروج بالنبي ‪ ‬في القرآن في سورة‬
‫ما ي ََرى * وَل َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قد ْ‬ ‫ه ع ََلى َ‬ ‫ماُرون َ ُ‬‫ما َرأى * أفَت ُ َ‬ ‫ؤاد ُ َ‬ ‫ف َ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫ما ك َذ َ َ‬ ‫النجم‪َ )) :‬‬
‫من ْت ََهى ((]النجم ‪ [14-11‬وقد ثبت‬ ‫ْ‬
‫سد َْرةِ ال ُ‬ ‫عن ْد َ ِ‬ ‫خَرى * ِ‬ ‫ة أُ ْ‬
‫َرآه ُ ن َْزل َ ً‬
‫خِلق عليها له‬ ‫في الصحيح‪ ) :‬أنه ‪ ‬رأى جبريل على صورته التي ُ‬
‫ستمائة جناح‪ ،‬مرتين ( ]البخاري )‪ ،(4855‬ومسلم )‪[.(177‬‬
‫والمراد بالسراء هو‪ :‬الذهاب بالنبي ‪ ‬ليل من المسجد‬
‫الحرام إلى المسجد القصى في بيت المقدس‪ ،‬قال الله تعالى‪:‬‬
‫حَرام ِ إ َِلى‬ ‫َ‬
‫جد ِ ا ل ْ َ‬‫س ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫سَرى ب ِعَب ْد ِهِ ل َي َْل ً ِ‬ ‫ذي أ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫حا َ‬‫سب ْ َ‬ ‫)) ُ‬
‫َ‬
‫ه ((]السراء‪[1:‬‬ ‫حوْل َ ُ‬ ‫ذي َباَرك َْنا َ‬ ‫صى ال ّ ِ‬ ‫جد ِ القْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫مْعراج في أحاديث؛ لكن الغالب أنها‬ ‫وقد جاء ِذكُر صفات ال ِ‬
‫ليست من الحاديث المعتمدة‪ ،‬لكن السراء بالنبي ‪ ،‬والعروج‬
‫به إلى السماوات هذا أمر معلوم‪ ،‬ومجمع عليه بين أهل السنة‪،‬‬
‫ودلت عليه الحاديث الصحاح المتواترة ]نظم المتناثر ص ‪،219‬‬
‫وانظر‪ :‬تفسير ابن كثير ‪ 5/6‬فقد ساق روايات كثيرة جدا[‪.‬‬
‫وقد اختلف الناس في حقيقة السراء والمعراج ـ مع التفاق‬
‫على ثبوتهما ـ على أي وجه وقع ؟‬
‫والحق أنه قد أسري بالنبي ‪ ‬بروحه وبدنه‪ ،‬وعرج به إلى‬
‫حيث شاء الله من العل يقظة ل مناما‪ ،‬ولهذا نص المؤلف على‬
‫عرج بشخصه في اليقظة(‬ ‫ذلك بقوله‪) :‬وقد أسري بالنبي ‪ ،‬و ُ‬
‫ذي‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫حا َ‬
‫سب ْ َ‬
‫وهذا هو الذي يدل عليه ظاهر الدلة‪ ،‬قال تعالى‪ُ )) :‬‬
‫سَرى ب ِعَب ْد ِهِ ((]السراء‪ [1:‬والعبد اسم للروح والبدن‪.‬‬ ‫َ‬
‫أ ْ‬
‫وتصدير هذه الية بالتسبيح دال على عظم المر‪ ،‬والسراء‬
‫كان بروحه وبدنه يقظة ل مناما؛ فإن الذهاب والنتقال في النوم‬
‫أمر ليس بمستغرب ول مستنكر‪ ،‬فهو يحدث لسائر الناس‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫ومما يؤكد هذه الحقيقة ما جاء في الحديث الصحيح أن‬
‫الرسول ‪ ‬لما أخبر قريشا استعظموا ذلك وكذبوه‪ ،‬وسألوه عن‬
‫ما ك ُرِب ْ ُ‬
‫ت‬ ‫ة َ‬‫ت ك ُْرب َ ً‬ ‫أشياء من بيت المقدس‪ ،‬قال النبي ‪ » :‬فَك ُرِب ْ ُ‬
‫يٍء إ ِّل‬ ‫ط‪ ،‬فَرفَعه الل ّه لي أ َنظ ُر إل َيه ما ي َ‬
‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫سأُلوِني ع َ ْ‬ ‫ْ ُ ِ ْ ِ َ َ ْ‬ ‫ُ ِ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ه قَ ّ‬ ‫مث ْل َ ُ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫ه« ]رواه مسلم )‪ [(172‬فهذا كله يؤكد أن السراء كان‬ ‫َ‬
‫م بِ ِ‬‫أن ْب َأت ُهُ ْ‬
‫بروحه وبدنه يقظة ل مناما‪.‬‬
‫وكذلك العروج به إلى ما شاء الله من العل كان بشخصه ‪‬‬
‫يقظة ل مناما‪ ،‬فهذا هو المر الخارق العظيم أن يقطع هذه‬
‫المسافات ويعود في ليلة‪.‬‬
‫وفي حديث السراء والمعراج أمور كثيرة‪ ،‬فيها أن جبريل‬
‫عليه السلم صعد به واستفتح له السماء‪ ،‬ثم فتح له‪ ،‬فلقي‬
‫النبياء‪ :‬آدم وعيسى ويحيى ويوسف وإدريس وهارون وموسى‬
‫وإبراهيم عليهم الصلة والسلم‪ ،‬وعند كل سماء يستفتح‪ ،‬فكل‬
‫سماء لها أبواب وحراس من ملئكة الله‪ ،‬وكل ذلك من الغيب‪ ،‬ل‬
‫نتصوره ول ندرك حقائقه‪ ،‬فيستفتح جبريل عليه السلم‪ ،‬فيقول‬
‫له الملك الموكل بباب السماء‪ :‬من؟ فيقول‪ :‬جبريل‪ .‬فيقول‪:‬‬
‫ومن معك؟ فيقول‪ :‬محمد ‪ .‬فيقول‪ :‬وهل أرسل إليه؟ فيقول‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فيقول‪ :‬مرحبا ولِنعم المجيء جاء ‪ ،‬عند كل سماء يتجاوزها‬
‫حتى بلغ سدرة المنتهى‪ ،‬وفرض الله عليه الصلوات الخمس‪.‬‬
‫]حديث السراء روي في الصحيحين في مواضع من رواية عدد‬
‫من الصحابة منها‪ :‬البخاري )‪ (3207‬ومسلم )‪ (164‬من حديث‬
‫مالك بن صعصعة ‪[ ‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬إنه كان مناما! واحتجوا برواية شريك بن عبد‬
‫الله ابن أبي نمر‪ » :‬واستيقظ وهو في المسجد الحرام«‬
‫]البخاري )‪ (7517‬من روايته عن أنس ‪ [‬ورد ذلك المحققون‬
‫وقالوا‪ :‬إن هذا وهم من شريك‪ ،‬وقد وهم في هذا الحديث في‬
‫مواضع عدة‪] .‬انظر‪ :‬صحيح مسلم )‪ ،(162‬وزاد المعاد ‪،3/42‬‬
‫وتفسير ابن كثير ‪ ،5/7‬وفتح الباري ‪[13/485‬‬
‫وهذا قول باطل ليس بشيء‪ ،‬فلو قال الرسول ‪ ‬لقريش‪:‬‬
‫إني رأيت في المنام‪ ،‬لم يكذبوه؛ لنه أمر عادي يحصل لحاد‬
‫الناس‪.‬‬
‫وُنسب إلى عائشة ومعاوية رضي الله عنهما ]ذكره الطبري‬
‫في تفسيره ‪ 14/445‬ونقضه‪ ،‬وانظر‪ :‬زاد المعاد ‪ [3/40‬أن‬
‫السراء والمعراج كان بروحه ‪ ‬دون جسده‪ .‬وهو رأي عندي غير‬
‫مقبول‪ ،‬وي َرِد ُ عليه ما يرد على القول بأنه كان مناما‪ ،‬فإذا كان‬
‫جسده باقيا عندهم فل يكون بينه وبين رؤيا المنام كبير فرق‪ ،‬وما‬

‫‪90‬‬
‫معنى أن جبريل يأتيه بالبراق‪ ،‬ويحمله عليه ويسير به‪ ،‬ويصلي‬
‫بالنبياء؟‬
‫فهذا القول فيه نظر‪ ،‬وهو خلف ظاهر الدلة‪.‬‬
‫ومن اختار هذه القوال من العلماء أراد أن يوفق بين‬
‫الروايات فيقول‪ :‬إن السراء كان مرة يقظة ومرة مناما‪ ،‬ومرة‬
‫في مكة ومرة في المدينة!‬
‫وهذا وهنه العلمة ابن القيم‪ ،‬وقال‪ » :‬هذه طريقة ضعفاء‬
‫الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف‬
‫سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى‪ ،‬فكلما اختلفت عليهم‬
‫الروايات عددوا الوقائع! والصواب الذي عليه أئمة النقل‪ :‬أن‬
‫السراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة‪ ،‬ويا عجبا لهؤلء الذين‬
‫زعموا أنه مرارا‪ ،‬كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض‬
‫عليه الصلة خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير‬
‫خمسا‪ ،‬ثم يقول ‪» :‬أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي« ثم‬
‫يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها عشرا عشرا«‪.‬‬
‫]زاد المعاد‪[3/42‬‬
‫فالصواب‪ :‬أن السراء والمعراج حدث مرة واحدة والنبي ‪‬‬
‫في مكة قبل الهجرة‪ ،‬وفرضت عليه الصلوات الخمس‪ ،‬وقد اتفق‬
‫أهل العلم‪ :‬أن الصلوات الخمس قد فرضت عليه وهو في مكة‬
‫قبل الهجرة‪ ،‬والمشهور أن ذلك قبل الهجرة بثلث سنوات‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬بأقل‪ ،‬وقيل‪ :‬بأكثر‪] .‬التمهيد ‪[8/48‬‬
‫وفي قصة السراء والمعراج الدللة على عظم شأن الصلة‬
‫حيث فرضت على النبي ‪ ‬بل واسطة وفرضت عليه وهو في‬
‫أعلى المقامات فوق السماوات‪.‬‬
‫وفي قصة السراء والمعراج دللة على علو الله تعالى على‬
‫ة‬ ‫ج ال ْ َ‬
‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫خلقه‪ ،‬فإنه عرج به إلى ربه‪ ،‬كما قال تعالى‪ )) :‬ت َعُْر ُ‬
‫ح إ ِل َي ْهِ ((]المعارج‪ [4:‬الملئكة والرواح تعرج إلى الله؛ لنه‬ ‫َوالّرو ُ‬
‫في العلو‪.‬‬
‫وفيها إثبات صفة الكلم والتكليم لله تعالى‪ ،‬وتكليمه لنبينا‬
‫محمد ‪ ‬بل واسطة‪.‬‬
‫وفي ذلك فضيلة لنبينا ‪ ‬حيث أكرمه الله ورفعه على سائر‬
‫النبيين والمرسلين‪ ،‬حتى تجاوز كل النبياء‪ ،‬حتى إبراهيم عليه‬
‫السلم لقيه في السماء السابعة وتجاوز إلى مكان فوق ذلك‬
‫يسمع فيه صريف القلم ‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(349‬ومسلم )‪(163‬‬
‫حّبة النصاري رضي الله عنهما[‬ ‫من حديث ابن عباس وأبي َ‬
‫سبحان الله مع هذه البعاد العظيمة يتم هذا في ليلة‪ ،‬هذا‬
‫أمر خارق‪ ،‬ول تقل‪ :‬كيف؟‬

‫‪91‬‬
‫الن أَتى الله للناس بشيء ما كان يخطر ببالهم‪ ،‬هذا الصوت‬
‫الن في أقصى الدنيا‪ ،‬يقول لك‪ :‬السلم عليكم‪ ،‬فتقول‪ :‬وعليكم‬
‫السلم‪ ،‬فتسمعه وترد عليه‪ ،‬والذين يصعدون في المراكب‬
‫ضا مع البعد العظيم الذي تنتهي إليه تلك المراكب‪،‬‬ ‫الفضائية أي ً‬
‫يتكلمون مع من يكلمهم في الرض‪ ،‬ويصل الصوت في نفس‬
‫الوقت‪ ،‬فهذا مثال أصغر للحدث العظيم حدث السراء والمعراج‪،‬‬
‫م‬
‫ريهِ ْ‬ ‫سن ُ ِ‬
‫سبحان الله! هذه أمثلة وآيات لعلها تدخل في عموم‪َ )) :‬‬
‫فسهم حتى يتبين ل َه َ‬ ‫َ‬
‫حقّ ((‬ ‫ه ال ْ َ‬‫م أن ّ ُ‬ ‫ق وَِفي أن ْ ُ ِ ِ ْ َ ّ َ َ َ ّ َ ُ ْ‬ ‫آَيات َِنا ِفي الَفا ِ‬
‫]فصلت‪.[53:‬‬
‫وأي أمر تستعظمه مما أخبرت به الرسل فرده إلى كمال‬
‫ديٌر ((‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ع ََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫دا‪ )) ،‬إ ِ ّ‬‫القدرة يسهل عليك ج ً‬
‫ن شيًئا من ذلك‪ ،‬فذلك لنقص‬ ‫]البقرة‪ [20:‬ومتى استبعد النسا ُ‬
‫جَزهُ‬‫ه ل ِي ُعْ ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫إيمانه بكمال قدرة الرب تعالى وتقدس‪ )) ،‬وَ َ‬
‫ديَرا ً ((‬ ‫ما ً ق َ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬
‫ن ع َِلي َ‬ ‫كا َ‬ ‫ض إ ِن ّ ُ‬
‫ت َول ِفي الْر ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬
‫س َ‬
‫يٍء ِفي ال ّ‬
‫ش ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫]فاطر‪[44:‬‬

‫]إثبات حوض نبينا محمد ‪[ r‬‬


‫وقوله‪) :‬والحوض الذي أكرمه الله تعالى بــه ــ غياث ًــا لمتــه ــ‬
‫حق( تواترت السنة عن النبي ‪ ‬فــي الخــبر عــن حوضــه]قطــف‬
‫الزهــار المتنــاثرة ص ‪ ،297‬ونظــم المتنــاثر ص ‪ ،248‬وانظــر‪:‬‬
‫البداية والنهايــة لبــن كــثير ‪ 466-19/423‬فقــد أطــال فــي ســرد‬
‫أحاديث الحوض[ ‪ ،‬وقال النبي ‪ ‬للنصار‪) :‬إنكـم سـتلقون بعـدي‬
‫أثرة‪ ،‬فاصبروا حتى تلقوني على الحوض( ]رواه البخاري )‪(4330‬‬
‫‪ ،‬ومسلم )‪ (1061‬من حديث أنس ‪[.‬وأخبر عن ورود أمته عليه‬
‫طكــم علــى الحــوض ـ ـ أي‪:‬‬ ‫وهو على حوضه‪ ،‬وقال ‪ ) : ‬إني فََر ُ‬
‫ي أقوام من أمتي فيــذادون عــن حوضــي‬ ‫سي َرِد ُ عل ّ‬
‫سابقكم ـ وإنه َ‬
‫فأقول‪) :‬إنهم مني فيقال‪ :‬إنك ل تــدري مــا أحــدثوا بعــدك فــأقول‬
‫سحقا سحقا لمن غ َي ّــر بعــدي( ]رواه البخــاري )‪6583‬و ‪(6584‬ـ ‪،‬‬
‫ومسلم )‪2290‬و ‪ (2291‬من حديث سهل بــن ســعد وأبــي ســعيد‬
‫الخدري رضي الله عنهم‪ [.‬فيجب اليمان بمــا دلــت عليــه الخبــار‬
‫من حوضــه ‪ ،‬وأن طــوله شــهر وعرضــه شــهر]رواه البخــاري )‬
‫‪ (6579‬مسلم )‪ (2292‬من حديث عبد الله بن عمرو رضــي اللــه‬
‫عنهما[‪ ،‬وآنيته عدد نجوم السماء‪ ،‬ومــاؤه أشــد بياضــا مــن اللبــن‪،‬‬
‫وأحلى مــن العســل‪] .‬رواه البخــاري )‪ ، (6579‬ومســلم )‪(2292‬‬
‫من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهمــا ‪ ،‬ومســلم )‪(247‬‬
‫من حديث أبي هريــرة ‪ ‬و)‪ (2300‬مــن حــديث أبــي ذر ‪ ، ‬و)‬
‫‪ (2301‬من حديث ثوبان ‪[.‬‬

‫‪92‬‬
‫والحوض في عرصات القيامة‪ ،‬قبل دخول الجنة‪ ،‬يرد عليه‬
‫المستمسكون بسنته ‪ ،‬فمن شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا‬
‫]نفس تخريج حديث سهل وأبي سعيد السابق[؛ لنه يصير إلى‬
‫حى ((]طه‪:‬‬ ‫ك ل تظ ْ ُ‬ ‫الجنة‪ ،‬وعنده أنهارها‪ )) :‬وَأ َن ّ َ‬
‫ض َ‬
‫مأ ِفيَها َول ت َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫‪ [119‬فليس فيها ظمأ ول جوع؛ لن كل مطالب النفوس‬
‫َ‬
‫ما‬‫ب وَِفيَها َ‬ ‫وا ٍ‬ ‫ب وَأك ْ َ‬ ‫ن ذ َهَ ٍ‬ ‫م ْ‬‫ف ِ‬ ‫حا ٍ‬ ‫ص َ‬ ‫م بِ ِ‬ ‫ف ع َل َي ْهِ ْ‬ ‫طا ُ‬ ‫موجودة‪ )) ،‬ي ُ َ‬
‫جن ّةِ ال ِّتي‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫شت َهيهِ ا َ‬
‫مث َ ُ‬ ‫ن ((]الزخرف‪َ } ،[71:‬‬ ‫س وَت َل َذ ّ الع ْي ُ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫لن ُ‬ ‫تَ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م ي َت َغَي ّْر‬ ‫ن لّ ْ‬ ‫سن وَأن َْهاٌر ِ ّ‬
‫من لب َ ٍ‬ ‫ماء غ َي ْرِ آ ِ َ ٍ‬ ‫من ّ‬ ‫ن ِفيَها أن َْهاٌر ّ‬ ‫قو َ‬ ‫عد َ ا ل ْ ُ‬
‫مت ّ ُ‬ ‫وُ ِ‬
‫مرٍ ل ّذ ّةٍ ّلل ّ‬ ‫َ‬
‫فى‬ ‫ص ّ‬
‫م َ‬ ‫ل ّ‬ ‫س ٍ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن وَأن َْهاٌر ّ‬ ‫شارِِبي َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه وَأن َْهاٌر ّ‬ ‫م ُ‬ ‫ط َعْ ُ‬
‫م‬
‫حت ِهِ ُ‬‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت{]محمد‪ )) [15:‬ت َ ْ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ل الث ّ َ‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫م ِفيَها ِ‬ ‫وَل َهُ ْ‬
‫ال َن َْهاُر ((]العراف‪ [43:‬في آيات كثيرة‪.‬‬
‫ومما جاء في أحاديث الحوض أنه‪» :‬يشخب فيه ميزابان مــن‬
‫الجنــة« ]رواه مســلم )‪ (2300‬عــن أبــي ذر ‪ ، ‬و )‪ (2301‬عــن‬
‫ثوبان ‪ [ ‬ميزابان يصبان فيه ـ اللــه أعلــم بقــدرهما وصــفتهما ــ‬
‫ك ال ْك َـوْث ََر‬ ‫من نهر الكوثر الذي أعطاه الله وأكرمه به )) إ ِّنا أ َع ْط َي َْنا َ‬
‫((]الكوثر‪ [1:‬والمعتمد في تفسيره ‪ :‬أنــه نهــر فــي الجنــة أكرمــه‬
‫الله بـه‪ ،‬ففــي حــديث أنــس ‪ ‬أن النــبي ‪ ‬قـال‪ » :‬أتــدرون مـا‬
‫الكوثر ؟ فقلنا‪ :‬الله ورسوله أعلم ‪ ،‬قال‪ :‬فــإنه نهــر وعــدنيه ربــي‬
‫عز وجل عليه خير كثير‪ ،‬هو حوض تــرد عليــه أمــتي يــوم القيامــة‬
‫آنيته عدد النجوم«‪] .‬رواه مسلم )‪ (400‬من حديث أنس ‪[ ‬‬
‫فيجب اليمان بما دلت عليه هذه الخبار‪ ،‬وأهل السنة‬
‫والجماعة يؤمنون بذلك‪ ،‬ولهذا قال الطحاوي ‪) :‬والحوض الذي‬
‫أكرمه الله تعالى به ـ غياًثا لمته ـ حق( ‪.‬‬
‫وورد في حديث رواه الترمذي أن النبي ‪ ‬قال‪ ) :‬إن لكل‬
‫نبي حوضا( ]الترمذي )‪ ،(2443‬وقال‪ :‬حديث غريب‪ ،‬وقد روى‬
‫الشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي ‪‬‬
‫مرسل‪ ،‬ولم يذكر فيه عن سمرة‪ ،‬وهو أصح‪ ،‬وانظر‪ :‬فتح الباري‬
‫‪ ،11/467‬والسلسلة الصحيحة )‪[(1589‬؛ ولكن أعظمها حوض‬
‫نبينا ‪‬؛ لن المؤمنين من أمته ‪ ‬هم أضعاف أضعاف المؤمنين‬
‫من سائر المم‪ ،‬فكثرة أتباعه ‪ ‬والمؤمنين به يقتضي أن يكون‬
‫حوضه أعظم الموارد‪.‬‬
‫وتكلم بعض العلماء في شأن ترتيب الحوض مع بعض أمور‬
‫القيامة‪ ،‬هل يكون قبل الميزان أو بعده؟ وهل هو قبل الصراط أو‬
‫بعده ؟‬
‫والشارح ابن أبي العز ]ص ‪ [282‬نقل عن القرطبي]التذكرة‬
‫‪ :[2/702‬أنه قبل الميزان‪ ،‬وعلل هذا بأن الناس يبعثون من‬
‫قبورهم عطاشا‪ ،‬فيقدم قبل الميزان والصراط‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫وهذا ل يكفي دليل‪ ،‬وما الدليل على أن المؤمنين الذين هم‬
‫أهل الورود يبعثون عطاشا ؟!‬
‫فهذه المسألة يجب المساك عن الكلم فيها‪ ،‬فل نقول‪ :‬قبل‬
‫ول بعد‪ ،‬فالله أعلم‪ ،‬هذه أمور غيبية‪ ،‬ول يجزم بشيء منها إل‬
‫بحجة وبرهان‪.‬‬
‫وأما كونه قبل الصراط أو بعد الصراط فهذا فيه تأمل‪ ،‬و‬
‫رد عليه من يذاد‬‫استدل من قال‪ :‬إنه قبل الصراط‪ :‬بأنه ثبت أنه ي َ ِ‬
‫عنه ممن استوجب العذاب‪ ،‬وهؤلء ل يجاوزون الصراط‪.‬‬
‫واختار ابن القيم‪ :‬بعد أن حكى القولين أنه ل يمتنع أن يكون‬
‫قبل الصراط وبعده‪ ،‬فإن طوله شهر وعرضه شهر‪ ،‬فإذا كان بهذا‬
‫الطول والسعة‪ ،‬فما الذي يحيل امتداده إلى ما وراء الصراط‪،‬‬
‫فيردونه قبل وبعد‪] .‬زاد المعاد ‪[3/683‬‬
‫والمر محَتمل‪ .‬والله أعلم‪.‬‬

‫]إثبات شفاعته ‪ r‬لمته‪ ،‬وذكر الشفاعة الخاصة به[‬


‫وقوله‪) :‬والشفاعة التي ادخرها لهم حق‪ ،‬كما روي في‬
‫الخبار(‪.‬‬
‫أي‪ :‬الشفاعة التي ادخرها النبي ‪ ‬لمته يوم القيامة‪ ،‬كما‬
‫صح بذلك الحديث فقد قال ‪ ) :‬لكل نبي دعوة مستجابة‪،‬‬
‫فتعجل كل نبي دعوته‪ ،‬وإني اختبأت دعوتي شفاعة لمتي يوم‬
‫القيامة‪ ،‬فهي نائلة ـ إن شاء الله ـ من مات من أمتي ل يشرك‬
‫بالله شيئا( ]رواه البخاري )‪ ،(6304‬مسلم )‪ (199‬ـ واللفظ له ـ‬
‫من حديث أبي هريرة ‪ [.‬فهذه الشفاعة في أهل الكبائر‪ ،‬وهي‬
‫إحدى شفاعات نبينا ‪‬؛ فإن له ‪ ‬عدة شفاعات‪:‬‬
‫أولها وأعظمها‪ :‬شفاعته في أهل الموقف أن يقضى بينهم‪،‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫سى أ ْ‬ ‫وهي المقام المحمود الذي خصه الله به في قوله‪ )) :‬ع َ َ‬
‫مود َا ً ((]السراء‪ ،[79:‬وجاء في الحديث في‬ ‫ح ُ‬
‫م ْ‬‫ما ً َ‬
‫قا َ‬
‫م َ‬
‫ك َ‬ ‫ك َرب ّ َ‬
‫ي َب ْعَث َ َ‬
‫الدعاء بعد الذان‪» :‬من قال حين يسمع النداء‪ :‬اللهم رب هذه‬
‫ة‪،‬‬‫ة والفضيل َ‬ ‫دا الوسيل َ‬
‫الدعوة التامة‪ ،‬والصلة القائمة‪ ،‬آت محم ً‬
‫حّلت له شفاعتي يوم‬ ‫دا الذي وعدَته‪َ ،‬‬‫ما محمو ً‬ ‫وابعثه مقا ً‬
‫القيامة {‪] .‬رواه البخاري )‪ (614‬من حديث جابر ‪[ ‬‬
‫وقد تواترت الحاديث ]قطف الزهار المتناثرة ص ‪،303‬‬
‫ونظم المتناثر ص ‪ [245‬في ذكر استشفاع الناس بآدم وأولي‬
‫العزم من الرسل أن يشفعوا لهم عند الله أن يريحهم مما هم‬
‫فيه من الكرب والشدة وأهوال الموقف‪.‬‬
‫وهذه الشفاعة ل ينكرها أحد من أهل البدع؛ لنها ل تناقض‬
‫شيئا من أصولهم‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫والثانية‪ :‬شفاعته ‪ ‬في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة‪ ،‬فبعدما‬
‫يجوزون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فإذا هُذ ُّبوا‬
‫قوا أذن لهم بدخول الجنة ]رواه البخاري )‪ (2440‬من حديث‬ ‫ون ُ ّ‬
‫أبي سعيد ‪ ،[.‬ثم إنهم ل يدخلون إل بشفاعته ‪] ‬رواه مسلم )‬
‫‪ (195‬من حديث أبي هريرة ‪ ، ‬ومعناه )‪ (196‬من حديث أنس‬
‫‪.[‬‬
‫وهاتان الشفاعتان خاصتان به ‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬شفاعته ‪ ‬فيمن دخل النار من عصاة الموحدين أن‬
‫يخرج منها‪ ،‬وهذا جاء صريحا في الحاديث‪ ،‬وأنه ‪ ‬يشفع أربع‬
‫مرات وفي كل مرة‪) :‬يسجد ‪ ‬لربه ويدعو ويستشفع فيقال له‪:‬‬
‫ارفع رأسك‪ ،‬وقل تسمع‪ ،‬وسل تعطه‪ ،‬واشفع تشفع‪ ،‬ثم أشفع‪:‬‬
‫دا فأخرجهم من النار {‪] .‬رواه البخاري )‪،(6565‬‬ ‫حد ّ لي ح ً‬ ‫في َ ُ‬
‫ومسلم )‪ (193‬من حديث أنس ‪[‬‬
‫وتواترت الحاديث ]الموضع السابق في المتواتر[ بأنه يخرج‬
‫من النار بهذه الشفاعات من قال‪ :‬ل إله إل الله‪ ،‬وفي قلبه‬
‫مثقال خردلة‪ ،‬أو شعيرة‪ ،‬أو ب ُّرة أو ذرة من إيمان‪ ،‬وأنهم‬
‫قون‬ ‫ما ـ أي‪ :‬مثل الفحم ـ فَي ُل ْ َ‬ ‫م ً‬ ‫حـ َ‬‫يخرجون من النار وقد صاروا ُ‬
‫في نهر بأفواه الجنة يقال له ‪ :‬نهر الحياة‪ ،‬فَي َن ْب ُُتون كما تنبت‬
‫حّبة في حميل السيل‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(7439‬ومسلم )‪(183‬‬ ‫ال ِ‬
‫من حديث أبي سعيد الخدري ‪[‬‬
‫وهذه الشفاعة في أهل التوحيد ل تختص بالرسول ‪ ‬لكن‬
‫له من ذلك النصيب الكبر والعظم‪ ،‬فمن يخرج بشفاعته ‪ ‬أكثر‬
‫ممن يخرج بشفاعة غيره‪ ،‬وإل فإنه تشفع الملئكة‪ ،‬ويشفع‬
‫النبيون‪ ،‬ويشفع المؤمنون كل يشفع حسب ما يحد له‪ ،‬فإنه ل‬
‫أحد يشفع عنده إل بإذنه سبحانه وتعالى‪].‬المرجع السابق[‬
‫وهذه الشفاعة تنكرها الخوارج والمعتزلة]مجموع الفتاوى‬
‫‪1/116‬واقتضاء الصراط المستقيم ‪[2/359‬؛ لنها تناقض مذهبهم‬
‫في تخليد أهل الكبائر في النار‪ ،‬فهم يقولون‪ :‬إن أهل الكبائر‬
‫مخلدون في النار‪ ،‬ويستحيل أن يخرجوا منها‪ ،‬واستدلوا بمثل‬
‫ن ((]المدثر‪،[48:‬‬ ‫شافِِعي َ‬‫ة ال ّ‬ ‫فاع َ ُ‬ ‫م َ‬
‫ش َ‬ ‫فعُهُ ْ‬‫ما ت َن ْ َ‬‫قوله تعالى‪ )) :‬فَ َ‬
‫طاع ُ ((]غافر‪.[18:‬‬ ‫فيع ي ُ َ‬ ‫ميم ٍ َول َ‬ ‫ما ِلل ّ‬
‫ش ِ ٍ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬‫مي َ‬‫ظال ِ ِ‬ ‫)) َ‬
‫والشفاعة في إخراج عصاة الموحدين هي التي أشار إليها‬
‫المؤلف؛ لنها هي محل النزاع بين أهل السنة والخوارج‬
‫والمعتزلة‪.‬‬
‫والرابعة‪ :‬شفاعته ‪ ‬في تخفيف العذاب عن عمه أبي‬
‫طالب ‪ ،‬فقد سأله عمه العباس ‪ ‬فقال‪ :‬يا رسول الله هل‬
‫نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال‪:‬‬

‫‪95‬‬
‫) نعم‪ ،‬هو في ضحضاح من نار‪ ،‬ولول أنا لكان في الدرك السفل‬
‫من النار ( ]رواه البخاري )‪ ،(6208‬ومسلم )‪[(209‬‬
‫فأبو طالب بشفاعته ‪ ‬صار من أهون أهل النار عذابا‪.‬‬
‫وبهذه ُيعلم أن الشفاعة التي تذكر لها الشروط هي الشفاعة‬
‫في خروج أهل التوحيد من النار‪ ،‬وهي متوقفة على شرطين‪:‬‬
‫ن الله للشافع‪ ،‬ورضاه عن المشفوع له‪ ،‬وذلك بأن يكون‬ ‫إ ِذ ْ ُ‬
‫تل‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬
‫س َ‬ ‫ك ِفي ال ّ‬ ‫مل َ ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫من أهل التوحيد‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَك َ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫شاُء‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه لِ َ‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫ن ي َأذ َ َ‬ ‫ن ب َعْد ِ أ ْ‬
‫م ْ‬ ‫شي ْئ َا ً إ ِّل ِ‬
‫م َ‬
‫فاع َت ُهُ ْ‬‫ش َ‬‫ت ُغِْني َ‬
‫عن ْد َه ُ إ ِّل ب ِإ ِذ ْن ِهِ ((‬‫فعُ ِ‬ ‫ش َ‬‫ذي ي َ ْ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬‫ضى ((]النجم‪َ )) ،[26:‬‬ ‫وَي َْر َ‬
‫ه‬
‫شي َت ِ ِ‬‫خ ْ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ضى وَهُ ْ‬ ‫ن اْرت َ َ‬ ‫ّ‬ ‫]البقرة‪َ )) ،[255:‬ول ي َ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ن إ ِل ل ِ َ‬ ‫فُعو َ‬ ‫ش َ‬
‫ن ((]النبياء‪ ،[28:‬فل يرد على ذلك شفاعة النبي ‪ ‬في‬ ‫قو َ‬ ‫م ْ‬
‫ش فِ ُ‬ ‫ُ‬
‫أبي طالب؛ فإنها ليست شفاعة في خروجه من النار بل هي‬
‫شفاعة في تخفيف العذاب عنه‪.‬‬

‫]إثبات الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم[‬


‫وقوله‪ ) :‬والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته‬
‫حق(‪.‬‬
‫َ‬
‫ميَثا َ‬
‫ق‬ ‫ه ِ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫الميثاق عهد مؤكد‪ ،‬قال الله تعالى‪ )) :‬وَإ ِذ ْ أ َ‬
‫ميَثاقَ‬ ‫ه ِ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫ب ((]آل عمران‪ )) ،[187:‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬
‫ال ّذي ُ‬
‫ِ َ‬
‫َ‬
‫ميَثاقَ ب َِني‬ ‫ه ِ‬‫خذ َ الل ّ ُ‬‫قد ْ أ َ‬ ‫ن ((]آل عمران‪ )) ،[81:‬وَل َ َ‬ ‫الن ّب ِّيي َ‬
‫ل ((]المائدة‪. [12:‬‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫إِ ْ‬
‫الميثاق‪ :‬العهد الذي أخذه الله على آدم وذريته يوم‬
‫َ‬
‫ت‬‫س ُ‬ ‫استخرجهم من ظهره مثل الذر‪ ،‬ثم استنطقهم فقال‪ )) :‬أل َ ْ‬
‫دل له بقوله‬ ‫م َقاُلوا ب ََلى ((]العراف‪ ،[172:‬وهذا الميثاق است ُ ِ‬ ‫ب َِرب ّك ُ ْ‬
‫َ‬
‫م ذ ُّري ّت َهُ ْ‬
‫م‬ ‫ن ظ ُُهورِه ِ ْ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ن ب َِني آد َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫خذ َ َرب ّ َ‬ ‫تعالى‪ )) :‬وَإ ِذ ْ أ َ‬
‫قوُلوا‬ ‫َ‬ ‫م َقاُلوا ب ََلى َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وَأ َ ْ‬
‫ن تَ ُ‬ ‫شهِد َْنا أ ْ‬ ‫ت ب َِرب ّك ُ ْ‬ ‫س ُ‬‫م أل َ ْ‬ ‫سه ِ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫م ع ََلى أن ُ‬ ‫شهَد َهُ ْ‬
‫ن ((]العراف‪ [172:‬اليات‪،‬‬ ‫غافِِلي َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫مةِ إ ِّنا ك ُّنا ع َ ْ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ي َوْ َ‬
‫دل له بأحاديث عديدة جاءت في المسند والسنن ]أحمد‬ ‫واست ُ ِ‬
‫‪ ،1/44‬وأبو داود )‪ ،(4703‬والترمذي )‪ ،(3075‬والنسائي في‬
‫الكبرى )‪ (11190‬وابن حبان )‪ (6166‬والحاكم ‪ 1/27‬من حديث‬
‫عمر ‪ ،‬ورواه أحمد ‪ ،1/272‬والنسائي في الكبرى )‪(11191‬‬
‫والحاكم ‪1/27‬من حديث ابن عباس رضي الله عنهما[ وفيها‪ :‬أن‬
‫الله تعالى مسح ظهر آدم واستخرج ذريته أمثال الذر‪ ،‬وفي‬
‫م (( فقال‪)) :‬‬ ‫سه ِ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫م ع ََلى َأن ُ‬ ‫شهَد َهُ ْ‬ ‫بعضها‪ :‬أن الله استنطقهم )) وَأ َ ْ‬
‫م َقاُلوا ب ََلى ((‪.‬‬ ‫َ‬
‫ت ب َِرب ّك ُ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫أل َ ْ‬
‫والحاديث التي فيها استخراج ذرية آدم من ظهره‬
‫كثيرة]انظرها وبعض الكلم عليها في‪ :‬الروح ص ‪ 245‬وتفسير‬

‫‪96‬‬
‫ابن كثير ‪ ،3/501‬والدر المنثور ‪ ،3/598‬وانظر‪ :‬السلسلة‬
‫الصحيحة )‪ ،[(1623‬وبعضها يشهد لبعض؛ لكن الرواية التي فيها‬
‫أنه استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم فيها مقال لهل الحديث؛‬
‫فمنهم من ل يثبت هذه الرواية كما ذكر الشارح ابن أبي العز‬
‫]ص ‪ ، [310‬وأصح ما ورد في شأن الميثاق الحديث الذي في‬
‫الصحيحين عن أنس عن النبي ‪) :‬إن الله يقول لهون أهل‬
‫النار عذابا‪ :‬لو أن لك ما في الرض من شيء كنت تفتدي به؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب‬
‫آدم‪ :‬أن ل تشرك بي‪ ،‬فأبيت إل الشرك(‪] .‬البخاري )‪،(3334‬‬
‫ومسلم )‪[(2805‬‬
‫الشاهد‪ ) :‬قد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب‬
‫آدم‪ :‬أن ل تشرك بي‪ ،‬فأبيت إل الشرك (‪ ،‬هذا أصح ما استدل به‬
‫على الميثاق الول‪.‬‬
‫ومن الناس من ل يثبت هذا الميثاق ويقول‪ :‬هذا الميثاق ل‬
‫يذكره أحد من الناس‪ ،‬وليس فيه حجة على أحد‪.‬‬
‫والجواب عن هذا‪ :‬نعم ليس حجة وحده‪ ،‬ول يستوجب من‬
‫خالفه بمجرده العذاب‪ ،‬إنما يستوجب العذاب من جاءته الرسل‪،‬‬
‫وبل َغَْته دعوة الحق‪.‬‬
‫وأما الية ففيها نزاع‪ ،‬هل هي في الميثاق الول الذي أخذه‬
‫الله على آدم وذريته يوم استخرجهم من ظهره؟‬
‫في ذلك رأيان‪:‬‬
‫أكثر المفسرين على أنها في هذا الشأن‪.‬‬
‫ومنهم من يرى أنها في معنى آخر‪ ،‬وأن المراد منها ميثاق‬
‫الفطرة التي فطر الله عليها عباده‪.‬‬
‫ورجح ذلك ابن القيم بوجوه ]الروح ص ‪ ،[260‬منها‪:‬‬
‫م (( ولم يقل‪:‬‬ ‫ن ب َِني آد َ َ‬
‫م ْ‬
‫ك ِ‬ ‫أن الله تعالى قال‪ )) :‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫خذ َ َرب ّ َ‬
‫من آدم‪.‬‬
‫م (( ولم يقل‪ :‬من ظهره‪.‬‬ ‫ن ظ ُُهورِه ِ ْ‬ ‫م ْ‬‫وقال تعالى‪ِ )) :‬‬
‫م(( ولم يقل‪ :‬ذريته‪.‬‬ ‫وقال تعالى‪)) :‬ذ ُّري ّت َهُ ْ‬
‫والمراد استخراجهم جيل بعد جيل‪ ،‬من ظهور آبائهم‬
‫م (( بما نصبه من الدلة على ربوبيته‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ع ََلى َأن ُ‬ ‫))وَأ َ ْ‬
‫شهَد َهُ ْ‬
‫سبحانه وإلهيته‪ ،‬وفطر عباده على وحدانيته‪ ،‬وقال النبي ‪) :‬ما‬
‫من مولود إل يولد على الفطرة ( ]رواه البخاري )‪،(1358‬‬
‫ومسلم )‪ (2658‬من حديث أبي هريرة ‪.[‬‬
‫فالية في ميثاق الفطرة‪ ،‬ومع ذلك هذا الميثاق لم يجعله‬
‫الله بمجرده هو الحجة على العباد‪ ،‬نعم هو من جملة الحجج؛ لكن‬
‫ن‬ ‫ما ك ُّنا ُ‬
‫معَذ ِّبي َ‬ ‫الحجة الكبرى هي‪ :‬إرسال الرسل‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬

‫‪97‬‬
‫سَل ً‬
‫سوَل ً ((]السراء‪ [15:‬وقال سبحانه‪ُ )) :‬ر ُ‬ ‫ث َر ُ‬ ‫حّتى ن َب ْعَ َ‬ ‫َ‬
‫ل ((‬ ‫س ِ‬‫ة ب َعْد َ الّر ُ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ح ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫س ع َلى اللهِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ن ل ِئ َل ي َكو َ‬ ‫مب َ ّ‬
‫ن ِللّنا ِ‬ ‫منذ ِِري َ‬
‫ن وَ ُ‬
‫ري َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ُ‬
‫]النساء‪ ،[165:‬فبالرسل قطع الله المعذرة‪ ،‬وقال النبي ‪ ) :‬ل‬
‫أحد أحب إليه العذر من الله‪ ،‬ومن أجل ذلك بعث المبشرين‬
‫والمنذرين( ]رواه البخاري )‪ ،(7416‬ومسلم )‪ (1499‬من حديث‬
‫ة لحجةِ العباد على ربهم‬ ‫المغيرة بن شعبة ‪ ، [‬فالحج ُ‬
‫ة القاطع ُ‬
‫هي‪ :‬إرسال الرسل‪ ،‬وما هذه المواثيق‪ ،‬وهذه اليات إل من حجج‬
‫الرسل عليهم‪ ،‬ولهذا يحتج الرسل على أممهم فيما أنكروه بما‬
‫أقروا به‪ ،‬فيحتجون عليهم بإقرارهم بربوبيته تعالى‪ ،‬وأنه خالقهم‬
‫وخالق السماوات والرض يحتجون عليهم بهذا القرار على‬
‫م‬‫ما ل َك ُ ْ‬‫ه َ‬‫دوا الل ّ َ‬ ‫وجوب عبادته تعالى وحده دون ما سواه )) اع ْب ُ ُ‬
‫ن إ ِل َهٍ غ َي ُْره ُ ((]العراف‪.[59:‬‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ومما تقدم يتبين أن ما ذكر الله هو موجب الدليل‪ ،‬كما في‬
‫حديث أنس ‪ ‬في الصحيحين ]ص[‪ ،‬وكما دلت عليه الشواهد‬
‫من الحاديث الخرى‪ ،‬فالميثاق الول حق‪ ،‬ولكن ليس هو الحجة‬
‫ج به الرسل‬ ‫حت َ ُ‬‫القاطعة للمعذرة على المكلفين‪ ،‬وإنما هو مما ي َ ْ‬
‫على أممهم‪ ،‬وذلك بتذكيرهم إياه وإخبارهم به‪.‬‬

‫]وجوب اليمان بالقدر بمراتبه الربع[‬


‫وقوله‪) :‬وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل‬
‫الجنة‪ ،‬وعدد من يدخل النار جملة واحدة‪ ،‬فل ُيزاد في ذلك العدد‪،‬‬
‫ول ُينقص منه ‪ ،‬وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه‪ ،‬وكل‬
‫ميسر لما خلق له‪ ،‬والعمال بالخواتيم‪ ،‬والسعيد من سعد بقضاء‬
‫الله‪ ،‬والشقي من شقي بقضاء الله(‪.‬‬
‫الصل السادس من أصول اليمان‪ :‬اليمان بالقدر‪ ،‬واليمان‬
‫بالقدر يشمل أربعة أصول‪ ،‬وهي التي تسمى مراتب اليمان‬
‫بالقدر‪:‬‬
‫اليمان بعلم الله السابق‪ :‬وهو اليمان بأن الله علم بعلمه‬
‫م العباد وأعمالهم وأحوالهم وطاعاتهم‬ ‫القديم كل ما يكون‪ ،‬فعَل ِ َ‬
‫ومعاصيهم بعلمه القديم الزلي الذي لم يحدث بعد أن لم يكن؛‬
‫فإنه تعالى لم يزل عالما بما سيكون‪.‬‬
‫المرتبة الثانية‪ :‬اليمان بكتابة المقادير‪ :‬وهو اليمان بأن الله‬
‫قدر مقادير الخلق‪ ،‬وكتب ذلك على وفق ما علم قبل أن يخلق‬
‫السماوات والرض بخمسين ألف سنة‪ ،‬كما في حديث عبد الله‬
‫بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عند مسلم عن النبي ‪ ‬أنه‬
‫قال‪ ) :‬كتب الله مقادير الخلئق قبل أن يخلق السماوات والرض‬
‫( ]تقدم[‪ ،‬واليات الدالة على هاتين المرتبتين كثيرة منها‪ :‬قوله‬

‫‪98‬‬
‫َْ‬ ‫تعالى‪} :‬أ َل َم تعل َ َ‬
‫ن ذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ض إِ ّ‬ ‫ماء َوالْر ِ‬ ‫س َ‬‫ما ِفي ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ْ َْ ْ‬
‫هّ‬
‫سيٌر{ ] الحـج‪ [70:‬وقوله‪َ} :‬والل ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن ذ َل ِك ع َلى اللهِ ي َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ب إِ ّ‬ ‫ِفي ك َِتا ٍ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ح ِ‬‫ما ت َ ْ‬
‫جا وَ َ‬ ‫م أْزَوا ً‬ ‫جعَل َك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫فة ٍ ث ُ ّ‬ ‫من ن ّط ْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ب ثُ ّ‬ ‫من ت َُرا ٍ‬ ‫كم ّ‬ ‫ق ُ‬‫خل َ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه‬
‫مرِ ِ‬ ‫ن عُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ص ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫مرٍ وَل ُين َ‬ ‫معَ ّ‬‫من ّ‬ ‫مُر ِ‬ ‫ما ي ُعَ ّ‬ ‫مه ِ و َ َ‬ ‫ضعُ إ ِل ب ِعِل ِ‬ ‫أنَثى وَل ت َ َ‬
‫ب{ ]فاطر‪[11:‬‬ ‫إ ِّل ِفي ك َِتا ٍ‬
‫المرتبة الثالثة‪ :‬اليمان بعموم مشيئة الله‪ :‬وهو أنه ل خروج‬
‫لشيء عن مشيئة الله‪ ،‬فكل ما يجري في الوجود فهو بمشيئة‬
‫الله‪ ،‬فكل حركة وسكون‪ ،‬وكل تغير بوجود أو عدم أو زيادة أو‬
‫ما‬‫ل لّ َ‬ ‫نقص على أي وجه كل ذلك بمشيئة الله‪ ،‬قال تعالى‪} :‬فَّعا ٌ‬
‫شاء{ ]إبراهيم‪:‬‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫فعَ ُ‬ ‫د{ ] البروج‪ [16:‬وقوله‪ } :‬وَي َ ْ‬ ‫ري ُ‬ ‫يُ ِ‬
‫َ‬
‫ه{]النسان‪.[30:‬‬ ‫شاء الل ّ ُ‬ ‫ن إ ِّل أن ي َ َ‬ ‫ؤو َ‬ ‫شا ُ‬ ‫ما ت َ َ‬ ‫‪ ،[27‬وقوله‪} :‬وَ َ‬
‫والمرتبة الرابعة‪ :‬اليمان بعموم خلقه‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن الله خالق‬
‫ق‬
‫خال ِ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫كل شيء‪ ،‬فكل موجود فهو مخلوق لله‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬الل ّ ُ‬
‫ق‬
‫خال ِ ُ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ َ‬ ‫م ل إ ِل َ َ‬ ‫ه َرب ّك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫يٍء (( ]الزمر‪ )) ،[62:‬ذ َل ِك ُ ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫كُ ّ‬
‫يٍء ((]النعام‪.[102:‬‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫كُ ّ‬
‫هذه أربع مراتب ل بد أن تكون مستقرة في ذهن المسلم‪،‬‬
‫والمؤلف ذكر عبارات كثيرة تتعلق بتقرير اليمان بالقدر في‬
‫وع العبارات وذكر جزئيات‬ ‫حدود هذه المراتب المذكورة؛ لكنه ن ّ‬
‫وتفصيلت‪ ،‬وفرق الكلم في القدر‪ ،‬فقد تقدم ]ص[ قوله‪) :‬خلق‬
‫ف عليه‬ ‫خ َ‬ ‫الخلق بعلمه‪ ،‬وقدر لهم أقدارا‪ ،‬وضرب لهم آجال‪ ،‬ولم ي َ ْ‬
‫شيء قبل أن يخلقهم‪ ،‬وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم(‬
‫وذكر المشيئة ]ص[ وأن ) كل شيء يجري بتقديره ومشيئته‪،‬‬
‫ومشيئته تنفذ ل مشيئة للعباد إل ما شاء لهم( ‪ ،‬وهنا ذكر أيضا‬
‫بعض التفصيلت في إطار مراتب القدر المتقدمة‪ ،‬فقال‪) :‬وقد‬
‫علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل‬
‫النار جملة واحدة فل يزاد في ذلك العدد ول ينقص منه(؛ لنه إذا‬
‫زاد أو نقص لزم منه تغير علم الله‪ ،‬وأن الله لم يعلم ما سيكون‪،‬‬
‫ل‪ ،‬بل قد ُفرغ من المر‪ ،‬كما في الحديث الصحيح عن النبي ‪‬‬
‫أنه قال‪) :‬ما من نفس منفوسة إل وقد كتب الله مكانها من الجنة‬
‫والنار (‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(1362‬ومسلم )‪ (2647‬من حديث‬
‫علي ‪[‬‬
‫وهذا المعنى الذي ذكره مستمد من النصوص‪ ،‬قال تعالى‪)) :‬‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫م ((]النفال‪ ،[75:‬وقال تعالى‪ )) :‬إ ِ ّ‬ ‫يٍء ع َِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ب ِك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫صفه تعالى بالعلم التام يقتضي أنه‬ ‫م ((]التوبة‪ ،[28:‬فوَ ْ‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫ع َِلي ٌ‬
‫سبحانه يعلم ما سيكون تماما من كل الوجوه‪ ،‬يعلم من يدخل‬
‫الجنة وعددهم ومنازلهم ومراتبهم بعلم مفصل‪ ،‬وليس علما‬
‫إجماليا‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫وقوله‪ ) :‬فل يزاد في ذلك العدد ول ينقص منه(‪.‬‬
‫بل العدة قد انقضت‪ ،‬فعدة البشر قد سبق علم الله وكتابه‬
‫بها من آدم إلى آخر من يخلقه الله من هذا الجنس البشري‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه(‪.‬‬
‫وكذلك علم أفعالهم‪ :‬طاعاتهم ومعاصيهم و ما ليس بطاعة‬
‫يٍء ع َد َد َا ً ((]الجن‪.[28:‬‬ ‫ل َ‬ ‫صى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ش ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ول معصية‪ ،‬قد أحصاه )) وَأ ْ‬
‫وقوله‪) :‬وكل ميسر لما خلق له (‪.‬‬
‫لما أخبر الرسول ‪ ‬بأنه ) ما من نفس إل وقد علم مكانها‬
‫من الجنة ومكانها من النار‪ ،‬قال رجل‪ :‬أفل نتكل على كتابنا وندع‬
‫العمل؟ فقال‪ :‬اعملوا فكل ميسر‪ ،‬أما أهل السعادة فييسرون‬
‫لعمل أهل السعادة‪ ،‬وأما أهل الشقاوة‪ ،‬فييسرون لعمل أهل‬
‫الشقاوة( ]تقدم[ وسئل النبي ‪ ) :‬أرأيت ما يعمل الناس اليوم‬
‫ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق‬
‫أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟‬
‫فقال‪ :‬ل؛ بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم‪ ،‬وتصديق ذلك في‬
‫كتاب الله عز وجل‪) :‬ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها(‬
‫]رواه مسلم )‪ (2650‬من حديث عمران بن حصين ‪ [‬ومعنى‬
‫ذلك أن الله تعالى يجري المور على ما وفق ما سبق به علمه‬
‫وكتابه‪ ،‬فُييسير للعبد طريقه ويجعله مهيئا سالكا وهو يسلكه‬
‫باختياره ومشيئِته‪ ،‬ولكن مشيئُته واختياره محكومان بمشيئة‬
‫َ‬
‫ب‬‫ه َر ّ‬‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫ن إ ِّل أ ْ‬
‫ن يَ َ‬ ‫شاُءو َ‬‫ما ت َ َ‬ ‫الرب كما قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫ر‬
‫ق وتيسي ٍ‬ ‫ن ((]التكوير‪ ،[29:‬فإذا أطاع العبد ربه فبتوفي ٍ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬
‫منه تعالى لعبده‪ ،‬وإذا فعل العبد المعصية فبعدم ذلك التوفيق‪،‬‬
‫م هذا التوفيق هو تيسيٌر لذلك العمل‪.‬‬ ‫وعد ُ‬
‫وهناك سؤال يجري على ألسن بعض الناس يقولون‪:‬‬
‫النسان مسير أم مخير؟‬
‫وهذا من اللفاظ التي لم ترد في النصوص فل بد فيها من‬
‫التفصيل‪ ،‬فمن أراد أنه )مخير( بمعنى أنه له مشيئة واختيار؛‬
‫فنعم‪ ،‬وإن أراد أنه مخير أنه يتصرف بمحض مشيئته خارجا عن‬
‫مشيئة الله وقدرته فهذا باطل‪ ،‬فل خروج لحد عن قدرة الله‬
‫ومشيئته‪ ،‬وكذلك )مسير(؛ فإن أراد بميسر أنه في جميع أموره‬
‫يتحرك بتدبير الله وتقديره ومشيئته فنعم‪ ،‬وإن أراد أنه مسير ل‬
‫اختيار له ول مشيئة؛ بل هو مجبور؛ فهذا باطل‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬والعمال بالخواتيم(‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن المعتبر في مصير العبد هو ما يختم له به‪ ،‬فقد يعيش‬
‫النسان عمرا طويل وهو في أعمال الكفر والضلل والعصيان‪ ،‬ثم‬
‫يدركه ما سبق به الكتاب‪ ،‬فيؤمن ويموت‪ ،‬فيختم له باليمان‬

‫‪100‬‬
‫والعمل الصالح كحادثة سحرة فرعون أمضوا حياتهم كلها في‬
‫عبادة فرعون‪ ،‬وعمل السحر‪ ،‬ولما رأوا اليات أشرق اليمان في‬
‫ُ‬
‫ن*‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫مّنا ب َِر ّ‬ ‫ن * َقاُلوا آ َ‬ ‫دي َ‬ ‫ج ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫حَرة ُ َ‬ ‫س َ‬‫ي ال ّ‬ ‫ق َ‬ ‫قلوبهم )) فَأل ْ ِ‬
‫ن ((]الشعراء‪ [48-46:‬وقوله تعالى‪ :‬حكاية‬ ‫هاُرو َ‬ ‫سى وَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ب ُ‬ ‫َر ّ‬
‫ُ‬
‫ن‬‫م ّ‬ ‫ل وَل َت َعْل َ ُ‬‫خ ِ‬ ‫ذوِع الن ّ ْ‬ ‫ج ُ‬‫م ِفي ُ‬ ‫صل ّب َن ّك ُ ْ‬‫عن قول فرعون لهم‪ )) :‬وََل َ‬
‫ت‬‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫جاَءَنا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ك ع ََلى َ‬ ‫ن ن ُؤ ْث َِر َ‬ ‫قى * َقاُلوا ل َ ْ‬ ‫ذاب َا ً وَأ َب ْ َ‬ ‫أ َي َّنا أ َ َ‬
‫شد ّ ع َ َ‬
‫ض ((]طه‪ [72-71 :‬تحولوا من‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫ت‬ ‫ن‬‫وال ّذي فَط َرنا َفاقْض ما أ َ‬
‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ِ‬
‫الكفر الذي هو من أغلظ الكفر إلى هذه المرتبة من اليمان‪،‬‬
‫فصاروا إلى كرامة الله فختم لهم بذلك العمل‪ ،‬وشواهد هذا‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫وكم من كافر يسلم ثم ينضم إلى صف المسلمين فيقاِتل‬
‫وُيقَتل ولم يعمل قبلها شيئا؛ لكنه آمن بالله ورسوله إيمانا صادقا‪،‬‬
‫وفي الحديث الصحيح عن النبي ‪ ‬أنه قال‪) :‬يضحك الله إلى‬
‫رجلين يقتل أحدهما الخر يدخلن الجنة‪ ،‬يقاتل هذا في سبيل الله‬
‫فيقتل‪ ،‬ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد( ]رواه البخاري )‬
‫‪ ،(2826‬ومسلم )‪ (1890‬من حديث أبي هريرة ‪ [‬وفي حديث‬
‫ابن مسعود ‪ ‬في الصحيحين‪ :‬حدثنا رسول الله ‪ ‬وهو الصادق‬
‫المصدوق‪ ) :‬إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما‬
‫نطفة‪ ،‬ثم يكون علقة مثل ذلك‪ ،‬ثم يكون مضغة مثل ذلك‪ ،‬ثم‬
‫يرسل إليه الملك‪ ،‬فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات‪ :‬بكتب‬
‫رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد‪ .‬قال‪ :‬فوالله الذي ل إله‬
‫غيره‪ ،‬إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها‬
‫إل ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‪ ،‬وإن‬
‫الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع‬
‫فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها( ]تقدم[‬
‫فالعبرة بالخواتيم‪ ،‬ماذا ينفع من كان دأبه الحسان إذا تحول‬
‫وتغير وانقلب من الحسان إلى العدوان فبعد أن كان محسنا‬
‫مصلحا صار ظالما مفسدا‪ ،‬فمن كان مؤمنا مدة طويلة‪ ،‬ثم صار‬
‫كافرا‪ ،‬فكفره يحبط ما قبله‪.‬‬
‫ولهذا من أهم ما يجب أن يهتم به المسلم أمر الخاتمة‪،‬‬
‫فيسأل ربه الثبات أول؛ لن الحي ل تؤمن عليه الفتنة‪ ،‬ومن دعائه‬
‫النبي ‪) :‬يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك( ]رواه أحمد‬
‫‪ ،3/112‬والبخاري في الدب المفرد )‪ ،(684‬والترمذي )‪ (2140‬ـ‬
‫وقال‪ :‬حسن ـ وصححه الحاكم ‪ 1/526‬والضياء في المختارة‬
‫‪ 6/211‬من حديث أنس ‪ ‬وروي من حديث غيره من الصحابة[‬
‫وهذا يتضمن سؤال حسن الخاتمة‪ ،‬والله تعالى يقول‪َ )) :‬يا أ َي َّها‬
‫َ‬
‫ن ((‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬‫م ُ‬ ‫ن إ ِّل وَأن ْت ُ ْ‬
‫موت ُ ّ‬
‫قات ِهِ َول ت َ ُ‬ ‫حقّ ت ُ َ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬

‫‪101‬‬
‫]آل عمران‪ [102:‬أي‪ :‬استقيموا على السلم حتى يأتيكم الموت‬
‫ن ((]الحجر‪[99:‬‬ ‫قي ُ‬ ‫حّتى ي َأ ْت ِي َ َ‬
‫ك ال ْي َ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫وأنتم على ذلك‪َ )) ،‬واع ْب ُد ْ َرب ّ َ‬
‫ومن دعاء الصالحين‪ :‬سؤال الوفاة على السلم كما قال‬
‫َ‬
‫ن ((]العراف‪:‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫صب َْرا ً وَت َوَفَّنا ُ‬
‫السحرة‪َ )) :‬رب َّنا أفْرِغ ْ ع َل َي َْنا َ‬
‫قِني‬ ‫ما ً وَأ َل ْ ِ‬
‫ح ْ‬ ‫سل ِ َ‬
‫م ْ‬ ‫‪ ،[126‬ويوسف عليه السلم يقول‪ )) :‬ت َوَفِّني ُ‬
‫ن ((]يوسف‪ [101:‬وهذا كله من سؤال الله حسن‬ ‫حي َ‬
‫صال ِ ِ‬
‫ِبال ّ‬
‫الخاتمة‪.‬‬

‫سِعد بقضاء الله‪ ،‬والشقي من شقي‬ ‫وقوله‪) :‬والسعيد من َ‬


‫بقضاء الله(‪.‬‬
‫السعيد هو الذي يفوز بمطلوبه ومحبوبه‪ ،‬وينجو من مرهوبه‬
‫ومكروهه‪ ،‬وهو من يظفر بالكرامة ويفوز بالنعيم المقيم‪،‬‬
‫والشقي ضده‪ ،‬وهو الذي يفوته المطلوب والمحبوب‪ ،‬ويبوء‬
‫بالمكروه والمرهوب‪ ،‬هو الذي يصير إلى عذاب الله الليم المهين‬
‫َ‬
‫في الّناِر‬ ‫قوا فَ ِ‬ ‫ش ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬ ‫سِعيد ٌ * فَأ ّ‬ ‫ي وَ َ‬ ‫ق ّ‬‫ش ِ‬‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫قال تعالى‪ )) :‬فَ ِ‬
‫َ‬
‫ض‬
‫ت َوالْر ُ‬ ‫ماَوا ُ‬ ‫س َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫م ِ‬ ‫دا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ِفيَها َ‬ ‫دي َ‬‫خال ِ ِ‬‫شِهيقٌ * َ‬ ‫م ِفيَها َزِفيٌر وَ َ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫َ‬
‫في‬ ‫دوا فَ ِ‬ ‫سعِ ُ‬
‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬ ‫ريد ُ * وَأ ّ‬ ‫ل لّ َ‬
‫ما ي ُ ِ‬ ‫ك فَّعا ٌ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫ك إِ ّ‬ ‫شاء َرب ّ َ‬ ‫ما َ‬ ‫إ ِل ّ َ‬
‫شاء َرب ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ك‬ ‫ما َ‬ ‫ض إ ِل ّ َ‬ ‫ت َوالْر ُ‬ ‫ماَوا ُ‬ ‫س َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫م ِ‬‫دا َ‬‫ما َ‬ ‫ن ِفيَها َ‬ ‫دي َ‬‫خال ِ ِ‬ ‫جن ّةِ َ‬
‫ذوٍذ((]هود‪.[108-105:‬‬ ‫ج ُ‬ ‫م ْ‬‫طاء غ َي َْر َ‬ ‫عَ َ‬
‫دران‪ ،‬وفي الحديث الذي‬ ‫ق ّ‬‫م َ‬‫فالسعادة والشقاوة مقضيان و ُ‬
‫تقدم ذكره ]ص[‪ ) :‬أن الملك يؤمر بأربع كلمات‪ :‬بكتب رزقه‬
‫وأجله وشقي أو سعيد( وهذا ل يعني أن النسان يصير شقًيا‬
‫دا بدون أسباب السعادة‪ ،‬ل؛‬ ‫بدون أسباب الشقاوة‪ ،‬ويصير سعي ً‬
‫بل للشقاوة أسباب‪ ،‬وللسعادة أسباب‪ ،‬فالسعادة سببها توحيد‬
‫الله وعبادته وحده ل شريك له‪ ،‬وطاعته وطاعة رسله‪ ،‬هذه‬
‫أسس السعادة؛ إيمان وتقوى‪ ،‬وعمل صالح‪ ،‬ول تكون السعادة‬
‫دا‪ ،‬كما قال النبي ‪ ) :‬إنه لن يدخل الجنة إل نفس‬ ‫بدون ذلك أب ً‬
‫مؤمنة ( ]رواه أحمد ‪ ، 1/79‬والترمذي )‪ (3092‬ـ وقال‪ :‬حسن‬
‫صحيح ـ‪ ،‬والحاكم ‪4/178‬وصححه‪ [.‬فالسعادة موقوفة على‬
‫أسبابها والشقاوة موقوفة على أسبابها‪ ،‬فالشقاوة سببها الكفر‬
‫والعصيان والشرك والظلم والفسق والعدوان‪ ،‬فل يدخل النار‬
‫أحد إل بالسباب الموجبة لدخولها‪ ،‬ول يدخل الجنة أحد إل‬
‫بالسباب المقتضية لدخولها‪ ،‬والكل قد سبق به علم الله وقضاؤه‬
‫وكتابه‪ ،‬فل بد من استحضار هذه الحقائق‪ ،‬فالشقاوة ل تكون بل‬
‫سبب‪ ،‬فمن سبق قضاء الله في شقاوته فل بد أن تقوم به‬
‫أسباب الشقوة‪ ،‬ومن سبق قضاء الله بسعادته؛ فل بد أن تقوم‬
‫به أسباب السعادة‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫ومقام الكلم في القدر من المقامات العظيمة التي تموج‬
‫صم الذي به النجاة من‬ ‫فيها الفكار والقوال موجا؛ ولكن المعت َ‬
‫الزلل في هذه المسالك‪ ،‬وهذه المتاهات التي ضل فيها أكثر‬
‫الخلق هو كتاب الله وسنة رسوله ‪ ،‬فإذا أشكل عليك أمر ولم‬
‫تدركه بعقلك الناقص القاصر؛ فاعتصم بالله وبكتابه‪ ،‬وحسبك‪.‬‬
‫وهذا الصل العظيم مع ما يذكر فيه من تفاصيل بعض‬
‫المسائل يقوم على المراتب الربعة المتقدمة‪ ،‬ول بد مع اليمان‬
‫بالقدر من اليمان بالشرع واليمان بحكمة الرب‪ ،‬فهذه ثلثة‬
‫أصول ل بد من التحقق بها‪ ،‬اليمان بالقدر بمراتبه الربع‪،‬‬
‫واليمان بشرع الله كما تقدم أن المؤلف ذكر الصلين‪ :‬اليمان‬
‫بالشرع والقدر بعدما ذكر بعض الجوانب في القدر قال‪) :‬ولم‬
‫ف عليه شيء قبل أن يخلقهم‪ ،‬وعلم ما هم عاملون قبل أن‬ ‫يخ َ‬
‫يخلقهم‪ ،‬وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته( ]ص[‪.‬‬

‫حك َم ِ وأسرار القدر[‬


‫]عجز الخلق عن معرفة ِ‬
‫وقوله‪) :‬وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه‪ ،‬لم يطلع على‬
‫ذلك ملك مقرب ول نبي مرسل(‪.‬‬
‫م و أسرار ل سبيل‬ ‫حك َ ٌ‬
‫قدر الله وقضاؤه الشامل النافذ له ِ‬
‫للخلق إلى معرفتها‪ ،‬فإن الخلق ل يحيطون به تعالى علما‪ ،‬ل‬
‫بذاته ول صفاته ول أفعاله ول بحكمته في خلقه وأمره‪ ،‬وما دام‬
‫أن الله تعالى قد استأثر بذلك؛ فل تطلب ما ل سبيل إلى‬
‫معرفته‪ ،‬فالله قد استأثر بعلم كيفية صفاته فل تطلب معرفة‬
‫ذلك‪ ،‬ول تسأل‪ :‬كيف استوى؟ وكيف يغضب؟ وكيف ينزل؟ كل‬
‫ذلك غير معقول لنا‪ ،‬ول يمكن لعقولنا أن تصل إليه‪ ،‬كذلك أمر‬
‫ح َ‬
‫كمه‬ ‫القدر‪ ،‬الله تعالى سبحانه قد استأثر بعلم أسرار القدر‪ ،‬و ِ‬
‫في أقداره على التفصيل‪.‬‬
‫فالشياء التي نبهت عليها النصوص قد تدرك بالتدبر؛ لكن‬
‫تأمل في خلق الله‪ ،‬هذا يجعله غنيا وهذا فقيرا وهذا بين ذلك‪،‬‬
‫وهذا مؤمنا مهتديا‪ ،‬وهذا ضال‪ ،‬وهذا عاصيا‪ ،‬وفي الخلق طويل‬
‫وقصير‪ ،‬وجميل ودميم‪ ،‬وكل التفاوتات التي تلحظها‪ ،‬أغنى الله‬
‫هذا دون ذاك‪ ،‬وأفقر هذا دون ذاك‪ ،‬وجعل هذا طويل‪ ،‬وهذا‬
‫قصيرا‪ ،‬وجعل هذا عاقل وهذا غير عاقل وفي الناس‪ :‬معتوه‪،‬‬
‫وبليد وذكي‪ ،‬ويولد للنسان العدد من الولد أبوهم واحد وأمهم‬
‫واحدة وتتفاوت خلقتهم وأخلقهم وعقولهم وحظوظهم‪ ،‬ابحث‬
‫عن أسرار هذه التخصيصات ل تجد ُ إلى ذلك سبيل‪.‬‬
‫طلع على ذلك ملك مقرب ول نبي مرسل(‬ ‫وقوله‪) :‬لم ي َ ّ‬
‫فكيف بمن دونهم؟ إذا كان الرسل الذين هم صفوة الخلق‪،‬‬

‫‪103‬‬
‫والمقربون من الملئكة لم يطلعوا على سر القدر‪ ،‬فهذا يؤكد أن‬
‫ذلك مما استأثر الله به واختص بعلمه‪ ،‬فسر القدر من الغيب‬
‫المطلق؛ لن الغيب نوعان‪:‬‬
‫غيب مطلق‪ ،‬وغيب نسبي‪.‬‬
‫فالغيب النسبي‪ :‬الذي يعلمه بعض الخلق دون بعض‪ ،‬فهو‬
‫غيب بالنسبة لمن لم يعلمه‪ ،‬و في الدعاء المعروف‪) :‬أسألك بكل‬
‫اسم هو لك‪ ،‬سميت به نفسك‪ ،‬أو أنزلته في كتابك‪ ،‬أو علمته‬
‫أحدا من خلقك‪ ،‬أو استأثرت به في علم الغيب عندك( ]رواه‬
‫أحمد ‪ ،1/391‬وابن حبان )‪ (972‬والحاكم ‪ 1/509‬من حديث ابن‬
‫مسعود ‪ ،‬وقال الدارقطني في العلل ‪ :5/200‬إسناد ليس‬
‫بالقوي‪ ،[ .‬فالسر القدري من الغيب المطلق الذي اختص الله‬
‫طلع عليه ملكا مقربا ول نبيا مرسل؛ لنهم ل علم لهم إل‬ ‫به‪ ،‬لم ي ُ ْ‬
‫ما ع َل ّ ْ‬
‫مت ََنا ((]البقرة‪:‬‬ ‫م ل ََنا إ ِّل َ‬
‫عل ْ َ‬
‫كل ِ‬ ‫حان َ َ‬ ‫ما علمهم الله‪َ)) :‬قاُلوا ْ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ن ال ْعِل ْم ِ إ ِّل قَِليَل ً ((]السراء‪:‬‬ ‫ُ‬
‫م َ‬
‫م ِ‬
‫ما أوِتيت ُ ْ‬ ‫‪ ،[32‬وقال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫‪.[85‬‬

‫]البحث في أسرار القدر سبب للضلل[‬


‫وقوله‪) :‬والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلن‪ ،‬وسلم‬
‫الحرمان‪ ،‬ودرجة الطغيان(‪.‬‬
‫التعمق‪ :‬التكلف في البحث‪ .‬والنظر‪ :‬التفكر‪.‬‬
‫فالتعمق والنظر في أسرار القدر والبحث عن ذلك‪ ،‬يقول‬
‫المؤلف إنه‪) :‬ذريعة الخذلن‪ ،‬وسلم الحرمان‪ ،‬ودرجة الطغيان(‬
‫هذه كلمات متقاربة مقصودها‪ :‬أن التعمق والنظر سبب الشقاء‬
‫الهلك‪ ،‬والمصنف من منهجه في هذه الرسالة أنه يتحرى السجع‪،‬‬
‫وتنويع العبارات‪.‬‬
‫م‬‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫ه َفل َ‬
‫غال ِ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫صْرك ُ ُ‬
‫ن ي َن ْ ُ‬
‫والخذلن‪ :‬عدم التوفيق‪ )) ،‬إ ِ ْ‬
‫ن ب َعْد ِهِ ((]آل عمران‪[160:‬‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫صُرك ُ ْ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬
‫ذي ي َن ْ ُ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫خذ ُل ْك ُ ْ‬
‫م فَ َ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫وَإ ِ ْ‬
‫فالتعمق والنظر في أسرار القدر سبب لخذلنه وعدم توفيقه‬
‫وحرمانه من الستقامة‪ ،‬وسبب للطغيان فالذي يبحث ويخوض‬
‫ويتعمق قد طغى وتعدى حده‪ ،‬قف فأنت ضعيف وعبد ومحدود‬
‫الدراك‪ ،‬ول تطلب ما ليس لك‪ ،‬ول ترم ما ل سبيل لك إليه ول‬
‫قدرة لك عليه‪.‬‬
‫فالتعمق والنظر سبب لكل شر وشقاء وهلك‪ ،‬فإنه يضرب‬
‫في متاهة ل ينتهي فيها إلى حدود‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة؛‬
‫فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه‪ ،‬ونهاهم عن مرامه‪،‬‬

‫‪104‬‬
‫ل وهم ي َ‬ ‫سأ َ ُ‬
‫ن ((‬ ‫سأُلو َ‬ ‫فعَ ُ َ ُ ْ ُ ْ‬
‫ما ي َ ْ‬
‫ل عَ ّ‬ ‫كما قال تعالى في كتابه‪ )) :‬ل ي ُ ْ‬
‫]النبياء‪.( [23:‬‬
‫يؤكد المؤلف ما سبق‪ ،‬بعدما بين خطورة الخوض في أسرار‬
‫القدر بالكلمات السابقة قال‪ :‬فالحذر كل الحذر من التعمق‬
‫والبحث في أسرار القدر )نظرا وفكرا ووسوسة( والنظر والفكر‬
‫بمعنى‪ :‬التفكير‪.‬‬
‫والوسوسة دون ذلك‪ ،‬فقد تكون بداية التفكر والنظر‪،‬‬
‫)فالحذَر( منصوب على الغراء‪ ،‬أي‪ :‬الزم الحذر والخوف أيها‬
‫المسلم العاقل الناصح لنفسك‪.‬‬
‫والوسوسة هي‪ :‬إلقاء المعاني في القلب‪ ،‬فالشيطان‬
‫يوسوس فيلقي معاني الشبهات‪ ،‬ومعاني الشهوات في القلب‬
‫مثل البذر‪ ،‬فوساوس الشيطان هي البذرة الولى للشرور كلها؛‬
‫لكن هذه الوساوس قد تموت في مكانها إذا وفق النسان‬
‫لدفعها‪ ،‬وتعوذ بالله منه فإنها تنتهي‪ ،‬وقد يثمر تفكيرا وتفكرا‪ ،‬ثم‬
‫قد يثمر كلما وعمل ‪ ،‬فكل الشرور التي تشاهد بالعيون وتسمع‬
‫بالذان كلها نابتة من ذلك الوسواس‪ ،‬والله تعالى قد أنزل سورة‬
‫عوذ ُ‬‫ل أَ ُ‬‫ليتحصن بها المسلم من ذلك الوسواس الخناس‪ )) :‬قُ ْ‬
‫س‬‫وا ِ‬ ‫س َ‬‫شّر ال ْوَ ْ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫س* ِ‬ ‫َ‬
‫س * إ ِلهِ الّنا ِ‬ ‫ك الّنا ِ‬‫مل ِ ِ‬
‫س * َ‬ ‫ب الّنا ِ‬
‫ب َِر ّ‬
‫س ((‬ ‫س * من الجنة والّنا ِ‬ ‫دورِ الّنا ِ‬ ‫ص ُ‬‫س ِفي ُ‬ ‫سو ِ ُ‬‫ذي ي ُوَ ْ‬ ‫س * ال ّ ِ‬
‫خّنا ِ‬‫ال ْ َ‬
‫]الناس‪ ،[6 -1:‬وسبقت الشارة ]ص[ إلى الحديث الذي ورد في‬
‫ن أحدكم فيقول‪ :‬من خلق كذا‪،‬‬ ‫شأن الوسواس‪) :‬يأتي الشيطا ُ‬
‫من خلق كذا‪ ،‬حتى يقول‪ :‬من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله‬
‫ولينته( فالشيطان يلقي في القلوب أخبث الوساوس؛ لكن‬
‫المؤمن الموفق يدفعها باعتصامه بربه وبلجوئه إلى موله‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬أعوذ بالله من الشيطان‪ ،‬فإن الله هو الذي خلق‬
‫الشيطان وهو قادر على أن يصرفه عنك‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه( عن‬
‫خليقته )ونهاهم عن مرامه( هذا تأكيد لما سبق من قوله‪) :‬وأصل‬
‫القدر سر الله تعالى في خلقه‪ ،‬لم يطلع على ذلك ملك مقرب‬
‫ول نبي مرسل( فالمؤلف ـ رحمه الله ـ أراد أن يؤكد هذا المر‬
‫العظيم بهذه المؤكدات‪) :‬فإن الله طوى علم القدر عن أنامه(‬
‫طوى علمه‪ :‬اختص به‪ ،‬ولم يطلعهم عليه‪) ،‬ونهاهم عن مرامه(‬
‫أي‪ :‬طلبه‪ ،‬فعلم أسرار القدر من العلم الذي ل يجوز أن يطلب‪.‬‬
‫لكن هل يجوز البحث في القدر؟‬
‫نعم‪ ،‬فنحن الن نبحث ونتكلم في القدر‪ ،‬وهذا الذي نتكلم‬
‫فيه ليس هو الذي ُنهينا عنه‪ ،‬نحن الن نتكلم في معرفة ما يجوز‬
‫وما ل يجوز من الكلم في القدر‪ ،‬فاليمان بالقدر أحد أصول‬

‫‪105‬‬
‫اليمان‪ ،‬واليمان بالقدر ل يعارض اليمان بالشرع‪ ،‬بل ل بد من‬
‫الجمع بينهما‪ ،‬كما أن اليمان بالقدر ل يعارض إثبات السباب‪،‬‬
‫فالسباب والمسببات كلها جارية بقدر الله‪ ،‬فل بد أن تنتبه لهذا‪.‬‬
‫إذًا؛ الشيء الذي ل يجوز البحث فيه هو البحث في أسرار‬
‫ل((‬ ‫فعَ ُ‬
‫ما ي َ ْ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫سأ َ ُ‬‫م؟! فقد قال تعالى‪ )) :‬ل ي ُ ْ‬ ‫م؟! ل ِ َ‬ ‫القدر‪ ،‬ل ِ َ‬
‫]النبياء‪ [23:‬ل ُيسأل تعالى عن ما يفعل لكمال حكمته‪ ،‬والعباد‬
‫يسألون ))وهم ي َ‬
‫ن ((]النبياء‪ [23:‬وهذا من النفي غير‬ ‫سأُلو َ‬ ‫َ ُ ْ ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ل نفي في صفات الله تعالى فإنه يتضمن ثبوتا‪.‬‬ ‫المحض‪ ،‬وك ُ‬
‫م فعل؟(‪.‬‬ ‫وقوله‪) :‬فمن سأل‪ :‬ل ِ َ‬
‫م خلق‬ ‫م هدى هذا؟ وأضل هذا؟ وأفقر هذا؟ ل ِ َ‬ ‫فمن سأل‪ :‬ل ِ َ‬
‫م خلق الشياطين؟يسأل على وجه العتراض‪.‬‬ ‫الشرور؟ ل ِ َ‬
‫فإن السؤال يكون على وجهين‪:‬‬
‫سؤال اعتراض ومعارضة بالعقل‪.‬‬
‫وسؤال طلب للمعرفة‪.‬‬
‫فالمنكر العظيم‪ :‬السؤال على وجه العتراض‪ ،‬أو السؤال‬
‫عن أمر ل سبيل إلى معرفته‪.‬‬
‫فالول‪ :‬ظاهر الفساد‪ ،‬؛ لنه اعتراض على أحكم الحاكمين‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬تكلف وبحث عما استأثر الله بعلمه وطوى علمه‬
‫عن العباد‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬فقد رد حكم الكتاب‪ ،‬ومن رد حكم الكتاب كان من‬
‫الكافرين( حكم الكتاب هو حكم الله‪ ،‬ومن رد حكم الله كان‬
‫م إ ِّل ل ِل ّهِ ((]يوسف‪،[40:‬‬ ‫حك ْ ُ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫كافرا به سبحانه وتعالى‪ ))،‬إ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ((]التين‪:‬‬ ‫مي َ‬ ‫حاك ِ ِ‬‫حك َم ِ ال ْ َ‬ ‫س الل ّ ُ‬
‫ه ب ِأ ْ‬ ‫ن * أل َي ْ َ‬ ‫دي ِ‬‫ك ب َعْد ُ ِبال ّ‬ ‫ما ي ُك َذ ّب ُ َ‬‫)) فَ َ‬
‫‪.[8-7‬‬

‫]وجوب التمسك بالكتاب والسنة‪ ،‬وترك الخوض فيما طوي‬


‫عنا علمه[‬
‫ور قلبه من‬ ‫وقوله‪ ) :‬فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو من ّ‬
‫أولياء الله تعالى‪ ،‬وهي درجة الراسخين في العلم؛ لن العلم‬
‫علمان‪ :‬علم في الخلق موجود‪ ،‬وعلم في الخلق مفقود‪ ،‬فإنكار‬
‫العلم الموجود كفر‪ ،‬وادعاء العلم المفقود كفر‪ ،‬ول يثبت اليمان‬
‫إل بقبول العلم الموجود‪ ،‬وترك طلب العلم المفقود(‪.‬‬
‫قد يكون مراده من هذه الشارة من أول ما يتعلق بالتوحيد‬
‫والرسالة والقرآن وما بعد ذلك‪ ،‬أو يريد القريب وهو ما يتعلق‬
‫بالصل السادس وهو اليمان بالقدر‪ ،‬وكأن الرجح رجوع الضمير‬
‫إلى كل ما تقدم‪) ،‬فهذا جملة ما يحتاج إليه( أي‪ :‬ما ل بد منه‬
‫ور القلب إل بذلك‪ ،‬فنستطيع‬ ‫ور القلب( ول يكون من ّ‬‫)لمن هو من ّ‬

‫‪106‬‬
‫أن نقول‪ :‬فهذا جملة اعتقاد من قلبه ن َّير‪ ،‬واليمان في القلب‬
‫نور؛ لن النور نوعان‪:‬‬
‫نور حسي‪ :‬يرى بالبصار‪.‬‬
‫ض‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬ ‫ه ُنوُر ال ّ‬ ‫ونور معنوي‪ :‬قال الله تعالى‪ )) :‬الل ُ‬
‫ة‬
‫ج ُ‬ ‫جا َ‬ ‫جةٍ الّز َ‬ ‫جا َ‬ ‫ح ِفي ُز َ‬ ‫صَبا ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ح ال ْ ِ‬ ‫صَبا ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫كاةٍ ِفيَها ِ‬ ‫ش َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ُنورِهِ ك َ ِ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫مَباَركةٍ َزي ُْتون ِةٍ ل شْرقِي ّةٍ َول‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جَرةٍ ُ‬ ‫نش َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب د ُّريّ ُيوقد ُ ِ‬ ‫كأن َّها كوْك ٌ‬
‫دي‬ ‫ه َناٌر ُنوٌر ع َلى ُنورٍ ي َهْ ِ‬ ‫َ‬ ‫س ُ‬‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ضيُء وَلوْ ل ْ‬ ‫كاد ُ َزي ْت َُها ي ُ ِ‬ ‫غ َْرب ِي ّةٍ ي َ َ‬
‫َ‬
‫يءٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ب ِك ُ ّ‬ ‫س َوالل ّ ُ‬ ‫ل ِللّنا ِ‬ ‫مَثا َ‬ ‫ه ال ْ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫ضرِ ُ‬ ‫شاُء وَي َ ْ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ل ُِنورِهِ َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ل ُنورِهِ ((]النور‪ [35:‬أي‪ :‬مثل‬ ‫مث َ ُ‬ ‫م ((]النور‪ ،[35:‬الشاهد‪َ )) :‬‬ ‫ع َِلي ٌ‬
‫نور الله في قلب عبده المؤمن‪.‬‬
‫فاليمان نور في القلب‪ ،‬والله تعالى سمى الوحي المنزل‬
‫ذي َأنَزل َْنا ((]التغابن‪[8:‬‬ ‫سول ِهِ َوالّنورِ ال ّ ِ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ‬ ‫نوًرا‪َ )) :‬فآ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫حي َي َْناهُ‬ ‫مي ْت َا ً فَأ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫واليمان والعلم في القلوب نور‪ )) :‬أوَ َ‬
‫ه ُنوَرا ً ((]النعام‪ [122:‬أي‪ :‬في قلبه‪.‬‬ ‫جعَل َْنا ل َ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫وهذه معان عظيمة ت ُن َّبه إليها هذه النصوص؛ ولكن ما حظك‬
‫من هذا المر العظيم؟ وفي دعاء النبي ‪) :‬اللهم اجعل في‬
‫قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا‬
‫وعن يساري نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي‬
‫نورا واجعل لي نورا( ]رواه البخاري )‪ ،(6316‬ومسلم )‪ (763‬من‬
‫حديث ابن عباس رضي الله عنهما[ المؤمن الكامل اليمان في‬
‫قلبه نور‪ ،‬وفي سمعه‪ ،‬وفي بصره‪ ،‬والنور محيط به؛ والنور‬
‫مي ْت َا ً‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫المعنوي هو‪ :‬نور العلم واليمان قال تعالى‪ )) :‬أوَ َ‬
‫َ‬
‫ه ِفي‬ ‫مث َل ُ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫س كَ َ‬ ‫شي ب ِهِ ِفي الّنا ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ُنوَرا ً ي َ ْ‬ ‫جعَل َْنا ل َ ُ‬ ‫حي َي َْناه ُ وَ َ‬ ‫فَأ ْ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ي ال ّ ِ‬ ‫ه وَل ِ ّ‬ ‫ت ((]النعام‪ [122:‬وقال تعالى‪ )) :‬الل ّ ُ‬ ‫ما ِ‬ ‫الظ ّل ُ َ‬
‫ت إ َِلى الّنورِ ((]البقرة‪ [257:‬يخرجهم من‬ ‫ما ِ‬ ‫ن الظ ّل ُ َ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫جه ُ ْ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫يُ ْ‬
‫ظلمات الكفر والغفلة والمعصية والجهل‪ ،‬إلى نور اليمان والعلم‬
‫والبصيرة‪.‬‬
‫والقلوب لها أحوال كما جاء في الحديث عن النبي ‪:‬‬
‫دا‪ ،‬فأي قلب‬ ‫دا عو ً‬ ‫)تعرض الفتن على القلوب كالحصير عو ً‬
‫أشربها نكت فيه نكتة سوداء‪ ،‬وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة‬
‫بيضاء‪ ،‬حتى تصير على قلبين‪ ،‬على أبيض مثل الصفا فل تضره‬
‫دا كالكوز‬ ‫مْرَبا ّ‬ ‫فتنة ما دامت السماوات والرض‪ ،‬والخر أسود ُ‬
‫خيا‪ ،‬ل يعرف معروفا‪ ،‬ول ينكر منكرا إل ما أشرب من هواه(‬ ‫ج ّ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫]رواه مسلم )‪ (144‬من حديث حديفة ‪[‬‬
‫وقد دلت النصوص على أن القلوب ثلثة أقسام ]إغاثة‬
‫اللهفان ‪:[.1/7‬‬
‫قلب حي سليم‪ ،‬وهو قلب المؤمن‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫وقلب ميت‪ ،‬وهو قلب الكافر‪.‬‬
‫وقلب مريض‪ ،‬فيه مادة حياة‪ ،‬ومادة موت‪ ،‬أي‪ :‬فيه صحة‬
‫ومرض‪ ،‬وهو لما غلب عليه منهما‪.‬‬
‫واقرأ ما ذكر ابن القيم في »اجتماع الجيوش السلمية« في‬
‫مثل النور في قلب المؤمن ]ص ‪ [39‬واقرؤوا كلمه على قوله‬
‫ش َ‬
‫كاةٍ ((]النور‪ [35:‬في »الوابل الصيب«‬ ‫ل ُنورِهِ ك َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫مث َ ُ‬
‫تعالى‪َ )) :‬‬
‫]ص ‪ [119‬فقد أجاد في الكلم عليها وأحسن ‪.‬‬

‫ور القلب من أولياء الله( فكل ولي لله‬ ‫وقوله‪) :‬من هو من ّ‬


‫ور للقلب فهو ولي لله‪ ،‬وولية الله تقوم‬ ‫ور القلب‪ ،‬وكل من ّ‬ ‫فهو من ّ‬
‫على اليمان والتقوى‪ ،‬واليمان والتقوى ل يكونان إل بالعلم‪.‬‬
‫ذا؛ فولي الله هو الذي نور الله قلبه بالعلم واليمان‪ ،‬وظهر‬ ‫إ ً‬
‫أثر ذلك على جوارحه بالتقوى وبالعمال الصالحة‪ ،‬ولذا قال‬
‫المؤلف‪) :‬وهي درجة الراسخين في العلم( الراسخون في العلم‬
‫ه‬
‫مّنا ب ِ ِ‬
‫نآ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ن ِفي ال ْعِل ْم ِ ي َ ُ‬
‫خو َ‬ ‫س ُ‬‫ذكرهم الله في قوله‪َ )) :‬والّرا ِ‬
‫عن ْد ِ َرب َّنا ((]آل عمران‪ ،[7:‬فالراسخون في العلم هم‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫كُ ّ‬
‫ل ِ‬
‫حرف في العلم أو في اليمان‬ ‫المتمكنون في العلم‪ ،‬ليسوا على َ‬
‫أو في العبادة‪ ،‬ل؛ بل هم ثابتون راسخون‪ ،‬وهم يؤمنون بكل ما‬
‫جاء عن الله‪ ،‬ول يعارضون ما أخبر الله به‪ ،‬وما أخبرت به رسله‪:‬‬
‫مّنا ب ِهِ ((]آل عمران‪ [7:‬بخلف‬ ‫نآ َ‬‫قوُلو َ‬‫ن ِفي ال ْعِل ْم ِ ي َ ُ‬
‫خو َ‬‫س ُ‬
‫)) َوالّرا ِ‬
‫فت ْن َةِ ((‬‫الذين في قلوبهم زيغ فإنهم يتبعون المتشابه )) اب ْت َِغاَء ال ْ ِ‬
‫]آل عمران‪ [7:‬وابتغاء إضلل الناس‪ ،‬ولبس الحق بالباطل‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬لن العلم علمان‪ :‬علم في الخلق موجود‪ ،‬وعلم في‬
‫الخلق مفقود(‬
‫العلم الموجود‪ :‬مسائل العتقاد والشرائع‪ ،‬فهذا العلم الذي‬
‫بعث الله به رسوله ‪ ،‬وهو موجود في القرآن والسنة ففيهما‬
‫من الخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة ما يعلمه من تدبرهما‬
‫‪.‬‬
‫)وعلم في الخلق مفقود( وهو علم الغيب الذي طواه الله‪،‬‬
‫مثلما تقدم ]ص[ في القدر‪) :‬أن الله تعالى طوى علم القدر عن‬
‫أنامه‪ ،‬ونهاهم عن مرامه( فسر القدر هو من العلم المفقود‪،‬‬
‫وكيفية صفات الرب من العلم المفقود‪ ،‬وحقائق الخرة من العلم‬
‫المفقود‪ ،‬ول سبيل إلى معرفة ما استأثر الله بعلمه‪.‬‬
‫والمؤلف رتب على هذا قوله‪) :‬فإنكار العلم الموجود كفر(‬
‫جحد شيء مما علم بالضرورة من أخبار الرسول ‪ ، ‬أو الشرائع‬
‫التي جاء بها كفٌر‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫)وادعاء العلم المفقود كفر(؛ لنه ادعاء لعلم الغيب‪ ،‬فتكييف‬
‫صفات الرب كفر؛ لنه قول على الله بل علم؛ لكن الذي يسأل‬
‫عن الكيف‪ ،‬كمن يقول‪ :‬كيف استوى؟ فهذا مبتدع يجب النكار‬
‫عليه‪ ،‬كما أنكر الئمة عليه كمالك ـ رحمه الله ـ حين رد بتلك‬
‫الجمل التي صارت قاعدة‪) :‬الستواء معلوم‪ ،‬والكيف غير‬
‫معقول‪ ،‬واليمان به واجب‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪ ،‬ول أراك إل رجل‬
‫سوء‪ ،‬فأمر به فأخرج( ‪] .‬صح هذا الثر عن المام ربيعة بن أبي‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬والمام مالك رحمهما الله‪ .‬انظر‪ :‬شرح أصول‬
‫اعتقاد أهل السنة والجماعةص ‪ ،442-440‬وعقيدة السلف‬
‫أصحاب الحديث ص ‪ ،37‬وذم التأويل ص ‪ ،25‬و الثر المشهور‬
‫عن المام مالك ـ رحمه الله ـ في صفة الستواء ص ‪ 84‬و‬
‫‪[.123‬‬
‫وقوله‪) :‬ول يثبت اليمان إل بقبول العلم الموجود‪ ،‬وترك‬
‫طلب العلم المفقود(‪.‬‬
‫ل يثبت اليمان ول يستقر ول يسلم )إل بقبول العلم‬
‫الموجود( وهو اليمان بما بعث الله به رسوله )وترك طلب العلم‬
‫ع‬
‫م َ‬‫س ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫عل ْ ٌ‬‫ك ب ِهِ ِ‬‫س لَ َ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ق ُ‬ ‫المفقود(‪ ،‬قال تعالى‪َ )) :‬ول ت َ ْ‬
‫سُئوَل ً ((]السراء‪ ،[36:‬والله‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ن ع َن ْ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ك َ‬ ‫ل أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ؤاد َ ك ُ ّ‬
‫ف َ‬‫صَر َوال ْ ُ‬ ‫َوال ْب َ َ‬
‫َ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫خَزائ ِ ُ‬‫دي َ‬ ‫عن ِ‬‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬
‫ل ل أُقو ُ‬ ‫تعالى علم نبيه ‪ ‬فقال‪ )) :‬قُ ْ‬
‫ك ((]النعام‪ [50:‬وفي الية‬ ‫مل َ ٌ‬ ‫م إ ِّني َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ب َول أ َُقو ُ‬ ‫م ال ْغَي ْ َ‬
‫َ‬
‫َول أع ْل َ ُ‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ي‬
‫سن ِ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ما َ‬ ‫خي ْرِ وَ َ‬ ‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫ست َك ْث َْر ُ‬
‫بل ْ‬ ‫م ال ْغَي ْ َ‬ ‫ت أع ْل َ ُ‬ ‫كن ُ‬‫الخرى‪ )) :‬وَل َوْ ُ‬
‫سوُء ((]العراف‪.[188:‬‬ ‫ال ّ‬

‫]اليمان باللوح والقلم[‬


‫وقوله‪) :‬ونؤمن باللوح والقلم‪ ،‬وبجميع ما فيه قد ُرِقم‪ ،‬فلو‬
‫اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن‬
‫ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه‪ ،‬ولو اجتمعوا كلهم على شيء‬
‫لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائًنا لم يقدروا عليه‪ ،‬جف القلم‬
‫بما هو كائن إلى يوم القيامة‪ ،‬وما أخطأ العبد َ لم يكن ليصيبه‪ ،‬وما‬
‫أصابه لم يكن ليخطئه‪ ،‬وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق‬
‫مه في كل كائن من خلقه‪ ،‬فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما‪،‬‬ ‫عل ُ‬
‫ليس فيه ناقض ول معقب‪ ،‬ول مزيل ول مغير‪ ،‬ول ناقص ول زائد‬
‫قد اليمان وأصول‬ ‫من خلقه في سماواته وأرضه‪ ،‬وذلك من ع َ ْ‬
‫المعرفة والعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫قد ِي َْرا ً ((]الفرقان‪ [2:‬وقال‬ ‫يٍء فَ َ‬
‫قد َّره ُ ت َ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫خل َقَ ك ُ ّ‬‫في كتابه‪ )) :‬وَ َ‬
‫قد ُوَْرا ً ((]الحزاب‪ ،[38:‬فويل‬ ‫َ‬
‫مُر اللهِ قَد ََرا ً َ‬
‫م ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫كا َ‬
‫لمن صار لله تعالى في القدر خصيما‪ ،‬وأحضر للنظر فيه قلبا‬

‫‪109‬‬
‫سقيما‪ ،‬لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما وعاد بما‬
‫قال فيه أفاكا أثيما(‬
‫كل هذا دائر على موضوع القدر‪ ،‬والمصنف أطنب في الكلم‬
‫على موضوع القدر وذلك لهميته‪ ،‬وفرق الكلم فيه كما تقدم؛‬
‫لن قوله هناك ]ص[‪) :‬ول يكون إل ما يريد(‪ ،‬وقوله أيضا ]ص[‪:‬‬
‫)خلق الخلق بعلمه( ‪ ،‬كل هذا مما يتصل بالقدر‪ ،‬والموضوع ل‬
‫شك أنه جدير بزيادة التقرير والتأكيد‪ ،‬وبيان ما يقتضيه اليمان‬
‫ن بالقدر بمراتبه الربع‪،‬‬ ‫جماع َ المرِ اليما ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫بالقدر‪ ،‬وتقدم ]ص[ أ ّ‬
‫ن يتضمن التسليم لحكم الله ولقدره‪ ،‬وترك المعارضة‪،‬‬ ‫واليما ُ‬
‫والمساك عن الخوض فيما طوى الله علمه عن العباد‪.‬‬
‫ويقول هنا‪) :‬ونؤمن باللوح والقلم‪ ،‬وبجميع ما فيه قد ُرِقم(‬
‫من توابع اليمان بالقدر اليمان باللوح‪ ،‬واللوح المحفوظ ذكره‬
‫ح‬ ‫َ‬
‫الله تعالى بهذا اللفظ في سورة البروج‪ ،‬قال تعالى‪ِ )) :‬في لوْ ٍ‬
‫حو‬ ‫م ُ‬ ‫ظ ((]البروج‪ [22:‬واللوح المحفوظ هو‪ :‬أم الكتاب ))ي َ ْ‬ ‫فو ٍ‬ ‫ح ُ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ب(( ]الرعد‪ ،[39:‬وهو الكتاب‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م الك َِتا ِ‬ ‫عند َه ُ أ ّ‬ ‫ت وَ ِ‬‫ما ي َشاء وَي ُثب ِ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ُ‬
‫س إ ِل ِفي‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ب َول َياب ِ ٍ‬ ‫المبين المذكور في قوله تعالى‪َ )) :‬ول َرط ٍ‬
‫ن‬ ‫قْرآ ٌ‬ ‫ه لَ ُ‬
‫ن ((]النعام‪ [59:‬وهو الكتاب المكنون‪ )) :‬إ ِن ّ ُ‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ب ُ‬ ‫ك َِتا ٍ‬
‫ن ((]الواقعة‪ [78-77:‬فقد ذكر بأسماء‬ ‫مك ُْنو ٍ‬ ‫ب َ‬ ‫م * ِفي ك َِتا ٍ‬ ‫ري ٌ‬ ‫كَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ماِء‬‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫مأ ّ‬ ‫م ت َعْل َ ْ‬
‫متعددة في القرآن‪ )) :‬أل َ ْ‬
‫سيٌر ((]الحج‪.[70:‬‬ ‫ك ع ََلى الل ّهِ ي َ ِ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫ب إِ ّ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫َ‬
‫ك ِفي ك َِتا ٍ‬ ‫ض إِ ّ‬ ‫َوالْر ِ‬
‫فيجب اليمان باللوح المحفوظ تصديقا لخبر الله تعالى‪،‬‬
‫وخبر رسوله ‪ ،‬وهو الذي كتب الله فيه مقادير كل ما هو كائن‬
‫إلى يوم القيامة‪) ،‬وبالقلم( أي‪ :‬قلم المقادير الذي ورد فيه حديث‬
‫عبادة بن الصامت أن الرسول ‪ ‬قال‪) :‬أول ما خلق الله القلم‬
‫قال له‪ :‬اكتب‪ .‬قال‪ :‬ما أكتب؟ قال‪ :‬ما هو كائن إلى يوم القيامة(‬
‫]رواه أحمد ‪ ،5/317‬وأبو داود )‪ ،(4700‬والترمذي )‪ (2155‬ـ‬
‫وقال‪ :‬حسن صحيح غريب من هذا الوجه ـ ‪ ،‬وابن جرير في‬
‫تاريخه ‪ ،1/28‬وصححه‪ ،‬والضياء في المختارة في مواضع منها‪:‬‬
‫‪ [.353-8/351‬فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة‪ ،‬وهذا‬
‫القلم هو قلم المقادير الول‪ ،‬والمقادير أو التقديرات أنواع‪ ،‬وكل‬
‫َقدر له قلم يناسبه؛ لن الكتابة تكون بالقلم‪.‬‬
‫فالقدر الول هو القدر العام لجميع المخلوقات‪.‬‬
‫والتقدير الثاني الذي قدر الله فيه أمور آدم وذريه‪ ،‬وهو الذي‬
‫ُأشير إليه في حديث احتجاج آدم وموسى‪ ،‬وأن آدم عليه السلم‬
‫م‬‫صى آد َ ُ‬ ‫قال لموسى عليه السلم ‪) :‬هل وجدت في التوراة‪) :‬وَع َ َ‬
‫ت عمل كتبه‬ ‫وى(؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬أفتلومني على أن عمل ُ‬ ‫ه فَغَ َ‬ ‫َرب ّ ُ‬
‫ي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ قال رسول‬ ‫الله عل ّ‬

‫‪110‬‬
‫الله ‪ : ‬فحج آدم موسى"‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(6614‬ومسلم )‬
‫‪ (2652‬ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة ‪.[‬‬
‫والتقدير الثالث‪ :‬وهو التقدير المختص بكل إنسان‪ ،‬كما في‬
‫الحديث المتفق على صحته عن النبي ‪ ":‬أنه قال ـ في الجنين‬
‫عندما يبلغ أربعة أشهرـ ‪ :‬فيأتيه الملك فينفخ فيه الروح ‪ ،‬ويؤمر‬
‫بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ]تقدم[‪.‬‬
‫والتقدير الرابع ‪ ،‬وهو التقدير الحولي‪ :‬وهو ما يكون في ليلة‬
‫َ‬
‫فَرقُ ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ن * ِفيَها ي ُ ْ‬
‫منذ ِِري َ‬ ‫القدر‪} :‬إ ِّنا أنَزل َْناه ُ ِفي ل َي ْل َةٍ ّ‬
‫مَباَرك َةٍ إ ِّنا ك ُّنا ُ‬
‫م{]الدخان‪ ،[4-3:‬وسميت ليلة القدر؛ لنه يقدر فيها ما‬ ‫َ‬
‫كي ٍ‬ ‫ح ِ‬
‫مرٍ َ‬
‫أ ْ‬
‫يكون في السنة إلى مثلها‪.‬‬
‫وهذه التقديرات ل تخالف ول تناقض التقدير الول العام‪.‬‬
‫فنؤمن باللوح والقلم ول نتكلم في كيفية اللوح‪ ،‬وكيفية‬
‫القلم‪ ،‬وكيفية تلك الكتابة‪ ،‬فالله أعلم كيف كانت تلك الكتابة‪ ،‬كل‬
‫ذلك غيب يجب أن نمسك عنه‪ ،‬ول نخوض فيه‪ ،‬ول نفكر فيه‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وبجميع( أي‪ :‬ونؤمن بجميع )ما فيه قد ُرقم( أي‪:‬‬
‫ك ُِتب‪ ،‬فنؤمن إيمانا مجمل بأن الله كتب فيه مقادير الخلق‪ ،‬لكن‬
‫هل نعلم ما ُرِقم فيه وما ك ُِتب فيه؟ ل نعلم؛ إل ما أخبر الله تعالى‬
‫به ورسوله ‪‬؛ لكن نعلم أن كل ما يقع في الوجود فهو مكتوب؛‬
‫لكن قبل الوقوع ل ندري إل أن يأتي فيه خبٌر من معصوم‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬لو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه‬
‫أنه كائن‪ ،‬ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه‪ ،‬ولو اجتمعوا كلهم‬
‫على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائًنا لم يقدروا عليه[‬
‫يعني‪ :‬لو اجتمع الخلق على أن يغيروا ما سبق به علم الله وكتابه‬
‫لم يقدروا‪ ،‬وهذا معلوم بالضرورة أن الخلق ل يقدرون على تغيير‬
‫قدر الله‪ ،‬ومن أدلة ذلك ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله‬
‫عنهما عن النبي ‪) : ‬واعلم أن المة لو اجتمعت على أن‬
‫ينفعوك بشيء لم ينفعوك إل بشيء قد كتبه الله لك‪ ،‬ولو‬
‫اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إل بشيء قد كتبه‬
‫الله عليك‪ ،‬رفعت القلم وجفت الصحف( ]رواه أحمد ‪ ،1/293‬و‬
‫الترمذي )‪ (2516‬ـ وقال‪ :‬حسن صحيح ـ ‪ ،‬والضياء في المختارة‬
‫‪ ، 25-10/22‬وحسنه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم‬
‫ص ‪ [345‬فالمر قد فرغ منه‪ ،‬وهذا يوجب للعبد أن يعلق رجاءه‬
‫وخوفه بربه ل بالسباب ول بالعباد؛ لن العباد إن نفعوك فالله هو‬
‫ة على أيديهم‪ ،‬وأقدرهم عليها‪ ،‬وجعلهم‬ ‫الذي أجرى تلك المنفع َ‬
‫يريدونها‪ ،‬وهيأ لهم أسبابها‪ ،‬وإن حصلت لك مضرة على يد أحد؛‬
‫ل عن الله وتعلقْ قلبك بهم‬ ‫فاعلم أن هذا بتقدير الله‪ ،‬فل تغف ْ‬

‫‪111‬‬
‫ل آمنا بالل ّه فَإ َ ُ‬
‫ذا أوذ ِيَ ِفي الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫قو ُ َ ّ ِ ِ ِ‬ ‫ن يَ ُ‬‫م ْ‬
‫س َ‬‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬
‫فتخافهم )) وَ ِ‬
‫ب الل ّهِ ((]العنكبوت‪.[10:‬‬ ‫س ك َعَ َ‬
‫ذا ِ‬ ‫ة الّنا ِ‬ ‫جعَ َ‬
‫ل فِت ْن َ َ‬ ‫َ‬
‫وقوله‪) :‬جف القلم بما هو كائن( جاء في الحديث عن النبي‬
‫ق( ]رواه البخاري تعليقا )‪ (5076‬من‬ ‫‪) :‬جف القلم بما أنت ل ٍ‬
‫حديث أبي هريرة ‪[‬جف القلم‪ :‬هذه كناية عن الفراغ من المر‬
‫الذي سبق به القدر‪ ،‬فكل ما يجري في الوجود فقد سبق به علم‬
‫الله وكتابه‪ ،‬لكن نؤكد على أن الله قضى بحكمته وعلمه وكتابه‪،‬‬
‫إن هذه القدار متربط بعضها ببعض‪ ،‬ومن قدر الله ترتيب‬
‫المسب ََبات على السباب‪ ،‬ما يجيء لك ولد إل إذا تزوجت‪ ،‬ول‬
‫ن كتب الله لي ولدا فسيأتي ولو لم أتزوج! أو‬ ‫يعقل أن تقول‪ :‬إ ْ‬
‫ن كتب الله لي رزقا سيأتيني وأنا‬ ‫تترك طلب الرزق وتقول‪ :‬إ ْ‬
‫نائم! نعم قد يكون؛ لكن ليس هذا موجب العقل والفطرة‬
‫والشرع؛ بل موجب العقل والفطرة والشرع‪ :‬أن تسعى في‬
‫طلب الرزق‪ ،‬ولو توكلت على الله‪ ،‬فل بد لك من الخذ بالسباب‪،‬‬
‫وأعظم من ذلك أمر السعادة‪ ،‬فل تكون السعادة إل بأسبابها‬
‫دا‬
‫وهي اليمان والعمل الصالح‪ ،‬ول يمكن أن يكون النسان سعي ً‬
‫إل بالسباب‪ ،‬فمن تحققت له أسباب السعادة فنعلم بذلك أنه قد‬
‫سبق علم الله وكتابه بسعادته‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬وما أخطأ العبد َ لم يكن ليصيَبه وما أصابه لم يكن‬


‫ليخطئه(‪.‬‬
‫هذا تأكيد‪ ،‬وقد جاء في الحديث عن النبي ‪) :‬واعلم أن ما‬
‫أصابك لم يكن ليخطئك‪ ،‬وما أخطأك لم يكن ليصيبك( ]رواه‬
‫أحمد ‪ ،5/182‬وأبو داود )‪ ،(4699‬وابن ماجه )‪ ،(77‬وابن حبان )‬
‫‪ (727‬من حديث ابن الديلمي عن أبي بن كعب‪ ،‬وابن مسعود‪،‬‬
‫وحذيفة موقوفا‪ ،‬ورفعه زيد بن ثابت رضي الله عنهم‪ ،‬وقال‬
‫الذهبي في المهذب في اختصار السنن الكبير ‪ :8/4213‬إسناده‬
‫صالح‪ ،‬وصححه ابن القيم في شفاء العليل ص ‪ .113‬وانظر‪:‬‬
‫السلسلة الصحيحة )‪ [(2439‬فما حصل لك من خير أو شر فقد‬
‫سبق في علم الله وكتابه أنه يصيبك ويحصل لك‪ ،‬وما أخطأك وما‬
‫فاتك وما سلمت منه فقد سبق علم الله وكتابه بذلك‪ ،‬ولم يكن‬
‫في علم الله وكتابه أنه يصيبك ثم يخطئك‪.‬‬
‫مه في كل‬ ‫وقوله‪) :‬وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق عل ُ‬
‫كائن من خلقه‪ ،‬فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض‬
‫ول معقب‪ ،‬ول مزيل ول مغير‪ ،‬ول ناقص ول زائد من خلقه في‬
‫سماواته وأرضه(‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫هذه الجملة تؤكد ما سبق‪ ،‬وهي أعم من قوله ]ص[‪) :‬وقد‬
‫علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة‪ ،‬وعدد من‬
‫يدخل النار جملة واحدة‪ ،‬فل ُيزاد في ذلك العدد‪ ،‬ول ُينقص منه(‬
‫فهذه الجملة بخصوص عدد من يدخل الجنة‪ ،‬وعدد من يدخل‬
‫النار‪ ،‬وقد علم الله ذلك كله؛ لكن هنا المؤلف يؤكد ما يتعلق‬
‫بالمرتبة الولى من مراتب القدر‪ ,‬فل بد أن يعلم العبد أنه قد‬
‫سبق علم الله بكل ما هو كائن‪ ،‬وسبق قضاؤه وحكمه قضاء‬
‫مغَّير ول ناقض‪ ،‬ول زائد ول ناقص لعلمه‬ ‫مبرما محكما‪ ،‬فل ُ‬
‫وتقديره تعالى‪ ،‬وهذه الجملة شاملة يدخل فيها ـ مثل ـ الملئكة‪،‬‬
‫فقد سبق علم الله وكتابه وتقديره للملئكة بأعدادهم وصفاتهم‬
‫ومنازلهم وفضائلهم وأعمالهم وأقوالهم‪ ،‬وقد سبق علمه سبحانه‬
‫وتعالى وكتابه بعدد الشجار وأنواعها وأجناسها وثمارها وأوراقها‪،‬‬
‫ما ِفي‬ ‫م َ‬ ‫مَها إ ِّل هُوَ وَي َعْل َ ُ‬‫ب ل ي َعْل َ ُ‬ ‫ح ال ْغَي ْ ِ‬
‫فات ِ ُ‬‫م َ‬
‫عن ْد َه ُ َ‬
‫قال تعالى‪ )) :‬وَ ِ‬
‫ت‬‫ما ِ‬ ‫حب ّةٍ ِفي ظ ُل ُ َ‬ ‫مَها َول َ‬ ‫ن وََرقَةٍ إ ِّل ي َعْل َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫س ُ‬‫ما ت َ ْ‬ ‫ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬
‫حرِ وَ َ‬
‫َ‬
‫ن((]النعام‪[59:‬‬ ‫مِبي ٍ‬‫ب ُ‬ ‫س إ ِّل ِفي ك َِتا ٍ‬ ‫ب َول َياب ِ ٍ‬ ‫ض َول َرط ْ ٍ‬ ‫الْر ِ‬
‫تأمل ماذا يتساقط من أوراق وحبوب الزروع والشجار‬
‫المأكولة وغير المأكولة في القفار وفي الديار؟!‬
‫س( فإنها تشمل كل شيء من‬ ‫ب َول َياب ِ ٍ‬ ‫وتأمل قوله )َول َرط ْ ٍ‬
‫هذه الكائنات‪.‬‬
‫وقس سائر المخلوقات على هذين المثالين المذكورين‪.‬‬
‫ولسيد قطب ـ رحمه الله ـ في تفسيره كلم وتصوير بديع‬
‫لدللة هذه الية‪ ،‬وما فيها من الشمولية العظيمة‪ ،‬والدللة على‬
‫العجاز‪] .‬في ظلل القرآن ‪[2/1111‬‬
‫وقوله‪) :‬وذلك من عقد اليمان‪ ،‬وأصول المعرفة(‪.‬‬
‫العلم بأن الله قد سبق علمه في كل كائن‪ ،‬وقدر ذلك تقديرا‬
‫محكما هذا من عقد اليمان‪ ،‬وباختصار نقول‪ :‬اليمان بالقدر بكل‬
‫كز هنا على المرتبة الولى والثانية‪ :‬مرتبة‬ ‫مراتبه؛ ولكن المؤلف ر ّ‬
‫كز عليها وأ ّ‬
‫كد‬ ‫اليمان بالعلم السابق الزلي‪ ،‬ومرتبة الكتاب فر ّ‬
‫عليها‪ ،‬بقوله‪) :‬وذلك كله من عقد اليمان( الذي يجب عقد القلب‬
‫عليه‪ ،‬واليمان اعتقاد يعقد النسان قلبه عليه‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬والعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته(‪.‬‬
‫لحظ أن اليمان بالقدر هو من توحيد الربوبية؛ لننا نقول‬
‫في توحيد الربوبية هو‪ :‬اليمان بأنه تعالى رب كل شيء ومليكه‪،‬‬
‫وأنه على كل شيء قدير‪ ،‬وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‪،‬‬
‫وأنه خالق كل شيء‪ ،‬هكذا نفسر توحيد الربوبية‪ ،‬وهذا يتضمن‬
‫اليمان بالقدر‪ ،‬وهو أن كل شيء جارٍ بقدر الله وبمشيئة الله‬
‫على وفق علمه وتقديره السابق‪ ،‬ولهذا روي عن ابن عباس‬

‫‪113‬‬
‫حد الله‬ ‫رضي الله عنهما‪) :‬اليمان بالقدر نظام التوحيد‪ ،‬فمن و ّ‬
‫ذب بالقدر نقض تكذيُبه‬ ‫وآمن بالقدر فقد تم توحيده‪ ،‬ومن ك ّ‬
‫توحيده( ] أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة ‪ ،2/422‬والفريابي‬
‫في القدر ص ‪ ،143‬والجري في الشريعة ص ‪183‬و ‪ ،184‬وابن‬
‫بطة في البانة ‪2/159‬و ‪ ،160‬والللكائي في شرح أصول اعتقاد‬
‫أهل السنة ص ‪ ،742‬بمعناه‪ [.‬فالمكذب بالقدر لم يحقق توحيد َ‬
‫الربوبية؛ فإن كان من الغلة جحد علم الله وتقديره السابق‪،‬‬
‫ونفى عموم المشيئة وعموم الخلق‪ ،‬وإن كان من مقتصدي‬
‫النفاة القدرية فهو ُيخرج أفعال العباد عن مشيئة الله وعن قدرته‬
‫وخلقه وملكه‪.‬‬
‫ذب بالقدر‬ ‫ذا؛ اليمان بالقدر من توحيد الربوبية‪ ،‬فمن ك ّ‬ ‫إ ً‬
‫ده‪ ،‬وهذا يوضح قول المؤلف‪) :‬وذلك من عقد‬ ‫نقض تكذيُبه توحي َ‬
‫اليمان‪ ،‬وأصول المعرفة(‪.‬‬
‫يٍء فَ َ‬
‫قد َّرهُ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫خل َقَ ك ُ ّ‬
‫وقوله‪) :‬كما قال تعالى في كتابه‪ )) :‬وَ َ‬
‫مُر اللهِ قَد ََرا ً‬ ‫َ‬ ‫قد ِي َْرا ً ((]الفرقان‪ ،[2:‬وقال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫نأ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫تَ ْ‬
‫ً‬
‫قد ُوَْرا ((]الحزاب[(‪.‬‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫هذان دليلن من الدلة الدالة على اليمان بالقدر‪ ،‬وأنه تعالى‬
‫خلق كل شيء على وفق ما سبق به قدره‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما‪ ،‬وأحضر‬


‫سًرا‬
‫للنظر فيه قلبا سقيما‪ ،‬لقد التمس بوهمه في فحص الغيب ِ‬
‫ما‪ ،‬وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما(‪.‬‬ ‫كتي ً‬
‫بعدما ذكر أن هذا هو ما عليه الراسخون في العلم أولياء‬
‫ور الله قلوبهم‪ ،‬وذكر أن هذا كله من عقد اليمان‬ ‫الله الذين ن ّ‬
‫وأصول المعرفة والتوحيد‪ ،‬أشار إلى من خالف ذلك ولم يعترف‬
‫به‪ ،‬أو آمن بالقدر إيمانا ليس على الوجه المشروع‪ ،‬فقال‪) :‬فويل‬
‫لمن صار( ويل‪ :‬كلمة للوعيد والتهديد‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَي ْ ٌ‬
‫ل‬
‫مَزةٍ ((]الهمزة‪:‬‬ ‫مَزةٍ ل ُ َ‬
‫ل هُ َ‬‫ل ل ِك ُ ّ‬
‫ن ((]المطففين‪ )) ،[1:‬وَي ْ ٌ‬ ‫في َ‬ ‫مط َ ّ‬
‫ف ِ‬ ‫ل ِل ْ ُ‬
‫ن ((]الطور‪ [11:‬وهذا الوعيد يشمل‬ ‫مئ ِذ ٍ ل ِل ْ ُ‬
‫مك َذ ِّبي َ‬ ‫ل ي َوْ َ‬‫‪ )) ،[1‬فَوَي ْ ٌ‬
‫كل الطوائف‪ :‬الجبرية المشركية‪ ،‬والمجوسية نفاة القدر‪،‬‬
‫والبليسية‪ ،‬كلهم يصدق عليهم هذا؛ ولكن دخول الجبرية‬
‫والبليسية أظهر؛ لن الجبرية يحتجون بالقدر في معارضة الشرع‬
‫شَرك َْنا ((]النعام‪[148:‬‬ ‫ما أ َ ْ‬‫ه َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬
‫كما قال المشركون‪ )) :‬ل َوْ َ‬
‫فهم يعارضون شرعه بقدره‪ ،‬ويحتجون على الشرع بالقدر‪.‬‬
‫والبليسية المر فيهم أظهر وخصومتهم لله تعالى وطعنهم‬
‫في حكمته أشهر‪ ،‬كما قال الله عن سلفهم إبليس لما أمره الله‬

‫‪114‬‬
‫ه‬ ‫خل َ ْ‬
‫قت َ ُ‬ ‫من ّنارٍ وَ َ‬ ‫خل َ ْ‬
‫قت َِني ِ‬ ‫ه َ‬
‫من ْ ُ‬ ‫بالسجود لدم فأبى وقال‪)) :‬أ َن َا ْ َ‬
‫خي ٌْر ّ‬
‫ن((] العراف‪.[12:‬‬‫طي ٍ‬
‫من ِ‬
‫ِ‬

‫وقوله‪) :‬وأحضر للنظر( في القدر )قلبا سقيما( فنظر في‬


‫القدر بقلب سقيم عليل مريض‪ ،‬لم ينظر بقلب حي سليم‪،‬‬
‫والقلوب كما تقدم ]ص[ ثلثة على سبيل الجمال‪:‬‬
‫القلب السليم‪ :‬وهو الذي سلم من أمراض الشبهات‬
‫والشهوات‪ ،‬وقلب ميت‪ ،‬وقلب مريض‪.‬‬
‫فالذي ينظر في القدر وهو عليل القلب ل يستقيم فهمه‪،‬‬
‫وتضطرب الحقائق في نظره‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬لقد التمس( هذا الذي نظر في القدر بقلب سقيم‬
‫يطلب ما ل سبيل إلى معرفته؛ لنه طلب ما استأثر الله بعلمه‬
‫كما تقدم أن ‪) :‬القدر سر الله تعالى في خلقه ‪ ...‬والتعمق‬
‫والنظر في ذلك ذريعة الخذلن‪ ،‬وسلم الحرمان‪ ،‬ودرجة‬
‫الطغيان‪ ...‬فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه‪ ،‬ونهاهم‬
‫عن مرامه ( ]ص[ وهذا الكلم يؤكد ما سبق‪.‬‬
‫ى‪ ،‬وعلى غير بصيرة لم‬ ‫فالذي نظر في القدر على غير هد ً‬
‫يعتصم بالوحي‪ ،‬فالمعتصم في كل المضائق هو دين الله أرسل‬
‫به الرسل‪ ،‬وأنزل به الكتب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور‪،‬‬
‫من اتبع الرسل اهتدى‪ ،‬ومن أعرض عما جاءوا به ضل وتخبط‬
‫في الظلمات‪.‬‬
‫مه في فحص القدر سرا كتيما‪ ،‬وعاد بما قال‬ ‫وقوله‪) :‬ب ِوَهْ ِ‬
‫فيه أفاكا أثيما( سر كتيم أي‪ :‬مكتوم‪ ،‬سٌر استأثر الله بعلمه‪ ،‬ما‬
‫دام أنه نظر فيه بقلب سقيم‪ ،‬ونظر فيه بوهمه وتكلف فسيعود‬
‫ل في القدر هي إفك وكذب‪ ،‬فالجبرية‪ ،‬والقدرية النفاة‪،‬‬ ‫بأقوا ٍ‬
‫والبليسية كلهم يشملهم هذا الكلم‪ ،‬عادوا بالكذب والثم المبين‪،‬‬
‫فالجبرية أعرضوا عن الشرع أو كذبوا به‪ ،‬والقدرية كذبوا بالقدر‪،‬‬
‫والبليسية طعنوا في حكمة الرب وضربوا أحكام الله بعضها‬
‫ببعض‪.‬‬
‫وهنا انتهى ما يتعلق بالقدر مما ذكره المؤلف وقد أطنب فيه‬
‫ـ رحمه الله ـ ‪ ،‬وقد أحسن في هذه الكلمات الطيبة في التأكيد‬
‫على وجوب اليمان بالقدر‪ ،‬وأكد على أصل التسليم وهو أصل‬
‫عظيم‪ ،‬وحذر من الخوض فيما ل سبيل إلى معرفته من أسرار‬
‫القدر‪ ،‬وأشار إلى أحوال القلوب‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فجزاه الله خيرا‬
‫ورحمه‪ ،‬وسائر أهل العلم واليمان‪.‬‬

‫]إثبات العرش والكرسي‪ ،‬وغناه تعالى عن كل شيء[‬

‫‪115‬‬
‫وقوله‪) :‬والعرش والكرسي حق‪ ،‬وهو مستغن عن العرش‬
‫وما دونه(‪.‬‬
‫مما يجب اليمان به عرش رب العالمين الذي تمدح الرب‬
‫سبحانه وتعالى بربوبيته له‪ ،‬واستوائه عليه‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫ب‬‫وى{ ]طـه‪ [5:‬وقال تعالى‪َ )) :‬ر ّ‬ ‫ست َ َ‬
‫شا ْ‬ ‫ْ‬ ‫م ُ َ‬
‫ن ع َلى العَْر ِ‬ ‫ح َ‬ ‫))الّر ْ‬
‫جيد ُ ((]البروج‪:‬‬ ‫م ِ‬ ‫ش ال ْ َ‬‫ذو العَْر ِ‬
‫ظيم ((]التوبة‪ْ ُ )) ،[129:‬‬
‫ش العَ ِ ِ‬
‫ْ‬
‫العَْر ِ‬
‫ْ‬
‫ش َرب ّ َ‬
‫ك‬ ‫ل ع َْر َ‬ ‫م ُ‬‫ح ِ‬ ‫‪ ،[15‬وأضافه تعالى إلى نفسه‪ ،‬فقال‪ )) :‬وَي َ ْ‬
‫ة ((]الحاقة‪.[17:‬‬ ‫مئ ِذ ٍ ث َ َ‬
‫مان ِي َ ٌ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫فَوْقَهُ ْ‬
‫وقد جاء ذكر العرش في القرآن في مواضع كثيرة‪.‬‬
‫ب‬‫م‪َ )) :‬ر ّ‬ ‫وأخبر الله عن صفة العرش بأنه عرش عظي ٌ‬
‫م((‬‫ري ِ‬ ‫ش ال ْك َ ِ‬ ‫م )) َر ّ ْ‬
‫ب العَْر ِ‬ ‫ظيم ِ ((]التوبة‪ ،[129:‬وكري ٌ‬ ‫ش ال ْعَ ِ‬ ‫العَْر ِ‬
‫ْ‬
‫جيد ِ ((‬ ‫م ِ‬ ‫ش ال ْ َ‬ ‫]المؤمنون‪ [116:‬ومجيد ٌ على قراءة الجر )) ُ ْ‬
‫ذو العَْر ِ‬
‫]البروج‪] .[15:‬هي قراءة حمزة والكسائي وخلف العاشر‪.‬‬
‫التيسير ص ‪ ،221‬والنشر ‪[.2/339‬‬
‫ش ((]غافر‪:‬‬ ‫ن ال ْعَْر َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ح ِ‬‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫وأخبر تعالى أن له حملة‪ )) :‬ال ّ ِ‬
‫ة ((]الحاقة‪.[17:‬‬ ‫مان ِي َ ٌ‬‫مئ ِذ ٍ ث َ َ‬
‫م ي َوْ َ‬‫ك فَوْقَهُ ْ‬ ‫ش َرب ّ َ‬
‫ل ع َْر َ‬ ‫م ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫‪ )) ،[7‬وَي َ ْ‬
‫وأخبر سبحانه وتعالى عن استوائه على العرش في سبعة‬
‫مواضع من القرآن ]في سورة العراف آية ‪ ،54‬وسورة يونس‬
‫آية ‪ ،3‬وسورة الرعد آية ‪ ،2‬وسورة طه آية ‪ ،5‬وسورة الفرقان‬
‫آية ‪ ،59‬وسورة السجدة آية ‪ ، 4‬وسورة الحديد آية ‪ ، [4‬وجاء في‬
‫السنة وصف العرش بأنه فوق السماوات ]رواه أحمد ‪،1/206‬‬
‫وأبو داود )‪ (4723‬والترمذي )‪ (3320‬ـ وقال‪ :‬حسن غريب ـ ‪،‬‬
‫وابن ماجه )‪ (193‬وابن خزيمة في التوحيد ص ‪ ،101‬والحاكم‬
‫‪2/412‬و ‪ 500‬ـ وصححه‪ ،‬وتعقبه الذهبي ـ من حديث العباس ‪،‬‬
‫وصححه الجوزجاني في الباطيل ‪ ،1/79‬وقواه ابن تيمية في‬
‫الحموية ص ‪ ،222‬ومناظرة الواسطية ‪ ،3/192‬و ابن القيم في‬
‫تهذيب السنن ‪ ،7/92‬وجاء هذا المعنى في أحاديث أخر[‪ ،‬وأن له‬
‫قوائم]روى البخاري )‪ (2412‬من حديث أبي سعيد الخدري ‪ ‬أن‬
‫النبي ‪ ‬قال ‪» :‬ل تخيروا بين النبياء فإن الناس يصعقون يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬فأكون أول من تنشق عنه الرض فإذا أنا بموسى آخذ‬
‫بقائمة من قوائم العرش«‪ .‬الحديث[ ‪ ،‬وكل هذا يجب اليمان به‬
‫من غير تحديد لكيفيته‪ ،‬فنحن ل نتصور كيفية العرش؛ لنه غيب‪.‬‬
‫وأهل السنة والجماعة يثبتون العرش لله‪ ،‬ويثبتون استواء‬
‫الله تعالى على العرش‪ ،‬ويثبتون كل ما ورد في صفة العرش‪،‬‬
‫على أساس اليمان بالله وبكتابه ورسوله ‪ ، ‬وأما المعطلة نفاة‬
‫الصفات كالجهمية والمعتزلة؛ فإنهم ل يثبتون حقيقة العرش التي‬
‫دلت عليها النصوص‪ ،‬فيفسرون العرش بالملك‪ ،‬ويقولون‪:‬‬

‫‪116‬‬
‫ش ((]العراف‪ [54:‬استولى على الملك‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وى ع َلى العَْر ِ‬
‫ست َ َ‬‫)) ا ْ‬
‫فالعرش عبارة عن كل المخلوقات‪.‬‬
‫ُورد عليهم بأن هذا التفسير ل يستقيم مع ما ورد في وصف‬
‫ن ال ْعَْر َ‬
‫ش ((‬ ‫مُلو َ‬
‫ح ِ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫العرش بأن له حملة‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫]غافر‪ [7:‬أيكون معناه يحملون الملك؟! هذا ل يستقيم؛ لن حملة‬
‫العرش من جملة ملك الله‪ ،‬وفي الحديث عن النبي ‪) :‬فإذا أنا‬
‫بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش( ]تقدم ص[ فتفسير‬
‫العرش بالملك من تحريفات أهل البدع‪.‬‬
‫وأما الكرسي فلم يرد في القرآن إل في آية الكرسي التي‬
‫هي أعظم آية في كتاب الله‪ ،‬كما صح بذلك الحديث عن النبي ‪‬‬
‫ع‬
‫س َ‬‫]رواه مسلم )‪ ،[(810‬وسميت بهذا لذكر الكرسي فيها‪ )) :‬وَ ِ‬
‫ه ((]البقرة‪ [255:‬فأضاف الله الكرسي إليه‪ ،‬وإضافة‬ ‫ك ُْر ِ‬
‫سي ّ ُ‬
‫العرش والكرسي إليه تعالى من إضافة المخلوق إلى خالقه‪،‬‬
‫وفي هذا تشريف للعرش والكرسي‪ ،‬وورد في السنة ذكر‬
‫الكرسي‪ ،‬وأن العرش أعظم منه‪ ،‬كما في الحديث عن النبي ‪:‬‬
‫)ما السماوات السبع مع الكرسي إل كحلقة ملقاة بأرض فلة‪،‬‬
‫وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلة على الحلقة( ] رواه‬
‫بن حبان )‪ (361‬وانظر‪ :‬السلسلة الصحيحة )‪ ،[(109‬فالكرسي‬
‫عظيم وواسع‪ ،‬ومع سعته فالعرش أعظم منه‪.‬‬
‫وقد اختلف المفسرون ]تفسير الطبري ‪4/537‬و ‪ [539‬في‬
‫الكرسي المذكور في الية فقيل‪ :‬علم الله تعالى‪ ،‬وعلى هذا‬
‫القول فل يكون في الية دللة على إثبات الكرسي الذي هو‬
‫شيء قائم بنفسه موصوف بسعته للسماوات والرض‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن الكرسي هو العرش‪ ،‬وعلى هذا فليس هناك‬
‫شيئان‪ ،‬فما هو إل العرش‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬وهو الصحيح عن ابن عباس ]السنة لعبد الله بن أحمد‬
‫‪ ،1/301‬وصححه ابن خزيمة في التوحيد ص ‪ ،107‬والحاكم‬
‫‪ ،2/282‬والضياء في المختارة ‪ ،10/311‬وقال العلمة الزهري‬
‫في تهذيب اللغة ‪ :10/33‬الصحيح عن ابن عباس في الكرسي‪:‬‬
‫ما رواه الثوري وغيره عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن‬
‫سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال‪ » :‬الكرسي موضع‬
‫القدمين‪ ،‬وأما العرش فل ُيقدر قدره«‪ .‬وهذه الرواية اتفق أهل‬
‫العلم على صحتها‪ ،‬والذي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم‬
‫فليس مما يثبته أهل المعرفة بالخبار‪ .‬وانظر‪ :‬فتح الباري‬
‫‪ ،[8/199‬والمشهور من مذهب أهل السنة أن الكرسي مخلوق‬
‫عظيم‪ ،‬وهو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى‪] .‬انظر‪ :‬أصول‬

‫‪117‬‬
‫السنة ص ‪ ،96‬والفتوى الحموية ص ‪[351‬وهذا أرجح القوال في‬
‫تفسير الكرسي‪.‬‬
‫وبهذا يتبين أن العرش أعظم من الكرسي بكثير‪ ،‬كما يظهر‬
‫ذلك من ورود النصوص بذكر العرش وتنوعها‪ ،‬والله سبحانه‬
‫وتعالى هو العلي العظيم‪ ،‬هو العلي بكل معاني العلو‪ ،‬فله العلو‬
‫ذاتا وقدرا وقهرا‪ ،‬وهو العظيم الذي ل أعظم منه‪ ،‬فالمخلوقات‬
‫ق‬
‫ح ّ‬
‫ه َ‬‫ما قَد َُروا الل ّ َ‬
‫كلها صغيرة في جنب عظمته‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫َ‬
‫مط ْوِّيا ٌ‬
‫ت‬ ‫ت َ‬ ‫وا ُ‬‫سم َ‬‫مةِ َوال ّ‬
‫قَيا َ‬‫م ال ْ ِ‬
‫ه ي َوْ َ‬‫ضت ُ ُ‬‫ميعَا ً قَب ْ َ‬
‫ج ِ‬‫ض َ‬‫قَد ْرِهِ َوالْر ُ‬
‫ن ((]الزمر‪.[67:‬‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫ه وَت ََعاَلى ع َ ّ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫مين ِهِ ُ‬
‫ب ِي َ ِ‬

‫وقوله‪) :‬وهو مستغن عن العرش وما دونه(‪.‬‬


‫ش‪،‬‬
‫خلق الله السماوات والرض ثم استوى على العر ِ‬
‫واستواؤه تعالى على العرش ل يلزم منه حاجته إلى العرش؛ بل‬
‫هو تعالى مستوٍ على العرش مع غناه عن العرش‪ ،‬وما دون‬
‫ن‬
‫العرش‪ ،‬هو تعالى الممسك للعرش‪ ،‬والسماوات والرض‪ )) ،‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫س ُ‬
‫ك‬ ‫م ِ‬ ‫ن ت َُزول ((]فاطر‪ )) ،[41:‬وَي ُ ْ‬
‫ضأ ْ‬‫ت َوالْر َ‬‫وا ِ‬
‫م َ‬‫س َ‬
‫ك ال ّ‬ ‫س ُ‬ ‫م ِ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه يُ ْ‬
‫ض إ ِّل ب ِإ ِذ ْن ِهِ ((]الحج‪ [65:‬وليس استواؤه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قعَ ع َلى الْر ِ‬ ‫ن تَ َ‬‫ماَء أ ْ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬
‫سبحانه على العرش كاستواء المخلوق على ظهر الفلك والنعام‬
‫ونحوها من المراكب‪ ،‬فالمخلوق مفتقر إلى ما هو مستو عليه‬
‫مستقر عليه بحيث لو عثرت الدابة أو غرقت السفينة لسقط أو‬
‫غرق المستوي عليها‪ ،‬فهو مفتقر إلى ما هو مستوٍ عليه‪ ،‬محتاج‬
‫ومعتمد عليه‪ ،‬والله بخلف ذلك‪ ،‬فاستواؤه على العرش ل‬
‫ن عن‬ ‫يستلزم افتقاره ول حاجته إلى العرش‪ ،‬بل هو مستغ ٍ‬
‫العرش وعن كل شيء‪ ،‬هو الغني سبحانه وتعالى عن كل ما‬
‫سواه‪ ،‬والذين نفوا حقيقة الستواء زعموا وتوهموا أنه إذا كان‬
‫تعالى مستوٍ على العرش لزم أن يكون استواؤه كاستواء‬
‫المخلوق على ظهر الفلك والنعام‪ ،‬وهذا فهم باطل وقياس‬
‫للخالق على المخلوق‪ ،‬ول يظن ذلك إل جاهل ضال‪ ،‬فاستواؤه‬
‫على العرش صفة فعلية من جملة أفعاله‪ ،‬وليس هو كاستواء‬
‫المخلوق‪ ،‬كما يقال مثل ذلك في سائر الصفات‪ ،‬فكما أن علمه‬
‫تعالى ليس كعلمنا‪ ،‬ول قدرته كقدرتنا‪ ،‬ول سمعه وبصره ورؤيته‬
‫مثلنا‪ ،‬كذلك استواؤه على العرش ليس كاستوائنا‪ ،‬بل صفاته‬
‫مختصة به مناسبة له ل تماثل صفات المخلوقين‪.‬‬

‫]إثبات صفة الحاطة والفوقية لله تعالى[‬


‫وقوله‪) :‬محيط بكل شيء وفوقه(‬

‫‪118‬‬
‫محيط بكل شيء‪ ،‬وفوق كل شيء‪ ،‬الله تعالى وصف نفسه‬
‫حي ٌ‬
‫ط‬ ‫م ِ‬‫م ُ‬ ‫ن وََرائ ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫بالحاطة في آيات كثيرة كقوله تعالى‪َ )) :‬والل ّ ُ‬
‫ط ((‬ ‫حي ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬‫ه بِ َ‬ ‫((]البروج‪ ،[20:‬وفي الية الخرى‪َ )) :‬والل ّ ُ‬
‫ه ع ََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ن الل ّ َ‬‫موا أ ّ‬ ‫]النفال‪ ،[47:‬وقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬ل ِت َعْل َ ُ‬
‫ما ً ((]الطلق‪،[12:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عل ْ َ‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬‫ط ب ِك ُ ّ‬‫حا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه قَد ْ أ َ‬ ‫ديٌر وَأ ّ‬ ‫يٍء قَ ِ‬‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫هذا الذي جاء في القرآن الحاطة العلمية‪ ،‬ومعناها‪ :‬أنه ل يخرج‬
‫عن علمه تعالى شيء‪ ،‬والشيء المحيط بغيره هو الذي يكون‬
‫محيط به من جميع الجوانب‪ ،‬فعلم الله محيط بكل شيء‪ ،‬فهو‬
‫يٍء‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ع ََلى ك ُ ّ‬ ‫تعالى محيط بكل شيء علما وقدرة )) إ ِن ّ ُ‬
‫م ((]البقرة‪. [29:‬‬ ‫يٍء ع َِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ديٌر ((]فصلت‪ )) ،[39:‬وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬ ‫قَ ِ‬
‫أما الحاطة الذاتية بمعنى أنها كإحاطة الفلك بما فيه فل‪،‬‬
‫فالله تعالى فوق كل شيء‪ ،‬وليس في ذاته شيء من مخلوقاته؛‬
‫بل هو بائن من خلقه‪ ،‬ليس في ذاته شيء من مخلوقاته‪ ،‬ول في‬
‫مخلوقاته شيء من ذاته‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وفوقه( ذكر الشارح ابن أبي العز ]ص ‪ [373‬أن في‬
‫بعض النسخ )محيط بكل شيء فوقه( بدون واو‪ ،‬وحينئذ ٍ يكون‬
‫المعنى‪ :‬محيط بكل شيء فوق العرش‪.‬‬
‫وأما النسخة التي اعتمدها الشارح بإثبات الواو؛ ]وهي‬
‫الصواب‪ :‬وقد نقلها بإثبات الواو‪ :‬الذهبي في العلو ‪،2/1237‬‬
‫ى‬
‫وابن القيم في اجتماع الجيوش ص ‪ [.223‬فتكون مفيدة لمعن ً‬
‫آخر‪ ،‬وهو‪ :‬أنه تعالى محيط بكل شيء‪ ،‬وفوق كل شيء‪ ،‬فتفيد‬
‫الجملة أمرين‪ :‬إثبات الحاطة وإثبات الفوقية‪.‬‬
‫والفوقية قد جاء ذكرها في القرآن في مواضع مثل قوله‬
‫عَباد ِهِ ((]النعام‪ ،[18:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫قاه ُِر فَوْقَ ِ‬ ‫تعالى‪ )) :‬وَهُوَ ال ْ َ‬
‫م ((]النحل‪ ،[50:‬وفي الحديث عن‬ ‫ن فَوْقِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫خاُفو َ‬
‫ن َرب ّهُ ْ‬ ‫)) ي َ َ‬
‫النبي ‪) :‬والله فوق العرش( ‪ ] .‬تقدم قبل صفحة‪ :‬رواه أحمد ‪،1/206‬‬
‫وأبو داود )‪ (4723‬والترمذي )‪ (3320‬ـ وقال‪ :‬حسن غريب ـ ‪ ،‬وابن ماجه )‪ (193‬وابن خزيمة في‬
‫التوحيد ص ‪ ،101‬والحاكم ‪2/412‬و ‪ 500‬ـ وصححه‪ ،‬وتعقبه الذهبي ـ من حديث العباس ‪ ، ‬وصححه‬
‫الجوزجاني في الباطيل ‪ ،1/79‬وقواه ابن تيمية في الحموية ص ‪ ،222‬ومناظرة الواسطية ‪ ،3/192‬و‬
‫ابن القيم في تهذيب السنن ‪[7/92‬‬
‫والقول في الفوقية كالقول في العلو‪ ،‬فهي ثلثة أنواع‬
‫كالعلو‪:‬‬
‫علو الذات‪ ،‬وعلو القدر‪ ،‬وعلو القهر لكل شيء‪.‬‬
‫كذلك الفوقية يقال‪:‬‬
‫فوقية الذات‪ ،‬وفوقية القدر‪ ،‬وفوقية القهر‪.‬‬
‫ففوقية القدر هي‪ :‬فوقية الصفات‪ ،‬والنزاع الذي بين أهل‬
‫السنة والمبتدعة إنما هو في علو وفوقية الذات؛ فإن نفاة العلو‬
‫والفوقية يفسرون علو الذات بعلو القدر‪ ،‬فيقولون‪ :‬قوله تعالى‪:‬‬

‫‪119‬‬
‫عَباد ِهِ ((]النعام‪ [18:‬كقولك‪ :‬الذهب فوق‬ ‫قاه ُِر فَوْقَ ِ‬ ‫)) وَهُوَ ال ْ َ‬
‫الفضة‪ ،‬من حيث القدر والقيمة‪.‬‬
‫وآيات الفوقية هي من جملة الدلة على علو الله تعالى‬
‫عَباد ِهِ ((]النعام‪،[18:‬‬ ‫قاه ُِر فَوْقَ ِ‬ ‫بذاته‪ ،‬فالله فوق عباده )) وَهُوَ ال ْ َ‬
‫م ((]النحل‪ ،[50:‬وأدلة‬ ‫ن فَوْقِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن َرب ّهُ ْ‬‫خاُفو َ‬ ‫وقال تعالى‪ )) :‬ي َ َ‬
‫علو الله في ذاته على المخلوقات كثيرة جدا‪ ،‬وذكر ابن القيم‬
‫]الكافية الشافية ص ‪ ،103‬وإعلم الموقعين ‪ [2/281‬أنها أنواع‪،‬‬
‫وكل نوع تحته أفراد‪ ،‬فمنها‪:‬‬
‫‪ -1‬التصريح بوصفه تعالى بالعلو‪ ،‬كقوله تعالى‪ )) :‬وَهُوَ ال ْعَل ِ ّ‬
‫ي‬
‫م ((]البقرة‪ [255:‬في آيات كثيرة‪.‬‬ ‫ظي ُ‬ ‫ال ْعَ ِ‬
‫م ((]النحل‪:‬‬ ‫ن فَوْقِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن َرب ّهُ ْ‬‫خاُفو َ‬ ‫‪ -2‬التصريح بالفوقية )) ي َ َ‬
‫‪.[50‬‬
‫ماِء ((‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س َ‬ ‫ن ِفي ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫منت ُ ْ‬
‫‪ -3‬التصريح بأنه في السماء‪ )) :‬أأ ِ‬
‫]الملك‪ [16:‬وقال النبي ‪) :‬أل تأمونني وأنا أمين من في‬
‫السماء( ]رواه البخاري )‪ ، (4351‬ومسلم )‪ (1064‬من حديث‬
‫أبي سعيد الخدري ‪.[‬‬
‫ه‬‫ه الل ّ ُ‬ ‫ل َرفَعَ ُ‬ ‫‪ -4‬الخبار برفع بعض المخلوقات إليه‪ )) :‬ب َ ْ‬
‫إ ِل َي ْهِ ((]النساء‪.[158:‬‬
‫ملئ ِك َ ُ‬
‫ة‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫‪ -5‬الخبار بعروج بعض المخلوقات إليه‪ )) :‬ت َعُْر ُ‬
‫ح إ ِل َي ْهِ ((]المعارج‪.[4:‬‬ ‫َوالّرو ُ‬
‫م‬ ‫صعَد ُ ال ْك َل ِ ُ‬ ‫‪ -6‬الخبار بصعود بعض المور إليه‪ )) :‬إ ِل َي ْهِ ي َ ْ‬
‫ه ((]فاطر‪.[10:‬‬ ‫ح ي َْرفَعُ ُ‬‫صال ِ ُ‬
‫ل ال ّ‬ ‫م ُ‬‫ب َوال ْعَ َ‬ ‫الط ّي ّ ُ‬
‫عن ْد َ‬
‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫‪ -7‬الخبار عن بعض المخلوقات بأنها عنده‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫عن ْد َه ُ ل‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عَباد َت ِهِ ((]العراف‪ )) ،[206:‬وَ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫ك ل يَ ْ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫ن ((]النبياء‪ [19:‬ويستدل‬ ‫سُرو َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫عَباد َت ِهِ َول ي َ ْ‬‫ن ِ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫أهل السنة بهذا على العلو؛ لن المبتدعة الذين ينفون علو الله‬
‫يقولون‪ :‬إنه في كل مكان‪ ،‬وإذا كان في كل مكان ـ تعالى الله‬
‫عن ذلك ـ فل تكون بعض المخلوقات عنده دون بعض؛ بل تصبح‬
‫كل المخلوقات عنده؛ لنه في كل مكان‪ ،‬فل يختص الملئكة‬
‫بقرب ول يوجد قريب وبعيد!‬
‫ذا؛ الله تعالى ليس في كل مكان‪ ،‬وإذا لم يكن في كل‬ ‫إ ً‬
‫مكان ـ وهو كذلك ـ فل بد أن يكون في أكمل المور والحوال‬
‫وهو العلو ل في السفل‪.‬‬
‫كما يستدلون بالسؤال عنه بـ)أين(؛ لن من أدلة أهل السنة‬
‫على إثبات علو الله على خلقه صحة السؤال عنه بـ)أين( كما‬
‫قال النبي ‪ ‬للجارية‪ ) :‬أين الله؟ قالت‪ :‬في السماء( ] رواه‬
‫مسلم )‪ (537‬من حديث معاوية بن الحكم ‪ ،[‬ونفاة العلو ل‬

‫‪120‬‬
‫يجوز عندهم السؤال عن الله بـ)أين( إنما ُيسأل بـ)أين( عمن هو‬
‫في مكان‪ ،‬والله عندهم ليس في مكان‪ ،‬ويقولون المقولة التي‬
‫فيها التضليل والتزوير‪ ) :‬كان الله ول عرش‪ ،‬وهو على ما عليه‬
‫كان ( ويتوصلون بهذا التعبير إلى نفي الستواء على العرش‪.‬‬
‫]الستقامة ص ‪ ،137‬وسير أعلم النبلء ‪ ،18/474‬واجتماع‬
‫الجيوش ص ‪[ 275‬‬
‫وإذا قلنا‪ :‬إنه تعالى ليس في كل مكان؛ بل هو في العلو‬
‫فليس معناه‪ :‬أنه في مكان موجود محيط به؛ بل هو فوق العالم‪،‬‬
‫وليس فوق العالم كله موجود إل الله تعالى‪ ،‬فالله تعالى ل يحيط‬
‫به شيء من مخلوقات؛ بل هو تعالى فوق سماواته على عرشه‬
‫بائن من خلقه‪ ،‬فتضمن قول الطحاوي‪) :‬محيط بكل شيء‬
‫وفوقه( إثبات صفة الحاطة وإثبات العلو لله تعالى‪ ،‬وبين إثبات‬
‫العرش وإثبات العلو تناسب؛ لنه تعالى مستوٍ على العرش‪ ،‬بل‬
‫نصوص إثبات الستواء هي من جملة ما يستدل به على علو الله‬
‫تعالى بذاته‪.‬‬

‫]عجز الخلق عن الحاطة بالله تعالى[‬


‫وقوله‪) :‬وقد أعجز عن الحاطة خلقه(‪.‬‬
‫أعجز الخلق عن أن يحيطوا به‪ ،‬فل يحيطون به علما كما قال‬
‫ما ً ((]طه‪ ،[110:‬فالعباد يعرفون‬ ‫عل ْ َ‬‫ن ب ِهِ ِ‬ ‫حي ُ‬
‫طو َ‬ ‫تعالى‪َ )) :‬ول ي ُ ِ‬
‫ربهم بما جعله في فطرهم‪ ،‬وبما أوحاه إلى رسله‪ ،‬ومع ذلك هم‬
‫ل يحيطون به علما‪ ،‬يقول أعلم الخلق به ‪) :‬ل أحصي ثناًء‬
‫عليك أنت كما أثنيت على نفسك( ]رواه مسلم )‪ (486‬من حديث‬
‫عائشة ‪ [‬ل يحيط العباد بما له من السماء‪ ،‬وبما له من‬
‫ن رأوه ل‬ ‫الصفات‪ ،‬ول يعلمون كيفية ذاته وكيفية صفاته‪ ،‬وكذلك إ ْ‬
‫َ‬
‫صاُر ((]النعام‪ [103:‬فل تحيط‬ ‫ه الب ْ َ‬‫يحيطون به رؤية‪ )) :‬ل ت ُد ْرِك ُ ُ‬
‫به البصار ‪.‬‬

‫]إثبات صفة الخلة والتكليم لله تعالى[‬


‫وقوله‪) :‬ونقول‪ :‬إن الله اتخذ إبراهيم خليل‪ ،‬وكلم الله موسى‬
‫تكليما‪ ،‬إيمانا وتصديقا وتسليما(‪.‬‬
‫نقول نحن أهل السنة‪ :‬إن الله اتخذ إبراهيم خليل‪ ،‬كما أخبر‬
‫خِليَل ً ((]النساء‪[125:‬‬ ‫م َ‬
‫هي َ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬
‫ه إ ِب َْرا ِ‬ ‫سبحانه في كتابه‪َ )) :‬وات ّ َ‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫وأخبر سبحانه أنه كلم موسى تكليما‪ ،‬قال سبحانه‪ )) :‬وَك َل ّ َ‬
‫ما ً ((]النساء‪ ،[164:‬وفي هذا فضيلة لبراهيم وفضيلة‬ ‫سى ت َك ِْلي َ‬
‫مو َ‬
‫ُ‬
‫لموسى‪ ،‬فإبراهيم خليل الله‪ ،‬وموسى كليم الله عليهما وعلى‬
‫نبينا الصلة والسلم‪ ،‬وثبت في الصحيح أن النبي ‪ ‬قال‪ ) :‬إن‬

‫‪121‬‬
‫الله اتخذني خليل كما اتخذ إبراهيم خليل ( ]تقدم ص[ وقال ‪:‬‬
‫)إن صاحبكم خليل الله( ]تقدم ص[‪.‬‬
‫وأهل السنة يثبتون المحبة ويثبتون الكلم لله‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن‬
‫ه ((]المائدة‪,[54:‬‬ ‫حّبون َ ُ‬ ‫م وَي ُ ِ‬
‫حب ّهُ ْ‬‫حب‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬ي ُ ِ‬ ‫حب وي ُ َ‬ ‫الله ي ُ ِ‬
‫ن‬
‫واِبي َ‬ ‫ب الت ّ ّ‬ ‫ح ّ‬‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن ((]التوبة‪ )) ،[4:‬إ ِ ّ‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫)) إ ِ ّ‬
‫ن ((]البقرة‪ ،[222:‬وي ُك َّلم وي َت َك ََلم‪ ،‬فيثبتون صفة‬ ‫ري َ‬ ‫مت َط َهّ ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫وَي ُ ِ‬
‫المحبة وصفة الكلم‪.‬‬
‫خّلة هي أكمل المحبة‪ ،‬فإبراهيم ‪ ‬خليل الله‪ ،‬فله من‬ ‫وال ُ‬
‫خّلة التي هي‪ :‬أعلى درجات المحبة‪،‬‬ ‫محبة الله ما تبوأ به منزلة ال ُ‬
‫ونبينا ‪ ‬خليل الله أيضا‪ ،‬فإبراهيم ومحمد هما خليلن لله تعالى‪،‬‬
‫وأما ما ورد في الحديث أن النبي ‪ ‬قال‪) :‬إن إبراهيم خليل‬
‫الله ‪ ...‬وأنا حبيب الله ول فخر( فهو حديث ضعيف ]تقدم في‬
‫ص[‪ ،‬وقد تعلق به بعض الجهلة وأهل الغلو‪ ،‬فيسمون الرسول‬
‫خّلة‪،‬‬ ‫‪ :‬حبيب الله ]انظر‪ :‬ص[‪ ،‬وكأن المحبة عندهم أعلى من ال ُ‬
‫وهذا خلف اللغة‪ ،‬وخلف دللت النصوص‪ ،‬فالمحبة ثابتة للنبياء‬
‫والمؤمنين والملئكة‪ ،‬كل على منزلته من محبة الله سبحانه‬
‫ه ((]آل‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حب ِب ْك ُ ُ‬
‫ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫حّبو َ‬‫م تُ ِ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫وتعالى‪ )) ،‬قُ ْ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ن ((]التوبة‪ )) ،[4:‬إ ِ ّ‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬‫ه يُ ِ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫عمران‪ )) ،[31:‬إ ِ ّ‬
‫ن ((]البقرة‪ ،[195:‬فالمحبة مشتركة بين سائر‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫المؤمنين‪ ،‬كل له حظه من محبة الله بحسب إيمانه وتقواه‪،‬‬
‫فوصف الرسول ‪ ‬بأنه‪ :‬حبيب الله فقط ليس فيه خصوصية ول‬
‫تميز‪ ،‬فكل مؤمن هو حبيب الله ـ أي ـ ‪ :‬محبوب لله‪.‬‬
‫وتقدم ذكر ]ص المحبة عند قوله وحبيب رب العالمين وفي هذه الصفحة‪،‬‬
‫ص[ الدلة على إثبات صفة المحبة‪ ،‬وصفة الكلم لله تعالى‪.‬‬
‫والمعطلة من الجهمية والمعتزلة ]مجموع الفتاوى ‪[10/66‬‬
‫حب‬ ‫ومن تبعهم ينفون هذه الصفات‪ ،‬فالجهمية يقولون‪ :‬إنه ل ي ُ ِ‬
‫حب؛ لن المحبة ميل الشيء إلى ما يناسبه‪ ،‬ول تناسب بين‬ ‫ول ي ُ َ‬
‫الخالق والمخلوق‪ ،‬وهذا ـ إن صح أن يكون تفسيرا للمحبة ـ‬
‫ل هو ضد البغض‪،‬‬ ‫ى معقو ٌ‬ ‫يختص بمحبة المخلوق‪ ،‬فالمحبة معن ً‬
‫والله تعالى أخبر بأنه يحب أولياءه ويحب المؤمنين والمقسطين‬
‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ت الل ّهِ أك ْب َُر ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫م ْ‬‫والتوابين‪ ،‬وأخبر بأنه يمقت الكافرين‪ )) :‬ل َ َ‬
‫م ((]غافر‪.[10:‬‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م أ َن ْ ُ‬ ‫قت ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬‫َ‬
‫ونفاة المحبة منهم من يفسر المحبة من الله بإرادة النعام‪،‬‬
‫أو يفسرها بنفس النعم المخلوقة‪ ،‬ويفسر البغض بإرادة النتقام‪،‬‬
‫أو بنفس العقوبة‪ ،‬المهم عندهم نفي حقيقة المحبة عن الله‪،‬‬
‫وينفون محبة المخلوق للخالق سبحانه ويقولون‪ :‬إن المحبة هي‬

‫‪122‬‬
‫محبة ثوابه‪ ،‬أو محبة طاعته‪ ،‬والمحبة عندهم ل تتعلق إل‬
‫بالمخلوق‪.‬‬
‫ومن المبتدعة من أثبت المحبة من جهة المخلوق‪،‬‬
‫كالصوفية؛ فإنهم يبالغون في إثبات محبة المخلوق للخالق حتى‬
‫يعبرون عن محبتهم لله بالعشق‪ ،‬وكذلك الفلسفة يطلقون‬
‫العشق على الله تعالى ‪].‬مجموع الفتاوى ‪ ،10/131‬والرد على‬
‫المنطقيين ص ‪258‬و ‪ ،359‬ودرء تعارض العقل والنقل ‪1/100‬و‬
‫‪ 231‬والرسالة الصفدية ص ‪125‬و ‪[ 297‬‬
‫والحق‪ :‬ما دل عليه كتاب الله‪ ،‬ودلت عليه الفطر والعقول‬
‫حب؛ يحب ملئكته وأنبياءه‬ ‫حب وي ُ َ‬ ‫بأنه سبحانه وتعالى ي ُ ِ‬
‫والصالحين من عباده‪ ،‬كما أخبر تعالى بذلك عن نفسه‪ ،‬ويحبه‬
‫َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬‫أولياؤه كما في الية التي جمعت بين المرين‪َ )) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ْ‬
‫م‬
‫حب ّهُ ْ‬‫قوْم ٍ ي ُ ِ‬ ‫ه بِ َ‬‫ف ي َأِتي الل ّ ُ‬ ‫ن ِدين ِهِ فَ َ‬
‫سو ْ َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ن ي َْرت َد ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫آ َ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫حّبو َ‬ ‫م تُ ِ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ه ((]المائدة‪ [54:‬وقوله تعالى‪ )) :‬قل إ ِ ْ‬ ‫حّبون َ ُ‬
‫وَي ُ ِ‬
‫ه ((]آل عمران‪. [31:‬‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حب ِب ْك ُ ُ‬‫َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ‬
‫وكل صفة تثبت لله تعالى فليست مثل صفة المخلوق‪،‬‬
‫فليس حبه تعالى كحبنا‪ ،‬وليس كلمه وتكليمه ككلمنا‪ ،‬والقول‬
‫يٌء ((‬ ‫ش ْ‬ ‫مث ْل ِهِ َ‬ ‫س كَ ِ‬ ‫في بعض الصفات كالقول في بعض‪ ،‬فـ)) ل َي ْ َ‬
‫]الشورى‪ [11:‬ل في ذاته ول في صفاته ول في أفعاله‪ ،‬فكما أنه‬
‫تعالى له علم ل كعلمنا‪ ،‬وسمع ل كسمعنا‪ ،‬فله محبة ل كمحبتنا‪ ،‬و‬
‫ضانا‪.‬‬ ‫ضا ل كرِ َ‬ ‫رِ ً‬
‫وأما ما ذكره الشارح ابن أبي العز ]ص ‪ [396‬من الكلم في‬
‫خّلة‪ ،‬وقول الشاعر]البيت لبشار بن برد في ديوانه ‪:[2/475‬‬ ‫ال ُ‬
‫قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليل‬
‫خّلة التي هي صفة المخلوق‪ ،‬وكذلك قوله‪:‬‬ ‫فهذا تفسير لل ُ‬
‫خّلة ل تقبل الشركة‪ ،‬فهذا فيه نظر؛ لن الله‬ ‫]ص ‪ [397‬إن ال ُ‬
‫اتخذ إبراهيم ‪ ‬خليل واتخذ محمدا ‪ ‬خليل‪ ،‬نعم من كان الله‬
‫خليله فل يكون أحد من الخلق خليله‪ ،‬كما في الحديث الصحيح‬
‫أن النبي ‪) ‬لو كنت متخذا من أهل الرض خليل لتخذت ابن‬
‫أبي قحافة خليل‪ ،‬ولكن صاحبكم خليل الله( ]تقدم وهو حديث‬
‫ابن مسعود[ فدل على أن المانع له من أن يتخذ أبا بكر خليل أن‬
‫الله اتخذه خليل‪ ،‬وهذا يقتضي أن يكون الله خليله‪ ،‬وإن لم يرد ـ‬
‫فيما أعلم ـ وصف الله بأنه خليل إبراهيم‪ ،‬أو خليل محمد‪ ،‬لكن‬
‫هذا الحديث يشعر بهذا‪ ،‬وأن الله حين اتخذ محمدا خليل لم يكن‬
‫للرسول ‪ ‬خليل من الخلق‪ ،‬وأن ذلك يقتضي أن الله خليله‪،‬‬
‫وهذا من الدلة على أن أبا بكر ‪ ‬هو أفضل هذه المة على‬

‫‪123‬‬
‫الطلق‪ ،‬فهو صديق المة وخيرها بعد نبيها؛ لنه ‪ ‬قال‪) :‬لو كنت‬
‫متخذا من أهل الرض خليل لتخذت ابن أبي قحافة خليل( ‪.‬‬

‫]وجوب اليمان بالملئكة والنبياء والكتب[‬


‫وقوله‪) :‬ونؤمن بالملئكة والنبيين‪ ،‬والكتب المنزلة على‬
‫المرسلين‪ ،‬ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين(‪.‬‬
‫أهل السنة يؤمنون بهذه الصول‪ ،‬بالملئكة وبالنبياء‬
‫وبالكتب‪ ،‬وهذه ثلثة أصول من أصول اليمان التي ذكرها‬
‫الرسول ‪ ‬في جوابه لجبريل حيث قال‪ ) :‬اليمان أن تؤمن بالله‬
‫وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشره (‪.‬‬
‫] رواه مسلم )‪ (8‬من حديث عمر ‪[‬‬
‫واليمان بأصول اليمان يكون على وجهين‪:‬‬
‫مجمل‪ ،‬ومفصل‪.‬‬
‫فأما اليمان بهذه الصول إجمال فرض عين على كل مكلف‪،‬‬
‫فعلى كل مكلف أن يؤمن بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم‬
‫الخر ويؤمن بالقدر‪ ،‬والمام الطحاوي ـ رحمه الله ـ في هذه‬
‫العقيدة لم يراِع ترتيب مسائل اليمان‪ ،‬فيذكر مسائل تتعلق ـ‬
‫مثل ـ باليمان بالله‪ ،‬ومسائل تتعلق باليمان بالرسل‪ ،‬ثم يعود‬
‫ويذكر مسائل تتعلق باليمان بالكتب أو بالملئكة أو باليوم الخر‪،‬‬
‫من غير مراعاة للترتيب‪ ،‬ولهذا قال الشارح ابن أبي العز‪:‬‬
‫) الشيخ ـ رحمه الله ـ لم يجمع الكلم في الصفات في المختصر‬
‫في مكان واحد‪ ،‬وكذلك الكلم في القدر ونحو ذلك‪ ،‬ولم يعتن‬
‫فيه بترتيب‪ .‬وأحسن ما يرتب عليه كتاب أصول الدين ترتيب‬
‫جواب النبي ‪ ‬لجبريل عليه السلم حين سأله عن اليمان(‪] .‬ص‬
‫‪[689‬‬
‫ولكن في الحقيقة هذا التفريق عندي له فائدة وهي‪ :‬أن‬
‫الصلة بهذه الصول مستمرة ل تنقطع؛ فيتجدد الكلم ويتكرر؛‬
‫فيحصل بسبب ذلك التذكير والضبط ‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪:‬‬
‫مسائل القدر جاءت متفرقة؛ لكن صار من فائدته‪ :‬تجدد الكلم‬
‫في القدر‪ ،‬وحصل فيه التأكيد ومزيد اليمان واليضاح؛ لكن إذا‬
‫جمع الكلم في موضع واحد فإنه مع طول الوقت ُيغفل عنه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فهنا قال‪) :‬ونؤمن بالملئكة والنبيين( هذا إيمان مجمل‪،‬‬
‫نؤمن بالملئكة كما ذكر‪ ،‬واليمان بالملئكة كما جاء في السنة‬
‫جاء في القرآن مقرونا باليمان بالله في ثلثة مواضع في قوله‬
‫ملئ ِك َةِ َوال ْك َِتا ِ‬
‫ب‬ ‫خرِ َوال ْ َ‬
‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬‫م َ‬
‫نآ َ‬ ‫ن ال ْب ِّر َ‬
‫م ْ‬ ‫تعالى‪ )) :‬وَل َك ِ ّ‬
‫فْر‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬‫م ْ‬
‫ن ((]البقرة‪ ،[177:‬وقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬وَ َ‬ ‫َوالن ّب ِّيي َ‬
‫ض ّ‬
‫ل‬ ‫قد ْ َ‬ ‫خرِ فَ َ‬‫خرِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫سل ِهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫ِبالل ّهِ وَ َ‬
‫ملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬

‫‪124‬‬
‫ما‬ ‫ل بِ َ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫م َ‬ ‫ضلَل ً ب َِعيد َا ً ((]النساء‪ ،[136:‬وقال سبحانه‪ )) :‬آ َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫سل ِ ِ‬ ‫ُ‬
‫ملئ ِكت ِهِ وَكت ُب ِهِ وَُر ُ‬ ‫َ‬ ‫ن ِباللهِ وَ َ‬ ‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫لآ َ‬ ‫نك ّ‬ ‫ُ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن َرب ّهِ َوال ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل إ ِلي ْهِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُأنزِ َ‬
‫سل ِهِ ((]البقرة‪ [285:‬فنؤمن بالملئكة‬ ‫فرقُ بي َ‬
‫ن ُر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حد ٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ل نُ َ ّ‬
‫ُ‬
‫الذين وصفهم الله بصفات كريمة‪ ،‬فقال تعالى عنهم‪ )) :‬وََقالوا‬
‫ل‬ ‫قو ْ ِ‬ ‫ه ِبال ْ َ‬ ‫قون َ ُ‬ ‫سب ِ ُ‬‫ن * ل يَ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫مك َْر ُ‬ ‫عَباد ٌ ُ‬ ‫ل ِ‬ ‫ه بَ ْ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ن وَل َد َا ً ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬ ‫خذ َ الّر ْ‬ ‫ات ّ َ‬
‫خل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫فُعو َ‬ ‫ش َ‬ ‫م َول ي َ ْ‬ ‫فهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ن أي ْ ِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن * ي َعْل َ ُ‬ ‫مُلو َ‬ ‫مرِهِ ي َعْ َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫وَهُ ْ‬
‫ن ((]النبياء‪.[28-26:‬‬ ‫قو َ‬ ‫ش فِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫شي َت ِهِ ُ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ضى وَهُ ْ‬ ‫ن اْرت َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫إ ِّل ل ِ َ‬
‫وقد أخبر الله تعالى أن الملئكة أصناف منهم‪ :‬ملك الموت‪،‬‬
‫م إ َِلى‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ل ب ِك ُ ْ‬ ‫ذي وُك ّ َ‬ ‫ت ال ّ ِ‬ ‫مو ْ ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫مل َ ُ‬ ‫كم ّ‬ ‫ل ي َت َوَّفا ُ‬ ‫قال تعالى‪ )) :‬قُ ْ‬
‫ن(( ]السجدة‪.[11:‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫م ت ُْر َ‬ ‫َرب ّك ُ ْ‬
‫ومنهم الملئكة الذين هم من أعوان ملك‪ :‬ملئكة الرحمة‬
‫وملئكة العذاب‪ ،‬وقد أضاف الله إليهم التوفي كما أضافه إلى‬
‫ت‬
‫مَرا ِ‬ ‫ن ِفي غ َ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫ملك الموت‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَل َوْ ت ََرى إ ِذ ِ ال ّ‬
‫ن‬
‫جَزوْ َ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫م ال ْي َوْ َ‬ ‫سك ُ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫جوا ْ َأن ُ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م أَ ْ‬ ‫ديهِ ْ‬
‫ة باس ُ َ‬
‫طوا ْ أي ْ ِ‬ ‫ملئ ِك َ ُ َ ِ‬ ‫ت َوال ْ َ‬ ‫مو ْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ه‬
‫ن آَيات ِ ِ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫حقّ وَ ُ‬ ‫ن ع ََلى الل ّهِ غ َي َْر ال ْ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ب ال ُْهو ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫عَ َ‬
‫م‬‫ن ت َت َوَّفاهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن(( ]النعام‪ ،[93:‬وقال تعالى‪ )) :‬ال ّ ِ‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫تَ ْ‬
‫م‬‫كنت ُ ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫ة بِ َ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫خُلوا ْ ال ْ َ‬ ‫م اد ْ ُ‬ ‫م ع َل َي ْك ُ ُ‬ ‫سل ٌ‬ ‫ن َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ة ط َي ِّبي َ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن(( ]النحل‪.[32:‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ت َعْ َ‬
‫ن‬‫ومنهم الملئكة الموكلون بحفظ وكتابة أعمال العباد )) وَإ ِ ّ‬
‫ن ((]النفطار‪.[10:‬‬ ‫ظي َ‬ ‫حافِ ِ‬ ‫م لَ َ‬ ‫ع َل َي ْك ُ ْ‬
‫ح‬‫ة ِبالّرو ِ‬ ‫ملئ ِك َ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫ومنهم الملئكة الموكلون بالوحي )) ي ُن َّز ُ‬
‫مرِهِ ((]النحل‪.[2:‬‬ ‫م َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ِ ْ‬
‫ل وميكائيل‬ ‫وقد سمى الله من الملئكة في القرآن جبري َ‬
‫ملئ ِك َت ِ ِ‬
‫ه‬ ‫ن ع َد ُّوا ل ّل ّهِ وَ َ‬ ‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫ومالك خازن النار‪ ،‬قال تعالى‪َ )) :‬‬
‫ن(( ]البقرة‪[98:‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ه ع َد ُوّ ل ّل ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ل فَإ ِ ّ‬ ‫كا َ‬ ‫مي َ‬ ‫ل وَ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫جب ْ ِ‬ ‫سل ِهِ وَ ِ‬ ‫وَُر ُ‬
‫ك ((]الزخرف‪.[77:‬‬ ‫ض ع َل َي َْنا َرب ّ َ‬ ‫ق ِ‬ ‫ك ل ِي َ ْ‬ ‫مال ِ ُ‬ ‫وقال تعالى‪ )) :‬وََناد َْوا َيا َ‬
‫وجاء في السنة تسمية إسرافيل ومنكر ونكير‪ ،‬ففي حديث‬
‫عائشة رضي الله عنها أن النبي ‪ ‬كان يستفتح في قيام الليل‪:‬‬
‫)اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل( ] رواه مسلم )‪[(770‬‬
‫ّ‬
‫ن يسألن‬ ‫وروى الترمذي عن النبي ‪ ‬تسمية الملكين الذ َي ْ ِ‬
‫المقبور‪ :‬بـ»المنكر والنكير«‪ (1071)] .‬ـ وقال‪ :‬حسن غريب ـ ‪،‬‬
‫وابن حبان )‪ (3117‬من حديث أبي هريرة ‪.[‬‬
‫والملئكة خلق من خلق الله فيجب اليمان بأنهم عباد‬
‫مخلوقون مربوبون مدبرون ليسوا بآلهة كما ظن المشركون‪،‬‬
‫ك ال ْب ََنا ُ‬
‫ت‬ ‫م أ َل َِرب ّ َ‬ ‫فت ِهِ ْ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫وليسوا بنات الله كما افترى المفترون ))َفا ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن * أل إ ِن ّهُ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫شاه ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ة إ َِناث َا ً وَهُ ْ‬ ‫ملئ ِك َ َ‬ ‫قَنا ال ْ َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن*أ ْ‬ ‫م ال ْب َُنو َ‬ ‫وَل َهُ ُ‬
‫ن ((]الصافات‪-149:‬‬ ‫كاذ ُِبو َ‬ ‫م لَ َ‬ ‫ه وَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫ن * وَل َد َ الل ّ ُ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م ل َي َ ُ‬ ‫إ ِفْك ِهِ ْ‬

‫‪125‬‬
‫‪ [152‬فمن الناس من ينكر وجودهم‪ ،‬ومنهم المتأول الذي يقول‪:‬‬
‫الملئكة هي القوى اَلخّيرة في النسان‪ ،‬والشياطين هي القوى‬
‫الشريرة في النسان‪ ،‬فليسوا خلقا قائمين بأنفسهم‪ ،‬وهذا خلف‬
‫ما أخبر الله به في كتابه من أمر الملئكة‪ ،‬فهم عباد عابدون لله‬
‫مطيعون في غاية من العبودية والطاعة لله رب العالمين‪:‬‬
‫ن ((]النبياء‪ )) ،[20:‬ل‬ ‫فت ُُرو َ‬ ‫ل َوالن َّهاَر ل ي َ ْ‬ ‫ن الل ّي ْ َ‬ ‫حو َ‬ ‫سب ّ ُ‬‫)) ي ُ َ‬
‫ن ((]العراف‪:‬‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫س ُ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫َ‬
‫ه وَل ُ‬ ‫حون َ ُ‬ ‫سب ّ ُ‬‫عَباد َت ِهِ وَي ُ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫‪ ،[206‬وذكر الله ما دار بينه وبين الملئكة في أمر خلق آدم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جعَ ُ‬
‫ل‬ ‫ة َقاُلوا أت َ ْ‬ ‫ف ً‬
‫خِلي َ‬ ‫ض َ‬ ‫ل ِفي الْر ِ‬ ‫ع ٌ‬ ‫جا ِ‬ ‫ملئ ِك َةِ إ ِّني َ‬ ‫ك ل ِل ْ َ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫)) وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ماَء ((]البقرة‪ [30:‬إلى آخر‬ ‫ك الد ّ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫س ِ‬‫سد ُ ِفيَها وَي َ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِفيَها َ‬
‫القصة‪.‬‬
‫وأما النبياء فكذلك يجب اليمان بهم إجمال‪ ،‬ويجب اليمان‬
‫بمن سمى الله منهم تفصيل‪ ،‬وقد ذكر الله اليمان بالرسل في‬
‫اليات الثلث التي تقدمت ]في الصفحة السابقة[‪ ،‬وذكروا في آيات‬
‫جا ً وَذ ُّري ّ ً‬ ‫ك وجعل ْنا ل َه َ‬ ‫أخرى‪ )) :‬ول َ َ َ‬
‫ة ((‬ ‫م أْزَوا َ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ َ َ َ َ ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫سَل ً ِ‬ ‫سل َْنا ُر ُ‬ ‫قد ْ أْر َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫سل ً ل ْ‬ ‫َ‬ ‫ل وَُر ُ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫َ‬
‫م ع َلي ْ َ‬ ‫صَناهُ ْ‬ ‫ص ْ‬ ‫سل ً قَد ْ قَ َ‬ ‫َ‬ ‫]الرعد‪ )) ،[38:‬وَُر ُ‬
‫ك ((]النساء‪ ،[164:‬فرسل الله وأنبياؤه كثيرون؛‬ ‫م ع َل َي ْ َ‬ ‫صه ُ ْ‬‫ص ْ‬ ‫ق ُ‬ ‫نَ ْ‬
‫لكن منهم من قص الله علينا من أخبارهم‪ ،‬ومنهم من لم يقصهم‬
‫ل خبره‪ ،‬مثل‪ :‬ذي‬ ‫ذكر اسمه ولم يذكر تفصي َ‬ ‫علينا‪ ،‬ومنهم من َ‬
‫الكفل وإدريس واليسع‪ ،‬وقص الله علينا أخبار أنبياء كثيرين؛ كنوح‬
‫وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى‪ ،‬فيجب اليمان بما‬
‫أخبر الله به عن النبياء والمرسلين إجمال وتفصيل؛ فأما اليمان‬
‫بهم مجمل؛ فهو فرض عين‪ ،‬وأما معرفة أخبارهم تفصيل فهو‬
‫فرض كفاية‪ ،‬ويجب على من علم شيئا من تفصيل أخبارهم أن‬
‫يؤمن به‪.‬‬
‫وبمناسبة ذكرِ المؤلف ـ رحمه الله ـ )ونؤمن بالملئكة‬
‫والنبيين‪ ،‬والكتب المنزلة على المرسلين( ترد مسألة الفرق بين‬
‫النبي والرسول‪ ،‬وقد سبق الكلم عليها عند قول المؤلف‪) :‬وإن‬
‫محمدا عبده المصطفى‪ ،‬ونبيه المجتبى‪ ،‬ورسوله المرتضى(‬
‫]ص[‪.‬‬
‫والصل الثالث من أصول اليمان في عبارة المؤلف ـ رحمه‬
‫الله ـ هو اليمان بالكتب‪ ،‬فإنه قال‪) :‬ونؤمن بالملئكة والنبيين‬
‫دم ذكر النبياء على الكتب‪،‬‬ ‫وبالكتب المنزلة على المرسلين( وق ّ‬
‫مع أن الذي في اليات والحاديث تقديم ذكر الكتب على الرسل‪،‬‬
‫ملئ ِك َ ِ‬
‫ة‬ ‫خرِ َوال ْ َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬‫ن ال ْب ِّر َ‬ ‫قال تعالى‪ )) :‬وَل َك ِ ّ‬
‫ملئ ِك َت ِ ِ‬
‫ه‬ ‫ن ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫م َ‬ ‫لآ َ‬ ‫ن ((]البقرة‪ )) ،[177:‬ك ُ ّ‬ ‫ب َوالن ّب ِّيي َ‬ ‫َوال ْك َِتا ِ‬

‫‪126‬‬
‫سل ِهِ ((]البقرة‪[285:‬؛ لكن الظاهر أن المؤلف قدم‬ ‫وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬
‫وأخر‪ ،‬مراعاة لتناسب الجمل‪.‬‬
‫فيجب اليمان بالكتب الــتي أنزلهــا اللــه علــى مــن شــاء مــن‬
‫رسله‪ ،‬والله أخبر في آيــات كــثيرة أنــه أنــزل الكتــب وســمى لنــا‬
‫دقا ً‬ ‫صــ ّ‬‫م َ‬ ‫حقّ ُ‬ ‫ب ِبال ْ َ‬‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫ل ع َل َي ْ َ‬ ‫التوراة والنجيل‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬ن َّز َ‬
‫ل((]آل عمـران‪ ،[3:‬والزبـور‬ ‫جيـ َ‬ ‫لن ِ‬‫ل الّتـوَْراة َ َوا ِ‬ ‫ن َيـد َي ْهِ وََأنـَز َ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫لّ َ‬
‫داوُد َ َزب ُــوًرا(( ]الســراء‪ ،[55:‬وصــحف إبراهيــم وموســى‬ ‫)) َوآت َي َْنا َ‬
‫سى (( ]العلى‪ ،[19:‬فيجب اليمــان بكتــب‬ ‫مو َ‬ ‫م وَ ُ‬ ‫هي َ‬ ‫ف إ ِب َْرا ِ‬ ‫ح ِ‬ ‫ص ُ‬‫)) ُ‬
‫الله إجمال‪ ،‬وهذا فرض عين‪ ،‬وبما سمى الله منها تفصــيل وتعيينــا‬
‫فنـؤمن بـالتوراة المنزلـة علـى موسـى‪ ،‬وبالنجيـل المنـزل علـى‬
‫عيسى‪ ،‬وبالزبور المنزل علــى داود‪ ،‬وبصــحف موســى وإبراهيــم‪،‬‬
‫ونؤمن بأنها كلم الله‪ ،‬فالكتب المنزلة كلها كلم الله‪.‬‬
‫واليمان بالكتب يندرج في اليمان بالرسل؛ لنهم هــم الــذين‬
‫مــا‬ ‫ل إ ِل َي ْن َــا وَ َ‬ ‫مــا ُأن ـزِ َ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫جاءوا بها قال الله تعالى‪ُ )) :‬قوُلوا آ َ‬
‫مــا‬ ‫ط وَ َ‬ ‫سـَبا ِ‬ ‫َ‬
‫ب َوال ْ‬ ‫قــو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫سـ َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫عي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫سـ َ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬ ‫هيـ َ‬ ‫ل إ َِلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫ُأنزِ َ‬
‫فرقُ بي َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حد ٍ‬ ‫نأ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫م ل نُ َ ّ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ي الن ّب ِّيو َ‬ ‫ما أوت ِ َ‬ ‫سى وَ َ‬ ‫عي َ‬ ‫سى وَ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ي ُ‬ ‫أوت ِ َ‬
‫ن ((]البقرة‪ [136:‬ل نفرق بين الرســل ول‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م وَن َ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ـ ُ‬ ‫س ـل ِهِ وَي ُ ِ‬ ‫ن ب ِــالل ّهِ وَُر ُ‬ ‫فُرو َ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫نفرق بين الكتب )) إ ِ ّ‬
‫ض‬ ‫ف ـُر ب ِب َعْـ ٍ‬ ‫ض وَن َك ْ ُ‬ ‫ن ب ِب َعْـ ٍ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ن ُـؤ ْ ِ‬ ‫قول ُــو َ‬ ‫س ـل ِهِ وَي َ ُ‬ ‫ن الل ّـهِ وَُر ُ‬ ‫فّرقُــوا ب َي ْـ َ‬ ‫يُ َ‬
‫ق ـا ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ح ّ‬‫ن َ‬ ‫م ال ْك َــافُِرو َ‬ ‫ك هُـ ُ‬ ‫سـِبيَل ً * أوْل َئ ِ َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن ذ َل ِـ َ‬ ‫ذوا ب َي ْـ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫وَي َُ ِ‬
‫م‬ ‫س ـل ِهِ وَل َـ ْ‬ ‫من ُــوا ب ِــالل ّهِ وَُر ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مِهين َـا ً * َوال ّـ ِ‬ ‫ذاب َا ً ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫وَأع ْت َد َْنا ل ِل ْ َ‬
‫كا َفِ ِ‬
‫م ((]النساء‪.[152-150:‬‬ ‫من ْهُ ْ‬‫حد ٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫فّرُقوا ب َي ْ َ‬ ‫يُ َ‬
‫وأنكر الله على اليهود إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض‪.‬‬
‫وهــذه الصــول يتعلــق بهــا كــثير مــن مســائل العتقــاد‪ ،‬نــص‬
‫المصنف ـ رحمه اللــه ــ علـى بعضـها‪ ،‬فيمــا تقـدم‪ ،‬وكمـا سـيأتي‬
‫بعضها‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين(‪.‬‬


‫ونشهد أن النبياء والمرسلين رسل من عند الله‪ ،‬جاءوا‬
‫َ‬
‫حد ٍ‬
‫نأ َ‬ ‫فّرقُ ب َي ْ َ‬ ‫صدوقون‪ )) ،‬ل ن ُ َ‬ ‫م ْ‬
‫بالحق من عنده‪ ،‬وكلهم صادقون َ‬
‫م ((]البقرة‪ ،[136:‬وأنهم خير خلق الله‪ ،‬وأن بعضهم أفضل‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ِ‬
‫م ع ََلى‬ ‫ضهُ ْ‬‫ضل َْنا ب َعْ َ‬‫ل فَ ّ‬
‫س ُ‬
‫ك الّر ُ‬‫من بعض‪ ،‬كما قال سبحانه‪ )) :‬ت ِل ْ َ‬
‫ض‬ ‫ضل َْنا ب َعْ َ‬‫قد ْ ف َ ّ‬ ‫ض ((]البقرة‪ [253:‬وقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬وَل َ َ‬ ‫ب َعْ ٍ‬
‫ض ((]السراء‪ [55:‬وأفضلهم أولو العزم‪ ،‬وأفضل‬ ‫الن ّب ِّيي َ َ‬
‫ن ع َلى ب َعْ ٍ‬
‫أولو العزم الخليلن إبراهيم ومحمد عليهما الصلة والسلم‪،‬‬
‫وأفضلهما نبينا محمد خاتم النبيين ‪. ‬‬

‫‪127‬‬
‫]تسمية أهل القبلة بالمسلمين[‬
‫وقوله‪) :‬ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين‪ ،‬ما داموا بما‬
‫جاء به النبي ‪ ‬معترفين‪ ،‬وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين(‪.‬‬
‫أهل القبلة‪ :‬هم الذين يستقبلون الكعبة في صلتهم‪ ،‬فنسمي‬
‫كل من يستقبل الكعبة‪) :‬مسلمين(‪ ،‬فجميع الفرق السلمية‬
‫يسمون أهل القبلة؛ لن القبلة تجمع المسلمين‪ ،‬وليس فيها‬
‫خلف بينهم‪.‬‬
‫وأما قوله‪) :‬مؤمنين( هذا جارٍ على عدم الفرق بين السلم‬
‫م‪ ،‬وأنهما اسمان‬ ‫ن مسل ٌ‬ ‫ل مؤم ٍ‬ ‫ن وك َ‬ ‫ل مسلم ٍ مؤم ٌ‬ ‫نك َ‬ ‫واليمان‪ ،‬وأ ّ‬
‫ى واحد‪ ،‬وهي مسألة معروفة وكبيرة‪:‬‬ ‫لمسم ً‬
‫ى واحد‪.‬‬ ‫فمن أهل العلم من يقول‪ :‬إنهما اسمان لمسم ً‬
‫ومنهم من يقول‪ :‬بل هما متغايران ومختلفان‪.‬‬
‫والقول الوسط هو‪ :‬أن السلم واليمان إذا أفردا اتحد‬
‫معناهما‪ ،‬وإذا اقترنا وذكرا جميًعا اختلف معناهما‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫ت ((]الحزاب‪:‬‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫ت َوال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ما ِ‬
‫سل ِ َ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫)) إ ِ ّ‬
‫‪ ،[35‬فإذا ذكر اليمان والسلم كان المراد بالسلم العمال‬
‫الظاهرة‪ ،‬وباليمان اعتقاد القلب‪ ،‬ولهذا فرق ‪ ‬بين السلم‬
‫واليمان في حديث جبريل‪ ،‬فلما قال‪) :‬أخبرني عن السلم(‬
‫أخبره بأصول العمال الظاهرة‪ ،‬وهي أركان السلم‪ ،‬وعندما‬
‫قال‪) :‬أخبرني عن اليمان؟ (‪ ،‬فسره له بأصول العتقاد وهي‬
‫الصول الستة‪.‬‬
‫ل أحد ٍ مسلما مؤمنا؛ بل‬ ‫فعلى القول بالفرق ل نسمي ك َ‬
‫الفاسق ل نعطيه السم المطلق بل نقول‪ :‬هو مسلم‪ ،‬وإذا‬
‫وصفناه باليمان نقول‪ :‬هو مؤمن ناقص اليمان‪ ،‬أو مؤمن بما‬
‫معه من اليمان‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ما داموا بما جاء به النبي ‪ ‬معترفين‪ ،‬وله بكل ما‬
‫قاله وأخبر مصدقين( ما داموا يشهدون أن ل إله إل الله‪ ،‬وأن‬
‫دا رسول الله‪ ،‬واستقاموا واستمروا على الشهادتين شهادة‬ ‫محم ً‬
‫أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله‪ ،‬وقوله‪) :‬وله بكل ما قاله‬
‫وأخبر مصدقين( تأكيد للجملة الولى؛ لنها داخلة فيها‪.‬‬
‫والرسول ‪ ‬جاء بأمرين‪:‬‬
‫َ‬
‫دى‬‫ه ِبال ْهُ َ‬
‫سول َ ُ‬‫ل َر ُ‬‫س َ‬ ‫ذي أْر َ‬ ‫بعلم‪ ،‬وعمل‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬هُوَ ال ّ ِ‬
‫حقّ ((]الفتح‪ [28:‬فالهدى هو‪ :‬العلم النافع‪ ،‬ودين الحق‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫وَِدي ِ‬
‫هو‪ :‬العمل الصالح‪ ،‬والدين دائر على هذين الصلين‪ :‬العلم‬
‫والعمل؛ فاليمان بما جاء به الرسول ‪ ‬يشمل‪ :‬اليمان بما جاء‬
‫به من مسائل العتقاد‪ ،‬ونسميها‪ :‬المسائل العلمية‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫وبما جاء به من الشرائع والحكام‪ ،‬ونسميها‪ :‬المسائل‬
‫العملية‪.‬‬
‫فنسمي أهل القبلة مسلمين ما لم يكن منهم ما يوجب‬
‫علمت ردته من المنتسبين للسلم فليس من أهل‬ ‫الردة‪ ،‬ومن ُ‬
‫القبلة؛ بل هو مرتد‪ ،‬مثل‪ :‬القائل بوحدة الوجود‪ ،‬أو من يقول‬
‫بنبوة أحد غير الرسول ‪‬؛ كالقاديانية الذين يقولون بنبوة مرزا‬
‫غلم أحمد الهندي ]الموسوعة الميسرة ‪ ،1/419‬وفتاوى اللجنة‬
‫الدائمة ‪ ،[2/312‬فهؤلء ليسوا من أهل القبلة‪ ،‬وليسوا بمسلمين‬
‫ول مؤمنين‪ ،‬وإن انتسبوا للسلم‪ ،‬فهم كفار وليسوا بمسلمين ول‬
‫مؤمنين‪.‬‬

‫]أهل السنة ل يتكلمون في الله ودينه وكتابه بغير علم[‬


‫وقوله‪) :‬ول نخوض في الله‪ ،‬ول نماري في دين الله(‪.‬‬
‫من منهج أهل العلم والتقوى أنهم ل يتكلمون في ذات الله‬
‫وصفاته وأفعاله بغير علم أو بالكلم الباطل؛ بل يتكلمون في‬
‫شأن الله بما علموا مما جاء به الرسول ‪ ‬من الكتاب والحكمة‪،‬‬
‫فعلينا أن نصف الله بما وصف به نفسه ونسميه بما سمى به‬
‫نفسه‪ ،‬ونخبر عنه بما أخبر به عن نفسه‪ ،‬وما أخبر به عنه رسوله‬
‫‪ ،‬وليس هذا من الخوض‪ ،‬هذا من بيان الحق ومن الثناء على‬
‫الله‪ ،‬ومن تعظيم الله واليمان به سبحانه‪ ،‬وما كان غير ذلك فهو‬
‫من الخوض الباطل كالكلم في كيفية ذاته أو صفاته بغير علم‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ول نماري في دين الله( المراء‪ :‬الجدال‪ ،‬وأكثر ما‬
‫يطلق المراء على الجدال بالباطل‪ ،‬إما من جهة القصد‪ ،‬أو من‬
‫جهة ما يجادل به ويحتج به من الحجج الباطلة الداحضة‪،‬‬
‫فالحتجاج بالحجج الباطلة كالحتجاج والستدلل بالشبه العقلية‬
‫وبالروايات المكذوبة‪ ،‬أو الجدال على وجه التعصب ل لقصد‬
‫إظهار وبيان الحق والوصول إليه‪ ،‬كل هذا من الجدال بالباطل‪،‬‬
‫ومن المراء في الدين‪ ،‬ومن ذلك الجدال أو المراء على وجه‬
‫المعارضة لما جاءت به النصوص‪ ،‬فكل هذا من المراء في الدين‪.‬‬
‫ما‬
‫والجدال بالباطل هو سبيل أعداء الرسل‪ ،‬قال تعالى‪َ )) :‬‬
‫م ِفي‬ ‫قل ّب ُهُ ْ‬‫ك تَ َ‬‫فُروا َفل ي َغُْرْر َ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ت الل ّهِ إ ِّل ال ّ ِ‬‫ل ِفي آَيا ِ‬ ‫جاد ِ ُ‬ ‫يُ َ‬
‫جاد َُلوا‬‫ال ِْبلد ِ ((]غافر‪ ،[4:‬ويقول تعالى عن أعداء الرسل‪ )) :‬وَ َ‬
‫حقّ ((]غافر‪ ،[5:‬أما الجدال الذي يراد منه‬ ‫ضوا ب ِهِ ال ْ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ِبال َْباط ِ ِ‬
‫ل ل ِي ُد ْ ِ‬
‫الوصول إلى الحق وإظهاره ودفع الباطل؛ فهذا مشروع‪ ،‬وهو من‬
‫ك‬‫ل َرب ّ َ‬‫سِبي ِ‬ ‫طرق الدعوة‪ ،‬كما قال سبحانه وتعالى‪ )) :‬اد ْع ُ إ َِلى َ‬
‫َ‬
‫ن ((]النحل‪:‬‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫يأ ْ‬ ‫م ِبال ِّتي ه ِ َ‬ ‫جاد ِل ْهُ ْ‬ ‫سن َةِ وَ َ‬ ‫ح َ‬ ‫عظ َةِ ال ْ َ‬ ‫مةِ َوال ْ َ‬
‫مو ْ ِ‬ ‫حك ْ َ‬‫ِبال ْ ِ‬
‫َ‬
‫ب إ ِّل ِبال ِّتي ه ِ َ‬
‫ي‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫جاد ُِلوا أهْ َ‬ ‫‪ ،[125‬وقال تعالى‪َ )) :‬ول ت ُ َ‬

‫‪129‬‬
‫َ‬
‫م ((]العنكبوت‪ ،[46:‬فالجدال‬ ‫من ْهُ ْ‬‫موا ِ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫ذي َ‬‫ن إ ِّل ال ّ ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫أ ْ‬
‫بالبينات‪ ،‬وبالحجج الظاهرات‪ ،‬والدلة العقلية والسمعية‪ ،‬كل هذا‬
‫من طرق الدعوة إلى الله ومن الجدال بالتي هي أحسن‪ ،‬وما‬
‫خالف ذلك فهو من المراء المذموم‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ول نجادل في القرآن( يظهر أن هذا يدخل في قوله‪:‬‬
‫)ل نماري في دين الله( لكن عطفها على ما قبلها من عطف‬
‫الخاص على العام‪ ،‬فل نماري في دين الله‪ ،‬ول نماري في‬
‫القرآن‪ ،‬أي‪ :‬ل نجادل فيه تكذيبا‪ ،‬ول نجادل في معانيه تحريفا‪،‬‬
‫لكن نحتج به ونستدل به؛ وهناك فرق بين السلوبين‪ ،‬فنجادل‬
‫بالقرآن‪ ،‬أي‪ :‬يكون القرآن هو السلح الذي نجادل به‪ ،‬ونرد به‬
‫ة لخباره أو أحكامه‪،‬‬ ‫على أهل الباطل؛ لكن ل نجادل فيه معارض ً‬
‫أو تكذيبا أو تأويل له وصرفا له عن ظاهره‪ ،‬فكل هذا من سبل‬
‫الباطل‪ ،‬فأهل الباطل هم الذين يجادلون في آيات الله‪ ،‬كما قال‬
‫فُروا ((‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ت الل ّهِ إ ِّل ال ّ ِ‬ ‫ل ِفي آَيا ِ‬ ‫جاد ِ ُ‬ ‫ما ي ُ َ‬‫سبحانه وتعالى‪َ )) :‬‬
‫]غافر‪ [4:‬فيقولون‪ :‬هذا سحر‪ ،‬هذا شعر‪ ،‬هذا كهانة‪ ،‬تكذيبا له‪،‬‬
‫قت َا ً ِ‬ ‫طا َ‬
‫عن ْد َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ك َب َُر َ‬ ‫ن أَتاهُ ْ‬ ‫سل ْ َ ٍ‬ ‫ت الل ّهِ ب ِغَي ْرِ ُ‬ ‫ن ِفي آَيا ِ‬ ‫جاد ُِلو َ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫)) ال ّ ِ‬
‫مت َك َب ّ ٍ‬
‫ر‬ ‫ب ُ‬ ‫ل قَل ْ ِ‬ ‫ه ع ََلى ك ُ ّ‬ ‫ك ي َط ْب َعُ الل ّ ُ‬ ‫مُنوا ك َذ َل ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫عن ْد َ ال ّ ِ‬‫الل ّهِ وَ ِ‬
‫ت الل ّهِ ب ِغَي ْ ِ‬
‫ر‬ ‫ن ِفي آَيا ِ‬ ‫جاد ُِلو َ‬‫ن يُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫جّبارٍ ((]غافر‪ )) ،[35:‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫هّ‬
‫ست َعِذ ْ ِبالل ِ‬ ‫م ب َِبال ِِغيهِ َفا ْ‬ ‫ما هُ ْ‬ ‫ّ‬
‫م إ ِل ك ِب ٌْر َ‬ ‫دورِه ِ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ن ِفي ُ‬ ‫م إِ ْ‬‫ن أَتاهُ ْ‬ ‫َ‬
‫سلطا ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫صيُر ((]غافر‪.[56:‬‬ ‫ْ‬
‫ميعُ الب َ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ه هُوَ ال ّ‬ ‫إ ِن ّ ُ‬
‫وقوله‪) :‬ونشهد أنه كلم رب العالمين‪ ،‬نزل به الروح المين‪،‬‬
‫دا صلى عليه وعلى آله أجمعين‪ ،‬وهو‬ ‫فعلمه سيد المرسلين محم ً‬
‫كلم الله تعالى‪ ،‬ل يساويه شيء من كلم المخلوقين‪ ،‬ول نقول‬
‫بخلقه‪ ،‬ول نخالف جماعة المسلمين(‪.‬‬
‫هذا من شواهد ما تقدم ذكره ]ص[ من أن المصنف لم‬
‫يرتب الكلم في مسائل العتقاد‪ ،‬ويجمع كل صنف ويضمه إلى‬
‫جنسه‪ ،‬بل فرق الكلم في أصول اليمان‪.‬‬
‫فهذه الجملة المذكورة تتعلق بالقرآن‪ ،‬وقد تقدم ]ص[ القول‬
‫في عقيدة أهل السنة في القرآن‪ ،‬وأن القرآن كلم الله حقيقة‬
‫منزل غير مخلوق‪ ،‬منه بدأ وإليه يعود‪ ،‬وأنه كلم الله على‬
‫الحقيقة وليس ككلم البشر‪ ،‬والناس في القرآن منهم الكفار‬
‫ل‬ ‫ذا إ ِّل قَوْ ُ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫المكذبون للقرآن الذين قالوا‪ :‬إنه كلم محمد‪ )) :‬إ ِ ْ‬
‫شرِ ((]المدثر‪ ،[25:‬ومنهم من يؤمن بتنزيل القرآن لكنه يتأوله‬ ‫ال ْب َ َ‬
‫على غير تأويله‪ ،‬ويفسره بما يوافق هواه وأصوله الباطلة كما‬
‫فعل القدرية والجهمية والرافضة فكل طائفة تؤول القرآن على‬
‫ما يوافق مذهبها وأصولها‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ونشهد أنه كلم رب العالمين(‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫نشهد ونؤمن ظاهرا وباطنا‪ ،‬ونقر بقلوبنا وألسنتنا أن هذا‬
‫ة‪ ،‬وأنه كلم الله حروفه‬ ‫القرآن كلم ربنا‪ ،‬تكلم به سبحانه حقيق ً‬
‫ومعانيه‪ ،‬هو كلم الله تعالى مكتوبا في المصاحف‪ ،‬أو محفوظا‬
‫في الصدور‪ ،‬أو متلوا باللسن‪ ،‬أو مسموعا بالذان‪ ،‬فالذي يقرأه‬
‫ن‬ ‫القارئ نقول‪ :‬هذا كلم الله‪ ،‬أي‪ :‬المتلو )) وإ َ‬
‫م َ‬ ‫حد ٌ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫َِ ْ‬
‫شركين استجار َ َ‬
‫م الل ّهِ ((]التوبة‪[6:‬‬ ‫كل َ‬ ‫معَ َ‬ ‫س َ‬‫حّتى ي َ ْ‬ ‫جْره ُ َ‬ ‫ك فَأ ِ‬ ‫م ْ ِ ِ َ ْ َ َ َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫لكن نحن نسمع كلم الله من صوت القارئ‪ ،‬كما سمع الصحابة‬
‫القرآن بصوت الرسول ‪ ،‬وسمعه الرسول من جبريل عليه‬
‫السلم‪ ،‬وسمعه جبريل من رب العالمين‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬نزل به الروح المين( جبريل عليه السلم هو‪:‬‬
‫الروح المين‪ ،‬وهو روح القدس‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى عليه وعلى آله‬
‫أجمعين(‪.‬‬
‫ه‬
‫م ُ‬ ‫حى * ع َل ّ َ‬ ‫ي ُيو َ‬ ‫ح ٌ‬ ‫ن هُوَ إ ِّل وَ ْ‬ ‫كما قال سبحانه وتعالى‪ )) :‬إ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫م د ََنا‬ ‫ق الع َْلى * ث ُ ّ‬ ‫وى َ * وَهُوَ ِبا َلفُ ِ‬ ‫ست َ َ‬ ‫مّرةٍ َفا ْ‬ ‫ذو ِ‬ ‫وى * ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ديد ُ ال ْ ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫حى‬ ‫ما أوْ َ‬ ‫حى إ َِلى ع َب ْد ِهِ َ‬ ‫ن أوْ أد َْنى * فَأوْ َ‬ ‫سي ْ ِ‬ ‫ب قَوْ َ‬ ‫ن َقا َ‬ ‫كا َ‬ ‫فَت َد َّلى * فَ َ‬
‫((]النجم‪ [10-4:‬فجبريل هو الموكل بالوحي‪ ،‬ولهذا أضاف الله‬
‫القرآن إلى الرسول من البشر محمد ‪ ،‬وأضافه إلى الرسول‬
‫من الملئكة وهو جبريل عليه السلم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ )) :‬فل‬
‫ه لَ َ‬ ‫ُ‬
‫ريم ٍ *‬ ‫ل كَ ِ‬ ‫سو ٍ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫قو ْ ُ‬ ‫ن * إ ِن ّ ُ‬ ‫صُرو َ‬ ‫ما ل ت ُب ْ ِ‬ ‫ن * وَ َ‬ ‫صُرو َ‬ ‫ما ت ُب ْ ِ‬ ‫م بِ َ‬ ‫س ُ‬ ‫أقْ ِ‬
‫ما‬ ‫ن قَِليَل ً َ‬ ‫كاه ِ ٍ‬ ‫ل َ‬ ‫قو ْ ِ‬ ‫ن * َول ب ِ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ما ت ُؤ ْ ِ‬ ‫عرٍ قَِليَل ً َ‬ ‫شا ِ‬ ‫ل َ‬ ‫قو ْ ِ‬ ‫ما هُوَ ب ِ َ‬ ‫وَ َ‬
‫ل ع َل َي َْنا ب َعْ َ‬
‫ض‬ ‫قو ّ َ‬ ‫ن * وَل َوْ ت َ َ‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫ن َر ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫زي ٌ‬ ‫ن * َتن ِ‬ ‫ت َذ َك ُّرو َ‬
‫ن((]الحاقة‪ [45-38:‬فالمراد بالرسول‬ ‫مي ِ‬ ‫ه ِبال ْي َ ِ‬ ‫من ْ ُ‬‫خذ َْنا ِ‬ ‫ل * َل َ َ‬ ‫الَقاِوي ِ‬
‫َ‬
‫في هذه اليات‪ :‬محمد ‪ ،‬وقال سبحانه في سورة التكوير‪:‬‬
‫ُ‬
‫س*‬ ‫سعَ َ‬ ‫ذا ع َ ْ‬ ‫ل إِ َ‬ ‫س * َوالل ّي ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫وارِ الك ُن ّ ِ‬ ‫ج َ‬ ‫س * ال ْ َ‬ ‫خن ّ ِ‬ ‫م ِبال ْ ُ‬ ‫س ُ‬ ‫)) َفل أقْ ِ‬
‫عن ْد َ ِذي‬ ‫ريم ٍ * ِذي قُوّةٍ ِ‬ ‫ل كَ ِ‬ ‫سو ٍ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫قو ْ ُ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫س * إ ِن ّ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ذا ت َن َ ّ‬ ‫ح إِ َ‬ ‫صب ْ ِ‬‫َوال ّ‬
‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ْ‬
‫ن ((]التكوير‪ [21-15:‬وهذا جبريل‬ ‫مي ٍ‬ ‫مأ ِ‬ ‫طاٍع ث َ ّ‬ ‫ن* ُ‬ ‫كي ٍ‬ ‫م ِ‬ ‫ش َ‬ ‫العَْر ِ‬
‫عليه السلم‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وهو كلم الله تعالى ل يساويه شيء من كلم‬
‫المخلوقين(‪.‬‬
‫هذا تأكيد لما سبق أنه كلم الله‪ ،‬ول يساويه شيء من كلم‬
‫س‬
‫لن ُ‬ ‫تا ِ‬ ‫معَ ِ‬ ‫جت َ َ‬‫نا ْ‬ ‫العالمين‪ ،‬ولهذا تحدى الله به الثقلين‪ )) :‬قُ ْ َ‬
‫ل لئ ِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫كا َ‬ ‫مث ْل ِهِ وَل َوْ َ‬ ‫ن بِ ِ‬ ‫ن ل ي َأُتو َ‬ ‫قْرآ ِ‬ ‫ذا ال ْ ُ‬ ‫ل هَ َ‬ ‫مث ْ ِ‬ ‫ن ي َأُتوا ب ِ ِ‬ ‫ن ع ََلى أ ْ‬ ‫ج ّ‬ ‫َوال ْ ِ‬
‫ض ظ َِهيًرا((]السراء‪.[88:‬‬ ‫م ل ِب َعْ ٍ‬ ‫ضهُ ْ‬ ‫ب َعْ ُ‬
‫وقوله‪) :‬ول نقول بخلقه‪ ،‬ول نخالف جماعة المسلمين(‪.‬‬
‫ول نقول بخلق القرآن كما قالت المعطلة المبتدعة كالجهمية‬
‫والمعتزلة ومن وافقهم؛ بل نقول‪ :‬إنه كلم الله حقيقة حروفه‬

‫‪131‬‬
‫ومعانيه‪ ،‬ليس كلم الله الحروف دون المعاني ول المعاني دون‬
‫الحروف‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ول نخالف جماعة المسلمين(‪.‬‬
‫جماعة المسلمين في الصدر الول‪ ،‬وإل فالمسلمون بعد‬
‫الصدر الول قد تفرقوا واضطربوا واختلفوا في القرآن‪ ،‬فنحن ل‬
‫نخالف جماعة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم‬
‫بإحسان‪.‬‬

‫]أهل السنة ل يكفرون بكل ذنب [‬


‫دا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله(‪.‬‬ ‫وقوله‪) :‬ول نكفر أح ً‬
‫عبارة المؤلف تقتضي أن أهل السنة ل يكفرون أحدا من‬
‫أهل القبلة بأي ذنب‪ ،‬والذنوب نوعان‪:‬‬
‫ذنوب من أنواع الردة؛ كالشرك وما في درجته‪ ،‬وهي أعظم‬
‫الذنوب‪ ،‬وذنوب دون الشرك ل توجب الردة‪ ،‬وإذا أخذت عبارة‬
‫المؤلف على إطلقها فظاهرها أن كل من كان مسلما فإنه ل‬
‫يكفر‪ ،‬بأي ذنب ارتكبه حتى ولو كان شركا‪ ،‬ول ريب أن الطحاوي‬
‫لم يقصد هذا‪ ،‬وإنما يقصد الذنوب التي دون الشرك‪.‬‬
‫ولهذا قال الشارح ابن أبي العز‪) :‬امتنع كثير من الئمة عن‬
‫دا بذنب؛ بل يقال‪ :‬ل نكفرهم بكل‬ ‫إطلق القول‪ :‬بأنا ل نكفر أح ً‬
‫ذنب( ]ص ‪ [433‬فهذه هي العبارة الدقيقة‪ ،‬وتكون من سلب‬
‫العموم‪ ،‬ل من عموم السلب؛ كعبارة الطحاوي ومضمون سلب‬
‫دا من أهل القبلة بكل ذنب‪ ،‬إنما نكفره‬ ‫العموم‪ :‬أنا ل نكفر أح ً‬
‫بالشرك وما في حكمه‪ ،‬ول نكفر أحدا من أهل القبلة بما دون‬
‫َ‬
‫ن‬
‫فُر أ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل ي َغْ ِ‬ ‫ذلك‪ ،‬والله تعالى قد جعل الذنوب قسمين‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫شاُء ((]النساء‪ [48:‬فنحن‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬
‫ك لِ َ‬‫ن ذ َل ِ َ‬
‫دو َ‬‫ما ُ‬
‫فُر َ‬
‫ك ب ِهِ وَي َغْ ِ‬‫شَر َ‬
‫يُ ْ‬
‫أهل السنة ل نكفر أحدا من أهل القبلة بشيء من الذنوب التي‬
‫دون الشرك‪ ،‬خلفا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب‪ ،‬وقد يعدون‬
‫ما ليس بذنب ذنبا فيكفرون به‪ ،‬والخوارج الذين ظهروا بهذه‬
‫البدعة في عهد علي ‪ ‬فقاتلهم‪ ،‬وقد أخبر الرسول ‪ ‬عنهم‬
‫وندب إلى قتالهم‪ ،‬وذكر الجر العظيم لمن قتلهم‪] ،‬صحيح‬
‫البخاري )‪ ،(6932-6930‬وصحيح مسلم )‪[(1066‬‬
‫ذا؛ الذنوب فيها مكفر وغير مكفر؛ فكل ما هو من أنواع‬ ‫إ ً‬
‫الردة فهو مكفر‪ ،‬كالشرك‪ ،‬والتكذيب بما جاء به الرسول ‪،‬‬
‫والستهزاء بالرسول ‪ ، ‬أو بالقرآن‪ ،‬وهناك ذنوب اختلف العلماء‬
‫في كفر فاعلها؛ كترك الصلة‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ما لم يستحله( أي‪ :‬ل نكفره بهذا الذنب إل أن يعتقد‬
‫حله‪ ،‬فإن اعتقد حله كفر؛ كجحد وجوب الصلة أو الحج أو صيام‬

‫‪132‬‬
‫رمضان‪ ،‬وجحد تحريم المحرمات المعلوم حكمها بالضرورة من‬
‫دين السلم؛ كتحريم الزنا‪ ،‬والخمر؛لنه يكون مكذبا للقرآن‬
‫والسنة المتواترة‪ ،‬وما أجمع عليه المسلمون‪ ،‬ومن اعتقد حل ما‬
‫حرمه الله مما تحريمه معلوم من دين السلم بالضرورة فهو‬
‫كافر حتى ولو لم يفعله؛ لنه ليس من شرط ثبوت الردة‬
‫بالستحلل فعل المكلف لما استحله من الحرام‪.‬‬

‫]تأثير الذنوب على اليمان[‬


‫وقوله‪) :‬ول نقول‪ :‬ل يضر مع اليمان ذنب لمن عمله(‪.‬‬
‫وأهل السنة ل يقولون‪) :‬ل يضر مع اليمان ذنب ( خلفا‬
‫للمرجئة‪ ،‬والطحاوي في هاتين الجملتين يقصد الرد على الخوارج‬
‫في الولى‪ ،‬و على المرجئة الغلة في الثانية‪ ،‬والمرجئة والخوارج‬
‫على طرفي نقيض‪ ،‬فالخوارج يكفرون بالذنوب‪ ،‬فعندهم فاعل‬
‫الكبيرة كافر مرتد خارج عن ملة السلم حلل الدم‬
‫والمال]مقالت السلميين ص ‪ ، 86‬والملل والنحل ‪،1/85‬‬
‫ومجموع الفتاوى ‪ ،[12/470‬أما عند المرجئة ما دام معه أصل‬
‫اليمان وهو التصديق أو معرفته للخالق فهو عندهم مؤمن كامل‬
‫اليمان‪ ،‬ل يضره ما يفعل من الذنوب‪] ،‬مجموع الفتاوى‬
‫‪ [12/470‬وبدعتهم هذه أقبح من بدعة الخوارج؛ لن الخوارج‬
‫يعظمون أمر الذنوب‪ ،‬ويبالغون في الحذر والتحذير منها‪ ،‬وقد‬
‫اختلف العلماء في تكفيرهم‪ ،‬فعن أحمد فيهم روايتان ]مجموع‬
‫الفتاوى ‪ ، [28/518‬ونقل شيخ السلم أن الصحابة أجمعوا على‬
‫ضّلل‪.‬‬ ‫عدم كفر الخوارج ]اليمان ‪ [7/217‬لكنهم مبتدعة ُ‬
‫أما بدعة المرجئة الغلة فهي أشنع من بدعة الخوارج؛ لن‬
‫مضمونها الجرأة على المحرمات وعدم المبالة بها‪ ،‬واقتراف‬
‫السيئات‪ ،‬وهذا فيه رد لنصوص الكتاب والسنة الدالة على تحريم‬
‫المحرمات‪ ،‬وترتب العقاب عليها؛ كالقتل‪ ،‬والتولي يوم الزحف‪،‬‬
‫جَزاؤ ُهُ‬ ‫مد َا ً فَ َ‬ ‫مت َعَ ّ‬ ‫من َا ً ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬‫ل ُ‬ ‫ن ي َقْت ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وأكل مال اليتيم‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫َ‬
‫ما((‬ ‫ظي ً‬ ‫ذاًبا ع َ ِ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫ه وَأع َد ّ ل َ ُ‬ ‫ه ع َل َي ْهِ وَل َعَن َ ُ‬‫ب الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫دا ِفيَها وَغ َ ِ‬ ‫خال ِ ً‬
‫م َ‬ ‫جهَن ّ ُ‬
‫َ‬
‫حّرفَا ً‬ ‫مئ ِذ ٍ د ُب َُره ُ إ ِّل ُ‬
‫مت َ َ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫ن ي ُوَل ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫]النساء‪ [93:‬وقال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫ن الل ّهِ ((]النفال‪،[16:‬‬ ‫م‬ ‫حي َّزا ً إ َِلى فِئ َةٍ فَ َ‬ ‫ل ِقتا َ‬
‫َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ض‬
‫قد ْ َباَء ب ِغَ َ‬ ‫مت َ َ‬‫ل أوْ ُ‬ ‫ِ َ ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬‫ما ي َأك ُُلو َ‬ ‫ما ً إ ِن ّ َ‬‫مى ظ ُل ْ َ‬ ‫ل ال ْي ََتا َ‬ ‫وا َ‬ ‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫ن ي َأك ُُلو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫وقال تعالى‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫سِعيَرا ً ((]النساء‪ [10:‬فكيف يقال‪ :‬ل‬ ‫ن َ‬ ‫صل َوْ َ‬‫سي َ ْ‬ ‫م َناَرا ً وَ َ‬ ‫طون ِهِ ْ‬ ‫ِفي ب ُ ُ‬
‫يضر مع اليمان ذنب؟!‬
‫وهذا مذهب جهم‪ ،‬وجهم إمام غلة المرجئة‪ ،‬أما مرجئة‬
‫الفقهاء فمذهبهم ليس كذلك إنما هم يخرجون العمال عن‬
‫مسمى اليمان‪ ،‬لكن يقولون بوجوب الواجبات وتحريم‬

‫‪133‬‬
‫المحرمات‪ ،‬وترتب العقاب على فعل المحرمات وترك الواجبات‪،‬‬
‫فالذنوب عندهم تضر مرتكبها‪ ،‬و يستحق العقاب الذي توعد الله‬
‫به في كتابه‪ ،‬أو أخبر به الرسول ‪.‬‬
‫فرون أهل الكبائر‪،‬‬‫وأهل السنة وسط في هذا المقام فل ُيك ّ‬
‫مُنوَنهم من العقاب‪ ،‬و يرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا‬ ‫ول ي ُؤ َ ِ‬
‫مؤمن بما معه من اليمان‪ ،‬فاسق بما ارتكب من الكبيرة‪ ،‬وما‬
‫ورد في النصوص من إطلق اسم الكفر على بعض العمال‪ ،‬أو‬
‫بعض العاملين مما هو دون الشرك‪ ،‬فهو محمول على الكفر‬
‫الصغر الذي يعبر عنه بكفر دون كفر‪ ،‬كقول النبي ‪) :‬سباب‬
‫المسلم فسوق وقتاله كفر ( ]رواه البخاري )‪ (48‬ومسلم )‪(64‬‬
‫من حديث ابن مسعود ‪ ،[‬وقوله ‪) :‬اثنتان في الناس هما بهم‬
‫كفر‪ :‬الطعن في النسب‪ ،‬والنياحة على الميت( ]رواه مسلم )‬
‫‪ (67‬من حديث أبي هريرة ‪[‬وما أشبه ذلك‪ ،‬وفي الخرة هو‬
‫تحت مشيئة الله‪ ،‬هذا حكمهم في الخرة‪ ،‬كما سيأتي تقرير حكم‬
‫أهل الكبائر في قول الطحاوي‪) :‬وأهل الكبائر من أمة محمد ‪‬‬
‫في النار ل يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن كانوا غير تائبين(‪.‬‬

‫]الرجاء للمحسنين‪ ،‬والخوف على المسيئين[‬


‫وقوله‪) :‬ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم‬
‫ويدخلهم الجنة برحمته‪ ،‬ول نأمن عليهم‪ ،‬ول نشهد لهم بالجنة‪،‬‬
‫ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم‪ ،‬ول نقنطهم(‪.‬‬
‫نرجو للمحسنين ـ ل أي أحد ـ أن يعفو الله عنهم‪ ،‬ويتجاوز‬
‫عن ذنوبهم؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات‪ ،‬وأن يدخلهم الجنة‬
‫برحمته سبحانه وتعالى‪ ،‬ول نأمن عليهم العقاب على ذنوبهم ؛‬
‫لن ذلك مردود إلى مشيئته سبحانه وتعالى؛ لن الله تعالى قال‪:‬‬
‫شاُء ((]النساء‪ [48:‬وهو سبحانه‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫ك لِ َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬
‫دو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫فُر َ‬ ‫)) وَي َغْ ِ‬
‫أعلم وأحكم؛ فيجعل فضله وعفوه وإحسانه ورحمته حسبما‬
‫تقتضيه حكمته البالغة‪ ،‬ويعاقب من يشاء‪ ،‬كما قال سبحانه‬
‫ن يَ َ‬
‫شاُء ((]النساء‪،[48:‬‬ ‫م ْ‬‫ك لِ َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬‫دو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫فُر َ‬ ‫وتعالى‪ )) :‬وَي َغْ ِ‬
‫شاُء ((]البقرة‪ [284:‬فالمر‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫شاُء وَي ُعَذ ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫)) فَي َغْ ِ‬
‫فُر ل ِ َ‬
‫مردود إلى مشيئة الله؛ لكن نعلم بدللة النصوص أن من‬
‫المذنبين من يعفو الله عنهم‪ ،‬ومنهم من يعاقبه ويدخله النار ثم‬
‫يخرجه منها‪ ،‬ول يصح أن نقول‪ :‬يجوز أن يتجاوز الله عن جميع‬
‫المذنبين فل يدخل أحد منهم النار؛ لن النصوص دلت على أن‬
‫من أهل الكبائر من يدخل النار ثم يخرج منها‪] .‬انظر ص في ذكر‬
‫الشفاعة وإخراج العصاة من النار[‬
‫وقوله‪) :‬ونرجو للمحسنين(‬

‫‪134‬‬
‫يريد أهل الحسان الذين حسن إسلمهم واستقاموا عليه‪،‬‬
‫فهؤلء أهل الحسان العظيم يرجى لهم من العفو والرحمة‬
‫والمغفرة ما ل يرجى لغيرهم؛ لن الحسنات يذهبن السيئات‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬ول نشهد لهم بالجنة( ل نشهد لحد من المحسنين‬


‫الصالحين بالجنة‪ ،‬فضل عمن دونهم‪ ،‬وهذه مسألة سيأتي النص‬
‫عليها في كلم الطحاوي]ص عند قوله‪ :‬ول ننزل أحدا منهم جنة‬
‫ول نارا[؛ لنه يكرر المعنى الواحد أحيانا في أكثر من موضع‪ ،‬فل‬
‫نشهد لهل القبلة بجنة ول نار‪.‬‬
‫والشهادة بالجنة ذكر فيها الشارح ابن أبي العز ثلثة مذاهب‬
‫]ص ‪ ،538‬وهو منقول من منهاج السنة ‪:[5/295‬‬
‫قيل‪ :‬ل يشهد إل للنبياء‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬يشهد بالجنة لكل من جاء فيه النص‪ ،‬وهو قول كثير‬
‫من العلماء وأهل الحديث‪.‬‬
‫وقيل‪ُ :‬يشهد بالجنة لهؤلء‪ ،‬ولمن شهد له المؤمنون‪.‬‬
‫والقول الثاني هو‪ :‬أصحها فمن شهد له الرسول ‪ ‬شهدنا له‬
‫بالجنة‪ ،‬كالعشرة المبشرين بالجنة ]رواه أبو داود )‪،(4649‬‬
‫والترمذي )‪ (3757‬ـ وقال ‪ :‬حسن صحيح ـ ‪ ،‬وابن ماجه )‪،(133‬‬
‫وصححه ابن حبان )‪ ،(6993‬والحاكم ‪ ،3/440‬والضياء في‬
‫المختارة ‪ 290-3/282‬من حديث سعيد بن زيد ‪ ، [‬وثابت بن‬
‫قيس بن شماس ]رواه البخاري )‪ (4846‬ومسلم )‪ (119‬عن‬
‫أنس ‪ ، [‬والحسن والحسين‪] ،‬رواه أحمد ‪ ، 3/3‬والترمذي )‬
‫‪ (3768‬وابن حبان )‪ (6959‬والحاكم ‪3/167‬ـ وصححوه ـ من‬
‫حديث أبي سعيد الخدري ‪[. ‬رضوان الله عليهم‪ ،‬ومن شهد له‬
‫الرسول ‪ ‬من الجماعات؛ كأهل بيعة الرضوان نشهد بأن‬
‫ن إ ِذ ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ي الل ّ ُ‬
‫ه عَ ِ‬ ‫ض َ‬ ‫جميعهم في الجنة‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬ل َ َ‬
‫قد ْ َر ِ‬
‫جَرةِ ((]الفتح‪ ،[18:‬وقال النبي ‪) ‬ل يدخ ُ‬
‫ل‬ ‫ش َ‬‫ت ال ّ‬
‫ح َ‬ ‫ي َُباي ُِعون َ َ‬
‫ك تَ ْ‬
‫الناَر أحد ٌ ممن بايع تحت الشجرة( ]رواه أحمد ‪ ،3/350‬وأبو داود‬
‫)‪ ،(4653‬والترمذي )‪ (3860‬من حديث جابر ‪ ،‬ونحوه عند‬
‫مسلم )‪ (2496‬من روايته عن أم مبشر رضي الله عنهما[‬
‫أما من شهد له المؤمنون‪ ،‬فيستدل له بحديث أنس ‪ ‬قال‪:‬‬
‫)مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا‪ ،‬فقال النبي ‪» :‬وجبت«‪ ،‬ثم‬
‫مروا بأخرى‪ ،‬فأثنوا عليها شرا‪ ،‬فقال‪» :‬وجبت«‪ ،‬فقال عمر بن‬
‫الخطاب ‪ :‬ما وجبت؟ قال‪» :‬هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له‬
‫الجنة‪ ،‬وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار‪ ،‬أنتم شهداء الله في‬
‫الرض«‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(1367‬ومسلم )‪[(949‬‬

‫‪135‬‬
‫لكن هذا خطاب لجماعة من خيار الصحابة رضي الله عنهم‪،‬‬
‫فل يتأتى اعتبار أي جماعة من الناس أن شهادتهم للشخص‬
‫توجب الشهادة له بالجنة‪ ،‬إذا شهدوا له بالخير والصلح؛ لكن‬
‫شهادة المسلمين والصالحين مما يستبشر به‪ ،‬ومما يبشر بالخير‬
‫ويبعث على الرجاء‪ ،‬أما أن يشهد له بالجنة بناء على هذا فل‪،‬‬
‫وهذا المثنى عليه خيرا لم يعلم أنه في الجنة إل بقول الرسول‬
‫‪ » :‬وجبت «‪ ،‬وهذا ل يتأتى لغيره من الناس‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ونستغفر لمسيئهم‪ ،‬ونخاف عليهم‪ ،‬ول نقنطهم(‪.‬‬
‫نرجو للمحسنين أن يعفو الله عنهم ويدخلهم الجنة‪ ،‬ول نأمن‬
‫عليهم ول نشهد لهم بالجنة‪ ،‬ونستغفر للمسيئين‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ت((]محمد‪ [19:‬فالله ندب‬ ‫مَنا ِ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫ن َوال ْ ُ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫ك وَل ِل ْ ُ‬ ‫فْر ل ِذ َن ْب ِ َ‬ ‫ست َغْ ِ‬‫)) َوا ْ‬
‫نبيه ‪ ‬أن يستغفر ربه لذنبه وللمؤمنين‪ ،‬وهذه سنة النبياء فقد‬
‫خ َ‬
‫ل‬ ‫ن دَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وال ِد َيّ وَل ِ َ‬ ‫فْر ِلي وَل ِ َ‬ ‫ب اغ ْ ِ‬ ‫ذكر الله عن نوح أنه قال‪َ )) :‬ر ّ‬
‫ن ((]نوح‪ [28:‬وعن إبراهيم أنه قال‪َ)) :‬رب َّنا‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫من َا ً وَل ِل ْ ُ‬‫مؤ ْ ِ‬ ‫ي ُ‬‫ب َي ْت ِ َ‬
‫ب(( ]إبراهيم‪[41:‬‬ ‫سا ُ‬ ‫ح َ‬‫م ال ْ ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫ن ي َوْ َ‬‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫وال ِد َيّ وَل ِل ْ ُ‬ ‫فْر ِلي وَل ِ َ‬ ‫اغ ْ ِ‬
‫وقد أثنى الله على الذين يستغفرون لخوانهم الذين سبقوهم‬
‫فْر ل ََنا‬ ‫ن َرب َّنا اغ ْ ِ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫ن ب َعْد ِه ِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫جاُءوا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫باليمان‪َ )) :‬وال ّ ِ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ل ِفي قُُلوب َِنا ِغّل ً ل ِل ّ ِ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫ن َول ت َ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫لي َ‬
‫قوَنا ِبا ِ‬ ‫سب َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وان َِنا ال ّ ِ‬‫خ َ‬‫وَِل ِ ْ‬
‫م ((]الحشر‪ ،[10:‬فينبغي أن يكون هذا‬ ‫حي ٌ‬ ‫ف َر ِ‬ ‫ك َرُءو ٌ‬ ‫مُنوا َرب َّنا إ ِن ّ َ‬ ‫آ َ‬
‫دأب المسلم فيستغفر ربه لنفسه ولخوانه المسلمين‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ونخاف عليهم( في المحسنين قال‪) :‬ول نأمن‬
‫عليهم( مع إحسانهم‪ ،‬وهنا قال‪) :‬ونستغفر لمسيئهم‪ ،‬ونخاف‬
‫عليهم‪ ،‬ول نقنطهم( فنخاف على المسيئين من عقاب الله‪ ،‬ول‬
‫نؤمنهم كحال المرجئة الذين يقولون‪) :‬ل يضر مع اليمان ذنب(‪،‬‬
‫ول نقنطهم كحال الخوارج الذين يقولون‪) :‬ل يرجى لهم مغفرة‬
‫ول رحمة ول يدخلون الجنة(‪ ،‬وهذا مسلك أهل السنة رضي الله‬
‫عنهم ورحمهم فهم وسط بين هذه الفرق‪ ،‬وسط في باب‬
‫السماء والصفات‪ ،‬وسط في أفعال العباد‪ ،‬وسط في أسماء‬
‫اليمان والدين‪ ،‬وسط في أهل الكبائر‪ ،‬وسط في الصحابة‪ ،‬فكل‬
‫هذه العبارات تتضمن تقرير التوسط في أمر أهل الذنوب‪ ،‬فل‬
‫نكفرهم‪ ،‬ول نقول‪ :‬ل يضر مع اليمان ذنب لمن عمله‪.‬‬

‫]مذهب أهل السنة وسط بين الوعيدية والمرجئة[‬


‫وقـوله‪) :‬والمـن واليـاس ينقلن عـن ملـة السـلم‪ ،‬وسـبيل‬
‫الحق بينهما لهل القبلة(‪.‬‬
‫المن ضد الخوف‪ ،‬والمراد المن من عذاب الله ومكره‪ ،‬كما‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن أ َهْ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ن‬
‫مو َ‬ ‫سَنا ب ََيات َا ً وَهُ ْ‬
‫م َنائ ِ ُ‬ ‫م ب َأ ُ‬
‫ن ي َأت ِي َهُ ْ‬ ‫ل ال ْ ُ‬
‫قَرى أ ْ‬ ‫قال تعالى‪ )) :‬أفَأ ِ‬
‫م َ‬

‫‪136‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن أ َهْ ـ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ن*‬ ‫م ي َل ْعَب ُــو َ‬‫حى وَهُ ـ ْ‬ ‫ضـ ً‬ ‫س ـَنا ُ‬ ‫م ب َأ ُ‬‫ن ي َـأت ِي َهُ ْ‬‫ق ـَرى أ ْ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫مـ‬
‫* أوَ أ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫ن ((‬ ‫س ـُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬‫ق ـو ْ ُ‬ ‫مك ْـَر الل ّـهِ إ ِّل ال ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ُ‬ ‫مك ْـَر الل ّـهِ َفل ي َـأ َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫أفَ ـأ ِ‬
‫]العراف‪ [99-97 :‬والمن من عذاب الله يتضمن التكذيب بوعيد‬
‫الله‪ ،‬وهو مقتضى قول غلة المرجئة‪) :‬ل يضر مع اليمــان ذنــب(‪،‬‬
‫وهذا إذا كان عن اعتقاد أنه في مأمن من عذاب اللــه‪ ،‬ل إن كــان‬
‫ناتجا عن غفلة‪ ،‬كحــال كــثير مــن النــاس‪ ،‬إذ لــو كــان يخــاف مــن‬
‫العذاب ويستحضره لوجب ذلــك خــوفه مــن اللــه‪ ،‬وإقبــاله عليــه‪،‬‬
‫وقيامه بالواجبات‪ ،‬واجتنابه للمحرمات‪ ،‬فهذا ليس من المن الذي‬
‫جاء في شأنه الوعيد‪.‬‬
‫وضد المن من عذاب الله وبأسه ومكره‪ ،‬اليــأس مـن رحمـة‬
‫الله‪ ،‬والياس‪ :‬هــو اليــأس‪ ،‬وهــو ضــد الرجــاء‪ ،‬وقــد قــال ســبحانه‬
‫ن ((‬ ‫كــافُِرو َ‬ ‫م ال َ‬ ‫قــوْ ُ‬ ‫ح الّلــهِ إ ِّل ال ْ َ‬ ‫ن َروْ ِ‬ ‫مــ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ه ل ي َي ْئ َ ُ‬ ‫وتعــالى‪ )) :‬إ ِّنــ ُ‬
‫]يوسف‪ [87:‬وقريب من معنى اليأس القنوط‪ ،‬وهو أشــد اليــأس‪،‬‬
‫مــةِ َرّبــهِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫م ْ‬‫ط ِ‬ ‫قن َ ُ‬ ‫ن يَ ْ‬‫م ْ‬‫كما قال تعالى عن إبراهيم أنه قال‪)) :‬وَ َ‬
‫ن ((]الحجر‪.[56:‬‬ ‫ضاّلو َ‬ ‫إ ِّل ال ّ‬
‫والقنوط واليأس يتضمن إنكار التوبة‪ ،‬وأن الله ل يتوب علــى‬
‫من تاب‪ ،‬وفي هذا تكذيب لخبر الله أنه يتوب على التــائبين‪ ،‬قــال‬
‫حا ً ((]الفرقــان‪،[70:‬‬ ‫صــال ِ َ‬‫مَل ً َ‬ ‫ل عَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن وَع َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ب َوآ َ‬ ‫ن َتا َ‬ ‫م ْ‬ ‫تعالى‪ )) :‬إ ِّل َ‬
‫جَهال َـةٍ ((]النســاء‪:‬‬ ‫ســوَء ب ِ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مل ُــو َ‬‫ن ي َعْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ة ع ََلى الل ّهِ ل ِل ّ ِ‬ ‫ما الت ّوْب َ ُ‬‫)) إ ِن ّ َ‬
‫‪ ،[17‬وهذا هو مقتضى مذهب الخوارج‪ ،‬فإن مــذهبهم يتضــمن أن‬
‫مرتكب الكبيرة يخرج عن السلم‪ ،‬وأن مات على ذلــك مــن غيــر‬
‫توبة؛ فهو مخلد في النار كسائر الكفار‪ ،‬وهذا تقنيط للعصــاة مــن‬
‫رحمة الله‪ ،‬ولهذا قال الطحاوي‪) :‬والمن والياس ينقلن عن ملة‬
‫السلم( ومقتضى هذا أنهما ردة عن السلم‪ ،‬ول شــك فــي كفــر‬
‫من قال‪ :‬إن الله ل يتوب على مــن تــاب‪ ،‬لمخالفــة وتكــذيب خــبر‬
‫الله سبحانه وتعالى في كتابه‪ ،‬وخبر رسوله ‪.r‬‬
‫ويلحظ أن المن غلو في الرجاء‪ ،‬والياس غلو فــي الخــوف‪،‬‬
‫فالغلو في الخوف ينتهي إلى اليأس والتيئيس والتقنيط من رحمة‬
‫الله‪ ،‬والغلو في الرجاء يفضي إلى المن مــن عــذاب اللــه؛ ولكــن‬
‫إذا كان هذا اليأس عارضا للنسان ليس عن اعتقاد؛ بل اســتعظم‬
‫ذنبه‪ ،‬وخاف منه‪ ،‬وبلغ به المر أنه ظن بجهله أنه ل يغفر له؛ فهذا‬
‫قد يعذر بــأنه يســيء الظــن بنفســه‪ ،‬وأن اللــه ل يغفــر لــه لســوء‬
‫عمله؛ مثل الذي أمر أولده أن يحرقوه إذا مات لشدة خوفه مــن‬
‫عذاب الله ]رواه البخاري )‪ ،(3481‬ومسلم )‪ (2756‬مــن حــديث‬
‫أبي هريرة ‪.[‬‬

‫‪137‬‬
‫)وسبيل الحق بينهما ( الصراط المستقيم بين المن واليأس‪،‬‬
‫فالواجب على العبد أن يكون خائفا راجيا‪ ،‬فالرجــاء مــن مقامــات‬
‫من ُــوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّـ ِ‬ ‫الــدين‪ ،‬وممــا أثنــى اللــه بــه علــى المــؤمنين‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫ة‬ ‫مـ َ‬‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫جــو َ‬ ‫ك ي َْر ُ‬ ‫ل الل ّـهِ أ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫س ـِبي ِ‬
‫دوا فِــي َ‬ ‫جاهَ ـ ُ‬‫جُروا وَ َ‬ ‫ن هَــا َ‬ ‫َوال ّـ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ه‬‫مت َـ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫جــو َ‬ ‫الل ّهِ ((]البقرة‪ ،[218:‬وقال ســبحانه وتعــالى‪ )) :‬وَي َْر ُ‬
‫ه ((]السراء‪.[57:‬‬ ‫ذاب َ ُ‬‫ن عَ َ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫وَي َ َ‬
‫والخوف من مقامات الدين‪ ،‬واللــه أثنــى علــى أوليــائه بــأنهم‬
‫معَا ً ((]الســجدة‪،[16:‬‬ ‫خوْفَا ً وَط َ َ‬
‫م َ‬ ‫ن َرب ّهُ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫يخافونه ويرجونه‪ )) :‬ي َد ْ ُ‬
‫عون ََنا َرغ َب َـا ً‬ ‫ت وَي َـد ْ ُ‬ ‫خي ْـَرا ِ‬ ‫ن فِــي ال ْ َ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫وقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬ي ُ َ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وََرهََبــا ً ((]النبيــاء‪ ،[90:‬وقــال ســبحانه وتعــالى‪ )) :‬أوْلئ ِ َ‬
‫َ‬
‫ذي َ‬‫ك الــ ِ‬
‫ة أ َيهـ َ‬
‫ه‬‫مت َـ ُ‬‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫جــو َ‬ ‫ب وَي َْر ُ‬ ‫م أقْـَر ُ‬ ‫ســيل َ َ ّ ُ ْ‬ ‫م ال ْوَ ِ‬ ‫ن إ ِل َــى َرب ّهِـ ُ‬ ‫ن ي َب ْت َُغو َ‬‫عو َ‬‫ي َد ْ ُ‬
‫ه ((]السراء‪ [57:‬فهذا هو الصراط المســتقيم فــي‬ ‫ذاب َ ُ‬‫ن عَ َ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫وَي َ َ‬
‫هذا المقام فل أمن ول يأس‪.‬‬
‫والمــور المقتضــية للعمــل ثلثــة أمــور‪ :‬المحبــة‪ ،‬والرجــاء‪،‬‬
‫والخوف‪ ،‬فالرسل وأتباعهم يعبدون ربهــم حبــا لــه تعــالى‪ ،‬ورجــاء‬
‫لرحمته وفضله وثوابه‪ ،‬وخوفا من سخطه وعقابه‪ ،‬فيعبــدونه بكــل‬
‫هذه الحوال والمقامات‪.‬‬
‫أمــا أهــل الضــلل فمنهــم مــن يعبــده بــالحب فقــط؛ كجهلــة‬
‫الصوفية وغلِتهم‪ ،‬ويستخفون بمقام الرجاء والخوف‪.‬‬
‫ومنهــم مــن يعبــده بالرجــاء كــالمرجئة‪ ،‬ومنهــم مــن يعبــده‬
‫بالمبالغة في الخوف كالخوراج‪ ،‬ولهذا قال بعض أهل العلم‪) :‬مــن‬
‫عبد الله بالحب وحده فهو زنديق‪ ،‬ومن عبده بالرجـاء وحــده فهــو‬
‫مرجئ‪ ،‬ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري‪ ،‬ومن عبده بــالحب‬
‫والخوف والرجــاء فهــو مــؤمن موحــد( ]التحفــة العراقيــة ‪10/81‬‬
‫والعبودية ‪ [10/207‬من كانت عبادته لربه فقط بــالحب ل يخــاف‬
‫ول يرجو‪ ،‬فهذا ضد طريق الرســل‪ ،‬فــالله ذكــر أســماَءه وصــفاِته‬
‫المقتضية للرجاء والخوف‪ ،‬وأثنى على رسله بالرجاء والخوف‪.‬‬
‫و)حروري( أي‪ :‬من الخوارج‪) ،‬ومــن عبــده بــالحب والخــوف‬
‫والرجاء فهو مؤمن موحد( لن هذا هو الصراط المستقيم في هذا‬
‫دل الرجاء‪،‬‬ ‫المقام‪ ،‬ل أمن ول إياس‪ ،‬بل خوف ورجاء‪ ،‬فالخوف ي ُعَ ّ‬
‫دل الخوف‪.‬‬ ‫والرجاء ي ُعَ ّ‬
‫فالواجب على النسان أن يسير إلى الله في هذه الحياة بين‬
‫الخوف والرجاء‪ ،‬فيرجو ويخاف‪ ،‬وفي الثر‪ ) :‬ل يرجو عبد إل ربه‪،‬‬
‫ول يخاف إل ذنبه ( ]قاله علي ‪ .‬رواه العدني في اليمان رقم )‬
‫‪ ،(19‬وأبو نعيم في الحلية ‪ ،1/76‬وابن عبد البر في جامع العلــوم‬
‫والحكــم ‪ ،1/90‬وانظــر شــرح هــذا الثــر فــي مجمــوع الفتــاوى‬
‫‪.[8/161‬‬

‫‪138‬‬
‫]ما يخرج به المسلم من اليمان[‬
‫وقوله‪) :‬ول َيخرج العبد ُ من اليمان إل بجحود ما أدخله فيه(‪.‬‬
‫أي‪ :‬ل يصير كافرا مرتدا بعد أن صار مسلما مؤمنا إل بجحــود‬
‫ما أدخلــه فيــه‪ ،‬وهــذه الجملــة خطيــرة جــدا؛ لن النســان يــدخل‬
‫السلم بالشهادتين‪ :‬شهادة أن ل إله إل اللــه وأن محمــدا رســول‬
‫الله‪ ،‬فالكافر إذا شهد أن ل إله إل الله‪ ،‬وأن محمدا رســول اللــه‪،‬‬
‫ظاهرا وباطنــا‪ ،‬صــار مســلما؛ فــإن شــهد بهــا بلســانه فقــط فهــو‬
‫منافق‪ ،‬وإن شــهد بهـا فـي بـاطنه دون ظـاهره فهـو جاحـد‪ ،‬قـال‬
‫ن ((‬ ‫دو َ‬
‫ح ُ‬ ‫ج َ‬‫ت الل ّهِ ي َ ْ‬ ‫ن ِبآَيا ِ‬
‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ك وَل َك ِ ّ‬
‫م ل ي ُك َذ ُّبون َ َ‬
‫تعالى‪ )) :‬فَإ ِن ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫س ـه ُ ْ‬
‫ف ُ‬‫قن َت َْها أن ْ ُ‬
‫س ـت َي ْ َ‬
‫دوا ب ِهَــا َوا ْ‬ ‫حـ ُ‬
‫ج َ‬
‫]النعام‪ ،[33:‬وقــال تعــالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫م ـا ً وَع ُل ُـوّا ً ((]النمــل‪ [14:‬فل بــد أن يشــهد الشــهادتين ظــاهرا‬ ‫ظ ُل ْ َ‬
‫وباطنا‪ ،‬عن علم وانقياد وإقرار‪ ،‬بذلك يدخل في السلم حقيقة‪.‬‬
‫فقوله‪) :‬إل بجحود ما أدخله فيــه( معنــى ذلــك أن ينكــر تفــرد‬
‫الله باللهية‪ ،‬فيصير بها مشركا‪ ،‬أو ينكر رســالة الرســول ‪ ‬إلــى‬
‫مكذبا للرسول ‪ ،‬هذا معنى هذه الجملة‪.‬‬ ‫جميع الناس‪ ،‬فيصير ُ‬
‫فإذا كان يخرج عن السلم بجحود التوحيد أو جحود الرسالة‪،‬‬
‫فلن يخرج عن السلم بالتكذيب أو الشك أولــى‪ ،‬وعلــى هــذا فل‬
‫يخرج عن السلم إل بالتكذيب‪ ،‬أو الشك في الباطن‪ ،‬أو بــالجحود‬
‫سواًء مع تكذيب وشك أو مع تصديق‪.‬‬
‫ويمكن أن يقال‪ :‬إن هذه العبارة تقتضي أنه ل يكفر بأي فعل‬
‫بعد ذلك إذا لم يجحد‪ ،‬وهذا ل يستقيم؛ بل من تكلم بما هــو كفــر؛‬
‫فإنه يكفر ولو لم يجحد؛ كمن يســتهزئ بالرســول ‪ ‬مــع إقــراره‬
‫برسالته؛ فهل يقال‪ :‬إنه جحد الرسالة؟ ل ‪ ،‬ومــن ذبــح لغيــر اللــه؛‬
‫فإنه يكفر‪ ،‬ولو قال‪ :‬ل إله إل الله وأن الله هو الله الحق الــذي ل‬
‫يستحق العبادة سواه‪ ،‬فهذا غير جاحد‪ ،‬فكفره بالفعل‪ ،‬وقد ســبق‬
‫]ص[ أن الكفر يكون قول وفعل واعتقــادا‪ ،‬فهــذه العبــارة ل تصــح‬
‫على هذا الطلق؛ فإنه حصر الحكم بالكفر بالجحود‪ ،‬وهي تساوي‬
‫قولك‪ :‬ل يكفر المسلم إل بالجحود‪ .‬والله أعلم‪.‬‬

‫ق في مسمى اليمان[‬ ‫فَر ِ‬‫]مذاهب ال ِ‬


‫وقوله‪) :‬واليمان هو القرار باللسان والتصديق بالجنان(‪.‬‬
‫هذا هو تعريف اليمان عند مرجئة الفقهــاء‪ ،‬وهــو يقتضــي أن‬
‫أعمال الجوارح كلها ليست من اليمان؛ بل وأعمال القلوب‪.‬‬
‫وهو خلف ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة‪ ،‬وأجمع عليه‬
‫سلف المة‪ :‬أن اليمان اعتقاد وقول وعمل‪ ،‬أو هو‪ :‬قـول وعمـل‪،‬‬
‫قول القلب وهو‪ :‬اعتقاده‪ ،‬وقــول اللســان‪ :‬وهــو إقــراره‪ ،‬وعمــل‪:‬‬

‫‪139‬‬
‫وهــو عمــل القلــب‪ ،‬وعمــل الجــوارح‪ ،‬فاليمــان يشــمل كــل هــذه‬
‫الجوانب‪ ،‬وهذا هو الذي دلــت عليــه النصــوص‪ ،‬قــال اللــه تعــالى‪:‬‬
‫ت‬ ‫ذا ت ُل ِي َـ ْ‬‫م وَإ ِ َ‬‫ت قُل ُــوب ُهُ ْ‬ ‫جل َـ ْ‬ ‫ه وَ ِ‬ ‫ذا ذ ُك ِـَر الل ّـ ُ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّـ ِ‬ ‫من ُــو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫ما ال ْ ُ‬ ‫)) إ ِن ّ َ‬
‫ن ((]النفــال‪،[2:‬‬ ‫ُ‬
‫م ي َت َوَك ّلــو َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫مان َـا وَع َلــى َرب ّهِـ ْ‬ ‫م ِإي َ‬ ‫ه َزاد َت ْهُـ ْ‬‫م آيــات ُ ُ‬ ‫ع َل َي ْهِ ْ‬
‫وقال الله في الصلة التي صلها المسـلمون إلـى بيـت المقـدس‬
‫ع‬
‫ضــي َ‬ ‫ه ل ِي ُ ِ‬ ‫ن الّلــ ُ‬ ‫كــا َ‬ ‫مــا َ‬ ‫ومــات مــن مــات قبــل نســخ القبلــة‪ )) :‬وَ َ‬
‫م ((]البقرة‪ [143:‬إي‪ :‬صلتكم إلــى بيــت المقــدس‪ ،‬وعقــد‬ ‫مان َك ُ ْ‬ ‫ِإي َ‬
‫البخاري ـ رحمه الله ـ أبوابا عديدة فــي كتــاب اليمــان ت َْرجــم بهـا‬
‫لمختلف العمال‪ :‬باب‪ :‬الجهاد مــن اليمــان‪ [1/16] ،‬بــاب‪ :‬صــوم‬
‫رمضان احتســابا مــن اليمــان‪ [1/16] ،‬بــاب‪ :‬اتبــاع الجنــائز مــن‬
‫اليمــان‪[1/18]،‬بــاب‪ :‬أداء الخمــس مــن اليمــان ]‪ ،[1/20‬ومــن‬
‫الحاديث الجامعة قول النبي ‪) :‬اليمان بضع وســبعون أو بضــع‬
‫وستون شعبة(‪].‬رواه البخاري )‪ ،(9‬ومسلم )‪ (35‬ـ واللفــظ لــه ـ ـ‬
‫من حديث أبي هريرة ‪.[‬فالصلة والصــيام والحــج والجهــاد وبــر‬
‫الوالدين والمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اليمــان‪ ،‬وقــال‬
‫النبي ‪ ) :‬من رأى منكم منكرا فليغيــره بيــده فــإن لــم يســتطع‬
‫فبلسانه‪ ،‬فــإن لــم يســتطع فبقلبــه وذلــك أضــعف اليمــان(‪].‬رواه‬
‫مسلم )‪ (49‬من حديث أبي سعيد الخدري ‪[‬‬
‫ومسألة مسمى اليمان مسالة كبيرة‪ ،‬وقد خالف أهل الســنة‬
‫والجماعة طوائف المرجئة‪ ،‬فمنهم مرجئة الفقهاء وهم الذين ذكر‬
‫الطحــاوي مــذهبهم‪ :‬أن اليمــان هــو‪» :‬تصــديق القلــب وإقــرار‬
‫اللسان«‪ ،‬وبعضهم يجعل اليمان هو‪» :‬تصديق القلب«‪ ،‬والقــرار‬
‫شرط فيه‪ ،‬وليس من مسماه‪ ،‬فل يصــح إيمــان القلــب إل بــإقرار‬
‫اللسان‪.‬‬
‫والقول الخر قول الجهمية ومن تبعهم‪» :‬اليمــان هــو مجــرد ُ‬
‫ة والتصــديقُ فــي نظــري‬ ‫ة«‪ ،‬والمعرف ـ ُ‬ ‫ق أو مجــرد المعرف ـ ِ‬ ‫التصدي ِ‬
‫محصلهما متقارب‪ ،‬فعلى تقريرهم‪ :‬إذا كــان المكلــف يعــرف ربــه‬
‫فهو مــؤمن‪ ،‬والكفــر هــو جحــود الخــالق‪ ،‬فأمـا القــرار بالنســان‪،‬‬
‫وعمل الجوارح‪ ،‬وعمل القلب؛ فالكل ليس مــن مســمى اليمــان‪،‬‬
‫وهذا يقتضي أن كل طوائف الكفر مؤمنون؛ لنهــم يعرفــون اللــه‪،‬‬
‫َ‬
‫خَلــ َ‬
‫ق‬ ‫ن َ‬ ‫مــ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ســأل ْت َهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫حــتى كفــار قريــش‪ ،‬قــال تعــالى‪ )) :‬وَل َئ ِ ْ‬
‫َ‬
‫ه ((]لقمان‪ ،[25:‬وأخبر الله عن عادٍ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫قول ُ ّ‬‫ض ل َي َ ُ‬
‫ت َوالْر َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ة ((]فصــلت‪،[14:‬‬ ‫ملئ ِك َـ ً‬ ‫َ‬
‫شــاَء َرب ّن َــا َلنـَز َ‬ ‫وثمود َ أنهم قالوا‪ )) :‬ل َوْ َ‬
‫ل َ‬
‫ة ((]المؤمنــون‪،[24:‬‬ ‫ملئ ِك َ ً‬ ‫لنَز َ‬ ‫شاَء الل ّه َ َ‬ ‫وقوم نوح قالوا‪ )) :‬ول َوْ َ‬
‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫إلى غير ذلك‪ ،‬فهذا أفسد أقوال الناس في مسمى اليمان‪.‬‬
‫ومن القوال الباطلة قول الكرامية‪ :‬أن اليمان هو‪» :‬القــرار‬
‫باللسان«‪ ،‬فالمنافق عندهم مؤمن‪ ،‬لكنه إذا مات فهو مخلــد فــي‬

‫‪140‬‬
‫النار‪ ،‬يقول شيخ السلم ـ رحمه الله ـ تعليقا على هذا‪» :‬فخالفوا‬
‫الجماعة في السم دون الحكم« ]التدمريــة ص ‪ ،[462‬فالمنــافق‬
‫عند المسلمين ليس بمؤمن؛ لنه يبطن التكذيب والشــك والبــاء‪،‬‬
‫مــا‬
‫خ ـرِ وَ َ‬‫مّنا ِبالل ّهِ وَِبال ْي َوْم ِ ال ِ‬‫لآ َ‬ ‫قو ُ‬‫ن يَ ُ‬‫م ْ‬‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬
‫م َ‬‫قال تعالى‪ )) :‬وَ ِ‬
‫ن ((]البقرة‪ [8:‬ويقول شيخ السلم عن قولهم ‪) :‬قول‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫م بِ ُ‬
‫هُ ْ‬
‫منكر لم يسبقهم إليه أحد( ]الموضع السابق[‬
‫ل‬‫م هــذه القــوا ِ‬ ‫فهذه أربعة مذاهب في مسمى اليمان‪ ،‬وأه ـ ُ‬
‫ل مــرجئة الفقهــاء‪ :‬اليمــان هــو‪ »:‬التصــديق‪ ،‬وإقــرار‬ ‫المخالفةِ قو ُ‬
‫اللســان«‪ ،‬وأن العمــال ليســت مــن اليمــان‪ ،‬ولهــم علــى ذلــك‬
‫شــبهات كــثيرة‪ ،‬وقــد أجــاب عنهــا شــيخ الســلم ابــن تيميــة فــي‬
‫»اليمان الكبير« و»اليمان الوسط« وغيرهما‪.‬‬
‫والمقصود‪ :‬أنه قـول مخـالف لمـا دل عليــه القــرآن‪ ،‬والســنة‬
‫الصحيحة أن اليمان اسم لكل أمــور الــدين‪ :‬العتقاديــة والعمليــة‬
‫والقولية‪ ،‬كما في الحديث‪) :‬اليمان بضــع وســتون شــعبة( ]تقــدم‬
‫ص[‪ ،‬وإن كــان مــا فــي القلــب أصــل لعمــال الجــوارح كمــا فــي‬
‫الحديث الصحيح عــن النــبي ‪) :‬أل وإن فــي الجســد مضــغة‪ :‬إذا‬
‫صَلحت صَلح الجسد كُله وإذا فسدت فســد الجســد كل ُــه أل وهــي‬
‫القلــب( (‪].‬رواه البخــاري )‪ ،(52‬ومســلم )‪ (1599‬مــن حــديث‬
‫النعمان بن بشير رضي الله عنهما[‪ .‬فالجوارح تابعة للقلب صلحا‬
‫وفسادا‪ ،‬وهو بالنسبة لها بمثابة الملك مع جنوه‪.‬‬
‫ومن شبهات المــرجئة قــولهم‪ :‬إن اليمــان معنــاه فــي اللغــة‬
‫العربية‪ :‬التصديق‪.‬‬
‫وقد رد ذلك ابن تيمية ]اليمان الكبير ‪ [7/289‬بوجوه كثيرة‪،‬‬
‫منها‪:‬‬
‫أنه ليــس كــذلك فــي اللغــة العربيــة؛ بــل اليمــان أخــص مــن‬
‫مطلق التصديق‪ ،‬وهو اليمــان بــالمر الغــائب الــذي يــؤتمن عليــه‬
‫ت لـك‪ ،‬بـل‬ ‫المخِبر‪ ،‬فل تقول لمن قال لك‪ :‬طلعت الشــمس‪ :‬آمنـ ُ‬
‫صدقُتك‪ ،‬لكن من أخبرك بــأمر ل تــدركه ول تعرفــه بحســك نعــم‪،‬‬
‫َ‬
‫ن ((‬ ‫ن ل ََنا وَل َوْ ك ُّنــا َ‬
‫صــاد ِِقي َ‬ ‫م ٍ‬‫مؤ ْ ِ‬
‫ت بِ ُ‬
‫ما أن ْ َ‬‫كما قال إخوة يوسف‪ )) :‬وَ َ‬
‫ق‪ ،‬لكــن ليــس ك ـ ُ‬
‫ل‬ ‫ن في اللغة العربية تصــدي ٌ‬ ‫]يوسف‪ [17:‬فاليما ُ‬
‫ق يكون إيمانا‪.‬‬ ‫تصدي ٍ‬
‫وهكــذا بالنســبة للســتعمال‪ ،‬فـــ)آمــن( يتعــدى بــاللم وبالبــاء‬
‫من بــه‪ ،‬وآمنــت لــه‬ ‫تقول‪ :‬آمنت بــه‪ ،‬هــذا بالنســبة للخــبر أو المــؤ َ‬
‫دقه‪،‬‬ ‫صــ ّ‬
‫دق( فإنه يتعدى بنفسه‪ ،‬فتقول‪َ :‬‬ ‫ص ّ‬
‫بالنسبة للمخِبر‪ ,‬وأما ) َ‬
‫فهو يختلف عن اليمان من جهة اللفــظ والســتعمال‪ ،‬ومــن جهــة‬
‫المعنى والمضمون‪ ،‬وسيأتي لهذا مزيد بحث عنــد قــول المؤلــف‪:‬‬
‫)واليمان واحد وأهله في أصله سواء(‪].‬ص[‬

‫‪141‬‬
‫]وجوب اليمان والعمل بكل ما صح عن النبي ‪[‬‬
‫وقوله‪) :‬وجميع ما صح عن رسول الله ‪ ‬من الشرع والبيان‬
‫كله حق(‪.‬‬
‫أي‪ :‬مــا رواه الثقــات العــدول حســب قواعــد أهــل الحــديث؛‬
‫فالروايــات عــن الرســول ‪ ‬مرويــة بالســانيد‪ ،‬وهــي قســمان‪:‬‬
‫متواتر‪ ،‬وآحاد‪] .‬روضة الناظر ‪ ،1/347‬ونزهة النظر ص ‪[37‬‬
‫فالمتواتر‪ :‬هو الذي يرويه عــدد كــثير تحيــل العــادة تواطــؤهم‬
‫على الكذب‪ ،‬عن مثلهم إلى أن يبلغ النبي ‪.‬‬
‫والحاد هو‪ :‬ما يروى بأسانيد معــدودة‪ ،‬وقســمه العلمــاء إلــى‬
‫مشهور وعزيز وغريب‪.‬‬
‫لكن القسمة العامة‪ :‬متواتر وآحاد‪.‬‬
‫أما المتواتر فكل الطوائف متفقة على ثبوته‪.‬‬
‫والحاد تنقسم إلى‪:‬صحيح‪ ،‬وحسن‪ ،‬وضعيف‪.‬‬
‫أمــا الضــعيف فهــو مــردود ل يعتمــد عليــه‪ ،‬لكــن الشــأن فــي‬
‫المقبول الذي يشمل الصحيح والحســن‪ ،‬فأهــل الســنة والجماعــة‬
‫يقبلون ما توافرت فيه شروط القبول‪ ،‬ولو كان واحدًا‪ ،‬في جميــع‬
‫أمور الدين‪ ،‬في المور العتقادية؛ كصفات الرب سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫وأفعاله‪ ،‬أو ما يتعلق باليوم الخر‪ ،‬وفــي المــور العمليــة؛ كأحكــام‬
‫الطهارة والصلة والزكاة والمعاملت‪.‬‬
‫وهــذه قضــية أصــولية عقديــة‪ ،‬وهــي‪ :‬حجيــة خــبر الواحــد‪،‬‬
‫والصــواب‪ :‬أن خــبر الواحــد حجــة فــي مســائل الــدين العتقاديــة‬
‫والعملية‪ ،‬والدلة على قبول خبر الحاد كثيرة في السنة‪ ،‬منها‪ :‬أن‬
‫دا‪].‬انظر‪ :‬الرســالة ص ‪، 401‬‬ ‫الرسول ‪ ‬كان يرسل الرسل آحا ً‬
‫وصحيح البخاري ‪ ،9/86‬ومختصر الصواعق ‪[4/1465‬‬
‫وعند أهل البدع من المتكلمين‪ :‬أن خبر الواحد ل يحتج به في‬
‫العقائد‪ ،‬فيردون كثيرا من النصوص الواردة في صفات الله تعالى‬
‫بحجة أنها خبر آحاد‪.‬‬
‫والتفريــق بيــن مســائل العتقــاد ومســائل العمــل مــن حيــث‬
‫الثبات بدعة‪ ،‬فكل مسائل الدين ما ثبت به هذا ثبت به ذاك‪ ،‬فمــا‬
‫تثبــت بــه الحكــام الشــرعية الحلل والحــرام تثبــت بــه مســائل‬
‫العتقاد‪ ،‬ثم إن أهل البدع ليــس مقصــودهم فقــط الحتيــاط فــي‬
‫الثبــوت‪ ،‬إنمــا مقصــودهم رد النصــوص المخالفــة لصــولهم‪ ،‬فمــا‬
‫استطاعوا رده ردوه بقــولهم‪ :‬إن هــذه آحــاد ل تثبــت بهــا مســائل‬
‫العتقاد؛ لكن إذا جاء متواتًرا فماذا يصنعون؟‬
‫يقولون‪ :‬نعم‪ .‬هذا قطعي الثبوت؛ لكن نفس النصــوص ظنيــة‬
‫الدللة‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن مسائل العتقاد ل تثبت بالدلة اللفظية!‬

‫‪142‬‬
‫والدلة السمعية‪ :‬اليات والحاديث كلها أدلة لفظية في مقابل‬
‫الدلة العقلية‪ ،‬وعندهم‪ :‬إن العقائد ل تثبت إل بالدلئل العقلية‪،‬‬
‫هذا هو الصل الفاسد والطاغوت الكبر الذي أفضى بهم إلى‬
‫التلعب بكلم الله تعالى‪ ،‬وكلم رسوله ‪ ،‬وإلى رد كثير من‬
‫كلم الرسول ‪ ‬وأخباره‪ ،‬فردوا نصوص الصفات‪ ،‬ونفوا الصفات‬
‫بالشبهات العقلية التي هي بزعمهم حجج‪ ،‬ولهذا يقول شيخ‬
‫السلم فيهم‪ » :‬ولكنهم من أهل المجهولت المشبهة‬
‫بالمعقولت‪ ،‬يسفسطون في العقليات‪ ،‬ويقرمطون في‬
‫السمعيات«‪] .‬التدمرية ص ‪[94‬‬
‫فلما أصلوا نفي الصفات وقفوا من النصوص أحد ثلثة‬
‫مواقف‪:‬‬
‫الول‪ :‬الرد لما قدروا على رده؛ كأخبار الحــاد قــالوا‪ :‬هــذه ل‬
‫تثبت بها العقائد‪.‬‬
‫الموقــف الثــاني‪ :‬التأويــل لمــا ل يســتطيعون رده؛ كــالقرآن‪،‬‬
‫فسلكوا فيــه طريــق التأويــل‪ ،‬وهــو صــرف ألفــاظ النصــوص عــن‬
‫ظاهرها‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬مسلك التفويض‪ ،‬وهو إمــرار النصــوص ألفاظــا مــن‬
‫غير فهم لمعناها ومراد الله منها؛ بل إمرارها ألفاظــا دون توقــف‬
‫في تدبرها‪ ،‬وفهم دللتها‪.‬‬
‫وأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما أخــبر اللــه تعــالى بــه‪،‬‬
‫ورسوله ‪ ،‬من الشرع والبيــان‪ ،‬وهــو يشــمل‪ :‬مســائل العتقــاد‪،‬‬
‫ومسائل الحكام‪ ،‬فكلها حق من عند الله‪.‬‬

‫]زيادة اليمان ونقصانه[‬


‫وقوله‪) :‬واليمان واحـد‪ ،‬وأهلــه فـي أصـله سـواء‪ ،‬والتفاضـل‬
‫قى‪ ،‬ومخالفة الهوى وملزمة ال َْولى(‪.‬‬ ‫بينهم بالخشية والت ّ َ‬
‫اليمان واحد هو‪ :‬التصديق بــالقلب ‪ ،‬ومعنــاه أنــه ل يزيــد ول‬
‫ينقص‪ ،‬ومسألة الزيادة والنقصان هي من فروع الخلف بين أهــل‬
‫السنة والمرجئة‪ ،‬فمرجئة الفقهاء عندهم‪ :‬أن اليمان واحد ل يزيد‬
‫ول ينقص‪ ،‬وعند أهل السنة‪ :‬أنه يزيــد وينقــص‪ ،‬فالتصــديق نفســه‬
‫يزيد وينقص‪ ،‬يقوى ويضعف‪ ،‬وهذا أمر معقـول‪ ،‬فــ» ليـس الخـبُر‬
‫ة«‪ ،‬وليس مــا يســتفاد بــالخبر المتــواتر كالمســتفاد بخــبر‬ ‫كالمعاين ِ‬
‫الحــاد مــن حيــث قــوة العلــم واليقيــن‪ ،‬فهــل وجــوب الصــلوات‬
‫الخمــس كوجــوب الــوتر عنــد مــن يقــول بــه؟ أو كوجــوب بعــض‬
‫واجبــات الصــلة؟ فالتصــديق نفســه والعلــم نفســه يتفــاوت قــوة‬
‫وضعفا‪ ،‬وكذلك أعمال القلوب‪ :‬الحب والبغــض والخــوف والرجـاء‬
‫والتوكل هذه العمال القلبية تتفاوت قوة وضــعفا ‪ ،‬فهنــاك بغــض‬

‫‪143‬‬
‫ن‬ ‫ن ك َــا َ‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫وبغض شــديد‪ ،‬وحــب وحــب شــديد‪ ،‬قــال تعــالى‪ )) :‬قُـ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫وا ٌ‬ ‫مـــ َ‬ ‫م وَأ ْ‬ ‫شـــيَرت ُك ُ ْ‬ ‫م وَع َ ِ‬ ‫جك ُـــ ْ‬ ‫م وَأْزَوا ُ‬ ‫وان ُك ُ ْ‬ ‫خـــ َ‬‫م وَإ ِ ْ‬ ‫م وَأب ْن َـــاؤ ُك ُ ْ‬ ‫آب َـــاؤ ُك ُ ْ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ب إ ِل َي ْك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬‫ضوْن ََها أ َ‬ ‫ن ت َْر َ‬ ‫ساك ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ها وَ َ‬ ‫ساد َ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫شوْ َ‬ ‫خ َ‬ ‫جاَرة ٌ ت َ ْ‬ ‫ها وَت ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫اقْت ََرفْت ُ ُ‬
‫سول ِهِ ((]التوبة‪ ،[24:‬وقال النبي ‪ ) :‬ل يؤمن أحدكم‬ ‫ن الل ّهِ وََر ُ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫حتى أكون أحب إليه من ولــده ووالــده والنــاس أجمعيــن( ]تقــدم‬
‫ص[‪ ،‬فهو أمر محسوس ل يستطيع المنصف العاقل أن ينكــره أو‬
‫أن يتجاهله‪.‬‬
‫أمــا أعمــال الجــوارح فالزيــادة فيهــا والنقــص ظــاهر للعيــان‪،‬‬
‫ل‬ ‫ن قَــا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫واليات الدالة على الزيادة كثيرة؛ كقــوله ســبحانه‪)) :‬ال ّـ ِ‬
‫مان ـًا((‬ ‫م ِإي َ‬ ‫م فََزاد َهُ ـ ْ‬ ‫ش ـوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م َفا ْ‬ ‫مُعوا ْ ل َك ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫س قَد ْ َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫س إِ ّ‬ ‫م الّنا ُ‬ ‫ل َهُ ُ‬
‫ماَنــا ً ((‬ ‫م ِإي َ‬ ‫ه َزاد َت ُْهــ ْ‬ ‫م آيــات ُ ُ‬ ‫ت ع َل َي ِْهــ ْ‬ ‫ذا ت ُل َِيــ ْ‬ ‫]آل عمــران‪ )) ،[173:‬وَإ ِ َ‬
‫داد َ‬ ‫م ((]الفتــح‪ )) ،[4:‬وَي َـْز َ‬ ‫مان ِهِ ْ‬‫معَ ِإي َ‬ ‫مان َا ً َ‬ ‫دوا ِإي َ‬ ‫دا ُ‬‫]النفال‪ )) ،[2:‬ل ِي َْز َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫من ُــوا فََزاد َت ْهُ ـ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مــا ال ـ ِ‬ ‫مان َا ً ((]المــدثر‪ )) ،[31:‬فَأ ّ‬ ‫مُنوا ِإي َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ال ّ ِ‬
‫ن ((]التوبة‪.[124:‬‬ ‫شُرو َ‬ ‫ست َب ْ ِ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫مان َا ً وَهُ ْ‬ ‫ِإي َ‬

‫وقوله‪) :‬وأهله في أصــله سـواء( إذا كـان اليمـان ل يزيـد ول‬


‫ينقص فل بد أن يكـون أهلــه فيــه ســواء؛ لنــه شــيء واحــد‪ .‬لكــن‬
‫المؤلف أتى بتعبير فيه عندي عدم وضوح‪ ،‬وهو قوله‪) :‬وأهله فــي‬
‫أصله( ولم يقل‪ ) :‬وأهله فيه(‬
‫والمناسب على مذهبه أن يقول‪) :‬وأهله فيه سواء(؛ لن هــذا‬
‫مقتضى كون اليمان واحدا‪ ،‬أن يكون الناس فيه ســواء‪ ،‬ول أدري‬
‫ماذا يريد بقوله‪ ) :‬في أصله(‪ ،‬إن أراد أن المؤمنين كلهــم عنــدهم‬
‫إيمان فهم مشتركون في الصــل‪ ،‬وبينهــم قــدر مشــترك‪ ،‬فهــذا ل‬
‫يصح أن يقال‪ :‬إنهم فيـه سـواء؛ لن وجـود قـدر مشـترك ل يصـح‬
‫معه أن يقال‪ :‬إنهم فيه سواء‪ ،‬وحقيقــة القــول عنــد المــرجئة‪ :‬أن‬
‫أهله فيه سواء‪ ،‬لكن الطحاوي ـ ـ رحمــه اللــه ـ ـ كــأنه تحاشــى أن‬
‫يقول‪ :‬وأهله فيه سواء فقال‪) :‬وأهله في أصله سواء( ويؤكد هــذا‬
‫أنه قال‪) :‬والتفاضل بينهم فــي الخشــية والتقــى ومخالفــة الهــوى‬
‫وملزمــة الولــى( ولــم يقــل‪ :‬يتفاضــلون فــي اليمــان‪ ،‬فعنــده أن‬
‫أعمال القلوب فيها زيادة ونقص؛ لكن الخشية‪ ،‬ومخالفــة الهــوى‪،‬‬
‫وملزمة الولى‪ ،‬والتقوى هل هي من اليمان عند هؤلء المرجئة؟‬
‫ل‪ ،‬ليست من مسمى اليمان؛ لن اليمــان عنــدهم هــو التصــديق‬
‫بالقلب‪ ،‬وإقرار اللسان‪.‬‬
‫فعندهم أن أعمال القلوب وأعمال الجوارح كلها ليســت مــن‬
‫اليمان‪ ،‬فالتفاضل في أعمال القلوب والجــوارح هــي ثمــرة وأثــر‬
‫ذلك اليمان وليست منه‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫وعلى قولهم‪ :‬يكون إيمان أفسق النــاس الــذي معــه اليمــان‬
‫وإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما سواء!‬
‫وقــوله‪) :‬والتفاضــل بينهــم فــي الخشــية والتقــى‪ ،‬ومخالفــة‬
‫لولى(‬ ‫الهوى‪ ،‬وملزمة ا َ‬
‫ن‬
‫مـ ْ‬ ‫ه ِ‬‫شــى الل ّـ َ‬ ‫خ َ‬ ‫مــا ي َ ْ‬‫أي‪ :‬الخشية من الله‪ ،‬قــال تعــالى‪ )) :‬إ ِن ّ َ‬
‫شـــوِْني ((‬ ‫خ َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫شـــوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫مـــاُء ((]فـــاطر‪َ )) ،[28:‬فل ت َ ْ‬ ‫عب َـــاد ِهِ ال ْعُل َ َ‬ ‫ِ‬
‫]البقرة‪.[150:‬‬
‫و)التقى( التقوى‪ ،‬وهي‪ :‬أن يجعل العبد بينه وبين غضب اللــه‬
‫وعقابه وقاية بفعل أمره وترك معصيته‪.‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ة لله ورسوله‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَأ ّ‬ ‫و)مخالفة الهوى( طاع ً‬
‫وى ((]النازعــات‪،[40:‬‬ ‫ن ال ْهَ ـ َ‬ ‫س عَ ـ ِ‬ ‫فـ َ‬ ‫م َرب ّـهِ وَن َهَــى الن ّ ْ‬ ‫قــا َ‬ ‫م َ‬ ‫ف َ‬ ‫خــا َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وى‬ ‫واه ُ ((]الفرقــان‪َ )) ،[43:‬ول ت َت ّب ِـِع ال ْهَ ـ َ‬ ‫ه هَ َ‬‫خذ َ إ ِل َهَ ُ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫)) أَرأي ْ َ‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫جيُبوا ل ـ َ‬ ‫س ـت َ ِ‬‫م يَ ْ‬ ‫ن لـ ْ‬‫َ‬ ‫ل الل ـهِ ((]ص‪ )) ،[26:‬فَـإ ِ ْ‬ ‫ّ‬ ‫س ـِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ك ع َـ ْ‬ ‫ض ـل ّ َ‬‫فَي ُ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫دى‬ ‫هــ ً‬ ‫واه ُ ب ِغَْيــرِ ُ‬ ‫ن ات ّب َعَ هَ َ‬ ‫م ِ‬‫م ّ‬ ‫ل ِ‬ ‫ض ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬
‫م وَ َ‬ ‫واَءهُ ْ‬ ‫ن أهْ َ‬ ‫ما ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫م أن ّ َ‬ ‫َفاع ْل َ ْ‬
‫ن ((]القصص‪.[50:‬‬ ‫مي َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫قو ْ َ‬‫دي ال ْ َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن الل ّهِ إ ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫و)ملزمة الولى( المحافظة على ما هو الولــى بــه‪ ،‬هــذا هــو‬ ‫َ‬
‫مجال التفاضل عندهم‪ ،‬أما اليمان الذي هو التصديق فليــس فيــه‬
‫تفاضل ول زيادة ول نقص‪ ،‬وبهذا يعلم أن الخلف بين أهل الســنة‬
‫والمرجئة ليس خلفا لفظيا؛ لن الخلف اللفظــي يقــال‪ :‬ل خلف‬
‫فيه‪.‬‬
‫كيــف يكــون الخلف لفظيــا وتبــذل فيــه هــذه الجهــود مــن‬
‫المؤلفات‪ ،‬وتقرير الدلئل‪ ،‬ورد الشبهات‪ ،‬ويشتد النكار على مــن‬
‫اخرج العمال عن مسمى اليمان ؟!‬
‫ل‪ ،‬ليس الخلف لفظيا؛ بل هو حقيقــي‪ ،‬ترتــب عليــه‪ :‬مسـألة‬
‫زيادة اليمان ونقصانه‪ ،‬ومسألة الستثناء في اليمان‪.‬‬

‫]ولية الله وبم تكون؟[‬


‫وقوله‪) :‬والمؤمنين كلهم أولياء الرحمن‪ ،‬وأكرمهــم عنــد اللــه‬
‫أطوعهم‪ ،‬وأتبعهم للقرآن(‪.‬‬
‫ن‬
‫حَزُنو َ‬
‫م يَ ْ‬
‫م َول هُ ْ‬ ‫ف ع َل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫ن أ َوْل َِياَء الل ّهِ ل َ‬ ‫َ‬
‫قال تعالى‪ )):‬أل إ ِ ّ‬
‫ن ((]يونس‪ [63-62:‬والنبياء هم خير‬ ‫قو َ‬‫كاُنوا ي َت ّ ُ‬‫مُنوا وَ َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫* ال ّ ِ‬
‫وأفضل الولياء‪ ،‬وهم أكمل المؤمنين إيمانا وتقوى‪ ،‬وأتباعهم‬
‫ن ي ُط ِِع الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫م ْ‬ ‫المؤمنون كلهم أولياء الله‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫ك مع ال ّذي َ‬ ‫والرسو َ ُ‬
‫ن‬‫ن الن ّب ِّيي َ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ع َل َي ْهِ ْ‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ن أن ْعَ َ‬‫ل فَأوْل َئ ِ َ َ َ ِ َ‬ ‫َ ّ ُ‬
‫ن ((]النساء‪ [69:‬فهؤلء أصناف‬ ‫حي َ‬‫صال ِ ِ‬
‫داِء َوال ّ‬ ‫شه َ َ‬‫ن َوال ّ‬‫قي َ‬‫دي ِ‬‫ص ّ‬‫َوال ّ‬
‫أولياء الله‪ :‬النبياء والصديقون والشهداء والصالحون‪ .‬وطبقات‬

‫‪145‬‬
‫أولياء الله إجمال طبقتان‪] :‬الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء‬
‫الشيطان ‪[11/176‬‬
‫مقربون‪ ،‬ومقتصدون‪.‬‬
‫فـــالمقربون‪ :‬هـــم الـــذين يفعلـــون الفـــرائض والنوافـــل‬
‫والمســـتحبات‪ ،‬ويجتنبـــون المحرمـــات والمكروهـــات وفضـــول‬
‫المباحات‪ ،‬وهم المسارعون في الخيرات‪.‬‬
‫والمقتصدون‪ :‬هم الذين يؤدون الفرائض ويجتنبون المحــارم‪،‬‬
‫وليس لهم تميز في النوافل‪ ،‬وليــس معنــى ذلــك أنهــم ل يفعلــون‬
‫شيئا مع النوافل‪.‬‬
‫ه‬ ‫ّ‬
‫فالمؤمنون هم أولياء الله‪ ،‬وهو وليهم‪ ،‬قــال تعــالى‪َ )) :‬والل ـ ُ‬
‫ن ((]آل عمران‪ ،[68:‬والكافرون والمنافقون أعداؤه‬ ‫مِني َ‬ ‫ي ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫وَل ِ ّ‬
‫ن ((]البقــرة‪:‬‬ ‫ري َ‬‫ه ع َـد ُوّ ل ِل ْك َــافِ ِ‬ ‫ن الل ّـ َ‬ ‫وهو عدوهم‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬فَـإ ِ ّ‬
‫‪.[98‬‬
‫وقوله‪) :‬وأكرم أولياء الله أطوعهم( أكرم أولياء الله عند الله‬
‫هو‪ :‬أطوعهم لله تعالى ولرســوله ‪) ،‬أطــوعهم( أفعــل تفضــيل‪،‬‬
‫أي‪ :‬أكملهم طاعة وامتثال للوامر‪ ،‬واجتنابا للمنهيات‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وأتبعهم للقرآن( هذا من التنويع في التعبير؛ لن مــن‬
‫كان أطوع فهو أتبع‪ ،‬ومن كان أتبع فهو أطوع‪ ،‬ول طاعة إل باتبــاع‬
‫م ((‬ ‫عْنــد َ الّلــهِ أ َت ْ َ‬
‫قــاك ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫كــ ْ‬‫م ُ‬‫ن أك َْر َ‬
‫القــرآن‪ ،‬قــال اللــه تعــالى‪ )) :‬إ َ‬
‫ِ ّ‬
‫]الحجرات‪ [13:‬فالمؤمنون متفاضــلون تفاضــل ل يعلمــه إل اللــه‪،‬‬
‫فالنبيــاء بعضــهم أفضــل مــن بعــض‪ ،‬والصــديقون متفاضــلون‪،‬‬
‫والشهداء متفاضلون‪.‬‬
‫واتباع القرآن يكون بامتثال ما فيه من الوامــر‪ ،‬واجتــاب مــا‬
‫فيه من المناهي‪ ،‬واليمان بكل ما فيه من الخبار مما يتعلق بالله‬
‫وأسمائه وصفاته‪ ،‬أو بما كان وما سيكون‪ ،‬والله تعالى ذكر التباع‬
‫قى ((]طــه‪،[123:‬‬ ‫ش َ‬ ‫ل وََل ي َ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫دايَ فََل ي َ ِ‬ ‫ن ات ّب َعَ هُ َ‬ ‫م ِ‬ ‫في مواضع‪ )) :‬فَ َ‬
‫َ‬ ‫ما ُأنزِ َ‬
‫ما‬‫دون ِهِ أوْل َِياء قَِليل ً ّ‬ ‫من ُ‬ ‫م وَل َ ت َت ّب ُِعوا ْ ِ‬ ‫من ّرب ّك ُ ْ‬ ‫كم ّ‬ ‫ل إ ِل َي ْ ُ‬ ‫))ات ّب ُِعوا ْ َ‬
‫ن(( ]العراف‪ [3:‬فأمر الله باتباع القرآن‪ ،‬واتبــاع الرســول‪:‬‬ ‫ت َذ َك ُّرو َ‬
‫ن ((]العراف‪ [158:‬فل رأي لحــد مــع مــا‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َهْت َ ُ‬ ‫)) َوات ّب ُِعوه ُ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫جاء في القرآن‪ ،‬ول رأي لحد مع بيان الرســول ‪‬؛ بــل يجــب أن‬
‫يكون العبد تابعــا لكتــاب اللــه تعــالى‪ ،‬وســنة رســوله ‪ ،‬ل يقــدم‬
‫عليهما هوىً ول رأيا‪.‬‬

‫]اليمان بالصول الخمسة‪ ،‬وتفصيل اليمان باليوم الخر [‬


‫وقوله‪) :‬واليمان‪ :‬هو اليمان بالله‪ ،‬وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورســله‪،‬‬
‫واليوم الخر(‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫فسر الطحاوي اليمان في هذا الموضع بما فســره بـه النــبي‬
‫‪ ،‬فـي حـديث جبريـل ]تقــدم ص[‪ ،‬فهـذه الصــول السـتة هــي‪:‬‬
‫أركــان اليمــان‪ ،‬أو أصــوله‪ ،‬أو أصــول العتقــاد‪ :‬اليمــان بــالله‪،‬‬
‫واليمان بالملئكة‪ ,‬واليمان بالكتب‪ ,‬واليمــان بالرســل‪ ,‬واليمــان‬
‫باليوم الخر‪ ,‬واليمان بالقدر‪ ،‬وهذا هو اليمــان بــالمعنى الخــاص‪،‬‬
‫فإن اليمان ُيطلق إطلقين‪:‬‬
‫إطلقا عاما يشمل جميع أمور الدين العلميــة والعمليــة‪ ،‬فهــو‬
‫اعتقــاد‪ ،‬وقــول‪ ،‬وعمــل‪ ،‬قــول القلــب واللســان‪ ،‬وعمــل القلــب‬
‫واللسان والجوارح‪.‬‬
‫ويطلق إطلقا خاصا ويراد به هذا الصول الستة‪.‬‬
‫وهذا هو مــا يفســر بــه اليمــان إذا قــرن بالســلم‪ ،‬كمــا فــي‬
‫حديث جبريل حينما ســأله عــن الســلم‪ ،‬ثــم ســأله عــن اليمــان‪،‬‬
‫ففسر السلم بمبانيه الخمــس‪ ،‬وفســر اليمــان بأصــوله الســت‪،‬‬
‫وقال الطحاوي فيما تقدم‪) :‬اليمان هو القرار باللسان والتصديق‬
‫بالجنان( ]ص[‪ ،‬وهنا قال‪) :‬اليمان هو اليمان بالله ‪ (...‬فيما تقدم‬
‫أراد أن يــبين مســمى اليمــان‪ ،‬وأنــه يكــون بتصــديق بــالقلب‬
‫وبالقرار‪ ،‬وهنا أراد أن يفسر اليمان ببيان ما يتعلق به فالتصديق‬
‫بالجنان والقرار باللسان‪ ،‬بأي شــيء؟ فكــأنه يقــول‪ :‬اليمــان هــو‬
‫التصديق بالجنــان والقــرار باللســان بهــذه المــور الســتة‪ ،‬وهــذه‬
‫الصول الستة هي أصــول اعتقــاد أهــل الســنة‪ ،‬ولهــذا قــال شــيخ‬
‫السلم ابن تيمية في مطلع العقيــدة الواســطية‪ » :‬فهــذا اعتقــاد‬
‫الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة ـ أهل السنة والجماعة‬
‫ـ ‪ :‬اليمان بالله وملئكته ورســله والبعــث بعــد المــوت‪ ،‬واليمــان‬
‫بالقدر خيره وشره « ]الواسطية ص ‪ ،[21‬فاليمان بهذه الصول‬
‫إجمال فــرض عيــن علــى كــل مكلــف‪ ،‬أمــا اليمــان والعلــم بهــذه‬
‫الصول تفصيل فهو من فروض الكفاية؛ لكن من علم بشيء مــن‬
‫علم التفصيل؛ وجب عليه اليمان به‪ ،‬وهذا الكلم فيه تكــرار؛ لن‬
‫الطحاوي ـ رحمه الله ــ ذكــر الصــول الثلثــة فيمــا تقــدم بقــوله‪:‬‬
‫)ونــؤمن بالملئكــة‪ ،‬والنــبيين‪ ،‬والكتــب المنزلــة علــى المرســلين(‬
‫]ص[ وسبق الكلم على هــذه الصــول الثلثــة‪ :‬الملئكــة والكتــب‬
‫والرسل هناك‪ ،‬وتقدم ما يتعلق باليمان بالله عند قوله‪ ) :‬إن الله‬
‫واحد ل شريك له( ]ص[‪.‬‬
‫وأما اليمان باليوم الخر‪ ،‬فهــو الصــل الخــامس مــن أصــول‬
‫صــل الخــبر عنــه تفصــيل‬ ‫اليمــان‪ ،‬وقــد ذكــره اللــه فــي كتــابه وف ّ‬
‫عظيما‪ ،‬لم يتقدم مثله في كتاب من كتب الله المنزلة‪ ،‬فذكر الله‬
‫اليمان باليوم الخر على ســبيل الجمــال‪ ،‬كمــا فــي قــوله تعــالى‬
‫ب‬‫ملئ ِك َـةِ َوال ْك ِت َــا ِ‬
‫خ ـرِ َوال ْ َ‬‫ن ب ِــالل ّهِ َوال ْي َـوْم ِ ال ِ‬
‫مـ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ن ال ْب ِـّر َ‬
‫مـ ْ‬ ‫}وَل َك ِـ ّ‬

‫‪147‬‬
‫مل َئ ِك َت ِـهِ وَك ُت ُب ِـ ِ‬
‫ه‬ ‫مــن ي َك ْفُـْر ب ِــالل ّهِ وَ َ‬ ‫ن (( ]البقــرة‪ )) ،[177:‬وَ َ‬ ‫َوالن ّب ِّييـ َ‬
‫دا(( ]النساء‪.[136:‬‬ ‫ضل َل ً ب َِعي ً‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫خرِ فَ َ‬ ‫سل ِهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫وَُر ُ‬
‫أما التفصيل؛ فكثير جدا؛ فســورة الواقعــة والحاقــة والتكــوير‬
‫والنفطار والنشقاق والزلزلة والقارعــة كلهــا فــي شــأن القيامــة‬
‫وما يجري في ذلك اليوم من التغيــرات والتحــولت‪ ،‬ولهــذا اليــوم‬
‫أســماء متعــددة‪ :‬يــوم القيامــة‪ ،‬والحاقــة‪ ،‬والغاشــية‪ ،‬والصــاخة‪،‬‬
‫والطامة الكبرى‪ ،‬ويوم الحساب‪ ،‬ويـوم النشـور‪ ،‬والسـاعة‪ ،‬ويـوم‬
‫الدين‪.‬‬
‫ويدخل في اليمان باليوم الخر‪ :‬اليمان بكل ما أخبر الله بــه‬
‫ورسوله ‪ ‬بعد الموت‪ ،‬من فتنــة القــبر وعــذاب القــبر‪ ،‬واليمــان‬
‫بالقيامة الكبرى‪ ،‬والمراد بهــا‪ :‬قيــام النــاس مــن قبــورهم وبعثهــم‬
‫صــيُر *‬ ‫م ِ‬ ‫ت وَإ ِل َي ْن َــا ال ْ َ‬ ‫مي ـ ُ‬ ‫حي ِــي وَن ُ ِ‬ ‫ن نُ ْ‬ ‫حـ ُ‬ ‫ونشرهم‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬إ ِّنا ن َ ْ‬
‫ســيٌر ((]ق‪-43:‬‬ ‫شٌر ع َلي ْن َــا ي َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ً‬
‫سَراع َا ذ َل ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫َ‬ ‫م تَ َ‬
‫ض ع َن ْهُ ْ‬ ‫ققُ الْر ُ‬ ‫ش ّ‬ ‫ي َوْ َ‬
‫م‬ ‫‪ ،[44‬ومن الخبر المفصل عن اليوم الخـر قـوله تعــالى‪ )) :‬وََيـوْ َ‬
‫مُلــوا‬ ‫َ‬
‫مُنــوا وَع َ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مــا اّلــ ِ‬ ‫ن * فَأ ّ‬ ‫فّرُقــو َ‬ ‫مئ ِذ ٍ ي َت َ َ‬ ‫ة َيــوْ َ‬ ‫ســاع َ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫قــو ُ‬ ‫تَ ُ‬
‫فـُروا وَ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫كـذ ُّبوا‬ ‫ذي َ‬ ‫مــا الـ ِ‬ ‫ن * وَأ ّ‬ ‫حب َـُرو َ‬ ‫ض ـة ٍ ي ُ ْ‬ ‫م ِفي َروْ َ‬ ‫ت فَهُ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن ((]الــروم‪-14:‬‬ ‫ك ِفي ال ْعَ ـ َ‬ ‫ُ‬
‫خَرةِ فَأوْل َئ ِ َ‬
‫ض ـُرو َ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ُ‬ ‫ذا ِ‬ ‫قاِء ال ِ‬ ‫ِبآَيات َِنا وَل ِ َ‬
‫م ـةِ َفل‬ ‫قَيا َ‬ ‫ط ل ِي َـوْم ِ ال ْ ِ‬ ‫سـ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫واِزي َ‬ ‫مـ َ‬ ‫ض ـعُ ال ْ َ‬ ‫‪ [16‬وقوله تعالى‪ )) :‬وَن َ َ‬
‫َ‬
‫فى ب َِنا‬ ‫ل أت َي َْنا ب َِها وَك َ َ‬ ‫خْرد َ ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫حب ّةٍ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫شي ْئ َا ً وَإ ِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ف ٌ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫ت ُظ ْل َ ُ‬
‫ن ((]النبياء‪. [47:‬‬ ‫سِبي َ‬ ‫حا ِ‬ ‫َ‬
‫ومن أهم ما يجب اليمان به من أمر اليوم الخر هــو اليمــان‬
‫بالبعث‪ ،‬والجنة والنار؛ لن البعث هو الذي أنكره الكفار مــن عهــد‬
‫نــوح إلــى عهــد محمــد ‪ ‬ول يــؤمن بــه إل المنتســبون إلــى ديــن‬
‫الرسل‪ ،‬كاليهود والنصارى؛ لكن اعتقادهم للبعث فيه خلــل؛ لكــن‬
‫بعــث النــاس مــن قبــورهم هــذا قــدر مشــترك‪ ،‬يــؤمن بــه جميــع‬
‫المســلمين‪ ،‬ول ينكــره إل الخــارجون عــن أديــان الرســل‪ ،‬ولهــذا‬
‫المكــذبون للرســل مكــذبون بــاليوم الخــر‪ ،‬قــال تعــالى‪ )) :‬ق‬
‫ل ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫كافُِرو َ‬ ‫قا َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫من ْذ ٌِر ِ‬ ‫م ُ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫جُبوا أ ْ‬ ‫ل عَ ِ‬ ‫جيد ِ * ب َ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫قْرآ ِ‬ ‫َوال ْ ُ‬
‫جعٌ ب َِعيــد ٌ ((]ق‪،[3-1:‬‬ ‫ك َر ْ‬ ‫مت َْنا وَك ُّنا ت َُراب َا ً ذ َل ِ َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ب * أ َإ ِ َ‬ ‫جي ٌ‬ ‫يٌء ع َ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫هَ َ‬
‫ثم جاء الرد عليهم فــي نفـس السـورة فالسـورة مـن أولهـا إلــى‬
‫آخرها في شأن القيامة‪ ،‬وهذا المعنى ث ُّني في القرآن كثيرا‪ ،‬وأمر‬
‫ن‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫الله نبيه ‪ ‬أن يقسم على البعث في ثلثة مواضع‪َ )) :‬زع َ َ‬
‫ل‬ ‫ن ((]التغــابن‪ )) ،[7:‬وَقَــا َ‬ ‫ل ب ََلى وََرّبي ل َت ُب ْعَث ُ‬ ‫ن ي ُب ْعَُثوا قُ ْ‬ ‫ن لَ‬ ‫َ‬ ‫كَ َ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫فُروا أ ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫م ((]سبأ‪)) ،[3 :‬‬ ‫ل ب ََلى وََرّبي ل َت َأت ِي َن ّك ُ ْ‬ ‫ة قُ ْ‬ ‫ساع َ ُ‬ ‫فُروا ل ت َأِتيَنا ال ّ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫ويستنبُئون َ َ‬
‫ن ((‬ ‫زي ـ َ‬ ‫ج ِ‬ ‫معْ ِ‬ ‫م بِ ُ‬ ‫ما أن ْت ُـ ْ‬ ‫حقّ وَ َ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫ل ِإي وََرّبي إ ِن ّ ُ‬ ‫حقّ هُوَ قُ ْ‬ ‫كأ َ‬ ‫ََ ْ َِْ َ‬
‫]يــونس‪ ،[53:‬فحكــى اللــه إنكــار الكفــار للبعــث والنشــور ومعــاد‬

‫‪148‬‬
‫الجساد‪ ،‬وأنكر عليهم ذلك وأبطل دعواهم‪ ،‬وذكــر الدلــة العقليــة‬
‫على إمكان البعث ووقوعه في آيات كثيرة‪.‬‬
‫وأظهر طرق القرآن في تقرير إمكان البعث أربعة‪:‬‬
‫‪ -1‬الستدلل بخلق السماوات والرض‪.‬‬
‫‪ -2‬الستدلل بإحياء الرض بعد موتها‪.‬‬
‫‪ -3‬الستدلل بالنشأة الولى‪.‬‬
‫‪ -4‬الستدلل بما وقع من إحياء الموتى فيما سبق‪.‬‬
‫تجد هذه الربع تثنى في القرآن فــي آيــات كــثيرة‪ ،‬فمثل فــي‬
‫سورة ق‪ ،‬لما ذكر اللــه عــن المكــذبين إنكــار البعــث‪ ،‬ذكــر الدلــة‬
‫الدالــة علــى بطلن قــولهم‪ ،‬وبيــان صــحة وإمكــان البعــث‪ ،‬فقــال‬
‫في ـ ٌ‬ ‫َ‬
‫ظ*‬ ‫ح ِ‬‫ب َ‬ ‫عن ْـد ََنا ك ِت َــا ٌ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫من ْهُـ ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫ص الْر ُ‬ ‫ق ُ‬ ‫ما ت َن ْ ُ‬ ‫مَنا َ‬ ‫تعالى‪ )):‬قَد ْ ع َل ِ ْ‬
‫م ي َن ْظ ُُروا إ َِلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ج * أفَل َ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ري‬‫م ِ‬ ‫مرٍ َ‬ ‫م ِفي أ ْ‬ ‫م فَهُ ْ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫حقّ ل َ ّ‬ ‫ل ك َذ ُّبوا ِبال ْ َ‬ ‫بَ ْ‬
‫َ‬ ‫ما ل َهَــا ِ‬ ‫م ك َي ْ َ‬
‫ض‬ ‫ج * َوالْر َ‬ ‫ن فُ ـُرو ٍ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ها وَ َ‬
‫َ‬
‫ها وََزي ّّنا َ‬ ‫ف ب َن َي َْنا َ‬ ‫ماِء فَوْقَهُ ْ‬
‫َ‬
‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ج*‬ ‫ج ب َِهيـ ٍ‬ ‫ل َزوْ ٍ‬ ‫ن ك ُـ ّ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ي وَأن ْب َت ْن َــا ِفيهَــا ِ‬ ‫سـ َ‬ ‫قي ْن َــا ِفيهَــا َرَوا ِ‬ ‫ها وَأل ْ َ‬ ‫مـد َد َْنا َ‬ ‫َ‬
‫ب ((]ق‪ .[8-4:‬هذا الدليل الول‪.‬‬ ‫مِني ٍ‬ ‫ّ‬
‫صَرة ً وَذ ِكَرى ل ِكل ع َب ْد ٍ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ت َب ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫ب‬ ‫حـ ّ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫جن ّــا ٍ‬ ‫مَباَرك َـا فَأن ْب َت ْن َــا ب ِـهِ َ‬ ‫مــاًء ُ‬ ‫ماِء َ‬ ‫سـ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مـ َ‬ ‫)) وَن َّزلن َــا ِ‬
‫َ‬
‫حي َي َْنا ِبــهِ‬ ‫ضيد ٌ * رِْزقَا ً ل ِل ْعَِباد ِ وَأ ْ‬ ‫ت ل ََها ط َل ْعٌ ن َ ِ‬ ‫قا ٍ‬ ‫س َ‬ ‫ل َبا ِ‬ ‫خ َ‬ ‫صيد ِ * َوالن ّ ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ج((]ق‪ .[11-9:‬هــذا الــدليل الثــاني‪ .‬أي‪:‬‬ ‫خ ـُرو ُ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫مي ْت َـا ً ك َـذ َل ِ َ‬ ‫ب َل ْـد َة ً َ‬
‫الخروج من القبور كإخراج هذا النبات من الرض‪.‬‬
‫م فِــي‬ ‫ل هُ ـ ْ‬ ‫ل ب َـ ْ‬ ‫ق الوّ ِ‬
‫َ‬ ‫الدليل الثالث بعد ذلك‪ )) :‬أ َفَعَِييَنا ب ِــال ْ َ ْ‬
‫خل ِ‬
‫ديد ٍ ((]ق‪.[15:‬‬ ‫ج ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ن َ ْ‬ ‫َ‬
‫خل ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫س ِ‬ ‫لب ْ ٍ‬
‫فتارة يذكر الله هذه الدلــة فــي ســياق واحــد‪ ،‬أوفــي ســورة‬
‫واحدة‪ ،‬وتارة يذكر الله منها اثنين‪ ،‬وأحيانا يذكر واحــدا‪ ،‬فمثل فــي‬
‫َ‬
‫ث فَإ ِن ّــا‬ ‫ن ال ْب َعْ ـ ِ‬ ‫مـ َ‬ ‫ب ّ‬ ‫م فِــي َري ْـ ٍ‬ ‫كنت ُـ ْ‬ ‫س ِإن ُ‬ ‫سورة الحج‪َ)) :‬يا أي َّها الّنا ُ‬
‫ة‬
‫ضـغَ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫مـن ّ‬ ‫م ِ‬ ‫قـةٍ ُثـ ّ‬ ‫ن ع َل َ َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫فـةٍ ُثـ ّ‬ ‫مـن ن ّط ْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ب ُثـ ّ‬ ‫من ت َُرا ٍ‬ ‫كم ّ‬ ‫قَنا ُ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ج ٍ‬ ‫شاء إ َِلى أ َ‬ ‫ما ن َ َ‬ ‫حام ِ َ‬ ‫قّر ِفي اْلْر َ‬ ‫م وَن ُ ِ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫قةٍ ل ّن ُب َي ّ َ‬ ‫خل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫قةٍ وَغ َي ْرِ ُ‬ ‫خل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬
‫فًل((]الحج‪ [5:‬الية‪ ،‬هذا اســتدلل بالنشــأة‬ ‫م طِ ْ‬ ‫جك ُ ْ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م نُ ْ‬ ‫مى ث ُ ّ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫ذا أنَزلن َــا ع َلي ْهَــا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫م ـد َة ً فَـإ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ها ِ‬ ‫ض َ‬ ‫الولى‪ ،‬ثم قال تعالى‪ )) :‬وَت َـَرى الْر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫و‬
‫ه هُ ـ َ‬ ‫ن الل ّـ َ‬ ‫ك ب ِـأ ّ‬ ‫ج * ذ َل ِ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ج ب َِهي‬ ‫ٍ‬ ‫ل َزوْ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫ت وَأن ْب َت َ ْ‬ ‫ت وََرب َ ْ‬ ‫ماَء اهْت َّز ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫ه ع ََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة‬‫ســاع َ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ديٌر * وَأ ّ‬ ‫يٍء َقــ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫موَْتى وَأن ّ ُ‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ح‬
‫ه يُ ْ‬ ‫حقّ وَأن ّ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن ِفي ال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫قُبورِ ((]الحج‪ [7-5:‬وهذا‬ ‫م ْ‬ ‫ث َ‬ ‫ه ي َب ْعَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ب ِفيَها وَأ ّ‬ ‫ة ل َري ْ َ‬ ‫آت ِي َ ٌ‬
‫استدلل بإحياء الرض بعد موتها‪.‬‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫ن آَيات ِهِ أن ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وهذا المعنى تجده ـ أيضا ـ في قوله تعالى‪ )) :‬وَ ِ‬
‫ة فَإ َ َ‬ ‫َ‬
‫ذي‬ ‫ن ال ّـ ِ‬ ‫ت إِ ّ‬ ‫ت وََرب َـ ْ‬ ‫ماَء اهْت َّز ْ‬ ‫ذا أنَزل َْنا ع َل َي َْها ال ْ َ‬ ‫شعَ ً ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ت ََرى الْر َ‬
‫ه ع ََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ديٌر ((]فصلت‪.[39:‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫موَْتى إ ِن ّ ُ‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ها ل َ ُ‬ ‫حَيا َ‬ ‫أ ْ‬

‫‪149‬‬
‫وهذا المعنى هو المذكور في قوله تعالى‪َ )) :‬فانظ ُْر إ َِلى آَثــاِر‬
‫َ‬
‫و‬
‫موَْتى وَهُ َ‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ك لَ ُ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫موْت َِها إ ِ ّ‬ ‫ض ب َعْد َ َ‬ ‫ي الْر َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ف يُ ْ‬ ‫مةِ الل ّهِ ك َي ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫َر ْ‬
‫ديٌر ((]الروم‪. [50:‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ع ََلى ك ُ ّ‬
‫َ‬
‫ض‬ ‫م الْر ُ‬ ‫ة ل َهُـ ُ‬ ‫وجاءت هذه المعــاني فــي ســورة يــس‪َ )) :‬وآي َـ ٌ‬
‫ْ‬
‫ة‬ ‫ن ((]يس‪َ )) [33:‬وآي َ ٌ‬ ‫ه ي َأك ُُلو َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫حب ّا ً فَ ِ‬ ‫من َْها َ‬ ‫جَنا ِ‬ ‫خَر ْ‬ ‫ها وَأ َ ْ‬ ‫حي َي َْنا َ‬ ‫ةأ ْ‬
‫ال ْميت ُ َ‬
‫َ َْ‬
‫مل ْن َــا‬ ‫َ‬
‫ح َ‬ ‫م أن ّــا َ‬ ‫ة ل َهُـ ْ‬ ‫ه الن ّهَــاَر ((]يــس‪َ )) ،[37:‬وآي َـ ٌ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫سل َ ُ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫م الل ّي ْ ُ‬ ‫ل َهُ ُ‬
‫ن ((]يس‪ [41:‬كلها فيهــا الــدلئل علــى‬ ‫حو ِ‬ ‫ش ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫فل ْ ِ‬ ‫م ِفي ال ْ ُ‬ ‫ذ ُّري ّت َهُ ْ‬
‫َ‬
‫م ي ََر‬ ‫القدرة؛ لكن في آخر السورة ذ ِك ٌْر خاص لهذه القضية‪ )) :‬أوَل َ ْ‬
‫ب ل َن َــا‬ ‫ض ـَر َ‬ ‫ن * وَ َ‬ ‫مِبي ـ ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫صــي ٌ‬ ‫خ ِ‬ ‫ذا هُوَ َ‬ ‫فةٍ فَإ ِ َ‬ ‫ن ن ُط ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫قَناه ُ ِ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ن أ َّنا َ‬ ‫سا ُ‬ ‫لن َ‬ ‫ا ِ‬
‫م ((]يــس‪-77:‬‬ ‫مي ـ ٌ‬ ‫ي َر ِ‬ ‫م وَه ِـ َ‬ ‫َ‬
‫ي العِظــا َ‬ ‫ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه َقا َ‬ ‫ق ُ‬ ‫خل َ‬ ‫ْ‬ ‫ي َ‬ ‫س َ‬ ‫مث َل ً وَن َ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ [78‬جــاء الــرد فــي نفــس اليــة قبــل التصــريح بمقالــة الكــافر‪:‬‬
‫ه ((]يــس‪ [78:‬فــذكر الحجــة علــى‬ ‫قـ ُ‬ ‫خل ْ َ‬ ‫ي َ‬ ‫س َ‬ ‫مث ََل ً وَن َ ِ‬ ‫ب ل ََنا َ‬ ‫ضَر َ‬ ‫)) وَ َ‬
‫ة‬ ‫ها أوّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذي أن َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫إبطال الدعوى قبل ذكرها‪ )) ،‬قُ ْ‬
‫م ـّر ٍ‬ ‫ل َ‬ ‫ش ـأ َ‬ ‫حِييهَــا ال ـ ِ‬ ‫ل يُ ْ‬
‫م ((]يــس‪ [79:‬وهــذا اســتدلل بـذكر النشــأة‬ ‫ق ع َِليـ ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫خل ْـ‬ ‫ل َ‬ ‫وَهُوَ ب ِك ُـ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قــاد ٍِر‬ ‫ض بِ َ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫سـ َ‬ ‫خل َقَ ال ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫س ال ّ ِ‬ ‫الولى‪ ،‬إلى قوله‪ )) :‬أوَل َي ْ َ‬
‫َ‬
‫م ((]يـس‪ ،[81:‬ومـن‬ ‫خّلقُ ال ْعَِليـ ُ‬ ‫هـوَ ال ْ َ‬ ‫م ب ََلى وَ ُ‬ ‫مث ْل َهُ ْ‬ ‫خل ُقَ ِ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ع ََلى أ ْ‬
‫ن َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫خل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ض أك ْب َُر ِ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬ ‫خل ْقُ ال ّ‬ ‫هذا القبيل قوله تعالى‪ )) :‬ل َ َ‬
‫س ((]غافر‪ [57:‬وهو استدلل بخلق الســماوات والرض‪ ،‬وأن‬ ‫الّنا ِ‬
‫من أبدعها أقدر على خلق الناس وإعادتهم‪.‬‬
‫وأما الستدلل بمـا كــان مـن إحيـاء المـوتى فــذكر اللــه فـي‬
‫سورة البقرة خمس وقائع‪:‬‬
‫ه‬ ‫حت ّــى ن َـَرى الل ّـ َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن ل َـ َ‬ ‫م َ‬ ‫سى َلن ن ّـؤ ْ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫م َيا ُ‬ ‫الولى‪ )) :‬وَإ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ‬
‫ق ُ َ‬ ‫َ‬
‫مـن ب َعْـدِ‬ ‫كم ّ‬ ‫م ب َعَث َْنـا ُ‬ ‫ن * ُثـ ّ‬ ‫م َتنظ ُـُرو َ‬ ‫ة وَأنت ُـ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫صـا ِ‬ ‫م ال ّ‬ ‫خذ َت ْك ُ ُ‬ ‫جهَْرة ً فَأ َ‬ ‫َ‬
‫ن(( ]البقرة‪[56-55:‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫موْت ِك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫ه‬ ‫م ِفيهَــا َواللـ ُ‬ ‫داَرأت ُ ْ‬ ‫سـا فَــا ّ‬ ‫م ن َفْ َ‬ ‫الثانية‪ :‬قال تعــالى‪ )) :‬وَإ ِذ ْ قَت َلت ُـ ْ‬
‫ه‬ ‫ي الل ّـ ُ‬ ‫حـ ِ‬ ‫ك يُ ْ‬ ‫ض ـَها ك َـذ َل ِ َ‬ ‫ضرُِبوه ُ ب ِب َعْ ِ‬ ‫قل َْنا ا ْ‬ ‫ن * فَ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َك ْت ُ ُ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫ج َ‬ ‫خرِ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ن ((]البقرة‪،[73-72:‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫م ت َعْ ِ‬ ‫م آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ريك ُ ْ‬ ‫موَْتى وَي ُ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ن د ِي َــارِه ِ ْ‬ ‫مـ ْ‬ ‫جــوا ِ‬ ‫خَر ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬ ‫الثالثة‪ :‬قوله تعالى‪ )) :‬أل َ ْ‬
‫ل ل َهم الل ّه موتوا ث ُ َ‬ ‫م أ ُُلو ٌ‬
‫م ((]البقرة‪:‬‬ ‫حَياهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫قا َ ُ ُ‬ ‫ت فَ َ‬ ‫مو ْ ِ‬ ‫حذ ََر ال ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫وَهُ ْ‬
‫‪.[243‬‬
‫َ‬
‫ة‬ ‫خاوَِيـ ٌ‬ ‫ي َ‬ ‫يـةٍ وَه ِـ َ‬ ‫مّر ع ََلى قَْر َ‬ ‫ذي َ‬ ‫كال ّ ِ‬ ‫الرابعة‪ :‬قوله تعالى‪ )) :‬أوْ َ‬
‫َ‬ ‫ع ََلى ع ُروشها َقا َ َ‬
‫ة‬ ‫مئ َ َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ه الّلــ ُ‬ ‫مــات َ ُ‬ ‫موْت َِها فَأ َ‬ ‫ه ب َعْد َ َ‬ ‫حِيي هَذ ِهِ الل ّ ُ‬ ‫ى يُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل أن ّ‬ ‫ُ ِ َ‬
‫َ‬
‫ل َبـل‬ ‫ض َيـوْم ٍ قَــا َ‬ ‫مـا أوْ ب َعْـ َ‬ ‫ت ي َوْ ً‬ ‫ل ل َب ِث ْ ُ‬ ‫ت َقا َ‬ ‫م ل َب ِث ْ َ‬ ‫ل كَ ْ‬ ‫ه َقا َ‬ ‫م ب َعَث َ ُ‬ ‫عام ٍ ث ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ه َوانظــْر إ ِلــى‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫سن ّ ْ‬ ‫م ي َت َ َ‬ ‫كل ْ‬ ‫َ‬ ‫شَراب ِ َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫عام ٍ َفانظْر إ ِلى طَعا ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ة َ‬ ‫مئ َ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ل ّب ِث ْ َ‬
‫م‬ ‫ها ث ُـ ّ‬ ‫ش ـُز َ‬ ‫ف ُنن ِ‬ ‫ظام ِ ك َي ْـ َ‬ ‫ة ّللّناس َوانظ ُْر إ َِلى العِ َ‬ ‫ك آي َ ً‬ ‫جعَل َ َ‬ ‫ك وَل ِن َ ْ‬ ‫مارِ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫يٍء‬ ‫شـ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ع َل َــى ك ُـ ّ‬ ‫ن الّلـ َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ل أع ْل َـ ُ‬ ‫ه قَــا َ‬ ‫ن َلـ ُ‬ ‫ما ت َب َي ّـ َ‬ ‫ما فَل َ ّ‬ ‫ح ً‬ ‫ها ل َ ْ‬ ‫سو َ‬ ‫ن َك ْ ُ‬
‫ديٌر(( ]البقرة‪.[259:‬‬ ‫قَ ِ‬

‫‪150‬‬
‫مـوَْتى‬ ‫حِيـي ال ْ َ‬ ‫ب أ َرِِنـي ك َْيـ َ‬
‫ف تُ ْ‬ ‫م َر ّ‬ ‫هيـ ُ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫الخامسة‪)) :‬وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫َ‬ ‫ن قَل ِْبي َقا َ‬ ‫َقا َ َ‬
‫ن‬
‫مــ َ‬ ‫ة ّ‬ ‫خذ ْ أْرب َعَ ً‬‫ل فَ ُ‬ ‫كن ل ّي َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫ل ب ََلى وَل َ ِ‬ ‫من َقا َ‬ ‫ل أوَل َ ْ‬
‫م ت ُؤ ْ ِ‬
‫ن‬‫م اد ْع ُهُ ّ‬ ‫جْزًءا ث ُ ّ‬ ‫ن ُ‬‫من ْهُ ّ‬
‫ل ّ‬
‫جب َ ٍ‬
‫ل َ‬ ‫ل ع ََلى ك ُ ّ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫ما ْ‬ ‫ك ثُ ّ‬ ‫ن إ ِل َي ْ َ‬
‫صْرهُ ّ‬ ‫ال ْط ّي ْرِ فَ ُ‬
‫َ‬
‫م{ ]البقرة‪[260:‬‬ ‫كي ٌ‬‫ح ِ‬‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫مأ ّ‬ ‫سعًْيا َواع ْل َ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ي َأِتين َ َ‬
‫فهذا بعض ما يتعلق باليمان باليوم الخر‪.‬‬

‫]اليمان بالقدر خيره وشره[‬


‫وقوله‪) :‬والقدر خيره وشره‪ ،‬وحلوه ومره من الله تعالى(‬
‫هذا الصل السادس من أصول اليمان‪ :‬وهو اليمــان بالقــدر‪،‬‬
‫قــال النــبي‪) :‬وتــؤمن بالقــدر خيــره وشــره( ]تقــدم فــي ص[‬
‫والطحاوي هنا ــ رحمــه اللــه ــ قــال‪) :‬والقــدر خيــره( ولــم يقــل‪:‬‬
‫وبالقدر؛ بــل ع َط َــف‪ ،‬والجملــة كأنهــا مســتأَنفة‪ ،‬وتكــون‪) :‬والقــدُر‬
‫وه ومّره من الله تعالى(‪.‬‬ ‫خيُره وشّره وحل ُ‬
‫ولفــظ القــدر يطلــق بمعنــى التقــدير‪ ،‬كمــا إذا قلنــا‪ :‬القــدر‬
‫السابق‪ ،‬والقدر العام‪ ،‬والقدر الخاص‪ ،‬كما في صحيح مسلم مــن‬
‫حديث عبد الله بن عمرو رضي اللــه عنهمــا عــن النــبي‪) :‬كتــب‬
‫الله مقادير الخلئق قبل أن يخلق الســموات ‪ ،‬والرض بخمســين‬
‫ألف سنة( ]رواه مسلم )‪ [(2653‬أي‪ :‬تقدير الله لمقادير الشياء‪.‬‬
‫در‪ ،‬وهــذا كــثير فــي اللغــة‬ ‫در علــى الشــيء المق ـ ّ‬ ‫قـ َ‬‫ويطلق ال َ‬
‫العربية؛ فالمصدر تارة ً يطَلق ويراد بــه الفعــل‪ ،‬ويطل َــق ويــراد بــه‬
‫ق‪ :‬فالخلقُ يطلق ويــراد بــه فعــل الــرب‬ ‫المفعول‪ ،‬مثل كلمة ال َ ْ‬
‫خل ِ‬
‫تعالى‪ ،‬فإن الله تعالى من صفته ومن فعلــه الخلــق‪ ،‬فهــو يخلــق‪،‬‬
‫وهو الخلق‪ ،‬وهو الخالق‪.‬‬
‫ويطَلق على نفس المفعول‪ ،‬فتقول‪ :‬هذا خلق الله‪ ،‬كما قــال‬
‫َ‬
‫دون ِـهِ ((‬
‫ن ُ‬
‫مـ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫خل َـقَ ال ّـ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ذا َ‬ ‫خل ْـقُ الل ّـهِ فَـأُروِني َ‬
‫مــا َ‬ ‫ذا َ‬‫تعالى‪ )) :‬هَ َ‬
‫]لقمان‪ [11:‬أي‪ :‬هذا هو المخلوق لله‪.‬‬
‫كذلك القدر يطلق ويراد بـه المقــدر‪ ،‬فــإذا حـدث الن حـادث‬
‫دره الله‪ ،‬قــال النــبي‬ ‫قد ٌّر قد قَ ّ‬ ‫م َ‬
‫للنسان يقول‪ :‬هذا قدر‪ ،‬أي‪ :‬هذا ُ‬
‫ت كــان كــذا وكــذا‪،‬‬ ‫‪) :‬وإن أصابك شيء فل تقــل‪ :‬لــو أنــي فعلـ ُ‬
‫ولكن قل‪ :‬قدر الله ومــا شــاء فعــل(‪] .‬رواه مســلم )‪ (2664‬مــن‬
‫حديث أبي هريرة ‪[‬‬
‫ل القدرِ القضاُء؛ فإنه يطلق ويراد بــه الحكــم‪ ،‬وهــو فعــل‬ ‫ومث ُ‬
‫الرب تعالى‪ ،‬ويطلق ويراد به المقضي‪ ،‬وهو ما قضاه الله وشاءه‬
‫من المخلوقات‪ ،‬ولهذا يقول المسلمون فيمــا يحــدث‪ :‬هــذا قضــاء‬
‫وقدر‪ ،‬أي‪ :‬هذا أمــر مقضــي مقــدر‪ ،‬أي‪ :‬هــذا أمــر حكــم اللــه بــه‪،‬‬
‫وقدره سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬والقدر خيره وشره(‬

‫‪151‬‬
‫لشك أن المقدرات المخلوقات فيها خيــر وشــر وحلــو ومــر‪،‬‬
‫فيها النعم والمصائب‪ ،‬فيهــا طيــب وخــبيث‪ ،‬وحســن وقبيــح‪ ،‬هــذه‬
‫المخلوقات فيها هذا التنويع‪.‬‬
‫فإذا أريد بالقــدر‪ :‬المقــدر فهــذا أمــر ظــاهر‪ ،‬نــؤمن بــأن كــل‬
‫مقدرة مخلوقة لله‪ ،‬واقعة بقدرة الله ومشــيئته‪ ،‬ل يخــرج‬ ‫الشياء ُ‬
‫شيء منها عن ملك الله‪ ،‬فكــل مــا يجــري فــي الوجــود مــن خيــر‬
‫وشر؛ فهو بمشيئة الله وخلق لله‪ ،‬ومقدر بتقدير الله‪ ،‬وهو مقضي‬
‫بحكم الله وقضائه‪.‬‬
‫وه ومّره( كأن هذا التعبير مــن تنويــع الكلم؛ لن‬ ‫وقوله‪):‬وحل ُ‬
‫المور المقدرة منها ما هو حلــو فــي حــس وذوق النــاس؛ كــالنعم‬
‫والشياء المستطابة‪ ،‬والمر الشياء الكريهــة كالمصــائب؛ لن لهــا‬
‫مرارة في النفوس‪.‬‬
‫ويفسر الخير باللذات وأسبابها‪ ،‬والشر باللم وأســبابها‪ ،‬لكـن‬
‫هناك لذات في نفسها لكنها أسباب للم طويلة‪ ،‬فتكون في ذاتها‬
‫خيــرا‪ ،‬لكنهــا شــر باعتبــار مــا تفضــي إليــه‪ ،‬فالمعاصــي شــر وإن‬
‫استلذتها النفوس؛ لنها تفضي إلى أعظم اللم‪.‬‬
‫والطاعات خير في ذاتهـا ومآلهـا ‪ ،‬وإن اشـتملت علـى بعـض‬
‫المشاق والك َُلف‪ ،‬لكنها خير؛ لنها نفسها مصالح ومنــافع عظيمــة‪،‬‬
‫وفي الصحيح عن النبي ‪ » :‬حفت الجنة بالمكاره‪ ،‬وحفت النــار‬
‫بالشهوات« ]رواه البخاري )‪ ،(6487‬ومسلم )‪ (2823‬ـــ واللفــظ‬
‫له ـ من حديث أبي هريرة ‪ ،[‬والله تعالى اقتضت حكمته تنويــ َ‬
‫ع‬
‫ق‪ ،‬وخْلـقَ الضـداد فـي هـذا الوجـود‪ ،‬فخَلـقَ الخيـر والشـر‪،‬‬ ‫ْ‬
‫الخلـ ِ‬
‫والنافع والضار‪ ،‬والحسن والقبيح في الذوات والصفات والفعــال‪،‬‬
‫فخلق النور والظلمات‪ ،‬وخلق الملئكة والشياطين‪ ،‬وخلق الصحة‬
‫م‬‫حي َــاة َ ل ِي َب ْل ُـوَك ُ ْ‬
‫ت َوال ْ َ‬ ‫خل َقَ ال ْ َ‬
‫م ـو ْ َ‬ ‫والمرض والحياة والموت‪ )) :‬ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫مَل ً ((]الملك‪. [2:‬‬ ‫أ َيك ُ َ‬
‫ن عَ َ‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬‫مأ ْ‬ ‫ّ ْ‬
‫إذًا؛ الشــياء المخلوقــة فيهــا خيــر وشــر واللــه خــالق الخيــر‬
‫والشر‪ ،‬أما فعل الرب ســبحانه‪ :‬حكمــه وقضــاؤه وتقــديره؛ فكلــه‬
‫ة ول‬ ‫ما‪ ،‬ول صــف ً‬ ‫خير‪ ،‬ليس فيه شر‪ ،‬والشر ل يضاف إلى الله اس ـ ً‬
‫فعل‪ ،‬فالشر ل يكون في أســمائه فكلهــا حســنى‪ ،‬ول فــي صــفاته‬
‫فكلهــا صــفات كمــال وحمــد‪ ،‬ول فــي أفعــاله فكلهــا أفعــال عــدل‬
‫وحكمة‪ ،‬وإنما يكون في مفعولته‪ ،‬أي‪ :‬مخلوقاته‪.‬‬
‫وهذا ما ُفسر به قول النبي ‪) : ‬والشــر ليــس إليــك( ]رواه‬
‫مسلم )‪ (771‬من حديث علي بن أبي طالب ‪[‬‬
‫أنــه تعــالى ل يخلــق شــرا محضــا؛ بــل كــل الشــر الــذي فــي‬
‫ضا‪ ،‬وهذا يرجع إلــى اليمــان‬ ‫المخلوقات شر نسبي ليس شًرا مح ً‬
‫بحكمته سبحانه وتعالى‪ ،‬وأنه حكيم‪ ،‬ما خلق شيئا عبثا‪ ،‬لــم يخلــق‬

‫‪152‬‬
‫ح وحكم ٍ يعلمها سبحانه‪ ،‬وليس من شــرط ذلــك أن‬ ‫شيئا إل لمصال َ‬
‫تكون عائدة للعبد‪ ،‬بل قد يكون فيها شر لبعض الناس‪ ،‬وهــو شــر‬
‫جزئي إضافي‪ ،‬فأما شر كلي‪ ،‬أو شر مطلــق؛ فــالله تعــالى منــزه‬
‫عنه‪.‬‬
‫وكل ما خلقه الله إمــا أن يكــون خيــرا محضــا‪ ،‬أو أن وجــوده‬
‫خير من عدمه باعتبار الحكمة العامــة‪ ،‬فــالله خلــق هــذه الضــداد‬
‫حكمــه تعــالى فــي خلقــه‪ :‬البتلء‪ ،‬قــال تعــالى‪:‬‬ ‫لحكم بالغة‪ ،‬ومن ِ‬
‫م ((]الملك‪ [2:‬وقــال تعــالى‪ )) :‬إ ِن ّــا‬ ‫حَياة َ ل ِي َب ْل ُوَك ُ ْ‬ ‫ت َوال ْ َ‬ ‫موْ َ‬ ‫خل َقَ ال ْ َ‬ ‫)) َ‬
‫مَل ً ((‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن عَ َ‬ ‫ســ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫م أي ُّهــ ْ‬ ‫ة ل ََهــا ل ِن َب ُْلــوَهُ ْ‬ ‫ض ِزيَنــ ً‬ ‫ِ‬ ‫مــا ع ََلــى الْر‬ ‫جعَل َْنــا َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫س ـت ّةِ أي ّــام ٍ‬ ‫ض فِــي ِ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫َ‬
‫س َ‬‫خلق ال ّ‬
‫َ‬
‫ذي َ‬ ‫]الكهف‪ ) ،[7:‬وَهُوَ ال ِ‬
‫مل ً ( ]هود‪.[7:‬‬ ‫ن عَ َ‬ ‫س ُ‬‫ح َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫م أي ّك ُ ْ‬ ‫ماء ل ِي َب ْل ُوَك ُ ْ‬ ‫ه ع ََلى ال ْ َ‬ ‫ش ُ‬‫ن ع َْر ُ‬ ‫كا َ‬‫وَ َ‬
‫والشر الذي في المخلوقات ل يضاف إلــى اللــه مفــردا أبــدا؛‬
‫ن‬ ‫مـ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ل ك ُـ ّ‬ ‫بل إما يدخل في عموم المخلوقات كقوله تعالى‪ )) :‬قُ ْ‬
‫يٍء ((‬ ‫شـ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫خــال ِقُ ك ُـ ّ‬ ‫ه َ‬ ‫عن ْـد ِ الل ّـهِ ((]النســاء‪ ،[78:‬وكقــوله‪ )) :‬الل ّـ ُ‬ ‫ِ‬
‫]الرعد‪ ،[16:‬يعني‪ :‬الخير والشر‪.‬‬
‫َ‬
‫وإما بصيغة البناء للمفعول‪ ،‬كقوله تعالى عن الجن‪ )) :‬وَأّنـا ل‬
‫ض ((]الجــن‪ ، [10:‬وإمــا أن يضــاف‬ ‫ن فِــي ال َْر‬ ‫ندري أ َ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫م ْ‬ ‫شّر أِريد َ ب ِ َ‬ ‫َ ْ ِ‬
‫ب ال ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫إلى خلقه سبحانه‪ ،‬كقوله تعالى‪)) :‬قُـ ْ‬
‫ن‬ ‫مـ ْ‬ ‫ق* ِ‬ ‫فلـ ِ‬ ‫ل أع ُــوذ ُ ب ِـَر ّ‬
‫خل َقَ ((]الفلق‪].[2:‬منهاج السنة ‪ ،5/410‬ومجموع الفتاوى‬ ‫ما َ‬ ‫شّر َ‬ ‫َ‬
‫‪ ،266 /14‬وبدائع الفوائد ‪[2/724‬‬
‫هذه الوجوه التي يعبر بها في إضافة الشر المخلوق‪.‬‬
‫وعلى هذا فل ينبغي أن تقول‪ :‬اللــه خــالق الشــر‪ ،‬لكــن قــل‪:‬‬
‫الله خالق كل شيء‪ ،‬وهذا معنى التعبير بالعموم‪ ،‬وقل‪ :‬فلن أريد‬
‫به السوء‪ ،‬ول تقل‪ :‬أراد الله به‪.‬‬
‫وكذلك إذا أردت أن تخبر عن خلق الله للمخلوقات‪ ،‬قل‪ :‬الله‬
‫خالق كل شيء‪ ،‬اللــه خــالق الســماوات والرض ومــن فيهــن‪ ،‬ول‬
‫تقل‪ :‬الله خــالق الحشــرات وخــالق الكلب‪ ،‬أو‪ :‬اللــه رب الكلب‪،‬‬
‫هذا منكر؛ بل قل‪ :‬رب الســماوات والرض‪ ،‬رب كــل شــيء‪ ،‬هــذا‬
‫ب‬ ‫دح ســبحانه وتعــالى بــذلك )) َر ّ‬ ‫مــ ّ‬ ‫الــذي فيــه التعظيــم‪ ،‬كمــا ت َ َ‬
‫ظيم ِ ((]المؤمنون‪.[86:‬‬ ‫ش ال ْعَ ِ‬ ‫ب العَْر ِ‬
‫سب ْع وََر ّ ْ‬
‫ت ال ّ ِ‬ ‫وا ِ‬‫م َ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬
‫وهكذا في النفع والضر فل تقل‪ :‬الله هو الضار؛ بل قل‪ :‬اللــه‬
‫هو النافع الضار‪ ،‬وهذا من جنس الول في التعبير بالعموم‪.‬‬
‫م‬ ‫ومن هذا ما ذكر الله من قول إبراهيم عليه السلم‪ )) :‬فَإ ِن ّهُ ْ‬
‫و‬
‫ذي هُ ـ َ‬ ‫ن * َوال ّـ ِ‬ ‫دي ِ‬ ‫قِني فَهُوَ ي َهْ ـ ِ‬ ‫خل َ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن * ال ّ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫ع َد ُوّ ِلي إ ِّل َر ّ‬
‫ن ((]الشعراء‪[80-77:‬‬ ‫في ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ت فَهُوَ ي َ ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫مرِ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن * وَإ ِ َ‬ ‫قي ِ‬ ‫س ِ‬‫مِني وَي َ ْ‬ ‫ي ُط ْعِ ُ‬
‫ولم يقل‪ :‬وإذا أمرضني شفاني‪ ،‬وهذا من الدب فــي الخبــار عــن‬
‫الله سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫ومما يتعلق بهذا الجمعُ بين آيتي ســورة النســاء‪ ،‬وهــي قــوله‬
‫عند ِ الل ّهِ وَِإن‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫قوُلوا ْ هَذ ِهِ ِ‬ ‫ة يَ ُ‬ ‫سن َ ٌ‬ ‫ح َ‬ ‫م َ‬ ‫صب ْهُ ْ‬ ‫سبحانه وتعالى‪)) :‬وَِإن ت ُ ِ‬
‫عن ْـد ِ الل ّـهِ ((]النســاء‪:‬‬ ‫ن ِ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ك كُ ّ‬ ‫عند ِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قوُلوا ْ هَذ ِهِ ِ‬ ‫ة يَ ُ‬ ‫سي ّئ َ ٌ‬ ‫م َ‬ ‫صب ْهُ ْ‬ ‫تُ ِ‬
‫ة‬ ‫صــاب َ َ‬ ‫َ‬
‫س ـن َ ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫مــا أ َ‬ ‫‪ [78‬وقوله تعالى في الية التي تليهــا‪َ )) :‬‬
‫َ‬
‫ك ((]النســاء‪[79:‬‬ ‫سـ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫مـ ْ‬ ‫س ـي ّئ َةٍ فَ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫صــاب َ َ‬ ‫مــا أ َ‬ ‫ن الل ّـهِ وَ َ‬ ‫مـ َ‬ ‫فَ ِ‬
‫فظاهر الية الولى أن الحسنة والسيئة كلها من عند الله‪ ،‬ومعنى‬
‫أن الحسنة والسيئة من عند الله أنهما بمشيئته وتقديره وتــدبيره‪،‬‬
‫وليس في تقديره شر سبحانه وتعالى؛ بل حكمة وعدل‪.‬‬
‫َ‬
‫مــا‬ ‫ن الل ّـهِ وَ َ‬ ‫مـ َ‬ ‫س ـن َةٍ فَ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫صــاب َ َ‬ ‫مــا أ َ‬ ‫وأما قوله تعــالى‪َ )) :‬‬
‫سـ َ‬ ‫صاب َ َ‬ ‫َ‬
‫ك ((]النسـاء‪ [79:‬فـالمعنى‪ :‬بسـبب‬ ‫ف ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫مـ ْ‬ ‫سـي ّئ َةٍ فَ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫أ َ‬
‫نفسك‪ ،‬والحسنة والسيئة تطلق في القرآن إطلقين‪:‬‬
‫ت وسيئات الجزاء‪ ،‬وهــي‪ :‬النعــم والمصــائب‪ ،‬ومنــه‬ ‫‪ -1‬حسنا ُ‬
‫ت ((]العراف‪.[168:‬‬ ‫سي َّئا ِ‬ ‫ت َوال ّ‬ ‫سَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫م ِبال َ‬ ‫َ‬
‫قوله تعالى‪ )) :‬وَب َلوَْناهُ ْ‬
‫ن‬‫ت وســيئات العمــال‪ ،‬ومنــه قــوله تعــالى‪ )) :‬إ ِ ّ‬ ‫‪ -2‬حســنا ُ‬
‫ت ((]هود‪.[114:‬‬ ‫سي َّئا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ت ي ُذ ْه ِب ْ َ‬ ‫سَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫وأما الحسنة والسيئة في اليتين‪:‬‬
‫ففي الية الولى‪ :‬النعمة والمصيبة‪.‬‬
‫وفي الثانية‪ :‬كذلك على الصــحيح‪ ،‬وفســرت الحســنة بالنصــر‬
‫والخصب‪ ،‬والسيئة بالهزيمة أو بالمصيبة وبالجدب وما أشبه ذلك‪،‬‬
‫س َ‬ ‫صاب َ َ‬ ‫َ‬
‫ك ((]النســاء‪[79:‬‬ ‫ف ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫سي ّئ َةٍ فَ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ما أ َ‬ ‫فتكون الية‪ )) :‬وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫م أّنى هَ ـ َ‬ ‫مث ْل َي َْها قُل ْت ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫صب ْت ُ ْ‬ ‫ة قَد ْ أ َ‬ ‫صيب َ ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫من جنس )) أوَل َ ّ‬
‫ما‬ ‫م ((]آل عمران‪ [165:‬وقوله تعالى‪ )) :‬وَ َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫عن ْد ِ أ َن ْ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل هُوَ ِ‬ ‫قُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م ((]الشورى‪.[30:‬‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫صيب َةٍ فَب ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫صاب َك ُ ْ‬ ‫أ َ‬
‫وقــد قــرر شــيخ الســلم ابــن تيميــة ]منهــاج الســنة ‪،5/410‬‬
‫ومجموع الفتاوى ‪ [266 /14‬وابن القيم ]بــدائع الفــوائد ‪،2/710‬‬
‫وشفاء العليل ص ‪ [159‬هذا المعنـى تقريـرا حسـنا‪ ،‬ونقـل بعضـه‬
‫الشارح ابن العز في شرحه ]ص ‪ [515‬فجزاهم الله خيرا ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬من الله تعـالى( أي‪ :‬كلـه بخلـق اللـه‪ ،‬وبقـدرة اللـه‪،‬‬
‫وبمشيئة الله‪ ،‬ل خروج لشيء عن ذلك‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ونحن مؤمنون بذلك كله ل نفرق بين أحد من رسله‪،‬‬
‫ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به(‪.‬‬
‫أي‪ :‬بكل ما تقدم من مسائل العتقاد التي ذكرها مما يتعلــق‬
‫باليمان بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر والقدر‪.‬‬
‫)ل نفرق بين أحد من رسله( بل نؤمن بهم جميعا‪ ،‬كما وصف‬
‫سـل ِهِ ل‬ ‫ملئ ِك َت ِـهِ وَك ُت ُب ِـهِ وَُر ُ‬ ‫ن ِبـالل ّهِ وَ َ‬ ‫مـ َ‬ ‫لآ َ‬ ‫الله المؤمنين بذلك‪ )) :‬ك ُ ّ‬
‫سـل ِهِ ((]البقــرة‪ ،[285:‬فالكفــار هــم الــذين‬ ‫فرقُ بي َ‬
‫ن ُر ُ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ح ـد ٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫نُ َ ّ‬
‫ن ب ِــالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ف ـُرو َ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّـ ِ‬ ‫فرقــوا بينهــم‪ ،‬وكفرهــم اللــه بــذلك‪ )) :‬إ ِ ّ‬

‫‪154‬‬
‫ورسل ِه ويريدو َ‬
‫ض‬
‫ن ب ِب َْعـ ٍ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ن ُؤ ْ ِ‬ ‫قوُلو َ‬‫سل ِهِ وَي َ ُ‬‫ن الل ّهِ وَُر ُ‬ ‫فّرُقوا ب َي ْ َ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َُ ُ ِ َُ ِ ُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وَن َك ْ ُ‬
‫م‬‫سـِبيل * أوْلئ ِك هُـ ُ‬ ‫ن ذ َل ِـك َ‬ ‫ذوا ب َْيـ َ‬‫خـ ُ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬
‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ريـ ُ‬ ‫ض وَي ُ َِ‬
‫فـُر ب ِب َعْـ ٍ‬
‫مِهين َـا ً ((]النســاء‪-150:‬‬ ‫ذاب َا ً ُ‬
‫ن ع َـ َ‬ ‫ري َ‬‫ق ـا ً وَأع ْت َـد َْنا ل ِل ْك َــافِ ِ‬‫ح ّ‬ ‫ال ْك َــافُِرو َ‬
‫ن َ‬
‫‪.[151‬‬
‫)ونصدقهم بكل ما جــاءوا بــه( فكمــا نــؤمن بجميــع الرســل‪،‬‬
‫نؤمن بكل ما جاءوا به‪ ،‬فمن آمن ببعض الرسل وكفر ببعض؛ فهو‬
‫ب‬ ‫ذب رســول واحــدا؛ فهــو كالمك ـذ ّ ِ‬ ‫كافر ل ينفعه إيمــانه‪ ،‬ومــن كـ ّ‬
‫لجميعهم‪ ،‬وكذلك من آمن بالرسول الواحد ولكنه كفــر ببعــض مــا‬
‫جاء به؛ فهو كافر ل ينفعه إيمانه‪ ،‬فلو آمــن أحــد بكــل مــا جــاء بــه‬
‫الرسول ‪ ‬إل مسألة واحدة مع ثبوتها وقطعيتها‪ ،‬ول يحمله علــى‬
‫ذلك التوقف في ثبوتها؛ فإنه كافر‪ ،‬فلو قال‪ :‬أنا أؤمن بالقرآن كله‬
‫إل هذه الية؛ فهو كافر‪ ،‬أنا أؤمن بكــل أحكــام الســلم إل تحريــم‬
‫الخمر؛ فإنه كافر‪.‬‬

‫]حكم أهل الكبائر في الخرة[‬


‫وقوله‪) :‬وأهل الكبائر من أمة محمد ‪ ‬في النار ل يخلدون(‪.‬‬
‫أصــحاب الكبــائر مــن المســلمين وهــم الــذين ارتكبــوا بعــض‬
‫الذنوب الكبيرة‪ ،‬والذنوب فيها‪ :‬كبائر وصغائر‪ ،‬على الصحيح‪ ،‬كمــا‬
‫جت َن ِب ُــوا‬
‫ن تَ ْ‬
‫دل على ذلك الكتاب والسنة‪ ،‬قال سبحانه وتعــالى‪ )) :‬إ ِ ْ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ه ((]النساء‪ [31:‬وقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬ال ّ ِ‬ ‫ن ع َن ْ ُ‬ ‫ك ََبائ َِر َ‬
‫ما ت ُن ْهَوْ َ‬
‫م ((]النجــم‪ [32:‬واللمــم‬ ‫ش إ ِّل الل ّ َ‬
‫مـ َ‬ ‫ح َ‬
‫وا ِ‬ ‫ن ك ََبائ َِر ال ِث ْـم ِ َوال ْ َ‬
‫فـ َ‬ ‫جت َن ُِبو َ‬
‫يَ ْ‬
‫هي‪ :‬الصغائر‪ ،‬كالنظرة المحرمة‪ ،‬كما جاء في حديث أبــي هريــرة‬
‫‪ ‬عن النبي ‪) :‬إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك‬
‫ذلك ل محالة‪ ،‬فزنا العين النظر‪ ،‬وزنا اللســان المنطــق‪ ،‬والنفــس‬
‫تتمنــى وتشــتهي‪ ،‬والفــرج يصــدق ذلــك كلــه أو يكــذبه ((‪] .‬رواه‬
‫البخاري )‪ ،(6243‬ومسلم )‪[(2657‬‬
‫ومن قال‪ :‬إن الذنوب كلها كبائر باعتبار أنه ل يستهان بشــيء‬
‫منهــا؛ إن أراد هــذا المعنــى فهــو حــق‪ ،‬ولــو كــانت ممــا يعــد مــن‬
‫الصغائر‪ ،‬أما إن أراد أن الذنوب كلها كبائر فليس بصحيح‪.‬‬
‫وقد اختلف الناس في حد الكــبيرة اختلفــا كــثيرا‪ ،‬وذكــر ابــن‬
‫القيـــم فـــي »الجـــواب الكـــافي«‪] ،‬ص ‪ [144‬وفـــي »مـــدارج‬
‫الســالكين« ]‪ [1/321‬أكــثر أو جميــع أقــوال النــاس فــي ضــابط‬
‫الكبيرة‪ ،‬وضــعف كــثيرا منهــا‪] .‬وكــذا شــيخ الســلم فــي الفتــاوى‬
‫‪ ،11/656‬وانظر‪ :‬فتح الباري ‪[10/409‬‬
‫والذين عرفوا الكبيرة منهــم مــن عرفهــا بالحــد‪ ،‬ومنهــم مــن‬
‫عرفها بالعد‪ ،‬فقالوا‪ :‬الكبائر سبع ‪ ،‬أو تسع ‪ ،‬أو سبعون‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫ن حد ٍ للكبيرة أنها‪ » :‬كل ذنب ُرّتب عليه حد في الدنيا‪،‬‬ ‫وأحس ُ‬
‫عد فاعله بلعن أو غضب أو نار‪ ،‬أو ُنفي اليمان عــن صــاحبه‪،‬‬ ‫أو ت ُوُ ِ‬
‫أو تبرأ منه النبي ‪.«‬‬
‫ومثال ما رتب عليه الحــد فــي الــدنيا‪ :‬الســرقة‪ ،‬قــال تعــالى‪:‬‬
‫َ‬
‫ما(( ]المائدة‪.[38:‬‬ ‫ة َفاقْط َُعوا ْ أي ْد ِي َهُ َ‬ ‫سارِقَ ُ‬ ‫سارِقُ َوال ّ‬ ‫))َوال ّ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ومثال ما لعن فاعله‪ :‬قذف المحصنة‪ ،‬قال تعالى‪)) :‬إ ِ ّ‬
‫ة‬
‫خـَر ِ‬ ‫ت ل ُعِن ُــوا فِــي الـد ّن َْيا َوال ِ‬
‫ْ‬ ‫من َــا ِ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫ت ال ْ ُ‬ ‫ت ال َْغافَِل ِ‬ ‫صَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫ي َْر ُ‬
‫م(( ]النــور‪.[23:‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫وَل َهُ ْ‬
‫عــد فــاعله بالغضــب‪ :‬التــولي يــوم الزحــف‪ ،‬قــال‬ ‫ومثال ما ت ُوُ ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫حي ّــزا إ ِلــى‬ ‫مت َ َ‬
‫ل أوْ ُ‬ ‫قت َــا ٍ‬
‫حّرفا ل ِ‬ ‫مت َ َ‬ ‫مئ ِذ ٍ د ُب َُره ُ إ ِل ّ ُ‬
‫م ي َوْ َ‬ ‫من ي ُوَل ّهِ ْ‬ ‫تعالى‪)) :‬وَ َ‬
‫ن الل ّهِ (( ]النفال‪[16:‬‬ ‫م َ‬ ‫ب ّ‬ ‫ض ٍ‬ ‫قد ْ َباء ب ِغَ َ‬ ‫فِئ َةٍ فَ َ‬
‫عد فاعله بالنــار‪ :‬أكــل مــال اليــتيم‪ ،‬قــال تعــالى‪:‬‬ ‫ومثال ما ت ُوُ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م‬ ‫ن فِــي ب ُطــون ِهِ ْ‬ ‫ما َيـأك ُلو َ‬ ‫ما إ ِن ّ َ‬ ‫مى ظل ً‬ ‫ل الي ََتا َ‬ ‫وا َ‬ ‫م َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن ي َأك ُُلو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫))إ ِ ّ‬
‫سِعيًرا(( ]النساء‪[10:‬‬ ‫ن َ‬ ‫صل َوْ َ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫َناًرا وَ َ‬
‫ومثال ما ُنفي عن صاحبه اليمان‪ :‬الزانــي‪ ،‬كقــول النــبي ‪:‬‬
‫)ل يزني الزاني حين يزني وهو مــؤمن( ]رواه البخــاري )‪،(2475‬‬
‫ومسلم )‪ (57‬من حديث أبي هريرة ‪[‬‬
‫ش فليس مني(‬ ‫من غ ّ‬ ‫ومثال ما تبرأ منه النبي ‪ ،‬قوله ‪َ ) :‬‬
‫]رواه مسلم )‪ (102‬من حديث أبي هريرة ‪ [‬وقــوله ‪) :‬ليــس‬
‫منا من ضرب الخدود‪ ،‬أو شق الجيوب‪ ،‬أو دعا بدعوى الجاهليــة(‪.‬‬
‫]رواه البخاري )‪ ،(1297‬ومسلم )‪ (103‬من حــديث ابــن مســعود‬
‫‪[‬‬
‫والكبائر نفسها متفاوتة‪ ،‬ليست علــى حــد ســواء‪ ،‬بــل بعضــها‬
‫أكبر من بعض‪ ،‬حتى تنتهي الذنوب إلى أكبر الكبائر‪ ،‬وهو الشرك‪،‬‬
‫ومن الدلــة علــى هــذا‪ :‬حــديث أبــي بكــرة ‪ ‬عــن النــبي ‪) :‬أل‬
‫أنبئكم بأكبر الكبــائر؟ )ثلثــا(‪ :‬الشــراك بــالله‪ ،‬وعقــوق الوالــدين‪،‬‬
‫وشــهادة الــزور‪ ،‬وكــان رســول اللــه ‪ ‬متكئا فجلــس‪ ،‬فمــا زال‬
‫يكررها حتى قلنا‪ :‬ليته سكت(‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(2654‬ومسلم )‬
‫‪[(87‬‬
‫وبهذا يتبين أن النهي المجرد يدل على التحريم؛ فإن ورد فيه‬
‫تغليظ فهو كبيرة‪.‬‬
‫فأما الذنوب الصغيرة فمثل ما ورد في حديث أبي هريــرة ‪‬‬
‫السابق ]ص[‪ ،‬ومثــل ســرقة الشــيء الحقيــر الــذي ل قطــع فيــه‪،‬‬
‫ومثل كذبة الم على طفلهـا إذا قـالت‪ :‬تعـال أعطيــك كـذا‪ ،‬ثــم ل‬
‫تعطيه‪.‬‬
‫فهذه الصغائر جاء في الحاديث الصحيحة أنها تكفر بالعمال‬
‫جت َن ِب ُــوا‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫الصالحة وباجتناب الكبــائر‪ ،‬كمــا فــي قــوله تعــالى‪ )) :‬إ ِ ْ‬

‫‪156‬‬
‫م ـا ً ((‬ ‫خَل ً ك َ ِ‬
‫ري َ‬ ‫مد ْ َ‬ ‫خل ْك ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫سي َّئات ِك ُ ْ‬
‫م وَن ُد ْ ِ‬ ‫فْر ع َن ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ه ن ُك َ ّ‬
‫ن ع َن ْ ُ‬ ‫ك ََبائ َِر َ‬
‫ما ت ُن ْهَوْ َ‬
‫]النساء‪ [31:‬وقول النــبي ‪) :‬الصــلوات الخمــس والجمعــة إلــى‬
‫الجمعــة ورمضــان إلــى رمضــان مكفــرات مــا بينهــن إذا اجتنبــت‬
‫الكبائر( ]رواه مسلم )‪ (233‬من حديث أبي هريرة ‪[‬‬
‫و قوله ‪) :‬ما اجتنبت الكبائر( قيل‪ :‬إن هذا شرط في تكفير‬
‫الصغائر‪ ،‬فل تكفر الصغائر إل بشرط اجتناب الكبائر‪ ،‬ومنهــم مــن‬
‫قــال‪ :‬إنهــا تكفــر مــا بينهــا إل الكبــائر‪] .‬فتــح البــاري لبــن رجــب‬
‫‪ ،4/223‬وفتح الباري لبن حجر ‪2/12‬و ‪372‬و ‪[8/357‬‬
‫أمــا الكبــائر فإنهــا ل تغفــر إل بالتوبــة النصــوح‪ ،‬أو بالحــدود‬
‫المقدرة؛ فإن الحدود كفارات لهلها‪ ،‬أو برجحان الحســنات‪ ،‬فقــد‬
‫يكون للعبد حسنات عظيمة ترجح بما عليه من سيئات‪.‬‬
‫هذا ما يتعلق بالكبائر‪.‬‬
‫أما مرتكب الكبيرة فله حكم فــي الــدنيا وحكــم فــي الخــرة‪،‬‬
‫فحكمه في الدنيا تقدمت الشارة إليه ]ص[‪ ،‬وأن مرتكب الذنوب‬
‫التي دون الشرك ل يكفر بذلك خلفا للخوارج؛ بل ول يخــرج مــن‬
‫اليمان خلفا للمعتزلة؛ بل هو مؤمن ناقص اليمان‪.‬‬
‫أما حكمه في الخــرة فأهــل الســنة والجماعــة يقولــون‪ :‬إنــه‬
‫تحت مشيئة الله إن شاء غفر له ولم يدخله النار‪ ،‬وإن شاء عــذبه‬
‫ثــم أخرجــه مــن النــار برحمتــه وبشــفاعة الشــافعين مــن أهــل‬
‫الطاعات‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬وأهل الكبائر من أمة محمــد ‪] (‬قــوله‪ » :‬مــن أمــة‬


‫محمد ‪ «‬رأيت مخطوطتين ليست فيها هذه الجملــة‪ ،‬كــذا ذكــر‬
‫ابن أبي العز ص ‪ :525‬أنها ليست في بعض النسخ [‬
‫هذا القيد قد يكون له مفهوم‪ ،‬وأن حكم أهل الكبــائر مختــص‬
‫بأمة محمد ‪‬؛ وأهل الكبائر من المم الماضــية ليــس عنــدنا فــي‬
‫حكمهم دليل‪ ،‬إنما النصوص الصريحة جاءت في شأن أمة محمــد‬
‫‪ ،‬ففي الحديث الصحيح أنه ‪ ‬قال‪) :‬لكل نبي دعوة مســتجابة‪،‬‬
‫فتعجل كل نبي دعوته‪ ،‬وإني اختبأت دعــوتي شــفاعة لمــتي يــوم‬
‫القيامة‪ ،‬فهي نائلة ـ إن شاء الله ـ من مات مــن أمــتي ل يشــرك‬
‫بالله شيئا( وكذلك أحاديث الشفاعة المصرحة بأنه ‪ ‬يشفع أربــع‬
‫مرات وفي كل مرة‪) :‬يسجد ‪ ‬لربه ويدعو ويستشفع فيقال لــه‪:‬‬
‫ارفع رأسك‪ ،‬وقل تسمع‪ ،‬وسل تعطه‪ ،‬واشفع تشــفع‪ ،‬ثــم أشــفع‪:‬‬
‫دا فأخرجهم من النار( وهذا ما عناه الطحــاوي بقــوله‪:‬‬ ‫حد ّ لي ح ً‬
‫في َ ُ‬
‫)وأهــل الكبــائر‪ ...‬فــي النــار ل يخلــدون( ) فــي النــار( متعلــق‬
‫بـ)يخلــدون( أي‪ :‬وأهــل الكبــائر ل يخلــدون فــي النــار إذا دخلوهــا‪،‬‬

‫‪157‬‬
‫وليس مقصوده أنهم ل بد لهم من دخول النار ولكنهــم ل يخلــدون‬
‫فيها‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬إذا ماتوا وهم موحدون‪ ،‬وإن كــانوا غيـَر تــائبين( هــذا‬
‫قيد ل بد منه‪ ،‬وهذا هو محل الخلف بين طوائف المســلمين‪ ،‬أمــا‬
‫التائب فقد اتفقوا أن من تاب تاب اللــه عليــه‪ ،‬لكــن الخلف فــي‬
‫ض للوعيــد؛‬ ‫معَّر ُ‬‫من مات مصرا على ذنبه لم يتب منه‪ ،‬فهذا هو ال ُ‬
‫أما من تاب توبة نصوحا مستوفية للشروط إقلعا ونــدما وعزمــا؛‬
‫فإنه مغفور له‪ ،‬وليس هو من أهل الوعيد‪.‬‬
‫والطحاوي هنا بّين مذهب أهل الســنة والجماعــة فــي حكــم‬
‫أهل الكبائر في الخرة‪ :‬أنهــم مســتحقون للوعيــد؛ ولكنهــم تحــت‬
‫مشيئة الله‪ ،‬إن شاء غفر لهم‪ ،‬وإن شاء عذبهم‪ ،‬ومن عذبه منهــم‬
‫فل بد أن يخرجه من النار؛ لنه ل يخلد أحد مــن أهــل التوحيــد‪ ،‬إذ‬
‫)من قال‪ :‬ل إله إل الله‪ ،‬وفي قلبه مثقــال خردلــة‪ ،‬أو شــعيرة‪ ،‬أو‬
‫ب ُّرة أو ذرة من إيمان( لبــد أن يخــرج مــن النــار‪ ،‬كمــا تقــدم فــي‬
‫أحاديث الشفاعة‪] .‬ص[‬
‫أما الخوارج والمعتزلة فقد اتفقوا على حكم مرتكب الكــبيرة‬
‫في الخرة‪ ،‬وهو‪ :‬أنه لبد من دخول النار‪ ،‬وعنــدهم أن مــن دخــل‬
‫النار؛ فإنه ل يخرجون منها ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬بعد أن لقوا الله عارفين( أي‪ :‬مؤمنين بربهم اليمان‬
‫الصحيح‪ ،‬وعلق الشارح ابن أبي العز على قـوله‪) :‬عـارفين( بـأنه‪:‬‬
‫» لو قال‪) :‬مؤمنين( لكن أولى؛ لن من عرف الله ولم يــؤمن بــه‬
‫فهو كافر‪ ،‬ثم قال‪ :‬وكأنه يريد المعرفة التامة المستلزمة للهتداء‬
‫التي يشير إليها أهل الطريقة‪ ،‬وحاشـا أولئك أن يكونـوا مـن أهـل‬
‫الكبائر؛ بل هم سادة الناس وخاصتهم«‪] .‬ص ‪[527‬‬
‫لن أهل الكبائر ليســوا مــن أهــل العلــم التــام بــالله ســبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وإنما يريد مطلــق المعرفــة‪ ،‬إذا مــاتوا بعــد أن لقــوا اللــه‬
‫عارفين موحدين‪.‬‬
‫قوله‪) :‬وهم فــي مشــيئته وحكمــه‪ ،‬إن شــاء غفــر لهــم وعفــا‬
‫ن ذ َل ِـ َ‬
‫ك‬ ‫دو َ‬‫مــا ُ‬
‫فُر َ‬‫عنهم بفضله‪ ،‬كما ذكر عز وجل في كتابه‪ )) :‬وَي َغْ ِ‬
‫شاُء ((]النساء‪ ،[48:‬وإن شاء عذبهم فــي النــار بعــدله‪ ،‬ثــم‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬
‫لِ َ‬
‫يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته(‪.‬‬
‫أي‪ :‬في الخرة هم في مشيئة الله وحكمه‪ ،‬يحكــم فيهــم بمــا‬
‫شاء‪ ،‬وهو الحكيم العدل الجــواد المتفضــل ســبحانه وتعــالى‪ ،‬وإذا‬
‫مــل؛ فإمـا أن يغفــر اللـه لهــم‬ ‫كانوا تحت مشيئة اللـه فــالمر محت َ‬
‫ويدخلهم الجنة بل عذاب‪ ،‬وإما أن يعــذبهم بالنــار حســبما تقتضــيه‬
‫حكمته ومشيئته‪ ،‬ثم يخرجهم منهــا برحمتــه وبشــفاعة الشــافعين‬

‫‪158‬‬
‫هل‬ ‫ن الّلـ َ‬ ‫من أهل الطاعات‪ ،‬والدليل علــى هـذا قـوله تعــالى‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫شـاُء ((]النسـاء‪[48:‬‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫شَر َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫َ‬
‫مـ ْ‬ ‫ك لِ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫فُر َ‬ ‫ك ب ِهِ وَي َغْ ِ‬ ‫فُر أ ْ‬ ‫ي َغْ ِ‬
‫ودلت هذه الية على أن الذنوب قسمان‪:‬‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ه ل ي َغْفِ ـُر أ ْ‬ ‫ن الل ـ َ‬ ‫قســم ل ُيغفــر‪ ،‬وهــو الشــرك الكــبر‪ )) ،‬إ ِ ّ‬
‫ه((]النساء‪ [48:‬خص الشــرك بــأنه ل يغفــر‪ .‬وقســم دون‬ ‫ك بِ ِ‬ ‫شَر َ‬ ‫يُ ْ‬
‫شــاُء ((]النســاء‪ [48:‬وقي ّــد‬ ‫ن يَ َ‬‫مـ ْ‬ ‫ك لِ َ‬ ‫ن ذ َل ِـ َ‬ ‫دو َ‬ ‫مــا ُ‬ ‫فُر َ‬‫الشرك )) وَي َغْ ِ‬
‫غفرانه بالمشيئة‪.‬‬
‫ي‬
‫عب َــاد ِ َ‬ ‫ل ي َــا ِ‬‫ويشكل على ظاهر هذه الية قوله تعــالى‪ )) :‬قُ ـ ْ‬
‫فُر‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي َغْ ِ‬ ‫مةِ الل ّهِ إ ِ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫م ْ‬ ‫طوا ِ‬ ‫قن َ ُ‬ ‫م ل تَ ْ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫سَرُفوا ع ََلى أ َن ْ ُ‬ ‫نأ ْ‬
‫ال ّذي َ‬
‫ِ َ‬
‫ميعَا ((]الزمر‪ [53:‬فيهــا الطلق والتعميــم‪ ،‬فعــم حيــث‬ ‫ً‬ ‫ج ِ‬‫ب َ‬ ‫الذ ُّنو َ‬
‫ميعَا ً ((‪ ،‬وأطلق حيث لم تقيد هذه المغفرة بالمشيئة‪.‬‬ ‫ج ِ‬‫قال‪َ )) :‬‬
‫فالتعارض بين اليتين ظاهر‪ ،‬في آية الزمر عم وأطلق‪ ،‬وفي‬
‫آية النساء خص وقيد‪.‬‬
‫والجمع بين اليتين‪ :‬أن آية النساء في شأن من لم يتب‪ ،‬وآية‬
‫الزمر في التــائب‪ ،‬فمــن تــاب تــاب اللــه عليــه‪ ،‬ومغفــرة الــذنوب‬
‫بالتوبة جاءت مطلقة غيــر مقيــدة‪ ،‬فل نقيــدها‪ ،‬ول نقــول‪ :‬إن مــن‬
‫تاب تاب الله عليه إذا شاء‪ ،‬فمن تاب توبة نصوحا تاب الله عليــه‪،‬‬
‫ســوَء‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مل ُــو َ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ة ع َل َــى الل ّـهِ ل ِل ّـ ِ‬ ‫مــا الت ّوْب َـ ُ‬ ‫وعــدا ل يخلــف )) إ ِن ّ َ‬
‫ُ‬
‫ه‬‫ن الل ّـ ُ‬ ‫م وَك َــا َ‬ ‫ه ع َل َي ْهِ ـ ْ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫ك ي َُتو ُ‬ ‫ب فَأوْل َئ ِ َ‬ ‫ري ٍ‬ ‫ن قَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬‫م ي َُتوُبو َ‬ ‫جَهال َةٍ ث ُ ّ‬ ‫بِ َ‬
‫ما ً ((]النساء‪ ،[17:‬فمن لم يتب إن كــان ذنبــه الشــرك؛‬ ‫كي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ما ً َ‬ ‫ع َِلي َ‬
‫فــإنه ل يغفــر اللــه لــه‪ ،‬وإن كــانت ذنــوبه دون ذلــك فإنهــا تحــت‬
‫المشيئة‪ ،‬هذا من لم يتب‪ ،‬أما مــن تــاب فيتــوب اللــه عليــه مهمــا‬
‫كانت ذنوبه ك َِبرا وكثرة‪ ،‬كما في قصة الذي قتــل تســعة وتســعين‬
‫نفسا‪ ،‬ثم كمل المائة‪ ،‬ثم تاب توبة نصوحا؛ فقبل اللــه منــه وغفــر‬
‫له‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(3470‬ومسلم )‪ (2766‬وسيأتي بلفظه في‬
‫ص[‬
‫فهذا هو الدليل على هذا التفصــيل‪ ،‬وأن مــن مــات مــن أهــل‬
‫الكبائر من غير توبة؛ فإنه تحت مشيئة الله إن شاء اللــه غفــر لــه‬
‫وإن شاء عذبه‪.‬‬
‫والذين يخرجهــم اللــه ســبحانه مــن النــار منهــم مــن يخرجــه‬
‫بشفاعة الشافعين‪ ،‬وأعظم الناس حظا من أهل الشفاعة هو نبينا‬
‫‪ ،‬فالله يخرج بشفاعته من النار ما ل يخرجه بشفاعة غيره مــن‬
‫الملئكة والنــبيين والصــالحين؛ فــإن الملئكــة يشــفعون‪ ،‬والنبيــاء‬
‫يشفعون‪ ،‬والمؤمنون يشفعون‪ ،‬ويخرج سبحانه من شاء من النــار‬
‫ب من جهة بعض العباد‪ ،‬ومرد المر كله إلى‬ ‫بمحض رحمته ل بسب ٍ‬
‫الله‪ ،‬فالله هو الذي يأذن للشافع بالشفاعة‪ ،‬وهو الذي يقبلها منه‪،‬‬
‫فمرد المر كله إليه‪] .‬انظر‪ :‬ص[‬

‫‪159‬‬
‫وقوله‪) :‬ثم يبعثهم إلى جنته(‪.‬‬
‫بعدما يخرجهم من النار يبعثهم إلى الجنة‪ ،‬كما فــي الحــديث‪:‬‬
‫قــون فــي نهــر‬ ‫ما ‪ ،‬فَي ُل ْ َ‬‫م ً‬
‫حـ ـ َ‬
‫» وأنهم يخرجون من النار وقد صاروا ُ‬
‫حب ّــة فــي‬ ‫بأفواه الجنة يقال له ‪ :‬نهر الحياة‪ ،‬فَي َن ْب ُت ُــون كمــا تنبــت ال ِ‬
‫حميل السيل‪ ...‬فيدخلون الجنة« ]تقدم في ص[‪ ،‬بفضله ســبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته(‪.‬‬
‫هــذا تعليــل لقــوله ــ فــي أهــل الكبائرـــ‪) :‬وهــم فــي مشــيئته‬
‫وحكمه‪ ،‬إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضــله‪ ...‬وإن شــاء عــذبهم‬
‫في النار بعدله‪ ،‬ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشــافعين مــن‬
‫َ‬ ‫أهل طاعته( )) ذ َل َ َ‬
‫نل‬ ‫ن ال ْك َــافِ ِ‬
‫ري َ‬ ‫من ُــوا وَأ ّ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫موَْلى ال ّـ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ك ب ِأ ّ‬ ‫ِ‬
‫م ((]محمد‪ [11:‬فالله ولي المؤمنين‪ ،‬وكل عبد مؤمن له‬ ‫موَْلى ل َهُ ْ‬ ‫َ‬
‫حظ ونصيب من ولية الله سبحانه بقدر ما معه من إيمان وعمــل‬
‫م‬
‫هـ ْ‬‫م َول ُ‬ ‫ف ع َل َي ِْهـ ْ‬ ‫خـوْ ٌ‬ ‫ن أ َوْل َِيـاَء الّلـهِ ل َ‬ ‫َ‬
‫صالح‪ ،‬قــال تعـالى‪ )) :‬أل إ ِ ّ‬
‫ن ((]يونس‪.[63-62:‬‬ ‫قو َ‬‫كاُنوا ي َت ّ ُ‬ ‫مُنوا وَ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ن * ال ّ ِ‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫والمعرفة هنا كالمعرفة فــي قــوله الســابق ]ص[‪) ،‬عــارفين(‬
‫أي‪ :‬مطلق المعرفة ومطلق اليمان‪ ،‬ل المعرفة التامة الــتي هــي‬
‫كمال العلم بالله‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته(‪.‬‬
‫اللــه ســبحانه تــولى أهــل معرفتــه ولــم يجعلهــم فــي الــدنيا‬
‫والخرة كأهل نكرته‪ ،‬فالفاســق فــي الــدنيا أخ للمــؤمنين‪ ،‬فقــوله‬
‫ع‬
‫ل جميـ َ‬ ‫خـوَة ٌ ((]الحجــرات‪ [10:‬يشــم ُ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫من ُــو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫مــا ال ْ ُ‬ ‫تعالى‪ )) :‬إ ِن ّ َ‬
‫المــؤمنين صــالحهم وفاســقهم‪ ،‬وقــال تعــالى فــي شــأن القاتــل‪:‬‬
‫يٌء ((]البقـرة‪ [178:‬فجعـل القاتــل‬ ‫شـ ْ‬ ‫خيـهِ َ‬ ‫ن أَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ي لَ ُ‬‫ف َ‬ ‫ن عُ ِ‬ ‫)) فَ َ‬
‫م ْ‬
‫أخـــا للمقتـــول‪ ،‬فالفاســـق ل يجعلـــه كالكفـــار المنكريـــن لـــه‪،‬‬
‫أوالمشركين به‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬الذين خــابوا مــن هــدايته( هــم الكفــار والمشــركون‪،‬‬
‫فليس لهم حظ أبدا من الهداية‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ولم ينالوا من وليته(‪.‬‬
‫عبارة المؤلف دقيقة‪ ،‬فلم يقل‪) :‬ولم ينــالوا وليتــه(‪ ،‬فيشــعر‬
‫بالكمال؛ بل قال‪) :‬ولم ينالوا مــن وليتــه( فمــا نــالوا حظــا‪ ،‬وهــذا‬
‫منطبق على الكفار‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬اللهم يا ولي السلم وأهله‪ ،‬ثبتنا على الســلم حــتى‬
‫نلقاك به(‪.‬‬
‫ختم الكلم في حكم أهــل الكبــائر فــي الخــرة‪ ،‬وأنهــم تحــت‬
‫مشيئة الله‪ ،‬وأن الله ميزهم فلم يجعلهم كالكفار الذين هــم أهــل‬
‫النار‪ ،‬بقوله‪) :‬اللهم يا ولي السلم وأهله‪ ،‬ثبتنا على السلم حــتى‬

‫‪160‬‬
‫نلقاك به( وهذا يتضمن سؤال الله حسن الخاتمــة‪ ،‬والثبــات علــى‬
‫َ‬
‫ه‬
‫قات ِ ِ‬
‫حقّ ت ُ َ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫السلم‪ ،‬قال الله تعالى‪َ )) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن ((]آل عمران‪ [102:‬يعني‪ :‬استقيموا‬ ‫مو َ‬‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن إ ِّل وَأن ْت ُ ْ‬
‫موت ُ ّ‬
‫َول ت َ ُ‬
‫على السلم حتى يأتيكم الموت وأنتم علــى ذلــك‪ ،‬وهكــذا ينبغــي‬
‫للمسلم أن يسأل ربه الثبات على السلم‪ ،‬والستقامة عليه حتى‬
‫الممات؛ فإن العمال بالخواتيم‪ ،‬ومــن دعــاء النبيــاء والصــالحين‪:‬‬
‫سؤال الثبات والوفاة على السلم كما قال يوسف عليه الســلم‪:‬‬
‫ن ((]يوســف‪ ،[101:‬وقــال‬ ‫حي َ‬ ‫صــال ِ ِ‬
‫قن ِــي ِبال ّ‬ ‫ح ْ‬‫ما ً وَأ َل ْ ِ‬
‫س ـل ِ َ‬ ‫)) ت َـوَفِّني ُ‬
‫م ْ‬
‫َ‬
‫ن ((‬ ‫مي َ‬‫س ـل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ص ـب َْرا ً وَت َوَفّن َــا ُ‬ ‫الســحرة بعــد التوبــة‪ )) :‬أفْ ـرِغ ْ ع َل َي ْن َــا َ‬
‫]العراف‪ ،[126:‬وذكر الشارح ابن أبي العز أن بعضهم‪» :‬استدل‬
‫بهاتين اليتين علــى جــواز تمنــي المــوت‪ ،‬ول دليــل لــه فيــه؛ فــإن‬
‫الــدعاء إنمــا هــو بــالموت علــى الســلم‪ ،‬ل بمطلــق المــوت‪ ،‬ول‬
‫بالموت الن« ]ص ‪ [529‬بل هو من سـؤال اللـه حسـن الخاتمـة‪،‬‬
‫ن ((‬ ‫حي َ‬ ‫صــال ِ ِ‬
‫قن ِــي ِبال ّ‬ ‫ما ً وَأ َل ْ ِ‬
‫ح ْ‬ ‫س ـل ِ َ‬‫م ْ‬ ‫والوفاة علــى الســلم )) َتـوَفِّني ُ‬
‫]يوسف‪ ،[101:‬أما تمنــي المــوت فل يجــوز لنهــي النــبي ‪ ‬عنــه‬
‫بقوله‪ » :‬ل يتمنين أحدكم الموت لضــر نــزل بــه‪ ،‬فــإن كــان ل بــد‬
‫متمنيا فليقل‪ :‬اللهم أحيني ما كانت الحياة خيــرا لــي‪ ،‬وتــوفني إذا‬
‫كانت الوفاة خيرا ً لي«‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(6351‬ومسلم )‪(2680‬‬
‫من حديث أنس ‪[ .‬‬

‫]مذهب أهل السنة في الصلة خلف المسلمين‪ ،‬وعلى‬


‫موتاهم[‬
‫وقوله‪) :‬ونرى الصلة خلف كل بر وفــاجر مــن أهــل القبلــة‪،‬‬
‫وعلى من مات منهم(‪.‬‬
‫)ونرى( نحن أهل السنة؛ لن العقيدة بهــا تقريــر منهــج أهــل‬
‫السنة )الصــلة خلــف كــل بــر وفــاجر مــن أهــل القبلــة( أي‪ :‬مــن‬
‫المسلمين‪ ،‬والبر‪ :‬الصالح التقــي‪ .‬والفــاجر‪ :‬الفاســق الــذي ظهــر‬
‫فسقه وفجوره بما ارتكب من ذنوب‪.‬‬
‫أي‪ :‬أننا ل نعطل الجمع والجماعات‪ ،‬وصلة العيدين من أجــل‬
‫فجور أو فسق المام؛ فإن هذه شرائع وشــعائر ظــاهرة‪ ،‬والصــل‬
‫أن صلة الفاجر والفاسق صحيحة‪ ،‬ومن الدلــة العامــة علــى هــذا‬
‫حديث أبي هريرة ‪ ‬في صحيح البخاري عــن النــبي ‪ ‬أنــه قــال‬
‫في الئمة‪) :‬يصلون لكــم؛ فــإن أصــابوا فلكــم ولهــم‪ ،‬وإن أخطئوا‬
‫فلكم وعليهم( ]رقم )‪[(694‬؛ لن فسوق الفاسق وفجور الفــاجر‬
‫عليه ول يضرك‪.‬‬
‫ومن الدليل على هذا الصل ما جاء عن الصحابة رضــي اللــه‬
‫عنهــم والتــابعين‪ ،‬فقــد كــانوا يصــلون خلــف الــولة مــع جــورهم‬

‫‪161‬‬
‫وظلمهم كما صلى ابن عمر رضي الله عنهمــا خلــف الحجــاج بــن‬
‫يوسف المعروف بظلمــه‪] ،‬رواه البخــاري )‪ ،(1660‬وانظــر‪ :‬فتــح‬
‫الباري لبــن رجــب ‪ [195-6/186‬وفــي الصــحيح عــن أبــي ذر ‪‬‬
‫قال‪ :‬قال لي رسول الله ‪ »: ‬كيف أنت إذا كــانت عليــك أمــراء‬
‫صـ ّ‬
‫ل‬ ‫يؤخرون الصلة عن وقتها ؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬فما تأمرني ؟ قــال‪َ :‬‬
‫الصلة لوقتها؛ فإن أدركتها معهــم فَ َ‬
‫صـ ّ‬
‫ل؛ فإنهــا لــك نافلــة( ]رواه‬
‫مسلم )‪ [(648‬فهذا يدل على صــحة الصــلة خلفهــم؛ لنهــا تصــح‬
‫نافلة‪.‬‬
‫وترك إقامة الجمع والعياد خلــف المــام لفجــوره مــن منهــج‬
‫المبتدعة‪ ،‬ولهذا نص أهل العلم على هذه المسألة في هذا الباب‪،‬‬
‫وإل فالصل أن هذه المسألة عملية من الحكام الفقهية؛ لكن لما‬
‫لم يكن الخلف في هذا بين أهل السنة؛ بل أجمعوا علــى الصــلة‬
‫خلف الئمة أبرارا كــانوا أم فجــارا‪ ،‬نصــوا عليــه فــي بيــان أصــول‬
‫ومنهج أهل السنة؛ لكن إذا كان هناك إمام عدل وفاســق‪ ،‬فالــذي‬
‫ينبغـي الصـلة خلـف العـدل‪ ،‬وأمـا الصـلة خلـف الفاسـق؛ فإنهـا‬
‫صحيحة كما قلنا؛ لكن ينبغي هجر وترك الصلة خلفه إذا أمكن أن‬
‫ُيصلى خلف غيره؛ بــل ينبغــي الســعي فــي عزلــه إذا أمكــن ذلــك‬
‫بدون مفسدة؛ لنه ل يجوز تولية الفــاجر والفاســق فــي المامــة‪،‬‬
‫فمن له قدرة على عزله وإبـداله بالعـدل وجـب عليـه‪ ،‬وهـذا مـن‬
‫إنكار المنكــر‪ ،‬لكــن محــل قولنــا‪ُ) :‬يصــلى خلفــه( إذا لمــن تمكــن‬
‫الصلة خلف غيره‪ ،‬أما إذا أمكنت الصلة خلف غيره فهي الولى‪،‬‬
‫وأولــى مــن الصــلة خلــف الفــاجر الصــلة خلــف المخــالف فــي‬
‫المذهب‪ ،‬فيجوز أن تصلي خلــف مــن يخالفــك فــي بعــض أحكــام‬
‫الصلة‪ ،‬فيجوز أن تصلي خلف من يرى أن أكل لحم الجــزور غيــر‬
‫ناقض‪ ،‬وأنت تعتقد أن أكل لحم البل ناقض‪ ،‬فأنت لو أكلت لحــم‬
‫الجزور لرأيت أن صلتك ل تصح بدون وضــوء‪ ،‬لكــن هــذا صــاحب‬
‫المــذهب الخــر صــلته صــحيحة؛ لن هــذا الــذي أداه إليــه علمــه‬
‫واجتهاده‪ ،‬فل ُتترك الصــلة للخلف المــذهبي فــي بعــض شــروط‬
‫الصلة؛ لن في ترك الصلة لذلك تفريــق بيـن المســلمين‪ ،‬وهــذه‬
‫مفسدة كبرى‪ ،‬وفساد عريض‪ ،‬فل تترك الصلة خلف مخالفك في‬
‫المذهب فيجوز للحنبلــي أن يصــلي خلــف الحنفــي أو المــالكي أو‬
‫الشافعي ‪ ،‬وكذا العكس‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬من أهل القبلة( أي‪ :‬من المسلمين‪.‬‬
‫أما من ظهر ـ والعياذ بالله ـ منـه مـا يـوجب ردتـه فل يصـلى‬
‫خلفه‪ ،‬وإن كان ينتسب للسلم‪ ،‬ومن هذا النوع‪ :‬القبوريون الذين‬
‫يدعون الموات ‪ ،‬كالرافضة فهم قبورية مشــركون‪ ،‬يــدعون علي ًــا‬

‫‪162‬‬
‫والحسين ـ رضــي اللــه عنهمــا ــ وغيَرهمـا‪ ،‬ويســتغيثون بهــم فـي‬
‫الشدائد‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وعلى من مات منهم(‪.‬‬
‫أي‪ :‬ونرى صلة الجنازة على من مات مــن المســلمين‪ ،‬فــإن‬
‫الصلة على الميت فرض كفاية‪ ،‬وهي مستحبة لغيــر مــن تحصــل‬
‫ث ضعيف عن النــبي ‪) :‬صــلوا علــى‬ ‫بهم الكفاية‪ ،‬وقد ُروي حدي ٌ‬
‫من قال‪ :‬ل إلــه إل اللــه‪ ،‬وصــلوا خلـف مــن قــال‪ :‬ل إلــه إل اللــه(‬
‫]رواه الدارقطني في سننه )‪ (1763-1761‬من حديث ابــن عمــر‬
‫رضي الله عنهما‪ ،‬وقال‪ :‬ليس يثبت منها شيء‪ ،‬وضــعفها الــبيهقي‬
‫الســنن الكــبرى ‪ ،4/19‬وانظــر‪ :‬نصــب الرايــة ‪ ،2/27‬والتلخيــص‬
‫الحبير ‪ [2/934‬لكن معناه صحيح دلت عليه نصوص أخرى‪.‬‬
‫ويخص من هذا شهيد في المعركة على خلف في ذلك؛ لنــه‬
‫ثبت أن النبي ‪» ‬أمر بدفن قتلى أحد في دمائهم‪ ،‬ولــم يغســلوا‪،‬‬
‫ل عليهم « ]رواه البخاري )‪ (1343‬مــن حــديث جــابر بــن‬ ‫ولم يص ّ‬
‫عبدالله رضي الله عنهما[‪ ،‬كما أنه ينبغي للمام والعالم والرجــل‬
‫الصالح المشهور أن يترك الصلة على الفجار والفساق زجرا عن‬
‫حالهم وأعمالهم‪ ،‬ودليل هذا حــديث جــابر بــن ســمرة ‪ ‬قــال‪» :‬‬
‫ل عليــه« ]رواه مســلم )‬ ‫ُأتي النبي ‪ ‬برجل قتل نفسه فلــم يص ـ ّ‬
‫‪ ،[(978‬بل كان النبي ‪ ‬يترك الصلة على من مات وعليــه ديــن‬
‫لم يترك له وفاء ]رواه البخــاري )‪ ،(6731‬ومســلم )‪ (1619‬مــن‬
‫حديث أبي هريرة ‪ ،[‬زجرا عن تحمل الديون من غير أن يكــون‬
‫لها وفاء‪.‬‬

‫]ل يشهد لمعين من أهل القبلة بجنة ول نار إل بحجة[‬


‫وقوله‪) :‬ول ننزل أحدا منهــم جنــة ول نــارا‪ ،‬ول نشــهد عليهــم‬
‫بكفر ول بشرك ول بنفاق‪ ،‬ما لم يظهر منهم شيء من ذلك‪ ،‬ونذر‬
‫سرائرهم إلى الله تعالى(‪.‬‬
‫أي‪ :‬ل نشهد لحد من أهل القبلة من المسلمين بأنه من أهل‬
‫الجنــة لصــلحه‪ ،‬ول نشــهد علــى أحــد منهــم بــأنه مــن أهــل النــار‬
‫لمعصية أو بدعة‪ ،‬بل نفوض علمهـم إلــى اللــه‪ ،‬فهــو تعـالى أعلــم‬
‫بمآلهم وبحالهم‪ ،‬ول نشـهد بالجنـة إل لمـن شـهد لـه الرسـول ‪‬‬
‫كالعشرة المبشرين بالجنة‪ ،‬والحسن والحسين‪ ،‬وثابت بــن قيــس‬
‫ماس‪ ،‬ولجميع أهل بيعــة الرضــوان‪ ،‬وتقــدمت الشــارة إلــى‬ ‫بن ش ّ‬
‫هذه المسألة وأن فيها ثلثة مذاهب‪] ،‬ص وهناك تخريج الحاديث[‬
‫والطحاوي يكرر المعنى الواحد في عدة مواضع‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ول نشهد عليهم بكفــر ول بشــرك ول بنفــاق‪ ،‬مــا لــم‬
‫يظهر منهم شيء من ذلك( تقدم هذا المعنى في قوله‪) :‬ول نكفر‬

‫‪163‬‬
‫أحدا من أهل القبلة بذنب ما لــم يســتحله(‪ ،‬فل نحكــم علــى أحــد‬
‫بالكفر إل أن يظهر منه ما يوجب الردة‪ ،‬فمتى ظهر منه ما يوجب‬
‫الردة قلنا‪ :‬إنــه كــافر‪ ،‬ونحكــم عليــه تعيينــا إذا تــوفرت الشــروط‪،‬‬
‫وانتفت الموانع‪ ،‬فلو سمعنا إنسانا يتكلم بكلمة الكفر‪ ،‬فنتثبت أهو‬
‫ح أم مجنون‪ ،‬أم سكران‪ ،‬فإن كان معه عقله؛ فننظر ماذا يريد‬ ‫صا ٍ‬
‫بهذه الكلمة‪ ،‬فقــد تكــون محتملــة‪ ،‬فــإذا تحققنــا أنــه قالهــا عالمــا‬
‫بمعناها‪ ،‬مختارا غير مكــره‪ ،‬ذاكــرا مــن غيــر ســبق لســان حكمنــا‬
‫بكفره‪.‬‬
‫) ونذر سرائرهم إلى الله تعالى(‪.‬‬
‫فل ندخل في سرائر الناس‪ ،‬ول نتهمهم ونقول‪ :‬هــذا مــرائي‪،‬‬
‫هذا منــافق‪ ،‬فأحكــام الــدنيا تجــري علــى الظــواهر‪ ،‬فالرســول ‪‬‬
‫ب عــن قلــوب النــاس‪ ،‬أو‬ ‫مْر أن أ ُن َ ّ‬
‫ق َ‬
‫ُ‬
‫أعلم الخلق يقول‪) :‬إني لم أو َ‬
‫أشــق بطــونهم( ]رواه البخــاري )‪ ،(4351‬ومســلم )‪ (1063‬مــن‬
‫حديث أبي سعيد الخدري ‪ ،[‬وقال النبي ‪ ) :‬أمــرت أن أقاتــل‬
‫الناس حتى يشهدوا أن ل إلــه إل اللــه‪ ،‬وأن محمــدا رســول اللــه‪،‬‬
‫ويقيمــوا الصــلة‪ ،‬ويؤتــوا الزكــاة‪ ،‬فــإذا فعلــوا ذلــك عصــموا منــي‬
‫دماءهم وأموالهم إل بحق السلم وحسابهم على الله( ]تقدم في‬
‫ص[ ‪.‬‬

‫]عصمة دماء المسلمين[‬


‫وقوله‪) :‬ول نرى السيف على أحد من أمــة محمــد ‪ ‬إل مــن‬
‫وجب عليه السيف(‪.‬‬
‫ل نرى القتل ول القتال على أحد من المسلمين إل أن يكــون‬
‫منه ما يوجب القتال أو القتل‪ ،‬قال ‪) :‬ل يحل دم امــرئ مســلم‬
‫يشهد أن ل إله إل الله وأني رســول اللــه إل بإحــدى ثلث‪ :‬الــثيب‬
‫الزاني والنفس بالنفس والتارك لــدينه المفــارق للجماعــة( ]رواه‬
‫البخاري )‪ ،(6878‬ومسلم )‪ (1676‬من حــديث ابــن مســعود ‪[‬‬
‫فمن زنى بعد إحصان‪ ،‬وثبت عليه ذلك بالبينة‪ ،‬وجــب عليــه الحــد‪،‬‬
‫وهو الرجم‪ ،‬ومن قتل معصـوما وتـوافرت فيـه شـروط القصـاص‬
‫وجب عليه القصاص‪ ،‬وكذلك من وجب عليه حد الردة‪ ،‬قال النبي‬
‫‪) ‬من بدل دينه فاقتلوه (‪] .‬رواه البخــاري )‪ (3017‬مــن حــديث‬
‫ابن عباس رضي الله عنهما[‬
‫ن‬
‫وكذلك الطائفة الباغية التي أمر الله بقتالها في قوله‪ )) :‬وَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫ما‬
‫داهُ َ‬‫حــ َ‬
‫ت إِ ْ‬ ‫ما فَإ ِ ْ‬
‫ن ب ََغــ ْ‬ ‫حوا ب َي ْن َهُ َ‬ ‫ن اقْت َت َُلوا فَأ ْ‬
‫صل ِ ُ‬ ‫مِني َ‬‫مؤ ْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫فَتا ِ‬ ‫َ‬
‫طائ ِ َ‬
‫مـرِ الل ّـهِ ((‬ ‫َ‬ ‫ع َل َــى ال ُ ْ‬
‫فيـَء إ ِل َــى أ ْ‬ ‫حت ّــى ت َ ِ‬ ‫قــات ُِلوا ال ّت ِــي ت َب ْغِــي َ‬‫خـَرى فَ َ‬
‫]الحجرات‪ ،[9:‬وكذلك إذا تواطأت جماعة على تـرك شــعيرة مــن‬
‫شعائر السلم؛ فإنها تقاتل‪ ،‬فلو اجتمع أهل بلد على تــرك الذان؛‬

‫‪164‬‬
‫فإنهم يقاتلون لتعطيلهم شعيرة من شعائر الســلم‪ ،‬وقــد » كــان‬
‫النبي ‪ ‬يغير إذا طلع الفجر‪ ،‬وكان يستمع الذان؛ فإن سمع أذانــا‬
‫أمسك‪ ،‬وإل أغار« ]رواه مسلم )‪ (312‬من حديث أنس ‪[‬‬
‫وكذا الطائفة الممتنعة المانعة للزكاة يجب قتالها حتى تــؤدي‬
‫الزكاة‪ ،‬فقد قال عمر ‪ ‬للصديق ‪ :‬كيف تقاتل الناس وقد قال‬
‫رسول الله ‪ »:‬أمــرت أن أقاتــل النــاس حــتى يقولــوا ل إلــه إل‬
‫الله‪ ،‬فمن قالها فقد عصم منــي مــاله ونفســه إل بحقــه وحســابه‬
‫على الله ؟ فقال أبو بكر ‪ :‬والله لقاتلن من فــرق بيــن الصــلة‬
‫والزكاة؛ فإن الزكـاة حــق المـال‪ ،‬واللـه لـو منعـوني عناقـا كـانوا‬
‫يؤدونها إلى رسول الله ‪ ‬لقــاتلتهم علــى منعهــا‪ ،‬قــال عمــر ‪:‬‬
‫فوالله ما هو إل أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبــي بكــر للقتــال‬
‫فعرفت أنه الحــق«‪] .‬رواه البخــاري )‪ ،(6924‬ومسـلم )‪ (20‬مـن‬
‫حديث أبي هريرة ‪[‬‬
‫وكـذلك أجمـع الصــحابة علـى قتــال الخــوارج بـأمر النــبي ‪‬‬
‫]تقدم تخريجه في ص[‪ ،‬وترغيبه في ذلك لما اجتمعــوا‪ ،‬وأظهــروا‬
‫بدعتهم‪.‬‬

‫]وجوب السمع والطاعة بالمعروف لولة المر‪ ،‬وتحريم‬


‫الخروج عليهم [‬
‫وقوله‪) :‬ول نرى الخروج على أئمتنا وولة أمورنا وإن جــاروا‪،‬‬
‫دا مــن طــاعتهم‪ ،‬ونــرى طــاعتهم مــن‬ ‫ول ندعو عليهم‪ ،‬ول ننزع ي ـ ً‬
‫طاعة الله عز وجل فريضة‪ ،‬ما لــم يــأمروا بمعصــية‪ ،‬ونــدعو لهــم‬
‫بالصلح والمعافاة(‪.‬‬
‫)ول نرى( أي‪ :‬نحن أهل الســنة والجماعــة‪) .‬الخــروج( يعنــي‪:‬‬
‫بالسلح والقتال‪) .‬أئمتنا وولة أمرنا( أئمة المسلمين‪.‬‬
‫)وإن جاروا( وإن كان منهــم ظلــم علــى الرعيــة؛ فــالواجب‬
‫الصبر والمدافعة بالتي هي أحسن‪.‬‬
‫وهذا أصل عظيم من أصول أهــل الســنة‪ ،‬وهــو النصــح لــولة‬
‫المر‪ ،‬وهو محبة الخير لهم والــدعاء لهــم بالعافيــة وصــلح الحــال‬
‫والستقامة‪ ،‬والتوفيق للقيــام بحــق اللــه وحقــوق رعايــاهم‪ ،‬ومــن‬
‫كمــال النصــح للمــة عــدم الخــروج عليهــم بالســلح وقتــالهم لمــا‬
‫يحصل منهم مـن ظلـم أو معصـية بحجـة إنكــار المنكـر‪ ،‬أمــا مـن‬
‫يخرج عليهم للمنازعة على السلطة فهذا لون آخــر؛ فالــذي نعنيــه‬
‫هنا أن أهل السنة والجماعة ل يرون الخروج علــى الئمــة بســبب‬
‫ما يقع منهم من ظلم ومنكرات‪.‬‬
‫والله تعالى قد أمر بطاعة ولة المر في قوله سبحانه‪ )) :‬ي َــا‬
‫ر‬ ‫َ‬ ‫أ َيهــا ال ّـذين آمنــوا أ َطيعــوا الل ّـه وأ َطيعــوا الرســو َ ُ‬
‫مـ ِ‬ ‫ل وَأوْل ِــي ال ْ‬ ‫ّ ُ‬ ‫َ َ ِ ُ‬ ‫ِ ُ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫َّ‬

‫‪165‬‬
‫م ((]النساء‪ ،[59:‬وكذلك الرسول ‪ ‬قال‪) :‬من أطاعني فقــد‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ِ‬
‫أطاع الله ومن عصاني فقد عصى اللــه ومــن أطــاع أميــري فقــد‬
‫أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني( ]رواه البخاري )‪،(7137‬‬
‫ومسلم )‪ (1835‬مــن حــديث أبــي هريــرة ‪ ،[‬وقــال ‪) : ‬علــى‬
‫المــرء المســلم الســمع والطاعــة فيمــا أحــب وكــره إل أن يــؤمر‬
‫بمعصية فإن أمر بمعصية فل سـمع ول طاعـة{‪] ،‬رواه البخــاري )‬
‫‪ ،(7144‬ومسلم )‪ (1839‬من حديث ابن عمر رضي الله عنهما[‪،‬‬
‫وقال ‪ ‬في الحديث الصــحيح‪ } :‬إنمـا الطاعــة فــي المعــروف {‬
‫]رواه البخاري )‪ ،(7145‬ومسلم )‪ (1840‬من حديث علي بن أبي‬
‫طالب ‪ ،[‬وقال ‪ } :‬من رأى من أميره شــيئا يكرهــه فليصــبر‬
‫عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إل مات ميتــة جاهليــة{‪.‬‬
‫]رواه البخاري )‪ ،(7054‬ومسلم )‪ (1849‬من حديث ابــن عبــاس‬
‫رضي الله عنهما[‪ ،‬وفي الحديث الصحيح عنــه ‪) :‬خيــار أئمتكــم‬
‫الذين تحبونهم ويحبونكم‪ ،‬ويصلون عليكم وتصلون عليهم‪ ،‬وشرار‬
‫أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم‪ ،‬وتلعنونهم ويلعنونكم‪ ،‬قــالوا‪:‬‬
‫يا رسول الله أفل ننابذهم عنــد ذلــك؟ فقــال‪ :‬ل مــا أقــاموا فيكــم‬
‫ل فرآه يـأتي شــيئا مـن معصــية اللـه‪،‬‬ ‫َ‬
‫الصلة‪ ،‬أل من ولي عليه وا ٍ‬
‫فليكره ما يأتي من معصية الله‪ ،‬ول ينزعن يدا مــن طاعــة( ]رواه‬
‫مسلم )‪ (1855‬من حديث عوف بن مالك ‪ ،[‬وفي حديث عبادة‬
‫بن الصامت ‪ ‬قال‪»:‬بايعنا علــى الســمع والطاعــة فــي منشــطنا‬
‫ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينـا وأن ل ننـازع المـر أهلــه إل‬
‫أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان«‪] .‬رواه البخــاري )‬
‫‪ ،(7056‬ومسلم )‪ (1709‬من حديث عبادة بن الصامت ‪ [‬وفي‬
‫رواية‪» :‬وعلى أن نقول بالحق أينما كنـا ل نخـاف فـي اللــه لومــة‬
‫لئم«‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(7200‬ومسلم )‪ [(1709‬والحاديث فــي‬
‫المر بطاعة ولة المــر بـالمعروف‪ ،‬والنهــي عــن الخــروج عليهــم‬
‫كثيرة مستفيضة‪.‬‬
‫ل السنة في هذا الصــل‪ ،‬فالمعتزلــة مــن‬ ‫ة أه َ‬
‫وخالف المعتزل ُ‬
‫أصــولهم المــر بــالمعروف والنهــي عــن المنكــر‪ ،‬ويــدخلون فــي‬
‫مفهومه‪ :‬الخروج على الــولة الظلمــة‪ ،‬ويجعلــون الخــروج عليهــم‬
‫واجبا؛ لنه من المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وهــذا مخــالف‬
‫لما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة المستفيضة عن النبي‬
‫‪ ،‬ومخالف لما عليه أهل السنة والجماعة‪ ،‬وهو مخالف لقاعــدة‬
‫المــر بــالمعروف والنهــي عــن المنكــر؛ فــإنه يقــوم علــى قاعــدة‬
‫احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلهما‪ ،‬فإنكــار المنكــر المقصــود‬
‫منه هو إزالة المنكر أو تخفيفه‪ ،‬فإذا كان إنكار المنكر يــؤدي إلــى‬
‫منكر أعظم لم يجز النكار‪ ،‬ول شك أن الخروج على الئمة يؤدي‬

‫‪166‬‬
‫إلى إهلك الحــرث والنســل‪ ،‬وفســاد ديــن النــاس ودنيــاهم‪ ،‬فهــذا‬
‫التشريع هو مقتضى الحكمة‪ ،‬فليس تحريــم الخــروج علــى الئمــة‬
‫ضا بظلمهم وفجورهم؛ بل درءا لما هو أعظم من ذلك‪ ،‬والواقــع‬ ‫ر ً‬
‫شاهد بأن ما جاءت به الشريعة هـو الغايـة فـي الحكمـة وتحقيـق‬
‫المصالح العادلة‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ول ندعو عليهم(‪.‬‬
‫الدعاء لهم بالصــلح‪ ،‬هــذا مــوجب النصــيحة‪ ،‬قــال النــبي ‪:‬‬
‫)الدين النصيحة‪ .‬قلنا‪ :‬لمن ؟ قال‪ :‬للــه ولكتــابه ولرســوله ولئمــة‬
‫المسلمين وعامتهم( ]رواه مسلم )‪ (55‬من حديث تميــم الــداري‬
‫‪ [‬والنصيحة أن تدعو لهم بالصلح‪ ،‬اللهم أصلحهم‪ ،‬اللهم أصــلح‬
‫بطانتهم‪ ،‬اللهــم اهــدهم صــراطك المســتقيم‪ ،‬ادع ُ لهــم لعــل اللــه‬
‫يصلح حالهم‪ ،‬لكن جرت عادة الناس أنهم ل يلتزمون بهذا المنهج‪،‬‬
‫وقول النبي ‪ ‬فــي الحــديث‪ »:‬وشــرار أئمتكــم الــذي تبغضــونهم‬
‫ويبغضــونكم وتلعنــونهم ويلعنــونكم« ]تقــدم فــي ص[ ليــس هــذا‬
‫ســق علــى وجــه‬ ‫إقرارا‪ ،‬وإنما هذا من قبيل الخبار بالواقع‪ ،‬ولــم ي ُ َ‬
‫التسويغ والتجويز له‪ ،‬فأهل العلم واليمان‪ ،‬والصلح والتجرد عــن‬
‫الهوى وإيثار الدنيا يحبــون الخيــر لخــوانهم المســلمين‪ ،‬ول ســيما‬
‫ولة المر سواء أعطوهم من الدنيا أم لم يعطوهم‪ ،‬وفي الحديث‬
‫الصحيح‪ » :‬ثلثة ل يكلمهم اللــه يــوم القيامــة ول ينظــر إليهــم ول‬
‫يزكيهم ولهم عذاب أليم« ـ وذكر منهم ـ‪ ... »:‬ورجل بايع إمامــا ل‬
‫يبــايعه إل لــدنيا فــإن أعطــاه منهــا وفــى وإن لــم يعطــه منهــا لــم‬
‫ف«]رواه البخــاري )‪ ،(7212‬ومســلم )‪ (108‬مــن حــديث أبــي‬ ‫يـ ِ‬
‫هريرة ‪ ،[‬فهــو دائر مـع الـدنيا‪ ،‬وهـذا واقــع‪ ،‬فــأكثر النـاس إنمـا‬
‫ينكرون على الولة أمر الدنيا ل أمر الدين‪ ،‬فل ينقمون تقصــيرهم‬
‫في حقــوق اللــه‪ ،‬إنمــا نقمتهــم الثــرة‪ ،‬ويطلبــون منافســتهم فــي‬
‫الــدنيا‪ ،‬ولهــذا أوصــى النــبي ‪ ‬أصــحابه النصــار فقــال‪ ) :‬إنكــم‬
‫ستلقون بعدي أثرة؛ فاصبروا حتى تلقوني علــى الحــوض(‪] .‬رواه‬
‫البخاري )‪ ،(4330‬ومسلم )‪ (1061‬من حديث عبــد اللــه بــن زيــد‬
‫رضي الله عنهما [‬
‫وقــوله ‪) :‬أثــرة(‪ :‬اســتبداد بالوليــات وبالمــال‪ .‬وقــوله ‪:‬‬
‫)فاصبروا( أي‪ :‬ل تنازعوا ولة المر من أجل ذلك‪.‬‬
‫وكثير ما يكون الخروج على الولة مــن أجــل المنازعــة علــى‬
‫السلطة باسم الصلح الــدنيوي أيضــا؛ فينتــج عنــه شــر مســتطير‬
‫على الناس‪ ،‬فتسفك الدماء وتنتهــك الحرمــات‪ ،‬وتــذهب المــوال‪،‬‬
‫وينتشر الفساد‪ ،‬خصوصـا إذا لـم يكــن هنــاك اســتقرار فــي المــر‬
‫فتعم الفوضى‪ ،‬ويتمكــن كــل مجــرم مــن بلــوغ مرامــه‪ ،‬واقــتراف‬
‫إجرامه‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫وقوله‪) :‬ول ننزع يدا من طاعتهم(‪.‬‬
‫ل ننزع يدا من طاعتهم؛ بل نــدين للــه بطــاعتهم بــالمعروف‪،‬‬
‫عمل بأمر الله تعالى‪ ،‬ورسوله ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة(‪.‬‬
‫من‬‫ل َ‬ ‫نرى طاعتهم بالمعروف واجبة؛ لنها من طاعة الله؛ فَك ُ ُ‬
‫أمر الله بطاعته فطاعتهم من طاعته‪ ،‬فالرسول ‪ ‬تجب طــاعته‬
‫مــن ســواه ممــن‬ ‫مطلقا بل قيد؛ لن طاعته طاعة للــه مطلقــة‪ ،‬و َ‬
‫أمر الله بطاعته يطاع لكن بقيد‪ ،‬وهو أل تكون فــي معصــية‪ ،‬قــال‬
‫النــبي ‪ ) :‬إنمــا الطاعــة فــي المعــروف( ]تقــدم فــي ص[‪.‬فــإذا‬
‫النسان أطاع ولي المر بــالمعروف إيمانــا واحتســابا أثيــب علــى‬
‫ذلك‪ ،‬أما إذا أطاعهم خوفا من عقوبتهم‪ ،‬فهذا ليــس بمطيــع للــه؛‬
‫عاد ِّية قهرية‪.‬‬‫لن هذه ليست طاعة اختيارية تعبدية؛ بل طاعة َ‬

‫]وجوب إتباع الكتاب والسنة وتجنب الشذوذ والفرقة[‬


‫وقــول‪) :‬ونتبــع الســنة والجماعــة‪ ،‬ونجتنــب الشــذوذ والخلف‬
‫فرقة(‪.‬‬ ‫وال ُ‬
‫من منهج أهل السنة والجماعة اتباع سنة الرسول ‪ ،‬قال‬
‫ُ‬
‫ة ((]الحزاب‪:‬‬ ‫سن َ ٌ‬‫ح َ‬ ‫سوَة ٌ َ‬ ‫ل الل ّهِ أ ْ‬ ‫سو ِ‬ ‫م ِفي َر ُ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫قد ْ َ‬‫تعالى‪ )) :‬ل َ َ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫ن ((]العراف‪ )) ،[158:‬قُ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َهْت َ ُ‬ ‫‪َ )) ،[21‬وات ّب ُِعوه ُ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫ه ((]آل عمران‪ [31:‬واليات التي‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حب ِب ْك ُ ُ‬ ‫ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫حّبو َ‬ ‫تُ ِ‬
‫فيها المر بطاعة الله تعالى‪ ،‬وطاعة رسوله ‪ ‬واتباعه والتأسي‬
‫به كثيرة معلومة‪ ،‬وهكذا أوصى النبي ‪ ‬باتباع سنته فقال‪:‬‬
‫)عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين(‪] .‬رواه أحمد ‪،4/126‬‬
‫وأبو داود )‪ ،(4607‬وصححه الترمذي )‪ ،(2676‬وابن حبان )‪،(5‬‬
‫والحاكم ‪ 97-1/95‬من حديث العرباض بن سارية ‪[‬‬
‫وكذلك من منهج أهل السنة اتباع جماعــة المســلمين‪ ،‬وذلــك‬
‫باتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين‪ ،‬وسمي أهــل الســنة‬
‫والجماعــة بأهــل الســنة والجماعــة لتبــاعهم ســنة الرســول ‪‬‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن ال َوُّلو َ‬ ‫قو َ‬ ‫ساب ِ ُ‬
‫وجماعة المسلمين‪ ،‬والله تعالى يقول‪َ )) :‬وال ّ‬
‫َ‬
‫م‬‫ه ع َن ْهُـ ْ‬ ‫ي الل ّـ ُ‬
‫ضـ َ‬ ‫ن ّر ِ‬ ‫ســا ٍ‬‫ح َ‬ ‫هم ب ِإ ِ ْ‬‫ن ات ّب َعُــو ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫صارِ َوال ّـ ِ‬ ‫ن َوالن َ‬ ‫ري َ‬ ‫ج ِ‬‫مَها ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ه((]التوبة‪ [100:‬فأثنى على المهاجرين والنصار وعلــى‬ ‫ضوا ْ ع َن ْ ُ‬ ‫وََر ُ‬
‫من اتبعهم بإحسان ممن تأخر إسلمهم من الصحابة‪ ،‬وكذلك مــن‬
‫جــاء بعــد الصــحابة‪ ،‬وهكــذا قــوله تعــالى بعــد ذكــر المهــاجرين‬
‫ن َرب ّن َــا اغ ْفِ ـْر ل َن َــا‬ ‫قول ُــو َ‬ ‫م يَ ُ‬‫ن ب َعْ ـد ِه ِ ْ‬‫مـ ْ‬ ‫جــاُءوا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫والنصــار‪َ )) :‬وال ّـ ِ‬
‫ن ((]الحشــر‪ [10:‬فنتبــع الســنة‬ ‫مــا ِ‬ ‫لي َ‬‫قوَنا ِبا ِ‬ ‫س ـب َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وان ِن َــا ال ّـ ِ‬‫خ َ‬‫وَِل ِ ْ‬
‫ونلزمها‪ ،‬ونتبع الجماعة‪ ،‬ونلتزم بما أجمــع عليــه المســلمون‪ ،‬ومــا‬
‫درج عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫فرقة(‬ ‫وقوله‪) :‬ونجتنب الشذوذ وال ُ‬
‫بمخالفة ما أجمع عليه المسلمون وبمخالفة ما دلت عليه‬
‫سنة الرسول ‪ ،‬ونحذر من أسباب الفرقة‪ ،‬وقد أمر الله بهذا‬
‫فّرُقوا ((]آل‬ ‫ميعَا ً َول ت َ َ‬ ‫ج ِ‬‫ل الل ّهِ َ‬ ‫حب ْ ِ‬‫موا ب ِ َ‬ ‫ص ُ‬ ‫في قوله‪َ )) :‬واع ْت َ ِ‬
‫فوا‬‫خت َل َ ُ‬
‫فّرُقوا َوا ْ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫كال ّ ِ‬ ‫كوُنوا َ‬ ‫عمران‪ ،[103:‬وقال تعالى‪َ )) :‬ول ت َ ُ‬
‫ت ((]آل عمران‪ ،[105:‬وقال ‪) :‬إن‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬ ‫جاَءهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْد ِ َ‬
‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫هذه المة ستفترق على ثلث وسبعين فرقة كلها في النار إل‬
‫واحدة ‪ ،‬قيل‪ :‬من هي يا رسول الله ؟ قال‪ :‬من كان على مثل ما‬
‫أنا عليه اليوم ‪ ،‬وأصحابي(‪] .‬رواه الترمذي )‪ (2641‬ـ وقال‪ :‬هذا‬
‫حديث مفسر غريب ل نعرفه مثل هذا إل من هذا الوجه ـ‪،‬‬
‫والحاكم ‪1/128‬من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ‪.‬‬
‫ورواه الطبراني في الوسط ‪ 8/22‬من حديث أنس ‪ ، ‬وقال‪:‬‬
‫لم يرو هذا الحديث عن يحيى بن سعيد إل عبد الله بن سفيان‬
‫المدني ‪ ،‬وياسين الزيات‪ [.‬وفي لفظ ) وهي الجماعة (‪ ] .‬رواه‬
‫أحمد ‪ ،4/102‬وأبو داود )‪ (4597‬من حديث معاوية ‪ .‬وأحمد‬
‫‪3/145‬وابن ماجه )‪ (3993‬من حديث أنس ‪ .‬وابن ماجه )‬
‫‪ (3992‬من حديث عوف بن مالك ‪ .‬وصححه شيخ السلم كما‬
‫في مجموع الفتاوى ‪ ،359-3/345‬وعلق عليه بتعليق طويل‪،‬‬
‫وذكره الكتاني في كتابه نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص‬
‫‪[57‬‬
‫لهذا قال الطحاوي ـ رحمه الله ـ في بيان منهج أهل السنة‪:‬‬
‫)ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ( فمن شذ عن جماعة‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫المسلمين شذ عن الصراط المستقيم‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫ل‬‫سِبي ِ‬‫دى وَي َت ّب ِعْ غ َي َْر َ‬‫ه ال ْهُ َ‬ ‫ن لَ ُ‬‫ما ت َب َي ّ َ‬ ‫ن ب َعْد ِ َ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ق الّر ُ‬ ‫شاقِ ِ‬ ‫يُ َ‬
‫صيَرا ً ((]النساء‪:‬‬ ‫م ِ‬‫ت َ‬ ‫ساَء ْ‬‫م وَ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬
‫صل ِهِ َ‬ ‫ما ت َوَّلى وَن ُ ْ‬ ‫ن ن ُوَل ّهِ َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫‪.[115‬‬
‫وهذه الية مما احتج بها الشافعي ـ رحمه الله ـ على حجية‬
‫الجماع‪] .‬أحكام القرآن للشافعي ‪[1/52‬‬

‫]حب أهل العدل وبغض أهل الجور[‬


‫وقــوله‪) :‬ونحــب أهــل العــدل والمانــة‪ ،‬ونبغــض أهــل الجــور‬
‫والخيانة( ِذكر هذا المعنى بعدما تقــدم مناســب جــدا‪ ،‬وفيــه تنــبيه‬
‫على أن وجوب السمع والطاعة لــولة المــر وإن جــاروا ‪ ،‬وكوننــا‬
‫نرى الصلة خلف الئمة أبرارا كانوا أو فجارا؛ ل يقتضــي التســوية‬
‫بين البرار والفجار‪ ،‬وأئمة العدل وأئمة الجور‪ ،‬ل؛ بــل نحــب أهــل‬
‫العدل من الولة والئمة وســائر النــاس‪ ،‬قــال النــبي ‪ ) :‬ســبعة‬
‫يظلهم الله في ظله يــوم ل ظــل إل ظلــه‪ :‬المــام العــادل( ]رواه‬

‫‪169‬‬
‫البخــاري )‪ ،(660‬ومســلم )‪ (1031‬مــن حــديث أبــي هريــرة ‪،[‬‬
‫وهذا من الحب في اللــه‪ ،‬فنحــب مــن يحبــه اللــه مــن المــؤمنين‬
‫َ‬
‫ب‬ ‫حــــ ّ‬ ‫ن الل ّــــ َ‬
‫ه يُ ِ‬ ‫طوا إ ِ ّ‬ ‫ســــ ُ‬ ‫والمقســــطين‪ ،‬قــــال تعــــالى‪ )) :‬وَأقْ ِ‬
‫ن ((]الحجرات‪ [9:‬أي‪ :‬العادلين‪ ،‬ونحب التوابين‪ ،‬ونحــب‬ ‫طي َ‬
‫س ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫الصالحين‪ ،‬وننزل كل منزلته‪ ،‬وهذا هو الواجب على المــؤمنين أن‬
‫يتحابوا في الله‪ ،‬قال النبي ‪ } :‬ثلث مــن كــن فيــه وجــد حلوة‬
‫اليمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما ســواهما‪ ،‬وأن يحــب‬
‫المرء ل يحبه إل الله { ]تقدم في ص[‪ ،‬ومــن شــواهد ذلــك قــوله‬
‫‪ } :‬والذي نفسي بيده ل تدخلون الجنة حتى تؤمنوا‪ ،‬ول تؤمنــوا‬
‫حتى تحابوا‪ ،‬أول أدلكم علـى شـيء إذا فعلتمـوه تحـاببتم‪ :‬أفشـوا‬
‫السلم بينكــم {]رواه مســلم )‪ (54‬مــن حــديث أبــي هريــرة ‪،[‬‬
‫وفي الحديث عن النبي ‪ } :‬أوثق ع َُرى اليمان‪ :‬الحب في اللــه‬
‫والبغض في الله {]رواه الطيالسي)‪ ،(376‬وابــن أبــي شــيبة فــي‬
‫المصنف ‪ ،15/630‬والحاكم ‪ 2/480‬من حــديث ابــن مســعود ‪،‬‬
‫وسأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث‪ ،‬فقال‪... :‬الحديث منكر‬
‫ل يشــبه حــديث أبــي إســحاق‪ .‬العلــل )‪ ،(1977‬وانظــر‪ :‬الضــعفاء‬
‫الكـــبير ‪ ،3/408‬والكامـــل فـــي ضـــعفاء الرجـــال ‪ .7/100‬ورواه‬
‫الطيالسي )‪ ،(783‬وابن أبي شيبة في المصــنف ‪ ،19/74‬وأحمــد‬
‫‪ 4/286‬من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهمــا‪ ،‬وفيــه ليــث‬
‫ابــن أبــي سـليم وهــو ضـعيف ــ تهـذيب التهــذيب ‪3/484‬ــ ‪ ،‬ولـه‬
‫شواهد من حديث عدد من الصحابة‪ ،‬وانظر‪ :‬السلسلة الصحيحة )‬
‫‪ (998‬و)‪ ،[(1728‬ولهذا قال الطحاوي ـ رحمــه اللــه ـــ‪) :‬ونبغــض‬
‫أهــل الجــور والخيانــة( نبغضــهم لجــورهم‪ ،‬ل لغراضــنا وشــهواتنا‬
‫وأهوائنا وعدم حصولنا على ما نريد‪ ،‬ل؛ بل نبغضهم في الله ولله‪،‬‬
‫ومن باب أولــى نبغــض الكفــار‪ ،‬وأهــل الفســق والعصــيان‪ ،‬واللــه‬
‫َ‬
‫م‬ ‫قت ِ ُ‬
‫كـ ْ‬ ‫م ْ‬‫ن َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ت الّلـهِ أك َْبـُر ِ‬ ‫م قْ ُ‬‫تعالى أخبر بأنه يمقت الكافرين‪ )) :‬ل َ َ‬
‫ل‬‫كــ ّ‬‫ب ُ‬ ‫حــ ّ‬ ‫م ((]غافر‪ ،[10:‬وأخبر أنه سبحانه وتعالى‪ )) :‬ل ي ُ ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ن (( ]القصــص‪:‬‬ ‫دي َ‬ ‫سـ ِ‬
‫ف ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫حـ ّ‬ ‫فورٍ ((]الحــج‪ ،[38:‬و)) ل ي ُ ِ‬ ‫ن كَ ُ‬ ‫وا ٍ‬ ‫خ ّ‬ ‫َ‬
‫قــوْم ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫عــ ِ‬ ‫ضــى َ‬ ‫‪[77‬بــل يبغضــهم ســبحانه وتعــالى و‪ )) :‬ل ي َْر َ‬
‫ن ((]التوبة‪.[96:‬‬‫قي َ‬ ‫س ِ‬‫فا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫والناس في هذا الواجب ثلثة أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬ولي لله تجب محبته مطلقا‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬عدو لله يجب بغضه مطلقا‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬المخلط؛ كالفاسق من المسلمين يحب بحســب مــا‬
‫معه من اليمان والطاعة‪ ،‬ويبغض بحسب مــا معــه مــن الفســوق‬
‫والمعصية‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫والوالي الظالم والجائر ُيبغَــض لمــا معــه مــن الجــور لظلمــه‬
‫وجوره وخيانته‪ ،‬ويحــب بحســب مــا معــه مــن اليمــان‪ ،‬فالمســلم‬
‫الفاجر والظالم ل يسوى بالكافر فــي بغضــه‪ ،‬ل؛ فمطلــق الخــوة‬
‫اليمانية موجــودة كمــا تقــدمت الشــارة ]ص[ إلــى قــوله تعــالى‪:‬‬
‫خيهِ ((]البقــرة‪ [178:‬فســمى المقتــول أخــا‬ ‫ن أَ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ي لَ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ف َ‬
‫ن عُ ِ‬ ‫)) فَ َ‬
‫م ْ‬
‫للقاتل‪ ،‬فكونه قتله هــذا ل يبطــل الخــوة الســلمية الــتي بينهمــا؛‬
‫فإن من العدل فـي الحكـم والمعاملـة أن تفــرق بيـن النـاس‪ ،‬فل‬
‫تعط الناس حكما واحدا؛ بل تنزل النــاس منــازلهم بحســب حكــم‬
‫الله تعالى ورسوله ‪.‬‬

‫]تفويض العلم فيما خفي على العبد إلى الله[‬


‫وقوله‪) :‬ونقول‪ :‬الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه(‪.‬‬
‫من منهج أهل السنة‪ :‬تفويض علــم مــا ل علــم لهــم بــه‪ ،‬هــذا‬
‫تفــويض واجــب‪ ،‬وليــس مثــل تفــويض المعطلــة الــذين ينفــون‬
‫الصفات‪ ،‬ثم يفوضون معاني النصوص فذاك مذهب باطــل‪ ،‬وهــذا‬
‫التفويض الذي ذكره الطحاوي هو الذي أمر اللــه بــه نــبيه ‪ ‬فــي‬
‫ة‬‫س ٌ‬ ‫م َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م وَي َ ُ‬ ‫م ك َل ْب ُهُ ْ‬ ‫ة َراب ِعُهُ ْ‬ ‫ن َثلث َ ٌ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫سي َ ُ‬ ‫مثل قوله تعالى‪َ )) :‬‬
‫ل‬ ‫م قُ ـ ْ‬ ‫م ك َل ْب ُهُ ـ ْ‬ ‫من ُهُ ْ‬ ‫ة وَث َــا ِ‬ ‫سب ْعَ ٌ‬‫ن َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ب وَي َ ُ‬ ‫ما ً ِبال ْغَي ْ ِ‬ ‫ج َ‬ ‫م َر ْ‬ ‫م ك َل ْب ُهُ ْ‬ ‫سه ُ ْ‬‫ساد ِ ُ‬ ‫َ‬
‫ل ((]الكهــف‪ ،[22:‬وقــوله‪:‬‬ ‫م إ ِل قَِليـ ٌ‬‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مهُـ ْ‬ ‫مــا ي َعْل ُ‬ ‫م َ‬ ‫م ب ِعِـد ّت ِهِ ْ‬ ‫َرّبي أع ْلـ ُ‬
‫ل الل ّـ ُ‬
‫ه‬ ‫س ـعَا ً * قُـ ِ‬ ‫دوا ت ِ ْ‬ ‫دا ُ‬ ‫ن َواْز َ‬ ‫س ـِني َ‬ ‫مــائ َةٍ ِ‬ ‫ث ِ‬ ‫م َثل َ‬ ‫فه ِ ْ‬ ‫)) وَل َب ُِثوا ِفي ك َهْ ِ‬
‫ما ل َب ُِثوا ((]الكهف‪ ،[26-25:‬ولما سئل النبي ‪ ‬عــن أولد‬ ‫َ‬
‫م بِ َ‬ ‫أع ْل َ ُ‬
‫المشركين قال‪ »:‬الله أعلم بما كــانوا عــاملين«‪].‬رواه البخــاري )‬
‫‪ ،(6597‬ومســلم )‪ (2660‬مــن حــديث ابــن عبــاس رضــي اللــه‬
‫عنهما[ وهكذا الواجب على المسلم أل يخوض فيما ل علم له بــه‪،‬‬
‫صـَر‬ ‫معَ َوال ْب َ َ‬ ‫سـ ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫عْلـ ٌ‬ ‫ك ِبـهِ ِ‬ ‫س َلـ َ‬ ‫ما ل َْيـ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ق ُ‬ ‫قال تعالى‪َ )) :‬ول ت َ ْ‬
‫سُئوَل ً ((]السراء‪ [36:‬بل فوض علم‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ن ع َن ْ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ك َ‬ ‫ل أ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫ؤاد َ ك ُ ّ‬ ‫ف َ‬‫َوال ْ ُ‬
‫ما ل علم لك به‪ ،‬وما أشكل عليك إلى الله‪ ،‬وقل‪ :‬الله أعلم‪ ،‬وهذا‬
‫من وقوف النسان عند حده‪ ،‬فل يتجاوزه فيدعي علم مــا ل علــم‬
‫له به‪ ،‬وإن قال‪ :‬ل أدري فقد أحسن‪ ،‬فإن الذي يــدعي أو يخــبر أو‬
‫يجيب بما ل يعلم يكون كاذبا‪ ،‬فمــن يخــبر بالشــيء قــد يخــبر بمــا‬
‫َيعلم كذبه‪ ،‬وهذا المتعمد للكذب‪ ،‬ومن يخبر بما ل علــم لــه بــه‪ ،‬ل‬
‫يكون صادقا؛ بل فعله من جنس الكذب؛ لن الصدق هــو‪ :‬الخبــار‬
‫عن علم يطابق الواقع‪ ،‬هذا في المور العامة‪.‬‬
‫أمــا فيمــا يتعلــق بــالغيب‪ ،‬وفــي ديــن اللــه‪ ،‬وفــي ذات اللــه‬
‫وصفاته؛ فهذا هو الذي حذر الله منه في كتابه‪ :‬وذكر أنه مما يأمر‬
‫قول ُــوا ع َل َــى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن تَ ُ‬ ‫شــاِء وَأ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫سوِء َوال ْفَ ْ‬ ‫م ِبال ّ‬ ‫مُرك ُ ْ‬ ‫ما ي َأ ُ‬ ‫به الشيطان‪ )) :‬إ ِن ّ َ‬
‫ل‬ ‫ن ((]البقرة‪ ،[169:‬وقال سبحانه وتعــالى‪ )) :‬قُ ـ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬ ‫الل ّهِ َ‬

‫‪171‬‬
‫م َوال ْب َغْـ َ‬
‫ي‬ ‫ن َوال ِْثـ َ‬ ‫مـا ب َط َـ َ‬
‫من َْهـا وَ َ‬ ‫ما ظ َهَـَر ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬‫ف َ‬‫ي ال ْ َ‬
‫م َرب ّ َ‬
‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫إ ِن ّ َ‬
‫قول ُــوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫طان َا ً وَأ ْ‬
‫ن تَ ُ‬ ‫س ـل ْ َ‬
‫ل ب ِـهِ ُ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م ي ُن َـّز ْ‬ ‫كوا ِبالل ّهِ َ‬
‫شرِ ُ‬ ‫ن تُ ْ‬ ‫حقّ وَأ ْ‬ ‫ب ِغَي ْرِ ال ْ َ‬
‫ن ((]العراف‪.[33:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬ ‫ع ََلى الل ّهِ َ‬

‫]من مذهب أهل السنة المسح على الخفين[‬


‫وقوله‪) :‬ونرى المسح على الخفين في الســفر والحضــر كمــا‬
‫جاء في الثر(‪.‬‬
‫)ونرى( أي‪ :‬نحن أهل السنة نرى )المسح علــى الخفيــن فــي‬
‫السفر والحضــر كمــا جــاء فــي الثــر( أي‪ :‬كمــا جــاءت بــه الســنة‬
‫المأثورة المتواترة عــن النــبي ‪] ‬قطــف الزهــار ص ‪ ،52‬ونظــم‬
‫المتناثر ص ‪ [ 71‬خلفا للرافضة والخوارج؛ فإنهم ل يرون المسح‬
‫على الخفين‪.‬‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ذي َ‬‫والله تعالى قد أمر بغسل الرجلين في قوله‪َ )) :‬يا أي َّها الـ ِ‬
‫م إ َِلــى‬ ‫َ‬
‫م وَأْيــد ِي َك ُ ْ‬‫جــوهَك ُ ْ‬ ‫ســُلوا وُ ُ‬‫صــلةِ َفاغ ْ ِ‬ ‫م إ َِلــى ال ّ‬‫مُتــ ْ‬‫ذا قُ ْ‬ ‫مُنــوا إ ِ َ‬‫آ َ‬
‫ْ‬ ‫جل َك ُ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن(( ]المائدة‪[6:‬‬ ‫م إ ِلى الك َعَْبي ِ‬ ‫م وَأْر ُ‬‫سك ُ ْ‬‫حوا ب ُِرُءو ِ‬
‫س ُ‬‫م َ‬ ‫ق َوا ْ‬ ‫مَرافِ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫واستدل العلماء بهذه الية علــى وجــوب غســل الرجليــن‪ ،‬فحكــم‬
‫الرأس هو المسح‪ ،‬وحكم الرجلين الغســل؛ لنــه ع َط َــف الرجليــن‬
‫ة‪ ،‬فكل مــن‬ ‫على الوجه واليدين المغسولتين‪ ،‬وأوضحت ذلك السن ُ‬
‫ة وضوئه ‪ ‬ذكَر أنه ‪ ‬غسل رجليه ]كحديث عثمــان ‪‬‬ ‫ل صف َ‬ ‫نق َ‬
‫في البخاري )‪ ،(159‬ومســلم)‪ ،(226‬وحــديث عبــد اللــه بــن زيــد‬
‫رضي الله عنهما عند البخاري)‪ ،(191‬ومسلم )‪ ، [(235‬فُعلــم أن‬
‫فرض الرجلين هو الغسل ل المسح‪ ،‬عليهما خلفا للرافضة‪.‬‬
‫َ‬
‫م ((]المــائدة‪ [6:‬بجــر اللم‬ ‫جل ِك ُـ ْ‬
‫وفي القــراءة الخــرى‪)) :‬وَأْر ُ‬
‫]هي قراءة‪ :‬ابن كثير‪ ،‬وأبي عمرو‪ ،‬وحمزة‪ ،‬وأبــي جعفــر‪ ،‬وخلــف‬
‫العاشر‪ ،‬وشعبة عــن عاصــم‪ .‬التيســير ص ‪ ،98‬والنشــر ‪[ 2/254‬‬
‫طف علــى الــرأس؛‬ ‫واختلف المفسرون في توجيهها‪ ،‬فقيل‪ :‬إنها ع َ ْ‬
‫فتمسح مثله‪ ،‬وهذه من شبهات الرافضة]الجــامع لحكــام القــرآن‬
‫‪ ،[7/343‬لكن جمهور المة القــائلون بغســل الرجليــن قــالوا‪ :‬إنــه‬
‫ب(‪،‬‬‫ب(‪ ،‬وأصــله )خــر ٌ‬ ‫ب خــر ٍ‬ ‫جحُر ض ّ‬ ‫خفض للمجاورة‪ ،‬كما قالوا‪ُ ) :‬‬
‫]زاد المســير ‪ ،2/179‬والجــامع لحكــام القــرآن ‪ [7/347‬ومــن‬
‫أحسن ما قيل فــي قــراءة الجـر‪ :‬إنهــا محمولــة علــى حـال لبـس‬
‫الخفين ]الجامع لحكــام القــرآن ‪ ،[7/345‬وقــراءة النصــب علــى‬
‫حال خلوهما‪ ،‬فتكـون اليــة علـى القراءتيـن دالـة علــى الحكميــن‬
‫الغسل والمسح كما دلت على ذلك السنة‪ ،‬والسنة تفسر القــرآن‬
‫وتبينه وتدل عليه‪.‬‬
‫وفرض الرجلين هو الغسل إذا كانتا مكشـوفتين‪ ،‬أمـا إذا كانـا‬
‫في خفين ل ُِبسا علــى طهــارة؛ ففرضــهما المســح عليهمــا‪ ،‬ودلــت‬

‫‪172‬‬
‫على ذلــك ســنة الرســول ‪ ‬القوليــة والفعليــة‪ ،‬كمــا فــي حــديث‬
‫المغيرة بن شعبة ‪ ‬في الصحيحين‪ ،‬أنه كان مع النــبي ‪ ،‬قــال‪:‬‬
‫} فأهويت لنزع خفيه‪ ،‬فقــال‪ :‬دعهمــا فــإني أدخلتهمــا طــاهرتين‪،‬‬
‫فمسح عليهما {]رواه البخاري )‪ ،(206‬ومســلم )‪ ،[(274‬وهكــذا‬
‫في حديث حذيفة ‪ ‬في الصحيح أن النبي ‪ ‬بال فتوضأ ومســح‬
‫على خفيه ]رواه مسلم )‪ ،[(273‬وسئل علي ‪ ‬عن المسح على‬
‫الخفين؟ فقال‪) :‬جعل رسول الله ‪ ‬ثلثة أيام بلياليهن للمسافر‪،‬‬
‫ويوما وليلة للمقيم( ]رواه مسلم )‪ ،[(276‬وغيرها‪.‬‬
‫فأحاديث المسح على الخفين متواترة‪ ،‬ولهذا كان من مذهب‬
‫أهل السنة والجماعة المسح على الخفين‪ ،‬وغسل الرجلين إذا لم‬
‫يكونا في خفين‪ ،‬خلفا للرافضة؛ فإن الرافضة خالفوا الســنة فــي‬
‫الحالين‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن فرض الرجلين هو المسح علــى أعلــى القــدم‬
‫من الصابع إلى العظم الناتئ في ظهر القدم ]المبسوط في فقه‬
‫المامية ‪ ،1/22‬وشرائع الســلم ‪ ،[1/17‬وإذا كانــا فــي خفيــن فل‬
‫يمسحون عليهمــا ]المبســوط فــي فقــه الماميــة ‪ ،1/22‬وشــرائع‬
‫الســلم ‪ ،[1/17‬فخــالفوا الســنة مــن الــوجهين‪ ،‬حيــث قــالوا‪ :‬إن‬
‫فرض الرجلين هو المسح‪ ،‬ول مسح على الخفين‪ ،‬ومذهبهم باطل‬
‫مخالف للنصوص‪.‬‬
‫والمسح على الخفين مشروع في السفر والحضر‪ ،‬فقد دلــت‬
‫السنة على التفريق في حكم المسح على الخفين بيــن المســافر‬
‫والمقيــم حيــث رخــص النــبي ‪ ‬للمقيــم أن يمســح يومــا وليلــة‬
‫وللمسافر ثلثة أيام بلياليها‪.‬‬
‫وكما تقدم ]ص[ أن بعض هــذه المســائل هــي مــن المســائل‬
‫الفقهية العملية؛ لكن لما لم يخالف فيها إل المبتدعــة نــص عليهــا‬
‫فهي مما يتميز به أهل السنة من المبتدعة‪.‬‬

‫]الحج والجهاد مع الئمة برهم وفاجرهم[‬


‫وقوله‪) :‬والحج والجهاد ماضيان مع أولي المر من المسلمين‬
‫رهم إلى قيام الساعة‪ ،‬ل يبطلهما شيء ول ينقضهما(‪.‬‬ ‫ج ِ‬
‫هم وفا ِ‬
‫ب َّر ِ‬
‫الحج مشــروع منــذ فرضــه اللــه إلــى قيــام الســاعة والجهــاد‬
‫رهم ل‬ ‫ج ِ‬‫مشروع إلى قيام الساعة‪ ،‬مع المراء والئمــة ب َّره ِــم وفــا ِ‬
‫يمنعهما فجور أو ظلم المير‪ ،‬بل يشرع الحــج مــع المــراء أبــرارا‬
‫كانوا أو فجارا‪ .‬وكذا الجهاد والقتال إذا كان مشروعا فل يمنع منه‬
‫كون القائد فاجرا أو عاصيا أو ظالما‪.‬‬
‫وذكر الحج؛ لن الخلفاء فـي الدولـة الســلمية كــانوا يعينـون‬
‫أميًرا على الحج؛ لنه ُيحتاج فيه إلى تنظيم القوافــل؛ لنهــم خلــق‬
‫كثير؛ كالجيش‪ ،‬ويحتاجون إلى سياسية وقيــادة تــدبر أمــر الســير‪،‬‬

‫‪173‬‬
‫وترتيب الحراسات؛ وما يحتاجون إليه من الغذية وعلف الــدواب‪،‬‬
‫وغيرها؛ فلهذا ذكر العلماء الحج مع الجهاد‪.‬‬
‫وذكر الطحــاوي وغيــره هــذه المســألة للتنــبيه علــى مخالفــة‬
‫الرافضــة‪ ،‬فالرافضــة عنــدهم أنــه ل جهــاد إل مــع إمــام معصــوم‬
‫]المبسوط ‪ ،2/8‬وشرائع السلم ‪ ،[1/232‬وهـم يقولـون بعصـمة‬
‫الئمة الثني عشر أولهم علي ثم الحسن ثم الحسين رضــي اللــه‬
‫عنهم ‪ ...‬وآخرهم محمد بن الحسن العسكري‪ ،‬وهو الذي يسمونه‬
‫المام والمهدي المنتظر‪ ،‬ويقولــون‪ :‬إنــه دخــل فــي ســرداب فــي‬
‫سامراء‪ ،‬وهم ينتظرونه إلى الن‪ ،‬ويرون أنه ل جهاد إل معه‪ ،‬وهذا‬
‫المام معدود ل حقيقة له؛ لنه زعمــوا أنــه دخــل الســرداب ســنة‬
‫ستين ومائتين أو قريبــا مــن ذلــك‪ ،‬وهــو دون التمييــز ابــن خمــس‬
‫سنين أو أقل ]منهاج السنة ‪ ،[1/114‬ول يــزال حيــا‪ ،‬وهــذا المــام‬
‫كما يقول شيخ السلم‪ ) :‬لــم ينفعهـم فــي ديــن ول دنيـا( ]منهــاج‬
‫السنة ‪.[1/80‬‬
‫فُنص على هذه المسألة للتنبيه على بطلن مذهب الرافضــة‪،‬‬
‫ثم إنهم لم ينتفعوا بهؤلء الئمة الثني عشر‪ ،‬سوى علــي ‪ ‬فهــو‬
‫الذي تولى الخلفــة‪ ،‬والحســن كــانت لــه مــدة قصــيرة‪ ،‬أمــا بقيــة‬
‫الئمة الذين يدعون لهم العصمة وأنهم أحق بالمامة من كل أحد؛‬
‫فلم ينتفعوا بهم ولم تكن لهم ولية‪ ،‬وهــؤلء الئمــة حكمهــم عنــد‬
‫أهل السنة‪ ،‬كحكم غيرهم بحسب حالهم في دينهم وعلمهم‪ ،‬وهم‬
‫متفاضلون‪ ،‬فمنهم العلماء؛ كعلي بــن الحســين‪ ،‬وابنــه محمــد بــن‬
‫علي‪ ،‬وابنه جعفر بن محمد ـ رحمهم اللــه ـ ـ فهــؤلء مــن العلمــاء‬
‫الصالحين المعروفين]انظر تراجمهم على الترتيب في سير أعلم‬
‫النبلء‪ ،4/386 :‬و ‪ ،401‬و ‪ ،[6/255‬وفوقهم من له فضل الصحبة‬
‫وفضــل القرابــة كعلــي ‪ ،‬وولــديه‪ :‬الحســن والحســين رضــي اللــه‬
‫عنهم‪.‬‬

‫]اليمان بالكرام الكاتبين[‬


‫وقوله‪) :‬ونؤمن بالكرام الكاتبين‪ ،‬فإن اللــه قــد جعلهــم علينــا‬
‫حافظين(‪.‬‬
‫أي‪ :‬نحن أهل السنة نـؤمن بـالكرام الكـاتبين وهــم‪ :‬الملئكــة‬
‫ن‬
‫الموكلين بحفــظ أعمــال العبــاد وكتابتهـا‪ ،‬كمـا قــال تعــالى‪} :‬وَإ ِ ّ‬
‫ن{ ]النفطــار‪ [11-10 :‬فــالله‬ ‫مــا َ‬
‫كــات ِِبي َ‬ ‫ن * ك َِرا ً‬
‫ظي َ‬ ‫م لَ َ‬
‫حــافِ ِ‬ ‫ع َل َي ْ ُ‬
‫كــ ْ‬
‫سبحانه وتعالى أقدرهم علــى العلــم بــأحوال العبــد‪ ،‬فهــم يكتبــون‬
‫حتى العمال القلبية‪ ،‬فضل عن العمال الظاهرة وأقوال اللسان‪.‬‬
‫وفي الحديث القدســي الصــحيح‪ } :‬إذا أراد عبــدي أن يعمــل‬
‫سيئة فل تكتبوها عليه حتى يعملها؛ فــإن عملهــا فاكتبوهــا بمثلهــا‪،‬‬

‫‪174‬‬
‫وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة‪ ،‬وإذا أراد أن يعمل حســنة‬
‫فلم يعملها فاكتبوهــا لــه حســنة؛ فــإن عملهــا فاكتبوهــا لــه بعشــر‬
‫أمثالها إلى سبع مائة ضعف{‪] .‬رواه البخاري )‪ (7501‬من حديث‬
‫أبي هريرة ‪[‬‬
‫وقد دل القرآن ودلت السنة على كتابة أعمــال العبــاد‪ ،‬ومــن‬
‫ن‬
‫ن وَع َـ ِ‬ ‫ن ال ْي َ ِ‬
‫مي ـ ِ‬ ‫ن ع َـ ِ‬ ‫مت َل َ ّ‬
‫قي َــا ِ‬ ‫قــى ال ْ ُ‬ ‫أدلة ذلــك قــوله تعــالى‪} :‬إ ِذ ْ ي َت َل َ ّ‬
‫د{ ]ق‪-17:‬‬ ‫ب ع َِتيـ ٌ‬ ‫ل إ ِّل ل َـد َي ْهِ َرِقيـ ٌ‬ ‫من قَوْ ٍ‬ ‫ف ُ‬
‫ظ ِ‬ ‫ما ي َل ْ ِ‬‫ل قَِعيد ٌ * َ‬‫ما ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ش َ‬
‫‪ ، [18‬ومــن شــواهد ذلــك قــول النــبي ‪ } :‬إذا مــرض العب ـد ُ أو‬
‫حا { ]رواه البخاري )‬ ‫ما صحي ً‬ ‫ل ما كان يعمل مقي ً‬ ‫كتب له مث ُ‬ ‫سافَر ُ‬
‫‪ (2996‬من حديث أبي موسى الشعري ‪[‬‬
‫فهم يكتبون الحسنات والسيئات؛ بل ويكتبون ما سوى ذلــك‪،‬‬
‫ت ((]الرعــد‪:‬‬ ‫شاُء وَي ُث ْب ِ ُ‬ ‫ما ي َ َ‬‫ه َ‬ ‫حوا الل ّ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫وقد قيل في قوله تعالى‪ )) :‬ي َ ْ‬
‫‪ [39‬أي‪ :‬مــا فــي صــحف الملئكــة‪ ،‬فيمحــو مــا ل ثــواب فيــه ول‬
‫عقاب‪ ،‬ويثبت ما يترتب عليه الثواب والعقــاب‪ ،‬أو يمحــو مــا تــاب‬
‫منه العبد وتجاوز عنــه ســبحانه وتعــالى‪].‬تفســير البغــوي ‪،4/325‬‬
‫وزاد المسير ‪[4/259‬‬
‫واليمان بالحفظة الكاتبين داخل فــي اليمــان بالملئكــة كمــا‬
‫تقدم ]ص[‪ ،‬فمن اليمان بالملئكة اليمــان بأصــنافهم وأعمــالهم‪،‬‬
‫ومنهم الكرام الكاتبون‪.‬‬

‫]اليمان بملك الموت وأعوانه[‬


‫وقوله‪) :‬ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين(‪.‬‬
‫كــذلك مــن اليمــان بالملئكــة اليمــان بملــك المــوت‪ ،‬قــال‬
‫م ((‬ ‫ل ب ِك ُـ ْ‬ ‫ذي وُك ّـ َ‬ ‫ت ال ّـ ِ‬ ‫م ـو ْ ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬‫مل َـ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل ي َت َوَّفاك ُ ْ‬
‫سبحانه وتعالى‪ )) :‬قُ ْ‬
‫]السجدة‪ [11:‬واليمــان بمــن معــه مــن ملئكــة الرحمــة وملئكــة‬
‫العذاب‪ ،‬وقد ذكر الله ذلك في كتابه‪ ،‬قال سبحانه وتعالى‪ )) :‬وَل َ ْ‬
‫و‬
‫ة باس ـ ُ َ‬
‫م‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫طوا أي ْـ ِ‬ ‫ملئ ِك َـ ُ َ ِ‬ ‫ت َوال ْ َ‬ ‫م ـو ْ ِ‬‫ت ال ْ َ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ن ِفي غ َ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬‫ت ََرى إ ِذ ِ ال ّ‬
‫ن ((]النعام‪ ،[93:‬وقــال‬ ‫ب ال ُْهو ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫جَزوْ َ‬‫م تُ ْ‬ ‫م ال ْي َوْ َ‬ ‫سك ُ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫جوا َأن ُ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫أَ ْ‬
‫ملئ ِك َـ ُ‬
‫ة‬ ‫ف ـُروا ال ْ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ســبحانه وتعــالى‪ )) :‬وَل َـوْ ت َـَرى إ ِذ ْ ي َت َـوَّفى ال ّـ ِ‬
‫م ((]النفــال‪ ،[50:‬فــأخبر أن الملئكــة‬ ‫َ‬
‫م وَأد ْب َــاَرهُ ْ‬ ‫جــوهَهُ ْ‬ ‫ن وُ ُ‬ ‫ضرُِبو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ة‬‫كــ ُ‬ ‫ملئ ِ َ‬ ‫م ال ْ َ‬‫ن ت َت َوَّفــاهُ ُ‬‫ذي َ‬ ‫يتوفــونهم‪ ،‬وقــال ســبحانه وتعــالى‪ )) :‬اّلــ ِ‬
‫ة‬ ‫ملئ ِك َـ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ن ت َت َوَفّــاهُ ُ‬‫ذي َ‬ ‫م ((]النحل‪ ،[28:‬وقال‪ )) :‬ال ّ ِ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫مي َأن ُ‬ ‫َ‬
‫ظال ِ ِ‬
‫ن ((]النحل‪.[32:‬‬ ‫ط َي ِّبي َ‬
‫وكما دل القرآن على ذلك دلت الســنة عليــه‪ ،‬ففــي الحــديث‬
‫الطويل حديث البراء بن عازب ـ رضي الله عنهما ـ قال النبي ‪‬‬
‫) إن العبد المــؤمن إذا كــان فــي انقطــاع مــن الــدنيا وإقبــال مــن‬
‫الخرة نزل إليه ملئكة من الســماء بيــض الوجــوه كــأن وجــوههم‬

‫‪175‬‬
‫الشمس‪ ،‬معهم كفن من أكفان الجنة‪ ،‬وحنوط من حنــوط الجنــة‪،‬‬
‫حتى يجلسوا منه مد البصر‪ ،‬ثم يجيء ملك الموت عليــه الســلم‪،‬‬
‫حتى يجلس عند رأسه‪ ،‬فيقول‪ :‬أيتها النفس الطيبــة اخرجــي إلــى‬
‫مغفرة من الله ورضوان قال فتخـرج تسـيل كمـا تسـيل القطـرة‬
‫من في السقاء‪ ،‬فيأخذها‪ ،‬فإذا أخذها لم يــدعوها فــي يــده طرفــة‬
‫عين حتى يأخذوها‪ ،‬فيجعلوها في ذلك الكفن وفــي ذلــك الحنــوط‬
‫ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت علــى وجــه الرض‪ ،‬قــال‪:‬‬
‫فيصعدون بها فل يمرون يعني بها على مل من الملئكة إل قــالوا‪:‬‬
‫ما هذا الروح الطيب؟ فيقولــون‪ :‬فلن بــن فلن بأحســن أســمائه‬
‫التي كانوا يسمونه بها في الدنيا‪ ،‬ـ إلى أن قال ـ وإن العبد الكافر‬
‫إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال مــن الخــرة‪ ،‬نــزل إليــه مــن‬
‫السماء ملئكة سود الوجوه‪ ،‬معهم المسـوح‪ ،‬فيجلسـون منـه مـد‬
‫البصر‪ ،‬ثم يجيء ملك المــوت حــتى يجلــس عنــد رأســه‪ ،‬فيقــول‪:‬‬
‫أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى ســخط مــن اللــه وغضــب‪ ،‬قــال‪:‬‬
‫سـفود مـن الصـوف‬ ‫فتفــرق فـي جسـده‪ ،‬فينتزعهـا كمـا ينـتزع ال ّ‬
‫المبلول‪ ،‬فيأخذها‪ ،‬فإذا أخذها لــم يــدعوها فــي يــده طرفــة عيــن‪،‬‬
‫حتى يجعلوها في تلــك المســوح‪ ،‬ويخــرج منهــا كــأنتن ريــح جيفــة‬
‫وجدت على وجه الرض‪ ،‬فيصعدون بهــا فل يمــرون بهــا علــى مل‬
‫من الملئكة إل قالوا‪ :‬ما هذا الروح الخــبيث؟ فيقولــون‪ :‬فلن بــن‬
‫فلن بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ‪] (...‬رواه أحمد‬
‫‪4/287‬ـ واللفظ له ـ ‪ ،‬وأبــو داود )‪ ،(4753‬وصــححه ابــن خزيمــة‬
‫في التوحيد ص ‪ ،119‬وابن جرير في تهذيب الثارـ مسند عمــر‪‬‬
‫ـ ‪ ،-2/491‬والحاكم ‪ ،1/37‬من حديث البراء ‪ ‬مطول‪ ،‬وصححه ـ‬
‫أيضا ـ ابن القيــم فــي الــروح ص ‪ ، 88‬وإعلم المــوقعين ‪،1/178‬‬
‫وتهذيب السنن ‪[7/139‬‬
‫الشاهد‪ :‬أن السنة قد دلــت علــى إثبــات هــذه الصــناف مــن‬
‫الملئكة‪ :‬ملك الموت وملئكة الرحمة وملئكة العذاب‪.‬‬
‫وفي الصحيحين عن النبي ‪» :‬كان فيمن كان قبلكــم رجــل‬
‫قتل تسعة وتسعين نفسا‪ ،‬فسأل عن أعلم أهل الرض‪ ،‬فدل على‬
‫راهب‪ ،‬فأتاه فقال‪ :‬إنه قتل تسعة وتســعين نفســا! فهــل لــه مــن‬
‫توبة ؟ فقال‪ :‬ل‪ ،‬فقتله فكمل به مــائة‪ ،‬ثــم ســأل عــن أعلــم أهــل‬
‫الرض‪ ،‬فدل على رجل عالم‪ ،‬فقال‪ :‬إنه قتل مائة نفس! فهل لــه‬
‫من توبة ؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬ومن يحول بينه وبين التوبــة؟ انطلــق إلــى‬
‫أرض كذا وكذا ؛ فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبــد اللــه معهــم ول‬
‫ف‬
‫صـ َ‬ ‫ترجــع إلــى أرضــك؛ فإنهــا أرض ســوء‪ ،‬فــانطلق حــتى إذا ن َ َ‬
‫الطريــق أتــاه المــوت‪ ،‬فاختصــمت فيــه ملئكــة الرحمــة وملئكــة‬
‫العذاب‪ ،‬فقالت‪ :‬ملئكة الرحمة جــاء تائبــا مقبل بقلبــه إلــى اللــه‪،‬‬

‫‪176‬‬
‫وقالت ملئكة العذاب‪ :‬إنه لم يعمل خيرا قــط‪ ،‬فأتــاهم ملــك فــي‬
‫صورة آدمي‪ ،‬فجعلوه بينهم ‪،‬فقال‪ :‬قيسوا ما بين الرضــين فــإلى‬
‫أيتهما كان أدنى فهو له‪ ،‬فقاسوه‪ ،‬فوجدوه أدنى إلى الرض الــتي‬
‫أراد فقبضــته ملئكــة الرحمــة «‪] .‬البخــاري )‪ ،(3470‬ومســلم )‬
‫‪ (2766‬ـ واللفظ له ـ من حديث أبي سعيد الخدري ‪[‬‬
‫ويلحظ أن التوفي جاء في القرآن منسوبا إلى اللــه‪ )) :‬الل ّـ ُ‬
‫ه‬
‫ك ال ِّتي‬ ‫س ُ‬ ‫م ِ‬ ‫مَها فَي ُ ْ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ت ِفي َ‬ ‫م ْ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫موْت َِها َوال ِّتي ل َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫حي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ي َت َوَّفى ال َن ْ ُ‬
‫خَرى((]الزمر‪.[42:‬‬ ‫ل ال ُ ْ‬ ‫س ُ‬‫ت وَي ُْر ِ‬ ‫مو ْ َ‬‫ضى ع َل َي َْها ال ْ َ‬ ‫قَ َ‬
‫ذي‬ ‫ت ال ّـ ِ‬ ‫م ـو ْ ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫مل َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل ي َت َوَّفاك ُ ْ‬ ‫ومنسوبا إلى ملك الموت‪ )) :‬قُ ْ‬
‫م ((]السجدة‪.[11:‬‬ ‫ل ب ِك ُ ْ‬‫وُك ّ َ‬
‫ة ((]النحــل‪:‬‬ ‫كــ ُ‬‫ملئ ِ َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ن ت َت َوَّفاهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ومنسوبا إلى الملئكة‪ )) :‬ال ّ ِ‬
‫ذا؟‬ ‫‪ [28‬فمن المتوفي إ ً‬
‫والجواب‪ :‬أن الله سبحانه وتعالى هو المتوفي؛ لنــه ســبحانه‬
‫ه‬ ‫قــاه ُِر فَـوْقَ ِ‬
‫عب َــاد ِ ِ‬ ‫هو الــذي أمــر بــه وبمشــيئته يكــون‪ )) ،‬وَهُـوَ ال ْ َ‬
‫ســل َُنا ((‬ ‫َ‬
‫ه ُر ُ‬ ‫ت ت َوَفّت ْ ُ‬ ‫مو ْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫حد َك ُ ُ‬ ‫جاَء أ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫ة َ‬ ‫فظ َ ً‬‫ح َ‬
‫م َ‬ ‫ل ع َل َي ْك ُ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫وَي ُْر ِ‬
‫]النعام‪ [61:‬فالملئكة رسل مــن عنــد اللــه يرســلهم لقبــض روح‬
‫من شاء من عباده‪.‬‬
‫ض‬ ‫وأضيف التوفي إلى ملك الموت؛ لنه هو الــذي يتــولى قب ـ َ‬
‫س وأخذها أول ما تخرج من الجسد‪.‬‬ ‫النف ِ‬
‫وأضيف إلى الملئكــة باعتبــار أنهــم يقبضــونها ويتولونهــا بعــد‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ل لثبــوت ذلــك علــى الــوجه‬ ‫فكلها حق‪ ،‬فُنسب التوفي إلى ك ّ‬
‫الذي يناسبه‪.‬‬
‫ن هذه النفــس الكــثيرة الــتي تمــوت فــي‬ ‫وإنها لية عظيمة أ ّ‬
‫اللحظة الواحدة يتوفاها ويتولها ملك واحــد‪ ،‬فهـذا يفيــدنا أن أمـر‬
‫الغيب ل تحيط به العقول البشرية‪ ،‬ول يقــاس علــى المحســوس‪،‬‬
‫فل ينفع أن تقيس الغائب على الشاهد‪.‬‬
‫وقد حدث في هذا العصر من المخترعات الباهرة مــا يقــرب‬
‫بعض أمور الغيب؛ كالحاسوب‪ ،‬والشبكة المعلوماتية‪ ،‬وغيرها ممــا‬
‫من و إلى أمكان متباعدة‪.‬‬ ‫يرسل الصور والصوات ويستقبلها ِ‬

‫]الكلم على الروح وبعض متعلقاتها[‬


‫وقوله‪) :‬أرواح العالمين(‬
‫يتعلق بهذه الجملة الكلم في الـروح الـتي بهـا حيـاة النـاس‪،‬‬
‫وتسمى النفس‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫ل للناس‪ ،‬فقد خــاض فيــه النــاس‬ ‫ث طوي ٍ‬ ‫ح موضوع ُ حدي ٍ‬ ‫والرو ُ‬
‫كثيرا بالحق وبالباطل‪ ،‬والنـاس فـي شـأن الـروح وحقيقتهـا ثلثـة‬
‫مذاهب‪:‬‬
‫قوم قالوا‪ :‬إنهــا جــزء مــن البــدن‪ ،‬أو صــفة مــن صــفاته‪ :‬إمــا‬
‫فس الذي تتردد فـي البـدن‪ ،‬ومنهـم مـن قـال‪ :‬إنهـا الحيـاة‪ ،‬أو‬ ‫الن َ َ‬
‫المزاج‪ ،‬أو نفــس البــدن‪ ،‬وهــذه القــوال منســوبة إلــى كــثير مــن‬
‫المتكلمين‪.‬‬
‫وقابلهم الفلســفة فقــالوا‪ :‬إن الــروح ل تقــوم بــه أيــة صــفة‪،‬‬
‫فالروح ليست داخل البدن ول خــارجه‪ ،‬ول مباينــة لــه ول مداخلــة‬
‫له‪ ،‬ول متحركة ول ساكنة‪ ،‬ول تصعد ول تهبط‪ ،‬ول هــي جســم ول‬
‫ع ََرض‪ ،‬وليس لها أية صفة‪ ،‬قال شيخ السلم ـ رحمه اللــه ــ فــي‬
‫التدمرية‪) :‬يصفونها بما يصفون به واجــب الوجــود عنــدهم‪ ،‬وهــي‬
‫أمور ل يتصف بها إل ممتنع الوجود( ]ص ‪[169‬‬
‫فهذان القولن على طرفي نقيض‪ ،‬وكل منهما باطل‪.‬‬
‫والقول الوسـط‪ :‬إن الـروح حقيقـة موجـودة قائمـة بنفسـها‪،‬‬
‫ولها وجود مستقل عن البدن‪ ،‬فليست كالعرض الــذي ل يقــوم إل‬
‫بجسم؛ لكنها تتصل بالبدن وتنفصل عنه‪ ،‬وتسري فيه سريانا على‬
‫وجــه التقريــب كســريان النــار فــي الفحــم‪ ،‬وســريان الــدهن فــي‬
‫الزيتون‪ ،‬وسريان المــاء فــي العــود‪ ،‬المهــم أن لهــا كيانــا يخصـها‪،‬‬
‫وهي موصوفة بصفات ثبوتية وسلبية‪ ،‬مثــل‪ :‬أنهــا تــذهب وتجيــء‪،‬‬
‫ن‬
‫حيـ َ‬ ‫س ِ‬ ‫فـ َ‬ ‫ه ي َت َـوَّفى ال َن ْ ُ‬
‫وُتقبض وترسل‪ ،‬وهذا بنص القرآن‪ )) :‬الل ّـ ُ‬
‫ت‬ ‫ضى ع َل َي َْها ال ْ َ‬
‫م ـو ْ َ‬ ‫ك ال ِّتي قَ َ‬ ‫س ُ‬ ‫مَها فَي ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫مَنا ِ‬
‫ت ِفي َ‬ ‫م ْ‬ ‫موْت َِها َوال ِّتي ل َ ْ‬
‫م تَ ُ‬ ‫َ‬
‫خَرى ((]الزمــر‪ [42:‬وفــي الصــحيح عــن النــبي ‪ ‬فــي‬ ‫ُ‬
‫ل ال ْ‬ ‫س ُ‬
‫وَي ُْر ِ‬
‫ب وضــعت جنــبي وبــك أرفعــه‪ ،‬إن‬ ‫الذكر عند النــوم‪ } :‬باســمك ر ّ‬
‫أمسكت نفســي فارحمهــا وإن أرســلتها فاحفظهــا بمــا تحفــظ بـه‬
‫عبــادك الصــالحين { ]البخــاري )‪ ،(6320‬ومســلم )‪ (2714‬مــن‬
‫حــديث أبــي هريــرة ‪ ،[‬وهــي مغــايرة فــي حقيقتهــا للجســام‬
‫المشهودة‪.‬‬
‫فهـذا هـو القـول الوســط الـذي دلــت عليـه نصـوص الكتــاب‬
‫والسنة‪ ،‬وهذا مذهب أهل السنة‪ :‬أن الروح شيء موجــود متميــز‪،‬‬
‫وهي حقيقة قائمــة بنفســها‪ ،‬وموصــوفة بصــفات ثبوتيــة وســلبية‪،‬‬
‫وهي مغايرة في ماهيتها وحقيقتها للجسام المشهودة‪.‬‬
‫ويتعلق بالروح مسائل كــثيرة اعتنـى بـذكرها ابـن القيــم فــي‬
‫صل القول فيها‪.‬‬ ‫كتابه »الروح«‪ ،‬وف ّ‬
‫منها‪ :‬الكلم في خلق الروح فقد قيل‪ :‬إنها قديمة‪ ،‬أي‪ :‬ليست‬
‫محدثة‪ ،‬فل بداية لوجودها‪ ،‬وهذا باطل؛ بل هــي محدثــة ومخلوقــة‬

‫‪178‬‬
‫كسائر المخلوقات‪ ،‬فالنســان مخلــوق‪ :‬روحــه وبــدنه‪].‬الــروح ص‬
‫‪[226‬‬
‫ومنهــا‪ :‬هــل تمــوت الــروح أو ل تمــوت؟ فيــه خلف‪ ،‬والــذي‬
‫رجحه ابن القيم ]الروح ص ‪ ،[70‬وهو الصــواب‪ :‬أن مــوت الرواح‬
‫هو مفارقتها لجسادها؛ فإن أريد هذا القدر فهي ذائقة الموت فـ ‪:‬‬
‫ت ((]آل عمران‪ [185:‬وإن أريد أنها تصير‬ ‫موْ ِ‬ ‫ة ال ْ َ‬‫ق ُ‬ ‫س َ‬
‫ذائ ِ َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫)) ك ُ ّ‬
‫ل نَ ْ‬
‫ما بعد فراقها للبدن فل؛ فالروح باقية؛ إما في نعيم أو عذاب‪.‬‬ ‫عد ً‬
‫ومن المســائل الــتي طرقهــا ابــن القيــم كــذلك‪ :‬الفــرق بيــن‬
‫النفس والــروح ]الــروح ص ‪ ،[325‬وبّيـن أن النفـس تطلــق علـى‬
‫معان متعددة‪ ،‬والروح تطلــق علــى معــان متعــددة‪ ،‬وتتفقــان فــي‬
‫بعض المواضع‪ ،‬فإذا قيل ـ مثلـ‪ :‬خرجت نفسه أو خرجــت روحــه؛‬
‫فالمعنى واحد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬هل النفس واحدة أو ثلث؟ ]الروح ص ‪[330‬‬
‫الصــحيح‪ :‬أنهــا واحــدة؛ لكــن ذكرهــا بلفــظ‪ :‬النفــس المــارة‬
‫بالســوء‪ ،‬والنفــس المطمئنــة‪ ،‬والنفــس اللوامــة إنمــا هــو باعتبــار‬
‫صفاتها‪ ،‬وإل فهي نفس واحدة‪.‬‬
‫ومن الناس من يقول‪ :‬لم الخوض والكلم في الــروح مــع أن‬
‫ر‬
‫مـ ِ‬
‫ك ع َـن ال ـروح قُ ـل ال ـروح م ـ َ‬
‫نأ ْ‬‫ّ ُ ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫س ـأ َُلون َ َ‬
‫الله تعالى يقول‪ )) :‬وَي َ ْ‬
‫َرّبي ((]السراء‪ [85:‬؟‬
‫والجــواب‪ :‬أن هــذه اليــة ليــس فيهــا النهــي عــن الكلم فــي‬
‫الروح‪.‬‬
‫ثم إن الروح في الية قد اختلف فيه‪ ،‬فقيل‪ :‬إنه الروح المين‬
‫جبريل عليه السلم‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه ملك آخر‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬المراد بــالروح الــوحي‪] .‬تفســير البغــوي ‪ ،5/125‬وزاد‬
‫المسير ‪[5/60‬‬
‫وإذا كان المــراد‪ :‬الــروح الــتي هــي النفــس‪ ،‬فــإن اللــه قــال‪:‬‬
‫مرِ َرّبي ((]السراء‪ [85:‬وليس فــي هــذا النهــي‬ ‫)) قُل الروح م َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ِ ّ ُ ِ ْ‬
‫عن الكلم في الروح‪ ،‬والواجب هــو الكلم فيهــا بعلــم‪ ،‬أمــا الكلم‬
‫فيها بغير علم؛ فهذا هو المحذور‪ ،‬وفي كل مقام أيضا‪ ،‬أمــا الكلم‬
‫في الروح في حدود ما جاء في الكتاب والسنة؛ فهذا حــق وبيــان‬
‫لكتاب الله تعالى‪ ،‬وسنة رسوله ‪.‬‬
‫والكلم والبحث في الروح له فائدتان‪:‬‬
‫الولى‪ :‬معرفة الحق من الباطل من أقوال الناس‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬معرفة ما ورد في الكتاب والسنة في شأن الروح‪.‬‬
‫وضرب شيخ السلم ابـن تيميـة فـي الرسـالة التدمريـة ]ص‬
‫‪[169‬بها المثل لبيان وتقرير أن قيام الصفات بالموصوف ل يلزم‬

‫‪179‬‬
‫منه المشابهة لغيره‪ ،‬ليقرر بذلك أن إثبات صفات الله ل يســتلزم‬
‫معرفة كنهــه ول تشـبيهه بخلقــه‪ ،‬فــالروح مـع أنهـا موصـوفة فــي‬
‫النصوص بصفات ثبوتية وســلبية؛ فــالعقول عــاجزة عــن تكييفهــا‪،‬‬
‫وهي عن تكييف الرب أعجــز‪ ،‬وهــي مباينــة للجســام المشــهودة‪،‬‬
‫ن متضــمن لفحــام‬ ‫ومباينة الله لخلقه أعظم‪ ،‬وهــو كلم ناصــع بي ّـ ٌ‬
‫المبطلين المعطلين‪.‬‬

‫]وجوب اليمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه[‬


‫وقوله‪) :‬وبعذاب القبر لمن كان له أهل‪ ،‬وسؤال منكــر ونكيــر‬
‫في قبره عن ربـه ودينــه ونــبيه‪ ،‬علــى مــا جــاءت بـه الخبــار عــن‬
‫رسول الله ‪ ،‬وعن الصحابة رضوان الله عليهم(‬
‫ونؤمن بعذاب القبر وبفتنة القبر ـ أي ــ ‪ :‬ســؤال الميــت فــي‬
‫قبره عن ربــه ودينــه ونــبيه‪ ،‬فقــد ثبــت عــن النــبي ‪ ‬مــن روايــة‬
‫جماعة من الصحابة رضي الله عنهــم‪ ،‬كحــديث الــبراء بــن عــازب‬
‫رضي الله عنهما عن النــبي ‪ ) :‬إن الميــت إذا وضــع فــي قــبره‬
‫أتاه ملكان فيقعدانه ويقولنه له‪ :‬من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟‬
‫( ]حديث البراء تقدم في ص‪ ،‬وجاء نحوه من حديث أنس ‪ ‬فــي‬
‫البخــاري )‪ ،(1338‬ومســلم )‪ ،[(2870‬والدلــة علــى فتنــة القــبر‬
‫وعذاب القبر متواترة‪] .‬انظر‪ :‬إثبات عذاب القبر للبيهقي‪ ،‬والروح‬
‫ص ‪ ،97‬وأهوال القبــور لبــن رجــب ص ‪ ،43‬وقطــف الزهــار ص‬
‫‪[294‬‬
‫ت الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫وقد أشير إلى فتنة القبر في القرآن قال تعالى‪ )) :‬ي ُث َب ّ ُ‬
‫خ ـَرةِ ((‬ ‫حي َــاةِ ال ـد ّن َْيا وَفِــي ال ِ‬ ‫ت فِــي ال ْ َ‬ ‫ل الث ّــاب ِ ِ‬‫قو ْ ِ‬‫من ُــوا ب ِــال ْ َ‬‫نآ َ‬
‫ذي َ‬‫ال ّـ ِ‬
‫]إبراهيــم‪،[27:‬ــ ]روى البخــاري )‪ ،(4699‬ومســلم )‪ (2871‬عــن‬
‫النبي ‪ ‬أنها نزلت في عذاب القبر[ وكان النبي ‪ ) ‬إذا فرغ من‬
‫دفــن الميــت‪ ،‬وقــف عليــه وقــال‪ :‬اســتغفروا لخيكــم‪ ،‬وســلوا لــه‬
‫التثــبيت؛ فــإنه الن يســأل(‪] .‬رواه أبــو داود )‪ ،(3221‬والــبزار )‬
‫‪ ،(445‬ـ وقال‪ :‬ل يروى عن النــبي ‪ ‬إل مــن حــديث عثمــان‪ ،‬ول‬
‫دا عن عثمان إل هذا السناد‪ .‬ــ والحــاكم ‪ 1/370‬ــ‬ ‫نعلم لهذا إسنا ً‬
‫وصححه ـ مــن حــديث عثمــان بــن عفــان ‪ ،‬وقــال النــووي فــي‬
‫الخلصة ‪ :2/1028‬إسناده حسن[‬
‫ويظهر لي أنه ليــس لنــا أن نقــول‪) :‬فــإنه الن يســأل( وإنمــا‬
‫نقول‪ :‬استغفروا لخيكم واسألوا له التثبيت فقــط‪ ،‬أمــا أن نحكــم‬
‫على الميت بأنه الن يسأل‪ ،‬فهذا ل علم لنا به على الخصوص‪.‬‬
‫ومــن أدلــة عــذاب القــبر فــي القــرآن قــوله تعــالى فــي آل‬
‫ة‬
‫ســاع َ ُ‬‫م ال ّ‬ ‫قــو ُ‬ ‫شي ّا ً وَي َـوْ َ‬
‫م تَ ُ‬ ‫ن ع َل َي َْها غ ُد ُوّا ً وَع َ ِ‬‫ضو َ‬ ‫فرعون‪ )) :‬الّناُر ي ُعَْر ُ‬
‫ب ((]غـافر‪ ،[46:‬ومـن ذلـك قـوله‬ ‫ذا ِ‬‫شـد ّ ال َْعـ َ‬ ‫ن أَ َ‬‫عـوْ َ‬ ‫ل فِْر َ‬ ‫خُلوا آ َ‬‫أ َد ْ ِ‬

‫‪180‬‬
‫ملئ ِك َـ ُ‬
‫ة‬ ‫ت َوال ْ َ‬ ‫م ـو ْ ِ‬‫ت ال ْ َ‬ ‫مـَرا ِ‬ ‫ن فِــي غ َ َ‬ ‫مو َ‬ ‫تعالى‪ )) :‬وَل َوْ ت َـَرى إ ِذ ِ الظ ّــال ِ ُ‬
‫ن ((‬ ‫ب ال ْهُــو ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن عَـ َ‬ ‫ج ـَزوْ َ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫م ال ْي َـوْ َ‬ ‫س ـك ُ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫جوا َأن ُ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م أَ ْ‬‫ديهِ ْ‬
‫باس ُ َ‬
‫طوا أي ْ ِ‬ ‫َ ِ‬
‫ب‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن ال ْعَ ـ َ‬ ‫مـ َ‬ ‫م ِ‬ ‫قن ّهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫]النعام‪ ،[93:‬ومن ذلك قــوله تعــالى‪ )) :‬وَل َن ُـ ِ‬
‫َ‬ ‫ال َد َْنــى ُ‬
‫ن ((]الســجدة‪،[21:‬‬ ‫جُعــو َ‬ ‫م ي َْر ِ‬ ‫ب الك َْبــرِ ل َعَل ُّهــ ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن ال َْعــ َ‬‫دو َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫مـ ْ‬ ‫ن وَ ِ‬ ‫قو َ‬ ‫من َــافِ ُ‬‫ب ُ‬ ‫ن الع َْرا ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫حوْل َك ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫وكذلك قوله تعالى‪ )) :‬وَ ِ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ســن ُعَذ ّب ُهُ ْ‬‫م َ‬ ‫مُهــ ْ‬ ‫ن ن َعْل َ ُ‬ ‫ح ُ‬‫م نَ ْ‬ ‫مه ُ ْ‬‫ق ل ت َعْل َ ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫دوا ع ََلى الن ّ َ‬ ‫مَر ُ‬‫دين َةِ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫أهْ ِ‬
‫ظيـم ٍ ((]التوبــة‪ [101:‬وهــو عــذاب‬ ‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٍ‬ ‫ن إ َِلى ع َـ َ‬ ‫دو َ‬ ‫م ي َُر ّ‬ ‫ن ثُ ّ‬ ‫مّرت َي ْ ِ‬
‫َ‬
‫النار‪.‬‬
‫ومن أدلة عذاب القبر ونعيمــة مــا ثبــت فــي الصــحيحين عــن‬
‫النــبي ‪) : ‬إن أحــدكم إذا مــات عــرض عليــه مقعــده بالغــداة‬
‫والعشي‪ ،‬إن كان من أهل الجنة فمن أهــل الجنــة‪ ،‬وإن كــان مــن‬
‫أهل النار فمن أهل النار‪ ،‬يقال‪ :‬هذا مقعدك حتى يبعثك اللــه يــوم‬
‫القيامة( ]البخاري )‪ ،(1379‬ومسلم )‪ (2866‬من حديث ابن عمر‬
‫رضي الله عنهما[ وفي حديث البراء ‪ ‬عن النبي ‪ :‬قــال‪ ) :‬إن‬
‫المؤمن ُيفتح له باب إلى الجنة‪ ،‬فيأتيه من روحها وطيبها‪ ،‬ويفسح‬
‫له في قبره مد بصره‪ ،‬وأن الكافر يفتح له باب إلى النــار‪ ،‬فيــأتيه‬
‫من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيــه أضــلعه(‬
‫]تقدم في ص[ وقال النبي ‪) :‬إنه أوحي إلى أنكــم تفتنــون فــي‬
‫قبوركم مثل أو قريبا مــن فتنــة المســيح الــدجال‪ :‬فيــوتى أحــدكم‬
‫فيقال‪ :‬ما علمك بهذا الرجل ؟ فأمــا المــؤمن فيقــول‪ :‬هــو محمــد‬
‫رسول اللــه جاءنــا بالبينــات والهــدى‪ ،‬فأجبنــا واتبعنــا‪ ،‬فيقــال‪ :‬نــم‬
‫ن كنت لموقنا به‪ ،‬وأما المنافق فيقــول‪ :‬ل أدري‬ ‫صالحا قد علمنا إ ْ‬
‫ســمعت النــاس يقولــون شــيئا ؛ فقلتــه( ]رواه البخــاري )‪،(86‬‬
‫ومسلم )‪ (905‬من حديث أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما‪[.‬‬
‫ومن أدلة عذاب القبر ما ورد من الســتعاذة بــالله منــه‪ ،‬كمــا‬
‫في الذكر بعد التشهد ففي حديث أبي هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول‬
‫الله ‪) :‬إذا فرغ أحــدكم مــن التشــهد الخــر؛ فليتعــوذ بـالله مــن‬
‫أربــع‪ :‬مـن عـذاب جهنــم‪ ،‬ومـن عــذاب القــبر‪ ،‬ومـن فتنـة المحيــا‬
‫والممات‪ ،‬ومــن شــر المســيح الــدجال( ]رواه البخــاري )‪،(1377‬‬
‫ومسلم )‪ (588‬ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة ‪[‬‬
‫وأحاديث كــثيرة فيهــا الســتعاذة بــالله مــن عــذاب فــي النــار‬
‫وعـذاب فـي القـبر‪] .‬كحـديث عائشـة ‪ ‬فـي البخـاري )‪،(1372‬‬
‫ومسلم )‪ ،(586‬وحديث أنس ‪ ‬في البخاري )‪ ،(2823‬ومسلم )‬
‫‪ ،(2706‬وحديث سعد بن أبي وقــاص ‪ ‬فــي البخــاري )‪،(6730‬‬
‫وحديث ابن مسعود ‪ ‬في مسلم )‪ ،(2723‬وحديث أم حبيبــة ‪‬‬
‫في مسلم )‪ ،(2663‬وغيرها[‬

‫‪181‬‬
‫وأكثر الحاديث فيها‪) :‬أنــه يــأتيه ملكــان( ]كحــديث الــبراء ‪‬‬
‫وقد تقدم في ص‪ ،‬وحديث أنــس ‪ ‬وقــد تقــدم فــي ص [‪ ،‬وجــاء‬
‫عند الترمذي تسميتهما‪) :‬المنكر والنكير( ]تقدم فــي ص[‪ ،‬وســئل‬
‫المام أحمد عن ذلك فأثبت تسمية هذين الملكيــن‪].‬فــي طبقــات‬
‫الحنابلة ‪ :1/135‬قال أحمد بن القاسم‪ :‬يا أبا عبد الله تقر بمنكر‬
‫ونكير‪ ،‬وما يروى من عذاب القبر؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬سبحان اللــه! نقــر‬
‫بذلك ونقوله‪ ،‬قلت‪ :‬هذه اللفظة منكر ونكير تقول هــذا‪ ،‬أو تقــول‬
‫ب القبر ‪[.‬‬ ‫ن‪ ،‬وعذا ُ‬ ‫ملكين؟ قال‪ :‬نقول‪ :‬منكٌر ونكيٌر‪ ،‬وهما ملكا ِ‬
‫وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله‪ ،‬واليمان بفتنة القــبر‬
‫وعذابه ونعيمه من اليمان باليوم الخر؛ فإن اليمان باليوم الخــر‬
‫يدخل فيه ما يكون بعد الموت‪.‬‬
‫واليمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه مـن اليمـان بـالغيب؛ لن‬
‫الله ستر عن الخلق أحوال أهل القبور‪ ،‬وربمــا كشــف لمــن شــاء‬
‫بعض ذلك‪ ،‬وقـد أطلـع اللـه سـبحانه نـبيه ‪ ‬علـى حـال صـاحبي‬
‫مـّر بهمــا‪ } :‬إنهمــا ليعــذبان ومــا يعــذبان فــي‬ ‫القبرين فقــال لمــا َ‬
‫كــبير {]رواه البخــاري )‪ ،(216‬ومســلم )‪ (292‬مــن حــديث ابــن‬
‫عباس رضي الله عنهمــا‪ [.‬فــأطلعه تعــالى علــى حالهمــا‪ ،‬وســبب‬
‫عذابهما‪ ،‬ولما سمع ‪ ‬ذات يــوم صــوتا قــال‪ ) :‬يهــود تعــذب فــي‬
‫قبورها(‪].‬رواه البخاري )‪ ،(1375‬ومسلم )‪ (2869‬عن أبي أيــوب‬
‫‪[‬‬
‫قد ُيكشف لبعض العباد شيء من أحــوال أهــل القبــور‪ ،‬وفــي‬
‫هذا أخبار كثيرة‪ ،‬يــذكرها المعنيــون بهــذا مــن أهــل العلــم]انظــر‪:‬‬
‫مجموع الفتــاوى ‪ ،4/296‬و ‪ ،24/376‬وشــرح حــديث النــزول ص‬
‫‪ ،399‬والروح ص ‪ ،119‬وأهوال القبور ص ‪ ،[61‬وفيها تصديق لما‬
‫أخبر به ‪ ، ‬وثبت عنه ‪ ‬أنه قال‪) :‬لول أل تـدافنوا لــدعوت اللــه‬
‫أن ُيسمعكم من عذاب القبر ما أسمع( ]رواه مسلم )‪ (2868‬من‬
‫حديث أنس ‪ [‬لو كشف للناس أحوال أهل القبور لفروا وهــاموا‬
‫على وجوههم‪ ،‬ولما دفنوا موتاهم‪.‬‬
‫وأنكر عذاب القبر ونعيمه وسؤاله وفتنتــه الملحــدة الزنادقــة‬
‫]الروح ص ‪ ،105‬وَرد ّ عليهم في ص ‪ [111‬ويلزم على قول مــن‬
‫يقول‪ :‬إن الروح عرض وليست شيئا قائما بنفسه؛ أنه ليس هنــاك‬
‫عــذاب ول نعيــم؛ لنهــا معدومــة‪ ،‬ولهــذا قــال ابــن القيــم فــي‬
‫النونية]ص ‪ [25‬ـ لما ذكر أمر الرواح وبقاءها ـ ‪:‬‬
‫م وَل َ ب َِلى‬‫سو ُ‬ ‫َتبَلى ال ُ‬
‫ج ُ‬ ‫ما‬‫ح ل َ َتبَلى ك َ َ‬ ‫ك الرَوا ُ‬ ‫كذل ِ َ‬ ‫وَ َ‬
‫ن‬ ‫الّلح َ‬
‫ما ِ‬
‫ن‬‫دا ِ‬
‫ن الب َ‬ ‫ة عَ ِ‬ ‫ج ً‬
‫خارِ َ‬
‫ح َ‬ ‫أرَوا ِ‬ ‫م بالـ‬ ‫جه ُ‬ ‫قّر ال َ‬‫ك لم ي ُ ِ‬‫ل ذ َل ِ َ‬
‫َولج ِ‬
‫غاي َةِ الُبطل َ ِ‬
‫ن‬ ‫ذا في َ‬ ‫مت وَ َ‬ ‫َقا َ‬ ‫ض ب َِها‬
‫ض أعَرا ٍ‬ ‫من َبع ِ‬ ‫ل َك ِن َّها ِ‬

‫‪182‬‬
‫ن‬‫شا ِ‬ ‫م َ‬ ‫داَننا َواللهِ أعظ َ ُ‬ ‫أب َ‬ ‫ح َبعد َ فراقَِها‬ ‫ن للروا ِ‬ ‫شأ ُ‬ ‫فال ّ‬
‫ن‬‫حا ِ‬ ‫ح والّري َ‬ ‫َقد ن ُّعمت ِبالّرو ِ‬ ‫م‬‫دائ ِ ٌ‬
‫م َ‬ ‫ب أو ن َِعي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ما ع َ‬ ‫إ ّ‬
‫ن‬‫حَيوا ِ‬ ‫جن ّةِ ال َ‬ ‫تجني الّثماَر ب ِ َ‬ ‫مع شكل َِها‬ ‫ساِرحا ً َ‬ ‫وتصيُر طيرا ً َ‬
‫ن‬‫ما ِ‬ ‫جث ْ َ‬ ‫ك ال ُ‬ ‫حّتى ت َُعود َ ل ِذ َل ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ل َوارد َة ً لنَهارٍ ِبها‬ ‫وَت َظ َ ّ‬
‫ن‬
‫ضرٍ َرّيا ِ‬ ‫طيرٍ أخ َ‬ ‫ف َ‬ ‫جو ِ‬ ‫ِفي َ‬ ‫دوا‬ ‫ن اسُتشهِ ُ‬ ‫ح الذي َ‬ ‫ن أروا َ‬ ‫ل َك ِ ّ‬
‫ن‬
‫دا ِ‬ ‫ح والب َ‬ ‫مِهم ِللّرو ِ‬ ‫ون َِعي ِ‬ ‫شِهم‬ ‫عي ِ‬ ‫ة في َ‬ ‫ك مزي ّ ٌ‬ ‫ذا َ‬ ‫فلُهم ب َ‬
‫ر‬
‫طي ِ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫م تل َ‬ ‫سا َ‬‫أج َ‬ ‫ضُهم‬ ‫عا َ‬ ‫م لرب ِّهم فأ َ‬ ‫سو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫ب َذ َُلوا ال ُ‬
‫ن‬‫سا ِ‬ ‫بالح َ‬
‫ن‬
‫سا ِ‬ ‫لن َ‬ ‫نا ِ‬ ‫ساك ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫مأوَىً ل ََها ك َ َ‬ ‫َ‬ ‫ل إليَها َتنت َِهي‬ ‫وَل ََها قََناِدي ٌ‬
‫دارِ في‬ ‫ذي ال ّ‬ ‫منَها ب ِهَ ِ‬ ‫حال َةٍ‬‫ل َ‬ ‫م ُ‬ ‫ت أك َ‬ ‫ح َبعد َ المو ِ‬ ‫فالّرو ُ‬
‫ن‬
‫ما ِ‬ ‫جث َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫صاُرنا ب ِعَِيا ِ‬ ‫عايَنت أب َ‬ ‫قد َ‬ ‫ذي‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬
‫ها أشد ّ ِ‬ ‫قا َ‬ ‫ب أش َ‬ ‫َوع َ‬
‫ذا ُ‬
‫ن‬
‫ذي ُنكرا ِ‬ ‫ه ت َّبا ل ِ ِ‬ ‫ذا ك ُل ّ ُ‬
‫َ‬ ‫ض أَبوا‬ ‫ن ِبأن َّها ع ََر ٌ‬ ‫قائ ُِلو َ‬ ‫وال َ‬
‫وقوله‪) :‬لمن كان له أهل( عذاب القبر ليس لكل واحد‪ ،‬وجاء‬
‫التصريح بعذاب القبر ونعيمه للمؤمن والكافر‪ ،‬أما العاصــي؛ فــإن‬
‫أكثر النصوص لم تتعرض له‪ ،‬كما هو ظاهر فــي أمــر فتنــة القــبر‪،‬‬
‫إنما ذكر المؤمن الذي ينعم بعد الفتنــة‪ ،‬والكــافر والمنــافق الــذي‬
‫سكت عنــه‬ ‫يعذب بعدها‪ ،‬لكن العاصي ُيخاف عليه العذاب‪ ،‬فالذي ُ‬
‫هذا على خطر‪ ،‬فالمعاصي سبب للعذاب في الــدنيا وفــي الــبرزخ‬
‫وفي الخرة‪ ،‬والعاصي تحت المشــيئة إن شـاء اللـه غفــر لـه وإن‬
‫ج من العذاب‪ ،‬وهو من أهـل‬ ‫شاء عذبه‪ ،‬وأما المؤمن التقي فهو نا ٍ‬
‫النعيم والثواب‪.‬‬
‫ومسائل القبر هذه‪ ،‬هي التي بنى عليها الشيخ محمد بن عبد‬
‫الوهاب ـ رحمه الله ـ رسالته المعروفة بـ»ثلثة الصول«‪.‬‬
‫وقد بلغ المر ببعض من يعظمون الوطن إلى درجــة العبــادة‪،‬‬
‫أن يقول‪:‬‬
‫ت في الدنيا‬ ‫بنو وطني سأذكرهم * متى ما عش ُ‬
‫وفي قبري أقول له * إذا ما جاء يسألني‬
‫م بنو وطني!‬ ‫م ديني * وديني ه ْ‬ ‫بنو وطني ه ُ‬
‫]هذه البيات للشاعر السوداني عبدالرحمن شوقي‪ ،‬ونشرت‬
‫في جريدة القصيم‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬في جمادى الولى عام ‪1379‬‬
‫هـ‪ ،‬كذا أفادني الشيخ‪ ،‬وهذه الجريدة توقفت منذ زمن بعيد‪ ،‬ولم‬
‫أجد هذا العدد‪[.‬‬

‫هل سيجيب بهذا الكفر ؟!‬


‫لن يجيب‪ ،‬بل سيقول‪ :‬هاه هاه! ل أدري‪.‬‬
‫نعوذ بالله من فتنة القبر وعذاب القبر‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫وقوله‪) :‬عن ربه ودينه ونبيه ‪ ‬على ما جاءت به الخبار عــن‬
‫رسول الله ‪ ،‬وعن الصحابة رضوان الله عليهم(‪.‬‬
‫هذا هو المعتمد‪ ،‬فإنما إثبتنا هذه المور الغيبية لــورود الخبــار‬
‫الصحيحة بها‪ ،‬فنؤمن بذلك تصديقا لله تعالى‪ ،‬ورسوله ‪ ،‬واتباعا‬
‫لسلف هذه المة‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬والقبر روضة مــن ريــاض الجنــة أو حفــرة مــن حفــر‬
‫النيران(‪] .‬هذا لفظ حديث رواه الترمذي )‪ (2460‬من حديث أبـي‬
‫هريرة ‪ ‬عن النبي ‪ ،‬وقال‪ :‬غريب ل نعرفه إل من هذا الــوجه‪،‬‬
‫وضعفه العراقي فــي المغنــي ‪ ،1/468‬والســخاوي فــي المقاصــد‬
‫الحسنة )‪ [ (758‬هذا تكميل للموضوع‪ ،‬وفيه إشارة إلــى النعيــم؛‬
‫لنه في العبارة السابقة لم يقل‪ :‬بعذاب القبر ونعيمه‪ ،‬ففــي هــذه‬
‫الجملة تنبيه على النعيم‪) ،‬والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة‬
‫من حفر النيران(‪ ،‬هذه أحوال الناس في القبر‪ ،‬منهم‪ :‬من هو في‬
‫نعيم وفي سرور‪ ،‬في روضة مــن ريــاض الجنــة يــأتيه مــن روحهــا‬
‫وطيبها‪ ،‬كما يشاء الله سبحانه وتعالى على ما يليق بحال البرزخ؛‬
‫لن الدور ثلثة‪:‬‬
‫دار الدنيا‪ ،‬وهي‪ :‬دار البتلء والعمل‪.‬‬
‫ودار البرزخ‪ ،‬وهي‪ :‬ما بين المــوت إلــى البعــث‪ ،‬وهــي‪ :‬محــل‬
‫عذاب القبر ونعيمه‪.‬‬
‫والدار الخرة التي بعد البعث‪ ،‬وهي‪ :‬دار القرار‪ ،‬وليــس فيهــا‬
‫نقلة ول رحيل ول تحول‪.‬‬
‫أما القبر‪ ،‬فليس هو كما يجري على ألســن النــاس إذا دفنــوا‬
‫الميت قالوا‪ :‬انتقل إلى مثواه الخير؛ فإن القبر ليس هــو المثــوى‬
‫الخير‪ ،‬بل بعده رحيل وانتقال من دار البرزخ إلــى الــدار الخــرة‪:‬‬
‫إلى الجنة أو النار‪ ،‬واســتنبط بعـض أهــل العلــم هـذا المعنــى مـن‬
‫َ‬
‫م ((]التكــاثر‪[2-1:‬‬ ‫كــاث ُُر * حــتى ُزْرُتــ ُ‬ ‫م الت ّ َ‬ ‫قــوله تعــالى‪ )) :‬أل َْهــاك ُ ُ‬
‫والزائر ل بد لــه مــن انصــراف؛ لنــه غيــر مقيــم ]الجــامع لحكــام‬
‫القرآن ‪ ،22/450‬وتفسير ابن كثير ‪ ،[8/474‬فأهل القبــور ليســوا‬
‫بمقيميــن أبــدا فــي قبــورهم؛ بــل سينصــرفون عنــدما يــدعوهم‬
‫م‬‫ب * ي َـوْ َ‬ ‫ري ـ ٍ‬ ‫مك َــا ٍ‬
‫ن قَ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫من َــاد ِ ِ‬‫م ي ُن َــاد ِ ال ْ ُ‬
‫معْ ي َـوْ َ‬ ‫س ـت َ ِ‬ ‫الــداعي‪َ )) :‬وا ْ‬
‫خ‬‫ف َ‬ ‫ج ((]ق‪ )) ،[42-41:‬وَن ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫خُرو‬‫م ال ْ ُ‬ ‫ك ي َوْ ُ‬ ‫حقّ ذ َل ِ َ‬ ‫ة ِبال ْ َ‬ ‫ح َ‬‫صي ْ َ‬
‫ن ال ّ‬‫مُعو َ‬ ‫س َ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬
‫شاَء‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ض إ ِّل َ‬‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬‫س َ‬‫ن ِفي ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫صعِقَ َ‬ ‫صورِ فَ َ‬ ‫ِفي ال ّ‬
‫ُ‬
‫ن ((]الزمر‪.[68:‬‬ ‫م ي َن ْظ ُُرو َ‬ ‫م قَِيا ٌ‬ ‫ذا هُ ْ‬ ‫خَرى فَإ ِ َ‬ ‫خ ِفيهِ أ ْ‬ ‫ف َ‬
‫م نُ ِ‬‫ه ثُ ّ‬‫الل ّ ُ‬

‫]اليمان بالبعث والجزاء[‬


‫ة(‪.‬‬
‫م القيام ِ‬
‫ل يو َ‬
‫ث وجزاِء العما ِ‬
‫وقوله‪) :‬ونؤمن بالبع ِ‬

‫‪184‬‬
‫كل هذه المعاني والمسائل مندرجة في اليمان باليوم الخر‪،‬‬
‫ل الملــل الثلث‪ :‬المســلمون‬ ‫واليمان بالبعث مما أجمــع عليــه أهـ ُ‬
‫واليهـود والنصـارى‪ ،‬وممـا اتفقـت عليـه الرسـل مـن أولهـم إلـى‬
‫آخرهم‪ ،‬وليس فيه اختلف بين فرق المة‪.‬‬
‫ول ينكــر بعــث الجســاد إل الفلســفة الملحــدة]درء تعــارض‬
‫العقــل والنقــل ‪ ،5/250‬والجــواب الصــحيح ‪ ،3/281‬ومجمــوع‬
‫الفتاوى ‪4/283‬و ‪ ،314‬والصــواعق المرســلة ‪ ، [4/1209‬ومنهــم‬
‫من دخل في السلم وادعى ذلك على الشريعة‪ ،‬كــابن ســينا]درء‬
‫تعــــارض العقــــل والنقــــل ‪ 1/8‬و ‪ ،10/59‬وســــير أعلم النبلء‬
‫‪ ،17/531‬والكافية الشافية ص ‪ ، [108‬يقول‪ :‬إن البعث والجزاء‬
‫روحاني ل جسماني‪ ،‬فأنكر معاد الجســاد ‪ ،‬فجعلــوا مــا جــاء فــي‬
‫النصوص أمورا روحانية‪ ،‬وهذا إنكار مع تلبيس‪.‬‬
‫ويوم القيامة اسمه يوم البعث؛ لن فيه البعث‪ ،‬ويوم الجمــع؛‬
‫لن الله يجمع الولين والخرين للحساب‪.‬‬
‫وسبق الكلم على أدلة البعث عند قول الطحاوي‪) :‬واليمان‪:‬‬
‫هو اليمان بالله‪ ،‬وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم الخر( ]ص[‪.‬‬
‫ومن القوال الباطلــة المعروفــة عــن المتكلميــن قــولهم‪ :‬إن‬
‫البعث يكون بجمع تلك الجزاء‪ ،‬وهذا يرجــع إلــى مقولــة معروفــة‬
‫هي‪ :‬إن الجسام مركبة من جــواهر مفــردة‪ ،‬والجــوهر الفــرد هــو‬
‫الجزء الذي ل يتجــزأ‪ ،‬وهــم منــازعون فــي دعــوى وجــود الجــوهر‬
‫الفرد‪.‬‬
‫والتحقيق أنــه مــا مــن جــزء إل ويتجــزأ حــتى يبلــغ إلــى غايــة‬
‫صغيرة فيستحيل أو يعدم‪ ،‬كما قال شيخ السلم ـ رحمــه اللــه ـــ‪.‬‬
‫]مجموع الفتــاوى ‪ ،16/270‬و ‪ ،17/246‬ومنهــاج الســنة ‪1/212‬و‬
‫‪2/139‬و ‪[210‬‬
‫فهؤلء القــائلون بنظريــة الجــوهر الفــرد يقولــون‪ :‬إن البعــث‬
‫يكون بجمع تلك الجــزيئات‪ :‬فــإذا مــات الميــت وتفرقــت جزيئاتــه‬
‫فيكون البعث بجمع تلك الجزيئات‪.‬‬
‫وهذا باطل؛ فإن الجسام تستحيل وتتغير وتتحول من طبيعــة‬
‫إلى طبيعة‪ ،‬ثم يقال‪ :‬إنه لو كان البعث بجمع تلك الجزيئات علــى‬
‫فرض صحة الدعوى؛ للزم أن يكون كل إنسان يبعث علــى هيئتــه‬
‫التي كان عليها‪ ،‬الكبير الهرم على هيئتــه‪ ،‬والصــغير كــذلك‪ ،‬وهــذا‬
‫مخالف للنصوص التي بي ّــن اللــه تعــالى فيهــا أنــه يعيــد مــا تفــرق‬
‫واستحال‪ ،‬ثــم ينشــئها ســبحانه وتعــالى كمــا يشــاء نشــأة أخــرى‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك وَأ َب ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫ما َ‬‫ه هُوَ أ َ‬ ‫كى * وَأن ّ ُ‬ ‫ح َ‬
‫ض َ‬
‫ه هُوَ أ ْ‬ ‫من ْت ََهى * وَأن ّ ُ‬‫ك ال ْ ُ‬
‫ن إ َِلى َرب ّ َ‬ ‫)) وَأ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫من َــى *‬‫ذا ت ُ ْ‬ ‫ن ن ُط ْ َ‬
‫ف ـة ٍ إ ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن الذ ّك ََر َوال ُن َْثى * ِ‬ ‫جي ْ ِ‬‫خل َقَ الّزوْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حَيا * وَأن ّ ُ‬‫وَأ ْ‬
‫وأ َن عل َيــه الن ْ َ‬
‫خــَرى ((]النجــم‪ ،[47-42:‬وقــال تعــالى‪:‬‬ ‫شــأة َ ال ُ ْ‬ ‫َ ّ َ ْ ِ ّ‬

‫‪185‬‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫قــون َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬
‫ن‬ ‫حـ ُ‬ ‫ن * نَ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫خــال ِ ُ‬ ‫حـ ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫هأ ْ‬ ‫خل ُ ُ َ ُ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ن * أأن ْت ُـ ْ‬ ‫من ُــو َ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫)) أفََرأي ْت ُ ْ‬
‫قَدرنا بينك ُم ال ْموت وما نحن بمسبوقين * ع ََلى أ َن نبــد َ َ‬
‫مَثــال َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫لأ ْ‬ ‫ْ َُ ّ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ِ َ ْ ُ ِ َ‬ ‫ّْ َ ََْ ُ‬
‫ن ((]الواقعــة‪ [61-58:‬ننشــئكم نشــأة ل‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫شئ َك ُ ْ‬ ‫وَن ُن ْ ِ‬
‫تعلمونها ول تتخيلونها‪.‬‬
‫وقد ثبت في النصوص ذكر خلقة من يدخل الجنة ومن يدخل‬
‫النار‪ ،‬وأن أجسامهم تكون ليست علــى هيئة أجســام النــاس فــي‬
‫هذه الدنيا؛ بل تختلف اختلفا كبيرا ]في صحيح البخاري )‪،(6551‬‬
‫و مسلم)‪ (2852‬عن النبي ‪ » :‬ما بيــن منكــبي الكــافر مســيرة‬
‫ثلثة أيام للراكــب المســرع«‪ ،‬وفــي صــحيح البخــاري )‪ ،(3326‬و‬
‫مســلم)‪ (2841‬عــن النــبي ‪» : ‬خلــق اللــه آدم وطــوله ســتون‬
‫ذراعا ‪ ...‬فكل من يدخل الجنة علــى صــورة آدم«‪ ،[.‬ينشــئها اللــه‬
‫نشأة أخرى تليق بالحيــاة الخــرة عــذابها ونعيمهــا‪ ،‬وليــس البعــث‬
‫دا من عدم؛ بل البعث إعادة‪ ،‬وهــذا هــو الــذي أنكــره الكفــار‪،‬‬ ‫إيجا ً‬
‫فإنهم ل ينكرون أن الله يخلق مثلما خلق‪ ،‬فهم يشاهدون أن الله‬
‫يخلق الجيال‪ ،‬إنما ينكرون أن يعيد الله مـا اسـتحال مـن أبـدانهم‬
‫ق‬ ‫ذا ك ُن ّــا ت َُراب َـا ً أ َإ ِن ّــا ل َفِــي َ ْ‬ ‫وتفرق من أجسادهم أن يعيــده‪ )) :‬أ َإ ِ َ‬
‫خل ـ ٍ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫مب ُْعوث ُــو َ‬ ‫ما ً وَُرَفات َا ً أإ ِن ّــا ل َ َ‬ ‫ظا َ‬ ‫ع َ‬ ‫ذا ك ُّنا ِ‬ ‫ديد ٍ ((]الرعد‪ )) ،[5:‬وََقاُلوا أ َإ ِ َ‬ ‫ج ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مــا ي َك ْب ُـُر فِــي‬ ‫م ّ‬ ‫قا ً ِ‬ ‫خل ْ َ‬ ‫ديد َا ً * أوْ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫جاَرة ً أوْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫كوُنوا ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫ديد َا ً * قُ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫قا ً َ‬ ‫خل ْ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مـّرةٍ ((‬ ‫ل َ‬ ‫م أوّ َ‬ ‫ذي فَطَرك ُـ ْ‬ ‫ل ال ـ ِ‬ ‫ن ي ُِعيـد َُنا قُـ ِ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫قولو َ‬ ‫سي َ ُ‬ ‫م فَ َ‬ ‫دورِك ُ ْ‬ ‫ص ُ‬‫ُ‬
‫دي ـد ٍ ((‬ ‫ج ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫]السراء‪ [51-49:‬اليات‪ )) ،‬ب َ ْ‬
‫خل ـ ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫م ِفي لب ْ ٍ‬ ‫ل هُ ْ‬
‫]ق‪ ،[15:‬ولهذا أنكر العلماء على جهم بن صفوان ومن وافقه بأن‬
‫المعاد هو أن يخلق الله الخلق خلقا جديدا ليس بإعادة‪ ،‬يقول ابن‬
‫القيم ـ في فصل طويل في الشافية الكافيــة ]ص‪ [23‬عــن جهــم‬
‫ومقالته ـ ‪:‬‬
‫جودا ً َثاني‬ ‫ه وُ ُ‬ ‫دما ً ويقل ِب ُ ُ‬ ‫عَ َ‬ ‫ه‬
‫ق ُ‬ ‫خل َ‬ ‫ل َ‬ ‫ه َيجعَ ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ضى ِبأ ّ‬ ‫وَقَ َ‬
‫ك والفل ُ‬
‫ك‬ ‫أمل ُ‬ ‫ح والـ‬ ‫ي والروا ُ‬ ‫س ّ‬ ‫كر ِ‬ ‫ش وال ُ‬ ‫الَعر ُ‬
‫ن‬
‫مَرا ِ‬ ‫ق َ‬ ‫وال َ‬
‫من‬ ‫ض وَ ِ‬ ‫ض والَبحُر المحي ُ‬
‫من ع ََر ٍ‬ ‫ن ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫أك َ‬ ‫ط وسائ ُِر الـ‬ ‫والر ُ‬
‫ن‬ ‫ما ِ‬ ‫جث َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫ل َفا ِ‬ ‫ه أث ٌَر ك َظ ِ ّ‬ ‫قى ل َ ُ‬ ‫َيب َ‬ ‫ضل‬ ‫مح َ‬ ‫سُيفِنيهِ الفَناَء ال َ‬ ‫ل َ‬ ‫كُ ّ‬
‫ن‬
‫ما ِ‬ ‫عاد َة ً ب َِز َ‬ ‫ض الوجود ِ إ َ‬ ‫مح َ‬ ‫َ‬ ‫م أيضا ً ثانيا ً‬ ‫دو َ‬ ‫مع ُ‬ ‫ذا ال َ‬ ‫وي ُِعيد ُ َ‬
‫ن‬
‫سُبوه للقرآ ِ‬ ‫جهم ٍ وقد ن َ َ‬ ‫َ‬ ‫دى‬ ‫دا ل َ َ‬ ‫مب َ‬ ‫ك ال َ‬ ‫هذا المعاد ُ َوذل ِ َ‬
‫ن‬
‫كفَرا ِ‬ ‫قال ََته إلى ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫َقاُلوا َ‬ ‫ن سيَنا وال َُلى‬ ‫ذي َقأد َ اب َ‬ ‫هذا ال ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ليما ِ‬ ‫ل ع ََناه ُ ِبا ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫أ ّ‬ ‫موا‬ ‫ذا وَتوهّ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ل الذها ُ‬ ‫لم َتقب َ ِ‬ ‫َ‬
‫هان؟‬ ‫عبد ُه ُ المبُعوث بالُبر َ‬ ‫أو َ‬ ‫ذا؟‬ ‫ل َ‬ ‫ب اللهِ أّنى َقا َ‬ ‫كتا ُ‬ ‫هذا ِ‬ ‫َ‬
‫ولهذا جعل الله من حجته على المكذبين أن العادة في نظر‬
‫النسان وبالنسبة لقــدرة النســان أهــون مــن البتــداء‪ )) ،‬أ َفَعَِيين َــا‬

‫‪186‬‬
‫ديــد ٍ ((]ق‪،[15:‬‬ ‫ج ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ن َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل َبــ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِبــال ْ َ ْ‬
‫خلــ ٍ‬ ‫مــ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫م ِفــي لْبــ ٍ‬ ‫هــ ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫ق الوّ ِ‬ ‫خل ِ‬
‫م*‬ ‫مي ٌ‬
‫ي َر ِ‬
‫م وَه ِ َ‬
‫ظا َ‬‫ي ال ْعِ َ‬ ‫ح ِ‬
‫ن يُ ْ‬‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه َقا َ‬ ‫ق ُ‬‫خل ْ َ‬‫ي َ‬ ‫س َ‬ ‫مث ََل ً وَن َ ِ‬
‫ب ل ََنا َ‬‫ضَر َ‬ ‫)) وَ َ‬
‫ل َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ((]يس‪-78:‬‬ ‫ق ع َِلي ٌ‬
‫خل ٍ‬ ‫مّرةٍ وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬ ‫ل َ‬ ‫ها أوّ َ‬ ‫شأ َ‬ ‫ذي أن َ‬ ‫حِييَها ال ّ ِ‬
‫ل يُ ْ‬ ‫قُ ْ‬
‫‪ [79‬وهذا أحد أدلة البعث الــتي فيهــا الــرد علــى المكــذبين‪ ،‬وقــد‬
‫تقدم ذكرها‪] .‬ص عند قوله‪ :‬باعث بل مشقة[‬

‫وقوله‪) :‬وجزاء العمال يوم القيامة(‪.‬‬


‫مما يجب اليمان به الجزاء‪ ،‬والجــزاء هــو الغايــة مــن البعــث‬
‫س‬ ‫فـ ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫جد ُ ك ُ ّ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫والنشور‪ ،‬ليجد كل عامل عمله‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬ي َوْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ب َي ْن َهَــا‬ ‫ســوٍء َتـوَد ّ لـوْ أ ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫مل َ ْ‬ ‫ما ع َ ِ‬ ‫ضَرا ً وَ َ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫خي ْرٍ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫مل َ ْ‬ ‫ما ع َ ِ‬ ‫َ‬
‫مــا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ســاُءوا ب ِ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫جزِيَ ال ـ ِ‬ ‫مد َا ب َِعيد َا ((]آل عمران‪ )) ،[30:‬ل ِي َ ْ‬ ‫هأ َ‬ ‫وَب َي ْن َ ُ‬
‫َ‬
‫سَنى((]النجم‪[31:‬؛ بل هــذا مــن‬ ‫ح ْ‬ ‫سُنوا ِبال ْ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫جزِيَ ال ّ ِ‬ ‫مُلوا وَي َ ْ‬ ‫عَ ِ‬
‫ق‬
‫خلـ َ‬ ‫َ‬ ‫حكمة الله فـي خلـق السـماوات والرض‪ ،‬قـال تعـالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫ض ِبال ْ َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ت وَهُـ ْ‬ ‫سـب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫س بِ َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫جَزى ك ُ ّ‬ ‫حقّ وَل ِت ُ ْ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ن ((]الجاثية‪ ،[22:‬وذكر الجــزاء فــي القــرآن كــثير جــدا‪،‬‬ ‫مو َ‬ ‫ل ي ُظ ْل َ ُ‬
‫ن ((]الفاتحــة‪،[3:‬‬ ‫دي ِ‬ ‫ك ي َوْم ِ الـ ّ‬ ‫مال ِ ِ‬ ‫وجاء بلفظ الدين‪ ،‬قال تعالى‪َ )) :‬‬
‫ن ب ِي َوْم ِ‬ ‫ن ي ُك َذ ُّبو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ((]النفطار‪ )) ، [16:‬ال ّ ِ‬ ‫دي ِ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ما ي َوْ ُ‬ ‫)) َيصلونها َ‬
‫ع{ ]الذاريات‪. [6 :‬‬ ‫واقِ ٌ‬ ‫ن لَ َ‬ ‫دي َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن ((]المطففين‪} ،[11:‬وَإ ِ ّ‬ ‫دي ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ه‬ ‫سن َةِ فَل َـ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫جاَء ِبال ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫وهذا الجزاء ذكر الله تعالى تفصيله‪َ )) :‬‬
‫عَ ْ َ‬
‫ن‬ ‫مو َ‬ ‫م ل ي ُظ ْل َ ُ‬ ‫مث ْل ََها وَهُ ْ‬ ‫جَزى إ ِّل ِ‬ ‫سي ّئ َةِ َفل ي ُ ْ‬ ‫جاَء ِبال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مَثال َِها وَ َ‬ ‫شُر أ ْ‬
‫واٌء ع َل َي ْ ُ‬ ‫َ‬
‫مــا‬ ‫م إ ِن ّ َ‬ ‫كــ ْ‬ ‫ســ َ‬ ‫صــب ُِروا َ‬ ‫صــب ُِروا أوْ ل ت َ ْ‬ ‫((]النعــام‪َ )) ،[160:‬فا ْ‬
‫س‬ ‫فـ ٌ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫م ل ت ُظ ْل َـ ُ‬ ‫ن ((]الطور‪ )) ،[16:‬فَــال ْي َوْ َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫م ت َعْ َ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫ن َ‬ ‫جَزوْ َ‬ ‫تُ ْ‬
‫ع‬
‫ضــ ُ‬ ‫ن ((]يــس‪ )) ،[54:‬وَن َ َ‬ ‫مُلــو َ‬ ‫م ت َعْ َ‬ ‫كنُتــ ْ‬ ‫مــا ُ‬ ‫ن إ ِّل َ‬ ‫جــَزوْ َ‬ ‫شــي ْئ َا ً َول ت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ن ك َــا َ‬ ‫شـي ْئ َا ً وَإ ِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫فـ ٌ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫مـةِ َفل ت ُظ ْل َـ ُ‬ ‫قَيا َ‬‫ط ل ِي َـوْم ِ ال ْ ِ‬ ‫سـ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫واِزي َ‬ ‫م َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن((]النبياء‪)) ،[47:‬‬ ‫ل أت َي َْنا ب َِها وَك َ َ‬ ‫َ‬ ‫قا َ‬ ‫مث ْ َ‬
‫سِبي َ‬ ‫حا ِ‬ ‫فى ب َِنا َ‬ ‫خْرد َ ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫حب ّةٍ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م ((]الزلزلــة‪ [6:‬أي‪ :‬جــزاء‬ ‫مال َهُ ْ‬ ‫شَتات َا ً ل ِي َُرْوا أع ْ َ‬ ‫سأ ْ‬ ‫صد ُُر الّنا ُ‬ ‫مئ ِذ ٍ ي َ ْ‬ ‫ي َوْ َ‬
‫ن‬ ‫مـ ْ‬ ‫خي ْـَرا ً ي َـَره ُ * وَ َ‬ ‫ل ذ َّرةٍ َ‬ ‫قا َ‬ ‫مث ْ َ‬‫ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫أعمالهم ثوابا وعقابا‪ )) ،‬فَ َ‬
‫شّرا ً ي ََره ُ ((]الزلزلة‪.[8-7:‬‬ ‫ل ذ َّرةٍ َ‬ ‫قا َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ي َعْ َ‬
‫وهذا الجزاء يتضمن الثواب على العمال الصالحة‪ ،‬والعقــاب‬
‫علــى ضــدها مــن الكفــر والفســوق والعصــيان‪ ،‬ومــن الجــزاء‬
‫القتصاص للمظلوم من الظالم‪ ،‬وبهذا تتحقق حكمة الرب وعدله‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬فالناس في هذه الدنيا يقــع مــن بعضــهم عــدوان‬
‫وظلم على بعض‪ ،‬وكثير من المظلومين يموت وهــو لــم يســتوف‬
‫حقه‪ ،‬أو يموت الظالم ولم يؤخذ منــه الحــق‪ ،‬فجعــل اللــه للخلــق‬
‫يوما يجمع فيه الولين والخرين‪.‬‬
‫وجــزاء اليمــان والحســنات مبنــي علــى الفضــل والزيــادة‬
‫مــن‬ ‫والمضاعفة‪ ،‬وجزاء السيئات مبني على العدل‪ ،‬قال تعالى‪َ )) :‬‬

‫‪187‬‬
‫ن‬ ‫ذي َ‬ ‫جـَزى ال ّـ ِ‬ ‫سـي ّئ َةِ فََل ي ُ ْ‬
‫جــاء ِبال ّ‬ ‫مــن َ‬ ‫من ْهَــا وَ َ‬‫خي ْـٌر ّ‬ ‫ه َ‬ ‫سن َةِ فَل َ ُ‬‫ح َ‬‫جاء ِبال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن((]القصــص‪ ،[84:‬وفــي اليــة‬ ‫ُ‬
‫ملــو َ‬ ‫َ‬
‫ما كــاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ّ‬
‫ت إ ِل َ‬ ‫سي َّئا ِ‬‫ملوا ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫عَ ِ‬
‫َ‬
‫سـي ّئ َ ِ‬
‫ة‬ ‫جــاَء ِبال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫مـ ْ‬‫مَثال َِها وَ َ‬
‫شُر أ ْ‬ ‫ه عَ ْ‬ ‫سن َةِ فَل َ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫جاَء ِبال ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫الخرى‪َ )) :‬‬
‫ن ((]النعــام‪ ،[160:‬ول يعــذب‬ ‫مــو َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م ل ي ُظل ُ‬ ‫مث ْلهَــا وَهُـ ْ‬ ‫َ‬ ‫جَزى إ ِّل ِ‬ ‫َفل ي ُ ْ‬
‫خ ـَرى ((‬ ‫ُ‬
‫أحــد بــذنب غيــره يقــول تعــالى‪َ )) :‬ول ت َـزُِر َوازَِرة ٌ وِْزَر أ ْ‬
‫ة‬
‫]النعام‪ [164:‬والله تعالى ينبه إلــى أن دخــول أهــل الجنـةِ الجنـ َ‬
‫ن ((]الســجدة‪[17:‬‬ ‫مُلــو َ‬ ‫مــا َ‬
‫كــاُنوا ي َعْ َ‬ ‫جــَزاًء ب ِ َ‬ ‫بســبب أعمــالهم )) َ‬
‫و)البــاء( ســببية‪ ،‬فاليمــان والعمــل الصــالح ســبب دخــول الجنــة‪،‬‬
‫ن ((‬ ‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬‫ما َ‬ ‫جَزاًء ب ِ َ‬‫والكفر والمعاصي سبب دخول النار )) َ‬
‫]التوبة‪ ،[95:‬وتفصيل هذا في القرآن كثير جدا‪.‬‬

‫]اليمان بالعرض والحساب‪ ،‬والصراط والميزان[‬


‫ب‬ ‫ب‪ ،‬والثــوا ِ‬ ‫ب‪ ،‬وقــراءةِ الكتــا ِ‬ ‫ض والحســا ِ‬ ‫وقــوله‪) :‬والعــر ِ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫ط‪ ،‬والميزا ِ‬ ‫ب‪ ،‬والصرا ِ‬ ‫والعقا ِ‬
‫من أحــوال يــوم القيامــة عــرض العبــاد علــى ربهــم‪ ،‬وعــرض‬
‫َ‬
‫ض‬‫ل وَت َـَرى الْر َ‬ ‫جب َــا َ‬‫سـي ُّر ال ْ ِ‬ ‫م نُ َ‬ ‫أعمالهم عليهم‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَي َـوْ َ‬
‫فا ً‬ ‫ضوا ع ََلى َرب ّ َ‬ ‫شرناهُم فَل َم نَغادر منه َ‬
‫صـ ّ‬ ‫ك َ‬ ‫حد َا ً * وَع ُرِ ُ‬ ‫مأ َ‬ ‫ْ ُ ِْ ِ ُْ ْ‬ ‫ح َ ْ َ ْ‬ ‫َبارَِزة ً وَ َ‬
‫َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫لَ َ‬
‫ة((]الكهــف‪ [48-47:‬وكــذلك‬ ‫مـّر ٍ‬ ‫ل َ‬ ‫م أوّ َ‬ ‫قن َــاك ُ ْ‬ ‫مـا َ‬ ‫مون َــا ك َ َ‬ ‫جئ ْت ُ ُ‬ ‫قـد ْ ِ‬
‫س‬‫فـ ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫ج ـد ُ ك ُـ ّ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫عرض العمال على العاملين‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬ي َوْ َ‬
‫َ‬
‫ن ب َي ْن َهَــا‬ ‫ســوٍء َتـوَد ّ َلـوْ أ ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫مل َ ْ‬ ‫ما ع َ ِ‬ ‫ضَرا ً وَ َ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬‫خي ْرٍ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫مل َ ْ‬ ‫ما ع َ ِ‬ ‫َ‬
‫دا((]آل عمران‪ ،[30:‬وفي حديث عدي بن حاتم ‪:‬‬ ‫َ‬
‫دا ب َِعي ً‬ ‫م ً‬ ‫هأ َ‬ ‫وَب َي ْن َ ُ‬
‫)ما منكم أحد إل سيكلمه ربه ليــس بينــه وبينــه ترجمــان‪ ،‬فينظــر‬
‫أيمن منه؛ فل يرى إل ما قدم مــن عملــه‪ ،‬وينظــر أشــأم منــه؛ فل‬
‫يرى إل ما قدم‪ ،‬وينظر بين يــديه؛ فل يــرى إل النــار تلقــاء وجهــه‪،‬‬
‫فاتقوا النار ولو بشــق تمــرة( ]رواه البخــاري )‪ ،(7512‬ومســلم )‬
‫‪ ،[.(1016‬وقال ‪) :‬ليــس أح ـد ٌ يحاســب يــوم القيامــة إل هلــك‪،‬‬
‫َ‬
‫مــا‬ ‫فقالت أم المؤمنين عائشة ‪ :‬أليس قد قال اللــه تعــالى‪) :‬فَأ ّ‬
‫م ُ‬
‫ســيًرا ( ؟ فقــال‬ ‫ســاًبا ي َ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ب ِ‬ ‫سـ ُ‬ ‫حا َ‬ ‫ف يُ َ‬ ‫سـوْ َ‬ ‫مين ِـهِ فَ َ‬ ‫ه ب ِي َ ِ‬ ‫ي ك َِتاب َ ُ‬ ‫ن أوت ِ َ‬ ‫َ ْ‬
‫رسول الله ‪ ‬إنما ذلك العرض‪ ،‬وليس أحد ٌ يناقش الحساب يــوم‬
‫ذب(‪] .‬رواه البخاري )‪ (6537‬ـ واللفظ له ـ‪ ،‬ومســلم‬ ‫القيامة إل ع ُ ّ‬
‫)‪[.(2876‬‬
‫وكذلك الحساب‪ ،‬والحساب في اللغة‪ :‬العــد‪ ،‬ويطلــق بمعنــى‬
‫المحاسبة‪ ،‬و من أسماء يوم القيامة‪ :‬يوم الحســاب‪ ،‬قــال تعــالى‪:‬‬
‫ب ((]ص‪ ،[26:‬وهــو اليــوم الــذي يحاســب‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫سوا ي َوْ َ‬ ‫ما ن َ ُ‬ ‫)) ب ِ َ‬
‫ق ْ َ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫ضـعُ ال ْ َ‬
‫سـط ل ِي ََـوْم ِ‬ ‫واِزي َ‬ ‫مـ َ‬ ‫الله فيه الخلئق‪ ،‬قــال تعـالى‪ )) :‬وَن َ َ‬
‫ل أت َي ْن َــا‬ ‫خ ـْرد َ ٍ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫حب ّةٍ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫شي ْئ َا ً وَإ ِ ْ‬‫س َ‬ ‫ف ٌ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫مةِ َفل ت ُظ ْل َ ُ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ن ((]النبياء‪ [47:‬ومن المحاسبة السؤال عــن‬ ‫سِبي َ‬ ‫حا ِ‬ ‫فى ب َِنا َ‬ ‫ب َِها وَك َ َ‬

‫‪188‬‬
‫مــا ك َــاُنوا‬ ‫ك ل َنسـأ َل َنه َ‬
‫ن * عَ ّ‬ ‫مِعيـ َ‬ ‫ج َ‬‫مأ ْ‬ ‫العمال‪ ،‬قال تعــالى‪ )) :‬فَوََرب ّـ َ َ ْ ّ ُ ْ‬
‫م‬‫م إ ِن ُّهــ ْ‬ ‫فــوهُ ْ‬ ‫ن ((]الحجــر‪ ،[93-92:‬وقــال تعــالى‪ )) :‬وَقِ ُ‬ ‫مُلــو َ‬ ‫ي َعْ َ‬
‫ْ‬
‫فــى‬ ‫ك كَ َ‬ ‫ن ((]الصــافات‪ ،[24:‬وقــال تعــالى‪ )) :‬اقْ ـَرأ ك َِتاب َـ َ‬ ‫سُئوُلو َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫م ع َلي ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫س َ‬
‫مــا‬ ‫سيب َا ((]السراء‪ ،[14:‬وقــال تعــالى‪)) :‬فَأ ّ‬ ‫ح ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ك الي َوْ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ب ِن َ ْ‬
‫ســيَرا ً * وََين َ‬ ‫ُ‬
‫ب‬ ‫قِلــ ُ‬ ‫ساب َا ً ي َ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ب ِ‬ ‫س ُ‬ ‫حا َ‬ ‫ف يُ َ‬ ‫سو ْ َ‬ ‫مين ِهِ * فَ َ‬ ‫ه ب ِي َ ِ‬
‫ي ك َِتاب َ ُ‬ ‫ن أوت ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫س ـو ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه وََراَء ظهْـرِهِ * ف َ‬ ‫ي ك ِت َــاب َ ُ‬ ‫ن أوت ِـ َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫سُروًرا * وَأ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫إ ِلى أهْل ِهِ َ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫سـُروَرا ((‬ ‫م ْ‬‫ن فِــي أهْل ِـهِ َ‬ ‫ه ك َــا َ‬ ‫سـِعيَرا * إ ِن ّـ ُ‬ ‫صـلى َ‬ ‫عو ث ُب ُــوَرا * وَي َ ْ‬ ‫ي َـد ْ ُ‬
‫]النشقاق‪.[13-7:‬‬
‫ومن الحساب ما فيه مناقشة كما قال الرسول ‪ ) :‬من‬
‫ذب( ]تقدم في ص[‪.‬‬ ‫نوقش الحساب ع ُ ّ‬
‫ومن المحاسبة ما جـاء فــي الحـديث عـن الرسـول ‪ ‬قــال‪:‬‬
‫ت كــذا‬ ‫فــه عليــه‪ ،‬فيقــول‪ :‬عمل ـ َ‬ ‫دكم من رّبه حتى يضع كن َ َ‬ ‫)يدنو أح ُ‬
‫ت كــذا وكــذا؟ فيقــول‪ :‬نعــم‪،‬‬ ‫وكــذا؟ فيقــول‪ :‬نعــم‪ ،‬ويقــول‪ :‬عمل ـ َ‬
‫فيقرره‪ ،‬ثم يقول‪ :‬إني سترت عليك في الــدنيا‪ ،‬فأنــا أغفرهــا لــك‬
‫اليوم( ]رواه البخاري )‪ (6070‬ـ واللفــظ لــه ـــ‪ ،‬ومســلم )‪(2768‬‬
‫من حديث ابن عمر رضــي اللــه عنهمــا‪ ،[.‬حســاب يســير وعــرض‬
‫للعمال‪ ،‬ليس فيه مناقشة‪.‬‬
‫هذا كله يدخل في إطــار الحســاب‪ ،‬وهنــاك ســؤال يمكــن أن‬
‫ل أ َك َـذ ّب ُْتم‬ ‫ؤوا قَــا َ‬ ‫جــا ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫حت ّــى إ ِ َ‬ ‫يدخل في الحســاب‪ ،‬قــال تعــالى‪َ )) :‬‬
‫َ‬
‫ن((]النمــل‪،[84:‬‬ ‫مل ُــو َ‬ ‫م ت َعْ َ‬ ‫كنُتـ ْ‬ ‫ذا ُ‬ ‫مـا َ‬ ‫مـا أ ّ‬ ‫عل ْ ً‬ ‫حيط ُــوا ب َِهـا ِ‬ ‫م تُ ِ‬ ‫ِبآَياِتي وَل َ ْ‬
‫ل ما َ َ‬
‫ن((]القصص‪.[65:‬‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫جب ْت ُ ُ‬ ‫ذا أ َ‬ ‫قو ُ َ‬ ‫م فَي َ ُ‬ ‫م ي َُناِديهِ ْ‬ ‫))وَي َوْ َ‬
‫فأحوال القيامة وأهوالها عظيمة‪ ،‬فيا له من يوم مــا أعظمــه!‬
‫))أ ََل يظ ُن ُأول َئ ِ َ َ‬
‫ظيم ٍ ((]المطففيــن‪[5-4:‬‬ ‫ن * ل ِي َوْم ٍ ع َ ِ‬ ‫مب ُْعوُثو َ‬ ‫ك أن ُّهم ّ‬ ‫َ ّ‬
‫م‬ ‫ن وََراءهُـ ْ‬ ‫ة وَي َـذ َُرو َ‬ ‫جل َـ َ‬ ‫ن ال َْعا ِ‬ ‫حب ّــو َ‬ ‫ن هَؤ َُلء ي ُ ِ‬ ‫وثقيل‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫قيًل{ ]النسان‪ [27:‬وعسير؛ لكن على الكافرين‪ ،‬أمــا علــى‬ ‫ما ث َ ِ‬ ‫ي َوْ ً‬
‫أهل اليمان والتقى فهو عليهم يسير‪ ،‬ولهذا يقول تعالى‪ )) :‬ع ََلــى‬
‫سيرٍ ((]المدثر‪ ،[10:‬وفي اليــة الخــرى‪ )) :‬وَك َــا َ‬
‫ن‬ ‫ن غ َي ُْر ي َ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫سيَرا ً ((]الفرقان‪.[26:‬‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ما ً ع ََلى ال ْ َ‬ ‫ي َوْ َ‬

‫وقوله‪) :‬وقراءة الكتاب(‪.‬‬


‫قراءة كتاب العمال‪ ،‬فآخذ كتابه بيمينه وآخــذ كتــابه بشــماله‬
‫ومن وراء ظهره‪ ،‬كما في اليـات مـن سـورة النشـقاق‪ ،‬وسـورة‬
‫قــو ُ‬ ‫مين ِـهِ فَي َ ُ‬ ‫الحاقة‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬فَأ َما م ُ‬
‫م‬ ‫ل هَــاؤ ُ ُ‬ ‫ه ب ِي َ ِ‬‫ي ك ِت َــاب َ ُ‬‫ن أوت ِـ َ‬ ‫ّ َ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫مال ِ ِ‬ ‫شـ َ‬ ‫ه بِ ِ‬‫ي ك ِت َــاب َ ُ‬ ‫ن أوت ِـ َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫مــا َ‬ ‫ه ((]الحاقــة‪ )) ،[19:‬وَأ ّ‬ ‫اقَْرُءوا ك ِت َــاب ِي َ ْ‬
‫ه * َيـا ل َي ْت َهَــا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ســاب ِي َ ْ‬‫ح َ‬‫مــا ِ‬ ‫م أد ْرِ َ‬ ‫ه * وَل َـ ْ‬ ‫ت ك ِت َــاب ِي َ ْ‬ ‫م أو َ‬ ‫ل َيا ل َي ْت َِني ل َـ ْ‬ ‫قو ُ‬‫فَي َ ُ‬
‫َ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ه ((]الحاقــة‪ ،[28-25:‬وقــوله‬ ‫مــال ِي َ ْ‬‫ما أغ َْنى ع َن ّــي َ‬ ‫ة* َ‬ ‫ضي َ َ‬ ‫قا ِ‬ ‫كان َ ِ‬
‫َ‬
‫م‬‫ه ي َـوْ َ‬ ‫ج ل َـ ُ‬‫خـرِ ُ‬ ‫مَناه ُ ط َــائ َِره ُ فِــي ع ُن ُقِـهِ وَن ُ ْ‬ ‫ن أل َْز ْ‬‫سا ٍ‬ ‫ل ِإن َ‬ ‫تعالى‪ )) :‬وَك ُ ّ‬

‫‪189‬‬
‫ك‬‫م ع َل َي ْـ َ‬‫ك ال ْي َوْ َ‬ ‫س َ‬ ‫ف ِ‬‫فى ب ِن َ ْ‬ ‫ك كَ َ‬ ‫شوَرا ً * اقَْرأ ْ ك َِتاب َ َ‬ ‫من ُ‬
‫قاه ُ َ‬‫مةِ ك َِتاب َا ً ي َل ْ َ‬ ‫قَيا َ‬‫ال ْ ِ‬
‫عو ك ُ ّ ُ‬
‫ن‬
‫مــ ْ‬ ‫م فَ َ‬ ‫مه ِ ْ‬‫ما ِ‬ ‫س ب ِإ ِ َ‬‫ل أَنا ٍ‬ ‫م ن َد ْ ُ‬‫سيب َا ً ((]السراء‪ )) ،[14-13:‬ي َوْ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫ن فَِتيَل ً ((‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مــو َ‬ ‫م َول ي ُظ ْل َ ُ‬ ‫ن ك ِت َــاب َهُ ْ‬ ‫ق ـَرُءو َ‬ ‫مين ِـهِ فَ ـأوْل َئ ِ َ‬
‫ك يَ ْ‬ ‫ه ب ِي َ ِ‬ ‫ي ك ِت َــاب َ ُ‬‫أوت ِ َ‬
‫]السراء‪ [71:‬وغيرها من اليات‪.‬‬
‫وكل هذا مما يدخل في اليمان باليوم الخر‪ ،‬ويجــب اليمــان‬
‫به‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬والثواب والعقاب(‬


‫تفصيل وبيان لنوعي الجزاء على العمال؛ فإذا كانت العمال‬
‫حسنات وسيئات؛ فالحسنات جزاؤها الثواب‪ ،‬وهو‪ :‬كل خير ونعيم‬
‫وسرور‪ ،‬وجماع ذلك وأعظمه رحمة الله وكرامته ورضــاه وجنتــه‪،‬‬
‫م‬
‫قي ـ ٌ‬
‫م ِ‬
‫م ّ‬ ‫ت ل ّهُ ْ‬
‫م ِفيَها ن َِعي ـ ٌ‬ ‫جّنا ٍ‬
‫ن وَ َ‬‫وا ٍ‬‫ض َ‬‫ه وَرِ ْ‬‫من ْ ُ‬
‫مةٍ ّ‬ ‫ح َ‬‫م َرب ُّهم ب َِر ْ‬‫شُرهُ ْ‬ ‫}ي ُب َ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م{]التوبة‪[22-21:‬‬ ‫ظي ٌ‬
‫جٌر ع َ ِ‬‫عند َه ُ أ ْ‬
‫ه ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫دا إ ِ ّ‬‫ن ِفيَها أب َ ً‬‫دي َ‬‫خال ِ ِ‬
‫* َ‬
‫وقوله‪) :‬والصراط(‬
‫الصراط جسر وطريق ومعبر ينصب على متن جهنــم‪ ،‬فيعــبر‬
‫عليه الناس بحسب أعمالهم‪ ،‬وجاء بيــان ذلــك عــن النــبي ‪ ‬بــأن‬
‫منهــم مــن يمــر) كطــرف العيــن‪ ،‬وكــالبرق‪ ،‬وكالريــح‪ ،‬وكــالطير‪،‬‬
‫ســّلم‪ ،‬ومخــدوش مرســل‪،‬‬ ‫م َ‬‫وكأجاويــد الخيــل والركــاب‪ ،‬فنــاج ُ‬
‫دوس فــي نــار جهنــم ( ]رواه البخــاري )‪ ،(7439‬ومســلم )‬ ‫مك ْـ ُ‬ ‫و َ‬
‫‪ (183‬ـ واللفظ له ـ من حديث أبي سعيد ‪.[‬‬
‫وهذا الصراط والسير عليه حسي‪ ،‬وهو فــي مقابــل الصــراط‬
‫الذي في الدنيا‪ ،‬ففي الدنيا صراط معنــوي‪ ،‬وهــو ديــن اللــه الــذي‬
‫بعث به رسله‪ ،‬فالسير على ذاك الصراط بحسب السير على هذا‬
‫الصراط‪ ،‬فمن كان على هذا الصــراط ثابتــا ومســرعا وقويــا كــان‬
‫على ذاك كذلك‪ ،‬ومن كان بطيء الســير فــي هــذا الصــراط كــان‬
‫جَزاًء وَِفاقَا ً ((]النبأ‪ ،[26:‬و)الجــزاء مــن جنــس‬ ‫سيره على ذاك )) َ‬
‫العمل(‪.‬‬

‫وقوله‪ ) :‬والميزان(‬
‫أي‪ :‬ميزان العمال‪ ،‬واليــات فــي هـذا ظـاهرة وكـثيرة‪ ،‬قـال‬
‫ط ليــوم القيامــة ((]النبيــاء‪،[47:‬‬ ‫سـ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ال ْ ِ‬‫َ‬ ‫واِزي‬
‫َ‬ ‫ضعُ ال ْ َ‬
‫م‬ ‫تعالى‪ )) :‬وَن َ َ‬
‫ُ‬
‫ن‬
‫مــ ْ‬
‫ن * وَ َ‬
‫حو َ‬
‫فل ِ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ه فَأوْل َئ ِ َ‬
‫واِزين ُ ُ‬‫م َ‬
‫ت َ‬ ‫قل َ ْ‬ ‫ن ثَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫وقال تعالى‪ )) :‬فَ َ‬
‫م ((]العــراف‪،[9-8:‬‬ ‫س ـه ُ ْ‬
‫ف َ‬ ‫س ـُروا َأن ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬‫ه فَأ ُوْل َئ ِ َ‬
‫واِزين ُ ُ‬
‫م َ‬
‫ت َ‬
‫ف ْ‬
‫خ ّ‬
‫َ‬
‫إلى غير ذلك من اليات‪.‬‬
‫فأهل السنة والجماعة يؤمنون بالميزان‪ ،‬وأنه ميزان حقيقــي‬
‫حسي‪ ،‬توزن به العمال‪ ،‬كما جاء فـي الحـاديث‪ ،‬قـال النـبي ‪:‬‬
‫)كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪ ،‬حبيبتان إلــى‬

‫‪190‬‬
‫الرحمــن‪ ،‬ســبحان اللــه وبحمــده‪ ،‬ســبحان اللــه العظيــم(] رواه‬
‫البخــاري)‪ ،(6682‬ومســلم )‪ (2694‬مــن حــديث أبــي هريــرة ‪[‬‬
‫وفي الحديث الخر عن الرسول ‪ ) :‬والحمد للــه تمل الميــزان(‬
‫]رواه مسلم )‪ (223‬من حديث أبي مالك الشعري ‪.[‬‬
‫ل وإن كــانت‬ ‫ل‪ ،‬والعما ُ‬ ‫فدل الكتاب والسنة على وزن العما ِ‬
‫حسنا ومداركنا ل تقبل الوزن؛ لكنا نســلم‬ ‫أعراضا‪ ،‬والعراض في ِ‬
‫ونؤمن بما أخبر الله به من وزن العمال‪ ،‬واللــه تعــالى علــى كــل‬
‫شيء قدير‪ ،‬وفي حديث صاحب البطاقة الذي يــأتي يــوم القيامــة‬
‫جل مــد البصــر‪ ،‬وكلهــا‬ ‫سـ ّ‬‫جل‪ ،‬كــل ِ‬
‫سـ ّ‬
‫فينشر لــه تســعة وتســعين ِ‬
‫سيئات‪ ،‬فُيبهت فُتخرج له بطاقة فيها الشهادتان‪ ،‬فتوضع البطاقــة‬
‫في كفة والسجلت في كفة‪ ،‬قــال‪) :‬فطاشــت الســجلت وثقلــت‬
‫البطاقة(‪] .‬رواه أحمد ‪ ،2/213‬والترمذي )‪ (2639‬ـ وقال‪ :‬حســن‬
‫غريــب ــ ‪ ،‬وصــححه ابــن حبــان )‪ ،(225‬والحــاكم ‪1/6‬و‪ 529‬مــن‬
‫حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما[ دليل علــى‬
‫أن صــحائف العمــال تــوزن‪ ،‬ويســتدل بــه علــى فضــل التوحيــد‬
‫مــا اقــترن بهــذه الكلمــة مــن الصــدق والخلص‬ ‫الخــالص‪ ،‬فهــذا ل ِ‬
‫والصفاء وحسن النية؛ إذ الكلمــات والعبــادات وإن اشــتركت فــي‬
‫الصورة الظــاهرة؛ فإنهــا تتفــاوت بحســب أحــوال القلــوب تفاوتــا‬
‫فرت سيئاته‪ ،‬وإل فأهل الكبــائر الــذين دخلــوا‬ ‫عظيما‪ ،‬لجل ذلك ك ّ‬
‫النار كلهم كانوا يقولون‪ :‬ل إلـه إل اللـه‪ ،‬ولـم يرجـح قـولهم علـى‬
‫جه به شيخ السلم ابن تيمية‪،‬‬ ‫سيئاتهم كصاحب البطاقة‪ .‬هذا ما و ّ‬
‫هذا الحديث]مجمــوع الفتــاوى ‪ 7/488‬و‪ ،10/735‬ومنهــاج الســنة‬
‫‪ [6/219‬وأمثاله ]كحديث‪ :‬أبي هريرة ‪ ‬أن رسول الله ‪ ‬قــال‪:‬‬
‫)بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق‪ ،‬فأخره‬
‫فشكر الله له فغفر له( رواه البخــاري )‪ ،(652‬ومســلم )‪،(1914‬‬
‫ف ب َِرك ِي ّةٍ كــاد يقتلــه‬ ‫وحديثه ‪ ‬عن النبي ‪ ‬قال‪) :‬بينما كلب ي ُ ِ‬
‫طي ُ‬
‫موقَهَــا‬
‫العطش؛ إذ رأتــه بغــي مــن بغايــا بنــي إســرائيل‪ ،‬فنزعــت ُ‬
‫فسقته فغفر لها به(‪ .‬رواه البخاري )‪ ،(3467‬ومسلم )‪.[(2245‬‬
‫وقد دلت النصوص على أن العمال توزن‪ ،‬وصــحف العمــال‬
‫ن عبـد اللـه بـن‬ ‫تـوزن؛ بـل والعامـل يـوزن كمـا فـي الحـديث ) أ ّ‬
‫مسعود ‪ ‬كان يجتني سواكا من الراك ـ وكان دقيق الســاقين ــ‬
‫ه‪ ،‬فضحك القوم منــه‪ ،‬فقــال رســول اللــه ‪:‬‬ ‫فؤ ُ ُ‬‫فجعلت الريح ت َك ْ َ‬
‫مم تضحكون؟ قالوا‪ :‬يا نبي الله مــن دقــة ســاقيه‪ ،‬فقــال‪ :‬والــذي‬
‫نفسي بيــده لهمــا أثقــل فــي الميــزان مــن أحــد(‪] .‬رواه أبــو داود‬
‫الطيالســي )‪ ،(354‬وأحمـد ‪ 1/420‬مـن حــديث ابــن مسـعود ‪،‬‬
‫ونحوه عند ابن أبي شيبة ‪ ،17/194‬وأحمد ‪ ،1/114‬والبخاري في‬
‫الدب المفرد )‪[(237‬‬

‫‪191‬‬
‫ن ]كالمعتزلة‪ ،‬انظر‪ :‬مقالت‬ ‫ل البدِع الميزا َ‬‫ض أه ِ‬ ‫وأنكر بع ُ‬
‫السلميين ص ‪ ،472‬ودرء تعارض العقل ‪ 5/348‬ـ وذكر أنه قول‬
‫البغداديين من المعتزلة دون البصريين ـ‪ ،‬وفتح الباري ‪[13/538‬‬
‫وقالوا‪ :‬ليس المراد ميزانا حسيا توزن به العمال‪ ،‬إنما هو كناية‬
‫عن عدل الرب سبحانه وتعالى‪ ،‬لكن النصوص ظاهرة بأنه ميزان‬
‫ن ((]النبياء‪.[47:‬‬‫واِزي َ‬ ‫ضعُ ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫حسي )) وَن َ َ‬
‫وقيل‪ :‬إن الميزان واحد‪ ،‬توزن به أعمال العباد‪) ،‬والله على‬
‫كل شيء قدير( وقيل‪ :‬إنها موازين‪ ،‬وهو ظاهر القرآن‪ ،‬ومن قال‪:‬‬
‫إنه ميزان واحد‪ ،‬قال‪ :‬الموازين المراد بها الموزونات‪ ،‬فالتعدد‬
‫في الموزونات والميزان واحد‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬
‫المهم اليمان بوزن العمال‪].‬التذكرة ‪[2/734‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمــه اللــه ــ فــي بــاب‬
‫)فضل التوحيد وما يكفــر مــن الــذنوب( مــن مســائل حــديث أبــي‬
‫سعيد ‪) :‬لو أن السماوات السبع والرضين السبع في كفــة‪ ،‬ول‬
‫إلــه إل اللــه فــي كفــة( ]رواه النســائي فــي الكــبرى )‪10670‬و‬
‫‪ ،(10980‬وابــن حبــان )‪ (6218‬والحــاكم ‪ ،1/528‬وصــححه ابــن‬
‫حجر في الفتح ‪ :[11/208‬معرفة أن الميزان لــه كفتــان‪] .‬كتــاب‬
‫التوحيد ‪[6/9‬‬
‫لن الميزان يتضمن المعادلة بين السيئات والحســنات‪ ،‬فمــن‬
‫رجحــت حســناته علــى ســيئاته نجــا‪ ،‬ومــن رجحــت ســيئاته علــى‬
‫حسناته فقد يعذب‪ ،‬والكلم في المســلم الــذي لــه حســنات‪ ،‬أمــا‬
‫الكفار فليس لهم حسنات‪ ،‬ولهذا يقول شــيخ الســلم ابــن تيميــة‬
‫في العقيدة الواسطية‪) :‬وأما الكفار؛ فل يحاســبون محاســبة مــن‬
‫توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم ل حسنات لهم‪ ،‬ولكن تعــد أعمــالهم‬
‫وتحصى‪ ،‬فيوقفون عليها‪ ،‬ويقررون بها‪ ،‬ويجزون بها(‪] .‬ص ‪[216‬‬

‫]خلق الجنة والنار وبقاؤهما[‬


‫وقوله‪ ) :‬والجنة والنار مخلوقتان ل تفنيان أبدا ول تبيدان(‪.‬‬
‫هذه الجملة فيها مسألتان‪:‬‬
‫الولــى‪ :‬قــوله‪) :‬والجنــة والنــار مخلوقتــان( مخلوقتــان الن‬
‫وموجــدتان الن‪ ،‬خلفــا للمعتزلــة‪ ،‬فالمعتزلــة يقولــون‪ :‬إن الجنــة‬
‫والنار لم تخلقا؛ لكن يخلقهما الله يوم القيامة‪.‬‬
‫وما حجتهم؟ قالوا‪ :‬إن خلقهما الن عبث؛ لنها تصــير معطلــة‬
‫كانها! ]حادي الرواح ‪[1/24‬‬ ‫س ّ‬
‫مددا متطاولة‪ ،‬ولم يدخلها ُ‬
‫وهذا قول باطــل مبنــي علــى جهــل فاضــح‪ ،‬ولهــذا كــان مــن‬
‫مذهبهم إنكار عذاب القبر ونعيمه‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫والحق الــذي ل ريــب فيــه‪ :‬أن الجنــة والنــار مخلوقتــان الن‪،‬‬
‫والدلة على هذا من الكتاب والســنة ل تحصــى كــثرة‪ ،‬فكــل أدلــة‬
‫عذاب القبر ونعيمه‪ ،‬هي من أدلة وجود الجنــة والنــار؛ لن عــذاب‬
‫القبر هو من النار‪ ،‬ونعيم القبر من الجنــة‪ ،‬ومــن أدلــة ذلــك قــوله‬
‫ة‬
‫جّنــ ُ‬ ‫ها َ‬ ‫عن ْد َ َ‬
‫من ْت ََهى * ِ‬ ‫سد َْرةِ ال ْ ُ‬ ‫عن ْد َ ِ‬ ‫خَرى * ِ‬ ‫ة أُ ْ‬‫قد ْ َرآه ُ ن َْزل َ ً‬‫تعالى‪)) :‬وَل َ َ‬
‫ن ع َل َي ْهَــا‬ ‫ال ْ ْ‬
‫ضــو َ‬ ‫مأَوى ((]النجم‪ ،[15-13:‬وقال تعــالى‪ )) :‬الن ّــاُر ي ُعَْر ُ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ب ((‬ ‫ذا ِ‬ ‫شد ّ العَ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫ل فِْرع َوْ َ‬ ‫خلوا آ َ‬ ‫ة أد ْ ِ‬‫ساع َ ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫قو ُ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫شي ّا وَي َوْ َ‬‫غ ُد ُوّا وَع َ ِ‬
‫خُلوا ن َــاَرا ً ((‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م أغ ْرُِقوا فَأد ْ ِ‬ ‫طيَئات ِهِ ْ‬‫خ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫م ّ‬‫]غافر‪ ،[46:‬وقال تعالى‪ِ )) :‬‬
‫]نوح‪. [25:‬‬
‫وفي الحديث أن النبي ‪ ‬قــال‪) :‬إن أحــدكم إذا مــات عــرض‬
‫عليه مقعده بالغداة والعشي‪ ،‬إن كان من أهــل الجنــة فمــن أهــل‬
‫الجنة‪ ،‬وإن كان من أهل النار فمن أهل النار‪ ،‬يقال‪ :‬هــذا مقعــدك‬
‫حتى يبعثك الله يوم القيامة( ]تقدم في ص[‪ ،‬وفي حــديث الــبراء‬
‫‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال‪ ) :‬إن المؤمن ُيفتح له باب إلى الجنة‪ ،‬فيــأتيه‬
‫من روحها وطيبها‪ ،‬ويفسح لـه فـي قـبره مـد بصـره‪ ،‬وأن الكــافر‬
‫يفتح له باب إلى النار‪ ،‬فيأتيه مــن حرهــا وســمومها ويضــيق عليــه‬
‫قبره حتى تختلف فيه أضلعه( ]تقدم في ص[‬
‫ن الصحابة رضي‬ ‫وفي حديث صلة النبي ‪ ‬صلة الكسوف أ ّ‬
‫الله عنهم قالوا‪ :‬يا رسول الله رأينــاك تنــاولت شــيئا فــي مقامــك‬
‫هذا ثم رأيناك كففـت؟ فقـال‪ ) :‬إنـي رأيـت الجنـة فتنـاولت منهـا‬
‫عنقودا ولو أخذته لكلتم منه ما بقيت الدنيا‪ ،‬ورأيــت النــار فلــم أَر‬
‫كاليوم منظرا قط( ]رواه البخاري )‪ ،(1052‬ومســلم )‪ (907‬مــن‬
‫حديث ابن عباس رضي الله عنهما[ وهذا يقتضي أنها حقيقة‪.‬‬
‫وفي الحــديث عــن النــبي ‪ ) :‬لمــا خلــق اللــه الجنــة والنــار‬
‫أرسل جبريل إلى الجنة‪ ،‬فقال‪ :‬انظر إليها وإلى ما أعددت لهلهــا‬
‫فيها‪ ،‬قال‪ :‬فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لهلها فيهــا‪ ،‬قــال‪:‬‬
‫فرجع إليه قال‪ :‬فوعزتــك ل يســمع بهــا أحــد إل دخلهــا‪ ،‬فــأمر بهــا‬
‫فحفت بالمكاره‪ ،‬فقال‪ :‬ارجع إليها فانظر إلــى مــا أعــددت لهلهــا‬
‫فيها‪ ،‬قال‪ :‬فرجع إليها فإذا هي قــد حفــت بالمكــاره‪ ،‬فرجــع إليــه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬وعزتك لقد خفت أن ل يدخلها أحد‪ ،‬قال‪ :‬اذهــب إلــى النــار‬
‫فانظر إليها وإلى ما أعددت لهلهــا فيهــا فــإذا هــي يركــب بعضــها‬
‫بعضا‪ ،‬فرجع إليه‪ ،‬فقال‪ :‬وعزتك ل يسمع بها أحــد فيــدخلها‪ ،‬فــأمر‬
‫بهـا فحفــت بالشــهوات‪ ،‬فقــال‪ :‬ارجــع إليهــا‪ ،‬فرجــع إليهــا‪ ،‬فقــال‪:‬‬
‫وعزتك لقد خشيت أن ل ينجو منهــا أحــد إل دخلهــا{ ]رواه أحمــد‬
‫‪ ،2/332‬وأبو داود )‪ ،(4744‬والترمــذي )‪ (2560‬ـ ـ وقــال‪ :‬حســن‬
‫صحيح ــ والنســائي ‪ ،7/3‬وصــححه ابــن حبــان )‪ ،(7394‬والحــاكم‬
‫‪1/26‬من حديث أبي هريرة ‪ ‬وقال الحافظ فــي الفتــح ‪:6/320‬‬

‫‪193‬‬
‫إســناده قــوي‪ [.‬ومثــل حــديث النــبي ‪) :‬تحــاجت النــار والجنــة‪،‬‬
‫فقالت النار‪ :‬أوثرت بالمتكبرين والمتجــبرين‪ ،‬وقــالت الجنــة‪ :‬فمــا‬
‫م؟ فقــال اللــه‬ ‫جُزهُ ـ ْ‬ ‫قط ُهُ ْ‬
‫م وَع َ َ‬ ‫س َ‬ ‫لي ل يدخلني إل ضعفاء الناس‪ ،‬وَ َ‬
‫للجنة‪ :‬أنت رحمتي أرحم بك من أشــاء مـن عبــادي‪ ،‬وقــال للنــار‪:‬‬
‫أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبــادي‪ ،‬ولكــل واحــدة منكمــا‬
‫ها( ]رواه البخاري )‪ ،(4850‬ومسلم )‪ (2846‬ـ واللفــظ لــه ـ ـ‬ ‫مل ْؤ ُ َ‬
‫ِ‬
‫من حديث أبي هريرة ‪.[‬‬
‫فهذا هو الحق الذي ل ريب فيه‪ ،‬والقول بأنهما لم تخلقا قول‬
‫باطل مناقض لنصوص الكتاب والسنة‪.‬‬
‫قال العلمة ابن القيم في النونية ‪:‬‬
‫ة علــى‬ ‫ت غاليـ ٌ‬ ‫بــل أن ـ ِ‬ ‫ة‬
‫ت رخيص ـ ً‬ ‫ن لسـ ِ‬ ‫ة الرحمـ ِ‬ ‫سـل ْعَ َ‬
‫يا ِ‬
‫ن‬
‫الكسل ِ‬
‫في اللف إل واحد ٌ ل اثنان‬ ‫ُ‬
‫يا سلعة الرحمن ليس ينالها‬
‫إل أول ُــو التقــوى مــع‬ ‫ُ‬ ‫ؤهــا‬ ‫ن ذا كف ُ‬ ‫مـ ْ‬ ‫يــا ســلعة الرحمــن َ‬
‫اليمان‬
‫ةَ‬
‫فل ِ‬‫ســ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫بيــن الراذ ِ‬ ‫ســد ٌ‬‫ســوُقك كا ِ‬ ‫يــا ســلعة الرحمــن ُ‬
‫الحَيوان‬
‫ت بأيسـر‬ ‫عرضـ ِ‬ ‫فلقـد ُ‬ ‫يا سـلعة الرحمـن أيـن المشـتري‬
‫الثمان‬
‫ت ذو‬ ‫ب فــالمهُر قبــل المــو ِ‬ ‫من خاط ِ ٍ‬ ‫يا سلعة الرحمن هل ِ‬
‫إمكان‬
‫م ذ َُوو‬ ‫ك وَهُ ـ ْ‬ ‫ب ع َن ْـ ِ‬ ‫خط ّــا ُ‬ ‫ُ‬ ‫صب َّر الـ ـ‬‫يا سلعة الرحمن كيف ت َ َ‬
‫إيمان‬
‫كارِهِ النسان‬ ‫م َ‬ ‫ل َ‬ ‫ت بك ّ‬ ‫جب َ ْ‬‫ح ِ‬ ‫ُ‬ ‫يا سلعة الرحمن لول أّنها‬
‫ت داُر الجزاِء الثاني‬ ‫وتعطل ْ‬ ‫ف‬‫خل ّ ٍ‬ ‫مت َ َ‬‫من ُ‬ ‫ط ِ‬ ‫ما كان عنها ق ّ‬
‫واني‬ ‫مت َ َ‬ ‫مب ْط ِ ُ‬
‫ل الـ ُ‬ ‫صد ّ عنها الـ ُ‬ ‫ل ِي ُ َ‬ ‫ريهَةٍ‬‫ل كَ ِ‬ ‫ت بك ّ‬ ‫جب َ ْ‬
‫ح ِ‬ ‫لكنها ُ‬
‫ب العُل َــى بمشــيئ ِ‬
‫ة‬ ‫ُرت َـ ِ‬ ‫مو إلــى‬ ‫سـ ُ‬ ‫م الــتي ت َ ْ‬ ‫وَتناَلهــا اِله َ‬
‫مـ ُ‬
‫الرحمن ]الكافية الشافية ‪[297‬‬

‫والمسألة الثانية‪ :‬مسألة فناء الجنة والنــار‪ ،‬يقــول الطحــاوي‪:‬‬


‫)ل تفنيان أبدا ول تبيدان( بل هما باقيتان على الدوام‪.‬‬
‫ُ‬
‫م‬‫دائ ِ ٌ‬‫فالجنــة ل تفنــى ونعيمهــا دائم‪ ،‬قــال تعــالى‪ )) :‬أك ُل َُهــا َ‬
‫ن‬ ‫مـ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫مــا ل َـ ُ‬ ‫ذا ل َرِْزقُن َــا َ‬‫ن هَ ـ َ‬ ‫وَظ ِل َّها ((]الرعد‪ ،[35:‬وقال تعالى‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫ذوذ ٍ ((]هود‪،[108 :‬‬ ‫ج ُ‬‫م ْ‬‫طاًء غ َي َْر َ‬ ‫فاد ٍ ((]ص‪ ،[54:‬وقال تعالى‪ )) :‬ع َ َ‬ ‫نَ َ‬
‫ت ل ّهُ ـ ْ‬
‫م‬ ‫جن ّــا ٍ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫وا ٍ‬‫ضـ َ‬‫ه وَرِ ْ‬ ‫من ْـ ُ‬
‫م ـة ٍ ّ‬ ‫ح َ‬
‫م َرب ُّهم ب َِر ْ‬‫شُرهُ ْ‬ ‫وقال تعالى‪)) :‬ي ُب َ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م((‬ ‫ظي ـ ٌ‬‫ج ـٌر ع َ ِ‬ ‫عن ـد َه ُ أ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ن الل ّـ َ‬ ‫دا إ ِ ّ‬
‫ن ِفيهَــا أب َـ ً‬ ‫دي َ‬
‫خال ِ ِ‬
‫م* َ‬ ‫قي ٌ‬
‫م ِ‬
‫م ّ‬
‫ِفيَها ن َِعي ٌ‬
‫]التوبة‪[22-21:‬‬

‫‪194‬‬
‫ن ((‬ ‫جي ـ َ‬ ‫خَر ِ‬ ‫م ْ‬‫من ْهَــا ب ِ ُ‬‫م ِ‬ ‫مــا هُ ـ ْ‬ ‫((]التوبــة‪ [21:‬وقــال تعــالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫]الحجر‪.[48:‬‬
‫وكــذلك النــار جــاء فيهــا مــا يــدل علــى الــدوام‪ ،‬قــال تعــالى‪:‬‬
‫ب‬ ‫ذا ٌ‬‫عــ َ‬ ‫م َ‬ ‫من َْها وَل َهُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫جي َ‬ ‫خارِ ِ‬ ‫هم ب ِ َ‬
‫ما ُ‬ ‫ن الّنارِ وَ َ‬‫م َ‬ ‫جوا ْ ِ‬ ‫ن َأن ي َ ْ‬
‫خُر ُ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬
‫))ي ُ ِ‬
‫م‬
‫ت زِد َْنــاهُ ْ‬ ‫خَبــ ْ‬ ‫مــا َ‬ ‫م((]المــائدة‪ ،[37:‬وقــال تعــالى‪ )) :‬ك ُل ّ َ‬ ‫قيــ ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫ّ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫ن غـ ّ‬ ‫مـ ْ‬ ‫من ْهَــا ِ‬ ‫جــوا ِ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ن يَ ْ‬‫دوا أ ْ‬ ‫ما أَرا ُ‬‫سِعيَرا ((]السراء‪ )) ،[97:‬كل َ‬ ‫َ‬
‫دوا ِفيَها ((]الحج‪.[22:‬‬ ‫عي ُ‬ ‫أُ ِ‬
‫وذهبت الجهم بن صفوان ومن تبعه إلــى فنــاء الجنــة والنــار‪،‬‬
‫فعندهم أن المخلوقات يمتنع دوامها في الماضي‪ ،‬وكــذلك دوامهــا‬
‫في المستقبل‪.‬‬
‫وأجمع أهل السنة إجماعا قطعيا وسائر الفرق ما عدا الفرقة‬
‫الضالة الجهمية إلى دوام الجنة‪ ،‬وأما النــار فجمهــور أهــل الســنة‬
‫وسائر الطوائف على دوامها كــذلك‪ ،‬وفيهــا قــول آخــر ذكــره ابــن‬
‫عنــي ـ ـ رحمــه اللــه ـ ـ بــالكلم علــى هــذه المســألة‬ ‫القيــم‪ ،‬فقــد ُ‬
‫]و»حـــادي الرواح« ‪ ،792-2/730‬و»شـــفاء العليـــل« ص ‪-254‬‬
‫‪ ،264‬و»مختصر الصــواعق« ‪ ،685-2/637‬وقبلــه شــيخ الســلم‬
‫في كتابه »الرد على من قــال بفنــاء الجنــة والنــار«[ كعــادته فــي‬
‫البحــث إذا بحــث مســألة أبــدع فيهــا‪ ،‬وأتــى بكــل مــا يمكــن مــن‬
‫الستدلل والحــوار‪ ،‬والجــواب والمناقشــات فــي ســائر المســائل‬
‫الخلفيــة الــتي يتعــرض لهــا‪ ،‬يــذكر كــل مــا للطــائفتين مـن حجــج‬
‫واستدللت وتوجيهــات‪ ،‬ويقابــل بينهمــا ويناقشــهما‪ ،‬فتــارة يرجــح‬
‫ترجيحــا ظــاهرا وبقــوة‪ ،‬وتــارة يعــرض ويقــف‪ ،‬وإذا عــرض لحــد‬
‫القولين يقول القائل‪ :‬إنه يختار هذا‪ ،‬فإذا عرض القول الخر قال‪:‬‬
‫كأنه يختار الثاني‪ ،‬والذي يظهر أنه هكذا وقع له في هذه المسألة‪،‬‬
‫فلما ذكر حجــج القــولين يظــن الظــان إذا قــرأ اســتدللته للقــول‬
‫الخر يظن أنه قائل به‪].‬وقال في آخر البحــث فــي حــادي الرواح‬
‫‪ :2/791‬فــإن قيــل إلــى أيــن انتهــى قــدمكم فــي هــذه المســالة‬
‫ريد ُ {‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ل لّ َ‬‫ك فَّعا ٌ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫العظيمة الشأن؟ قيل‪ :‬إلى قوله تعالى‪}:‬إ ِ ّ‬
‫]هـــود‪ ،[107:‬ونحـــوه فـــي شـــفاء العليـــل ص ‪ ،264‬ومختصـــر‬
‫الصــواعق ‪ ،2/663‬ولــه كلمــة مختصــرة عــابرة فــي »الوابــل‬
‫الصيب« ص ‪ ،42‬صرح فيها ببقاء النار وعدم فنائها[‬
‫وأكثر ما نقوله هنا‪ :‬إن القول بفناء النار قول مرجــوع‪ ،‬ولكــن‬
‫دع مــن‬ ‫دع من قال به‪ ،‬ومن الناس من بــ ّ‬ ‫ل يقال‪ :‬إنه بدعة‪ ،‬ول ُيب ّ‬
‫قال به‪ ،‬ومنهم من رمى ابن تيمية بــالقول بــه‪ ،‬وجــزم بــأنه قــال‪:‬‬
‫بفناء النار‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه له اعتقادات فاسدة‪ ،‬وهذا يقوله المتجنــون‬
‫على شيخ السلم ابن تيمية من خصومه الذين خالفهم فــي كــثير‬
‫من مسائل العتقاد‪ ،‬وقد ذكر ابن القيم أنــه ســأل شــيخ الســلم‬

‫‪195‬‬
‫عن مسألة فناء النار‪ ،‬فقال‪ :‬هذه المسألة عظيمة كبيرة‪ ،‬ثم ذكر‬
‫فيها القولين‪] ،‬السؤال في شفاء العليل ص ‪ ،264‬وجــوابه‪ :‬فقــال‬
‫شيخ السلم‪ :‬هذه المسألة عظيمة كبيرة‪ ،‬ولم يجب فيها بشيء‪،‬‬
‫فمضى على ذلــك زمــن حــتى رأيــت فــي تفســير عبــد بــن حميــد‬
‫ت‪ ،‬فأرســلت إليــه الكتــاب وهــو‬ ‫الكشي بعض تلك الثار التي ذكر ُ‬
‫في محبسه الخير‪ ،‬وعّلمت على ذلك الموضــع‪ ،‬وقلــت للرســول‪:‬‬
‫قل له هذا الموضـع يشـكل عليـه ول يـدري مـا هـو؟ فكتـب فيهـا‬
‫مصنفه المشهور رحمة الله عليه‪ [.‬ولم يذكر عن شيخه أنه ذهــب‬
‫إلى القول بفنــاء النــار خلفــا لمــن ينســب إليــه ذلــك‪].‬كالحصــني‬
‫والسبكي‪ ،‬انظر‪ :‬دعاوى المناوئين لشيخ السلم ص ‪[ 608‬‬
‫وقال أفاض شيخنا الشيخ محمد المين الشنقيطي في تقرير‬
‫القول بدوام الجنة والنار والجواب عمــا اســتدل بــه للقــول بفنــاء‬
‫ري ـد ُ ((‬‫مــا ي ُ ِ‬‫ل لِ َ‬‫ك فَعّــا ٌ‬‫ن َرب ّـ َ‬ ‫ك إِ ّ‬‫شاَء َرب ّ َ‬ ‫النار كقوله تعالى‪ )) :‬إ ِّل َ‬
‫ما َ‬
‫م‬‫كي ـ ٌ‬‫ح ِ‬‫ك َ‬ ‫ن َرب ّـ َ‬ ‫شــاَء الل ّـ ُ‬
‫ه إِ ّ‬ ‫مــا َ‬‫]هــود‪ ،[107:‬وقــوله تعــالى‪ )) :‬إ ِّل َ‬
‫م ((]النعام‪ [128:‬ذكر هذه المسألة عند هذه الية في سورة‬ ‫ع َِلي ٌ‬
‫النعام من كتـابه »دفـع إيهـام الضـطراب عـن آي الكتـاب« ]ص‬
‫‪ ،133‬وانظـــر‪» :‬مجـــالس مـــع فضـــيلة الشـــيخ محمـــد الميـــن‬
‫الشنقيطي« ص ‪.[51‬‬
‫شــاَء‬ ‫مــا َ‬ ‫وقــد أجيــب بأجوبــة كــثيرة عــن قــوله تعــالى‪ )) :‬إ ِّل َ‬
‫ه ((]النعــام‪ [128:‬وأن المــراد بهــذا الســتثناء‪ :‬مكثهــم فــي‬ ‫الّلــ ُ‬
‫القبور‪ ،‬أو لبثهــم فــي الــدنيا‪ ،‬أو فــي مواقــف القيامــة‪ ،‬هــذه كلهــا‬
‫أقــوال ليســت بالظــاهرة؛ لن المــراد بيــان خلــودهم بعــد ذلــك‪:‬‬
‫َ‬
‫ك ((‬ ‫شـاَء َرّبـ َ‬ ‫مـا َ‬ ‫ض إ ِّل َ‬‫ت َوالْر ُ‬ ‫وا ُ‬ ‫م َ‬
‫سـ َ‬
‫ت ال ّ‬
‫مـ ِ‬ ‫دا َ‬
‫مـا َ‬
‫ن ِفيَها َ‬
‫دي َ‬
‫خال ِ ِ‬ ‫)) َ‬
‫]هود‪ [107:‬وأحسن ما قيل‪ :‬إن المراد بيــان أن بقـاءهم إنمــا هــو‬
‫بمشيئة الله‪ ،‬كما أن بقاء أهل الجنة فـي الجنــة إنمـا هــو بمشـيئة‬
‫الله‪ ،‬فبقاء الرب تعالى ودوام وجوده ذاتي‪ ،‬أمــا بقــاء أهــل الجنــة‬
‫أبد الباد فبإبقائه سبحانه وتعالى ومشيئته‪.‬‬

‫]سبق القدر فيمن يصير إلى الجنة‪ ،‬ومن يصير إلى النار[‬
‫وقوله‪) :‬وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلــق‪ ،‬وخلــق‬
‫لهما أهل‪ ،‬فمن شاء منهم إلى الجنة فضل منــه‪ ،‬ومــن شــاء منهــم‬
‫إلى النار عدل منه‪ ،‬وكل يعمل لما قد فُرِغ َ له وصائر إلى ما ُ‬
‫خل ِــق‬
‫له(‬
‫هذا دخول في مسائل متعلقة بالقدر‪ ،‬وقد فّرق الشيخ الكلم‬
‫في القدر‪ ،‬كما فرق المســائل المتعلقــة بأصــول اليمــان؛ فيــذكر‬
‫مسائل تتعلــق باليمــان بــالله‪ ،‬أو الملئكــة‪ ،‬أو الرســل‪ ،‬أو بــاليوم‬
‫الخــر‪ ،‬وهــذه المســائل التيــة متعلقــة بالقــدر‪ ،‬وبالمســألة الــتي‬

‫‪196‬‬
‫تقدمت وهي‪ :‬خلق الجنة والنار يقول‪) :‬وأن الله خلق الجنة والنار‬
‫قبل الخلق( هذا ظاهر‪ ،‬ول يريد بالخلق جميع المخلوقات‪ ،‬الظاهر‬
‫أنه يريد قبــل خلــق النــاس؛ لن الخلــق تــارة يطلــق علــى جنــس‬
‫المخلوقات‪ ،‬وتارة يطلــق علــى خصــوص المكلفيــن‪ ،‬ولهــذا قــال‪:‬‬
‫وخلق لهما أهل‪ ،‬أي‪ :‬خلق الجنة والنار‪ ،‬ثــم خلــق لهمــا خلقــا مــن‬
‫الجن والنس‪ ،‬خلق آدم وحواء‪ ،‬ثــم خلــق ذريتهمــا إلــى آخــر مــن‬
‫يشاء الله تعالى خلقه من هذا الجنس البشر‪ ،‬ومن الجن‪.‬‬
‫در‬ ‫ويحتمل أن يكون مراده من قوله‪) :‬وخلق لهما أهل( أي‪ :‬ق ّ‬
‫در(‪ ،‬والول‬ ‫لهما أهل‪ ،‬فـ)خلـق( يـأتي بمعنـى )أوجـد( وبمعنـى )قـ ّ‬
‫أظهر‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬فمن شاء منهم إلى الجنة فضل منه‪ ،‬ومن شاء منهم‬
‫إلى النار عدل منه(‪.‬‬
‫هــذا شــروع فــي تقســيم الخلــق‪ ،‬وأن اللــه ســبحانه وتعــالى‬
‫جعلهم فريقين‪ :‬سعداء وأشــقياء‪ ،‬فمــن العبــاد مــن خلقــه للجنــة‪،‬‬
‫وبعمل أهل الجنة يعمل‪ ،‬ومنهم من خلقه للنار‪ ،‬وبعمل أهل النــار‬
‫يعمل‪ ،‬نعوذ بالله من النار‪.‬‬
‫فمن شاء الله له منهم أن يكون من أهــل الجنــة كــان كــذلك‬
‫فضل من الله سبحانه وتعالى‪ ،‬والله يؤتي فضله من يشــاء‪ ،‬ومــن‬
‫شاء الله منهم إلى النار عدل‪ ،‬فحكمه في عباده دائر بين الفضــل‬
‫والعدل‪ ،‬وهذا المعنى ثناه المؤلف ـ رحمه الله ـ فقــد تقــدم ]ص[‬
‫قوله‪) :‬يهدي من يشاء ويعصم ويعــافي فضــل‪ ،‬ويضــل مــن يشــاء‬
‫ويخذل ويبتلي عدل(‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫كــ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫شــأ ي َْر َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫م ب ِك ُ ْ‬ ‫م أع ْل َ ُ‬ ‫والله تعالى أعلم بعباده )) َرب ّك ُ ْ‬
‫كيَل ً ((]الســراء‪،[54:‬‬ ‫َ‬ ‫أ َو إن ي َ ْ‬
‫م وَ ِ‬ ‫ك ع َل َي ْهِ ـ ْ‬ ‫س ـل َْنا َ‬ ‫مــا أْر َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ش ـأ ي ُعَ ـذ ّب ْك ُ ْ‬ ‫ْ ِ ْ َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م وَك ـّره َ إ ِلي ْك ـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ه فِــي قُلــوب ِك ْ‬ ‫ن وََزي ّن َ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫لي َ‬ ‫م ا ُِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب إ ِلي ْك ُ‬ ‫حب ّ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫)) وَل َك ِ ّ‬
‫ن الّلــ ِ‬
‫ه‬ ‫مــ َ‬ ‫ضَل ً ِ‬ ‫ن * فَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫م الّرا ِ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ن أوْل َئ ِ َ‬ ‫صَيا َ‬ ‫سوقَ َوال ْعِ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫فَر َوال ْ ُ‬ ‫ال ْك ُ ْ‬
‫ه‬ ‫ن ي ُط ِـِع الل ّـ َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫م ((]الحجــرات‪ )) ،[8-7:‬وَ َ‬ ‫كي ـ ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ع َِلي ـ ٌ‬ ‫ة َوالل ّ ُ‬ ‫م ً‬ ‫وَن ِعْ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬ ‫ن الن ّب ِّييــ َ‬ ‫مــ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ع َل َي ِْهــ ْ‬ ‫م الّلــ ُ‬ ‫ن أن َْعــ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مــعَ اّلــ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ل َفــأوْل َئ ِ َ‬ ‫ســو َ‬ ‫َوالّر ُ‬
‫ك‬ ‫ق ـا ً * ذ َل ِـ َ‬ ‫ك َرِفي َ‬ ‫ُ‬
‫ن أوْل َئ ِ َ‬ ‫ن َوال ّ‬
‫سـ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫حي َ‬ ‫صــال ِ ِ‬ ‫داِء َوال ّ‬ ‫شــهَ َ‬ ‫قي َ‬ ‫دي ِ‬ ‫صــ ّ‬ ‫َوال ّ‬
‫مــا‬ ‫م ـا ً ((]النســاء‪ )) ،[70-69:‬وَ َ‬ ‫فــى ب ِــالل ّهِ ع َِلي َ‬ ‫ن الل ّـهِ وَك َ َ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫شاُء‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬
‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض ّ‬ ‫م فَي ُ ِ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬ ‫مهِ ل ِي ُب َي ّ َ‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫ل إ ِّل ب ِل ِ َ‬ ‫سو ٍ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫سل َْنا ِ‬ ‫أْر َ‬
‫م ((]إبراهيم‪ ،[4:‬هذا كله يرجع‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬ ‫شاُء وَهُوَ ال ْعَ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫وَي َهْ ِ‬
‫إلى اليمان بالقدر‪ :‬اليمان بعلم الله السابق لكل شيء‪ ،‬واليمان‬
‫بكتابته لمقادير الشياء فــي أم الكتــاب‪ ،‬واليمــان بعمــوم مشــيئة‬
‫الله‪ ،‬وأنه ل خــروج لشــيء عــن مشــيئته‪ ،‬وأنــه تعــالى خــالق كــل‬
‫شــيء‪ ،‬فبفضــله تعــالى اهتــدى المهتــدون‪ ،‬وبعــدله تعــالى ضــل‬
‫ط ال ّـذي َ‬ ‫صـَرا َ‬
‫ت‬ ‫مـ َ‬ ‫ن أن ْعَ ْ‬ ‫ِ َ‬ ‫م* ِ‬ ‫قي َ‬ ‫سـت َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ال ْ ُ‬ ‫صـَرا َ‬ ‫الضــالون‪ )) :‬اهْـد َِنا ال ّ‬

‫‪197‬‬
‫ن ((]الفاتحــة‪ [7-5:‬هــذا‬ ‫ضــاّلي َ‬
‫م َول ال ّ‬ ‫ب ع َل َي ْهِ ْ‬
‫ضو ِ‬
‫مغْ ُ‬ ‫م * غ َي ْرِ ال ْ َ‬ ‫ع َل َي ْهِ ْ‬
‫دعاء حقيق بــأن نعــرف معنــاه وقــدره وضــرورتنا إلــى مضــمونه‪،‬‬
‫ط‬ ‫شــاُء إ ِل َــى ِ‬
‫ص ـَرا ٍ‬ ‫ن يَ َ‬
‫مـ ْ‬
‫دي َ‬ ‫ســلم ِ وَي َهْ ـ ِ‬
‫دارِ ال ّ‬ ‫عو إ ِل َــى َ‬ ‫ه ي َـد ْ ُ‬‫)) َوالل ّـ ُ‬
‫قيم ٍ ((]يونس‪.[25:‬‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫فيجب اليمان بالقدر‪ ،‬واليمان بالقدر يشمل اليمان بأن الله‬
‫قد علم أهل الجنة من أهــل النــار‪ ،‬وكتــب ذلــك‪ ،‬ولهــذا لمــا أخــبر‬
‫الرسول ‪ ‬بأنه ) ما مــن نفــس إل وقــد علــم مكانهــا مــن الجنــة‬
‫ومكانها من النار‪ ،‬قال رجل‪ :‬أفل نتكل على كتابنــا ونــدع العمــل؟‬
‫فقال‪ :‬اعملوا فكل ميسر‪ ،‬أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهــل‬
‫السعادة‪ ،‬وأمــا أهــل الشــقاوة‪ ،‬فييســرون لعمــل أهــل الشــقاوة(‬
‫]تقدم[‪ ،‬وسئل النبي ‪ ) :‬أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون‬
‫فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قــدر قــد ســبق أو فيمــا‬
‫يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجــة عليهــم؟ فقــال‪ :‬ل؛‬
‫بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم‪ ،‬وتصديق ذلك في كتاب اللــه‬
‫عز وجل‪) :‬ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها(‪] .‬تقدم[‬
‫والنظر للقدر في أمر اليمان والكفر‪ ،‬والطاعة والمعصية‬
‫من أعظم مداخل الشيطان؛ لن الشيطان يوسوس ويقول‪ :‬ما‬
‫دام المر قد مضى وسبق به القدر؛ فإن كنت من أهل الجنة‬
‫فستكون من أهل الجنة! ل لن تكون من أهل الجنة إل إذا عملت‬
‫بسبب دخول الجنة‪ ،‬فلن يدخل الجنة إل نفس مؤمنة‪ ،‬فمن سبق‬
‫علم الله وكتابه بأنه من أهل الجنة‪ ،‬فل بد أن يقوم به سبب‬
‫دخولها‪ ،‬وإن لم يقم به سبب دخولها فوالله ل يدخلها‪ ،‬وكل‬
‫مكلف ل بد أن يقوم بأحد السببين‪ :‬سبب دخول الجنة أو سبب‬
‫دخول النار‪ ،‬كما تقدم ]ص[‪) :‬والعمال بالخواتيم(‪.‬‬
‫خِلق له(‪.‬‬ ‫ل يعمل لما قد فُرِغ َ له‪ ،‬وصائر إلى ما ُ‬ ‫وقوله‪) :‬وك ٌ‬
‫ل( التنــوين‬ ‫ل من المكلفين يعمل لما قد فُرِغ َ له منه‪ ،‬و)ك ُـ ٌ‬ ‫وك ٌ‬
‫ض عن )أحد(‪) ،‬يعمل لما قد فُرِغ َ له( منه )وصائر إلى مــا‬ ‫عو ٌ‬ ‫فيها ِ‬
‫خِلق له( هذا شرح وتبسيط لما قبله‪ ،‬وهذا معنى قوله ‪ ) :‬فكل‬ ‫ُ‬
‫ميسر لما خلــق لــه( ]تقــدم[ )كــل يعمــل لمــا قــد فُـرِغ َ لــه( منــه‬
‫خِلق له( فمن خلق للجنة فصائر إلى الجنة‪ ،‬ومــن‬ ‫)وصائر إلى ما ُ‬
‫خلق للنار فصائر إلى النار‪ ،‬ولكن بالسباب التي جعلها الله لذلك‪،‬‬
‫فالنار أعدها الله للكافرين‪ ،‬ولن يخلد فيهــا إل الكــافرون‪ ،‬والجنــة‬
‫أعدت للمتقين‪ ،‬ولن يدخلها إل نفس مؤمنة‪.‬‬
‫والخذ بالسباب هو فطرة فطر الله عليها العباد؛ لكـن هنـاك‬
‫أشياء ما ينظر بعض الناس للقدر فيها‪:‬‬
‫طلب الــرزق فهــو مــن جنــس مــا ســبق بــه القــدر مــن أمــر‬
‫السعادة والشقاوة‪ ،‬أفيقول عاقل‪ :‬أنــا أجلــس ول أطلــب الــرزق؛‬

‫‪198‬‬
‫لنه سيأتيني؟! ل؛ بل إذا أصبح النــاس نهضــوا وانتشــروا يطلبــون‬
‫الرزق‪.‬‬
‫نعم! قد يقوله الكسول تبريًرا لكسله وخموله ود َع َِته‪.‬‬
‫جب الشــرع‪،‬‬ ‫جب العقل والفطرة‪ ،‬فهو أيضــا مــو َ‬ ‫وكما أنه مو َ‬
‫َ‬
‫شــوا فِــي‬‫م ُ‬‫ض ذ َل ُــوَل ً َفا ْ‬‫م الْر َ‬ ‫ل ل َك ُـ ُ‬
‫جعَـ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫قــال تعــالى‪ )) :‬هُـوَ ال ّـ ِ‬
‫صــلةُ‬‫ت ال ّ‬ ‫ض ـي َ ِ‬‫ذا قُ ِ‬
‫ن رِْزقِ ـهِ ((]الملــك‪ )) ،[15:‬فَ ـإ ِ َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫مَناك ِب َِها وَك ُُلوا ِ‬ ‫َ‬
‫ل اللهِ ((]الجمعة‪[10:‬‬ ‫ّ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫َ‬ ‫َفانت َ ِ‬
‫ض ِ‬ ‫م ْ‬‫ض َواب ْت َُغوا ِ‬ ‫شُروا ِفي الْر ِ‬
‫فكيف يأتي هــذا لخطــر الشــياء ويقــول‪ :‬إذا كنــت مــن أهــل‬
‫الجنة فسأترك العمل! ل والله‪ ،‬من ترك اليمــان والطاعــة اتكــال‬
‫على القدر‪ ،‬علمنا أنه إن مات على ذلك فهو من أهل النار‪ ،‬وكــذا‬
‫كتب لــي أجــر فســيجيئني‬ ‫من نام عن صلة الفجر وقال‪ :‬إن كان ُ‬
‫بدون أن أقوم وأصلي! فهل سيكتب له أجر؟!‬
‫الله سبحانه رتب المسببات على السباب‪ ،‬فهنــاك مســببات‬
‫ل تكــون إل بأســباب معينــة‪ ،‬ول يمكــن تحصــيلها إل بهــذا الســبب‬
‫المعين‪ ،‬كالولد‪ ،‬فل يمكن لحد أن ُيولد له إل بنكاح ووطء؟!‬
‫أما الرزق فله أسباب متعددة‪ ،‬وطــرق كســب كــثيرة‪ ،‬بخلف‬
‫الولد؛ فل يوجد إل سبب واحد معين‪.‬‬
‫كذلك الجنة والنار‪ ،‬الجنة ل يمكن دخلوها إل باليمان والعمــل‬
‫الصالح‪ ،‬فمن فقد هذا السبب فإلى الضد والنقيض‪ .‬نعوذ بالله!‬
‫فهذه مقامات عظيمة على المسلم أن يلجأ إلى ربه‪ ،‬ويسأله‬
‫ط‬‫ص ـَرا َ‬
‫ح بهــذا الــدعاء‪ )) :‬اهْ ـد َِنا ال ّ‬ ‫الثبات والتوفيق والهدايــة‪ ،‬وي ُل ِـ ّ‬
‫م ((]الفاتحة‪ ،[5:‬ويسأل اللــه حســن الخاتمــة‪ )) :‬ت َـوَفِّني‬ ‫قي َ‬
‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن ((]يوسف‪.[101:‬‬ ‫حي َ‬
‫صال ِ ِ‬‫قِني ِبال ّ‬ ‫ما ً وَأ َل ْ ِ‬
‫ح ْ‬ ‫سل ِ َ‬
‫م ْ‬ ‫ُ‬

‫]كل شيء بقدر[‬


‫وقوله‪) :‬والخير والشر مقدران على العباد(‪.‬‬
‫هــذا مضــمونه تقــدم ]ص[ فــي قــوله‪) :‬القــدُر خيــره وشــره‬
‫وحلوه ومره من الله تعالى( قال النبي ‪) :‬وتؤمن بالقــدر خيــره‬
‫ه‬ ‫قوُلــوا َ‬
‫هــذ ِ ِ‬ ‫ة يَ ُ‬‫سن َ ٌ‬
‫ح َ‬ ‫م َ‬‫صب ْهُ ْ‬
‫ن تُ ِ‬
‫وشره( ]تقدم ص[ قال تعالى‪ )) :‬وَإ ِ ْ‬
‫ن‬‫مـ ْ‬‫ل ِ‬ ‫ل ك ُـ ّ‬
‫ك قُ ْ‬ ‫عن ْد ِ َ‬‫ن ِ‬‫م ْ‬‫قوُلوا هَذ ِهِ ِ‬ ‫سي ّئ َ ٌ‬
‫ة يَ ُ‬ ‫م َ‬
‫صب ْهُ ْ‬ ‫عن ْد ِ الل ّهِ وَإ ِ ْ‬
‫ن تُ ِ‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫عن ْد ِ اللهِ ((]النساء‪ ،[78:‬كل ما يجري على العباد مــن خيــر دينــي‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫أو دنيوي‪ ،‬أو شر ديني أو دنيوي‪ ،‬فهو جار بقدر‪ ،‬ول خروج لشــيء‬
‫ل قــدرته‪ ،‬وعمــوم‬ ‫ملــك اللـهِ وكمـا ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫عن القدر‪ ،‬هذا مـوجب كمــا ِ‬
‫مشيئته‪ ،‬فهو سبحانه وتعالى الــذي يعطــي ويمنــع‪ ،‬فكــل مــا لــدى‬
‫مِنعوا فبعــدله‬ ‫العباد من الخير بأنواعه فهو بمنه وبعطائه‪ ،‬وكل ما ُ‬
‫ســبحانه‪) ،‬ل مــانع لمــا أعطيــت ول معطــي لمــا منعــت( ]رواه‬
‫البخاري )‪ ،(844‬ومسلم )‪ (593‬من حديث المغيرة بن شعبة ‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫ة‬
‫مـ ٍ‬‫ح َ‬‫ن َر ْ‬ ‫مـ ْ‬ ‫س ِ‬
‫ه ِللّنا ِ‬ ‫ح الل ّ ُ‬ ‫فت َ ِ‬
‫ما ي َ ْ‬
‫[ وتفصيل ذلك في مثل قوله‪َ )) :‬‬
‫زيـُز‬‫ن ب َعْـد ِهِ وَهُـوَ ال ْعَ ِ‬
‫مـ ْ‬ ‫ه ِ‬‫ل ل َـ ُ‬ ‫سـ َ‬ ‫ك َفل ُ‬
‫مْر ِ‬ ‫س ْ‬
‫م ِ‬ ‫ك ل ََها وَ َ‬
‫ما ي ُ ْ‬ ‫س َ‬
‫م ِ‬‫م ْ‬‫َفل ُ‬
‫م ((]فاطر‪ ،[2:‬وقال النبي ‪) :‬من يهده الله فل مضل لــه‪،‬‬ ‫كي ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ح ِ‬
‫ومن يضلل فل هادي لــه( ]رواه مســلم )‪ (867‬مــن حــديث جــابر‬
‫‪ ،[‬وقال ‪ ‬لبن عباس رضي الله عنهما‪) :‬واعلــم أن المــة لــو‬
‫اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لــم ينفعــوك إل بشــيء قــد كتبــه‬
‫الله لــك‪ ،‬ولــو اجتمعــوا علــى أن يضــروك بشــيء لــم يضــروك إل‬
‫بشيء قد كتبه الله عليك( ]تقدم في ص[ لكن كــل هــذا ل ينــافي‬
‫الخذ بالسباب‪ ،‬ولهذا الناس بسبب الجهل‪ ،‬وعدم العتصام بهدى‬
‫الله‪ ،‬اضطربوا؛ فمنهم‪:‬‬
‫مــن أنكــر القــدر‪ ،‬ونفــى تعلــق علــم الــرب وكتــابه ومشــيئته‬
‫بأفعال العباد‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه ل يعلم الشياء إل بعد وقوعها‪.‬‬
‫وآخرون أخرجوا أفعال العباد عن مشيئة الله وخلقه وقدرته‪.‬‬
‫وآخرون أثبتوا القدر وأنكروا السباب‪.‬‬
‫عوفي من هذه الضللت فليحمد الله‪.‬‬ ‫ومن ُ‬
‫فالذين ينكرون السباب يقولون‪ :‬إذا شربت ورويــت؛ فالمــاء‬
‫ت‬‫ل له أثر في الري‪ ،‬وأكلك ل له أثر في الشبع‪ ،‬ولكن حين شــرب َ‬
‫ه لك الشبع!‬ ‫ت خلقَ الل ُ‬ ‫وأكل َ‬
‫والنار إذا أشعلتها فــي الحطــب‪ ،‬فليســت هــي الــتي أحرقــت‬
‫الحطب؛ لكن لما جــاءت النــار عنــد الحطــب خلــق اللــه الحــراق‬
‫فيها!‬
‫ب( مجازا ل حقيقة!‬ ‫ت الناُر الحط َ‬ ‫فيكون قولك‪) :‬أحرق ِ‬
‫وإنكــار الســباب قــول مشــهور عــن الشــاعرة‪] .‬مجمــوع‬
‫الفتاوى ‪ ،8/128‬والتدمرية ص ‪ ،493‬وشفاء العليل ص ‪[188‬‬

‫]أنواع الستطاعة[‬
‫وقوله‪) :‬والستطاعة التي يجب بها الفعل‪ ،‬من نحــو التوفيــق‬
‫الــذي ل يجــوز أن يوصــف المخلــوق بــه فهــي مــن الفعــل‪ ،‬وأمــا‬
‫الستطاعة من جهــة الصــحة والوســع والتمكــن وســلمة الدوات‬
‫فهي َقبل الفعل‪ ،‬وبها يتعلق الخطاب‪ ،‬وهو كما قــال تعــالى‪ )) :‬ل‬
‫سعََها ((]البقرة‪.([286:‬‬ ‫سا ً إ ِّل وُ ْ‬‫ف َ‬ ‫ف الل ّ ُ‬
‫ه نَ ْ‬ ‫ي ُك َل ّ ُ‬
‫الســتطاعة هــي‪ :‬القــدرة‪ ،‬تقـول‪ :‬فلن يقــدر علــى كــذا أو ل‬
‫يقــدر‪ ،‬وجــاءت النصــوص فيهــا ذكــر الســتطاعة‪ ،‬قــال ســبحانه‬
‫م ((]التغابن‪ )) ،[16:‬وَل ِل ّهِ ع ََلــى‬
‫ست َط َعْت ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ه َ‬‫قوا الل ّ َ‬ ‫وتعالى‪َ )) :‬فات ّ ُ‬
‫سِبيَل ً ((]آل عمران‪ ،[97:‬وقال‬ ‫طاع َ إ ِل َي ْهِ َ‬
‫ست َ َ‬
‫نا ْ‬ ‫م ِ‬
‫ت َ‬ ‫ج ال ْب َي ْ ِ‬‫ح ّ‬‫س ِ‬‫الّنا ِ‬
‫ْ‬
‫‪) :‬إذا أمرتكم بأمر فَأُتوا منــه مــا اســتطعتم( ] رواه البخــاري )‬
‫‪ ،(7288‬ومسلم )‪ ،[(1337‬وقال ‪ ‬لعمران بن حصين ‪) :‬ص ّ‬
‫ل‬

‫‪200‬‬
‫قائما؛ فإن لــم تســتطع فقاعــدا؛ فــإن لــم تســتطع فعلــى جنــب(‪.‬‬
‫مــا‬‫] رواه البخاري )‪ [(1117‬وقال سبحانه وتعالى في الكفار‪َ )) :‬‬
‫ن ((]هود‪.[20:‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي ُب ْ ِ‬ ‫معَ وَ َ‬ ‫س ْ‬‫ن ال ّ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫َ‬
‫والستطاعة نوعان‪:‬‬
‫نوع قبل الفعل‪.‬‬
‫ونوع مع الفعل‪.‬‬
‫فالستطاعة التي قبل الفعــل هــي منــاط التكليــف‪ ،‬فــإذا لــم‬
‫توجد فل تكليف‪ ،‬إذ ل واجب مع العجز‪.‬‬
‫والقدرة والستطاعة التي قبل الفعل‪ ،‬مثل‪ :‬الصحة‪ ،‬وســلمة‬
‫اللت‪ ،‬وحصول السباب التي ل بد منهــا فــي الفعــل‪ ،‬فهــذه هــي‬
‫ن‬‫مـ ِ‬ ‫ت َ‬‫ج ال ْب َي ْـ ِ‬ ‫حـ ّ‬‫س ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫مناط التكليف‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَل ِلـهِ ع َلــى الن ّــا ِ‬
‫سـِبيَل ً ((]آل عمـران‪ [97:‬السـبيل‪ :‬الـزاد والراحلــة‪،‬‬ ‫طاع َ إ ِل َي ْهِ َ‬ ‫ست َ َ‬‫ا ْ‬
‫وكذلك القدرة البدنية ل بد منها‪ ،‬فل يجب المضــي للحــج إل علــى‬
‫من تـوفرت لـه القـدرة البدنيـة والماليـة‪ ،‬فهـذه السـتطاعة هـي‬
‫مناط التكليـف‪ ،‬ويقـر بهـا جميـع الطـوائف‪ ،‬ويسـتوي فيهـا جميـع‬
‫الناس‪ :‬المطيع والعاصي كلهم مستطيع‪ ،‬فمن أمر بالصلة ـــ مثل‬
‫ـــ وهــو ســليم العقــل والحــواس وقــادر إن صــلى أو تــرك فهــو‬
‫مستطيع‪.‬‬
‫والنوع الثاني‪ :‬الستطاعة التي تكون مع الفعــل‪ ،‬ويكــون بهــا‬
‫الفعل‪ ،‬فهذه ليست مناطا للتكليف؛ بل يمنحهــا اللــه لمــن يشــاء‪،‬‬
‫وهي التي تحصل بالتوفيق والهدايــة الخاصــة‪ ،‬وهــي المنفيــة عــن‬
‫مــا‬
‫معَ وَ َ‬ ‫سـ ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫ما ك َــاُنوا ي َ ْ‬
‫س ـت َ ِ‬ ‫الكفار في مثل قوله تعالى‪َ )) :‬‬
‫ن‬
‫ري َ‬ ‫مئ ِذ ٍ ل ِل ْك َــافِ ِ‬
‫م ي َـوْ َ‬‫جهَن ّـ َ‬‫ض ـَنا َ‬
‫ن ((]هــود‪ )) ،[20:‬وَع ََر ْ‬
‫َ‬
‫ص ـُرو َ‬ ‫كاُنوا ي ُب ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ري وَك َــاُنوا ل‬ ‫ن ذ ِك ْـ ِ‬‫م فِــي ِغط َــاٍء ع َ ـ ْ‬ ‫ت أع ْي ُن ُهُ ـ ْ‬ ‫ن ك َــان َ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ض ـا ً * ال ّـ ِ‬ ‫ع َْر َ‬
‫معَا ً ((]الكهف‪ ،[101-100:‬وليس المعنى أنهم صم‬ ‫س ْ‬‫ن َ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫ست َ ِ‬‫يَ ْ‬
‫ل يســمعون‪ ،‬فالصــم معــذور إذا لــم يســمعْ مــا يجــب ســماعه‪،‬‬
‫والعمى معذور إذا لم يبصْر ما يجب إبصاره؛ لنه غيــر مســتطيع؛‬
‫لكن الستطاعة المنفيــة عنهــم هــي الســتطاعة الــتي تكــون مــع‬
‫الفعــل‪ ،‬و هــي ليســت مناطــا للتكليــف‪ ،‬فهــم مســتطيعون لكــن‬
‫صرفهم الهوى والشهوات عن النقياد‪.‬‬
‫فمثل‪ :‬بعض الناس‪ ،‬يقال له‪ :‬اترك شرب الدخان‪ ،‬فيقــول‪ :‬ل‬
‫أســتطيع! ل يســتطيع بســبب غلبــة شــهوته‪ ،‬وهــو فــي الحقيقــة‬
‫مستطيع‪.‬‬
‫أو قيل له‪ :‬حافظ على صلة الفجر مــع الجماعــة‪ ،‬فيقــول‪ :‬ل‬
‫أستطيع‪ ،‬أهو ل يستطيع؟! ل والله‪ ،‬مستطيع‪ ،‬ولو كان عنــده أمــر‬
‫فيه مصلحة تهمه لنهض إليها‪ ،‬وظهرت استطاعته!‬
‫وغلط في هذا المقام طائفتان‪:‬‬

‫‪201‬‬
‫من لم يثبت إل الستطاعة التي َقبل الفعل‪ ،‬وهم المعتزلة‪.‬‬
‫فقد نفوا الستطاعة الثانية؛ لن الله عندهم ل يقدر أن يهدي‬
‫أحدا ول يضل أحدا؛ بل العبد هو الذي يتصرف في نفسه‪.‬‬
‫والطائفة الثانية‪ :‬حكى قولهم ابن أبي العــز فــي الشــرح]ص‬
‫‪ [633‬فقال‪ :‬إن طائفة من أهل السنة ـ ولــم يعينهــم ]قــال شــيخ‬
‫السلم ابن تيمية‪ :‬فقوم جعلوا الستطاعة مع الفعل فقــط وهــذا‬
‫هو الغالب علـى مثبتــة القـدر المتكلميـن مـن أصــحاب الشـعري‬
‫ومــن وافقهــم مـن أصـحابنا وغيرهـم ‪ .‬مجمـوع الفتــاوى ‪،8/371‬‬
‫وتســميتهم فــي ‪[.8/299‬ـــ قــالوا‪) :‬الســتطاعة ل تكــون إل مــع‬
‫الفعــل( ‪ ،‬وهــذا غلــط؛ فــإن قــولهم هــذا يقتضــي أن معنــى قــوله‬
‫م ((]التغــابن‪ [16:‬اتقــوا اللــه إذا‬‫سـت َط َعْت ُ ْ‬
‫ما ا ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫تعالى‪َ )) :‬فات ّ ُ‬
‫اتقيتم الله‪ ،‬فل تجب التقوى إل على من اتقى‪ ،‬ول يجب الحــج إل‬
‫على من حج‪ ،‬وهذا ظاهر الفساد‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬من نحو التوفيق الذي ل يجــوز أن يوصــف المخلــوق‬
‫به(‪.‬‬
‫التوفيق هو صــفة اللــه تعـالى يوفــق ويهــدي مـن يشـاء‪ ،‬أمــا‬
‫الستطاعة فهــي أثــر هــذا التوفيــق‪ ،‬أمــا قــوله‪) :‬الــذي ل يوصــف‬
‫المخلوق به فهي مع الفعل( أي‪ :‬الستطاعة هــي صــفة للمخلــوق‬
‫لكن بمنح الله له‪ ،‬يمنحها من يشاء‪.‬‬

‫]خلق الله لفعل العباد[‬


‫ب مــن العبــاد‪ ،‬ولــم‬ ‫سـ ٌ‬ ‫خل ْـقُ اللــه‪ ،‬وك َ ْ‬ ‫وقوله‪) :‬وأفعال العبــاد َ‬
‫يكلفهم الله تعالى إل ما يطيقون‪ ،‬ول يطيقون إل ما كلفهــم‪ ،‬وهــو‬
‫تفسير )ل حول ول قوة إل بالله(‪ ،‬نقول‪ :‬ل حيلــة لحــد‪ ،‬ول حركــة‬
‫لحد‪ ،‬ول تحول لحد عن معصية الله إل بمعونة الله‪ ،‬ول قوة لحد‬
‫على إقامة طاعة الله والثبات عليها إل بتوفيق الله(‬
‫ن مردها كلها إلى اليمان بالقدر‪.‬‬ ‫هذا الكلم كله تفصيل لمعا ٍ‬
‫ب مــن العبــاد( اختلــف‬ ‫سـ ٌ‬‫خل ْقُ الله وك َ ْ‬ ‫وقوله‪) :‬وأفعال العباد َ‬
‫الناس في أفعال العبــاد الختياريــة حســب اختلفهــم فــي القــدر‪،‬‬
‫فأهل السنة والجماعة يقولون‪ :‬أفعال العباد هي أفعــالهم حقيقــة‪،‬‬
‫وهــم الموصــوفون بهــا‪ ،‬فالعبــد هــو المصــلي والصــائم‪ ،‬والقــائم‬
‫والقاعــد‪ ،‬وهــو الصــادق والكــاذب‪ ،‬والمــؤمن والكــافر‪ ،‬والمطيــع‬
‫والعاصي‪ ،‬هي أفعاله‪ ،‬والله تعــالى خــالقُ العبــاد ِ وخــالقُ أفعــاِلهم‬
‫وقدرتهم وإرادتهم؛ لنه خالق السباب والمسب ََبات‪.‬‬
‫يٍء ((]الزمــر‪ [62:‬فل‬ ‫شــ ْ‬‫ل َ‬ ‫خال ِقُ ك ُ ّ‬ ‫فهي مفعولة لله‪ ،‬و))الل ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫خروج لشيء عن خلقه وقدرته ومشيئته‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫وقالت القدرية نفاة القدر‪ :‬إن العباد هم الخــالقون لفعــالهم‪،‬‬
‫فأفعال العباد مخلوقة لهم‪ ،‬وليســت بمشــيئة اللــه ول بقــدرته ول‬
‫بخلقه‪ .‬وقالت الجبريــة‪ :‬إن أفعــال العبــاد مخلوقــة للــه‪ ،‬والعبــد ل‬
‫فعل له؛ بل أفعاله مجبور عليها كحركة المرتعش‪ ،‬وكالريشة فــي‬
‫مهب الريح‪ ،‬وحركة الشجار‪.‬‬
‫فأثبتوا القدر وعموم خلــق اللــه‪ ،‬لكنهــم ســلبوا العبــد قــدرته‬
‫واختيــاره وأفعــاله‪ ،‬وقــالوا‪ :‬إن نســبة الفعــال إلــى العبــاد مجــاز‪،‬‬
‫ومعناه‪ :‬أنه ليس هو الراكع والساجد؛ لنه ما فعل هذا بقــدرته؛ إذ‬
‫ل مشيئة له ول قدرة‪.‬‬
‫فهذان قولن على طرفي نقيض‪.‬‬
‫ل‬‫ب القدرية والجبرية قــو ُ‬ ‫وقد دل على إبطال المذهبين‪ :‬مذه ِ‬
‫م ((]التكوير‪ ،[28:‬فــأثبت‬ ‫شاَء منك ُ َ‬ ‫ن َ‬
‫قي َ‬‫ست َ ِ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ِ ْ ْ‬ ‫م ْ‬
‫الله تعالى‪ )) :‬ل ِ َ‬
‫ن ((‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ما ت َ َ‬
‫مي َ‬
‫ب العَــال ِ‬
‫ه َر ّ‬‫شاَء الل ـ ُ‬ ‫ن إ ِل أ ْ‬ ‫شاُءو َ‬ ‫المشيئة للعباد‪ )) ،‬وَ َ‬
‫]التكــوير‪[29:‬فجعــل مشــيئة العبــد موقوفــة علــى مشــيئة رب‬
‫العالمين سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ق‬ ‫ْ‬
‫وجاءت الشاعرة فلفقوا كعادتهم وقالوا‪ :‬أفعال العبــاد خلــ ٌ‬
‫لله‪ ،‬وكسب من العباد‪ ،‬لكن مفهوم الكســب عنــدهم هــو‪ :‬الفعــل‬
‫المقــارن للقــدرة المحدثــة‪ ،‬وهــذا بنــوه علــى مــذهبهم فــي نفــي‬
‫السباب‪.‬‬
‫فيرون أن العلقة بين السباب والمسب ََبات‪ ،‬وبين قدرة العبــد‬
‫وأفعاله مجرد القتران‪ ،‬فيقولون‪ :‬إن الله يفعــل عنــد الســباب ل‬
‫بها‪ ،‬فليس عندهم باء سببية؛ بل يرونها للمصاحبة‪.‬‬
‫قُرُبون في هذا من قول الجبريــة؛ لن قــولهم يتضــمن‪:‬‬ ‫فهم ي َ ْ‬
‫أنه ل أثر لقدرتهم في وجود أفعالهم‪ ،‬كما تقدم في ذكر ذلك فــي‬
‫السباب ]ص[ وقولهم‪ :‬إن الماء ل أثر لـه فــي حصـول الـّري‪ ،‬ول‬
‫شبع‪ ،‬ول أثــر لقــدرة العبــد فــي حصــول‬ ‫أثر للطعام في حصول ال ّ‬
‫ب الشــعري مــن الشــياء‬ ‫ذكر كس ُ‬ ‫فعله‪ .‬هذا قول الشاعرة‪ ،‬وقد ُ‬
‫التي ل حقيقة لهــا‪] .‬قــالوا‪ :‬عجــائب الكلم ثلثــة‪ :‬طفــرة النظــام‪،‬‬
‫وأحـــوال أبـــي هاشـــم‪ ،‬وكســـب الشـــعري‪ .‬مجمـــوع الفتـــاوى‬
‫‪،8/128‬ومنهاج الســنة ‪1/459‬و ‪ ،2/297‬وشــفاء العليــل ص ‪50‬و‬
‫‪[122‬‬
‫والله أعلــم بمــراد الطحــاوي؛ لن كلمــة الكســب فــي اللغــة‬
‫ن ((]النعام‪،[129:‬‬ ‫سُبو َ‬‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫والشرع تطلق على الفعل )) ب ِ َ‬
‫ن ((]النعام‪[108:‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْ َ‬‫ما َ‬
‫)) ب ِ َ‬

‫وقــوله‪) :‬ولــم يكلفهــم اللــه تعــالى إل مــا يطيقــون( أي‪ :‬مــا‬


‫سـا إ ِل ّ وُ ْ‬
‫سـعََها{‬ ‫ف ً‬ ‫ف الّلـ ُ‬
‫ه نَ ْ‬ ‫يستطيعون‪ ،‬قـال اللـه تعـالى‪} :‬ل َ ي ُك َّلـ ُ‬

‫‪203‬‬
‫ها {]الطلق‪ [7:‬وقال‬ ‫ما آَتا َ‬ ‫سا إ ِّل َ‬ ‫ف ً‬ ‫ف الل ّ ُ‬
‫ه نَ ْ‬ ‫]البقرة‪َ} [286:‬ل ي ُك َل ّ ُ‬
‫مل ْن َــا‬ ‫سبحانه وتعالى ـ في الدعاء الذي علمه لعباده ـ‪َ} :‬رب َّنا وَل َ ت ُ َ‬
‫ح ّ‬
‫ه{]البقرة‪ [286:‬قال اللــه تعــالى‪» :‬قــد فعلــت«‪.‬‬ ‫ة ل ََنا ب ِ ِ‬ ‫ما ل َ َ‬
‫طاقَ َ‬ ‫َ‬
‫]رواه مسلم )‪ (126‬من حديث ابن عباس رضي الله عنهما[‪.‬‬
‫وهذا من رحمة اللــه بعبــاده‪ ،‬وحكمتــه فــي شــرعه‪،‬وهــو مــن‬
‫ريد ُ ب ِك ُـ ُ‬
‫م‬ ‫م ال ْي ُ ْ‬
‫سَر وَل َ ي ُ ِ‬ ‫ه ب ِك ُ ُ‬‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫اليسر الذي أراده الله بعباده‪} :‬ي ُ ِ‬
‫سَر{ ]البقرة‪ ،[135:‬وبهذا اليسر رفع الحرج عن عبــاده‪ ،‬قــال‬ ‫ال ْعُ ْ‬
‫ج{]الحـــج‪ [78:‬فلــه‬ ‫حـَر ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دي ِ‬‫م ِفي الـ ّ‬ ‫ل ع َل َي ْك ُ ْ‬
‫جعَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫تعالى‪} :‬وَ َ‬
‫الحمد على ذلك كثيرا‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ول يطيقون إل ما كلفهم(‬
‫هذه العبارة فيها نظر‪ ،‬فالعباد يطيقون أكثر مما كلفهم اللــه؛‬
‫إذ لـو كــانوا ل يطيقــون إل مـا كلفهــم؛ فمعنــاه‪ :‬أنــه كلفهــم غايـة‬
‫طاقتهم‪ ،‬فل يقدرون على شيء بعدها؛ بل ما كلفهم الله هو أقــل‬
‫مما يستطيعونه‪ ،‬ولله الحمد‪ ،‬فقد كلفهم صيام شهر فــي الســنة‪،‬‬
‫أليسوا يطيقون أن يصوموا شهرين؟ بل يطيقون أن يصوموا ثلثة‬
‫لو كلفهم بذلك‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬وهو تفسير»ل حول ول قوة إل بالله« (‬


‫تفسير »ل حول ول قــوة إل بــالله«‪ :‬ل تحــول مــن حــال إلــى‬
‫حال‪ ،‬ول قوة على أي أمر إل بالله‪.‬‬
‫والقرار بذلك واستحضاره وذكره يتضمن التوكــل علــى اللــه‬
‫شرع لمن يجيب المؤذن أن يقول عنــد قــول‬ ‫والستعانة به‪ ،‬ولهذا ُ‬
‫المؤذن ‪» :‬حي على الصلة‪ ،‬حي على الفلح«‪» :‬ل حول ول قــوة‬
‫إل بالله«‪ ،‬استعانة بالله على الجابة إلى ما دعي إليه‪.‬‬
‫وهذه الجملة »ل حول ول قوة إل بالله« من أنواع الذكر التي‬
‫دلت السنة على عظم شأنها‪ ،‬كما جاء في الحــديث الصــحيح عــن‬
‫أبي موسى الشعري ‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال له‪» :‬أل أدلك على ك َن ْـ ٍ‬
‫ز‬
‫كنوز الجنة؟ فقلت‪ :‬بلى يا رسول الله‪ ،‬قــال‪ :‬قــل‪:‬ل حـول ول‬ ‫من ُ‬
‫قوة إل بالله«‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(6409‬ومسلم )‪ ،(2704‬وتقــدم‬
‫ذكر أوله‪» :‬إنكم ل تدعون أصم ول غائبــا«[ وذلــك لنهــا متضــمنة‬
‫لتوحيد الربوبية‪ ،‬ومتضمنة فقر العباد إلى الله فل مشــيئة لهــم ول‬
‫ن‬‫ه إِ ّ‬ ‫ن إ ِّل َأن ي َ َ‬
‫شــاء الل ّـ ُ‬ ‫شــا ُ‬
‫ؤو َ‬ ‫مــا ت َ َ‬
‫قدرة لهم إل أن يشاء اللــه‪} ،‬وَ َ‬
‫ما{]النسان‪ ،[30:‬وقد فسر الطحاوي ـ رحمه‬ ‫كي ً‬
‫ح ِ‬
‫ما َ‬
‫ن ع َِلي ً‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫الله ـ هذه الجملة العظيمة بعبارة حسنة‪ ،‬وذلك في قوله‪) :‬نقول‪:‬‬
‫ل حيلة لحد‪ ،‬ول حركة لحد‪ ،‬ول تحول لحد عــن معصــية اللــه إل‬
‫بمعونة الله‪ ،‬ول قوة لحد على إقامة طاعة الله والثبات عليهــا إل‬
‫بتوفيق الله(‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫]كل ما يجري في الكون بمشيئة الله[‬
‫وقوله‪) :‬وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضــائه‬
‫ل كَلهــا‪،‬‬ ‫ت كَلها‪ ،‬وغلب قضاؤه الحيـ َ‬ ‫وقدره‪ ،‬غلبت مشيئُته المشيئا ِ‬
‫حيــن‪،‬‬ ‫يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا‪ ،‬تقــدس عــن كــل ســوء و َ‬
‫م‬‫ل وَهُ ْ‬ ‫فعَ ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬
‫ل عَ ّ‬‫سأ َ ُ‬
‫شين‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬ل ي ُ ْ‬ ‫وتنزه عن كل عيب و َ‬
‫ي َ‬
‫ن ((]النبياء‪.( [23:‬‬ ‫سأُلو َ‬ ‫ُ ْ‬
‫هذا يتضمن المرتبة الثالثة من مراتب اليمان بالقدر‪ ،‬والمام‬
‫الطحاوي ـ رحمه الله ـ في هذه العقيــدة فــرق الكلم فــي القــدر‬
‫وأبدا فيه وأعاد‪ ،‬فقد مضى كلم كثير‪ ،‬ونصوص كثيرة من عباراته‬
‫تتضمن تقرير اليمان بالقدر‪ ،‬وما يوجبه هذا اليمــان ]ص و و و[ ‪،‬‬
‫ول شك أن اليمــان بالقــدر ــ وهــو الصــل الســادس مــن أصــول‬
‫اليمان ـ من الهمية بمكان‪ ،‬وقــد زلــت فيــه أقــدام‪ ،‬وضــلت فيــه‬
‫ل الســنة‬ ‫ق أه ـ َ‬ ‫أفهام‪ ،‬وتحير فيه المتحيرون‪ ،‬وهدى الله إلــى الح ـ ِ‬
‫والجماعة أهل الهدى والفلح‪ ،‬فهــم أســعد النــاس فــي كــل حــق‪،‬‬
‫وهم أسعد الناس بإصابة الصواب فــي هــذا البــاب‪ ،‬فهــم يؤمنــون‬
‫بأن مشيئة الله عامة‪ ،‬ل خروج لشيء عــن مشــيئته‪ ،‬فكــل شــيء‬
‫مــن الحــوادث والحركــات والســكنات العلويــة والســفلية‪ ،‬حركــة‬
‫الفلك والملئكة والجن والنس والجمادات‪ ،‬وكــل صــغير وكــبير؛‬
‫فهو يجري بمشيئته تعالى وقضائه وتقديره‪ ،‬يجــب أن نــؤمن بــأنه‬
‫قد سبق به علم الله القديم‪ ،‬وسبق بــه كتــابه الول‪ ،‬وجــرت فيــه‬
‫مشيئته‪ ،‬وهذا تحقيق كمال ملكه‪ ،‬فله الملك كله‪ ،‬ل خروج لشيء‬
‫ك‬ ‫مل ْـ ُ‬
‫ه ُ‬ ‫عــن ملكــه‪ ،‬فلــه التــدبير والتقــدير‪ ،‬ســبحانه وتعــالى‪ )) :‬ل َـ ُ‬
‫ض ((]البقرة‪ [107:‬وتجــد هــذا المعنــى ُيثنــى فــي‬ ‫َ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫وا ِ‬‫م َ‬‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫القرآن كثيرا‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وعلمه وقضائه وقدره(‪.‬‬
‫كل شيء يجري بمشيئته النافــذة الشــاملة )وعلمــه( القــديم‬
‫)وقضائه( النافذ )وقدره( أي‪ :‬تقــديره‪ ،‬الســابق‪ ،‬قــال النــبي ‪: ‬‬
‫در الله المقــادير قبــل أن يخلــق الســماوات والرض بخمســين‬ ‫)ق ّ‬
‫ألف سنة( ]تقدم في ص[‪.‬‬
‫ت كَلها‪ ،‬وغلب قضــاؤه الحيــ َ‬
‫ل‬ ‫وقوله‪) :‬غلبت مشيئُته المشيئا ِ‬
‫كَلها(‪.‬‬
‫مشيئة الله تعالى نافــذة وإن خالفتهــا مشــيئات الخلــق‪ ،‬فمــا‬
‫شاء الله كان وإن لم يشإ الخلق‪ ،‬وما شاءه العباد ل يكون إن لــم‬
‫يشإ الله‪ ،‬كما قال المام الشافعي ـ رحمه الله ـ‪:‬‬
‫ن لم تشأ لم‬ ‫تإ ْ‬ ‫وما شئ ُ‬ ‫ت كان وإن لم أشأ‬ ‫ما شئ َ‬
‫ن‬
‫يك ْ‬

‫‪205‬‬
‫ت ففي العلم ِ يجري الفتى‬ ‫ت العباد َ على ما علم َ‬ ‫خلق َ‬
‫والمسن‬
‫ت وذا لم ُتعن‬ ‫وهذا أعن َ‬ ‫ت‬‫ت وهذا خذل َ‬ ‫على ذا منن َ‬
‫ح ومنهم حسن‬ ‫ومنهم قبي ٌ‬ ‫ي ومنهم سعيد‬ ‫فمنهم شق ٌ‬
‫]شرح أصول اعتقاد أهل السنة ‪ ،4/777‬والسماء والصفات‬
‫ص ‪[171‬‬
‫وقضاؤه وحكمه نافذ غالب لحيل الخلق‪ ،‬كما في الدعاء عــن‬
‫ل في قضاؤك( ]تقــدم بلفــظ‪ :‬أســألك‬ ‫مك‪ ،‬عد ٌ‬ ‫ض في حك ُ‬ ‫النبي ‪) :‬ما ٍ‬
‫بكل اسم هو لك[ ومهما فعل الخلق ومهما دبروا؛ فلن يتــم لهــم شــيء‬
‫ن كان قضاء الله مخالفا له‪ ،‬ولن يمضي ولن يتــم إل حكــم اللــه‬ ‫إ ْ‬
‫وقضاؤه؛ لكن الخلق يقــدرون علــى فعــل الســباب‪ ،‬فالحيــل مـن‬
‫السباب‪ ،‬والنسان مأمور بفعل السباب والحيل التي توصل إلــى‬
‫ما أمر اللــه بــه أو أبــاحه لعبــاده؛ ولكــن هــذه الســباب محكومــة‬
‫بقضاء الله‪ ،‬ولن يتم بأي سبب وبأي حيلة أثر لي سبب أوحيلة إل‬
‫ما قضاه الله سبحانه‪ ،‬وفي وصايا النبي ‪ ‬لبن عباس رضي الله‬
‫عنهما‪) :‬واعلم أن المة لو اجتمعوا علــى أن ينفعــوك بشــيء لــن‬
‫ينفعوك إل بشيء قد كتبه الله لك‪ ،‬وإن اجتمعوا على أن يضــروك‬
‫بشيء لن يضروك إل بشــيء قــد كتبــه اللــه عليــك‪ ،‬جفــت القلم‬
‫وطويت الصحف(‪].‬تقدم[‬
‫دا(‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أب ً‬
‫يفعل سبحانه ما يشاء‪ ،‬فيعطي ويمنع‪ ،‬ويخفض ويرفــع‪ ،‬ويعــز‬
‫مــَر ((]يــونس‪،[3:‬‬ ‫َ‬
‫ويذل‪ ،‬ويهدي ويضل‪ ،‬ويحيي ويميت‪ )) ،‬ي ُد َب ُّر ال ْ‬
‫ن‬‫مـ ْ‬‫ب َ‬‫قد ُِر ((]الرعــد‪ ،[26:‬و)) ي ُعَ ـذ ّ ُ‬ ‫شاُء وَي َ ْ‬‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ط الّرْزقَ ل ِ َ‬‫س ُ‬ ‫)) ي َب ْ ُ‬
‫شاُء ((]العنكبوت‪ ،[21:‬كل ذلك جارٍ على وفــق‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬‫ح ُ‬
‫شاُء وَي َْر َ‬ ‫يَ َ‬
‫حكمته تعالى‪ ،‬فله الحكمة فــي كــل تــدبير‪ ،‬كمــا تقــدم فــي قــول‬
‫الطحاوي‪) :‬يهدي مــن يشــاء ويعصــم ويعــافي فضــل‪ ،‬ويضــل مــن‬
‫يشاء ويخذل ويبتلي عدل( ]ص[‪.‬‬
‫فهو يهدي من يشاء بفضله وحكمتــه‪ ،‬ويضــل ويخــذل ويبتلــي‬
‫من يشاء بعدله وحكمته‪ ،‬فالحكمة ثابتة في كل تــدبير‪ ،‬فهــو يضــع‬
‫فضله في مواضعه؛ لن الظلم‪ :‬وضع الشــيء فــي غيــر موضــعه‪،‬‬
‫والعدل‪ :‬وضع الشياء في مواضعها‪ ،‬فالله تعالى يضــع فضــله فــي‬
‫مواضعه حيث شاء على وفق الحكمة‪ ،‬خلفا لقول الجهميــة ومــن‬
‫تبعهم كالشاعرة‪ :‬إن كل ما يجري بمحض المشيئة دون أن تكون‬
‫له تعالى حكمة فــي هــذا التقــدير والتــدبير‪ ،‬وقــد تقــدم نحــو هــذا‬
‫المعنى‪] .‬ص[‬
‫المقصود‪ :‬أنه يجب اليمان بأن أفعاَله سبحانه وتعالى جاريــ ٌ‬
‫ة‬
‫على وفق العدل والحكمــة‪ ،‬فأفعــاله دائرة بيــن الفضــل والعــدل‪،‬‬

‫‪206‬‬
‫ك ب ِظ َّلم ٍ ل ِل ْعَِبي ـد ِ ((‬ ‫مــا َرب ّـ َ‬
‫والظلم مما يجب تنزيهه تعالى عنه )) وَ َ‬
‫َ‬
‫ه ل َ ي َظ ِْلــ ُ‬
‫م‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ما أَنا ب ِظ َّلم ٍ ل ِل ْعَِبيد ِ ((]ق‪) [29:‬إ ِ ّ‬ ‫]فصلت‪ )) ،[46:‬وَ َ‬
‫ل ذ َّرةٍ (]النساء‪[40:‬واليــات فــي تنزيهــه تعــالى عــن الظلــم‬ ‫قا َ‬
‫مث ْ َ‬
‫ِ‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫فل يعذب أحدا بغير ذنب‪ ،‬ول يعذب أحــدا بــذنب غيــره‪ ،‬وجــاء‬
‫ذب أهل ســماواته‬ ‫في الحديث عن النبي ‪ ) :‬لو أن الله تعالى ع ّ‬
‫وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم( ]تقدم تخريجه عند طرفه‪ :‬واعلــم‬
‫أن ما أصابك لم يكن ليخطئك[ فلن يعذبهم إل بما يقتضي تعــذيبهم‪ ،‬وهــو‬
‫قادر أن يعذب من شاء بغير ذنب‪ ،‬أو يعذب من شاء بذنب غيــره؛‬
‫لكنه ل يفعل ذلك لكمال عــدله ســبحانه‪ ،‬وقــد حــرم الظلــم علــى‬
‫نفسه كما في الحديث القدسي عن أبي ذر‪ ‬عن النبي ‪ :‬قال‪:‬‬
‫قال الله تعالى‪) :‬يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلتــه‬
‫بينكم محرما؛ فل تظاَلموا( ] رواه مسلم )‪ [(2577‬فهــو ل يظلــم‬
‫ول يرضى الظلم من أحد من العباد‪ ،‬ولذا حرمه علــى عبــاده فــي‬
‫شرائعه التي أنزلها على رسله‪.‬‬
‫حك ّــم‬ ‫وإذا عرض للنسان شــيء مــن الحــوادث فعليــه أن ل ي ُ َ‬
‫عقله الناقص‪ ،‬فكثير من الخلق لقصــور علمهــم وضــعف إيمــانهم‬
‫يعترضون في نفوسهم‪ ،‬أو يتكلمون بألسنتهم على تدبيره تعــالى‪،‬‬
‫دا ببلء ـ‪) :‬فلن واللــه مــا‬ ‫فتسمع بعضهم يقول ـ إذا ابتلى الله عب ً‬
‫يستاهل(‪ ،‬وهي عبارة مشهورة عند العامة‪ ،‬وهــي تعنــي‪ :‬أن اللــه‬
‫ابتلى هذا العبد‪ ،‬وهو ليـس أهل لهـذا‪ ،‬وهـذا اعــتراض علـى تـدبير‬
‫الرب؛ بل يجب اليمان بحكمــة الــرب فــي تــدبيره وكمــال عــدله‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬هذا أصل يجب العناية به علما وتفكيــرا وتقريــرا‪،‬‬
‫وهو اليمان بكمال عدل الرب سبحانه وتعــالى فــي خلقــه وأمــره‬
‫م كان كــذا؟‬ ‫م جرى كذا؟ ول ِ َ‬ ‫وجزائه‪ ،‬فل تعارض قدر الله بقولك‪ :‬ل ِ َ‬
‫فأي خاطر يتضمن العتراض على تدبير الله فيجب على المــؤمن‬
‫أن يدفعه بإيمانه بأن الله تعالى حكيم له الحكمة البالغة فــي كــل‬
‫تدبير وتقدير‪] .‬انظر‪ :‬كلما نفيسا في هذا المعنى لبن القيــم فــي‬
‫زاد المعاد ‪[3/235‬‬
‫حيــن‪ ،‬وتنــزه عــن كــل عيــب‬ ‫ســوء و َ‬ ‫وقوله‪) :‬تقدس عن كــل ُ‬
‫شين(‪.‬‬ ‫و َ‬
‫تقدس وتنزه‪ ،‬عبارتان بمعنى واحد‪ ،‬والشيخ الطحــاوي كــثيرا‬
‫ما ينوع ويتفنن في العبارات‪ ،‬وهذه المادة )تقدس( موجــودة فــي‬
‫س(]الحشــر‪ ،[23:‬وقــالت‬ ‫دو ُ‬ ‫قـ ّ‬ ‫القــرآن كــثيرا فاســمه تعــالى‪) :‬ال ْ ُ‬
‫ك ((]البقــرة‪[30:‬‬ ‫س ل َـ َ‬‫ك وَن ُقَ ـد ّ ُ‬ ‫م ـد ِ َ‬‫ح ْ‬
‫ح بِ َ‬
‫س ـب ّ ُ‬
‫ن نُ َ‬‫حـ ُ‬‫الملئكــة‪ )) :‬وَن َ ْ‬
‫فالتســبيح والتقــديس والتنزيــه كلهــا تــدل علــى نفــي المعــائب‪،‬‬

‫‪207‬‬
‫فالقدوس‪ :‬المنزه عن كل سوء وعيب‪ ،‬ومن عبارات السلف فــي‬
‫تفسير القدوس‪ :‬الطاهر‪] .‬تفسير الطبري ‪.[ 1/505‬‬
‫شين(‪.‬‬ ‫حين‪ ،‬وتنزه عن كل عيب و َ‬ ‫سوء و َ‬ ‫وقوله‪) :‬عن كل ُ‬
‫شين‪ ،‬عبارات كلهـا معناهــا‪ :‬المــور‬ ‫حين والعيب وال ّ‬ ‫السوء وال َ‬
‫المذمومة‪ ،‬فهو تعالى منزه عن كــل عيــب وســوء ووصــف قبيــح‪،‬‬
‫فهو منزه عن القبيح في أسمائه وصــفاته وأفعــاله‪ ،‬فلــه الســماء‬
‫الحسنى والصفات العل‪ ،‬وأفعاله كلها كمال‪ ،‬كما تقــدم ]ص[ فــي‬
‫الحديث في دعاء الستفتاح‪) :‬والشر ليــس إليــك( فهــو ل يضــاف‬
‫إلــى اللــه اســما ول صــفة ول فعل؛ لكــن الســوء والشــر والزيــن‬
‫والشين يوجد في مفعـولت اللـه ــ أي‪ :‬مخلوقـاته ــ‪ ،‬أمـا أفعـاله‬
‫تعالى فكلها عدل وحكمة‪ ،‬فخلقــه تعــالى للشــياء المتضــادة مــن‬
‫الحسن والقبيح والنافع والضار‪ ،‬والملئكــة والشــياطين‪ ،‬والصــحة‬
‫والمرض‪ ،‬والمــوت والحيــاة‪ ،‬كــل ذلــك علــى وفــق الحكمــة‪ ،‬فلــه‬
‫الحكمة البالغة في خلقه للضداد‪.‬‬
‫ومن حكمه ما بينــه لنــا تعــالى‪ ،‬ومنهــا مــا يظهــر لنــا بالتأمــل‬
‫والتدبر والتفكر‪ ،‬وما خفــي علينــا منهــا ــ وهــو الكثرـ ـ فعلينــا أن‬
‫نفوض ذلك إلى علمه ســبحانه‪ ،‬ونــؤمن بــأن لــه الحكمــة البالغــة‪،‬‬
‫مــا ً ((‬ ‫عل ْ َ‬ ‫ن ب ِهِ ِ‬ ‫طو َ‬‫حي ُ‬ ‫وتفاصيل ذلك ل تحيط به عقول العباد )) َول ي ُ ِ‬
‫]طه‪ [110:‬سبحانه وتعالى‪ ،‬فل نحيط بحكمته كما ل نحيــط علمــا‬
‫بمخلوقاته‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ((‬ ‫س ـأُلو َ‬ ‫م يُ ْ‬‫ل وَهُ ـ ْ‬‫فعَ ـ ُ‬ ‫مــا ي َ ْ‬‫ل عَ ّ‬‫سأ ُ‬ ‫وقوله‪) :‬قال تعالى‪ )) :‬ل ي ُ ْ‬
‫]النبياء‪.( [23:‬‬
‫ختــم الشــيخ هــذه العبــارات المتعلقــة بالقــدر بهــذه الجملــة‬
‫َ‬ ‫س ـأ َ ُ‬
‫ن ((‬ ‫س ـأُلو َ‬ ‫م يُ ْ‬‫ل وَهُـ ْ‬ ‫فعَـ ُ‬ ‫مــا ي َ ْ‬‫ل عَ ّ‬ ‫المقتبسة مــن القــرآن‪ )) :‬ل ي ُ ْ‬
‫]النبياء‪ ،[23:‬هذا مما وصف الله به نفســه‪ ،‬وتقــدم ]ص[ أن كــل‬
‫نفي يوصف الله به؛ فل بــد أن يتضــمن إثبــات كمــال‪ ،‬فل يوصــف‬
‫تعالى بـالنفي المحــض الــذي ل يتضـمن ثبــوت كمــال؛ لن النفــي‬
‫المحض ليس فيه مدح ول كمال‪ ،‬فمما وصف الله بــه نفســه مــن‬
‫النفي‪ :‬أنه ل ُيسأل عما يفعل‪ ،‬ل يتوجه إليه السؤال‪ ،‬وذلك لكمال‬
‫حكمته‪ ،‬وليس هذا لقــوته وقــدرته وســلطانه‪ ،‬فمــن كـان معروفــا‬
‫م كــان منــك كــذا؟ لنــه‬ ‫ت كذا؟ ول ِـ َ‬ ‫م فعل َ‬ ‫بكمال الحكمة ل يقال‪ :‬ل ِ َ‬
‫حكيم‪ ،‬وأما العباد فإن أقوالهم وأفعــالهم عرضــة للنقــص والخلــل‬
‫والعيب والنحراف فهم ُيســألون عــن أفعــالهم فــي الــدنيا بحكــم‬
‫َ‬
‫سـأل َن ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫ك ل َن َ ْ‬ ‫الشرع‪ ،‬وُيسألون فــي الخــرة‪ ،‬قــال تعــالى‪ )) :‬فَوََرب ّـ َ‬
‫َ‬
‫ن ((]الحجر‪ ،[93-92:‬وقــال النــبي ‪:‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ن * عَ ّ‬‫مِعي َ‬
‫ج َ‬
‫أ ْ‬
‫)ل تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفنــاه‪،‬‬
‫ل به‪ ،‬وعن ماله مــن أيــن اكتســبه وفيــم أنفقــه‪،‬‬ ‫وعن علمه ما َفع َ‬

‫‪208‬‬
‫وعن جسمه فيم أبله(‪] .‬رواه الدارمي )‪ ،(543‬وعنــه الترمــذي )‬
‫‪ (2417‬ـ وقال‪ :‬حسن صحيح ـ من حديث أبي برزة السلمي ‪،‬‬
‫وانظر‪ :‬السلسلة الصحيحة )‪[(946‬‬
‫م‬
‫فالعبــاد ُيســألون‪ ،‬أمــا اللــه تعــالى فل ُيســأل‪ ،‬فل ُيقــال‪ :‬ل ِـ َ‬
‫ت؟ على وجه العتراض‪ ،‬أما السؤال لمزيد المعرفة فل مــانع‬ ‫فعل َ‬
‫م شــرع اللــه كــذا؟‬ ‫منه كأن يقول النسان‪ :‬ما الحكمة في كذا؟ ل ِ َ‬
‫ليعرف الحكمة ل على وجه العتراض على التشريع والتدبير‪.‬‬
‫والملئكة لم يكن سؤالهم لربهم عندما قال سبحانه وتعــالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫ل ِفي ال َْر‬
‫سـد ُ ِفيهَــا‬‫ف ِ‬‫ن يُ ْ‬
‫مـ ْ‬‫ل ِفيَها َ‬ ‫ة َقاُلوا أت َ ْ‬
‫جعَ ُ‬ ‫ف ً‬‫خِلي َ‬‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫ع ٌ‬ ‫جا ِ‬‫)) إ ِّني َ‬
‫مــا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك َقا َ‬ ‫َ‬
‫سل َ‬ ‫مد ِ َ‬ ‫ف ُ‬
‫م َ‬ ‫ل إ ِّني أع ْل ُ‬ ‫قد ّ ُ‬ ‫ك وَن ُ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ح بِ َ‬‫سب ّ ُ‬
‫ن نُ َ‬ ‫ح ُ‬‫ماَء وَن َ ْ‬‫ك الد ّ َ‬ ‫س ِ‬ ‫وَي َ ْ‬
‫ن ((]البقرة‪ [30:‬على وجــه العــتراض علــى تــدبير اللــه‪،‬‬ ‫مو َ‬ ‫ل ت َعْل َ ُ‬
‫إنما تحيروا في معرفة الحكمة في خلق هذا المخلوق الذي يكون‬
‫ذكر من الفساد وسفك الدماء ‪.‬‬ ‫منه ما ُ‬

‫]انتفاع الموات بعمل الحياء[‬


‫وقوله‪) :‬وفي دعاء الحياء وصدقاتهم منفعة للموات(‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن المـــوات ينتفعـــون بـــدعاء الحيـــاء لهـــم بـــالمغفرة‬
‫والرحمــة ورفــع الــدرجات وتكفيــر الســيئات‪ ،‬وكــذلك ينتفعــون‬
‫بصدقات الحياء عنهم‪ ،‬فإذا تصدق الولد عــن والــديه أو عــن أحــد‬
‫من أقاربه؛ بل لو تصدق أجنبي عنه انتفع بذلك‪ ،‬وهــذا مــن فضــل‬
‫اللــه ســبحانه وتعــالى علــى عبــاده أن جعــل لمــن يمــوت مــن‬
‫المسلمين سببا في وصول الثواب والجر لهم؛ لنهم ينتفعــون بــه‬
‫في زيادة الجور ورفع الـدرجات وفـي النجــاة مـن العـذاب‪ ،‬وقــد‬
‫شرع الله الدعاء للموات وجوبا واستحبابا‪ ،‬فشرع الدعاء للميــت‬
‫وجوبا بالصلة عليه بعد موته‪ ،‬فالصلة على الميت فــرض كفايــة‪،‬‬
‫شرع الدعاء للموات عند زيارة القبور وعند دفن الميــت‪،‬‬ ‫وكذلك ُ‬
‫هــذه كلهــا مواضــع شــرع اللــه فيهــا الــدعاء لمــوات المســلمين‪،‬‬
‫والــدعاء والســتغفار للمــؤمنين والمؤمنــات مشــروع‪ ،‬للحيــاء‬
‫ن‬‫مِني َ‬‫مــــؤ ْ ِ‬ ‫ك وَل ِل ْ ُ‬‫فْر ل ِــــذ َن ْب ِ َ‬
‫ســــت َغْ ِ‬
‫والمــــوات‪ ،‬قــــال تعــــالى‪َ )) :‬وا ْ‬
‫فـْر ِلـي‬ ‫ت ((]محمد‪ ،[19:‬وفــي دعـاء النبيـاء‪َ )) :‬رب ّن َــا اغ ْ ِ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫َوال ْ ُ‬
‫ب ((]إبراهيم‪ [41:‬هذا دعــاءُ‬ ‫سا ُ‬‫ح َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫قو ُ‬‫م يَ ُ‬‫ن ي َوْ َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫وال ِد َيّ وَل ِل ْ ُ‬ ‫وَل ِ َ‬
‫ي‬ ‫خـ َ‬
‫ل ب َي ْت ِـ َ‬ ‫ن دَ َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫وال ِـد َيّ وَل ِ َ‬ ‫فْر ل ِــي وَل ِ َ‬ ‫ب اغ ْ ِ‬ ‫إبراهيم‪ ،‬ونوح قال‪َ )) :‬ر ّ‬
‫ت ((]نوح‪.[28:‬‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫مِني َ‬‫مؤ ْ ِ‬ ‫من َا ً وَل ِل ْ ُ‬‫مؤ ْ ِ‬ ‫ُ‬
‫وكذلك الصدقة‪ ،‬فقد ثبت في الصحيح أن سعد بن عبــادة ‪‬‬
‫توفيت أمه وهو غائب عنها‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله إن أمــي تــوفيت‬
‫ن تصــدقت بــه عنهــا؟ قــال‪ :‬نعــم‪،‬‬ ‫وأنا غائب عنها‪ ،‬أينفعها شــيء إ ْ‬

‫‪209‬‬
‫ة عليهــا(‪] .‬رواه‬ ‫ف صــدق ٌ‬ ‫خ ـَرا َ‬ ‫ن حــائطي ال ْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫قال‪ :‬فــإني أشــهدك أ ّ‬
‫البخاري )‪[(2762‬‬
‫واتفق أهل السنة علــى أن المــوات ينتفعــون بــدعاء الحيــاء‬
‫وبالصــدقة عنهــم‪] ،‬التمهيــد ‪ ،20/27‬ومجمــوع الفتــاوى ‪7/498‬و‬
‫فــق عنــه‬‫‪24/306‬و ‪ ،366‬والروح ص ‪ [190‬سواء كان المال المن َ‬
‫صــدقة علــى فقيــر‪ ،‬أو قضــاء ديــن عــن معســر‪ ،‬أو النفــاق علــى‬
‫أعمال الخير؛ كتعليم القرآن‪.‬‬
‫واقتصــر الطحــاوي علــى )دعــاء الحيــاء وصــدقاتهم (؛ لنــه‬
‫مذهب أبي حنيفة‪ ،‬أو أنه قصد ما اتفــق عليــه أهــل الســنة اتفاقــا‬
‫تاما‪.‬‬
‫وكذلك الحج ـ أيضا ـ مما اتفق أهل السنة على وصول ثــوابه‬
‫ضوب ]العــاجز‬ ‫إلى الميت وانتفاعه به؛ بل والحج عن الحي اْلـــ َ‬
‫معْ ُ‬
‫ض ل ُيرجى برؤه‪ .‬القناع ‪[ 1/543‬‬ ‫عن الحج لك ِب ِرٍ أو َزمانةٍ أو مر ٍ‬
‫فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهمــا‪ ،‬قــال ‪:‬‬
‫م عام حجة الوداع‪ ،‬قالت‪ :‬يــا رســول اللــه‪،‬‬ ‫خث ْعَ َ‬
‫»جاءت امرأة من َ‬
‫إن فريضة الله على عباده في الحــج أدركــت أبــي شــيخا كــبيرا ل‬
‫يستطيع أن يستوي على الراحلة‪ ،‬فهل يقضي عنه أن أحــج عنــه؟‬
‫قال‪ :‬نعم(‪] .‬البخاري )‪ ،(1854‬ومسلم )‪ ، [(1335‬وفي الصحيح‬
‫ن امــرأة مــن جهينــة جــاءت إلــى النــبي ‪‬‬ ‫عنه ـ أيضــا ــ ‪ ) : ‬أ ّ‬
‫فقالت‪ :‬إن أمي نذرت أن تحج‪ ،‬فلم تحج حتى ماتت‪ ،‬أفأحج عنها؟‬
‫ت‬‫قال‪» :‬نعم حجــي عنهــا‪ ،‬أرأيــت لــو كــان علــى أمــك ديــن‪ ،‬أكن ـ ِ‬
‫ة؟ اقضوا الله‪ ،‬فالله أحق بالوفاء«‪] .‬البخاري )‪[(1852‬‬ ‫قاضي ً‬
‫وعنــه ـ ـ أيضــا ـ ـ أن النــبي ‪ ‬ســمع رجل يقــول‪ :‬لبيــك عــن‬
‫مــن شــبرمة؟ قــال‪ :‬أخ لــي أو قريــب لــي‪ ،‬قــال‪:‬‬ ‫شــبرمة‪ ،‬قــال‪َ :‬‬
‫حججت عن نفسك؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬حج عــن نفســك‪ ،‬ثــم حــج عــن‬
‫شبرمة(‪].‬رواه أبو داود )‪ ،(1811‬وابــن مــاجه )‪ ،(2903‬وصــححه‬
‫ابن خزيمة )‪ ،(3039‬وابن حبــان )‪ (3988‬والــبيهقي فــي الكــبرى‬
‫‪ ،4/336‬وانظر‪ :‬تنقيــح التحقيــق ‪ ،3/392‬ونصــب الرايــة ‪،3/155‬‬
‫والتلخيص الحبير ‪[4/1511‬‬
‫وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة‪ :‬إنما يصل للميــت‬
‫ثواب النفقة‪ ،‬أما ثواب الحج فهو للحاج‪].‬بدائع الصنائع ‪[2/455‬‬
‫وهذا خلف ظاهر الدلة؛ لن قوله ‪ ‬للخثعمية حيــن قــالت‪:‬‬
‫فهل يقضي عنه أن أحج عنه‪ ،‬قال‪ » :‬نعم«‪ ،‬وقوله ‪ ‬للجهنية‪» :‬‬
‫حجــي عنهــا «‪ ،‬وقــوله ‪» :‬حـج عــن شــبرمة« ظــاهره الطلق‪،‬‬
‫وصحة الحج عنه‪ ،‬وأن الثواب للمحجوج عنه‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫ثم بعــد ذلــك اختلــف العلمــاء فــي ســائر العبــادات‪ ،‬كالصــلة‬
‫والصيام وتلوة القرآن والذكر‪ ،‬هـل يصــل ثوابهــا إلـى الميــت‪ ،‬إذا‬
‫عملها الحي عنه؟‬
‫أكثر أهل العلم على أن هذه العبادات يصل ثوابها فينتفــع بهــا‬
‫الميت؛ بل توسع بعــض أهــل العلــم‪ ،‬وقــالوا‪ :‬إن أي قربــة يفعلهــا‬
‫النسان عن الحي أو الميت؛ فإن ذلك يصل إليه‪ ،‬كما في نص زاد‬
‫ت مســلم أو حــي‬ ‫المستقنع‪ » :‬وأيّ قربةٍ فعلها وجعل ثوابهــا لمي ـ ٍ‬
‫نفعه ذلك« ]ص ‪ .[72‬وهذا توسع كبير‪.‬‬
‫والذي يعنينا في هذا المقام انتفــاع المــوات بســعي الحيــاء‪،‬‬
‫فأكثر العلماء على أن الموات ينتفعون بهذه العبادات‪ ،‬فإذا صــام‬
‫أو صلى عن الميت ولو تطوعا‪ ،‬أو قرأ قرآنا‪ ،‬أو سّبح وهّلل وكب ّــر‪،‬‬
‫يريد أن يكـون ذلــك عـن الميـت؛ فــإنه ينفعـه ذلــك‪ ،‬قياســا لهــذه‬
‫العبادات على ما وردت به النصوص‪ ،‬وهؤلء ل فــرق عنــدهم بيــن‬
‫فرض ونفل أو نذر‪ ،‬فينتفع الميت بها جميعا‪.‬‬
‫وفي هذا تفصيل؛ فأمـا الصـيام فقـد ثبــت فـي الصـحيح عــن‬
‫النــبي ‪ ‬أنــه قــال‪) :‬مــن مــات وعليــه صــيام صــام عنــه وليــه(‪.‬‬
‫]البخاري )‪ ،(1952‬ومسلم )‪ (1147‬عائشة ‪[‬‬
‫وهنا اختلف أهل العلم على مذاهب‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬ل ُيصام‬
‫عن الميت مطلقا‪ ،‬وإنما ُيطعم عنه عمل بما صح عن ابــن عبــاس‬
‫رضي الله عنهما أنه قال‪) :‬ل يصلي أحد عن أحد‪ ،‬ول يصــوم أحــد‬
‫مــدا مــن حنطــة( ] رواه‬ ‫عن أحد‪ ،‬ولكن يطعم عنه مكان كل يوم ُ‬
‫النسائي في الكــبرى )‪ (2918‬وصــححه ابــن حجــر فــي التلخيــص‬
‫الحبير ‪ ،3/1464‬وانظر‪ :‬نصب الراية ‪[2/463‬‬
‫وهذه النصوص ربما أجابوا عنها بالنسخ‪ ،‬ول شك أن هذا الثر‬
‫ل يقــاوم النصــوص الصــحيحة الصــريحة‪ ،‬والمشــهور عــن المــام‬
‫أحمد‪ :‬أنه ُيصـام عـن الميـت النـذر خاصـة‪ ،‬أمـا الفـرض؛ كقضـاِء‬
‫ت؛ ككفارة القتــل فل تصــام عــن الميــت‪ ،‬وإنمــا‬ ‫رمضان‪ ،‬والكفارا ِ‬
‫ُيطعــم عنــه ]ســنن أبــي داود )‪ ،(2400‬والمغنــي ‪ ،4/398‬وإعلم‬
‫الموقعين ‪ 4/390‬وتهذيب السنن ‪ [ 3/279‬على ما جاء فــي أثــر‬
‫ابن عباس رضي الله عنهما‪ ،‬ولكن الحديث لفظه عام‪» :‬من مات‬
‫وعليه صيام صام عنه وليه«‪.‬‬
‫وإذا كــان ســبب الحــديث هــو الســؤال عــن صــوم النــذر؛‬
‫فـ»العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب«‪.‬‬
‫وأما الصلة وتلوة القرآن والذكر؛ فلم يرد فيهــا شــيء‪ ،‬إنمــا‬
‫عمدة من قال بوصول ثوابها وجواز فعلها عن الميت هــو قياســها‬
‫على ما ورد في النصوص من الحج والصيام‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫وأهل السنة في جملة هذه القضية طرفــان ووســط؛ فمنهــم‬
‫ب‪.‬‬ ‫قَر ِ‬ ‫من يرى جواز إهداء جميع ال ُ‬
‫والذي دلت عليه النصوص ليس إهداء الثــواب؛ بــل هــو فعــل‬
‫العبادات عن الغير‪ ،‬وهذا ل بد فيه من نية فعل العبادة عــن الغيــر‬
‫عند ابتداء العمل؛ كالحج عن المغضــوب والميــت‪ ،‬كمــا نبــه علــى‬
‫ذلك ابن القيم ]الروح ص ‪ ، [212‬فليس الوارد أن النسان بعدما‬
‫يحج يقول‪ :‬اللهم اجعل ثواب حجتي هذه لفلن‪ ،‬أو بعدما يتصــدق‬
‫يقول‪ :‬اللهم اجعل ثواب هــذه الصــدقة لفلن‪ ،‬أو يصــوم يومــا ثــم‬
‫يقول‪ :‬اللهم اجعل ثواب صومي هذا لفلن؛ بل مــن أصــل العمــل‬
‫من يريد الحسان إليه‪.‬‬ ‫ينوي فعله ع ّ‬
‫ثم إن العامل إذا عمل ل يعلم هل ك ُِتب له ثواب عنــد اللــه أو‬
‫ل‪ ،‬فكيف يقول‪ :‬اللهم اجعل ثواب هذا العمل لفلن؟!‬
‫لكن الفقهاء لعلهم نظروا إلى أن المقصود من فعــل العبــادة‬
‫عن الميت هو نفع الميت بما يترتب على ذلك من ثواب‪.‬‬
‫ومنهم مــن قصــر ذلــك علــى الــدعاء والصــدقة والحــج علــى‬
‫خلف‪.‬‬
‫وأظهر هذه المذاهب هو الوقوف عند ما ورد‪ ،‬فنقــول‪ :‬ينتفــع‬
‫الميت بدعاء الحي‪ ،‬وهذا محــل إجمــاع‪ ،‬وكــذلك الصــدقة والحــج‪،‬‬
‫ولسيما الحج الواجب‪ ،‬هــذا ل كلم فــي وصــوله‪ ،‬وكــذلك الصــوم‬
‫الواجب »من مات وعليه صــيام صــام عنــه وليــه«‪ ،‬وكــذا إذا نــذر‬
‫ص بما نذر؛ فإن الدلة تدل‬ ‫النسان عبادة ً ثم أدركه الموت ولم يو ِ‬
‫على فعلها عنه كالــدين؛ فالنــذر ديــن والــتزام مــن المكلــف‪ ،‬ومــا‬
‫ســوى ذلــك؛ فــإن إلحــاقه بمــا وردت فيــه النصــوص محــل نظــر‬
‫واجتهاد‪.‬‬
‫وفي مقابل مذهب أهل السنة والجماعة الذي قصد المؤلــف‬
‫التنبيه عليه‪ ،‬قول المبتدعة‪ :‬إن الميت ل ينتفع بشــيء مــن ســعي‬
‫الحياء‪ ،‬حتى قيل عن بعضهم‪ :‬ل ينتفع بشــيء مــن ســعي الحيــاء‬
‫ول الدعاء‪.‬‬
‫ول شك أن هذا باطل ومن شبهاتهم استدللهم بقوله سبحانه‬
‫َ‬
‫سـَعى ((]النجــم‪ ،[39:‬وقــوله‬ ‫ما َ‬ ‫ن إ ِّل َ‬ ‫سا ِ‬
‫لن َ‬‫س لِ ِ‬ ‫ن ل َي ْ َ‬
‫وتعالى‪ )) :‬وَأ ْ‬
‫ن ((]يــس‪[54:‬‬ ‫مل ُــو َ‬
‫م ت َعْ َ‬ ‫مــا ُ‬
‫كنت ُـ ْ‬ ‫ن إ ِّل َ‬ ‫جـَزوْ َ‬‫سبحانه وتعالى‪َ )) :‬ول ت ُ ْ‬
‫ن ((‬‫مل ُــو َ‬
‫م ت َعْ َ‬ ‫مــا ُ‬
‫كنت ُـ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫جـَزوْ َ‬ ‫مــا ت ُ ْ‬‫ونظائرها في القــرآن كــثير‪ )) :‬إ ِن ّ َ‬
‫]الطور‪ [16:‬أي‪ :‬ما تجزون إل ما كنتم تعملون‪ ،‬ومن أدلتهم قــول‬
‫‪) :‬إذا مــات النســان انقطــع عنــه عملــه إل مــن ثلثــة‪ :‬إل مــن‬
‫صدقة جاريــة‪ ،‬أو علــم ينتفــع بــه‪ ،‬أو ولــد صــالح يــدعو لــه(‪].‬رواه‬
‫مسلم )‪ (1631‬من حديث أبي هريرة ‪[‬‬

‫‪212‬‬
‫وأجيب عن استدللت القائلين بعدم انتفــاع المــوات بســعي‬
‫الحياء‪ ،‬أما الــدعاء فمعلــوم بالضــرورة مــن ديــن الســلم انتفــاع‬
‫الميت بالصلة عليه‪ ،‬والمقصود من الصلة على الميت هو الدعاء‬
‫له‪ ،‬هذا ركنها العظم‪ ،‬وكذلك الدعاء لهم عند زيارة القبــور ]رواه‬
‫مسلم )‪ (975‬من حــديث بريــدة ‪ ،‬وتقــدم فــي ص ‪ :‬اســتغفروا‬
‫لخيكــم[‪ ،‬وكــذلك انتفــاعهم بالصــدقة كمــا تقــدم ]ص[‪ ،‬فقــولهم‬
‫مردود بهذه النصوص‪.‬‬
‫َ‬
‫سـَعى ((]النجــم‪[39:‬‬ ‫مــا َ‬ ‫ن إ ِّل َ‬‫ســا ِ‬ ‫لن َ‬
‫س لِ ِ‬ ‫ن ل َي ْ َ‬ ‫وأما الية‪ )) :‬وَأ ْ‬
‫فأجيب عنهــا بأجوبــة‪ ،‬قــال شــارح الطحاويــة ابــن أبــي العــز ]ص‬
‫‪ :[669‬إن أصحها جوابان‪:‬‬
‫الول‪» :‬أن النســـان بســـعيه وحســـن عشـــرته اكتســـب‬
‫الصدقاء ‪ ،‬وأولد الولد ‪ ،‬ونكح الزواج ‪ ،‬وأسدى الخير وتودد إلــى‬
‫الناس ‪ ،‬فترحموا عليه ‪ ،‬ودعوا له ‪ ،‬وأهــدوا لــه ثــواب الطاعــات ‪،‬‬
‫فكان ذلك أثر سعيه ‪ ،‬بل دخول المسلم مع جملة المسلمين فــي‬
‫عقــد الســلم مــن أعظــم الســباب فــي وصــول نفــع كــل مــن‬
‫المسلمين إلى صاحبه ‪ ،‬في حياته وبعد مماته«‪] .‬نقل ابــن القيــم‬
‫في الروح ص ‪ 205‬هذا الجواب عن ابن عقيل[‬
‫وأظهر من هذا هو الجواب الثاني‪ :‬وهو أن المنفي فــي اليــة‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫هو ملك النسان لسعي غيره‪ ،‬فالنسان ل يملك إل عمله‪ )) ،‬وَأ ْ‬
‫سا ً إ ِّل‬
‫ف َ‬ ‫ف الل ّ ُ‬
‫ه نَ ْ‬ ‫سَعى ((]النجم‪ )) ،[39:‬ل ي ُك َل ّ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن إ ِّل َ‬‫سا ِ‬‫لن َ‬‫س لِ ِ‬‫ل َي ْ َ‬
‫ت ((]البقــرة‪ [286:‬فليــس‬ ‫ما اك ْت َ َ‬
‫س ـب َ ْ‬ ‫ت وَع َل َي َْها َ‬ ‫ما ك َ َ‬
‫سب َ ْ‬ ‫سعََها ل ََها َ‬
‫وُ ْ‬
‫للنسان إل عمله‪ ،‬وليس له عمل غيره‪ ،‬ونفي اســتحقاق النســان‬
‫لعمل غيره ل يستلزم نفي انتفاعه بعمــل غيــره إذا فعلــه عنــه أو‬
‫أهدى ثوابه له‪ ،‬كما يقال‪ :‬ليس للنسان إل ماله‪ ،‬أما أموال الناس‬
‫فليست له‪ ،‬ول يلزم من نفي ملكه لمال غيــره نفــي النتفــاع بــه‪،‬‬
‫فيمكــن أن يهــديه‪ ،‬أو أن يتصــدق عليــه‪ ،‬أو ينتفــع بــه بــوجه مــن‬
‫الوجوه‪ ،‬فالنتفاع أعم من الملك‪ ،‬فل يلزم من نفــي الملــك نفــي‬
‫النتفاع‪ ،‬وهذا جواب سديد قريب بّين ]ذكر ابن القيــم معنــى هــذا‬
‫الجــواب فــي الــروح ص‪ 206‬وقــال‪ :‬وكــان شــيخنا يختــار هــذه‬
‫الطريقة ويرجحها‪ ،‬وانظر‪ :‬مجموع الفتـاوى ‪ ،[24/312‬كمــا دلـت‬
‫على ذلك هذه النصوص‪ ،‬الصــدقة عــن الميــت‪ ،‬والصــوم الــواجب‬
‫عن الميت‪ ،‬والحج عن الميت‪ ،‬والدعاء؛ بل وقضاء الدين‪ ،‬كما في‬
‫حديث أبي قتادة ‪ ‬عندما ضمن الدين عن الميت؛ فبرئت ذمتــه‪،‬‬
‫وصلى عليه النبي ‪] .‬رواه البخاري )‪ (2289‬مــن حــديث ســلمة‬
‫بن الكوع ‪[ ‬‬
‫ن ((]يــس‪:‬‬ ‫مل ُــو َ‬
‫م ت َعْ َ‬ ‫ما ُ‬
‫كنت ُـ ْ‬ ‫ن إ ِّل َ‬ ‫جَزوْ َ‬ ‫وأما قوله تعالى‪َ )) :‬ول ت ُ ْ‬
‫‪ [54‬وأشباهها من القرآن فيقال فيها ما قيل في الية التي قبلها‪:‬‬

‫‪213‬‬
‫إن النسان ل ُيجزى إل بعمله‪ ،‬هذا الذي يستحقه بوعد اللـه‪ ،‬وهـو‬
‫ل ينفي أن ينتفع بعمل غيره إذا أهداه إليه‪ ،‬وتصدق به عليه‪.‬‬
‫وأولى من هذا الجــواب بالنســبة لهــذه اليــة‪ :‬أن يقــال‪ :‬هــذه‬
‫اليات إذا تأملنا القرآن نجد أن كل ما ورد فيه بهذا المعنى يختص‬
‫ن‬ ‫ش ـي ْئ َا ً َول ت ُ ْ‬
‫ج ـَزوْ َ‬ ‫س َ‬
‫فـ ٌ‬
‫م نَ ْ‬‫م ل ت ُظ ْل َ ُ‬
‫بالجزاء على السيئات‪َ )) :‬فال ْي َوْ َ‬
‫َ‬
‫واءٌ‬ ‫سـ َ‬
‫ص ـب ُِروا َ‬ ‫ن ((]يس‪َ )) ،[54:‬فا ْ‬
‫ص ـب ُِروا أوْ ل ت َ ْ‬ ‫مُلو َ‬‫م ت َعْ َ‬‫كنت ُ ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫إ ِّل َ‬
‫ن ((]الطــور‪ [16:‬وهــذا المعنــى‬ ‫مُلو َ‬
‫م ت َعْ َ‬ ‫ما ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫جَزوْ َ‬‫ما ت ُ ْ‬‫م إ ِن ّ َ‬‫ع َل َي ْك ُ ْ‬
‫في القرآن كثير‪ ،‬فيكون موافقا لقوله ســبحانه‪َ )) :‬ول َتــزُِر َوازَِرةٌ‬
‫خــَرى ((]النعــام‪ ،[164:‬فالنســان ل يعــاقب إل بــذنبه‪ ،‬ل‬ ‫وِْزَر أ ُ ْ‬
‫يعاقب بذنب غيره‪.‬‬
‫ومسألة انتفاع الموات بسعي الحياء ذكرهـا ابـن القيـم فـي‬
‫كتابه »الروح« ]ص ‪ [226-190‬وبسط القول فيهــا‪ ،‬وذكــر أقــوال‬
‫الناس‪ ،‬وما ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية هو ملخص من‬
‫ذلك الكتاب‪ ،‬وذهب ابن القيم‪ ،‬فيــه إلــى القــول بانتفــاع المــوات‬
‫بسعي الحياء مطلقا‪ ،‬وعلى هذا فمــن أخــذ بهــذا عــن اجتهــاد‪ ،‬أو‬
‫تقليد لمن يذهب إلى ذلك؛ فل شيء عليه‪.‬‬

‫]إجابة الله لدعاء عباده[‬


‫وقوله‪) :‬والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات(‪.‬‬
‫قوله‪) :‬ويقضي الحاجات( عطف هذا على ما قبله من عطف‬
‫الخاص على العام‪ ،‬فاستجابة الدعوات أعم من قضــاء الحاجــات‪،‬‬
‫ب‬‫جيـ ُ‬
‫ُ‬
‫بأ ِ‬ ‫عب َــاِدي ع َن ّــي فَـإ ِّني قَ ِ‬
‫ريـ ٌ‬ ‫ك ِ‬ ‫سـأ َل َ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫قال الله تعــالى‪ )) :‬وَإ ِ َ‬
‫ن ((]البقـرة‪ ،[186:‬وقـال سـبحانه وتعـالى‪:‬‬ ‫عـا ِ‬ ‫ذا د َ َ‬ ‫داِع إ ِ َ‬ ‫عـوَة َ الـ ّ‬ ‫دَ ْ‬
‫َ‬
‫م ((]غافر‪ ،[60:‬وقال تعالى‪)) :‬‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫ج ْ‬ ‫ست َ ِ‬
‫عوِني أ ْ‬ ‫م اد ْ ُ‬ ‫ل َرب ّك ُ ُ‬ ‫)) وََقا َ‬
‫مض ـط َّر إ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ســوَء ((]النمــل‪،[62:‬‬ ‫ف ال ّ‬ ‫شـ ُ‬ ‫ذا د َع َــاه ُ وَي َك ْ ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫جي ـ ُ‬ ‫ن يُ ِ‬‫مـ ْ‬‫أ ّ‬
‫وأخبر سبحانه وتعالى أنه أجاب دعاء النبياء؛ كأيوب‪ ،‬قال تعــالى‪:‬‬
‫ضّر ((]النبياء‪ ،[84:‬وذي النون‪،‬‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ب ِهِ ِ‬ ‫فَنا َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ه فَك َ َ‬ ‫جب َْنا ل َ ُ‬ ‫ست َ َ‬‫)) َفا ْ‬
‫م ((]النبيـاء‪،[88:‬‬ ‫ن ال ْغَـ ّ‬‫مـ َ‬ ‫جي َْنـاه ُ ِ‬ ‫ه وَن َ ّ‬‫جب َْنا َلـ ُ‬ ‫سـت َ َ‬ ‫قال تعــالى‪َ )) :‬فا ْ‬
‫حي َــى ((]النبيــاء‪:‬‬
‫ه يَ ْ‬‫ه وَوَهَب ْن َــا ل َـ ُ‬ ‫جب َْنا ل َـ ُ‬ ‫ست َ َ‬ ‫وزكريا‪ ،‬قال تعالى‪َ )) :‬فا ْ‬
‫‪ ،[90‬وهو يقضي الحاجات سبحانه وتعالى؛ لن الخيــر كلــه بيــده‪،‬‬
‫فمن كانت له حاجــة؛ كشــفاء مريــض‪ ،‬أو تيســير عســير‪ ،‬أو زوال‬
‫فقر‪ ،‬أو رد غائب‪ ،‬أو غيرها؛ فلينزلها بربه ول ينزلها بــالخلق‪ ،‬فقــد‬
‫جاء في أنس ‪ ‬عن النبي ‪ »: ‬ليسأل أحدكم ربــه حــاجته كلهــا‬
‫سعَ ن َْعله إذا انقطع« ]رواه الترمذي )‪)3604‬م‪ ((8‬ـــ‬ ‫ش ْ‬ ‫حتى يسأل ِ‬
‫وقال‪ :‬حديث غريب‪ ،‬وروى غير واحد هذا الحديث عــن جعفــر بــن‬
‫سليمان عن ثابت البناني عن النبي ‪ ،‬ولم يذكروا فيه عن أنــس‬
‫ـ ثم ذكره من رواية ثابت مرسلـ وقال‪ :‬هذا أصح ـ ‪ ،‬وابن حبان )‬

‫‪214‬‬
‫‪(866‬و)‪ ،(894‬والضياء في المختارة ‪5/9‬و‪ ،10‬وانظر‪ :‬السلســلة‬
‫الضعيفة )‪.[(1362‬‬
‫فل تحقر المور الصــغيرة وتجعــل دعــاءك فقــط فــي المــور‬
‫الكبيرة؛ لكن قل‪» :‬اللهم أصــلح لــي شــأني كلــه«‪ ،‬فينبغــي علــى‬
‫المسلم أن يدعو ربه بقلبــه ولسـانه‪ ،‬ويعتمـد فــي قضــاء حـوائجه‬
‫عليــه‪ ،‬ول يعتمــد علــى الســباب؛ بــل يعتمــد علــى ربــه ويــدعوه‪،‬‬
‫فالدعاء أعظم السباب؛ لنه التجاٌء إلــى اللــه فــي جلــب المنــافع‬
‫ودفع المضار‪ ،‬فهو ينفع فــي رفــع البلء وفــي دفعــه‪ ،‬وهــذا ديــدن‬
‫الخلق كلهم‪ ،‬حتى الكفار يدعون اللــه‪ ،‬كمـا أخــبر ســبحانه عنهــم‪،‬‬
‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫صي َ‬‫خل ِ ِ‬‫م ْ‬‫ه ُ‬‫وا الل ّ َ‬ ‫ذا َرك ُِبوا ِفي ال ْفُل ْ ِ‬
‫ك د َع َ ُ‬ ‫لسيما في الشدة‪ )) :‬فَإ ِ َ‬
‫ن ((]العنكبوت‪ ،[65:‬ومتى وقع المخلوق في ضرورة؛ فــإنه ل‬ ‫دي َ‬
‫ال ّ‬
‫بد أن يلجأ إلى الله‪ ،‬إل مــن فســدت فطرتــه واســتحكم فســادها؛‬
‫فإنه تنقطع صلته بربه‪.‬‬
‫ب إلى‬ ‫وذكر الشارح ابن أبي العز عن ابن عقيل‪» :‬أن الله ن َد َ َ‬
‫ن‪:‬‬ ‫الدعاء‪ ،‬وفي ذلك معا ٍ‬
‫أحدها ‪ :‬الوجود ‪ ،‬فإن من ليس بموجود ل يدعى ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬الغنى ‪ ،‬فإن الفقير ل يدعى ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬السمع؛ فإن الصم ل يدعى ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬الكرم؛ فإن البخيل ل يدعى ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬الرحمة؛ فإن القاسي ل يدعى ‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬القدرة؛ فإن العاجز ل يدعى« ]ص‪.[678‬‬
‫فكلها تدخل فــي اليمــان بــالله‪ ،‬فــدعاء العبــد لربــه يتضــمن‬
‫اليمان بأنه ســميع قــدير غنــي كريــم رحيــم‪ ،‬فينبغــي للــداعي أن‬
‫يستحضر هذا‪.‬‬
‫والدعاء كغيره من الســباب ل بــد لحصــول أثــره مــن تــوافر‬
‫الشروط وانتفاء الموانع ؛ فــإن كــل الســباب الكونيــة والشــرعية‬
‫يتوقف أثرها على وجود الشروط وانتفاء الموانع‪.‬‬
‫فل بد في الــدعاء مــن اليمــان بــالله والخلص لــه‪ ،‬والتوكــل‬
‫عليه سبحانه وتعالى‪ ،‬بحيــث يــدعو النســان وهــو مــوقن بالجابــة‬
‫طامع في فضل الله‪.‬‬
‫ومن موانع الجابة مــا جــاء فــي الحــديث عــن النــبي ‪» :‬ل‬
‫يــزال يســتجاب للعبــد مــا لــم يــدع بــإثم أو قطيعــة رحــم مــا لــم‬
‫يستعجل‪ ،‬قيل‪ :‬يا رســول اللــه مــا الســتعجال؟ قــال‪ :‬يقــول‪ :‬قــد‬
‫دعوت‪ ،‬وقد دعــوت‪ ،‬فلــم أر يســتجيب لــي فيستحســر عنــد ذلـك‬
‫ويدع الدعاء«‪] .‬رواه البخاري)‪ ،(6340‬ومسلم )‪ (2735‬ـ واللفظ‬
‫له ـ من حديث أبي هريرة ‪ ،[‬وما جــاء فــي مســلم مــن حــديث‬
‫ث‬‫ش ـعَ َ‬‫ل يطيــل الســفر أ ْ‬ ‫أبي هريرة عن النبي ‪ ‬أنه » ذكر الرج ـ َ‬

‫‪215‬‬
‫م‪،‬‬‫ب‪ ،‬ومطعمــه حــرا ٌ‬ ‫ب يــا ر ّ‬ ‫أغ َب َـَر يم ـد ُ يــديه إلــى الســماء‪ :‬يــا ر ّ‬
‫م‪ ،‬وغ ُـذ ِيَ بــالحرام فــأنى يســتجاب‬ ‫م‪ ،‬وملبســه حــرا ٌ‬ ‫ومشربه حرا ٌ‬
‫لذلك« ]مسلم )‪ [(1015‬ومن الموانع كذلك العتداء‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ن{]العراف‪،[55:‬‬ ‫دي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫معْت َ ِ‬ ‫ح ّ‬‫ه ل َ يُ ِ‬‫ة إ ِن ّ ُ‬
‫في َ ً‬
‫خ ْ‬
‫عا وَ ُ‬
‫ضّر ً‬
‫م تَ َ‬‫عوا ْ َرب ّك ُ ْ‬
‫}اد ْ ُ‬
‫وفي الحديث‪ :‬أن عبد الله بن مغفل ‪ ‬ســمع ابنــه يقــول‪ :‬اللهــم‬
‫ي‬
‫إني أسألك القصر البيض عن يمين الجنــة إذا دخلتهــا‪ ،‬فقــال‪ :‬أ ْ‬
‫ة‪ ،‬وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول اللــه‬ ‫ه الجن َ‬‫ل الل َ‬ ‫يس ِ‬ ‫ب ُن َ ّ‬
‫‪ ‬يقول‪» :‬إنه سيكون في هذه المة قــوم يعتــدون فــي الطهــور‬
‫والدعاء«‪] .‬رواه أحمد ‪ ،4/87‬وأبو داود )‪ (96‬وابن حبان )‪6763‬و‬
‫‪ ،(6764‬والحاكم ‪[1/540‬‬
‫وفي الحديث الصـحيح‪ :‬أن النـبي ‪ ‬قـال‪ » :‬مـا مـن مسـلم‬
‫يدعو بدعوة ليس فيهــا إثــم ول قطيعــة رحــم إل أعطــاه اللــه بهــا‬
‫إحــدى ثلث‪ :‬إمــا أن تعجــل لــه دعــوته‪ ،‬وإمــا أن يـدخرها لــه فــي‬
‫ذا ن ُك ْث ِــر‪،‬‬
‫الخرة‪ ،‬وإما أن يصرف عنــه مــن الســوء مثلهــا‪ ،‬قــالوا‪ :‬إ ً‬
‫قال‪ :‬الله أكثر«‪].‬رواه أحمد ‪ ،3/18‬والبخاري في الدب المفــرد )‬
‫‪ (711‬والحاكم ‪ 1/493‬من حديث أبي سعيد الخدري ‪[‬‬
‫فإجابة الــدعاء أعــم مــن قضــاء الحاجــة‪ ،‬فل يلــزم مــن عــدم‬
‫حصول المطلوب أن الله لم يجــب دعــاءك‪ ،‬فتقــول‪ :‬إن اللــه لــم‬
‫يستجب لي! وما يــدريك؟ لعــل اللــه أعطــاك إحــدى هــذه الثلث‪،‬‬
‫ص مــن‬ ‫ت‪ :‬إن قــوله‪) :‬ويقضــي الحاجــات( أخـ ُ‬ ‫ومن أجل ذلــك قلـ ُ‬
‫قوله‪) :‬والله تعالى يجيب الدعوات(‪.‬‬
‫شــرع تعبــدا فقــط‪،‬‬ ‫ومن المبتدعة من قــال‪ :‬إن الــدعاء إنمــا ُ‬
‫وليس له أثر في حصول المطلوب؛ لن المطلوب إن كان مقــدرا‬
‫وسيحصل؛ فل حاجة إلى الدعاء‪ ،‬وإن كان لم يقدر؛ فل فائدة فــي‬
‫ع!‬‫الدعاء؛ لنه لن يحصل سواًء دعوت أم لم تد ُ‬
‫فيقال لهم‪ :‬هنــاك قســم ثــالث‪ ،‬وهــو‪ :‬مــا قــدر اللــه حصــوله‬
‫بالدعاء‪ ،‬فما قدر الله حصوله بسبب لن يحصــل إل بهــذا الســبب‪،‬‬
‫وهذه الشبهة طردهــا أن يقــال لهــم‪ :‬قولــوا مثــل هــذا فــي ســائر‬
‫السباب‪ ،‬فيقال لمن حرث و أراد الــزرع والثمــر‪ :‬حرثــك وزرعــك‬
‫هذا ل فائدة منه؛ فإن كــان الثمــر قــد قــدره اللــه فستحصــل لــك‬
‫بدون عملك هذا‪ ،‬وإن لم يقدر لك فل فائدة في عملك!‬
‫وهكذا يقال في لمن سعى لطلب الرزق‪ :‬الرزق الذي تسعى‬
‫ع‪ ،‬وإن كــان غيــر‬ ‫إليه إن كان مكتوبا لــك فسيحصــل ولــو لــم تسـ َ‬
‫مقدر؛ فل فائدة في سعيك‪ ،‬ول أثر له!‬
‫وهذه الشبهة تقتضــي تعطيــل الســباب الشــرعية والكونيــة‪،‬‬
‫وهذا معلوم الفساد؛ فإن الله قد فطر العباد على فعــل الســباب‬
‫وعلى رجاء أثرها‪ ، ،‬فالمذموم هــو العتمــاد علــى الســباب‪ ،‬كمــا‬

‫‪216‬‬
‫قال بعضهم‪ » :‬اللتفات إلى السباب شرك فــي التوحيــد‪ ،‬ومحــو‬
‫الســباب أن تكــون أســبابا نقــص فــي العقــل‪ ،‬والعــراض عــن‬
‫السباب بالكلية قدح في الشرع « ]نسبه شيخ السلم في منهاج‬
‫السنة ‪ ،5/336‬وبغيــة المرتـاد ص‪ :262‬إلـى أبــي حامــد الغزالـي‬
‫وابن الجوزي‪ ،‬وهو بمعناه في إحيــاء علــوم الــدين ‪ ،4/374‬ولعــل‬
‫كلم ابن الجوزي في مختصر الحياء »منهاج القاصدين« وهو غير‬
‫موجود‪ ،[.‬فالسباب خلقها اللــه وقــدرها وشــرعها وجعلهــا مــؤثرة‬
‫في حصول أسبابها‪،‬‬
‫ولكن كل ذلك مرده إلى قدرة الله ومشيئته سبحانه وتعــالى‬
‫وتقديره وتدبيره‪.‬‬
‫واليات والحاديث في الترغيب فــي الــدعاء كــثيرة معلومــة‪،‬‬
‫فالله تعالى ندب عباده إلى الدعاء ورغبهم فيه؛ لن حوائج العبــاد‬
‫كلها لديه‪ ،‬فبيده الملك وبيده الخير‪ ،‬وهو المعطي المانع‪ ،‬فل مانع‬
‫لما أعطى ول معطي لما منع‪ ،‬وقد ضــمن اللــه الجابــة لكــل مــن‬
‫َ‬
‫م ((]غافر‪ [60:‬وعد والله ل‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬
‫ج ْ‬
‫ست َ ِ‬
‫عوِني أ ْ‬ ‫ل َرب ّك ُ ُ‬
‫م اد ْ ُ‬ ‫دعا )) وََقا َ‬
‫يخلف الميعاد‪.‬‬

‫وقوله‪) :‬ويملك كل شيء‪ ،‬ول يملكه شيء‪ ،‬ول غنى عن اللــه‬


‫تعالى طرفة عين‪ ،‬ومن استغنى عن اللــه طرفــة عيــن فقــد كفــر‬
‫وصار من أهل الحين(‪.‬‬
‫هذا معطوف على ما قبله‪ ،‬والله عز وجل له الملك كله‪ ،‬فله‬
‫ك‬ ‫مال ِـ َ‬ ‫م َ‬ ‫ل الل ّهُ ـ ّ‬ ‫ما في السموات وما في الرض وما بينهمــا‪ )) :‬قُ ـ ِ‬
‫ذي‬ ‫ك ال ّـ ِ‬ ‫ك ((]آل عمران‪ [26:‬وكل العوالم في قبضته‪ )) :‬ت ََباَر َ‬ ‫مل ْ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫ك ((]الملك‪ [1:‬فهــو المتصــرف فــي هــذا الوجــود‪ ،‬وهــو‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫ب ِي َد ِهِ ال ْ ُ‬
‫خالق كل شيء‪ ،‬وهو المدبر لكل شيء‪ ،‬ومن أسمائه الملك‪ ،‬أي‪:‬‬
‫الذي له الملك‪ ،‬فهو ملــك النــاس‪ ،‬وهــو ملــك الملك‪ ،‬وهــذا كلــه‬
‫داخل في توحيد الربوبيــة‪ ،‬فتوحيــد الربوبيــة يتضــمن أنــه ســبحانه‬
‫َ‬ ‫ذا أ ََراد َ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫شـي ًْئا أ ْ‬ ‫مـُره ُ إ ِ َ‬ ‫مــا أ ْ‬ ‫وتعالى خالق كــل شــيء ومليكــه‪ )) :‬إ ِن ّ َ‬
‫يٍء وَإ ِل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫كو ُ‬ ‫مل َ ُ‬ ‫ذي ب ِي َد ِهِ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫حا َ‬ ‫ن * فَ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن فَي َ ُ‬‫ه كُ ْ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قو َ‬ ‫يَ ُ‬
‫و‬
‫هــ َ‬ ‫يٍء وَ ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫كو ُ‬ ‫مل َ ُ‬ ‫ن ب ِي َد ِهِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ((]يس‪ )) ،[83-82:‬قُ ْ‬ ‫جُعو َ‬ ‫ت ُْر َ‬
‫َ‬ ‫ن ل ِل ّـهِ قُـ ْ‬
‫ل فَـأّنى‬ ‫قوُلو َ‬ ‫س ـي َ ُ‬‫ن* َ‬ ‫مــو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬ ‫ن ُ‬
‫كنت ُـ ْ‬ ‫جاُر ع َل َي ْهِ إ ِ ْ‬‫جيُر َول ي ُ َ‬ ‫يُ ِ‬
‫ن ((]المؤمنون‪.[89-88:‬‬ ‫حُرو َ‬ ‫س َ‬ ‫تُ ْ‬
‫وقوله‪) :‬ول يملكه شيء( فهــو المالــك وغيــره مملــوك‪ ،‬وهــو‬
‫لول َــى ((]الليــل‪[13:‬‬ ‫خـرة َ وا ُ‬
‫ن ل َن َــا َلل ِ َ َ‬ ‫مالــك الــدنيا والخــرة‪ )) :‬وَإ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫ض إ ِّل آِتي الّر ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وكلهم عبيده }ِإن ك ُ ّ‬
‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫من ِفي ال ّ‬ ‫ل َ‬
‫دا{]مريــم‪ [93:‬والعبــد المملــوك ل يكــون مالكــا لســيده‪ ،‬ول‬ ‫ع َب ْـ ً‬
‫مل َ َ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫كــ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫م هَ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن أن ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫مث ًَل ِ‬ ‫م َ‬‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫ضَر َ‬ ‫شريكا له‪َ )) :‬‬

‫‪217‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫خــاُفون َهُ ْ‬
‫م‬ ‫واٌء ت َ َ‬
‫سـ َ‬ ‫م ِفيـهِ َ‬ ‫مـا َرَزقْن َــاك ُ ْ‬
‫م فَـأن ْت ُ ْ‬ ‫كاَء ِفي َ‬ ‫شَر َ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫مان ُك ُ ْ‬‫أي ْ َ‬
‫مل ّك ُــه‬ ‫م ((]الــروم‪ [28:‬لكــن يكــون مالكــا لمــا ي ُ َ‬ ‫سـك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م َأن ُ‬ ‫فت ِك ُـ ْ‬ ‫خي َ‬ ‫كَ ِ‬
‫مّلـك العبـاد مـا‬ ‫ك من شـاء مـا شـاء كمـا ي ُ َ‬ ‫مل ّ ُ‬
‫سيده‪ ،‬والله تعالى ي ُ َ‬
‫ك‬‫مال ِـ َ‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬
‫ل اللهُـ ّ‬ ‫يعطيهم من الرزاق يقــول ســبحانه وتعــالى‪ )) :‬قُـ ِ‬
‫شــاُء ((]آل‬ ‫ن تَ َ‬‫مـ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ك ِ‬ ‫مل ْـ َ‬ ‫شــاُء وَت َن ْـزِع ُ ال ْ ُ‬ ‫ن تَ َ‬‫مـ ْ‬‫ك َ‬ ‫مل ْـ َ‬ ‫ك ت ُـؤ ِْتي ال ْ ُ‬ ‫مل ْـ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫عمران‪ [26:‬وقوله‪) :‬ول غنى عن الله تعالى طرفة عين(‪.‬‬
‫ل غنــى لحــد عــن اللــه طرفــة عيــن‪ ،‬فــالخلق كلهــم فقــراء‬
‫مفتقرون إلى الله افتقارا ذاتيا‪ ،‬فليس لشيء من ذاتــه إل العــدم‪،‬‬
‫فالفتقار صفة ذاتية للمخلوق‪ ،‬فالخلق فقــراء إلــى اللــه فــي كــل‬
‫لحظة‪ ،‬ول يستغني أحد عن الله طرفة عين‪ ،‬بل هــم دائمــا وأبــدا‬
‫مفتقرون إلى اللــه فــي وجــودهم‪ ،‬وفــي كــل شــؤونهم )) ي َــا أ َي ّهَــا‬
‫َ‬
‫ميد ُ ((]فـاطر‪[15:‬‬ ‫ي ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫ه هُوَ ال ْغَن ِ ّ‬ ‫قَراُء إ َِلى الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫س أن ْت ُ ُ‬ ‫الّنا ُ‬
‫ن بغناه عن كل‬ ‫ن بربوبيته سبحانه وتعالى اليما ُ‬ ‫ومن تحقيق اليما ِ‬
‫ما سواه‪ ،‬وبفقر كل ما سواه إليه‪ ،‬فهو تعالى الغني بذاته عن كل‬
‫ما سواه وكل شيء فقير إليه‪ ،‬مفتقــر إليــه‪ ،‬فل غنــى للــه طرفــة‬
‫عين‪.‬‬
‫من استغنى عن الله طرفة عين‪ ،‬فقد كفــر وصــار‬ ‫وقوله‪ ) :‬و َ‬
‫حين(‪.‬‬ ‫من أهل ال َ‬
‫في الواقع ل يمكن لحد أن يســتغني عــن اللــه طرفــة عيــن‪،‬‬
‫لكن الستغناء الذي يقع من بعض الخلق هو استغناء شعوري كما‬
‫يحصــل مــن أهــل الكفــر‪ ،‬فالكــافر والغافــل هــو الــذي يمكــن أن‬
‫يستشعر في ذهنه أنــه مســتغن عــن اللــه‪ ،‬وهــو فــي الواقــع غيــر‬
‫مستغن‪ ،‬لكــن هــذا الســتغناء هــو بحســب مــا يتخيلــه‪ ،‬وهــذا مــن‬
‫ن ل َي َط ْغَــى *‬ ‫ســا َ‬ ‫لن َ‬ ‫نا ِ‬ ‫طغيان العبد وجهله واغتراره بنفسه )) ك َّل إ ِ ّ‬
‫ست َغَْنى ((]العلق‪ [7-6:‬إذا رأى نفسه غنيا بما أوتي أوجب‬ ‫َ‬
‫ن َرآه ُ ا ْ‬ ‫أ ْ‬
‫له ذلك الطغيان والغرور‪ ،‬كما حصل من قارون‪ ،‬ولهذا من يصاب‬
‫بهذا الداء ل يلجأ إلى الله ول يتوجه إليه ول يعــترف بربــوبيته؛ بــل‬
‫ينظر إلى ما هو عليه‪ ،‬وما أوتي من قوة وأسباب وحيلة‪.‬‬
‫ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفــر وصــار مــن أهــل‬
‫الحين‪ ،‬أي‪ :‬من أهل الهلك‪.‬‬

‫]إثبات الغضب والرضا لله تعالى[‬


‫وقوله‪) :‬والله يغضب ويرضى ل كأحد من الورى(‬
‫يثبت المؤلف ـ رحمــه اللــه ـ ـ صــفتي الغضــب والرضــى للــه‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫سبحانه كما أخبر تعالى عن نفسه‪ ،‬فقال سبحانه وتعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫ه ع َل َي ْـ ِ‬
‫ه‬ ‫ب الل ّـ ُ‬ ‫دا ِفيهَــا وَغ َ ِ‬
‫ضـ َ‬ ‫خال ِـ ً‬
‫م َ‬
‫جهَن ّ ُ‬ ‫دا فَ َ‬
‫جَزاؤ ُه ُ َ‬ ‫م ً‬‫مت َعَ ّ‬‫مًنا ُ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫ل ُ‬ ‫قت ُ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬
‫ما ((]النساء‪ ،[93:‬وقال سبحانه وتعالى‪:‬‬ ‫ظي ً‬ ‫ه عَ َ‬
‫ذاًبا ع َ ِ‬ ‫ه وَأع َد ّ ل َ ُ‬ ‫وَل َعَن َ ُ‬

‫‪218‬‬
‫ت‬ ‫كا ِ‬ ‫شـــرِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬ ‫كي َ‬ ‫شـــرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ت َوال ْ ُ‬ ‫قـــا ِ‬ ‫مَنافِ َ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫من َـــافِ ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫)) وَي ُعَـــذ ّ َ‬
‫م‬ ‫ه ع َل َي ْهِ ـ ْ‬ ‫ب الل ّـ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫سوِْء وَغ َ ِ‬ ‫دائ َِرة ُ ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫سوِْء ع َل َي ْهِ ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن ِبالل ّهِ ظ َ ّ‬ ‫ظاّني َ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬
‫صيًرا ((]الفتح‪،[6:‬‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ساَء ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫م وَأع َد ّ ل َهُ ْ‬ ‫وَل َعَن َهُ ْ‬
‫ب ع َل َــى‬ ‫ضـ ٍ‬ ‫قــال ســبحانه وتعــالى فــي اليهــود‪ )) :‬فَب َــاُءوا ب ِغَ َ‬
‫م فعلوا‬ ‫ب الله على قو ٌ‬ ‫ب ((]البقرة‪ [90:‬وقال ‪) :‬اشتد غض ُ‬ ‫ض ٍ‬ ‫غَ َ‬
‫ل يقُتلــه‬ ‫ب اللــه علــى رجـ ٍ‬ ‫عي َِته ـ ـ اشــتد غض ـ ُ‬ ‫بنبيه ـ يشير إلى َرب َــا ِ‬
‫ل اللــه( ]رواه البخــاري )‪ ،(4073‬ومســلم )‬ ‫ل الله فــي ســبي ِ‬ ‫رسو ُ‬
‫‪ (1793‬من حديث أبــي هريــرة ‪ ،[‬وقــال ‪) :‬مــن حلــف علــى‬
‫ئ مسلم ٍ هــو فيهــا فــاجٌر لقــي اللــه‬ ‫ل امر ٍ‬ ‫قت َط ِعُ بها ما َ‬ ‫صب ْرٍ ي َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مي ِ‬ ‫يَ ِ‬
‫وهو عليه غضــبان( ]رواه البخــاري )‪ ،(4549‬ومســلم )‪ (138‬مـن‬
‫ن‬ ‫حديث ابن مسعود ‪ [‬فــي حــديث الشــفاعة فــي الصــحيحين أ ّ‬
‫م وموسى وعيسى عليهم الصــلة والســلم قــال‬ ‫حا وإبراهي َ‬ ‫م نو ً‬ ‫آد َ‬
‫َ‬
‫ب قبله مثله‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كل واحد منهم‪ ) :‬إن ربي غضب اليوم غضًبا لم يغض ْ‬
‫ب بعده مثَله ( ]البخــاري )‪ ،(4712‬ومســلم )‪ (194‬مــن‬ ‫ن يغض َ‬ ‫ول ْ‬
‫حديث أبي هريرة ‪.[‬‬
‫وكذلك وصف الله تعالى نفسه بالرضا في آيات كثيرة‪ ،‬فقال‬
‫ه ((]المائدة‪،[119:‬‬ ‫ضوا ع َن ْ ُ‬ ‫م وََر ُ‬ ‫ه ع َن ْهُ ْ‬ ‫ي الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫سبحانه وتعالى‪َ )) :‬ر ِ‬
‫ضـاةِ الّلـ ِ‬
‫ه‬ ‫مْر َ‬ ‫ك اب ْت َِغـاَء َ‬ ‫ل ذ َِلـ َ‬ ‫فَعـ ْ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫مـ ْ‬ ‫وقـال سـبحانه وتعـالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫َ‬ ‫ما ((]النساء‪ ،[114:‬وقـال‪ )) :‬ذ َِلـ َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ك ِبـأن ّهُ ُ‬ ‫ظي ً‬ ‫جًرا ع َ ِ‬ ‫ف ن ُؤ ِْتيهِ أ ْ‬ ‫سو ْ َ‬ ‫فَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ((]محمــد‪:‬‬ ‫مــال َهُ ْ‬ ‫ط أع ْ َ‬ ‫حب َ َ‬ ‫ه فَأ ْ‬ ‫وان َ ُ‬ ‫ض َ‬‫هوا رِ ْ‬ ‫ه وَك َرِ ُ‬ ‫ط الل ّ َ‬ ‫خ َ‬ ‫س َ‬‫ما أ ْ‬ ‫ات ّب َُعوا َ‬
‫َ‬
‫م ((‬ ‫ظي ـ ُ‬ ‫ف ـوُْز ال ْعَ ِ‬ ‫ك ه ُ ـو َ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّهِ أك ْب َُر ذ َل ِـ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫وا ٌ‬ ‫ض َ‬ ‫‪ ،[28‬وقال‪ )) :‬وَرِ ْ‬
‫]التوبة‪ ،[72:‬وفــي الصــحيحين عــن أبــي ســعيد الخــدري ‪ ‬عــن‬
‫ل عليكــم‬ ‫حـ ُ‬ ‫النبي ‪ ‬قال‪ :‬إن اللــه تعــالى يقــول لهــل الجنــة‪ ) :‬أ ُ ِ‬
‫دا (‪] .‬البخــاري )‪،(6549‬‬ ‫ط عليكــم بعــده أبــ ً‬ ‫خ ُ‬ ‫ســ َ‬ ‫ضــواني فل أ ْ‬ ‫رِ ْ‬
‫ومسلم )‪[(2829‬‬
‫فدلت هــذه النصــوص مــن الكتــاب والســنة علــى أنــه تعــالى‬
‫يغضب ويرضى‪ ،‬كيف شاء‪ ،‬ورضاه وغضبه ليــس كرضــا المخلــوق‬
‫وغضب المخلوق‪ ،‬كمــا هــي القاعــدة المطــردة فــي صــفاته فهــو‬
‫تعالى يحب ويرضى ويســخط ويغضــب‪ ،‬والمخلــوق يوصــف بهــذه‬
‫الصــفات وليســت صــفاته تعــالى كصــفات المخلــوق‪ ،‬ول صــفات‬
‫المخلــوق كصــفاته‪ ،‬وهــذا معنــى قــول الطحــاوي‪) :‬ل كأحــد مــن‬
‫يٌء‬ ‫شـ ْ‬ ‫مث ْل ِـهِ َ‬ ‫س كَ ِ‬ ‫الورى( أي‪ :‬الخلق‪ ،‬على حد قــوله تعــالى‪ )) :‬ل َي ْـ َ‬
‫يٌء‬ ‫ش ْ‬ ‫مث ْل ِهِ َ‬ ‫س كَ ِ‬ ‫صيُر ((]الشورى‪ [11:‬فقوله‪ )) :‬ل َي ْ َ‬ ‫ميعُ الب َ ِ‬ ‫س ِ‬‫وَهُوَ ال ّ‬
‫ع‬
‫مي ُ‬ ‫سـ ِ‬ ‫((]الشــورى‪ [11:‬رد للتشــبيه والتمثيــل‪ ،‬وقــوله‪ )) :‬وَهُـوَ ال ّ‬
‫صــيُر ((]الشــورى‪ [11:‬رد لللحــاد والتعطيــل‪ ،‬فليــس ســمعه‬ ‫الب َ ِ‬
‫كسمع المخلــوق‪ ،‬ول بصــره كبصــر المخلــوق‪ ،‬ول حبــه كحبــه‪ ،‬ول‬
‫سخطه كسخطه‪ ،‬ول غضبه كغضبه‪ ،‬وأهل السنة والجماعة يثبتون‬

‫‪219‬‬
‫الغضب والرضى لله تعالى‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنهمــا مــن صــفاته الفعليــة‬
‫التابعة لمشيئته؛ فإنه سبحانه وتعــالى يغضــب إذا شــاء علــى مــن‬
‫من شاء‪.‬‬ ‫شاء‪ ،‬ويرضى إذا شاء ع ّ‬
‫وخالف في ذلــك المعطلــة كالجهميــة والمعتزلــة والشــاعرة‬
‫فنفوا حقيقة الغضب والرضــى عــن اللــه‪ ،‬وقــالوا‪ :‬إن إثبــات هــذه‬
‫الصفات لله يستلزم التشبيه؛ لنهم يفسرون الغضب‪ :‬بأنه غليــان‬
‫دم القلب طلبا للنتقــام‪ ،‬أو نحــوه‪ ،‬ومــن أجــل ذلــك نفــوا حقيقــة‬
‫المحبة وحقيقة الرضا‪ ،‬وحقيقة الغضب والسخط والكراهة‪.‬‬
‫ثم منهم من فسر هذه المور بأشياء مخلوقة؛ ففسر المحبــة‬
‫والرضــا بــالنعم المخلوقــة‪ ،‬وفســر الغضــب والســخط والكراهــة‬
‫بالعقوبات التي ينزلها الله بالعصاة‪.‬‬
‫ومنهم من فســرها بــالرادة مثــل الشــاعرة فســروا المحبــة‬
‫والرضــا بــإرادة النعــام‪ ،‬والغضــب والســخط والكراهــة بــإرادة‬
‫النتقام؛ لن الرادة مما يثبتونه من الصفات السبع‪.‬‬
‫أما أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يثبتــون هــذه الصــفات علــى‬
‫حقيقتها لله تعالى على ما يليق به ســبحانه‪ ،‬علــى الــوجه الــذي ل‬
‫يماثل فيه صفات المخلوقين‪.‬‬
‫ومن الطوائف من أثبت الغضــب والرضــى للــه تعــالى‪ ،‬لكــن‬
‫قال‪ :‬إنها صفات ذاتية قديمة ل تتعلق بها المشيئة كما ذهــب إلــى‬
‫ذلــك الكلبيــة‪ ،‬فقــالوا‪ :‬إنــه تعــالى يغضــب ويرضــى‪ ،‬لكــن غضــبه‬
‫ورضاه لزمان لذاته؛ كحياته وعلمه‪ ،‬ول يتعلقان بمشيئته‪.‬‬
‫وهذا باطل؛ بل هو تعالى يغضب ويرضــى بمشــيئته‪ ،‬ولغضــبه‬
‫ورضاه أسباب يحدثها سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ضــب‬ ‫ن ربــي غ َ ِ‬‫وفي الحديثين السابقين‪ :‬حديث الشــفاعة‪ ) :‬إ ّ‬
‫اليوم غضبا( رد عليهم؛ فهذا الحــديث نـص علـى أن هـذا الغضـب‬
‫إنما كان في ذلك اليوم‪.‬‬
‫حـ ُ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫وحديث أبي سعيد ‪ ،‬وقول الله تعالى لهــل الجنــة‪ ) :‬أ ِ‬
‫دا( دليل على أنه تعــالى‬ ‫ط عليكم بعده أب ً‬ ‫خ ُ‬ ‫س َ‬
‫ضواني فل أ ْ‬ ‫عليكم رِ ْ‬
‫يحل رضوانه في ذلك الوقت‪ ،‬وأنه قد يحل رضــوانه ثــم يســخط‪،‬‬
‫كما أنه تعالى يسخط ثم يرضى على من شاء من عباده‪.‬‬
‫وينبغــي أن يعلــم أنــه ل تلزم بيــن محبتــه ورضــاه‪ ،‬أو غضــبه‬
‫وسخطه تعالى وبيــن مشــيئته‪ ،‬فليــس كــل مــا شــاءه اللــه يكــون‬
‫محبوبا له كما تزعم الجبرية؛ فعندهم‪ :‬أن كل ما شاءه فقد أحبه‪،‬‬
‫ذا فكل شيء محبوب له!‬ ‫وكل شيء يجري بمشيئة الله؛ إ ً‬
‫ة نفـاة ُ القــدر فقــالوا‪ :‬إن مـا أحبــه اللــه فقــد‬ ‫وقابلهم القدري ُ‬
‫ه‪ ،‬فعندهم‪ :‬أن كل ما أمر الله بـه مـن‬ ‫ْ‬ ‫شاءه‪ ،‬وما ل يحبه فلم ي َ َ‬
‫شأ ُ‬

‫‪220‬‬
‫اليمان والطاعة فقد شاءه‪ ،‬وكل ما نهى عنه وأبغضه مــن الكفــر‬
‫والمعاصي؛ فإنه ل يشاؤه‪.‬‬
‫فســوت الطــائفتين بيــن المشــيئة والمحبــة‪ ،‬فالجبريــة أثبتــوا‬
‫المشيئة على حقيقتها وجعلوا المحبة لزمة لــه‪ ،‬والمعتزلــة أثبتــوا‬
‫المحبة‪ ،‬وجعلوها بمعنى المشيئة‪.‬‬
‫وأمــا أهــل الســنة والجماعــة فقــالوا‪ :‬ل تلزم بيــن المحبــة‬
‫والمشيئة؛ فإن الله يشاء ما ل يحــب‪ ،‬فمــا يقــع فــي الوجــود مــن‬
‫المور المسخوطة كالكفر والمعاصي؛ فإنه واقع بمشيئته سبحانه‬
‫وتعالى وليست محبوبة له‪ ،‬وقد يحب سبحانه ما ل يشاء كاليمان‬
‫والطاعة ممن لم يوفقه لذلك‪ ،‬ولم يشْأه منه‪.‬‬
‫ن وطاعة المطيِع‪،‬‬ ‫فتجتمع المحبة والمشيئة‪ :‬في إيمان المؤم ِ‬
‫ة المطيــع اجتمــع فيهمــا المشــيئة والرادة‪،‬‬ ‫ن المؤمن وطاعـ ُ‬ ‫فإيما ُ‬
‫فهي واقعة بمشيئته سبحانه وتعالى‪ ،‬وهي محبوبة له‪.‬‬
‫وتنفــرد المشــيئة فــي كفــر الكــافر ومعصــية العاصــي‪ ،‬فهــي‬
‫واقعة بالمشيئة وليس ذلك محبوبا له تعالى‪.‬‬
‫وتفرد الرادة الشرعية في ما لم يقع مـن اليمــان والطاعــة‪،‬‬
‫كما تقدم ذلك مفصل‪] .‬ص[‬

‫]منهج أهل السنة في الصحابة[‬


‫ط فــي حــب‬ ‫ف ـرِ ُ‬ ‫ل اللــه ‪ ،‬ول ن ُ ْ‬ ‫ب رســو ِ‬ ‫ب أصحا َ‬ ‫وقوله )ونح ُ‬
‫ر‬ ‫ُ‬
‫ضــهم‪ ،‬وبغي ـ ِ‬ ‫ض مــن يبغِ ُ‬ ‫أحد منهم‪ ،‬ول نتبرأ من أحد منهــم‪ ،‬ونبغِ ـ ُ‬
‫ن وإيمان وإحســان‪،‬‬ ‫الخيرِ يذكُرهم‪ ،‬ول نذكرهم إل بخير‪ ،‬وحُبهم دي ٌ‬
‫ضهم كفٌر ونفاق وطغيان(‪.‬‬ ‫وبغ ُ‬
‫نحن أهل السنة نحب أصحاب رسول الله ‪ ،‬والصحابي هو‪:‬‬
‫»من لقي النبي ‪ ‬مؤمنا به‪ ،‬ومات على الســلم« ]نخبــة الفكــر‬
‫ص ‪ ،148‬والصابة ‪ ،1/158‬وفتح المغيث ‪ ،[4/8‬هذا هو أحسن ما‬
‫ضبط به الصحابي‪ .‬وعلى هذا فالصـحابة متفـاوتون فـي صـحبتهم‬
‫للنبي ‪ ،‬وأعظمهم حظا من هذه الصحبة هــو أبــو بكــر الصــديق‬
‫ل‬‫قــو ُ‬ ‫‪ ،‬وهو الذي جــاء النــص فــي القــرآن علــى صــحبته )) إ ِذ ْ ي َ ُ‬
‫معََنا ((]التوبة‪.[40:‬‬ ‫ه َ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫ن إِ ّ‬ ‫حَز ْ‬ ‫حب ِهِ ل ت َ ْ‬ ‫صا ِ‬‫لِ َ‬
‫وهذا الحب للصحابة هو ثمــرة اليمــان بفضــلهم‪ ،‬وأنهــم خيــر‬
‫الناس‪ ،‬وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة فــي الدالــة علــى‬
‫ن‬ ‫مـ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن ال َوّل ُــو َ‬ ‫قو َ‬ ‫ســاب ِ ُ‬
‫فضــلهم‪ ،‬يقــول اللــه تعــالى عنهــم‪َ )) :‬وال ّ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ه ع َن ْهُـ ْ‬ ‫ي الل ّـ ُ‬‫ضـ َ‬‫ن َر ِ‬ ‫ســا ٍ‬‫ح َ‬ ‫م ب ِإ ِ ْ‬‫ن ات ّب َعُــوهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫صارِ َوال ّـ ِ‬ ‫ن َوالن َ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫ج‬‫مَها ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫حت ََها ال َن َْهاُر َ‬ ‫َ‬
‫دا‬ ‫ن ِفيهَــا أب َـ ً‬ ‫دي َ‬‫خال ِـ ِ‬ ‫ري ت َ ْ‬ ‫ج ِ‬‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫ه وَأع َد ّ ل َهُ ْ‬ ‫ضوا ع َن ْ ُ‬ ‫وََر ُ‬
‫ن‬ ‫م ((]التوبة‪ ،[100:‬وقال ســبحانه وتعــالى‪ )) :‬إ ِ ّ‬ ‫ظي ُ‬ ‫فوُْز ال ْعَ ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل الل ّـ ِ‬
‫ه‬ ‫س ـِبي ِ‬ ‫م فِــي َ‬ ‫سه ِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫م وَأن ُ‬ ‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬
‫دوا ب ِأ ْ‬ ‫جاهَ ُ‬ ‫جُروا وَ َ‬ ‫ها َ‬ ‫مُنوا وَ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬

‫‪221‬‬
‫ك بعض ـه َ‬ ‫ُ‬
‫ض ((]النفــال‪[72:‬‬ ‫م أوْل ِي َــاُء ب َعْ ـ ٍ‬ ‫ص ـُروا أوْل َئ ِ َ َ ْ ُ ُ ْ‬ ‫ن آَووا وَن َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫م ((‬ ‫ريــ ٌ‬ ‫فَرة ٌ وَرِْزقٌ ك َ ِ‬ ‫مغْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫قا ل َهُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫إلى قوله‪ )) :‬أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ي الّلــ ُ‬
‫ه‬ ‫ضــ َ‬ ‫قد ْ َر ِ‬ ‫]النفال‪ ،[74:‬ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى‪ )) :‬ل َ َ‬
‫م‬ ‫مــا فِــي قُل ُــوب ِهِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫جَرةِ فَعَل ِـ َ‬ ‫شـ َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫حـ َ‬ ‫ك تَ ْ‬ ‫ن إ ِذ ْ ي َُباي ُِعون َـ َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫عَ َ ِ‬
‫َ‬
‫ريب ًــا ((]الفتــح‪ ،[18:‬وقــال‬ ‫ِ‬ ‫حــا قَ‬ ‫م فَت ْ ً‬ ‫م وَأث َــاب َهُ ْ‬ ‫ة ع َل َي ْهِـ ْ‬ ‫كين َ َ‬‫س ِ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫فَأن َْز َ‬
‫داُء ع َل َــى ال ْك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫فــاِر‬ ‫شـ ّ‬ ‫هأ ِ‬ ‫مَعـ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل الّلـهِ َوال ّـ ِ‬ ‫ســو ُ‬ ‫مـد ٌ َر ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬ ‫تعــالى‪ُ )) :‬‬
‫واًنا ((‬ ‫ضـ َ‬ ‫ن الل ـهِ وَرِ ْ‬ ‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫ضل ِ‬ ‫ً‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫دا ي َب ْت َُغو َ‬ ‫ج ً‬ ‫س ّ‬ ‫م ُرك ًّعا ُ‬ ‫م ت ََراهُ ْ‬ ‫ماُء ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ُر َ‬
‫]الفتح‪ [29:‬إلى آخر السورة‪ ،‬ومــن الســنة مــا جــاء فــي الحــديث‬
‫الصحيح عن الرسول ‪ ) :‬خير الناس قرني ثــم الــذين يلــونهم (‬
‫]روه البخاري )‪ ، (2652‬ومسلم )‪ (2533‬من حديث ابن مســعود‬
‫ت فيــه(‬ ‫‪[ ‬وفي الحــديث الخــر‪ ) :‬خيـُر أمــتي القــرن الــذي ب ُِعثـ ُ‬
‫]رواه مسلم )‪ (2534‬مــن حــديث أبــي هريــرة ‪[‬وهــم أصــحاب‬
‫الرسول ‪ ،‬وقال ‪) :‬ل تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيــده لــو‬
‫أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ول نصيفه(‪] .‬رواه‬
‫البخاري )‪ (3673‬ـ واللفظ له ـ ‪ ،‬ومسلم )‪ (2541‬من حديث أبي‬
‫سعيد الخدري ‪[‬‬
‫ومن ذلك قوله ‪ ) :‬لعل اللــه اطلــع علــى أهــل بــدر فقــال‪:‬‬
‫اعملــوا مــا شــئتم فقــد غفــرت لكــم ( ]روه البخــاري )‪(3007‬ـ ‪،‬‬
‫ومسلم )‪ (2494‬من حديث علي بن أبـي طـالب ‪ [ ‬ومـن ذلـك‬
‫ل النــاَر أحـد ٌ ممــن بــايع‬ ‫قوله ‪ ‬في أهل بيعة الرضــوان‪) :‬ل يـدخ ُ‬
‫ل‬ ‫تحت الشجرة( ]تقدم في ص[ وجاءت نصــوص تــدل علــى فض ـ ِ‬
‫أعيــان منهــم؛ كــأبي بكــر وعمــر وعثمــان وعلــي‪ ،‬وبقيــة العشــرة‬
‫المبشرين بالجنة ]تقدم في ص[‪ ،‬والحســن والحســين]تقــدم فــي‬
‫ماس]تقــدم فــي ص[‪ ،‬وعكاشــة بــن‬ ‫ص[ ‪ ،‬وثابت بن قيس بن شـ ّ‬
‫محصــن ]روه البخــاري )‪ ، (5752‬ومســلم )‪ (220‬مــن حــديث‬
‫عبدالله بن عباس رضي الله عنهما[‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫فالدلة على فضلهم منهـا مـا هـو عـام فـي جنـس الصـحابة‪،‬‬
‫ومنها ما هو أخص من ذلك‪ ،‬ومن الدلة علــى فضــلهم وتفاضــلهم‬
‫ح‬ ‫فْتــ ِ‬‫ل ال ْ َ‬ ‫ن قَب ْ ِ‬ ‫م ْ‬‫فقَ ِ‬ ‫ن أ َن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫وي ِ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪ )) :‬ل ي َ ْ‬
‫ن ب َعْ ـد ُ وَقَــات َُلوا ((‬ ‫َ‬ ‫ل أ ُول َئ ِ َ َ‬
‫مـ ْ‬ ‫قــوا ِ‬ ‫ف ُ‬‫ن أن ْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّـ ِ‬ ‫مـ َ‬ ‫ة ِ‬ ‫ج ً‬
‫م د ََر َ‬ ‫ك أع ْظ َ ُ‬ ‫وََقات َ َ ْ‬
‫]الحديد‪ ،[10:‬والمراد بالفتح‪ :‬صلح الحديبية الذي عقــده الرســول‬
‫‪ ‬مع المشركين بمكة في السنة السادسة مــن الهجــرة‪ ،‬ســماه‬
‫الله فتحا؛ لن هــذا الصــلح صــارت عــاقبته خيــرا للســلم وأهلــه‪.‬‬
‫]تفسير الطبري ‪[22/393‬‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫م ْ‬ ‫فقَ ِ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫وي ِ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫وفيها تصريح بنفي التساوي‪ )) ،‬ل ي َ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫ك أع ْظ َـ ُ‬ ‫ل ((ثم تصريح بــالتفوق والفضــل‪ )) ،‬أوْل َئ ِ َ‬ ‫ح وََقات َ َ‬ ‫فت ْ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫قَب ْ ِ‬
‫ن ب َعْد ُ وََقات َُلوا(( وهم من أسلم بعد صــلح‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ف ُ‬‫ن أن ْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫ج ً‬ ‫د ََر َ‬

‫‪222‬‬
‫الحديبية‪ ،‬والذين أسلموا بعد الصلح وقبل فتح مكــة أفضــل ممــن‬
‫أسلم يوم فتح مكة‪ ،‬وهم المعروفون بالطلقاء‪.‬‬
‫وأحســن مــا قيــل فــي بيــان المــراد بالســابقين الوليــن مــن‬
‫ن‬
‫قو َ‬‫ســاب ِ ُ‬
‫المهاجرين والنصار‪ ،‬الذين ذكرهــم بقــوله تعــالى‪َ )) :‬وال ّ‬
‫ن ((]التوبة‪ :[100:‬إنهم الذين أنفقوا وقاتلوا‬ ‫ري َ‬
‫ج ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مَها ِ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫ال َوُّلو َ‬
‫قبــل صــلح الحديبيــة‪ ،‬وأهــل بيعــة الرضــوان كلهــم منهــم؛ وصــلح‬
‫الحديبية حد فاصل بين مرحلتين‪ ،‬ونوعين من المسلمين‪] .‬نســب‬
‫شيخ السلم هذا القول إلى جمهور العلماء‪ .‬منهاج السنة ‪[2/26‬‬
‫وقيل‪ :‬المراد بالسابقين هـم مـن صـلى إلـى القبلـتين‪ ،‬وهـذا‬
‫قول ضعيف؛ لنه ل دليل على تخصيص من صــلى إلــى القبلــتين‪،‬‬
‫ثم كل من صلى إلى القبلة المشروعة فقد أطاع اللــه‪ ،‬لكــن مــن‬
‫ن من صلى إلى القبلــتين لبــد أن يكــون متقــدم‬ ‫قال ذلك لحظ أ ّ‬
‫السلم‪.‬‬
‫ولكن هذا يخرج من مات قبل نسخ القبلة الولــى‪ ،‬وهــو مــن‬
‫الســابقين قطعــا‪ ،‬ويخــرج مــن أســلم بعــد نســخ اســتقبال بيــت‬
‫المقدس‪ ،‬ونسخ الستقبال كان في السنة الثانيــة‪ ،‬فــإنه قــد ثبــت‬
‫ة عشــر أو‬ ‫س ســت َ‬‫ت المقد ِ‬ ‫أن النبي ‪ ‬بعدما هاجر »صلى إلى بي ِ‬
‫ة عشر شهرا«‪] .‬روه البخاري )‪ ،(4486‬ومســلم )‪ (525‬مــن‬ ‫سبع َ‬
‫حديث البراء بن عازب رضي اللــه عنهمــا[ فهــذا ل يصــلح ضــابطا‬
‫للسبق‪.‬‬
‫وقد اختلف الناس في أصحاب الرسول ‪ ‬إلى ثلثة طــوائف‬
‫طرفــان ووســط‪ ،‬فغل فيهــم أو فــي بعضــهم قــوم‪ ،‬وجفــا فيهــم‬
‫آخرون‪ ،‬وتوسط فيهم أهل السنة والجماعة‪ ،‬فأهـل السـنة وسـط‬
‫في أصحاب رســول اللــه ‪ ‬بيــن الرافضــة والخــوارج؛ فــالخوارج‬
‫والنواصب مع الروافض على طرفي نقيض‪ ،‬فــالروافض يبغضــون‬
‫أصحاب رسول الله ‪ ،‬ويسبونهم ويخصون أبا بكر وعمــر بمزيــد‬
‫مــن الســب‪ ،‬ويغلظــون فيــه‪ ،‬فيبغضــون الصــحابة عمومــا‪ ،‬ول‬
‫يستثنون منهم إل القليل‪ ،‬وفي المقابــل يغلــون فــي أهــل الــبيت‪،‬‬
‫ولسيما فـي علـي وذريتـه مـن فاطمـة رضـي اللـه عنهـم‪ ،‬فمـن‬
‫الروافض من يكفر الصحابة‪ ،‬ومنهم مــن يفســقهم‪ ،‬فجمعــوا بيــن‬
‫ضــللتين‪ :‬ظللــه العــداوة والبغضــاء لجمهــور الصــحابة‪ ،‬وظللــه‬
‫التعصب والغلو في آل البيت‪.‬‬
‫وأما الخوارج فضللهم في أصحاب الرسول ‪ ‬حيــث كفــروا‬
‫علًيا وعثمــان وأصــحاب الجمــل وأهــل التحكيــم‪ ،‬فنصــبوا العــداوة‬
‫ي ‪ ،‬وكــذلك مــن تبعهــم مــن‬ ‫ل ‪ ‬عل ـ ّ‬
‫ت الرســو ِ‬ ‫ل بي ـ ِ‬ ‫ل أه ِ‬ ‫لفض َ‬
‫النواصب الذين يؤذون أهل البيت ويسبونهم بدوافع سياسية‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫وأهل السنة والجماعة بين ذلك يحبون أصـحاب الرسـول ‪،‬‬
‫ويتولونهم جميعا‪ ،‬وينزلونهم منازلهم‪ ،‬ويعرفون لكل فضله عموما‬
‫وخصوصا‪ ،‬ويتبرؤون من ضللة الروافض‪ ،‬والخوارج‪ ،‬والنواصب‪.‬‬
‫فأهل السنة والجماعة وسط بين الفرق في جميع مسائل‬
‫الدين‪ ،‬كما نص على ذلك شيخ السلم ابن تيمية في العقيدة‬
‫الواسطية‪ ،‬فقال‪ » :‬هم الوسط في فَِرق المة‪ ،‬كما أن المة هي‬
‫الوسط في المم‪.‬‬
‫فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى‪ ،‬بين أهل‬
‫التعطيل الجهمية‪ ،‬وبين أهل التمثيل المشبهة‪.‬‬
‫وهم وسط في باب أفعال الله بين القدرية‪ ،‬والجبرية‪.‬‬
‫وفي باب وعيد الله بين المرجئة وبين الوعيدية‪ :‬من القدرية‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫وفي باب اليمان والدين بين الحرورية والمعتزلة‪ ،‬وبين‬
‫المرجئة والجهمية‪.‬‬
‫وفي أصحاب رسول الله ‪ ‬بين الروافض وبين الخوارج«‪.‬‬
‫]ص ‪[177‬‬
‫والطحاوي ـ رحمه اللـه ــ أتــى بالعبـارات المتضـمنة لمعتقـد‬
‫ومنهج أهل السنة والجماعة في أصـحاب رسـول اللـه ‪ ، ‬حيـث‬
‫ب أصحاب رسول الله ‪ ( ‬وحب الصحابة رضــي اللــه‬ ‫قال‪) :‬ونح ُ‬
‫عنهــم‪ ،‬هــو مــن الحــب فــي اللــه‪ ،‬والحــب فــي اللــه واجــب لكــل‬
‫المسلمين؛ فكل من آمن بالله ورسوله تجب محبته على قدر مــا‬
‫يعرف به من اليمان والتقوى والعمل الصالح‪ ،‬وأحـق النـاس مـن‬
‫ذلك الواجب هم أصــحاب الرســول ‪‬؛ لمـا خصــهم اللــه بـه مـن‬
‫فضيلة صحبتهم للرسول ‪ ‬التي ل يشركهم فيها أحــد ممــن جــاء‬
‫بعدهم‪.‬‬
‫ط في حب أحد منهم(‬ ‫فرِ ُ‬
‫وقوله‪) :‬ول ن ُ ْ‬
‫ب العتـدال والتوسـط‪،‬‬ ‫الفراط‪ :‬الغلو وتجـاوز الحـد‪ ،‬والـواج ُ‬
‫بعــدم الفــراط والتفريــط‪ ،‬فكــل انحــراف؛ فــإنه يعــود إلــى أحــد‬
‫المرين‪ :‬إما انحــراف بــإفراط وتجــاوز وغلــو‪ ،‬أو تفريــط وتقصــير‬
‫وجفاء‪ ،‬وكلهما انحراف عن الصراط‪ ،‬والحــق مــا وافــق الصــراط‬
‫المستقيم‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقوله‪) :‬ول نتبرأ من أحد منهم(‬
‫ول نتبرأ من أحد منهم كما تفعــل الروافــض أو الخــوارج؛ بــل‬
‫نواليهم جميعا‪ ،‬وعند الرافضة مقولة‪» :‬ل ولء إل ببراء« فل يكون‬
‫النسان عندهم مواليا لهل بيت الرسول إل إذا تبرأ من أبـي بكـر‬
‫وعمر‪ ،‬فعندهم أن من والى أبا بكر وعمر؛ فقد أبغض عليا‪ ،‬ومــن‬
‫أبغض عليا فهو ناصبي‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫نعم من أبغض عليا فهو ناصبي هذا صحيح‪ ،‬لكــن زعمهــم‪ :‬أن‬
‫من والى أبا بكر وعمر فقد أبغض عليا هذا عين الباطل؛ بل أهــل‬
‫السنة يوالون الصحابة عموما‪ ،‬ويعرفون لهم فضــلهم‪ ،‬وينزلــونهم‬
‫منازلهم‪ ،‬فل يتبرؤون من أحد منهم‪.‬‬
‫والتبري يتضمن‪ :‬التخلي عنهم‪ ،‬وكراهتهم ومعاداتهم‪.‬‬
‫ضهم(‪.‬‬‫ض من يبغِ ُ‬ ‫وقوله‪) :‬ونبغِ ُ‬
‫هذا تأكيد لقوله‪) :‬نحب أصحاب رســول اللــه‪ ،‬ول نفــرط فــي‬
‫رط في حب أحد منهم خلفا للرافضــة‪ ،‬ول‬ ‫ف ِ‬
‫حب أحد منهم(‪ ،‬فل ن ُ ْ‬
‫نبغض أحدا منهم خلفا للخوارج والروافض والنواصــب؛ بــل ل بــد‬
‫أن نبغض من يبغضهم‪ ،‬فيجب بغض الرافضة والخوارج لضــللتهم‬
‫وبدعهم وبغضهم أصحاب الرسول ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وبغير الخير يذكرهم(‬
‫ب والــذم‬‫ة بالسـ ِ‬‫كما تفعل الرافضة؛ فــإنهم يــذكرون الصــحاب َ‬
‫واللعن والتنقص وأنواع الطعن‪ ،‬وكما تفعل الخوراج بتكفيرهم‪.‬‬
‫لكن أشقى الناس في هذا هـم الرافضــة‪ ،‬فهـم شـر طـوائف‬
‫المة على الطلق‪ ،‬فجمعوا إلى أصولهم الكفريــة البدعيــة بعــض‬
‫أصول الطوائف الخرى‪ ،‬فدخل عليهــم مــذهب العــتزال فصــاروا‬
‫رافضة ومعتزلة في آن واحد‪ ،‬وهم الصــل فــي نشــوء الغلــو فــي‬
‫القبور في هذه المة‪ ،‬فهم أصحاب بنــاء المشــاهد والقبــاب علــى‬
‫القبور على معظميهم ممن يعدونهم في أئمتهم أو في عظمائهم‪،‬‬
‫فدينهم يقوم على الشرك‪ ،‬والغلو‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ول نذكرهم إل بخير(‪.‬‬
‫فنـــذكرهم بصـــحبتهم للرســـول ‪ ،‬وفضـــائلهم‪ ،‬وأعمـــالهم‬
‫الصــالحة‪ ،‬كــالهجرة‪ ،‬والنصــرة‪ ،‬ويــدخل فــي ذلــك الكــف عــن‬
‫مساويهم‪ ،‬وما وقع بينهم مما هو من لوازم البشــرية‪ ،‬ســواء كــان‬
‫اختلفا جماعيا كما حصل في عهد علي ‪ ،‬أو كــان خلفــا فرديــا‪،‬‬
‫كالذي حدث بين خالد بن الوليد ‪ ‬وبين عبد الرحمــن بــن عــوف‬
‫ب خالد ٌ عبد َ الرحمــن‪ ،‬فقــال النــبي‬‫‪ ‬فقد كان بينهم شيء؛ فس ّ‬
‫‪ ‬لخالد‪ ) :‬ل تسبوا أصحابي ( ]تقدم في ص[يريد النــبي ‪ ‬عبــد‬
‫الرحمن بن عوف‪ ،‬وأمثاله من السابقين الولين‪ ،‬وخالد بن الوليــد‬
‫ممن أسلم بعد الفتح‪ ،‬أي‪ :‬صلح الحديبية‪.‬‬
‫فمن منهج أهــل الســنة والجماعــة المســاك عمــا جــرى بيــن‬
‫الصحابة‪ ،‬فل يجعلونهم موضع كلم وقيــل وقــال‪ ،‬فــإن هــذا يــوغر‬
‫الصدور‪ ،‬ويسبب ســوء ظــن بالصــحابة رضــي اللــه عنهــم‪ ،‬واقــرأ‬
‫العبارات الحكيمة الدقيقة لشيخ السلم ابــن تيميــة فــي العقيــدة‬
‫الواسطية في قوله‪» :‬ومن أصول أهــل السـنة والجماعـة ســلمة‬
‫قلوبهم‪ ،‬وألسنتهم لصحاب محمد ‪ ‬ـ إلى أن قال‪ :‬ـ ويمســكون‬

‫‪225‬‬
‫ما شجر بيــن الصــحابة‪ ،‬ويقولــون‪ :‬إن هــذه الثــار المرويــة فــي‬ ‫ع ّ‬
‫مساوئهم منها‪ :‬ما هو كذب‪ ،‬ومنها‪ :‬ما قــد زيــد فيــه ونقــص وغ ُي ّـَر‬
‫عــن وجهــه‪ ،‬والصــحيح منــه‪ :‬هــم فيــه معــذورن؛ إمــا مجتهــدون‬
‫مصيبون‪ ،‬وإما مجتهدون مخطئون‪ .‬وهم مــع ذلــك ل يعتقــدون أن‬
‫كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الثم وصغائره؛ بل تجــوز‬
‫عليهــم الـذنوب فـي الجملـة‪ ،‬ولهـم مـن السـوابق والفضــائل مـا‬
‫يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صــدر‪ ،‬حــتى إنــه يغفــر لهــم مــن‬
‫السيئات ما ل يغفر لمن بعدهم؛ لن لهم من الحسنات التي تمحو‬
‫الســيئات مــا ليــس لمــن بعــدهم‪ ،‬وقــد ثبــت بقــول رســول اللــه‬
‫‪»: ‬إنهم خير القرون«‪] .‬تقــدم ص وهــو حــديث ابــن مســعود[ ‪،‬‬
‫»وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهب ًــا‬
‫ممن بعدهم«‪] .‬تقدم في ص[ ثم إذا كــان قــد صــدر عــن أحــدهم‬
‫ذنب‪ ،‬فيكون قد تـاب منـه‪ ،‬أو أتـى بحسـنات تمحـوه‪ ،‬أو غفـر لـه‬
‫بفضــل ســابقته‪ ،‬أو بشــفاعة محمــد ‪ ‬الــذين هــم أحــق النــاس‬
‫فر به عنه؛ فإذا كــان هــذا فــي‬ ‫بشفاعته‪ ،‬أو اب ُْتلي ببلء في الدنيا ك ُ ّ‬
‫الذنوب المحققة‪ ،‬فكيف بالمور التي كــانوا فيهــا مجتهــدين؛ فــإن‬
‫أصابوا فلهم أجران‪ ،‬وإن أخطئوا‪ ،‬فلهم أجر واحد‪ ،‬والخطأ مغفور‬
‫لهم«‪.‬‬
‫]ص‪ [273-259‬وهذا رصين جدير بالحفظ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وحبهم دين وإيمــان وإحســان‪ ،‬وبغضــهم كفـر ونفـاق‬
‫وطغيان(‪.‬‬
‫هذا تأكيد لما قاله أول‪ ،‬فحب الصحابة من الدين‪ ،‬قــال النــبي‬
‫‪ » ‬آية اليمان حب النصار‪ ،‬وآية النفاق بغــض النصــار « ]رواه‬
‫البخاري)‪ ،(17‬ومسـلم )‪ (74‬عــن أنـس ‪ ،[‬فــإذا كـان هــذا فــي‬
‫النصار فالمهاجرون من باب أولى؛ لنهم في جملتهم أفضل مــن‬
‫النصار‪.‬‬
‫فــإذا كــان الحــب فــي اللــه والبغــض فــي اللــه أوثــق عــرى‬
‫اليمان‪ ،‬ومن أســباب ذوق طعــم اليمــان وحلوتــه‪ ،‬فمــن أفضــل‬
‫وأكمل وأعظم ذلك هو حب الصحابة رضي الله عنهم‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬حب الصحابة دين وإيمان( ي َرِد ُ على مــا تقــدم ]ص[‬
‫من تفسيره لليمان؛ لن الحب عمــل قلــبي‪ ،‬فمـن قــال‪ :‬اليمــان‬
‫هو‪ :‬تصديق القلب وإقرار اللسان‪ ،‬أو قال‪ :‬هو تصديق القلــب‪ ،‬أو‬
‫قال‪ :‬هو المعرفة‪ ،‬فموجب قــوله‪ :‬أن أعمــال القلــوب فضــل عــن‬
‫أعمال الجوارح ل تدخل في مسمى اليمان‪ ،‬فهــذا الكلم يعــارض‬
‫تعريفه لليمان؛ إل أن تكون هذه العبارة على وجــه المجــاز؛ فــإن‬
‫المــرجئة يقولــون‪ :‬إطلق اســم اليمــان علــى العمــال كمــا فــي‬
‫النصوص المصرحة بذلك مــن بــاب المجــاز‪ ،‬كقــوله ‪) :‬اليمــان‬

‫‪226‬‬
‫بضع وستون شعبة ( ]تقدم فــي ص[ وعلــى كــل حــال فمــا قــاله‬
‫الطحاوي في شــأن الصــحابة كلم حــق عظيــم رصــين‪ ،‬بي ّــن فيــه‬
‫مذهب أهل الســنة والجماعــة فــي أصــحاب الرســول ‪ ‬اعتقــادا‬
‫وعمل‪.‬‬

‫]الحق بالخلفة بعد رسول الله ‪[‬‬


‫وقوله‪) :‬ونثبـت الخلفـة بعـد رسـول اللـه ‪ ‬أول‪ :‬لبـي بكـر‬
‫الصديق ‪ ‬تفضيل لــه وتقــديما علــى جميــع المــة‪ ،‬ثــم لعمــر بــن‬
‫الخطاب ‪ ،‬ثم لعثمــان ‪ ،‬ثــم لعلــي بــن أبــي طــالب ‪ ،‬وهــم‬
‫الخلفاء الراشدون‪ ،‬والئمة المهتدون(‬
‫من فروع مـا يجـب اعتقــاده فـي أصـحاب الرســول ‪ ‬هــذه‬
‫المسـائل الــتي أردفهـا المؤلـف لمـا قبلهــا‪ ،‬فــذكر أول‪ :‬مـا يجـب‬
‫لعموم الصــحابة رضــي اللــه عنهــم مــن المحبــة والحــترام وذكــر‬
‫المحاسن والكف عن المساوي إلخ‪ ،‬ثم قال‪) :‬ونثبت الخلفة بعــد‬
‫رسول الله ‪ ‬أول‪ :‬لبي بكر الصديق ‪ ‬تفضيل له وتقديما علــى‬
‫جميع المة‪ ،‬ثم لعمر بن الخطاب ‪ ،‬ثم لعثمان ‪ ،‬ثم لعلي بــن‬
‫أبي طالب ‪ (‬هذا أيضا مما يقرروه‪ ،‬ويدين لله بــه أهــل الســنة‪:‬‬
‫ن الحق بالخلفة بعد رسول الله ‪ ‬أبو بكر‪ ،‬فيثبتونها له تفضـيل‬ ‫أ ّ‬
‫له وتقديما له على سائر الصحابة؛ فوليته للخلفة بعد رسول الله‬
‫‪ ‬كانت عن أهلية واستحقاق‪ ،‬وليس أثباتهم لها واقعا فقط‪ ،‬كمــا‬
‫تقول الرافضة؛ فالرافضة يقولون‪ :‬الخليفة بعد رسول الله ‪ ‬أبو‬
‫بكر واقعا‪ ،‬لكن عندهم أن خلفته بغير حق‪.‬‬
‫فقول الطحاوي‪) :‬تفضيل له ( أي‪ :‬هو الحــق بتــولي الخلفــة‬
‫بعــد رســول اللــه ‪‬؛ لنــه أفضــل المــة‪ ،‬كمــا دلــت علــى ذلــك‬
‫الحاديث في فضل أبي بكر ‪.‬‬
‫ثم اختلف الناس في خلفة أبي بكر ‪ ‬بعد الرسول ‪ ، ‬هل‬
‫ثبتت بالنص أو بالختيار ؟‬
‫فمن أهل السنة من قال‪ :‬إنها ثبتت بالنص الجلي‪.‬‬
‫ومنهم من قال‪ :‬إنها ثبتت بالنص الخفي والشارة‪.‬‬
‫ومنهم من قال‪ :‬إنها ثبتت بالختيارـ أي ـ‪ :‬باتفاق الصحابة ‪.‬‬
‫]منهاج السنة ‪[526-1/486‬‬
‫وقد جاءت أدلة تدل على أن أبــا بكــر هــو الحــق بــالمر بعــد‬
‫رسول الله ‪ ،‬من ذلك أنه ‪ ‬قال وهو فــي مــرض مــوته ‪» :‬‬
‫ل بالنــاس « ]رواه البخــاري )‪ ،(664‬ومســلم )‬ ‫مروا أبا بكر فليص ِ‬‫ُ‬
‫‪ (418‬من حديث عائشة ‪ [‬وكرره وأكده‪ ،‬وفعل كان هو المــام‪،‬‬
‫ومات النبي ‪ ‬وهو الذي يصلي بهم‪ ،‬فتقديمه في إمامــة الصــلة‬
‫فيه التنــبيه علــى أحقيتــه بــالمر مـن بعــده؛ لن هــذا هــو الصــل‪،‬‬

‫‪227‬‬
‫فالرســول ‪ ‬كــان هــو إمــام المســلمين عمومــا وخصوصــا؛ فهــو‬
‫إمــامهم فــي الصــلة‪ ،‬وهــو إمــامهم فــي تــدبير أمــورهم ووليــة‬
‫شؤونهم‪.‬‬
‫ومن ذلك أنه أراد في مرض موته أن يكتب لبــي بكــر كتابــا‪،‬‬
‫فقال لعائشة ‪) :‬لقد هممت أو أردت أن أرســل إلــى أبــي بكــر‬
‫وابنه‪ ،‬فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون‪ ،‬ثم قلت‪ :‬يأبى‬
‫اللــه ويــدفع المؤمنــون‪ ،‬أو يــدفع اللــه ويــأبى المؤمنــون(‪] .‬رواه‬
‫البخاري )‪ ،(5666‬ــ واللفــظ لــه ــ ومســلم )‪ (2387‬مــن حــديث‬
‫عائشة ‪[‬‬
‫وفي الحديث الصحيح‪» :‬أن امرأة أتت النبي ‪ ‬فكلمتــه فــي‬
‫شيء‪ ،‬فأمرها أن ترجع إليه‪ ،‬قالت‪ :‬يا رسول الله أرأيــت إن جئت‬
‫ن لــم تجــديني فـأتي أبـا‬ ‫ولم أجدك ؟ ـ كأنها تريد الموت ـ قـال‪ :‬إ ْ‬
‫بكر« ]رواه البخاري )‪ ،(7220‬ومسلم )‪ (2386‬من حــديث جــبير‬
‫بن مطعم ‪[‬‬
‫وما ثبت في الصحيح‪ :‬أنه ‪ ‬قال‪» :‬بينا أنا نائم رأيتنــي علــى‬
‫قليب عليها دلوٌ فنزعت منهــا مــا شــاء اللــه‪ ،‬ثــم أخــذها ابــن أبــي‬
‫قحافة فنزع بها ذ َُنوبا أو ذ َُنوبين وفي نزعه ضعف‪ ،‬والله يغفــر لــه‬
‫ضعفه‪ ،‬ثم استحالت غ َْربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا مــن‬
‫ن(‪] .‬رواه البخــاري‬ ‫َ‬
‫زع نزع عمر‪ ،‬حتى ضرب الناس بعَط ـ ٍ‬ ‫الناس ي َن ْ ِ‬
‫)‪ ،(3664‬ومسلم )‪ (2392‬من حديث أبي هريــرة ‪ [‬أي‪ :‬ســقى‬
‫للناس‪ ،‬وهذا مــا وقــع فــي خلفتــه مــن اســتقرار المــر‪ ،‬وانتشــار‬
‫السلم‪ ،‬وكثرة الفتوح‪.‬‬
‫فتأولها أهــل العلــم ]المنهــاج ‪ ،15/157‬وفتــح البــاري ‪[7/38‬‬
‫على أمر الولية والخلفة من بعده ‪ ، ‬فأبو بكر ولــي المــر بعــد‬
‫الرسول ‪ ‬مدة قصيرة سنتين وأشهر‪ ،‬وحصــل فــي وليتــه خيــر‬
‫كثير ومن أعظم ذلك تثبيت أمر السلم ودولته‪ ،‬وقتال المرتدين‪،‬‬
‫ورد كثيرا منهم إلى السلم‪.‬‬
‫وأظهر القوال عندي فيما ثبت به أمر الخلفة هــو أنهــا ثبتــت‬
‫بالنص الخفي والشارة؛ إذ ليس هناك نـص جلــي يقـول‪ :‬الخليفــة‬
‫من بعدي هو أبو بكر‪ ،‬لكن هــذه النصــوص بمجموعهــا تــدل دللــة‬
‫بينة على أن أبا بكر هو الحق بالمر‪ ،‬وأنه الخليفــة مــن بعــده ‪،‬‬
‫ثم وفق الله أصحاب رسول الله ‪ ‬لختياره عندما اجتمع النصار‬
‫في سقيفة بني ساعدة‪ ،‬وقال قائل منهم للمهاجرين‪» :‬منــا أميــر‬
‫ومنكم أمير‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬نحن المراء وأنتم الوزراء‪ ،‬فبــاِيعوا‬
‫عمر أو أبا عبيدة بن الجراح‪ ،‬فقال‪ :‬عمــر بــل نبايعــك أنــت فــأنت‬
‫سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول اللــه ‪ ‬فأخــذ عمــر بيــده فبــايعه‬

‫‪228‬‬
‫وبايعه النــاس«‪] .‬رواه البخــاري )‪ (3668‬مــن حــديث عائشــة‪، ‬‬
‫وهذا اللفظ مختصر[‬
‫ولم يخالف في ذلك من يعتد بخلفه‪ ،‬فل نــزاع بيــن الصــحابة‬
‫في أن أبا بكر ‪ ‬أفضلهم‪ ،‬كما في حديث عمــرو بــن العــاص ‪،‬‬
‫قلت يا رسول الله‪) :‬أي الناس أحب إليك؟ قــال‪ :‬عائشــة‪ ،‬قلــت‪:‬‬
‫من؟ قــال‪ :‬عمــر فَعَ ـد ّ رجــال(‪.‬‬ ‫من الرجال؟ قال‪ :‬أبوها‪ ،‬قلت‪ :‬ثم َ‬
‫]رواه البخاري )‪ ،(3662‬ومسلم )‪[(2384‬‬
‫َ‬
‫مّنهم عليه في صحبته‬ ‫فهو أحب الناس إلى الرسول ‪ ‬وأ َ‬
‫وماله‪ ،‬فهو أحق بالمر من بعده؛ فلذلك كان من عقيدة أهل‬
‫السنة والجماعة أن الحق بالمر بعد رسول الله ‪ ‬هو أبو بكر‪.‬‬
‫ولشيخ السلم ـ رحمه الله ـ في هذا الموضع جمع حسن‪،‬‬
‫قال‪» :‬خلفة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على‬
‫صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله ‪ ‬له بها‪ ،‬وانعقدت بمبايعة‬
‫المسلمين له واختيارهم إياه‪ ،‬اختياًرا استندوا فيه إلى ما علموه‬
‫من تفضيل الله ورسوله‪ ،‬وأنه أحقهم بهذا المر عند الله ورسوله‬
‫فصارت ثابتة بالنص والجماع جميعا« ]منهاج السنة ‪[1/524‬‬
‫وأما قول عمر ‪» :‬إن أستخلف فقد استخلف من هــو خيــر‬
‫مني أبو بكر‪ ،‬وإن أترك فقد ترك من هــو خيــر منــي رســول اللــه‬
‫‪].«‬رواه البخــاري )‪ ،(7218‬ومســلم )‪ (1823‬مــن حــديث ابــن‬
‫عمر رضي الله عنهما[‬
‫فقد حمل على أن الرســول ‪ ‬لــم يســتخلف بعهــد مكتــوب‪،‬‬
‫ونص صريح كما تقدم‪.‬‬
‫وأهل السنة يثبتون الخلفة بعد أبــي بكــر ‪ ‬لعمــر‪ ، ‬وهــذا‬
‫موضع اتفاق‪ ،‬وكانت خلفته بعهد من أبي بكر‪ ،‬فانتقل أمــر وليــة‬
‫المسلمين إلى عمر ‪ ،‬ولم يكــن هنــاك أي اختلف‪ ،‬ول ريــب أن‬
‫عمر ‪ ‬هو الحق بــالمر مــن بعــده‪ ،‬فهــو قرين ُــه فــي النصــوص‬
‫الدالة على فضل أبي بكــر ‪ ،‬فقــد كــان رســول اللــه ‪ ‬يقــول‪:‬‬
‫»جئت أنا وأبو بكر وعمر‪ ،‬ودخلت أنا وأبو بكر وعمر‪ ،‬وخرجت أنــا‬
‫وأبو بكر وعمــر« ]رواه البخــاري )‪ ،(3677‬ومســلم )‪ (2389‬مــن‬
‫حديث ابن عباس عن علي رضي الله عنهــم[وكــذلك فــي حــديث‬
‫الرؤيا المتقدم‪] .‬ص[‬
‫فأهل السنة يثبتون الخلفة لبي بكر ثــم عمــر ول ينــازع فــي‬
‫هذا إل الرافضة‪ ،‬فالرافضــة ينــازعون فــي خلفــة الخلفــاء الثلثــة‬
‫كلهم‪ ،‬وعندهم أن خلفتهم باطلة وظلم‪ ،‬واغتصــاب للحــق؛ لنهــم‬
‫يزعمــون أن الوصــي بعــد رســول اللــه ‪ ‬هــو علــي ‪ ، ‬وأن‬
‫الصحابة رضي الله عنهم ظلموه واغتصــبوا حقــه وجحــدوا وصــية‬
‫الرسول ‪! ‬‬

‫‪229‬‬
‫ول نزاع بين أهل السنة في أن الحق بالمر بعد الرســول ‪‬‬
‫الثلثة على مراتبهم‪ :‬أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهــم‪،‬‬
‫ثم علي ‪ ‬هو الحق بالمر بعد عثمان‪ ،‬فإن عمر ‪ ‬جعــل المــر‬
‫شورى بين الستة الذين قال‪» :‬إن رسول الله ‪ ‬مات وهو عنهم‬
‫راض« ]رواه البخاري )‪ ،(3700‬ومسلم )‪ ،[(567‬فبعـدما تشـاورا‬
‫س قــال‪» :‬لـم أرهــم يعـدلون بعثمـان‪،‬‬ ‫وشــاور عبـد ُ الرحمـن النــا َ‬
‫فبايعه عبد الرحمن وبــايعه النــاس‪ :‬المهــاجرون والنصــار وأمــراء‬
‫ســوَِر‬ ‫م ْ‬ ‫الجناد والمسلمون« ]رواه البخاري )‪ (7207‬من حديث ال ِ‬
‫بــن مخرمــة رضــي اللــه عنهمــا[‪ ،‬فتــم المــر واســتقرت الخلفــة‬
‫لعثمان من بعد عمر رضي الله عنهما‪ ،‬وبعد الفتنة ومقتل عثمــان‬
‫ل أحد ينافس عليا ‪ ‬في الفضل‪ ،‬ول أحد يدعي أنه أحــق بــالمر‬
‫منه‪.‬‬
‫وأهــل الســنة والجماعــة يرتبــون الخلفــاء فــي الفضــل علــى‬
‫ترتيبهم في الخلفة‪ ،‬فيقولون‪ :‬أفضل هذه المة أبو بكر ثــم عمــر‬
‫خّيـُر‬‫ثم عثمان ثم علي‪ ،‬وقد ثبت عن ابن عمـر أنـه قـال‪ » :‬كنـا ن ُ َ‬
‫بين الناس في زمن النبي ‪ ‬فنخير أبا بكر ثم عمر بــن الخطــاب‬
‫ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم« ]رواه البخاري )‪ (3655‬من‬
‫حديث ابن عمر رضي الله عنهما[‬
‫قال شيخ السلم رحمه الله‪ » :‬بعض أهل السنة كانوا قد‬
‫اختلفوا في عثمان وعلي‪ ،‬بعد اتفاقهم على أبي بكر وعمر أيهما‬
‫م‬
‫دم قو ٌ‬‫ن‪ ،‬وسكتوا‪ ،‬أو رب ُّعوا بعلي‪ ،‬وق ّ‬ ‫م عثما َ‬ ‫دم قو ٌ‬
‫أفضل‪ ،‬فق ّ‬
‫عليا‪ ،‬وقوم توقفوا‪ .‬لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم‬
‫عثمان‪ ،‬وإن كانت هذه المسألة ـ مسألة عثمان وعلي ـ ليست‬
‫ضّلل المخاِلف فيها عند جمهور أهل السنة‪،‬‬ ‫من الصول التي ي ُ َ‬
‫ضّلل المخالف فيها مسألة الخلفة‪ ،‬وذلك‬ ‫لكن المسألة التي ي ُ َ‬
‫أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله ‪ ‬أبو بكر ‪ ،‬ثم عمر ‪،‬‬
‫ثم عثمان ‪ ،‬ثم علي ‪ ،‬ومن طعن في خلفة أحد من هؤلء الئمة؛‬
‫فهو أضل من حمار أهله « ]الواسطية ص ‪[260‬‬
‫دم عليا على عثمان‬ ‫وجاء عن بعض السلف أنه قال‪» :‬من ق ّ‬
‫فقد أزرى بالمهاجرين والنصار« ]روي هذا عن أيوب السختياني‬
‫وأحمد بن حنبل والدارقطني رحمهم الله‪ .‬السنة للخلل ‪،2/392‬‬
‫ومجموع الفتاوى ‪4/426‬و ‪ 435‬ومنهاج السنة ‪[2/73‬‬
‫أي‪ :‬تنقصهم واستخف بعقولهم وسفه رأيهم؛ لنهم أطبقوا‬
‫على تولية عثمان‪ ،‬من طعن في خلفة عثمان فقد أزرى‬
‫بالمهاجرين والنصار‪ ،‬فهؤلء الربعة هم الخلفاء الراشدون‪ ،‬وإذا‬
‫أطلق الخلفاء الراشدون؛ فإنه ينصرف إليهم‪ ،‬فخلفتهم خلفة‬

‫‪230‬‬
‫نبوة‪ ،‬وهذا ل ينفي أن يقال في بعض من ولي أمر المسلمين إنه‬
‫خليفة راشد‪ ،‬كما قيل ذلك في عمر بن عبد العزيز رحمه الله‪.‬‬
‫وعلي ‪ ‬وإن لم يتم له المر على جميع المسلمين فهذا ل‬
‫ينفي اعتباره من الخلفاء الراشدين‪ ،‬ول ينفي أن تكون خلفته‬
‫من قبله في‬ ‫خلفة نبوة‪ ،‬لكن ل ريب أن خلفته ليست كخلفة َ‬
‫أثرها على السلم والمسلمين‪ ،‬كما أن عثمان ‪ ‬دون عمر ‪.‬‬
‫ولكن على كل حال هم الخلفاء الراشدون المهديون كما في‬
‫الحديث المعروف أن النبي ‪ ‬قال‪ ) :‬عليكم بسنتي‪ ،‬وسنة‬
‫ضوا عليها‬‫الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها‪ ،‬وع َ ّ‬
‫جذ‪ ،‬وإياكم ومحدثات المور؛ فإن كل بدعة ضللة ( ]تقدم‬ ‫بالنوا ِ‬
‫تخريجه في ص[‬
‫واعتمد أهل العلم في اعتبار ما سنه الخلفاء على هذا‬
‫الحديث‪.‬‬
‫ن من بعدي أبي‬ ‫وقال ‪ ‬في أبي بكر وعمر‪ ) :‬اقتدوا بالذ َي ْ ِ‬
‫بكر وعمر(‪] .‬رواه أحمد ‪ ، 5/382‬والترمذي )‪ (3662‬ـ وقال‪:‬‬
‫حسن ـ‪ ،‬وابن حبان )‪ (6902‬والحاكم ‪ 3/75‬من حديث حذيفة‬
‫‪[‬‬
‫فأمر ‪ ‬بالقتداء بهما‪ ،‬واتباع سنة الخلفاء الراشدين‪ ،‬فكل‬
‫ما سّنوه مما ل يخالف ما جاء عن الرسول ‪‬؛ فإن على المة‬
‫أن يتبعوهم في سنتهم‪ ،‬فهم أحرى بالصواب من غيرهم‪ ،‬حتى‬
‫قال بعض أهل العلم‪» :‬إن إجماع الخلفاء الربعة حجة« ]روضة‬
‫الناظر ‪ ،2/474‬وأصول الفقه ‪[2/412‬؛ لنهم ل يكادون يجمعون‬
‫على خطأ‪ ،‬ول أذكر أنهم أجمعوا في مسألة وكان الصواب في‬
‫خلفها‪.‬‬

‫]العشرة المبشرون بالجنة[‬


‫قوله‪) :‬وأن العشرة الذين سماهم رسول اللــه ‪ ،‬وبشــرهم‬
‫بالجنة على ما شهد لهم رسول الله ‪ ،‬وقوله الحــق‪ ،‬وهــم‪ :‬أبــو‬
‫بكـر وعمـر وعثمـان وعلـي وطلحـة الزبيـر وسـعد وسـعيد وعبـد‬
‫الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بــن الجــراح وهــو أميــن هــذه المــة‬
‫رضي الله عنهم أجمعين(‪.‬‬
‫بعــدما ذكــر الطحــاوي ـ ـ رحمــه اللــه ـ ـ اعتقــاد أهــل الســنة‬
‫والجماعة في الخلفاء الراشدين‪ ،‬وأنهم خير هذه المــة وأفضــلها‪،‬‬
‫وهم في الفضل على مراتب على ترتيبهــم فــي الخلفــة‪ ،‬ويليهــم‬
‫فــي الفضــل بقيــة العشــرة؛ ولهــذا أردف الطحــاوي الكلم فــي‬
‫الخلفاء الراشدين بذكر فضل بقيــة العشــرة فيقــول‪ :‬إن العشــرة‬
‫المبشرين بالجنة الذين شهد لهم الرســول ‪ ‬بالجنــة نشــهد لهــم‬

‫‪231‬‬
‫بشهادته ‪ ‬إيمانا وتصديقا له ‪ ،‬وأن ما أخبر به هو الحــق‪ ،‬فقــد‬
‫ثبت من حديث سعيد بن زيد ‪ ‬أن النــبي ‪ ‬قــال‪) :‬عشــرة فــي‬
‫الجنة‪ :‬أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وعبد الرحمن‬
‫وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد(‪] .‬تقدم في ص[‬
‫وقد ورد لكل منهم فضيلة‪ ،‬بل فضائل‪ ،‬جاءت فــي الحــاديث‬
‫كفضائل أبي بكر وعمر خاصة‪ ،‬وفضائل لعثمــان ولعلــي‪ ،‬والزبيــر‪،‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ومن ذلك ما أشار إليه الطحاوي مــن قــوله‪ ) :‬أبــو عبيــدة‬
‫أمين هذه المة ( ففي حديث حذيفة ‪» : ‬جاء أهـل نجـران إلــى‬
‫ن إليكــم رجل‬ ‫النبي ‪ ‬فقالوا‪ :‬ابعــث لنــا رجل أمينــا‪ ،‬فقــال‪ :‬لبعثـ ّ‬
‫ح ـقّ أميــن‪ ،‬فاستشــرف لــه النــاس فبعــث أبــا عبيــدة بــن‬ ‫أمينــا َ‬
‫الجراح«‪] .‬رواه البخــاري )‪ ،(4381‬ومســلم )‪ [(2420‬فهــذا يــدل‬
‫على فضيلةٍ له‪ ،‬وأن له تميزا في هذا الشــأن‪ ،‬وإل فالمانــة صــفة‬
‫كل مؤمن‪.‬‬
‫وقد ثبت تبشير أبي بكر وعمر وعثمان بالجنــة فــي غيــر هــذا‬
‫الحديث ففي حــديث أبــي موســى ‪ ‬فــي الصــحيحين )كنــت مـع‬
‫النبي ‪ ‬في حــائط مــن حيطــان المدينــة‪ ،‬فجــاء رجــل فاســتفتح‬
‫فقال النبي ‪ :‬افتح له وبشره بالجنة‪ ،‬ففتحت له فــإذا أبــو بكــر‪،‬‬
‫فبشرته بما قال النبي ‪ ، ‬فحمد اللــه‪ ،‬ثــم جــاء رجــل فاســتفتح‪،‬‬
‫فقال النبي ‪ :‬افتح له وبشره بالجنة‪ ،‬ففتحت له فــإذا هــو عمــر‬
‫فأخبرته بما قال النبي ‪ ،‬فحمد اللــه‪ ،‬ثــم اســتفتح رجــل‪ ،‬فقــال‬
‫لــي‪ :‬افتــح لــه وبشــره بالجنــة علــى بلــوى تصــيبه‪ ،‬فــإذا عثمــان‪،‬‬
‫فــأخبرته بمــا قــال رســول اللــه ‪ ،‬فحمــد اللــه ثــم قــال‪ :‬اللــه‬
‫المستعان( ]رواه البخاري )‪ ،(3693‬ومسلم )‪[(2403‬‬
‫وقد وقع كما أخبر ‪ ‬فقد ابتلي عثمــان بأهــل الفتنــة الــذين‬
‫ثاروا عليه‪ ،‬وطعنوا فـي وليتـه‪ ،‬وحاصـروه فـي داره حـتى انتهـى‬
‫أمرهم إلى قتله‪.‬‬
‫فهــؤلء العشــرة رضــي اللــه عنهــم لهــم فضــيلة علــى ســائر‬
‫الصحابة‪ ،‬وأفضلهم الخلفاء وترتيبهم في الفضــل حســب ترتيبهــم‬
‫في الخلفة‪ ،‬وأما بالنسبة للستة فل يفضــل بعضــهم علــى بعــض‪،‬‬
‫هذا هو ظاهر هذه الحاديث؛ لن التفضيل موقوف على الدليل‪.‬‬
‫وقد تقدمت هذه المســألة‪ ،‬لكــن هنــا بمناســبة ذكــر الخلفــاء‬
‫الراشدين وبقية العشرة‪ ،‬فهم مــن جملــة مــن يشــهد لــه بالجنــة‪،‬‬
‫وليست هذه الفضيلة مختصة بهم‪ ،‬بل شهد الرسول ‪ ‬لثابت بن‬
‫قيــس‪] ،‬تقــدم فــي ص[ والحســن والحســين]تقــدم فــي ص[ ‪،‬‬
‫وعكاشة بن محصن]تقدم في ص[ ؛ بــل نشــهد بالجنــة لكــل مــن‬
‫ن‬
‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ي الل ّ ُ‬
‫ه َع َ ِ‬ ‫ض َ‬ ‫قد ْ َر ِ‬‫شهد بيعة الرضوان؛ لقوله تعالى‪ )) :‬ل َ َ‬
‫ة‬
‫كين َ َ‬
‫سـ ِ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫م فَـأن َْز َ‬ ‫مــا فِــي قُل ُــوب ِهِ ْ‬ ‫جَرةِ فَعَل ِ َ‬
‫م َ‬ ‫ت ال ّ‬
‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫إ ِذ ْ ي َُباي ُِعون َ َ‬
‫ك تَ ْ‬

‫‪232‬‬
‫ل النــاَر أح ـد ٌ ممــن بــايع‬ ‫م ((]الفتح‪[18:‬؛ ولقوله ‪) :‬ل يــدخ ُ‬ ‫ع َل َي ْهِ ْ‬
‫تحت الشجرة(‪] .‬تقدم في ص[‬
‫والرافضة يبغضون العشرة إل عليا ‪ ،‬فهم يبغضون التســعة‬
‫من العشرة‪ ،‬ومن حماقاتهم أنهم صاروا يكرهــون رقــم العشــرة‪،‬‬
‫ويتشاءمون به‪ ،‬ويتجنبونه مبالغة في بغض أولئك العشرة‪ ،‬مــع أن‬
‫العدد ليس متعَلقــا لمــدح ول ذم‪ ،‬فقــد يكــون لمحمــود ومــذموم‪،‬‬
‫وطرد هذا أن يبغض رقم تسعة بسبب التسعة الذين هم من قوم‬
‫َ‬
‫ض َول‬ ‫ن فِــي الْر ِ‬ ‫دو َ‬ ‫سـ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ط يُ ْ‬‫ة َرهْ ـ ٍ‬ ‫س ـعَ ُ‬‫دين َةِ ت ِ ْ‬ ‫م ِ‬‫ن ِفي ال ْ َ‬ ‫كا َ‬‫صالح )) وَ َ‬
‫ن ((]النمــل‪ [48:‬أفيصــح فــي عقــل عاقــل أن يهجــر عــدد‬ ‫حو َ‬ ‫صل ِ ُ‬
‫يُ ْ‬
‫التسعة‪ ،‬وأن يتشاءم به؛ من أجل أنه عدد أولئك الرهط؟!‬
‫هذه جهالة وحماقة‪ ،‬وهذه الحماقة من الرافضة ذكرهــا شــيخ‬
‫السلم ـ رحمه الله ـ في أول منهاج أهل السنة‪ ،‬في معرض ذكر‬
‫حماقات الرافضة وناقشها فقال‪» :‬بل اسم العشرة قد مدح اللــه‬
‫ج ـد ْ‬
‫م يَ ِ‬ ‫مــن ل ّـ ْ‬ ‫مسماه في مواضع‪ ،‬كقوله تعالى في متعة الحج‪} :‬فَ َ‬
‫مَلــ ٌ‬ ‫م ت ِل ْ َ‬ ‫َ‬
‫ة{‬ ‫كا ِ‬ ‫شَرة ٌ َ‬ ‫ك عَ َ‬ ‫جعْت ُ ْ‬ ‫سب ْعَةٍ إ ِ َ‬
‫ذا َر َ‬ ‫ج وَ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫م َثلث َةِ أّيام ٍ ِفي ال ْ َ‬ ‫صَيا ُ‬ ‫فَ ِ‬
‫ة‬‫ن ل َي َْلــ ً‬ ‫ســى ث َل َِثيــ َ‬ ‫مو َ‬ ‫عــد َْنا ُ‬ ‫] البقــرة‪ [196:‬وقــال تعــالى‪} :‬وََوا َ‬
‫ن ل َي ْل َـ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة {] العــراف‪[142:‬‬ ‫ت َرب ّـهِ أْرب َِعيـ َ‬ ‫قا ُ‬ ‫مي َ‬ ‫م ِ‬ ‫شرٍ فَت َ ّ‬ ‫ها ب ِعَ ْ‬
‫مَنا َ‬ ‫م ْ‬‫وَأت ْ َ‬
‫ر{]الفجــر‪ [1/40] «[2-1:‬إلــخ‬ ‫ش ٍ‬ ‫ل عَ ْ‬ ‫جرِ * وَل ََيا ٍ‬ ‫ف ْ‬ ‫وقال تعالى }َوال ْ َ‬
‫كلمه‪.‬‬

‫]منهج أهل السنة في أزواج النبي ‪ ‬وأهل بيته[‬


‫وقوله ـ رحمه الله ـ‪) :‬ومن أحسن القول في أصحاب رسول‬
‫الله ‪ ،‬وأزواجه الطاهرات من كل دنس‪ ،‬وذّرّياته المقدسين من‬
‫كل رجس‪ ،‬فقد برئ من النفاق(‪.‬‬
‫ل الله ‪،‬‬ ‫ب رسو ِ‬ ‫ب أصحا َ‬ ‫هذا تأكيد لما سبق من قوله‪) :‬ونح ُ‬
‫ض مــن‬ ‫ُ‬ ‫فرِ ُ‬
‫ط في حب أحد منهم‪ ،‬ول نتبرأ من أحد منهم‪ ،‬ونبغِ ُ‬ ‫ول ن ُ ْ‬
‫ن‬
‫ضهم‪ ،‬وبغيرِ الخيرِ يذكُرهم‪ ،‬ول نذكرهم إل بخيــر‪ ،‬وحُبهــم دي ـ ٌ‬ ‫يبغِ ُ‬
‫ضــهم كفـٌر ونفـاق وطغيــان( ]ص[ فإحسـان‬ ‫وإيمان وإحسان‪ ،‬وبغ ُ‬
‫القول في الصحابة يكـون بـذكرهم بفضــائلهم‪ ،‬وبالترضــي عنهــم‪،‬‬
‫وبمعرفة أقدارهم‪ ،‬وإحسان القول فيهم‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وأزواجه ( عطف الزواج على الصحاب من عطــف‬
‫الخاص على العام‪ ،‬فإن أزواج رسول الله ‪ ‬لهن من الصحبة مــا‬
‫ليس لغيرهن من نساء المؤمنين؛ للعلقة الزوجية‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬الطاهرات( المنزهات البريئات من كل دنس يعيــب‬
‫شرفهن وفضــلهن‪ ،‬وزوجــات الرســول ‪ ‬يشــمل كــل مــن مــات‬
‫عنهن وهن تسع‪ ،‬ومن ماتت وهي في عصــمته ‪ ،‬فهــؤلء كلهــن‬
‫أمهات المؤمنين‪ ،‬فمجموعهن إحدى عشرة‪ :‬أولهــن خديجــة بنــت‬

‫‪233‬‬
‫خويلد وقد توفيت في حياته ‪ ‬بمكة قبــل الهجــرة‪ ،‬وزينــب بنــت‬
‫خزيمــة أم المســاكين وقــد تــوفيت فــي حيــاته ‪ ،‬وبقيــة التســع‬
‫]وهن‪ :‬عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وميمونة بنت الحارث‬
‫وصفية بنت حيي وزينب بنت جحش وسودة بنت زمعــة وجويريــة‬
‫ن في عصمته‪.‬‬ ‫بنت الحارث رضي الله عنهن[ مات النبي ‪ ‬وه ّ‬
‫ي‬ ‫ومما جاء في بيان فضــلهن قــوله ســبحانه وتعــالى‪ )) :‬الن ّب ِـ ّ‬
‫م ((]الحــزاب‪[6:‬‬ ‫فس ـهم وأ َزواج ـ ُ‬ ‫أ َوَلى بــال ْمؤ ْمِنين م ـ َ‬
‫مهَــات ُهُ ْ‬ ‫هأ ّ‬ ‫ن أن ْ ُ ِ ِ ْ َ ْ َ ُ ُ‬ ‫ِ ُ ِ َ ِ ْ‬ ‫ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ن ب َْعــد ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ج ُ‬‫حوا أْزَوا َ‬ ‫ن ت َن ْك ِ ُ‬ ‫ويحرم نكاحهن؛ لحق النبي ‪َ )) ‬ول أ ْ‬
‫َ‬
‫ما ((]الحزاب‪ [53:‬فــأزواج النــبي‬ ‫ظي ً‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ ع َ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م َ‬
‫كا َ‬ ‫ن ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫دا إ ِ ّ‬ ‫أب َ ً‬
‫‪ ‬أمهــات المــؤمنين فــي الحرمــة والتحريــم‪ ،‬ولســن أمهــات‬
‫المؤمنين في المحرمية‪].‬منهاج السنة ‪[4/369‬‬
‫ْ‬
‫ة‬
‫مب َي ّن َـ ٍ‬ ‫ش ـة ٍ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫من ْك ُـ ّ‬ ‫ت ِ‬ ‫ن ي َأ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ي َ‬ ‫ساَء الن ّب ِ ّ‬ ‫وقال تعالى‪َ )) :‬يا ن ِ َ‬
‫ن‬ ‫مـ ْ‬ ‫ســيًرا * وَ َ‬ ‫ّ‬
‫ك ع َلــى اللـهِ ي َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ن ذ َل ِـ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫في ْ‬ ‫ضعْ َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ف ل ََها ال ْعَ َ‬ ‫ضاع َ ْ‬ ‫يُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ن وَأع ْت َد َْنا‬ ‫مّرت َي ْ ِ‬ ‫ها َ‬ ‫جَر َ‬ ‫حا ن ُؤ ْت َِها أ ْ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬
‫ل‬ ‫سول ِهِ وَت َعْ َ‬ ‫ن ل ِل ّهِ وََر ُ‬ ‫ّ‬ ‫من ْك ُ‬‫ت ِ‬ ‫قن ُ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫قي ْت ُـ ّ‬‫ن ات ّ َ‬ ‫ســاِء إ ِ ِ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫حد ٍ ِ‬ ‫ن ك َأ َ‬ ‫ست ُ ّ‬ ‫ي لَ ْ‬ ‫ساَء الن ّب ِ ّ‬ ‫ما * َيا ن ِ َ‬ ‫ري ً‬ ‫ل ََها رِْزًقا ك َ ِ‬
‫ن قَـوًْل‬ ‫ض وَقُل ْـ َ‬ ‫مـَر ٌ‬ ‫ذي فِــي قَل ْب ِـهِ َ‬ ‫مـعَ ال ّـ ِ‬ ‫ل فَي َط ْ َ‬ ‫قو ْ ِ‬ ‫ن ب ِــال ْ َ‬ ‫ضـعْ َ‬ ‫خ َ‬ ‫َفل ت َ ْ‬
‫ُ‬
‫جاه ِل ِي ّـةِ الول َــى‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫ن ت َب َـّر َ‬ ‫جـ َ‬ ‫ن َول ت َب َّر ْ‬ ‫ن فِــي ب ُي ُــوت ِك ُ ّ‬ ‫معُْروفًــا * وَقَـْر َ‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫لـ‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫د‬ ‫ريـ‬ ‫ي‬ ‫مـا‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫سـو‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫لـ‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ط‬ ‫َ‬ ‫أ‬‫و‬ ‫ة‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫تي‬ ‫وآ‬ ‫ة‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ ِّ َ ُ ِ ُ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫ّ َ َ ِ َ ّ َ َ ِْ َ‬ ‫وَ ِ ْ َ‬
‫م‬ ‫ق‬ ‫أ‬
‫م ت َط ِْهيًرا * َواذ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫مــا‬ ‫ن َ‬ ‫كــْر َ‬ ‫ت وَي ُط َهَّرك ُ ْ‬ ‫ل ال ْب َي ْ ِ‬ ‫س أهْ َ‬ ‫ج َ‬ ‫م الّر ْ‬ ‫ب ع َن ْك ُ ُ‬ ‫ل ِي ُذ ْه ِ َ‬
‫فــا‬ ‫طي ً‬ ‫ن لَ ِ‬ ‫ه ك َــا َ‬ ‫ن الل ّـ َ‬ ‫م ـة ِ إ ِ ّ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ت الل ّـهِ َوال ْ ِ‬ ‫ن آي َــا ِ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ي ُت َْلى فِــي ب ُي ُــوت ِك ُ ّ‬
‫خِبيًرا ((]الحزاب‪.[34-30:‬‬ ‫َ‬
‫فنساء النبي ‪ ‬لهـن مـن الفضـل مـا ليــس لغيرهــن؛ لعظــم‬
‫ن خديجة وعائشــة فقــد ثبــت‬ ‫صلتهن وصحبتهن للنبي ‪ ،‬وأفضله ّ‬
‫لهما من الفضائل ما ليس لسائر أمهات المؤمنين‪ ،‬فهن يشــتركن‬
‫في أنهن أزواج النبي ‪ ،‬وأنهن أمهات المؤمنين‪ ،‬ويشــملهن هــذا‬
‫َ‬
‫ســاِء ((]الحــزاب‪ [32:‬فمــن‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫مـ َ‬ ‫ح ـد ٍ ِ‬ ‫ن ك َأ َ‬ ‫ست ُ ّ‬ ‫الثناء العطر‪ )) :‬ل َ ْ‬
‫العلماء من قال‪ :‬خديجة أفضل]فتح الباري ‪ ،7/139‬ورجحه‪ ،‬وهــو‬
‫اختيـــار المؤلـــف فـــي شـــرح الواســـطية ص ‪[271‬؛ لنهـــا أول‬
‫المؤمنات‪ ،‬بل قيل‪ :‬إنها أول من آمن به ‪ ‬كما جاء في قصة بدء‬
‫الوحي ]رواه البخاري )‪ ،(3‬ومسلم )‪ (160‬من حديث عائشة ‪[‬‬
‫‪ ،‬وثبت في الصحيح‪ »:‬أن جبريل أتى النبي ‪ ،‬فقــال‪ :‬يــا رســول‬
‫الله هذه خديجة قد أتت معهــا إنــاء فيــه إدام أو طعــام أو شــراب‬
‫فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلم من ربهــا ومنــي‪ ،‬وبشــرها بــبيت‬
‫ب(‪] .‬رواه البخــاري )‬ ‫صـ َ‬ ‫ب فيــه ول ن َ َ‬ ‫خ َ‬ ‫صـ َ‬ ‫بل َ‬ ‫صـ ٍ‬ ‫في الجنة من قَ َ‬
‫‪ ،(3820‬ومسلم )‪ (2432‬من حديث أبي هريرة ‪ [‬وقــال النــبي‬
‫‪ » :‬خير نسائها مريم بنــت عمــران وخيــر نســائها خديجــة بنــت‬

‫‪234‬‬
‫خويلــد« ]رواه البخــاري )‪ ،(3432‬ومســلم )‪ (2430‬مــن حــديث‬
‫علي ‪[‬‬
‫ضل بعض أهل العلم عائشة؛ لنها عاصرت الدعوة ونــزول‬ ‫وف ّ‬
‫الشرائع‪ ،‬وتلقت وحفظت من العلم الذي جاء به النبي ‪ ‬مــا لــم‬
‫تدركه خديجة‪ ،‬وجاء في فضلها مثل قوله ‪ ‬لمــا قيــل لــه‪) :‬مــن‬
‫أحــب النــاس إليــك؟ قــال‪ :‬عائشــة ( ]تقــدم فــي ص[ وجــاء فيهــا‬
‫الحديث الصحيح‪ ) :‬فضل عائشة على النساء كفضل الثريــد علــى‬
‫ســائر الطعــام (‪] .‬رواه البخــاري )‪ (3411‬ومســلم )‪ (2431‬مــن‬
‫حديث أبي موسى الشعري ‪[‬‬
‫وجمع بعض أهل العلم بين القولين فقال‪ :‬إن خديجــة أفضــل‬
‫مــن وجــه‪ ،‬فلهــا تــأثير فــي أول الســلم بنصــر وتأييــد النــبي ‪‬‬
‫ومواساته‪ ،‬ولها منه المنزلة العالية‪ ،‬وهي أم أكثر أولده‪ ،‬وكان ‪‬‬
‫ت على أحــد مــن‬ ‫يذكرها وينوه بها‪ ،‬حتى قالت عائشة ‪» :‬ما ِغْر ُ‬
‫نساء النبي ‪ ‬ما غرت على خديجة وما رأيتها‪ ،‬ولكـن كــان النـبي‬
‫‪ ‬يكثر ذكرها‪ ،‬وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء‪ ،‬ثم يبعثها فــي‬
‫ت له‪ :‬كأنه لم يكن فــي الــدنيا امــرأة إل‬ ‫صدائق خديجة‪ ،‬فربما قل ُ‬
‫خديجة! فيقول‪» :‬إنها كانت وكــانت‪ ،‬وكــان لــي منهــا ولــد«‪].‬رواه‬
‫البخاري )‪ (3818‬ـ واللفظ له ـ ومسلم )‪ [(2435‬وعائشة أفضل‬
‫من جهة حمل العلم وتبليغه إلى المة وإدراكها من العلــم مــا لــم‬
‫تشركها فيه خديجة ‪] .‬هذا اختيار شيخ السلم ابــن تيميــة ‪ ،‬وابــن‬
‫القيــم ‪ .‬مجمــوع الفتــاوى ‪ ،4/393‬وبــدائع الفــوائد ‪3/1104‬وجلء‬
‫الفهام ص ‪[263‬‬
‫فهذا بعض ما يتعلق بزوجات النبي ‪ ،‬وهــن مــبرآت‪ ،‬وليــس‬
‫معنى ذلك أنهن معصومات‪ ،‬فليس أحد معصوم بعد النبي ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وذّرّياته المقدسين مــن كــل رجــس‪ ،‬فقــد بــرئ مــن‬
‫النفاق(‪.‬‬
‫ذرية الرسول ‪ ‬هم‪ :‬أولده من صلبه وكلهم ماتوا في حياته‬
‫ضلى أولد النبي ‪.‬‬ ‫‪ ‬إل فاطمة فُ ْ‬
‫ولشك أن ذريته ‪ ‬يصدق عليهم هذا الوصف وأنهم مبرؤون‬
‫من الرجاس والعيوب التي تدنس الخلق‪ ،‬ويدخل في هذا السم‬
‫مــن ذريــة النــبي ‪ ‬أولد فاطمــة ‪ ‬ومــا تناســل منهــم‪ ،‬فذريــة‬
‫الحسن والحسين كلهم من ذرية النبي ‪ ،‬قــال اللــه تعــالى فــي‬
‫ب ك ُّل‬ ‫قــو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫سـ َ‬ ‫ه إِ ْ‬‫إبراهيم الخليل عليه الســلم‪ )) :‬وَوَهَب ْن َــا ل َـ ُ‬
‫َ‬
‫ب‬ ‫ن وَأّيـو َ‬ ‫ما َ‬ ‫سـل َي ْ َ‬
‫داوُد َ وَ ُ‬ ‫ن ذ ُّري ِّتـهِ َ‬ ‫مـ ْ‬ ‫ل وَ ِ‬‫ن قَْبـ ُ‬
‫مـ ْ‬‫هـد َي َْنا ِ‬
‫حـا َ‬ ‫هـد َي َْنا وَُنو ً‬ ‫َ‬
‫ن * وََزك َرِي ّــا‬ ‫س ـِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫زي ال ْ ُ‬ ‫جـ ِ‬ ‫ك نَ ْ‬ ‫ن وَك َـذ َل ِ َ‬‫ســى وَهَــاُرو َ‬ ‫مو َ‬ ‫ف وَ ُ‬ ‫سـ َ‬‫وَُيو ُ‬
‫ع‬
‫سـ َ‬ ‫ل َوال ْي َ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫سـ َ‬ ‫ن * وَإ ِ ْ‬ ‫حي َ‬ ‫صــال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫ل ّ‬ ‫سى وَإ ِل َْيا َ‬
‫س كُ ّ‬ ‫عي َ‬ ‫حَيى وَ ِ‬ ‫وَي َ ْ‬
‫ن{ ]النعــام‪ [86-84:‬كــل‬ ‫مي َ‬ ‫ضل َْنا ع ََلى ال ْعَــال َ ِ‬‫طا وَك ُل ّ ف ّ‬ ‫س وَُلو ً‬ ‫وَُيون ُ َ‬

‫‪235‬‬
‫هؤلء النبياء الذين جاءوا متأخرين عدهم الله مــن ذريــة إبراهيــم‬
‫عليه السلم‪.‬‬
‫فهكذا ما تناسل من أولد الحسن والحسين رضي الله عنهما‬
‫كلهــم مــن ذريــة النــبي ‪ ،‬وبهــذا نحتــاج إلــى احــتراز؛ لن قــول‬
‫الطحاوي‪) :‬وذّرّياته المقدسين من كل رجس( ليس على إطلقه؛‬
‫لن فيهم المحسن والمسيء‪ ،‬كما قال تعالى سبحانه وتعالى في‬
‫ن * وََباَرك ْن َــا‬ ‫حي َ‬‫صــال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مـ َ‬ ‫حاقَ ن َب ِي ّــا ِ‬ ‫سـ َ‬ ‫شْرَناه ُ ب ِإ ِ ْ‬ ‫ذرية إبراهيم‪ )) :‬وَب َ ّ‬
‫ن ((‬ ‫مِبي ـ ٌ‬ ‫س ـه ِ ُ‬ ‫ف ِ‬‫م ل ِن َ ْ‬‫ن وَظ َــال ِ ٌ‬ ‫س ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫ن ذ ُّري ّت ِهِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حاقَ وَ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ع َل َي ْهِ وَع ََلى إ ِ ْ‬
‫]الصافات‪.[113-112:‬‬
‫ت‬ ‫مــا ٍ‬ ‫ه ب ِك َل ِ َ‬‫م َرب ّـ ُ‬ ‫هي ـ َ‬ ‫َ‬
‫وقــال ســبحانه وتعــالى‪ )) :‬وَإ ِذ ِ اب ْت َلــى إ ِب َْرا ِ‬
‫ن ذ ُّري ِّتي َقا َ‬ ‫ما َقا َ‬ ‫عل ُ َ‬ ‫ن َقا َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ل ل ي ََنا ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل وَ ِ‬ ‫ما ً‬ ‫س إِ َ‬ ‫ك ِللّنا ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫ل إ ِّني َ‬ ‫مهُ ّ‬ ‫فَأت َ ّ‬
‫ن ((]البقــرة‪ [124:‬فمــن ذريــة إبراهيــم المــؤمن‬ ‫مي َ‬ ‫دي الظ ّــال ِ ِ‬ ‫ع َهْ ـ ِ‬
‫والكــافر‪ ،‬فبنــو إســرائيل كلهــم مــن ذريــة إبراهيــم وكــذلك ذريــة‬
‫إسماعيل هم من ذرية إبراهيم ومنهم المؤمن والكافر‪ ،‬والمحسن‬
‫والمسيء‪.‬‬
‫وهكذا ذريــة محمــد ‪ ‬وهــم مــن تناســل مــن ذريــة الحســن‬
‫والحسين فيهم العلماء والصالحون‪ ،‬وفيهــم مــن هــو خلف ذلــك‪،‬‬
‫فليس كل مـن كـان مـن ذريـة الحسـن والحسـين ــ وهـم الـذين‬
‫س ـّلم بهــذا‬ ‫ً‬
‫مون بالشــراف ـ ـ يكــون مــبرأ‪ ،‬فهــذه عبــارة ل ت ُ َ‬ ‫ُيس ـ َ‬
‫الطلق‪ ،‬فيجب قصرها على ذرية الرسول ‪ ‬الدنين ممــن ثبــت‬
‫فضــلهم‪ ،‬أمــا مــن بعــدهم فهــم كغيرهــم مــن النــاس معرضــون‪،‬‬
‫ومتنوعون‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬فقد بريء من النفاق(‪.‬‬
‫لن بغض الصحابة والطعــن فيهــم‪ ،‬وفــي أزواج النــبي ‪ ‬ول‬
‫سيما عائشة‪ ،‬ورميها بما برأها الله منه؛ هو من شــأن المنــافقين‪،‬‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫وقد حمل عبء الفــك رأس المنــافقين عبــد اللــه بــن أبــي )) إ ِ ّ‬
‫خْيــٌر‬ ‫هــوَ َ‬ ‫ل ُ‬ ‫م بَ ْ‬ ‫شّرا ل َك ُ ْ‬ ‫سُبوه ُ َ‬ ‫ح َ‬ ‫م ل تَ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ة ِ‬ ‫صب َ ٌ‬‫ك عُ ْ‬ ‫جاُءوا ِبال ِفْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫م‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ذي ت َوَّلى ك ِب َْره ُ ِ‬ ‫ن ال ِث ْم ِ َوال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما اك ْت َ َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ئ ِ‬ ‫مرِ ٍ‬ ‫لا ْ‬‫م ل ِك ُ ّ‬ ‫ل َك ُ ْ‬
‫م ((]النور‪.[11:‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬‫ه عَ َ‬ ‫لَ ُ‬
‫وأشار الشارح ابن أبي العز ]ص ‪ [738‬إلى أن أصل الرفــض‬
‫الذي هو بغــض الصــحابة وتكفيرهــم والغلــو فــي علــي ‪ ‬وذريتــه‬
‫أسسه المنافقون‪ ،‬والمؤسس الول لمذهب الرفض هو عبد اللــه‬
‫بن سبأ اليهودي الذي ب َذ ََر بذرت الفتنــة بيــن النــاس وألبهــم علــى‬
‫عثمان ‪ ‬حتى قتل‪ ،‬ثم سعى فــي فتنــة أخــرى وهــي الغلــو فــي‬
‫علي ‪.‬‬
‫سبحان الله العظيم! فــي ذلــك العصــر الزاهــي وقــرب عهــد‬
‫النبوة ظهر هذا المذهب الكفري‪ ،‬وهو تأليه علي ‪ ،‬فحرق علــي‬

‫‪236‬‬
‫‪ ‬قوما أتوه فقالوا‪ :‬أنت هو! فقال‪ :‬من أنــا؟ فقــالوا‪ :‬أنــت ربنــا!‬
‫فأمر بنار فأججت فألقوا فيها‪ .‬وفيهم قال علي ‪:‬‬
‫لما رأيت المر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا‬
‫]انظر‪ :‬التنبيه والرد ص ‪ ،29‬والفصل ‪ ،3/120‬ومجموع الفتاوى‬
‫‪ ،35/185‬ومنهاج السنة ‪ ،1/29‬وأصل قصة التحريق في البخاري‬
‫)‪ (3017‬عن ابن عباس رضي الله عنهما‪ ،‬وانظر فتح الباري‬
‫‪[6/151‬‬
‫وبقي هذا المذهب الملعون مذهب الرفض والغلــو فــي علــي‬
‫‪ ‬وأهل البيت‪ ،‬واسمهم الذي يتسمون به قديما وحديثا‪ :‬الشيعة‪.‬‬
‫والشــيعة يقســمهم العلمــاء ثلثــة أقســام إجماليــة ]مجمــوع‬
‫الفتاوى ‪ ،4/407‬ومنهاج السنة ‪ ، [3/470‬وإل فهم فرق كثيرة‪:‬‬
‫الولــى‪ :‬الغلة‪ ،‬وهــم طــوائف منهــم‪ :‬الســبأية والقرامطــة‪،‬‬
‫والسماعيلية‪ ،‬والنصيرية‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬المامية‪ ،‬ومنهم‪ :‬الثني عشرية‪ ،‬وهم كذلك طوائف‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬ويعرفون بالمفضلة‪.‬‬
‫وهذه القسام الثلثـة كـانت قـد ظهـرت فـي عهـد علـي ‪،‬‬
‫فالغلة المؤلهون لعلي ‪.‬‬
‫والطائفة الثانية‪ :‬السبابة الذين يسبون أبا بكــر وعمــر‪ ،‬وكــان‬
‫رأسهم عبد الله بن سبأ‪ ،‬فلما بلــغ عليــا ذلــك طلــب قتلــه فهــرب‬
‫منه‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬المفضلة الذين يفضلون عليا علــى أبــي بكــر وعمــر‬
‫لكنهم ل يسبونهما‪ ،‬وقد قال علي ‪) :‬ل أوتى بأحد يفضلني على‬
‫أبي بكر وعمر إل جلدته حد المفتري(‪] .‬رواه في السنة عبد اللــه‬
‫بن أحمد ‪ ،2/562‬وابن أبي عاصم في السنة )‪ ،(1291‬والــبيهقي‬
‫في العتقاد ص ‪[504‬‬
‫وقد ذكر العلماء أن ســبب تســمية الرافضــة بهــذا الســم أن‬
‫الشيعة الغلة طلبوا من زيد بن علــي بــن الحســين أن يتــبرأ مــن‬
‫أبـي بكـر وعمـر‪ ،‬فقـال‪ :‬كيـف أتـبرأ منهمـا وهمـا وزيـرا جـدي؟!‬
‫فرفضــوه فسـموا‪ :‬الرافضــة‪] .‬مجمـوع الفتـاوى ‪ ،4/435‬ومنهـاج‬
‫السنة ‪1/35‬و ‪ ،2/96‬والبداية والنهاية ‪[ 13/106‬‬
‫وزيد بن علي بن الحسين هو الذي تنتسب إليه فرقة الزيديــة‬
‫‪.‬‬
‫والرافضة الغلة هم الذين تعرف طــوائفهم بالباطنيــة؛ لنهــم‬
‫يظهرون السلم‪ ،‬كما يقول بعض أهل العلــم‪) :‬يظهــرون الرفــض‬
‫ويبطنون الكفر المحــض( ]مجمــوع الفتــاوى ‪9/134‬و ‪11/581‬و[‬
‫فحقيقة أمر الباطنية أنهم ل يؤمنون بالله‪ ،‬ول بملئكتــه ول رســله‬
‫ول يؤمنون بمبدأ ول معاد‪ ،‬ول يؤمنون بالنبياء ول يؤمنــون بفضــل‬

‫‪237‬‬
‫أحد‪ ،‬حتى ل يؤمنون ول يعــترفون بفضــل علــي ‪‬؛ فــإذا جحــدوا‬
‫وكفروا بالرسالت فهل يبقى شيء؟ فما يدعونه من موالة علــي‬
‫وتعظيمه والغلو فيه كل هذا تضليل للسذج من الناس‪ ،‬وإل فليس‬
‫عندهم شيء من ذلك‪.‬‬
‫ولهذا نقل الشارح ابن أبي العــز عــن القاضــي أبــي بكــر بــن‬
‫الطيب طريقة الباطنية في دعوتهم‪ ،‬أنهم »قالوا للــداعي ‪ :‬يجــب‬
‫عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما أن تجعل التشــيع عنــده دينــك‬
‫وشعارك‪ ،‬واجعل المدخل من جهة ظلــم الســلف لعلــي‪ ،‬وقتلهــم‬
‫الحسين والتبري من ت َي ْــم وعــدي وبنــي أميــة وبنــي العبــاس‪ ،‬وأن‬
‫عليا يعلم الغيب! ُيفـوض إليــه خلــق العــالم! ‪ ...‬فــإذا أنســت مـن‬
‫بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا أوقفته علــى مثــالب علــي‬
‫وولده« ]ص ‪.[740‬‬
‫لن مهمة الباطنية هو إخراج المسلم عن ملة السلم‪ ،‬لكنهم‬
‫يعمقون فيه مبدأ النفاق والتقية‪ ،‬ولهذا مــذاهبهم وأقــوالهم تكــون‬
‫أسرارا‪.‬‬
‫وقد ذكر العلماء أقوالهم ومذاهبهم في كتب الملــل والنحــل‪،‬‬
‫كـ»الملل والنحل« للشهرستاني ]‪ ،[1/140‬وألف فيهــم مؤلفــون‬
‫كالغزالي له كتاب‪» :‬فضائح الباطنيـة«‪] .‬وهـو مطبـوع‪ ،‬وقـد ذكـر‬
‫شيخ السلم جملة من الكتب التي ردت عليهم‪ .‬مجموع الفتــاوى‬
‫‪9/134‬و ‪ ،27/174‬ودرء التعــارض ‪ ،5/8‬والــرد علــى المنطقييــن‬
‫ص ‪[.184‬‬
‫وســموا بالباطنيــة؛ لنهــم يزعمــون أن للنصــوص وللشــرائع‬
‫معاني باطنة تخــالف ظاهرهــا‪ ،‬فيجعلــون للشــرائع معــاني باطنــة‬
‫تخــالف مــا يعرفــه المســلمون منهــا‪ ،‬فيفســرون القــرآن بمعــاني‬
‫ن ((]الرحمــن‪:‬‬ ‫ن ي َل ْت َ ِ‬
‫قي َــا ِ‬ ‫حَري ْـ ِ‬‫ج ال ْب َ ْ‬‫مـَر َ‬‫باطنة‪ ،‬مــن ذلــك قــولهم‪َ )) :‬‬
‫ن ((‬‫جــا ُ‬ ‫مــا الل ّؤ ُْلــؤ ُ َوال ْ َ‬
‫مْر َ‬ ‫من ْهُ َ‬
‫ج ِ‬ ‫خــُر ُ‬‫‪[19‬أي‪ :‬علــي وفاطمــة )) ي َ ْ‬
‫]الرحمن‪[22:‬أي‪ :‬الحسن والحسين‪.‬‬
‫َ‬
‫ب ((]المسد‪ [1:‬أبو بكر وعمــر! فهــذه مــن‬ ‫دا أِبي ل َهَ ٍ‬
‫ت يَ َ‬
‫)) ت َب ّ ْ‬
‫تفسيرات الباطنية‪.‬‬
‫ومـن تـأويلتهم للشـرائع قـولهم‪ :‬الصـيام هـو كتمـان أسـرار‬
‫الباطنية‪ ،‬والصلة هو معرفة تلك السرار‪ ،‬والحج هو الســفر إلــى‬
‫طواغيتهم وشيوخهم‪] .‬حكاه عنهم شيخ السلم في‪ :‬مقدمــة فــي‬
‫أصــول التفســير ص ‪ ،220‬ورســالة فــي علــم الظــاهر والبــاطن‬
‫‪ ،13/230‬ومنهاج السنة ‪ ،3/404‬والصفدية ص ‪[51‬‬
‫ذا؛ الباطنية ملحدة منافقون‪ ،‬وكفرهم أغلظ من كفر اليهود‬ ‫إ ً‬
‫والنصارى‪] .‬التدمرية ص ‪[160‬‬

‫‪238‬‬
‫]احترام علماء المة من السلف ومن اقتفى أثرهم[‬
‫وقــوله‪) :‬وعلمــاء الســلف مــن الســابقين‪ ،‬ومــن بعــدهم مــن‬
‫التابعين ـ أهل الخير ]رأيت في مخطوطة للمتن‪» :‬والخــبر« وهــو‬
‫محتمل‪ ،‬لكــن الشــيخ مــال إلــى مــا أثبــت‪ [.‬والثــر‪ ،‬وأهــل الفقــه‬
‫والنظر ـ ل ي ُذ ْك َُرون إل بالجميل‪ ،‬ومن ذكرهم بسوء فهو على غير‬
‫السبيل(‬
‫أهل العلم من الصحابة والتابعين وتــابعيهم مــن أئمــة الهــدى‬
‫يجــب أن يعــرف لهــم قــدرهم‪ ،‬ويجــب أن يعــاملوا بمــا تســتوجبه‬
‫منازلهم من العلم والدين‪ ،‬وِذكُر الطحاوي حق العلمــاء فــي هــذه‬
‫الجملة مناسب جدا؛ فإنه ذكر ما يجب للصحابة رضي الله عنهــم‪،‬‬
‫وأهل بيت الرسول ‪ ‬ثم أردف ذلك بذكر مــا يجــب لعلمــاء هــذه‬
‫المة من السلف مــن الصــحابة‪ ،‬ومــن جــاء بعــدهم‪ ،‬ولهــذا قــال‪:‬‬
‫)ومن بعدهم من التابعين‪ ،‬أهل الخير والثر(‪ .‬أهــل الخيــر‪ :‬العمــل‬
‫الصالح‪ ،‬وأهل الثار‪ :‬الذين يقتفون آثار النبي ‪ ‬ويقتفون آثار من‬
‫سلف قبلهم من أهــل العلــم والــدين‪ ،‬وأهــل الفقــه والنظــر فهــم‬
‫العلماء الفقهاء العباد الصلحاء‪.‬‬
‫وه بفضــل العلمــاء فــي كتــابه حيــث قــال‪:‬‬ ‫والله تعــالى قــد ن َـ ّ‬
‫ُ‬ ‫شهد الل ّ َ‬
‫ط‬
‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ِبال ْ ِ‬
‫ة وَأوُْلوا ال ْعِل ْم ِ َقائ ِ ً‬ ‫ه إ ِّل هُوَ َوال ْ َ‬
‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬ ‫ه أن ّ ُ‬‫ُ‬ ‫)) َ ِ َ‬
‫((]آل عمران‪ [18:‬أولــوا العلــم‪ :‬أصــحاب العلــم الشــرعي‪ ،‬وهــم‬
‫على مراتب‪ ،‬فيدخل فيهم النبياء‪ ،‬كمـا يـدخل فيهـم العلمـاء مـن‬
‫م‬‫من ْك ُـ ْ‬‫مُنـوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ه ال ّـ ِ‬‫أتباعهم‪ ،‬وقال سبحانه وتعــالى‪ )) :‬ي َْرَفـِع الّلـ ُ‬
‫وال ّذي ُ‬
‫ت ((]المجادلة‪.[11:‬‬ ‫جا ٍ‬ ‫م د ََر َ‬ ‫ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ‬ ‫َ ِ َ‬
‫مــا‬
‫فخص العلماء برفع الدرجات‪ ،‬وقال سبحانه وتعــالى‪ )) :‬إ ِن ّ َ‬
‫ماُء ((]فاطر‪ [28:‬فخص وحصر خشيته‬ ‫عَباد ِهِ ال ْعُل َ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫شى الل ّ َ‬ ‫خ َ‬
‫يَ ْ‬
‫بالعلماء ـ أي‪ :‬العلماء بالله وشرعه ـ وكل دليل يــدل علــى فضــل‬
‫العلم؛ هو دليل على فضل العلماء‪ ،‬وفــي حــديث أبــي الــدرداء ‪‬‬
‫عــن النــبي ‪ ‬الــذي رواه الترمــذي وغيــره وفيــه‪» :‬وإن العــالم‬
‫ليستغفر له من في السموات ومن في الرض حتى الحيتــان فــي‬
‫المــاء‪ ،‬وفضــل العــالم علــى العابــد كفضــل القمــر علــى ســائر‬
‫الكواكب‪ ،‬وإن العلماء ورثة النبياء وإن النبياء لم يورثوا دينارا ول‬
‫درهما‪ ،‬إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر« ]رواه أحمــد‬
‫‪ ،5/196‬وأبــو داود )‪ ،(3641‬والترمــذي )‪ ،(2682‬وابــن مــاجه )‬
‫‪ (223‬وابــن حبــان )‪ ،(88‬وقــال الحــافظ فــي الفتــح ‪:1/160‬‬
‫حا مــن‬ ‫»أخرجــه أبــو داود والترمــذي وابــن حبــان والحــاكم مصــح ً‬
‫حــديث أبــي الــدرداء‪ ،‬وحســنه حمــزة الكنــاني وضــعفه غيرهــم‬
‫بالضطراب في سنده لكن له شواهد يتقوى بهــا« وانظــر‪ :‬العلــل‬

‫‪239‬‬
‫للدارقطني ‪ ،6/216‬وتهذيب السنن للمنذري ‪ ،5/243‬والتلخيــص‬
‫الحبير ‪ ،5/2300‬والمقاصد الحسنة )‪[(703‬‬
‫فالصحابة فيهم علماء‪ ،‬وفي التــابعين وتــابعيهم علمــاء‪ ،‬وهــم‬
‫حملة هذا الدين فــإنه )يحمــل هــذا العلــم مــن كــل خلــف عــدوله‬
‫ينفون عنه تحريف الغالين‪ ،‬وانتحال المبطلين‪ ،‬وتأويــل الجــاهلين(‬
‫]روي هذا مرفوعا عند العقيلي في الضــعفاء ‪1/9‬و ‪ ،10‬و ‪4/256‬‬
‫وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ‪ ،2/17‬والطبراني فــي مســند‬
‫الشــاميين ‪ ،1/344‬وابــن عــدي فــي الكامــل ‪ ، 2/273‬و ‪،3/457‬‬
‫والــبيهقي فــي الســنن الكــبرى ‪ ،10/209‬والخطيــب فــي شــرف‬
‫أصحاب الحديث ص ‪28‬و ‪ 29‬من مرســل إبراهيــم العــذري‪ ،‬ومــن‬
‫حديث عدد من الصحابة رضي الله عنهم‪ .‬ونقل الخطيب تصحيحه‬
‫عن المام أحمد‪ ،‬ونقــل الســخاوي فــي فتــح المغيــث ‪2/169‬عــن‬
‫عدد من الئمة تضعيفه‪ [.‬فهم المبلغون عن الله دينه‪ ،‬والقــائمون‬
‫بأمره على مراتبهم في العلم والدين‪.‬‬
‫وقــد ضــرب النــبي ‪ ‬المثــل للعلــم والعلمــاء‪ ،‬كمــا فــي‬
‫الصحيحين من حديث أبي موسى ‪ ‬أن النبي ‪ ‬قال‪) :‬مثــل مــا‬
‫بعثني الله به من الهدى والعلم‪ ،‬كمثل الغيث الكثير أصاب أرضــا‪،‬‬
‫فكان منها طائفة طيبة قِبلت الماء فأنبتت الكل والعشــب الكــثير‪،‬‬
‫وكانت منها أجاِدب أمسكت الماء‪ ،‬فنفع الله بهــا النــاس فشــربوا‬
‫وسقوا وزرعوا‪ ،‬وأصــابت منهــا طائفــة أخــرى إنمــا هــي ِقيعــان ل‬
‫ه في دين اللــه ونفعــه‬ ‫تمسك ماًء ول تنبت كل‪ ،‬فذلك مثل من فَ ُ‬
‫ق َ‬
‫ما بعثني الله به؛ فعَِلم وع َّلم‪ ،‬ومثل من لم يرفع بذلك رأسا‪ ،‬ولــم‬
‫يقبل هدى الله الذي أرسلت به(‪] .‬رواه البخاري )‪ ،(79‬ومســلم )‬
‫‪[(2282‬‬
‫قال العلماء في شرح هذا الحديث‪ :‬إن حملة العلم نوعان‪:‬‬
‫علماء نقل وروايــة‪ ،‬وعلمــاء فقهــاء‪ ،‬وليــس المــراد بالفقهــاء‬
‫أولئك المعنيون بأقوال من يتبعونه من الئمة؛ فــإن الغــالب علــى‬
‫هــؤلء التقليــد؛ بــل المــراد الفقهــاء الــذين جمعــوا بيــن معرفــة‬
‫النصــوص والفقــه والفهــم والســتنباط‪ .‬فقــوله ‪) :‬فكــان منهــا‬
‫طائفة طيبة قِبلت الماء فأنبتت الكل والعشــب الكــثير( هــذا مثــل‬
‫للعلماء الفقهاء‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وكان منها أجادب أمســكت المــاء( هــذا مثــل حفــاظ‬
‫السنة‪.‬‬
‫ولهذا قال الرسول ‪ ‬عندما خطــب بمنــى‪) :‬فَل ْي ُب َل ّـغْ الشــاهد ُ‬
‫َ‬
‫مع( ]رواه البخــاري )‪ ،(1741‬ــ‬ ‫مب َل ٍّغ أْوعــى مــن سـا ِ‬ ‫ب فَُر ّ‬
‫ب ُ‬ ‫الغائ ِ َ‬
‫ه‬ ‫واللفظ له ـ ومسلم )‪[(1679‬ولهذا قال ‪) :‬فذلك مثل من فَ ُ‬
‫قـ َ‬
‫في دين الله ونفعه ما بعثني الله به(‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫أما من أعرض فمثله في قوله ‪) :‬طائفــة أخــرى إنمــا هــي‬
‫ِقيعان ل تمسك ماًء ول تنبت كل ( فلم تنتفــع بهــذا الغيــث‪ ،‬ولهــذا‬
‫قال‪) :‬ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولــم يقبــل هــدى اللــه الــذي‬
‫أرسلت به(‪.‬‬
‫فيجب على ســائر المــة أن يعرفــوا لهـؤلء العلمـاء فضــلهم؛‬
‫لنهم حملة هــذا الــدين‪ ،‬والقــائمون بــه‪ ،‬فتجــب محبتهــم لعلمهــم‬
‫ودينهم وإيمانهم‪ ،‬والحب في الله واجب لجميــع المســلمين‪ ،‬لكــن‬
‫يجب إنزال كل أحد منزله‪ ،‬الصحابة لهـم منزلــة‪ ،‬وحبهــم هــو مـن‬
‫الحب في اللــه‪ ،‬ولكــن يجــب لهــم مــن المحبــة والتقــدير والــذكر‬
‫الجميل ما ليس لغيرهم‪ ،‬وهكذا العلمــاء يســتوجبون مــن المحبــة‬
‫والجلل والذكر الجميل والثناء العاطر ما ل يستحقه مــن دونهــم‪،‬‬
‫وأصل الحب في الله تابع لمحبة الله‪ ،‬فمن كان أقــرب إلــى اللــه‬
‫وأقوم بدين الله‪ ،‬وأتقى لله كان له من المحبة والكرام مــا يليــق‬
‫بمقامه‪.‬‬
‫وقد انقسم الناس في العلماء ثلث أقسام‪:‬‬
‫طرفان ووسط‪ ،‬فطائفة تغلوا في مــن تعظمــه مــن العلمــاء؛‬
‫لن لكل طائفة من المقلدين إماما ينتمون إليه‪ ،‬وهذا الغلو يتمثل‬
‫بالتعصب لقوالهم‪ ،‬وتقديمها على أقوال غيرهم؛ فالمتعصبون من‬
‫المتمــذهبين ل يعتــبرون أقــوال الئمــة الخريــن إنمــا يتمســكون‬
‫رض نصوص الشــرعية علــى‬ ‫بأقوال إمامهم الذي يقلدونه؛ بل وي َعْ ِ‬
‫قول إمامه فما وافقها قبله‪ ،‬وما خالفها تــأوله‪ ،‬وتلمــس لــه أنــواع‬
‫التفســـير والتأويـــل؛ ليـــدفع معارضـــتها لقـــول المـــام‪ ،‬وهـــؤلء‬
‫م‬ ‫خـ ُ َ‬
‫حب َــاَرهُ ْ‬
‫ذوا أ ْ‬ ‫مذمومون‪ ،‬ولهم شبه بمــن قــال اللــه فيهــم‪ )) :‬ات ّ َ‬
‫ن الل ّهِ ((]التوبة‪.[31:‬‬ ‫ورهْبانه َ‬
‫دو ِ‬
‫ن ُ‬‫م ْ‬
‫م أْرَباًبا ِ‬
‫َُ َ َُ ْ‬
‫قد َ المام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ بابا في‬ ‫ولهذا ع َ َ‬
‫كتاب »التوحيد« عنوانه‪» :‬بــاب مــن أطــاع العلمــاء والمــراء فــي‬
‫تحريم ما أحل الله‪ ،‬وتحليل ما حرم الله فقــد اتخــذهم أربابــا مــن‬
‫دون الله«‪] .‬ص ‪[72‬‬
‫من ل يعرف للعلماء قدرهم‪ ،‬ول يعتبر أقوالهم‪،‬‬ ‫ويقابل هؤلء‪َ :‬‬
‫ول ينظر فيما استنبطوه من نصوص الكتــاب والســنة؛ بــل يجعــل‬
‫دا لهـم؛ بـل يتنقصـهم فيمـا يخـالف هـواه ورأيـه‪ ،‬ويطعـن‬ ‫نفسه ن ً‬
‫رم‬ ‫حـ ِ‬
‫عليهم فيما اجتهدوا فيه واستنبطوه من النصوص‪ ،‬وهذا قــد ُ‬
‫من النتفاع بهم؛ لنه متبع لهواه متعصب لرأيــه‪ ،‬وإنمــا يأخــذ مــن‬
‫أقوال العلماء ما وافق رأيه‪.‬‬
‫مثلما يفعــل الخــرون فــي النصــوص حيــن يأخــذون منهــا مــا‬
‫يوافق آراءهم ومذاهبهم‪ ،‬فتجد أحــدهم يســتدل باليــة أو الحــديث‬
‫حين يوافق المذهب الــذي مشــى عليــه‪ ،‬ومــا جـاء مـن النصــوص‬

‫‪241‬‬
‫معارضا لمذهبه ورأيه د َفََعه بكــل وســيلة؛ إمــا بالتكــذيب أو الــرد‪،‬‬
‫وإما بالتحريف الذي يسمونه تأويل‪ ،‬كما تفعل طــوائف المبتدعــة‪،‬‬
‫فهــذا منهجهــم فــي النصــوص‪ ،‬وهــو منهــج المتعصــبين مــن أهــل‬
‫المذاهب بالنسبة لما خالف مذهبهم‪.‬‬
‫فهــذان فريقــان علــى طرفــي نقيــض‪ :‬المتعصــبون للئمــة‬
‫المقدمون لقوالهم على كتاب اللــه وســنة رســوله‪ ،‬والمتنقصــون‬
‫المســتخفون بأهــل العلــم مــن الســلف الصــالح ومـن ســار علــى‬
‫منهجهم وطريقتهم‪ ،‬وبين ذلك القول الوسط‪ ،‬وهو الذي عّبر عنــه‬
‫المام الطحاوي وقصد إليه‪ ،‬وهو العتراف بفضل العلماء‪ ،‬وإنزال‬
‫كل منزلته‪ ،‬والنتفاع بعلومهم وفهــومهم‪ ،‬فمــن كــان قاصــرا عــن‬
‫فهم الدلة؛ فليس له إل أن يقلد من يثــق بعلمــه ودينــه مــن أهــل‬
‫العلم‪.‬‬
‫لكن الشأن في من يقدر على فهم النصوص؛ فهــذا عليــه أن‬
‫ينتفع بفهم العلماء‪ ،‬ويرجـع إلــى أقــوالهم‪ ،‬ول يقصـر نفسـه علـى‬
‫معين يقلده ول يخرج عن أقواله ول يلتفت إلــى أقــوال غيــره‪ ،‬ل؛‬
‫بل عليه أن يستفيد من كل الئمة‪ ،‬ويأخذ من أقوالهم ما تشهد له‬
‫الدلة من الكتاب والسنة‪ ،‬فأقوال الئمة تنقسم إلى ثلثة أقسام‪:‬‬
‫الول‪ :‬ما دل عليه الــدليل مـن الكتــاب والســنة فهــذا واجــب‬
‫التباع؛ لنه يستند إلى الصل الصحيح مهما كان قائله منهم‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬ما خالف الــدليل فيجــب تركــه‪ ،‬وهــذا مــا أوصــى بــه‬
‫عون تلميــذهم‪] .‬انظــر‪ :‬آداب الشــافعي ومنــاقبه ص‬ ‫ة المت ُْبو ُ‬
‫الئم ُ‬
‫‪ ،93‬ومختصر المؤمل ص ‪ ،88‬وإعلم الموقعين ‪[2/200‬‬
‫والثالث‪ :‬أقوال لم تظهر مخالفتهــا للدلــة‪ ،‬ول موافقتهــا لهــا‪،‬‬
‫فهذه يقول فيها المحققون‪ :‬إنها سائغة التباع‪ ،‬ل واجبة التباع ول‬
‫ممنوعة التباع؛ لنها موضع اجتهاد‪.‬‬
‫ومما يجب اعتقاده أن هؤلء العلماء ليسوا معصومين‪ ،‬فلهــذا‬
‫يصيبون تارة ويخطئون أخرى‪.‬‬
‫ولكن الئمة المعروفون يجب اعتقاد أنهم ل يتعمدون مخالفة‬
‫الــدليل حاشــاهم مــن ذلــك‪ ،‬ومــن ظــن ذلــك فهــو متجــن عليهــم‬
‫ومسيء للظن بهم‪ ،‬فــإذا ثبــت عــن أحــدهم أنــه خــالف دليل مــن‬
‫كتاب أو سنة‪ ،‬فيجب العتذار عنه بما يمكن‪.‬‬
‫وقد ألف شيخ السلم ابن تيمية رسالة صغيرة اسمها‪» :‬رفع‬
‫الملم عــن الئمــة العلم« ]مطبوعــة مفــردة مــرارا‪ ،‬وضــمن‬
‫مجموع الفتاوى ‪ ،[290-20/231‬وذكر أعذار العلماء في مخالفــة‬
‫بعضهم لبعــض الدلــة‪ ،‬وأهمهــا‪ :‬عــدم بلــوغ الــدليل‪ ،‬فقــد يخــالف‬
‫الدليل؛ لنه لم يبلغه‪.‬‬
‫أو بلغه من طريق ضعيف‪ ،‬فيعتقد أن النبي ‪ ‬لم يقله‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫أو بلغه وصح عنده لكنه ل يعتقــد أن المــراد بــه هــذا الحكــم؛‬
‫فيفهمه فهما قد يكون خلف مــا يقتضــيه ظــاهره‪ ،‬فيكــون متــأول‬
‫للحديث باجتهاد ل عن هوى‪.‬‬
‫أو يعرض له ما يجعله يظن أنه منسوخ‪.‬‬
‫فهــذه أهــم العــذار الــتي يعتــذر بهــا عــن العلمــاء إذا خــالف‬
‫أحدهم دليل من كتاب أو سنة‪.‬‬
‫ومعــروف أن مخالفــة اليــة ل تكــون إل بتــأول؛ لن القــرآن‬
‫قطعي الثبوت‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل(‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫ن لـ ُ‬ ‫مــا ت َب َي ّـ َ‬
‫ن ب َعْـد ِ َ‬
‫مـ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ســو َ‬ ‫ق الّر ُ‬ ‫ن يُ َ‬
‫شــاقِ ِ‬ ‫مـ ْ‬ ‫قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫م‬‫جهَن ّـ َ‬‫صـل ِهِ َ‬ ‫مــا ت َـوَّلى وَن ُ ْ‬ ‫ن ن ُـوَل ّهِ َ‬‫مِني َ‬‫م ـؤ ْ ِ‬ ‫ل ال ْ ُ‬‫سـِبي ِ‬ ‫دى وَي َت ّب ِـعْ غ َي ْـَر َ‬ ‫ال ْهُ َ‬
‫صيًرا ((]النساء‪.[115:‬‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ساَء ْ‬‫وَ َ‬
‫فهذا وعيد لمن انحرف عن سبيل أهل العلــم والــدين‪ ،‬وهــذه‬
‫الية قد استدل بها الشافعي على حجية الجماع ]تقدم فــي ص[‪،‬‬
‫فمن عدل عن سبيل ما أجمع عليه المؤمنــون؛ فــإنه متوعــد بهــذا‬
‫الوعيد ‪.‬‬
‫قال الشارح ابن أبي العز ]ص ‪ [741‬في معــرض ثنــائه علــى‬
‫العلماء وأن الله ‪»:‬جعلهم بمنزلة النجوم يهدى بهــم فــي ظلمــات‬
‫البر والبحر‪ ،‬وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهــم؛ إذ كــل‬
‫أمة قبل مبعــث محمــد ‪ ‬علماؤهــا شــرارها إل المســلمين؛ فــإن‬
‫علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول من أمته‪ ،‬والمحيــون لمــا‬
‫مات من سنته«‪.‬‬
‫وهذه المقولة ليست مستقيمة عندي؛ فالمم الماضــية كبنــي‬
‫جعَل َْنــا‬ ‫إسرائيل فيهم العلماء المهديون المهتدون‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬وَ َ‬
‫َ‬ ‫منه ـ َ‬
‫ن ((‬ ‫ص ـب َُروا وَك َــاُنوا ِبآَيات ِن َــا ُيوقِن ُــو َ‬ ‫مــا َ‬ ‫مرِن َــا ل َ ّ‬ ‫ن ب ِأ ْ‬ ‫دو َ‬
‫ة ي َهْ ـ ُ‬‫مـ ً‬ ‫م أئ ِ ّ‬ ‫ِ ُْ ْ‬
‫ُ‬
‫ه‬
‫حقّ وَب ِـ ِ‬ ‫ن ب ِــال ْ َ‬
‫دو َ‬‫ة ي َهْ ـ ُ‬‫مـ ٌ‬‫ســى أ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫ن َقــوْم ِ ُ‬ ‫مــ ْ‬ ‫]الســجدة‪ )) ،[24:‬وَ ِ‬
‫ن ((]العــراف‪ ،[159:‬وكــذلك بــالعكس فهــذه المــة فيهــم‬ ‫ي َعْـد ُِلو َ‬
‫العلماء المهديون المهتدون المقتدى بهم الذين يصدق عليهــم مــا‬
‫جاء من الثناء على أهل العلم وأنهم ورثــة النبيــاء‪ ،‬وفيهــم علمــاء‬
‫السوء؛ مثل أئمة أهل البدع؛ فإنهم ليس لهم حظ من الثناء الــذي‬
‫جاء في الكتاب والسنة للعلماء‪ ،‬فهذه المة فيها فرق ضالة‪ ،‬فلــو‬
‫خص هذا بعلماء أهــل الســنة فنعــم‪ ،‬أمــا علــى الطلق أن علمــاء‬
‫المســلمين هــم خيــارهم فل يصــح‪ ،‬ولشــك أن العلمــاء المعنيــون‬
‫الذين اقتفوا آثــار نــبيهم وآثــار أصــحابه هــم خيــر هــذه المــة بعــد‬
‫الصحابة رضي الله عنهم‪.‬‬
‫فينبغي أن نتواصى بتحصيل المزيد من علم الكتاب والســنة‪،‬‬
‫ومهما بلغ النسان من التحصيل والعلم؛ فإنه ل يزال يطلب العلم‬

‫‪243‬‬
‫والفائدة ويسأل العلمــاء‪ ،‬والعلمــاء يســأل بعضــهم بعضــا‪ ،‬ويرجــع‬
‫بعضهم لبعض كما كان يفعل الئمة الكبار في صدر هذه المة‪.‬‬
‫وينبغي للمسلم أن يكــون متواضــعا ل يــأنف عــن أن يســتفيد‬
‫ممن فوقه‪ ،‬أو مثله ‪ ،‬أو دونه‪ ،‬فقد يجد الفائدة عند من هــو دونــه‬
‫في العلم وفي السن‪ ،‬كما كان الئمة يفعلون ذلك‪ ،‬فالحق والعلم‬
‫ضالة المؤمن‪ ،‬فأين وجدها قبلها وأخذها‪.‬‬
‫ويجــب التعويــل فــي تحصــيل العلــم علــى الكتــب الموثوقــة‪،‬‬
‫ككتــب الســلف الصــالح‪ ،‬والعلمــاء المعروفيــن الموثــوقين‪ ،‬فــإن‬
‫الكتب والمؤلفات كثيرة ومتنوعة‪ ،‬ودخلتها أفكار ومذاهب بدعيــة‪،‬‬
‫فيجب على طالب العلم أن يكون عنده أصل يميز به بيــن النــافع‬
‫والضار والحق والباطل‪ ،‬فإن المذاهب البدعيــة دخلــت فــي كــثير‬
‫من كتب التفسير وشروح الحديث‪ ،‬وفي سائر المصنفات‪.‬‬
‫فينبغي لطــالب العلــم أن يجتهــد ويتحــرى الكتــب الموثوقــة‪،‬‬
‫كتــب الئمــة المشــهورين بــالعلم والــدين والتحقيــق والصــالة‬
‫والسلفية‪ ،‬كما أن عليه أيضا أن يستفيد ويرجع إلى من يثق بعلمه‬
‫ودينه‪ ،‬وبتحريه للحق‪ ،‬وطريق السلف الصالح‪.‬‬

‫]مرتبة الولية دون النبوة[‬


‫قوله‪) :‬ول نفضل أحدا من الولياء على أحد من النبياء‬
‫ي واحد ٌ أفضل من جميع الولياء(‪.‬‬ ‫عليهم السلم‪ ،‬ونقول‪ :‬ن َب ِ ٌ‬
‫هذا رد على ملحدة الصوفية‪ ،‬ومنهم التحادية أصحاب وحدة‬
‫الوجود الذين شيخهم الضال الملحد ابن عربي صاحب المقالت‬
‫الكفرية في كتبه المشهورة المعروفة كـ»الفتوحات المكية«‬
‫حكم« ]طبعا مرارا حسبنا الله على من طبعها[‪،‬‬ ‫و»فصوص ال ِ‬
‫فإن من ضللته التي تضمنتها كتبه قوله‪ :‬إن الولي أفضل من‬
‫النبي‪ ،‬وعنده أن المراتب ترتب هكذا‪ :‬الولية أعلها‪ ،‬ودونها‬
‫النبوة ودونها الرسالة‪ ،‬وذكروا عنه بيتا‪:‬‬
‫مقام النبوة في برزخ * فويق الرسول ودون الولي ]مجموع‬
‫الفتاوى ‪ ،2/221‬ومنهاج السنة ‪ ،5/336‬وذكر محققه الدكتور‬
‫محمد ر شاد سالم أنه لم يجد هذا البيت في كتب ابن عربي‬
‫ووجد في كتابه »لطائف السرار«‪:‬‬
‫سماء النبوة في برزخ * دوين الولي وفوق الرسول[‬
‫ذا؛ أدنى هذا المراتب بزعمه الرسالة‪ ،‬وأعلها الولية‪ ،‬ومن‬ ‫إ ً‬
‫أقواله الباطلة‪ :‬إن النبوة ختمت ـ وهذا حق ـ والولية لم تختم!‬
‫صحيح أن الولياء ل يزالون في هذه المة لكنه يزعم أنه هو‬
‫خاتم الولياء! وبناًء على ما تقدم من زعمه‪ :‬أن الولي أفضل من‬
‫النبي؛ فخاتم الولياء أفضل من خاتم النبياء!‬

‫‪244‬‬
‫ما أعظمها من فرية! وما أجرأ هذا الملحد على القوال‬
‫الباطلة المناقضة للشرع والعقل!‬
‫يزعم أن للولياء خاتما‪ ،‬وليس للولياء خاتم معين يقال‪ :‬فلن‬
‫هو خاتم الولياء كما نقول‪ :‬خاتم النبياء محمد بن عبد الله ‪،‬‬
‫لكن خاتم الولياء هو آخر من يخلقه الله من أوليائه‪ ،‬لكنه ليس‬
‫معروفا على وجه التعيين‪.‬‬
‫ويزعم أنه تابع في الشرع الظاهر للنبي ‪ ‬وغير تابع له في‬
‫العلم الباطن؛ فإنه بزعمه يأخذ من المعدن الذي يأخذه منه‬
‫المَلك!‬
‫وهل هناك معدن يأخذ منه ؟! فإن عنده الوجود كله شيء‬
‫واحد وعين واحدة‪ ،‬فوجود كل موجود هو عين رب الوجود‬
‫سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والملحدون علوا كبيرا‪.‬‬
‫وذكر الشارح ابن أبي العز » وقال ابن عربي في فصوصه‪:‬‬
‫ولما مثل النبي ‪ ‬النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إل‬
‫موضع لبنة فكان هو ‪ ‬موضع اللبنة‪ ،‬وأما خاتم الولياء فل بد له‬
‫من هذه الرؤية فيرى ما مثله النبي ‪ ‬ويرى نفسه في الحائط‬
‫في موضع لبنتين! ويرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين‬
‫فيكمل الحائط! والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين ‪ :‬أن الحائط‬
‫لبنة من فضة ولبنة من ذهب‪ ،‬واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه‬
‫فيه من الحكام‪ ،‬كما هو أخذ عن الله في السر ما هو في‬
‫الصورة الظاهرة متبع فيه؛ لنه يرى المر على ما هو عليه‪ ،‬فل بد‬
‫أن يراه هكذا‪ ،‬وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن! فإنه يأخذ‬
‫من المعدن الذي يأخذ منه المَلك الذي يوحى إليه إلى الرسول‬
‫‪ ‬قال‪ :‬فإن فهمت ما أشرنا إليه‪ ،‬فقد حصل لك العلم النافع!‬
‫فمن أكفر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب‪ ،‬وللرسول‬
‫المثل بلبنة فضة‪ ،‬فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسل؟! تلك‬
‫ه{] غافر‪[56:‬‬ ‫هم ب َِبال ِِغي ِ‬ ‫ما ُ‬ ‫م إ ِّل ك ِب ٌْر ّ‬
‫دورِه ِ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫أمانيهم‪ِ } :‬إن ِفي ُ‬
‫وكيف يخفى كفر من هذا كلمه ؟«]ص ‪[ 744‬‬
‫فلهذا يقول الطحاوي ـ رحمه الله ـ‪) :‬ول نفضل أحدا من‬
‫ي واحد ٌ‬ ‫الولياء على أحد من النبياء عليهم السلم‪ ،‬ونقول‪ :‬ن َب ِ ٌ‬
‫أفضل من جميع الولياء(‪.‬‬
‫والنبي والولي والرسول بين هذه المراتب الثلثة عموم‬
‫ي‪ ،‬فالرسل هم أفضل‬ ‫ي ول ٌ‬ ‫ل نب ٍ‬ ‫ي‪ ،‬وك ُ‬ ‫ل نب ٌ‬ ‫ل رسو ٍ‬ ‫وخصوص‪ ،‬فك ُ‬
‫النبياء‪ ،‬وهم جميعا أفضل الولياء‪ ،‬وليس كل ولي نبيا‪ ،‬والله‬
‫ن‬
‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬
‫م َول هُ ْ‬ ‫ف ع َل َي ْهِ ْ‬‫خو ْ ٌ‬‫ن أ َوْل َِياَء الل ّهِ ل َ‬ ‫َ‬
‫تعالى قد قال‪ )) :‬أل إ ِ ّ‬
‫ن ((]يونس‪ [63-62:‬فهذا هو تعريف‬ ‫قو َ‬ ‫مُنوا وَ َ‬
‫كاُنوا ي َت ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫* ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫الولي‪ :‬كل مؤمن تقي؛ فهو ولي ـ وأما تعريف النبي والرسول‬

‫‪245‬‬
‫فقد تقدم ]ص[ ـ ‪ ،‬وهذا وصف ينطبق على النبياء بما فيهم‬
‫الرسل‪ ،‬وينطبق على الصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬وهذه الية‬
‫ل نقول‪ :‬إنها في خصوص الولي الذي ليس بنبي‪ ،‬ل؛ بل هي عامة‬
‫ن ((]يونس‪[62:‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬‫م َول هُ ْ‬ ‫ف ع َل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫ن أ َوْل َِياَء الل ّهِ ل َ‬ ‫)) أل إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫وأولى الناس بهذا الوصف هم النبيون والمرسلون‪.‬‬
‫فالنبوة والرسالة تستلزم الولية‪ ،‬ومطلق الولية ل تستلزم‬
‫النبوة والرسالة؛ لنه ليس كل من يكون وليا لله يكون نبيا‪ ،‬فإذا‬
‫قلنا‪ :‬الولي‪ :‬كل مؤمن تقي؛ فإن ذلك يعم النبياء والمرسلين‬
‫وغيرهم‪ ،‬لكن إذا قلنا‪ :‬الرسول والنبي والولي؛ فإنا نريد بالولي‪:‬‬
‫كل مؤمن تقي سوى النبيين والمرسلين‪.‬‬
‫ذا؛ فالولي في عبارة الطحاوي‪) :‬ول نفضل أحدا من الولياء‬ ‫إ ً‬
‫على أحد من النبياء( من غير النبياء‪.‬‬
‫وتقدم ]ص[ أن أولياء الله طبقتان‪ :‬مقتصدون وسابقون‪ ،‬أو‬
‫نقول‪ :‬مقربون وأصحاب يمين‪ ،‬كما ذكر الله ذلك في مواضع من‬
‫َ‬
‫ة ن َِعيم ٍ‬ ‫جن ّ ُ‬‫ن وَ َ‬ ‫حا ٌ‬ ‫ن * فََروْ ٌ‬
‫ح وََري ْ َ‬ ‫قّرِبي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫ما إ ِ ْ‬‫القرآن‪ )) :‬فَأ ّ‬
‫كم َ‬ ‫كان م َ‬ ‫َ‬
‫ب‬‫حا ِ‬ ‫ص َ‬‫نأ ْ‬ ‫م لَ َ ِ ْ‬ ‫سل ٌ‬ ‫ن * فَ َ‬ ‫مي ِ‬ ‫ب ال ْي َ ِ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن َ َ ِ ْ‬ ‫ما إ ِ ْ‬ ‫* وَأ ّ‬
‫ن ((]الواقعة‪ [91-88:‬وهكذا في أول السورة‪ ،‬وفي سورة‬ ‫ِ‬ ‫مي‬ ‫ال ْي َ ِ‬
‫جَها َ‬ ‫س َ‬ ‫ْ‬ ‫ن ال َب َْراَر ي َ ْ‬
‫كاُفوًرا *‬ ‫مَزا ُ‬ ‫ن ِ‬‫كا َ‬ ‫ن ك َأ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫شَرُبو َ‬ ‫النسان‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫جيًرا ((]النسان‪،[6-5:‬‬ ‫ف ِ‬ ‫جُرون ََها ت َ ْ‬ ‫ف ّ‬ ‫عَباد ُ الل ّهِ ي ُ َ‬ ‫ب ب َِها ِ‬ ‫شَر ُ‬ ‫ع َي ًْنا ي َ ْ‬
‫ن‬
‫وهكذا في سورة المطففين ذكر الله هذا التصنيف للولياء‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫ن ـ إلى قوله ـ‪ :‬وَِفي ذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ك َينظ ُُرو َ‬ ‫في ن َِعيم ٍ * ع ََلى ال ََرائ ِ ِ‬ ‫ال َب َْراَر ل َ ِ‬
‫ب ب َِها‬ ‫شَر ُ‬ ‫سِنيم ٍ * ع َي ًْنا ي َ ْ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ج ُ‬‫مَزا ُ‬ ‫ن * وَ ِ‬ ‫سو َ‬‫مت ََنافِ ُ‬ ‫س ال ْ ُ‬
‫فَلي َت ََنافَ ِ‬
‫ْ‬
‫ن ((]المطففين‪.[28-22:‬‬ ‫قّرُبو َ‬ ‫م َ‬ ‫ال ْ ُ‬

‫]منهج أهل السنة في كرامات الولياء[‬


‫وقوله‪) :‬ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من‬
‫رواياتهم(‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن أهل السنة يؤمنون بما جاء في الكتاب والسنة‬
‫والخبار من كرامات الولياء‪ ،‬وما صح عن الثقات في ذلك من‬
‫رواياتهم‪.‬‬
‫والكرامات‪ :‬يراد بها المر الخارق للعادة‪ ،‬والله تعالى يكرم‬
‫أولياؤه بأنواع الكرامات‪ ،‬ومن ذلك خوارق العادات‪ ،‬فيجري الله‬
‫على يد من شاء من أوليائه بعض المور الخارقة للسنن الكونية‪،‬‬
‫والعادة التي أجراها الله في هذا الوجود؛ فإن هذا الوجود يجري‬
‫على السنن‪ ،‬وهذا بالنسبة لكرامات الولياء‪ ،‬وكذلك بالنسبة‬
‫لمعجزات النبياء حسب الصطلح المشهور‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫ومعنى المعجزة في اللغة يعم كل خارق سواء كان على يد‬
‫ي‪ ،‬فكل خارق؛ فهو معجز لمن لم يجره الله‬ ‫ي أو على يد ول ّ‬ ‫نب ّ‬
‫على يده‪ ،‬مما ل يدخل في قدرة العبد بحكم العادة‪.‬‬
‫ولكن خوارق النبياء وهي دلئل على نبوتهم ورسالتهم‬
‫اسمها الشرعي‪ :‬البينات واليات والبراهين‪ ،‬كما ذكر الله ذلك‬
‫في كتابه في مواضع‪ )) :‬ل َ َ َ‬
‫ت ((]الحديد‪:‬‬ ‫سل ََنا ِبال ْب َي َّنا ِ‬‫سل َْنا ُر ُ‬
‫قد ْ أْر َ‬
‫ت ((]النمل‪:‬‬ ‫سِع آَيا ٍ‬ ‫‪ ،[25‬ويقول تعالى في شأن موسى‪ِ )) :‬في ت ِ ْ‬
‫ك ((]القصص‪.[32:‬‬ ‫ن َرب ّ َ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫هاَنا ِ‬ ‫ك ب ُْر َ‬ ‫ذان ِ َ‬
‫‪ )) [12‬فَ َ‬
‫ولكن في اصطلح المتكلمين خوارق النبياء يسمونها‬
‫معجزات‪ ،‬حتى إن المعتزلة يقولون‪ :‬إن النبوة ل تثبت إل‬
‫بالمعجزة‪ ،‬فقصروا ما تثبت به النبوة على المعجزة‪ ،‬وهي المر‬
‫الخارق للعادات‪ ،‬ونتج عن قولهم ذلك ـ مع بطلنه وتقدم تفنيده‬
‫]ص[ ـ نفي كرامات الولياء‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل يجوز خرق العادة إل لنبي؛‬
‫لنه لو خرقت العادة لغير نبي للتبس على الناس أمر النبي‬
‫بالولي‪ ،‬فل يحصل التمييز‪.‬‬
‫وأجيب عن هذه الشبهة‪ :‬بأن الولي الذي تحصل على يديه‬
‫الكرامة‪ ،‬وهي‪ :‬المر الخارق للعادات ل يدعي النبوة إذ لو ادعى‬
‫النبوة لم يكن وليا‪ ،‬ولم يكن ما جرى على يده كرامة؛ بل هو‬
‫خَرقة وفتنة‪.‬‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫فلهذا كان من المسائل التي ينبه عليها أنها من مذهب أهل‬
‫السنة‪ :‬إثبات كرامات الولياء‪ ،‬والمقصود‪ :‬إثبات جنس الكرامات؛‬
‫لنه ليس كل ما يذكر يكون ثابتا‪ ،‬ويجب التسليم به‪.‬‬
‫فما يروى ويذكر من كرامات الولياء منها ما هو ثابت في‬
‫القرآن أو في السنة أو في أخبار صحيحة‪ ،‬ومنه ما يروى ولم‬
‫تحقق صحته ول كذبه؛ فهذا ل يلزم التصديق به‪ ،‬كما ل يجوز نفيه‬
‫بغير حجة‪.‬‬
‫ومن كرامات الولياء التي في القرآن ما في قصة مريم‬
‫وولدتها لعيسى عليه السلم؛ فإن ولدتها لعيسى بل أب خارق‬
‫للعادات‪.‬‬
‫ومن كرامات الولياء التي في القرآن ما جاء في قصة‬
‫أصحاب الكهف حيث بقوا في كهفهم مدة طويلة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫سًعا ((]الكهف‪:‬‬ ‫دوا ت ِ ْ‬ ‫دا ُ‬
‫ن َواْز َ‬ ‫سِني َ‬ ‫مائ َةٍ ِ‬ ‫ث ِ‬ ‫م َثل َ‬ ‫فه ِ ْ‬ ‫)) وَل َب ُِثوا ِفي ك َهْ ِ‬
‫م ُرُقود ٌ‬
‫ظا وَهُ ْ‬‫قا ً‬ ‫م أ َي ْ َ‬‫سب ُهُ ْ‬ ‫ح َ‬‫‪ [25‬بقوا في كهفهم يقلبهم ربهم‪ )) :‬وَت َ ْ‬
‫ل ((]الكهف‪ [18:‬وعاشوا هذه‬ ‫ما ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫مي ِ‬ ‫ت ال ْي َ ِ‬‫ذا َ‬ ‫م َ‬‫قل ّب ُهُ ْ‬‫وَن ُ َ‬
‫المدة الطويلة‪ ،‬بل طعام ول شراب‪ ،‬وبعد ذلك يستيقظون‬
‫َ‬
‫ض‬
‫ما أوْ ب َعْ َ‬ ‫ويتحدثون ولم يشعروا بما جرى لهم )) َقاُلوا ل َب ِث َْنا ي َوْ ً‬
‫ي َوْم ٍ ((]الكهف‪.[19:‬‬

‫‪247‬‬
‫وجماع صفات الكمال‪ :‬الغنى والعلم والقدرة‪ ،‬ويستشهد لهذا‬
‫بأن الله تعالى أمر نبيه ‪ ‬أل يدعي شيئا منها إل ما أعطاه الله‪:‬‬
‫ب َول أ َُقو ُ‬
‫ل‬ ‫م ال ْغَي ْ َ‬
‫َ‬
‫ن الل ّهِ َول أع ْل َ ُ‬ ‫خَزائ ِ ُ‬ ‫دي َ‬ ‫عن ِ‬
‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬‫ل ل أ َُقو ُ‬ ‫)) قُ ْ‬
‫َ‬
‫حى إلي((]النعام‪ ،[50:‬وهكذا قال‬ ‫ما ُيو َ‬ ‫ن أت ّب ِعُ إ ِّل َ‬ ‫ك إِ ْ‬ ‫مل َ ٌ‬‫م إ ِّني َ‬‫ل َك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫نوح لقومه‪َ )) :‬ول أ َُقو ُ‬
‫ب َول‬ ‫م ال ْغَي ْ َ‬ ‫ن الل ّهِ َول أع ْل َ ُ‬ ‫خَزائ ِ ُ‬
‫دي َ‬ ‫عن ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬
‫ك ((]هود‪.[31:‬‬ ‫مل َ ٌ‬
‫ل إ ِّني َ‬ ‫أ َُقو ُ‬
‫فأول الرسل وآخرهم تبرءوا من دعوى هذه المور إل ما‬
‫أعطاهم الله منها‪ ،‬والمقصود من ذكر هذا المعنى‪ :‬بيان أن‬
‫خوارق العادات مدارها على هذه الثلث‪ :‬إما أن ترجع إلى القدرة‬
‫والتأثير‪ ،‬أو العلم‪ ،‬أو الغنى‪.‬‬
‫وتسمى الخوارق العلمية المتعلقة بالعلم‪ :‬الخوارق الكشفية؛‬
‫لن خرق العادة بعِل ْم ِ أمرٍ مستورٍ هو كشف لغائب‪.‬‬
‫وهذه المعاني ترجع إلى كل الخوارق سواء كانت على يد‬
‫أنبياء أو أولياء فمثل‪ :‬عصا موسى ترجع إلى القدرة والتأثير‪،‬‬
‫وكذلك فلق البحر يرجع للقدرة والتأثير‪.‬‬
‫ما ذكر الله عن أصحاب الكهف يرجع إلى الغنى؛ لن الله‬
‫أغناهم عن الطعام والشراب تلك المدة الطويلة‪ ،‬وكلما يخبر به‬
‫النبياء من أمور غائبة هو من الخوارق العلمية‪ ،‬وهكذا دلئل نبوة‬
‫محمد ‪ ‬راجعة إلى هذه‪ ،‬فقد أخبر ‪ ‬بأمور مستقبلة غائبة ل‬
‫تزال تظهر بين حين وآخر‪ ،‬فهي من أعلم نبوته ‪.‬‬
‫وذكر شيخ السلم‪ :‬أن »عدم الخوارق علما وقدرة ل تضر‬
‫المسلم في دينه‪ ،‬فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات‪ ،‬ولم‬
‫يسخر له شيء من الكونيات ل ينقصه ذلك في مرتبته عند الله؛‬
‫بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه«]مجموع الفتاوى‬
‫‪ ،[11/323‬لذا ل يستدل بعدم حصول كرامة على عدم الولية‪،‬‬
‫كما ل يستدل بحصول خارق على الولية؛ بل ضابطها‪ :‬اليمان‬
‫م َول‬ ‫ف ع َل َي ْهِ ْ‬ ‫خو ْ ٌ‬ ‫ن أ َوْل َِياءَ الل ّهِ ل َ‬ ‫َ‬
‫والتقوى‪ ،‬كما قال تعالى‪ )) :‬أل إ ِ ّ‬
‫ن ((]يونس‪.[62:‬‬ ‫حَزُنو َ‬
‫م يَ ْ‬ ‫هُ ْ‬
‫فإن الخوارق قد تجري في الظاهر على يدي الكهان‬
‫والسحرة ‪ ،‬وهي‪ :‬مخاريق‪ ،‬وأكاذيب‪ ،‬ولهذا جاء عن بعض السلف‬
‫أنه قال‪ » :‬لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرفع‬
‫في الهواء؛ فل تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند المر‬
‫والنهي‪ ،‬وحفظ الحدود‪ ،‬وأداء الشريعة«‪] .‬قاله أبو يزيد‬
‫البسطامي‪ .‬حلية الولياء ‪ ،10/40‬ونحوه عن المامين الليث بن‬
‫سعد والشافعي كما في آداب الشافعي ومناقبه ص ‪،184‬‬
‫وانظر‪ :‬ومجموع الفتاوى ‪ ،11/466‬والفرقان بين أولياء الرحمن‬
‫وأولياء الشيطان ‪[11/173‬‬

‫‪248‬‬
‫فل تغتر بمن حصل له شيء من ذلك حتى تعرض حاله‬
‫وعمله على الكتاب والسنة؛ فإن الشياطين قد تحمل أولياءهم‬
‫حتى يظن أنه يسير في الماء أو يطير في الهوى‪ ،‬وإنما حمله‬
‫الشيطان ووضع له ما يسير عليه في الماء‪.‬‬
‫والكرامة قد تكون لحاجة العبد‪ ،‬فيخرق الله العادة لحاجته‪،‬‬
‫وقد تكون لقامة الحجة‪ ،‬وكل كرامة وخارق للعادة على يدي‬
‫من هذا الولي تابع لشريعته ‪.‬‬ ‫ولي؛ فإنه دليل على نبوة َ‬
‫من خوارق العادات التي جرت على يد بعض النبياء ـ‬
‫وتسمى‪ :‬المعجزات ـ ما جرى لخليل الله إبراهيم عليه السلم‬
‫عندما ألقي في النار فصارت عليه بردا وسلما‪ ،‬حين قال الله‬
‫م((]النبياء‪ [69:‬فهل‬ ‫هي َ‬‫ما ع ََلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫سَل ً‬ ‫دا وَ َ‬‫كوِني ب َْر ً‬‫لها‪َ)) :‬يا َناُر ُ‬
‫استحالت النار وصارت روضة بحيث لو دخلها غيره لم تضره ؟ ل؛‬
‫بل هي على إبراهيم عليه السلم فقط‪.‬‬
‫وهذا دليل على نبوته ‪ ،‬فخرق العادة لبراهيم هو للحاجة‬
‫والحجة‪ ،‬للحاجة؛ لنه ألقي فيها‪ ،‬فهو محتاج إلى أن ينجيه الله‬
‫ن َقاُلوا‬ ‫َ‬
‫مهِ إ ِّل أ ْ‬
‫ب قَوْ ِ‬
‫وا َ‬ ‫ج َ‬‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫من النار‪ ،‬فنجاه الله منها‪ )) ،‬فَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن الّنارِ ((]العنكبوت‪ [24:‬وللحجة؛‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫جاه ُ الل ّ ُ‬ ‫اقْت ُُلوه ُ أوْ َ‬
‫حّرُقوه ُ فَأن َ‬
‫لن هذا دليل على صدق نبوته حيث نجاه الله من النار‪.‬‬
‫وقد يدعي بعض الدجاجلة أنه يدخل النار ول تحرقه! وحدث‬
‫هذا في زمن شيخ السلم ابن تيمية فتحداهم في مناظرة كبيرة‬
‫بحضور المراء والعلماء والعامة وقال‪ » :‬أنا أخاطب كل أحمدي‬
‫من مشرق الرض إلى مغربها‪ :‬أي شيء فعلوه في النار؛ فأنا‬
‫من احترق فهو مغلوب‪ ،‬وربما قلت‪:‬‬ ‫أصنع مثل ما تصنعون! و َ‬
‫فعليه لعنة الله‪ ،‬ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار‪،‬‬
‫فسألني المراء والناس عن ذلك؟ فقلت‪ :‬لن لهم حيل في‬
‫التصال بالنار يصنعونها من أشياء‪ :‬من دهن الضفادع‪ ،‬وقشر‬
‫النارنج‪ ،‬وحجر الطلق« فبهتوا ولم يفعلوا‪ ،‬فقال الناس‪» :‬فوقع‬
‫الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين«‬
‫]انظر أحداث القصة وتفصيلها في مجموع الفتاوى ‪-11/445‬‬
‫‪[475‬‬
‫ولعل هذا القدر مما يتعلق بالكرامات يكفي‪ ،‬وتقدم أنه‪ :‬إنما‬
‫يجب اليمان بجنس الكرامات‪ ،‬ويجب اليمان بما صح؛ مما جاء‬
‫في القرآن أو جاء في السنة أو في أخبار صحيحة‪.‬‬
‫وقد نقل الشارح ابن أبي العز في هذا الموضع ]ص ‪-742‬‬
‫‪ [754‬كلما كثيرا‪ ،‬وكلمه قد غ ََرَفه من بحر شيخ السلم ابن‬
‫تيمية؛ فإنه شرح غالب العقيدة الطحاوية بكلم المامين شيخ‬

‫‪249‬‬
‫السلم ابن تيمية وابن القيم‪ ،‬وشيء من كلم غيرهما ـ رحمهم‬
‫الله جميعا ـ ‪.‬‬

‫]أشراط الساعة الكبرى[‬


‫وقوله‪) :‬ونؤمن بأشراط الساعة‪ :‬من خروج الدجال‪ ،‬ونزول‬
‫عيسى بن مريم عليه السلم من السماء‪ ،‬ونؤمن بطلوع الشمس‬
‫من مغربها‪ ،‬وخروج دابة الرض من موضعها(‪.‬‬
‫أشراط الساعة‪ :‬علماتها‪ ،‬قال سبحانه وتعالى‪ )) :‬فَهَ ْ‬
‫ل‬
‫شَراط َُها ((]محمد‪:‬‬ ‫جاَء أ َ ْ‬ ‫ة فَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ينظ ُرون إّل الساع َ َ َ‬
‫قد ْ َ‬ ‫م ب َغْت َ ً‬‫ن ت َأت ِي َهُ ْ‬‫ةأ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َْ ُ َ ِ‬
‫‪ [18‬أي‪ :‬جاءت علماتها‪ ،‬ومجيء أشراطها مؤذن باقترابها‪ ،‬والله‬
‫تعالى قد نبه إلى قرب الساعة في مواضع من القرآن‪:‬‬
‫ك ل َعَ ّ‬
‫ل‬ ‫ما ي ُد ِْري َ‬
‫مُر ((]القمر‪ )) [1:‬وَ َ‬ ‫ق َ‬‫شقّ ال ْ َ‬ ‫ة َوان ْ َ‬ ‫ساع َ ُ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫)) اقْت ََرب َ ِ‬
‫م‬
‫ساب ُهُ ْ‬‫ح َ‬‫س ِ‬ ‫ب ِللّنا ِ‬‫ريًبا ((]الحزاب‪ )) [63:‬اقْت ََر َ‬ ‫ن قَ ِ‬ ‫كو ُ‬ ‫ة تَ ُ‬ ‫ساع َ َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن ((]النبياء‪.[1:‬‬ ‫ضو َ‬ ‫معْرِ ُ‬ ‫فل َةٍ ُ‬ ‫م ِفي غ َ ْ‬ ‫وَهُ ْ‬
‫وأشراط الساعة كثيرة‪ ،‬أولها‪ :‬مبعث محمد ‪ ،‬فإنه خاتم‬
‫م النبوة مؤذن باقتراب نهاية الدنيا‪ ،‬وقد أخبر النبي‬ ‫خت ْ ُ‬
‫النبيين‪ ،‬و َ‬
‫‪ ‬بأمور كثيرة مما يكون بعده‪ ،‬وأهل العلم يعدون كل ما أخبر‬
‫به ‪ ‬مما يكون بعده من أشراط الساعة‪.‬‬
‫ومن ذلك ما جاء في حديث جبريل عليه السلم حيث قال‬
‫للنبي ‪» : ‬أخبرني عن الساعة؟ قال‪ :‬ما المسؤول عنها بأعلم‬
‫ن تلد المة ربتها‪،‬‬ ‫من السائل! قال‪ :‬فأخبرني عن أمارتها؟ قال‪ :‬أ ْ‬
‫وأن ترى الحفاة العراة العالة ِرعاَء الشاِء يتطاولون في‬
‫البنيان«]تقدم تخريجه في ص[‪.‬‬
‫فهذه بعض العلمــات‪ ،‬وعلمــات الســاعة وأشــراطها كــثيرة‪،‬‬
‫جاءت في عدد من الحاديث من ذلك‪ ،‬حديث عوف بــن مالــك ‪‬‬
‫قال‪» :‬أتيت النبي ‪ ‬في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اعدد ستا بين يدي الســاعة‪ :‬مــوتي‪ ،‬ثــم فتــح بيــت المقــدس‪ ،‬ثــم‬
‫ص الغنم‪ ،‬ثم استفاضة المال حــتى يعطــى‬ ‫قَعا ِ‬ ‫وتان يأخذ فيكم ك َ ُ‬ ‫م ْ‬
‫َ‬
‫الرجل مائة دينار فيظل ساخطا‪ ،‬ثم فتنة ل يبقى بيت من العــرب‬
‫إل دخلتــه‪ ،‬ثــم هدنــة تكــون بينكــم وبيــن بنــي الصــفر‪ ،‬فيغــدرون‬
‫فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غايــة اثنــا عشــر ألفــا« ]رواه‬
‫البخاري )‪[(3176‬‬
‫وقوله ‪) :‬كقعاص الغنم( هو مرض يهلك الدواب‪ ،‬والمراد‪:‬‬
‫موت عام يهلك به خلق كثير‪ ،‬و)بني الصفر( أي‪ :‬الروم‪.‬‬
‫وهذه العلمات منها ما وقع؛ كموته ‪ ، ‬وفتح بيت المقدس‪،‬‬
‫واستفاضة المال‪ ،‬ومنها ما لم يقع‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن‬
‫النبي ‪» :‬إن أول اليات خروجا طلوع الشمس من مغربها‪،‬‬
‫وخروج الدابة على الناس ضحى‪ ،‬وأيهما ما كانت قبل صاحبتها؛‬
‫فالخرى على إثرها قريبا«‪] .‬رواه مسلم )‪[(2941‬‬
‫وفي حديث حذيفة بن أسيد ‪‬قال‪ » :‬اطلع النــبي ‪ ‬علينــا‬
‫ونحن نتذاكر‪ ،‬فقال‪ :‬ما تذاكرون؟ قالوا‪ :‬نذكر الساعة‪ ،‬قــال‪ :‬إنهــا‬
‫لن تقوم حتى ترون قبلها عشــر آيــات؛ فــذكر الــدخان‪ ،‬والــدجال‪،‬‬
‫والدابة‪ ،‬وطلوع الشمس من مغربهــا‪ ،‬ونــزول عيســى ابــن مريــم‬
‫‪ ،‬ويأجوج ومأجوج‪ ،‬وثلثة خسوف‪ :‬خســف بالمشــرق‪ ،‬وخســف‬
‫بالمغرب‪ ،‬وخسف بجزيرة العرب‪ ،‬وآخر ذلك‪ :‬نار تخرج من اليمن‬
‫تطرد الناس إلى محشرهم«‪].‬رواه مسلم )‪[(2901‬‬
‫وهذه يسميها العلماء علمات الساعة الكبرى؛ لن هذه‬
‫الحداث تكون قرب قيام الساعة‪ ،‬وقرب الساعة الذي ذكره الله‬
‫ليس مقدرا بزمن‪ ،‬ول يمكن لحد أن يتخيل قدره‪ ،‬فقد يخطر‬
‫ببال الناس في حياة النبي ‪ ‬أو بعده‪ :‬إن الساعة بعد مائة أو‬
‫مائتين أو ثلثمائة سنة‪ ،‬ولكن مضى الن أربعة عشر قرنا من‬
‫الزمن‪ ،‬ول ندري ماذا بقي؛ فإن موعد قيام الساعة من الخمس‬
‫التي استأثر الله بعلمها‪ ،‬فل يعلمها ملك مقرب ول نبي مرسل‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ة ((]العراف‪:‬‬ ‫م إ ِّل ب َغْت َ ً‬ ‫ض ل ت َأِتيك ُ ْ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬
‫س َ‬‫ت ِفي ال ّ‬ ‫قل َ ْ‬ ‫)) ث َ ُ‬
‫‪.[187‬‬
‫ونص المام الطحاوي على أربع من هذه العلمات العشر‪:‬‬
‫الدجال‪ ،‬ونزول المسيح‪ ،‬طلوع الشمس من مغربها‪ ،‬وخروج دابة‬
‫الرض‪ ،‬وهذه العلمات منها ما ذكر في القرآن نصا أو إشارة‪،‬‬
‫م‬ ‫ل ع َل َي ْهِ ْ‬ ‫ذا وَقَعَ ال ْ َ‬
‫قو ْ ُ‬ ‫فأما خروج الدابة‪ ،‬فقد قال تعالى‪ )) :‬وَإ ِ َ‬
‫ة من ال َرض تك َل ّمه َ‬ ‫أَ ْ‬
‫كاُنوا ِبآَيات َِنا ل‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ْ ِ ُ ُ ُ ْ‬ ‫داب ّ ً ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫جَنا ل َهُ ْ‬‫خَر ْ‬
‫ن ((]النمل‪.[82:‬‬ ‫ُيوقُِنو َ‬
‫وأما طلوع الشمس من مغربها فقد أشير إليها في قوله‬
‫ْ‬
‫م ت َك ُ ْ‬
‫ن‬ ‫مان َُها ل َ ْ‬ ‫سا ِإي َ‬ ‫ف ً‬ ‫فعُ ن َ ْ‬
‫ك ل َين َ‬ ‫ت َرب ّ َ‬ ‫ض آَيا ِ‬‫م ي َأِتي ب َعْ ُ‬ ‫سبحانه‪ )) :‬ي َوْ َ‬
‫َ‬
‫خي ًْرا ((]النعام‪.[158:‬‬ ‫مان َِها َ‬‫ت ِفي ِإي َ‬ ‫ل أوْ ك َ َ‬
‫سب َ ْ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫من َ ْ‬ ‫آ َ‬
‫وثبت في الصحيح عن النبي ‪ ‬أنه قال‪ » :‬ل تقوم الساعة‬
‫حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت من مغربها آمن‬
‫الناس كلهم أجمعون‪ ،‬فيومئذ ل ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت‬
‫من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا«‪] .‬رواه البخاري )‪، (4635‬‬
‫ومسلم )‪ (157‬من حديث أبي هريرة ‪.[‬‬
‫فهذا الحديث تفسير للبعض الذي في الية وهو‪ :‬طلوع‬
‫الشمس من مغربها‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫وهكذا نزول المسيح فقد ثبت في الصحيح عن النبي ‪ ‬أنه‬
‫ن أن ينزل فيكم ابن مريم‬ ‫قال‪ » :‬والذي نفسي بيده ليوشك ّ‬
‫حكما مقسطا؛ فيكسر الصليب‪ ،‬ويقتل الخنزير‪ ،‬ويضع الجزية‪،‬‬
‫ويفيض المال حتى ل يقبله أحد «‪].‬رواه البخاري )‪، (2222‬‬
‫ومسلم )‪ (155‬من حديث أبي هريرة ‪[‬‬
‫ونزوله عيسى عليه السلم أشير إليه في القرآن‪ ،‬كما جاء‬
‫ن ب َِها ((‬ ‫ساع َةِ َفل ت َ ْ‬
‫مت َُر ّ‬ ‫ه ل َعِل ْ ٌ‬
‫م ِلل ّ‬ ‫في تفسير قوله تعالى‪ )) :‬وَإ ِن ّ ُ‬
‫]الزخرف‪] [61:‬تفسير الطبري ‪ ،20/631‬والجامع لحكام القرآن‬
‫‪ ،19/69‬وابن كثير ‪ ،7/236‬وأضواء البيان ‪ [7/280‬وقرئ‪) :‬وإنه‬
‫ن ب َِها(‪] .‬هذه قراءة شاذة‪ ،‬رويت عن بعض‬ ‫ساع َةِ َفل ت َ ْ‬
‫مت َُر ّ‬ ‫ل َعَل َ ٌ‬
‫م ِلل ّ‬
‫الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬وعن غيرهم كالعمش‪ .‬انظر‪ :‬الجامع‬
‫لحكام القران ‪ ،19/70‬والبحر المحيط ‪ ،8/26‬وإتحاف فضلء‬
‫البشر ص ‪[496‬‬
‫أما الدجال فلم يأت له ذكر في القرآن‪ ،‬وإنما تواترت‬
‫بالخبار عنه سنة الرسول ‪] .‬نظم المتناثر ص ‪[240‬‬
‫ن النبي ‪ ‬أنذر أمتــه المســيح الــدجال فقــال ‪»: ‬مــا‬ ‫منها أ ّ‬
‫ي إل أنذر قــومه العــور الكــذاب‪ ،‬إنــه أعــور‪ ،‬وإن‬ ‫بعث الله من نب ّ‬
‫ربكم ليــس بــأعور‪ ،‬مكتــوب بيــن عينيــه كــافر«‪] .‬رواه البخــاري )‬
‫‪ ، (7408‬ومسلم )‪ (2933‬من حديث أنس ‪[‬‬
‫ومنها الدعاء الذي أرشدنا ‪ ‬لقوله في كل صلة فقال‪» :‬إذا‬
‫فرغ أحدكم من التشهد الخر؛ فليتعوذ بالله من أربع‪ :‬مــن عــذاب‬
‫جهنم‪ ،‬ومن عذاب القبر‪ ،‬ومن فتنــة المحيــا والممــات‪ ،‬ومــن شــر‬
‫المسيح الدجال« ]تقدم تخريجه في ص[‬
‫والمام الطحاوي نص على هذه الربعة؛ لنها أمور عظيمة‬
‫ومشتملة على خرق العادة‪.‬‬
‫وبين نزول المسيح وخروج الدجال تناسب؛ لنهما حدثان في‬
‫ح‬
‫ل المسي َ‬ ‫ح الهدى يقت ُ‬ ‫ح ابن مريم مسي ُ‬ ‫زمن متقارب‪ ،‬والمسي ُ‬
‫ح الضللة‪.‬‬ ‫الدجال مسي َ‬
‫المقصود‪ :‬أن أهل السنة يؤمنون بهذه المور الخارقة للعادة‪،‬‬
‫فطلوع الشمس من مغربها أمر خارق للعادة‪ ،‬فمنذ خلق الله‬
‫الشمس وأجراها وهي تأتي من المشرق وتذهب للمغرب‪ ،‬وفي‬
‫طلوعها من المغرب خرق لهذه العادة‪ ،‬وهكذا خروج دابة الرض‬
‫التي تكلم الناس حدث عظيم وهو خارق للعادة‪ ،‬وخروج الدجال‬
‫بما معه من خوارق حقيقية يجريها الله على يده فتنة وابتلًء‪،‬‬
‫ولهذا كانت فتنته أعظم فتنة‪ ،‬فقد صح أن النبي ‪ ‬قال عن‬
‫الدجال إنه‪ » :‬يأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون‬
‫ربة‬ ‫خ ِ‬‫له‪ ،‬فيأمر السماء فتمطر‪ ،‬والرض فتنبت« وأنه » يمر بال َ‬

‫‪252‬‬
‫فيقول لها‪ :‬أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها «وأنه »يدعو رجل‬
‫ة ال ْغََرض‪ ،‬ثم‬
‫مي َ َ‬
‫ن َر ْ‬ ‫ممتلئا شبابا‪ ،‬فيضربه بالسيف‪ ،‬فيقطعه َ َ‬
‫جْزلت َي ْ ِ‬
‫يدعوه فيقبل‪ ،‬ويتهلل وجهه يضحك« ]رواه مسلم )‪ (2137‬من‬
‫سمعان رضي الله عنهما[‬ ‫حديث النواس بن َ‬
‫هذه كلها أحداث عظيمة‪ ،‬وأهل السنة يؤمنون بذلك كله‬
‫دوق ‪ ،‬أما الذين يحكمون عقولهم؛‬ ‫ص ُ‬
‫م ْ‬
‫تصديقا لخبر الصادق ال َ‬
‫فإنهم يستبعدون ذلك كله؛ فإما أن يكذبوا به‪ ،‬أو يتأولوه بأنواع‬
‫التأويل‪ ،‬وليس هذا من أهل الضلل بغريب‪.‬‬
‫والعلم بأن هذا من أشراط الساعة ينبني على العلم بما جاء‬
‫عن النبي ‪ ،‬والعلم بالواقع‪ ،‬فقد يكون النسان قد عرف أن من‬
‫أشراط الساعة كذا وكذا‪ ،‬ولكنه لم يعلم بوقوعه‪ ،‬فكم من‬
‫أشراط الساعة وعلماتها وأحداث الزمان مما حدث وكثير من‬
‫الناس غافل عنه؟!‬
‫فأشراط الساعة منها ما حدث وانقضى‪ ،‬ومنها ما سيحدث‪،‬‬
‫ومنها ما حدث ويتكرر‪ ،‬ومنها العلمات الكبرى المذكورة في‬
‫حديث حذيفة بن أسيد الذي تقدم‪].‬ص[‬

‫]وجوب الحذر من تصديق الكهان والعرافين ونحوهم من‬


‫المخالفين[‬
‫وقوله‪) :‬ول نصدق »كاهنا« ول »عرافا« ول من يدعي شيئا‬
‫يخالف »الكتاب« و »السنة« و »إجماع المة«(‪.‬‬
‫أي‪ :‬نحن أهل السنة المتبعون لمنهج السلف الصالح ل نصدق‬
‫»كاهنا« ول »عرافا« طاعة لله ورسوله؛ فإن الكهان والعرافين‬
‫م ع ََلى‬ ‫والمنجمين من أكذب الكذابين‪ ،‬قال تعالى‪ )) :‬هَ ْ ُ‬
‫ل أن َب ّئ ُك ُ ْ‬
‫ع‬
‫م َ‬
‫س ْ‬
‫ن ال ّ‬ ‫قو َ‬ ‫ك أ َِثيم ٍ * ي ُل ْ ُ‬ ‫ل ع ََلى ك ُ ّ َ‬
‫ل أّفا ٍ‬ ‫ن * ت َن َّز ُ‬
‫طي ُ‬
‫شَيا ِ‬‫ل ال ّ‬ ‫ن ت َن َّز ُ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ((]الشعراء‪.[223-221:‬‬ ‫م كاذ ُِبو َ‬‫وَأكث َُرهُ ْ‬
‫وجاء في السنة التحذير من تصديق الكاهن والعراف‪ ،‬فقد‬
‫ثبت عن النبي ‪ ‬أنه قال‪ » :‬من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه ‪،‬‬
‫فقد كفر بما أنزل على محمد ‪].«‬رواه أحمد ‪ ،2/429‬وصححه‬
‫الحاكم ‪ 1/8‬والذهبي في الكبائر ص ‪ ،329‬والعراقي في المالي‬
‫على المستدرك ـ كما في فيض القدير ‪ 6/30‬ـ من حديث أبي‬
‫هريرة ‪ ،‬وله طرق وشواهد كثيرة‪ ،‬انظر‪ :‬فتح الباري ‪،10/217‬‬
‫وإرواء الغليل ‪[ 7/68‬‬
‫وعن بعض أزواج النبي ‪ ‬أنه قال‪ » :‬من أتى ع َّرافا فسأله‬
‫عن شيء لم تقبل له صلة أربعين ليلة«‪] .‬رواه مسلم )‪[(2230‬‬
‫والعراف والكاهن معناهما متقارب‪ ،‬ومن العلماء من يفرق‬
‫بين الكاهن والعراف‪ ،‬فيقول‪» :‬العراف‪ :‬هو الذي يدعي معرفة‬

‫‪253‬‬
‫المور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها كالمسروق ‪...‬‬
‫ومعرفة مكان الضالة«‪] .‬قاله البغوي في شرح السنة ‪[12/182‬‬
‫وقال شيخ السلم ابن تيمية‪» :‬والعراف قد قيل‪ :‬إنه اسم عام‬
‫للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في تقدم المعرفة‬
‫بهذه الطرق‪ ،‬ولو قيل‪ :‬إنه في اللغة اسم لبعض هذه النواع؛‬
‫فسائرها يدخل فيه بطريق العموم المعنوي«‪] .‬مجموع الفتاوى‬
‫‪[35/173‬‬
‫ذا؛ العراف أعم من الكاهن‪ ،‬فالكاهن عراف‪ ،‬والمنجم‬ ‫إ ً‬
‫عراف‪ ،‬والرمال الذي يضرب بالحصى ويخط بالرض عراف؛ لن‬
‫عراف صيغة مبالغة من المعرفة‪ ،‬فيكون عطف العراف على‬
‫الكاهن في كلم الطحاوي من عطف العام على الخاص‪.‬‬
‫فهؤلء الكذابون ل يجوز سؤالهم مطلقا؛ فإن سؤالهم ينبئ‬
‫عن العتراف بهم‪ ،‬ويجر إلى تصديقهم‪ ،‬وكيف يسألون وهم‬
‫دعون العلم بمغيبات‪ ،‬والله تعالى قد تفرد بعلم الغيب كما قال‬ ‫ي ّ‬
‫َ‬
‫ه ((‬ ‫ب إ ِّل الل ّ ُ‬ ‫ض ال ْغَي ْ َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫وا ِ‬
‫م َ‬‫س َ‬ ‫ن ِفي ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ل ي َعْل َ ُ‬‫تعالى‪ )) :‬قُ ْ‬
‫]النمل‪.[65:‬‬
‫مالون من المفسدين في الرض‪،‬‬ ‫ن والمنجمون والر ّ‬ ‫فالكها ُ‬
‫دعون‪ ،‬فيجب على‬ ‫ومن أشرار الخلق الذين يضلون الناس بما ي ّ‬
‫ولة المر أن يمنعوهم من إظهار منكرهم‪ ،‬وأن يضربوا على‬
‫ر‬ ‫ن إ َِلى ال ْ َ‬ ‫أيديهم عمل بقوله تعالى‪ )) :‬ول ْتك ُن منك ُ ُ‬
‫خي ْ ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ة ي َد ْ ُ‬‫م ٌ‬ ‫مأ ّ‬‫َ َ ْ ِ ْ ْ‬
‫ْ‬
‫من ْك َرِ ((]آل عمران‪ [104:‬فل‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫ن عَ ِ‬
‫ف وَي َن ْهَوْ َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫مُرو َ‬‫وَي َأ ُ‬
‫يجوز إقرارهم‪ ،‬ويجب على المسلمين أن يحذروا من سؤالهم‪.‬‬
‫والمنجم هو الذي ينظر في النجوم ويستدل باجتماعها‬
‫وافتراقها وبما يحدث عند طلوعها ويستدل بذلك على ما يحدث‬
‫في الرض؛ فمنهم من يفعل ذلك دجل‪ ،‬ومنهم من يعتقد أن‬
‫للنجوم تأثيرا فيما يحدث في الرض من خير وشر‪ ،‬وما يحصل‬
‫للفراد من أحوال‪ ،‬فيضلون الناس ويوهمونهم‪ ،‬بما عندهم من‬
‫ن من يولد في النجم الفلني يحصل له‬ ‫قواعد ومصطلحات‪ :‬أ ّ‬
‫كذا‪ ،‬من السْعد أوالنحس!‬
‫وهذا تخرص وكذب؛ فالنجوم جعلها الله لثلثة أشياء‪ ،‬كما‬
‫قال قتادة ـ رحمه الله ـ‪» :‬خلق هذه النجوم لثلث‪ :‬جعلها زينة‬
‫للسماء‪ ،‬ورجوما للشياطين‪ ،‬وعلمات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها‬
‫غير ذلك أخطأ‪ ،‬وأضاع نصيبه‪ ،‬وتكلف ما ل علم له به«‪].‬رواه‬
‫قا بصيغة الجزم‪ ،‬والطبري في تفسيره‬ ‫معل ً‬ ‫البخاري ‪ُ 4/107‬‬
‫‪[14/193‬‬
‫والتنجيم ضرب من السحر‪ ،‬كما في حديث ابن عباس عن‬
‫شْعبة من السحر‬ ‫ما من النجوم ِ اقتبس ُ‬ ‫عل ً‬‫س ِ‬ ‫النبي ‪ » :‬من اقتب َ‬

‫‪254‬‬
‫زاد َ ما زاد«‪] .‬رواه أحمد ‪ ،1/227‬وأبو داود )‪ ،(3905‬وابن ماجه‬
‫)‪ ،(3726‬وصححه النووي في رياض الصالحين )‪،(1671‬‬
‫والعراقي في المغني ‪[4/181‬‬
‫وأما الكاهن فهو الذي تخبره الشياطين بالخبار‪ ،‬سواًء من‬
‫أخبار الرض التي يطلعون عليها‪ ،‬أو مما يسترقون من السمع‪،‬‬
‫ها‬ ‫جعَل َْنا َ‬‫ح وَ َ‬ ‫صاِبي َ‬ ‫م َ‬‫ماَء الد ّن َْيا ب ِ َ‬ ‫س َ‬ ‫قال الله تعالى‪ )) :‬وَل َ َ‬
‫قد ْ َزي ّّنا ال ّ‬
‫جعَل َْنا ِفي‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ن ((]الملك‪ [5:‬وقال تعالى‪ )) :‬وَل َ َ‬ ‫طي ِ‬‫شَيا ِ‬ ‫ما ِلل ّ‬ ‫جو ً‬ ‫ُر ُ‬
‫ن‬‫طا ٍ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬‫ها ِ‬ ‫فظ َْنا َ‬ ‫ح ِ‬
‫ن * وَ َ‬ ‫ري َ‬
‫ها ِللّناظ ِ ِ‬ ‫جا وََزي ّّنا َ‬ ‫ماِء ب ُُرو ً‬‫س َ‬‫ال ّ‬
‫َ‬
‫ن ((]الحجر‪-16:‬‬ ‫مِبي ٌ‬‫ب ُ‬ ‫شَها ٌ‬ ‫ه ِ‬ ‫معَ فَأت ْب َعَ ُ‬ ‫س ْ‬ ‫ست ََرقَ ال ّ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬‫جيم ٍ * إ ِّل َ‬ ‫َر ِ‬
‫‪.[18‬‬
‫وفي الصحيح من حديث أبي هريرة ‪ ‬عن النبي ‪» : ‬إذا‬
‫ضَعاًنا‬ ‫خ ْ‬ ‫قضى الله المر في السماء ضربت الملئكة بأجنحتها ُ‬
‫لقوله‪ ،‬كأنه سلسلة على صفوان‪ ،‬فإذا }فزع عن قلوبهم قالوا‬
‫ماذا قال ربكم قالوا{ للذي قال‪}:‬الحق وهو العلي الكبير{‬
‫فيسمعها مسترق السمع‪ ،‬ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض‬
‫دد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة‪،‬‬ ‫ـ ووصف سفيان بكفه فحرفها وب ّ‬
‫فيلقيها إلى من تحته‪ ،‬ثم يلقيها الخر إلى من تحته‪ ،‬حتى يلقيها‬
‫ب قبل أن‬ ‫على لسان الساحر أو الكاهن‪ ،‬فربما أدركه الشها ُ‬
‫يلقيها‪ ،‬وربما ألقاها قبل أن يدركه‪ ،‬فيكذب معها مائة كذبة‪،‬‬
‫صد ّقُ بتلك‬ ‫فيقال‪ :‬أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬فَي ُ َ‬
‫مَعت من السماء«‪].‬رواه البخاري )‪[(4800‬‬ ‫س ِ‬‫الكلمة التي ُ‬
‫والمقصود‪ :‬أن مما يجب على المسلمين الحذر من تصديق‬
‫هؤلء ومن إقرارهم على ما يدعونه؛ بل يجب النكار عليهم‪،‬‬
‫ومنعهم وكف شرهم‪ ،‬ومنع ذهاب الناس إليهم‪ ،‬وقد كثروا في‬
‫هذا العصر‪ ،‬لكنهم إنما يكثرون في المواضع التي يغلب فيها‬
‫الجهل وضعف الدين‪ ،‬فإذا غلب الجهل على الناس وضعف دينهم‬
‫كثرت الشرور‪ ،‬وراج الباطل على الناس كما هو الواقع‪.‬‬
‫أما إذا ظهر العلم الشرعي وقوي سلطان الحق؛ اختفت‬
‫هذه الشرور؛ لن العلم يكشفها ويفضحها‪ ،‬وسلطان الحق‬
‫يقمعها‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ول من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع‬
‫المة(‪.‬‬
‫أي‪ :‬ونحن أهل السنة ل نصدق من يدعي شيئا يخالف الكتاب‬
‫والسنة وإجماع المة؛ بل كل من أدعى من يخالف كتاب الله‬
‫تعالى وسنة رسوله ‪ ‬يجب الرد والنكار عليه‪ ،‬وهذا يتناول ما‬
‫يدعيه المتصوفة من الحوال والقدرة والكشوف والدعاوى‬

‫‪255‬‬
‫العريضة‪ ،‬كدعوى بعضهم أنه يسعه التدين بغير هدي رسول الله‬
‫‪!‬‬
‫واليمان بكتاب الله وسنة رسوله ‪ ‬يستلزم رد كلما خالف‬
‫ذلك‪ ،‬فلهذا قال الطحاوي‪) :‬ول نصدق كاهنا ول عرافا‪ ،‬ول من‬
‫يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع المة(‪.‬‬

‫]من منهج أهل السنة لزوم الجماعة والحذر من الفرقة[‬


‫فرقة زيغا وعذابا(‪.‬‬ ‫وقوله‪ ) :‬ونرى الجماعة حقا وصوابا‪ ،‬وال ُ‬
‫من منهج أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة‪ ،‬والحذر من‬
‫التفرق في الدين؛ لن الله تعالى أمر عباده بالجتماع‪ ،‬ونهاهم‬
‫عن الفتراق‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬واعتصموا بحبل الله جميعا ً ول‬
‫تفرقوا﴾‪ ،‬و قال تعالى‪﴿ :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد‬
‫ما جاءهم البينات﴾‪ ،‬وقال تعالى‪﴿ :‬وإن الذين اختلفوا في الكتاب‬
‫لفي شقاق بعيد﴾‪.‬‬
‫لهذا قال الطحاوي‪) :‬ونرى الجماعة حقا وصوابا( الجماعة؛‬
‫ة شر‬‫فرق َ‬‫الجتماع على الحق‪ ،‬نراه حقا وصوابا‪ ،‬ونرى أن ال ُ‬
‫دوا‪،‬‬
‫وعذاب وزيغ عن الصراط؛ فإن الناس إذا تفرقوا تنافروا‪ ،‬وتعا َ‬
‫وساءت أحوالهم الدينيةِ والدنيوية‪ ،‬وبغى بعضهم على بعض‪ ،‬وكما‬
‫دل القرآن على ذلك‪ ،‬دلت سنة النبي ‪ ،‬فقد استفاضت‬
‫فرقة‪ ،‬ولكن قد أخبر‬ ‫الحاديث في لزوم الجماعة‪ ،‬والتحذير من ال ُ‬
‫النبي ‪ ‬بأن هذه المة ستفترق‪ ،‬فالفرقة واقعة؛ وإخباره بوقوع‬
‫ذر‪،‬‬‫الشيء ل يدل على أنه صواب؛ بل هو ‪ ‬يخبر به إخبار المح ّ‬
‫ولهذا قال ‪ » :‬إن هذه المة ستفترق على ثلث وسبعين فرقة‬
‫كلها في النار إل واحدة ‪ ،‬قيل‪ :‬من هي يا رسول الله ؟ قال‪ :‬من‬
‫كان على مثل ما أنا عليه اليوم ‪ ،‬وأصحابي « ]تقدم تخريجه في‬
‫ص[ وفي لفظ‪» :‬وهي الجماعة«‪].‬تقدم تخريجه في ص[‬
‫فرق متعرضة للعذاب‪ ،‬وأن‬ ‫فنبه النبي ‪ ‬إلى أن سائر ال ِ‬
‫فرقة الناجية«‬ ‫عرف أهل السنة بـ»ال ِ‬ ‫ة واحدة‪ ،‬ولهذا ُ‬‫الناجي فرق ٌ‬
‫أخذا من هذا الحديث‪.‬‬
‫فيجب على أهل السنة أن يحذروا من مشابهة أهل البدع‬
‫الذين خالفوا الكتاب‪ ،‬وتفرقوا في دينهم‪ ،‬وابتدعوا ما لم يشرع‬
‫الله من البدع العتقادية أو العملية‪.‬‬
‫فالخير في الجتماع على الحق‪ ،‬والشر في التفرق في‬
‫الدين؛ لن التفرق اتباع للهوى‪ ،‬ولهذا يعرف أهل البدع بأهل‬
‫صله شيوخها‬ ‫الهواء؛ لن كل فرقة متبعة لهواها الذي أ ّ‬
‫ومتبوعوها‪ ،‬فكل فرقة لها إمام تقل ّ ُ‬
‫ده ديَنها‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫وذكر شيخ السلم ابن تيمّية‪» :‬أن الختلف الواقع بين‬
‫الناس نوعان‪ :‬اختلف تنوع‪ ،‬و اختلف تضاد؛ فاختلف التنوع في‬
‫الحقيقة ليس من الختلف‪ ،‬ولهذا اسمه تنوع‪.‬‬
‫ون من بغي بعضهم‬ ‫ولكن المختلفين اختلف تنوع إنما ُيؤت َ ْ‬
‫قّر‬
‫على بعض‪ ،‬والواجب في المختلفين اختلف التنوع‪ ،‬أن ي ُ ِ‬
‫بعضهم بعضا؛ كالختلف في القراءات‪ ،‬وأنواع الذان‪،‬‬
‫والستفتاحات والتشهدات‪ ،‬وما أشبه ذلك؛ لنهم مصيبون جميعا‪.‬‬
‫وأما اختلف التضاد‪ ،‬فقد يكون الصواب في أحد الجانبين‪،‬‬
‫وقد يكونون جميعا على الباطل‪ ،‬كاختلف ملل الكفر‪ ،‬وأهل‬
‫البدع‪ ،‬فكلهم مخطئ‪ ،‬كما قال سبحانه‪﴿ :‬وإن الذين اختلفوا في‬
‫الكتاب لفي شقاق بعيد﴾‪ ،‬فالمختلفون اختلف تضاد قد يكونون‬
‫مذمومين كلهم‪ ،‬كاختلف أهل الباطل في باطلهم‪ ،‬وقد يكون أحد‬
‫المختلفين محمودا والخر مذموما‪ ،‬كالختلف بين المخطئ‬
‫والمصيب‪ ،‬كما قال سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ولو شاء الله ما اقتتل الذين‬
‫من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات‪ ،‬ولكن اختلفوا فمنهم من‬
‫آمن‪ ،‬ومنهم من كفر﴾‪ ،‬فالختلف بين المؤمنين والكفار اختلف‬
‫تضاد‪ ،‬والحق والصواب في جانب المؤمنين‪.‬‬
‫وأما اختلف التضاد الذي يكون بين علمــاء المــة؛ فــالحق أن‬
‫المصيب من المجتهدين واحد‪ ،‬لكن المخطئ مأجور على اجتهاده‬
‫كمــا فــي الحــديث المشــهور عــن النــبي ‪ » :‬إذا حكــم الحــاكم‬
‫فاجتهد‪ ،‬ثم أصاب‪ ،‬فله أجران‪ ،‬وإذا حكم فاجتهــد‪ ،‬ثــم أخطــأ فلــه‬
‫أجــر « ]رواه البخــاري )‪ ،(7352‬ومســلم )‪ (1716‬مــن حــديث‬
‫عمرو بن العاص ‪ ،[‬فكلهم محمود؛ المصيب منهــم والمخطــئ؛‬
‫ن‬
‫لنهم مجتهدون‪ ،‬طالبون للحق‪ ،‬محمودون على اجتهــادهم‪ ،‬ولكـ ّ‬
‫الله تعالى يوفق من شاء للصواب‪ ،‬كما ذكر الله ســبحانه وتعــالى‬
‫عــن النــبيين داود وســليمان ـــ عليهمــا الســلم ـــ فقــال‪﴿ :‬وداود‬
‫وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيــه غنــم القــوم وكنــا‬
‫لحكمهـم شـاهدين‪ ،‬ففهمناهـا ســليمان‪ ،‬وكل ً آتينــا حكمـا ً وعلمـا ً﴾‪،‬‬
‫فشــهد لهمــا جميعــا‪ ،‬بــالحكم والعلــم«‪] .‬ملخــص مــن كلم شــيخ‬
‫السلم في اقتضاء الصراط المستقيم ‪[155-1/149‬‬

‫]وسطية دين السلم[‬


‫وقوله‪) :‬ودين الله في الرض والسماء واحد‪ ،‬وهو دين‬
‫السلم‪ ،‬قال الله تعالى‪﴿ :‬إن الدين عند الله السلم﴾‪ ،‬وقال‬
‫تعالى‪﴿ :‬ورضيت لكم السلم دينا﴾‪ .‬وهو بين الغلو والتقصير‪ ،‬وبين‬
‫التشبيه والتعطيل‪ ،‬وبين الجبر والقدر‪ ،‬وبين المن والياس(‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫حقيقة دين السلم‪ :‬عبادة الله وحده ل شريك له‪ ،‬وطاعته‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذه الحقيقة يدين بها أهل السماوات من‬
‫ملئكة الله‪ ،‬وهي‪ :‬دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم‪ ،‬فدين‬
‫الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم هو السلم‪ ،‬يدل لذلك قوله‬
‫ي‪ ،‬المعتبر‬ ‫تعالى‪﴿ :‬إن الدين عند الله السلم﴾أي‪ :‬الدين المرض ّ‬
‫في حكمه سبحانه وتعالى هو السلم‪ ،‬ويوضح ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬‬
‫ومن يبتغ غير السلم دينا ً فلن يقبل منه﴾‪ ،‬وهذه ليست خاصة بما‬
‫جاء به محمد ‪‬؛ بل هذا عام في الولين والخرين؛ من ابتغى‬
‫غير دين السلم فلن يقبل منه‪.‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا‬
‫إني بما تعملون عليــم * وإن هـذه أمتكــم أمـة واحـدة وأنـا ربكـم‬
‫فاتقون﴾‪ .‬وقوله ‪» :‬أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الــدنيا‬
‫والخـرة‪ ،‬والنبيـاء إخـوة ل ِعَّلت‪ ،‬أمهـاتهم شـتى‪ ،‬ودينهـم واحـد«‪.‬‬
‫]رواه البخاري )‪ ،(3443‬ومسلم )‪ (2365‬من حديث أبــي هريــرة‬
‫‪[‬‬
‫فنوح عليه السلم جاء بالسلم؛ لنه جاء يدعو إلى عبادة‬
‫الله وحده ل شريك له‪ ،‬وذكر الله عنه أنه قال لقومه‪﴿ :‬أل تعبدوا‬
‫إل الله﴾]هود‪﴿ ،[26:‬أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون﴾]نوح‪﴿ ،[3:‬‬
‫وأمرت أن أكون من المسلمين﴾ ]يونس‪ ،[72:‬وهكذا من جاء‬
‫بعده من الرسل‪ ،‬كإبراهيم ويعقوب قال الله تعالى عن‬
‫إبراهيم‪﴿ :‬إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين *‬
‫ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم‬
‫الدين فل تموتن إل وأنتم مسلمون﴾‪ ،‬ويوسف عليه السلم قال‪﴿ :‬‬
‫توفني مسلما﴾‪ ،‬وموسى عليه السلم قال‪ ﴿ :‬يا قوم إن كنتم‬
‫آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين﴾‪ ،‬والسحرة لما آمنوا ﴿‬
‫قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين﴾‪ ،‬وهكذا الحواريون‬
‫أتباع المسيح ﴿قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون﴾‪.‬‬
‫فالسلم دين الله‪ ،‬لكن يجب أن يعلم أنه بعد أن بعث الله‬
‫محمدا ‪ ‬صار السلم هو ما جاء به‪ ،‬وكل من لم يؤمن بشريعة‬
‫محمد ‪ ‬ويلتزم بمتابعته؛ فليس على السلم مهما تدين‪ ،‬حتى‬
‫ولو لم يشرك‪.‬‬
‫فاليهود‪ ،‬والنصارى وإن انتسبوا إلى النبياء‪ ،‬وإلى التوراة‪،‬‬
‫والنجيل‪ ،‬فليسو بمسلمين؛ لنهم جمعوا بين أنواع من الكفر‪،‬‬
‫والشرك؛ وانضاف إلى ذلك كفرهم برسالة محمد ‪‬؛ فالنصارى‬
‫يقوم دينهم الباطل على الشرك‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬لقد كفر الذين‬
‫قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل‬
‫اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه‬

‫‪258‬‬
‫الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا‬
‫إن الله ثالث ثلثة﴾‪.‬‬
‫واليهود كفروا بما ارتكبوا من العظائم؛ كتحريف كتب الله‪،‬‬
‫والتلعب بدينه‪ ،‬وقتل النبياء‪ ،‬وقد ذكر الله بعض قبائحهم‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم النبياء‬
‫بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فل‬
‫يؤمنون إل قليل * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما﴾‪.‬‬
‫اليات‪.‬‬
‫ولهذا جاء في الصحيح أن النبي ‪ ‬قال‪ » :‬والذي نفس‬
‫محمد بيده ل يسمع بي أحد من هذه المة يهودي ول نصراني ثم‬
‫يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إل كان من أصحاب النار «‬
‫]تقدم تخريجه في ص[‪.‬‬
‫ومن يقول‪ :‬إن اليهود والنصارى على دين صحيح؛ فإنه كافر؛‬
‫لن ذلك يناقض ما وصفهم الله به‪ ،‬وأخبر عنهم‪ ،‬وهذه قضية‬
‫ينبغي التنبه لها؛ لنه قد اشتهر في هذا العصر الدعوة إلى وحدة‬
‫الديان‪ ،‬واعتقاد أن اليهود والنصارى والمسلمين كلهم على دين‬
‫صحيح!‬
‫ودين السلم توسط واعتدال‪ ،‬بين الغلو والتقصير‪ .‬والغلو‪:‬‬
‫مجاوزة الحد‪ .‬والتقصير‪ :‬هو نقص فيما يجب القيام به‪ .‬فهذان‬
‫مدخلن للشيطان على النسان‪ ،‬فالشيطان؛ إما أن يحمل‬
‫النسان على الغلو في الدين؛ فيقع في التجاوز؛ فيبتدع في الدين‬
‫ما لم يأذن به الله‪.‬‬
‫أو يحمله على التقصير بترك واجب‪ ،‬أو فعل محرم‪.‬‬
‫والواجب الوقوف عند حدود الله‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬تلك حدود الله‬
‫فل تعتدوها﴾أي‪ :‬بالتجاوز وهو الغلو‪.‬‬
‫وقال سبحانه‪﴿ :‬تلك حدود الله فل تقربوها﴾ وهي‪ :‬المحرمات؛‬
‫فقربانها تقصير‪ ،‬وقد يجتمع في الشخص الغلو والفراط في‬
‫جانب والتفريط والتقصير في جانب آخر؛ فيجمع بين الغلو‬
‫والتقصير‪.‬‬
‫َ‬
‫ب‬‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫وهذا كثير في الفراد والطوائف‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬يا أهْ َ‬
‫ق{ ] النساء‪،[171:‬‬ ‫قوُلوا ْ ع ََلى الل ّهِ إ ِل ّ ال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ل َ ت َغُْلوا ْ ِفي ِدين ِك ُ ْ‬
‫م وَل َ ت َ ُ‬
‫وقال سبحانه وتعالى‪﴿:‬يا أيها الذين آمنوا ل تحرموا طيبات ما أحل‬
‫الله لكم ﴾ فتحريم الحلل من البتداع والتنطع والغلو في الدين‪﴿ ،‬‬
‫ول تعتدوا إن الله ل يحب المعتدين﴾ وهذا تقصير‪.‬‬
‫وقد أنكر النبي ‪ ‬على الذين أرادوا أن يتبتلوا‪ ،‬وأن ينقطعوا‬
‫للعبادة حين‪ »:‬سألوا أزواج النبي ‪ ‬عن عمله في السر‪ ،‬فقال‬
‫بعضهم‪ :‬ل أتزوج النساء‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬ل آكل اللحم‪ ،‬وقال‬

‫‪259‬‬
‫بعضهم‪ :‬ل أنام على فراش! فحمد الله وأثنى عليه‪ ،‬فقال‪ :‬ما بال‬
‫أقوام قالوا‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬لكني أصلي وأنام‪ ،‬وأصوم وأفطر‪ ،‬وأتزوج‬
‫النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فليس مني«‪] .‬رواه البخاري )‬
‫‪ ،(745‬ومسلم )‪ (1401‬ـ واللفظ له ـ من أنس ‪[‬‬
‫والغلو يجري في مسائل الدين كلها‪ :‬العتقادية والعملية‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬بين الغلو والتقصير‪ ،‬وبين التشبيه والتعطيل‪ ،‬وبين‬
‫ف هذه المتقابلت من‬ ‫الجبر والقدر‪ ،‬وبين المن والياس( عط ُ‬
‫قبيل عطف الخاص على العام؛ فإن التشبيه والتعطيل يندرجان‬
‫في الغلو والتقصير؛ فالتشبيه غلو في إثبات الصفات‪ ،‬فالمشبهة‬
‫يقول أحدهم‪ :‬لله سمع كسمعي‪ ،‬وبصر كبصري‪ ،‬ويد كيدي!‬
‫فيشبه الله بخلقه‪ ،‬ويشبه صفاته بصفات خلقه‪.‬‬
‫ويقابل التشبيه التعطيل‪ ،‬والتعطيل نفي الصفات‪ ،‬ونفيها‬
‫تقصير فيما يجب إثباته لله تعالى؛ فإنه تعالى أوجب على عباده‬
‫اليمان بما أخبر به عن نفسه من أسمائه وصفاته‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير(‪.‬‬
‫والتشبيه والتعطيل كلهما يتضمن الغلو والتقصير؛ فالتشبيه‬
‫غلو في الثبات وتقصير في التنزيه‪ ،‬والتعطيل غلو في التنزيه‪،‬‬
‫وتقصير في الثبات‪ ،‬فالمعطلة غلوا في التنزيه حتى نفوا صفات‬
‫الرب تعالى زاعمين أنهم قالوا ذلك تنزيها لله عن مشابهة‬
‫المخلوقات‪ ،‬فجمعوا بين التعطيل والتشبيه وبين الفراط‬
‫والتفريط‪.‬‬
‫وأهل السنة وسط في باب أسماء الله وصفاته بين أهل‬
‫التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة‪ ،‬ومذهبهم هو دين‬
‫السلم في هذا الباب‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وبين الجبر والقدر(‬
‫الجبر هو مذهب الجهمية‪ ،‬ومن وافقهم‪ ،‬وحقيقته‪ :‬أن العبد ـ‬
‫عندهم ـ مجبور على أفعاله ‪ ،‬وأنه يتصرف بغير مشيئة ول اختيار‬
‫ول قدرة ؛ كحركة الريش في مهب الريح‪ ،‬وحركة المرتعش‪،‬‬
‫وحركة الشجار‪.‬‬
‫ويقابله القول بالقدر‪ ،‬وهو مذهب المعتزلة القدرية‪،‬‬
‫ويسمون‪ :‬القدرية‪ ،‬كما أن الجبرية يقال لهم‪ :‬قدرية أيضا‪ ،‬لكن‬
‫هذا السم أشهر في القدرية النفاة الذين ينفون عموم مشيئة‬
‫الله‪ ،‬وعموم خلقه؛ فيخرجون أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة‬
‫لله وواقعة بمشيئته وقدرته‪.‬‬
‫والجبرية يسلبون العبد فاعليته وقدرته ومشيئته‪ ،‬والقدرية‬
‫النفاة يقولون‪ :‬إن العبد هو الذي يخلق فعله بمحض قدرته‬
‫ومشيئته‪ ،‬ول أثر ول تأثير لمشيئة الله في أفعالهم‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫فالجبرية غلو في إثبات القدر وإثبات فاعلية الله‪ ،‬وقصروا‬
‫في إثبات فعل العبد وفاعليته واختياره حيث سلبوا العبد قدرته‬
‫ومشيئته واختياره وفاعليته‪.‬‬
‫والقدرية غلو في إثبات فاعلية العبد حتى قالوا‪ :‬إنه هو الذي‬
‫يخلق فعله بمحض مشيئته وقدرته‪ ،‬وقصروا في إثبات ربوبيته‬
‫تعالى حيث نفوا تعلق مشيئة الله وقدرته وخلقه بأفعال العباد‪،‬‬
‫فأخرجوا كل أفعال العباد من أقوال وحركات سواء كانت‬
‫محمودة أو مذمومة عن مشيئة الله وخلقه وقدرته وملكه!‬
‫وقد تقدم ذكر بعض شبهات هذين المذهبين ومناقشتهما‬
‫والرد عليهما‪ ،‬وهذه الكلمات جاءت أخيرا في كلم الطحاوي‬
‫كالتلخيص لبعض ما تقدم‪].‬في مواضع ص[‬
‫والقول بالجبر مغالطة وإنكار‪ ،‬وهنا بهذه المناسبة يسأل‬
‫بعض الناس ويقول‪ :‬هل النسان مخير أو مسير؟ فنقول‪ :‬ل يصح‬
‫إطلق أحد الكلمتين؛ لن كل منهما يحتمل حقا وباطل؛ فإن أردت‬
‫أن النسان مخير‪ ،‬أي‪ :‬له اختيار ومشيئة؛ فيقوم ويقعد و يتكلم‬
‫بمشيئة‪ ،‬فهذا حق‪.‬‬
‫وإن أردت أنه مخير‪ ،‬أي ‪ :‬أن له مشيئة وقدرة ل ترتبط‬
‫بمشيئة الله‪ ،‬فهذا باطل‪ ،‬قال تعالى‪) :‬وما تشاءون إل أن يشاء‬
‫الله( أو أراد أن له الحرية المطلقة في أفعاله؛ فهو مخير بين‬
‫الفعل والترك‪ ،‬كما يفهمه بعض الغالطين من قوله تعالى‪) :‬وقل‬
‫الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( فإن هذا‬
‫ليس تخييرا؛ بل هذا أسلوب تهديد ووعيد شديد‪ ،‬ولذا قال تعالى‬
‫بعدها‪) :‬إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها(‪.‬‬
‫وهكذا قول القائل هل العبد مسير؟ نقول‪ :‬إذا كنت تريد أنه‬
‫مسير‪ ،‬أي‪ :‬أنه ل اختيار له ول مشيئة فهذا باطل‪ ،‬وهذا هو الجبر‪.‬‬
‫وإن أردت أنه مسير‪ ،‬أي‪ :‬أن أفعاله تسير على وفق قدر الله‬
‫ومشيئته‪ ،‬وأنه ميسر لما خلق له‪ ،‬كما جاء في الحديث عن النبي‬
‫‪» :‬اعملوا فكل ميسر«‪] .‬تقدم تخريجه في ص[ فهذا حق‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬أن الكلمتين لم تردا في النصوص ول يصح‬
‫إطلقهما نفيا ول إثباتا لما فيهما من احتمال الحق والباطل‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬وبين المن والياس(‪.‬‬
‫دين السلم وسط في باب الوعد والوعيد‪ ،‬بين المن‬
‫والياس‪ ،‬والله قد وصف عباده وأولياءه بالخوف والرجاء‪ ،‬قال‬
‫عون ََنا َرغ ًَبا وََرهًَبا‬ ‫ت وَي َد ْ ُ‬ ‫ن ِفي ال ْ َ‬
‫خي َْرا ِ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫م َ‬
‫كاُنوا ي ُ َ‬ ‫تعالى‪} :‬إ ِن ّهُ ْ‬
‫ُ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫ن{ ]النبياء‪ [90:‬وقال تعالى‪}:‬أول َئ ِ َ‬ ‫شِعي َ‬ ‫خا ِ‬ ‫كاُنوا ل ََنا َ‬ ‫وَ َ‬
‫ة أ َيه َ‬
‫ه‬
‫مت َ ُ‬
‫ح َ‬‫ن َر ْ‬ ‫جو َ‬ ‫ب وَي َْر ُ‬ ‫م أقَْر ُ‬ ‫سيل َ َ ّ ُ ْ‬‫م ال ْوَ ِ‬‫ن إ َِلى َرب ّهِ ُ‬ ‫ن ي َب ْت َُغو َ‬
‫عو َ‬
‫ي َد ْ ُ‬
‫ذوًرا{ ]السراء‪ ،[57:‬وقال‬ ‫ح ُ‬‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ك َ‬
‫كا َ‬ ‫ب َرب ّ َ‬ ‫ذا َ‬‫ن عَ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫ن عَ َ‬
‫ذاب َ ُ‬ ‫خاُفو َ‬‫وَي َ َ‬

‫‪261‬‬
‫خوًْفا وَط َ َ‬
‫مًعا‬ ‫م َ‬ ‫ن َرب ّهُ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫جِع ي َد ْ ُ‬ ‫ضا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫جُنوب ُهُ ْ‬ ‫جاَفى ُ‬ ‫تعالى‪}:‬ت َت َ َ‬
‫ن{]السجدة‪ [16:‬فالوسطية ما دلت عليه‬ ‫قو َ‬ ‫م ُينفِ ُ‬ ‫ما َرَزقَْناهُ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫وَ ِ‬
‫هذه اليات‪ ،‬فل أمن ول إياس‪ ،‬والمن واليأس من كبائر الذنوب‪،‬‬
‫ن{‬ ‫ضآّلو َ‬ ‫مةِ َرب ّهِ إ ِل ّ ال ّ‬ ‫ح َ‬ ‫من ّر ْ‬ ‫ط ِ‬ ‫قن َ ُ‬‫من ي َ ْ‬ ‫قال سبحانه وتعالى‪} :‬وَ َ‬
‫ح الل ّهِ إ ِل ّ‬ ‫من ّرو‬ ‫َ‬ ‫ه ل َ ي َي ْأ‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ُ‬ ‫]الحجر‪ [56:‬وقال سبحانه وتعالى‪}:‬إ ِن ّ ُ‬
‫مُنوا ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن {]يوسف‪ [ 87:‬وقال سبحانه وتعالى‪} :‬أفَأ ِ‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫قو ْ ُ‬
‫ْ‬
‫ن{ ]العراف‪[99:‬‬ ‫سُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫مك َْر الل ّهِ إ ِل ّ ال ْ َ‬
‫قو ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ُ‬ ‫مك َْر الل ّهِ فَل َ ي َأ َ‬ ‫َ‬
‫فالمن هو سبيل المرجئة الغلة‪ ،‬والياس سبيل الوعيدية‬
‫طون مرتكب الكبيرة من دخول الجنة فيقولون‪ :‬بوجوب‬ ‫قن ّ ُ‬ ‫الذين ي ُ َ‬
‫إنفاذ الوعيد‪ ،‬وأنه ل يجوز أن يغفر الله لهل الكبائر؛ بل ل بد أن‬
‫يعذبهم‪ ،‬وإذا دخلوا النار فلن يخرجوا منها‪ ،‬وهذا يتضمن تيئيس‬
‫الموحدين من أهل الكبائر‪.‬‬
‫فدين الله )بين الغلو والتقصير‪ ،‬وبين التشبيه والتعطيل‪،‬‬
‫وبين الجبر والقدر‪ ،‬وبين المن والياس( وهو صراط مستقيم ل‬
‫اعوجاج فيه‪ ،‬أما سائر الطرق والسبل؛ فإنها منحرفة إلى‬
‫ما َفات ّب ُِعوه ُ وَل َ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫َ‬
‫قي ً‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫طي ُ‬ ‫صَرا ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫الطرف‪ ،‬قال تعالى‪} :‬وَأ ّ‬
‫كم ب ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫صا ُ‬ ‫م وَ ّ‬ ‫سِبيل ِهِ ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫عن َ‬ ‫م َ‬ ‫فّرقَ ب ِك ُ ْ‬ ‫ل فَت َ َ‬ ‫ت َت ّب ُِعوا ْ ال ّ‬
‫سب ُ َ‬
‫ن{ ]النعام‪.[153:‬‬ ‫قو َ‬ ‫ت َت ّ ُ‬
‫ومذهب أهل السنة والجماعة وسط في كل مسائل الدين ‪.‬‬

‫]براءة أهل السنة من المذاهب المبتدعة[‬


‫وقوله‪) :‬فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا‪ ،‬ونحن براء إلى‬
‫الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه‪ .‬ونسأل الله‬
‫تعالى أن يثبتنا على اليمان‪ ،‬ويختم لنا به‪ ،‬ويعصمنا من الهواء‬
‫المختلفة‪ ،‬والراء المتفرقة‪ ،‬والمذاهب الردية‪ ،‬مثل‪ :‬المشبهة‪،‬‬
‫والمعتزلة‪ ،‬والجهمية‪ ،‬والجبرية‪ ،‬والقدرية‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬من الذين‬
‫خالفوا الجماعة‪ ،‬وحالفوا الضللة‪ ،‬ونحن منهم براء‪ ،‬وهم عندنا‬
‫ضلل وأردياء‪ ،‬وبالله العصمة والتوفيق(‪.‬‬
‫ختم الطحاوي بهذه الكلمات ما أثبته من مسائل اعتقاد أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬وقوله‪) :‬فهذا( إشارة إلى كل ما ذكره من‬
‫المسائل المتعلقة بأصول اليمان‪ ،‬من مسائل التوحيد والرسالة‪،‬‬
‫والمسائل المتعلقة بالقرآن وباليمان وبالصحابة وغير ذلك‪.‬‬
‫فهذا ديننا واعتقادنا الذي ندين لله به‪ ،‬ونخضع لله به‪ ،‬ونعبد‬
‫الله به‪ ،‬كما قال في الول‪) :‬نقول في توحيد الله معتقدين‬
‫بتوفيق الله‪ :‬إن الله واحد ل شريك له( إلخ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ظاهرا وباطنا(‬

‫‪262‬‬
‫أي‪ :‬نقر به بألسنتنا‪ ،‬ونصدقه بأفعالنا‪ ،‬ونعتقده بقلوبنا‪ ،‬وإنما‬
‫ينفع اليمان والدين إذا تطابق الظاهر والباطن‪ ،‬فدين السلم‬
‫يتعلق بالباطن‪ :‬اعتقادا وعمل؛ فالعتقاد‪ :‬التصديق واليقين‪.‬‬
‫والعمل‪ :‬الخوف والرجاء والتوكل والحب والبغض‪.‬‬
‫ح فعل‬ ‫ن إقراًرا‪ ،‬وبالجوار ِ‬ ‫ويتعلق بالجوارح؛ باللسا ِ‬
‫دق ما يقوله العبد بلسانه‪،‬‬ ‫ص ّ‬
‫للمأمورات‪ ،‬وتركا للمنهيات‪ ،‬مما ي ُ َ‬
‫ولهذا قال‪) :‬هذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا(‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي‬
‫ذكرناه وبيناه(‬
‫أي‪ :‬ونحن نبرأ إلى الله ونعادي وننابذ ونباعد كل من خالف‬
‫ما تقدم ِذكره وتقريره؛ لنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله‬
‫‪،‬ويعني‪ :‬البراءة من طوائف المبتدعين الذين خالفوا الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وقد أوضح ذلك ببيان البراءة من المشبهة‪ ،‬والمعتزلة‪،‬‬
‫والجهمية‪ ،‬والجبرية‪ ،‬والقدرية‪ ،‬فهؤلء هم الذين يعنيهم بقوله‪:‬‬
‫)ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه(‬
‫لنها مذاهب مبتدعة رديئة مفتراة‪ ،‬ومخالفة لما جاء في كتاب‬
‫الله سبحانه‪ ،‬وسنة رسوله ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ونسأل الله أن يثبتنا على اليمان‪ ،‬ويختم لنا به(‬
‫وهذا ختم للكلم بالدعاء بالثبات على السلم‪ ،‬وهو أمر مهم‪،‬‬
‫فنسأل الله أن يثبتنا على السلم واليمان والعتقاد الحق‪ ،‬والعبد‬
‫فقير إلى تثبيت ربه وهدايته وعصمته حتى يلقاه‪ ،‬قال تعالى‪َ}:‬يا‬
‫ن إ ِل ّ وََأنُتم‬ ‫قات ِهِ وَل َ ت َ ُ‬
‫موت ُ ّ‬ ‫حقّ ت ُ َ‬ ‫قوا ْ الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫مُنوا ْ ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن{ ] آل عمران‪ [102:‬ومن دعاء النبياء والصالحين‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫ن {]العراف‪:‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬‫ما{ ] يوسف‪} [101:‬وَت َوَفَّنا ُ‬ ‫سل ِ ً‬
‫م ْ‬ ‫} ت َوَفِّني ُ‬
‫‪ [126‬ومن دعائه ‪» ‬يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك«‪.‬‬
‫]تقدم تخريجه في ص[ فالدعاء بالثبات على السلم حتى‬
‫الممات من أنفع وأهم وأحوج ما يكون للعبد‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬ويعصمنا من الهواء المختلفة‪ ،‬والراء المتفرقة‪،‬‬
‫والمذاهب الردية(‬
‫الستقامة على الصراط إنما تكون بعصمة الله وهدايته‪ ،‬ولذا‬
‫ط‬‫صَرا َ‬ ‫م* ِ‬ ‫قي َ‬‫مست َ ِ‬ ‫ط ال ُ‬ ‫صَرا َ‬ ‫أمرنا أن نقول في كل صلة‪} :‬اهد َِنا ال ّ‬
‫ال ّذي َ‬
‫ن{]الفاتحة‪:‬‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫م وَل َ ال ّ‬ ‫ب ع ََليهِ ْ‬ ‫ضو ِ‬ ‫مغ ُ‬ ‫غيرِ ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ع ََليهِ ْ‬ ‫ن أنَعم َ‬ ‫ِ َ‬
‫‪] [7-6‬عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما أن رسول الله ‪‬‬
‫قال‪ »:‬ل صلة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب « رواه البخاري )‬
‫‪ (756‬ومسلم )‪ [.(394‬فالعبد فقير إلى أن يعصمه ربه من هذه‬
‫الضللت‪ ،‬يقول ابن القيم ـ لما ذكر مذاهب المبتدعين ـ‪:‬‬

‫‪263‬‬
‫ن أصاب ِِع‬
‫ب َبي َ‬ ‫* َفال َ‬
‫قل ُ‬ ‫مثل َُهم‬
‫ت أيضا ً ِ‬ ‫ك ُ‬
‫كن َ‬ ‫َلو َ‬
‫شاَء َرب ّ َ‬
‫ن ]الكافية الشافية ص ‪[31‬‬ ‫م ِ‬‫الّرح َ‬
‫فمن عافاه الله مما عليه أهل الضلل؛ كالمشركين‬
‫والرافضة والجهمية والصوفية والقدرية؛ فليعلم أن ذلك بتوفيق‬
‫من الله ل بحوله ول بقوته‪ ،‬وعلى المسلم أن يلهج دائما بسؤال‬
‫العصمة والوقاية من طرائق المضلين من أصحاب الهواء‬
‫والمناهج المنحرفة عن هدى الله؛ فإن هذه المذاهب الردية‬
‫متناقضة مختلفة ومضطربة وأهلها متبعون لهوائهم ومتفرقون‪،‬‬
‫كل حزب بما لديهم فرحون ‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية‬
‫وغيرهم(‬
‫هذه أسماء أبرز الطوائف المنحرفة في مسائل العتقاد؛‬
‫فالجهمية وإمامهم جهم بن صفوان‪ ،‬قد جمعوا بين ثلث بدع‬
‫كبرى‪ :‬التعطيل في باب السماء الصفات‪ ،‬والجبر في باب أفعال‬
‫العباد والقدر‪ ،‬والرجاء في باب اليمان‪] .‬مقالت السلميين ص‬
‫‪ 279‬والملل والنحل ‪[1/61‬‬
‫والمعتزلة على النقيض من الجهمية في باب القدر‪ ،‬وباب‬
‫اليمان‪ ،‬وهم قريبون منهم في باب السماء والصفات؛ فالمعتزلة‬
‫يثبتون السماء وينفون ما تدل عليه من الصفات‪ ،‬ولهم أصول‬
‫خمسة‪:‬‬
‫‪ -1‬التوحيد‪ ،‬ويقصدون به‪ :‬نفي الصفات فعندهم إثبات‬
‫الصفات تشبيه وتجسيم وشرك‪ ،‬ونفي الصفات هو التوحيد‪.‬‬
‫‪ -2‬العدل‪ ،‬ويدخلون فيه نفي القدر؛ لن عندهم أن الله‬
‫تعالى لو شاء أفعال العباد‪ ،‬وكانت ذنوبهم بمشيئته كان تعذيبه‬
‫لهم ظلما! فلهذا لم يجدوا مخرجا إل بنفي تعلق مشيئة الله بها‪،‬‬
‫فمذهبهم يتضمن أنه يكون في ملكه تعالى ما ل يشاء‪ ،‬فجميع ما‬
‫يجري من حركات العباد وأفعالهم وتصرفاتهم وكلمهم كل ذلك‬
‫بغير مشيئته‪ ،‬فعندهم أن الله تعالى ل يقدر على أن يجعل‬
‫المؤمن كافرا أو الكافر مؤمنا‪ ،‬أو المطيع عاصيا أو العاصي‬
‫مؤمنا؛ بل ول يقدر أن يجعل القائم قاعدا والقاعد قائما‪،‬‬
‫والمتكلم ساكتا والساكت متكلما؛ لن هذه الفعال ل تتعلق بها‬
‫مشيئته ول قدرته ول خلقه‪.‬‬
‫‪ -3‬المنزلة بين المنزلتين‪ ،‬وهي‪ :‬أن مرتكب الكبيرة في‬
‫الدنيا في منزلة بين المنزلتين‪ ،‬وهي منزلة الفاسق‪ ،‬فليس‬
‫بمؤمن ول كافر ‪ ،‬لكنه في الخرة مع الكافرين‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫‪ -4‬إنفاذ الوعيد‪ ،‬ويعنون به‪ :‬أنه يجب على الله إنفاذ وتحقيق‬
‫ما توعد به العاصين‪ ،‬فل يجوز عندهم أن يعفو عن من مات‬
‫مصرا على شيء من الذنوب‪.‬‬
‫‪ -5‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ويدخلون فيه الخروج‬
‫على الئمة الظلمة بحجة إنكار المنكر‪] .‬مقالت السلميين ص‬
‫‪ ،278-155‬والتنبيه والرد ص ‪ ،49‬ومجموع الفتاوى ‪[13/386‬‬
‫وقد جاءت الشريعة بالنهي عن ذلك لما يفضي إليه من‬
‫الفساد العريض‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم على‬
‫قاعدة‪» :‬ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلهما‪ ،‬وتفويت أدنى‬
‫المصلحتين لتحصيل أعلهما«‬
‫فإنكار المنكر إذا كان يفضي إلى زيادة المنكر‪ ،‬أو إلى منكر‬
‫أعظم كان النكار منكرا‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬من الذين خالفوا الجماعة‪ ،‬وحالفوا الضللة‪ ،‬ونحن‬
‫منهم براء‪ ،‬وهم عندنا ضلل وأردياء‪ ،‬وبالله العصمة والتوفيق(‬
‫هذه هي الحقيقة‪ ،‬فهؤلء قد خالفوا جماعة المسلمين‪ ،‬التي‬
‫هي الفرقة الناجية‪) ،‬وحالفوا الضللة( أي‪ :‬لزموا الضللة‪ ،‬واتبعوا‬
‫أهواءهم‪ ،‬فهم أصحاب الهواء؛ لنهم حكموا عقولهم وقدموها‬
‫على المنقول‪.‬‬
‫فأهل السنة منهم ومن بدعهم يتبرؤن‪ ،‬ويرون أنهم قد ضلوا‬
‫وحادوا عن الصراط المستقيم بهذه المذاهب الباطلة‪.‬‬
‫نســأله ســبحانه وتعــالى أن يعافينــا مــن المحــدثات واتبــاع‬
‫الهواء‪ ،‬ونسـأله تعالى أن يعصمنا منها‪ ،‬وأن يهــدينا إلــى صــراطه‬
‫المستقيم‪ ،‬وقد أوجب الله على عباده هذا الدعاء فــي كــل ركعــة‬
‫ت‬ ‫ط ال ّـذي َ‬
‫صـَرا َ‬ ‫صـَرا َ‬
‫ن أنَعمـ َ‬
‫ِ َ‬ ‫م* ِ‬‫قي َ‬‫مسـت َ ِ‬‫ط ال ُ‬ ‫من الصــلة }اهـد َِنا ال ّ‬
‫ن{]الفاتحــة‪] [7-6:‬تقــدم‬ ‫ضــاّلي َ‬ ‫م وَل َ ال ّ‬‫ب ع ََليهِ ْ‬
‫ضو ِ‬ ‫مغ ُ‬ ‫ع ََليهِ ْ‬
‫م َ‬
‫غيرِ ال َ‬
‫في ص[ وإن كان المراد بالمغضوب عليهم والضالين في الصــل‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬فهذه الفرق منها مــا يكــون مشــابها للمغضــوب‬
‫عليهم‪ ،‬ومنها من هو مشــابه للضــالين‪ ،‬كمــا قــال بعــض الســلف‪:‬‬
‫»من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود‪ ،‬ومن فسد من عبادنا‬
‫ففيه شبه من النصارى« ]نسبه شيخ السلم ابن تيمية وابن كثير‬
‫إلى سفيان بن عيينة ـ رحمه اللــه ـــ‪ .‬مجمــوع الفتــاوى ‪،16/567‬‬
‫وتفسير ابن كثير ‪ [4/138‬هذا‪ ،‬وصلى الله وسلم وبارك على نبينا‬
‫محمد‪ ،‬والحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫‪265‬‬
266

You might also like