You are on page 1of 3

‫عندما ل يمل 'أيوب الجزائر' من استعمال التلفزيون في حرب الظالمين على‬

‫المساكين‬
‫توفيق رباحي‬
‫‪3/9/2010‬‬

‫شعرت بفرحة وعّزة كبيرتين وأنا أسمع وأشاهد الصرامة التي تعاملت بها الحكومة الجزائرية‬
‫مع أساتذة التعليم المضربين عن العمل في النصف الثاني من السبوع الماضي‪.‬‬
‫مصدر الفرحة والفخر قناعتي بأن حكومة بلدي ل تهادن‪ ،‬وهي ساهرة على مصالح أبنائها‬
‫وعلى السير الحسن لشؤون العباد والبلد‪.‬‬
‫وأحسنت الحكومة الختيار عندما اقترحت بيانها التاريخي‪ ،‬عن قصد أو بالصدفة‪ ،‬على المذيع‬
‫الكثر اتقانا للدور‪ ،‬ليقرأ بيان العزة في نشرة أخبار تلفزيون الكرامة‪.‬‬
‫كان ذلك مساء الربعاء والبلد كلها مزطولة في قبضة مخدر الكرة )كانت أمسية مخزية( وتحت‬
‫رحمة إشاعات انتشرت كالنار في الهشيم عن أن صاحب الفخامة توفاه الله‪.‬‬
‫من ل يعرف الجزائر ويستمع إلى ذلك النص‪ ،‬يخايله بيان إعلن حرب‪.‬‬
‫لم يكن هذا حالي على كل حال‪ .‬عندما استمعت الى الرجل يقرأ‪ ،‬تارة يلهث وتارة يبلع ريقه‪،‬‬
‫مهددا الساتذة المضربين بالويل والثبور والفصل من العمل‪ ،‬ويطالب الدارة بالتقليب في‬
‫ملفات طالبي العمل بسلك التعليم لحتمال تعويض المضربين‪ ،‬قفزت من مكاني وصحت‬
‫بأعلى صوتي‪ :‬يحيا العدل!‬
‫ثم عادت بي الذاكرة عشرين سنة الى الوراء‪ ،‬عندما مارست زميلته في كرسي قراءة الخبار‪،‬‬
‫زهية بن عروس‪ ،‬صرامة مشابهة في ظروف مشابهة وببيان مشابه‪ ،‬فشبهت الساتذة‬
‫المضربين آنذاك بـ‪ ..‬الحشرات‪.‬‬
‫فه التبجيل‪ ،'..‬لذا ما زلت‬‫م للمعلم و ّ‬
‫كانت تلك أجمل عبارة قيلت بحق من قيل فيهم 'ق ّ‬
‫أحفظها ويحفظها التاريخ والجزائريون للزميلة بن عروس‪.‬‬
‫قبل فترة وجيزة سألوها عن 'الحشرات'‪ ،‬فقالت‪ :‬كنت أقرأ بيانا لم أكتبه‪.‬‬
‫عينت السيدة بن عروس وزيرة للثقافة! )ل تسألوني رجاء ما هي‬ ‫بعد أقل من عشر سنوات‪ُ ،‬‬
‫مقاييس تعيين الوزراء في الجزائر(‪.‬‬
‫يقول صحافيون مقربون من دوائر الحكم إن أحمد أويحيى‪ ،‬عندما تسلم رئاسة الحكومة‬
‫ووجدها وزيرة‪ ،‬أصدر بحقها أطرف حكم من رئيس على مرؤوس )ول أستطيع ذكره هنا‬
‫حفاظا على المقامات(‪ .‬وهي الن عضو في مجلس الشيوخ‪ ،‬ضمن كوتا الرئاسة )ثلث العضاء‬
‫يعينهم صاحب الفخامة( تشّرع لنا ولولدنا‪.‬‬

‫'''‬

‫لذا أبشر يا أخ كريم وطوبى لك ببيان الربعاء التاريخي‪ ،‬بعد أقل من عشر سنوات ستصبح‬
‫وزيرا للثقافة‪ .‬وبعد أن يحكم عليك أويحيى أدام الله عزه‪ ،‬سيعينونك عضوا بمجلس الشيوخ‪،‬‬
‫ضمن كوتا صاحب الفخامة )أطال الله عمره( تقرر مصيرنا ومصير أولدنا وأحفادنا ان شاء الله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وبعد هذا وذاك سيسأله أحدهم‪ ،‬فيقول‪ :‬كنت أقرأ بيانا لم أكتبه!‬
‫هناك معركة كبرى بين أساتذة التعليم بالجزائر والوزارة المشرفة على شؤونهم‪ ،‬أقصد‬
‫الوزارة البائسة مصدر مشاكلهم وهمومهم التي ل تنتهي‪.‬‬
‫يقود هذه الوزارة رجل اسمه أبو بكر بن بوزيد‪ .‬من وجهة نظري‪ ،‬هذا الرجل يستحق فعل الثناء‬
‫والتقدير لن صبره على منصبه وعلى الساتذة ل يضاهيه إل صبر أيوب‪ 16 :‬سنة في المنصب‪،‬‬
‫لم تمر واحدة منها بدون مشاكل وإضرابات و اعتصامات وقلقل‪ .‬وفي كل مرة يخرج أيوب‬
‫الجزائر صابرا منتصرا وخصومه أرضا‪ .‬كيف؟ ولماذا؟ وما السر؟ ل جواب إل سبحان الذي يلهم‬
‫عباده كل هذه القوة والصمود!‬
‫ولتقريب الصورة لكم‪ ،‬أقول فقط إن بعض الذين يشنون إضراب اليوم كانوا تلميذ عندما‬
‫تسلم أيوب الجزائر الوزارة قبل ‪ 16‬سنة‪ ،‬فعاشوا الضراب كتلميذ وها هم اليوم يمارسونه‬
‫أساتذة للسباب والظروف والمطالب نفسها التي دعت أساتذتهم الى الضراب منذ عقد‬
‫ونصف العقد وأكثر‪ ..‬وكأن الدنيا لم تتحرك قيد أنملة‪.‬‬
‫هنيئا لك يا جزائر‪ .‬ماذا تريدون انجازا أكثر من هذا؟‬
‫في حالت مشابهة ببلدان أخرى‪ ،‬يقول الناس‪ :‬المدة الزمنية وحدها كافية لدانة الرجل بغض‬
‫وجدت(‪ ،‬ويسألون‪ :‬ماذا يلزم هذا الرجل كي يستقيل؟ أو‪ :‬ماذا ينتظر‬ ‫النظر عن كفاءته )إن ُ‬
‫رئيس الحكومة أو رئيس البلد أكثر كي يشحنه الى أبعد مكان عن العمل العام؟‬
‫لكن هذه الجزائر‪ ،‬وها قد شحن الرجل أجيال الى مصائرها وبقي هو جالسا على التلل يغني‪:‬‬
‫'قولولها الممرضة'!‬
‫‪ 16‬سنة‪ ،‬عمر كامل‪ ،‬لم يتعب صاحبكم ولم يكل أو يمل‪ .‬لو سألتموه سيقول‪ :‬أفنيت عمري‬
‫في خدمة الوطن والشعب‪ .‬ول أحد يجادل لن كل شيء فيه وجهة نظر‪ ،‬بما في ذلك خدمة‬
‫الوطن والشعب‪ ..‬بالضرابات‪.‬‬
‫ل أعرف بدقة من على حق ومن على خطأ في معركة الوزارة ونقابات التعليم التي وقودها‬
‫مليين التلميذ وأعصاب الف الساتذة وأفراد عائلتهم‪ ،‬لكن العاقل يدرك بسهولة أن تكرار‬
‫هذه الضرابات سنويا‪ ،‬بل أكثر من مرة في السنة‪ ،‬يطرح تساؤلت جادة حول كفاءة هذا‬
‫الوزير وقدراته الدارية والتسييرية‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬وكي ل نظلم الوزير‪ ،‬يجب القول إنه نسخة دقيقة للحكومة‪ ،‬وإن قطاعه ليس السوأ‪،‬‬
‫فلو تداول على وزارة التعليم خمسة أو ستة وزراء‪ ،‬كما هو حال القطاعات الخرى‪ ،‬كان أيوب‬
‫الجزائر سيجد نفسه في وضع أقل حرجا والنتقادات له أخف‪.‬‬
‫أما أداة هذه المعركة غير المتكافئة‪ ،‬فهي دائما الصحافة الحكومية على رأسها التلفزيون‪.‬‬
‫عندما يبدأ إضراب يمارس التلفزيون تعتيما هائل‪ ،‬وعندما يحكم القضاء بعدم قانونية الضراب‬
‫أو تعلن الحكومة موقفا يدينه‪ ،‬يقرأ بعض المذيعين )وزراء المستقبل مثل بن عروس وكريم‬
‫بن سالم( حكم القضاء أو البيان الحكومي بحماس فائض وكأن لهم مشاكل شخصية مع‬
‫المضربين )كما حدث مساء الربعاء الماضي(‪.‬‬
‫والنتيجة أن الوزارة تخسر المعركة أو فصل منها ويزداد الرأي العام تعاطفا مع المضربين!‬

‫'''‬

‫ذات مرة‪ ،‬في بداية التسعينات‪ ،‬استدعى وزير داخلية قوي آنذاك )ول قوي إل الله لنه انتقل‬
‫الى رحمته( ثلثة صحافيين الى مكتبه على ضوء خبر لم يرق له‪.‬‬
‫سمعت من أحد الثلثة الحاضرين أن الوزير لم يجادلهم كثيرا في فحوى الخبر بل سارع‬
‫للقول‪ :‬ما تلعبوش معايا‪ ..‬أنا عندي السجون والمحاكم والشرطة والدارة‪ .‬ثم أطلق العنان‬
‫للسانه فأسمعهم كلما بذيئا يستحي منه المرء مع نفسه‪.‬‬
‫ولما أنهى البذاءة صاح فيهم‪ :‬أنا مستقبلي ورائي يا اولد كذا وكذا‪ ..‬لقد قضيت عمري في‬
‫خدمة البلد والشعب!‬
‫بعد ذلك أطلق سراح اثنين وأمر بسجن واحد‪.‬‬
‫نسي المسكين أن يضيف التلفزيون الى قائمة قواته التي يتسلح بها‪ .‬فهو )التلفزيون( يعطي‬
‫النطباع بالنتصار في معركة الظالمين على المساكين هذه‪.‬‬
‫وقد أدرك أيوب الجزائر وحكومته هذه النقطة‪ ،‬ما يفسر إعادة قراءة بيان العزة في نشرة‬
‫أخبار اليوم التالي‪ ،‬لكن هذه المرة على لسان سيدة كانت ستنافس زهية بن عروس لو كنا‬
‫في منتصف الثمانينيات‪.‬‬
‫ومثل المسرحية المملة‪ ،‬في كل سنة يتكرر نفس العبث في إدارة الضراب عن طريق‬
‫التلفزيون أكثر من إدارته في الواقع‪) .‬الى جانب التلفزيون يتسلح أيوبنا في حرب المئة سنة‬
‫ضد الساتذة بخوف التلميذ من اقتراب مواعيد المتحانات وخوف الولياء على مصير‬
‫أبنائهم(‪.‬‬
‫الفرق في إضراب هذه المرة أن أيوب لم يأت الى التلفزيون ليحاضر في المصلحة الوطنية‬
‫ومصلحة 'أبنائي التلميذ'‪ ،‬كما جرى العرف في السنوات الماضية بأن يستضيفوه في نشرات‬
‫الخبار وحتى برامج جاهزة على مقاسه كي يحاضر في الخدمات التي قدمها هو والحكومة‬
‫كر من نسي بأن الساتذة والمعلمين في‬ ‫لقطاع التعليم والمليارات التي صرفت عليه‪ ،‬وليذ ّ‬
‫الجزائر هم الفضل في العالم والكثر حظا‪.‬‬
‫لعل أيوبنا فهم بأن الفضل له أن يحارب من وراء ستار‪ ،‬فذاك آمن له وقناعتي ـ التي أكيد‬
‫ليست قناعته هو ـ أن المسؤولين الجزائريين الذين يشاهدهم الناس في التلفزيون أكثر‬
‫يكرهونهم أكثر‪.‬‬
‫والسر‪ ..‬التلفزيون ذاته ول يوجد سر آخر‪.‬‬
‫ورغم ذلك يبقى هو السلح الفضل في حرب الظالمين على المساكين‪.‬‬
‫كاتب من أسرة 'القدس العربي'‬
‫‪toufik@alquds.co.uk‬‬

You might also like