You are on page 1of 114

‫السيرة المحّمدية‬

‫اعداد واخراج‬
‫اسرة موقع الحكمة للثقافة السلمية‬
‫‪http://www.alhikmeh.com‬‬
‫‪----------------------------‬‬

‫السيرة المحّمدية‬

‫دراسة تحليلّية للسيرة المحّمدية‬


‫سّنة‬
‫على ضوء الكتاب وال ّ‬
‫والتاريخ الصحيح‬

‫لستاذ المحّقق‬
‫ا َُ‬
‫الشيخ جعفر السبحاني‬

‫اعداد واقتباس‪:‬تعريب‬
‫الدكتور يوسف جعفر سعادةالشيخ جعفر الهادي‬

‫===============‬
‫)‪(5‬‬

‫مقدمة المَوّلف‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬


‫ن أعظم صفحات التاريخ قيمة‪ ،‬هي تلك التي تعكس لنا حياة العظماء‪ ،‬وسيرةالرجال الخالدين‪ ،‬والتي تبحث‬ ‫إّ‬
‫عنهم بصدق وأمانة وموضوعية‪ ،‬ذلك إّنهم معجزة الخليقة بل ريب‪ ،‬وحياتهم في الحقيقة ملحمة التاريخ الكبرى‪،‬‬
‫وساحة البطولت الخالدة‪ ،‬ومسرح الحماسات العظمى الحّية النابضة على مر العصور‪.‬‬
‫سد‬ ‫لقد كان ُأولئك العظماء يعيشون على خط الثوارات و التغييرات الجتماعية‪ ،‬تجد مصداقّيتها في حياتهم‪ ،‬وتتج ّ‬
‫في مواقفهم‪،‬ولهذا كانوا يشّكلون حلقة الّتصال بين مظاهرالدنيا المختلفة المتناقضة‪ ،‬فكانت حياتهم الحافلة‬
‫للوان والمشاهد المثيرة المتنوعة‪.‬‬ ‫لحداث‪ ،‬شاهدًة ل َ‬ ‫با َ‬
‫لسلم العظيم محّمد )صلى ال عليه‬ ‫لاِ‬‫ويأتي على رأس ُأولئك الرجال التاريخيين والعظماء الخالدين‪ ،‬رسو ُ‬
‫لمواج ـ كما اّتسمت حياته"صلى ال‬ ‫لحداث وعظمة ا َ‬ ‫وآله وسلم( ‪ ،‬إذ أّنه لم تتسم حياة أحد ـ من حيث وفرة ا َ‬
‫ي العظيم‪ .‬فلم يستطع أحٌد سواه‪ ،‬أن يَوّثر في‬ ‫عليه وآله وسلم" ‪ ،‬ول اّتصفت شخصيًة بمثل ما اّتصف به ذلك النب ّ‬
‫لعماق بمثل السرعة والسعة التي حصلت له )صلى ال عليه‬ ‫بيئته‪،‬ثّم في جميع أنحاء العالم‪ ،‬وينفذ إلى أعماق ا َ‬
‫وآله وسلم( ‪.‬‬
‫لنسان العظيم‪ ،‬قادرة على أن تعلمنا الكثيَر الكثيَر‪ ،‬وأن توقفنا على مشاهد‬ ‫إّنمطالعة عميقة لسيرة وحياة هذا ا ِ‬
‫متنوعة في غاية النفع ومنتهى الفائدة‪.‬‬
‫ب ورسائل ودراسات كثيرٌة‪ ،‬بحيث‬ ‫لسلم كت ٌ‬ ‫وقد ُأّلفت حول حياة رسول ا ِ‬
‫===============‬
‫)‪(6‬‬
‫لو ُأتيح لنا أن نجمعها في مكان واحد‪ ،‬لشّكلت مكتبًة ضخمة وعظيمة‪.‬‬
‫ويمكن القول بأّنه ليس ثّمة من عظيم استقطب اهتمام التاريخ والمَوّرخين والمفّكرين‪ ،‬كما أّنه ليس ثّمة شخصيًة‬
‫ل من المَوّلفات والمصّنفات والرسائل والكتب‪ ،‬مثل ما‬ ‫عالمية كتب حوَلها المَوّلفون والباحثون‪ ،‬هذا القدَر الهائ َ‬
‫حصل للرسول الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬
‫ن أكثر هذه الكتب والمَوّلفات تعاني من أحد إشكالين‪:‬‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫سق التسجيل المجّرد للحوادث‪ ،‬أو النصوص التاريخية دون أن يقوم مَوّلفه بتحليلها ودراسة‬ ‫إّما أّنه جاء على َن َ‬
‫خلفّياتها ونتائجها وإصدار الحكم اللزم بشأنها‪.‬‬
‫عَمَد إلى طائفة من الراء الحدسية والجتهادات الباطلة العارية عن الدليل‪ ،‬وإثباتها في مَوّلفه على أّنها الحكُم‬ ‫أو َ‬
‫لسلم‪ ،‬على أّنه‬ ‫طش إلى تاريخ ا ِ‬ ‫لحداث‪ ،‬ليخرج كتابه إلى الجمهور المتع ّ‬ ‫لحكام مع ا َ‬ ‫ق‪ ،‬وخلط هذه ا َ‬ ‫الح ّ‬
‫التاريخ المحّقق‪.‬‬
‫ن الهدف من التاريخ ليس مجّرد تسجيل للحوادث وضبطها وتدوينها‪ ،‬بل هو تناول‬ ‫ويمكن الرّد على هَولء‪ ،‬بأ ّ‬
‫أحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها‪ ،‬وإبراز عللها‪ ،‬وأسبابها وثمارها ونتائجها‪ ،‬وهو بهذا الشكل يصبح‬
‫لقدمون لنا‪.‬‬ ‫أعظم كنز تركه ا َ‬
‫جة الحفاظ‬ ‫ي تحليل للوقائع‪ ،‬بح ّ‬‫لقد تجّنب أكثر ُكّتاب السيرة النبوية عن إظهار الرأي في الحوادث‪ ،‬أو القيام بأ ّ‬
‫لسلمي ُأدرجت في الكتب من‬ ‫ن أكثر الحوادث التاريخية في العصر ا ِ‬ ‫على ُأصول الحوادث ونصوصها‪ ،‬بل إ ّ‬
‫دون دراسة موضوعية وتقييم دقيق‪.‬‬
‫أّما هذا الكتاب فإّنه يتمّيز بميزتين هامتين‪:‬‬
‫أّولها‪ :‬إّننا عمدنا فيه إلى تناول الحوادث والوقائع المهمة‪ ،‬ذات الفائدة‬
‫===============‬
‫)‪(7‬‬
‫لحداث من المصادر‬ ‫لحداث الجزئية الصغرى‪ ،‬و قد اّتخذنا تلك ا َ‬ ‫الكبرى والعبر ‪ ،‬بالبحث والتحليل مع إبعاد ا َ‬
‫لولى‪.‬‬ ‫لسلمية المشرقة ا َُ‬ ‫لّولية التي دّونت في القرون ا ِ‬ ‫لصلية و ا َ‬ ‫اَ‬
‫لساءة التي قّدمها‬
‫لشكالت‪ ،‬وإلى مواطن ا ِ‬ ‫وثانيتهما‪ :‬إّننا أشرنا خلل الدراسة‪ ،‬إلى العتراضات وا ِ‬
‫ل تلك النتقادات غير الصحيحة بأجوبة مقنعة وقاطعة‪.‬‬ ‫لجابة على ك ّ‬‫المستشرقون المغرضون‪ ،‬وتناولناها با ِ‬
‫ولهذا بادرنا إلى ذكر رأى المَوّلفين الشيعة في المسائل التي اختلف عليها مَوّرخو السّنة والشيعة‪ ،‬مع ذكر‬
‫المصادر والشواهد التاريخية الواضحة المبرهنة‪.‬‬
‫لنبياء محّمد)صلى ال عليه وآله وسلم( إلى القّراء‬‫وإّننا إذ نقّدم هذه الدراسة التحليلية لشخصية وحياة خاتم ا َ‬
‫الكرام‪ ،‬نأمل أن يهتم بها عاّمةالمسلمين وخاصًة المثقفون والشباب منهم‪ ،‬ليتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة‬
‫المتأنّية و التأّمل والتدّبر‪ ،‬حتى يمكنهم أن يرسموا خريطة حياتهم وحياة مجتمعهم في ضوء ما يستلهمونه‬
‫لسلم"صلى ال عليه وآله وسلم" في هذه الحقبة البالغة الخطورة‪.‬‬ ‫ويتعّلمونه من سيرة وحياة رسول ا ِ‬

‫ي التوفيق‬
‫ل ول ّ‬
‫وا ّ‬

‫جعفر السبحاني‬
‫لمام الصادق )عليه السلم(‬
‫سسة ا ِ‬
‫قم المقّدسة ـ مَو ّ‬
‫لربعاء ‪ 27‬محرم ‪1420‬هـ ‪1999|5|12‬م‬ ‫اَ‬
‫===============‬
‫)‪(8‬‬

‫===============‬
‫)‪(9‬‬
‫خص‬‫مقدمة المل ّ‬

‫لمة الشيخ جعفر السبحاني في مكتبه بقم‬ ‫لستاذ المحّقق و الع ّ‬ ‫كان لي الشرف العظيم والفتخار أن أتقابل مع ا َُ‬
‫ل ظّله وأطال في عمره الشريف‪،‬‬ ‫صدفالحسنة الطيبة والمباركة‪ ،‬أدام ا ّ‬ ‫ف وال ّ‬‫المقدسة‪ ،‬حينما جمعتني به الظرو ُ‬
‫لنساني" اّلذي كان‬ ‫ت في قم المقّدسة بهدف تقييم كتابي‪":‬أهل البيت "عليهم السلم" وآثارهم في المجتمع ا ِ‬ ‫فقد كن ُ‬
‫لرض ـ ليقّدموا‬ ‫ل في أعمارهم وجعلهم أنوارًا في ا َ‬ ‫لفاضل ـ أطال ا ّ‬ ‫يستدعي أن أعرضه على عدد من علمائنا ا َ‬
‫ما لديهم من مقترحات حول ما جاء فيه من أفكار وآراء قد ل تتناسب مع جزئيات الدين أو المذهب أو‬
‫المعتقدات الخاصة بالمسلمين عامة و الشيعة خاصة‪.‬‬
‫خ الفاضل ممن ُأوصيت بالّتصال به للمساعدة في هذا الجانب‪ ،‬فتشّرفت بلقائه وتقّبل ما عرضت‬ ‫وكان الشي ُ‬
‫ض مماثل‪ ،‬وهو أن أقوم‬ ‫ل أّنه في نفس الوقت تقّدم هو الخر بعر ٍ‬ ‫عليه‪ ،‬فله الشكُر و التقديُر والحترام‪ ،‬إ ّ‬
‫بتلخيص كتابه الكبير ‪" :‬سيد المرسلين" الذي يتناول فيه سيرة الرسول الكريم محّمد "صلى ال عليه وآله وسلم"‬
‫طلع عليه شبابنا المثّقف في هذا الزمن الذي امتنع فيه عن قراءة الكتب‬ ‫ليدي‪ ،‬في ّ‬ ‫‪ ،‬وذلك ليسهل تداوله في ا َ‬
‫ل الكتب صفحات وموضوعات وأفكار‪ .‬وكان عرضه في‬ ‫لجزاء المتعّددة‪ ،‬بل بالكاد يطلع على أق ّ‬ ‫المطّولة ذات ا َ‬
‫الحقيقة شرفًا كبيرًا لي‪ ،‬وتقديرًا منه لي أيضًا‪ ،‬في الوقت الذي اندهشت لعرضه‪ ،‬إذ اّنني في كتابي" أهل البيت"‬
‫لئّمة الثني عشر "عليهم السلم" وأولدهم وأحفادهم‪ ،‬دون التعّرض‬ ‫تناولت ما يتعّلق من أحداث عن ا َ‬
‫ل نادرًا‪ ،‬فأصبح هذا الكتاب وكأّنه يكمل‬ ‫للنبي)صلى ال عليه وآله وسلم( والسيدة فاطمة الزهراء)عليها السلم( إ ّ‬
‫===============‬
‫) ‪( 10‬‬
‫ك ما جاء من وقائع وأحداث في كتابي أهل البيت "عليهم السلم" ‪.‬‬ ‫ول ش ّ‬
‫لسلم والمسلمين‬ ‫لّول منهما أحداث ا ِ‬ ‫وقد نهج الكاتب العظيم في تأليفه‪ ،‬بأن قسّم كتابه إلى جزءين‪ :‬تناول في ا َ‬
‫لحداث المدينة المنورة سنًة بعد‬ ‫ل َ‬‫في مكة إلى زمن الهجرة إلى يثرب‪ .‬وفي الجزء الثاني‪ ،‬قدم شرحًا مفص ً‬
‫لرقام‪.‬‬‫لعداد وا َ‬‫لبواب والفصول‪ ،‬بل نهج في تنظيمه با َ‬ ‫لاَ‬ ‫ل أّنه لم يتخذ منهج التنظيم‪ ،‬شك َ‬ ‫سنًة‪ ،‬إ ّ‬
‫لبواب والفصول‪ ،‬فإّني قمت بتقسيمه أّول إلى‬ ‫لقسام وا َ‬‫ولما كنت أميل نحو تنظيم الكتب في مَولفاتي إلى ا َ‬
‫لّول بأحداث مّكة المكّرمة‪.‬‬ ‫قسمين‪ :‬اختص ا َ‬
‫لمور في المدينة المنورة‪.‬‬ ‫والثاني‪ :‬ارتبط بوقائع ومجريات ا َُ‬
‫لحداث و الوقائع وأهميتها‪ .‬كما أّني أضفت عّدة فقرات كانت بحاجة‬ ‫ل قسم اّتخذ عدة فصول بحسب ا َ‬ ‫نكّ‬ ‫ثّم إ ّ‬
‫لحداث أو المواقع أو الشخصيات‪ .‬ثّم أعددت قائمة منظمة للمراجع والمصادر التي استفاد‬ ‫إلى تفسير بعض ا َ‬
‫لمة الشيخ تثري‬ ‫ل خاصًا تناولت فيه ما جاء من قصص وروايات في كتاب الع ّ‬ ‫منها المَوّلف كما أعددت فص ً‬
‫المعلومات المقدمة‪.‬‬
‫ل العلي القدير أن يكون قد وّفقني في عملي المتواضع هذا‪ ،‬وأن يتقّبله الرسول الكريم )صلى ال‬ ‫وأرجو من ا ّ‬
‫ي به ُأستاذنا وشيخنا‬
‫ضَ‬
‫لهلي يوم القيامة‪ ،‬وأن ُير ِ‬
‫عليه وآله وسلم( ‪ ،‬وأهل بيته الكرام‪ ،‬فيكون شفيعًا لي و َ‬
‫لسلم‬‫حة الموفورة‪ ،‬ووّفقه لما فيه الخير والمصلحة ل ِ‬‫ل عمره بالص ّ‬‫لمة جعفر السبحاني‪ ،‬أطال ا ّ‬ ‫المحّقق الع ّ‬
‫والمسلمين‪.‬‬

‫د|يوسف جعفر سعادة‬


‫الكويت‬
‫لّول ‪1420‬هـ‬‫‪ 21‬ربيع ا َ‬
‫‪) 7|4‬يوليو(|‪1999‬م‬

‫===============‬
‫) ‪( 11‬‬
‫لّول‬
‫القسم ا َ‬

‫مّكة المكرمة‬

‫و فيه فصول‪:‬‬

‫لسلم‬ ‫‪ .1‬العرب قبل ا ِ‬


‫لكرم محّمد )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫‪ .2‬الرسول ا َ‬
‫‪ .3‬البعثة النبوية‬
‫‪ .4‬مواجهة المسلمين للكّفار‬

‫===============‬
‫) ‪( 12‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 13‬‬
‫لّول‬
‫الفصل ا َ‬

‫لسلم‬
‫العرب قبل ا ِ‬

‫لحوال الداخلية في شبه الجزيرة العربية‬


‫اَ‬
‫لحوال السياسية في المنطقة المجاورة‬
‫اَ‬
‫التعريف بأسلف الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫===============‬
‫) ‪( 14‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 15‬‬

‫لحوال في جزيرة العرب‬


‫‪ .1‬ا َ‬

‫لم تكن القبائل العربية الجاهلية المتناحرة‪ ،‬تعيش أّية حضارة‪ ،‬ولم تكن تمتلك أّية تعاليم وقوانين وأنظمة وآداب‬
‫لسلم‪ ،‬فقد كانت محرومًة من جميع المقّومات الجتماعية التي توجب التقّدم والرقي‪ ،‬ولذا فلم يكن‬ ‫قبل مجيء ا ِ‬
‫من المتوقع أن تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة‪ ،‬ول أن تنتقل من نمط الحياة القبلية الضيقة إلى‬
‫لنسانية الواسع و ُأفق الحضارة الرحيب‪ ،‬بمثل هذه السرعة التي وصلت إليه‪ ،‬والزمن القصير الذي‬ ‫عالم ا ِ‬
‫انتقلت فيه‪.‬‬
‫لسلم‪ ،‬من خلل مصدرين إسلميين أساسّيين‪ ،‬وهما‪:‬‬ ‫ويمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب قبل ا ِ‬
‫‪ .1‬القرآن الكريم‪ ،‬وهو خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بالدّقة والشمولية‪.‬‬
‫لسلم‪.‬‬‫لمام علي )عليه السلم( في نهج البلغة في وصف الحالة قبل ا ِ‬ ‫‪ .2‬ما صدر عن ا ِ‬
‫ص صريحة تكشف عّما كان عليه العرب في الجاهلية من سوء أحوال‪،‬‬ ‫ت ونصو ٌ‬ ‫فقد ورد فيهما تصريحا ٌ‬
‫لصعدة‪.‬‬ ‫لبعاد وا َ‬ ‫وأوضاع‪ ،‬وأخلق في جميع ا َ‬
‫===============‬
‫) ‪( 16‬‬
‫ن العرب من ولد عدنان قد اّتصفوا بصفات حسنة‪ ،‬إذ كانوا يكرمون الضيف‪ ،‬وقّلما يخونون‬ ‫وبالرغم من أ ّ‬
‫حون في سبيل المعتقد‪ ،‬ويتحّلون بالصراحة الكاملة‪ ،‬إضافة إلى براعتهم في فن الشعر والخطابة‪،‬‬ ‫لمانة‪ ،‬ويض ّ‬ ‫اَ‬
‫ل أّنهم إلى جانب كّلذلك‪ ،‬كانوا يعانون من مفاسد أخلقية‬ ‫ب بهم المثل في الشجاعة والجرأة‪ ،‬إ ّ‬ ‫وكونهم يضر ُ‬
‫تطغى على ما لديهم من كمال وفضيلة‪.‬‬
‫فالمجتمع العربي وخاصة منطقة الحجاز لم تقم فيها حضارة‪،‬أو أّنه لم يبق أي أثر من هذه الحضارات فيها إلى‬
‫لسلم‪ ،‬وقد شاعت فيه أخلق وعادات كان أبرزها‪:‬‬ ‫ما قبل بزوغ ا ِ‬
‫لوثان والنجوم‪.‬‬ ‫لصنام وا َ‬ ‫ـ الشرك في العبادة‪ ،‬حيث عبدوا ا َ‬
‫لنسان إلى الحياة في العالم الخر‪.‬‬ ‫ـ إنكار المعاد‪ ،‬أي عودة ا ِ‬
‫ـ هيمنة الخرافات‪ ،‬التي كانت تكّبل عقول الناس في المجتمع‪ ،‬حيث تركزت فيها‪ ،‬فكانت سببًا قويًا في تخّلفهم‪،‬‬
‫لسلمية‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬مّما جعل النبي)صلى ال عليه وآله وسلم( يعمل بك ّ‬
‫ل‬ ‫وسدًا منيعًا في طريق تقّدم الدعوة ا ِ‬
‫لفكار والمعتقدات الخرافية‪.‬‬‫طاقاته وجهده في محو وإزالة تلك الثار الجاهلية‪ ،‬وا َ‬
‫لخلقي‪ ،‬مثل انتشار القمار ـ الميسر ـ والخمر و الزنا واللواط والبغاء‪.‬‬ ‫ـ الفساد ا َ‬
‫ـ وأد البنات‪ ،‬وهي العادة القبيحة التي اعتبرها القرآن الكريم جريمة نكراء ل تمر في الخرة بدون حساب شديد‪.‬‬
‫لرث‪ ،‬كما عّدها المثقفون من الحيوانات‬ ‫قاِ‬‫ن المرأة كانت محرومة من جميع الحقوق الجتماعية حتى ح ّ‬ ‫ولذا فإ ّ‬
‫تباع وتشترى‪ ،‬وجزء من أثاث البيت‪.‬‬
‫===============‬
‫) ‪( 17‬‬
‫لبناء على امرأة أبيهم واحد بعد واحد‪،‬‬ ‫وكان الرجل يتزوج بزوجة أبيه متى طلقها أو بعد وفاته‪ ،‬و ربما تناوب ا َ‬
‫كما كان الرجل يرث امرأة من قرابته إذا مات عنها‪ ،‬مثلما يرث أمتعة المنزل‪ ،‬إضافة إلى أّنهم كانوا يورثون‬
‫البنين دون البنات‪.‬‬
‫ـ تناول الدم والميتة والخنزير‪ ،‬وأكل الحيوانات التي يقتلونها بقسوة‪.‬‬
‫لشهر الحرم‪ ،‬كان يقوم به سدنة الكعبة أو رَوساء العرب‪ ،‬عندما كانوا يقررون استمرار‬ ‫ـ النسيء‪ ،‬وهو تأخير ا َ‬
‫حرم‪.‬‬ ‫لشهر ال ُ‬ ‫الحرب و الغارات في ا َ‬
‫ـ الربا‪ ،‬الذي شّكل العمود الفقرى في اقتصادهم‪.‬‬
‫لغارة والقتال‪ ،‬من العادات المستحكمة عندهم‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫ن‬ ‫ـ النهب والسلب‪ ،‬فقد كان انتهاب ما في أيدي الناس‪ ،‬وا ِ‬
‫لجيال تتوارث تلك الحروب‪ ،‬وقد بلغ ولعهم‬ ‫بعض حروبهم كانت تمتّد إلى مائة سنة أو أكثر‪ ،‬حيث كانت ا َ‬
‫بالقتال وسفك الدماء أن جعلوها من مفاخر الرجال‪.‬‬
‫لّميين‪ ،‬فلم يتجاوز عدُد اّلذين عرفوا القراءة‬ ‫صفوا با َُ‬‫ن أهل الحجاز ُو ِ‬ ‫ـ أّما عن الجانب العلمي والثقافي‪ ،‬فإ ّ‬
‫لسلم عن)‪ (17‬شخصًا في مكة ‪ ،‬و )‪ (11‬نفرًا في المدينة المنورة‪.‬‬ ‫والكتابة في قريش ما قبل ا ِ‬
‫لّول جاهلي ووثني‬ ‫لسلم وبعده‪،‬تاريخان على طَرفي نقيض‪ :‬ا َ‬ ‫ن تاريخ العرب قبل ا ِ‬ ‫ومن ذلك يمكن القول أ ّ‬
‫ي‪ ،‬والثاني تاريخ علم ووحدانية وإنسانية وإيمان‪.‬‬ ‫وإجرام ّ‬
‫لسلمية في جميع‬ ‫لسلم وعظمة التعاليم ا ِ‬ ‫لّول‪ ،‬يمكن معرفة مدى تأثير ا ِ‬ ‫ومن التخّلف والنحطاط في ا َ‬
‫المجالت والحقول المعيشية‪ .‬فكيف تحقق‬
‫===============‬
‫) ‪( 18‬‬
‫ب اليمن الذين امتلكوا‬ ‫ذلك التطور العظيم لهَولء العرب الجاهلّيين في الجزيرة العربية‪ ،‬في حين لم يستطع عر ُ‬
‫الشيء الكثير من الثقافة والحضارة‪ ،‬وعاشوا حياة حضارية متطورة‪ ،‬أن يصلوا إلى هذه النهضة الشاملة‪ ،‬أو‬
‫ضرة‪ ،‬والذين عاشوا تحت‬ ‫تقيم مثل هذه الحضارة العريضة‪ ،‬أو عرب الغساسنة الذين جاوروا بلد الشام المتح ّ‬
‫ل حضارة الروم‪ ،‬أن يصلوا إلى تلك الدرجة من الثقافة‪ ،‬أو عرب الحيرة الذين عاشوا تحت ظل إمبراطورية‬ ‫ظّ‬
‫ي والتقّدم‪ ،‬في الوقت الذي تمّكن فيه عرب الحجاز من تحقيق تلك النهضة‬ ‫الفرس أن ينالوا مثل ذلك الرق ّ‬
‫ي مشرق‪ ،‬بل كانوا‬ ‫ي تاريخ حضار ّ‬ ‫لسلمية العظمى‪ ،‬في حين لم يكن لهم عهٌد بأ ّ‬ ‫الجبارة‪ ،‬وورثوا الحضارة ا ِ‬
‫لساطير والعادات السّيئة‪.‬‬ ‫لوهام والخرافات وا َ‬ ‫يرزحون تحت أغلل ا َ‬
‫لمام علي )عليه السلم( في الخطبة الثانية من "نهج البلغة"‪:‬‬ ‫لحوال‪ ،‬هو ا ِ‬ ‫لوضاع وا َ‬ ‫ضح تلك ا َ‬
‫وخيُرمن يو ّ‬
‫لمُر‪،‬‬‫ل الدين‪ ،‬وتزعزعت سواري)‪(2‬اليقين‪ ،‬واختلف النجُر )‪ (3‬و تشّتت ا َ‬ ‫س في ِفَتن انجذم)‪(1‬فيها حب ُ‬ ‫" والنا ُ‬
‫ليما ُ‬
‫ن‬ ‫لاِ‬ ‫خِذ َ‬
‫ج‪،‬وعمي المصدُر‪ ،‬فالهدى خامل‪ ،‬والعمى شامل‪ ،‬عصي الرحمن وُنصر الشيطان‪ ،‬و ُ‬ ‫وضاق المخر ُ‬
‫فانهارت دعائمُه‪ ،‬وتنّكرت معالُمه‪،‬ودرست )‪(4‬سبُله‪،‬وعفت شركه)‪ ... (5‬فهم فيها تائهون حائرون جاهلون‬
‫جم وجاهلها ُمكَرم"‪.‬‬ ‫سهود‪ ،‬وُكحلهم دموع‪ ،‬بأرض عالمها ُمل َ‬ ‫ن‪ ،‬نوُمهم ُ‬
‫مفتونون في خير داٍر وشّر جيرا ٍ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬إنقطع‪.‬‬
‫‪ . 2‬الدعائم‪.‬‬
‫لصل‪.‬‬ ‫‪.3‬اَ‬
‫‪ِ. 4‬نطمست‪.‬‬
‫‪ . 5‬الطرق‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 19‬‬
‫وفي الخطبة ‪ 26‬قال )عليه السلم( ‪:‬‬
‫ل بعث محّمدا)صلى ال عليه وآله وسلم( نذيرًا للعالمين وأمينًا على التنزيل‪ ،‬وأنتم معشر العرب على شّر‬ ‫"إّنا ّ‬
‫شب)‪(4‬‬ ‫صّم)‪ (3‬تشربون الَكدر‪ ،‬وتأكلون الج ِ‬ ‫خشن)‪(2‬هث‪ ،‬وحّيات ُ‬ ‫دين وفي شّر دار منيخون)‪ (1‬بين حجارة ُ‬
‫لصنام فيكم منصوبٌة‪ ،‬والثام بكم معصوبة )‪.(5‬‬ ‫وتسفكون دماءكم‪ ،‬وتقطعون أرحامكم‪ ،‬ا َ‬
‫و قال )عليه السلم( في الخطبة ‪:95‬‬
‫لهواُء‪،‬واستزّلتهم‬
‫لل في حيرة‪ ،‬وحاطبون في فتنٍة‪،‬قد استهوتهم ا َ‬ ‫ضّ‬‫"بعثه )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬والناس ُ‬
‫جهل‪ ،‬فباَلَغ )صلى ال عليه‬‫لمر‪ ،‬وبلٍء من ال َ‬ ‫ل من ا َ‬
‫حيارى في زلزا ٍ‬
‫الكبرياُء‪ ،‬واستخّفتهم)‪(6‬الجاهلية الجهلُء‪َ ،‬‬
‫سنة"‪.‬‬‫حَ‬
‫وآله وسلم( في النصيحة‪ ،‬ومضى على الطريقة‪ ،‬ودعا إلى الحكمة والموعظة ال َ‬
‫وأيضًا في الخطبة ‪ :151‬قال )عليه السلم( ‪:‬‬
‫"أضاءت به )صلى ال عليه وآله وسلم( البلد بعد الضللة المظلمة‪ ،‬والجهالة الغالبة‪ ،‬والجفوة الجافية‪ ،‬والناس‬
‫يستحلون الحريَم‪،‬ويستذلون الحكيَم‪ ،‬يحيون على فترة)‪ (7‬ويموتون على كفرة"‪.‬‬
‫لحوال والحياة‪ ،‬أيضًا‪ ،‬جعفُربن أبي طالب‪ ،‬عندما خطب أمام‬ ‫وقد أكد تلك ا َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬مقيمون‬
‫‪ . 2‬جمع خشناء من الخشونة‪.‬‬
‫لصوات‪.‬‬ ‫‪ . 3‬التي ل تسمع لعدم إنزجارها با َ‬
‫‪ . 4‬لطعام الغليظ‪.‬‬
‫‪ . 5‬مشدودة‬
‫‪ . 6‬طّيشتهم‪.‬‬
‫‪ . 7‬على خلّو من الشرائع‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 20‬‬
‫النجاشي في الحبشة‪ ،‬يشرح أحوال المسلمين والمشركين‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫لرحام‪،‬ونسيء الجوار‪،‬‬ ‫ل الميتة‪،‬ونأتي الفواحش‪،‬ونقطُع ا َ‬ ‫لصنام‪ ،‬ونأك ُ‬
‫"أّيها الملك‪ُ ،‬كّنا قومًا أهل جاهلية نعبُد ا َ‬
‫سَبه وصدَقه وأمانته وعفافه‪،‬‬ ‫ل مّنا نعرف َن َ‬
‫ل إلينا رسو ً‬
‫ل القوّيمّنا الضعيف‪ ،‬فكّنا على ذلك‪ ،‬حّتى بعث ا ّ‬ ‫ويأك ُ‬
‫لوثان‪،‬وأمَرنا بصدق‬ ‫حده ونعبده‪،‬ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباَونا من دونه من الحجارة وا َ‬ ‫ل لنو ّ‬‫فدعانا إلى ا ّ‬
‫لمانة‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬وحسن الجوار‪،‬والكف عن المحارم والدماء‪ ،‬ونهانا عن الفواحش وقول‬ ‫الحديث‪،‬وأداء ا َ‬
‫ل وحده ل نشرك به شيئًا‪ ،‬وأمرنا بالصلة والزكاة‬ ‫صنات‪ .‬وأمرنا أن نعبد ا ّ‬‫ل مال اليتيم‪ ،‬وقذف المح َ‬ ‫الزور‪ ،‬وأك ِ‬
‫والصيام"‪(1).‬‬
‫لحوال السياسية في المنطقة‬ ‫‪ .2‬ا َ‬

‫لسلم أعظم امبراطوريتين في ذلك الوقت هما‪ :‬إمبراطوريةالروم والفرس‪،‬‬ ‫لقد جاروت البيئة اّلتي ظهر فيها ا ِ‬
‫لسلم‪.‬‬‫وهذا مّما يجعلنا ندرس أحوالهما لنقف على قيمة الحضارة التي قّدمها ا ِ‬
‫صة في صراعها مع دولة فارس‪،‬‬ ‫لحوال فيها بالحروب الداخلية والخارجية‪ ،‬وخا ّ‬ ‫فامبراطورية الروم تمّيزت ا َ‬
‫كما كان للمنازعات الطائفية والمذهبية نصيبها في توسيع رقعة الختلف فيها‪ ،‬كالحرب بين المسيحيين‬
‫لمر الذي ساعد على‬ ‫ق الخرين‪ ،‬ا َ‬ ‫والوثنيين‪ ،‬حينما مارس رجال الكنيسة أشّد أنواع الضغط والضطهاد بح ّ‬
‫لسلمية فيما بعد‪ .‬هذا‬ ‫إيجاد أقلية ناقمة‪ ،‬كما ساعد على ظهور حالة مهدت لتقّبل الشعب الروماني للدعوة ا ِ‬
‫ن اختلف رجال الدين فيما‬ ‫مضافًا إلى أ ّ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية ‪ 335 |1‬والحديث عن ُأّمسلمة‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 21‬‬
‫لمبراطورية واتجاهها نحو الضعف و النحلل‪.‬‬ ‫بينهم‪ ،‬وتعّدد المذاهب من جهة‪ ،‬عمل على التقليل من هيبة ا ِ‬
‫لمبراطورية الرومانية إلى قسمين‪ :‬شرقي و غربي‪ .‬وقد استغل اليهود ذلك‬ ‫ل ذلك إلى انقسام ا ِ‬ ‫وقد أّدى ك ّ‬
‫لسقاط النظام‪ ،‬مّما جّر إلى ازدياد جرائم المذابح النتقامية بين الطرفين‪،‬‬ ‫ططوا ِ‬‫الضعف و النهيار الداخلي فخ ّ‬
‫لسلم وانتشاره في تلك الجهات‪.‬‬ ‫ل بعد ظهور ا ِ‬ ‫لحوال إ ّ‬ ‫ولم تهدأ ا َ‬
‫أّما إمبراطورية فارس‪ ،‬فقد سيطرت على معظم مناطق العالم بالشتراك مع إمبراطورية الروم‪ ،‬وتمّيزت الفترة‬
‫بالنزاع الدائم بين إيران الساسانية والروم للسيطرة على مناطق نفوذ جديدة‪ ،‬فقد بدأت الحروب بينهما منذ عهد‬
‫"أنوشيروان" )‪531‬ـ ‪589‬م( حتى زمن "خسرو برويز" لمدة ‪ 24‬عامًا‪ ،‬مّماأضعف الدولتين‪.‬‬
‫وقد اشتهر "برويز" بالميل نحو الترف وحياة البذخ‪ ،‬حتى بلغت أعداد نسائه وجواريه اللف منهن‪ ،‬كما كان‬
‫لواني‪.‬‬
‫لموال والجواهر وا َ‬ ‫أرغب الناس في جمع ا َ‬
‫وفي الجانب الجتماعي‪ ،‬ظهر التمييز بين الطبقات‪ ،‬فالنبلء والكهنة كانوا على رأسها تملكوا المناصب‬
‫الجتماعية العليا‪ ،‬بينما حرم الكسبة والمزارعون وبقية أبناء الشعب من كافة الحقوق الجتماعية‪ ،‬سوى دفعهم‬
‫ل شيء‬‫للضرائب الثقيلة والمشاركة في الحروب‪ .‬وقد أّدى هذا الوضع المترّدي إلى أن تمتلك أقلية صغيرة ك ّ‬
‫لغنياء‬‫ناَ‬
‫ق الحياة تمامًا‪ .‬كما أ ّ‬
‫وهي نسبة )‪ (%11|5‬من مجموع الشعب‪ ،‬بينما حرم أكثر من )‪ (%89‬من ح ّ‬
‫حِرَم الباقون منه‪ ،‬واتخذ الحّكام الساسانيون سياسةالخشونة القاسية مع الناس‪،‬‬ ‫فقط هم الذين تلّقوا التعليم‪ ،‬بينما ُ‬
‫ض على حكمهم وسيرتهم‪،‬‬ ‫وأخضعوهم بالسيف والعنف‪ ،‬وفرضوا الضرائب الثقيلة‪ ،‬مّما جعل الشعب غير را ٍ‬
‫لعيان‬ ‫لمراء وا َ‬ ‫لمر الذي جعل الصراع والتنافس يدب بين ا َ‬ ‫اَ‬
‫===============‬
‫) ‪( 22‬‬
‫لخرى‪ ،‬مّما أصبح‬ ‫ل فريق أميرًا من أبناء العائلة المالكة‪ ،‬وتفرغ لتصفية الطوائف ا َُ‬ ‫وقادة الجيش‪ ،‬فاختار ك ّ‬
‫لسلمي‪.‬‬‫كّلذلك أسبابًا قوّية لضعف الدولة وانقسامها وانحللها أّيام الفتح ا ِ‬
‫لساطير إلى المعتقدات‬ ‫ن الفساد الذي ظهر في أوساط رجال الدين الزرادشت‪،‬وتطّرق الخرافات وا َ‬ ‫على أ ّ‬
‫ليراني وعقيدته‪ ،‬مّما أفقده الثقة‬ ‫الزرادشتية‪ ،‬تسبب في حدوث مزيد من التشّتت والختلف في آراء الشعب ا ِ‬
‫ليمان بتلك المعتقدات‪.‬‬ ‫وا ِ‬
‫لوضاع الجتماعية‪ ،‬والصراع الطويل بين فارس والروم في خلل عشرين عامًا‪ ،‬إلى عقد‬ ‫وقد أّدى ترّدي ا َ‬
‫ن الروم عادوا إلى الحرب‬ ‫لأّ‬ ‫الصلح بينهما على أساس أن يدفع الروم إلى فارس ما يعادل )‪ 20‬ألف دينار(‪ ،‬إ ّ‬
‫والمعارك الطاحنة مّرة ُأخرى لفترة سبع سنوات‪ ،‬تمكن فيها الملك الفارسي خسرو برويز في ‪614‬م من‬
‫الستيلء على بلد الشام وفلسطين وأفريقية‪ ،‬ونهب أورشليم‪ ،‬وحرق كنيسة القيامة ومزار السيد المسيح )عليه‬
‫السلم( ‪ ،‬وقتل ‪ 90‬ألف نصراني‪ .‬وقد حدث ذلك في زمن بعثة الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( و قد حزن‬
‫المسلمون على هزيمة الّروم اّلذين كانوا أصحاب كتاب‪ ،‬و لم يتخذ الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" موقفًا‬
‫شرا بانتصار الروم في المستقبل القريب‪ ،‬وقد تحّققت هذه‬ ‫لحداث حتى نزل الوحي عليه مب ّ‬ ‫صا اّتجاه هذه ا َ‬
‫خا ّ‬
‫لوضاع المضطربة‪،‬‬ ‫لسلمي بحملته الناجحة‪ ،‬حدًا لتلك ا َ‬ ‫البشارة في سنة ‪ 627‬م‪ (1).‬وقد وضع الجيش ا ِ‬
‫ب الفارسي دينه‬ ‫لن يختار الشع ُ‬ ‫ونهايًة لذلك الصراع السياسي الدامي الذي استمر خمسين عامًا‪ ،‬وفسح المجال َ‬
‫ومعتقداته بحرية في منأى عن القهر والقسر‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬راجع سورة الروم‪ 1:‬ـ ‪.6‬‬

‫) ‪( 23‬‬
‫‪ .3‬التعريف بأسلف الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم(‬

‫كان من الواجب التحّدث عن أحوال أجداد النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" لما كان لهم من نصيب هام في‬
‫ي )صلى ال عليه وآله وسلم( ينتهي إلى النبي إسماعيل بن إبراهيم‬ ‫تاريخ العرب والمسلمين ‪ .‬ولما كان نسب النب ُ‬
‫"عليهما السلم" فإّنه من المستحب أن نتناول أسلف النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بالعرض والدراسة بدءًا‬
‫منه )عليه السلم( ‪.‬‬
‫‪ .1‬النبي إبراهيم )عليه السلم( هو بطل التوحيد‪ ،‬جاهد في سبيل إرساء قواعد التوحيد‪ ،‬واقتلع جذور الوثنية‪.‬‬
‫ولد في بابل ـ التي تعد إحدى عجائب الدنيا السبع ـ التي حكمها "نمرود بن كنعان" الذي أمر الناس بعبادته‬
‫ن عرشه سينهار على يد رجل يولد في بيئته‪ ،‬أمر بعزل الرجال عن‬ ‫لصنام‪ ،‬ولّما ذكر له أ ّ‬ ‫إضافة إلى عبادة ا َ‬
‫النساء‪ ،‬في نفس الليلة التي انعقدت فيها نطفة النبي إبراهيم "عليه السلم" ‪ ،‬وهي الليلة التي تكّهن بها المنجمون‬
‫ل وليد ذكر‪ .‬وقد حملت به ُأّمه ـ ُأّم إبراهيم ـ مثلما حملت‬ ‫والكهنة من أنصار نمرود‪ ،‬مّما دفع جلوزته إلى قتل ك ّ‬
‫ُأّم موسى )عليه السلم( به‪ ،‬فأمضت فترة حملها في خفاء وتستر‪ ،‬ثّم وضعته في غار بجبل قريب من المدينة‬
‫للحفاظ عليه‪ ،‬وقضى في هذا الغار فترة ثلث عشرة سنة‪ ،‬ثّم انخرط في المجتمع الذي استغرب وجوده فأنكروه‪.‬‬
‫لنسان‪ ،‬مّما دعاه إلى أن يحارب‬ ‫ل‪ ،‬من نجوم وكواكب وأصنام وعبادة ا ِ‬ ‫ورأى في مجتمعه ظواهر التعبد لغير ا ّ‬
‫في هذه الجبهات‪ ،‬التي أوضحها القرآن الكريم في سوره وآياته الشريفة‪ .‬وقد بدأ عَمَله بمكافحة ما كان عليه‬
‫لوثان‪ ،‬ثّم اّتجه إلى جبهة ُأخرى أكثر ثقافة وعلم‪ ،‬وهي‬ ‫لصنام وا َ‬ ‫أقرباَوه‪ ،‬وعلى رأسهم عمه آزر‪ ،‬وهو عبادة ا َ‬
‫لجرام السماوية‪.‬‬ ‫التي عبدت الكواكب والنجوم وا َ‬
‫وقد أعطى النبي إبراهيم )عليه السلم( سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية‪ ،‬لم يصل إليها الفكر البشري‬
‫يومذاك‪ ،‬في حواره العقائدي مع عّباد‬
‫===============‬
‫) ‪( 24‬‬
‫لجرام السماوية‪ ،‬مدعمة بأدّلة ل تزال إلى اليوم‪،‬موضع إعجاب كبار العلماء ورّواد الفلسفةوالكلم‪ .‬وقد نقل‬ ‫اَ‬
‫ص وعناية بالغة‪ (1).‬فقد اّتخذ إبراهيم‬ ‫القرآن الكريم في هذا المجال أدّلة النبي إبراهيم )عليه السلم( باهتمام خا ّ‬
‫)عليه السلم( هيئة الباحث عن الحقيقة بدون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها‪ .‬ورّكز في عمله‬
‫ل سبحانه و‬ ‫لا ّ‬ ‫لرضية إ ّ‬ ‫على التوحيد في الربوبية‪ ،‬والتدبير وإدارة الكون‪ ،‬وأّنه ل مدّبر ول مرّبي للموجودات ا َ‬
‫حنيفًا َوما َأَنا ِم َ‬
‫ن‬ ‫لرض َ‬ ‫ت َوا َ‬
‫سموا ِ‬‫طَر ال ّ‬
‫جِهي لّلذي َف َ‬
‫ت َو ْ‬
‫جْه ُ‬
‫لجرام السماوية بقوله‪َ) :‬و ّ‬ ‫تعالى‪ ،‬فأبطل ربوبية ا َ‬
‫شِركين( )‪(2‬‬ ‫اْلُم ْ‬
‫أّما بالنسبة إلى عّمه آزر الذي كان ذا مكانة اجتماعية عالية بين قومه‪ ،‬وصانعًا ماهرًا ومنجمًا‪ ،‬له رأيه وأفكاره‬
‫لنبياء‬‫ن آباء ا َ‬ ‫ن علماء الشيعة قد اّتفقوا على أ ّ‬ ‫لمور الفلكية في بلط نمرود‪ ،‬فإّنه ليس أبوه بل عّمه‪ ،‬وذلك أ ّ‬ ‫في ا َُ‬
‫ن كثيرًا من علماء‬ ‫حدين به‪ ،‬وأّكد الشيخ المفيد ذلك في كتابه‪" :‬أوائل المقالت")‪ (3‬بل إ ّ‬ ‫ل مو ّ‬‫كانوا مَومنين با ّ‬
‫لبراهيم )عليه السلم( ردحًا من الزمن‪،‬‬ ‫لب‪ ،‬نظرًا لكونه الكافل ِ‬ ‫ل مناداته با َ‬
‫السّنة قد وافقهم في ذلك أيضًا‪،‬ولع ّ‬
‫لب‪.‬‬‫فنظر إليه بمنزلة ا َ‬
‫وأّما بخصوص عقابه‪ ،‬وإلقائه في النار‪ ،‬وعدم تأّثره بها وخروجه سالمًا منها‪ ،‬فإّنالسلطات الحاكمة قررت نفيه‬
‫من البلد فغادرها إلى الشام‪ ،‬ثّم إلى الحجاز مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل‪ ،‬حينما أسكنهما في مّكة‪ ،‬وظهرت‬
‫بفضلهما عين زمزم‪ ،‬ووفدت جماعات من القبائل لتسكن في تلك البقعة‪ ،‬وأشهرها قبيلة "جرهم" التي تزّوج‬
‫منها إسماعيل وصاهرهم‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت أصبحت مكة من‬
‫____________‬
‫لجرام‬
‫لنعام بحواره مع الوثنّيين‪ ،‬بينما ترتبط اليات اللحقة لها بعبادة ا َ‬ ‫‪ . 1‬ترتبط آية ‪ 74‬من سورة ا َ‬
‫السماوية‪.‬‬
‫لنعام‪.79:‬‬ ‫‪.2‬اَ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬ ‫‪ . 3‬اوائل المقالت‪ ،12:‬باب القول في آباء رسول ا ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 25‬‬
‫المدن العامرة‪ ،‬بعد أن كانت صحراء قاحلة وواد غير ذي زرع‪.‬‬
‫ي بن كلب‪ :‬هو الجّد الرابع للرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( وُأّمه فاطمة التي تزّوجت برجل من‬ ‫‪ .2‬قص ّ‬
‫ن خلفًا وقع بين‬ ‫لأّ‬ ‫ج ُأّمه ربيعة‪ ،‬إ ّ‬
‫ي‪ .‬و قد توّفي أبوه فرّباه زو ُ‬
‫بني كلب ورزقت منه بولدين‪ :‬زهرة وقص ّ‬
‫ي وقوم ربيعة‪ ،‬أدى إلى طرده من قبيلتهم‪،‬ولكن ُأّمه تمكنت من إرجاعه إلى مكة‪ ،‬فعاش فيها متفوقًا في‬ ‫قص ّ‬
‫أعماله ومراكزه‪ ،‬فشغل المناصب الرفيعة‪ ،‬مثل حكومة مكة‪ ،‬وزعامة قريش‪ ،‬وسدانة الكعبة المعظمة‪ ،‬فأصبح‬
‫رئيس تلك الديار دون منازع‪ .‬ومن أهّم أعماله‪:‬‬
‫أ‪ :‬تشجيع الناس على البناء حول الكعبة‪.‬‬
‫ل مشكلتهم‪ ،‬وهو دار الندوة‪.‬‬ ‫ب‪ :‬تأسيس مجلس شورى يجتمع فيه رَوساء القبائل في ح ّ‬
‫لولد فقد ترك‪ :‬عبد الدار وعبد مناف‪.‬‬ ‫وأّما من ا َ‬
‫لكرم )صلى ال عليه وآله وسلم( واسمه‪" :‬المغيرة"‪ ،‬ولقبه قمر البطحاء‪ .‬و‬ ‫‪ .3‬عبد مناف‪ :‬هوالجّدالثالث للنبي ا َ‬
‫ل أّنه حظي بمكانة خاصة عند الناس‪ ،‬فقد اتخذ التقوى شعارًا‪ ،‬ودعا إلى حسن‬ ‫مع أّنه كان أصغر من أخيه‪ ،‬إ ّ‬
‫ن الوضع تبّدل بعد‬ ‫لأّ‬ ‫لخيه عبد الدار‪ ،‬حسب وصية أبيهما‪ .‬إ ّ‬ ‫السيرة وصلة الرحم‪ ،‬ولكن الزعامة والقيادة كانت َ‬
‫لمر إلى اقتسامها بينهم‪ ،‬حيث تقّرر أن‬ ‫وفاتهما‪ ،‬فقد وقع الخصام والتنازع بين أبنائهما على المناصب‪ ،‬فانتهى ا َ‬
‫يتوّلى أبناء عبد الدار سدانة الكعبة وزعامة دار الندوة‪ ،‬ويتوّلى أبناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم‬
‫ووفادتهم‪.‬‬
‫لعظم )صلى ال عليه وآله وسلم( واسمه‪ :‬عمرو و لقبه الُعلء‪ ،‬ولد مع عبد‬ ‫‪ .4‬هاشم‪ :‬وهوالجّد الثاني للرسول ا َ‬
‫شمس توأمًا له‪ ،‬وله أخوان آخران هما‪ :‬المطلب ونوفل‪.‬‬
‫لبناء عبد مناف‪ ،‬إّنهم ُتوّفوا في مناطق مختلفة‪ ،‬فهاشم ُتوّفي في غّزة‪ ،‬وعبد شمس في‬ ‫لمور المميزة َ‬ ‫ومن ا َُ‬
‫مّكة‪ ،‬وَنوَفل في العراق‪،‬والمطلب في اليمن‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 26‬‬
‫ل شهر ذي‬ ‫ل وزّواره وتكريمهم بالمال والحلل في غّرة ك ّ‬ ‫كان يدعو الناس إلى الترحيب بضيوف ا ّ‬
‫لطيبا لم يَوخذ‬
‫ل وتقويتهم إ ّ‬‫ل منكم من ماله لكرامة زّوار بيت ا ّ‬ ‫ليخرج رج ٌ‬ ‫الحجة‪":‬وأسأُلُكم بحرمة هذا البيت أ ّ‬
‫ظلمًا‪ ،‬ولم يقطع فيه رحم‪ ،‬ولم يَوخذ غصبًا"‪(1).‬‬
‫ن زعامته لمّكة كانت لمنفعة أهلها وتحسين أوضاعهم‪ ،‬فقد ساهم كرُمه في عدم انتشار القحط‬ ‫ومن أهّم آثاره‪ :‬أ ّ‬
‫سن من الحالة القتصادية في البلد عندما عقد معاهدة مع أمير الغساسنة‪ ،‬مّما دفع أخاه عبد‬ ‫والجدب‪ ،‬كما أّنه ح ّ‬
‫شمس إلى أن يعاهد أمير الحبشة‪ ،‬وأخويه نوفل والمطلب أيضًا أن يعقدا معاهدات مع أمير اليمن وملك فارس‪،‬‬
‫ف عنه أّنه المَوسس لِرحلتي الشتاء‬ ‫لخطار وتأمين الطرق و سير القوافل التجارية‪ .‬وقد عُِر َ‬ ‫وذلك لتجنب ا َ‬
‫والصيف إلى الشام واليمن‪.‬‬
‫لسهامات من جانب هاشم‪ ،‬كانت دافعًا إلى أن يحسده ُأمّية بن عبد شمس ابن أخيه‪ ،‬وذلك لما‬ ‫ن كّلتلك ا ِ‬
‫لأّ‬
‫إّ‬
‫لمر الذي أجبرهم على الحضور عند كاهن من كهنة‬ ‫حظي به من مكانة وعظمة وتقّرب إلى قلوب الناس‪ ،‬ا َ‬
‫لبل وأخرج ُأمية إلى الشام نافيًا لمّدة عشرة سنين‪ ،‬حسب الشروط التي‬ ‫العرب‪ ،‬فقضى لهاشم بالغلبة‪ ،‬فأخذ منه ا ِ‬
‫لمويين بالشام‬‫تمت بينهما‪.‬وتبّين هذه القصة جذوَر العداء بين بني هاشم وبني ُأمّية من ناحية‪ ،‬وعلقات ا َ‬
‫وارتباطهم بها حين اتخذوها عاصمة لدولتهم بعد ذلك من ناحية ُأخرى‪.‬‬
‫ع في حجر عّمه المطلب‪ ،‬حيث كان‬
‫لّنه تربى وترعَر َ‬
‫ف بـ"عبد المطلب" َ‬
‫عِر َ‬
‫ومن أشهر أولده ‪ :‬شيبة‪ ،‬الذي ُ‬
‫ع في حجر أحد‪ ،‬وينشأ‬ ‫العرب يسّمون من َترعَر َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة الحلبية ‪.6|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 27‬‬
‫تحت رعايته‪ ،‬عبدًا لذلك الشخص‪.‬‬
‫لّول للنبي العظيمص ورئيس قريش وزعيمها‪ .‬وأودعت يُدالمشيئة الربانية بين‬ ‫‪ .5‬عبد المطلب‪ :‬وهو الجّد ا َ‬
‫ي الجيب‪ ،‬منّزها‬ ‫لكرم "صلى ال عليه وآله وسلم" ولذا كان إنسانًا طاهر السلوك‪ ،‬نق ّ‬ ‫حنايا شخصيته نوَرالنبي ا َ‬
‫ل واليوم الخر‪.‬‬ ‫ي نوع من أنواع النحطاط والفساد‪ ،‬وأحد المعدودين الذين كانوا يَومنون با ّ‬ ‫عن أ ّ‬
‫ليماني في عام الفيل‪ ،‬حينما أمر جماعته بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب‪ ،‬ونزل إلى‬ ‫وقد اشتهر موقفه ا ِ‬
‫س المستوحشين‪ ،‬ول وحشة معك‪ ،‬فالبيت‬ ‫ل ويستنصره على أبرهة وجنوده مناجيًا‪" :‬الّلهّم أنت أني ُ‬ ‫الكعبة يدعو ا ّ‬
‫ب الدار أولى بالدار"‪.‬‬
‫بيُتك والحرُم حرُمك والدار داُرك‪ ،‬ونحن جيراُنك‪ ،‬تمنع عنه ما تشاء‪ ،‬ور ّ‬
‫ب من الطيور من جهة البحر يحمل كل واحد منها ثلثة أحجار‪ ،‬حجر في‬ ‫وفي الصباح خرجت أسرا ٌ‬
‫ل محطمة رَووسهم‬ ‫لحجار بأمر من ا ّ‬ ‫ل من رجليه وحّلقت فوق رَووس الجند‪ ،‬ورجمتهم با َ‬ ‫منقاره‪،‬وحجر في ك ّ‬
‫وممزقة لحومهم‪ ،‬وقد أصاب حجر منها رأس أبرهة القائد‪ ،‬فأمر جنوده بالتراجع والعودة إلى اليمن‪ ،‬إلّ أّنهم‬
‫ُأهلكوا في الطريق‪ ،‬حتى أبرهة نفسه مات قبل وصوله صنعاء‪(1).‬‬
‫طم جيش أبرهة‪ ،‬وانهزم أعداء قريش‪ ،‬وعظم شأن المكّيين‪،‬وشأن الكعبة المشرفة‬ ‫وقد نتج من هذه العملية‪ ،‬أن تح ّ‬
‫لغارة على قريش‪ ،‬أو التطاول على‬ ‫في نظر العرب وغيرهم‪ ،‬فلم يجرأ أحد بعد ذلك على غزو مكة‪ ،‬أو ا ِ‬
‫الكعبة‪ .‬كما أّنها من جانب آخر‪ ،‬أحدثت في نفوس القرشيين حالت جديدة خاصة‪ ،‬فقد زادت من غرورهم‬
‫وعنجهيتهم واعتزازهم بعنصرهم‪ ،‬فقرروا تحديد شَوون الخرين والتقليل من وزنهم‪ ،‬على أساس أّنهم فقط‬
‫الطبقة الممتازة من العرب‪ .‬كما دفعتهم‬
‫____________‬
‫لنوار‪.130|5:‬‬ ‫‪ . 1‬السيرة الحلبية‪43|1 :‬؛ الكامل في التاريخ‪260|1:‬؛ بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 28‬‬
‫لصنام وتحميهم وتدافع‬ ‫لصنام )الـ ‪ ( 360‬إذ أّنهم فقط الذين تحبهم تلك ا َ‬ ‫إلى التصور بأّنهم موضع عناية ا َ‬
‫عنهم!!‬
‫ل ذلك إلى التمادي في لهوهم ولعبهم‪ ،‬والتوسع في ممارسة الترف والّلذات‪ ،‬وإظهار الولع بشرب‬ ‫وقد دفعهم ك ّ‬
‫لصنام‪ ،‬متصورين‬ ‫الخمر‪ ،‬حتى أّنهم مّدوا موائد الخمر في فناء الكعبة‪ ،‬وأقاموا مجالس أنسهم إلى جانب تلك ا َ‬
‫لوثان!!‬‫لصنام وا َ‬‫ن حياتهم الجميلة هذه هي من بركة تلك ا َ‬ ‫أّ‬
‫ن جميع العرب محتاجون إلى معبدنا‪،‬‬ ‫ي احترام وتقدير للغير فقالوا‪ :‬إ ّ‬‫كما أّنهذه الحالة جعلت قريش تقوم بإلغاء أ ّ‬
‫لعداء‪.‬‬‫حَمتنا من ا َ‬‫فقد رأى العرب عامًة كيف اعتنى بنا آلهة الكعبة خاصًة‪ ،‬وكيف َ‬
‫ج‪ ،‬وتعاملهم بخشونة وأسلوب ديكتاتوري‪،‬‬ ‫ل من يدخل مكة للعمرة أو الح ّ‬ ‫ومن ذلك بدأت قريش تضّيق على ك ّ‬
‫وفرضت عليهم أل يصطحب أحد منهم طعامًا معه من خارج الحرم ول يأكل منه‪ ،‬بل عليه أن يقتني من طعام‬
‫أهل الحرم ويأكل منه‪ ،‬وأن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مّكة التقليدية القومية‪ ،‬أو يطوف عريانًا‬
‫لمر من رَوساء القبائل وزعمائها‪ ،‬كان عليه أن‬ ‫بالكعبة إذا لم يكن في مقدوره شراَوها‪ .‬و من رفض الخضوع ل َ‬
‫سها حتى صاحبها‪(1).‬‬ ‫ق في م ّ‬‫لحد الح ّ‬ ‫ينزع ثيابه بعد النتهاء من الطواف ويلقيها جانبًا‪ ،‬دون أن يكون َ‬
‫أّما النساء فكان عليهن إذا أردن الطواف أن يطُفن عراة‪ ،‬ويضعن خرقة على رَووسهن‪ .‬كما أّنه لم يكن يحق‬
‫ل يتحدث في شيء من أمر دينه وكتابه‪.‬‬ ‫ي‪ ،‬وعليه أ ّ‬‫ل أن يكون أجيرًا لمك ّ‬ ‫ي أن يدخل مكة‪ ،‬إ ّ‬‫ي أو مسيح ّ‬ ‫لي يهود ّ‬‫َ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬كانت تسّمى عندهم "اللقى"‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 29‬‬
‫لضافة إلى ذلك‪ ،‬فإّنهم أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا بمناسك عرفة‪ ،‬كما يفعل بقية الناس‪ ،‬حيث تركوا الوقوف‬‫با ِ‬
‫لفاضة منها‪ ،‬بالرغم من أّنآباءهم ـ من ولد إسماعيل ـ كانوا يقّرون أّنها من المشاعر والحج‪(1).‬‬‫بها وا ِ‬
‫ي‪.‬‬
‫لرضية وأعدها لظهور مصلح عالم ّ‬ ‫لخلقي والترف والنحراف‪ ،‬قد هّيأ ا َ‬ ‫ن كّلذلك النفلت ا َ‬ ‫إّ‬
‫ل‪ ،‬فقد سعى إلى أن يزّوجه‪ ،‬فاختار له‪" :‬آمنة بنت وهب بن عبد مناف"‬ ‫أّما بالنسبة لبن عبد المطلب‪ ،‬عبد ا ّ‬
‫عِرفت بالعّفة والطهر والنجابة والكمال‪ .‬كما اختار لنفسه "دللة" ابنة عم آمنة‪ ،‬فرزق منها حمزة‪ ،‬عّم‬ ‫التي ُ‬
‫الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" الذي كان في نفس عمر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( )‪ (2‬و قد تّم حفل‬
‫ل" مع زوجته ردحًا من‬ ‫الزفاف في منزل السيدة آمنة طبقًا لما كان عليه المتعارف في قريش‪ ،‬ثّم بقي "عبدا ّ‬
‫الزمن حتى سافر في تجارة إلى الشام‪ ،‬وتوّفي في أثناء الطريق‪.‬‬
‫ويرتبط بموضوع أسلف النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‪ ،‬طهارته "صلى ال عليه وآله وسلم" من َدَنس الباء‬
‫لّمهات‪ ،‬إذ لم يكن في أجداده وجّداته‪ ،‬سفاح وزنا‪ ،‬وهو ما اّتفق عليه المسلمون‪ ،‬وصّرح به الرسول‬ ‫وعهر ا َُ‬
‫"صلى ال عليه وآله وسلم" في أحاديث رواها السنة والشيعة‪ .‬فقد جاء عنه "صلى ال عليه وآله وسلم" إّنه قال‪:‬‬
‫سفاحًا"‪(3).‬‬‫لرحام الطاهرة نكاحًا ل ِ‬ ‫لصلب الطاهرة إلى ا َ‬ ‫"ُنقلُتمن ا َ‬
‫ل الخلق ِفرقتين‪ ،‬جعله‬‫ن محّمدا عبده ورسوله وسيد عباده كّلما نسخ ا ّ‬ ‫لمام علي )عليه السلم( ‪":‬وأشهد أ ّ‬ ‫وقال ا ِ‬
‫في خيرهما‪ ،‬لم يسِهم فيه عاهٌر ول‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬الكامل في التاريخ‪.266|1:‬‬
‫‪ . 2‬تاريخ الطبري‪ 7|2:‬وهو يذكر أّنه "هاله"‪.‬‬
‫‪ . 3‬كنز الفوائد‪.164|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 30‬‬
‫ب فيه فاجر"‪(1).‬‬
‫ضر َ‬
‫لمام الصادق )عليه السلم( ذلك مفسرًا الية‪) :‬وتقّلبك في الساجدين( ‪" :‬أي في أصلب النبّيين‪ ،‬نبي‬
‫كما ذكر ا ِ‬
‫ح غير سفاح من لدن آدم"‪(2).‬‬ ‫ب أبيه عن نكا ٍ‬
‫بعد نبي‪ ،‬حتى أخرجه من صل ِ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬نهج البلغة‪ ،‬الخطبة ‪ ،215‬شرح محمد عبده‪.‬‬
‫‪ . 2‬تفسير مجمع البيان‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 31‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫لكرم‬
‫الرسول ا َ‬

‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم(‬


‫محمد بن عبد ا ّ‬

‫ـ مولده‬
‫ـ فترة طفولته‬
‫ـ فترة شبابه‬
‫ـ فترة عمله‬
‫ـ زواجه‬
‫ـ أولده‬
‫===============‬
‫) ‪( 32‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 33‬‬

‫‪ .1‬مولده )صلى ال عليه وآله وسلم(‬

‫ولد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في عام الفيل )‪570‬م( بإّتفاق كّتاب السيرة‪ ،‬ورحل عن الدنيا في )‪632‬م(‬
‫لّول‪ ،‬يوم الجمعة السابع عشر منه‪ ،‬عند الشيعة‪،‬‬ ‫عن ‪ 62‬أو ‪ 63‬عامًا‪ ،‬كما اّتفقوا على أّنه ولد في شهر ربيع ا َ‬
‫لثنين الثاني عشر من الشهر نفسه‪(1).‬‬ ‫أّما السّنة فقد عّينوا يوم ا ِ‬
‫لقرار بأنّ ما ينقله هَولء ويكتبونه من تفاصيل تتعّلق‬ ‫ولّما كان الشيعة ينقلون أخبار أهل البيت عنهم‪ ،‬فلبّد من ا ِ‬
‫لّنها مأخوذة عن أقربائه وأبنائه‪.‬‬
‫بحياة الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( هي أقرب من غيرها إلى الحقيقة‪َ ،‬‬
‫وقد حملت به ُأّمه "السيدة آمنة بنت وهب" في أّيام التشريق من شهر رجب‪ ،‬فإذا اعتبرنا يوم ولدته‪ 17 ،‬من‬
‫لّول‪ ،‬فتكون مّدة حملها به ثمانية أشهر وأّياما‪.‬‬ ‫ربيع ا َ‬
‫وقد وقعت يوم ولدته أحداث عجيبة‪ ،‬فقد ُوِلد مختونًا مقطوع السرة‪ ،‬وهو‬
‫____________‬
‫لقوال التي وردت في ميلد النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪.‬‬ ‫لسماع‪ :‬ص ‪ ،3‬وقد ذكر جميع ا َ‬ ‫‪ . 1‬إمتاع ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 34‬‬
‫لصنام في الكعبة على وجوهها‪،‬‬
‫ل" )‪ (1‬كما تساقطت ا َ‬
‫ل بكرًة وأصي ً‬
‫ل كثيرًا‪ ،‬سبحان ا ّ‬
‫ل أكبر والحمد ّ‬
‫يقول‪" :‬ا ّ‬
‫وخرج نوٌر معه أضاء مساحة واسعة من الجزيرة العربية‪ ،‬وانكسر إيوان كسرى‪ ،‬وسقطت أربعة عشر شرفة‬
‫منه‪ ،‬وانخمدت نار فارس التي كانت تعبد‪،‬وجفت بحيرة ساوة‪.‬‬

‫لحداث الخارقة والعجيبة إلى أمرين مَوثرين‪:‬‬ ‫وهدفت هذه ا َ‬


‫لسباب التي دعت إلى كّلذلك‬ ‫‪ .1‬فهي تدفع الجبابرة والوثنيين إلى التفكير فيما هم فيه من أحوال‪،‬فيتساءلون عن ا َ‬
‫لحداث كانت في الواقع تبشر بعصر جديد هو عصر انتهاء الوثنيةوزوال مظاهر‬ ‫ن تلك ا َ‬‫لعلهم يعقلون‪ .‬إذ أ ّ‬
‫السلطة الشيطانية واندحارها‪.‬‬
‫لنبياء‬
‫‪ .2‬ومن جهة ُأخرى‪ ،‬تبرهن على الشأن العظيم للوليد الجديد‪ ،‬على أّنه ليس عاديًا‪ ،‬بل هو كغيره من ا َ‬
‫ل تلك الحوادث العجيبة والوقائع الغريبة‪.‬‬ ‫العظام الذين رافقت ولدُتهم أمثا َ‬
‫ل تعالى‪ ،‬واحتفل به مع عامة قريش‪.‬‬ ‫ق عبد المطلب عنهبكبش شكرًا ّ‬ ‫وفي اليوم السابع لمولده المبارك‪ ،‬ع ّ‬
‫وقال عن تسميته النبي الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم( محّمدا )صلى ال عليه وآله وسلم( وعن سببه‪ :‬أردت‬
‫لرض)‪(2‬‬ ‫أن ُيحَمد في السماء وا َ‬
‫وكانت ُأّمه )عليها السلم( قد سّمته أحمد قبل أن يسّميه جّده)‪ (3‬وكان هذا السم نادرًا بين العرب فلم يسم به‬
‫صة به‪.‬‬‫منهم سوى ‪ 16‬شخصًا‪ ،‬ولذا فإّنه كان من إحدى العلمات الخا ّ‬

‫____________‬
‫لنوار‪248|15:‬؛ السيرة الحلبية‪.67|1:‬‬
‫‪ . 1‬تاريخ اليعقوبي‪5|2 :‬؛ بحار ا َ‬
‫‪ . 2‬السيرة الحلبية‪.78|1 :‬‬
‫‪ . 3‬السيرة الحلبية‪.82|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 35‬‬
‫أّما عن رضاعته )صلى ال عليه وآله وسلم( فقد ارتضع من ُأّمه ثلثة أّيام ثّم أرضعته امرأتان هما‪:‬‬
‫ـ ثويبة‪ :‬مولة أبي لهب‪ ،‬إذ أرضعته لمّدة أربعة أشهر فقط‪ ،‬وقد قّدر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وزوجته‬
‫خديجة)عليها السلم( هذا العمل لها حتى آخر حياتها‪ ،‬فأكرمها وأراد أن يعتقها فأبى أبو لهب‪ ،‬وكان يبعث إليها‬
‫بالصلة حّتى وفاتها‪.‬‬
‫ل المخزومي‪ ،‬فكانوا إخوة في الرضاعة‪.‬‬ ‫كما أّنها أرضعت من قبل حمزة‪ ،‬وأبا سلمة بن عبد ا ّ‬
‫ل ‪ ،‬أنيسة‪ ،‬شيماء‪ .‬وقامت "شيماء" بحضانة النبي‬ ‫لولد‪ :‬عبد ا ّ‬ ‫ـ حليمة السعدية‪ ،‬بنت أبي ذَويب‪ .‬وكان لها من ا َ‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( أيضًا‪.‬‬
‫وقد استلمت حليمة السعديُة النبّيص في عمر لم يتجاوز أربعة أشهر‪ ،‬في عام قحط وجدب‪،‬فأصابها الرخاء‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لم يقبل في ذلك الزمان أي ثدي‬ ‫وازدهرت حياتها بعد ذلك‪ .‬ومن المعروف أ ّ‬
‫ل ثدي حليمة‪(1).‬‬ ‫من المرضعات إ ّ‬
‫وفي هذه المناسبة‪ ،‬أوّد القول والتذكير‪ ،‬أّنه ينبغي أن يحتفل المسلمون جميعًا بمولد النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم( بإقامة المهرجانات الكبرى والحتفالت‪ ،‬تكريمًا له )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬فهو أمر مطلوب‬
‫ل َمَعُه‬
‫صُروُه َواّتبُعوا الّنوَر اّلذي ُأْنِز َ‬
‫عّزُروُه َوَن َ‬‫ن آَمُنوا ِبِه َو َ‬
‫ومحّبب في الشريعة المقدسة لقوله تعالى‪َ) :‬فاّلذي َ‬
‫جل‪.‬‬ ‫حون()‪ (2‬وعّزر بمعنى كّرم وب ّ‬ ‫ك ُهُم اْلُمْفِل ُ‬
‫ُأولِئ َ‬
‫لشادة بشرفه‬ ‫فالحتفال بمولده )صلى ال عليه وآله وسلم( يعني ذكر أخلقه العظيمة‪ ،‬وسجاياه النبيلة‪ ،‬وا ِ‬
‫ك( ‪(4).‬‬ ‫ك ِذْكَر َ‬
‫عظيم( )‪َ )(3‬وَرَفْعنا َل َ‬ ‫ق َ‬ ‫خُل ٍ‬
‫ك َلَعلى ُ‬ ‫وفضله‪ ،‬وهي ُأمور مدحه بها القرآن الكريم‪َ) :‬وِإّن َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬البحار‪.342|15:‬‬
‫لعراف‪.157:‬‬ ‫‪.2‬اَ‬
‫‪ . 3‬القلم‪.4:‬‬
‫لنشراح‪.4:‬‬ ‫‪.4‬اِ‬

‫===============‬
‫) ‪( 36‬‬
‫ب الكامن في النفوس‬‫ل على مّنه‪ ،‬وإظهار للح ّ‬
‫ل بالقيم السامية‪ ،‬وشكٌر ّ‬
‫فالحتفال بمولده الكريم هو احتفا ٌ‬
‫ل تعالى وأمر بتكريمه واحترامه وحّبه وموّدته‪.‬وهو رّدعلى من يزعم بأّنذلك محرم لكونه‬ ‫له‪،‬وتكريم لمن كرمه ا ّ‬
‫لولى على‬‫لسلمية ا َُ‬‫بدعة‪ ،‬ل يخلو من منكرات ومحرمات كالرقص والغناء‪ .‬فالمسلمون دِرجوا في العصور ا ِ‬
‫الحتفال بذكرى مولدهبإنشاد القصائد الرائعة في مدحه‪ ،‬وذكر خصاله ومكارم أخلقه وإظهار السرور‬
‫ضله به ص على البشرية‪(1).‬‬ ‫ل تعالى بلطفه وتف ّ‬ ‫والفرح‪،‬والشكر ّ‬
‫ل وقت وزمان‪،‬في حياته وبعد مماتهص‪.‬‬ ‫ولذا كان لبّد من أداء هذا الحتفال في ك ّ‬

‫‪ .2‬فترة طفولته )صلى ال عليه وآله وسلم(‬

‫استقر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في قبيلة"بني سعد" خمسة أعوام زارته ُأّمه خللها ثلث مّرات‪ ،‬وقامت‬
‫حليمة برعاية شَوونه خير قيام‪،‬وبالغت في كفالته والعناية به‪ ،‬كما حافظ فيها )صلى ال عليه وآله وسلم( على‬
‫ل‪ ،‬ورافقتهم "ُأّم‬‫فصاحته و بلغته‪ ،‬وعندما رجع إلى ُأّمه)عليها السلم( فّكرت بزيارة المدينة وقبر زوجها عبدا ّ‬
‫ي "صلى ال عليه وآله وسلم" بيت أبيه الذي توّفي فيه ودفن‪ .‬إ ّ‬
‫ل‬ ‫أيمن" حيث أمضوا هناك شهرًا‪ ،‬رأى فيه النب ّ‬
‫لبواء)‪ (2‬مّما دفع الجميع إلى إظهار المحبة له‬
‫ن ُأّمه العزيزة توّفيت أيضًا في الطريق إلى مكة بمنطقة ا َ‬
‫أّ‬
‫والعناية به‪ ،‬خاصًةجّده "عبد المطلب" الذي أحبه أكثر من أولده‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬للتوسع في هذا الموضوع‪ ،‬يرجع إلى‪ :‬معالم التوحيد في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ . 2‬السيرة الحلبية‪.105|1 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 37‬‬
‫ل تعالى منه أن يهّيئه لمواجهة المستقبل‬
‫وربما كان ُيتم النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في صالحه‪ ،‬فقد أراد ا ّ‬
‫ل قيد‪ ،‬يصنع نفسه بنفسه‪،‬‬ ‫لحد‪ ،‬فنشأ حرًا من ك ّ‬ ‫بشدائده و مصاعبه ومتاعبه‪،‬أو أراد أل يكون في عنقه طاعة َ‬
‫ي دخل فيه وفي مصيره‪ ،‬فتكون بالتالي‬‫ن نبوغه ليس نبوغًا بشريًا عاديًا ومألوفًا‪ ،‬وأّنه لم يكن لوالديه أ ّ‬
‫وليتضح أ ّ‬
‫عظمته الباهرة نابعة من مصدر الوحي وليس من العوامل العادية المتعارفة‪.‬‬
‫وقد فاجأت الحياُة نفس النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( الحزينة بوفاة جّده العظيم"عبد المطلب" وهو في‬
‫الثامنةمن عمره‪ ،‬فبكى عليه "صلى ال عليه وآله وسلم" كثيرًا وظّلت دموعه تجري حتى ُوري في لحده‪(1).‬‬

‫كفالة أبي طالب‬

‫كان أبو طالب أخًا لوالد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من ُأّمواحدة‪ ،‬وقد تقّبل كفالة النبيص وتحّمل المسَوولية‬
‫بفخر واعتزاز‪.‬‬
‫ي )صلى ال عليه وآله وسلم( عّمه في إحدى الحروب التي وقعت في‬ ‫وفي العاشرة من عمره‪ ،‬شارك النب ّ‬
‫ن "اليعقوبي" ينفي في تاريخه اشتراك النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫لأّ‬ ‫لشهر الحرم فسّميت بحرب الفجار‪ ،‬إ ّ‬ ‫اَ‬
‫وسلم( وأبي طالب فيها‪(2).‬‬
‫ورافق عّمه في سفره إلى الشام وهو في ربيعه الثاني عشر‪ ،‬شاهد فيها "مدين‪ ،‬ووادي القرى‪ ،‬وديار ثمود"‪،‬‬
‫طلع على مشاهد الشام وطبيعتها الجميلة‪.‬‬‫وا ّ‬
‫____________‬
‫لسلم قد أخذ الكثير من‬
‫ناِ‬ ‫‪ . 1‬تاريخ اليعقوبي ‪ 10|2:‬حول سيرة عبد المطلب‪ ،‬أّنه كان موحدًا ل وثنيًا‪ ،‬وإ ّ‬
‫سننه‪.‬‬
‫‪ . 2‬تاريخ اليعقوبي‪.15|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 38‬‬
‫لحداث المرتبطة‬ ‫ن أحداث "بصرى" غّيرت برنامج رحلة أبي طالب‪ ،‬ودفعته إلى العودة إلى مّكة‪ ،‬وهي ا َ‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫بمقابلة الراهب"بحيرا" بالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وما تنّبأ عنه بقوله‪" :‬إّنه كائن لبن أخيك هذا شأن‬
‫ب العالمين يبعثه رحمًة للعالمين‪.‬‬ ‫عظيم‪ ،‬نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا‪ ،‬هذا سّيد العالمين‪ ،‬هذا رسول ر ّ‬
‫ن قتله"‪(1).‬‬‫احذر عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا ما أعرف ليقصُد ّ‬
‫أّما ما قيل عن تلك المقابلة من آراء متطرفة‪ ،‬وبأّنالراهب بحيرا عّلم النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ُأمور دينه‬
‫ن النبي )صلى ال عليه‬ ‫لسلم‪ ،‬إذ أ ّ‬ ‫لنجيل والتوراة‪ ،‬فهو فرية المستشرقين والكارهين ل ِ‬ ‫التي درسها من كتب ا ِ‬
‫وآله وسلم( لم يمكث هناك أكثرمن أربعة أشهر هي فترة رحلة الشام عند العرب‪ ،‬ثّم إذا كان هذا الراهب يمتلك‬
‫هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلمية التي عرضها الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( فلماذا لم يقم هو‬
‫بنشرها‪ ،‬فيأخذ شهرته منها؟ ثّم لماذا اختار محّمدا )صلى ال عليه وآله وسلم( دون غيره ليعرض عليه تلك‬
‫المعلومات بالرغم من توافد القبائل عليه دومًا؟‬
‫علٍم‬
‫لخبار الغيبية وصلت إلى النبي ص عن طريق الوحي فقط‪ ،‬فلم يكن على ِ‬ ‫ناَ‬ ‫ن اليات القرآنية تصرح بأ ّ‬ ‫إّ‬
‫ن القرآن الكريم يجّلهم‬ ‫لنبياء‪ ،‬في حين أ ّ‬ ‫لنجيل ل تذكر ُأمورًا طّيبة عن ا َ‬ ‫ن ُكتب التوراة وا ِ‬ ‫بها مطلقًا‪ .‬كما أ ّ‬
‫ويعظمهم ويكرمهم‪،‬على عكس ما جاء عنهم في كتب هَولء‪.‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫ولذا لم يعقل أن يقتبس القرآن الكريم من تلك الكتب وبينهما ُبعد المشرقين‪ .‬كما أ ّ‬
‫عَلْيُكْم ول َأدراُكْم‬
‫ل ما َتلوُتُه َ‬‫ل َلْو شاَء ا ّ‬
‫وسلم( لم يشرح تلك القصص والقضايا للناس قبل الوحي والرسالة‪ُ) :‬ق ْ‬
‫ن َقْبلِه َأَفل َتْعِقُلون( ‪(2).‬‬
‫عُمرًا ِم ْ‬
‫ت ِفيُكْم ُ‬
‫بِه َفَقْد َلِبث ُ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬تاريخ الطبري‪32|2:‬؛ السيرة الحلبية‪.180|1 :‬‬
‫‪ . 2‬يونس‪.16:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 39‬‬
‫ي )صلى ال عليه وآله وسلم( لبث في قومه فترة طويلة لم يتلو فيها سورة من القرآن ول‬ ‫ن النب ّ‬
‫فالية تَوكد على أ ّ‬
‫ل تعالى إليه بعد أن بعثه بالرسالة‪(1).‬‬
‫ل ما أخبر به هو مّما أوحى به ا ّ‬ ‫آية من آياته‪ ،‬فك ّ‬

‫‪ .3‬فترة شبابه‬
‫كانت آثار الشجاعة والقوة باديًة على جبينه )صلى ال عليه وآله وسلم( منذ طفولته وصباه‪ ،‬ففي الخامسة عشرة‬
‫جار الرابعة التي استمّرت أربع‬
‫جار بين قريش و هوازن‪ ،‬وهي حرب الف ّ‬ ‫من عمره قيل اّنه شارك في حرب الف ّ‬
‫سنوات‪ ،‬كان يناول فيها أعمامه النبال‪ .‬وتكشف مشاركته في تلك العمليات العسكرية وهو في تلك السن‪ ،‬عن‬
‫شجاعته وقدرته الروحية الكبرى‪ ،‬ولهذا كان المسلمون ـ فيما بعد ـ يحتمون بالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫عند اشتداد المعركة‪.‬‬
‫وفي مقابل هذا روى المَورخ اليعقوبي )المتوّفى ‪290‬هـ( في تاريخه‪:‬‬
‫ن أبا طالب منع أن يكون فيها أحٌد من بني هاشم‪ .‬وقال هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلل للشهر‬ ‫وقد روي أ ّ‬
‫ل بن جدعان التيمي‬
‫الحرام ول أحضره ول أحٌد من أهلي‪ .‬فأخرج الزبير بن عبد المطلب متكرهًا وقال عبد ا ّ‬
‫وحرب ابن ُأمّية‪ :‬ل نحضر أمرًا تغيب عنه بنوهاشم فخرج الزبير‪(2).‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬للتوسع في الموضوع‪ ،‬راجع مفاهيم القرآن للشيخ جعفر السبحاني‪.321|3:‬‬
‫‪ . 2‬تاريخ اليعقوبي‪ ،12|2:‬طبع النجف‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 40‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كان أحد المشاركين في حلف الفضول‪ ،‬الذي اعتبر ميثاقًا بين‬ ‫كما أ ّ‬
‫سسه جماعة اشُتّقت أسماَوهم جميعًا من‬ ‫الجرهميين يهدف إلى الدفاع عن حقوق الضعفاء والمظلومين‪ .‬وقد أ ّ‬
‫لفظة "الفضل"‪ ،‬مثل‪ :‬فضل بن فضالة‪ ،‬وفضل بن الحارث‪ ،‬وفضل بن وداعة‪ .‬وقد ُنقلت عبارات كثيرة عن‬
‫ل بن جدعان‬ ‫حلف‪،‬واعتز بمشاركته فيه‪" :‬لقد شهدُتفي دار عبد ا ّ‬ ‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أشاد فيها بال ِ‬
‫لجبت"‪.‬‬ ‫لسلم َ‬ ‫حلفًا لو دعيت به في ا ِ‬ ‫ِ‬
‫لمام الحسين )عليه السلم( أيضًا‪ ،‬فضرب به المثل في أخذ الحّقورّده لصاحبه‪ ،‬مثلما طلب هو حّقه‬ ‫كما أشاد به ا ِ‬
‫من "الوليد بن عتبة"أمير المدينة‪.‬‬

‫‪ .4‬فترة عمله‬

‫أمضى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( شطرًا من حياته قبل البعثة‪ ،‬في رعي الغنم في الصحارى‪ ،‬لعّله‬
‫ل صعب في هذا المجال‪ .‬إذ‬ ‫ليصبح بذلك صبورًا في تربية الناس الذين سُيكلف بقيادتهم وهدايتهم‪ ،‬ويستسهل ك ّ‬
‫كان لبّد أن يتسّلح بسلح الصبر‪ ،‬ويتجّهز بأداة التحّمل‪ ،‬ويتزّود بقدرة الستقامة على طريق الهدف‪ ،‬وذلك حتى‬
‫لبتعويد النفس على هذه الصفات وحملها على مشاق‬ ‫ن ذلك ل يكون إ ّ‬‫يمكنه إدارة البشر في المستقبل‪ .‬إذ أ ّ‬
‫ن عمله في الصحراء والجبال‪ ،‬ساعده في التخّلص بعض الشيء من آلمه الروحية الناشئة من‬ ‫لعمال‪ .‬كما أ ّ‬ ‫اِ‬
‫لحوال المشينة التي كان عليها أهل مكة وما كانوا فيه من عادات سيئة وظلم‬ ‫لوضاع المزرية وا َ‬ ‫رَوية ا َ‬
‫وانحراف وطغيان‪ .‬كما أّنعمله في تلك البقاع‪ ،‬أعطاه فرصة طيبةللنظر في خلق السموات والتطلع في النجوم‬
‫والكواكب وأحوالها‪ ،‬ثّمالمعان‬
‫===============‬
‫) ‪( 41‬‬
‫ل سبحانه و تعالى‪ ،‬وقدرته و حكمته وعلمه وإرادته‪.‬‬ ‫في اليات الدالة على وجود ا ّ‬
‫لأّنهم ل يرون‬ ‫ليمان والتوحيد‪ ،‬إ ّ‬
‫لنبياء تكون منورة بمصابيح المعرفة‪ ،‬ومضاءة بأنوار ا ِ‬ ‫ن قلوب ا َ‬‫فبالرغم من أ ّ‬
‫للهية‪ ،‬إذ أّنه من خلل هذا الطريق يصلون إلى‬ ‫أنفسهم في غنى عن النظر في عالم الخلق والتفّكر في اليات ا ِ‬
‫ليمان‪،‬ويبلغون أسمى درجات اليقين‪،‬وبالتالي يتمّكنون من الوقوف على ملكوت السماوات‬ ‫أعلى مراتب ا ِ‬
‫لرضين‪.‬‬ ‫وا َ‬
‫ي الجبلي‪ ،‬تعاطى )صلى ال عليه وآله وسلم( العمل التجاري‪ ،‬باقتراح من عّمه أبي‬ ‫وبعد هذا العمل الصحراو ّ‬
‫طالب‪ ،‬الذي أرشده بالتوجه للعمل في تجارة السيدة "خديجة بنت خويلد" التي كانت تعمل بالتجارة الواسعة‪،‬‬
‫فأصبحت غنيًة ذات مال كثير وذات شرف عظيم‪ ،‬استخدمت الرجال في إدارة أعمالها الكثيرة‪ .‬فقال أبو طالب‬
‫للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬يابن أخي‪ ،‬هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها أكثر الناس‪ ،‬وهي تبحث‬
‫ضلتك على غيرك‪ ،‬لما يبلغها عنك من‬ ‫ت إليك‪،‬وف ّ‬‫لسرع ْ‬ ‫ت نفسك عليها َ‬ ‫عن رجل أمين‪،‬فلو جئتها فعرض َ‬
‫طهارتك"‪.‬‬
‫لقدام بنفسه على ذلك فرّد عليه ‪":‬فلعّلها‬ ‫ن إباء الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( وعلّو طبعه منعاه من ا ِ‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫لمين بين الناس‪ .‬وقد حدث ماأراده النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫لّنها تعرف أّنه المعروف با َ‬ ‫أن ترسل إلّيفي ذلك" َ‬
‫وسلم( فقد بعثت إليه قائلًة‪":‬إّني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم‬
‫ل من قومك‪ ،‬وأبعث معك غلمين يأتمران بأمرك في السفر"‪(1).‬‬ ‫أخلقك‪،‬وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رج ً‬
‫ل إليك"‪.‬‬
‫ن هذا رزق ساقه ا ّ‬
‫ولّما علم عّمه أبو طالب بذلك قال له‪" :‬إ ّ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬البحار‪22|16:‬؛السيرة الحلبية‪132|1 :‬؛ الكامل في التاريخ‪.24|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 42‬‬
‫وهكذا تّم التفاق على أن يقوم النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بالعمل في أموالها وتجارتها على نحو‬
‫لحد قط‪(1).‬‬ ‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ما كان أجيرًا َ‬ ‫لجارة‪ ،‬فقد ذكر "اليعقوبي"‪ :‬إ ّ‬‫المضاربة ل ا ِ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( حصل على أرباح وفيَرة من أّول تجارته إلى الشام‪ .‬ولما مّر في‬ ‫ولذا فإ ّ‬
‫لّول مع عّمه إلى تلك المناطق‪ .‬وعند وصولهم إلى مّكة‪ ،‬قال‬ ‫الطريق على ديار عاد وثمود‪ ،‬تذكر سفره ا َ‬
‫"ميسرة" غلم السيدة خديجة‪ :‬يا محّمد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما لم نربح في أربعين سنة‪ ،‬فاستقب ْ‬
‫ل‬
‫بخديجة وأبشرها بربحنا‪ .‬فأسرع النبي ص وسبق القافلة متوجهًا نحو بيت خديجة‪ ،‬التي استقبلته بحفاوة كبيرة‪،‬‬
‫ن "ميسرة" أخبرها بكّلما حدث وحصل لهم في السفر‪،‬‬ ‫وسّرت بحديثه وأخباره عن رحلته ومكاسبه التجارية‪ .‬ثّم إ ّ‬
‫جار الذي‬ ‫منذ خروجهم ودخولهم إلى البلد‪ ،‬وخاصًة ما جرى‪ ،‬بين النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" وأحد الت ّ‬
‫جادله في البيع طالبًا منه أن يحلف باللت والعّزى‪ ،‬فرد عليه )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ :‬ماحلفت بهما قط‪،‬‬
‫ل شجرة‬ ‫لمّر فأعرض عنهما‪ .‬كما أخبرها عن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( حينما استراح في ظ ّ‬ ‫وإّني َ‬
‫ل نبي‪.‬ولما سأل عن اسمه من‬ ‫عندما كانوا في بصرى‪ ،‬فشاهده راهب فقال‪ :‬ما نزل تحت هذه الشجرة قط إ ّ‬
‫ت عنُه بشائر كثيرة‪(2).‬‬‫لنجيل‪،‬وقد قرأ ُ‬
‫لاِ‬ ‫لنبياء‪ ،‬إّنه هو هو ومنّز ُ‬
‫ي وهو آخر ا َ‬‫ميسرة فقال‪ :‬هو نب ّ‬
‫سع به على‬ ‫ل ما ربحه واستلمه من مال إلى عّمه أبي طالب‪ ،‬ليو ّ‬ ‫وقد سّلم النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ك ّ‬
‫أهله‪ ،‬مّما جعله فِرحًا مسرورًا بما قام به ابن أخيه تجاهه‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬تاريخ اليعقوبي‪.21|2:‬‬
‫‪ . 2‬البحار‪18|16 :‬؛ طبقات ابن سعد‪.130|1:‬‬

‫) ‪( 43‬‬
‫‪ .5‬زواجه )صلى ال عليه وآله وسلم(‬

‫في هذا الوقت‪ ،‬فّكر )صلى ال عليه وآله وسلم( جديًا في أن يّتخذ شريكة لحياته ويكّون ُأسرة‪ ،‬فكيف وقع‬
‫ل َمن تقّدم إليها من كبار الشخصيات القرشية‪ ،‬أمثال‪ :‬عقبة بن أبي‬ ‫اختياره على السيدة خديجة التي رفضت ك ّ‬
‫للفة والمحبة‪ ،‬إلى درجة أّنها‬‫معيط‪ ،‬وأبي جهل‪ ،‬وأبي سفيان؟ وكيف أّدى الرتباط بينهما والعلقة العميقة و ا َُ‬
‫لسلم؟‬ ‫ل ثروتها للنبيحتى ينفقها في نشر ا ِ‬
‫وهبت ك ّ‬
‫ل وأكثرهن فهمًا‪ ،‬وقد قيل لها‪ :‬سيدة قريش‪،‬‬ ‫كانت السيدة خديجة من خيرة نساء قريش شرفًا وأقواهن عق ً‬
‫وسّميت الطاهرة لشدة عفافها‪ ،‬وذلك في أّيام الجاهلية‪.‬‬
‫لخلق‪ ،‬وشرف النفس‪،‬‬ ‫وحين رفضت الزواج من سادة القوم َقِبلت بسيد البشر لما عرفت عنه من كرم ا َ‬
‫والسجايا الكريمة‪ ،‬والصفات العالية‪ .‬وهي المرأة الثرية التي وإن عاشت في الترف وأفضل العيش‪ ،‬إلّ أّنها‬
‫أصبحت في بيت زوجها الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( الزوجة المطيعة الخاضعة الوفية المخلصة‪ ،‬و‬
‫سارعت إلى قبول دعوته واعتناق دينه بوعي وبصيرٍة‪ ،‬مع علمها بما ينطوي ذلك على مخاطر ومتاعب‪ .‬ثّم‬
‫ل ثروتها ومالها في خدمة العقيدة والمبدأ‪ ،‬مشاطرة زوجها بذلك آلَمه ومتاعَبه ‪ ،‬وراضية بمرارة‬ ‫جعلت ك ّ‬
‫الحصار في شعب أبي طالب ثلث سنوات‪ ،‬وهي في سن الرابعة والستين‪(1).‬‬
‫وقد بلغ من خضوعها للرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( وحبها له‪ ،‬أّنها بعد أن تم الزواج بينهما قالت له‪ :‬إلى‬
‫بيتك‪ ،‬فبيتي بيتك وأنا جاريتك‪(2).‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬شرح نهج البلغة‪.59|14 :‬‬
‫لنوار‪.4|16 :‬‬‫‪ . 2‬بحارا َ‬
‫===============‬
‫) ‪( 44‬‬
‫ن "نفيسة بنت علّية"‬‫ويَوكد المَوّرخون أّنها هي التي اقترحت على النبيالزواج‪ ،‬وكما يعتقد أكثر المَوّرخين‪ ،‬أ ّ‬
‫بّلغت رسالتها إلى النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" الذي تقّبل عرضها‪ ،‬فأخبرت السيدة خديجة بذلك‪ ،‬فأرسلت‬
‫لقارب‪(1).‬‬ ‫بوكيلها "عمرو بن أسد" لتحديد ساعة مراسم الخطبة في محضر ا َ‬
‫فشاور النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أعمامه وعلى رأسهم "أبو طالب"الذي خطب في القوم يمدح النبي‬
‫ل‪" :‬وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة‪،‬‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( ويطلب الزواج له من السيدة خديجة قائ ً‬
‫والصداق ما سألتم عاجله وآجله من مالي‪ ،‬ومحّمد من قد عرفتم قرابَته"‪.‬‬
‫ثّم أجرى عقد النكاح‪ ،‬ومهرها النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ 400‬دينار‪ ،‬وقيل أصدقها عشرين بكرة‪(2).‬‬
‫وكان عمرها في هذا الوقت أربعين عامًا‪ ،‬إذ أّنها ُولدت قبل عام الفيل بخمسة عشر عامًا‪ ،‬كما جاء عنها أّنها‬
‫تزوجت قبل النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" برجلين‪ ،‬أّولهما‪" :‬عتيق ابن عائذ"‪ ،‬ثّم بعده‪" :‬أبو هالةالتميمي"‪.‬‬
‫ل منهما بعد زواجه منها‪(3).‬‬‫وقد توفي ك ّ‬
‫وقد تمّيزت السيدة خديجة من نساء النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بأّنه لم يتزّوج عليها مّدة حياتها‪ ،‬وبلغت‬
‫ن أهل البيت "عليهم السلم"‬ ‫طمن زوجاته‪ (4).‬ومّما يدل على سمّو مقامها وعلّومنزلتها‪ ،‬أ ّ‬ ‫لديه مالم تبلغه امرأة ق ّ‬
‫طالمًا افتخروا بأّنخديجة منهم‪ ،‬وإّنهم من خديجة‪ ،‬فكانوا يعتزون بها ويشيدون بمكانتها‪ .‬فالسيدة خديجة )عليها‬
‫ب العميق للرسول‬‫السلم( هي مثال الشرف والعقل‪ ،‬والح ّ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬تاريخ الخميس‪.264|1:‬‬
‫‪ . 2‬السيرة الحلبية‪.139|1:‬‬
‫‪ . 3‬الستغاثة‪.70|1:‬‬
‫‪ . 4‬السيرة الحلبّية‪.169|1 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 45‬‬
‫لسلم الحنيف‪ ،‬فهي أّول‬ ‫لخلص‪ ،‬والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل ا ِ‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( والوفاء وا ِ‬
‫ل ورسوله‪،‬وصدقت محّمدا "صلى ال عليه وآله وسلم" وآزرته‪ ،‬فكان )صلى ال عليه وآله وسلم( ل‬ ‫من آمنت با ّ‬
‫ل عنه بخديجة التي خّففت عنه‪ ،‬بلطفها وعطفها‬ ‫لوفّرج ا ّ‬ ‫يسمع من المشركين شيئًا يكرهه‪ ،‬من إيذاء وتكذيب‪ ،‬إ ّ‬
‫وعنايتها به في غاية الخلص والود‪(1).‬‬
‫لسلم‪ ،‬وحرصها‬ ‫لقد اكتسبت السيدة خديجة بفضل إيمانها العميق بالرسالة المحّمدية‪ ،‬وتفانيها في سبيل ا ِ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( َذَكَرها‬ ‫لسلم‪ ،‬حتى أ ّ‬ ‫العجيب على حياة صاحب الرسالة‪ ،‬مكانًة ساميًة في ا ِ‬
‫للفات نظر المرأة المسلمة إلى القدوة التي ينبغي أن‬ ‫في أحاديثه الكثيرة‪ ،‬وأشاد بفضلها ومكانتها وشرفها‪ ،‬وذلك ِ‬
‫لضافة إلى ما يمكن أن تقدمه المرأة ـ و هي‬ ‫تقتدي بها في حياتها وسلوكها في جميع المجالت والحالت‪ ،‬با ِ‬
‫ى للرسالة‪ ،‬ماديًا كان أم معنويًا‪.‬‬‫نصف المجتمع ـ من دعم جّد ّ‬
‫لحاديث التي ُنقلت عن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أّنه قال عنها‪":‬أتاني جبرائيل )عليه‬ ‫ومن أشهر ا َ‬
‫شرها ببيت في الجّنة من قصب‬ ‫ل‪ ،‬إذا أتتك خديجة فاقرأ عليها السلم من ربها ومّني‪ ،‬وب ّ‬ ‫السلم( فقال يا رسول ا ّ‬
‫ل صخب فيه ول نصب"‪(2).‬‬
‫ل خيرًا منها‪ ،‬آمَنت بي إذ كفر الناس‪ ،‬وصّدقتني إذ‬ ‫ل ما أبدلني ا ّ‬‫وقال عنها )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬ل وا ّ‬
‫ل منها أولدًا إذ حَرَمني أولد النساء"‪(3).‬‬‫حرمني الناس‪ ،‬ورزقني ا ّ‬ ‫سْتني في مالها إذ َ‬
‫كذبني الناس‪ ،‬ووا َ‬
‫كما روى أنس بن مالك‪ ،‬أّنالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إذا أتى بهدية‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬أعلم النساء‪.328|1:‬‬
‫‪ . 2‬صحيح مسلم‪133|7:‬؛ مستدرك الحاكم‪.184|3:‬‬
‫‪ُ . 3‬أسد الغابة‪438|5:‬؛ صحيح مسلم‪134|7:‬؛ صحيح البخاري‪.39|5 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 46‬‬
‫ب خديجة"‪(1).‬‬
‫قال‪ ":‬اذهبوا بها إلى بيت فلنة فإّنها كانت صديقة لخديجة‪ ،‬إّنها كانت تح ّ‬
‫لرض خلق‬ ‫جج وما على ا َ‬ ‫حَ‬
‫ت أّول من أسلم‪ ،‬فمكثنا بذلك ثلث ِ‬ ‫لمام علي )عليه السلم( ‪" :‬كن ُ‬
‫كما قال عنها ا ِ‬
‫ل"‪).‬‬‫ل‪ ،‬وقد َفَع َ‬
‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" بما أتاه‪ ،‬غيري‪ ،‬وغير ابنة خويلد رحمها ا ّ‬ ‫يصّلي ويشهد لرسول ا ّ‬
‫‪(2‬‬
‫لسلمية المتقدمة والمتأخرة‪ ،‬فقد ذكر عنها "محمد بن إسحاق"‪:‬‬ ‫وقد تحّدث عنها أيضًا الكثير من الشخصيات ا ِ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( هلك‬ ‫ن خديجة بنت خويلد وأبا طالب‪ ،‬ماتا في عام واحد‪ ،‬فتتابع على رسول ا ّ‬ ‫"إ ّ‬
‫ل يسُكن إليها"‪(3).‬‬
‫لسلم‪ ،‬وكان رسول ا ّ‬ ‫خديجة وأبي طالب‪ ،‬وكانت خديجة وزيرة صدق على ا ِ‬
‫ن وفاتها كانت من أعظم المصائب التي أحزنت الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( مّما دفعه أن‬ ‫ل ذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫ولك ّ‬
‫يسّمي العام الذي توّفي فيه ناصراه وحامياه ورفيقا آلمه ـ‪ :‬زوجته خديجة‪ ،‬وعّمه المَومن الصامد أبو طالب ـ‬
‫بعام الحداد أو عام الحزن ‪ .‬فينزل عند دفنها في حفرتها‪ ،‬وُيدخُلها القبر بيده في الحجون‪ ،‬فيلزم بيته و يقل‬
‫الخروج‪(4).‬‬

‫‪ .6‬أولد الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم(‬

‫لولد‪ ،‬اثنين من الذكور‪ ،‬أكبرهما القاسم‬ ‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( ستة من ا َ‬ ‫لقد أنجبت خديجة لرسول ا ّ‬
‫ن أكبر بناته‪ :‬رقية ثّمزينب ثّم ُأم كلثوم ‪ ،‬ثّمفاطمة‪ ،‬وكّلهن‬
‫لناث‪ .‬وذكر ابن هاشم‪ ،‬ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬وأربعة من ا ِ‬
‫وعبدا ّ‬
‫لسلم‪ ،‬أّما الذكور فقد ماتوا قبل البعثة‪.‬‬
‫ناِ‬‫أدرك َ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬سفينة البحار‪.380|1:‬‬
‫‪ . 2‬شرح نهج البلغة‪.59|14:‬‬
‫لنوار‪.10|16:‬‬
‫‪ . 3‬بحارا َ‬
‫‪ . 4‬تاريخ اليعقوبي‪35|2:‬؛ تاريخ الخميس‪301|1 :‬؛السيرة الحلبية‪.346|1 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 47‬‬

‫تبّني النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لزيد بن حارثة‬


‫لحد أقرباء السيدة خديجة ويدعى حكيم بن‬ ‫كان مّمن سباه العرب من حدود الشام وباعوه في أسواق مكة رقيقًا َ‬
‫حزام‪ .‬وقد أحبه النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" لذكائه وطهره‪،‬فوهبته خديجة له‪ ،‬حينما تزّوجت به "صلى ال‬
‫ن أباه حارثة الذي كان يبحث عنه لقيه عند النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" فطلبه منه‪،‬‬‫لأّ‬‫عليه وآله وسلم" ‪ ،‬إ ّ‬
‫لمر الذي جعل النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يخّيره بين المقام معه )صلى ال عليه وآله وسلم( والرحيل‬ ‫اَ‬
‫لسود وأعتقه ثّم تبناه‬
‫إلى وطنه‪ ،‬فاختار المقام مع الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( الذي أخرجه إلى الحجر ا َ‬
‫ل‪" :‬يامن حضر اشهدوا أّنزيدا ابني"‪(1).‬‬‫ل قائ ً‬
‫أمام الم َ‬

‫____________‬
‫لصابة في تمييز الصحابة‪545|1:‬؛ الكامل في التاريخ‪.225|2:‬‬
‫‪.1‬اِ‬

‫===============‬
‫) ‪( 48‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 49‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫البعثة النبوية‬

‫ـ الحالة الدينية في الجزيرة العربية عند البعثة النبوية‬


‫لسلم‬
‫ـ إيمان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وآباَوه وكفلَوه قبل ا ِ‬
‫ـ الوحي‬
‫لسلمي‬ ‫ـ المَومنون بالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( والدين ا ِ‬
‫لقربين‬‫ـ دعوة ا َ‬
‫ـ الدعوة العامة‬
‫لساليب الفاشلة أمام نجاح الدعوة الجديدة‬‫ـاَ‬

‫===============‬
‫) ‪( 50‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 51‬‬
‫‪.1‬الحالة الدينية في الجزيرة العربية‬

‫لوثان‪ ،‬ظهرت جماعة من العرب‪ ،‬أنكروا عقائدها الباطلة‪ ،‬واستاءوا من دينها‪ ،‬كما‬ ‫لصنام وا َ‬‫إلى جانب عبادة ا َ‬
‫لحبار من‬ ‫ناَ‬ ‫سرن أصنامكم‪ .‬وجاء أيضًا أ ّ‬
‫لصنام بالنبي قائلين‪ :‬ليخرجن نبي فليك ّ‬‫عدون أهل ا َ‬ ‫كان اليهود يتو ّ‬
‫اليهود والرهبان من النصارى والكّهان من العرب‪ ،‬قد تحّدثوا بأمر رسول الّلهقبل مبعثه‪ .‬وظهر كذلك من انتقد‬
‫عبادتهم من فئة العقلء وأصحاب الفكر الثاقب‪ ،‬فكان ذلك بمثابة جرس إنذار باقتراب سقوط دولة الوثنّيين‬
‫وانقراضها واشتهر من هَولء بين العرب أربعة‪:‬‬
‫‪ .1‬ورقةبن نوفل‪ ،‬الذي اختار النصرانية‪.‬‬
‫لسلم‪.‬‬ ‫ل بن جحش‪ ،‬الذي أسلم عند ظهور ا ِ‬ ‫‪.2‬عبيد ا ّ‬
‫صر عند ملك الروم‪.‬‬ ‫‪.3‬عثمان بن الحويرث‪ ،‬الذي تن ّ‬
‫‪.4‬زيد بن عمرو بن نفيل‪ ،‬الذي قال‪ :‬أعبد رب إبراهيم‪(1).‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.225|1:‬‬

‫) ‪( 52‬‬
‫‪ .2‬مكانةالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عند قريش‬

‫حينما كان )صلى ال عليه وآله وسلم( في عمر ‪ 35‬عامًا واجه اختلفًا كبيرًا بين قريش‪ ،‬تمكن بحكمته من إزالة‬
‫ذلك التخاصم‪،‬مّما كشف عن مدى الحترام الذي حظا به عند قريش‪ .‬فعندما ُهدمت الكعبة بسبب سيل عظيم‪ ،‬قام‬
‫لسود في مكانه‪ ،‬فتنازع زعماء قريش فيمن يتولى‬ ‫ل أّنهم اختلفوا في وضع الحجر ا َ‬ ‫القوم بإعادة بنائها‪ ،‬إ ّ‬
‫خر عملية البناء مدة خمسة أّيام‪ ،‬وكادت أن تنشب فيما بينهم بسببه حرب دامية‪ ،‬وربما طويلة‪،‬حتى‬ ‫وضعه‪،‬مّما أ ّ‬
‫خل من باب هذا المسجد يقضي‬ ‫قام فيهم شيخ منهم وقال‪:‬يامعشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أّول من يد ُ‬
‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" فقالوا‪ :‬هذا محّمد‬ ‫بينكم فيه‪ .‬فَقِبُلوا رأيه فكان أّول داخل عليهم محّمد رسول ا ّ‬
‫ل قبيلة بناحية من‬
‫ي ثوبًا فأخذ الحجر ووضعه فيه و قال‪ :‬لتأخذ ك ّ‬ ‫لمين‪ ،‬رضينا‪ ،‬هذا محّمد‪ .‬فقال ص‪ :‬هلّم إل ّ‬ ‫اَ‬
‫الثوب ثّم ارفعوه جميعًا‪ .‬ثّم وضعه )صلى ال عليه وآله وسلم( بيده في مكانه‪(1).‬‬

‫لسلم‬
‫‪ .3‬إيمان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( و آبائه وكفلئه قبل ا ِ‬
‫ل منُذ‬
‫لكرم "صلى ال عليه وآله وسلم" لم يعبد غيَر ا ّ‬ ‫ن النبي ا َ‬
‫ل الدلئل التاريخية والعقلية والمنطقية‪ ،‬على أ ّ‬
‫تد ّ‬
‫ولد حتى رحل إلى رّبه‪ ،‬وكذلك ما كان عليه آباَوه وكفلَوه‪.‬‬
‫حد الذي ل‬‫ل وهو في الكعبة أن يرد هجوم أبرهة ويهزم جيشه‪ ،‬فقد كان المو ّ‬ ‫فجّده عبد المطلب‪ ،‬طلب من ا ّ‬
‫ل تعالى‪ .‬وقد اعترف‬ ‫سل إلى ا ّ‬
‫ل‪ .‬كما أّنه كان يستسقي بالتو ّ‬ ‫ى في المصائب والمكاره إلى غير كهف ا ّ‬ ‫يلتج َ‬
‫ل‪ ،‬ووفى‬ ‫ل عّزوج ّ‬‫حد ا ّ‬
‫لصنام‪ ،‬وو ّ‬ ‫لوثان وا َ‬‫المَوّرخون بذلك‪ ،‬فقد ذكر اليعقوبي‪" :‬ورفض عبد المطلب عبادة ا َ‬
‫ن سننًا نزل القرآن بأكثرها‪ ،‬وجاءت السّنة الشريفة‬ ‫بالنذر‪ ،‬وس ّ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪192|1:‬؛ فروع الكافي‪.217|4:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 53‬‬
‫ت محرم‪ ،‬ول تَوتى البيوت من‬ ‫لبل في الدية‪ ،‬وأل تنكح ذا ُ‬ ‫من رسول الّلهبها‪،‬وهي الوفاء بالنذر‪ ،‬ومائة من ا ِ‬
‫ظهورها‪ ،‬وقطع يد السارق‪،‬والنهي عن قتل المَوودة‪ ،‬وتحريم الخمر‪ ،‬وتحريم الزنا والحّدعليه‪ ،‬والقرعة‪ ،‬وأ ّ‬
‫ل‬
‫لشهر الحرم‪،‬‬ ‫ل من طيب أموالهم‪،‬وتعظيم ا َ‬ ‫جوا إ ّ‬
‫يطوف أحد بالبيت عريانًا‪،‬وتكريم الضيف‪،‬وأل ينفقوا إذا ح ّ‬
‫ونفي ذات الرايات"‪(1).‬‬
‫ل واعترافه برسالة النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪.‬‬ ‫كل ذلك يَوكد تمامًا توحيده وإيمانه با ّ‬
‫وكذلك كان عّمه أبو طالب‪ ،‬فله مواقف كثيرة بارزة قبل البعثة‪ ،‬تكشف عن عمق إيمانه وتوحيده‪ ،‬فقد اعتبر‬
‫لنساني‪،‬‬‫حامي الدين والمدافع عن المسلمين‪ ،‬آمن بالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( واعتبره في قمة الكمال ا ِ‬
‫لخ‪ ،‬فكان يصحبه معه إلى المصّلى‪ ،‬ويستسقي به‪ ،‬حيث كانت‬ ‫ل البن وا َ‬
‫لضافة إلى أّنه أحّله من قلبه مح َ‬ ‫با ِ‬
‫ن دفاعه عن النبي )صلى ال عليه‬ ‫دعوته ُتستجاب دون تأخير‪ ،‬كما اصطحبه معه في سفره إلى الشام‪ ،‬كما أ ّ‬
‫وآله وسلم( لم يكن ماديًا‪ ،‬فلم يقصد من وراء ذلك كسبًا ماديًا من مال وثروة‪ ،‬كما لم يهدف للحصول على جاه‬
‫لّنه كان يمتلك في المجتمع أعلى المناصب‪ ،‬فقد كان رئيسًا لمّكة‬ ‫ومقام وإحراز مكانة اجتماعية مرموقة‪َ ،‬‬
‫المكّرمة‪ ،‬بل إّنه فقد منصبه ومكانته بسبب موقفه الموالي للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وعدم الستجابة‬
‫لقومه في تسليمه "صلى ال عليه وآله وسلم" لهم‪ ،‬مّما استوجب سخط الزعماء عليه واستياءهم منه‪ ،‬وإظهار‬
‫العداء له ولبني هاشم عامة‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬تاريخ اليعقوبي‪.9|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 54‬‬
‫ن تضحية أبي طالب في سبيل النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بالنفس والنفيس كان بدافع علقة‬ ‫فالقول بأ ّ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله‬ ‫القربى والعصبية القبلية‪ ،‬تصّور باطل‪ ،‬إذ أّنذلك كان بدافع اعتقاده الراسخ برسول ا ّ‬
‫ن دينه أفضل برنامج للسعادة‪ .‬ولما كان يحب الحقيقة‬ ‫لنسانية‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ل للفضيلة وا ِ‬‫وسلم( الذي اعتبره مظهرًا كام ً‬
‫ل جهوده وقواه‪(1).‬‬‫ق‪ ،‬فقد كان من الطبيعي أن يدافع عن تلك الفضائل وينصرها بك ّ‬ ‫والكمال والح ّ‬
‫ن هناك مواقف محددة تَوكد المعنى السابق‪:‬‬ ‫كما أ ّ‬
‫فقد أصدر تهديدًا بمحاربة رجال قريش بالسلح‪ ،‬إذا أقدموا على أي سوء نحو النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫فقد حافظ على حياته "صلى ال عليه وآله وسلم" لفترة ‪ 42‬عامًا‪ ،‬ودافع عنه‪ ،‬وخاصًة في سنوات البعثة‬
‫العشرة‪ ،‬فهو قد تولى مهمة كفالته والدفاع عنه والمحافظة على حياته بصدق وإخلص‪ ،‬بالنفس والمال‪ ،‬وإيثاره‬
‫صَغره "صلى ال عليه وآله وسلم" وحتى الخمسين من عمره‪.‬‬ ‫لنفاق عليه من ماله‪ ،‬منذ ِ‬ ‫على نفسه وأولده وا ِ‬
‫لسلمية‪.‬‬ ‫لثر على سير الدعوة ا ِ‬ ‫ولذا كان لفقده أكبُر ا َ‬
‫وهو ما دفع ابن أبي الحديد المعتزلي أن ينشد بيتين يوضح تضحيته هو وابنه علي )عليه السلم( ‪:‬‬
‫ل الّدين شخصًا وقاما‬ ‫و لـول أبـو طـالب وابنـُـه لما مث ُ‬
‫حمامـا)‪(2‬‬ ‫س ال ِ‬
‫فـذاك بمكـة آوى وحامـى وهذا بيثرب ج ّ‬
‫ويمكن التعّرف على إيمانه و إخلصه عن طريق أشعاره وخدماته القّيمة في‬
‫____________‬
‫ل ذلك في قصائده وأشعاره‪ .‬ونقل ابن هشام في سيرته‪ 15 ، 352|1:‬بيتًا من قصيدته‪.‬‬ ‫‪ . 1‬وقد أشار إلى ك ّ‬
‫‪ . 2‬شرح نهج البلغة‪.84|14:‬‬
‫===============‬
‫) ‪( 55‬‬
‫لخيرة من عمره‪ ،‬فمن قصائده المطولة نختار البيتين التاليين‪:‬‬ ‫السنوات العشر ا َ‬
‫ح بن مريم‬‫ي كموسى والمسي ِ‬ ‫ن محمّـدا نب ّ‬ ‫ليعلم خياُر النـاس أ ّ‬
‫ل يهدي ويعصم)‪(1‬‬ ‫ل بأمر ا ّ‬ ‫أتـى بهـدى مثلمـا أتيــا بــه فك ّ‬
‫لقد كان إيمانه قويًا لدرجة أّنه رضى بأن يتعرض كل أبنائه لخطر القتل والغتيال ليبقى محمد )صلى ال عليه‬
‫ل‪ُ :‬أوصيكم بمحّمد خيرًا فإّنه‬‫ي سوء‪ .‬كما أّنه أوصى أولده عند وفاته قائ ً‬ ‫سه أعداَوه بأ ّ‬ ‫وآله وسلم( دون أن يم ّ‬
‫ل ل يسلك أحد منكم سبيله‬ ‫لمين في قريش‪ ،‬وهو الجامع لكّلما أوصيكم به‪ .‬كونوا له ولًة‪ ،‬ولحزبه حماًة‪ ،‬وا ّ‬ ‫اَ‬
‫لسعد‪(2).‬‬ ‫شد‪ ،‬ول يأخذ أحد بهديه إ ّ‬ ‫لر َ‬‫إّ‬
‫ن منهم من حكموا بإسلمه وبإيمانه‪ ،‬مثل‪" :‬زيني دحلن" مفتي مكة‬ ‫لأّ‬ ‫وبينما كّفره البعض من علماء السنة‪ ،‬إ ّ‬
‫)المتوّفى ‪1304‬هـ(‪ ،‬وقد تمادى بعض منهم في توسيع دائرة الكفر فشملت آباء النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫لعلم‬‫ل جهدها لتأكيد كفر أبي طالب وا ِ‬ ‫لموية والعباسية التي عملت بك ّ‬ ‫وسلم( ‪ ،‬و كان ذلك من آثار الحكومات ا َ‬
‫لعلمية لتلك الحكومات في الحط‬ ‫لجهزة ا ِ‬ ‫لمام علي )عليه السلم( الذي اجتهدت ا َ‬ ‫لّنه كان والد ا ِ‬ ‫ضّد إيمانه‪َ ،‬‬
‫ن إسلمه مع أبيه كان يعد فضيلة بارزة من فضائله‪.‬‬ ‫من شأنه دومًا‪ ،‬وخاصًة إ ّ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله‬ ‫لمامية والزيدية فقد اّتفقوا على أّنه كان من أبرز المَومنين برسول ا ّ‬ ‫أّما علماء الشيعة ا ِ‬
‫ل تعالى وحبًا للمسلمين‪(3).‬‬ ‫لسلم وإخلصًا ّ‬ ‫لبقلب يفيض إيمانًا با ِ‬ ‫وسلم( ولم يخرج من الدنيا إ ّ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬مجمع البيان‪37|7:‬؛ الحجة‪57:‬؛مستدرك الحاكم‪.623|3:‬‬
‫‪ . 2‬السيرة الحلبية‪.35|1 :‬‬
‫لميني‪.‬‬‫لمة ا َ‬
‫‪ . 3‬يوضح هذا الجانب جيدًا صاحب موسوعة الغدير‪ ،‬الع ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 56‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( دفنه بنفسه‪.‬‬ ‫ليجابي‪ ،‬فإ ّ‬
‫وأّما أقاربه وما قّدموه من أفعال وأقوال تَوكد موقفه ا ِ‬
‫ل تعالى نهى رسوله أن‬ ‫نا ّ‬‫لمام الحسين )عليه السلم( أجاب عندما سئل عن إيمانه قال‪" :‬واعجبًا‪ ،‬إ ّ‬ ‫ناِ‬ ‫كما أ ّ‬
‫لسلم لم تزل تحت أبي طالب حتى‬ ‫يقّر مسلمة على نكاح كافٍر‪ ،‬وقد كانت "فاطمة بنت أسد" من السابقات إلى ا ِ‬
‫مات"‪.‬‬
‫ل وأبيه"‪.‬‬ ‫ج عن عبد ا ّ‬‫ن أمير المَومنين علي )عليه السلم( كان يأمر أن يح ّ‬ ‫وقال )عليه السلم( ‪" :‬ألم تعلموا أ ّ‬
‫ليمان وأظهروا الشرك‪،‬‬ ‫لمام الصادق )عليه السلم( ‪" :‬إّنمَثل أبي طالب َمَثل أصحاب الكهف أسّروا ا ِ‬ ‫وقال ا ِ‬
‫ل أجرهم مّرتين‪،‬وكذلك أبو طالب"‪(1).‬‬ ‫فآتاهم ا ّ‬
‫ومن المعروف‪ ،‬أّنه للتعرف على عقيدة فرٍد ونمط تفكيره‪،‬ينبغي العتماد على‪:‬‬
‫لدبية وما تركه من أقوال وكلمات‪.‬‬ ‫ـ دراسة آثاره العلمية وا َ‬
‫ـ و أسلوب عمله وتصرفاته في المجتمع‪.‬‬
‫ـ و آراء أقربائه ومعارفه حوله‪.‬‬
‫وكّلتلك الجوانب أكدت إسلم أبي طالب‪ ،‬حامي الرسول العظيم "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪ ،‬فتسقط ك ّ‬
‫ل‬
‫لحاديث التي بّثها أعداَوه للحط من شأنه وإلصاق الكفر به‪.‬‬ ‫لقاويل وا َ‬ ‫اَ‬
‫ل‪ ،‬فقد ذكر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إّنه انتقل‬ ‫وكذلك كان أبو النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عبد ا ّ‬
‫لرحام المطّهرة مّما يَوّكد طهارة آبائه وُأّمهاته من كّلدنس وشرك‪.‬‬ ‫في ا َ‬
‫ل "صلى‬ ‫ن آباء رسول ا ّ‬‫وقد أشار الشيخ المفيد إلى أّنالمامّية تتفق على أ ّ‬
‫____________‬
‫‪ُ . 1‬أصول الكافي‪.448|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 57‬‬
‫جوا في ذلك‬
‫حدين إّياه‪ ،‬واحت ّ‬
‫ل ومو ّ‬
‫ل بن عبد المطلب كانوا مَومنين با ّ‬
‫ال عليه وآله وسلم" من لدن آدم إلى عبد ا ّ‬
‫لخبار‪.‬‬
‫بالقرآن و ا َ‬

‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قبل البعثة‬


‫حدا إّياه قبل البعثة‪ ،‬فلم‬‫ل ومو ّ‬‫لضافة إلى البراهين العقلية‪ ،‬على أّنه ص كان مَومنًا با ّ‬ ‫ل الشواهد التاريخية با ِ‬ ‫تد ّ‬
‫يعبد وثنًا قط‪ ،‬ولم يسجد لصنم أبدًا‪ .‬وقد أجمع المَوّرخون على أّنه )صلى ال عليه وآله وسلم( كان يخلو بحراء‬
‫لمام علي )عليه السلم( ‪" :‬ولقد كان يجاور في كّلسنة بحراء‪ ،‬فأراه‬ ‫ل تعالى فيه‪ ،‬فقد ذكر ا ِ‬‫ل عام يعبد ا ّ‬ ‫أشهرًا ك ّ‬
‫ول يراه غيري"‪(1).‬‬
‫حتى وافاه جبرائيل )عليه السلم( بالرسالة في هذا المكان وفي تلك الحال‪ ،‬وقد صرح بهذا أيضًا أصحاب‬
‫جات‪ ،‬وكان يأتي‬ ‫جقبل البعثة عّدة ح ّ‬ ‫لخبار أّنالرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" ح ّ‬ ‫الصحاح الستة‪ ،‬وجاء في ا َ‬
‫ل عشر‬ ‫ج رسول ا ّ‬ ‫لمام الصادق )عليه السلم( ‪" :‬ح ّ‬ ‫بمناسكها على وجه صحيح بعيدًا عن أعين قريش‪ ،‬فقال ا ِ‬
‫جات مستترًا في كّلها"‪(2).‬‬ ‫حّ‬
‫لنبياء والمرسلين‬ ‫لفضل من جميع ا َ‬ ‫ل تلك الوقائع أصدق دليل على إيمانه وتوحيده‪ ،‬وهو النبي الخاتم وا َ‬ ‫وك ّ‬
‫لمة المجلسي"‪ ،‬أّنه قد وردت أخبار كثيرة أّنه )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫ص القرآن الكريم‪ .‬وجاء عن "الع ّ‬ ‫بن ّ‬
‫لكل وغيره‪،‬فكيف يمكن ّ‬
‫ل‬ ‫ل في حراء‪ ،‬ويرعى الداب المنقولة من التسمية والتحميد عند ا َ‬ ‫كان يطوف ويعبد ا ّ‬
‫تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة )‪(3‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬نهج البلغة‪ :‬الخطبة ‪.192‬‬
‫‪ . 2‬وسائل الشيعة‪.88|8:‬‬
‫لنوار‪.280|18:‬‬ ‫‪ . 3‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 58‬‬
‫ل ساجداً قائمًا بالفرائض العقلية والشرعية‪ ،‬مجتنبًا‬ ‫حدا عابدًا ّ‬‫والنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كان مَومنًا مو ّ‬
‫لنقاذ البشرية عن الجهل‬ ‫ل ِ‬
‫ل‪،‬وراجيًا لنزوله إليه‪ ،‬إلى أن بعثه ا ّ‬ ‫عن المحرمات‪ ،‬عالمًا بالكتاب ومَومنًا به إجما ً‬
‫وسوقها إلى الكمال‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وأّنه كان يعمل حسب ما ُيلَهم سواء‬ ‫خلقًا وعق ً‬
‫فكان )صلى ال عليه وآله وسلم( أفضل الخلق وأكملهم خلقًا و ُ‬
‫ن هاديه وقائده‪ ،‬منذ صباه إلى أن ُبِعث هو نفس هاديه بعد البعثة‪(1).‬‬ ‫كان مطابقًا لشرع ماقبله أم مخالفًا‪ ،‬وأ ّ‬

‫‪ .4‬الوحي في غار حراء‬

‫ويقع جبل حراء في شمال مّكة‪ ،‬ويستغرق الصعود إليه مّدة نصف ساعة‪ ،‬ويتكّون من قطع صخرية ل أثر‬
‫لّيام‬
‫للحياة فيها‪ .‬أّما الغار فيقع في شمال الجبل‪ ،‬وهو يحكي ذكريات رجل طالما ترّدد عليه وقضى الساعات وا َ‬
‫ن النبي ص كان يفّكر في‬‫ل وعظمته‪ .‬إذ أ ّ‬‫ل ويتأّمل في الكون وفي آثار قدرة ا ّ‬ ‫لشهر في رحابه‪ ،‬يتعبد ا ّ‬ ‫وا َ‬
‫أمرين‪ ،‬قبل أن يبلغ مقام النبوة‪:‬‬
‫ل من الكائنات نور الخالق العظيم وقدرته وعظمته‪ ،‬فتفتح‬ ‫لرض‪ ،‬فيرى في ملمح ك ّ‬ ‫‪ .1‬ملكوت السماوات وا َ‬
‫للهي المقّدس‪.‬‬ ‫عليه نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور ا ِ‬
‫‪.2‬المسَوولية الثقيلة التي ستوضع على كاهله‪ ،‬فكان يفكر في فساد حياة المجتمع المكي‪ ،‬وكيفية رفع كّلذلك‬
‫وإصلحه‪.‬‬
‫ل تعالى‬‫للهية إليه )صلى ال عليه وآله وسلم( فقد أمر ا ّ‬ ‫وأّما الرسالة ا ِ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬للتوسع في ذلك يراجع مفاهيم القرآن للمَولف‪.135|5:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 59‬‬
‫جبرائيل )عليه السلم( بأن ينزل على أمين قريش في الغار ويتلو على مسامعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية‬
‫والسعادة‪ ،‬معلنًا بذلك تتويجه بالنبوة ونصبه لمقام الرسالة‪ ،‬وطلب منه أن يقرأ‪ ،‬أو قال‪ :‬يا محّمد اقرأ‪ ،‬قال‪ :‬وما‬
‫عّلَم‬
‫عّلَم ِبالَقَلم* َ‬
‫لْكَرم* اّلِذي َ‬
‫كاَ‬
‫عَلق*اْقَرْأ َوَرّب َ‬
‫ن َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫لْنسا َ‬
‫قاِ‬ ‫خَل َ‬
‫خَلق* َ‬
‫ك اّلذي َ‬
‫سِم َرّب َ‬
‫أقرأ؟ قال يا محّمد)اْقرْأ ِبا ْ‬
‫ل ما أمره به ثّمصعد إلى العلّوونزل محّمد )صلى ال عليه‬ ‫ن ما َلْم َيْعَلم( )‪ (1‬ثّم أوحى إليه رّبه عّز وج ّ‬ ‫لْنسا َ‬
‫اِ‬
‫ل وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه الحمى والنافض‪.‬‬ ‫وآله وسلم( من الجبل‪ ،‬وقد غشيه من تعظيم جلل ا ّ‬
‫ن أساس الدين يقوم‬ ‫وقد أوضحت هذه اليات برنامج النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وبّينت بشكل واضح أ ّ‬
‫ل‪ ،‬وأنا جبرائيل"‪.‬‬ ‫على القراءة والكتابة والعلم والمعرفة باستخدام القلم‪ .‬ثّم خاطبه الملك‪" :‬يا محّمد‪ ،‬أنت رسول ا ّ‬
‫و قد اضطرب الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( لهذين الحدثين‪ ،‬لعظمة المسَوولية التي ُألقيت على كاهله‪،‬‬
‫جها إلى بيت السيدة خديجة)عليها السلم( ‪ ،‬التي لحظت الضطراب و التعب على‬ ‫فترك غار حراء متو ّ‬
‫ل ما سمع وجرى‪ ،‬فعظمت خديجة)عليها السلم( أمره ودعت له وقالت‪:‬‬ ‫ملمحه فسألت عنه‪ ،‬فأجابها وحّدثها بك ّ‬
‫ل أبدًا"‪ .‬ثّمدثرته فنام بعض الشيء‪ .‬ثّم انطلقت إلى بيت ورقة تخبره بما سمعته من‬ ‫ل ل يخزيك ا ّ‬ ‫"أبشر‪ ،‬فوا ّ‬
‫لكبر ـ أي الرسالة والنبوة‬
‫ن هذا لبدء النبوة‪ ،‬وإّنه ليأتيه الناموس ا َ‬
‫زوجها الكريم‪ ،‬فأجابها‪ :‬إّنابن عّمك لصادق وإ ّ‬
‫ـ ‪(2).‬‬
‫وقد اختلقت قصص كثيرة عن تخّوف النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬العلق‪1:‬ـ ‪.5‬‬
‫‪ . 2‬طبقات ابن سعد‪.195|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 60‬‬
‫ست تلك الروايات في التاريخ والتفسير عن قصد وهدف أو دخلت فيها‬ ‫واضطرابه مّما حدث له في الغار‪ ،‬ود ّ‬
‫عن غير ذلك‪ .‬فالنبي الكريم "صلى ال عليه وآله وسلم" كانت روحه مهّيأة من جميع الجهات وبصورة كاملة‬
‫ل تعالى لم يكن ليمن عليه بمنصب النبوة ويختاره‬ ‫نا ّ‬‫للهي ـ النبوة ـ وما لم تكن نفسيته كذلك‪ ،‬فإ ّ‬ ‫لتلّقي السّر ا ِ‬
‫لنبياء هو هداية الناس وإرشادهم‪ .‬وتدل تلك القصص‬ ‫ن الهدف الجوهري من انبعاث الرسل و ا َ‬ ‫لّ‬
‫لمقام الرسالة‪َ ،‬‬
‫لساطير بكّلقّوة وأبطلوها‬‫ن أئّمة الشيعة حاربوا هذه ا َ‬ ‫ن ثمة يدًا إسرائيلية وراءها فصاغتها‪ ،‬ولهذا فإ ّ‬ ‫على أ ّ‬
‫ل‪ ،‬أنزل عليه السكينة والوقار‪ ،‬فكان‬ ‫ل إذااّتخذ عبداً رسو ً‬‫نا ّ‬ ‫لمام الصادق )عليه السلم( ‪" :‬إ ّ‬ ‫برّمتها‪ .‬فقد قال ا ِ‬
‫ل مثل الذي يراه بعينه"‪(1).‬‬ ‫ل عّزوج ّ‬‫يأتيه من ِقَبل ا ّ‬
‫لبالبراهين النّيرة واليات البّينة الدالة على‬
‫ل ل يوحي إلى رسوله إ ّ‬ ‫نا ّ‬
‫لمة الكبير الطبرسي ذلك‪ ،‬بأ ّ‬ ‫وفسر الع ّ‬
‫ل تعالى فل يحتاج إلى شيء سواها ول يفزع ول يفرق‪(2).‬‬ ‫ن ما يوحى إليه إّنما هو من ا ّ‬ ‫أّ‬
‫ن هناك اختلفًا فيه مثلما اختلف في يوم ولدته‪ ،‬فاّتفق علماء الشيعة على أّنه ُبعث‬ ‫أّما بالنسبة إلى يوم مبعثه‪ ،‬فإ ّ‬
‫بالرسالة يوم ‪ 27‬من شهر رجب‪ ،‬وأّننزول الوحي بدأ من هذا اليوم‪ ،‬بينما اشتهر عند السّنة أّنه حدث في شهر‬
‫لولى‬ ‫رمضان‪ .‬فهناك فرق في نزول القرآن جميعه على الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" ونزول اليات ا َُ‬
‫عليه يوم المبعث‪ .‬فاليات التي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر المباركة‪ ،‬ل تدل على أ ّ‬
‫ن‬
‫ن اليات المذكورة الداّلة على‬‫لّ‬‫يوم المبعث ـ الذي نزلت فيه بضع آيات ـ‪ ،‬كان ذلك في الشهر نفسه‪َ ،‬‬
‫____________‬
‫لنوار‪262|18:‬؛ الكافي‪.271|1:‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬
‫‪ . 2‬مجمع البيان‪.384|10:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 61‬‬
‫ن مجموع القرآن ل بعضه قد نزل في ذلك الشهر‪ ،‬في حين أّنه لم‬ ‫أّنالقرآن نزل في شهر رمضان تدل على أ ّ‬
‫ينزل في يوم المبعث سوى آيات معدودة‪ .‬كما أّنتفسيرا آخر يَوّكد أنّ للقرآن الكريم وجودًا جمعيًا علميًا واقعيا‬
‫ً‪،‬وهو الذي نزل على الرسول الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم( مرةً واحدةً في شهر رمضان‪ ،‬وآخر وجودًا‬
‫تدريجيًا كان بدء نزوله على النبي ص في يوم المبعث‪،‬واستمر نزوله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج‪.‬‬
‫ن ابتعاث الرسولبالرسالة في‬ ‫ل آخر ذهب إلى أ ّ‬ ‫ن ثمة قو ً‬‫لمة الطباطبائي من تفسير)‪ .(1‬كما أ ّ‬ ‫وهو ما قّدمه الع ّ‬
‫شهر رجب‪ ،‬ل يلزم نزول القرآن في ذلك الشهر حتمًا‪(2).‬‬
‫لنبياء المتقّدمين زمنيًا على خاتم‬ ‫شر بها جميع ا َ‬‫ن الرسالة المحّمدية المباركة‪ ،‬ب ّ‬ ‫وأبرز ما في هذا الموضوع‪ ،‬أ ّ‬
‫لنبياء والمرسلين محّمد "صلى ال عليه وآله وسلم" وأشار القرآن إلى ذلك في آيات كثيرة‪.‬‬ ‫اَ‬
‫لنبياء والمرسلين‪ ،‬فل نبي بعده و ل رسالة‪ ،‬حيث قال )صلى ال عليه وآله‬ ‫لمر الهاّم الخر‪ ،‬إّنه كان خاتم ا َ‬‫وا َ‬
‫خِتم النبّيون"‪(3).‬‬‫وسلم( ‪" :‬أرسلت إلى الناس كافًة‪،‬وبي ُ‬

‫لسلمي‬
‫‪ .5‬أوائل المَومنين بالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( والدين ا ِ‬

‫ليمان برسول الّ‬‫عّد السبق إلى ا ِ‬


‫لسلم تدريجيًا‪ ،‬وكان هناك سابقون كما كان هناك لحقون‪،‬و ُ‬ ‫بدأ انتشار ا ِ‬
‫لسلم‪،‬معيارًا للفضل‪ ،‬ولذا كان لبّد من التعرف على هَولء السابقين‪.‬‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( في صدر ا ِ‬
‫ن السيدة خديجة )عليها السلم( كانت أّول امرأة آمنت به فلم‬
‫ومن المسّلمات‪ ،‬أ ّ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬تفسير الميزان‪.14|2 :‬‬
‫‪ . 2‬للمزيد من التوضيح و التوسع راجع البحار‪253 ،184|18:‬؛ الكافي‪.460|2:‬‬
‫‪ . 3‬طبقات ابن سعد‪.128|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 62‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أّكد بنفسه ذلك في قوله‪" :‬آمنت بي إذ كفر‬ ‫صة أ ّ‬
‫يختلف في هذا أحد‪ (1).‬وخا ّ‬
‫الناس‪ ،‬وصّدقتني إذ كّذبني الناس"‪ (2).‬فهي أّول من التقته بعد نزول الوحي عليه في الغار‪ ،‬فآمنت به وصدقته‪.‬‬
‫كما أّنعلي بن أبي طالب )عليه السلم( كان أّول من آمن به من الرجال‪ ،‬حيث اّتفق العلماء كّلهم على ذلك‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫ن‬
‫ل تعالى نبيًا فاّتبعه‬‫لمام )عليه السلم( كان قد عاش في كنف النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( حتى بعثه ا ّ‬ ‫اِ‬
‫لمام )عليه السلم( أّنه كان في حجر النبي )صلى ال عليه‬ ‫ل به على ا ِ‬ ‫وآمن به وصّدقه‪ (3).‬فكان مّما أنعم ا ّ‬
‫لسلم وهو دون الثامنة‪ .‬فحينما أجدبت مكة وضواحيها وأصاب الناس أزمة شديدة‪ ،‬وكان أبو‬ ‫وآله وسلم( قبل ا ِ‬
‫طالب كثير العيال‪ ،‬رأى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يخّفف عنه‪ ،‬فطلب من عّمه العباس أن يأخذ منه‬
‫س طالبًا‪ ،‬وأبو طالب‬ ‫بعض عياله‪ ،‬فكفل العباس جعفرًا‪ ،‬وكفل رسول الّلهعليا‪ ،‬وقيل أّنحمزة أخذ جعفرًا‪ ،‬والعبا ُ‬
‫ل لي عليكم‪ ،‬عليًا"‪(4).‬‬‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪":‬إخترت من اختار ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬وقال رسول ا ّ‬ ‫عقي ً‬
‫ن الهدف من ذلك كان هو أن يترّبى علي )عليه السلم( في حجر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫ويظهر أ ّ‬
‫ويتغّذى من مكارم أخلقه ويتبعه في كريم أفعاله‪.‬‬
‫ل رسول ا ّ‬
‫ل‬ ‫لمام )عليه السلم( موقفه بقوله‪" :‬الّلهّم إّني أّول من أناب وسمع وأجاب‪ ،‬ولم يسبقني إ ّ‬ ‫ويَوكد ا ِ‬
‫بالصلة"‪(5).‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.240|1:‬‬
‫‪ . 2‬صحيح مسلم‪134|7:‬؛صحيح البخاري‪39|5 :‬؛ ُأسد الغابة‪428|5:‬؛ البحار‪.8|16:‬‬
‫‪ . 3‬السيرة النبوية‪246|1 :‬؛ البداية والنهاية‪.25|2 :‬‬
‫‪ . 4‬مقاتل الطالبيين‪26 :‬؛ الكامل‪37|1:‬؛ السيرة النبوية ‪.245|1:‬‬
‫‪ . 5‬نهج البلغة‪.182|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 63‬‬
‫كماجاء عن "عفيف الكندي" إّنه شاهد النبي صو زوجته و علّيا "عليه السلم" يَوّدون الصلة أمام الكعبة‪(1).‬‬
‫ل قبل الناس سبع سنين‪ ،‬وأنا‬ ‫لكبر‪ ،‬لقد صليت مع رسول ا ّ‬ ‫وجاء في خطبة له )عليه السلم( قوله‪" :‬أنا الصديق ا َ‬
‫أّول من صّلى معه"‪(2).‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أّكد ذلك أيضًا في أحاديثه المتكررة‪" :‬أّولكم إسلمًا علي بن أبي‬ ‫كما أ ّ‬
‫طالب"‪(3).‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( في ذلك‪ ،‬يذكر حكيم مولى زاذان‪،‬إّنه قال‪ ،‬سمعت عليًا يقول‪" :‬صّليت قبل‬ ‫ومن أقوال ا ِ‬
‫الناس سبع سنين‪ ،‬وكّنا نسجد ول نركع‪،‬وأّول صلة ركعنا فيها صلة العصر"‪(4) .‬‬
‫لثنين وأسلمت يوم الثلثاء"‪(5).‬‬ ‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( يوم ا ِ‬ ‫و قال أيضًا‪ُ" :‬بعث رسول ا ّ‬
‫لمام عليًا )عليه السلم( كان‬‫ناِ‬‫و قد أّكد هذا الموقف أكثر من ستين صحابيًا وتابعيًا أّيدوا القول الذي يذكر أ ّ‬
‫أّول القوم إسلمًا‪.‬‬
‫و أشهر هَولء‪:‬‬
‫ي يوم الثلثاء‪.‬‬
‫لثنين وأسلم عل ّ‬‫ـ أنس بن مالك ‪ُ :‬بعث النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يوم ا ِ‬
‫لسلمي‪ :‬ذكر نفس القول‪.‬‬ ‫ـ بريدة ا َ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( علي‬ ‫ـ زيد بن أرقم‪ :‬أّول من أسلم مع رسول ا ّ‬
‫____________‬
‫لصابة‪.480|2:‬‬ ‫‪.1‬اِ‬
‫‪ . 2‬خصائص النسائي‪3 :‬؛ سنن ابن ماجة‪57|1:‬؛ مستدرك الحاكم‪.112|1:‬‬
‫‪ . 3‬الغدير‪.220|3:‬‬
‫‪ . 4‬شرح نهج البلغة ‪.258|3:‬‬
‫‪ . 5‬مجمع الزوائد‪.102|9 :‬‬
‫===============‬
‫) ‪( 64‬‬
‫ل بعد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬‫ي‪ ،‬وأّول من آمن با ّ‬‫بن أبي طالب‪ ،‬وأّول من صّلى مع الرسول صعل ّ‬
‫ي )عليه السلم( ‪.‬‬ ‫عل ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫ل بن عباس‪ :‬أّول من صّلى عل ّ‬ ‫ـ عبد ا ّ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬كان‬ ‫ي صّلى مع رسول ا ّ‬ ‫ي وأعجم ّ‬ ‫لحد هو أّول عرب ّ‬ ‫ي أربع خصال ليست َ‬ ‫لعل ّ‬
‫ي أّول من آمن من الناس بعد خديجة "عليه السلم" ‪.‬‬ ‫عل ّ‬
‫لّمة ورودًا على نبّيها الحوض أّولها إسلمًا‪ ،‬علي بن أبي طالب )عليه السلم( ‪.‬‬ ‫ـ سلمان الفارسي‪ :‬أّول هذه ا َُ‬
‫ي يصّلي متخفيًا سبع سنين وأشهرًا قبل أن يصّلي أحد‪.‬‬ ‫ـ أبو رافع‪ :‬مكث عل ّ‬
‫لمام )عليه السلم( كّلمن‪:‬‬ ‫لعمال التي قام بها ا ِ‬ ‫لقوال وا َ‬
‫ـ كما نقل نفس ا َ‬
‫لنصاري‪ ،‬أبو سعيد الخدري‪،‬‬ ‫لاَ‬‫لرت‪ ،‬المقداد بن عمرو الكندي‪ ،‬جابر بن عبد ا ّ‬ ‫أبو ذر الغفاري‪ ،‬خباب بن ا َ‬
‫لنصاري‪ ،‬هاشم بن عتبة المرقال‪ ،‬مالك بن‬ ‫ل بن مسعود‪ ،‬أبو أّيوب ا َ‬ ‫حذيفة بن اليمان‪ ،‬عمر بن الخطاب‪ ،‬عبد ا ّ‬
‫ل بن أبي سفيان‪ ،‬الحسن البصري‪،‬‬ ‫لشتر‪ ،‬عدي بن حاتم‪ ،‬محمد بن الحنفية‪ ،‬محّمد بن أبي بكر‪ ،‬عبد ا ّ‬ ‫الحارث ا َ‬
‫لمام محّمد الباقر )عليه السلم( ‪(1).‬‬ ‫اِ‬

‫لقربين‬
‫‪ .6‬دعوة ا َ‬

‫استمر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يدعو إلى دينه سّرا مّدة ثلثة أعوام‪ ،‬عمد فيها إلى بناء الكوادر‬
‫وإعدادها من أفراد محّددين‪ ،‬كانوا السبب في أن ينجذب إلى الدين الجديد جماعة آخرون تقّبلت دعوته‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬الصواعق المحرقة‪72 :‬؛ تاريخ الخلفاء للسيوطي ‪.112 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 65‬‬
‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪(1) :‬‬ ‫ليمان برسول ا ّ‬ ‫واشتهر من بين السابقين إلى ا ِ‬
‫ـ السيدة خديجة بنت خويلد )عليها السلم(ـ علي بن أبي طالب )عليه السلم(‬
‫ـ زيد بن حارثة ـ الزبير بن العوام‬
‫ـ عبد الرحمن بن عوف ـ سعد بن أبي وقاص‬
‫ل ـ أبو عبيدة الجراح‬ ‫ـ طلحةبن عبيد ا ّ‬
‫لرقم‬‫لرقم بن أبي ا َ‬ ‫ـ أبو سلمة ـ ا َ‬
‫ـ عثمان بن مظعون ـ قدامة بن مظعون‬
‫ل بن مظعون ـ عبيدة بن الحارث‬ ‫ـ عبد ا ّ‬
‫لرت‬ ‫ـ سعيد بن زيد ـ خباب بن ا َ‬
‫ـ أبو بكر بن أبي قحافة ـ عثمان بن عفان‬
‫وكان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مّكة للصلة فيها بعيدًا عن أنظار‬
‫ع قصيٌر بين الطرفين‪،‬حين استنكروا فعلهم‪ ،‬وهو ما‬ ‫ن البعض منهم رأوهم يصّلون‪ ،‬فحدث نزا ٌ‬ ‫لأّ‬ ‫قريش‪ ،‬إ ّ‬
‫لرقم" مكانًا للعبادة)‪ (2‬حيث آمن في هذا‬‫لرقم بن أبي ا َ‬
‫للنبي "صلى ال عليه وآله وسلم" يقرر اّتخاذ بيت "ا َ‬ ‫جع َ‬
‫البيت عدٌد آخر من المشركين‪ ،‬كان أبرزهم ‪ :‬عمار بن ياسر‪ ،‬وصهيب بن سنان الرومي‪.‬‬
‫وقد رّكز الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( جهده في الدعوة السرّية‪ ،‬دون عجلة أو تسّرع‪ ،‬يعرض فيها دينه‬
‫ى السامية‪،‬‬
‫ل لتقبل المباد َ‬
‫على كّلمن وجده أه ً‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.245|1:‬‬
‫‪ . 2‬وكان البيت عند جبل الصفا عرف إلى فترة بدار الخيزران‪ُ .‬أسد الغابة‪44|4:‬؛ السيرة الحلبية‪.283|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 66‬‬
‫ل وصالحًا للدعوة‬
‫جَده مَوه ً‬
‫من الناحية الفكرية‪ ،‬ففي خلل ثلثة أعوام اكتفى بالّتصال الشخصيّ بمن َو َ‬
‫لتباع الذين اهتدوا إلى دينه بقبول دعوته‪.‬‬
‫ومستعدًا لقبول الدين الجديد‪ ،‬مّما ساعده في أن يكسب فريقًا من ا َ‬
‫أّما زعماء قريش فإّنهم لم يعتنوا بالدعوة الجديدة‪ ،‬كما لم يتعرضوا بأي عمل عدائي للرسول )صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم( بل ظلوا ينظرون إليه باحترام‪ ،‬مراعين قواعد الداب والسلوك‪ ،‬في الوقت الذي لم يتعرض فيه‬
‫لصنامهم وآلهتهم بسوء‪ ،‬ول تناولها بالنقد والعتراض بصورة علنية‪،‬‬ ‫النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" أيضًا َ‬
‫ى بعدها شعلة‬ ‫ن دعوته ستنتهي في العاجل بقولهم‪ :‬إّنها أّيام وتنطف َ‬ ‫ن زعماء قريش كانوا متأكدين من أ ّ‬ ‫وذلك أ ّ‬
‫الدعوة هذه فورًا‪ ،‬كما انطفأت من قبل دعوة "ورقة وُأمّية" الّلذين دعيا إلى نبذ الوثنية واعتناق المسيحية‪،‬ثّمنسي‬
‫لمر‪.‬‬ ‫اَ‬
‫لن‬‫لولى‪ ،‬أربعين شخصًا‪ ،‬لم يكن فيهم كفاية َ‬ ‫وقد جمع النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في السنوات الثلث ا َُ‬
‫يصبحوا قوة دفاعية لحماية النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" ورسالته‪ ،‬مّما جعله يسعى إلى دعوة أقربائه‪،‬‬
‫لقربين ثّم الناس أجمعين‪،‬فالنبي "صلى ال عليه وآله وسلم" كان‬ ‫فكسر بذلك جدار الصمت‪،‬بالشروع في دعوة ا َ‬
‫ل تعالى بأن يدعو‬ ‫ن أي إصلح وتغيير لبّد أن يبدأ من إصلح الداخل وتغييره‪،‬ومن هنا أمره ا ّ‬ ‫يَومن ويعتقد أ ّ‬
‫لخطار المحَتملة‪َ) :‬وَأْنِذْر‬ ‫لقربين‪ ،‬الذين تمّنى أن يكّون منهم سياجًا قويًا يحفظه ويحفظ رسالته من ا َ‬ ‫عشيرته ا َ‬
‫ن*‬
‫شِركي َ‬ ‫ن اْلُم ْ‬
‫ضَع ِ‬
‫عِر ْ‬‫ع ِبما ُتَْوَمُر َوَأ ْ‬
‫صَد ْ‬
‫لْقَربين( )‪ (1‬كما خاطبه بصدد دعوة الناس عامة ‪َ54321‬فا ْ‬ ‫كاَ‬ ‫شيَرَت َ‬ ‫عِ‬‫َ‬
‫سَتْهزِئين( ‪(2).‬‬
‫ك الُم ْ‬
‫ِإّنا َكَفْينا َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬الشعراء‪.214:‬‬
‫‪ . 2‬الحجر‪94:‬ـ ‪.95‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 67‬‬
‫وقد اّتخذ النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ُأسلوبًا مميزًا في دعوة أقربائه‪ ،‬إذ أّنه أعّد لهم مائدًة كبرى‪ ،‬لـ ‪45‬‬
‫ل أّنالجو لم يناسب الحدث‪،‬‬ ‫فردًا من سراة بني هاشم ووجهائهم‪،‬ليكشف لهم أمر رسالته خلل تلك الضيافة‪ ،‬إ ّ‬
‫ض المجلس دون تحقيق الغرض‪ ،‬مّما اضطّره إلى إعادتها في اليوم التالي‪ .‬فقام النبي "صلى ال عليه وآله‬ ‫فانف ّ‬
‫ل هو‪ ،‬إّني رسول ا ّ‬
‫ل‬ ‫ل الذي ل إله إ ّ‬‫ن الرائد ل يكذب أهله‪ ،‬وا ّ‬ ‫وسلم" بعد تناول الطعام‪ ،‬خطيبًا فيهم وقال‪" :‬إ ّ‬
‫ن بما تعملون‪ ،‬وإّنها‬ ‫ن كما تستيقظون‪،‬ولتحاسب ّ‬ ‫ن كما تنامون‪ ،‬ولتبَعُث ّ‬ ‫ل لتموت ّ‬
‫إليكم خاصًة وإلى الناس عامًة‪ ،‬وا ّ‬
‫ل ما أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مّما جئتكم به‪ ،‬إّني‬ ‫الجنة أبدًا والنار أبدًا‪ .‬يا بني عبدالمطلب‪ ،‬إّني وا ّ‬
‫ل أن أدعوكم إليه‪ ،‬فأّيكم يَومن بي ويَوازرني على هذا‬ ‫ل عّزوج ّ‬ ‫قد جئتكم بخير الدنيا والخرة‪ ،‬وقد أمرني ا ّ‬
‫لمر على أن يكون أخي ووصّيي وخليفتي فيكم؟" فقام علي )عليه السلم( وهو في الثالثة عشرة أو‬ ‫اَ‬
‫ل"‪ .‬وبعدما تكّرر هذا الموقف‬ ‫ن وزيُرك على ما بعثك ا ّ‬ ‫ل أكو ُ‬
‫ل‪" :‬أنا يا رسول ا ّ‬ ‫الخامسةعشرة من عمره قائ ً‬
‫ن هذا أخي‬ ‫ل‪" :‬إ ّ‬
‫ي "عليه السلم" والتفت إلى القوم قائ ً‬ ‫ثلث مّرات‪ ،‬أخذ النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بيد عل ّ‬
‫ووصّيي وخليفتي فيكم‪ ،‬فاسمعوا له وأطيعوا"‪.‬‬
‫لبي طالب‪ :‬قد أمرك أن تسمع لبنك وتطيعه وجعله عليك أميرًا‪(1).‬‬ ‫فضحك الجميع مستهزئين‪،‬وقالوا َ‬
‫لمام علي )عليه السلم( وخلفته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوة‪ ،‬يفيد أ ّ‬
‫ن‬ ‫لعلن عن وصاية ا ِ‬ ‫ن هذا ا ِ‬
‫إّ‬
‫هذين المنصبين ليسا منفصلين‪ ،‬فقد‬
‫____________‬
‫ل ابن تيمية الذي‬ ‫خص لتفصيل ما رواه أكثر المفسرين والمَوّرخين دون أن يشّكك في صحته أحد‪ ،‬إ ّ‬ ‫‪ . 1‬هذا مل ّ‬
‫اتخذ موقفًا فريدًا من أهل البيت "عليهم السلم" راجع تاريخ الطبري‪62|2:‬؛ الكامل‪40|2:‬؛ مسند أحمد‪11|1:‬؛‬
‫شرح نهج البلغة‪.210|13:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 68‬‬
‫لمامة يشّكلن‬ ‫ن النبوة وا ِ‬
‫أعلنهما الرسول)صلى ال عليه وآله وسلم( في يوم إعلنه للدعوة والنبوة‪ ،‬مّما يَوكد أ ّ‬
‫لمام علي )عليه السلم( يكشف‬ ‫ن موقف ا ِ‬ ‫قاعدة واحدة‪ ،‬وإّنهما حلقتان متصلتان ل يفصل بينهما شيء‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ل جرأة وشجاعة‪ ،‬مَوازرة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في‬ ‫عن مدى شجاعته الروحية‪ ،‬حينما أعلن بك ّ‬
‫حضور قوم ضّم شيوخهم وسادتهم‪،‬معِلنًا استعداده للتضحية في سبيل دينه‪،‬وهو غلم لم يتعد الخامسة عشرة‪.‬‬
‫لسكافي" هذا الموقف موضحًا إذ كتب يقول‪:‬‬ ‫وقد تناول "أبوجعفر ا ِ‬
‫هل يكّلف عمل الطعام‪،‬ودعاء القوم‪ ،‬صغيٌر غير ممّيز وغيُر عاقل؟! و هل يَوَتمن على سّر النبوة طفل؟! و هل‬
‫ل ص يده في يده‪ ،‬ويعطيه صفقة يمينه‬ ‫ب وهل يضع رسول ا ّ‬ ‫ل عاقل لبي ٌ‬
‫ُيدعى في جملة الشيوخ والكهول إ ّ‬
‫ل‪ ،‬وعداوة أعدائه‪ ،‬ما باُلهذا الطفل‬ ‫ل لذلك‪ ،‬بالُغ التكليف‪ ،‬محتمل لولية ا ّ‬ ‫ل وهو أه ٌ‬‫لخوة والوصية والخلفة‪ ،‬إ ّ‬ ‫با َ‬
‫لم يأنس بأقرانه ولم يلصق بأشكاله‪ ،‬ولم ُير مع الصبيان في ملعبهم بعد إسلمه‪،‬ولم ينَزع إليهم في ساعة من‬
‫ل "صلى ال‬
‫لماضيا على إسلمه‪ ،‬مصّمما في أمره‪ ،‬محّققا لقوله بفعله‪ ،‬ولصق برسول ا ّ‬
‫ساعاته‪ ،‬بل ما رأيناه إ ّ‬
‫عليه وآله وسلم" من بين جميع من حضره‪ ،‬فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته‪(1).‬‬

‫) ‪( 69‬‬
‫‪ .7‬الدعوة العامة وتطّور ردود أفعال قريش تجاهها‬

‫بعد تلك السنوات الثلث‪ ،‬عمد الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى إعلن الدعوة جهرًا‪ ،‬حين وقف ذات يوم‬
‫ل‪" :‬أرأيتكم إن أخبرتكم إّنالعدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم‬ ‫على صخرة عند جبل الصفا مناديًا بصوت عا ٍ‬
‫تصّدقونني؟" قالوا‪ :‬بلى‪ .‬قال‪" :‬فإّني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"‪ (1).‬فرد عليه أحدهم‪ :‬تّبا لك ألهذا دعوتنا؟‬
‫ل أّنه بعد فترة من الدعوة العامة‪ ،‬تشكلت جماعة قوية متعاطفة متحاّبة‪ ،‬من‬ ‫فتفّرق الناس على أثر ذلك‪ .‬إ ّ‬
‫لوساط الكفر والشرك والوثنية‪ ،‬وهم المخالفون‪،‬وقد‬ ‫السابقين واللحقين‪ ،‬أو القدامى والجدد‪ ،‬كانت بمثابة إنذار َ‬
‫تأّلفت تلك الجماعة من قبائل مختلفة منعوا الكّفار من التعرض لهم‪ ،‬إذ لم يكن اّتخاذ أي قرار حاسم بحّقهم‪ ،‬أمرًا‬
‫ل ومريحًا‪ .‬ولذا قرر سادة قريش مواجهة قائد تلك الجماعة ومحركهم‪ ،‬بوسائل الترغيب والترهيب‪،‬‬ ‫سه ً‬
‫لساليب طيلة عشر‬ ‫ليذاء والتهديد‪ ،‬واستمرت برامج قريش و موقفها من الدعوة بهذه ا َ‬ ‫لغراء والتطميع‪ ،‬وا ِ‬ ‫با ِ‬
‫سنوات هي عمر الدعوة العامة في مكة‪ ،‬حتى اّتخذوا قرارهم النهائي بالتخّلص منه بقتله‪،‬في الوقت الذي تمكن‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( من إبطال مَوامرتهم وإفشالها بالهجرة إلى المدينة‪.‬‬
‫وقد بدأوا التحرك في مطالبة كفيله )صلى ال عليه وآله وسلم( أبي طالب بأن يبعد النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫ب آلهتنا‪ ،‬وعاب ديننا‪ ،‬وسّفه أحلمنا‪ ،‬وضّلل آباءنا‪ ،‬فإّما‬ ‫ن ابن أخيك قد س ّ‬ ‫وسلم( عنهم قائلين له‪ :‬يا أبا طالب إ ّ‬
‫ل حكيٍم‪(2).‬‬ ‫ل أّنأبا طالب َرّدهم بقوٍلجمي ٍ‬ ‫أن تكّفه عّنا‪ ،‬وإّما أن ُتخّلي بينا و بينه‪ .‬إ ّ‬
‫لشهر الحرم‪ ،‬فأدرك طغاة قريش أ ّ‬
‫ن‬ ‫ولكن الدين الجديد انتشر بقّوة بين العرب‪ ،‬والقادمين إلى مّكة خلل ا َ‬
‫لمر الذي دفعهم إلى مقابلة أبي طالب مرًة‬ ‫محّمدابدأ يفتح له مكانًا في قلوب جميع القبائل‪ ،‬فكّثر أنصاره منها‪ ،‬ا َ‬
‫لل‬ ‫لسلم وقّوته ‪ :‬إّنا وا ّ‬ ‫لخطار التي أحدقت بهم وبعقائدهم نتيجة نفوذ ا ِ‬ ‫ُأخرى‪ ،‬ليذّكروه إشارة وتصريحًا‪ ،‬با َ‬
‫عيب آلهتنا حتى تكّفه‬ ‫نصبُر على هذا من شتم آبائنا و َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة الدحلنية بهامش السيرة الحلبية‪.194|1:‬‬
‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪.264|1 :‬‬
‫===============‬
‫) ‪( 70‬‬
‫عّنا أو ننازله وإّياك في ذلك‪ ،‬حتى يهلك أحد الفريقين‪ .‬فسّكن غضبهم وأطفأ ثائَرتهم وهّدأ خواطرهم‪ ،‬ليتم‬
‫معالجة هذه المشكلة بطريقٍة أفضل‪.‬‬
‫فأتى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وأخبره بأمرهم‪ ،‬فرّد عليه بالجواب التاريخي الخالد‪ ،‬والذي يعتبر من‬
‫لكبر محّمد )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪:‬‬ ‫لسلم ا َ‬ ‫أسطع وألمع السطور في حياة قائد ا ِ‬
‫ل‪ ،‬أو أهلك‬ ‫لمر حتى يظِهَره ا ّ‬ ‫ل لو وضعوا الشمس في يميني والقمَر في يساري على أن أترك هذا ا َ‬ ‫"يا عّم‪ ،‬وا ّ‬
‫ل‪ :‬إذهب يا‬ ‫فيه‪ ،‬ماتركته"‪ .‬مّما أثر في عّمه بتلك الكلمات العظيمة‪ ،‬فأظهر استعداده الكامل للوقوف إلى جانبه قائ ً‬
‫ك لشيٍء َأبدًا"‪.‬‬ ‫سِلَم َ‬
‫ل ل ُأ ْ‬‫ت ‪،‬فوا ّ‬‫ابن أخي فقل ما أحبب َ‬
‫ل أّنه‬‫ش مساومة أبي طالب مرًة ُأخرى‪ ،‬للتخّلص من النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" ودعوته‪ ،‬إ ّ‬ ‫وحاولت قري ٌ‬
‫رفض أي نوع من المساومة في هذه القضية‪ ،‬محافظًا على محّمدودينه‪.‬‬
‫لثناء النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عن المضي في دعوته‪،‬وهي تطميعه‬ ‫فسلكوا طريقًا آخر‪ ،‬ووسيلة أجدى ِ‬
‫ل جمعنا لك من‬ ‫ب به ما ً‬‫ت بهذا الحديث تطل ُ‬ ‫ت إّنما جئ َ‬
‫لموال والَفَتيات الجميلت‪:‬فإن كن َ‬ ‫بالمناصب والهدايا وا َ‬
‫ك ونشّرفك علينا‪،‬وإن كان هذا الذي‬ ‫ف فينا فنحن نسّوُد َ‬ ‫ت إّنما تطلب الشر َ‬ ‫ل‪ ،‬وإن كن َ‬ ‫أموالنا حتى تكون أكثر ما ً‬
‫طّبك‪.‬‬‫ن قد غلب عليك‪،‬بذلنا أموالنا في ِ‬ ‫يأتيك تابعًا من الج ّ‬
‫ن الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( قال لعّمه‪" :‬يا عّم أريدهم على كلمٍة واحدة يقوُلونها‪،‬تدين لهم العرب‪،‬‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫وتَوّدي إليهم بها العجم الجزية"‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 71‬‬
‫ب( ‪(1).‬‬
‫ل"‪ .‬فقاموا فزعين قائلين‪) :‬أجعل اللهة إلهًا واحدًا ِإْنهذا لشيء عجا ٌ‬
‫لا ّ‬
‫قالوا‪ :‬ما هي؟ قال‪" :‬لإله إ ّ‬

‫لساليب المتعّددة لمنع انتشار الدعوة الجديدة‬


‫‪ .8‬استخدام ا َ‬
‫لخذ والرّد مع النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عن طريق كفيله‪ ،‬وعدم جدواه‪ ،‬اضطّرت‬ ‫بعد استخدام ُأسلوب ا َ‬
‫قريش إلى تغيير ُأسلوبها ونهجها مع الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في منع انتشار دينه‪ ،‬مهما كّلف الثمن‪.‬‬
‫ليذاء والتهديد‪.‬‬
‫فقّرروا اتخاذ سلح السخرية والستهزاء‪ ،‬وا ِ‬
‫وكان أبو طالب من جانب آخر‪ ،‬قد طلب من بني هاشم جميعًا القيام بحماية النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪،‬‬
‫لذى بالرسول )صلى ال عليه وآله‬ ‫ن ذلك لم يمنع من إيقاع ا َ‬ ‫لأّ‬‫ليمان أو الرحم‪ ،‬إ ّ‬‫فلّبوا نداءه سواء بدافع ا ِ‬
‫وسلم( كّلما وجدوا الفرصة السانحة‪ ،‬وخاصًة إذا وجدوه وحيدًا بعيدًا عن أعين حماته‪.‬‬
‫ن وجود رجال ذوي بأس شديد وقوة بين صفوف المسلمين‪ ،‬مثل "حمزة" الذي أصبح فيما‬ ‫ن التاريخ يشهد بأ ّ‬
‫إّ‬
‫لسلم وحماية النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ودعم‬ ‫لسلم‪ ،‬كان لهم أثر كبير في حفظ ا ِ‬ ‫بعد أحد كبار قادة ا ِ‬
‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" قد عّز وامتنع‪،‬‬ ‫ن رسول ا ّ‬ ‫جماعته‪.‬فقد جاء عنه‪ :‬لما أسلم حمزة عرفت قريش أ ّ‬
‫فكّفوا عّما كانوا يتناولون منه‪(2).‬‬
‫ليقاع بالرسولوجماعته‪ ،‬فقد كمن أبو جهل للرسول )صلى ال عليه وآله‬ ‫ليذاء وا ِ‬
‫أّما أساليب قريش فتعددت في ا ِ‬
‫ل أّنه رجع عن عزمه دون أن‬ ‫لسود‪ ،‬ليضربه بحجر‪ ،‬إ ّ‬ ‫وسلم( حينما وقف للصلة بين الركن اليماني والحجر ا َ‬
‫ت منه‬
‫لفعل به ما قلت لكم البارحة‪ ،‬فلّما دنو ُ‬ ‫ينّفذ خطته‪ ،‬مجيبًا أصحابه في ذلك‪ :‬قمت إليه َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة الحلبية‪303|1:‬؛ تاريخ الطبري‪.65|2:‬‬
‫‪ . 2‬الكامل‪.56|2 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 72‬‬
‫عرض لي دونه ما ل رأيت مثله في حياتي‪ ،‬فتركته‪(1).‬‬
‫ل تعالى‬‫ن قوًة غيبيًة أدركت الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في تلك اللحظة وحفظته‪ ،‬كما وعده ا ّ‬ ‫كأّ‬ ‫ول ش ّ‬
‫سَتْهِزئين( )‪ (2‬فالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كان يواجُه في كّليوم نوعًا خاصًا من‬ ‫ك اْلُم ْ‬
‫ل‪ِ) :‬إّنا َكَفْينا َ‬
‫قائ ً‬
‫لشرار‪ ،‬وأشهرهم‪ :‬عقبة بن أبي معيط الذي شتمه وضربه‪ ،‬فكان أشّد خصومه‬ ‫لذى والمضايقة من هَولء ا َ‬ ‫اَ‬
‫لذاه مع‬‫بغضًا له )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ .‬وعّمه أبو لهب الذي تعرض النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( َ‬
‫زوجته ُأّم جميل‪ ،‬فقد كان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يجاورهم فقاموا بإيذائه وإزعاجه‪ ،‬بإلقاء الرماد‬
‫لسود بن عبد يغوث‪ ،‬أحد‬ ‫والتراب على رأسه الشريف‪ ،‬ونشر الشوك على طريقه أو عند باب بيته‪ .‬وا َ‬
‫ي‪ ،‬ابنا خلف‪ ،‬وأبو جهل)أبو‬ ‫لك فيها‪ ،‬وُأمية وُأب ّ‬
‫المستهزئين‪ ،‬والوليد بن المغيرة‪ ،‬شيخ قريش وحكيمها وأكبر الم ّ‬
‫الحكم بن هشام(‪ ،‬و العاص بن وائل‪ ،‬والد عمرو بن العاص الذي وصف النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫لبتر‪.‬‬
‫با َ‬
‫وعندما فشلت أساليب قريش وأسلحتها الصديئة في القضاء على الدين الجديد وأهله‪ ،‬عمدوا إلى استخدام سلح‬
‫لسلم واتساع رقعته‪ ،‬وقطع علقته بالمجتمع العربي‪،‬‬ ‫جديد لعّله يكون أقوى من سوابقه‪ ،‬للحيلولة دون انتشار ا ِ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ .‬و من أساليبه‪:‬‬ ‫وهو سلح الدعاية ضّد رسول ا ّ‬
‫الّتهامات الباطلة‪ ،‬وقد أقّروا استخدامها في دار الندوة‪ ،‬حين طرحوا فكرتها على "الوليد بن المغيرة")‪ (3‬الذي‬
‫ن وفود العرب ستقدم عليكم فيه‪،‬‬ ‫كان ذا مكانة مميزة عندهم‪ ،‬فقال‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إّنه قد حضر هذا الموسم وإ ّ‬
‫وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا ول تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا ويرد‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.298|1:‬‬
‫‪ . 2‬الحجر‪.95:‬‬
‫‪ . 3‬أبو خالد بن الوليد‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 73‬‬
‫ل يقولوا عنه كاهن أو مجنون أو ساحر‪ .‬و هكذا تحّيروا في ما ينسبون إلى رسول‬ ‫قولكم بعضه بعضًا‪ ،‬ورأى أ ّ‬
‫الّلهص حّتى اّتفقوا على أن يقولوا‪ :‬إّنه ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وأخيه وزوجته‬
‫لتفاق‪).‬‬
‫وعشيرته‪ ،‬والدليل على ذلك ما أوجده من خلف وانشقاق وتفّرق بين أهل مّكة اّلذين عرفوا بالوحدة وا ِ‬
‫‪(1‬‬
‫ل من نسج الخيال ومن أثر الجنون الذي ل يتنافى مع الزهد‬ ‫كما أشاعوا عنه الجنون‪ ،‬وأّنما يقوله ويقرأه ما هو إ ّ‬
‫لمانة‪.‬‬
‫وا َ‬
‫وقد رّدالقرآن الكريم على جميع تلك التهامات في آيات كثيرة وفّندها‪.‬‬
‫لكرم )صلى ال عليه وآله وسلم( والرسالة‬ ‫وقد استمر ُأسلوبهم في التهام والتشويش على شخصية النبي ا َ‬
‫للصور والمظاهر‪ ،‬فوصفوه بالكاهن‪ ،‬والساحر‪ ،‬والمجنون‪ ،‬وأّنه معّلم من قبل نصراني‪ ،‬وكّذاب و‬ ‫المحمدية بك ّ‬
‫مفتر و شاعر‪ ،‬وما يقوله أضغاث أحلم‪.‬‬
‫ليقاع به‪ ،‬لمعرفة الناس بالنبي )صلى ال عليه‬ ‫ولما لم تأت كّلتلك التهامات بالنتيجة المرجّوة‪ ،‬ولم تنفع في ا ِ‬
‫وآله وسلم( وصفاته وأخلقه منذ سنين بعيدة‪ ،‬اتجهوا إلى ُأسلوب آخر‪ ،‬وهو معارضة القرآن الكريم عن طريق‬
‫"النضر بن الحارث" أحد أعداء الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( الذي تعلم في العراق شيئًا من أساطير‬
‫ن ذلك لم‬
‫لأ ّ‬
‫ص منها على الناس فيلهيهم عن السماع لرسول الّلهوالصغاء للقرآن الكريم‪ .‬إ ّ‬ ‫الفرس وحكاياتهم‪ ،‬ليق ّ‬
‫ل‪ ،‬فقد سأمت قريش أحاديثه فتفرقت عنه‪.‬‬ ‫يدم طوي ً‬
‫فاتجهوا إلى ُأسلوب المجادلت الجاهلية والمآخذ السخيفة على الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ورسالته‪،‬‬
‫وهي تبرز تكّبرهم وعنادهم وجهلهم التي‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.270|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 74‬‬
‫لمور التالية ‪:‬‬ ‫ي "صلى ال عليه وآله وسلم" ل َُ‬ ‫طبعوا عليها‪ .‬ومن أمثال هذه الوسيلة العتراض على النب ّ‬
‫‪.1‬عدم نزول القرآن على أحد أثريائهم‪.‬‬
‫‪.2‬عدم إرسال الملئكة إليهم‪.‬‬
‫‪ .3‬تبديل اللهة بإله واحد‪.‬‬
‫‪.4‬جّدد الحياة يوم القيامة‪.‬‬
‫‪.5‬عدم تمّلكه لمعجزات متعّددة كما كان لموسى )عليه السلم( ‪.‬‬
‫لصلح الوضع بينهم وبين النبي الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم( مثل‪:‬‬ ‫وفي الوقت نفسه قدموا مقترحات ِ‬
‫ـ أن يقوم بعبادة أصنامهم سنة‪ ،‬على أن يعبدوا إلهه سنة ُأخرى‪.‬‬
‫لوثان‪.‬‬‫ل يحتوي على شجب عبادة ا َ‬ ‫ـ تبديل القرآن على أ ّ‬
‫ل سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫ـ مطالب مادية عجيبة مستحيلة ومتناقضة‪ ،‬كأن يفجر لهم ينابيع‪ ،‬أو يأتي با ّ‬
‫صي الحقائق في مكة والتعّرف على‬ ‫ل من قبل أساقفة الحبشة لتق ّ‬ ‫ي تكّون من عشرين رج ً‬ ‫وعندما قدم وفٌد مسيح ٌ‬
‫لكرم "صلى ال عليه وآله وسلم" في مّكة‪ ،‬فجالسوه في المسجد وكّلموه وسألوه بعض‬ ‫لسلم‪ ،‬وزيارة النبي ا َ‬ ‫اِ‬
‫المسائل‪ ،‬حتى عرض عليهم دينه وقرأ عليهم آيات من القرآن الكريم‪ ،‬فتأثرت نفوسهم وآمنوا به وصّدقوه‪.‬‬
‫ل أّنهم‬‫وكان أبو جهل قد شاهد ما حدث فوّبخهم على موقفهم وبما عملوا دون أن يَوّدوا عملهم كوفد من بلدهم‪ ،‬إ ّ‬
‫ل بخير‪ .‬فكان لهذا الموقف أثره السيء في قريش دفعهم إلى تكوين وفد من "النضر بن الحارث‬ ‫لم يردوا عليه إ ّ‬
‫وعقبة ابن أبي معيط" للسير إلى أحبار يهود المدينة وسَوالهم عن دين الرسول "صلى ال‬
‫===============‬
‫) ‪( 75‬‬
‫عليه وآله وسلم" فأخبرهم اليهود أن يسألوه عن ثلث‪ ،‬إذا عرفها فهو نبي مرسل‪ ،‬وإن لم يفعل فهو متقّول‪.‬‬
‫لّول‪.‬‬
‫‪ .1‬عن فتيه ذهبوا في الدهر ا َ‬
‫‪ .2‬عن رجل طّواف‪.‬‬
‫‪ .3‬عن الروح‪ ،‬ماهي؟‬
‫لسراء‪،‬‬ ‫فأجابهم الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( باليات القرآنية‪ ،‬عن الروح في الية ‪ 85‬من سورة ا ِ‬
‫وأصحاب الكهف وذي القرنين في سورة الكهف‪.‬‬
‫فالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قابل تلك الراء الشاذة والمقترحات المَوذية بصبر عظيم وثبات هائل‪ ،‬حرصًا‬
‫منه على إبلغ رسالته‪.‬‬
‫لسلم وقدم إلى مّكة للتعرف على‬ ‫ل من رغب في ا ِ‬ ‫وبعد هذه الخطة الفاشلة‪ ،‬نفذوا خطة ُأخرى وهي‪ :‬منع ك ّ‬
‫النبيوالّتصال به‪ ،‬وذلك بنشر الجواسيس في الطرقات للتعرض لهَولء ومنعهم من الوصول إلى النبي "صلى‬
‫لعشى‪ ،‬الذي قدم إلى مّكة ليهدي للرسول أبياتًا‬ ‫ال عليه وآله وسلم" ‪ ،‬ومّمن تعرضوا له في الطريق‪ :‬الشاعر ا َ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫شعرية ويعلن إسلمه على يديه‪ ،‬فأقنعوه بالعودة إلى بلده بعد أن أخبروه أ ّ‬
‫ل "صلى ال‬ ‫لعشى يحب الخمر والنساء‪ .‬وقد مات في نفس العام فلم يفد على رسول ا ّ‬ ‫يحرم الخمر‪ ،‬وكان ا َ‬
‫عليه وآله وسلم" ‪ (1).‬كما تعّرضوا للطفيل بن عمرو الدوسي الذي خشيت قريش أن يقوم بالتصال بالنبي‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( وهو شاعر حكيم‪ ،‬صاحب نفوذ وكلمة مسموعة في قبيلته‪ ،‬فخّوفوه من كلم النبي‬
‫ل أّنه عندما سمع شيئًا من أقوال الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( دون‬‫)صلى ال عليه وآله وسلم( وسحره‪ .‬إ ّ‬
‫ق‪ ،‬ورجع إلى بلده داعيًا قومه إلى‬
‫ل فأسلم وشهد شهادة الح ّ‬‫وعي منه‪ ،‬أحسن القو َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.386|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 76‬‬
‫لسلم‪ ،‬إلى أن تّم اتصاله بالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بخيبر فبقي معه حتى قبض )صلى ال عليه وآله‬ ‫اِ‬
‫وسلم( ثّم شارك المسلمين بعد ذلك في معارك اليمامة زمن الخلفاء الراشدين‪ ،‬وقتل فيها‪(1).‬‬
‫وتطورت وسائل وأساليب قريش في التخّلص من دعوة النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" وإيقاف زحف تلك‬
‫ي على النبي )صلى ال عليه‬ ‫لسلمية واّتساعها في مّدة غير طويلة‪ ،‬إلى فرض حصار اقتصادي قو ّ‬ ‫الدعوة ا ِ‬
‫للشرايين الحيوية لهم‪ ،‬فتحّد بذلك من سرعة انتشار الدين‪،‬وتخنق مَوسسه‬ ‫وآله وسلم( والمسلمين‪ُ ،‬تقطع به ك ّ‬
‫وأنصاره‪ .‬ولهذا وّقع زعماء قريش في دار الندوة ميثاقًا كتبه‪":‬منصور بن عكرمة" و عّلقوه في جوف الكعبة‪،‬‬
‫وتحالفوا على اللتزام ببنوده حتى الموت‪ ،‬وذلك في السنة السابعة من البعثة‪ .‬وقد ضم الميثاق البنود التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬عدم التعامل التجاري مع النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وأنصاره‪.‬‬
‫‪.2‬عدم التزاوج منهم‪.‬‬
‫‪ .3‬عدم التحّدث معهم أو تناول الطعام معهم‪.‬‬
‫‪ .4‬وأن يكونوا يدًا واحدًا على محّمد )صلى ال عليه وآله وسلم( وأنصاره‪.‬‬
‫ل )صلى ال‬ ‫ل أن طلب من بني هاشم وبني المطلب‪ ،‬الستعداد للدفاع عن رسول ا ّ‬ ‫فما كان من "أبي طالب"إ ّ‬
‫عِر َ‬
‫ف‬ ‫عليه وآله وسلم( والحفاظ على حياته وسلمته‪ ،‬على أن يستقّروا خارج مّكة في شعب بين جبال مّكة ُ‬
‫بشعب أبي طالب‪ ،‬والذي شمل بعض البيوت البسيطة‪ ،‬كما عّين بعض الرجال في جوانب مختلفة ومتفرقة‪،‬‬
‫ى‪(2).‬‬
‫لي طار َ‬ ‫لمراقبة الطرق وحراسة المكان تحسبًا َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.382|1:‬‬
‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪350|1:‬؛ تاريخ الطبري‪.78|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 77‬‬
‫ليمان و العتقاد‪ ،‬وهذا ما‬ ‫لكثرية هو‪ :‬قوة ا ِ‬ ‫ن أقوى العوامل في ثبات أقلية وصمودها في وجه ا َ‬ ‫ويشهد التاريخ أ ّ‬
‫تجّلى في أبي طالب و بني هاشم في هذه المأساة‪.‬‬
‫ش الفرُد منهم على‬‫لطفال والكبار متحّملين قسوة الحال‪ ،‬فكان يعي ُ‬ ‫فقد استمر الحصار ثلثة أعوام‪ ،‬جاع فيها ا َ‬
‫تمرة واحدة طوال اليوم‪ ،‬وربما تقاسمها اثنان‪.‬‬
‫لمن في أنحاء الجزيرة العربية‪،‬‬ ‫لشهر الحرم حيث يسود ا َ‬ ‫ل في ا َ‬ ‫ولّما كان لُيسمح لهم بالخروج من الشعب إ ّ‬
‫فيخرج بنو هاشم للشراء والبيع ثّم العودة إلى الملجأ‪ ،‬فإّنالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كان يستغل هذا الموسم‬
‫جار قريش كانوا يزيدون في سعر السلعة إذا أرادها مسلٌم‪ ،‬على أن يقوم أبو لهب‬ ‫نتّ‬ ‫لأّ‬‫في نشر دينه ودعوته‪ .‬إ ّ‬
‫والوليد بن المغيرة بتعويض خسارة هَولء التجار‪ .‬كما أّنهم عينوا الجواسيس على الطرق المَودية للشعب حتى‬
‫ن بعضًا من أنصار النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كان يوصل الطعام إليهم‬ ‫لأّ‬ ‫يمنعوا الّتصال بالمسلمين‪ .‬إ ّ‬
‫ن قريشًا كانوا يصادرون مال كّلمن أراد التعامل مع أصحاب الشعب‪ ،‬في الوقت الذي اشتّد‬ ‫سرًا خلل الليل كما أ ّ‬
‫إيذاَوهم لمن أعلن إسلمه‪.‬‬
‫ن حصارهم هذا لم يأت بنتيجة مرجوة‪ ،‬ولم يتحّقق هدفهم منه و من غيره‬ ‫ولكّنهم تأكدوا بعد فترة ليست قليلة بأ ّ‬
‫ي شكل‪ .‬فقد صّرح "زهير بن أبي ُأمّية" في مجلس قريش‬ ‫لساليب‪ ،‬ففكروا في نقض الميثاق بأ ّ‬ ‫من الوسائل وا َ‬
‫في المسجد الحرام بعدما اّتفق مع عدد آخر من المعارضين لمقاطعة بني هاشم‪:‬‬
‫شّ‬
‫ق‬ ‫ل ل أقعد حتى ُت َ‬‫يا أهل مّكة‪ ،‬أنأكل الطعام ونلبس الثياب‪ ،‬وبنو هاشم هلكى ل ُيباع لهم ول ُيبتاع منهم؟ وا ّ‬
‫هذه الصحيفة القاطعة الظالمة‪.‬‬
‫لرضة قد أكلتها إ ّ‬
‫ل‬ ‫ناِ‬ ‫وقام "المطعم بن عدي" إلى الصحيفة ليشّقها‪ ،‬فوجد أ ّ‬
‫===============‬
‫) ‪( 78‬‬
‫شعب يخبر الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" بما جرى‪،‬‬ ‫عبارة ‪":‬باسمك الّلهم" فأسرع " أبو طالب" إلى ال ّ‬
‫عِلم بأمر‬‫وانفك الحصار وعاد المحاصرون إلى منازلهم مّرة ُأخرى‪ .‬وكان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قد َ‬
‫ل‪ ،‬فأخبر أبا طالب بذلك‪ ،‬الذي قام بإخبار زعماء قريش بذلك‪،‬‬ ‫ل اسم ا ّ‬‫لرضةالتي أكلتها إ ّ‬ ‫تقطيع الصحيفة وا ِ‬
‫ل وارجعوا عما أنتم عليه من‬ ‫واّتفق معهم على‪ :‬إن كان حّقا ما ذكر الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" فاّتقوا ا ّ‬
‫ل دفعته إليكم‪ ،‬فإن شئتم قتلُتموه وإن شئتم استحييتموه‪.‬وفقالوا‪:‬‬ ‫الظلم والجور وقطيعة الرحم‪ ،‬وإن كان باط ً‬
‫ل أّنهم نقضوا اّتفاقهم و نكثوا عهدهم لما شاهدوا وتأكدوا ما قاله النبي )صلى ال‬ ‫َرضينا ‪ ،‬وتعاقدوا على ذلك‪ .‬إ ّ‬
‫صرين فيه فترة ُأخرى‪،‬‬ ‫شعب محا َ‬ ‫عليه وآله وسلم( بل ازدادوا شرًا وعنادًا‪ ،‬ورجع بنو هاشم مّرة ُأخرى إلى ال ّ‬
‫حتى نقضها "هشام بن عمرو" فانتهى الحصار القتصادي لبني هاشم في منتصف شهر رجب من السنة‬
‫العاشرة للبعثة النبوية الشريفة‪.‬‬
‫ليذاء قريش وتحّملوا أشّد أنواع العذاب‪ ،‬واشتهر منهم‪:‬‬ ‫ن أفرادًا من المسلمين تعّرضوا ِ‬ ‫وإلى جانب ذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪ .1‬بلل الحبشي‪ ،‬الذي كان غلمًا لـ"ُأمّية بن خلف" و هو أشّد أعداء النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فعمد إلى‬
‫تعذيب هذا الغلم انتقامًا و تشفيًا من الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( إذ أّنه تردد ـ أي ُأمّية ـ من إلحاق‬
‫لذى به )صلى ال عليه وآله وسلم( خوفًا من عشيرة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( الحامية له‪(1).‬‬ ‫اَ‬
‫لسلم‪ ،‬فعمد المشركون إلى إيذائهم وتعذيبهم بعد ما‬ ‫‪ .2‬وعمار بن ياسر‪ ،‬الذي كان والده من السابقين إلى ا ِ‬
‫ل تحت أشعة‬ ‫انضموا إلى المسلمين‪ ،‬فكانوا ُيخِرجون "عمارًا وياسر وسمية" في وقت الظهيرة ويبقونهم طوي ً‬
‫سمّية في قلبها فماتت‪ ،‬فاعُتبرا أّول‬‫الشمس‪ ،‬حتى مات ياسر‪ ،‬كما طعن أبو جهل بالرمح ُ‬
‫____________‬
‫لضافة إلى ابنه بعد أن ُأسر في معركة بدر‪.‬‬ ‫‪ . 1‬قتله بلل با ِ‬

‫===============‬
‫) ‪( 79‬‬
‫لسلم‪(1).‬‬ ‫شهيدين في ا ِ‬
‫لسلمي حسب طلبهم‪ ،‬فانصرفوا عنه‬ ‫لبقاء على نفسه‪ ،‬حيث تظاهر بترك الدين ا ِ‬ ‫أّما عّمار فقد استخدم التقية ل ِ‬
‫ي )صلى ال عليه وآله وسلم( فقال له‪" :‬كيف تجد قلبك؟" قال‪ :‬مطمئن‬ ‫طمأَنه النب ّ‬
‫وتركوه‪ .‬ولما ندم على فعله‪َ ،‬‬
‫ليمان‪ .‬فقال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬إن عادوا َفُعْد"‪.‬‬ ‫با ِ‬
‫ل بن مسعود" الذي أبدى استعدادًا للقيام بتلوة القرآن جهرًا على مسامع قريش في المسجد الحرام‪،‬‬ ‫‪" .3‬عبد ا ّ‬
‫عّلم الُقرآن( فقام إليه الجميع يضربونه في وجهه وهو يقرأ حتى ُأدمي‬ ‫حمن* َ‬ ‫حمن الّرحيم* الّر ْ‬ ‫ل الّر ْ‬
‫سِم ا ّ‬
‫فقرأ )ِب ْ‬
‫ل تعالى وآياته‬
‫جسمه ووجهه فتركوه‪ ،‬وهو مسرور بما عمله في تمكين قريش من الستماع إلى كتاب ا ّ‬
‫المباركة‪(2).‬‬
‫لا ّ‬
‫ل‬ ‫‪.4‬وأبو ذر‪ ،‬أيضًا جاهر بالدين حين كان المسلمون يدعون سرًا‪ ،‬فقد نادى في المسجد‪ :‬أشهد أن ل إله إ ّ‬
‫ن نداءه هذا كان أّول نداء تحّدى جبروت قريش وظلمها‪ ،‬أطلقه‬ ‫ن محّمدا عبده ورسوله‪ (3).‬ويَوكد التاريخ أ ّ‬ ‫وأ ّ‬
‫رجل غريب عن مّكة وأهلها‪ .‬فهجم عليه جماعة من قريش وضربوه بشّدة حتى أنقذه"العباس بن عبد المطلب"‬
‫جة أّنه من غفار‪ ،‬وتمر تجارة قريش على بلده‪ ،‬فخافوا على تجارتهم فأمسكوا عنه‪.‬‬ ‫من الموت‪ .‬بح ّ‬
‫ن الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫ت بعد للدخول في مواجهات ساخنة مع المشركين‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ولما لم يحن الوق ُ‬
‫لسلم‪":‬إلحق‬ ‫أمره بأن يلحق بقومه يدعوهم ل ِ‬
‫____________‬
‫لنوار‪241|18:‬؛ السيرة الحلبية‪.300|1:‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬
‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪.314|1:‬‬
‫لولياء‪ ،158|1 :‬طبقات ابن سعد‪225|4:‬؛ الستيعاب‪.63|4:‬‬ ‫‪ . 3‬حلية ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 80‬‬
‫بقومك فإذا بلغك ظهوري فأتني"‪.‬‬
‫وقد تمكن من التأثير في قومه‪ ،‬فأسلم أبواه‪ ،‬ونصف رجال قبيلته ـ غفار ـ ثّم أسلم ا لباقي بعد هجرة النبي )صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم( إلى المدينة‪ ،‬ثّم تبعتها قبيلة "أسلم" التي وفدت على الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫لسلم‪.‬‬ ‫واعتنقوا ا ِ‬
‫وقد التحق "أبو ذر" بالرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في المدينة وأقام بها )‪ (1‬و هو أّول المجاهرين‬
‫لسلم‪ ،‬ورابع أو خامس من أسلم‪ ،‬فكان من‬ ‫با ِ‬
‫ل تعالى ومقامًا ل يضاهى‪.‬‬ ‫لّولين‪ ،‬الذين لهم مكانة عظيمة عند ا ّ‬
‫السابقين وا َ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬الدرجات الرفيعة‪225:‬ـ ‪.230‬‬
‫) ‪( 81‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫ي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬


‫موقف النب ّ‬

‫من إيذاء الكّفار للمسلمين‬

‫ـ الهجرة إلى الحبشة‬


‫لسراء والمعراج‬‫ـاِ‬
‫ـ سفره )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى الطائف‬
‫ـ المرحلة الجديدة في الدعوة ونتائجها‪ :‬بيعة العقبة‬
‫ـ الهجرة الكبرى‬
‫ـ الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في المدينة‬

‫===============‬
‫) ‪( 82‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 83‬‬
‫مواجهة المسلمين‬

‫أمام أفعال قريش‬

‫‪ . 1‬الهجرة إلى الحبشة‬

‫ل بارزًا على إيمانهم وإخلصهم العميق لدينهم ورّبهم‪ ،‬فقد قّرر‬ ‫تعتبر هجرة فريق من المسلمين إلى الحبشة دلي ً‬
‫لقامة في مكان آمن‬ ‫فريق من الرجال والنساء‪ ،‬بهدف الحفاظ على عقيدتهم‪ ،‬والتخّلص من أذى قريش‪ ،‬وا ِ‬
‫ل الواحد‪ ،‬أن يغادروا مكة إلى جهة تحّقق أهدافهم‪ ،‬فنصحهم النبي )صلى‬ ‫يقيمون فيه شعائرهم بحرية ويعبدون ا ّ‬
‫ن بها ملكًا ل ُيظلم عنده أحد‪،‬‬
‫ل‪" :‬لو خرجتم إلى أرض الحبشة‪ ،‬فإ ّ‬ ‫لتجاه إلى الحبشة قائ ً‬‫ال عليه وآله وسلم( با ِ‬
‫ل لكم َفَرجًا مّما أنتم فيه"‪.‬‬
‫ق حّتى يجعل ا ّ‬‫صد ٍ‬
‫وهي أرض ِ‬
‫سر إذا درسنا أوضاع الجزيرة العربية‬ ‫لرض؟ ويتضح ال ّ‬ ‫لماذا اختار الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( تلك ا َ‬
‫والمناطق المجاورة لها‪ .‬فالهجرة إلى المناطق العربية التي سكنها المشركون والوثنيون كانت تنطوي على خطر‬
‫لفراد من المسلمين‪ ،‬إذ أّنهم سيمتنعون عن قبولهم في أرضهم إرضاًء لقريش أو وفاًء‬ ‫كبير على هَولء ا َ‬
‫صبا لدين الباء‪ .‬وكذلك لم تصلح المناطق التي عاش بها اليهود‬ ‫وتع ّ‬
‫===============‬
‫) ‪( 84‬‬
‫لوضاع لتسمح بدخول طرف‬ ‫ن الصراع المذهبي والطائفي كان شائعًا بينهما‪ ،‬فلم تكن ا َ‬ ‫والنصارى لذلك إذ أ ّ‬
‫ن هَولء الفريقين ـ اليهود والنصارى ـ كانوا يحتقرون العنصر العربي أساسًا‪ ،‬مّما‬ ‫ثالث في حلبة الصراع‪ ،‬كما أ ّ‬
‫يمنع التعايش معهم‪.‬‬
‫ن اليمن كانت تحت حكم الفرس‪ ،‬الذين لم يقبلوا بدعوة النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫أّما المناطق الخارجية‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن إمبراطور فارس طلب من عامله على اليمن‪ ،‬القيام بالقبض على الرسول )صلى ال‬ ‫وسلم( فيما بعد‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫ليراني وسيطرته‪ .‬أّما الشام فكانت بعيدًة‬ ‫عليه وآله وسلم( وإرساله إليه‪ .‬وكذلك الحيرة فقد كانت تحت النفوذ ا ِ‬
‫عن مّكة المكّرمة‪ ،‬لم تصلح للجوء المسلمين إليها‪ ،‬كما أّنها كانت سوقًا لقريش تربط سكانها بهم روابط‬
‫وعلقات وثيقة‪ ،‬وهي علقات اقتصادية قوية‪.‬‬
‫ل في غفلة من المشركين نحو ميناء جّدة للسفر عبر مينائها إلى أرض‬ ‫ن الفريق المَومن غادر مكة لي ً‬ ‫ولذا فإ ّ‬
‫لقلع‪ ،‬فبادرالمسلمون إلى ركبوها‬ ‫الحبشة‪ ،‬حيث وصلوا في الوقت الذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على ُأهبة ا ِ‬
‫ل راكب‪ .‬وكان الفريق مكونًا من عشرة أو خمسة عشر شخصًا‪ ،‬بينهم أربع من النسوة‬ ‫لقاء نصف دينار عن ك ّ‬
‫ل واحد منهم إلى قبيلة معينة‪ .‬وقد حدث ذلك في شهر رجب‬ ‫المسلمات‪ ،‬ولم يكونوا من قبيلة واحدة‪ ،‬بل انتمى ك ّ‬
‫في السنة الخامسة من مبعث النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪(1).‬‬
‫ن السفينة كانت قد‬ ‫لأّ‬‫لعادتهم إلى مّكة‪ ،‬إ ّ‬ ‫و قد حاول المشركون في مّكة اللحاق بهم‪ ،‬فبعثوا جماعة من رجالهم ِ‬
‫غادرت الميناء‪ .‬وكان رَوساء "دار الندوة" بمكة وأقطابها‪ ،‬يعلمون جيدا أضرار هذه الهجرة وآثارها على‬
‫أوضاعهم‪،‬‬
‫____________‬
‫لنوار‪.412|18 :‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 85‬‬
‫ولذا اهتموا في إعادتهم فورًا إلى ديارهم‪.‬‬
‫وقد تبعت هذه الهجرة‪ ،‬خروج جماعة ُأخرى بلغ عددها ‪ 83‬فردًا على رأسهم‪" :‬جعفر بن أبي طالب " ابن عّم‬
‫الرسولحيث تّمت بحرّية‪ ،‬وقد اصطحبوا فيها نساءهم وأولدهم‪،‬إلى أرض الحبشة أيضًا‪ .‬وقد وجد المسلمون‬
‫ل تعالى بحّرية وأمان‪ .‬وبّينت "السيدة ُأّم‬ ‫أرضها كما وصفها النبي ص‪ :‬عامرًة‪ ،‬وبيئة آمنة حرة‪ ،‬تصلح لعبادة ا ّ‬
‫سلمة" الوضع بقولها‪" :‬لما نزلنا أرض الحبشة‪ ،‬جاورنا بها خير جار‪ ،‬النجاشي‪ ،‬أمننا على ديننا‪ ،‬وعبدنا ا ّ‬
‫ل‬
‫تعالى‪ ،‬ل ُنَوذى‪ ،‬ول نسمع شيئًا نكرهه"‪.‬‬
‫وقد حدثت هذه الهجرة في رجب من السنة الخامسة من النبوة‪ ،‬وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة‪ ،‬فأقاموا‬
‫ن ذلك‬ ‫لأّ‬ ‫ن قريشًا أسلمت فعاد منهم قوم وتخلف آخرون‪ (1).‬إ ّ‬ ‫شعبان ورمضان‪ ،‬وقدموا في شوال‪ ،‬لما بلغهم أ ّ‬
‫لكثرية إلى الحبشة ثانية‪ .‬وكان مّمن دخل مّكة منهم‪" :‬عثمان‬ ‫لالقليل‪ ،‬وعادت ا َ‬ ‫كان كذبًا‪ ،‬فلم يدخل منهم مّكة إ ّ‬
‫ل ليواسي المسلمين‬ ‫بن مظعون" الذي دخل بجوار الوليد بن المغيرة‪ ،‬ولكّنه رّد عليه جواره فاختار جوار ا ّ‬
‫ويشاركهم آلمهم ومتاعبهم‪ ،‬مّما جعله يتلّقى فيما بعد شيئًا من تعذيب الكّفار وأذيتهم فأصابوا عينه‪.‬‬
‫جسوا خيفة من‬ ‫وحينما علمت قريش ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحّرية ‪ ،‬ثار فيهم الحسد‪ ،‬وتو ّ‬
‫نفوذهم هناك في الحبشة‪ ،‬التي اعتبرت أرضها الن قاعدة قوية لهم‪ ،‬كما أّنهم تخوفوا من اعتناق نجاشي الحبشة‬
‫لدينهم‪ ،‬فيكسبوا تأييده‪ ،‬مّما يدفعه إلى محاربة مّكة فيما بعد للقضاء على حكومة‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬الكامل في التاريخ‪.52|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 86‬‬
‫لمر‬
‫لقطاب في "دار الندوة" للتشاور في هذا ا َ‬ ‫المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية‪ .‬ولذا فقد اجتمع ا َ‬
‫الخطير‪ ،‬فاستقر رأيهم على إرسال وفد منهم إلى البلط الحبشي لستمالة القواد والوزراء بالهدايا القيمة‪،‬‬
‫ل بن أبي‬‫لخراج المسلمين من أرضهم‪ ،‬فقد تحّددت تعليماتهم إلى رئيس الوفد‪ :‬عمرو بن العاص‪ ،‬وعبد ا ّ‬ ‫ِ‬
‫ل بطريٍقهديته قبل أن تكّلما النجاشي فيهم‪ ،‬ثّمقّدما إلى النجاشي هداياه‪ ،‬واسأله أن يسلمهم‬ ‫ربيعة‪ :‬ادفعا إلى ك ّ‬
‫إليكما قبل أن يكّلمهم‪.‬‬
‫ل ـ إلى بلدك مّنا غلمان‬‫جها إلى الملك الذي تقّبل الهدايا‪ ،‬قال له‪ :‬أّيها الملك إّنه قد ضوى ـ أي لجأ لي ً‬
‫وحينما تو ّ‬
‫ن ابتدعوه ل نعرفه نحن ول أنت‪ ،‬وقد بعثنا إليك فيهم‬ ‫سفهاء‪ ،‬فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك‪،‬وجاءوا بدي ٍ‬
‫ف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لترّدهم إليهم‪ ،‬فهم أبصر بهم وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم‬ ‫أشرا ُ‬
‫فيه‪.‬‬
‫ن النجاشي الحكيم العادل رفض‬ ‫لأّ‬ ‫وقد شجعهم على قولهم هذا بطارقُته الذين حصلوا على الهدايا من قبل‪ ،‬إ ّ‬
‫إجابة مطالبهم دون أن يرجع إلى المسلمين فيرى رأيهم‪ .‬وعندما حضروا أمامه بقيادة "جعفر بن أبي طالب "‬
‫الناطق باسمهم‪ ،‬سأله الملك‪ :‬ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قوَمكم ولم تدخلوا في ديني ول في دين أحد من هذه‬
‫الملل؟‬
‫ل هداهم بالنبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫نا ّ‬ ‫لسلم وكيف أ ّ‬ ‫فقال جعفر بن أبي طالب بعد أن وصف حالهم قبل ا ِ‬
‫ل وحده ل نشرك به شيئًا‪ ،‬وأمرنا بالصلة والزكاة والصيام‪ ،‬فصّدقناه وآمنا به واّتبعناه‬ ‫وسلم( ‪ :‬وأمرنا أن نعبد ا ّ‬
‫ل لنا‪،‬‬ ‫ل وحده فلم نشرك به شيئًا‪ ،‬وحّرمنا ما حّرم علينا وأحللنا ما أح ّ‬ ‫ل‪ ،‬فعبدنا ا ّ‬
‫على ما جاء به من ا ّ‬
‫===============‬
‫) ‪( 87‬‬
‫ل من الخبائث‪ ،‬فلّما‬ ‫ل ما كّنا نستح ّ‬
‫لوثان‪ ،‬وأن نستح ّ‬ ‫فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليرّدونا إلى عبادة ا َ‬
‫قهرونا وظلمونا وضّيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك‪ ،‬واخترناك على من سواك‪ ،‬ورغبنا في‬
‫جوارك‪ ،‬ورجونا أل ُنظَلم عندك أّيها الملك‪(1).‬‬
‫وقد أّثرت كلمات "جعفر" البليغة وحديثه العذب تأثيرًا عجيبًا في نفس النجاشي حتى أغرورقت عيناه‬
‫بالدموع‪،‬وخاصة عندما قرأ عليه بعض اليات القرآنية التي تخص عيسى و مريم "عليهما السلم" فبكى‬
‫ن القرآن‬ ‫ن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة"‪ ،‬ويقصد أ ّ‬ ‫النجاشي وبكى أساقفُته معه‪ ،‬وقال‪" :‬إ ّ‬
‫ل ل أسلَمهم إليكما‪.‬‬ ‫ل‪ :‬انطلقا فل وا ّ‬ ‫ل و أّنهما شيء واحد‪ .‬ثّم التفت نحو موفدي قريش قائ ً‬ ‫لنجيل كلم ا ّ‬‫وا ِ‬
‫سيء والمخزي‪ ،‬وهي‪ :‬أن يخبر الملك بما‬ ‫ن "عمرو بن العاص" فّكر في حيلة جديدة تخّلصهم من موقفهم ال ّ‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫ل عظيمًا‪ .‬ولك ّ‬
‫ن‬ ‫يسيء إلى المسيح )عليه السلم( فقال في اليوم التالي للملك‪ :‬إّنهم يقولون في عيسى بن مريم قو ً‬
‫ل ورسوله‬ ‫جعفرًا أجاب الملك في ذلك‪ :‬نقول فيه الذي جاءنا به نبّينا )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬هو عبد ا ّ‬
‫ق‪ .‬وقال‬ ‫ل هو الح ّ‬ ‫وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول‪ .‬مّما سّرالنجاشي و رضي به وقال‪ :‬هذا وا ّ‬
‫ل منكم‪.‬‬ ‫ن لي دبرًا من ذهب‪ ،‬وإّني آذيت رج ً‬ ‫بأّ‬ ‫غِرم‪ ،‬ما أح ّ‬
‫سّبكم ُ‬
‫للمسلمين‪ :‬اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي‪ ،‬من َ‬
‫ي ملكي فآخذ‬ ‫ل مّني الرشوة حين رّد عل ّ‬ ‫ل ما أخذ ا ّ‬‫ل‪ :‬فل حاجة لي بها‪ ،‬فوا ّ‬ ‫ثّم رّدعلى وفد قريش هداياهم قائ ً‬
‫ي فأطيعهم فيه‪ (2).‬ل فخرجوا من عنده خائبين مقبوحين‪.‬‬ ‫الرشوة فيه‪ ،‬وما أطاع الناس ف ّ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬أّول الخطاب في ص ‪ 20‬من الكتاب‪.‬‬
‫لنوار‪.414|18 :‬‬
‫لسماع ‪21 :‬؛ بحار ا َ‬
‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪338|1 :‬؛ إمتاع ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 88‬‬
‫لسراء والمعراج‬‫‪ .2‬ا ِ‬

‫لمام علي )عليه السلم( )‪(1‬‬ ‫ى" ُأخت ا ِ‬ ‫بدأ النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( رحلته الفضائية من بيت "ُأّم هان َ‬
‫لقصى‪ ،‬وتفّقد بيت لحم مسقط رأس السّيد المسيح )عليه‬ ‫إلى بيت المقدس في فلسطين‪ ،‬واّلذي يسّمى المسجد ا َ‬
‫ل محراب ركعتين‪ .‬ثّم بدأ في القسم الثاني من رحلته‪ ،‬المعراج‬ ‫لنبياء وآثارهم‪ ،‬وصّلى عند ك ّ‬
‫السلم( ومنازل ا َ‬
‫لنبياء‬
‫طلع على نظام العالم العلوي‪ ،‬وتحّدث مع أرواح ا َ‬ ‫إلى السماوات العلى‪ ،‬فشاهد النجوم والكواكب‪ ،‬وا ّ‬
‫والملئكة‪ ،‬واطلع على مراكز الرحمة والعذاب ـ الجّنة والنار ـ ورأى درجات أهل الجّنة‪ ،‬و تعّرف على أسرار‬
‫للهية المطلقة‪ ،‬ثّم واصل رحلته حتى بلغ سدرة‬ ‫الوجود و رموز الطبيعة‪ ،‬ووقف على سعة الكون وآثار القدرة ا ِ‬
‫المنتهى‪ ،‬فوجدها مسربلة بالعظمة المتناهية والجلل العظيم‪ .‬وهنا كان قد انتهى برنامج الرحلة‪ ،‬فُأمر بالعودة‬
‫صة‬‫من حيث أتى‪ ،‬فمّر في طريق عودته‪ ،‬على بيت المقدس ثانية‪ ،‬ثّم توجه نحو مّكة‪ ،‬ماّرا على قافلٍة تجاريٍة خا ّ‬
‫جل عن مركبته الفضائية ـ البراق ـ‬ ‫ل في البيداء يبحثون عنه‪ ،‬وشرب من مائهم‪ ،‬ثّم تر ّ‬ ‫بقريش‪ ،‬وبعيٌر لهم قد ض ّ‬
‫ى‪ ،‬قبل طلوع الفجر‪ .‬فأخبرها بما حدث‪ ،‬كما كشف عنه في أندية قريش صباح نفس تلك الليلة‪.‬‬ ‫في بيت ُأّم هان َ‬
‫ن قريشًا كعادتها كّذبته وأنكرته‪ ،‬على أساس عدم استطاعة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( القيام بذلك في‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫ل‪ ،‬مع ما‬ ‫ليلة واحدة‪ ،‬وطلبوا منه أن يصف بيت المقدس‪ ،‬فوصفه النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وصفًا شام ً‬
‫شاهده في الطريق‪ ،‬وخاصة‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬مجمع البيان‪395|6:‬؛السيرة النبوية‪.396|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 89‬‬
‫عير قريش‪ ،‬التي أكد لهم بأّنها الن في موقع التنعيم‪ ،‬فلم تمض لحظات حتى طلعت عليهم العير‪ ،‬فحّدثهم أبو‬
‫سفيان بكّلما أخبرهم به الرسول من ضياع بعيرهم في الطريق والبحث عنه‪(1).‬‬
‫لسراء والمعراج‪ ،‬فاّدعى "ابن هشام و ابن إسحاق" اّنه وقع في السنة‬ ‫لقوال عن وقت حدوث ا ِ‬ ‫وقد اختلفت ا َ‬
‫العاشرة من البعثة الشريفة‪ ،‬وذهب المَوّرخ "البيهقي" اّنه حدث في السنة الثانية عشرة منها‪ ،‬بينما قال آخرون‬
‫لقوال‬ ‫ن فريقًا رابعًا أكد وقوعه في أواسطها‪.‬وربما يقال في الجمع بين هذه ا َ‬‫إّنه وقع في أوائل البعثة‪ ،‬في حين أ ّ‬
‫اّنه كان لرسول الّلهمعارج متعّددة‪.‬‬
‫ن المعراج الذي فرضت فيه الصلة وقع بعد وفاة أبي طالب )عليه السلم( في السنة ‪ 10‬من‬ ‫وهناك اعتقاد أ ّ‬
‫لنّ النبي ص كان محصورًا في شعب أبي‬ ‫البعثة‪ .‬والذين تصّوروا أّنالمعراج وقع قبل هذه السنة مخطئون‪َ ،‬‬
‫طالب منذ عام ‪ 8‬وحتى ‪ ،10‬فلم يكن المسلمون مستعّدين لوضع التكاليف عليهم‪ .‬و أّما سنوات ما قبل الحصار‪،‬‬
‫ن المسلمين كانوا قّلة‪،‬‬‫فعلوة على ضغوط قريش على المسلمين‪ ،‬والتي كانت مانعًا من فرض الصلة عليهم‪ ،‬فإ ّ‬
‫لسلم قد ترسخت بعد في قلوب ذلك العدد القليل‪ ،‬ولذا يستبعد أن يكونوا قد كّلفوا‬ ‫ليمان وُأصول ا ِ‬ ‫ولم يكن نور ا ِ‬
‫بأمٍر زائٍد مثل الصلة في مثل تلك الظروف‪.‬‬
‫لمام علّيا )عليه السلم( صّلى مع الرسول )صلى ال عليه وآله‬ ‫ناِ‬
‫لخبار والروايات‪ ،‬بأ ّ‬ ‫أّما ما ورد في بعض ا َ‬
‫وسلم( قبل البعثة بثلث سنوات‪ ،‬فليس المراد منها الصلة المكتوبة‪ ،‬بل كانت عبارة عن عبادٍة خاصٍة غير‬
‫محّددة‪ ،‬أو كان المراد‬
‫____________‬
‫لنوار‪283|18 :‬و ‪.410‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 90‬‬
‫منها الصلوات المندوبة والعبادات غير الواجبة‪(1).‬‬
‫وأّما بالنسبة لما قيل وذكر عن معراج النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( جسمانيًا أو روحانيًا‪ ،‬فقد قيل فيه الكثير‪،‬‬
‫ن بعض الراء ترى أّنذلك وقع‬ ‫لأّ‬‫ن ذلك حدث جسمانيًا‪ ،‬إ ّ‬ ‫لحاديث النبوية تَوّكد أ ّ‬ ‫ن القرآن الكريم وا َ‬ ‫بالرغم من أ ّ‬
‫ن روح النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( طافت في تلك العوالم ثّم عادت إلى جسده )صلى ال‬ ‫روحانيًا‪ ،‬أي أ ّ‬
‫لنبياء صادقة‪(2).‬‬ ‫ل ذلك حدث في عالم الرَويا‪ ،‬ورَويا ا َ‬ ‫نكّ‬ ‫عليه وآله وسلم( مّرة ُأخرى‪ ،‬وذهب آخرون إلى أ ّ‬
‫ل تكذيب قريش وانزعاجها واستنكارها لحديث الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( على أّنذلك حدث‬ ‫وربما د ّ‬
‫ق وسعة الخلق والتدبير في مخلوقات‬ ‫جسمانيًا‪ .‬وإذا كان المراد من المعراج الروحاني هو التفكير في عظمة الح ّ‬
‫لكرم )صلى ال عليه‬ ‫ن ذلك ليس من خصائص رسولنا ا َ‬ ‫كأّ‬ ‫ل ومصنوعاته ومشاهدة جماله وجلله‪ ،‬فل ش ّ‬ ‫ا ّ‬
‫لولياء امتلكوا هذه المرتبة ‪ ،‬بينما أعتبره القرآن الكريُم من خصائصه‬ ‫لنبياء وا َ‬
‫ن كثيرًا من ا َ‬ ‫وآله وسلم( بل إ ّ‬
‫ص بهص‪ .‬كما أّنحالة التفكير في عظمة الخالق والستغراق‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( ونوع من المتياز الخا ّ‬
‫ل لليلة‪ ،‬وليس ليلة بعينها كما جرى‬ ‫في التوجه إليه‪ ،‬كانت تتكرر للرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" في ك ّ‬
‫وحدث في المعراج‪.‬‬
‫ن القوانين الطبيعية والعلمية الحالية ل تتلءم مع معراج النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫أّما في العلم الحديث‪ ،‬فإ ّ‬
‫لسباب التالية‪:‬‬ ‫وسلم( وذلك ل َ‬
‫لرض يتطلب التخّلص من جاذبيتها‪ ،‬أي إبطال مفعولها‪ ،‬والنبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫ن البتعاد عن ا َ‬ ‫‪ .1‬إ ّ‬
‫كان قد خرج عن محيط الجاذبية وأصبح في حالة انعدام الوزن‪ ،‬فكيف تمكن أن يطوى هذه المسافات بدون‬
‫الوسائل‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬يراجع في ذلك الكافي‪.482|3:‬‬
‫لمة الطبرسي في تفسير مجمع البيان إجماع علماء الشيعة على جسمانية المعراج‪.395|6:‬‬ ‫‪ . 2‬نقل الع ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 91‬‬
‫لدوات اللزمة‪ ،‬وعدم توافر الغطاء الواقي‪ ،‬الذي يصون الجسم من التبعثر والذوبان بفعل السرعة الهائلة؟‬ ‫وا َ‬
‫‪ .2‬و كيف تمكن من العيش و الحياة في أعالي الجو بدون وجود أوكسجين؟‬
‫لحجار السماوية؟‬‫لشعة الفضائية وا َ‬
‫‪ .3‬و كيف تمكن أن يصون نفسه من ا َ‬
‫لنسان يعيش تحت ضغط معين من الهواء ل يوجد في الطبقات العليا من الجو‪ ،‬فكيف حافظ على‬ ‫‪ .4‬و إذا كان ا ِ‬
‫حياته هناك؟‬
‫ي جسم أن يتحّرك بسرعة تفوق سرعة النور‪ ،‬التي هي ‪ 30‬ألف كم في الثانية‪ ،‬فكيف استطاع‬ ‫‪ .5‬ل يستطيع أ ّ‬
‫لرض سالَمالجسم؟!‬ ‫النبيالسير بتلك السرعة الهائلة ويرجع إلى ا َ‬
‫ن البشر استطاع بأدواته وآلته العلمية والتكنولوجية أن يعالج مشكلت‬ ‫و الجواب على ذلك سهل ويسير‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن العلماء‬
‫لشعة الفضائية وانعدام الغاز اللزم للتنفس‪ ،‬كما أ ّ‬ ‫عديدة في مجال ارتياد الفضاء‪ ،‬مثل مشكلة ا َ‬
‫ن العلم يَوّكد سهولة ارتياد الفضاء وعدم‬
‫ططون للعيش على سطح الكواكب كالقمر والمريخ‪ ،‬وبذا فإ ّ‬ ‫يخ ّ‬
‫لنبياء يمكنهم فعَلها‬‫ناَ‬‫لدوات واللت العلمية‪ ،‬فإ ّ‬ ‫استحالته‪ ،‬فإذا كان البشر في إمكانه أن يقوم بذلك عن طريق ا َ‬
‫ل الذي خلق‬ ‫ل سبحانه و تعالى وفعله‪ .‬فالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عرج بعناية وقدرة ا ّ‬ ‫بواسطة قدرة ا ّ‬
‫ل تعالى وخاضعة‬ ‫خرة ّ‬ ‫الوجود كّله‪ ،‬وأقام هذا النظام البديع‪ .‬فجميع العلل الطبيعية والموانع الخارجية مس ّ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يخبر البشرية وحتى اّلذين يعيشون في هذا‬ ‫لمره‪ .‬وكأ ّ‬
‫لرادته‪ ،‬ومطيعة َ‬ ‫ِ‬
‫لرض‪ ،‬وأطلعني‬ ‫ن علّيوعّرفني على نظام السماوات وا َ‬ ‫ن رّبي قد م ّ‬‫القرن‪ :‬إّنني فعلت هذا بدون أّية وسيلة‪ ،‬وإ ّ‬
‫بقدرته وعنايته على أسرار الوجود و رموز الكون‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 92‬‬
‫صف بمكان ول يجري عليه زمان‪ ،‬ولكّنه عّز وج ّ‬
‫ل‬ ‫ل يو َ‬‫نا ّ‬‫لمام موسى الكاظم )عليه السلم( في ذلك‪" :‬إ ّ‬
‫وقال ا ِ‬
‫أراَد أن يشرف به ملئكته وسكان سماواته‪ ،‬ويكرمهم بمشاهدته‪ ،‬ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد‬
‫ل تعالى عّما يصفون"‪(1).‬‬
‫هبوطه‪ ،‬وليس ذلك على ما يقوله المشّبهون ‪ ،‬سبحان ا ّ‬

‫‪ .3‬سفر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى الطائف‬

‫توفيت السيدة خديجة)عليها السلم( بعد وفاة أبي طالب‪ ،‬بشهر وخمسة أّيام‪ ،‬في السنة العاشرة من البعثة‪(2).‬‬
‫وهي التي سّماها الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" عام الحداد أو الحزن‪ .‬ومنذ هذا الوقت واجه )صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم( ظروفًا صعبة قاسية قّلما واجهها من قبل‪ .‬فقد اصطدم منذ بداية السنة الحادية عشرة بأحوال‬
‫لخطار التي هّددت حياته الشريفة‪ ،‬بل افتقاد إمكانية نشر الدعوة‪.‬فلّما هلك أبو‬ ‫قاسية مفَعمة بالعداء والحقد وا َ‬
‫لذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب‪،‬‬ ‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( من ا َ‬ ‫طالب‪ ،‬نالت قريش من رسول ا ّ‬
‫حتى اعترضه سفيٌه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا‪ .‬وفي البيت عندما بكت ابنته على وضعه هذا قال‪:‬‬
‫"ما نالت مّني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب"‪(3).‬‬
‫لمر المترّدي‪ ،‬أن يبحث الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( عن بيئة ُأخرى أفضل من بيئته لنشر‬ ‫وقد دفع هذا ا َ‬
‫الدعوة فيها‪ ،‬فاختار الطائف التي كانت تعتبر مركزًا هامًا آنذاك‪،‬فقرر السفر إليها وحيدًا لمقابلة زعماء ثقيف‪،‬‬
‫لعّله يكسب نجاحًا في مهمته أو أنصارًا جددًا‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬علل الشرائع‪55:‬؛ البحار‪347|18:‬؛ تفسير البرهان‪.400|2:‬‬
‫‪ . 2‬تاريخ الخميس‪.301|1:‬‬
‫لنوار‪.5|19 :‬‬‫‪ . 3‬السيرة النبوية‪ ،415|1:‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 93‬‬
‫ن عرضه لم يَوثر فيهم‪ ،‬بل إّنهم رّدوا عليه بصبيانية أوضحت تمّلصهم من قبول الدعوة أو اعتناق الدين‪،‬‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫بل أّنهم تمادوا في سلوكهم العدواني فأحاط به جمٌع كبير منهم يسّبونه ويصيحون به‪ ،‬فالتجأ إلى بستان "عتبة‬
‫لذى‬‫وشيبة ابني ربيعة" للتخّلص من هَولء السفهاء‪ ،‬وعمد إلى ظل جلس فيه وهو يتصبب عرقًا‪ ،‬فقد ألحقوا ا َ‬
‫ل سبحانه وتعالى أن يعينه على‬ ‫ن رجليه سالت منهما الدماء‪ ،‬ولما دعا ا ّ‬
‫بمواضع عديدة من بدنه الشريف‪ ،‬كما أ ّ‬
‫لشرار‪ ،‬فقد تقّدم إليه ابنا ربيعة ـ الّلذان كانا ينظران إليه و يريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف ـ بطبق‬
‫هَولء ا َ‬
‫من عنب قدمه إليه )صلى ال عليه وآله وسلم( غلم لهما اسمه "عداس النصراني" من أهل نينوى‪ ،‬فلّما رأى ما‬
‫يعلمه الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( من علوم عن المسيح )عليه السلم( أسلم على يديه‪.‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لم يتمكن من الرجوع إلى مّكة بسهولة‪ ،‬حيث خاف أذى المشركين‪ ،‬مّما‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫ل من بني خزاعة طلب منه أن يخبر‬ ‫جعله يترك "نخلة" وهي واد بين الطائف ومكة‪ ،‬إلى حراء‪ ،‬فالتقى رج ً‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( حتى يدخل مكة في أمان‪.‬‬ ‫"المطعم بن عدي" بحالته‪ ،‬ويسأله أن يجير رسول ا ّ‬
‫ل أّنه قبل أن يجيره "صلى ال عليه وآله وسلم" فدخل الرسول )صلى ال عليه‬ ‫ن "المطعم" كان وثنيًا‪ ،‬إ ّ‬ ‫ورغم أ ّ‬
‫ل‪ ،‬ونزل في بيت "مطعم" و بات فيه‪ ،‬ثّم دخل في الصباح مع أهل بيته إلى المسجد الحرام ثّم‬ ‫وآله وسلم( مكة لي ً‬
‫إلى منزله‪(1).‬‬
‫ولم ينس الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( عمله الطيب هذا‪ ،‬بل تذّكره حتى بعد وفاة المطعم‪ ،‬إذ أّنه أعلن في‬
‫لفراج عن جميع‬ ‫معركة بدر عن استعداده ل ِ‬
‫____________‬
‫لنوار‪.7|19 :‬‬‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪381|1:‬؛ بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 94‬‬
‫لسرى لو كان حّيا‪ ،‬تقديرًا لما قام به من إجارة وخدمة كبيرة له‪.‬‬ ‫اَ‬
‫وكان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يستخدم كّلوسيلة وطريقة لنشر دعوته‪ ،‬فكان يقوم بالدعوة في كّلوقت‬
‫لسواق العرب الشهيرة‪ :‬عكاظ والمجنة وذي المجاز‪،‬‬ ‫ل مكان‪ ،‬منتهزًا الفرص المناسبة لذلك‪ ،‬مثل استغلله َ‬ ‫وك ّ‬
‫حيث كان الخطباء والشعراء يقفون فيها ليلقوا ما عندهم من شعر وخطب‪ ،‬وفكان النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫ل لكم العجم‪ ،‬وإذا آمنتم‬
‫ل تفلحوا‪ ،‬وتملكوا بها العرب‪ ،‬وتذ ّ‬
‫لا ّ‬
‫وسلم( يقف على مكان مرتفع خاطبًا‪" :‬قولوا ل إله إ ّ‬
‫كنتم ملوكًا في الجنة"‪(1).‬‬
‫ل سبحانه‪،‬‬
‫كما أّنه كان يلتقي في مواسم الحج برَوساء القبائل وأشرافها يعرض عليهم دينه‪ ،‬ويدعوهم إلى ا ّ‬
‫ويخبرهم بأّنه نبي مرسل‪ ،‬ويقول ابن هشام في ذلك‪ :‬كان )صلى ال عليه وآله وسلم( ل يسمع بقادم من العرب‬
‫ل وعرض عليه ما عنده‪.‬‬ ‫لتصّدى له فدعاه إلى ا ّ‬‫إلى مكة له اسم وشرف إ ّ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬طبقات ابن سعد‪.216|1 :‬‬

‫) ‪( 95‬‬
‫المرحلة الجديدة في الدعوة و نتائجها المَوثرة‬

‫‪ .4‬بيعة العقبة‬

‫لوس والخزرج في القرن الرابع الميلدي يعد هجرتهم من اليمن‪ ،‬وهم من القحطانيين ‪ .‬كما‬ ‫سكنت يثرب قبيلتا ا َ‬
‫سكن بجانبهم اليهود القادمين من شمال الجزيرة العربية‪ .‬وكثيرًا ما كان يحضر منهم جماعة إلى مّكة‪ ،‬فكان‬
‫النبييلتقي بهم ويتصل معهم عارضًا عليهم دينه‪ ،‬وقد كان لهذه اللقاءات والّتصالت أثرها فيما بعد ودافعًا لهجرة‬
‫الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى يثرب‪ ،‬فقد كان حجاجهم ينقلون أخباره )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى‬
‫أهاليهم‪ ،‬مّما مكنهم التعرف عليه وعلى أهدافه‪ .‬وقد تّمت تلك الّتصالت فيما بين سنوات ‪ 13 ،12 ،11‬من‬
‫البعثة‪.‬‬
‫ومن أشهر من تشّرف بمقابلة الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬سويد بن الصامت" الذي أسلم ونشر‬
‫ن الخزرج قتلته قبل يوم بعاث‪ (1).‬و "إياس بن معاذ" الذي رأى في إسلم أهله تخّلصا‬ ‫لأّ‬‫لسلم بين قومه‪ ،‬إ ّ‬ ‫اِ‬
‫من النزاع والتناحر بينهم‪ ،‬ليصبحوا بفضل الدين الجديد إخوة تزول بينهم أسباب العداء والقتال‪.‬‬
‫لسلم‪:‬إّنا قد‬
‫ليمان به وبا ِ‬
‫وكذلك تّمت مبايعة ستة أفراد من الخزرج وا ِ‬
‫____________‬
‫لوس والخزرج‪.‬‬ ‫‪ . 1‬بعاث‪ ،‬موضع جرت فيه حرب بين ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 96‬‬
‫ل بك‪ ،‬فسنقدم عليهم فندعوهم إلى‬ ‫تركنا قومنا ول قوم بينهم من العداوة والشّر مثل ما بينهم‪ ،‬فعسى أن يجمعهم ا ّ‬
‫ل عليه‪ ،‬فل رجل أعّزمنك‪(1).‬‬ ‫أمرك‪،‬ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين‪ ،‬فإن يجمعهم ا ّ‬
‫ليجابي في أهل يثرب‪ ،‬حيث أسلم عدٌد منهم‪ ،‬وقدم في السنة التالية ‪ 12‬من البعثة‪ ،‬اثنا‬ ‫وكان لهَولء تأثيرهم ا ِ‬
‫لسلم‪ ،‬وكان‬ ‫ل منهم‪ ،‬عقدوا مع النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" بيعة العقبة‪ ،‬وهي أّول بيعة في ا ِ‬ ‫عشر رج ً‬
‫أبرزهم‪ :‬أسعد بن زرارة‪ ،‬وعبادة الصامت‪.‬‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫ل وبرسوله‪" :‬بايعنا رسول ا ّ‬‫ليمان با ّ‬‫لسلم وا ِ‬‫ص البيعة‪ ،‬بعد العتراف با ِ‬ ‫وكان ن ّ‬
‫ل شيئًا‪ ،‬ول نسرق ول نزني‪،‬ول نقتل أولدنا‪ ،‬ول نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا‬ ‫ل نشرك با ّ‬ ‫على أ ّ‬
‫ول نعصيه في معروف" ويرد عليهم الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬إن وفيتم فلكم الجنة‪ ،‬وإن غشيتم‬
‫ل‪ ،‬إن شاء عّذب وإن شاء غفر"‪.‬‬ ‫ل عّزوج ّ‬‫من ذلك شيئًا فأمركم إلى ا ّ‬
‫وطلبوا من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يرسل إليهم من يعّلمهم القرآن والدين‪ ،‬إذ أّنهم نشطوا في نشر‬
‫لسلم بعد عودتهم إلى يثرب‪ ،‬فبعث إليهم‪" :‬مصعب بن عمير" الداعية النشط الذي تمكن من أن يجمع‬ ‫اِ‬
‫المسلمين في غياب الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ويَومهم ويصّلي بهم‪(2).‬‬
‫لسلم في يثرب‪ ،‬هيجانًا كبيرًا‪ ،‬وشوقًا عجيبًا في نفوس المسلمين من أهلها‪ ،‬فانتظروا‬ ‫وهكذا فقد أحدث تقّدم ا ِ‬
‫للتقاء بالرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪ ،‬فخرجت قافلة كبيرة منهم ضمت ‪ 500‬نفر‪،‬‬ ‫جل ِ‬ ‫حلول موسم الح ّ‬
‫فيهم ‪ 73‬مسلمًا‬
‫____________‬
‫لنوار‪.25|19 :‬‬ ‫‪ . 1‬تاريخ الطبري‪86|2:‬؛ السيرة النبوية‪427|1 :‬؛ بحار ا َ‬
‫لنوار‪.25|19 :‬‬ ‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪434|1:‬؛ بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 97‬‬
‫بينهم امرأتان‪ ،‬فالتقوا بالرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( الذي واعدهم بالعقبة‪":‬موعدكم العقبة في الليلة‬
‫جة‪ ،‬فاجتمع بهم مع عّمه "العباس بن عبد‬ ‫الوسطى من ليالي التشريق"‪ ،‬وهي الليلة ‪ 13‬من شهر ذي الح ّ‬
‫المطلب" بعد أن مضى ثلث الليل ونام الناس‪ ،‬حتى ل يشعروا بخروجهم‪.‬‬
‫ل‪ :‬إّنمحّمدا مّنا حيث قد علمتم‪ ،‬وقد منعناه من قومنا‪ ،‬فهو في عّزمن قومه ومنعة في بلده‪،‬‬ ‫فتكّلم فيهم العباس قائ ً‬
‫ل النحياز إليكم واللحوق بكم‪ ،‬فإن كنتم ترون أّنكم وافون له بما دعوتموه إليه‪ ،‬ومانعوه مّمن‬‫وإّنه قد أبى إ ّ‬
‫خالفه‪ ،‬فأنتم وما تحملتم من ذلك‪ ،‬وإن كنتم ترون أّنكم مسّلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم‪ ،‬فمن الن فدعوه‪ ،‬فإّنه‬
‫في عّزومنعة من قومه وبلده‪.‬‬
‫لسلم ثّم قال‪" :‬أبايعكم على أن‬ ‫غب في ا ِ‬‫ل ور ّ‬
‫ثّمتكّلم الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( فتل القرآن ودعا إلى ا ّ‬
‫تمنعوني مّما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"‪ .‬فبايعوه على ذلك و هم في حماس وسرور عظيم‪.‬‬
‫كما أّنالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عاهدهم على أن يبقى معهم‪ ،‬ويكون بجانبهم في سلمهم وحربهم‪:‬‬
‫"أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم" ثّم قال لهم‪" :‬أخرجوا إلّيمنكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما‬
‫فيهم"‪ .‬فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا‪ ،‬فقالص‪" :‬أنتم على قومكم بما فيهم كفلء ككفالة الحواريين لعيسي بن‬
‫مريم‪ ،‬وأنا كفيل على قومي ـ أي المسلمين ـ فُأبايعكم على أن تمنعوني مّما تمنعون نساءكم وأولدكم"‪ .‬فقالوا‪:‬‬
‫نعم‪ .‬فبايعوه على ذلك"‪.‬‬
‫ض الجمع بعد ذلك‪ ،‬بعد أن وعدهم الرسول )صلى ال‬ ‫لوس‪ ،‬وقد انف ّ‬ ‫وكان النقباء ‪ 9 ،‬من الخزرج و ‪ 3‬من ا َ‬
‫عليه وآله وسلم( أن يهاجر إليهم في الوقت المناسب‪(1).‬‬

‫____________‬
‫لنوار‪25|19 :‬؛السيرة النبوية‪441|1:‬؛طبقات ابن سعد‪.221|1:‬‬
‫‪ . 1‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 98‬‬
‫ع من أهل مّكة الذين رفضوه خلل ثلثة عشر عامًا‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن‬ ‫لسلمي أسر َ‬ ‫أّما بخصوص قبول أهل يثرب الدين ا ِ‬
‫ي في ذلك‪:‬‬‫هناك عاملين هامين كان لهما التأثير المباشر القو ّ‬
‫لخبار عن ظهور نبي جديد ودين جديد‪ ،‬مّما هّيأ أهلها لقبول هذا الدين‬ ‫‪ .1‬وجود اليهود بالمدينة‪ ،‬وقيامهم بنشر ا َ‬
‫لولى‪ ،‬حين قال بعضهم لبعض‪:‬‬ ‫لمر الذي جعلهم أسرع في تقبلهم للدعوة خلل البيعة ا َُ‬ ‫الذي كانوا ينتظرونه‪ ،‬ا َ‬
‫عدكم به اليهود فل يسبقنكم إليه‪.‬‬ ‫ي الذي تو ّ‬
‫ل إّنه للنب ّ‬
‫وا ّ‬
‫‪ .2‬كما أّنالحروب الطويلة التي جرت بين أطراف أهل يثرب‪ ،‬والتي استمرت مائة وعشرين عامًا‪ ،‬قد أنهكتهم‬
‫لوضاع‪ ،‬فبحثوا عن‬ ‫لحوال وا َ‬ ‫لمل في تحسن ا َ‬ ‫وكادت أن تذهب بما تبّقى من رمقهم‪ ،‬فمّلوا الحياة‪ ،‬وفقدوا ك ّ‬
‫لوضاعهم المتردية‬ ‫مخّلص لما هم فيه من حالة سيئة ومشكلت مزمنة‪ .‬ولهذا تمّنوا أن يضع النبي ص حدًا َ‬
‫ل بك فل رجل أعّز منك"‪.‬‬ ‫ل بك‪ ،‬فإن جمعهم ا ّ‬ ‫فقالوا‪" :‬عسى أن يجمعهم ا ّ‬
‫ن ذلك يعني‬
‫وقد أحدث كّلذلك خوفًا عجيبًا في قلوب قادة قريش وسادة مكة المشركين المتغطرسين‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫ل طاقات المسلمين المبعثرة‪ ،‬و تعمل معًا في‬ ‫أّنالمسلمين وجدوا قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية‪ ،‬تجمع ك ّ‬
‫ش في الّتصال بالخزرجّيين‬ ‫ت قري ٌ‬ ‫نشر دينهم وعقيدتهم‪ ،‬مّما سيشكل خطرًاجديدًا يهّددهم في الصميم‪،‬ولهذا باَدر ْ‬
‫للستفسار عّما حدث في العقبة‪ .‬فحلف لهم المشركون من أهل يثرب أّنه لم يحدث ما يَوذيهم أو يهدد‬
‫مصالحهم‪،‬ولم يعلموا عنه‪ ،‬وهم في قولهم صادقون‪ ،‬إذ أّنهم لم يعلموا بما حدث في العقبة‪.‬‬
‫ل أّنهم كانوا قد‬
‫وحاولوا إلقاء القبض عليهم قبل خروجهم من مّكة‪ ،‬إ ّ‬
‫===============‬
‫) ‪( 99‬‬
‫توجهوا قبل ذلك نحو المدينة‪ ،‬فظفروا بـ "سعد بن عبادة" الذي توّلوا ضربه بعد ربط يديه إلى عنقه‪ ،‬حتى‬
‫خّلصه منهم‪" :‬المطعُم بن عدي"‪(1).‬‬
‫لشهل" قبل أن يروا النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫ل قبيلة "بني عبد ا َ‬ ‫وفي المدينة المنورة‪ ،‬كان قد أسلم فيها ك ّ‬
‫لسلم والمداِفعين عن عقيدة التوحيد‪ ،‬بفضل نشاط الدعاة‪ :‬مصعب بن عمير‪،‬‬ ‫وسلم( فأصبحوا من الدعاة إلى ا ِ‬
‫وأسعد بن زرارة‪ ،‬الّلذين أّثرا في إسلم قادة القبيلة‪ُ :‬أسيد بن حضير وسعد بن معاذ‪ ،‬ثّم إسلم الباقي‪(2).‬‬
‫ضهم النجاة بنفسه والهجرة إلى‬ ‫وعندما اشتّدإيذاء قريش للمسلمين بعد إسلم جماعة من أهل يثرب‪ ،‬طلب بع ُ‬
‫أّيمكان‪ ،‬فاستمهلهم الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" وقال‪" :‬لقد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب‪ ،‬فمن أراد‬
‫الخروج فليخرج إليها"‪(3).‬‬
‫ن زعماءها فطنوا‬ ‫لأّ‬ ‫وبذا فقد ترك المسلمون مّكة وهاجروا إلى المدينة تدريجيًا‪ ،‬حّتى ل تعلم بهم قريش‪ ،‬إ ّ‬
‫ل مسلم أراد‬‫ل من وجدوه أثناء الطريق‪ ،‬وحبس زوجة ك ّ‬ ‫ي مسلم‪ ،‬وإعادة ك ّ‬ ‫ل ّ‬‫لسرهم‪ ،‬فمنعوا السفر والتنقل َ‬
‫ن معظم المسلمين تمّكنوا من الفرار والهجرة إلى يثرب‪ ،‬ما عدا‬ ‫ل ذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫الهجرة‪ .‬ولكن لحسن الحظ‪ ،‬لم يثمر ك ّ‬
‫لمام علي )عليه السلم( و أبو بكر‪ ،‬وعدد قليل من المسجونين والمرضى‬ ‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وا ِ‬
‫من المسلمين‪ .‬حتى حان الوقت الذي أقّر فيه النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( الهجرة من مكة في شهر ربيع‬
‫لّول من السنة ‪ 13‬من البعثة النبوية المباركة‪.‬‬‫اَ‬

‫‪ .5‬الهجرة الكبرى‬

‫اجتمع رَوساء قريش في دار الندوة‪ ،‬للتشاور فيما حدث أخيرًا‪ ،‬من تجمع‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.449|1:‬‬
‫لنوار‪.10|19:‬‬ ‫‪ . 2‬إعلم الورى ‪59:‬؛ بحار ا َ‬
‫‪ . 3‬طبقات ابن سعد‪.226|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 100‬‬
‫لسلمية وتمركزها في المدينة‪ ،‬فاّتخذوا قرارًا قاطعًا وحاسمًا وخطيرًا‪ ،‬وهو القضاء على‬ ‫القوى والعناصر ا ِ‬
‫لجرامي‬ ‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( والتخلص منه بقتله‪ ،‬بواسطة اشتراك جميع القبائل في هذا العمل ا ِ‬
‫طعوه إربًا‬
‫ل قويًا ثّمتسلحوه حسامًا عضبًا‪،‬وليهجموا عليه بالليل ويق ّ‬ ‫ل قبيلة رج ً‬ ‫حيث قال المقترح‪ :‬فتختاروا من ك ّ‬
‫إربًا‪ ،‬فيتفّرق دمه في قبائل قريش جميعها‪ ،‬فل يستطيع بنو هاشم و بنو المطلب مناهضة قبائل قريش كّلها في‬
‫صاحبهم‪ ،‬فيرضون حينئٍذ بالدية منهم‪ .‬فاستحسن الجميع هذا الرأي واّتفقوا عليه‪ ،‬ثّم اختاروا الَقَتَلة‪ ،‬على أن‬
‫يَوّدوا مهمتهم بالليل أثناء الظلم‪(1).‬‬
‫ل أن جبرائيل )عليه السلم( نزل على الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( وأبلغه بمَوامرة المشركين فقرأ عليه‬ ‫إّ‬
‫ل خْير‬‫ل وا ّ‬‫ن َوَيْمكُر ا ّ‬‫ك َويمكرو َ‬
‫جو َ‬
‫ك َأْو يخر ُ‬
‫ك َأْو َيْقُتُلو َ‬
‫ن َكَفُروا ِليثِبُتو َ‬‫ك اّلِذي َ‬
‫ل تعالى‪َ) :‬وِإْذ َيْمُكُر ِب َ‬
‫قول ا ّ‬
‫الماِكرين( ‪(2).‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قرر أن ينام شخص في فراشه ليتصّور المشركون أّنه )صلى ال عليه‬ ‫ثّم إ ّ‬
‫وآله وسلم( موجود في منزله لم يبرحه‪ ،‬فيرتكز عملهم على محاصرة البيت دون الهتمام بمراقبة الطرقات في‬
‫لمام علي )عليه السلم( في فراش النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وحاصر المنزل أربعون‬ ‫نواحي مكة‪ .‬فنام ا ِ‬
‫فردًا من قريش‪ ،‬وخرج النبي ص من الباب دون أن يشعر به أفراد قريش المكّلفون بقتله‪ ،‬حينما قرأ )صلى ال‬
‫صُرون( ‪ .‬وخروج النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بهذه‬ ‫عليه وآله وسلم( سورة "يس" إلى قوله‪َ) :‬فُهْم ل ُيْب ِ‬
‫ن آخرين يرون إّنه خرج‬ ‫لأّ‬ ‫ن القوم المحاصرين كانوا نيامًا لحظة خروجه‪ ،‬إ ّ‬ ‫سره البعض بأ ّ‬ ‫الصورة والكيفية‪ ،‬ف ّ‬
‫سوا به‪.‬‬‫لعجاز والكرامة دون أن يروه ويح ّ‬ ‫من البيت عن طريق ا ِ‬
‫وقبيل طلوع الفجر عند ساعة الصفر‪ ،‬هجم المتآمرون على فراش النبي‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬طبقات ابن سعد‪227|1 :‬؛ السيرة النبوية‪.480|1:‬‬
‫لنفال‪ .30:‬ليثبتوك‪ :‬ليسجنوك‪.‬‬
‫‪.2‬اَ‬

‫===============‬
‫) ‪( 101‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( يكشف عن نفسه‪ ،‬فغضبوا وندموا على‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( ففوجئوا بوجود ا ِ‬
‫انتظارهم الطويل حّتى الفجر‪ ،‬ولموا أبا جهل الذي منعهم من دخول البيت فحّملوه مسَوولية فشل الخطة‪،‬‬
‫ولكّنهم أسرعوا في وضع خطه جديدة لترتيب أمر ملحقته والقبض عليه‪.‬‬
‫وكان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وأبو بكر قد أمضيا ليلة الهجرة وليلتين ُأخريين في غار ثور الواقع في‬
‫ن الطريق إلى المدينة يقع في شمال مّكة‪.‬‬‫جنوب مكة‪ ،‬وذلك ليعّمي على قريش فل يتبعوا أثره‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫وبالنسبة إلى مصاحبة أبي بكر للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فهي مسألة تاريخية غامضة‪ ،‬فيعتقد البعض‬
‫ن النبي‬ ‫أّنها كانت بالصدفة‪ ،‬أي أّنه تقابل معه في الطريق فاصطحبه معه إلى غار ثور‪ ،‬بينما يرى آخرون أ ّ‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( ذهب في نفس الليلة إلى منزل أبي بكر فخرجا في منتصف الليل إلى الغار‪ (1).‬في‬
‫لمام علي )عليه‬ ‫ن أبا بكر جاء إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فأرشده ا ِ‬ ‫حين أّنفريقا ثالثًا يذهب إلى أ ّ‬
‫السلم( إلى مخبأ النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬
‫ث العيون والجواسيس في طرقات مّكة‪ ،‬ومراقبة مداخلها ومخارجها‪ ،‬وبعثت القافلة‬ ‫أّما قريش فقد بادرت إلى ب ّ‬
‫لبل جائزة لمن يقبض عليه‬ ‫تقتص أثره ص في كّلمكان وخاصة طريق مكة ـ المدينة‪ ،‬كما عّينت مائة من ا ِ‬
‫"صلى ال عليه وآله وسلم" ويرّده إليهم‪ ،‬أو لمن يأتي عنه بخبر صحيح‪.‬‬
‫لثر قدم الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( من الوصول إليه عند باب الغار‪ ،‬إلّ أّنهم‬ ‫وقد تمّكن المتتبعون َ‬
‫استبعدوا وجودهما فيه‪ ،‬نظرًا لنسج العنكبوت وبيض الحمام‪ .‬فاستمّرت محاولت البحث ثلثة أّيام بلياليها دون‬
‫جدوى‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬تاريخ الطبري‪.100|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 102‬‬
‫وقد ترّدد على النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( خلل تواجده في الغار‪ :‬علي )عليه السلم( وهند بن أبي هالة‬
‫ل بن أبي بكر وعامر ابن فهيرة راعي أغنام أبي‬ ‫)ابن خديجة( حسب رواية الشيخ الطوسي في أماليه‪ ،‬وعبد ا ّ‬
‫بكر‪ ،‬حسب رواية كثير من المَوّرخين‪.‬‬
‫ي بنفسه‪ .‬وتعريض حياته لخطر الموت‬ ‫لمام علي )عليه السلم( النب ّ‬ ‫والنقطة الهامة في هذه القضية هي مفاداة ا ِ‬
‫ق‪،‬‬‫ب الحقيقي للح ّ‬ ‫لسلم وحياة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬فهو نموذج رائع من الح ّ‬ ‫في سبيل الدين وا ِ‬
‫ف ِباْلِعباد(‬
‫ل رُءو ٌ‬‫ل َوا ّ‬
‫تا ّ‬
‫سُه اْبِتغاء َمْرضا ِ‬
‫شِري َنْف َ‬
‫ن َي ْ‬
‫ن الّناس َم ْ‬‫ل‪َ) :‬وِم َ‬‫ل تعالى في كتابه العظيم قائ ً‬‫وقد مدحه ا ّ‬
‫‪(1).‬‬
‫لمام‬‫لسلم إلى اعتبارها واحدة من أبرز وأكبر فضائل ا ِ‬ ‫وقد دفعت هذه العملية التضحوية الكبرى كبار علماء ا ِ‬
‫ليثار‪ ،‬واعتبار الية المذكورة في شأنه من المسلمات قّلما بلغ‬ ‫)عليه السلم( وإلى وصفه بالفداء والبذل وا ِ‬
‫الحديث في التفسير والتاريخ إليها‪(2).‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( أن يبتاع بعيرين له ولصاحبه‪ ،‬فقال‬ ‫وقد طلب النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من ا ِ‬
‫ل راحلتين نرتحلهما إلى يثرب‪ ،‬فدفع إليه الرسول )صلى ال عليه‬ ‫ت لي ولك يا نبي ا ّ‬ ‫أبو بكر‪ :‬قد كنت أعدد ُ‬
‫وآله وسلم( ثمنهما‪(3).‬‬
‫كما أوصى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عليًا )عليه السلم( بأن يَوّدي أمانته على أعين الناس‪ ،‬وأمره‬
‫لمام علي )عليه السلم( وفاطمة‬ ‫بترتيب رحلة الفواطم‪ :‬فاطمة الزهراء)عليها السلم( ‪ ،‬وفاطمة بنت أسد ُأّم ا ِ‬
‫بنت الزبير‪ ،‬ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم إلى يثرب‪ ،‬وما يحتاجون له من زاد وراحلة‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬البقرة‪.207:‬‬
‫‪ . 2‬مسند أحمد‪87|1:‬؛ كنز العمال‪407|6:‬؛ الغدير‪.47|2:‬‬
‫‪ . 3‬الكامل‪73|2:‬؛ السيرة الحلبية‪.53|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 103‬‬
‫ل أمينًا يدعى "أريقط" للترحال إلى المدينة‪ ،‬فخرج النبي‬ ‫لمام )عليه السلم( أّول ثلث رواحل ودلي ً‬ ‫وقد هّيأ ا ِ‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( مع صاحبه متوجَهين إلى يثرب سالَكين الخط الساحلي‪.‬‬
‫ل ما يقع من الحوادث بذلك العام فيحددون تاريخه‬ ‫ومن هذه الليلة يبدأ تاريخ المسلمين‪ ،‬حيث بدأوا يقيسون ك ّ‬
‫وزمان حدوثه‪.‬‬
‫سست لهم فيه حكومة مستقلة‪ ،‬وتخّلصوا‬ ‫لّول للهجرة‪ ،‬حقق المسلمون انتصارًا عظيمًا وباهرًا‪ ،‬وتأ ّ‬ ‫ففي العام ا َ‬
‫من التشرذم والتبعثر‪ ،‬وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطة واحدة وبيئة حرة‪ ،‬ل أثر فيها للكبت والضطهاد‪،‬‬
‫ل ذلك يتخذون هذا العام مبدأ لتاريخهم‪.‬‬ ‫مّما جعلهم لك ّ‬
‫فالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بنفسه جعل التاريخ الهجري‪ ،‬وإنّ أي إعراض وتجاهل له واختيار تاريخ آخر‬
‫لسلم الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم( ومخالفة لما رسمه للمسلمين‪ .‬وأّما ما‬ ‫مكانه‪ ،‬إعراض عن سنة رسول ا ِ‬
‫ن الخليفة "عمر بن الخطاب" هو الذي جعل هجرة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫اشتهر بين المَوّرخين من أ ّ‬
‫صر في‬‫لمعان والتب ّ‬‫ن شيئًا من ا ِ‬‫لّ‬‫لمام علي )عليه السلم( فهو غير صحيح‪َ ،‬‬ ‫مبدأ للتاريخ باقتراح وتأييد ا ِ‬
‫مراسلت النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" ومكاتباته المدرجة في كتب التاريخ والسيرة والحديث‪ ،‬تثبت أ ّ‬
‫ن‬
‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( هو الذي اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدأ للتاريخ‪ ،‬فقد أّرخ رسائله وكتبه إلى‬
‫ُأمراء العرب وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة‪ ،‬بذلك التاريخ الهجري‪ ،‬فهناك كثير من الكتب‬
‫ُأّرخت قبل السنة ‪ 16‬أو ‪ 17‬من الهجرة‪ ،‬وقد يكون في السنة الخامسة الهجرية‪.‬‬
‫لسلمية بهجرته‪ ،‬فقالوا‪ :‬وقع كذا‬ ‫ن أصحابه )صلى ال عليه وآله وسلم( أّرخوا في أّيام حياته‪ ،‬الحوادث ا ِ‬ ‫كما أ ّ‬
‫ل قيل‪ :‬حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في شهر شعبان‪ ،‬ستة عشر شهرًا‬ ‫في شهر كذا من الهجرة‪ ،‬فمث ً‬
‫أو ‪ 17‬شهرًا أو ‪ 18‬شهرًا‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 104‬‬
‫وفي السنة الخامسة من الهجرة ‪ ،‬أمر الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بإحلل السنة الهجرية مكان الشهر‬
‫الهجري‪.‬‬

‫‪ .6‬وصول النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى المدينة‬

‫تمّكن "سراقة بن مالك" من اللحاق بالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وأبي بكر وهما في الطريق إلى المدينة‪،‬‬
‫ن ذلك من دعاء النبي‬ ‫سه وطرحه أرضًا‪ ،‬فعرف أ ّ‬ ‫فدعا عليه النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فجمح به فر ُ‬
‫ل يخبر أحدًا بمكانهما‬‫"صلى ال عليه وآله وسلم" عليه‪ ،‬فاعتذر له وطلب منه السماح له بالعودة على أ ّ‬
‫ل من بحث عنهما في الطريق‪.‬‬ ‫وموقعهما‪ .‬ففعل‪ ،‬ورّد ك ّ‬
‫لّول‪ ،‬يوم الثنين‪،‬ونزل على‬ ‫أّما الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( فقد وصل إلى قباء في ‪ 12‬من شهر ربيع ا َ‬
‫‪" :‬كلثوم بن الهرم" شيخ بني عمرو بن عوف‪ ،‬ولبث في قباء إلى آخر السبوع‪ ،‬وبنى فيها مسجدًا‪(1).‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( والسيدة فاطمة )عليها السلم( حيث كان قد لحق به الكّفار وحاولوا‬ ‫وانتظر لحين قدوم ا ِ‬
‫ل أّنه )عليه السلم( تمكن من التخلص منهم‪ ،‬فتركه القوم خائفين من غضبه وقوته‪ ،‬فواصل سيره‬ ‫محاربته‪ ،‬إ ّ‬
‫لّول‪.‬‬‫باّتجاه المدينة‪ ،‬حيث وصلها في منتصف شهر ربيع ا َ‬
‫ط قدمه على‬ ‫ولّما انحدر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من ثنية الوداع ـ وهي منطقة قريبة من المدينة ـ و ح ّ‬
‫حبوا به أعظم ترحيب‪ ،‬مرّددين‬ ‫ل عظيمًا‪ ،‬ور ّ‬
‫ل ونساء‪ ،‬كبارًا و صغارًا‪ ،‬استقبا ً‬ ‫تراب يثرب‪ ،‬استقبله الناس رجا ً‬
‫أناشيد فرحين به‪ :‬طلع البدر علينا من ثنيات الوداع‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬تاريخ الخميس‪.338|1 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 105‬‬
‫ن النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" كان يقول عن ناقته‪" :‬خّلوا سبيلها‬ ‫لأّ‬‫وأصّر القوم على النزول عند أحدهم‪ ،‬إ ّ‬
‫فإّنها مأمورة"‪ .‬فانتهت الناقة إلى أرض واسعة كانت ليتيمين من الخزرج يقال لهما‪" :‬سهل و سهيل" كانا في‬
‫لنصاري"‪ ،‬فاغتنمت ُأّم أّيوب الفرصة‬ ‫حجر أسعد بن زرارة‪ ،‬فبركت على باب "أبي أّيوب خالد بن يزيد ا َ‬
‫وبادرت إلى رحل الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( فحّلته وأدخلته منزلها‪ ،‬وعندما تنازع القوم في أخذه‪ ،‬قال‬
‫الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪" :‬أين الرحل؟" فقالوا‪ :‬أدخلته ُأّم أّيوب في بيتها‪ ،‬فقال "صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم" ‪" :‬المرء مع رحله"‪.‬‬
‫ن الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( دخل المدينة يوم الجمعة‪ ،‬حيث صّلى الجمعة‬ ‫وقد اّتفق ُكّتاب السيرة على أ ّ‬
‫لسلم‪ ،‬وخطب أّول خطبة في‬ ‫في بني سالم بن عوف‪ ،‬وهي أّول جمعة جمعها )صلى ال عليه وآله وسلم( في ا ِ‬
‫لثر العميق في قلوب أهلها ونفوسهم‪.‬‬ ‫المدينة كان لها ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 106‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 107‬‬
‫القسم الثاني‬

‫المدينة المنورة ـ يثرب‬

‫و فيه فصول‬
‫لحداث في المدينة المنّورة‬‫‪ .5‬ا َ‬
‫‪ .6‬أحداث السنة الثالثة والرابعة من الهجرة‬
‫‪ .7‬أحداث السنة الخامسة والسادسة من الهجرة‬
‫‪ .8‬أحداث السنة السابعة والثامنة من الهجرة‬
‫‪ .9‬أحداث السنة التاسعة و العاشرة والحادية عشرة‬

‫===============‬
‫) ‪( 108‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 109‬‬
‫الفصل الخامس‬

‫لحداث في المدينة المنّورة‬


‫اَ‬
‫لولى من الهجرة‬ ‫ـ السنة ا َ‬
‫ـ بناء مسجد في المدينة المنّورة‬
‫لنصار‬ ‫ـ المَواخاة بين المهاجرين وا َ‬
‫ـ معاهدة التعايش السلمي مع اليهود‬
‫ـ السنة الثانية من الهجرة‬
‫ـ تغيير اّتجاه القبلة‬
‫ليجابية‬ ‫ـ معركة بدر ونتائجها ا ِ‬
‫ـ العمليات العسكرية الصغرى‬
‫ـ زواج السّيدة فاطمة الزهراء )عليها السلم( ‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 110‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 111‬‬
‫لولىمن الهجرة‬
‫حوادث السنة ا َُ‬

‫ل للمسلمين‬‫كان أّول عمل رأى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يقوم به قبل أي عمل آخر‪ ،‬هو أن يبني مح ً‬
‫ل فيه ويذكروه في أوقات الصلوات‪ ،‬مضافًا إلى أّنه كان هناك حاجة أكيدة لمركز يجتمع‬ ‫ليتسّنى لهم أن يعبدوا ا ّ‬
‫ل ُأسبوع في يوم معّين‪ ،‬ويتشاوروا في مصالحهم وشَوونهم‪ ،‬بجانب‬ ‫لـكّ‬ ‫لسلم ـ حزب ا ّ‬ ‫فيه أعضاء حزب ا ِ‬
‫أدائهم صلة العيد فيه مّرتين كّلعام‪ .‬ولم يكن المسجد في عهد الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( للعبادة‬
‫لمور القضائية والفصل بين‬ ‫لسلمية والتربوية‪ ،‬إضافة إلى ا َُ‬ ‫فحسب‪ ،‬بل لُتلقى فيه العلوم والمعارف ا ِ‬
‫الخصومات وإصدار الحكم على المجرمين‪ ،‬فكان بمنزلة المحكمة في هذا اليوم‪ .‬كما استخدمه الشعراء في إلقاء‬
‫للقاء خطبه الحماسية والجهادية في تعبئة‬ ‫قصائدهم أمام الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( الذي اّتخذه قاعة ِ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أراد بذلك أن يعلن للجميع أ ّ‬
‫ن‬ ‫المسلمين ضّد الكّفار والمشركين‪ .‬مّما يبين أ ّ‬
‫لمور الدنيوية‪ ،‬بل هو دين شامل كامل يهتم بالتقوى وشَوون المعيشة‬ ‫دينه ليس مجّرد أمر معنوي ل يتصل با َُ‬
‫لوضاع الجتماعية‪.‬‬ ‫وا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 112‬‬
‫وقد استمرت أغلبية المساجد على هذا المنوال حتى مطلع القرن ‪ 4‬هـ حيث كانت تتحول في غير أوقات الصلة‬
‫إلى مراكز لتدريس العلوم المتنوعة‪ ،‬بل إّنها حتى بعدما فصلت المراكز العلمية عن المساجد فيما بعد‪ ،‬بقيت‬
‫لقوى بين العلم والدين‪.‬‬‫سد الصلة الوثيقة والرتباط ا َ‬‫لمر الذي ج ّ‬ ‫المدارس تبنى بجانب المساجد‪ ،‬ا َ‬
‫وفي بناء المسجد اشترك النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بنفسه في عملية البناء‪ ،‬ينقل الحجارة واللبن‪،‬ويرّدد‬
‫لنصار والمهاجرة"‪ .‬وكان "عمار بن ياسر" مّمن عمل بشّدة‬ ‫لعيش الخرة‪ ،‬الّلهم ارحم ا َ‬ ‫وهو يعمل‪" :‬ل عيش إ ّ‬
‫لحجار بدل النبي )صلى ال عليه‬ ‫و قّوة مع الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في البناء‪ ،‬إذ كان يحمل اللبن وا َ‬
‫ل قتلوني يحملون‬ ‫وآله وسلم( وبدل الخرين‪ ،‬حتى شكا إليه "صلى ال عليه وآله وسلم" فعلهم وقال‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ي ما ل يحملون‪ .‬فقال له النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك‪ ،‬إّنما تقتلك‬ ‫عل ّ‬
‫الفئة الباغية"‪(1).‬‬
‫صّفة يسكن فيها الفقراء والمهاجرون المحرومون‪ ،‬وكلف "عبادة بن الصامت" بأن‬ ‫وبنى كذلك بجانب المسجد ُ‬
‫يعّلمهم الكتابة وقراءة القرآن‪.‬‬
‫ثّم بعد ذلك بنيت منازله ومنازل أصحابه حول المسجد‪.‬‬
‫وفي هذه البيئة الجديدة‪ ،‬واجه النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ثلث مشكلت أو قضايا أساسية‪:‬‬
‫‪ .1‬قريش و الوثنيين في شبه الجزيرة العربية‪.‬‬
‫لموال لديهم‪.‬‬‫‪ .2‬اليهود في المدينة أو خارجها‪ ،‬مع توافر ا َ‬
‫لوس‬‫لنصار أنفسهم ـ ا َ‬‫لنصار‪ ،‬و بين ا َ‬ ‫‪ .3‬الختلف بين المهاجرين وا َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة الحلبية‪71 | 2 :‬؛ تاريخ الخميس‪.345|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 113‬‬
‫والخزرج ـ‪ ،‬أي الجبهة الداخلية‪.‬‬
‫وقد تمّكن الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( من التغّلب على تلك المشكلت والقضايا بأساليب حكيمة وسياسية‬
‫لنصار‪ ،‬حينما‬ ‫محّنكة‪ .‬فبالنسبة إلى التناقضات بين فئات المجتمع‪ ،‬فقد عالجها بالمَواخاة بين المهاجرين وا َ‬
‫ل أخوين أخوين"‪ .‬فأصبح هذا التآخي‬ ‫جمعهم الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( وقال لهم‪" :‬تآخوا في ا ّ‬
‫لخرى‪ .‬كما اختار علّيا )عليه السلم( أخًا لنفسه وقال‪:‬‬ ‫ل المشكلت ا َُ‬ ‫لطراف المتنازعة‪ ،‬طريقًا لح ّ‬ ‫والوحدة بين ا َ‬
‫ي أنت أخي في الّدنيا والخرة"‪.‬‬ ‫"يا عل ّ‬
‫لوضاع الداخلية في‬ ‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أدرك أّنه ما لم تصلح ا َ‬ ‫أّما مشكلة يهود يثرب‪ ،‬فإ ّ‬
‫لسلم لن تتمكن من النمو‪،‬‬ ‫ن شجرة ا ِ‬ ‫المدينة‪ ،‬ومالم يضم اليهود إلى جانبه‪ ،‬أي أن يقيم وحدة سياسية متوسعة‪ ،‬فإ ّ‬
‫لخرى وهي خطر قريش‪ .‬ومن هنا رأى النبي )صلى ال عليه‬ ‫لضافة إلى أّنه لن يتمكن من معالجة القضية ا َُ‬ ‫با ِ‬
‫لنصار والمهاجرين‪ ،‬يوّقع‬ ‫وآله وسلم( أن يتقّدم بالتفاهم معهم بعقد معاهدة تعايش سلمي ودفاع مشترك بين ا َ‬
‫عليها اليهود أيضًا‪.‬‬
‫لعمال‪،‬ومسندًا تاريخيًا قوي الدللة‪ ،‬تكشف عن مدى التزام الرسول )صلى ال‬ ‫وتعتبر هذه المعاهدة من أهّم ا َ‬
‫ى الحرية و العدالة‪ ،‬كما تكشف عن حنكته السياسية حيث استفاد من هذه الوسيلة من أجل‬ ‫عليه وآله وسلم( بمباد َ‬
‫إيجاد جبهة متحدة قوية في وجه الحملت الخارجية‪ ،‬فهي في الواقع واحدة من أكبر النتصارات السياسية التي‬
‫لطلق‪ .‬وهي نموذج‬ ‫لسلمية الناشئة في ذلك الوقت‪ ،‬بل هي أعظم معاهدة تاريخية على ا ِ‬ ‫أحرزتها الحكومة ا ِ‬
‫لسلم وحرصه على مبدأ حرية الفكر والعتقاد‪ ،‬وضرورة التعاون‪ ،‬وتوضيح‬ ‫كامل لرعاية ا ِ‬
‫===============‬
‫) ‪( 114‬‬
‫حدود صلحيات واختيارات القائد ومسَوولية الموقعين عليها‪.‬وقد احترم فيها النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫دين اليهود وثرواتهم في إطار شرائط معينة‪.‬‬
‫لخرى‪:‬‬ ‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عقد مع طوائف اليهود ا َُ‬ ‫لضافة إلى التعاهد مع يهود يثرب‪ ،‬فإ ّ‬ ‫وبا ِ‬
‫بني قريظة ‪ ،‬بني النضير‪ ،‬وبني قينقاع‪ ،‬معاهدات مماثلة فيما بعد‪ ،‬كان من أهّم بنودها‪:‬‬
‫ن الرسول )صلى ال عليه وآله‬ ‫ـ عدم العتداء على الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( و أصحابه‪ ،‬فإن فعلوا فإ ّ‬
‫ل من سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونسائهم والستيلء على أموالهم‪.‬‬ ‫وسلم( في ح ّ‬
‫لسئلة العويصة عليه بغية إحراجه‬ ‫ن اليهود تمّيزوا بمجادلة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وطرح ا َ‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫وزعزعة إيمان المسلمين به "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪ ،‬و لكن جميع تلك المخططات باءت بالفشل‪ ،‬و ق ّ‬
‫ل‬
‫ل بن‬
‫لسلم‪ ،‬كما حدث لعبد ا ّ‬ ‫تأثيرها في صفوف المسلمين‪ ،‬بل إّنها ساعدت في الواقع على إقبال بعضهم على ا ِ‬
‫سلم الذي كان من علماء اليهود و أحبارهم‪ ،‬أعلن إسلمه بعد سلسلة مناظرات و مجادلت مطّولة‪ ،‬كما التحق‬
‫بعده عالم آخر منهم هو "المخيريق"‪.‬‬
‫لضعاف المسلمين‪ ،‬وذلك‬ ‫ولم يكتف اليهود بذلك أّنهم استخدموا ُأسلوب المَوامرات والدسائس مثل‪َ" :‬فّرق تسد" ِ‬
‫لوس والخزرج‪ ،‬وإثارة العداء بينهم‪ ،‬وإقامة العلقات السرية مع مشركي‬ ‫باستغلل رواسب الماضي بين ا َ‬
‫لوس والخزرج والمنافقين‪ ،‬واشتراكهم صراحة في اعتداءات قريش على المسلمين في الحروب التي دارت‬ ‫اَ‬
‫لمر‬‫بين الطرفين‪ ،‬فقدموا كّلدعم ومساندة للوثنيين والعمل لصالحهم‪ ،‬كما اشتهروا بنقض العهود والمواثيق‪ ،‬ا َ‬
‫الذي أّدى إلى وقوع مصادمات وحروب مستمرة بينهم و بين المسلمين‪ ،‬نتج عنه إنهاء الوجود‬
‫===============‬
‫) ‪( 115‬‬
‫اليهودي في المدينة‪.‬‬
‫ن الفصل القادم يتناولها بالتفصيل‪.‬‬ ‫لخيرة والمرتبطة بإعتداءات قريش‪ ،‬فإ ّ‬ ‫أّما المشكلة ا َ‬
‫لولى للهجرة إلى شهر صفر‬ ‫لّول من السنة ا َُ‬
‫وقد أقام النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في المدينة‪ ،‬منذ ربيع ا َ‬
‫ل أسلم‬
‫لنصار إ ّ‬
‫لوس و الخزرج‪ ،‬و لم يبق دار من دور ا َ‬ ‫من السنة الثانية‪ .‬وأسلم في هذه الفترة من تبّقى من ا َ‬
‫ل أّنهم أسلموا بعد معركة بدر‪(1).‬‬ ‫أهُلها‪ ،‬ماعدا بعض الفروع و العوائل مّمن بقوا على شركهم‪ ،‬إ ّ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.50|1:‬‬

‫) ‪( 116‬‬
‫أحداث السنة الثانيةمن الهجرة‬

‫تمّيزت هذه الفترة بالستعراضات العسكرية‪ ،‬و المناورات الحربية‪ ،‬واستعراض القّوة‪ ،‬التي أمر بها الرسول‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( منذ الشهر الثامن من الهجرة حتى رمضان من السنة الثانية‪ ،‬وهي أّول مناورات‬
‫عسكرية في تاريخ المسلمين‪.‬‬
‫لثر الكبير في حياة المسلمين وهما‪ :‬واقعة بدر الكبرى‪ ،‬وتغيير‬ ‫كما تميزت الفترة بحدثين عظيمين كان لهما ا َ‬
‫جهة القبلة‪.‬‬
‫وقد راج في كتابات المَوّرخين وكتاب السيرة‪ ،‬مصطلح الغزوة‪،‬والسرّية‪ .‬فالغزوة هي تلك العمليات العسكرية‬
‫التي كان يقودها النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" بنفسه‪ .‬أّما السرّية فهي مجموعات عسكرية صغيرة يقودها‬
‫أحد قّواده ‪ ،‬دون أن يشترك فيها الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬
‫وقد أعد أّول لواء عسكري بقيادة "حمزة بن عبد المطلب" حيث سّيره النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( مع‬
‫ي قتال بينهم‪.‬‬
‫لحمر حيث تمر في طرقاته قوافل قريش التجارية‪ .‬ولم يحدث أ ّ‬ ‫ثلثين فردًا إلى سواحل البحر ا َ‬
‫وبعث النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بسرية ُأخرى بقيادة "عبيدة بن‬
‫===============‬
‫) ‪( 117‬‬
‫ل لم يجر بين‬
‫ن قتا ً‬
‫لأّ‬‫الحارث بن عبد المطلب" في ستين فردًا بهدف التعرض لقافلة قريش التجارية‪ .‬إ ّ‬
‫لطراف‪.‬‬ ‫اَ‬
‫كما بعث سرية قادها "سعد بن أبي وقاص" لرصد تحركات قريش‪ .‬أّما في شهر صفر من السنة ‪ 2‬هـ فقد أناب‬
‫لنصار لملحقة ركب قريش التجاري‬ ‫على المدينة "سعد بن عبادة" وقاد بنفسه مجموعة من المهاجرين وا َ‬
‫لبواء"‪ ،‬ولكّنه رجع دون أن يلقى أحدًا منهم‪(1).‬‬ ‫واعتراضه‪ ،‬حتى بلغ "ا َ‬
‫لّول من السنة نفسها مع ‪ 200‬فرد حتى وصل إلى "بواط" قرب ينبع‪ ،‬ـ على بعد‬ ‫وخرج أيضًا في شهر ربيع ا َ‬
‫‪ 90‬كم من المدينة ـ ولكّنه لم يظفر بقافلة قريش بقيادة "ُأمّية بن خلف"‪.‬‬
‫لولى لعتراض أكبر قافلة تجارية لقريش خارجة من مكة نحو الشام‪،‬بقيادة‬ ‫كما أّنه خرج في شهر جمادى ا َُ‬
‫ل أّنه لم يلتق بهم في "ذات العشيرة"‪.‬‬ ‫"أبي سفيان" إ ّ‬
‫ل بن جحش" فقد بعثه الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في شهر رجب على رأس أفراد‪ ،‬لملحقة‬ ‫أّما "عبد ا ّ‬
‫قافلة قريش التجارية‪ ،‬فنزل نخلة ـ بين مكة والطائف ـ و تقابل مع قافلة قرشية بقيادة ـ "عمرو بن الحضرمي"‬
‫لضافة إلى القبض على أسيرين‪.‬‬ ‫فباغتهم المسلمون و قاتلوهم واستولوا على أموالهم با ِ‬
‫ن الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( انزعج لحدوث القتال في شهر رجب الحرام‪ ،‬وخاصة عندما استغلت‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫أطراف عّدة كاليهود وقريش هذه القضية للتشهير بالرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( وإّنه استخدم الشهر‬
‫لموال‪.‬‬ ‫الحرام فسفك فيه الدماء وأخذ ا َ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬تاريخ الخميس‪.363|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 118‬‬
‫ل أنّ آية قرآنية نزلت فأبعدت تلك المخاوف‬ ‫ل بن جحش فعَلَته هذه‪ .‬إ ّ‬
‫وكذلك المسلمون فقد عابوا على عبد ا ّ‬
‫والحيرة التي أصبح فيها المسلمون‪.‬‬
‫لسيران فلم يقبل النبي )صلى ال عليه‬ ‫وقد غنم المسلمون منها‪ ،‬فكانت أّول غنيمة حصل عليها المسلمون‪ ،‬وأّما ا َ‬
‫لسرى بين الطرفين‪).‬‬
‫ل بعد أن تطلق قريش سراح أسيرين مسلمين‪ ،‬فتم تبادل ا َ‬ ‫وآله وسلم( إطلق سراحهما إ ّ‬
‫‪(1‬‬
‫وبذا فإن الهدف من تلك العمليات العسكرية الصغرى‪ ،‬وإرسال القوات الصغيرة‪ ،‬كان هو تحصيل وجمع‬
‫المعلومات عن العدو ورصد تحركاته وخططه‪ ،‬وليس كما اّدعى المستشرقون‪ ،‬إّنها لمصادرة أموال قريش‬
‫ل‪ ،‬بينما كان يحرس‬ ‫ن السرايا لم يتعد عدد أفرادها عن الستين أو الثمانين رج ً‬ ‫والسيطرة عليها لتقوية نفسه‪ .‬إذ أ ّ‬
‫لعداد لم‬ ‫ناَ‬
‫لّ‬‫قوافل قريش أعداد أكبر من ذلك‪ ،‬كما أّنالهدف منها لم يكن لمجّرد القتال وسفك الدماء أو النتقام‪َ ،‬‬
‫لجراء قتال أو حرب مع العدو‪.‬ويَوكد ذلك انزعاج النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من حدوث‬ ‫تكن كافية ِ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله‬ ‫لّنه‪" :‬ما أمرهم رسول ا ّ‬‫القتال الذي جرى بين "ابن جحش" و بين أفراد من قريش‪َ ،‬‬
‫سسوا أخبار قريش"‪(2).‬‬ ‫وسلم( بالقتال في الشهر الحرام ول غير الشهر الحرام‪ ،‬وإّنما أمرهم أن يتح ّ‬
‫لنصار‪ ،‬وذلك أّنهم‬ ‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لم يستخدم في تلك الغزوات الصغرى أحدًا من ا َ‬ ‫كما أ ّ‬
‫بايعوه في "العقبة" على الدفاع عن المسلمين‪ ،‬فالمعاهدة بينهم كانت دفاعية‪ ،‬وقد تعهدوا بموجبها بالدفاع عن‬
‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إذا قصده عدو‪ ،‬وبالرغم من ذلك‪ ،‬فإّنه إذا خرج بنفسه قائدًا للعمليات‪ ،‬فإّنه كان‬
‫لنصار‪.‬‬‫لخوة والوحدة بين المهاجرين وا َ‬ ‫لنصار‪ ،‬تقوية لروابط ا ِ‬ ‫يأخذ معه جماعة من ا َ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬المغازي‪13|1:‬؛ السيرة النبوية‪.603|1:‬‬
‫‪ . 2‬المغازي‪.16|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 119‬‬
‫لما حدث بعد ذلك في‬ ‫ويَوكد ذلك إّنه )صلى ال عليه وآله وسلم( لم يشركهم في عمليات قتالية هجومية ابتداء‪ ،‬إ ّ‬
‫معركة بدر‪.‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( استهدف من تلك السرايا والعمليات العسكرية التفتيشية‪ ،‬وعقد‬ ‫و هكذا فإ ّ‬
‫التفاقات و المعاهدات العسكرية مع القبائل المتواجدة على خطوط التجارة المكية‪ ،‬هو إعلم قريش بقّوة‬
‫ن جميع طرق التجارة المكية أصبحت في متناول يده‪ ،‬بحيث غدا في إمكانه أن يشل‬ ‫المسلمين عسكريًا‪ ،‬وإ ّ‬
‫لقتصاد المكي وأمرًا حيويًا لهم‪،‬ولذا كان على‬ ‫ن التجارة كانت عمود ا ِ‬‫إقتصاد مكة و يهدد خطوطهم‪ ،‬خاصة أ ّ‬
‫لحوال الجديدة‪ ،‬فتترك للمسلمين‬ ‫قريش في هذه الحالة أن تعيد النظر في مواقفها العدائية‪ ،‬وحساباتها في ضوء ا َ‬
‫ل الحرام‪ ،‬ونشر التوحيد في أنحاء الجزيرة العربية‬ ‫حرية الدعوة والعقيدة‪ ،‬وتفتح لهم الطريق لزيارة بيت ا ّ‬
‫وخاصة الحجاز‪.‬‬

‫‪ .1‬تغيير اّتجاه القبلة‬

‫أّما الحدث الخر الهام في هذه الفترة فكان تحويل القبلة إلى الكعبة‪ ،‬فقد تّم في الشهر ‪ 17‬من الهجرة‪ ،‬أي في‬
‫شهر رجب‪ ،‬حين أصبحت قبلة للمسلمين بمعنى اّنهم غدوا يتوجهون إلى المسجد الحرام أثناء الصلوات بدل بيت‬
‫المقدس‪ ،‬فقد صّلى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ 13‬عامًا في مّكة نحو بيت المقدس‪ .‬ولّما زاد إيذاء‬
‫لسلم‪ ،‬وقولهم‪" :‬أنت تابع لنا‬ ‫اليهود للرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بعد تنامي قّوة المسلمين وانتشار ا ِ‬
‫تصّلي إلى قبلتنا")‪ (1‬فاغتّم‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬أو قولهم‪ :‬مادرى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم‪ .‬مجمع البيان‪.255|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 120‬‬
‫ل‪ ،‬حتى نزلت الية‪:‬‬‫الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( لذلك وشق عليه‪ ،‬فانتظر فرجًا و وحيًا من جانب ا ّ‬
‫ك ِقبَلًة َترضاها( ‪ (1).‬فكان تغيير القبلة واحدًا من مظاهر البتعاد عن‬
‫سماِء َفَلُنَوّليّن َ‬
‫ك ِفي ال ّ‬
‫جه َ‬
‫ب َو ْ‬
‫)َقْدَنْرى َتَقّل َ‬
‫اليهود و اجتنابهم‪ ،‬كما أّناّتخاذ الكعبة قبلة‪ ،‬كان من شأنه كسب رضا العرب واستمالة قلوبهم‪ ،‬وترغيبهم في‬
‫لصنام‪ ،‬وخاصة أّنالكعبة كانت موضع احترام العرب وتقديسهم منذ‬ ‫لسلم‪ ،‬تمهيدًا لعتناق دين التوحيد‪ ،‬ونبذ ا َ‬ ‫اِ‬
‫أن رفع النبي إبراهيم )عليه السلم( قواعدها‪.‬‬
‫وقد تّم التحويل خلل الركعة الثانية من صلة الظهر‪ ،‬حين أخذ جبرائيل )عليه السلم( يد النبيص وأداره نحو‬
‫المسجد الحرام‪،‬فتبعه الرجال والنساء في المسجد‪ ،‬فتوجه الرجال مكان النساء واتخذت النساء مكان الرجال‪(2).‬‬

‫‪ .2‬معركة بدر‬
‫كان من أساليب النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في الحروب‪ ،‬جمع المعلومات حول استعدادات العدو‪ ،‬ومدى‬
‫لهمية في المجال العسكري حتى‬ ‫تهّيئه و مكان تواجده و تمركزه‪ ،‬ومعنويات أفراده‪ ،‬وهي مسائل تحظى با َ‬
‫ن قافلة كبرى لقريش‬‫ن المعلومات التي تجمعت لدى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( تَوكد أ ّ‬ ‫اليوم‪ .‬وحيث إ ّ‬
‫ل أهل مّكة بأموالهم‪ ،‬ويحمل بضائعها ألف بعير‪،‬وتقّيم بخمسين ألف دينار‪ ،‬ويقودها أبو سفيان بن‬ ‫شارك فيها ك ّ‬
‫ن الوقت‬
‫ن أموال المسلمين كانت قد صودرت في مكة على أيدي قريش‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ل‪ ،‬وحيث إ ّ‬‫حرب‪ ،‬في أربعين رج ً‬
‫كان مناسبًا للمسلمين لستعادة أموالهم‪ ،‬بالحتفاظ بأموال قريش إلى أن يعيدوا إليهم أموالهم المصادرة‪ ،‬وإ ّ‬
‫ل‬
‫فإّنهم يتصرفون في هذا المال كغنائم‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬البقرة‪.144:‬‬
‫لنوار‪.201|19 :‬‬ ‫‪ . 2‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 121‬‬
‫حرب يقسمونها فيما بينهم‪.‬‬
‫ل‪ ،‬كان منهم ‪ 82‬من المهاجرين‪ ،‬و ‪ 170‬من‬ ‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( خرج في ‪ 313‬رج ً‬ ‫ولذا فإ ّ‬
‫لوس‪ ،‬في يوم الثنين الثامن من شهر رمضان‪ ،‬قاصدًا تحقيق ذلك الهدف‪ ،‬وعقد رايتين‬ ‫الخزرج‪،‬و ‪ 61‬من ا َ‬
‫لمام علي )عليه السلم( ‪ ،‬فوصل إلى "وادي‬ ‫لخرى وهي العقاب إلى ا ِ‬ ‫سلم إحداهما إلى مصعب بن عمير و ا َُ‬
‫ذفران"‪(1).‬‬
‫ونظرًا لتخوف أبي سفيان من التعرض لهجوم من جانب المسلمين‪ ،‬فقد أرسل أحد رجاله إلى مّكة يستغيث بهم‬
‫لنصرته‪ ،‬مّما دعا أهلها إلى الستعداد والتجّهز للخروج بقيادة رَوسائهم وعظمائهم‪ .‬وكان ذلك مفاجأة للنبي‬
‫لموال‬
‫"صلى ال عليه وآله وسلم" الذي لم يعّد رجاله للحرب والمواجهة العسكرية‪ ،‬بل لهجوم يحصل منه على ا َ‬
‫المصادرة‪ .‬فعقد مجلسًا للشورى استطلع فيه آراء رجاله في النسحاب من الموقع إلى المدينة‪ ،‬أو مجابهة العدو‬
‫القائم عسكريًا؟ فاّتفق الجميع على المواجهة بالسير لملقاة العدو رغم عددهم القليل‪ ،‬فتحركوا نحو بدر‪(2).‬‬
‫لسلوب العسكري السليم عرف النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( مكان العدو‪ ،‬وعددهم وزعماءهم كما عرف‬ ‫وبا َُ‬
‫لصحابه‪" :‬هذه مكة قد ألقت إليكم بأفلذ كبدها"‪(3).‬‬ ‫موعد وصولهم إلى ماء بدر‪ .‬فقال َ‬
‫ن أبا سفيان علم بملحقة المسلمين له ومطاردتهم لقافلته‪،‬فابتعد عن بدر عند رجوعه من الشام واّتخذ جهة‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫لفلت من يد محّمد )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫لحمر‪،‬وبعث أحدهم يخبر قريشًا بإمكانية ا ِ‬ ‫ساحل البحر ا َ‬
‫وأصحابه‪،‬ولك ّ‬
‫ن‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬كانت تمر به قافلة قريش التجارية‪ ،‬ويقع على مرحلتين من بدر‪.‬‬
‫‪ . 2‬المغازي للواقدي‪48|1:‬؛ السيرة النبوية‪.615|1:‬‬
‫‪ . 3‬السيرة النبوية‪.617|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 122‬‬
‫ل ل نرجع حتى نرد بدرًا‪،‬‬ ‫ل‪ :‬وا ّ‬
‫"أبا جهل" أصّر على مواصلة التقدم نحو يثرب وعدم الرجوع إلى مكة قائ ً‬
‫لباعر ـ و نطعم الطعام ونسقي الخمر‪ ،‬وتعزف لنا القيان والمغنيات‪،‬وتسمع بنا‬ ‫جُزر ـ ا َ‬
‫فنقيم عليه ثلثًا‪ ،‬فننحر ال ُ‬
‫العرب وبمسيرنا وجمعنا‪،‬فل يزالون يهابوننا أبدًا بعدها‪ .‬وكان لكلماته أثرها في تشجيعهم على السير نحو‬
‫المدينة‪ ،‬فنزلوا في بدر‪.‬‬
‫لسلمي فقد تقّدم الحباب بن المنذر باقتراح‪،‬على السير إلى أدنى ماء من القوم‪ ،‬ودفن العين‬ ‫أّما في الجانب ا ِ‬
‫ل بالماء يستخدمونه للشرب‪ ،‬كما اقترح سعد بن معاذ بناء برج عسكري يقود منه‬ ‫والبار‪ ،‬وبناء حوض ُيم َ‬
‫لعداء‪.‬‬‫النبيالعمليات العسكرية‪ ،‬ويشرف على سيرها‪،‬فيكون مأمنًا له من كيد ا َ‬
‫أّما قريش فقد تحركت باتجاه بدر صباح يوم ‪ 17‬من شهر رمضان‪ ،‬فاستطلعوا أخبار المسلمين‪ ،‬فعرفوا عددهم‬
‫ل أّنه حدث انقسام في الرأي بينهم‪ ،‬حول الموقع‪ ،‬حين دعا بعض زعمائهم إلى ترك الموقع والعودة‬ ‫وعدتهم‪ .‬إ ّ‬
‫إلى مكة دون إجراء أي قتال أو إبداء أي عمل عدائي ضّد المسلمين‪ ،‬كان من بينهم‪ :‬عتبة بن ربيعة‪ ،‬الذي طلب‬
‫ن أبا جهل تمّكن من تغيير الموقف لصالح الحرب فحّمسهم للقتال‪.‬‬ ‫لأّ‬‫منهم العودة إلى مّكة دون حرب‪ ،‬إ ّ‬
‫وكان التقليد المّتبع عند العرب في الحروب‪ ،‬أن ُيبدأ القتال بالمبارزات الفردية‪ ،‬ثّمتقع بعدها الحملت الجماعية‪،‬‬
‫فدعا ثلثة من صناديد قريش‪ ،‬المسلمين إلى المبارزة وهم‪ :‬عتبة ‪ ،‬و شيبة‪ ،‬وهما ابنا ربيعة بن عبد شمس‪،‬‬
‫لنصار هم‪ :‬عوف و معاذ ابنا الحارث‪ ،‬و عبد‬ ‫والوليد بن عتبة بن ربيعة‪ ،‬فخرج إليهم من المسلمين ثلثة من ا َ‬
‫ن قريشًا رفضت منازلتهم وطلبت أفرادًا من مكة‪ ،‬فأمر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫لأّ‬‫ل بن رواحة‪ .‬إ ّ‬‫ا ّ‬
‫عبيدة بن الحارث وحمزة و عليًا‬
‫===============‬
‫) ‪( 123‬‬
‫ي بارز الوليد‪ ،‬ثّم اّتجه حمزة وعلي بعد الفراغ من قتل‬ ‫بالمبارزة‪ .‬فبارز حمزة شيبة‪ ،‬وبارز عبيدة عتبة‪ ،‬وعل ّ‬
‫خصميهما إلى عتبة وقتله‪ .‬وبعد هذه المبارزة بدأ الهجوُم العام وتزاحفوا‪،‬فعّدل النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫الصفوف ورجع إلى العريش ـ برج القيادة ـ فكان ينزل بين الحين والخر ويحرضهم على القتال والمقاومة‪ ،‬فقد‬
‫كان لكلماته أثرها العميق في النفس‪ ،‬والشوق إلى الجّنة بالشهادة‪.‬‬
‫ل‪ ،‬بينما ُقتل من المشركين سبعون‪،‬‬ ‫ن المسلمين فقدوا ‪ 14‬رج ً‬ ‫لموال‪ ،‬فإ ّ‬
‫لرواح وا َ‬ ‫أّما خسائر الحرب‪ ،‬في ا َ‬
‫وُأسر منهم سبعون‪ ،‬كان من أبرزهم‪ :‬النضر بن الحارث‪ ،‬عقبة بن أبي معيط‪ ،‬وسهيل بن عمرو‪ ،‬و العباس بن‬
‫عبد المطلب‪ ،‬وأبو العاص بن الربيع ـ صهر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬
‫وقد دفن شهداء بدر في جانب من أرض المعركة‪،‬ول تزال قبورهم موجودة‪ ،‬أّما قتلى المشركين فأمر‬
‫ل‪" :‬يا أهل القليب‪ ،‬بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم‪،‬‬ ‫الرسولبإلقائهم في البئر‪ ،‬ووقفص عليها فخاطب القتلى قائ ً‬
‫كذبتموني وصدقني الناس‪ ،‬وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس‪ ،‬ثّمقال‪ :‬هل وجدتم ما‬
‫وعدكم رّبكم حّقا‪ ،‬فإّني قد وجدت ما وعدني رّبي حّقا"‪(1).‬‬
‫سم الغنائم بينهم أثناء‬
‫ثّم صّلى العصر بالناس وغادر أرض المعركة ـ أرض بدر ـ قبل غروب الشمس‪،‬وق ّ‬
‫الطريق على قدم المساواة ومنح ذوي الشهداء أسهمًا منها‪ ،‬كما وزع خمسها على المشاركين في المعركة‪ ،‬فربما‬
‫لم تكن آية‬
‫____________‬
‫ن مسألة محادثة الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" مع‬ ‫‪ . 1‬السيرة النبّوية‪639|1:‬؛ السيرة الحلبية‪ .180|2:‬إ ّ‬
‫رَووس الشرك في البئر من مسّلمات التاريخ والحديث‪ ،‬وقد أشار إليه كثير من المَوّرخين والمحّدثين‪،‬‬
‫أبرزهم‪:‬صحيح البخاري ج ‪ 5‬في معركة بدر ؛ صحيح مسلم‪ ،8:‬كتاب الجنة؛ سنن النسائي‪ ،4:‬باب أرواح‬
‫لنوار‪.346|19:‬‬ ‫لمام أحمد‪131|2:‬؛ المغازي‪112|1:‬؛ بحار ا َ‬ ‫المَومنين؛ مسند ا ِ‬

‫===============‬
‫) ‪( 124‬‬
‫الخمس قد نزلت بعد آنذاك‪ ،‬أو فعل ذلك لمصلحة خاصة‪.‬‬
‫لسباب خاصة بهم منعتهم من الشتراك فيها‪ ،‬أو لمهمات‬ ‫لشخاص لم يحضروا المعركة‪َ ،‬‬ ‫كما قرر أسهمًا َ‬
‫ل ابن رواحة‪ ،‬وزيد بن حارثة‪ ،‬إلى المدينة يبشرون أهلها‬ ‫خاصة ُأنيطوا بها في المدينة والطرقات‪ .‬وبعث عبد ا ّ‬
‫ل أّنهما علما هناك بوفاة ابنة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( زوجة عثمان بن عفان‪ ،‬فامتزجت‬ ‫بالنتصار‪ ،‬إ ّ‬
‫لحزان‪ ،‬في الوقت الذي تخوف فيه المشركون واليهود والمنافقون من النتصار الكبير من جانب‬ ‫لفراح با َ‬‫اَ‬
‫آخر‪.‬‬
‫لّنه كان قد أسلم وكتم‬
‫ن ذلك كان أمرًا خاصًا‪َ ،‬‬ ‫أّما بالنسبة لشتراك العباس بن عبدالمطلب في المعركة‪ ،‬فإ ّ‬
‫إسلمه مخافة قومه وكره خلفهم مثل أخيه أبي طالب‪ ،‬فكان يساعد النبي ص ويخبره بمخططات العدو ونوايا‬
‫وتحركاته واستعدادته‪ ،‬مثلما عمل في معركة ُأحد‪.‬‬
‫ل أّنأبا سفيان منعهم من النوح والبكاء على‬‫وفي مكة‪ ،‬تحولت بيوتها إلى مأتم كبير وناحت قريش على قتلها‪ ،‬إ ّ‬
‫ي حرام حتى أغزو‬ ‫القتلى‪ ،‬وحّثهم على الستعداد للثأر والنتقام من محمدوأصحابه‪ ،‬فقال‪ :‬الدهن والنساء عل ّ‬
‫محّمدا‪.‬‬
‫وقد ساعدت عوامل كثيرة في انتصارالمسلمين ببدر‪ ،‬كان أهّمها‪:‬‬
‫لمر الواقع وتعاملوا من دون‬ ‫‪.1‬عدم معرفة المسلمين بما لدى المشركين من إمكانّيات بشرية و قتالية‪ ،‬فواجهوا ا َ‬
‫أن يثبطهم شيء‪.‬‬
‫‪ .2‬تقليل عد المسلمين في أعين المشركين‪ ،‬وعدد المشركين في أعين المسلمين في أّول القتال‪ ،‬و تكثير عدد‬
‫المسلمين في أعين الكّفار أثناء الحرب‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 125‬‬
‫لمور الغيبية ‪ ،‬مثل مساعدة المطر ونزوله في هذه الفترة‪ ،‬ومساعدة الملئكة‪ ،‬وتثبيت قلوب المَومنين‬ ‫‪ .3‬ا َُ‬
‫لنفال وآل‬‫بواسطة هَولء الملئكة‪ ،‬وإلقاء الرعب في قلوب الكّفار‪ ،‬حيث تشير اليات القرآنية في سورة ا َ‬
‫ل ذلك‪.‬‬
‫عمران إلى ك ّ‬
‫نتائج وآثار معركة بدر‬

‫لسرى‪ ،‬وذلك‬ ‫أعلن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قرارًا تاريخيًا بعد المعركة خاصًا بُأسلوب المعاملة مع ا َ‬
‫ن من عّلم منهم عشرة من الصبيان‪ ،‬الكتابة والقراءة‪ ،‬كان ذلك فداَوه ويخلى سبيله دون أن يَوخذ منه مال‪(1).‬‬ ‫بأ ّ‬
‫ن من دفع فدية قدرها ‪ 4000‬درهم إلى ألف‪ ،‬خّلى سبيله‪ ،‬و من كان فقيرًا ل مال له‪ ،‬أفرج عنه دون فداء‪.‬‬ ‫وإ ّ‬
‫لسلم لينعموا في كنفه مع المسلمين‪.‬‬ ‫وإن الباب مفتوح أمامهم للدخول في ا ِ‬
‫لطلق سراحهم‪.‬‬ ‫ولقد أحدث هذا القرار رّد فعل كبير لدى عائلت مكة‪ ،‬دفعهم إلى تقديم الفداء إلى المسلمين ِ‬
‫لسرى‪ ،‬وهو زوج زينب ابنة الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫وكان "أبو العاص بن الربيع" من ضمن ا َ‬
‫التي تزّوجها في الجاهلية‪ ،‬وثبت على دينه بعد إيمان بنات النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كّلهم‪ ،‬فبعثت زينب‬
‫في فدائه بمال فيه قلدة كانت هدية ُأّمها السيدة خديجة"عليها السلم" لها ليلة زفافها‪ ،‬فلّما رأى الرسول )صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم( القلدة‪ ،‬تذّكر زوجته الوفية وبكى بشدة‪ ،‬مّما أثر في المسلمين فأطلقوا سراحه دون أخذ‬
‫الفدية‪ .‬وأخذ )صلى ال عليه وآله وسلم( على أبي العاص الميثاق بأن يخّلي سبيل زينب ويبعثها إلى المدينة‬
‫لسلم فيما بعد‪.‬‬ ‫ففعل‪ ،‬مع إعلنه ا ِ‬
‫لّمية‪ ،‬وهي أعظم خطوة حضارية‬ ‫لسارى المتعلمين‪ ،‬أّول عملية تعليمية لمكافحة ا َُ‬ ‫لولد من قبل ا َُ‬ ‫ويعتبر تعليم ا َ‬
‫وثقافية‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة الحلبية‪.193|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 126‬‬
‫كما أّنه كان لنتصار المسلمين أثر كبير على المراكز السياسية المتناثرة في شبه الجزيرة العربية‪ ،‬فكما كان له‬
‫أثره القوي على قريش وأهلها‪ ،‬فإّنه هدد مراكز ُأخرى في المدينة وخارجها‪ ،‬كاليهود الذين أبدوا تخوفهم من‬
‫لعمال العدوانية ضّد‬ ‫صة يهود بني قينقاع‪ ،‬الذين بدأوا بتدبير المَوامرات‪،‬وممارسة ا َ‬‫تطور قّوة المسلمين‪ ،‬وخا ّ‬
‫لكاذيب وبث المعلومات المزيفة‪ ،‬وإطلق الشعارات القبيحة لتحقيرهم‬ ‫المسلمين‪ ،‬وإعلن الحرب الباردة بنشر ا َ‬
‫ل أّنهم بذلك‪ ،‬كانوا قد أعلنوا نقضهم لمعاهدة التعايش السلمي التي‬ ‫وتخريب سمعتهم وإضعاف معنوياتهم‪ .‬إ ّ‬
‫ن النبي‬
‫عقدها معهم الرسول الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم( إبان قدومه إلى المدينة‪ .‬وبالرغم من ذلك فإ ّ‬
‫لّ‬
‫ن‬ ‫ي عمل تخريبي أو سّيى‪ ،‬وذلك َ‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( حاول النصيحة بأن يتعايشوا معهم دون إظهار أ ّ‬
‫لمن والستقرار في‬ ‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لم يكن يريد أن يرفع السلح ويحاربهم حتى يحافظ على ا َ‬
‫ل أّنهم أصروا على موقفهم العدائي‪،‬‬ ‫يثرب‪ ،‬إذ لم يكن من المصلحة تفجير الموقف في هذه الفترة الحرجة‪ ،‬إ ّ‬
‫دون أن يقتنعوا بالتغيير أو التخّلي عن مَوامراتهم‪ ،‬مّما اضطر الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى استخدام‬
‫ي على امرأة عربية في‬ ‫السلح والقوة في الفرصة المناسبة‪ ،‬وقد حدثت تلك المناسبة‪ ،‬عندما اعتدى يهود ٌ‬
‫ل مسلٌم‪ ،‬فاجتمع عليه عدٌد من اليهود فقتلوه‪ ،‬مّما اعتبر‬
‫السوق‪ ،‬بإظهار عورتها والضحك عليها‪ ،‬فقتله رج ٌ‬
‫لولى في إعلن الحرب عليهم‪ .‬فسارعوا إلى حصونهم وقلعهم خوفًا من هجوم المسلمين‪،‬فحاصرهم‬ ‫الشرارة ا َُ‬
‫ل في قلوبهم الرعب ففقدوا القدرة على المقاومة‪،‬‬ ‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( خمسة عشرة ليلة‪،‬قذف ا ّ‬
‫ونزلوا عند حكم النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" وهو الجلء عن المدينة‪ ،‬على أن يتركوا أسلحتهم وأموالهم‬
‫ودروعهم‪ ،‬فخرجوا من المدينة إلى منطقة "أذرعات" في أطراف الشام‪(1).‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬المغازي‪177|1:‬؛ طبقات ابن سعد‪.28|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 127‬‬
‫واضطرت قريش في هذه السنة إلى أن تغّير طريقها التجاري إلى الشام‪ ،‬خوفًا من تعرض المسلمين لهم‪ ،‬فاتفقت‬
‫ل أّنالمسلمين علموا بذلك‪ ،‬فأرسل الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( زيد بن‬ ‫على أن تتخذ طريق العراق‪ ،‬إ ّ‬
‫لموال على المسلمين‪ ،‬بعد فرار القوم‪.‬‬
‫حارثة في مائة نفر‪ ،‬تمّكنوا من الستيلء على القافلة‪ ،‬وتقسيم ا َ‬
‫لسلم‪ ،‬اكتسب المشاركون فيها منزلة خاصة بين المسلمين‪،‬‬ ‫لهمية معركة بدر التي هي من المعارك الكبرى ل ِ‬ ‫وَ‬
‫فقد دعوا بالبدريين‪.‬‬
‫‪ .3‬العملّيات العسكرّية الصغيرة‬

‫و قد جرت في هذه السنة أيضًا عّدة غزوات‪ ،‬كان أهمها‪:‬‬


‫غزوة قرقرة الُكْدر ‪ :‬قرقرة الكدر ناحية بين المعدن و المدينة يسكنها قبيلة بني سلم حيث بلغ النبي )صلى ال‬
‫ل أّنهم تفرقوا‪.‬‬
‫ن القبيلة المذكورة تتهّيأ للهجوم على يثرب فخرج ص بنفسه لتأديبهم‪،‬إ ّ‬
‫عليه وآله وسلم( أ ّ‬
‫ن له‬
‫لنصار وأجيرًا له‪ ،‬وحرق بيتًا وزرعًا‪ ،‬على أساس أ ّ‬ ‫ل من ا َ‬
‫غزوة السويق‪ :‬وذلك عندما قتل أبو سفيان رج ً‬
‫ل أّنه‬
‫نذرًا للثأر من المسلمين بعد معركة بدر‪ ،‬بأن ل يقارب زوجته مالم يثأر لقتلى بدر‪ ..‬فهاجمه المسلمون‪ ،‬إ ّ‬
‫فّر و ترك وراءه أكياس السويق‪(1).‬‬
‫غزوة ذي أّمر‪ :‬و هو واد بطريق المدينة‪ ،‬وقد جرت عندما أعّدت قبيلة غطفان هجومًا على المدينة‪ ،‬فخرج‬
‫الرسوللمحاربتهم‪ ،‬ولكّنهم فّروا وهربوا‪ .‬وأراد أحدهم أن يتخّلص من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وهو‬
‫مستريح تحت‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬المغازي‪182|1:‬؛ طبقات ابن سعد‪.30|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 128‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( تمّكن من السيطرة عليه بفعل معجزة إلهية‪،‬‬
‫لأّ‬
‫شجرة في وادي ذي أّمر‪ ،‬إ ّ‬
‫فأسلم الرجل‪.‬‬

‫‪ .4‬زواج السيدة فاطمة الزهراء )عليها السلم(‬

‫ن كونهم ذوي ثروة ومكانة‬ ‫تقّدم أشراف العرب للزواج من السّيدة فاطمة سّيدة النساء)عليها السلم( إذ تصّوروا أ ّ‬
‫اجتماعية مرموقة تَوهلهم لذلك ول ُيرد لهم طلب‪ ،‬ولكّنهم أخطأوا في تصّورهم‪ ،‬فلم يعلموا أّنزوج فاطمة)عليها‬
‫لخلص‪ ،‬وليس المال والثروة والجاه‪ .‬و لّما كان‬ ‫ليمان وا ِ‬
‫السلم( ل يكون إل كفَوها في التقوى والفضل وا ِ‬
‫لمام علي‬ ‫ناِ‬‫لأّ‬ ‫ل و بسيطًا‪ .‬إ ّ‬ ‫ن زواجها ليس سه ً‬
‫ل" فقد أدركوا أ ّ‬‫طاب بقوله‪" :‬أمرها بيد ا ّ‬‫الرسول ص يرد الخ ّ‬
‫ي إّنه قد‬
‫)عليه السلم( حينما تقّدم إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يخطبها وافق على طلبه وقال‪" :‬يا عل ّ‬
‫ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها‪ ،‬فرأيت الكراهة في وجهها‪ ،‬ولكن على رسلك حتى أخرج إليك"‪.‬‬
‫ن علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته‪ ،‬وفضله وإسلمه‪،‬‬ ‫ل ‪" :‬إ ّ‬‫فدخل على السّيدة الزهراء)عليها السلم( قائ ً‬
‫وإّني قد سألت رّبي أن يزّوجك خير خلقه وأحّبهم إليه‪ ،‬وقد ذكر من أمرك شيئًا‪ ،‬فما ترين؟"‪.‬‬
‫فسكتت السيدة فاطمة)عليها السلم( ولم ير الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" في وجهها كراهة‪ ،‬فقال‪" :‬ا ّ‬
‫ل‬
‫أكبر‪ ،‬سكوتها إقرارها"‪(1).‬‬
‫ل‪ ،‬أمره النبي ص ببيع درعه لصرفه على نفقات الزواج‪ ،‬وكان‬ ‫ي )عليه السلم( يملك ما ً‬ ‫لمام عل ّ‬‫ولما لم يكن ا ِ‬
‫ل‪ ،‬وأطعم‬ ‫لمر في منزل أحد الصحابة بصورة مَوقتة‪ ،‬وعمل فرحًا وزفافًا جمي ً‬ ‫مهرها ‪ 500‬درهم‪ ،‬وسكن أّول ا َ‬
‫للمسلمين‪.‬‬ ‫فيه ك ّ‬

‫____________‬
‫لنوار‪.93|43:‬‬
‫‪ . 1‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 129‬‬
‫لنصار أن‬ ‫ونقل ابن بابويه‪ ،‬أّنالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أمر بنات عبد المطلب ونساء المهاجرين وا َ‬
‫ل‪.‬‬
‫يمضين في صحبة فاطمة )عليها السلم( وأن يفرحن ويرجزن ويكّبرن ويحمدن ول يقولن ما ل يرضي ا ّ‬
‫ثّمدعا لهما النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬الّلهّم إجمع شملهما‪ ،‬وأّلف بين قلوبهما‪ ،‬واجعلهما وذّريتهما من‬
‫ورثة جّنة النعيم‪ ،‬وارزقهما ذّرية طاهرًة طّيبة مباركًة‪ ،‬واجعل في ذّريتهما البركة‪ ،‬واجعلهم أئّمة يهدون بأمرك‬
‫ي فأحّبهما‪ ،‬واجعل عليهما منك حافظًا‪ ،‬وإّني ُأعيذهما‬
‫إلى طاعتك‪ ،‬ويأمرون بما يرضيك‪ .‬الّلهّم إّنهما أحّبخلقك إل ّ‬
‫بك وذّريتهما من الشيطان الّرجيم"‪(1).‬‬
‫لولد والبنات وأطهرهم‪ :‬الحسن والحسين‬ ‫لسلم وأكثرها خير وبركة‪ ،‬إذ أنجبا أفضل ا َ‬ ‫فكانت أفضل زيجة في ا ِ‬
‫السبطان‪ ،‬وزينب "عليهم السلم" التي اشتهرت في نصرة أخيها بكربلء‪.‬‬
‫لقلم المأجورة و ذوو النفوس الضعيفة والقلوب الحاقدة من أباطيل و تّرهات حول وجود‬ ‫سه أصحاب ا َ‬ ‫أّما ما د ّ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫لحاديث الكثيرة عن رسول ا ّ‬
‫خلف و تنازع بين الزوجين الطاهرين‪ ،‬فتكّذبه ا َ‬
‫علّو شأنهما‪ ،‬نقتطف منها ما يلي‪:‬‬
‫حول مكانتهما و ُ‬
‫ي"‪.‬‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( من النساء فاطمة ومن الرجال عل ّ‬ ‫ب الناس إلى رسول ا ّ‬‫ـ "أح ّ‬
‫ـ "خير رجالكم علي بن أبي طالب‪ ،‬وخير نسائكم فاطمة بنت محّمد"‪(2).‬‬

‫____________‬
‫لنوار‪96|43:‬ـ ‪.114‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬
‫طلع‪ ،‬راجع سيدالمرسلين‪ 110|2:‬ـ ‪.120‬‬
‫لّ‬‫‪ . 2‬للمزيد من ا ِ‬

‫) ‪( 130‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 131‬‬
‫الفصل السادس‬

‫‪ .1‬أحداث السنة الثالثة من الهجرة‬

‫ـ الدفاع عن الحرية والكرامة‬


‫ـ معركة ُأحد‬
‫لسد‬
‫ـ غزوة حمراء ا َ‬

‫‪ .2‬أحداث السنة الرابعة من الهجرة‬

‫ـ النتائج السلبية لمعركة ُأحد‬


‫ـ غزوة بني النضير‬
‫ـ غزوة ذات الرقاع‬
‫ـ تحريم الخمر‬

‫===============‬
‫) ‪( 132‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 133‬‬
‫أحداث السنة الثالثة من الهجرة‬

‫‪ .1‬معركة ُأحد‬

‫لسلم‪.‬‬
‫وهي سنةالدفاع عن الحرية والكرامة‪ ،‬وقد وقعت فيها معركة ُأحد التي تعّدمن أعظم المعارك في ا ِ‬
‫فقد قرر كّفار قريش إعلن الحرب على النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( على أن تتكّفل قريش نفقاتها‪ ،‬فأعّدت‬
‫‪ 4‬آلف مقاتل‪ ،‬إضافة إلى النساء اللئي هدفوا من اشتراكهن‪ :‬تحريض الرجال على القتال‪ ،‬والصمود وعدم‬
‫ن فرار الرجال يعني أسرهن‪ ،‬فتصبح الغيرة والحمية سببًا للمقاومة‬ ‫الفرار‪ ،‬وإشعال الحماس في النفوس‪ ،‬وإ ّ‬
‫والصمود‪ .‬كما اشترك في الجيش عدد من العبيد والرقيق طمعًا في العتق الذي وعدوا به متى ما نصروا‬
‫أسيادهم‪ ،‬مثل وحشي الحبشي‪(1).‬‬
‫ل عن تلك الستعدادات‬ ‫ن العباس بن عبد المطلب الذي عاش بين قريش كاتمًا إيمانه‪ ،‬كتب تقريرًا مفص ً‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫وأرسله مع رجل غفاري إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫____________‬
‫لنوار‪.96|20:‬‬‫‪ . 1‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 134‬‬
‫لمر‪ .‬ثّم عقد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في يوم الجمعة اجتماعًا عسكريًا للتشاور‬ ‫الذي أخبر أصحابه با َ‬
‫ل بن ُأبي بن سلول" ـ من منافقي المدينة ـ بالقتال‬ ‫مع القادة وأهل الخبرة في وسائل مواجهة العدو‪ ،‬فأشار "عبد ا ّ‬
‫ن فتيان المسلمين شجبوا هذا الرأي‬ ‫لأّ‬ ‫داخل المدينة‪ ،‬أي ل يخرج المسلمون منها بل يقاتلونهم حرب الشوارع‪ .‬إ ّ‬
‫وأقروا الخروج من المدينة لملقاة العدو‪ ،‬بعد أن أّيد الرأي السابق أكابر أصحاب الرسول )صلى ال عليه وآله‬
‫لنصار‪ .‬وكان حمزة و سعد بن عبادة على رأس القائلين بلقاء العدو خارج المدينة‪ ،‬فأّيد‬ ‫وسلم( من المهاجرين وا َ‬
‫ن محاصرة العدّو للمدينة وسيطرته على مداخلها وطرقاتها وسكوت‬ ‫لكثرية بالخروج للحرب‪ ،‬إذ أ ّ‬ ‫النبيرأي ا َ‬
‫لسلم المجاهدين‪.‬‬ ‫لسلم على ذلك‪،‬من شأنه أن يقتل الروح القتالية والفروسية في أبناء ا ِ‬ ‫جنود ا ِ‬
‫وكان جيش الكّفار قد وصل أطراف المدينة‪ ،‬حتى استقر قرب جبل ُأحد‪ ،‬يوم الخميس‪ ،‬الخامس من شهر شوال‪،‬‬
‫فاستعد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بأن لبس لمته والدرع وتقّلد السيف واعتّم‪ ،‬فخرج من بيته‪ ،‬مّما آثار‬
‫المسلمين وهّزهم بشّدة حّتى تصّور بعضهم أّنهم قد أجبروه )صلى ال عليه وآله وسلم( على الخروج‪ ،‬فطلبوا‬
‫ي فعل يقصده‪ ،‬فقال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬ما ينبغي لنبي إذا لبس لمته أن‬ ‫منه المعذرة وإجراء أ ّ‬
‫يضعها حتى يقاتل"‪ (1).‬ثّم صّلى الناس الجمعة‪ ،‬وخرج على رأس ألف مقاتل قاصدًا ُأحد‪.‬‬
‫ي بن‬‫ل بن ُأب ّ‬
‫وكان )صلى ال عليه وآله وسلم( قد رفض اشتراك جماعة من اليهود الذين تحالفوا مع "عبد ا ّ‬
‫جة أ ّ‬
‫ن‬ ‫لوس المتحالفين معه‪ ،‬إلى المدينة‪ ،‬بح ّ‬ ‫سلول" معهم‪ ،‬فانعزل عن الجيش وعاد بثلث الناس كّلهم من ا َ‬
‫الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" أخذ برأي الفتية والشباب‪ .‬ولذا لم يشترك اليهوُد والمنافقون في هذه الحرب‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪23|2:‬؛ المغازي‪214|1:‬؛ طبقات ابن سعد‪.38|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 135‬‬
‫لسلمي أمام قوى الشرك المعتدية‪ ،‬فجعل ظهره إلى جبل‬ ‫وفي يوم السبت ‪ 7‬من شهر شوال‪ ،‬اصطف الجيش ا ِ‬
‫ل بن جبير" وطلب‬ ‫ُأحد كمانع طبيعي يحفظ الخلف‪ ،‬ووضع جماعة من الرماة عند ثغرة في الجبل‪ ،‬عليهم "عبد ا ّ‬
‫منهم اللتزام بالموقع‪" :‬إلزموا مكانكم ل تبرحوا منه إن كانت لنا أو علينا فل تفارقوا مكانكم"‪.‬‬
‫لوامر النبي )صلى ال‬ ‫ن المسلمين انهزموا بعد انتصارهم في بداية المعركة نتيجة تجاهل هَولء الرماة َ‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫عليه وآله وسلم( حين أخلوا هذا الموقع الستراتيجي‪.‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( جميعًا‪،‬‬ ‫وكانت قريش قد أعّدت تسعة رجال شجعان من بني الدار لحمل الراية‪ ،‬قتلهم ا ِ‬
‫لّولية كانت هزيمة الكّفار مخّلفين وراءهم غنائم وأموا ً‬
‫ل‬ ‫ن النتيجة ا َ‬
‫كما قتل غلمهم حين برز أيضًا‪ (1).‬وبذا فإ ّ‬
‫لسباب منها‪:‬‬‫كثيرة‪ ،‬فانتصر المسلمون على عدّوهم القوي عددًا وعّدة‪َ ،‬‬
‫ل‪ ،‬ونشر عقيدة التوحيد‪ ،‬دون أن يهدفوا إلى مصلحة مادية‪.‬‬ ‫ـ أّنهم قاتلوا في مرضاة ا ّ‬
‫لسباب كان أهمها‪:‬‬ ‫ولكّنهم انهزموا بعد انتصارهم الساحق َ‬
‫ـ تغّير أهدافهم‪ ،‬فقد اتجهت أنظارهم إلى الغنائم في أرض المعركة‪ ،‬ونسوا أوامر النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫سك بها مهما حدث‪ .‬وخاصة ُأولئك الرماة الحامين ظهر المسلمين على جبل ُأحد‪ ،‬حين‬ ‫وسلم( وتعاليمه بالتم ّ‬
‫ل العدو‪،‬‬
‫تركوا مواقعهم ونزلوا إلى الساحة يريدون جمع الغنائم قائلين‪" :‬وِلَم نقيم هنا من غير شيء وقد هزم ا ّ‬
‫لمر الذي استغله "خالد بن الوليد" الذي كان آنذاك مع المشركين و كان‬ ‫فلنذهب ونغنم مع إخواننا"‪ .‬وهو ا َ‬
‫صد خلّو الثغرة من الرماة‪ ،‬فقتل‬ ‫يتر ّ‬
‫____________‬
‫لنوار‪.81|20:‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬
‫===============‬
‫) ‪( 136‬‬
‫سيى والذين انشغلوا بجمع‬ ‫باقي الرماة وكانوا عشرة من خمسين‪ ،‬ثّم هاجم المسلمين الغافلين عن الوضع ال ّ‬
‫ل منهم سبعون‬ ‫ل ضاريًا‪ ،‬حتى ُقِت َ‬ ‫الغنائم‪ ،‬فتفرقت جموعهم‪ ،‬و اجتمع جنود قريش الهاربون فقاتلوا المسلمين قتا ً‬
‫ن أّنه الرسول‬
‫لسلم ‪" :‬مصعب بن عمير" ظ ّ‬ ‫ل‪ .‬وعندما قتل أحد أبطال المشركين من قريش‪ ،‬حامل لواء ا ِ‬ ‫رج ً‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( فصاح‪ :‬قتلت محمدًا‪ .‬فانتشر الخبر بين المسلمين وقريش الذين سّروا بذلك فصاحوا‪:‬‬
‫أل قد قتل محمد‪ .‬فاضطر المسلمون ـ بعد انفراط القيادة ‪ ،‬وإشاعة الفوضى والهرج والمرج في الجيش ـ إلى أن‬
‫ل منهم‪.‬‬‫لعددا قلي ً‬
‫يهرب معظمهم إلى الجبل تاركين أرض المعركة‪ ،‬إ ّ‬
‫وكان خمسة من صناديد قريش قد تعاهدوا على أن يضعوا نهاية لحياة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( مهما‬
‫لمر‪ ،‬وهم‪:‬‬‫كّلفهم ا َ‬
‫ل بن شهاب‪ ،‬الذي جرح جبهة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬ ‫‪.1‬عبد ا ّ‬
‫‪.2‬عتبة بن أبي وقاص‪ ،‬الذي رمى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بأحجار فكسر رباعيته‪.‬‬
‫‪ .3‬ابن قميئة الليثي‪ ،‬الذي رمى وجنتي الرسول وجرحهما‪.‬‬
‫لسلم‪.‬‬ ‫ل بن حميد‪ ،‬الذي حمل على النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فقتله أبو دجانة بطل ا ِ‬ ‫‪.4‬عبد ا ّ‬
‫‪ُ.5‬أبي بن خلف‪ ،‬الذي قتله الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بيده عندما حمل عليه‪.‬‬
‫وقد دّلت مواقف الرسول الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم( في هذه المعركة وغيرها على شجاعته وقّوته‪ ،‬وقد‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( فلم‬ ‫ل‪" :‬كّنا إذا احمّر البأس‪ ،‬اّتقينا برسول ا ّ‬
‫لمام علي )عليه السلم( قائ ً‬‫أكدها ا ِ‬
‫يكن أحد أقرب مّنا إلى العدو منه"‪(1).‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬شرح نهج البلغة‪ ،‬فصل في غريب كلمه‪ ،‬رقم ‪.9‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 137‬‬
‫لكرم )صلى ال عليه وآله وسلم( في هذه الحرب بل وفي عامة الحروب تعود في‬ ‫ن سلمة النبي ا َ‬ ‫ومن هنا فإ ّ‬
‫أكثر أسبابها إلى‪:‬‬
‫ـ حسن دفاعه عن دينه وعن نفسه‪ ،‬وإلى شجاعته وبأسه في المعارك‪ ،‬إضافة إلى تضحية تلك القلة من أصحابه‬
‫لوفياء الذين بذلوا غاية جهدهم للحفاظ على حياته وسلمتهواشتهر من هَولء‪:‬‬ ‫اَ‬
‫لمام علي )عليه السلم( الذي بلغ ‪ 26‬عامًا من عمره‪ ،‬حيث قتل ‪ 12‬من رجال قريش‪ ،‬والباقي وهم عشرة‬ ‫‪ .1‬ا ِ‬
‫ل ذو الفقار‪.‬‬
‫ي ول سيف إ ّ‬ ‫ل عل ّ‬ ‫لرض يقول‪ :‬ل فتى إ ّ‬ ‫قتلهم باقي المسلمين‪ .‬وهنا سمع هتاف بين السماء وا َ‬
‫‪.2‬أبو دجانة‪ ،‬الذي جعل من نفسه ترسًا يقي النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" من سيوف الكّفار‪.‬‬
‫‪ .3‬حمزة بن عبد المطلب‪ ،‬الذي دأب على حماية الرسول ص من أذى المشركين دائمًا في الظروف القاسية‪ ،‬إ ّ‬
‫ل‬
‫ن وحشي العبد قتله في هذه المعركة‪.‬‬ ‫أّ‬
‫‪ُ .4‬أّم عمارة‪ ،‬نسيبة المازنية‪ ،‬وقد باشرت القتال وذبت عن الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" بالسيف‪ ،‬ورمت‬
‫جِرحت‪ .‬وقد ُأعجب النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بشجاعتها فأشاد بموقفها يوم ُأحد‪" :‬لمقام‬ ‫بالقوس حتى ُ‬
‫نسيبة بنت كعب اليوم خير من فلن و فلن" فطلبت منه )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يدعو لها بالجنة فقال‬
‫ل‪ ،‬الّلهّم اجعلهم رفقائي في الجنة"‪.‬‬ ‫ل عليكم من أهل بيت رحمكم ا ّ‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬بارك ا ّ‬
‫ن آلهتهم أعظم من إله المسلمين‪،‬‬ ‫لعلم المزيف في ذلك‪ ،‬بأ ّ‬ ‫وقد استغل أبو سفيان وقريش انتصارهم فاعتمدوا ا ِ‬
‫ن الحملة النفسية والحرب الباردة يمكنها أن تحطم إيمان المسلمين‪.‬‬ ‫قاصدًا من ذلك التأثير النفسي‪ ،‬فقد رأى أ ّ‬
‫أّما هند زوجة أبي سفيان‪ ،‬فقد مثلت مع بعض النساء بجثث المسلمين‪ ،‬من‬
‫===============‬
‫) ‪( 138‬‬
‫لرجل والمذاكير‪ ،‬نكاية بالمسلمين وإطفاًء للحقد‬ ‫لصابع وا َ‬ ‫لنوف وجدع الذان وسمل العيون وقطع ا َ‬ ‫قطع ا َ‬
‫الدفين‪ .‬وقد بقرت هند صدر حمزة وأخرجت كبده ولكته بين أسنانها‪ ،‬دون أن تستطيع أكله فُعرفت بآكلة‬
‫لكباد‪.‬‬‫لكباد‪ ،‬كما عرف أبناَوها فيما بعد ببني آكلة ا َ‬ ‫اَ‬
‫ي من هذا"‪.‬‬ ‫ت موقفًا قط أغيظ إل ّ‬ ‫وقال الرسولص عندما شاهد عّمه حمزة‪" :‬ما َوقف ُ‬
‫وهكذا غادر كّفار قريش أرض المعركة إلى مكة‪ ،‬أّما المسلمون‪ ،‬فبعد أن صّلى بهم النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم( الظهر والعصر‪ ،‬دفنوا الشهداء واحدًا واحدًا أو اثنين اثنين‪ ،‬عند جبل ُأحد‪(1).‬‬
‫أّما الشهداء فكانوا ما بين ‪ 70‬أو ‪ 81‬مسلمًا على روايات مختلفة‪ ،‬ولم يتجاوز عدد قتلى قريش ‪ 22‬فردًا‪ ،‬وأّما‬
‫لمام علي ص حينما رجع إلى المدينة‪.‬‬ ‫النبي ص فقد عالجته السيدة فاطمة "عليها السلم" وا ِ‬
‫لسد‬
‫غزوة حمراء ا َ‬

‫لسد"‪ (2).‬ذلك أنّ‬‫لحداث استمرت إلى يوم الجمعة حيث غزوة "حمراء ا َ‬ ‫ناَ‬‫ن الوضع لم يستقر‪ ،‬بل أ ّ‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫ل بن ُأبي" استغلوا الوضع الخطير الذي أصبح فيه المسلمون‪ ،‬وكانوا قد سّروا لما‬ ‫اليهود والمنافقين أتباع "عبد ا ّ‬
‫أصابهم‪ ،‬ووجدوا البيوت حزينة يسمع منها أنين الجرحى والبكاء على الموتى والشهداء‪ .‬ولما كان‬
‫____________‬
‫لنوار‪.131|20:‬‬ ‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪98|2:‬؛ بحار ا َ‬
‫‪ . 2‬تبعد عن المدينة ثمانية أميال‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 139‬‬
‫ن انهيار الوحدة والنسحاب في هذه الجبهة أخطر‬ ‫هناك خوف أن يَوّدي ذلك إلى ضعف الجبهة الداخلية‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫بكثير من تعرض البلد لهجوم خارجي‪ .‬ولذا فقد أمر )صلى ال عليه وآله وسلم( بملحقة العدو في نفس هذه‬
‫ن ما أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم‪ (1).‬فخرج‬ ‫الليلة حتى يرهب العدو ويبلغه قوة المسلمين واتحادهم وأ ّ‬
‫لسد" مخلفًا على المدينة‪:‬ابن ُأّم مكتوم‪.‬‬
‫الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بأصحابه إلى "حمراء ا َ‬
‫وقد استطاع "معبد بن أبي معبد الخزاعي" رئيس بني خزاعة‪ ،‬الذي ارتبط بعلقات ودية طيبة مع‬
‫الرسولوالمسلمين بالرغم من كفره وشركه‪ ،‬من أن يخّوف أبا سفيان ويرعبه بما ذكره له عن قّوة المسلمين‪،‬‬
‫وأعدادهم وملحقتهم لقريش‪ ،‬مّما دعاه إلى النصراف عن مهاجمة المدينة مّرة ُأخرى‪.‬‬
‫وفي هذه السنة )‪3‬هـ(‪ ،‬أيضًا بعث الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( أيضًا السرايا‪ ،‬واشتهرت منها‪ :‬سرية‬
‫لشرف لنتصار المسلمين في بدر‪ ،‬وحاول إثارة قريش عليهم‪ ،‬فبدأ‬ ‫محمد بن مسلمة‪ ،‬عندما انزعج كعب بن ا َ‬
‫بإيذاء نساء المسلمين‪ ،‬مّما جعل الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( يقرر التخّلص منه‪ ،‬فأرسل إليه محّمد بن‬
‫مسلمة‪ ،‬الذي أعّد خطة محكمة للقضاء عليه‪ ،‬فقتلوه بمساعدة أخيه بالرضاعة "أبونائلة"‪ .‬كما تخّلصوا من مفسد‬
‫لشرف في إيذاء الرسول‬ ‫آخر هو‪":‬أبو رافع سلم بن أبي الحقيق اليهودي" الذي قام بنفس دور كعب بن ا َ‬
‫والمسلمين‪.‬‬
‫لمام الحسن )عليه السلم( في ‪ 15‬من شهر رمضان‪.‬‬ ‫وفي هذه السنة‪ ،‬ولد السبط ا ِ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬مجمع البيان‪.235|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 140‬‬
‫أحداث السنة الرابعة من الهجرة‬

‫‪ .1‬النتائج السلبية لمعركة ُأحد‬

‫ن المنافقين واليهود‬
‫بالرغم من إظهار المسلمين قوتهم‪ ،‬ومطاردتهم للعدو ومنعهم من مهاجمة المدينة‪ ،‬فإ ّ‬
‫لسلم والمسلمين‪ ،‬وجهزوا العّدة لمحاربتهم‪،‬مثل قبيلة "بني أسد" التي‬ ‫والمشركين أعّدوا المَوامرات ضّد ا ِ‬
‫أرادت الهجوم على المدينة لنهبها‪ ،‬فأرسل الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪150‬فردًا بقيادة أبي مسلمة الذي‬
‫تمكن من القضاء عليهم والتخّلص منهم‪.‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كان يرسل الدعاة و المبلغين من قّراء القرآن الكريم‪،‬‬ ‫ومن المعروف أ ّ‬
‫لحكام إلى الناس في المناطق البعيدة‬ ‫لسلمية والتعاليم النبوية‪ ،‬لينقلوا تلك التعاليم وا َ‬
‫لحكام ا ِ‬‫والمسلمين با َ‬
‫لماكن النائية‪ ،‬كما كان يبعث من جانب آخر‪ ،‬السرايا والمجموعات العسكرية للقضاء على محاولت التمرد‬ ‫وا َ‬
‫لسلم وإرساء‬ ‫لمان‪ ،‬الدعوة إلى ا ِ‬ ‫لمن والحرية وا َ‬ ‫والمَوامرات‪ ،‬ليتسّنى لهَولء المبلغين والدعاة في ضوء ا َ‬
‫ن بعض القبائل‬ ‫ل أّنه كان يحدث أ ّ‬ ‫لفكار وإيقاظ العقول‪ .‬إ ّ‬ ‫لسلمية في القلوب‪ ،‬وتنوير ا َ‬ ‫دعائم الحكومة ا ِ‬
‫المتوحشة والمتخلفة فكريًا وأخلقيًا كانت تعتدي على هَولء المبلغين وتقتلهم‬
‫===============‬
‫) ‪( 141‬‬
‫بصورة مفجعة مأساوية‪ (1).‬مثلما قامت به جماعة من قبيلة "عضل والقارة" الذين طلبوا القّراء من الرسول‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( وغدروا بهم أثناء الطريق إلى مكان سكنهم‪ .‬ومن قبلهم طلب أبو براء العامري في‬
‫لسلم مع‬ ‫ل إلى نجد يدعوهم ل ِ‬ ‫شهر صفر من هذه السنة‪ ،‬من الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يبعث رجا ً‬
‫أّنه لم يسلم‪ ،‬فقال الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬إّني أخشى عليهم أهل نجد"‪ .‬ولكن أبا براء أعلن عن‬
‫ل من‬
‫لجارتهم وضمان أمنهم فقال‪ :‬أنا لهم جار‪ .‬فبعث النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أربعين رج ً‬ ‫استعداده ِ‬
‫لسلم بقيادة "المنذر بن عمرو" و معه كتاب إلى "عامر بن الطفيل"‬ ‫أصحابه الخيار من حفظة القرآن و أحكام ا ِ‬
‫ل أّنهم رفضوا‬ ‫أحد زعماء نجد‪ ،‬الذي قرر الغدر بهم‪ ،‬فقتل رسول المنذر‪ ،‬وطلب من بني عامر قتل المبّلغين‪ ،‬إ ّ‬
‫ن لهم عقدًا وجوارًا مع أبي براء‪ .‬فاستصرخ عليهم قبائل"بني سليم" الذين أجابوه‪ ،‬فأحاطوا بالدعاة‬ ‫على أساس أ ّ‬
‫وقاتلوهم حتى قتلوهم عن آخرهم بعد أن قاوموا بقّوة وبسالة عظيمة‪ .‬وتسّمى هذه الحادثة بجريمة بئر معونة‪،‬‬
‫ن تلك‬
‫التي لم ينسها الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( فكان يذكر شهداءها فترة من الزمان)‪ (2‬كما أ ّ‬
‫لسى في نفوس المسلمين‪.‬‬ ‫الحادثتان‪ :‬الرجيع وبئر معونة‪ ،‬تركتا آثارًا سيئة‪،‬وخلفتا موجة من الحزن وا َ‬

‫‪ .2‬غزوة بني النضير‬

‫لقد طلب النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من يهود بني النضير المساهمة في دفع دية اثنين قتل خطأ‪ ،‬بموجب‬
‫التفاقية المعقودة بين الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" واليهود‪ ،‬والتي تقضي بالتعاون فيما بينهم في تسديد‬
‫الدية‪ ،‬إ ّ‬
‫ل‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪169|2:‬؛ طبقات ابن سعد‪.55|2:‬‬
‫لسماع‪.170|1:‬‬ ‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪183|2:‬؛ إمتاع ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 142‬‬
‫أّنهم أضمروا له الشر‪ ،‬حينما سار إليهم الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في عدد قليل من أصحابه‪ ،‬وقصدوا‬
‫قتله غدرًا‪ ،‬وذلك بإلقاء صخرة عليه من فوق البيت الذي أستند الرسول ص إلى جداره‪ ،‬ولكّنه )صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم( علم بمَوامراتهم سواء من تحركاتهم المشبوهة‪ ،‬أو بخبر جاء من السماء‪ ،‬فترك المكان مسرعًا‬
‫ل دون جدوى‪ .‬وقد أخبرهم عند عودتهم‬ ‫بالعودة إلى المدينة‪ ،‬دون أن يخبر أصحابه الذين انتظروه طوي ً‬
‫ل بذلك فقمت"‪(1).‬‬ ‫بالسبب‪":‬همت اليهود بالغدر بي فأخبرني ا ّ‬
‫لعداد لحربهم‪ ،‬وبعث رسالة إليهم مع "محّمد بن‬ ‫وردًا على الموقف الغادر لليهود‪ ،‬فقد أمر الرسوللمسلمين با ِ‬
‫مسلمة" يبلغ فيها سادتهم‪" :‬قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي‪ .‬أخرجوا من بلدي‪ ،‬فقد‬
‫جلتكم عشرًا‪ ،‬فمن ُرئي بعد ذلك ضربت عنقه"‪.‬‬ ‫أّ‬
‫وكان حكم الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( هذا مطابقًا لما جاء في الميثاق الذي عقد بينهم عند دخوله‬
‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" ول على أحد أصحابه بلسان ول يد ول بسلح‬ ‫ل يعينوا على رسول ا ّ‬ ‫المدينة‪" :‬أ ّ‬
‫ل من سفك دمائهم وسبي ذراريهم‬ ‫ل في ح ّ‬‫ل بذلك عليهم شهيد‪ .‬فإن فعلوا فرسول ا ّ‬ ‫في السر والعلنية‪ ،‬وا ّ‬
‫ي" اّتصلوا ببني النضير يعرضون عليهم المساعدة‬ ‫ل بن ُأب ّ‬
‫ل أّنالمنافقين برئاسة "عبد ا ّ‬
‫ونسائهم وأخذ أموالهم"‪ .‬إ ّ‬
‫والتعاون‪ ،‬بعدم تنفيذ أوامر الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بالخروج من المدينة‪ ،‬مّما دفعهم إلى اللجوء إلى‬
‫لعداد للحرب ومقاومة الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( حتى ل يسيطر المسلمون على ديارهم‬ ‫حصونهم‪ ،‬وا ِ‬
‫وبساتينهم وممتلكاتهم‪ ،‬وأرسل "حيي بن أخطب" إلى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ :‬إّنا ل نبرح من دارنا‬
‫لأن خرج إليهم‪ ،‬بعد أن استخلف‬ ‫وأموالنا فاصنع ما أنت صانع؛ فما كان من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إ ّ‬
‫على المدينة "ابن ُأّم مكتوم" وسار لمحاصرة بني النضير‪،‬‬
‫____________‬
‫لسماع‪.178|1:‬‬ ‫‪ . 1‬طبقات ابن سعد‪57|2:‬؛ إمتاع ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 143‬‬
‫لخرى‪ .‬وأمر الرسول )صلى‬ ‫فاستمر الحصار ست ليال على رواية ابن هشام‪ ،‬أو ‪ 15‬يومًا حسب الروايات ا َُ‬
‫ال عليه وآله وسلم( بقطع النخيل المحيطة بحصونهم‪ ،‬وإلقاء النار عليهم‪ ،‬حتى يكرهوا البقاء في تلك الديار بعد‬
‫إعدام بساتينهم‪.‬‬
‫فدفعهم ذلك فعليًا إلى الرضوخ لمطالب الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" بالجلء عن موطنهم‪ ،‬على أن‬
‫تحمل إبلهم ما لهم من مال دون أن يأخذوا السلح والدروع‪ ،‬فرضى النبي ص بذلك‪ ،‬فخرج جماعة منهم إلى‬
‫ن المسلمين غنموها دون قتال ـ و هو الفيء ـ فاّنه يعود أمره‬
‫خيبر وُأخرى إلى الشام‪ .‬أّما تقسيم أموالهم فحيث إ ّ‬
‫لسلم‪ ،‬وقد‬ ‫إلى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( خاصة يضعه حيث يشاء ويصرفه فيما يرى من مصالح ا ِ‬
‫لنصار‪ ،‬وذلك لما حرموا من ممتلكاتهم‬ ‫فعل النبي ذلك وقسم المزارع والبساتين على المهاجرين فقط دون ا َ‬
‫وثرواتهم في مكة‪ ،‬وقد أيده في ذلك‪ :‬سعد بن عبادة و سعد بن معاذ‪(1).‬‬
‫لّول ‪4‬هـ وأوردتها سورة الحشر في القرآن الكريم‪.‬‬‫وقد جرت هذه الحادثة في ربيع ا َ‬

‫‪.3‬غزوة ذات الرقاع‬

‫ن قبائل بني محارب و بني ثعلبة من قبائل غطفان‪ ،‬أعدتا‬


‫جاء الخبر إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أ ّ‬
‫للهجوم على المدينة‪ ،‬فسار إليهم النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" وأّدبهم‪ ،‬دون أن يحدث قتال‪ ،‬وأصاب بعض‬
‫الغنائم‪.‬‬
‫كما خرج النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في قّوة بلغت ‪ 1500‬فرد من المحاربين قاصدًا بدرًا لملقاة أبي‬
‫سفيان‪ ،‬الذي كان قد قرر في ُأحد أن يلتقي بهم‬
‫____________‬
‫لسماع‪.182|1 :‬‬ ‫‪ . 1‬إمتاع ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 144‬‬
‫ل أّنهم تخوفوا من مواجهة المسلمين‪ ،‬وذلك من أظهر الصور لحكمة النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫في هذه السنة‪ ،‬إ ّ‬
‫لعداء‪.‬‬
‫ي في نفوس ا َ‬
‫وسلم( في إجراءاته العسكرية‪ ،‬فقد أظهر قوته وعزيمته أمامهم‪ ،‬مّما كان له أثره القو ّ‬

‫‪ .4‬تحريم الخمر‬

‫و قد حّرمت في أربع مراحل تدريجية ضمن آيات أربع أظهرت الستياء من الخمر‪ ،‬فبدأت من مرحلة مخففة‬
‫لربع منعت من الخمر‪ ،‬بعد أن وصفتها بالرجس‬ ‫لعلن عن التحريم القطعي‪ .‬فاليات ا َ‬ ‫حتى انتهت إلى مرحلة ا ِ‬
‫وإّنها نظير الميسر واّنها عمل شيطاني‪ ،‬مناقض للفلح ومسبب للعداوة والبغضاء‪ ،‬وبذا فقد استطاع النبي‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( بهذه اليات أن يطهر مجتمعه من أدرانهذه العادة الشريرة التي انتشرت في البيئة‬
‫ن معالجتها كانت تحتاج إلى وقت طويل وُأسلوب‬ ‫بقوة‪ ،‬وكانت آفة متفشية ومتجذرة في المجتمع‪ ،‬بحيث إ ّ‬
‫مدروس‪ ،‬وقد تحتم أن يعاَلج هذا الوباء الجتماعي من خلل إعداد الناس لمرحلة التحريم النهائي والقطعي‬
‫تمامًا‪ ،‬كما يفعل الطبيب للمرضى الذين يطول بهم المرض ولذا فإّنها حرمت في أربع مراحل‪.‬‬
‫لمام الحسين )عليه السلم( في ‪3‬‬ ‫لصغر للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أي ا ِ‬ ‫و في هذه السنة ولد السبط ا َ‬
‫شعبان‪.‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( ‪.‬‬
‫كما توفيت السيدة فاطمة بنت أسد ُأّم ا ِ‬
‫وأمر الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( زيد بن حارثة أن يتعلم السريانية من اليهود‪(1).‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬إمتاع السماع‪187|1 :‬؛ تاريخ الخميس‪.464|1:‬‬

‫) ‪( 145‬‬

‫الفصل السابع‬
‫‪ .1‬أحداث السنة الخامسة من الهجرة‬

‫لحزاب‬
‫ـ غزوة دومة الجندل ـ غزوة ا َ‬
‫ـ غزوة بني قريظة ـ زواج الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بزينب بنت جحش‬

‫‪ .2‬أحداث السنة السادسة من الهجرة‬

‫ـ اليهود ـ قبيلة بني لحيان‬


‫ـ بنو غطفان ـ غزوة بني المصطلق‬
‫لفك ـ الحديبية‬
‫ـ قصة ا ِ‬

‫===============‬
‫) ‪( 146‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 147‬‬

‫أحداث السنة الخامسة من الهجرة‬

‫‪ .1‬غزوة دومة الجندل)‪(1‬‬


‫خرج الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في ألف من المسلمين إليها لما ذكر عن أهلها من أّنهم يظلمون الناس‬
‫لهالي تركوها وهربوا منها عند اقتراب المسلمين منها‪ ،‬فأقام بها‬
‫ناَ‬‫لأّ‬
‫لغارة على المدينة‪ ،‬إ ّ‬
‫والتجار وينوون ا ِ‬
‫النبيأّياما ثّم عاد إلى المدينة في ‪ 20‬من شهر ربيع الثاني‪ ،‬دون حدوث قتال‪.‬‬

‫لحزاب‬
‫‪ .2‬غزوة ا َ‬

‫بعد أن أجلى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( يهود بني النضير عن المدينة‪ ،‬قرر زعماَوهم إجراء أعمال‬
‫عدائية ضّد المسلمين وذلك بالتآمر عليهم‪ ،‬فقدموا مّكة ليحرضوا قريشًا على حرب المسلمين بقولهم‪ :‬إّنا سنكون‬
‫ن محّمدا قد وتركم ووترنا وأجلنا عن‬‫معكم عليه حتى نستأصله‪ ،‬فلقد جئنا لنحالفكم على عداوة محّمد وقتاله‪ ،‬إ ّ‬
‫المدينة من ديارنا وأموالنا‪ .‬كما أّنهم استخدموا اسلوبهم‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬منطقة بين دمشق و المدينة؛ طبقات ابن سعد‪.44|2 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 148‬‬
‫ن ما عليه المشركون خيٌر من دين محّمد‪،‬‬ ‫الملتوي حتى يَوثروا في قريش ويجذبونهم لجانبهم‪ ،‬فأقّروا لهم بأ ّ‬
‫لصنام‪ ،‬فكانت هذه وصمة عار ُأضيفت إلى سجّلهم وتاريخهم‬ ‫بالرغم من أّنهم موحدون وقريش كّفار يعبدون ا َ‬
‫المشَووم‪.‬‬
‫وبذا فإّنهم شّكلوا اتحادًا ـ العرب واليهود ـ كما شاركتهم أحزاب ُأخرى‪ ،‬من بعض القبائل العربية في شبه‬
‫لحزاب‪ ،‬أو معركة‬ ‫الجزيرة العربية‪ ،‬وهي غطفان في نجد‪ ،‬وبنو سليم وبنو أسد وغيرها‪،‬ولذا سميت بمعركة ا َ‬
‫الخندق‪ ،‬لما قام به المسلمون من حفر خندق حول المدينة للدفاع عنها‪.‬‬
‫وحينما جاء أحد رجال استخبارات النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بأخبار خروج تلك القوة الكبيرة‪ ،‬شاور‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( المسلمين في أساليب الحرب والدفاع‪ ،‬فافترح سلمان الفارسي حفر خندق حول‬
‫المدينة‪ ،‬حتى يمكن تحديد الموقع الذي سيحاربون فيه العدو‪ ،‬فشرعوا في حفره واشترك النبي )صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم( بنفسه في أعمال الحفر مشاركًا للمسلمين همومهم وآلمهم‪ ،‬كما كان له دوره المَوثر في تنشيط‬
‫الخرين ودفعهم للعمل السريع والجتهاد فيه والتدقيق‪ .‬ووصل طول الخندق نحو خمسة كيلومترات ونصف‬
‫الكيلومتر)‪ 5‬و ‪5‬كم(‪ ،‬والعرض بمقدار خمسة أمتار‪ ،‬والعمق أيضًا خمسة أمتار‪ ،‬بحيث ل يتمكن الفارس الماهر‬
‫من عبوره بالقفز عليه‪ .‬وانتهي من العمل فيه في ستة أّيام‪ .‬وفي هذه الفترة قال الرسول )صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم( في شأن سلمان‪" :‬سلمان مّنا أهل البيت"‪(1).‬‬
‫وقام العدو بحصار المدينة شهرًا‪ ،‬وبلغ عدد جيش المشركين‪ ،‬عشرة آلف فرد‪ ،‬كان منهم أربعة آلف من‬
‫قريش‪ ،‬و ‪ 700‬من بني سليم‪ ،‬و ‪ 1000‬من قبيلة‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬المغازي‪446|2:‬؛ الكامل في التاريخ‪.122|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 149‬‬
‫فزارة‪ ،‬و ‪ 3500‬مقاتل من بقية القبائل‪ .‬أّما عدد المسلمين فلم يتجاوز ‪ 3‬آلف نزلوا في سفح جبل سلع في‬
‫موضع مرتفع ومشرف على الخندق‪ ،‬يمكن منه مراقبة تحركات العدو ونشاطاته‪.‬‬
‫ن ذلك دفع المشركين إلى الّتصال‬ ‫ل‪ ،‬وطالت فترة الحصار ـ شهر ـ فإ ّ‬ ‫ولما كان الموسم موسم شتاء‪ ،‬والطعام قلي ً‬
‫بيهود بني قريظة الذين كانوا يعيشون داخل المدينة لمساندتهم‪ ،‬بالرغم من أّنهم احترموا الميثاق الذي عقدوه مع‬
‫لحزاب في حرب المسلمين‪.‬‬ ‫ن "حيي بن أخطب" تمكن من إقناعهم بنقض ذلك العقد للوقوف مع ا َ‬ ‫لأّ‬
‫الرسول ّ‬
‫لوس والخزرج من‬ ‫وقد تأكد رسول النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ :‬سعد بن عبادة و سعد بن معاذ رئيسا ا َ‬
‫مَوامرة بني قريظة ونقضهم للعهد‪ ،‬عندما توجها إلى حصونهم‪ ،‬فأخبرا النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بذلك‪.‬‬
‫لغارة على أهل المدينة في الداخل‪ ،‬ويرعبوا أهلها ليخفف‬ ‫وكانت خطتهم التآمرية تقضى بأن يقوم بنو قريظة با ِ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أرسل‬ ‫لأّ‬
‫ذلك من الضغط على الكّفار في موقع المعركة عند الخندق‪ .‬إ ّ‬
‫لعداء‪.‬‬‫‪ 500‬من رجاله بقيادة "زيد بن حارثة و مسلمة بن أسلم" لحراسة المدينة من ا َ‬
‫وأّما في ميدان المعركة‪ ،‬فقد تمكن خمسة من شجعان المشركين من عبور الخندق وعلى رأسهم "عمرو بن عبد‬
‫ود العامري" فطلبوا المبارزة مع أبطال المسلمين‪ .‬فقال الرسول ص‪" :‬أّيكم يبرز إلى عمرو أضمن له الجنة؟"‪.‬‬
‫ن على رَووسهم الطير‪،‬‬ ‫ل"‪ ،‬والقوم ناكسوا رَووسهم‪ ،‬وكأ ّ‬ ‫ل‪" :‬أنا له يا رسول ا ّ‬‫لمام علي )عليه السلم( قائ ً‬
‫فقام ا ِ‬
‫وذلك لمكان عمرو وشجاعته المعروفة‪(1).‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬المغازي‪.470|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 150‬‬
‫ليما ُ‬
‫ن‬ ‫لمام علي )عليه السلم( وقال النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" هنا كلمته الخالدة‪َ" :‬بَرَز ا ِ‬ ‫وبذا فقد برز ا ِ‬
‫لمام علي )عليه السلم( من التخلص من عمرو والقضاء عليه حين ضربه ضربة‬ ‫ُكّله إلى الشرك كّله"‪ .‬وتمّكن ا ِ‬
‫لمام علي )عليه السلم( يعلن انتصاره ومقتل عمرو‪ ،‬مّما كان له أثره في‬ ‫قوية على ساقيه فقطعهما‪ ،‬فكّبر ا ِ‬
‫العدو‪ ،‬فألقى الرعب في نفوسهم‪ ،‬فهربوا إلى معسكرهم تاركين الخندق‪ ،‬وسقط أحدهم بفرسه في الخندق وهو‪:‬‬
‫لمام علي "عليه‬ ‫ل" فرماه الحرس بالحجارة‪ ،‬مّما جعله يطلب مقاتلة أحد المسلمين‪ ،‬فنزل إليه ا ِ‬ ‫"نوفل بن عبد ا ّ‬
‫السلم" فقاتله وقضى عليه في الخندق‪(1).‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( المَوثرة ذات النتيجة والفعالية‪ ،‬فقد قال عنها النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫ونظرًا لضربة ا ِ‬
‫لودخله ذل بقتل‬ ‫وسلم( ‪" :‬ضربة علّييوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين" إذ لم يبق بيت من بيوت المشركين إ ّ‬
‫عمرو بن عبد ود‪ ،‬على عكس ما حدث لبيوت المسلمين‪ ،‬فقد دخله بذلك العّز والفتخار‪ ،‬فالضربة كانت في‬
‫لضافة إلى الظروف السائدة‪ ،‬من قّلة الطعام والعلف‬ ‫لحزاب ونهاية لقوتهم‪ ،‬با ِ‬ ‫الواقع هزيمة للمشركين وا َ‬
‫والبرد‪.‬‬

‫لحزاب‬
‫عوامل تفّرق ا َ‬

‫‪ .1‬اختلف قبائل غطفان و فزارة مع قريش و تخاذلهم في الهجوم‪ ،‬وخاصة عندما اتصل بهم النبي )صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم( للّتفاق على عودتهم وتراجعهم في مقابل مساعدتهم ماديًا‪.‬‬
‫لكبر عمرو بن عبدود الذي عّلقوا عليه المال في النتصار‪.‬‬‫‪ .2‬مصرع فارسهم ا َ‬

‫____________‬
‫لنوار‪256|20 :‬؛ تاريخ الطبري‪.240|2 :‬‬
‫‪ . 1‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 151‬‬
‫لسلم و إيقاع الخلف بينهم‪ ،‬وكان قد أسلم حديثًا‪ ،‬فقد تمكن بدهائه‬ ‫‪ .3‬دور "نعيم بن مسعود" في تفرقة أعداء ا ِ‬
‫لحزاب‪ ،‬حيث أقنع اليهود بأن يأخذوا رهائن من العرب ليكونوا‬ ‫من التفرقة بين يهود بني قريظة وجيش ا َ‬
‫ضمانًا في مقابل تعاون اليهود مع المشركين قائلين‪" :‬حتى نناجز محمدًا‪ ،‬فإّننا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد‬
‫عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلدكم وتتركونا‪ ،‬والرجل في بلدنا ول طاقة لنا بذلك منه" وفي نفس الوقت طلب‬
‫من قريش عدم إعطاء اليهود أحدًا من رجالهم إذا طلبوا منهم ذلك‪ ،‬فإّنهم سيرسلونهم إلى النبيليقتلهم‪.‬‬
‫لطراف المتحالفة تأكدت من النوايا السيئة فانسحبت بنو‬ ‫ناَ‬ ‫لمر كما رسمه "ابن مسعود"إذ أ ّ‬ ‫وهكذا فقد جرى ا َ‬
‫قريظة‪ ،‬وتفرق الشمل ورجع الكّفار خائبين‪.‬‬
‫ل عليهم فجأة‪ ،‬العاصفة والريح واشتد البرد‪ ،‬فقلعت خيامهم وأطفأت أضواءهم‪،‬‬ ‫‪ .4‬عامل إلهي‪ ،‬حين بعث ا ّ‬
‫فصاح بهم أبو سفيان‪ :‬ارتحلوا فإّني مرتحل‪.‬‬
‫لحزاب ‪9‬ـ‬ ‫وقد سجل القرآن الكريم وقائع هذه المعركة وأشار إلى أبرز النقاط فيها ضمن ‪ 17‬آية من سورة ا َ‬
‫‪.25‬‬
‫وقسمت اليات الموضوع إلى ثلثة أقسام‪:‬‬
‫‪ .1‬آيات ترسم الوضع العام للمسلمين‪.‬‬
‫‪ .2‬آيات تتعرض لموقف المنافقين‪.‬‬
‫‪ .3‬آيات تبين موقف المَومنين الصادقين‪.‬‬
‫ل بالمَومنين وحمايتهم من أعدائهم الكافرين‪ ،‬كما‬ ‫فهي تَوكد دور عناية ا ّ‬
‫===============‬
‫) ‪( 152‬‬
‫لعداء لهم من كّلجهة‪ ،‬مّما ألقى الرعب في قلوب اليهود من‬ ‫أّنها تشرح الحالة العسكرية للمسلمين‪ ،‬من حصار ا َ‬
‫لفراد‪.‬‬ ‫للقاء روح الهزيمة بين ا َ‬ ‫أهل المدينة‪ ،‬وما أظهره المنافقون من إشاعات وتشكيكات بالوضع‪ِ ،‬‬
‫وبالتالي فهذه الواقعة التي انتهت في ‪ 24‬من شهر ذي القعدة‪ ،‬كانت امتحانًا اختبارًا دقيقًا للنفوس والقلوب‪،‬‬
‫ل صادقة ومحّققة‬ ‫ن وعود ا ّ‬ ‫مّيزت الصادق عن المنافق‪ ،‬والموفون بالعهد و عن الناقضين له‪ ،‬كما كشفت عن أ ّ‬
‫متى توفرت شرائطها ومقدماتها‪ ،‬كما أّنهاأشارت إلى دور الطابور الخامس في إضعاف الجبهات‪ ،‬وأساليب‬
‫مواجهتها‪.‬‬

‫‪ .3‬غزوة بني قريظة‬

‫قرر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( معالجة قضية بني قريظة بعد المعركة دون انتظار‪ ،‬وذلك بأمر من ا ّ‬
‫ل‬
‫لبواب‪ .‬ولما كان اليوم ـ السبت ـ فإّنهم‬
‫تعالى‪ .‬فسار مع المسلمين ليحاصر حصونهم التي تحصنوا بها وأغلقوا ا َ‬
‫ن وفدًا منهم طلب من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يتركهم يخرجوا‬ ‫لم يبتغوا القتال فيه أو الحرب‪ .‬ثّم إ ّ‬
‫من المدينة بأموالهم مثلما فعل مع بني النضير‪ ،‬أو يتركوا سلحهم وأموالهم‪ ،‬فرفض النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم( مقترحاتهم ومطالبهم حتى ل يفعلوا فعَلبني النضير في تحريك العرب المشركين ضد المسلمين‪،‬ولذا فقد‬
‫سّلموا أنفسهم للمسلمين دون أّية شروط‪ ،‬فدخل المسلمون الحصن وجردوهم من سلحهم وحبسوهم حتى يتقرر‬
‫لوسي حليفهم‪ .‬وفي المجلس الذي أعّد لذلك‪ ،‬حكم سعد عليهم بقتل‬ ‫مصيُرهم‪ ،‬أو يحكم فيهم سعد بن معاذ ا َ‬
‫للحاح عليه بحسن الحكم في‬ ‫الرجال‪ ،‬وتقسيم أموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم‪ ،‬رغم ا ِ‬
‫===============‬
‫) ‪( 153‬‬
‫حلفائه بني قريظة‪(1).‬‬
‫وقد استند في حكمه إلى‪:‬‬
‫ن يهود بني قريظة كانوا قد تعهدوا للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بأّنهم لو تآمروا ضّد المسلمين‬ ‫أ‪ :‬أ ّ‬
‫ق في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم‪.‬‬ ‫ن للمسلمين الح ّ‬ ‫وناصروا أعداءهم أو أثاروا الفتن والقلقل‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن حكمه جاء بمثل ما في شريعتهم‪.‬‬ ‫ب‪ :‬وأ ّ‬
‫ج‪ :‬ما قد رآه بعينه مّما صدر قبل ذلك من قبائل اليهود حين عفا عنهم النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ولكّنهم‬
‫لمر‬ ‫لجانب عليهم واشتركوا مع المشركين ضّدهم‪ ،‬ا َ‬ ‫نقضوا عهودهم معه "صلى ال عليه وآله وسلم" وأثاروا ا َ‬
‫لسلم للخطر من خلل مَوامراتهم‪ .‬وخاصة أّنهم كانوا قد‬ ‫الذي جعله يتخوف من أن يعّرض هَولء مركز ا ِ‬
‫لمن فترة من الزمن في المدينة‪ ،‬ولول الحراسة المكثفة التي عينها الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫أخّلوا با َ‬
‫لعمال‪.‬‬ ‫لمور وا َ‬
‫لفعلوا أفظع ا َُ‬
‫وقد قسمت الغنائم بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها‪ ،‬وُأعطي للفارس سهمان‪،‬وللراجل سهم واحد‪ ،‬وسلم‬
‫الرسول ص أموال الخمس لزيد بن حارثة‪ ،‬ليشتري بها السلح والعتاد والخيل من نجد‪(2).‬‬
‫وقد استشهد سعد بن معاذ الذي كان قد جرح في معركة الخندق‪ ،‬بعد أحداث بني قريظة‪ .‬وانتهت هذه المشكلة‬
‫جة‪.‬‬
‫في ‪ 19‬من شهر ذي الح ّ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪240|2:‬؛ المغازي‪510|2:‬؛ زاد المعاد‪.73|2:‬‬
‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪241|2:‬؛ تاريخ الطبري‪250|2 :‬؛ زاد المعاد‪.74|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 154‬‬
‫‪ .4‬زواج الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بزينب بنت جحش‬

‫كان "زيد بن حارثة " قد سرقه قطاع الطرق وباعوه في سوق عكاظ‪ ،‬فاشتراه حكيم بن حزام وأهداه لعمته‬
‫السيدة خديجة بنت خويلد)عليها السلم( التي أهدته بدورها إلى النبيبعد زواجهما‪ .‬وقد دفعت أخلق النبي "صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم" وسيرته الحسنة إلى أن يحبه زيد حبًا شديدًا إلى آخر عمره‪ ،‬حتى أّنه فضل العيش معه‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( على الرجوع إلى أهله‪.‬‬
‫طم التقاليد الجاهلية في المجتمع العربي‪،‬‬ ‫ل تعالى أن يح ّ‬ ‫ولما قرر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بأمر من ا ّ‬
‫لنسانية والتقوى إخوة متحابين‪ ،‬فقد زّوج زيدًا من ابنة عمته زينب بنت جحش‪،‬‬ ‫ليعيشوا جميعًا تحت لواء ا ِ‬
‫ن زواجهما‬ ‫لأّ‬ ‫حفيدة عبد المطلب‪ ،‬مع ما بينهما من الختلف في مستوى النتماء القبلي والمكانة الجتماعية إ ّ‬
‫ل فافترقا بعد الطلق‪ .‬ثّم تزوجها النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وذلك للتخّلص من تقليد جاهلي‬ ‫لم يدم طوي ً‬
‫آخر مترسب في المجتمع‪ ،‬حيث كان يعتبر البن المتبّنى كالبن الحقيقي‪،‬يعامله مثله تمامًا في الحقوق‬
‫ل تعالى نبيه )صلى ال عليه وآله وسلم( بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي والسّنة‬ ‫والواجبات‪ .‬ولذا فقد كلف ا ّ‬
‫طرًا‬‫الخاطئة بإجراء عملي ظاهر للعيان‪ ،‬و هو التزّوج من زينب مطّلقة متبّناه زيد‪َ ):‬فَلّما َقضى َزيٌد ِمْنها َو َ‬
‫ل(‪).‬‬
‫ل َمْفُعو ً‬
‫ن َأْمُر ا ّ‬‫طرًا َوكا َ‬
‫ن َو َ‬
‫ضْوا ِمْنُه ّ‬
‫ج َأْدعياِئِهْم ِإذا َق َ‬
‫ج في َأزوا ِ‬
‫حَر ٌ‬
‫ن َ‬
‫على اْلُمَْوِمني َ‬‫ن َ‬‫جناَكها ِلَكي ل َيُكو َ‬
‫َزّو ْ‬
‫‪(1‬‬
‫____________‬
‫لحزاب‪.37:‬‬ ‫‪.1‬اَ‬

‫) ‪( 155‬‬
‫أحداث السنة السادسة من الهجرة‬

‫‪ .1‬اليهود‬

‫لمن‪ ،‬حتى ل تتكرر قضية‬ ‫كان لبّد من القضاء على خطر اليهود‪ ،‬إذا أراد المسلمون حياة الستقرار وا َ‬
‫لحزاب مّرة ُأخرى‪ ،‬فأرسل النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" مجموعة من شجعان الخزرج لتصفية هذا‬ ‫اَ‬
‫العنصر الحاقد‪ ،‬وكان على رأسهم‪ :‬سلم بن أبي الحقيق‪ ،‬الذي عاش في خيبر‪ ،‬فخرجوا حتى وصلوا خيبر‬
‫ل‪ ،‬فدخلوا على المفسد وقتلوه‪ ،‬إذ طالما أزعج المسلمين بفتنه ومَوامراته‪ ،‬وعادوا إلى المدينة سالمين‪.‬‬
‫فدخلوها لي ً‬

‫‪ .2‬قبيلة بني لحيان‬


‫قرر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في هذه السنة تخويف هذه القبيلة‪ ،‬التي اعتدت من قبل على عدد من دعاة‬
‫المسلمين غدرًا ودون رحمة‪ ،‬فقام بسلسلة من المناورات العسكرية واستعراض لقواته القتالية‪ ،‬ليرهب أعداء ا ّ‬
‫ل‬
‫الخرين أيضًا و قريش خاصة فيذعرهم حيث كان الرسول ص وأصحابه قد نزلوا‬
‫===============‬
‫) ‪( 156‬‬
‫عسفان على مقربة من مكة‪ ،‬وكان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من رأيه‪ ،‬أّنه ‪" :‬لو هبطنا عسفان لرأى أهل‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قال عند‬‫لنصاري أ ّ‬ ‫لاَ‬‫مّكة أّنا قد جئنا مكة"‪ .‬كما ذكر جابر بن عبد ا ّ‬
‫لهل والمال"‪(1).‬‬ ‫ل من وعثاء السفر‪ ،‬وكآبة المنقلب‪ ،‬وسوء المنظر في ا َ‬‫رجوعه إلى المدينة‪" :‬أعوذ با ّ‬

‫‪ .3‬بنو غطفان‬

‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( في‬


‫لّول‪ ،‬اعتدى جماعة من بني غطفان على إبل لرسول ا ّ‬ ‫في ‪ 3‬من شهر ربيع ا َ‬
‫ل وأخذوا امرأة‪ ،‬فطاردهم الرسول )صلى ال‬ ‫منطقة الغابة ـ وهي قريبة من المدينة من ناحية الشام ـ و قتلوا رج ً‬
‫لبل ‪.‬‬
‫عليه وآله وسلم( وقاتلهم في ذي قرد‪ ،‬واستعاد منهم المرأة وعددًا من ا ِ‬

‫‪ .4‬غزوة بني المصطلق‬

‫وهم من قبائل خزاعة المتحالفة مع قريش‪ .‬قرر زعيمها "الحارث بن أبي ضرار" أن يغزو المدينة‪ ،‬فأعد‬
‫الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( عّدته للقضاء عليهم‪ ،‬فخرج عندما علم من رجال مخابراته بنواياهم‪ ،‬فلقيهم‬
‫عند ماء "المرُيسيع" وقاتلهم فتفرقوا‪ ،‬وغنم المسلمون منهم كثيرًا كما سبوا عددًا كبيرًا من نسائهم‪.‬‬
‫لنصار على الماء‪ ،‬حتى كادت أن تقع حرب بين‬ ‫وبعد المعركة‪ ،‬حدث أن تقاتل اثنان من المهاجرين وا َ‬
‫الطرفين‪ ،‬لول حكمة الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" الذي تمكن من إخماد الفتنة في مهدها‪ ،‬وتجنيب‬
‫لنصار ضّد‬ ‫ي رئيس المنافقين استغل الموقف فأثار ا َ‬ ‫ل بن ُأب ّ‬
‫ن عبد ا ّ‬
‫لأ ّ‬
‫المسلمين أخطارها‪ .‬إ ّ‬
‫____________‬
‫لسماع‪.259|1:‬‬ ‫‪ . 1‬تاريخ الطبري‪254|2:‬؛ المغازي ‪535|2‬؛ إمتاع ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 157‬‬
‫ل مكانة منهم‪ ،‬مّما تركت كلماته أثرها في نفوسهم‪ ،‬إذ أّنهم ما زالوا يعانون من‬ ‫المهاجرين‪ ،‬على أساس أّنهم أق ّ‬
‫ليمانية‪،‬‬ ‫لخوة ا ِ‬‫لسلمية وا ِ‬ ‫بقايا العصبية الجاهلية‪ .‬وكادت الحركة أن توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة ا ِ‬
‫ل الذليل القليل المبغض‬ ‫لرقم ظهر من بين فتيان المسلمين ليرد عليه بالكلمات القوية‪" :‬أنت وا ّ‬ ‫ولكن زيد بن ا َ‬
‫ل ل أحبك بعد هذا أبدًا"‪ .‬ثّم سار إلى النبي‬ ‫في قومك‪ ،‬ومحّمد في عز من الرحمن ومودة من المسلمين‪ ،‬وا ّ‬
‫لوضاع‪ ،‬فأمر بالرحيل في‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( يخبره بما حدث من المنافق‪ ،‬فأراد الرسول أن يهّدى ا َ‬
‫لللصلة‪ ،‬وذلك حتى يشغلهم‬ ‫ل ونهارًا دون إستراحة إ ّ‬‫ساعة من النهار لم يكن يرتحل فيها عادة‪ ،‬كما أّنه سار لي ً‬
‫ي المنافق‪.‬‬
‫ل بن ُأب ّ‬
‫عن الذي حدث من عبد ا ّ‬
‫ل من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يسمح له بقتل أبيه‪ ،‬حيث كان مسلمًا حقيقيًا‬ ‫وقد طلب ابنه عبد ا ّ‬
‫أفضل من أبيه‪ ،‬ولكن الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" قال‪" :‬بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا"‪.‬‬
‫ي‪ ،‬فلحقه من ذلك ذّلشديد بين الناس ‪ ،‬فلم يعبأ به أحد‪ ،‬ولم‬ ‫جهوا باللوم على ابن ُأب ّ‬‫ل أن تو ّ‬ ‫فما كان من المسلمين إ ّ‬
‫يعد له أّيدور‪ ،‬وعاش بقية حياته محتقرًا بين الناس‪.‬‬
‫وقد تزّوج الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( "الجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار" التي كانت من بين‬
‫سباياهم‪ ،‬فأسلمت وأسلم أهلها‪ ،‬ثّم أطلق الباقون وهم مائة عائلة من بني المصطلق‪ ،‬إذ اعتبروا من أصهار النبي‬
‫ل ونساء بفضل هذا الزواج المبارك‪،‬‬ ‫"صلى ال عليه وآله وسلم" ‪،‬وأطلق جميع أسرى بني المصطلق رجا ً‬
‫وبفضل سياسة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( الحكيمة‪.‬‬
‫وفي هذه السنة خرج جماعة من قريش تنشد اللجوء إلى الحبشة خوفًا من قوة المسلمين‪ ،‬وكان فيهم عمرو بن‬
‫العاص‪ ،‬الذي قدم الهدايا الكثيرة إلى الملك‪،‬‬
‫===============‬
‫) ‪( 158‬‬
‫لسلم في بلده‪ ،‬فاضطر إلى أن يسلم على يديه‪ ،‬وكتم‬
‫الذي نصحه بأن يعلن إسلمه‪ ،‬إذ ل مفر من انتشار ا ِ‬
‫أمره عن أصحابه‪(1).‬‬

‫لفك‬
‫‪ .5‬قصة ا ِ‬

‫يرى أكثر المحّدثين المفسرين أّنالقصة ترتبط بالسيدة عائشة زوجة الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪،‬‬
‫لعظم )صلى ال عليه وآله وسلم( ولذا ل يمكن القبول‬ ‫ويذكرون أحداثًا ل يتلءم بعضها مع عصمة الرسول ا َ‬
‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" وُأّم‬ ‫بها )‪ (2‬بينما يذهب آخرون إلى المعني فيها هو مارية القبطية زوجة رسول ا ّ‬
‫إبراهيم‪.‬‬
‫ففي رواية البخاري التي نقلها عن السيدة عائشة‪ ،‬ما يتنافى بقوة مع عصمة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫لّنها تكشف عن أّنه وقع "صلى ال عليه وآله وسلم" فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أّنه غّير سلوكه‬ ‫‪َ،‬‬
‫ك في عفافها وشاور أصحابه في أمرها‪ (3).‬إّنمثل هذا الموقف مع شخص بريء‬ ‫تجاه السّيدة عائشة‪ ،‬بعد أن ش ّ‬
‫ل يوجد أي دليل على تهمته‪ ،‬ل يتنافى فقط مع مقام العصمة النبوية‪ ،‬بل حتى مع مقام المَومن العادي‪ .‬كما أ ّ‬
‫ن‬
‫الية ‪ 12‬و ‪ 14‬من سورة النور توبخ ُأولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات و ظنوا السوء‪ ،‬مّما يعني أّنهذا العتاب‬
‫والتوبيخ كان يعم الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( أيضًا لو صحت رواية البخاري هذه‪ .‬ولذا فإّنه ُيرفض‬
‫للرواية المذكورة في شأن النزول الذي يتناقض مع عصمة الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬ ‫كّ‬

‫____________‬
‫لسلم بمكة‪.‬‬
‫لختلف في الموقف هنا و في أّول عهد ا ِ‬‫‪ . 1‬لحظ ا ِ‬
‫‪ . 2‬الدر المنثور‪.24|5:‬‬
‫‪ . 3‬صحيح البخاري‪،102|6:‬تفسير سورة النور‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 159‬‬
‫لخرى بشأن النزول‪ ،‬والتي ينقلها عن عائشة ومفادها‪ :‬أّنه حدث شجار وصدام‬ ‫وأّما بالنسبة لرواية البخاري ا َُ‬
‫لوس والخزرج أمام الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" حينما كان يخطب على المنبر‪ ،‬فاّتهموا بعضهم‬ ‫بين ا َ‬
‫لفك‪ ،‬حتى أشار عليهم )صلى ال عليه وآله وسلم( بالسكوت فهّدأهم حتى انصرفوا‪ ،‬فهي‬ ‫بعضًا بسبب قضية ا ِ‬
‫لفك‪،‬‬‫لوس كان قد توّفي قبل حادثة ا ِ‬ ‫ن "سعد بن معاذ" رئيس ا َ‬ ‫كذلك ل تتناسب مع أحداث التاريخ الصحيح‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫التي جرت وقائعها بعد أحداث معركة بني قريظة‪ ،‬وقد صرح بذلك البخاري نفسه في صحيحه)‪ (1‬في باب‬
‫لحزاب وبني قريظة‪ ،‬فكيف يمكن أن يحضر مجلس النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" ويجادل سعد بن‬ ‫معركة ا َ‬
‫لفك التي وقعت بعد أحداث بني قريظة بعّدة شهور؟‬ ‫عبادة في قضية ا ِ‬
‫ن حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس بإلقاء التهمة والبهتان إلى إمرأة صالحة ذات‬ ‫ولذا فمن المهم أن نعرف أ ّ‬
‫لكبر من‬ ‫ن الذي تحمل القسط ا َ‬ ‫لسلمي‪ .‬وقد فسر قوله تعالى‪) :‬الذي توّلى كبره( بأ ّ‬ ‫مكانة وأهمية في المجتمع ا ِ‬
‫ل بن ُأبي" فهو الذي قاد هذه العملية الرخيصة الخطرة‪ ،‬كما صرحت بذلك السيدة‬ ‫هذه العملية الخبيثة هو‪" :‬عبد ا ّ‬
‫ل بن ُأبي" يعمل بتجارة الجواري ويضعهن تحت تصرف الرجال للزنا بهن‪،‬‬ ‫عائشة نفسها‪ (2).‬فقد كان "عبد ا ّ‬
‫لسلم في المدينة‪ .‬ولما كان يكرههن على‬ ‫فيجني أرباحًا طائلة من وراء هذه التجارة البغيضة‪ ،‬حتى بعد انتشار ا ِ‬
‫على‬ ‫البغاء‪ ،‬واشتكت إحدى نسائه من ذلك‪ ،‬فقد نزلت الية الكريمة تشجب عمله الدنيء‪َ) :‬ول ُتكِرُهوا َفَتياِتُكْم َ‬
‫حياِة‬
‫ض ال َ‬
‫عَر َ‬‫صنًا ِلَتْبَتُغوا َ‬
‫ح ّ‬ ‫ن َت َ‬
‫ن َأَرْد َ‬‫الِبغاِء ِإ ْ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬صحيح البخاري‪.113|5:‬‬
‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪ ،297|2:‬وقد فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ بينما غفل عنها البخاري‬
‫في صحيحه‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 160‬‬
‫ل ما يشفي غليله‬
‫الّدنيا( )‪ (1‬وعندما حدث العداء بينه وبين ابنه بعد واقعة بني المصطلق‪ ،‬عمد إلى فعل ك ّ‬
‫لسلمي‪ ،‬ليعمل على بلبلة الرأي العام ويشغله‬ ‫ويذهب غيظه‪ ،‬كترويج الشائعات الكاذبة انتقامًا من المجتمع ا ِ‬
‫لسلحة‬
‫بالتوافه من القضايا‪ ،‬ويصرفه عن القضايا المهمة والمصيرية‪ ،‬إذ أنّ سلح الشائعات يعتبر من ا َ‬
‫لفراد الصالحين والمجتمع أيضًا‪.‬‬ ‫المدمرة‪،‬وتستخدم في تشويه سمعة ا َ‬
‫ن المقصود من الية مارية القبطية‪ ،‬حيث اتهم فرٌد يدعى جريح بعد وفاة ابنها‬ ‫لخرى‪ ،‬فترى أ ّ‬‫أّما الرواية ا َُ‬
‫لمام عليًا ليقتله‪ ،‬فصعد جريح‬
‫إبراهيم بأّنه هو والد إبراهيم وليس النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" فأرسل ص ا ِ‬
‫ي‪ ،‬فرمى بنفسه من فوقها فبدت عورته‪ ،‬فإذا ليس له‬ ‫إلى نخلة خوفًا من علي )عليه السلم( وفتكه به‪ ،‬فتعّقبه عل ّ‬
‫ما للرجال ول له ما للنساء‪ ،‬فرجع علي )عليه السلم( إلى النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" فأخبره بما رأى‪،‬‬
‫ل الذي صرف عّنا السوء أهل البيت ‪ (2).‬وجميع هذه الروايات‬ ‫فقال النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ :‬الحمد ّ‬
‫لفك‪.‬‬ ‫ضعيفة فل يمكن القبول بها في شأن نزول آيات ا ِ‬

‫‪ .6‬الحديبية‪ :‬رحلة دينية سياسية‬

‫كانت السنة ‪ 6‬هـ تقترب من نهايتها حينما رأى الرسولفي المنام أّنه دخل الكعبة وحلق رأسه وأخذ مفتاح البيت‪.‬‬
‫فقص ص رَوياه على أصحابه‪ ،‬وتفاءل بها خيرًا‪(3).‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬النور‪.33:‬‬
‫ل وجهه‪.‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( أّنه لم ينظر إلى عورة قط‪ ،‬ولذا قيل عنه كرم ا ّ‬
‫‪ . 2‬بالرغم ما ذكر عن ا ِ‬
‫‪ . 2‬مجمع البيان‪.126|9:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 161‬‬
‫ن هذه الرحلة الروحانية انتجت مصالح اجتماعية وسياسية‪ ،‬عّززت مكانة المسلمين في الجزيرة العربية‬ ‫إّ‬
‫ن‪:‬‬
‫لّ‬‫لسلمي فيها‪ ،‬وذلك َ‬ ‫وساعدت على نشر الدين ا ِ‬
‫ل عقائد العرب وتقاليدهم‬ ‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( خالف ك ّ‬ ‫ـ القبائل العربية المشركة تصورت أ ّ‬
‫الموروثة بما فيها الحج والعمرة‪ ،‬فأكد بذلك الصلح وتجّنب القتال في الشهر الحرام أّنه ل يعارض تلك الطقوس‬
‫لكبر "إسماعيل بن إبراهيم" ويعمل على المحافظة على‬ ‫الدينية‪ ،‬بل يعتبرها فريضة مقدسة مثل والد العرب ا َ‬
‫هذه التقاليد الدينية‪ ،‬مّما قلل من مخاوفهم تجاه الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" ودعوته‪.‬‬
‫ن ذلك غّير من نظرة هَولء تجاه دعوة‬ ‫لشهر الحرم‪ ،‬فإ ّ‬‫ـ و لما لم يكن يحمل أسلحة معه على أساس حرمة ا َ‬
‫لسلم حين شاهدوا الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" وهو يحّرم القتال في الشهر الحرام‪،‬ويدعو إلى رعاية‬ ‫اِ‬
‫هذه السّنة الدينية القديمة‪.‬‬
‫ـ وستكون مناسبة يتمكن المهاجرون فيها من زيارة وطنهم وأهاليهم وأقربائهم‪ .‬أّما إذا منعتهم قريش من الدخول‬
‫سيى تجاه‬ ‫ن سمعتها هي تتعرض للخطر‪ ،‬ويتضح عدواُنها‪ ،‬وينكشف للجميع بطلن مواقفها‪ ،‬نظرًا لموقفها ال ّ‬ ‫فإ ّ‬
‫جماعة مسالمة أرادت أداء مراسم العمرة فقط‪.‬‬
‫ـ و إذا نجح المسلمون في سعيهم بأداء مناسك العمرة‪ ،‬فإّنه سيكون أفضل إعلم لجميع مناطق العرب‪ ،‬إذ أّننداء‬
‫لسلم سينتشر في تلك البقاع والمناطق التي لم يصلها دعاة النبي ص ومبلغوه حتى هذا الوقت‪.‬‬ ‫اِ‬
‫ن الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( أمر أصحابه بالتهّيو للعمرة داعيًا القبائل المجاورة التي لم تزل‬ ‫ـ و لذا فإ ّ‬
‫على كفرها وشركها إلى مرافقة المسلمين في هذه الرحلة وبلغت أعدادهم ألف وأربعمائة أو ‪ 1600‬أو ‪،1800‬‬
‫ن المسلمين متجهون صوب مكة للعمرة في شهر ذي القعدة‪.‬‬ ‫أحرموا في ذي الحليفة فشاع في الجزيرة العربية أ ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 162‬‬
‫عسفان‪ ،‬أخبروا الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بأّنقريشا ترفض السماح لهم بالدخول إلى مّكة‪ ،‬كما‬ ‫وعند ُ‬
‫لوامر المعلنة‪ ،‬فغّير الرسول )صلى ال عليه وآله‬‫أرسلت كتيبة من أفرادهم بقيادة‪ :‬خالد بن الوليد‪ ،‬لتنفيذ ا َ‬
‫وسلم( طريقه حتى ل يلتقي بخالد‪،‬سالكًا طرقًا وعرة حتى وصل الحديبية‪ ،‬التي بركت فيها ناقة الرسول )صلى‬
‫ن خالد بن الوليد تمكن من الوصول بكتيبته وحاط بهم وحاصر‬ ‫لأ ّ‬
‫ال عليه وآله وسلم( فنزلوا في ذلك المكان‪ ،‬إ ّ‬
‫موكبهم‪ .‬ولكن النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" لم يكن قد جاء ليحارب في سبيل دخول مكة‪ ،‬ولم يكن هذا‬
‫ن التفاوض كان من أفضل الحلول لهذه المشكلة‪ ،‬فقال "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪" :‬ل تدعوني‬ ‫هدفه‪ ،‬ولذا فإ ّ‬
‫لأعطيتهم إّياها"‪ .‬فبلغ ذلك مسامع الجميع‪ ،‬فقرروا إرسال عدد‬ ‫خطة يسألونني فيها صلة الرحم إ ّ‬ ‫قريش اليوم إلى ُ‬
‫لصلي من رحلته ومجيئه إلى مكة‪،‬‬ ‫من أفرادهم إلى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( للتعرف على هدفه ا َ‬
‫فبعثوا إليه بأربعةأشخاص لتفّهم موقف الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" فقال لهم )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫ى لقتال أحد ولكّنا جئنا معتمرين"‪.‬‬
‫‪" :‬إّنا لم نج َ‬
‫ل ل تدخلها عليهم عنوة أبدًا"‪.‬‬ ‫ن قريشًا لن تقبل بدخولهم مكة‪" :‬يعاهدون ا ّ‬ ‫ن المندوبين أكدوا للمسلمين أ ّ‬
‫لأ ّ‬
‫إّ‬
‫فذهبت كّلتلك المفاوضات سدى دون جدوى‪ ،‬مّما جعل الرسول ص يرسل مندوبًا عنه إلى قريش يوضح‬
‫للعراف الدولية‬ ‫لأّنقريشا ـ خلفًا لك ّ‬
‫ل وأداء مناسك العمرة‪ ،‬إ ّ‬
‫الصورة الصحيحة لهدفهم‪،‬وهو زيارة بيت ا ّ‬
‫والجتماعية ـ والتي تقضي بحماية السفراء واحترامهم‪ ،‬عمدت إلى عقر الجمل الذي قدم عليه السفير والمندوب‬
‫النبوي‪ ،‬بل كادوا أن يقتلوه أيضًا‪ ،‬لول تدخل جماعة من قادة العرب‪ ،‬فخّلت سبيله ليعود إلى النبي )صلى ال‬
‫لأّ‬
‫ن‬ ‫لرهاب الرسولوجماعته وإرعابهم ونهب شيء من أموالهم‪ ،‬إ ّ‬ ‫عليه وآله وسلم( ‪ .‬كما أّنقريشا أرسلت كتيبة ِ‬
‫الوضع لم يكن في صالحهم فقد أسرهم المسلمون وكانوا خمسين فردًا‪ ،‬فتدخل النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫ن هَولء ينشدون الحرب والقتال‪.‬‬ ‫وعفا عنهم و خّلى سبيلهم‪ ،‬ليَوكد لهم أّنه جاء يريد السلم‪ ،‬وأ ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 163‬‬
‫لّنه لم يكن قد‬ ‫واختار الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( "عمر بن الخطاب" لمهمة سفارة ُأخرى لقريش‪َ ،‬‬
‫ل‪" :‬يا‬ ‫أراق دم أّيمن المشركين حتى ذلك الوقت‪ ،‬ولكّنه اعتذر عن تحّمل هذه المسَوولية المحفوفة بالمخاطر قائ ً‬
‫ل‪ ،‬إّني أخاف قريشًا على نفسي‪ ،‬وليس بمكة من بني عدي من يمنعني‪،‬ولكّني أدّلك على رجل أعّز بها‬ ‫رسول ا ّ‬
‫ل فيطلقوه ليبلغ‬ ‫ن قريشًا ألقت القبض على عثمان وحبسوه‪،‬لعّلهم يتوصلون إلى ح ّ‬ ‫لأّ‬ ‫مّني عثمان بن عفان"‪ (1).‬إ ّ‬
‫ن عثمان‬ ‫الرسولرأيهم‪ .‬فلّما أبطأ عثمان عنهم‪ ،‬وأوجد ذلك قلقًا شديدًا في نفوس المسلمين‪ ،‬وخاصة إّنه ُأشيع أ ّ‬
‫قتل‪ ،‬فإّنالمسلمين ثاروا وقرروا النتقام والقتال‪ ،‬مّما دعا النبيإلى أن يجّدد بيعته مع المسلمين‪ ،‬فبايعوه تحت‬
‫لسلم حتى النفس‬ ‫ل يتخّلوا عنه أبدًا‪ ،‬وأن يدافعوا عن حياض ا ِ‬ ‫الشجرة على الستقامة والثبات والوفاء‪ ،‬وحلفوا أ ّ‬
‫ن ِإْذ‬
‫ن اْلُمَوِمني َ‬
‫عِ‬‫ل َ‬‫يا ّ‬‫ضَ‬‫لخير‪ ،‬وسميت هذه البيعة‪ :‬بيعة الرضوان‪ ،‬التي ذكرها القرآن الكريم بقوله‪َ) :‬لَقْد َر ِ‬ ‫اَ‬
‫ن موقف‬ ‫عَلْيِهْم َوَأثاَبُهْم َفْتحًا َقريبًا( ‪ (2).‬وبذا فإ ّ‬
‫سِكيَنة َ‬
‫ل ال ّ‬
‫جرة َفَعِلَم ما ِفي ُقُلوِبِهْم َفَأْنَز َ‬
‫شَ‬
‫ت ال ّ‬
‫ح َ‬
‫ك َت ْ‬
‫ُيباِيُعوَن َ‬
‫ل‪ ،‬وإّما القتال فيما لو تصلب موقف قريش الرافض لذلك‪.‬‬ ‫المسلمين تحّدد في‪ :‬إّما دخول مكة وزيارة بيت ا ّ‬
‫ولكن "عثمان بن عفان" رجع إليهم وأخبرهم أّناليمين التي التزمت بها قريش بمنعهم من دخول مكة هذا العام‪،‬‬
‫هي التي تجعلهم في موقف متصلب رافض‪ ،‬وأّنهم سيرسلون إلى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( من‬
‫يتفاوض معه في هذا الشأن‪ .‬وُكّلف سهيل بن عمرو بإنهاء هذه المشكلة‪ .‬ونتج عن التفاوض بين الطرفين عقد‬
‫صلح شامل و‬
‫____________‬
‫ن بينه وبين أبي سفيان قرابة‪ ،‬فهو أموي‪.‬‬ ‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪ ،315|2:‬كما أ ّ‬
‫‪ . 2‬الفتح‪.18:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 164‬‬
‫واسع بينهما‪.‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫وفي الوقت الذي كان المندوب القرشي يتصلب في بعض البنود و المواد‪ ،‬فإ ّ‬
‫كان يتساهل معه ويتنازل عنها‪ ،‬مّما كان له أثر بعيد‪ ،‬فالتسامح الذي أبداه الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫ل "صلى ال عليه وآله‬ ‫ن رسول ا ّ‬ ‫لّنه أظهر بجلء أ ّ‬ ‫في تنظيم وثيقة الصلح‪ ،‬ل يعرف له نظير في تاريخ العالم‪َ ،‬‬
‫ن الحقائق ل‬‫لحاسيس العابرة‪ ،‬فكان يعلم أ ّ‬ ‫لغراض الشخصية والعواطف وا َ‬ ‫لهواء وا َ‬
‫وسلم" لم يقع فريسة بيد ا َ‬
‫تتبدل ول تتغير بالكتابة والمحو‪،‬وهو ما جعله يتسامح مع مفاوض قريش الذي تصلب في مطالبه غير الشرعية‪،‬‬
‫ن طلب المندوب القرشي بأن يمسح‬ ‫وذلك حفاظًا على أصل الصلح وحرصًا على السلم‪ .‬وقد حدث خلل ذلك‪ ،‬أ ّ‬
‫ل منه‪ :‬باسمك الّلهّم‪ .‬كما طلب‬‫ل الّرحمن الّرحيم" ويكتب بد ً‬ ‫الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ما كتبه‪" :‬بسم ا ّ‬
‫ل‪ .‬فأجابه الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" إلى ذلك‪.‬‬ ‫ل" وإبدالها بمحمد بن عبد ا ّ‬‫مسح كلمة "رسول ا ّ‬
‫أّما صلح الحديبية‪ ،‬فكان من أبرز بنوده‪:‬‬
‫‪ .1‬وقف القتال عشر سنين بين الطرفين‪.‬‬
‫‪ .2‬من قدم إلى النبي من قريش دون إذن ولّيه‪ ،‬يرّده عليهم‪ ،‬ومن جاء قريشًا من محّمد ل يرّدوه إليه‪.‬‬
‫ي طرف في التحالف مع أّية أطراف‪.‬‬ ‫‪ .3‬السماح بدخول أ ّ‬
‫‪ .4‬يرجع المسلمون هذا العام على أن يقدموا العام القادم للعمرة‪.‬‬
‫ل بمكة بحرية وأمان‪.‬‬ ‫‪.5‬ل ُيستكره أحٌد على ترك دينه‪ ،‬ويعبد المسلمون ا ّ‬
‫لموالهم‪ ،‬فل خيانة ول سرقة‪.‬‬ ‫‪ .6‬احترام الطرفين َ‬
‫ش على محّمد وأصحابه أحدًا‪ ،‬سواء بسلح أو أفراد‪(1).‬‬ ‫‪ .7‬ل تعين قري ٌ‬
‫____________‬
‫لنوار‪352|20 :‬؛ السيرة الحلبية‪21|3:‬؛ مجمع البيان‪.117|9:‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬
‫===============‬
‫) ‪( 165‬‬
‫ثّم كتبت الوثيقة بنسختين‪،‬ووقع عليها نفر من شخصيات قريش والمسلمين شهودًا عليها‪ ،‬وتسلم سهيل بن عمرو‬
‫لخرى‪.‬‬ ‫نسخة قريش‪ ،‬واحتفظ النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بالنسخة ا َُ‬
‫ل مسلم سار إلى الرسول )صلى ال‬ ‫وكثيرًا ما اعترض المسلمون على بعض البنود‪ ،‬كالبند القاضي بتسليم ك ّ‬
‫عليه وآله وسلم( من قريش‪ ،‬والعكس‪ ،‬فأوضحه الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬
‫لسلم من قلبه جعل له مخرجًا"‪ .‬فل قيمة‬ ‫لاِ‬ ‫ل‪ ،‬ومن جاءنا منهم رددناه إليهم‪ ،‬فلو علم ا ّ‬ ‫"من جاءهم مّنا فأبعده ا ّ‬
‫لسلم‪،‬‬ ‫لسلم وإيمان من يترك المسلمين ويهرب لجئًا عند المشركين‪ ،‬إذ أّنه يَوكد بفعله أّنه لم يَومن حّقا با ِ‬ ‫ِ‬
‫ولذا لم يكن هناك حاجة لقبوله في جماعتهم‪.‬‬
‫لجانب‬ ‫لسلم وروحه وحقيقة تعاليمه‪،‬وأّنه لم ُيطَلب نشره بقوة وإجبار‪ ،‬كما يذكره ا َ‬ ‫وهذا الميثاق يَوكد نزاهة ا ِ‬
‫وغيرهم دومًا‪.‬‬
‫وبعد النتهاء من تلك المراسيم وعودة جماعة قريش‪ ،‬قام الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" بنحر ما كان معه‬
‫من الهدي في نفس ذلك المكان وحلق‪ ،‬وأّدى الخرون نفس العملية‪ ،‬ثّم عادوا إلى المدينة بعد ‪ 19‬يومًا من البقاء‬
‫في أرض الحديبية‪.‬‬
‫وكان لهذه المعاهدة نتائج وآثار بعيدة المدى‪ ،‬كان من أبرزها وأهمها‪:‬‬
‫لمن والسلم بين المسلمين وقريش‪ ،‬فقد‬ ‫لسلم في المناطق المختلفة‪ ،‬بعد استقرار ا َ‬ ‫لرضية لنشر ا ِ‬ ‫‪ .1‬تهّيأت ا َ‬
‫كان يقضي )صلى ال عليه وآله وسلم( أكثر وقته في العمل على إفشال المَوامرات والدفاع عن المدينة والدخول‬
‫في حروب‪.‬‬
‫لسلمي رسميًا‪ ،‬دوره في منح القبائل حريتها في النضمام إلى المسلمين إذا‬ ‫‪ . 2‬كان لعتراف قريش بالكيان ا ِ‬
‫شاءوا‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 166‬‬
‫‪ .3‬زال الستار الحديدي الذي ضربه المشركون حول المسلمين في المدينة‪ ،‬فتمكن الناس من الرتحال إلى‬
‫لسلم كما تمكن المسلمون‬ ‫لسلم العليا‪ ،‬مّما فسح المجال لهم في اعتناق ا ِ‬ ‫المدينة والتعرف عليها وعلى تعاليم ا ِ‬
‫لسلم في تلك الجهات‪.‬‬ ‫من السفر إلى مكة وأجزاء ُأخرى‪ ،‬مّما ساعد في نشر ا ِ‬
‫‪ .4‬التحق عدٌد كبير من رَووس الشرك والكفر كـ"خالد بن الوليد و عمرو ابن العاص" بالمسلمين واعتنقوا‬
‫لسلم قبل فتح مكة‪.‬‬ ‫اِ‬
‫‪ .5‬زال الحاجُز النفسي بين قريش و المسلمين‪ ،‬حين أثبت الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" لهم بأّنه معدن‬
‫لنساني الكريم‪ ،‬بعد صبره وتجلده وتحّمله تصّلب قادة المشركين وتعّنتهم‪ .‬فقد شاهدوا‬ ‫عظيم من معادن الخلق ا ِ‬
‫لكرم )صلى ال عليه وآله وسلم( في مخالفته لراء المعرضين من جماعته لبعض البنود عند‬ ‫موقف النبي ا َ‬
‫لشاعات‬ ‫للدعايات وا ِ‬‫لقرار السلم بين الجانبين‪،‬فأبطل بذلك ك ّ‬ ‫توقيع العقد‪ ،‬وذلك في رغبة صادقة منه ِ‬
‫المغرضة التي ُرّوجت ضّده و ضّد دعوته المباركة‪ ،‬وأثبت أّنه حّقا رجل سلم وداعية خير للبشرية‪ ،‬حتى لو‬
‫سيطر على مقاليد الجزيرة العربية‪ ،‬فإّنه سيعامل أعداءه باللطف والحسنى والتسامح‪.‬‬
‫لمام الصادق )عليه السلم( بعد ذلك‪":‬وما كان قضية أعظم بركة منها"‪ .‬إذ لم يكد النبي )صلى‬ ‫ويَوكد ذلك قول ا ِ‬
‫شرتهم بالنتصار‪ ،‬مّما‬ ‫ال عليه وآله وسلم( أن يصل إلى المدينة حتى نزلت سورة الفتح التي وعدت المسلمين وب ّ‬
‫ك َفْتحًا ُمبينًا( ‪(1).‬‬
‫حنا َل َ‬
‫اعتبر مقدمة لفتح مكة )اّنا َفَت ْ‬
‫وكانت المادة الثانية من المعاهدة‪ ،‬والتي اختلف حولها المسلمون‪ ،‬هي التي‬
‫____________‬
‫لنوار‪263|20:‬؛زاد المعاد‪.126|2:‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 167‬‬
‫ن قريشًا طلبت من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بعد فترة قصيرة من توقيع‬ ‫لّ‬‫تسّببت في الفتح بعد ذلك‪َ ،‬‬
‫لسلمية أن تعيد كّلمسلم هارب من مكة إلى قريش‪ ،‬وليس‬ ‫المعاهدة بإلغاء تلك المادة التي تنص‪ :‬على الحكومة ا ِ‬
‫عليها أن تعيد كّلهارب من المسلمين‪.‬‬
‫نا ّ‬
‫ل‬ ‫لحدهم‪" :‬إ ّ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( طمأَنهم حينما ذكر َ‬‫ولما أثارت هذه المادة المسلمين‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا"‪.‬‬ ‫جاع ٌ‬
‫ن بعض هَولء المسلمين الهاربين تمّكنوا من تأسيس عصابة خاصة في مراكز بعيدة عن مكة والمدينة‪،‬‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫لمر الذي أقلق بال قريش‪ ،‬فراسلوا‬ ‫للنيل من قوافل قريش التجارية والتعرض لها وقتل من يقع في أيديهم‪ ،‬ا َ‬
‫النبي صطالبين منه إلغاء هذه المادة للتخلص مّما هم فيه من قلق وتوتر‪ ،‬فوافق الرسول الكريم "صلى ال عليه‬
‫ن النبي‬
‫لأّ‬ ‫وآله وسلم" على ذلك‪ ،‬ولذلك انضم هَولء المسلمون المتفّرقون إلى جماعة المسلمين بالمدينة‪ ،‬إ ّ‬
‫لمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط" التي‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( لم يقبل بإعادة المسلمات‪ ،‬كما حدث " َُ‬
‫ل نقض العهد في النساء"‪(1).‬‬ ‫نا ّ‬‫هاجرت إلى المدينة فطلبوها‪ ،‬ولكن النبي ص قال‪" :‬إ ّ‬
‫وقد جاء كّلذلك كما حكى القرآن الكريم في سورة الممتحنة‪:‬‬
‫ت َفل‬
‫ن ُمَْوِمنا ٍ‬
‫عِلْمُتُموُه ّ‬
‫ن َ‬
‫ن َفِإ ْ‬
‫عَلُم ِبِإيماِنه ّ‬
‫ل َأ ْ‬
‫نا ّ‬
‫حُنوُه ّ‬
‫ت فاْمَت ِ‬
‫جرا ٍ‬ ‫ت ُمها ِ‬
‫)يا َأّيَها اّلذين آَمُنوا ِإذا جاَءُكُم الُمَْومنا ُ‬
‫ن َوآُتوُهْم ما َأْنَفُقوا( ‪(2).‬‬ ‫ن لُه ّ‬‫حّلو َ‬
‫ل َلُهْم َول ُهْم َي ِ‬
‫حّ‬
‫ن ِ‬ ‫ن ِإَلى الُكّفار ل ُه ّ‬
‫َتْرجُعوُه َّ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬المغازي‪631|2:‬؛ السيرة النبوية‪.323|2:‬‬
‫‪ . 2‬الممتحنة‪.10:‬‬

‫) ‪( 168‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 169‬‬

‫الفصل الثامن‬

‫‪ .1‬أحداث السنة السابعة من الهجرة‬

‫ـ إعلن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عن عالمية رسالته ـ أحداث خيبر‬
‫ـ قصة فدك ـ عمرة القضاء‬

‫‪ .2‬أحداث السنة الثامنة من الهجرة‬

‫ـ معركة مَوته ـ غزوة ذات السلسل‬


‫ـ فتح مكة ـ معركة حنين‬
‫ـ غزوة الطائف‬

‫===============‬
‫) ‪( 170‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 171‬‬
‫أحداث السنة السابعة من الهجرة‬

‫‪ .1‬إعلن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عن رسالته عالميًا‬


‫كان من نتائج المعاهدة السابقة‪ ،‬أّنها أعطت الفرصة للنبيليفتح باب الّتصال مع زعماء وملوك العالم ورَوساء‬
‫جه إليهم الرسائل عبر سفرائه ورسله‪ ،‬وهي خطوة اّتخذها الرسول "صلى ال‬ ‫القبائل ورجال الدين المسيحي‪ ،‬فو ّ‬
‫عليه وآله وسلم" بعد ‪ 19‬عامًا من الصراع مع قريش المتعّنتة‪ ،‬فقد أشغلته الجبهة الداخلية ومشكلتها وأجبرته‬
‫لسلم وكيان المسلمين‪.‬‬ ‫لسلمي‪ ،‬وشَوون الدفاع عن حياض ا ِ‬ ‫على أن يصرف كثيرًا من وقته في ترتيب البيت ا ِ‬
‫ل ص أرسلها إلى عّدة أطراف وشخصيات محلية‬ ‫ولدينا الن نصوص ‪ 185‬رسالة وكتاب من ِقَبل رسول ا ّ‬
‫لسلمي‪ ،‬كما تتضمن عقد مواثيق عقدها مع رَوساءالقبائل‪ ،‬قام بجمعها‬ ‫وعالمية تدعوهم إلى تقّبل الدين ا ِ‬
‫لسلم في الدعوة والتبليغ‪ ،‬وأّنه يعتمد على‬‫وضبطها أرباب السير وُكّتاب التاريخ‪ ،‬وهي تكشف عن ُأسلوب ا ِ‬
‫لقناع ل الجبر‪(1).‬‬
‫المنطق والبرهان‪ ،‬ل على السيف و القهر‪ ،‬وعلى ا ِ‬
‫____________‬
‫ل حيدر آبادي‬
‫‪ . 1‬أفضل ما تناول الموضوع من مصادر كتابان‪ :‬أ‪ .‬الوثائق السياسية للبروفيسور محمد حميد ا ّ‬
‫لستاذ بجامعة باريس‪.‬‬‫ا َُ‬
‫لحمدي‪.‬و هويمتاز بتحقيقات وتحليلت أدبية وتاريخية‬ ‫لمة المحّقق الشيخ علي ا َ‬‫ب‪ .‬مكاتيب الرسول للع ّ‬
‫لهمية‪.‬‬
‫وسياسية إسلمية في غاية ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 172‬‬
‫لسلم‪،‬‬ ‫لسلمية كانت عالمية منذ ظهور الدعوة المحمدية‪ ،‬ويمكن الرد على المستشرقين المعادين ل ِ‬ ‫فالدعوة ا ِ‬
‫والذين يَوكدون على عدم عالمية الدعوة المحّمدية‪ ،‬وينظرون إليها بعين الشّكوالريبة‪ ،‬في محاولة للتعتيم على‬
‫ن النبي ص دعا البشر عامة إلى التوحيد وإلى‬ ‫ن القرآن الكريم يظهر بوضوح في آياته التي تشهد بأ ّ‬ ‫الحقيقة‪ ،‬فإ ّ‬
‫ى رسالته‪ ،‬ولم يقتصر في ذلك على العرب‪:‬‬ ‫مباد َ‬
‫ل كاّفة للّناس َبشيرًا َوَنِذيرًا( ‪(1).‬‬ ‫ك ِإ ّ‬
‫سْلنا َ‬‫ـ )َوما َأْر َ‬
‫ل ِذْكٌر ِلْلعاَلمين(‪(2).‬‬ ‫ـ )َوما ُهَو ِإ ّ‬
‫حّيا( ‪(3).‬‬ ‫ن َ‬ ‫ن كا َ‬ ‫ـ )ِلُيْنِذَرَم ْ‬
‫شِرُكون(‪(4).‬‬‫ن ُكّلِه َوَلْو َكِرهَ اْلُم ْ‬
‫على الّدي ِ‬
‫ظِهَرُه َ‬
‫ق ِلُي ْ‬
‫حّ‬
‫ن ال َ‬‫سوَلُه ِبالُهدى َوِدي ِ‬
‫سَلَر ُ‬
‫ـ )ُهَو اّلذي َأْر َ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( اختار ستة أفراد من خيرة أصحابه حملوا كتبه إلى الملوك‪ ،‬تضمنت‬ ‫ولذا فإ ّ‬
‫لرض‪،‬فتوجه سفراء الهداية ورسل الدعوة المحّمدية في وقت واحد إلى‪:‬‬ ‫دعوته العالمية‪ ،‬إلى مختلف جهات ا َ‬
‫إيران والروم والحبشة ومصر واليمامة والبحرين والحيرة‪ ،‬واّتخذ من هذا اليوم الذي كتب فيه الرسائل خاتمًا‬
‫لعلى لفظة الجللة‪ ،‬وتليه كلمة رسول ثّميليه اسمه الشريف‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬في ا َ‬ ‫من فضة نقشه ثلثة أسطر‪ :‬محّمد رسول ا ّ‬
‫فختم به الكتب‪ .‬كما أّنه ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعانًا في السرية وحفاظًا عليها من التزوير‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬سبأ‪.28 :‬‬
‫‪ . 2‬القلم‪.52:‬‬
‫‪ . 3‬يس‪.70:‬‬
‫‪ . 4‬التوبة‪.33:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 173‬‬
‫ومن أبرز مبعوثيه ورسله إلى العالم‪:‬‬

‫‪ .1‬دحية بن خليفة الكلبي‪ :‬بعثه إلى قيصر الروم في القسطنطينية‪.‬‬


‫وقد توجه إلى بصرى حيث كان معه رسالة إلى حاكمها‪،‬فساعده في الوصول إلى بيت المقدس التي كان قيصر‬
‫ل‪:‬‬
‫الروم قد اتجه إليها‪ .‬ولما قيل له أّنعليه أن يسجد عند مقابلة قيصر‪ ،‬رفض على أساس أّنه ل يسجد لغير ا ّ‬
‫ل وحده‪،‬‬ ‫ل ّ‬ ‫لبّلغ ملككم بأن عهد عبادة البشر قد انقضى وانتهى‪ ،‬وأّنه ل يحق السجود إ ّ‬ ‫ل نبي َ‬ ‫"إّنما جئتكم من ِقَب ِ‬
‫فكيف يمكنني ذلك وأنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية إليكم؟"‪(1).‬‬
‫ل الّرحمن الّرحيم‪ ،‬من محّمد بن عبد‬ ‫وقرأ ترجمان القيصر كتاب النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إليه‪" :‬بسم ا ّ‬
‫ل الِكتا ِ‬
‫ب‬ ‫لريسيين‪ .‬و)يا َأْه َ‬ ‫ل إلى هرقل عظيم الروم‪ .‬سلم على من اّتبع الهدى‪ .‬أّما بعد‪ ،‬فإّنما عليك إثم ا َ‬ ‫ا ّ‬
‫نا ّ‬
‫ل‬ ‫ن ُدو ِ‬‫ضنا َبْعضًا َأْربابًا ِم ْ‬
‫خَذ َبْع ُ‬
‫شْيئًا َول َيّت ِ‬
‫ك ِبِه َ‬
‫شِر َ‬
‫ل الّلهَول ُن ْ‬
‫ل َنْعُبَد ِإ ّ‬
‫سواٍء َبْيَننا َوَبْيَنُكْم َأ ّ‬‫َتعاَلْوا ِإلى َكِلَمٍة َ‬
‫ل"‪.‬‬
‫سِلُمون()‪ . (2‬محمد رسول ا ّ‬ ‫شهدوا ِبَأّنا ُم ْ‬ ‫ن َتَوّلْوا َفُقوُلوا ا ْ‬
‫َفِإ ْ‬
‫وكان قيصر قد حصل على معلومات وافية عن الرسولمن أبي سفيان الذي كان متواجدًا في هذا الوقت في الشام‬
‫في تجارته‪ ،‬كما كتب إلى أحد علماء الروم يسأل عنه )صلى ال عليه وآله وسلم( فأجابه‪:‬‬
‫لأّنهم‬
‫لسلم‪ ،‬إ ّ‬‫ليمان به صوبا ِ‬
‫شرنا به عيسى بن مريم"‪.‬ولذا فإّنه دعا قومه إلى ا ِ‬
‫"هذا النبي الذي كّنا ننتظره‪،‬ب ّ‬
‫رفضوا ذلك وثاروا عليه‪ ،‬فأسكتهم‪،‬ثّم أمر بإكرام دحية‪،‬وكتب جوابًا على رسالة النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم( وأرسل معه هدية إليه ص‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬طبقات ابن سعد‪.259|1:‬‬
‫‪ . 2‬آل عمران‪.64:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 174‬‬
‫ل بن حذافة السهمي‪ :‬إلى البلط الفارسي‪.‬‬
‫‪ .2‬عبد ا ّ‬

‫حكم فارس خسرو برويز ثاني ملك بعد أنو شيروان‪ ،‬فجلس على العرش مّدة ‪ 32‬عامًا قبل الهجرة النبوية‪،‬‬
‫ليراني قد امتّد حتى شمل آسيا الصغرى حتى‬ ‫ن النفوذ ا ِ‬
‫وتميز عهده بالضطراب وعدم الستقرار‪ ،‬بالرغم من أ ّ‬
‫مشارف القسطنطينية‪ ،‬كما استولى على صليب عيسى المقدس عند النصارى وأحضره إلى المدائن‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫ن‬
‫لحوال السّيئة وأساليب الحكم غير الصحيحة أّدت إلى ضعف هذه الدولة وخروج المستعمرات من تحت‬ ‫اَ‬
‫لراضي إيران‪،‬وهروب المبراطور خسرو برويز‪ ،‬الذي أثار بذلك‬ ‫نفوذها‪ ،‬مّما ساعد على اجتياح الروم َ‬
‫السخط عليه‪ ،‬فقتله ابنه شيرويه‪ .‬و برويز هذا هو المبراطور الذي اشتهر بأّنه مّزق رسالة النبي )صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم( وعامل رسوله بجفاء وسوء أدب‪ ،‬وفيما يلي نص الرسالة إليه‪:‬‬
‫ل إلى كسرى عظيم فارس‪ .‬سلم على من اتبع الهدى وآمن با ّ‬
‫ل‬ ‫ل الّرحمن الّرحيم‪ .‬من محّمد رسول ا ّ‬‫"بسم ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فإّني أنا رسول‬ ‫ل وحده ل شريك له وأّنمحّمدا عبده ورسوله‪ ،‬أدعوك بدعاية ا ّ‬ ‫لا ّ‬
‫ورسوله‪ ،‬وأشهد أن ل إله إ ّ‬
‫لنذر من كان حيًا‪ ،‬ويحق القول على الكافرين‪ .‬أسلم تسلم‪ .‬فإن أبيت فعليك إثم المجوس"‪.‬‬ ‫ل كافة َ‬ ‫ا ّ‬
‫لمبراطور الكتاب عند قراءة أّول جملة منها ودون أن يعلم ما كان فيها‪ ،‬ثّم أمر بإخراج الرسول من‬ ‫وقد مزق ا ِ‬
‫قصره‪ .‬وعندما ُأخبر النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" بذلك قال‪" :‬الّلهّم مّزق ملكه"‪(1).‬‬
‫ن اليعقوبي‪ ،‬ينفرد برأي آخر‪ ،‬بأّنالمبراطور الفارسي أرسل هدية من حرير ومسك إلى النبي )صلى ال‬ ‫لأ ّ‬
‫إّ‬
‫ل )صلى ال عليه‬ ‫عليه وآله وسلم( ‪ .‬ويوافقه على رأيه أحمد بن حنبل فقط الذي قال‪ :‬أهدى كسرى لرسول ا ّ‬
‫وآله وسلم( فقبل‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬طبقات ابن سعد‪.260|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 175‬‬
‫منه‪(1).‬‬
‫أّماالمبراطور المغرور فإّنه طلب من واليه على اليمن باذان ـ التي كانت تتبع فارس ـ بأن يقبض على هذا‬
‫النبي ويبعثه إليه‪ .‬فأرسل هذا إليه فارسين طلبا من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يسّلم نفسه للمبراطور‬
‫لسلم ‪ ،‬على أن يعودا إليه في‬ ‫الفارسي أو يقتله‪ ،‬فرّد عليهما بأن عرض )صلى ال عليه وآله وسلم( عليهما ا ِ‬
‫ل تعالى نبيه بذلك‪ ،‬فذكره‬
‫اليوم التالي‪ .‬وفي هذه الفترة‪ ،‬تخلص ابن المبراطور الفارسي منه بقتله‪ ،‬فأخبر ا ّ‬
‫ن رّبي قد قتل رّبكما ليلة كذا من شهر كذا بعد ما مضى من الليل كذا‪ ،‬وسلط عليه شيرويه‬ ‫ل‪ :‬إ ّ‬
‫للفارسين قائ ً‬
‫لولى ‪7‬هـ‪ .‬فطلبا السماح لهما بإخبار ملكهم باذان في اليمن‬ ‫فقتله‪ .‬وكانت الليلة الثلثاء من العاشر من جمادى ا َُ‬
‫ن ديني و سلطاني سيبلغ ما‬ ‫بما جرى‪ ،‬فسمح لهما الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬نعم أخبراه ذلك عني‪ ،‬إ ّ‬
‫بلغ ملك كسرى وينتهي إلى منتهى الخف والحافر‪ ،‬وقول له‪ :‬إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك‪ ،‬وملكتك على‬
‫قومك"‪.‬‬
‫ولما تأكد الوالي باذان في اليمن من صحة أقوال النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" وما حدث بفارس‪ ،‬فإّنه أعلن‬
‫إسلمه مع جميع أعضاء حكومته ـ وهم من الفرس ـ وكتب بذلك إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪(2).‬‬

‫‪ .3‬حاطب بن أبي بلتعة‪ ،‬إلى مصر‪:‬‬


‫ل أجرك مّرتين‪ .‬فإن توليت فإّنما عليك إثم القبط"‪.‬‬
‫وقد نصت الرسالة إلى المقوقس حاكم مصر‪" :‬أسلم يَوتك ا ّ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬مسند أحمد بن حنبل‪.96|1:‬‬
‫لنوار‪.391|20:‬‬ ‫‪ . 2‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 176‬‬
‫لسكندرية حيث كان يعيش هناك في قصر شامخ‪ ،‬وكان متسامحًا‪ ،‬مّما جعل حاطبًا‬ ‫وقد توجه الرسول إلى ا ِ‬
‫لكمل‬ ‫لسلم هو الصورة ا َ‬ ‫ناِ‬‫لنجيل‪ ،‬وأ ّ‬
‫لسلم وقّوة النبّيص كما ذكر التوراة وا ِ‬ ‫يتناول في خطابه إّياه صورة ا ِ‬
‫ن المقوقس طلب منه أن يصف الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ويبين مضمون دعوته‪،‬‬ ‫لدين المسيح‪ ،‬ثّم إ ّ‬
‫ن نبيًا بقي‪ ،‬وكنت أظن أّنمخرجه بالشام فأراه قد خرج من أرض العرب‪.‬‬ ‫فقال‪ ،‬بعد أن سمع وصفه‪" :‬كنت أعلم أ ّ‬
‫والقبط ل تطاوعني في اّتباعه‪ ،‬وسيظهر على البلد‪ ،‬وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما‬
‫هاهنا"‪.‬‬
‫ثّمكتب كتابًا إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬أّما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو‬
‫ت إليك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط‪ ،‬وبثياب‪ ،‬وأهديت إليك بغلة لتركبها‪،‬‬ ‫ت رسولك وبعث ُ‬ ‫إليه‪ ،‬وقد أكرم ُ‬
‫والسلم عليك"‪(1).‬‬
‫وحينما تسلم النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كتابه وهداياه قال‪" :‬ضّنبملكه ول بقاء لملكه"‪(2).‬‬

‫‪ .4‬عمرو بن أمية الضميري‪ ،‬إلى الحبشة‬

‫اختير عمرو لتسليم كتاب النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى نجاشي الحبشة الملك العادل‪ ،‬وكان النبي )صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم( قد أرسل إليه من قبل رسائل بشأن المهاجرين المسلمين للعتناء بهم ورعايتهم‪.‬‬
‫لهو الملك القّدوس‬
‫ل الذي لإله إ ّ‬
‫وشمل كتابه )صلى ال عليه وآله وسلم( هذه المرة دعوته إلى الدين‪" :‬أحمد ا ّ‬
‫ل وحده ل شريك له‪،‬‬ ‫ل وكلمته‪ ،‬وإّني أدعوك إلى ا ّ‬
‫ن عيسى بن مريم روح ا ّ‬ ‫سلم المَومن المهيمن‪ ،‬وأشهد أ ّ‬
‫ال ّ‬
‫والموالة على‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬طبقات ابن سعد‪.260|1:‬‬
‫‪ . 2‬طبقات ابن سعد‪.260|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 177‬‬
‫ل وإّني أدعوك وجنودك‪ .‬وقد بّلغت ونصحت فاقبلوا‬ ‫طاعته وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني‪ ،‬فإّني رسول ا ّ‬
‫نصيحتي‪ ،‬والسلم على من اّتبع الهدى"‪(1).‬‬
‫ن الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" بدأ كتابه بالسلم عليه ومرس ً‬
‫ل‬ ‫ونظرًا للعلقات الطيبة بين الطرفين‪ ،‬فإ ّ‬
‫لخرى التي ُأرسلت إلى كسرى و قيصر والمقوقس‪ ،‬فقد‬ ‫تحياته الشخصية‪ ،‬في حين أّنه لم يفعل هذا في الكتب ا َُ‬
‫صه بالسلم عليه دون غيره من الزعماء‪.‬‬ ‫خ ّ‬
‫ل أّنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب‪،‬‬
‫أّما النجاشي فقد اعترف بنبوة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬أشهد با ّ‬
‫وإّنبشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل‪ ،‬وأّنه ليس الخبر كالعيان‪ ،‬ولكن أعواني من‬
‫لتيته"‪(2).‬‬
‫لعوان‪ ،‬وُألّين القلوب‪ ،‬ولو استطيع أن آتيه َ‬ ‫الحبشة قليل‪ ،‬فانظرني حتى ُأكّثر ا َ‬
‫ل من النجاشي‪ .‬سلم عليك‬ ‫وكتب بذلك كتابًا إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ذكر فيه‪":‬إلى محّمد رسول ا ّ‬
‫ل وقد بايعتك‬
‫لسلم‪ .‬أشهد أّنك رسول ا ّ‬ ‫ل هو الذي هداني إلى ا ِ‬ ‫ل وبركاته‪ ،‬الذي لإله إ ّ‬ ‫ل ورحمة ا ّ‬ ‫يا نبي ا ّ‬
‫ق‪ .‬والسلم عليك ورحمة ا ّ‬
‫ل‬ ‫ن ما تقول ح ّ‬ ‫ل رّبالعالمين‪ .‬فإّني أشهد أ ّ‬‫وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه ّ‬
‫وبركاته"‪(3).‬‬
‫كما بعث إليه بهدايا خاصة‪.‬‬

‫‪ .5‬شجاع بن وهب‪ :‬إلى أمير الغساسنة‪:‬‬


‫انزعج ملكها"الحارث بن أبي شمر الغساني" مّما قرأ في آخر الكتاب‪":‬وإّني‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة الحلبية‪248|3:‬؛ إعلم الورى‪.45 :‬‬
‫‪ . 2‬السيرة الحلبية‪248|3:‬؛ الطبقات الكبرى‪.259|1:‬‬
‫لنوار‪.392|20 :‬‬ ‫‪ . 3‬تاريخ الطبري‪294|2 :‬؛بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 178‬‬
‫ل وحده ل شريك له يبقى ملكك" فقال‪ :‬من ينتزع مّني ملكي؟ أنا سائر إليه ولو كان باليمن‬ ‫أدعوك أن تَومن با ّ‬
‫جئته‪ .‬وأعّد الجيوش واستعرض قوته العسكرية أمام سفير النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إرعابًا وتخويفًا‪ ،‬ثّم‬
‫لسلم‪ ،‬مّما‬ ‫ل أّنقيصر هّدأ من ثائرته وكتب إليه يمنعه من السير إلى رسول ا ِ‬‫أرسل إلى قيصر يخبره بنواياه‪ ،‬إ ّ‬
‫لثر في تغيير موقفه‪ ،‬فأكرم السفير ومنحه هدايا ثمينة‪ ،‬ووجهه نحو المدينة معززًا مكرمًا‪ ،‬وأبلغ السلم‬ ‫كان له ا َ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لم يقبل بُأسلوبه‬
‫لأّ‬
‫لكرم "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪ .‬إ ّ‬ ‫إلى النبي ا َ‬
‫ن ملكه سيزول عّما قريب‪ .‬فمات الحارث في السنة ‪8‬هـ أي بعد‬ ‫الدبلوماسي غير الصادق‪ ،‬فقال‪ :‬باد ملكه‪ .‬أي أ ّ‬
‫عام واحد‪(1).‬‬

‫‪ .6‬سليط بن عمرو إلى ملك اليمامة‪ :‬هوذة بن علي الحنفي‪:‬‬

‫ونص خطابه )صلى ال عليه وآله وسلم( إليه "إعلم إّنديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر )أي يعم الشرق‬
‫والغرب( فأسلم تسلم واجعل لك ما تحت يديك"‪.‬‬
‫لسفار‪ ،‬أن يقنع ملك اليمامة بقبول‬ ‫وقد استطاع السفير بما ُأوتي من قّوة في المنطق وشجاعة أدبية وخبرة با َ‬
‫لنجيل‪ .‬فكتب كتابًا إلى‬ ‫شر به ا ِ‬‫لساقفة بتقبل الدين الجديد‪ ،‬وأّنه هو النبي الذي ب ّ‬‫مبادئه وأهدافه‪ .‬كما نصحه أحد ا َ‬
‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قال فيه‪" :‬ماأحسن ما تدعو إليه وأجمله‪ ،‬وأنا شاعر قومي وخطيبهم‪ ،‬والعرب‬
‫لمر اّتبعك" أي أّنه طلب أن يجعله النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( خليفة من‬ ‫تهاب مكاني‪ ،‬فاجعل إلّيبعض ا َ‬
‫لرض ما فعلت‪ .‬الّلهّم‬ ‫بعده‪ .‬فقال الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ :‬ل ول كرامة‪،‬لو سألني سيابة من ا َ‬
‫أكفنيه‪(2).‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة الحلبية‪255|3:‬؛ طبقات ابن سعد‪.261|1:‬‬
‫لرض‪.‬‬ ‫لرض‪ :‬أي قطعة من ا َ‬ ‫‪ . 2‬نفس المرجع السابق‪ .‬سيابة من ا َ‬

‫) ‪( 179‬‬
‫آثار تلك الرسائل ونتائجها‬
‫ن شعوبًا كبرى تعرفت على النبي‬ ‫لسلمية‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫ل قاطعًا على عالمية الرسالة ا ِ‬‫أصبح هَولء السفراء والرسل دلي ً‬
‫لوساط والمحافل‬
‫العربي محّمد ص الذي تأثر به معظم هَولء القادة والملوك‪ ،‬فأصبح ظهوره ص حديث ا َ‬
‫لضافة إلى المراكز السياسية‪ .‬فقد تمكنت هذه الرسائل من إثارة مشاعر تلك الشعوب المتحضرة‬ ‫الدينية با ِ‬
‫ق عدة من رجال الدين‬ ‫ج وفر ٌ‬
‫لنجيل‪ ،‬وتسابقت أفوا ٌ‬ ‫شر به التوراة وا ِ‬
‫ودفعتهم إلى البحث والتحقيق حول من ب ّ‬
‫وغيرهم بالقدوم إلى المدينة لدراسة أوضاع الدين الجديد والتعرف على مبادئه‪.‬‬

‫‪ .2‬أحداث خيبر‪ :‬بَورة الخطر‬

‫تقع خيبر على بعد ‪ 32‬فرسخًا من المدينة‪ ،‬وهي منطقة واسعة خصبة‪ ،‬سكنها اليهود وبنوا فيها الحصون‬
‫والقلع المتينة‪ ،‬وبلغ عدد سكانها ‪ 20‬ألف فرد‪.‬‬
‫لحزاب وساعدوا المشركين في حربهم ضّد النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫ولما كانوا مّمن اشتركوا في جيش ا َ‬
‫لسلم‬‫وسلم( والمسلمين‪،‬فإّنالنبي "صلى ال عليه وآله وسلم" أسرع للقضاء عليهم وعلى خطرهم نحو ا ِ‬
‫والمسلمين‪،‬إذ هم أشّد تعصبًا لدينهم‪،‬من تعصب قريش للوثنية‪،‬فقد كان يعلن ألف مشرك وثني إسلمهم في مقابل‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( تخّوف من استغلل جهات ُأخرى معادية كالقيصر أو‬ ‫يهودي واحد‪ .‬كما أ ّ‬
‫لسلمية‪ ،‬إذ ل يستبعد منهم ذلك‪،‬وخاصة أّنهم كانوا المحّرضين‬
‫كسرى‪ ،‬لهَولء اليهود في القضاء على الدولة ا ِ‬
‫لقريش في محاربة المسلمين‪.‬‬
‫ولذا فقد أعّد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لغزو آخر مركز من مراكز اليهود في الجزيرة العربية وقال‪ :‬ل‬
‫ل راغبين في الجهاد أّما الغنيمة فل‪ ،‬فخرج معه ألف و ‪ 600‬مقاتل‪.‬‬‫تخرجوا معي إ ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 180‬‬
‫وعندما وصل إلى المنطقة‪ ،‬قطع الطريق عن أّية إمدادات عسكرية تأتي من الشمال وذلك بقطع خط الرتباط‬
‫ي شيء طوال شهر هو‬ ‫بين قبائل غطفان وفزارة ويهود خيبر‪ ،‬فلم تستطع هذه القبائل أن تمد حلفاءها اليهود بأ ّ‬
‫مّدة الحصار‪(1).‬‬
‫ولّما كانت حصونهم وقلعهم متينة وقوية وممتنعة بمتاريس قوية شديدة‪ ،‬فإّنه كان لبّد لفتحها من استخدام‬
‫ل‪ ،‬بالسرعة‬‫تكتيك عسكري مناسب‪ ،‬فكان أّول عمل قام به الرسولهو احتلل كلّ النقاط والطرق الحساسة لي ً‬
‫والسرية‪.‬‬
‫لطفال و النساء في حصن‪،‬والذخيرة من الطعام في‬ ‫أّما اليهود فقد قرروا في اجتماعهم العسكري أن يضعوا ا َ‬
‫لبراج يدافعون عن القلع والحصون‪ ،‬في الوقت الذي يخرج أبطالهم‬ ‫حصن آخر‪ ،‬بينما يستقر المقاتلون على ا َ‬
‫لسلمي لمّدة شهر‪،‬‬ ‫ليقاتلوا المسلمين ويبارزونهم خارج الحصون‪ ،‬و لذلك فإّنهم تمكنوا من مقاومة الجيش ا ِ‬
‫بحيث كانت محاولة فتح كّلحصن تستغرق عشرة أّيام دون نتيجة‪.‬‬
‫لنصاري‪ ،‬وهو أحد فرسان‬ ‫وقد فتح أّول حصن وهو ناعم بعد أن استشهد في معاركه‪ :‬محمود بن مسلمة ا َ‬
‫ل نقلوا إلى منطقة مخصصة للتمريض والعلج‪ ،‬حيث سمح لبعض نساء بني‬ ‫المسلمين‪،‬وجرح خمسون مقات ً‬
‫غفار بالحضور إلى خيبر للمساعدة في التمريض والتضميد وتقديم خدمات ُأخرى في المعسكر‪ .‬ثّم جرى فتح‬
‫حصن القموص وُأسرت فيه "صفية بنت حيي بن أخطب" التي‬
‫____________‬
‫ن خروج النبي "صلى ال عليه وآله وسلم"‬ ‫لمالي للطوسي‪ .164 :‬ويرى ابن هشام في سيرته‪ 328|2:‬أ ّ‬ ‫‪.1‬اَ‬
‫إلى خيبر كان في شهر محرم‪ ،‬بينما ذهب ابن سعد في الطبقات‪ 77|2 :‬أّنه كان في جمادى الثانية ‪7‬هـ‪.‬ولما كان‬
‫لقرب إلى‬‫ن الرأي الثاني هوا َ‬
‫إرسال الرسل و المندوبين عنه )صلى ال عليه وآله وسلم( في شهر محرم‪ ،‬فإ ّ‬
‫الصحة‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 181‬‬
‫أصبحت زوجة للرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( فيما بعد‪.‬‬
‫لنعام‪ ،‬وكادوا أن يهلكوا‪ ،‬فأمر‬ ‫ولكن الجوع استولى على المسلمين فاضطروا بسببه إلى تناول ما كره أكله من ا َ‬
‫لغنام ـ لتدخل الحصن بأمان‪ .‬وقد‬ ‫الرسول ص أن تَوخذ شاتان من غنم اليهود إضطرارًا‪،‬وأطلق البقية ـ من ا َ‬
‫سمح النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" بذلك للضطرار الذي يباح معه المحذور بقدره‪ ،‬فدعا رّبه‪" :‬الّلهّم إّنك‬
‫قدعرفت حالهم‪ ،‬وأن ليست بهم قّوة‪،‬وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إّياه‪ ،‬فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء‬
‫وأكثرها طعامًا"‪(1).‬‬
‫ن شيئًا جديدًا لم يتم‪ ،‬فقال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪:‬‬ ‫لأّ‬ ‫ل معروفين من صحابته لفتح الحصون‪ ،‬إ ّ‬ ‫ثّم بعث رجا ً‬
‫ل على يديه‪ ،‬ليس بفرار ـ أو كّرار غير‬ ‫ل ورسوُله‪،‬يفتح ا ّ‬ ‫ل ورسوَله ويحُبه ا ّ‬ ‫با ّ‬‫ل يح ّ‬
‫ن الراية غدًا رج ً‬
‫لعطي ّ‬
‫"َ‬
‫لمام علّيا )عليه‬ ‫فّرار ـ" )‪ (2‬فبات كّلواحد يتمنى أن يكون هو صاحب هذا النوط الخالد العظيم‪ .‬وعندما بلغ ا ِ‬
‫السلم( مقالة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( و هو في خيمته قال‪" :‬الّلهم ل معطي لما منعت ول مانع لما‬
‫ن به رمد‪ ،‬فُأتي به إلى النبي )صلى‬ ‫أعطيت"‪ .‬وفي الصباح طلب النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عليًا فقيل أ ّ‬
‫ال عليه وآله وسلم( فمرر يده الشريفة على عينيه ودعا له بخير فعوفي من ساعته‪،‬فدفع إليه اللواء ودعا له‬
‫لسلم‪ ،‬فإن أبوا و رفضوا‪،‬‬ ‫بالنصر‪ ،‬وأمره أن يبعث إلى اليهود قبل قتالهم‪ ،‬من يدعو رَوساء الحصون إلى ا ِ‬
‫لسلمية ليعيشوا تحت ظّلها بحرّية وأمان شريطة أن يدفعوا )‪ (3‬لجزية‪.‬‬ ‫أمرهم بتسليم أسلحتهم إلى الحكومة ا ِ‬
‫لمام علي )عليه السلم(‪:‬‬ ‫وإذا رفضوا قاتلهم‪ .‬ثّم قال ص ل ِ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.322|2:‬‬
‫لسماع‪.314|1:‬‬ ‫‪ . 2‬مجمع البيان ‪120|9:‬؛ السيرة الحلبية‪37|2:‬؛ السيرة النبوية‪334|2:‬؛ إمتاع ا َ‬
‫‪ . 3‬صحيح مسلم‪195|5:‬؛ صحيح البخاري‪.18|5 :‬‬
‫===============‬
‫) ‪( 182‬‬
‫ل واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم"‪(1).‬‬ ‫ل بك رج ً‬ ‫"لئن يهدي ا ّ‬
‫لمام علي )عليه السلم( إلى القلعتين المحصنتين سللم والوطيح‪ ،‬والتي عجز المسلمون وقواّدهم‬ ‫ومن ثّم توجه ا ِ‬
‫لرض جثة هامدة‬ ‫لمام )عليه السلم( و سقط على ا َ‬‫عن فتحهما‪،‬فخرج إليه الحارث‪ ،‬أخو مرحب‪ ،‬فقاتله ا ِ‬
‫لمام )عليه السلم( المشهورة‪ ،‬مّما أغضب مرحب أخيه فخرج غارقًا في الدروع‬ ‫بضربة من ضربات ا ِ‬
‫ق رأسه نصفين‪ ،‬فكانت ضربة قوية بحيث أفزعت من كان‬ ‫والسلح ليقاتل عليًا )عليه السلم( الذي تمكن من ش ّ‬
‫مع مرحب من أبطال اليهود‪ ،‬ففروا لجئين إلى الحصن‪ .‬وبقي آخرون منهم قاتلوا عليًا منازلة‪ ،‬فقضى عليهم‬
‫لمام )عليه‬‫ناِ‬ ‫لأّ‬
‫لمام )عليه السلم( ثّم لحق بالفارين إلى الحصن‪ ،‬فضربه أحدهم فطاح ترسه من يده‪ ،‬إ ّ‬ ‫اِ‬
‫السلم( تناول بابًا كان على الحصن فانتزعه من مكانه واستخدمه ترسًا يحمى نفسه حتى فرغ من القتال‪ .‬وبعد‬
‫ذلك حاول ثمانية من أبطال المسلمين‪ ،‬كان منهم أبو رافع مولى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يقلبوا ذلك‬
‫الباب أويحّركوه فلم يقدروا‪(2).‬‬
‫ونقل الشيخ المفيد في إرشاده بسند خاص عن أمير المَومنين علي "عليه السلم" بخصوص الباب‪ ،‬قوله‪" :‬لما‬
‫ت به في‬ ‫ل وضعتُ الباب على حصنهم طريقًا ثّم رمي ُ‬ ‫ت باب خيبر جعلته مجنًا لي فقاتلتهم به‪،‬فلّما أخزاهم ا ّ‬ ‫عالج ُ‬
‫خندقهم"‪(3).‬‬
‫لمام )عليه السلم( في فتح‬ ‫وأّما المَورخون فقد نقلوا قضايا عجيبة حول قلع باب خيبر و عن بطولت ا ِ‬
‫ن جميعها ل تتمشى و ل تتيسر مع القدرة البشرية المتعارفة‪ ،‬ول يمكن أن تصدر منها‪ ،‬حتى أ ّ‬
‫ن‬ ‫لأّ‬‫الحصن‪ ،‬إ ّ‬
‫لمام )عليه السلم(‬‫اِ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة الحلبية‪.37|2:‬‬
‫‪ . 2‬تاريخ الطبري‪94|2:‬؛السيرة النبوية‪349|2:‬؛ تاريخ الخميس‪.47|2:‬‬
‫‪ . 3‬إرشاد المفيد‪.62 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 183‬‬
‫ل شك في هذا بقوله‪" :‬ما قلعتها بقّوة بشرّية‪ ،‬ولكن قلعتها بقّوة إلهية‪ ،‬ونفسي بلقاء رّبها مطمئنة‬ ‫نفسه يرفع ك ّ‬
‫رضية"‪(1).‬‬
‫وهكذا انتهت الحرب بانتصار المسلمين‪ ،‬الذي كان وراءه ثلثة عوامل أساسية‪:‬‬
‫‪ .1‬التخطيط العسكري والحربي الدقيق‪.‬‬
‫‪ .2‬حصولهم على معلومات وافرة عن العدو وأسراره‪.‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( ‪.‬‬ ‫‪ .3‬بطولة ا ِ‬
‫فقد تمّكن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من تحييد قبيلة غطفان ومنعها من إمداد المساعدات لليهود‪ ،‬كما‬
‫لضافة‬‫لفراد‪ .‬با ِ‬
‫تعرف على أحوالهم وأوضاعهم في حصون خيبر‪ ،‬سواء العسكرية منها أو النفسية للمقاتلين وا َ‬
‫لقتلته‪ ،‬ول يثبت لي فارس إ ّ‬
‫ل‬ ‫ي أحد منهم إ ّ‬‫لمام علي )عليه السلم( الذي قال‪" :‬فلم يبرز إل ّ‬ ‫إلى بطولة ا ِ‬
‫طحنته‪،‬ثّم شددت عليهم شّدة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسددًا عليهم‪ ،‬فاقتلعت باب حصنهم‬
‫بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها وأسبي من أجد من نسائها‪ ،‬حتى افتتحتها‬
‫ل وحده"‪(2).‬‬ ‫لا ّ‬
‫وحدي ولم يكن لي فيها معاون إ ّ‬
‫ثّم أمر الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بأن تجمع الغنائم كّلها في مكان واحد‪ ،‬وأن ينادى‪:‬‬
‫لمانة‪ ،‬حتى‬ ‫لسلم يشّدد على أهمية ا َ‬ ‫أّدوا الخيط والمخيط‪ ،‬فإن الغلول عار وشنار ونار يوم القيامة‪ (3).‬فا ِ‬
‫ليمان‪،‬‬
‫لمانة مهما صغرت من علئم ا ِ‬ ‫اعتبر رّد ا َ‬
‫____________‬
‫لنوار‪.40|21:‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬
‫‪ . 2‬الخصال‪ 369:‬باب السبعة‪.‬‬
‫‪ . 3‬وسائل الشيعة‪ :‬باب جهاد النفس؛ المغازي‪.681|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 184‬‬
‫والخيانة من علئم النفاق‪.‬‬
‫وفي لحظات الفرح بالنتصار على اليهود‪ ،‬رجعت مجموعة من مسلمي الحبشة المهاجرين إليها بقيادة جعفر بن‬
‫أبي طالب‪ ،‬فاستقبله النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" وقّبل ما بين عينيه وقال‪ :‬ما أدري بأّيهما ُأسّر‪ ،‬بفتح خيبر‬
‫أم بقدوم جعفر‪ .‬ثّم إّنه )صلى ال عليه وآله وسلم( عّلمه الصلة المعروفة بصلة جعفر الطّيار‪(1).‬‬
‫ل هم قتلى‬ ‫جل التاريخ أسماء ‪ 93‬رج ً‬ ‫وبالنسبة لقتلى الجانبين‪ ،‬فقد بلغ عدد شهداء المسلمين ‪ 20‬فردًا‪ ،‬بينما س ّ‬
‫اليهود‪(2).‬‬
‫وبعد ذلك تّم الّتفاق بين الطرفين على‪:‬‬
‫‪ .1‬قبول النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لطلب اليهود بأن يسّكنهم في خيبر كما كان الوضع‪.‬‬
‫‪ .2‬ترك أراضيهم وبساتينهم لهم‪.‬‬
‫‪.3‬حصول المسلمين على نصف محاصيلها سنويًا‪.‬‬
‫فالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لم يجبرهم على شيء بل تركهم أحرارًا في ممارسة شعائرهم والبقاء على ما‬
‫لعندما تحولت إلى بَورة خطرة للمَوامرات والكيد‬ ‫كانوا يعتقدونه من ُأصول دينهم‪ ،‬إذ أّنه لم يحارب أهل خيبر إ ّ‬
‫لسلمية الناشئة‪ ،‬مّما‬ ‫لسلم والمسلمين‪،‬فقد أمّدوا الكفار والمشركين بكّلما يحتاجون للقضاء على الحكومة ا ِ‬ ‫لِ‬
‫اضطر معه النبي ص إلى إعلن الحرب عليهم وقتالهم وتجريدهم من السلح ليعيشوا تحت ظل الدولة‬
‫لعداء‪ ،‬وهو ما يعني حماية‬ ‫لسلمية عنهم وحمايتهم من ا َ‬ ‫لسلمية‪ ،‬ويدفعوا الجزية لقاء دفاع الحكومة ا ِ‬ ‫اِ‬
‫أنفسهم وأّنأموالهم مَومنة لهم من قبل المسلمين‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬فروع الكافي‪129|1 :‬؛ الخصال‪82|2:‬؛ إمتاع السماع‪.325|1:‬‬
‫لنوار‪.32|21:‬‬
‫‪ . 2‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 185‬‬
‫وعند جمع الغنائم حصل المسلمون على قطعة من التوراة طلب اليهود إعادتها‪ ،‬فأمر النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫لخرى‪.‬‬ ‫لديان ا َُ‬
‫وسلم( بإعادتها إليهم‪ ،‬مّما يكشف عن احترام النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( للشرائع وا َ‬
‫وقد توجه النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بعد خيبر إلى وادي القرى التي شكلت مركزًا آخر لليهود‪،‬ففتحها‬
‫ن الحجاز طُهرت من فتنة اليهود‪،‬وجّردوا من‬ ‫وعقد صلحًا مع أهلها على غرار معاهدة خيبر‪ .‬وبذا فإ ّ‬
‫أسلحتهم‪،‬ووضعوا تحت حماية المسلمين ومراقبتهم‪(1).‬‬
‫طط بعد فترة من الهدوء والستقرار‪ ،‬للتخلص من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فقّدمت‬ ‫ن بعضهم خ ّ‬ ‫لأّ‬
‫إّ‬
‫ت الحارث شاة مشوية سّممت كتفها التي يحبها النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فأّثربه السم بعد ذلك‬ ‫زينب بن ُ‬
‫وتوفي ص من أثره‪ .‬ولم ينتقم منها النبيص بل عفا عنها‪ ،‬فالنبي ص لم يكن كبعض القادة والزعماء الذين‬
‫لشد أنواع العذاب‬ ‫لون السجون بهم‪ ،‬أو يخضعونهم َ‬ ‫ن أّنهم قصدوا قتله‪،‬أو يم َ‬
‫لرض بدماء من ظ ّ‬ ‫يصبغون ا َ‬
‫والتعذيب الجسدي والنفسي‪.‬‬

‫‪ .3‬قصة فدك‬

‫وتبعد فدك عن المدينة بما يقرب من ‪ 140‬كم‪ ،‬و هي منطقة زراعية خصبة‪ ،‬اعتبرت نقطة ارتكاز هامة لليهود‬
‫لمان‪ ،‬حيث تعهد بأن‬‫لسلمية بالسلم وا َ‬
‫بعد خيبر‪ .‬وقد تمّيزت العلقات بين رئيسها يوشع بن نون و القيادة ا ِ‬
‫يسلم نصف‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬الكامل في التاريخ‪.150|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 186‬‬
‫لسلمية‪ ،‬على أل‬ ‫محاصيلها سنويًا إلى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ليعيشوا تحت راية الحكومة ا ِ‬
‫لمن‬‫لسلمية في مقابل ذلك بتوفير ا َ‬ ‫لمن بين الطرفين‪ ،‬وتتعهد الحكومة ا ِ‬
‫يقوموا بأي أمر يعكر صفو السلم و ا َ‬
‫في المنطقة كلها‪(1).‬‬
‫لراضي التي يسيطر عليها المسلمون بالحرب والقتال‪ ،‬تعود ملكيتها إلى عاّمة المسلمين‬ ‫ناَ‬ ‫ومن الجدير بالذكر أ ّ‬
‫لراضي التي ل يستخدمون القّوة في احتللها‪ ،‬فتصبح ملكًا للرسول "صلى ال‬ ‫لّمة‪ ،‬أّما ا َ‬
‫لعلى ل َُ‬ ‫بإدارة القائد ا َ‬
‫لساس وهب رسول ا ّ‬
‫ل‬ ‫لمام من بعده يتصرف فيها كما يشاء‪ ،‬فيهبها أو يَوجرها‪،‬وعلى هذا ا َ‬ ‫عليه وآله وسلم" وا ِ‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( فدكًا لبنته الطاهرة فاطمة الزهراء)عليها السلم( ‪ ،‬حيث ابتغى من وراء ذلك‬
‫تحقيق أمرين‪:‬‬
‫لمام في أداء واجباته ومتطلبات الناس عندما يدير الحكم من بعده‪ ،‬إذ أّنه سيكون في حاجة‬ ‫‪ .1‬أن يستفيد منها ا ِ‬
‫إلى ميزانية كبيرة‪.‬‬
‫‪ .2‬وأن تعيش ُأسرة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بعده بصورة تليق بمقامه )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫وشرفه ومكانته السامية‪.‬‬
‫وفي ذلك يذهب معظم العلماء والمفسرين والمحّدثين الشيعة وبعض علماء السّنة‪ ،‬أّنه عند نزول قوله تعالى‪:‬‬
‫سِبيل( )‪ (2‬أوصى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فدكًا إلى ابنته‬ ‫ن ال ّ‬
‫ن واب َ‬
‫سكي َ‬
‫حّقُه َوالِم ْ‬
‫ت َذا الُقربى َ‬
‫)َوآ ِ‬
‫الزهراء"عليها السلم" ‪ .‬ولذلك فقد أعاد المأمون العباسي بعد فترة من هذا الوقت‪ ،‬فدكًا إلى أبناء الزهراء‬
‫لمام عليًا )عليه السلم( قد صّرح بملكيته لفدك في‬ ‫ناِ‬‫)عليها السلم( بعد توضيح شأن نزول هذه الية له‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ل ما أظلته السماء‬ ‫إحدى رسائله إلى واليه على البصرة‪" :‬عثمان بن حنيف"‪":‬بلى كانت في أيدينا َفَدك من ك ّ‬
‫ل"‪(3).‬‬ ‫س قوم آخرين ونعم الحكم ا ّ‬ ‫س قوم‪ ،‬و سخت عنها نفو ُ‬ ‫حت عليها نفو ُ‬ ‫فش ّ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪353|2:‬؛ إمتاع السماع‪331|1:‬؛ فتوح البلدان‪.42:‬‬
‫لسراء‪.26:‬‬ ‫‪.2‬اِ‬
‫‪ . 3‬نهج البلغة‪ :‬الكتاب ‪.45‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 187‬‬
‫فدك بعد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬

‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( من ملكها الخاص بعد وفاة أبيها )صلى ال عليه وآله‬ ‫حرمت ابنة رسول ا ّ‬ ‫عندما ُ‬
‫وسلم( عمدت إلى إثبات حّقها و استرداد ملكها من جهاز الدولة‪ ،‬عن طريق القانون‪،‬فأحضرت الدلئل بالرغم‬
‫ل على ملكيته ذلك الشيء‪ .‬وكان‬ ‫من أّنه ل ُيطلب من فرد له يد على شيء ـ أي يكون تحت تصرفه ـ أن يقيم دلي ً‬
‫لمام علي )عليه السلم( و ُأّم أيمن التي شهد لها النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بأّنها من نساء‬ ‫شاهدها‪ :‬ا ِ‬
‫الجنة )‪ (1‬إضافة إلى رباح الذي كان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قد أعتقه حسب رواية البلذري)‪ (2‬إ ّ‬
‫ل‬
‫لرض إلى صاحبتها‪.‬‬ ‫ل ذلك لم ينفع في إرجاع ا َ‬ ‫نكّ‬ ‫أّ‬
‫لموي وزع معاوية بن ابي سفيان فدكًا بين ثلثة‪ :‬مروان بن الحكم ‪ ،‬عمرو بن عثمان‪ ،‬و يزيد‪.‬‬ ‫وفي العصر ا َ‬
‫وعندما حكم مروان استولى عليها تمامًا ووهبها لبنه عبد العزيز الذي سّلمها لولده عمر‪ ،‬الذي أزال أّول بدعة‬
‫وهي إعادة فدك إلى بني فاطمة)عليها السلم( فقد كان الخليفة المعتدل‪ ،‬ولكن حّكام بني ُأمّية تداولوها ثانية حتى‬
‫نهاية دولتهم‪.‬‬
‫ل بن الحسن ابن الحسن‪ ،‬ثّم قبضها أبو جعفر‬ ‫أّما في العصر العباسي فقد رّدها السفاح أبو العباس إلى عبد ا ّ‬
‫المنصور من بني الحسن‪ ،‬ثّم رّدها المهدي ابنه إليهم‪ ،‬حتى جاء المأمون فرّدها على أصحابها الشرعيين بصورة‬
‫رسمية‪.‬‬
‫ل سياسيًا بجانب الستفادة القتصادية و اضطرب أمرها بين السلب‬ ‫لمويون والعباسيون فدكًا استغل ً‬ ‫وقد استغل ا َ‬
‫والرّد‪.‬‬

‫____________‬
‫لصابة‪.432|4:‬‬ ‫‪.1‬اِ‬
‫‪ . 2‬فتوح البلدان‪.44 :‬‬

‫) ‪( 188‬‬
‫‪ .4‬عمرة القضاء)‪(1‬‬
‫بعد مضي عام و احد على توقيع معاهدة صلح الحديبية‪ ،‬وعلى ضوء المادة التي تسمح للمسلمين بأداء العمرة‬
‫صة أّنهم كانوا قد تركوها سبعة أعوام بعدوا فيها عن وطنهم‪.‬‬‫في العام التالي‪ ،‬فقد قرروا التوجه إلى مّكة‪ ،‬وخا ّ‬
‫فاستعد ألفان للنضمام إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في أداء العمرة‪ ،‬كان من ضمنهم شخصيات بارزة‬
‫لثنين ‪ 6‬من شهر ذي‬ ‫ملزمة له )صلى ال عليه وآله وسلم( طوال فترة وجوده في المدينة‪ .‬وكان ذلك يوم ا ِ‬
‫لفراد مسّلحين وضعهم‬ ‫ى أعّد مائتين من ا َ‬‫لي طار َ‬ ‫ن النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" تحسبًا َ‬ ‫القعدة‪ .‬كما أ ّ‬
‫خارج مكة على مقربة من الحرم للتدخل في أية مشكلة تصدر حيالهم‪.‬‬
‫لهالي منها إلى رَووس الجبال وقالوا‪ :‬ل ننظر إلى محمد ول إلى أصحابه‪ ،‬فكانوا يراقبون‬ ‫وفي مكة خرج ا َ‬
‫المشهد من بعيد‪.‬‬
‫ل سكان مكة وسحرت قلوبهم وجلبت عطفهم على المسلمين‪،‬مثلما أرعب‬ ‫وقد بهرت أصوات المسلمين مكّبرين ك ّ‬
‫اّتحادهم ونظامهم والتفافهم حول النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أفئدة المشركين‪.‬‬
‫ل بن رواحة أن يرّدد هذا الدعاء‬‫وطاف الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بالبيت على راحلته‪،‬وأمر عبد ا ّ‬
‫لحزاب وحده"‬ ‫ل وحده وحده‪ ،‬صدق وعده‪ ،‬ونصر عبده‪،‬وأعّز جنده‪ ،‬وهزم ا َ‬ ‫لا ّ‬
‫بلحن ونغم خاص‪" :‬لإله إ ّ‬
‫ل أن يَوذن على ظهر الكعبة لصلة الظهر‪،‬‬ ‫فرّددها المسلمون وراءه‪ .‬ثّم أمر )صلى ال عليه وآله وسلم( بل ً‬
‫لذان‪ ،‬وأحرجتهم مضامينه التي كانت ضّد ما يحملونه من معتقدات باطلة موروثة‪.‬‬ ‫فانزعجوا بسبب ا َ‬

‫____________‬
‫ل عن العمرة التي منع النبي والمسلمون عنها في العام السابق لها‪.‬‬
‫لّنها كانت بد ً‬
‫‪ . 1‬سميت عمرة القضاء َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 189‬‬
‫وبعد أداء المناسك‪ ،‬ذهب المهاجرون إلى منازلهم التي تركوها منذ سبعة أعوام فجّددوا اللقاء بأقربائهم‪.‬‬
‫ن هذه الرحلة‬‫ي فيهم‪ ،‬إذ أ ّ‬ ‫ن تأثير أوضاع المسلمين في نفوس أهل مكة‪ ،‬وتخّوفهم من إحداث إنقلب روح ّ‬ ‫لأ ّ‬
‫إّ‬
‫لسلم‪ ،‬مّما دعا إلى أن يطلب‬ ‫الدينية‪ ،‬اعتبرت دعائية وإعلمية‪ ،‬أّثرت في نفوس عدد من أهل مّكة فدخلوا ا ِ‬
‫زعماء قريش من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( مغادرة مكة بعد انقضاء المّدة المحددة و المقررة بينهم‪" :‬إّنه‬
‫قد انقضى أجلك فاخرج عّنا"‪.‬‬
‫وممن تأثر بالوضع‪ ،‬ميمونة ُأخت زوجة العباس ـ ُأّم الفضل ـ لما شهدت من مشاعر المسلمين‪ ،‬فطلبت الزواج‬
‫ل أّنهم لم يسمحوا للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫من النبي ص الذي وافقها‪ ،‬فقوى بذلك علقاته مع قريش‪ ،‬إ ّ‬
‫ضر زوجته بعد ذلك‪.‬‬ ‫بالحتفال بمناسبة الزواج في مّكة‪ ،‬فطلب )صلى ال عليه وآله وسلم( من أبي رافع أن ُيح ِ‬
‫وبذا فقد تحّققت رَويا النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قبل عام من هذا‪ ،‬في أّنه دخل البيت وحلق رأسه‪ ،‬ونزلت‬
‫آية الفتح التي تناولت تحقيق هذا الوعد‪:‬‬
‫نل‬ ‫صري َ‬
‫ن رُءوسُكْم َوُمَق ّ‬‫حّلقي َ‬
‫ل آِمنيَنُم َ‬
‫ن شاَء ا ّ‬
‫حراَم ِإ ْ‬
‫جَد ال َ‬
‫سِ‬
‫ن الَم ْ‬‫خُل ّ‬
‫ق َلتد ُ‬
‫حّ‬ ‫سوَلُه الُرَويا ِبال َ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫قا ّ‬‫صَد َ‬‫)َلَقْد َ‬
‫ك َفْتحًا َقِريبًا( ‪(1).‬‬
‫ن ذِل َ‬‫ن ُدو ِ‬‫ل ِم ْ‬
‫جَع َ‬‫َتخاُفون َفَعلَم ما َلْم َتْعَلُموا َف َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬الفتح‪.27:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 190‬‬
‫أحداث السنة الثامنة من الهجرة‬

‫‪ .1‬معركة مَوتة‬
‫لخرى‪،‬‬ ‫لطراف المعادية ا َُ‬ ‫لمن في الحجاز بين المسلمين وقريش وا َ‬ ‫لحداث السابقة‪ ،‬واستقرار ا َ‬ ‫بعد وقوع ا َ‬
‫لكرم )صلى ال عليه وآله وسلم( في أن يركز في دعوته على‬ ‫وضعف نفوذ اليهود وسطوتهم‪ ،‬فّكر النبي ا َ‬
‫لزدي" يحمل كتابًا إلى أمير الغساسنة‪:‬‬ ‫سكان مناطق الحدود عند الشام‪ ،‬فوجه لهذا الغرض "حارث بن عمير ا َ‬
‫الحارث بن أبي شمر الغساني‪ ،‬الذي حكم بصرى‪ ،‬فقبض على سفير النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في مَوتة‬
‫لعراف الدولية التي تقضي باحترام السفراء وحصانتهم‪ ،‬مّما أغضب‬ ‫لاَ‬ ‫وقتله مخالفًا بذلك ك ّ‬
‫الرسولوالمسلمين‪،‬فقرر القتصاص من قاتل سفيره‪.‬‬
‫لّول من هذه السنة ‪15‬‬ ‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كان قد بعث في شهر ربيع ا َ‬ ‫لضافة إلى ذلك‪ ،‬فإ ّ‬ ‫وبا ِ‬
‫لهالي‬
‫ناَ‬ ‫لأّ‬‫لسلم‪ ،‬إ ّ‬ ‫ل إلى منطقة ذات أطلح من أرض الشام خلف وادي القرى‪ ،‬لدعوة الناس إلى ا ِ‬ ‫رج ً‬
‫لجريحا منهم تمكن من الوصول إلى النبي )صلى ال‬ ‫لسر‪ ،‬إ ّ‬‫قتلوهم عن آخرهم مَوثرين عز الشهادة على ذل ا َ‬
‫عليه وآله وسلم( ليخبره بالحادث‪.‬‬
‫ي )صلى ال عليه وآله وسلم( بالخروج إلى‬ ‫وقد أثر هذان الحادثان على الوضع السياسي بين الجانبين‪ ،‬فأمر النب ّ‬
‫الجهاد في شهر جمادى‪ ،‬ووجه جيشًا قوامه ‪ 3‬آلف مقاتل لتأديب هَولء المخربين والغدرة‪ ،‬وعين القائد عليهم‬
‫ل بن رواحة‪ ،‬فإن اصيب فليرتضي‬ ‫"جعفر بن أبي طالب" فإن قتل فزيد ابن حارثة‪ ،‬فإن أصيب‪ ،‬فعبد ا ّ‬
‫ل عليهم‪.‬‬‫المسلمون بينهم رج ً‬
‫ي )صلى ال عليه وآله وسلم( بنفسه مع جماعة من أصحابه‬ ‫وقد خرج النب ّ‬
‫===============‬
‫) ‪( 191‬‬
‫ل عنكم وردكم سالمين غانمين صالحين"‪.‬‬ ‫ل‪" :‬دفع ا ّ‬‫مشّيعا لهم ووّدعهم قائ ً‬
‫ل‪ ،‬فل مجال لتغيير الوضع الذي ذهب إليه‬ ‫لّول لهذا الجيش كان جعفرًا ثّمزيدا فعبد ا ّ‬ ‫ن القائد ا َ‬
‫ومن المَوكد أ ّ‬
‫بعض الرواة والمحّدثين‪ ،‬الذين اختلقوا ترتيبًا آخر‪ ،‬بوضع زيد كقائد ثّم جعفر كمعاون له ثّم ابن رواحة‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫ن‬
‫وضع هذا الترتيب بهذا الشكل ُأقّر لدوافع سياسية وأغراض ُأخرى ل مجال لذكرها هنا‪،‬وتبعهم في ذلك كتاب‬
‫السيرة دون تمحيص وتحقيق‪(1).‬‬
‫ليقاف تقّدم المسلمين‪ ،‬كما أعّد القيصر ‪ 100‬ألف آخرين في‬ ‫وفي الشام أعّد الحاكم الحارث ‪ 100‬ألف فارس ِ‬
‫البلقاء كقّوة احتياطّية تتدخل عند اللزوم‪(2).‬‬
‫لسلمي والروماني‪ ،‬سواء في نوعية المعدات الحربية‬ ‫ومن الواضح أّنه لم يكن هناك أّيتكافو بين الجيشين ا ِ‬
‫لرض وساحة المعركة الغريبة عن المسلمين‪ ،‬وقيامهم بدور‬ ‫لجهزة القتالية أو وسائل النقل أو عدد الجنود‪ ،‬وا َ‬ ‫وا َ‬
‫الهجوم ل الدفاع الذي اّتخذه الروم ونفذوه في أرضهم وبلدهم‪.‬‬
‫وقد تواجه الجيشان في منطقة مشارف‪ ،‬ولكن المسلمين تراجعوا نحو مَوتة‪ ،‬فبدأت المبارزات الفردية أّول‪ ،‬فُقتل‬
‫جعفر بعد مبارزة شجاعة‪ ،‬ثّم ُقتل زيد بن حارثة‪ ،‬وأيضًا ابن رواحة‪ ،‬فاختار الجنود خالد بن الوليد قائدًا‪ ،‬فعمد‬
‫إلى استخدام تكتيك عسكري لم يعرف من قبل‪ ،‬إذ أمر بالعسكر أن يحدث بعض التغييرات في صفوفه بالليل‬
‫دون صوت‪ ،‬ويذهب عدد منهم إلى مكان بعيد ثّم يلتحقوا بالمسلمين عند الصباح مكبرين‪ ،‬فيظن العدو بوصول‬
‫إمدادات عسكرية بشرية جديدة إلى جانب المسلمين‪ .‬ولذا تمكن المسلمون من مواجهتهم‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.380|2:‬‬
‫‪ . 2‬المغازي‪760|2:‬؛السيرة النبوية‪.375|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 192‬‬
‫جوا‬
‫لسلمي مستفيدًا من هذا التكتيك وَن َ‬ ‫لحوال‪ ،‬فرجع الجيش ا ِ‬ ‫وقتالهم‪ ،‬وقتل أعداد كبيرة منهم‪ ،‬فهدأت ا َ‬
‫بأنفسهم من خطر فناء ساحق وأكيد‪(1).‬‬
‫ن المسلمين في المدينة رفضوا منطق النسحاب من المعركة وفضلوا الستشهاد في ساحة المعارك على‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫ل أفضل من النسحاب‪.‬‬ ‫النسحاب‪ ،‬فهم كانوا يعدون الموت والشهادة في سبيل ا ّ‬
‫وقد تأثر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لشهادة جعفر وبكى بشدة‪ ،‬فكان كّلما تذكر جعفرًا وزيدًا بكى‪(2).‬‬

‫‪ .2‬غزوة ذات السلسل‬

‫طلع المبكر على أسرار العدو العسكرية‪ ،‬ومعرفة حجم طاقاته ومبلغ استعداداته واكتشاف خططه‪ ،‬يعد‬ ‫ن ال ّ‬
‫إّ‬
‫من العوامل الجوهرية المَوثرة في النتصار عليه‪ .‬والنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( هو أّول من ابتكر في‬
‫لسلم جهازًا خاصًا بهذا العمل في صورة منظمة‪ ،‬وتبعه الخلفاء من بعده‪ ،‬حين استعانوا بجواسيس‬ ‫تاريخ ا ِ‬
‫لدارية‪.‬‬
‫وعيون للعمل في المجالت العسكرية وا ِ‬
‫ى نار فتنة باستخدام معلومات‬‫واستطاع الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في غزوة ذات السلسل أن يطف َ‬
‫دقيقة علمها عن العدو‪ ،‬قبل أن يخسر الكثير بغير ذلك‪ .‬فقد علم من عناصر المخابرات الخاصة به )صلى ال‬
‫جه نحو المدينة للقضاء‬
‫ن أعدادًا كبيرة متحالفة تجمعوا في منطقة وادي اليابس هدفوا إلى التو ّ‬
‫عليه وآله وسلم( أ ّ‬
‫لمام علي )عليه السلم( خاصة‪ .‬فأمر‬ ‫لسلم والمسلمين‪ ،‬وقتل النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" وا ِ‬ ‫على قّوة ا ِ‬
‫الرسول بنداء "الصلة جامعة" أي دعوة الناس إلى الجتماع به )صلى ال عليه وآله وسلم( فقال "صلى ال‬
‫عليه وآله‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪.381|2:‬‬
‫لنوار‪54|21:‬؛ المغازي‪.766|2:‬‬ ‫‪ . 2‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 193‬‬
‫ل وعدوكم قد عمل على أن يبّيتكم فمن لهم؟"‪.‬‬ ‫وسلم" ‪" :‬يا أّيها الناس‪ ،‬إّنهذا هو عدو ا ّ‬
‫لسلمية‪ ،‬فقرر أبو‬ ‫فخرجت جماعة بقيادة أبي بكر ساروا مسافة حتى واجهوا قبيلة بني سليم الذين قاوموا القّوة ا ِ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لم يقبل بهذا الوضع‪ ،‬فانزعج‬ ‫لأّ‬‫بكر النسحاب والرجوع من حيث أتى‪ .‬إ ّ‬
‫لعودة الجيش بهذه الصورة المهينة‪ ،‬فأمر عمر بن الخطاب بتوّلي القيادة‪ ،‬ولكّنه لم يحارب أيضًا لقوة العدو‬
‫فانسحب أيضًا إلى المدينة‪ .‬وطلب عمرو بن العاص من النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" أن يبعثه إلى هَولء‬
‫ن بني سليم قاتلوه فهزموه وقتلوا عددًا من جماعته‪ ،‬فلم ييأس النبي‬ ‫لأّ‬‫لعداء على أساس أّنه من دهاة العرب‪ ،‬إ ّ‬ ‫اَ‬
‫لمام )عليه‬‫لمام عليًا )عليه السلم( قائدها‪ ،‬فاستعد ا ِ‬ ‫"صلى ال عليه وآله وسلم" ونظم جماعة جديدة واختار ا ِ‬
‫السلم( وتعصب بعصابة كان يشدها على جبينه في اللحظات الصعبة‪ ،‬ولبس بردين يمانيين‪ ،‬وحمل رمحًا‬
‫هنديًا‪ ،‬ثّم توجه نحو الهدف سالكًا طريقًا غير معروفة ول مطروقة حتى يعّمي بذلك على العدو‪ ،‬فتمكن من‬
‫لسباب التالية‪:‬‬
‫النتصار عليهم وذلك ل َ‬
‫ل وكمن‬ ‫‪ .1‬لم يشعر العدو بتحركاته‪ ،‬وذلك لتغييره مسيره‪ ،‬واستخدامه ُأسلوب الكتمان في ذلك ‪ ،‬إذ سار لي ً‬
‫نهارًا واستراح خلله‪.‬‬
‫‪ .2‬كما أّنه فاجأ العدو حين صعد بجنوده إلى قمة الجبال ثّم انحدر بهم بسرعة فائقة إلى الوادي مركز إقامة بني‬
‫سليم‪ ،‬فأحاطوا بهم وهم نيام‪ ،‬وحاصروهم وأسروا منهم‪ ،‬وفّر آخرون‪.‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( وبسالته النادرة أرعبت العدو‪ ،‬وأفقدته القدرة على المواجهة‬ ‫ن شجاعة ا ِ‬‫‪ .3‬ثّم أ ّ‬
‫والمقاومة‪ ،‬حيث فّروا من أمامه تاركين الغنائم وراءهم‪.‬‬
‫ل ورسوله‬ ‫نا ّ‬‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( استقبله بحفاوة وقال له عندما نزل من فرسه‪":‬إركب فإ ّ‬ ‫وبذا فإ ّ‬
‫راضيان عنك"‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 194‬‬
‫لهمية بحيث نزلت فيها سورة العاديات كاملة‪َ):‬والعاِديا ِ‬
‫ت‬ ‫لمام )عليه السلم( وشجاعته من ا َ‬ ‫وكانت تضحية ا ِ‬
‫جْمعًا( ‪(1).‬‬
‫ن بِه َ‬
‫طَ‬‫س ْ‬
‫ن ِبِه َنْقعًا* َفو َ‬
‫صْبحًا* َفَأَثْر َ‬
‫ت ُ‬
‫ت َقدحًا* َفالُمِغيرا ِ‬
‫ضْبحًا* َفالُموريا ِ‬
‫َ‬
‫وهناك عدد من المَوّرخين كالطبري‪ ،‬نقلوا هذه الواقعة بنحو آخر مختلف عّما ذكرناه‪ ،‬فل يبعد أن تكون ذات‬
‫لسباب‬ ‫لخرى َ‬ ‫ل من الفريقين ـ السّنة والشيعة ـ واحدة منها وأعرض عن ا َُ‬ ‫السلسل اسمًا لغزوتين‪ ،‬وقد نقل ك ّ‬
‫صة‪(2).‬‬ ‫خا ّ‬

‫‪ .3‬فتح مّكة‬

‫لسلحة‪ ،‬وهي من كنانة المتحالفة معها‪،‬‬ ‫أخّلت قريش باتفاقية الحديبية ونقضتها‪ ،‬حينما زودت قبيلة بني بكر با َ‬
‫ل ‪ ،‬يقتلون فريقًا ويأسرون آخرين‪.‬‬ ‫وحرضتهم على أن يبيتوا لخزاعة المتحالفين مع المسلمين فيغيروا عليهم لي ً‬
‫و ُأبلغ النبيبما حدث لخزاعة على أيدي بني بكر‪ ،‬فوعدهم النصرة‪ .‬ولكن قريشًا ندمت على فعلتها من تأليب بني‬
‫بكر على خزاعة‪ ،‬واشتراكهم معها في العدوان‪ ،‬فأرسلوا زعيمهم أبا سفيان إلى المدينة لتطييب خاطر النبي‬
‫ل أّنه عندما وصل إلى بيت‬ ‫"صلى ال عليه وآله وسلم" وتسكين غضبه وتأكيد احترام قريش لمعاهدة الصلح‪ ،‬إ ّ‬
‫ابنته ُأّم حبيبة زوجة الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬لم يجد التقدير والحترام المطلوب لديها على أساس‬
‫أّنه مشرك نجس‪ ،‬فتوجه إلى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( وكّلمه حول إمكانية تجديد العهد‪ ،‬فلم يرد عليه‬
‫وهو ما يعني عدم اعتنائه به‪ ،‬فسار إلى بعض أصحابه يطلب منهم أن يشفعوا له عند الرسول )صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم( وإقناعه بتجديد ميثاق الصلح‪ ،‬ولكن دون‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬العاديات‪ 1:‬ـ ‪.5‬‬
‫‪ . 2‬تاريخ الطبري‪315|2:‬؛ السيرة الحلبية‪190|3:‬؛ المغازي‪.769|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 195‬‬
‫لمام )عليه‬‫لمام علي )عليه السلم( والسيدة فاطمة الزهراء"عليها السلم" فرد عليه ا ِ‬
‫جدوى‪ .‬فذهب إلى منزل ا ِ‬
‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" على أمر ما نستطيع أن نكّلمه"‪ .‬فالتفت إلى‬ ‫ل لقد عزم رسول ا ّ‬
‫السلم( ‪" :‬وا ّ‬
‫السيدة الزهراء "عليها السلم" وهو يطلب شفاعتها أو شفاعة الحسنين لدى النبي ص‪ :‬يا ابنة محمد‪ ،‬هل لك أن‬
‫تأمري و ُبَنّيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ فقالت)عليها السلم( وهي تعلم بنواياه‬
‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" وإّنهما صبيان وليس مثلهما يجير"‪ (1).‬فطلب‬ ‫الشريرة‪ ":‬ذلك إلى رسول ا ّ‬
‫لمام )عليه السلم( فقال له‪" :‬ما أجد لك شيئًا أمثل من أن تقوم فتجير بين الناس ـ أي تعطي‬‫النصيحة من ا ِ‬
‫لمان للمسلمين ـ ثّم إلحق بأرضك"‪ .‬فأّدى ما طلبه منه‪ ،‬ورجع إلى مّكة وأخبر سادة قريش بما صنع‪ ،‬فاجتمعوا‬ ‫اَ‬
‫ى غضب المسلمين ويثني الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( عن عزمه‪(2).‬‬ ‫للتشاور فيما يطف َ‬
‫لكرم )صلى ال عليه وآله وسلم( فقد أعلن التعبئة العامة بهدف فتح مكة‪ ،‬وتحطيم أقوى قلعة من‬ ‫ياَ‬ ‫أّما النب ّ‬
‫لسلمية‬‫قلع الوثنية‪ ،‬وإزالة حكومة قريش الظالمة‪ ،‬التي كانت أقوى الموانع والعقبات في طريق تقدم الدعوة ا ِ‬
‫لسلم‪.‬‬ ‫وانتشار ا ِ‬
‫ل سبحانه و تعالى في دعائه أن يعمي عيون قريش وجواسيسهم كيل يعلموا بحركة المسلمين‬ ‫وطلب من ا ّ‬
‫ل فجأة"‪(3).‬‬
‫لبغتة ول يسمعون بي إ ّ‬
‫خذ على قريش أبصارهم فل يروني إ ّ‬ ‫وهدفهم‪" :‬الّلهم ُ‬
‫واجتمع في مطلع شهر رمضان الكثيرون‪ ،‬فقد شاركت قبائل وطوائف مختلفة في هذا الفتح العظيم‪ ،‬اشتهر‬
‫منهم‪:‬‬
‫ـ المهاجرون‪ 3+700 :‬ألوية إضافة إلى ‪ 300‬من الخيل‪.‬‬

‫____________‬
‫لسماع‪.359|1:‬‬ ‫‪ . 1‬إمتاع ا َ‬
‫لنوار‪.102|21 :‬‬
‫‪ . 2‬المغازي‪780|2:‬؛ السيرة النبوية‪389|2:‬؛ بحار ا َ‬
‫‪ . 3‬المغازي‪.796|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 196‬‬
‫لنصار‪+4000 :‬ألوية كثيرة إضافة إلى ‪ 700‬من الخيل‪.‬‬ ‫ـاَ‬
‫ـ قبيلة مزينة‪ :‬ألف مع مائة فرس‪ ،‬ولواءان‪.‬‬
‫ـ قبيلة جهينة‪ 800 :‬مع خمسين فرسًا و ‪ 4‬ألوية‪.‬‬
‫ـ قبيلة بني كعب‪ 500 :‬مع ثلثة ألوية‪.‬‬
‫لضافة إلى اشتراك عدد آخر من قبائل غفار وأشجع وبني سليم‪(1).‬‬ ‫هذا با ِ‬
‫ن جميع من شهد فتح مّكة من المسلمين بلغوا عشرة آلف‪ ،‬من بني سليم ‪ ،700‬ويقول‬ ‫ويذكر ابن هشام‪ ،‬أ ّ‬
‫بعضهم ألف‪ ،‬ومن بني غفار ‪ ،400‬ومن أسلم ‪ ،400‬ومن مزينة ألف و ‪ 300‬نفر‪ ،‬وسائرهم من قريش‬
‫لنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد‪(2).‬‬ ‫وا َ‬
‫ن أخبار هذه الحملة الكبيرة وصلت إلى قريش‪ ،‬فقد أخبر جبرائيل )عليه السلم( النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫ن امرأة تدعى "سارة" وهي‬ ‫ن أحد المسلمين أرسل كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه بتوجههم إلى مكة‪ ،‬وأ ّ‬ ‫وسلم( أ ّ‬
‫مغنية‪ ،‬تريد توصيل الكتاب لهم لقاء حصولها على مال‪ .‬وقد ساعد النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" و‬
‫المسلمون هذه المغنية من قبل‪ ،‬عندما تركت عملها في مكة واتجهت إلى المدينة‪ ،‬ورغم ذلك فإّنها خانتهم بعملها‬
‫لمام علي )عليه السلم(‬ ‫جاسوسة تعمل لصالح قريش‪ .‬مّما جعل النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يطلب من ا ِ‬
‫والمقداد و الزبير أن يلحقوا بها ويدركوها ويصادروا منها الكتاب‪ .‬وتمّكنوا من اللحاق بها عند روضة الخاخ ـ‬
‫ن لنا هذا الكتاب أو‬
‫لمام )عليه السلم( ‪ :‬لتخرج ّ‬‫ل أّنها أنكرت وجود كتاب لديها في رحلها‪ ،‬فهددها ا ِ‬ ‫الخليقة ـ إ ّ‬
‫لنكشفّنك‪ .‬فاستخرجت الكتاب‪(3).‬‬
‫____________‬
‫لسماع‪.364|1:‬‬ ‫‪ . 1‬المغازي‪800|2:‬؛ إمتاع ا ِ‬
‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪.63|4:‬‬
‫‪ . 3‬بّين القرآن الكريم ذلك في عّدة آيات من سورة الممتحنة‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 197‬‬
‫وهكذا أعد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( للحركة الكبرى‪ ،‬دون أن يعلم أحد وجهته على وجه التحديد‪ ،‬وكان‬
‫ذلك في يوم ‪ 10‬رمضان‪ .‬وفي الطريق أفطر على الماء وأمر جنده بالقتداء به‪" :‬إّنكم مصبحوا عدوكم‪،‬والفطر‬
‫ن الجهاد أفضل في حالة الصوم‪ ،‬فغضب النبي‬ ‫لفطار ظنًا منهم أ ّ‬‫ن البعض منهم أمسك عن ا ِ‬ ‫لأّ‬
‫أقوى لكم"‪ .‬إ ّ‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( لذلك و قال عنهم‪ُ" :‬أولئك العصاة"‪(1).‬‬
‫وفي هذا الوقت‪ ،‬خرج العباس بن عبد المطلب من مكة متوجهًا إلى المدينة ليلتحق بالرسول )صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم( خلل الطريق‪ ،‬فهو سيَودي دورًا بارزًا هامًا في عملية الفتح العظيم‪ .‬كما التحق به عدّوان له أحجما‬
‫ل بن أبي ُأمية‬
‫ل والستجابة لدعوته و هما‪ :‬أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد ا ّ‬ ‫ليمان برسول ا ّ‬‫عن ا ِ‬
‫ن أبا‬
‫بن المغيرة‪ ،‬فقد كانا من أشّد المعارضين للرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" والمَوذين له‪ ،‬بالرغم من أ ّ‬
‫ل هو أخو ُأّم سلمة ابنةعاتكة عّمة الرسول‬ ‫سفيان هذا كان ابن عّم الرسول ص وأخاه من الرضاعة‪ ،‬وعبد ا ّ‬
‫ل أّنه لم يأذن لهما‪ ،‬ولم تنفع‬
‫"صلى ال عليه وآله وسلم" ‪ .‬وحاول مقابلة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إ ّ‬
‫لمام علي )عليه السلم( ‪ ،‬بأن يقول للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪:‬‬ ‫لما ذكره لهما ا ِ‬ ‫الوسائط في ذلك‪ ،‬إ ّ‬
‫طئين()‪ (2‬فسوف يعفو عنهما كما فعل يوسف )عليه السلم( مع‬ ‫ن ُكّنا لخا ِ‬
‫عَلْينا َوإ ْ‬
‫ل َ‬‫كا ّ‬‫ل َلَقْد آَثَر َ‬
‫) قاُلوا تا ّ‬
‫لمام )عليه السلم( فقبل إسلمهما‪.‬‬ ‫إخوته‪.‬وقد حدث ما اقترحه ا ِ‬
‫لسلمي إلى مشارف مّكة‪ ،‬عمد النبي ص إلى إرعاب أهلها وتخويفهم بإشعال النيران‬ ‫وحينما وصل الجيش ا ِ‬
‫فوق الجبال والتلل‪ ،‬وزيادة في التخويف وإظهار القوة‪ ،‬أمر بأن يشعل كّلفرد منهم نارًا في شريط طويل على‬
‫لرض‪.‬‬ ‫اَ‬
‫وهنا اّتجه "العباس بن عبد المطلب" ليَوّدي دوره العملي لصالح الطرفين‪،‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬وسائل الشيعة‪124|7 :‬؛ السيرة الحلبية‪90|3:‬؛ المغازي‪.802|2:‬‬
‫‪ . 2‬يوسف‪.91:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 198‬‬
‫فيقنع قريشًا بالتسليم وعدم المقاومة‪ ،‬إذ أخبرهم بقّوة المسلمين وعددهم ومحاصرتهم لمّكة المكرمة‪ ،‬واصطحب‬
‫لمان و لهم كذلك من الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬فأجاره عند الوصول‬ ‫معه أبا سفيان حتى يطلب له ا َ‬
‫إلى معسكر المسلمين‪ ،‬خاصة عندما حاول "عمر بن الخطاب" أن يقضى عليه ـ أي يقتل أبا سفيان ـ كما أّنه‬
‫ل فلبّدأن يقتل‪.‬‬‫حاول إعادة قتله أمام النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( على أساس أّنه عدو ّ‬
‫ل؟"‬ ‫لا ّ‬
‫ل‪" :‬ألم يأن لك أن تعلم أّنه لإله إ ّ‬ ‫وتحدث النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في خيمته مع أبي سفيان قائ ً‬
‫ل إله غيره‪ ،‬لقد‬ ‫ل لقد ظننت أن لو كان مع ا ّ‬ ‫فقال أبو سفيان‪ :‬بأبي أنت و ُأّمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‪ ،‬وا ّ‬
‫ل؟ "فقال‪ :‬أما‬ ‫أغنى عني شيئًا بعد‪ .‬فقال الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬ألم يأن لك أن تعلم أّني رسول ا ّ‬
‫ن محّمدا‬ ‫ل وأ ّ‬
‫لا ّ‬‫ل إله إ ّ‬
‫ن في النفس منها حتى الن شيئًا‪ .‬فغضب العباس من عناده و قال‪ :‬أسلم واشهد أ ّ‬ ‫ل فإ ّ‬
‫وا ّ‬
‫ق وأسلم ودخل في عداد المسلمين‪ .‬فارتفع بذلك أكبر سد‪،‬‬ ‫ل قبل أن ُيضرب عنقك‪ .‬فشهد شهادة الح ّ‬ ‫رسول ا ّ‬
‫لسلمية‪ .‬ومع ذلك فقد أمر النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" العباس‬ ‫وانزاح أكبر مانع من طريق الدعوة ا ِ‬
‫لّنه لم يأمن جانبه بعد‪ ،‬قبل أن يتم فتح مّكة‪" :‬يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ـ أي أنفه ـ‬ ‫بحبسه َ‬
‫ن أبا سفيان رجل يحب‬ ‫ل فيراها"‪ .‬فطلب العباس من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ :‬إ ّ‬ ‫حتى تمر به جنود ا ّ‬
‫الفخر فاجعل له شيئًا‪ .‬فاستجاب له النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وقال‪:‬‬
‫"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‪ ،‬ومن أغلق عليه بابه فهو آمن‪،‬ومن دخل المسجد فهو آمن‪ ،‬ومن طرح‬
‫السلح فهو آمن"‪ .‬وذلك بالرغم من أخلق أبي سفيان المنحدرة وأعماله السيئة تجاه النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫وسلم( والمسلمين‪ ،‬طيلة السنوات الماضية"‪.‬‬
‫وكان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قد عزم على أن يفتح مكة دون إراقة‬
‫===============‬
‫) ‪( 199‬‬
‫دماء وإزهاق أرواح وتسليم العدو دون شروط‪ .‬وقد تم ذلك نتيجة التخطيط السليم‪،‬وتحييد موقف أبي سفيان‬
‫لسلمية تمر من أمام أبي سفيان‪ ،‬كان العباس يوضح له‬ ‫العدائي وهوقائد قريش‪،‬ولما كانت القطع العسكرية ا ِ‬
‫لحد بهَولء قبل ول طاقة‬ ‫اسمها وخصوصياتها‪ ،‬فمرت كتيبة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فقال للعباس‪ :‬ما َ‬
‫ل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا‪ .‬فرد عليه العباس موبخًا‪ :‬ويحك يا أبا سفيان‪ ،‬ليس‬ ‫يا أبا الفضل‪ ،‬وا ّ‬
‫بملك‪ ،‬إّنها النبوة‪.‬‬
‫وحينئٍذ أطلق النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أبا سفيان ليرجع إلى مّكة فيخبرهم بما رأى من قّوة الجيش‬
‫لمر الواقع بإلقاء السلح والستسلم دون قيد أو‬ ‫لسلمي‪ ،‬ويحذرهم من مغبة المواجهة والمقاومة‪ ،‬والتسليم ل َ‬ ‫اِ‬
‫شرط‪ .‬فصاح في أهل مّكة‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬هذا محّمد قد جاءكم فيما ل قبل لكم به‪ ،‬أو قال‪ :‬هذا محّمد في‬
‫عشرة آلف‪ ،‬فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‪ ،‬و من ألقى السلح فهو آمن‪ ،‬ومن دخل المسجد فهو آمن‪،‬ومن‬
‫أغلق بابه فهو آمن‪.‬‬
‫وأضاف النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى ذلك‪ :‬و من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن‪ .‬وهو موقع‬
‫خامس عينه الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( للتأمين من القتل‪.‬‬
‫لعداء‪ ،‬ركنوا إلى المطالبة بالتسليم دون مقاومة‪.‬‬ ‫ل ذلك إلى إضعاف نفوس أهل مّكة‪ ،‬حتى القياديين ا َ‬ ‫وأّدى ك ّ‬
‫ل أّنه‬
‫لمن قاتلهم‪ ،‬إ ّ‬ ‫وبالرغم من أّنالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قد أمر جنوده بعدم بدء القتال‪ ،‬فل يقاتلوا إ ّ‬
‫لفراد وإن وجدوا تحت أستار الكعبة وهم‪:‬‬ ‫أمر بقتل عشرة من ا َ‬
‫‪ .1‬عكرمة بن أبي جهل‬
‫لسود‬‫‪ .2‬هبار بن ا َ‬
‫ل بن أبي السرح‬
‫‪.3‬عبد ا ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 200‬‬
‫‪ .4‬قيس بن حبابة الكندي‬
‫‪ .5‬الحويرث بن نقيند‬
‫‪ .6‬صفوان بن أمية‬
‫‪ .7‬وحشي بن حرب‪ ،‬قاتل حمزة‬
‫ل بن الزبعرى‬ ‫‪ .8‬عبد ا ّ‬
‫‪ .9‬حارث بن طللة‬
‫ل بن خطل‬ ‫‪ .10‬عبد ا ّ‬
‫وأربعة نساء‪(1).‬‬
‫لسلم والمسلمين‪.‬‬ ‫وكان كّلواحد من هَولء إّما قتل أحدًا‪ ،‬أو ارتكب جناية أو شارك في مَوامرة أوحرب ضّد ا ِ‬
‫وفي دخول مّكة أخذ النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( الحيطة والحذر‪ ،‬ففّرق الجنود‪ ،‬على أن يدخلوها من‬
‫أسفلها‪ ،‬وآخرون يتخذون طريقًا من أعلها‪ ،‬وأعدادًا ُأخرى تدخل من جميع المداخل والطرق المَودية إلى داخل‬
‫ل ما حدث مع جبهة خالد بن الوليد‪ ،‬الذي قابلته مقاومة صغيرة تمكن‬ ‫مّكة‪ ،‬فدخلت الفرق كّلها مّكة دون قتال‪ ،‬إ ّ‬
‫من السيطرة على الوضع بعد هروب المعتدين‪.‬‬
‫لكرم )صلى ال عليه وآله وسلم( فقد دخل مكة من ناحية أذاخر وهي أعلى نقطة في مّكة‪ ،‬فضربت‬ ‫أّما النبي ا َ‬
‫له قبة من أدم بالحجون ـ عند قبر عّمه العظيم أبي طالب ـ ليستريح فيها‪ ،‬فقد أبى أن ينزل في بيت من بيوتها‪.‬‬
‫ل المعظم والطواف به‬ ‫واغتسل بعد الستراحة‪ ،‬فركب راحلته القصواء متوجهًا إلى المسجد الحرام لزيارة بيت ا ّ‬
‫على راحلته‪ ،‬حيث لم يترجل‪،‬وكّبـر فكّبـر المسلمون‪ ،‬حتى‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪410|2:‬؛ تاريخ الخميس‪.90|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 201‬‬
‫ارتجت مكة لدوّيصوتهم‪ ،‬فسمعه المشركون الذين تفّرقوا في الجبال ينظرون المشهد المثير‪ .‬وحينما كان يمر‬
‫طَ‬
‫ل‬ ‫ن البا ِ‬
‫لإّ‬‫طُ‬‫ق البا ِ‬
‫ق وَزَه َ‬
‫على أي صنم من أصنام المشركين‪ ،‬يقول و هو يشير بقضيب في يده‪ ) :‬جاَء الح ّ‬
‫لصنام على مرأى من المشركين‪.‬‬ ‫ن َزُهوقًا()‪ (1‬فيقع الصنم لوجهه‪ ،‬ثّمأمر بتحطيم أكبر ا َ‬‫كا َ‬
‫وبعد أخذ استراحة‪ ،‬طلب من عثمان بن طلحة أن يأتيه بمفتاح الكعبة‪ ،‬فقد كان هو سادن الكعبة‪ ،‬حيث كانت‬
‫ل بعد جيل‪ .‬وفتح النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( باب الكعبة و دخل البيت‪ ،‬و دخل بعده‪،‬‬ ‫السدانة تتوارث جي ً‬
‫ُأسامة بن زيد‪ ،‬و بلل وعثمان‪ .‬ثّمأمر )صلى ال عليه وآله وسلم( بإغلق الباب‪ ،‬الذي قام خالد بن الوليد‬
‫بحراسته ومنع الناس عنه‪.‬‬
‫ن النبيص أمر بمحوها جميعًا‬ ‫لنبياء والملئكة وغيرهم‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ولّما كانت جدران الكعبة من الداخل مغطاة بصور ا َ‬
‫وغسلها بماء زمزم‪.‬‬
‫لصنام الموضوعة في الكعبة‪ ،‬وحاول النبي )صلى ال‬ ‫لمام علي )عليه السلم( في كسر بعض ا َ‬ ‫وقد اشترك ا ِ‬
‫لمام )عليه السلم( لم يساعده في ذلك‪ ،‬فطلب منه النبي‬ ‫ن ضعف ا ِ‬ ‫لأ ّ‬
‫عليه وآله وسلم( أن يصعد على كتفيه‪ ،‬إ ّ‬
‫ل‪" :‬يا علّياصعد على منكبي"‪ ،‬فصعد على منكبه‪،‬‬ ‫ي ـ على كتفه قائ ً‬‫"صلى ال عليه وآله وسلم" أن يصعد ـ عل ٌ‬
‫لرض‪ (2).‬ثمّ وقف النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫لكبر وأصنام ُأخرى محطمة إلى ا َ‬ ‫فألقى صنم قريش ا َ‬
‫لحزاب وحده"‪ .‬ثّم اتجه إلى الناس‬ ‫ل الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم ا َ‬ ‫على باب الكعبة وقال‪" :‬الحمد ّ‬
‫ل‪ ،‬فسألهم‪:‬‬ ‫لصنام ويحمد ا ّ‬ ‫الذين يشاهدون الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( وهو يكسر ا َ‬
‫"ماذا تقولون وماذا تظنون؟" فقالوا‪ :‬نقول خيرًا ونظن خيرًا‪ .‬أخ كريم وابن‬
‫____________‬
‫لسراء‪.81 :‬‬‫‪.1‬اِ‬
‫‪ . 2‬مسند أحمد بن حنبل‪84|1:‬؛ السيرة الحلبية‪86|3:‬؛ تاريخ الخميس‪.86|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 202‬‬
‫ل ل َتْثري َ‬
‫ب‬ ‫أخ كريم‪ ،‬وقد قدرت‪ .‬فقال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬فإّني أقول لكم كما قال أخي يوسف‪) :‬قا َ‬
‫حُم الّراحمين()‪.(1‬‬
‫ل َلُكْم َوُهَو َأْر َ‬
‫عَلْيُكُم الَيوَم َيْغِفُر ا ّ‬
‫َ‬
‫وبهذا أعلن )صلى ال عليه وآله وسلم( العفو العام والشامل عن أهل مكة بقوله‪" :‬أل لبئس جيران النبي كنتم‪،‬لقد‬
‫كّذبتم‪،‬وطردتم وأخرجتم وآذيتم ثّم ما رضيتم حتى جئتموني في بلدي تقاتلونني‪ ،‬اذهبوا فأنتم الطلقاء"‪(2).‬‬
‫لذان ـ وبعدها‬ ‫وكان الوقت ظهرًا فحان وقت الصلة ‪ ،‬فصعد بلل سطح الكعبة ورفع نداء التوحيد و الرسالة ـ ا َ‬
‫رّدمفتاح الكعبة على عثمان بن طلحةو قال له‪:‬‬
‫"هاك مفتاحك يا عثمان‪ ،‬اليوم يوم بّر ووفاء"‪ .‬فالنبي "صلى ال عليه وآله وسلم" هو أّول من يلتزم بالتعليم‬
‫لمانة الكبرى إلى صاحبها‪ .‬ثّم ألغى جميع مناصب الكعبة‬ ‫لمانة إلى أهلها‪ ،‬فيعيد مثل تلك ا َ‬ ‫للهي في أداء ا َ‬ ‫اِ‬
‫ل ما كان نافعًا للناس‪ ،‬كالسدانة‪ ،‬والحجابة ـ و هي القيام بشَوون أستار الكعبة ـ و سقاية‬ ‫السائدة في الجاهلية‪ ،‬إ ّ‬
‫الحجيج‪(3).‬‬
‫وفي حديث له )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى أقاربه‪ ،‬في اجتماع ضم بني هاشم و بني عبد المطلب‪ ،‬أوضح لهم‬
‫لحد منهم أن يتجاهل قوانين الحكومة‬ ‫ن صلة القربى التي تربطهم به "صلى ال عليه وآله وسلم" ل تبرر َ‬ ‫أّ‬
‫لسلمية‪ ،‬فيتخذ من انتسابه إلى زعيمها ذريعةوغطاء لرتكاب ما ل يحل للخرين‪.‬‬ ‫اِ‬
‫ل تمييز وتفضيل غير صحيح وسليم‪ ،‬داعيًا إلى لزوم العدل‬ ‫وهو )صلى ال عليه وآله وسلم( بهذا قد شجب ك ّ‬
‫ومراعاة المساواة بين جميع الطبقات‪" :‬يا بني‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬يوسف‪.92:‬‬
‫لنوار‪106|21 :‬؛ السيرة الحلبية‪.412|2:‬‬ ‫‪ . 2‬بحار ا َ‬
‫لنوار‪.132|21 :‬‬ ‫‪ . 3‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 203‬‬
‫ل ما أوليائي منكم‬ ‫ل إليكم وإّني شفيق عليكم‪ ،‬ل تقولوا أّنمحّمدا مّنا‪ ،‬فوا ّ‬ ‫هاشم‪ ،‬يا بني عبد المطلب‪ ،‬إّني رسول ا ّ‬
‫ل المّتقون‪ ،‬فل أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم‪ ،‬ويأتي الناس يحملون‬ ‫ول من غيركم إ ّ‬
‫ن لي عملي ولكم عملكم"‪(1).‬‬ ‫ل عّزوجلّ وبينكم‪ ،‬وإ ّ‬ ‫الخرة‪ .‬أل وإّني قد أعذرت فيما بيني و بينكم وفيما بين ا ّ‬
‫ل الحرام‪ ،‬حضره حشد كبير من أهالي مكة‪ ،‬وألقى فيهم خطابًا‬ ‫ثّم دعا إلى اجتماع تاريخي كبير عند بيت ا ّ‬
‫لمراض الجتماعية الخاصة بالمجتمع العربي في ذلك العصر وحتى عصرنا الحالي‪ ،‬ومن‬ ‫تاريخيًا عالج ا َ‬
‫أهّمما ورد وتناوله )صلى ال عليه وآله وسلم( في هذا الخطاب‪:‬‬
‫لمراض المستحكمة في البيئة العربية الجاهلية‪ ،‬إذ كان من أكبر أمجاد المرء‬ ‫‪ .1‬التفاخر بالنسب‪ :‬فقد كان من ا َ‬
‫ل‪ .‬فأبطل الرسول )صلى ال عليه‬ ‫أن ينتسب إلى قبيلة معروفة‪ ،‬أو يتفرع نسبه عن عشيرة بارزة كقريش مث ً‬
‫ل قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها‬ ‫نا ّ‬‫وآله وسلم( في خطابه هذه العادة السيئة بقوله‪" :‬أّيها الناس إ ّ‬
‫بآبائها‪ ،‬أل إّنكم من آدم و آدم من طين"‪.‬‬
‫ل عبد اتقاه"‬
‫ن خير عباد ا ّ‬ ‫وبذا فإّنه )صلى ال عليه وآله وسلم( صّنف الشخصية بالتقوى و الورع‪" :‬أل إ ّ‬
‫لهل التقوى والورع خاصة‪.‬‬ ‫فأعطى الفضيلة والمنزلة َ‬
‫‪ .2‬التفاضل بالقومية العربية‪ :‬فقد اعتبروا النتساب إلى العرق العربي مفخرة‪ ،‬فقال )صلى ال عليه وآله‬
‫ن العربية ليست بأب والد‪ ،‬ولكّنه لسان ناطق‪ ،‬فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه"‪.‬‬ ‫وسلم( ‪" :‬إ ّ‬
‫ن الناس من آدم إلى يومنا‬ ‫لفراد والجماعات‪" :‬إ ّ‬ ‫‪ .3‬المساواة بين أفراد البشر‪ :‬فقد دعا إلى دعم المساواة بين ا َ‬
‫هذا مثل أسنان المشط‪ ،‬ل فضل للعربي‬
‫____________‬
‫لنوار‪.111|21 :‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 204‬‬
‫ل بالتقوى"‪ .‬وبذلك ألغى التمييز العنصري مَوسسًا بذلك ميثاق حقوق‬ ‫لسود‪ ،‬إ ّ‬
‫لحمر على ا َ‬ ‫على العجمي‪ ،‬ول ل َ‬
‫ي جهة عالمية‪.‬‬ ‫لنسان قبل أ ّ‬ ‫اِ‬
‫لحقاد والحروب الطويلة ‪ :‬إذ أّنالحروب المتلحقة بين القبائل العربية أدت إلى نشأة الحقد و الضغينة‪ ،‬فلم‬ ‫‪ .4‬ا َ‬
‫لبالطلب من الناس أن يتنازلوا عّما لهم من دماء في أعناق الخرين‪ ،‬سفكت في عهد‬ ‫يجد طريقًا للقضاء عليها إ ّ‬
‫ن كّلمال ومأثرة ودم في الجاهلية تحت قدمي‬‫الجاهلية‪ ،‬فتعتبر ملفات العهد القديم باطلة‪ .‬وقال في ذلك"أل إ ّ‬
‫هاتين"‪.‬‬
‫لسلمية‪ :‬حيث دعا إلى اّتحاد المسلمين ووحدة كلمتهم وحّقالمسلم على أخيه المسلم‪ ،‬فهو من أهّم‬ ‫لخوة ا ِ‬‫‪ .5‬ا َُ‬
‫لسلم إذا سمع ورأى مثل هذه الحقوق‬ ‫غب غير المسلم في اعتناق ا ِ‬ ‫لسلمي‪ ،‬وهو بهذا ير ّ‬ ‫مميزات الدين ا ِ‬
‫والعلقات المتبادلة بين المسلمين‪":‬المسلم أخو المسلم‪ ،‬و المسلمون إخوة‪ ،‬وهم يد واحدة على من سواهم‪ ،‬تتكافَو‬
‫دماَوهم ليسعى بذّمتهم أدناهم"‪(1).‬‬
‫وبعد ذلك تفّرغ النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( للحكم على بعض المجرمين والمَوذين‪،‬حيث كان هناك عدد‬
‫من المجرمين المكّيين‪ ،‬كان لبّد من عقابهم على ما فعلوا من أعمال سيئة‪ ،‬وذلك بالرغم من إصدار العفو العام‪،‬‬
‫لمام )عليه السلم( التي‬
‫ى ُأخت ا ِ‬
‫لمام علي )عليه السلم( اثنين منهم لجآ إلى بيت ُأّم هان َ‬ ‫وقد طارد ا ِ‬
‫لمام )عليه السلم( طلب منها أن يعلم النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بأمانها ليعطي رأيه في‬ ‫أجارتهما‪،‬ولكن ا ِ‬
‫جوارها وأمانها كمرأة‪ ،‬فقبل )صلى ال عليه وآله وسلم( ذلك و قال‪" :‬قد أجرنا من آجرت‪ ،‬وأّمنا من أّمنت‪ ،‬فل‬
‫يقتلهما"‪(2).‬‬
‫____________‬
‫لنوار‪.105|21:‬‬ ‫‪ . 1‬روضة الكافي‪246:‬؛ السيرة النبوية‪412|2:‬؛ مغازي الواقدي‪836|2:‬؛ بحار ا َ‬
‫لرشاد‪.72:‬‬ ‫‪.2‬اِ‬

‫===============‬
‫) ‪( 205‬‬
‫لسلم وأمر النبي‬ ‫ل بن أبي السرح الذي ارتّدعن ا ِ‬ ‫وهو بهذا وضع قاعدة تقبل جوار المرأة وأمانها‪ .‬كما أّنعبد ا ّ‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( بقتله‪،‬نجا من القتل بشفاعة عثمان بن عفان له‪ .‬وكذلك عكرمة بن أبي جهل الذي فّر‬
‫إلى اليمن‪ ،‬وتشّفعت فيه زوجته‪ ،‬فنجا من القتل‪ .‬كما أّمن أيضًا كبير المجرمين صفوان بن ُأمية حينما طلب‬
‫"عمير بن وهب"من النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يعفو عنه‪ ،‬فأمهله أربعة أشهر ليعلن إسلمه بعد‬
‫التفكير‪.‬‬
‫وكذلك وضع )صلى ال عليه وآله وسلم( قاعدة مبايعة النساء له )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬فقد بايعته المرأة‬
‫لولى في بيعة العقبة بهذه الكيفية‪] :‬حيث أمر الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بإحضار قدح ماء‪،‬‬ ‫للمّرة ا َُ‬
‫لمور المذكورة‪ ،‬ثّم نهض‬ ‫ثّمألقى في الماء شيئًا من الطيب والعطر فأدخل يده فيه‪،‬وتل الية التي وردت فيها ا َُ‬
‫من مكانه و قال لهن‪ :‬من أرادت أن تبايع فلتدخل يدها في القدح‪ ،‬فإّني ل أصافح النساء[‪ (1).‬وقد أجرى البيعة‬
‫لسلوب‪ ،‬لوجود عدد كبير من النساء الفاسدات بينهن‪ ،‬فكان لبّدمن ذلك حتى ل تستأنف إحداهن عملهن‬ ‫بهذا ا َ‬
‫القبيح بعد ذلك في السّر‪.‬‬

‫لصنام‬
‫هدم بيوت ا َ‬

‫وللقيام بهذه المهمة الضرورية‪ ،‬أرسل النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فرقًا عسكرية إلى ضواحي مكة وداخلها‬
‫لصنام المتواجدة فيها‪ ،‬كما أعلن )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬من كان في بيته صنم‬ ‫وفي بيوتها لهدم ا َ‬
‫فليكسره"‪ .‬و أرسل خالد بن الوليد إلى تهامة لدعوة قبيلة جذيمة بن عامر وهدم أصنامهم‪ ،‬ونهاه النبيعن القتل أو‬
‫لأّنه لما كانت هذه القبيلة قد قتلت أّيام الجاهلية عّم خالد‬ ‫إراقة الدماء‪ .‬إ ّ‬
‫____________‬
‫ن ول يأتين ببهتا ٍ‬
‫ن‬ ‫ل شيئًا ول يسرقن ول يزنين ول يقتلن أولده ّ‬ ‫ل يشركن با ّ‬ ‫‪ . 1‬في سورة الممتحنة ‪) :12‬أ ّ‬
‫ن ول يعصينك في معروف( ‪.‬‬ ‫ن وأرجله ّ‬ ‫يفترينه بين أيديه ّ‬
‫===============‬
‫) ‪( 206‬‬
‫لمر الذي أغضب النبيعندما علم بذلك‪،‬‬ ‫ووالد عبد الرحمن بن عوف‪ ،‬فإّنه حقد عليهم‪ ،‬وأمر بقتل عدد منهم‪ ،‬ا َ‬
‫لمام علي )عليه السلم( ليدفع دية هَولء المقتولين وقال‪" :‬اللهّمإّني أبرأ مّما صنع خالد‬ ‫ل كثيرًا مع ا ِ‬
‫فأرسل ما ً‬
‫لهالي المنكوبين و‬ ‫لمام علي )عليه السلم( من معاملة طيبة َ‬ ‫بن الوليد"‪ (1).‬وارتاح بعد ذلك لما أقدم عليه ا ِ‬
‫ل عنك‪ ،‬أنت هادي ُأّمتي"‪(2).‬‬ ‫ن لي بما صنعت حمر النعم‪ ،‬أرضيتني رضي ا ّ‬ ‫ل ما يسرني يا علّيأ ّ‬ ‫قال‪" :‬وا ّ‬

‫‪ .4‬معركة حنين‬
‫وبعد أن استقر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في مكة مّدة خمسة عشر يومًا‪ ،‬غادرها إلى أرض قبيلة هوازن‬
‫لمور والصلة‬ ‫لدارة ا َُ‬ ‫لسلم‪ ،‬وعتاب بن أسيد ِ‬ ‫و ثقيف‪ ،‬بعد أن عّين معاذ بن جبل لُيعّلم الناس القرآن وأحكام ا ِ‬
‫بالناس جماعة في مكة المكرمة‪.‬‬
‫وقد بلغ الجيش الذي سار به إلى هوازن‪ 12 :‬ألف مسلحًا‪ ،‬إذ شاركه هذه المرة ألفان من شباب قريش الذين‬
‫ل ذلك العدد الكبير لم يساعد في النجاح والنتصار كما ذكر‬ ‫نكّ‬ ‫لأّ‬‫أسلموا بعد الفتح بقيادة أبي سفيان‪ (3).‬إ ّ‬
‫شيئًا َوضاَق ْ‬
‫ت‬ ‫عْنُكْم َ‬‫ن َ‬
‫جَبْتُكْم َكْثَرُتُكْم َفَلْم ُتْغ ِ‬
‫عَ‬‫ن ِإْذَأ ْ‬
‫حَني ٍ‬
‫ن َكثيَرٍة َوَيْوَم ُ‬
‫طَ‬
‫ل ِفي َموا ِ‬
‫صَرُكُم ا ّ‬
‫القرآن الكريم‪َ) :‬لَقْد َن َ‬
‫ت ُثّم َوّلْيُتْم ُمْدِبرين( )‪ (4‬وقد برز من طرف العدو‪ :‬مالك بن عوف النصري الذي عرف‬ ‫حَب ْ‬
‫ض ِبما َر ُ‬‫لْر ُ‬‫عَلْيُكُم ا َ‬
‫َ‬
‫لخراج خدعة عسكرية توجه منها‬ ‫بالفروسية والشجاعة‪ ،‬كما أّنه أدار الّتصالت المكثفة بين هوازن وثقيف‪ِ ،‬‬
‫ضربة إلى جيش‬
‫____________‬
‫لسماع‪.400|1:‬‬ ‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪420|2 :‬؛ الكامل‪173|1 :‬؛ إمتاع ا َ‬
‫‪ . 2‬مجالس ابن الشيخ‪.318 :‬‬
‫‪ . 3‬طبقات ابن سعد‪139|2:‬؛مغازي الواقدي‪.889|3:‬‬
‫‪ . 4‬التوبة‪.25:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 207‬‬
‫لموال وراء ظهور الرجال حتى يضطروا إلى أن يقاتلوا عنهم‪،‬‬ ‫لطفال والنساء وا َ‬
‫لسلم‪ ،‬فقد اقترح بوضع ا َ‬ ‫اِ‬
‫لعداء‪.‬‬‫كما أرسلوا الجواسيس ورجال مخابراتهم للتجسس على المسلمين‪ ،‬مثلما بعث النبيرجاله إلى ديار ا َ‬
‫وحسب الوضع والموقع‪ ،‬قّرر مالك بن عوف أن يخفى الجنود خلف الصخور وفوق الجبال ليباغتوا المسلمين‬
‫في الوادي‪ ،‬الذي دخلته أّول كتيبة‪ ،‬من بني سليم بقيادة خالد بن الوليد فبادرهم العدو و أخذ يرشقهم بالحجار‬
‫ل‪ ،‬مّما أّدى إلى إصابة المسلمين بالفوضى وبلبلة الموقف‬ ‫والنبال ويضربونهم بالسيوف‪ ،‬فوقعوا فيهم ضربًا وقت ً‬
‫لمر الذي جعل النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" يأمر العباس بن عبد المطلب بأن‬ ‫وخلخلة الصفوف فالفرار‪ ،‬ا َ‬
‫ينادي على هَولء الفاّرين والهاربين ويرجعهم‪ ،‬فبلغت صرخاته مسامعهم فثارت حميتهم ونادوا‪ :‬لبيك لبيك‪ .‬وبذا‬
‫ل واحٍد على‬ ‫فقد تمكن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من تنظيم صفوف جيشه من جديد‪ ،‬وحمل حملة رج ٍ‬
‫العدو لغسل ما لحق بهم من عار الفرار‪ ،‬وتمّكنوا من النيل منهم وإجبارهم على النسحاب من الموقع والفرار‬
‫من أمامهم وذلك بتشجيع وحماس من الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬أنا النبي ل كذب‪ ،‬أنا ابن عبد‬
‫لثر الفعال في إلقاء الهزيمة المنكرة بقبيلة هوازن‪ ،‬تاركين وراءهم أموالهم ونساءهم‬ ‫المطلب"‪ .‬مّما كان ا َ‬
‫وصبيانهم الذين كانوا قد وضعوهم خلف ظهورهم حسب أوامر وخطة قائدهم‪.‬‬
‫أّما النتيجة النهائية للمعركة‪ ،‬فكانت شهادة ثمانية أفراد من المسلمين‪ ،‬وأسر ستة آلف من العدو‪ ،‬وغنائم كثيرة‬
‫من الحيوان وأربعة آلف أوقية فضة‪(1).‬‬
‫لسرى إلى الجعرانة ـ بين مكة والطائف ـ و‬ ‫وأعطى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أوامره بإرسال الغنائم وا َ‬
‫بلغ من حنق المسلمين على المشركين في‬
‫____________‬
‫‪ 4 . 1‬آلف أوقية تساوي ‪ 852‬كيلو غرام‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 208‬‬
‫هذه المعركة‪ ،‬أن قتلوا الرجال وذّريتهم‪ ،‬فلّما بلغ ذلك النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" قال‪" :‬أل ل ُتقَتل‬
‫الذرية"‪ .‬وعندما قيل له‪ :‬إّنما هم أولد مشركين‪ .‬قال "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪" :‬أو ليس خياركم أولد‬
‫صرانها"‪(1).‬‬
‫ل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها‪ ،‬وأبواها يهّودانها أو ين ّ‬‫المشركين؟ ك ّ‬

‫‪ .5‬غزوة الطائف‬

‫سكنت قبيلة ثقيف‪ ،‬واشتركوا مع هوازن في قتال المسلمين‪ ،‬وهربوا بعد المعركة السابقة إلى الطائف متحصنين‬
‫لعداد لمطاردتهم وملحقتهم حتى ديارهم‪.‬‬ ‫في قلعها وحصونها‪ ،‬فأمر النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" با ِ‬
‫لشعري لملحقتهم في أوطاس‪ ،‬فأحرز انتصارًا كبيرًا على العدو‪ .‬وأّما‬ ‫فأرسل فريقًا عسكريًا بقيادة أبي موسى ا َ‬
‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فقد توجه بجيشه إلى الطائف‪ ،‬حيث هدم حصن مالك بن عوف في طريقه‪،‬‬
‫لرض‪ ،‬حتى ل يستغله العدو فيما بعد‪.‬‬ ‫وسواه با َ‬
‫واشتهرت حصون الطائف وقلعها بالمنعة وارتفاع الجدران‪ ،‬فتمكنوا من رّد المسلمين عن طريق حذفهم‬
‫ورميهم‪ ،‬الذي أّدى إلى تراجعهم‪ .‬فاقترح سلمان الفارسي أن يرمى الحصن بالمنجنيق ـ اّلذي يأخذ دور الدبابة‬
‫في الحروب الحديثة ـ فبدأوا برمي الحصون وأبراجها بالحجارة طوال عشرين يومًا‪ ،‬مّما أصاب عددًا من‬
‫لعمال‪(2).‬‬
‫المسلمين في هذه ا َ‬
‫ن سلمان الفارسي هو الذي صنع جهاز المنجنيق‪ ،‬وعّلم المسلمين كيفية استخدامه‪ ،‬بينما يرى‬ ‫ومّما يذكر أ ّ‬
‫ن المسلمين حصلوا على هذا‬ ‫آخرون أ ّ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬إمتاع السماع‪.409|1:‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( هو أّول من استخدم المنجنيق‬ ‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪ 126|4:‬ويرى ابن هشام أ ّ‬
‫في الجزيرة العربية‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 209‬‬
‫ن سلمان ربما أدخل عليه تحسينات إضافة أّنه علم المسلمين أسلوب استعماله‪.‬‬ ‫السلح من يهود خيبر‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( كان قد حصل على بعض الليات الحربية من خلل ما ترك في‬ ‫كما أ ّ‬
‫حروبه لقبيلة دوس التي استخدمتها في معاركها ضّدالمسلمين‪ ،‬فاستفاد منها النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في‬
‫غزو الطائف‪.‬‬
‫ن نتائج تلك العمليات والليات لم تأت بنتيجة حاسمة‪ ،‬فاتجه النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى جانب‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫ن أرض الطائف‬ ‫آخر قد يكون أكبر قّوة وأثرًا من الجانب العسكري‪ ،‬وهو الناحية النفسية والقتصادية‪ .‬إذ أ ّ‬
‫لّنه‬
‫كانت زراعية‪ ،‬ذات نخل وأعناب‪ ،‬مّما فكر به الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( لتهديدهم وتخويفهم َ‬
‫لعناب وإفناء المزارع‪ ،‬إذ استمر المعتصمون بالحصون في المقاومة‪ .‬وعندما لم يرضخوا‬ ‫سيعمد إلى قطع ا َ‬
‫لهالي وطلبوا من النبي‬ ‫لتلف‪ ،‬مّما أزعج ا َ‬‫للتهديد‪ ،‬نفذ المسلمون عمليًا أوامر النبي ص بالقطع والحرق وا ِ‬
‫"صلى ال عليه وآله وسلم" أن يأمر رجاله بالكف عن ذلك‪ ،‬فتركوا العمل بهذا التكتيك‪ .‬وقام بمحاولة أخيرة‬
‫للتخلص منهم‪ ،‬فنادى‪ :‬أي عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر‪ .‬فنزل عدد منهم ملتحقًا بالمسلمين‪ ،‬وعرف‬
‫لخبار المرتبطة بالحصن‪ ،‬وأّنه ل نية لهم للستسلم‪ ،‬و لديهم‬ ‫منهم الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" بعض ا َ‬
‫الستعداد للمقاومة حتى لو طال الحصار عامًا واحدًا‪ ،‬فلن يقعوا في أزمة أو ضيق بسبب طول الحصار‪ .‬ولذا‬
‫لسباب التالية‪:‬‬
‫لصلح الرجوع عن ساحة القتال‪ ،‬وذلك ل َ‬ ‫لسلمي رأى أّنه من ا َ‬ ‫ن الجيش ا ِ‬‫فإ ّ‬
‫ن شهر شوال كان قد انتهى وبدأ شهر ذي القعدة وهو من‬ ‫لنصار‪ ،‬كما أ ّ‬
‫‪.1‬مقتل عدد من المسلمين‪ ،‬من قريش وا َ‬
‫سّنة‪ ،‬فقد رأى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن ينهي الحصار في أقرب‬ ‫لشهر الحرم‪ ،‬وللحفاظ على هذه ال ّ‬ ‫اَ‬
‫وقت‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 210‬‬
‫ن إدارة الموسم ومناسكه أصبحت في يد المسلمين الن‪ ،‬وليس‬ ‫ج كان قد اقترب‪ ،‬وخاصة أ ّ‬ ‫ن موسم الح ّ‬
‫‪ .2‬كما أ ّ‬
‫بيد المشركين كما في السابق‪.‬‬
‫لسرى‪،‬‬ ‫ل ذلك ترك النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( الطائف متوجهًا إلى الجعرانة حيث حفظت الغنائم وا َ‬ ‫ولك ّ‬
‫لسرى‪ ،‬وخطط‬ ‫فاستقر فيها ‪ 13‬يومًا وزع فيها الغنائم بأسلوب جدير بالدراسة والتأمل‪ :‬فقد أخلى سبيل بعض ا َ‬
‫لخضاع وإسلم مالك بن عوف قائد المعارك ضّد المسلمين‪ ،‬وكان من بين المشركين مع هوازن‪ ،‬قبيلة بني‬ ‫ِ‬
‫سعد التي أرضعت إحدى نسائها ـ حليمة السعدية ـ النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وكبر بينهم وعاش معهم‬
‫لسرى‬ ‫ن جماعة مسلمة منهم قدمت إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يطلبون سراح ا َ‬ ‫خمس سنوات‪ ،‬ولذا فإ ّ‬
‫ل حياته بينهم في تلك السنوات‪ .‬فرّد عليهم النبيص محسنًا إليهم بأكثر مّما قدموا‪،‬‬
‫من هذه القبيلة‪ ،‬وذّكروه بك ّ‬
‫ن النبي‬
‫لنصار و الخرون‪ ،‬فارجعوهم إلى ذويهم‪ .‬كما أ ّ‬ ‫لسرى‪ ،‬فتبعه المهاجرون وا َ‬ ‫وتنازل عن نصيبه في ا َ‬
‫"صلى ال عليه وآله وسلم" دعا ُأخته شيماء وبسط لها رداءه ورحب بها‪ ،‬ودمعت عيناه‪ ،‬وسألها عن ُأّمه وأبيه‬
‫من الرضاعة‪ ،‬فأخبرته بموتهما‪ ،‬فقال‪ :‬إن أحببت فأقيمي عندنا محببة مكرمة‪ ،‬وإن أحببت أن ُأمتعك وترجعي‬
‫إلى قومك فعلت‪ .‬فاختارت الرجوع إلى أهلها بعد أن أسلمت طوعًا ورغبة‪ ،‬ومنحها ثلثة عبيد وجارية‪(1).‬‬
‫لسلم‪،‬‬ ‫لسرى إلى رغبة هوازن في ا ِ‬ ‫وقد أّدت معاملت النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( هذه‪ ،‬وإطلق ا َ‬
‫فأسلموا من قلوبهم‪ ،‬ففقدت الطائف آخر حليف لها‪.‬‬
‫أّما بالنسبة لمالك بن عوف فقد رأى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فرصة طيبة للسيطرة عليه‪ ،‬وهو رئيس‬
‫المتمردين‪ ،‬فقال لوفد بني سعد‪ :‬أخبروا‬
‫____________‬
‫لمتاع‪.413|1:‬‬
‫‪ . 1‬البداية والنهاية‪363|2:‬؛ ا ِ‬

‫===============‬
‫) ‪( 211‬‬
‫لسلم‬ ‫لبل‪ .‬وعندما بلغه ذلك‪ ،‬وعلم بقّوة ا ِ‬ ‫مالكًا إّنه إن أتاني مسلمًا رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من ا ِ‬
‫وأخلق النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وعظمته‪ ،‬قرر اللتحاق بالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فخرج من‬
‫لبل‪،‬‬
‫لدراك النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في مكة أو الجعرانة‪ ،‬حين رّد عليه ماله وأهله وأعطاه ا ِ‬ ‫الطائف ِ‬
‫فأسلم وحسن إسلمه‪ ،‬وجعله قائدًا على من أسلم من قومه حارب بهم ثقيف‪.‬‬
‫وأّما الغنائم‪ ،‬فقد قسمها بين المسلمين‪ ،‬ووزع الخمس اّلذي هو حّقه الخاص‪ ،‬بين أشراف قريش حديثي العهد‬
‫لسلم ليتأّلفهم‪ ،‬مثل‪ :‬أبي سفيان ومعاوية ابنه‪ ،‬وحكيم بن حزام‪ ،‬والحارث بن هشام و سهيل بن عمرو‪،‬‬ ‫با ِ‬
‫لمس القريب‪،‬‬ ‫وحويطب ابن عبد العزى‪ ،‬والعلء بن جارية‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وغيرهم مّمن كانوا أعداءه با َ‬
‫لسلمي‪ :‬المَوّلفة قلوبهم‪ .‬وهم يشّكلون إحدى‬ ‫ل واحد منهم مائة بعير‪ (1).‬وهذا الفريق يصطلح عليه في الفقه ا ِ‬ ‫لك ّ‬
‫مصارف الزكاة بنص القرآن الكريم‪.‬‬
‫ن بعضهم لم يستحسن أسلوب النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في التوزيع‪ ،‬ورأى أّنه لم يعدل حين وزع‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫خمس الغنيمة على أبناء قبيلته‪ ،‬ومن أشهرهم‪:‬‬
‫ـ ذو الخويصرة التميمي‪ ،‬الذي رفض ُأسلوب النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" مّما دعا عمر بن الخطاب أن‬
‫يستأذن النبي ص لقتله‪ .‬ولكن النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" قال‪ :‬دعه فإّنه سيكون له شيعة )أي َتبع(‬
‫ل زعيمًا لفرقة الخوارج في‬ ‫يتعّمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية‪ (2).‬وقد أصبح فع ً‬
‫لمام علي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬ ‫عهد ا ِ‬
‫لنصار‪ ،‬حول كيفية توزيع الخمس‪ ،‬فخطب‬ ‫كما اشتكى عدد من جانب ا َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬المحّبر‪473 :‬؛مغازي الواقدي‪944|3 :‬؛ السيرة النبوية‪.493|3:‬‬
‫‪ . 2‬وجاء في السيرة الحلبية أّنه أصل الخوارج‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 212‬‬
‫فيهم النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( موضحًا موقفه من هذا التوزيع في تأليف القلوب‪":‬أفل ترضون يا معشر‬
‫ل إلى رحالكم‪ .‬والذي نفس محّمد بيده‪ ،‬لول الهجرة‬ ‫لنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير‪ ،‬وترجعوا برسول ا ّ‬ ‫اَ‬
‫لنصار"‪(1).‬‬ ‫لنصار شعبًا‪ ،‬لسلكت شعب ا َ‬ ‫لنصار‪ ،‬ولو سلك الناس شعبًا وسلكت ا َ‬ ‫ى من ا َ‬‫لكنت إمر ًَ‬
‫لنصار"‪.‬‬
‫لنصار وأبناء أبناء ا َ‬ ‫لنصار وأبناء ا َ‬ ‫ل‪" :‬الّلهّم ارحم ا َ‬‫ثّم ترحم عليهم قائ ً‬
‫ل حظًا وقسمًا‪ .‬ويكشف ذلك عن عمق حكمة‬ ‫فأثار بهذه الكلمات مشاعرهم فبكوا بشّدة وقالوا‪ :‬رضينا يا رسول ا ّ‬
‫النبي ص وحنكته السياسية‪ ،‬وُأسلوب معالجته للمشكلت بروح الصدق واللطف‪.‬‬
‫وبعد ذلك خرج النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( معتمرًا من الجعرانة‪ ،‬ثّم انصرف راجعًا إلى المدينة فوصلها‬
‫جة‪ ،‬مستخلفًا على مّكة‪ :‬عتاب بن أسيد‪ ،‬الذي بلغ من العمر عشرين‬ ‫في أواخر ذي القعدة أو أوائل شهر ذي الح ّ‬
‫ج بعضهم على هذا التعيين‪ ،‬قال‪" :‬ل يحتج منكم في مخالفته‬ ‫ي‪ ،‬درهم واحد‪ ،‬ولما احت ّ‬ ‫ب يوم ّ‬‫عامًا‪ ،‬و ُقّدر له رات ٌ‬
‫لكبر في موالتنا وموالة أوليائنا‪ ،‬ومعاداة‬ ‫لكبر‪ ،‬وهو ا َ‬ ‫لفضل هو ا َ‬ ‫لفضل‪ ،‬بل ا َ‬ ‫لكبر هو ا َ‬ ‫بصغر سنه‪ ،‬فليس ا َ‬
‫ل غيره"‪(2).‬‬ ‫لمير عليكم والرئيس عليكم‪ ،‬فمن أطاعه فمرحبًا به‪ ،‬ومن خالفه فل يبعُد ا ّ‬ ‫أعدائنا‪ ،‬فلذلك جعلناه ا َ‬
‫لهلية والجدارة والكفاءة في حيازة المناصب الجتماعية‬ ‫وأكد بذلك النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( معيار ا َ‬
‫لخرى‪.‬‬ ‫لمور الجتماعية ا َُ‬ ‫وا َُ‬
‫ومن أحداث هذه السنة أيضًا‪:‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪498|2:‬؛ مغازي الواقدي‪.957|3 :‬‬
‫لسماع‪.432|1:‬‬‫لنوار‪122|21 :‬؛ إمتاع ا َ‬
‫‪ . 2‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 213‬‬
‫وفاة زينب بنت الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( وهي التي كان زوجها ابن خالتها أبي العاص الذي بقي‬
‫لخيرة وأعاد النبي ص إليه زوجته‪.‬‬ ‫على شركه بعد أن آمنت هي بأبيها‪ ،‬ولكّنه آمن في الفترةا َ‬
‫كما أّنالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( رزق في أواخر هذا العام ولدًا سّماه إبراهيم من زوجته مارية القبطية‪،‬‬
‫ل‪(1).‬‬‫فأهدى المولدة هدية ثمينة‪ ،‬وعق له في اليوم السابع وحلق شعره وتصدق بوزنه فضة في سبيل ا ّ‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬تاريخ الخميس‪.131|2:‬‬

‫) ‪( 214‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 215‬‬
‫الفصل التاسع‬

‫‪ .1‬أحداث السنة التاسعة من الهجرة‬


‫لصنام‬‫ـ عام الوفود ـ هدم ا َ‬
‫ـ غزوة تبوك ـ مسجد ضرار‬
‫ـ وفد ثقيف ـ إعلن البراءة من المشركين‬

‫‪ .2‬أحداث السنة العاشرة من الهجرة‬


‫ـ وفد نجران و المباهلة ـ وفود القبائل على المدينة‬
‫ل عليه و آله و سّلم(‬‫جة الوداع ـ الخلفة بعد النبي )صّلى ا ّ‬
‫ـحّ‬
‫لخطار الخارجية‬ ‫ـ وضع أساس التعامل مع‪ :‬المرتدين و ا َ‬
‫ـ مرض النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ـ وفاة ابنه إبراهيم )عليه السلم(‬

‫‪ .3‬أحداث السنة الحادية عشرة من الهجرة‬


‫لخيرة‬
‫ـ الكتاب الذي لم يكتب ـ اللحظات ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 216‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 217‬‬

‫أحداث السنة التاسعة من الهجرة‬

‫‪ .1‬عام الوفود‬

‫انتهت السنة الثامنة بسقوط أكبر قاعدة من قواعد الوثنية والشرك‪ ،‬في أيدي المسلمين‪ ،‬الذين انتصروا على‬
‫أعدائهم تمامًا‪ ،‬فأخذت القبائل المتمردة تتقرب إليهم تدريجيًا‪ ،‬وتوالت وفوُدها على النبي )صلى ال عليه وآله‬
‫لعداد الوافدة على النبي‬‫وسلم( تقدم ولءها وتعلن إسلمها وتتقبل الرسالة المحّمدية‪ ،‬مّما دعت تلك الكثرة من ا َ‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( أن يسمى بعام الوفود‪(1).‬‬
‫لسلم انتشر في‬ ‫ناِ‬ ‫ن دراسة الوفود وما دار بينهم و بين الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( تفيد بوضوح بأ ّ‬ ‫إّ‬
‫الجزيرة العربية عن طريق الدعوة والتبليغ‪ .‬وتحدث القرآن الكريم في سورة خاصة عن حضور تلك الوفود‬
‫صُر الّلهَواْلَفْتح * َوَرَأْي َ‬
‫ت‬ ‫لسلم من فتح وانتصار‪ِ):‬إذا جاَء َن ْ‬ ‫على النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" وما حّققه ا ِ‬
‫ن َتّوابا( ‪(2).‬‬
‫سَتْغِفْرُه ِإّنُه كا َ‬
‫ك َوا ْ‬‫حْمِد َرّب َ‬
‫ح ِب َ‬
‫سّب ْ‬
‫ل َأْفواجًا* َف َ‬
‫نا ّ‬‫ن في ِدي ِ‬
‫خُلو َ‬
‫الّناس َيْد ُ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أعّد في هذا‬ ‫ل أّنه بالرغم من ذلك فإ ّ‬ ‫إّ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬سجل المَورخ محمد ابن سعد في الطبقات‪ ، 291|1:‬أسماء ‪ 73‬وفدًا قدموا على الرسول )صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم( طوال السنة ‪9‬هـ‪.‬‬
‫‪ . 2‬سورة النصر‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 218‬‬
‫لمام علي "عليه السلم" إلى أرض طيء‪ ،‬وقد‬ ‫العام عّدة سرايا بعثها إلى جهات معينة‪ ،‬من جملتها سرية ا ِ‬
‫اختصت لهدم مظاهرالوثنّية‪.‬‬
‫ل أّنها‬
‫كما وقعت غزوة واحدة مثل غزوة تبوك‪ ،‬وإن لم يقاتل فيها النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" أحدًا‪ ،‬إ ّ‬
‫كانت تمهيدًا لفتح المناطق الحدودية‪.‬‬

‫لصنام‬
‫‪ .2‬هدم ا َ‬

‫ن الوثنية كجرثومة الكوليرا‪ ،‬تهدم فضائل‬ ‫أدرك النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في ضوء تعاليم الوحي أ ّ‬
‫لنسان الرفيعة‪ ،‬وتجعله كائنًا حقيرًا أمام الطين‬‫لخلق‪ ،‬وتحط من مكانة ا ِ‬ ‫لنسان وشرفه‪ ،‬وتقضي على مكارم ا َ‬ ‫اِ‬
‫ل تعالى أن يجتث جذور الشرك من كيان ذلك المجتمع الموبوء‪ ،‬بإزالة‬ ‫لساس أمره ا ّ‬ ‫والحجر‪ .‬وعلى هذا ا َ‬
‫كّلمظاهر الوثنية وأنواعها وأشكالها‪ ،‬مستخدمًا القوة تجاه الجماعات المعارضة‪ .‬وعلم )صلى ال عليه وآله‬
‫لمام عليًا )عليه السلم( مع ‪ 150‬فارسًا‬ ‫ن في قبيلة طيء صنمًا كبيرًا يقّدس حتى ذلك الوقت‪ ،‬فأرسل ا ِ‬ ‫وسلم( أ ّ‬
‫ليحطم هذا الصنم ويهدم بيته‪.‬‬
‫لسرى إلى المدينة‪ ،‬وهرب رئيسها "عدي بن حاتم‬ ‫لمام )عليه السلم( في مهمته‪ ،‬وعاد بالغنائم وا َ‬ ‫ونجح ا ِ‬
‫ن النبي‬
‫لأّ‬‫لّنه كان نصرانيًا حسب ما ذكر بنفسه‪ ،‬وترك ُأخته في قومه‪ .‬إ ّ‬ ‫الطائي" إلى الشام ملتحقًا بأهل دينه‪َ ،‬‬
‫"صلى ال عليه وآله وسلم" أرجعها إلى أخيها بالشام‪ ،‬فأخذت توبخه مّما صنع من هروبه مع أهله‪ ،‬وتركها‬
‫وحيدة‪ ،‬ثّم طلبت منه أن يذهب إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ويعلن إسلمه‪ ،‬فاحترمه النبي )صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم( عندما قدم إليه في المدينة‪ ،‬وقدم له ما يليق به كأمير وسيد على قومه‪.‬‬
‫ل‪ ،‬أسلم على‬ ‫ولما شاهد من سيرته وأفعاله ما يدل ويَوكد على أّنه نبي ا ّ‬
‫===============‬
‫) ‪( 219‬‬
‫يديه )صلى ال عليه وآله وسلم(‪(1).‬‬

‫‪ .3‬غزوة تبوك‪ :‬وهي قلعة قوّية في طريق حجر والشام‪.‬‬

‫أعّد إمبراطور الروم قّوة عسكرية لمهاجمة المسلمين الذين ازدادت قّوتهم وأعدادهم وخطرهم على الدولة‬
‫لسلحة و المعدات‪ ،‬وتقدمت إلى منطقة‬ ‫الرومانية‪ .‬وتألفت هذه القّوة من ‪ 40‬ألف فارس و كانت مجهزة بأحدث ا َ‬
‫البلقاء‪ ،‬فأمر النبي ص عندها أصحابه بالتهّيو والستعداد لغزو الروم‪ ،‬في موسٍم شديد الحرارة‪ ،‬وجدب وعسرة‪،‬‬
‫لمور الدنيوية‪ ،‬فشارك ‪ 30‬ألف من المسلمين في‬ ‫ب على كّلتلك ا َُ‬ ‫غَل َ‬
‫ل َ‬ ‫ن الدوافع المقّدسة والجهاد في سبيل ا ّ‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫ك لمعرفة‬ ‫حّ‬‫هذه الغزوة تحددت نفقاتها من الزكاة من أهل الغنى والثروة‪ .‬وقد اعتبرت هذه الغزوة خيَر َم َ‬
‫جة الخوف من أن يفتتن بالنساء‬ ‫ن بعضهم تخّلف بح ّ‬ ‫المجاهدين الصادقين من المنافقين والمبدعين‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫طوا َوِإ ّ‬
‫ن‬ ‫سَق ُ‬
‫ن ِلي َول َتْفتّني َأل ِفي الِفْتَنِة َ‬
‫ل اْئَذ ْ‬ ‫ن َيُقو ُ‬
‫الروميات‪ ،‬وهو عذر صبياني أقبح من الذنب‪َ) :‬وِمْنُهْم َم ْ‬
‫طٌة ِبالكاِفرين( ‪(2).‬‬
‫جَهّنَم لُمحي َ‬
‫َ‬
‫لسلم‪ ،‬فثّبطوا الناس عن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫وكان منهم أيضًا المنافقون الذين تظاهروا با ِ‬
‫شّدحّرا َلْو كاُنوا‬‫جَهّنَم َأ َ‬
‫ل ناُر َ‬‫حّر ُق ْ‬
‫وخوفوهم من قّوة الرومان‪ ،‬و اعتذروا بالحر الشديد‪َ) :‬وقاُلوا ل َتْنِفُروا ِفي ال َ‬
‫َيْفَقُهون( ‪(3).‬‬
‫ن مجموعة من الخونة أّلفت شبكة جاسوسية في المدينة‪ ،‬تمكن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من‬ ‫كما أ ّ‬
‫القضاء عليها بهدم المكان الذي اجتمعت به وحرقة‪ ،‬وهو بيت سويلم اليهودي‪.‬‬
‫____________‬
‫لمامية‪.352:‬‬
‫‪ . 1‬مغازي الواقدي‪988|2:‬؛ السيرة النبوية‪578|3:‬؛ الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة ا ِ‬
‫‪ . 2‬التوبة‪.49:‬‬
‫‪ . 3‬التوبة‪.81:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 220‬‬
‫وكذلك تخّلف عنهم المخّلفون الثلثة‪ ،‬الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم‪ ،‬حينما قالوا بأّنهم سيلحقون بركبه‬
‫ل تعالى وعاقبهم‪ ،‬ليكونوا عبرةً لغيرهم‪ .‬كما‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( بعد ما يفرغون من الحصاد‪ ،‬فوّبخهم ا ّ‬
‫تخلف عن الغزوة ولكن بنية صادقة البكاَوون‪ ،‬وذلك لعدم تمّكنهم من المشاركة في الجهاد‪ ،‬لفقرهم و عدم‬
‫حصولهم على دواب تحملهم‪ ،‬ولم يستطع النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يجهز ذلك لهم فقال‪ :‬ل أجد ما‬
‫ي )عليه السلم( فقد أبقاه النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" في‬ ‫لمام عل ّ‬
‫أحملكم عليه‪ .‬كما لم يشارك فيها ا ِ‬
‫لسلم‪ .‬وبالرغم من أّنالنبي‬ ‫المدينة‪ ،‬خوفًا من إثارة فتنة أو قيام انقلب خلل غيابه‪ ،‬بمساعدة القوى المضادة ل ِ‬
‫لمام علي )عليه السلم( ‪" :‬أنت‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( قد استخلف على المدينة"محمد بن مسلمة" فإّنه قال ل ِ‬
‫لمن والستقرار فيها‪.‬‬ ‫خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي و قومي" فكأّنه تعّين كقائد عسكري في المدينة يحفظ ا َ‬
‫لقاويل في عدم اصطحاب النبي )صلى ال عليه وآله‬ ‫ن المنافقين استغلوا ذلك فرصة لنشر الشائعات وا َ‬ ‫ولذا فإ ّ‬
‫لمام )عليه السلم( يسير إلى الرسول )صلى ال‬ ‫لمام علي )عليه السلم( معه في الجيش‪ ،‬مّما جعل ا ِ‬ ‫وسلم( ل ِ‬
‫ل‪ ،‬زعم المنافقون‬ ‫ل‪" :‬يا نبي ا ّ‬
‫لمر قائ ً‬‫عليه وآله وسلم( وهو على بعد ثلثة أميال من المدينة ليسأله عن هذا ا َ‬
‫أّنك إّنما خّلفتني أّنك استثقلتني وتخففت عني" فقال الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( حينئٍذ كلمته التاريخية‬
‫لدلة القاطعة على إمامته وخلفته بعده "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪َ" :‬كِذبوا ولكّني‬ ‫الخالدة التي اعتبرت من ا َ‬
‫ي أن تكون مّني بمنزلة هارون من‬ ‫ت ورائي‪ ،‬فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك‪ ،‬أفل ترضى يا عل ّ‬ ‫خّلفتك لما ترك َ‬
‫ي بعدي"‪(1).‬‬ ‫ل أّنه ل نب ّ‬
‫موسى إ ّ‬
‫وهكذا فقد استعرض النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( المعسكر قبل تحّرك الجيش‪ ،‬وألقى فيهم خطابًا هامًا‬
‫لتقوية معنويات المجاهدين‪ ،‬وشرح فيه هدفه من هذه التعبئة العامة الشاملة‪.‬‬

‫____________‬
‫لسماع‪.450|1:‬‬
‫‪ . 1‬إمتاع ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 221‬‬
‫ن إيمانهم العميق‪ ،‬وحّبهم‬ ‫لأ ّ‬
‫ب ومشاق كثيرة‪ ،‬ولذا سمى هذا الجيش بجيش "العسرة"‪ ،‬إ ّ‬ ‫وفي الطريق واجه متاع َ‬
‫لمر‪ .‬وعندما مروا بأرض ثمود‪ ،‬غطى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وجَهه‬ ‫للهدف المقدس‪ ،‬سّهل عليهم ا َ‬
‫لوأنتم باكون خوفًا أن يصيبكم مثلما‬ ‫بثوبه وأمر أصحابه بسرعة السير‪" :‬ل تدخلوا بيوت الذين ظلموا إ ّ‬
‫أصابهم"‪ .‬كما نهاهم أن يشربوا من مائها ول يتوضأوا به للصلة ول يطبخ به طعام‪ (1).‬ولكّنهم شربوا عندما‬
‫وصلوا إلى البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح )عليه السلم( فنزلوا عليها بأمر الرسول )صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم( ‪.‬‬
‫ك بعضهم في‬ ‫لمور الغيبية حتى ل يَوّثر ش ّ‬ ‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أظهر في الطريق بعض ا َُ‬ ‫كما أ ّ‬
‫إيمان الخرين‪ ،‬مثلما جرى لناقته التي ضلت الطريق‪ ،‬وبدأ المنافقون في التقليل من قّوة النبي )صلى ال عليه‬
‫ل تعالى‪ .‬وتنبأ عن أبي ذر و ما سيجري‬ ‫ل سبحانه و تعالى‪ ،‬فأخبرهم بموقعها‪ ،‬بعلم من ا ّ‬ ‫وآله وسلم( واّتصاله با ّ‬
‫ل أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده‪(2).‬‬ ‫خر عنهم فقال‪ :‬رحم ا ّ‬ ‫له عندما تأ ّ‬
‫ل حال‪ ،‬وصل الجيش في مطلع شهر شعبان إلى أرض تبوك‪ ،‬دون أن يجدوا أثرًا لجيش الروم الذي كان‬ ‫على ك ّ‬
‫ل عدم مواجهة المسلمين‪ ،‬ومَوكدين حيادهم تجاه الحوادث والوقائع التي تجري‬ ‫قد انسحب إلى داخل بلده مفض ً‬
‫في الجزيرة العربية‪ .‬فجمع النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( القادة و شاَوَرهم في أمر التقّدم في أرض العدو‪ ،‬أو‬
‫طه بعد المشاق والتعب‪ ،‬إضافة إلى أّنهم حّققوا هدفهم‬ ‫العودة إلى العاصمة‪ .‬فقرروا العودة ليستعيد الجميُع نشا َ‬
‫سْر‪،‬‬‫بتخويف العدو وإلقاء الرعب في قلوبهم‪ ،‬فقالوا للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ :‬إن كنت ُأمرت بالسير َف ِ‬
‫فقال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬لو ُأمرت به ما استشرُتكم فيه"‪ (3).‬فاحترم‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪521|2:‬؛ السيرة الحلبية‪.134|3:‬‬
‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪521|2:‬؛ السيرة الحلبية‪.134|3:‬‬
‫‪ . 3‬مغازي الواقدي‪.1019|3 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 222‬‬
‫الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( آراء هَولء وقرر العودة إلى المدينة‪.‬‬
‫ن الوقت مناسب للّتصال ببعض حّكام ورَوساء المناطق الحدودية‪،‬‬ ‫ورأى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أ ّ‬
‫ليعقد معهم معاهدات أمن وعدم إعتداء‪ ،‬ليأمن جانبهم‪ .‬فاتصل شخصيًا بزعماء أيلة وأذرح والجرباء‪ .‬وعندما‬
‫قدم يوحنا بن رَوبة زعيم أيلة‪ ،‬إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قدم له فرسًا أبيض وأعلن عن طاعته له‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬فاحترمه )صلى ال عليه وآله وسلم( وصالحه وكساه بردًا يمانيًا‪ ،‬وقبل أن يدفع‬
‫جزية قدرها ‪ 300‬دينار سنويًا على أن يبقى على دينه المسيحي‪ ،‬ووقع الطرفان على كتاب أمان‪ ،‬فضمن بذلك‬
‫ل‪.‬‬
‫لسلمية شما ً‬ ‫أمن المنطقة ا ِ‬
‫وفي طريق تبوك تقع منطقة دومة الجندل ذات الخضرة والماء‪ ،‬وتبعد عن الشام ‪ 50‬فرسخًا‪ ،‬وعن المدينة‬
‫ل مسيحي هو‪ :‬أكيدر بن عبد الملك‪ .‬فأرسل النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قّوة بقيادة‬ ‫عشرة أميال‪ ،‬حكمها رج ٌ‬
‫لخضاعه‪ ،‬فتمكن من السيطرة عليهم وإحضار أكيدر إلى الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪،‬‬ ‫خالد بن الوليد ِ‬
‫فأعلن خضوعه وقبل دفع الجزية والبقاء على دينه‪ ،‬وكتب عهدًا وصالحه‪ ،‬وأهداه‪ ،‬ثّم أوصله إلى بلده بحراسة‬
‫لعمال العسكرية في تبوك‪.‬‬ ‫خاصة‪ (1).‬فانتهت بذلك ا َ‬
‫ويمكن تقييم نتائج تلك العمليات العسكرية كما يأتي‪:‬‬
‫لسلمي في المناطق الخارجية‪ ،‬مّما أثر في القبائل هناك فتسارعوا بالقدوم‬ ‫‪ .1‬إبراز مكانة وسمعة الجيش ا ِ‬
‫والوفود على الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بعد عودته من تبوك‪ ،‬لتعلن خضوعها وطاعتها‪ ،‬حتى سّمي‬
‫ذلك العام بعام الوفود‪.‬‬
‫‪ .2‬ضمان أمن الحدود بعد توقيع المعاهدات والتفاقيات مع حّكام تلك‬
‫____________‬
‫لنوار‪246|21 :‬؛ طبقات ابن سعد‪.166|2 :‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 223‬‬
‫المناطق‪.‬‬
‫‪ .3‬تمهيد الطريق للمسلمين لفتح الشام بعد ذلك‪ ،‬عندما تعلموا منه "صلى ال عليه وآله وسلم" أساليب تكوين‬
‫وإعداد الجيوش الكبرى لمحاربة القوى العظمى‪.‬‬
‫‪ .4‬تمييز المَومن عن المنافق‪.‬‬
‫ن اثني عشر منافقًا‬ ‫لأّ‬ ‫وبعد أن مكث )صلى ال عليه وآله وسلم( عشرين يومًا في تبوك‪ ،‬توجه إلى المدينة‪ ،‬إ ّ‬
‫تآمروا لغتيال النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" قبل أن يصل إلى عاصمته‪ ،‬كان ثمانية منهم من قريش‬
‫والخرون من أهل المدينة‪ ،‬وذلك بتنفير ناقته في العقبة ـ بين المدينة والشام ـ ليطرحوه في الوادي‪ ،‬غير أّنه‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( علم بمَوامرتهم فأرعبهم بصياحه فيهم‪ ،‬فتركوا العقبة هاربين‪ ،‬ورفض )صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم( أن يرسل من يقضي عليهم أو اللحاق بهم‪ .‬ثّم وصل الجيش إلى المدينة فرحين مسرورين‬
‫لعداء‪ ،‬وإلقاء الرعب في قلب دولة كبيرة‪ ،‬ولما أرادوا التفاخر والتباهي‬ ‫معتزين بما حّققوه من انتصار على ا َ‬
‫لّ‬
‫ن‬ ‫ن النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" منعهم من ذلك‪َ ،‬‬ ‫لسلم‪ ،‬فإ ّ‬‫على الذين تخّلفوا بعذر وقلوبهم مع جنود ا ِ‬
‫النّية الصالحة والفكر الطّيب يقوم مقام العمل الصالح الطّيب‪.‬‬
‫ثّم أقدم )صلى ال عليه وآله وسلم( على معاقبة الثلثة الذين تخّلفوا عن الجيش بأعذار واهية وهم‪ :‬هلل بن‬
‫ُأمية‪ ،‬كعب بن مالك‪ ،‬ومرارة بن الربيع‪ ،‬فقد أعرض بوجهه الكريم عنهم‪ ،‬ولم يكترث بهم حينما قّدموا التهنئة‬
‫بعودتهم مظفرين‪ ،‬وقال فيهم‪ :‬ل تكّلموا أحدًا من هَولء الثلثة‪ ،‬مّما أثر في التعامل معهم تجاريًا‪ ،‬فكسدت‬
‫حَب ْ‬
‫ت‬ ‫ض ِبما َر ُ‬
‫لر ُ‬‫عَلْيِهُم ا َ‬
‫ت َ‬
‫حّتى ِإذا ضاَق ْ‬
‫بضائعهم ‪ ،‬وانقطعت روابطهم مع أقربائهم‪ ،‬فأثر ذلك في نفسياتهم‪َ ) :‬‬
‫سُهْم( ‪(1).‬‬
‫عَلْيِهْم َأْنف ُ‬
‫ت َ‬‫َوضاَق ْ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬التوبة‪.118:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 224‬‬
‫ل‪ ،‬فأعلن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عفوه عنهم‪،‬ورفع المقاطعة عنهم‪(1).‬‬ ‫فقاموا بالتوبة إلى ا ّ‬
‫وكانت هذه آخر معركة اشترك فيها الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( إذ لم يشارك بعدها في أّيقتال‪.‬‬
‫‪ .4‬مسجد ضرار‬

‫أصبح أبو عامر والد حنظلة غسيل الملئكة‪ ،‬الذي استشهد في ُأحد‪ ،‬من المتعاونين مع المنافقين‪ ،‬الذين خططوا‬
‫لسلم‪،‬ولذا قرر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( اعتقاله فهرب إلى مّكة و منها‬ ‫دائمًا للتخريب و إفساد أعمال ا ِ‬
‫إلى الطائف ثّم إلى الشام‪ ،‬فقاد منها شبكة تجسسية لصالح المنافقين‪ .‬وكتب في إحدى رسائله إلى جماعته‪ ،‬يطلب‬
‫منهم أن يبنوا مسجدًا في قباء في مقابل مسجد المسلمين ليتخذوه مركزًا لتخطيط وتنفيذ مَوامراتهم‪ .‬وكان النبي‬
‫"صلى ال عليه وآله وسلم" قد رفض من قبل طلبهم هذا قبل مسيره إلى تبوك‪ ،‬فاستغلوا غيابه فأقاموه‪ .‬و لّما‬
‫لأّ‬
‫ن‬ ‫عاد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( طلبوا منه أن يَودي ركعتين فيه ليسبغوا عليه الصفة الشرعية‪ ،‬إ ّ‬
‫لمر والنية‪ ،‬وسّماه مسجد ضرار ووصفه‬ ‫جبرائيل )عليه السلم( أوحى إليه "صلى ال عليه وآله وسلم" بحقيقة ا َ‬
‫ن اْلُمَْوِمِني َ‬
‫ن‬ ‫ضرارًا َوُكْفرًا َوَتْفِريقًا َبْي َ‬ ‫جدًا ِ‬ ‫سِ‬ ‫خُذوا َم ْ‬‫ن اّت َ‬
‫ليجاد الفرقة والتآمر بين المسلمين‪َ):‬واّلِذي َ‬ ‫بأّنه مركز ِ‬
‫ن* ل َتُقْم ِفيِه َأَبدًا‬ ‫شَهُد ِإّنُهْم َلكاِذُبو َ‬‫ل َي ْ‬‫سنى َوا ّ‬ ‫لالح ْ‬‫ن َأرْدنا ِإ ّ‬‫حلُفن ِإ ْ‬‫ل َوَلَي ْ‬‫ن َقْب ُ‬
‫سوَلُه ِم ْ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫با ّ‬‫َوِإْرصادًا ِلَمْنحاَر َ‬
‫ن(‪).‬‬‫طّهري َ‬ ‫ب اْلُم ّ‬‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬‫ن َيَتطّهُروا َوا ّ‬ ‫ن َأ ْ‬‫ل ُيحِّبو َ‬
‫ن َتُقوَم فيِه ِفيِه ِرجا ٌ‬ ‫ق َأ ْ‬
‫حّ‬ ‫ن َأّول َيوٍم َأ َ‬‫على الّتْقوى ِم ْ‬
‫س َ‬‫س َ‬ ‫جٌد ُأ ّ‬
‫سِ‬‫َلَم ْ‬
‫‪(2‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة الحلبية‪.165|3 :‬‬
‫‪ . 2‬التوبة‪.107:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 225‬‬
‫لرض‪ ،‬فتحول مكانه إلى مزبلة فيما بعد‪(1).‬‬ ‫مّما دعا الرسولص أن يأمر فورًا بتدميره وإحراقه وتسويته با َ‬
‫ل بن ُأبي بعد شهرين من‬‫وكان ذلك ضربة قوّية للمنافقين‪ ،‬إذ انتهى حزبهم الخبيث وهلك حاميهما الوحيد عبد ا ّ‬
‫غزوة تبوك‪.‬‬

‫‪ .5‬وفد ثقيف‬

‫لسلمي‪ ،‬فلم‬ ‫وهي من القبائل العنيدة التي تصلبت في موقفها أمام المسلمين‪،‬وخاصة عندما حاصرهم الجيش ا ِ‬
‫ن موقفهم تغّير بعد غزوة تبوك التي أشهرت قّوة المسلمين‪،‬وخوفت عّدة جهات‪ ،‬مّما دفع‬ ‫لأّ‬ ‫يتنازلوا أو يسلموا‪ ،‬إ ّ‬
‫عروة بن مسعود الثقفي أحد سادتهم إلى أن يقدم إلى المدينة ويعلن إسلمه على يدي الرسول )صلى ال عليه‬
‫لسلم‪ ،‬فرشقوه بالنبال والسهام حتى استشهد‪.‬‬
‫وآله وسلم( ثّم يرجع إلى قومه داعيًا لهم إلى ا ِ‬
‫ن موقفهم المتصلب تغّير بعد فترة حينما علموا أّنمصالحهم التجارية وغيرها معرضة للخطر إذا لم يحسنوا‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫علقاتهم بالمسلمين‪ ،‬فقرروا التوجه إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وإعلن إسلمهم‪ ،‬فأوفدوا عنهم عبد‬
‫ياليل مع خمسة رجال للتفاوض مع النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪،‬وهناك أمر النبيبإكرامهم‪،‬وعين "خالد بن‬
‫سعيد" قائمًا بشَوون صيافتهم‪.‬‬
‫وفي المفاوضات التي جرت بين الطرفين‪ ،‬اشترط عليهم الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" أن يهدموا‬
‫لمر‪ ،‬ولكّنهم أطاعوه بالتالي على أن يقوم أشخاص غرباء ـ ليسوا من قبيلتهم ـ بهدمها‪.‬‬ ‫لصنام فرفضوا أّول ا َ‬ ‫اَ‬
‫كما طلبوا إعفاءهم من الصلة‪ ،‬فقال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬ل خير في دين ل صلة فيه"‪ .‬ثّم وّقع‬
‫____________‬
‫لنوار‪.253|20 :‬‬ ‫‪ . 1‬السيرة النبوية‪530|2:‬؛ بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 226‬‬
‫الطرفان على شروط المعاهدة التي تّمت بينهما‪ ،‬واختار "صلى ال عليه وآله وسلم" منهم عثمان بن أبي‬
‫العاص)‪ (1‬الذي حرص على التفّقه في الدين وتعّلم القرآن‪ ،‬فأّمره عليهم وجعله نائبًا دينيًا وسياسيًا عنه في قبيلة‬
‫ثقيف‪ ،‬وأن يصلي بالناس جماعة‪ ،‬مراعيًا أضعفهم‪" :‬يا عثمان تجاوز في الصلة ـ أي خفف الصلة وأسرع فيها‬
‫ن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة"‪ .‬ثّم كّلف )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫ـ وأقدر الناس بأضعفهم‪،‬فإ ّ‬
‫لصنام هناك‪(2).‬‬ ‫أبا سفيان و المغيرة بن شعبة‪ ،‬للتوجه معهم لهدم ا َ‬
‫‪ .6‬إعلن البراءة من المشركين في منى‬

‫في أواخر هذا العام ـ ‪9‬هـ ـ نزل جبرائيل )عليه السلم( على النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" مع عّدة آيات من‬
‫سورة البراءة‪ ،‬يطلب أن يتلوها رجل يختاره الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في موسم الحج‪ .‬وقد تضمنت‬
‫لما التزم بها أصحابها ولم ينقضوها ـ فيبلغ ذلك إلى‬ ‫لمان عن المشركين‪ ،‬وإلغاء جميع العهود ـ إ ّ‬ ‫اليات رفع ا َ‬
‫لسلمية خلل أربعة أشهر‪ ،‬فإذا لم يتركوا ما هم عليه من‬ ‫رَووس المشركين ليوضحوا موقفهم تجاه الدولة ا ِ‬
‫لمان‪ .‬أّما الدوافع التي كانت وراء‬‫لربعة أشهر‪ ،‬نزعت عنهم الحصانة ورفع عنهم ا َ‬ ‫شرك ووثنية خلل ا َ‬
‫صدور هذا العهد‪ :‬البراءة‪:‬‬
‫‪ .1‬كان التقليد السائد عند العرب جاهليًا أن يعطي زائر الكعبة ثوبه الذي يدخل به مكة إلى فقير‪ ،‬ويطوف بثوب‬
‫آخر‪ ،‬وإذا لم يكن له ثوب آخر‪ ،‬فإّنه يستعيره ليطوف به حول البيت‪ ،‬وإن لم يجد طاف عريانًا بادي السوأة‪،‬‬
‫لمر الذي‬ ‫حتى لو كانت إمرأة‪ ،‬فإّنها تطوف عارية بالبيت على مرأى من الناس‪ ،‬وهو ا َ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬كان أحدثهم سنًا‪.‬‬
‫‪ . 2‬السيرة النبوّية‪537|2:‬؛ السيرة الحلبية‪216|3:‬؛ ُأسد الغابة‪.216|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 227‬‬
‫انطوى على نتائج سيئة‪.‬‬
‫لسلم وإظهار قّوته في خلل عشرين عامًا‪ ،‬رأى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أن‬ ‫‪ .2‬كما أّنه بعد انتشار ا ِ‬
‫لنسانية‪ ،‬فكان لبّد من‬
‫للهية وا ِ‬ ‫يستخدم القّوة لضرب كّلمظاهر الوثنية‪ ،‬على أّنها نوع من العدوان على الحقوق ا ِ‬
‫استئصال جذور الفساد باستخدام القّوة العسكرية كآخر وسيلة‪.‬‬
‫لسلمية‪ ،‬فكان على الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يقوم‬ ‫ج كان أكبر العبادات والشعائر ا ِ‬ ‫ن الح ّ‬‫‪ .3‬ثّم إ ّ‬
‫ج على الوجه الصحيح بعيدًا عن تأثير أيّ نوع من الشوائب والزوائد‪ ،‬فكان لبّد من‬ ‫بتعليم المسلمين مناسك الح ّ‬
‫اشتراك النبي ص بنفسه في تعليمهم هذه العبادة بصورة عملية‪ ،‬ولكن بشرط أن تخلو منطقة الحرم ونواحيها من‬
‫للهي خالصًا للموحدين والعباد الواقعيين‪.‬‬ ‫لصنام‪ ،‬ليصبح الحرم ا ِ‬ ‫المشركين العابدين ل َ‬
‫ي قهر أو فرض‪ ،‬بل‬ ‫ل ّ‬‫لّنالعقائد ل تخضع َ‬ ‫‪ .4‬والنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لم يحارب لفرض العقيدة َ‬
‫لصنام‪.‬‬ ‫لوثان‪ ،‬بواسطة هدم بيوت ا َ‬ ‫انحصر نضاله في القضاء على مظاهر العتقاد با َ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( اختار أبا بكر بعد أن علمه تلك اليات من سورة البراءة‪ ،‬ووجه‬ ‫ل ذلك فإ ّ‬ ‫ولك ّ‬
‫ن جبرائيل )عليه السلم(‬ ‫لأ ّ‬
‫لضحى‪ ،‬إ ّ‬ ‫ل‪ ،‬ليتلوها على مسامع الناس يوم عيد ا َ‬ ‫صوب مكة يرافقه أربعون رج ً‬
‫ل أنت أو رجل منك" مّما جعل النبي )صلى ال عليه‬ ‫أخبره "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪" :‬إّنه ل يَوّدي عنك إ ّ‬
‫لمام علي )عليه السلم( القيام بهذه المهمة‪" :‬إلحق أبا بكر فخذ براءة من يده و إمض‬ ‫وآله وسلم( أن يطلب من ا ِ‬
‫بها إلى مّكة و انبذ بها عهد المشركين إليهم‪ ،‬أي إقرأ على الناس الوافدين إلى منى من شتى أنحاء الجزيرة‬
‫لربع التالية‪:‬‬
‫العربية براءة‪ ،‬بما فيها النقاط ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 228‬‬
‫‪ .1‬ل يدخل المسجد مشرك‪.‬‬
‫‪ .2‬ل يطوف بالبيت عريان‪.‬‬
‫‪ .3‬ل يحج بعد هذا العام مشرك‪.‬‬
‫‪ .4‬من كان له عهد عند الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( فهو له إلى مّدته‪ ،‬أي يحترم ميثاقه وماله و نفسه‬
‫إلى يوم انقضاء العهد‪ ،‬ومن لم يكن له عهد ومّدة من المشركين فإلى أربعة أشهر‪ ،‬فإن أخذناه بعد أربعة أشهر‬
‫جة‪ .‬ويعني هذا أّنهذا الفريق من المشركين‪ ،‬عليه أن يحدد‬ ‫قتلناه‪ ،‬ويسري هذا ابتداء من اليوم العاشر من ذي الح ّ‬
‫لسلمية‪ ،‬فإّما النضمام إليها وترك مظاهر الشرك‪ ،‬و إّما القتال‪(1).‬‬ ‫موقفه من الدولة ا ِ‬
‫جحفة وأبلغه أوامر النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" فأعطاه‬ ‫لمام )عليه السلم( أبا بكر في ال ُ‬ ‫وقد أدرك ا ِ‬
‫اليات‪ ،‬ورجع أبو بكر إلى المدينةمستفسرًا عن سبب موقف النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فأخبره بما أمره‬
‫جبرائيل )عليه السلم( ‪.‬‬
‫لسلم‪ ،‬فتم بذلك استئصال جذور الوثنية‬ ‫ولم يمض على قراءتها المّدة المعلومة‪ ،‬حتى اعتنق أكثر المشركين ا ِ‬
‫لمام علي )عليه السلم(‬‫في أواسط السنة ‪ 10‬هـ‪ ،‬ويَوكد هذا الموقف على نّية النبيبالكشف عمليًا عن أهلية ا ِ‬
‫وصلحيته للقيام بُأمور الدولة في المستقبل‪.‬‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬فروع الكافي‪.326|1 :‬‬

‫) ‪( 229‬‬
‫أحداث السنة العاشرة من الهجرة‬

‫‪ .1‬ورود وفد نجران‪ ،‬و المباهلة‬

‫تقع نجران على الحدود بين الحجاز و اليمن‪ ،‬واعتنق أهلها المسيحية‪ ،‬وكان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫لسلم أو دفع الجزية‪ ،‬أو الحرب بين الطرفين‪ ،‬فتشاور مع‬ ‫قدكتب إلى ُأسقف نجران أبو حارثة يدعوه إلى ا ِ‬
‫رجاله وشخصيات دينية كان من ضمنهم شرحبيل الذي عرف بالعقل والحكمة والتدبير فقال‪ :‬قد علمُتما وعد ا ّ‬
‫ل‬
‫إبراهيم في ذّرية إسماعيل من النبّوة‪ .‬ثّم اّتفقوا على إرسال وفد منهم إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ضّم‬
‫ستين شخصًا من أهل العلم بقيادة ثلثة من أساقفتهم‪:‬‬
‫لعظم والممثل الرسمي للكنائس الرومية في الحجاز‪.‬‬ ‫ـ أبو حارثة بن علقمة‪ :‬أسقف نجران ا َ‬
‫ـ عبد المسيح ‪ :‬رئيس الوفد‪.‬‬
‫ليهم‪ :‬من الشخصيات المقّدرة عندهم‪(1).‬‬ ‫ـاَ‬
‫وحينما وصلوا المدينة ودخلوا المسجد لمقابلة النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" في ملبسهم الخاصة من ديباج‬
‫لمام علي )عليه‬‫وحرير وذهب‪ ،‬والصلبان في أعناقهم‪ ،‬انزعج النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لذلك فأخبرهم ا ِ‬
‫السلم(‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬السيرة الحلبية‪.211|3:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 230‬‬
‫لكرم )صلى ال عليه وآله وسلم( الذي‬ ‫بأن يضعوا حللهم وخواتيمهم ثّم يعودوا إليه‪ ،‬فدخلوا من ثّم على النبي ا َ‬
‫لذن بالصلة ـ أي صلتهم ـ فأذن لهممدّلل بذلك على التسامح الديني الذي‬ ‫احترمهم وتقّبل هداياهم‪ ،‬ثّم طلبوا ا ِ‬
‫لسلم‪.‬‬ ‫لكرم )صلى ال عليه وآله وسلم( وا ِ‬ ‫تميز به الرسول ا َ‬
‫ثّم جرت المفاوضات و المناقشات الدينية بينهم و بين النبي ص وخاصة فيما يرتبط بالسيد المسيح‪ ،‬فأوضح لهم‬
‫ل في القرآن الكريم‪ ،‬و أّنه بشر وليس إلهًا ولكّنهم لم يرضخوا لمنطق النبي ودلئله‬ ‫النبي ص ما جاء حوله مفص ً‬
‫ع َأْبناَءنا‬
‫ل َتعاَلْوا َنْد ُ‬
‫ك ِمَنالِعْلِم َفُق ْ‬
‫ن َبْعِدماجاَء َ‬
‫ك فيِه ِم ْ‬‫جَ‬ ‫ن حا ّ‬ ‫فدعاهم إلى المباهلة بعدما نزلت عليه اليات‪َ) :‬فَم ْ‬
‫على الكاِذبين( ‪(1).‬‬ ‫ل َ‬ ‫تا ّ‬ ‫جَعل َلْعَن َ‬‫ل َفَن ْ‬
‫سُكْم ُثّم َنْبَتِه ْ‬
‫سنا َوَأْنُف َ‬
‫َوَأْبناَءُكْم َوِنساَءنا َوِنساَءُكْم َوَأْنُف َ‬
‫واّتفق الطرفان على إجراء المباهلة في الصحراء خارج المدينة‪ ،‬فاختار الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( من‬
‫لمامان الحسن‬ ‫لمام علي )عليه السلم( والسيدة فاطمة الزهراء )عليها السلم( وا ِ‬ ‫أهله أربعة أشخاص فقط هم‪ :‬ا ِ‬
‫و الحسين "عليهما السلم" فلم يكن غيرهم أطهر نفسًا وأقوى وأعمق إيمانًا‪ .‬وفي الموعد المحدد سار النبي‬
‫لمام‬
‫لمام الحسين )عليه السلم( وأخذ بيد ا ِ‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( إلى الموقع بأسلوب مميز‪ ،‬فقد احتضن ا ِ‬
‫لمام علي )عليه السلم( خلفها‪ ،‬وهو‬ ‫الحسن )عليه السلم( وسارت السيدة الزهراء)عليها السلم( خلفه ‪ ،‬وا ِ‬
‫ت فأّمُنوا‬‫يقول‪ :‬إذا دعو ُ‬
‫ن ذلك يدل على صدقه وثقته‬ ‫وكان زعماء الوفد النجراني قد قرروا أّنه إذا خرج النبيبأهله فقط‪ ،‬لم يباهلوه فإ ّ‬
‫بحاله‪ ،‬فلما شاهدوا ذلك بأنفسهم اندهشوا له‪ ،‬فكيف خرج النبيبابنته الوحيدة وأفلذ كبده المعصومين‬
‫للمباهلة‪،‬فأدركوا أّنهواثق من نفسه ومن دعوته‪ ،‬إذ لو لم يكن كذلك لما خاطر بأحبائه ولما عرضهم للبلء‬
‫السماوي‪ ،‬ولهذا قال ُأسقف نجران‪ :‬يا معشر‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬آل عمران‪.61:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 231‬‬
‫لزاله بها‪ ،‬فل تباهلوا فتهلكوا ول يبقى على‬ ‫ل من مكانه َ‬‫ل أن يزيل جب ً‬ ‫النصارى‪ ،‬إّني أرى وجوهًا لو شاء ا ّ‬
‫لرض نصراني إلى يوم القيامة‪ .‬فاّتفقوا بذلك على عدم أداء المباهلة‪ ،‬واستعدادهم لدفع الجزية سنويًا للنبي‬ ‫وجه ا َ‬
‫لسلمية بالدفاع عنهم‪.‬‬ ‫"صلى ال عليه وآله وسلم" في مقابل قيام الدولة ا ِ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( خرج يوم المباهلة وعليه مرط ـ كساء ـ‬ ‫ن رسول ا ّ‬ ‫وجاء عن السيدة عائشة‪ :‬أ ّ‬
‫جل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثّم جاء الحسين فأدخله‪ ،‬ثّم فاطمة ثّم علي‪ ،‬ثّم قال‪ِ) :‬إّنما ُيِريُد ا ّ‬
‫ل‬ ‫مر ّ‬
‫طِهيرًا(‪(1).‬‬
‫طّهرُكْم َت ْ‬
‫ت َوُي َ‬
‫ل البْي ِ‬‫س َأْه َ‬‫ج َ‬
‫ِلُيْذِهَبَعْنُكُم الّر ْ‬
‫حة نبّوة النبي )صلى ال‬ ‫ي على فضل أصحاب الكساء‪ ،‬وبرهان على ص ّ‬ ‫ن ذلك دليل قو ّ‬ ‫ويَوكد الزمخشري‪ ،‬أ ّ‬
‫عليه وآله وسلم( ‪.‬‬
‫ن كتاب الصلح كتب عام ‪10‬هـ وفي يوم‬ ‫وأّما عن وقت حدوث المباهلة‪ ،‬فقد جاء أّنه ل خلف بين المَورخين بأ ّ‬
‫لصح‪ ،‬بينما رأى فريق آخر أّنه كان‬ ‫جة‪.‬ويذكر السيد ابن طاووس أّنه كان يوم ‪ 24‬وهو ا َ‬ ‫‪ 25‬من شهر ذي الح ّ‬
‫في يوم ‪ 21‬أو ‪ 27‬من الشهر نفسه‪(2).‬‬
‫ي كتاب آخر‪ ،‬مشيرًا‬ ‫صلة لم ترد في أ ّ‬ ‫لقبال بصورة مف ّ‬ ‫وقد جاء عن السيد ابن طاووس قصة المباهلة في كتاب ا ِ‬
‫ن محتوياته اقتبست من كتابين‪:‬‬ ‫بأ ّ‬
‫لبي الفضل محّمد بن عبد المطلب الشيباني‪(3).‬‬ ‫‪ .1‬كتاب المباهلة َ‬
‫جة تصنيف الحسن بن إسماعيل بن إشناس‪(4).‬‬ ‫‪ .2‬كتاب عمل ذي الح ّ‬
‫____________‬
‫لحزاب‪.33:‬‬ ‫‪.1‬اَ‬
‫لقبال‪.743:‬‬ ‫‪.2‬اِ‬
‫لخرى لم يكن موثوقًا به‪.‬‬ ‫ن له فترتين من الحياة‪ ،‬كان في إحداها موثوقًا به‪ ،‬وفي ا َُ‬ ‫‪ . 3‬يرى النجاشي أ ّ‬
‫لمامية‪ ،‬توفي ‪460‬هـ ونقل أحاديث المباهلة‪.‬‬ ‫‪ . 4‬من مشايخ الطائفة ا ِ‬

‫===============‬
‫) ‪( 232‬‬
‫جة عام ‪10‬هـ‪ ،‬أ ّ‬
‫ن‬ ‫ن الواقعة لم تحدث في شهر ذي الح ّ‬ ‫ن الدراسة العلمية تثبت أ ّ‬
‫أما رأينا حول توقيت المباهلة‪ ،‬فإ ّ‬
‫ج في هذه السنة‪ ،‬وفي اليوم ‪ 18‬من هذا الشهر ـ و هو يوم‬ ‫الرسول ص كان قد توجه إلى مّكة لتعليم مناسك الح ّ‬
‫لمر‬‫الغدير‪ ،‬نصب عليًا )عليه السلم( في غدير خم)‪ (1‬خليفة على المسلمين من بعده‪ ،‬ولم تكن حادثة الغدير با َ‬
‫لمام علي )عليه السلم(‬ ‫الهّين حتى يتابع النبي ص سفره فورًا إلى المدينة‪ ،‬إذ أّنه نصب خيمة جلس فيها ا ِ‬
‫جة‪ ،‬حيث بدأت ُأّمهات المَومنين في التهنئة عند‬ ‫ليدخل عليه المهّنئون‪،‬واستمر ذلك حتى ليلة ‪ 19‬من ذي الح ّ‬
‫نهاية المراسيم‪ ،‬فل يمكن لذلك أن يغادر الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" غدير خم في يوم ‪ ،19‬نظرًا‬
‫جاج الذين كانوا يودعون النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في هذه البقعة‪.‬‬ ‫لوجود الكثير من الح ّ‬
‫ن النظرية المذكورة في توقيت المباهلة ل تحظى بالعتبار الكافي‪ ،‬فلبّد لمعرفة زمن‬ ‫والشواهد التاريخية تَوكد أ ّ‬
‫صي‪ .‬وأّما‬ ‫الحادثة التي هي من مسلمات القرآن والتفسير والحديث‪ ،‬تحّري المزيد من التحقيق والدراسة والتق ّ‬
‫ن الشيخ الطوسي اختاره استنادًا إلى روايات َنَقلها في كتابه‪ ،‬مع‬ ‫لّ‬‫سبب اختيار العلماء للوقت والزمن‪ ،‬فذلك َ‬
‫وجود رجال غير ثقات ضمن سنده‪.‬‬
‫لسلمي الجميلة و‬ ‫وتعتبر قصة مباهلة الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( مع وفد نجران من أحداث التاريخ ا ِ‬
‫ن عددًا من العلماء‬‫لأّ‬ ‫صر بعض المفسرين والمَورخين في رواية تفاصيلها وتحليلها‪ ،‬إ ّ‬ ‫المثيرة‪ ،‬وإن ق ّ‬
‫لثير في الكامل‪ ،‬تناولوها بدقائقها‪(2).‬‬ ‫لمام الفخر الرازي في تفسيره‪ ،‬وابن ا َ‬ ‫كالزمخشري في الكشاف‪ ،‬وا ِ‬

‫____________‬
‫لحمر‪،‬وتقرب من رابغ الن‪ ،‬و ‪ 4‬أميال من‬ ‫‪ . 1‬تبعد عن الجحفة ميلين‪ ،‬والجحفة على ‪ 6‬أميال من البحر ا َ‬
‫مكة‪ .‬أّما بحساب المقاييس الحديثة فهي تبعد عن مّكة ‪ 220‬كم‪ .‬والميل عبارة عن ‪ 3‬آلف ذراع‪ ،‬والفرسخ‬
‫ن الميل ‪ 4‬آلف ذراع‪،‬والفرسخ ‪ 12‬ألف ذراع‪ .‬و الميل ثلث الفرسخ‪،‬والفرسخ‬ ‫يساوي ‪ 9‬آلف ذراع‪ ،‬و قيل إ ّ‬
‫يعادل ‪ 3‬أميال‪.‬‬
‫‪ . 2‬الكشاف‪382|1 :‬؛ مفاتيح الغيب للرازي‪471|2:‬؛ الكامل‪.112|2 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 233‬‬
‫كما أّنها وما نزل فيها من القرآن الكريم تعتبر أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة‪ ،‬في الكشف عن مقام ومكانة من‬
‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" والذين يتخذهم الشيعة أئّمة وقادة لهم‪ ،‬فالية الكريمة اعتبرت‬
‫باهل بهم رسول ا ّ‬
‫لمام الحسن والحسين "عليهما السلم" أبناء للرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( والسّيدة فاطمة الزهراء )عليها‬‫اِ‬
‫السلم( هي المرأة الوحيدة التي ترتبط بالرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( وعّبر عن علي )عليه السلم(‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬أي من حيث الصفات النفسية‬‫بأنفسنا‪ ،‬فكان بحكم هذه الية بمنزلة نفس رسول ا ّ‬
‫والمَوهلت الروحية‪.‬‬

‫‪ .2‬وفود القبائل في المدينة‬

‫بعد إعلن البراءة من المشركين والوثنيين في موسم حج ‪9‬هـ ارتبكت القبائل فعمدت إلى إيفاد مندوبين عنها إلى‬
‫لسلمية‪ .‬وهو ما يكشف عن أّنه في عام‬ ‫لسلم للحوار والتعرف على الدين الجديد والخضوع للدولة ا ِ‬ ‫عاصمة ا ِ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬إذ لم تنته الفترةُ المقررة‬ ‫ل حصن يمنعهم عن رسول ا ّ‬ ‫‪10‬هـ َفَقد هَولء ك َ‬
‫خَلت كّلمناطق الحجاز تحت راية التوحيد‪،‬‬ ‫لوقد د َ‬‫لعلن موقفهم ـ سواء بالرفض أو القبول ـ بعد أربعة أشهر‪ ،‬إ ّ‬ ‫ِ‬
‫لضافة إلى سكان اليمن والبحرين واليمامة‪.‬‬ ‫با ِ‬
‫وقد بعث )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى اليمن‪ :‬معاذ بن جبل لينشر دين التوحيد ويشرح لهم التعاليم فأوصاه‬
‫لمام علّيا‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( رأى أن يرسل ا ِ‬ ‫لأّ‬ ‫شر ول تنّفر" إ ّ‬ ‫سر‪ ،‬وب ّ‬
‫سر ول تع ّ‬‫ل‪" :‬ي ّ‬‫قائ ً‬
‫لمام )عليه‬ ‫لسلم في تلك الديار‪ .‬ولكن ا ِ‬ ‫)عليه السلم( إلى تلك الجهات ليزيل المشكلت التي تعرقل تقّدم ا ِ‬
‫ب أقضي بينهم ول أدري ما القضاء ـ أي ما فعلته‬ ‫ل تبعُثني وأنا شا ّ‬
‫ضَع في ذلك وقال‪ :‬يا رسول ا ّ‬ ‫السلم( توا َ‬
‫ب الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" بيده على صدره و قال‪" :‬الّلهم اهد قلبه و ثّبت لسانه" ثّم‬ ‫قبل هذا ـ فضر َ‬
‫ن معه المزيد‪،‬‬ ‫لجابة‪ ،‬وبالشكر فإ ّ‬ ‫ن معه ا ِ‬ ‫ل‪" :‬يا علي ُأوصيك ‪ :‬بالدعاء فإ ّ‬ ‫أوصاه بوصايا أربع هامة قائ ً‬
‫===============‬
‫) ‪( 234‬‬
‫لبأهله‪ ،‬وأنهاك عن البغي‪،‬‬ ‫يء إ ّ‬
‫وإّياك أن تخفر عهدًا أو تعين عليه‪ ،‬وأنهاك عن المكر فإّنه ل يحيق المكر الس ّ‬
‫ل"‪.‬‬‫فإّنه من ُبغي عليه لينصرّنه ا ّ‬
‫ل )صلى ال عليه‬ ‫لسلم في يوٍم واحد‪ ،‬حينما قرأ عليهم كتاب رسول ا ّ‬ ‫وفي اليمن دخلت قبيلة همدان كّلها في ا ِ‬
‫ل وقال‪" :‬السلم على‬ ‫خّر ساجدًا شكرًا ّ‬‫جو َ‬‫لمام )عليه السلم( بذلك إلى النبيفاستبشر وابته َ‬ ‫وآله وسلم( فكتب ا ِ‬
‫لسلم‪(1).‬‬ ‫أهل َهْمدان"‪ .‬وعلى أثر إسلم همدان تتابع أهل اليمن على ا ِ‬
‫وقد حاولت جماعٌة من القبائل اغتيال النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فقد اّتفق ثلثة من أفراد قبيلة بني عامر‬
‫المعروفة بالشر و الطغيان أن يدخلوا المدينة على رأس وفد بني عامر متظاهرين بالتفاوض مع الرسول "صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم" واغتياله غدرًا‪ .‬والثلثة هم‪ :‬عامر‪ ،‬أربد‪ ،‬و جبار‪ .‬وشملت خطتهم أن يتحدث عامر إلى‬
‫ن الوضع لم يجِر كما‬ ‫لأّ‬ ‫الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( في الوقت الذي يعد فيه أربد لضربه بالسيف‪ ،‬إ ّ‬
‫ط له‪ ،‬فقد هاب أربد النبيوانصرف عن نّيته‪ ،‬فغضب عامر و هّدد بمحاربة النبي "صلى ال عليه وآله وسلم"‬ ‫طَ‬‫خّ‬‫ُ‬
‫ل دعاءه سريعًا‬ ‫وغادر المجلس بعد أن دعا عليه النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وعلى صاحبه‪ ،‬فاستجاب ا ّ‬
‫حيث مات في الطريق بمرض الطاعون‪ ،‬واحترق أربد بصاعقة وهو في الصحراء‪.‬‬

‫جة الوداع‬
‫‪ .3‬ح ّ‬

‫ج‪ ،‬ويعّلم مناسكه‬


‫ل تعالى نبّيه الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم( أن يشارك في مراسم الح ّ‬ ‫في عام ‪ 10‬هـ أمَر ا ّ‬
‫للناس‪ ،‬ويوقفهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عملّيا‪ ،‬كما يقوم بإزالة كّلما ارتبط بها من زوائد طيلة‬
‫السنوات‬
‫____________‬
‫لنوار‪.360|21 :‬‬ ‫‪ . 1‬الكامل‪305|2 :‬؛ بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 235‬‬
‫لفاضة منها‪ .‬ولذلك فقد تهّيأ عدٌد كبير من المسلمين لمرافقة النبي‬ ‫الماضية‪ ،‬ويعّين حدود عرفات ومنى و يوم ا ِ‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( في هذه الرحلة المباركة‪ ،‬فخرج الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( من المدينة يوم‬
‫حرم ملّبيا‪" :‬لبيك الّلهّم لبيك‪ ،‬لبيك‬
‫حليفة ـ قرب مسجد الشجرة ـ فأحرم ودخل ال َ‬ ‫‪ 26‬من ذي القعدة حتى بلغ ذي ال ُ‬
‫حمَد والنعمة لك والملك لبيك‪ ،‬ل شريك لك لبيك" وهو نداء إبراهيم )عليه السلم( ‪.‬‬ ‫ن ال َ‬
‫ل شريك لك لبيك‪ ،‬إ ّ‬
‫لرض أو هبط واديًا‪ ،‬وعندما شارف مكة قطع التلبية‪.‬‬ ‫وكان يكّرر التلبية كّلما شاهد راكبًا أو عل مرتَفعًا من ا َ‬
‫جها نحو المسجد الحرام رأسًا‪ ،‬ودخله من باب بني شيبة وهو‬ ‫جة متو ّ‬ ‫فدخل مّكة في اليوم الرابع من شهر ذي الح ّ‬
‫ل)‪ (1‬ثّم طاف‬ ‫لسود فاستلمه أّو ً‬ ‫جر ا َ‬
‫حَ‬‫ل ويثني عليه ويصّلي على إبراهيم )عليه السلم( ‪ ،‬فبدأ من ال َ‬ ‫يحمد ا ّ‬
‫سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة‪ ،‬ثّمصّلى ركعتين خلف مقام إبراهيم )عليه السلم( ثّمتوجه نحو الصفا‬
‫ل الحرام وقال‪" :‬من لم يسق منكم هديًا فليحّلوليجعلها عمرة‬ ‫جاج بيت ا ّ‬ ‫حّ‬‫والمروة للسعي بينهما‪ ،‬ثّم التفت إلى ُ‬
‫لحرام( ومن ساق منكم هديًا فليقم على إحرامه"‪.‬‬ ‫صر فيحل له ما حرم عليه ا ِ‬ ‫)أي فليق ّ‬
‫ن البعض منهم كره أن يحل إحرامه والنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ُمحرم‪ ،‬فأمرهم بتنفيذ ما قال‪" :‬لو‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫ت كما أمرتكم"‪ .‬أي أّنني لو كنت أعلم بالمستقبل وعرفت موقف الناس‬ ‫ت لفعل ُ‬ ‫كنت استقبلت من أمري ما استدبر ُ‬
‫ي فل يمكنني‬ ‫ت الهد َ‬ ‫سق ُ‬
‫ت ما فعلتموه‪ ،‬ولكن ما العمل وقد ُ‬ ‫المتردد وخلفهم هذا من قبل‪ ،‬لما سقت الهدي‪ ،‬وفعل ُ‬
‫ي محّله‪ .‬فمن‬ ‫لحرام حتى يبلغ الهد ُ‬ ‫لحلل من ا ِ‬ ‫اِ‬
‫____________‬
‫لسود باليدين قبل الشروع بالطواف‪ ،‬واستلمه نوع من تجديد الميثاق مع الخليل‬ ‫‪ . 1‬استلمه يعني مسح الحجر ا َ‬
‫إبراهيم )عليه السلم( والعمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل إبراهيم )عليه السلم( ‪ .‬وقد اعتمر‬
‫لخرى عام ‪ 8‬هـ بعد فتح‬ ‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في الفترة المدنية مّرتين‪ ،‬واحدة في عام ‪7‬هـ و ا َُ‬
‫ج‪.‬‬
‫مكة‪ ،‬فهذه كانت ثالث عمرة له مع الح ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 236‬‬
‫ل سبحانه و تعالى‪ ،‬وأما أنتم فمن لم يسق الهدي‬ ‫الواجب علّيأن أبقى في إحرامي‪ ،‬أي أنحر هديي بمنى كما أمر ا ّ‬
‫جمّرة ُأخرى‪.‬‬‫لحرامه‪ ،‬واحسبوها عمرًة ثّم احرموا للح ّ‬ ‫ن عليه أن يح ّ‬ ‫منكم فإ ّ‬
‫ج أن يمكث في دار أحد‪ ،‬ولذا فإّنه كان يأمر بضرب ـ‬ ‫وقد كره النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( خلل فترة الح ّ‬
‫جة‬
‫أي بإعداد ـ خيمة له خارج مّكة‪ .‬وقصد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عرفات في اليوم الثامن من ذي الح ّ‬
‫عن طريق منى التي توّقف فيها إلى طلوع الشمس من اليوم التاسع‪ ،‬فركب بعيره نحو عرفات‪ ،‬ونزل في خيمة‬
‫ُأعّدت له في نمرة‪ ،‬وألقى هناك خطابًا تاريخيًا هامًا وهو على ناقته‪ ،‬في جموع بلغت ‪ 100‬ألف‪.‬‬
‫ل‪" :‬أّيها الّناس اسمعوا قولي واعقلوه‪ ،‬فإّني ل أدري لعلي ل ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف‬ ‫وبدأ خطابه قائ ً‬
‫ضكم ـ عليكم حرام إلى أن تلقوا رّبكم كحرمة شهركم هذا‬ ‫ن دماَءكم وأموالكم ـ وأعرا َ‬‫أبدًا‪ ،‬أيّـها الّناس‪ ،‬إ ّ‬
‫وكحرمة بلدكم هذا‪ ،‬وكحرمة يومكم هذا"‪.‬‬
‫لمانة‪،‬‬‫وقد ألغى في هذا الخطاب عادات الثأر الجاهلية المشَوومة بادئًا بأقربائه‪ ،‬مثل النتقام‪ ،‬والخيانة‪ ،‬أي أداء ا َ‬
‫والربا‪ ،‬كما استوصى بالنساء خيرًا‪.‬‬
‫ل وسّنة نبّيه‪ .‬والمسلُم أخو المسلم‪،‬‬
‫ت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا‪ ،‬أمرًا بينًا كتاب ا ّ‬ ‫"وقد ترك ُ‬
‫ع تحت قدمي"‪.‬‬ ‫والمسلمون إخوة‪ ،‬ول نبي بعدي ول ُأّمة بعدكم‪ .‬أل كّلشيء من أمر الجاهلية موضو ٌ‬
‫ثّم سار بعد الغروب إلى المزَدَلفة‪ ،‬ووقف فيها من الفجر إلى طلوع الشمس‪ ،‬وتوجه في اليوم العاشر إلى منى‬
‫لداء بقية المناسك‪.‬‬‫وأّدى مناسكها‪ ،‬ثّمتوجه نحو مّكة َ‬
‫جه النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" إلى مّكة‪ ،‬فخرج‬ ‫لمام علي )عليه السلم( يومذاك في اليمن‪ ،‬فعلم بتو ّ‬ ‫وكان ا ِ‬
‫مع جنوده للمشاركة في الموسم واصطحب‬
‫===============‬
‫) ‪( 237‬‬
‫لمام )عليه‬ ‫معه شيئًا من بز اليمن وحريرها أخذها جزية من أهل نجران‪ .‬وبعد أن أّدى مناسك العمرة‪ ،‬رجع ا ِ‬
‫ن نائبه الذي عينه أثناء غيابه قد‬‫السلم( إلى جنوده حسب ما أمره الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" فوجد أ ّ‬
‫ل فرد منهم حّلة من البز‪ ،‬كان يريد تسليمها إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬فطلب منهم‬ ‫وّزع على ك ّ‬
‫لخرى من جزية أهل نجران‪.‬‬ ‫لشياء ا َُ‬‫رّدها مع ا َ‬

‫‪ .4‬الخلفة بعد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬

‫ص‪،‬فلبّد أن يتعّين خليفة‬


‫ن القيادة منصب تعييني فيه ن ّ‬ ‫ب تعييني أو انتخابي؟ يرى الشيعة أ ّ‬ ‫هل الخلفة منص ٌ‬
‫ل السّنة أّنها منصب انتخابي‬‫ل سبحانه و تعالى‪ ،‬بينما يرى أه ُ‬ ‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من جانب ا ّ‬
‫لّمة هي بعد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( باختيار فرد منهم يتوّلى إدارة البلد‪ .‬و لك ّ‬
‫ل‬ ‫جمهوري‪ ،‬أي تقوم ا َُ‬
‫من الّتجاهين دلئل ذكرها أصحابها في الكتب العقائدية‪.‬‬
‫ن الظروف السائدة في تلك الفترة حتمت بأن يعّين النبي ص خليفًة له‪ ،‬وذلك لما كان عليه الوضع من تهديد‬ ‫إّ‬
‫ى يمكنه السيطرة على الوضع‪ ،‬كما‬ ‫لخطار الخارجية بتعيين قائٍد سياس ّ‬ ‫لسلمية‪ ،‬فأوجب مواجهة ا َ‬ ‫العدو للدولة ا ِ‬
‫لسلمي داخليًا‪ ،‬وقد بّين دورهم التخريبي‬ ‫ن خطر حزب النفاق كان ل يزال له دوره في تقويض دعائم الكيان ا ِ‬ ‫أّ‬
‫لكيد‪ ،‬القرآن الكريم في عّدة سور‪.‬‬ ‫وخطرهم ا َ‬
‫لسلمية‬ ‫لخطار الخارجية والداخلية‪ ،‬التي كانت تنتهز الفرص للقضاءعلى الدولة ا ِ‬ ‫ولذا فإّنه مع وجود تلك ا َ‬
‫الحديثة‪ ،‬فإّنه كان لبّد من تعيين قائد ديني سياسي‪ ،‬يمكنه القضاء على ما يظهر من اختلف وانشقاق بعده‬
‫لسلمي‪ ،‬ويكون بذلك ضمانًا لبقائه واستمراريته‪.‬‬ ‫"صلى ال عليه وآله وسلم" في المجتمع ا ِ‬
‫ن هناك‬ ‫لحوال الجتماعية والسياسية للمسلمين‪ ،‬فإ ّ‬ ‫لضافة إلى تلك ا َ‬ ‫وبا ِ‬
‫===============‬
‫) ‪( 238‬‬
‫حة الموقف والرأي الذي ذهب إليه علماء الشيعة‪ ،‬وثبتت في المصادر المعتبرة‪ ،‬أ ّ‬
‫ن‬ ‫روايات وأخبارًا أكدت ص ّ‬
‫ص على خليفته مرارًا‪ ،‬إذ لم ينص على خليفته ووصيه في أواخر حياته‬ ‫ي )صلى ال عليه وآله وسلم( ن ّ‬ ‫النب ّ‬
‫فحسب‪ ،‬بل بادر إلى ذلك في بدء الدعوة‪ ،‬وخاصة في الفترة التي أمره فيها سبحانه وتعالى بأن ينذر عشيرته‬
‫ل من زعماء بني هاشم‪":‬أّيكم يَوازرني‬ ‫لقربين ويدعوهم إلى عقيدة التوحيد‪ ،‬حينما وقف خطيبًا في أربعين رج ً‬ ‫اَ‬
‫لمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟" فأحجم القوم و قام علي )عليه السلم( وأعلن‬ ‫على هذا ا َ‬
‫ن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له‬ ‫مَوازرته له‪ ،‬فقال الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬إ ّ‬
‫وأطيعوا"‪(1).‬‬
‫عرف هذا الحديث بحديث يوم الدار‪ ،‬وحديث بدء الدعوة‪.‬‬ ‫وُ‬
‫لحداث والوقائع التي تَوّكد صراحة على خلفته )عليه السلم( إذ أّنه في‬ ‫ن حديث الغدير ُيعّد من أهّم ا َ‬ ‫كما أ ّ‬
‫ل "صلى‬ ‫ج العظيم رابغ)‪ (2‬حيث نزل جبرائيل )عليه السلم( على رسول ا ّ‬ ‫الطريق إلى المدينة‪ ،‬بلغ موكب الح ّ‬
‫ك َوِإْنَلْم‬‫ن َرّب َ‬
‫ك ِم ْ‬‫ل ِإَلْي َ‬
‫سول َبّلْغ ما ُأْنِز َ‬‫ال عليه وآله وسلم" بمنطقة تدعى غدير خم و بلغه الية التالية‪) :‬يا َأّيَها الّر ُ‬
‫لمام علي )عليه‬ ‫لعلن عن خلفة ا ِ‬ ‫لمر هو ا ِ‬ ‫ن الّناس()‪ (3‬وكان ذلك ا َ‬ ‫صُمَكِم َ‬
‫ل َيْع ِ‬
‫ت ِرسالتُه َوا ّ‬
‫ل َفما َبّلْغ َ‬
‫َتْفَع ْ‬
‫السلم( أمام ‪ 100‬ألف شاهد‪.‬‬
‫ل‪،‬‬
‫ف بيد ا ّ‬ ‫ب‪ ،‬طر ٌ‬ ‫ل سب ٌ‬ ‫با ّ‬ ‫سكتم بهما لن تضّلوا أبدًا‪ ،‬كتا َ‬ ‫وقال في خطابه‪" :‬إّني تارك فيكم الثقلين ما إن تم ّ‬
‫سكوا به؛ والخر عترتي‪ ،‬وإن‬ ‫ف بأيديكم‪ ،‬فتم ّ‬ ‫وطر ٌ‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬تاريخ الطبري‪216|2:‬؛ الكامل في التاريخ‪.62|2:‬‬
‫لحرام‪ ،‬وتتشعب‬ ‫‪ . 2‬تقع الن على طريق مكة ـ المدينة‪ ،‬وتبعد عن الجحفة ثلثة أميال‪ ،‬والتي هي من مواقيت ا ِ‬
‫منها طرق أهل المدينة ومصر والعراق‪.‬‬
‫‪ . 3‬المائدة‪.67:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 239‬‬
‫ي الحوض‪ ،‬فل تقدموهما فتهلكوا‪ ،‬ول تقصروا عنهما‬ ‫اللطيف الخبير نّبأني أّنهما لن يفترقا حتى يردا عل ّ‬
‫ل‪" :‬يا أّيها الناس من أولى الناس بالمَومنين من أنفسهم؟" قالوا‪:‬‬ ‫لمام علي )عليه السلم( قائ ً‬ ‫فتهلكوا"‪ .‬ثّم رفع َيَد ا ِ‬
‫ل مولي و أنا مولى المَومنين‪ ،‬وأنا أولى بهم من‬ ‫نا ّ‬‫ل ورسوله أعلم‪ .‬فقال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬إ ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ي موله‪ (1).‬الّلهّم وال من واله وعاد من عاداه‪ ،‬وانصر من نصره‪ ،‬واخذل من‬ ‫أنفسهم‪ ،‬فمن كنت موله فعل ّ‬
‫ق معه حيث دار"‪.‬‬ ‫خذله‪ ،‬وأحب من أحّبه‪ ،‬و ابغض من أبغضه‪ ،‬وأدر الح ّ‬
‫ظَيت‬
‫حِ‬ ‫لسلمية بمثل ما َ‬ ‫لّمة ا ِ‬
‫لسلمي وا َُ‬ ‫وفي الحقيقة إّننا قّلما نجد حادثًة تاريخية حظيت في العالم في التاريخ ا ِ‬
‫ت مختلفة من المحدثين والمفسرين والفلسفة والكتاب والشعراء‬ ‫به واقعة الغدير‪ .‬فقد استقطبت اهتمام فئا ٍ‬
‫لدباء والخطباء وأرباب السير والتراجم‪ ،‬واعتنوا بها أشّد العتناء‪ .‬و من أسباب خلودها واستمراريتها‪ ،‬نزول‬ ‫وا َُ‬
‫ن المسلمين سابقًا والشيعة بصورة خاصة ‪ ،‬اّتخذوا هذا اليوم عيدًا‬ ‫آيتين حولها في القرآن الكريم‪ (2).‬كما أ ّ‬
‫جة معروفًا بيوم عيد الغدير عندهم‪،‬‬ ‫ومناسبًة مفرحًة‪ ،‬جعله خالدًا حّتى الن‪ .‬فقد كان يوم ‪ 18‬من شهر ذي الح ّ‬
‫لعياد‬ ‫ن أبا ريحان البيروني والثعالبي‪ ،‬اعتبراه من ا َ‬ ‫لحداث‪ ،‬كما أ ّ‬ ‫ن بعض المَورخين أّرخوا به بعض ا َ‬ ‫حتى أ ّ‬
‫لسلمية‪(3).‬‬ ‫اِ‬
‫لمام علي )عليه‬ ‫لنصار‪ ،‬ونساءه بالدخول على ا ِ‬ ‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أمر المهاجرين وا َ‬ ‫كما أ ّ‬
‫ن أّول من صافق النبي )صلى ال‬ ‫السلم( لتقديم التهنئة له بهذه الفضيلة الكبرى‪ ،‬مثلما ذكر زيد بن أرقم‪ ،‬وأ ّ‬
‫لنصار‬ ‫عليه وآله وسلم( وعليًا‪ :‬أبو بكر وعمر و عثمان وطلحة والزبير‪ ،‬وباقي المهاجرين وا َ‬
‫____________‬
‫ي التباس‪.‬‬‫ل ّ‬
‫‪ . 1‬كرر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( هذه العبارة ثلث مرات دفعًا َ‬
‫‪ . 2‬المائدة‪67:‬و ‪.3‬‬
‫لعيان‪60|1:‬؛ الثار الباقية‪395 :‬؛ ثمار القلوب‪.511 :‬‬ ‫‪ . 3‬وفيات ا َ‬
‫===============‬
‫) ‪( 240‬‬
‫والناس‪.‬‬
‫ن ‪ 110‬صحابيًا تناولوا هذه الواقعة التاريخية الهامة بالرواية والحديث‪ ،‬كما رواه أيضًا ‪ 89‬تابعيًا‪ ،‬و‬ ‫كما أ ّ‬
‫ححه جمع كبير من الخرين‪ .‬فقد رواه في القرن ‪3‬هـ‪92 :‬‬ ‫‪ 360‬شخصًا من علماء أهل الشيعة وفضلئهم‪ ،‬وص ّ‬
‫عالمًا‪ ،‬وفي القرن ‪4‬هـ‪ 44 :‬عالمًا‪ ،‬إلى القرن ‪ 14‬هـ حيث رواه عشرون عالمًا‪ .‬وأّلف الطبري في ذلك كتابًا‬
‫أسماه‪:‬الولية في طرق حديث الغدير روى فيه الحديث عن النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" بـ ‪ 57‬سندًا‪ .‬كما‬
‫رواه عدد من علماء الحديث أمثال‪ :‬ابن حجر العسقلني‪ ،‬وأبو سعيد السجستاني‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وأبو العلء‬
‫ل حول الواقعة و تفاصيلها ‪ 26‬شخصًا‪ .‬أّما علماء‬ ‫الهمداني‪ .‬وبلغ عدد من أّلف رسالة خاصة أو كتابًا مستق ً‬
‫لميني‪(1).‬‬ ‫ل الشيخ ا َ‬ ‫لمة القدير آية ا ّ‬ ‫الشيعة فقد تناولوا فيها كتبًا و مَولفات قّيمة‪ ،‬أشمُلها الغدير الذي كتبه الع ّ‬
‫ت َلُكْم ديَنُكْم َوَأْتَمم ُ‬
‫ت‬ ‫لجراءات التي أقدم عليها النبي ص نزلت الية‪) :‬الَيوَم َأْكَمْل ُ‬ ‫وبعد نزول الية السابقة‪ ،‬وا ِ‬
‫سلَم ِدينًا(‪(2).‬‬
‫لْ‬‫ت َلُكُم ا ِ‬
‫عَلْيُكْم ِنْعَمتي َوَرضي ُ‬
‫َ‬
‫ل على إكمال الّدين‪ ،‬وإتمام النعمة‪ ،‬ورضى‬ ‫فكّبر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بصوت عال وقال‪" :‬الحمد ّ‬
‫لنصاري واستأذن النبي "صلى ال‬ ‫سان ابن ثابت ا َ‬‫ب برسالتي‪ ،‬وولية علي بن أبي طالب بعدي"‪ .‬ثّم قام ح ّ‬ ‫الر ّ‬
‫عليه وآله وسلم" في أن ينشد أشعارًا بهذه المناسبة‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬يشتمل على ‪ 11‬مجلد في ‪ 6‬آلف صفحة‪.‬‬
‫‪ . 2‬المائدة‪.3 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 241‬‬
‫‪ .5‬المرتّدون من المتنّبئين‬

‫سه‬
‫في نهاية عام ‪10‬هـ قدم نفران من اليمامة وسّلما النبيكتابًا من مسيلمة )الكّذاب( يّدعي فيه النبوة وُيشِرك نف َ‬
‫لسلم في أمر الرسالة‪ ،‬يريد بذلك أن يعّرف الرسول الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم( بنبوته هذه‪:‬‬ ‫مع رسول ا ِ‬
‫لرض‪ ،‬ولكن قريشًا قوٌم يعتدون‪(1).‬‬ ‫فاَ‬ ‫لرض‪ ،‬ولقريش نص ُ‬ ‫ن لنا نصف ا َ‬ ‫لمر معك‪ ،‬وإ ّ‬ ‫ت في ا َ‬ ‫فإّني قد ُأشرك ُ‬
‫لّنكما أسلمتما من قبل و‬ ‫ل لول أّنالرسل ل ُتقتل لضربت أعناقكما َ‬ ‫ى و قال‪" :‬أما وا ّ‬ ‫فالتفت النبّيإلى رسولي المتنب َ‬
‫لحمق وتركتما دينكما ؟"‪.‬‬ ‫قبلتما برسالتي َفِلم اتبعتما هذا ا َ‬
‫ل إلى‬
‫ل الّرحمن الّرحيم‪ ،‬من محّمد رسول ا ّ‬ ‫ثّم كتب )صلى ال عليه وآله وسلم( إليه كتابًا مقتضبًا‪" :‬بسم ا ّ‬
‫ل يورُثها من يشاء من عباده‪ ،‬والعاقبة‬ ‫لرض ّ‬ ‫ناَ‬‫سلم على من اّتبع الهدى‪ ،‬أّما بعد فإ ّ‬ ‫مسيلمة الكّذاب ال ّ‬
‫للمّتقين"‪(2).‬‬
‫ن الخلفاء من بعد الرسول )صلى ال‬ ‫لأّ‬ ‫لسود بن كعب العنسي‪ ،‬في اليمن‪ ،‬إ ّ‬ ‫كما اّدعى النبوة في نفس الوقت‪ ،‬ا َ‬
‫عليه وآله وسلم( تمّكنوا من القضاء على تلك الحركات المرتدة‪ ،‬إذ أّنها كانت أّول أعمال الخلفاء الراشدين‪.‬‬

‫لخطار الخارجية‬
‫‪ .6‬ا َ‬

‫لخطار الخارجية‪ ،‬فاعتبره النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" أمرًا جّديا ل يمكن التقليل‬ ‫وكان خطُر الروم أشّد ا َ‬
‫من شأنه‪ ،‬ولذا فإّنه أعّد جيشًا كبيرًا في)سنة‬
‫____________‬
‫ل أو مثل ما كان يفعله المشركون في العهد الجاهلي‪.‬‬‫‪ . 1‬لم يبدأ كتابه باسم ا ّ‬
‫‪ . 2‬السيرة النبوية‪.600|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 242‬‬
‫جة الوداع أن‬
‫لظهار قّوة المسلمين أمامهم‪ .‬ثّم رأى بعد ح ّ‬
‫‪8‬هـ( لمحاربتهم‪ ،‬كما سار إلى تبوك في )سنة ‪9‬هـ ( ِ‬
‫ص بارزون في الدولة أمثال‪ :‬أبي بكر وعمر وأبي عبيدة‬ ‫لنصار‪ ،‬واشترك فيه أشخا ٌ‬ ‫ُيعّد جيشًا من المهاجرين وا َ‬
‫سر إلى‬‫صة‪ ،‬وأمر بقيادته‪ُ :‬أسامَة بن زيد‪ ،‬وقال له‪ِ " :‬‬
‫ل من هاجر إلى المدينة خا ّ‬ ‫و سعد بن أبي وقاص‪ ،‬وك ّ‬
‫ن الغارة على أهل ُأنبى"‪(1).‬‬‫ل‪ ،‬فقد وليتك هذا الجيش‪ ،‬فاغز صباحًا وش ّ‬ ‫موضع قتل أبيك فأوطئهم الخي َ‬
‫ن على هذا الجيش الكبير‪ ،‬أن يَوّكد أساس‬ ‫وقد أراَد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بتعيين قائد صغير الس ّ‬
‫الكفاءة الشخصية في توّلي المناصب والمسَووليات‪ ،‬فهي ل ترتبط بالسن والعمر‪ ،‬بل بالكفاءة والمَوهلت‬
‫المطلوبة‪.‬‬
‫ن وعمر الشباب‪(2).‬‬ ‫ولذا فإّنه لم يكن هناك مبرٌر لعتراض البعض على توّلي قيادته من حيث الس ّ‬
‫لجراء‪،‬‬
‫خاها الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" من هذا ا ِ‬ ‫لهداف التي تو ّ‬
‫ن هَولء غفلوا عن المصالح و ا َ‬ ‫ذلك أ ّ‬
‫ل عمل بعقولهم المحدودة‪ ،‬و قايسوها بمقاييسهم الشخصية‪ ،‬مّما أثر ذلك في تأخير تحرك الجيش من‬ ‫فقّدروا ك ّ‬
‫معسكر الجرف)‪،(3‬‬
‫ر الذي استقر به ُأسامة منتظرًا من سيلحق به من المسلمين‪.‬‬

‫____________‬
‫‪ . 1‬أنبى‪ ،‬من مناطق البلقاء في سوريا قرب مَوتة بين عسقلن و الرملة‪.‬‬
‫‪ . 2‬ذهب بعض إلى أّنه كان في عمر ‪ 17‬سنة‪ ،‬و آخرون بأّنه كان في ‪ 18‬سنة‪ ،‬على أّنهم اّتفقوا على أّنه لم‬
‫يتجاوز العشرين‪.‬‬
‫‪ . 3‬الجرف‪ :‬على بعد ‪ 3‬أميال من المدينة نحو الشام‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 243‬‬
‫‪ .7‬مرض النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬

‫ح الفراش‪،‬‬ ‫وبعد يوم من إعداد الجيش السابق‪َ ،‬مِرض النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بصداع شديد تركه طري َ‬
‫وهو المرض الذي قضى فيه "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪.‬وقد علم الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( أّنهناك‬
‫من تخّلف عن الجيش‪ ،‬ومن يعرقل التوجه إلى موقعه‪ ،‬ومن يطعن في قيادة ُأسامة‪ ،‬فغضب لذلك بشّدة وخرج‬
‫صبا جبهته إلى مسجده‪ ،‬يحذرهم من عواقب أعمالهم غير السليمة وخاطبهم بقوله‪:‬‬ ‫مع ّ‬
‫ن ابنه من‬ ‫لمارة خليقًا‪ ،‬وأ ّ‬‫ل كان ل ِ‬‫لسامة‪ ،‬فقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله‪ ،‬وأيُم ا ّ‬ ‫طعنتم في إمارتي َُ‬ ‫"لئن َ‬
‫صوا به خيرًا فإّنه من خياركم"‪.‬‬ ‫ي‪ ،‬واستو ُ‬
‫ب الناس إل ّ‬‫لمارة‪ ،‬وإّنه كان لمن أح ّ‬ ‫بعده لخليق ل ِ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كان يقول و هو في الفراش‪" :‬جّهزوا جيش‬ ‫لهمية هذا الجيش‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ونظرًا َ‬
‫ل من تخّلف عنه"‪(1).‬‬ ‫نا ّ‬ ‫ُأسامة‪َ ،‬لَع َ‬
‫لنصار للسير نحو الجرف‪ ،‬انتشر بينهم خبُر‬ ‫وفي الوقت الذي استعّد فيه ُأسامة وآخرون من المهاجرين وا َ‬
‫ل أّنه "صلى‬ ‫لثنين‪ ،‬إ ّ‬‫حة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( مّماجعلهم يعدلون عن قصدهم حتى يوم ا ِ‬ ‫تدهوِر ص ّ‬
‫لأّ‬
‫ن‬ ‫ش للتحّرك والمغادرة‪ ،‬إ ّ‬ ‫ل"‪ (2).‬فتهّيأ الجي ُ‬ ‫ل‪" :‬اغُد على بركة ا ّ‬‫ال عليه وآله وسلم" حّثه على الخروج قائ ً‬
‫خبر احتضارالرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( جعلهم يعودون إلى المدينة متجاهلين أوامَر النبي )صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم( ‪.‬‬
‫لمام‬‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( خرج في الليلة التي توّفي في صبيحتها‪ ،‬مع ا ِ‬ ‫وقد ذكر المَورخون أ ّ‬
‫علي )عليه السلم( إلى البقيع مع عدد آخر‪ ،‬فقال‬
‫____________‬
‫‪ . 1‬الملل و النحل‪23|1:‬؛ طبقات ابن سعد‪.190|2:‬‬
‫‪ . 2‬طبقات ابن سعد‪.190|2:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 244‬‬
‫ل‪:‬‬
‫لهل البقيع"‪ ،‬و عندما وصل إلى المكان سّلم على أهل القبور قائ ً‬ ‫لهم‪" :‬إّني أمرت أن استغفر َ‬
‫طع الّليل المظلم يتبع‬‫سلم عليكم أهل القبور‪ ،‬ليهنئكم ما أصبحتم فيه مّما أصبح الناس فيه‪ ،‬أقَبَلت الفتن كِق َ‬ ‫"ال ّ‬
‫لمام علي )عليه السلم( و قال‪:‬‬ ‫بعضها بعضًا‪ ،‬يتبع آخرها أّولها"‪ .‬ثّم التفت إلى ا ِ‬
‫ن جبرائيل كان‬ ‫"يا علي‪ ،‬إّني خيّـرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنة‪ ،‬فاخترت لقاء رّبي والجّنة‪ .‬إ ّ‬
‫للحضور أجلي"‪(1).‬‬ ‫ي العام مّرتين‪،‬ول أراه إ ّ‬
‫ي القرآن كّلسنة مّرة‪ ،‬وقد عرضه عل ّ‬ ‫يعرض عل ّ‬

‫‪ .8‬وفاة ابنه إبراهيم‬


‫وفي هذه السنة‪ ،‬و بعد ‪ 18‬شهرًا من ولدته‪ ،‬توّفي إبراهيم ابن النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" فحزن عليه‪ .‬و‬
‫كان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قد َفَقد خلل السنوات الماضية‪ ،‬ثلثة من أولده‪ :‬القاسم و الطاهر‬
‫والطّيب‪ .‬وثلثة من بناته‪ :‬زينب ورقية و ُأّم كلثوم‪ .‬وبقيت له بنت واحدة هي السّيدة فاطمة الزهراء )عليها‬
‫السلم( من خديجة)عليها السلم( ‪.‬‬
‫ن على الميت رحمًة إذ قال‪" :‬إّنما هذا رحمة‪ ،‬ومن ل يرحم ل‬ ‫ي )صلى ال عليه وآله وسلم( الحز َ‬ ‫واعتبر النب ّ‬
‫حم‪،‬ولكن ُنهيت عن خمش الوجوه‪ ،‬وشّقالجيوب‪ ،‬ورّنة الشيطان"‪(2).‬‬ ‫ُير َ‬
‫____________‬
‫لنوار‪466|22 :‬؛طبقات ابن سعد‪.204|2:‬‬ ‫‪ . 1‬بحار ا َ‬
‫‪ . 2‬السيرة الحلبية‪.310|3:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 245‬‬
‫أحداث السنة الحادية عشرة من الهجرة‬

‫‪ .1‬الكتاب الذي لم يكتب‬

‫لصلي‪،‬‬ ‫قرر الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( بهدف الحيلولة دون انحراف مسألة الخلفة عن محورها ا َ‬
‫والحيلولة دون ظهور الختلف و الفتراق‪ ،‬أن يعزز مكانة علي )عليه السلم( ويدعم إمارته وخلفته‪ ،‬و أهل‬
‫بيته‪ ،‬بإثبات ذلك في وثيقة خالدة تضمن بقاء الخلفة في خطها الصحيح‪.‬‬
‫ففي خلل زيارة بعض الصحابة له أثناء مرضه قال‪" :‬إئتوني بدواة وصحيفة‪ ،‬أكتب لكم كتابًا ل تضّلون بعده"‪.‬‬
‫ل‪ (1).‬فكثر اللَغط والنقاش حول إحضار ما طلبه‬ ‫ل قد غلبه الوجع‪ ،‬حسبنا كتاب ا ّ‬
‫ن رسول ا ّ‬ ‫ل‪ :‬إ ّ‬
‫فبادر عمر قائ ً‬
‫النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" أو عدمه‪ ،‬مّما أغضب النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فقال‪" :‬قوموا عّني ل‬
‫ل‪(2).‬‬
‫للرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول ا ّ‬‫ينبغي عندي التنازع"‪ ،‬وقال ابن عباس‪ :‬الرزية ك ّ‬
‫ق كبيٌر من محّدثي الشيعة والسنة ومَورخيهم‪ ،‬وُتعَتبر من الروايات الصحيحة‪ .‬وإذا سأل‬ ‫وقد َنقل هذه الواقعة فري ٌ‬
‫لّنه )صلى ال عليه وآله‬ ‫أحد عن عدم إصرار النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" على كتابة ذلك الكتاب‪ ،‬فذلك َ‬
‫وسلم( إذا‬
‫____________‬
‫‪ .1‬الملل والنحل‪.22|1:‬‬
‫‪ . 2‬صحيح البخاري‪22|1 :‬؛ صحيح مسلم‪14|2 :‬؛ مسند أحمد‪.325|1:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 246‬‬
‫لساءة إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وخاصة أّنهم قالوا عنه‪ ،‬أّنه‬ ‫لصّر هَولء في ا ِ‬ ‫أصّر على موقفه‪َ ،‬‬
‫لمر بين الناس‪.‬‬ ‫جع أو هجر‪ ،‬ثّم قيامهم بعد ذلك بإشاعة ا َ‬ ‫غلبه الَو َ‬
‫لت بهم الحجرة وهو‬ ‫لصحابه وقد امت َ‬ ‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قال َ‬ ‫وقد روى ابن حجر العسقلني‪ ،‬أ ّ‬
‫ل أّني مخل ٌ‬
‫ف‬ ‫ل معذرًة إليكم‪ ،‬إ ّ‬ ‫ض سريعًا فينطلق بي‪ ،‬وقد قدمت إليكم القو َ‬ ‫في مرضه‪" :‬أّيها الناس يوشك أن ُأقب َ‬
‫ل وعترتي أهل بيتي"‪.‬‬ ‫ل رّبي عّزوج ّ‬ ‫فيكم كتاَبا ّ‬
‫ي‪ ،‬خليفتان نصيران ل يفترقان حتى‬ ‫ي مع القرآن والقرآن مع عل ّ‬ ‫ثّم أخذ بيد علي )عليه السلم( وقال ‪":‬هذا عل ّ‬
‫ي الحوض فاسألهما ماذا خلفت فيهما"‪(1).‬‬ ‫يردا عل ّ‬
‫لنظار إلى حديث الثقلين مّرة ُأخرى‪ ،‬برغم ما ذكره في‬ ‫ومن الواضح أّنالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( لفت ا َ‬
‫مواضع متعّددة‪ ،‬حّتى يَوكد أهمية الّثقلين‪ ،‬وتدارك ما فات من كتابة الكتاب الذي لم يوّفق لكتابته‪.‬‬
‫وفي هذه اللحظات‪ ،‬طلب بعضًا من الدنانير كان قد وضعها عند إحدى زوجاته‪ ،‬وأمر عليًا )عليه السلم(‬
‫ليتصّدق بها‪.‬‬
‫ضه‬
‫ن مر َ‬ ‫سقي دواًء خطًأ في علجه‪،‬فقد تخيلت "أسماء بنت عميس" أ ّ‬ ‫وكان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قد ُ‬
‫ي )صلى ال عليه وآله‬ ‫ن النب ّ‬
‫لأّ‬‫ـ ذات الجنب ـ تعلمت علجه من عقار مركب من نبات وأعشاب من الحبشة‪ ،‬إ ّ‬
‫ن مرضه ليس ذات الجنب‪.‬‬ ‫عِلَم بالدواء‪ ،‬ذكر بأ ّ‬
‫وسلم( لما َ‬
‫لخيرة‬
‫‪ .2‬اللحظات ا َ‬

‫في هذه الفترة الحرجة‪ ،‬كانت السيدة الزهراء)عليها السلم( تلزم فراش‬
‫____________‬
‫‪ .1‬الصواعق المحرقة ‪ ،57 : ،‬باب ‪9‬؛ كشف الغّمة‪.43 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 247‬‬
‫والدها )صلى ال عليه وآله وسلم( ل تفارقه لحظة‪ ،‬وفجأة طلب منها أن تقرب رأسها إلى فمه ليحّدثها‪ ،‬فراح‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫لأّ‬‫ف لم ُيعَرف‪،‬ولكن الزهراء)عليها السلم( بكت بشّدة‪ ،‬إ ّ‬ ‫يكّلمها بصوت خفي ٍ‬
‫ل بعد وفاة النبي‬ ‫أشار إليها مّرة ُأخرى فحّدثها بشيء آخر‪ ،‬فرحت به وتبسمت مستبشرة‪ .‬ولم تكشف عن ذلك إ ّ‬
‫ل ص أّنه قد حضر أجُله وأّنه ُيقَبض في‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( بناء على إصرار عائشة‪" :‬أخبرني رسول ا ّ‬
‫وجعه‪ ،‬فبكيت‪ ،‬ثّم أخبرني أّني أّول أهله لحوقًا به فضحكت"‪(1).‬‬
‫ل‪ُ" :‬أدعوا لي أخي"‪ .‬فعرف الجميع بأّنه‬ ‫لمام علّيا )عليه السلم( قائ ً‬ ‫باِ‬‫وفي آخر لحظة من حياته الشريفة طل َ‬
‫عوا له علّيا‪ ،‬فقال له‪ُ" :‬أدن مّني فدنا منه‪ ،‬فاستند إليه فلم يزل مستندًا إليه يكّلمه"‪.‬‬‫يريد علّيا )عليه السلم( فد َ‬
‫حجر أحد؟ قال‪ :‬توّفي وهو مستند‬ ‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( في ِ‬ ‫وسأل رجل ابن عباس‪ :‬هل توّفي رسول ا ّ‬
‫ل بن عباس‪.‬‬ ‫سله وأخي الفض ُ‬ ‫ى‪،‬وهو الذي غ ّ‬ ‫إلى صدر عل ّ‬
‫ن ملك الموت‬ ‫لعلى"‪ .‬فكأ ّ‬ ‫ن آخر جملة نطق بها الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( هي‪":‬ل‪ ،‬إلى الرفيق ا َ‬ ‫وقيل إ ّ‬
‫خّيره عند قبض روحه الشريفة في أن يصح من مرضه أو يلّبي دعوة رّبه‪ ،‬فاختار اللحاق برّبه‪.‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( ‪ :‬أّنه‬ ‫لحبار عن آخر كلمة قالها الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( فقال ا ِ‬ ‫وسأل كعب ا َ‬
‫قال‪ :‬الصلة الصلة‪.‬‬
‫جي ببرد يماني‪ ،‬وُوضع في حجرته بعض‬ ‫سّ‬‫لثنين ‪ 28‬صفر‪َ ،‬ف ُ‬ ‫وقد ترك الدنيا )صلى ال عليه وآله وسلم( يوم ا ِ‬
‫لنحاء المدينة التي تحولت إلى‬ ‫لقارب‪ ،‬وانتشر نبأ وفاته في ك ّ‬ ‫الوقت‪ ،‬وارتفعت صرخات العيال‪ ،‬وعل بكاء ا َ‬
‫مأتم كبير‪.‬‬
‫لمام علي )عليه السلم( بغسل جسده الشريف وكّفنه‪ ،‬إذ أّنه كان قد‬ ‫وقام ا ِ‬
‫____________‬
‫‪ .1‬طبقات ابن سعد‪263|2:‬؛ الكامل في التاريخ‪.219|2 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 248‬‬
‫ي"‪ .‬وصّلى عليه مع المسلمين‪ ،‬وتقرر دفُنه في حجرته المباركة‪ .‬وحفر قبره أبو‬ ‫ب الناس إل ّ‬ ‫سلني أقر ُ‬‫ذكر‪" :‬يغ ّ‬
‫لمام علي )عليه السلم( يساعده الفضل بن العباس‪.‬‬ ‫عبيدة بن الجراح وزيد بن سهل‪ ،‬ودفنه ا ِ‬
‫لزار عن وجهه )صلى ال عليه‬ ‫لمام )عليه السلم( من غسله )صلى ال عليه وآله وسلم( كشف ا ِ‬ ‫و لّما فرغ ا ِ‬
‫وآله وسلم( وقال والدموع تنهمر من عينيه‪ :‬بأبي أنت و ُأّمي‪ ،‬طبَتحّيا وطبَتمّيتا‪ ،‬انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت‬
‫لنفدنا عليك ماَء الشَوون‪،‬‬ ‫لنباء‪ .‬ولول أّنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع‪َ ،‬‬ ‫أحد مّمن سواك من النبوة وا َ‬
‫ل لك‪ ،‬ولكّنه ما ل ُيمَلك رّده ول يستطاع دفعه! بأبي أنت و ُأّمي ُأذكرنا‬ ‫ل‪ ،‬والكَمُد محاِلفًا وق ّ‬‫ولكان الداُء مماط ً‬
‫عند رّبك واجعلنا من بالك"‪(1).‬‬
‫وهكذا غربت شمس أعظم شخصية غّيرت مسار التاريخ البشري بتضحياته الكبرى وجهوده المضنية‪ ،‬وأعظم‬
‫لنسانية صفحات جديدة ومشرقة من الحضارة والمدنية‪.‬‬ ‫ي فتح أمام ا ِ‬‫لله ٍ‬
‫رسو ٍ‬
‫ل رّبالعالمين‪(2).‬‬
‫ل تعالى على هذه النعمة الكبرى‪ ،‬والحمد ّ‬ ‫ومن هنا فإّننا نختم حديثنا هذا بالشكر ّ‬
‫جعفر السبحاني‬
‫قم المقّدسةالحوزة العلمية‬
‫شعبان المعظم ‪1390‬هـ‬

‫____________‬
‫‪ .1‬نهج البلغة‪ :‬خطبة رقم ‪.235‬‬
‫‪ . 2‬تّم تدوين هذه المحاضرات وتوثيقهاوتحقيقها في شهر شعبان المعظم عام ‪1409‬هـ في مدينة قم‪ .‬جعفر‬
‫الهادي‪.‬‬

‫) ‪( 249‬‬
‫الفصل العاشر‬

‫حكايات وروايات مَوثرة‬


‫جاء ذكرها في الكتاب‬

‫===============‬
‫) ‪( 250‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 251‬‬
‫لسلم‬
‫العادات و التقاليد في جزيرة العرب قبل ا ِ‬

‫وأد البنات‬

‫ن بني تميم هي أّول قبيلة أقدمت على هذه الجريمة النكراء‪ ،‬حينما امتنعوا‬ ‫متى بدأت عادة وأد البنات؟ وقد تأّكد أ ّ‬
‫ك الحيرة النعمان بن المنذر‪ ،‬فحاربهم واستولى على أموالهم ونسائهم‪ ،‬فكّلموه في إرجاع‬ ‫عن دفع الضرائب لَمِل ِ‬
‫نسائهم‪،‬فقرر أن تختار المرأُة نفسها العودة أو البقاء‪ ،‬فاختار بعضهن البقاء وعدم العودة إلى أهاليهن‪،‬وخاصة‬
‫ل بنت ُتولد له منذ ذلك الوقت‪ .‬فسّنبذلك لقومه وأد البنات‪ ،‬وأخذتها بقية‬
‫سكّ‬ ‫بنت قيس بن عاصم الذي نذر أن يد ّ‬
‫القبائل‪.‬‬
‫ي )صلى ال عليه وآله وسلم( قيسًا عن عدد البنات اللئي وأدهن في الجاهلية فقال‪ :‬اثنتا عشرة بنتًا‬ ‫وقد سأل النب ّ‬
‫له‪ ،‬بل قيل أكثر من ذلك!!‬
‫ن الحامل إذا قربت ولدتها حفرت حفرًة فمخضت رأسها فإذا ولدت بنتًا رمت بها في‬ ‫وروى عن ابن عباس‪ ،‬أ ّ‬
‫الحفرة‪ ،‬وإذا كان ولدًا حبسته!!‬

‫موقف النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( من الخرافات التي سادت الجزيرة العربية‬

‫لفكار الفاسدة الباطلة‪ ،‬فلّما مات إبراهيم ابنه‬


‫لساطير وا َ‬ ‫كاَفح الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( الخرافات وا َ‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( حزن عليه و‬
‫===============‬
‫) ‪( 252‬‬
‫بكى بشّدة‪ ،‬في الوقت الذي حدث كسوف للشمس‪ ،‬فذهب المولعون بالخرافات على عادتهم إلى ربط هذه الظاهرة‬
‫ل "صلى‬ ‫ن رسول ا ّ‬‫سَفت الشمس لموت إبراهيم اب ِ‬ ‫بموت إبراهيم‪ ،‬على أّنه دليل على عظمة المصاب‪ ،‬فقالوا‪ :‬انك َ‬
‫ل أّنه )صلى ال عليه وآله وسلم( صعد المنبر فقال‪" :‬أّيها الّناس إّنالشمس والقمر آيتان‬ ‫ال عليه وآله وسلم" ‪ ،‬إ ّ‬
‫ت أحد ول لحياته‪ ،‬فإذا انكسفا أو أحدهما صّلوا"‪.‬‬ ‫ل َيجريان بأمره ومطيعان له ل ينكسفان لمو ِ‬ ‫من آيات ا ّ‬
‫ثّم نزل فصّلى صلة الكسوف وهي صلة اليات‪(1).‬‬

‫الحالة الجتماعية في إيران الساسانية‬


‫صة ما‬‫يذكر الشاعر الفارسي‪ :‬الفردوسي قصة وقعت في العهد الذهبي للدولة الساسانية‪ ،‬تتناول التعليم‪ ،‬وخا ّ‬
‫يء للدولة أن رغبت في أموال كثيرة‬ ‫يتعّلق بتعليم الفقراء و حرمانهم من اكتساب الثقافة‪ ،‬فقد وصل الحال الس ّ‬
‫لعداد ‪ 300‬ألف مقاتل‪ ،‬فاستدعى الملك أنوشروان وزيره بزرجمهر يطلب‬ ‫تكفي نفقات الحروب المستمرة‪ِ ،‬‬
‫مساعدته في توفير المال اللزم‪ ،‬فاقترح عليه بتحصيلها عن طريق القروض الشعبية‪ ،‬فأرسل مندوبيه إلى المدن‬
‫ليرانية لتحصيل المال اللزم من التجار وأصحاب الثروة‪ ،‬وظهر من بينهم رجل حّذاء أبدى استعداده لتحّمل‬ ‫اِ‬
‫ل‪ :‬دع‬ ‫ن الملك غضب على الوزير ونهره قائ ً‬ ‫لأّ‬
‫نفقات الجيش بمفرده‪ ،‬بشرط السماح لولده بتحصيل العلم‪ ،‬إ ّ‬
‫ن ابن الحّذاء بخروجه من وضعه الطبقي يهدم التقليد الطبقي المّتبع‬ ‫لّ‬
‫ن هذا ل يكون‪َ ،‬‬‫هذا‪ ،‬ما أسوأ ما تطلبه‪ ،‬إ ّ‬
‫فينفرط عقد الدولة‪ ،‬ويكون ضرُر هذا المال علينا أكثر من نفعه‪ ،‬وشّره أكثر من خيره‪.‬‬

‫____________‬
‫لنوار‪.155|91 :‬‬
‫‪ .1‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 253‬‬
‫ويستمر الفردوسي في شرحه لهذا الوضع عن لسان أنوشروان‪ :‬إذا أصبح ابن الحّذاء عالمًا وكاتبًا‪ ،‬فإّنه عندما‬
‫يجلس ولُدنا في الحكم واحتاج إلى كاتب فإّنه سيضطر إلى تعيين ذلك الولد‪ ،‬وهو من عامة الشعب ومن أبناء‬
‫لشراف والنبلء‪ .‬وإذا حصل هذا الحّذاء على العلم‬ ‫الطبقة الدنيا‪ ،‬في حين جرت العادة أن نستعين بأبناء ا َ‬
‫ل يسمعه‪ ،‬فتحدث‬ ‫ل يراه‪،‬ويسمع ما يجب أ ّ‬ ‫والمعرفة حصل على عيون بصيرة‪ ،‬وآذان سميعة‪ ،‬فيرى ما يجب أ ّ‬
‫لبناء الملوك بعدئذ!!‬ ‫لسف َ‬ ‫الحسرة وا َ‬
‫ض طلبه وأعاد ماله إليه‪ .‬وهذا الملك هو ما يصفه البعض بالعدل "أنوشروان العادل"مع أّنه لم‬ ‫ن الملك رَف َ‬
‫وبذا فإ ّ‬
‫يحل المشكلة الثقافية في مجتمعه‪ ،‬كما ذكر عنه‪ ،‬أّنه دفن في القبور أحياء ما يقرب من ‪ 80‬ألفًا ومائة ألف فرد‪،‬‬
‫خلل فتنة مزدك‪ ،‬التي اندلعت بسبب الظلم الجتماعي والتمايز الطبقي واحتكار الثروات والمناصب‪ ،‬وحرمان‬
‫لّولية‪.‬‬
‫أكثرية الشعب من حقوقها ا َ‬
‫ت في زمن الملك العادل أنو‬ ‫ومن هنا يظهر بطلن الحديث المروي عن النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪ُ":‬ولد ُ‬
‫شروان"‪.‬‬
‫لشياء الثمينة والرسوم‪،‬‬ ‫وقد ُذكر الكثير عن البذخ والترف في البلط الساساني‪ ،‬من كثرة المجوهرات وا َ‬
‫للباب‪ .‬ومّما اشتهر منها‪ ،‬سجادة بيضاء كبيرة فرشت في إحدى الصالت‪ ،‬واسمها‪:‬‬ ‫سحرت العيون وخلبت ا َ‬ ‫َ‬
‫بهارستان كسرى‪ ،‬إذاجلسوا عليها وقت الشراب وتعاطي الخمر‪ ،‬فكأّنهم كانوا جالسين في حدائق ورياض‪.‬‬
‫صنعت أرضيتها من الذهب و وشيها بفصوص وجواهر وحرير‪ ،‬وكانت ‪ 60*60‬ذراعًا‪ ،‬وقيل ‪70*150‬‬
‫ذراعًا‪ ،‬ومنسوجة من خيوط الذهب والمجوهرات الغالية!!‬
‫لموال مالم يجمع مثله من‬ ‫ومّما قيل عن كسرى خسرو برويز‪ ،‬أّنه جمع ا َ‬
‫===============‬
‫) ‪( 254‬‬
‫لواني‪.‬‬
‫ىواَ‬ ‫الملوك‪ ،‬إذ كان أرغب الناس في اقتناء الجواهر واللل َ‬

‫حفر زمزم‬

‫ل أّنه بعد تفشي المفاسد‬


‫جرهم التي رأست مّكة لسنين طويلة‪ ،‬وتستفيد من مياه العين‪ .‬إ ّ‬ ‫َنَزلت عندها قبيلة ُ‬
‫والشهوات فقد جّفت العين‪ .‬وعندما هددت خزاعة جرهم‪ ،‬أمر زعيمهم بإلقاء الغزالين الذهبين والسيوف الغالية‬
‫المهداة إلى الكعبة‪ ،‬في مقر زمزم و ملئها بالتراب‪ ،‬حتى ل يستولي عليها خصوُمه‪ ،‬ومتى عاد إلى مّكة استخرج‬
‫ل نشب بين الطرفين‪ ،‬فاضطرت جرهم وأبناء إسماعيل مغادرة مكة إلى اليمن دون‬ ‫ن قتا ً‬
‫لأّ‬
‫الكنز واستفاد منه‪ .‬إ ّ‬
‫ي بن كلب‪ ،‬حتى عبد المطلب الذي ترأسها وقرر‬ ‫الرجوع إليها ثانية‪ ،‬فتزعم مكة‪ :‬خزاعة‪ ،‬ثّم سيطر عليها قص ّ‬
‫ل بعد بحث طويل‪ ،‬كما أّنالخرين َرَفضوا انفراده بالحفر‪ ،‬طالبين‬ ‫حفر بئر زمزم‪ ،‬التي لم ُيعَرف موقعها إ ّ‬
‫ن لنا فيها حّقا فأشركنا معك‪،‬‬
‫الشتراك معه في ذلك‪ ،‬ليحصلوا على الَفخر مثله فقالوا‪ :‬إّنها بئر أبينا إسماعيل‪ ،‬وإ ّ‬
‫ن عبد المطلب أصر على أن ينفرد في ذلك‪ ،‬حتى يمكنه بعد ذلك أن يسّبل ماءها فيسقي منها جميع الحجاج‬ ‫لأّ‬‫إّ‬
‫دون أن يتاجر بها‪.‬‬
‫ولما طال النزاع بينهم قرروا التحاكم إلى كاهن من العرب سكن ما بين الحجاز والشام‪ .‬وفي الطريق أصابهم‬
‫ل واحد‬
‫ش شديٌد وأيقنوا بالهلك‪ ،‬ففكروا في كيفية دفنهم إذا َهلكوا وماتوا‪ ،‬فاقترح عبد المطلب أن يحفر ك ّ‬
‫عط ٌ‬
‫حفيرته‪ ،‬فإذا مات دفنُه الخرون‪ ،‬فل تبقى أجساُدهم طعمة للوحوش والطيور‪ .‬فقاموا بذلك وانتظروا الموت‪ .‬إ ّ‬
‫ل‬
‫لثر في‬
‫ن عبد المطلب صاح فجأة يحثهم على البحث عن الماء في الصحراء بصورة جماعية‪ ،‬مّما كان له ا َ‬ ‫أّ‬
‫ظهور عين عذبة أنقذتهم من الموت المحقق‪ ،‬فعادوا من حيث جاءوا وقالوا لعبد المطلب‪:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 255‬‬
‫ن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلة لهو‬
‫ل ل نخاصمك في زمزم أبدًا‪ ،‬إ ّ‬ ‫ل قضى لك علينا يا عبد المطلب‪ ،‬وا ّ‬ ‫"وا ّ‬
‫الذي سقاك زمزم‪ ،‬فارجع إلى سقايتك راشدًا"‪.‬‬
‫صعة‪ ،‬مّما سّبب نزاعًا آخر بينه و بين قريش‪ ،‬التي اعتبرت‬ ‫وخلل الحفر عثر على الغزالين والسيوف المر ّ‬
‫للمشكلة‪ ،‬فخرجت القرعُة باسم عبد المطلب‪،‬‬ ‫نفسها شريكًة في هذا الكنز‪ .‬فتقرر اللجوُء إلى القرعة لح ّ‬
‫لشياء إليه‪ ،‬فصنع من السيوف بابًا للكعبة‪ ،‬وعّلق الغزالين فيها‪.‬‬ ‫فأصَبحت ا َ‬

‫الوفاء بالعهد والنذر)‪(1‬‬


‫ل عشرة أولد‪ ،‬أن يقّدم أحدهم قربانًا للكعبة دون أن يخبر أحدًا بذلك‪ ،‬وقد حصل ما‬ ‫نذر عبد المطلب إذا رزقه ا ّ‬
‫لمر فواَفقوا على أن يختار أحَدهم للذبح عن طريق القرعة‪.‬‬ ‫أراد‪ ،‬فكان لبّد من الوفاء بالنذر‪ ،‬فشاور أبناَءه با َ‬
‫لكرم )صلى ال عليه وآله وسلم( فأخذه إلى مكان الذبح‪ .‬و حينما‬ ‫ل والد الرسول ا َ‬‫وتمت القرعة فأصابت عبد ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وأظهروا استعدادهم لدفع‬‫حِزنوا وبكوا وخاصة الشباب منهم‪ ،‬فاقترحوا أن يفدى عبدا ّ‬ ‫علمت قريش بذلك‪َ ،‬‬
‫الفدية إذا جاز لك‪ .‬وبعد أن تحّير في هذا الموقف الصعب‪ ،‬اقترح عليه أحُدهم‪ :‬ل تفعل وانطلق إلى أحد كهنة‬
‫ل‪ .‬فوافقوا على ذلك‪ .‬فتوجهوا نحو يثرب لملقاة الكاهن الذي سألهم‪ :‬كم ديةُ المرء‬ ‫العرب عسى أن يجد لك ح ً‬
‫لبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم‬ ‫لبل‪ .‬فقال‪ :‬ارجعوا إلى بلدكم وقّربوا عشرًا من ا ِ‬ ‫عندكم؟ قالوا‪ :‬عشرة من ا ِ‬
‫لـ‬
‫ـ أي عبد ا ّ‬
‫____________‬
‫‪ .1‬القصة جديرة بالهتمام‪ ،‬في أّنها تجسد مدى إيمان عبد المطلب وقوة عزمه وصلبة إرادته وإصراره على‬
‫الوفاء بعهده واللتزام به‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 256‬‬
‫لبل‪ ،‬فانحروها‬ ‫ت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشرًا حتى يرضى ربكم‪ ،‬وإن خرجت على ا ِ‬ ‫القداح‪ ،‬فإن خرج ِ‬
‫فقد رضى رّبكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداًء‪.‬‬
‫لبل مائة خرجت الِقداح‬ ‫فأجروا القرعَة في مّكة في جماعة من الناس‪،‬وزادوا عشرًا عشرًاحتى إذا َبَلَغ عدد ا ِ‬
‫لبل‪(1).‬‬ ‫ل من الذبح‪ ،‬ففرحوا ونحرت ا ِ‬ ‫لبل ونجا عبد ا ّ‬ ‫على ا ِ‬
‫قضايا عجيبة في فترة طفولة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫أرادت حليمة السعدية أن ترضع النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في حضور ُأّمه‪ ،‬ففتحت جيبها وأخرجت‬
‫ليسر‪ ،‬ووضعت الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" في حجرها لترضعه‪ ،‬فترك النبي )صلى ال عليه‬ ‫ثديها ا َ‬
‫ليمن الذي كان جهامًا ـ أي خاليًا من اللبن و لم يكن يدّر به ـ فغّيرت‬ ‫ليسر ومال إلى الثدي ا َ‬ ‫وآله وسلم( ثديها ا َ‬
‫ليسر‪ ،‬ولكن النبي‬ ‫الثدي إلى فمه‪ ،‬خوفًا من أل يجد فيه النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" شيئًا فل يأخذ بعده ا َ‬
‫ل وانفتح‪ ،‬فأدهش الجميع‪.‬‬ ‫ليمن‪ ،‬ولما استلمه امت َ‬ ‫ص الثدي ا َ‬‫)صلى ال عليه وآله وسلم( أصّر على م ّ‬
‫ن البوادي‬‫وتذكر حليمة أيضًا تلك البركة التي لحقتها وقومها بسبب النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" قائلة‪ :‬إ ّ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله‬ ‫ت رسول ا ّ‬ ‫ت مّكة مع نساء بني سعد‪ ،‬فأخذ ُ‬ ‫أجدبت وحملنا الجهد على دخول البلد‪ ،‬فدخل ُ‬
‫وسلم( فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا حتى أثرينا وكثرت مواشينا وأموالنا‪.‬‬
‫وقد احترمها النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وأجّلها بعد سنوات عندما كبر‪ ،‬وحينما قدمت إليه في سنوات‬
‫الجدب والقحط تزوره‪ ،‬احترمها وأكرمها‬
‫____________‬
‫لّول‪ :‬إسماعيل بن إبراهيم "عليهما‬ ‫‪ .1‬نقل عن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( قوله‪ ":‬أنا ابن الذبيحين"‪ .‬ا َ‬
‫لنوار‪.123|12 :‬‬ ‫السلم" ‪ ،‬والثاني‪ :‬أبوه‪ .‬بحار ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 257‬‬
‫وَفَرش رداءه تحت قدميها‪ ،‬واصغى لها‪.‬‬
‫ولما شكت حالها وهلك مواشيها‪ ،‬طلب )صلى ال عليه وآله وسلم( من السيدة خديجة)عليها السلم( أن تعطيها‬
‫بعيرًا و ‪ 40‬شاة‪ ،‬فانصرفت مسرورًة‪.‬‬
‫وقيل‪ ،‬أّنها جاءته مّرة فلما دخلت عليه قال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ُ ":‬أّمي ُأّمي"‪(1).‬‬

‫رأي قريش في القرآن‬

‫كان القرآن من أكبر وأقوى أسلحة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( في إخضاع أساتذة الفصاحة والبلغة أمام‬
‫لنساني نظيرًا‪.‬‬ ‫ن حديثه لم يعرفه البشُر من قبل ولم يعهد له التاريخ ا ِ‬ ‫حلوة كلماته وعباراته القوية‪ ،‬فاعترفوا بأ ّ‬
‫لعداء‪.‬ومن تلك النماذج‪:‬‬ ‫وربما أدت جاذبيته وتأثير حديثه إلى انهيار قّوة ا َ‬
‫ل مشكلة قّوة انتشار‬ ‫الوليد بن المغيرة‪ ،‬الذي كانت العرب ترجع إليه في حّلمشكلتهم‪ ،‬فطلبوا رأيه في ح ّ‬
‫لسلم‪ ،‬والقرآن‪ ،‬هل هو سحٌر أم كهانٌة أم حديث إنسان؟ فجاء إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وقال‪:‬‬ ‫اِ‬
‫ل الذي بعث أنبياءه ورسله"‪ .‬وقرأ‬ ‫أنشدني شعرك‪ .‬فقال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬ما هو بشعٍر ولكّنه كلم ا ّ‬
‫عليه سورة "الرحمن" فاستهزأ وقال‪ :‬تدعو إلى رجل باليمامة يسمى الرحمان‪ .‬قال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪:‬‬
‫ن أعرضوا‬ ‫ل وحده الرحمن الرحيم"‪ .‬ثّم افتتح سورة حم السجدة وبلغ إلى قوله تعالى‪َ) :‬فِإ ْ‬ ‫"ل ولكّني أدعوا إلى ا ّ‬
‫فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود( فاقشعر جلُده ‪ ،‬وقامت كّلشعرة في رأسه ولحيته‪ ،‬فمضى إلى بيته‬
‫ولم يرجع إلى قريش‪.‬‬
‫فقالت قريش‪ :‬يا أبا الحكم صبا أبو عبد شمس إلى دين محّمد‪ ،‬أما تراه لم‬
‫____________‬
‫‪ .1‬وتنسب حليمة إلى سعد بن بكر بن هوازن‪ .‬وهي ابنة أبي ذَويب‪،‬وزوجها الحارث بن عبد العزى‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 258‬‬
‫سنا‬
‫ست رَو َ‬ ‫ل‪ :‬يا عّم نك ّ‬ ‫يرجع إلينا و قبل قوله ومضى إلى منزله‪ .‬فاغتمت قريش وسارإليه أبوجهل قائ ً‬
‫ت وإّني على دين قومي وآبائي‪ ،‬ولكّني سمعت كلمًا صعبًا‬ ‫ت إلى دين محّمد؟ فقال‪ :‬ما صبو ُ‬ ‫وفضحتنا‪ ،‬صبو َ‬
‫تقشعّرمنه الجلود‪ .‬فقال أبو جهل‪ :‬أشعٌر هو؟‬
‫ـ ما هو بشعر‪.‬‬
‫ـ فخطب هي؟‬
‫طب كلم متصل‪ .‬وهذا الكلم منثوٌر ل يشبه بعضه بعضًا‪ ...‬له حلوة‪.‬‬ ‫خَ‬‫ـ ل و إن ال ُ‬
‫ـ فما هو؟ قال‪ :‬قولوا‪ ،‬هوسحر فإّنه آخذ بقلوب الناس‪.‬‬
‫خلقت َوحيدًا‪(1). (...‬‬ ‫ن َ‬ ‫ل سبحانه و تعالى فيه‪َ) :‬ذْرني َوَم ْ‬ ‫فأنزل ا ّ‬
‫كما حاول عتبة بن ربيعة وهو من كبراء قريش وأشرافها أن يثني النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عن الجهر‬
‫صلت‪:‬‬‫ت من سورة ف ّ‬ ‫بدينه‪ ،‬فكّلمه وطّمعه في المال و الجاه والشرف‪ ،‬فأسمعه )صلى ال عليه وآله وسلم( آيا ٍ‬
‫ن* َبشيرًا‬‫عربّيا ِلَقوٍم َيْعَلُمو َ‬
‫صَلت آياُتُه ُقرآنًا َ‬‫ب ُف ّ‬ ‫ن الّرحيِم* ِكتا ٌ‬ ‫حم ِ‬‫ن الّر ْ‬ ‫ل ِم َ‬
‫ل الّرحمن الّرحيم‪ :‬حم* َتْنِزي ٌ‬ ‫)ِبسِم ا ّ‬
‫عونا إليه( )‪(2‬‬ ‫سَمُعون* َوقاُلوا ُقُلوُبنا في َأِكّنٍة ِمّما َتْد ُ‬ ‫ض َأْكَثرُهْم َفُهْم ل َي ْ‬
‫َوَنِذيرًا َفَأعَر َ‬
‫فسمع وبقي صامتًاحتى انتهى النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪،‬فقام إلى أصحابه وقد تغّيرت ملمحه‪ ،‬فقال‬
‫ل لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به‪.‬‬ ‫بعضهم‪ :‬نحلف با ّ‬
‫ل ما هو بالشعر ول بالسحر ول‬ ‫ت مثله قط‪ .‬وا ّ‬ ‫ل ما سمع ُ‬ ‫ل وا ّ‬ ‫ت قو ً‬ ‫فقالوا‪ :‬ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال‪ :‬سمع ُ‬
‫بالكهانة‪ .‬يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها‬
‫____________‬
‫‪ .1‬المدثر‪11:‬ـ ‪.30‬‬
‫صلت‪1:‬ـ ‪.5‬‬ ‫‪.2‬ف ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 259‬‬
‫ن لقوله هذا الذي سمعت نبأ عظيم‪ .‬فإن تصبه‬ ‫ل ليكون ّ‬
‫بي وخلّوا بين هذا الرجل و بين ما هو فيه فاعتزلوه‪ ،‬فوا ّ‬
‫العرب فقد كفيتموه بغيركم‪ .‬وإن َيظهر على العرب فملكه ملككم وعّزه عّزكم وكنتم أسعد الناس به‪.‬‬
‫ل بلسانه‪ .‬فقال‪ :‬هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم‪.‬‬‫حَرك وا ّ‬
‫سَ‬
‫فانزعجوا وقالوا‪َ :‬‬
‫لماذا عارضت قريش النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وعاندته؟‬

‫‪.1‬حسدهم للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ،‬فقد تمّنوا أن يكونوا هم أصحاب هذا المنصب والمنزلة‪ ،‬إذ جاء‬
‫عظِيم( )‪ (1‬أّنه‪ :‬الوليد بن المغيرة‪،‬‬
‫ن َ‬
‫ن الَْقْرَيتْي ِ‬
‫ل ِم َ‬
‫جٍ‬‫ن على َر ُ‬
‫ل هذا الُقرآ ُ‬ ‫في تفسير قوله تعالى‪) :‬وقاُلوا َلول ُنّز َ‬
‫الذي قال‪ :‬أينزُلعلى محّمد وأترك وأنا كبير قريش و سيدها‪ ،‬ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد‬
‫ثقيف‪ ،‬ونحن عظيما القريتين‪.‬‬
‫وكذلك ُأّمية بن أبي الصلت قال نفس الشيء وتمّنى أن ينال هذا المقام‪ ،‬فلم يتبع النبّيص إلى آخر حياته‪.‬‬
‫ي أمر‪،‬‬
‫‪ .2‬انغماسهم وحّبهم للشهوات‪ ،‬حيث كانوا أصحاب َلْعب ولهٍو وفسق وُمجون‪ ،‬دون أن يقّيدهم في ذلك أ ّ‬
‫مّما جعل دعوة النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" مخالفة لعاداتهم القديمة‪.‬‬
‫سلهوهم وأنسهم‪،‬‬ ‫‪ .3‬الخوف من عقوبات اليوم الخر‪ ،‬إذ كانت تحدث ضجٌة كبرى في أوساطهم‪ ،‬فيهدم مجال َ‬
‫فحاربوه حتى ل يسمعوا تهديده ووعيده‪ ،‬كاليات‪:‬‬
‫حَبِتِه َوَبنيه*‬
‫خيِه* َوُأّمه َوَأبيه* وصا ِ‬
‫ن َأ ِ‬
‫خُة* يوم َيِفّر الَمرُء ِم ْ‬
‫صا ّ‬
‫ت ال ّ‬
‫)َفِإذا جاَء ِ‬
‫____________‬
‫‪ .1‬الزخرف‪.31:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 260‬‬
‫ن ُيغِنيه( ‪(1).‬‬
‫شْأ ٌ‬
‫ى ِمْنُهْم َيوَمِئٍذ َ‬
‫ل اْمِر ٍَ‬
‫ِلُك ّ‬
‫‪ .4‬الخوف من القبائل المشركة‪ ،‬فقد ذكر "الحارث بن نوفل بن عبد مناف" للرسول )صلى ال عليه وآله‬
‫ن قولك حق‪ ،‬ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى ونَومن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا‪ ،‬إن‬ ‫وسلم( ‪ :‬إّنا لنعلم أ ّ‬
‫لوثانها‪ ،‬ول طاقة لنا بها‪.‬‬
‫تركنا الوثنية التي تدين بها‪ ،‬ويعتبروننا سدنة َ‬

‫عبس و توّلى‬

‫ن إسلم أحد الزعماء وكبار القوم يحل الكثير من المشاكل‪ ،‬مّما جعله‬ ‫رأى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أ ّ‬
‫لسلم‪ ،‬إذ كان أكبر سنًا في قريش‪ ،‬وأكثرهم نفوذًا‬ ‫يصّر على أن يجر الوليد بن المغيرة والد خالد‪ ،‬إلى ا ِ‬
‫وشخصية‪ ،‬حيث ُدعي حكيم العرب‪ .‬فكّلمه النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ذات يوم طامعًا في إسلمه‪ ،‬وفي‬
‫ن ُأّم مكتوم وهو رجل من المسلمين وكان أعمى يكّلم الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫لثناء جاء اب ُ‬ ‫اَ‬
‫لّنه شغله عّما كان‬ ‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( حتى أضجره‪َ ،‬‬ ‫ق ذلك منه على رسول ا ّ‬ ‫ويستقرئه القرآن‪ ،‬فش ّ‬
‫فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلمه‪ ،‬فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسًا وتركه‪ ،‬فنزل قوله تعالى‪:‬‬
‫عمى‪. (...‬‬‫لْ‬‫ن جاَءُه ا َ‬
‫سَوَتَوّلى* َأ ْ‬
‫عَب َ‬
‫)َ‬
‫ن علماء الشيعة فّندوا هذه الرواية التاريخية واستبعدوا صدور مثل هذا السلوك عن الرسول )صلى ال عليه‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫ن الذي عبس و توّلى هو‬ ‫ل سبحانه وتعالى في القرآن الكريم‪ ،‬وأّنه ليس فيه ما يدل أ ّ‬ ‫وآله وسلم( الذي امتدحه ا ّ‬
‫ن المراد به رجل من بني ُأمّية‬ ‫لمام الصادق )عليه السلم( أ ّ‬ ‫الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪ .‬وقد روى ا ِ‬
‫لعمى‪ ،‬عند النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫عبس و توّلى‪ ،‬عندما حضر ابن ُأّم مكتوم ا َ‬
‫____________‬
‫‪ .1‬عبس‪33 :‬ـ ‪.37‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 261‬‬
‫فنزلت اليات توبيخًا له‪.‬‬

‫ُأسطورة الغرانيق‬

‫لسود بن المطلب‪ ،‬والوليد بن المغيرة‪ ،‬وُأمّية بن خلف‪ ،‬والعاص ابن وائل‪ ،‬قالوا للرسول )صلى ال‬ ‫ناَ‬ ‫قيل إ ّ‬
‫ل تعالى‪) :‬ل‬
‫لمر‪ .‬فأنزل ا ّ‬
‫عليه وآله وسلم( ‪ :‬يا محّمد هلّم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن و أنت في ا َ‬
‫عُبد( ‪(1).‬‬
‫ن ما َأ ْ‬
‫عُبُد ما َتْعُبُدون* َول َأْنُتْم عاِبُدو َ‬
‫َأ ْ‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( رغب في أن يساوم قريشًا ويجاريهم‪ ،‬فقال في نفسه‪ :‬ليت نزل‬ ‫ومع ذلك فإ ّ‬
‫في ذلك أمٌر يقّربنا من قريش‪ .‬وبينما كان )صلى ال عليه وآله وسلم( يتلوا القرآن في الكعبة‪ ،‬فبلغ قوله تعالى‬
‫لخرى( )‪ (2‬أجرى الشيطان على لسانه الجملتين‬ ‫لت َوالُعّزى* َوَمناَة الّثالثَة ا َُ‬ ‫من سورة النجم‪َ) :‬أَفَرَأْيُتُم ال ّ‬
‫التيتين‪" :‬تلك الغرانيق الُعلى منها الشفاعة ُترَتجى"‪ .‬فقرأهما من دون اختيار‪ ،‬ثّمقرأ بعدها من اليات‪ .‬ولما بلغ‬
‫ل الوليد الذي عاقه ِكبَـُر سّنه عن‬ ‫لصنام‪ ،‬إ ّ‬ ‫جد هو و من حضر من المسلمين و المشركين أمام ا َ‬ ‫سَ‬‫آية السجدة‪َ ،‬‬
‫السجود‪ ،‬ففرح المشركون وارتفعت صيحاتهم‪ :‬لقد َذَكر محّمد آلهتنا بخير‪ .‬فانتشر الخبر بالتقارب والمصالحة‬
‫بين الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( والمشركين‪ ،‬ولكّنهم عرفوا بأّنالمر تغّير ثانية‪ ،‬حيث نزل َمَلكُ الوحي‬
‫ن الشيطان هو الذي أجرى‬ ‫لصنام ومجاهدة الكّفار‪ ،‬وأ ّ‬ ‫على النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" وأمره بمخالفة ا َ‬
‫ج‪52‬ـ ‪:54‬‬ ‫تلك الكلمات على لسانه‪ ،‬فهي ليس من الوحي في شيء أبدًا‪ .‬فنزلت اليات في ذلك من سورة الح ّ‬
‫ن ُثّم‬
‫شْيطا ُ‬
‫خ الّلهما ُيْلِقي ال ّ‬
‫سُ‬‫ن في ُأْمِنّيِتِه َفَيْن َ‬
‫شْيطا ُ‬
‫ل ِإذا َتمّنى َأْلَقى ال ّ‬‫ى ِإ ّ‬
‫ل َول َنِب ّ‬
‫سو ٍ‬‫ن َر ُ‬‫ك ِم ْ‬ ‫ن َقْبِل َ‬
‫سْلنا ِم ْ‬
‫)َوما َأْر َ‬
‫حكيٌم‪. (...‬‬ ‫عليٌم َ‬ ‫ل َ‬ ‫ل آياِتِه َوا ّ‬‫حِكُم ا ّ‬
‫ُي ْ‬

‫____________‬
‫‪ .1‬الكافرون‪ 2:‬ـ ‪.3‬‬
‫‪ . 2‬النجم‪ 19 :‬ـ ‪.20‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 262‬‬
‫ن المرشدين‬ ‫لسطورة نقلها الطبري في تاريخه‪ ،‬ورّددها المستشرقون‪ ،‬وهي باطلة تمامًا‪ ،‬فالعقل يحكم بأ ّ‬ ‫هذه ا َُ‬
‫ل تعالى إلى البشرية‪ ،‬مصونون من أي خطأ وزلل‪ ،‬حتى ل تزول ثقة الناس بهم وبأفكارهم‪.‬‬ ‫الذين يبعثهم ا ّ‬
‫ل؟‬
‫ي ص وسّرب إلى القرآن شيئاً باط ً‬ ‫ن من النتصار على النب ّ‬ ‫والقرآن شهد ببطلنها أيضًا فكيف تمّكن الشيطا ُ‬
‫عَلْيِهْم‬
‫ك َ‬
‫س َل َ‬
‫عباِدي َلْي َ‬
‫ن ِ‬
‫فيصبح القرآن الذي يعادي الوثنيةويحاربها‪ ،‬داعيًا إلى عبادتها‪ .‬والقرآن يَوّكد‪ ) :‬إ ّ‬
‫ن(‪(2).‬‬ ‫على َرّبِهْم َيَتَوّكُلو َ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬
‫عَلى اّلذي َ‬
‫ن َ‬
‫سْلطا ٌ‬
‫س َلُه ُ‬
‫سْلطان()‪ِ) (1‬إّنه َلْي َ‬ ‫ُ‬
‫ن الحديث باطل لم ينطق به النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬ ‫ولذا فإ ّ‬

‫ب أبي طالب للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬


‫لمحات من تضحيات وح ّ‬

‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( الذي كان‬ ‫اجتمع أسياُد قريش وأشرافها في بيت أبي طالب للتحّدث عن رسول ا ّ‬
‫متواجدًا معهم‪ ،‬وعن دينه والمشكلت السائدة في مكة‪ ،‬ومحاولة إبعاد النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عن‬
‫دعوته‪ ،‬ولكّنهم يئسوا في الحصول على أّية نتيجة مرضية‪ ،‬فتركوا بيت أبي طالب غاضبين مهددين‪ ،‬وقال عقبة‬
‫بن أبي معيط‪ :‬ل نعود إليه أبدًا‪ ،‬وما خير من أن نغتال محّمدا‪.‬‬
‫ن النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬‫لّنهم كانوا في بيته‪ .‬وحدث أ ّ‬
‫ب أبو طالب دون أن يرد عليهم بشيء َ‬ ‫ض َ‬
‫َفَغ ِ‬
‫خرج من بيته في نفس اليوم ولم يعد‪ ،‬فجمع أبو طالب الفتيان من بني هاشم و بني المطلب‪ ،‬وطلب منهم أن‬
‫ل واحد منهم إلى عظيم من عظمائهم‪ .‬فجاء زيد بن حارثة وسأله أبو‬ ‫يتبعوه إلى المسجد‪ ،‬ويجلس ك ّ‬
‫____________‬
‫‪ .1‬الحجر‪.42:‬‬
‫‪ . 2‬النحل‪.99:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 263‬‬
‫ت ابن أخي؟ قال‪ :‬نعم كنت معه آنفًا‪ .‬فقال أبو طالب ‪:‬ل أدخُلبيتي أبدًا حتى أراه‪ .‬فخرج زيد‬ ‫طالب‪ :‬يا زيد أحسس َ‬
‫سريعًا إلى بيت عند الصفا فيه النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" مع أصحابه وأخبره‪ ،‬فجاء النبي )صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم( إلى أبي طالب‪ ،‬فقال له‪ :‬أين كنت؟ أكنَتفي خير؟ قال‪" :‬نعم"‪ .‬قال‪ :‬أدخل بيتك‪.‬‬
‫وفي الغد خرج أبو طالب ومعه النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى أندية قريش و قال‪ :‬يا معشر قريش هل‬
‫تدرون ما هممت به؟ قالوا‪ :‬ل‪ .‬فقال للفتيان من بني هاشم و بني المطلب‪ :‬إكشفوا عّما في أيديكم‪ .‬فكشفوا فإذا ك ّ‬
‫ل‬
‫ل لو قتلتموه ما بّقيت منكم أحدًا حتى نتفانى نحن و أنتم‪ .‬فانكسر القوم‪،‬‬
‫رجل منهم معه حديدة صارمة‪ .‬فقال‪ :‬وا ّ‬
‫و كان أبو جهل أشّدهم انكسارًا وخيبة‪.‬‬

‫تخطيط النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( العسكري يوم بدر‬


‫ُيعتبر الحصول على المعلومات حول العدو‪ ،‬ومعرفة أسراره العسكرية ومدى استعدادته‪ ،‬ومبلغ قوته‪ ،‬ودرجة‬
‫لسلمي‬ ‫ن الجيش ا ِ‬ ‫لهمية و القيمة‪ ،‬عسكريًا‪ ،‬منذ القدم وحتى اليوم‪ .‬ولذا فإ ّ‬ ‫معنويات أفراده‪ ،‬على أمر من ا َ‬
‫ى التستر ومنع أي عمل من شأنه كشف أسراره‪ ،‬كما أّنه "صلى ال عليه وآله‬ ‫استقر في منطقة لءمت مباد َ‬
‫لسلمية‬ ‫وسلم" كلف فرقًا مختلفة بتحصيل وجمع المعلومات عن قريش وأفراد جيشها‪ ،‬حتى توفر لدى القيادة ا ِ‬
‫من المعلومات‪ ،‬كان أهمها‪:‬‬
‫ـ معرفة نقطة تواجد قريش ومكان قاعدتهم‪ .‬فقد سأل النبي ص بنفسه‪ ،‬وأحد قواده‪ ،‬شيخًا من العرب عن قريش‬
‫ن محّمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا‪ ،‬فهم الن بمكان كذا‪ ،‬وكذلك بالنسبة لقريش‪.‬‬ ‫و محّمد وأصحابه‪ ،‬فقال‪ :‬إ ّ‬
‫لمام علّيا )عليه السلم( والزبير ابن‬ ‫ـ معلومات عن أعدادهم وعتادهم‪ ،‬فقد أرسل )صلى ال عليه وآله وسلم( ا ِ‬
‫العوام و سعد بن أبي وقاص إلى ماء بدر‬
‫===============‬
‫) ‪( 264‬‬
‫لخبار‪ ،‬فقبضوا على غلمين وأحضروهما إلى النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" الذي سألهما عن‬ ‫للتماس ا َ‬
‫ل وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى‪.‬‬ ‫قريش‪ ،‬فقال‪ :‬هم و ا ّ‬
‫فقال النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬كم القوم وعّدتهم؟" فقال‪ :‬ل ندري‪ ،‬هم كثير‪ .‬فقال )صلى ال عليه وآله‬
‫لبل؟ قال‪ :‬يومًا تسعًا ويومًا عشرًا‪ .‬فقال ص‪ ":‬القوم فيما بين التسعمائة‬ ‫ل يوم من ا ِ‬‫وسلم( ‪ :‬كم ينحرون ك ّ‬
‫للف‪ .‬فمن فيهم من أشراف قريش؟" قال‪ :‬عتبة بن ربيعة‪ ،‬وأبو البختري بن هشام‪ ،‬وحكيم بن حزام‪ ،‬وشيبة‬ ‫وا َ‬
‫لصحابه‪" :‬هذه مّكة قد ألقت‬ ‫بن ربيعة‪ ،‬وأبو جهل بن هشام‪ ،‬وُأمّية بن خلف‪ .‬فقال "صلى ال عليه وآله وسلم" َ‬
‫إليكم أفلذ كبدها"‪.‬‬
‫صي الحقائق‬ ‫ـ معلومات حول القافلة‪ ،‬حيث كّلف )صلى ال عليه وآله وسلم( شخصين بالتوجه إلى قرية بدر لتق ّ‬
‫ل لهم‬
‫لخرى‪ :‬إّنما تأتي القافلة غدًا أو بعد غد‪ ،‬فأعم ُ‬ ‫عن قافلة قريش‪ .‬فسمعا عند الماء جاريتين تقول إحداهما ل َُ‬
‫ثّم أقضيك الذي لك‪ .‬فقال لها مجدي بن عمرو الجهني‪ :‬صدقت‪ .‬ثّم خلص بينهما‪.‬‬
‫فعاد الثنان إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( وأخبراه بما سمعا‪ .‬فعرف )صلى ال عليه وآله وسلم( بذلك‬
‫لعداد والترتيب لملقاتهم‪.‬‬ ‫وقت ورود القافلة ومكان تواجدهم‪ ،‬مّما مّكنه من ا ِ‬
‫وعندما وصل أبو سفيان إلى بدر وسأل مجدي بن عمرو عن محمد ورجاله‪ ،‬أجابه‪ :‬ما رأيت أحدًا ُأنكُره‪ ،‬إ ّ‬
‫ل‬
‫أّني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ثّماستقيا ثّم انطلقا‪ .‬فأخذ أبو سفيان من أبعار بعيريهما ففّته فإذا فيه‬
‫لقريبا‪.‬‬‫ل علئف يثرب‪ ،‬هذه عيون محّمد وأصحابه‪ ،‬ما أرى القوم إ ّ‬ ‫النوى‪ ،‬فقال‪ :‬هذه وا ّ‬
‫لحمر‪ ،‬مبتعدًا عن بدر‪.‬‬ ‫فرجع إلى أصحابه‪ ،‬واّتخذ جهة ساحل البحر ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 265‬‬
‫من أحداث معركة ُأحد‬

‫‪ .1‬نفقات الحرب‬
‫تحّمل أسياد قريش نفقات المعركة‪ ،‬من اقتراح قدمه"صفوان بن ُأمّية" و "عكرمة بن أبي جهل" إلى أبي سفيان‬
‫ل واحد منهم مبلغًا من المال قائلين‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إّنمحّمدا قد َوَتَركم‪ ،‬وقتل خياركم‪ ،‬فأعينونا بهذا‬ ‫بأن يدفع ك ّ‬
‫المال على حربه‪ ،‬فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب مّنا‪.‬‬
‫سُيْنِفقوَنها ُثّم‬
‫ل َف َ‬
‫لا ّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬
‫صّدوا َ‬
‫ن َكَفُروا ُيْنِفُقونَ َأْمواَلُهْم ِلَي ُ‬‫وقد أوضح القرآن الكريم موقفهم هذا بقوله‪ِ) :‬إن اّلذي َ‬
‫شُرون( ‪(1).‬‬ ‫حَ‬ ‫جَهّنَم ُي ْ‬
‫ن َكَفُروا ِإلى َ‬
‫سَرًة ُثّم ُيْغَلُبون َواّلذي َ‬
‫حْ‬
‫عَلْيِهْم َ‬
‫َتُكون َ‬
‫‪ .2‬مشاركة النساء في الحرب‬
‫فقد شاركت نساء مّكة الوثنيات مع الرجال في هذه المعركة على خلف عادة العرب‪ ،‬وذلك حتى يحّرضن‬
‫لّنالفرار يعنى أسرهن‪ ،‬ويشعلن الحماس‬ ‫الرجال على القتال و الصمود‪ ،‬ويمنعن المقاتلين من الفرار و الهروب‪َ ،‬‬
‫لشعار المثيرة الداعية إلى الثار‪.‬‬ ‫في النفوس بدق الدفوف‪ ،‬وإنشاد ا َ‬
‫‪ .3‬إثارتهم للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫ل ‪:‬فإ ّ‬
‫ن‬ ‫حاول عدد من أفراد قريش‪ ،‬القيام بنبش قبر ُأّم محّمد "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪ :‬آمنة بنت وهب‪ ،‬قائ ً‬
‫النساء عورة‪ ،‬فإن يصب من نسائكم أحد قلتم هذه رّمة ُأّمك‪ ،‬فإن كان برًا بُأّمه كما يزعم فلعمري ليفادينكم بّرمة‬
‫ُأّمه‪ ،‬وإن لم يظفر‬
‫____________‬
‫لنفال‪.36:‬‬
‫‪ .1‬ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 266‬‬
‫بأحد من نسائكم فلعمري فليفدين رمة ُأّمه بمال كثير إن كان بها برًا‪.‬‬
‫ن أهل الرأي منهم رفض القتراح وقالوا‪ :‬لو َفَعلنا ذلك‪ ،‬نبشت بنو بكر وخزاعة ـ و هم أعداء قريش ـ‬ ‫لأّ‬ ‫إّ‬
‫موتانا‪.‬‬

‫‪ .4‬إطلق الشعارات‬

‫لنسان عند الهزائم وإصابة‬ ‫تصبح مسألة بث الدعاية السيئة وزرعها في النفوس واستثمارها‪ ،‬سهلة ومَوثرة في ا ِ‬
‫ل وأيسر تأثيرًا‪.‬‬
‫النكبات‪ ،‬فتصبح أكثر تقب ً‬
‫ل هبل‪ُ ،‬أعل هبل‪ .‬فأدرك‬ ‫لصوات‪ ،‬بعد معركة ُأحد‪ُ :‬أع ُ‬ ‫لصنام والمناداة بأعلى ا َ‬ ‫ن أبا سفيان أمر برفع ا َ‬
‫ولذا فإ ّ‬
‫لجابة‬
‫لسلوب المَوثر في النفوس‪ ،‬فأمر المسلمين با ِ‬ ‫النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عمق الخطورة من هذا ا َ‬
‫ل أعلى وأجل"‪ .‬فاستمر أبو سفيان في إطلق‬ ‫ل أعلى وأجل‪ ،‬ا ّ‬ ‫على ذلك بشعار مضاد قوي‪ ،‬فقال ‪" :‬قولوا‪ :‬ا ّ‬
‫ل مولنا ول‬ ‫عزى لكم‪ .‬فرّد النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" عليهم‪" :‬ا ّ‬ ‫شعاراته المزيفة‪ :‬نحن لنا العزى ول ُ‬
‫مولى لكم"‪ .‬فنادى المشركون‪ :‬يوٌم بيوم بدر‪ .‬فأجاب المسلمون‪ :‬ل سواء‪ ،‬قتلنا في الجنة‪ ،‬وقتلكم في النار‪.‬‬

‫‪ .5‬عن ُأمّية النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬

‫ل على رسوله )صلى‬ ‫ل عّزوج ّ‬‫نا ّ‬‫لمام الصادق )عليه السلم( أّنه قال‪ :‬كان مّما م ّ‬‫لمة المجلسي عن ا ِ‬ ‫روى الع ّ‬
‫ل اّنه عندما توجه أبو سفيان إلى ُأحد‪ ،‬كتب العباس بن عبد‬ ‫ال عليه وآله وسلم( أّنه كان ل يقرأ ول يكتب‪ ،‬إ ّ‬
‫المطلب إلى النبي‬
‫===============‬
‫) ‪( 267‬‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( يخبره بذلك‪ ،‬فوصله الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة‪ ،‬فقرأه ولم يخبر‬
‫أصحابه‪ ،‬وأمرهم أن يدخلوا المدينة فأخبرهم عندئذ‪(1).‬‬

‫‪ .6‬التضحية والفداء في سبيل ا ّ‬


‫ل‬

‫وخير من مثلها في معركة ُأحد‪:‬‬


‫لولد أربعة يشهدون المشاهد مع النبي‬ ‫*عمرو بن الجموح‪ :‬كان شيخًا أعرجًا أصيب في رجله‪ ،‬وله من ا َ‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( فأراد الشتراك في ُأحد‪ ،‬ولكّنهم منعوه‪ ،‬فأتى الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم(‬
‫لرجو أن أطأ بعرجتي هذه‬ ‫ل إّني َ‬
‫ي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه‪ ،‬فوا ّ‬ ‫ن بن ّ‬
‫وقال له‪ :‬إ ّ‬
‫جه إلى أبنائه‬
‫ل ول جهاد عليك"‪ .‬ثّم تو ّ‬ ‫عَذرك ا ّ‬‫في الجنة‪ .‬فقال النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬أّماأنت فقد َ‬
‫ل يرزقه الشهادة"‪ .‬فخرج وهو يقول‪ :‬الّلهم ارزقني الشهادة ول ترّدني إلى‬ ‫لا ّ‬ ‫وقومه‪" :‬ل عليكم أل تمنعوه‪ ،‬لع ّ‬
‫ل مشتاق إلى الجّنة‪ .‬فاستشهد في المعركة‪.‬‬ ‫لعداء وهو يقول‪ :‬أنا وا ّ‬ ‫أهلي‪ .‬وقد حمل على ا َ‬
‫* الشاب حنظلة بن أبي عامر‪ :‬كان له من العمر ‪ 24‬عامًا‪ ،‬واشترك أبوه في ُأحد إلى جانب قريش‪ ،‬حيث كان‬
‫لسلم‪ ،‬فهو السبب لما حدث في مسجد‬ ‫عدوًا للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يحّرض على قتاله‪ ،‬ومعاداة ا ِ‬
‫ق مع النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ .‬وفي يوم‬ ‫ن ابنه حنظلة اّتخذ جانب الح ّ‬ ‫لأّ‬‫ضرار‪ .‬فكان على الباطل‪ ،‬إ ّ‬
‫ل بن أبي سلول و يقيم مراسيم الزفاف والعرس في ليلة الخروج إلى‬ ‫المعركة‪ ،‬كان قد أعّد للزواج بابنة عبد ا ّ‬
‫ُأحد‪ ،‬ولكّنه سمع نداء الجهاد فاستأذن الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ليتوقف في المدينة ليلة واحدة حتى‬
‫لسلمي في الصباح‪ .‬وقد نزل في ذلك قوله‪:‬‬ ‫يجري مراسيم العرس و يقيم عند عروسته‪ ،‬ثّم يلتحق بالمعسكر ا ِ‬
‫على‬‫سوِلِه َوِإذا كاُنوا َمَعُه َ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫ن آَمُنوا ِبا ّ‬
‫ن اّلذي َ‬
‫)ِإّنما اْلُمَْوِمُنو َ‬
‫____________‬
‫لنوار‪.111|20:‬‬ ‫‪ .1‬بحار ا َ‬
‫===============‬
‫) ‪( 268‬‬
‫سوِلِه َفِإذا اسَتْأَذُنوكَ ِلَبْع ِ‬
‫ض‬ ‫ل َوَر ُ‬
‫ن ِبا ّ‬
‫ن ُيَْوِمُنو َ‬
‫ك اّلذي َ‬
‫ك ُأولِئ َ‬
‫سَتْأِذُنوَن َ‬
‫ن اّلذين َي ْ‬
‫ستأذُنوه ِإ ّ‬
‫حّتى َي ْ‬
‫َأْمٍر جاِمٍع َلْم َيْذَهُبوا َ‬
‫شْئت ِمْنُهْم( ‪(1).‬‬‫شْأنِهْم َفْأَذن لمن ِ‬ ‫َ‬
‫وخلل المعارك‪ ،‬استشهد وهو يطارد أبا سفيان‪ ،‬فقال النبي ص‪ :‬رأيت الملئكة تغسل حنظلة بين السماء‬
‫لرض بماء المزن في صحائف من ذهب‪ .‬فكان يسّمى غسيل الملئكة أو حنظلة الغسيل‪ ،‬ذلك أّنه خرج إلى‬ ‫وا َ‬
‫الحرب وهو جنب‪.‬‬
‫لوس تعتبره من مفاخرها فتقول‪ :‬ومّنا حنظلة غسيل الملئكة‪.‬‬ ‫وكانت ا َ‬
‫أّما أبو سفيان فقال‪ :‬حنظلة بحنظلة‪ .‬ويقصد حنظلة الغسيل بحنظلة ابنه الذي قتل يوم بدر‪.‬‬
‫ق‪ ،‬في مقابل والدين من أعداء الرسولص‪،‬‬ ‫ن العروسين كانا مَومنين متفانيين في سبيل الح ّ‬ ‫لمر الغريب هنا‪ ،‬إ ّ‬ ‫وا َ‬
‫ل بن أبي سلول والد العروس كان على رأس المنافقين‪ ،‬وأبو عامر الفاسق والد العريس‪ ،‬سّمي في‬ ‫فعبد ا ّ‬
‫الجاهلية بالراهب لعدائه الشديد للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( والتحق بالمشركين في مّكة‪ ،‬وحرض هرقل‬
‫ل أّنه عندما التقى المعسكران نادى أبو‬ ‫لسلمية‪ ،‬وقتل الكثير من المسلمين في ُأحد‪ .‬إ ّ‬ ‫على ضرب الحكومة ا ِ‬
‫لوس أنا أبو عامر‪ ،‬فقد تخيل أّنهم سيتركون نصرة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إذا‬ ‫عامر‪ :‬يا معشر ا َ‬
‫ل بك عينًا يا فاسق‪ .‬فتركهم واعتزل الحرب بعد حين‪.‬‬ ‫شاهدوه‪ ،‬ولكّنهم رّدوا عليه‪ :‬فل أنعم ا ّ‬
‫* ُأّم عمارة‬
‫تحّدثت النساء إلى الرسول الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم( بشأن‬
‫____________‬
‫‪ .1‬النور‪.62:‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 269‬‬
‫ل ما يحتاج إليه الرجال في حياتهم ليجاهدوا ببال فارغ‪ ،‬فلم‬ ‫ل نحن نقوم بك ّ‬‫اشتراكهن في الجهاد‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ن التبّعل يعدل ذلك كّله‪.‬مشيرًا إلى‬
‫سَ‬‫حِرمنا نحن من هذه الفضيلة؟ فأجاب "صلى ال عليه وآله وسلم" ‪ :‬إّنح ْ‬ ‫ُ‬
‫لسلم‪ ،‬في السقي وغسل‬ ‫ن بعضهن خرجن من المدينة لمساعدة جنود ا ِ‬ ‫لأّ‬‫لسباب الطبيعية والعضوية للمرأة‪ .‬إ ّ‬‫اَ‬
‫ثيابهم وتضميد الجرحى‪ .‬واشتهرت منهن في ُأحد‪ُ :‬أّم عمارة نسيبة المازنية‪ :‬التي قاتلت دفاعًا عن الرسول‬
‫)صلى ال عليه وآله وسلم( فجرحت‪ ،‬وقالت تشرح موقفها‪ :‬أقبل ابن قميئة وقد وّلى الناس عن الرسول "صلى‬
‫ال عليه وآله وسلم" يصيح‪ :‬دّلوني على محّمد لنجوت إن نجا‪ .‬فاعترض له مصعب بن عمير وآخرون‪ ،‬وكنت‬
‫فيهم فضربني هذه الضربة‪ .‬ولقد ضربته على ذلك عّدة ضربات‪ ،‬ولكّنه احتمى بدرعين كانا عليه‪ .‬و كان النبي‬
‫ي‪ ،‬فرأى جرحًا على عاتقي‪ ،‬فصاح بأحد أولدي‪ُ" :‬أّمك ُأّمك إعصب‬ ‫)صلى ال عليه وآله وسلم( ينظر إل ّ‬
‫جرحها"‪ ،‬فعاونني عليه‪.‬‬
‫وعندما رأت ابنها وقد جرح أقبلت إليه ومعها عصائب أعّدتها للجراح فربطت جرحه‪،‬والنبي )صلى ال عليه‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫وآله وسلم( ينظر‪ ،‬فقالت لولدها‪ :‬انهض يا بني فضارب القوم‪ .‬مّما أعجب رسول ا ّ‬
‫باستقامتها وثباتها وإيمانها فقال‪" :‬ومن يطيق ما تطيقين يا ُأّم عمارة"‪.‬‬
‫لسد وضربت‬ ‫لثناء أقبل الرجل الذي ضرب ولدها فقال النبي ص هذا ضارب ابنك‪ .‬فحملت عليه كا َ‬ ‫وفي هذه ا َ‬
‫ساقه فبرك‪ .‬مّما ازداد من إعجاب النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بشجاعتها وبسالتها فتبسم وقال‪" :‬استقدت يا‬
‫ل الذي ظّفرك وأقّر عينك من عدوك"‪.‬‬ ‫ُأّم عمارة‪ ،‬الحمد ّ‬
‫لسد‪ ،‬ولكن جراحها منعتها من تأدية‬ ‫وبعد المعركة طلبت النضمام إلى جيش المسلمين الذي سار إلى حمراء ا َ‬
‫الغرض‪ ،‬وبعد رجوع النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" سأل عنها فسّر لسلمتها‪.‬‬

‫) ‪( 270‬‬
‫من أحداث غزوة تبوك‬

‫صة مالك بن قيس‬‫‪ .1‬ق ّ‬


‫ن المسلمين قد غادروا مع الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى‬ ‫أبو خيثمة‪ :‬رجع إلى أهله في يوم حار فوجد أ ّ‬
‫ن زوجتيه قد جّهزتا كّلما يحتاج إليه من طعام وماء‪ ،‬فنظر إليهما وفّكر ما فيه‬
‫تبوك‪ ،‬فدخل عريشًا له‪،‬وجد أ ّ‬
‫يء‪ ،‬في أشّد الحرارة وهم قاصدون جهاد العدو‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫الرسول "صلى ال عليه وآله وسلم" وأصحابه من حال س ّ‬
‫ل بارد وطعام مهيأ‬‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( في الشمس و الحر والريح‪ ،‬و أبو خيثمة في ظ ّ‬ ‫رسول ا ّ‬
‫وامرأةحسناء في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف‪ .‬ل أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق بالرسولوالمجاهدين‪.‬‬
‫فخرج طالبًا الرسولص فأدركه حين نزل تبوك‪.‬‬

‫‪ .2‬تنبَوات الرسول الكريم )صلى ال عليه وآله وسلم(‬


‫لسلم إلى أرض ثمود وهم في الطريق إلى تبوك‪ ،‬غطى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم(‬ ‫عندما وصل جيش ا ِ‬
‫لصحابه‪" :‬ل تدخلوا بيوت الذين‬ ‫ث راحلته‪ ،‬ليسرع في المرور على بيوتهم وأطللهم‪ ،‬وقال َ‬ ‫وجهه بثوبه واستح ّ‬
‫ضو به للصلة أو‬ ‫لوأنتم باكون‪ ،‬خوفًا أن يصيبكم مثل ما أصابهم"‪ .‬كما أّنه نهى عن شرب مائها أو التو ّ‬ ‫ظلموا إ ّ‬
‫الطبخ‪ .‬حتى شربوا من البئر التي شربت منها ناقة صالح النبي )عليه السلم( ‪.‬‬
‫وفي تلك الليلة أمر النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( أصحابه بأن يعقلوا آبالهم‪ ،‬ول يخرج منهم أحد لوحده بل‬
‫يخرج مع صاحبه‪ ،‬وذلك لمعرفة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( بأسرار الجو في تلك البقاع‪ .‬ولما خرج‬
‫ل آخر فضربت به الجبل‪ ،‬انزعج ص وقال‪" :‬ألم أنهكم أن‬ ‫أحدهم فريدًا فاختنق لشدة الرياح‪ ،‬واحتملت رج ً‬
‫لو معه صاحبه"‪.‬‬‫ليخرج منكم أحد إ ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 271‬‬
‫وأصبح الناس دون ماء فعطشوا حتى كاد أن يقطع رقابهم‪ ،‬لدرجة أّنهم شربوا الماء من كروش إبلهم بعد‬
‫ل سبحانه وتعالى سحابة أمطرت فارتوى الناس‪.‬‬ ‫نحرها‪ .‬فأرسل ا ّ‬
‫وحدث أن ضّلت ناقة النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ببعض الطريق‪ ،‬فخرج أصحابه في طلبها‪ ،‬فقال أحد‬
‫المنافقين‪ :‬أليس محّمد يزعم أّنه نبّيويخبركم عن خبر السماء وهو ل يدري أين ناقته؟ فقال الرسول )صلى ال‬
‫ل قال‪ :‬هذا محّمد يخبركم أّنه نبي ويزعم أّنه يخبركم بأمر السماء وهو ل يدري أين‬ ‫ن رج ً‬ ‫عليه وآله وسلم( ‪" :‬إ ّ‬
‫ل عليها‪،‬وهي في هذا الوادي في شعب كذا‪ ،‬وقد حَبسْتها‬ ‫ل‪ ،‬وقد دّلني ا ّ‬
‫لما علمني ا ّ‬
‫ل ما أعلم إ ّ‬ ‫ناقته؟ وإّني وا ّ‬
‫شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها"‪ .‬فذهب بعض الصحابةوأحضروها‪.‬‬
‫ل أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده‬ ‫كما تنّبأ )صلى ال عليه وآله وسلم( بحياة أبي ذر و كيفية موته فقال‪" :‬رحم ا ّ‬
‫ويبعث وحده"‪ .‬وقد تحّققت نبوءته "صلى ال عليه وآله وسلم" بعد ‪ 23‬عامًا حينما نفي إلى الربذة في الشام‪،‬‬
‫ل من أهله‪.‬‬‫وتوفي هناك وحيدًا إ ّ‬

‫مأساة الدعاة والمبّلغين‬

‫كان النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( يبعث بمجموعات من المبلغين والدعاة إلى القبائل داعيًا لهم إلى التوحيد‬
‫لسلمية والتعاليم النبوية‪،‬‬ ‫لحكام ا ِ‬
‫لسلمي‪ ،‬وقد تأّلف هَولء من قّراء القرآن الكريم والعارفين با َ‬ ‫وإلى الدين ا ِ‬
‫لداء مهامهم الصعبة حتى لو كّلفت حياتهم‪.‬‬ ‫أبدوا استعدادًا تامًا َ‬
‫ومن القبائل التي تقدمت إلى النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( تطلب إرسال‬
‫===============‬
‫) ‪( 272‬‬
‫ن فينا إسلمًا فاشيًا‪ ،‬فابعث معنا نفرًا من أصحابنا ُيْقِرئوننا‬ ‫عدد من هَولء الدعاة ‪ :‬قبيلتا عضل والقارة‪" :‬إ ّ‬
‫لسلم"‪ ،‬فتكونت جماعة منهم بقيادة‪ :‬مرثد بن أبي مرثد الَغنوي‪ ،‬ساروا حتى وصلوا ماء‬ ‫القرآن ويفقهوننا في ا ِ‬
‫ن المبلغين استعدوا‬ ‫لأّ‬
‫الرجيع التي تقطن عنده قبيلة هذيل‪ ،‬فكشفوا عن نواياهم الشريرة بقتلهم والغدر بهم‪ ،‬إ ّ‬
‫ل وميثاقه ل‬ ‫ل أن نصيب منكم من أهل مكة ثمنًا‪ ،‬ولكم عهد ا ّ‬ ‫للقتال‪ ،‬فقال العدو‪ :‬ما نريد قتالكم وما نريد إ ّ‬
‫ل ل نقبل من مشرك عهدًا ول عقدًا‬ ‫نقتلكم‪ .‬فرّدعليه أحدهم‪ :‬إّني نذرت أن ل أقبل جوار مشرك‪ .‬أو قالوا‪ :‬وا ّ‬
‫ل بن‬ ‫ل ثلثة منهم‪ :‬زيد بن دثّنة‪ ،‬خبيب بن عدي‪ ،‬و عبد ا ّ‬ ‫لبطال فاستشهدوا إ ّ‬ ‫أبدًا‪ .‬ولذا فقد قاتلوا القوم قتال ا َ‬
‫ل ندم على فعله فقاتلهم ثانية حتى قتل فدفن بمر الظهران‪.‬‬ ‫طارق البلوي‪ ،‬إذ أّنهم استسلموا فأوثقوهم‪،‬ولكن عبد ا ّ‬
‫لبيه‪ .‬فقام أّول شيء‬ ‫أّما الخران فباعوهما في مّكة‪ ،‬حيث اشترى صفوان بن ُأمّية‪ ،‬زيد بن دثّنة وقتله ثأرًا َ‬
‫بحبسه في الحديد‪ ،‬وكان يتهجد بالليل و يصوم النهار‪ ،‬ثّم أخرجه إلى التنعيم ليصلبه على مرأى من الناس‪،‬‬
‫فطلب أن يصلي ركعتين‪ ،‬ثّمحملوه على الخشبة وقالوا له‪ :‬يا زيد إرجع عن دينك المحدث واّتبع ديننا ونرسلك‪،‬‬
‫ل ل أفارق ديني أبدًا‪.‬‬ ‫فيقول‪ :‬وا ّ‬
‫ل يا زيد أيسّرك أّنمحّمدا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟ فقال زيد بشجاعة‪ :‬ما‬ ‫فقال له أبو سفيان‪ :‬أنشدك با ّ‬
‫ن محّمدا ُأشيك بشوكة وإّني في بيتي وجالس في أهلي‪ .‬فأّثرت كلماته في نفس"أبي سفيان" فقال‪ :‬ما‬ ‫يسرني أ ّ‬
‫ط أشّد حّبا في أصحاب محّمد بمحمد‪ .‬فصلبوه شهيدًا دفاعًا عن العقيدة وحياض الدين‪.‬‬ ‫رأينا أصحاب رجل ق ّ‬
‫أّما خبيب فقد حبسوه فترة من الوقت ثّم قرروا قتله صلبًا أيضًا‪ .‬فخرجوا به إلى التنعيم‪ ،‬وخرجت جماعة من‬
‫النساء والصبيان و العبيد ومن أهل مّكة‪ ،‬فقال‬
‫===============‬
‫) ‪( 273‬‬
‫ل لول أن تظّنوا أّني إّنما‬‫لهم‪ :‬إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا‪ .‬فسمحوا له‪ ،‬ثّم قال لهم‪ :‬أما وا ّ‬
‫لسلم نخّلسبيلك‪ .‬فقال‪ :‬ل‬ ‫طولت جزعًا من القتل لستكثرت من الصلة‪ .‬فرفعوه على خشبة و قالوا‪ :‬إرجع عن ا ِ‬
‫لرض جميعًا‪ .‬فقالوا له‪ :‬أما واللت والعزى لئن لم تفعل‬ ‫ن لي ما في ا َ‬ ‫لسلم وأ ّ‬ ‫ب إّني رجعت عن ا ِ‬ ‫ل ما أح ّ‬ ‫وا ّ‬
‫ل لقليل‪ .‬ثّم صرفوا وجهه عن القبلة ووجهوه نحو المدينة فقال‪ :‬أّما صرفكم وجهي‬ ‫ن قتلي في ا ّ‬ ‫لنقتلنك‪ .‬فقال‪ :‬إ ّ‬
‫لوجه عدو‪ ،‬الّلهم إّنه ليس هاهنا أحد‬ ‫ل( )‪ (1‬الّلهم إّني ل أرى إ ّ‬‫جُه ا ّ‬
‫ل يقول‪َ) :‬فأْينما ُتَوّلوا َفَثّم َو ْ‬
‫نا ّ‬ ‫عن القبلة فإ ّ‬
‫يبلغ رسولك السلم عّني فبلغه أنت عّني السلم‪ .‬ثّم دعا على القوم‪ :‬الّلهم أحصهم عددًا واقتلهم بددًا ول تغادر‬
‫منهم أحدًا‪ .‬ثّم دعوا أبناء من قتل ببدر فكانوا أربعين غلمًا‪ ،‬أعطوا كّلواحد منهم رمحًا‪ ،‬وقالوا لهم‪ :‬هذا الذي‬
‫ل الذي جعل وجهي‬ ‫قتل آباءكم‪ .‬فطعنوه برماحهم‪،‬فتحرك على الخشبة وصار وجهه نحو الكعبة فقال‪ :‬الحمد ّ‬
‫لسلم‬ ‫نحو قبلته التي رضي لنفسه ولنبّيه وللمَومنين‪ .‬فغضب أحد المشركين‪ :‬عقبة بن الحارث لتمسكه با ِ‬
‫ل‪ .‬وبقي جثمانه فترة على الخشبة‬ ‫ل ويشهد أّنمحّمدا رسول ا ّ‬ ‫حد ا ّ‬ ‫وإخلصه له‪ ،‬فطعنه طعنة قاتلة وهو يو ّ‬
‫لشّداء ودفناه كماأمر الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪.‬‬ ‫بحراسة الكّفار حتى أنزله اثنان من المسلمين ا َ‬
‫سان بن‬ ‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( وجميع المسلمين‪ ،‬وأنشد فيهم ح ّ‬ ‫لليم رسول ا ّ‬ ‫وقد أحزن هذا الحادث ا َ‬
‫ثابت أبياتًا ذكرها "ابن هشام"في سيرته‪.‬‬

‫إسلم كعب بن زهير بن أبي سلمى‬

‫كان زهير بن أبي سلمى من شعراء العرب البارزين في العهد الجاهلي‪،‬‬


‫____________‬
‫‪ .1‬البقرة‪.115 :‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 274‬‬
‫وصاحب إحدى المعّلقات السبع التي نصبت في الكعبة وتفتخر بها العرب‪ .‬وتوفي قبل عصر الرسالة‪ .‬وكان له‬
‫لسلم ولزم النبي ص وأحبه‪ ،‬بينما عادى كعب النبي )صلى ال عليه‬ ‫ولدين‪ :‬بجير و كعب‪ .‬أّما بجير فقد آمن با ِ‬
‫لسلم‪ .‬أّما النبي "صلى ال عليه وآله وسلم"‬ ‫وآله وسلم( فكان يهجوه في قصائده وأشعاره ويَوّلب الناس على ا ِ‬
‫فكان قد هدد بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجونه "صلى ال عليه وآله وسلم" وأهدر دماءهم‪ .‬فكتب بجير‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( فإّنه ل يقتل‬ ‫طر إلى رسول ا ّ‬ ‫إلى كعب ينصحه‪ :‬إن كانت لك في نفسك حاجة َف ِ‬
‫ن لكلم أخيه وتوجه إلى المدينة وقابل النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" في المسجد وقت‬ ‫أحدًا جاءه تائبًا‪ .‬فاطمأ ّ‬
‫لّول مّرة و جلس إليه و وضع يده في يده والنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ل‬ ‫صلة الصبح‪ ،‬فصّلى معه َ‬
‫ن كعب بن زهير جاء ليستأمن منك تائبًا مسلمًا فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟‬ ‫لاّ‬ ‫يعرفه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ل كعب ابن زهير‪ .‬ثّم أخرج قصيدته اللمية التي‬ ‫فقال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬نعم"‪ .‬فقال‪ :‬أنا يا رسول ا ّ‬
‫ل )صلى ال عليه وآله وسلم( وأنشدها بين يديه في المسجد ليتلفى بها ما سبق أن بدر منه‬ ‫مدح فيها رسول ا ّ‬
‫من هجاء و طعن في سيد المرسلينص‬
‫ل أن أضرب عنقه‪ .‬فقال )صلى ال عليه وآله‬ ‫ل دعني وعدو ا ّ‬ ‫لنصار وثب عليه‪ :‬يا رسول ا ّ‬ ‫ن أحد ا َ‬ ‫وقيل أ ّ‬
‫وسلم( ‪" :‬دعه عنك فإّنه قد جاء تائبًا نازعًا ـ عمّا كان عليه ـ" ‪.‬‬
‫وهذه القصيدة هي من أفضل قصائد كعب‪ ،‬اعتنى المسلمون بحفظها ونشرها منذ ذلك الوقت‪ ،‬كما شرحها علماء‬
‫لسلم كثيرًا‪ ،‬وهي تضم ‪ 58‬بيتًا تنتهي قوافيها باللم المضمومة‪ ،‬ويبدأ مطلعها‪:‬‬ ‫اِ‬
‫ل متّيم إثرهـا لـم ُيفـَد َمْكُبـو ُ‬
‫ل‬ ‫ت سعاُد فَقْلبي اليوَم متبو ُ‬‫باَن ْ‬
‫و سعاد هي زوجته وابنة عّمه‪ ،‬بدأ بها كعادة شعراء العهد الجاهلي‪ ،‬إلى أن قال‪:‬‬
‫ل مسلـول‬ ‫ن الرسول لسيف يستضاء به مهند من سيوف ا ّ‬ ‫ّإ ّ‬

‫===============‬
‫) ‪( 275‬‬
‫فأبدله النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ :‬إّنالنبي لنور يستضاء به‪....‬‬
‫وقيل إّنالنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( كساه بردة كانت عليه‪ ،‬طلبها معاوية في زمنه‪ ،‬فقال كعب‪ :‬ما كنت‬
‫ل أحدًا‪ .‬فلّما مات كعب اشتراها معاوية من أولده بعشرين ألف درهم‪ .‬ثّم تداولها حّكام بني‬
‫لوثر بثوب رسول ا ّ‬ ‫َُ‬
‫ُأمّية والعباس بعد ذلك‪.‬‬

‫إسلم عدي بن حاتم‬

‫لمام علي )عليه السلم( إلى أرض طيء‬ ‫بعث النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ 150‬فارسًا على رأسهم ا ِ‬
‫ليحطم صنم طيء و يهدم بيته‪ ،‬فنجح في مهمته‪ ،‬وفّر عدي بن حاتم الطائي رئيس القبيلة إلى الشام‪ ،‬ويقول هو‬
‫لّنه سيدهم ـ‬‫في ذلك‪" :‬فكنت إمرءًا شريفًا‪ ،‬وكنت نصرانيًا‪ ،‬وأسير في قومي بالمرباع ـ أخذ الربع من الغنائم َ‬
‫ل "صلى ال عليه وآله وسلم" كرهته فقلت لغلم‬ ‫وكنت ملكًا في قومي لما كان ُيصنع بي‪ .‬فلّما سمعت برسول ا ّ‬
‫ى هذه البلد فآذّني‪ .‬ففعل و قال‪ :‬فإّني قد رأيت رايات فسألت عنها‬ ‫لبلي‪ :‬إذا سمعت بجيش محمد قد وط َ‬ ‫راعيًا ِ‬
‫فقالوا‪ :‬هذه جيوش محّمد‪ .‬فاحتملت بأهلي وولدي وقلت‪ :‬ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام‪،‬وتركت ُأختي في‬
‫قومي"‪.‬‬
‫وقد ظفر المسلمون بُأخته في سبايا طيء إلى النبي "صلى ال عليه وآله وسلم" الذي أبلغوه عن هروبه إلى‬
‫الشام‪ .‬فوضعوها في مكان بباب المسجد‪ ،‬فكانت تقول للنبي )صلى ال عليه وآله وسلم( عندما تراه‪ :‬يا رسول‬
‫ل عليك‪ .‬قال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪":‬ومن وافدك؟" قالت‪:‬‬ ‫نا ّ‬ ‫يمّ‬‫ل هلك الوالد وغاب الوافد‪ ،‬فامُنن عل ّ‬ ‫ا ّ‬
‫ل ورسوله"‪ .‬وكررت عليه )صلى ال عليه وآله‬ ‫عدي بن حاتم‪ .‬فقال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪ ":‬الفار من ا ّ‬
‫وسلم( قولها ثلث مّرات‪ ،‬فقال لها الرسول )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬قد فعلت فل تعجلي بخروج حتى‬
‫تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلدك ثّم آذنيني"‪ .‬ولّما قررت السفر مع جماعة من قومها‬
‫ل "صلى ال عليه وآله‬ ‫قالت‪ :‬فكساني رسول ا ّ‬
‫===============‬
‫) ‪( 276‬‬
‫وسلم" وحملني وأعطاني نفقة فخرجت معهم حتى قدمت الشام‪ .‬ولما وصلت عند أخيها‪ ،‬أخذت تلومه‪ :‬القاطع‬
‫ل مالي من عذر‪ .‬ثّم‬ ‫لخيرا فوا ّ‬
‫الظالم‪ ،‬احتملت أهلك وولدك‪ ،‬وتركت بقية والدك‪ ،‬عورتك‪ .‬فقال لها‪ :‬ل تقولي إ ّ‬
‫ل أن تلحق به‬‫سألها‪ :‬ماذا ترين عن أمر هذا الرجل ـ أي النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( فقالت‪ :‬أرى وا ّ‬
‫لإّ‬
‫ن‬ ‫ل في عّز اليمن وأنت أنت‪ .‬فقال‪ :‬وا ّ‬ ‫سريعًا‪ ،‬فإن يكن الرجل نبيًا فللسابق إليه فضله‪ ،‬وإن يكن ملكًا فلن تذ ّ‬
‫هذا هو الرأي‪.‬‬
‫وعندما قدم إلى المدينة‪ ،‬اصطحبه النبي )صلى ال عليه وآله وسلم( إلى بيته‪ ،‬وأجلسه على وسادة طّيبة‪ ،‬وجلس‬
‫ل ما هذا بأمر ملك‪ .‬ثّم قال )صلى ال عليه وآله وسلم( ‪" :‬إيه يا عدي بن‬ ‫لرض‪ .‬فقلت في نفسي‪ :‬وا ّ‬ ‫هو على ا َ‬
‫حاتم‪ ،‬ألم تكن ركوسيًا ـ وهو دين بين النصارى و الصابئين ـ؟" قلت‪ :‬بلى‪ .‬فقال‪ ":‬أو لم تكن تسير في قومك‬
‫بالمرباع؟" قلت‪ :‬بلى‪ .‬فعرفت أّنه نبّيمرسل يعلم ما ُيجهل‪.‬‬
‫لرض التي يحصلون عليها‪ ،‬وسيطرتهم‬ ‫فقد تنبأ أمامه بالرخاء وسعة المال للمسلمين‪،‬وازدياد عددهم‪ ،‬ومساحة ا َ‬
‫على الملك‪ ،‬و العيش بالقصور البيض من أرض بابل‪ .‬فأسلم عدي بن حاتم‪ .‬ورأى بعينيه بعد فترة‪ ،‬القصور‬
‫جالبيت الحرام دون خوف‪.‬‬ ‫البيض في بابل و قد فتحت‪ ،‬والمرأة تخرج من القادسية على بعيرها لتح ّ‬
‫ن المال حتى ل يوجد من‬ ‫ل لتكونن الثالثة‪ ،‬ليفيض ّ‬ ‫و كان عدي يقول‪ :‬قد مضت اثنتان و بقيت الثالثة‪ ...‬وأيم ا ّ‬
‫يأخذه‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 277‬‬
‫المصادر و المراجع‬

‫‪ .1‬ابن أبي الحديد المعتزلي‪ :‬شرح نهج البلغة‪.‬‬


‫لثير‪ ،‬عّز الدين أبو الحسن علي بن محمد الجزري‪ :‬الكامل في التاريخ‪.‬‬ ‫‪ .2‬ابن ا َ‬
‫لثير‪ ،‬عّز الدين أبو الحسن علي بن محمد الجزري‪ُ :‬أسد الغابة‪.‬‬ ‫‪ .3‬ابن ا َ‬
‫لحمدي‪ ،‬المحّقق الشيخ علي‪ :‬مكاتيب الرسولص‪.‬‬ ‫‪ .4‬ا َ‬
‫‪ .5‬أحمد عادل كمال‪:‬الطريق إلى المدائن‪ .‬بيروت دار النفائس ‪1977‬م‪.‬‬
‫لصفهاني‪ ،‬أبو الفرج علي بن الحسين‪ :‬مقاتل الطالبيين‪.‬‬ ‫‪ .6‬ا ِ‬
‫لئّمة‪.‬‬
‫لربلي‪ ،‬علي بن عيسى‪ :‬كشف الغّمة في معرفة ا َ‬ ‫‪ .7‬ا ِ‬
‫لميني‪ ،‬الشيخ عبد الحسين‪ :‬الغدير‪.‬‬ ‫‪ .8‬ا َ‬
‫‪ .9‬ابن حبيب‪ ،‬أبو جعفر محّمد‪ :‬المحّبر‪.‬‬
‫لصابة في تمييز الصحابة‪.‬‬ ‫‪ .10‬ابن حجر العسقلني‪ ،‬الحافظ أحمد بن علي بن محمد‪ :‬ا ِ‬
‫‪ .11‬ابن حجر‪ ،‬أحمد الهيتمي‪ :‬الصواعق المحرقة‪.‬‬
‫ل أحمد بن حنبل الشيباني‪ :‬مسند أحمد‪.‬‬ ‫‪ .12‬ابن حنبل‪ ،‬أبو عبد ا ّ‬
‫لعيان وأنباء أبناء الزمان‪.‬‬
‫‪ .13‬ابن خّلكان‪ ،‬شمس الدين أبو العباس أحمد بن أبي بكر‪ :‬وفيات ا َ‬
‫‪ .14‬ابن سعد‪ ،‬محمد بن سعد ‪ :‬الطبقات الكبرى‪.‬‬
‫لعمال‪.‬‬
‫‪ .15‬ابن طاووس‪ ،‬السيد عبد الكريم‪ :‬إقبال ا َ‬

‫===============‬
‫) ‪( 278‬‬
‫لصحاب‪.‬‬ ‫لستيعاب في معرفة ا َ‬ ‫لندلسي‪ :‬ا ِ‬ ‫‪ .16‬ابن عبد البّر‪ ،‬الحافظ المالكي ا َ‬
‫‪ .17‬ابن كثير‪ ،‬الحافظ عماد الدين‪ :‬البداية و النهاية‪.‬‬
‫‪ .18‬ابن هشام‪ ،‬محمد بن عبد الملك‪ :‬السيرة النبوية‪.‬‬
‫لمة شمس الدين الجوزية‪ :‬زاد المعاد في هدى خير العباد‪.‬‬ ‫‪ .19‬ابن القيم‪ ،‬الع ّ‬
‫جة الذاهب إلى إيمان أبي طالب‪.‬‬ ‫‪ .20‬ابن معد‪ ،‬السيد شمس الدين فخار‪ :‬ح ّ‬
‫‪ .21‬ابن واضح‪ ،‬أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب‪ :‬تاريخ اليعقوبي‪.‬‬
‫لولياء‪.‬‬‫‪ .22‬أبو نعيم‪ ،‬الصفهاني‪ :‬حلية ا َ‬
‫‪ .23‬البحراني‪ ،‬السيدهاشم‪ :‬تفسير البرهان‪.‬‬
‫ل محمد بن إسماعيل‪ :‬الصحيح‪.‬‬ ‫‪ .24‬البخاري‪ ،‬أبو عبد ا ّ‬
‫‪ .25‬البرهان فوري‪ ،‬علء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي‪ :‬كنز العمال‪.‬‬
‫‪ .26‬البلذري‪ ،‬أحمد بن يحيى بن جابر‪ :‬فتوح البلدان‪.‬‬
‫‪ .27‬البيروني‪ ،‬أبو الريحان محمد أحمد الخوارزمي‪ :‬الثار الباقية عن القرون الخالية‪.‬‬
‫‪ .28‬الثعالبي‪ ،‬أبو منصور عبد الملك‪ :‬ثمار القلوب‪.‬‬
‫ل‪ :‬المستدرك‪.‬‬ ‫ل بن محمد بن عبد ا ّ‬ ‫‪ .29‬الحاكم النيسابوري‪ ،‬الحافظ أبي عبد ا ّ‬
‫لمامية‪.‬‬‫‪ .30‬الحسيني‪ ،‬السيد علي خان المدني‪ :‬الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة ا ِ‬
‫‪ .31‬الحّرالعاملي‪ ،‬محمد بن الحسن‪ :‬وسائل الشيعة‪.‬‬
‫‪ .32‬الحلبي‪ ،‬الشيخ علي بن برهان الدين الشافعي‪ :‬السيرة الحلبية‪.‬‬
‫ل‪ :‬مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلفة الراشدة‪.‬‬ ‫‪ .33‬الحيدر آبادي‪ ،‬محمد حميد ا ّ‬
‫‪ .34‬الديار بكري‪ ،‬القاضي حسين بن محمد بن الحسن المالكي‪ :‬تاريخ الخميس‪.‬‬
‫‪ .35‬الرازي‪ ،‬فخر الدين‪ :‬مفاتيح الغيب‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 279‬‬
‫‪ .36‬الزمخشري‪ ،‬محمود بن عمر‪ :‬الكشاف عن حقائق التنزيل‪.‬‬
‫‪ .37‬السبحاني‪ ،‬الشيخ جعفر‪ :‬مفاهيم القرآن‪.‬‬
‫‪ .38‬السبحاني‪ ،‬الشيخ جعفر‪ :‬معالم التوحيد في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ .39‬السيوطي‪ ،‬الحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر جلل الدين‪ :‬الدّرالمنثور‪.‬‬
‫‪ .40‬الشهرستاني‪ ،‬أبو الفتح محمد بن عبد الكريم‪ :‬الملل و النحل‪.‬‬
‫‪ .41‬الصدوق‪ ،‬محمد بن علي القمي‪ :‬الخصال‪.‬‬
‫‪ .42‬الصدوق‪ ،‬محمد بن علي القمي‪ :‬علل الشرائع‪.‬‬
‫‪ .43‬الطباطبائي‪ ،‬السيد محّمد حسين‪ :‬تفسير الميزان‪.‬‬
‫‪ .44‬الطبرسي‪ ،‬أحمد بن علي ‪ :‬مجمع البيان في تفسير القرآن‪.‬‬
‫‪.45‬الطبرسي‪ ،‬فضل بن الحسن‪ :‬إعلم الورى بأعلم الهدى‪.‬‬
‫لمم والملوك‪.‬‬ ‫‪ .46‬الطبري‪ ،‬أبو جعفر محمد بن جرير‪ :‬تاريخ ا َُ‬
‫لمالي‪.‬‬
‫‪ .47‬الطوسي‪ ،‬محمد بن الحسن‪ :‬ا َ‬
‫‪ .48‬القمي‪ ،‬الشيخ عباس‪ :‬سفينة البحار‪.‬‬
‫‪ .49‬كحالة‪ ،‬عمر رضا‪ :‬أعلم النساء‪.‬‬
‫‪ .50‬الكراجكي‪ ،‬أبو الفتح محمد بن علي‪ :‬كنز الفوائد‪.‬‬
‫‪ .51‬الكليني‪ ،‬محمد بن يعقوب ‪ :‬فروع الكافي‪.‬‬
‫‪ .52‬الكليني‪ ،‬محمد بن يعقوب‪ :‬روضة الكافي‪.‬‬
‫‪ .53‬الكوفي ‪ ،‬أبو القاسم‪ :‬الستغاثة‪.‬‬
‫لنوار‪.‬‬
‫‪ .54‬المجلسي‪ ،‬محمد باقر‪ :‬بحار ا َ‬
‫‪ .55‬الشريف الرضي‪ :‬نهج البلغة‪ ،‬شرح محمد عبده‪.‬‬
‫‪ .56‬مسلم‪ ،‬أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيرى النيسابوري‪ :‬الصحيح‪.‬‬

‫===============‬
‫) ‪( 280‬‬
‫لرشاد‪.‬‬‫‪ .57‬المفيد‪ ،‬الشيخ محمد بن محمد بن النعمان‪ :‬ا ِ‬
‫لحوال والحفدة والمتاع‪.‬‬
‫لبناء وا َ‬
‫لسماع بما للرسول من ا َ‬ ‫‪ .58‬المقريزي‪ ،‬تقي الدين أبو محّمد‪ :‬إمتاع ا َ‬
‫‪ .59‬النسائي‪ ،‬القاضي أحمد بن شعيب بن علي‪ :‬سنن النسائي‪.‬‬
‫‪ .60‬الواقدي‪ ،‬محمد بن عمرو‪ :‬المغازي‪.‬‬

You might also like