You are on page 1of 479

‫تفسير الميزان‬

‫السيد الطباطبائي‬
‫مجلد ‪12‬‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫) سورة ابراهيم مكية وهى اثنتان وخمسون آية (‬
‫" بسم الله الرحمن الرحيم الر كتاب انزلناه اليك‬
‫لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم‬
‫إلى صراط العزيز الحميد ‪ . 1 -‬الله الذى له ما في‬
‫السموات وما في الرض وويل للكافرين من‬
‫عذاب شديد ‪ 2 -‬الذين يستحبون الحيوة الدنيا على‬
‫الخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا‬
‫اولئك في ضلل بعيد ‪ 3 -‬وما ارسلنا من رسول ال‬
‫بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء‬
‫ويهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم ‪ 4 -‬ولقد‬
‫ارسلنا موسى بآياتنا ان اخرج قومك من الظلمات‬
‫إلى النور وذكرهم بايام الله ان في ذلك ليات‬
‫لكل صبار شكور ‪ / " 5 -‬صفحة ‪ ) / 6‬بيان ( السورة‬
‫الكريمة تصف القرآن النازل على النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم من حيث انه آية رسالته يخرج به‬
‫الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط‬
‫الله سبحانه الذى هو عزيز حميد أي غالب غير‬
‫مغلوب وغنى غير محتاج إلى الناس وجميل في‬
‫فعله منعم عليهم وإذا كان المنعم غالبا غنيا حميد‬
‫الفعال كان على المنعم عليهم ان يجيبوا دعوته‬
‫ويلبوا نداءه حتى يسعدوا بما افاض عليهم من‬
‫النعم وان يخافوا سخطه وشديد عذابه فانه قوى‬
‫غير محتاج إلى احد له ان يستغنى عنهم فيذهب‬
‫بهم ويأتى بآخرين كما فعل بالذين كفروا بنعمته‬
‫من المم الماضين فان آيات السماوات والرض‬
‫ناطقة بأن النعمة كلها له وهو رب العزة وولى‬
‫الحمد ل رب سواه ‪ .‬وبهذا تختتم السورة إذ يقول‬
‫عز من قائل ‪ " :‬هذا بلغ للناس ولينذروا به‬
‫وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر اولوا اللباب " ‪.‬‬
‫ولعل ما ذكرنا هو مراد من قال ان السورة‬
‫مفتتحة ببيان الغرض من الرسالة والكتاب يشير‬
‫إلى قوله تعالى ‪ " :‬لتخرج الناس من الظلمات إلى‬
‫النور باذن ربهم " ‪ .‬والسورة مكية على ما يدل‬
‫عليه سياق آياتها ونسب إلى ابن عباس والحسن‬
‫وقتادة انها مكية ال آيتين منها نزلتا في قتلى بدر‬
‫من المشركين ‪ " :‬ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله‬
‫كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها‬
‫وبئس القرار " وسياتى ان اليتين غير صريحتين‬
‫ول ظاهرتين في ذلك ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬الر كتاب‬
‫انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‬
‫باذن ربهم " أي هذا كتاب انزلناه اليك فهو خبر‬
‫لمبتدأ محذوف على ما يعطيه السياق وقيل غير‬
‫ذلك ‪ .‬وقوله ‪ " :‬لتخرج الناس من الظلمات إلى‬
‫النور " ظاهر السياق عموم الناس ل ‪ /‬صفحة ‪/ 7‬‬
‫خصوص قومه صلى الله عليه وآله وسلم ول‬
‫خصوص المؤمنين منهم إذ ل دليل على التقييد من‬
‫جهة اللفظ وكلمه تعالى صريح في عموم الرسالة‬
‫كقوله ‪ " :‬ليكون للعالمين نذيرا " الفرقان ‪1 :‬‬
‫وقوله ‪ " :‬لنذركم به ومن بلغ " النعام ‪19 :‬‬
‫وقوله ‪ " :‬قل يا ايها الناس انى رسول الله اليكم‬
‫جميعا " العراف ‪ 158 :‬واليات الصريحة في‬
‫دعوة اليهود وعامة اهل الكتاب وعمله صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم في دعوتهم وقبول ايمان من‬
‫آمن منهم كعبد الله بن سلم وسلمان وبلل‬
‫وصهيب وغيرهم تؤيد ذلك ‪ .‬على ان آخر السورة‬
‫هذا بلغ ‪ " :‬للناس ولينذروا به " الية وقد قوبل‬
‫به اولها يؤيد ان المراد بالناس اعم من المؤمنين‬
‫الذين خرجوا من الظلمات إلى النور بالفعل ‪ .‬وقد‬
‫نسب الخراج من الظلمات إلى النور إلى النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم لكونه احد السباب‬
‫الظاهرية لذلك واليه ينتهى ايمان المؤمنين‬
‫بدعوته بل واسطة أو بواسطة ول ينافيه قوله ‪" :‬‬
‫انك ل تهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء "‬
‫القصص ‪ 56 :‬فان الية انما تنفى اصالته صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم في الهداية واستقلله فيها‬
‫من غير ان تنفى عنه مطلق الهداية حتى ما يكون‬
‫على نحو الوساطة وباذن من الله تعالى والدليل‬
‫عليه قوله تعالى ‪ " :‬وانك لتهدى إلى صراط‬
‫مستقيم " الشورى ‪ 52 :‬ولذلك قيد سبحانه قوله‬
‫لتخرج بقوله باذن ربهم ‪ .‬والمراد بالظلمات والنور‬
‫‪ :‬الضلل والهدى وقد تكرر في كلمه تعالى اعتبار‬
‫الهدى نورا وعد الضلل ظلمة وجمع الظلمات دون‬
‫النور لن الهدى من الحق والحق واحد ل تغاير بين‬
‫اجزائه ومصاديقه ول كثرة بخلف الضلل فانه من‬
‫اتباع الهوى والهواء مختلفة متغاير بعضها مع‬
‫بعض ل وحدة بينها ول اتحاد لبعاضها ومصاديقها‬
‫قال تعالى ‪ " :‬وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه‬
‫ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " النعام ‪:‬‬
‫‪ . 153‬واللم في قوله لتخرج الناس الخ لم‬
‫الغرض بناء على عموم الناس كما هو‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪:7‬‬
‫ظاهر الية وليس بلم العاقبة إذ لو كان كذلك‬
‫لكان الناس كلهم مؤمنين والمعلوم خلفه ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 8‬واما ما اعترض عليه بعضهم ان التربية‬
‫اللهية بإخراج الناس من الظلمات إلى النور‬
‫وايصالهم إلى السعادة والكمال مشروطة بالتهيؤ‬
‫والستعداد مع كون الفيض عاما فالمقدار الممكن‬
‫من هذه العاقبة على تقدير عمومه هو هذا‬
‫المقدار ‪ .‬ففيه انه اعتراف بأن كون اللم للعاقبة‬
‫خلف ظاهر الية فان الذى ذكره ل يتم ال بتقييد‬
‫الناس بالمستعدين لكن الذى يجب ان يعلم ان هذا‬
‫الغرض غرض تشريعي معناه ان للحكم غاية‬
‫مقصودة وهى المصلحة التى يستعقبها فان الله‬
‫سبحانه يدعو الناس ليغفر لهم ويهديهم إلى‬
‫اليمان والعمل الصالح ليسعدهم بذلك ويدخلهم‬
‫الجنة ويرسل الرسل وينزل عليهم الكتاب ليخرجوا‬
‫الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم ويريد بما‬
‫يوجهه إليهم من المر والنهى ان يطهرهم ويذهب‬
‫عنهم رجز الشيطان واليات الدالة على ذلك كثيرة‬
‫ل موجب ليرادها وكذا الروايات ولعلها تزهو‬
‫اللوف ‪ .‬وقد قال سبحانه ‪ " :‬إنا جعلناه قرآنا‬
‫عربيا لعلكم تعقلون " الزخرف ‪ 3 :‬وقال " وما‬
‫ارسلنا من رسول ال بلسان قومه ليبين لهم‬
‫فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء " الية ‪4 -‬‬
‫من السورة فبين ان ما نعقله من كتابه ويظهر لنا‬
‫من بيان رسوله حجة ل مناص عنه ونحن ل نعقل‬
‫من قوله مثل ‪ " :‬يدعوكم ليغفر لكم " ابراهيم ‪:‬‬
‫‪ 10‬ال ان المغفرة غرض الدعوة كما ل نعقل من‬
‫قول السيد لعبده أو أي متبوع لتابعه ائتنى بماء‬
‫لشربه أو بغذاء لكله أو اكس فلنا ليستر به‬
‫عورته ال ان الشرب والكل وستر العورة اغراض‬
‫لوامرها فلله سبحانه فيما ينزله من الحكام‬
‫والشرائع اغراض وغايات مقصودة ‪ .‬نعم بين‬
‫سبحانه ان ساحته منزهة عن الفقر والحاجة مبرأة‬
‫عن النقص والشين إذ قال ‪ " :‬ان الله لغنى عن‬
‫العالمين " العنكبوت ‪ 6 :‬وقال وربك الغنى ذو‬
‫الرحمة " النعام ‪ 133 :‬وقال ‪ " :‬يا ايها الناس‬
‫انتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى " فاطر ‪15 :‬‬
‫فأفاد انه في غنى عن كل شئ ل ينتفع بشئ من‬
‫هذه الغراض وليست افعاله تعالى بالعبث‬
‫والجزاف حتى تخلو عن الغرض كيف ؟ وقد وصف‬
‫نفسه بالحكمة والحكيم ل يعبث ول يجازف ونص‬
‫على انتفاء العبث من فعله ‪ " :‬أفحسبتم انما‬
‫خلقناكم عبثا " ‪ /‬صفحة ‪ / 9‬المؤمنون ‪115 :‬‬
‫والمر والنهى اللذان يتم بهما الكمال في العالم‬
‫النساني يعودان بالخرة إلى ما يتم به الخلقة ‪.‬‬
‫فلله سبحانه في خلقه وامره اغراض وان كان ل‬
‫يستكمل باغراض افعاله كما نستكمل نحن‬
‫باغراض افعالنا لكنه سبحانه ل يتأثر عن اغراضه‬
‫وبعبارة اخرى الحكم والمصالح ل تؤثر فيه تعالى‬
‫كما ان مصلحة الفعل تؤثر فينا فيبعثنا تعقلها نحو‬
‫الفعل ونرجح الفعل على الترك فانه سبحانه هو‬
‫القاهر غير المقهور والغالب غير المغلوب يملك‬
‫كل شئ ول يملكه شئ ويحكم على كل شئ ول‬
‫يحكم عليه شئ ولم يكن له شريك في الملك ول‬
‫ولي من الذل فل يكون تعالى محكوما بعقل بل‬
‫هو الذى يهدى العقل إلى ما يعقله ول تضطره‬
‫مصلحة إلى فعل ول مفسدة إلى ترك بل هو‬
‫الهادى لهما إلى ما توجبانه ‪ .‬فالغرض والمصلحة‬
‫منتزعة من مقام فعله بمعنى ان فعله يتوقف‬
‫على المصلحة لكنها ل تحكم في ذاته تعالى ول‬
‫تضطره إلى الفعل فكما انه تعالى إذا خلق شيئا‬
‫وقال له كن فكان كزيد مثل انتزع العقل من العين‬
‫الخارجية نفسها انها ايجاد من الله تعالى ووجود‬
‫لزيد وحكم بأن وجوده يتوقف على ايجاده كذلك‬
‫ينتزع العقل من فعله تعالى بالنظر إلى ما اشرنا‬
‫إليه من صفاته العليا انه فعله وانه ذو مصلحة‬
‫مقصودة ثم يحكم بأن تحقق الفعل يتوقف على‬
‫كونه ذا مصلحة ‪ .‬فهذا هو الذى يعطيه التدبر في‬
‫كلمه تعالى في كون افعاله تعالى مشتملة على‬
‫الحكم والمصالح متوقفة على الغراض والمتحصل‬
‫من ذلك ان له تعالى في افعاله اغراضا لكنها‬
‫راجعة إلى خلقه دونه ‪ .‬وملخصه ان غرضه في‬
‫فعله يفارق اغراضنا في افعالنا من وجهين‬
‫احدهما انه تعالى ل يستكمل بأغراض افعاله‬
‫وغاياتها بخلفنا معاشر ذوى الشعور والرادة من‬
‫النسان وسائر الحيوان وثانيهما ان المصلحة‬
‫والمفسدة ل تحكمان فيه تعالى بخلف غيره ‪.‬‬
‫واما النزاع المعروف بين الشاعرة والمعتزلة في‬
‫ان افعال الله معللة بالغراض أم ‪ /‬صفحة ‪/ 10‬‬
‫ل ؟ بمعنى انه تعالى هل هو محكوم بالمصلحة‬
‫الواقعية في فعله بحيث ان المصلحة ترجح له‬
‫الفعل على الترك ولولها لم يكن له ليفعل ؟ أو‬
‫انه ل غاية له في فعله وانما يفعل بارادة جزافية‬
‫من غير غرض ؟ فذلك مما ل يهدى إلى شئ من‬
‫طرفيه النظر المستوفى والحق خلف القولين‬
‫جميعا وهو امر بين المرين كما اشرنا إليه ولعلنا‬
‫نوفق فيما سيأتي من الكتاب لعقد بحث مستقل‬
‫في المسألة نستوفي فيه النظر العقلي والنقلى‬
‫فيها ان شاء الله تعالى ‪ .‬وفي قوله باذن ربهم‬
‫التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة والنكتة فيه‬
‫التخلص إلى ذكر صفة الربوبية وتسجيل انه تعالى‬
‫هو رب هؤلء المشركين الذين‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 10‬‬
‫اتخذوا له اندادا فان وجه الكلم في الحقيقة إليهم‬
‫وان كان المخاطب به هو النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم دونهم ولتكون هذه التسمية وهى في‬
‫مفتتح الكلم مبدء لما سيذكر في السورة من‬
‫الحجة على توحيد الربوبية ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬إلى‬
‫صراط العزيز الحميد الله الذى له ما في‬
‫السماوات وما في الرض " العزة تقابل الذلة قال‬
‫الراغب العزة حالة مانعة للنسان من ان يغلب من‬
‫قولهم ارض عزاز أي صلبة قال تعالى ‪ " :‬أيبتغون‬
‫عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " وتعزز اللحم‬
‫اشتد وعز كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه‬
‫انتهى موضع الحاجة ‪ .‬فعزة العزيز هي كونه بحيث‬
‫يصعب نيله والوصول إليه ومنه عزيز القوم وهو‬
‫الذى يقهر ول يقهر لنه ذو مقام ل يصل إليه من‬
‫قصده دون ان يمنع قبل الوصول إليه ويقهر ومنه‬
‫العزيز لما قل وجوده لصعوبة نيله ومنه العزيز‬
‫بمعنى الشاق لن الذى يشق على النسان يصعب‬
‫حصوله قال تعالى ‪ " :‬عزيز عليه ما عنتم "‬
‫التوبة ‪ 128 :‬ومنه قوله ‪ " :‬وعزنى في الخطاب "‬
‫ص ‪ 23 :‬أي غلبنى على ما فسر به ‪ .‬والله سبحانه‬
‫عزيز لنه الذات الذى ل يقهره شئ من جهة وهو‬
‫يقهر كل شئ من كل جهة ولذلك انحصرت العزة‬
‫فيه تعالى فل توجد عند غيره ال باكتساب منه ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 11‬وباذنه قال تعالى ‪ " :‬أيبتغون عندهم‬
‫العزة فان العزة لله جميعا " النساء ‪ 139 :‬وقال "‬
‫من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " فاطر ‪:‬‬
‫‪ . 10‬والحميد فعيل بمعنى المفعول من الحمد‬
‫وهو الثناء على الجميل الختياري واذ كان كل‬
‫جمال ينتهى إليه سبحانه كان جميع الحمد له كما‬
‫قال ‪ " :‬الحمدلله رب العالمين " سورة الحمد ‪2 :‬‬
‫ومن غريب القول ما عن المام الرازي على‬
‫ماسننقله ان الحميد معناه العالم الغنى ‪ .‬وقوله‬
‫إلى صراط العزيز الحميد بدل من قوله إلى النور‬
‫يبين به ما يوصل إليه الكتاب الذى انزله على نبيه‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم بيانا بعد بيان فنبه اول‬
‫بأنه نور يميز الحق من الباطل والخير من الشر‬
‫والسعادة من الشقاوة وثانيا بأنه طريق واضح‬
‫يجمع سالكيه في متنه وينتهى بهم جميعا إلى الله‬
‫العزيز الحميد ‪ .‬والوجه في ذكر الصفتين‬
‫الكريمتين العزيز الحميد انهما مبدءان لما سيورد‬
‫في السورة من الكلم الموجه إليهم فإن عمدة‬
‫الكلم في السورة هي تذكيرهم ان الله أنعم‬
‫عليهم بربوبيته كل نعمة عظيمة ثم عزم عليهم‬
‫من طريق رسله ان يشكروه ول يكفروه ووعد‬
‫رسله انهم إن آمنوا ادخلهم الجنة وإن كفروا‬
‫انتقم منهم وأوردهم مورد الشقاء والعذاب‬
‫فليخافوا ربهم وليحذروا مخالفة امره وكفران‬
‫نعمته لن له كل العزة ل يمنع عن حلول سخطه‬
‫بهم ونزول عذابه عليهم شئ حميد ل يذم في‬
‫اثابته المؤمنين ول في تعذيب الكافرين كما ل يذم‬
‫فيما بسط عليهم من نعمه التى ل تحصى ‪ .‬فجل‬
‫الكلم في هذه السورة فيما يقتضيه الصفات‬
‫الثلث توحده تعالى بالربوبية وعزته وكونه حميدا‬
‫في افعاله فليخف من عزته المطلقة وليشكر‬
‫وليوثق بما وعد وليتذكر من آيات ربوبيته ‪ .‬وفي‬
‫روح المعاني عن ابى حيان النكتة في ذلك انه لما‬
‫ذكر قبل انزاله تعالى لهذا الكتاب واخراج الناس‬
‫من الظلمات إلى النور باذن ربهم ناسب ذكر‬
‫هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة‬
‫والغلبة ل نزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذى ل ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 12‬يقدر عليه سواه وصفة الحمد لنعامه‬
‫بأعظم النعم لخراج الناس من الظلمات إلى النور‬
‫قال ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر انتهى‬
‫وهو اجنبي عن سياق آيات السورة البتة ولعله‬
‫مأخوذ من قوله تعالى في وصف القرآن ‪ " :‬وانه‬
‫لكتاب عزيز ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من‬
‫خلفه تنزيل من حكيم حميد " حم السجدة ‪ 42‬لكن‬
‫المقام غير المقام ‪ .‬وعن المام في تفسيره انما‬
‫قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد لن الصحيح ان‬
‫اول العلم بالله تعالى العلم بكونه قادرا ثم بعد‬
‫ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيا‬
‫عن الحاجات والعزيز هو القادر والحميد هو العالم‬
‫الغنى فلما كان العلم بكونه قادرا متقدما على‬
‫العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه ل جرم قدم ذكر‬
‫العزيز على ذكر الحميد انتهى وهو مجازفة‬
‫عجيبة ‪ .‬وقريب منه في المجازفة قول بعضهم‬
‫قدم العزيز على الحميد اعتناء بأمر الصفات‬
‫السلبية كما يؤذن به قولهم التخلية اولى من‬
‫التحلية فان العزة كما تقدم من الصفات السلبية‬
‫بخلف الحمد ‪ .‬وربما قيل في وجه تخصيص‬
‫الوصفين بالذكر انه للترغيب في سلوك هذا‬
‫الصراط لنه صراط العزيز الحميد فيعز سالكه‬
‫ويحمد سابله انتهى وهو وجه الحرى به ان يجعل‬
‫من الفوائد المتفرعة دون السبب الموجب والوجه‬
‫ما قدمناه ‪ .‬واما قوله " الله الذى له ما في‬
‫السماوات والرض " فبيان للعزيز الحميد والمراد‬
‫بما في السماوات والرض كل ما في الكون‬
‫فيشمل نفس السماوات والرض كما يشمل ما‬
‫فيهما فهو تعالى يملك كل شئ من كل جهة‬
‫بحقيقة معنى الملك ‪ .‬وفيه اشارة إلى الحجة في‬
‫كونه تعالى عزيزا حميدا فانه تعالى وان كان هو‬
‫‪............................................................‬‬
‫ص‬ ‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪21‬‬
‫‪: 12‬‬
‫الذى يحق الحق بكلماته وهو الذى ينجح كل حجة‬
‫في دللتها لكنه جارى عباده في كلمه على ما‬
‫فطرهم عليه وذلك انه تعالى لما ملك كل خلق‬
‫وامر بحقيقة معنى الملك فهو المالك لكل قهر‬
‫وغلبة فل قهر ال منه ول غلبة ال له فهو تعالى‬
‫عزيز وله أن ‪ /‬صفحة ‪ / 13‬يتصرف في ما يشاء بما‬
‫يشاء ول يكون تصرفه ال محمودا غير مذموم لن‬
‫التصرف انما يكون مذموما إذا كان المتصرف ل‬
‫يملكه اما عقل أو شرعا أو عرفا واى تصرف نسبه‬
‫إليه تعالى عقل أو شرع أو عرف فانه يملكه فهو‬
‫تعالى حميد محمود الفعال ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وويل‬
‫للكافرين من عذاب شديد " بيان لما تقتضيه صفة‬
‫العزة من القهر لمن يرد دعوته ويكفر بنعمته ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬الذين يستحبون الحياة الدنيا على‬
‫الخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا "‬
‫الخ قال الراغب في المفردات وقوله عز وجل ان‬
‫استحبوا الكفر على اليمان أي ان آثروه عليه‬
‫وحقيقة الستحباب ان يتحرى النسان في الشئ‬
‫ان يحبه واقتضى تعديته بعلى معنى اليثار وعلى‬
‫هذا قوله تعالى ‪ " :‬واما ثمود فهديناهم فاستحبوا‬
‫العمى على الهدى " انتهى ‪ .‬ومعنى استحباب‬
‫الدنيا على الخرة اختيار الدنيا وترك الخرة رأسا‬
‫ويقابله اختيار الخرة على الدنيا بمعنى اخذ‬
‫الخرة غاية للسعى وجعل الدنيا مقدمة لها يتوسل‬
‫بها إليها واما اختيار الخرة وترك الدنيا من اصلها‬
‫فانه مضاف إلى عدم امكانه بحقيقة معنى الكلمة‬
‫يوجب اختلل امر الخرة وينجر إلى تركها بالخرة‬
‫فالحياة الدنيا حياة منقطعة والحياة الخرة حياة‬
‫دائمة يتوسل إلى سعادتها من طريق الدنيا‬
‫بالكتساب فمن اختار الخرة واثبتها لزمه اثبات‬
‫الدنيا لمكان مقدميتها ومن اختار الدنيا وجعلها‬
‫غاية لزمه نفى الخرة من اصلها لنها لو ثبتت‬
‫ثبتت غاية واذ لم يجعل غاية انتفت فليس بين يدى‬
‫النسان ال خصلتان اختبار الخرة على الدنيا بجعل‬
‫الخرة غاية واثبات الدنيا معها للمقدمية واختيار‬
‫الدنيا على الخرة بجعل الدنيا غاية ونفى الخرة‬
‫من اصلها ‪ .‬وايضاح المقام ان النسان ل بغية له‬
‫ال سعادة حياته وحبه لها فطرى وقد اوضحنا ذلك‬
‫في مواضع متفرقة فيما تقدم والذى يثبته كتاب‬
‫الله من امر الحياة انها دائمة غير منقطعة بالموت‬
‫فل محالة تنقسم بالنظر إلى تخلل الموت إلى‬
‫حياتين الحياة الدنيا المؤجلة بالموت و الحياة‬
‫الخرة بعد الموت وهى تتفرع في سعادتها‬
‫وشقائها على ‪ /‬صفحة ‪ / 14‬الحياة الدنيا وما‬
‫يكتسبه النسان في الدنيا من ناحية العمال‬
‫الحيوية من حسنة أو سيئة ول مفر للنسان من‬
‫هذه العمال لما عنده من حب الحياة الفطري ‪.‬‬
‫وهذه العمال أعنى السنة التى يستن بها النسان‬
‫في حياته الدنيا الكاسبة له التقوى أو الفجور‬
‫والحسنة أو السيئة هي التى تسمى في كتاب الله‬
‫دينا وسبيل فل مفر للنسان من سنة حسنة أو‬
‫سيئة ودين حق أو باطل ‪ .‬ولما كان من سنة الله‬
‫سبحانه الجارية ان يهدى كل نوع من النواع إلى‬
‫سعادته وكماله ومن كمال النسان وسعادته ان‬
‫يعيش عيشة اجتماعية ويستن بسنة حيوية شرع‬
‫الله سبحانه له دينا مبنيا على فطرته التى فطر‬
‫عليها وهو سبيل الله الذى يسلكه ودينه الذى‬
‫يتدين به فان جرى على ما شرعته له الربوبية‬
‫وهدته إليه الفطرة فقد سلك سبيل الله وابتغاه‬
‫مستقيما وان اتبع الهوى وصد نفسه عن سبيل‬
‫الله واشتغل بما يزينه له الشيطان فقد ابتغى‬
‫سبيل الله عوجا منحرفا ‪ .‬اما انه يبتغى سبيل الله‬
‫فان الله هو الذى فطره على طلب السبيل وابتغاء‬
‫الصراط ول يهدى البتة ال إلى ما يرتضيه وهو‬
‫سبيل نفسه وأما أنه منحرف ذو عوج فلنه ل‬
‫يهدى إلى الحق وما ذا بعد الحق ال الضلل ؟‬
‫واليات القرآنية الدالة على هذا الذى قدمناه‬
‫متكاثرة ل حاجة إلى ايرادها ‪ .‬إذا عرفت هذا لح‬
‫لك ان قوله في تفسير الكافرين الذين يستحبون‬
‫الحياة الدنيا على الخرة مفاده انهم يتعلقون تمام‬
‫التعلق بالحياة الدنيا ويعرضون عن الخرة بنفيها‬
‫وهو الكفر بالمعاد المستلزم للكفر بالتوحيد‬
‫والنبوة ‪ .‬وقوله ويصدون عن سبيل الله ويبغونها‬
‫عوجا مفاده انهم يكفون انفسهم عن الستنان‬
‫بسنة الله والتدين بدينه أو يصدون ويصرفون‬
‫الناس عن اليمان بالله واليوم الخر والتشرع‬
‫بشريعته عنادا منهم للحق ويطلبون سنة الله‬
‫عوجا ومنحرفة بالستنان بغيرها من سنة‬
‫اجتماعية ايا ما كانت ثم سجل عليهم الضلل‬
‫بقوله سبحانه ‪ :‬اولئك في ضلل بعيد ‪ / .‬صفحة‬
‫‪ / 15‬ويظهر بما تقدم فساد قول بعضهم ان‬
‫المراد بقوله يبغونها عوجا يبغون لها عوجا أي‬
‫يطلبون لها زيغا واعوجاجا حتى يعيبوها به ويصدوا‬
‫الناس عنها بسببه ‪ .‬وقول بعضهم المعنى يطلبون‬
‫ان يروا فيها عوجا يكون قادحا فيقدحوا فيها به ‪.‬‬
‫وقول بعضهم المعنى يطلبون لهلها ان يعوجوا‬
‫وينحرفوا بالرد فهو المراد بطلبهم الدين منحرفا‬
‫وانحرافه فساد ما عند المؤمنين من معارفه‬
‫وفساد هذه القوال ظاهر ‪ .‬قوله تعالى وما‬
‫ارسلنا من رسول ال بلسان قومه ليبين لهم إلى‬
‫آخر الية ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 15‬‬
‫اللسان هو اللغة قال تعالى ‪ " :‬بلسان عربي مبين‬
‫" الشعراء ‪ . 195 :‬والضمير في قومه عائد إلى‬
‫رسول وفي لهم إلى قومه والمحصل ما ارسلنا‬
‫من رسول ال بلسان قوم ذلك الرسول ليبين‬
‫لقومه ومن الخطأ ارجاع ضمير قومه إلى النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم ليفيد ان الله سبحانه‬
‫كان يوحى إلى جميع الرسل بالعربية لفساد‬
‫المعنى بذلك لرجوع ضمير لهم إلى قومه فيفيد‬
‫ان الله انزل التوراة لموسى مثل بالعربية ليبين‬
‫للعرب كما في الكشاف ‪ .‬والمراد بإرسال الرسول‬
‫بلسان قومه ارساله بلسان القوم الذين كان‬
‫يعيش فيهم ويخالطهم ويعاشرهم وليس المراد به‬
‫الرسال بلسان القوم الذين هو منهم نسبا لنه‬
‫سبحانه يصرح بمهاجرة لوط عليه السلم من كلدة‬
‫وهم سريانية اللسان إلى المؤتفكات وهم‬
‫عبرانيون وسماهم قومه وارسله إليهم ثم أنجاه‬
‫وأهله ال امرأته وهى منهم وأهلكهم قال تعالى ‪:‬‬
‫" فآمن له لوط وقالى انى مهاجر إلى ربى "‬
‫العنكبوت ‪ 26 :‬وفي مواضع من كلمه تعالى قوم‬
‫لوط ‪ .‬واما من ارسل إلى ازيد من امة وهم اولوا‬
‫العزم من الرسل فمن الدليل على أنهم كانوا‬
‫يدعون اقواما من غير اهل لسانهم ما حكاه الله‬
‫من دعوة ابراهيم عليه السلم عرب الحجاز إلى‬
‫الحج ودعوة موسى عليه السلم فرعون وقومه‬
‫إلى اليمان وعموم دعوة ‪ /‬صفحة ‪ / 16‬النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم وقد اشتمل القرآن‬
‫على دعوة اليهود والنصارى وغيرهم وقبول ايمان‬
‫من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫وكذا ما يستفاد من عموم دعوة نوح عليه السلم‬
‫وعلى هذا فالمراد بقوله ‪ " :‬وما أرسلنا من رسول‬
‫ال بلسان قومه ليبين لهم " والله اعلم ان الله لم‬
‫يبن ارسال الرسل والدعوة الدينية على اساس‬
‫معجز خارق للعادة الجارية ول فوض إلى رسله من‬
‫المر شيئا بل ارسلهم باللسان العادى الذى كانوا‬
‫يكالمون قومهم ويحاورونهم به ليبينوا لهم‬
‫مقاصد الوحى فليس لهم ال البيان واما ما وراء‬
‫ذلك من الهداية والضلل فالى الله سبحانه ل‬
‫يشاركه في ذلك رسول ول غيره ‪ .‬فتعود الية‬
‫كالبيان واليضاح لقوله تعالى قبل ‪ " :‬كتاب‬
‫انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‬
‫باذن ربهم " وان معنى اخراجك الناس من‬
‫الظلمات إلى النور ان تبين لهم ما انزل الله ل‬
‫ازيد من ذلك فيكون في معنى قوله ‪ " :‬وانزلنا‬
‫اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل ‪44 :‬‬
‫‪ .‬واما قوله ‪ " :‬فيضل الله من يشاء ويهدى من‬
‫يشاء " فإشارة إلى ما اومأنا إليه ان امر الهدى‬
‫والضلل إلى الله ل يتحقق شئ منهما ال عن‬
‫مشية منه تعالى غير انه سبحانه اخبرنا ان هذه‬
‫المشية منه ليست جزافية غير منتظمة بل لها‬
‫نظم ثابت فمن اتبع الحق ولم يعانده هداه الله‬
‫ومن جاحده واتبع هواه اضله الله فهو اضلل‬
‫مجازاة غير الضلل البتدائي المذموم ‪ .‬وقد قدم‬
‫سبحانه الضلل على الهداية إذ قال ‪ " :‬فيضل‬
‫الله من يشاء ويهدى من يشاء " لن ذلك احوج‬
‫إلى البيان بالنظر إلى ان الكلم مبنى على عزته‬
‫المطلقة فكان من الواجب ان يبين ان ضلل من‬
‫يضل عن السبيل كهدى من اهتدى إليها انما هو‬
‫بمشية منه تعالى ولم يغلب في ارادته ولم يزاحم‬
‫في ملكه حتى ل يخيل إلى كل مغفل من الناس‬
‫ان الله يصف نفسه بالعزة المطلقة وانه غالب‬
‫غير مغلوب وقاهر غير مقهور ثم يدعو الناس فل‬
‫يستجيبون دعوته ويأمرهم وينهاهم فيعصون ول‬
‫يطيعون وهل هذا ال غلبة منهم وقهر وهو مغلوب‬
‫مقهور ؟ فكأنه تعالى اجاب عن ذلك بأن معنى‬
‫دعوته تعالى ان يرسل رسول بلسان ‪ /‬صفحة ‪/ 17‬‬
‫قومه فيبين لهم ما يسعدهم مما يشقيهم واما‬
‫ضلل من ضل من الناس كهدى من اهتدى منهم‬
‫فبمشية من الله واذنه وحاشاه ان يقهر في‬
‫سلطانه أو يتصرف في ملكه احد بغير اذنه ‪.‬‬
‫فضلل من ضل منهم دليل عزته فضل ان يكون‬
‫ناقضا لها كما ان هدى من اهتدى كذلك ولذلك ذيل‬
‫الكلم بقوله وهو العزيز الحكيم فهو سبحانه عزيز‬
‫ل يغلبه ول يضره ضلل من ضل منهم ول ينفعه‬
‫هدى من اهتدى حكيم ل يشاء ما شاء جزافا وعبثا‬
‫بل عن نظام متقن دائمي قوله تعالى ‪ " :‬ولقد‬
‫أرسلنا موسى بآياتنا أن اخرج قومك من الظلمات‬
‫إلى النور " إلى آخر الية إذ كان الكلم في‬
‫السورة مبنيا على النذار والتذكير بعزة الله‬
‫سبحانه ناسب ان يذكر ارسال موسى باليات‬
‫لهداية قومه فان قصة رسالته من اوضح مصاديق‬
‫ظهور العزة اللهية من بين الرسل وقد قال‬
‫تعالى فيه ‪ " :‬ولقد ارسلنا موسى بآياتنا وسلطان‬
‫مبين " المؤمن ‪ 23 :‬وقال حاكيا عنه عليه‬
‫السلم ‪ " :‬وان ل تعلوا على الله انى آتيكم‬
‫بسلطان مبين " الدخان ‪ . 19 :‬فوزان الية اعني‬
‫قوله ولقد ارسلنا موسى بآياتنا ان اخرج قومك‬
‫من الظلمات إلى النور من قوله كتاب انزلناه اليك‬
‫لتخرج الناس من الظلمات إلى النور باذن ربهم‬
‫وزان التنظير بداعي التأييد وتطييب النفس كما‬
‫في قوله ‪ " :‬إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح‬
‫والنبيين من بعده " النساء ‪ . 163 :‬واما ما ذكر‬
‫بعضهم ان الية شروع في تفصيل ما اجمل في‬
‫قوله وما ارسلنا‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 17‬‬
‫من رسول ال بلسان قومه ليبين لهم فبعيد كل‬
‫البعد ونظيره في البعد قول بعضهم ان المراد‬
‫باليات التى ارسل بها موسى آيات التوراة دون‬
‫المعجزات التى ارسل عليه السلم بها كالثعبان‬
‫واليد البيضاء وغيرهما ‪ .‬على ان الله سبحانه‬
‫وتعالى لم يعد في كلمه التوراة من آيات رسالة‬
‫موسى ول ذكر انه أرسله بها قط وانما ذكر انه‬
‫انزلها عليه وآتاه اياها ‪ / .‬صفحة ‪ / 18‬ولم يقيد‬
‫قوله ان اخرج قومك الخ بالذن كما قيد به قوله‬
‫للنبى صلى الله عليه وآله وسلم لتخرج الناس الخ‬
‫لن قوله ههنا اخرج قومك امر يتضمن معنى‬
‫الذن بخلف قوله هناك لتخرج الناس ‪ .‬وقوله ‪" :‬‬
‫وذكرهم بأيام الله " ل شك ان المراد بها ايام‬
‫خاصة ونسبة ايام خاصة إلى الله سبحانه مع كون‬
‫جميع اليام وكل الشياء له تعالى ليست ال‬
‫لظهور امره تعالى فيها ظهورا ل يبقى معه لغيره‬
‫ظهور فهى الزمنة والظروف التى ظهرت أو‬
‫سيظهر فيها امره تعالى وآيات وحدانيته وسلطنته‬
‫كيوم الموت الذى يظهر فيه سلطان الخرة‬
‫وتسقط فيه السباب الدنيوية عن التأثير ويوم‬
‫القيامة الذى ل يملك فيه نفس لنفس شيئا والمر‬
‫يومئذ لله وكاليام التى اهلك الله فيها قوم نوح‬
‫وعاد وثمود فان هذه وامثالها ايام ظهر فيها‬
‫الغلبة والقهر اللهيان وان العزة لله جميعا ‪.‬‬
‫ويمكن ان يكون منها ايام ظهرت فيها النعم‬
‫اللهية ظهورا ليس فيه لغيره تعالى صنع كيوم‬
‫خروج نوح عليه السلم وأصحابه من السفينة‬
‫بسلم من الله وبركات ويوم انجاء ابراهيم من‬
‫النار وغيرهما فانها ايضا كسوابقها ل نسبة لها‬
‫في الحقيقة إلى غيره تعالى فهى ايام الله‬
‫منسوبة إليه كما ينسب اليام إلى المم والقوام‬
‫ومنه ايام العرب كيوم ذى قار ويوم فجار ويوم‬
‫بغاث وغير ذلك ‪ .‬وتخصيص بعضهم اليام بنعماء‬
‫الله سبحانه بالنظر إلى ما سيأتي من ذكر نعمه‬
‫تعالى كتخصيص آخرين لها بنقماته تعالى خال عن‬
‫الوجه بعد ما كان الكلم جاريا في السورة على ما‬
‫تقتضيه عزته تعالى ومن مقتضى صفة عزته‬
‫النعام على العباد والخذ الشديد ان كفروا‬
‫بنعمته ‪ .‬ثم تمم الكلم بقوله ‪ " :‬ان في ذلك ليات‬
‫لكل صبار شكور " أي كثير الصبر عند الضراء‬
‫وكثير الشكر على النعماء ‪ / .‬صفحة ‪ ) / 19‬بحث‬
‫روائي ( في الدر المنثور اخرج احمد عن ابى ذر‬
‫قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‪:‬‬
‫لم يبعث الله نبيا ال بلسان قومه وفيه اخرج‬
‫النسائي وعبد الله بن احمد في زوائد المسند‬
‫وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن‬
‫مردويه والبيهقي في شعب اليمان عن ابى بن‬
‫كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في‬
‫قوله ‪ " :‬وذكرهم بأيام الله " قال بنعم الله وآلئه‬
‫اقول وهو بيان بعض المصاديق وروى ما في‬
‫معناه الطبرسي والعياشي عن الصادق عليه‬
‫السلم ‪ .‬وفي امالي الشيخ باسناده عن عبد الله‬
‫بن عباس وجابر بن عبد الله في حديث طويل عن‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم ‪ :‬ايام الله نعماؤه‬
‫وبلؤه وهو مثلته سبحانه وفي تفسير القمى‬
‫قال " ‪ :‬قال ايام الله ثلثة ‪ :‬يوم القائم ويوم‬
‫الموت ويوم القيامة اقول المراد بيان ايامه تعالى‬
‫العظيمة ل حصر مطلق ايامه ‪ .‬وفي المعاني‬
‫باسناده عن مثنى الحناط عن ابى جعفر وابى عبد‬
‫الله عليهما السلم قال ‪ :‬ايام الله ثلثة يوم يقوم‬
‫القائم ويوم الكرة ويوم القيامة ‪ .‬اقول وهى‬
‫كسابقتها واختلف الروايات في تعداد المصاديق‬
‫يؤيد ما قدمناه في بيان الية ‪ * * * .‬واذ قال‬
‫موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ انجاكم‬
‫من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون‬
‫ابناءكم ‪ /‬صفحة ‪ / 20‬ويستحيون نساءكم وفي‬
‫ذلكم بلء من ربكم عظيم ‪ 6 -‬واذ تأذن ربكم لئن‬
‫شكرتم لزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد ‪7 -‬‬
‫وقال موسى ان تكفروا انتم ومن في الرض‬
‫جميعا فان الله لغنى حميد ‪ 8 -‬ألم يأتكم نبؤ الذين‬
‫من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم‬
‫ل يعلمهم ال الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا‬
‫ايديهم في افواههم وقالوا انا كفرنا بما ارسلتم‬
‫به وانا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب ‪ 9 -‬قالت‬
‫رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والرض‬
‫يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل‬
‫مسمى قالوا ان انتم ال بشر مثلنا تريدون ان‬
‫تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ‪-‬‬
‫‪ 10‬قالت لهم رسلهم ان نحن إل بشر مثلكم ولكن‬
‫الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا ان‬
‫نأتيكم بسلطان ال بإذن الله وعلى الله فليتوكل‬
‫المؤمنون ‪ 11 -‬وما لنا ال نتوكل على الله وقد‬
‫هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله‬
‫فليتوكل المتوكلون ‪ 12 -‬وقال الذين كفروا‬
‫لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا‬
‫فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ‪13 -‬‬
‫ولنسكننكم الرض من بعدهم ذلك لمن خاف‬
‫مقامي وخاف وعيد ‪ / 14 -‬صفحة ‪ / 21‬واستفتحوا‬
‫وخاب كل جبار عنيد ‪ 15 -‬من ورائه جهنم ويسقى‬
‫من ماء صديد ‪ 16 -‬يتجرعه ول يكاد يسيغه ويأتيه‬
‫الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه‬
‫عذاب غليظ ‪ 17 -‬مثل‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 21‬‬
‫الذين كفروا بربهم اعمالهم كرماد اشتدت به‬
‫الريح في يوم عاصف ل يقدرون مما كسبوا على‬
‫شئ ذلك هو الضلل البعيد ‪ ) . 18 -‬بيان ( اليات‬
‫تشتمل على ذكر نبذة من نعم الله ونقمه في‬
‫ايامه وظاهر سياق اليات انها من كلم موسى‬
‫عليه السلم غير قوله تعالى ‪ " :‬واذ تأذن ربكم "‬
‫الية فهى حكاية قول موسى يذكر فيها قومه‬
‫ببعض ايام الله سبحانه على ما يقتضيه عزته‬
‫المطلقة من انزال النعم والنقم ووضع كل في‬
‫موضعه الذى يليق به حسب ما اقتضته حكمته‬
‫البالغة ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬واذ قال موسى لقومه‬
‫اذكروا نعمة الله عليكم " إلى آخر الية السوم‬
‫على ما ذكره الراغب بمعنى الذهاب في ابتغاء‬
‫الشئ فهو لفظ لمعنى يتركب من الذهاب‬
‫والبتغاء فكأنه في الية بمعنى اذاقة العذاب‬
‫والستحياء استبقاء الحياة ‪ .‬والمعنى واذكر ايها‬
‫الرسول لزيادة التثبت في ان الله عزيز حميد إذ‬
‫قال موسى لقومه وهم بنو اسرائيل اذكروا نعمة‬
‫الله عليكم يوم انجاكم من آل فرعون وخاصة من‬
‫القبط والحال انهم مستمرون على اذاقتكم سوء‬
‫العذاب ويكثرون ذبح الذكور من اولدكم وعلى‬
‫استبقاء حياة نسائكم للسترقاق وفي ذلكم بلء‬
‫ومحنة من ربكم عظيم ‪ / .‬صفحة ‪ / 22‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬واذ تأذن ربكم لئن شكرتم لزيدنكم‬
‫ولئن كفرتم ان عذابي لشديد " قال في المجمع‬
‫التأذن العلم يقال آذن وتأذن ومثله أوعد وتوعد‬
‫انتهى ‪ .‬وقوله واذ تأذن ربكم الخ معطوف على‬
‫قوله واذ قال موسى لقومه وموقع الية التالية‬
‫وقال موسى الخ من هذه الية كموقع قوله ولقد‬
‫ارسلنا موسى الخ من قوله كتاب انزلناه اليك‬
‫لتخرج الناس من الظلمات إلى النور الخ فافهم‬
‫ذلك فهو النسب بسياق كلمه تعالى ‪ .‬وذكر‬
‫بعضهم انه داخل في مقول موسى وليس بكلم‬
‫مبتدء وعليه فهو معطوف على قوله نعمة الله‬
‫عليكم والتقدير اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا إذ‬
‫تأذن ربكم الخ وفيه انه لو كان كذلك لكان النسب‬
‫ان يقال اذكروا إذ أنجاكم فأنعم عليكم واذ تأذن‬
‫ربكم الخ لما فيه من رعاية حكم الترتيب ‪ .‬وقيل‬
‫انه معطوف على قوله إذ انجاكم والمعنى اذكروا‬
‫نعمة الله عليكم إذ تأذن ربكم فان هذا التأذن‬
‫نفسه نعمة لما فيه من الترغيب والترهيب‬
‫الباعثين إلى نيل خير الدنيا والخرة ‪ .‬وفيه ان هذا‬
‫التأذن ليس ال نعمة للشاكرين منهم خاصة واما‬
‫غيرهم فهو نقمة عليهم وخسارة فنظمه في‬
‫سلك ما تقدمه من غير تقييد أو استثناء ليس على‬
‫ما ينبغى ‪ .‬فالظاهر انه كلم مبتدأ وقد بين تعالى‬
‫هذه الحقيقة اعني كون الشكر الذى حقيقته‬
‫استعمال النعمة بنحو يذكر انعام المنعم ويظهر‬
‫احسانه ويؤول في مورده تعالى إلى اليمان به‬
‫والتقوى موجبا لمزيد النعمة والكفر لشديد العذاب‬
‫في مواضع من كلمه وقد حكى عن نوح فيما‬
‫ناجى ربه ودعا على قومه فقلت ‪ " :‬استغفروا‬
‫ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا‬
‫ويمددكم بأموال وبنين " الخ نوح ‪ . 12 :‬ومن‬
‫لطيف كرمه تعالى اللئح من الية كما ذكره‬
‫بعضهم اشتمالها على التصريح بالوعد والتعريض‬
‫في الوعيد حيث قال لزيدنكم وقال ان عذابي‬
‫لشديد ولم يقل لعذبنكم وذلك من دأب الكرام‬
‫في وعدهم ووعيدهم غالبا ‪ / .‬صفحة ‪ / 23‬والية‬
‫مطلقة ل دليل على اختصاص ما فيها من الوعد‬
‫والوعيد بالدنيا ول بالخرة وتأثير اليمان والكفر‬
‫والتقوى والفسق في شؤون الحياة الدنيا والخرة‬
‫معا معلوم من القرآن ‪ .‬وقد استدل بالية على‬
‫وجوب شكر المنعم والحق ان الية ل تدل على‬
‫ازيد من ان الكافر على خطر من كفره فان الله‬
‫سبحانه لم يصرح بفعلية العذاب على كل كفر إذ‬
‫قال ولئن كفرتم ان عذابي لشديد ولم يقل‬
‫لعذبنكم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وقال موسى ان تكفروا‬
‫انتم ومن في الرض جميعا فان الله لغنى حميد "‬
‫لما امر تعالى بشكر نعمه بذكر ما تأذن به من‬
‫الزيادة على الشكر والعذاب على الكفر على ما‬
‫تقتضيه العزة المطلقة ذكر في تأييده من كلم‬
‫موسى عليه السلم ما يجرى مجرى التنظير فقال‬
‫وقال موسى والكلم جار على هذا النمط إلى‬
‫تمام عشر آيات ‪ .‬واما ان الله غنى وان كفر من‬
‫في الرض جميعا فانه غنى بالذات عن كل شئ‬
‫فل ينتفع بشكر ول يتضرر بكفر وانما يعود النفع‬
‫والضرر إلى النسان فيما اتى به واما انه حميد‬
‫فلن الحمد هو اظهار الحامد بلسانه ما لفعل‬
‫المحمود من الجمال والحسن وفعله تعالى حسن‬
‫جميل من كل جهة فهو جميل ظاهر الجمال يمتنع‬
‫خفاؤه واخفاؤه فهو تعالى محمود سواء حمده‬
‫حامد باللسان أو لم يحمد ‪ .‬على ان كل شئ‬
‫يحمده بتمام وجوده حتى الكافر بنعمته كما قال‬
‫تعالى ‪ " :‬وان من شئ ال يسبح بحمده " السراء ‪:‬‬
‫‪ 44‬فهو تعالى محمود سواء حمده الناس بألسنتهم‬
‫أو لم يحمدوه وله كل الحمد سواء قصد به هو أو‬
‫قصد به غيره ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ألم يأتكم نبأ الذين‬
‫من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود " إلى آخر الية‬
‫من كلم موسى عليه السلم يذكر قومه من ايام‬
‫الله في المم الماضين ممن فنيت اشخاصهم‬
‫وخمدت انفاسهم وعفت آثارهم وانقطعت‬
‫اخبارهم فل يعلمهم بحقيقة حالهم تفصيل ال‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 23‬‬
‫الله كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ‪.‬‬
‫ومن هنا يعلم اول ان المراد بالنبأ في قوله ‪" :‬‬
‫ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم ‪ /‬صفحة ‪ / 24‬خبر‬
‫هلكهم وانقراضهم فان النبأ هو الخبر الذى يعتنى‬
‫بأمره فل ينافى ما يتعقبه من قوله ل يعلمهم ال‬
‫الله ‪ .‬وثانيا ان قوله قوم نوح وعاد وثمود من‬
‫قبيل ذكر المثلة وان قوله ل يعلمهم ال الله بيان‬
‫لقوله من قبلكم والمراد بعدم العلم بهم لغير الله‬
‫الجهل بحقيقة حالهم وعدم الحاطة بتفاصيل‬
‫تاريخ حياتهم ‪ .‬ومن الممكن ان يكون قوله ل‬
‫يعلمهم ال الله اعتراضا وان كان ما ذكرناه انسب‬
‫للسياق واما احتمال ان يكون خبرا لقوله والذين‬
‫من بعدهم كما ذكره بعضهم فسخافته ظاهرة‬
‫واسخف منه تجويز بعضهم ان يكون حال من‬
‫ضمير من بعدهم وكون قوله جاءتهم رسلهم خبرا‬
‫لقوله والذين من بعدهم ‪ .‬وقوله جاءتهم رسلهم‬
‫بالبينات فردوا ايديهم في افواههم الظاهر ان‬
‫المراد به ان رسلهم جاؤوهم بحجج بينة تبين الحق‬
‫وتجليه من غير أي ابهام وريب فمنعوهم ان‬
‫يتفوهوا بالحق وسدوا عليهم طريق التكلم ‪.‬‬
‫فالضميران في ايديهم وافواههم للرسل ورد‬
‫ايديهم في افواههم كناية عن اجبارهم على ان‬
‫يسكتوا ويكفوا عن التكلم بالحق كأنهم اخذوا‬
‫بايدى رسلهم وردوها في افواههم ايذانا بأن من‬
‫الواجب عليكم ان تكفوا عن الكلم ويؤيده قوله‬
‫بعد وقالوا انا كفرنا بما ارسلتم به وانا لفى شك‬
‫مما تدعوننا إليه مريب فان دعوى الشك والريب‬
‫قبال الحجة البينة والحق الصريح الذى ل يبقى‬
‫مجال للشك ل تتحقق ال من جاحد مكابر متحكم‬
‫مجازف ل يستطيع ان يسمع كلمة الحق فيجبر‬
‫قائلها على السكوت والصمت ‪ .‬وللقوم في معنى‬
‫الية اقوال أخر منها قول بعضهم المعنى ان‬
‫الكفار ردوا ايديهم في افواه الرسل تكذيبا لهم‬
‫وردا لما جاؤوا به فالضمير الول للكفار والثانى‬
‫للرسل وفيه انه مستلزم لختلف مرجع الضميرين‬
‫من غير قرينة ظاهرة ‪ /‬صفحة ‪ / 25‬ومنها ان‬
‫المراد ان الكفار وضعوا ايديهم على افواه‬
‫انفسهم مومين به إلى الرسل ان اسكتوا كما‬
‫يفعله الواحد من الناس مع غيره إذا اراد اسكاته‬
‫فالضميران معا للكفار ‪ .‬ومنها ان المعنى عضوا‬
‫اصابعهم من شدة الغيظ من استماع دعوة الرسل‬
‫فالضميران للكفار كما في الوجه السابق وفيه انه‬
‫كناية بعيدة غير مفهومة من اللفظ ‪ .‬ومنها ان‬
‫المراد باليدي الحجج وهى اما جمع اليد بمعنى‬
‫الجارحة لكون الحجة بمنزلة اليد التى بها البطش‬
‫والدفع واما جمع اليد بمعنى النعمة لكون حجج‬
‫الرسل نعما منهم على الناس والمعنى انهم ردوا‬
‫حجج الرسل إلى افواههم التى خرجت منها ‪.‬‬
‫وقريب من هذا الوجه قول بعضهم ان المراد‬
‫باليدي نعم الرسل وهى اوامرهم ونواهيهم‬
‫والضميران ايضا للرسل والمعنى انهم كذبوا‬
‫الرسل في اوامرهم ونواهيهم ‪ .‬وقريب منه ايضا‬
‫قول آخرين ان المراد باليدي النعم وضمير ايديهم‬
‫للرسل وفي في قوله في افواههم بمعنى الباء‬
‫والضمير للكفار والمعنى كذب الكفار بافواههم‬
‫نعم الرسل وهى حججهم ‪ .‬وانت خبير بأن هذه‬
‫معان بعيدة عن الفهم يجل كلمه تعالى ان يحمل‬
‫عليها وعلى امثالها ‪ .‬واما قوله ‪ " :‬وقالوا انا‬
‫كفرنا بما أرسلتم به " وإنا لفى شك مما تدعوننا‬
‫إليه مريب فهو نحو بيان لقوله فردوا ايديهم في‬
‫افواههم والجملة الولى اعني قولهم انا كفرنا‬
‫بما ارسلتم به انكار للشريعة اللهية التى هي متن‬
‫الرسالة والجملة الثانية اعني قولهم وانا لفى‬
‫شك الخ انكار لما جاؤوا به من الحجج والبينات‬
‫واظهار ريب فيما كانوا يدعون إليه وهو توحيد‬
‫الربوبية ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬قالت رسلهم أفي الله‬
‫شك فاطر السموات والرض يدعوكم ليغفر لكم‬
‫من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى " اصل‬
‫الفطر على ما ذكره الراغب الشق طول يقال‬
‫فطرت الشئ فطرا أي شققته طول وافطر الشئ‬
‫فطورا وانفطر ‪ /‬صفحة ‪ / 26‬انفطارا أي قبل‬
‫الفطر واستعمل في القرآن فيما انتسب إليه‬
‫تعالى بمعنى اليجاد بنوع من العناية كأنه تعالى‬
‫شق العدم شقا فأظهر من بطنه الشياء فهى‬
‫ظاهرة ما امسك هو تعالى على شقى العدم‬
‫موجوده ما كان ممسكا لها ولو ترك المساك‬
‫لنعدمت وزالت كما قال تعالى ‪ " :‬ان الله يمسك‬
‫السماوات والرض ان تزول ولئن زالتا ان امسكها‬
‫من احد من بعده " فاطر ‪ . 41 :‬وعلى هذا‬
‫فتفسير الفطر بالخلق الذى هو جمع الجزاء‬
‫والبعاض كما وقع في بعض العبارات ليس على ما‬
‫ينبغى ويؤيد ذلك ان الفطر لو كان بمعنى الخلق‬
‫لكان البرهان الذى اشير إليه بقوله فاطر‬
‫السماوات والرض مسوقا لثبات وجود الخالق‬
‫فكان اجنبيا عن المقام لن الوثنية ل تنكر وجود‬
‫خالق للعالم وانه هو الله عز اسمه ل غير وانما‬
‫ينكرون توحيد الربوبية والعبادة وهو ان يكون الله‬
‫سبحانه هو الرب المعبود ل غير والبرهان على‬
‫كونه تعالى خالقا للسماوات و الرض ل ينفع فيه‬
‫شيئا ‪ .‬وكيف كان فقوله قالت رسلهم أفي الله‬
‫شك الخ كلم قوبل به قولهم وقالوا انا كفرنا بما‬
‫ارسلتم به وانا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب‬
‫وقد عرفت ان‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 26‬‬
‫قولهم هذا يتضمن انكارين انكارهم للرسالة‬
‫وتشككهم في توحيد الربوبية فكلم الرسل المورد‬
‫جوابا منهم عن قولهم بالمقابلة متضمن لجزءين ‪.‬‬
‫فقولهم أفي الله شك فاطر السماوات والرض‬
‫برهان على توحيد الربوبية إذ لو سيق لمجرد‬
‫النكار على الكفار من غير اشارة إلى برهان لم‬
‫يكن حاجة إلى ذكر الوصف فاطر السماوات‬
‫والرض ففى ذكره دللة على انه مزيل كل شك‬
‫وريب عنه تعالى ‪ .‬وذلك انا نرى في اول ما نعقل‬
‫ان لهذا العالم المشهود الذى هو مؤلف من اشياء‬
‫كثيرة كل واحد منها محدود في نفسه متميز من‬
‫غيره وجودا وليس وجوده ول وجود شئ من‬
‫اجزائه من نفسه وقائما بذاته وإل لم يتغير ولم‬
‫ينعدم فوجوده ووجود اجزائه وكذا كل ما يرجع‬
‫إلى الوجود من الصفات والثار من غيرها ولغيرها‬
‫وهذا الغير هو الذى نسميه الله عز اسمه ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 27‬فهو تعالى الذى يوجد العالم وكل جزء‬
‫من اجزائه ويحده ويميزه من غيره فهو في نفسه‬
‫موجود غير محدود وال لحتاج إلى آخر يحدده فهو‬
‫تعالى واحد ل يقبل الكثرة لن ما ل يحد بحد ل‬
‫يقبل الكثرة ‪ .‬وهو بوحدته يدبر كل امر كما انه‬
‫يوجده لنه هو المالك لوجودها والكل امر يرجع‬
‫إلى وجودها ول يشاركه غيره في شئ لن شيئا‬
‫من الموجودات غيره ل يملك لنفسه ول لغيره فهو‬
‫تعالى رب كل شئ ل رب غيره كما انه موجد كل‬
‫شئ ل موجد غيره ‪ .‬وهذا برهان تام سهل التناول‬
‫حتى للفهام البسيطة يناله النسان الذى يذعن‬
‫بفطرته ان للعالم المشهود حقيقة وواقعية من‬
‫غير ان يكون وهما مجردا كما يبديه السفسطة‬
‫والشك ويثبت به توحد اللوهية والربوبية ولذلك‬
‫تمسك به في هذا المقام الذى هو مقام خصام‬
‫الوثنية ‪ .‬ومن هنا يظهر فساد زعم من زعم ان‬
‫قوله أفي الله شك فاطر السماوات والرض حجة‬
‫مسوقة لثبات خالق للعالم وكذا قول من قال انه‬
‫دليل اتصال التدبير لتوحيد الربوبية بل هو برهان‬
‫عليه تعالى من جهة قيام وجود كل شئ وآثار‬
‫وجوده به من كل جهة فينتج توحده في الربوبية‬
‫ويزول به ما ايدوه من الشك بقولهم وانا لفى‬
‫شك مما تدعوننا إليه مريب ) ‪ . ( 1‬ثم قولهم "‬
‫يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل‬
‫مسمى " اشارة إلى برهان النبوة التى انكروها‬
‫بقولهم انا كفرنا بما ارسلتم به يريدون به دين‬
‫الرسل والشريعة السماوية بالوحى ‪ .‬وبيانه ان من‬
‫سنته تعالى الجارية هداية كل شئ إلى كماله‬
‫وسعادته النوعية والنسان احد هذه النواع‬
‫المشمولة للهداية اللهية فمن الواجب في العناية‬
‫اللهية * ) هامش ( * ) ‪ ( 1‬فهو قريب من مضمون‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬قل أفاتخذتم من دونه اولياء ل‬
‫يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا " الرعد ‪ :‬وقد‬
‫تقدم ‪ / ( * ) .‬صفحة ‪ / 28‬ان يهتدى إلى سعادة‬
‫حياته ولكن له حياة خالدة غير محدودة بالدنيا ول‬
‫منقطعة بالموت وسعادته في الحياة ان يعيش في‬
‫الدنيا عيشة مطمئنة على اساس تعديل قواه في‬
‫التمتع من امتعة الحياة من مأكول ومشروب‬
‫ولباس ونكاح وغير ذلك وهى العمال الصالحة‬
‫وفي الخرة ان يعيش على ما اكتسبه من العتقاد‬
‫الحق والعمل الصالح ‪ .‬وهو وان كان مجهزا بفطرة‬
‫تذكره حق العتقاد وصالح العمل لكنه مجبول من‬
‫جهة اخرى على العيشة الجتماعية التى تدعوه‬
‫إلى اتباع الهواء والظلم والفسق فمجرد ذكرى‬
‫الفطرة ل يكفى في حمله على سنة حقة عادلة‬
‫تحصل له الستقامة في العتقاد والعمل وال لم‬
‫يفسد المجتمع النساني ول واحد من اجزائه قط‬
‫وهم مجهزون بالفطرة ‪ .‬فمن الواجب في العناية‬
‫ان يمد النوع النساني مع ما له من الفطرة‬
‫الداعية إلى الصلح والسعادة بأمر آخر تتلقى به‬
‫الهداية اللهية وهو النبوة التى هي موقف انسانى‬
‫طاهر ينكشف له عنده العتقاد الحق والعمل‬
‫الصالح بوحى الهى وتكليم غيبي يضمن اتباعه‬
‫سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا والخرة ‪ .‬اما‬
‫سعادة الدنيا فلما تقدم كرارا ان بين المعاصي‬
‫والمظالم وبين النكال والعقوبة اللهية التى‬
‫تنتهى إلى الهلك ملزمة فلو لم يفسد المجتمع‬
‫وداموا على الصلح الفطري لم يختر منهم الهلك‬
‫ولم يفاجئهم النكال وعاشوا ما قدر لهم من‬
‫الجال الطبيعية والعيشة المغبوطة ‪ .‬واما سعادة‬
‫الخرة فلن اتباع الدعوة اللهية وبعبارة اخرى‬
‫اليمان والتقوى يحليان النفس بالهيئة الصالحة‬
‫ويذهبان بدرن النفس الذى هو الذنوب بمقدار‬
‫التباع ‪ .‬فربوبيته تعالى لكل شئ المستوجبة‬
‫لتدبيرها احسن تدبير وهدايته كل نوع إلى غايته‬
‫السعيدة تستدعى ان تعنى بالناس بارسال رسل‬
‫منهم إليهم ودعوته الناس بلسان رسله إلى‬
‫اليمان والعمل الصالح ليتم بذلك سعادتهم في‬
‫الدنيا والخرة اما في ‪ /‬صفحة ‪ / 29‬الدنيا‬
‫فبالتخلص عن النكال والعقوبة القاضية عليهم‬
‫واما في الخرة فبالمغفرة اللهية بمقدار ما‬
‫تلبسوا به من اليمان والعمل الصالح ‪ .‬إذا عرفت‬
‫ما ذكرناه بان لك ان قوله تعالى حاكيا عن الرسل‬
‫يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل‬
‫مسمى اشارة منهم عليهم السلم إلى حجة النبوة‬
‫العامة وان قوله ليغفر لكم الخ اشارة إلى غاية‬
‫الدعوة الخروية‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 29‬‬
‫وقوله ويؤخركم الخ اشارة إلى غايتها الدنيوية‬
‫وقدم ما للخرة على ما للدنيا لن الخرة هي‬
‫المقصودة بالذات وهى دار القرار ‪ .‬وقد نسبوا‬
‫الدعوة في كلمهم إلى الله سبحانه للتنبيه لما هو‬
‫الحق تجاه قول الكفار تدعوننا إليه حيث نسبوها‬
‫إلى الرسل وقوله من ذنوبكم ظاهر في التبعيض‬
‫ولعله للدللة على إن المغفرة على قدر الطاعة‬
‫والمجتمع النساني ل يخلو عن المعصية‬
‫المستوجبة للمؤاخذة البتة فالمغفور على أي حال‬
‫بعض ذنوب المجتمع ل جميعها فافهم ذلك ‪ .‬وربما‬
‫ذكر بعضهم ان المراد به انه يغفر حقوق الله ل‬
‫حقوق الناس ورد بأنه صح عن النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم ان السلم يجب ما قبله ‪ .‬وربما‬
‫قيل ان من زائدة وايد بقوله تعالى في موضع آخر‬
‫يغفر لكم ذنوبكم بدون من وفيه ان من انما يزاد‬
‫في النفى دون الثبات كقولهم ما جاءني من رجل‬
‫وتدخل على النكرة دون المعرفة كما قيل على ان‬
‫مورد اليتين مختلف فان قوله يغفر لكم ذنوبكم‬
‫الظاهر في مغفرة الجميع انما هو في مورد‬
‫اليمان والجهاد وهو قوله تؤمنون بالله ورسوله‬
‫وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وانفسكم إلى‬
‫أن قال " يغفر لكم ذنوبكم " الصف ‪ 12 -‬والذى‬
‫حكاه الله عن نوح عليه السلم في مثل المقام‬
‫وهو اول هؤلء الرسل المذكورين في الية قوله ‪:‬‬
‫" ان اعبدوا الله واتقوه واطيعون يغفر لكم من‬
‫ذنوبكم ويؤخركم إلى اجل مسمى " نوح ‪ 4 :‬وهو‬
‫يوافق الية التى نحن فيها فالتبعيض ل مفر منه‬
‫ظاهرا ‪ .‬ومما قيل في توجيه الية ان المراد‬
‫بالبعض الكل توسعا ومن ذلك ان المراد ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 30‬مغفرة ما قبل اليمان من الذنوب واما ما بعد‬
‫ذلك فمسكوت عنه ومن ذلك ان المراد مغفرة‬
‫الكبائر وهى بعض الذنوب إلى غير ذلك وهذه‬
‫وجوه ضعيفة ل يعبؤ بها ‪ .‬وقال الزمخشري في‬
‫الكشاف فان قلت ما معنى التبعيض في قوله ‪" :‬‬
‫من ذنوبكم ؟ قلت ما علمته جاء هكذا ال في‬
‫خطاب الكافرين بقوله واتقوه واطيعون يغفر لكم‬
‫من ذنوبكم يا قومنا اجيبوا داعى الله وآمنوا به‬
‫يغفر لكم من ذنوبكم وقال في خطاب المؤمنين‬
‫هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم إلى‬
‫ان قال يغفر لكم ذنوبكم وغير ذلك مما يقفك‬
‫عليه الستقراء وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين‬
‫ولئل يسوى بين الفريقين في الميعاد انتهى ‪.‬‬
‫وكأن مراده ان المغفور من الذنوب في الفريقين‬
‫واحد وهو جميع الذنوب ال ان تشريف مقام‬
‫اليمان اوجب ان يصرح في المؤمنين بمغفرة‬
‫الجميع ويقتصر في وعد الكفار على مغفرة‬
‫البعض والسكوت عن الباقي ومغفرة بعضها ل‬
‫تنافى مغفرة البعض الخر فليكن هذا مراده وال‬
‫فمجرد التفرقة بين الخطابين ل ينتج ارتكاب‬
‫مخالفة الواقع بتاتا ‪ .‬وقوله ويؤخركم إلى اجل‬
‫مسمى أي ل يعاجلكم بالعقوبة والهلك ويؤخركم‬
‫إلى الجل الذى ل يؤخر وقد سماه لكم ول يبدل‬
‫القول لديه وقد تقدم في تفسير اول سورة‬
‫النعام ان الجل اجلن اجل موقوف معلق واجل‬
‫مسمى ل يؤخر ‪ .‬ومن الدليل على هذا الذى‬
‫ذكرناه قول نوح لقومه في هذا المقام على ما‬
‫حكاه الله سبحانه " ويؤخركم إلى اجل مسمى ان‬
‫اجل الله إذا جاء ل يؤخر " نوح ‪ 4 :‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫قالوا ان انتم ال بشر مثلنا تريدون ان تصدونا عما‬
‫كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين " قد تقدم‬
‫في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب ان‬
‫الية المعجزة حجة عامة على نبوة النبي ل حجة‬
‫عامية وخاصة الوحى والنبوة التى هي نوع اتصال‬
‫بالغيب امر خارق للعادة الجارية بين افراد النسان‬
‫ل يجدونها من انفسهم فعلى من يدعيها الثبات‬
‫ول طريق إلى اثباتها ال بالتيان بخارق عادة آخر ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 31‬يدل على صحة هذا التصال الغيبي‬
‫لن حكم المثال واحد وإذا جاز ان تخترق العادة‬
‫بشئ جاز ان تخترق بما يماثله ‪ .‬والرسل عليهم‬
‫السلم لما احتجوا على كفار اممهم في النبوة‬
‫العامة بقولهم " يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم‬
‫ويؤخركم إلى اجل مسمى " عادت الكفار إليهم‬
‫بطلب الدليل منهم على ما يدعونه من النبوة‬
‫لنفسهم معتذرين في ذلك بقولهم ‪ " :‬إن أنتم ال‬
‫بشر مثلنا " ثم صرحوا بما يطلبونه من الدليل وهو‬
‫الية المعجزة بقولهم فأتونا بسلطان مبين ‪.‬‬
‫فالمعنى سلمنا ان من مقتضى العناية اللهية ان‬
‫يدعونا إلى المغفرة والرحمة لكنا ل نسلم لكم ان‬
‫هذه الدعوة قائمة بكم كما تدعون فإنكم بشر‬
‫مثلنا ل تزيدون علينا بشئ ولو كان مجرد البشرية‬
‫يوجب ذلك لكنا وجدناه من انفسنا ونحن بشر فان‬
‫كنتم صادقين في دعواكم هذه فأتونا بسلطان‬
‫مبين أي ببرهان قاطع يتسلط على عقولنا‬
‫ويضطرنا إلى الذعان بنبوتكم وهو آية معجزة‬
‫غيبية تخرق العادة كما ان ما تدعونه خارق مثلها ‪.‬‬
‫وبهذا البيان يظهر اول ان كلمهم هذا من قبيل‬
‫منع الدعوى وقولهم إن أنتم ال بشر مثلنا سند‬
‫المنع وقولهم فأتونا بسلطان مبين تصريح بطلب‬
‫الدليل ‪ .‬وثانيا ان قولهم تريدون ان تصدونا عما‬
‫كان يعبد آباؤنا من قبيل العتراض الواقع بين‬
‫المنع وسنده ومعناه انكم لما كنتم بشرا مثلنا ل‬
‫فضل لكم علينا‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 31‬‬
‫بشئ فل وجه لن نقبل منكم ما ل نجده من‬
‫انفسنا ول نعهده من امثالنا والذى نعهده من‬
‫امثال هذه المور انها انما تظهر عن اغراض‬
‫ومطامع دنيوية مادية فليس إل انكم تريدون ان‬
‫تصرفونا عن سنتنا القومية وطريقتنا المثلى ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬قالت لهم رسلهم إن نحن ال بشر‬
‫مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء " إلى آخر‬
‫الية جواب الرسل عما اوردوه على رسالتهم‬
‫بأنكم بشر مثلنا فلستم ذوى هوية ملكوتية حتى‬
‫تتصلوا بالغيب فان كنتم صادقين في دعواكم هذه‬
‫القدرة الغيبية فأتونا بسلطان مبين ‪ / .‬صفحة‬
‫‪ / 32‬ومحصل الجواب ان كوننا بشرا مثلكم مسلم‬
‫لكنه يوجب خلف ما استوجبتموه اما قولكم ان‬
‫كونكم بشرا مثلنا يوجب ان ل تختصوا بخصيصة ل‬
‫نجدها من انفسنا وهى الوحى والرسالة فجوابه‬
‫ان المماثلة في البشرية ل توجب المماثلة في‬
‫جميع الكمالت الصورية والمعنوية النسانية كما‬
‫ان اعتدال الخلقة وجمال الهيئة وكذا رزانة العقل‬
‫واصابة الرأى والفهم والذكاء كمالت صورية‬
‫ومعنوية توجد في بعض افراد النسان دون بعض‬
‫فمن الجائز ان ينعم الله بالوحى والرسالة على‬
‫بعض عباده دون بعض فإن الله يمن على من يشاء‬
‫منهم ‪ .‬واما قولكم فأتونا بسلطان مبين فإنه‬
‫مبنى على كون النبي ذا شخصية ملكوتية وقدرة‬
‫غيبية فعالة لما تشاء وليس كذلك فما النبي ال‬
‫بشر مثلكم يوحى إليه بالرسالة وليس له من المر‬
‫شئ وما كان له ان يأتي بآية من عنده ال ان يشاء‬
‫الله ذلك ويأذن فيه ‪ .‬فقوله ان نحن إل بشر مثلكم‬
‫تسليم من الرسل لقولهم ان انتم ال بشر مثلنا‬
‫لستنتاج خلف ما استنتجوه منه وقوله ولكن الله‬
‫يمن على من يشاء اشارة إلى مقدمة بانضمامها‬
‫يستنتج المطلوب وقوله وما كان لنا ان نأتيكم‬
‫بسلطان ال بإذن الله جواب منهم استنتجوه من‬
‫كونهم بشرا مثلهم ‪ .‬وتذييل هذا الكلم بقولهم‬
‫وعلى الله فليتوكل المؤمنون للشارة إلى ما‬
‫يجرى مجرى حجة ثانية على ارجاع المر كله ومنه‬
‫امر الية المعجزة إلى الله وهى حجة خاصة‬
‫بالمؤمنين وملخصها ان اليمان بالله سبحانه‬
‫يقتضى منهم أن يذعنوا بأن التيان بالية انما هو‬
‫إلى الله لن الحول والقوة له خاصة ل يملك غيره‬
‫من ذلك شيئا ال بإذنه ‪ .‬وذلك لنه هو الله عز شأنه‬
‫فهو الذى يبدأ منه وينتهى إليه ويقوم به كل شئ‬
‫فهو رب كل شئ المالك لتدبير أمره ل يملك شئ‬
‫امرا ال باذنه فهو وكيل كل شئ القائم بما يرجع‬
‫إليه من المر فعلى المؤمن ان يتخذ ربه وكيل في‬
‫جميع ما يرجع إليه حتى في اعماله التى تنسب‬
‫إليه لما ان القوة كلها له سبحانه وعلى الرسول‬
‫ان يذعن بأن ليس له التيان بآية معجزة إل بإذن‬
‫الله ‪ / .‬صفحة ‪ / 33‬والية ظاهرة في ان الرسل‬
‫عليهم السلم لم يدعوا امتناع اتيانهم بالية‬
‫المعجزة المسماة سلطانا مبينا وانما ادعوا امتناع‬
‫ان يستقلوا بذلك من غير حاجة فيه إلى اذن الله‬
‫سبحانه واحتجوا على ذلك اول وثانيا ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وما لنا ال نتوكل على الله وقد هدانا‬
‫سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله‬
‫فليتوكل المتوكلون " ما استفهامية والستفهام‬
‫للنكار وقوله وقد هدانا سبلنا حال من الضمير‬
‫في لنا وسبل النبياء والرسل الشرائع التى كانوا‬
‫يدعون إليها قال تعالى ‪ " :‬قل هذه سبيلى ادعوا‬
‫إلى الله على بصيرة " يوسف ‪ 108 :‬والمعنى ما‬
‫الذى نملكه من العذر في ان ل نتوكل على الله‬
‫والحال انه تعالى هدانا سبلنا ولم يكن لنا صنع في‬
‫هذه النعمة والسعادة التى من بها علينا فإذا كان‬
‫سبحانه فعل بنا هذا الفعل الذى هو كل الخير‬
‫فمن الواجب ان نتوكل عليه في سائر المور ‪.‬‬
‫وهذا في الحقيقة حجة ثانية على وجوب التوكل‬
‫عليه والقاء الزمام إليه سلك فيها من طريق الثار‬
‫الدالة على وجوب التوكل عليه كما ان الحجة‬
‫السابقة سلك فيها من النظر في نفس المؤثر‬
‫وتقرير الحجة ان هدايته تعالى ايانا إلى سبلنا‬
‫دليل على وجوب التوكل عليه لنه ل يخون عباده‬
‫ول يريد بهم ال الخير ومع وجود الدليل على‬
‫التوكل ل معنى لوجود دليل على عدم التوكل‬
‫يكون عذرا لنا فيه فل سبيل لنا إلى عدم التوكل‬
‫عليه تعالى ‪ .‬فقوله تعالى ‪ " :‬وعلى الله فليتوكل‬
‫المؤمنون " يجرى مجرى اللم وقوله وما لنا أل‬
‫نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا مجرى الن فتدبر‬
‫في هذا البيان العذب والحتجاج السهل الممتنع‬
‫الذى قدمه القرآن الكريم إلى متدبريه في اوجز‬
‫لفظ ‪ .‬وقوله ولنصبرن على ما آذيتمونا من تفريع‬
‫الصبر على ما بين من وجوب التوكل عليه أي إذا‬
‫كان من الواجب ان نتوكل عليه ونحن مؤمنون به‬
‫وقد هدانا سبلنا فلنصبرن على ايذائكم لنا في‬
‫سبيل الدعوة إليه المتوكلين عليه حتى يحكم بما‬
‫يريد ويفعل ما يشاء من غير ان نأوى في ذلك إلى‬
‫ما عندنا من ظاهر الحول والقوة ‪ / .‬صفحة ‪/ 34‬‬
‫وقوله " وعلى الله فليتوكل المتوكلون كلم مبنى‬
‫على الترقي أي كل من تلبس بالتوكل فعليه ان‬
‫يتوكل على الله سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن إذ‬
‫ل دليل غيره غير إن‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 34‬‬
‫المتوكل بحقيقة التوكل ل يكون ال مؤمنا فإنه‬
‫مذعن ان المر كله لله فل يسعه ال أن يطيعه‬
‫فيما يامر وينتهى عما ينهى ويرضى بما رضى به‬
‫ويسخط عما سخط عنه وهذا هو اليمان ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم‬
‫من ارضنا أو لتعودن في ملتنا " هذا تهديد منهم‬
‫بعد ما عجزوا في مناظرتهم وخسروا في‬
‫محاجتهم والخطاب في قولهم لنخرجنكم الخ‬
‫للرسل والذين آمنوا معهم فما كانوا ليرضوا ان‬
‫يعود الرسل في ملتهم ويبقى اتباعهم على دين‬
‫التوحيد على ان الله سبحانه صرح بذلك في قصص‬
‫بعضهم كقوله في شعيب ‪ " :‬قال المل الذين‬
‫استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين‬
‫آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا "‬
‫العراف ‪ . 88 :‬وقوله أو لتعودن في ملتنا عاد من‬
‫الفعال الناقصة بمعنى الصيرورة وهى الحيلولة‬
‫من حال إلى حال سواء كان عليها سابقا أو ل‬
‫ومن الدليل عليه كما قيل قوله في ملتنا ولو كان‬
‫بمعنى الرجوع إلى ما كان لتعين ان يقال إلى‬
‫ملتنا ‪ .‬ومن هنا يظهر فساد ما قيل ان ظاهر الية‬
‫ان الرسل كانوا قبل الرسالة في ملتهم فكلفهم‬
‫الكفار ان يعودوا إلى ما كانوا عليه ‪ .‬على ان‬
‫خطابهم لم يكن للرسل خاصة بل لهم ولمن آمن‬
‫بهم ممن كان على ملة الكفار من قبل فالخطاب‬
‫لهم ولرسلهم بالعود إلى ملتهم على تقدير كون‬
‫العود بمعنى الرجوع انما هو من باب التغليب ‪.‬‬
‫ومن لطيف الصناعة في الية دخول لم القسم‬
‫ونون التأكيد على طرفي الترديد لنخرجنكم أو‬
‫لتعودن مع إن أو للستدراك وتفيد معنى الستثناء‬
‫ول معنى لن يقال ال ان تعودوا والله في ملتنا‬
‫ال ان عودهم لما كان باجبار من الكفار كان في‬
‫معنى العادة وعاد قوله لتعودن طرف الترديد‬
‫وصح دخول اللم والنون وآل المعنى إلى قولنا‬
‫والله لنخرجنكم من ارضنا أو نعيدنكم في ملتنا ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 35‬قوله تعالى ‪ " :‬فأوحى إليهم ربهم‬
‫لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الرض من بعدهم "‬
‫إلى آخر الية ضمير الجميع الول والثانى للرسل‬
‫والثالث للذين كفروا بدللة السياق والتعبير عنهم‬
‫بالظالمين للشارة إلى سببية ظلمهم للهلك فان‬
‫تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية كما ان قوله ‪:‬‬
‫" ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " مشعر بعلية‬
‫الخوف للسكان ‪ .‬وقوله مقامي مصدر ميمى اريد‬
‫به قيامه تعالى على المر كله أو اسم مكان اريد‬
‫به مرتبة قيمومته تعالى للمر كله والمراد من‬
‫وعيده تعالما اوعد به المخالفين عن امره من‬
‫العذاب ‪ .‬فالمراد بالخوف من مقامه تعالى تقواه‬
‫بما انه الله القائم بامر عباده والمراد بالخوف من‬
‫وعيده تقواه بما انه الله الذى حذر عباده من‬
‫مخالفة امره بلسان انبيائه ورسله فيعود على أي‬
‫حال إلى التقوى وينطبق على قول موسى‬
‫لقومه ‪ " :‬استعينوا بالله واصبروا ان الرض لله‬
‫يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين "‬
‫العراف ‪ 128 :‬كما اشار إليه في الكشاف ‪.‬‬
‫والمعنى فأوحى رب الرسل إليهم وقد اخذت صفة‬
‫الربوبية الخاصة بهم لمكان توكلهم الجالب للرحمة‬
‫والعناية واقسم لنهلكن هؤلء المهددين لكم‬
‫بظلمهم ولنسكننكم هذه الرض التى هددوكم‬
‫بالخراج منها ونورثكم اياها لصفة مخافتكم منى‬
‫ومن وعيدي وكذلك نفعل فنورث الرض عبادنا‬
‫المتقين ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬واستفتحوا وخاب كل‬
‫جبار عنيد " الستفتاح طلب الفتح والنصر والخيبة‬
‫انقطاع الرجاء والخسران والهلك والعنيد هو‬
‫اللجوج ومنه المعاند ‪ .‬والضمير في واستفتحوا‬
‫للرسل أي طلبوا النصر من الله لما انقطعت بهم‬
‫السباب من كل جانب وبلغ بهم ظلم الظالمين‬
‫وتكذيب المعاندين كقول نوح فيما حكاه الله ‪" :‬‬
‫انى مغلوب فانتصر " القمر ‪ 10 :‬ويمكن رجوع‬
‫الضمير إلى الرسل والكفار جميعا فان الكفار‬
‫ايضا كانوا يصرون على أن يأتيهم الرسل بما‬
‫يقضى بينهم كقولهم " متى هذا الفتح " ألم‬
‫السجدة ‪ " 28 :‬متى هذا الوعد " يس ‪ 48 :‬وعلى‬
‫هذا التقدير يكون المعنى واستفتح الرسل والكفار‬
‫جميعا وكانت الخيبة للجبارين وهو ‪ /‬صفحة ‪/ 36‬‬
‫عذاب الستئصال قوله تعالى ‪ " :‬من ورائه جهنم‬
‫ويسقى من ماء صديد " إلى آخر اليتين الصديد‬
‫القيح السائل من الجرح وهو بيان للماء الذى‬
‫يسقونه في جهنم والتجرع تناول المشروب جرعة‬
‫جرعة على الستمرار والساغة اجراء الشراب في‬
‫الحلق يقال ساغ الشراب وأسغته انا كذا في‬
‫المجمع والباقى ظاهر ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬مثل الذين‬
‫كفروا بربهم اعمالهم كرماد اشتدت به الريح في‬
‫يوم عاصف " إلى آخر الية يوم عاصف شديد الريح‬
‫تمثيل لعمال الكفار من حيث تترتب نتائجها عليها‬
‫وبيان انها حبط باطلة ل اثر لها من جهة السعادة‬
‫فهو كقوله تعالى ‪ " :‬وقدمنا إلى ما عملوا من‬
‫عمل فجعلناه هباء منثورا " الفرقان ‪23 :‬‬
‫فأعمالهم كذرات من الرماد اشتدت به الريح في‬
‫يوم شديد الريح فنثرته ولم يبق منه شيئا هذا‬
‫مثلهم من جهة اعمالهم ‪ .‬ومن هنا يظهر ان ل‬
‫حاجة إلى تقدير شئ في الكلم وارجاعه إلى مثل‬
‫قولنا مثل اعمال الذين كفروا الخ والظاهر ان‬
‫الية ليست من تمام كلم موسى بل هي‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 36‬‬
‫كالنتيجة المحصلة من كلمه المنقول ‪ ) .‬بحث‬
‫روائي ( في الكافي باسناده عن معاوية بن وهب‬
‫عن ابى عبد الله عليه السلم قال ‪ :‬من اعطى‬
‫الشكر اعطى الزيادة يقول الله عز وجل ‪ " :‬لئن‬
‫شكرتم لزيدنكم " وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى‬
‫الدنيا والبيهقي في شعب اليمان عن ابى زهير‬
‫يحيى بن عطارد بن مصعب عن ابيه قال قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‪ :‬ما اعطى‬
‫احد اربعة فمنع اربعة ما اعطى احد الشكر فمنع‬
‫الزيادة لن الله يقول ‪ " :‬لئن شكرتم لزيدنكم "‬
‫وما اعطى احد الدعاء فمنع الجابة لن الله‬
‫يقول ‪ " :‬إدعونى استجب لكم " وما اعطى احد‬
‫الستغفار فمنع المغفرة لن الله يقول ‪" :‬‬
‫استغفروا ربكم انه ‪ /‬صفحة ‪ / 37‬كان غفارا " وما‬
‫اعطى احد التوبة فمنع التقبل لن الله يقول ‪" :‬‬
‫وهو الذى يقبل التوبة عن عباده " الشورى ‪25 :‬‬
‫وفيه اخرج أبو نعيم في الحلية من طريق مالك بن‬
‫انس عن جعفر بن محمد بن على ابن الحسين قال‬
‫‪ :‬لما قال له سفيان الثوري ل اقوم حتى تحدثني‬
‫قال جعفر اما انى احدثك وما كثرة الحديث لك‬
‫بخيريا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت‬
‫بقائها ودوامها فاكثر من الحمد والشكر عليها فان‬
‫الله تعالى قال في كتابه ‪ " :‬لئن شكرتم لزيدنكم‬
‫وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الستغفار فان‬
‫الله تعالى قال في كتابه ‪ " :‬استغفروا ربكم انه‬
‫كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم‬
‫باموال وبنين " يعنى في الدنيا والخرة ) ‪( 1‬‬
‫ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا " يا سفيان إذا‬
‫حزنك امر من سلطان أو غيره فأكثر من ل حول‬
‫ول قوة ال بالله فانها مفتاح الفرج وكنز من كنوز‬
‫الجنة اقول وفي هذا المعنى روايات كثيرة من‬
‫طرق الفريقين ‪ .‬وفي الكافي باسناده عن عمر‬
‫بن يزيد قال سمعت ابا عبد الله عليه السلم يقول‬
‫‪ :‬شكر كل نعمة وان عظمت ان تحمد الله وفيه‬
‫باسناده عن حماد بن عثمان قال ‪ :‬خرج أبو عبد‬
‫الله عليه السلم من المسجد وقد ضاعت دابته‬
‫فقال لئن ردها الله على لشكرن الله حق شكره‬
‫فما لبث ان أتى بها فقال الحمد لله فقال قائل له‬
‫جعلت فداك ألست قلت لشكرن الله حق شكره ؟‬
‫فقال أبو عبد الله عليه السلم ألم تسمعني قلت‬
‫الحمد لله ؟ وفيه باسناده عن ابى بصير قال ‪:‬‬
‫قلت لبي عبد الله عليه السلم هل للشكر حد إذا‬
‫فعله العبد كان شاكرا ؟ قال نعم قلت وما هو ؟‬
‫قال الحمد لله على كل نعمة عليه في اهل ومال‬
‫وإن كان فيما أنعم الله عليه في ماله حق أداه‬
‫ومنه قوله عز وجل ‪ " :‬سبحان الذى سخر لنا هذا‬
‫وما كنا له مقرنين " ومنه قوله " انزلني *‬
‫) هامش ( * ) ‪ ( 1‬كذا في النسخة والظاهر أن‬
‫يكون قوله ‪ :‬والخرة زائدا وأن يقع يعني في‬
‫الخرة بعد قوله ‪ :‬أنهارا ‪ / ( * ) .‬صفحة ‪ / 38‬منزل‬
‫مباركا وانت خير المنزلين " وقوله ‪ " :‬رب ادخلني‬
‫مدخل صدق واخرجني مخرج صدق واجعل لى من‬
‫لدنك سلطانا نصيرا " وفي تفسير العياشي عن‬
‫ابى ولد قال ‪ :‬قلت لبي عبد الله عليه السلم‬
‫أرايت هذه النعمة الظاهرة علينا من الله أليس ان‬
‫شكرناه عليها وحمدناه زادنا كما قال الله في‬
‫كتابه ‪ " :‬لئن شكرتم لزيدنكم " ؟ فقال نعم من‬
‫حمدالله على نعمه وشكره وعلم إن ذلك منه ل من‬
‫غيره زاد الله نعمه ‪ .‬اقول والروايتان الخيرتان‬
‫تفسران الشكر احسن تفسير وينطبق عليهما ما‬
‫قدمناه في البيان ان الشكر اظهار النعمة اعتقادا‬
‫وقول وفعل ويؤيده اطلق قوله تعالى ‪ " :‬وأما‬
‫بنعمة ربك فحدث " الضحى ‪ . 11 :‬وفي تفسير‬
‫القمى قال حدثنى ابى رفعه عن النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم قال ‪ :‬من آذى جاره طمعا في‬
‫مسكنه ورثه الله داره وهو قوله وقال الذين‬
‫كفروا لرسلهم إلى قوله فأوحى إليهم ربهم‬
‫لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الرض من بعدهم‬
‫وفي التفسيرين المجمع وروح المعاني عن النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم ‪ :‬من آذى جاره اورثه‬
‫الله داره وفي الدر المنثور اخرج ابن الضريس عن‬
‫ابى مجلز قال ‪ :‬قال رجل لعلى بن ابى طالب أنا‬
‫انسب الناس قال إنك ل تنسب الناس قال بلى‬
‫فقال له علي أرأيت قوله تعالى ‪ " :‬وعادا وثمود‬
‫وقرونا بين ذلك كثيرا " ؟ قال انا انسب ذلك‬
‫الكثير قال أرايت قوله ألم يأتكم نبأ الذين من‬
‫قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ل‬
‫يعلمهم ال الله " فسكت وفي المجمع عن ابى عبد‬
‫الله عليه السلم ‪ :‬الصديد هو الدم والقيح من‬
‫فروج الزوانى في النار وفي الدر المنثور اخرج‬
‫احمد والترمذي والنسائي وابن ابى الدنيا في‬
‫صفة النار وابو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن‬
‫ابى حاتم والطبراني وابو نعيم في الحليه وصححه‬
‫وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن‬
‫ابى امامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫في قوله ‪ /‬صفحة ‪ / 39‬ويسقى من ماء صديد‬
‫يتجرعه قال يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى‬
‫وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع امعاءه‬
‫حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى ‪ " :‬فسقوا‬
‫ماء حميما فقطع امعاءهم " وقال ‪ " :‬وان‬
‫يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه "‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 39‬‬
‫وفي تفسير القمى في الية قال قال " ‪ :‬يقرب‬
‫إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت‬
‫فروة رأسه فإذا شرب تقطعت امعاؤه ومزقت‬
‫تحت قدميه وانه ليخرج من احدهم مثل الوادي‬
‫صديد وقيح الحديث ‪ .‬وفيه في رواية ابى الجارود‬
‫عن ابى جعفر عليه السلم ‪ :‬العنيد المعرض عن‬
‫الحق * * * ألم تر ان الله خلق السموات والرض‬
‫بالحق ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ‪ 19 -‬وما‬
‫ذلك على الله بعزيز ‪ 20 -‬وبرزوا لله جميعا فقال‬
‫الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل انتم‬
‫مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو هدانا‬
‫الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا‬
‫من محيص ‪ 21 -‬وقال الشيطان لما قضى المر‬
‫ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما‬
‫كان لى عليكم من سلطان ال ان دعوتكم‬
‫فاستجبتم لى فل تلوموني ولوموا أنفسكم ما انا‬
‫بمصرخكم وما انتم بمصرخي إنى كفرت بما‬
‫اشركتمون من قبل ان الظالمين لهم عذاب اليم ‪-‬‬
‫‪ 22‬وادخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات‬
‫تجرى من تحتها ‪ /‬صفحة ‪ / 40‬النهار خالدين فيها‬
‫باذن ربهم تحيتهم فيها سلم ‪ 23 -‬ألم تر كيف‬
‫ضرب الله مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها‬
‫ثابت وفرعها في السماء ‪ 24 -‬تؤتى أكلها كل حين‬
‫باذن ربها ويضرب الله المثال للناس لعلهم‬
‫يتذكرون ‪ 25 -‬ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة‬
‫اجتثت من فوق الرض ما لها من قرار ‪ 26 -‬يثبت‬
‫الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا‬
‫وفي الخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما‬
‫يشاء ‪ 27 -‬ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا‬
‫وأحلوا قومهم دار البوار ‪ 28 -‬جهنم يصلونها‬
‫وبئس القرار ‪ 29 -‬وجعلوا لله اندادا ليضلوا عن‬
‫سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ‪ 30 -‬قل‬
‫لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوة وينفقوا مما‬
‫رزقناهم سرا وعلنية من قبل أن يأتي يوم ل بيع‬
‫فيه ول خلل ‪ 31 -‬الله الذى خلق السموات‬
‫والرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من‬
‫الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في‬
‫البحر بامره وسخر لكم النهار ‪ 32 -‬وسخر لكم‬
‫الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ‪-‬‬
‫‪ 33‬وآتيكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمت‬
‫الله ل تحصوها ان النسان لظلوم كفار ‪/ 34 -‬‬
‫صفحة ‪ ) / 41‬بيان ( تشتمل اليات على تذكرة‬
‫الناس في صورة خطاب النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم مرة بعد مرة بقوله ‪ " :‬ألم تر كيف خلق الله‬
‫السماوات والرض بالحق " " ألم تر كيف ضرب‬
‫الله مثل " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ‪.‬‬
‫" يذكر تعالى بها إن الخلقة مبنية على الحق فهم‬
‫سيبرزون جميعا فالذين ساروا بالحق وآمنوا بالحق‬
‫وعملوا الحق ينالون السعادة والجنة والذين اتبعوا‬
‫الباطل وعبدوا الشيطان واطاعوا الطغاة‬
‫المستكبرين منهم غرورا بظاهر عزتهم وقدرتهم‬
‫لزمهم شقاء لزم وتبرأ منهم متبوعوهم من الجن‬
‫والنس ولله العزة والحمد ‪ .‬ثم يذكر ان هذا‬
‫التقسم إلى فريقين انما هو لنقسام سلوكهم‬
‫إلى قسمين سلوك هدى وسلوك ضلل والذى‬
‫يلزمه الهدى هو المؤمن والذى يلزمه الضلل هو‬
‫الظالم والقاضى بذلك هو الله سبحانه يفعل ما‬
‫يشاء وله العزة والحمد ‪ .‬ثم يذكر بالمم الماضية‬
‫الهالكة وما وقعوا فيه من البوار بسبب كفرانهم‬
‫بنعمة الله العزيز الحميد ويعاتب النسان بظلمه‬
‫وكفره بالنعم اللهية التى ملت الوجود وإن‬
‫تعدوها ل تحصوها ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ألم تر ان الله‬
‫خلق السماوات والرض بالحق " المراد بالرؤية هو‬
‫العلم القاطع فانه الصالح لن يتعلق بكيفية خلق‬
‫السماوات والرض دون الرؤية البصرية ‪ .‬ثم الفعل‬
‫الحق ويقابله الباطل هو الذى يكون لفاعله فيه‬
‫غاية مطلوبة يسلك إليه بذاته فمن المشهود ان‬
‫كل واحد من النواع من اول تكونه متوجه إلى‬
‫غاية مؤجلة ل بغية له دون ان يصل إليها ثم البعض‬
‫منها غاية للبعض ينتفع به في طريق كينونته‬
‫ويصلح به في حدوثه وبقائه كالعناصر الرضية‬
‫التى ينتفع بها النبات والنبات الذى ينتفع به‬
‫الحيوان وهكذا قال تعالى ‪ " :‬وما خلقنا السماوات‬
‫والرض وما بينهما لعبين ما خلقناهما ال بالحق‬
‫ولكن اكثرهم ل يعلمون " الدخان ‪ 39 :‬وقال ‪" :‬‬
‫وما خلقنا السماء والرض وما بينهما باطل ذلك‬
‫ظن الذين كفروا " ص ‪ / 27 :‬صفحة ‪ / 42‬بيان فل‬
‫تزال الخلقة تقع مرحلة بعد مرحلة وتنال غاية بعد‬
‫غاية حتى تتوقف في غاية ل غاية بعدها وذلك‬
‫رجوعها إلى الله سبحانه قال تعالى ‪ " :‬وان إلى‬
‫ربك المنتهى " النجم ‪ . 42 :‬وبالجملة الفعل انما‬
‫يكون فعل حقا إذا كان له امر يقصده الفاعل‬
‫بفعله وغاية يسلك بالفعل إليها واما إذا كان فعل‬
‫ل يقصد به ال نفسه من غير ان يكون هناك غرض‬
‫مطلوب فهو الفعل الباطل وإذا كان الفعل‬
‫الباطل ذا نظام وترتيب فهو الذى يسمى لعبا كما‬
‫يلعب الصبيان بإتيان حركات منظمة مرتبة ل غاية‬
‫لهم وراءها ول إن لهم هما ال ايجاد ما تخيلوه من‬
‫صورة الفعل لشوق نفساني منهم إلى ذلك ‪.‬‬
‫وفعله تعالى ملزم للحق مصاحب له فخلق‬
‫السماوات والرض يخلف عالما باقيا‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 42‬‬
‫بعد زواله ولو لم يكن كذلك كان باطل ل اثر له ول‬
‫خلف يخلفه وكان العالم المشهود بما فيه من‬
‫النظام البديع لعبا منه سبحانه اتخذه لحاجة منه‬
‫إليه كالتنفس من كرب وسأمة والتفرج من هم أو‬
‫التخلص من وحشة وحدة ونحو ذلك وهو سبحانه‬
‫العزيز الحميد ل تمسه حاجة ول يذله فقر وفاقة ‪.‬‬
‫وبما مر يظهر ان الباء في قوله بالحق للمصاحبة‬
‫وان قول بعضهم أن الباء للسببية أو اللة وان‬
‫المعنى كيف خلقها بقوله الحق أو للغرض الحق‬
‫ليس على ما ينبغى ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬إن يشأ‬
‫يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز "‬
‫أي بشاق صعب والخطاب لعامة البشر بجعل النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم مثال لهم يمثلون به لن‬
‫الخطاب متوجه إليه في قوله قبل وبعد ألم تر وما‬
‫ذلك ‪ .‬قد تقدم ان كون الخلقة بالحق هو مقتضى‬
‫كونه تعالى عزيزا غنيا بالذات إذ لو لم يقتض غناه‬
‫ذلك وامكن صدور اللعب منه تعالى وكان هذا‬
‫الخلق المشهود بما له من النظام البديع لعبا ل‬
‫يقصد به ال حدوث وفناء كان ذلك لشوق خيالي‬
‫منه إليه وحاجة داخلية كتنفيس كرب وتفريج هم‬
‫أو أنس عن وحشة وسأمة ونحو ذلك وغناه تعالى‬
‫بالذات يدفع ذلك ‪ / .‬صفحة ‪ / 43‬ولعل هذه النكتة‬
‫هي التى اوجبت تعقيب قوله كيف خلق الله‬
‫السماوات والرض بقوله ان يشأ يذهبكم الخ‬
‫فقوله إن يشأ يذهبكم الخ في موضع البيان لما‬
‫تقدمه والمعنى ألم تعلم ان الله خلق هذا الخلق‬
‫المشهود عن عزة منه وغنى وانه ان يشأ يذهبكم‬
‫ويأت بخلق جديد وما ذلك عليه تعالى بعزيز وهو‬
‫الله عز اسمه له السماء الحسنى وكل العزة‬
‫والكبرياء ‪ .‬وبهذا يظهر ان وضع الظاهر في‬
‫موضع المضمر في قوله على الله للدللة على‬
‫الحجة وان عدم عزة ذلك عليه تعالى من جهة كونه‬
‫هو الله عز اسمه ‪ .‬فان قلت لو كان التيان بقوله‬
‫إن يشأ الخ للدللة على غناه المطلق وعدم كونه‬
‫لعبا بالخلق لكان النسب القتصار على قوله إن‬
‫يشأ يذهبكم وترك قوله ويأت بخلق جديد فان‬
‫إذهاب القديم والتيان بجديد ل ينفى اللعب لجواز‬
‫ان يكون نفس اذهاب بعض واتيان بعض لعبا ‪.‬‬
‫قلت هذا كذلك لو قيل ان يشأ يذهب جميع الخلق‬
‫ويأت بخلق جديد ولكن لما قيل إن يشأ يذهبكم الخ‬
‫والخطاب لعامة البشر أو لمة النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم فقط أو للموجودين في عصره‬
‫كان من اللزم ان يعقبه بقوله ويأت بخلق جديد‬
‫فان هذا الخلق المشهود بما بين اجزائه من‬
‫الرتباط والتعلق ل يتم الغرض منه إل بهذه الصفة‬
‫الموجودة والتركب والتألف الخاص ولو اذهب‬
‫الناس على بقاء من السماوات والرض بحالها‬
‫الحاضرة كان ذلك باطل ولعبا من جهة اخرى ‪.‬‬
‫وبعبارة اخرى اذهاب النسان فقط من غير اتيان‬
‫بخلق جديد على ابقاء لسائر الخلق المشهود لعب‬
‫باطل كما ان اذهاب الخلق من اصله من غير غاية‬
‫مترتبة لعب باطل وانما الحق الذى يكشف عن‬
‫غناه تعالى أن يذهب قوما ويأتى بآخرين وهو‬
‫الذى تذكره الية الكريمة فافهم ذلك ‪ .‬قوله تعالى‬
‫‪ " :‬وبرزوا لله جميعا " إلى آخر الية البروز هو‬
‫الخروج إلى البراز بفتح الباء وهو الفضاء يقال برز‬
‫إليه إذا خرج إليه بحيث ل يحجبه عنه حاجب ومنه‬
‫المبارزة والبراز كخروج المقاتل من الصف إلى‬
‫كفؤه من العدو ‪ / .‬صفحة ‪ / 44‬والتبع بفتحتين‬
‫جمع تابع كخدم وخادم وقيل اسم جمع وقيل‬
‫مصدر جئ به للمبالغة والغناء الفادة وضمن‬
‫معنى الدفع ولذا عدى بعن كما قيل والجزع‬
‫والصبر متقابلن والمحيص اسم مكان من حاص‬
‫يحيص حيصا وحيوصا إذا زال عن المكروه كما في‬
‫المجمع فالمحيص هو المكان الذى يزول إليه‬
‫النسان عن المكروه والشدة وقوله وبرزوا لله‬
‫جميعا أي ظهروا له تعالى ظهورا ل يحجبهم عنه‬
‫حاجب وهذا بالنسبة إلى انفسهم حيث كانوا‬
‫يتوهمون في الدنيا إن ربهم في غيبة عنهم وهم‬
‫غائبون عنه فإذا كان يوم القيامة زال كل ستر‬
‫متوهم وشاهدوا ان ل حاجب هناك يحجبهم عنه‬
‫واما هو تعالى فل ساتر يستر عنه في دنيا ول‬
‫آخرة قال تعالى ‪ " :‬إن الله ل يخفى عليه شئ في‬
‫الرض ول في السماء " آل عمران ‪ . 5 :‬ويمكن ان‬
‫تكون الجملة كناية عن خلوصهم لحساب العمال‬
‫وتعلق المشيئة اللهية بانقطاع العمال وانجاز‬
‫الجزاء الموعود كما قال ‪ " :‬سنفرغ لكم ايها‬
‫الثقلن " الرحمن ‪ 31 -‬وقوله فقال الضعفاء‬
‫للذين استكبروا إلى قوله من شئ تخاصم بين‬
‫الكفار يوم القيامة على ما يعطيه السياق‬
‫فالضعفاء هم المقلدون المطيعون لوليائهم من‬
‫الكفار والمستكبرون هم اولياؤهم المتبوعون‬
‫اولوا الطول والقوة المستنكفون عن اليمان بالله‬
‫وآياته ‪ .‬والمعنى فقال الضعفاء المقلدون للذين‬
‫استكبروا منهم إنا كنا في الدنيا لكم تابعين‬
‫مطيعين من غير ان نسألكم حجة على ما تأمروننا‬
‫به فهل انتم مفيدون لنا اليوم تدفعون عنا شيئا‬
‫من عذاب الله الذى قضى علينا ‪ .‬وعلى هذا‬
‫فلفظة من في قوله من عذاب الله للبيان وفي‬
‫قوله من شئ زائدة للتأكيد كما في قولنا ما‬
‫جاءني من أحد والنفى والستفهام متقاربان حكما‬
‫‪............................................................‬‬
‫ص‬ ‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪21‬‬
‫‪: 44‬‬
‫ول دليل على امتناع تقدم البيان على المبين‬
‫وخاصة مع اتصالهما وعدم الفصل بينهما ‪ .‬وقوله‬
‫قالوا لو هدانا الله لهديناكم ظاهر السياق ان‬
‫المراد بالهداية هنا الهداية إلى طريق التخلص من‬
‫العذاب ويمكن ان يكون المراد بها الهداية إلى‬
‫الدين الحق في الدنيا والمال واحد لما بين الدنيا‬
‫والخرة من التطابق ول يبرز في الخرى إل ما‬
‫كان كامنا في الولى قال تعالى حكاية عن اهل‬
‫الجنة ‪ " :‬وقالوا الحمد لله الذى هدانا ‪ /‬صفحة ‪/ 45‬‬
‫لهذا وما كنا لنهتدي لو ل ان هدانا الله لقد جاءت‬
‫رسل ربنا بالحق " العراف ‪ 43 :‬مزجوا الهدايتين‬
‫بعضا ببعض كما هو ظاهر ‪ .‬وقوله ‪ " :‬سواء علينا‬
‫أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " سواء‬
‫والستواء والتساوي واحد وسواء خبر لمبتدأ‬
‫محذوف والجملة الستفهامية بيان لذلك وقوله ما‬
‫لنا من محيص بيان آخر للتساوي والمعنى المران‬
‫متساويان علينا وبالنسبة الينا وهما الجزع والصبر‬
‫ل مهرب لنا عن العذاب اللزم ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫وقال الشيطان لما قضى المر " إلى آخر الية‬
‫في المجمع الصراخ الغاثة باجابة الصارخ ويقال‬
‫استصرخنى فلن فأصرخته أي استغاث بى فأغثته‬
‫انتهى ‪ .‬وهذا كلم جامع يلقيه الشيطان يوم‬
‫القيامة إلى الظالمين يبين فيه موقعه منهم‬
‫وينبئ اهل الجمع منهم بوجه الحق في الرابطة‬
‫التى كانت بينه وبينهم في الدنيا وقد وعد الله‬
‫سبحانه انه سينبؤهم يوم القيامة بما كانوا فيه‬
‫يختلفون وان الحق سيظهر يوم القيامة عن قبل‬
‫كل من كان له من قبله خفاء أو التباس فالملئكة‬
‫يتبرؤون من شركهم والجن والقرناء من‬
‫الشياطين يطردونهم والصنام واللهة التى‬
‫اتخذوها اربابا من دون الله يكفرون بشركهم‬
‫وكبراؤهم وائمة الضلل ل يستجيبون لهم‬
‫والمجرمون انفسهم يعترفون بضللهم وجرمهم‬
‫كل ذلك واقعة في آيات كثيرة غير خفية على‬
‫المتتبع المتدبر فيها ‪ .‬والشيطان وان كان بمعنى‬
‫الشرير وربما اطلق في كلمه تعالى على كل‬
‫شرير من الجن والنس كقوله ‪ " :‬وكذلك جعلنا‬
‫لكل نبى عدوا شياطين النس والجن " النعام ‪:‬‬
‫‪ 112‬لكن المراد به في الية الشيطان الذى هو‬
‫مصدر كل غواية وضلل في بنى آدم وهو ابليس‬
‫فان ظاهر السياق انه يخاطب بكلمه هذا عامة‬
‫الظالمين من اهل الجمع ويعترف انه كان يدعوهم‬
‫إلى الشرك وقد نص القرآن على ان الذى له هذا‬
‫الشأن هو ابليس وقد ادعى هو ذلك ولم يرد الله‬
‫ذلك عليه كما في قوله ‪ " :‬قال فبعزتك لغوينهم‬
‫أجمعين ال عبادك منهم المخلصين " إلى ان قال ‪:‬‬
‫" لملن جهنم منك وممن تبعك منهم اجمعين "‬
‫ص ‪ / . 85 -‬صفحة ‪ / 46‬وأما ذريته وقبيله الذين‬
‫يذكرهم القرآن بقوله ‪ " :‬انه يراكم هو وقبيله من‬
‫حيث ل ترونهم انا جعلنا الشياطين اولياء للذين ل‬
‫يؤمنون " العراف ‪ 27 :‬وقوله " أفتتخذونه وذريته‬
‫اولياء " الكهف ‪ 50 :‬فولية الواحد منهم اما لبعض‬
‫الناس دون بعض أو في بعض العمال دون بعض‬
‫واما ولية على نحو العونية فهو العون والصل‬
‫الذى ينتهى إليه امر الضلل والغواء هو ابليس ‪.‬‬
‫فهذا القائل ان الله وعدكم وعد الحق الخ هو‬
‫ابليس يريد بكلمه رد اللوم على فعل المعاصي‬
‫إليهم والتبرى من شركهم فقوله ان الله وعدكم‬
‫وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم أي وعدكم الله‬
‫وعدا حققه الوقوع وصدقته المشاهدة من البعث‬
‫والجمع والحساب وفصل القضاء والجنة والنار‬
‫ووعدتكم انا أن ل بعث ول حساب ول جنة ول نار‬
‫ولم أف بما وعدت حيث ظهر خلف ما وعدت كذا‬
‫ذكره المفسرون ‪ .‬وعلى هذا فالموعود جميع ما‬
‫يرجع إلى المعاد اثباتا ونفيا اثبته الله سبحانه‬
‫ونفاه ابليس واخلف الوعد كناية عن ظهور الكذب‬
‫وعدم الوقوع من اطلق الملزوم وارادة اللزم ‪.‬‬
‫ومن الممكن بل هو الوجه أن يشمل الوعد ما‬
‫يترتب على اليمان والشرك في الدنيا والخرة‬
‫جميعا لنهما متطابقتان فقد وعد الله اهل اليمان‬
‫حياة طيبة وعيشة سعيدة واهل الشرك المعرضين‬
‫عن ذكره معيشة ضنكا وتحرجا في صدورهم‬
‫وعذابا في قلوبهم في الدنيا ووعد الجميع بعثا‬
‫وحسابا وجنة ونارا في الخرة ‪ .‬ووعد ابليس‬
‫اولياءه بالهواء اللذيذة والمال الطويلة وأنساهم‬
‫الموت وصرفهم عن البعث والحساب وخوفهم‬
‫الفقر والذلة وملمة الناس وكان مفتاحه في‬
‫جميع ذلك إغفالهم عن مقام ربهم وتزيين ما بين‬
‫ايديهم من السباب مستقلة بالتأثير خالقة لثارها‬
‫وتصوير نفوسهم لهم في صورة الستقلل‬
‫مهيمنة على سائر السباب تدبرها كيف شاءت‬
‫فتغريهم على العتماد بأنفسهم دون الله وتسخير‬
‫السباب في سبيل المال والماني ‪ .‬وبالجملة‬
‫وعدهم الله فيما يرجع إلى الدنيا والخرة بما وفى‬
‫لهم فيه ودعاهم ابليس من طريق الغفال‬
‫والتزيين إلى الوهام والماني وهى بين ما ل‬
‫يناله النسان قطعا وما إذا ناله وجده غير ما كان‬
‫يظنه فيتركه إلى ما يظنه كما يريد هذا في الدنيا ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 47‬واما الخرة فينسيه شؤنها كما تقدم‬
‫وقوله وما كان لى عليكم من سلطان إل أن‬
‫دعوتكم فاستجبتم لى السلطان كما ذكره الراغب‬
‫هو السلطة وهو التمكن من القهر وتسمى الحجة‬
‫ايضا سلطانا‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 47‬‬
‫لما فيها من التمكن من قهر العقول على ما لها‬
‫من النتائج وكثيرا ما يطلق ويراد به ذو السلطان‬
‫كالملك وغيره ‪ .‬والظاهر ان المراد ما هو اعم من‬
‫السلطة الصورية والمعنوية فالمعنى وما كان في‬
‫الدنيا لى عليكم من تسلط ل من جهة اشخاصكم‬
‫واعيانكم فأجبركم على معصية الله بسلب‬
‫اختياركم وتحميل ارادتي عليكم ول من جهة‬
‫عقولكم فأقيم لكم الحجة على الشرك كيفما‬
‫شئت فتضطر عقولكم لقبوله وتطيعها نفوسكم‬
‫فيما تأمرها به ‪ .‬والظاهر ايضا ان يكون الستثناء‬
‫في قوله إل أن دعوتكم منقطعا والمعنى لكن‬
‫دعوتكم من غير أي سلطان فاستجبتم لى ودعوة‬
‫الناس إلى الشرك والمعصية وان كانت باذن الله‬
‫لكنها لم تكن تسليطا فان الدعوة إلى فعل ليست‬
‫تسلطا من الداعي على فعل المدعو وان كان نوع‬
‫تسلط على نفس الدعوة ومن الدليل عليه قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬فيما يأذن له واستفزز من استطعت‬
‫منهم بصوتك إلى ان قال وعدهم وما يعدهم‬
‫الشيطان ال غرورا إن عبادي ليس لك عليهم‬
‫سلطان وكفى بربك وكيل " اسرى ‪ . 65 -‬ومن هنا‬
‫يظهر سقوط ما وجه به الرازي في تفسيره كون‬
‫الستثناء متصل إذ قال ان القدرة على حمل‬
‫النسان على الشئ تارة تكون بالقهر من الحامل‬
‫وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بالقاء‬
‫الوسواس إليه وهذا نوع من انواع التسلط فكأنه‬
‫قال ما كان لى تسلط عليكم ال بالوسوسة ل‬
‫بالضرب ونحوه ‪ .‬وجه السقوط ان عدم كون مجرد‬
‫الدعوة سلطانا وتمكنا من القهر على المدعو‬
‫بديهى ل يقبل التشكيك فعدة من انواع التسلط‬
‫مما ل يصغى إليه ‪ .‬نعم ربما انبعثت من المدعو‬
‫ميل نفساني إلى المدعو إليه فانقاد للدعوة‬
‫وسلط الداعي بدعوته على نفسه لكنه تسليط من‬
‫المدعو ل تسلط من الداعي وبعبارة ‪ /‬صفحة ‪/ 48‬‬
‫اخرى هي سلطة يملكها المدعو من نفسه‬
‫فيملكها الداعي وليس الداعي يملكها عليه من‬
‫نفسه وابليس انما ينفى التسلط الذى يملكه من‬
‫نفسه ل ما يسلطونه على انفسهم بالنقياد‬
‫بقرينة قوله فل تلوموني ولوموا أنفسكم ‪ .‬وهذا‬
‫هو التسلط الذى يثبته الله سبحانه له في قوله ‪" :‬‬
‫إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم‬
‫يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين‬
‫هم به مشركون " النحل ‪ 100 :‬أو قوله ‪ " :‬إن‬
‫عبادي ليس لك عليهم سلطان ال من اتبعك من‬
‫الغاوين " الحجر ‪ 42 :‬واليات كما ترى ظاهرة في‬
‫إن سلطانه متفرع على التباع والتولى والشراك‬
‫ل بالعكس ‪ .‬ولنتفاء سلطانه عليهم بالمرة استنتج‬
‫قوله بعد فل تلوموني ولوموا أنفسكم والفاء‬
‫للتفريع أي إذا لم يكن لى عليكم سلطان بوجه من‬
‫الوجوه كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق‬
‫النفى والتأكيد بمن في قوله وما كان لى عليكم‬
‫من سلطان فل يعود إلى شئ من اللوم العائد‬
‫اليكم من جهة الشرك والمعصية فل يحق لكم أن‬
‫تلوموني بل الواجب عليكم أن تلوموا انفسكم لن‬
‫لكم السلطان على عملكم ‪ .‬وقوله ما أنا‬
‫بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أي ما انا بمغيثكم‬
‫ومنجيكم وما انتم بمغيثى ومنجى فل أنا شافع‬
‫لكم ول انتم شافعون لى اليوم ‪ .‬وقوله انى‬
‫كفرت بما اشركتمون من قبل أي انى تبرأت من‬
‫اشراككم اياى في الدنيا والمراد بالشراك‬
‫الشراك في الطاعة دون الشراك في العبادة كما‬
‫يظهر من قوله تعالى خطابا لهل الجمع ‪ " :‬ألم‬
‫اعهد اليكم يا بنى آدم ان ل تعبدوا الشيطان إنه‬
‫لكم عدو مبين وان اعبدوني " يس ‪ . 61 :‬وهذا‬
‫الكلم منه تبر من شركهم كما حكى سبحانه تبرى‬
‫كل متبوع باطل من تابعه يوم القيامة وهو اظهار‬
‫إن اشراكهم اياه بالله في الدنيا لم يكن إل وهما‬
‫سرابيا قال تعالى ‪ " :‬ويوم القيامة يكفرون‬
‫بشرككم " فاطر ‪ 14 :‬وقال ‪ " :‬وقال الذين اتبعوا‬
‫لو أن لنا كرة فنتبرء منهم كما تبرؤوا منا " البقرة‬
‫‪ 167 :‬وقال ‪ " :‬قال الذين حق عليهم القول ربنا‬
‫هؤلء الذين اغوينا اغويناهم كما غوينا تبرأنا اليك‬
‫ما كانوا ايانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم‬
‫فدعوهم فلم يستجيبوا لهم " القصص ‪/ . 64 :‬‬
‫صفحة ‪ / 49‬وقوله ‪ " :‬ان الظالمين لهم عذاب‬
‫اليم " من تمام كلم ابليس على ما يعطيه السياق‬
‫يسجل عليهم العذاب الليم لنهم ظالمون ظلما ل‬
‫يرجع ال إلى انفسهم ‪ .‬و ظاهر السياق ان قوله‬
‫ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي كناية عن‬
‫انتفاء الرابطة بينه وبين تابعيه كما يشير تعالى‬
‫إليه في مواضع اخرى بمثل قوله ‪ " :‬لقد تقطع‬
‫بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " النعام ‪94 :‬‬
‫وقوله ‪ " :‬فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم‬
‫ايانا تعبدون " يونس ‪ . 28 :‬وذلك لظهور انه لو لم‬
‫يكن كناية لكان قوله وما انتم بمصرخي مستدركا‬
‫مستغنى عنه لعدم تعلق غرض به فل هم يتوهمون‬
‫انهم قادرون على اغاثة ابليس والشفاعة له ول‬
‫هو يتوهم ذلك ول المقام يوهم ذلك فهو يقول ل‬
‫تلوموني ولوموا انفسكم لن الرابطة مقطوعة‬
‫بينى وبينكم ل ينفعكم انى كنت متبوعكم ول‬
‫ينفعني انكم كنتم اتباعى إنى تبرأت من شرككم‬
‫فلست بشريك له تعالى وانما تبرأت لنكم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 49‬‬
‫ظالمون في أنفسكم والظالمون لهم عذاب اليم‬
‫ل مسوغ يومئذ للحماية عنهم والتقرب منهم ‪.‬‬
‫وهذا السياق كما ترى يشهد ان تابعي ابليس‬
‫يلومونه يوم القيامة على ما أصابهم من المصيبة‬
‫على اتباعه متوقعين منه ان يشاركهم في‬
‫مصابهم بنحو وهو يرد عليهم ذلك بأنه ل رابط بينه‬
‫وبينهم فل يلحق لومهم إل بأنفسهم ول يسعه أن‬
‫يماسهم ويقترب منهم لنه يخاف العذاب الليم‬
‫الذى هئ للظالمين وهم ظالمون فهو قريب‬
‫المعنى من قوله تعالى ‪ " :‬كمثل الشيطان إذ قال‬
‫للنسان أكفر فلما كفر قال انى برئ منك انى‬
‫اخاف الله رب العالمين " الحشر ‪ . 16 :‬ولعله من‬
‫هنا قال بعضهم ان المراد بقوله انى كفرت الخ‬
‫كفره في الدنيا على أن يكون من قبل متعلقا‬
‫بقوله كفرت فقط أو به وبقوله اشركتمون على‬
‫سبيل التنازع ‪ .‬وبالجملة المطلوب العمدة في‬
‫الية إن النسان هو المسؤول عن عمله لن‬
‫السلطان له ل لغيره فل يلومن ال نفسه واما‬
‫رابطة التابعية والمتبوعية فهى وهمية ل حقيقة‬
‫لها وسيظهر هذه الحقيقة يوم القيامة عندما‬
‫يتبرء منه الشيطان ويعيد لئمته إلى نفسه كما ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 50‬بين في الية السابقة إن الرابطة بين‬
‫الضعفاء والمستكبرين وهمية ل تغنى عنهم شيئا‬
‫عندما تقع إليها الحاجة يوم القيامة حين انكشاف‬
‫الحقائق ‪ .‬وللمفسرين في فقرات الية اقوال‬
‫شتى مختلفة اغمضنا عن ايرادها ومن أراد‬
‫الطلع عليها فليراجع مطولت التفاسير ‪ .‬وفي‬
‫الية دللة واضحة على ان للنسان سلطانا على‬
‫عمله هو الذى يوجب ارتباط الجزاء به ويسلبه عن‬
‫غيره وهو الذى يعيد اللئمة إليه ل إلى غيره واما‬
‫كونه مستقل بهذا السلطان فل دللة فيها على‬
‫ذلك البتة وقد تكلمنا في ذلك في الجزء الول من‬
‫الكتاب في ذيل قوله ‪ " :‬وما يضل به إل الفاسقين‬
‫" البقرة ‪ . 26 :‬قوله تعالى ‪ " :‬وادخل الذين آمنوا‬
‫وعملوا الصالحات جنات " الخ بيان ما ينتهى إليه‬
‫حال السعداء من المؤمنين وفي قوله تحيتهم‬
‫فيها سلم مقابلة حالهم من انعكاس السلم‬
‫والتحية المباركة من بعضهم إلى بعض مع حال‬
‫غيرهم المذكورين في اليتين السابقتين من‬
‫الخصام وتجبيه بعضهم بعضا بالكفر والتبرى‬
‫والياس ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ألم تر كيف ضرب الله‬
‫مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها‬
‫في السماء تؤتى اكلها كل حين بإذن ربها " ذكروا‬
‫ان كلمة بدل اشتمال من مثل وكشجرة صفة بعد‬
‫صفة لقوله كلمة أو خبر مبتدأ محذوف والتقدير‬
‫هي كشجرة وقيل ان كلمة مفعول اول متأخر‬
‫لضرب ومثل مفعوله الثاني قدم لدفع محذور‬
‫الفصل بين كلمة وصفتها وهى كشجرة والتقدير‬
‫ضرب الله كلمة طيبة كشجرة طيبة الخ مثل وقيل‬
‫ضرب متعد لواحد وكلمة منصوب بفعل مقدر‬
‫كجعل واتخذ والتقدير ضرب الله مثل جعل كلمة‬
‫طيبة كشجرة طيبة الخ واظن ان هذا احسن‬
‫الوجوه لو وجه بكون كلمة طيبة الخ عطف بيان‬
‫لقوله ضرب الله مثل من بيان الجملة للجملة‬
‫ويتعين حينئذ نصب كلمة بمقدر هو جعل أو اتخذ‬
‫لن المدلول انه مثل الكلمة بالشجرة وشبهها بها‬
‫وهو معنى قولنا اتخذ كلمة طيبة كشجرة الخ ‪.‬‬
‫وقوله اصلها ثابت أي مرتكز في الرض ضارب‬
‫بعروقه فيها وقوله وفرعها في السماء أي ما‬
‫يتفرع على ذلك الصل من اغصانها في جهة العلو‬
‫فكل ما ‪ /‬صفحة ‪ / 51‬عل واظل سماء وقوله تؤتى‬
‫اكلها كل حين باذن ربها أي تثمر ثمرها المأكول‬
‫كل زمان باذن الله وهذا نهاية ما تفيده شجرة من‬
‫البركات واختلفوا في الية اول في المراد من‬
‫الكلمة الطيبة فقيل هي شهادة ان ل اله ال الله‬
‫وقيل اليمان وقيل القرآن وقيل مطلق التسبيح‬
‫والتنزيه وقيل الثناء على الله مطلقا وقيل كل‬
‫كلمة حسنة وقيل جميع الطاعات وقيل المؤمن ‪.‬‬
‫وثانيا في المراد من الشجرة الطيبة فقيل النخلة‬
‫وهو قول الكثرين وقيل شجرة جوز الهند وقيل‬
‫كل شجرة تثمر ثمرة طيبة كالتين والعنب والرمان‬
‫وقيل شجرة صفتها ما وصفه الله وان لم تكن‬
‫موجودة بالفعل ‪ .‬ثم اختلفوا في المراد بالحين‬
‫فقيل شهران وقيل ستة اشهر وقيل سنة كاملة‬
‫وقيل كل غداة وعشى وقيل جميع الوقات ‪.‬‬
‫والشتغال بأمثال هذه المشاجرات مما يصرف‬
‫النسان عما يهمه من البحث عن معارف كتاب الله‬
‫والحصول على مقاصد اليات الكريمة واغراضها ‪.‬‬
‫والذى يعطيه التدبر في اليات ان المراد بالكلمة‬
‫الطيبة التى شبهت بشجرة طيبة من صفتها كذا‬
‫وكذا هو العتقاد الحق الثابت فانه تعالى يقول‬
‫بعد وهو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل يثبت الله‬
‫الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي‬
‫الخرة الية والقول هي الكلمة ول كل كلمة بما‬
‫هي لفظ بل بما هي معتمدة على اعتقاد وعزم‬
‫يستقيم عليه النسان ول يزيغ عنه عمل ‪ .‬وقد‬
‫تعرض تعالى لما يقرب من هذا المعنى في مواضع‬
‫من كلمه كقوله ‪ " :‬ان الذين قالوا ربنا الله ثم‬
‫استقاموا فل خوف عليهم ول هم يحزنون "‬
‫الحقاف ‪ 13 :‬وقوله ‪ " :‬ان الذين قالوا ربنا الله‬
‫ثم استقاموا تتنزل عليهم الملئكة أن ل تخافوا‬
‫ول تحزنوا " حم السجدة ‪ 30 :‬وقوله ‪ " :‬إليه يصعد‬
‫الكلم الطيب والعمل الصالح‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 51‬‬
‫يرفعه " فاطر ‪ . 10 :‬وهذا القول والكلمة الطيبة‬
‫هو الذى يرتب تعالى عليه تثبيته في الدنيا والخرة‬
‫اهله وهم الذين آمنوا ثم يقابله بإضلل الظالمين‬
‫ويقابله بوجه آخر بشأن المشركين وبهذا يظهر ان‬
‫المراد بالممثل هو كلمة التوحيد وشهادة ان ل اله‬
‫ال الله حق شهادته ‪ / .‬صفحة ‪ / 52‬فالقول‬
‫بالوحدانية والستقامة عليه هو حق القول الذى له‬
‫اصل ثابت محفوظ عن كل تغير وزوال وبطلن‬
‫وهو الله عز اسمه أو ارض الحقائق وله فروع‬
‫نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من‬
‫عقائد حقة فرعية واخلق زاكية واعمال صالحة‬
‫يحيى بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم‬
‫النساني حق عمارته وهى التى تلئم سير النظام‬
‫الكونى الذى ادى إلى ظهور النسان بوجوده‬
‫المفطور على العتقاد الحق والعمل الصالح ‪.‬‬
‫والكمل من المؤمنين وهم الذين قالوا ربنا الله ثم‬
‫استقاموا فتحققوا بهذا القول الثابت والكلمة‬
‫الطيبة مثلهم كمثل قولهم الذى ثبتوا ل يزال‬
‫الناس منتفعين بخيرات وجودهم ومنعمين‬
‫ببركاتهم ‪ .‬وكذلك كل كلمة حقة وكل عمل صالح‬
‫مثله هذا المثل له اصل ثابت وفروع رشيدة‬
‫وثمرات طيبة مفيدة نافعة ‪ .‬فالمثل المذكور في‬
‫الية يجرى في الجميع كما يؤيده التعبير بكلمة‬
‫طيبة بلفظ النكرة غير ان المراد في الية على ما‬
‫يعطيه السياق هو اصل التوحيد الذى يتفرع عليه‬
‫سائر العتقادات الحقة وينمو عليه الخلق الزاكية‬
‫وتنشأ منه العمال الصالحة ‪ .‬ثم ختم الله سبحانه‬
‫الية بقوله ويضرب الله المثال للناس لعلهم‬
‫يتذكرون ليتذكر به المتذكر أن ل محيص لمريد‬
‫السعادة عن التحقق بكلمة التوحيد والستقامة‬
‫عليها ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ومثل كلمة خبيثة كشجرة‬
‫خبيثة اجتثت من فوق الرض ما لها من قرار‬
‫الجتثاث القتلع يقال جثته واجتثته أي قلعته‬
‫واقتلعته والجث بالضم ما ارتفع من الرض‬
‫كالكمة وجثة الشئ شخصه الناتئ كذا في‬
‫المفردات ‪ .‬والكلمة الخبيثة ما يقابل الكلمة‬
‫الطيبة ولذا اختلفوا فيها فقال كل قوم فيها ما‬
‫يقابل ما قاله في الكلمة الطيبة وكذا اختلفوا في‬
‫المراد بالشجرة الخبيثة فقيل هي الحنظلة وقيل‬
‫الكشوث وهو نبت يلتف على الشوك والشجر ل‬
‫اصل له في الرض ول ورق عليه وقيل شجرة‬
‫الثوم وقيل شجرة الشوك وقيل الطحلب وقيل‬
‫الكمأة وقيل كل شجرة ل تطيب لها ثمرة ‪ .‬وقد‬
‫عرفت حال هذه الختلفات في الية السابقة‬
‫وعرفت ايضا ما يعطيه التدبر في معنى الكلمة‬
‫الطيبة وما مثلت به ويجرى ما يقابله في الكلمة‬
‫الخبيثة وما ‪ /‬صفحة ‪ / 53‬مثلت به حرفا بحرف‬
‫فانما هي كلمة الشرك مثلت بشجرة خبيثة‬
‫مفروضة اقتلعت من فوق الرض ليس لها اصل‬
‫ثابت وما لها من قرار واذ كانت خبيثة فل اثر لها‬
‫إل الضر والشر ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬يثبت الله الذين‬
‫آمنوا بالقول الثابت " إلى آخر الية الظاهر إن‬
‫بالقول متعلق بقوله يثبت ل بقوله آمنوا والباء‬
‫لللة أو السببية ل للتعدية وان قوله في الحياة‬
‫الدنيا وفي الخرة متعلق ايضا بقوله يثبت ل بقوله‬
‫الثابت ‪ .‬فيعود المعنى إلى ان الذين آمنوا إذا‬
‫ثبتواعلى ايمانهم واستقاموا ثبتهم الله عليه في‬
‫الدنيا والخرة ولول تثبيته تعالى لهم لم ينفعهم‬
‫الثبات من انفسهم شيئا ولم يستفيدوا شيئا من‬
‫فوائده فإليه تعالى يرجع المر كله فقوله تعالى ‪:‬‬
‫" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " في باب‬
‫الهداية يوازن قوله ‪ " :‬فلما زاغوا أزاغ الله‬
‫قلوبهم " الصف ‪ 5 :‬في باب الضلل ‪ .‬غير ان بين‬
‫البابين فرقا وهو ان الهدى يبتدئ من الله سبحانه‬
‫ويترتب عليه اهتداء العبد والضلل يبتدئ من العبد‬
‫بسوء اختياره فيجازيه الله بالضلل على الضلل‬
‫كما قال ‪ " :‬وما يضل به ال الفاسقين " البقرة ‪:‬‬
‫‪ 26‬وقد تكاثرت اليات القرآنية إن الهداية من الله‬
‫سبحانه ليس لغيره فيها صنع ‪ .‬وتوضيح المقام إن‬
‫الله سبحانه خلق النسان على فطرة سليمة ركز‬
‫فيها معرفة ربوبيته وألهمها فجورها وتقواها‬
‫وهذه هداية فطرية اولية ثم ايدها بالدعوة الدينية‬
‫التى قام بها انبياؤه ورسله ‪ .‬ثم ان النسان لو‬
‫جرى على سلمة فطرته واشتاق إلى المعرفة‬
‫والعمل الصالح هداه الله فاهتدى العبد لليمان عن‬
‫هدايته تعالى واما جريه على سلمة الفطرة فلو‬
‫سمي اهتداء فانما هو اهتداء متفرع على السلمة‬
‫الفطرية لو سميت هداية ‪ .‬ولو انحرف النسان‬
‫عن صراط الفطرة بسوء اختياره وجهل مقام ربه‬
‫واخلد إلى الرض واتبع الهوى وعاند الحق فهو‬
‫ضلل منه غير مسبوق باضلل من الله وحاشاه‬
‫سبحانه لكنه يستعقب اضلله عن الطريق مجازاة‬
‫وتثبيته على ما هو ‪ /‬صفحة ‪ / 54‬عليه بقطع‬
‫الرحمة منه وسلب التوفيق عنه وهذا اضلل‬
‫مسبوق بضلله من نفسه بسوء اختياره وأزاغة له‬
‫عن زيغ منه ‪ .‬ومن هنا وجه اختلف السياق في‬
‫اليتين اما قوله فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم فقد‬
‫فرض فيه زيغ منهم ثم ازاغه منه تعالى واما قوله‬
‫يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فقد فرض‬
‫فيه ايمان ثابت على التثبيت وهو في نفسه‬
‫يستلزم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 54‬‬
‫هداية منه واهتداء منهم ثم اضيف إلى ذلك القول‬
‫الثابت وهو ثباتهم واستقامتهم بحسن اختيارهم‬
‫على ما آمنوا به وهو فعلهم فيعقبه الله بتثبيتهم‬
‫بسبب ذاك القول الثابت وحفظهم من الزيغ‬
‫والزلل يدفع عنهم بذلك مخاطر الحياة في الدنيا‬
‫والخرة وهذا هداية منه تعالى غير مسبوقة‬
‫باهتداء من عند انفسهم يرتبط بها فافهم ذلك ‪.‬‬
‫وكيف كان فهذا التثبيت بالنظر إلى التمثيل‬
‫بمنزلة احكام الشجرة الطيبة من جهة ثبوت اصلها‬
‫في الرض وإذا ثبت اصل الشجرة نمت وتفرعت‬
‫بالفروع وأتت بالثمار في كل حين والدنيا والخرة‬
‫تحاذيان كل حين فان الدنيا والخرة تشملن جميع‬
‫الحيان فهذا ما يعطيه السياق من معنى الية ‪.‬‬
‫وقيل ان المعنى يثبت الله الذين آمنوا ويقرهم‬
‫في كرامته وثوابه بالقول الثابت الذى وجد منهم‬
‫وهو كلمة اليمان لنه ثابت بالحجج والدلة فالمراد‬
‫بتثبيتهم تقريبهم منه واسكانهم الجنة وبثبوت‬
‫قولهم تأيده بالحجة والبرهان وفيه انه تقييد من‬
‫غير مقيد ‪ .‬وقيل المعنى انه يثبتهم بالتمكين في‬
‫الرض والنصرة والفتح والغلبة في الدنيا وإسكان‬
‫الجنة في الخرة وهو بعيد من السياق ‪ .‬وقوله‬
‫ويضل الله الظالمين ظاهر المقابلة بين الظالمين‬
‫والذين آمنوا في الجملة السابقة ان المراد بهم‬
‫اهل الكفر بالله وباياته على أنه تعالى فسر‬
‫الظالمين بقول مطلق في بعض كلمه بما يقرب‬
‫منه إذ قال ‪ " :‬ان لعنة الله على الظالمين الذين‬
‫يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالخرة‬
‫كافرون " العراف ‪ . 45 :‬والجملة كالنتيجة‬
‫المستخرجة من المثل الثاني المذكور ‪ " :‬ومثل‬
‫كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الرض‬
‫ما لها من قرار " والمعنى ان الله يضل اهل ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 55‬الكفر بحرمانهم من صراط الهداية فل‬
‫يهتدون إلى عيشة سعيدة في الدنيا ول إلى نعمة‬
‫باقهة ورضوان من الله في الخرة فل يوجد‬
‫عندهم ان كشف عن قلوبهم ال الشك والتردد‬
‫والقلق والضطراب والسى والسف والحسرة ‪.‬‬
‫وقوله ويفعل الله ما يشاء أي يجرى تثبيت هؤلء‬
‫واضلل اولئك على ما تقتضيه مشيته ل مانع له‬
‫ول دافع فل حائل بين مشيته وفعله ‪ .‬ويظهر من‬
‫ذلك ان الله تعالى قد شاء تثبيت هؤلء واضلل‬
‫اولئك وهو فاعلهما ل محاله فمن القضاء المحتوم‬
‫سعادة المؤمن وشقاء الكافر وقد وردت به الرواية‬
‫‪ .‬ووقوع لفظ الجللة في قوله ويضل الله وقوله‬
‫ويفعل الله من وقوع الظاهر موقع المضمر ويدل‬
‫على فخامة المر ومهابة الموقف كما قيل ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا‬
‫وأحلوا قومهم دار البوار " قال في المجمع‬
‫الحلل وضع الشئ في محل اما بمجاورة ان كان‬
‫من قبيل الجسام أو بمداخلة إن كان من قبيل‬
‫العراض والبوار الهلك يقال بار الشئ يبور بورا‬
‫إذا هلك ورجل بور أي هالك وقوم بور ايضا‬
‫انتهى ‪ .‬وقال الراغب البوار فرط الكساد ولما كان‬
‫فرط الكساد يؤدى إلى الفساد كما قيل كسد حتى‬
‫فسد عبر بالبوار عن الهلك يقال بار الشئ يبور‬
‫بورا وبؤرا قال عز وجل ‪ " :‬تجارة لن تبور " انتهى‬
‫‪ .‬والية تذكر حال ائمة الكفر ورؤساء الضلل في‬
‫ظلمهم وكفرانهم نعمة الله سبحانه التى احاطت‬
‫بهم من كل جهة بدل ان يشكروها ويؤمنوا بربهم‬
‫وقد ذكر قبل كيفية خلقه تعالى السماوات‬
‫والرض على غنى منه وهى نعمة ثم ذكر كلمة‬
‫الحق التى يدعو إليها وما لها من الثار الثابتة‬
‫الطيبة وهى نعمة ‪ .‬والية مطلقة ل دليل على‬
‫تقييدها بكفار مكة أو كفار قريش وان كان‬
‫الخطاب فيها للنبى صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫وكان في ذيلها مثل قوله ‪ " :‬قل تمتعوا فان‬
‫مصيركم إلى النار " لظهور ان ذلك ل يوجب‬
‫تقييدا في الية مع اطلق مضمونها وشمولها‬
‫للطواغيت من المم وما صنعوا بأقوامهم ‪.‬‬
‫فقوله ‪ " :‬ألم تر إلى الذين بدلوانعمة الله كفرا "‬
‫يذكر حال ائمة الكفر ورؤساء ‪ /‬صفحة ‪/ 56‬‬
‫الضلل من المم السابقة ومن هذه المة والدليل‬
‫على اختصاصه بهم قوله واحلوا قومهم دار البوار‬
‫المشعر بكونهم نافذى الكلمة مطاعين في قومهم‬
‫فهم الئمة والرؤساء ‪ .‬والمراد بتبديلهم نعمة الله‬
‫كفرا تبديلهم شكر نعمته الواجب عليهم كفرا‬
‫ففى الجملة مضاف محذوف والتقدير بدلوا شكر‬
‫نعمة الله كفرا ويمكن ان يراد تبديل نفس النعمة‬
‫كفرا بنوع من التجوز ونظير الية في هذه العناية‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬وتجعلون رزقكم انكم تكذبون "‬
‫الواقعة ‪ 82 :‬وذكر إحللهم قومهم دار البوار‬
‫يستلزم احلل انفسهم فيها لنهم ائمة الضلل‬
‫ضلوا ثم اضلوا والتبعة تبعة الضلل ونظير الية‬
‫في هذا المعنى قوله في فرعون ‪ " :‬يقدم قومه‬
‫يوم القيامة فأوردهم النار " هود ‪ . 98 :‬والمعنى‬
‫ألم تنظر إلى الئمة و الرؤساء من المم السابقة‬
‫ومن امتك الذين بدلوا شكر نعمة الله كفرا‬
‫واتبعتهم قومهم فحلوا واحلوا قومهم دار الهلك‬
‫وهو الشقاء والنار ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬جهنم يصلونها‬
‫وبئس القرار " بيان لدار البوار واحتمال بعضهم‬
‫أن يكون جهنم منصوبا بالشتغال والتقدير يصلون‬
‫جهنم يصلونها والجملة مستأنفة‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 56‬‬
‫خال عن الوجه لن النصب مرجوح ول نكتة‬
‫تستوجب الستئناف ‪ .‬ومن هنا يظهر فساد قول‬
‫من قال ان اليات مدنية والمراد بالذين كفروا هم‬
‫عظماء مكة وصناديد قريش الذين جمعوا الجموع‬
‫على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوه‬
‫ببدر فقتلوا وأحلوا قومهم دار البوار ‪ .‬وذلك انك‬
‫عرفت من معنى الية انها مطلقة ول موجب‬
‫لتخصيصها بقتلى بدر من الكفار اصل بل الية‬
‫تشمل كل امام ضلل احل قومه دار البوار ممن‬
‫تقدم وتأخر والمراد باحلل دار البوار اقرارهم في‬
‫شقاء النار وإن لم يقتلوا ول ماتوا ول دخلوا النار‬
‫بعد ‪ .‬على ان ظاهر الية التالية وجعلوا لله اندادا‬
‫ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى‬
‫النار ان ضمير الجمع راجع إلى الذين كفروا‬
‫المذكورين في هذه الية ولزمه كون خطاب قل‬
‫تمتعوا خطابا للباقين منهم وهم الذين اسلموا‬
‫يوم الفتح وهو ايعاد بشقاء قطعي منجز من غير‬
‫استثناء ‪ / .‬صفحة ‪ / 57‬قوله تعالى ‪ " :‬وجعلوا لله‬
‫اندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فان مصيركم‬
‫إلى النار " النداد جمع ند وهو المثل وهم اللهة‬
‫الذين اتخذوهم آلهة من دون الله من الملئكة‬
‫والجن والنس ‪ .‬وانما جعلوها اندادا مع اعترافهم‬
‫بأنهم مخلوقون لله سبحانه من جهة أنهم سموهم‬
‫آلهة واربابا ونسبوا إليهم تدبير امر العالم ثم‬
‫عبدوهم خوفا وطمعا مع ان المر والخلق كله لله‬
‫وقد اعترفت بذلك فطرتهم وايد الله ذلك بما‬
‫الهمه انبياءه ورسله من اليات والحجج الدالة على‬
‫وحدانيته ‪ .‬فهم كانوا على بصيرة من امر التوحيد‬
‫لم يتخذوا النداد عن غفلة أو خطأ بل عمدوا إلى‬
‫ذلك ابتغاء عرض الحياة الدنيا وليستعبدوا الناس‬
‫ويستدروهم باضللهم عن سبيل الله ولذلك علل‬
‫اتخاذهم النداد بقوله ليضلوا عن سبيله ثم امر‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يوعدهم بالنار‬
‫التى إليها مرجعهم ل مرجع لهم سواها فقال قل‬
‫تمتعوا فان مصيركم إلى النار ‪ .‬وكان من طبع‬
‫الكلم أن يقال لهم اتخذوا النداد أو اضلوا عن‬
‫سبيل الله فإن مصيركم إلى النار لكن بدل من‬
‫قوله تمتعوا ليصرح بغرضهم الفاسد الذى كانوا‬
‫يخفونه ليكون ابلغ في فضاحتهم ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلة وينفقوا مما‬
‫رزقناهم سرا وعلنية من قبل ان يأتي يوم ل بيع‬
‫فيه ول خلل " لما توعدهم على لسان رسوله‬
‫بعذاب يوم القيامة لضللهم الناس عن سبيل الله‬
‫امره ان يأمر عباده الذين آمنوا بالتزام سبيله من‬
‫قبل ان ياتي يوم القيامة فل يسعهم تدارك ما‬
‫فات منهم من السعادة بشئ من السباب الدائرة‬
‫بينهم لذلك وهى ترجع إلى احد شيئين اما‬
‫المعارضة باعطاء شئ واخذ ما يعادله وهو البيع‬
‫بالمعنى العم وأما الخلة والمحبة ول اثر من هذه‬
‫السباب في يوم محض للحساب والجزاء فان ذلك‬
‫شأن يوم القيامة ل شأن له دون ذلك ‪ .‬ومن هنا‬
‫يظهر ان قوله يقيموا الصلة وينفقوا بيان لسبيل‬
‫الله وقد اكتفى بهذين الركنين اللذين بهما يلحق‬
‫سائر الوظائف الشرعية مما يصلح حياة النسان‬
‫الدنيوية فيما بينه وبين ربه وما بينه وبين سائر‬
‫افراد نوعه ‪ / .‬صفحة ‪ / 58‬وقوله يقيموا الصلة‬
‫وينفقوا الخ مجزومان لوقوعهما في جواب المر‬
‫ومقول القول محذوف لدللة الفعلين عليه‬
‫والتقدير قل اقيموا الصلة وانفقوا الخ يقيموا‬
‫الصلة وينفقوا الخ ‪ .‬والشكال فيه بأن المجزوم‬
‫في جواب المر يجب ان يكون مترتبا عليه ول‬
‫يلزم من المر بالصلة والنفاق ان يطيعوا ذلك ‪.‬‬
‫ساقط فان اللزم فيه ان يكون الجواب مما‬
‫يقتضيه المر بوجه وامر عباده المؤمنين وهم عباد‬
‫مؤمنون مما يقتضى الطاعة بل اشكال ‪ .‬والنفاق‬
‫المذكور في الية مطلق النفاق في سبيل الله‬
‫فان السورة مكية ولم تنزل آية الزكاة بعد والمراد‬
‫بالنفاق سرا وعلنية ان يجرى النفاق على ما‬
‫يقتضيه الدب الدينى الحق فيسر به فيما يحسن‬
‫السرار ويعلن فيما يحسن العلن والمطلوب‬
‫بذلك على أي حال التيان بما يصلح ما في مظنة‬
‫الفساد ويقيم اود المجتمع من امور المسلمين ‪.‬‬
‫ول ينافى ما في هذه الية من نفى المخالة قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬الخلء يومئذ بعضهم لبعض عدو ال‬
‫المتقين " الزخرف ‪ 67 :‬فان النسبة بين اليتين‬
‫نسبة العموم والخصوص المطلق فتخصص هذه‬
‫الية بتلك الية ويتحصل المراد من اليتين ان كل‬
‫خلة من غير جهة التقوى ترتفع يوم القيامة واما‬
‫الخلة التى من جهتها وهى الخلة في ذات الله‬
‫فانها تثبت وتنفع فنفى الخلل مطلقا ثم اثبات‬
‫بعضه في اليتين نظير نفى الشفاعة مطلقا في‬
‫قوله ‪ " :‬ول خلة ول شفاعة " البقرة ‪ 254 :‬ثم‬
‫اثباتها فيما كان باذن الله كما في قوله ‪ " :‬ال من‬
‫شهد بالحق وهم يعلمون " الزخرف ‪ . 86 :‬وما‬
‫قيل في نفى التنافى ان المراد بالخلل في الية‬
‫النافية المخالة التى هي من السباب الدنيوية‬
‫لتدارك ما فات بخلف ما في الية المثبتة وكذا ما‬
‫قيل ان المراد بالمخالة المنفية هي التى تكون‬
‫بحسب ميل الطبع ورغبة النفس بخلف المخالة‬
‫المثبتة فانها التى تكون في ذات الله مرجعهما‬
‫بالحقيقة إلى ما ذكرناه ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 58‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬الله الذى خلق السماوات والرض "‬
‫الخ لما ذكر سبحانه جعلهم لله اندادا لضلل‬
‫الناس عن سبيل الله وأوعد عليه اورد في هذه‬
‫الية إلى تمام ‪ /‬صفحة ‪ / 59‬ثلث آيات الحجة على‬
‫اختصاص الربوبية بنفسه تعالى وتقدس من طريق‬
‫اختصاص التدبير العام به من نظم الخلقة وانزال‬
‫الماء واخراج الرزق وتسخير البحار الفلك والنهار‬
‫والشمس والقمر والليل والنهار ‪ .‬واشار في آخر‬
‫اليات إلى انها وما ل تحصى من غيرها نعمة منه‬
‫تعالى للنسان لن البيان في هذه السورة كما‬
‫تقدمت الشارة إليه يجرى في ضوء السمين‬
‫العزيز الحميد ‪ .‬فقوله الله الذى خلق الخ في‬
‫معنى قولنا فهوالرب وحده دون الذين جعلتموهم‬
‫اندادا له ‪ .‬وقوله وانزل من السماء ماء فاخرج به‬
‫الخ المراد بالسماء جهة العلو وهو معناها اللغوى‬
‫والماء النازل منها هو المطر النازل منها فإليه‬
‫ينتهى الماء في الرض الذى تعيش به ذوات الحياة‬
‫من النبات والحيوان ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وسخر لكم‬
‫الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم النهار "‬
‫تسخير الفلك للناس هو جعلها بحيث تنفعهم في‬
‫مقاصدهم وهى العبور بانفسهم واحمالهم وغير‬
‫ذلك من غير ان ترسب في الماء أو تمتنع عن‬
‫الحركة ‪ .‬واما قول بعضهم تسخيرها لهم هو‬
‫اقدارهم على صنعتها واستعمالها بالهامهم طريق‬
‫ذلك بعيد فان الظاهر من تسخير شئ للنسان هو‬
‫التصرف فيه بجعله موافقا لما يقصده من منافع‬
‫نفسه دون التصرف في النسان نفسه بالهام‬
‫ونحوه ‪ .‬وكان من طبع الكلم ان يقال وسخر لكم‬
‫البحر لتجرى فيه الفلك بأمره وسخر لكم النهار‬
‫غير انه عكس وقيل وسخر لكم الفلك لتجرى في‬
‫البحر بأمره لكون الفلك من اوضح النعم البحرية‬
‫وان لم تنحصر فيها نعمه ولعل ذلك هو السبب‬
‫في العكس لن المقام مقام عد النعمة والنعمة‬
‫في الفلك اوضح وان كانت في البحر اعظم ‪.‬‬
‫واسناد جريها في البحر إلى امره تعالى مع كونه‬
‫مستندا إلى السباب الطبيعية العاملة كالريح‬
‫والبخار وسائر السباب لكونه تعالى هو السبب‬
‫المحيط الذى إليه ينتهى كل سبب ‪ / .‬صفحة ‪/ 60‬‬
‫وقوله وسخر لكم النهار وهى المياه الجارية في‬
‫مختلف اقطار الرض وتسخيرها هو تذليلها بحيث‬
‫ينتفع بها النسان بالشرب والغسل وازالة‬
‫الوساخ وغير ذلك ويعيش بها الحيوان والنبات‬
‫المسخران له ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وسخر لكم الشمس‬
‫والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار " قال‬
‫الراغب الدأب ادامة السير دأب في السير دأبا قال‬
‫تعالى ‪ " :‬وسخر لكم الشمس والقمر دائبين‬
‫والدأب العادة المستمرة دائما على حالة قال‬
‫تعالى ‪ " :‬كدأب آل فرعون أي كعادتهم التى‬
‫يستمرون عليها انتهى ومعنى الية واضح ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا‬
‫نعمه الله ل تحصوها إن النسان لظلوم كفار "‬
‫السؤال هو الطلب ويفارقه ان السؤال انما يكون‬
‫ممن يعقل والطلب اعم وانما تنبه النسان‬
‫للسؤال من جهة الحاجة الداعية إليه فاظهر له ان‬
‫يرفع ما حلت به من حاجة وكانت الوسيلة العادية‬
‫إليه هي اللفظ فتوسل به إليه وربما توسل إليه‬
‫باشارة أو كتابة وسمى سؤال حقيقة من غير‬
‫تجوز ‪ .‬واذ كان الله سبحانه هو الذى يرفع حاجة‬
‫كل محتاج ممن سواه ل يتعلق شئ بذاته فيما‬
‫يحتاج إليه في وجوده وبقائه ال بذيل جوده وكرمه‬
‫سواء اقر به أو أنكره وهو تعالى اعلم بهم‬
‫وبحاجاتهم ظاهرة وباطنة من انفسهم كان كل‬
‫من سواه عاكفا على باب جوده سائل يسأله رفع‬
‫ما حلت به من حاجة سواء اعطاه أو منعه وسواء‬
‫أجابه في جميع ما سأل أو بعضه ‪ .‬هذا هو حق‬
‫السؤال وحقيقته يختص به تعالى ل يتعداه إلى‬
‫غيره ومن السؤال ما هو لفظي كما تقدم ربما‬
‫يسأل به الله سبحانه وربما يسأل به غيره فهو‬
‫تعالى مسئول يسأله كل شئ بحقيقة السؤال‬
‫ويسأله بعض الناس من المؤمنين به بالسؤال‬
‫اللفظى ‪ .‬هذا بالنسبة إلى السؤال واما بالنسبة‬
‫إلى اليتاء وهو العطاء فقد اطلق من غير أن‬
‫يقيد باستثناء ونحوه فيدل على انه ما من سؤال‬
‫ال وعنده اعطاء وهذه قرينة إن الخطاب للنوع كما‬
‫يؤيده ايضا قوله ذيل ان النسان لظلوم كفار ‪.‬‬
‫والمعنى ان النوع النساني لم يحتج بنوعيته إلى‬
‫نعمة من النعم ال رفع الله حاجته ‪ /‬صفحة ‪/ 61‬‬
‫أما كل أو بعضا وان كان الفرد منه ربما احتاج‬
‫وسأل ولم يقض حاجته وهذا المعنى هو الذى‬
‫يؤيده قوله تعالى ‪ " :‬اجيب دعوة الداع إذا دعان "‬
‫البقرة ‪ 186 :‬فقد مر في تفسير الية انه تعالى ل‬
‫يرد دعاء من دعاه ال أن ل يكون دعاء حقيقة أو‬
‫يكون دعاء إل انه ليس دعاءه بل دعاء غيره والفرد‬
‫من النسان ربما لم يواطئ لسانه قلبه أو لغى‬
‫في دعائه لكن النوع بنوعيته ل يعرف هذرا ول‬
‫نفاقا ول يعرف ربا غيره سبحانه فكلما مسته‬
‫حاجة فانه يسأله حقيقة ول يسأله ال من ربه‬
‫فجميع ادعيته مستجابة وسؤالته مؤتاة وحاجاته‬
‫مقضية ‪ .‬وقد ظهر مما تقدم إن من في قوله من‬
‫كل ما سألتموه ابتدائية تفيد إن الذى يؤتيه الله‬
‫مأخوذ مما سألوه سواء كان جميع ما سألوه كما‬
‫في بعض الموارد أو‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 61‬‬
‫بعضه كما في بعضها الخر ولو كانت من تبعيضية‬
‫لفادت انه تعالى يؤتى في كل سؤال بعض‬
‫المسئول والواقع خلفه كما انه لو قيل وآتاكم كل‬
‫ما سألتموه افاد ايتاء الجميع وليس كذلك ولو قيل‬
‫مما سألتموه افاد ان من الجائز ان ل يستجاب‬
‫بعض الدعية ويرد بعض السئلة من اصله والية‬
‫وهى في مقام المتنان تأبى ذلك ‪ .‬فبالجملة‬
‫معنى الية ان الله تعالى اعطى النوع النساني ما‬
‫سأله فما من حاجة من حوائجه ال رفع كلها أو‬
‫بعضها حسب ما تقتضيه حكمته البالغة ‪ .‬وربما‬
‫قيل ان تقدير الكلم وآتاكم من كل ما سألتموه‬
‫وما لم تسألوه وهو مبنى على كون المراد‬
‫بالسؤال هو السؤال اللفظى وقد تقدم خلفه‬
‫وسياق الية ل يساعد عليه ‪ .‬وقوله وان تعدوا‬
‫نعمة الله ل تحصوها قال الراغب الحصاء‬
‫التحصيل بالعدد يقال احصيت كذا وذلك من لفظ‬
‫الحصا واستعمال ذلك فيه من حيث انهم كانوا‬
‫يعتمدونه بالعد كاعتمادنا فيه على الصابع انتهى ‪.‬‬
‫وفي الجملة اشارة إلى خروج النعم عن طوق‬
‫الحصاء ولزمه كون حوائج النسان التى رفعها‬
‫الله بنعمه غير مقدور للنسان احصاءها ‪ .‬وكيف‬
‫يمكن احصاء نعمه تعالى وعالم الوجود بجميع‬
‫اجزائه وما يلحق بها من الوصاف والحوال‬
‫مرتبطة منتظمة نافع بعضها في بعض متوقف‬
‫بعضها على بعض ‪ /‬صفحة ‪ / 62‬فالجميع نعمه‬
‫بالنسبة إلى الجميع وهذا امر ل يحيط به احصاء ‪.‬‬
‫ولعل ذلك هو السر في افراد النعمة في قوله‬
‫نعمة الله فان الحق ان ليس هناك ال النعمة فل‬
‫حاجة إلى تفخيمها بالجمع ليدل على الكثرة‬
‫والمراد بالنعمة جنس المنعم فيفيد ما يفيده‬
‫الجمع ‪ .‬وقوله ان النسان لظلوم كفار أي كثير‬
‫الكفران يظلم نفسه فل يشكر نعمة الله ويكفر‬
‫بها فيؤديه ذلك إلى البوار والخسران أو كثير‬
‫الظلم لنعم الله ل يشكرها ويكفر بها والجملة‬
‫استئناف بيانى يؤكد بها ما يستفاد من البيان‬
‫السابق فان الواقف على ما مر بيانه من حال‬
‫نعمه تعالى وما آتى النسان من كل ما سأله منها‬
‫ل يرتاب في ان النسان وهو غافل عنها طبعا‬
‫ظالم لنفسه كافر بنعمة ربه ‪ ) .‬بحث روائي ( في‬
‫الدر المنثور اخرج الترمذي والنسائي والبزار وابو‬
‫يعلى وابن جرير وابن ابى حاتم وابن حبان‬
‫والحاكم وصححه وابن مردويه عن انس قال ‪ :‬اتى‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقناع من‬
‫بسر فقال مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة حتى بلغ‬
‫تؤتى اكلها كل حين باذن ربها قال هي النخلة‬
‫ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة حتى بلغ ما لها‬
‫من قرار قال هي الحنظلة ‪ .‬اقول وكون الشجرة‬
‫الطيبة هي النخلة مروى في عدة روايات عنه‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم وهى ل تدل على ازيد‬
‫من انطباق المثل عليها وذيل الرواية ينافى‬
‫الرواية التالية ‪ .‬وفيه اخرج ابن مردويه عن ابى‬
‫هريرة قال ‪ :‬قعد ناس من اصحاب رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا هذه الية‬
‫اجتثت من فوق الرض ما لها من قرار فقالوا يا‬
‫رسول الله نراه الكمأة فقال رسول الله صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم الكمأة من المن وماؤها شفاء‬
‫للعين والعجوة من الجنة وهى شفاء من السم‬
‫اقول والكلم يجرى في الحنظلة فان لها خواص‬
‫طبية هامة ‪ .‬وفيه اخرج البيهقى في سننه عن‬
‫على قال ‪ :‬الحين ستة اشهر ‪ /‬صفحة ‪ / 63‬اقول‬
‫والكلم فيه كالكلم في سابقه ‪ .‬وفي الكافي‬
‫باسناده عن عمرو بن حريث قال ‪ :‬سالت ابا عبد‬
‫الله عليه السلم عن قول الله كشجرة طيبة اصلها‬
‫ثابت وفرعها في السماء قال فقال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم اصلها وامير المؤمنين‬
‫فرعها والئمة من ذريتهما اغصانها وعلم الئمة‬
‫ثمرتها وشيعتهم المؤمنون ورقها هل في هذا‬
‫فضل ؟ قال قلت ل والله قال والله ان المؤمن‬
‫ليولد فتورق ورقة فيها وإن المؤمن ليموت‬
‫فتسقط ورقة منها ‪ .‬اقول والرواية مبنية على‬
‫كون المراد بالكلمة الطيبة هو النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم وقد اطلقت الكلمة في كلمه‬
‫على النسان كقوله ‪ " :‬بكلمة منه اسمه المسيح‬
‫عيسى بن مريم " آل عمران ‪ 45 :‬ومع ذلك‬
‫فالرواية من باب التطبيق ومن الدليل عليه‬
‫اختلف الروايات في كيفية التطبيق ففى بعضها‬
‫ان الصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫والفرع علي عليه السلم والغصان الئمة عليهم‬
‫السلم والثمرة علمهم والورق الشيعة كما في‬
‫هذه الرواية وفي بعضها إن الشجرة رسول الله‬
‫وفرعها علي والغصن فاطمة وثمرها اولدها‬
‫وورقها شيعتنا كما فيما رواه الصدوق عن جابر‬
‫عن ابى جعفر عليه السلم وفي بعضها ان النبي‬
‫والئمة هم الصل الثابت والفرع الولية لمن دخل‬
‫فيها كما في الكافي باسناده عن محمد الحلبي‬
‫عن ابى عبد الله عليه السلم ‪ .‬وفي المجمع روى‬
‫أبو الجارود عن ابى جعفر عليه السلم إن هذا‬
‫يعنى قوله كشجرة خبيثة الخ مثل بنى امية وفي‬
‫تفسير العياشي عن عبد الرحمن بن سالم الشل‬
‫عن ابيه عن ابى عبد الله عليه السلم ضرب الله‬
‫مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة اليتين قال هذا مثل‬
‫ضربه الله لهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ولمن عاداهم هو مثل كلمة خبيثة كشجرة‬
‫خبيثة اجتثت من فوق‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 63‬‬
‫الرض ما لها من قرار اقول قال اللوسى في‬
‫تفسير روح المعاني ما لفظه وروى المامية وانت‬
‫تعرف حالهم عن ابى جعفر رضى الله عنه‬
‫تفسيرها يعنى الشجرة الخبيثة ببنى امية وتفسير‬
‫الشجرة الطيبة برسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم وعلي كرم الله وجهه وفاطمة رضى الله‬
‫عنها وما تولد منهما وفي بعض روايات اهل السنة‬
‫ما يعكر على تفسير الشجرة ‪ /‬صفحة ‪ / 64‬الخبيثة‬
‫ببنى امية فقد اخرج ابن مردويه عن عدى بن حاتم‬
‫قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‪:‬‬
‫ان الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير‬
‫عباده العرب وقلب العرب ظهرا وبطنا فكان خير‬
‫العرب قريشا وهى الشجرة المباركة التى قال‬
‫الله تعالى في كتابه " مثل كلمة طيبة كشجرة‬
‫طيبة " لن بنى امية من قريش انتهى موضع‬
‫الحاجة ‪ .‬وهو عجيب فان كون امة أو طائفة‬
‫مباركة بحسب طبعهم ل يوجب كون جميع الشعب‬
‫المنشعبة منها كذلك فالرواية على تقدير تسليمها‬
‫ل تدل ال على ان قريشا شجرة مباركة واما ان‬
‫جميع الشعب المنشعبة منها مباركة طيبة كبنى‬
‫عبد الدار مثل أو كون كل فرد منهم كذلك كابى‬
‫جهل وابى لهب فل قطعا فاى ملزمة بين كون‬
‫شجرة بحسب اصلها مباركة طيبة وبين كون بعض‬
‫فروعها التى انفصلت منها ونمت نماء فاسدا‬
‫مباركا طيبا ‪ .‬؟ وقد روى ابن مردويه هذا عن‬
‫عائشة ‪ :‬انها قالت لمروان بن الحكم سمعت‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لبيك‬
‫وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن وروي‬
‫اصحاب التفاسير كالطبري وغيره عن سهل بن‬
‫ساعد وعبد الله بن عمر ويعلى بن مرة والحسين‬
‫بن على وسعيد بن المسيب ‪ :‬انهم الذين نزل‬
‫فيهم قوله تعالى ‪ " :‬وما جعلنا الرؤيا التى اريناك‬
‫ال فتنة للناس والشجرة الملعونة " في القرآن‬
‫الية ولفظ سعد رأى رسول الله صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم بنى فلن ينزون على منبرة نزو‬
‫القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات‬
‫وانزل الله وما جعلنا الرؤيا الية وستاتى الرواية‬
‫عن عمرو عن علي ‪ :‬في تفسير قوله ‪ " :‬الذين‬
‫بدلوا نعمة الله كفرا " انهم الفجران من قريش‬
‫بنو المغيرة وبنو امية وفي تفسير العياشي عن‬
‫صفوان بن مهران عن ابى عبد الله عليه السلم‬
‫قال ‪ :‬الشيطان ليأتي الرجل من اوليائنا فيأتيه‬
‫عند موته ويأتيه عن يمينه وعن يساره ليصده عما‬
‫هو عليه فيأبى الله ذلك وكذلك قال الله يثبت الله‬
‫الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي‬
‫الخرة وفيه عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم‬
‫عن ابى جعفر وابى عبد الله عليه السلم قال ‪ :‬إذا‬
‫وضع الرجل في قبره اتاه ملكان ملك عن يمينه‬
‫وملك عن شماله واقيم الشيطان بين ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 65‬يديه عيناه من نحاس فيقال له ‪ -‬ما تقول‬
‫في هذا الرجل الذى خرج من بين ظهرانيكم يزعم‬
‫انه رسول الله ؟ فيفزع لذلك فزعة فيقول ان‬
‫كان مؤمنا محمد رسول الله فيقال عند ذلك نم‬
‫نومة ل حلم فيها ويفسح له في قبره تسعة اذرع‬
‫ويرى مقعده من الجنة وهو قول الله يثبت الله‬
‫الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وان‬
‫كان كافرا قالوا ‪ -‬من هذا الرجل الذى كان بين‬
‫ظهرانيكم يقول انه رسول الله ؟ فيقول ما ادرى‬
‫‪ -‬فيخلى بينه وبين الشيطان وفي الدر المنثور‬
‫اخرج الطيالسي والبخاري ومسلم وابو داود‬
‫والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن‬
‫المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه عن البراء بن‬
‫عازب ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫قال ‪ :‬المسلم إذا سئل في القبر يشهد ان ل اله‬
‫ال الله وان محمدا رسول الله فذلك قوله سبحانه‬
‫يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة‬
‫الدنيا وفي الخرة وفيه اخرج الطبراني في‬
‫الوسط وابن مردويه عن ابى سعيد الخدرى‬
‫سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫يقول في هذه الية يثبت الله الذين آمنوا بالقول‬
‫الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة قال في‬
‫الخرة القبر ‪ .‬اقول وهناك روايات كثيرة من‬
‫طرق الشيعة واهل السنة وردت في تفصيل‬
‫سؤال القبر واتيان الملكين منكر ونكير وثبات‬
‫المؤمن وضلل الكافر عند ذلك وقد وقع في كثير‬
‫منها التمسك بالية ‪ .‬وظاهرها ان المراد بالخرة‬
‫هو القبر وعالم الموت ولعل ذلك مبنى على ظاهر‬
‫معنى التثبيت فان الظاهر من اعطاء الثبات أن‬
‫يكون في مقام يجوز فيه الزلل والخبط وهذا انما‬
‫يتصور في غير يوم القيامة الذى ليس فيه ال‬
‫المجازاة بالعمال واما بالنظر إلى ان كل ثابت‬
‫في الوجود فانما ثباته بالله سبحانه سواء كان مما‬
‫يجوز عليه الزوال ام ل فل فرق بين البرزخ‬
‫والقيامة في إن المؤمن ثابت بتثبيت الله سبحانه‬
‫والولى اخذ الروايات من قبيل التطبيق ‪ .‬وفي‬
‫تفسير العياشي عن الصبغ بن نباتة قال قال امير‬
‫المؤمنين عليه السلم في ‪ /‬صفحة ‪ / 66‬قوله ‪" :‬‬
‫ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قال نحن‬
‫نعمة الله التى انعم الله بها على العباد ‪ .‬اقول‬
‫وهو من الجرى والتطبيق ‪ .‬وفيه عن معصم‬
‫المسرف عن على بن ابى طالب عليه السلم في‬
‫قوله ‪ :‬واحلوا قومهم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 66‬‬
‫دار البوار قال هما الفجران من قريش بنو امية‬
‫وبنو المغيرة اقول ورواه ايضا في البرهان عن‬
‫ابن شهر آشوب عن ابى الطفيل عنه عليه السلم‬
‫وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر‬
‫وابن ابى حاتم والطبراني في الوسط وابن‬
‫مردويه والحاكم وصححه من طرق عن على بن‬
‫ابى طالب في قوله ‪ " :‬ألم تر إلى الذين بدلوا‬
‫نعمة الله كفرا قال ‪ -‬هما الفجران من قريش بنو‬
‫امية وبنو المغيرة فأما بنو المغيره فقطع الله‬
‫دابرهم يوم بدر واما بنو امية فمتعوا إلى حين ‪.‬‬
‫اقول وهو مروى عن عمر كما ياتي ‪ .‬وفيه اخرج‬
‫البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن‬
‫مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله ‪ :‬ألم تر‬
‫إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قال هما‬
‫الفجران من قريش بنو المغيرة وبنو امية فأما‬
‫بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر واما بنو امية‬
‫فمتعوا إلى حين وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن‬
‫عباس انه قال لعمر يا امير المؤمنين هذه الية ‪" :‬‬
‫الذين بدلوا نعمة الله كفرا قال ‪ -‬هم الفجران من‬
‫قريش اخوالي واعمامك فأما اخوالي فاستأصلهم‬
‫الله يوم بدر ‪ -‬واما اعمامك فأملى الله لهم إلى‬
‫حين وفي تفسير العياشي عن ذريح عن ابى عبد‬
‫الله عليه السلم قال سمعته يقول ‪ :‬جاء ابن‬
‫الكواء إلى امير المؤمنين عليه السلم فسأله عن‬
‫قول الله ‪ " :‬ألم تر إلى الذين بدلوا الية قال تلك‬
‫قريش بدلوا نعمة الله كفرا وكذبوا نبيه يوم بدر ‪.‬‬
‫اقول واختلف التطبيق في كلمه عليه السلم من‬
‫الشاهد على انه من باب بيان انطباق الية ل من‬
‫قبيل سبب النزول ‪ .‬وفي الكافي عن على بن‬
‫محمد عن بعض اصحابه رفعه قال ‪ :‬كان على بن‬
‫الحسين عليه السلم إذا قرأ هذه الية وان تعدوا‬
‫نعمة الله ل تحصوها يقول ‪ -‬سبحان الذى لم ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 67‬يجعل في احد من معرفة نعمه ‪ -‬ال‬
‫المعرفة بالتقصير عن معرفتها ‪ -‬كما لم يجعل في‬
‫احد ) من ظ ( معرفة ادراكه ‪ -‬اكثر من العلم انه ل‬
‫يدركه ‪ -‬فشكر عز وجل معرفة العارفين بالتقصير‬
‫عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا‬
‫كما علم علم العالمين انهم ل ل يدركونه فجعله‬
‫علما الحديث * * * واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا‬
‫البلد آمنا واجنبني وبنى أن نعبد الصنام ‪ 35 -‬رب‬
‫إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه منى‬
‫ومن عصاني فانك غفور رحيم ‪ 36 -‬ربنا انى‬
‫اسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك‬
‫المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل افئدة من‬
‫الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم‬
‫يشكرون ‪ - 37 -‬ربنا انك تعلم ما نخفى وما نعلن‬
‫وما يخفى على الله من شئ في الرض ول في‬
‫السماء ‪ 38 -‬الحمد لله الذى وهب لى على الكبر‬
‫اسمعيل واسحق ان ربى لسميع الدعاء ‪ . 39 -‬رب‬
‫اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء‬
‫‪ 40 -‬ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم‬
‫الحساب ‪ ) 41 -‬بيان ( تتضمن اليات تذكرة ثانية‬
‫بجملة من نعمه عقيب التذكرة الولى التى‬
‫يتضمنها قوله واذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة‬
‫الله عليكم إذ انجاكم من آل فرعون الية ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 68‬فذكر سبحانه اول نعمته على جمع من عباده‬
‫المؤمنين وهم بنو اسرائيل من ولد ابراهيم ثم‬
‫ذكر ثانيا نعمته على جمع آخر منهم وهم بنو‬
‫اسماعيل من ولد ابراهيم وهى التى يتضمنها دعاء‬
‫ابراهيم عليه السلم رب اجعل هذا البلد آمنا إلى‬
‫آخر دعائه وفيها نعمة توفيقه تعالى لهم ان‬
‫يجتنبوا عبادة الصنام ونعمة المن بمكة وميل‬
‫الفئدة إلى اهله ورزقهم من الثمرات وغير ذلك‬
‫كل ذلك لن الله سبحانه هو العزيز الحميد ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا‬
‫أي واذكر إذ قال ابراهيم والشارة إلى مكة‬
‫شرفها الله تعالى ‪ .‬وقد حكى الله سبحانه نظير‬
‫هذا الدعاء على اختصار فيه عن ابراهيم عليه‬
‫السلم في موضع آخر بقوله ‪ " :‬واذ قال ابراهيم‬
‫رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق اهله من الثمرات‬
‫من آمن منهم بالله واليوم الخر قال ومن كفر‬
‫فأمتعه قليل ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس‬
‫المصير " البقرة ‪ . 126 :‬ومن الممكن ان يستفاد‬
‫من اختلف المحكيين في التعبير اعني قوله اجعل‬
‫هذا بلدا آمنا وقوله اجعل هذا البلد آمنا انهما‬
‫دعاءان دعا عليه السلم بهما في زمانين مختلفين‬
‫وانه بعد ما اسكن اسماعيل وامه ارض مكة ورجع‬
‫إلى ارض فلسطين ثم عاد اليهما وجد من اقبال‬
‫جرهم إلى مجاورتهما مكانا ما سر بذلك فدعا عند‬
‫ذلك مشيرا إلى مكانهم رب اجعل هذا بلدا آمنا‬
‫فسأل ربه أن يجعل المكان بلدا ولم يكن به وأن‬
‫يرزق اهله المؤمنين من الثمرات ثم لما عاد إليهم‬
‫بعد ذلك بزمان وحد المكان بلدا فسأل ربه ان‬
‫يجعل البلد آمنا ‪ .‬ومما يؤيد كونهما دعاءين ما‬
‫فيهما من الختلف من غير هذه الجهة ففى آية‬
‫البقرة الدعاء لهل البلد بالرزق من الثمرات وفي‬
‫اليات المبحوث عنها الدعاء بذلك لذريته خاصة مع‬
‫امور اخرى دعا بها لهم ‪ .‬وعلى هذا يكون هذا‬
‫الدعاء المحكى عن ابراهيم عليه السلم في هذه‬
‫اليات آخر ما‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 68‬‬
‫اورده الله تعالى في كتابه من كلم ابراهيم عليه‬
‫السلم ودعائه وقد دعا به بعد ما اسكن اسماعيل‬
‫وامه بها وجاورتهما قبيلة جرهم وبنى البيت‬
‫الحرام وبنيت بلدة مكة بايدى القاطنين هناك كما‬
‫تدل عليه فقرات اليات ‪ / .‬صفحة ‪ / 69‬وعلى‬
‫تقدير ان يكون المحكيان دعاء واحدا يكون قوله‬
‫رب اجعل الخ تقديره رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا‬
‫وقد حذف في احدى اليتين المشار إليه وفي‬
‫الخرى الموصوف اختصارا ‪ .‬والمراد بالمن الذى‬
‫سأله عليه السلم المن التشريعي دون التكويني‬
‫كما تقدم في تفسير آية البقرة فهو يسأل ربه ان‬
‫يشرع لرض مكة حكم الحرمة والمن وهو على‬
‫خلف ما ربما يتوهم من اعظم النعم التى انعم‬
‫الله بها على عباده فانا لو تأملنا هذا الحكم اللهى‬
‫الذى شرعه ابراهيم عليه السلم باذن ربه اعني‬
‫حكم الحرمة والمن وامعنا فيما يعتقده الناس من‬
‫تقديس هذا البيت العتيق وما احاط به من حرم‬
‫الله المن وقد ركز ذلك في نفوسهم منذ اربعة‬
‫آلف سنة حتى اليوم وجدنا ما ل يحصى من‬
‫الخيرات والبركات الدينية والدنيوية عائدة إلى‬
‫اهلها وإلى سائر اهل الحق ممن يحن إليهم‬
‫ويتعلق قلبه بهم وقد ضبط التاريخ من ذلك شيئا‬
‫كثيرا وما لم يضبط اكثر فجعله تعالى مكة بلدا آمنا‬
‫من النعم العظيمة التى انعم الله بها على عباده ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬وأجنبنى وبني أن نعبد الصنام رب‬
‫إنهن أضللن كثيرا من الناس إلى قوله غفور رحيم‬
‫" يقال جنبه واجنبه أي ابعده وسؤاله عليه السلم‬
‫أن يجنبه الله ويبعده وبنيه من عبادة الصنام لواذ‬
‫والتجاء إليه تعالى من الضلل الذى نسبه اليهن‬
‫في قوله رب انهن اضللن الخ ‪ .‬ومن المعلوم ان‬
‫هذا البعاد والجناب منه تعالى كيفما كان وأيا ما‬
‫كان تصرف ما وتأثير منه تعالى في عبده بنحو غير‬
‫انه ليس بنحو يؤدى إلى اللجاء والضطرار ول‬
‫ينجر إلى القهر والجبار بسلب صفة الختيار منه‬
‫إذ ل مزية لمثل هذا البتعاد حتى يسأل ذلك مثل‬
‫ابراهيم خليل الله ‪ .‬فرجع بالحقيقة إلى ما تقدم‬
‫في قوله تعالى ‪ " :‬يثبت الله الذين آمنوا بالقول‬
‫الثابت " الية ان كل خير من فعل أو ترك فانه‬
‫منسوب إليه تعالى اول ثم إلى العبد ثانيا بخلف‬
‫الشر من فعل أو ترك فانه منسوب إلى العبد‬
‫ابتداء ولو نسب إليه تعالى فانما ينسب إذا كان‬
‫على سبيل المجازاة وقد اوضحنا ذلك ‪ .‬فالجتناب‬
‫من عبادة الصنام انما يتحقق عن اجناب من الله‬
‫رحمة منه لعبده وعناية وليس في الحقيقة ال امرا‬
‫تلبس واتصف به العبد غير انه انما يملكه بتمليك ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 70‬الله سبحانه فهو المالك له بذاته‬
‫والعبد يملكه بأمر منه واذن كما إن العبد انما‬
‫يهتدى عن هداية من الله وليس هناك ال هدى‬
‫واحد لكنه مملوك لله سبحانه لذاته والعبد انما‬
‫يملكه بتمليك منه سبحانه وابسط كلمة في هذا‬
‫المعنى ما وقع في اخبار آل العصمة ان الله يوفق‬
‫عبده لفعل الخير وترك الشر هذا ‪ .‬فتلخص إن‬
‫المراد بقوله عليه السلم واجنبني سؤال ما لله‬
‫سبحانه من الصنع في ترك العبد عبادة الصنام‬
‫وبعبارة اخرى هو يسأل ربه ان يحفظه وبنيه من‬
‫عبادة الصنام ويهديهم إلى الحق ان هم عرضوا‬
‫انفسهم لذلك وان يفيض عليهم إن استفاضوا ل‬
‫ان يحفظهم منها سواء عرضوا لذلك انفسهم أو‬
‫لم يعرضوا وان يفيض عليهم سواء استفاضوا أو‬
‫امتنعوا فهذا معنى دعائه عليه السلم ومنه يعلم‬
‫ان نتيجة الدعاء لبعض المدعوين لهم وان كان‬
‫بلفظ يستوعب الجميع وهذا البعض هم‬
‫المستعدون لذلك دون المعاندين والمستكبرين‬
‫منهم وسنزيده بيانا ‪ .‬ثم هو عليه السلم يدعو‬
‫بهذا الدعاء لنفسه وبنيه واجنبني وبنى ان نعبد‬
‫الصنام وبنوه جميع من جاء من نسله بعده وهم‬
‫بنو اسماعيل وبنو اسحاق فان البن كما يطلق‬
‫على الولد من غير واسطة كذلك يطلق على غيره‬
‫ويصدق ذلك القرآن الكريم قال تعالى ‪ " :‬ملة‬
‫ابيكم ابراهيم " الحج ‪ 78 :‬وقد تكرر اطلق بنى‬
‫اسرائيل على اليهود في نيف واربعين موضعا من‬
‫كلمه تعالى ‪ .‬فهو عليه السلم يسأل البعد عن‬
‫عبادة الصنام لنفسه ولجميع من بعده من بنيه‬
‫بالمعنى الذى تقدم اللهم ال أن يقال ان قرائن‬
‫الحال والمقال تدل على اختصاص الدعاة بآل‬
‫اسماعيل القاطنين بالحجاز فل يعم بنى اسحاق ‪.‬‬
‫ثم عقب عليه السلم دعاءه واجنبني وبنى ان نعبد‬
‫الصنام بقوله ‪ " :‬رب انهن اضللن كثيرا من الناس‬
‫" وهو في مقام التعليل لدعائه وقداعاد النداء رب‬
‫اثارة للرحمة اللهية أي انى انما اسألك ان تبعدني‬
‫وبني عن عبادتهن لنهن اضللن كثيرا من الناس‬
‫ونسبة الضلل إلى الصنام لمكان الربط الذى بين‬
‫الضلل وبينهن وان لم يكن ارتباطا شعوريا وليس‬
‫من اللزم في نسبة أي فعل أو اثر إلى شئ أن‬
‫يقوم به قياما شعوريا وهو ظاهر ‪ / .‬صفحة ‪/ 71‬‬
‫ثم قوله عليه السلم فمن تبعني فانه منى ومن‬
‫عصاني فانك غفور رحيم تفريع على ما تقدم من‬
‫كلمه أي إذا كان كثير من الناس اضلتهم الصنام‬
‫بعبادتهن واستعذت بك وعرضت نفسي وبنى عليك‬
‫ان تجنبنا من عبادتهن افترقنا نحن والناس‬
‫طائفتين‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 71‬‬
‫الضالون عن طريق توحيدك والعارضون لنفسهم‬
‫على حفظك واجنابك فمن تبعني الخ وقد عبر‬
‫عليه السلم في تفريعه بقوله فمن تبعني والتباع‬
‫انما يكون في طريق وقد لوح إلى الطريق ايضا‬
‫بقوله اضللن لن الضلل انما يكون عن الطريق‬
‫فمراده باتباعه التدين بدينه والسير بسيرته ل‬
‫مجرد العتقاد بوحدانيته تعالى بل سلوك طريقته‬
‫المبنية على توحيد الله سبحانه ليكون في ذلك‬
‫عرض النفس على رحمته تعالى واجنابه من عبادة‬
‫الصنام ‪ .‬ومن الدليل على كون المراد بالتباع هو‬
‫سلوك سبيله قوله في ما يعادله من كلمه ومن‬
‫عصاني فانه نسب العصيان إلى نفسه ولم يقل‬
‫ومن كفر بك أو عصاك أو فسق عن الحق ونحو‬
‫ذلك كما لم يقل فمن آمن بك أو اطاعك أو اتقاك‬
‫وما اشبهه ‪ .‬فمراده باتباعه سلوك طريقه والتدين‬
‫بجميع ما اتى به من العتقاد والعمل وبعصيانه‬
‫ترك سيرته وما اتى به من الشريعة اعتقادا وعمل‬
‫كأنه عليه السلم يقول من تبعني وعمل بشريعتى‬
‫وسار بسيرتي فانه ملحق بى ومن ابنائى تنزيل‬
‫اسالك ان تجنبنى واياه ان نعبد الصنام ومن‬
‫عصاني بترك طريقتي كلها أو بعضها سواء كان‬
‫من بنى أو غيرهم فل الحقه بنفسى ول اسألك‬
‫اجنابه وابعاده بل اخلي بينه وبين مغفرتك‬
‫ورحمتك ‪ .‬ومن هنا يظهر اول ان قوله عليه‬
‫السلم فمن تبعني فانه منى ومن عصاني فانك‬
‫غفور رحيم تفسير لقوله واجنبني وبنى أن نعبد‬
‫الصنام بالتصرف في البنين تعميما وتخصيصا فهو‬
‫كتعميم البنين لكل من تبعه من جهة وتخصيصه‬
‫بالعاصين له منهم من جهة اخرى فليسوا منه ول‬
‫ملحقين به وبالجملة هو عليه السلم يلحق الذين‬
‫اتبعوه من بعده بنفسه واما غير متبعيه فيخلى‬
‫بينهم وبين ربهم الغفور الرحيم كما قال تعالى ‪:‬‬
‫" ان اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا‬
‫النبي والذين آمنوا " آل عمران ‪ . 68 -‬وهذه‬
‫التوسعة والتضييق منه عليه السلم نظير مجموع‬
‫ما وقع منه ومن ربه في الفقرة ‪ /‬صفحة ‪/ 72‬‬
‫الخرى من دعائه على ما يحكيه آية البقرة ‪" :‬‬
‫وارزق اهله من الثمرات من آمن منهم بالله‬
‫واليوم الخر قال ومن كفرفامتعه قليل ثم‬
‫اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " حيث سأل‬
‫الرزق اول لهل البلد ثم خصه لمن آمن منهم‬
‫فعممه الله سبحانه بقوله ومن كفر ثانيا وثانيا ان‬
‫من الممكن ان يستفاد من قوله عليه السلم‬
‫فيمن تبعه انه منى وسكوته فيمن عصاه بعد ما‬
‫كان دعاؤه في نفسه وبنيه ان ذلك تبن منه لكل‬
‫من تبعه والحاق له بنفسه ونفى لكل من عصاه‬
‫عن نفسه وان كان من بنيه بالولدة أو الحاق‬
‫لتابعيه بنفسه مع السكوت عن غيرهم بناء على‬
‫عدم صراحة السكوت في النفى ‪ .‬ول اشكال في‬
‫ذلك بعد ظهور الدليل فان الولدة الطبيعية ل يجب‬
‫ان تكون هي الملك في النسب اثباتا ونفيا ول‬
‫تجد واحدة من المم يقتصرون في النسب اثباتا‬
‫ونفيا على مجرد الولدة الطبيعية بل ل يزالون‬
‫يتصرفون بالتوسعة والتضييق وللسلم ايضا‬
‫تصرفات في ذلك كنفى الدعى والمولود من الزنا‬
‫والكافر والمرتد والحاق الرضيع والمولود على‬
‫الفراش إلى غير ذلك وفي كلمه تعالى في ابن‬
‫نوح انه ليس من اهلك إنه عمل غير صالح " هود ‪:‬‬
‫‪ . 46‬وثالثا انه عليه السلم وان لم يسأل المغفرة‬
‫والرحمة صريحا لمن عصاه وانما عرضهم للمغفرة‬
‫والرحمة بقوله ومن عصاني فانك غفور رحيم‬
‫لكنه ل يخلو عن ايماء ما إلى الطلب لمن ترك‬
‫طريقته وسيرته التى تعد النسان للرحمة اللهية‬
‫بحفظه من عبادة الصنام وهذا المقدار من‬
‫المعصية ل يمنع عن شمول الرحمة وان لم يكن‬
‫مقتضيا ايضا لذلك وليس المراد به نفس الشرك‬
‫بالله حتى ينافى سؤال المغفرة كما قال تعالى ‪:‬‬
‫" إن الله ل يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك‬
‫لمن يشاء " النساء ‪ . 116 -‬هذا محصل ما يعطيه‬
‫التدبر في اليتين الكريمتين وهو في معزل عما‬
‫استشكله المفسرون في اطراف اليتين ثم ذهبوا‬
‫في التخلص عنه مذاهب شتى بعيدة عن الذوق‬
‫السليم ‪ .‬فقد استشكلوا اول قوله عليه السلم‬
‫وأجنبنى وبنى ان نعبد الصنام من حيث إن ظاهره‬
‫سؤال الحفظ عن عبادة الصنام لنفسه ولبنيه‬
‫جميعا فيكون دعاء غير مستجاب فان قريشا من‬
‫بنيه وقد كانوا وثنيين يعبدون الصنام وكيف يمكن‬
‫ان يدعو ‪ /‬صفحة ‪ / 73‬مثل الخليل عليه السلم ثم‬
‫ل يستجاب له ؟ أم كيف يمكن ان يذكر تعالى‬
‫دعاءه وهو لغو غير معنى به ثم ل يذكر رده على‬
‫خلف مسلك القرآن في جميع المواضع‬
‫المشابهة ؟ ثم كيف يمكن ان يسال لنفسه‬
‫المصونية والعصمة عن عبادة الصنام وهو نبى‬
‫والنبياء معصومون ؟ وقد قيل في الجواب عن‬
‫اشكال عدم استجابة دعائه في بنيه ان المراد‬
‫ببنيه ابناؤه بل واسطة كاسماعيل واسحاق‬
‫وغيرهما وقد استجيب دعاؤه فيهم وقيل المراد‬
‫الموجودون من بنيه وقت الدعاء وهم موحدون‬
‫وقيل إن الله قد استجاب دعاءه في بعض بنيه‬
‫دون بعض ول نقص فيه ‪ .‬وقيل إن المشركين من‬
‫بنيه لم يكونوا يعبدون الصنام وانما كانوا‬
‫يتخذونها شفعاء وقيل انهم كانوا يعبدون الوثان‬
‫دون الصنام وبينهما فرق فان الصنام هي‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 73‬‬
‫التماثيل المصورة والوثان هي التماثيل غير‬
‫المصورة وقيل انهم ما كانوا يعبدون الصنام بل‬
‫كان الواحد منهم ينصب حجرا ويقول هذا حجر‬
‫والبيت حجر فكان يدور حوله ويسمونه الدوار ‪.‬‬
‫وسقوط هذه الوجوه ظاهرة اما الول والثانى‬
‫فلكونهما خلف ظاهر اللفظ واما الثالث فلن‬
‫الشكال ليس في ورود نقص على النبي بعدم‬
‫استجابة دعائه أو بعضه لحكمة بل من جهة منافاته‬
‫لمسلك القرآن في حكاية لغو الكلم من غير رده‬
‫واما باقى الوجوه فلن ملك الضلل في عبادة‬
‫الصنام هو شرك العبادة وهو موجود في جميع ما‬
‫افترضوه من الوجوه ‪ .‬وقيل في الجواب عن‬
‫اشكال سؤال النبي البعاد والجناب عن الشرك‬
‫وهو نبى معصوم إن المراد الثبات والدوام على‬
‫ذلك وقيل انه عليه السلم ذكر ذلك هضما لنفسه‬
‫واظهارا للحاجة إلى فضله تعالى وقيل المراد‬
‫سؤال الحفظ عن الشرك الخفى وال فالنبياء‬
‫مصونون عن الشرك الجلى هذا ‪ .‬وهذه وجوه ردية‬
‫اما الول فلنه ل ينحسم به مادة الشكال إذ‬
‫العصمة والمصونية كما انها لزمة للنبوة حدوثا‬
‫لزمة لها بقاء فلو لم يصح للنبى ان يسال حدوثها‬
‫لمكان اللزوم لم يصح له أن يسال بقائها لذلك‬
‫بعينه والصل في جوابهم هذا انهم يزعمون‬
‫انفصال الفيض عن المفيض واستقلل‬
‫المستفيض فيما استفاضه بمعنى ان الله‬
‫سبحانه ‪ /‬صفحة ‪ / 74‬إذا افاض بشئ على شئ‬
‫خرج ما افاضه من ملكه ووقع في ملك‬
‫المستفيض ول معنى للسؤال ممن ل يملك وإذا‬
‫قضى سبحانه بشئ حدوثا أو بقاء قضاء حتم ل‬
‫يتغير عما هو عليه فانه ل يتعلق على خلفه قدرة‬
‫ول مشية وهو خطأ فان الحاجة من جانب‬
‫المستفيض باقية على حالها قبل الفاضة ل‬
‫تختلف اصل وملكه تعالى باق بعد الفاضة على ما‬
‫كان عليه قبلها ول يزال سبحانه قادرا له أن يشاء‬
‫ما يشاء وان كان ل يشاء فيما قضى بخلفه قضاء‬
‫حتم والسؤال والطلب من آثار الحاجة ل من آثار‬
‫الفقدان فافهم ذلك وقد اشبعنا القول في هذا‬
‫المعنى في المباحث المتقدمة مرارا ‪ .‬واما الثاني‬
‫فلن هضم النفس انما يستقيم في غير‬
‫الضروريات واما المور الضرورية فل فل معنى‬
‫لقول القائل لست انسانا وهو يريد نفى الماهية‬
‫هضما لنفسه اللهم إل أن يريد نفى الكمال وكذا‬
‫القول في اظهار الحاجة وهم ل يرون في المور‬
‫الضرورية المحتومة كالعصمة في النبياء حاجة ‪.‬‬
‫واما الثالث فلن الشرك الخفى هو الركون‬
‫والتوجه إلى غير الله على مراتبه وابراهيم عليه‬
‫السلم يعلل قوله واجنبني الخ بقوله انهن اضللن‬
‫الخ فهو انما يسأل البعاد من عبادة هذه الصنام‬
‫وهى الشرك الجلى دون الحفظ عن الركون‬
‫والتوجه إلى غير الله تعالى اللهم ال ان يدعى ان‬
‫المراد بالصنم كل ما يتوجه إليه غير الله سبحانه‬
‫وكذا المراد بالعبادة مطلق التوجه واللتفات وهو‬
‫دعوى ل دليل عليها ‪ .‬ثم استشكلوا في قوله عليه‬
‫السلم ومن عصاني فانك غفور رحيم من حيث‬
‫اشتماله على طلب المغفرة للمشركين ول تتعلق‬
‫المغفرة بالشرك بنص قوله تعالى إن الله ل يغفر‬
‫ان يشرك به الية ‪ .‬وقد قيل في الجواب عن‬
‫الشكال ان الشرك كان جائز المغفرة في‬
‫الشرائع السابقة وانما رفع ذلك في هذه الشريعة‬
‫بقوله ان الله ل يغفر ان يشرك به الية فابراهيم‬
‫عليه السلم جرى في دعائه على ما كان عليه‬
‫المر في شريعته ‪ .‬وقيل ان المراد ومن عصاني‬
‫فانك غفور رحيم له بعد توبته ففى الكلم قيد‬
‫محذوف وقيل المراد ومن عصاني واقام على‬
‫الشرك فانك غفور رحيم بأن تنقله من الشرك‬
‫إلى التوحيد فتغفر له وترحمه ‪ / .‬صفحة ‪/ 75‬‬
‫وقيل المراد بالمغفرة والرحمة الستر على الشرك‬
‫في الدنيا والرحمة بعدم معاجلة العقاب فالمعنى‬
‫ومن عصاني بالقامة على الشرك فاستر عليه‬
‫ذلك وارحمه بتأخير العقاب عنه وقيل ان الكلم‬
‫على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلم قبل أن‬
‫يعلم ان الله ل يغفر الشرك ول نقص بجهل ذلك‬
‫لن مغفرة لشرك جائزة عقل وانما منع منها‬
‫الدليل السمعى وليس من الواجب ان يعلم بجميع‬
‫الدلة السمعية في يوم واحد وقيل المراد‬
‫بالمعصية ما دون الشرك ‪ .‬وهذه اجوبة فاسدة اما‬
‫الول فلن دعوى كون الشرك جائز المغفرة في‬
‫الشرائع السابقة دعوى ل دليل عليها بل الدليل‬
‫على خلفها فقد خاطب الله آدم عليه السلم‬
‫بمثل قوله وهو اول الشرائع السابقة ‪ " :‬والذين‬
‫كفروا وكذبوا باياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها‬
‫خالدون " البقره ‪ 39 :‬وحكى عن المسيح عليه‬
‫السلم وشريعته آخر الشرائع السابقة قوله ‪ " :‬انه‬
‫من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه‬
‫النار وما للظالمين من انصار " المائدة ‪72 :‬‬
‫والتدبر في آيات القيامة والجنة والنار وفي آيات‬
‫الشفاعة وفي دعوات النبياء المحكية في القرآن‬
‫ل يدع شكا في إن الشرك ل نجاة لصاحبه بشفاعة‬
‫أو غيره ال بالتوبة قبل الموت ‪ .‬واما الثاني فلن‬
‫تقييد المغفرة والرحمة بالتوبة تقييد من غير مقيد‬
‫على ان تقييد المعصية بالتوبة يفسد المعادلة في‬
‫قوله فمن تبعني فانه منى ومن عصاني الخ فان‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 75‬‬
‫العاصى التائب يعود ممن تبعه ويلحق به عليه‬
‫السلم فل يبقى للمعادله ازيد من طرف واحد ‪.‬‬
‫واما الثالث والرابع فلما فيهما من ارتكاب خلف‬
‫الظاهر فان ظاهر طلب المغفرة للعاصي أن يغفر‬
‫الله له حينما هو عاص ل ان يغفر الله له بعد‬
‫خروجه بالتوبة عن المعصية إلى الطاعة وكذا‬
‫ظاهر مغفرة العصيان رفع تبعات معصيته مطلقا‬
‫أو في الخرة واما رفع التبعة الدنيوية فقد فأمر‬
‫بعيد عن الفهم ‪ .‬واما الخامس فهو ابعد الوجوه‬
‫وكيف يجوز الجتراء على مثل الخليل عليه السلم‬
‫وهو في اواخر عمره كما تقدم ان يجهل ما هو‬
‫من واضحات المعارف الدينية ثم يجرى على جهله‬
‫فيشفع عند ربه للمشركين ويسال لهم المغفرة‬
‫من غير ان يستاذن الله في ذلك ولو استاذنه‬
‫لنبأه ان ذلك مما ل يكون ثم يورد الله سبحانه في‬
‫كلمه ما ارتكبه ‪ /‬صفحة ‪ / 76‬من لغو الكلم جهل‬
‫ول يرده ببيان ما هو الحق في ذلك وقد اعتذر‬
‫سبحانه عن استغفاره لبيه المشرك ورفع عن‬
‫ساحته كل غميضة فيما قال وما كان استغفار‬
‫ابراهيم لبيه إل عن موعدة وعدها اياه فلما تبين‬
‫له انه عدو لله تبرأ منه " التوبة ‪ . 114 -‬واما‬
‫السادس فتقييد المعصية بما دون الشرك تقييد‬
‫من غير مقيد اللهم إل أن يقرر بما يرجع إلى ما‬
‫قدمناه ‪ .‬فهذه جملة ما ذكره المفسرون في ذيل‬
‫اليتين اوردناها ملخصة وقد وقعوا فيما وقعوا‬
‫لهمالهم تحقيق القول في معنى حفظه تعالى‬
‫عن الشرك ومعنى تفرع قوله فمن تبعني فانه‬
‫منى الخ على ما تقدمه ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ربنا انى‬
‫اسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك‬
‫المحرم إلى آخر الية من ذريتي في تأويل مفعول‬
‫اسكنت أو ساد مسده ومن فيه للتبعيض ومراده‬
‫عليه السلم ببعض ذريته ابنه اسماعيل ومن‬
‫سيولد له من الولد دون اسماعيل وحده بدليل‬
‫قوله بعد ربنا ليقيموا الصلة ‪ .‬والمراد بغير ذى‬
‫زرع غير المزروع وهو آكد وابلغ لنه يدل كما قيل‬
‫على عدم صلحيته لن يزرع لكونه ارضا حجرية‬
‫رملية خالية عن المواد الصالحة للزرع وهذا كقوله‬
‫قرآنا غير ذى عوج ‪ .‬و نسبة البيت إلى الله سبحانه‬
‫لنه مبنى لغرض ل يصلح ال له تعالى وهو عبادته‬
‫وكونه محرما هو ما جعل الله له من الحرمة‬
‫تشريعا والظرف اعني قوله عند بيتك المحرم‬
‫متعلق بقوله اسكنت ‪ .‬وهذه الجملة من دعائه عليه‬
‫السلم اعني قوله ربنا انى اسكنت إلى قوله‬
‫المحرم من الشاهد على ما قدمناه من انه عليه‬
‫السلم انما دعا بهذالدعاء في اواخر عمره بعد ما‬
‫بنى الكعبة وبنى الناس بلدة مكة وعمروها كما ان‬
‫من الشاهد عليه ايضا قوله الحمد لله الذى وهب‬
‫لى على الكبر اسماعيل واسحاق ‪ .‬وبذلك يندفع ما‬
‫ربما يستشكل فيقال كيف سماه بيتا وقال‬
‫اسكنت من ذريتي عنده ولم يبنه بعد ؟ كأن‬
‫السائل يقدر انه انما دعا به يوم اتى باسماعيل‬
‫وامه إلى ارض مكة وكانت ارضا قفراء ل انيس بها‬
‫ول نبت ‪ /‬صفحة ‪ / 77‬ول حاجة إلى دفعه بانه كان‬
‫يعلم بما علمه الله انه سيبني هناك بيتا لله أو بأن‬
‫البيت كان قبل ذلك وانما خربه بعض الطوائف أو‬
‫رفعه الله إلى السماء في الطوفان وليت شعرى‬
‫إذا اندفع بهما هذا الشكال فكيف يندفع بهما ما‬
‫يتوجه من الشكال على هذا التقدير إلى ظاهر‬
‫قوله رب اجعل هذا البلد آمنا وظاهر قوله وهب‬
‫لى على الكبر اسماعيل واسحاق ‪ .‬وقوله ربنا‬
‫ليقيموا الصلة بيان لغرضه من اسكانهم هناك‬
‫وهو بانضمام ما تقدم من قوله بواد غير ذى زرع‬
‫وما يعقبه من قوله ‪ " :‬فاجعل افئدة من الناس‬
‫تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات " يفيد إنه عليه‬
‫السلم انما اختار واديا غير ذى زرع اعزل من‬
‫امتعة الحياة من ماء عذب ونبات ذى خضرة وشجر‬
‫ذي بهجة وهواء معتدل خاليا من السكنة ليتمحضوا‬
‫في عبادة الله من غير أن يشغلهم شواغل الدنيا ‪.‬‬
‫وقوله فاجعل افئدة من الناس تهوى إليهم الخ من‬
‫الهوى بمعنى السقوط أي تحن وتميل إليهم‬
‫بالمساكنة معهم أو بالحج إلى البيت فيأنسوا بهم‬
‫وارزقهم من الثمرات بالنقل إليهم تجارة لعلهم‬
‫يشكرون ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ربنا إنك تعلم ما نخفى‬
‫وما نعلن " إلى آخر الية معناه ظاهر وقوله وما‬
‫يخفى على الله شئ في الرض ول في السماء‬
‫من تمام كلم ابراهيم عليه السلم أو من كلمه‬
‫تعالى وعلى الول ففى قوله على الله التفات‬
‫وجهه الشارة إلى علة الحكم كأنه قيل انك تعلم‬
‫ما نخفى وما نعلن لنك الله الذى ما يخفى عليه‬
‫شئ في الرض ول في السماء ول يبعد أن يستفاد‬
‫من هذا التعليل ان المراد بالسماء ما هو خفى‬
‫علينا غائب عن حسنا والرض بخلفه فافهم ذلك ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬الحمد لله الذى وهب لى على الكبر‬
‫اسماعيل واسحاق ان ربى لسميع الدعاء "‬
‫كالجملة المعترضة بين فقرات دعائه دعاه إلى‬
‫ايراده تذكرة في ضمن ما اورده من الدعية عظيم‬
‫نعمة الله عليه إذ وهب له ولدين صالحين مثلهما‬
‫بعد ما انقطع عنه السباب العادية المؤدية إلى‬
‫ظهور النسل وانه انما وهبهما له باستجابة دعائه‬
‫للولد فحمد الله على ما وهبهما واثنى عليه على‬
‫استجابة دعائه في ذلك ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 77‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬رب اجعلني مقيم الصلة ومن‬
‫ذريتي ربناوتقبل دعاء " الكلم ‪ /‬صفحة ‪ / 78‬في‬
‫استناد اقامته الصلة إلى الله سبحانه نظير الكلم‬
‫في استناد اجنابه أن يعبد الصنام فان لقامة‬
‫الصلة نسبة إليه تعالى بالذن والمشية كما ان لها‬
‫نسبة إلى العبد بالتصدي والعمل وقد مر الكلم‬
‫فيه ‪ .‬وهذه الفقرة ثانى دعاء يشترك فيه هو عليه‬
‫السلم وذريته ويعقب في الحقيقة قوله اول‬
‫وأجنبنى وبني أن نعبد الصنام كما يلحق به دعاؤه‬
‫الثالث المشترك فيه ربنا اغفر لى ولوالدي‬
‫وللمؤمنين ‪ .‬وقد أفرد نفسه في جميع الفقرات‬
‫الثلث عن غيره إذ قال وأجنبنى واجعلني مقيم‬
‫الصلة اغفر لى لن مطلوبه لحوق ذريته به كما‬
‫قال في موضع آخر ‪ " :‬واجعل لى لسان صدق في‬
‫الخرين " الشعراء ‪ 84 :‬وفي موضع آخر كما حكاه‬
‫الله بقوله ‪ " :‬واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات‬
‫فأتمهن قال انى جاعلك للناس اماما قال ومن‬
‫ذريتي " البقرة ‪ . 124 :‬واما قوله في الفقرة‬
‫الولى وأجنبنى وبنى وههنا اجعلني مقيم الصلة‬
‫ومن ذريتي فقد تقدم ان المراد ببنيه بعضهم ل‬
‫جميعهم فتتطابق الفقرتان ‪ .‬ومن تطابق‬
‫الفقرتين انه اكد دعاءه في هذه الفقرة بقوله‬
‫ربنا وتقبل دعاء فان سؤال تقبل الدعاء الحاح‬
‫واصرار وتأكيد كما إن التعليل في الفقرة الولى‬
‫بقوله رب انهن اضللن كثيرا من الناس تأكيد في‬
‫الحقيقة لما فيها من الدعاء بقوله وأجنبنى الخ ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين‬
‫يوم يقوم الحساب ختم عليه السلم دعاءه وهو‬
‫آخر ما ذكر من دعائه في القرآن الكريم كما تقدم‬
‫بطلب المغفرة للمؤمنين يوم القيامة ويشبه آخر‬
‫ما دعا به نوح عليه السلم مما ذكر في القرآن ‪" :‬‬
‫رب اغفر لى ولوالدي ولمن دخل بيتى مؤمنا‬
‫وللمؤمنين والمؤمنات " نوح ‪ . 28‬وفي الية دليل‬
‫على انه عليه السلم لم يكن ولد آزر المشرك‬
‫لصلبه فانه عليه السلم كما ترى يستغفر لوالديه‬
‫وهو على الكبر وفي آخر عهده وقد تبرء من آزر‬
‫في اوائل عهده بعد ما استغفر له عن موعدة‬
‫وعده اياه قال تعالى ‪ " :‬قال سلم عليك‬
‫سأستغفر لك ربى " مريم ‪ 47 :‬وقال ‪ " :‬واغفر‬
‫لبي انه كان من الضالين " الشعراء ‪ / 86 :‬صفحة‬
‫‪ / 79‬وقال وما كان استغفار ابراهيم لبيه إل عن‬
‫موعدة وعدها اياه فلما تبين له إنه عدو لله تبرء‬
‫منه " التوبة ‪ 114 :‬وقد تقدم تفصيل القول في‬
‫قصصه عليه السلم في سورة النعام في الجزء‬
‫السابع من الكتاب ‪ .‬ومن لطيف ما في دعائه عليه‬
‫السلم اختلف النداء المكرر الذى فيه بلفظ رب‬
‫وربنا والعناية فيما اضيف إلى نفسه بما يختص‬
‫بنفسه من السبقة والمامة وفيما اضيف إلى‬
‫نفسه وغيره إلى المشتركات ‪ ) .‬بحث روائي ( في‬
‫الدر المنثور اخرج أبو نعيم في الدلئل عن عقيل‬
‫بن ابى طالب ‪ :‬ان النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم لما أتاه الستة النفر من النصار جلس إليهم‬
‫عند جمرة العقبة فدعاهم إلى الله وإلى عبادته‬
‫والمؤازرة على دينه فسألوه أن يعرض عليهم ما‬
‫اوحى إليه فقرأ من سورة ابراهيم ‪ " :‬واذ قال‬
‫ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا وأجنبنى وبني أن‬
‫نعبد الصنام " إلى آخر السورة فرق القوم‬
‫وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا واجابوه وفي‬
‫تفسير العياشي عن ابى عبيدة عن ابى عبد الله‬
‫عليه السلم قال ‪ :‬من احبنا فهو منا أهل البيت‬
‫فقلت جعلت فداك منكم ؟ قال منا والله أما‬
‫سمعت قول الله وهو قول ابراهيم عليه السلم‬
‫فمن تبعني فانه منى وفيه عن محمد الحلبي عن‬
‫ابى عبد الله عليه السلم قال ‪ :‬من اتقى الله‬
‫منكم واصلح فهو منا اهل البيت ؟ قال منكم اهل‬
‫البيت قال منا اهل البيت قال فيها ابراهيم فمن‬
‫تبعني فانه منى قال عمر بن يزيد قلت له من آل‬
‫محمد ؟ قال أي والله من آل محمد أي والله من‬
‫انفسهم أما تسمع قول الله تعالى ‪ " :‬إن أولى‬
‫الناس بابراهيم للذين اتبعوه وقول ابراهيم فمن‬
‫تبعني فانه منى ؟ اقول وقد ورد في بعض‬
‫الروايات ان بنى اسماعيل لم يعبدوا صنما قط اثر‬
‫دعاء ابراهيم واجنبني وبنى ان نعبد الصنام وانهم‬
‫انما قالوا هؤلء شفعاؤنا عند الله والظاهر ان‬
‫الرواية موضوعة وقد تقدمت الشارة إليه في‬
‫البيان السابق ‪ /‬صفحة ‪ / 80‬وكذا ما ورد في بعض‬
‫الروايات من طرق العامة والخاصة إن ارض‬
‫الطائف كانت في الردن من ارض فلسطين فلما‬
‫دعا ابراهيم عليه السلم لبنيه بقوله ‪ " :‬وارزقهم‬
‫من الثمرات امر الله بها فسارت بترابها إلى مكة‬
‫فطافت على البيت سبعة اشواط ثم استقرت‬
‫حيث الطائف الن ‪ .‬وهذا وان كان ممكن الوقوع‬
‫في نفسه من طريق العجاز لكن ل يكفى لثبوته‬
‫امثال هذه الروايات الضعيفة والمرسلة على إن‬
‫هذه اليات في مقام المتنان ولو قارن هذا الدعاء‬
‫واستجابته تعالى له مثل هذه الية العظيمة‬
‫العجيبة والمعجزة الباهرة لشير إليها مزيدا‬
‫للمتنان والله اعلم ‪ .‬وفي مرسلة العياشي عن‬
‫حريز عمن ذكره عن احدهما عليه السلم ‪ :‬انه كان‬
‫يقرأ رب اغفر لى ولولدي يعنى اسماعيل واسحاق‬
‫وفي مرسلته الخرى عن جابر‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 80‬‬
‫عن ابى جعفر عليه السلم ‪ :‬مثله وظاهر هذه‬
‫الرواية إن القراءة مبنية على كفر والد ابراهيم‬
‫والروايتان ضعيفتان ل يعبأ بهما * * * ول تحسبن‬
‫الله غافل عما يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم‬
‫تشخص فيه البصار ‪ 42 -‬مهطعين مقنعي‬
‫رؤوسهم ل يرتد إليهم طرفهم وافئدتهم هواء ‪-‬‬
‫‪ 43‬وانذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين‬
‫ظلموا ربنا أخرنا إلى اجل قريب نجب دعوتك‬
‫ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم‬
‫من زوال ‪ 44 -‬وسكنتم في مساكن الذين ظلموا‬
‫انفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم‬
‫المثال ‪ 45 -‬وقد مكروا مكرهم وعند الله ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 81‬مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ‪-‬‬
‫‪ 46‬فل تحسبن الله مخلف وعده رسله ان الله‬
‫عزيز ذو انتقام ‪ 47 -‬يوم تبدل الرض غير الرض‬
‫والسموات وبرزوا لله الواحد القهار ‪ 48 -‬وترى‬
‫المجرمين يومئذ مقرنين في الصفاد ‪49 -‬‬
‫سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ‪50 -‬‬
‫ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع‬
‫الحساب ‪ 51 -‬هذا بلغ للناس ولينذروا به وليعلموا‬
‫انما هو اله واحد وليذكر اولوا اللباب ‪ ) 52 -‬بيان (‬
‫لما أنذر وبشر سبحانه في اليات السابقة ودعا‬
‫إلى صراطه بما إنه العزيز الحميد ختم بيانه بدفع‬
‫ما ربما يسبق إلى اوهام ضعفاء العقول من‬
‫الناس من ان المر لو كان على ما ذكر وكانت هذه‬
‫الدعوة دعوة نبوية من لدن رب عزيز حميد فما‬
‫بال هؤلء الظالمين يتمتعون بما شاؤا ؟ وما باله‬
‫ل يأخذ الظالمين بظلمهم ول يلجم المتخلفين عن‬
‫دعوته المخالفين عن امره ؟ أهو في غفلة عما‬
‫يعملونه أم هو مخلف وعده رسله يعدهم بالنصر‬
‫ثم ل يفى بوعده ؟ فأجاب تعالى انه ليس بغافل‬
‫عما يعمل الظالمون ول مخلف وعده رسله كيف ؟‬
‫وهو تعالى عليم بما يمكرون وعزيز ذو انتقام بل‬
‫انما يؤخرهم ليوم شديد وهو يوم الجزاء على انه‬
‫تعالى ربما اخذهم بذنوبهم في الدنيا كما اخذ‬
‫المم الماضين ‪ .‬ثم ختم السورة بقوله هذا بلغ‬
‫للناس ولينذروا به وليعلموا إنما هو إله واحد‬
‫وليذكر اولوا اللباب وهى آية جامعة لغرض‬
‫السورة كما سيجئ بيانه ان شاء الله ‪ / .‬صفحة ‪82‬‬
‫‪ /‬قوله تعالى ‪ " :‬ول تحسبن الله غافل عما يعمل‬
‫الظالمون " إلى آخر اليتين يقال شخص بصره أي‬
‫سكن بحيث ل يطرف جفنه ويقال بعير مهطع إذا‬
‫صوب عنقه أي رفعه وهطع واهطع بمعنى ويقال‬
‫اقنع رأسه إذا رفعه وقوله ل يرتد إليهم طرفهم‬
‫أي ل يقدرون على ان يطرفوا من هول ما‬
‫يشاهدونه وقوله وافئدتهم هواء أي قلوبهم خالية‬
‫عن التعقل والتدبير لشدة الموقف أو انها زائلة ‪.‬‬
‫والمعنى ول تحسبن الله ول تظننه غافل عما‬
‫يعمل هؤلء الظالمون بما تشاهد من تمتعهم‬
‫وإترافهم في العيش وافسادهم في الرض انما‬
‫يمهلهم الله ويؤخر عقابهم إلى يوم يسكن فيه‬
‫ابصارهم فل تطرف والحال انهم ما دون لعناقهم‬
‫رافعون لرؤوسهم ل يقدرون على رد طرفهم‬
‫وقلوبهم مدهوشة خالية عن كل تحيل وتدبير من‬
‫شدة هول يوم القيامة وفي الية انذار للظالمين‬
‫وتعزية لغيرهم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وأنذر الناس يوم‬
‫يأتيهم العذاب " إلى آخر الية في الية انذار بعد‬
‫انذار وبين النذارين فرق من جهتين احداهما ان‬
‫النذار في اليتين السابقتين انذار بما أعد الله‬
‫من اهوال يوم القيامة واليم العذاب فيه واما الذى‬
‫في هذه الية وما يتلوها فهو انذار بعذاب‬
‫الستئصال في الدنيا ومن الدليل عليه قوله ‪" :‬‬
‫فيقول الذين ظلموا ربنا اخرنا إلى اجل قريب "‬
‫الخ ‪ .‬وبذلك يظهر ان ل وجه لما ذكره بعضهم ان‬
‫المراد بهذا اليوم الذى يأتيهم فيه العذاب هو يوم‬
‫القيامة وكذا ما ذكره آخرون ان المراد به يوم‬
‫الموت ‪ .‬والثانية إن النذار الول انذار بعذاب‬
‫قطعي ل صارف له عن أمة ظالمة ول فرد ظالم‬
‫من أمة واما النذار الثاني فهو انذار بعذاب غير‬
‫مصروف عن امة ظالمة واما الفرد فربما صرف‬
‫عنه ولذلك ترى انه تعالى يقول اول وانذر الناس‬
‫ثم يقول فيقول الذين ظلموا الخ ولم يقل‬
‫فيقولون أي الناس لن عذاب الستئصال ل يصيب‬
‫المؤمنين قال تعالى ‪ " :‬ثم ننجي رسلنا والذين‬
‫آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين " يونس ‪103 :‬‬
‫وانما يصيب المة الظالمة بحلول أجلهم وهم‬
‫طائفة من ظالمي المة ل جميع افرادها ‪.‬‬
‫وبالجملة فقوله وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب‬
‫انذار للناس بعذاب الستئصال الذى يقطع دابر‬
‫الظالمين منهم وقد تقدم في تفسير سورة يونس‬
‫وغيره ان ذلك ‪ /‬صفحة ‪ / 83‬مكتوب على المم‬
‫قضاء بينهم وبين رسولهم حتى هذه المة‬
‫المحمدية وقد تكرر هذا الوعيد منه تعالى في عدة‬
‫مواضع من كلمه ‪ .‬وهذا هو اليوم الذى يطهر الله‬
‫الرض فيه من قذارة الشرك والظلم ول يعبد‬
‫عليها يومئذ ال الله سبحانه فان الدعوة عامة‬
‫والمة هم اهل الرض فإذا محى الله عنهم الشرك‬
‫لم يبق منهم ال المؤمنون ويكون الدين كله لله‬
‫قال تعالى ‪ " :‬ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر‬
‫ان الرض يرثها عبادي الصالحون " ‪ .‬ومما تقدم‬
‫يظهر الجواب عما اورد على كون المراد بالعذاب‬
‫في الية عذاب‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 83‬‬
‫الستئصال ان القصر في الية السابقة ينافيه‬
‫فان قوله انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه البصار‬
‫يقصر اخذهم وعقابهم في يوم القيامة ‪ .‬وذلك لما‬
‫عرفت ان العذاب المنذر به في اليتين السابقتين‬
‫هو العذاب الذى ل يصرفه عنهم صارف ول يتخلف‬
‫عنه احد من الظالمين وهو مقصور في عذاب يوم‬
‫القيامة ول ينافى انحصاره في يوم القيامة وجود‬
‫نوع آخر من العذاب في الدنيا ‪ .‬على ان القصر لو‬
‫تم على ما يريده المعترض لدفع ما يدل عليه‬
‫اليات الكثيرة الدالة على نزول العذاب بهذه المة‬
‫كما اشرنا إليه ‪ .‬على ان حمل العذاب في الية‬
‫على عذاب يوم القيامة يوجب صرف اليات عن‬
‫ظهورها ورفع اليد عما يعطيه السياق فيها ول‬
‫مساغ له ‪ .‬وقوله ‪ " :‬فيقول الذين ظلموا ربنا‬
‫أخرنا إلى اجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل "‬
‫المراد به الظالمون من الناس وهم الذين يأخذهم‬
‫العذاب المستأصل ول يتخطاهم ومرادهم بقولهم‬
‫اخرنا إلى اجل قريب الستمهال بمدة قصيرة‬
‫تضاف إلى عمرهم في الدنيا حتى يتداركوا فيه ما‬
‫فوتوه بظلمهم والدليل عليه قولهم نجب دعوتك‬
‫ونتبع الرسل ‪ .‬والتعبير بالرسل بلفظ الجمع في‬
‫قولهم ونتبع الرسل مع ان الية تصف حال‬
‫ظالمي هذه المة ظاهرا وكان مقتضى ذلك ان‬
‫يقان ونتبع الرسول انما هو للدللة على ان الملك‬
‫في نزول هذا العذاب القضاء بين الرسالة وبين‬
‫منكريها من غير اختصاص ذلك برسول دون رسول‬
‫كما يفيده قوله ‪ " :‬ولكل امة رسول فإذا جاء‬
‫رسولهم ‪ /‬صفحة ‪ / 84‬قضى بينهم بالقسط وهم‬
‫ل يظلمون " يونس ‪ . 47 :‬وقوله ‪ " :‬أو لم تكونوا‬
‫اقسمتم من قبل ما لكم من زوال " القسام‬
‫تعليق الحكم في الكلم بامر شريف من جهة‬
‫شرافته ليدل به على صدقه إذ لو كذب المتكلم‬
‫وقد اقسم في كلمه لذهب بذلك شرف المقسم‬
‫به كقولنا والله ان كذا لكذا ولعمري ان المر على‬
‫كذا ويعد القسم اقوى اسباب التأكيد ول يبعد ان‬
‫يكون القسام في الية كناية عن ايراد الكلم في‬
‫صورة جازمة غير قابلة للترديد ‪ .‬والكلم على‬
‫تقدير القول والمعنى يقال لهم توبيخا وتبكيتا ألم‬
‫تكونوا أقسمتم من قبل نزول العذاب ما لكم من‬
‫زوال وإنكم بما عندكم من القوة والسطوة‬
‫ووسائل الدفاع أمة خالدة مسيطرة على الحوادث‬
‫فما لكم تستمهلون إلى اجل قريب ‪ .‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫" وسكنتم في مساكن الذين ظلموا انفسهم " إلى‬
‫آخر الية معطوف على محل قوله اقسمتم في‬
‫الية السابقة والمعنى أو لم تكونوا سكنتم في‬
‫مساكن الذين ظلموا انفسهم من المم السابقة‬
‫وظهر لكم ان هذه الدعوة حقة ويتعقبها لو ردت‬
‫عذاب مستأصل من جهتين جهة المشاهدة حيث‬
‫تبين لكم كيف فعلنا باولئك الظالمين الذين‬
‫سكنتم في مساكنهم ؟ وجهة البيان حيث ضربنا‬
‫لكم المثال وأنذرناكم عذابا مستأصل يتعقبه انكار‬
‫الحق ورد الدعوة النبوية ويقطع دابر الظالمين ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬وقد مكروا مكرهم وعند الله‬
‫مكرهم وان كان مكرهم لتزول منه الجبال حال‬
‫من الضمير في فعلنا في الية السابقة أو من‬
‫الضمير في بهم فيها أو من الضميرين جميعا على‬
‫ما قيل وضمائر الجمع راجعة إلى الذين ظلموا ‪.‬‬
‫والمراد بكون مكرهم عند الله احاطته تعالى به‬
‫بعلمه وقدرته ومن المعلوم ان المكر إنما يكون‬
‫مكرا إذا لم يحط به الممكور به وجهله واما إذا كان‬
‫الممكور به عالما بما هيأه الماكر من المكر وقادرا‬
‫على دفعه لغى المكر أو عاد مكرا على نفس‬
‫الماكر كما قال تعالى ‪ " :‬وما يمكرون إل بأنفسهم‬
‫وما يشعرون " النعام ‪ . 123 :‬وقوله ‪ " :‬وإن كان‬
‫مكرهم لتزول منه الجبال إن وصلية على ما قيل‬
‫واللم في لتزول متعلق بمقدر يدل عليه لفظ‬
‫المكر كقولنا يقتضى أو يوجب وما اشبه ذلك‬
‫والتقدير الله محيط بمكرهم عالم به قادر على‬
‫دفعه ان كان مكرهم ‪ /‬صفحة ‪ / 85‬دون هذه‬
‫الشدة وان كان على هذه الشدة ‪ .‬والمعنى تبين‬
‫لكم كيف فعلنا بهم والحال انهم مكروا ما في‬
‫وسعهم من المكر والله محيط بمكرهم وان كان‬
‫مكرهم عظيما موجبا لزوال الجبال ‪ .‬وربما قيل‬
‫إن إن نافية واللم هي الداخلة على المنفى‬
‫والمراد بالجبال اليات والمعجزات كناية والمعنى‬
‫وما كان مكرهم لتبطل به آيات الله ومعجزاته التى‬
‫هي كالجبال الراسيات التى ل تزول عن مكانها‬
‫وايد هذا المعنى بقراءة ابن مسعود وما كان‬
‫مكرهم وهو معنى بعيد ‪ .‬وقرئ ايضا لتزول بفتح‬
‫اللم الولى وضم اللم الثانية وعلى هذا تكون ان‬
‫مخففة من المشددة والمعنى والتحقيق ان‬
‫مكرهم كان من العظمة بحيث تزول منه الجبال‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬فل تحسبن الله مخلف وعده رسله‬
‫ان الله عزيز ذو انتقام " تفريع على ما تقدم ان‬
‫ترك مؤاخذة الظالمين بعملهم انما هو لتاخيرهم‬
‫إلى يوم القيامة أي إذا كان المر كذلك فل تحسبن‬
‫الله مخلفا لما وعد رسله من نصرهم ومؤاخذة‬
‫المتخلفين عن دعوتهم وكيف يخلف وعده وهو‬
‫عزيز ذو انتقام شديد ولزم عزته المطلقة أن ل‬
‫يخلف وعده فان اخلف الوعد اما لكون الواعد غير‬
‫قادر على انجاز ما وعده أو‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 85‬‬
‫لتغير من الرأى بعروض حال ثانية تقهره على‬
‫خلف ما بعثته إليه الحال الولى التى اوجبت عليه‬
‫الوعد والله سبحانه عزيز على الطلق ل يتصف‬
‫بعجز ول تقهره حال ول شئ آخر وهو الواحد‬
‫القهار ‪ .‬ولزم اتصافه بالنتقام ان ينتقم للحق‬
‫ممن استكبر عنه واستعلى عليه وينتصف للمظلوم‬
‫من الظالم ‪ .‬وذو انتقام من اسمائه تعالى‬
‫الحسنى التى سمى الله تعالى بها نفسه في‬
‫مواضع من كلمه وقارنه في جميعها باسمه العزيز‬
‫قال تعالى ‪ " :‬والله عزيز ذو انتقام " آل عمران ‪:‬‬
‫‪ 4‬المائدة ‪ 95 :‬وقال ‪ " :‬أليس الله بعزيز ذو انتقام‬
‫" الزمر ‪ 37 :‬وقال في الية المبحوث عنها ان الله‬
‫عزيز ذو انتقام ومن ذلك يظهر ان ذا انتقام من‬
‫فروع اسم العزيز ‪ / .‬صفحة ‪ ) / 86‬كلم في معنى‬
‫النتقام ونسبته إليه تعالى ( النتقام هو العقوبة‬
‫لكن ل كل عقوبة بل عقوبة خاصة وهى ان تذيق‬
‫غيرك من الشر ما يعادل ما اذاقك منه أو تزيد‬
‫عليه قال تعالى ‪ " :‬ومن اعتدى عليكم فاعتدوا‬
‫عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله " ‪ .‬وهو‬
‫اصل حيوى معمول به عند النسان وربما يشاهد‬
‫من بعض الحيوان ايضا اعمال يشبه ان تكون منه‬
‫وايا ما كان يختلف الغرض الذى يبعث النسان إليه‬
‫فالداعي إليه في النتقام الفردى هو التشفي‬
‫غالبا فإذا سلب الواحد من النسان غيره شيئا من‬
‫الخير أو اذاقه شيئا من الشر وجد الذى فعل به‬
‫ذلك في نفسه من السى والسف ما ل تسكن‬
‫فورته ول تخمد ناره ال بأن يذيقه من الشر ما‬
‫يعادل ما ذاق منه أو يزيد عليه فالعامل الذى يدعو‬
‫إليه هو الحساس الباطني واما العقل فربما‬
‫اجازه وانفذه وربما استنكف ‪ .‬والنتقام‬
‫الجتماعي ونعنى به القصاصات وانواع المؤاخذات‬
‫التى نعثر عليها في السنن والقوانين الدائرة في‬
‫المجتمعات اعم من الراقية والهمجية الغالب فيه‬
‫أن يكون الغرض الداعي إليه غاية فكرية ومطلوبا‬
‫عقليا وهو حفظ النظام عن الختلل وسد طريق‬
‫الهرج والمرج فلو ل اصل النتقام ومؤاخذة‬
‫المجرم الجاني بما اجرم وجنى اختل المن العام‬
‫وارتحل السلم من بين الناس ‪ .‬ولذا كان هذا‬
‫النوع من النتقام حقا من حقوق المجتمع وان‬
‫كان ربما استصحب حقا فرديا كمن ظلم غيره بما‬
‫فيه مؤاخذة قانونية فربما يؤاخذ الظالم استيفاء‬
‫لحق المجتمع وان ابطل المظلوم حقه بالعفو ‪.‬‬
‫فقد تبين ان من النتقام ما يبتنى على الحساس‬
‫وهو النتقام الفردى الذى غايته التشفي ومنه ما‬
‫يبتنى على العقل وهو النتقام الجتماعي الذى‬
‫غايته حفظ النظام وهو من حقوق المجتمع وان‬
‫شئت قلت من حقوق السنة أو القانون الجارى‬
‫في المجتمع فان استقامة الحكام المعدلة لحياة‬
‫الناس وسلمتها في نفسها تقتضي مؤاخذة‬
‫المجرم المتخلف عنها واذاقته جزاء سيئته المر‬
‫فهو من حقوق السنة والقانون كما انه من حقوق‬
‫المجتمع ‪ / .‬صفحة ‪ / 87‬إذا عرفت هذا علمت ان‬
‫ما ينسب إليه تعالى في الكتاب والسنة من‬
‫النتقام هو ما كان حقا من حقوق الدين اللهى‬
‫والشريعة السماوية وان شئت فقل من حقوق‬
‫المجتمع السلمي وان كان ربما استصحب الحق‬
‫الفردى فيما إذا انتصف سبحانه للمظلوم من‬
‫ظالمه فهو الولى الحميد ‪ .‬واما النتقام الفردى‬
‫المبنى على الحساس لغايه التشفي فساحته‬
‫المقدسة اعز من أن يتضرر بإجرام المجرمين‬
‫ومعصية المسيئين أو ينتفع بطاعة المحسنين ‪.‬‬
‫ومن هنا يظهر سقوط ما ربما استشكله بعضهم‬
‫ان النتقام انما يكون لتشفى القلب واذ كان‬
‫تعالى ل ينتفع ول يتضرر بشئ من اعمال عباده‬
‫خيرا أو شرا طاعة أو معصية فل وجه لنسبة‬
‫النتقام إليه كما ان رحمته غير المتناهية تأبى ان‬
‫يعذبهم بعذاب خالد غير متناه كيف ل ؟ والواحد‬
‫من ارباب الرحمة يرحم المجرم المقدم على أي‬
‫معصية إذا كان عن جهالة منه وهو تعالى يصف‬
‫النسان وهو مخلوقه المعلوم له حاله بذلك إذ‬
‫يقول ‪ " :‬إنه كان ظلوما جهول " الحزاب ‪. 72‬‬
‫وجه السقوط ان فيه خلطا بين النتقام الفردى‬
‫والجتماعي والذى يثبت فيه تعالى هو الجتماعي‬
‫منه دون الفردى كما توهم كما ان فيه خلطا بين‬
‫الرحمة النفسانية التى هي تأثر وانفعال قلبى من‬
‫النسان وبين الرحمة العقلية التى هي تتميم‬
‫نقص الناقص المستعد لذلك والتى تثبت فيه‬
‫تعالى هي الرحمة العقلية دون الرحمة النفسانية‬
‫ولم يثبت الخلود في العذاب ال فيما إذا بطل‬
‫استعداد الرحمة وامكان الفاضة قال تعالى ‪" :‬‬
‫بلى من كسب سيئة واحاطت به خطيئته فاولئك‬
‫اصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة ‪. 81 :‬‬
‫وههنا نكتة يجب ان تتنبه لها وهى إن الذى تقدم‬
‫من معنى النتقام المنسوب إليه تعالى انما يتأتى‬
‫على مسلك المجازاة والثواب والعقاب واما على‬
‫مسلك نتائج العمال فترجع حقيقته إلى لحوق‬
‫الصور السيئه المؤلمه بالنفس النسانية عن‬
‫الملكات الرديئة التى اكتسبتها في الحياة الدنيا‬
‫بعد الموت وقد تقدم البحث في الجزء الول من‬
‫الكتاب في ذيل قوله تعالى ‪ " :‬ان الله ل يستحى‬
‫ان يضرب مثل ما " الية البقرة ‪ 26‬في جزاء‬
‫العمال ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 87‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬يوم تبدل الرض غير الرض‬
‫والسماوات وبرزوالله الواحد ‪ /‬صفحة ‪ / 88‬القهار‬
‫" الظرف متعلق بقوله ذو انتقام وتخصيص‬
‫انتقامه تعالى بيوم القيامة مع عمومه لجميع‬
‫الوقات والظروف انما هو لكون اليوم اعلى‬
‫مظاهر النتقام اللهى كما ان تخصيص بروزهم‬
‫لله بذلك اليوم كذلك وعلى هذا النسق جل‬
‫الوصاف المذكورة في كلمه تعالى ليوم القيامة‬
‫كقوله ‪ " :‬المر يومئذ لله " النفطار ‪ 19 :‬وقوله ‪:‬‬
‫" ما لكم من الله من عاصم " المؤمن ‪ 33 :‬إلى‬
‫غير ذلك وقد تقدمت الشارة إليه كرارا ‪ .‬والظاهر‬
‫ان اللم في الرض للعهد في الموضعين معا وكذا‬
‫في السماوات والسماوات معطوفة على الرض‬
‫الولى والمعنى تبدل هذه الرض غير هذه الرض‬
‫وتبدل هذه السماوات غير هذه السماوات ‪.‬‬
‫وللمفسرين في معنى تبدل الرض والسماوات‬
‫اقوال مختلفة فقيل تبدل الرض فضة والسماوات‬
‫ذهبا وربما قيل ان الرض تبدل من ارض نقية‬
‫كالفضة والسماوات كذلك ‪ .‬وقيل تبدل الرض نارا‬
‫والسماوات جنانا ‪ .‬وقيل تبدل الرض خبزة نقية‬
‫تأكل الناس منها طول يوم القيامة ‪ .‬وقيل تبدل‬
‫الرض لكل فريق مما يقتضيه حاله فتبدل لبعض‬
‫المؤمنين خبزة يأكل منها ما دام في العرصات‬
‫ولبعض آخر فضة وتبدل للكافر نارا ‪ .‬وقيل التبديل‬
‫هو انه يزاد في الرض وينقص منها وتذهب آكامها‬
‫وجبالها وأوديتها وشجرها وتمد مد الديم وتصير‬
‫مستوية ل ترى فيها عوجا ول أمتا وتتغير‬
‫السماوات بذهاب الشمس والقمر والنجوم‬
‫وبالجملة يتغير كل من الرض والسماوات عما هو‬
‫عليه في الدنيا من الصفات والشكال ‪ .‬ومنشأ‬
‫اختلفهم في تفسير التبديل اختلف الروايات‬
‫الواردة في تفسير الية مع إن الروايات لو صحت‬
‫واتصلت كان اختلفها اقوى شاهد على ان‬
‫ظاهرها غير مراد وان بياناتها واقعة موقع التمثيل‬
‫للتقريب ‪ .‬والتدبر الكافي في اليات التى تحوم‬
‫حول تبديل الرض والسماء يفيد إن امر التبديل‬
‫أعظم مما نتصوره من بسط الجبل على السهل أو‬
‫تبديل التراب فضة أو خبزا ‪ /‬صفحة ‪ / 89‬نقيا مثل‬
‫كقوله تعالى ‪ " :‬واشرقت الرض بنور ربها "‬
‫الزمر ‪ 69 :‬وقوله ‪ " :‬وسيرت الجبال فكانت سرابا‬
‫" النبأ ‪ 20 :‬وقوله ‪ " :‬وترى الجبال تحسبها جامدة‬
‫وهى تمر مر السحاب " النمل ‪ 88 :‬ان كانت الية‬
‫ناظرة إلى يوم القيامة إلى غير ذلك من اليات ‪.‬‬
‫فاليات تنبئ عن نظام غير هذا النظام الذى نعهده‬
‫وشؤون دون مانتصوره فإشراق الرض يومئذ بنور‬
‫ربها غير اشراق بسيطها بنور الشمس أو الكواكب‬
‫أو غيرها وسير الجبال ينتهى عادة إلى زوالها عن‬
‫مكانها وتلشيها مثل ل إلى كونها سرابا وهكذا‬
‫نرجو ان يوفقنا الله سبحانه لبسط الكلم في هذا‬
‫المعنى فيما سيأتي ان شاء الله تعالى ‪ .‬وقوله‬
‫وبرزوا لله الواحد القهار معنى بروزهم وظهورهم‬
‫لله يومئذ مع كون الشياء بارزة غير خفية عليه‬
‫دائما سقوط جميع العلل والسباب التى كانت‬
‫تحجبهم عنه تعالى ما داموا في الدنيا فل يبقى‬
‫يومئذ على ما يشاهدون شئ من السباب يملكهم‬
‫ويتولى امرهم ويستقل بالتأثير فيهم ال الله‬
‫سبحانه كما يدل عليه آيات كثيرة فهم ل يلتفتون‬
‫إلى جانب ول يتوجهون إلى جهة في ظاهرهم‬
‫وباطنهم وحاضرهم والماضي الغائب من احوالهم‬
‫واعمالهم ال وجدوه سبحانه شاهدا مهيمنا عليه‬
‫محيطا به ‪ .‬والدليل على هذا الذى ذكرناه توصيفه‬
‫تعالى بالواحد القهار المشعر بنوع من الغلبة‬
‫فبروزهم لله يومئذ انما هو ناشئ عن كونه تعالى‬
‫هو الواحد الذى يقوم به وجود كل شئ ويقهر كل‬
‫من دونه من مؤثر فل يحول بينهم وبينه حائل‬
‫فهم بارزون له بروزا مطلقا ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الصفاد‬
‫سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار "‬
‫المقرنين من التقرين وهو جمع الشئ إلى نظيره‬
‫والصفاد جمع الصفد وهو الغل الذى يجمع اليد‬
‫إلى العنق أو هو مطلق السلسلة يقرن بين‬
‫المقيدين والسرابيل جمع السربال وهو القميص‬
‫والقطران شئ اسود منتن يطلى به البل فانهم‬
‫يطلون به فيصير كالقميص عليهم والغشاوة‬
‫بالفتح الستر والتغطية يقال غشى يغشى غشاوة‬
‫أي ستره وغطاه ومعنى اليتين واضح ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ليجزى الله كل نفس ما كسبت ان الله‬
‫سريع الحساب معنى ‪ /‬صفحة ‪ / 90‬الية واضح‬
‫وهى بظاهرها تدل على ان الذى تجزى به كل‬
‫نفس هو عين ما كسبته من حسنة أو سيئة وان‬
‫تبدلت صورته فهى من اليات الدالة على ان الذى‬
‫يلحق بهم يوم القيامة هو نتيجة اعمالهم ‪ .‬فالية‬
‫تفسر اول معنى الجزاء في يوم الجزاء وثانيا‬
‫معنى انتقامه تعالى يومئذ وانه ليس من قبيل‬
‫عقوبة المجرم العاصى تشفيا منه بل الحاق ما‬
‫يستدعيه عمل المجرم به وان شئت فقل ايصال‬
‫ما اكتسبه المجرم بعينه إليه وفي تعليل هذا‬
‫الجزاء وهو في يوم القيامة بقوله ان الله سريع‬
‫الحساب ايماء إلى ان الجزاء واقع من غير فصل‬
‫ومهل ال ان ظرف ظهوره هو ذلك اليوم ل غير أو‬
‫ان الحكم بالجزاء وكتابته واقع عند العمل وتحققه‬
‫يوم القيامة ومآل الوجهين واحد في الحقيقة ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫ص‬ ‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪21‬‬
‫‪: 90‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬هذا بلغ للناس ولينذروا به‬
‫وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر اولوا اللباب "‬
‫البلغ بمعنى التبليغ على ما ذكره الراغب أو‬
‫بمعنى الكفاية على ما ذكره غيره ‪ .‬والية خاتمة‬
‫السورة فالنسب ان تكون الشارة بهذا إلى ما‬
‫اورد في السورة من البيان ل إلى مجموع القرآن‬
‫كما ذكره بعضهم ول إلى ما ذكر من قوله تعالى ‪:‬‬
‫" ول تحسبن الله غافل عما يعمل الظالمون " إلى‬
‫آخر السورة كما ذكره آخرون ‪ .‬وقوله ولينذروا به‬
‫الخ اللم فيه للغاية وهو معطوف على محذوف‬
‫انما حذف لفخامة امره وعظم شأنه ل يحيط به‬
‫افهام الناس لشتماله من السرار اللهية على ما‬
‫ل يطيقونه وانما تسع عقولهم ما ذكر من غاياته‬
‫وهو النذار والعلم بوحدانيته تعالى والتذكر فهم‬
‫ينذرون بما ذكر فيها من مؤاخذته تعالى الظالمين‬
‫عاجل وآجل وتتم عليهم الحجة بما ذكر فيها من‬
‫آيات التوحيد ويتذكر المؤمنون منهم خاصة بما‬
‫فيها من المعارف اللهية ‪ .‬وبهذا يتطابق مختتم‬
‫السورة ومفتتحها اعني قوله في اول السورة‬
‫كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى‬
‫النور باذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد فقد‬
‫تقدم ان مدلول الية امر النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم بالدعوة والتبليغ إلى صراط الله بما انه‬
‫‪ /‬صفحة ‪ / 91‬تعالى ربهم العزيز الحميد ليخرج‬
‫الناس من الظلمات إلى النور باذنه فانهم ان‬
‫استجابوا الدعوة وآمنوا خرجوا بذلك من ظلمات‬
‫الكفر إلى نور اليمان بالفعل وان لم يستجيبوا‬
‫انذروا ووقفوا على التوحيد الحق وخرجوا من‬
‫الجهل إلى العلم وهو نوع خروج من الظلمة إلى‬
‫النور وان كان وبال عليهم وخساراففى الدعوة‬
‫على أي حال انذار للناس واعلمهم انما هو اله‬
‫واحد وتذكر لولى اللباب منهم خاصة وهم‬
‫المؤمنون ‪ ) .‬بحث روائي ( في المعاني باسناده‬
‫عن ثوبان ‪ :‬ان يهوديا جاء إلى النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم فقال يا محمد فرفعه ثوبان‬
‫برجله وقال قل يا رسول الله فقال ل ادعوه ال‬
‫باسماء اهله قال أرأيت قول الله يوم تبدل الرض‬
‫غير الرض والسماوات اين الناس يومئذ قال في‬
‫الظلمة دون المحشرقال فما اول ما يأكل اهل‬
‫الجنة إذا دخلوها قال كبد الحوت قال فما شرابهم‬
‫على اثر ذلك قال السلسبيل قال صدقت يا محمد‬
‫اقول وروى الحديث في الدر المنثور عن مسلم‬
‫وابن جرير والحاكم والبيهقي في الدلئل عن‬
‫ثوبان ‪ :‬مثله إلى قوله في الظلمة وروى ايضا عن‬
‫عده عن عائشة ‪ :‬إنها سألت النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم عن ذلك فقال على الصراط وفي‬
‫تفسير العياشي عن ثوير بن ابى فاخته عن‬
‫الحسين بن على عليه السلم قال ‪ :‬تبدل الرض‬
‫غير الرض يعنى بأرض لم يكتسب عليها الذنوب‬
‫بارزة ليست عليها جبال ول نبات كما دحاها اول‬
‫مرة ‪ .‬اقول ورواه القمى ايضا في تفسيره وفيه‬
‫دللة على حدوث الجبال وكذا النبات بعد تمام‬
‫خلقه الرض ‪ .‬وفي الدر المنثور اخرج البزار وابن‬
‫المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في‬
‫البعث عن ابن مسعود قال ‪ :‬قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم في قول الله يوم تبدل‬
‫الرض غير الرض قال ارض بيضاء كأنها فضة لم‬
‫يسفك فيها دم حرام ولم تعمل فيها خطيئة ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 92‬اقول ورواه ايضا عن ابن مردويه عن‬
‫على عنه صلى الله عليه وآله وسلم ‪ :‬مثله وفيه‬
‫اخرج ابن ابى الدنيا في صفة الجنة وابن جرير‬
‫وابن المنذر وابن ابى حاتم عن على بن ابى طالب‬
‫في الية قال ‪ :‬تبدل الرض من فضة والسماء من‬
‫ذهب ‪ .‬اقول وحمل بعضهم الكلم على التشبيه‬
‫كما وقع في حديث ابن مسعود السابق ‪ .‬وفي‬
‫الكافي باسناده عن زرارة عن ابى جعفر عليه‬
‫السلم قال ‪ :‬سأله ابرش الكلبى عن قول الله عز‬
‫وجل يوم تبدل الرض غير الرض قال تبدل خبزة‬
‫نقية يأكل الناس منها حتى يفرغ من الحساب‬
‫فقال البرش فقلت إن الناس يومئذ لفى شغل‬
‫من الكل فقال أبو جعفر عليه السلم فهم في‬
‫النار ل يشتغلون عن اكل الضريع وشرب الحميم‬
‫وهم في عذاب فكيف يشتغلون عنه في‬
‫الحساب ؟ اقول وقوله تبدل خبزة نقية يحتمل‬
‫التشبيه كما ربما يستفاد من الخبر التى ‪ .‬وفي‬
‫ارشاد المفيد واحتجاج الطبرسي عن عبد الرحمان‬
‫بن عبد الله الزهري قال ‪ :‬حج هشام بن عبد الملك‬
‫فدخل المسجد الحرام متكئا على ولد سالم موله‬
‫ومحمد ابن على بن الحسين عليه السلم جالس‬
‫في المسجد فقال له سالم موله يا امير المؤمنين‬
‫هذا محمد بن على قال هشام المفتونون به أهل‬
‫العراق ؟ قال نعم فقال اذهب إليه فقل له يقول‬
‫لك امير المؤمنين ما الذى ياكل الناس ويشربون‬
‫إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة قال أبو جعفر‬
‫عليه السلم يحشر الناس على مثل قرص نقى‬
‫فيها انهار متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ‬
‫من الحساب ‪ .‬قال فرأى هشام انه قد ظفر به‬
‫فقال الله اكبر اذهب إليه فقل ما اشغلهم عن‬
‫الكل والشرب يومئذ فقال أبو جعفر عليه السلم‬
‫هم في النار أشغل ولم يشتغلوا عن ذلك قالوا‬
‫أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله فسكت‬
‫هشام ل يرجع كلما‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 92‬‬
‫وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن أفلح‬
‫مولى ابى ايوب إن رجل من يهود سأل النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم يوم تبدل الرض غير الرض‬
‫ما الذى تبدل به ؟ فقال خبزة ‪ /‬صفحة ‪ / 93‬فقال‬
‫اليهودي درمكة بأبى انت قال فضحك ثم قال قاتل‬
‫الله اليهود هل تدرون ما الدرمكة ؟ لباب الخبز‬
‫وفيه اخرج احمد وابن جرير وابن ابى حاتم وابو‬
‫نعيم في الدلئل عن ابى ايوب النصاري قال ‪:‬‬
‫اتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبر من‬
‫اليهود وقال أرأيت إذ يقول الله يوم تبدل الرض‬
‫غير الرض فأين الخلق عند ذلك ؟ قال اضياف الله‬
‫لن يعجزهم ما لديه ‪ .‬اقول واختلف الروايات في‬
‫تفسير التبديل ل يخلو عن دللة على إنها امثال‬
‫مضروبة للتقريب والمسلم من معنى التبدل ان‬
‫حقيقة الرض والسماء وما فيهما يومئذ هي هي‬
‫غير ان النظام الجارى فيهما يومئذ هو غير النظام‬
‫الجارى فيهما في الدنيا ‪ .‬وفي المعاني باسناده‬
‫عن محمد بن مسلم قال سمعت ابا جعفر عليه‬
‫السلم يقول ‪ :‬لقد خلق الله عز وجل في الرض‬
‫منذ خلقها سبعة عالمين ليس فيهم من ولد آدم‬
‫خلقهم من أديم الرض فأسكنهم فيها واحدا بعد‬
‫واحد مع عالمه ‪ .‬ثم خلق الله عز وجل آدم ابا‬
‫البشر وخلق ذريته منه ل والله ما خلت الجنة من‬
‫ارواح المؤمنين منذ خلقها ول خلت النار من ارواح‬
‫الكفار والعصاة منذ خلقها عز وجل لعلكم ترون‬
‫إذا كان يوم القيامة وصير أبدان اهل الجنة مع‬
‫ارواحهم في الجنة وصير ابدان اهل النار مع‬
‫ارواحهم في النار إن الله تعالى ل يعبد في بلده‬
‫ول يخلق خلقا يعبدونه ويوحدونه ؟ بلى والله‬
‫ليخلقن الله خلقا من غير فحولة ول اناث يعبدونه‬
‫ويوحدونه ويعظمونه ويخلق لهم ارضا تحملهم‬
‫وسماء تظلهم أليس الله عز وجل يقول ‪ " :‬يوم‬
‫تبدل الرض غير الرض والسماوات " ؟ وقد قال‬
‫عز وجل ‪ " :‬أفعيينا بالخلق الول بل هم في لبس‬
‫من خلق جديد " اقول ورواه العياشي في تفسيره‬
‫عن محمد بن مسلم عنه عليه السلم ‪ :‬مثله وهو‬
‫غير المعاني التى اوردناها سابقا ‪ .‬وفي تفسير‬
‫القمى قوله " ‪ :‬يوم تبدل الرض غير الرض " قال‬
‫تبدل خبزة بيضاء في الموقف يأكل منها‬
‫المؤمنون وترى المجرمين يومئذ مقرنين في‬
‫الصفاد قال قال مقرنين بعضهم إلى بعض‬
‫سرابيلهم من قطران قال قال السرابيل القميص‬
‫‪ /‬صفحة ‪ / 94‬قال ‪ :‬وفي رواية ابى الجارود عن‬
‫ابى جعفر عليه السلم ‪ :‬في قوله سرابيلهم من‬
‫قطران هو الصفر الحار المذاب انتهى حره يقول‬
‫الله عز وجل ‪ " :‬وتغشى وجوههم النار " سربلوا‬
‫ذلك الصفر وتغشى وجوههم النار ‪ .‬اقول يعنى ان‬
‫المراد بالجملتين سرابيلهم من قطران وتغشى‬
‫وجوههم النار جميعا بيان انهم مستورون‬
‫مغشيون أما ابدانهم فبالقطران واما وجوههم‬
‫فبالنار ‪ /‬صفحة ‪ ) / 95‬سورة الحجر مكية وهى‬
‫تسع وتسعون آية ( بسم الله الرحمن الرحيم الر‬
‫تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ‪ 1 -‬ربما يود الذين‬
‫كفروا لو كانوا مسلمين ‪ 2 -‬ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‬
‫ويلههم المل فسوف يعلمون ‪ 3 -‬وما اهلكنا من‬
‫قرية ال ولها كتاب معلوم ‪ 4 -‬ما تسبق من أمة‬
‫أجلها وما يستأخرون ‪ 5 -‬وقالوا يا أيها الذى نزل‬
‫عليه الذكر انك لمجنون ‪ 6 -‬لو ما تأتينا بالملئكة‬
‫إن كنت من الصادقين ‪ 7 -‬ما ننزل الملئكة ال‬
‫بالحق وما كانوا إذا منظرين ‪ 8 -‬إنا نحن نزلنا‬
‫الذكر وإنا له لحافظون ‪ ) 9 -‬بيان ( تشتمل‬
‫السورة على الكلم حول استهزاء الكفار بالنبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم ورميه بالجنون ورمى‬
‫القرآن الكريم بانه من اهذار المجانين ففيها‬
‫تعزية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وأمره‬
‫بالصبر والثبات والصفح عنهم وتطييب لنفسه‬
‫الشريفة وانذار وتبشير ‪ .‬وهى مكية على ما تشهد‬
‫به آياتها ونقل في المجمع عن الحسن استثناء‬
‫قوله ‪ " :‬ولقد آتيناك سبعا من المثانى " الية‬
‫وقوله كما انزلنا على المقتسمين الذين جعلوا‬
‫القرآن عضين " وسياتى ما فيه ‪ / .‬صفحة ‪/ 96‬‬
‫وتشتمل السورة على قوله تعالى فاصدع بما تؤمر‬
‫وأعرض عن المشركين الخ والية تقبل النطباق‬
‫على ما ضبطه التاريخ ان النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم إكتتم في اول البعثة ثلث سنين أو‬
‫اربعا أو خمسا ل يعلن دعوته لشتداد المر عليه‬
‫فكان ل يدعو ال آحادا ممن يرجو منهم اليمان‬
‫يدعوهم خفية ويسر إليهم الدعوة حتى اذن له ربه‬
‫في ذلك وأمره ان يعلن دعوته ‪ .‬وتؤيده الروايات‬
‫المأثورة من طرق الشيعة وأهل السنة إنه صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم كان يكتتم في اول بعثته‬
‫سنين ل يظهر فيها دعوته لعامة الناس حتى انزل‬
‫الله تعالى عليه ‪ " :‬فاصدع بما تؤمر واعرض عن‬
‫المشركين إنا كفيناك المستهزئين " فخرج إلى‬
‫الناس واظهر الدعوة وعليه فالسورة مكية نازلة‬
‫في اول الدعوة العلنية ‪ .‬ومن غرر اليات القرآنية‬
‫المشتملة على حقائق جمة في السورة قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وان من شئ ال عندنا خزائنه " الية‬
‫وقوله ‪ " :‬إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين "‬
‫الشارة إلى اليات الكريمة‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 96‬‬
‫القرآنية فالمراد بالكتاب القرآن وتنكير القرآن‬
‫للدللة على عظم شأنه وفخامة أمره كما ان‬
‫التعبير بتلك وهى للشارة إلى البعيد لذلك ‪.‬‬
‫والمعنى هذه اليات العالية منزلة الرفيعة درجة‬
‫التى ننزلها اليك آيات الكتاب اللهى وآيات قرآن‬
‫عظيم الشأن فاصل بين الحق والباطل على خلف‬
‫ما يرميها به الكفار بما يرمونك بالجنة مستهزئين‬
‫بكلم الله ‪ .‬ومن الممكن ان يراد بالكتاب اللوح‬
‫المحفوظ فان القرآن منه وفيه قال تعالى ‪ " :‬انه‬
‫لقرآن كريم في كتاب مكنون " الواقعة ‪ 78 :‬وقال‬
‫‪ " :‬بل هوقرآن مجيد في لوح محفوظ " البروج ‪:‬‬
‫‪ 22‬فيكون قوله تلك آيات الكتاب وقرآن مبين‬
‫كالملخص من قوله ‪ " :‬والكتاب المبين انا جعلناه‬
‫قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا‬
‫لعلى حكيم " الزخرف ‪ . 4‬قوله تعالى ‪ " :‬ربما يود‬
‫الذين كفروا لو كانوا مسلمين " توطئة لما‬
‫سيتعرض له من قولهم للنبى ‪ " :‬يا ايها الذى نزل‬
‫عليه الذكر انك لمجنون يشير به إلى انهم‬
‫سيندمون ‪ /‬صفحة ‪ / 97‬على ما هم عليه من الكفر‬
‫ويتمنون السلم لله واليمان بكتابه يوم ل سبيل‬
‫لهم إلى تحصيل ذلك ‪ .‬فقوله ربما يود المراد به‬
‫ودادة التمنى ل مطلق الودادة والحب والدليل‬
‫على ذلك قوله في بيان هذه المودة لو كانوا‬
‫مسلمين فان لفظي لو وكانوا تدلن على إن‬
‫ودادتهم ودادة تمن وإنهم يتمنون السلم بالنسبة‬
‫إلى ماضى حالهم مما فاتهم ولن يعود إليهم‬
‫فليس ال السلم ما داموا في الدنيا ‪ .‬فالية تدل‬
‫على إن الذين كفروا سيندمون على كفرهم‬
‫ويتمنون أن لو كانوا مسلمين بعد انطواء بساط‬
‫الحياة الدنيا ‪ .‬قوله تعالى ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‬
‫ويلههم المل فسوف يعلمون اللهاء الصرف‬
‫والشغال يقال ألهاه كذا عن كذا أي شغله عنه‬
‫وأنساه ذكره ‪ .‬وقوله ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‬
‫ويلههم المل امر برفع اليد عنهم وتركهم وما هم‬
‫فيه من الباطل وهو كناية عن النهى عن الجدال‬
‫معهم والحتجاج عليهم لثبات هذه الحقيقة وهى‬
‫انهم سوف يودون السلم ويتمنونه ول سبيل لهم‬
‫إلى تحصيله وتدارك ما فات منه وقوله فسوف‬
‫يعلمون في موضع التعليل للمر أي ذرهم ول‬
‫تجادلهم ول تحاجهم فل حاجة إلى ذلك لنهم‬
‫سوف يعلمون ذلك فان الحق ظاهر ل محالة ‪.‬‬
‫وفي الية تعريض لهم انهم ل غاية لهم في‬
‫حياتهم ال الكل والتمتع بلذات المادة والتلهى‬
‫بالمال والماني فل منطق لهم ال منطق النعام‬
‫والحيوان العجم فمن الحرى أن يتركوا وما هم فيه‬
‫ول يلقى إليهم الحجج الحقة المبنية على اساس‬
‫العقل السليم والمنطق النساني ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫وما أهلكنا من قرية إل ولها كتاب معلوم إلى آخر‬
‫اليتين تثبيت وتوكيد لقوله في الية السابقة‬
‫فسوف يعلمون على ما يعطيه السياق والمعنى‬
‫دعهم فانهم ل يسلمون في هذه الحياة الدنيا‬
‫وإنما يودون السلم بعد حلول اجهلم ونزول‬
‫الهلك بهم والناس ليسوا بذوى خيرة في ذلك بل‬
‫لكل امة كتاب معلوم عند الله مكتوب فيه اجلهم ل‬
‫يقدرون ان يستقدموه ول يستأخروه ساعة ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 98‬وفي اليتين دللة على إن المة من‬
‫النسان لها كتاب كما ان للفرد منه كتابا قال‬
‫تعالى ‪ " :‬وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه‬
‫ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا "‬
‫اسرى ‪ . 13 :‬قوله تعالى ‪ " :‬وقالوا يا أيها الذى‬
‫نزل عليه الذكر انك لمجنون " كلم خارج مخرج‬
‫الستهزاء ولذلك خاطبوه صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ل باسمه بل بوصف نزول الذكر عليه كما‬
‫كان يدعيه وجاؤا بالفعل المجهول للدللة على ان‬
‫منزله غير معلوم عندهم ول اعتماد ول وثوق لهم‬
‫بما يدعيه هو ان الله تعالى هو الذى انزله‬
‫وتوصيفه بالذى نزل عليه الذكر وكذا تسمية‬
‫النازل عليه ذكرا كل ذلك من الستهزاء كما ان‬
‫قولهم انك لمجنون رمى وتكذيب ‪ .‬قوله تعالى لو‬
‫ما تأتينا بالملئكة إن كنت من الصادقين لو ما مثل‬
‫هل للتحضيض أي هل تأتينا بالملئكة ان كنت‬
‫صادقا في دعوى النبوة ليشهدوا على صدق‬
‫دعواك وينذر معك فهو قريب المعنى من قولهم‬
‫على ما حكاه الله ‪ " :‬لو ل انزل إليه ملك فيكون‬
‫معه نذيرا " الفرقان ‪ . 7 :‬ووجه اقتراحهم على‬
‫النبياء أن يأتوا بالملئكة ويظهروهم لهم‬
‫اعتقادهم ان البشرية كينونة مادية مغمورة في‬
‫قذارة الشهوة والغضب ل نسبة بينها وبين العالم‬
‫السماوي الذى هو محض النورانية والطهارة فمن‬
‫ادعى نوعا من التصال بذاك العالم الروحانى‬
‫فعليه ان يأتي ببعض اهله من الملئكة الكرام‬
‫ليصدقوه في دعواه ويعينوه في دعوته ‪ .‬على إن‬
‫الملئكة عند الوثنيين آلهة دون الله سبحانه‬
‫فدعوتهم إلى التوحيد معناها ان هؤلء اللهة في‬
‫معزل من الشفاعة والعبادة بأمر من الله سبحانه‬
‫وهو اله اللهة ول دليل على ذلك كاعترافهم به‬
‫فلينزلوا وليعترفوا ويصدقوا النبوة ‪ .‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫" ما ننزل الملئكة إل بالحق وما كانوا إذا منظرين‬
‫" جواب عما اقترحوا على النبي صلى الله عليه‬
‫ولله وسلم أن ياتيهم بالملئكة حتى يصدقوه‬
‫ومحصل الجواب ان‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 98‬‬
‫السنة اللهية جارية على ستر ملئكته عنهم تحت‬
‫استار الغيب فلو انزلهم واظهرهم لهم عن‬
‫اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماوية خارقة للعادة‬
‫نازلة عن اقتراحهم ومن شأن الية المعجزة‬
‫النازلة عن اقتراح الناس ان يعقبها عذاب‬
‫الستئصال والهلك القطعي ‪ /‬صفحة ‪ / 99‬ان لم‬
‫يؤمنوا بها وهؤلء الكفار المعاندون ليسوا‬
‫بمؤمنين فهو الهلك ‪ .‬وبالجملة لو انزل الله‬
‫الملئكة والحال هذا الحال هم يقترحون آية فاصلة‬
‫تظهر الحق وتميط الباطل لنزلهم بالحق الفاصل‬
‫المميز وما كانوا إذا منظرين بل يهلكون ويقطع‬
‫دابرهم هذا محصل ما ذكره بعضهم ‪ .‬وقيل المراد‬
‫بالحق في الية الموت والمعنى ما نزل الملئكة‬
‫على الناس ال مصاحبا للحق الذى هو الموت وما‬
‫كانوا إذا منظرين وكأنه مأخوذ من قوله تعالى ‪" :‬‬
‫يوم يرون الملئكة ل بشرى يومئذ للمجرمين "‬
‫الية ‪ .‬وقيل المراد بالحق الرسالة أي ما نزل‬
‫الملئكة إل بالوحى والرسالة وكأنه مأخوذ من نحو‬
‫قوله ‪ " :‬قد جاءكم الرسول بالحق " النساء ‪170‬‬
‫وقوله ‪ " :‬فقد كذبوا بالحق لما جاءهم " النعام‬
‫‪ . 5‬فهذه وجوه مذكورة في تفسير الية ودونها‬
‫وجوه مذكورة في مختلف التفاسير وهى جميعا ل‬
‫تخلو من شئ وهو ان شيئا منها ل ينطبق على‬
‫الحصر الموجود في قوله ما ننزل الملئكة إل‬
‫بالحق فنزول الملئكة ل يختص بعذاب الستئصال‬
‫فقط ول بالموت فقط ول بالوحى والرسالة فقط‬
‫وتوجيه الية بما يختص بأحد المعاني الثلث‬
‫المذكورة للحق يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة‬
‫يدفعها اطلق الية كما هو ظاهر لمن راجع‬
‫الوجوه المقررة آنفا ‪ .‬ويمكن ان يقرر معنى الية‬
‫باستمداد من التدبر في آيات أخر إن ظرف الحياة‬
‫المادية اعني هذه النشأة الدنيوية ظرف يختلط‬
‫فيه الحق والباطل من غير أن يتمحض الحق في‬
‫الظهور بجميع خواصه وآثاره كما يشير إليه قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬كذلك يضرب الله الحق والباطل "‬
‫الرعد ‪ 17 :‬وقد تقدم تفصيل القول في ذلك فما‬
‫يظهر فيه شئ من الحق ال وهو يحتمل شيئا من‬
‫اللبس والشك كما يصدقه استقراء الموارد التى‬
‫صادفناها مدى اعمارنا ومن الشاهد عليه قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجل وللبسنا‬
‫عليهم ما يلبسون " النعام ‪ 9 :‬والظرف ظرف‬
‫المتحان والختيار ول اختيار ال مع امكان التباس‬
‫الحق بالباطل واختلط الخير والشر بنحو حتى‬
‫يقف النسان على ملتقى الطريقين ومنشعب‬
‫النجدين فيستدل على الخير والشر بآثارهما‬
‫وإماراتهما ثم يختار ‪ /‬صفحة ‪ / 100‬ما يستحقه من‬
‫السعادة والشقاوة ‪ .‬واما عالم الملئكة وظرف‬
‫وجودهم فانما هو عالم الحق غير مشوب بشئ من‬
‫الباطل كما يدل عليه قوله تعالى ‪ " :‬ل يعصون‬
‫الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون " التحريم ‪6 :‬‬
‫وقوله بل عباد مكرمون ل يسبقونه بالقول وهم‬
‫بأمره يعملون " النبياء ‪ . 27 :‬فمقتضى اليات وما‬
‫في معناها انهم في انفسهم مخلوقات شريفة‬
‫ووجودات طاهرة نورانية منزهة عن النقص‬
‫والشين ل تحتمل الشر والشقاء وليس عندها‬
‫امكان الفساد والمعصية والتقصير فل يحكم فيها‬
‫هذا النظام المادى المبنى على اساس المكان‬
‫والختيار وجواز الصلح والفساد والطاعة‬
‫والمعصية والسعادة والشقاء جميعا وسيوافيك‬
‫البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد ان‬
‫شاء الله وسيأتى ايضا ان النسان ل طريق له إلى‬
‫هذا الظرف الحق ما دام متوغل في هذا العالم‬
‫المادى متورطا في ورطات الشهوات والهواء‬
‫كاهل الكفر والفسوق ال ببطلن عالمهم‬
‫وخروجهم إلى العالم الحق وظهوره عليهم‬
‫وانكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله ‪ " :‬لقد‬
‫كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك‬
‫فبصرك اليوم حديد " ق ‪ 22 :‬وهذا هو العالم الذى‬
‫يسمى بالنسبة إلى النسان آخرة ‪ .‬فتبين ان‬
‫ظهور عالم الملئكة للناس المتوغلين في عالم‬
‫المادة متوقف على تبدل الظرف والنتقال من‬
‫الدنيا إلى الخرة وهو الموت اللهم إل في‬
‫المصطفين من عباد الله واوليائه المطهرين من‬
‫اقذار الذنوب الملزمين لساحة قربه لهم اهلية‬
‫مشاهدة الغيب وهم في عالم الشهادة كالنبياء‬
‫عليهم السلم ‪ .‬ولعل ما قدمناه هو المراد بقوله ‪:‬‬
‫" ما ننزل الملئكة إل بالحق وما كانوا إذا منظرين‬
‫" فانهم انما اقترحوا نزول الملئكة ليشاهدوهم‬
‫في صورهم الصلية حتى يصدقوا وهذا الحال ل‬
‫تتمهد لهم ال بالموت كما قال تعالى ‪ " :‬وقال‬
‫الذين ل يرجون لقاءنا لو ل انزل علينا الملئكة "‬
‫إلى ان قال " يوم يرون الملئكة ل بشرى يومئذ‬
‫للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما‬
‫عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " الفرقان ‪:‬‬
‫‪ / . 23‬صفحة ‪ / 101‬وقد اجتمع المعنيان في قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وقالوا لو ل انزل عليه ملك ولو أنزلنا‬
‫ملكا لقضى المر ثم ل ينظرون ولو جعلناه ملكا‬
‫لجعلناه رجل وللبسنا عليهم ما يلبسون " النعام ‪:‬‬
‫‪ 9‬يقول تعالى لو أنزلنا عليه الملئكة آية خارقة‬
‫للعادة مصدقة للنبوة كان لزمه القضاء عليهم‬
‫وهلكهم ولو قلدنا الملك النبوة والرسالة كان‬
‫لزمه أن نصوره في‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 101‬‬
‫صورة رجل من النسان وأن نوقفه موقفا يحتمل‬
‫اللبس فان الرسالة احدى وسائل المتحان‬
‫والبتلء اللهى ول امتحان ال بما يحتمل السعادة‬
‫والشقاء والفوز والخيبة ويجوز معه النجاة والهلك‬
‫ولو توصل إلى الرسالة بما يضطر العقول إلى‬
‫اليمان ويلجئ النفوس إلى القبول واليقين لبطل‬
‫ذلك كله ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬إنا نحن نزلنا الذكر وإنا‬
‫له لحافظون " صدر الية مسوق سوق الحصر‬
‫وظاهر السياق ان الحصر ناظر إلى ما ذكر من‬
‫ردهم القرآن بأنه من اهذار الجنون وانه صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم مجنون ل عبرة بما صنع ول حجر‬
‫ومن اقتراحهم أن يأتيهم بالملئكة ليصدقوه في‬
‫دعوته وإن القرآن كتاب سماوي حق ‪ .‬والمعنى‬
‫على هذا والله اعلم ان هذا الذكر لم تأت به انت‬
‫من عندك حتى يعجزوك ويبطلوه بعنادهم وشدة‬
‫بطشهم وتتكلف لحفظه ثم ل تقدر وليس نازل‬
‫من عند الملئكة حتى يفتقر إلى نزولهم‬
‫وتصديقهم إياه بل نحن أنزلنا هذا الذكر انزال‬
‫تدريجيا وانا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما‬
‫لنا من العناية الكاملة به ‪ .‬فهو ذكر حى خالد‬
‫مصون من أن يموت وينسى من اصله مصون من‬
‫الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكرا مصون من‬
‫النقص كذلك مصون من التغيير في صورته‬
‫وسياقه بحيث يتغير به صفة كونه ذكرا لله مبينا‬
‫لحقائق معارفه ‪ .‬فالية تدل على كون كتاب الله‬
‫محفوظا من التحريف بجميع اقسامه من جهة‬
‫كونه ذكرا لله سبحانه فهو ذكر حى خالد ‪ .‬ونظير‬
‫الية في الدللة على كون الكتاب العزيز محفوظا‬
‫بحفظ الله مصونا من التحريف والتصرف بأى وجه‬
‫كان من جهة كونه ذكرا له سبحانه قوله تعالى ‪" :‬‬
‫إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز‬
‫ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من ‪ /‬صفحة ‪/ 102‬‬
‫خلفه تنزيل من حكيم حميد " حم السجدة ‪. 42‬‬
‫وقد ظهر بما تقدم ان اللم في الذكر للعهد‬
‫الذكرى وان المراد بالوصف لحافظون هو‬
‫الستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل‬
‫فيندفع به ما ربما يورد على الية انها لو دلت على‬
‫نفى التحريف من القرآن لنه ذكر لدلت على نفيه‬
‫من التوراة والنجيل ايضا لن كل منهما ذكر مع ان‬
‫كلمه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما ‪.‬‬
‫وذلك ان الية بقرينة السياق انما تدل على حفظ‬
‫الذكر الذى هو القرآن بعد انزاله إلى البد ول دللة‬
‫فيها على علية الذكر للحفظ اللهى ودوران‬
‫الحكم مداره ‪ .‬وسنستوفي البحث عما يرجع إلى‬
‫هذا الشأن ان شاء الله تعالى ‪ ) .‬بحث روائي ( في‬
‫تفسير القمى باسناده عن ابيه عن ابن ابى عمير‬
‫عن عمر بن اذينة عن رفاعة عن ابى عبد الله عليه‬
‫السلم قال ‪ :‬إذا كان يوم القيامة نادى مناد من‬
‫عند الله ل يدخل الجنة ال مسلم فيومئذ يود الذين‬
‫كفروا لو كانوا مسلمين ثم قال ذرهم يأكلوا‬
‫ويتمتعوا ويلههم المل أي شغلهم فسوف يعلمون‬
‫اقول وروى العياشي عن عبد الله بن عطاء المكى‬
‫عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما السلم في‬
‫تفسير الية مثله وفي الدر المنثور اخرج‬
‫الطبراني في الوسط وابن مردويه بسند صحيح‬
‫عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم ان ناسا من امتى يعذبون‬
‫بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا‬
‫ثم يعيرهم اهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم‬
‫فيه من تصديقكم نفعكم فل يبقى موحد ال اخرجه‬
‫الله تعالى من النار ثم قرأ رسول الله صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم ربما يود الذين كفرا لو كانوا‬
‫مسلمين ‪ .‬اقول وهذا المعنى مروى بطرق اخرى‬
‫عن ابى موسى الشعري وابى سعيد الخدرى‬
‫وانس بن مالك عنه صلى الله عليه وآله وسلم ‪.‬‬
‫وفيه اخرج ابن ابى حاتم وابن شاهين في السنة‬
‫عن على بن ابى طالب قال ‪ /‬صفحة ‪ / 103‬قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬إن اصحاب‬
‫الكبائر من موحدى المم كلها الذين ماتوا على‬
‫كبائرهم غير نادمين ول تائبين من دخل منهم‬
‫جهنم ل تزرق اعينهم ول تسود وجوههم ول‬
‫يقرنون بالشياطين ول يغلون بالسلسل ول‬
‫يجرعون الحميم ول يلبسون القطران حرم الله‬
‫اجسادهم على الخلود من اجل التوحيد وصورهم‬
‫على النار من اجل السجود ‪ .‬فمنهم من تأخذه‬
‫النار إلى قدميه ومنهم من تأخذه النار إلى عقبيه‬
‫ومنهم من تأخذه النار إلى فخذيه ومنهم من‬
‫تأخذه النار إلى حجزته ومنهم من تأخذه النار إلى‬
‫عنقه على قدر ذنوبهم واعمالهم ومنهم من يمكث‬
‫فيها شهرا ثم يخرج منها ومنهم من يمكث فيها‬
‫سنة ثم يخرج منها واطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا‬
‫منذ يوم خلقت إلى ان تفنى فإذا اراد الله ان‬
‫يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في‬
‫النار من اهل الديان والوثان لمن في النار من‬
‫اهل التوحيد آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وانتم‬
‫اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضبا لم‬
‫يغضبه لشئ فيما مضى فيخرجهم إلى عين بين‬
‫الجنة والصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في‬
‫حميل السيل ثم يدخلون الجنة مكتوب في جباههم‬
‫هؤلء الجهنميون عتقاء الرحمان فيمكثون في‬
‫الجنة ما شاء الله ان يمكثوا ‪ .‬ثم يسألون الله‬
‫تعالى ان يمحو ذلك السم عنهم فيبعث الله ملكا‬
‫فيمحوه ثم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 103‬‬
‫يبعث الله ملئكة معهم مسامير من نار فيطبقونها‬
‫على من بقى فيها يسمرونها بتلك المسامير‬
‫فينساهم الله على عرشه ويشتغل عنهم اهل‬
‫الجنة بنعيمهم ولذاتهم وذلك قوله ربما يود الذين‬
‫كفروا لو كانوا مسلمين ‪ .‬اقول الطرثوث نبت‬
‫وحميل السيل غثاؤه وقد روى من طرق الشيعة‬
‫ما يقرب من الحديث مضمونا ‪ .‬وفيه اخرج احمد‬
‫وابن مردويه عن ابى سعيد ‪ :‬ان رسول الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم غرس عودا بين يديه وآخر‬
‫إلى جنبه وآخر بعده قال أتدرون ما هذا ؟ قالوا‬
‫الله ورسوله أعلم قال فان هذا النسان وهذا اجله‬
‫وهذا امله فيتعاطى المل فيختلجه الجل دون‬
‫ذلك ‪ /‬صفحة ‪ / 104‬اقول وروى ما يقرب من‬
‫معناه بطرق عن انس عنه صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم وفي المجمع عن امير المؤمنين عليه‬
‫السلم إنه قال ‪ :‬ان اخوف ما اخاف عليكم اثنان‬
‫اتباع الهوى وطول المل فان اتباع الهوى يصد‬
‫عن الحق وطول المل ينسى الخرة وفي تفسير‬
‫القمى ‪ :‬في قوله تعالى ‪ " :‬ما ننزل الملئكة ال‬
‫بالحق وما كانوا إذا منظرين قال قال عليه السلم‬
‫لو انزلنا بالملئكة لم ينظروا وهلكوا كلم في ان‬
‫القرآن مصون عن التحريف في فصول ‪ :‬الفصل ‪-‬‬
‫‪ 1‬من ضروريات التاريخ إن النبي العربي محمدا‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم جاء قبل اربعة عشر‬
‫قرنا تقريبا وادعى النبوة وانتهض للدعوة وآمن به‬
‫امة من العرب وغيرهم وانه جاء بكتاب يسميه‬
‫القرآن وينسبه إلى ربه متضمن لجمل المعارف‬
‫وكليات الشريعة التى كان يدعو إليها وكان يتحدى‬
‫به ويعده آية لنبوته وان القرآن الموجود اليوم‬
‫بأيدينا هو القرآن الذى جاء به وقرأه على الناس‬
‫المعاصرين له في الجملة بمعنى إنه لم يضع من‬
‫اصله بأن يفقد كله ثم يوضع كتاب آخر يشابهه في‬
‫نظمه أو ل يشابهه وينسب إليه ويشتهر بين‬
‫الناس بأنه القرآن النازل على النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم ‪ .‬فهذه امور ل يرتاب في شئ‬
‫منها ال مصاب في فهمه ول احتمل بعض ذلك احد‬
‫من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين‬
‫والمؤالفين ‪ .‬وانما احتمل بعض من قال به من‬
‫المخالف أو المؤالف زيادة شئ يسير كالجملة أو‬
‫الية ) ‪ ( 1‬أو النقص أو التغيير في جملة أو آية‬
‫في كلماتها أو اعرابها واما جل الكتاب اللهى‬
‫فهو على ما هو في عهد النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم لم يضع ولم يفقد ‪ ) * .‬هامش ( * )‬
‫‪ ( 1‬كقول بعض من غير المنتحلين بالسلم إن‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬إنك ميت وإنهم ميتون " من وضع‬
‫ابى بكر وضعه حين سمع عمر وهو شاهر سيفه‬
‫يهدد بالقتل من قال ‪ :‬إن النبي مات فقرأها على‬
‫عمر فصرفه ‪ / ( * ) .‬صفحة ‪ / 105‬ثم إنا نجد‬
‫القرآن يتحدى باوصاف ترجع إلى عامة آياته ونجد‬
‫ما بأيدينا من القرآن اعني ما بين الدفتين واجدا‬
‫لما وصف به من اوصاف تحدى بها من غير أن‬
‫يتغير في شئ منها أو يفوته ويفقد ‪ .‬فنجده‬
‫يتحدى بالبلغة والفصاحة ونجد ما بأيدينا مشتمل‬
‫على ذلك النظم العجيب البديع ل يعدله ول يشابهه‬
‫شئ من كلم البلغاء والفصحاء المحفوظ منهم‬
‫والمروى عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة‬
‫أو محاورة أو غير ذلك وهذا النظم موجود في‬
‫جميع اليات سواء كتابا متشابها مثانى تقشعر منه‬
‫الجلود والقلوب ‪ .‬ونجده يتحدى بقوله ‪ " :‬أفل‬
‫يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا‬
‫فيه اختلفا كثيرا " النساء ‪ 82 :‬بعدم وجود اختلف‬
‫فيه ونجد ما بايدينا من القرآن يفى بذلك احسن‬
‫الوفاء وأوفاه فما من ابهام أو خلل يتراءى في‬
‫آية ال ويرفعه آية اخرى وما من خلف أو مناقضة‬
‫يتوهم بادئ الرأى من شطر ال وهناك ما يدفعه‬
‫ويفسره ‪ .‬ونجده يتحدى بغير ذلك مما ل يختص‬
‫فهمه بأهل اللغة العربية كما في قوله ‪ " :‬قل لئن‬
‫اجتمعت النس والجن على أن يأتوا بمثل هذا‬
‫القرآن ل يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض‬
‫ظهيرا " اسرى ‪ 88 :‬وقوله ‪ " :‬إنه لقول فصل وما‬
‫هو بالهزل " الطارق ‪ 14 :‬ثم نجد ما بأيدينا من‬
‫القرآن يستوفى البيان في صريح الحق الذى ل‬
‫مرية فيه ويهدى إلى آخر ما يهتدى إليه العقل من‬
‫اصول المعارف الحقيقية وكليات الشرائع‬
‫الفطرية وتفاصيل الفضائل الخلقية من غير أن‬
‫نعثر فيها على شئ من النقيصة والخلل أو نحصل‬
‫على شئ من التناقض والزلل بل نجد جميع‬
‫المعارف على سعتها وكثرتها حية بحياة واحدة‬
‫مدبرة بروح واحد هو مبدء جميع المعارف القرآنية‬
‫والصل الذى إليه ينتهى الجميع ويرجع وهو‬
‫التوحيد فإليه ينتهى الجميع بالتحليل وهو يعود‬
‫إلى كل منها بالتركيب ‪ .‬ونجده يغوص في اخبار‬
‫الماضين من النبياء واممهم ونجد ما عندنا من‬
‫كلم الله يورد قصصهم ويفصل القول فيها على‬
‫ما يليق بطهارة الدين ويناسب نزاهة ساحة النبوة‬
‫وخلوصها للعبودية والطاعة وكلما طبقنا قصة من‬
‫القصص القرآنية على ما يماثلها مما ورد في‬
‫العهدين انجلى ذلك احسن النجلء ‪ .‬ونجده يورد‬
‫آيات في الملحم ويخبر عن الحوادث التية في‬
‫آيات كثيرة بالتصريح ‪ /‬صفحة ‪ / 106‬أو بالتلويح ثم‬
‫نجدها فيما هو بايدينا من القرآن على تلك‬
‫الشريطة صادقة مصدقة ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫ص‬ ‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪21‬‬
‫‪: 106‬‬
‫ونجده يصف نفسه باوصاف زاكية جميلة كما يصف‬
‫نفسه بأنه نور وانه هاد يهدى إلى صراط مستقيم‬
‫وإلى الملة التى هي اقوم ونجد ما بأيدينا من‬
‫القرآن ل يفقد شيئا من ذلك ول يهمل من امر‬
‫الهداية والدللة ول دقيقة ‪ .‬ومن اجمع الوصاف‬
‫التى يذكرها القرآن لنفسه انه ذكر لله فانه يذكر‬
‫به تعالى بما انه آية دالة عليه حية خالدة وبما انه‬
‫يصفه باسمائه الحسنى وصفاته العليا ويصف‬
‫سنته في الصنع واليجاد ويصف ملئكته وكتبه‬
‫ورسله ويصف شرائعه واحكامه ويصف ما ينتهى‬
‫إليه امر الخلقة وهو المعاد ورجوع الكل إليه‬
‫سبحانه وتفاصيل ما يؤل إليه امر الناس من‬
‫السعادة والشقاء والجنة والنار ‪ .‬ففى جميع ذلك‬
‫ذكر الله وهو الذى يرومه القرآن باطلق القول‬
‫بانه ذكر ونجد ما بايدينا من القرآن ل يفقد شيئا‬
‫من معنى الذكر ‪ .‬ولكون الذكر من اجمع الصفات‬
‫في الدللة على شؤون القرآن عبر عنه بالذكر في‬
‫اليات التى اخبر فيها عن حفظه القرآن عن‬
‫البطلن والتغيير والتحريف كقوله تعالى ‪ " :‬إن‬
‫الذين يلحدون في آياتنا ل يخفون علينا أفمن‬
‫يلقى في النار خير ام من يأتي آمنا يوم القيامة‬
‫اعملوا ما شئتم انه بما تعملون بصير ان الذين‬
‫كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز ل ياتيه‬
‫الباطل من بين يديه ول من خلفه تنزيل من حكيم‬
‫حميد " حم السجدة ‪ 42 :‬فذكر تعالى ان القرآن‬
‫من حيث هو ذكر ل يغلبه باطل ول يدخل فيه حال‬
‫ول في مستقبل الزمان ل بابطال ول بنسخ ول‬
‫بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريته عنه ‪ .‬وكقوله‬
‫تعالى ‪ " :‬إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "‬
‫الحجر ‪ 9 :‬فقد اطلق الذكر واطلق الحفظ‬
‫فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كل زيادة ونقيصة‬
‫وتغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن‬
‫الذكرية ويبطل كونه ذكرا لله سبحانه بوجه ‪ .‬ومن‬
‫سخيف القول ارجاع ضمير له إلى النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم فانه مدفوع بالسياق وانما كان‬
‫المشركون يستهزؤن بالنبي لجل القرآن الذى‬
‫كان يدعى نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا‬
‫وقالوا ‪ " :‬يا ايهاالذى نزل عليه الذكر انك لمجنون‬
‫وقد ‪ /‬صفحة ‪ / 107‬مر تفسير الية ‪ .‬فقد تبين‬
‫مما فصلناه ان القرآن الذى انزله الله على نبيه‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه بانه ذكر‬
‫محفوظ على ما انزل مصون بصيانة الهية عن‬
‫الزيادة والنقيصة والتغيير كما وعد الله نبيه فيه ‪.‬‬
‫وخلصة الحجة ان القرآن انزله الله على نبيه‬
‫ووصفه في آيات كثيرة باوصاف خاصة لو كان‬
‫تغير في شئ من هذه الوصاف بزيادة أو نقيصة‬
‫أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثر فقد آثار تلك‬
‫الصفة قطعا لكنا نجد القرآن الذى بايدينا واجدا‬
‫لثار تلك الصفات المعدودة على أتم ما يمكن‬
‫واحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئا‬
‫من صفاته فالذي بايدينا منه هو القرآن المنزل‬
‫على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعينه فلو‬
‫فرض سقوط شئ منه أو تغير في اعراب أو حرف‬
‫أو ترتيب وجب ان يكون في امر ل يؤثر في شئ‬
‫من اوصافه كالعجاز وارتفاع الختلف والهداية‬
‫والنورية والذكرية والهيمنة على سائر الكتب‬
‫السماوية إلى غير ذلك وذلك كآية مكررة ساقطة‬
‫أو اختلف في نقطة أو اعراب ونحوها ‪ .‬الفصل ‪-‬‬
‫‪ 2‬ويدل على عدم وقوع التحريف الخبار الكثيرة‬
‫المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من‬
‫طرق الفريقين المرة بالرجوع إلى القرآن عند‬
‫الفتن وفي حل عقد المشكلت ‪ .‬وكذا حديث‬
‫الثقلين المتواتر من طرق الفريقين ‪ :‬انى تارك‬
‫فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتى ما إن‬
‫تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى ابدا الحديث فل‬
‫معنى للمر بالتمسك بكتاب محرف ونفى الضلل‬
‫ابدا ممن تمسك به ‪ .‬وكذا الخبار الكثيرة الواردة‬
‫عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وائمه اهل‬
‫البيت عليهم السلم المرة بعرض الخبار على‬
‫الكتاب وما ذكره بعضهم ان ذلك في الخبار‬
‫الفقهية ومن الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف‬
‫في خصوص آيات الحكام ول ينفع ذلك سائر‬
‫اليات مدفوع بان اخبار العرض مطلقة فتخصيصها‬
‫بذلك تخصيص من غير مخصص ‪ .‬على إن لسان‬
‫اخبار العرض كالصريح أو هو صريح في ان المر‬
‫بالعرض انما هو ‪ /‬صفحة ‪ / 108‬لتمييز الصدق من‬
‫الكذب والحق من الباطل ومن المعلوم ان الدس‬
‫والوضع غير مقصورين في اخبار الفقه بل‬
‫الدواعى إلى الدس والوضع في المعارف‬
‫العتقادية وقصص النبياء والمم الماضين‬
‫واوصاف المبدء والمعاد اكثر واوفر ويؤيد ذلك ما‬
‫بايدينا من السرائيليات وما يحذو حذوها مما امر‬
‫الجعل فيها اوضح وابين ‪ .‬وكذا الخبار التى‬
‫تتضمن تمسك ائمة اهل البيت عليهم السلم‬
‫بمختلف اليات القرآنية في كل باب على ما‬
‫يوافق القرآن الموجود عندنا حتى في الموارد‬
‫التى فيها آحاد من الروايات بالتحريف وهذا احسن‬
‫شاهد على ان المراد في كثير من روايات‬
‫التحريف من قولهم عليهم السلم كذا نزل هو‬
‫التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن‬
‫والتأويل ‪ .‬وكذا الروايات الواردة عن امير‬
‫المؤمنين وسائر الئمة من ذريته عليهم السلم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 108‬‬
‫في إن ما بايدى الناس قرآن نازل من عند الله‬
‫سبحانه وان كان غير ما الفه على عليه السلم من‬
‫المصحف ولم يشركوه عليه السلم في التاليف‬
‫في زمن ابى بكر ول في زمن عثمان ومن هذا‬
‫الباب قولهم عليهم السلم لشيعتهم ‪ :‬اقرؤوا كما‬
‫قرء الناس ومقتضى هذه الروايات ان لو كان‬
‫القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما الفه على‬
‫عليه السلم في شئ فانما يخالفه في ترتيب‬
‫السور أو في ترتيب بعض اليات التى ل يؤثر‬
‫اختلل ترتيبها في مدلولها شيئا ول في الوصاف‬
‫التى وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من‬
‫عنده ما يختل به آثارها ‪ .‬فمجموع هذه الروايات‬
‫على اختلف اصنافها يدل دللة قاطعة على ان‬
‫الذى بايدينا من القرآن هو القرآن النازل على‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يفقد‬
‫شيئا من اوصافه الكريمة وآثارها وبركاتها ‪.‬‬
‫الفصل ‪ 3 -‬ذهب جماعة من محدثي الشيعة‬
‫والحشوية وجماعة من محدثي اهل السنة إلى‬
‫وقوع التحريف بمعنى النقص والتغيير في اللفظ‬
‫أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها احد من‬
‫المسلمين كما قيل ‪ .‬واحتجوا على نفى الزيادة‬
‫بالجماع وعلى وقوع النقص والتغيير بوجوه كثيرة‬
‫‪ / .‬صفحة ‪ / 109‬احدها الخبار الكثيرة المروية من‬
‫طرق الشيعة واهل السنة الدالة على سقوط بعض‬
‫السور واليات وكذا الجمل واجزاء الجمل‬
‫والكلمات والحروف في الجمع الول الذى الف‬
‫فيه القرآن في زمن ابى بكر وكذا في الجمع‬
‫الثاني الذى كان في زمن عثمان وكذا التغيير‬
‫وهذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها‬
‫المعتبرة وغيرها وقد ادعى بعضهم انها تبلغ الفى‬
‫حديث وروتها اهل السنة في صحاحهم كصحيحي‬
‫البخاري ومسلم وسنن ابى داود والسنائى واحمد‬
‫وسائر الجوامع وكتب التفاسير وغيرها وقد ذكر‬
‫اللوسي في تفسيره انها فوق حد الحصاء ‪ .‬وهذا‬
‫غير ما يخالف فيه مصحف عبد الله بن مسعود‬
‫المصحف المعروف مما ينيف على ستين موضعا‬
‫وما يخالف فيه مصحف ابى بن كعب المصحف‬
‫العثماني وهو في بضع وثلثين موضعا وما يختلف‬
‫فيه المصاحف العثمانية التى اكتتبها وارسلها إلى‬
‫الفاق وهى خمسة أو سبعة ارسلها إلى مكة وإلى‬
‫الشام وإلى البصرة وإلى الكوفة وإلى اليمن وإلى‬
‫البحرين وحبس واحدا بالمدينة والختلف الذى‬
‫فيما بينها يبلغ خمسة واربعين حرفا وقيل بضع‬
‫وخمسين حرفا ) ‪ . ( 1‬وغير الختلف في الترتيب‬
‫بين المصاحف العثمانية والجمع الول في زمن‬
‫ابى بكر فقد كانت سورة النفال في التاليف‬
‫الول في المثانى وسورة براءة في المئين وهما‬
‫في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما‬
‫ستجئ روايته ‪ .‬وغير الختلف في ترتيب السور‬
‫الموجود بين مصحفي عبد الله بن مسعود وابى‬
‫ابن كعب على ما وردت به الرواية وبين المصاحف‬
‫العثمانية وغير الختلفات القرائية الشاذة التى‬
‫رويت عن الصحابة والتابعين فربما بلغ عدد‬
‫المجموع اللف أو زاد عليه ‪ .‬الوجه الثاني إن‬
‫العقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقا متشتتا‬
‫منتشرا عند الناس وتصدى لجمعه غير المعصوم‬
‫يمتنع عادة ان يكون جمعه كامل موافقا للواقع ‪.‬‬
‫الوجه الثالث ماروته العامة والخاصة ‪ :‬إن عليا‬
‫عليه السلم اعتزل الناس بعد رحلة النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم ولم يرتد ال للصلة حتى جمع‬
‫القرآن ثم حمله إلى الناس واعلمهم انه القرآن ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 110‬الذى انزله الله على نبيه صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم وقد جمعه فردوه واستغنوا عنه‬
‫بما جمعه لهم زيد بن ثابت ولو لم يكن بعض ما‬
‫فيه مخالفا لبعض ما في مصحف زيد لم يكن‬
‫لحمله إليهم واعلمهم ودعوتهم إليه وجه وقد كان‬
‫عليه السلم اعلم الناس بكتاب الله بعد نبيه صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم وقد ارجع الناس إليه في‬
‫حديث الثقلين المتواتر وقال في الحديث المتفق‬
‫عليه ‪ :‬على مع الحق والحق مع على ‪ .‬الوجه الرابع‬
‫ما ورد من الروايات انه يقع في هذه المة ما وقع‬
‫في بنى اسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة‬
‫وقد حرفت بنو اسرائيل كتاب نبيهم على ما يصرح‬
‫به القرآن الكريم والروايات المأثورة فل بد ان‬
‫يقع نظيره في هذه المة فيحرفوا كتاب ربهم‬
‫وهو القرآن الكريم ‪ .‬ففى صحيح البخاري عن ابى‬
‫سعيد الخدرى إن رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم قال ‪ :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا‬
‫بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب‬
‫لتبعتموه قلنا يا رسول الله بآبائنا وامهاتنا اليهود‬
‫والنصارى ؟ قال فمن ؟ والرواية مستفيضة مروية‬
‫في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة كأبى‬
‫سعيد الخدرى كما مر وابى هريرة وعبد الله بن‬
‫عمر وابن عباس وحذيفة وعبد الله بن مسعود‬
‫وسهل بن سعد وعمر بن عوف وعمرو بن العاص‬
‫وشداد بن اوس والمستورد بن شداد في الفاظ‬
‫متقاربة ‪ .‬وهى مروية مستفيضة من طرق الشيعة‬
‫عن عدة من ائمة اهل البيت عليهم السلم عن‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في تفسير‬
‫القمى عنه صلى الله عليه وآله وسلم ‪ :‬لتركبن‬
‫سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة‬
‫بالقذة ل تخطؤون طريقهم ول تخطئ شبر بشبر‬
‫وذراع بذراع‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 110‬‬
‫وباع بباع حتى ان لو كان من قبلكم دخل جحر‬
‫ضب لدخلتموه قالوا اليهود والنصارى تعنى يا‬
‫رسول الله ؟ قال فمن اعني ؟ لتنقضن عرى‬
‫السلم عروة عروة فيكون اول ما تنقضون من‬
‫دينكم المانة وآخره الصلة ‪ .‬والجواب عن‬
‫استدللهم باجماع المة على نفى تحريف القرآن‬
‫بالزيادة بأنها حجة مدخولة لكونها دورية ‪ .‬بيان‬
‫ذلك ان الجماع ليس في نفسه حجة عقلية يقينية‬
‫بل هو عند القائلين ‪ /‬صفحة ‪ / 111‬باعتباره حجة‬
‫شرعية لو افاد شيئا من العتقاد فانما يفيد الظن‬
‫سواء في ذلك محصله ومنقوله على خلف ما‬
‫يزعمه كثير منهم ان الجماع المحصل مفيد‬
‫للقطع وذلك ان الذى يفيده الجماع من العتقاد‬
‫ل يزيد على مجموع العتقادات التى تفيدها آحاد‬
‫القوال والواحد من القوال المتوافقة ل يفيد ال‬
‫الظن باصابة الواقع وانضمام القول الثاني الذى‬
‫يوافقه إليه انما يفيد قوة الظن دون القطع لن‬
‫القطع اعتقاد خاص بسيط مغاير للظن وليس‬
‫بالمركب من عدة ظنون ‪ .‬وهكذا كلما انضم قول‬
‫إلى قول وتراكمت القوال المتوافقة زاد الظن‬
‫قوة وتراكمت الظنون واقتربت من القطع من‬
‫غير ان تنقلب إليه كما تقدم هذا في المحصل من‬
‫الجماع وهو الذى نحصله بتتبع جميع القوال‬
‫والحصول على كل قول قول واما المنقول منه‬
‫الذى ينقله الواحد والثنان من اهل العلم والبحث‬
‫فالمر فيه اوضح فهو كآحاد الروايات ل يفيد ال‬
‫الظن ان افاد شيئا من العتقاد ‪ .‬فالجماع حجة‬
‫ظنية شرعية دليل اعتبارها عند اهل السنة مثل‬
‫قوله صلى الله عليه وآله وسلم ل تجتمع امتى‬
‫على خطاء أو ضلل وعند الشيعة دخول قول‬
‫المعصوم في اقوال المجمعين أو كشف اقوالهم‬
‫عن قوله بوجه ‪ .‬فحجية الجماع بالجملة متوقفة‬
‫على صحة النبوة وذلك ظاهر وصحة النبوة اليوم‬
‫متوقفة على سلمة القرآن من التحريف‬
‫المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه‬
‫كالهداية وفصل القول وخاصة العجاز فانه ل‬
‫دليل حيا خالدا على خصوص نبوة النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم غير القرآن الكريم بكونه آية‬
‫معجزة ومع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو‬
‫أي تغيير آخر ل وثوق بشئ من آياته ومحتوياته انه‬
‫كلم الله محضا وبذلك تسقط الحجة وتفسد الية‬
‫ومع سقوط كتاب الله عن الحجية يسقط الجماع‬
‫عن الحجية ‪ .‬ول ينفع في المقام ما قدمناه في‬
‫اول الكلم ان وجود القرآن المنزل على النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم فيما بايدينا من القرآن‬
‫في الجملة من ضروريات التاريخ ‪ .‬وذلك لن مجرد‬
‫اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعي يدفع‬
‫احتمال زيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر في كل‬
‫آية أو جملة اريد التمسك بها لثبات مطلوب ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 112‬والجواب عن الوجه الول الذى اقيم‬
‫لوقوع التحريف بالنقص والتغيير وهو الذى تمسك‬
‫فيه بالخبار اما اول فبأن التمسك بالخبار بما انها‬
‫حجة شرعية يشتمل من الدور على ما يشتمل‬
‫عليه التمسك بالجماع بنظير البيان الذى تقدم‬
‫آنفا ‪ .‬فل يبقى للمستدل بها إل أن يتمسك بها بما‬
‫انها اسناد ومصادر تاريخية وليس فيها حديث‬
‫متواتر ول محفوف بقرائن قطعية تضطر العقل‬
‫إلى قبوله بل هي آحاد متفرقة متشتتة مختلفة‬
‫منها صحاح ومنها ضعاف في اسنادها ومنها‬
‫قاصرة في دللتها فما اشذ منها ما هو صحيح في‬
‫سنده تام في دللته ‪ .‬وهذا النوع على شذوذه‬
‫وندرته غير مأمون فيه الوضع والدس فان انسراب‬
‫السرائيليات وما يحلق بها من الموضوعات‬
‫والمدسوسات بين رواياتنا ل سبيل إلى انكاره ول‬
‫حجية في خبر ل يؤمن فيه الدس والوضع ‪ .‬ومع‬
‫الغض عن ذلك فهى تذكر من اليات والسور ما ل‬
‫يشبه النظم القرآني بوجه ومع الغض عن جميع‬
‫ذلك فانها مخالفة للكتاب مردودة اما ما ذكرنا ان‬
‫اكثرها ضعيفة السناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى‬
‫اسانيدها فهى مراسيل أو مقطوعة السناد أو‬
‫ضعيفتها والسالم منها من هذه العلل اقل قليل ‪.‬‬
‫واما ما ذكرنا ان منها ما هو قاصر في دللتها فان‬
‫كثيرا مما وقع فيها من اليات المحكية من قبيل‬
‫التفسير وذكر معنى اليات ل من حكاية متن الية‬
‫المحرفة وذلك كما في روضة الكافي عن ابى‬
‫الحسن الول ‪ :‬في قول الله ‪ " :‬اولئك الذين يعلم‬
‫الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم فقد سبقت‬
‫عليهم كلمة الشقاء وسبق لهم العذاب وقل لهم‬
‫في انفسهم قول بليغا وما في الكافي عن‬
‫الصادق عليه السلم ‪ :‬في قوله تعالى ‪ " :‬وان‬
‫تلووا أو تعرضوا قال ان تلووا المر وتعرضوا عما‬
‫امرتم به فان الله كان بما تعملون خبيرا إلى غير‬
‫ذلك من رويات التفسير المعدودة من اخبار‬
‫التحريف ‪ .‬ويلحق بهذا الباب ما ل يحصى من‬
‫الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من‬
‫اخبار التحريف كالروايات التى تذكر هذه الية هكذا‬
‫يا ايها الرسول بلغ ما ‪ /‬صفحة ‪ / 113‬انزل اليك‬
‫في على والية نازلة في حقه عليه السلم وما‬
‫روى " ‪ :‬ان وفد بنى تميم كانوا إذا قدموا رسول‬
‫الله صلى الله عليه وآله وسلم وقفوا على باب‬
‫الحجرة ونادوه أن اخرج الينا فذكرت الية فيها‬
‫هكذا إن الذين ينادونك من وراء الحجرات بنو تميم‬
‫اكثرهم ل يعقلون فظن‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 113‬‬
‫إن في الية سقطا ويلحق بهذا الباب ايضا ما ل‬
‫يحصى من الخبار الواردة في جرى القرآن‬
‫وانطباقه كما ورد في قوله ‪ " :‬وسيعلم الذين‬
‫ظلموا آل محمد حقهم وما ورد من قوله ومن‬
‫يطع الله ورسوله " في ولية على والئمة من‬
‫بعده فقد فاز فوزا عظيما وهى كثيرة جدا ‪.‬‬
‫ويلحق بها ايضا ما اتبع فيه القراءة بشئ من الذكر‬
‫والدعاء فتوهم انه من سقط القرآن كما في‬
‫الكافي عن عبد العزيز بن المهتدى قال ‪ :‬سألت‬
‫الرضا عليه السلم عن التوحيد فقال كل من قرء‬
‫قل هو الله احد وآمن بها فقد عرف التوحيد قال )‬
‫قلت ظ ( كيف نقرؤها ؟ قال كما يقرؤها الناس‬
‫وزاد فيه كذلك الله ربى كذلك الله ربى ومن قبيل‬
‫قصور الدللة ما نجد في كثير من اليات المعدودة‬
‫من المحرفة اختلف الروايات في لفظ الية‬
‫كالتى وردت في قوله تعالى ‪ " :‬ولقد نصركم الله‬
‫ببدر وانتم اذلة " ففى بعضها ان الية هكذا ولقد‬
‫نصركم الله ببدر وانتم ضعفاء وفي بعضها ولقد‬
‫نصركم الله ببدر وانتم قليل ‪ .‬وهذا الختلف ربما‬
‫كان قرينة على ان المراد هو التفسير بالمعنى‬
‫كما في الية المذكورة ويؤيده ما ورد في بعضها‬
‫من قوله عليه السلم ‪ :‬ل يجوز وصفهم بأنهم اذلة‬
‫وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‪.‬‬
‫وربما لم يكن ال من التعارض والتنافى بين‬
‫الروايات القاضى بسقوطها كآية الرجم على ما‬
‫ورد في روايات الخاصة والعامة وهى في بعضها‬
‫إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فانهما‬
‫قضيا الشهوة وفي بعضها الشيخ والشيخة إذا زنيا‬
‫فارجموهما البتة فانهما قضيا الشهوة وفي بعضها‬
‫بما قضيا من اللذة وفي بعضها آخرها نكال من‬
‫الله والله عليم حكيم وفي بعضها نكال من الله‬
‫والله عزيز حكيم ‪ .‬وكآية الكرسي على التنزيل‬
‫التى وردت فيها روايات فهى في بعضها هكذا ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 114‬الله ل اله ال هو الحى القيوم ل‬
‫تأخذه سنة ول نوم له ما في السماوات وما في‬
‫الرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب‬
‫والشهادة فل يظهر على غيبه احدا من ذا الذى‬
‫يشفع عنده إلى قوله وهو العلى العظيم والحمد‬
‫لله رب العالمين ‪ .‬وفي بعضها إلى قوله هم فيها‬
‫خالدون والحمد لله رب العالمين وفي بعضها هكذا‬
‫له ما في السماوات وما في الرض وما بينهما وما‬
‫تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمان الرحيم‬
‫الخ وفي بعضها عالم الغيب والشهادة الرحمان‬
‫الرحيم بديع السماوات والرض ذو الجلل والكرام‬
‫رب العرش العظيم وفي بعضها عالم الغيب‬
‫والشهادة العزيز الحكيم ‪ .‬وما ذكره بعض‬
‫المحدثين ان اختلف هذه الروايات في اليات‬
‫المنقولة غير ضائر لتفاقها في اصل التحريف‬
‫مردود بان ذلك ل يصلح ضعف الدللة ودفع بعضها‬
‫لبعض ‪ .‬واما ما ذكرنا من شيوع الدس والوضع في‬
‫الروايات فل يرتاب فيه من راجع الروايات‬
‫المنقولة في الصنع واليجاد وقصص النبياء‬
‫والمم والخبار الواردة في تفاسير اليات‬
‫والحوادث الواقعة في صدر السلم واعظم ما‬
‫يهم امره لعداء الدين ول يألون جهدا في اطفاء‬
‫نوره واخماد ناره واعفاء اثره هو القرآن الكريم‬
‫الذى هو الكهف المنيع والركن الشديد الذى يأوى‬
‫إليه ويتحصن به المعارف الدينية والسند الحى‬
‫الخالد لمنشور النبوة ومواد الدعوة لعلمهم بأنه لو‬
‫بطلت حجة القرآن لفسد بذلك امر النبوة واختل‬
‫نظام الدين ولم يستقر من بنيته حجر على حجر ‪.‬‬
‫والعجب من هؤلء المحتجين بروايات منسوبة إلى‬
‫الصحابة أو إلى ائمة اهل البيت عليهم السلم‬
‫على تحريف كتاب الله سبحانه وابطال حجيته‬
‫وببطلن حجة القرآن تذهب النبوة سدى‬
‫والمعارف الدينية لغى ل اثر لها وما ذا يغنى قولنا‬
‫ان رجل في تاريخ كذا ادعى النبوة وأتى بالقرآن‬
‫معجزة اما هو فقد مات واما قرآنه فقد حرف ولم‬
‫يبق بايدينا مما يؤيد امره إل ان المؤمنين به‬
‫اجمعوا على صدقه في دعواه وان القرآن الذى‬
‫جاء به كان معجزا دال على نبوته والجماع حجة‬
‫لن النبي المذكور اعتبر حجيته أو لنه يكشف مثل‬
‫عن قول ائمة اهل بيته ؟ وبالجملة احتمال الدس‬
‫وهو قريب جدا مؤيد بالشواهد والقرائن يدفع ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 115‬حجية هذه الروايات ويفسد اعتبارها‬
‫فل يبقى معه لها ل حجية شرعية ول حجية‬
‫عقلئية حتى ما كان منها صحيح السناد فان صحة‬
‫السند وعدالة رجال الطريق انما يدفع تعمدهم‬
‫الكذب دون دس غيرهم في اصولهم وجوامعهم ما‬
‫لم يرووه ‪ .‬واما ما ذكرناه ان روايات التحريف‬
‫تذكر آيات وسورا ل يشبها نظمها النظم القرآني‬
‫بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فانه يعثر فيها بشئ‬
‫كثير من ذلك كسورتي الخلع والحفد اللتين رويتا‬
‫بعدة من طرق اهل السنة فسورة الخلع هي بسم‬
‫الله الرحمن الرحيم اللهم انا نستعينك ونستغفرك‬
‫ونثنى عليك ول نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك‬
‫وسورة الحفد هي بسم الله الرحمن الرحيم اللهم‬
‫اياك نعبد ولك نصلى ونسجد واليك نسعى ونحفد‬
‫نرجو رحمتك ونخشى نقمتك إن عذابك بالكافرين‬
‫ملحق ‪ .‬وكذا ما اورده بعض الروايات من سورة‬
‫الولية وغيرها اقاويل مختلقة رام‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 115‬‬
‫واضعها ان يقلد النظم القرآني فخرج الكلم عن‬
‫السلوب العربي المألوف ولم يبلغ النظم اللهى‬
‫المعجز فعاد يستبشعه الطبع وينكره الذوق ولك‬
‫ان تراجعها حتى تشاهد صدق ما ادعيناه وتقضى‬
‫ان اكثر المعتنين بهذه السور واليات المختلقة‬
‫المجعولة انما دعاهم إلى ذلك التعبد الشديد‬
‫بالروايات والهمال في عرضها على الكتاب ولو ل‬
‫ذلك لكفتهم للحكم بانها ليست بكلم الهى نظرة ‪.‬‬
‫واما ما ذكرنا ان روايات التحريف على تقدير صحة‬
‫اسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرد‬
‫مخالفتها لظاهر قوله تعالى ‪ " :‬انا نحن نزلنا‬
‫الذكر وانا له لحافظون " وقوله ‪ " :‬وانه لكتاب‬
‫عزيز ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه "‬
‫اليتان حتى تكون مخالفة ظنية لكون ظهور‬
‫اللفاظ من الدلة الظنية بل المراد مخالفتها‬
‫للدللة القطعية من مجموع القرآن الذى بايدينا‬
‫حسب ما قررناه في الحجة الولى التى اقمناها‬
‫لنفى التحريف ‪ .‬كيف ل ؟ والقرآن الذى بايدينا‬
‫متشابه الجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في‬
‫رفع الختلفات المتراءاة بين آياته وابعاضه غير‬
‫ناقص ول قاصر في اعطاء معارفه الحقيقية‬
‫وعلومه اللهية الكلية والجزئية المرتبطة بعضها‬
‫ببعض المترتبة فروعها على اصولها المنعطفة‬
‫اطرافها على اوساطها إلى غير ذلك من خواص‬
‫النظم القرآني الذى ‪ /‬صفحة ‪ / 116‬وصفه الله بها‬
‫‪ .‬والجواب عن الوجه الثاني ان دعوى المتناع‬
‫العادى مجازفة بينة نعم يجوز العقل عدم موافقة‬
‫التأليف في نفسه للواقع ال ان تقوم قرائن تدل‬
‫على ذلك وهى قائمة كما قدمنا واما ان يحكم‬
‫العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى‬
‫المتناع العادى فل ‪ .‬والجواب عن الوجه الثالث ان‬
‫جمعه عليه السلم القرآن وحمله إليهم وعرضه‬
‫عليهم ل يدل على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في‬
‫شئ من الحقائق الدينية الصلية أو الفرعية إل أن‬
‫يكون في شئ من ترتيب السور أو اليات من‬
‫السور التى نزلت نجوما بحيث ل يرجع إلى مخالفة‬
‫في بعض الحقائق الدينية ‪ .‬ولو كان كذلك‬
‫لعارضهم بالحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد‬
‫اعراضهم عما جمعه واستغنائهم عنه كما روى عنه‬
‫عليه السلم في موارد شتى ولم ينقل عنه عليه‬
‫السلم فيما روى من احتجاجاته انه قرأ في امر‬
‫وليته ول غيرها آية أو سورة تدل على ذلك‬
‫وجبههم على اسقاطها أو تحريفها ‪ .‬وهل كان‬
‫ذلك حفظا لوحدة المسلمين وتحرزا عن شق‬
‫العصا فانما كان يتصور ذلك بعد استقرار المر‬
‫واجتماع الناس على ما جمع لهم ل حين الجمع‬
‫وقبل ان يقع في اليدى ويسير في البلد ‪ .‬وليت‬
‫شعرى هل يسعنا ان ندعى ان ذاك الجم الغفير‬
‫من اليات التى يرون سقوطها وربما ادعوا انها‬
‫تبلغ اللوف كانت جميعا في الولية أو كانت خفية‬
‫مستورة عن عامة المسلمين ل يعرفها ال النزر‬
‫القليل منهم مع توفر دواعيهم وكثرة رغباتهم‬
‫على اخذ القرآن كلما نزل وتعلمه وبلوغ اجتهاد‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغه‬
‫وارساله إلى الفاق وتعليمه وبيانه وقد نص على‬
‫ذلك القرآن قال تعالى ‪ " :‬ويعلمهم الكتاب‬
‫والحكمة " الجمعة ‪ 2 :‬وقال ‪ " :‬لتبين للناس ما‬
‫نزل إليهم " النحل ‪ 44 :‬فكيف ضاع ؟ واين ذهب ؟‬
‫ما يشير إليه بعض المراسيل انه سقط في آية من‬
‫اول سورة النساء بين قوله ‪ " :‬وان خفتم أن ل‬
‫تقسطوا في اليتامى وقوله فانكحوا ما طاب لكم‬
‫من النساء " اكثر من ثلث القرآن أي اكثر من‬
‫الفى آية وما ورد من طرق اهل السنة ان سورة ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 117‬براءة كانت مبسملة تعدل سورة‬
‫البقرة وان الحزاب كانت اعظم من البقرة وقد‬
‫سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك ‪ .‬أو إن هذه‬
‫اليات وقد دلت هذه الروايات على بلوغها في‬
‫الكثره كانت منسوخة التلوة كما ذكره جمع من‬
‫المفسرين من اهل السنة حفظا لما ورد في بعض‬
‫رواياتهم إن من القرآن ما أنساه الله ونسخ تلوته‬
‫‪ .‬فما معنى انساء الية ونسخ تلوتها ؟ أكان ذلك‬
‫لنسخ العمل بها فما هي هذه اليات المنسوخة‬
‫الواقعة في القرآن كآية الصدقة وآية نكاح الزانية‬
‫والزانى وآية العدة وغيرها ؟ وهم مع ذلك‬
‫يقسمون منسوخ التلوة إلى منسوخ التلوة‬
‫والعمل معا ومنسوخ التلوة دون العمل كآية‬
‫الرجم ‪ .‬أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض‬
‫صفات كلم الله حتى ابطلها الله بامحاء ذكرها‬
‫وإذهاب اثرها فلم يكن من الكتاب العزيز الذى ل‬
‫ياتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه ول منزها‬
‫من الختلف ول قول فصل ول هاديا إلى الحق‬
‫وإلى طريق مستقيم ول معجزا يتحدى به ول ول‬
‫فما معنى اليات الكثيرة التى تصف القرآن بانه‬
‫في لوح محفوظ وانه كتاب عزيز ل ياتيه الباطل‬
‫من بين يديه ول من خلفه وانه قول فصل وانه‬
‫هدى وانه نور وانه فرقان بين الحق والباطل وانه‬
‫آية معجزة وانه وانه ؟ فهل يسعنا ان نقول ان‬
‫هذه اليات على كثرتها واباء سياقها عن التقييد‬
‫مقيدة بالبعض فبعض الكتاب فقط وهو غير‬
‫المنسى ومنسوخ التلوة ل ياتيه الباطل وقول‬
‫فصل وهدى ونور وفرقان ومعجزة خالدة ؟ وهل‬
‫جعل الكلم منسوخ التلوة ونسيا منسيا غير‬
‫ابطاله واماتته ؟ وهل‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 117‬‬
‫صيرورة القول النافع بحيث ل ينفع للبد ول يصلح‬
‫شأنا مما فسد غير الغائه وطرحه واهماله ؟ وكيف‬
‫يجامع ذلك كون القرآن ذكرا ؟ فالحق ان روايات‬
‫التحريف المروية من طرق الفريقين وكذا‬
‫الروايات المروية في نسخ تلوة بعض اليات‬
‫القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية ‪ .‬والجواب‬
‫عن الوجه الرابع ان اصل الخبار القاضية بمماثلة‬
‫الحوادث الواقعة في ‪ /‬صفحة ‪ / 118‬هذه المة لما‬
‫وقع في بنى اسرائيل مما ل ريب فيه وهى‬
‫متظافرة أو متواترة لكن هذه الروايات ل تدل‬
‫على المماثلة من جميع الجهات وهو ظاهر بل‬
‫الضرورة تدفعه ‪ .‬فالمراد بالمماثلة هي المماثلة‬
‫في الجملة من حيث النتائج والثار وحينئذ فمن‬
‫الجائز أن تكون مماثلة هذه المة لبنى اسرائيل‬
‫في مسألة تحريف الكتاب انما هي في حدوث‬
‫الختلف والتفرق بين المة بانشعابها إلى مذاهب‬
‫شتى يكفر بعضهم بعضا وافتراقها إلى ثلث‬
‫وسبعين فرقة كما افترقت النصارى إلى اثنتين‬
‫وسبعين واليهود إلى واحدة وسبعين وقد ورد هذا‬
‫المعنى في كثير من هذه الروايات حتى ادعى‬
‫بعضهم كونها متواترة ‪ .‬ومن المعلوم ان الجميع‬
‫مستندون فيما اختاروه إلى كتاب الله وليس ذلك‬
‫ال من جهة تحريف الكلم عن مواضعه وتفسير‬
‫القرآن الكريم بالرأى والعتماد على الخبار‬
‫الواردة في تفسير اليات من غير العرض على‬
‫الكتاب وتمييز الصحيح منها من السقيم وبالجملة‬
‫اصل الروايات الدالة على المماثلة بين المتين ل‬
‫يدل على شئ من التحريف الذى يدعونه نعم وقع‬
‫في بعضها ذكر التحريف بالتغيير والسقاط وهذه‬
‫الطائفة على ما بها من السقم مخالفة للكتاب‬
‫كما تقدم الفصل ‪ 4 -‬في تاريخ اليعقوبي قال عمر‬
‫بن الخطاب لبي بكر يا خليفة رسول الله إن حملة‬
‫القرآن قد قتل اكثرهم يوم اليمامة فلو جمعت‬
‫القرآن فانى اخاف عليه ان يذهب حملته فقال له‬
‫أبو بكر افعل ما لم يفعله رسول الله ؟ فلم يزل‬
‫به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف وكان مفرقا‬
‫في الجريد وغيرها ‪ .‬واجلس خمسة وعشرين رجل‬
‫من قريش وخمسين رجل من النصار فقال اكتبوا‬
‫القرآن واعرضوا على سعيد بن العاص فانه رجل‬
‫فصيح ‪ .‬وروى بعضهم ان على بن ابى طالب عليه‬
‫السلم كان جمعه لما قبض رسول الله صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم وأتى به يحمله على جمل فقال‬
‫هذا القرآن قد جمعته قال وكان قد جزأه سبعة‬
‫اجزاء ثم ذكر الجزاء ‪ .‬وفي تاريخ ابى الفداء‬
‫وقتل في قتال مسيلمة جماعة من القراء من‬
‫المهاجرين ‪ /‬صفحة ‪ / 119‬والنصار ولما رأى أبو‬
‫بكر كثرة من قتل امربجمع القرآن من افواه‬
‫الرجال وجريد النخل والجلود وترك ذلك المكتوب‬
‫عند حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم انتهى ‪ .‬والصل فيما ذكراه الروايات فقد‬
‫اخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال‬
‫ارسل إلى ابى بكر مقتل اهل اليمامة فإذا عمر‬
‫بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر اتانى‬
‫فقال ان القتل قد استحر بقراء القرآن وانى‬
‫اخشى ان يستحر القتل بالقراء في المواطن‬
‫فيذهب كثير من القرآن وانى ارى ان تامر بجمع‬
‫القرآن فقلت لعمر كيف نفعل شيئا لم يفعله‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر هذا‬
‫والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري‬
‫لذلك ورأيت الذى رأى عمر ‪ .‬قال زيد قال أبو بكر‬
‫انك شاب عاقل ل نتهمك وقد كنت تكتب الوحى‬
‫لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن‬
‫فأجمعه فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال‬
‫ما كان اثقل على مما امرني به من جمع القرآن‬
‫قلت كيف تفعلن شيئا لم يفعله رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ؟ قال هو والله خير ‪ .‬فلم يزل أبو‬
‫بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذى شرح له‬
‫صدر ابى بكر وعمر فتتبعت القرآن اجمعه من‬
‫العسف واللخاف وصدور الرجال ووجدت آخر‬
‫سورة التوبة مع خزيمة النصاري لم اجدها مع‬
‫غيره لقد جاءكم رسول حتى خاتمة براءة فكانت‬
‫الصحف عند ابى بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند‬
‫عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر ‪ .‬وعن ابن ابى‬
‫داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب‬
‫قال " ‪ :‬قدم عمر فقال من كان تلقى من رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن ‪-‬‬
‫فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف واللواح‬
‫والعسب وكان ل يقبل من احد شيئا حتى يشهد‬
‫شهيدا وعنه ايضا من طريق هشام بن عروة عن‬
‫ابيه وفي الطريق انقطاع " ‪ :‬ان ابا بكر قال لعمر‬
‫ولزيد ‪ -‬اقعدوا على باب المسجد ‪ -‬فمن جاءكما‬
‫بشاهدين على شئ من كتاب الله فاكتباه وفي‬
‫التقان عن ابن اشتة في المصاحف عن الليث بن‬
‫سعد قال " ‪ :‬اول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه‬
‫زيد ‪ -‬وكان الناس يأتون زيد بن ثابت ‪ -‬فكان ل‬
‫يكتب آية ال ‪ /‬صفحة ‪ / 120‬بشاهدي عدل وان آخر‬
‫سورة براءة لم يوجد ال مع ابى خزيمة بن ثابت‬
‫فقال اكتبوها فان رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين فكتب وان عمر‬
‫اتى بآية الرجم فلم يكتبها لنه كان وحده وعن ابن‬
‫ابى داود في المصاحف من طريق محمد بن‬
‫اسحاق عن يحيى بن عباد بن‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 120‬‬
‫عبد الله بن الزبير عن ابيه قال " ‪ :‬اتانى الحارث‬
‫بن خزيمة بهاتين اليتين من آخر سورة براءة‬
‫فقال ‪ -‬اشهد انى سمعتهما من رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ووعيتهما فقال عمر وانا اشهد‬
‫لقد سمعتهما ثم قال لو كانت ثلث آيات لجعلتها‬
‫سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن‬
‫فالحقوها في آخرها وعنه ايضا من طريق ابى‬
‫العالية عن ابى بن كعب " ‪ :‬انهم جمعوا القرآن‬
‫فلما انتهوا إلى الية التى في سورة براءة ثم‬
‫انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم ل يفقهون‬
‫ظنوا ان هذا آخر ما انزل فقال ابى ‪ -‬ان رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم اقرأني بعد هذا آيتين "‬
‫لقد جاءكم رسول " إلى آخر السورة وفي التقان‬
‫عن الدير عاقولي في فوائده حدثنا ابراهيم بن‬
‫يسار حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد‬
‫عن زيد بن ثابت قال قال " ‪ :‬قبض النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شئ‬
‫وفي مستدرك الحاكم باسناده عن زيد بن ثابت‬
‫قال " ‪ :‬كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫نؤلف القرآن من الرقاع الحديث ‪ .‬اقول ولعل‬
‫المراد ضم بعض اليات النازلة نجوما إلى بعض‬
‫السور أو الحاق بعض السور إلى بعضها مما‬
‫يتماثل صنفا كالطوال والمئين والمفصلت فقد‬
‫ورد لها ذكر في الحاديث النبوية وال فتأليف‬
‫القرآن وجمعه مصحفا واحدا انما كان بعد ما قبض‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم بل اشكال وعلى مثل‬
‫هذا ينبغى ان يحمل ما ياتي ‪ .‬في صحيح النسائي‬
‫عن ابن عمر قال ‪ :‬جمعت القرآن فقرأت به كل‬
‫ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقرأه‬
‫في شهر وفي التقان عن ابن ابى داود بسند‬
‫حسن عن محمد بن كعب القرظى قال " ‪ :‬جمع‬
‫القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫خمسة من النصار معاذ بن جبل وعبادة بن‬
‫الصامت ‪ /‬صفحة ‪ / 121‬وابى بن كعب وابو الدرداء‬
‫وابو ايوب النصاري وفيه عن البيهقى في‬
‫المدخل عن ابن سيرين قال " ‪ :‬جمع القرآن على‬
‫عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اربعة ل‬
‫يختلف فيهم معاذ بن جبل وابى بن كعب وابو زيد‬
‫واختلفوا في رجلين من ثلثة ابى الدرداء وعثمان‬
‫وقيل عثمان وتميم الدارى وفيه عنه وعن ابن ابى‬
‫داود عن الشعبى قال " ‪ :‬جمع القرآن في عهد‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم ستة ابى وزيد ومعاذ‬
‫وابو الدرداء وسعيد بن عبيد وابو زيد ومجمع بن‬
‫حارثة وقد اخذه ال سورتين أو ثلث وفيه ايضا عن‬
‫ابن اشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس‬
‫عن ابن بريدة قال " ‪ :‬اول من جمع القرآن في‬
‫مصحف سالم مولى ابى حذيفة اقسم ل يرتدى‬
‫برداء حتى يجمعه فجمعه الحديث ‪ .‬اقول اقصى ما‬
‫تدل عليه هذه الروايات مجرد جمعهم ما نزلت من‬
‫السور واليات واما العناية بترتيب السور واليات‬
‫كما هو اليوم أو بترتيب آخر فل هذا هو الجمع‬
‫الول في عهد ابى بكر ‪ .‬الفصل ‪ 5 -‬وقد جمع‬
‫القرآن ثانيا في عهد عثمان لما اختلفت المصاحف‬
‫وكثرت القراءات ‪ .‬قال اليعقوبي في تاريخه‬
‫وجمع عثمان القرآن وألفه وصير الطوال مع‬
‫الطوال والقصار مع القصار من السور وكتب في‬
‫جمع المصاحف من الفاق حتى جمعت ثم سلقها‬
‫بالماء الحار والخل وقيل احرقها فلم يبق مصحف‬
‫حتى فعل به ذلك خل مصحف ابن مسعود ‪ .‬وكان‬
‫ابن مسعود بالكوفة فامتنع ان يدفع مصحفه إلى‬
‫عبد الله بن عامر وكتب ) إليه ظ ( عثمان ان‬
‫اشخصه ان لم يكن هذا الدين خبال وهذه المة‬
‫فسادا فدخل المسجد وعثمان يخطب فقال عثمان‬
‫انه قد قدمت عليكم دابة سوء فكلم ابن مسعود‬
‫بكلم غليظ فامر به عثمان فجر برجله حتى كسر‬
‫له ضلعان فتكلمت عائشة وقالت قول كثيرا ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 122‬وبعث بها إلى المصار وبعث‬
‫بمصحف إلى الكوفة ومصحف إلى البصرة‬
‫ومصحف إلى المدينة ومصحف إلى مكة ومصحف‬
‫إلى مصر ومصحف إلى الشام ومصحف إلى‬
‫البحرين ومصحف إلى اليمن ومصحف إلى الجزيرة‬
‫‪ .‬وامر الناس ان يقرؤا على نسخة واحدة وكان‬
‫سبب ذلك انه بلغه ان الناس يقولون قرآن آل‬
‫فلن فاراد ان يكون نسخته واحدة وقيل ان ابن‬
‫مسعود كان كتب بذلك إليه فلما بلغه انه كان‬
‫يحرق المصاحف قال لم ارد هذا وقيل كتب إليه‬
‫بذلك حذيفة بن اليمان انتهى موضع الحاجة وفي‬
‫التقان روى البخاري عن انس " ‪ :‬ان حذيفة بن‬
‫اليمان قدم على عثمان وكان يغازى اهل الشام‬
‫في فتح ارمينية وآذربيجان مع اهل العراق فافزع‬
‫حذيفة اختلفهم في القراءة فقال لعثمان ادرك‬
‫المة قبل ان يختلفوا اختلف اليهود والنصارى‬
‫فارسل إلى حفصة ان ارسلي الينا الصحف‬
‫ننسخها في المصاحف ثم نردها اليك فأرسلت بها‬
‫حفصة إلى عثمان فامر زيد بن ثابت وعبد الله بن‬
‫الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمان ابن الحارث‬
‫بن هشام فنسخوها في المصاحف ‪ .‬وقال عثمان‬
‫للرهط القرشيين الثلثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن‬
‫ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش‬
‫فانه انما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا‬
‫الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى‬
‫حفصة وارسل إلى كل افق بمصحف مما نسخوا‬
‫وامر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو‬
‫مصحف ان يحرق ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 122‬‬
‫قال زيد آية من الحزاب حين نسخنا المصحف قد‬
‫كنت اسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت‬
‫النصاري ‪ " :‬من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا‬
‫الله عليه " فالحقناها في سورتها في المصحف‬
‫وفيه اخرج ابن اشتة من طريق ايوب عن ابى‬
‫قلبة قال حدثنى رجل من بنى عامر يقال له انس‬
‫بن مالك قال " ‪ :‬اختلفوا في القرآن على عهد‬
‫عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك‬
‫عثمان بن عفان فقال عندي تكذبون به وتلحنون‬
‫فيه فمن نأى عنى كان اشد تكذيبا واكثر لحنا يا‬
‫اصحاب محمد اجتمعوا واكتبوا للناس اماما ‪.‬‬
‫فاجتمعوا فكانوا إذا اختلفوا وتدارؤا في آية قالوا‬
‫هذه اقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ‪ /‬صفحة ‪ / 123‬فلنا فيرسل إليه وهو على‬
‫رأس ثلث من المدينة فيقال له كيف اقراك‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية كذا وكذا‬
‫؟ فيقول كذا وكذا فيكتبونها وقد تركوا لذلك مكانا‬
‫وفيه عن ابن ابى داود من طريق ابن سيرين عن‬
‫كثير بن افلح قال " ‪ :‬لما اراد عثمان ان يكتب‬
‫المصاحف جمع له اثنى عشر رجل من قريش‬
‫والنصار فبعثوا إلى الربعة التى في بيت عمر‬
‫فجئ بها وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارؤا‬
‫في شئ اخروه ‪ .‬قال محمد فظننت انما كانوا‬
‫يؤخرونه لينظروا احدثهم عهدا بالعرضة الخيرة‬
‫فيكتبونه على قوله وفيه اخرج ابن ابى داود بسند‬
‫صحيح عن سويد بن غفلة قال قال على ‪ :‬ل‬
‫تقولوا في عثمان ال خيرا ‪ -‬فو الله ما فعل الذى‬
‫فعل في المصاحف ال عن ملء منا قال ما‬
‫تقولون في هذه القراء ؟ فقد بلغني ان بعضهم‬
‫يقول إن قراءتى خير من قراءتك وهذا يكاد يكون‬
‫كفرا قلنا ‪ -‬فما ترى ؟ ) قال ارى ظ ( ان يجمع‬
‫الناس على مصحف واحد فل يكون فرقة ول‬
‫اختلف قلنا فنعم ما رأيت وفي الدر المنثور اخرج‬
‫ابن الضريس عن علباء بن احمر إن عثمان بن‬
‫عفان " ‪ :‬لما اراد ان يكتب المصاحب ارادوا ان‬
‫يلقوا الواو التى في براءة والذين يكنزون الذهب‬
‫والفضة قال ابى لتلحقنها أو لضعن سيفى على‬
‫عاتقي فألحقوها وفي التقان عن احمد وابى‬
‫داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن‬
‫ابن عباس قال " ‪ :‬قلت لعثمان ما حملكم على ان‬
‫عمدتم إلى النفال وهى من المثانى وإلى براءة‬
‫وهى من المئين فقربتم بينهما ولم تكتبوا بينهما‬
‫سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في‬
‫السبع الطوال فقال عثمان كان رسول الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد‬
‫فكان إذا انزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب‬
‫فيقول ضعوا هؤلء اليات في السورة التى يذكر‬
‫فيها كذا وكذا وكانت النفال من اوائل ما نزل‬
‫بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزول وكانت‬
‫قصتها شبيهة بقصتها فظننت انها منها فقبض‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا‬
‫انها منها ‪ .‬فمن اجل ذلك قرنت بينهما ولم اكتب‬
‫بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 124‬ووضعتها في السبع الطوال ‪ .‬اقول السبع‬
‫الطوال على ما يظهر من هذه الرواية وروى ايضا‬
‫عن ابن جبير هي البقرة وآل عمران والنساء‬
‫والمائدة والنعام والعراف ويونس وقد كانت‬
‫موضوعة في الجمع الول على هذا الترتيب ثم‬
‫غير عثمان هذا الترتيب فأخذ النفال وهى من‬
‫المثانى وبراءة وهى من المئين قبل المثانى‬
‫فوضعهما بين العراف ويونس مقدما النفال‬
‫على براءة ‪ .‬الفصل ‪ 6 -‬الروايات الموضوعة في‬
‫الفصلين السابقين هي اشهر الروايات الواردة‬
‫في باب جمع القرآن وتاليفه بين صحيحة وسقيمة‬
‫وهى تدل على ان الجمع الول كان جمعا لشتات‬
‫السور المكتوبة في العسب واللخاف والكتاف‬
‫والجلود والرقاع والحاق اليات النازلة متفرقة إلى‬
‫سور تناسبها ‪ .‬وان الجمع الثاني وهو الجمع‬
‫العثماني كان رد المصاحف المنتشرة عن الجمع‬
‫الول بعد عروض تعارض النسخ واختلف القراءات‬
‫عليها إلى مصحف واحد مجمع عليه عدا ما كان من‬
‫قول زيد انه الحق قوله من المؤمنين رجال صدقوا‬
‫ما عاهدوا الله عليه الية في سورة الحزاب في‬
‫المصحف فقد كانت المصاحف تتلى خمس عشرة‬
‫سنة وليست فيها الية ‪ .‬وقد روى البخاري عن‬
‫ابن الزبير قال " ‪ :‬قلت لعثمان والذين يتوفون‬
‫منكم ويذرون ازواجا قد نسختها الية الخرى فلم‬
‫تكتبها أو تدعها ؟ قال يا بن اخى ل اغير شيئا منه‬
‫من مكانه ‪ .‬والذى يعطيه النظر الحر في امر هذه‬
‫الروايات ودللتها وهى عمدة ما في هذا الباب انها‬
‫آحاد غير متواترة لكنها محفوفة بقرائن قطعية‬
‫فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ‬
‫الناس ما نزل إليه من ربه من غير أن يكتم منه‬
‫شيئا وكان يعلمهم ويبين لهم ما نزل إليهم من‬
‫ربهم على ما نص عليه القرآن ولم يزل جماعة‬
‫منهم يعلمون ويتعلمون القرآن تعلم تلوة وبيان‬
‫وهم القراء الذين قتل جم غفير منهم في غزوة‬
‫اليمامة ‪ / .‬صفحة ‪ / 125‬وكان الناس على رغبة‬
‫شديدة في اخذ القرآن وتعاطيه ولم يترك هذا‬
‫الشان ول ارتفع القرآن من بينهم ول يوما أو‬
‫بعض يوم حتى جمع القرآن في مصحف واحد ثم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 125‬‬
‫اجمع عليه فلم يبتل القرآن بما ابتليت به التوراة‬
‫والنجيل وكتب سائر النبياء ‪ .‬اضف إلى ذلك‬
‫روايات ل تحصى كثرة وردت من طرق الشيعة‬
‫واهل السنة في قراءاته صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم كثيرا من السور القرآنية في الفرائض‬
‫اليومية وغيرها بمسمع من مل الناس وقد سمى‬
‫في هذه الروايات جم غفير من السور القرآنية‬
‫مكيتها ومدنيتها ‪ .‬اضف إلى ذلك ما تقدم في‬
‫رواية عثمان بن ابى العاص ‪ :‬في تفسير قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ان الله يامر بالعدل والحسان " الية‬
‫النحل ‪ 90 :‬من قوله صلى الله عليه وآله وسلم إن‬
‫جبريل اتانى بهذه الية وامرني أن اضعها في‬
‫موضعها من السورة ونظير الرواية في الدللة ما‬
‫دل على قراءته صلى الله عليه وآله وسلم لبعض‬
‫السور النازلة نجوما كآل عمران والنساء وغيرها‬
‫فيدل على انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر‬
‫كتاب الوحى بالحاق بعض اليات في موضعها‬
‫واعظم الشواهد القاطعة ما تقدم في اول هذه‬
‫البحاث ان القرآن الموجود بايدينا واجد لما وصفه‬
‫الله تعالى من الوصاف الكريمة ‪ .‬وبالجملة الذى‬
‫تدل عليه هذه الروايات هي اول ان الموجود فيما‬
‫بين الدفتين من القرآن هو كلم الله تعالى فلم‬
‫يزد فيه شئ ولم يتغير منه شئ واما النقص فانها‬
‫ل تفى بنفيه نفيا قطعيا كما روى بعدة طرق ان‬
‫عمر كان يذكر كثيرا آية الرجم ولم تكتب عنه واما‬
‫حملهم الرواية وسائر ما ورد في التحريف وقد‬
‫ذكر اللوسي في تفسيره انها فوق حد الحصاء‬
‫على منسوخ التلوة فقد عرفت فساده وتحققت‬
‫ان اثبات منسوخ التلوة اشنع من اثبات اصل‬
‫التحريف ‪ .‬على إن من كان له مصحف غير ما‬
‫جمعه زيد اول بامر من ابى بكر وثانيا بأمر من‬
‫عثمان كعلى عليه السلم وابى بن كعب وعبد الله‬
‫بن مسعود لم ينكر شيئا مما حواه المصحف الدائر‬
‫غير ما نقل عن ابن مسعود انه لم يكتب في‬
‫مصحفه المعوذتين وكان يقول انهما عوذتان نزل‬
‫بهما جبريل على رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ليعوذ بهما الحسنين عليهما السلم وقد رده‬
‫سائر الصحابة وتواترت النصوص من ائمة اهل‬
‫البيت عليهم السلم على انهما سورتان من‬
‫القرآن ‪ / .‬صفحة ‪ / 126‬وبالجملة الروايات‬
‫السابقة كما ترى آحاد محفوفة بالقرائن القطعية‬
‫نافية للتحريف بالزيادة والتغيير قطعا دون النقص‬
‫ال ظنا ودعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات‬
‫الثلث ل مستند لها ‪ .‬والتعويل في ذلك على ما‬
‫قدمناه من الحجة في اول هذه البحاث ان القرآن‬
‫الذى بايدينا واجد للصفات الكريمة التى وصف الله‬
‫سبحانه بها القرآن الواقعي الذى انزله على‬
‫رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ككونه قول‬
‫فصل ورافعا للختلف وذكرا وهاديا ونورا ومبينا‬
‫للمعارف الحقيقية والشرائع الفطرية وآية معجزة‬
‫إلى غير ذلك من صفاته الكريمة ‪ .‬ومن الحرى أن‬
‫نعول على هذا الوجه فان حجة القرآن على كونه‬
‫كلم الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم هي نفسه المتصفة بهاتيك الصفات الكريمة‬
‫من غير ان يتوقف في ذلك على امر آخر وراء‬
‫نفسه كائنا ما كان فحجته معه اينما تحقق وبيد‬
‫من كان ومن أي طريق وصل ‪ .‬وبعبارة اخرى ل‬
‫يتوقف القرآن النازل من عند الله إلى النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم في كونه متصفا بصفاته‬
‫الكريمة على ثبوت استناده إليه صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم بنقل متواتر أو متظافر وان كان واجدا‬
‫لذلك بل المر بالعكس فاتصافه بصفاته الكريمة‬
‫هو الحجة على الستناد فليس كالكتب والرسائل‬
‫المنسوبة إلى المصنفين والكتاب والقاويل‬
‫المأثورة عن العلماء واصحاب النظار المتوقفة‬
‫صحة استنادها إلى نقل قطعي وبلوغ متواتر أو‬
‫مستفيض مثل بل نفس ذاته هي الحجة على ثبوته‬
‫‪ .‬وثانيا إن ترتيب السور انما هو من الصحابة في‬
‫الجمع الول والثانى ومن الدليل عليه ما تقدم في‬
‫الروايات من وضع عثمان النفال وبراءة بين‬
‫العراف ويونس وقد كانتا في الجمع الول‬
‫متاخرتين ‪ .‬ومن الدليل عليه ما ورد من مغايرة‬
‫ترتيب مصاحف سائر الصحابة للجمع الول والثانى‬
‫كليهما كما روى ان مصحف على عليه السلم كان‬
‫مرتبا على ترتيب النزول فكان اوله اقرء ثم‬
‫المدثر ثم نون ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير‬
‫وهكذا إلى آخر المكى والمدنى نقله في التقان‬
‫عن ابن فارس وفي تاريخ اليعقوبي ترتيب آخر‬
‫لمصحفه عليه السلم ‪ / .‬صفحة ‪ / 127‬ونقل عن‬
‫ابن اشتة في المصاحف باسناده عن ابى جعفر‬
‫الكوفى ترتيب مصحف ابى وهو يغاير المصحف‬
‫الدائر مغايرة شديدة وكذا عنه فيه باسناده عن‬
‫جرير بن عبد الحميد ترتيب مصحف عبد الله بن‬
‫مسعود آخذا من الطوال ثم المئين ثم المثانى ثم‬
‫المفصل وهو ايضا مغاير للمصحف الدائر ‪ .‬وقد‬
‫ذهب كثير منهم إلى إن ترتيب السور توقيفي وان‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذى امر بهذا‬
‫الترتيب باشارة من جبريل بامر من الله سبحانه‬
‫حتى افرط بعضهم فادعى ثبوت ذلك بالتواتر‬
‫وليت شعرى اين هذا التواتر وقد تقدمت عمدة‬
‫روايات الباب ول اثر فيها من هذا المعنى وسياتى‬
‫استدلل بعضهم على ذلك بما ورد من نزول‬
‫القرآن من اللوح‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 127‬‬
‫المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها على‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدريجا ‪ .‬وثالثا إن‬
‫وقوع بعض اليات القرآنية التى نزلت متفرقة‬
‫موقعها الذى هي فيه الن لم يخل عن مداخلة من‬
‫الصحابة بالجتهاد كما هو ظاهر روايات الجمع‬
‫الول وقد تقدمت ‪ .‬واما رواية عثمان بن ابى‬
‫العاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتانى‬
‫جبريل فأمرني أن اضع هذه الية بهذا الموضع من‬
‫السورة ‪ " :‬إن الله يأمر بالعدل والحسان " الية‬
‫فل تدل على ازيد من فعله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم في بعض اليات في الجملة ل بالجملة‬
‫وعلى تقدير التسليم ل دللة لما بأيدينا من‬
‫الروايات المتقدمة على مطابقة ترتيب الصحابة‬
‫ترتيبه صلى الله عليه وآله وسلم ومجرد حسن‬
‫الظن بهم ل يسمح للروايات بدللة تدل بها على‬
‫ذلك وانما يفيد انهم ما كانوا ليعمدوا إلى مخالفة‬
‫ترتيبه صلى الله عليه وآله وسلم فيما علموه ل‬
‫فيما جهلوه وفي روايات الجمع الول المتقدمة‬
‫اوضح الشواهد على إنهم ما كانوا على علم‬
‫بمواضع جميع اليات ول بنفسها ‪ .‬ويدل على ذلك‬
‫الروايات المستفيضة التى وردت من طرق الشيعة‬
‫واهل السنة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫والمؤمنين إنما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول‬
‫البسملة كما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي‬
‫والبزار من طريق سعيد بن جبير على ما في‬
‫التقان عن ابن عباس قال " ‪ :‬كان النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم ل يعرف فصل السورة حتى‬
‫تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم زاد البزار فإذا‬
‫نزلت عرف إن السورة قد ختمت واستقبلت أو‬
‫ابتدأت سورة اخرى وايضا عن الحاكم من وجه آخر‬
‫عن سعيد عن ابن عباس قال " ‪ :‬كان المسلمون ل‬
‫يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله‬
‫الرحمن الرحيم فإذا نزلت علموا إن السورة ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 128‬قد انقضت اسناده على شرط‬
‫الشيخين ‪ .‬وايضا عنه من وجه آخر عن سعيد عن‬
‫ابن عباس " ‪ :‬ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫علم انها سورة اسناده صحيح ‪ .‬اقول وروى ما‬
‫يقرب من ذلك في عدة روايات اخر وروى ذلك من‬
‫طرق الشيعة عن الباقر عليه السلم ‪ .‬والروايات‬
‫كما ترى صريحة في دللتها على ان اليات كانت‬
‫مرتبة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب‬
‫ترتيب النزول فكانت المكيات في السورة المكية‬
‫والمدنيات في سورة مدنية اللهم إل أن يفرض‬
‫سورة نزل بعضها بمكة وبعضها بالمدينة ول‬
‫يتحقق هذا الفرض ال في سورة واحدة ‪ .‬ولزم‬
‫ذلك ان يكون ما نشاهده من اختلف مواضع اليات‬
‫مستندا إلى اجتهاد من الصحابة ‪ .‬توضيح ذلك ان‬
‫هناك ما ل يحصى من روايات اسباب النزول يدل‬
‫على كون آيات كثيرة في السور المدنية نازلة‬
‫بمكة وبالعكس وعلى كون آيات من القرآن نازلة‬
‫مثل في اواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم وهى واقعة في سور نازلة في اوائل‬
‫الهجرة وقد نزلت بين الوقتين سور اخرى كثيرة‬
‫وذلك كسورة البقرة التى نزلت في السنة الولى‬
‫من الهجرة وفيها آيات الربا وقد وردت الروايات‬
‫على انها من آخر ما نزلت على النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم حتى ورد عن عمر انه قال مات‬
‫رسول الله ولم يبين لنا آيات الربا وفيها قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " الية‬
‫البقرة ‪ 281 :‬وقد ورد انها آخر ما نزل من القرآن‬
‫على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ‪ .‬فهذه‬
‫اليات النازلة مفرقة الموضوعة في سور ل‬
‫تجانسها في المكية والمدنية موضوعة في غير‬
‫موضعها بحسب ترتيب النزول وليس ال عن‬
‫اجتهاد من الصحابة ‪ .‬ويؤيد ذلك ما في التقان عن‬
‫ابن حجر " ‪ :‬وقد ورد عن علي انه جمع القرآن‬
‫على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم اخرجه ابن ابى داود وهو من‬
‫مسلمات مداليل روايات الشيعة ‪ .‬هذا ما يدل عليه‬
‫ظاهر روايات الباب المتقدمة لكن الجمهور اصروا‬
‫على أن ‪ /‬صفحة ‪ / 129‬ترتيب اليات توقيفي‬
‫فآيات المصحف الدائر اليوم وهو المصحف‬
‫العثماني مرتبة على ما رتبها عليه النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم باشارة من جبريل وأولوا ظاهر‬
‫الروايات بأن جمع الصحابة لم يكن جمع ترتيب‬
‫وانما كان جمعا لما كانوا يعلمونه ويحفظونه عن‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السور وآياتها‬
‫المرتبة بين دفتين وفي مكان واحد ‪ .‬وأنت خبير‬
‫بأن كيفية الجمع الول الذى تدل عليها الروايات‬
‫تدفع هذه الدعوى دفعا صريحا ‪ .‬وربما استدل عليه‬
‫بما ادعاه بعضهم من الجماع على ذلك فقد نقل‬
‫السيوطي في التقان عن الزركشي دعوى‬
‫الجماع عليه وعن ابى جعفر بن الزبير نفى‬
‫الخلف فيه بين المسلمين وهو اجماع منقول ل‬
‫يعتمد عليه بعد وجود الخلف في اصل التحريف‬
‫ودللة ما تقدم من الروايات على خلفه ‪ .‬وربما‬
‫استدل عليه بالتواتر ويوجد ذلك في كلم كثير‬
‫منهم ادعوا تواتر الترتيب الموجود عن النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم وهو عجيب وقد نقل في‬
‫التقان بعد نقله ما رواه البخاري‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 129‬‬
‫وغيره بعدة طرق عن انس انه قال " ‪ :‬مات النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير اربعة‬
‫أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابو زيد‬
‫وفي رواية " ‪ :‬ابى بن كعب بدل ابى الدرداء عن‬
‫المازرى انه قال " ‪ :‬وقد تمسك بقول انس هذا‬
‫جماعة من الملحدة ول متمسك لهم فيه فأنا ل‬
‫نسلم حمله على ظاهره سلمناولكن من اين لهم‬
‫ان الواقع في نفس المر كذلك ؟ سلمناه لكن ل‬
‫يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله‬
‫أن ل يكون حفظ مجموعة الجم الغفير وليس من‬
‫شرط التواتر ان يحفظ كل فرد جميعه بل إذا‬
‫حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى انتهى ‪ .‬اما‬
‫دعواه ان ظاهر كلم انس غير مراد فهو مما ل‬
‫يصغى إليه في البحاث اللفظية المبنية على‬
‫ظاهر اللفظ ال بقرينة من نفس كلم المتكلم أو‬
‫ما ينوب منابه اما مجرد الدعوى والستناد إلى‬
‫قول آخرين فل ‪ .‬على انه لو حمل كلم انس على‬
‫خلف ظاهره كان من الواجب ان يحمل على ان‬
‫هؤلء الربعة انما جمعوا في عهد النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم معظم القرآن واكثر سوره وآياته‬
‫ل على ‪ /‬صفحة ‪ / 130‬انهم وغيرهم من الصحابة‬
‫جمعوا جميع القرآن على ما في المصحف‬
‫العثماني وحفظوا ترتيب سوره وآياته وضبطوا‬
‫موضع كل واحدة واحدة منها عن آخرها فهذا زيد‬
‫بن ثابت نفسه وهو احد الربعة المذكورين في‬
‫حديث انس والمتصدي للجمع الول والثانى كليهما‬
‫يصرح في رواياته انه لم يحفظ جميع اليات ‪.‬‬
‫ونظيره ما في التقان عن ابن اشتة في‬
‫المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال "‬
‫‪ :‬مات أبو بكر ولم يجمع القرآن وقتل عمر ولم‬
‫يجمع القرآن ‪ .‬واما قوله سلمناه ولكن من اين‬
‫لهم ان الواقع في نفس المر كذلك ؟ فمقلوب‬
‫على نفسه فمن اين لهذا القائل ان الواقع في‬
‫نفس المر كما يدعيه وقد عرفت الشواهد على‬
‫خلف ما يدعيه ؟ واما قوله انه يكفى في تحقق‬
‫التواتر ان يحفظ الكل كل القرآن على سبيل‬
‫التوزيع فمغالطة واضحة لنه انما يفيد كون‬
‫مجموع القرآن من حيث المجموع منقول بالتواتر‬
‫واما كون كل واحدة واحدة من اليات القرآنية‬
‫محفوظة من حيث محلها وموضعها بالتواتر فل‬
‫وهو ظاهر ونقل في التقان عن البغوي انه قال‬
‫في شرح السنة الصحابة جمعوا بين الدفتين‬
‫القرآن الذى انزله الله على رسوله من غير ان‬
‫زادوا أو نقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب‬
‫حفظته فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم من غير أن قدموا شيئا أو‬
‫أخروه أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول‬
‫الله صلى الله عليه وآله وسلم ‪ .‬وكان رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم يلقن اصحابه ويعلمهم‬
‫ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذى هو‬
‫الن في مصاحفنا بتوقيف جبريل اياه على ذلك‬
‫واعلمه عند نزول كل آية ان هذه الية تكتب عقب‬
‫آية كذا في سورة كذا ‪ .‬فثبت إن سعى الصحابة‬
‫كان في جمعه في موضع واحد ل في ترتيبه فان‬
‫القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا‬
‫الترتيب انزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان‬
‫ينزله مفرقا عند الحاجة وترتيب النزول غير ترتيب‬
‫التلوة انتهى ونقل عن ابن الحصار انه قال ترتيب‬
‫السور ووضع اليات مواضعها انما كان بالوحى‬
‫كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول‬
‫ضعوا آية كذا في موضع كذا وقد حصل اليقين ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 131‬من النقل المتواتر بهذا الترتيب من‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانما اجمع‬
‫الصحابة على وضعه هكذا في المصحف انتهى ‪:‬‬
‫ونقل ايضا ما يقرب من ذلك عن جماعة غيرهم‬
‫كالبيهقي والطيبى وابن حجر ‪ .‬اما قولهم إن‬
‫الصحابة انما كتبوا المصحف على الترتيب الذى‬
‫اخذوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من‬
‫غير ان يخالفوه في شئ فمما ل يدل عليه شئ‬
‫من الروايات المتقدمة وانما المسلم من دللتها‬
‫انهم انما اثبتوا ما قامت عليه البينة من متن‬
‫اليات ول اشارة في ذلك إلى كيفية ترتيب اليات‬
‫النازلة مفرقة وهو ظاهر نعم في رواية ابن‬
‫عباس المتقدمة عن عثمان ما يشير إلى ذلك غير‬
‫ان الذى فيه انه كان صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫يأمر بعض كتاب الوحى بذلك وهو غير اعلمه جميع‬
‫الصحابة ذلك على إن الرواية معارضة بروايات‬
‫الجمع الول واخبار نزول بسم الله وغيرها ‪ .‬واما‬
‫قولهم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقن‬
‫الصحابة هذا الترتيب الموجود في مصاحفنا‬
‫بتوقيف من جبريل ووحى سماوي فكأنه اشارة‬
‫إلى حديث عثمان بن ابى العاص المتقدم في آية‬
‫ان الله يأمر بالعدل والحسان وقد عرفت مما‬
‫تقدم انه حديث واحد في خصوص موضع آية واحدة‬
‫واين ذلك من مواضع جميع اليات المفرقة ‪ .‬واما‬
‫قولهم ان القرآن مكتوب على هذا الترتيب في‬
‫اللوح المحفوظ انزله الله إلى السماء الدنيا ثم‬
‫انزله الله مفرقا عند الحاجة الخ فاشارة إلى ما‬
‫روى مستفيضا من طرق الشيعة واهل السنة من‬
‫نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى‬
‫السماء الدنيا ثم نزوله منها نجوما إلى النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم لكن الروايات ليس فيها ادنى‬
‫دللة على كون‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 131‬‬
‫القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ منظما في‬
‫السماء الدنيا على الترتيب الموجود في المصحف‬
‫الذى عندنا وهو ظاهر ‪ .‬على انه سيأتي ان شاء‬
‫الله الكلم في معنى كتابة القرآن في اللوح‬
‫المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا في ذيل ما‬
‫يناسب ذلك من اليات كأول سورتي الزخرف‬
‫والدخان وسورة القدر ‪ .‬واما قولهم انه قد حصل‬
‫اليقين بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم بهذا الترتيب الموجود في‬
‫المصاحف فقد عرفت انه دعوى خالية عن الدليل‬
‫وان هذا التواتر ‪ /‬صفحة ‪ / 132‬ل خبر عنه بالنسبة‬
‫إلى كل آية آية كيف وقد تكاثرت الروايات ان ابن‬
‫مسعود لم يكتب في مصحفه المعوذتين وكان‬
‫يقول انهما ليستا من القرآن وإنما نزل بهما‬
‫جبريل تعويذا للحسنين وكان يحكهما عن‬
‫المصاحف ولم ينقل عنه انه رجع عن قوله فكيف‬
‫خفى عليه هذا التواتر طول حياته بعد الجمع الول‬
‫‪ .‬الفصل ‪ 7 -‬يتعلق بالبحث السابق البحث في‬
‫روايات النساء وقد مرت اشارة اجمالية إليها‬
‫وهى عدة روايات وردت من طرق اهل السنة في‬
‫نسخ القرآن وانسائه حملوا عليها ما ورد من‬
‫روايات التحريف سقوطا وتغييرا ‪ .‬فمنها ما في‬
‫الدر المنثورعن ابن ابى حاتم والحاكم في الكنى‬
‫وابن عدى وابن عساكر عن ابن عباس قال " ‪:‬‬
‫كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم الوحى بالليل وينسأه بالنهار فانزل الله ‪" :‬‬
‫ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها‬
‫" وفيه عن ابى داود في ناسخه والبيهقي في‬
‫الدلئل عن ابى امامة " ‪ :‬ان رهطا من النصار من‬
‫اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم اخبروه‬
‫إن رجل قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة‬
‫كان قد وعاها فلم يقدر منها على شئ ال بسم‬
‫الله الرحمن الرحيم ووقع ذلك لناس من اصحابه‬
‫فاصبحوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم عن السورة فسكت ساعة لم يرجع إليهم‬
‫شيئا ثم قال نسخت البارحة فنسخت من صدورهم‬
‫ومن كل شئ كانت فيه ‪ .‬اقول والقصة مروية‬
‫بعدة طرق في الفاظ متقاربة مضمونا ‪ .‬وفيه عن‬
‫عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابى داود في‬
‫ناسخه وابنه في المصاحف والنسائي وابن جرير‬
‫وابن المنذر وابن ابى حاتم والحاكم وصححه عن‬
‫سعد بن ابى وقاص " ‪ :‬انه قرأ ما ننسخ من آية أو‬
‫ننسأها " فقيل له إن سعيد بن المسيب يقرأ‬
‫ننسها فقال سعد ان القرآن لم ينزل على‬
‫المسيب ول آل المسيب قال الله ‪ " :‬سنقرئك فل‬
‫تنسى " واذكر ربك إذا نسيت " ‪ .‬اقول يريد‬
‫بالتمسك باليتين ان الله رفع النسيان عن النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم فيتعين ان يقرأ ننسأها‬
‫من النسئ بمعنى الترك والتاخير فيكون المراد‬
‫بقوله ما ننسخ من ‪ /‬صفحة ‪ / 133‬آية ازالة الية‬
‫عن العمل دون التلوة كآية صدقة النجوى وبقوله‬
‫أو ننسأها ترك الية ورفعها من عندهم بالمرة‬
‫وازالتها عن العمل والتلوة كما روى تفسيرها‬
‫بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم ‪.‬‬
‫وفيه اخرج ابن النباري عن ابى ظبيان قال " ‪:‬‬
‫قال لنا ابن عباس أي القراءتين تعدون اول ؟ قلنا‬
‫قراءة عبد الله وقراءتنا هي الخيرة فقال رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه جبريل‬
‫القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان وانه عرضه‬
‫عليه في آخر سنة مرتين فشهد منه عبد الله ما‬
‫نسخ ما بدل ‪ .‬اقول وهذا المعنى مروى بطرق‬
‫اخرى عن ابن عباس وعبد الله بن مسعود نفسه‬
‫وغيرهما من الصحابة والتابعين وهناك روايات أخر‬
‫في النساء ‪ .‬ومحصل ما استفيد منها إن النسخ‬
‫قد يكون في الحكم كاليات المنسوخة المثبتة في‬
‫المصحف وقد يكون في التلوة مع نسخ حكمها أو‬
‫من غير نسخ حكمها وقد تقدم في تفسير قوله ‪:‬‬
‫" ما ننسخ من آية " البقرة ‪ 106 :‬وسيأتى في‬
‫قوله ‪ " :‬وإذا بدلنا آية مكان آية " النحل ‪ 101 :‬ان‬
‫اليتين اجنبيتان عن النساء بمعنى نسخ التلوة‬
‫وتقدم ايضا في الفصول السابقة ان هذه‬
‫الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها‬
‫على روايات التحريف وطرح القبيلين جميعا * * *‬
‫ولقد ارسلنا من قبلك في شيع الولين ‪ 10 -‬وما‬
‫يأتيهم من رسول ال كانوا به يستهزؤن ‪ 11 -‬كذلك‬
‫نسلكه في قلوب المجرمين ‪ 12 -‬ل يؤمنون به‬
‫وقد خلت سنة الولين ‪ 13 -‬ولو فتحنا عليهم بابا‬
‫من السماء فظلوا فيه يعرجون ‪ 14 -‬لقالوا إنما‬
‫سكرت ابصارنا بل نحن قوم مسحورون ‪/ 15 -‬‬
‫صفحة ‪ ) / 134‬بيان ( لما ذكر استهزاءهم بكتابه‬
‫ونبيه وما اقترحوا عليه من التيان بالملئكة آية‬
‫للرسالة عقبه بثلث طوائف من اليات وهى‬
‫المصدرة بقوله ‪ " :‬ولقد ارسلنا من قبلك " الخ‬
‫وقوله ولقد جعلنا في السماء بروجا الخ وقوله‬
‫ولقد خلقنا النسان من صلصال الخ ‪ .‬فبين في‬
‫اوليها ان هذا الستهزاء دأب وسنة جارية‬
‫للمجرمين وليسوا بمؤمنين ولو جاءتهم آية آية‬
‫وفي الثانية أن هناك آيات سماوية وأرضية كافية‬
‫لمن وفق لليمان وفي الثالثة أن الختلف‬
‫باليمان والكفر في نوع النسان وضلل أهل‬
‫الضلل مما تعين لهم يوم أبدع الله خلق النسان‬
‫فخلق آدم وجرى هنالك ما جرى من أمر الملئكة‬
‫بالسجود وإباء ابليس عن ذلك ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 134‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬ولقد ارسلنا من قبلك في شيع‬
‫الولين " إلى آخر اليتين الشيع جمع شيعة وهى‬
‫الفرقة المتفقة على سنة أو مذهب يتبعونه قال‬
‫تعالى ‪ " :‬من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل‬
‫حزب بما لديهم فرحون " لروم ‪ 32 :‬وقوله ولقد‬
‫ارسلنا أي رسل وقد حذف للستغناء عنه فان‬
‫العناية بأصل تحقق الرسال من قبل من غير نظر‬
‫إلى من ارسل بل بيان ان البشر الولين كالخرين‬
‫جرت عادتهم على ان ل يحترموا الرسالة اللهية‬
‫ويستهزؤا بمن أتى بها ويمضوا على إجرامهم‬
‫لتكون في ذلك تعزية للنبى صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم فل يضيق صدره بما قابلوه به من النكار‬
‫والستهزاء كما سيعود إليه في آخر السورة بقوله‬
‫‪ " :‬ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون " الخ‬
‫الية ‪ 97 :‬من السورة ‪ .‬والمعنى طب نفسا فنحن‬
‫نزلنا الذكر عليك ونحن نحفظه ول يضيقن صدرك‬
‫بما يقولون فهو دأب المجرمين من المم‬
‫النسانية أقسم لقد ارسلنا من قبلك في فرق‬
‫الولين وشيعهم وحالهم هذه الحال ما يأتيهم من‬
‫رسول إل كانوا به يستهزؤن قوله تعالى ‪ " :‬كذلك‬
‫نسلكه في قلوب المجرمين " إلى آخر اليتين‬
‫السلوك النفاذ والنفاذ يقال سلك الطريق أي نفذ‬
‫فيه وسلك الخيط في البرة أي أنفذه فيها ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 135‬وادخله وذكروا ان سلك واسلك‬
‫بمعنى ‪ .‬والضميران في نسلكه وبه للذكر المتقدم‬
‫ذكره وهو القرآن الكريم والمعنى ان حال رسالتك‬
‫ودعوتك بالذكر المنزل اليك تشبه حال الرسالة‬
‫من قبلك فكما ارسلنا من قبلك فقابلوها بالرد‬
‫والستهزاء كذلك ندخل هذا الذكر وننفذه في‬
‫قلوب هؤلء المجرمين ونبأ به انهم ل يؤمنون‬
‫بالذكر وقد مضت طريقة الولين وسنتهم في‬
‫انهم يستهزؤن بالحق ول يتبعونه فاليتان قريبتا‬
‫المعنى من قوله فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به‬
‫من قبل ‪ .‬وربما قيل ان الضميرين للشرك أو‬
‫الستهزاء المفهوم من اليات السابقة والباء في‬
‫به للسببية والمعنى كذلك ننفذ الشرك أو‬
‫الستهزاء في قلوب المجرمين ل يؤمنون بسبب‬
‫الشرك أو الستهزاء وهو معنى بعيد والمتبادر إلى‬
‫الذهن من لفظة ل يؤمنون به إن الباء للتعدية دون‬
‫السببية ‪ .‬وربما قيل ان الضمير الول للستهزاء‬
‫المفهوم من سابق الكلم والثانى للذكر المذكور‬
‫سابقا والمعنى مثل ما سلكنا الستهزاء في قلوب‬
‫شيع الولين نسلك الستهزاء وننفذه في قلوب‬
‫هؤلء المجرمين ل يؤمنون بالذكر الخ ‪ .‬ول بأس به‬
‫وان كان يستلزم التفرقة بين الضميرين‬
‫المتواليين لكن اباء قوله ل يؤمنون به أن يرجع‬
‫ضميره إلى الستهزاء يكفى قرينة لذلك ‪ .‬وكذا ل‬
‫يرد على الوجهين ما اورد ان رجوع ضمير نسلكه‬
‫إلى الستهزاء يوجب كون المشركين ملجئين إلى‬
‫الشرك مجبرين عليه ‪ .‬وجه عدم الورود انه تعالى‬
‫علق السلوك على المجرمين فيكون مفاده انهم‬
‫كانوا متلبسين بالجرام قبل فعل السلوك بهم ثم‬
‫فعل بهم ذلك فينطبق على الضلل اللهى‬
‫مجازاة ول مانع منه وانما الممنوع هو الضلل‬
‫البتدائي ول دليل عليه في الية بل الدليل على‬
‫خلفه والية من قبيل قوله تعالى ‪ " :‬يضل به‬
‫كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به ال الفاسقين "‬
‫البقرة ‪ 26 :‬وقد تقدم تفصيل القول فيه ‪ .‬وقد‬
‫ظهر مما تقدم ان المراد بسنة الولين السنة التى‬
‫سنها الولون ل السنة التى ‪ /‬صفحة ‪ / 136‬سنها‬
‫الله في الولين فالسنة سنتهم دون سنة الله‬
‫فيهم كما ذكره بعض المفسرين فهو النسب‬
‫لمقام ذمهم وتعزيته صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫بذكر ردهم واستهزائهم لرسلهم ‪ .‬قوله تعالى ولو‬
‫فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون‬
‫لقالوا انما سكرت ابصارنا الخ العروج في السماء‬
‫الصعود إليها والتسكير الغشاوة ‪ .‬والمراد بفتح‬
‫باب من السماء عليهم ايجاد طريق يتيسر لهم به‬
‫الدخول في العالم العلوى الذى هو مأوى الملئكة‬
‫وليس كما يظن سقفا جرمانيا له باب ذو‬
‫مصراعين يفتح ويغلق وقد قال تعالى ‪ " :‬ففتحنا‬
‫ابواب السماء بماء منهمر " القمر ‪ . 11 :‬وقد‬
‫اختار سبحانه من بين الخوارق التى يظن انها‬
‫ترفع عنهم الشبهة وتزيل عن نفوسهم الريب فتح‬
‫باب من السماء وعروجهم فيه لنه كان يعظم في‬
‫اعينهم اكثر من غيره ولذلك لما اقترحوا عليه‬
‫امورا من الخوارق العظيمة ذكروا الرقى في‬
‫السماء في آخر تلك الخوارق المذكورة على سبيل‬
‫الترقي كما حكاه الله عنهم بقوله ‪ " :‬وقالوا لن‬
‫نؤمن لك حتى تفجر لنا من الرض ينبوعا " إلى ان‬
‫قال " أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى‬
‫تنزل علينا كتابا نقرؤه " اسرى ‪ 93 :‬فالرقي في‬
‫السماء والتصرف في امورها كتنزيل كتاب مقرو‬
‫منها أي نفوذ البشر في العالم العلوى وتمكنه فيه‬
‫ومنه اعجب الخوارق عندهم ‪ .‬على ان السماء‬
‫مأوى الملئكة الكرام ومحل صدور الحكام‬
‫والوامر اللهية وفيها الواح التقادير ومنها مجارى‬
‫المور ومنبع الوحى واليها صعود كتب العمال‬
‫فعروج النسان فيها يوجب اطلعه على مجارى‬
‫المور واسباب الخوارق وحقائق الوحى والنبوة‬
‫والدعوة والسعادة والشقاوة وبالجملة يوجب‬
‫اشرافه على كل حقيقة‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 136‬‬
‫وخاصة إذا كان عروجا مستمرا ل مرة ودفعة كما‬
‫يشير إليه قوله تعالى فظلوا فيه يعرجون حيث‬
‫عبر بقوله ظلوا ولم يقل فعرجوا فيه ‪ .‬فالفتح‬
‫والعروج بهذا النعت يطلعهم على اصول هذه‬
‫الدعوة الحقة واعراقها لكنهم لما في قلوبهم من‬
‫الفساد وفي نفوسهم من قذارة الريبة والشبهة‬
‫المستحكمة يخطؤن ابصارهم فيما يشاهدون بل‬
‫يتهمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه‬
‫سحرهم فهم مسحورون من قبله ‪ .‬فالمعنى ولو‬
‫فتحنا عليهم بابا من السماء ويسرنا لهم الدخول‬
‫في عالمها فداموا ‪ /‬صفحة ‪ / 137‬يعرجون فيه‬
‫عروجا بعد عروج حتى يتكرر لهم مشاهدة ما فيه‬
‫من اسرار الغيب وملكوت الشياء لقالوا انما‬
‫غشيت ابصارنا فشاهدت امورا ل حقيقة لها بل‬
‫نحن قوم مسحورون * * * ولقد جعلنا في السماء‬
‫بروجا وزيناها للناظرين ‪ 16 -‬وحفظناها من كل‬
‫شيطان رجيم ‪ 17 -‬إل من استرق السمع فأتبعه‬
‫شهاب مبين ‪ 18 -‬والرض مددناها وألقينا فيها‬
‫رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون ‪19 -‬‬
‫وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ‪-‬‬
‫‪ 20‬وان من شئ إل عندنا خزائنه وما ننزله إل‬
‫بقدر معلوم ‪ 21 -‬وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من‬
‫السماء ماء فأسقيناكموه وما انتم له بخازنين ‪-‬‬
‫‪ 22‬وإنا لنحن نحيى ونميت ونحن الوارثون ‪23 -‬‬
‫ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا‬
‫المستأخرين ‪ 24 -‬وان ربك هو يحشرهم انه حكيم‬
‫عليم ‪ ) . 25 -‬بيان ( لما ذكر سبحانه اعراضهم عن‬
‫آية القرآن المعجزة واقتراحهم آية اخرى وهى‬
‫التيان بالملئكة وأجاب عنه إنه ممتنع وملزم‬
‫لفنائهم عدل إلى عد عدة من آيات السماء والرض‬
‫الدالة على التوحيد ليعتبروا بها إن كانوا يعقلون‬
‫وتتم الحجة بها على المجرمين وقد ضمن سبحانه‬
‫فيها طرفا عاليا من المعارف الحقيقية والسرار‬
‫اللهية ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولقد جعلنا في السماء‬
‫بروجا وزيناها للناظرين " إلى آخر اليات ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 138‬الثلث البروج جمع برج وهو القصر سميت‬
‫بها منازل الشمس والقمر من السماء بحسب‬
‫الحس تشبيها لها بالقصور التى ينزلها الملوك ‪.‬‬
‫والضمير في قوله وزيناها للسماء كما في قوله‬
‫وحفظناها وتزيينها للناظرين هو ما نشاهده في‬
‫جوها من البهجة والجمال الذى يوله اللباب‬
‫بنجومها الزاهرة وكواكبها اللمعة على اختلف‬
‫اقدارها وتنوع لمعاتها وقد كرر سبحانه ذكر هذا‬
‫التزيين الكاشف عن مزيد عنايته به كقوله ‪" :‬‬
‫وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا " حم‬
‫السجدة ‪ 12 :‬وقوله ‪ " :‬إنا زينا السماء الدنيا بزينة‬
‫الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد ل يسمعون‬
‫إلى المل العلى ويقذفون من كل جانب دحورا‬
‫ولهم عذاب واصب إل من خطف الخطفة فأتبعه‬
‫شهاب ثاقب " الصافات ‪ . 10 :‬واستراق السمع‬
‫اخذ الخبر المسموع في خفية كمن يصغى خفية‬
‫إلى حديث قوم يسرونه فيما بينهم واستراق‬
‫السمع من الشياطين هو محاولتهم ان يطلعوا‬
‫على بعض ما يحدث به الملئكة فيما بينهم كما‬
‫يدل عليه ما تقدم آنفا من آيات سورة الصافات ‪.‬‬
‫والشهاب هو الشعلة الخارجة من النار ويطلق‬
‫على ما يشاهد في الجو من اجرام مضيئة كأن‬
‫الواحد منها كوكب ينقض دفعة من جانب إلى آخر‬
‫فيسير سيرا سريعا ثم ل يلبث دون ان ينطفئ ‪.‬‬
‫فظاهر معنى اليات ولقد جعلنا في السماء وهى‬
‫جهة العلو بروجا وقصورا هي منازل الشمس‬
‫والقمر وزيناها أي السماء للناظرين بزينة النجوم‬
‫والكواكب وحفظناها أي السماء من كل شيطان‬
‫رجيم أن ينفذ فيها فيطلع على ما تحتويه من‬
‫الملكوت ال من استرق السمع من الشياطين‬
‫بالقتراب منه ليسمع ما يحدث به الملئكة من‬
‫احاديث الغيب المتعلقة بمستقبل الحوادث وغيرها‬
‫فانه يتبعه شهاب مبين ‪ .‬وسنتكلم ان شاء الله في‬
‫الشهب ومعنى رمى الشياطين فيما سيأتي من‬
‫تفسير سورة الصافات ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬والرض‬
‫مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل‬
‫شئ موزون " مد الرض بسطها طول وعرضا‬
‫وبذلك صلحت للزرع والسكنى ولو اغشيت جبال‬
‫شاهقة مضرسة لفقدت كمال حياة الحيوان‬
‫عليها ‪ / .‬صفحة ‪ / 139‬والرواسي صفة محذوفة‬
‫الموصوف والتقدير والقينا فيها جبال رواسي وهو‬
‫جمع راسية بمعنى الثابتة اشارة إلى ما وقع في‬
‫غير هذا الموضع انها تمنع الرض من الميدان كما‬
‫قال ‪ " :‬وألقى في الرض رواسي أن تميد بكم "‬
‫النحل ‪ . 15 :‬والموزون من الوزن وهو تقدير‬
‫الجسام من جهة ثقلها ثم عمم لكل تقدير لكل ما‬
‫يمكن ان يتقدر بوجه كتقدير الطول بالشبر‬
‫والذراع ونحو ذلك وتقدير الحجم وتقدير الحرارة‬
‫والنور والقدرة وغيرها وفي كلمه تعالى ‪" :‬‬
‫ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " النبياء ‪:‬‬
‫‪ 47‬وهو توزين العمال ول يتصف بثقل وخفة من‬
‫نوع ما للجسام الرضية منهما ‪ .‬وربما يكنى به‬
‫عن كون الشئ بحيث ل يزيد ول ينقص عما‬
‫يقتضيه الطبع أو الحكمة كما يقال كلمه موزون‬
‫وقامته موزونه وافعاله موزونة أي مستحسنة‬
‫متناسبة الجزاء ل تزيد ول تنقص مما يقتضيه‬
‫الطبع أو الحكمة ‪ .‬وبالنظر إلى اختلف اعتباراته‬
‫المذكورة ذكر بعضهم ان المراد به اخراج كل‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 139‬‬
‫ما يوزن من المعدنيات كالذهب والفضة وسائر‬
‫الفلزات وقال بعضهم انه انبات النباتات على ما‬
‫لكل نوع منها من النظام البديع الموزون وقيل انه‬
‫خلق كل امر مقدر معلوم ‪ .‬والذى يجب التنبه له‬
‫التعبير بقوله من كل شئ موزون دون أن يقال‬
‫من كل نبات موزون فهو يشمل غير النبات مما‬
‫يظهر وينمو في الرض كما انه يشمل النبات‬
‫لمكان قوله وانبتنا دون أن يقال اخرجنا أو خلقنا‬
‫وقد جئ بمن وظاهرها التبعيض فالمراد والله‬
‫اعلم انبات كل امر موزون ذى ثقل مادى يمكن أن‬
‫يزيد وينقص من الجسام النباتية والرضية ول‬
‫مانع على هذا من اخذ الموزون بكل من معنييه‬
‫الحقيقي والكنائي ‪ .‬والمعنى والرض بسطناها‬
‫وطرحنا فيها جبال ثابتة لتسكنها من الميد وانبتنا‬
‫فيها من كل شئ موزون ثقيل واقع تحت الجاذبة‬
‫أو متناسب مقدارا تقتضيه الحكمة ‪ .‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫" وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين‬
‫المعايش جمع ‪ /‬صفحة ‪ / 140‬معيشة وهى ما به‬
‫يعيش الحيوان ويديم حياته من المأكول‬
‫والمشروب وغيرهما وياتى مصدرا كالعيش‬
‫والمعاش ‪ .‬وقوله ومن لستم له برازقين معطوف‬
‫على الضمير المجرور في لكم على ما ذهب إليه‬
‫من النحاة الكوفيون ويونس والخفش من جواز‬
‫العطف على الضمير المجرور من غير اعادة الجار‬
‫واما على قول غيرهم فربما يعطف على معايش‬
‫والتقدير وجعلنا لكم من لستم له برازقين كالعبيد‬
‫والحيوان الهلى وربما جعل من مبتدأ محذوف‬
‫الخبر والتقدير ومن لستم له برازقين جعلنا له‬
‫فيها معايش وهذا كله تكلف ظاهر ‪ .‬وكيف كان‬
‫المراد بمن العبيد والدواب على ما قيل اتى‬
‫بلفظة من وهى لولى العقل تغليبا هذا وليس من‬
‫البعيد ان يكون المراد به كل ما عدا النسان من‬
‫الحيوان والنبات وغيرهما فانها تسأل الرزق كما‬
‫يسأله العقلء ومن دأبة سبحانه في كلمه ان‬
‫يطلق اللفاظ المختصة بالعقلء على غيرهم إذا‬
‫اضيف إليها شئ من الثار المختصة بهم كقوله‬
‫تعالى في الصنام ‪ " :‬فاسألوهم إن كانوا ينطقون‬
‫" النبياء ‪ 63 :‬وقوله ‪ " :‬فانهم عدو لى "‬
‫الشعراء ‪ 77 :‬إلى غير ذلك من اليات المتعرضة‬
‫لحال الصنام التى كانوا يعبدونها ول يستقيم‬
‫للمعبود ال أن يكون عاقل وكذا قوله ‪ " :‬فقال لها‬
‫وللرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين "‬
‫حم السجدة ‪ 11 :‬وغير ذلك ‪ .‬والمعنى وجعلنا لكم‬
‫معشر البشر في الرض اشياء تعيشون بها مما‬
‫تدام به الحياة ولغيركم من ارباب الحياة مثل ذلك‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬وإن من شئ ال عندنا خزائنه وما‬
‫ننزله إل بقدر معلوم " الخزائن جمع خزانة وهى‬
‫مكان خزن المال وحفظه وادخاره والقدر بفتحتين‬
‫أو فتح فسكون مبلغ الشئ وكميته المتعينة ‪ .‬ولما‬
‫كانت الية واقعة في سياق الكلم في الرزق الذى‬
‫يعيش به النسان والحيوان كان المراد بالشئ‬
‫الموصوف في الية النبات وما يتبعه من الحبوب‬
‫والثمرات فالمراد بخزانته التى عند الله وهو ينزل‬
‫بقدر معلوم المطر النازل من السماء الذى ينبت‬
‫به النبات فيأتى بالحبوب والثمار ويعيش بذلك‬
‫النسان والحيوان هذا ملخص ما ذكره جمع ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 141‬من المفسرين ‪ .‬ول يخفى عليك ما‬
‫فيه من التكلف فتخصيص ما في قوله وان من‬
‫شئ من العموم وحصره في النبات من تخصيص‬
‫الكثر من غير شك والمورد ل يخصص وأردى منه‬
‫تسمية المطر خزائن النبات وليس ال سببا من‬
‫اسبابه وجزء من اجزاء كثيرة يتكون النبات بتركبها‬
‫الخاص على ان المطر انما تتكون حينما ينزل‬
‫فكيف يسمى خزانة وليس بموجود ول ان الذى هو‬
‫خزانته موجود فيه ‪ .‬وذكر بعض المفسرين ان‬
‫المراد بكون خزائن كل شئ عند الله سبحانه‬
‫شمول قدرته المطلقة له ‪ .‬فله تعالى من كل نوع‬
‫من انواع الشياء كالنسان والفرس والنخلة وغير‬
‫ذلك من العيان وصفاتها وآثارها وافعالها‬
‫مقدورات في التقدير غير متناهية عددا ل يخرج‬
‫منها دائما من التقدير والفرض إلى التحقق‬
‫والفعلية إل قدر معلوم وعدد معين محدود ‪ .‬وعلى‬
‫هذا فالمراد من كل شئ نوعه ل شخصه كالنسان‬
‫مثل ل كزيد وعمرو والمراد من القدر المعلوم‬
‫الكمية المعينة من الفراد والمراد من وجود‬
‫خزائنه ووجوده في خزائنه وجوده بحسب التقدير‬
‫ل بحسب التحقق فيرجع إلى نوع من التشبيه‬
‫والمجاز ‪ .‬وانت خبير بأن فيه تخصيصا للشئ من‬
‫غير مخصص وفيه قصر للقدر في العدد من غير‬
‫دليل والقدر في اللغة قريب المعنى من الحد وهو‬
‫المفهوم من سياق قوله تعالى ‪ " :‬قد جعل الله‬
‫لكل شئ قدرا " الطلق ‪ 3 :‬وقوله ‪ " :‬وكل شئ‬
‫عنده بمقدار " الرعد ‪ 8‬وقوله ‪ " :‬إنا كل شئ‬
‫خلقناه بقدر " القمر ‪ 49 :‬وقوله ‪ " :‬وخلق كل‬
‫شئ فقدره تقديرا " الفرقان ‪ 2 :‬إلى غير ذلك ‪.‬‬
‫وفيه ارجاع الكلم إلى معنى مجازى استعارى من‬
‫غير موجب مع ما فيه من ورود الخزائن بصيغة‬
‫الجمع من غير نكتة ظاهرة ‪ .‬وذكر بعض معاصري‬
‫المفسرين وجها آخر وهو ان المراد بالخزائن‬
‫العناصر المختلفة التى تتألف منها الرزاق وغيرها‬
‫وقد اعد الله منها في عالمنا المشهود كمية‬
‫عظيمة ل‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 141‬‬
‫تنفد بعروض التركيب والسباب الكلية التى تعمل‬
‫في تركب المركبات كالضوء والحرارة والرياح‬
‫الدائمة المنظمة وغيرها التى تتكون منها الشياء‬
‫مما يحتاج إليه النسان ‪ /‬صفحة ‪ / 142‬في ادامة‬
‫حياته وغيره ‪ .‬فكل من هذه الشياء مدخرة‬
‫باجزائها والقوى الفعالة فيها في تلك الخزائن‬
‫غير القابلة للنفاد من جهة عظمة مقداره ومن‬
‫جهة ما يعود إليه من الجزاء الجديدة بانحلل‬
‫تركيب المركبات بموت أو فساد ورجوعها إلى‬
‫عناصرها الولية كالنبات يفسد والحيوان يموت‬
‫فيعود عناصرها بانحلل التركيب إلى مقارها‬
‫ويتسع بذلك المكان لكينونة نبات وحيوان آخر‬
‫يخلفان سلفهما ‪ .‬فالضوء وخاصة ضوء الشمس‬
‫الذى يعمل الليل والنهار والفصول الربعة ويربى‬
‫النبات والحيوان وسائر المركبات ويسوقها إلى‬
‫غاياتها ومقاصدها من خزائن الله تعالى والرياح‬
‫التى تلقح النبات وتسوق السحب وتنقل الهوية‬
‫من مكان إلى مكان وتدفع فاسد الهواء وتجرى‬
‫السفن خزانة اخرى والماء النازل من السماء الذى‬
‫تحتاج إليه المركبات ذوات الحياة في كينونتها‬
‫وبقائها خزانة اخرى وكذلك العناصر البسيطة التى‬
‫تتركب منها المركبات كل منها خزانة تنزل من‬
‫مجموعها أو من عدة منها الشياء المركبة ول‬
‫ينزل قط ال عدد معلوم من كل نوع من غير ان‬
‫تنفد به الخزائن ‪ .‬وعلى هذا فمراد الية بالشئ هو‬
‫نوعه ل شخصه كما تقدم في الوجه الول والمراد‬
‫بخزائنه مجموع ما في الكون من اصوله وعناصره‬
‫واسبابه العامة المادية ومجموع الشئ موجود في‬
‫مجموع خزائنه ل في كل واحد منها والمراد بنزوله‬
‫بقدر معلوم كينونة عدد محدود منه في كل حين‬
‫من غير ان يستوفى عدد جميع ما في خزائنه ‪.‬‬
‫وهذا وجه حسن في نفسه تؤيده البحاث العلمية‬
‫عن كينونة هذه الحوادث وتصدقه آيات كثيرة‬
‫متفرقة في الكتاب العزيز كقوله في الية‬
‫التالية ‪ " :‬وأرسلنا الرياح لواقح وانزلنا من السماء‬
‫ماء فأسقيناكموه " وقوله ‪ " :‬وجعلنا من الماء كل‬
‫شئ حى " النبياء ‪ 30 :‬وقوله ‪ " :‬وسخر لكم‬
‫الشمس والقمر دائبين " ابراهيم ‪ 33 :‬وقوله ‪" :‬‬
‫والسحاب المسخر بين السماء والرض " البقرة ‪:‬‬
‫‪ 164‬إلى غير ذلك من اليات ‪ .‬لكن الية وهى من‬
‫آيات القدر كما يعطيه سياقها تأبى الحمل عليه‬
‫كما تأبى عنه اخواتها وكيف يحمل عليه قوله ‪" :‬‬
‫ئفقدره تقديرا " ؟ الفرقان ‪2 :‬‬ ‫وخلق كل ش ‌‬
‫وقوله ‪ " :‬الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى "‬
‫العلى ‪ 3 :‬وقوله ‪ " :‬وكل شئ ‪ /‬صفحة ‪/ 143‬‬
‫عنده بمقدار " الرعد ‪ 8 :‬وقوله ‪ " :‬ال امرأته‬
‫قدرناها من الغابرين " النمل ‪ 57 :‬وقوله ‪ " :‬من‬
‫أي شئ خلقه من نطفة خلقه فقدره " عبس ‪19 :‬‬
‫وقوله ‪ " :‬إنا انزلناه في ليلة القدر " إلى آخر‬
‫السورة إلى غير ذلك من اليات ‪ .‬على انه يرد‬
‫عليه بعض ما اورد على الوجهين السابقين‬
‫كتخصيص عموم شئ من غير مخصص وغير ذلك ‪.‬‬
‫والذى يعطيه التدبر في الية وما يناظرها من‬
‫اليات الكريمة إنها من غرر كلمه تعالى تبين ما‬
‫هو ادق مسلكا وابعد غورا مما فسروها به وهو‬
‫ظهور الشياء بالقدر والصل الذى لها قبل‬
‫احاطته بها واشتماله عليها ‪ .‬وذلك إن ظاهر قوله‬
‫وان من شئ على ما به من العموم بسبب وقوعه‬
‫في سياق النفى مع تأكيده بمن كل ما يصدق عليه‬
‫انه شئ من دون ان يخرج منه ال ما يخرجه نفس‬
‫السياق وهو ما تدل عليه لفظة نا وعند وخزائن‬
‫وما عدا ذلك مما يرى ول يرى مشمول للعام ‪.‬‬
‫فشخص زيد مثل وهو فرد انسانى من الشئ ونوع‬
‫من النسان ايضا الموجود في الخارج بأفراده من‬
‫الشئ والية تثبت لذلك خزائن عند الله سبحانه‬
‫فلننظر ما معنى كون زيد مثل له خزائن عند الله ؟‬
‫والذى يسهل المر فيه انه تعالى يعد هذا الشئ‬
‫المذكور نازل من عنده والنزول يستدعى علوا‬
‫وسفل ورفعة وخفضة وسماء وارضا مثل ولم‬
‫ينزل زيد المخلوق مثل من مكان عال إلى آخر‬
‫سافل بشهادة العيان فليس المراد بانزاله إل‬
‫خلقه لكنه ذو صفة يصدق عليه النزول بسببها‬
‫ونظير الية قوله تعالى ‪ " :‬وأنزل لكم من النعام‬
‫ثمانية ازواج " الزمر ‪ 6 :‬وقوله ‪ " :‬وانزلنا الحديد "‬
‫الحديد ‪ . 25 :‬ثم قوله ‪ " :‬وما ننزله إل بقدر معلوم‬
‫" يقرن النزول وهو الخلقة بالقدر قرنا لزما غير‬
‫جائز النفكاك لمكان الحصر والباء اما للسببية أو‬
‫اللة أو المصاحبة والمال واحد فكينونة زيد‬
‫وظهوره بالوجود انما هو بماله من القدر المعلوم‬
‫فوجوده محدود ل محالة كيف ؟ وهو تعالى يقول ‪:‬‬
‫" انه بكل شئ محيط " حم السجدة ‪ 54 :‬ولو لم‬
‫يكن محدودا لم يكن محاطا له تعالى فمن المحال‬
‫ان يحاط بما ل حد له ول نهاية ‪ /‬صفحة ‪/ 144‬‬
‫وهذا القدر هو الذى بسببه يتعين الشئ ويتميز من‬
‫غيره ففى زيد مثل شئ به يتميز من عمرو وغيره‬
‫من افراد النسان ويتميز من الفرس والبقر‬
‫والرض والسماء ويجوز لنا به ان نقول ليس هو‬
‫بعمرو ول بالفرس والبقر والرض والسماء ولو ل‬
‫هذا الحد لكان هو هي وارتفع التميز ‪ .‬وكذلك ما‬
‫عنده من القوى والثار والعمال محدودة مقدرة‬
‫فليس ابصاره‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 144‬‬
‫مثل ابصارا مطلقا في كل حال وفي كل زمان‬
‫وفي كل مكان ولكل شئ وبكل عضو مثل بل‬
‫ابصار في حال وزمان ومكان خاص ولشئ خاص‬
‫وبعضو خاص وعلى شرائط خاصة ولو كان ابصارا‬
‫مطلقا لحاط بكل ابصار خاص وكان الجميع له‬
‫ونظيره الكلم في سائر ما يعود إليه من خصائص‬
‫وجوده وتوابعه فافهم ذلك ‪ .‬ومن هنا يظهر إن‬
‫القدر خصوصية وجود الشئ وكيفية خلقته كما‬
‫يستفاد ايضا من قوله تعالى ‪ " :‬الذى خلق فسوى‬
‫والذى قدر فهدى " العلى ‪ 3 :‬وقوله ‪ " :‬الذى‬
‫اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه ‪ 50 :‬فان الية‬
‫الولى رتبت الهداية وهى الدللة على مقاصد‬
‫الوجود على خلق الشئ وتسويته وتقديره والية‬
‫الثانية رتبتها على اعطائه ما يختص به من الخلق‬
‫ولزم ذلك على ما يعطيه سياق اليتين كون قدر‬
‫الشئ خصوصية خلقه غير الخارجة عنه ‪ .‬ثم انه‬
‫تعالى وصف قدر كل شئ بأنه معلوم إذ قال ‪" :‬‬
‫وما ننزله ال بقدر معلوم " ويفيد بحسب سياق‬
‫الكلم ان هذا القدر معلوم له حينما يتنزل الشئ‬
‫ولما يتم نزوله ويظهر وجوده فهو معلوم القدر‬
‫معينه قبل ايجاده واليه يؤل معنى قوله ‪ " :‬وكل‬
‫شئ عنده بمقدار " الرعد ‪ 8 :‬فان ظاهر الية إن‬
‫كل شئ بما له من المقدار حاضر عنده معلوم له‬
‫فقوله هناك عنده بمقدار في معنى قوله هاهنا‬
‫بقدر معلوم ونظير ذلك قوله في موضع آخر ‪" :‬‬
‫قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلق ‪ 3 :‬أي قدرا‬
‫ل يتجاوزه معينا غير مبهم معلوما غير مجهول‬
‫وبالجملة للقدر تقدم على الشئ بحسب العلم‬
‫والمشية وان كان مقارنا له غير منفك عنه في‬
‫وجوده ‪ .‬ثم انه تعالى اثبت بقوله عندنا خزائنه وما‬
‫ننزله الخ للشئ عنده قبل نزوله إلى هذه النشأة‬
‫واستقراره فيها خزائن وجعل القدر متأخرا عنها‬
‫ملزما ‪ /‬صفحة ‪ / 145‬لنزوله فالشئ وهو في هذه‬
‫الخزائن غير مقدر بقدر ول محدود بحد وهو مع‬
‫ذلك هو وقد جمع في تعريف هذه الخزائن بين‬
‫كونها فوق القدر الذى يلحق الشئ وبين كونها‬
‫خزائن فوق الواحدة والثنتين ومن المعلوم ان‬
‫العدد ل يلحق ال الشئ المحدود وإن هذه الخزائن‬
‫لو لم تكن محدودة متميزة بعضها من بعض كانت‬
‫واحدة البتة ‪ .‬ومن هنا يتبين ان هذه الخزائن‬
‫بعضها فوق بعض وكل ما هو عال منها غير محدود‬
‫بحد ما هو دان غير مقدر بقدره ومجموعها غير‬
‫محدود بالحد الذى يلحق الشئ وهو في هذه‬
‫النشأة ول يبعد ان يكون التعبير بالتنزيل الدال‬
‫على نوع من التدريج في قوله وما ننزله اشارة‬
‫إلى كونه يطوى في نزوله مرحلة بعد مرحلة وكلما‬
‫ورد مرحلة طرأه من القدر امر جديد لم يكن قبل‬
‫حتى إذا وقع في الخيرة احاط به القدر من كل‬
‫جانب قال تعالى ‪ " :‬هل أتى على النسان حين‬
‫من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " الدهر ‪ 1 :‬فقد‬
‫كان النسان ولكنه لم يكن شيئا مذكورا ‪ .‬وهذه‬
‫الخزائن جميعا فوق عالمنا المشهود لنه تعالى‬
‫وصفها بأنها عنده وقد اخبرنا بقوله ما عندكم‬
‫ينفد وما عند الله باق إن ما عنده ثابت ل يزول ول‬
‫يتغير عما هو عليه فهذه الخزائن كائنة ما كانت‬
‫امور ثابتة غير زائلة ول متغيرة والشياء في هذه‬
‫النشأة المادية المحسوسة متغيرة فانية ل ثابتة‬
‫ول باقية فهذه الخزائن اللهية فوق عالمنا‬
‫المشهود ‪ .‬هذا ما يعطيه التدبر في الية الكريمة‬
‫وهو وان كان ل يخلو من دقة وغموض يعضل على‬
‫بادئ الفهم لكنك لو امعنت في التدبر وبذلت في‬
‫ذلك بعض جهدك استنار لك ووجدته من واضحات‬
‫كلمه ان شاء الله تعالى وعلى من لم يتيسر له‬
‫قبوله ان يعتمد الوجه الثالث المتقدم فهو احسن‬
‫الوجوه الثلثة المتقدمة والله ولى الهداية‬
‫وسنرجع إلى بحث القدر في كلم مستقل يختص‬
‫به ان شاء الله في موضع يناسبه ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫وأرسلنا الرياح لواقح فانزلنا من السماء ماء‬
‫فأسقيناكموه وما انتم له بخازنين " اللواقح جمع‬
‫لقحة من اللقح بالفتح فالسكون يقال لقح النخل‬
‫لقحا أي وضع اللقاح بفتح اللم وهو طلع الذكور‬
‫من النخل على الناث لتحمل بالتمر ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 146‬وقد ثبت بالبحاث الحديثة في علم النبات‬
‫ان حكم الزوجية جار في عامة النبات وان فيه‬
‫ذكورية وانوثية وان الرياح في مهبها تحمل الذرات‬
‫من نطفة الذكور فتلقح بها الناث وهو قوله‬
‫تعالى وارسلنا الرياح لواقح ‪ .‬وقوله ‪ " :‬وأنزلنا من‬
‫السماء ماء فأسقيناكموه " اشارة إلى المطر‬
‫النازل من السحاب وقد تسلم البحاث العلمية‬
‫الحديثة ان الماء الموجود في الكرة الرضية من‬
‫المطار النازلة عليها من السماء على خلف ما‬
‫كانت تعتقده القدماء انه كرة ناقصة محيطة بكرة‬
‫الرض احاطة ناقصة وهو عنصر من العناصر‬
‫الربعة ‪ .‬وهذه الية التى تثبت بشطرها الول‬
‫وارسلنا الرياح لواقح مسألة الزوجية واللقاح في‬
‫النبات وبشطرها الثاني وأنزلنا من السماء ماء‬
‫فأسقيناكموه إن المياه الموجودة المدخرة في‬
‫الرض تنتهى إلى المطار وقوله تعالى السابق‬
‫وانبتنا فيها من كل شئ موزون الظاهر في ان‬
‫للوزن دخل خاصا في النبات والنماء من نقود‬
‫العلم التى سبق إليها القرآن الكريم البحاث‬
‫العلمية وهى تتلو المعجزة أو هي هي ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 146‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬وانا لنحن نحيى ونميت ونحن‬
‫الوارثون " الكلم مسوق للحصر يريد بيان رجوع‬
‫كل التدبير إليه وقد كان ما عده من النعم كالسماء‬
‫ببروجها والرض برواسيها وانبات كل شئ موزون‬
‫وجعل المعايش وارسال اللواقح وانزال الماء من‬
‫السماء انما يتم نظاما مبنيا على الحكمة والعلم‬
‫إذا انضم إليه الحياة والموت والحشر وكان مما‬
‫ربما يظن ان بعض الحياة والموت ليس إليه تعالى‬
‫ولذا اكد الكلم وأتى بالحصر دفعا لذلك ‪ .‬ثم جاء‬
‫بقوله ونحن الوارثون أي الباقون بعد إماتتكم‬
‫المتصرفون فيما خولناكموه من امتعة الحياة كأنه‬
‫تعالى يقول الينا تدبير امركم ونحن محيطون بكم‬
‫نحييكم بعد ما لم تكونوا فنحن قبلكم ونميتكم‬
‫ونرثكم فنحن بعدكم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولقد علمنا‬
‫المستقدمين منكم ولقد علمنا المستاخرين " لما‬
‫كانت اليات السابقة التى تعد النعم اللهية وتصف‬
‫التدبير مسوقة لبيان وحدانيته تعالى في ربوبيته‬
‫وكان ل ينفع الخلق والنظم من غير انضمام علمه‬
‫تعالى وخاصة بمن يحييه ويميته ‪ /‬صفحة ‪/ 147‬‬
‫عقبها بهذه الية الدالة على علمه بمن استقدم‬
‫منهم بالوجود ومن استأخر أي المتقدمين من‬
‫الناس والمتاخرين على ما يفيده السياق ‪ .‬وقيل‬
‫المراد بالمستقدمين المستقدمون في الخير وقيل‬
‫المستقدمون في صفوف الحرب وقيل‬
‫المستقدمون إلى الصف الول في صلة الجماعة‬
‫والمستأخرون خلفهم وهى اقوال ردية ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وان ربك هو يحشرهم انه حكيم عليم "‬
‫الكلم مسوق للحصر أي هو يحشرهم ل غير فهو‬
‫الرب ‪ .‬واورد عليه انه في مثل ذلك من الحصر‬
‫يكون الفعل مسلم الثبوت والنزاع انما هو في‬
‫الفاعل وههنا ليس كذلك فان الخصم ل يسلم‬
‫الحشر من اصله هذا وقد ذهب على هذا المعترض‬
‫ان الية حولت الخطاب السابق للناس عنهم إلى‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم التفاتا فقيل وان‬
‫ربك هو يحشرهم ولم يقل ان ربكم هو يحشركم‬
‫والنبى صلى الله عليه وآله وسلم مسلم للحشر ‪.‬‬
‫وبذلك يظهر نكتة اللتفات في الية في مورده‬
‫تعالى من التكلم مع الغير إلى الغيبة وفي مورد‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغيبة إلى‬
‫الخطاب وفي مورد الناس بالعكس ‪ .‬وقد ختمت‬
‫الية بقوله انه حكيم عليم لن الحشر يتوقف على‬
‫الحكمة المقتضية لحساب العمال ومجازاة‬
‫المحسن باحسانه والمسئ باساءته وعلى العلم‬
‫حتى ل يغادر منهم احد ‪ ) .‬بحث روائي ( في‬
‫تفسير القمى في قوله تعالى ‪ " :‬ولقد جعلنا في‬
‫السماء بروجا " قال قال منازل الشمس والقمر‬
‫وفيه في قوله تعالى ‪ " :‬إل من استرق السمع‬
‫فأتبعه شهاب مبين " قال قال لم يزل الشياطين‬
‫تصعد إلى السماء ‪ -‬وتجس حتى ولد النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم وفي المعاني عن البرقى عن‬
‫ابيه عن جده عن البزنطى عن ابان عن ابى عبد‬
‫الله ‪ /‬صفحة ‪ / 148‬عليه السلم قال ‪ :‬كان ابليس‬
‫يخترق السماوات السبع فلما ولد عيسى عليه‬
‫السلم حجب عن ثلث سماوات وكان يخترق اربع‬
‫سماوات فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم حجب عن السبع كلها ورميت الشياطين‬
‫بالنجوم الحديث ‪ .‬وفي الدر المنثور اخرج ابن‬
‫مردويه عن ابن مسعود قال قال جرير بن عبد الله‬
‫‪ :‬حدثنى يا رسول الله عن السماء الدنيا والرض‬
‫السفلى قال رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم اما السماء الدنيا فان الله خلقها من دخان‬
‫ثم رفعها وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وزينها‬
‫بمصابيح النجوم وجعلها رجوما للشياطين‬
‫وحفظها من كل شيطان رجيم ‪ .‬اقول وسياتى ان‬
‫شاء الله ما يتبين به معنى هذه الحاديث ‪ .‬وفي‬
‫تفسير القمى في قوله وجعلنا لكم فيها معايش‬
‫قال لكل ضرب من الحيوان قدرنا شيئا مقدرا‬
‫وفيه في رواية ابى الجارود عن ابى جعفر عليه‬
‫السلم في قوله وانبتنا فيها من كل شئ موزون‬
‫فان الله انبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر‬
‫والصفر والنحاس والحديد والرصاص والكحل‬
‫والزرنيخ واشباه ذلك ل تباع ال وزنا ‪ .‬اقول ينبغى‬
‫ان يحمل على بيان بعض المصاديق على ما في‬
‫متنه وسنده من الوهن ‪ .‬وفي روضة الواعظين‬
‫لبن الفارسى روى عن جعفر بن محمد عن ابيه‬
‫عن جده عليهم السلم انه قال ‪ :‬في العرش‬
‫تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر قال وهذا‬
‫تأويل قوله وان من شئ ال عندنا خزائنه الحديث ‪.‬‬
‫وفي المعاني باسناده عن مقاتل بن سليمان قال‬
‫قال أبو عبد الله الصادق عليه السلم لما صعد‬
‫موسى عليه السلم الطور فنادى ربه عز وجل‬
‫قال رب ارنى خزائنك قال يا موسى انما خزائني‬
‫إذا اردت شيئا ان اقول له كن فيكون وفي الدر‬
‫المنثور اخرج البزار وابن مردويه في العظمة عن‬
‫ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم خزائن الله الكلم فإذا اراد شيئا قال‬
‫له كن فكان ‪ .‬اقول والروايات الثلث الخيرة تؤيد‬
‫ما قدمناه في تقرير معنى الية والمراد بقول كن‬
‫كلمة اليجاد الذى هو وجود الشياء وهو مما يؤيد‬
‫عموم الشئ في الية وكذا كان يفهمه الصحابة‬
‫واهل عصر النزول كما يؤيده ما رواه في الدر‬
‫المنثورعن ابن ابى ‪ /‬صفحة ‪/ 149‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 149‬‬
‫حاتم عن معاوية انه قال " ‪ :‬ألستم تعلمون ان‬
‫كتاب الله حق ؟ قالوا بلى قال فاقرؤا هذه الية ‪:‬‬
‫" وان من شئ ال عندنا خزائنه وما ننزله إل بقدر‬
‫معلوم " ألستم تؤمنون بهذا وتعلمون انه حق ؟‬
‫قالوا بلى قال فكيف تلومونني بعد هذا ؟ فقام‬
‫الحنف وقال يا معاوية والله ما نلومك على ما‬
‫في خزائن الله ولكن انما نلومك على ما انزله الله‬
‫من خزائنه ‪ -‬فجعلته انت في خزائنك واغلقت عليه‬
‫بابك فسكت معاوية وفيه اخرج ابن مردويه‬
‫والحاكم عن مروان بن الحكم قال " ‪ :‬كان اناس‬
‫يستأخرون في الصفوف من اجل النساء فأنزل‬
‫الله ‪ " :‬ولقد علمنا المستقدمين منكم " الية‬
‫اقول وروى فيه ايضا عن عدة عن ابى الجوزاء عن‬
‫ابن عباس قال " ‪ :‬كانت امرأة تصلى خلف رسول‬
‫الله صلى الله عليه وآله وسلم حسناء من احسن‬
‫الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في‬
‫الصف الول لئل يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون‬
‫في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت ابطيه‬
‫فانزل الله ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد‬
‫علمنا المستأخرين ‪ .‬والية ل تنطبق على ما في‬
‫هاتين الروايتين ل من جهة اللفظ ول من جهة‬
‫السياق الذى وقعت هي فيه وهو ظاهر ‪ .‬وفيه‬
‫اخرج ابن ابى حاتم من طريق معتمر بن سليمان‬
‫عن شعيب بن عبد الملك عن مقاتل بن سليمان‬
‫" ‪ :‬في قوله ولقد علمنا المستقدمين منكم الية‬
‫قال بلغنا انه في القتال قال معتمر فحدثت ابى‬
‫فقال لقد نزلت هذه الية قبل ان يفرض القتال ‪.‬‬
‫اقول يعنى انها مكية ‪ .‬وفي تفسير العياشي عن‬
‫جابر عن ابى جعفر عليه السلم قال ‪ :‬ولقد علمنا‬
‫المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين قال‬
‫هم المؤمنون من هذه المة وفي تفسير البرهان‬
‫عن الشيباني في نهج البيان عن الصادق جعفر بن‬
‫محمد ‪ :‬أن المستقدمين اصحاب الحسنات‬
‫والمستأخرين اصحاب السيئات * * * ولقد خلقنا‬
‫النسان من صلصال من حمأ مسنون ‪ / 26 -‬صفحة‬
‫‪ / 150‬والجان خلقناه من قبل من نار السموم ‪-‬‬
‫‪ 27‬واذ قال ربك للملئكة انى خالق بشرا من‬
‫صلصال من حمأ مسنون ‪ 28 -‬فإذا سويته ونفخت‬
‫فيه من روحي فقعوا له ساجدين ‪ 29 -‬فسجد‬
‫الملئكة كلهم اجمعون ‪ 30 -‬إل ابليس أبى أن‬
‫يكون مع الساجدين ‪ 31 -‬قال يا ابليس ما لك أن ل‬
‫تكون مع الساجدين ‪ 32 -‬قال لم أكن لسجد لبشر‬
‫خلقته من صلصال من حمأ مسنون ‪ 33 -‬قال‬
‫فاخرج منها فانك رجيم ‪ 34 -‬وإن عليك اللعنة إلى‬
‫يوم الدين ‪ 35 -‬قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون‬
‫‪ 36 -‬قال فانك من المنظرين ‪ 37 -‬إلى يوم‬
‫الوقت المعلوم ‪ 38 -‬قال رب بما أغويتني لزينن‬
‫لهم في الرض ولغوينهم اجمعين ‪ 39 -‬إل عبادك‬
‫منهم المخلصين ‪ 40 -‬قال هذا صراط علي‬
‫مستقيم ‪ 41 -‬إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‬
‫إل من اتبعك من الغاوين ‪ 42 -‬وإن جهنم‬
‫لموعدهم اجمعين ‪ 43 -‬لها سبعة ابواب لكل باب‬
‫منهم جزء مقسوم ‪ 44 -‬إن المتقين في جنات‬
‫وعيون ‪ 45 -‬ادخلوها بسلم آمنين ‪ 46 -‬ونزعنا ما‬
‫في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين ‪-‬‬
‫‪ 47‬ل يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ‪-‬‬
‫‪ / 48‬صفحة ‪ ) / 151‬بيان ( هذه هي الطائفة‬
‫الثالثة من اليات الموردة اثر ما ذكر في مفتتح‬
‫السورة من استهزاء الكفار بالكتاب وبالنبى صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم واقتراحهم عليه آية اخرى‬
‫غير القرآن وقد ذكر الله سبحانه في هذه الطائفة‬
‫بدء خلقة النسان والجان وامره الملئكة وابليس‬
‫أن يسجدوا له وسجودهم وإباء ابليس وهو من‬
‫الجن ورجمه واغواءه بنى آدم وما قضى الله‬
‫سبحانه عند ذلك من سعادة المتقين وشقاء‬
‫الغاوين ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولقد خلقنا النسان من‬
‫صلصال من حماء مسنون قال الراغب في‬
‫المفردات اصل الصلصال تردد الصوت من الشئ‬
‫اليابس ومنه قيل صل المسمار وسمى الطين‬
‫الجاف صلصال قال تعالى من صلصال كالفخار من‬
‫صلصال من حماء مسنون والصلصلة بقية ماء‬
‫سميت بذلك لحكاية صوت تحركه في المزادة‬
‫وقيل الصلصال المنتن من الطين من قولهم صل‬
‫اللحم ‪ .‬وقال والحمأة والحمأ طين اسود منتن‬
‫وقال وقوله من حماء مسنون قيل متغير وقوله‬
‫لم يتسنه معناه لم يتغير والهاء للستراحة انتهى ‪.‬‬
‫وقوله ولقد خلقنا النسان الخ المراد به بدء خلقة‬
‫النسان بدليل قوله ‪ " :‬وبدأ خلق النسان من‬
‫طين ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين " ألم‬
‫السجدة ‪ 8 :‬فهو اخبار عن خلقة النوع وظهوره‬
‫في الرض فان خلق اول من خلق منهم ومنه خلق‬
‫الباقي خلق الجميع ‪ .‬قال في مجمع البيان وأصل‬
‫آدم كان من تراب وذلك قوله خلقه من تراب ثم‬
‫جعل التراب طينا وذلك قوله وخلقته من طين ثم‬
‫ترك ذلك الطين حتى تغير واسترخى وذلك قوله‬
‫من حماء مسنون ثم ترك حتى جف وذلك قوله من‬
‫صلصال فهذه القوال ل تناقض فيها إذ هي اخبار‬
‫عن حالته المختلفة انتهى ‪ .‬قوله تعالى والجان‬
‫خلقناه من قبل من نار السموم قال الراغب‬
‫السموم الريح الحارة تؤثر تأثير السم انتهى وأصل‬
‫الجن الستر وهو معنى سار في جميع ما اشتق‬
‫منه كالجن والمجنة والجنة والجنين والجنان بالفتح‬
‫وجن عليه الليل وغير ذلك ‪ / .‬صفحة ‪/ 152‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 152‬‬
‫والجن طائفة من الموجودات مستورة بالطبع عن‬
‫حواسنا ذات شعور وارادة تكرر في القرآن الكريم‬
‫ذكرهم ونسب إليهم أعمال عجيبة وحركات سريعة‬
‫كما في قصص سليمان عليه السلم وهم مكلفون‬
‫ويعيشون ويموتون ويحشرون تدل على ذلك كله‬
‫آيات كثيرة متفرقة في كلمه تعالى ‪ .‬واما الجان‬
‫فهل هو الجن بعينه أو هو أبو الجن كما ان آدم‬
‫عليه السلم أبو البشر كما عن ابن عباس أو هو‬
‫ابليس نفسه كما عن الحسن أو الجان نسل ابليس‬
‫من الجن أو هو نوع من الجن كما ذكره الراغب ؟‬
‫اقوال مختلفة ل دليل على اكثرها ‪ .‬والذى يهدى‬
‫إليه التدبر في كلمه تعالى انه قابل في هاتين‬
‫اليتين النسان بالجان فجعلهما نوعين اثنين ل‬
‫يخلوان عن نوع من الرتباط في خلقتهما ونظير‬
‫ذلك قوله ‪ " :‬خلق النسان من صلصال كالفخار‬
‫وخلق الجان من مارج من نار " الرحمان ‪ . 15 :‬ول‬
‫يخلو سياق ما نحن فيه من اليات من دللة على‬
‫إن ابليس كان جانا وإل لغى قوله والجان خلقناه‬
‫من قبل الخ وقد قال تعالى في موضع آخر من‬
‫كلمه في ابليس ‪ " :‬كان من الجن ففسق عن امر‬
‫ربه " الكهف ‪ 50 :‬فأفاد إن هذا الجان المذكور هو‬
‫الجن نفسه أو هو نوع من انواع الجن ثم ترك‬
‫سبحانه في سائر كلمه ذكر الجان من اصله ولم‬
‫يذكر ال الجن حتى في موارد يعم الكلم فيها‬
‫ابليس وقبيله كقوله تعالى ‪ " :‬شياطين النس‬
‫والجن " النعام ‪ 112 :‬وقوله وحق عليهم القول‬
‫في امم قد خلت من قبلهم من الجن والنس "‬
‫حم السجدة ‪ 25‬وقوله ‪ " :‬سنفرغ لكم ايها الثقلن‬
‫" إلى أن قال " يا معشر الجن والنس ان‬
‫استطعتم ان تنفذوا من اقطار السماوات والرض‬
‫فانفذوا " الرحمان ‪ . 33 :‬وظاهر هذه اليات من‬
‫جهة المقابلة الواقعة فيها بين النسان والجان‬
‫تارة وبين النس والجن اخرى ان الجن والجان‬
‫واحد وان اختلف التعبير ‪ .‬وظاهر المقابلة بين‬
‫قوله ولقد خلقنا النسان الخ وقوله ‪ :‬وخلقنا‬
‫الجان من قبل الخ ان خلق الجان من نار السموم‬
‫المراد به الخلق البتدائي وبدء ظهور النوع كخلق‬
‫النسان من صلصال وهل كان استمرار الخلقة‬
‫في افراد الجان المستتبع لبقاء النوع على سنة‬
‫الخلق الول من نار السموم بخلف النسان حيث‬
‫بدئ ‪ /‬صفحة ‪ / 153‬خلقه من تراب ثم استمر‬
‫بالنطفة ؟ كلمه سبحانه خال عن بيانه ظاهرا غير‬
‫ما في بعض كلمه من نسبة الذرية إلى ابليس كما‬
‫قال ‪ " :‬أفتتخذونه وذريته اولياء من دوني "‬
‫الكهف ‪ 50 :‬ونسبة الموت إليهم كما في قوله ‪" :‬‬
‫قد خلت من قبلهم من الجن والنس " حم السجدة‬
‫‪ 25 :‬والمألوف من نوع فيه ذرية وموت هو‬
‫التناسل والكلم بعد في هذا التناسل هل هو‬
‫بسفاد كسفاد نوع من الحيوان أو بغير ذلك ؟‬
‫وقوله خلقناه من قبل مقطوع الضافة أي من‬
‫قبل خلق النسان والقرينة هي المقابلة بين‬
‫الخلقين ‪ .‬وعد مبدأ خلق الجان في الية هو نار‬
‫السموم ل ينافى ما في سورة الرحمان من عده‬
‫مارجا من نار أي لهيبا مختلطا بدخان فان اليتين‬
‫تلخصان ان مبدأ خلقه ريح سموم اشتعلت فكانت‬
‫مارج نار ‪ .‬فمعنى اليتين اقسم لقد بدأنا خلق‬
‫النوع النسان من طين قد جف بعد ان كان سائل‬
‫متغيرا منتنا ونوع الجان بدأنا خلقه من ريح حارة‬
‫حادة اشتعلت فصارت نارا قوله تعالى ‪ " :‬واذ قال‬
‫ربك للملئكة إنى خالق بشرا " إلى آخر الية قال‬
‫في المفردات البشرة ظاهر الجلد والدمة باطنه‬
‫كذا قال عامة الدباء إلى أن قال وعبر عن‬
‫النسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر‬
‫بخلف الحيوانات التى عليها الصوف أو الشعر أو‬
‫الوبر واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع‬
‫وثنى فقال تعالى ‪ " :‬أنؤمن لبشرين " وخص في‬
‫القرآن في كل موضع اعتبر من النسان جثته‬
‫وظاهره بلفظ البشر نحو وهو الذى خلق من الماء‬
‫بشرا انتهى موضع الحاجة ‪ .‬وقوله واذ قال ربك‬
‫للملئكة انى خالق بشرا باضمار فعل والتقدير‬
‫واذكر إذ قال ربك وفي الكلم التفات من التكلم‬
‫مع الغير إلى الغيبة وكأن العناية فيه مثل العناية‬
‫التى مرت في قوله وان ربك هو يحشرهم فان‬
‫هذه اليات ايضا تكشف عن نبأ ينتهى إلى الحشر‬
‫والسعادة والشقاوة الخالدتين ‪ .‬على ان التكلم مع‬
‫الغير في السابق ولقد خلقنا خلقناه من قبيل‬
‫تكلم العظماء عنهم وعن خدمهم واعوانهم تعظيما‬
‫أي باخذه تعالى ملئكته الكرام معه في ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 154‬المر وهذه العناية مما ل يستقيم في مثل‬
‫المقام الذى يخاطب فيه الملئكة في اخبارهم‬
‫بارادته خلق آدم عليه السلم وأمرهم بالسجود له‬
‫إذا سواه ونفخ فيه من روحه فافهم ذلك ومعنى‬
‫الية ظاهر ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬فإذا سويته ونفخت‬
‫فيه من روحي فقعوا له ساجدين " التسوية جعل‬
‫الشئ مستويا قيما على امره بحيث يكون كل جزء‬
‫منه على ما ينبغى أن يكون عليه فتسوية النسان‬
‫ان يكون كل عضو من اعضائه في موضع الذى‬
‫ينبغى ان يكون فيه وعلى الحال التى ينبغى ان‬
‫يكون عليها ‪ .‬ول يبعد ان يستفاد من قوله انى‬
‫خالق فإذا سويته ان خلق بدن النسان الول كان‬
‫على سبيل التدريج الزمانى فكان اول الخلق وهو‬
‫جمع الجزاء ثم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 154‬‬
‫التسوية وهو تنظيم الجزاء ووضع كل جزء في‬
‫موضعه الذى يليق به وعلى الحال التى تليق به ثم‬
‫النفخ ول ينافيه ما في قوله تعالى ‪ " :‬خلقه من‬
‫تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران ‪ 59 :‬فان‬
‫قوله ثم قال له الخ ناظر إلى كينونة الروح وهو‬
‫النفس النسانية دون البدن كما عبر عنه في‬
‫موضع آخر بعد بيان خلق البدن بالتدريج بقوله ‪" :‬‬
‫ثم انشأناه خلقا آخر " المؤمنون ‪ . 14 :‬وقوله ‪" :‬‬
‫ونفخت فيه من روحي " النفخ ادخال الهواء في‬
‫داخل الجسام بفم أو غيره ويكنى به عن القاء اثر‬
‫أو امر غير محسوس في شئ ويعنى به في الية‬
‫ايجاده تعالى الروح النساني بما له من الرابطة‬
‫والتعلق بالبدن وليس بداخل فيه دخول الهواء في‬
‫الجسم المنفوخ فيه كما يشير إليه قوله سبحانه ‪:‬‬
‫" ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا‬
‫النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة‬
‫عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر "‬
‫المؤمنون ‪ 14 :‬وقوله تعالى ‪ " :‬قل يتوفاكم ملك‬
‫الموت الذى وكل بكم " ألم السجدة ‪ . 11 :‬فالية‬
‫الولى كما ترى تبين ان الروح النساني هو البدن‬
‫منشأ خلقا آخر والبدن على حاله من غير ان يزاد‬
‫فيه شئ والية الثانية تبين ان الروح عند الموت‬
‫مأخوذ من البدن والبدن على حاله من غير ان‬
‫ينقص منه شئ ‪ .‬فالروح امر موجود في نفسه له‬
‫نوع اتحاد بالبدن بتعلقه به وله استقلل عن البدن‬
‫إذا انقطع تعلقه به وفارقه وقد تقدم بعض ما‬
‫يتعلق من الكلم بهذا المقام في ‪ /‬صفحة ‪/ 155‬‬
‫تفسير قوله تعالى ‪ " :‬ول تقولوا لمن يقتل في‬
‫سبيل الله اموات " البقرة ‪ 154 :‬في الجزء الول‬
‫من الكتاب ونرجو ان نستوفي هذا البحث في ذيل‬
‫قوله ‪ " :‬قل الروح من أمر ربي " الية ‪ 85‬من‬
‫سورة اسرى ان شاء الله واضافة الروح إليه تعالى‬
‫في قوله ‪ " :‬من روحي " للتكرمة والتشريف من‬
‫الضافة اللمية المفيدة للملك وقوله ‪ " :‬فقعوا له‬
‫ساجدين " أي اسجدوا ول يبعد ان يفهم منه ان‬
‫خروا على الرض ساجدين له فيفيد التأكيد في‬
‫الخضوع من الملئكة لهذا المخلوق الجديد كما قيل‬
‫ومعنى الية فإذا عدلت تركيبه وأتممت صنع بدنه‬
‫وأوجدت الروح الكريم المنسوب الي الذي اربط‬
‫بينه وبين بدنه فقعوا وخروا على الرض ساجدين‬
‫له قوله تعالى ‪ " :‬فسجد الملئكة كلهم أجمعون إل‬
‫ابليس أبى أن يكون مع الساجدين " لفظة‬
‫أجمعون تأكيد بعد تأكيد لتشديده والمراد أن‬
‫الملئكة سجدوا له بحيث لم يبق منهم أحد وقد‬
‫استثنى من ذلك ابليس ولم يكن منهم لقوله‬
‫تعالى ‪ " :‬كان من الجن ففسق عن أمر ربه "‬
‫الكهف ‪ 50 :‬واما قول من قال ‪ :‬ان طائفة من‬
‫الملئكة كانوا يسمون الجن وكان ابليس منهم أو‬
‫ان الجن بمعنى الستر فيعم الملئكة وغيرهم‬
‫فمما ل يصغى إليه وقد تقدم في تفسير سورة‬
‫العراف كلم في معنى شمول المر بالسجود‬
‫لبليس مع عدم كونه من الملئكة ومعنى اليتين‬
‫ظاهر قوله تعالى ‪ " :‬قال يا ابليس ما لم أن ل‬
‫تكون مع الساجدين " ما لك مبتدأ وخبر اي ما الذي‬
‫هو كائن لك ؟ وقوله ‪ " :‬ان ل تكون " من قبيل‬
‫نزع الخافض والتقدير في ان ل تكون مع‬
‫الساجدين وهم الملئكة ومحصل المعنى ما بالك‬
‫لم تسجد ؟ قوله تعالى ‪ " :‬قال لم أكن لسجد‬
‫لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون " في‬
‫التعبير بقوله لم أكن لسجد دون ان يقول ل‬
‫اسجد أو لست اسجد دللة على ان الباء على‬
‫السجدة مقتضى ذاته وكان هو المترقب منه لو‬
‫اطلع على جوهره فتفيد الية بالكناية ما يفيده‬
‫قوله في موضع آخر ‪ " :‬أنا خير منه خلقتني من‬
‫نار وخلقته ‪ /‬صفحة ‪ / 156‬من طين ‪ :‬ص ‪76 :‬‬
‫بالتصريح ‪ .‬وقد تقدم كلم في معنى السجود لدم‬
‫وامر الملئكة وابليس بذلك وائتمارهم وتمرده عنه‬
‫نافع في هذا الباب في تفسير سورتي البقرة‬
‫والعراف من هذا الكتاب ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬فاخرج‬
‫منها فانك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين "‬
‫الرجيم فعيل بمعنى المفعول من الرجم وهو‬
‫الطرد وشاع استعماله في الطرد بالحجارة‬
‫والحصاة واللعن هو الطرد والبعاد من الرحمة ‪.‬‬
‫ومن هنا يظهر ان قوله وان عليك اللعنة الخ‬
‫بمنزلة البيان لقوله فانك رجيم فان الرجم كان‬
‫سببا لخروجه من بين الملئكة من السماء أو من‬
‫المنزلة اللهية وبالجملة من مقام القرب وهو‬
‫مستوى الرحمة الخاصة اللهية فينطبق على‬
‫البعاد من الرحمة وهو اللعن وقد نسب سبحانه‬
‫هذه اللعنة المجعولة على ابليس في موضع آخر‬
‫إلى نفسه فقال ‪ " :‬وإن عليك لعنتي إلى يوم‬
‫الدين " ص ‪ 58 :‬وقيدها في اليتين جميعا بقوله‬
‫إلى يوم الدين ‪ .‬اما جعل مطلق اللعنة عليه في‬
‫قوله عليك اللعنة فلن اللعن يلحق المعصية وما‬
‫من معصية إل ولبليس فيه صنع بالغواء‬
‫والوسوسة فهو الصل الذى يرجع إليه كل معصية‬
‫وما يلحقها من لعن حتى في عين ما يعود إلى‬
‫اشخاص العصاة من اللعن والوبال وتذكر في ذلك‬
‫ما تقدم في ذيل قوله تعالى ‪ " :‬ليميز الله الخبيث‬
‫من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض‬
‫فيركمه فيجعله في جهنم " النفال ‪ 37 :‬في‬
‫الجزء التاسع من الكتاب ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 156‬‬
‫على انه لعنه الله اول فاتح فتح باب معصية الله‬
‫وعصاه في امره فإليه يعود وبال هذا الطريق‬
‫بسالكيه ما سلكوا فيه ‪ .‬واما جعل لعنته خاصة‬
‫عليه في قوله عليك لعنتي فلن البعاد من‬
‫الرحمة بالحقيقة انما يؤثر اثره إذا كان منه تعالى‬
‫إذ ل يملك احد من رحمته اعطاء ومنعا ال باذنه‬
‫فإليه يعود حقيقة العطاء والمنع ‪ .‬على ان اللعن‬
‫من غيره تعالى بالحقيقة دعاء عليه بالبعاد من‬
‫الرحمة واما نفس ‪ /‬صفحة ‪ / 157‬البعاد الذى هو‬
‫نتيجة ادعاء فهو من صنعه القائم به تعالى‬
‫وحقيقته المبالغة في منع الرحمة ‪ .‬وقال في‬
‫المجمع وقال بعض المحققين انما قال سبحانه‬
‫هنا وان عليك اللعنة باللف واللم وقال في‬
‫سورة ص لعنتي بالضافة لن هناك يقول لما‬
‫خلقت بيدى مضافا فقال وان عليك لعنتي على‬
‫المطابقة وقال هنا ما لك ال تكون مع الساجدين‬
‫وساق الية على اللم في قوله ولقد خلقنا‬
‫النسان وقوله والجان فاتى باللم ايضا في قوله‬
‫وان عليك اللعنة انتهى وقال ايضا في الية بيان‬
‫انه ل يؤمن قط ‪ .‬واما تقييد اللعنة بقوله إلى يوم‬
‫الدين فلن اللعنة هي عنوان الثم والوبال العائد‬
‫إلى النفس من المعصية والمعصية محدودة بيوم‬
‫القيامة فاليوم عمل ول جزاء وغدا جزاء ول عمل‬
‫وان شئت فقل هذه الدار دار كتابة العمال‬
‫وحفظها ويوم القيامة دار الحساب والجزاء ‪ .‬واما‬
‫قول القائل ان تحديد اللعن بيوم الدين دليل على‬
‫كونه مغيا به مرفوعا فيه وفيما بعده فمما يدفعه‬
‫ظاهر اليات المبينة للعذاب يوم القيامة ‪ .‬ويؤيد‬
‫ذلك التعبير في الية عن يوم القيامة بيوم الدين‬
‫المشعر بأنه ملعون قبل يوم القيامة ومجزى به‬
‫فيه ولو انقطع العذاب بقيام الساعة لكان اليوم‬
‫يوم انقطاع الدين ل يوم الدين ‪ .‬وربما قيل في‬
‫دفع اشكال الغاية ان ذلك ابعد غاية يضربها‬
‫الخلئق فهو كقوله خالدين فيها ما دامت‬
‫السماوات والرض الية وهو كما ترى وقد عرفت‬
‫معنى الية المقيس عليها في تفسير سورة هود ‪.‬‬
‫وربما قيل ان المراد باللعنة في الية لعن الخلئق‬
‫وذلك منقطع بمجئ يوم الدين دون لعنه تعالى‬
‫وابعاده له من رحمته فانه متصل إلى البد ‪ .‬وكأن‬
‫هذا القائل ذهب عليه قوله تعالى في سورة ص ‪:‬‬
‫" وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين الية ‪ . 78 :‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون "‬
‫النظار هو المهال وقد صدر كلمه بقوله رب وهو‬
‫يخاصمه وقد عصاه واستكبر عليه تعالى لنه في‬
‫مقام ‪ /‬صفحة ‪ / 158‬الدعاء ل مفر له من دعوته‬
‫تعالى بما يثير به الرحمة اللهية المطلقة وهو‬
‫اللتجاء إليه بربوبيته له ليستجيب له وهو مغضوب‬
‫عليه ‪ .‬وقد صدر مسألته بفاء التفريع في قوله‬
‫فانظرني وذكر فيه بعثة عامة البشر من غير أن‬
‫يخص بالذكر آدم اباهم الذى ابتلى بالرجم واللعن‬
‫من اجل الباء عن السجود له وذلك كله مبنى على‬
‫ما تقدم في تفسير آيات القصة في سورة‬
‫العراف ان المأمور به كان هو السجود لعامة‬
‫البشر وكان آدم عليه السلم كالقبلة المنصوبة‬
‫للسجود يمثل به النوع النساني ‪ .‬وتوضيحه انه قد‬
‫تقدم في قوله تعالى ‪ " :‬ولقد خلقناكم ثم‬
‫صورناكم ثم قلنا للملئكة اسجدوا لدم فسجدوا‬
‫ال ابليس " العراف ‪ 11‬إنهم انما أمروا بالسجدة‬
‫لنوع النسان ل لشخص آدم عليه السلم ولم يكن‬
‫هذه السجدة تشريفا اجتماعيا من غير غاية‬
‫حقيقية بل كانت خضوعا بحسب الخلقة فهم‬
‫بحسب ما اريد من خلقتهم خاضعون للنسان‬
‫بحسب ما اريد من كمال خلقته أي إنهم مسخرون‬
‫لجله عاملون في سبيل سعادة حياته أي ان‬
‫للنسان منزلة من القرب ومرحلة من كمال‬
‫السعادة تفوق ما للملئكة من ذلك ‪ .‬فسجودهم‬
‫جميعا له دليل انهم جميعا مسخرون في سبيل‬
‫كماله من السعادة عاملون لجل فوزه وفلحه‬
‫كملئكة الحياة وملئكة الموت وملئكة الرزاق‬
‫وملئكة الوحى والمعقبات والحفظة والكتبة‬
‫وغيرهم ممن تذكرهم متفرقات اليات القرآنية‬
‫فالملئكة اسباب الهية واعوان للنسان في سبيل‬
‫سعادته وكما له ومن هنا يظهر للمتدبر الفطن إن‬
‫إباء ابليس عن السجدة استنكاف منه عن الخضوع‬
‫لنوع النسان والعمل في سبيل سعادته واعانته‬
‫على كماله المطلوب على خلف ما ظهر من‬
‫الملئكة فهو بإبائه عن السجدة خرج من جمع‬
‫الملئكة كما يفيده قوله تعالى ‪ " :‬ما لك أن ل‬
‫تكون مع الساجدين " واظهر الخصومة لنوع‬
‫النسان والبراءة منهم ما حيوا وعاشوا أو خالدا‬
‫مؤبدا ‪ .‬ويؤيده جعله تعالى اللعنة المطلقة عليه‬
‫من يوم أبى إلى يوم الدين وهو مدة مكث النوع‬
‫النساني في هذه الدنيا فجعلها عليه كذلك ولما‬
‫يدع ابليس انه سيغويهم ولم يقل ‪ /‬صفحة ‪/ 159‬‬
‫بعد لغوينهم اجمعين مشعر بأن اباءه عن السجدة‬
‫نوع خصومة وعداوة منه لهذا النوع آخذا من آدم‬
‫إلى آخر من سيولد ويعيش من ذريته ‪ .‬فكأنه عليه‬
‫اللعنة فهم من قوله تعالى ‪ " :‬وان عليك اللعنة‬
‫إلى يوم الدين ان له شأنا مع النوع النساني إلى‬
‫يوم القيامة وان لشقائهم وفساد اعمالهم ارتباطا‬
‫به من حيث امتنع عن السجود ولذلك سأل النظرة‬
‫إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة‬
‫‪............................................................‬‬
‫ص‬ ‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪21‬‬
‫‪: 159‬‬
‫المجعولة عليه فقال رب فانظرني إلى يوم‬
‫يبعثون ولم يقل رب انظرني إلى يوم يبعثون ولم‬
‫يقل انظرني إلى يوم يموت آدم أو انظرني ما دام‬
‫حيا يعيش بل ذكر آدم وبنيه جميعا وطلب النظرة‬
‫إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة إلى يوم‬
‫الدين فلما اجيب إلى ما سأل ابدى ما في كمون‬
‫ذاته وقال لغوينهم اجمعين ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬قال‬
‫فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم جواب‬
‫منه سبحانه لبليس وفيه اجابة ورد اما الجابة‬
‫فبالنسبة إلى اصل النظار الذى سأله واما الرد‬
‫فبالنسبة إلى القيد وهو ان يكون النظار إلى يوم‬
‫يبعثون فان من الواضح اللئح بالنظر إلى سياق‬
‫اليتين ان يوم وقت المعلوم غير يوم يبعثون فلم‬
‫يسمح له بانظاره إلى يوم يبعثون بل إلى يوم هو‬
‫غيره ول محالة هو قبل يوم البعث ‪ .‬وبذلك يظهر‬
‫فساد قول من قال انه لعنه الله اجيب إلى ما‬
‫سال واليومان في اليتين واحد ومن الدليل عليه‬
‫قوله في سورة العراف في القصة ‪ " :‬قال انك‬
‫من المنظرين " الية ‪ 15 :‬من غير أن يقيد بشئ ‪.‬‬
‫اما فساد دعواه اتحاد اليومين في اليتين فقد‬
‫ظهر مما تقدم واما فساد الستدلل باطلق آية‬
‫العراف فلنها تتقيد بما في هذه السورة وسورة‬
‫ص من التقييد بقوله إلى يوم الوقت المعلوم‬
‫وهذا كثير شائع في كلمه تعالى والقرآن يشهد‬
‫بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض ‪ .‬وظاهر يوم‬
‫الوقت المعلوم انه وقت تعين في العلم اللهى‬
‫نظير قوله ‪ " :‬وما ننزله إل بقدر معلوم " الحجر ‪:‬‬
‫‪ 21‬وقوله ‪ " :‬اولئك لهم رزق معلوم " الصافات ‪:‬‬
‫‪ 41‬فهو معلوم عند الله قطعا واما انه معلوم‬
‫لبليس أو مجهول عنده فغير معلوم من اللفظ‬
‫وقول بعضهم انه سبحانه ابهم اليوم ولم يبين‬
‫فهو معلوم لله غير معلوم لبليس لن في ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 160‬بيانه اغراء بالمعصية كلم خال عن‬
‫الدليل فابهام اللفظ بالنسبة الينا غير ابهام ما‬
‫القى إلى ابليس من القول بالنسبة إليه على ان‬
‫اغراء ابليس بالمعصية وهو الصل لكل معصية‬
‫مفروضة ل يخلو عن اشكال فافهمه ‪ .‬على ان‬
‫قول ابليس ثانيا لغوينهم اجمعين شاهد على انه‬
‫سيبقى إلى آخر ما يعيش النسان في الدنيا ممن‬
‫يمكنه اغواؤه فقد كان فهم من قوله تعالى إلى‬
‫يوم الوقت المعلوم انه آخر عمر البشر العائشين‬
‫في الرض الجائز له اغواؤهم ‪ .‬ونسب إلى ابن‬
‫عباس ومال إليه الجمهور إن اليوم هو آخر ايام‬
‫التكليف وهو النفخة الولى يوم يموت الخلئق‬
‫وكأنه مبنى على إن ابليس باق ما بقى التكليف‬
‫وامكنت المخالفة والمعصية وهو مدة عمر النسان‬
‫في الدنيا وينتهى ذلك إلى النفخة الولى التى بها‬
‫يموت الخلئق فهو يوم الوقت المعلوم الذى‬
‫انظره الله إليه وبينه وبين النفخة الثانية التى‬
‫فيها يبعثون اربعمائة سنة أو اربعون سنة على‬
‫اختلف الروايات وهى ما به التفاوت بين ما سأله‬
‫ابليس وبين ما اجاب إليه الله سبحانه ‪ .‬وهذاوجه‬
‫حسن لو ل ما فيه من قولهم ان ابليس باق ما‬
‫بقى التكليف وامكنت المخالفة والمعصية فانها‬
‫مقدمة ل بينة ول مبينة وذلك ان تعويل القوم في‬
‫ذلك على االمستفاد من اليات والخبار كون كل‬
‫كفر وفسوق موجود في النوع النساني مستندا‬
‫إلى اغواء ابليس ووسوسته كما يدل عليه امثال‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬ألم أعهد اليكم يا بنى آدم أن ل‬
‫تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين " يس ‪60 :‬‬
‫وقوله ‪ " :‬وقال الشيطان لما قضى المر إن الله‬
‫وعدكم وعد الحق ووعدتكم فاخلفتكم " الخ إلى‬
‫غير ذلك من اليات ومقتضاها أن يدوم وجود‬
‫ابليس ما دام التكليف باقيا والتكليف باق ما بقى‬
‫النسان وهو المطلوب ‪ .‬وفيه ان كون المعصية‬
‫النسانية مستندة بالجملة إلى اغواء ابليس‬
‫مستفادة من اليات والروايات ل غبار عليه لكنه‬
‫انما يقتضى بقاء ابليس ما دامت المعصية والغواية‬
‫باقية ل بقائه ما دام التكليف باقيا ول دليل على‬
‫الملزمة بين المعصية والتكليف وجودا ‪ .‬بل الحجة‬
‫قائمة من العقل والنقل على إن غاية النسان‬
‫النوعية وهى السعادة ستعم النوع ويتخلص‬
‫المجتمع النساني إلى الخير والصلح ول يعبد على‬
‫الرض يومئذ ال ‪ /‬صفحة ‪ / 161‬الله سبحانه‬
‫وينطوى وقتئذ بساط الكفر والفسوق ويصفو‬
‫العيش ويرتفع امراض القلوب ووساوس الصدور‬
‫وقد تقدم تفصيل ذلك في مباحث النبوة في‬
‫الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر‬
‫من الكتاب قال تعالى ‪ " :‬ظهر الفساد في البر‬
‫والبحر بما كسبت ايدى الناس ليذيقهم بعض الذى‬
‫عملوا لعلهم يرجعون " الروم ‪ 41 :‬وقال ‪ " :‬ولقد‬
‫كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الرض يرثها‬
‫عبادي الصالحون " النبياء ‪ . 105 :‬ومن ذلك يظهر‬
‫ان الذى استندوا إليه من الحجة انما يدل على كون‬
‫يوم الوقت المعلوم الذى جعله الله غاية انظار‬
‫ابليس هو يوم يصلح الله سبحانه المجتمع‬
‫النساني فينقطع دابر الفساد ول يعبد يومئذ ال‬
‫الله ل يوم يموت الخلئق بالنفخة الولى ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬قال رب بما اغويتني لزينن لهم في‬
‫الرض ولغوينهم اجمعين ال عبادك منهم‬
‫المخلصين " الباء في قوله بما اغويتني للسببية‬
‫وما مصدرية أي‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 161‬‬
‫اتسبب باغوائك اياى إلى التزيين لهم والقى إليهم‬
‫ما استقر في من الغواية كما قالوا يوم القيامة‬
‫على ما حكى الله ‪ " :‬اغويناهم كما غوينا "‬
‫القصص ‪ . 63 :‬وقول بعضهم ان الباء للقسم أي‬
‫اقسم باغوائك لزينن من اردء القول فلم يعهد‬
‫في كتاب ول سنة أن يقسم بمثل الغواء‬
‫والضلل وليس فيه شئ مفهوم من التعظيم‬
‫اللزم في القسم ‪ .‬وقد نسب لعنه الله في قوله‬
‫بما اغويتني إلى الله سبحانه انه اغواه ولم يرده‬
‫الله سبحانه إليه ول اجاب عنه وليس مراده به‬
‫غوايته إذ عصى امر السجدة ولم يسجد لدم عليه‬
‫السلم والدليل على ذلك ان ل رابطة بين معصيته‬
‫في نفسه وبين معصية النسان لربه حتى يكون‬
‫معصيته سبب معصيتهم ويتسبب هو بها إلى‬
‫اغوائهم ‪ .‬وانما يريد به ما يفيده قوله تعالى ‪" :‬‬
‫وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين من استقرار اللعنة‬
‫المطلقة فيه وهى البعاد من الرحمة والضلل‬
‫عن طريق السعادة وهى اغواء له اثر الغواية التى‬
‫ابداها من نفسه واتى بها من عنده فيكون من‬
‫اضلله تعالى مجازاة ل اضلل ابتدائيا وهو جائز‬
‫غير ممتنع عليه تعالى ولذلك لم يرده كما قال‬
‫تعالى ‪ " :‬يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل‬
‫به ال الفاسقين " البقرة ‪ 26 :‬وقد بينا ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 162‬ذلك في ذيل الية ومواضع اخرى من هذا‬
‫الكتاب ‪ .‬وعند هذا يستقيم معنى السببية اعني‬
‫اغواؤه الناس بسبب الغواء الذى مسه واستقر‬
‫فيه فان البعد من الرحمة والبون من السعادة لما‬
‫كان لزما لنفسه بلزوم اللعنة اللهية له كان كلما‬
‫اقترب من قلب انسان بالوسوسة والتسويل أو‬
‫استولى على نفس من النفوس وهو بعيد من‬
‫الرحمة والسعادة اوجب ذلك بعد من اقترب منه أو‬
‫تسلط عليه وهو اغواؤه بالقاء اثر الغواية التى‬
‫عنده إليه وهو ظاهر ‪ .‬هذا ما يعطيه التدبر في‬
‫الية ومحصله إن المراد بالغواء ليس هو الضلل‬
‫البتدائي بل الضلل على سبيل المجازاة الذى‬
‫يدل عليه قوله وان عليك لعنتي الية ‪ .‬واما القوم‬
‫فكالمسلم عندهم ان قوله بما اغويتني لو كان‬
‫بمعناه الظاهر وهو الضلل لكان هو الضلل‬
‫البتدائي وكان ناظرا إلى ابائه وامتناعه عن‬
‫السجدة ولذا استشكلوا الية واختلفوا في تفسير‬
‫الغواء على اختلف مذاهبهم في استناد الشر‬
‫إليه تعالى وصدوره منه جوازا وامتناعا ‪ .‬فقال‬
‫بعضهم وهم اهل الجبر إن اسناد الغواء إليه‬
‫تعالى بل انكار منه لذلك يدل على ان الشر كالخير‬
‫من الله تعالى والمعنى رب بما اضللتنى بالمتناع‬
‫عن السجدة فهو منك اقسم لضلنهم اجمعين ‪.‬‬
‫وقال آخرون وهم غيرهم انه ل يجوز استناد الشر‬
‫والمعصية وكل قبيح إليه تعالى ووجهوا الية‬
‫بوجوه ‪ .‬احدها ان الغواء في الية بمعنى التخييب‬
‫والمعنى رب بما خيبتنى من رحمتك لخيبنهم‬
‫بالدعوة إلى معصيتك ‪ .‬الثاني ان المراد بالغواء‬
‫الضلل عن طريق الجنة والمعنى بما اضللتنى عن‬
‫طريق جنتك لما صدر منى من معصيتك لضلنهم‬
‫بالدعوة ‪ .‬الثالث ان المراد بقوله بما اغويتني بما‬
‫كلفتني امرا ضللت عنده بالمعصية وهو السجود‬
‫فسمى ذلك اضلل منه له توسعا وانت بالتأمل‬
‫فيما قدمناه تعرف ان الية في غنى عن هذا‬
‫البحث وما ابدئ فيه من الوجوه ‪ / .‬صفحة ‪/ 163‬‬
‫ونظير هذا البحث بحثهم عن النظار الواقع في‬
‫قوله انك من المنظرين من جهة انه مفض إلى‬
‫الغواء القبيح وترجيح للمرجوح على الراجح ‪.‬‬
‫فقال المجوزون ان الية تدل على ان الحسن‬
‫والقبح اللذين يعلل بهما العقل افعالنا ل تأثير‬
‫لهما في افعاله تعالى فله ان يثيب من يشاء‬
‫ويعذب من يشاء من غير جهة مرجحة حتى مع‬
‫رجحان الخلف قالوا ومن زعم ان حكيما يحصر‬
‫قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والفاعي‬
‫القاتلة الكثيرة ولم يرد اذى احد من اولئك القوم‬
‫بالحراق واللسع فقد خرج عن الفطرة النسانية‬
‫فاذن من حكم الفطرة إن الله تعالى اراد بانظار‬
‫ابليس اضلل بعض الناس ‪ .‬والمانعون يوجهون‬
‫النظار بانه تعالى كان يعلم من ابليس واتباعه‬
‫انهم يموتون على الكفر والفسوق ويصيرون إلى‬
‫النار انظر ابليس أو لم ينظر على انه تعالى تدارك‬
‫تأييده ذلك بمزيد ثواب المؤمنين المتقين على انه‬
‫يقول ولغوينهم ولو كان الغواء من الله ل نكره‬
‫عليه إلى غير ذلك مما اوردوه من الوجوه وليت‬
‫شعرى ما الذى اغفلهم عن آيات المتحان والبتلء‬
‫على كثرتها كقوله تعالى ‪ " :‬ليميز الله الخبيث من‬
‫الطيب " النفال ‪ 37 :‬وقوله ‪ " :‬وليبتلى الله ما‬
‫في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم " آل عمران‬
‫‪ 154 :‬وغيرهما من اليات الدالة على إن نظام‬
‫السعادة والشقاء والثواب والعقاب مبنى على‬
‫اساس المتحان والبتلء والنسان واقع بين الخير‬
‫والشر والسعادة والشقاء له ما يختاره من العمل‬
‫بنتائجه ‪ .‬فلو ل ان يكون هناك داع إلى الخير وهم‬
‫الملئكة الكرام وان شئت فقل هو الله وداع إلى‬
‫الشر وهم ابليس وقبيله لم يكن للمتحان معنى‬
‫قال تعالى ‪ " :‬الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم‬
‫بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضل "‬
‫البقرة ‪. 268 :‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 163‬‬
‫ولئن ايد الله ابليس على النسان بالنظار إلى‬
‫يوم الوقت المعلوم فقد ايده عليه بالملئكة‬
‫الباقين ببقاء الدنيا ولم يقل سبحانه له انك منظر‬
‫بل قال انك من المنظرين فاثبت منظرين غيره‬
‫وجعله بعضهم ‪ .‬ولئن ايده بالتمكين بتزيين الباطل‬
‫من الكفر والفسوق للنسان ايد النسان بأن هداه‬
‫إلى الحق وزين اليمان في قلبه وفطره على‬
‫التوحيد وعرفه الفجور ‪ /‬صفحة ‪ / 164‬والتقوى‬
‫وجعل له نورا يمشى به في الناس ان آمن بربه‬
‫إلى غير ذلك من اليادي قال ‪ " :‬قل الله يهدى‬
‫للحق " يونس ‪ 35 :‬وقال ‪ " :‬ولكن الله حبب اليكم‬
‫اليمان وزينه في قلوبكم " الحجرات ‪ 7 :‬وقال ‪" :‬‬
‫فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر‬
‫الناس عليها " الروم ‪ 30 :‬وقال ‪ " :‬ونفس وما‬
‫سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس ‪8 :‬‬
‫وقال ‪ " :‬أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا‬
‫يمشى به في الناس " النعام ‪ 122 :‬وقال ‪ " :‬انا‬
‫لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم‬
‫يقوم الشهاد " المؤمن ‪ 51 :‬والتكلم بالغير مشعر‬
‫بوساطة الملئكة ‪ .‬فالنسان خلق هو في نفسه‬
‫اعزل ليس معه شئ من السعادة والشقاء بحسب‬
‫بدء خلقته واقف في ملتقى سبيلين سبيل الخير‬
‫والطاعة وهو سبيل الملئكة ليس لهم ال الطاعة‬
‫وسبيل الشر والمعصية وهو سبيل ابليس وجنوده‬
‫وليس معهم إل المخالفة والمعصية فإلى أي‬
‫السبيلين مال في مسير حياته وقع فيه ورافقه‬
‫اصحابه وزينوا له ما عندهم وهدوه إلى ما ينتهى‬
‫إليه سبيلهم وهو الجنة أو النار والسعادة أو‬
‫الشقاء ‪ .‬فقد بان مما تقدم ان انظار ابليس إلى‬
‫يوم الوقت المعلوم ليس من تقديم المرجوح على‬
‫الراجح ول ابطال لقانون العلية بل ليتيسر به وبما‬
‫يقابله من بقاء الملئكة ما هو الواجب من امر‬
‫المتحان والبتلء فل محل للستشكال ‪ .‬وقوله‬
‫لزينن لهم في الرض أي لزينن لهم الباطل أو‬
‫لزينن لهم المعاصي على ما قيل والمعنى الول‬
‫اجمع والمفعول محذوف على أي حال والظاهر ان‬
‫المفعول معرض عنه والفعل مستعمل استعمال‬
‫اللزم والغرض بيان اصل التزيين كناية عن الغرور‬
‫يقال زين له كذا وكذا أي حمله عليه غرورا وضمير‬
‫هم لدم وذريته على ما يدل عليه السياق والمراد‬
‫بالتزيين لهم في الرض غرورهم في هذه الحياة‬
‫الرضية وهى الحياة الدنيا وهو السبب القريب‬
‫للغواء فيكون عطف قوله ولغوينهم اجمعين‬
‫عليه من عطف المسبب على السبب المترتب‬
‫عليه ‪ .‬والية تشعر بل تدل على ما قدمناه في‬
‫تفسير آيات جنة آدم في الجزء الول من الكتاب‬
‫ان معصية آدم بالكل من الشجرة المنهية عن‬
‫وسوسة ابليس لم تكن معصية لمر مولوى بل‬
‫مخالفة لمر ارشادى ل يوجب نقضا في عصمته‬
‫فانه يعرف الرض في ‪ /‬صفحة ‪ / 165‬الية ظرفا‬
‫لتزيينه واغوائه فما كان غروره لدم وزوجته في‬
‫الجنة إل ليخرجهما منها وينزلهما إلى الرض‬
‫فيتناسل فيها فيغويهما وبنيهما عن الحق ويضلهم‬
‫عن الصراط قال تعالى ‪ " :‬يا بنى آدم ل يفتننكم‬
‫الشيطان كما اخرج ابويكم من الجنة ينزع عنهما‬
‫لباسهما ليريهما سوآتهما " العراف ‪ . 27 :‬وقوله‬
‫إل عبادك منهم المخلصين استثنى من عموم‬
‫الغواء طائفة خاصة من البشر وهم المخلصون‬
‫بفتح اللم على القراءة المشهورة والسياق يشهد‬
‫انهم الذين اخلصوا لله وما أخلصهم ال الله‬
‫سبحانه وقد قدمنا في الكلم على الخلص في‬
‫تفسير سورة يوسف إن المخلصين هم الذين‬
‫اخلصهم الله لنفسه بعد ما اخلصوا انفسهم لله‬
‫فليس لغيره سبحانه فيهم شركة ول في قلوبهم‬
‫محل فل يشتغلون بغيره تعالى فما ألقاه إليهم‬
‫الشيطان من حبائله وتزييناته عاد ذكرا لله مقربا‬
‫إليه ‪ .‬ومن هنا يترجح ان الستثناء انما هو من‬
‫الغواء فقط ل منه ومن التزيين بمعنى انه لعنه‬
‫الله يزين للكل لكن ل يغوى إل غير المخلصين ‪.‬‬
‫ويستفاد من استثناء العباد اول ثم تفسيره‬
‫بالمخلصين ان حق العبودية انما هو بأن يخلص الله‬
‫العبد لنفسه أي ان ل يملكه إل هو ويرجع إلى ان‬
‫ل يرى النسان لنفسه ملكا وانه ل يملك نفسه ول‬
‫شيئا من صفات نفسه وآثارها واعمالها وان الملك‬
‫بكسر الميم وضمها لله وحده ‪ .‬وقوله تعالى ‪" :‬‬
‫قال هذا صراط على مستقيم " ظاهر الكلم على‬
‫ما يعطيه السياق انه كناية على ان المر إليه‬
‫تعالى ل غنى فيه عنه بوجه كما ان كون طريق‬
‫السفينة على البحر يقضى على راكبيها بأن ل‬
‫مفر لهم مما يستدعيه العبور على الماء من العدة‬
‫والوسيلة وكذا كون طريق القافلة على الجبل‬
‫يحوجهم إلى ما يتهيأ به لعبور قلله الشاهقة‬
‫ومسالكه الصعبة فكونه صراطا عليه تعالى‬
‫بالستقامة هو انه امر متوقف من كل جهة إلى‬
‫حكمه وقضائه تعالى فانه الله الذى منه يبدأ كل‬
‫شئ واليه ينتهى فل يتحقق امر إل وهو ربه‬
‫القيوم عليه ‪ .‬وظاهر السياق ايضا ان الشارة‬
‫بقوله هذا صراط الخ إلى قول ابليس " لغوينهم‬
‫اجمعين ال عبادك منهم المخلصين " لما اظهر‬
‫بقوله هذا انه سينتقم منهم ‪ /‬صفحة ‪/ 166‬‬
‫ويبسط سلطته بالتزيين والغواء عليهم جميعا فل‬
‫يخلص منهم ال القليل كأنه يشير إلى‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 166‬‬
‫انه سيستقل بما عزم عليه ويعلو بارادته على الله‬
‫سبحانه فيما اراد من خلقهم واستخلفهم‬
‫واستعبادهم كما حكاه الله تعالى من قوله في‬
‫موضع آخر من قوله ‪ " :‬ول تجد اكثرهم شاكرين "‬
‫العراف ‪ . 17 :‬فمعنى الية ان ما ذكرت من انك‬
‫ستغويهم اجمعين واستثنيت منهم من استثنيت‬
‫واظهرت نسبته إلى قوتك ومشيئتك زاعما فيه‬
‫انك مستقل به امر ل يملكه ال انا ول يحكم فيه‬
‫غيرى ول يصدر ال عن قضائه فان اغويت فباذنى‬
‫اغويت وان منعت فبمشيئتى منعت فليس اليك‬
‫من المر شئ ول من الملك ال ما ملكتك ول من‬
‫القدرة إل ما اقدرتك والذى اقضيه لك من‬
‫السلطان ان عبادي ليس لك عليهم سلطان ال من‬
‫اتبعك الخ ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬إن عبادي ليس لك‬
‫عليهم سلطان ال من اتبعك من الغاوين " هذا هو‬
‫القضاء الذى اشار سبحانه إليه في الية السابقة‬
‫في امر الغواء وذكر انه له وحده ليس لغيره فيه‬
‫صنع ول نصيب ‪ .‬ومحصله ان آدم وبنيه كلهم عباده‬
‫ل كما قاله ابليس حيث قصر عباده على‬
‫المخلصين منهم إذ قال إل عبادك منهم المخلصين‬
‫ولم يجعل سبحانه له عليهم أي على العباد سلطانا‬
‫حتى يستقل بأمرهم فيغويهم وانما جعل له‬
‫السلطان على طائفة منهم وهم الذين اتبعوه من‬
‫الغاوين وولوه امرهم والقوا إليه زمام تدبيرهم‬
‫فهؤلء هم الذين له عليهم سلطان ‪ .‬فإذا امعنت‬
‫في الية وجدتها ترد على ابليس قوله لغوينهم‬
‫اجمعين ال عبادك منهم المخلصين من ثلث جهات‬
‫اصلية احداها انه حصر عباده في المخلصين منهم‬
‫ونفى عنهم سلطان نفسه وعمم سلطانه على‬
‫الباقين والله سبحانه عمم عباده على الجميع‬
‫وقصر سلطان ابليس على طائفة منهم وهم‬
‫الذين اتبعوه من الغاوين ونفى سلطانه على‬
‫الباقين ‪ .‬والثانية انه لعنه الله ادعى لنفسه‬
‫الستقلل في اغوائهم كما يظهر من قوله‬
‫لغوينهم في سياق المخاصمة والتقريع بالنتقام‬
‫والله سبحانه يرد عليه بانه منه مزعمة ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 167‬باطلة وانما هو عن قضاء من الله وسلطان‬
‫بتسليطه وانما ملكه اغواء من اتبعه وكان غاويا‬
‫في نفسه وبسوء اختياره فلم يأت ابليس بشئ‬
‫من نفسه ولم يفسد امرا على ربه ل في اغوائه‬
‫اهل الغواية فانه بقضاء من الله سبحانه ان يستقر‬
‫لهل الغواية غيهم بسببه وقد اعترف لعنه الله‬
‫بذلك بعض العتراف بقوله رب بما اغويتني ول‬
‫في استثنائه المخلصين فانه ايضا بقضاء من الله‬
‫نافذ فل حكم ال لله ‪ .‬وهذا الذى تفيده الية‬
‫الكريمة اعني تسليط ابليس على اغواء الغاوين‬
‫الذين هم في انفسهم غاوون وتخليص المخلصين‬
‫وهم مخلصون في انفسهم من كيده كل ذلك‬
‫بقضاء من الله مبنى على اصل عظيم يفيده‬
‫التوحيد القرآني المفاد بامثال قوله تعالى ‪ " :‬إن‬
‫الحكم ال لله " يوسف ‪ 67 :‬وقوله ‪ " :‬وهو الله ل‬
‫اله ال هو له الحمد في الولى والخرة وله الحكم‬
‫" القصص ‪ 70 :‬وقوله ‪ " :‬الحق من ربك " آل‬
‫عمران ‪ 60 :‬وقوله ‪ " :‬ويحق الله الحق بكلماته "‬
‫يونس ‪ 82 :‬وغير ذلك من اليات الدالة على إن كل‬
‫حكم ايجابي أو سلبى فهو مملوك لله نافذ بقضائه‬
‫‪ .‬ومن هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله ال من‬
‫اتبعك من الغاوين من المسامحة فانهم قالوا انه‬
‫إذا قبل من ابليس واتبعه صار له سلطان عليه‬
‫بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من الغى‬
‫وظاهره انه سلطان قهرى يحصل لبليس عن‬
‫سوء اختيارهم ليس من عند نفسه ول بجعل من‬
‫الله سبحانه ‪ .‬وجه الفساد ان فيه اخذ الستقلل‬
‫والحول الذاتي من ابليس واعطاؤه ذوات الشياء‬
‫ولو كان ابليس ل يملك شيئا من عند نفسه وبغير‬
‫اذن ربه فالشياء والمور ايضا ل تملك لنفسها‬
‫شيئا ول حكما حتى الضروريات ولوازم الذوات ال‬
‫باذن من الله وتمليك فافهمه ‪ .‬والثالثة إن‬
‫سلطانه على اغواء من يغويه وان كان بجعل‬
‫وتسليط من الله سبحانه إل انه ليس بتسليط على‬
‫الغواء والضلل البتدائي غير الجائز اسناده إلى‬
‫ساحته سبحانه بل تسليط على الغواء بنحو‬
‫المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم وفي‬
‫انفسهم ‪ .‬والدليل على ذلك قوله تعالى ‪ " :‬ال من‬
‫اتبعك من الغاوين " فابليس انما يغوى ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 168‬من اتبعه بغوايته أي ان النسان يتبعه‬
‫بغوايته اول فيغويه هو ثانيا فهناك غواية بعدها‬
‫اغواء والغواية اجرام من النسان والغواء بسبب‬
‫ابليس مجازاة من الله سبحانه ‪ .‬ولو كان هذا‬
‫الغواء اغواء ابتدائيا من ابليس لمن ل يستحق‬
‫ذلك لكان هو الليق باللوم دون النسان كما يذكره‬
‫يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله ‪ " :‬وما‬
‫كان لى عليكم من سلطان إل أن دعوتكم‬
‫فاستجبتم لى فل تلوموني ولوموا انفسكم "‬
‫ابراهيم ‪ 22 :‬فاللوم على النسان المجرم وهو‬
‫مسؤول عن معصيته دون ابليس ‪ .‬نعم ابليس‬
‫ملوم على ما يتلبس به من الفعل بسوء اختياره‬
‫وهو الغواء الذى سلطه الله عليه مجازاة لما‬
‫امتنع من السجود لدم لما امر به فالغواء هو‬
‫الذى استقرت وليته عليه كما يشير سبحانه إليه‬
‫في موضع آخر من كلمه إذ يقول ‪ " :‬إنا جعلنا‬
‫الشياطين اولياء للذين ل يؤمنون " العراف ‪27 :‬‬
‫وقال تعالى وهو اوضح ما يؤيد‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 168‬‬
‫جميع ما قدمناه ‪ " :‬كتب عليه انه من توله فانه‬
‫يضله ويهديه إلى عذاب السعير " الحج ‪ . 4 :‬وقد‬
‫تحصل مما تقدم ان المراد بقوله عبادي عامة‬
‫النسان وان الستثناء في قوله من اتبعك متصل‬
‫ل منقطع وان من في قوله من الغاوين بيانية وان‬
‫الكلم مبنى على رد قول ابليس وان الية مشتملة‬
‫على قضاءين من الله سبحانه في عقدى‬
‫المستثنى والمستثنى منه وغير ذلك ‪ .‬ومن ذلك‬
‫يظهر عدم استقامة قول بعضهم ان المراد بعبادي‬
‫هم الذين استثناهم ابليس وعبر عنهم بقوله‬
‫عبادك منهم فيكون الستثناء منقطعا والكلم‬
‫مسوقا لتقرير قول ابليس ان له سلطانا على من‬
‫يغويه وان المخلصين ل سبيل له إليهم والمعنى‬
‫إن المخلصين ل سلطان لك عليهم لكنك مسلط‬
‫على من اتبعك من الغاوين ‪ .‬وانت تعلم بالتأمل‬
‫فيما تقدم ان هذا هدم لساس السياق وما يعطيه‬
‫مقام المخاصمة وتحق نسبته إلى ساحة العزة‬
‫والكبرياء وتنزيل خطابه تعالى منزلة ل يفيد معها‬
‫اكثر من تغيير صورة كلم ابليس مع حفظ معناه‬
‫تقريرا أو اعترافا فهو يقول سأغويهم إل‬
‫المخلصين والله سبحانه يقول ل تغوى المخلصين‬
‫لكن تغوى غيرهم ‪ .‬وربما فسر بعضهم قوله‬
‫عبادي بجميع البشر واخذ مع ذلك الستثناء ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 169‬منقطعا ولعل ذلك بالبناء على عدم‬
‫جواز استثناء اكثر الفراد فل يقال له علي مائة ال‬
‫تسعة وتسعون مثل ومن المعلوم ان الغاوين من‬
‫الناس اكثر من المخلصين بما ل يقاس ‪ .‬وفيه ان‬
‫ذلك انما هو فيما كان النظر في الستثناء إلى‬
‫صريح العدد واما إذا كان المنظور إليه هو النوع أو‬
‫الصنف بعنوانه فل بأس بزيادة عدد الفراد‬
‫وللنسان عدة اصناف المخلصون ومن دونهم من‬
‫المؤمنين والمستضعفون والذين اتبعوا ابليس من‬
‫الغاوين وقد استثنى الصنف الخير في الية‬
‫بعنوانه وبقى الباقون وهم اصناف ‪ .‬ومنهم من‬
‫جعل الستثناء منقطعا حذرا من ثبوت سلطان‬
‫ابليس حتى على الغاوين زعما منه انه ينافى‬
‫اطلق السلطنة اللهية أو عدله تعالى ومعنى الية‬
‫على هذا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان لكن‬
‫من اتبعك من الغاوين القى اليك زمام نفسه‬
‫وجعل لك على نفسه سلطانا وليس ذلك من‬
‫نفسك حتى تعجز الله في خلقه ول من الله حتى‬
‫ينافى عدله تعالى وفيه ان له سلطانا على‬
‫الغاوين ل من نفسه بل بجعل من الله ول ينافى‬
‫ذلك عدله في خلقه فانه تسليط مجازاة ل تسليط‬
‫ابتدائى ول منافاة بين كون السلطان بقضاء منه‬
‫تعالى وكونه باتباع الغاوين له باختيارهم فكل ذلك‬
‫مما قد تبين فيما قدمناه ‪ .‬على ان قوله تعالى‬
‫فيه ‪ " :‬كتب عليه انه من توله فانه يضله " الحج ‪:‬‬
‫‪ 4‬وقوله ‪ " :‬إنا جعلنا الشياطين اولياء للذين ل‬
‫يؤمنون " العراف ‪ 27 :‬يدلن صريحا على ثبوت‬
‫سلطانه وانه بجعل من الله سبحانه وقضاء ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وان جهنم لموعدهم اجمعين " الظاهر‬
‫ان موعد اسم مكان والمراد بكون جهنم موعدهم‬
‫كونه محل انجاز ما وعدهم الله من العذاب ‪ .‬وهذا‬
‫منه سبحانه تأكيد لثبوت قدرته ورجوع المر كله‬
‫إليه كأنه تعالى يقول له ما ذكرته من السلطان‬
‫على الغاوين ليس لك من نفسك ولم تعجزنا بل‬
‫نحن سلطناك عليهم لتباعهم لك على إنا‬
‫سنجازيهم بعذاب جهنم ‪ .‬ولكون الكلم مسوقا‬
‫لبيان حالهم اقتصر على ذكر جزائهم ولم يذكر‬
‫معهم ابليس ول جزاءه بخلف قوله ‪ " :‬لملن‬
‫جهنم منك وممن تبعك منهم اجمعين " ص ‪85 :‬‬
‫وقوله ‪ " :‬فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا "‬
‫اسرى ‪ 63 :‬لن المقام غير المقام ‪ / .‬صفحة ‪170‬‬
‫‪ /‬قوله تعالى ‪ " :‬لها سبعة ابواب لكل باب منهم‬
‫جزء مقسوم " لم يبين سبحانه في شئ من صريح‬
‫كلمه ما هو المراد بهذه البواب أهى كأبواب‬
‫الحيطان مداخل تهدى الجميع إلى عرصة واحدة أم‬
‫هي طبقات ودركات تختلف في نوع العذاب‬
‫وشدته ؟ وكثيرا ما يسمى في المور المختلفة‬
‫النواع كل نوع بابا كما يقال ابواب الخير وابواب‬
‫الشر وابواب الرحمة قال تعالى ‪ " :‬فتحنا عليهم‬
‫ابواب كل شئ " النعام ‪ 44 :‬وربما سمى اسباب‬
‫الشئ وطرق الوصول إليه ابوابا كأبواب الرزق‬
‫لنواع المكاسب والمعاملت ‪ .‬وليس من البعيد ان‬
‫يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار‬
‫كقوله تعالى ‪ " :‬وسيق الذين كفروا إلى جهنم‬
‫زمرا حتى إذا جاؤها فتحت ابوابها " إلى ان قال ‪:‬‬
‫" قيل ادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها " الزمر ‪:‬‬
‫‪ 72‬وقوله ‪ " :‬إن المنافقين في الدرك السفل‬
‫من النار " النساء ‪ 145‬إلى غير ذلك من اليات ‪.‬‬
‫ويؤيده قوله لكل باب منهم جزء مقسوم فان‬
‫ظاهره ان نفس الجزء مقسوم موزع على الباب‬
‫وهذا انما يلئم الباب بمعنى الطبقة دون الباب‬
‫بمعنى المدخل واما تفسير بعضهم الجزء‬
‫المقسوم بالفريق المعين المفروز من غيره‬
‫فوهنه ظاهر ‪ .‬وعلى هذا فكون جهنم لها سبعة‬
‫ابواب هو كون العذاب المعد فيها متنوعا إلى‬
‫سبعة انواع ثم انقسام كل نوع اقساما حسب‬
‫انقسام الجزء الداخل الماكث فيه وذلك يستدعى‬
‫انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة‬
‫اقسام وكذا انقسام الطرق المؤدية والسباب‬
‫الداعية إلى تلك المعاصي ذاك النقسام وبذلك‬
‫يتأيد ما ورد من‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 170‬‬
‫الروايات في هذه المعاني كما سيوافيك ان شاء‬
‫الله ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ان المتقين في جنات وعيون‬
‫ادخلوها بسلم آمنين " أي انهم مستقرون في‬
‫جنات وعيون يقال لهم ادخلوها بسلم ل يوصف‬
‫ول يكتنه نعته في حال كونكم آمنين من كل شر‬
‫وضر ‪ .‬لما ذكر سبحانه قضاءه فيمن اتبع ابليس‬
‫من الغاوين ذكر ما قضى به في حق المتقين من‬
‫الجنة وقد ورد تفسير التقوى في كلمه صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم بالورع عن محارم الله وقد تكرر‬
‫في كلمه تعالى بشراهم بالجنة فيكون المتقون‬
‫اعم من المخلصين ‪ / .‬صفحة ‪ / 171‬وما قيل انه ل‬
‫شبهة في ان السياق يدل على ان المتقين هم‬
‫المخلصون السابق ذكرهم وان المطلق يحمل على‬
‫الفرد الكامل ‪ .‬فيه ان ذلك مبنى على كون المراد‬
‫بالعباد في قوله ان عبادي ليس لك عليهم سلطان‬
‫هم المخلصين حتى يختص السياق بالكلم فيهم‬
‫وقد تقدم ان المراد بالعباد عامة افراد النسان‬
‫خرج منه الغاوون بالستثناء وبقى الباقون وقد‬
‫ذكر سبحانه قضاءه في الغاوين بالنار وهو ذا يذكر‬
‫قضاءه في غيرهم ممن اوجب له الجنة والمر في‬
‫المستضعفين مرجأ وفي العصاة من اهل الكبائر‬
‫الذين يموتون بغير توبة منوط بالشفاعة فيبقى‬
‫اهل التقوى من المؤمنين وهم اعم من المخلصين‬
‫فقضى فيهم بالجنة ‪ .‬واما حديث حمل المطلق‬
‫على الفرد الكامل فهو خطأ وانما يحمل على‬
‫الفرد المتعارف وتفصيل المسألة في فن الصول‬
‫‪ .‬وذكر المام الرازي في تفسيره ان المراد‬
‫بالمتقين في الية الذين اتقوا الشرك ونقله عن‬
‫جمهور الصحابة والتابعين واسنده إلى الخبر ‪ .‬قال‬
‫وهذا هو الحق الصحيح والذى يدل عليه ان المتقى‬
‫هو التى بالتقوى مرة واحدة كما ان الضارب هو‬
‫التى بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف‬
‫بكونه متقيا كونه آتيا بجميع انواع التقوى والذى‬
‫يقرر ذلك إن التى بفرد واحد من افراد التقوى‬
‫يكون آتيا بالتقوى فان الفرد مشتمل على الماهية‬
‫بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب ان يكون متقيا‬
‫فالتى بفرد يجب كونه متقيا ولهذا قالوا ظاهر‬
‫المر ل يفيد التكرار فظاهر الية يقتضى حصول‬
‫الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد ال‬
‫ان المة مجمعة على ان التقوى عن الكفر شرط‬
‫في حصول هذا الحكم ‪ .‬وايضا هذه الية وردت‬
‫عقيب قول ابليس ‪ " :‬إل عبادك منهم المخلصين "‬
‫عقيب قوله تعالى ‪ " :‬ان عبادي ليس لك عليهم‬
‫سلطان فلذا اعتبر اليمان في هذا الحكم فوجب‬
‫ان ل يزاد فيه قيد آخر لن تخصيص العام لما كان‬
‫خلف الظاهر فكلما كان التخصيص اقل كان اوفق‬
‫بمقتضى الصل والظاهر ‪ .‬فثبت ان الحكم‬
‫المذكور يتناول جميع القائلين ل اله ال الله محمد‬
‫رسول الله ولو ‪ /‬صفحة ‪ / 172‬كانوا من اهل‬
‫المعصية وهذا تقرير بين وكلم ظاهر انتهى ‪.‬‬
‫ومقتضى كلمه شمول الية لمن اتقى الشرك ولو‬
‫اقترف جميع الكبائر الموبقة التى نص الكتاب‬
‫العزيز باستحقاق النار باتيانها وترك جميع‬
‫الواجبات التى نص على تركها بمثله والمستأنس‬
‫بكلمه تعالى المتدبر في آياته ل يرتاب في ان‬
‫القرآن ل يسمى مثل هذا متقيا ول يعده من‬
‫المتقين وقد اكثر القرآن ذكر المتقين وبشرهم‬
‫بالجنة بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين‬
‫موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم‬
‫وبذلك فسر التقوى في الحديث كما تقدم ‪ .‬ثم ان‬
‫مجرد صحة اطلق الوصف امر والتسمية امر آخر‬
‫فل يسمى بالمؤمنين والمحسنين والقانتين‬
‫والمخلصين والصابرين وخاصة في الوصاف التى‬
‫تحتمل البقاء والستمرار ال من استقر فيه‬
‫الوصف ولو صح ما ذكره في المتقين لجرى مثل‬
‫ذلك في الظالمين والفاسقين والمفسدين‬
‫والمجرمين والغاوين والضالين وقد اوعدهم الله‬
‫النار وادى ذلك إلى تدافع عجيب واختلل في‬
‫كلمه تعالى ولو قيل ان هناك ما يصرف هذه‬
‫اليات ان تشمل المرة والمرتين كايات التوبة‬
‫والشفاعة ونظائرها فهناك ما يصرف هذه الية ان‬
‫تشمل المتقى بالمرة والمرتين وهى نفس آيات‬
‫الوعيد على الكبائر الموبقة كآيات الزنا والقتل‬
‫ظلما والربا واكل مال اليتيم واشباهها ‪ .‬ثم الذى‬
‫ذكره في تقريب الدللة وجوه واهية كقوله ان‬
‫هذه الية وقعت عقيب قول ابليس الخ فانك قد‬
‫عرفت فيما تقدم ان ذلك ل ينفعه شيئا وكقوله‬
‫ان زيادة قيد آخر بعد اليمان خلف الصل الخ فان‬
‫الصل انما يركن إليه عند عدم الدليل اللفظى‬
‫وقد عرفت ان هناك آيات جمة صالحة للتقييد ‪.‬‬
‫وكقوله ان ذلك خلف الظاهر وكأنه يريد به ظهور‬
‫المطلق في الطلق وقد ذهب عليه ان ظهور‬
‫المطلق انما هو حجة فيما إذا لم يكن هناك ما‬
‫يصلح للتقييد ‪ .‬فالحق ان الية انما تشمل الذين‬
‫استقرت فيهم ملكة التقوى وهو الورع عن محارم‬
‫الله فاولئك هم المقضى عليهم بالسعادة والجنة‬
‫قضاء لزما نعم المستفاد من الكتاب والسنة إن‬
‫اهل التوحيد وهم من حضر الموقف بشهادة ان ل‬
‫اله ال الله ل يخلدون في النار ويدخلون الجنة ل‬
‫محالة وهذا غير دللة آية المتقين على ذلك ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 173‬قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم‬
‫من غل اخوانا على سرر متقابلين إلى‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 173‬‬
‫آخر اليتين الغل الحقد وقيل هو ما في الصدر من‬
‫حقد وحسد مما يبعث النسان إلى اضرار الغير‬
‫والسرر جمع سرير والنصب هو التعب والعى‬
‫الوارد من خارج ‪ .‬يصف تعالى في اليتين حال‬
‫المتقين في سعادتهم بدخول الجنة اختص بالذكر‬
‫هذه المور من بين نعم الجنة على كثرتها فان‬
‫العناية باقتضاء من المقام متعلقة ببيان انهم في‬
‫سلم وامن مما ابتلى به الغاوون من بطلن‬
‫السعادة وذهاب السيادة والكرامة فذكر انهم في‬
‫امن من قبل انفسهم لن الله نزع ما في‬
‫صدورهم من غل فل يهم الواحد منهم بصاحبه‬
‫سوء بل هم اخوان على سرر متقابلين ولتقابلهم‬
‫معنى سيأتي في البحث الروائي ان شاء الله‬
‫تعالى وانهم في امن من ناحية السباب والعوامل‬
‫الخارجة فل يمسهم نصب اصل وانهم في امن‬
‫وسلم من ناحية ربهم فما هم من الجنة بمخرجين‬
‫ابدا فلهم السعادة والكرامة من كل جهة ول‬
‫يغشاهم ول يمسهم شقاء ووهن من جهة اصل ل‬
‫من ناحية انفسهم ول من ناحية سائر ما خلق الله‬
‫ول من ناحية ربهم ‪ ) .‬كلم ( القضية التى صدرت‬
‫عن مصدر العزة في بدء خلقة النسان على ما‬
‫وقع في كلمه سبحانه عشرة الول والثانى قوله‬
‫لبليس ‪ " :‬فاخرج منها فانك رجيم وان عليك‬
‫اللعنة إلى يوم الدين " الحجر ‪ 35 :‬ويمكن‬
‫ارجاعهما إلى واحد ‪ .‬الثالث قوله سبحانه له ‪" :‬‬
‫فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم "‬
‫الحجر ‪ . 38 -‬الرابع والخامس والسادس قوله له ‪:‬‬
‫" إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ال من اتبعك‬
‫من الغاوين وان جهنم لموعدهم اجمعين " الحجر ‪:‬‬
‫‪ . 43‬السابع والثامن قوله سبحانه لدم ومن معه ‪:‬‬
‫" اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الرض‬
‫مستقر ومتاع إلى حين " البقرة ‪ . 36 :‬التاسع‬
‫والعاشر قوله لهم اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم‬
‫منى هدى فمن تبع ‪ /‬صفحة ‪ / 174‬هداى فل خوف‬
‫عليهم ول هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا‬
‫اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة ‪. 39‬‬
‫وهناك اقضية فرعية مترتبة على هذه القضية‬
‫الصلية يعثر عليها المتدبر الباحث ‪ ) .‬بحث‬
‫روائي ( في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم‬
‫عن ابى جعفر عليه السلم قال ‪ :‬سألته عن قول‬
‫الله ونفخت فيه من روحي الية قال روح خلقها‬
‫الله فنفخ في آدم منها وفيه عن ابى بصير عن‬
‫ابى عبد الله عليه السلم ‪ :‬في قوله فإذا سويته‬
‫ونفخت فيه من روحي قال خلق خلقا وخلق روحا‬
‫ثم امر الملك فنفخ فيه وليست بالتى نقصت من‬
‫الله شيئاهى من قدرته تبارك وتعالى وفيه وفي‬
‫رواية سماعة عنه عليه السلم ‪ :‬خلق آدم ونفخ‬
‫فيه وسألته عن الروح قال هي قدرته من‬
‫الملكوت ‪ .‬اقول أي هي قدرته الفعلية منبعثة عن‬
‫قدرته الذاتية صادرة منها كما يدل عليه الخبر‬
‫السابق ‪ .‬وفي المعاني باسناده عن محمد بن‬
‫مسلم قال ‪ :‬سألت ابا جعفر عليه السلم عن قول‬
‫الله عز وجل ونفخت فيه من روحي قال روح‬
‫اختاره واصطفاه وخلقه واضافه إلى نفسه‬
‫وفضله على جميع الرواح فأمر فنفخ منه في آدم‬
‫وفي الكافي باسناده عن محمد بن مسلم قال ‪:‬‬
‫سألت ابا جعفر عليه السلم عما يروون إن الله‬
‫خلق آدم على صورته فقال هي على صورة‬
‫مخلوقة محدثة اصطفاها الله واختارها على سائر‬
‫الصور المختلفة فاضافها إلى نفسه كما اضاف‬
‫الكعبة إلى نفسه فقال بيتى ونفخت فيه من‬
‫روحي ‪ .‬اقول وهذه الروايات من غرر الروايات‬
‫في معنى الروح تتضمن معارف جمة وسنوضح‬
‫معناها عند الكلم في حقيقة الروح ان شاء الله ‪.‬‬
‫وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن‬
‫ابى عبد الله عليه السلم في قوله تعالى ‪ " :‬انك‬
‫لمن المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ‬
‫في الصور نفخة واحدة فيموت ‪ /‬صفحة ‪/ 175‬‬
‫ابليس ما بين النفخة الولى والثانية وفي تفسير‬
‫العياشي عن وهب بن جميع وفي تفسير البرهان‬
‫عن شرف الدين النجفي بحذف السناد عن وهب‬
‫واللفظ للثاني عن ابى عبد الله عليه السلم قال ‪:‬‬
‫سألته عن ابليس وقوله رب فانظرني إلى يوم‬
‫يبعثون قال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت‬
‫المعلوم ‪ -‬أي يوم هو ؟ قال يا وهب أتحسب انه‬
‫يوم يبعث الله فيه الناس ولكن الله عز وجل‬
‫انظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا ‪ -‬فيأخذ بناصيته‬
‫ويضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم وفي‬
‫تفسير القمى باسناده عن محمد بن يونس عن‬
‫رجل عن ابى عبد الله عليه السلم في قول الله‬
‫تبارك وتعالى فانظرني إلى قوله إلى يوم الوقت‬
‫المعلوم قال يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول‬
‫الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصخرة التى‬
‫في بيت المقدس ‪ .‬اقول وهو من اخبار الرجعة‬
‫وفي معناه ومعنى الرواية السابقة عليه اخبار‬
‫اخرى من طرق اهل البيت عليهم السلم ومن‬
‫الممكن ان تكون الرواية الولى من هذه الثلث‬
‫الخيرة صادرة على وجه التقية ويمكن ان توجه‬
‫الروايات الثلث من غير تناف بينها بما تقدم في‬
‫الكلم على الرجعة في الجزء الول من الكتاب‬
‫وغيره ان الروايات الواردة من طرق اهل البيت‬
‫عليهم السلم في تفسير غالب آيات القيامة‬
‫تفسرها بظهور المهدى عليه السلم تارة‬
‫وبالرجعة‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 175‬‬
‫تارة وبالقيامة اخرى لكون هذه اليام الثلثة‬
‫مشتركة في ظهور الحقائق وان كانت مختلفة من‬
‫حيث الشدة والضعف فحكم احدها جار في‬
‫الخرين فافهم ذلك ‪ .‬وفي تفسير العياشي عن‬
‫جابر عن ابى جعفر عليه السلم قال ‪ :‬قلت أرايت‬
‫قول الله ان عبادي ليس لك عليهم سلطان ؟ ما‬
‫تفسير هذا ؟ قال قال الله انك ل تملك ان تدخلهم‬
‫جنة ول نارا وفي تفسير القمى " ‪ :‬في قوله‬
‫تعالى لها سبعة ابواب الية قال قال يدخل في‬
‫كل باب اهل مذهب وللجنة ثمانية ابواب وفي الدر‬
‫المنثور اخرج احمد في الزهد عن خطاب بن عبد‬
‫الله قال قال على ‪ :‬أتدرون كيف ابواب جهنم ؟‬
‫قلنا كنحو هذه البواب قال ل ‪ -‬ولكنها هكذا ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 176‬ووضع يده فوق يده وبسط يده على‬
‫يده وفيه اخرج ابن المبارك وهناد وابن ابى شيبة‬
‫وعبد بن حميد واحمد في الزهد وابن ابى الدنيا‬
‫في صفة النار وابن جرير وابن ابى حاتم‬
‫والبيهقي في البعث من طرق عن على قال ‪:‬‬
‫ابواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيمل الول‬
‫ثم الثاني ثم الثالث حتى يمل كلها وفيه اخرج ابن‬
‫مردويه والخطيب في تاريخه عن انس قال قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله‬
‫تعالى لكل باب منهم جزء مقسوم قال جزء‬
‫اشركوا بالله وجزء شكوا في الله وجزء غفلوا عن‬
‫الله ‪ .‬اقول هو تعداد اجزاء البواب دون نفسها‬
‫والظاهر ان الكلم غير مسوق للحصر ‪ .‬وفيه اخرج‬
‫ابن مردويه عن ابى ذر قال قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم لجهنم باب ل يدخل منه ال‬
‫من اخفرنى في اهل بيتى وأراق دماءهم من‬
‫بعدى ‪ .‬اقول يقال خفره أي غدر به ونقض عهده ‪.‬‬
‫وفيه اخرج احمد وابن حبان والطبري وابن مردويه‬
‫والبيهقي في البعث عن عتبة ابن عبد الله عن‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ‪ :‬للجنة‬
‫ثمانية ابواب وللنار سبعة ابواب وبعضها افضل من‬
‫بعض ‪ .‬اقول والروايات كما ترى تؤيد من قدمناه ‪.‬‬
‫وفي تفسير القمى " ‪ :‬في قوله تعالى ونزعنا ما‬
‫في صدورهم من غل الية قال قال العداوة وفي‬
‫تفسير البرهان عن الحافظ ابى نعيم عن رجاله‬
‫عن ابى هريرة قال قال على ابن ابى طالب ‪ :‬يا‬
‫رسول الله ايما انا احب اليك ام فاطمة ؟ قال‬
‫فاطمة احب إلي منك وانت اعز علي منها وكأني‬
‫بك وانت على حوضى تذود عنه الناس وان عليه‬
‫اباريق عدد نجوم السماء ‪ -‬وانت والحسن‬
‫والحسين وحمزة وجعفر في الجنة اخوانا على‬
‫سرر متقابلين وانت معى وشيعتك ثم قرأ رسول‬
‫الله صلى الله عليه وآله وسلم اخوانا على سرر‬
‫متقابلين ل ينظر احدكم في قفاء صاحبه ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 177‬وفيه عن ابن المغازلى في المناقب يرفعه‬
‫إلى زيد بن ارقم قال ‪ :‬دخلت على رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم قال إنى مواخ بينكم‬
‫كما آخى الله بين الملئكة ثم قال لعلى أنت اخى‬
‫ثم تل هذه الية ‪ " :‬اخوانا على سرر متقابلين‬
‫الخلء في الله ينظر بعضهم إلى بعض " اقول‬
‫ورواه ايضا عن احمد في مسنده مرفوعا إلى زيد‬
‫بن اوفى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫والرواية مبسوطة ‪ .‬وفي الروايتين تفسير قوله‬
‫تعالى على سرر متقابلين بقوله ل ينظر احدهم‬
‫في قفاء صاحبه وقوله الخلء في الله ينظر‬
‫بعضهم إلى بعض وفيه اشارة إلى ان التقابل في‬
‫الية كناية عن عدم تتبع احدهم عورات اخوانه‬
‫وزلتهم كما يفعل ذلك من في صدره غل وهو‬
‫معنى لطيف ‪ .‬وما قرأه النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم من الية انما هو من باب الجرى والنطباق‬
‫ل ان الية نازلة في اهل البيت عليهم السلم‬
‫فسياق اليات ل يلئمه البتة ‪ .‬ونظيرها ما روى‬
‫عن على عليه السلم ‪ :‬إن الية نزلت فينا اهل بدر‬
‫وفي رواية اخرى عنه عليه السلم ‪ :‬انها نزلت في‬
‫ابى بكر وعمر وفي رواية اخرى عن على بن‬
‫الحسين عليه السلم ‪ :‬انها نزلت في ابى بكر‬
‫وعمر وعلى وفي رواية اخرى " ‪ :‬انها نزلت في‬
‫على والزبير وطلحة وفي رواية اخرى " ‪ :‬انها‬
‫نزلت في على وعثمان وطلحة والزبير وفي رواية‬
‫اخرى عن ابن عباس " ‪ :‬انها نزلت في عشرة ابى‬
‫بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد‬
‫وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن‬
‫مسعود ‪ .‬والروايات على ما بها من الختلف‬
‫تطبيقات من الرواة والية تأبى بسياقها عن أن‬
‫تكون نازلة في بعض المذكورين كيف ؟ وهى في‬
‫جملة آيات تقص ما قضاه الله وحكم به يوم خلق‬
‫آدم وامر الملئكة وابليس بالسجود له فأبى ابليس‬
‫فرجمه ثم قضى ما قضى ول تعلق لذلك باشخاص‬
‫بخصوصيتهم هذا * * * نبئ عبادي إنى أنا الغفور‬
‫الرحيم ‪ 49 -‬وإن عذابي هو العذاب ‪ /‬صفحة ‪/ 178‬‬
‫الليم ‪ 50 -‬ونبئهم عن ضيف ابراهيم ‪ 51 -‬إذ‬
‫دخلوا عليه فقالوا سلما قال إنا منكم وجلون ‪-‬‬
‫‪ 52‬قالوا ل توجل إنا نبشرك بغلم عليم ‪ 53 -‬قال‬
‫أبشرتموني على أن مسنى الكبر فبم تبشرون ‪-‬‬
‫‪ 54‬قالوا بشرناك بالحق فل تكن من القانطين ‪-‬‬
‫‪ 55‬قال ومن يقنط من رحمة ربه إل الضالون ‪56 -‬‬
‫قال فما خطبكم ايها المرسلون ‪ 57 -‬قالوا إنا‬
‫ارسلنا إلى قوم مجرمين ‪ 58 -‬إل آل لوط إنا‬
‫لمنجوهم اجمعين ‪ 59 -‬ال امراته قدرنا انها لمن‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 178‬‬
‫الغابرين ‪ 60 -‬فلما جاء آل لوط المرسلون ‪61 -‬‬
‫قال انكم قوم منكرون ‪ 62 -‬قالوا بل جئناك بما‬
‫كانوا فيه يمترون ‪ 63 -‬واتيناك بالحق وانا‬
‫لصادقون ‪ 64 -‬فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع‬
‫ادبارهم ول يلتفت منكم احد وامضوا حيث تؤمرون‬
‫‪ 65 -‬وقضينا إليه ذلك المر ان دابر هؤلء مقطوع‬
‫مصبحين ‪ 66 -‬وجاء اهل المدينة يستبشرون ‪67 -‬‬
‫قال ان هؤلء ضيفي فل تفضحون ‪ 68 -‬واتقوا‬
‫الله ول تخزون ‪ 69 -‬قالوا أو لم ننهك عن‬
‫العالمين ‪ 70 -‬قال هؤلء بناتى إن كنتم فاعلين ‪-‬‬
‫‪ 71‬لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون ‪72 -‬‬
‫فاخذتهم الصيحة مشرقين ‪ 73 -‬فجعلنا عاليها‬
‫سافلها وامطرنا عليهم حجارة من سجيل ‪74 -‬‬
‫إن ‪ /‬صفحة ‪ / 179‬في ذلك ليات للمتوسمين ‪75 -‬‬
‫وانها لبسبيل مقيم ‪ 76 -‬ان في ذلك لية‬
‫للمؤمنين ‪ 77 -‬وان كان اصحاب اليكة لظالمين ‪-‬‬
‫‪ 78‬فانتقمنا منهم وانهما لبإمام مبين ‪ 79 -‬ولقد‬
‫كذب اصحاب الحجر المرسلين ‪ 80 -‬وآتيناهم آياتنا‬
‫فكانوا عنها معرضين ‪ 81 -‬وكانوا ينحتون من‬
‫الجبال بيوتا آمنين ‪ 82 -‬فأخذتهم الصيحة مصبحين‬
‫‪ 83 -‬فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون ‪ ) 84 -‬بيان‬
‫( بعد ما تكلم سبحانه حول استهزائهم بالنبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم وما انزل إليه من‬
‫الكتاب واقتراحهم عليه ان ياتيهم بالملئكه وهم‬
‫ليسوا بمؤمنين وان سمح لهم باوضح اليات اتى‬
‫سبحانه في هذه اليات ببيان جامع في التبشير‬
‫والنذار وهو ما في قوله نبئ عبادي إلى آخر‬
‫اليتين ثم اوضحه وايده بقصة جامعة للجهتين‬
‫متضمنة للمرين معا وهى قصة ضيف ابراهيم‬
‫وفيها بشرى ابراهيم بما ل مطمع فيه عادة‬
‫وعذاب قوم لوط بأشد انواع العذاب ‪ .‬ثم ايده‬
‫تعالى باشارة اجمالية إلى تعذيب اصحاب اليكة‬
‫وهم قوم شعيب واصحاب الحجر وهم ثمود قوم‬
‫صالح عليه السلم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬نبئ عبادي انى‬
‫انا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الليم "‬
‫المراد بقوله عبادي على ما يفيده سياق اليات‬
‫مطلق العباد ول يعبؤ بما ذكره بعضهم ان المراد‬
‫بهم المتقون السابق ذكرهم أو المخلصون ‪.‬‬
‫وتاكيد الجملتين بالسمية وان وضمير الفصل‬
‫واللم في الخبر يدل على ان الصفات المذكورة‬
‫فيها اعني المغفرة والرحمة والم العذاب بالغة‬
‫في معناها النهاية بحيث ل تقدر بقدر ول يقاس‬
‫بها غيرها فما من مغفرة أو رحمة ال ويمكن ان‬
‫يفرض لها مانع يمنع ‪ /‬صفحة ‪ / 180‬من ارسالها‬
‫أو مقدر يقدرها ويحدها لكنه سبحانه يحكم ل‬
‫معقب لحكمه ول مانع يقاومه فل يمنع عن انجاز‬
‫مغفرته ورحمته شئ ول يحدهما امر ال أن يشاء‬
‫ذلك هو عز وجل فليس لحد ان ييأس من مغفرته‬
‫أو يقنط من روحه ورحمته استنادا إلى مانع يمنع‬
‫أو رادع يردع ال أن يخافه تعالى نفسه كما قال ‪" :‬‬
‫ل تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب‬
‫جميعا انه هو الغفور الرحيم وانيبوا إلى ربكم "‬
‫الزمر ‪ . 54 -‬وليس لحد ان يحقر عذابه أو يؤمل‬
‫عجزه أو يأمن مكره والله غالب على امره ول‬
‫يأمن مكر الله ال القوم الخاسرون قوله تعالى‬
‫ونبئهم عن ضيف ابراهيم الضيف معروف ويطلق‬
‫على المفرد والجمع وربما يجمع على اضياف‬
‫وضيوف وضيفان لكن الفصح كما قيل ان ل يثنى‬
‫ول يجمع لكونه مصدرا في الصل ‪ .‬والمراد‬
‫بالضيف الملئكة المكرمون الذين ارسلوا لبشارة‬
‫ابراهيم بالولد ولهلك قوم لوط سماهم ضيفا‬
‫لنهم دخلوا عليه في صورة الضيف ‪ .‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫" إذ دخلوا عليه فقالوا سلما قال انا منكم وجلون‬
‫قالوا ل توجل انا نبشرك بغلم عليم ضمير الجمع‬
‫في دخلوا وقالوا في الموضعين للملئكة فقولهم‬
‫سلما تحية وتقديره نسلم عليك سلما وقول‬
‫ابراهيم عليه السلم انا منكم وجلون أي خائفون‬
‫والوجل الخوف ‪ .‬وانما قال لهم ابراهيم ذلك بعد‬
‫ما استقر بهم المجلس وقدم إليهم عجل حنيذا‬
‫فلم يأكلوا منه فلما رأى ايديهم ل تصل إليه‬
‫نكرهم واوجس منهم خيفة كما في سورة هود‬
‫فالقصة مذكورة على نحو التلخيص ‪ .‬وقولهم ل‬
‫توجل تسكين لوجله وتأمين له وتطييب لنفسه‬
‫بانهم رسل ربه وقد دخلوا عليه ليبشروه بغلم‬
‫عليم أي بولد يكون غلما وعليما ولعل المراد كونه‬
‫عليما بتعليم الله ووحيه فيقرب من قوله في‬
‫موضع " آخر فبشرناه باسحاق نبيا " الصافات ‪:‬‬
‫‪ . 112‬قوله تعالى ‪ " :‬قال أبشرتموني على ان‬
‫مسنى الكبر فبم تبشرون " تلقى ابراهيم عليه‬
‫السلم البشرى وهو شيخ كبير هرم ل عقب له من‬
‫زوجه وقد ايأسته العادة الجارية ‪ /‬صفحة ‪/ 181‬‬
‫عن الولد وان كان يجل ان يقنط من رحمه الله‬
‫ونفوذ قدرته ولذا تعجب من قولهم واستفهمهم‬
‫كيف يبشرونه بالولد وحاله هذه الحال وزوجه‬
‫عجوز عقيم كما وقع في موضع آخر من كلمه‬
‫تعالى ‪ .‬فقوله ا بشرتموني على ان مسنى الكبر‬
‫الكبر كنايه عن الشيخوخه ومسه هو نيله منه ما‬
‫نال بافناء شبابه واذهاب قواه والمعنى انى ل‬
‫تعجب من بشارتكم اياى والحال انى شيخ هرم‬
‫فنى شبابى و فقدت قوى بدنى والعاده تستدعى‬
‫ان ل يولد لمن هذا شانه ولد ‪ .‬وقوله فبم تبشرون‬
‫تفريع على قوله مسنى الكبر وهو استفهام عما‬
‫بشروه به كانه يشك في‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 181‬‬
‫كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك ل‬
‫استبعاد ذلك فيسأل ما هو الذى تبشرون به فان‬
‫الذى يدل عليه ظاهر كلمكم امر عجيب وهذا شائع‬
‫في الكلم يقول الرجل إذا اخبر بما يستبعده أو ل‬
‫يصدقه ما تقول ؟ وما تريد ؟ وماذا تصنع ؟ قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬قالوا بشرناك بالحق إلى قوله ال‬
‫الضالون " الباء في بالحق للمصاحبة أي ان‬
‫بشارتنا ملزمة للحق غير منفكة منه فل تدفعها‬
‫بالستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله‬
‫وهذا جواب للملئكة وقد قابلهم ابراهيم عليه‬
‫السلم على نحو التكنية فقال ومن يقنط من‬
‫رحمة ربه ال الضالون والستفهام انكاري أي ان‬
‫القنوط من رحمة الله مما يختص بالضالين ولست‬
‫انا بضال فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬قال فما خطبكم ايها المرسلون "‬
‫الخطب المر الجليل والشأن العظيم وفي‬
‫خطابهم بالمرسلين دللة على انهم ذكروا له ذلك‬
‫قبل ومعنى الية ظاهر ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬قالوا إنا‬
‫ارسلنا إلى قوم مجرمين " إلى قوله لمن الغابرين‬
‫قال في المفردات الغابر الماكث بعد مضى من هو‬
‫معه قال تعالى ‪ " :‬إل عجوزا في الغابرين " يعنى‬
‫فيمن طال اعمارهم وقيل فيمن بقى ولم يسر‬
‫مع لوط وقيل فيمن بقى بعد في العذاب وفي‬
‫آخر إل امرأتك كانت من الغابرين وفي آخر قدرنا‬
‫انها لمن الغابرين إلى ان قال والغبار ما يبقى من‬
‫التراب المثار وجعل على بناء ‪ /‬صفحة ‪/ 182‬‬
‫الدخان والعثار ونحوهما من البقايا انتهى ولعله‬
‫من هنا ما ربما يسمى الماضي والمستقبل معا‬
‫غابرا اما الماضي فبعناية انه بقى فيما مضى ولم‬
‫يتعد إلى الزمان الحاضر واما المستقبل فبعناية‬
‫انه باق لم يفن بعد كالماضي ‪ .‬واليات جواب‬
‫الملئكة لسؤال ابراهيم قالوا انا ارسلنا من عند‬
‫الله سبحانه إلى قوم مجرمين نكروهم ولم‬
‫يسموهم صونا للسان عن التصريح باسمهم تنفرا‬
‫منه ومستقبل الكلم يعينهم ثم استثنوا وقالوا ال‬
‫آل لوط وهم لوط وخاصته وظهر به ان القوم‬
‫قومه انا لمنجوهم أي مخلصوهم من العذاب‬
‫اجمعين وظاهر السياق كون الستثناء منقطعا ثم‬
‫استثنوا امرأة لوط من آله للدللة على إن النجاة ل‬
‫تشملها وإن العذاب سيأخذها ويهلكها فقالوا ‪" :‬‬
‫إل امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين " اي الباقين‬
‫من القوم بعد خروج آل لوط من قريتهم وقد‬
‫تقدم تفصيل القول في ضيف ابراهيم عليه‬
‫السلم في سورة هود في الجزء العاشر من‬
‫الكتاب وعقدنا هناك بحثا مستقل فيه قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم‬
‫قوم منكرون " إنما قال لهم لوط عليه السلم‬
‫ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان‬
‫وكان يشقه ما يراه منهم وشأن قومه شأنهم من‬
‫الفحشاء كما تقدم في سورة هود والمعنى ظاهر‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬قالوا بل جئناك بما كانوا فيه‬
‫يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون " المتراء من‬
‫المرية وهو الشك والمراد بما كانوا فيه يمترون‬
‫العذاب الذي كان ينذرهم به لوط وهو يشكون فيه‬
‫والمراد باتيانهم بالحق اتيانهم بقضاء حق في أمر‬
‫القوم ل معدل عنه كما وقع في موضع آخر من‬
‫قولهم ‪ " :‬وانهم آتيهم عذاب غير مردود " هود ‪:‬‬
‫‪ 76‬وقيل ‪ :‬المراد وأتيناك بالعذاب الذي ل شك فيه‬
‫وما ذكرناه هو الوجه وفى آيات القصة تقديم‬
‫وتأخير ل بمعنى اختلل ترتيبها بحسب النزول عند‬
‫التأليف بوضع ما هو مؤخر في موضع المقدم‬
‫وبالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض اجزاء القصة‬
‫في غير محله الذي يقتضيه الترتيب الطبعي‬
‫وتعينه له سنة القتصاص لنكتة توجب ذلك ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 183‬وترتيب القصة بحسب اجزائها على ما‬
‫ذكرها الله سبحانه في سورة هود وغيرها‬
‫والعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله ‪" :‬‬
‫فلما جاء آل لوط " إلى تمام آيتين قبل سائر‬
‫اليات ثم قوله وجاء اهل المدينة إلى تمام ست‬
‫آيات ثم قوله قالوا بل جئناك إلى تمام اربع آيات‬
‫ثم قوله فأخذتهم الصيحة مشرقين إلى آخر اليات‬
‫‪ .‬وحقيقة هذا التقديم والتأخير ان للقصة فصول‬
‫اربعة وقد اخذ الفصل الثالث منها فوضع بين‬
‫الول والثانى اعني ان قوله وجاء اهل المدينة‬
‫إلى آخره أخر في الذكر ليتصل آخره وهو قوله‬
‫لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون بأول الفصل‬
‫الخير فأخذتهم الصيحة مشرقين وذلك ليتمثل به‬
‫الغرض في الستشهاد بالقصة وينجلى اوضح‬
‫النجلء وهو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال‬
‫سكرة منهم وأمن منه ل يخطر ببالهم شئ من‬
‫ذلك وذلك ابلغ في الدهشة وأوقع في الحسرة‬
‫يزيد في العذاب الما على الم ‪ .‬ونظير هذا في‬
‫التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصة اصحاب الحجر‬
‫التية من اتصال قوله وكانوا ينحتون من الجبال‬
‫بيوتا آمنين بقوله فأخذتهم الصيحة مصبحين كل‬
‫ذلك ليجلى معنى قوله تعالى في صدر المقال‬
‫وان عذابي هو العذاب الليم فافهم ذلك ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬فأسر بأهلك بقطع من الليل " إلى آخر‬
‫الية السراء هو السير بالليل فقوله بقطع من‬
‫الليل يؤكده وقطع الليل شطر مقطوع منه‬
‫والمراد باتباعه ادبارهم هو ان يسير وراءهم فل‬
‫يترك احدا يتخلف عن السير ويحملهم على السير‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 183‬‬
‫الحثيث كما يشعر به قوله ول يلتفت منكم احد ‪.‬‬
‫والمعنى واذ جئناك بعذاب غير مردود وامر من‬
‫الله ماض يجب عليك ان تسير بأهلك ليل وتأخذ‬
‫انت وراءهم لئل يتخلفوا عن السير ول يساهلوا‬
‫فيه ول يلتفت احد منكم إلى ورائه وامضوا حيث‬
‫تؤمرون وفيه دللة على انه كانت امامهم هداية‬
‫الهية تهديهم وقائد يقودهم ‪ .‬قوله تعالى وقضينا‬
‫إليه ذلك المر إن دابر هؤلء مقطوع مصبحين‬
‫القضاء ‪ /‬صفحة ‪ / 184‬مضمن معنى الوحى ولذا‬
‫عدى بإلى كما قيل والمراد بالمر امر العذاب كما‬
‫يفسره قوله إن دابر هؤلء مقطوع مصبحين‬
‫والشارة إليه بلفظة ذلك للدللة على عظم خطره‬
‫وهول امره ‪ .‬والمعنى وقضينا امرنا العظيم في‬
‫عذابهم موحيا ذلك إلى لوط وهو إن دابر هؤلء‬
‫واثرهم الذى من شأنه ان يبقى بعدهم من نسل‬
‫وبناء وعمل مقطوع حال كونهم مصبحين أو‬
‫التقدير اوحينا إليه قاضيا الخ ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫وجاء اهل المدينة يستبشرون إلى قوله ان كنتم‬
‫فاعلين " يدل نسبة المجئ إلى اهل المدينة على‬
‫كونهم جماعة عظيمة يصح عدهم اهل المدينة‬
‫لكثرتهم ‪ .‬فالمعنى وجاء إلى لوط اهل المدينة‬
‫جمع كثير منهم يريدون اضيافه وهم يستبشرون‬
‫لولعهم بالفحشاء وخاصة بالداخلين في بلدهم‬
‫من خارج فاستقبلهم لوط مدافعا عن اضيافه قال‬
‫ان هؤلء ضيفي فل تفضحون بالعمل الشنيع بهم‬
‫واتقوا الله ول تخزون قالوا المهاجمون من اهل‬
‫المدينة ألم نقطع عذرك في ايوائهم أو لم ننهك‬
‫عن العالمين ان تؤويهم وتشفع فيهم وتدافع‬
‫عنهم فلما يئس لوط عليه السلم منهم عرض‬
‫عليهم بناته ان ينصرفوا عن اضيافه بنكاحهن كما‬
‫تقدم بيانه في سورة هود قال ان هؤلء بناتى ان‬
‫كنتم فاعلين ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬لعمرك انهم لفى‬
‫سكرتهم يعمهون " إلى قوله من سجيل " قال‬
‫في المفردات العمارة ضد الخراب قال والعمر‬
‫اسم لمدة عمارة البدن بالحياة فهو دون البقاء‬
‫فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه‬
‫وإذا قيل بقاؤه فليس يقتضى ذلك فان البقاء ضد‬
‫الفناء ولفضل البقاء على العمر وصف الله به‬
‫وقلما وصف بالعمر قال والعمر بالضم والعمر‬
‫بالفتح واحد لكن خص القسم بالعمر بالفتح دون‬
‫العمر بالضم نحو لعمرك انهم لفى سكرتهم انتهى‬
‫‪ .‬والخطاب في لعمرك للنبى صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم فهو قسم ببقائه وقول بعضهم انه خطاب‬
‫من الملئكة للوط عليه السلم وقسم بعمره ل‬
‫دليل عليه من سياق اليات ‪ .‬والعمه هو التردد‬
‫على حيرة والسجيل حجارة العذاب وقد تقدم‬
‫تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 185‬والمعنى اقسم بحياتك وبقائك يا‬
‫محمد انهم لفى سكرتهم وهى غفلتهم بانغمارهم‬
‫في الفحشاء والمنكر يترددون متحيرين فاخذتهم‬
‫الصيحة وهى الصوت الهائل مشرقين أي حال‬
‫كونهم داخلين في اشراق الصبح فجعلنا عالى‬
‫بلدهم سافلها وفوقها تحتها وامطرنا وانزلنا من‬
‫السماء عليهم حجارة من سجيل ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫إن في ذلك ليات للمتوسمين " إلى قوله‬
‫للمؤمنين الية العلمة والمراد باليات اول‬
‫العلمات الدالة على وقوع الحادثة من بقايا الثار‬
‫وبالية ثانيا العلمة الدالة للمؤمنين على حقية‬
‫النذار والدعوة اللهية والتوسم التفرس‬
‫والنتقال من سيماء الشياء على حقيقة حالها ‪.‬‬
‫والمعنى ان في ذلك أي فيما جرى من المر على‬
‫قوم لوط وفي بلدهم لعلمات من بقايا الثار‬
‫للمتفرسين وان تلك العلمات لبسبيل للعابرين‬
‫مقيم لم تعف ولم تنمح بالكلية بعد ان في ذلك‬
‫لية للمؤمنين تدل على حقية النذار والدعوة وقد‬
‫تبين بذلك وجه ايراد اليات جمعا ومفردا في‬
‫الموضعين قوله تعالى ‪ " :‬وان كان اصحاب اليكة‬
‫لظالمين ‪ -‬فانتقمنا منهم وانهما لبإمام مبين "‬
‫اليكة واحدة اليك وهو الشجر الملتف بعضه ببعض‬
‫فقد كانوا كما قيل في غيضة أي بقعة كثيفة‬
‫الشجار ‪ .‬وهؤلء كما ذكروا هم قوم شعيب عليه‬
‫السلم أو طائفة من قومه كانوا يسكنون الغيضة‬
‫ويؤيده قوله تعالى ذيل وانهما لبامام مبين أي‬
‫مكانا قوم لوط واصحاب اليكة لفى طريق واضح‬
‫فان الذى على طريق المدينة إلى الشام هي بلد‬
‫قوم لوط وقوم شعيب الخربة اهلكهم الله‬
‫بكفرهم وتكذيبهم لدعوة شعيب عليه السلم وقد‬
‫تقدمت قصتهم في سورة هود وقوله فانتقمنا‬
‫منهم الضمير لصحاب اليكة وقيل لهم ولقوم‬
‫لوط ومعنى اليتين ظاهر ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولقد‬
‫كذب اصحاب الحجر المرسلين إلى قوله ما كانوا‬
‫يكسبون " اصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح‬
‫والحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها وعدهم مكذبين‬
‫لجميع المرسلين وهم انما كذبوا صالحا المرسل‬
‫إليهم انما هو لكون دعوة الرسل دعوة واحدة‬
‫والمكذب لواحد منهم مكذب للجميع ‪ / .‬صفحة ‪186‬‬
‫‪ /‬وقوله وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين ان‬
‫كان المراد باليات المعجزات والخوارق كما هو‬
‫الظاهر فالمراد بها الناقة وشربها وما ظهر لهم‬
‫بعد عقرها إلى ان أهلكوا وقد تقدمت القصة في‬
‫سورة هود وان كان المراد بها المعارف اللهية‬
‫التى بلغها صالح عليه السلم ونشرها فيهم أو‬
‫المجموع من المعارف الحقة والية المعجزة‬
‫فالمر واضح ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 186‬‬
‫وقوله وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين أي‬
‫كانوا يسكنون الغيران والكهوف المنحوتة من‬
‫الحجارة آمنين من الحوادث الرضية والسماوية‬
‫بزعمهم ‪ .‬وقوله فاخذتهم الصيحة مصبحين أي‬
‫صيحة العذاب التى كان فيها هلكهم وقد تقدمت‬
‫الشارة إلى مناسبة اجتماع المن مع الصيحة في‬
‫اليتين لقوله في صدر اليات وان عذابي هو‬
‫العذاب الليم ‪ .‬وقوله فما اغنى عنهم ما كانوا‬
‫يكسبون أي من العمال لتأمين سعادتهم في‬
‫الحياة ‪ ) .‬بحث روائي ( في الدر المنثور اخرج ابن‬
‫المنذر وابن ابى حاتم عن مصعب بن ثابت قال ‪:‬‬
‫مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناس من‬
‫اصحابه يضحكون قال اذكروا الجنة واذكروا النار‬
‫فنزلت " نبئ عبادي انى أنا الغفور الرحيم " ‪.‬‬
‫اقول وفي معناه روايات اخر لكن في انطباق‬
‫معنى الية على ما ذكر فيها من السبب خفاء ‪.‬‬
‫وفيه اخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد‬
‫في قوله ان في ذلك ليات للمتوسمين قال هم‬
‫المتفرسون ‪ .‬وفيه اخرج البخاري في تاريخه‬
‫والترمذي وابن جرير وابن ابى حاتم وابن السنى‬
‫وابو نعيم معا في الطب وابن مردويه والخطيب‬
‫عن ابى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم ‪ :‬اتقوا فراسة المؤمن فانه‬
‫ينظر بنور الله ثم قرأ ان في ذلك ليات‬
‫للمتوسمين قال المتفرسين ‪ /‬صفحة ‪ / 187‬وفي‬
‫اختصاص المفيد باسناده عن ابى بكر بن محمد‬
‫الحضرمي عن ابى جعفر عليه السلم قال قال ‪:‬‬
‫ما من مخلوق ال وبين عينيه مكتوب مؤمن أو‬
‫كافر وذلك محجوب عنكم وليس بمحجوب عن‬
‫الئمة من آل محمد ثم ليس يدخل عليهم احد إل‬
‫عرفوه مؤمنا أو كافرا ثم تل هذه الية إن في ذلك‬
‫ليات للمتوسمين فهم المتوسمون ‪ .‬اقول‬
‫والروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة‬
‫وليس معناها نزول الية فيهم عليهم السلم وفي‬
‫الدر المنثور اخرج ابن مردويه وابن عساكر عن‬
‫ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ‪ :‬إن مدين واصحاب اليكة أمتان بعث الله‬
‫اليهما شعيبا ‪ .‬اقول وقد اوردنا ما يجب ايراده من‬
‫الروايات في قصة بشرى ابراهيم وقصص لوط‬
‫وشعيب وصالح عليهم السلم في تفسير سورة‬
‫هود في الجزء العاشر من الكتاب واكتفينا بذلك‬
‫عن ايرادها ههنا فليرجع إلى هناك * * * وما خلقنا‬
‫السموات والرض وما بينهما ال بالحق وان‬
‫الساعة لتية فاصفح الصفح الجميل ‪ 85 -‬ان ربك‬
‫هو الخلق العليم ‪ 86 -‬ولقد آتيناك سبعا من‬
‫المثانى والقرآن العظيم ‪ 87 -‬ل تمدن عينيك إلى‬
‫ما متعنا به ازواجا منهم ول تحزن عليهم واخفض‬
‫جناحك للمؤمنين ‪ 88 -‬وقل إنى أنا النذير المبين ‪-‬‬
‫‪ 89‬كما انزلنا على المقتسمين ‪ 90 -‬الذين جعلوا‬
‫القرآن عضين ‪ 91 -‬فو ربك لنسألنهم اجمعين ‪-‬‬
‫‪ 92‬عما كانوا يعملون ‪ 93 -‬فاصدع بما تؤمر‬
‫واعرض عن المشركين ‪ 94 -‬إنا كفيناك‬
‫المستهزئين ‪ / 95 -‬صفحة ‪ / 188‬الذين يجعلون مع‬
‫الله الها آخرفسوف يعلمون ‪ 96 -‬ولقد نعلم انك‬
‫يضيق صدرك بما يقولون ‪ 97 -‬فسبح بحمد ربك‬
‫وكن من الساجدين ‪ 98 -‬واعبد ربك حتى يأتيك‬
‫اليقين ‪ ) 99 -‬بيان ( في اليات تخلص إلى غرض‬
‫البيان السابق وهو امر النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم أن يصدع بما يؤمر وياخذ بالصفح والعراض‬
‫عن المشركين ول يحزن عليهم ول يضيق صدره‬
‫بما يقولون فان من القضاء الحق ان يجازى الناس‬
‫باعمالهم في الدنيا والخرة وخاصة يوم القيامة‬
‫الذى ل ريب فيه وهو اليوم الذى ل يغادر احدا ول‬
‫يدع مثقال ذرة من الخير والشر ال الحقه بعامله‬
‫فل ينبغى أن يؤسف لكفر كافر فان الله عليم به‬
‫سيجازيه ول يحزن عليه فان الشتغال بالله‬
‫سبحانه اهم وأوجب ‪ .‬ولقد كرر سبحانه امره‬
‫بالصفح والعراض عن اولئك المستهزئين به وهم‬
‫الذين مر ذكرهم في مفتتح السورة والشتغال‬
‫بتسبيحه وتحميده وعبادته واخبره انه كفاه شرهم‬
‫فليشتغل بما امره الله به وبذلك تختتم السورة ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬وما خلقنا السماوات والرض وما‬
‫بينهما ال بالحق وان الساعة لتية الباء في قوله‬
‫بالحق للمصاحبة أي ان خلقها جميعا ل ينفك عن‬
‫الحق ويلزمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال‬
‫تعالى ‪ " :‬إن إلى ربك الرجعى " العلق ‪ 8 :‬ولو ل‬
‫ذلك لكان لعبا باطل قال تعالى ‪ " :‬وما خلقنا‬
‫السماوات والرض وما بينهما لعبين ما خلقناهما‬
‫ال بالحق " الدخان ‪ 39 :‬وقال ‪ " :‬وما خلقنا‬
‫السماء والرض وما بينهما باطل " ص ‪ 27 :‬ومن‬
‫الدليل على كون المراد بالحق ما يقابل اللعب‬
‫الباطل تذييل الكلم بقوله وان الساعة لتية وهو‬
‫ظاهر ‪ .‬وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان‬
‫المراد بالحق العدل والنصاف والباء للسببية‬
‫والمعنى ما خلقنا ذلك ال بسبب العدل والنصاف‬
‫يوم الجزاء بالعمال ‪ / .‬صفحة ‪ / 189‬وذلك ان‬
‫كون الحق في الية بمعنى العدل والنصاف ل‬
‫شاهد عليه من اللفظ على ان الذى ذكره من‬
‫المعنى انما يلئم كون الباء بمعنى لم الغرض أو‬
‫للمصاحبة دون السببية ‪ .‬وكذا ما ذكره بعضهم ان‬
‫الحق بمعنى الحكمة وان الجملة الولى وما خلقنا‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 189‬‬
‫الخ ناظرة إلى العذاب الدنيوي والثانية وان‬
‫الساعة لتية إلى العذاب الخروي والمعنى وما‬
‫خلقنا السماوات والرض وما بينهما إل متلبسا‬
‫بالحق والحكمة بحيث ل يلئم استمرار الفساد‬
‫واستقرار الشرور وقد اقتضت الحكمة اهلك‬
‫امثال هؤلء دفعا لفسادهم وارشادا لمن بقى إلى‬
‫الصلح وان الساعة لتية فينتقم ايضا فيها من‬
‫امثال هؤلء ‪ .‬وفي الية مشاجرة بين اصحاب‬
‫الجبر والتفويض كل من الفريقين يجر نارها إلى‬
‫قرصته فاستدل بها اصحاب الجبر على ان افعال‬
‫العباد مخلوقة لله لن اعمالهم من جملة ما بينهما‬
‫فهى مخلوقه له ‪ .‬واستدل بها اصحاب التفويض‬
‫على ان افعال العباد ليست مخلوقة له بل‬
‫لنفسهم فان المعاصي وقبائح العمال من‬
‫الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحق‬
‫والباطل ل يكون مخلوقا بالحق والحق ان الحجتين‬
‫جميعا من الباطل فان جهات القبح والمعصية في‬
‫الفعال حيثيات عدمية إذ الطاعة والمعصية‬
‫كالنكاح والزنا وأكل المال من حله وبالباطل‬
‫وامثال ذلك مشتركة في اصل الفعل وانما تختلف‬
‫طاعة ومعصية بموافقة المر ومخالفته والمخالفة‬
‫جهة عدمية وإذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى‬
‫الخلقة من جهة الوجود ل يستلزم استناد القبيح أو‬
‫المعصية إليها فان ذلك من جهاته العدمية فليس‬
‫الفعل بجهته العدمية مما بين السماوات والرض‬
‫حتى تشمله الية ول بجهته الوجودية من الباطل‬
‫حتى يكون خلقه خلقا للباطل بالحق ‪ .‬على ان‬
‫الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل‬
‫والمعلولت في الوجود وان قيام وجود شئ بشئ‬
‫بحيث ل يستقل دونه هو ملك التصاف فالمتصف‬
‫بالطاعة والمعصية وحسن الفعل وقبيحه هو‬
‫النسان دون الذى خلقه ويسر له ان يفعل كذا‬
‫وكذا كما ‪ /‬صفحة ‪ / 190‬ان المتصف بالسواد‬
‫والبياض الجسم الذى يقوم به هذان اللونان دون‬
‫الذى اوجده ‪ .‬وقد استوفينا الكلم في هذا البحث‬
‫في تفسير قوله ‪ " :‬وما يضل به إل الفاسقين "‬
‫البقرة ‪ 26 :‬الجزء الول من الكتاب ‪ .‬قوله تعالى‬
‫فاصفح الصفح الجميل ان ربك هو الخلق العليم‬
‫قال في المفردات صفح الشئ عرضه وجانبه‬
‫كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر‬
‫والصفح ترك التثريب وهو ابلغ من العفو ولذلك‬
‫قال فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره وقد‬
‫يعفوا النسان ول يصفح قال تعالى ‪ " :‬فاصفح‬
‫عنهم وقل سلم فاصفح الصفح الجميل أفنضرب‬
‫عنكم الذكر صفحا ‪ .‬وصفحت عنه اوليته صفحة‬
‫جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا‬
‫عنه أو تجاوزت الصفحة التى اثبت فيها ذنبه من‬
‫الكتاب إلى غيرها من قولك تصفحت الكتاب وقوله‬
‫‪ " :‬إن الساعة لتية فاصفح الصفح الجميل " فأمر‬
‫له عليه السلم ان يخفف كفر من كفر كما قال‬
‫ول تحزن عليهم ول تك في ضيق مما يمكرون‬
‫والمصافحة الفضاء بصفحة اليد انتهى ‪ .‬وسيأتى‬
‫ما في الرواية من تفسير على عليه السلم الصفح‬
‫بالعفو من غير عتاب ‪ .‬وقوله فاصفح الصفح‬
‫الجميل تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة‬
‫بالحق وهناك يوم فيه يحاسبون ويجازون ل ريب‬
‫فيه فل تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب‬
‫والستهزاء واعف عنهم من غير ان تقع فيهم‬
‫بعتاب أو مناقشة وجدال فان ربك الذى خلقك‬
‫وخلقهم هو عليم بحالك وحالهم ووراءهم يوم ل‬
‫يفوتونه ‪ .‬ومن هنا يظهر ان قوله ان ربك هو‬
‫الخلق العليم تعليل لقوله فاصفح الصفح‬
‫الجميل ‪ .‬وهذه اليات الحافة لقوله فاصدع بما‬
‫تؤمر تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫وتطييب لنفسه ليأخذ قوله فاصدع بما تؤمر‬
‫موقعه فقد عرفت في اول السورة ان الغرض‬
‫الصيل منها هو المر باعلن الدعوة وعرفت ايضا‬
‫بالتدبر في اليات السابقة انها مسرودة ليتخلص‬
‫بها إلى تسليته صلى الله عليه وآله وسلم عما‬
‫لقى من قومه من اليذاء والهانة والستهزاء‬
‫ويتخلص من ذلك إلى المر المطلوب ‪ / .‬صفحة‬
‫‪ / 191‬قوله تعالى ‪ " :‬ولقد آتيناك سبعا من‬
‫المثانى والقرآن العظيم " السبع المثانى هي‬
‫سورة الحمد على ما فسر في عدة من الروايات‬
‫المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫وائمة اهل البيت عليهم السلم فل يصغى إلى ما‬
‫ذكره بعضهم انها السبع الطوال وما ذكره بعض‬
‫آخر انها الحواميم السبع وما قيل انها سبع صحف‬
‫من الصحف النازلة على النبياء فل دليل على شئ‬
‫منها من لفظ الكتاب ول من جهة السنة ‪ .‬وقد كثر‬
‫اختلفهم في قوله من المثانى من جهة كون من‬
‫للتبعيض أو للتبيين وفي كيفية اشتقاق لفظة‬
‫المثانى ووجه تسميتها بالمثاني ‪ .‬والذى ينبغى ان‬
‫يقال والله اعلم ان من للتبعيض فانه سبحانه‬
‫سمي جميع آيات كتابه مثانى إذ قال ‪ " :‬كتابا‬
‫متشابها مثانى تقشعر منه قلوب الذين يخشون‬
‫ربهم " الزمر ‪ 23 :‬وآيات سورة الحمد من جملتها‬
‫فهى بعض المثانى ل كلها ‪ .‬والظاهر ان المثانى‬
‫جمع مثنية اسم مفعول من الثنى بمعنى اللوى‬
‫والعطف والعادة قال تعالى ‪ " :‬يثنون صدورهم "‬
‫هود ‪ 5 -‬وسميت اليات القرآنية مثانى لن بعضها‬
‫يوضح حال البعض ويلوى وينعطف عليه كما يشعر‬
‫به قوله كتابا متشابها مثانى‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 191‬‬
‫حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض‬
‫آياته بعضا وبين كون آياته مثانى وفي كلم النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم ‪ :‬في صفة القرآن‬
‫يصدق بعضه بعضا وعن على عليه السلم ‪ :‬فيه‬
‫ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض أو هي‬
‫جمع مثنى بمعنى التكرير والعادة كناية عن بيان‬
‫بعض اليات ببعض ‪ .‬ولعل في ذلك كفاية وغنى‬
‫عما ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشاف‬
‫وحواشيه والمجمع وروح المعاني وغيرها كقولهم‬
‫انها من التثنية أو الثنى بمعنى التكرير والعادة‬
‫سميت آيات القرآن مثانى لتكرر المعاني فيها‬
‫وكقولهم سميت الفاتحة مثانى لوجوب قراءتها‬
‫في كل صلة مرتين أو لنها تثنى في كل ركعة‬
‫بما يقرؤ بعدها من القرآن أو لن كثيرا من‬
‫كلماتها مكررة كالرحمان والرحيم واياك والصراط‬
‫وعليهم أو لنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة‬
‫بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله أو لن الله‬
‫استثناها وادخرها لهذه المة ولم ينزلها على‬
‫المم الماضين كما في الرواية إلى غير ذلك من‬
‫الوجوه المذكورة في التفاسير ‪ / .‬صفحة ‪/ 192‬‬
‫وفي قوله سبعا من المثانى والقرآن العظيم من‬
‫تعظيم امر الفاتحة والقرآن ما ل يخفى اما‬
‫القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة والكبرياء‬
‫بالعظيم واما الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة‬
‫غير الموصوفة سبعا وفيه من الدللة على عظمة‬
‫قدرها وجللة شأنها ما ل يخفى وقد قوبل بها‬
‫القرآن العظيم وهى بعضه ‪ .‬والية كما تبين في‬
‫مقام المتنان وهى مع ذلك لوقوعها في سياق‬
‫الدعوة إلى الصفح والعراض تفيد ان في هذه‬
‫الموهبة العظمى المتضمنة لحقائق المعارف‬
‫اللهية الهادية إلى كل كمال وسعادة باذن الله‬
‫عدة ان تحملك على الصفح الجميل والشتغال‬
‫بربك والتوغل في طاعته ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ل تمدن‬
‫عينيك إلى ما متعنا به ازواجا منهم " إلى قوله‬
‫المبين اليتان في مقام بيان الصفح الجميل الذى‬
‫تقدم المر به ولذلك جئ بالكلم في صورة‬
‫الستئناف ‪ .‬والمذكور فيهما اربعة دساتير منفيان‬
‫ومثبتان فقوله ل تمدن عينيك إلى ما متعنا به‬
‫ازواجا منهم مد العينين إلى ما متعوا به من زهرة‬
‫الحياة الدنيا كناية عن التعدي عن قصر النظر على‬
‫ما آتاه الله من نعمة والمراد بالزواج الزواج من‬
‫الرجال والنساء أو الصناف من الناس كالوثنيين‬
‫واليهود والنصارى والمجوس والمعنى ل تتجاوز‬
‫عن النظر عما انعمناك به من النعم الظاهرة‬
‫والباطنة إلى ما متعنا به ازواجا قليلة أو اصنافا‬
‫من الكفار ‪ .‬وربما اخذ بعضهم قوله ل تمدن عينيك‬
‫كناية عن اطالة النظر وادامته وانت تعلم ان‬
‫الغرض على أي حال النهى عن الرغبة والميل‬
‫والتعلق القلبى بما في ايديهم من امتعة الحياة‬
‫كالمال والشوكة والصيت والذى يكنى به عن ذلك‬
‫هو النهى عن اصل النظر إليه ل عن اطالته‬
‫وادامته ويشهد به ما سننقله من آية الكهف ‪.‬‬
‫وقوله ول تحزن عليهم أي من جهة تماديهم في‬
‫التكذيب والستهزاء واصرارهم على ان ل يؤمنوا‬
‫بك ‪ .‬وقوله واخفض جناحك للمؤمنين قالوا هو‬
‫كناية عن التواضع ولين الجانب والصل فيه ان‬
‫الطائر إذا اراد ان يضم إليه افراخه بسط جناحه‬
‫عليها ثم ‪ /‬صفحة ‪ / 193‬خفضه لها هذا والذى‬
‫ذكروه وان امكن ان يتأيد بآيات اخر كقوله ‪" :‬‬
‫فبما رحمة من الله لنت لهم " آل عمران ‪159 :‬‬
‫وقوله في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫بالمؤمنين رؤف رحيم " التوبة ‪ 128 :‬لكن الذى‬
‫وقع في نظير الية مما يمكن ان يفسر به خفض‬
‫الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين وهو يناسب‬
‫ان يكون كناية عن ضم المؤمنين إليه وقصر الهم‬
‫على معاشرتهم وتربيتهم وتأديبهم بأدب الله أو‬
‫كناية عن ملزمتهم والحتباس فيهم من غير‬
‫مفارقة كما ان الطائر إذا خفض الجناح لم يطر‬
‫ولم يفارق قال تعالى ‪ " :‬واصبر نفسك مع الذين‬
‫يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ول‬
‫تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " الية‬
‫الكهف ‪ . 28 :‬وقوله وقل انى انا النذير المبين أي‬
‫ل دعوى لى ال انى نذير انذركم بعذاب الله‬
‫سبحانه مبين ابين لكم ما تحتاجون إلى بيانه‬
‫وليس لى وراء ذلك من المر شئ ‪ .‬فهذه المور‬
‫الربعة اعني ترك الرغبة بما في ايديهم من متاع‬
‫الحياة الدنيا وترك الحزن عليهم إذا كفروا‬
‫واستهزؤا وخفض الجناح للمؤمنين واظهار انه‬
‫نذير مبين هو الصفح الجميل الذى يليق بالنبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم ولو اسقط منها واحد‬
‫لختل المر ‪ .‬ومن ذلك يظهر ان قول بعضهم ان‬
‫قوله فاصفح الصفح الجميل منسوخ بآية السيف‬
‫غير وجيه فان هذا الصفح الذى تأمر به الية‬
‫ويفسره قوله ل تمدن عينيك باق على احكامه‬
‫واعتباره حتى بعد نزول آية السيف فل وجه لنسبة‬
‫النسخ إليه ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬كما انزلنا على‬
‫المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين " قال في‬
‫المجمع عضين جمع عضة واصله عضوة فنقصت‬
‫الواو لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل عزوة‬
‫وعزون والصل عزوة والتعضية التفريق مأخوذ‬
‫من العضاء يقال عضيت الشئ أي فرقته وبعضته‬
‫قال رؤبة وليس دين الله بالمعضى انتهى موضع‬
‫الحاجة ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 193‬‬
‫وقوله كما انزلنا على المقتسمين ل يخلو السياق‬
‫من دللة على انه متعلق بمقدر يلوح إليه قوله‬
‫وقل إنى أنا النذير المبين أي بعذاب منزل ينزل‬
‫عليكم كما انزلنا على المقتسمين والمراد‬
‫بالمقتسمين هم الذين يصفهم قوله بعد الذين ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 194‬جعلوا القرآن عضين وهم على ما‬
‫وردت به الرواية قوم من كفار قريش جزؤا‬
‫القرآن اجزاء فقالوا سحر وقالوا اساطير الولين‬
‫وقالوا مفترى وتفرقوا في مداخل طرق مكة ايام‬
‫الموسم يصدون الناس الواردين عن رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي في البحث‬
‫الروائي ان شاء الله ‪ .‬وقيل قوله كما انزلنا متعلق‬
‫بما تقدم من قوله ولقد آتيناك سبعا من المثانى‬
‫أي انزلنا عليك القرآن كما انزلنا على المقتسمين‬
‫والمراد بالمقتسمين اليهود والنصارى الذين‬
‫فرقوا القرآن اجزاء وابعاضا وقالوا نؤمن ببعض‬
‫ونكفر ببعض ‪ .‬وفيه ان السورة مكية نازلة في‬
‫اوائل البعثة ولم يبتل السلم يومئذ باليهود‬
‫والنصارى ذاك البتلء وقولهم ‪ " :‬آمنوا بالذى‬
‫انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره "‬
‫آل عمران ‪ 72 :‬مما قالته اليهود بعد الهجرة وكذا‬
‫ما اشبه ذلك والدليل على ما ذكرنا سياق اليات ‪.‬‬
‫وربما قيل سموا مقتسمين لنهم اقتسموا انبياء‬
‫الله وكتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض وكفروا‬
‫ببعض ويدفعه ان الية التالية تفسر المقتسمين‬
‫بالذين جعلوا القرآن عضين ل بالذين فرقوا بين‬
‫انبياء الله أو بين كتبه ‪ .‬فالظاهر أن اليتين‬
‫تذكران قوما نهضوا في أوائل البعثة على اطفاء‬
‫نور القرآن وبعضوه ابعاضا ليصدوا عن سبيل الله‬
‫فأنزل الله عليهم العذاب وأهلكهم ‪ ،‬وهم الذين‬
‫ذكروا في اليتين ثم يذكر الله مآل أمرهم بقوله ‪:‬‬
‫" فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬فاصدع بما تؤمر وأعرض عن‬
‫المشركين " قال في المجمع ‪ :‬الصدع والفرق‬
‫والفصل نظائر ‪ ،‬وصدع بالحق إذا تكلم به جهارا ‪،‬‬
‫انتهى ‪ .‬والية تفريع على ما تقدم ‪ ،‬ومن حقها ان‬
‫تتفرع لنها الغرض في الحقيقة من السورة اي‬
‫إذا كان المر على ما ذكر وأمرت بالصفح الجميل‬
‫وكنت نذيرا بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين‬
‫فأظهر كلمة الحق وأعلن الدعوة ‪ .‬وبذلك يظهر أن‬
‫قوله ‪ " :‬إنا كفيناك المستهزئين " في مقام‬
‫التعليل لقوله ‪ :‬فاصدع الخ ‪ ،‬كما يشعر الكلم أو‬
‫يدل على أن هؤلء المستهزئين هم المقتسمون ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 195‬المذكورون قبل ‪ ،‬ومعنى الية إذا‬
‫كان المر كما ذكرناه وكنت نذيرا بعذابنا كما‬
‫انزلناه على المقتسمين " فاصدع بما تؤمر "‬
‫وأعلن الدعوة وأظهر الحق " وأعرض عن‬
‫المشركين إنا " اي لننا كفيناك المستهزئين‬
‫بانزال العذاب عليهم وهم " الذين يجعلون مع الله‬
‫الها آخر فسوف يعلمون " ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولقد‬
‫نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " رجع ثانيا إلى‬
‫حزنه صلى الله عليه وآله وسلم وضيق صدره من‬
‫استهزائهم لمزيد العناية بتسليته وتطييب نفسه‬
‫وتقوية روحه ‪ ،‬وقد أكثر سبحانه في كلمه وخاصة‬
‫في السور المكية من ذلك لشدة المر عليه صلى‬
‫الله عليه وآاه وسلم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬فسبح بحمد‬
‫ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك‬
‫اليقين وصاه سبحانه بالتسبيح والتحميد والسجدة‬
‫والعبادة أو ادامة العبودية مفرعا ذلك على ضيق‬
‫صدره بما يقولون ففى ذلك استعانة على الغم‬
‫والمصيبة وقد امره في اليات السابقة بالصفح‬
‫والصبر ويستفاد المر بالصبر ايضا من قوله واعبد‬
‫ربك حتى يأتيك اليقين فان ظاهره المر بالصبر‬
‫على العبودية حتى حين وبذلك يصير الكلم قريب‬
‫المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد والمقاومة‬
‫على مر الحوادث استعينوا بالصبر والصلة "‬
‫البقرة ‪ . 153 :‬وبذلك يتأيد ان المراد بالساجدين‬
‫المصلون وانه امر بالصلة وقد سميت سجودا‬
‫تسمية لها باسم افضل اجزائها ويكون المراد‬
‫بالتسبيح والتحميد اللفظى منهما كقول سبحان‬
‫الله والحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان‬
‫المراد بالصلة في آية البقرة التوجه إلى الله‬
‫سبحانه امكن ان يكون المراد بالتسبيح والتحميد‬
‫أو بهما وبالسجود المعنى اللغوى وهو تنزيهه‬
‫تعالى عما يقولون والثناء عليه بما انعم به عليه‬
‫من النعم والتذلل له تذلل العبودية ‪ .‬واما قوله‬
‫واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فان كان المراد به‬
‫المر بالعبادة كان كالمفسر للية السابقة وان‬
‫كان المراد الخذ بالعبودية كما هو ظاهر السياق‬
‫وخاصة سياق اليات السابقة المرة بالصفح‬
‫والعراض ولزمهما الصبر كان بقرينة تقييده‬
‫بقوله حتى يأتيك اليقين امرا بانتهاج منهج‬
‫التسليم والطاعة والقيام بلوازم العبودية ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 196‬وعلى هذا فالمراد باتيان اليقين‬
‫حلول الجل ونزول الموت الذى يتبدل به الغيب‬
‫من الشهادة ويعود به الخبر عيانا ويؤيد ذلك تفريع‬
‫ما تقدم من قوله فاصفح الصفح الجميل على‬
‫قوله وما خلقنا السماوات والرض وما بينهما ال‬
‫بالحق وان الساعة لتية فانه بالحقيقة امر بالعفو‬
‫والصبر على ما يقولون لن لهم يوما ينتقم الله‬
‫منهم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 196‬‬
‫ويجازيهم باعمالهم فيكون معنى الية دم على‬
‫العبودية واصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى‬
‫مر ما يقولون حتى يدركك الموت وينزل عليك‬
‫عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك ‪ .‬وفي‬
‫التعبير بمثل قوله حتى ياتيك اليقين اشعار ايضا‬
‫بذلك فان العناية فيه بان اليقين طالب له‬
‫وسيدركه فليعبد ربه حتى يدركه ويصل إليه وهذا‬
‫هو عالم الخرة الذى هو عالم اليقين العام بما‬
‫وراء الحجاب دون العتقاد اليقيني الذى ربما‬
‫يحصل بالنظر أو بالعبادة ‪ .‬وبذلك يظهر فساد ما‬
‫ربما قيل ان الية تدل على ارتفاع التكليف‬
‫بحصول اليقين وذلك لن المخاطب به النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم وقد دلت آيات كثيرة من‬
‫كتاب الله انه من الموقنين وانه على بصيرة وانه‬
‫على بينة من ربه وانه معصوم وانه مهدى بهداية‬
‫الله سبحانه إلى غير ذلك مضافا إلى ما قدمناه‬
‫من دللة الية على كون المراد باليقين هو‬
‫الموت ‪ .‬وسنفرد لدوام التكليف بحثا عقليا بعد‬
‫الفراغ عن البحث الروائي ان شاء الله تعالى‬
‫) بحث روائي ( في الدر المنثور اخرج ابن مردويه‬
‫وابن النجار عن على بن ابى طالب ‪ :‬في قوله‬
‫فاصفح الصفح الجميل قال الرضا بغير عتاب وفي‬
‫المجمع حكى عن على بن ابى طالب عليه‬
‫السلم ‪ :‬ان الصفح الجميل هو العفو من غير‬
‫عتاب وفي العيون باسناده عن على بن الحسن بن‬
‫فضال عن ابيه عن الرضا عليه السلم ‪ :‬في ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 197‬الية قال العفو من غير عتاب وفي‬
‫التهذيب باسناده عن محمد بن مسلم قال ‪ :‬سألت‬
‫ابا عبد الله عليه السلم عن السبع المثانى‬
‫والقرآن العظيم هي فاتحة الكتاب ؟ قال نعم قلت‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم من السبع ؟ قال نعم‬
‫هي افضلهن ‪ .‬اقول وهو مرومن طرق الشيعة عن‬
‫امير المؤمنين عليه السلم وغير واحد من ائمة‬
‫اهل البيت عليهم السلم ومن طرق اهل السنة‬
‫عن على وعدة من الصحابة كعمر بن الخطاب‬
‫وعبد الله بن مسعود وابن عباس وابى بن كعب‬
‫وابى هريرة وغيرهم ‪ .‬وفي الدر المنثور اخرج‬
‫الطبراني في الوسط عن ابن عباس قال ‪ :‬سأل‬
‫رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال‬
‫أرايت قول الله كما انزلنا على المقتسمين ؟ قال‬
‫اليهود والنصارى قال الذين جعلوا القرآن عضين‬
‫قال آمنوا ببعض وكفروا ببعض ‪ .‬اقول وقد عرفت‬
‫فيما مر ان مضمون الرواية ل يلئم كون السورة‬
‫مكية ‪ .‬وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران‬
‫ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر وابى عبد الله‬
‫عليه السلم ‪ :‬عن قوله الذين جعلوا القرآن عضين‬
‫قال هم قريش وفي المعاني باسناده عن عبد الله‬
‫بن على الحلبي قال سمعت ابا عبد الله عليه‬
‫السلم يقول ‪ :‬مكث رسول الله صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم بمكة بعد ما جاء الوحى ‪ -‬عن الله‬
‫تبارك وتعالى ثلث عشرة سنة مستخفيا منها ثلث‬
‫سنين خائفا ل يظهر ‪ -‬حتى امر الله عز وجل أن‬
‫يصدع بما امر فاظهر حينئذ الدعوة وفي الدر‬
‫المنثور اخرج ابن جرير عن ابى عبيدة ان عبد الله‬
‫بن مسعود قال " ‪ :‬ما زال النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم مستخفيا حتى نزل فاصدع بما تؤمر‬
‫فخرج هو واصحابه وفي تفسير العياشي عن‬
‫محمد بن على الحلبي عن ابى عبد الله عليه‬
‫السلم قال اكتتم رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم بمكة سنين ليس يظهر وعلى معه وخديجة‬
‫ثم امره الله ان يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يعرض نفسه‬
‫على قبائل العرب فإذا اتاهم قالوا كذاب امض عنا‬
‫وفي تفسير العياشي عن ابان بن عثمان الحمر‬
‫رفعه قال كان المستهزؤن خمسة ‪ /‬صفحة ‪/ 198‬‬
‫من قريش الوليد بن المغيرة المخزومى والعاص‬
‫بن وائل السهمى والحارث بن حنظلة ) ‪( 1‬‬
‫والسود بن عبد يغوث بن وهب الزهري والسود‬
‫بن المطلب بن اسد فلما قال الله إنا كفيناك‬
‫المستهزئين علم رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم انه قد اخزاهم فأماتهم الله بشر ميتات‬
‫اقول ورواه الصدوق في المعاني باسناده عن‬
‫ابان وروى فيه ايضا والطبرسي في الحتجاج عن‬
‫موسى بن جعفر عن آبائه عن على عليه السلم ما‬
‫في هذا المعنى وهو حديث طويل فيه تفصيل‬
‫هلك كل من هؤلء الخمسة لعنهم الله وروى كون‬
‫المستهزئين خمسة من قريش عن على وعن ابن‬
‫عباس مع سبب هلكهم والروايات مع ذلك مختلفة‬
‫من طرق اهل السنة من جهة عددهم واسمائهم‬
‫واسباب هلكهم والذى اتفق فيه حديث الفريقين‬
‫هو ما قدمناه ‪ .‬وفي الدر المنثور اخرج ابن‬
‫مردويه والديلمي عن ابى الدرداء سمعت رسول‬
‫الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ما اوحى إلى‬
‫أن أكون تاجراول اجمع المال متكاثرا ولكن اوحى‬
‫إلى أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد‬
‫ربك حتى يأتيك اليقين ‪ .‬اقول وروى ما في معناه‬
‫ايضا عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنه صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم وفيه اخرج البخاري وابن‬
‫جرير عن ام العلء " ‪ :‬ان رسول الله صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم دخل على عثمان ابن مظعون وقد‬
‫مات فقلت رحمة الله عليك ابا السائب فشهادتي‬
‫عليك لقد اكرمك الله فقال ‪ -‬وما يدريك ان الله‬
‫اكرمه ؟ اما هو فقد جاءه اليقين انى لرجو له‬
‫الخير‬
‫‪............................................................‬‬
‫ص‬ ‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪21‬‬
‫‪: 198‬‬
‫وفي الكافي باسناده عن حفص بن غياث قال قال‬
‫أبو عبد الله عليه السلم ‪ :‬ان من صبر صبر قليل‬
‫ومن جزع جزع قليل ‪ .‬ثم قال عليك بالصبر في‬
‫جميع امورك فان الله عز وجل بعث محمدا وامره‬
‫بالصبر والرفق فقال واصبر على ما يقولون‬
‫واهجرهم هجرا جميل وذرنى والمكذبين اولى‬
‫النعمة وقال تبارك وتعالى ‪ " :‬ادفع بالتى هي‬
‫احسن السيئة فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه‬
‫ولى حميم وما يلقاها ال الذين صبرواوما يلقاها‬
‫ال ذو حظ عظيم " ‪ ) * .‬هامش ( * ) ‪ ( 1‬طلطلة‬
‫ط ‪ / ( * ) .‬صفحة ‪ / 199‬فصبر رسول الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم حتى نالوه بالعظائم ورموه‬
‫بها وضاق صدره وقال الله ‪ " :‬ولقد نعلم انك‬
‫يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن‬
‫من الساجدين " ) بحث فلسفي في كيفية وجود‬
‫التكليف ودوامه ( قد تقدم في خلل ابحاث النبوة‬
‫وكيفية انتشاء الشرائع السماوية في هذا الكتاب‬
‫ان كل نوع من انواع الموجودات له غاية كمالية هو‬
‫متوجه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجودية‬
‫تناسب وجوده ل يسكن عنها دون ان ينالها ال ان‬
‫يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول‬
‫إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد والنمو قبل‬
‫ان تبلغ غايتها لفات تعرضها وتقدم ايضا ان‬
‫الحرمان من بلوغ الغايات انما هو في افراد خاصة‬
‫من النواع واما النوع بنوعيته فل يتصور فيه ذلك ‪.‬‬
‫وان النسان وهو نوع وجودي له غاية وجودية ل‬
‫ينالها ال بالجتماع المدنى كما يشهد به تجهيز‬
‫وجوده بما ل يستغنى به عن سائر امثاله كالذكورة‬
‫والنوثة والعواطف والحساسات وكثرة الحوائج‬
‫وتراكمها ‪ .‬وان تحقق هذا الجتماع وانعقاد‬
‫المجتمع النساني يحوج افراد المجتمع إلى احكام‬
‫وقوانين ينتظم باحترامها والعمل بها شتات‬
‫امورهم ويرتفع بها اختلفاتهم الضرورية ويقف‬
‫بها كل منهم في موقفه الذى ينبغى له ويحوز بها‬
‫سعادته وكماله الوجودى وهذه الحكام والقوانين‬
‫العملية في الحقيقة منبعثة عن الحوائج التى‬
‫تهتف بها خصوصية وجود النسان وخلقته الخاصة‬
‫بما لها من التجهيزات البدنية والروحية كما ان‬
‫خصوصية وجوده وخلقته مرتبطة بخصوصيات‬
‫العلل والسباب التى تكون وجود النسان من‬
‫الكون العام ‪ .‬وهذا معنى كون الدين فطريا أي انه‬
‫مجموع احكام وقوانين يرشد إليها وجود النسان‬
‫بحسب التكوين وان شئت فقل سنن يستدعيها‬
‫الكون العام فلو اقيمت اصلحت المجتمع وبلغت‬
‫بالفراد غايتها في الوجود وكمالها المطلوب ولو‬
‫تركت وابطلت افسدت العالم النساني وزاحمت‬
‫الكون العام في نظامه ‪ .‬وان هذه الحكام‬
‫والقوانين سواء كانت معاملية اجتماعية تصلح بها‬
‫حال المجتمع ‪ /‬صفحة ‪ / 200‬ويجمع بها شمله أو‬
‫عبادية تبلغ بالنسان غاية كماله من المعرفة‬
‫والصلح في مجتمع صالح فانها جميعا يجب ان‬
‫يتلقاها النسان من طريق نبوة الهية ووحى‬
‫سماوي ل غير ‪ .‬وبهذه الصول الماضية يتبين ان‬
‫التكليف اللهى يلزم النسان ما عاش في هذه‬
‫النشأة الدنيوية سواء كان في نفسه ناقصا لم‬
‫يكمل وجودا بعد أو كامل علما وعمل اما لو كان‬
‫ناقصا فظاهر واما لو كان كامل فلن معنى كماله‬
‫أن يحصل له في جانبى العلم والعمل ملكات‬
‫فاضلة يصدر عنها من العمال المعاملية ما يلئم‬
‫المجتمع ويصلحه ويتمكن من كمال المعرفة‬
‫وصدور العمال العبادية الملئمة للمعرفة كما‬
‫تقتضيه العناية اللهية الهادية للنسان إلى سعادته‬
‫‪ .‬ومن المعلوم ان تجويز ارتفاع التكليف عن‬
‫النسان الكامل ملزم لتجويز تخلفه عن الحكام‬
‫والقوانين وهو فيما يرجع إلى المعاملت يوجب‬
‫فساد المجتمع والعناية اللهية تأباه وفيما يرجع‬
‫إلى العبادات يوجب تخلف الملكات عن آثارها فان‬
‫الفعال مقدمات معدة لحصول الملكات ما لم‬
‫تحصل وإذا حصلت عادت تلك الفعال آثارا لها‬
‫تصدر عنها صدورا ل تخلف فيه ‪ .‬ومن هنا يظهر‬
‫فساد ما ربما يتوهم ان الغرض من التكليف تكميل‬
‫النسان وايصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن‬
‫لبقاء التكليف معنى ‪ .‬وجه الفساد إن تخلف‬
‫النسان عن التكليف اللهى وان كان كامل في‬
‫المعاملت يفسد المجتمع وفيه ابطال العناية‬
‫اللهية بالنوع وفي العبادات يستلزم تخلف‬
‫الملكات عن آثارها وهو غير جائز ولو جاز لكان‬
‫فيه ابطال الملكة وفيه ايضا ابطال العناية نعم‬
‫بين النسان الكامل وغيره فرق في صدور‬
‫الفعال وهو ان الكامل مصون عن المخالفة‬
‫لمكان الملكة الراسخة بخلف غير الكامل والله‬
‫المستعان ‪ /‬صفحة ‪ ) / 201‬سورة النحل مكية‬
‫وهى مائة وثمان وعشرون آية ( بسم الله الرحمن‬
‫الرحيم أتى امر الله فل تستعجلوه سبحانه وتعالى‬
‫عما يشركون ‪ 1 -‬ينزل الملئكة بالروح من امره‬
‫على من يشاء من عباده ان انذروا انه ل اله ال انا‬
‫فاتقون ‪ 2 -‬خلق السموات والرض بالحق تعالى‬
‫عما يشركون ‪ 3 -‬خلق النسان من نطفة فإذا هو‬
‫خصيم مبين ‪ . 4 -‬والنعام خلقها لكم فيها دف ء‬
‫ومنافع ومنها تأكلون ‪ 5 -‬ولكم فيها جمال حين‬
‫تريحون وحين تسرحون ‪ 6 -‬وتحمل اثقالكم إلى‬
‫بلد لم تكونوا بالغيه إل بشق النفس ان ربكم‬
‫لرؤف رحيم ‪7 -‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 201‬‬
‫والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما‬
‫ل تعلمون ‪ 8 -‬وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر‬
‫ولو شاء لهداكم اجمعين ‪ 9 -‬هو الذى انزل من‬
‫السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه‬
‫تسيمون ‪ 10 -‬ينبت لكم به الزرع والزيتون‬
‫والنخيل والعناب ومن كل الثمرات ان في ذلك‬
‫لية لقوم يتفكرون ‪ 11 -‬وسخر لكم الليل والنهار‬
‫والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ان في‬
‫ذلك ليات لقوم يعقلون ‪ 12 -‬وما ذرأ لكم في‬
‫الرض مختلفا ‪ /‬صفحة ‪ / 202‬الوانه ان في ذلك‬
‫لية لقوم يذكرون ‪ 13 -‬وهو الذى سخر البحر‬
‫لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية‬
‫تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من‬
‫فضله ولعلكم تشكرون ‪ 14 -‬والقى في الرض‬
‫رواسي ان تميد بكم وانهارا وسبل لعلكم تهتدون ‪-‬‬
‫‪ 15‬وعلمات وبالنجم هم يهتدون ‪ 16 -‬أفمن يخلق‬
‫كمن ل يخلق أفل تذكرون ‪ 17 -‬وإن تعدوا نعمة‬
‫الله ل تحصوها ان الله لغفور رحيم ‪ 18 -‬والله‬
‫يعلم ما تسرون وما تعلنون ‪ 19 -‬والذين يدعون‬
‫من دون الله ل يخلقون شيئا وهم يخلقون ‪20 -‬‬
‫اموات غير احياء وما يشعرون ايان يبعثون ‪21 -‬‬
‫) بيان ( الغالب على الظن إذا تدبرنا السورة ان‬
‫صدر السورة مما نزلت في اواخر عهد النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم بمكة قبيل الهجرة وهى‬
‫اربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر منها انواع‬
‫نعمه السماوية والرضية مما تقوم به حياة‬
‫النسان وينتفع به في معاشه نظاما متقنا وتدبيرا‬
‫متصل يدل على وحدانيته تعالى في ربوبيته ‪.‬‬
‫ويحتج في شطر آخر على بطلن مزاعم‬
‫المشركين وخيبة مساعيهم وانه سيجازيهم كما‬
‫جازى امثالهم من المم الماضية وسيفصل القضاء‬
‫بينهم يوم القيامة ‪ .‬وقد افتتح سبحانه هذه اليات‬
‫بقوله اتى امر الله فل تستعجلوه سبحانه وتعالى‬
‫عما يشركون مفرعا آيات الحتجاج على ما فيه‬
‫من التنزيه والتسبيح ومن ذلك يعلم ان عمدة‬
‫الغرض في صدر السورة النباء باشراف المر‬
‫اللهى ودنوه منهم وقرب ‪ /‬صفحة ‪ / 203‬نزوله‬
‫عليهم وفيه ابعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم استهزاء به لما‬
‫كانوا يسمعون كلم الله سبحانه يذكر كثيرا نزول‬
‫امره تعالى وينذرهم به وفيه مثل قوله للمؤمنين‬
‫فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره وليس ال‬
‫امره تعالى بظهور الحق على الباطل والتوحيد‬
‫على الشرك واليمان على الكفر هذا ما يعطيه‬
‫التدبر في صدر السورة ‪ .‬واما ذيلها وهى ثمان‬
‫وثمانون آية من قوله والذين هاجروا في الله من‬
‫بعد ما ظلموا إلى آخر السورة على ما بينها من‬
‫التصال والرتباط فسياق اليات فيه يشبه ان‬
‫تكون مما نزلت في اوائل عهد النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم بالمدينة بعيد الهجرة فصدر‬
‫السورة وذيلها متقاربا النزول وذلك لما فيها من‬
‫آيات ل تنطبق مضامينها ال على بعض الحوادث‬
‫الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى ‪ " :‬والذين‬
‫هاجروا في الله " الية وقوله ولقد نعلم انهم‬
‫يقولون انما يعلمه بشر الية النازلة على قول في‬
‫سلمان الفارسى وقد آمن بالمدينة وقوله من كفر‬
‫بالله من بعد ايمانه ال من اكره الية النازلة في‬
‫عمار كما سيأتي وكذا اليات النازلة في اليهود‬
‫واليات النازلة في الحكام كل ذلك يفيد الظن‬
‫بكون اليات مدنية ‪ .‬ومع ذلك فاختلف النزول لئح‬
‫من بعضها كقوله ‪ " :‬والذين هاجروا الخ " الية ‪:‬‬
‫‪ 41‬وقوله ‪ " :‬وإذا بدلنا آية مكان آية " الية ‪101‬‬
‫إلى تمام آيتين أو خمس آيات وقوله ‪ " :‬من كفر‬
‫بالله من بعد ايمانه " الية ‪ 106 :‬وعدة آيات تتلوها‬
‫‪ .‬والنصاف بعد ذلك كله ان قوله تعالى ‪ " :‬والذين‬
‫هاجروا " الية ‪ 41 :‬إلى تمام آيتين وقوله ‪ " :‬من‬
‫كفر بالله من بعد ايمانه " الية ‪ 106 :‬وبضع آيات‬
‫بعدها وقوله ‪ " :‬وان عاقبتم فعاقبوا " الية ‪126 :‬‬
‫وآيتان بعدها مدنية لشهادة سياقها بذلك والباقى‬
‫اشبه بالمكية منها بالمدنية وهذا وان لم يوافق‬
‫شيئا من المأثور لكن السياق يشهد به وهو اولى‬
‫بالتباع وقد مر في تفسير آية ‪ 118‬من سورة‬
‫النعام احتمال ان تكون نازلة بعد سورة النحل‬
‫وهى مكية والغرض الذى هو كالجامع ليات ذيل‬
‫السورة ان فيها امرا بالصبر ووعدا حسنا على‬
‫الصبر في ذات الله ‪ .‬وغرض السورة الخبار‬
‫باشراف امر الله وهو ظهور الدين الحق عليهم‬
‫ويوضح ‪ /‬صفحة ‪ / 204‬تعالى ذلك ببيان ان الله هو‬
‫الله المعبود ل غير لقيام تدبير العالم به كما إن‬
‫الخلقة قائمة به ولنتهاء جميع النعم إليه وانتفاء‬
‫ذلك عن غيره فالواجب ان يعبد الله ول يعبد غيره‬
‫وبيان ان الدين الحق لله فيجب ان يؤخذ به ول‬
‫يشرع دونه دين ورد ما ابداه المشركون من‬
‫الشبهة على النبوة والتشريع وبيان امور من‬
‫الدين اللهى هذا هو الذى يرومه معظم آيات‬
‫السورة وتنعطف إلى بيانه مرة بعد مرة وفي‬
‫ضمنها آيات تتعرض لمر الهجرة وما يناسب ذلك‬
‫مما يحوم حولها ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬اتى امر الله فل‬
‫تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون " ظاهر‬
‫السياق ان الخطاب للمشركين لن اليات التالية‬
‫مسوقة احتجاجا عليهم إلى قوله في‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 204‬‬
‫الية الثانية والعشرين ‪ " :‬الهكم اله واحد " ووجه‬
‫الكلم فيها إلى المشركين وهى جميعا كالمتفرعة‬
‫على قوله في ذيل هذه الية سبحانه وتعالى عما‬
‫يشركون ومقتضاه ان يكون المر الذى اخبر باتيانه‬
‫امرا يطهر ساحة الربوبية من شركهم بحسم مادته‬
‫ولم تقع في كلمه حكاية استعجال من المؤمنين‬
‫في امر بل المذكور استعجال المشركين بما كان‬
‫يذكر في كلمه تعالى من امر الساعة وامر الفتح‬
‫وامر نزول العذاب كما يشير إليه قوله ‪ " :‬قل‬
‫أرايتم ان اتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل‬
‫منه المجرمون إلى قوله ويستنبئونك أحق هو قل‬
‫أي وربى انه لحق وما انتم بمعجزين " يونس ‪53 :‬‬
‫إلى غير ذلك من اليات ‪ .‬وعلى هذا فالمراد بالمر‬
‫ما وعد الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫والذين آمنوا واوعد المشركين مرة بعد مرة في‬
‫كلمه انه سينصر المؤمنين ويخزى الكافرين‬
‫ويعذبهم ويظهر دينه بأمر من عنده كما قال ‪" :‬‬
‫فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " البقرة ‪:‬‬
‫‪ 109‬واليه يعود ايضا ضمير فل تستعجلوه على ما‬
‫يفيده السياق أو يكون المراد باتيان المر اشرافه‬
‫على التحقق وقربه من الظهور وهذا شائع في‬
‫الكلم يقال لمن ينتظر ورود المير هذا المير جاء‬
‫وقد دنا مجيئه ولم يجئ بعد ‪ .‬وعلى هذا أيضا يكون‬
‫قوله سبحانه وتعالى عما يشركون من قبيل‬
‫اللتفات من الخطاب إلى الغيبه اشارة إلى انهم‬
‫ينبغى أن يعرض عن مخاطبتهم ومشافهتهم‬
‫لنحطاط افهامهم لشركهم ولم يستعجلوا نزول‬
‫المر ال لشركهم استهزاء وسخرية ‪ / .‬صفحة ‪205‬‬
‫‪ /‬وبما مر يندفع ما ذكره بعضهم ان الخطاب في‬
‫الية للمؤمنين أو للمؤمنين والمشركين جميعا‬
‫فان السياق ل يلئمه ‪ .‬على انه تعالى يخص في‬
‫كلمه الستعجال بغير المؤمنين وينفيه عنهم‬
‫قال ‪ " :‬يستعجل بها الذين ل يؤمنون بها والذين‬
‫آمنوا مشفقون منها ويعلمون انها الحق " الشورى‬
‫‪ . 18 :‬وكذا ما ذكروه ان المراد بالمر هو يوم‬
‫القيامة وذلك ان المشركين وان كانوا يستعجلونه‬
‫ايضا كما يدل عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى‬
‫‪ " :‬متى هذا الوعد ان كنتم صادقين " يس ‪48 :‬‬
‫لكن سياق اليات ل يساعد عليه كما عرفت ‪ .‬ومن‬
‫العجيب ما استدل به جمع منهم على ان المراد‬
‫بالمر يوم القيامة انه تعالى لما قال في آخر‬
‫سورة الحجر فو ربك لنسألنهم اجمعين وكان فيه‬
‫تنبيه على حشر هؤلء وسؤالهم قال في مفتتح‬
‫هذه السورة ‪ " :‬اتى امر الله " فاخبر بقرب يوم‬
‫القيامة وكذا قوله في آخر الحجر واعبد ربك حتى‬
‫يأتيك اليقين وهو مفسر بالموت شديد المناسبة‬
‫بأن يكون المراد بالمر في هذه السورة يوم‬
‫القيامة ومما يؤكد المناسبة قوله هناك ياتيك‬
‫وههنا اتى وامثال هذه القاويل الملفقة مما ل‬
‫ينبغى ان يلتفت إليه ‪ .‬ونظيره قول بعضهم ان‬
‫المراد بالمر واحدة الوامر ومعناه الحكم كأنه‬
‫يشير به إلى ما في السورة من احكام العهد‬
‫واليمين ومحرمات الكل وغيرها والخطاب على‬
‫هذا للمؤمنين خاصة وهو كما ترى ‪ .‬قوله تعالى‬
‫ينزل الملئكة بالروح من امره على من يشاء من‬
‫عباده إلى آخر الية الناس على اختلفهم الشديد‬
‫قديما وحديثا في حقيقة الروح ل يختلفون في‬
‫انهم يفهمون منه معنى واحدا وهو ما به الحياة‬
‫التى هي ملك الشعور والرادة فهذا المعنى هو‬
‫المراد في الية الكريمة ‪ .‬واما حقيقته اجمال‬
‫فالذي يفيده مثل قوله تعالى ‪ " :‬يوم يقوم الروح‬
‫والملئكة صفا " النبأ ‪ 38 :‬وقوله ‪ " :‬تعرج الملئكة‬
‫والروح إليه " المعارج ‪ 4 :‬وغيرهما انه موجود‬
‫مستقل ذو حياة وعلم وقدرة وليس من قبيل‬
‫الصفات والحوال القائمة بالشياء ‪ /‬صفحة ‪/ 206‬‬
‫كما ربما يتوهم وقد افاد بقوله قل الروح من امر‬
‫ربى انه من سنخ امره وعرف ايضا امره بمثل‬
‫قوله ‪ " :‬انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن‬
‫فيكون فسبحان الذى بيده ملكوت كل شئ " يس ‪:‬‬
‫‪ 83‬فدل على انه كلمة اليجاد التى يوجد سبحانه‬
‫بها الشياء أي الوجود الذى يفيضه عليها لكن ل‬
‫من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى بل‬
‫مادة ول زمان ول مكان كما يفيده قوله ‪ " :‬وما‬
‫امرنا إل واحدة كلمح بالبصر " القمر ‪ 50 :‬فان هذا‬
‫التعبير انما يورد فيما ل تدريج فيه أي ل مادة ول‬
‫حركة له وليكن هذا الجمال عندك حتى يرد عليك‬
‫تفصيله فيما سيأتي ان شاء الله في تفسير سورة‬
‫السراء ‪ .‬فتحصل ان الروح كلمة الحياة التى‬
‫يلقيها الله سبحانه إلى الشياء فيحييها بمشيئته‬
‫ولذلك سماه وحيا وعد القاءه وانزاله على نبيه‬
‫ايحاء في قوله ‪ " :‬وكذلك اوحينا اليك روحا من‬
‫امرنا " الشورى ‪ 52 :‬فان الوحى هو الكلم الخفى‬
‫والتفهيم بطريق الشارة واليماء فيكون القاء‬
‫كلمته تعالى كلمة الحياة إلى قلب النبي عليه‬
‫السلم وحيا للروح إليه فافهم ذلك ‪ .‬فقوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ينزل الملئكة بالروح من امره " الباء‬
‫للمصاحبة أو للسببية ول كثير تفاوت بينهما في‬
‫المآل كما هو ظاهر عند المتأمل فان تنزيل‬
‫الملئكة بمصاحبة الروح انما هو للقائه في روح‬
‫النبي عليه السلم ليفيض عليه المعارف اللهية‬
‫وكذا تنزيلهم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 206‬‬
‫بسبب الروح لن كلمته تعالى اعني كلمة الحياة‬
‫تحكم في الملئكة وتحييهم كما تحكم في النسان‬
‫وتحييه وضمير ينزل له تعالى والجملة استئناف‬
‫تفيد تعليل قوله في الية السابقة سبحانه وتعالى‬
‫عما يشركون ‪ .‬والمعنى ان الله منزه ومتعال عن‬
‫شركهم أو عن الشريك الذى يدعونه له ولتنزهه‬
‫وتعاليه عن الشريك ينزل سبحانه الملئكة‬
‫بمصاحبة الروح الذى هو من سنخ امره وكلمته في‬
‫اليجاد أو بسببه على من يشاء من عباده ان‬
‫انذروا انه ل اله ال انا فاتقون ‪ .‬وذكر بعضهم ان‬
‫المراد بالروح الوحى أو القرآن وسمى روحا لن‬
‫به حياة القلوب كما ان الروح الحقيقي به حياة‬
‫البدان قال وقوله من امره أي ‪ /‬صفحة ‪/ 207‬‬
‫بأمره ونظيره قوله يحفظونه من امر الله أي بامر‬
‫الله لن احدا ل يحفظه عن امره انتهى ‪ .‬اما قوله‬
‫ان من في قوله من امره بمعنى الباء استنادا إلى‬
‫قوله يحفظونه من امر الله أي بامر الله الخ فقد‬
‫مر في تفسير سورة الرعد ان من على ظاهر‬
‫معناه وان بعض امره تعالى يحفظ الشياء من‬
‫بعض امره فل وجه لخذ من امره بمعنى بامره بل‬
‫قوله بالروح من امره معناه بالروح الكائن من‬
‫امره على ان الظرف مستقر ل لغو كما في قوله‬
‫قل الروح من امر ربى ومعناه ما تقدم ‪ .‬واما قوله‬
‫ان الروح بمعنى الوحى أو القرآن وكذا قول‬
‫بعضهم انه بمعنى النبوة فل يخلو عن وجه بحسب‬
‫النتيجة بمعنى ان نتيجة نزول الملئكة بالروح من‬
‫امره هو الوحى أو النبوة واما في نفسه وهو ان‬
‫يسمى الوحى أو النبوة روحا باشتراك لفظي أو‬
‫مجازا من حيث انه يحيى القلوب ويعمرها كما ان‬
‫الروح به حياة البدان وعمارتها فهو فاسد لما‬
‫بيناه مرارا ان الطريق إلى تشخيص مصاديق‬
‫الكلمات في كلمه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما‬
‫يصلح من كلمه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف‬
‫وما يراه في مصاديق اللفاظ ‪ .‬والمتحصل من‬
‫كلمه سبحانه ان الروح خلق من خلق الله وهو‬
‫حقيقة واحدة ذات مراتب ودرجات مختلفة منها ما‬
‫في الحيوان وغير المؤمنين من النسان ومنها ما‬
‫في المؤمنين من النسان قال تعالى ‪ " :‬وايدهم‬
‫بروح منه " المجادلة ‪ 22 :‬ومنها ما يتأيد به النبياء‬
‫والرسل كما قال ‪ " :‬وايدناه بروح القدس " البقرة‬
‫‪ 87 :‬وقال ‪ " :‬وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا "‬
‫الشورى ‪ 52 :‬على ما سيأتي تفصيله ان شاء‬
‫الله ‪ .‬هذا ما تفيده اليات الكريمة واما ان اطلق‬
‫اللفظ على هذا المعنى هل هي حقيقة أو مجاز‬
‫وما امعنوا في البحث انه من الستعارة المصرحة‬
‫أو استعارة بالكناية أو ان قوله بالروح من امره‬
‫من قبيل التشبيه لذكر المشبه صريحا بناء على‬
‫كون من في قوله من امره بيانية كما صرحوا في‬
‫قوله ‪ " :‬حتى يتبين لكم الخيط البيض من الخيط‬
‫السود من الفجر " البقرة ‪ 187 :‬انه من التشبيه‬
‫للتصريح بالمشبه ‪ /‬صفحة ‪ / 208‬في متن الكلم‬
‫فكل ذلك من البحاث الدبية الفنية التى ليس لها‬
‫كثير تأثير في الحصول على الحقائق ‪ .‬وذكر‬
‫بعضهم ان من امره بيان للروح ومن للتبيين‬
‫والمراد بالروح الوحى كما تقدم ‪ .‬وفيه انه مدفوع‬
‫بقوله تعالى قل الروح من امر ربى فان من‬
‫الواضح ان اليتين تسلكان مسلكا واحدا وظاهر آية‬
‫السراء ان من فيها للبتداء أو للنشوء والمراد‬
‫بيان ان الروح من سنخ المر وشأن من شؤنه‬
‫ويقرب منها قوله تعالى ‪ " :‬تنزل الملئكة والروح‬
‫فيها باذن ربهم من كل امر " القدر ‪ . 4 :‬وذكر‬
‫بعضهم ان المراد بالروح هو جبريل وايده بقوله ‪:‬‬
‫" نزل به الروح المين على قلبك " الشعراء ‪194 :‬‬
‫فان من المسلم ان المراد به في اليه هو جبريل‬
‫والباء للمصاحبة والمراد بالملئكة ملئكة الوحى‬
‫وهم اعوان جبريل والمراد بالمر واحد الوامر‬
‫والمعنى ينزل تعالى ملئكة الوحى بمصاحبة‬
‫جبريل بامره وارادته ‪ .‬وفيه ان هذه الية نظيرة‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬يلقى الروح من امره على من‬
‫يشاء من عباده لينذر يوم التلق " المؤمن ‪15 :‬‬
‫وظاهره ل يلئم كون المراد بالروح هو جبريل ‪.‬‬
‫واردأ الوجوه ما ذكره بعضهم ان المراد بالروح‬
‫ارواح الناس ل ينزل ملك ال ومعه واحد من‬
‫الرواح وهو منقول عن مجاهد وفساده ظاهر ‪.‬‬
‫وقوله على من يشاء من عباده أي ان بعث الرسل‬
‫وتنزيل الملئكة بالروح من امره عليهم متوقف‬
‫على مجرد المشية اللهية من غير ان يقهره‬
‫تعالى في ذلك قاهر غيره فيجبره على الفعل أو‬
‫يمنعه من الفعل كما في سائر افعاله تعالى فانه‬
‫تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ‪ .‬فل ينافى‬
‫ذلك كون فعله ملزما لحكم ومصالح ومختلفا‬
‫باختلف الستعدادات ل يقع ال عن استعداد في‬
‫المحل وصلحية للقبول فان استعداد المستعد‬
‫ليس ال كسؤال السائل فكما ان سؤال السائل‬
‫انما يقربه من جود المسؤل وعطائه من غير ان‬
‫يجبره على العطاء ويقهره كذلك الستعداد في‬
‫تقريبه المستعد لفاضته تعالى وحرمان غير‬
‫المستعد من ذلك فهو تعالى يفعل ما يشاء من‬
‫غير ان يوجبه عليه شئ أو يمنعه عنه شئ ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 209‬لكنه ل يفعل شيئا ول يفيض رحمة ال عن‬
‫استعداد فيما يفيض عليه وصلحية منه‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 209‬‬
‫وقد افاد ذلك في خصوص الرسالة حيث قال ‪" :‬‬
‫وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما‬
‫اوتى رسل الله الله اعلم حيث يجعل رسالته‬
‫سيصيب الذين اجرموا صغار عند الله وعذاب شديد‬
‫بما كانوا يمكرون " النعام ‪ 124 :‬فان الية ظاهرة‬
‫في ان الموارد مختلفة في قبول كرامة الرسالة‬
‫وان الله سبحانه اعلم بالمورد الذى يصلح لها‬
‫ويستأهل لتلك الكرامة وهو غير هؤلء المجرمين‬
‫الماكرين واما هم فليس لهم عند الله ال الصغار‬
‫والعذاب لجرامهم ومكرهم هذا ‪ .‬ومن هنا يظهر‬
‫فساد استدلل بعضهم بالية على نفى المرجح‬
‫في مورد الرسالة ومحصل ما ذكره ان الية تعلق‬
‫الرسالة على مجرد المشية اللهية من غير ان‬
‫تقيدها بشئ فالرسول انما ينال الرسالة بمشية‬
‫من الله ل لختصاصه بصفات تؤهله لذلك ويرجحه‬
‫على غيره ووجه الفساد ظاهر مما تقدم ‪ .‬ونظيره‬
‫في الفساد الستدلل بالية على كون الرسالة‬
‫عطائية غير كسبية وذلك انه تعالى غير محكوم‬
‫عليه في ما ينسب إليه من الفعل ل يفعل ال ما‬
‫يشاء والمور العطائية والكسبية في ذلك سواء ول‬
‫شئ يقع في الوجود ال باذنه ‪ .‬وقوله ان انذروا انه‬
‫ل اله ال انا فاتقون بيان لقوله ينزل الملئكة‬
‫بالروح لكونه في معنى الوحى أو بيان للروح بناء‬
‫على كونه بمعنى الوحى والنذار هو اخبار فيه‬
‫تخويف كما ان التبشير هو اخبار فيه سرور على‬
‫ما ذكره الراغب أو اعلم بالمحذور كما ذكره غيره‬
‫والتقدير على الول اخبروهم مخوفين بوحدانيتى‬
‫في اللوهية ووجوب تقواى وعلى الثاني اعلموهم‬
‫ذلك على ان يكون انه مفعول ثانيا ل منصوبا بنزع‬
‫الخافض ‪ .‬وقد علم بذلك ان قوله فاتقون متفرع‬
‫على قوله ل اله ال انا والجملتان جميعا مفعول‬
‫ثان أو في موضعه لقوله انذروا ويوضح ذلك ان ل‬
‫اله وهو الذى يبتدئ منه وينتهى إليه كل شئ أو‬
‫المعبود بالحق من لوازم صفة الوهيته ان يتقيه‬
‫النسان لتوقف كل خير وسعادة إليه فلو فرض انه‬
‫واحد ل شريك له في ‪ /‬صفحة ‪ / 210‬الوهيته كان‬
‫لزمه ان يتقى وحده لن التقوى وهو اصلح مقام‬
‫العمل فرع لما في مقام العتقاد والنظر فعبادة‬
‫اللهة الكثيرين والخضوع لهم ل يجامع العتقاد‬
‫باله واحد ل شريك له الذى هو القيوم على كل‬
‫شئ وبيده زمام كل امر ولذا لم يؤمر نبى ان يدعو‬
‫إلى توحيد من غير عمل أو إلى عمل من غير‬
‫توحيد قال تعالى ‪ " :‬وما ارسلنا من قبلك من‬
‫رسول ال نوحي إليه انه ل اله ال انا فاعبدون "‬
‫النبياء ‪ . 25 :‬فالذي امر الرسل بالنذار به في‬
‫الية هو مجموع قوله انه ل اله ال انا فاتقون وهو‬
‫تمام الدين لندراج العتقادات الحقة في التوحيد‬
‫والحكام العملية جميعا في التقوى ول يعبؤ بما‬
‫ذكره بعضهم ان قوله فاتقون للمستعجلين من‬
‫الكفار المذكورين في الية الولى أو لخصوص‬
‫كفار قريش من غير أن يكون داخل فيما امر به‬
‫الرسل من النذار ‪ .‬قوله تعالى خلق السماوات‬
‫والرض بالحق تعالى عما يشركون تقدم معنى‬
‫خلق السماوات والرض بالحق ولزم خلقها بالحق‬
‫ان ل يكون للباطل فيها اثر ولذلك عقبه بتنزيهه‬
‫عن الشركاء الذين يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله‬
‫ويهدوهم إلى الخير ويقوهم الشر فانهم من‬
‫الباطل الذى ل اثر له ‪ .‬وفي الية واليات التالية‬
‫لها احتجاج على وحدانيته تعالى في اللوهية‬
‫والربوبية من جهتى الخلق والتدبير جميعا فان‬
‫الخلق واليجاد آية اللوهية وكون الخلق بعضها‬
‫نعمة بالنسبة إلى بعض آية الربوبية لن الشئ ل‬
‫يكون نعمه بالنسبة إلى آخر ال عن ارتباط بينهما‬
‫واتصال من احدهما بالخر يؤدى إلى نظام جامع‬
‫بينهما وتدبير واحد يجمعهما ووحدة التدبير آية‬
‫وحدة المدبر فكون ما في السماوات والرض من‬
‫مخلوق نعما للنسان يدل على ان الله سبحانه‬
‫وحده ربه ورب كل شئ ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬خلق‬
‫النسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين " المراد به‬
‫الخلق الجارى في النوع النساني وهو جعل نسله‬
‫من النطفة فل يشمل آدم وعيسى عليهم السلم‬
‫والخصيم صفة مشبهة من الخصومة وهى الجدال‬
‫والية وان امكن ان تحمل على المتنان حيث ان‬
‫من عظيم المن ان يبدل الله سبحانه بقدرته‬
‫التامة قطرة من ماء مهين انسانا كامل الخلقة‬
‫منطيقا متكلما ينبئ عن كل ما جل ودق ببيانه‬
‫البليغ لكن كثرة ‪ /‬صفحة ‪ / 211‬اليات التى توبخ‬
‫النسان وتقرعه على وقاحته في خصامه في ربه‬
‫كقوله تعالى ‪ " :‬أو لم ير النسان انا خلقناه من‬
‫نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثل ونسى‬
‫خلقه قال من يحى العظام وهى رميم " يس ‪78 :‬‬
‫ترجح ان يكون المراد بذيل الية بيان وقاحة‬
‫النسان ‪ .‬ويؤيد ذلك ايضا بعض التأييد ما في ذيل‬
‫الية السابقة من تنزيهه تعالى من شركهم ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬والنعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع‬
‫ومنها تأكلون " النعام جمع نعم وهى البل والبقر‬
‫والغنم سميت بذلك لنعمة مسها بخلف الحافر‬
‫الذى يصلب كذا في المجمع وفي المفردات الدف‬
‫ء خلف البرد انتهى وكأن المراد بالدف ء ما يحصل‬
‫من جلودها واصوافها واوبارها من الحرارة للتقاء‬
‫من البرد أو المراد بالدف ء ما يدفؤ به ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 211‬‬
‫والمراد بالمنافع سائر ما يستفاد منها لغير الدف ء‬
‫من اصوافها واوبارها وجلودها والبانها وشحومها‬
‫وغير ذلك وقوله لكم يمكن ان يكون متعلقا بقوله‬
‫خلقها ويكون قوله فيها دف ء ومنافع حال من‬
‫ضمير خلقها ويمكن ان يكون لكم ظرفا مستقرا‬
‫متعلقا بالجملة الثانية أي في النعام دف ء كائنا‬
‫لكم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولكم فيها جمال حين‬
‫تريحون وحين تسرحون " الجمال الزينة وحسن‬
‫المنظر قال في المجمع الراحة رد الماشية‬
‫بالعشى من مراعيها إلى منازلها والمكان الذى‬
‫تراح فيه مراح والسروح خروج الماشية إلى‬
‫المرعى بالغداة يقال سرحت الماشية سرحا‬
‫وسروحا وسرحها اهلها انتهى ‪ .‬يقول تعالى ‪" :‬‬
‫ولكم في النعام منظر حسن حين تردونها‬
‫بالعشى إلى منازلها وحين تخرجونها بالغداة إلى‬
‫مراعيها ‪ .‬قوله تعالى وتحمل اثقالكم إلى بلد لم‬
‫تكونوا بالغيه إل بشق النفس ان ربكم لرؤف‬
‫رحيم " الثقال جمع ثقل وهو المتاع الذى يثقل‬
‫حمله والمراد بقوله بشق النفس مشقة تتحملها‬
‫النفس في قطع المسافات البعيدة والمسالك‬
‫الصعبة ‪ .‬والمراد ان النعام كالبل وبعض البقر‬
‫تحمل امتعتكم الثقيلة إلى بلد ليس يتيسر ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 212‬لكم بلوغها ال بمشقة تتحملها انفسكم‬
‫فرفع عنكم المشاق بخلقها وتسخيرها لكم ان‬
‫ربكم رؤف رحيم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬والخيل والبغال‬
‫والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما ل تعلمون "‬
‫معطوف على النعام فيما مر أي والخيل والبغال‬
‫والحمير خلقها لكم لتركبوها وزينة أي ان في‬
‫خلقها ارتباطا بمنافعكم وذلك انكم تركبونها‬
‫وتتخذونها زينة وجمال وقوله ويخلق ما ل تعلمون‬
‫أي يخلق ما ل علم لكم به من الحيوان وغيره‬
‫وسخرها لكم لتنتفعوا بها والدليل على ما قدرناه‬
‫هو السياق ‪ .‬قوله تعالى وعلى الله قصد السبيل‬
‫ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين القصد على‬
‫ما ذكره الراغب وغيره استقامة الطريق وهو كونه‬
‫قيما على سالكيه يوصلهم إلى الغاية والظاهر ان‬
‫المصدر بمعنى الفاعل والضافة من اضافة الصفة‬
‫إلى موصوفها والمراد السبيل القاصد بدليل‬
‫مقابلته بقوله ومنها جائر أي ومن السبيل ما هو‬
‫جائر أي مائل عن الغاية يورد سالكيه غيرها‬
‫ويضلهم عنها والمراد بكون قصد السبيل على الله‬
‫وجوب جعل سبيل قاصد عليه تعالى يسلكه عباده‬
‫فيوردهم مورد السعادة والفلح واذ ل حاكم غيره‬
‫يحكم عليه فهو الذى اوجب على نفسه ان يجعل‬
‫لهم طريقا هذا نعته ثم يهديهم إليه اما الجعل‬
‫فهو ما جهز الله كل موجود ومنها النسان من‬
‫القوى والدوات بما لو استعملها كما نظمت ادته‬
‫إلى سعادته وكماله المطلوب قال تعالى ‪ " :‬الذى‬
‫اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه ‪ 50 :‬وقال‬
‫في النسان خاصة ‪ " :‬فأقم وجهك للدين حنيفا‬
‫فطرة الله التى فطر الناس عليها ل تبديل لخلق‬
‫الله " الروم ‪ . 30 :‬واما الهداية فهى التى فعلها‬
‫من ناحية الفطرة وتناها بما من طريق بعث‬
‫الرسل وانزال الكتب وتشريع الشرائع قال‬
‫تعالى ‪ " :‬ونفس وما سواها فألهمها فجورها‬
‫وتقواها " الشمس ‪ 8 :‬وقال ‪ " :‬انا هديناه السبيل‬
‫اما شاكرا واما كفورا " الدهر ‪ . 3 :‬وانما ادرج‬
‫سبحانه هذه الية بين هذه اليات التى سياقها عد‬
‫النعم العلوية والسفلية من السماء والرض‬
‫والنعام والخيل والبغال والحمير والماء النازل من‬
‫السماء والزرع ونظائرها لما ان الكلم انجر في‬
‫آيتى النعام والخيل إلى معنى قطع الطرق ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 213‬وركوب المراكب فناسب ان يذكر ما‬
‫انعم به من الطريق المعنوي الموصل للنسان إلى‬
‫غايته الحقيقية يبتغيها في مسير الحياة كما انعم‬
‫بمثله في عالم المادة ونشأة الصورة ‪ .‬فذكر‬
‫سبحانه ان من نعمه التى من بها على عباده أن‬
‫اوجب على نفسه لهم سبيل قاصدا يوصلهم إلى‬
‫سعادة حياتهم فجعله لهم وهداهم إليه ‪ .‬وقد‬
‫نسب سبحانه قصد السبيل إلى نفسه دون السبيل‬
‫الجائر لن سبيل الضلل ليس سبيل مجعول له‬
‫وفي عرض سبيل الهدى وانما هو الخروج عن‬
‫السبيل وعدم التلبس بسلوكه فليس بسبيل‬
‫حقيقة وانما هو عدم السبيل ‪ .‬وكيف كان فالية‬
‫ظاهرة في نسبة قصد السبيل إليه تعالى وترك‬
‫نسبة السبيل الجائر المؤدى بسبب المقابلة إلى‬
‫نفى نسبته إليه تعالى ‪ .‬واذ كان من الممكن ان‬
‫يتوهم ان لزم جعله قصد السبيل ان يكون مكفورا‬
‫في نعمته مغلوبا في تدبيره وربوبيته حيث جعل‬
‫السبيل ولم يسلكه الكثرون وهدى إليه ولم يهتد‬
‫به المدعوون دفعه بقوله تعالى ‪ " :‬ولو شاء‬
‫لهداكم اجمعين " أي ان عدم اهتداء الجميع ليس‬
‫لعجز منه سبحانه عن ذلك أو غلبة من هؤلء‬
‫المتخلفين وظهورهم عليه بل لنه تعالى لم يشأ‬
‫ذلك ولو شاء لم يسعهم ال ان يهتدوا جميعا فهو‬
‫القاهر الغالب على كل حال ‪ .‬وبعبارة اخرى‬
‫السبيل القاصد الذى جعله الله تعالى هو السبيل‬
‫المبنى على اختيار النسان يقطعه باتيان العمال‬
‫الصالحة واجتناب المعاصي عن اختيار منه وما هذا‬
‫شأنه لم يكن مما يجبر عليه ول عاما للجميع فان‬
‫الطبائع متنوعة والتراكيب مختلفة ول محالة تتنوع‬
‫آثارها ويختلف الفراد باليمان والكفر والتقوى‬
‫والفجور‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 213‬‬
‫والطاعة والمعصية ‪ .‬والية مما تشاجرت فيها‬
‫الشاعرة والمعتزلة من فرق المسلمين فاستدلت‬
‫المعتزلة بأن تغيير السلوب يجعل قصد السبيل‬
‫على الله دون السبيل الجائر للدللة على ما يجوز‬
‫اضافته إليه تعالى وما ل يجوز كما ذكره في‬
‫الكشاف ‪ .‬وتكلفت الشاعرة في الجواب عنه فمن‬
‫مجيب بان السبيلين جميعا منه تعالى وانما لم‬
‫ينسب السبيل الجائر إليه تأدبا ومن مجيب بان‬
‫المراد بقوله وعلى الله قصد ‪ /‬صفحة ‪/ 214‬‬
‫السبيل ان عليه تعالى بيان السبيل الحق فضل‬
‫وكرما منه دون بيان السبيل الجائر واما اصل‬
‫الجعل فهما جميعا مجعولن له تعالى ومن منكر‬
‫ان يكون تغيير السلوب في الية لمر مطلوب ‪.‬‬
‫والحق ان دللة الية على كون قصد السبيل‬
‫مضافا إليه تعالى دون السبيل الجائر مما ل ريب‬
‫فيه لكن ذلك ل يستلزم كون السبيل الجائر‬
‫مخلوقا لغيره تعالى لما تقدم ان سبيل الضلل‬
‫ليس بسبيل حقيقة بل حقيقته عدم سلوك سبيل‬
‫الهدى كما ان الضلل عدم الهدى فليس بامر‬
‫موجود حتى ينسب خلقه وايجاده إليه تعالى وانما‬
‫ينسب الضلل إليه تعالى فيما ينسب بمعنى عدم‬
‫هدايته للضال أي عدم ايجاده الهدى في نفسه ‪.‬‬
‫ومع ذلك فالذي ينسب إليه من الضلل كما في‬
‫قوله ‪ " :‬يضل من يشاء ويهدى من يشاء " فاطر ‪:‬‬
‫‪ 8‬وقوله ‪ " :‬يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا "‬
‫البقرة ‪ 26 :‬هو الضلل بطريق المجازاة دون‬
‫الضلل البتدائي كما يفسره قوله ‪ " :‬وما يضل به‬
‫ال الفاسقين البقرة ‪ 26 :‬فإذا فسق النسان‬
‫وخرج بسوء اختياره عن زى العبودية بأن عصى‬
‫ولم يرجع وهو ضلله البتدائي من قبل نفسه‬
‫جازاه الله بالضلل بأن اثبته على حاله ولم يقض‬
‫عليه الهدى ‪ .‬واما الضلل البتدائي من النسان‬
‫فانما هو انكفاف وقصور عن الطاعة وقد هداه‬
‫الله من طريق الفطرة ودعوة النبوة ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬هو الذى انزل من السماء ماء لكم منه‬
‫شراب ومنه شجر فيه تسيمون " شروع في نوع‬
‫آخر من النعم وهى النعم النباتية التى يقتات بها‬
‫النسان وغيره وما سخر له لتدبير امرها كالليل‬
‫والنهار والشمس والقمر وما يحذو حذوها ولذلك‬
‫غير السياق فقال هو الذى الخ ولم يقل وانزل من‬
‫السماء ‪ .‬وقوله تسيمون من السامة وهى رعى‬
‫المواشى ومنه السائمة للماشية الراعية ومن‬
‫الولى تبعيضية والثانية نشوئية والشجر من‬
‫النبات ما له ساق وورق وربما توسع فاطلق على‬
‫ذى الساق وغيره جميعا ومنه الشجر المذكور في‬
‫الية لمكان قوله فيه تسيمون والباقى واضح ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 215‬قوله تعالى ‪ " :‬ينبت لكم به الزرع‬
‫والزيتون والنخيل والعناب ومن كل الثمرات " الخ‬
‫الزيتون شجر معروف ويطلق على ثمره ايضا‬
‫يقال انه اسم جنس جمعى واحده زيتونة وكذا‬
‫النخيل ويطلق على الواحد والجمع والعناب جمع‬
‫عنبة وهى ثمرة شجرة الكرم ويطلق على نفس‬
‫الشجرة كما في الية والسياق يفيد ان قوله ومن‬
‫كل الثمرات تقديره ومن كل الثمرات انبت‬
‫اشجارها ولعل التصريح باسماء هذه الثمرات‬
‫الثلث بخصوصها وعطف الباقي عليها لكونها مما‬
‫يقتات بها غالبا ‪ .‬ولما كان في هذا التدبير العام‬
‫الوسيع الذى يجمع شمل النسان والحيوان في‬
‫الرتزاق به حجة على وحدانيته تعالى في الربوبية‬
‫ختم الية بقوله ان في ذلك لية لقوم يتفكرون ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬وسخر لكم الليل والنهار والشمس‬
‫والقمر " إلى آخر الية قد تكرر الكلم في معنى‬
‫تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم‬
‫ولكون كل من المذكورات وكذا مجموع الليل‬
‫والنهار ومجموع الشمس والقمر والنجوم ذا‬
‫خواص وآثار في نفسه من شأنه ان يستقل باثبات‬
‫وحدانيته في ربوبيته تعالى ختم الية بقوله ان‬
‫في ذلك ليات لقوم يعقلون فجمع اليات في هذه‬
‫الية بخلف اليتين السابقة واللحقة ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وما ذرأ لكم في الرض مختلفا الوانه ان‬
‫في ذلك لية لقوم يذكرون " الذرء الخلق واختلف‬
‫الوان ما ذرأه في الرض غير ما مر كما يختلف‬
‫الوان المعادن وسائر المركبات العنصرية التى‬
‫ينتفع بها النسان في معاشه ول يبعد ان يكون‬
‫اختلف اللوان كناية عن الختلف النوعى بينها‬
‫فتقرب اليه مضمونا من قوله تعالى ‪ " :‬وفي‬
‫الرض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع‬
‫ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد‬
‫ونفضل بعضها على بعض في الكل " الرعد ‪4 :‬‬
‫وقد تقدم تقريب الستدلل به واختلف اللوان‬
‫فيما ذرأ في الرض كانبات الشجر والثمر امر‬
‫واحد يستدل به على وحدانيته في الربوبية ولذا‬
‫قال ان في ذلك لية ولم يقل ليات ‪ .‬وهذه حجج‬
‫ثلث نسب الولى إلى الذين يتفكرون والثانية إلى‬
‫الذين ‪ /‬صفحة ‪ / 216‬يعقلون والثالثة إلى الذين‬
‫يتذكرون وذلك ان الحجة الولى مؤلفة من‬
‫مقدمات ساذجة يكفى في انتاجها مطلق التفكر‬
‫والثانية مؤلفة من مقدمات علمية ل يتيسر فهمها‬
‫ال لمن غار في اوضاع الجرام العلوية والسفلية‬
‫وعقل آثار حركاتها وانتقالتها والثالثة مؤلفة من‬
‫مقدمات كلية فلسفية انما ينالها النسان بتذكر ما‬
‫للوجود من الحكام العامة الكلية كاحتياج هذه‬
‫النشأة المتغيرة إلى المادة‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 216‬‬
‫وكون المادة العامة واحدة متشابهة المر ووجوب‬
‫انتهاء هذه الختلفات الحقيقية إلى امر آخر وراء‬
‫المادة الواحدة المتشابهة ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وهو‬
‫الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا‬
‫وتستخرجوا منه حلية تلبسونها " الخ وهذا فصل‬
‫آخر من النعم اللهية وهو نعم البحر والجبال‬
‫والنهار والسبل والعلمات وكأن ما تقدمه من‬
‫الفصل مشتمل على نعم البر والسهل من الشجار‬
‫والثمار ونحوها ولذلك قال وهو الذى سخر ولم‬
‫يقل وسخر الخ ‪ .‬والطرى فعيل من الطراوة وهو‬
‫الغض الجديد من الشئ على ما ذكره في‬
‫المفردات والمخر شق الماء عن يمين وشمال‬
‫يقال مخرت السفينة تمخر مخرا فهى ماخرة‬
‫ومخر الرض ايضا شقها للزراعة على ما في‬
‫المجمع والمراد بأكل اللحم الطرى من البحر هو‬
‫اكل لحوم الحيتان المصطادة منه و باستخراج حلية‬
‫تلبسونها ما يستخرج منه بالغوص من امثال اللؤلؤ‬
‫والمرجان التى تتحلى وتتزين بها النساء ‪ .‬وقوله ‪:‬‬
‫" وترى الفلك مواخر فيه أي تشاهد السفائن تشق‬
‫ماءه عن اليمين والشمال ولعل قوله وترى من‬
‫الخطابات العامة التى ل يقصد بها مخاطب خاص‬
‫وكثيرا ما يستعمل كذلك ومعناه يراه كل راء‬
‫ويشاهده كل من له ان يشاهد فليس من قبيل‬
‫اللتفات من خطاب الجمع السابق إلى خطاب‬
‫الواحد ‪ .‬وقوله ولتبتغوا من فضله ولعلكم‬
‫تشكرون أي ولتطلبوا بعض رزقه في ركوب البحر‬
‫وارسال السفائن فيه والجملة معطوفة على‬
‫محذوف والتقدير وترى الفلك مواخر فيه لتنالوا‬
‫بذلك كذا وكذا ولتبتغوا من فضله وهو كثير النظير‬
‫في كلمه تعالى ‪ .‬و قوله ولعلكم تشكرون أي‬
‫ومن الغايات في تسخير البحر واجراء الفلك ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 217‬فيه شكركم له المرجو منكم إذ هو‬
‫من زيادته تعالى في النعمة فقد اغناكم بما انعم‬
‫عليكم في البر عن ان تتصرفوا في البحر بالغوص‬
‫واجراء السفن وغير ذلك لكنه تعالى زادكم‬
‫بتسخير البحر لكم نعمة لعلكم تشكرونه على هذا‬
‫الزائد فان النسان قليل ما يتنبه في الضروريات‬
‫انها نعمة موهوبة من لدنه سبحانه ولو شاء‬
‫لقطعها واما الزوائد النافعة فهى اقرب من هذا‬
‫التنبه والنتقال ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬والقى في‬
‫الرض رواسي ان تميد بكم وانهارا وسبل لعلكم‬
‫تهتدون " قال في المجمع الميد الميل يمينا‬
‫وشمال وهو الضطراب ماد يميد ميدا انتهى ‪.‬‬
‫وقوله ان تميد بكم أي كراهة ان تميد بكم أو ان ل‬
‫تميد بكم والمراد انه طرح على الرض جبال ثوابت‬
‫لئل تضطرب وتميل يمينا وشمال فيختل بذلك‬
‫نظام معاشكم ‪ .‬وقوله وانهارا أي وجعل فيها‬
‫انهارا تجرى بمائها وتسوقه إلى مزارعكم‬
‫وبساتينكم وتسقيكم وما عندكم من الحيوان‬
‫الهلى ‪ .‬وقوله وسبل لعلكم تهتدون معطوف على‬
‫قوله وانهارا أي وجعل سبل لغاية الهتداء المرجو‬
‫منكم والسبل منها ما هي طبيعية وهى المسافات‬
‫الواقعة بين بقعتين من الرض الواصلة احداهما‬
‫بالخرى من غير ان يقطع ما بينهما بحاجب أو‬
‫مانع كالسهل بين الجبلين ومنها ما هي صناعية‬
‫وهى التى تتكون بعبور المارة وآثار القدام أو‬
‫يعملها النسان ‪ .‬والظاهر من السياق عموم‬
‫السبل لكل القسمين ول ضير في نسبة ما جعله‬
‫النسان إلى جعله تعالى كما نسب النهار‬
‫والعلمات إلى جعله تعالى واكثرها من صنع‬
‫النسان وكما نسب ما عمله النسان من الصنام‬
‫وغيرها إلى خلقه تعالى في قوله ‪ " :‬والله خلقكم‬
‫وما تعملون " الصافات ‪ . 96‬وذلك انها كائنة ما‬
‫كانت من آثار مجعولته تعالى وجعل الشئ ذى‬
‫الثر جعل لثره بوجه وان لم يكن جعل مستقيما‬
‫من غير واسطة ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وعلمات وبالنجم‬
‫هم يهتدون " العلمات جمع علمة وهى ما يعلم به‬
‫الشئ وهو معطوف على قوله انهارا أي وجعل‬
‫علمات تستدلون بها على ‪ /‬صفحة ‪ / 218‬الشياء‬
‫الغائبة عن الحس وهى كل آية وامارة طبيعية أو‬
‫وضعية تدل على مدلولها ومنها الشواخص‬
‫والنصب واللغات والشارات والخطوط وغيرها ‪.‬‬
‫ثم ذكر سبحانه الهتداء بالنجوم فقال وبالنجم هم‬
‫يهتدون ولعل اللتفات فيه من الخطاب إلى الغيبة‬
‫للتحرز عن تكرار تهتدون بصيغة الخطاب في آخر‬
‫اليتين ‪ .‬والية السابقة وعلى الله قصد السبيل‬
‫ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين المتضمنة‬
‫لمسألة الهداية المعنوية التى هي كالمعترضة بين‬
‫اليات العادة للنعم الصورية وان كان النسب‬
‫ظاهرا ان يوضع بعد هذه الية اعني قوله وبالنجم‬
‫هم يهتدون المتعرضة هي وما قبلها للهداية‬
‫الصورية غير ان ذلك لم يكن خاليا من اللبس‬
‫وايهام التناقض بخلف موقعها الذى هي واقعة‬
‫فيه وان كانت كالمعترضة كما هو ظاهر ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬أفمن يخلق كمن ل يخلق إلى قوله‬
‫الهكم اله واحد " اليات تقرير اجمالي للحجة‬
‫المذكورة تفصيل في ضمن اليات الست عشرة‬
‫الماضية واستنتاج للتوحيد وهى حجة واحدة اقيمت‬
‫لتوحيد الربوبية وملخصها ان الله سبحانه خالق كل‬
‫شئ فهو الذى انعم بهذه النعم التى ل يحيط بها‬
‫الحصاء التى ينتظم بها نظام الكون وهو تعالى‬
‫عالم بسرها وعلنها فهو الذى يملك الكل ويدبر‬
‫المر فهو ربها‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 218‬‬
‫وليس شئ مما يدعونه على شئ من هذه الصفات‬
‫فليست اربابا فالله واحد ل غير وهو الله عز‬
‫اسمه ‪ .‬ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان‬
‫اليات تثبت التوحيد من طريقين طريق الخلقة‬
‫وطريق النعمة بيان الفساد ان طريق الخلقة‬
‫وحدها انما تثبت الصانع ووحدانيته في الخلق‬
‫واليجاد والوثنيون واليهم وجه الكلم في اليات ل‬
‫ينكرون وجود الصانع ول ان الله سبحانه خالق‬
‫الكل حتى اوثانهم وان اوثانهم ليسوا بخالقين‬
‫لشئ وانما يدعون لوثانهم تدبير امر العالم‬
‫بتفويض من الله لذلك إليهم والشفاعة عند الله‬
‫فل يفيد اثبات الصانع تجاه هؤلء شيئا ‪ .‬وانما‬
‫سيقت آيات الخلقة لتثبيت امر النعمة إذ من البين‬
‫انه إذا كان الله سبحانه خالقا لكل شئ موجودا له‬
‫كانت آثار وجودات الشياء وهى النعم التى يتنعم‬
‫بها ‪ /‬صفحة ‪ / 219‬له سبحانه كما ان وجوداتها له‬
‫ملكا طلقا ل يقبل بطلنا ول نقل ول تبديل فهو‬
‫سبحانه المنعم بها حقيقة ل غيره من شئ حتى‬
‫الذى نفس النعمة من آثار وجوده فانه وما له من‬
‫اثر هو لله وحده ‪ .‬ولذلك ضم إلى حديث الخلق‬
‫والنعام قوله تعالى ‪ " :‬والله يعلم ما تسرون وما‬
‫تعلنون " لن مجرد استناد الخلق والنعام إلى شئ‬
‫ل يستلزم ربوبيته ول يستوجب عبادته لو ل‬
‫انضمام العلم اليهما ليتم بذلك انه مدبر يهدى كل‬
‫شئ إلى كماله المطلوب له وسعادته المكتوبة في‬
‫صحيفة عمله ومن المعلوم ان العبادة انما تستقيم‬
‫عبادة إذا كان المعبود موسوما بسمة العلم عالما‬
‫بعبادة من يعبده شاهدا لخضوعه ‪ .‬فمجموع ما‬
‫تتضمنه اليات من حديث الخلق والنعمة والعلم‬
‫مقدمات لحجة واحدة اقيمت على توحيد الربوبية‬
‫الذى ينكره الوثنية كما عرفت ‪ .‬فقوله ‪ " :‬أفمن‬
‫يخلق كمن ل يخلق أفل تذكرون " قياس ما له‬
‫سبحانه من النعت إلى ما لغيره منه ونفى‬
‫للمساواة والستفهام للنكار والمراد بمن ل يخلق‬
‫آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله ‪ .‬وبيانه كما‬
‫ظهر مما تقدم ان الله سبحانه يخلق الشياء‬
‫ويستمر في خلقها فل يستوى هو ومن ل يخلق‬
‫شيئا فانه تعالى لخلقه الشياء يملك وجوداتها‬
‫وآثار وجوداتها التى هي النظمة الخاصة بها‬
‫والنظام العام الجارى عليها ‪ .‬وقوله وان تعدوا‬
‫نعمة الله ل تحصوها الخ اشارة إلى كثرة النعم‬
‫اللهية كثرة خارجة عن حيطة الحصاء وبالحقيقة‬
‫ما من شئ ال وهو نعمة إذا قيس إلى النظام‬
‫الكلى وان كان ربما وجد بينها ما ليس بنعمة إذا‬
‫قيس إلى بعض آخر ‪ .‬وقد علل سبحانه ذلك بقوله‬
‫ان الله لغفور رحيم وهو من الطف التعليل وادقه‬
‫فافاد سبحانه ان خروج النعمة عن حد الحصاء‬
‫انما هو من بركات اتصافه تعالى بصفتي المغفرة‬
‫والرحمة فانه بمغفرته والمغفرة هي الستر يستر‬
‫ما في الشياء من وبال النقص وشوهة القصور‬
‫وبرحمته والرحمة اتمام النقص ورفع الحاجة‬
‫يظهر فيها الخير والكمال ويحليها بالجمال‬
‫فببسط المغفرة والرحمة على الشياء يكون كل‬
‫شئ نافعا في غيره خيرا مطلوبا عنده فيصير‬
‫نعمة بالنسبة إليه فالشياء بعضها نعمة ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 220‬لبعض فللنعمة اللهية من السعة والعرض‬
‫ما لمغفرته ورحمته من ذلك فان تعدوا نعمة الله‬
‫ل تحصوها فافهم ذلك ‪ .‬والية من الموارد التى‬
‫استعملت فيها المغفره في غير الذنب والمعصية‬
‫للمر المولوي كما هو المعروف عند المتشرعة ‪.‬‬
‫وقوله والله يعلم ما تسرون وما تعلنون اشارة‬
‫إلى الركن الثالث من اركان الربوبية وهو العلم‬
‫فان الله لو كان غير متصف بالعلم استوت العبادة‬
‫واللعبادة بالنسبة إليه فكانت عبادته لغوا ل اثر‬
‫لها ‪ .‬فمن الواجب في الرب المعبود ان يكون له‬
‫علم ول كل علم كيفما كان بل العلم بظاهر من‬
‫يعبده وباطنه فان العبادة متقومة بالنية فهى انما‬
‫تقع عبادة حقيقة إذا اتى بها عن نية صالحة وهو‬
‫مما يرجع إلى الضمير فل يتم العلم بكون صورة‬
‫العبادة واجدة لحقيقة معناها ال بعد احاطة‬
‫المعبود بظاهر من يعبده وباطنه لكن الله سبحانه‬
‫عليم بما يسره النسان وما يعلنه كما انه خالق‬
‫منعم ويستحق بذلك ان يعبد ‪ .‬ومن هنا يظهر وجه‬
‫اختيار ما في الية من التعبير لبيان علمه فلم يعبر‬
‫بمثل قوله عالم الغيب والشهادة وقوله والله بكل‬
‫شئ عليم بل قال والله يعلم ما تسرون وما‬
‫تعلنون فذكر العلم بالسرار والعلن واضافه إلى‬
‫النسان لن الكلم في عبادة النسان لربه‬
‫والواجب في العلم بالعبادة المرتبطة بعمل‬
‫الجوارح والقلب جميعا ان يكون عالما بما يسره‬
‫النسان وما يعلنه من النية القلبية والحوال‬
‫والحركات البدنية ‪ .‬وقوله والذين يدعون من دون‬
‫الله ل يخلقون شيئا وهم يخلقون اشارة إلى‬
‫فقدان الركن الول من اركان الربوبية في آلهتهم‬
‫الذين يدعون من دون الله ويتفرع عليه الركن‬
‫الثاني وهو ايتاء النعمة فليس الذين يدعونهم آلهة‬
‫واربابا والله الرب ‪ .‬وقوله اموات غير احياء وما‬
‫يشعرون ايان يبعثون اشارة إلى فقدان الركن‬
‫الثالث من اركان الربوبية في اصنامهم وهو العلم‬
‫بما يسرون وما يعلنون وقد‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 220‬‬
‫بالغ في نفى ذلك فنفى اصل الحياة المستلزم‬
‫لنفى مطلق العلم فضل عن نوعه الكامل الذى هو‬
‫العلم بما يسرون وما يعلنون فقال اموات غير‬
‫احياء فاثبت الموت اول ‪ /‬صفحة ‪ / 221‬وهو ل‬
‫يجامع الشعور ثم اكده بنفى الحياة ثانيا وخص من‬
‫وجوه جهلهم عدم شعورهم متى يبعث عبادهم من‬
‫الناس فقال وما يشعرون ايان يبعثون أي ما يدرى‬
‫الصنام ايان يبعث عبادهم فان العبادة هي التى‬
‫يجزى بها النسان يوم البعث فمن الواجب في‬
‫الله المعبود ان يعلم متى يوم البعث حتى يجزى‬
‫عباده فيه عن عبادتهم وهؤلء ل يدرون شيئا من‬
‫ذلك ‪ .‬ومن هنا يظهر ان اول ضميري الجمع‬
‫يشعرون للصنام والثانى يبعثون للمشركين واما‬
‫ارجاعهما كليهما إلى الصنام فغير مرضى لن‬
‫العلم بالبعث مختص به سبحانه محجوب عن غيره‬
‫ول يختص الجهل به بالصنام واردأ منه قول‬
‫بعضهم إن ضميري الجمع معا في الية عائدان إلى‬
‫المشركين هذا ‪ .‬واليات وان كانت مسوقة‬
‫بظاهرها لنفى ربوبية الصنام لكن البيان بعينه‬
‫بأدنى دقة جار في ارباب الصنام كالملئكة‬
‫المقربين والجن والكملين من البشر والكواكب‬
‫من كل ما يعبده الوثنيون فان صفات الخلق‬
‫والنعام والعلم ل تقوم بالصالة والستقلل ال‬
‫بالله سبحانه ول ربوبية حقيقة ال بالصالة‬
‫والستقلل فافهم ‪ .‬وفي اليتين اعني قوله‬
‫والذين يدعون من دون الله إلى قوله يبعثون‬
‫التفات من الخطاب إلى الغيبة ولعل النكتة فيه‬
‫ذكر يوم البعث فيهما والمشركون ل يقولون به‬
‫فحول الخطاب منهم إلى النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم للتوسل بذلك إليه من غير اعتراض ‪.‬‬
‫وقوله الهكم اله واحد بيان لنتيجة الحجة التى‬
‫اقيمت في اليات السابقة أي إذا كان الله سبحانه‬
‫هو الواجد لما تتوقف عليه اللوهية وهى‬
‫المعبودية بالحق وغيره تعالى ممن يدعون من‬
‫دونه غير واجد لشئ مما تتوقف عليه وهو الخلق‬
‫والنعام والعلم فالهكم الذى يحق له ان يعبد واحد‬
‫ولزم معناه انه الله عز اسمه ‪ ) .‬بحث روائي (‬
‫في المجمع اربعون آية من اولها مكية والباقى من‬
‫قوله والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا‬
‫لنبوئنهم إلى آخر السورة مدنية عن الحسن‬
‫وقتادة وقيل مكية كلها غير ثلث آيات نزلت في‬
‫انصراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحد‬
‫وان عاقبتم فعاقبوا ‪ /‬صفحة ‪ / 222‬إلى آخر‬
‫السورة نزلت فيما بين مكة والمدينة عن ابن‬
‫عباس وعطاء والشعبى وفي احدى الروايات عن‬
‫ابن عباس بعضها مكى وبعضها مدنى فالمكي من‬
‫اولها إلى قوله ولكم عذاب عظيم والمدنى قوله‬
‫ول تشتروا بعهد الله ثمنا قليل إلى قوله بأحسن‬
‫ما كانوا يعملون ‪ .‬اقول وقد قدمنا ان الذى يعطيه‬
‫السياق خلف ذلك كله فراجع ‪ .‬وفي تفسير‬
‫العياشي عن هشام بن سالم عن بعض اصحابنا‬
‫عن ابى عبد الله عليه السلم قال سألته عن قول‬
‫الله ‪ " :‬اتى امر الله فل تستعجلوه قال إذا اخبر‬
‫الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشئ إلى‬
‫وقت فهو قوله ‪ " :‬أتى أمر الله فل تستعجلوه "‬
‫حتى يأتي ذلك الوقت وقال ان الله إذا أخبر ان‬
‫شيئا كائن فكأنه قد كان اقول كأنه اشارة إلى إن‬
‫التعبير في الية بلفظ الماضي لتحقق الوقوع‬
‫وفى الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس‬
‫قال لما نزلت أتى أمر الله ذعر اصحاب رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم حتى نزل فل تستعجلوه‬
‫فسكنوا وفيه اخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن‬
‫جريد قال لما نزلت هذه الية ‪ " :‬اتى امر الله فل‬
‫تستعجلوه " قال رجال من المنافقين بعضهم‬
‫لبعض ان هذا يزعم إن امر الله قد أتى فامسكوا‬
‫عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن‬
‫فلما رأوا إنه ل ينزل شئ قالوا ما نراه نزل‬
‫فنزلت ‪ " :‬اقترب للناس حسابهم " الية فقالوا إن‬
‫هذا يزعم مثلها ايضا فلما رأوا إنه ل ينزل شئ‬
‫قالوا ما نراه نزل شئ فنزل ‪ " :‬ولئن أخرنا عنهم‬
‫العذاب إلى امة معدودة " الية اقول والرواية تدل‬
‫على إن المسلمين كان بينهم قبل الهجرة‬
‫منافقون كما يشهد به بعض آخر من الروايات‬
‫وفيه اخرج ابن ابي حاتم والطبراني وابن مردويه‬
‫والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلع عليكم قبل‬
‫الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس‬
‫فل تزال ترتفع في السماء حتى تمل السماء ثم‬
‫ينادي مناد يا ايها الناس فيقبل الناس بعضهم‬
‫على بعض هل سمعتم ؟ فمنهم من يقول نعم‬
‫ومنهم من ‪ /‬صفحة ‪ / 223‬يشك ثم ينادى الثانية يا‬
‫ايها الناس فيقول الناس هل سمعتم ؟ فيقولون‬
‫نعم ثم ينادى ايها الناس اتى امر الله فل‬
‫تستعجلوه قال رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ‪ :‬فو الذى نفسي بيده ان الرجلين لينشران‬
‫الثوب فما يطويانه وان الرجل ليملؤ حوضه فما‬
‫يسقى فيه شيئا وان الرجل ليحلب ناقته فما‬
‫يشربه ويشغل الناس ‪ .‬اقول وقد رام بعضهم ان‬
‫يستفيد من هذه الروايات الثلث وفي معناها بعض‬
‫روايات اخر ان المراد بالمر هو يوم القيامة ول‬
‫دللة فيها على ذلك ‪ .‬اما الرواية الولى فل يدل‬
‫ذعرهم انهم فهموا منها ذلك فان امر الله ايا ما‬
‫كان‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 223‬‬
‫مما يهيب عباده على انه ل حجة في فهمهم‬
‫وليس الشبهة مفهومية حتى يرجع إليهم بما هم‬
‫اهل اللسان ‪ .‬على ان الرواية ل تخلو عن شئ فان‬
‫الله سبحانه يعد الستعجال بالقيامة من صفات‬
‫الكفار ويذمهم عليه ويبرئ المؤمنين منه قال ‪" :‬‬
‫والذين آمنوا مشفقون منها " الشورى ‪ 18 :‬وقد‬
‫مرت الشارة إليه في البيان المتقدم هذا إذا كان‬
‫الخطاب في قوله فل تستعجلوه للمؤمنين واما إذا‬
‫كان المخاطب به المشركين وهم كانوا يستعجلونه‬
‫فمعنى النهى عن استعجالهم هو حلول الجل‬
‫وقرب الوقوع ل المهال والنظار ول معنى حينئذ‬
‫لسكونهم لما سمعوا قوله فل تستعجلوه ‪ .‬واما‬
‫الرواية الثانية فظاهرها انهم فهموا منها العذاب‬
‫الدنيوي دون الساعة فهى تؤيد ما قدمناه في‬
‫البيان ل ما ذكروه ‪ .‬واما الرواية الثالثة فاقصى ما‬
‫تدل عليه ان قيام الساعة من مصاديق اتيان امر‬
‫الله ول ريب في ذلك وهو غير كون المراد بالمر‬
‫في الية هو الساعة ‪ .‬وفي كتاب الغيبة للنعماني‬
‫باسناده عن عبد الرحمان بن كثير عن ابى عبد الله‬
‫عليه السلم ‪ :‬في قوله عز وجل ‪ " :‬اتى امر الله‬
‫فل تستعجلوه قال هو امرنا امر الله عز وجل فل‬
‫يستعجل به يؤيده بثلثة اجناد الملئكة والمؤمنون‬
‫والركب وخروجه كخروج رسول الله صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم وذلك قوله كما اخرجك ربك من‬
‫بيتك بالحق ‪ .‬اقول ورواه المفيد في كتاب الغيبة‬
‫عن عبد الرحمان عنه عليه السلم ومراده ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 224‬ظهور المهدى عليه السلم كما صرح به في‬
‫روايات اخر وهو من جرى القرآن أو بطنه ‪ .‬وفي‬
‫الكافي باسناده عن سعد السكاف قال ‪ :‬اتى رجل‬
‫امير المؤمنين عليه السلم يسأله عن الروح أليس‬
‫هو جبرئيل ؟ فقال له امير المؤمنين عليه السلم‬
‫جبرئيل من الملئكة والروح غير جبرئيل فكبر ذلك‬
‫على الرجل فقال له لقد قلت عظيما من القول‬
‫ما احد يزعم ان الروح غير جبرئيل فقال له امير‬
‫المؤمنين عليه السلم انك ضال تروى عن اهل‬
‫الضلل يقول الله لنبيه اتى امر الله فل تستعجلوه‬
‫سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملئكة بالروح‬
‫والروح غير الملئكة ‪ .‬اقول وهو يؤيد ما قدمناه‬
‫وفي روايات اخر انه خلق اعظم من جبرئيل ‪.‬‬
‫وفي تفسير القمى ‪ :‬في قوله تعالى فإذا هو‬
‫خصيم مبين قال عليه السلم خلقه من قطرة من‬
‫ماء مهين فيكون خصيما متكلما بليغا وفيه ‪ :‬في‬
‫قوله تعالى حين تريحون وحين تسرحون قال عليه‬
‫السلم حين ترجع من المرعى وحين تخرج إلى‬
‫المرعى وفي تفسير العياشي عن زرارة عن‬
‫احدهما عليه السلم قال سألته عن ابوال الخيل‬
‫والبغال والحمير قال نكرهها قلت أليس لحمها‬
‫حلل ؟ قال فقال أليس قد بين الله لكم والنعام‬
‫خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون وقال‬
‫في الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة فجعل‬
‫الكل من النعام التى قص الله في الكتاب وجعل‬
‫للركوب الخيل والبغال والحمير وليس لحومها‬
‫بحرام ولكن الناس عافوها ‪ .‬اقول والروايات في‬
‫الخيل والبغال والحمير مختلفة ومذهب اهل البيت‬
‫عليهم السلم حلية اكل لحومها على كراهية ‪.‬‬
‫وفي تفسير القمى ‪ :‬في قوله تعالى ويخلق ما ل‬
‫تعلمون قال قال عليه السلم العجائب التى خلقها‬
‫الله في البر والبحر وفي الدر المنثور في قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر "‬
‫اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن النباري في‬
‫المصاحف عن على انه كان يقرء هذه الية فمنكم‬
‫جائر وفي تفسير العياشي عن اسماعيل بن ابى‬
‫زياد عن جعفر بن محمد عن ابيه عن آبائه ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 225‬عن على عليه السلم قال قال رسول الله‬
‫صلى الله ‪ :‬وبالنجم هم يهتدون قال هو الجدى‬
‫لنه نجم ل يدور عليه بناء القبلة وبه يهتدى اهل‬
‫البر والبحر ‪ .‬اقول وهو مروى عن الصادق عليه‬
‫السلم ايضا وفي الكافي بإسناده عن داود‬
‫الجصاص قال سمعت أبا عبد الله عليه السلم‬
‫يقول ‪ :‬وعلمات وبالنجم هم يهتدون قال ‪ -‬النجم‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعلمات‬
‫الئمة عليهم السلم أقول ورواه ايضا بطريقين‬
‫آخرين عنه وعن الرضا عليه السلم ورواه‬
‫العياشي والقمى في تفسيريهما والشيخ في‬
‫أماليه عن الصادق عليه السلم ‪ .‬وليس بتفسير‬
‫وإنما هو من البطن ومن الدليل عليه ما رواه‬
‫الطبرسي في المجمع قال قال أبو عبد الله عليه‬
‫السلم ‪ :‬نحن العلمات والنجم رسول الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم ولقد قال إن الله جعل‬
‫النجوم أمانا لهل السماء ‪ -‬وجعل أهل بيتى امانا‬
‫لهل الرض * * * الهكم اله واحد فالذين ل‬
‫يؤمنون بالخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ‪-‬‬
‫‪ 22‬ل جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه‬
‫ل يحب المستكبرين ‪ 23 -‬وإذا قيل لهم ماذا أنزل‬
‫ربكم قالوا أساطير الولين ‪ 24 -‬ليحملوا اوزارهم‬
‫كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير‬
‫علم ال ساء ما يزرون ‪ 25 -‬قد مكر الذين من‬
‫قبلهم فاتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم‬
‫السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث ل‬
‫يشعرون ‪ / 26 -‬صفحة ‪ / 226‬ثم يوم القيامة‬
‫يخزيهم ويقول اين شركائي الذين كنتم تشاقون‬
‫فيهم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 226‬‬
‫قال الذين اوتوا العلم ان الخزى اليوم والسوء‬
‫على الكافرين ‪ 27 -‬الذين تتوفاهم الملئكة‬
‫ظالمي انفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من‬
‫سوء بلى ان الله عليم بما كنتم تعملون ‪28 -‬‬
‫فادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى‬
‫المتكبرين ‪ 29 -‬وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم‬
‫قالوا خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة‬
‫ولدار الخرة خير ولنعم دار المتقين ‪ 30 -‬جنات‬
‫عدن يدخلونها تجرى من تحتها النهار لهم فيها ما‬
‫يشاؤن كذلك يجزى الله المتقين ‪ 31 -‬الذين‬
‫تتوفاهم الملئكة طيبين يقولون سلم عليكم‬
‫ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ‪ 32 -‬هل ينظرون ال‬
‫أن تأتيهم الملئكة أو ياتي امر ربك كذلك فعل‬
‫الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا‬
‫انفسهم يظلمون ‪ 33 -‬فأصابهم سيئات ما عملوا‬
‫وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن ‪ 34 -‬وقال الذين‬
‫اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ‬
‫نحن ول آباؤنا ول حرمنا من دونه من شئ كذلك‬
‫فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل ال البلغ‬
‫المبين ‪ 35 -‬ولقد بعثنا في كل امة رسول ان‬
‫اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى‬
‫الله ومنهم ‪ /‬صفحة ‪ / 227‬من حقت عليه الضللة‬
‫فسيروا في الرض فانظروا كيف كان عاقبة‬
‫المكذبين ‪ 36 -‬إن تحرص على هداهم فان الله ل‬
‫يهدى من يضل وما لهم من ناصرين ‪37 -‬‬
‫وأقسموا بالله جهد ايمانهم ل يبعث الله من يموت‬
‫بلى وعدا عليه حقا ولكن اكثر الناس ل يعلمون ‪-‬‬
‫‪ 38‬ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين‬
‫كفروا انهم كانوا كاذبين ‪ 39 -‬انما قولنا لشئ إذا‬
‫اردناه ان نقول له كن فيكون ‪ ) 40 -‬بيان ( هذا هو‬
‫الشطر الثاني من آيات صدر السورة وقد كان‬
‫الشطر الول يتضمن توحيد الربوبية واقامة الحجة‬
‫على المشركين في ذلك بعد ما انذرهم باتيان‬
‫المر ونزه الله سبحانه عن شركهم ‪ .‬وهذا الشطر‬
‫الثاني يتضمن ما يناسب المقام ذكره من مساوى‬
‫صفات المشركين المتفرعة على انكارهم التوحيد‬
‫وأباطيل اقوالهم كاستكبارهم على الله‬
‫واستهزائهم باياته وانكارهم الحشر وبيان بطلنها‬
‫واظهار فسادها وتهديدهم باتيان المر وحلول‬
‫العذاب الدنيوي واليعاد بعذاب يوم الموت ويوم‬
‫القيامة وحقائق أخر ستنكشف بالبحث ‪ .‬قوله‬
‫تعالى الهكم اله واحد فالذين ل يؤمنون بالخرة‬
‫قلوبهم منكرة وهم مستكبرون قد تقدم الكلم‬
‫في قوله الهكم اله واحد وانه نتيجة الحجة التي‬
‫اقيمت في اليات السابقة ‪ .‬وقوله فالذين ل‬
‫يؤمنون بالخرة الخ تفريع عليه وافتتاح لفصل ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 228‬جديد من الكلم حول اعمال الكفار‬
‫من اقوالهم واعمالهم الناشئة عن عدم ايمانهم‬
‫بالله سبحانه وانما ذكر عدم ايمانهم بالخرة ولم‬
‫يذكر عدم ايمانهم بالله وحده لن الذى اقيمت‬
‫عليه الحجة هو التوحيد الكامل وهو وجوب العتقاد‬
‫باله عليم قدير خلق كل شئ واتم النعمة ل لغوا‬
‫باطل بل بالحق ليرجعوا إليه فيحاسبهم على ما‬
‫عملوا ويجازيهم بما اكتسبوا مما عهده إليهم من‬
‫المر والنهى بواسطة الرسل ‪ .‬فالتوحيد المندوب‬
‫إليه في اليات الماضية هو القول بوحدانيته تعالى‬
‫واليمان بما اتى به رسل الله واليمان بيوم‬
‫الحساب والجزاء ولذلك وصف الكفار بعدم اليمان‬
‫بالخرة لن اليمان بها يستلزم اليمان بالوحدانية‬
‫والرسالة ‪ .‬ولك ان تراجع في استيضاح ما ذكرناه‬
‫قوله في اول اليات ينزل الملئكة بالروح من‬
‫امره على من يشاء من عباده ان انذروا انه ل اله‬
‫ال انا فاتقون خلق السماوات والرض بالحق‬
‫سبحانه عما يشركون فانه كلم جامع للصول‬
‫الثلثة ‪ .‬وقوله قلوبهم منكرة أي للحق وقوله وهم‬
‫مستكبرون أي عن الحق والستكبار على ما ذكروه‬
‫طلب الترفع بترك الذعان للحق ‪ .‬والمعنى الهكم‬
‫واحد على ما تدل عليه اليات الواضحة في دللتها‬
‫وإذا كان المر على هذا الوضوح والجلء ل يستتر‬
‫بستر ول يرتاب فيه فهم فالذين ل يؤمنون‬
‫بالخرة قلوبهم منكرة للحق جاحدة له عنادا وهم‬
‫مستكبرون عن النقياد للحق من غير حجة ول‬
‫برهان ‪ .‬قوله تعالى ل جرم ان الله يعلم ما‬
‫يسرون وما يعلنون انه ل يحب المستكبرين ل جرم‬
‫كلمة مركبة باقية على حالة واحدة يفيد معنى‬
‫التحقيق على ما ذكره الخليل وسيبويه واليه يرجع‬
‫ما ذكره غيرهما وان اختلفوا في اصل تركبه قال‬
‫الخليل وهو كلمة تحقيق ول يكون ال جوابا يقال‬
‫فعلوا كذا فيقول السامع ل جرم يندمون ‪.‬‬
‫والمعنى من المحقق أو حق ان الله يعلم ما‬
‫يسرون وما يعلنون وهو كناية وتهديد بالجزاء‬
‫السئ أي انه يعلم ما يخفونه من اعمالهم وما‬
‫يظهرونه فسيجزيهم بما عملوا ويؤاخذهم على ما‬
‫انكروا واستكبروا انه ل يحب المستكبرين ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 229‬قوله تعالى ‪ " :‬وإذا قيل لهم ما ذا‬
‫انزل ربكم قالوا اساطير الولين " قال الراغب‬
‫في المفردات السطر والسطر بفتح فسكون أو‬
‫بفتحتين السطر من الكتابة ومن الشجر المغروس‬
‫ومن القوم الوقوف إلى ان قال وجمع السطر‬
‫اسطر وسطور واسطار ‪ .‬قال واما قوله اساطير‬
‫الولين فقد قال المبرد هي جمع اسطورة نحو‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 229‬‬
‫ارجوحة واراجيح واثفية واثافى واحدوثة واحاديث‬
‫وقوله تعالى ‪ " :‬وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم‬
‫قالوا اساطير الولين " أي شئ كتبوه كذبا ومينا‬
‫فيما زعموا نحو قوله تعالى ‪ " :‬اساطير الولين‬
‫اكتتبها فهى تملى عليه بكرة واصيل " انتهى وقال‬
‫غيره اساطير جمع اسطار واسطار جمع سطر‬
‫فهو جمع الجمع وقوله وإذا قيل لهم ما ذا انزل‬
‫ربكم يمكن ان يكون القائل بعض المؤمنين وانما‬
‫قاله اختبارا لحالهم واستفهاما لما يرونه في‬
‫الدعوة النبوية ويمكن ان يكون من المشركين‬
‫وانما قاله لهم ليقلدهم فيما يرونه وعبر عن‬
‫القرآن بمثل قوله ما ذا انزل ربكم لنوع من‬
‫التهكم والستهزاء ويمكن ان يكون شاكا متحيرا‬
‫باحثا والية التالية وكذا قوله فيما سيأتي وقيل‬
‫للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم يؤيد احد الوجهين‬
‫الخيرين ‪ .‬وقوله قالوا اساطير الولين أي الذى‬
‫يسأل عنه اكاذيب خرافية كتبها الولون واثبتوها‬
‫وتركوها لمن خلفهم ولزم هذا القول دعوى انه‬
‫ليس نازل من عند الله سبحانه ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة إلى آخر الية‬
‫قال في المفردات الوزر بفتحتين الملجأ الذى‬
‫يلتجأ إليه من الجبل قال تعالى ‪ " :‬كل ل وزر إلى‬
‫ربك يومئذ المستقر " والوزر بالكسر فالسكون‬
‫الثقل تشبيها بوزر الجبل ويعبر بذلك عن الثم كما‬
‫يعبر عنه بالثقل قال تعالى ‪ " :‬ليحملوا اوزارهم‬
‫كاملة " الية كقوله ‪ " :‬وليحملن اثقالهم واثقال‬
‫مع اثقالهم " ‪ .‬قال وحمل وزر الغير بالحقيقة هو‬
‫على نحو ما اشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫بقوله من سن سنة حسنة كان له اجرها وأجر من‬
‫عمل بها من غير أن ينقص من اجره شئ ومن ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 230‬سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر‬
‫من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها وقوله ‪" :‬‬
‫ول تزر وازرة وزر اخرى " أي ل تحمل وزره من‬
‫حيث يتعرى المحمول عنه انتهى ‪ .‬والذى ذكره من‬
‫الحديث النبوى مروى من طرق الخاصة والعامة‬
‫جميعا ويصدقه من الكتاب العزيز مثل قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان‬
‫ألحقنا بهم ذريتهم وما التناهم من عملهم من‬
‫شئ كل امرء بما كسب رهين " الطور ‪ 21 :‬وقوله‬
‫‪ " :‬ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس ‪ 12 :‬واليات‬
‫في هذا المعنى كثيرة ‪ .‬واما قوله في تفسير‬
‫قوله صلى الله عليه وآله وسلم ‪ :‬كان له وزرها‬
‫ووزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها فكلم‬
‫ظاهري ل بأس بأن يوجه به الية والرواية لرفع‬
‫التناقض بينهما وبين مثل قوله تعالى ‪ " :‬ل تزر‬
‫وازرة وزر اخرى " النعام ‪ 164 :‬وقوله ‪" :‬‬
‫ليوفينهم ربك اعمالهم " هود ‪ 111 :‬إذ لو حمل‬
‫المر وزر السيئة وعذب بعذابها دون الفاعل‬
‫ناقض ذلك الية الولى ولو قسم بينهما وحمل كل‬
‫منهما بعض الوزر وعذب ببعض العذاب ناقض الية‬
‫الثانية واما لو حمل السان والمر مثل ما للعامل‬
‫الفاعل لم يناقض شيئا ‪ .‬واما بحسب الحقيقة‬
‫فكما ان العمل عمل واحد حسنة أو سيئة كذلك‬
‫وزره وعذابه مثلواحد ل تعدد فيه غير ان نفس‬
‫العمل لما كان قائما باكثر من واحد قيامه بالمر‬
‫والفاعل قياما طوليا ل عرضيا يوجب المحذور‬
‫كانت تبعته من الوزر والعذاب قائمة باكثر من‬
‫واحد فهناك وزر واحد يزرها اثنان وعذاب واحد‬
‫يعذب به المر والفاعل جميعا ‪ .‬ويسهل تصور ذلك‬
‫بالتأمل في مضمون اليات المبنية على تجسم‬
‫العمال فان العمل كالسيئة مثل على تقدير‬
‫التجسم واحد شخصي يتمثل لثنين ويعذب بتمثله‬
‫انسانين المر والفاعل أو السان والمستن فهو‬
‫بوجه بعيد كالشخص الواحد يتصوره اثنان فيلتذان‬
‫أو يتألمان معا به وليس ال واحدا ‪ .‬وقد تقدم بعض‬
‫الكلم في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى ‪" :‬‬
‫ليميز الله الخبيث من الطيب " الية في الجزء‬
‫التاسع من الكتاب وسياتى ان شاء الله تفصيل‬
‫القول فيه فيما يناسبه من المورد ‪ / .‬صفحة‬
‫‪ / 231‬وكيف كان فقوله ليحملوا اوزارهم كاملة‬
‫يوم القيامة ومن اوزار الذين يضلونهم بغير علم‬
‫اللم للغاية وهى متعلقة بقوله قالوا اساطير‬
‫الولين وفي قوله يضلونهم دللة على ان حملهم‬
‫لوزار غيرهم انما هو من جهة اضللهم فيعود‬
‫الضلل غاية والحمل غاية الغاية والتقدير قالوا‬
‫اساطير الولين ليضلوهم وهم انفسهم ضالون‬
‫فيحملوا اوزار انفسهم كاملة ومن اوزار اولئك‬
‫الذين يضلونهم بغير علم ‪ .‬وفي تقييد قوله‬
‫ليحملوا اوزارهم بقوله كاملة دفع لتوهم التقسيم‬
‫والتبعيض بان يحملوا بعضا من اوزار انفسهم‬
‫وبعضا من اوزار الذين يضلونهم فيعود الجميع‬
‫اوزارا كاملة بل يحملون اوزار انفسهم كاملة ثم‬
‫من اوزار الذين يضلونهم ‪ .‬وقوله ومن اوزار الذين‬
‫يضلونهم من تبعيضية لنهم ل يحملون جميع‬
‫اوزارهم بل اوزارهم التى ترتبت على اضللهم‬
‫خاصة بشهادة السياق فالتبعيض انما هو لتمييز‬
‫الوزار المترتبة على الضلل من غيرها ل للدللة‬
‫على تبعيض كل وزر من اوزار الضلل وحمل‬
‫بعضه على هذا وبعضه على ذاك ول تقسيم‬
‫مجموع اوزار الضلل وحمل قسم منه على هذا‬
‫وقسم منه على ذاك مع تعريته عن القسم الخر‬
‫فان امثال قوله‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 231‬‬
‫تعالى ‪ " :‬ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره "‬
‫الزلزال ‪ 8 :‬تنافى ذلك فافهم ‪ .‬ومما تقدم يظهر‬
‫وهن ما استفاده بعضهم من قوله ليحملوا‬
‫اوزارهم كاملة يوم القيامة إن مقتضاه انه لم‬
‫ينقص منها شئ ولم تكفر بنحو بلية تصيبهم في‬
‫الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك اوزار‬
‫المؤمنين ‪ .‬وكذا ما استفاده بعض آخر ان في الية‬
‫دللة على انه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن‬
‫المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصل للكل لم‬
‫يكن لتخصيص هؤلء الكفار به فائدة ‪ .‬وجه الوهن‬
‫ان ما ذكراه من خزى الكافرين واكرام المؤمنين‬
‫وان كان حقا في نفسه كما تدل عليه اليات الدالة‬
‫على خزى الكفار بما يصيبهم في الدنيا وحبط‬
‫اعمالهم وشمول المغفرة والشفاعة لطائفة من‬
‫المؤمنين لكن هذه الية ليست ناظرة إلى شئ من‬
‫ذلك بل العناية فيها انما هي بالفرق بين اوزار‬
‫انفسهم واوزار غيرهم الذين اضلوهم وان‬
‫الطائفة الثانية يلحقهم بعضها وهى التى ترتبت‬
‫من الوزار على الضلل بخلف ‪ /‬صفحة ‪/ 232‬‬
‫الطائفة الولى فهى لهم انفسهم ‪ .‬واوهن منهما‬
‫ما ذكره بعضهم ان من في قوله ومن اوزار الذين‬
‫الخ زائدة أو بيانية وهو كما ترى ‪ .‬وتقييده سبحانه‬
‫قوله يضلونهم بقوله بغير علم للدللة على ان‬
‫الذين اضلهم هؤلء المشركون الذين قالوا‬
‫اساطير الولين انما ضلوا باتباعهم لهم تقليدا‬
‫وبغير علم فالقائلون ائمة الضلل وهؤلء الضلل‬
‫اتباعهم ومقلدوهم ثم ختم سبحانه الية بذمهم‬
‫وتقبيح امرهم جميعا فقال ‪ " :‬أل ساء ما يزرون "‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله‬
‫بنيانهم من القواعد " الخ اتيانه تعالى بنيانهم من‬
‫القواعد هو حضور امره تعالى عنده بعد ما لم يكن‬
‫حاضرا وهذا شائع في الكلم وخرور السقف‬
‫سقوطه على الرض وانهدامه والظاهر كما يشعر‬
‫به السياق ان قوله فأتى الله بنيانهم من القواعد‬
‫فخر عليهم السقف من فوقهم كناية عن ابطال‬
‫كيدهم وافساد مكرهم من حيث ل يتوقعون كمن‬
‫يتقى امامه ويراقبه فيأتيه العدو من خلفه فالله‬
‫سبحانه يأتي بنيان مكرهم من ناحية قواعده وهم‬
‫مراقبون سقفه مما ياتيه من فوق فينهدم عليهم‬
‫السقف ل بهادم يهدمه من فوقه بل بانهدام‬
‫القواعد ‪ .‬وعلى هذا فقوله وأتاهم العذاب من‬
‫حيث ل يشعرون عطف تفسيرى يفسر قوله فأتى‬
‫الله بنيانهم الخ والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي ‪.‬‬
‫وفي الية تهديد للمشركين الذين كانوا يمكرون‬
‫بالله ورسوله بتذكيرهم ما فعل الله بالماكرين من‬
‫قبلهم من مستكبرى المم الماضية حيث رد‬
‫مكرهم إلى انفسهم فكانوا هم الممكورين ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول اين‬
‫شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم " الخزاء من‬
‫الخزى وهو على ما ذكره الراغب الذل الذى‬
‫يستحيى منه والمشاقة من الشق وهو قطع بعض‬
‫الشئ وفصله منه فهى المخاصمة والمعاداة‬
‫والختلف ممن من شأنه ان يأتلف ويتفق‬
‫فمشاقة المشركين في شركائهم هو اختلفهم مع‬
‫اهل التوحيد وهم امة واحدة فطرهم الله جميعا‬
‫على التوحيد ودين الحق ومخاصمتهم ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 233‬لهم وانفصالهم عنهم ‪ .‬والمعنى ان الله‬
‫سبحانه سيخزيهم يوم القيامة ويضرب عليهم‬
‫الذلة والهوان بقوله اين شركائي الذين كنتم‬
‫تشاقون اهل الحق فيهم وتخاصمونهم وتوجدون‬
‫الختلف في دين الله ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬قال الذين‬
‫اوتوا العلم ان الخزى اليوم والسوء على الكافرين‬
‫" الخزى ذلة الموقف والسوء العذاب على ما‬
‫يفيده السياق ‪ .‬وهؤلء الذين وصفهم الله بانهم‬
‫اوتوا العلم واخبر أنهم يتكلمون بكذا هم الذين‬
‫رزقوا العلم بالله وانكشفت لهم حقيقة التوحيد‬
‫فان ذلك هو الذى يعطيه السياق من جهة المقابلة‬
‫بينهم مع وصفهم بالعلم وبين المشركين الذين‬
‫ينكشف لهم يومئذ انهم ما كانوا يعبدون ال اسماء‬
‫سموها وسرابا توهموه ‪ .‬على ان الله سبحانه‬
‫يخبر عنهم انهم يتكلمون يومئذ ويقولون كذا وقد‬
‫قال في وصف اليوم ‪ " :‬ل يتكلمون إل من أذن له‬
‫الرحمان وقال صوابا " النبأ ‪ 38 :‬والقول ل يكون‬
‫صوابا بحق المعنى ال مع كون قائله مصونا من‬
‫خطأه ولغوه وباطله ول يكون مصونا في قوله ال‬
‫إذا كان مصونا في فعله وفي علمه فهؤلء قوم ل‬
‫يرون ال الحق ول يفعلون ال الحق ول ينطقون ال‬
‫بالحق ‪ .‬فان قلت فالذين اوتوا العلم بناء على ما‬
‫فسرهم اهل العصمة لكن تدفعه كثرة ورود هذه‬
‫اللفظة في كلمه تعالى وإرادة غيرهم كقوله ‪" :‬‬
‫وقال الذين اوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير "‬
‫القصص ‪ 80 :‬وقوله ‪ " :‬وليعلم الذين اوتوا العلم‬
‫انه الحق من ربك فيؤمنوا به " الحج ‪ 54 :‬إلى غير‬
‫ذلك من الموارد الظاهر فيها عدم ارادة العصمة‬
‫من ايتاء العلم ‪ .‬قلت ما ذكرناه انما هو استفادة‬
‫بمؤنة المقام ل انه مدلول اللفظ كلما اطلق في‬
‫كلمه تعالى ‪ .‬واما قولهم ان المراد بالذين اوتوا‬
‫العلم هم النبياء فقط أو النبياء والمؤمنون الذين‬
‫علموا في الدنيا بدلئل التوحيد أو المؤمنون‬
‫فحسب أو الملئكة فل دليل في كلمه تعالى على‬
‫واحد منها بخصوصه ‪ / .‬صفحة ‪/ 234‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 234‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬الذين تتوفاهم الملئكة ظالمي‬
‫انفسهم فألقوا السلم " إلى آخر الية الظاهر انه‬
‫تفسير للكافرين الواقع في آخر الية السابقة كما‬
‫ان قوله التى الذين تتوفاهم الملئكة طيبين الخ‬
‫تفسير للمتقين الواقع في آخر الية التى قبله ول‬
‫يستلزم كونه بيانا للكافرين كونه من تمام قول‬
‫الذين اوتوا العلم حتى يختل نظم الكلم بقولهم‬
‫ان الخزى اليوم الخ ثم بيانهم بقولهم الذين‬
‫تتوفاهم الملئكة الخ دون ان يقولوا الذين توفاهم‬
‫الملئكة كما ل يخفى ‪ .‬وقوله فألقوا السلم أي‬
‫الستسلم وهو الخضوع والنقياد وضمير الجمع‬
‫للكافرين والمعنى الكافرون هم الذين تتوفاهم‬
‫الملئكة ويقبضون ارواحهم والحال انهم ظالمون‬
‫لنفسهم بكفرهم بالله فالقوا السلم وقدموا‬
‫الخضوع والنقياد مظهرين بذلك انهم ما كانوا‬
‫يعملون من سوء فيرد عليهم قولهم ويكذبون‬
‫ويقال لهم بلى قد فعلتم وعملتم ان الله عليم بما‬
‫كنتم تعملون قبل ورودكم هذا المورد وهو‬
‫الموت ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬فادخلوا ابواب جهنم‬
‫خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين " الخطاب‬
‫للمجموع كما كان قوله ان الخزى اليوم والسوء‬
‫على الكافرين وكذا قوله الذين تتوفاهم الملئكة‬
‫الخ ناظرا إلى جماعة الكافرين دون كل واحد واحد‬
‫منهم ‪ .‬وعلى هذا يعود معناه إلى مثل قولنا‬
‫ليدخل كل واحد منكم بابا من جهنم يناسب عمله‬
‫وموقفه من الكفر ل ان يدخل كل واحد منهم‬
‫جميع البواب أو اكثر من واحد منها وقد تقدم‬
‫الكلم في معنى ابواب جهنم في تفسير قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء‬
‫مقسوم " الحجر ‪ . 44‬والمتكبرون هم‬
‫المستكبرون بحسب المصداق وان كانت العناية‬
‫اللفظية مختلفة فيهما كالمسلم والمستسلم‬
‫فالمستكبر هو الذى يطلب الكبر لنفسه باخراجه‬
‫من القوة إلى الفعل واظهاره لغيره والمتكبر هو‬
‫الذى يقبله لنفسه ويأخذه صفة ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم قالوا خيرا "‬
‫إلى آخر الية ‪ .‬اخذ المسؤل عنهم هم الذين اتقوا‬
‫أي الذين شأنهم في الدنيا انهم تلبسوا بالتقوى‬
‫وهم المتصفون به المستمرون بدليل اعادة‬
‫ذكرهم بعد بلفظ المتقين مرتين فيكون المسؤل ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 235‬عنهم من هذه الطائفة خيارهم‬
‫الكاملين في اليمان كما كان المسؤل عنهم في‬
‫الطائفة الخرى شرارهم الكاملين في الكفر وهم‬
‫المستكبرون ‪ .‬فقول بعضهم ان المراد بالذين‬
‫اتقوا مطلق المؤمنين الذين اتقوا الشرك أو‬
‫الشرك والمعاصي في الجملة ليس في محله ‪.‬‬
‫وقوله قالوا خيرا أي انزل خيرا لنه انزل قرآنا‬
‫يتضمن معارف وشرائع في اخذها والعمل بها خير‬
‫الدنيا والخرة وفي قولهم خيرا اعتراف بكون‬
‫القرآن نازل من عنده تعالى مضافا إلى وصفهم‬
‫له بالخيرية وفي ذلك اظهار منهم المخالفة‬
‫للمستكبرين حيث اجابوا بقولهم اساطير الولين‬
‫أي هو اساطير ولو قال المتقون خير بالرفع لم‬
‫يكن فيه اعتراف بالنزول كما انه لو قال‬
‫المستكبرون اساطير الولين بالنصب كان فيه‬
‫اعتراف بالنزول كذا قيل ‪ .‬وقوله للذين احسنوا‬
‫في هذه الدنيا حسنة ولدار الخرة خير ظاهر‬
‫السياق انه بيان لقولهم خيرا وهل هو تتمة قولهم‬
‫أو بيان منه تعالى ؟ ظاهر قوله ولنعم دار المتقين‬
‫جنات عدن إلى آخر الية انه كلم منه تعالى يبين‬
‫به وجه الخيرية فيما انزله إليهم فانه اشبه بكلم‬
‫الرب تعالى منه بكلم المربوب وخاصة المتقين‬
‫الذين ل يجترؤن على امثال هذه القتراحات ‪.‬‬
‫والمراد بالحسنة المثوبة الحسنة وذلك لنهم‬
‫بالحسان الذى هو العمل بما يتضمنه الكتاب‬
‫يرزقون مجتمعا صالحا يحكم فيه العدل والحسان‬
‫وعيشة طيبة مبنية على الرشد والسعادة ينالون‬
‫ذلك جزاء دنيويا لحسانهم لقوله لهم في الدنيا‬
‫ولدار الحياة الخرة خير جزاء لن فيها بقاء بل‬
‫فناء ونعمة من غير نقمة وسعادة ليس معها شقاء‬
‫‪ .‬ومعنى الية وقيل للمتقين من المؤمنين ماذا‬
‫انزل ربكم من الكتاب وما شأنه ؟ قالوا انزل خيرا‬
‫وكونه خيرا هو ان للذين احسنوا أي عملوا بما فيه‬
‫فوضع الحسان موضع الخذ والعمل بما في‬
‫الكتاب ايماء إلى ان الذى يامر به الكتاب اعمال‬
‫حسنة في هذه الدنيا مثوبة حسنة ولدار الخرة‬
‫خير لهم جزاء ‪ .‬ثم مدح دارهم ليكون تأكيدا للقول‬
‫فقال ولنعم دار المتقين ثم بين دار المتقين‬
‫بقوله جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها النهار‬
‫لهم فيها ما يشاؤن ‪ /‬صفحة ‪ / 236‬كذلك يجزى‬
‫الله المتقين والمعنى ظاهر قوله تعالى ‪ " :‬الذين‬
‫تتوفاهم الملئكة طيبين يقولون سلم عليكم‬
‫ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون " بيان للمتقين كما‬
‫كان قوله الذين تتوفاهم الملئكة ظالمي انفسهم‬
‫الخ بيانا للمستكبرين ‪ .‬والطيب تعرى الشئ مما‬
‫يختلط به فيكدره ويذهب بخلوصه ومحوضته يقال‬
‫طاب لى العيش أي خلص وتعرى مما يكدره‬
‫وينغصه والقول الطيب ما كان عاريا من اللغو‬
‫والشتم والخشونة وسائر ما يوجب فيه غضاضة‬
‫والفرق بين الطيب والطهارة ان الطهارة كون‬
‫الشئ على طبعه الصلى بحيث يخلو عما يوجب‬
‫التنفر عنه والطيب‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 236‬‬
‫كونه على اصله من غير ان يختلط به ما يكدره‬
‫ويفسد امره سواء تنفر عنه ام ل ولذلك قوبل‬
‫الطيب بالخبيث المشتمل على الخبث الزائد قال‬
‫تعالى ‪ " :‬الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات‬
‫والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " النور ‪:‬‬
‫‪ 26‬وقال ‪ " :‬والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه‬
‫والذى خبث ل يخرج إل نكدا " العراف ‪. 58 :‬‬
‫وعلى هذا فالمراد بكون المتقين طيبين في حال‬
‫توفيهم خلوصهم من خبث الظلم في مقابل‬
‫المستكبرين الذين وصفهم بالظلم حال التوفى‬
‫في قوله السابق الذين تتوفاهم الملئكة ظالمي‬
‫انفسهم ويكون معنى الية ان المتقين هم الذين‬
‫تتوفاهم الملئكة متعرين عن خبث الظلم الشرك‬
‫والمعاصي يقولون لهم سلم عليكم وهو تأمين‬
‫قولى لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وهو‬
‫هداية لهم إليها ‪ .‬فالية كما ترى تصف المتقين‬
‫بالتخلص عن التلبس بالظلم وتعدهم المن‬
‫والهتداء إلى الجنة فيعود مضمونها إلى معنى‬
‫قوله ‪ " :‬الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم‬
‫اولئك لهم المن وهم مهتدون " النعام ‪. 82 :‬‬
‫وذكر بعض المفسرين ان المراد بالطيب في الية‬
‫الطهارة عن دنس الشرك وفسره بعضهم بكون‬
‫اقوالهم وافعالهم زاكية والكثر على تفسيره‬
‫بالطهارة عن قذارة الذنوب وانت بالتأمل فيما‬
‫تقدم تعرف ان شيئا مما ذكروه ل يخلو عن تسامح‬
‫‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬هل ينظرون إل أن تأتيهم‬
‫الملئكة أو يأتي امر ربك كذلك فعل ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 237‬الذين من قبلهم " الخ رجوع إلى حديث‬
‫المستكبرين من المشركين وذكر بعض احوالهم‬
‫واقوالهم وقياسهم ممن سبقهم من طغاة المم‬
‫الماضين وما آل إليه امرهم ‪ .‬وقوله ‪ " :‬هل‬
‫ينظرون إل أن تأتيهم الملئكة أو ياتي امر ربك "‬
‫سياق الية وخاصة ما في الية التالية من حديث‬
‫العذاب ظاهر في انها مسوقة للتهديد فالمراد‬
‫باتيان الملئكة نزولهم لعذاب الستئصال وينطبق‬
‫على مثل قوله ‪ " :‬ما ننزل الملئكة ال بالحق وما‬
‫كانوا إذا منظرين " الحجر ‪ 8 :‬والمراد باتيان امر‬
‫الرب تعالى قيام الساعة وفصل القضاء والنتقام‬
‫اللهى منهم ‪ .‬واما كون المراد باتيان المر ما‬
‫تقدم في اول السورة من قوله اتى امر الله وقد‬
‫قربنا هناك ان المراد به مجئ النصر وظهور‬
‫السلم على الشرك فل يلئم اللحن الشديد الذى‬
‫في الية تلك الملئمة وايضا سيأتي في ذيل‬
‫اليات ذكر انكارهم للبعث واصرارهم على نفيه‬
‫والرد عليهم وهو يؤيد كون المراد باتيان المر‬
‫قيام الساعة ‪ .‬وقد اضاف الرب إلى النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم فقال امر ربك ولم يقل امر‬
‫الله أو امر ربهم ليدل به على ان فيه انتصارا له‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم وقضاء له عليهم ‪.‬‬
‫وقوله كذلك فعل الذين من قبلهم تأكيد للتهديد‬
‫وتأييد بالنظير أي فعل الذين من قبلهم مثل‬
‫فعلهم من الجحود والستهزاء مما فيه بحسب‬
‫الطبع انتظار عذاب الله فأصابهم سيئات ما عملوا‬
‫الخ ‪ .‬وقوله وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم‬
‫يظلمون معترضة يبين بها ان الذى نزل بهم من‬
‫العذاب لم يستوجبه ال الظلم غير ان هذا الظلم‬
‫كان هو ظلمهم انفسهم ل ظلما منه تعالى‬
‫وتقدس ولم يعذبهم الله سبحانه عن ظلم وقع‬
‫منهم مرة أو مرتين بل امهلهم إذ ظلموا حتى‬
‫استمروا في ظلمهم واصروا عليه كما يدل عليه‬
‫قوله كانوا انفسهم يظلمون فعند ذلك انزل عليهم‬
‫العذاب ففى قوله وما ظلمهم الله الخ اثبات‬
‫الستمرار على الظلم عليهم ونفى اصل الظلم‬
‫عن الله سبحانه ‪ .‬قوله تعالى فأصابهم سيئات ما‬
‫عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن حاق بهم‬
‫أي حل بهم وقيل معناه نزل بهم واصابهم والذى‬
‫كانوا به يستهزؤن هو العذاب الذى كانت رسلهم‬
‫ينذرونهم به ومعنى الية ظاهر ‪ / .‬صفحة ‪/ 238‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما‬
‫عبدنا من دونه من شئ نحن ول آباؤنا ول حرمنا‬
‫من دونه من شئ " الخ الذى تورده الية شبهة‬
‫على النبوة من الوثنيين المنكرين لها ولذلك‬
‫عرفهم بنعتهم الصريح حيث قال وقال الذين‬
‫اشركوا ولم يكتف بالضمير ولم يقل وقالوا كما‬
‫في اليات السابقة ليعلم ان الشبهة لهم بعينهم ‪.‬‬
‫وقوله لو شاء الله ما عبدنا جملة شرطية حذف‬
‫فيها مفعول شاء لدللة الجزاء عليه والتقدير لو‬
‫شاء الله ان ل نعبد من دونه شيئا ما عبدنا الخ ‪.‬‬
‫وقول بعضهم ان الرادة والمشية ل تتعلق بالعدم‬
‫وانما تتعلق بالوجود فل معنى لمشية عدم العبادة‬
‫فالولى ان يقدر متعلق المشية امرا وجوديا‬
‫ملزما لعدم العبادة كالتوحيد مثل ويكون التقديم‬
‫لو شاء الله ان نوحده أو ان نعبده وحده ما عبدنا‬
‫من دونه من شئ واستدل بقوله صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم ‪ :‬ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‬
‫حيث علق عدم الكون على عدم المشية ل على‬
‫مشية العدم وفيه ان ما ذكره حق بالنظر إلى‬
‫حقيقة المر إل ان العنايات اللفظية والتوسعات‬
‫الكلمية ل تدور دائما مدار الحقائق الكونية‬
‫والنظار الفلسفية وان الفهام البسيطة ولم تكن‬
‫افهام اولئك الوثنيين بأرقى منها كما تجيز ترتب‬
‫الفعل‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 238‬‬
‫الوجودى على المشية تجيز تعلق عدمه بها وفي‬
‫كلمه صلى الله عليه وآله وسلم جريا على هذه‬
‫العناية الظاهرية اللهم ان شئت ان ل تعبد لم تعبد‬
‫‪ .‬على انهم يشيرون بقولهم لو شاء الله ما عبدنا‬
‫الخ إلى قول الرسل لهم ل تشركوا بالله ول‬
‫تعبدوا غير الله ول تحرموا ما احل الله وهى نواه‬
‫ومدلول النهى طلب الترك ‪ .‬على ان الوثنيين ل‬
‫ينكرون توحيده تعالى في اللوهية بمعنى الصنع‬
‫واليجاد وانما يشركون في العبادة بمعنى انهم‬
‫يخصونه تعالى بالصنع واليجاد ويخصون آلهتهم‬
‫بالعبادة فلهم آلهة كثيرون احدهم اله موجد غير‬
‫معبود وهو الله سبحانه والباقون شفعاء معبودون‬
‫غير موجدين فهم ل يعبدون الله اصل ل انهم‬
‫يعبدونه تعالى وآلهتهم جميعا وحينئذ لو كان‬
‫التقدير لو شاء الله أن نوحده في العبادة أو ان‬
‫نعبده وحده ‪ /‬صفحة ‪ / 239‬لكان الهم ان يقع في‬
‫الجزاء توحيدهم له في العبادة أو عبادتهم له وحده‬
‫ل نفى عبادتهم لغيره أو كان نفى عبادة الغير‬
‫كناية عن توحيد عبادته أو عبادته وحده فافهم ذلك‬
‫‪ .‬وان كان ول بد من تقدير متعلق المشية امرا‬
‫وجوديا فليكن التقدير لو شاء الله ان نكف عن‬
‫عبادة غيره ما عبدنا الخ حتى يتحد الشرط والجزاء‬
‫بحسب الحقيقة في عين انهما يختلفان في النفى‬
‫والثبات ‪ .‬وقوله ما عبدنا من دونه من شئ لفظة‬
‫من الولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الستغراق‬
‫في النفى والمعنى ما عبدنا شيئا دونه ونظير ذلك‬
‫قوله ول حرمنا من دونه من شئ ‪ .‬وقوله نحن ول‬
‫آباؤنا بيان لضمير التكلم في عبدنا للدللة على‬
‫انهم يتكلمون عنهم وعن آبائهم جميعا لنهم كانوا‬
‫يقتدون في عبادة الصنام بآبائهم وقد تكرر في‬
‫القرآن حكاية مثل قولهم انا وجدنا آباءنا على امة‬
‫وانا على آثارهم مقتدون " الزخرف ‪ . 23 :‬وقوله‬
‫ول حرمنا من دونه من شئ " عطف على قوله‬
‫عبدنا الخ أي ولو شاء الله ان ل نحرم من دونه من‬
‫شئ اونحل ما حرمناه ما حرمنا الخ والمراد‬
‫البحيرة والسائبة وغيرهما مما حرموه ‪ .‬ثم ان‬
‫قولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ‬
‫ظاهر من جهة تعليق نفى العبادة على نفس‬
‫مشيته تعالى في انهم ارادوا بالمشية ارادته‬
‫التكوينية التى ل تتخلف عن المراد البتة ولو ارادوا‬
‫غيرها لقالوا لو شاء الله كذا لطعناه واستجبنا‬
‫دعوته أو ما يفيد هذا المعنى ‪ .‬فكأنهم يقولون لو‬
‫كانت الرسالة حقة وكان ما جاء به الرسل من‬
‫النهى عن عبادة الصنام والوثان والنهى عن‬
‫تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها نواهى‬
‫لله سبحانه كان الله سبحانه شاء ان ل نعبد شيئا‬
‫غيره وان ل نحرم من دونه شيئا ولو شاء الله‬
‫سبحانه ان ل نعبد غيره ول نحرم شيئا لم نعبد ولم‬
‫نحرم لستحالة تخلف مراده عن ارادته لكنا نعبد‬
‫غيره ونحرم اشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فل‬
‫نهى ول امر منه تعالى ول شريعة ول رسالة من‬
‫قبله ‪ / .‬صفحة ‪ / 240‬هذا تقرير حجتهم على ما‬
‫يعطيه السياق ومغزى مرادهم ان عبادتهم لغير‬
‫الله وتحريمهم لما حرموه وبالجملة عامة اعمالهم‬
‫لم تتعلق بها مشية من الله بنهي ولو تعلقت لم‬
‫يعملوها ضرورة ‪ .‬وليسوا يعنون بها إن مشية الله‬
‫تعلقت بعبادتهم وتحريمهم فصارت ضرورية‬
‫الوجود وهم ملجؤن في فعلها مجبرون في التيان‬
‫بها فل معنى لنهى الرسل عنها بعد اللجاء وذلك‬
‫ان لو تفيد امتناع الجزاء لمتناع الشرط فيكون‬
‫مفهوم الشرطية لو شاء الله ما عبدنا من دونه من‬
‫شئ انه لم يشأ ذلك فعبدنا غيره وان شئت قلت‬
‫لكنا عبدنا غيره فانكشف انه لم يشأ ذلك واما مثل‬
‫قولنا لكنه شاء أن نعبد غيره فعبدنا غيره أو قولنا‬
‫لكنه شاء ان ل نوحده فعبدنا غيره فهو اجنبي عن‬
‫مفهوم الشرطية ومنطوقها جميعا ‪ .‬على انهم لو‬
‫عنوا ذلك وكان غرضهم رد النبوة باثبات اللجاء‬
‫في افعالهم بما اقاموه من الحجة كانوا بذلك‬
‫معترفين على الضلل مسلمين له غير انهم‬
‫معتذرون عن اتباع الهدى الذى اتاهم به الرسل‬
‫باللجاء والجبار وان الله شاء منهم ما هم عليه‬
‫من الضلل والشقاء بعبادة غير الله وتحريم ما‬
‫احل الله واجبرهم على ذلك فليسوا يقدرون على‬
‫تركه ول يستطيعون التخلف عنه ‪ .‬لكنهم مدعون‬
‫للهتداء مصرون على هذه المزعمة مصرحون بها‬
‫كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم بعد ذكر عبادتهم‬
‫للملئكة إذ قال وقالوا لو شاء الرحمان ما‬
‫عبدناهم ما لهم بذلك من علم ان هم ال يخرصون‬
‫إلى ان قال ‪ " :‬بل قالوا انا وجدنا آباءنا على امة‬
‫وانا على آثارهم مهتدون " الزخرف ‪ 22 :‬وقد‬
‫تكرر في كلمه حكاية تعليلهم عبادة الصنام بأنها‬
‫سنة قومية قدسها سلفهم قبل خلفهم فمن‬
‫الواجب ان يقدسها ويجرى عليها خلفهم بعد‬
‫سلفهم واين هذا من العتراف بالضلل والشقاء ؟‬
‫وكذا ليسوا يعنون بهذه الحجة إن اعمالهم مخلوقة‬
‫لنفسهم غير مرتبطة بالمشية اللهية ول انه‬
‫خالقها إذ العمال والفعال على هذا التقدير‬
‫بمعزل من ان تتعلق بها الرادة اللهية وانما‬
‫يتسبب تعالى لعدم فعل من الفعال بايجاد المانع‬
‫عنه فكان‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 240‬‬
‫النسب حينئذ ان يقولوا لو شاء الله لصرفنا عن‬
‫عبادة غيره وتحريم ما حرمناه وهو ‪ /‬صفحة ‪/ 241‬‬
‫مدفوع بظاهر الكلم أو يقولوا لو شاء الله شيئا‬
‫من اعمالنا لبطل وخرج عن كونه عمل لنا ونحن‬
‫مستقلون به ‪ .‬على انه لو كان معنى قولهم لو‬
‫شاء الله ما عبدنا هو انه لو شاء لصرفنا كان حقا‬
‫فلم يكن معنى لقوله تعالى في آية الزخرف‬
‫السابقة ‪ " :‬وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما‬
‫لهم بذلك من علم ان هم ال يخرصون " الزخرف ‪:‬‬
‫‪ . 20‬فالحق انهم ارادوا بقولهم لو شاء الله ما‬
‫عبدنا من دونه من شئ ان يستدلوا بعبادتهم لها‬
‫على ان المشية اللهية لم تتعلق بتركها من غير‬
‫تعرض لتعلق المشية بفعل العبادة أو لكون المشية‬
‫مستحيلة التعلق بعبادتهم إل بالصرف ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على‬
‫الرسل ال البلغ المبين " خطاب للنبى صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم بأمره ان يبلغ رسالته بلغا مبينا‬
‫ول يعتنى بما لفقوه من الحجة فانها داحضة‬
‫والحجة تامة عليهم بالبلغ وفيه اشارة اجمالية‬
‫إلى دحض حجتهم ‪ .‬فقوله كذلك فعل الذين من‬
‫قبلهم أي على هذا الطريق الذى سلكه هؤلء سلك‬
‫الذين من قبلهم فعبدوا غير الله وحرموا ما لم‬
‫يحرمه الله ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك‬
‫قالوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن‬
‫ول آباؤنا ول حرمنا من دونه من شئ فالجملة‬
‫كقوله تعالى ‪ " :‬كدأب آل فرعون والذين من‬
‫قبلهم كفروا بايات الله فأخذهم الله بذنوبهم "‬
‫النفال ‪ . 52 :‬وقوله فهل على الرسل إل البلغ‬
‫المبين أي بلغهم الرسالة بلغا مبينا تتم به الحجة‬
‫عليهم فانما وظيفة الرسل البلغ المبين وليس‬
‫من وظيفتهم ان يلجؤا الناس إلى ما يدعونهم إليه‬
‫وينهونهم عنه ول أن يحملوا معهم ارادة الله‬
‫الموجبة التى ل تتخلف عن المراد ول امره الذى‬
‫إذا اراد شيئا قال له كن فيكون حتى يحولوا بذلك‬
‫الكفر إلى اليمان ويضطروا العاصى على الطاعة‬
‫‪ .‬فانما الرسول بشر مثلهم والرسالة التى بعث‬
‫بها انذار وتبشير وهى مجموعة قوانين اجتماعية‬
‫اوحاها إليه الله فيها صلح الناس في دنياهم‬
‫وآخرتهم صورتها صورة الوامر والنواهي المولوية‬
‫وحقيقتها النذار والتبشير قال تعالى ‪ " :‬قل ل‬
‫اقول لكم عندي ‪ /‬صفحة ‪ / 242‬خزائن الله ول‬
‫اعلم الغيب ول اقول لكم انى ملك " النعام ‪50 :‬‬
‫فهذا ما امر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان‬
‫يبلغهم وقد امر به نوحا ومن بعده من الرسل‬
‫عليهم السلم ان يبلغوه اممهم كما في سورة‬
‫هود وغيرها ‪ .‬وقال ايضا مخاطبا نبيه صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم ‪ " :‬قل انما انا بشر مثلكم يوحى‬
‫إلى انما الهكم اله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه‬
‫فليعمل عمل صالحا ول يشرك بعبادة ربه احدا "‬
‫الكهف ‪ . 110 :‬فهذا هو الذى يشير إليه على‬
‫سبيل الجمال بقوله كذلك فعل الذين من قبلهم‬
‫فهل على الرسل ال البلغ المبين فان ظاهره كما‬
‫اشرنا إليه سابقا ان هذه حجة دائرة بينهم قديما‬
‫وحديثا وعلى هذا ليس من شأن الرسول اجبار‬
‫الناس والجاؤهم على اليمان والطاعة بل البلغ‬
‫المبين بالنذار والتبشير وحجتهم ل تدفع ذلك‬
‫فبلغ ما ارسلت به بلغا مبينا ول تطمع في هداية‬
‫من ضل منهم وستفصل اليتان التاليتان ما‬
‫اجملته هذه الية وتوضحانها ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولقد‬
‫بعثنا في كل امة رسول ان اعبدوا الله واجتنبوا‬
‫الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت‬
‫عليه الضللة " الخ الطاغوت في الصل مصدر‬
‫كالطغيان وهو تجاوز الحد بغير حق واسم المصدر‬
‫منه الطغوى قال الراغب الطاغوت عبارة عن كل‬
‫متعد وكل معبود من دون الله ويستعمل في‬
‫الواحد والجمع قال تعالى ‪ " :‬فمن يكفر‬
‫بالطاغوت " والذين اجتنبوا الطاغوت " اولياؤهم‬
‫الطاغوت " انتهى ‪ .‬وقوله ولقد بعثنا في كل امة‬
‫رسول اشارة إلى ان بعث الرسول امر ل يختص به‬
‫امة دون امة بل هو سنة الهية جارية في جميع‬
‫الناس بما انهم في حاجة إليه وهو يدركهم اينما‬
‫كانوا كما اشار إلى عمومه في الية السابقة‬
‫اجمال بقوله كذلك فعل الذين من قبلهم ‪ .‬وقوله‬
‫ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت بيان لبعث‬
‫الرسول على ما يعطيه السياق أي ما كانت حقيقة‬
‫بعث الرسول ال ان يدعوهم إلى عبادة الله‬
‫واجتناب الطاغوت لن المر وكذا النهى من البشر‬
‫وخاصة إذا كان رسول ليس إل دعوة عادية ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 243‬ل الجاء واضطرارا تكوينيا ول ان للرسول‬
‫ان يدعى ذلك حتى يرد عليه انه لو شاء الله ما‬
‫عبدنا من دونه من شئ واذ لم يشأ فل معنى‬
‫للرسالة ‪ .‬ومن هنا يظهر ان قول بعضهم ان‬
‫التقدير ليقول لهم اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت‬
‫ليس في محله ‪ .‬وقوله فمنهم من هدى الله‬
‫ومنهم من حقت عليه الضللة أي كانت كل من‬
‫هذه المم مثل هذه المة منقسمة إلى طائفتين‬
‫فبعضهم هو من هداه الله إلى ما دعاهم إليه‬
‫الرسول من عبادة الله واجتناب الطاغوت وذلك ان‬
‫الهداية من الله سبحانه ل يشاركه فيها غيره ول‬
‫تنسب إلى احد دونه إل بالتبع كما قال ‪ " :‬انك ل‬
‫تهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء "‬
‫القصص‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 243‬‬
‫‪ 56 :‬وسنشير إليه في الية التالية ان تحرص على‬
‫هداهم فان الله ل يهدى من يضل واليات في‬
‫حصر الهداية فيه تعالى كثيرة ول يستلزم ذلك‬
‫كونها امرا اضطراريا ل صنع فيه للعبد اصل فانها‬
‫اختيارية بالمقدمة كما يشير إليه قوله ‪ " :‬والذين‬
‫جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع‬
‫المحسنين " العنكبوت ‪ 69 :‬يفيد ان للهداية‬
‫اللهية طريقا ميسرا للنسان وهو الحسان في‬
‫العمل وان الله لمع المحسنين ل يدعهم يضلون ‪.‬‬
‫وبعض هذه المم الطائفة الثانية منهم هو من‬
‫حقت عليه الضللة أي ثبتت ولزمت وهذه الضللة‬
‫هي التى من قبل العبد بسوء اختياره وليس بالتى‬
‫تتبعها مجازاة من الله فان الله يصفها بقوله حقت‬
‫ثم يضيفها في الية التالية إلى نفسه إذ يقول‬
‫فان الله ل يهدى من يضل فقد كانت هناك ضللة‬
‫ثم حقت وثبتت باثبات الله مجازاة فصارت هي‬
‫التى من قبل الله سبحانه مجازاة فتبصر ‪ .‬ولم‬
‫ينسب الله سبحانه في كلمه إلى نفسه اضلل ال‬
‫ما كان مسبوقا بظلم من العبد أو فسق أو كفر‬
‫وتكذيب أو نظائرها كقوله ‪ " :‬والله ل يهدى القوم‬
‫الظالمين " الجمعة ‪ 5 :‬وعدم الهداية هو الضلل‬
‫وقوله ‪ " :‬ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما‬
‫يشاء " ابراهيم ‪ 27 :‬وقوله ‪ " :‬وما يضل به ال‬
‫الفاسقين " البقرة ‪ 26 :‬وقوله ‪ " :‬ان الذين‬
‫كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ول ليهديهم‬
‫طريقا إل طريق جهنم " النساء ‪ 168 :‬وقوله ‪" :‬‬
‫فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " الصف ‪ 5 :‬إلى غير‬
‫ذلك من اليات ‪ / .‬صفحة ‪ / 244‬ولم يقل سبحانه‬
‫فمنهم من هدى الله ومنهم من اضله مع كون‬
‫ضللهم ضلل مجازاة ل مانع من اضافته إليه‬
‫تعالى دفعا ليهام نسبة اصل الضلل إليه بل ذكر‬
‫اول من هداه ثم قابله بمن كان من حقه ان يضل‬
‫وهو الذى اختار الضللة على الهدى أي اختار ان ل‬
‫يهتدى فلم يهده الله وحق له ذلك ‪ .‬وتوضيحه‬
‫ببيان آخر ان خلصة الفرق بين الضلل البتدائي‬
‫ونسبته إلى العبد والضلل مجازاة ونسبته إليه‬
‫تعالى ونسبة الهداية ابتداء ومجازاة إلى الله‬
‫سبحانه هي ان الله اودع في النسان امكان‬
‫الرشد واستعداد الهتداء فان جرى على سلمة‬
‫الفطرة ولم يبطل الستعداد باتباع الهوى‬
‫والمعصية أو اصلحه بالندامة والتوبة بعد المعصية‬
‫هداه الله وهذه هداية مجازاة من الله سبحانه بعد‬
‫الهداية الولى الفطرية ‪ .‬وان اتبع هواه وعصى‬
‫ربه بطل استعداده للهتداء فلم يفض عليه الهدى‬
‫وهو ضلله بسوء اختياره فان لم يندم ولم يراجع‬
‫اثبته الله على حاله وحقت عليه الضللة وهو‬
‫الضلل مجازاة ‪ .‬وربما توهم متوهم ان المكان‬
‫والستعداد ل يكون ال ذا طرفين فالذي يمكنه‬
‫الهدى يمكنه الضلل والنسان ل يزال مترددا بين‬
‫آثار وجودية وافعال مثبتة والجميع منه تعالى حتى‬
‫الستعداد والمكان الول ‪ .‬وهو من اوهن التوهم‬
‫فان عد امكان الضلل وما يترتب عليه الضلل امرا‬
‫وجوديا وعطاء ربانيا يفسد معنى الضلل ويبطله‬
‫فان الضلل انما هو ضلل لكونه عدم الهداية فلو‬
‫عاد امرا ثبوتيا لم يكن ضلل بل صار الهدى‬
‫والضلل كلهما امرين وجوديين وعطاءين الهيين‬
‫نظير ما يترتب على الجماد مثل من الثار‬
‫الوجودية الخارجة عن الهدى والضلل ‪ .‬وبعبارة‬
‫اخرى الضلل انما يكون ضلل إذا كان مقيسا إلى‬
‫الهدى ومن الواجب حينئذ ان يكون عدم الهدى‬
‫وإذا اخذ امرا وجوديا لم يكن ضلل فلم ينقسم‬
‫الموضوع إلى مهتد وضال ول حاله إلى هدى‬
‫وضلل فل مفر من اخذ الضلل امرا عدميا ونسبة‬
‫الضلل الول إلى نفسه العبد فاحسن التأمل فيه‬
‫فل تزل قدم بعد ثبوتها ‪ .‬وقوله فسيروا في‬
‫الرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ظاهر‬
‫السياق ‪ /‬صفحة ‪ / 245‬ان الخطاب للذين اشركوا‬
‫القائلين لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ‬
‫واللتفات إلى خطابهم لكونه اشد تأثيرا في تثبيت‬
‫القول واتمام الحجة ‪ .‬والكلم متفرع على ما بين‬
‫جوابا لحجتهم اجمال وتفصيل ومحصل المعنى ان‬
‫الرسالة والدعوة النبوية ليست من الرادة‬
‫التكوينية الملجئة إلى ترك عبادة الصنام وتحريم‬
‫ما لم يحرمه الله حتى يستدلوا بعدم وجود اللجاء‬
‫على عدم وجود الرسالة وكذب مدعيها بل هي‬
‫دعوة عادية بعث الله سبحانه بها رسل يدعونكم‬
‫إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت وحقيقته النذار‬
‫والتبشير ومن الدليل على ذلك آثار المم الماضية‬
‫الظالمة التى تحكى عن نزول العذاب عليهم‬
‫فسيروا في الرض فانظروا كيف كان عاقبة‬
‫المكذبين حتى يتبين لكم ان الدعوة النبوية التى‬
‫هي انذار حق وان الرسالة ليست كما تزعمون ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬إن تحرص على هداهم فان الله ل‬
‫يهدى من يضل وما لهم من ناصرين لما بين ان‬
‫المم الماضين انقسموا طائفتين وكانت احدى‬
‫الطائفتين هم الذين حقت عليهم الضللة وكانت‬
‫هؤلء الذين اشركوا وقالوا ما قالوا كالذين من‬
‫قبلهم منهم بين في هذه الية ان ثبوت الضللة‬
‫في حقهم انما هو ثبوت ل زوال معه وتحتم ل‬
‫يقبل التغيير فانه ل هادى بالحقيقة ال الله فان‬
‫جاز هداهم كان الله هو هاديهم لكنه ل يهديهم‬
‫‪............................................................‬‬
‫ص‬ ‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪21‬‬
‫‪: 245‬‬
‫فانه يضلهم ول يجتمع الهدى والضلل معا وليس‬
‫هناك ناصر ينصرهم على الله فيقهره على هداهم‬
‫فليؤيس منهم ‪ .‬ففى الية تعزية للنبى صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم وارشاد له ان ل يحرص في‬
‫هداهم واعلم له ان القضاء قد مضى في حقهم‬
‫وما يبدل القول لديه وما هو بظلم للعبيد ‪ .‬فقوله‬
‫ان تحرص على هداهم الخ في تقدير ان تحرص‬
‫على هداهم لم ينفعهم حرصك شيئا فليسوا ممن‬
‫يمكن له الهتداء فان الله هو الذى يهدى من‬
‫اهتدى وهو ل يهديهم فانه يضلهم ول يناقض‬
‫تعالى فعل نفسه وليس لهم ناصرون ينصرونهم‬
‫عليه ‪ .‬وفي هذه اليات الثلث مشاجرات طويلة‬
‫بين المجبرة والمفوضة وكل يفسرها بما يقتضيه‬
‫مذهبه حتى قال المام الرازي ان المشركين‬
‫ارادوا بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من‬
‫شئ الخ انه لما كان الكل من التوحيد والشرك‬
‫والهدى والضلل ‪ /‬صفحة ‪ / 246‬من الله كانت‬
‫بعثة النبياء عبثا فنقول هذا اعتراض على الله‬
‫وجار مجرى طلب العلة في احكامه وافعاله تعالى‬
‫وذلك باطل فل يقال له لم فعلت هذا ولم لم‬
‫تفعل ذلك ؟ قال فثبت ان الله تعالى انما ذم‬
‫هؤلء القائلين لنهم اعتقدوا ان كون المر كذلك‬
‫يمنع عن جواز بعثة الرسل ل لنهم كذبوا في‬
‫قولهم ذلك انتهى ملخصا ‪ .‬وقال الزمخشري ان‬
‫المشركين فعلوا ما فعلوا من القبيح ثم نسبوه‬
‫إلى ربهم وقالوا لو شاء الله إلى آخره وهذا‬
‫مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل اسلفهم فهل‬
‫على الرسل ال ان يبلغوا الحق وان الله ل يشاء‬
‫الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على‬
‫بطلن الشرك وقبحه وبراءة الله من افعال العباد‬
‫وانهم فاعلوها بقصدهم وارادتهم واختيارهم وان‬
‫الله باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم‬
‫عن قبيحها وموعدهم عليه انتهى موضع الحاجة‬
‫وقد اطالوا البحث عن ذلك من الجانبين ‪ .‬وقد‬
‫عرفت ان اليات تروم غرضا وراء ذلك وان‬
‫مرادهم بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من‬
‫شئ الخ ابطال الرسالة بأن ما اتى به الرسل من‬
‫النهى عن عبادة غير الله وتحريم ما لم يحرمه الله‬
‫لو كان حقا لكان الله مريدا لتركهم عبادة غيره‬
‫وتحريم ما لم يحرمه ولو كان مريدا ذلك لم يتحقق‬
‫منهم وليس كذلك واما إن الرادة اللهية تعلقت‬
‫بفعلهم فوجب أو انها لم تتعلق ومن المحال أن‬
‫تتعلق وليست افعالهم إل مخلوقة لنفسهم من‬
‫غير ان يكون لله سبحانه فيها صنع فانما ذلك امر‬
‫خارج عن مدلول كلمهم اجنبي عن الحجة التى‬
‫اقاموها على ما يستفاد من السياق كما تقدم ‪.‬‬
‫وفي قوله وما لهم من ناصرين دللة على ان‬
‫لغيرهم ناصرين كثيرين وذلك ان السياق يدل على‬
‫انه ليس لهم ناصر اصل ل واحد ول كثير فنفى‬
‫الناصرين بصيغة الجمع يكشف عن عناية زائدة‬
‫بذلك أي ان هناك ناصرين لكنهم ليسوا لهم بل‬
‫لغيرهم وليس ال من يهتدى بهدى الله ونظير الية‬
‫ما حكاه الله سبحانه عن المجرمين يوم القيامة ‪" :‬‬
‫فما لنا من شافعين " الشعراء ‪ . 100 :‬وهؤلء‬
‫الناصرون هم الملئكة الكرام وسائر اسباب‬
‫التوفيق والهداية والله سبحانه من ورائهم محيط‬
‫قال تعالى ‪ " :‬إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في‬
‫الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد " المؤمن ‪/ . 51 :‬‬
‫صفحة ‪ / 247‬قوله تعالى ‪ " :‬واقسموا بالله جهد‬
‫ايمانهم ل يبعث الله من يموت بلى " إلى آخر الية‬
‫قال في المفردات الجهد بفتح الجيم وضمها‬
‫الطاقة والمشقة ابلغ من الجهد بالفتح قال وقال‬
‫تعالى ‪ " :‬واقسموا بالله جهد ايمانهم " أي حلفوا‬
‫واجتهدوا في الحلف ان يأتوا به على ابلغ ما في‬
‫وسعهم انتهى ‪ .‬وقال في المجمع في معنى قوله‬
‫واقسموا بالله جهد ايمانهم أي بلغوا في القسم‬
‫كل مبلغ انتهى ‪ .‬وقولهم ل يبعث الله من يموت‬
‫انكار للحشر والجملة كناية عن ان الموت فناء فل‬
‫يتعلق به بعده خلق جديد وهذا ل ينافى قول كلهم‬
‫أو جلهم بالتناسخ فانه قول بتعلق النفس بعد‬
‫مفارقتها البدن ببدن آخر انسانى أو غير انسانى‬
‫وعيشها في الدنيا وهو قولهم بالتولد بعد التولد ‪.‬‬
‫وقوله بلى وعدا عليه حقا أي ليس المر كما‬
‫يقولون بل يبعث الله من يموت وعده وعدا ثابتا‬
‫عليه حقا أي ان الله سبحانه اوجبه على نفسه‬
‫بالوعد الذى وعد عباده واثبته اثباتا فل يتخلف ول‬
‫يتغير ‪ .‬وقوله ولكن اكثر الناس ل يعلمون أي ل‬
‫يعلمون انه من الوعد الذى ل يخلف والقضاء الذى‬
‫ل يتغير لعراضهم عن اليات الدالة عليه الكاشفة‬
‫عن وعده وهى خلق السماوات والرض واختلف‬
‫الناس بالظلم والطغيان والعدل والحسان‬
‫والتكليف النازل في الشرائع اللهية ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم‬
‫الذين كفروا انهم كانوا كاذبين " اللم للغاية‬
‫والغرض أي يبعث الله من يموت ليبين لهم الخ‬
‫والغايتان في الحقيقة غاية واحدة فان الثانية من‬
‫متفرعات الولى ولوازمها فان الكافرين انما‬
‫يعلمون انهم كانوا كاذبين في نفى المعاد من‬
‫جهة تبين الختلف الذى ظهر بينهم وبين الرسل‬
‫بسبب اثبات المعاد ونفيه وظهور المعاد لهم عيانا‬
‫‪ .‬وتبين ما اختلف فيه الناس من شؤن يوم‬
‫القيامة وقد تكرر في كلمه هذا‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 247‬‬
‫التعبير وما في معناه تكرارا صح معه جعل تبيين‬
‫الختلف معرفا لهذا اليوم الذى ثقل في‬
‫السماوات والرض وعلى ذلك يتفرع ما قصه الله‬
‫سبحانه في كلمه من تفاصيل ‪ /‬صفحة ‪ / 248‬ما‬
‫يجرى فيه من المرور على الصراط وتطاير الكتب‬
‫ووزن العمال والسؤال والحساب وفصل القضاء‬
‫ومن المعلوم وخاصة من سياق آيات القيامة ان‬
‫المراد بالختلف ليس ما يوجد بينهم بحسب‬
‫الخلقة بنحو ذكورة وانوثة وطول وقصر وبياض‬
‫وسواد بل ما يوجد في دين الحق من الختلف في‬
‫اعتقاد أو عمل وقد بين الله ذلك لهم في هذه‬
‫النشأة الدنيوية في كتبه المنزلة وبلسان انبيائه‬
‫بكل طريق ممكن كما يقول بعد عدة آيات ‪ " :‬وما‬
‫انزلنا عليك الكتاب ال لتبين لهم الذى اختلفوا فيه‬
‫" الية ‪ 64 :‬من السورة ‪ .‬ومن هنا يظهر للمتدبر‬
‫ان البيان الذى يخبر تعالى عنه ويخصه بيوم‬
‫القيامة نوع آخر من الظهور والوضوح غير ما‬
‫يتمشى من الكتاب والنبوة في هذه الدنيا من‬
‫البيان بالحكمة والموعظة والجدال بالتى هي‬
‫احسن وليس ال العيان الذى ل يتطرق إليه شك‬
‫وارتياب ول يهجس معه خطور نفساني بالخلف‬
‫كما يشير إليه قوله تعالى ‪ " :‬لقد كنت في غفلة‬
‫من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد‬
‫" ق ‪ 22 :‬وقوله ‪ " :‬يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق‬
‫ويعلمون ان الله هو الحق المبين " النور ‪. 25 :‬‬
‫فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من‬
‫المعارف الدينية الحقة والعمال الصالحة وما‬
‫اخلدوا إليه من الباطل ويفصل بينهم بظهور الحق‬
‫وانجلئه ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬انما قولنا لشئ إذا‬
‫اردناه ان نقول له كن فيكون " هو نظير قوله في‬
‫موضع آخر ‪ " :‬انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له‬
‫كن فيكون " يس ‪ 82 :‬ومنه يعلم انه تعالى يسمى‬
‫امره قول كما يسمى امره وقوله من حيث قوته‬
‫واحكامه وخروجه عن البهام وكونه مرادا حكما‬
‫وقضاء قال تعالى ‪ " :‬وما اغنى عنكم من الله من‬
‫شئ ان الحكم إل لله " يوسف ‪ 67 :‬وقال ‪" :‬‬
‫وقضينا إليه ذلك المر إن دابر هؤلء مقطوع‬
‫مصبحين " الحجر ‪ 66 :‬وقال ‪ " :‬وإذا قضى امرا‬
‫فانما يقول له كن فيكون " البقرة ‪ 117 :‬وكما‬
‫يسمى قوله الخاص كلمة قال تعالى ‪ " :‬ولقد‬
‫سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم‬
‫المنصورون " الصافات ‪ 172 :‬وقال ‪ " :‬ان مثل‬
‫عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال‬
‫له كن فيكون " آل عمران ‪ /‬صفحة ‪ 59 / 249‬ثم‬
‫قال في عيسى عليه السلم ‪ " :‬وكلمة القاها إلى‬
‫مريم وروح منه " ‪ :‬النساء ‪ . 171 :‬فتحصل من‬
‫ذلك كله ان ايجاده تعالى اعني ما يفيضه على‬
‫الشياء من الوجود من عنده وهو بوجه نفس وجود‬
‫الشئ الكائن هو امره وقوله حسب ما يسميه‬
‫القرآن وكلمته لكن الظاهر ان الكلمة هي القول‬
‫باعتبار خصوصيته وتعينه ‪ .‬ويتبين بذلك ان ارادته‬
‫وقضاءه واحد وانه بحسب العتبار متقدم على‬
‫القول والمرفهو سبحانه يريد شيئا ويقضيه ثم‬
‫يامره ويقول له كن فيكون وقد علل عدم تخلف‬
‫الشياء عن امره بالطف التعليل إذ قال ‪ " :‬وهو‬
‫الذى خلق السماوات والرض بالحق يوم يقول كن‬
‫فيكون قوله الحق " النعام ‪ 73 :‬فافاد ان قوله‬
‫هو الحق الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس‬
‫العين الخارجية التى هي فعله فل معنى لفرض‬
‫التخلف فيه وعروض الكذب أو البطلن عليه فمن‬
‫الضرورى ان الواقع ل يتغير عما هو عليه فل‬
‫يخطئ ول يغلط في فعله ول يرد امره ول يكذب‬
‫قوله ول يخلف في وعده ‪ .‬وقد تبين ايضا من هذه‬
‫الية ومن قوله ‪ " :‬وقال الذين اشركوا لو شاء‬
‫الله ما عبدنا من دونه من شئ " الخ ان لله‬
‫سبحانه ارادتين ارادة تكوين ل يتخلف عنها المراد‬
‫وارادة تشريع يمكن ان تعصى وتطاع وسنستوفي‬
‫هذا البحث بعض الستيفاء ان شاء الله ) بحث‬
‫روائي ( في تفسير القمى باسناده عن ابى جعفر‬
‫عليه السلم في قوله ‪ " :‬قد مكر الذين من قبلهم‬
‫فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف‬
‫من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث ل يشعرون‬
‫قال بيت مكرهم أي ماتوا وابقاهم الله في النار "‬
‫وهو مثل لعداء آل محمد ‪ .‬اقول وظاهره ان قوله‬
‫فأتى الله بنيانهم الخ كناية عن بطلن مكرهم ‪.‬‬
‫وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى‬
‫جعفر عليه السلم قال فأتى الله ‪ /‬صفحة ‪/ 250‬‬
‫بنيانهم من القواعد قال كان بيت غدر يجتمعون‬
‫فيه إذا ارادوا الشر وفي تفسير القمى في قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬قال الذين اوتوا العلم " الية قال قال‬
‫عليه السلم الذين اوتوا العلم الئمة يقولون‬
‫لعدائهم اين شركاؤكم ومن اطعتموهم في الدنيا‬
‫؟ ثم قال قال فهم ايضا الذين تتوفاهم الملئكة‬
‫ظالمي انفسهم فالقوا السلم سلموا لما اصابهم‬
‫من البلء ثم يقولون ما كنا نعمل من سوء فرد‬
‫الله عليهم فقال بلى الخ وفي امالي الشيخ‬
‫باسناده عن ابى اسحاق الهمداني عن امير‬
‫المؤمنين عليه السلم ‪ :‬فيما كتبه إلى اهل مصر‬
‫قال يا عباد الله ان اقرب ما يكون العبد من‬
‫المغفرة والرحمة حين يعمل بطاعته وينصح في‬
‫توبته عليكم بتقوى الله فانها يجمع الخير ول خير‬
‫غيرها‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 250‬‬
‫ويدرك بها من خير الدنيا وخير الخرة قال عز‬
‫وجل ‪ " :‬وقيل للذين اتقوا ماذا انزل ربكم قالوا‬
‫خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار‬
‫الخرة خير ولنعم دار المتقين وفي تفسير‬
‫العياشي عن ابن مسكان عن ابى جعفر عليه‬
‫السلم ‪ :‬في قوله ولنعم دار المتقين قال الدنيا‬
‫وفي تفسير القمى ‪ :‬في قوله الذين تتوفاهم‬
‫الملئكة طيبين قال قال عليه السلم هم‬
‫المؤمنون الذين طابت مواليدهم في الدنيا ‪ .‬اقول‬
‫وهو بالنظر إلى ما يقابله من قوله الذين تتوفاهم‬
‫الملئكة ظالمي انفسهم الية ل يخلو عن خفاء‬
‫والرواية ضعيفة ‪ .‬وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى‬
‫حاتم عن السدى قال " ‪ :‬اجتمعت قريش فقالوا‬
‫ان محمدا رجل حلو اللسان ‪ -‬إذا كلمه الرجل ذهب‬
‫بعقله فانظروا اناسا من اشرافكم المعدودين‬
‫المعروفة انسابهم فابعثوهم في كل طريق من‬
‫طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين فمن جاء‬
‫يريده فردوه عنه ‪ .‬فخرج ناس منهم في كل‬
‫طريق فكان إذا اقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما‬
‫يقول محمد ؟ فينزل بهم قالوا له انا فلن بن‬
‫فلن فيعرفه بنسبه ويقول انا اخبرك بمحمد فل‬
‫يريد ان يعنى إليه هو رجل كذاب لم يتبعه على‬
‫امره إل السفهاء والعبيد ومن ل خير فيه واما‬
‫شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع احدهم‬
‫فذلك قوله ‪ /‬صفحة ‪ / 251‬وإذا قيل لهم ما ذا‬
‫انزل ربكم قالوا اساطير الولين ‪ .‬فإذا كان الوافد‬
‫ممن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك‬
‫في محمد قال بئس الوافد انا لقومي ان كنت‬
‫جئت حتى بلغت إل مسيرة يوم رجعت قبل ان‬
‫القى هذا الرجل وانظر ما يقول وآتى قومي‬
‫ببيان امره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم‬
‫ماذا يقول محمد فيقولون خيرا للذين احسنوا في‬
‫هذه الدنيا حسنة يقول مال ولدار الخرة خير وهى‬
‫الجنة ‪ .‬اقول والعتبار يساعد على القصة وما في‬
‫آخرها من تفسير الحسنة بالمال غير مرضي ‪.‬‬
‫وفي الكافي باسناده عن صفوان بن يحيى قال ‪:‬‬
‫قلت لبي الحسن عليه السلم اخبرني عن الرادة‬
‫من الله ومن الخلق قال فقال الرادة من الخلق‬
‫الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل واما من‬
‫الله تعالى فارادته احداثه ل غير ذلك لنه ل يروى‬
‫ول يهم ول يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهى‬
‫صفات الخلق فاراده الله الفعل ل غير ذلك يقول‬
‫له كن فيكون بل لفظ ول نطق بلسان ول همه ول‬
‫تفكر ول كيف لذلك كما انه ل كيف له وفي الدر‬
‫المنثور اخرج احمد والترمذي وحسنة وابن ابى‬
‫حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب اليمان‬
‫واللفظ له عن ابى ذر عن رسول الله صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم قال ‪ :‬يقول الله يا بن آدم كلكم‬
‫مذنب إل من عافيت فاستغفروني اغفر لكم‬
‫وكلكم فقراء ال من اغنيت فسلوني اعطكم‬
‫وكلكم ضال ال من هديت فسلوني الهدى اهدكم‬
‫ومن استغفرني وهو يعلم انى ذو قدرة على ان‬
‫اغفر له غفرت له ول ابالى ‪ .‬ولو ان اولكم‬
‫وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا‬
‫على قلب اشقى واحد منكم ما نقص ذلك من‬
‫سلطاني مثل جناح بعوضة ولو ان اولكم وآخركم‬
‫وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على‬
‫قلب اتقى واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل‬
‫جناح بعوضة ولو ان اولكم وآخركم وحيكم وميتكم‬
‫ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهى مسألة كل‬
‫واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك‬
‫مما عندي كغرز ابرة لو غمسها احدكم في‬
‫البحر ‪ / .‬صفحة ‪ / 252‬وذلك انى جواد ماجد واحد‬
‫عطائي كلم وعذابي كلم انما امرى لشئ إذا‬
‫اردته ان اقول له كن فيكون * * * والذين هاجروا‬
‫في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا‬
‫حسنة ولجر الخرة اكبر لو كانوا يعلمون ‪41 -‬‬
‫الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ‪ 42 -‬وما ارسلنا‬
‫من قبلك ال رجال نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر‬
‫ان كنتم ل تعلمون ‪ 43 -‬بالبينات والزبر وانزلنا‬
‫اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم‬
‫يتفكرون ‪ 44 -‬أفأمن الذين مكروا السيئات أن‬
‫يخسف الله بهم الرض أو يأتيهم العذاب من حيث‬
‫ل يشعرون ‪ 45 -‬أو ياخذهم في تقلبهم فما هم‬
‫بمعجزين ‪ 46 -‬أو يأخذهم على تخوف فان ربكم‬
‫لرؤف رحيم ‪ 47 -‬أو لم يروا إلى ما خلق الله من‬
‫شئ يتفيؤا ظلله عن اليمين والشمائل سجدا لله‬
‫وهم داخرون ‪ 48 -‬ولله يسجد ما في السموات‬
‫وما في الرض من دابة والملئكة وهم ل‬
‫يستكبرون ‪ 49 -‬يخافون ربهم من فوقهم‬
‫ويفعلون ما يؤمرون ‪ 50 -‬وقال الله ل تتخذوا‬
‫الهين اثنين انما هو اله واحد فإياى فارهبون ‪51 -‬‬
‫وله ما في السموات والرض وله الدين واصبا ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 253‬أفغير الله تتقون ‪ 52 -‬وما بكم من‬
‫نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون ‪-‬‬
‫‪ 53‬ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم‬
‫يشركون ‪ 54 -‬ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف‬
‫تعلمون ‪ 55 -‬ويجعلون لما ل يعلمون نصيبا مما‬
‫رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ‪56 -‬‬
‫ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ‪57 -‬‬
‫وإذا بشر احدهم بالنثى ظل وجهه مسودا وهو‬
‫كظيم ‪ 58 -‬يتوارى من القوم من سوء ما بشر به‬
‫أيمسكه على‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 253‬‬
‫هون أم يدسه في التراب أل ساء ما يحكمون ‪59 -‬‬
‫للذين ل يؤمنون بالخرة مثل السوء ولله المثل‬
‫العلى وهو العزيز الحكيم ‪ 60 -‬ولو يؤاخذ الله‬
‫الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن‬
‫يؤخرهم إلى اجل مسمى فإذا جاء اجلهم ل‬
‫يستأخرون ساعة ول يستقدمون ‪ 61 -‬ويجعلون‬
‫لله ما يكرهون وتصف السنتهم الكذب ان لهم‬
‫الحسنى ل جرم ان لهم النار وانهم مفرطون ‪62 -‬‬
‫تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم‬
‫الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب‬
‫اليم ‪ 63 -‬وما انزلنا عليك الكتاب ال لتبين لهم‬
‫الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ‪-‬‬
‫‪ / 64‬صفحة ‪ ) / 254‬بيان ( اليتان الوليان تذكران‬
‫الهجرة وتعدان المهاجرين في الله وعدا حسنا في‬
‫الدنيا والخرة وباقى اليات تعقب حديث شركهم‬
‫بالله وتشريعهم بغير اذن الله وهى بحسب المعنى‬
‫تفصيل القول في الجواب عن عد المشركين‬
‫الدعوة النبوية إلى ترك عبادة اللهة وتحريم ما لم‬
‫يحرمه الله امرا محال كما اشير إليه في قوله‬
‫وقال الذين اشركوا الخ ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬والذين‬
‫هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في‬
‫الدنيا حسنة ولجر الخرة خير لو كانوا يعلمون "‬
‫وعد جميل للمهاجرين وقد كانت من المؤمنين‬
‫هجرتان عن مكة احداهما إلى حبشة هاجرتها عدة‬
‫من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫باذن من الله ورسوله إليها ولبثوا فيها حينا في‬
‫امن وراحة من اذى مشركي مكة وعذابهم‬
‫وفتنتهم ‪ .‬والثانية هجرتهم من مكة إلى المدينة‬
‫بعد مهاجره النبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫والظاهر ان المراد بالهجرة في الية هي الهجرة‬
‫الثانية فسياق اليتين اكثر ملءمة لها من الولى‬
‫وهو ظاهر ‪ .‬وقوله في الله متعلق بهاجروا‬
‫والمراد بكون المهاجرة في الله ان يكون طلب‬
‫مرضاته محيطا بهم في مهاجرتهم ل يخرجون منه‬
‫إلى غرض آخر كما يقال سافر في طلب العلم‬
‫وخرج في طلب المعيشة أي ل غاية له ال طلب‬
‫العلم ول بغية له ال طلب المعيشة والسياق‬
‫يعطى ان قوله من بعد ما ظلموا ايضا مقيد بذلك‬
‫معنى والتقدير والذين هاجروا في الله من بعد ما‬
‫ظلموا فيه وانما حذف اختصارا وانما اكتفى به‬
‫قيدا للمهاجرة لنها محل البتلء فتخصيصه‬
‫بايضاح الحال اولى ‪ .‬وقوله لنبوئنهم في الدنيا‬
‫حسنة قيل أي بلدة حسنة بدل مما تركوه من‬
‫وطنهم كمكة وحواليها بدليل قوله لنبوئنهم فانه‬
‫من بوأت له مكانا أي سويت واقررته فيه ‪ .‬وقيل‬
‫أي حالة حسنة من الفتح والظفر ونحو ذلك فيكون‬
‫قوله لنبوئنهم ‪ /‬صفحة ‪ / 255‬الخ من الستعارة‬
‫بالكناية ‪ .‬والوجهان متحدان مآل فانهم انما كانوا‬
‫يهاجرون ليعقدوا مجتمعا اسلميا طيبا ل يعبد فيه‬
‫ال الله ول يحكم فيه ال العدل والحسان أو‬
‫ليدخلوا في مجتمع هذا شأنه فلو رجعوا في‬
‫مهاجرهم غاية حسنة أو وعدوا بغاية حسنة كان‬
‫ذلك هذا المجتمع الصالح ولو حمدوا البلدة التى‬
‫يهاجرون إليها لكان حمدهم للمجتمع السلمي‬
‫المستقر فيها ل لمائها أو هوائها فالغاية الحسنة‬
‫التى يعدهم الله في الدنيا هي هذا المجتمع سواء‬
‫اريد بالحسنة البلدة أو الغاية ‪ .‬وقوله ولجر الخرة‬
‫اكبر لو كانوا يعلمون تتميم للوعد واشارة إلى ان‬
‫أجر الخرة افضل من هذا الجر الدنيوي لو كانوا‬
‫يعلمون ما اعد الله لهم فيها من النعم فان فيها‬
‫سعادة من غير شقاء وخلودا من غير فناء ولذة‬
‫غير مشوبة بألم وجوار رب العالمين ‪ .‬قوله تعالى‬
‫الذين ‪ " :‬صبروا وعلى ربهم يتوكلون ل يبعد ان‬
‫يستفاد من سياق اليتين ان جملة العناية فيهما‬
‫إلى وعد المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا‬
‫والخرة من غير نظر إلى الخبار بتحقق المهاجرة‬
‫قبل حال الخطاب فيكون الكلم في معنى‬
‫الشتراط من يهاجر في الله فله كذا وكذا وتكون‬
‫العناية في قوله الذين صبروا الخ بتوصيف‬
‫المهاجرين بالصبر والتوكل من غير نظر إلى ما‬
‫تحقق منهم من ذلك ايام توقفهم في اوطانهم‬
‫بين المشركين قبال إذا هم وفتنتهم ‪ .‬والعناية‬
‫بالتوصيف انما هي لكون كلتا الصفتين دخيلتين‬
‫في الغاية الحسنة التى وعدوا بها إذ لو لم يصبروا‬
‫على مر الجهاد واظهروا الجزع عند هجوم العظائم‬
‫ولم يتأيدوا بالتوكل على الله واعتمدوا على‬
‫انفسهم الضعيفة احيط بهم ولم يتهيأ لهم‬
‫المستقر وفرقهم العدو المصر على عداوته بددا‬
‫وتلشى المجتمع الصالح الذى اقاموه في‬
‫مهاجرهم هذا في الدنيا واما امر الخرة ففساده‬
‫بفساد المجتمع أو تلشيه اوضح ‪ .‬ولو كان المراد‬
‫وعد المهاجرين الذين تحقق منهم الهجرة قبل‬
‫نزول الية تطييبا لنفوسهم وتسلية لهم عما‬
‫اخرجوا من ديارهم واموالهم وقاسوا الفتن‬
‫والمحن كان قوله الذين صبروا وعلى ربهم‬
‫يتوكلون مدحا لهم بما ظهر منهم ايام اقامتهم‬
‫بمكة ‪ /‬صفحة ‪ / 256‬وغيرها من الصبر في الله‬
‫على اذى المشركين والتوكل على الله فيما عزموا‬
‫عليه من السلم لله قوله تعالى ‪ " :‬وما ارسلنا‬
‫من قبلك إل رجال نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر‬
‫إن كنتم ل تعلمون رجوع ثان إلى بيان كيفية‬
‫ارسال الرسل وانزال الكتب حتى‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 256‬‬
‫يتضح للمشركين انه لم تكن الدعوة الدينية إل‬
‫دعوة عادية من رجال يوحى إليهم من البشر‬
‫يندبون إلى ما فيه صلح الناس في دنياهم‬
‫وعقباهم ‪ .‬وانه لم يدع احد من الرسل ول ادعى‬
‫في كتاب من كتب الشرائع إن الدعوة الدينية‬
‫ظهور للقدرة الغيبية القاهرة لكل شئ والرادة‬
‫التكوينية لهدم النظام الجارى ونقض سنة الختيار‬
‫وابطالها حتى يقول القائل منهم لو شاء الله ما‬
‫عبدنا من دونه من شئ الخ ‪ .‬وعلى هذا فقوله‬
‫سبحانه ‪ " :‬وما ارسلنا من قبلك إل رجال نوحي‬
‫إليهم " مسوق لحصر الرسالة على البشر العادى‬
‫من رجال يوحى إليهم قبال ما ادعاه المشركون‬
‫انها لو كانت لكانت نقضا لنظام الطبيعة وابطال‬
‫للختيار والستطاعة ‪ .‬وبه يظهر عدم استقامة ما‬
‫ذكره غير واحد منهم ان الية مسوقة لرد‬
‫المشركين من قريش حيث كانوا يزعمون ان‬
‫البشر ل يصلح للرسالة وانها لو كانت فهى من‬
‫شأن الملئكة فالية تخبر ان السنة اللهية جرت‬
‫حسب ما اقتضته الحكمة على ان ل يبعث للدعوة‬
‫الدينية إل رجال من البشر يوحى إليهم المعارف‬
‫والوامر والنواهي ‪ .‬وذلك ان سياق اليات ل‬
‫يساعد على ذلك ولم يتقدم في الكلم ذكر‬
‫لقولهم ذلك أو لقتراحهم بعثة الملئكة للرسالة‬
‫حتى يوجه الكلم إلى ذلك ‪ .‬وانما الذى تقدم هو‬
‫قول المشركين لو شاء الله ما عبدنا من دونه من‬
‫شئ الخ وكان مسوقا لثبات استحالة النبوة ل‬
‫لكونها من شأن الملئكة ‪ .‬واستدل بعضهم بالية‬
‫على ان الله سبحانه لم يرسل صبيا ول امرأة‬
‫واستشكل بنبوة عيسى عليه السلم في المهد‬
‫واجيب بأن النبوة اعم من الرسالة والذى اثبته‬
‫عيسى لنفسه بقوله ‪ " :‬إنى عبد الله آتانى الكتاب‬
‫وجعلني نبيا " مريم ‪ 30 :‬هي النبوة دون‬
‫الرسالة ‪ / .‬صفحة ‪ / 257‬وفيه ان الستدلل‬
‫المذكور بالية انما هو بقوله وما ارسلنا وهذا‬
‫الفعل كما يتعلق في القرآن بالرسول كذلك يتعلق‬
‫بالنبي غير الرسول قال تعالى ‪ " :‬وما ارسلنا من‬
‫قبلك من رسول ول نبى " الية فلو تم الستدلل‬
‫المذكور لدل على حرمان الطفال والنساء عن‬
‫الرسالة والنبوة جميعا وقد حكى الله عن عيسى‬
‫عليه السلم قوله ‪ " :‬إنى عبد الله آتانى الكتاب‬
‫وجعلني نبيا " مريم ‪ 30 :‬وقال في يحيى عليه‬
‫السلم ‪ " :‬وآتيناه الحكم صبيا " مريم ‪. 12 :‬‬
‫والحق ان الية وما أرسلنا من قبلك إل رجال انما‬
‫هي في مقام بيان ان الرسل كانوا رجال من‬
‫البشر العادى من غير عناية بكونهم اول ما بعثوا‬
‫للرسالة افرادا بالغين مبلغ الرجال فالغرض ان‬
‫نوحا وابراهيم وموسى وعيسى ويحيى عليهم‬
‫السلم وهم رسل كانوا رجال يوحى إليهم ولم‬
‫يكونوا اشخاصا مجهزين بقدرة قاهرة غيبية وارادة‬
‫الهية تكوينية ‪ .‬ويقرب من الية قوله تعالى في‬
‫موضع آخر ‪ " :‬وما ارسلنا قبلك ال رجال نوحي‬
‫إليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم ل تعلمون وما‬
‫جعلناهم جسدا ل يأكلون الطعام وما كانوا خالدين‬
‫" النبياء ‪ . 8 :‬وقوله ‪ " :‬فاسألوا اهل الذكر ان‬
‫كنتم ل تعلمون الظاهر انه خطاب للنبى صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم ولقومه وقد كان الخطاب في‬
‫سابق الكلم للنبى صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫خاصة والمعنى موجه إلى الجميع فهو تعميم‬
‫الخطاب للجميع ليتخذ كل من المخاطبين سبيله‬
‫فمن كان ل يعلم ذلك كبعض المشركين راجع اهل‬
‫الذكر واسألهم ومن كان يعلم ذلك كالنبى صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به كان في غنى‬
‫عن الرجوع والسؤال ‪ .‬وقيل ان الخطاب في الية‬
‫للمشركين فانهم هم المنكرون فليرجعوا‬
‫وليسألوا وفيه ان لزم ذلك كون الجملة التفاتا من‬
‫خطاب الفرد إلى خطاب الجميع ول نكتة ظاهرة‬
‫تصحح ذلك والله اعلم ‪ .‬والذكر حفظ معنى الشئ‬
‫أو استحضاره ويقال لما به يحفظ أو يستحضر قال‬
‫الراغب في المفردات الذكر تارة يقال ويراد به‬
‫هيئة للنفس بها يمكن للنسان ان يحفظ ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 258‬ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إل إن‬
‫الحفظ يقال اعتبارا باحرازه والذكر يقال اعتبارا‬
‫باستحضاره وتاره يقال لحضور الشئ في القلب‬
‫أو القول ولذلك قيل الذكر ذكران ذكر بالقلب‬
‫وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان ذكر عن‬
‫نسيان وذكر ل عن نسيان بل عن ادامة الحفظ‬
‫انتهى موضع الحاجة ‪ .‬والظاهر ان الصل فيه ما‬
‫هو للقلب وانما يسمى اللفظ ذكرا اعتبارا بافادته‬
‫المعنى والقائه اياه في الذهن وعلى هذا المعنى‬
‫جرى استعماله في القرآن غير ان مورده فيه ذكر‬
‫الله تعالى فالذكر إذا اطلق فيه ولم يتقيد بشئ‬
‫هو ذكره ‪ .‬وبهذه العناية ايضا سمى القرآن وحى‬
‫النبوة والكتب المنزلة على النبياء ذكرا واليات‬
‫في ذلك كثيرة ل حاجة إلى ايرادها في هذا‬
‫الموضع وقد سمى الله سبحانه في الية التالية‬
‫القرآن ذكرا ‪ .‬فالقرآن الكريم ذكر كما ان كتاب‬
‫نوح وصحف ابراهيم وتوراة موسى وزبور داود‬
‫وانجيل عيسى عليهم السلم وهى الكتب‬
‫السماوية المذكورة في القرآن كلها ذكر واهلها‬
‫المتعاطون لها المؤمنين بها اهل الذكر ‪ .‬ولما كان‬
‫اهل الشئ وخاصته اعرف بحاله وابصر باخباره‬
‫كان على من يريد‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 258‬‬
‫التبصر في امره ان يرجع إلى اهله واهل الكتب‬
‫السماوية القائمون على دراستها وتعلمها والعمل‬
‫بشرائعها هم اهل الخبرة بها والعالمون باخبار‬
‫النبياء الجائين بها فعلى من اراد الطلع على‬
‫شئ من امرهم ان يراجعهم ويسألهم ‪ .‬لكن‬
‫المشركين المخاطبين بمثل قوله فاسألوا اهل‬
‫الذكر لما كانوا ل يسلمون للنبى صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم النبوة ول يصدقونه في دعواه‬
‫ويستهزؤن بالقرآن ذى الذكر كما يذكره تعالى في‬
‫قوله ‪ " :‬وقالوا يا ايها الذى نزل عليه الذكر انك‬
‫لمجنون " الحجر ‪ 6 :‬لم ينطبق قوله فاسألوا اهل‬
‫الذكر بحسب المورد ال على اهل التوراة وخاصة‬
‫من حيث كونهم اعداء للنبى صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم رادين لنبوته وكانت نفوس المشركين طيبة‬
‫بهم لذلك وقد قالوا في المشركين ‪ " :‬هؤلء‬
‫اهدى من الذين آمنوا سبيل " النساء ‪ . 51 :‬وقال‬
‫بعضهم المراد باهل الذكر اهل العلم باخبار من‬
‫مضى من المم سواء أكانوا مؤمنين ام كفارا ؟‬
‫وسمى العلم ذكرا لن العلم بالمدلول يحصل غالبا‬
‫من ‪ /‬صفحة ‪ / 259‬تذكر الدليل فهو من قبيل‬
‫تسمية المسبب باسم السبب ‪ .‬وفيه انه من‬
‫المجاز من غير قرينة موجبة للحمل عليه على ان‬
‫المعهود من الموارد التى ورد فيها الذكر في‬
‫القرآن الكريم غير هذا المعنى ‪ .‬وقال بعضهم‬
‫المراد باهل الذكر اهل القرآن لن الله سماه ذكرا‬
‫واهله النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه‬
‫وخاصة المؤمنين وفيه ان كون القرآن ذكرا واهله‬
‫اهله ل ريب فيه لكن اراده ذلك من الية خاصة ل‬
‫تلئم تمام الحجة فان اولئك لم يكونوا مسلمين‬
‫لنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف‬
‫يقبلون من اتباعه من المؤمنين ؟ وكيف كان‬
‫فالية ارشاد إلى اصل عام عقلئي وهو وجوب‬
‫رجوع الجاهل إلى اهل الخبرة وليس ما تتضمنه‬
‫من الحكم حكما تعبديا ول امر الجاهل بالسؤال‬
‫عن العالم ول بالسؤال عن خصوص اهل الذكر‬
‫امرا مولويا تشريعيا وهو ظاهر ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫بالبينات والزبر متعلق بمقدر يدل عليه ما في الية‬
‫السابقة من قوله وما ارسلنا أي ارسلناهم‬
‫بالبينات والزبر وهى اليات الواضحة الدالة على‬
‫رسالتهم والكتب المنزلة عليهم ‪ .‬وذلك ان العناية‬
‫في الية السابقة انما هي ببيان كون الرسل بشرا‬
‫على العادة فحسب فكأنه لما ذكر ذلك اختلج في‬
‫ذهن السامع انهم بماذا ارسلوا ؟ فاجيب عنه‬
‫فقيل بالبينات والزبر اما البينات فلثبات رسالتهم‬
‫واما الزبر فلحفظ تعليماتهم ‪ .‬وقيل هو متعلق‬
‫بقوله وما ارسلنا أي وما ارسلنا بالبينات والزبر ال‬
‫رجال نوحي إليهم وفيه انه ل بأس به في نفسه‬
‫لكنه مفوت لما تقدم من النكتة ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‬
‫ولعلهم يتفكرون " لشك ان تنزيل الكتاب على‬
‫الناس وانزال الذكر على النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم واحد بمعنى ان تنزيله على الناس هو‬
‫انزاله إليه لياخذوا به ويوردوه مورد العمل كما‬
‫قال تعالى ‪ " :‬يا ايها الناس قد جاءكم برهان من‬
‫ربكم وانزلنا اليكم نورا مبينا " النساء ‪ 174 :‬وقال‬
‫‪ " :‬لقد انزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفل تعقلون "‬
‫النبياء ‪ . 10 :‬فيكون محصل المعنى ان القصد‬
‫بنزول هذا الذكر إلى عامة البشر وانك والناس‬
‫في ذلك سواء وانما اخترناك لتوجيه الخطاب‬
‫والقاء القول ل لنحملك قدرة غيبية ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 260‬وارادة تكوينية الهية فنجعلك مسيطرا‬
‫عليهم وعلى كل شئ بل لمرين احدهما ان تبين‬
‫للناس ما نزل تدريجا إليهم لن المعارف اللهية ل‬
‫ينالها الناس بل واسطة فل بد من بعث واحد منهم‬
‫للتبيين والتعليم وهذا هو غرض الرسالة ينزل إليه‬
‫الوحى فيحمله ثم يؤمر بتبليغه وتعليمه تبيينه ‪.‬‬
‫والثانى رجاء أن يتفكروا فيك فيتبصروا ان ما‬
‫جئت به حق من عند الله فان الوضاع المحيطة بك‬
‫والحوادث والحوال الواردة عليك في مدى حياتك‬
‫من اليتم وخمود الذكر والحرمان من التعلم‬
‫والكتابة وفقدان مرب صالح والفقر والحتباس‬
‫بين قوم جهلة اخساء صفر اليدى من مزايا‬
‫المدنية وفضائل النسانية كانت جميعا اسبابا‬
‫قاطعة ان ل تذوق من عين الكمال قطرة ول‬
‫تقبض من عرى السعادة على مسكة لكن الله‬
‫سبحانه انزل اليك ذكرا تتحدى به على الجن‬
‫والنس مهيمنا على سائر الكتب السماوية تبيانا‬
‫لكل شئ وهدى ورحمة وبرهانا ونورا مبينا ‪.‬‬
‫فالتفكر فيك نعم الدليل الهادى إلى ان ليس لك‬
‫فيما جئت به صنع ول لك من المر شئ وان الله‬
‫انزله بعلمه وايدك لذلك بقدرته من غير ان يداخله‬
‫من السباب العادية شئ ‪ .‬هذا ما تفيده الية‬
‫الكريمة نظرا إلى سياقها وسياق ما قبلها‬
‫ومحصله ان قوله لتبين الخ غاية للنزال ل لنفسه‬
‫بل من حيث تعلقه بشخص النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم وان متعلق يتفكرون المحذوف هو نحو‬
‫قولنا فيك ل قولنا في الذكر ‪ .‬لكن القوم ذكروا‬
‫ان قوله لتبين غاية للنزال وان المراد بالتفكر‬
‫التفكر في الذكر ليعلم بذلك انه حق ومعنى الية‬
‫على هذا وانزلنا اليك الذكر أي‬
‫‪............................................................‬‬
‫ص‬ ‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪21‬‬
‫‪: 260‬‬
‫القرآن لتبين للناس كافة ما نزل إليهم في ذلك‬
‫الذكر من اصول المعارف والحكام والشرائع‬
‫واحوال المم الماضية وما جرى فيهم من سنة‬
‫الله تعالى ولرجاء ان يتفكروا في الذكر فيهتدوا‬
‫إلى انه حق من عند الله أو يتفكروا فيما تبينه لهم‬
‫‪ .‬وانت خبير بأن لزم ذلك اول شبه تحصيل‬
‫الحاصل في انزاله إليه ليبين لهم ما نزل إليهم‬
‫والنزال واحد ول مدفع له ال ان يغير النظم إلى‬
‫مثل قولنا وانزلنا اليك الذكر لتبينه لهم ‪ / .‬صفحة‬
‫‪ / 261‬وثانيا كون قوله اليك مستدركا مستغنى‬
‫عنه وخاصة بالنظر إلى قوله ولعلهم يتفكرون‬
‫وذلك ان النزال غايته التبيين ول اثر في ذلك‬
‫لكونه صلى الله عليه وآله وسلم هو المنزل إليه‬
‫دون غيره وكذلك التفكر في الذكر غاية مرجوة‬
‫للعلم بانه حق من عند الله من غير نظر إلى من‬
‫انزل إليه ولزم ذلك كون قوله اليك زائدا في‬
‫الكلم ل حاجة إليه وثالثا انقطاع الية بسياقها‬
‫عن سياق الية السابقة عليها وما ارسلنا من‬
‫قبلك ال رجال نوحي إليهم واليات المتقدمة عليها‬
‫‪ .‬وههنا وجه آخر يمكن ان يندفع به بعض‬
‫الشكالت السابقة وهو كون المراد بالذكر المنزل‬
‫لفظ القرآن الكريم وبما نزل إليهم معاني الحكام‬
‫والشرائع وغيرها ويكون قوله لتبين غاية للنزال‬
‫وقوله ولعلهم يتفكرون معطوفا على مقدر وغاية‬
‫للتبيين ل للنزال وهو خلف ظاهر الية وعليك‬
‫باجادة التدبر فيها ‪ .‬ومن لطيف التعبير في الية‬
‫قوله وانزلنا اليك وما نزل إليهم بتفريق الفعلين‬
‫بالفعال الدال على اعتبار الجملة والدفعة‬
‫والتفعيل الدال على اعتبار التدريج ولعل الوجه‬
‫في ذلك ان العناية في قوله وانزلنا اليك بتعلق‬
‫النزال بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط من‬
‫غير نظر إلى خصوصية نفس النزال ولذلك اخذ‬
‫الذكر جملة واحدة فعبر عن نزوله من عنده تعالى‬
‫بالنزال ‪ .‬واما الناس فان الذى لهم من ذلك هو‬
‫الخذ والتعلم والعمل وقد كان تدريجيا ولذلك عنى‬
‫به وعبر عن نزوله إليهم بالتنزيل ‪ .‬وفي الية‬
‫دللة على حجية قول النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم في بيان اليات القرآنية واما ما ذكره‬
‫بعضهم ان ذلك في غير النص والظاهر من‬
‫المتشابهات أو فيما يرجع إلى اسرار كلم الله وما‬
‫فيه من التأويل فمما ل ينبغى ان يصغى إليه ‪ .‬هذا‬
‫في نفس بيانه صلى الله عليه وآله وسلم ويلحق‬
‫به بيان اهل بيته لحديث الثقلين المتواتر وغيره‬
‫واما سائر المة من الصحابة أو التابعين أو العلماء‬
‫فل حجية لبيانهم لعدم شمول الية وعدم نص‬
‫معتمد عليه يعطى حجية بيانهم على الطلق ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 262‬واما قوله تعالى ‪ " :‬فاسألوا اهل‬
‫الذكر ان كنتم ل تعلمون " فقد تقدم انه ارشاد‬
‫إلى حكم العقلء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم‬
‫من غير اختصاص الحكم بطائفة دون طائفة ‪ .‬هذا‬
‫كله في نفس بيانهم المتلقى بالمشافهة واما‬
‫الخبر الحاكى له فما كان منه بيانا متواترا أو‬
‫محفوفا بقرينة قطعية وما يلحق به فهو حجة‬
‫لكونه بيانهم واما ما كان مخالفا للكتاب أو غير‬
‫مخالف لكنه ليس بمتواتر ول محفوفا بالقرينة فل‬
‫حجية فيه لعدم كونه بيانا في الول وعدم احراز‬
‫البيانية في الثاني وللتفصيل محل آخر ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬أفأمن الذين مكروا السيئات ان يخسف‬
‫الله بهم الرض أو يأتيهم العذاب من حيث ل‬
‫يشعرون " هذه الية واليتان بعدها انذار وتهديد‬
‫للمشركين وهم الذين يعبدون غير الله سبحانه‬
‫ويشرعون لنفسهم سننا يستنون بها في الحياة‬
‫فما يعملون من العمال مستقلين فيها بأنفسهم‬
‫معرضين عن شرائع الله النازلة من طريق النبوة‬
‫استنادا إلى حجج داحضة اختلقوها لنفسهم كلها‬
‫سيئات وما يتقلبون فيها مدى حياتهم من حركة أو‬
‫سكون واخذ أو رد وفعل أو ترك وهم على ما هم‬
‫عليه من استكبار وغرور كلها ذنوب يقترفونها‬
‫مكرا بالله ربهم وبرسله الداعين إلى الخذ بدين‬
‫الله ولزوم سبيله ‪ .‬فقوله السيئات مفعول مكروا‬
‫بتضمينه بمعنى عملوا أي عملوا السيئات ماكرين‬
‫وما احتمله بعضهم من كون السيئات وصفا سادا‬
‫مسد المفعول المطلق والتقدير يمكرون المكرات‬
‫السيئات بعيد من السياق ‪ .‬وبالجملة الكلم لتهديد‬
‫المشركين وانذارهم بالعذاب اللهى ويدخل فيهم‬
‫مشركوا مكة والكلم متفرع على ما تقدم كما يدل‬
‫عليه قوله أفأمن بفاء التفريع ‪ .‬والمعنى والله‬
‫اعلم فإذا دلت اليات البينات على ان الله هو‬
‫ربهم ل شريك له في ربوبيته وان الرسالة ليست‬
‫بأمر محال بل هي دعوة إلى ما فيه صلح معاشهم‬
‫ومعادهم وخير دنياهم واخراهم من رجال هم‬
‫امثالهم يبعثهم الله ويوحى إليهم بما تشتمل عليه‬
‫الدعوة فهؤلء الذين يعرضون عن ذلك ويمكرون‬
‫بالله ورسله بالتشبث بهذه الحجج الواهية لتسوية‬
‫الطريق إلى ترك دين الله وتشريع ما يوافق‬
‫اهواءهم ويعملون ‪ /‬صفحة ‪ / 263‬السيئات هل‬
‫أمنوا ان يخسف الله بهم الرض أو يأتيهم العذاب‬
‫من حيث ل يشعرون أي يفاجئهم من غير أن‬
‫يتنبهوا بتوجهه إليهم قبل نزوله ‪ .‬قوله تعالى أو‬
‫يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين الفاعل هو‬
‫الله سبحانه‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 263‬‬
‫وقد كثرت في القرآن نسبة الخذ إليه وقيل‬
‫الضمير للعذاب والتقلب هو التحول من حال إلى‬
‫حال والمراد به تحول المشركين في مقاصدهم‬
‫واعمالهم السيئة وانتقالهم من نعمة إلى نعمة‬
‫اخرى من نعم الحياة الدنيا قال تعالى ‪ " :‬ل يغرنك‬
‫تقلب الذين كفروا في البلد متاع قليل ثم مأواهم‬
‫جهنم وبئس المهاد " آل عمران ‪ 197 :‬فالمراد‬
‫بأخذهم في تقلبهم ان ياخذهم في عين ما‬
‫يتقلبون فيه من السيئات مكرا بالله ورسله‬
‫بالعذاب أو المعنى يعذبهم بنفس ما يتقلبون فيه‬
‫فيعود النعمة نقمة وهذا انسب بالنظر إلى قوله‬
‫فما هم بمعجزين ‪ .‬وقوله فماهم بمعجزين في‬
‫مقام التعليل لخذهم في تقلبهم ومكرهم‬
‫السيئات أي لنهم ليسوا بمعجزين لله فيما اراد‬
‫بالتغلب عليه أو بالفرار من حكمه والمعنى ظاهر ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬أو يأخذهم على تخوف فان ربكم‬
‫لرؤوف رحيم " التخوف تمكن الخوف من النفس‬
‫واستقراره فيها فالخذ على تخوف هو العذاب‬
‫مبنيا على المخافة بأن يشعروا بالعذاب فيتقوه‬
‫ويحذروه بما استطاعوا من توبة وندامة ونحوهما‬
‫فيكون الخذ على تخوف مقابل لتيان العذاب من‬
‫حيث ل يشعرون ‪ .‬وربما قيل ان الخذ على تخوف‬
‫هو العذاب بما يخاف منه من غير هلك كالزلزلة‬
‫والطوفان وغيرهما ‪ .‬وربما قيل ان معنى التخوف‬
‫التنقص بأن يأخذهم الله بنقص النعم واحدة بعد‬
‫واحدة تدريجيا كأخذ المن ثم المطار ثم الرخص‬
‫ثم الصحة وهكذا ‪ .‬وقوله ان ربكم لرؤف رحيم في‬
‫مقام التعليل أي يأخذهم على تخوف ويتنزل في‬
‫عذابهم إلى هذا النوع من العذاب الذى هو اهون‬
‫النواع المعدودة لنه رؤف رحيم وفي التعبير‬
‫بقوله ربكم اشارة إلى ذلك وكونه في مقام‬
‫التعليل بالنسبة إلى الوجهين الولين ظاهر واما‬
‫بالنسبه إلى الثالث فلن الخذ بالنقص ل يخلو من‬
‫‪ /‬صفحة ‪ / 264‬مهلة وفرصة يتنبه فيها من تنبه‬
‫فيأخذ بالحذر بتوبة أو غيرها ‪ .‬والكلم في تعداد‬
‫انواع العذاب المذكورة ليس مسوقا للحصر كما نبه‬
‫به بعضهم بل احصاء لنواع منه ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلله‬
‫عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون "‬
‫المراد بالرؤية الرؤية البصرية والنظر الحسى إلى‬
‫الشياء الجسمانية لن المطلوب الفات النظر إلى‬
‫الجسام ذوات الظلل ‪ .‬والتفيؤ من الفئ وهو‬
‫الظل راجعا ولذا قيل ان الظل هو ما في اول‬
‫النهار إلى زوال الشمس والفئ هو ما يكون بعد‬
‫زوال الشمس إلى آخر النهار والظاهر ان الظل‬
‫اعم من الفئ كما تقدم وتؤيده الية فالتفيؤ رجوع‬
‫الظل بعد زواله ‪ .‬والشمائل جمع شمأل وهو‬
‫خلف اليمين وجمعه باعتبار اخذ كل سمت‬
‫مفروض خلف الشئ وعن يساره جهة شمال على‬
‫حده فهى شمائل تقابل اليمين كما ان عد كل شئ‬
‫ذا اظلل بهذه العناية اخذا للظل بالنسبة إلى كل‬
‫جهة من اليمين والشمائل ظل غيره بالنسبة إلى‬
‫جهة اخرى ل لن الشئ المذكور جمع بحسب‬
‫المعنى وان كان مفردا بحسب اللفظ والدخور هو‬
‫الخضوع والصغار ‪ .‬وكون المراد بالرؤية الرؤية‬
‫البصرية قرينة على ان المراد بما خلق الله من‬
‫شئ ومن شئ بيان لما خلق الله هو الشياء‬
‫المرئية وما تعقبه من حديث تفيؤ الظلل يحصرها‬
‫في الجسام الكثيفة التى لها ظلل كالجبال‬
‫والشجار والبنية والجسام القائمة على الرض‬
‫فل يرد ان ما خلق الله وخاصة بعد بيانه بالشئ ل‬
‫يلزمه الظل كالجرام العلوية المضيئة والجسام‬
‫الشفافة واعراض الجسام ‪ .‬ولدفع هذا الشكال‬
‫جعل بعضهم قوله يتفيؤ ظلله الخ وصفا لشئ‬
‫حتى يخص البيان بالشياء المخلوقة التى لها افياء‬
‫واظلل ول يخلو من وجه ‪ .‬والية تهدى المشركين‬
‫وهم منكرون للتوحيد والنبوة إلى النظر في حال‬
‫الجسام التى لها اظلل تدور عن يمينها وعن‬
‫شمائلها فانها تمثل سجودها لله وخضوعها له‬
‫وصغارها قبال عظمته وكبريائه وكذا سجود ما في‬
‫السماوات والرض من دابة والملئكة ‪ .‬فهى جميعا‬
‫ساجدة لله وحده لنقيادها الذاتي لمره ممثلة‬
‫للخضوع والصغار بهذا ‪ /‬صفحة ‪ / 265‬النسك‬
‫الوجودى والعبادة التكوينية ‪ .‬وهذا من اوضح‬
‫الدليل على ان في العالم الها معبودا واحدا هو‬
‫الله سبحانه وان من حقه ان يسجد له ويخضع‬
‫لمره وهذا هو التوحيد والنبوة اللذان ينكرونهما‬
‫فهل التوحيد إل الذعان بكون سبحانه هو الله‬
‫الذى يجب الخضوع له والتوجه بالذلة والصغار‬
‫إليه ؟ وهل الدين الذى تتضمنه دعوة النبياء‬
‫والرسل ال الخضوع لله سبحانه والنقياد لمره‬
‫فيما اراد ؟ فما بالهم ينكرون ذلك ؟ وهم يرون‬
‫ويعلمون ان ما على الرض من اظلل الجسام‬
‫الكثيفة يسجد له وما في السماوات والرض من‬
‫الملئكة و الذوات ساجدة له منقادة لمره حتى‬
‫ارباب اصنامهم الذين يتخذونهم آلهة دون الله‬
‫فانهم اما من الملئكة واما من الجن واما من‬
‫كملى البشر وهم جميعا داخرون له منقادون‬
‫لمره ‪ .‬فمعنى الية والله اعلم أو لم يروا هؤلء‬
‫المشركون المنكرون لتوحيد الربوبية ولدعوة‬
‫النبوة أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من شئ من‬
‫هذه الجسام القائمة‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 265‬‬
‫على بسيط الرض من جبل أو بناء أو شجر أو أي‬
‫جسم منتصب يتفيؤ ويرجع ويدور ظلله عن‬
‫اليمين والشمائل سجدا لله واقعة على الرض‬
‫تذلل وتعبدا له سبحانه وهم داخرون خاضعون‬
‫صاغرون ‪ .‬وقد تقدم الكلم في معنى سجدة‬
‫الظلل ذيل قوله تعالى ‪ " :‬وظللهم بالغدو‬
‫والصال " الرعد ‪ 15 :‬في الجزء الحادى عشر من‬
‫الكتاب ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولله يسجد ما في‬
‫السماوات وما في الرض من دابة والملئكة " إلى‬
‫آخر اليتين ذكرت الية السابقة سجود الظلل‬
‫وهو معنى مشهود فيها يمثل معنى السجود لله‬
‫وتذكر هذه الية سجود ما في السماوات والرض‬
‫من دابة و الدابة ما يدب ويتحرك بالنتقال من‬
‫مكان إلى مكان بحقيقة السجود التى هي نهاية‬
‫التذلل والتواضع قبال العظمة والكبرياء فان‬
‫صورة السجدة التى هي خرور النسان ووقوعه‬
‫على وجهه على الرض انما تعد عبادة إذا اريد بها‬
‫تمثيل هذا المعنى فحقيقة السجدة هي التذلل‬
‫المذكور ويدخل في عموم الدابة النسان وكذا‬
‫الجن لنه سبحانه يصفهم في كلمه بما يفيد ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 266‬ان لهم دبيبا كما لسائر الدواب من‬
‫النسان والحيوان ولم يدخل سبحانه الملئكة في‬
‫عموم الدابة وافردهم بالذكر وفي ذلك من التلويح‬
‫إلى ان ما نسب إليهم في كلمه تعالى من النزول‬
‫والصعود والذهاب والمجئ مما ظاهره النقلة‬
‫والحركة المكانية ليس من نوع ما للدواب من‬
‫الدبيب والنتقال المكانى ما ل يخفى ‪ .‬فقوله‬
‫ولله يسجد ما في السماوات وما في الرض من‬
‫دابة أي له يخضع وينقاد خضوعا وانقيادا ذاتيا هي‬
‫حقيقة السجود فمن حقه تعالى أن يعبد ويسجد له‬
‫‪ .‬وفي الية دللة على ان في غير الرض من‬
‫السماوات شيئا من الدواب يسكنها ويعيش فيها ‪.‬‬
‫وقوله والملئكة وهم ل يستكبرون الستكبار‬
‫والتكبر من النسان ان يعد نفسه كبيرا ويضعه‬
‫موضع الكبر وليس به ولذلك يعد في الرذائل لكن‬
‫التكبر ربما يطلق على ما لله سبحانه من الكبرياء‬
‫بالحق وهو الكبير المتعال فهو تعالى كبير متكبر‬
‫وليس يقال مستكبر ولعل ذلك كذلك اعتبارا‬
‫باللفظ فان الستكبار بحسب اصل هيئته طلب‬
‫الكبر ولزمه ان ل يكون ذلك حاصل للطالب من‬
‫نفسه وانما يطلب الكبر والعلو على غيره دعوى‬
‫فكان مذموما واما التكبر فهو الظهور بالكبرياء‬
‫سواء كانت له في نفسه كما لله سبحانه وهو‬
‫التكبر الحق أو لم يكن له ال دعوى وغرورا كما‬
‫في غيره ‪ .‬فتبين بذلك ان الستكبار مذموم دائما‬
‫اما استكبار المخلوق على مخلوق آخر فلن الفقر‬
‫والحاجة قد استوعبهما جميعا وشئ منهما ل يملك‬
‫لنفسه نفعا ول ضرا ول لغيره فاستكبار احدهما‬
‫على الخر خروج منه عن حده وتجاوز عن طوره‬
‫وظلم وطغيان ‪ .‬واما استكبار المخلوق على‬
‫الخالق فل يتم ال مع دعوى المخلوق الستقلل‬
‫والغنى لنفسه وذهوله عن مقام ربه فان النسبة‬
‫بين العبد وربه نسبة الذلة والعزة والفقر والغنى‬
‫فما لم يغفل العبد عن هذه النسبة ولم يذهل عن‬
‫مشاهدة مقام ربه لم يعقل استكباره على ربه‬
‫فان الصغير الوضيع القائم امام الكبير المتعالى‬
‫وهو يشاهد صغار نفسه وذلته وكبرياء من هو‬
‫امامه وعزته ل يتيسر له ان يرى لنفسه كبرياء‬
‫وعزة إل أن ‪ /‬صفحة ‪ / 267‬يأخذه غفلة وذهول ‪.‬‬
‫واذ كان الكبرياء والعلو لله جميعا فدعواه الكبرياء‬
‫والعلو تغلب منه على ربه وغصب منه لمقامه‬
‫واستكبار واستعلء عليه دعوى وهذا هو الستكبار‬
‫بحسب الذات ويتبعه الستكبار بحسب الفعل وهو‬
‫ان ل يأتمر بأمره ول ينتهى عن نهيه فانه ما لم ير‬
‫لنفسه ارادة مستقلة قبال الرادة اللهية مغايرة‬
‫لها لم ير لنفسه ان يخالفه في امره ونهيه ‪.‬‬
‫وعلى هذا فقوله وهم ل يستكبرون في تعريف‬
‫الملئكة والكلم في سياق العبودية دليل على‬
‫انهم ل يستكبرون على ربهم فل يغفلون عنه‬
‫تعالى ول يذهلون عن الشعور بمقامه ومشاهدته ‪.‬‬
‫وقد اطلق نفى الستكبار من غير ان يقيده بما‬
‫بحسب الذات أو بحسب الفعل فأفاد انهم ل‬
‫يستكبرون عليه في ذات ول فعل أي ل يغفلون‬
‫عنه سبحانه ول يستنكفون عن عبادته ول يخالفون‬
‫عن امره ولبيان هذا الطلق والشمول عقبه بيانا‬
‫له بقوله يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما‬
‫يؤمرون واشار بذلك إلى نفى الستكبار عنهم ذاتا‬
‫وفعل ‪ .‬توضيح ذلك ان قوله يخافون ربهم من‬
‫فوقهم يثبت لهم الخوف من ربهم والله سبحانه‬
‫ليس عنده ال الخير ول شر عنده ول سبب شر‬
‫يخاف منه ال ان يكون الشر وسببه عند العبد وقد‬
‫اخذ متعلق الخوف هو ربهم ل عذابه تعالى أو‬
‫عصيان امره كما في قوله ‪ " :‬ويرجون رحمته‬
‫ويخافون عذابه " اسرى ‪ . 57 :‬فهذه المخافة هي‬
‫المخافة منه تعالى وهو وان لم يكن عنده ال الخير‬
‫والخوف انما يكون من شر مترقب ال ان حقيقته‬
‫التأثر والنكسار والصغار وتأثر الضعيف قبال‬
‫القوى الظاهر بقوته وانكسار الصغير الوضيع امام‬
‫الكبير المتعال القاهر بكبريائه وتعاليه ضروري‬
‫فمخافتهم هي تأثرهم الذاتي عما يشاهدونه من‬
‫مقام ربهم ول يغفلون عنه قط ‪ .‬ويؤيد ما ذكرناه‬
‫تقييد قوله يخافون ربهم بقوله من فوقهم فان‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 267‬‬
‫فيه اشارة إلى ان كونه تعالى فوقهم قاهرا لهم‬
‫متعاليا بالنسبة إليهم هو السبب في ‪ /‬صفحة ‪268‬‬
‫‪ /‬مخافتهم وليس هذا إل الخوف من مقامه تعالى‬
‫ل من عذابه فهو خوف ذاتي ويرجع إلى نفى‬
‫الستكبار عن ذواتهم ‪ .‬واما قوله ويفعلون ما‬
‫يؤمرون فاشارة إلى عدم استكبارهم في مقام‬
‫الفعل وقد تقدم انه إذا لم يستكبر عليه تعالى في‬
‫ذات لم يستكبر عليه في فعل فهم ل يعصون الله‬
‫سبحانه في امر بل يفعلون ما يؤمرون وفي اتيان‬
‫قوله يؤمرون مبنيا للمجهول من التعظيم‬
‫والتفخيم لمقامه سبحانه ما ل يخفى ‪ .‬فتبين ان‬
‫الملئكة نوع من خلق الله تعالى ل تأخذهم غفلة‬
‫عن مقام ربهم ول يطرأ عليهم ذهول ول سهو ول‬
‫نسيان عن ذلك ول يشغلهم عنه شاغل وهم ل‬
‫يريدون ال ما يريده الله سبحانه ‪ .‬وانما خص‬
‫سبحانه الملئكة من بين الساجدين المذكورين في‬
‫الية بذكر شأنهم وتعريف اوصافهم وتفصيل‬
‫عبوديتهم لن اكثر آلهة الوثنيين من الملئكة كإله‬
‫السماء واله الرض واله الرزق واله الجمال‬
‫وغيرهم وللدللة على انهم بالرغم من زعم‬
‫الوثنيين امعن خلق الله تعالى في عبوديته‬
‫وعبادته ‪ .‬ومن عجيب الستدلل ما استدل به‬
‫بعضهم بالية على ان الملئكة مكلفون مدارون‬
‫بين الخوف والرجاء كمثلنا اما دللتها على‬
‫التكليف فلمكان المر واما ادارتهم بين الخوف‬
‫والرجاء فلن الية ذكرت خوفهم والخوف يستلزم‬
‫الرجاء ‪ .‬وهو ظاهر الفساد اما المر فقد ورد في‬
‫كلمه تعالى في موارد ل تكليف فيها قطعا‬
‫كالسماء والرض وغيرهما قال تعالى ‪ " :‬فقال لها‬
‫وللرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين "‬
‫حم السجدة ‪ 11 :‬وقال ويوم يقول كن فيكون ‪.‬‬
‫واما استلزام الخوف للرجاء فانما الملزمة ما بين‬
‫الخوف من نزول العذاب واصابة المكروه وبين‬
‫الرجاء وقد تقدم ان الذى في الية انما هو خوف‬
‫مهابة واجلل بمعنى تأثر الضعيف من القوى‬
‫وانكسار الصغير الحقير قبال العظيم الكبير‬
‫الظاهر عليه بعظمته وكبريائه ول مقابلة بين‬
‫الخوف بهذا المعنى وبين الرجاء ‪ .‬وقد استدل‬
‫بالية ايضا على ان الملئكة افضل من البشر وفيه‬
‫ان من الممكن استظهار افضليتهم من عصاة‬
‫البشر وكفارهم ممن يفقد الصفات المذكورة‬
‫لكونها ‪ /‬صفحة ‪ / 269‬مسوقة في مقام المدح‬
‫واما غيرهم فل تعرض للية لهم اثباتا ونفيا‬
‫وسياتى تفصيل القول في الملئكة في موضع‬
‫يليق به ان شاء الله ‪ .‬قوله تعالى وقال الله ل‬
‫تتخذوا الهين اثنين انما هو اله واحد فاياى‬
‫فارهبون الرهبة الخوف وتقابل الرغبة كما ان‬
‫الخوف يقابل به الرجاء ‪ .‬والكلم معطوف على‬
‫قوله ولله يسجد وقيل معطوف على قوله وانزلنا‬
‫اليك الذكر وقيل على قوله ما خلق الله على‬
‫طريقه قوله ) علفتها تبنا وماء باردا ( أي‬
‫وسقيتها ماء باردا والتقدير في الية أو لم يروا‬
‫إلى ما خلق الله من شئ وألم يسمعوا إلى ما قال‬
‫الله ل تتخذوا الخ ؟ والول هو الوجه ‪ .‬وقوله ل‬
‫تتخذوا الهين اثنين اريد به والله اعلم النهى عن‬
‫التعدي عن الله الواحد باتخاذ غيره معه فيشمل‬
‫الثنين وما فوقه من العدد ويؤيده تأكيده بقوله‬
‫انما هو اله واحد واثنين صفة الهين كما ان واحد‬
‫صفة اله جئ بهما لليضاح والتبيين ‪ .‬وبعبارة‬
‫اخرى العناية متعلقة بالنهي عن اتخاذ غيره معه‬
‫سواء كان واحدا أو اكثر من واحد لكن لما كان كل‬
‫عدد اختاروه في الله فوق الثنين يجب ان يسلكوا‬
‫إليه من الثنين إذ ل يتحقق عدد هو فوق الثنين‬
‫ال بعد تحقق الثنين نهى عن اتخاذ الثنين‬
‫واكتفى به عن النهى عن كل عدد فوق الواحد ‪.‬‬
‫ويمكن ان يكون اعتبار الثنين نظرا إلى ما عليه‬
‫دأبهم وسنتهم فانهم يعتقدون من الله باله‬
‫الصنع واليجاد وهو الذى له الخلق فحسب وهو اله‬
‫اللهة وموجد الكل وباله العبادة وهو الذى له‬
‫الربوبية والتدبير وهذا المعنى انسب بما يتلوه من‬
‫الجمل ‪ .‬وعلى هذا فالمعنى ل تتخذوا الهين اثنين‬
‫اله الخلق واله التدبير الذى له العبادة انما هو أي‬
‫الله اله واحد له الخلق والتدبير جميعا لن كل‬
‫تدبير ينتهى إلى اليجاد واذ كنت انا الخالق الموجد‬
‫فانا المدبر الذى تجب عبادته فاياى فارهبون‬
‫واياى فاعبدون ومن هنا يظهر وجه تفرع قوله‬
‫فاياى فارهبون على ما تقدمه وانه من لطيف‬
‫الستدلل والجملة تفيد الحصر بتقديم المفعول‬
‫على سبيل الشتغال و القصر ‪ /‬صفحة ‪ / 270‬قصر‬
‫قلب ل قصر افراد كما يفيده كلمهم فان الوثنيين‬
‫ل يعبدون الله وآلهتهم غير الله وانما يعبدون‬
‫آلهتهم فحسب معتذرين بان الله سبحانه ل يحيط‬
‫به علم ول يناله فهم فل يمكن التوجه إليه بالعبادة‬
‫فمن الواجب ان يعبد الكرام أو القوياء من خلقه‬
‫كالملئكة والكاملين من البشر والجن فهم‬
‫المدبرون لمر العالم ينال بالعبادة خيرهم ويتقى‬
‫بها شرهم وهذا معنى التقرب إلى الله بشفاعتهم‬
‫‪ .‬والظاهر ان المر بالرهبة كناية عن المر بالعبادة‬
‫وانما اختصت الرهبة بالذكر ليوافق ما تقدم في‬
‫حديث سجدة الكل التى هي الصل في تشريع‬
‫العبادة من خوف‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 270‬‬
‫الملئكة وعلى هذا فالظاهر ان المراد بالرهبة ما‬
‫هي رهبة اجلل ومهابة ل ما هي رهبة مؤاخذة‬
‫وعذاب فافهم ذلك ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وله ما في‬
‫السماوات والرض وله الدين واصبا أفغير الله‬
‫تتقون " قال في المفردات الوصب السقم اللزم‬
‫وقد وصب فلن فهو وصب واوصبه كذا فهو‬
‫يتوصب نحو يتوجع قال تعالى ولهم عذاب واصب‬
‫وله الدين واصبا فتوعد لمن اتخذ الهين وتنبيه ان‬
‫جزاء من فعل ذلك عذاب لزم شديد ‪ .‬ويكون الدين‬
‫ههنا الطاعة ومعنى الواصب الدائم أي حق‬
‫النسان ان يطيعه دائما في جميع احواله كما‬
‫وصف به الملئكة حيث قال ل يعصون الله ما‬
‫امرهم ويفعلون ما يؤمرون ويقال وصب وصوبا‬
‫دام ووصب الدين وجب ومفازة واصبة بعيدة ل‬
‫غاية لها انتهى ‪ .‬والية وما بعدها تحتج على‬
‫وحدانيته تعالى في اللوهية بمعنى المعبودية‬
‫بالحق وان الدين له وحده ليس لحد ان يشرع من‬
‫ذلك شيئا ول ان يطاع فيما شرع فالية وما بعدها‬
‫في مقام التعليل لقوله وقال الله ل تتخذوا الهين‬
‫اثنين إلى آخر الية واحتجاج على مضمونها وعود‬
‫بعد عود إلى ما تقدم بيانه من التوحيد والنبوة‬
‫اللذين ينكرهما المشركون ‪ .‬فقوله وله ما في‬
‫السماوات والرض احتجاج على توحده تعالى في‬
‫الربوبية فان ما في السماوات والرض من شئ‬
‫فهو مملوك له بحقيقة معنى الملك إذ ما في‬
‫العالم المشهود من شئ فهو بما له من الصفات‬
‫والفعال قائم به تعالى موجود بايجاده ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 271‬وظاهر باظهاره ل يسعه ان ينقطع منه ول‬
‫لحظة فالشياء قائمة به قيام الملك بمالكه‬
‫مملوكة له ملكا حقيقيا ل يقبل تغييرا ول انتقال‬
‫كما هو خاصة الملك الحقيقي كملك النسان‬
‫لسمعه وبصره مثل ‪ .‬وإذا كان كذلك كان هو تعالى‬
‫المدبر لمر العالم إذ ل معنى لكون العالم مملوكا‬
‫له بهذا الملك ثم يستقل غيره بتدبير امره‬
‫والتصرف فيه وينعزل هو تعالى عما خلقه وملكه‬
‫وإذا كان هو المدبر لمره كان هو الرب له إذ الرب‬
‫هو المالك المدبر وإذا كان هو الرب كان هو الذى‬
‫يجب ان يتقى ويخضع له بالعبادة ‪ .‬وقوله وله‬
‫الدين واصبا أي دائما لزما وذلك انه لما كان تعالى‬
‫هو الرب الذى يملك الشياء ويدبر امرها ومن‬
‫واجب التدبير ان يستن العالم النساني بسنة يبلغ‬
‫به الجرى عليها غايته ويهديه إلى سعادته وهذه‬
‫السنة والطريقة هي التى يسميها القرآن دينا كان‬
‫من الواجب ان يكون تعالى هو القائم على وضع‬
‫هذه السنة وتشريع هذه الطريقة فهو تعالى‬
‫المالك للدين كما قال وله الدين واصبا وعليه أن‬
‫يشرع ما يصلح به التدبير كما قال فيما مر وعلى‬
‫الله قصد السبيل الية ‪ .‬وقيل المراد بالدين‬
‫الطاعة وقيل الملك وقيل الجزاء ولكل منها وجه‬
‫غير خفى على المتأمل والوجه هو ما قدمناه لنه‬
‫اوفق وانسب بسياق ما يحفها من اليات السابقة‬
‫واللحقة الباحثة عن توحيد الربوبية وتشريع الدين‬
‫من طريق الوحى والرسالة ‪ .‬وقوله ‪ " :‬أفغير الله‬
‫تتقون " استفهام انكاري متفرع على الجملتين‬
‫جميعا على الظاهر والمعنى وإذا كان كذلك فهل‬
‫غيره تعالى تتقون وتعبدون ؟ وليس يملك شيئا‬
‫ول يدبر امرا حتى يعبد وليس من حقه ان يشرع‬
‫دينا فيطاع فيما وضعه وشرعه ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر‬
‫فإليه تجأرون " بيان آخر لوحدانيته تعالى في‬
‫الربوبية يفرع سبحانه عليه ذمهم وتوبيخهم على‬
‫شركهم بالله وعلى تشريعهم امورا من عند‬
‫انفسهم من غير اذن منه ورضى ويجرى الكلم‬
‫في هذا المجرى إلى تمام بضع آيات ‪ .‬والمراد‬
‫بالضر سوء الحال من جهة فقدان النعمة التى‬
‫تصلح بها الحال والجؤار ‪ /‬صفحة ‪ / 272‬بضم الجيم‬
‫صوت الوحوش استعير لرفع الصوت بالدعاء‬
‫والتضرع والستغاثة تشبيها له به ‪ .‬وقوله ‪ " :‬وما‬
‫بكم من نعمة فمن الله " الكلم مسوق للعموم‬
‫وليس مجرد دعوى غير مستدل فقد بين ذلك في‬
‫اليات السابقة على ان السامعين يسلمون ذلك‬
‫ويقولون به ويدل عليه جؤارهم واستغاثتهم إليه‬
‫عند مسيس الضر بفقدان نعمة من النعم ‪.‬‬
‫فالمعنى ان جميع النعم التى عندكم من انعامه‬
‫تعالى عليكم وانتم تعلمون ذلك ثم إذا حل بكم‬
‫شئ من الضر وسوء حال يسير رفعتم اصواتكم‬
‫بالتضرع وجأرتم إليه ل إلى غيره ولو كان لغيره‬
‫صنيعة عندكم لتوجهتم إليه فهو سبحانه منعم‬
‫النعمة وكاشف الضر فما بالكم ل تخصونه بالعبادة‬
‫ول تطيعونه ‪ .‬والستغاثة به تعالى والتضرع إليه‬
‫عند حلول المصائب وهجوم الشدائد التى ينقطع‬
‫عندها الرجاء عن السباب الظاهرية ضرورية ل‬
‫يرتاب فيها فان النسان ولو لم ينتحل إلى دين‬
‫ولم يؤمن بالله سبحانه فانه ل ينقطع رجاؤه عند‬
‫الشدائد إذا رجع إلى ما يجده من نفسه ول رجاء‬
‫إل وهناك مرجو منه فمن الضرورى ان تحقق ما ل‬
‫يخلو من معنى التعلق كالحب والبغض والرادة‬
‫والكراهة والجذب ونظائرها في الخارج ل يمكن إل‬
‫مع تحقق طرف تعلقها في الخارج فلو لم يكن‬
‫في الخارج مراد لم تتحقق ارادة من مريد ولو لم‬
‫يكن هناك مطلوب لم يكن طلب ولو لم يكن جاذب‬
‫يجذب لم يتصور‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 272‬‬
‫مجذوب ينجذب وهذا حال جميع المعاني الموجودة‬
‫التى ل تخلو كينونتها عن نسبة ‪ .‬فتعلق الرجاء من‬
‫النسان بالتخلص من البلية عند انقطاع السباب‬
‫دليل على انه يرى ان هناك سببا فوق هذه‬
‫السباب المنقطع عنها ل تعجزه عظائم الحوادث‬
‫وداهمات الرزايا ول ينقطع عنه النسان ول يزول‬
‫ول يفنى ول يسهو ول ينسى قط ‪ .‬هذا شئ يجده‬
‫النسان من نفسه وتقضى به فطرته وان الهاه‬
‫عنه الشتغال بالسباب الظاهرة وجذبته إلى‬
‫نفسها امتعة الحياة وزخارف المادة المحسوسة‬
‫لكنه إذا احاطت به البلية واعيته الحيلة وسدت‬
‫عليه طرق النجاة وانهزمت السباب الظاهرة عن‬
‫آخرها وطارت الموانع عن نظره ولم يبق هناك‬
‫مله يلهيه ول شاغل يشغله ظهر له ما اخفته‬
‫السباب وعاين ما كان على غفلة منه فتعلقت‬
‫نفسه به وهو السبب الذى فوق كل سبب وهو الله‬
‫عز اسمه ‪ / .‬صفحة ‪ / 273‬قوله تعالى ‪ " :‬ثم إذا‬
‫كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون‬
‫شروع في ذمهم وتوبيخهم وينتهى إلى ايعادهم‬
‫وحق لهم ذلك لن الذى يستدعيه كشف الضر عن‬
‫استغاثتهم ورجوعهم الفطري إلى ربهم ان‬
‫يوحدوه بالربوبية بعد ما انكشفت لهم الحقيقة‬
‫باندفاع البلية ونزول الرحمة لكن فريقا منهم‬
‫تفاجئهم الشقوة فيعودون إلى التغلق بالسباب‬
‫فينتبه عندئذ الراقد من رذائل ملكاتهم فيثير لهم‬
‫الهواء ويشركون بربهم غيره ومنه السباب التى‬
‫يتعلقون بها ومعنى الية ظاهر ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون اللم‬
‫للغاية أي انهم انما يشركون بربهم ليكفروا بما‬
‫اعطيناهم من النعمة بكشف الضر عنهم ول‬
‫يشكروه ‪ .‬وجعل الكفر بالنعمة غاية للشرك انما‬
‫هو بدعوى انهم ل غاية لهم في مسير حياتهم ال‬
‫الكفر بنعمة الله وعدم شكره على ما اولى فان‬
‫اشتغالهم بالحس والمادة اورثهم في قلوبهم‬
‫ملكة التعلق بالسباب الظاهرة واسناد النعم‬
‫اللهية إليها وضربهم اياها حجابا ثخينا على‬
‫عرفان الفطرة فأنساهم ذلك توحيد ربهم في‬
‫ربوبيته فصاروا يذكرون عند كل نعمة اسبابها‬
‫الظاهرة دون الله ويتعلقون بها ويخشون‬
‫انقطاعها ويخضعون لها دون الله فكأنهم بل انهم‬
‫ل غاية لهم ال كفر نعمة الله وعدم شكرها ‪.‬‬
‫فالكفر بالله سبحانه هو غايتهم العامة في كل‬
‫شأن ابدوه وكل عمل اتوا به فإذا اشركوا بربهم‬
‫بعد كشف الضر بالخضوع لسائر السباب فانما‬
‫اشركوا ليكفروا بما آتاهم من النعمة ‪ .‬ولما كان‬
‫كفرانهم هذا وهو كفر دائم يصرون عليه واستكبار‬
‫على الله وقد قال تعالى ‪ " :‬لئن شكرتم لزيدنكم‬
‫ولئن كفرتم ان عذابي لشديد " ابراهيم ‪ 7 :‬أثار‬
‫ذكر ذلك الغضب اللهى فعدل عن خطاب النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم وهم على نعت الغيبة‬
‫إلى خطابهم وايعادهم من غير توسيط فقال‬
‫فتمتعوا فسوف تعلمون ‪ .‬ولم يذكر ما يتمتعون به‬
‫ليفيد بالطلق ان كل ما تمتعوا به سيؤاخذون‬
‫عليه ول ينفعهم شئ منه ولم يذكر ما يعلمونه‬
‫وهو ل محالة امر يسوؤهم ليكونوا على جهل منه‬
‫حتى يحل بهم مفاجأة ويبدو لهم من الله ما لم‬
‫يكونوا يحتسبون وفيه ‪ /‬صفحة ‪ / 274‬تشديد‬
‫لليعاد ‪ .‬وذكر بعضهم ان اللم في قوله ليكفروا‬
‫بما آتيناهم لم المر والمراد به اليعاد على نحو‬
‫التعجيز وهو تكلف ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ويجعلون لما‬
‫ل يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما‬
‫كنتم تفترون " ذكروا انه معطوف على سائر‬
‫جناياتهم التى دلت عليها اليات السابقة والتقدير‬
‫انهم يفعلون ما قصصناه من جناياتهم ويجعلون‬
‫لما ل يعلمون نصيبا والظاهر ان ما في لما ل‬
‫يعلمون موصولة والمراد به آلهتهم وضمير الجمع‬
‫يعود إلى المشركين ومفعول ل يعلمون محذوف‬
‫والمعنى ويجعل المشركون للهتهم التى ل‬
‫يعلمون من حالها انها تضر وتنفع نصيبا مما‬
‫رزقناهم ‪ .‬والمراد من هذا الجعل ما ذكره سبحانه‬
‫في سورة النعام ‪ " :‬بقوله وجعلوا لله مما ذرأ من‬
‫الحرث والنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا‬
‫لشركائنا فما كان لشركائهم فل يصل إلى الله وما‬
‫كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون "‬
‫النعام ‪ 136 :‬هذا ما ذكروه ول يخلو عن تكلف‬
‫ويمكن ان يكون معطوفا على ما مر من قوله‬
‫يشركون والتقدير إذا فريق منكم بربهم يشركون‬
‫ويجعلون لما ل يعلمون نصيبا مما رزقناهم‬
‫والمراد بما ل يعلمون السباب الظاهرة التى‬
‫ينسبون إليها الثار على سبيل الستقلل وهم‬
‫جاهلون بحقيقة حالها ول علم لهم جازما انها تضر‬
‫وتنفع مع ما يرون من تخلفها عن التأثير احيانا ‪.‬‬
‫وانما نسب إليهم انهم يجعلون لها نصيبا من‬
‫رزقهم مع انهم يسندون الرزق إليها بالستقلل‬
‫من غير ان يذكروا الله معها ومقتضاه نفى التأثير‬
‫عنه تعالى رأسا ل اشراكه معها لن لهم علما‬
‫فطريا بأن الله سبحانه له تأثير في المر وقد ذكر‬
‫عنهم آنفا انهم يجأرون إليه عند مس الضر وإذا‬
‫اعتبر اعترافهم هذا مع اسنادهم التأثير إلى‬
‫السباب انتج ذلك ان السباب عندهم شركاء لله‬
‫في الرزق ولها نصيب فيه ثم اوعدهم بقوله "‬
‫تالله لتسألن عما كنتم تفترون " ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 274‬‬
‫قوله تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما‬
‫يشتهون عتاب آخر لهم في حكم حكموا به جهل‬
‫من غير علم فاحترموا لنفسهم واساؤا الدب‬
‫مجترئين على الله ‪ /‬صفحة ‪ / 275‬سبحانه حيث‬
‫اختاروا لنفسهم البنين وكرهوا البنات لكنهم‬
‫نسبوها إلى الله سبحانه ‪ .‬فقوله ويجعلون لله‬
‫البنات سبحانه هو اخذهم اللهة دون الله أو بعض‬
‫اللهة اناثا وقولهم انهن بنات الله وقد قيل ان‬
‫خزاعة وكنانة كانوا يقولون إن الملئكة بنات الله ‪.‬‬
‫وكانت الوثنية البرهمية والبوذية والصابئة يثبتون‬
‫آلهة كثيرة من الملئكة والجن اناثا وهن بنات الله‬
‫وفي القرآن الكريم ‪ " :‬وجعلوا الملئكة الذين هم‬
‫عباد الرحمان اناثا " الزخرف ‪ 19 :‬وقال تعالى ‪" :‬‬
‫وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " الصافات ‪. 158 :‬‬
‫وقال المام في تفسيره في وجه ذلك اظن انهم‬
‫سموها بنات لستتارها عن العيون كالنساء كما‬
‫انهم اخذوا الشمس مؤنثا لستتار قرصها بنورها‬
‫الباهر وضوئها عن العيون كالمخدرات من النساء‬
‫ول يلزم الطراد في التسمية حتى يلزم مثل ذلك‬
‫في الجن لستتارهم عن العيون مع عدم التأنيث‬
‫انتهى ملخصا ‪ .‬وذكر بعضهم ان الوجه في التأنيث‬
‫كونها مستترة عن العيون مع كونها في محل ل‬
‫يصل إليه الغيار فهى كالبنات التى يغار عليهن‬
‫الرجل فيسكنهن في محل امين ومكان مكين‬
‫والجن وان كانوا مستترين عن العيون لكنه على‬
‫غير هذه الصورة انتهى ‪ .‬وهذان الوجهان ل‬
‫يتعديان طور الستحسان وانت لو راجعت آراء‬
‫الوثنية على اختلفهم وقد تقدم شطر منها في‬
‫الجزء العاشر من هذا الكتاب عرفت ان العرب لم‬
‫تكن مبتكرة في هذه العقيدة بل لها اصل قديم‬
‫في آراء قدماء الوثنية في الهند ومصر وبابل‬
‫واليونان والروم ‪ .‬والمعان في اصول آرائهم‬
‫يعطى انهم كانوا يتخذون الملئكة الذين ينتهى‬
‫إليهم وجوه الخير في العالم والجن الذين يرجع‬
‫إليهم الشرور آلهة يعبدونهم رغبا ورهبا وهذه‬
‫المبادئ العالية والقوى الكلية التى هم يحملونها‬
‫وبعبارة اخرى هم مظاهر لها تنقسم إلى فاعله‬
‫ومنفعلة وهم يعتبرون اجتماع الفاعل والمنفعل‬
‫منها نكاحا وازدواجا والفاعل منها أبا والمنفعل‬
‫منها أما والمتحصل من اجتماعهما ولدا وينقسم‬
‫الولد إلى بنين وبنات فمن اللهة ما هن امهات‬
‫وبنات ومنها ما هم آباء وبنون ‪ .‬فلئن كان بعض‬
‫وثنية العرب قالت ان الملئكة جميعا بنات الله‬
‫فقول ارادوا ‪ /‬صفحة ‪ / 276‬ان يقلدوا فيه من‬
‫قبلهم جهل ومن غير تثبت ‪ .‬وقوله ولهم ما‬
‫يشتهون ظاهر السياق انه معطوف على لله‬
‫البنات والتقدير ويجعلون لهم ما يشتهون أي‬
‫يثبتون لله سبحانه البنات باعتقاد ان الملئكة بناته‬
‫ويثبتون لنفسهم ما يشتهون وهم البنون بقتل‬
‫البنات ووأدها والمحصل انهم يرضون لله بما ل‬
‫يرضون به لنفسهم ‪ .‬وقيل ان ما يشتهون مبتدأ‬
‫مؤخر ولهم خبر مقدم والجملة معطوفة على‬
‫يجعلون وعلى هذا فالجملة مسوقة للتقريع أو‬
‫الستهزاء ‪ .‬وقد وجهوا ذلك بأن عطف الجملة‬
‫على لله البنات غير جائز لمخالفته القاعدة وهى‬
‫ان الفعل المتعدى إلى المفعول بنفسه أو بحرف‬
‫جر إذا كان فاعله ضميرا متصل مرفوعا فانه ل‬
‫يتعدى إلى نفس هذا الضمير بنفسه أو بحرف جر‬
‫ال بفاصل مثل إذا ضرب زيد نفسه لم يقل زيد‬
‫ضربه وانت ضربتك وإذا غضب على نفسه لم يقل‬
‫زيد غضب عليه وانما يقال زيد ضرب نفسه أو ما‬
‫ضرب ال اياه وزيد غضب على نفسه أو ما غضب‬
‫ال عليه ال في باب ظن وما الحق به من فقد‬
‫وعدم فيجوز ان يقال زيد ظنه قويا أي نفسه ‪.‬‬
‫وعلى هذا فلو كان قوله ولهم ما يشتهون‬
‫معطوفا على قوله لله البنات كان من الواجب ان‬
‫يقال ولنفسهم ما يشتهون انتهى محصل ‪ .‬والحق‬
‫ان التزام هذه القاعدة انما هو لدفع اللبس وان‬
‫تخلل حرف الجر بين الضميرين من الفصل وفي‬
‫القرآن الكريم ‪ " :‬وهزى اليك بجذع النخلة "‬
‫مريم ‪ " 25 :‬واضمم اليك جناحك " القصص ‪32 :‬‬
‫ومنهم من رد القاعدة من رأس لنتقاضها باليتين‬
‫وأجابوا ايضا بوجوه اخر ل حاجة بنا إلى ذكرها من‬
‫ارادها فليراجع التفاسير ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وإذا‬
‫بشر احدهم بالنثى ظل وجهه مسوداوهو كظيم "‬
‫اسوداد الوجه كناية عن الغضب والكظيم هو الذى‬
‫يتجرع الغيظ والجملة حالية أي ينسبون إلى ربهم‬
‫البنات والحال انهم إذا بشر احدهم بالنثى فقيل‬
‫ولدت لك بنت اسود وجهه من الغيظ وهو يتجرع‬
‫غيظه ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬يتوارى من القوم من سوء‬
‫ما بشر به إلى آخر الية التوارى ‪ /‬صفحة ‪/ 277‬‬
‫الستخفاء والتخفى وهو مأخود من الوراء والهون‬
‫الذلة والخزى والدس الخفاء ‪ .‬والمعنى يستخفى‬
‫هذا المبشر بالبنت من القوم من سوء ما بشر به‬
‫على عقيدته ويتفكر في امره أيمسك ما بشر به‬
‫وهى البنت على ذلة من امساكه وحفظه أم يخفيه‬
‫في التراب كما كان ذلك عادتهم في المواليد من‬
‫البنات كما قيل ان احدهم كان يحفر حفيرة‬
‫صغيرة فإذا كان المولود انثى جعلها في الحفيرة‬
‫وحثا عليها التراب حتى تموت تحته وكانوا يفعلون‬
‫ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الكفاء‬
‫فيهن ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 277‬‬
‫واول ما بدا لهم ذلك ان بنى تميم غزوا كسرى‬
‫فهزمهم وسبى نساءهم وذراريهم فادخلهن دار‬
‫الملك واتخذ البنات جواري وسرايا ثم اصطلحوا‬
‫بعد برهة واستردوا السبايا فخيرن في الرجوع‬
‫إلى اهلهن فامتنعت عدة من البنات فاغضب ذلك‬
‫رجال بنى تميم فعزموا ل تولد لهم انثى إل‬
‫وأدوها ودفنوها حية ثم تبعهم في ذلك بعض من‬
‫دونهم فشاع بينهم وأد البنات ‪ .‬وقوله أل ساء ما‬
‫يحكمون هو حكمهم ان له البنات ولهم البنون ل‬
‫لهوان البنات وكرامة البنين في نفس المر بل‬
‫معنى هذا الحكم عندهم ان يكون لله ما يكرهون‬
‫ولهم ما يحبون وقيل المراد بالحكم حكمهم‬
‫بوجوب وأد البنات وكون امساكهن هونا واول‬
‫الوجهين اوفق وانسب للية التالية ‪ .‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫" للذين ل يؤمنون بالخرة مثل السوء ولله المثل‬
‫العلى وهو العزيز الحكيم " المثل هو الصفة ومنه‬
‫سمى المثل السائر مثل لنه صفة تسير في‬
‫اللسن وتجرى في كل موضع تناسبه وتشابهه ‪.‬‬
‫والسوء بالفتح والسكون مصدر ساء يسوء كما ان‬
‫السوء بالضم اسمه واضافة المثل إلى السوء تفيد‬
‫التنويع فان الشياء انما توصف اما من جهة‬
‫حسنها واما من جهة سوئها وقبحها فالمثل مثلن‬
‫مثل الحسن ومثل السوء ‪ .‬والحسن والقبح ربما‬
‫كانا من جهة الخلقة ل صنع للنسان ول مدخل‬
‫لختياره فيهما كحسن الوجه ودمامة الخلقة وربما‬
‫لحقا من جهة العمال الختيارية كحسن العدل‬
‫وقبح الظلم وانما يحمد ويذم العقل ما كان من‬
‫القسم الثاني دون القسم الول فيدور الحمد‬
‫والذم بحسب الحقيقة مدار العمل بما تستحسنه‬
‫وتأمر به الفطرة النسانية ‪ /‬صفحة ‪ / 278‬من‬
‫العمال التى توصله إلى ما فيه سعادة حياته‬
‫وترك العمل بها وهو الذى يتضمنه الدين الحق من‬
‫احكام الفطرة ‪ .‬ومن المعلوم ان الطبع النساني‬
‫ل رادع له عن اقتراف العمل السئ ال اليم‬
‫المؤاخذة وشديد العقاب واذعانه بايقاعه وانجازه‬
‫واما الذم فانه يتبدل مدحا إذا شاع الفعل وخرج‬
‫بذلك عن كونه منكرا غير معروف ‪ .‬ومن هنا يظهر‬
‫ان اليمان بالخرة والذعان بالحساب والجزاء هو‬
‫الصل الوحيد الذى يضمن حفظ النسان عن‬
‫اقتراف العمال السيئة ويجيره من لحوق أي ذم‬
‫وخزى وهو المنشأ الذى يقوم اعمال النسان‬
‫تقويما يحمله على ملزمة طريق السعادة ول يؤثر‬
‫اثره أي شئ آخر من المعارف الصلية حتى‬
‫التوحيد الذى إليه ينتهى كل اصل ‪ .‬وإلى ذلك‬
‫يشير قوله تعالى ‪ " :‬ول تتبع الهوى فيضلك عن‬
‫سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم‬
‫عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص ‪. 26 :‬‬
‫فعدم اليمان بالخرة واستخفاف امر الحساب‬
‫والجزاء هو مصدر كل عمل سئ ومورده‬
‫وبالمقابلة اليمان بالخرة هو منشأ كل حسنة‬
‫ومنبع كل خير وبركة ‪ .‬فكل مثل سوء وصفة قبح‬
‫يلزم النسان ويلحقه فانما يأتيه من قبل نسيان‬
‫الخرة كما ان كل مثل حسن وصفة حمد بالعكس‬
‫من ذلك ‪ .‬وبما تقدم يظهر النكتة في قوله للذين‬
‫ل يؤمنون بالخرة مثل السوء فقد كان يصفهم‬
‫في اليات السابقة بالشرك فلما اراد بيان ان لهم‬
‫مثل السوء بدل ذلك من وصفهم بعدم ايمانهم‬
‫بالخرة ‪ .‬فالذين ل يؤمنون بالخرة هم الصل في‬
‫عروض كل مثل سوء وصفة قبح فان ملكه وهو‬
‫انكار الخرة نعتهم اللزم لهم ولو لحق بعض‬
‫المؤمنين بالخرة شئ من مثل السوء فانما يلحقه‬
‫لنسيان ما ليوم الحساب والمنكرون هم الصل‬
‫في ذلك ‪ .‬هذا في صفات السوء التى يستقبحها‬
‫العقل ويذمها وهناك صفات سوء ل يستقبحها‬
‫العقل وانما يكرهها الطبع كالنوثة عند قوم وايلد‬
‫البنات عند آخرين والفقر المالى والمرض‬
‫وكالموت والفناء والعجز والجهل تشترك بين‬
‫المؤمن والكافر وصفات اخرى تحليلية كالفقر‬
‫والحاجة والنقص والعدم والمكان ل تختص‬
‫بالنسان بل هي مشتركة ‪ /‬صفحة ‪ / 279‬بين‬
‫جميع الممكنات سارية في عامة الخلق والكافر‬
‫يتصف بها كما يتصف بها غيره فالكافر في معرض‬
‫التصاف بكل مثل سوء منها ما يختص به ومنها ما‬
‫يشترك بينه وبين غيره كما بين تفصيل والله‬
‫سبحانه منزه من ان يتصف بشئ من هذه الصفات‬
‫التى هي امثال السوء أما امثال السوء التى‬
‫تتحصل من ناحية سيئات العمال مما يستقبحه‬
‫العقل ويذمه ويجمعها الظلم فلنه ل يظلم شيئا‬
‫قال تعالى ‪ " :‬ول يظلم ربك احدا " الكهف ‪49 :‬‬
‫وقال ‪ " :‬وهو الحكيم العليم " الزخرف ‪ 84 :‬فما‬
‫قضاه من حكم أو فعله من شئ فهو المتعين في‬
‫الحكمة ل يصلح بالنظر إلى النظام الجارى في‬
‫الوجود ال ذاك ‪ .‬واما امثال السوء مما يستكرهه‬
‫الطبع أو يحلله العقل فل سبيل لها إليه تعالى‬
‫فانه عزيز مطلق يمتنع جانبه من ان تسرب إليه‬
‫ذلة فان له كل القدرة ل يعرضه عجز وله العلم‬
‫كله فل يطرأ عليه جهل وله محض الحياة ل يهدده‬
‫موت ول فناء منزه عن كل نقص وعدم فل يتصف‬
‫بصفات الجسام مما فيه نقص أو فقد أو قصور‬
‫أو فتور واليات في هذه المعاني كثيرة ظاهرة ل‬
‫حاجة إلى ايرادها ‪ .‬فهو سبحانه ذو علو ونزاهة من‬
‫ان يتصف بشئ من امثال السوء التى يتصف بها‬
‫غيره ول هذا المقدار من التنزه والتقدس فحسب‬
‫بل منزه من ان يتصف بشئ من‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 279‬‬
‫المثال الحسنة والصفات الجميلة الكريمة بمعانيها‬
‫التى يتصف بها غيره كالحياة والعلم والقدرة‬
‫والعزة والعظمة والكبرياء وغيرها فان الذى يوجد‬
‫من هذه الصفات الحسنة الكمالية في الممكنات‬
‫محدودة متناه مشوب بالفقر والحاجة مخلوط‬
‫بالفقدان والنقيصة لكن الذى له سبحانه من‬
‫الصفات محض الكمال وحقيقته غير محدودة ول‬
‫متناه ول مشوب بنقص وعدم فله حياة ل يهددها‬
‫موت وقدرة ل يعتريها عى وعجز وعلم ل يقارنه‬
‫جهل وعزة ليس معها ذلة ‪ .‬فله المثل العلى‬
‫والصفة الحسنى قال تعالى ‪ " :‬وله المثل العلى‬
‫في السماوات والرض " الروم ‪ 27 :‬وقال ‪ " :‬له‬
‫السماء الحسنى " طه ‪ 8 :‬فالمثال منها دانية‬
‫ومنها عالية والعالية منها اعلى ومنها غيره‬
‫والعلى مثله تعالى والسماء سيئة وحسنة‬
‫والحسنة منها احسن وغيره ولله منها ما هو‬
‫احسن فافهم ذلك ‪ / .‬صفحة ‪ / 280‬فقد تبين بما‬
‫تقدم معنى كون مثله اعلى وان قوله ولله المثل‬
‫العلى مسوق للحصر أي لله المثل الذى هو اعلى‬
‫دون المثل الذى هو سئ دان ودون المثل الذى هو‬
‫حسن عال من صفات الكمال الذى تتصف به‬
‫الممكنات وليس بأعلى ‪ .‬وتبين ايضا ان المثل‬
‫العلى الذى يظهر له تعالى من البيان السابق هو‬
‫انتفاء جميع الصفات السيئة عنه كما قال ‪ " :‬ليس‬
‫كمثله شئ " الشورى ‪ 11 :‬ومن الصفات الثبوتية‬
‫كل صفة حسنة منفيا عنه الحدود والنواقص ‪.‬‬
‫وقوله وهو العزيز الحكيم مسوق لفادة الحصر‬
‫وتعليل ما تقدمه أي وهو الذى له كل العزة فل‬
‫تعتريه ذلة اصل لن كل ذلة فهو فقد عزة ما‬
‫وليس يفقد عزة ما وله كل الحكمة فل يعرضه‬
‫جهالة لنها فقد حكمة ما وليس يفقد شيئا من‬
‫الحكمة ‪ .‬واذ ل سبيل لذلة ول جهالة إليه فل‬
‫يتصف بشئ من صفات النقص ول ينعت بشئ من‬
‫نعوت الذم وامثال السوء لكن الكافر ذليل في ذاته‬
‫جهول في نفسه فتلحقه وتلزمه صفات النقص‬
‫ويتصف بصفات الذم وامثال السوء فللذين ل‬
‫يؤمنون بالخرة مثل السوء ‪ .‬والمؤمن وان كان‬
‫ذليل في ذاته جهول في نفسه كالكافر ال انه‬
‫لدخوله في ولية الله اعزه ربه بعزته واظهره‬
‫على الجهالة بتأييده بروح منه قال تعالى ‪ " :‬والله‬
‫ولى المؤمنين " آل عمران ‪ 68 :‬وقال ‪ " :‬ولله‬
‫العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون ‪8 :‬‬
‫وقال ‪ " :‬اولئك كتب في قلوبهم اليمان وايدهم‬
‫بروح منه " المجادلة ‪ . 22 :‬قوله تعالى ‪ " :‬ولو‬
‫يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة "‬
‫إلى آخر الية ضمير عليها عائد إلى الرض لدللة‬
‫الناس عليها ‪ .‬ول يبعد ان يدعى ان السياق يدل‬
‫على كون المراد بالدابة النسان فقط من جهة‬
‫كونه يدب ويتحرك والمعنى ولو اخذ الله الناس‬
‫بظلمهم مستمرا على المؤاخذة ما ترك على‬
‫الرض من انسان يدب ويتحرك اما جل الناس‬
‫فانهم يهلكون بظلمهم واما الشذ الندر وهم‬
‫النبياء والئمة المعصومون من الظلم فهم ل‬
‫يوجدون لهلك آبائهم وامهاتهم من قبل ‪ .‬والقوم‬
‫اخذوا الدابة في الية باطلق معناها وهو كل ما‬
‫يدب على الرض من ‪ /‬صفحة ‪ / 281‬انسان‬
‫وحيوان فعاد معنى الية إلى انه لو يؤاخذهم‬
‫بظلمهم لهلك البشر وكل حيوان على الرض‬
‫فتوجه إليه ان هذا هو النسان يهلك بظلمه فما‬
‫بال سائر الحيوان يهلك ول ظلم له أو يهلك بظلم‬
‫من النسان ؟ واوجه ما اجيب به عنه قول بعضهم‬
‫باصلح منا ان الله تعالى لو اخذهم بظلمهم بكفر‬
‫أو معصية لهلك عامة الناس بظلمهم إل‬
‫المعصومين منهم واما المعصومون على شذوذهم‬
‫وقلة عددهم فانهم ل يوجدون لهلك آبائهم‬
‫وامهاتهم من قبل وإذا هلك الناس وبطل النسل‬
‫هلكت الدواب من سائر الحيوان لنها مخلوقة‬
‫لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬خلق لكم ما في الرض جميعا " البقرة ‪:‬‬
‫‪ 29‬ولهم وجوه أخر في الذب عن الية على تقدير‬
‫عموم الدابة فيها ل جدوى في نقلها من ارادها‬
‫فليراجع مطولت التفاسير ‪ .‬واحتج بعضهم بالية‬
‫على عدم عصمة النبياء عليهم السلم وفيه ان‬
‫الية ل تدل على ازيد من انه تعالى لو اخذ بالظلم‬
‫لهلك جميع الناس وانقرض النوع واما إن كل من‬
‫يهلك فانما هلك عن ظلمه فل دللة لها عليه فمن‬
‫الجائز ان يهلك الكثرون بظلمهم ويفنى القلون‬
‫بفناء آبائهم وامهاتهم كما تقدم فل دللة في الية‬
‫على استغراق الظلم الفراد حتى النبياء‬
‫والمعصومين وانما تدل على استغراق الفناء ‪.‬‬
‫وربما قيل في الجواب ان المراد بالناس‬
‫الظالمون منهم بقرينة قوله على ظلمهم فل‬
‫يشمل المعصومين من رأس ‪ .‬وربما اجيب ان‬
‫المراد بالظلم اعم من المعصية التى هي مخالفة‬
‫المر المولوي وترك الولى الذى هو مخالفة المر‬
‫الرشادي وربما صدر عن النبياء عليهم السلم‬
‫كما حكى عن آدم وزوجه ‪ " :‬قال ربنا ظلمنا‬
‫انفسنا " العراف ‪ 23 :‬وغيره من النبياء‬
‫فحسنات البرار سيئات المقربين وحينئذ فل يدل‬
‫عموم الظلم في الية للنبياء على عدم عصمة‬
‫النبياء عن المعصية بمعنى مخالفة المر‬
‫المولوي ‪ .‬وربما اجيب بأن اهلك جميع الناس انما‬
‫هو بان الله يمسك عن انزال المطر على‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 281‬‬
‫الرض لظلم الظالمين من الناس فيهلك به‬
‫الظالمون والولياء والدواب فان العذاب إذا نزل‬
‫لم يفرق بين الشقى والسعيد فيكون على العدو‬
‫نقمة ونكال وعلى غيره محنة ومزيد أجر ‪ / .‬صفحة‬
‫‪ / 282‬والجوبة الثلثة غير تامة جميعا اما الول‬
‫فان اختصاص الناس بالظالمين يوجب اختصاص‬
‫الهلك بهم كما ادعى فل يعم الهلك المعصومين‬
‫ول موجب حينئذ لهلك سائر الدواب المخلوقة‬
‫للنسان فل يستقيم قوله ما ترك عليها من دابة‬
‫كما ل يخفى ‪ .‬واما الثاني فلن اليات بما لها من‬
‫السياق تبحث عن الظلم بمعنى الشرك وسائر‬
‫المعاصي المولوية فتعميم الظلم في الية لترك‬
‫الولى وخاصة بالنظر إلى ذيل الية ولكن يؤخرهم‬
‫إلى اجل مسمى الظاهر في اليعاد ل يلئم‬
‫السياق ‪ .‬واما الثالث فلعدم دليل من جهة اللفظ‬
‫على ما ذكر فيه ‪ .‬وقوله ولكن يؤخرهم إلى اجل‬
‫مسمى فإذا جاء اجلهم ل يستأخرون ساعة ول‬
‫يستقدمون استدراك عن مقدر يدل عليه الجملة‬
‫الشرطية في صدر الية والتقدير فل يعاجل في‬
‫مؤاخذتهم ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى والجل‬
‫المسمى بالنسبة إلى الفرد من النسان موته‬
‫المحتوم وبالنسبة إلى المة يوم انقراضها‬
‫وبالنسبة إلى عامة البشر نفخ الصور وقيام‬
‫الساعة ولكل منها ذكر في كلمه تعالى قال ‪" :‬‬
‫ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا اجل مسمى "‬
‫المؤمن ‪ 67 :‬وقال ‪ " :‬ولكل امة اجل فإذا جاء‬
‫اجلهم ل يستأخرون ساعة ول يستقدمون "‬
‫العراف ‪ 34 :‬وقال ‪ " :‬ولو ل كلمة سبقت من‬
‫ربك إلى اجل مسمى لقضى بينهم " الشورى ‪14 :‬‬
‫‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ويجعلون لله ما يكرهون وتصف‬
‫ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى " إلى آخر الية‬
‫عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات‬
‫واختيارهم لنفسهم البنين وهم يكرهون البنات‬
‫ويحبون البنين ويستحسنونهم ‪ .‬فقوله ويجعلون‬
‫لله ما يكرهون يعنى البنات وقوله وتصف السنتهم‬
‫الكذب أي تخبر السنتهم الخبر الكاذب وهو ان لهم‬
‫الحسنى أي العاقبة الحسنى من الحياة وهى ان‬
‫يخلفهم البنون وقيل المراد بالحسنى الجنة على‬
‫تقدير صحة البعث وصدق النبياء فيما يخبرون به‬
‫كما حكاه عنهم في قوله ‪ " :‬ولئن أذقناه رحمة منا‬
‫من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لى وما اظن‬
‫الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربى ان لى عنده‬
‫للحسنى " حم السجدة ‪ 50 :‬وهذا الوجه ل بأس به‬
‫لو ل ذيل الية بما سيجئ ‪ /‬صفحة ‪ / 283‬من معناه‬
‫‪ .‬وقوله ل جرم ان لهم النار وانهم مفرطون أي‬
‫المقدمون إلى عذاب النار يقال فرط وافرط أي‬
‫تقدم والفراط السراف في التقدم كما ان‬
‫التفريط التقصير فيه والفرط بفتحتين هو الذى‬
‫يسبق السيارة لتهيئة المسكن والماء ويقال‬
‫افرطه أي قدمه ‪ .‬ولما كان قولهم كذبا وافتراء ان‬
‫لله ما يكرهون ولهم الحسنى في معنى دعوى‬
‫انهم سبقوا ربهم إلى الحسنى وتركوا له ما‬
‫يكرهون اوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء لكذبهم‬
‫وهو ان لهم النار وانهم مقدمون إليها حقا وذلك‬
‫قوله ل جرم إن لهم النار الخ ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم‬
‫الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب‬
‫اليم " ظاهر السياق ان المراد باليوم يوم نزول‬
‫الية والمراد بكون الشيطان وليا لهم يومئذ‬
‫اتفاقهم على الضلل في زمان الوحى والمراد‬
‫بالعذاب الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر‬
‫غالب اليات التى توعد بالعذاب ‪ .‬والمعنى تالله‬
‫لقد ارسلنا رسلنا إلى امم من قبلك كاليهود‬
‫والنصارى والمجوس ممن لم ينقرضوا كعاد وثمود‬
‫فزين لهم الشيطان اعمالهم فاتبعوه واعرضوا‬
‫عن رسلنا فهو وليهم اليوم وهم متفقون على‬
‫الضلل ولهم يوم القيامة عذاب اليم ‪ .‬وجوز‬
‫الزمخشري على هذا الوجه ان يكون ضمير وليهم‬
‫لقريش والمعنى إن الشيطان زين للمم الماضين‬
‫اعمالهم وهو اليوم ولى قريش ويبعده لزوم‬
‫اختلف الضمائر ‪ .‬ويمكن ان يكون المراد بالمم‬
‫المم الماضين والهالكين فولية الشيطان لهم‬
‫اليوم كونهم من اولياء الشيطان في البرزخ ولهم‬
‫هناك عذاب اليم وقيل المراد باليوم مدة الدنيا‬
‫فهى يوم الولية والعذاب يوم القيامة ‪ .‬وقيل‬
‫المراد به يوم القيامة فهناك ولية الشيطان لهم‬
‫ولهم هناك عذاب اليم ‪ .‬وقيل المراد يوم تزيين‬
‫الشيطان اعمالهم وهو من قبيل حكاية الحال‬
‫الماضية ‪ .‬واقرب الوجوه اولها ثم التالى فالتالي‬
‫والله اعلم ‪ / .‬صفحة ‪ / 284‬قوله تعالى ‪ " :‬وما‬
‫انزلنا عليك الكتاب ال لتبين لهم الذى اختلفوا فيه‬
‫" الخ ضمير لهم للمشركين والمراد بالذى اختلفوا‬
‫فيه هو الحق من اعتقاد وعمل فيكون المراد‬
‫بالتبين اليضاح والكشف لتمام الحجة والدليل‬
‫على هذا الذى ذكرنا تفريق امر المؤمنين منهم‬
‫وافرادهم بالذكر في قوله ‪ " :‬وهدى ورحمة لقوم‬
‫يؤمنون " ‪ .‬والمعنى هذا حال الناس في الختلف‬
‫في المعارف الحقة والحكام اللهية وما انزلنا‬
‫عليك الكتاب ال لتكشف لهؤلء المختلفين الحق‬
‫الذى اختلف فيه فيتم لهم الحجة وليكون هدى‬
‫ورحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحق‬
‫ويرحمهم باليمان به والعمل ‪ ) .‬بحث روائي (‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 284‬‬
‫في الكافي باسناده عن عبد الرحمان بن كثير قال‬
‫‪ :‬قلت لبي عبد الله عليه السلم فاسألوا أهل‬
‫الذكر إن كنتم ل تعلمون قال الذكر محمد ونحن‬
‫اهله المسؤولون الحديث ‪ .‬اقول يشير عليه‬
‫السلم إلى قوله تعالى ‪ " :‬قد انزل الله عليكم‬
‫ذكرا رسول " الطلق ‪ 11 :‬وفي معناه روايات‬
‫كثيرة ‪ .‬وفي تفسير البرهان عن البرقى باسناده‬
‫عن عبد الكريم بن ابى الديلم عن ابى عبد الله‬
‫عليه السلم ‪ :‬قال جل ذكره فاسألوا اهل الذكر‬
‫ان كنتم ل تعلمون قال الكتاب الذكر واهله آل‬
‫محمد عليهم السلم امر الله عز وجل بسؤالهم‬
‫ولم يأمر بسؤال الجهال وسمى الله عز وجل‬
‫القرآن ذكرا فقال تبارك وتعالى ‪ " :‬وانزلنا اليك‬
‫الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون‬
‫" وقال تعالى ‪ " :‬وانه لذكر لك ولقومك وسوف‬
‫تسألون " ‪ .‬اقول وهذا احتجاج على كونهم اهل‬
‫الذكر بأن الذكر هو القرآن وانهم اهله لكونهم‬
‫قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫واليتان في آخر الكلم للستشهاد على ذلك كما‬
‫صرح بذلك في غيره من الروايات وفي معنى‬
‫الحديث احاديث أخر ‪ .‬وفي تفسير العياشي عن‬
‫محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلم قال ‪:‬‬
‫قلت له ان من عندنا يزعمون ان قول الله تعالى‬
‫فاسألوا اهل الذكر ان كنتم ل تعلمون انهم اليهود‬
‫والنصارى فقال إذا يدعونكم إلى دينهم قال ثم‬
‫قال بيده إلى صدره نحن أهل الذكر ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 285‬الذكر ونحن المسؤولون قال قال أبو جعفر‬
‫عليه السلم الذكر القرآن ‪ .‬اقول وروى نظير هذا‬
‫البيان عن الرضا عليه السلم في مجلس‬
‫المأمون ‪ .‬وقد مر ان الخطاب في الية على ما‬
‫يفيده السياق للمشركين من الوثنيين المحيلين‬
‫للرسالة امروا أن يسألوا اهل الذكر وهم اهل‬
‫الكتب السماوية هل بعث الله للرسالة رجال من‬
‫البشر يوحى إليهم ؟ ومن المعلوم ان المشركين‬
‫لما كانوا ل يقبلون من النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم لم يكن معنى لرجاعهم إلى غيره من اهل‬
‫القرآن لنهم لم يكونوا يقرون للقرآن انه ذكر من‬
‫الله فتعين ان يكون المسؤل عنه بالنظر إلى مورد‬
‫الية هم اهل الكتاب وخاصة اليهود ‪ .‬واما إذا اخذ‬
‫قوله فاسألوا اهل الذكر ان كنتم ل تعلمون في‬
‫نفسه مع قطع النظر عن المورد ومن شأن‬
‫القرآن ذلك ومن المعلوم ان المورد ل يخصص‬
‫بنفسه كان القول عاما من حيث السائل‬
‫والمسئول والمسؤول عنه ظاهرا فالسائل كل من‬
‫يمكن ان يجهل شيئا من المعارف حقيقية‬
‫والمسائل من المكلفين والمسئول عنه جميع‬
‫المعارف والمسائل التى يمكن ان يجهله جاهل‬
‫واما المسئول فانه وان كان بحسب المفهوم عاما‬
‫فهو بحسب المصداق خاص وهم اهل بيت النبي‬
‫عليه وعليهم السلم ‪ .‬وذلك ان المراد بالذكر ان‬
‫كان هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في‬
‫آية الطلق فهم اهل الذكر وان كان هو القرآن‬
‫كما في آية الزخرف فهو ذكر للنبى صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم ولقومه وهم قومه أو المتيقن‬
‫من قومه فهم اهله وخاصته وهم المسئولون وقد‬
‫قارنهم صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن وأمر‬
‫الناس بالتمسك بهما في حديث الثقلين المتواتر‬
‫قائل ‪ :‬انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض‬
‫الحديث ومن الدليل على ان كلمهم عليهم السلم‬
‫من الجهة التى ذكرناها عدم تعرضهم لشئ من‬
‫خصوصيات مورد الية ‪ .‬ومما قدمناه يظهر فساد‬
‫ما اورده بعضهم على الحاديث ان المشركين‬
‫الذين امروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يقبلون من اهل‬
‫بيته ؟ وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن‬
‫جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ‪ :‬ل ينبغى للعالم ان يسكت على علمه ول‬
‫ينبغى للجاهل ان يسكت على جهله وقد قال الله ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 286‬فاسألوا اهل الذكر ان كنتم ل‬
‫تعلمون فينبغي للمؤمن ان يعرف عمله على هدى‬
‫أم على خلفه وفي تفسير القمى في قوله تعالى‬
‫‪ " :‬أفأمن الذين مكروا السيئات إلى قوله‬
‫بمعجزين قال قال عليه السلم إذا جاؤا وذهبوا‬
‫في التجارات فيأخذهم في تلك الحالة أو يأخذهم‬
‫على تخوف قال قال على تيقظ وفي تفسير‬
‫العياشي عن سماعة عن ابى عبد الله عليه السلم‬
‫قال ‪ :‬سألت عن قول الله وله الدين واصبا قال‬
‫واجبا وفي المعاني باسناده عن حنان بن سدير‬
‫عن الصادق عليه السلم في حديث قال عليه‬
‫السلم ولله المثل العلى الذى ل يشبهه شئ ول‬
‫يوصف ول يتوهم وفي الدر المنثور ‪ :‬في قوله‬
‫ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم الية اخرج ابن‬
‫مردويه عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم لو ان الله يؤاخذنى وعيسى‬
‫بن مريم بذنوبنا وفي لفظ بما جنت هاتان البهام‬
‫والتى تليها لعذبنا مايظلمنا شيئا ‪ .‬اقول والحديث‬
‫مخالف لما يثبته الكتاب والسنة من عصمة النبياء‬
‫عليهم السلم ول وجه لحمله على ارادة ترك‬
‫الولى من الذنوب إذ ل عذاب عليه * * * والله‬
‫انزل من السماء ماء فأحيا به الرض بعد موتها ان‬
‫في ذلك لية لقوم يسمعون ‪ 65 -‬وان لكم في‬
‫النعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين‬
‫فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ‪66 -‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 286‬‬
‫ومن ثمرات النخيل والعناب تتخذون منه سكرا‬
‫ورزقا حسنا ان في ذلك لية لقوم يعقلون ‪67 -‬‬
‫وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا‬
‫ومن الشجر ومما يعرشون ‪ 68 -‬ثم كلى ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 287‬من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلك ذلل‬
‫يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء‬
‫للناس ان في ذلك لية لقوم يتفكرون ‪ 69 -‬والله‬
‫خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى ارذل العمر‬
‫لكى ل يعلم بعد علم شيئا ان الله عليم قدير ‪70 -‬‬
‫والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما‬
‫الذين فضلوا برادى رزقهم على ما ملكت ايمانهم‬
‫فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ‪ 71 -‬والله‬
‫جعل لكم من انفسكم ازواجا وجعل لكم من‬
‫ازواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات‬
‫أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ‪72 -‬‬
‫ويعبدون من دون الله ما ل يملك لهم رزقا من‬
‫السموات والرض شيئا ول يستطيعون ‪ 73 -‬فل‬
‫تضربوا لله المثال ان الله يعلم وانتم ل تعلمون ‪-‬‬
‫‪ 74‬ضرب الله مثل عبدا مملوكا ل يقدر على شئ‬
‫ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا‬
‫وجهرا هل يستون الحمد لله بل اكثرهم ل يعلمون‬
‫‪ 75 -‬وضرب الله مثل رجلين احدهما أبكم ل يقدر‬
‫على شئ وهو كل على موله أينما يوجهه ل يأت‬
‫بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على‬
‫صراط مستقيم ‪ 76 -‬ولله غيب السموات والرض‬
‫وما امر الساعة إل كلمح البصر أو هو اقرب ان‬
‫الله على كل شئ قدير ‪ / 77 -‬صفحة ‪ ) / 288‬بيان‬
‫( رجوع بعد رجوع إلى عد النعم واللء اللهية‬
‫واستنتاج التوحيد والبعث منها والشارة إلى‬
‫مسألة التشريع وهى النبوة ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬والله‬
‫انزل من السماء ماء فأحيا به الرض بعد موتها "‬
‫الخ يريد انبات الرض بعدما انقطعت عنه بحلول‬
‫الشتاء بماء السماء الذين هو المطر فتأخذ اصول‬
‫النباتات وبذورها في النمو بعد سكونها وهى حياة‬
‫من سنخ الحياة الحيوانية وإن كانت اضعف منها‬
‫وقد اتضح بالبحاث الحديث ان للنبات من جراثيم‬
‫الحياة ما للحيوان وان اختلفتا صورة وأثرا ‪ .‬وقوله‬
‫ان في ذلك لية لقوم يسمعون المراد بالسمع‬
‫قبول ما من شأنه أن يقبل من القول فان العاقل‬
‫الطالب للحق إذا سمع ما يتوقع فيه الحق اصغي‬
‫واستمع إليه ليعيه ويحفظه قال تعالى ‪ " :‬الذين‬
‫يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين‬
‫هداهم الله واولئك هم اولوا اللباب " الزمر ‪. 18 :‬‬
‫فإذا ذكر من فيه قريحة قبول الحق حديث انزال‬
‫الله المطر واحيائه الرض بعد موتها كان له في‬
‫ذلك آية للبعث وان الذى احياها لمحيى الموتى ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬وان لكم في النعام لعبرة الخ‬
‫الفرث هو الثفل الذى ينزل إلى الكرش والمعاء‬
‫فإذا دفع فهو سرجين وليس فرثا والسائغ اسم‬
‫فاعل من السوغ يقال ساغ الطعام والشراب إذا‬
‫جرى في الحلق بسهولة ‪ .‬وقوله وان لكم في‬
‫النعام لعبرة أي لكم في البل والبقر والغنم‬
‫لمرا أمكنكم أن تعتبروا به وتتعظوا ثم بين ذلك‬
‫المر بقوله نسقيكم مما في بطونه الخ أي بطون‬
‫ما ذكر من النعام اخذ الكثير شيئا واحدا ‪ .‬وقوله‬
‫من بين فرث ودم الفرث في الكرش والبان‬
‫النعام مكانها مؤخر البطن بين الرجلين والدم‬
‫مجراه الشرايين والوردة وهى محيطة بهما جميعا‬
‫فأخذ اللبن شيئا هو بين الفرث والدم كأنه باعتبار‬
‫مجاورته لكل منهما واجتماع الجميع في داخل‬
‫الحيوان وهذا كما يقال اخترت زيدا من بين القوم‬
‫ودعوته واخرجته من بينهم إذا ‪ /‬صفحة ‪/ 289‬‬
‫اجتمع معهم في مكان واحد وجاورهم فيه وان‬
‫كان جالسا في حاشية القوم ل وسطهم والمراد‬
‫بذلك انى ميزته من بينهم وقد كان غير متميز ‪.‬‬
‫والمعنى نسقيكم مما في بطونه لبنا خارجا من‬
‫بين فرث ودم خالصا غير مختلط ول مشوب بهما‬
‫ول مستصحب لشئ من طعمهما ورائحتهما سائغا‬
‫للشاربين فذلك عبرة لمن اعتبر وذريعة إلى العلم‬
‫بكمال القدرة ونفوذ الرادة وان الذى خلص اللبن‬
‫من بين فرث ودم لقادر على ان يبعث النسان‬
‫ويحييه بعدما صار عظاما رميما وضلت في الرض‬
‫اجزاؤه ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ومن ثمرات النخيل‬
‫والعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " إلى آخر‬
‫الية قال في المفردات السكر بضم السين حالة‬
‫تعرض بين المرء وعقله إلى ان قال والسكر‬
‫بفتحتين ما يكون منه السكر قال تعالى ‪" :‬‬
‫تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا انتهى ‪ .‬وقال في‬
‫المجمع السكر في اللغة على اربعة اوجه الول ما‬
‫اسكر من الشراب والثانى ما طعم من الطعام‬
‫قال الشاعر جعلت عيب الكرمين سكرا أي جعلت‬
‫ذمهم طعما لك والثالث السكون ومنه ليلة ساكرة‬
‫أي ساكنة قال الشاعر وليست بطلق ول ساكرة‬
‫ويقال سكرت الريح سكنت قال وجعلت عين‬
‫الحرور تسكر والرابع المصدر من قولك سكر‬
‫سكرا ومنه التسكير التحيير في قوله سكرت‬
‫ابصارنا انتهى والظاهر ان الصل في معناه هو‬
‫زوال العقل باستعمال ما يوجب ذلك وسائر ما‬
‫ذكره من المعاني مأخوذة منه بنوع من الستعارة‬
‫والتوسع ‪ .‬وقوله ومن ثمرات النخيل والعناب اما‬
‫جملة اسمية معطوفة على قوله‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 289‬‬
‫والله انزل من السماء ماء كقوله في الية‬
‫السابقة وان لكم في النعام لعبرة والتقدير ومن‬
‫ثمرات النخيل والعناب ما أو ) ‪ ( 1‬شئ تتخذون‬
‫منه الخ قالوا * ) هامش ( * ) ‪ ( 1‬الترديد مبنى‬
‫على المذهبين في حذف الموصول كما سيأتي ‪.‬‬
‫) * ( ‪ /‬صفحة ‪ / 290‬والعرب ربما يضمرما‬
‫الموصولة كثيرا ومنه قوله تعالى ‪ " :‬وإذا رأيت ثم‬
‫رأيت نعيما وملكا كبيرا " الدهر ‪ 20 :‬والتقدير‬
‫رأيت ما ثم أو التقدير ومن ثمرات النخيل‬
‫والعناب شئ تتخذون منه بناء على عدم جواز‬
‫حذف الموصول وابقاء الصلة على ما ذهب إليه‬
‫البصريون من النحاة ‪ .‬واما جملة فعلية معطوفة‬
‫على قوله انزل من السماء كما في الية التالية‬
‫واوحى ربك والتقدير خلق لكم أو آتاكم من ثمرات‬
‫النخيل والعناب وقوله تتخذون منه الخ بدل منه‬
‫أو استئناف كأن قائل يقول ما ذا نستفيد منه‬
‫فقيل تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وافراد ضمير‬
‫منه بتأويل المذكور كقوله مما في بطونه في‬
‫الية السابقة ‪ .‬وقوله تتخذون منه سكرا ورزقا‬
‫حسنا أي تتخذون مما ذكر من ثمرات النخيل‬
‫والعناب ما هو مسكر كالخمر بأنواعها ورزقا‬
‫حسنا كالتمر والزبيب والدبس وغير ذلك مما‬
‫يقتات به ‪ .‬ول دللة في الية على اباحة استعمال‬
‫السكر ول على تحسين استعماله ان لم تدل على‬
‫نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن‬
‫وانما الية تعد ما ينتفعون به من ثمرات النخيل‬
‫والعناب وهى مكية تخاطب المشركين وتدعوهم‬
‫إلى التوحيد ‪ .‬وعلى هذا فالية ل تتضمن حكما‬
‫تكليفيا حتى تكون منسوخة أو غير منسوخة وبه‬
‫يظهر فساد القول بكونها منسوخة بآية المائدة‬
‫كما نسب إلى قتادة ‪ .‬وقد اغرب صاحب روح‬
‫المعاني إذ قال وتفسير السكر بالخمر هو المروى‬
‫عن ابن مسعود وابن عمر وابى رزين والحسن‬
‫ومجاهد والشعبى والنخعي وابن ابى ليلى وابى‬
‫ثور والكلبي وابن جبير مع خلق آخرين والية نزلت‬
‫في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلل يشربها البر و‬
‫الفاجر وتحريمها انما كان بالمدينة اتفاقا‬
‫واختلفوا في انه قبل احد أو بعدها والية المحرمة‬
‫لها يا ايها الذين آمنوا انما الخمر والميسر‬
‫والنصاب والزلم رجس من عمل الشيطان‬
‫فاجتنبوه على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ‬
‫بها وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وابى‬
‫ثور وابن جبير ‪ .‬وقيل نزلت قبل ول نسخ بناء‬
‫على ما روى عن ابن عباس ان السكر هو الخل ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 291‬بلغة الحبشة أو على ما نقل عن ابى‬
‫عبيدة ان السكر المطعوم المتفكه به كالنقل‬
‫وانشد جعلت اعراض الكرام سكرا إلى ان قال‬
‫وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا المراد‬
‫بالسكر ما ل يسكر من النبذة واستدلوا عليه بأن‬
‫الله تعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك‬
‫ول يقع المتنان ال بمحلل فيكون ذلك دليل على‬
‫جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى‬
‫إلى السكر لم يجز انتهى موضع الحاجة ‪ .‬اما ما‬
‫ذكره في الخمر فقد فصلنا القول في ذلك في‬
‫ذيل آيات التحريم من سورة المائدة واقمنا‬
‫الشواهد هناك على ان الخمر كانت محرمة قبل‬
‫الهجرة وكان السلم معروفا بتحريمها وتحريم‬
‫الزنا عند المشركين عامتهم وان تحريمها نزل في‬
‫سورة العراف وقد نزلت قبل سورة النحل قطعا‬
‫وفي سورتي البقرة والنساء وقد نزلتا قبل سورة‬
‫المائدة وان التى نزلت في المائدة انما نزلت‬
‫لتشديد الحرمة وزجر بعض المسلمين حيث كانوا‬
‫يتخلفون عن حكم التحريم كما وقع في الروايات‬
‫وهو الذى يشير إليه بقوله يشربها البر والفاجر‬
‫وفي لفظ اليات دللة على ذلك إذ يقول فهل‬
‫انتم منتهون ‪ .‬واما ما نقله عن ابن عباس ان‬
‫السكر في لغة الحبشة بمعنى الخل فل معول عليه‬
‫واستعمال اللفظ غير العربي وان كان غير عزيز‬
‫في القرآن كما قيل في استبرق وجهنم وزقوم‬
‫وغيرها لكنه انما يجوز فيما لم يكن هناك مانع من‬
‫لبس أو ابهام واما في مثل السكر وهو في اللغة‬
‫العربية الخمر وفي الحبشية الخل فل وكيف يجوز‬
‫ان ينسب إلى ابلغ الكلم انه ترك الخل وهو عربي‬
‫جيد واستعمل مكانه لفظة حبشية تفيد في‬
‫العربية ضد معناها ؟ واما ما نسبه إلى ابى عبيدة‬
‫فقد تقدم ما عليه في اول الكلم فراجع ‪ .‬واما ما‬
‫نسبه إلى الحنفية من ان المراد بالسكر النبيذ وان‬
‫الية تدل على جواز شرب القليل منه ما لم يصل‬
‫إلى حد السكار لمكان المتنان ففيه ان الية ل‬
‫تدل على اكثر من انهم يتخذون منه سكرا واما‬
‫المتنان عليهم بذلك فبمعزل من دللة الية وانما‬
‫عد من النعم ثمرات النخيل والعناب ل كل ما‬
‫عملوا منها من حلل وحرام ولو كان في ذلك‬
‫امتنان لم يقابله بالرزق الحسن الدال بمقابلته‬
‫على نوع من العتاب على اتخاذهم منه سكرا كما‬
‫اعترف به البيضاوى وغيره ‪ / .‬صفحة ‪ / 292‬على‬
‫ان ما في الية من لفظ السكر غير مقيد بكونه‬
‫نبيذا أو خمرا ول قليل ل يبلغ حد السكار ول غيره‬
‫فلو كان اتخاذ السكر متعلقا للمتنان الدال على‬
‫الجواز لكانت الية صريحة في حلية الجميع ثم لم‬
‫يقبل النسخ اصل فان لسان المتنان ل يقبل‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 292‬‬
‫امدا يرتفع بعده كيف يجوز ان يعد الله شيئا من‬
‫نعمه ويمتن على الناس به ثم يعده بعد برهة‬
‫رجسا ومن عمل الشيطان كما في آية المائدة ال‬
‫بالبداء بمعناه المستحيل عليه تعالى ‪ .‬ثم ختم‬
‫سبحانه الية بقوله ان في ذلك لية لقوم يعقلون‬
‫حثا على التعقل والمعان في امر النبات وثمراته ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬واوحى ربك إلى النحل ان اتخذى‬
‫من الجبال بيوتا " إلى آخر اليتين الوحى كما قال‬
‫الراغب الشارة السريعة وذلك يكون بالكلم على‬
‫سبيل الرمز أو بصوت مجرد عن التركيب أو‬
‫باشارة ونحوها والمحصل من موارد استعماله انه‬
‫القاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد‬
‫افهامه فاللهام بالقاء المعنى في فهم الحيوان‬
‫من طريق الغريزة من الوحى وكذا ورود المعنى‬
‫في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق‬
‫الوسوسة أو بالشارة كل ذلك من الوحى وقد‬
‫استعمل في كلمه تعالى في كل من هذه المعاني‬
‫كقوله واوحى ربك إلى النحل الية وقوله ‪" :‬‬
‫واوحينا إلى أم موسى " القصص ‪ 7 :‬وقوله ‪ " :‬إن‬
‫الشياطين ليوحون إلى اوليائهم " النعام ‪121 :‬‬
‫وقوله ‪ " :‬فأوحى إليهم ان سبحوا بكرة وعشيا "‬
‫مريم ‪ 11 :‬ومن الوحى التكليم اللهى لنبيائه‬
‫ورسله قال تعالى ‪ " :‬وما كان لبشر أن يكلمه الله‬
‫ال وحيا " الشورى ‪ 51 :‬وقد قرر الدب الدينى في‬
‫السلم ان ل يطلق الوحى على غير ما عند‬
‫النبياء والرسل من التكليم اللهى ‪ .‬قال في‬
‫المجمع والذلل جمع الذلول يقال دابة ذلول بين‬
‫الذل ورجل ذلول بين الذل والذلة انتهى ‪ .‬وقوله‬
‫واوحى ربك إلى النحل أي ألهمه من طريق‬
‫غريزته التى اودعها في بنيته وامر النحل وهو‬
‫زنبور العسل في حياته الجتماعية وسيرته‬
‫وصنعته لعجيب ولعل بداعة امره هو الموجب‬
‫لصرف الخطاب عنهم إلى النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم إذ قال واوحى ربك ‪ / .‬صفحة ‪/ 293‬‬
‫وقوله ان اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر‬
‫ومما يعرشون هذا من مضمون الوحى الذى اوحى‬
‫إليه والظاهر ان المراد بما يعرشون هو ما يبنون‬
‫لبيوت العسل ‪ .‬وقوله ثم كلى من كل الثمرات‬
‫المر بان تأكل من كل الثمرات مع انها تنزل غالبا‬
‫على الزهار انما هو لنها انما تأكل من مواد‬
‫الثمرات اول ما تتكون في بطون الزهار ولما‬
‫تكبر وتنضج ‪ .‬وقوله فاسلكي سبل ربك ذلل‬
‫تفريعه على المر بالكل يؤيد ان المراد به‬
‫رجوعها إلى بيوتها لتودع فيها ما هيأته من العسل‬
‫المأخوذ من الثمرات واضافة السبل إلى الرب‬
‫للدللة على إن الجميع بالهام الهى ‪ .‬وقوله يخرج‬
‫من بطونها شراب مختلف الوانه الخ استئناف بعد‬
‫ذكر جملة ما امرت به يبين فيه ما يترتب على‬
‫مجاهدتها في امتثال امر الله سبحانه ذلل وهو انه‬
‫يخرج من بطونها أي بطون النحل شراب وهو‬
‫العسل مختلف الوانه بالبياض والصفرة والحمرة‬
‫الناصعة وما يميل إلى السواد فيه شفاء للناس‬
‫من غالب المراض ‪ .‬وتفصيل القول في حياة‬
‫النحلة هذه الحشرة الفطنة التى بنت حياتها على‬
‫مدنية عجيبة فاضلة ل تكاد تحصى غرائبها ول‬
‫يحاط بدقائقها ثم الذى تهيؤه ببالغ مجاهدتها وما‬
‫يشتمل عليه من الخواص خارج عن وسع هذا‬
‫الكتاب فليراجع في ذلك مظان تحقيقه ‪ .‬ثم ختم‬
‫الية بقوله ان في ذلك لية لقوم يتفكرون وقد‬
‫اختلف التعبير بذلك في هذه اليات فخص الية‬
‫في احياء الرض بعد موتها بقوم يسمعون وفي‬
‫ثمرات النخيل والعناب بقوم يعقلون وفي امر‬
‫النحل بقوم يتفكرون ‪ .‬ولعل الوجه في ذلك ان‬
‫النظر في امر الموت والحياة بحسب طبعه من‬
‫العبرة والموعظة وهى بالسمع انسب والنظر في‬
‫الثمرات من حيث ما ينفع النسان في وجوده من‬
‫السير البرهانى من مسلك اتصال التدبير وارتباط‬
‫النظمة الجزئية ورجوعها إلى نظام عام واحد ل‬
‫يقوم ال بمدبر واحد وهو للعقل انسب وامر النحل‬
‫في حياتها يتضمن دقائق عجيبة ل تنكشف‬
‫للنسان ال بالمعان في التفكر فهو آية‬
‫للمتفكرين ‪ .‬وقد اشرنا سابقا إلى ما في آيات‬
‫السورة من مختلف اللتفاتات وعمدتها في هذه‬
‫اليات ترجع إلى خطاب المشركين رحمة لهم‬
‫واشفاقا بحالهم وهم ل يعلمون والعراض ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 294‬عن مخاطبتهم لكفرهم وجحودهم‬
‫إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا‬
‫ظاهر مشهود في آيات السورة فل يزال الخطاب‬
‫فيها يتقلب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫وبين المشركين فيتحول منه إليهم ومنهم إليه ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم‬
‫من يرد إلى ارذل العمر لكى ل يعلم بعد علم شيئا‬
‫" الخ الرذل اسم تفضيل من الرذالة وهى الرداءة‬
‫والرذل الدون والردئ والمراد بأرذل العمر بقرينة‬
‫قوله لكى ل يعلم الخ سن الشيخوخة والهرم التى‬
‫فيها انحطاط قوى الشعور والدراك وهى تختلف‬
‫باختلف المزجة وتبتدئ على الغلب من الخمس‬
‫و السبعين ‪ .‬والمعنى والله خلقكم معشر الناس‬
‫ثم يتوفاكم في عمر متوسط ومنكم من يرد إلى‬
‫سن الهرم فينتهى إلى ان ل يعلم بعد علم شيئا‬
‫لضعف القوى وهذا آية ان حياتكم وموتكم وكذا‬
‫شعوركم وعلمكم ليست بأيديكم وإل اخترتم البقاء‬
‫على الوفاة والعلم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 294‬‬
‫على عدمه بل ذلك على ما له من عجيب النظام‬
‫منته إلى علمه وقدرته تعالى ولهذا علله بقوله ان‬
‫الله عليم قدير ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬والله فضل‬
‫بعضكم على بعض في الرزق " إلى آخر الية فضل‬
‫بعض الناس على بعض في الرزق وهو ما تبقى به‬
‫الحياة ربما كان من جهة الكمية كالغنى المفضل‬
‫بالمال الكثير على الفقير وربما كان من جهة‬
‫الكيفية كأن يستقل بالتصرف فيه بعضهم ويتولى‬
‫امر الخرين مثل ما يستقل المولى الحر بملك ما‬
‫في يده والتصرف فيه بخلف عبده الذى ليس له‬
‫ان يتصرف في شئ ال باذنه وكذا الولد الصغار‬
‫بالنسبة إلى وليهم و النعام والمواشى بالنسبة‬
‫إلى مالكها وقوله ‪ " :‬فما الذين فضلوا برادى‬
‫رزقهم على ما ملكت ايمانهم " قرينة على ان‬
‫المراد هو القسم الثاني من التفضيل وهو ان‬
‫بعضهم فضل بالحرية والستقلل بملك ما رزق‬
‫وليس يختار ان يرد ما رزق باستقلله وحريته إلى‬
‫من يملكه ويملك رزقه ول ان يبذل له ما اوتيه من‬
‫نعمة حتى يتساويا ويتشاركا فيبطل ملكه ويذهب‬
‫سودده ‪ .‬فهذه نعمة ليسوا بمغمضين عنها ول‬
‫برادين لها على غيرهم وليست إل من الله سبحانه‬
‫فان امر المولوية والرقية وان كان من الشئون‬
‫الجتماعية التى ظهرت عن آراء ‪ /‬صفحة ‪/ 295‬‬
‫الناس والسنن الجتماعية الجارية في مجتمعاتهم‬
‫لكن له اصول طبيعية تكوينية هي التى بعثت‬
‫آرائهم على اعتباره كسائر المور الجتماعية‬
‫العامة ‪ .‬ومن الشاهد على ذلك ان المم الراقية‬
‫منذ عهد طويل اعلنوا بالغاء سنة السترقاق ثم‬
‫اتبعتهم سائر المم من الشرقيين وغيرهم وهم ل‬
‫يزالون يحترمون معناها إلى هذه الغاية وان ألغوا‬
‫صورتها ويجرون مسماها وان هجروا اسمها ) ‪( 1‬‬
‫ولن يزالوا كذلك فليس في وسع النسان أن يسد‬
‫باب المغالبة وقد قدمنا كلما في هذا المعنى في‬
‫آخر الجزء السادس من هذا الكتاب فليراجعه من‬
‫شاء ‪ .‬وكون هذا المعنى نعمة من الله انما هو لن‬
‫من صلح المجتمع النساني ان يتسلط بعضهم‬
‫على بعض فيصلح القوى الضعيف بصالح التدبير‬
‫ويكمله ‪ .‬وعلى هذا فقوله فهم فيه سواء متفرع‬
‫على المنفى في قوله فما الذين فضلوا برادى‬
‫رزقهم دون النفى والمعنى ليسوا برادى رزقهم‬
‫على عبيدهم فيكونوا متساوين فيه متشاركين‬
‫وفي ذلك ذهاب مولويتهم ويحتمل ان يكون جملة‬
‫استفهامية حذفت منها اداة الستفهام وفيها‬
‫انكار ان يكون المفضلون والمفضل عليهم في‬
‫ذلك متساويين ولو كانوا سواء لم يمتنع المفضل‬
‫من ان يرد رزقه على من فضل عليه فان في ذلك‬
‫دللة على انها نعمة خصه الله بها ‪ .‬ولذلك عقبه‬
‫ثانيا بقوله أفبنعمة الله يجحدون وهو استفهام‬
‫توبيخي كالمتفرع لما تقدمه من الستفهام‬
‫النكارى والمراد بنعمة الله هذا التفضيل المذكور‬
‫بعينه ‪ .‬والمعنى والله اعلم والله فرق بينكم بأن‬
‫فضل بعضكم على بعض في الرزق فبعضكم حر‬
‫مستقل في التصرف فيه وبعضكم عبد تبع له ل‬
‫يتصرف ال عن اذن فليس الذين فضلوا برادى‬
‫رزقهم الذى رزقوه على سبيل الحرية والستقلل‬
‫على ما ملكت ايمانهم حتى يكون هؤلء المفضلون‬
‫والمفضل عليهم في الرزق سواء فليسوا سواء‬
‫بل هي نعمة تختص بالمفضلين أفبنعمة الله‬
‫يجحدون ؟ هذا ما يفيده ظاهر الية بما احتفت به‬
‫من القرائن والسياق سياق تعداد النعم *‬
‫) هامش ( * ) ‪ ( 1‬وإنما نقلوا حكم السترقاق مما‬
‫بين الفرد والفرد إلى ما بين المجتمع والمجتمع‬
‫وسموه بغير اسمه ‪ / ( * ) .‬صفحة ‪ / 296‬وربما‬
‫قرر معنى الية على وجه آخر فقيل المعنى أنهم‬
‫ل يشركون عبيدهم في أموالهم وأزواجهم حتى‬
‫يكونوا في ذلك سواء ويرون ذلك نقصا لنفسهم‬
‫فكيف يشركون عبيدى في ملكى وسلطاني‬
‫ويعبدونهم ويتقربون إليهم كما يعبدونني‬
‫ويتقربون إلى كما فعلوا في عيسى بن مريم عليه‬
‫السلم ؟ قالوا والية على شاكلة قوله تعالى ‪" :‬‬
‫ضرب لكم مثل من أنفسكم هل لكم مما ملكت‬
‫أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء‬
‫" الروم ‪ 28 :‬قالوا والية نزلت في نصارى‬
‫نجران ‪ .‬وفيه أن سياق الية هو سياق تعداد النعم‬
‫لستنتاج التوحيد ل المناقضة والتوبيخ فل أثر فيها‬
‫منه ‪ .‬على أن الية مما نزلت بمكة واين ذاك من‬
‫وفود نصارى نجران على المدينة سنة ست من‬
‫الهجرة أو بعدها ؟ وقياس هذه الية من آية سورة‬
‫الروم مع الفارق لختلف السياقين فسياق هذه‬
‫الية سياق الحتجاج بذكر النعمة وسياق آية الروم‬
‫هو سياق التوبيخ على الشرك ‪ .‬وقيل ان المعنى‬
‫فهؤلء الذين فضلهم الله في الرزق من الحرار ل‬
‫يرزقون مماليكهم وعبيدهم بل الله تعالى هو‬
‫رازق الملك والمماليك فإن الذى ينفقه المولى‬
‫على مملوكه إنما ينفقه مما رزقهم الله فالله‬
‫رازقهم جميعا فهم فيه سواء ‪ .‬ومحصله ان قوله‬
‫فهم فيه سواء حال محل اضراب مقدر والتقدير‬
‫ان الموالى ليسوا برادى رزق انفسهم على‬
‫عبيدهم فيما ينفقون عليهم بل الله يرزق العبيد‬
‫بأيدى مواليهم وهم سواء في الرزق من الله ‪.‬‬
‫وفيه ان ما قرر من المعنى مقتضاه ان يبطل‬
‫التسوية اخيرا حكم التفضيل أول ول يستقيم عليه‬
‫مدلول قوله أفبنعمة الله يجحدون ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 296‬‬
‫وقيل المراد أن الموالى ليسوا برادى ما بأيديهم‬
‫من الرزق على مواليهم حتى يستووا في التمتع‬
‫منه ‪ .‬وفيه أنه يعود حينئذ إلى أن النسان يمنع‬
‫غيره من أن يتسلط على ما ملكه من ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 297‬الرزق وحينئذ يكون تخصيصذلك بالعبيد‬
‫مستدركا زائدا ولو وجه بأنه انما ل يرده عليه‬
‫لمكان تسلطه على عبيده رجع إلى ما قدمناه من‬
‫المعنى ولكانت النعمة المعدودة هي الفضل من‬
‫جهة مالكية المولى لعبده ولما عنده من الرزق ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬والله جعل لكم من انفسكم ازواجا‬
‫وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة " إلى آخر‬
‫الية قال في المفردات قال الله تعالى ‪2 " :‬‬
‫وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة " جمع حافد‬
‫وهو المتحرك المسرع بالخدمة اقارب كانوا أو‬
‫اجانب قال المفسرون هم السباط ونحوهم وذلك‬
‫ان خدمتهم اصدق إلى ان قال قال الصمعي اصل‬
‫الحفد مداركة الخطو انتهى ‪ .‬وفي المجمع واصل‬
‫الحفد السراع في العمل إلى ان قال ومنه قيل‬
‫للعوان حفدة لسراعهم في الطاعة انتهى‬
‫والمراد بالحفدة في الية العوان الخدم من‬
‫البنين لمكان قوله وجعل لكم من ازواجكم ولذا‬
‫فسر بعضهم قوله بنين وحفدة بصغار الولد‬
‫وكبارهم وبعضهم بالبنين والسباط وهم بنو‬
‫البنين ‪ .‬والمعنى والله جعل لكم من انفسكم‬
‫ازواجا تألفونها وتأنسون بها وجعل لكم من‬
‫ازواجكم باليلد بنين وحفدة واعوانا تستعينون‬
‫بخدمتهم على حوائجكم وتدفعون بهم عن انفسكم‬
‫المكاره ورزقكم من الطيبات وهى ما تستطيبونه‬
‫من امتعة الحياة وتنالونه بل علج وعمل كالماء‬
‫والثمرات أو بعلج وعمل كالطعمة والملبس‬
‫ونحوها ومن في من الطيبات للتبعيض وهو‬
‫ظاهر ‪ .‬ثم وبخهم بقوله أفبالباطل وهى الصنام‬
‫والوثان ومن ذلك القول بالبنات لله والحكام‬
‫التى يشرعها لهم ائمتهم ائمة الضلل يؤمنون‬
‫وبنعمة الله هم يكفرون والنعمة هي جعل الزواج‬
‫من انفسهم وجعل البنين والحفدة من ازواجهم‬
‫فان ذلك من اعظم النعم واجلها لكونه اساسا‬
‫تكوينيا يبتنى عليه المجتمع البشرى ويظهر به‬
‫فيهم حكم التعاون والتعاضد بين الفراد وينتظم‬
‫به لهم امر تشريك العمال والمساعي فيتيسر‬
‫لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا والخرة ‪ .‬ولو ان‬
‫النسان قطع هذا الرابط التكويني الذى انعم الله‬
‫به عليه وهجر هذا السبب الجميل وان توسل بأى‬
‫وسيلة غيره لتلشي جمعه وتشتت شمله وفي‬
‫ذلك ‪ /‬صفحة ‪ / 298‬هلك النسانية قوله تعالى ‪" :‬‬
‫ويعبدون من دون الله ما ل يملك لهم رزقا في‬
‫السماوات والرض شيئا ول يستطيعون " عطف‬
‫على موضع الجملة السابقة والمعنى يكفرون‬
‫بنعمة الله ويعبدون من دون الله ما ل يملك الخ ‪.‬‬
‫وقد ذكروا ان رزقا مصدر وشيئا مفعوله والمعنى‬
‫ل يملك لهم أن يرزق شيئا وقيل الرزق بمعنى‬
‫المرزوق وشيئا بدل منه وقيل ان شيئا مفعول‬
‫مطلق والتقدير ل يملك شيئا من الملك وخير‬
‫الوجوه اوسطها ‪ .‬ويمكن ان يقال في السماوات‬
‫والرض شيئا بدل من رزقا وهو من بدل الكل من‬
‫البعض يفيد معنى الضراب والترقى والمعنى‬
‫ويعبدون ما ل يملك لهم رزقا بل ل يملك لهم في‬
‫السماوات والرض شيئا ‪ .‬وقوله ول يستطيعون‬
‫أي ول يستطيعون ان يملكوا رزقا وشيئا ويمكن‬
‫أن يكون منسى المتعلق جاريا مجرى اللزم أي ول‬
‫استطاعة لهم اصل ‪ .‬وقد اجتمع في الية رعاية‬
‫العتبارين في الصنام فانها من جهة انها معمولة‬
‫من حجر أو خشب أو ذهب أو فضة غير عاقلة‬
‫وبهذا العتبار قيل ما ل يملك الخ ومن جهة انهم‬
‫يعدونها آلهة دون الله ويعبدونها والعبادة ل تكون‬
‫ال لعاقل منسلكة على زعمهم في سلك العقلء‬
‫وبهذا العتبار قيل ول يستطيعون ‪ .‬وفي الية‬
‫رجوع إلى التخلص لبيان الغرض من تعداد النعم‬
‫وهو التوحيد واثبات النبوة بمعنى التشريع والمعاد‬
‫يجرى ذلك إلى تمام اربع آيات ينهى في اولها‬
‫عن ضربهم المثال لله سبحانه ويضرب في الثانية‬
‫مثل تبين به وحدانيته تعالى في ربوبيته وفي‬
‫الثالثة مثل يتبين به امر النبوة والتشريع ويتعرض‬
‫في الرابعة لمر المعاد ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬فل‬
‫تضربوا لله المثال ان الله يعلم وانتم ل تعلمون "‬
‫الظاهر السابق إلى الذهن ان المراد بضرب‬
‫المثال التوصيف المصطلح عليه بالستعارة‬
‫التمثيلية وهى اجراء الوصاف عليه تعالى بضرب‬
‫من التشبيه كقولهم ان له بنات كالنسان وان‬
‫الملئكة بناته وان بينه وبين الجنة نسبا وصهرا‬
‫وانه كيف يحيى العظام وهى ‪ /‬صفحة ‪ / 299‬رميم‬
‫إلى غير ذلك وهذا هو المعنى المعهود من هذه‬
‫الكلمة في كلمه تعالى وقد تقدم في خلل اليات‬
‫السابقة قوله للذين ل يؤمنون بالخرة مثل السوء‬
‫ولله المثل العلى ‪ .‬فالمعنى إذا كان المر على ما‬
‫ذكر فل تصفوه سبحانه بما تشبهونه بغيره‬
‫وتقيسونه إلى خلقه لن الله يعلم وانتم ل تعلمون‬
‫حقائق المور وكنهه تعالى ‪ .‬وقيل المراد بالضرب‬
‫الجعل وبالمثال ما هو جمع المثل بمعنى الند‬
‫فقوله ‪ " :‬فل تضربوا لله المثال " في معنى قوله‬
‫في موضع آخر فل تجعلوا لله اندادا " البقرة ‪22 :‬‬
‫وهو معنى بعيد ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 299‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬ضرب الله مثل عبدا مملوكا ل يقدر‬
‫على شئ " إلى آخر الية ما في الية من المثل‬
‫المضروب يفرض عبدا مملوكا ل يقدر على شئ‬
‫وآخر رزق من الله رزقا حسنا ينفق منه سرا‬
‫وجهرا ثم يسأل هل يستويان ؟ واعتبار التقابل‬
‫بين المفروضين يعطى ان كل من الطرفين مقيد‬
‫بخلف ما في الخر من الوصف مع تبيين الوصاف‬
‫بعضها لبعض ‪ .‬فالعبد المفروض مملوك غير مالك‬
‫ل لنفسه ول لشئ من متاع الحياة وهو غير قادر‬
‫على التصرف في شئ من المال والذى فرض‬
‫قباله حر يملك نفسه وقد رزقه الله رزقا حسنا‬
‫وهو ينفق منه سرا وجهرا على قدرة منه على‬
‫التصرف بجميع اقسامه ‪ .‬وقوله هل يستوون‬
‫سؤال عن تساويهما ومن البديهى ان الجواب هو‬
‫نفى التساوى ويثبت به ان الله سبحانه وهو‬
‫المالك لكل شئ المنعم بجميع النعم ل يساوى‬
‫شيئا من خلقه وهم ل يملكون ل انفسهم ول‬
‫غيرهم ول يقدرون على شئ من التصرف فمن‬
‫الباطل قولهم ان مع الله آلهة غيره وهم من‬
‫خلقه ‪ .‬والتعبير بقوله يستوون دون أن يقال‬
‫يستويان للدللة على ان المراد من ذلك الجنس‬
‫من غير أن يختص بمولى وعبد معينين كما قيل ‪.‬‬
‫وقوله الحمد لله أي له عز اسمه جنس الحمد‬
‫وحقيقته وهو الثناء على الجميل الختياري لن‬
‫جميل النعمة من عنده ول يحمد ال الجميل فله‬
‫تعالى كل الحمد كما ان له جنسه فافهم ذلك ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 300‬والجملة من تمام الحجة ومحصلها‬
‫انه ل يستوى المملوك الذى ل يقدر أن يتصرف‬
‫في شئ وينعم بشئ والمالك الذى يملك الرزق‬
‫ويقدر على التصرف فيه فيتصرف وينعم كيف‬
‫شاء والله سبحانه هو المحمود بكل حمد إذ ما من‬
‫نعمة إل وهى من خلقه فله كل صفة يحمد عليها‬
‫كالخلق والرزق والرحمة والمغفرة والحسان‬
‫والنعام وغيرها فله كل ثناء جميل وما يعبدون من‬
‫دونه مملوك ل يقدر على شئ فهو سبحانه الرب‬
‫وحده دون غيره ‪ .‬وقد قيل ان الحمد في الية‬
‫شكر على نعمه تعالى وقيل حمد على تمام الحجة‬
‫وقوتها وقيل تلقين للعباد ومعناه قولوا الحمد لله‬
‫الذى دلنا على توحيده وهدانا إلى شكر نعمه وهى‬
‫وجوه ل يعبأ بها ‪ .‬وقوله بل اكثرهم ل يعلمون أي‬
‫اكثر المشركين ل يعلمون ان النعمة كلها لله ل‬
‫يملك غيره شيئا ول يقدر على شئ بل يثبتون‬
‫لوليائهم شيئا من الملك والقدرة على سبيل‬
‫التفويض فيعبدونهم طمعا وخوفا هذا حال اكثرهم‬
‫واما اقلهم من الخواص فانهم على علم من الحق‬
‫لكنهم يحيدون عنه بغيا وعنادا ‪ .‬وقد تبين مما‬
‫تقدم ان الية مثل مضروب في الله سبحانه‬
‫وفيمن يزعمونه شريكا له في الربوبية وقيل انها‬
‫مثل تمثل به حال الكافر المخذول والمؤمن‬
‫الموفق فإن الكافر لحباط عمله وعدم العتداد‬
‫باعماله كالعبد المملوك الذى ل يقدر على شئ فل‬
‫يعد له احسان وان انفق وبالغ بخلف المؤمن الذى‬
‫يوفقه الله لمرضاته ويشكر مساعيه فهو ينفق‬
‫مما عنده من الخير سرا وجهرا ‪ .‬وفيه انه ل يلئم‬
‫سياق الحتجاج الذى لليات وقد تقدم ان الية‬
‫احدى اليات الثلث المتوالية التى تتعرض لغرض‬
‫تعداد النعم اللهية وهى تذكر بالتوحيد بمثل‬
‫يقيس حال من ينعم بجميع النعم من حال من ل‬
‫يملك شيئا ول يقدر على شئ فيستنتج ان الرب‬
‫هو المنعم ل غير ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وضرب الله مثل‬
‫رجلين احدهما أبكم " إلى آخر الية قال في‬
‫المجمع البكم الذى يولد اخرس ل يفهم ول يفهم‬
‫وقيل البكم الذى ل يقدر أن يتكلم والكل الثقل‬
‫يقال كل عن المر يكل كل إذا ثقل عليه فلم‬
‫ينبعث فيه ‪ / .‬صفحة ‪ / 301‬وكلت السكين كلول‬
‫إذا غلظت شفرتها وكل لسانه إذا لم ينبعث في‬
‫القول لغلظه وذهاب حده فالصل فيه الغلظ‬
‫المانع من النفوذ والتوجيه الرسال في وجه من‬
‫الطريق يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه‬
‫انتهى ‪ .‬فقوله وضرب الله مثل رجلين مقايسة‬
‫اخرى بين رجلين مفروضين متقابلين في‬
‫اوصافهما المذكورة ‪ .‬وقوله احدهما ابكم ل يقدر‬
‫على شئ أي محروم من ان يفهم الكلم ويفهم‬
‫غيره بالكلم لكونه ابكم ل يسمع ول ينطق فهو‬
‫فاقد لجميع الفعليات والمزايا التى يكتسبها‬
‫النسان من طريق السمع الذى هو اوسع الحواس‬
‫نطاقا به يتمكن النسان من العلم باخبار من‬
‫مضى وما غاب عن البصر من الحوادث وما في‬
‫ضمائر الناس ويعلم العلوم والصناعات وبه يتمكن‬
‫من القاء ما يدركه من المعاني الجليلة والدقيقة‬
‫إلى غيره ول يقوى البكم على درك شئ منها إل‬
‫النزر اليسير مما يساعد عليه البصر بإعانة من‬
‫الشارة ‪ .‬فقوله ل يقدر على شئ مخصص عمومه‬
‫بالبكم أي ل يقدر على شئ مما يقدر عليه غير‬
‫البكم وهو جملة ما يحرمه البكم من تلقى‬
‫المعلومات والقائها ‪ .‬وقوله وهو كل على موله‬
‫أي ثقل وعيال على من يلى ويدبر امره فهو ل‬
‫يستطيع ان يدبر امر نفسه وقوله اينما يوجهه ل‬
‫يأت بخير أي إلى أي جهة ارسله موله لحاجة من‬
‫حوائج نفسه أو حوائج موله لم يقدر على رفعها‬
‫فهو ل يستطيع ان ينفع غيره كما ل ينفع نفسه‬
‫فهذا اعني قوله احدهما ابكم ل يقدر على شئ الخ‬
‫مثل احد الرجلين ولم يذكر سبحانه مثل الخر‬
‫لحصول العلم به من قوله هل‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 301‬‬
‫يستوى هو ومن يامر بالعدل الخ وفيه ايجاز لطيف‬
‫‪ .‬وقوله هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على‬
‫صراط مستقيم فيه اشارة إلى وصف الرجل‬
‫المفروض وسؤال عن استوائهما إذا قويس بينهما‬
‫وعدمه ‪ .‬اما الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن‬
‫ان يتلبس به غير البكم من الخير والكمال الذى‬
‫يحلى نفسه ويعدو إلى غيره وهو العدل الذى هو‬
‫التزام الحد الوسط في العمال واجتناب الفراط‬
‫والتفريط فان المر بالعدل إذا جرى على حقيقته‬
‫كان لزمه ‪ /‬صفحة ‪ / 302‬أن يتمكن الصلح من‬
‫نفس النسان ثم ينبسط على اعماله فيلتزم‬
‫العتدال في المور ثم يحب انبساطه على اعمال‬
‫غيره من الناس فيأمرهم بالعدل وهو كما عرفت‬
‫مطلق التجنب عن الفراط والتفريط أي العمل‬
‫الصالح اعم من العدل في الرعية ‪ .‬ثم وصفه‬
‫بقوله وهو على صراط مستقيم وهو السبيل‬
‫الواضح الذى يهدى سالكيه إلى غايتهم من غير‬
‫عوج والنسان الذى هو في مسير حياته على‬
‫صراط مستقيم يجرى في اعماله على الفطرة‬
‫النسانية من غير ان يناقض بعض اعماله بعضا أو‬
‫يتخلف عن شئ مما يراه حقا وبالجملة ل تخلف‬
‫ول اختلف في اعماله ‪ .‬وتوصيف هذا الرجل‬
‫المفروض الذى يامر بالعدل بكونه على صراط‬
‫مستقيم يفيد اول ان امره بالعدل ليس من امر‬
‫الناس بالبر ونسيان نفسه بل هو مستقيم في‬
‫احواله واعماله يأتي بالعدل كما يأمر به ‪ .‬وثانيا ان‬
‫امره بالعدل ليس ببدع منه من غير اصل فيه‬
‫يبتنى عليه بل هو في نفسه على مستقيم‬
‫الصراط ولزمه ان يحب لغيره ذلك فيأمرهم ان‬
‫يلتزموا وسط الطريق ويجتنبوا حاشيتي الفراط‬
‫والتفريط ‪ .‬واما السؤال اعني ما في قوله هل‬
‫يستوى هو ومن يأمر بالعدل الخ فهو سؤال ل‬
‫جواب له ال النفى ل شك فيه وبه يثبت ان ما‬
‫يعبدونه من دون الله من الصنام والوثان وهو‬
‫مسلوب القدرة ل يستطيع أن يهتدى من نفسه ول‬
‫ان يهدى غيره ل يساوى الله تعالى وهو على‬
‫صراط مستقيم في نفسه هاد لغيره بارسال‬
‫الرسل وتشريع الشرائع ‪ .‬ومنه يظهر ان هذا‬
‫المثل المضروب في الية في معنى قوله تعالى ‪:‬‬
‫" أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع أم من ل‬
‫يهدى إل أن يهدى فمالكم كيف تحكمون " يونس ‪:‬‬
‫‪ 35‬فالله سبحانه على صراط مستقيم في صفاته‬
‫وافعاله ومن استقامة صراطه ان يجعل لما خلقه‬
‫من الشياء غايات تتوجه إليها فل يكون الخلق‬
‫باطل كما قال وما خلقنا السماوات والرض وما‬
‫بينهما باطل وان يهدى كل إلى غايته التى تخصه‬
‫كما خلقها وجعل لها غاية كما قال ‪ " :‬الذى اعطى‬
‫كل شئ خلقه ثم هدى " طه ‪ 50 :‬فيهدى النسان‬
‫إلى سبيل قاصد كما قال ‪ " :‬وعلى الله قصد‬
‫السبيل " النحل ‪ 9 :‬وقال ‪ /‬صفحة ‪ " / 303‬إنا‬
‫هديناه السبيل " الدهر ‪ 3 :‬وهذا اصل الحجة على‬
‫النبوة والتشريع وقد مر تمامه في ابحاث النبوة‬
‫في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء‬
‫العاشر من الكتاب ‪ .‬فقد تحصل ان الغرض من‬
‫المثل المضروب في الية اقامة حجة على التوحيد‬
‫مع اشارة إلى النبوة والتشريع ‪ .‬وقيل انه مثل‬
‫مضروب فيمن يؤمل منه الخير ومن ل يؤمل منه‬
‫واصل الخير كله من الله تعالى فكيف يستوى بينه‬
‫وبين شئ سواه في العبادة ؟ وفيه ان المورد‬
‫اخص من ذلك فهو مثل مضروب فيمن هو على‬
‫خير في نفسه وهو يأمر بالعدل وهو شأنه تعالى‬
‫دون غيره على انهم ل يساون بينه وبين غيره في‬
‫العبادة بل يتركونه ويعبدون غيره ‪ .‬وقيل انه مثل‬
‫مضروب في المؤمن والكافر فالبكم هو الكافر‬
‫والذى يأمر بالعدل هو المؤمن وفيه ان صحة‬
‫انطباق الية على المؤمن والكافر بل على كل من‬
‫يأمر بالعدل ومن يسكت عنه وجريها فيهما امر‬
‫ومدلولها من جهة وقوعها في سياق تعداد النعم‬
‫والحتجاج على التوحيد وما يلحق به من الصول‬
‫امر آخر والذى تفيده بالنظر إلى هذه الجهة ان‬
‫مورد المثل هو الله سبحانه وما يعبدون من دونه‬
‫ل غير ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولله غيب السماوات‬
‫والرض وما امر الساعة إل كلمح البصر أو هو‬
‫اقرب ان الله على كل شئ قدير الغيب يقابل‬
‫الشهادة في اطلقات القرآن الكريم وقد تكرر‬
‫فيه عالم الغيب والشهادة وقد تقدم مرارا انهما‬
‫امران اضافيان فالمر الواحد غيب وغائب بالنسبة‬
‫إلى شئ وشهادة ومشهود بالنسبة إلى آخر ‪ .‬واذ‬
‫كان من الشياء ما هو ذو وجوه يظهر ببعض منها‬
‫لغيره ويخفى ببعض اعني انه متضمن غيبا‬
‫وشهادة كانت اضافة الغيب والشهادة إلى الشئ‬
‫تارة بمعنى اللم فيكون مثل غيب السماوات‬
‫والرض ما هو غائب عنهما خارج من حدودهما‬
‫ويلحق بهذا الباب الضافة لنوع من الختصاص كما‬
‫في قوله ‪ " :‬فل يظهر على غيبه احدا " الجن ‪26 :‬‬
‫‪ .‬وتارة بمعنى من أو ما يقرب منه فيكون المراد‬
‫بغيب السماوات والرض ‪ /‬صفحة ‪ / 304‬الغيب‬
‫الذى يشتملن عليه نوعا من الشتمال قبال ما‬
‫يشتملن عليه من الشهادة وبعبارة اخرى ما يغيب‬
‫عن الفهام من امرهما قبال ما يظهر منهما ‪.‬‬
‫والساعة هي من غيب السماوات والرض بهذا‬
‫المعنى الثاني اما اول فلنه سبحانه يعدها في‬
‫كلمه من الغيب وليست بخارج من امر السماوات‬
‫والرض فهو من الغيب بهذا المعنى ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 304‬‬
‫واما ثانيافلن ما يصفها به من الوصاف انما يلئم‬
‫هذا المعنى الثاني ككونها يوما ينبئهم الله بما‬
‫كانوا فيه يختلفون ويوم تبلى السرائر ويوما‬
‫يخاطب فيه النسان بمثل قوله ‪ " :‬لقد كنت في‬
‫غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم‬
‫حديد ويوما يخاطبون ربهم بقولهم ربنا ابصرنا‬
‫وسمعنا فارجعنا " وبالجملة هي يوم يظهر فيه ما‬
‫استتر من الحقائق في هذه النشأة ظهور عيان‬
‫ومن المعلوم ان هذه الحقائق غير خارجة من‬
‫السماوات والرض بل هي معهما ثابتة ‪ .‬كيف ؟‬
‫وهو تعالى يقول ‪ " :‬ولله غيب السماوات والرض‬
‫" فيثبته ملكا لنفسه وليس ملكه من الملك‬
‫العتباري يتعلق بكل امر موهوم أو جزافي بل‬
‫ملك حقيقي يتعلق بامر ثابت فلها نوع من الثبوت‬
‫وان فرض جهلنا بحقيقة ثبوتها ‪ .‬والشواهد‬
‫القرآنية على هذا الذى ذكرناه كثيرة وقد عد‬
‫سبحانه حياة هذه النشأة متاع الغرور ولعبا ولهوا‬
‫وكرر ان اكثر الناس ل يعلمون ما هو يوم القيامة‬
‫وذكر ان الدار الخرة هي الحيوان وانهم سيعلمون‬
‫ان الله هو الحق المبين وسيبدو لهم من الله ما‬
‫لم يكونوا يحتسبون إلى غير ذلك مما يشتمل عليه‬
‫اليات على اختلف السنتها ‪ .‬وبالجملة الساعة من‬
‫غيب السماوات والرض والية اعني قوله ولله‬
‫غيب السماوات والرض تقرر ملكه تعالى لنفس‬
‫هذا الغيب ل لعلمه فلم يقل ولله علم غيب‬
‫السماوات والرض وسياق الية يعطى إن الجملة‬
‫اعني قوله ولله غيب الخ توطئة وتمهيد لقوله ما‬
‫امر الساعة إل كلمح البصر الخ فالجملة مسوقة‬
‫للحتجاج ‪ .‬وعلى هذا يعود معنى الية إلى ان الله‬
‫سبحانه يملك غيب السماوات والرض ملكا له ان‬
‫يتصرف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما وكيف‬
‫ل ؟ وغيب الشئ ل يفارق ‪ /‬صفحة ‪ / 305‬شهادته‬
‫وهو موجود ثابت معه وله الخلق والمر والساعة‬
‫الموعودة ليست بأمر محال حتى ل يتعلق بها‬
‫قدرة بل هي من غيب السماوات والرض‬
‫وحقيقتها المستورة عن الفهام اليوم فهى مما‬
‫استقر عليه ملكه تعالى وله ان يتصرف فيه‬
‫بالخفاء يوما وبالظهار آخر ‪ .‬وليست بصعبة عليه‬
‫تعالى فانما امرها كلمح البصر أو اقرب من ذلك‬
‫لن الله على كل شئ قدير ‪ .‬ومن هنا يظهر ان‬
‫قوله وما امر الساعة إل كلمح البصر أو هو اقرب‬
‫إن الله على كل شئ قدير مسوق ل لثبات اصل‬
‫الساعة أو امكانها بل لنفى صعوبتها والمشقة في‬
‫اقامتها وهوان امرها عنده سبحانه ‪ .‬فقوله وما‬
‫امر الساعة إل كلمح البصر أو هو اقرب أي‬
‫بالنسبة إليه وإل فقد استعظم سبحانه امرها بما‬
‫يهون عنده كل امر خطير ووصفها بأوصاف ل‬
‫يعادلها فيها غيرها قال تعالى ‪ " :‬ثقلت في‬
‫السماوات والرض " العراف ‪ . 187 :‬وتشبيه‬
‫امرها بلمح البصر انما هو من جهة إن اللمحة وهى‬
‫مد البصر وارساله للرؤية اخف العمال عند‬
‫النسان واقصرها زمانا فهو تشبيه بحسب فهم‬
‫السامع ولذلك عقبه بقوله أو هو اقرب فان مثل‬
‫هذا السياق يفهم منه الضراب فكأنه تعالى يقول‬
‫ان امرها في خفة المؤنة والهوان والسهولة‬
‫بالنسبة الينا يشبه لمح احدكم ببصره وانما اشبهه‬
‫به رعاية لحالكم وتقريبا إلى فهمكم وإل فالمر‬
‫اقرب من ذلك كما قال فيها ‪ " :‬ويقول كن فيكون‬
‫" النعام ‪ 73 :‬فأمر الساعة بالنسبة إلى قدرته‬
‫ومشيته تعالى كامر ايسر الخلق واهونه ‪ .‬وعلل‬
‫تعالى ذلك بقوله ان الله على كل شئ قدير‬
‫فقدرته على كل شئ توجب أن تكون الشياء‬
‫بالنسبة إليه سواء ‪ .‬واياك أن تتوهم ان عموم‬
‫القدرة ل يستوجب ارتفاع الختلف من بين‬
‫الشياء من حيث النسبة فقلة السباب المتوسطة‬
‫بين الفاعل وفعله والشرائط والموانع وكثرتها‬
‫لهما تأثير في ذلك ل محالة فالنسان مثل قادر‬
‫على التنفس وحمل ما يطيقه من الثقال ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 306‬وليسا سواء بالنسبة إليه وعلى هذا القياس‬
‫‪ .‬فان في ذلك غفلة عن معنى عموم القدرة‬
‫وتوضيحه ان القدرة التى فينا قدرة مقيدة فان‬
‫قدرة النسان مثل على اكل الغذاء وهى إن له‬
‫نسبة الفاعلية إليه وهى في تأثيرها مشروطة‬
‫بتحقق غذاء في الخارج وكونه بين يديه وممكن‬
‫التناول وعدم ما يمنع من ذلك من انسان أو غيره‬
‫وكون ادوات الفعل كاليد والفم وغيرهما غير‬
‫مصابة بآفة إلى غير ذلك والذى يملكه النسان هو‬
‫الرادة والزائد على ذلك وسائط وشرائط وموانع‬
‫خارجة عن قدرته بالحقيقة وقيد يقيدها وإذا اراد‬
‫النسان أن يعمل قدرته فيأكل كان عليه ان يهئ‬
‫تلك المور التى تتقيد بها قدرته في التأثير‬
‫كتحصيل الغذاء ووضعه قريبا منه ورفع الموانع‬
‫واعمال الدوات البدنية مثل ‪ .‬ومن المعلوم ان قلة‬
‫هذه المور وكثرتها وقربها وبعدها وما اشبه ذلك‬
‫من صفاتها توجب اختلف الفعل في السهولة‬
‫وعدمها وضعف القدرة وقوتها فتقيد القدرة هو‬
‫الموجب للختلف ‪ .‬اما قدرته تعالى فانها عين‬
‫ذاته التى يجب وجودها ويمتنع عدمها وإذا كان‬
‫كذلك فلو تقيدت بقيد من وجود سبب أو شرط أو‬
‫عدم مانع لنعدمت بانعدام قيدها وهو محال‬
‫فقدرته تعالى مطلقة غير محدودة بحد ول مقيدة‬
‫بقيد عامة تتعلق بكل شئ على حد سواء من غير‬
‫ان يكون شئ بالنسبة إليه اصعب من شئ أو‬
‫اسهل‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 306‬‬
‫واقرب إليه من شئ أو ابعد وانما الختلف بين‬
‫الشياء انفسها بقياس بعضها إلى بعض ‪.‬‬
‫وبتقريب آخر ما من شئ ال وهو يفتقر إليه‬
‫سبحانه في وجوده فإذا فرضنا كل امر موجود‬
‫بحيث ل يشذ عنها شاذ في جانب ونسبناها إليه‬
‫تعالى كان الجميع متعلقا لقدرته وليس هناك امر‬
‫ثالث يكون قيدا لقدرته من سبب أو شرط أو عدم‬
‫مانع وإل لكان شريكا في التأثير تعالى عن ذلك ‪.‬‬
‫واما الذى بين الشياء انفسها من السباب‬
‫المتوسطة والشرائط والموانع فانها توجب تقيد‬
‫بعضها ببعض ل تقيد القدرة العامة اللهية التى‬
‫تتعلق بها ثم تتعلق القدرة بالمقيد منها دون‬
‫المطلق بمعنى ان متعلق القدرة هو زيد الذى ابوه‬
‫فلن وامه فلن وهو في زمان كذا ومكان كذا‬
‫وهكذا فوجود زيد بجميع روابطه وجود جميع‬
‫العالم ‪ /‬صفحة ‪ / 307‬والقدرة المتعلقة به متعلقة‬
‫بالجميع بعينه وليست هناك إل قدرة واحدة متعلقة‬
‫بالجميع يوجد بها كل شئ في موطنه الخاص به‬
‫وهى مطلقة غير مقيدة ل اختلف للشياء بالنسبة‬
‫إليها وانما الختلف بينها انفسها ‪ .‬فقد تبين مما‬
‫تقدم ان عموم القدرة يوجب ارتفاع الختلف من‬
‫بين الشياء بالنسبة إليها بالسهولة والصعوبة‬
‫وغير ذلك والية الكريمة من غرر اليات القرآنية‬
‫يتبين بها اول إن حقيقة المعاد ظهور حقيقة‬
‫الشياء بعد خفائها ‪ .‬وثانيا إن القدرة اللهية تتعلق‬
‫بجميع الشياء على نعت سواء من غير اختلف‬
‫بالسهولة والصعوبة والقرب والبعد وغير ذلك ‪.‬‬
‫وثالثا إن الشياء بحسب الحقيقة مرتبطة وجودا‬
‫بحيث ان ايجاد الواحد منها ايجاد الجميع والجميع‬
‫متعلق قدرة واحدة ل مؤثر فيها غيرها ‪ .‬نعم هناك‬
‫نظر آخر ابسط من ذلك وهو النظر فيها من جهة‬
‫نظام السباب والمسببات وقد صدقه الله في‬
‫كلمه كما تقدم بيانه في البحث عن العجاز في‬
‫الجزء الول من الكتاب وبهذه النظرة ينفصل‬
‫الشياء بعضها عن بعض ويتوقف وجود بعضها‬
‫على وجود بعض أو عدمه فتتقدم وتتأخر وتسهل‬
‫وتصعب وتكون السباب وسائط بينها وبينه تعالى‬
‫ويكون تعالى فاعل بوساطة السباب وهو نظر‬
‫بسيط ‪ .‬وقد ذكر كثير من المفسرين في قوله‬
‫ولله غيب السماوات والرض انه بحذف مضاف‬
‫والتقدير ولله علم غيب الخ وفيه إنه يستلزم‬
‫ارتفاع التصال بين هذه الجملة وبين ما يليها إذ ل‬
‫رابطة بين علم الغيب وبين هوان أمر الساعة‬
‫فتعود الجملة مستدركة مستغنى عنها في الكلم ‪.‬‬
‫وقول بعضهم في رفع الستدراك ان صدر الية‬
‫وذيلها يثبتان العلم والقدرة وبهما معا يتم خلق‬
‫الساعة غير مفيد فانهم انما استشكلوا في‬
‫الساعة من جهة القدرة لعدهم اياها ممتنعة فل‬
‫حاجة إلى التشبث لثباتها بمسألة العلم ويشهد‬
‫لذلك ما في سائر اليات المثبتة لمكان المعاد‬
‫بعموم القدرة ‪ .‬وذكر بعضهم ان المراد به علم‬
‫غيبهما ل بتقدير العلم في الكلم حتى يقال إن‬
‫الصل عدمه بل لن اضافة الغيب وهو ما يغيب‬
‫عن الحس والعقل إلى السماوات ‪ /‬صفحة ‪/ 308‬‬
‫والرض تفيد ان المراد المور المجهولة التى‬
‫فيهما مما يقع فيهما حال أو بعد حين وملكه‬
‫تعالى له ملكه للعلم به ‪ .‬وفيه ان المقدمة الخيرة‬
‫ممنوعة وقد تقدم بيانه على إن اشكال ارتفاع‬
‫التصال بين الجملتين في محله بعد ‪ .‬وايضا ذكر‬
‫بعضهم في توجيه التعليل المستفاد من قوله ان‬
‫الله على كل شئ قدير ان من جملة الشياء اقامة‬
‫الساعة في اسرع ما يكون فهو قادر على ذلك ‪.‬‬
‫وفيه انه ل يفى بتعليل ما يستفاد من الحصر‬
‫بالنفى والثبات وانما يفى بتعليل ما لو قيل ان‬
‫الله سيجعل امر الساعة كلمح البصر مع امكان‬
‫كونه ل كذلك فافهم ذلك ) بحث روائي ( في‬
‫تفسير القمى في قوله تعالى ‪ " :‬من بطونه من‬
‫بين فرث ودم " قال قال عليه السلم الفرث ما‬
‫في الكرش وفي الكافي عن على بن ابراهيم عن‬
‫ابيه عن النوفلي عن السكوني قال قال أبو عبد‬
‫الله عليه السلم ‪ :‬ليس أحد يغص بشرب اللبن لن‬
‫الله عز وجل يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين‬
‫وفي تفسير القمى باسناده عن رجل عن حريز‬
‫عن ابى عبد الله عليه السلم في قوله واوحى‬
‫ربك إلى النحل قال نحن النحل الذى اوحى الله‬
‫إليه أن اتخذى من الجبال بيوتا أمرنا أن نتخذ من‬
‫العرب شيعة ومن الشجر يقول من العجم ومما‬
‫يعرشون من الموالى والذى خرج من بطونها‬
‫شراب مختلف الوانه العلم الذى يخرج منا اليكم ‪.‬‬
‫اقول وفي هذا المعنى روايات أخر وهى من باب‬
‫الجرى ويشهد به ما في بعض هذه الروايات من‬
‫تطبيق النحل على النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم والجبال على قريش والشجر على العرب‬
‫ومما يعرشون على الموالى وما يخرج من بطونها‬
‫على العلم ‪ / .‬صفحة ‪ / 309‬وفي تفسير القمى‬
‫باسناده عن على بن المغيرة عن ابى عبد الله‬
‫عليه السلم قال إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك‬
‫ارذل العمر وفي المجمع روى عن على عليه‬
‫السلم ‪ :‬إن أرذل العمر خمس وسبعون سنة‬
‫وروى عن النبي مثل ذلك ‪ .‬اقول روى ذلك في‬
‫الدر المنثور عن الطبري عن على عليه السلم‬
‫وروى عن‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 309‬‬
‫ابن مردويه عن انس عن النبي صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم حديثا مفصل يدل على ان ارذل العمر‬
‫مائة سنة وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمان‬
‫الشل عن الصادق عليه السلم ‪ :‬في قول الله‬
‫وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة قال الحفدة‬
‫بنو البنت ونحن حفدة رسول الله صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم وفيه عن جميل بن دراج عن ابى عبد‬
‫الله عليه السلم في الحفدة قال وهم العون‬
‫منهم يعنى البنين وفي المجمع في معنى الحفدة‬
‫هي اختان الرجل على بناته قال وهو المروى عن‬
‫ابى عبد الله عليه السلم ‪ .‬اقول ول تنافى بين‬
‫الروايات كما تقدم في البيان ‪ .‬وفي التهذيب‬
‫باسناده عن شعيب العقرقوفى عن ابى عبد الله‬
‫عليه السلم في طلق العبد ونكاحه قال ليس له‬
‫طلق ول نكاح أما تسمع الله تعالى يقول عبدا‬
‫مملوكا ل يقدر على شئ قال ل يقدر على طلق‬
‫ول على نكاح إل باذن موله ‪ .‬اقول وفي هذا‬
‫المعنى عدة روايات من طرق الشيعة ‪ .‬وفي‬
‫تفسير القمى في قوله تعالى هل يستوى هو‬
‫ومن يأمر بالعدل قال قال عليه السلم كيف‬
‫يستوى هذا ؟ ومن يأمر بالعدل امير المؤمنين‬
‫والئمة عليهم السلم وفي تفسير البرهان عن‬
‫ابن شهر آشوب عن حمزة بن عطاء عن ابى جعفر‬
‫عليه السلم في قوله تعالى ‪ " :‬هل يستوى هو‬
‫ومن يأمر بالعدل " الية قال هو على بن ابى‬
‫طالب عليه السلم وهو على صراط مستقيم ‪.‬‬
‫اقول والروايتان من الجرى وليستا من اسباب‬
‫النزول في شئ لما تقدم في البيان السابق ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 310‬وكذا ما روى من طرق اهل السنة‬
‫إن قوله ‪ " :‬ضرب الله مثل عبدا مملوكا " الية‬
‫نزل في هشام بن عمرو وهو الذى ينفق ماله سرا‬
‫وجهرا في عبده ابى الجوزاء الذى كان ينهاه وكذا‬
‫ما روى ان الية نزلت في عثمان بن عفان وعبد‬
‫له ‪ .‬وكذا ما روى في قوله وضرب الله مثل رجلين‬
‫الية إن البكم ابى بن خلف ومن يأمر بالعدل‬
‫حمزة وعثمان بن مظعون وكذا ما روى ان البكم‬
‫هاشم بن عمر بن الحارث القرشى وكان قليل‬
‫الخير يعادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫وما روى ان البكم أبو جهل والمر بالعدل عمار‬
‫وما روى ان المر بالعدل عثمان بن عفان والبكم‬
‫مولى له كافر وهو اسيد بن ابى العيص إلى غير‬
‫ذلك * * * والله اخرجكم من بطون امهاتكم ل‬
‫تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والبصار والفئدة‬
‫لعلكم تشكرون ‪ 78 -‬ألم يروا إلى الطير مسخرات‬
‫في جو السماء ما يمسكهن ال الله ان في ذلك‬
‫ليات لقوم يؤمنون ‪ 79 -‬والله جعل لكم من‬
‫بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود النعام بيوتا‬
‫تستخفونها يوم ظعنكم ويوم اقامتكم ومن‬
‫اصوافها واوبارها واشعارها اثاثا ومتاعا إلى حين‬
‫‪ 80 -‬والله جعل لكم مما خلق ظلل وجعل لكم من‬
‫الجبال اكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر‬
‫وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم‬
‫لعلكم تسلمون ‪ 81 -‬فان تولوا فانما عليك البلغ‬
‫المبين ‪ 82 -‬يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها‬
‫واكثرهم الكافرون ‪ / 83 -‬صفحة ‪ / 311‬ويوم‬
‫نبعث من كل أمة شهيدا ثم ل يؤذن للذين كفروا‬
‫ول هم يستعتبون ‪ 84 -‬وإذا رأى الذين ظلموا‬
‫العذاب فل يخفف عنهم ول هم ينظرون ‪ 85 -‬وإذا‬
‫رأى الذين اشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلء‬
‫شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم‬
‫القول انكم لكاذبون ‪ 86 -‬وألقوا إلى الله يومئذ‬
‫السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون ‪ 87 -‬الذين‬
‫كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق‬
‫العذاب بما كانوا يفسدون ‪ 88 -‬ويوم نبعث في كل‬
‫امة شهيدا عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيدا‬
‫على هؤلء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ‬
‫وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ‪ ) 89 -‬بيان (‬
‫اليات تذكر عدة اخرى من النعم اللهية ثم تعطف‬
‫الكلم إلى ما تكشف عنه من حق القول في‬
‫وحدانيته تعالى في الربوبية وفي البعث وفي‬
‫النبوة والتشريع نظيره القبيل السابق الذى‬
‫اوردناه من اليات ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬والله اخرجكم‬
‫من بطون امهاتكم ل تعلمون شيئا إلى آخر الية‬
‫المهات جمع ام والهاء زائدة نظير اهراق واصله‬
‫اراق وقد تأتى أمات وقيل المهات في النسان‬
‫والمات في غيره من الحيوان والفئدة جمع قلة‬
‫للفؤاد وهو القلب واللب ولم يبن له جمع كثرة ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 312‬وقوله ‪ " :‬والله اخرجكم من بطون‬
‫امهاتكم " اشارة إلى التولد ول تعلمون شيئا حال‬
‫من ضمير الخطاب أي اخرجكم من ارحامهن‬
‫بالتولد والحال ان نفوسكم خالية من هذه‬
‫المعلومات التى احرزتموها من طريق الحس‬
‫والخيال والعقل بعد ذلك ‪ .‬والية تؤيد ما ذهب إليه‬
‫علماء النفس ان لوح النفس خالية عن المعلومات‬
‫اول تكونها ثم تنتقش فيها شيئا فشيئا كما قيل‬
‫وهذا في غير علم النفس بذاتها فل يطلق عليه‬
‫عرفا يعلم شيئا والدليل عليه قوله تعالى في‬
‫خلل اليات السابقة فيمن يرد إلى ارذل العمر‬
‫لكى ل يعلم من بعد علم شيئا فان من الضرورى‬
‫انه في تلك الحال عالم بنفسه ‪ .‬واحتج بعضهم‬
‫بعموم الية على ان العلم الحضوري يعنى به علم‬
‫النسان بنفسه كسائر العلوم الحصولية مفقود‬
‫في بادئ الحال حادث بعد ذلك ثم ناقش في ادلة‬
‫كون‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 312‬‬
‫علم النفس بذاتها حضوريا مناقشات عجيبة ‪ .‬وفيه‬
‫ان العموم منصرف إلى العلم الحصولي ويشهد‬
‫بذلك الية المتقدمة ‪ .‬وقوله ‪ " :‬وجعل لكم السمع‬
‫والبصار والفئدة لعلكم تشكرون " اشارة إلى‬
‫مبادى العلم الذى انعم بها على النسان فمبدأ‬
‫التصور هو الحس والعمدة فيه السمع والبصر وان‬
‫كان هناك غيرهما من اللمس والذوق والشم ومبدأ‬
‫الفكر هو الفؤاد ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ألم يروا إلى‬
‫الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إل‬
‫الله " الخ قال في المجمع الجو الهواء البعيد من‬
‫الرض انتهى يقول ألم ينظروا إلى الطير حال‬
‫كونها مسخرات لله سبحانه في جو السماء‬
‫والهواء البعيد من الرض ثم استأنف فقال مشيرا‬
‫إلى ما هو نتيجة هذا النظر ما يمسكهن ال الله ‪.‬‬
‫واثبات المساك لله سبحانه ونفيه عن غيره مع‬
‫وجود اسباب طبيعية هناك مؤثرة في ذلك وكلمه‬
‫تعالى يصدق ناموس العلية والمعلولية انما هو من‬
‫جهة ان توقف الطير في الجو من دون ان تسقط‬
‫كيفما كان وإلى أي سبب استند هو وسببه‬
‫والرابطة التى بينهما جميعا مستندة إلى صنعه‬
‫تعالى فهو الذى يفيض الوجود عليه وعلى سببه‬
‫وعلى الرابطة التى بينهما فهو السبب المفيض‬
‫لوجوده حقيقة وان كان سببه الطبيعي القريب‬
‫معه يتوقف هو عليه ‪ .‬ومعنى توقفه في وجوده‬
‫على سببه ليس إن سببه يفيد وجوده بعد ما‬
‫استفاد ‪ /‬صفحة ‪ / 313‬وجود نفسه منه تعالى بل‬
‫ان هذا المسبب يتوقف في اخذه الوجود منه‬
‫تعالى إلى اخذ سببه الوجود منه تعالى قبل ذلك‬
‫وقد تقدم بعض الكلم في توضيح ذلك من قريب ‪.‬‬
‫وهذا معنى توحيد القرآن والدليل عليه من جهة‬
‫لفظه امثال قوله ‪ " :‬أل له الخلق والمر "‬
‫العراف ‪ 54 :‬وقوله ‪ " :‬إن القوة لله جميعا "‬
‫البقرة ‪ 165 :‬وقوله ‪ " :‬الله خالق كل شئ " الزمر‬
‫‪ 62 :‬وقوله ‪ " :‬إن الله على كل شئ قدير " النحل‬
‫‪ . 77 :‬والدليل على ما قدمناه في معنى النفى‬
‫والثبات في الية قوله تعالى مسخرات فان‬
‫التسخير انما يتحقق بقهراحد السببين الخر في‬
‫فعله على ما يريده السبب القاهر ففى لفظه‬
‫دللة على إن للمقهور نوعا من السببية ‪ .‬وليس‬
‫طيران الطائر في جو السماء بالحقيقة بأعجب‬
‫من سكون النسان في الرض فالجميع ينتهى إلى‬
‫صنعه تعالى على حد سواء لكن ألفة النسان‬
‫لبعض المور وكثرة عهده به توجب خمود قريحة‬
‫البحث عنه فإذا صادف ما يخالف ما ألفه وكثر‬
‫عهده به كالمستثنى من الكلية انتبه لذلك وانتزعت‬
‫القريحة للبحث عنه والنسان يرى الجسام‬
‫الرضية الثقيلة معتمدة على الرض مجذوبة إليها‬
‫فإذا وجد الطير مثل تنقض كلية هذا الحكم‬
‫بطيرانها تعجب منه وانبسط للبحث عنه والحصول‬
‫على علته وللحق نصيب من هذا البحث وهذا هو‬
‫احد السباب في اخذ هذا النوع من المور في‬
‫القرآن مواد للحتجاج ‪ .‬وقوله ان في ذلك ليات‬
‫لقوم يؤمنون أي في كونها مسخرات في جو‬
‫السماء فان للطير وهو في الجو دفيفا وصفيفا‬
‫وبسطا لجنحتها وقبضا وسكونا وانتقال وصعودا‬
‫ونزول وهى جميعا آيات لقوم يؤمنون كما ذكره‬
‫الله ‪ .‬قوله تعالى والله جعل لكم من بيوتكم سكنا‬
‫إلى آخر الية في المفردات البيت مأوى النسان‬
‫بالليل لنه يقال بات اقام بالليل كما يقال ظل‬
‫بالنهار ثم قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار‬
‫الليل فيه وجمعه ابيات وبيوت لكن البيوت‬
‫بالمسكن اخص والبيات بالشعر قال ويقع ذلك‬
‫على المتخذ من حجر ومدر وصوف ووبر انتهى‬
‫موضع الحاجة ‪ .‬والسكن ما يسكن إليه والظعن‬
‫الرتحال وهو خلف القامة والصوف ‪ /‬صفحة ‪314‬‬
‫‪ /‬للضأن والوبر للبل كالشعر للنسان ويسمى ما‬
‫للمعز شعرا كالنسان والثاث متاع البيت الكثير‬
‫ول يقال للواحد منه اثاث قال في المجمع ول‬
‫واحد للثاث كما انه ل واحد للمتاع انتهى والمتاع‬
‫اعم من الثاث فانه مطلق ما يتمتع به ول يختص‬
‫بما في البيت ‪ .‬وقوله والله جعل لكم من بيوتكم‬
‫سكنا أي جعل لكم بعض بيوتكم سكنا تسكنون إليه‬
‫ومن البيوت ما ل يسكن إليه كالمتخذ لدخار‬
‫الموال واختزان المتعة وغير ذلك وقوله وجعل‬
‫لكم من جلود النعام بيوتا الخ أي من جلودها بعد‬
‫الدبغ وهى النطاع والدم بيوتا وهى القباب‬
‫والخيام تستخفونها أي تعدونها خفيفة من جهه‬
‫الحمل يوم ظعنكم وارتحالكم ويوم اقامتكم من‬
‫غير سفر وظعن وقوله ومن اصوافها واوبارها‬
‫واشعارها الخ معطوف على موضع من جلود أي‬
‫وجعل لكم من اصوافها وهى للضأن وأوبارها‬
‫وهى للبل واشعارها وهى للمعز اثاثا تستعملونه‬
‫في بيوتكم ومتاعا تتمتعون به إلى حين محدود‬
‫قيل وفيه اشارة إلى انها فانية داثرة فل ينبغى‬
‫للعاقل ان يختارها على نعيم الخرة ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬والله جعل لكم مما خلق ظلل " إلى آخر‬
‫الية الظرفان اعني قوله لكم ومما خلق متعلقان‬
‫بجعل وتعليق الظلل بما خلق لكونها امرا عدميا‬
‫محققا بتبع غيره وهى مع ذلك من النعم العظيمة‬
‫التى أنعم الله بها على النسان وسائر الحيوان‬
‫والنبات فما النتفاع بالظل للنسان وغيره بأقل‬
‫من النتفاع بالنور ولو ل الظل وهو ظل الليل‬
‫وظل البنية والشجار والكهوف وغيرها لما عاش‬
‫على‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 314‬‬
‫وجه الرض عائش ‪ .‬وقوله وجعل لكم من الجبال‬
‫اكنانا الكن ما يستتر به الشئ حتى ان القميص كن‬
‫للبسه وأكنان الجبال هي الكهوف والثقب‬
‫الموجودة فيها ‪ .‬وقوله وجعل لكم سرابيل تقيكم‬
‫الحر أي قميصا يحفظكم من الحر قال في المجمع‬
‫ولم يقل وتقيكم البرد لن ما وقى الحر وقى‬
‫البرد وانما خص الحر ‪ /‬صفحة ‪ / 315‬بذلك مع ان‬
‫وقايتها للبرد اكثر لن الذين خوطبوا بذلك اهل حر‬
‫في بلدهم فحاجتهم إلى ما يقى الحر اكثر عن‬
‫عطاء ‪ .‬قال على ان العرب يكتفى بذكر احد‬
‫الشيئين عن الخر للعلم به قال الشاعر وما ادرى‬
‫إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يلينى ‪ .‬فكنى‬
‫عن الشر ولم يذكره لند مدلول عليه ذكره الفراء‬
‫انتهى ‪ .‬ولعل بعض الوجه في ذكره الحر والكتفاء‬
‫به ان البشر الولى كانوا يسكنون المناطق الحارة‬
‫من الرض فكان شدة الحر أمس بهم من شدة‬
‫البرد وتنبههم لتخاذ السراويل انما هو للتقاء مما‬
‫كان البتلء به اقرب إليهم وهو الحر والله اعلم ‪.‬‬
‫وقوله وسرابيل تقيكم بأسكم الظاهر ان المراد به‬
‫درع الحديد ونحوه ‪ .‬وقوله كذلك يتم نعمته عليكم‬
‫لعلكم تسلمون امتنان عليهم باتمام النعم التى‬
‫ذكرها وكانت الغاية المرجوة من ذلك اسلمهم لله‬
‫عن معرفتها فإن المترقب المتوقع ممن يعرف‬
‫النعم واتمامها عليه ان يسلم لرادة منعمه ول‬
‫يقابله بالستكبار لن منعما هذا شأنه ل يريد به‬
‫سوء ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬فان تولوا فانما عليك البلغ‬
‫المبين " قال في المجمع البلغ السم والتبليغ‬
‫المصدر مثل الكلم والتكليم انتهى ‪ .‬لما فرغ عن‬
‫ذكر ما اريد ذكره من النعم والحتجاج بها ختمها‬
‫بما مدلولها العتاب واللوم والوعيد على الكفر‬
‫ويتضمن ذكر وحدانيته تعالى في الربوبية والمعاد‬
‫والنبوة وبدأ ذلك ببيان وظيفة النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم في رسالته وهو البلغ فقال فان‬
‫تولوا أي يتفرع على هذا البيان الذى ليس فيه ال‬
‫دعوتهم إلى ما فيه صلح معاشهم ومعادهم من‬
‫غير أن يتبعه اجبار أو اكراه انهم ان تولوا‬
‫واعرضوا عن الصغاء إليه والهتداء به فانما عليك‬
‫البلغ المبين والتبليغ الواضح الذى ل ابهام فيه ول‬
‫ستر عليه لنك رسول وما على الرسول ال ذلك ‪.‬‬
‫وفي الية تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫وبيان وظيفة له ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬يعرفون نعمة‬
‫الله ثم ينكرونها واكثرهم الكافرون " المعرفة ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 316‬والنكار متقابلن كالعلم والجهل‬
‫وهذا هو الدليل على ان المراد بالنكار وهو عدم‬
‫المعرفة لزم معناه وهو النكار في مقام العمل‬
‫وهو عدم اليمان بالله ورسوله واليوم الخر أو‬
‫الجحود لسانا مع معرفتها قلبا لكن قوله واكثرهم‬
‫الكافرون يخص الجحود باكثرهم كما يسجئ فيبقى‬
‫للنكار المعنى الول ‪ .‬وقوله واكثرهم الكافرون‬
‫دخول اللم على الكافرون يدل على الكمال أي‬
‫انهم كافرون بالنعم اللهية أو بما تدل عليه من‬
‫التوحيد وغيره جميعا لكن اكثرهم كاملون في‬
‫كفرهم وذلك بالجحود عنادا والصرار عليه والصد‬
‫عن سبيل الله ‪ .‬والمعنى يعرفون نعمة الله بعنوان‬
‫انها نعمة منه ومقتضاه ان يؤمنوا به وبرسوله‬
‫واليوم الخر ويسلموا في العمل ثم إذا وردوا‬
‫مورد العمل عملوا بما هو من آثار النكار دون‬
‫المعرفة واكثرهم ل يكتفون بمجرد النكار العملي‬
‫بل يزيدون عليه بكمال الكفر والعناد مع الحق‬
‫والجحود والصرار عليه ‪ .‬وفيما قدمناه كفاية لك‬
‫عما اطال فيه المفسرون في معنى قوله‬
‫واكثرهم الكافرون مع انهم جميعا كافرون‬
‫بانكارهم من قول بعضهم انما قال اكثرهم لن‬
‫منهم من لم تقم عليه الحجة كمن لم يبلغ حد‬
‫التكليف أو كان مؤفا في عقله أو لم تصل إليه‬
‫الدعوة فل يقع عليه اسم الكفر ‪ .‬وفيه ان هؤلء‬
‫خارجون على اطلق الية رأسا فانها تذكر توبيخا‬
‫وايعادا انهم ينكرون نعمة الله بعد ما عرفوها‬
‫وهؤلء ان كانوا ينكرونها كانوا بذلك كافرين وان‬
‫لم ينكروها لم يدخلوا في اطلق الية قطعا وكيف‬
‫يصح ان يقال انهم لم تقم عليهم الحجة وليست‬
‫الحجة إل النعمة التى يعدها الله سبحانه وهم‬
‫يعرفونها ؟ وقول بعضهم انما قال واكثرهم‬
‫الكافرون لنه كان يعلم ان فيهم من سيؤمن وفيه‬
‫انه قول ل دليل عليه ‪ .‬وقول بعضهم ان المراد‬
‫بالكثر الجميع وانما عدل عن البعض احتقارا له ان‬
‫يذكره ونسب إلى الحسن البصري وهو قول عجيب‬
‫‪ .‬قيل وفي الية دليل على فساد قول المجبرة انه‬
‫ليس لله على الكافر نعمة ‪ /‬صفحة ‪ / 317‬وان‬
‫جميع ما فعله بهم انما هو خذلن ونقمة لنه‬
‫سبحانه نص في هذه الية على خلف قولهم‬
‫انتهى ‪ .‬والحق ان للنعمة اعتبارين احدهما كونها‬
‫نعمه أي ناعمة ملئمة لحال المنعم عليه من حيث‬
‫كونه في صراط التكوين أي من حيث سعادته‬
‫الجسمية والخر من حيث وقوع المنعم عليه في‬
‫صراط التشريع أي من حيث سعادته الروحية‬
‫النسانية بأن تكون النعمة بحيث توجب معرفتها‬
‫ايمانه بالله ورسوله واليوم الخر واستعمالها في‬
‫طريق مرضاة الله والمؤمن منعم بالنعمتين‬
‫كلتيهما والكافر منعم في الدنيا بالطائفة الولى‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 317‬‬
‫محروم من الثانية وفي كلمه سبحانه شواهد‬
‫كثيرة تشهد على ذلك ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ويوم نبعث‬
‫من كل امة شهيدا ثم ل يؤذن للذين كفروا ول هم‬
‫يستعتبون " قال في المجمع قال الزجاج والعتب‬
‫الموجودة يقال عتب عليه يعتب إذا وجد عليه فإذا‬
‫فاوضه ما عتب عليه قالوا عاتبه وإذا رجع إلى‬
‫مسرته قيل اعتب والسم العتبى وهو رجوع‬
‫المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب واستعتبه‬
‫طلب منه ان يعتب انتهى ‪ .‬وقوله ويوم نبعث من‬
‫كل امة شهيدا يفيد السياق ان المراد بهذا اليوم‬
‫يوم القيامة وبهؤلء الشهداء الذين يبعث كل واحد‬
‫منهم من امة شهداء العمال الذين تحملوا حقائق‬
‫اعمال امتهم في الدنيا وهم يستشهد بهم‬
‫ويشهدون عليهم يوم القيامة وقد تقدم بعض‬
‫الكلم في معنى هذه الشهادة في تفسير قوله ‪" :‬‬
‫لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم‬
‫شهيدا " البقرة ‪ 143 :‬في الجزء الول من‬
‫الكتاب ‪ .‬ول دللة في لفظ الية على ان المراد‬
‫بشهيد المة نبيها ول ان المراد بالمة امة الرسول‬
‫فمن الجائز ان يكون غير النبي من امته كالمام‬
‫شهيدا كما يدل عليه آية البقرة السابقة وقوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر ‪69 :‬‬
‫وعلى هذا فالمراد بكل امة امة الشهيد المبعوث‬
‫واهل زمانه ‪ .‬وقوله ثم ل يؤذن للذين كفروا ول‬
‫هم يستعتبون ذكر بعث شهداء المم دليل على‬
‫انهم يشهدون على اممهم بما عملوا في الدنيا‬
‫وقرينة على ان المراد من نفى الذن للكافرين‬
‫انهم ل يؤذن لهم في الكلم وهو العتذار ل محالة‬
‫ونفى الذن في الكلم ‪ /‬صفحة ‪ / 318‬انما هو‬
‫تمهيد لداء الشهود شهادتهم كما تلوح إليه آيات‬
‫اخر كقوله ‪ " :‬اليوم نختم على افواههم وتكلمنا‬
‫ايديهم وتشهد ارجلهم " يس ‪ 65 :‬وقوله ‪ " :‬هذا‬
‫يوم ل ينطقون ول يؤذن لهم فيعتذرون "‬
‫المرسلت ‪ . 36 :‬على ان سياق قوله ثم ل يؤذن‬
‫الخ يفيد ان المراد بهذا الذى ذكر نفى ما يتقى به‬
‫الشر يومئذ من الحيل وبيان انه ل سبيل إلى‬
‫تدارك ما فات منهم واصلح ما فسد من اعمالهم‬
‫في الدنيا يومئذ وهو احد امرين العتذار أو‬
‫استئناف العمل اما الثاني فيتكفله قوله ول هم‬
‫يستعتبون ول يبقى للول وهو العتذار بالكلم إل‬
‫قوله ثم ل يؤذن للذين كفروا ‪ .‬ومن هنا يظهر ان‬
‫قوله ول هم يستعتبون أي ل يطلب منهم ان‬
‫يعتبوا الله ويرضوه بيان لعدم امكان تدارك ما فات‬
‫منهم بتجديد العمل والرجوع إلى السمع والطاعة‬
‫فان اليوم يوم جزاء ل يوم عمل ول سبيل إلى‬
‫رجوعهم القهقرى إلى الدنيا حتى يعملوا صالحا‬
‫فيجزوا به ‪ .‬وقد بين سبحانه ذلك في مواضع‬
‫اخرى من كلمه بلسان آخر كقوله تعالى ‪ " :‬يوم‬
‫يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فل‬
‫يستطيعون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة وقد‬
‫كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " القلم ‪:‬‬
‫‪ 43‬وقوله ‪ " :‬ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا‬
‫رؤوسهم عند ربهم ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا‬
‫نعمل صالحا إنا موقنون " الم السجدة ‪ . 12 :‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فل يخفف‬
‫عنهم ول هم ينظرون " كانت الية السابقة‬
‫بالحقيقة مسوقة لبيان الفرق بين يوم الجزاء‬
‫الذى هو يوم القيامة وبين سائر ظروف الجزاء‬
‫في الدنيا بأن جزاء يوم القيامة ل يرتفع ول يتغير‬
‫باعتذار ول باستعتاب وهذه الية بيان فرق عذاب‬
‫اليوم مع العذابات الدنيوية التى تتعلق بالظالمين‬
‫في الدنيا فانها تقبل بوجه التخفيف أو النظار‬
‫بتأخير ما وعذاب يوم القيامة ل يقبل تخفيفا ول‬
‫انظارا ‪ .‬فقوله ‪ " :‬واذارأى الذين ظلموا العذاب "‬
‫ذكر الظلم في الصلة دون الكفر ونحوه للدللة‬
‫على سبب الحكم وملكه والمراد برؤية العذاب‬
‫اشرافه عليهم ‪ /‬صفحة ‪ / 319‬واشرافهم عليه بعد‬
‫فصل القضاء كما يفيده السياق والمراد بالعذاب‬
‫عذاب يوم القيامة وهو عذاب النار ‪ .‬والمعنى والله‬
‫اعلم وإذا قضى المر بعذابهم وأشرفوا على‬
‫العذاب بمشاهدة النار فل مخلص لهم عنه بتخفيف‬
‫أو بانظار وامهال ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وإذا رأى الذين‬
‫اشركوا شركاءهم " إلى آخر الية مضى في حديث‬
‫يوم البعث وقوله وإذا رأى الذين اشركوا وهم في‬
‫عرف القرآن عبدة الصنام والوثان قرينة على ان‬
‫المراد بقوله شركاءهم الذين اشركوهم بالله زعما‬
‫منهم انهم شركاء لله وافتراء ويدل ايضا عليه ذيل‬
‫الية والية التالية ‪ .‬فتسميتهم شركاءهم وهم‬
‫يسمونهم شركاء الله للدللة بها على ان ليس لهم‬
‫من الشركة إل الشركة بجعلهم بحسب وهمهم‬
‫فليس لشراكهم شركاءهم من الحقيقة إل انها ل‬
‫حقيقة لها وبذلك يظهر ان تفسير شركائهم‬
‫بالصنام أو بالمعبودات الباطلة وانهم انما عدوا‬
‫شركائهم لنهم جعلوا لها نصيبا من اموالهم‬
‫وانعامهم أو الشياطين لنهم شاركوهم في‬
‫الموال والولد أو شركاؤهم في الكفر وهم‬
‫الذين كفروا مثل كفرهم أو شاركوهم في وبال‬
‫كفرهم كل ذلك في غير محله ول نطيل‬
‫بالمناقشة في كل واحد منها ‪ .‬وقوله ‪ " :‬قالوا‬
‫ربنا هؤلء شركاؤنا الذين كنا ندعوا " من دونك‬
‫معناه ظاهر وهو تعريف منهم اياهم لربهم ول‬
‫حاجة إلى البحث عن غرض المشركين في‬
‫تعريفهم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 319‬‬
‫فان اليوم يوم احاط بهم الشقاء والعذاب من كل‬
‫جانب والنسان في مثل ذلك يلوى إلى كل ما‬
‫يخطر بباله من طرق السعي في خلص نفسه‬
‫وتنفيس كربه ‪ .‬وقوله فألقوا إليهم القول انكم‬
‫لكاذبون قال في المجمع تقول القيت الشئ إذا‬
‫طرحته واللقى الشئ الملقى والقيت إليه مقالة‬
‫إذا قلتها له وتلقاها إذا قبلها انتهى ‪ .‬والمعنى ان‬
‫شركائهم ردوا إليهم وكذبوهم وقد عبر سبحانه‬
‫في موضع آخر عن هذا التكذيب بالكفر كقوله ‪" :‬‬
‫ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فاطر ‪14 :‬‬
‫وقوله حكاية عن مخاطبة الشيطان لهم يوم‬
‫القيامة ‪ " :‬انى كفرت بما اشركتمون من ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 320‬قبل " ابراهيم ‪ . 22 :‬قوله تعالى ‪ " :‬وألقوا‬
‫إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون‬
‫" السلم السلم والستسلم وكان في التعبير‬
‫بالقاء السلم اشارة إلى انضمام شئ من الخضوع‬
‫والمقهورية بالقهر اللهى إلى سلمهم ‪ .‬وضمير‬
‫ألقوا عائد إلى الذين اشركوا بقرينة قوله بعد‬
‫وضل عنهم ما كانوا يفترون فالمراد إن‬
‫المشركين يسلمون يوم القيامة لله وقد كانوا‬
‫يدعون إلى السلم في الدنيا وهم يستكبرون ‪.‬‬
‫وليس المراد بالقاء السلم هذا يوم القيامة هو‬
‫انكشاف الحقيقة وظهور الوحدانية وهو مدلول‬
‫قوله في صفة يوم القيامة ‪ " :‬ويعلمون إن الله‬
‫هو الحق المبين " النور ‪ 25 :‬لن العلم بثبوت شئ‬
‫امر والتسليم واليمان بثبوته امر آخر كما يظهر‬
‫من قوله تعالى ‪ " :‬وجحدوا بها واستيقنتها‬
‫انفسهم " النمل ‪ . 14 :‬ومجرد العلم بأن الله هو‬
‫الحق ل يكفى في سعادة النسان بل تحتاج في‬
‫تمامها إلى تسليمه واليمان به بترتيب آثاره عليه‬
‫ثم من التسليم واليمان ما كان عن طوع واختيار‬
‫ومنه ما كان عن كره واضطرار والذى ينفع في‬
‫السعادة هو التسليم واليمان عن اختيار وموطن‬
‫الختيار الدنيا التى هي دار العمل دون الخرة‬
‫التى هي دار الجزاء ‪ .‬وهم لم يسلموا للحق ما‬
‫داموا في الدنيا وان أيقنوا به حتى إذا وردوا الدار‬
‫الخرة وأوقفوا موقف الحساب عاينوا ان الله هو‬
‫الحق المبين وان عذاب الشقاء أحاط بهم من كل‬
‫جانب اسلموا للحق وهم مضطرون وليس ينفعهم‬
‫وإلى هذا العلم والتسليم الضطراري يشير قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون‬
‫إن الله هو الحق المبين " النور ‪ 25 :‬فصدر الية‬
‫يخبر عن اسلمهم لنه الدين الحق قال تعالى ‪" :‬‬
‫إن الدين عند الله السلم " آل عمران ‪ 19 :‬وذيل‬
‫الية عن انكشاف الحق لهم وظهور الحقيقة‬
‫عليهم ‪ .‬والية المبحوث عنها اعني قوله وألقوا‬
‫إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون‬
‫صدرها يشير إلى اسلمهم وذيلها إلى كون ذاك‬
‫السلم اضطراريا ل ينفعهم لنهم كانوا يرون لله‬
‫الوهية ولشركائهم الوهية فاختاروا تسليم‬
‫شركائهم ‪ /‬صفحة ‪ / 321‬وعبادتهم على التسليم‬
‫لله ثم لما ظهر لهم الحق يوم القيامة وكذبهم‬
‫شركائهم بطل ما زعموه وضل عنهم ما افتروه‬
‫فلم يبق للتسليم ال الله سبحانه فسلموا له‬
‫مضطرين وانقادوا له كارهين ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا‬
‫فوق العذاب بما كانوا يفسدون " استئناف متعرض‬
‫لحال ائمة الكفر بالخصوص بعد ما اشار إلى حال‬
‫عامة الظالمين والمشركين في اليات السابقة ‪.‬‬
‫والسامع إذا سمع ما شرحه الله من حالهم يوم‬
‫القيامة في هذه اليات وانهم معذبون جميعا من‬
‫غير ان يخفف عنهم أو ينظروا فيه وقد سمع منه‬
‫ان منهم طائفة هم اشد كفرا واشقى من غيرهم‬
‫إذ يقول واكثرهم الكافرون خطر بباله طبعا انهم‬
‫هل يساوون غيرهم في العذاب الموعود وهم‬
‫يزيدون عليهم في السبب وهو الكفر ‪ .‬فاستؤنف‬
‫الكلم جوابا عن ذلك فقيل الذين كفروا و صدوا‬
‫عن سبيل الله بالعناد واللجاج فاكتملوا في الكفر‬
‫واقتدى بهم غيرهم زدناهم عذابا وهو الذى للصد‬
‫وهم يختصون به فوق العذاب وهو الذى بازاء‬
‫مطلق الظلم والكفر ويشاركون فيه عامة اخوانهم‬
‫وكان اللم في العذاب للعهد الذكرى يشار بها إلى‬
‫ما ذكر في قوله وإذا رأى الذين ظلموا العذاب الخ‬
‫بما كانوا يفسدون تعليل لزيادة العذاب ‪ .‬ومن هنا‬
‫يظهر ان المراد بالفساد الواقع في التعليل هو‬
‫الصد لنه الوصف الذى يزيدون به على غيرهم‬
‫وهو افساد الغير بصرفه عن سبيل الله وبتقرير‬
‫آخر افساد في الرض بالمنع عن انعقاد مجتمع‬
‫صالح كان من المترقب حصوله باقبال اولئك‬
‫المصروفين على دين الله وسلوك سبيله ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم‬
‫من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلء " الخ‬
‫صدر الية تكرار ما تقدم قبل بضع آيات من قوله‬
‫ويوم نبعث من كل امة شهيدا غير انه كان هناك‬
‫توطئة وتمهيدا لحديث عدم الذن لهم في الكلم‬
‫يومئذ وهو ههنا توطئة وتمهيد لذكر شهادته صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم لهؤلء يومئذ وهو في‬
‫الموضعين ‪ /‬صفحة ‪ / 322‬مقصود لغيره ل لنفسه‬
‫وكيف كان فقوله ويوم نبعث في كل امة شهيدا‬
‫عليهم من انفسهم يدل على بعث واحد في كل‬
‫امة للشهادة على اعمال غيره وهو غير البعث‬
‫بمعنى الحياء للحساب بل‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 322‬‬
‫بعث بعد البعث وانما جعل من انفسهم ليكون اتم‬
‫للحجة واقطع للمعذرة كما يفيده السياق وذكره‬
‫المفسرون حتى انهم ذكروا شهادة لوط على‬
‫قومه ولم يكن منهم نسبا ووجهوه بأنه كان تأهل‬
‫فيهم وسكن معهم فهو معدود منهم ‪ .‬وقوله‬
‫وجئنا بك شهيدا على هؤلء يفيد انه صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم شهيد على هؤلء واستظهروا ان‬
‫المراد بهؤلء هم امته وايضا انهم قاطبة من بعث‬
‫إليه من لدن عصره إلى يوم القيامة ممن حضره‬
‫ومن غاب ومن عاصره ومن جاء بعده من الناس ‪.‬‬
‫وآيات الشهادة من معضلت آيات القيامة على ما‬
‫في جميع آيات القيامة من العضال وصعوبة‬
‫المنال وقد تقدم في ذيل قوله ‪ " :‬لتكونوا شهداء‬
‫على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة‬
‫‪ 143 :‬في الجزء الول من الكتاب نبذة من الكلم‬
‫في معنى هذه الشهادة ‪ .‬ومن الواجب قبل الورود‬
‫في بحث الشهادة وسائر المور التى تصفها‬
‫اليات ليوم القيامة كالجمع والوقوف والسؤال‬
‫والميزان والحساب ان يعلم انه تعالى يعد في‬
‫كلمه هذه المور في عداد الحجج التى تقام يوم‬
‫القيامة على النسان لتثبيت ما عمله من خير أو‬
‫شر والقضاء عليه بما ثبت بالحجة القاطعة للعذر‬
‫والمنيرة للحق ثم المجازاة بما يستوجبه القضاء‬
‫من سعادة أو شقاء وجنة أو نار وهذا من اوضح ما‬
‫يستفاد من آيات القيامة الشارحة لشؤن هذا اليوم‬
‫وما يواجه الناس منها ‪ .‬وهذا اصل مقتضاه ان‬
‫يكون بين هذه الحجج واجزائها ونتائجها روابط‬
‫حقيقية بينة يضطر العقل إلى الذعان بها ول‬
‫يسع للنسان بما عنده من الشعور الفطري ردها‬
‫ول الشك والرتياب فيها ‪ .‬وعلى هذا فمن الواجب‬
‫ان تكون الشهادة القائمة هناك باقامة منه تعالى‬
‫مشتملة من الحقيقة على ما ل سبيل للمناقشة‬
‫فيها والله سبحانه لو امر اشقى الناس على أن‬
‫يشهد على الولين والخرين بما عملوه باختيار‬
‫من الشاهد أو يخلق الشهادة في لسانه بل ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 323‬ارادة منه أو أن يشهد بما عملوه من‬
‫غير ان يكون قد تحملها في الدنيا وشهدها شهود‬
‫عيان بل معتمدا على اعلم من الله أو ملئكته أو‬
‫على حجة ثم امضى تعالى ذلك وأنفذه وجازى به‬
‫محتجا في جميع ذلك بشهادته ثانيا عليها لم يكن‬
‫ذلك مما ل تطيقه سعة قدرته ول يسعه نفوذ‬
‫ارادته ول استطاع احد أن ينازعه في ملكه أو‬
‫يعقب حكمه أو يغلبه على امره ‪ .‬لكنها حجة‬
‫تحكمية غير تامة ل تقطع بالحقيقة عذرا ول تدفع‬
‫ريبا نظير التحكمات التى نجدها من جبابرة‬
‫النسان والطواغيت العابثين بالحق والحقيقة‬
‫وكيف يتصور لمثل هذه الحجج المختلقة عين أو‬
‫اثر يوم ل عين فيه ال للحق ول اثر فيه ال‬
‫للحقيقة ؟ وعلى هذا فمن الواجب ان يكون هذا‬
‫الشهيد ذا عصمة الهية يمتنع عليه الكذب والجزاف‬
‫وان يكون عالما بحقائق العمال التى يشهد عليها‬
‫ل بظاهر صورها وهيئاتها المحسوسة بل بحقيقة‬
‫ما انعقدت عليه في القلوب وان يستوى عنده‬
‫الحاضر والغائب من الناس كما تقدمت الشارة‬
‫إليه في تفسير آية سورة البقرة ‪ .‬ومن الواجب‬
‫أن تكون شهادته شهادة عن معاينة كما هو ظاهر‬
‫لفظ الشهيد وظاهر تقييده بقوله من انفسهم‬
‫في قوله شهيدا عليهم من انفسهم غير مستندة‬
‫إلى حجة عقلية أو دليل سمعي ويشهد به قوله‬
‫تعالى حكاية عن المسيح عليه السلم ‪ " :‬وكنت‬
‫شهيدا عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت‬
‫انت الرقيب عليهم وانت على كل شئ شهيد "‬
‫المائدة ‪ . 117 :‬وبهذا تتلءم اليتان مضمونا اعني‬
‫قوله ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من‬
‫انفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلء وقوله ‪" :‬‬
‫وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على‬
‫الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة ‪:‬‬
‫‪ . 143‬فان ظاهر آية البقرة ان بين النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم وبين الناس الذين هم عامة‬
‫من بعث إليهم من زمانه إلى يوم القيامة شهداء‬
‫يشهدون على اعمالهم وان الرسول انما هو شهيد‬
‫على هؤلء الشهداء دون سائر الناس إل‬
‫بواسطتهم ول ينبغى ان يتوهم ان المة هم‬
‫المؤمنون وغيرهم الناس وهم خارجون من المة‬
‫فان ظاهر الية السابقة في السورة " ويوم نبعث‬
‫من كل امة شهيدا ثم ل يؤذن للذين كفروا " الية‬
‫إن الكفار من المة ‪ /‬صفحة ‪ / 324‬المشهود‬
‫عليهم ‪ .‬ولزم ذلك ان يكون المراد بالمة في الية‬
‫المبحوث عنها ويوم نبعث في كل امة شهيدا‬
‫عليهم من انفسهم جماعة الناس من اهل عصر‬
‫واحد يشهد اعمالهم شهيد واحد ويكون حينئذ‬
‫المة التى بعث إليها النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم منقسمة إلى امم كثيرة ‪ .‬ويكون المراد‬
‫بالشهيد النسان المبعوث بالعصمة والمشاهدة‬
‫كما تقدم ويؤيده قوله من انفسهم إذ لول‬
‫المشاهدة لم يكن لكونه من انفسهم وقع ول‬
‫لتعدد الشهداء بتعدد المم وجه فلكل قوم شهيد‬
‫من انفسهم سواء كان نبيا لهم أو غير نبيهم فل‬
‫ملزمة كما يؤيده قوله ‪ " :‬وجئ بالنبيين والشهداء‬
‫" الزمر ‪ . 69 :‬ويكون المراد بهؤلء في قوله‬
‫وجئنا بك شهيدا على هؤلء الشهداء دون عامة‬
‫الناس فالشهداء شهداء على الناس والنبى صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم شهيد على الشهداء وظاهر‬
‫الشهادة‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 324‬‬
‫على الشاهد تعديله دون الشهادة على عمله فهو‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم شهيد على مقامهم ل‬
‫على اعمالهم ولذلك لم يكن من الواجب ان‬
‫يعاصرهم ويتحد بهم زمانا فافهم ذلك ‪ .‬والنصاف‬
‫انه لو ل هذا التقريب لم يرتفع ما يتراءى ما في‬
‫آيات الشهادة من الختلف كدللة آية البقرة‬
‫وقوله ‪ " :‬ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا‬
‫شهداء على الناس " الحج ‪ 78 :‬على كون المة هم‬
‫المؤمنين ودللة غيرهما على العم ودللتهما على‬
‫ان النبي انما هو شهيد على الشهداء وان بينه‬
‫وبين الناس شهداء ودللة غيرهما على خلفه وان‬
‫على الناس شهيدا واحدا هو نبيهم لن المفروض‬
‫حينئذ ان شهيد كل امة هو نبيهم وكون اخذ‬
‫الشهيد من انفسهم لغو ل اثر له مع عدم لزوم‬
‫الحضور والمعاصرة وان الشهادة انما تكون من‬
‫حى كما في الكلم المحكى عن المسيح عليه‬
‫السلم واشكالت اخرى تتوجه على نجاح الحجة‬
‫ومضيها تقدمت الشارة إليها والله الهادى ‪.‬‬
‫وقوله ‪ " :‬ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ‬
‫وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " ذكروا انه‬
‫استئناف يصف القرآن بكرائم صفاته فصفته‬
‫العامة انه تبيان لكل شئ والتبيان والبيان واحد‬
‫كما قيل واذ كان كتاب هداية لعامة الناس وذلك‬
‫شأنه كان الظاهر ان المراد بكل شئ كل ما يرجع‬
‫إلى امر الهداية مما يحتاج إليه الناس في ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 325‬اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة‬
‫بالمبدأ والمعاد والخلق الفاضلة والشرائع اللهية‬
‫والقصص والمواعظ فهو تبيان لذلك كله ‪ .‬ومن‬
‫صفته الخاصة أي المتعلقة بالمسلمين الذين‬
‫يسلمون للحق انه هدى يهتدون به إلى مستقيم‬
‫الصراط ورحمة لهم من الله سبحانه يحوزون‬
‫بالعمل بما فيه خير الدنيا والخرة وينالون به ثواب‬
‫الله ورضوانه وبشرى لهم يبشرهم بمغفرة من‬
‫الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ‪ .‬هذا ما‬
‫ذكروه وهو مبنى على ما هو ظاهر التبيان من‬
‫البيان المعهود من الكلم وهو اظهار المقاصد من‬
‫طريق الدللة اللفظية فإنا ل نهتدي من دللة لفظ‬
‫القرآن الكريم إل على كليات ما تقدم لكن في‬
‫الروايات ما يدل على ان القرآن فيه علم ما كان‬
‫وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ولو صحت‬
‫الروايات لكان من اللزم ان يكون المراد بالتبيان‬
‫العم مما يكون من طريق الدللة اللفظية فلعل‬
‫هناك اشارات من غير طريق الدللة اللفظية‬
‫تكشف عن اسرار وخبايا ل سبيل للفهم المتعارف‬
‫إليها ‪ .‬والظاهر على ما يستفاد من سياق هذه‬
‫اليات المسوقة للحتجاج على الصول الثلثة‬
‫التوحيد والنبوة والمعاد والكلم فيها ينعطف مرة‬
‫بعد اخرى عليها إن قوله ونزلنا عليك الكتاب الخ‬
‫ليس باستئناف بل حال عن ضمير الخطاب في‬
‫جئنا بك بتقدير قد أو بدون تقديرها على الخلف‬
‫بين النحاة في الجملة الحالية المصدرة بالفعل‬
‫الماضي ‪ .‬والمعنى وجئنا بك شهيدا على هؤلء‬
‫والحال إنا نزلنا عليك من قبل في الدنيا الكتاب‬
‫وهو بيان لكل شئ من امر الهداية يعلم به الحق‬
‫من الباطل فيتحمل شهادة اعمالهم فيشهد يوم‬
‫القيامة على الظالمين بما ظلموا وعلى المسلمين‬
‫بما اسلموا لن الكتاب كان هدى ورحمة وبشرى‬
‫لهم وكنت انت بذلك هاديا ورحمة ومبشرا لهم ‪.‬‬
‫وعلى هذا فصدر الية كالتوطئة لذيلها كأنه قيل‬
‫سيبعث شهداء يشهدون على الناس بأعمالهم‬
‫وانت منهم ولذلك نزلنا عليك كتابا يبين الحق‬
‫والباطل ويميز بينهما حتى تشهد به يوم القيامة‬
‫على الظالمين بظلمهم وقد تبين الكتاب وعلى‬
‫المسلمين باسلمهم وقد كان الكتاب هدى ورحمة‬
‫وبشرى لهم وكنت هاديا ورحمة ومبشرا به ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 326‬ومن لطيف ما يؤيد هذا المعنى‬
‫مقارنة الكتاب بالشهادة في بعض آيات الشهادة‬
‫كقوله ‪ " :‬واشرقت الرض بنور ربها ووضع الكتاب‬
‫وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر ‪ 69 :‬وسيجئ ان‬
‫شاء الله ان المراد به اللوح المحفوظ وقد تكرر‬
‫في كلمه تعالى ان القرآن من اللوح المحفوظ‬
‫كقوله ‪ " :‬انه لقرآن كريم في كتاب مكنون "‬
‫الواقعة ‪ 78 :‬وقوله ‪ " :‬بل هو قرآن مجيد في لوح‬
‫محفوظ " البروج ‪ . 22 :‬وشهادة اللوح المحفوظ‬
‫وان كانت غير شهادة النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم لكنهما جميعا متوقفتان على قضاء الكتاب‬
‫النازل ‪ ) .‬بحث روائي ( في الدر المنثور اخرج ابن‬
‫ابى حاتم عن مجاهد ‪ :‬ان اعرابيا اتى النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم فسأله فقرأ عليه رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم والله جعل لكم من‬
‫بيوتكم سكنا قال العرابي نعم قال وجعل لكم من‬
‫جلود النعام بيوتا تستخفونها قال العرابي نعم‬
‫ثم قرأ عليه كل ذلك يقول نعم حتى بلغ كذلك يتم‬
‫نعمته عليكم لعلكم تسلمون فولى العرابي فأنزل‬
‫الله ‪ " :‬يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها واكثرهم‬
‫الكافرون " في تفسير البرهان عن ابن‬
‫شهرآشوب عن الباقر عليه السلم في قوله تعالى‬
‫‪ " :‬يعرفون نعمة الله " الية قال عرفهم ولية‬
‫علي وأمرهم بوليته ثم انكروا بعد وفاته ‪ .‬اقول‬
‫والرواية من الجرى ‪ .‬وفي تفسير العياشي عن‬
‫جعفر بن احمد عن التركي النيشابوري عن على‬
‫بن جعفر‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 326‬‬
‫ابن محمد عن اخيه موسى بن جعفر عليه السلم‬
‫إنه سئل عن هذه الية يعرفون نعمة الله الية قال‬
‫عرفوه ثم انكروه وفي تفسير القمى ‪ :‬قى قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم‬
‫من انفسهم قال الصادق عليه السلم لكل زمان‬
‫وامة شهيد تبعث كل امة مع امامها اقول وذيل‬
‫كلمه عليه السلم مضمون قوله تعالى ‪ " :‬يوم‬
‫ندعو كل اناس بامامهم " وفي الدر المنثور اخرج‬
‫عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى‬
‫حاتم عن ‪ /‬صفحة ‪ / 327‬قتادة قال الله وجئنا بك‬
‫شهيدا على هؤلء قال ذكر لنا ان نبى الله صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ هذه الية فاضت‬
‫عيناه اقول والروايات في باب الشهادة يوم‬
‫القيامة كثيرة جدا وقد أوردنا بعضها في ذيل قوله‬
‫وكذلك جعلناكم امة وسطا " البقرة ‪ 143 :‬وبعضها‬
‫في ذيل قوله ‪ " :‬وجئنا بك على هؤلء شهيدا "‬
‫النساء ‪ 41 :‬وقوله ‪ " :‬ويوم القيامة يكون عليهم‬
‫شهيدا " النساء ‪ . 159 :‬وفي الدر المنثور اخرج‬
‫ابن مردويه والخطيب في تالى التلخيص عن البراء‬
‫ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قول‬
‫الله زدناهم عذابا فوق العذاب قال عقارب امثال‬
‫النخل الطوال ينهشونه في جهنم وفي الكافي‬
‫باسناده عن عبد العلى بن اعين قال سمعت ابا‬
‫عبد الله عليه السلم يقول قد ولدنى رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم وانا اعلم كتاب الله‬
‫وفيه بدؤ الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة‬
‫وفيه خبر السماء وخبر الرض وخبر الجنة وخبر‬
‫النار وخبر ما كان وخبر ما هو كائن اعلم ذلك كما‬
‫انظر إلى كفى إن الله عز وجل يقول فيه تبيان‬
‫كل شئ ‪ .‬اقول والية منقولة في الرواية بالمعنى‬
‫‪ .‬وفي تفسير العياشي عن منصور عن حماد‬
‫اللحام قال قال أبو عبد الله عليه السلم نحن‬
‫نعلم ما في السماوات ونعلم ما في الرض وما‬
‫في الجنة وما في النار وما بين ذلك قال فبهت‬
‫انظر إليه فقال يا حماد ان ذلك في كتاب الله‬
‫تعالى ثم تل هذه الية ‪ " :‬ويوم نبعث في كل امة‬
‫شهيدا عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيدا على‬
‫هؤلء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى‬
‫ورحمة وبشرى للمسلمين " انه من كتاب فيه‬
‫تبيان كل شئ وفي الكافي عن عدة من اصحابنا‬
‫عن احمد بن محمد بن سنان عن يونس بن يعقوب‬
‫عن الحارث بن المغيرة وعدة من اصحابنا منهم‬
‫عبد العلى وابو عبيدة وعبد الله بن بشير‬
‫الخثعمي سمعوا ابا عبد الله عليه السلم يقول‬
‫انى لعلم ما في السماوات وما في الرض واعلم‬
‫ما في الجنة واعلم ما في النار واعلم ما كان وما‬
‫يكون ثم مكث هنيئة فرأى ‪ /‬صفحة ‪ / 328‬إن ذلك‬
‫كبر على من سمعه منه ‪ -‬فقال علمت ذلك من‬
‫كتاب الله عز وجل إن الله يقول فيه تبيان كل‬
‫شئ وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد‬
‫قال قال أبو عبد الله عليه السلم قال الله‬
‫لموسى وكتبنا له في اللواح من كل شئ فعلمنا‬
‫انه لم يكتب لموسى الشئ كله وقال الله لعيسى‬
‫لبين لكم بعض الذى تختلفون فيه وقال الله‬
‫لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وجئنا بك شهيدا‬
‫على هؤلء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ‪.‬‬
‫اقول ورواه العياشي بالسناد عليه السلم * * *‬
‫إن الله يأمر بالعدل والحسان وايتاء ذى القربى‬
‫وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم‬
‫تذكرون ‪ 90 -‬وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ول‬
‫تنقضوا اليمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم‬
‫كفيل إن الله يعلم ما تفعلون ‪ 91 -‬ول تكونوا‬
‫كالتى نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا تتخذون‬
‫ايمانكم دخل بينكم ان تكون أمة هي أربى من امة‬
‫إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما‬
‫كنتم فيه تختلفون ‪ 92 -‬ولو شاء الله لجعلكم امة‬
‫واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء‬
‫ولتسألن عما كنتم تعملون ‪ 93 -‬ول تتخذوا ايمانكم‬
‫دخل بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء‬
‫بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ‪94 -‬‬
‫ول تشتروا بعهد الله ثمنا قليل انما عند الله هو‬
‫خير ‪ /‬صفحة ‪ / 329‬لكم ان كنتم تعلمون ‪ 95 -‬ما‬
‫عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين‬
‫صبروا اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ‪ 96 -‬من‬
‫عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه‬
‫حيوة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا‬
‫يعملون ‪ 97 -‬فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من‬
‫الشيطان الرجيم ‪ 98 -‬إنه ليس له سلطان على‬
‫الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ‪ 99 -‬إنما سلطانه‬
‫على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ‪100 -‬‬
‫وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا‬
‫انما انت مفتر بل اكثرهم ل يعلمون ‪ 101 -‬قل‬
‫نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا‬
‫وهدى وبشرى للمسلمين ‪ 102 -‬ولقد نعلم إنهم‬
‫يقولون انما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه‬
‫اعجمي وهذا لسان عربي مبين ‪ 103 -‬إن الذين ل‬
‫يؤمنون بآيات الله ل يهديهم الله ولهم عذاب اليم‬
‫‪ 104 -‬انما يفترى الكذب الذين ل يؤمنون بآيات‬
‫الله واولئك هم الكاذبون ‪ ) 105 -‬بيان ( تذكر‬
‫اليات عدة من الحكام مما يلئم حال السلم قبل‬
‫الهجرة مما يصلح به‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 329‬‬
‫حال المجتمع العام كالمر بالعدل والحسان‬
‫والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى وما ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 330‬يلحق بذلك كالمر بايتاء ذى القربى والنهى‬
‫عن نقض العهد واليمين وتذكر امورا اخرى تناسب‬
‫ذلك وتثبتها ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬إن الله يأمر بالعدل‬
‫والحسان وايتاء ذى القربى " ابتدأ سبحانه بهذه‬
‫الحكام الثلثة التى هي بالترتيب أهم ما يقوم به‬
‫صلب المجتمع النساني لما ان صلح المجتمع‬
‫العام اهم ما يبتغيه السلم في تعاليمه المصلحة‬
‫فان اهم الشياء عند النسان في نظر الطبيعة‬
‫وان كان هو نفسه الفردية لكن سعادة الشخص‬
‫مبنية على صلح الظرف الجتماعي الذى يعيش‬
‫هو فيه وما اصعب ان يفلح فرد في مجتمع فاسد‬
‫احاط به الشقاء من كل جانب ‪ .‬ولذلك اهتم في‬
‫اصلح المجتمع اهتماما ل يعادله فيه غيره وبذل‬
‫الجهد البالغ في جعل الدساتير والتعاليم الدينية‬
‫حتى العبادات من الصلة والحج والصوم اجتماعية‬
‫ما امكن فيها ذلك كل ذلك ليستصلح النسان في‬
‫نفسه ومن جهة ظرف حياته ‪ .‬فقوله إن الله يأمر‬
‫بالعدل امر بالعدل ويقابله الظلم قال في‬
‫المفردات العدالة والمعادلة لفظ يقتضى معنى‬
‫المساواة ويستعمل باعتبار المضايفة والعدل بفتح‬
‫العين والعدل بكسرها يتقاربان لكن العدل بفتح‬
‫العين يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالحكام‬
‫وعلى ذلك قوله تعالى أو عدل ذلك صياما والعدل‬
‫بكسر العين والعديل فيما يدرك بالحاسة‬
‫كالموزونات والمعدودات والمكيلت فالعدل هو‬
‫التقسيط على سواء ‪ .‬قال والعدل ضربان مطلق‬
‫يقتضى العقل حسنه ول يكون في شئ من‬
‫الزمنة منسوخا ول يوصف بالعتداء بوجه نحو‬
‫الحسان إلى من احسن اليك وكف الذى عمن‬
‫كف أذاه عنك وعدل يعرف كونه عدل بالشرع‬
‫ويمكن ان يكون منسوخا في بعض الزمنة‬
‫كالقصاص واروش الجنايات واصل مال المرتد‬
‫ولذلك قال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه وقال‬
‫وجزاء سيئة سيئة مثلها فسمى اعتداء وسيئة ‪.‬‬
‫وهذا النحو هو المعنى بقوله ان الله يأمر بالعدل‬
‫والحسان فان العدل هو المساواة في المكافاة‬
‫ان خيرا فخير وان شرا فشر والحسان ان يقابل‬
‫الخير بأكثر ‪ /‬صفحة ‪ / 331‬منه والشر بأقل منه‬
‫انتهى موضع الحاجة ‪ .‬وما ذكره على ما فيه من‬
‫التفصيل يرجع إلى قولهم ان العدل هو لزوم‬
‫الوسط والجتناب عن جانبى الفراط والتفريط‬
‫في المور وهو من قبيل التفسير بلزم المعنى‬
‫فان حقيقة العدل هي اقامة المساواة والموازنة‬
‫بين المور بأن يعطى كل من السهم ما ينبغى ان‬
‫يعطاه فيتساوى في ان كل منها واقع موضعه‬
‫الذى يستحقه فالعدل في العتقاد أن يؤمن بما‬
‫هو الحق والعدل في فعل النسان في نفسه ان‬
‫يفعل ما فيه سعادته ويتحرز مما فيه شقاؤه باتباع‬
‫هوى النفس والعدل في الناس وبينهم أن يوضع‬
‫كل موضعه الذى يستحقه في العقل أو في الشرع‬
‫أو في العرف فيثاب المحسن باحسانه ويعاقب‬
‫المسئ على اساءته وينتصف للمظلوم من الظالم‬
‫ول يبعض في اقامة القانون ول يستثنى ‪ .‬ومن‬
‫هنا يظهر ان العدل يساوق الحسن ويلزمه إذ ل‬
‫نعنى بالحسن إل ما من طبعه ان تميل إليه النفس‬
‫وتنجذب نحوه واقرار الشئ في موضعه الذى‬
‫ينبغى ان يقر عليه من حيث هو كذلك مما يميل‬
‫إليه النسان ويعترف بحسنه ويقدم العذر لو‬
‫خالفه إلى من يقرعه باللوم ل يختلف في ذلك‬
‫اثنان وان اختلف الناس في مصاديقه كثيرا‬
‫باختلف مسالكهم في الحياة ‪ .‬ويظهر ايضا ان ما‬
‫عد الراغب في كلمه من العتداء والسيئة عدل ل‬
‫يخلو عن مسامحة فان العتداء والسيئة الذين‬
‫يجازى بهما المعتدى والمسئ انما هما اعتداء‬
‫وسيئة بالنسبة اليهما وأما بالنسبة إلى من‬
‫يجازيهما بهما فهما من لزوم وسط العتدال‬
‫وخصلة الحسن لكونهما من وضع الشئ موضعه‬
‫الذى ينبغى ان يوضع فيه ‪ .‬وكيف كان فالعدل وان‬
‫كان منقسما إلى عدل النسان في نفسه وإلى‬
‫عدله بالنسبة إلى غيره وهما العدل الفردى‬
‫والعدل الجتماعي واللفظ مطلق لكن ظاهر‬
‫السياق إن المراد به في الية العدل الجتماعي‬
‫وهو أن يعامل كل من افراد المجتمع بما يستحقه‬
‫ويوضع في موضعه الذى ينبغى ان يوضع فيه وهذا‬
‫امر بخصلة اجتماعية متوجه إلى افراد المكلفين‬
‫بمعنى ان الله سبحانه يأمر كل واحد من افراد‬
‫المجتمع أن يأتي بالعدل ولزمه أن يتعلق المر‬
‫بالمجموع ايضا فيكلف المجتمع اقامة هذا الحكم‬
‫وتتقلده الحكومة ‪ /‬صفحة ‪ / 332‬بما انها تتولى‬
‫امر المجتمع وتدبره ‪ .‬وقوله والحسان الكلم فيه‬
‫من حيث اقتضاء السياق كسابقه فالمراد به‬
‫الحسان إلى الغير دون الحسان بمعنى اتيان‬
‫الفعل حسنا وهو ايصال خير أو نفع إلى غير ل‬
‫على سبيل المجازاة والمقابلة كأن يقابل الخير‬
‫باكثر منه ويقابل الشر بأقل منه كما تقدم ويوصل‬
‫الخير إلى غير متبرعا به ابتداء ‪ .‬والحسان على ما‬
‫فيه من اصلح حال من اذلته المسكنة والفاقة أو‬
‫اضطرته النوازل وما فيه من نشر الرحمة وايجاد‬
‫المحبة يعود محمود اثره إلى نفس المحسن‬
‫بدوران الثروة في المجتمع وجلب المن والسلمة‬
‫بالتحبيب ‪ .‬وقوله وايتاء ذى القربى أي اعطاء‬
‫المال لذوى القرابة وهو من افراد‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 332‬‬
‫الحسان خص بالذكر ليدل على مزيد العناية‬
‫باصلح هذا المجتمع الصغير الذى هو السبب‬
‫بالحقيقة لنعقاد المجتمع المدنى الكبير كما ان‬
‫مجتمع الزدواج الذى هو اصغر بالنسبة إلى مجتمع‬
‫القرابة سبب مقدم مكون له فالمجتمعات المدنية‬
‫العظيمة انما ابتدأت من مجتمع بيتى عقده‬
‫الزدواج ثم بسطه التوالد والتناسل ووسعه حتى‬
‫صار قبيلة وعشيرة ولم يزل يتزايد ويتكاثر حتى‬
‫عادت امة عظيمة فالمراد بذى القربى الجنس‬
‫دون الفرد وهو عام لكل قرابة كما ذكروه ‪ .‬وفي‬
‫التفسير المأثور عن ائمة اهل البيت عليهم السلم‬
‫إن المراد بذى القربى المام من قرابة رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم والمراد باليتاء اعطاء‬
‫الخمس الذى فرضه الله سبحانه في قوله ‪" :‬‬
‫واعلموا انما غنمتم من شئ فان لله خمسه‬
‫وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين "‬
‫الية النفال ‪ 41 :‬وقد تقدم تفسيرها ولعل‬
‫التعبير بالفراد حيث قيل ذى القربى ولم يقل‬
‫ذوى القربى أو اولى القربى كما في قوله ‪" :‬‬
‫وإذا حضر القسمة اولوا القربى واليتامى‬
‫والمساكين " النساء ‪ 8 :‬وقوله ‪ " :‬وآتى المال‬
‫على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين "‬
‫البقرة ‪ 177 :‬يؤيد ذلك ‪ .‬واحتمال ارادة الجنس من‬
‫ذى القربى يبعده ما وقع في سياق آية الخمس‬
‫من ذكر اليتامى والمساكين معه بصيغة الجمع مع‬
‫عدم ظهور نكتة يختص بها ذوى القربى أو ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 333‬اليتامى والمساكين تقضى بالفرق ‪.‬‬
‫على ان الية ل قرينة واضحة فيها على كون‬
‫المراد باليتاء هو الحسان ثم بالحسان مطلق‬
‫الحسان والله اعلم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وينهى عن‬
‫الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون "‬
‫قال في المفردات الفحش والفحشاء والفاحشة‬
‫ما عظم قبحه من الفعال والقوال ‪ .‬انتهى ولعل‬
‫الصل في معناه الخروج عن الحد فيما ل ينبغى‬
‫يقال غبن فاحش أي خارج عن حد التحمل والصبر‬
‫والسكوت ‪ .‬والمنكر ما ل يعرفه الناس في‬
‫مجتمعهم من العمال التى تكون متروكة عندهم‬
‫لقبحها أو اثمها كالمواقعة أو كشف العورة في‬
‫مشهد من الناس في المجتمعات السلمية ‪.‬‬
‫والبغى الصل في معناه الطلب وكثر استعماله‬
‫في طلب حق الغير بالتعدي عليه فيفيد معنى‬
‫الستعلء والستكبار على الغير ظلما وعتوا وربما‬
‫كان بمعنى الزنا والمراد به في الية هو التعدي‬
‫على الغير ظلما ‪ .‬وهذه الثلثة اعني الفحشاء‬
‫والمنكر والبغى وان كانت متحدة المصاديق غالبا‬
‫فكل فحشاء منكر وغالب البغى فحشاء ومنكر لكن‬
‫النهى انما تعلق بها بما لها من العناوين لما ان‬
‫وقوع العمال بهذه العناوين في مجتمع من‬
‫المجتمعات يوجب ظهور الفصل الفاحش بين‬
‫العمال المجتمعة فيه الصادرة من اهله فينقطع‬
‫بعضها من بعض ويبطل اللتيام بينها ويفسد بذلك‬
‫النظم وينحل المجتمع في الحقيقة وان كان على‬
‫ساقه صورة وفي ذلك هلك سعادة الفراد ‪.‬‬
‫فالنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى امر بحسب‬
‫المعنى باتحاد مجتمع تتعارف اجزاؤه وتتلءم‬
‫اعماله ل يستعلى بعضهم على بعض بغيا ول‬
‫يشاهد بعضهم من بعض ال الجميل الذى يعرفونه‬
‫ل فحشاء ول منكرا وعند ذلك تستقر عليهم‬
‫الرحمة والمحبة واللفة وترتكز فيهم القوة‬
‫والشدة وتهجرهم السخطة والعداوة والنفرة وكل‬
‫خصلة سيئة تؤدى إلى التفرق والتهلكة ‪ .‬ثم ختم‬
‫سبحانه الية بقوله يعظكم لعلكم تذكرون أي‬
‫تتذكرون فتعلمون ان الذى يدعوكم إليه فيه‬
‫حياتكم وسعادتكم ‪ / .‬صفحة ‪ / 334‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ول تنقضوا اليمان‬
‫بعد توكيدها " الخ قال في المفردات العهد حفظ‬
‫الشئ ومراعاته حال بعد حال وسمى الموثق الذى‬
‫يلزم مراعاته عهدا قال وعهد فلن إلى فلن يعهد‬
‫أي القى إليه العهد وأوصاه بحفظه انتهى ‪.‬‬
‫وظاهر اضافة العهد إلى الله تعالى في قوله‬
‫وأوفوا بعهد الله ان المراد به هو العهد الذى يعاهد‬
‫فيه الله على كذا دون مطلق العهد ويأتى نظير‬
‫الكلم في نقض اليمين ‪ .‬وقوله ول تنقضوا‬
‫اليمان بعد توكيدها نقض اليمين نكثه ومخالفة‬
‫مقتضاه والمراد باليمين هو اليمين بالحلف بالله‬
‫سبحانه كأن ما عدا ذلك ليس بيمين والدليل عليه‬
‫قوله بعد وقد جعلتم الله عليكم كفيل ‪ .‬والمراد‬
‫بتوكيدها احكامها بالقصد والعزم وكونها لمر‬
‫راجح بخلف قولهم ل والله وبلى والله وغيره من‬
‫لغو اليمان فالتوكيد في هذه الية يفيد ما يفيده‬
‫التعقيد في قوله تعالى ‪ " :‬ل يؤاخذكم الله باللغو‬
‫في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم اليمان "‬
‫المائدة ‪ . 89 :‬ونقض اليمين بحسب العتبار اشنع‬
‫من نقض العهد وان كان منهيا عنهما جميعا على‬
‫إن العناية بالحلف في الشرع السلمي اكثر كما‬
‫في باب القضاء ‪ .‬وتوضيح شناعة نقضه إن حقيقة‬
‫معنى اليمين ايجاد ربط خاص بين النسبة الكلمية‬
‫من خبر أو انشاء وبين امر ذى بال شريف بحيث‬
‫يستوجب بطلن النسبة من جهة ظهور كذبه ان‬
‫كان خبرا ومخالفة مقتضاه ان كان عزما أو امرا أو‬
‫نهيا كقولنا والله لفعلن كذا وبالله عليك افعل أو‬
‫ل تفعل كذا أن يذهب بذلك ما يعتقده‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 334‬‬
‫المقسم من الكرامة والعزة للمقسم به فيؤول‬
‫المر إلى إن المقسم به بما له من الكرامة والعزة‬
‫هو المسئول عن صحة النسبة الكلمية والمقسم‬
‫هو المسئول عند المقسم به بما علق صحة النسبة‬
‫على كرامته وعزته كمن يعقد عقدا أو يتعهد عمل‬
‫ثم يعطى لمن عاقده أو تعهد له موثقا يثق به من‬
‫مال أو ولد أو غير ذلك أو يضمن له ذلك شريف‬
‫بشرافته ‪ .‬وبهذا يظهر معنى قوله تعالى ‪ " :‬وقد‬
‫جعلتم الله عليكم كفيل " فان الحالف إذا قال‬
‫والله لفعلن كذا أو ل تركن كذا فقد علق ما حلف‬
‫عليه نوعا من التعليق ‪ /‬صفحة ‪ / 335‬على الله‬
‫سبحانه وجعله كفيل عنه في الوفاء بما عقد عليه‬
‫اليمين فان نكث ولم يف كان لكفيله ان يؤديه إلى‬
‫الجزاء والعقوبة ففى نكث اليمين اهانة وارزاء‬
‫بساحة العزة والكرامة مضافا إلى ما في نقض‬
‫اليمين والعهد معا من النقطاع والنفصال عنه‬
‫سبحانه بعد توكيد التصال ‪ .‬فقوله ‪ " :‬وقد جعلتم‬
‫الله " الخ حال من ضمير الجمع في قوله ول‬
‫تنقضوا وقوله ان الله يعلم بما تفعلون في معنى‬
‫تأكيد النهى بان العمل مبغوض وهو به عليم ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬ول تكونوا كالتى نقضت غزلها من‬
‫بعد قوة انكاثا " إلى آخر الية النقض ويقابله‬
‫البرام افساد ما احكم من حبل أو غزل بالفتل‬
‫فنقض الشئ المبرم كحل الشئ المعقود والنكث‬
‫النقض قال في المجمع وكل شئ نقض بعد الفتل‬
‫فهو انكاث حبل كان أو غزل والدخل بفتحتين في‬
‫الصل كل ما دخل الشئ وليس منه ويكنى به عن‬
‫الدغل والخدعة والخيانة كما قيل واربى افعل من‬
‫الربا وهو الزيادة ‪ .‬وقوله ‪ " :‬ول تكونوا كالتى‬
‫نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا " في معنى‬
‫التفسير لقوله في الية السابقة ‪ " :‬ول تنقضوا‬
‫اليمان بعد توكيدها " وهو تمثيل بمرأة تغزل‬
‫الغزل بقوة ثم تعود فتنقض ما اتعبت نفسها فيه‬
‫وغزلته من بعد قوة وتجعله انكاثا ل فتل فيه ول‬
‫ابرام ‪ .‬ونقل عن الكلبى انها امرأة حمقاء من‬
‫قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار‬
‫ثم تأمرهن ان ينقضن ما غزلن ول يزال ذلك دأبها‬
‫واسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن‬
‫تميم بن مره وكانت تسمى خرقاء مكة ‪ .‬وقوله ‪" :‬‬
‫تتخذون ايمانكم دخل بينكم ان تكون امة هي اربى‬
‫من امة " أي تتخذون ايمانكم وسيلة للغدر‬
‫والخدعة والخيانة تطيبون بها نفوس الناس ثم‬
‫تخونون وتخدعونهم بنقضها وانما يفعلون ذلك‬
‫لتكون امة وهم الحالفون اربى وازيد سهما من‬
‫زخارف الدنيا من امة وهم المحلوف لهم ‪ .‬فالمراد‬
‫بالدخل وسيلته من تسمية السبب باسم المسبب‬
‫وان تكون امة مفعول له بتقدير اللم والكلم نوع‬
‫بيان لنقض اليمين أو لكونهم كالتى نقضت‬
‫غزلها ‪ /‬صفحة ‪ / 336‬من بعد قوة انكاثا ومحصل‬
‫المعنى انكم كمثلها إذ تتخذون ايمانكم دخل بينكم‬
‫فتؤكدونها وتعقدونها ثم تخونون وتخدعون‬
‫بنقضها ونكثها والله ينهاكم عنه ‪ .‬وذكر بعضهم ان‬
‫قوله تتخذون ايمانكم الخ جملة استفهامية‬
‫محذوفة الداة والستفهام للنكار ‪ .‬وقوله انما‬
‫يبلوكم الله به الخ أي ان ذلك امتحان الهي‬
‫يمتحنكم به واقسم ليبينن لكم يوم القيامة ما‬
‫كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك ما حقيقة ما‬
‫انتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك‬
‫سبيل الباطل لماطة الحق ودحضه ويتبين لكم‬
‫يومئذ من هو الضال ومن هو المهتدى ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن‬
‫يضل من يشاء ويهدى من يشاء " الخ لما انجر‬
‫الكلم إلى ذكر اختلفهم عقب ذلك ببيان ان‬
‫اختلفهم ليس بناقض للغرض اللهى في خلقهم‬
‫ول انهم معجزون له سبحانه ولو شاء لجعلهم امة‬
‫واحدة ل اختلف بينهم ولكن الله سبحانه جعلهم‬
‫مختلفين بالهداية والضلل فهدى قوما واضل‬
‫آخرين ‪ .‬وذلك انه تعالى وضع سعادة النسان‬
‫وشقاءه على اساس الختيار وعرفهم الطاعة‬
‫المفضية إلى غاية السعادة والمعصية المؤدية إلى‬
‫غاية الشقاء فمن سلك مسلك المعصية واجتاز‬
‫للضلل جازاه الله ذلك ومن ركب سبيل الطاعة‬
‫واختار الهدى جازاه الله ذلك وسيسألهم جميعا‬
‫عما عملوا واختاروا ‪ .‬وبما تقدم يظهر ان المراد‬
‫بجعلهم امة واحدة رفع الختلف من بينهم‬
‫وحملهم على الهدى والسعادة وبالضلل والهداية‬
‫ما هو على سبيل المجازاة ل الضلل والهدى‬
‫البتدائيان فان الجميع على هدى فطرى فالذي‬
‫يشاء الله ضلله فيضله هو من اختار المعصية على‬
‫الطاعة من غير رجوع ول ندم والذى شاء الله‬
‫هداه فهداه هو من بقى على هداه الفطري وجرى‬
‫على الطاعة أو تاب ورجع عن المعصية صراطا‬
‫مستقيما وسنة الهية ولن تجد لسنة الله تبديل‬
‫ولن تجد لسنة الله تحويل ‪ .‬وان قوله ‪ " :‬ولتسألن‬
‫عما كنتم تعملون " لدفع ما يسبق إلى الوهم ان‬
‫استناد الضلل والهدى إليه سبحانه يبطل تأثير‬
‫اختيارهم في ذلك وتبطل بذلك الرسالة وتلغو ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 337‬الدعوة فاجيب بان السؤال باق على‬
‫حاله لما ان اختياركم ل يبطل بذلك بل الله‬
‫سبحانه يمد لكم من الضلل والهدى ما انتم‬
‫تختارونه بالركون إلى معصيته أو بالقبال إلى‬
‫طاعته ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 337‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬ول تتخذوا أيمانكم دخل بينكم‬
‫فتزل قدم بعد ثبوتها " إلى آخر الية قال في‬
‫المفردات الصدود والصد قد يكون انصرافا عن‬
‫الشئ وامتناعا نحو يصدون عنك صدودا وقد يكون‬
‫صرفا ومنعا نحو وزين لهم الشيطان اعمالهم‬
‫فصدهم عن السبيل انتهى ‪ .‬والية نهى عن اتخاذ‬
‫اليمان دخل بعد النهى عن اصل نقص اليمان لن‬
‫لخصوص اتخاذها دخل مفسدة مستقلة هي ملك‬
‫النهى غير المفسدة التى لصل نقض اليمان وقد‬
‫اشار إلى مفسدة اصل النقض بقوله وقد جعلتم‬
‫الله عليكم كفيل الخ ويشير في هذه الية إلى‬
‫مفسدة اتخاذها دخل بقوله ‪ " :‬فتزل قدم بعد‬
‫ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله‬
‫ولكم عذاب عظيم " ‪ .‬والملكان كما هو ظاهر‬
‫متغايران نعم احدهما كالمقدمة للخر كما ان نقض‬
‫اليمان كالمقدمة لتخاذها دخل فان النسان إذا‬
‫نقض اليمين لسبب من السباب لول مرة هان‬
‫عليه امر النقض ومهد ذلك السبيل إلى النقض‬
‫ثانيا وثالثا وجعل الحلف ثم النقض وسيلة خدعة‬
‫وخيانة فل يلبث دون ان تكون حليف دغل وخدعة‬
‫وخيانة وغرور ومكر وكيد وكذب وزور ل يبالى ما‬
‫قال وما فعل ويعود جرثومة فساد يفسد المجتمع‬
‫النساني اينما توجه ويقع في سبيل غير سبيل‬
‫الله الذى خطته الفطرة السليمة ‪ .‬وكيف كان‬
‫فظاهر قوله ول تتخذوا ايمانكم دخل بينكم نهى‬
‫استقللي عن الخدعة باليمين بعد النهى الضمنى‬
‫عنه في الية السابقة وقوله ‪ " :‬فتزل قدم بعد‬
‫ثبوتها " تفريع على المنهى عنه دون النهى أي‬
‫يتفرع على اتخاذها دخل ان تزل قدم بعد ثبوتها‬
‫الخ وزلة القدم بعد ثبوتها مثل لنقض اليمين بعد‬
‫العقد والتوكيد والزوال عن الموقف الذى ارتكز‬
‫فيه فان ثبات النسان واستقامته على ما عزم‬
‫عليه واهتم به من كرائم النسانية واصول‬
‫فضائلها وعليه بناء الدين اللهى وحفظ اليمين‬
‫على توكيده ‪ /‬صفحة ‪ / 338‬قدم من القدام التى‬
‫يتم بها هذا الصل الوسيع وكأنه لذلك جئ بالقدم‬
‫نكرة في قوله فتزل قدم الخ ‪ .‬وقوله ‪ " :‬وتذوقوا‬
‫السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب‬
‫عظيم " معطوف على قوله تزل قدم الخ وبيان‬
‫نتيجته كما انه بيان نتيجة وعاقبة لقوله تتخذوا‬
‫ايمانكم دخل وبذلك يظهر ان قوله بما صددتم عن‬
‫سبيل الله بمنزلة التفسير لقوله فتزل قدم بعد‬
‫ثبوتها ‪ .‬والمراد بالصدود عن سبيل الله العراض‬
‫والمتناع عن السنة الفطرية التى فطر الله الناس‬
‫عليها ودعت الدعوة النبوية إليها من التزام الصدق‬
‫والستقامة ورعاية العهود والمواثيق واليمان‬
‫والتجنب عن الدغل والخدعة والخيانة والكذب‬
‫والزور والغرور ‪ .‬والمراد بذوق السوء العذاب‬
‫وقوله ولكم عذاب عظيم حال عن فاعل تذوقوا‬
‫ويمكن ان يكون المراد بذوق السوء ما ينالهم من‬
‫آثار الضلل السيئة في الدنيا وقوله ولكم عذاب‬
‫عظيم اخبارا عما يحل بهم في الخرة هذا ما‬
‫يستفاد من ظاهر الية الكريمة ‪ .‬فالمعنى ول‬
‫تتخذوا ايمانكم وسيلة دخل بينكم حتى يؤديكم ذلك‬
‫إلى الزوال عما ثبتم عليه ونقض ما ابرمتموه‬
‫وفيه اعراض عن سبيل الله الذي هو التزام‬
‫الفطرة والتحرز عن الغدر والخدعة والخيانة‬
‫والدغل وبالجملة الفساد في الرض بعد اصلحها‬
‫ويؤديكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء والشقاء في‬
‫حياتكم الدنيا ولكم عذاب عظيم في الخرى ‪.‬‬
‫وذكر بعضهم أن الية مختصة بالنهي عن نقض‬
‫بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما‬
‫استقرت عليه السنة في صدر السلم وأن الية‬
‫نزلت في الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم على نصرة السلم وأهله فنهاه الله عن‬
‫نقض تلك البيعة وعلى هذا فالمراد بالصد عن‬
‫سبيل الله صرف الناس ومنعهم عن اتباع دين الله‬
‫كما ان المراد بزلة قدم بعد ثبوتها الردة بعد‬
‫السلم والضلل بعد الرشد ‪ .‬وفيه أن السياق ل‬
‫يساعد على ذلك وعلى تقدير التسليم خصوص‬
‫المورد ل ينافى عموم الية ‪ / .‬صفحة ‪ / 339‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬ول تشتروا بعهد الله ثمنا قليل إن ما‬
‫عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون " قال في‬
‫المفردات كل ما يحصل عوضا عن شئ فهو ثمنه‬
‫انتهى ‪ .‬والظاهر أن الية نهي عن نقض العهد‬
‫بعدما تقدم المر بالوفاء به اعتناء بشأنه كما جرى‬
‫مثل ذلك في نقض اليمان والية مطلقة والمراد‬
‫بعهد الله العهد الذي عوهد به الله مطلقا والمراد‬
‫بالشتراء به ثمنا قليل بقرينة ذيل الية أن يبدل‬
‫العهد من شئ من حطام الدنيا فينقض لنيله‬
‫فسمى المبدل منه ثمنا لنه عوض كما تقدم‬
‫والباقي ظاهر ‪ .‬قوله ‪ " :‬ما عندكم ينفد وما عند‬
‫الله باق " في مقام التعليل لقوله في الية‬
‫السابقة ‪ " :‬ما عند الله هو خير لكم " وقد وجهه‬
‫بأن الذي عندكم أي في الحياة الدنيا التي هي‬
‫حياة مادية قائمة على أساس التبدل والتحول‬
‫منعوتة بنعت الحركة والتغير زائل نافد وما عند‬
‫الله سبحانه مما يعد المتقين منكم باق ل يزول ول‬
‫يفنى والباقى خير من النافد بصريح حكم العقل ‪.‬‬
‫واعلم ان قوله ‪ " :‬ما عندكم ينفد وما عند الله باق‬
‫" على ما في لفظه من الطلق‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 339‬‬
‫قاعدة كلية غير منقوضة باستثناء تحتها جزئيات‬
‫كثيرة من المعارف الحقيقية ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫ولنجزين الذين صبروا اجرهم باحسن ما كانوا‬
‫يعملون " لما كان الوفاء بالعهد مستلزما للصبر‬
‫على مر مخالفة هوى النفس في نقضه‬
‫والسترسال فيما تشتهيه صرف الكلم عن ذكر‬
‫اجر خصوص الموفين بالعهد إلى ذكر اجر مطلق‬
‫الصابرين في جنب الله ‪ .‬فقوله ولنجزين الذين‬
‫صبروا اجرهم وعد مؤكد على مطلق الصبر سواء‬
‫كان صبرا على الطاعة أو عن المعصية أو عند‬
‫المصيبة غير انه يجب ان يكون صبرا في جنب الله‬
‫ولوجه الله فان السياق ل يساعد على غيره ‪.‬‬
‫وقوله باحسن ما كانوا يعملون الباء للمقابلة كما‬
‫في قولنا بعت هذا بهذا وليس المراد باحسن ما‬
‫كانوا يعملون الحسن من اعمالهم في مقابل‬
‫الحسن منها بان يميز الله سبحانه بين اعمالهم‬
‫الحسنة فيقسمها إلى حسن واحسن ثم يجزيهم‬
‫باحسنها ويلغى الحسن كما ذكره بعضهم فان‬
‫المقام ل يؤيده وآيات الجزاء تنفيه والرحمة‬
‫الواسعة اللهية تأباه ‪ / .‬صفحة ‪ / 340‬وليس‬
‫المراد به الواجبات والمستحبات من اعمالهم قبال‬
‫المباحات التى اتوا بها فانها ل تخلو من حسن كما‬
‫ذكره آخرون ‪ .‬فان الكلم ظاهر في ان المراد‬
‫بيان الجر على العمال الماتى بها في ظرف‬
‫الصبر مما يرتبط به ارتباطا وواضح ان المباحات‬
‫التى ياتي بها الصابر في الله ل ارتباط لها بصبره‬
‫فل وجه لعتبارها بين العمال ثم اختيار الحسن‬
‫من بينها ‪ .‬على انه ل مطمع لعبد في ان يثيبه الله‬
‫على ما اتى به من المباحات حتى يبين له أن‬
‫الثواب في مقابل ما اتى به من الواجبات‬
‫والمستحبات التى هي احسن مما اتى به من‬
‫المباحات فيكون ذكر الحسن مستدركا زائدا ‪ .‬ومن‬
‫هنا يظهر ان ليس المراد به النوافل بناء على عدم‬
‫اللزام فيها فتكون احسن ما عمل فان كون‬
‫الواجب مشتمل من المصلحة الموجبة للحسن على‬
‫ازيد من النقل معلوم من الخطابات التشريعية‬
‫بحيث ل يرتاب فيه ‪ .‬بل المراد بذلك ان العمل‬
‫الذى ياتون به وله في نوعه ما هو حسن وما هو‬
‫احسن فالله سبحانه يجزيه من الجر على ما اتى‬
‫به ما هو اجر الفرد الحسن من نوعه فالصلة‬
‫التى يصليها الصابر في الله يجزيه الله سبحانه لها‬
‫اجر الفرد الحسن من الصلة وان كانت ما صلها‬
‫غير احسن وبالحقيقة يستدعى الصبر ان ل‬
‫يناقش في العمل ول يحاسب ما هو عليه من‬
‫الخصوصيات المقتضية لخسته ورداءته كما يفيده‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬انما يوفى الصابرون اجرهم بغير‬
‫حساب " ‪ .‬ويستفاد من الية ان الصبر في الله‬
‫يوجب كمال العمل وفي قوله ولنجزينهم الخ‬
‫التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير كما قيل‬
‫والذى اظنه انه رجوع إلى السياق السابق في‬
‫اليات وكان سياق التكلم مع الغير وانما اللتفات‬
‫في قوله تعالى قبل بضع آيات ان الله يامر بالعدل‬
‫والحسان والوجه فيه ان هذه الية وما بعدها من‬
‫اليات المسرودة إلى هذه الغاية مشتملة على عدة‬
‫من الوامر والنواهي اللهية والنسب بالمر‬
‫والنهى ان يستندا إلى اعظم مقامات مصدرهما‬
‫واقواها ليتأيدا بذلك وهذه صناعة معمولة في‬
‫المحاورات فيقال ان الملك يأمر بكذا وان مولك‬
‫يقول لك كذا ول يقال فلن ابن فلن يأمر أو‬
‫يقول ‪ / .‬صفحة ‪ / 341‬فكان من النسب ان يسند‬
‫هذه التكاليف إلى مقام الجللة ويقال باللتفات‬
‫من التكلم مع الغير إلى الغيبة ان الله يأمر بالعدل‬
‫والحسان الخ ولذلك استمر السياق على هذا‬
‫النسق في التكاليف التالية ايضا فقيل ‪ " :‬واوفوا‬
‫بعهد الله " الخ انما يبلوكم الله الخ ولو شاء الله‬
‫الخ ول تشتروا بعهد الله الخ وما عند الله باق ‪ .‬ثم‬
‫رجع إلى السياق السابق وهو التكلم مع الغير‬
‫فقال ‪ " :‬ولنجزين الذين صبروا " وجرى على ذلك‬
‫حتى إذا بلغ قوله فإذا قرأت القرآن وهو حكم‬
‫التفت ثانيا فقال فاستعذ بالله واحسن ما يجلى‬
‫المعنى الذى ذكرناه قوله تعالى بعده وإذا بدلنا آية‬
‫مكان آية والله اعلم بما ينزل حيث جمع بين‬
‫المرين فاسند تبديل آية مكان آية إلى ضمير‬
‫التكلم والعلمية إلى الله عز اسمه ‪ .‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫" من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن‬
‫فلنحيينه حياة طيبة " إلى آخر الية ‪ .‬وعد جميل‬
‫للمؤمنين ان عملوا عمل صالحا وبشرى للناث ان‬
‫الله ل يفرق بينهن وبين الذكور في قبول ايمانهن‬
‫ول اثر عملهن الصالح الذى هو الحياء بحياة طيبة‬
‫والجر باحسن العمل على الرغم مما بنى عليه‬
‫اكثر الوثنية واهل الكتاب من اليهود والنصارى من‬
‫حرمان المرأة من كل مزية دينية أو جلها وحط‬
‫مرتبتها من مرتبة الرجل ووضعها وضعا ل يقبل‬
‫الرفع البتة ‪ .‬فقوله من عمل صالحا من ذكر أو‬
‫انثى وهو مؤمن حكم كلى من قبيل ضرب القاعدة‬
‫لمن عمل صالحا أي من كان وقد قيده بكونه‬
‫مؤمنا وهو في معنى الشتراط فان العمل ممن‬
‫ليس مؤمنا حابط ل يترتب عليه اثر كما قال تعالى‬
‫‪ " :‬ومن يكفر باليمان فقد حبط عمله " المائدة ‪:‬‬
‫‪ 5‬وقال ‪ " :‬وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا‬
‫يعملون " هود ‪. 16 :‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫ص‬ ‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪21‬‬
‫‪: 341‬‬
‫وقوله فلنحيينه حياة طيبة الحياء القاء الحياة في‬
‫الشئ وافاضتها عليه فالجملة بلفظها دالة على‬
‫ان الله سبحانه يكرم المؤمن الذى يعمل صالحا‬
‫بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة‬
‫العامة وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه‬
‫وتبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء اصل الحياة‬
‫على ما كانت عليه ولو كان كذلك ‪ /‬صفحة ‪/ 342‬‬
‫لقيل فلنطيبن حياته ‪ .‬فالية نظيرة قوله ‪ " :‬أو‬
‫من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في‬
‫الناس " النعام ‪ 122 :‬وتفيد ما يفيده من تكوين‬
‫حياة ابتدائية جديدة ‪ .‬وليس من التسمية المجازية‬
‫لن اليات المتعرضة لهذا الشأن ترتب عليه آثار‬
‫الحياة الحقيقية كقوله تعالى ‪ " :‬اولئك كتب في‬
‫قلوبهم اليمان وايدهم بروح منه " المجادلة ‪22 :‬‬
‫وكقوله في آية النعام المنقولة آنفا ‪ " :‬وجعلنا له‬
‫نورا يمشى به في الناس " فان المراد بهذا النور‬
‫العلم الذى يهتدى به النسان إلى الحق في‬
‫العتقاد والعمل قطعا ‪ .‬وكما ان له من العلم‬
‫والدراك ما ليس لغيره كذلك له من موهبة القدرة‬
‫على احياء الحق واماطة الباطل ما ليس لغيره‬
‫وقد قال سبحانه ‪ " :‬وكان حقا علينا نصر‬
‫المؤمنين " الروم ‪ 47 :‬وقال ‪ " :‬من آمن بالله‬
‫واليوم الخر وعمل صالحا فل خوف عليهم ول هم‬
‫يحزنون " المائدة ‪ . 69 :‬وهذا العلم والقدرة‬
‫الحديثان يمهدان له ان يرى الشياء على ما هي‬
‫عليها فيقسمها قسمين حق باق وباطل فان‬
‫فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذى هو الحياة‬
‫الدنيا بزخارفها الغارة الفتانة ويعتز بعزة الله فل‬
‫يستذله الشيطان بوساوسه ول النفس بأهوائها‬
‫وهوساتها ول الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلن‬
‫امتعتها وفناء نعمتها ‪ .‬ويتعلق قلبه بربه الحق‬
‫الذى هو يحق كل حق بكلماته فل يريد ال وجهه ول‬
‫يحب ال قربه ول يخاف ال سخطه وبعده يرى‬
‫لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلدة ل يدبر امرها ال‬
‫ربه الغفور الودود ول يواجهها في طول مسيرها‬
‫ال الحسن الجميل فقد احسن كل شئ خلقه ول‬
‫قبيح ال ما قبحه الله من معصيته ‪ .‬فهذا النسان‬
‫يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوة والعزة‬
‫واللذة والسرور ما ل يقدر بقدر وكيف ل ؟ وهو‬
‫مستغرق في حياة دائمة ل زوال لها ونعمة باقية‬
‫ل نفاد لها ول ألم فيها ول كدورة تكدرها وخير‬
‫وسعادة ل شقاء معها هذا ما يؤيده العتبار وينطق‬
‫به آيات كثيرة من القرآن ل حاجة إلى ايرادها على‬
‫كثرتها ‪ .‬فهذه آثار حيوية ل تترتب ال على حياة‬
‫حقيقية غير مجازية وقد رتبها الله ‪ /‬صفحة ‪/ 343‬‬
‫سبحانه على هذه الحياة التى يذكرها ويخصها‬
‫بالذين آمنوا وعملوا الصالحات فهى حياة حقيقية‬
‫جديدة يفيضها الله سبحانه عليهم ‪ .‬وليست هذه‬
‫الحياة الجديدة المختصة بمنفصلة عن الحياة‬
‫القديمة المشتركة وان كانت غيرها فانما الختلف‬
‫بالمراتب ل بالعدد فل يتعدد بها النسان كما ان‬
‫الروح القدسية التى يذكرها الله سبحانه للنبياء ل‬
‫توجب لهم ال ارتفاع الدرجة دون تعدد الشخصية ‪.‬‬
‫هذا ما يعطيه التدبر في الية الكريمة وهو حقيقة‬
‫قرآنية وبه يظهر وجه توصيفها بالطيب في قوله‬
‫حياة طيبة كأنها كما اتضح حياة خالصة ل خبث‬
‫فيها يفسدها في نفسها أو في اثرها ‪.‬‬
‫وللمفسرين في الية وجوه من التفسير منها ان‬
‫الحياة الطيبة هي الحياة التى تكون في الجنة فل‬
‫موت فيها ول فقر ول سقم ول أي شقاء آخر ‪.‬‬
‫ومنها انها الحياة التى تكون في البرزخ ولعل‬
‫التخصيص من حمل ذيل الية على جنة الخرة ‪.‬‬
‫ومنها انها الحياة الدنيوية المقارنة للقناعة والرضا‬
‫بما قسم الله سبحانه فانها اطيب الحياة ‪ .‬ومنها‬
‫انها الرزق الحلل إذ ل عقاب عليه ‪ .‬ومنها انها‬
‫رزق يوم بيوم ‪ .‬ووجوه المناقشة فيها ل تكاد‬
‫تخفى على الباحث المتدبر فل نطيل بايرادها ‪.‬‬
‫وقوله ‪ " :‬ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا‬
‫يعملون " تقدم الكلم فيه في الية السابقة وفي‬
‫معنى الية قوله تعالى ‪ " :‬ومن عمل صالحا من‬
‫ذكر أو انثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة‬
‫يرزقون فيها بغير حساب " المؤمن ‪ . 40 :‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من‬
‫الشيطان الرجيم " الستعاذة طلب المعاذ والمعنى‬
‫إذا قرأت القرآن فاطلب منه تعالى ما دمت تقرؤه‬
‫ان يعيذك من الشيطان الرجيم ان يغويك‬
‫فالستعاذة المأمور بها حال نفس القارئ ما دام‬
‫يقرأ وقد أمر ان يوجدها لنفسه ما دام يقرأ واما‬
‫قول القارئ اعوذ بالله من الشيطان ‪ /‬صفحة ‪344‬‬
‫‪ /‬الرجيم أو ما يشابهه من اللفظ فهو سبب ليجاد‬
‫معنى الستعاذة في النفس وليس بنفسها ال‬
‫بنوع من المجاز وقد قال سبحانه استعذ بالله ولم‬
‫يقل قل اعوذ بالله ‪ .‬وبذلك يظهر ان قول بعضهم‬
‫ان المراد بالقراءة ارادتها فهى مجاز مرسل من‬
‫قبيل اطلق المسبب وارادة السبب ل يخلو عن‬
‫تساهل ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬انه ليس له سلطان على‬
‫الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " في مقام‬
‫التعليل للمر الوارد في الية السابقة أي استعذ‬
‫بالله حين القراءة ليعيذك منه لنه ليس له سلطان‬
‫على من آمن بالله وتوكل عليه ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 344‬‬
‫ويظهر من الية اول ان الستعاذة بالله توكل عليه‬
‫فانه سبحانه بدل الستعاذة في التعليل من‬
‫التوكل ونفى سلطانه عن المتوكلين ‪ .‬وثانيا ان‬
‫اليمان والتوكل ملك صدق العبودية كقوله تعالى‬
‫لبليس ‪ " :‬ان عبادي ليس لك عليهم سلطان ال‬
‫من اتبعك من الغاوين " الحجر ‪ 42 :‬فنفى سلطانه‬
‫عن عباده وقد بدل العباد في هذه الية من الذين‬
‫آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والعتبار يساعد عليه‬
‫فان التوكل وهو القاء زمام التصرف في امور‬
‫نفسه إلى غيره والتسليم لما يؤثره له منها اخص‬
‫آثار العبودية ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬انما سلطانه على‬
‫الذين يتولونه والذين هم به مشركون " ضمائر‬
‫الفراد الثلثة للشيطان أي ينحصر سلطان‬
‫الشيطان في الذين يتخذونه وليا لهم يدبر امورهم‬
‫كما يريد وهم يطيعونه وفي الذين يشركون به إذ‬
‫يتخذونه وليا من دون الله وربا مطاعا غيره فان‬
‫الطاعة عبادة كما يشير إليه قوله ‪ " :‬ألم اعهد‬
‫اليكم يا بنى آدم ان ل تعبدوا الشيطان انه لكم‬
‫عدو مبين وان اعبدوني " يس ‪ . 61 :‬وبذلك يظهر‬
‫اول ان ذيل الية يفسر صدرها وان تولى من لم‬
‫يأذن الله في توليه شرك بالله وعبادة لغيره ‪.‬‬
‫وثانيا ان ل واسطة بين التوكل على الله وتولى‬
‫الشيطان وعبادته فمن لم يتوكل على الله فهو‬
‫من اولياء الشيطان ‪ .‬وربما قيل ان ضمير الفراد‬
‫في قوله ‪ " :‬والذين هم به مشركون " راجع إليه ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 345‬تعالى وتفيد الية حينئذ ان سلطانه‬
‫على طائفتين المشركين والذين يتولونه من‬
‫الموحدين هذا ولزوم اختلف الضمائر يدفعه ‪.‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬وإذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم‬
‫بما ينزل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم ل‬
‫يعلمون " اشارة إلى النسخ وحكمته وجواب عما‬
‫اتهموه صلى الله عليه وآله وسلم به من الفتراء‬
‫على الله والظاهر من سياق اليات ان القائلين‬
‫هم المشركون وان كانت اليهود هم المتصلبين‬
‫في نفى النسخ ومن المحتمل ان تكون الكلمة مما‬
‫تلقفه المشركون من اليهود فكثيرا ما كانوا‬
‫يراجعونهم في امر النبي صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ‪ .‬وقوله ‪ " :‬وإذا بدلنا آية مكان آية " قال‬
‫في المفردات البدال والتبديل والتبدل‬
‫والستبدال جعل شئ مكان آخر وهو اعم من‬
‫العوض فان العوض هو ان يصير لك الثاني باعطاء‬
‫الول والتبديل قد يقال للتغيير مطلقا وان لم يأت‬
‫ببدله قال تعالى ‪ " :‬فبدل الذين ظلموا قول غير‬
‫الذى قيل لهم " إلى ان قال وقال تعالى ‪ " :‬فمن‬
‫بدله بعد ما سمعه " وإذا بدلنا آية مكان آية و "‬
‫بدلناهم بجنتيهم جنتين " " ثم بدلنا مكان السيئة‬
‫الحسنة " انتهى موضع الحاجة ‪ .‬فالتبديل بمعنى‬
‫التغيير يخالف التبديل بمعناه المعروف في ان‬
‫مفعوله الول هو المأخوذ والمطلوب بخلفه‬
‫بالمعنى المعروف فمعنى قوله وإذا بدلنا آية مكان‬
‫آية معناه وضعنا الية الثانية مكان الولى بالتغيير‬
‫فكانت الثانية المبدلة هي الباقية المطلوبة ‪.‬‬
‫وقوله ‪ " :‬والله اعلم بما ينزل " كناية عن ان الحق‬
‫لم يتعد مورده وان الذين انزله هو الحقيق بان‬
‫ينزل فان الله اعلم به منهم والجملة حالية ‪.‬‬
‫وقوله قالوا انما انت مفتر القول للمشركين‬
‫يخاطبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫ويتهمونه بانه يفترى على الله الكذب فان تبديل‬
‫قول مكان قول والثبات على رأي ثم العدول عنه‬
‫مما يتنزه عنه ساحة رب العزة ‪ .‬وقد بالغوا في‬
‫قولهم إذ لم يقولوا افتريت في هذا التبديل‬
‫والنسخ بل قالوا انما انت مفتر فقصروه صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم في الفتراء واتوا بالجملة‬
‫السمية وسموه مفتريا وقد بنوا ذلك على ان ما‬
‫جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سنخ‬
‫واحد وهو يسند الجميع إلى ربه ويقول انما انا‬
‫نذير فإذا كان مفتريا في واحد كان مفتريا في‬
‫الجميع فليس ال مفتريا ‪ / .‬صفحة ‪ / 346‬وقوله ‪:‬‬
‫" بل اكثرهم ل يعلمون " أي اكثر هؤلء المشركين‬
‫الذين يتهمونك بقولهم انما انت مفتر ل يعلمون‬
‫حقيقة هذا التبديل والحكمة المؤدية إليه على ما‬
‫سينكشف في الجواب ان الحكام اللهية تابعة‬
‫لمصالح العباد ومن المصالح ما يتغير بتغير الوضاع‬
‫والحوال والزمنة فمن الواجب ان يتغير الحكم‬
‫بتغير مصلحته فينسخ الحكم الذى ارتفعت مصلحته‬
‫الموجبة له بحكم آخر حدثت مصلحته ‪ .‬فاكثر هؤلء‬
‫غافلون عن هذا المر واما القل منهم فهم‬
‫واقفون على حقيقة المر ولو اجمال غير انهم‬
‫مستكبرون على الحق معاندون له وانما يلقون‬
‫القول القاء من غير رعاية جانب الحق ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬قل نزله روح القدس من ربك بالحق‬
‫ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين " قد‬
‫تقدمت في اول السورة اشارة إلى معنى الروح‬
‫والقدس الطهارة والنزاهة والظاهر ان الضافة‬
‫للختصاص أي روح طاهرة عن قذارات المادة‬
‫نزيهة عن الخطأ والغلط والضلل وهو المسمى‬
‫في موضع آخر من كلمه تعالى بالروح المين‬
‫وفي موضع آخر بجبريل من الملئكة قال تعالى ‪:‬‬
‫" نزل به الروح المين على قلبك " الشعراء ‪194 :‬‬
‫وقال ‪ " :‬من كان عدوا لجبريل فانه نزله على‬
‫قلبك " البقرة ‪. 97 :‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 346‬‬
‫فقوله قل نزله روح القدس من ربك امر بالجواب‬
‫والسبق إلى الذهن ان يكون الضمير راجعا إلى‬
‫القرآن من جهة كونه ناسخا أي الية الناسخة‬
‫ويمكن ان يكون راجعا إلى مطلق القرآن وفي‬
‫التعبير بالتنزيل دون النزال اشارة إلى التدريج ‪.‬‬
‫وكان من طبع الكلم ان يقال من ربى لكن عدل‬
‫عنه إلى قوله من ربك للدللة على كمال العناية‬
‫والرحمة في حقه صلى الله عليه وآله وسلم كأنه‬
‫ل يرضى بانقطاع خطابه فيغتنم الفرصة لتكليمه‬
‫اينما امكن وليدل على ان المراد بالقول المأمور‬
‫به اخبارهم بذلك ل مجرد التلفظ بهذه اللفاظ‬
‫فافهم ‪ .‬وقوله ‪ " :‬ليثبت الذين آمنوا " التثبيت‬
‫تحكيم الثبات وتأكيده بالقاء الثبات بعد الثبات‬
‫عليهم كأنهم بأصل ايمانهم بالله ورسوله واليوم‬
‫الخر ثبتوا على الحق وبتجدد الحكم حسب تجدد‬
‫المصلحة يؤتون ثباتا على ثبات من غير ان يضعف‬
‫ثباتهم الول بالمضي ‪ /‬صفحة ‪ / 347‬على اعمال‬
‫ل تطابق مصلحه الوقت فان من الواضح ان من‬
‫امر بسلوك سبيل لمصلحة غاية فاخذ بسلوكه عن‬
‫ايمان بالمر الهادى فقطع قطعة منه على حسب‬
‫ما يأمره به رعاية لمصلحة الغاية بسرعة أو بطء أو‬
‫في ليل أو نهار ثم تغير نحو المصلحة فلو لم يغير‬
‫المر الهادى نحو السلوك واستمر على امره‬
‫السابق لضعف ايمان السالك وانسلب اركانه لكن‬
‫لو امر بنحو جديد من السلوك يوافق المصلحة‬
‫ويضمن السعادة زاد ايمانه ثباتا على ثبات ‪ .‬ففى‬
‫تنزيل القرآن بالنسخ وتجديد الحكم حسب تجدد‬
‫المصلحة تثبيت للذين آمنوا واعطاء لهم ثباتا على‬
‫ثبات ‪ .‬وقوله وهدى وبشرى للمسلمين وهم الذين‬
‫يسلمون الحكم لله من غير اعتراض فالية‬
‫الناسخة بالنسبة إليهم اراءة طريق وبشارة‬
‫بالسعادة والجنة ‪ .‬وتفريق الثار بتخصيص التثبيت‬
‫بالمؤمنين والهدى والبشرى بالمسلمين انما هو‬
‫لما بين اليمان والسلم من الفرق فاليمان‬
‫للقلب ونصيبه التثبت في العلم والذعان والسلم‬
‫في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الهتداء‬
‫إلى واجب العمل والبشرى بأن الغاية هي الجنة‬
‫والسعادة ‪ .‬وقد مر بعض الكلم في النسخ في‬
‫تفسير قوله تعالى ‪ " :‬ما ننسخ من آية أو ننسها‬
‫نأت بخير منها أو مثلها " البقرة ‪ 106 :‬في الجزء‬
‫الول من الكتاب ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولقد نعلم انهم‬
‫يقولون انما يعلمه بشر " افتراء آخر منهم على‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قولهم انما‬
‫يعلمه بشر وهو كما يلوح إليه سياق اعتراضهم وما‬
‫ورد في الجواب عنه انه كان هناك رجل اعجمي‬
‫غير فصيح في منطقه عنده شئ من معارف‬
‫الديان واحاديث النبوة ربما لقاه النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم فاتهموه بانه ياخذ ما يدعيه وحيا‬
‫منه والرجل هو الذى يعلمه وهو الذى حكاه الله‬
‫تعالى من قولهم انما يعلمه بشر وفي القول‬
‫ايجاز وتقديره انما يعلمه بشر وينسب من تعلمه‬
‫منه إلى الله افتراء عليه وهو ظاهر ‪ .‬ومن‬
‫المعلوم ان الجواب عنه بمجرد ان لسان الرجل‬
‫اعجمي والقرآن عربي مبين ل يحسم مادة الشبهة‬
‫من اصلها لجواز ان يلقى إليه المطالب بلسانه‬
‫العجمي ثم يسبكها ‪ /‬صفحة ‪ / 348‬هو صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم ببلغة منطقه في قالب العربية‬
‫الفصيحة بل هذا هو السبق إلى الذهن من قولهم‬
‫انما يعلمه بشر حيث عبروا عن ذلك بالتعليم دون‬
‫التلقين والملء والتعليم اقرب إلى المعاني منه‬
‫إلى اللفاظ ‪ .‬وبذلك يظهر ان قوله لسان الذى‬
‫يلحدون إليه إلى قوله مبين ليس وحده جوابا عن‬
‫شبهتهم بل ما يتلوه من الكلم إلى تمام آيتين من‬
‫تمام الجواب ‪ .‬وملخص الجواب مأخوذ من جميع‬
‫اليات الثلث ان ما اتهمتموه به ان بشرا يعلمه ثم‬
‫هو ينسبه إلى الله افتراء ان اردتم انه يعلمه‬
‫القرآن بلفظه بالتلقين عليه وان القرآن كلمه ل‬
‫كلم الله فجوابه ان هذا الرجل لسانه اعجمي‬
‫وهذا القرآن عربي مبين ‪ .‬وان اردتم ان الرجل‬
‫يعلمه معاني القرآن واللفظ ل محالة للنبى صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم وهو ينسبه إلى الله افتراء‬
‫عليه فالجواب عنه ان الذى يتضمنه القرآن معارف‬
‫حقة ل يرتاب ذو لب فيها وتضطر العقول إلى‬
‫قبولها قد هدى الله النبي إليها فهو مؤمن بايات‬
‫الله إذ لو لم يكن مؤمنا لم يهده الله والله ل يهدى‬
‫من ل يؤمن باياته واذ كان مؤمنا بايات الله فهو ل‬
‫يفترى على الله الكذب فانه ل يفترى عليه ال من‬
‫ل يؤمن باياته فليس هذا القرآن بمفترى ول‬
‫مأخوذا من بشر ومنسوبا إلى الله سبحانه كذبا ‪.‬‬
‫فقوله ‪ " :‬لسان الذى يلحدون إليه اعجمي وهذا‬
‫لسان عربي مبين " جواب عن اول شقى الشبهة‬
‫وهو ان يكون القرآن بلفظه مأخوذا من بشر على‬
‫نحو التلقين والمعنى ان لسان الرجل الذى‬
‫يلحدون أي يميلون إليه وينوونه بقولهم انما يعلمه‬
‫بشر اعجمي أي غير فصيح بين وهذا القرآن المتلو‬
‫عليكم لسان عربي مبين وكيف يتصور صدور بيان‬
‫عربي بليغ من رجل اعجمي اللسان ؟ وقوله ان‬
‫الذين ل يؤمنون إلى آخر اليتين جواب عن ثانى‬
‫شقى الشبهة وهو ان يتعلم منه المعاني ثم‬
‫ينسبها إلى الله افتراء ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 348‬‬
‫والمعنى ان الذين ل يؤمنون بايات الله ويكفرون‬
‫بها ل يهديهم الله إليه وإلى معارفه الحقة‬
‫الظاهرة ولهم عذاب أليم والنبى صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم مؤمن بايات الله لنه مهدى بهداية الله‬
‫وانما يفترى الكذب وينسبه إلى الله الذين ل‬
‫يؤمنون بايات الله واولئك هم الكاذبون‬
‫المستمرون على الكذب واما مثل النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم المؤمن بايات الله فانه ل ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 349‬يفترى الكذب ول يكذب فاليتان كنايتان عن‬
‫ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهدى بهداية‬
‫الله مؤمن باياته ومثله ل يفترى ول يكذب ‪.‬‬
‫والمفسرون قطعوا اليتين عن الية الولى‬
‫وجعلوا الية الولى هي الجواب الكامل عن‬
‫الشبهة وقد عرفت انها ل تفى بتمام الجواب ‪ .‬ثم‬
‫حملوا قوله وهذا لسان عربي مبين على التحدي‬
‫باعجاز القرآن في بلغته وانت تعلم ان ل خبر في‬
‫لفظ الية عن ان القرآن معجز في بلغته ول اثر‬
‫عن التحدي ونهاية ما فيه انه عربي مبين ل وجه‬
‫لن يفصح عنه ويلفظه اعجمي ‪ .‬ثم حملوا اليتين‬
‫التاليتين على تهديد اولئك الكفرة بايات الله‬
‫الرامين لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫بالفتراء ووعيدهم بالعذاب الليم وقلب الفتراء‬
‫والكذب إليهم بانهم اولى بالفتراء والكذب بما‬
‫انهم ل يؤمنون بايات الله فان الله لم يهدهم ‪ .‬ثم‬
‫تكلموا بالبناء عليه في مفردات اليتين بما يزيد‬
‫في البتعاد عن حق المعنى ‪ .‬وقد عرفت ان ذلك‬
‫يؤدى إلى عدم كفاية الجواب في حسم الشكال‬
‫من اصله ‪ ) .‬بحث روائي ( في الدر المنثور اخرج‬
‫احمد عن عثمان بن ابى العاصى قال كنت عند‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص‬
‫بصره فقال ‪ -‬اتانى جبريل فأمرني ان اضع هذه‬
‫الية بهذا الموضع من السورة ‪ " :‬ان الله يأمر‬
‫بالعدل والحسان إلى قوله تذكرون " ‪ .‬اقول‬
‫ورواه ايضا عن ابن عباس عن عثمان بن مظعون‬
‫رضى الله عنه ‪ .‬وفي المجمع وجاءت الرواية ان‬
‫عثمان بن مظعون قال كنت اسلمت استحياء من‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‪ -‬لكثرة ما‬
‫كان يعرض على السلم ولم يقر السلم في‬
‫قلبى فكنت ذات يوم عنده حال تأمله ‪ -‬فشخص‬
‫بصره نحو السماء كأنه يستفهم شيئا ‪ -‬فلما سرى‬
‫عنه سألته عن حاله فقال ‪ :‬نعم بينا انا احدثك إذ‬
‫رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الية ‪ " :‬ان‬
‫الله يأمر بالعدل والحسان " فقرأها علي إلى‬
‫آخرها فقر السلم في قلبى ‪ .‬واتيت عمه ابا‬
‫طالب فاخبرته فقال ‪ :‬يا آل قريش اتبعوا محمدا‬
‫ترشدوا فانه ل ‪ /‬صفحة ‪ / 350‬يأمركم ال بمكارم‬
‫الخلق وأتيت الوليد بن المغيره وقرأت عليه هذه‬
‫الية فقال ‪ :‬ان كان محمد قاله فنعم ما قال وان‬
‫قاله ربه فنعم ما قال ‪ .‬قال فانزل الله ‪ " :‬أفرأيت‬
‫الذى تولى واعطى قليل واكدى " الحديث ‪ .‬وفيه‬
‫عن عكرمة قال ان النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫قرأ هذه الية على الوليد بن المغيرة فقال يا بن‬
‫اخى اعد فأعاد فقال ان له لحلوة وان له لطلوة‬
‫وان اعله لمثمر وان اسفله لمعذق وما هو قول‬
‫البشر ‪ .‬وفي تفسير القمى باسناده عن اسماعيل‬
‫بن مسلم عن الصادق عليه السلم في الية ليس‬
‫لله في عباده أمر ال العدل والحسان ‪ .‬وفي‬
‫تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن عمرو‬
‫بن عثمان قال خرج علي عليه السلم على اصحابه‬
‫وهم يتذاكرون المروءة فقال اين انتم من كتاب‬
‫الله ؟ قالوا يا امير المؤمنين في أي موضع ؟‬
‫فقال في قوله عز وجل ‪ " :‬ان الله يأمر بالعدل‬
‫والحسان " فالعدل النصاف والحسان التفضل ‪.‬‬
‫اقول ورواه العياشي عن عمرو بن عثمان العاصى‬
‫عنه عليه السلم ورواه في الدر المنثور عن ابن‬
‫النجار في تاريخه من طريق العكلى عن ابيه عنه‬
‫عليه السلم ولفظه مر على بن ابى طالب بقوم‬
‫يتحدثون فقال فيم انتم ؟ فقالوا نتذاكر المروءة‬
‫فقال أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ‬
‫يقول الله إن الله يامر بالعدل والحسان فالعدل‬
‫النصاف والحسان التفضل ‪ .‬اقول وقد ورد في‬
‫عدة روايات تفسير العدل بالتوحيد أو بالشهادتين‬
‫وتفسير الحسان بالولية وفي اخرى ارجاع تحريم‬
‫نقض العهد بوجوب الثبات على الولية ‪ .‬وفي‬
‫تفسير القمى في قوله تعالى من عمل صالحا من‬
‫ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الية‬
‫قال قال عليه السلم ‪ :‬القنوع وفي المعاني‬
‫باسناده عن ابن ابى عمير عن بعض اصحابه عن‬
‫ابى عبد الله عليه السلم قال ‪ :‬قيل له ان ابا‬
‫الخطاب يذكر عنك انك قلت ‪ -‬إذا عرفت الحق‬
‫فاعمل بما شئت فقال لعن الله ابا الخطاب والله‬
‫ما قلت هكذا ‪ -‬ولكني قلت له إذا عرفت الحق‬
‫فاعمل ما شئت من خير يقبل منك ‪ -‬ان الله عز‬
‫وجل يقول من عمل صالحا من ‪ /‬صفحة ‪ / 351‬ذكر‬
‫أو انثى ‪ -‬وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة‬
‫يرزقون فيها بغير حساب ويقول من عمل صالحا‬
‫من ذكر أو انثى ‪ -‬وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ‪.‬‬
‫اقول وهو ما قدمناه في معنى الية ‪ .‬وفي‬
‫الكافي باسناده عن ابى بصير عن ابى عبد الله‬
‫عليه السلم قال ‪ :‬قلت له فإذا قرأت القرآن‬
‫فاستعذ بالله ‪ -‬إلى قوله يتوكلون فقال يا محمد‬
‫يسلط والله من‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 351‬‬
‫المؤمن على بدنه ول يسلط على دينه قد سلط‬
‫على ايوب فشوه خلقه ولم يسلط على دينه وقد‬
‫يسلط من المؤمنين على ابدانهم ول يسلط على‬
‫دينهم ‪ .‬قلت له قوله عز وجل انما سلطانه على‬
‫الذين يتولونه والذين هم به مشركون قال الذين‬
‫هم بالله مشركون يسلط على ابدانهم وعلى‬
‫اديانهم ‪ .‬اقول ورواه العياشي عن ابى بصير عنه‬
‫عليه السلم وارجاع ضمير به إلى الله احد‬
‫المعنيين في الية ‪ .‬وفي الدر المنثور اخرج‬
‫الحاكم وصححه والبيهقي في شعب اليمان عن‬
‫ابن عباس " ‪ :‬في قوله انما يعلمه بشر قال قالوا‬
‫‪ -‬انما يعلم محمدا عبدة بن الحضرمي وهو صاحب‬
‫الكتب فقال الله لسان الذى يلحدون إليه اعجمي‬
‫وهذا لسان عربي مبين وفي تفسير العياشي عن‬
‫محمد بن عزامة الصيرفى عمن اخبره عن ابى عبد‬
‫الله عليه السلم قال ‪ :‬ان الله عز وجل خلق روح‬
‫القدس ‪ -‬فلم يخلق خلقا اقرب إلى الله منها‬
‫وليست بأكرم خلقه عليه فإذا اراد امرا القاه إليها‬
‫فألقاه إلى النجوم فجرت به قوله تعالى ) ‪( 1‬‬
‫ولقد نعلم انهم يقولون ‪ -‬انما يعلمه بشر لسان‬
‫الذى يلحدون إليه وهو لسان ابى فكيهة مولى بنى‬
‫الحضرمي ‪ -‬كان اعجمي اللسان ‪ -‬وكان قد اتبع‬
‫نبى الله وآمن به وكان من اهل الكتاب فقالت‬
‫قريش ‪ -‬هذا والله يعلم محمدا علمه بلسانه يقول‬
‫الله وهذا لسان عربي مبين ‪ ) * .‬هامش ( * ) ‪( 1‬‬
‫هذا الذيل مذكور في تفسير البرهان نقل عن‬
‫العياشي لكنه غير موجود في النسخة المطبوعة‬
‫اخيرا من التفسير ‪ / ( * ) .‬صفحة ‪ / 352‬اقول‬
‫والروايات في هذا الرجل مختلفة ففى هذه‬
‫الرواية انه أبو فكيهة مولى بنى الحضرمي وفي‬
‫الرواية السابقة انه عبدة بن الحضرمي وعن قتادة‬
‫انه عبدة بن الحضرمي وكان يسمى مقيص وعن‬
‫السدى انه كان عبدا لبنى الحضرمي نصرانيا كان‬
‫قد قرأ التوراة والنجيل يقال له أبو بشر وعن‬
‫مجاهد انه ابن الحضرمي كان اعجميا يتكلم‬
‫بالرومية وعن ابن عباس ايضا في رواية انه كان‬
‫قينا بمكة اسمه بلعام وكان عجمى اللسان فكان‬
‫المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا انما‬
‫يعلمه بلعام ‪ .‬والمتيقن من مضامينها انه كان رجل‬
‫روميا مولى لبنى الحضرمي يسكن مكة نصرانيا له‬
‫خبرة بكتب اهل الكتاب رموه بانه يعلم النبي صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم ‪ .‬وفي الدر المنثور اخرج ابن‬
‫جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن الضحاك في‬
‫الية قال ‪ :‬كانوا يقولون انما يعلمه سلمان‬
‫الفارسى فأنزل الله لسان الذى يلحدون إليه‬
‫اعجمي اقول وهو ل يلئم كون الية مكية ‪ .‬وفيه‬
‫اخرج ابن الخرائطي في مساوى الخلق وابن‬
‫عساكر في تاريخه عن عبد الله ابن جراد انه سأل‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يزنى المؤمن‬
‫؟ قال ‪ -‬قد يكون ذلك قال هل يسرق المؤمن ؟‬
‫قال قد يكون ذلك قال هل يكذب المؤمن ؟ قال ل‬
‫ثم اتبعها نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم انما‬
‫يفترى الكذب الذين ل يؤمنون وفي تفسير‬
‫العياشي عن العباس بن الهلل عن ابى الحسن‬
‫الرضا عليه السلم ‪ :‬انه ذكر رجل كذابا ثم قال‬
‫قال الله انما يفترى الكذب الذين ل يؤمنون * * *‬
‫من كفر بالله من بعد ايمانه إل من اكره وقلبه‬
‫مطمئن باليمان ولكن من شرح بالكفر صدرا‬
‫فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ‪106 -‬‬
‫ذلك بانهم استحبوا الحياة الدنيا على ‪ /‬صفحة ‪353‬‬
‫‪ /‬الخرة وان الله ل يهدى القوم الكافرين ‪107 -‬‬
‫اولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم‬
‫وابصارهم واولئك هم الغافلون ‪ 108 -‬ل جرم‬
‫انهم في الخرة هم الخاسرون ‪ 109 -‬ثم ان ربك‬
‫للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا‬
‫ان ربك من بعدها لغفور رحيم ‪ 110 -‬يوم تأتى كل‬
‫نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت‬
‫وهم ل يظلمون ‪ ) 111 -‬بيان ( في اليات وعيد‬
‫على الكفر بعد اليمان وهو الرتداد ووعد جميل‬
‫للمهاجرين من بعد ما فتنوا المجاهدين الصابرين‬
‫في الله وفيها تعرض لحكم التقية ‪ .‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫" من كفر بالله من بعد ايمانه إل من اكره "‬
‫الطمئنان السكون والستقرار والشرح البسط‬
‫قال في المفردات اصل الشرح بسط اللحم ونحوه‬
‫يقال شرحت اللحم وشرحته ومنه شرح الصدر أي‬
‫بسطه بنور الهى وسكينة من جهة الله وروح منه‬
‫قال تعالى ‪ " :‬رب اشرح لى صدري ألم نشرح لك‬
‫صدرك " أفمن شرح الله صدره وشرح المشكل‬
‫من الكلم بسطه واظهار ما يخفى من معانيه‬
‫انتهى ‪ .‬وقوله من كفر بالله من بعد ايمانه شرط‬
‫جوابه قوله فعليهم غضب من الله وعطف عليه‬
‫قوله ولهم عذاب عظيم وضمير الجمع في الجزاء‬
‫عائد إلى اسم الشرط من لكونه بحسب المعنى‬
‫كليا ذا افراد ‪ .‬وقوله إل من اكره وقلبه مطمئن‬
‫باليمان استثناء من عموم الشرط والمراد ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 354‬بالكراه الجبار على كلمة الكفر‬
‫والتظاهر به فان القلب ل يقبل الكراه والمراد‬
‫استثنى من اكره على الكفر بعد اليمان فكفر في‬
‫الظاهر وقلبه مطمئن باليمان وقوله ولكن من‬
‫شرح بالكفر صدرا أي بسط صدره للكفر فقبله‬
‫قبول‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 354‬‬
‫رضى ووعاه والجملة استدراك من الستثناء فيعود‬
‫إلى معنى المستثنى منه فان المعنى ما اريد‬
‫بقولى من كفر بالله من بعد ايمانه من اكره وقلبه‬
‫مطمئن باليمان ولكن اريد به من شرح بالكفر‬
‫صدرا وفي مجموع الستثناء والستدراك بيان‬
‫كامل للشرط وهذه هي النكتة لعتراض الستثناء‬
‫بين الشرط والجزاء وعدم تأخيره إلى ان تتم‬
‫الشرطية ‪ .‬وقيل قوله من كفر بدل من الذين ل‬
‫يؤمنون بآيات الله في الية السابقة وقوله واولئك‬
‫هم الكاذبون جملة معترضة وقوله ال من اكره‬
‫استثناء من ذلك وقوله ولكن من شرح مبتدأ خبره‬
‫أو القائم مقام خبره قوله فعليهم غضب من الله ‪.‬‬
‫والمعنى على هذا انما يفترى الكذب الذين كفروا‬
‫من بعد ايمانهم إل من اكره وقلبه مطمئن‬
‫باليمان وعند ذلك تم الكلم ثم بدأ فقال ولكن‬
‫من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ‪.‬‬
‫والذوق السليم يكفى مؤنة هذا الوجه على ما به‬
‫من السخافة ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ذلك بأنهم استحبوا‬
‫الحياة الدنيا على الخرة وان الله ل يهدى القوم‬
‫الكافرين " بيان لسبب حلول غضب الله بهم‬
‫وثبوت العذاب العظيم عليهم وهو انهم اختاروا‬
‫الحياة الدنيا وهى الحياة المادية التى ل غاية لها‬
‫ال التمتع الحيوانى والشتغال بمشتهيات النفس‬
‫على الخرة التى هي حياة دائمة مؤبدة في جوار‬
‫رب العالمين وهى غاية الحياة النسانية ‪ .‬وبعبارة‬
‫اخرى هؤلء لم يريدوا ال الدنيا وانقطعوا عن‬
‫الخرة وكفروا بها والله ل يهدى القوم الكافرين‬
‫واذ لم يهدهم الله ضلوا عن طريق السعادة والجنة‬
‫والرضوان فوقعوا في غضب من الله وعذاب‬
‫عظيم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬اولئك الذين طبع الله على‬
‫قلوبهم وسمعهم وابصارهم واولئك ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 355‬هم الغافلون اشارة إلى ان اختيار الحياة‬
‫الدنيا على الخرة والحرمان من هداية الله سبحانه‬
‫هو الوصف الذى يوصف به الذين طبع الله على‬
‫قلوبهم وسمعهم وابصارهم والذين يسمون‬
‫غافلين ‪ .‬فانهم باختيارهم الحياة الدنيا غاية‬
‫لنفسهم وحرمانهم من الهتداء إلى الخرى‬
‫انقطعوا عن الخرة وتعلقوا بالدنيا وجعلوها غاية‬
‫لنفسهم فوقف حسهم وعقلهم فيها دون ان‬
‫يتعدياها إلى ما وراءها وهو الخرة فليسوا‬
‫يبصرون ما يعتبرون به ول يسمعون عظة يتعظون‬
‫بها ول يعقلون حجة يهتدون بها إلى الخرة ‪ .‬فهم‬
‫مطبوع على قلوبهم وسمعهم وابصارهم فل تنال‬
‫قلوبهم ول سمعهم وابصارهم ما يدلهم على‬
‫الخرة وهم غافلون عنها ل يتنبهون لشئ من‬
‫امرها ‪ .‬فظهر ان ما في الية السابقة من الوصف‬
‫بمنزلة المعرف لما في هذه الية من الطبع ومن‬
‫الغفلة فعدم هداية الله اياهم اثر ما تعلقوا بالدنيا‬
‫هو معنى الطبع والغفلة والطبع صنع الهى‬
‫منسوب إليه تعالى فعله بهم مجازاة والغفلة صفة‬
‫منسوبة إليهم انفسهم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ل جرم‬
‫انهم في الخرة هم الخاسرون لنهم ضيعوا رأس‬
‫مالهم في الدنيا فبقوا ل زاد لهم يعيشون به في‬
‫اخراهم وقد وقع في نظير المقام من سورة‬
‫هود ‪ " :‬ل جرم انهم في الخرة هم الخسرون "‬
‫هود ‪ 22 :‬ولعل وجه التشديد هناك انه تعالى‬
‫اضاف إلى صفاتهم هناك انهم صدوا عن سبيل‬
‫الله فراجع ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ثم ان ربك للذين‬
‫هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان‬
‫ربك من بعدها لغفور رحيم " الفتنة في الصل‬
‫ادخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في‬
‫مطلق البلء والتعذيب وقد كانت قريش ومشركو‬
‫مكة يفتنون المؤمنين ليردوهم عن دينهم‬
‫ويعذبونهم بانواع العذاب حتى ربما كانوا يموتون‬
‫تحت العذاب كما فتنوا عمارا وأباه وامه فقتل‬
‫ابواه وارتد عمار ظاهرا فتفصى منهم بالتقية‬
‫وفي ذلك نزلت اليات السابقة كما سيأتي ان شاء‬
‫الله في البحث الروائي ‪ .‬ومن هنا يظهر ان للية‬
‫اتصال بما قبلها من قوله ال من اكره وقلبه‬
‫مطمئن باليمان وهى في معنى قولنا وبعد ذلك‬
‫كله ان الله غفور رحيم للذين هاجروا من بعد ما‬
‫فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ‪ / .‬صفحة ‪ / 356‬فقوله‬
‫ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا وعد‬
‫جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا بالمغفرة‬
‫والرحمة يوم القيامة قبال ما اوعد غيرهم‬
‫بالخسران التام يومئذ وقد قيد ذلك بالجهاد‬
‫والصبر بعد المهاجرة وقوله ان ربك من بعدها‬
‫لغفور رحيم بمنزلة تلخيص صدر الكلم لطوله‬
‫ليلحق به ذيله ويفيد فائدة التأكيد كقولنا زيد في‬
‫الدار زيد في الدار كذا وكذا ويفيد ان لما ذكر من‬
‫قيود الكلم دخل في الحكم فالله سبحانه ل يرضى‬
‫عنهم ال أن يهاجروا ول عن هجرتهم ال ان‬
‫يجاهدوا بعدها ويصبروا ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬يوم تأتى‬
‫كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما‬
‫عملت وهم ل يظلمون " اتيان النفس يوم القيامة‬
‫كناية عن حضورها عند الملك الديان كما قال‬
‫فانهم لمحضرون " الصافات ‪ 127 -‬والضمير في‬
‫قوله عن نفسها للنفس ول ضير في اضافة‬
‫النفس إلى ضمير النفس فان النفس ربما يراد‬
‫بها الشخص النساني كقوله " من قتل نفسا بغير‬
‫نفس " المائدة ‪ 22 :‬وربما يراد بها التأكيد ويتحدد‬
‫معناها بما‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 356‬‬
‫تقدمها من المؤكد سواء كان انسانا أو غيره كما‬
‫يقال النسان نفسه والفرس نفسه والحجر نفسه‬
‫والسواد نفسه ويقال نفس النسان ونفس‬
‫الفرس ونفس الحجر ونفس السواد وقوله عن‬
‫نفسها المراد فيه بالمضاف المعنى الثاني‬
‫وبالمضاف إليه المعنى الول وقد دفع التعبير‬
‫بالضمير بشاعة تكرار اللفظ بالضافة وفي هذا‬
‫المقدار كفاية عن البحاث الطويلة التى اوردها‬
‫المفسرون ‪ .‬وقوله يوم تأتى كل نفس تجادل عن‬
‫نفسها الظرف متعلق بقوله في الية السابقة‬
‫لغفور رحيم ومجادلة النفس عن نفسها دفاعها‬
‫عن نفسها وقد نسيت كل شئ وراء نفسها على‬
‫خلف ما كانت عليه في الدنيا من التعلق بكل شئ‬
‫دون نفسها بنسيانها وليس ذلك ال لظهور حقيقة‬
‫المر عليها وهى ان النسان ل سبيل له إلى ما‬
‫وراء نفسه وليس له في الحقيقة ال ان يشتغل‬
‫بنفسه ‪ .‬فاليوم تأتى النفس وتحضر للحساب‬
‫وهى تجادل وتصر على الدفاع عن نفسها بما‬
‫تقدر عليه من العذار ‪ .‬وقوله وتوفى كل نفس ما‬
‫عملت وهم ل يظلمون التوفية اعطاء الحق تاما ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 357‬من غير تنقيص وقد علق التوفية‬
‫على نفس العمل إذ قيل ما عملت فأفيد ان الذى‬
‫اعطيته نفس العمل من غير ان يتصرف فيه‬
‫بتغيير أو تعويض وفيه كمال العدل حيث لم يضف‬
‫إلى ما استحقته شئ ول نقص منه ولذلك عقبه‬
‫بقوله وهم ل يظلمون ففى الية اشارة اول إلى‬
‫ان نفسا ل تدافع يوم القيامة ول تجادل عن غيرها‬
‫بل انما تشتغل بنفسها ل فراغ لها لغيرها كما‬
‫قال ‪ " :‬يوم ل يغنى مولى عن مولى شيئا "‬
‫الدخان ‪ 41 -‬وقال ‪ " :‬يوم ل ينفع مال ول بنون "‬
‫الشعراء ‪ 88 -‬وقال ‪ " :‬يوم ل بيع فيه ول خلة ول‬
‫شفاعة " البقرة ‪ . 254 :‬وثانيا إلى ان الجدال ل‬
‫ينفعها في صرف ما استحقتها من الجزاء شيئا‬
‫فان الذى تجزاه هو عين ما عملت ول سبيل إلى‬
‫تغيير هذه النسبة وليس من الظلم في شئ ‪.‬‬
‫) بحث روائي ( في الدر المنثور اخرج ابن المنذر‬
‫وابن ابى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال‬
‫" ‪ :‬لما اراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫ان يهاجر إلى المدينة قال لصحابه ‪ -‬تفرقوا عنى‬
‫فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ‪ -‬ومن‬
‫لم تكن به قوة فليذهب في اول الليل ‪ -‬فإذا‬
‫سمعتم بى قد استقرت بى الرض فالحقوا بى ‪.‬‬
‫فأصبح بلل المؤذن وخباب وعمار ‪ -‬وجاريه من‬
‫قريش كانت اسلمت فاصبحوا بمكة فاخذهم‬
‫المشركون وابو جهل فعرضوا على بلل ‪ -‬ان يكفر‬
‫فأبى فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس ‪-‬‬
‫ثم يلبسونها اياه فإذا البسوها اياه قال أحد أحد‬
‫واما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك ‪ -‬واما عمار‬
‫فقال لهم كلمه اعجبتهم تقية ‪ -‬واما الجارية فوتد‬
‫لها أبو جهل اربعة اوتاد ثم مدها فادخل الحربة‬
‫في قلبها حتى قتلها ثم خلوا عن بلل وخباب‬
‫وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ‪ -‬فاخبروه بالذى ) كان ( من امرهم واشتد‬
‫على عمار الذى كان تكلم به فقال له رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم ‪ -‬كيف كان قلبك حين‬
‫قلت الذى قلت ؟ أكان منشرحا بالذى قلت ام ل ؟‬
‫قال ل قال ‪ -‬وانزل الله ال من اكره وقلبه‬
‫مطمئن باليمان ‪ / .‬صفحة ‪ / 358‬اقول والجارية‬
‫المذكورة في الرواية هي سمية ام عمار وكان‬
‫معهم ياسر أبو عمار وقيل وكان أبو عمار اول‬
‫شهيدين في السلم وقد استفاضت الروايات‬
‫على قتلهما بالفتنة واظهار عمار الكفر تقية‬
‫ونزول الية فيه ‪ .‬وفيه اخرج عبد الرزاق وابن‬
‫سعد وابن جرير وابن ابى حاتم وابن مردويه‬
‫والحاكم وصححه والبيهقي في الدلئل من طريق‬
‫ابى عبيدة بن محمد بن عمار عن ابيه قال " ‪ :‬اخذ‬
‫المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم بخير‬
‫ثم تركوه ‪ .‬فلما اتى رسول الله صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم قال ما وراءك شئ ؟ قال شر ما تركت‬
‫حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ‪ -‬قال كيف تجد‬
‫قلبك ؟ قال مطمئن باليمان قال ان عادوا فعد‬
‫فنزلت ال من اكره وقلبه مطمئن باليمان وفي‬
‫المجمع عن ابن عباس وقتاده " ‪ :‬ان الية نزلت‬
‫في جماعة اكرهوا ‪ -‬وهم عمار وياسر ابوه وامه‬
‫سمية وصهيب وبلل وخباب عذبوا وقتل أبو عمار‬
‫وامه وأعطاهم عمار بلسانه ‪ -‬ما ارادوا منه ثم‬
‫اخبر سبحانه رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم فقال قوم كفر عمار فقال صلى الله عليه‬
‫وآله وسلم كل ان عمارا ملئ ايمانا من قرنه إلى‬
‫قدمه ‪ -‬واختلط اليمان بلحمه ودمه ‪ .‬وجاء عمار‬
‫إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو‬
‫يبكى ‪ -‬فقال صلى الله عليه وآله وسلم ما‬
‫وراءك ؟ فقال شر يا رسول الله ‪ -‬ما تركت حتى‬
‫نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول الله‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه ويقول ان‬
‫عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الية وفي الدر‬
‫المنثور اخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال‬
‫كان عمار بن ياسر يعذب حتى ل يدرى ما يقول ‪-‬‬
‫وكان صهيب يعذب حتى ل يدرى ما يقول ‪ -‬وكان‬
‫أبو فكيهة يعذب حتى ل يدرى ما يقول ‪ -‬وبلل‬
‫وعامر وابن فهيرة وقوم من المسلمين ‪ -‬وفيهم‬
‫نزلت‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 358‬‬
‫هذه الية " ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما‬
‫فتنوا " ‪ .‬اقول وسمى منهم في بعض الروايات‬
‫عباس بن ابى ربيعة وفي بعضها الخر هو والوليد‬
‫بن ابى ربيعة والوليد بن الوليد بن المغيرة وابو‬
‫جندل بن سهيل بن عمرو واجمع رواية في ذلك ما‬
‫عن ابن عباس ان هذه الية نزلت فيمن كان يفتن‬
‫من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ‪ -‬ثم‬
‫ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 359‬وفي الكافي باسناده عن ابى عمرو‬
‫الزبيري عن ابى عبد الله عليه السلم في حديث‬
‫قال ‪ :‬فاما ما فرض على القلب من اليمان ‪-‬‬
‫القرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن ل‬
‫اله ال الله وحده ل شريك له الها واحدا ‪ -‬لم يتخذ‬
‫صاحبة ول ولدا ‪ -‬وان محمدا عبده ورسوله ‪-‬‬
‫والقرار بما جاء به من عند الله من نبى أو كتاب ‪-‬‬
‫فذلك ما فرض الله على القلب من القرار‬
‫والمعرفة ‪ -‬وهو عمله وهو قول الله عز وجل " ال‬
‫من اكره وقلبه مطمئن باليمان ‪ -‬ولكن من شرح‬
‫بالكفر صدرا " وفيه باسنادة عن مسعدة بن صدقة‬
‫قال ‪ :‬قيل لبي عبد الله عليه السلم ان الناس‬
‫يروون إن عليا عليه السلم قال على منبر الكوفة‬
‫‪ -‬يا ايها الناس انكم ستدعون إلى سبى فسبوني‬
‫ثم تدعون إلى البراءة منى فل تبرؤوا منى ‪ -‬قال‬
‫ما اكثر ما يكذبون الناس على علي عليه السلم‬
‫ثم قال انما قال انكم ستدعون إلى سبى فسبوني‬
‫‪ -‬ثم تدعون إلى البراءة وانى لعلى دين محمد ‪-‬‬
‫ولم يقل ول تبرؤوا منى ‪ .‬فقال له السائل أرايت‬
‫ان اختار القتل دون البراءة ؟ قال والله ما ذاك‬
‫عليه وما له ‪ -‬ال ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث‬
‫اكرهه اهل مكة ‪ -‬وقلبه مطمئن باليمان فقال له‬
‫النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندها يا عمار ان‬
‫عادوا فعد فقد انزل الله عذرك ال من اكره وقلبه‬
‫مطمئن باليمان وأمرك ان تعود إن عادوا اقول‬
‫وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن معمر‬
‫بن يحيى بن سالم عن ابى جعفر عليه السلم‬
‫وقوله عليه السلم وامرك ان تعود ان عادوا‬
‫يستفاد ذلك من الية حيث لم يرد الستثناء فيها‬
‫من الشخص بل وردت على العنوان وهو اكراه من‬
‫اطمأن قلبه باليمان واما كونه امرا منه تعالى كما‬
‫امر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلعل‬
‫الوجه ان صريح الستثناء هو الجواز ومع جواز ذلك‬
‫ل مساغ للباء الذى هو عرض النفس للقتل‬
‫والقاؤها في التهلكة فيجامع هذا الجواز الوجوب‬
‫دون الباحة ‪ .‬وفي تفسير العياشي عن عمرو بن‬
‫مروان قال سمعت ابا عبد الله عليه السلم قال‬
‫قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‪ :‬رفع‬
‫عن امتى اربعة خصال ‪ -‬ما اخطأوا وما نسوا وما‬
‫اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وذلك في كتاب الله "‬
‫ال من اكره وقلبه مطمئن باليمان " * * * ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 360‬وضرب الله مثل قرية كانت آمنة‬
‫مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت‬
‫بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما‬
‫كانوا يصنعون ‪ 112 -‬ولقد جاءهم رسول منهم‬
‫فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ‪ 113 -‬فكلوا‬
‫مما رزقكم الله حلل طيبا واشكروا نعمة الله ان‬
‫كنتم اياه تعبدون ‪ 114 -‬انما حرم عليكم الميتة‬
‫والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به فمن‬
‫اضطر غير باغ ول عاد فان الله غفور رحيم ‪115 -‬‬
‫ول تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلل‬
‫وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ان الذين‬
‫يفترون على الله الكذب ل يفلحون ‪ 116 -‬متاع‬
‫قليل ولهم عذاب أليم ‪ 117 -‬وعلى الذين هادوا‬
‫حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم‬
‫ولكن كانوا انفسهم يظلمون ‪ 118 -‬ثم ان ربك‬
‫للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك‬
‫واصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ‪ 119 -‬إن‬
‫ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من‬
‫المشركين ‪ 120 -‬شاكرا لنعمه اجتباه وهداه إلى‬
‫صراط مستقيم ‪ 121 -‬وآتيناه في الدنيا حسنة‬
‫وانه في الخرة لمن الصالحين ‪ 122 -‬ثم اوحينا‬
‫اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من‬
‫المشركين ‪ / 123 -‬صفحة ‪ / 361‬انما جعل السبت‬
‫على الذين اختلفوا فيه وان ربك ليحكم بينهم يوم‬
‫القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ‪ 124 -‬ادع إلى‬
‫سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم‬
‫بالتى هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن‬
‫سبيله وهو اعلم بالمهتدين ‪ 125 -‬وإن عاقبتم‬
‫فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير‬
‫للصابرين ‪ 126 -‬واصبر وما صبرك ال بالله ول‬
‫تحزن عليهم ول تك في ضيق مما يمكرون ‪127 -‬‬
‫ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪128 -‬‬
‫) بيان ( تتمة آيات الحكام السابقة تذكر فيها‬
‫محرمات الكل ومحللته ونهى عن التحليل‬
‫والتحريم ابتداعا بغير اذن الله وذكر بعض ما شرع‬
‫لليهود من الحكام التى نسخت بعد وفي ذلك‬
‫عطف على ما تقدم من حديث النسخ في قوله‬
‫وإذا بدلنا آية مكان آية واشارة إلى ان ما انزل‬
‫على النبي صلى الله عليه وآله وسلم انما هو دين‬
‫ابراهيم عليه السلم المبنى على العتدال‬
‫والتوحيد مرفوعا عنه ما في دين اليهود من‬
‫التشديد عليهم قبال ظلمهم ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 361‬‬
‫وفي آخرها امر بالعدل في المعاقبة وندب إلى‬
‫الصبر والحتساب ووعد جميل بالنصرة والكفاية‬
‫ان اتقوا واحسنوا ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ضرب الله مثل‬
‫قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا " إلى‬
‫آخر الية الرغد من العيش هو الواسع الطيب ‪ .‬هذا‬
‫مثل ضربه الله تعالى فوصف فيه قرية آتاها ما‬
‫تحتاج إليه من نعم الحياة وأتم ذلك كله بنبى بعثه‬
‫إليهم يدعوهم إلى ما فيه صلح دنياهم واخراهم‬
‫فكفروا بأنعمه وكذبوا رسوله فبدل الله نعمته‬
‫نقمة وعذبهم بما ظلموا بتكذيب رسوله وفي‬
‫المثل ‪ /‬صفحة ‪ / 362‬تحذير عن كفران نعمة الله‬
‫بعد إذ بذلت والكفر باياته بعد إذ انزل وفيه توطئة‬
‫وتمهيد لما سيذكره من محللت الكل ومحرماته‬
‫وينهى عن تشريع الحلل والحرام بغير اذن الله‬
‫كل ذلك بالستفادة من سياق اليات فان كل‬
‫سابقة منها تسوق النظر إلى اللحقة ‪ .‬وقيل ان‬
‫هذه القرية هي مكة عذبهم الله بالجوع سبع سنين‬
‫لما كفروا بأنعم الله وقد وسعها عليهم وكذبوا‬
‫رسوله وقد ارسله إليهم فابتلوا بالقحط وكان‬
‫يغار عليهم قوافلهم بسخط من الله سبحانه لما‬
‫دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره‬
‫في المجمع ونسبه إلى ابن عباس ومجاهد‬
‫وقتادة ‪ .‬وفيه ان ل اشكال في انه في نفسه‬
‫يقبل النطباق على ما ذكر لكن سياق اليات انما‬
‫يلئم كونه مثل عاما مذكورا توطئة وتمهيدا لما‬
‫بيناه ‪ .‬فقوله ضرب الله مثل قرية كانت آمنة‬
‫مطمئنة يأتيها رزقها رغدا وصف القرية بثلثة‬
‫اوصاف متعاقبة غير ان الوسط منها وهى‬
‫الطمئنان كالرابط بين الطرفين فان القرية إذا‬
‫أمنت المخاطرات كمهاجمة الشرار وشن الغارات‬
‫وقتل النفوس وسبى الذرارى ونهب الموال وكذا‬
‫أمنت الحوادث الطبيعية كالزلزل وغيرها اطمأنت‬
‫وسكنت فلم يضطر اهلها إلى الجلء والتفرق ‪.‬‬
‫ومن كمال اطمئنانها ان يأتيها رزقها رغدا من كل‬
‫مكان ول يلجأ اهلها إلى الغتراب وقطع الفيافي‬
‫وركوب البحار وتحمل المشاق البالغة في طلب‬
‫الرزق وجلبه إليها ‪ .‬فاتصاف القرية بصفاتها‬
‫الثلث المذكورة المن والطمئنان واتيان رزقها‬
‫إليها من كل مكان يتم ويكمل لها جميع النعم‬
‫المادية الصورية وسيضيف سبحانه إليها النعم‬
‫المعنوية في الية التالية ولقد جاءهم رسول منهم‬
‫فهى قرية أتم اللة نعمة عليها واكملها ‪ .‬وقوله‬
‫فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع‬
‫والخوف التعبير بأنعم الله وهو جمع قلة للشارة‬
‫بها إلى الصناف المذكورة وهى ثلثة المن‬
‫والطمئنان واتيان الرزق والذاقة استعارة‬
‫لليصال اليسير فاذاقة الجوع والخوف مشعر بأن‬
‫الذى يوصلهما قادر على تضعيف ذلك وتكثيره بما‬
‫ل يقدر بقدر كيف ل ؟ وهو الله الذى له القدرة‬
‫كلها ‪ / .‬صفحة ‪ / 363‬ثم اضافة اللباس إلى الجوع‬
‫والخوف وفيها دللة على الشمول والحاطة كما‬
‫يشمل اللباس البدن ويحيط به تشعر بأن هذا‬
‫المقدار اليسير من الجوع والخوف الذى اذاقهم‬
‫شملهم كما يشمل اللباس بدن النسان وهو‬
‫سبحانه قادر على ان يزيد على ذلك فهو المتناهى‬
‫في قهره وغلبته وهم المتناهون في ذلتهم‬
‫وهوانهم ‪ .‬ثم ختم الية بقوله بما كانوا يصنعون‬
‫للدللة على ان سنة المجازاة في الشكر والكفر‬
‫قائمة على ساق ‪ .‬والمعنى ضرب الله مثل مثل‬
‫قرية كان اهلها آمنين من كل شر وسوء يهددهم‬
‫في نفوسهم واعراضهم واموالهم ساكنين غير‬
‫مضطرين يأتيهم رزقهم طيبا واسعا من كل مكان‬
‫من غير أن يضطروا إلى السفر والغتراب فكفر‬
‫اهلها بهذه النعم اللهية ولم يشكروه سبحانه‬
‫فأنالهم الله شيئا يسيرا من نقمته بسلب هذه‬
‫النعم وهو الجوع والخوف اللذان عماهم وشملهم‬
‫قبال ما استمروا عليه بكفران النعم جزاء‬
‫لكفرانهم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ولقد جاءهم رسول‬
‫منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون "‬
‫وهذا هو النعمة المعنوية التى اضافها إلى نعمه‬
‫المادية المذكورة وكان فيها صلح معاشهم‬
‫ومعادهم وتحذير لهم من الكفران بأنعم الله‬
‫وشرح ما فيه من الشؤم والشقاء لكنهم كذبوا‬
‫رسولهم الذى هو منهم يعرفونه ويدرون انه انما‬
‫يدعوهم لمر الهى ويهديهم إلى سبيل الرشاد‬
‫وسعادة الجد فظلموا ذلك فأخذهم العذاب‬
‫بظلمهم ‪ .‬وبهذا التقرير يظهر ما في القيود‬
‫المأخوذة في الية من النكات ‪ .‬قوله تعالى ‪" :‬‬
‫فكلوا مما رزقكم الله حلل طيبا " إلى آخر الية‬
‫تفريع على ما تحصل من المثل نتيجة والتقدير إذا‬
‫كان الحال هذا الحال وكان في كفران هذا الرزق‬
‫الرغد عذاب وفي تكذيب الدعوة عذاب فكلوا مما‬
‫رزقكم الله حال كونه حلل طيبا أي لستم‬
‫بممنوعين منه وانتم تستطيبونه فكلوا منه‬
‫واشكروا نعمة الله ان كنتم إياه تعبدون ‪ .‬وقد‬
‫ظهر بذلك اول ان الية مسوقة لتحليل طيبات‬
‫الرزق مطلقا فل سبيل إلى ما ذكره بعضهم إن‬
‫المراد فكلوا مما رزقكم الله من الغنائم رزقا حلل‬
‫طيبا بناء على ان الية ‪ /‬صفحة ‪ / 364‬نزلت بعد‬
‫وقعة بدر والمثل السابق مثل مضروب لهل مكة‬
‫والمراد بالرسول الذى كذبوه هو النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم وبالعذاب الذى اخذهم هو القتل‬
‫الذريع لصناديدهم يوم بدر ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 364‬‬
‫وهذا كله مما ل دليل عليه من طريق لفظ اليات‬
‫على انه قد تأيد سابقا انها مكية ‪ .‬وثانيا ان المراد‬
‫بالحل والطيب كون الرزق بحيث لم يحرم منه‬
‫النسان طبعا وطبعه يستطيبه أي الحل والطيب‬
‫بحسب الطبع وذلك ملك الحلية الشرعية التى‬
‫تتبع الحلية بحسب الفطرة فان الدين فطرى لن‬
‫الله سبحانه فطر النسان مجهزا بجهاز التغذية‬
‫وجعل اشياء ارضية من الحيوان والنبات ملئمة‬
‫لقوامه يميل إليها طبعه من غير نفرة فله ان‬
‫يأكل منها وهو الحل ‪ .‬وثالثا ان قوله فكلوا‬
‫امرمقدمى بالنسبة إلى قوله واشكروا نعمة الله‬
‫وذكر النعمة تلويح إلى سبب الحكم فان كون‬
‫الشئ نعمة هو السبب في وجوب الشكر عليه ‪.‬‬
‫ورابعا ان قوله ان كنتم اياه تعبدون خطاب‬
‫للمؤمنين فانهم هم الذين يعبدون الله ول يعبدون‬
‫غيره والقصر في الجملة الذى يدل عليه تقديم‬
‫المفعول على الفعل قصر القلب وغيرهم وهم‬
‫المشركون انما يعبدون الصنام واللهة من دون‬
‫الله ‪ .‬وجعل الخطاب للمشركين ودعوى ان المراد‬
‫بالعبادة في قوله ان كنتم إياه تعبدون الطاعة أو‬
‫ان المعنى ان صح زعمكم انكم تقصدون بعبادتكم‬
‫للهتكم عبادته تعالى ل يرجع إلى طائل فان جعل‬
‫العبادة بمعنى الطاعة يحتاج إلى قرينة ول قرينة‬
‫والمشركون ل يعبدون الله سبحانه ولو باشراكه‬
‫في العبادة ول يقصدون بعبادة آلهتهم عبادته‬
‫تعالى بل ينزهونه تعالى عن عبادتهم لكونه اجل‬
‫من ان يناله ادراك أو ينتهى إليه توجه ‪ .‬وكون‬
‫الخطاب في الية للمؤمنين يوجب كون المثل‬
‫مضروبا لجلهم ورجوع سائر الخطابات التشريعية‬
‫فيما قبل الية وما بعدها متوجهة إليهم وربما قيل‬
‫ان الخطاب لعامة الناس أعم من المؤمن والكافر‬
‫وتطبيقه على اليات ل يخلو من تكلف وان كان‬
‫دون تخصيص الخطاب بالمشركين اشكال ‪/ .‬‬
‫صفحة ‪ / 365‬قوله تعالى ‪ " :‬انما حرم عليكم‬
‫الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به‬
‫فمن اضطر غير باغ ول عاد فان الله غفور رحيم "‬
‫تقدم الكلم في معنى الية في تفسير سورة‬
‫البقرة الية ‪ 173‬وسورة المائدة الية ‪ 3‬وسورة‬
‫النعام الية ‪ . 145‬والية بمعناها على اختلف ما‬
‫في لفظها واقعة في اربعة مواضع من القرآن‬
‫في سورتي النعام والنحل وهما مكيتان من اوائل‬
‫ما نزلت بمكة وأواخرها وفي سورتي البقرة‬
‫والمائدة وهما من اوائل ما نزلت بالمدينة‬
‫واواخرها وهى تدل على حصر محرمات الكل في‬
‫الربع المذكورة الميتة والدم ولحم الخنزير وما‬
‫اهل لغير الله به كما نبه عليه بعضهم ‪ .‬لكن‬
‫بالرجوع إلى السنة يظهر ان هذه هي المحرمات‬
‫الصلية التى عنى بها في الكتاب وما سوى هذه‬
‫الربع من المحرمات مما حرمه النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم بأمر من ربه وقد قال تعالى ‪" :‬‬
‫ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا "‬
‫الحشر ‪ 7 :‬وقد تقدم بعض الروايات الدالة على‬
‫هذا المعنى ‪ .‬قوله تعالى ول تقولوا لما تصف‬
‫السنتكم الكذب هذا حلل وهذا حرام لتفتروا على‬
‫الله الكذب الخ ما في قوله لما تصف مصدرية‬
‫والكذب مفعول تصف أي ل تقولوا هذا حلل وهذا‬
‫حرام بسبب وصف السنتكم لغاية افتراء الكذب‬
‫على الله ‪ .‬وكون الخطاب في اليات للمؤمنين‬
‫على ما يؤيده سياقها كما مر أو لعامة الناس يؤيد‬
‫ان يكون المراد بقوله ول تقولوا لما تصف‬
‫السنتكم الكذب هذا حلل وهذا حرام النهى عن‬
‫البتداع بادخال حلل أو حرام في الحكام الجارية‬
‫في المجتمع المعمولة بينهم من دون ان ينزل به‬
‫الوحى فان ذلك من ادخال ما ليس من الدين في‬
‫الدين وافتراء على الله وان لم ينسبه واضعه إليه‬
‫تعالى وذلك ان الدين في عرف القرآن هو سنة‬
‫الحياة وقد تكرر منه سبحانه قوله يصدون عن‬
‫سبيل الله ويبغونها عوجا أو ما يقرب منه فالدين‬
‫لله ومن زاد فيه شيئا فقد نسبه إليه تعالى افتراء‬
‫عليه وان سكت عن السناد أو نفي ذلك بلسانه ‪.‬‬
‫وذكر الجمهور ان المراد بالية النهى عما كان‬
‫المشركون يحلونه كالميتة والدم وما ‪ /‬صفحة ‪366‬‬
‫‪ /‬أهل لغير الله به أو يحرمونه كالبحيرة والسائبة‬
‫وغيرهما والسياق كما مر ل يؤيده ‪ .‬ثم قال‬
‫سبحانه في مقام تعليل النهى ان الذين يفترون‬
‫على الله الكذب ل يفلحون ثم بين حرمانهم من‬
‫الفلح بقوله متاع قليل ولهم عذاب اليم ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا‬
‫عليك من قبل " الخ المراد بقوله ما قصصنا عليك‬
‫من قبل كما قيل ما قصه تعالى على نبيه صلى‬
‫الله عليه وآله وسلم في سورة النعام وقد نزلت‬
‫قبل سورة النحل بل اشكال بقوله ‪ " :‬وعلى الذين‬
‫هادوا حرمنا كل ذى ظفر " إلى آخر الية النعام ‪:‬‬
‫‪ . 146‬والية في مقام دفع الدخل وفيها عطف‬
‫على مسألة النسخ المذكورة سابقا كأن قائل‬
‫يقول فإذا كانت محرمات الكل منحصرة في‬
‫الربع المذكورة الميتة والدم ولحم الخنزير وما‬
‫اهل لغير الله به وكان ما وراءها حلل فما هذه‬
‫الشياء المحرمة على بنى اسرائيل من قبل ؟ هل‬
‫هذا إل ظلم بهم ؟ فأجاب عنه بأنا حرمنا عليهم‬
‫ذلك وما ظلمناهم في تحريمه ولكنهم كانوا‬
‫يظلمون‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 366‬‬
‫انفسهم فنحرم عليهم بعض الشياء أي انه كان‬
‫محلل لهم مأذونا فيه لكنهم ظلموا انفسهم‬
‫وعصوا ربهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة كما قال‬
‫سبحانه في موضع آخر فبظلم من الذين هادوا‬
‫حرمنا عليهم طيبات احلت لهم الية ولو انهم بعد‬
‫ذلك كله رجعوا إلى ربهم وتابوا عن معاصيهم تاب‬
‫الله عليهم ورفع الحظر عنهم وأذن لهم فيما‬
‫منعهم عنه انه لغفور رحيم ‪ .‬فقد ظهر إن الية‬
‫متصلة بما قبلها من حديث التحليل والتحريم وانها‬
‫كالجواب عن سؤال مقدر وان ما بعدها من قوله‬
‫ثم ان ربك للذين عملوا السوء الية متصل بها‬
‫متمم لمضمونها ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ثم ان ربك للذين‬
‫عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا‬
‫إن ربك من بعدها لغفور رحيم الجهالة والجهل‬
‫واحد وهو في الصل ما يقابل العلم لكن الجهالة‬
‫كثيرا ما تستعمل بمعنى عدم النكشاف التام‬
‫للواقع وان لم يخل المحل عن علم ما مصحح‬
‫للتكليف كحال من يقترف المحرمات وهو يعلم‬
‫بحرمتها لكن الهواء النفسانية تغلبه وتحمله على‬
‫المعصية ول تدعه يتفكر في حقيقة هذه‬
‫المخالفة ‪ /‬صفحة ‪ / 367‬والمعصية فله علم بما‬
‫ارتكب ولذلك يؤاخذ ويعاقب على ما فعل وهو مع‬
‫ذلك جاهل بحقيقة المر ولو تبصر تمام التبصر لم‬
‫يرتكب والمراد بالجهالة في الية هذا المعنى إذ لو‬
‫كان المراد هو الول وكان ما ذكر من عمل السوء‬
‫مجهول من حيث حكمه أو من حيث موضوعه لم‬
‫يكن العمل معصية حتى يحتاج إلى التوبة‬
‫فالمغفرة والرحمة ‪ .‬والية كما تقدمت الشارة‬
‫إليه متصلة بما قبلها متممة لمضمونها ومعنى‬
‫اليتين انا لم نظلم بنى اسرائيل في تحريم‬
‫الطيبات التي حرمناها لهم بل هم الذين ظلموا‬
‫انفسهم حيث ارتكبوا المعاصي واصروا عليها‬
‫فأدى ذلك إلى تحريم الطيبات عليهم وبعد ذلك‬
‫كله باب المغفرة والرحمة مفتوح وان ربك للذين‬
‫عملوا السوء أي عملوا عمل سوء وهو السيئة‬
‫بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا حتى يتبين‬
‫التوبة وتستقر إن ربك من بعدها أي من بعد التوبة‬
‫لغفور رحيم ‪ .‬وفي تقييد التوبة أول بالصلح ثم‬
‫ارجاع الضمير اخيرا إليها وحدها في قوله إن ربك‬
‫من بعدها لغفور دللة على إن شمول المغفرة‬
‫والرحمة من تبعات التوبة واما الصلح فانما هو‬
‫لتبيين التوبة وظهور كونها توبة حقيقية ورجوعا‬
‫جديا ل مجرد صورة خالية عن المعنى ‪ .‬وقوله في‬
‫ذيل الية ان ربك من بعدها تلخيص لتفصيل قوله‬
‫في صدرها إن ربك للذين الخ وفائدته حفظ فهم‬
‫السامع عن التشوش والضلل وابراز العناية‬
‫ببعدية المغفرة والرحمة بالنسبة إلى التوبة نظير‬
‫ما مر من قوله ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد‬
‫ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها‬
‫لغفور رحيم ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬إن ابراهيم كان امة‬
‫قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين " الية وما‬
‫يتلوها على اتصالها بما تقدم من حصر محرمات‬
‫الكل في الربع وتحليل ما وراءها وهذه الية إلى‬
‫تمام اربع آيات بمنزلة التفصيل لما تقدمها كأنه‬
‫قيل هذا حال ملة موسى التي حرمنا فيها على‬
‫بنى اسرائيل بعض ما احل لهم من الطيبات واما‬
‫هذه الملة التي انزلناها اليك فانما هي الملة التي‬
‫تحقق بها ابراهيم فاجتباه الله وهداه إلى صراط‬
‫مستقيم واصلح بها دنياه وآخرته وهي ملة معتدلة‬
‫جارية على الفطرة تحلل الطيبات ‪ /‬صفحة ‪/ 368‬‬
‫وتحرم الخبائث يجلب العمل بها من الخير ما جلبه‬
‫لبراهيم عليه السلم منه ‪ .‬فقوله إن ابراهيم كان‬
‫امة قال في المفردات وقوله ان ابراهيم كان امة‬
‫قانتا لله أي قائما مقام جماعة في عبادة الله نحو‬
‫قولهم فلن في نفسه قبيلة انتهى وهو قريب‬
‫مما نقل عن ابن عباس وقيل معناه المام‬
‫المقتدى به وقيل انه كان أمة منحصرة في واحد‬
‫مدة من الزمان لم يكن على الرض موحد يوحد‬
‫الله غيره ‪ .‬وقوله قانتا لله حنيفا ولم يك من‬
‫المشركين القنوت الطاعة والعبادة أو دوامها‬
‫والحنف الميل من الطرفين إلى حاق الوسط وهو‬
‫العتدال ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬شاكرا لنعمه اجتباه‬
‫وهداه إلى صراط مستقيم " الجتباء من الجباية‬
‫وهو الجمع واجتباء الله النسان هو اخلصه لنفسه‬
‫وجمعه من التفرق في المذاهب المختلفة وفي‬
‫تعقيب قوله شاكرا لنعمه بقوله اجتباه الخ‬
‫مفصول اشعار بالعلية وذلك يؤيد ما تقدم في‬
‫سورة العراف في تفسير قوله ‪ " :‬ول تجد‬
‫اكثرهم شاكرين " العراف ‪ 17 :‬إن حقيقة الشكر‬
‫هو الخلص في العبودية ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وآتيناه‬
‫في الدنيا حسنة وانه في الخرة لمن الصالحين "‬
‫الحسنة هي المعيشة الحسنة فقد كان عليه‬
‫السلم ذا مال كثير ومروة عظيمة ‪ .‬وقد بسطنا‬
‫الكلم في معنى الجتباء في تفسير سورة يوسف‬
‫عند الية ‪ 6‬وفي معنى الهداية والصراط‬
‫المستقيم في تفسير الفاتحة عند قوله " اهدنا‬
‫الصراط المستقيم " الية ‪ 6 :‬وفي معنى قوله ‪" :‬‬
‫وانه في الخرة لمن الصالحين " البقرة ‪130 :‬‬
‫فراجع ‪ .‬وفي توصيفه تعالى ابراهيم عليه السلم‬
‫بما وصفه من الصفات اشارة إلى انها من مواهب‬
‫هذا الدين الحنيف فان انتحل به النسان ساقه‬
‫إلى ما ساق إليه ابراهيم عليه السلم ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 368‬‬
‫قوله تعالى ‪ " :‬ثم اوحينا اليك أن اتبع ملة ابراهيم‬
‫حنيفا وما كان من المشركين " تكرار اتصافه‬
‫بالحنف ونفي الشرك لمزيد العناية به ‪ .‬قوله‬
‫تعالى ‪ " :‬انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه‬
‫" إلى آخر الية قال في المفردات اصل السبت‬
‫القطع ومنه سبت السير قطعه وسبت شعره‬
‫حلقه وأنفه اصطلمه وقيل سمى يوم السبت لن‬
‫الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والرض يوم ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 369‬الحد فخلقها في ستة ايام كما ذكره‬
‫فقطع عمله يوم السبت فسمى بذلك ‪ .‬وسبت‬
‫فلن صار في السبت وقوله يوم سبتهم شرعا‬
‫قيل يوم قطعهم للعمل ويوم ل يسبتون قيل‬
‫معناه ل يقطعون العمل وقيل يوم ل يكونون في‬
‫السبت وكلهما اشارة إلى حالة واحدة وقوله انما‬
‫جعل السبت أي ترك العمل فيه وجعلنا نومكم‬
‫سباتا أي قطعا للعمل وذلك اشارة إلى ما قال في‬
‫صفة الليل لتسكنوا فيه انتهى ‪ .‬فالمراد بالسبت‬
‫على ما ذكره نفس اليوم لكن معنى جعله جعل‬
‫ترك العمل فيه وتشريعه ويمكن ان يكون المراد‬
‫به المعنى المصدرى دون اليوم المجعول فيه ذلك‬
‫كما هو ظاهر قوله ‪ " :‬تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم‬
‫شرعا ويوم ل يسبتون ل تأتيهم " العراف ‪. 163 :‬‬
‫وكيف كان فقد كان من طبع الكلم ان يقال انما‬
‫جعل السبت للذين حتى يفيد نوعا من الختصاص‬
‫والملك وان الله شرع لهم في كل اسبوع ان‬
‫يقطعوا العمل يوما يفرغون فيه لعبادة ربهم وهو‬
‫يوم السبت كما جعل للمسلمين في كل اسبوع‬
‫يوما يجتمعون فيه للعبادة والصلة وهو يوم‬
‫الجمعة ‪ .‬فقوله انما جعل السبت على الذين‬
‫اختلفوا فيه بتعدية جعل بعلى دون اللم من قبيل‬
‫قولهم لى عليك دين وهذا عليك ل لك فتفيد معنى‬
‫التكليف والتشديد والبتلء أي انما جعل للتشديد‬
‫عليهم وابتلئهم وامتحانهم فقد كان هذا الجعل‬
‫عليهم ل لهم كما انجر امرهم فيه إلى لعن طائفة‬
‫منهم ومسخ آخرين وقد اشير إلى ذلك في سورة‬
‫البقرة الية ‪ 65‬وسورة النساء الية ‪ . 47‬والنسب‬
‫على هذا ان يكون المراد بقوله اختلفوا فيه أي‬
‫في السبت اختلفهم فيه بعد التشريع فانهم‬
‫تفرقوا فيه فرقا ممن قبله وممن رده وممن‬
‫احتال للعمل فيه على ما اشير إلى قصصهم في‬
‫سور البقرة والنساء والعراف ل اختلفهم فيه‬
‫قبل التشريع بأن يعرض عليهم أن يسبتوا في كل‬
‫اسبوع يوما للعبادة ثم يجعل ذلك اليوم هو الجمعة‬
‫فيختلفوا فيه فيجعل عليهم يوم السبت كما وقع‬
‫في بعض الروايات ‪ / .‬صفحة ‪ / 370‬والمعنى انما‬
‫جعل يوم السبت أو قطع العمل للعبادة يوما في‬
‫كل اسبوع تشديدا وابتلء وفتنة وكلفة على اليهود‬
‫الذين اختلفوا فيه بعد تشريعه بين من قبله ومن‬
‫رده ومن احتال فيه للعمل مع التظاهر بقبوله وان‬
‫ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه‬
‫يختلفون ‪ .‬وبالبناء على هذا يكون وزان الية وزان‬
‫قوله السابق وعلى الذين هادوا حرمنا الخ في انها‬
‫في معنى الجواب عن سؤال مقدر عطفا على ما‬
‫مر من حديث النسخ والتقدير واما جعل السبت‬
‫لليهود فانما جعل ل لهم بل عليهم ليبتليهم الله‬
‫ويفتنهم به ويشدد عليهم كما قد تكرر نظائره‬
‫فيهم لكونهم عاتين معتدين مستكبرين وبالجملة‬
‫الية ناظرة إلى العتراض بتشريع بعض الحكام‬
‫غير الفطرية على اليهود ونسخه في هذه الشريعة‬
‫‪ .‬وانما لم يضم إلى قوله سابقا وعلى الذين هادوا‬
‫حرمنا الخ لكون مسألة السبت مغايرة لسنخ مسألة‬
‫تحليل الطيبات واستثناء محرمات الكل وقد‬
‫عرفت ان الكلم على اتصاله من قوله وعلى‬
‫الذين هادوا إلى قوله وما كان من المشركين سبع‬
‫آيات تامة ثم اتصلت بها هذه الية وهي ثامنتها‬
‫الملحقة بها ‪ .‬ومن هنا يظهر الجواب عما اعترض‬
‫به ان توسيط جعل السبت بين حكاية امر النبي‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ملة ابراهيم عليه‬
‫السلم وبين امره صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫بالدعوة إليها وبعبارة اخرى وقوع قوله انما جعل‬
‫السبت الخ بين قوله ثم اوحينا اليك الخ وقوله ادع‬
‫إلى سبيل ربك الخ كالفصل بين الشجر ولحائه ‪.‬‬
‫ومحصل الجواب ان قوله ثم اوحينا اليك ان اتبع‬
‫ملة ابراهيم الية من تمام السياق السابق وقوله‬
‫انما جعل السبت الية متصل بما تقدمه كما عرفت‬
‫واما قوله ادع إلى سبيل ربك الية فهو استئناف‬
‫وامر بالدعوة إلى سبيل الله بفنون الخطاب ل‬
‫إلى ملة ابراهيم حتى يتصل بالية السابقة نوع‬
‫اتصال وان كان سبيل الله هو ملة ابراهيم بعينها‬
‫لكن للفظ حكم وللمعنى بحسب المآل حكم آخر‬
‫فافهم ‪ .‬وللقوم في تفسير الختلف اختلف‬
‫عميق فمنهم من قال ان المراد انما جعل السبت‬
‫على الذين اختلفوا على نبيهم فيه حيث امرهم‬
‫بتعظيم الجمعة فعدلوا عنه واخذوا ‪ /‬صفحة ‪/ 371‬‬
‫السبت فجعله الله عليهم تشديدا فالختلف‬
‫اختلف سابق على الجعل ل لحق به وربما جعل‬
‫في للتعليل فان الختلف على هذا لم يقع في‬
‫السبت بل من اجل السبت ‪ .‬وربما قيل الختلف‬
‫بمعنى المخالفة فانهم خالفوا نبيهم في السبت‬
‫ولم يختلفوا فيه ‪ .‬وربما قيل انهم امروا باتخاذ‬
‫الجمعة من غير تعيين ووكل ذلك إلى اجتهادهم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 371‬‬
‫فاختلفت احبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله إليه‬
‫ووقعوا في السبت ‪ .‬وربما قيل ان المراد انهم‬
‫اختلفوا فيما بينهم في شأن السبت فطائفة‬
‫منهم فضلته على الجمعة وطائفة منهم عكست‬
‫المر وفضلت الجمعة عليه إلى غير ذلك مما قيل‬
‫والصل في ذلك ما ورد في بعض الروايات من‬
‫القصة ‪ .‬وانت خبير بأن شيئا من القوال ل ينطبق‬
‫على لفظ الية ذاك النطباق فالمصير إلى ما‬
‫قدمناه ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬ادع إلى سبيل ربك‬
‫بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي‬
‫احسن " إلى آخر الية ل شك في انه يستفاد من‬
‫الية إن هذه الثلثة الحكمة والموعظة والمجادلة‬
‫من طرق التكليم والمفاوضة فقد امر بالدعوة‬
‫بأحد هذه المور فهى من انحاء الدعوة وطرقها‬
‫وإن كان الجدال ل يعد دعوة بمعناها الخص ‪ .‬وقد‬
‫فسرت الحكمة كما في المفردات باصالة الحق‬
‫بالعلم والعقل والموعظة كما عن الخليل بانه‬
‫التذكير بالخير فيما يرق له القلب والجدال كما‬
‫في المفردات بالمفاوضة على سبيل المنازعة‬
‫والمغالبة ‪ .‬والتأمل في هذه المعاني يعطى ان‬
‫المراد بالحكمة والله اعلم الحجة التي تنتج الحق‬
‫الذى ل مرية فيه ول وهن ول ابهام والموعظة هو‬
‫البيان الذى تلين به النفس ويرق له القلب لما فيه‬
‫من صلح حال السامع من الغبر والعبر وجميل‬
‫الثناء ومحمود الثر ونحو ذلك ‪ .‬والجدال هو الحجة‬
‫التي تستعمل لفتل الخصم عما يصر عليه وينازع‬
‫فيه من غير أن يريد به ظهور الحق بالمؤاخذة‬
‫عليه من طريق ما يتسلمه هو والناس أو يتسلمه‬
‫هو وحده في قوله أو حجته ‪ / .‬صفحة ‪/ 372‬‬
‫فينطبق ما ذكره تعالى من الحكمة والموعظة‬
‫والجدال بالترتيب على ما اصطلحوا عليه في فن‬
‫الميزان بالبرهان والخطابة والجدل غير انه‬
‫سبحانه قيد الموعظة بالحسنة والجدال بالتى هي‬
‫احسن ففيه دللة على إن من الموعظة ما ليست‬
‫بحسنة ومن الجدال ما هو احسن وما ليس بأحسن‬
‫ول حسن والله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة‬
‫الحسنة ومن الجدال بأحسنه ‪ .‬ولعل ما في ذيل‬
‫الية من التعليل بقوله ان ربك هو اعلم بمن ضل‬
‫عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين يوضح وجه التقييد‬
‫فمعناه انه سبحانه اعلم بحال اهل الضلل في‬
‫دينه الحق وهو اعلم بحال المهتدين فيه فهو يعلم‬
‫ان الذى ينفع في هذا السبيل هو الحكمة‬
‫والموعظة الحسنة والجدال الحسن ل غير ‪.‬‬
‫والعتبار الصحيح يؤيد ذلك فان سبيله تعالى هو‬
‫العتقاد الحق والعمل الحق ومن المعلوم ان‬
‫الدعوة إليه بالموعظة مثل ممن ل يتعظ بما يعظ‬
‫به دعوة عمل إلى خلف ما يدعو إليه القول‬
‫والدعوة إليه بالمجادلة مثل بالمسلمات الكاذبة‬
‫التي يتسلمها الخصم لظهار الحق احياء لحق‬
‫باحياء باطل وان شئت فقل احياء حق باماتة حق‬
‫إل أن يكون الجدال على سبيل المناقضة ‪ .‬ومن‬
‫هنا يظهر ان حسن الموعظة انما هو من حيث‬
‫حسن اثره في الحق الذى يراد به بأن يكون‬
‫الواعظ نفسه متعظا بما يعظ ويستعمل فيها من‬
‫الخلق الحسن ما يزيد في وقوعها من قلب‬
‫السامع موقع القبول فيرق له القلب ويقشعر به‬
‫الجلد ويعيه السمع ويخشع له البصر ‪ .‬ويتحرز‬
‫المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد‬
‫والعناد وسوقه إلى المكابرة واللجاج واستعمال‬
‫المقدمات الكاذبة وان تسلمها الخصم إل في‬
‫المناقضة ويحترز سوء التعبير والزراء بالخصم‬
‫وبما يقدسه من العتقاد والسب والشتم وأي‬
‫جهالة اخرى فان في ذلك احياء للحق باحياء‬
‫الباطل أي اماتة الحق كما عرفت ‪ .‬والجدال احوج‬
‫إلى كمال الحسن من الموعظة ولذلك اجاز‬
‫سبحانه من الموعظة حسنتها ولم يجز من‬
‫المجادلة إل التي هي احسن ‪ / .‬صفحة ‪ / 373‬ثم‬
‫إن في قوله بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم‬
‫بالتى هي احسن اخذا بالترتيب من حيث الفراد‬
‫فالحكمة مأذون فيها بجميع افرادها والموعظة‬
‫منقسمة إلى حسنة وغير حسنة والمأذون فيها‬
‫منهما هي الموعظة الحسنة والمجادلة منقسمة‬
‫إلى حسنة وغير حسنة ثم الحسنة إلى التي هي‬
‫احسن وغيرها والمأذون فيها منها التي هي‬
‫احسن والية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب‬
‫المدعوين بالدعوة فالملك في استعمالها من‬
‫حيث المورد حسن الثر وحصول المطلوب وهو‬
‫ظهور الحق ‪ .‬فمن الجائز ان يستعمل في مورد‬
‫جميع الطرق الثلث وفي آخر طريقان أو طريق‬
‫واحد حسب ما تستدعيه الحال ويناسب المقام ‪.‬‬
‫ومنه يظهر ان قول بعضهم ان ظاهر الية ان‬
‫يجمع صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته بين‬
‫الطرق الثلث ليس في محله إذ ل دليل على لزوم‬
‫الجمع بينها بالنسبة إلى كل مدعو واما بالنسبة‬
‫إلى جميع المدعوين فهو حاصل ‪ .‬وكذا ما ذكره‬
‫بعضهم ان الطرق الثلث المذكورة في الية‬
‫مترتبة حسب ترتب افهام الناس في استعدادها‬
‫لقبول الحق فمن الناس الخواص وهم اصحاب‬
‫النفوس المشرقة القوية الستعداد لدراك‬
‫الحقائق العقلية وشديدة النجذاب إلى المبادئ‬
‫العالية وكثيرة اللفة بالعلم واليقين فهؤلء‬
‫يدعون بالحكمة وهي البرهان ‪ .‬ومنهم عوام وهم‬
‫اصحاب نفوس كدرة واستعداد ضعيف مع شدة‬
‫ألفتهم‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 373‬‬
‫بالمحسوسات وقوة تعلقهم بالرسوم والعادات‬
‫قاصرة عن تلقى البراهين من غير أن يكونوا‬
‫معاندين للحق وهؤلء يدعون بالموعظة الحسنة ‪.‬‬
‫ومنهم اصحاب العناد واللجاج الذين يجادلون‬
‫بالباطل ليدحضوا به الحق ويكابرون ليطفؤا نور‬
‫الله بأفواههم رسخت في نفوسهم الراء الباطلة‬
‫وغلب عليهم تقليد اسلفهم في مذاهبهم‬
‫الخرافية ل ينفعهم المواعظ والعبر ول يهديهم‬
‫سائق البراهين وهؤلء هم الذين امر بمجادلتهم‬
‫بالتى هي احسن ‪ .‬وفيه انه ل يخلو من دقة لكن ل‬
‫ينتج اختصاص كل طريق بما يناسبه من مرتبة‬
‫الفهم فربما انتفع الخواص بالموعظة والمجادلة‬
‫وربما انتفعت العوام وهم الفاء العادات والرسوم‬
‫بالمجادلة بالتى هي احسن ول دللة في لفظ الية‬
‫على ما ذكر من التخصيص ‪ / .‬صفحة ‪ / 374‬وكذا‬
‫ما ذكره بعضهم إن المجادلة بالتى هي احسن‬
‫ليست من الدعوة في شئ بل الغرض منها شئ‬
‫آخر مغاير لها وهو اللزام والفحام قال ولذلك لم‬
‫يعطف الجدال في الية على ما تقدمه بل غير‬
‫السياق وقيل وجادلهم بالتى هي احسن ‪ .‬وفيه‬
‫غفلة عن حقيقة القياس الجدلي فالفحام وان‬
‫كان غاية للقياس الجدلي لكنه ليس غاية دائمية‬
‫فكثيرا ما يتألف قياس من مقدمات مقبولة أو‬
‫مسلمة وخاصة في المور العملية والعلوم غير‬
‫اليقينية كالفقه والصول والخلق و الفنون‬
‫الدبية ول يراد به اللزام والفحام ‪ .‬على ان في‬
‫اللزام والفحام دعوة كما ان في الموعظة دعوة‬
‫وان اختلفت صورتها باختلف الطرق نعم تغيير‬
‫السياق لما في الجدال من معنى المنازعة‬
‫والمغالبة ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬وان عاقبتم فعاقبوا‬
‫بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‬
‫" قال في المفردات العقوبة والعقاب والمعاقبة‬
‫تختص بالعذاب انتهى ‪ .‬والصل في معناه العقب‬
‫وهو مؤخر الرجل وعقيب الشئ وعاقبة المر ما‬
‫يليه من ورائه أو آخره والتعقيب التيان بشئ‬
‫عقيب شئ ومعاقبتك غيرك أن تأتى بما يسوؤه‬
‫عقيب اتيانه بما يسوؤك فينطبق على المجازاة‬
‫والمكافأة بالعذاب ‪ .‬فقوله وان عاقبتم فعاقبوا‬
‫بمثل ما عوقبتم به الخطاب فيه للمسلمين على‬
‫ما يفيده السياق ولزمه ان يكون المراد بالمعاقبة‬
‫مجازاة المشركين والكفار وبقوله عوقبتم به‬
‫عقاب الكفار اياهم ومجازاتهم لهم بما آمنوا بالله‬
‫ورفضوا آلهتهم ‪ .‬والمعنى وان اردتم مجازاة‬
‫الكفار وعذابهم فجازوهم على ما فعلوا بكم بمثل‬
‫ما عذبوكم به مجازاة لكم على ايمانكم وجهادكم‬
‫في الله ‪ .‬وقوله ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‬
‫أي صبرتم على مر ما عوقبتم به ولم تعاقبوا ولم‬
‫تكافؤا لهو خير لكم بما انكم صابرون لما فيه من‬
‫ايثار رضى الله وثوابه فيما اصابكم من المحنة‬
‫والمصيبة على رضى انفسكم بالتشفى بالنتقام‬
‫فيكون العمل خالصا لوجهه الكريم ولما في‬
‫الصفح والعفو من اعمال الفتوة ولها آثارها‬
‫الجميلة ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬واصبر وما صبرك إل بالله‬
‫" إلى آخر الية أمر للنبى صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم بالصبر وبشرى له إن الله قواه على الصبر‬
‫على مر ما يلقاه في سبيله فانه تعالى يذكر إن ‪/‬‬
‫صفحة ‪ / 375‬صبره انما هو بحول وقوة من ربه ثم‬
‫يأمره بالصبر ولزم المر قدرة المأمور على‬
‫المأمور به ففي قوله وما صبرك إل بالله اشارة‬
‫إلى إن الله قواك على ما أمرك به ‪ .‬وقوله ‪ " :‬ول‬
‫تحزن عليهم " أي على الكافرين لكفرهم وقد‬
‫تقدم تفسير هذا المعنى سابقا في السورة‬
‫وغيرها ‪ .‬وقوله ول تك في ضيق مما يمكرون‬
‫الظاهر ان المراد النهى عن التحرج من مكرهم‬
‫في الحال أو على سبيل الستمرار دون مجرد‬
‫الستقبال ‪ .‬قوله تعالى ‪ " :‬إن الله مع الذين اتقوا‬
‫والذين هم محسنون " أي ان التقوى والحسان‬
‫كل منهما سبب مستقل في موهبة النصرة اللهية‬
‫وابطال مكر اعداء الدين ودفع كيدهم فالية تعليل‬
‫لقوله ولتك في ضيق مما يمكرون ووعد بالنصر ‪.‬‬
‫وهذه اليات الثلث اشبه مضمونا باليات المدنية‬
‫منها بالمكية وقد وردت روايات من طرق‬
‫الفريقين انها نزلت في منصرف النبي صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم عن أحد وسياتى في البحث‬
‫الروائي وان كان من الممكن توجيه اتصالها بما‬
‫قبلها بوجه كما تصدى له بعضهم ‪ .‬ومما يجب ان‬
‫يتنبه له ان الية التي قبل الثلثة اجمع لغرض‬
‫السورة من هذه الثلث وان ليات السورة مع‬
‫الغماض عن قوله والذين هاجروا الية وقوله "‬
‫من كفر بعد ايمانه " إلى تمام بضع آيات وقوله‬
‫وان عاقبتم إلى آخر السورة سياقا واحدا متصل ‪.‬‬
‫) بحث روائي ( في تفسير القمى في قوله تعالى‬
‫‪ " :‬وضرب الله مثل " الية قال قال عليه السلم‬
‫نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له الثرثار وكانت‬
‫بلدهم خصبة كثيرة الخير ‪ -‬وكانوا يستنجون‬
‫بالعجين ويقولون هو ألين لنا فكفروا بأنعم الله‬
‫واستخفوا فحبس الله عنهم الثرثار ‪ -‬فجدبوا حتى‬
‫احوجهم الله إلى أكل ما يستنجون به حتى كانوا‬
‫يتقاسمون عليه اقول ورواه في الكافي عنه‬
‫باسناده عن عمرو بن شمر عن ابى عبد الله عليه‬
‫السلم مفصل والعياشي عن حفص وزيد الشحام‬
‫عنه ‪ /‬صفحة ‪/ 376‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫‪ -‬تفسير الميزان ‪ -‬السيد الطباطبائي ج ‪ 21‬ص‬
‫‪: 376‬‬
‫وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن انس بن‬
‫مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ‪ :‬ما من عبد يشهد له امة إل قبل الله‬
‫شهادتهم والمة الرجل فما فوقه ان الله يقول ان‬
‫ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من‬
‫المشركين ‪ .‬اقول وقد تقدم في تفسير آيات‬
‫الشهادة ما له تعلق بالحديث ‪ .‬وفي تفسير‬
‫العياشي عن سماعة بن مهران قال سمعت ابا‬
‫عبد الله عليه السلم يقول ‪ :‬لقد كانت الدنيا وما‬
‫كان فيها إل واحد يعبد الله ولو كان معه غيره‬
‫لضافه إليه حيث يقول ان ابراهيم كان امة قانتا‬
‫لله حنيفا ولم يك من المشركين فصبر بذلك ما‬
‫شاء الله ثم ان الله تبارك وتعالى آنسه باسماعيل‬
‫واسحاق فصاروا ثلثة اقول ورواه في الكافي‬
‫باسناده عن سماعة عن عبد صالح وفي الدر‬
‫المنثور اخرج الشافعي في الم والبخاري ومسلم‬
‫عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله‬
‫عليه وآله وسلم نحن الخرون السابقون يوم‬
‫القيامة بيد إنهم اوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه‬
‫من بعدهم ثم هذا يومهم الذى فرض عليهم يوم‬
‫الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا‬
‫فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد اقول وروى‬
‫مثله عن احمد ومسلم عن ابى هريرة وحذيفة عنه‬
‫صلى الله عليه وآله وسلم ‪ :‬ولم ترد الرواية في‬
‫تفسير الية ‪ .‬وفيه اخرج ابن مردويه عن ابى ليلى‬
‫الشعري إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫قال ‪ :‬تمسكوا بطاعة ائمتكم ول تخالفوهم فان‬
‫طاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله فان‬
‫الله انما بعثنى ‪ -‬ادعو إلى سبيله بالحكمة‬
‫والموعظة الحسنة ‪ -‬فمن خالفني في ذلك فهو‬
‫من الهالكين ‪ -‬وقد برئت منه ذمة الله وذمة‬
‫رسوله ومن ولى من امركم شيئا فعمل بغير ذلك‬
‫فعليه لعنة الله والملئكة والناس اجمعين وفي‬
‫تفسير القمى في قوله تعالى ‪ " :‬وجادلهم بالتى‬
‫هي احسن " قال قال عليه السلم بالقرآن وفي‬
‫الكافي عنه باسناده عن ابى عمر والزبيرى عن‬
‫ابى عبد الله عليه السلم في قوله تعالى ‪ " :‬ادع‬
‫إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة‬
‫وجادلهم بالتى هي احسن " قال بالقرآن ‪ /‬صفحة‬
‫‪ / 377‬اقول ظاهره انه تفسير بالتى هي احسن‬
‫ومحصله الجدال على سنة القرآن الذى فيه ادب‬
‫الله ‪ .‬وفي تفسير العياشي عن الحسن بن حمزة‬
‫قال سمعت ابا عبد الله عليه السلم يقول ‪ :‬لما‬
‫رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما صنع‬
‫بحمزه بن عبد المطلب قال اللهم لك الحمد واليك‬
‫المشتكى وأنت المستعان على ما ارى ثم قال ‪:‬‬
‫لئن ظفرت لمثلن ولمثلن ولمثلن قال فأنزل‬
‫الله " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‬
‫ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " فقال رسول‬
‫الله صلى الله عليه وآله وسلم ‪ -‬اصبر اصبر وفي‬
‫الدر المنثور اخرج ابن المنذر والطبراني وابن‬
‫مردويه والبيهقي في الدلئل عن ابن عباس‬
‫قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫يوم قتل حمزة ومثل به لئن ظفرت بقريش‬
‫لمثلن بسبعين رجل منهم فأنزل الله وإن عاقبتم‬
‫الية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‬
‫بل نصبر يا رب فصبر ونهى عن المثلة ‪ .‬اقول‬
‫وروى ايضا ما في معناه عن ابى بن كعب وابى‬
‫هريرة وغير هما عنه صلى الله عليه وآله وسلم ‪-‬‬
‫تم والحمد لله ‪-‬‬
‫‪...............................................................‬‬
‫‪...............‬تم‬

You might also like