You are on page 1of 278

‫تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة‬

‫(اضغط هنا للنتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على النترنت)‬

‫الكتاب ‪ :‬الفِقْ ُه السلميّ وأدلّتُهُ‬


‫الشّامل للدلّة الشّرعيّة والراء المذهبيّة وأهمّ النّظريّات الفقهيّة وتحقيق الحاديث‬
‫النّبويّة وتخريجها‬
‫المؤلف ‪ :‬أ‪.‬د‪ .‬وَهْبَة الزّحَيِْليّ‬
‫ي وأصوله‬
‫أستاذ ورئيس قسم الفقه السلم ّ‬
‫بجامعة دمشق ‪ -‬كلّيّة الشّريعة‬
‫الناشر ‪ :‬دار الفكر ‪ -‬سوريّة ‪ -‬دمشق‬
‫الطبعة ‪ :‬الطّبعة الرّابعة المنقّحة المعدّلة بالنّسبة لما سبقها‪ ،‬وهي الطّبعة الثّانية‬
‫عشرة لما تقدّمها من طبعات مصوّرة؛ لنّ الدّار النّاشرة دار الفكر بدمشق لتعتبر‬
‫التّصوير وحده مسوّغا لتعدّد الطّبعات مالم يكن هناك إضافات ملموسة‪.‬‬
‫عدد الجزاء ‪10 :‬‬
‫ـ الكتاب مقابل على المطبوع ومرقّم آليّا ترقيما غير موافق للمطبوع‪.‬‬
‫ـ مذيّل بالحواشي دون نقصان‪.‬‬
‫نال شرف فهرسته وإعداده للشّاملة‪ :‬أبو أكرم الحلبيّ من أعضاء ملتقى أهل الحديث‬
‫ل تنسونا من دعوة في ظهر الغيب ‪...‬‬

‫وأضاف الحنفية التماثل في الرشين‪ ،‬وقد سبق بيانه في مانع القصاص العام بسبب انعدام التكافؤ‬
‫عندهم بين المرأة والرجل‪ ،‬وبين الحر والعبد؛ لن ما دون النفس عندهم له حكم الموال؛ لنه خلق‬
‫وقاية للنفس كالموال‪ ،‬فتعتبر فيه المماثلة كما تعتبر في إتلف الموال‪.‬‬
‫والدليل على اشتراط التماثل‪ :‬قوله تعالى‪{ :‬والجروحَ قصاص} [المائدة‪ ]45/5:‬وقوله عز وجل‪{ :‬وإن‬
‫عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل‪{ ]126/16:‬فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى‬
‫عليكم} [البقرة‪ ]194/2:‬ولن دم الجاني معصوم إل بمقدار جنايته‪ ،‬فما زاد عليها معصوم يمنع‬
‫التعرض له‪ ،‬فل تصح الزيادة في القصاص على قدر الجناية (‪ ، )1‬ولقصاص في الجراح إل في‬
‫الموضحة إذا كانت عمدا‪ .‬وبناء عليه تكون موانع القصاص الخاصة بما دون النفس ثلثة هي‪:‬‬
‫‪ - 1‬عدم التماثل في الفعل ( أو عدم إمكان الستيفاء بل حيف ول زيادة) ‪ :‬يشترط لجواز استيفاء‬
‫القصاص‪ :‬المن من الحيف (أي الجور والظلم) وليؤمن من الحيف إل إذا كان القطع في الطراف‬
‫من المفاصل كمفصل الزند أو مفصل المرفق أو الكتف من اليد أو مفصل الكعب أو الركبة أو الورك‬
‫من الرجل‪ ،‬أو كان له حد ينتهي إليه كمارن النف (وهو ما لن منه) ‪.‬‬
‫فإن كان القطع من غير مفصل‪ ،‬أو لم يكن له حد ينتهي إليه كالقطع من قصبة النف‪ ،‬أو من نصف‬
‫الساعد أو العضد أو الساق أو الفخذ‪ ،‬فل قصاص عند الحنفية والراجح عند الحنابلة (‪ ، )2‬وتجب دية‬
‫اليد أو الرّجل‪.‬‬
‫ويجب القصاص حينئذ عند المالكية (‪ )3‬كلما أمكن‪ ،‬ولم يحدث خطر أو خوف؛ لن المماثلة مع‬
‫المكان حق ل ل يجوز تركها؛ لقوله تعالى‪{ :‬والجروحَ قصاص} [المائدة‪.]45/5:‬‬
‫ويرى الشافعية (‪ )4‬أنه يقتص من أقرب مفصل إلى محل الجناية دونه‪ ،‬ويعطى المجني عليه حكومة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪.703/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،298/7 :‬كشاف القناع‪.639/5 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير للدردير‪.255 ،253-251/4 :‬‬
‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪ ،29/4 :‬المهذب‪.180/2 :‬‬

‫( ‪)7/650‬‬

‫(تعويض) الباقي لتعذر القصاص فيه‪ ،‬فإن قطع رجل يد آخر من نصف الساعد‪ ،‬فللمجني عليه أن‬
‫يقتص من الكوع (الرسغ) ؛ لنه داخل في جناية يمكن القصاص فيها‪ ،‬ويأخذ الحكومة (التعويض) في‬
‫الباقي؛ لنه كسر عظم ل تمكن المماثلة فيه‪ ،‬فانتقل إلى البدل‪ .‬وإن قطع رجل يد آخر من نصف‬
‫العضد‪ ،‬فللمقطوع أن يقتص من المرفق‪ ،‬ويأخذ الحكومة (التعويض) في الباقي‪ ،‬وله أن يقتص من‬
‫الكوع (الرسغ) ويأخذ الحكومة في الباقي؛ لن الجميع مفصل واحد في الجناية‪ ،‬وليس له القتصاص‬
‫من الكوع إذا كان القطع من المرفق؛ لنه يتمكن من القصاص في محل الجناية‪ ،‬أما في الحالة‬
‫المتقدمة فل يمكنه القتصاص في موضع الجناية‪.‬‬
‫ول قصاص باتفاق الئمة في كسر العظام كعظم الصدر أو الصلب أو العنق‪ ،‬ويجب فيها الرش‬
‫كاملً؛ لن التماثل غير ممكن (‪. )1‬‬
‫كما ل قصاص بالتفاق فيما بعد (أو فوق) الموضحة من الشجاج؛ لن الستيفاء دون حيف غير‬
‫ممكن‪ .‬ويقتص من الموضحة لمكان القصاص‪ ،‬ول يقتص فيما دون الموضحة إل عند المالكية (‪)2‬‬
‫ول قصاص في الضرب بالسوط والعصا واللطمة والوكزة إذا لم تترك أثرا؛ لن المماثلة فيها غير‬
‫ممكنة (‪ )3‬وإنما فيها التعزير‪ .‬واستثنى المالكية السوط‪ ،‬ففي الضرب به قصاص‪ .‬ويرى ابن القيم‬
‫القصاص في اللطمة ونحوها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،308/7 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،253/4 :‬المهذب‪ ،178/2 :‬مغني المحتاج‪.28/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،309/7 :‬الشرح الصغير‪ 349/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،26/4 :‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪ ،652/5‬الشرح الكبير‪.252/4 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،299/7 :‬الدردير في الكبير‪ ،252/4 :‬وفي الصغير‪ ،353/4 :‬مغني المحتاج‪،29/4 :‬‬
‫كشاف القناع‪ ،640/5 :‬المغني‪ ،60/8 :‬أعلم الموقعين‪. .318/1 :‬‬

‫( ‪)7/651‬‬

‫‪ - 2‬عدم المماثلة في الموضع قدرا ومنفعة‪ :‬فل تقطع اليد بغير اليد‪ ،‬ول اليمنى باليسرى‪ ،‬ول البهام‬
‫أو السبابة بغيرها لعدم التجانس‪ ،‬ول تقلع السن إل‬
‫بمثلها ثنية أو نابا أو ضرسا‪ ،‬ول العلى بالسفل أو بالعكس‪ ،‬لختلف المنفعة (‪. )1‬‬
‫‪ - 3‬عدم التماثل في الصحة والكمال‪ :‬فل تقطع اليد الصحيحة بالشلء‪ ،‬ول الرجل الصحيحة‬
‫بالشلء‪ ،‬وليؤخذ الكامل بالناقص كيد أو رجل كاملة بأخرى ناقصة الصابع‪ .‬إل أن المام مالك يرى‬
‫قطع اليد أو الرجل الناقصة إصبعا بالكاملة بل غرم على الجاني‪ ،‬ول خيار للمجني عليه في نقص‬
‫الصبع‪ ،‬فإن نقصت أكثر من أصبع‪ ،‬خيّر المجني عليه بين القصاص وأخذ الدية‪ .‬وإن نقصت يد‬
‫المجني عليه أو رجله أصبعا يقتص من الجاني الكامل الصابع‪ ،‬فإن نقصت أكثر من أصبع كأصبعين‬
‫فأكثر ل يقتص لها من يد أو رجل كاملة (‪. )2‬‬
‫وأحسن نموذج تطبيقي للقصاص فيما دون النفس هو قوله تعالى‪{ :‬وكتبنا عليهم فيها أن النفس‬
‫بالنفس‪ ،‬والعين بالعين‪ ،‬والنف بالنف‪ ،‬والذن بالذن‪ ،‬والسن بالسن‪ ،‬والجروحَ قصاص} [المائدة‪:‬‬
‫‪.]45/5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،297/7 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،251/4 :‬المهذب‪ 179/2 :‬وما بعدها‪،‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪ 646/5‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،303-300/7 :‬الشرح الكبير للدردير‪ 254-252/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪،181/2 :‬‬
‫كشاف القناع‪ 649/5 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/652‬‬

‫أداة القصاص فيما دون النفس ‪:‬‬


‫ل يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف‪ ،‬ول بآلة يخشى منها الزيادة سواء أكان الجرح بها أم‬
‫بغيرها‪ ،‬وإنما يستعان بجرّاح مختص يستخدم الموسى أو المبضع الجراحي ونحوهما‪ ،‬ويطلب‬
‫القصاص من الجاني في الجراحات بأرفق مما جنى به‪ ،‬فإذا كان الجرح بحجر أو عصا اقتص منه‬
‫بالموسى (‪. )1‬‬
‫سراية القصاص فيما دون النفس ‪:‬‬
‫السراية‪ :‬هي حدوث مضاعفات أو آثار تترتب على تطبيق العقوبة الشرعية‪ ،‬تؤدي إلى إتلف عضو‬
‫آخر أو موت النفس البشرية‪ .‬فإذا سرى الجرح الحاصل بالقصاص من العضو إلى النفس‪ ،‬فأدى‬
‫للموت‪ ،‬سمي الفعل سراية النفس أو الفضاء للموت‪ ،‬وإذا سرى إلى عضو آخر‪ ،‬سمي الفعل سراية‬
‫العضو‪.‬‬
‫وعلى هذا إذا اقتص من طرف الجاني‪ ،‬فسرى القصاص إلى النفس‪ ،‬ومات‪ ،‬فهل هناك ضمان أو ل؟‬
‫فيه رأيان للفقهاء‪.‬‬
‫‪ - 1‬قال أبو حنيفة (‪ : )2‬إذا اقتص شخص من آخر لقطع يده‪ ،‬فقطع المجني عليه يد الجاني‪ ،‬فمات‬
‫من القطع‪ ،‬ضمن الدية؛ لنه استوفى غير حقه‪ ،‬إذ حقه القطع‪ .‬وكذلك يضمن الرش أي دية العضو‬
‫إذا قطع شخص أصبعا من يد أو رجل‪ ،‬فشلت الكف‪ ،‬أو شلت أصبع آخر جنبها‪ ،‬فعليه دية اليد‪.‬‬
‫والقاعدة عنده فيه وفي أمثاله هي أن «الجناية إذا حصلت في عضو‪ ،‬فسرت إلى عضو آخر‪ ،‬والعضو‬
‫الثاني ل قصاص فيه‪ ،‬فل قصاص في العضو الول أيضا‪ ،‬ولكن فيه الدية» أي على العاقلة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،309/7 :‬الدسوقي على الدردير‪ ،265/4 :‬المهذب‪ ،186/2 :‬المغني‪.704/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،307 ،305/7 :‬تكملة فتح القدير‪ ،319/8 :‬تبيين الحقائق‪.136/6 :‬‬

‫( ‪)7/653‬‬
‫ولو كان الموت حادثا بسبب التأديب‪ ،‬كالضرب الحاصل من الب أو الوصي أو المعلم‪ ،‬يضمن‬
‫المتسبب الدية؛ لنه التأديب هو الفعل الذي يبقى فيه المؤدَب حيا بعده‪ ،‬فإذا سرى‪ ،‬تبين أنه قتل‪،‬‬
‫وليس بتأديب‪ ،‬فسأل الفاعل؛ لنه متعد في فعله‪ ،‬غير مأذون في القتل‪ ،‬أي أن الفاعل ضامن الدية في‬
‫كل الحالت‪ ،‬سواء أكان عمله مشروعا أم غير مشروع‪.‬‬
‫وقال الصاحبان (‪ : )1‬ل شيء على المقتص في الحالة الولى وهي قطع اليد قصاصا؛ لن الموت‬
‫حصل بفعل مأذون فيه‪ ،‬وهو القطع‪ .‬كما ل شيء عليه في الحالة الثالثة (التأديب)؛ لن الفاعل مأذون‬
‫في تأديب الصبي وتهذيبه‪ ،‬والمتولد من الفعل المأذون فيه ل يكون مضمونا‪ ،‬كما لو عزر المام‬
‫إنسانا فمات‪ ،‬أو قطع الحاكم يد السارق‪ ،‬فمات‪.‬‬
‫وتجب دية اليد في الحالة الثانية (شل اليد) ول قصاص‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (‪ : )2‬ل ضمان على المقتص بسريان القصاص‬
‫إلى النفس أو العضو‪ ،‬أو المنفعة؛ لن السراية حصلت من فعل مأذون فيه‪ ،‬مثل بقية الحدود‪ ،‬ويؤيده‬
‫أن عمر وعليا قال‪« :‬من مات من حد أو قصاص‪ :‬ل دية له‪ ،‬الحقُ قتَله» (‪ . )3‬وهذا موافق لرأي‬
‫الصاحبين‪.‬‬
‫سراية الجناية ‪:‬‬
‫ل خلف بين الفقهاء في أن سراية الجناية مضمونة (‪ )4‬؛ لنها أثر الجناية‪ ،‬وبما أن الجناية‬
‫مضمونة‪ ،‬فكذلك أثرها‪.‬‬
‫فإن سرت الجناية إلى النفس‪ ،‬وجب القصاص‪.‬‬
‫وإن لطمه فذهب ضوء عينيه‪ ،‬لم يقتص منه عند الجمهور؛ لن المماثلة فيها غير ممكنة‪ ،‬وقال‬
‫الشافعية‪ :‬يجب القصاص فيه بالسراية؛ لن له محلً مضبوطا (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪ ،252/4 :‬المهذب‪ ،190 ،188/2 :‬المغني‪.727/7 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه سعيد بن منصور في سننه‪.‬‬
‫(‪ )4‬المغني‪ ،727/7 :‬مغني المحتاج‪.33/4 :‬‬
‫(‪ )5‬المغني‪ ،715/7 :‬مغني المحتاج‪ ،29/4 :‬المهذب‪.186/2 :‬‬

‫( ‪)7/654‬‬
‫وإن قطع الجاني أصبعا‪ ،‬فتأكّلت أخرى وسقطت من مفصل‪ ،‬وجب فيه القصاص عند الصاحبين‬
‫والحنابلة‪ .‬وقال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء‪ :‬ل قصاص وتجب دية الصبع الثانية‪ ،‬لعدم تحقق العمدية (‬
‫‪. )1‬‬
‫العقوبة الصلية الثانية عند المالكية في إبانة الطراف ‪ -‬التعزير ‪:‬‬
‫يوجب المالكية (‪ )2‬التعزير (أو الدب على حد تعبيرهم) على المعتمد عندهم في الجناية على ما دون‬
‫النفس‪ ،‬بحسب اجتهاد الحاكم‪ ،‬سواء في حالة العمد (ل الخطأ) الذي ل قصاص فيه‪ ،‬أو العمد الذي فيه‬
‫ل ويعزر (أو يؤدب)‪ ،‬سواء في الطراف أو الشجاج أو الجراح‪.‬‬
‫القصاص‪ ،‬فتقطع يد الجاني مث ً‬
‫ول يرى جمهور الفقهاء حاجة لهذا التعزير مع القصاص؛ لن ال تعالى جعل العقوبة في قوله‪:‬‬
‫{والجروحَ قصاص} [المائدة‪ ]45/5:‬هي القصاص دون غيره‪ ،‬فمن أضاف غيرها فقد زاد على النص‬
‫بدون دليل‪ ،‬وهذا الرأي أولى بالتباع‪.‬‬
‫العقوبة البدلية في إبانة الطراف ـ الدية أو الرش ‪:‬‬
‫إذا امتنع القصاص لسبب من السباب وجبت الدية بدلً عنه‪ ،‬كما تجب أيضا عند الشافعية والحنابلة‬
‫بصفة عقوبة أصلية إذا كانت الجناية شبه عمد‪.‬‬
‫وتجب الدية كاملة بإزالة جنس المنفعة كإتلف اليدين‪ ،‬ويجب الرش بإزالة بعض المنفعة كإتلف يد‬
‫واحدة أو أصبع واحدة‪ .‬والرش نوعان‪ :‬مقدر وغير مقدر‪ .‬والمقدر‪ :‬هو ما حدد الشرع له نوعا‬
‫ومقدارا معلوما كأرش اليد والعين‪ .‬وغير المقدر‪ :‬هو مالم يقدر له الشرع مقدارا معينا‪ ،‬وترك أمر‬
‫تقديره للقاضي‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ ،727/7 :‬البدائع‪ ،307/7 :‬مغني المحتاج‪.30/4 :‬‬
‫(‪ )2‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبير‪ ،253/4 :‬الشرح الصغير‪.353/4 :‬‬

‫( ‪)7/655‬‬

‫ما تجب فيه الدية كاملة ‪:‬‬


‫تجب الدية كاملة بدلً عن القصاص في الجناية العمدية أو في حالة الجناية خطأ بإزالة جنس منفعة‬
‫العضو‪ ،‬إما بإبانته (أو قطعه)‪ ،‬أو بتعطيل منفعته (إذهاب معناه) مع بقاء الهيكل أو الصورة‪.‬‬
‫والعضاء التي تجب فيها الدية أنواع أربعة‪:‬‬
‫نوع ل نظير له في البدن‪ ،‬ونوع في البدن منه اثنان‪ ،‬ونوع في البدن منه أربعة‪ ،‬ونوع في البدن منه‬
‫عشرة‪.‬‬
‫النوع الول ـ ما ل نظير له في البدن‪ ،‬وهو ما يلي (‪: )1‬‬
‫النف‪ ،‬اللسان‪ ،‬الذكر أو الحَشَفة‪ ،‬الصُلب إذا انقطع المني‪ ،‬مسلك البول‪ ،‬مسلك الغائط‪ ،‬الجلد‪ ،‬شعر‬
‫الرأس‪ ،‬شعر اللحية إذا لم ينبت‪.‬‬
‫أما النف‪ :‬إذا قطع كله‪ ،‬أو قطع المارن (وهو مالن من النف) ففيه الدية لقوله عليه الصلة والسلم‬
‫في كتاب عمرو بن حزم‪« :‬وإن في النف إذا أوعب جَدْعُه الدية» أي إذا قطع جميعه‪ .‬والنف‬
‫مشتمل على الفتحتين (المنخرين) وعلى الحاجز بينهما؛ وتندرج حكومة قصبته في ديته‪ ،‬عند الفقهاء‬
‫حتى الشافعية (‪ )2‬وفي كل من طرفي النف‪ ،‬والحاجز‪ :‬ثلث الدية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،311/7 :‬الشرح الكبير‪ 272/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ 61/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪:‬‬
‫‪ ،200/2‬المغني‪ 1/8 :‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،62/4 :‬كشاف القناع‪.37/6 :‬‬

‫( ‪)7/656‬‬

‫وأما اللسان المتكلم به ـ لسان الناطق‪ :‬ففيه الدية لقوله عليه السلم في حديث ابن حزم‪« :‬وفي اللسان‬
‫الدية» ‪.‬‬
‫وفي لسان الخرس عند (المالكية والحنفية والشافعية)‪ :‬حكومة (أي تعويض يقدره القاضي) وعند‬
‫الحنابلة‪ :‬فيه ثلث الدية (‪ ، )1‬أي حكومة‪ ،‬والحكومة عند المالكية إذا لم يذهب الذوق‪ ،‬وإل فالدية‪.‬‬
‫وفي لسان الطفل الذي لم ينطق دية عند الجمهور‪ ،‬وحكومة عند أبي حنيفة‪.‬‬
‫وفي الذكر أو الحشفة (رأس الذكر) ولو لصغير وشيخ‪ :‬الدية‪ ،‬للحديث السابق في الديات‪« :‬وفي الذكر‬
‫الدية» ‪.‬‬
‫وفي ذكر الخصي والعنّين (‪ )2‬عند الحنفية والحنابلة‪ :‬حكومة‪ ،‬وعند المالكية على الراجح والشافعية‪:‬‬
‫دية كاملة (‪. )3‬‬
‫وفي الصلب إذا انقطع الماء وهو المني الذي فيه‪ :‬الدية‪ ،‬للحديث السابق في الديات‪« :‬وفي الصلب‬
‫الدية» ‪.‬‬
‫وفي إتلف كل من مسلك البول أو مسلك الغائط‪ :‬الدية عند الفقهاء‪ ،‬وهو القرب عند المالكية؛ لن‬
‫الجاني فوّت منفعة مقصودة بنحو كامل‪ ،‬فيجب عليه كمال الدية (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،63/4 :‬المغني‪ ،16/8 :‬البدائع‪ ،311/7 :‬اللباب‪ ،154/3 :‬الشرح الكبير للدردير‪:‬‬
‫‪ ،277/4‬كشاف القناع‪.41/6 :‬‬
‫(‪ )2‬وهو من ل يتأتى منه الجماع‪.‬‬
‫(‪ )3‬اللباب شرح الكتاب‪ ،154/3 :‬الدردير في الكبير‪ ،273/4 :‬مغني المحتاج‪ ،67/4 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ ،33/8‬كشاف القناع‪ 47/6 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،311/7 :‬الدردير والدسوقي‪ ،277/4 :‬مغني المحتاج‪ ،74/4 :‬المغني‪.51/8 :‬‬

‫( ‪)7/657‬‬

‫وفي سلخ الجلد عند الشافعية‪ :‬الدية إذا لم ينبت‪ ،‬وبقيت حياة مستقرة في المسلوخ‪ ،‬ثم مات بسبب آخر‬
‫غير السلخ‪ ،‬كأن حز غير السالخ رقبته بعد السلخ (‪. )1‬‬
‫وتجب الدية عند المالكية إذا أدت الجناية إلى تجذيم الجلد أو تبريصه‪ ،‬أو تسويده (‪. )2‬‬
‫وتجب عند الحنفية والحنابلة في الجلد حكومة عدل‪ ،‬إل أن الحنفية قالوا‪ :‬في سلخ جلد الوجه كمال‬
‫الدية (‪. )3‬‬
‫وفي إزالة شعر الرأس أو اللحية أو الحاجبين‪ :‬ولم ينبت بعدئذ‪ :‬الدية عند الحنفية والحنابلة‪ .‬وأما عند‬
‫المالكية والشافعية‪ :‬فيجب في الكل حكومة عدل (‪. )4‬‬
‫النوع الثاني ـ العضاء التي في البدن منها اثنان‪ :‬وهي ما يأتي (‪ : )5‬اليدان‪ ،‬الرجلن‪ ،‬العينان‪،‬‬
‫الذنان‪ ،‬الشفتان‪ ،‬الحاجبان إذا ذهب شعرهما نهائيا ولم ينبت‪ ،‬والثديان‪ ،‬والحلمتان‪ ،‬والنثيان‪،‬‬
‫والشّفران‪ ،‬والليتان‪ ،‬واللّحيان‪.‬‬
‫فإذا ذهب واحد منها ففيه نصف الدية‪.‬‬
‫أما اليدان إن قطعتا من الرسغ أو الكتف أو المنكب (‪ )6‬ففيهما الدية‪ ،‬لحديث معاذ‪« :‬وفي اليدين وفي‬
‫الرجلين الدية» ولحديث سعيد بن المسيب عن النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ 67/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الدردير والدسوقي‪.272/4 :‬‬
‫(‪ )3‬الدر المختار‪.413/5 :‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،312/7 :‬الدرالمختار‪ 408/5 :‬وما بعدها‪ ،‬الدردير والدسوقي‪ ،277/4 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،79/4‬كشاف القناع‪ ،36/6 :‬المغني‪ 10/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪.311/7 :‬‬
‫(‪ )6‬المنكب‪َ :‬مجْمع عظم العضد والكتف‪.‬‬

‫( ‪)7/658‬‬

‫في العينين الدية‪ ،‬وفي اليدين الدية‪ ،‬وفي الرجلين الدية‪ ،‬وفي الشفتين الدية‪ ،‬وفي الذنين الدية‪ ،‬وفي‬
‫النثيين الدية» (‪ )1‬وفي اليد الواحدة نصف الدية؛ لما روى مالك والنسائي في حديث عمرو بن حزم‪:‬‬
‫«وفي اليد خمسون» ‪.‬‬
‫وأما الرّجلن‪ :‬ففيهما الدية‪ ،‬وفي الرّجْل الواحدة نصف الدية‪ ،‬لحديث معاذ وابن المسيب المتقدمين في‬
‫دية اليدين‪ ،‬وحديث ابن حزم‪« :‬وفي الرّجل خمسون» ‪.‬‬
‫والعينان‪ :‬فيهما الدية لحديث ابن المسيب المتقدم ولحديث عمرو بن حزم‪« :‬في العينين الدية‪ ،‬وفي‬
‫اليدين الدية‪ ،‬وفي الرّجلين الدية‪ ،‬وفي الشفتين الدية‪ ،‬وفي العين خمسون» (‪ . )2‬وأما عين العور‬
‫ففيها عند مالك وأحمد وجماعة من الصحابة دية كاملة؛ لنها في معنى العينين‪ ،‬وفيها نصف الدية‬
‫عند االشافعي‪ ،‬إذ لم يفصّل الدليل‪ ،‬وهو كتاب ابن حزم بين عين المبصروعين العور‪.‬‬
‫والذنان‪ :‬فيهما الدية بالقطع أو القلع‪ ،‬وفي أذن واحدة نصف الدية لخبر عمرو بن حزم‪« :‬في الذن‬
‫خمسون من البل» (‪ )3‬واشترط مالك لدية الذنين ذهاب السمع‪ ،‬فإن لم يذهب ففيها حكومة‪.‬‬
‫والشفتان‪ :‬فيهما الدية لخبر عمرو بن حزم‪« :‬وفي الشفتين الدية» ‪ .‬وفي كل شفة نصب الدية‪ ،‬عليا أو‬
‫سفلى‪ ،‬صغرت أو كبرت‪.‬‬
‫والحاجبان‪ :‬إذا أزيل شعرهما ولم ينبت فيهما الدية عند الحنفية والحنابلة‪.‬‬
‫وفي أحد الحاجبين‪ :‬نصف الدية؛ لن الجاني أتلف جنس منفعة مقصودة‪ ،‬أو فوت جمالً مقصودا‬
‫لذاته‪.‬‬
‫وعند المالكية والشافعية في إزالة شعر الحاجبين الحكومة فقط (أي التعويض المقدر قضا ء)؛ لنه‬
‫إتلف جمال من غير منفعة‪ ،‬فل تجب فيه الدية (‪. )4‬‬
‫والثديان والحَلْمتان للمرأة‪ :‬فيهما الدية‪ ،‬وفي إحداهما نصف الدية؛ لن فيهما جمالً ومنفعة‪ ،‬فأشبها‬
‫اليدين والرجلين‪ .‬قال ابن المنذر‪ :‬أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة‬
‫نصف الدية‪ ،‬وفي الثديين الدية‪ .‬واشترط مالك لدية الحلمتين انقطاع اللبن أو فساده‪ ،‬فإن لم ينقطع أو‬
‫يفسد فتجب حكومة عدل‪ .‬أما الثديان ففيهما عنده الدية‪ ،‬انقطع اللبن أو ل (‪. )5‬‬
‫والنثيان‪( :‬الخُِصيتان) فيها الدية؛ لنهما وكاء المني‪ ،‬ولحديث عمرو بن حزم‪« :‬وفي البيضتين الدية»‬
‫( ‪. )6‬‬
‫ل ومنفعة في‬
‫والشّفران (‪ : )7‬فيهما الدية‪ ،‬إذا قطعا أو أشل‪ ،‬وفي أحدهما نصف الدية؛ لن فيهما جما ً‬
‫المباشرة أو الجماع‪ .‬فلو زالت بقطعهما البكارة وجب أرشها مع الدية (‪. )8‬‬
‫والليان‪ :‬فيهما الدية عند الحنفية والشافعية والحنابلة‪ .‬وفي واحدة منهما نصف الدية؛ لن فيهما جمالً‬
‫ظاهرا أو منفعة كاملة‪ ،‬وليس في البدن نظيرهما‪ .‬وقال المالكية في أليي الرجل‪ :‬حكومة اتفاقا ‪،‬‬
‫وكذلك في المرأة قياسا على الرجل‪ .‬وقال أشهب (‪ )9‬في أليي (‪ )10‬المرأة خطأ‪ :‬الدية‪.‬‬
‫واللّحيان (‪ : )11‬فيهما الدية عند الشافعية والحنابلة (‪ ، )12‬وفي أحدهما نصف الدية؛ لن فيهما نفعا‬
‫وجمالً‪ ،‬وليس في البدن مثلهما‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬قال عنه الزيلعي في (نصب الراية‪ :)371/4 :‬غريب‪.‬‬
‫(‪ )2‬حديث عمرو بن حزم سبق تخريجه‪ ،‬وقد صححه ابن حبان‪ ،‬والحاكم‪ ،‬وحكى ابن المنذر الجماع‬
‫فيه‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الدارقطني والبيهقي‪.‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،311/7 :‬المغني‪ ،11/8 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،277/4 :‬بداية المجتهد‪،413/2 :‬‬
‫المهذب‪.208/2 :‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬المغني‪ ،30/8 :‬الدردير‪ ،273/4 :‬مغني المحتاج‪.66/4 :‬‬
‫(‪ )6‬البدائع‪ :‬المكان السابق‪ ،‬الدردير‪ ،273/4 :‬مغني المحتاج‪ ،79/4 :‬المغني‪.34/8 :‬‬
‫(‪ )7‬الشفران‪ :‬هما اللحمان المحيطان بحرفي فرج المرأة‪ ،‬المغطيان له‪ ،‬كما تحيط الشفتان بالفم‪.‬‬
‫(‪ )8‬الدردير‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬مغني المحتاج‪.67/4 :‬‬
‫(‪ )9‬الدردير‪ ،277/4 :‬مغني المحتاج‪.67/4 :‬‬
‫(‪ )10‬اللية‪ :‬بالفتح ألية الشاة‪ ،‬ول تقل‪ :‬إلية بالكسر‪ ،‬ول لِيّة‪ ،‬وتثنيتها «اليان» بغير تاء‪.‬‬
‫(‪ )11‬اللحيان‪ :‬هما العظمان اللذان فيهما السنان السفلى أي الفك السفلي‪.‬‬
‫(‪ )12‬المغني‪ ،27/8 :‬كشاف القناع‪ ،44/6 :‬مغني المحتاج‪.65/4 :‬‬

‫( ‪)7/659‬‬
‫النوع الثالث ‪ -‬العضاء التي منها في البدن أربعة ‪ :‬وهي التي‪:‬‬
‫أشفار العينين (وهي حروف الجفان التي ينبت عليها الشعر وهو الهُدْب) إذا لم تنبت‪ ،‬والهداب‬
‫(وهي شعر الشفار) إذا لم تنبت‪.‬‬
‫وأما الشفار وحدها أو الجفون معها‪ :‬ففيها عند الجمهور دية‪ :‬لن منفعة الجنس‪ ،‬سواء قطع الشفر‬
‫شفْر ربع الدية؛ لن فيهما جمالً‬
‫وحده أو قطع معه الجفن؛ لن الجفن تبع للشفر‪ .‬وفي كل جُفن أو ُ‬
‫ظاهرا‪ ،‬ونفعا كاملً‪ .‬ويرى المالكية أن فيها حكومة عدل لعدم ورود نص فيها‪ ،‬والتقدير لبد فيه من‬
‫نص‪ ،‬ول يثبت بالقياس كما يرى الجمهور (‪.)1‬‬
‫وأما الهداب (أو شعر الجفن)‪ :‬ففيهما عند الحنفية والحنابلة‪ :‬الدية؛ لن الهداب تابعة للجفان كحلمة‬
‫الثدي‪ ،‬والصابع مع الكف‪ .‬وفيها عند المالكية إذا فسد منبتها‪ :‬حكومة عدل كسائر الشعور (‪.)2‬‬
‫النوع الرابع ‪ -‬ما في البدن منه عشرة ‪ :‬وهو أصابع اليدين ‪ ،‬وأصابع الرجلين ‪ ،‬وفي كل اصبع‬
‫عشر الدية ‪ ,‬لحديث عمرو بن حزم ‪ ( :‬وفي كل اصبع من اصابع اليد والرجل عشر من البل ) وفي‬
‫كل أنملة ثلث الدية إل أنملة البهام ففيها نصف ديتها باتفاق المذاهب الربعة ‪.‬‬
‫ول يفضل أصبع على أصبع‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬في كل أصبع عشر من البل‪ ،‬وفي كل‬
‫سن خمس من البل‪ ،‬والصابع سواء‪ ،‬والسنان سواء» (‪ )3‬وفي الصبع الزائدة أو الشلء حكومة‬
‫عدل (‪. )4‬‬
‫وأما السنان الـ (‪ :)32‬ففيها الدية‪ ،‬وفي كل سن خمس من البل أو خمس مئة درهم ما لم تصل إلى‬
‫مقدار الدية‪ ،‬للحديث السابق‪ ،‬ولحديث ابن حزم‪« :‬وفي السنّ خمس من البل» سواء أكانت السن‬
‫صغيرة أم كبيرة‪ ،‬دائمة أم لبنية (مؤقتة قابلة للتبدل) أما السن الزائدة ففيها حكومة‪ .‬وأما ما يترتب‬
‫على تغير السن من الشّين كسواد أواخضرار أو حمرة‪ ،‬ففيه أرش السن عند الحنفية وحكومة عدل‬
‫عند غيرهم (‪ . )5‬وقيد المالكية إيجاب التعويض في الخضرة أو الصفرار بما إذا كانت مثل السواد‬
‫عرفا‪ .‬وفي الصفرة عند الحنفية حكومة (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،324 ،311/7 :‬الدردير‪ ،277/4 :‬المهذب‪ ،201/2 :‬مغني المحتاج‪ ،62/4 :‬المغني‪:‬‬
‫‪.7/8‬‬
‫(‪ )2‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الخمسة إل الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪.‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،318 ،303 ،314/7 :‬تبيين الحقائق‪ ،134/6 :‬الدردير‪ ،278/4 :‬مغني المحتاج‪،66/4 :‬‬
‫المغني‪ 35/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )5‬وهناك رواية أخرى عند الحنابلة في التسويد أو الخضرار‪ :‬أن الواجب أرش أو دية السن‪:‬‬
‫خمس من البل‪.‬‬
‫(‪ )6‬البدائع‪ ،315/7 :‬الدردير‪ 278/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ 63/4 :‬وما بعدها‪،‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪ ،42/6‬المغني‪ 21/8 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/660‬‬

‫المطلب الثاني ـ تعطيل منافع العضاء (أو إذهاب المعاني ) ‪:‬‬


‫يعاقب الجاني إذا عطل منفعة عضو غيره أو أذهب معناه مع بقاء هيكله (أو صورته أو آلته) ‪،‬‬
‫كذهاب البصر أو السمع‪ ،‬أو الذوق أو الشم‪ ،‬أو اللمس‪ ،‬أو المشي أو البطش أو النطق أو العقل‪ ،‬أو‬
‫شلل اليد أو الرجل‪ ،‬أو القدرة على الجماع‪ .‬وقد عد بعضهم المنافع عشرين أو أكثر‪ ،‬منها‪ :‬عقل‪ ،‬سمع‬
‫‪ ،‬بصر‪ ،‬شم‪ ،‬صوت‪ ،‬ذوق‪ ،‬مضغ‪ ،‬إمناء‪ ،‬إحبال‪ ،‬جماع‪ ،‬إفضاء‪ ،‬بطش‪ ،‬مشي‪ ،‬ذهاب شعر‪ ،‬أو جلد‬
‫أو مشي وغير ذلك‪.‬‬

‫( ‪)7/661‬‬

‫والقاعدة في عقوبة هذه الجنايات‪ :‬هي محاولة القصاص‪ ،‬كلما أمكن‪ ،‬من الناحية العملية‪ ،‬فإن لم يمكن‬
‫القصاص وجبت الدية أو الرش المقدر شرعا (‪. )1‬‬
‫ففي البصر الدية؛ لنه أبطل منفعة العينين‪ .‬جاء في كتاب عمرو بن حزم‪« :‬وفي العينين الدية» ‪.‬‬
‫وفي السمع الدية لحديث معاذ‪« :‬في السمع الدية» (‪، )2‬ونقل ابن المنذر الجماع فيه‪ ،‬ولنه من‬
‫أشرف الحواس‪ ،‬فكان كالبصر‪ ،‬بل هو أشرف منه عند أكثر الفقهاء؛ لن به يدرك الفهم‪ ،‬فلو فقد‬
‫بضربة واحدة سمعه وبصره‪ ،‬فعليه ديتان‪.‬‬
‫وفي الشم لقوله عليه الصلة والسلم في حديث عمرو بن حزم‪« :‬في المشام الدية» ‪.‬‬
‫وفي إبطال الذوق‪ :‬الدية؛ لنه أحد الحواس الخمس‪ ،‬فأشبه الشم‪.‬‬
‫وفي إذهاب الكلم‪ :‬دية لخبر البيهقي‪« :‬في اللسان الدية إن منع الكلم» ولن اللسان عضو مضمون‬
‫بالدية‪ ،‬فكذا منفعته العظمى كاليد والرجل‪.‬‬
‫وفي ذهاب العقل‪ :‬الدية لخبر عمرو بن حزم‪« :‬وفي العقل الدية» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،311/7 :‬الدردير‪ 271/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ 201/2 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪68/4 :‬‬
‫وما بعدها‪ ،‬المغني‪ 37/8 :‬وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪ 32/6 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البيهقي‪.‬‬

‫( ‪)7/662‬‬

‫وفي ذهاب جماع بجناية على الصلب‪ :‬دية‪ ،‬لحديث عمرو بن حزم‪« :‬وفي الذكر الدية‪ ،‬وفي الصلب‬
‫الدية» والمقصود من ذلك‪ :‬الجماع‪ .‬وقال المالكية‪ :‬لو كسر صلبه‪ ،‬فأبطل إنعاظه فعليه ديتان‪ ،‬فهم‬
‫يجعلون لتعطيل قوة الجماع دية‪ ،‬بأن فعل معه فعلً كضربه‪ ،‬فأبطل إنعاظه‪ ،‬ولكسر الصلب دية‬
‫أخرى‪ ،‬وإن كانت قوة الجماع فيه‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )1‬لو كسر شخص صلب المجني عليه‪ ،‬فذهب مع سلمة الرجل والذكر‬
‫مشيه وجماعه‪ ،‬أو مشيه ومنيه‪ ،‬فعليه ديتان؛ لن كل واحد منهما مضمون بالدية عند النفراد‪ ،‬فكذا‬
‫عند الجتماع‪.‬‬
‫فإن ذهب بعض منفعة العضو وجب فيه بعض الدية إن كان التبعيض معروفا أو ممكن التقدير‪،‬‬
‫كذهاب بصر عين واحدة‪ ،‬أو ذهاب سمع أذن واحدة دون الخرى‪.‬‬
‫فإن لم يمكن التقدير يجب عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة)‪ :‬حكومة‪ .‬وعند المالكية‪ :‬يقابل‬
‫النقص بما يناسبه من الدية‪ ،‬أي بحساب ما ذهب (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،76/4 :‬كشاف القناع‪.47/6 :‬‬
‫(‪ )2‬الدردير‪ ،272/4 :‬مغني المحتاج‪ ،77/4 :‬المغني‪ ،16/8 :‬كشاف القناع‪.47 ،38 ،32/6 :‬‬

‫( ‪)7/663‬‬

‫المطلب الثالث ـ عقوبة الشجاج‬


‫إما أن يجب القصاص في الشجة وإما أن يجب الرش‪ ،‬والرش إما مقدر أو غير مقدر‪ ،‬وفي كل من‬
‫الشجاج والجراح إما أرش مقدر أو غير مقدر‪.‬‬
‫أولً ـ ما يجب فيه أرش مقدر ‪:‬‬
‫عقوبة الشجة‪ :‬هي الرش‪ ،‬والرش نوعان كما تقدم‪ :‬مقدر وغير مقدر‪.‬‬
‫والرش المقدر‪ :‬هو ما حدد له الشرع مقدارا ماليا معلوما‪ .‬ويجب في العضاء وفي الشجاج‬
‫والجراح‪ ،‬ففي العضاء أو الطراف كما تبين إما أن تجب الدية كاملة بتفويت جنس المنفعة كقطع‬
‫اليدين أو الرجلين‪ ،‬أو فقء العينين‪ ،‬وقطع الذنين‪ ،‬وقد يجب الرش بتفويت بعض منفعة الجنس‪،‬‬
‫فيكون الرش نصف الدية كما في قطع يد أورجل واحدة أو قلع عين أو قطع أذن واحدة‪ .‬وقد يكون‬
‫شفْر أو هُدب العين‪ ،‬وقد يكون الرش عشر الدية كما‬
‫الرش ربع الدية كما في الجفن الواحد‪ ،‬أو ال ّ‬
‫في قطع إحدى أصابع اليد أو الرجل‪ .‬وقد يكون نصف عشر الدية‪ ،‬أي خمس من البل‪ ،‬كما في السن‬
‫أو الضرس‪ .‬فهذا كله هو الرش المقدر (‪. )1‬‬
‫ثانيا ـ ما يجب فيه حكومة عدل ‪:‬‬
‫الرش غير المقدر‪ :‬هو حكومة العدل وهي ما لم يحدد له الشرع مقدارا معلوما‪ ،‬وترك أمر تقديره‬
‫للقاضي‪ ،‬والقاعدة فيها‪ :‬أن ما ل قصاص فيه من الجنايات على ما دون النفس‪ ،‬وليس له أرش مقدر‪:‬‬
‫فيه الحكومة (‪ )2‬كإزالة الشعار عند الشافعية‪ ،‬وعند الحنفية (‪ ، )3‬ومثل كسر الضلع‪ ،‬وكسر قصبة‬
‫النف‪ ،‬وكسر كل عظم من البدن سوى السن‪ .‬وكذا في ثدي الرجل‪ ،‬وفي حلمة ثدييه‪ ،‬وفي لسان‬
‫الخرس‪ ،‬وذكر الخصي والعنّين‪ ،‬والعين القائمة الذاهب نورها‪ ،‬والسن السوداء‪ ،‬واليد أو الرجل‬
‫الشلء‪ ،‬والذكر المقطوع الحشفة‪ ،‬والكف المقطوع الصابع‪ ،‬والصبع الزائدة‪ ،‬وكسر الظفر وقلعه‪،‬‬
‫ولسان الطفل ما لم يتكلم‪ ،‬وفي ثدي المرأة المقطوعة الحلمة‪ ،‬والنف المقطوع الرنبة‪ ،‬والجفن الذي‬
‫ل أشفار له‪.‬‬
‫ومن المتفق عليه أن ما قبل الموضحة من الشجاج ليس له أرش مقدر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،314/7 :‬الدر المختار‪ 409/5 :‬وما بعدها‪.413 ،‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪.323/7 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،323/7 :‬الدر المختار‪ 413/5 :‬وما بعدها‪ ،‬الشرح الصغير للدردير‪ ،381/4 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،77/4 :‬المغني‪.56/8 :‬‬

‫( ‪)7/664‬‬

‫وحكومة العدل‪ :‬هي على الجاني‪ ،‬ول تتحملها العاقلة‪ ،‬وتقدر الحكومة في الشجاج بأن ينظر كم مقدار‬
‫هذه الشجة من الموضحة‪ ،‬فيجب بقدر ذلك من أرش الموضحة‪ ،‬وهو نصف عشر الدية (‪. )1‬‬
‫والمفتى به عند الحنفية ومذهب الشافعية‪ :‬أنها هي بمقدار التفاوت بين القيمتين‪ :‬في الحر من الدية‬
‫وفي العبد من القيمة‪ ،‬فإن نقص الحر عشر قيمته أخذ عشر ديته‪ ،‬وهكذا بعد افتراض كون المشجوج‬
‫عبدا‪.‬‬
‫والشجاج‪ :‬هي جراحات الرأس والوجه خاصة (‪ ، )2‬وهي عند الحنفية إحدى عشرة شَجة (‪: )3‬‬
‫‪ - 1‬الحارصة‪ :‬هي التي تحرص الجلد أي تشقه ول يظهر منها الدم‪.‬‬
‫‪ - 2‬الدامعة‪ :‬هي التي يظهر منها الدم ول يسيل كالدمع في العين ‪ ،‬وتسمى أيضا الخارصة‪ :‬وهي‬
‫التي تكشط الجلد‪.‬‬
‫‪ - 3‬الدامية‪ :‬هي التي يسيل منها الدم‪ ،‬بأن تضعف الجلد بل شق له حتى يرشح الدم‪ .‬وتسمى عند‬
‫الحنابلة البازلة أو الدامعة‪.‬‬
‫‪ - 4‬الباضعة‪ :‬هي التي تبضع اللحم‪ ،‬أي تقطعه وتشقه‪.‬‬
‫‪ - 5‬المتلحمة‪ :‬هي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة ولم تقرب للعظم‪ ،‬هذا ما روى أبو‬
‫يوسف‪ ،‬وقال محمد‪ :‬المتلحمة قبل الباضعة‪ :‬وهي التي يتلحم منها الدم ويسود‪.‬‬
‫‪ - 6‬السّمحاق‪ :‬هي التي تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة التي بين اللحم والعظم‪ .‬وهذه الجلدة هي‬
‫السمحاق‪ ،‬فسميت الشجة بها لوصولها إليها‪ ،‬ويسميها الشافعية الملطاط‪ :‬وهي التي تستوعب اللحم إلى‬
‫أن تبقى غشاوة رقيقة فوق العظم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،416 ،412/5 :‬المهذب‪ ،199/2 :‬البدائع‪.324/7 :‬‬
‫(‪ )2‬أما جراح الجسم فيما عد ا الرأس والوجه فتسمى «الجراح» ‪ .‬فالشجة إذن‪ :‬هي ما كان في‬
‫الرأس والوجه‪ .‬والجراحة‪ :‬ماكان في سائر البدن غير الرأس والوجه‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،296/7 :‬الدر المختار‪ ،411/5 :‬تكملة فتح القدير‪ ،311/8 :‬تبيين الحقائق‪.132/6 :‬‬

‫( ‪)7/665‬‬

‫‪ - 7‬الموضحة (‪ : )1‬هي التي تخترق السمحاق‪ ،‬وتوضح العظم‪ ،‬أي تظهره وتكشفه‪ ،‬ولو قدر مغرز‬
‫إبرة‪.‬‬
‫‪ - 8‬الهاشمة‪ :‬هي التي تهشم العظم‪ ،‬أي تكسره‪.‬‬
‫‪ - 9‬المنقّلة‪ :‬هي التي تنقل العظم بعد كسره‪ ،‬أي تحوله عن مكانه‪.‬‬
‫‪ - 10‬المّة (أو المأمومة)‪ :‬هي التي تصل إلى أم الدماغ‪ :‬وهي جلدة تحت العظم وفوق الدماغ أي‬
‫المخ‪.‬‬
‫‪ - 11‬الدامغة‪ :‬هي التي تخرق غشاء الدماغ‪ ،‬وتصل إلى الدماغ‪.‬‬
‫والجمهور يرون الشجاج عشرة‪ .‬أما المالكية (‪ )2‬فيحذفون الثانية وهي الدامعة‪ ،‬ويسمون الولى‬
‫دامية‪ ،‬والثانية حارصة‪ ،‬والثالثة سمحاقا‪ ،‬والسادسة ملطاة أو ملطاط بتسمية أهل البلد‪ ،‬ويخصصون‬
‫المة والدامغة بالرأس‪ ،‬والباقي في الرأس أو الخد‪.‬‬
‫وأما الشافعية والحنابلة (‪ : )3‬فيحذفون أيضا الثانية وهي الدامعة‪ ،‬ويقال عند الشافعية عن الولى‪:‬‬
‫الخارصة؛ وهي التي تكشط الجد‪ ،‬ويسميها الحنابلة كالجمهور الحارصة‪ ،‬أو الملطاة‪ ،‬والخمسة الولى‬
‫ل مقدر فيها من الشرع‪.‬‬
‫نوعا عقوبة الشجاج‪ :‬عقوبة الشجاج كما تقدم‪ :‬إما عقوبة أصلية وهي القصاص إذا أمكن‪ ،‬أو عقوبة‬
‫بدلية وهي الرش‪.‬‬
‫العقوبة الصلية في الشجاج ـ القصاص ‪:‬‬
‫القاعدة في القصاص في جنايات العمد‪ :‬أنه كلما أمكن وجب استيفاؤه‪ ،‬وإذا لم يمكن وجب الرش‪.‬‬
‫وعليه تعرف أحوال القصاص في الشجاج‪ ،‬ففي كل شجة يمكن فيها المماثلة‪ :‬القصاص‪.‬‬
‫ل خلف في أن الموضحة فيها القصاص‪ ،‬لعموم قوله سبحانه وتعالى‪{ :‬والجروحَ قصاص} [المائدة‪:‬‬
‫‪ ]45/5‬إل ما خص بدليل‪ ،‬ولنه يمكن استيفاء القصاص فيها على سبيل المماثلة؛ لن لها حدا تنتهي‬
‫إليه السكين‪ ،‬وهو العظم‪.‬‬
‫ويعتبر قدر الموضحة بالمساحة طولً وعرضا في قصاصها‪ ،‬لبحجم الرأس كبرا وصغرا؛ لن‬
‫الرأسين قد يختلفان في ذلك‪.‬‬
‫ول خلف في أنه ل قصاص فيما بعد أو فوق الموضحة لتعذر استيفاء القصاص فيها على وجه‬
‫المماثلة أوالمساواة‪.‬‬
‫وأما ما دون الموضحة ففيها خلف‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بتخفيف الضاد أو بتشديدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪ 250/4 :‬وما بعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.350‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ 58/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،198/2 :‬المغني‪ 42/8 :‬وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪ 51/6‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/666‬‬

‫‪ - 1‬قال المالكية (‪ ، )1‬وهو الصح وظاهر الرواية عند الحنفية (‪ : )2‬فيها القصاص‪ ،‬سواء أكانت‬
‫في الرأس أم في الخد‪ ،‬لمكان المساواة‪ ،‬بأن يسبر غورها بمسبار‪ ،‬ثم يتخذ حديدة بقدره‪ ،‬فيقطع‪.‬‬
‫واستثنى في الشرنبللية السمحاق‪ ،‬فل يقاد إجماعا‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )3‬ل قصاص فيما دون الموضحة‪ ،‬لعدم إمكان تحقيق المماثلة‪،‬‬
‫ولحديث مرسل‪« :‬ل طلق قبل ملك‪ ،‬ول قصاص فيما دون الموضحة من الجراحات» (‪ . )4‬وعلى‬
‫هذا فل قصاص في الشجاج في هذين المذهبين سوى الموضحة ‪.‬‬
‫العقوبة البدلية في الشجاج ـ الرش ‪:‬‬
‫الرش كما عرفنا‪ :‬هو التعويض المالي الواجب بالجناية على ما دون النفس‪ .‬ويرى أكثر الفقهاء‬
‫ومنهم أئمة المذاهب الربعة‪ :‬أنه ليس في موضحة غير الرأس والوجه أرش مقدر‪ ،‬لقول الخليفتين‬
‫الراشدين‪« :‬الموضحة في الوجه والرأس» (‪. )5‬‬
‫كما أنه ليس فيما دون الموضحة من الشجاج أرش مقدر أيضا‪ ،‬بل فيه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،350‬بداية المجتهد‪ 399/2 :‬وما بعدها‪ ،411 ،‬الشرح الكبير للدردير‪:‬‬
‫‪ 250/4‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،309/7 :‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،412 ،391/5 :‬اللباب شرح الكتاب‪.147/3 :‬‬
‫(‪ )3‬المهذب‪ ،198/2 :‬مغني المحتاج‪ ،59 ،26/4 :‬المغني‪ ،42/8 :‬كشاف القناع‪ 51/6 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه البيهقي عن طاوس‪ ،‬وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن وعمر بن عبد العزيز ما‬
‫يؤيده (نصب الراية‪.)374/4 :‬‬
‫(‪ )5‬المغني‪.44/8 :‬‬

‫( ‪)7/667‬‬

‫حكومة عدل (‪ )1‬؛ إذ ليس فيه أرش مقدر في الشرع‪ ،‬ول يمكن إهدارها‪ ،‬فوجب فيها حكومة عدل‪.‬‬
‫وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن وعمر بن عبد العزيز أن النبي صلّى ال عليه وسلم لم‬
‫يقض فيما دون الموضحة بشيء (‪. )2‬‬
‫واتفقوا على أن ما فيه أرش مقدر من الشجاج هو الموضحة فما بعدها‪ ،‬لورود الشرع بتقديره‪ ،‬كما‬
‫يتبين من حديث عمرو بن حزم في الديات‪« :‬وفي المأمومة ثلث الدية‪ ،‬وفي الجائفة ثلث الدية‪ ،‬وفي‬
‫المنقّلة خمس عشرة من البل‪ ،‬وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من البل‪ ،‬وفي السن‬
‫خمس من البل‪ ،‬وفي الموضحة خمس من البل» (‪. )3‬‬
‫في الموضحة‪ :‬خمس من البل‪ ،‬أي نصف عشر الدية‪ ،‬لحديث «في الموضحة خمس من البل» ‪.‬‬
‫وفي الهاشمة‪ :‬عشر من البل‪ ،‬أي عُشر الدية؛ لحديث ابن حزم‪« :‬وفي الهاشمة عشر» ‪ .‬ويلحظ أن‬
‫الهاشمة عند المالكية هي في جراح البدن‪ .‬وبدلها في الوجه والرأس‪ :‬المنقلة‪.‬‬
‫وفي المنقّلة‪ :‬خمس عشرة من البل‪ ،‬لحديث ابن حزم «وفي المنقلة خمس عشرة من البل» ‪.‬‬
‫وفي المة أو المأمومة‪ :‬ثلث الدية‪،‬لحديث ابن حزم‪« :‬وفي المأمومة ثلث الدية» ‪.‬‬
‫وفي الدامغة‪ :‬ثلث الدية‪ ،‬قياسا على المأمومة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،324/7 :‬الدر المختار‪ ،412/5 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،271/4 :‬مغني المحتاج‪،59/4 :‬‬
‫المغني‪ 54/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬نصب الراية‪.374/4 :‬‬
‫(‪ )3‬نيل الوطار‪ ،57/7 :‬نصب الراية‪ 374/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/668‬‬

‫المطلب الرابع ـ عقوبة الجراح ‪:‬‬


‫الجراح‪ :‬ما كان في سائر البدن عدا الرأس والوجه‪ ،‬وهي نوعان‪ :‬جائفة‪ ،‬وغير جائفة (‪. )1‬‬
‫والجائفة‪ :‬هي التي تصل إلى الجوف‪ ،‬من الصدر أو البطن‪ ،‬أو الظهر‪ ،‬أو الجنين أو ما بين النثيين‪،‬‬
‫أو الدبر‪ ،‬أو الحلق‪.‬‬
‫ول تكون الجائفة في اليدين والرجلين‪ ،‬ول في الرقبة؛ لنه ل يصل إلى الجوف‪.‬‬
‫وغير الجائفة‪ :‬هي التي ل تصل إلى الجوف‪ ،‬كالرقبة أو اليد أو الرجل‪.‬‬
‫وعقوبة الجراح‪ :‬إما أصلية أو بدلية‪.‬‬
‫العقوبة الصلية في جراح العمد ـ القصاص ‪:‬‬
‫ل قصاص في الجائفة والمأمومة والمنقّلة؛ لن الرسول صلّى ال عليه وسلم رفع ال َقوَد في المأمومة‪،‬‬
‫والمنقّلة‪ ،‬والجائفة‪ ،‬ولنه يخشى منها الموت‪ ،‬وإنما فيها الدية‪ .‬وفيما عدا ذلك اختلف الفقهاء‪:‬‬
‫‪ - 1‬فقال الحنفية (‪ : )2‬إنه ل قصاص في شيء من الجراح إذا لم يمت المجروح‪ ،‬سواء أكانت‬
‫الجراحة جائفة أم غيرها؛ لنه ل يمكن استيفاء القصاص فيها على وجه المماثلة‪.‬‬
‫فإن مات المجروح بسبب الجراحة‪ ،‬وجب القصاص؛ لن الجراحة صارت بالسراية نفسا‪ ،‬لهذا قالوا‪:‬‬
‫«ل يقاد جرح إل بعد برئه» ‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقال المالكية (‪ : )3‬يجب القصاص في جراح العمد‪ ،‬كلما أمكن التماثل ولم يخش منه الموت‪،‬‬
‫لقوله تعالى‪{ :‬والجروحَ قصاص} [المائدة‪.]45/5:‬‬
‫وذلك بأن يقيس أهل الطب والمعرفة طول الجرح وعرضه وعمقه ويشقون مقداره في الجارح‪.‬‬
‫‪ - 3‬وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )4‬يقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم‪ ،‬كالموضحة في الوجه‬
‫والرأس‪ ،‬وجرح العضد والساعد والفخذ والساق والقدم؛ لنه يمكن استيفاؤه على سبيل المماثلة من‬
‫غير حيف ول زيادة‪ ،‬لنتهائه إلى عظم؛ لن ال نص على القصاص في الجروح‪.‬‬
‫ويشترط في القصاص في جراح العمد ما يشترط في قصاص النفس حال العمد من كون الجاني مكلفا‬
‫(بالغا عاقلً)‪ ،‬وعصمة المجني عليه‪ ،‬وتكافؤ الجاني والمجني عليه على الخلف المذكور سابقا في‬
‫الشجاج‪ ،‬كما تشترط الشروط الخاصة بقصاص الطراف (‪ . )5‬ول قصاص في جراح العمد إل إذا‬
‫أمكن تحقيق المماثلة‪ ،‬ول قصاص في الشجاج إل في الموضحة إذا كانت عمدا‪ ،‬ول قصاص في‬
‫اللسان‪ ،‬ول في كسر عظم إل في السن؛ لنه ل يمكن الستيفاء من غير ظلم‪.‬‬
‫القصاص بعد البرء‪ :‬ل يجوز القصاص في الطراف والجراح عند الجمهور (‪ )6‬إل بعد اندمال أو‬
‫برء الجرح‪ ،‬لما روى جابر أن النبي صلّى ال عليه وسلم «نهى أن يستقاد‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.296/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،310/7 :‬رد المحتار على الدر المختار‪.310/5 :‬‬

‫(‪ )3‬بداية المجتهد‪ ،399/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.350‬‬


‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪ ،23/4 :‬المغني‪ 686/7 :‬وما بعده‪ ،748 ،‬كشاف القناع‪.651/5 :‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ ،310/7 :‬بداية المجتهد‪ ،399/2 :‬مغني المحتاج‪ ،25/4 :‬المغني‪ 702/7 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )6‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،390/5 :‬المغني‪ ،59/8 ،729/7 :‬تبيين الحقائق‪ ،138/6 :‬بداية‬
‫المجتهد‪ ،400/2 :‬الشرح الصغير‪.381/4 :‬‬

‫( ‪)7/669‬‬

‫من الجارح‪ ،‬حتى يبرأ المجروح» (‪ )1‬ولن الجراحات ينظر إلى مآلها‪ ،‬لحتمال أن تسري إلى‬
‫النفس‪ ،‬فيحدث القتل‪ ،‬فل يعلم أنه جرح إل بالبرء‪.‬‬
‫وقال الشافعية (‪ : )2‬إن كان القصاص في الطرف‪ ،‬فالمستحب أل يستوفى إل بعد استقرار الجناية‬
‫بالندمال (أي البرء) أو بالسراية إلى النفس‪ ،‬فإن استوفي قبل الندمال جاز‪ ،‬لما روى عمرو بن‬
‫شعيب عن أبيه عن جده‪« :‬أن رجلً طعن رجلً بقرْن في ركبته‪ ،‬فجاء إلى النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫فقال‪ :‬أقدني‪ ،‬فقال‪ :‬حتى تبرأ‪ ،‬ثم جاء إليه‪ ،‬فقال‪ :‬أقدني‪ ،‬فأقاده‪ ،‬ثم جاء إليه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال ‪،‬‬
‫عرجتُ‪ ،‬قال‪ :‬قد نهيتك‪ ،‬فعصيتني‪ ،‬فأبعدك ال ‪ ،‬وبطل عرجك‪ ،‬ثم نهى رسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه» (‪. )3‬‬
‫تأجيل القصاص لعذر‪ :‬اتفق الئمة على أنه يؤخر القصاص في الطرف أو النفس عن المرأة الحامل‬
‫حتى تضع حملها وترضع وليدها‪ ،‬ويستغني عنها ولدها بإرضاع من جهة أخرى‪ .‬وقال المالكية‪:‬‬
‫يؤخّر القصاص فيما دون النفس لعذر كبرد شديد أو حر يخاف منه الموت‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الدارقطني‪ ،‬وأبو بكر بن أبي شيبة مسندا ورواه البيهقي وأحمد مرسلً (نيل الوطار‪:‬‬
‫‪.)27/7‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪.185/2 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد والدارقطني‪.‬‬

‫( ‪)7/670‬‬

‫العقوبة البدلية في جراح العمد ـ الرش ‪:‬‬


‫إذا تعذر تنفيذ القصاص في الجراح‪ ،‬لعدم إمكان تحقيق المماثلة وجب الرش‪ ،‬والرش هنا‪ :‬هو القل‬
‫من الدية‪.‬‬
‫وقد عرفنا أن جراح البدن‪ :‬إما جائفة أو غير جائفة‪:‬‬
‫ففي الجائفة‪ :‬ثلث الدية لحديث عمرو بن حزم‪« :‬وفي الجائفة ثلث الدية» ‪.‬‬
‫وغير الجائفة‪ :‬فيها حكومة عدل‪.‬‬
‫حكومة العدل (ضابطها وتقديرها ) أشرت لذلك سابقا‪ ،‬وأوضح الن مايلي‪:‬‬
‫أما ضابط حكومة العدل فهو‪ :‬كل ما ل قصاص فيه من الجنايات على ما دون النفس‪ ،‬وليس له أرش‬
‫مقدر‪ ،‬ففيه حكومة (‪ . )1‬مثل كسر العظم إل السن‪ ،‬واليد الشلء ونحوها‪.‬‬
‫وأما كيفية تقديرها‪ :‬فقد أشرت لطريقتين‪ ،‬أولهما للطحاوي الحنفي وهي المفتى بها عند الحنفية‪،‬‬
‫والمقررة في المذاهب الخرى (‪ : )2‬وهي أن يقوّم المشجوج أو المجروح كما لو كان عبدا بدون شج‬
‫أو جرح‪ ،‬ثم يقوّم وهما به‪ ،‬فيجب بمقدار التفاوت بين القيمتين‪ ،‬بنسبتهما من الدية في الحرار‪ ،‬فلو‬
‫كانت قيمته وهو عبد صحيح عشرة‪ ،‬وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة‪ ،‬فيكون فيه عشر ديته‪.‬‬
‫ولكن يتعذر اللجوء لهذه الطريقة في الوقت الحاضر‪ ،‬لعدم وجود الرق‪.‬‬
‫والطريقة الثانية ـ هي للكرخي‪ :‬وهي أن تقرب الجناية إلى أقرب الجنايات التي لها أرش مقدر‪ ،‬ففي‬
‫الشجاج مثلً ينظر كم مقدار الشجة من الموضحة‪ ،‬فيجب بقدر ذلك من نصف عشر الدية المقرر‬
‫للموضحة (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،323/7 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،354‬مغني المحتاج‪ ،77/4 :‬المغني‪.55/8 :‬‬
‫(‪ )2‬رد المحتار على الدر المختار‪ ،412/5 :‬البدائع‪ ،324/7 :‬الدردير في الشرح الكبير‪،271/4 :‬‬
‫مغني المحتاج‪ ،77/4 :‬المغني‪ 56/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬الدر المختار‪.412/5 :‬‬

‫( ‪)7/671‬‬

‫غير أن هذه الطريقة محصورة التطبيق في شجاج الرأس والوجه‪.‬‬


‫وقيل بطريقة ثالثة ربما كانت أنسب الطرق في عصرنا‪ ،‬وهي أن تقدر الجناية بمقدار ما يحتاج إليه‬
‫المجني عليه من النفقة وأجرة الطبيب والدوية إلى أن يبرأ (‪ . )1‬فإن لم يبرأ الجرح وأحدث عاهة‬
‫مستديمة‪ ،‬أو ترك أثرا دائما فيلحظ الثر‪.‬‬
‫ول يكون التقويم إل بعد برء الجرح؛ لن أرش الجرح المقدر إنما يستقر بعد برئه‪ ،‬فإن لم تنقصه‬
‫الجناية شيئا‪ ،‬مثل‪ :‬إن قطع أصبعا أو يدا زائدة‪ ،‬أو قلع لحية امرأة‪ ،‬فلم ينقصه ذلك‪ ،‬بل زاده حسنا فل‬
‫شيء على الجاني؛ لن حكومة العدل لجل جبر النقص‪ ،‬ول نقص حينئذ‪ ،‬فأشبه ما لو لطم وجهه فلم‬
‫يؤثر (‪. )2‬‬
‫دية جراح المرأة‪ :‬للفقهاء رأيان في تقدير ديات جراح المرأة‪:‬‬
‫‪ - 1‬قال الحنفية والشافعية (‪ : )3‬الجناية على ما دون النفس في المرأة تقدر بحسب ديتها‪ ،‬وبما أن‬
‫دية المرأة نصف دية الرجل‪ ،‬فتكون جراحها وشجاجها نصف جراح الرجل وشجاجه‪ ،‬إلحاقا لجُرحها‬
‫بنفسها‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقال المالكية والحنابلة (‪ : )4‬دية جراح المرأة كدية جراح الرجل فيما دون ثلث الدية الكاملة‪،‬‬
‫فإن بلغت الثلث أو زادت عليها رجعت إلى نصف دية الرجل‪ .‬وعلى هذا إن قطعت أصبع المرأة‬
‫ففيها عشر من البل‪ ،‬وإن قطعت ثلث أصابع ففيها ثلثون من البل‪ ،‬فإن قطع أربعة أصابع ففيها‬
‫عشرون من البل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،‬المكان السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ ،59/8 :‬الدر المختار‪ ،415/5 :‬تبيين الحقائق‪.138/6 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،322/7 :‬مغني المحتاج‪.57/4 :‬‬
‫(‪ )4‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،354‬المغني‪ 797/7 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/672‬‬

‫ودليلهم ما روى النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‪ :‬قال رسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم ‪« :‬عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها» ‪ .‬وروى مالك في الموطأ‪ ،‬والبيهقي‪،‬‬
‫وسعيد بن منصور عن ربيعة قال‪ :‬قلت لسعيد بن المسيب‪ ،‬كم في أصبع المرأة؟ قال‪ :‬عشر‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫ففي أصبعين؟ قال‪ :‬عشرون‪ ،‬قلت‪ :‬ففي ثلث أصابع؟ قال‪ :‬ثلثون‪ ،‬قلت‪ :‬ففي أربع؟ قال‪ :‬عشرون‪.‬‬
‫قال ربيعة‪ :‬لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟ قال سعيد‪ :‬هكذا السنة ياابن أخي‪.‬‬
‫ويضيف البيهقي جوابا على اعتراض ربيعة قول ابن المسيب‪ :‬أعراقي أنت؟ قال ربيعة‪ :‬عالم متثبت‪،‬‬
‫أو جاهل متعلم‪ ،‬قال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬إنها السنة (‪. )1‬‬
‫المبحث الثاني ـ عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ ‪:‬‬
‫إن عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ‪ ،‬هي الدية أو الرش (‪ . )2‬والدية المقصودة هنا هي‬
‫الكاملة‪ ،‬والرش المقصود هنا‪ :‬هو القل من الدية‪ .‬وليس هناك أية عقوبة بدلية أخرى‪ .‬وقد أبنت‬
‫أحوال وجوب الدية والرش في إبانة الطراف والشجاج والجراح العمد‪.‬‬
‫ولكن من يتحمل الدية أو الرش المقدر (ل حكومة العدل عند الحنفية) في حال الخطأ؟ العاقلة هي‬
‫التي تتحملها فيما زاد عن نصف عشر الدية في رأي الحنفية‪ ،‬أو عن ثلث الدية ولو في الطرف أو‬
‫الجرح في رأي المالكية والحنابلة‪.‬‬
‫وتتحمل العاقلة عند الشافعية كل التعويض الواجب‪ ،‬حتى الحكومات قل أو كثر‪ ،‬كما تبين في مقدار ما‬
‫تتحمله العاقلة في شبه العمد‪.‬‬
‫ويلحظ أن عمد الصبي والمجنون عند الجمهور خطأ تحمله العاقلة (‪ ، )3‬والظهر عند الشافعية كما‬
‫بان سابقا‪ :‬أن عمد الصبي عمد إذا كان مميزا‪ ،‬وإل فهو خطأ‪ ،‬لكن ل قصاص عليه في حالة العمد‪،‬‬
‫لكن تجب الدية في ماله‪ ،‬ول تتحملها عنه عاقلته (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬قال الشافعي‪ :‬كنا نقوم به‪ ،‬ثم وقفت عنه‪ ،‬وأنا أسأل ال الخيرة‪ ،‬لنا نجد من يقول‪ :‬السنة‪ ،‬ثم ل‬
‫نجد نفاذا بها عن النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬والقياس أولى بنا فيها‪ .‬وأول الحنفية السّنة بأنها سنة‬
‫زيد بن ثابت (نصب الراية‪.)364/4 :‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار‪ 415/5 :‬ومابعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،351‬مغني المحتاج‪.778/7 ،95/4 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني ‪ ،776/7‬الدر المختار‪ 415/5 :‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد‪ 404/2 :‬وما بعدها‪ ،‬القوانين‬
‫الفقهية‪ :‬ص ‪.347‬‬
‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪ ،10/4 :‬المهذب‪.174/2 :‬‬

‫( ‪)7/673‬‬

‫صلُ الثّالث‪ :‬الجِناية على نفس غير مكتملة (الجناية على الجنين‪ ،‬أو الجهاض )‬
‫ال َف ْ‬
‫إذا ضرب إنسان (أب أو أم أو غيرهما) امرأة حاملً على بطنها أو ظهرها‪ ،‬أو جنبها أورأسها أو‬
‫عضو من أعضائها‪ ،‬أو أخافها بالضرب أو القتل أو الصياح عليها فأجهضت أوألقت جنينها‪ ،‬فإما أن‬
‫تلقيه ميتا أو حيا‪ ،‬وفيه مبحثان‪:‬‬
‫المبحث الول ـ حالة إلقاء الجنين ميتاً ‪:‬‬
‫إذا انفصل الجنين عن أمه ميتا‪ ،‬فعقوبة الجاني هي دية الجنين‪ ،‬ودية الجنين ذكرا أو أنثى‪ ،‬عمدا أو‬
‫خطأ‪ :‬غرة (‪ )1‬ـ عبد أو أمة‪ ،‬قيمتها خمس من البل‪ ،‬أي نصف عشر الدية‪ ،‬أو ما يعادلها وهو‬
‫خمسون دينارا أو خمس مئة درهم عند الحنفية أو ست مئة درهم عند الجمهور (‪، )2‬على الخلف في‬
‫تقويم الدينار بالدراهم‪.‬‬
‫والدليل عليه أحاديث صحيحة متعددة‪ ،‬منها‪ :‬ما رواه أبو هريرة رضي ال عنه قال‪« :‬اقتتلت امرأتان‬
‫من هذيل‪ ،‬فرمت إحداهما الخرى بحجر فقتلتها وما‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )2‬غرة كل شيء‪ :‬خياره‪ ،‬وسمي العبد أو المة غرة؛ لنهما من أنفس الموال‪ ،‬وأصل الغرة‪:‬‬
‫البياض في وجه الفرس‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،325/7 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،268/4 :‬مغني المحتاج‪ ،103/4 :‬المهذب‪،198/2 :‬‬
‫المغني‪ ،799/7 :‬بداية المجتهد‪.407/2 :‬‬

‫( ‪)7/674‬‬
‫في بطنها‪ ،‬فاختصموا إلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقضى أن دية جنينها غرة ـ عبد أو‬
‫وليدة (‪ ، )1‬وقضى بدية المرأة (‪ )2‬على عاقلتها» (‪. )3‬‬
‫من تجب عليه الغرة‪ :‬إذا كانت الجناية عمدا‪ ،‬وجبت مغلظة‪ ،‬أي حالّةً معجلة في مال الجاني المتعمد‪،‬‬
‫ول يتصور العمد إل عند المالكية‪ ،‬وبناء عليه قالوا‪ :‬دية الجنين تكون حالّة معجلة ل منجّمة (أي‬
‫مقسّطة)‪ ،‬وتكون من النقدين‪ :‬الذهب أو الفضة‪ ،‬ول تكون من البل‪ ،‬وتكون في مال الجاني في العمد‬
‫مطلقا‪ ،‬وكذا في حالة الخطأ إل أن تبلغ ثلث دية الجاني فأكثر‪ ،‬فتكون حينئذ على العاقلة (‪ ، )4‬كما لو‬
‫ضرب مجوسي مسلمة فألقت جنينا‪.‬‬
‫وأما في حالة الخطأ أو شبه العمد‪ ،‬وهذا هو المتصور عند الجمهور‪ ،‬فتحمل العاقلة الدية‪ ،‬والجاني‬
‫واحد من العاقلة عند الجمهور‪ ،‬وليس واحدا منها عند الحنابلة‪ ،‬كما بان في دية القتل شبه العمد‪.‬‬
‫والدليل له حديث المغيرة‪« :‬أن امرأة ضربتها ضَرّتها بعمود فِسطاط (خيمة)‪ ،‬فقتلتها وهي حبلى‪ ،‬فأتي‬
‫بها النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقضى فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين غرة‪ ،‬فقال عصبتها‪:‬‬
‫طلّ (‪ )6‬؟ فقال‪ :‬سجع مثل سجع‬
‫أندي مال طعِم ول شرب ول صاح ول استهل (‪ ، )5‬مثل ذلك يُ َ‬
‫العراب» (‪. )7‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الوليدة‪ :‬المة الصغيرة‪ ،‬أقل سنها سبع سنين‪ ،‬ولذا عبر عنها بوليدة دون أمة لئل يتوهم اشتراط‬
‫كبرها‪.‬‬
‫(‪ )2‬التي توفيت بعدئذ‪.‬‬
‫(‪ )3‬متفق عليه بين أحمد والشيخين‪ .‬قال ابن تيمية‪ :‬وفيه دليل على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة (‬
‫نيل الوطار‪.)69/7 :‬‬
‫(‪ )4‬الشرح الكبير‪ ،268/4 :‬بداية المجتهد‪ ،408/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.351 ،347‬‬
‫(‪ )5‬استهل المولود‪ :‬صاح عند الولدة‪.‬‬
‫(‪ )6‬يطل‪ :‬أي يبطل ويهدر‪.‬‬
‫(‪ )7‬رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي‪ ،‬والترمذي ولكنه لم يذكر اعتراض العصبة وجوابه‪.‬‬
‫واستدل بذلك على ذم السجع في الكلم‪ ،‬وكراهته إذا كان ظاهر التكلف‪ .‬ول يكره إذا كان عفويا وهو‬
‫حق أو في مباح‪.‬‬

‫( ‪)7/675‬‬
‫لكن الشافعية قالوا‪ :‬إن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففة‪ ،‬وإن كانت شبه عمد‪ ،‬وجبت دية مغلظة‬
‫كما في الدية الكاملة‪.‬ونص الحنفية على أن العاقلة تضمن الغرة إذا أسقطت الم عمدا جنينها ميتا‬
‫بدواء أو فعل‪ ،‬كأن ضربت هي بطنها‪ ،‬بل إذن زوجها‪ .‬فإن أذن أو لم يتعمد فل غرة‪ ،‬لعدم التعدي (‬
‫‪ . )1‬ول خلف بين العلماء في إلزام الم بالغرة في هذه الحالة‪ ،‬وأضاف إليها الشافعية والحنابلة‬
‫وجوب الكفارة (‪. )2‬‬
‫وتتعدد الغرة بتعدد الجنة‪.‬‬
‫وتجب دية الجنين عند الحنفية والحنابلة في سنة (‪ ، )3‬وهو الصح عند الشافعية (‪ )4‬؛ لن التأجيل‬
‫في ثلث سنين خاص بدية نفس كاملة‪ .‬فإن كانت الدية بمقدار ثلث دية المسلم كدية الذمي فتؤجل سنة‬
‫فقط‪ .‬ومثلها دية المأمومة‪.‬‬
‫من تجب له الغرة‪ :‬اتفق أئمة المذاهب الربعة وهو الراجح عند المالكية (‪ )5‬على أن الغرة تورث‬
‫عن الجنين بحسب الفرائض الشرعية المعلومة لذوي الفرض والتعصب‪ .‬والجاني الضارب إذا كان‬
‫قريبا ولو أبا ل يرث من الغرة شيئا؛ لنه قاتل بغير حق‪ ،‬والقاتل ل يرث بنص الحديث النبوي‪.‬‬
‫شروط وجوب دية الجنين‪ :‬يشترط لوجوب دية الجنين شرطان‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬أن تؤثر الجناية في الجنين كضرب أو إيجار دواء ونحوهما‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬انفصال الجنين ميتا‪ ،‬فلو لم ينفصل أو انفصل حيا‪ ،‬لم تجب له الدية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار ومناقشة رد المحتار‪ 418/5 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ )2( .142/6 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ ،816/7‬الشرح الكبير‪ ،268/4 :‬كشاف القناع‪.21/6 :‬‬
‫(‪ )3‬تبيين الحقائق‪ ،140/6 :‬كشاف القناع‪.64/6 :‬‬
‫(‪ )4‬المهذب‪ ،198/2 :‬مغني المحتاج‪ 97 ،55/4 :‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ ،326/7 :‬الدر المختار‪ ،417/5 :‬تبيين الحقائق‪ ،142/6 :‬الشرح الكبير‪ ،269/4 :‬الشرح‬
‫الصغير‪ ،380/4 :‬مغني المحتاج‪ ،104/4 :‬المغني‪ ،805/7 :‬كشاف القناع‪.22/6 :‬‬

‫( ‪)7/676‬‬

‫هل تجب الكفارة على الضارب؟ ل كفارة عند الحنفية (‪ )1‬على الضارب‪ ،‬إن سقط الجنين كامل‬
‫الخلقة ميتا‪ ،‬إل أن يشاء ذلك‪ ،‬فهو أفضل‪ ،‬تقربا إلى ال تعالى بما يشاء إن استطاع‪ ،‬ويستغفر ال‬
‫سبحانه مما صنع‪ ،‬أي أنه ل كفارة وجوبا بل ندبا‪.‬‬
‫وكذلك قال المالكية (‪ : )2‬تستحب الكفارة في قتل الجنين‪ ،‬ول تجب‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )3‬تجب الكفارة في الجهاض‪ ،‬سواء ألقت الم الجنين حيا أم ميتا؛ لنه‬
‫نفس مضمونة‪ ،‬ولقوله تعالى‪{ :‬ومن قتَل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء‪ ]92/4:‬والجنين‬
‫محكوم بإيمانه تبعا لبويه أو لحد أبويه‪ .‬وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق‪ ،‬وقد‬
‫نص ال على الكفارة في أهل الميثاق‪ .‬فمن لم يجد الرقبة حسا‪ ،‬أو شرعا بأن وجدها بأكثر من ثمن‬
‫المثل‪ ،‬صام شهرين متتابعين‪.‬‬
‫متى يجب التعويض المالي (الغرة) عن الجنين؟‬
‫اختلف الفقهاء في وقت وجوب الغرة عن الجنين‪ :‬فقال الحنفية ‪ :‬يكفي استبانة بعض خلقه كظفر‬
‫وشعر (‪ . )4‬وقال المالكية‪ :‬تجب الغرة إذا كان الجنين‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،326/7 :‬تبيين الحقائق‪ ،141/6 :‬اللباب شرح الكتاب‪ ،171/3 :‬الدر المختار‪.418/5 :‬‬
‫(‪ )2‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،348‬بداية المجتهد‪.408/2 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪ 815/7 :‬وما بعدها‪ ،96/8 ،‬كشاف القناع‪ ،65/6 :‬مغني المحتاج‪ ،108/4 :‬المهذب‪:‬‬
‫‪.217/2‬‬
‫(‪ )4‬الفتاوى الهندية‪ ،34/6 :‬حاشية ابن عابدين‪.587/6 :‬‬

‫( ‪)7/677‬‬

‫مضغة أو كاملً‪ ،‬أما إن كان علقة أي دما مجتمعا بحيث إذا صب عليه الماء الحار يذوب‪ ،‬فليس فيه‬
‫شيء (‪. )1‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬تجب غرة الجنين إذا كان مضغة وثبت ذلك بالشهادة‪ ،‬فعند الشافعية‪ :‬بشهادة‬
‫أربعة نسوة‪ ،‬وعند الحنابلة بشهادة ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية‪ .‬ول شيء فيه إذا كان نطفة‬
‫أو علقة (‪. )2‬‬
‫المبحث الثاني ـ حالة إلقاء الجنين حياً ‪:‬‬
‫إذا انفصل الجنين حيا ثم مات بسبب الجناية عمدا‪ ،‬فهل يجب القصاص من الضارب؟‬
‫قال المالكية (‪ : )3‬الراجح وجوب القصاص إذا أدى الفعل في الغالب إلى الموت كالضرب على‬
‫البطن أو الظهر‪ .‬وتجب الدية فقط ل الغرة إذا لم يؤد الفعل غالبا إلى نتيجة كالضرب على اليد أو‬
‫الرجل؛ لن الجنين إذا استهل صار من جملة الحياء‪ ،‬فلم يكن فيه غرة (‪. )4‬‬
‫وقال الحنفية والحنابلة والصح عند الشافعية (‪ : )5‬إن الجناية على الجنين ل تكون عمدا‪ ،‬وإنما هي‬
‫شبه عمد أو خطأ؛ لنه ل يتحقق وجود الجنين وحياته حتى يقصد‪ ،‬فتجب الدية كاملة‪ .‬ول يرث‬
‫الضارب منها شيئا‪.‬‬
‫وأوجب الحنفية في هذه الحالة الكفارة‪ ،‬كما قال الشافعية والحنابلة في إيجابها مطلقا‪ ،‬سواء في حالة‬
‫إلقاء الجنين ميتا أو حيا‪.‬‬
‫وتتعدد الدية بتعدد الجنة‪.‬‬
‫فإن ماتت الم أيضا من الضربة بعد موت الجنين‪ ،‬أو أنه خرج الجنين بعد موت الم حيا ثم مات‪،‬‬
‫فعلى الضارب ديتان‪ :‬دية الم‪ ،‬ودية الجنين لوجود سبب وجوبهما‪ ،‬وهو قتل شخصين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مواهب الجليل للحطاب‪ ،257/6 :‬الخرشي‪ ،38/8 :‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبير‪.268/4 :‬‬
‫(‪ )2‬قليوبي وعميرة‪ ،160/4 :‬المهذب‪ ،198/2 :‬المغني‪.406/8 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير‪.269/4 :‬‬
‫(‪ )4‬وقال ابن الحاجب‪ :‬المشهور هو قول أشهب‪ :‬وهو أنه ل قود في هذه الحالة‪ ،‬بل تجب الدية في‬
‫مال الجاني بقسامة‪.‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ ،326/7 :‬تبيين الحقائق‪ ،140/6 :‬الدر المختار‪ ،417/5 :‬الكتاب مع اللباب‪،170/3 :‬‬
‫المغني‪ ،811/8 :‬مغني المحتاج‪.105/4 :‬‬

‫( ‪)7/678‬‬

‫موت الجنين بعد موت الم ‪:‬‬


‫إن خرج الجنين بعد موت الم ميتا‪ ،‬فعلى الضارب دية الم ول شيء عليه عند الحنفية والمالكية (‪)1‬‬
‫في الجنين‪ ،‬وإنما عليه التعزير‪ ،‬إذ لم يقم دليل قاطع على أن الجناية أدت لموت الجنين أو انفصاله‪،‬‬
‫وإنما يحتمل أنه مات بموت الم‪ ،‬فهو يجري حينئذ مجرى أعضائها‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )2‬يجب على الضارب دية الم وغرة الجنين‪ ،‬سواء ألقته في حياتها أم‬
‫بعد موتها؛ لنه جنين تلف بجناية الضارب‪ ،‬وعلم موته بخروجه‪ ،‬فوجب ضمانه؛ لنه أتلفه مع الم‪،‬‬
‫كما لو خرج الجنين ميتا ثم ماتت الم‪ .‬فإذا لم تسقط الم جنينها فل شيء فيه؛ لنه ل يثبت حكم الولد‬
‫إل بخروجه‪.‬‬
‫جنين غير المسلمة‪ :‬تجب غرة جنين المرأة الذمية بالجناية عليها‪ ،‬لكن تقدير الغرة مختلف فيه بحسب‬
‫كون الجنين مسلما أو غير مسلم ولو من أب كافر‪.‬‬
‫أما الحنفية‪ :‬فغرته عندهم مثل غرة الجنين المسلم؛ لن دية الكافر كدية المسلم عندهم‪ ،‬وكذلك غرته‬
‫مثل غرة المسلم عند الحنابلة (‪ )3‬؛ لن الجنين مسلم تبعا لدار السلم‪ ،‬فتقدر الذمية مسلمة‪.‬‬
‫وعند المالكية (‪ : )4‬غرة الجنين من الذمية تساوي عشر دية الم‪.‬‬
‫والصح عند الشافعية (‪ : )5‬غرة جنين اليهودي أو النصراني كثلث غرة المسلم‪ ،‬بناء على أن الغرة‬
‫مقدرة بنصف عشر دية الب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،326/7 :‬الشرح الكبير‪ ،269/4 :‬بداية المجتهد‪ ،408/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.347‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،103/4 :‬المغني‪ ،802/7 :‬كشاف القناع‪.22/6 :‬‬

‫(‪ )3‬كشاف القناع‪ ،23/6 :‬المغني‪.800/7 :‬‬


‫(‪ )4‬الشرح الكبير‪ 268/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )5‬مغني المحتاج‪. 106/4 :‬‬

‫( ‪)7/679‬‬

‫صلُ الرّابع‪ :‬حالت طارئة من العتداء بطريق التّسبيب‬


‫ال َف ْ‬
‫جناية الحيوان‪ ،‬وجناية الحائط المائل‬
‫الكلم فيه في مبحثين‪:‬‬
‫الول ـ في جناية الحيوان‪.‬‬
‫والثاني ـ في جناية الحائط المائل‪.‬‬
‫المبحث الول ـ جناية الحيوان ‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن حارس الحيوان (المالك أو الراكب أو السائس أو غيرهم من كل حائز ذي يد‬
‫بصفة الرهن أو العارة أو الجارة أو الغصب) هو الضامن لما يتلفه الحيوان إذا كان متسببا في‬
‫إحداث الضرر‪ ،‬بأن تعمد التلف أو الجناية‪ ،‬بواسطة الحيوان‪ ،‬أو قصر في حفظه مع بعض الشروط‬
‫أو القيود أحيانا‪ ،‬التي أبينها أثناء توضيح آراء الفقهاء فيما يأتي‪:‬‬
‫فإن لم يكن متسببا في الضرر‪ ،‬فإن الفقهاء اختلفوا في شأن تضمين القائم على الحيوان (ملكا أو‬
‫حيازة)‪.‬‬
‫‪ - 1‬قال الحنفية (‪ : )1‬إما أن يكون الحيوان عاديا أو خطرا ‪:‬‬
‫أ ـ فإن كان الحيوان عادِيَا ( متعديا أو مؤذيا) ‪ ،‬فأتلف شيئا بنفسه‪ ،‬مالً أو إنسانا‪ ،‬فل ضمان على‬
‫ل أو نهارا‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬العجماء جُرْحها جُبَآر» (‪)2‬‬
‫حارسه‪ ،‬سواء وقع العتداء لي ً‬
‫أي المنفلتة هدَر ل يغرم‪.‬‬
‫فإن كان صاحبه معه سائقا أو راكبا أو قائدا‪ ،‬أو أرسله وأتلف شيئا فور إرساله ونحوه‪ ،‬ضمن ما‬
‫يتلفه‪.‬‬
‫وإذا أتلف الحيوان شيئا في المراعي المباحة أو أثناء السير في الطرقات العامة أو أثناء ربطه في‬
‫السواق العامة أو المرابض المخصصة لربط الحيوانات‪ ،‬ل ضمان فيه‪ ،‬كما لو كان لقرية خيول أو‬
‫بقر في المرعى‪ ،‬فعض أحدها أو ضرب برجله‪ ،‬فأتلف حيوان شخص آخر‪ ،‬ل ضمان على صاحبه‪.‬‬
‫وذلك بخلف المحل المملوك‪ ،‬فإن الضمان على غير المالك‪ ،‬كأن يكون لرجل مربط‪ ،‬فيجيء آخر‪،‬‬
‫ويربط دابته عند دابة المالك‪ ،‬فتتلف دابة المالك‪ ،‬فالضمان على المعتدي‪ ،‬ول ضمان على المالك إذا‬
‫أتلف دابته دابة الخر (‪. )3‬‬
‫ب ـ وأما إن كان الحيوان خطرا‪ :‬كالثور والكلب العقور‪ ،‬فيضمن صاحبه أو حارسه ما يتلفه إذا لم‬
‫يحفظه‪ ،‬إذا تقدم إليه الناس الراغبون بدفع الذى عنهم‪ ،‬وأشهدوا على تقدمهم‪ ،‬طالبين منع أذى هذا‬
‫الحيوان كما في الحائط المائل‪ .‬فإن لم يفعل‪ ،‬كان مقصرا في حفظه‪ ،‬فيضمن بالتسبب لتعديه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 272/7 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ 427/5 :‬وما بعدها‪ ،‬درر الحكام‪ 111/2 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫جامع الفصولين‪ ،119 ،114/2 :‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪.191 ،185‬‬
‫(‪ )2‬رواه الئمة الستة عن أبي هريرة (نصب الراية‪.)387/4 :‬‬
‫(‪ )3‬القواعد الفقهية للحمزاوي‪ :‬ص ‪.195‬‬

‫( ‪)7/680‬‬

‫هذا ما لم يكن الكلب كلب حراسة بستان أو حقل عنب مثلً‪ ،‬فل يضمن صاحبه شيئا مطلقا‪ ،‬سواء‬
‫تقدم إليه الناس وأشهدوا على تقدمهم أم ل (‪. )1‬‬
‫وأما إن قام صاحب الحيوان أو حارسه بإرسال طير‪ ،‬أو دابة‪ ،‬أو إشلء كلب أو إغراء حيوان‪،‬‬
‫فأصاب إنسانا‪ ،‬فيضمن مايتلفه بكل حال أي مطلقا‪ ،‬سواء أكان سائقا له أم قائدا أم ل‪ ،‬بسبب التعدي‪.‬‬
‫وهذا قول أبي يوسف‪ ،‬وبه أخذ عامة مشايخ الحنفية‪ ،‬وعليه الفتوى (‪. )2‬‬
‫‪ - 2‬وقال المالكية في الراجح عندهم‪ ،‬والشافعية والحنابلة (‪ : )3‬إن ما تفسده البهائم من الزروع‬
‫والشجر ونحوه مضمون على صاحبها‪ ،‬أو راعيها أو ذي اليد عليها إن لم يوجد صاحبها إذا وقع‬
‫الضرر ليلً‪ ،‬ول ضمان على ما تتلفه نهارا إذا لم يكن معها صاحبها‪ .‬فإن كان معها صاحبها أو ذو‬
‫اليد الحائز كالغاصب والمستأجر والمستعير راكبا أو سائقا أو قائدا‪ ،‬فهو ضامن لما تفسده من النفوس‬
‫والموال‪ ،‬لما روي أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا (بستانا) فأفسدت فيه‪ ،‬فقضى نبي ال صلّى‬
‫ال عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار‪ ،‬وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها‬
‫( ‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رد المحتار والدر المختار‪ 432/5 :‬وما بعدها‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬ل يضمن حتى في حالة الشلء‬
‫(البدائع‪.)273/7 :‬‬
‫(‪ )2‬رد المحتار على الدر المختار‪ ،430/5 :‬البدائع‪ ،273/7 :‬تكملة الفتح‪.350/8 :‬‬
‫(‪ )3‬المنتقى على الموطأ‪ ،61/6 :‬الشرح الكبير‪ ،358/4 :‬بداية المجتهد‪ ،317 ،408/2 :‬القوانين‬
‫الفقهية‪ :‬ص ‪ ،333‬الفروق للقرافي‪ ،186/4 :‬فتح العزيز شرح الوجيز‪ ،246/11 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ 204/4‬وما بعدها‪ ،‬تحفة الطلب للنصاري‪ ،446/2 :‬نهاية المحتاج‪ ،113/4 :‬المهذب‪،226/2 :‬‬
‫المغني‪ ،336/8 ،283/5 :‬أعلم الموقعين‪ ،25/2 :‬كشاف القناع‪ ،139/4 :‬الطرق الحكمية‪ :‬ص‬
‫‪ ،283‬الفصاح لبن هبيرة‪ :‬ص ‪ ،275‬الميزان‪.174/2 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان‬
‫وصححه‪ .‬والحاكم والبيهقي من حديث حِرام بن مُحيّصة‪.‬‬

‫( ‪)7/681‬‬

‫أما البهائم والجوارح الضارية (أي معتادة الجناية) فيضمن صاحبها مطلقا ماتتلفه من مال أو نفس‬
‫لتفريطه‪.‬‬
‫ضمان الراكب ومن في معناه وحوادث التصادم‪ :‬أورد فقهاء الحنفية أمثلة فقهية واقعية لتحديد‬
‫الضامن في حوادث السير والركوب والتصادم وإتلف الحيوان‪ ،‬ويمكن معرفة أحكامها في ضوء‬
‫القواعد الفقهية التالية وهي‪:‬‬
‫«ما ل يمكن الحتراز عنه ل ضمان فيه» « يضاف الفعل إلى المتسبب ما لم يتخلل واسطة» ‪،‬‬
‫«المتسبب ل يضمن إل بالتعدي» ‪« ،‬المباشر ضامن وإن لم يتعدّ» ‪« ،‬إذا اجتمع المباشر والمتسبب‬
‫يضاف الحكم إلى المباشر» ‪ ،‬تضمين المتسبب والمباشر معا عند تعدي كل منهما‪.‬‬
‫ل ـ (مال يمكن الحتراز عنه ل ضمان فيه ) ‪:‬‬
‫أو ً‬
‫ومعناها أن كل ما يشق البعد عنه ل يكون سببا موجبا للضمان‪ ،‬لنه من الضرورات‪ ،‬ولن ما‬
‫يستحق على المرء شرعا يعتبر فيه الوسع والطاقة‪ .‬وأما ما يمكن تجنبه أو الحتياط عنه فيكون سببا‬
‫موجبا للضمان‪.‬‬
‫وبناء عليه (‪ ، )1‬للناس النتفاع بالمرافق العامة كالطرقات مشيا أو ركوبا بشرط السلمة‪ ،‬وعدم‬
‫الضرار بالخرين بما يمكن التحرز عنه‪ ،‬دون ما ل يمكن التحرز عنه‪ ،‬حتى يتيسر للناس سبيل‬
‫النتفاع‪ ،‬ويتهيأ لهم ممارسة حقوقهم وحرياتهم على أساس العدل والمن والستقرار‪.‬‬
‫فما تولد من سير الماشي أو الراكب من تلف‪ ،‬مما يمكن الحتراز عنه‪ ،‬فهو مضمون‪ .‬وما ل يمكن‬
‫الحتراز عنه‪ ،‬فليس بمضمون‪ ،‬إذ لو جعلناه مضمونا‪ ،‬لصار الشخص ممنوعا عن السير‪ ،‬وهو‬
‫مأذون به‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ 188/26 ،103/15 :‬ومابعدها‪ ،‬البدائع‪ 272/7 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪،149/6 :‬‬
‫مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪ ،165 ،47‬دررالحكام‪ 111/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ 427/5 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫تكملة فتح القدير‪ 345/8 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/682‬‬

‫ـ فما أثارت الدابة بسنابكها من الغبار‪ ،‬أو الحصى الصغار‪ ،‬ل ضمان فيه‪ ،‬لنه ل يمكن الحتراز‬
‫عنه وهو أمر معتاد‪ .‬وأما الحصى الكبار أو الغبار الزائد عن المعتاد فيجب الضمان فيهما؛ لنه يمكن‬
‫التحرز عن إثارتهما‪.‬‬
‫وكذلك يضمن الراكب إذا ركب دابة نزقة ل يؤثر بها كبح اللجام‪ ،‬لخروج ذلك عن المعتاد‪ .‬ولو كبح‬
‫الدابة باللجام‪ ،‬فنفحت (‪ )1‬برجلها أو بذنبها‪ ،‬ومثله البول والروث واللعاب‪ ،‬فهو هَدر ل ضمان فيه‬
‫لعموم البلوى به‪ ،‬ولن الحتراز عنه غير ممكن‪ ،‬ولقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬الرِجْل جبار» (‪)2‬‬
‫أي نفحها‪ .‬فإن أوقفها صاحبها في الطريق‪ ،‬ضمن النفحة؛ لنه يمكن التحرز عن اليقاف والوقوف‪.‬‬
‫ـ ويضمن الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت دابته بيد أو رجل أو رأس‪ ،‬أو كدمت (‪ ، )3‬أو‬
‫صدمت بصدرها‪ ،‬أو خبطت بيدها؛ لن الحتراز عن ذلك ممكن؛ لنه ليس من ضرورات السير في‬
‫الطريق‪.‬‬
‫وهذا هو مذهب الشافعية‪ ،‬ويلحظ أنه ل ضمان على الراكب عند المالكية في هذه الحوال عملً‬
‫بحديث‪« :‬العجماء جرحها جبار» وفرق الحنابلة بين ما‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أي ضربت برجلها‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود والدارقطني والنسائي من حديث أبي هريرة‪ ،‬ولكن تكلم الناس في هذا الحديث‪،‬‬
‫وفيه ضعف ( نصب الراية‪.)387/4 :‬‬
‫(‪ )3‬الكدم‪ :‬العض بأدنى الفم كما يكدم الحمار‪ ،‬وبابه ضرب ونصر‪.‬‬

‫( ‪)7/683‬‬

‫جنت الدابة بيدها فيضمنه الراكب‪ ،‬وما جنت برجلها فل ضمان عليه‪ ،‬عملً بحديث‪« :‬الرِجْل جبار»‬
‫(‪ )1‬ومفهومه وجوب الضمان في جناية غير ال ِرجْل (‪. )2‬‬
‫ـ ويضمن صاحب الدابة ما تتلفه بالوطء والصدم ونحوهما إذا أوقفها في الطريق العام أو المحجة‬
‫(جادة الطريق) التي لم يؤذن فيها بالوقوف‪ ،‬أو على باب المسجد لنه متع ٍد في الوقوف‪.‬‬
‫ـ ولكن ل ضمان عليه إذا أوقف الدابة في السواق أو الماكن المخصصة من قبل السلطات للوقوف‬
‫(أو المأذون بها من جهته كالمحطات الجانبية) أو في الفلة؛ لن الوقوف فيها مباح لعدم الضرار‬
‫بالناس‪ .‬فإن كان راكبا عليها فوطئت إنسانا فقتلته يضمن؛ لنه قتل بطريق المباشرة‪.‬‬
‫ـ ول ضمان عليه أيضا إذا أوقف الدابة أو سار بها أو ساقها أو قادها في ملكه الخاص‪ ،‬إل ما تحدثه‬
‫باليطاء برجلها أو بيدها‪ ،‬وهو راكبها‪ ،‬فيضمن ماتحدثه؛ لنه تصرف في ملكه الخاص‪ ،‬فل يتقيد‬
‫تصرفه بشرط السلمة‪ ،‬أما الوطء فهو بمنزلة فعله لحصول الهلك بثقله‪ ،‬ومن تعدى على الغير في‬
‫دار نفسه‪ ،‬يضمن‪.‬‬
‫ـ والسائق والقائد والرديف كالراكب‪ ،‬إل أن الفرق أن الراكب قاتل بوطء الدابة بثقله وفعله‪ ،‬أي أنه‬
‫مباشر‪ ،‬وليس بمتسبب‪ .‬والسائق ونحوه متسبب‪ .‬فتجب الكفارة على الراكب في ملكه أو في غير ملكه‬
‫دون السائق والقائد‪.‬‬
‫فإذا قاد الرجل قافلة (قطارا) من الدواب‪ ،‬فما أوطأته دابته يكون ضامنا‪ .‬وكذا إذا صدم إنسانا؛ لن‬
‫القائد مقرب للبهيمة إلى الجناية‪ ،‬وهذا مما يمكن الحتراز عنه في الجملة‪ ،‬بأن يذود الناس عن‬
‫الطريق‪.‬‬
‫ـ ولو نفرت الدابة أو انفلتت من حارسها (المالك أو غيره)‪ :‬فما أصابت في فورها‪ ،‬فل ضمان عليه‬
‫لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬العجماء جبار» أي البهيمة جُرْحها جُبَار‪ :‬هدر‪ ،‬ولنه ل صنع له في‬
‫َنفَارها وانفلتها‪ ،‬ول يمكنه الحتراز عن فعلها‪ ،‬فل يكون الناشئ عنه مضمونا‪.‬‬
‫ـ ولو أرسل دابته‪ ،‬فما أصابت من فورها‪ ،‬ضمن؛ لن سيرها في فورها مضاف إلى إرسالها‪،‬‬
‫فكانت متعديا في الرسال‪ ،‬فصار كالدافع لها‪ ،‬أو كالسائق‪ .‬فإن عطفت (مالت أو تحولت) يمينا أو‬
‫شمالً‪ ،‬ثم أصابت شيئا ففيه احتمالن‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه سعيد بن منصور بإسناده عن هزيل بن شرحبيل‪ ،‬كما روي عن أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ 338/8 :‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/684‬‬

‫إن لم يكن لها طريق آخر إل ذاك‪ ،‬وجب الضمان على المرسل؛ لنها باقية على الرسال‪.‬‬
‫وإن كان لها طريق آخر‪ ،‬ل يضمن مرسلها؛ لنه انقطع أثر الرسال‪ ،‬وصارت كالمنفلتة‪.‬‬
‫وفي كل هذه الحوال‪ :‬ما كان من جناية الحيوان على بني آدم‪ ،‬فهو على العاقلة؛ لن حائز الحيوان‬
‫متسبب متعد‪ .‬وما كان على المال‪ ،‬فهو على المسؤول عن الحيوان‪ ،‬في ماله‪ ،‬حالً‪ ،‬أي أن ضمان‬
‫النفس على العاقلة‪ ،‬وضمان المال في مال المتعدي‪ .‬وهذا ما نص عليه الحنفية والشافعية (‪. )1‬‬
‫ثانيا ـ ضمان المتسبب وحده‪:‬‬
‫المتسبب‪ :‬هو من يفعل فعلً يؤدي إلى ضرر ما‪ ،‬ولكن بواسطة أخرى‪ .‬ويضمن المتسبب أثر فعله‬
‫بشرطين‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬إذا كان متعديا‪ ،‬والتعدي‪ :‬هو فعل السبب بغير حق‪ ،‬سواء أكان متعمدا الضرر أم ل يقصد‬
‫الضرر‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬وإذا كان هو العامل الهم في إحداث الضرر‪ ،‬بأن يغلب السبب المباشرة‪ ،‬كما في المثلة التالية‪:‬‬
‫ـ من ضرب دابة عليهاراكب‪ ،‬أو نخسها بعود بل إذن الراكب‪ ،‬فنفحت شخصا أو ضربته برجلها أو‬
‫بذنبها‪ ،‬أو نفرت‪ ،‬فصدمت إنسانا في فور النخسة‪ ،‬ضمن الناخس أو الضارب‪ ،‬دون الراكب؛ لن‬
‫الول متعد في فعله‪ ،‬فما تولد عنه‪ ،‬مضمون عليه‪ ،‬والراكب ليس بمتعد‪ ،‬فترجح جانب الناخس في‬
‫التغريم للتعدي‪ .‬ويلحظ أن اشتراط كون النفحة فور النخس أمر ضروري ليتوافر معنى السببية في‬
‫إحداث الضرر (‪. )2‬‬
‫فإذا انقطع الفور بعد النخس‪ ،‬فينسب الضرر إلى اختيار الدابة‪ ،‬ل إلى الناخس‪.‬‬
‫وإذا حدث النخس أو الضرب بأمر الراكب‪ ،‬فنفحت الدابة برجلها إنسانا‪ ،‬فقتلته‪ :‬فإن وقع الفعل في‬
‫مكان مأذون فيه فل ضمان‪ .‬كأن كان الراكب يسير في الطريق‪ ،‬أو كان واقفا في ملكه الخاص‪ ،‬أو‬
‫في موضع قد أذن فيه بالوقوف من السواق العامة ونحوها؛ لن الناخس فعل بأمر الراكب فعلً‬
‫يملكه الراكب‪ ،‬فصار فعله كفعل الراكب نفسه‪ ،‬وفعل الراكب حينئذ ل يضمن‪ ،‬فل يضمن مثله‪.‬‬
‫أما إن وقع النخس في مكان لم يؤذن بالوقوف فيه‪ ،‬كالطريق العام‪ ،‬فيشترك‬
‫الناخس والراكب في الضمان‪ ،‬وتكون دية المجني عليه مثلً عليهما مناصفة‪ .‬وسأذكر أمثلة أخرى في‬
‫حال اشتراك المتسبب والمباشر في الضمان‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مراجع الحنفية السابقة‪ ،‬مغني المحتاج‪.204/4 :‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،2/27 :‬درر الحكام‪ 113/2 :‬ومابعدها‪ ،‬الدر المختار‪ 430/5 :‬وما بعدها‪ ،‬مجمع‬
‫الضمانات‪ :‬ص ‪ ،187‬تكملة الفتح‪.352/8 :‬‬

‫( ‪)7/685‬‬

‫ثالثا ـ ضمان المباشر وحده‪:‬‬


‫المباشر‪ :‬هو الذي حصل الضرر بفعله بل واسطة‪ ،‬أي دون تدخل فعل شخص آخر مختار‪ .‬ويكون‬
‫هو الضامن إذا كان السبب ل ينفرد بالتلف إذا ترك وحده دون مباشرة‪ ،‬أي أنه كان هو المؤثر‬
‫القوى في إحداث الضرر‪ ،‬ودور السبب ضعيف إذا قورن به‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬إذا كان هناك قائد قطار (‪ )1‬إبل‪ ،‬وكانت البل وقوفا لتقاد‪ ،‬فجاء رجل‪ ،‬وربط إليها بعيرا‪،‬‬
‫والقائد ل يعلم‪ ،‬فقاد البعير معها‪ ،‬فوطئ البعير إنسانا‪ ،‬فقتله‪ ،‬فالدية على القائد‪ ،‬تتحملها عنه عاقلته ول‬
‫ترجع على عاقلة الرابط بشيء؛ لن الرابط‪ ،‬وإن تعدى في الربط‪ ،‬وكان سببا لوجوب الضمان‪ ،‬لكن‬
‫القائد لما قاد البعير عن ذلك المكان الذي كانت البل واقفة فيه‪ ،‬قد أزال تعديه‪ ،‬فيزول الضمان عنه‪،‬‬
‫ويتعلق بالقائد‪ ،‬كمن وضع حجرا في الطريق‪ ،‬فجاء إنسان ‪ ،‬فدحْرَجَه عن مكانه‪ ،‬ثم عطب به إنسان‪،‬‬
‫فالضمان على الثاني‪ ،‬ل على الول‪.‬‬
‫أما لو كانت البل سائرة‪ ،‬وجاء رجل وربط مع آخرها بعيرا‪ ،‬فوطئ البعير إنسانا‪ ،‬ضمنت عاقلة‬
‫القائد الدية‪ ،‬ثم رجعت بها على عاقلة الرابط؛ لن الرابط متعد في الربط‪ ،‬وهو المتسبب القوى في‬
‫إلزام الضمان‪ ،‬فيستقر الضمان عليه (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬قطار البل‪ :‬قال في المغرب‪ :‬القطار‪ :‬البل تقطر على نسق واحد‪ ،‬والجمع قطر مثل كتب‪.‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار‪ ،430/5 :‬البدائع‪.281/7 :‬‬

‫( ‪)7/686‬‬

‫رابعا ـ ضمان المتسبب والمباشر معا ‪:‬‬


‫يضمن المتسبب والمباشر بالشتراك معا إذا تساوى أو تعادل أثرهما في الفعل الذي يترتب عليه‬
‫إحداث الضرر‪ .‬وعلى حد تعبير الحنفية والشافعية‪ :‬يضمن المتسبب مع المباشر إذا كان للسبب تأثير‬
‫يعمل بانفراده في التلف متى انفرد عن المباشرة‪ .‬أي أن اشتراك المتسبب مع المباشرة في الضمان‬
‫مشروط عندهم بأن يكون السبب مما يعمل بانفراده‪ .‬وعند المالكية والحنابلة (‪ )1‬مشروط بأن تكون‬
‫المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه‪ ،‬بحيث لو تخلفت السببية لزالت علة التلف كاشتراك المكره‬
‫والمستكره في القصاص والضمان‪ ،‬واشتراك الممسك مع القاتل في رواية عند الحنابلة‪ ،‬وفي الرواية‬
‫الخرى‪ :‬يختص المباشر بالعقوبة‪ ،‬ويحبس الممسك حتى يموت‪ ،‬وكما لو دل الوديع لصا على الوديعة‬
‫فسرقها‪.‬‬
‫وأمثلة الحنفية هي ما يأتي (‪: )2‬‬
‫ـ لو اجتمع على قيادة الدابة سائق وراكب‪ ،‬أوقائد وسائق (‪، )3‬فالضمان عليهما؛ لن سَوق الدابة‬
‫يؤدي إلى التلف‪ ،‬وإن لم يكن هناك شخص راكب عليها‪ .‬وقائد قطار البل والسائق سواء في‬
‫الضمان؛ لن على القائد الحفظ كالسائق‪ ،‬فيصير متعديا بالتقصير فيه‪ ،‬والتسبب بوصف التعدي سبب‬
‫الضمان‪ .‬لكن ضمان النفس على العاقلة‪ ،‬وضمان المال في مال المتعدي كما تقدم‪.‬‬
‫ـ وكذلك إذا نخس شخص الدابة أو ضربها بأمر راكبها‪ ،‬يكون الضمان على الثنين؛ لن الناخس‬
‫بمنزلة السائق‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبيين الحقائق‪ ،150/6 :‬رد المحتار‪ ،428/5 :‬أشباه ابن نجيم‪ ،78/2 :‬الفروق‪ ،31/4 :‬القواعد‬
‫لبن رجب‪ :‬ص ‪.285‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار ‪ ،428/5 :‬تكملة فتح القدير‪ ،354/8 :‬تبيين الحقائق‪ :‬المكان السابق‪ ،‬المبسوط‪:‬‬
‫‪ 2/27‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ ،280/7 :‬اللباب شرح الكتاب‪.164/3 :‬‬
‫(‪ )3‬القود‪ :‬أن يكون الرجل أمام الدابة آخذا بقيادتها‪ .‬والسوق‪ :‬أن يكون خلفها‪.‬‬

‫( ‪)7/687‬‬
‫ـ ولو نخس الدابة بغير أمر الراكب‪ ،‬فوطئت إنسانا بقدمها أثناء الدفع‪ ،‬فمات‪ ،‬فالضمان عليهما؛ لن‬
‫الموت حصل بسبب فعل الناخس‪ ،‬وثقل الراكب‪ .‬والرديف كالراكب‪.‬‬
‫إل أن الراكب يختلف عن الناخس والسائق أو القائد في إيجاب الكفارة عليه‪ ،‬وحرمانه من الميراث‬
‫والوصية عند الحنفية لمباشرته القتل‪ ،‬وأما غيره فهو متسبب‪ ،‬والمتسبب ل كفارة عليه ول يحرم‬
‫الميراث والوصية‪.‬‬
‫وفي قيادة قطار البل يجب الضمان على القائد فيما أوطأه أو أصابه أو صدمه البعير الول أو‬
‫الوسط أو الخير؛ لنه فعل فعلً سبب حصول التلف وهو مما يمكن الحتراز عنه‪ .‬ول يختلف‬
‫الحكم كيفما كان السائق في الوسط أو الخر‪.‬‬
‫ـ ولو كان على القطار محامل (‪ )1‬فيها أناس نيام أوغير نيام‪ ،‬مشتركون في القود أو السوق‪ ،‬فهم‬
‫شركاء السائق والقائد في الضمان‪ .‬وعلى الركبان وحدهم الكفارة‪ .‬فإذا لم يكن من المحامل اشتراك‬
‫في القود أو السوق‪ ،‬فهم كالمتاع‪ ،‬ل شيء عليهم‪.‬‬
‫ويلحظ أن هذه الحكام ل تنطبق على السيارات اليوم‪ ،‬لعدم اشتراك الركاب مع السائق في شيء‪،‬‬
‫فتكون مسؤولية الضمان على السائق وحده‪.‬‬
‫التصادم‪ :‬إذا تصادم راكبان أو فارسان أو ملحان أو سائقا سيارة أو ماشيان أو راكب وماشٍ‪ ،‬فماتا‪،‬‬
‫أو تلف شيء بسبب التصادم‪ ،‬وجب على كل واحد‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫حمِل‪ :‬وهو الهودج‪.‬‬
‫(‪ )1‬المحامل جمع مَ ْ‬

‫( ‪)7/688‬‬

‫منهما عند الحنفية والحنابلة (‪ )1‬تحمل تبعة الضمان كاملة للخر‪ ،‬لكن في الموت تتحمل عاقلة كل‬
‫واحد منهما دية الخر‪ ،‬واليوم يتحمل كل واحد ل عاقلته تبعة فعله‪ .‬وفي التلف يجب على كل‬
‫منهما تعويض ضرر الخر؛ لن الضرر قد حدث لكل واحد منهما بفعل نفسه وبفعل صاحبه أيضا‪.‬‬
‫هذا إذا كان التصادم خطأ‪ ،‬فإن كان عمدا وجب عند الحنفية تحمل نصف قيمة الضمان‪ ،‬أي نصف‬
‫الدية أو التعويض المالي‪.‬‬
‫ويرى المالكية (‪ : )2‬أنه إذا تصادم الفارسان‪ ،‬فإن كان عمدا وماتا فل قصاص لفوات محله‪ ،‬وإن‬
‫مات أحدهما اقتص من الخر له‪ .‬وإن كان خطأ ومات كل واحد منهما‪ ،‬فعلى كل واحد منهما دية‬
‫الخر‪ ،‬وتتحملها عنه العاقلة‪ ،‬كما قال الحنفية‪ .‬فإن تصادمت سفينتان فتلفتا أو تلفت إحداهما فهدر‪ ،‬ل‬
‫قود ول ضمان؛ لن جريهما بالريح‪ ،‬وليس من عمل أربابهما (‪. )3‬‬
‫وقال الشافعية‪ ،‬وزفر الحنفي (‪ : )4‬إذا اصطدم فارسان أو ماشيان‪ ،‬أو سفينتان بتفريط من ربانهما‪،‬‬
‫بأن قصرا في صيانة آلتهما‪ ،‬أو قدرا على ضبطهما فلم يضبطا‪ ،‬أو سيرا المركبين في ريح شديدة‬
‫لتسير السفن في مثلها‪ ،‬وجب على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف للخر (وكان في الماضي‬
‫الضمان على عاقلة كل منهما)؛ لن التلف حصل بفعلهما‪ ،‬أي أن كل واحد هلك بفعله وفعل صاحبه‬
‫فيهدر النصف‪ ،‬وينقسم الضمان عليهما‪ ،‬ويهدر النصف الخر بسبب فعل كل واحد في حق نفسه‪.‬‬
‫وعند الشافعية يجب نصف الدية مغلظة على عاقلة كل منهما لورثة الخر؛ لن القتل شبه عمد؛ إذ‬
‫الغالب أن الصطدام ل يفضي إلى الموت‪ ،‬فل يتحقق فيه العمد المحض‪ ،‬فل يتعلق به القصاص‪.‬فإن‬
‫حدث التصادم بين السفينتين دون تفريط‪ ،‬وإنما بقوة قاهرة كريح شديدة عصفت‪ ،‬فل ضمان على أحد‪.‬‬
‫أما إذا كان المخطئ أحد المتصادمين‪ ،‬كان الضمان عليه باتفاق الفقهاء‪ ،‬كما لو صدم الماشي واقفا‪،‬‬
‫فالضمان على الماشي؛ لنه هو المتسبب‪ ،‬ولو صدمت سفينة جائية سفينة واقفة‪ ،‬كان الضمان على‬
‫صاحب السفينة الجائية إذا لم تكن الواقفة متعدية في وقوفها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،428/5 :‬تكملة الفتح‪ ،348/8 :‬الكتاب مع اللباب‪ ،168/3 :‬درر الحكام‪،112/2 :‬‬
‫مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪ ،150‬المغني‪ 340/8 :‬ومابعدها‪ ،‬غاية المنتهى‪ ،282/3 :‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪.144/4‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،409/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،332‬الشرح الكبير للدردير‪ 247/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )4‬المهذب‪ ،194/2 :‬مغني المحتاج‪ 89/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/689‬‬

‫المبحث الثاني ـ جناية الحائط المائل ونحوه مما يحدثه الرجل في الطريق ـ سقوط البناء أو الجدار‪:‬‬
‫يجب في الجملة في حالة سقوط البناء الضمان على المتسبب في إحداث الضرر‪ ،‬إما لنه يمكن‬
‫الحتراز عنه‪ ،‬أو بسبب تقصيره وإهماله‪ .‬وإذا حدث موت‪ ،‬فالدية تجب على عاقلة مالك البناء‪ ،‬لنه‬
‫متسبب‪ .‬لكن ل تجب عليه الكفارة ول يحرم من الميراث والوصية عند الحنفية‪ ،‬كما هو المقرر‬
‫عندهم في حالة القتل بالتسبب‪ ،‬وعلى هذا إذا كانت الجناية على نفس فالواجب هو الدية‪ ،‬وإذا كانت‬
‫على ما دون النفس فالواجب بها الرش على العاقلة إن بلغ عند الحنفية نصف عشر دية الرجل‬
‫وعشر دية النثى‪ .‬وإن كانت الجناية على المال فيجب التعويض في مال المتسبب‪ .‬وسقوط البناء‪ :‬إما‬
‫أن يكون بسبب خلل أصلي عند النشاء‪ ،‬أو بسبب خلل طارئ (‪. )1‬‬
‫المطلب الول ـ سقوط البناء أو الجدار بسبب خلل أصلي فيه ‪:‬‬
‫ل خلف بين الفقهاء في وجوب ضمان الضرر الحادث بسبب سقوط البناء أو الجدار الذي بناه‬
‫صاحبه مائلً إلى الطريق العام أو إلى ملك غيره؛ لنه متعد بفعله‪ ،‬فإنه ليس لحد النتفاع بالبناء في‬
‫هواء ملك غيره‪ ،‬أو هواء مشترك‪ ،‬ولنه ببنائه المشتمل على الخلل يعرضه للوقوع على غيره في‬
‫غير ملكه (‪. )2‬‬
‫ومثله‪ :‬ما تولد من جناح (‪ )3‬إلى شارع‪ ،‬سواء أكان يضر أم ل‪ ،‬أذن فيه المام أم ل‪،‬أو ما يتلف‬
‫بالميازيب المخرجة إلى الشارع أو بما سال من مائها؛ لنه ارتفاق بالشارع‪ ،‬والرتفاق بالشارع‬
‫مشروط بسلمة العاقبة‪ ،‬فكل ما يحدث يكون صاحبه ضامنا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.283/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،283/7 :‬المغني‪ 827/7 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪.86/4 :‬‬
‫(‪ )3‬جناح بفتح الجيم‪ :‬هو البارز عن سمت الجدار من خشب أو غيره‪.‬‬

‫( ‪)7/690‬‬

‫ومثله أيضا‪ :‬لو طرح ترابا بالطريق ليطين به سطحه‪ ،‬أو وضع حجرا أو خشبة أو متاعا فزلق به‬
‫إنسان‪ ،‬ضمنه‪ .‬وكذلك لو طرح قمامات (كناسة) وقشور بطيخ في طريق‪ ،‬أو صب ماء في الطريق‪،‬‬
‫فتلف بفعله شيء‪ ،‬أو قعد في الطريق للستراحة أو لمرض فعثر به عابر‪ ،‬فوقع فمات أو وقع على‬
‫غيره فقتله‪ ،‬يكون مضمونا؛ لن النتفاع بالطريق مشروط بسلمة العاقبة؛ ولن فيه ضررا على‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ومن حفر بئرا عدوانا كحفرها في ملك غيره بغير إذنه‪ ،‬أو في شارع ضيق أو واسع لمصلحة نفسه‬
‫بغير إذن المام‪ :‬ضمن ما تلف فيها من آدمي أو غيره (‪ . )1‬والمراد بالضمان‪ :‬الدية ـ دية شبه‬
‫عمد في القتل‪ ،‬والتعويض المالي في التلفات المالية‪ .‬وكل ما ذكر ضمان بالتسبب ‪ ،‬والقاعدة تقول‪:‬‬
‫«يضاف الفعل إلى المتسبب ما لم يتخلل واسطة» ‪.‬‬
‫ودليل الضمان في تلك الحالت وأمثالها هو قوله عليه الصلة والسلم‪« :‬ل ضرر ول ضرار في‬
‫السلم» (‪. )2‬‬
‫المطلب الثاني ـ سقوط البناء أو الجدار بسبب خلل طارئ عليه ‪:‬‬
‫إذا بنى الشخص بناءه أو حائطه مستويا أو مستقيما‪ ،‬ثم مال إلى الطريق أوإلى دار إنسان‪ ،‬أو تشقق‬
‫بالعرض ل بالطول‪ ،‬فسقط على شيء فأتلفه‪ ،‬ففي ضمان الشيء المتلف رأيان للفقهاء‪:‬‬
‫‪ - 1‬مذهب الشافعية والراجح عند الحنابلة (‪ : )3‬ل ضمان به في هذه الحالة؛ لن صاحبه تصرف‬
‫في ملكه‪ ،‬والميل لم يحصل بفعله‪ ،‬فأشبه ما إذا سقط بل ميل‪ ،‬سواء أمكنه هدمه وإصلحه أم ل‪،‬‬
‫وسواء طولب بالنقض أم ل‪.‬‬
‫‪ - 2‬مذهب الحنفية والمالكية (‪ : )4‬في المر تفصيل‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبيين الحقائق‪ ،145-142/6 :‬مغني المحتاج‪ ،85-82/4 :‬المغني‪ ،831-822/7 :‬المنتقى على‬
‫الموطأ‪ ،41/6 :‬البدائع‪ ،277/7 :‬اللباب شرح الكتاب‪.162/3 :‬‬
‫(‪ )2‬روي من حديث عبادة بن الصامت‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وأبي سعيد الخدري‪ ،‬وأبي هريرة‪ ،‬وأبي لبابة‪،‬‬
‫وثعلبة بن مالك‪ ،‬وجابر بن عبد ال ‪ ،‬وعائشة (راجع نصب الراية‪.)384/4 :‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،86/4 :‬المغني‪ ،828/7 :‬مجلة الحكام الشرعية للقاري (م ‪.)1445‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،283/7 :‬الدر المختار‪ ،424/5 :‬تكملة الفتح‪ 341/8 :‬ومابعدها‪ ،‬الكتاب مع اللباب‪:‬‬
‫‪.167/3‬‬

‫( ‪)7/691‬‬

‫أ ـ إن لم يطالب بنقضه‪ ،‬حتى سقط على إنسان‪ ،‬فقتله‪ ،‬أو على مال فأتلفه‪ ،‬فل ضمان؛ لنه بناه في‬
‫ملكه‪ ،‬والميل حادث بغير فعله‪ ،‬فأشبه ما لو وقع قبل ميله‪ ،‬كثوب ألقته الريح في يده‪ ،‬فما تولد منه‪ ،‬ل‬
‫يؤاخذ به‪.‬‬
‫ب ـ وأما إن طولب بنقضه‪ ،‬فلم يفعل‪ ،‬ثم سقط بعدئذ يمكنه فيها نقضه‪ ،‬فهو ضامن ما تلف به من‬
‫نفس أو مال؛ لنه حينئذ يصبح متعديا‪ ،‬كما لو امتنع عن تسليم (أو رد) ثوب ألقت به الريح في دار‬
‫إنسان‪ ،‬وطولب به‪ ،‬فهلك‪ ،‬يضمن‪ .‬ولن للناس حق المرور دون ضرر‪ ،‬وليس لحد منعهم منه‪.‬‬
‫أما إذا لم يفرط في نقضه‪ ،‬وذهب حتى يستأجر عاملً يهدمه‪ ،‬فسقط‪ ،‬فأفسد شيئا‪ ،‬فل شيء عليه؛ لن‬
‫الواجب عليه فقط إزالة الضرر بقدر المكان‪.‬‬
‫والمطالبة بالنقض أو الصلح هو المعروف بشرط التقدم‪ ،‬والتقدم‪ :‬هو التنبيه والتوصية أولً بدفع‬
‫وإزالة مضرة مظنونة (م ‪ 889‬مجلة)‪.‬‬
‫الشهاد على المطالبة بالنقض‪ :‬ل يشترط الشهاد لصحة التقدم أو المطالبة بالصلح‪ ،‬وإنما الشهاد‬
‫كما قال الحنفية أمر ضروري لثبات سبب الضمان أي لثبات حصول الطلب عند القاضي واللزام‬
‫بالضمان عند النكار‪ .‬فلو اعترف صاحب الدار أنه طولب بنقض الجدار‪ ،‬وجب عليه الضمان‪ ،‬وإن‬
‫لم يشهد عليه‪.‬‬
‫معنى الشهاد‪ :‬الشهاد هو أن يقول الرجل‪« :‬اشهدوا أني قد تقدمت إلى هذا الرجل في هدم حائطه‬
‫هذا» أي أن المعتبر هو المطالبة بالهدم (‪ . )1‬وتعتبر شهادة رجلين أو رجل وامرأتين على التقدم‪ ،‬أي‬
‫المطالبة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع هذا وما يأتي بعده في البدائع‪ ،284/7 :‬تكملة الفتح‪ ،342/8 :‬الدر المختار‪.425/5 :‬‬

‫( ‪)7/692‬‬

‫عناصر الشهاد ‪:‬‬


‫‪ - 1‬الذي يطالب بالشهاد‪ :‬إن كان ميلن الحائط إلى دار إنسان‪ ،‬فالشهاد إلى صاحب الدار إن كان‬
‫فيها‪ ،‬أو إلى الساكن إن كانت مسكونة‪ .‬وإن كان الميلن إلى الطريق العام‪ ،‬فالشهاد إلى كل من له‬
‫حق المرور‪ ،‬مسلما كان أو ذميا‪ .‬أما إن مال بعض البناء للطريق وبعضه لدار إنسان‪ ،‬فأي طلب من‬
‫إنسان يصح‪ ،‬لنه إذا صح الشهاد في البعض‪ ،‬صح في الكل‪.‬‬
‫‪ - 2‬المشهود عليه‪ :‬يصح الشهاد على من يملك نقض الجدار‪ ،‬وهو المالك‪ ،‬أو صاحب الولية على‬
‫الغير كالب والوصي وقيّم الوقف؛ لن المطالبة بالنقض ممن ل يملكه عبث ول فائدة منه‪ .‬فل يطالب‬
‫بالنقض المستأجر والمرتهن‪ ،‬والمستعير والوديع‪ ،‬لعدم وليتهم على النقض والتصرف‪ ،‬فكان الشهاد‬
‫عليهم وعدمه سواء‪.‬‬
‫فترة الطلب والشهاد‪ :‬ل يصح الطلب والشهاد إل بعد ميل البناء وقبل السقوط؛ لن ما قبل الميل ل‬
‫يوجد تعدٍ‪ ،‬وما بعد السقوط ل فائدة من الطلب‪ .‬كما ل تتحقق المسؤولية عن الضمان إل بعد مضي‬
‫مدة يقدر فيها صاحب الحائط على نقضه؛ لن الضمان يجب بترك النقض الواجب‪ ،‬ول وجوب من‬
‫دون المكان أو الستطاعة‪ .‬فلو ذهب يطلب من ينقضه أو يهدمه‪ ،‬فسقط الحائط‪ ،‬فتلف به شيء‪ ،‬فل‬
‫ضمان عليه؛ لنه لم يكن متعديا بالتفريط أو الهمال‪.‬‬
‫طلب التأجيل أو البراء بعد الشهاد‪ :‬إن كان ميل الحائط إلى دار إنسان من مالك أو ساكن‪ ،‬فطلب‬
‫منه الهدم وأشهد على طلبه‪ ،‬ثم طلب صاحب الحائط تأجيله أو إبراءه من الجناية‪ ،‬فأجل أو أبرأ‪،‬‬
‫صح؛ لن الحق الخاص يملك صاحبه التنازل عنه‪ .‬وأما إن كان الميل إلى الطريق‪ ،‬فأبرأ أو أجل‬
‫الذي طلب النقض أو أشهد على صاحب الحائط‪ ،‬وهو من له حق المرور‪ ،‬أو القاضي‪ ،‬فل يصح ول‬
‫يبرأ؛ لن هذا حق عام‪ ،‬والحق العام ل يملك أحد التنازل عنه‪ ،‬وتصرف القاضي في الحق العام نافذ‬
‫فيما ينفعهم ل فيما يضرهم (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪.425/5 :‬‬

‫( ‪)7/693‬‬

‫التصرف في البناء بعد الشهاد‪ :‬إذا تصرف صاحب الحائط أو الدار في البناء ببيع أو غيره كهبة‪،‬‬
‫بعد الشهاد‪ ،‬فسقط الحائط بعد قبض المشتري المبيع‪ ،‬أو بعد ما ملكه باليجاب والقبول قبل القبض‪،‬‬
‫في زمان ل يتمكن من نقضه‪ ،‬فل ضمان على صاحب الحائط الصلي‪ ،‬فيما هلك بسقوطه‪ ،‬لزوال‬
‫وليته بالبيع ونحوه‪ ،‬فل يملك النقض‪ ،‬فسقط حكم الشهاد‪ ،‬حتى إنه لو رد المبيع على البائع بقضاء‬
‫أو غيره أو بخيار شرط أو رؤية للمشتري‪ ،‬لم يضمن البيع‪ ،‬إل إذا طولب بعد الرد‪ .‬وأما إن كان‬
‫الخيار للبائع ونقض البيع‪ ،‬ثم سقط الحائط وأتلف شيئا‪ ،‬كان ضامنا؛ لن خيار البائع ل يلغي ولية‬
‫الصلح‪ ،‬فل يلغي الشهاد‪.‬‬
‫فإن سقط الحائط بعد تفريط صاحبه قبل البيع‪ ،‬التزم بالضمان‪ .‬ويعتبر الجنون والردة مثل التصرف‬
‫بالبناء‪ ،‬فلو جن صاحب الحائط جنونا مطبقا أو ارتد ولحق بدار الحرب‪ ،‬ثم أفاق من جنونه‪ ،‬أو عاد‬
‫مسلما وردت عليه الدار‪ ،‬ل يضمن إل بإشهاد جديد في المستقبل (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬المغني‪.829/7 :‬‬

‫( ‪)7/694‬‬

‫صلُ الخامس‪ :‬طرق إثبات الجناية‬


‫ال َف ْ‬
‫فيه مبحثان‪:‬‬
‫المبحث الول ـ لمحة إجمالية عن طرق الثبات العامة‪.‬‬
‫المبحث الثاني ـ إثبات القتل بطريق خاص ـ القسامة‪.‬‬
‫المبحث الول ـ لمحة إجمالية عن طرق الثبات العامة ‪:‬‬
‫ل حظنا في أثناء الكلم عن الحدود أن الفقهاء يبحثون باختصار طرق إثبات الجريمة الموجبة للحد‬
‫من شهادة أو إقرار ونحوهما‪ ،‬لما للحد من خطورة خاصة تتطلب توقف الحكم به على ثبوت الجريمة‬
‫ثبوتا قاطعا أو مؤكدا‪ .‬وذلك بالضافة إلى وجود مباحث مستقلة لطرق الثبات في كل كتاب فقهي‪.‬‬
‫وكذلك الشأن في الجنايات‪ ،‬ل بد من الشارة لما تثبت به‪ ،‬تسهيلً على القاضي في إصدار أحكامه‬
‫عليها‪ ،‬ولفت نظره لضرورة التأكد من وقوع الجناية الموجبة لعقوبة بدنية كالقصاص أو التعزير أو‬
‫لعقوبة مالية كالدية أو الرش‪.‬‬
‫لذا فإني أعطي هنا فكرة أو لمحة إجمالية عن طرق الثبات العامة من إقرار وشهاد وقرينة ونكول‬
‫عن اليمين‪ ،‬لبيان مدى صلحية إحداها لثبات الجناية‪،‬سواء عند جمهور الفقهاء أو عند بعض‬
‫الفقهاء‪ ،‬وأحيل بالتفصيل على البحوث المستقلة الخاصة بكل منها في هذا الكتاب أو غيره‪ .‬ويلحظ‬
‫أن العلماء اتفقوا على جواز إثبات جرائم القصاص في القتل والجرح العمد بالقرار أو شهادة رجلين‪.‬‬
‫أولً ـ القرار ‪:‬‬
‫القرار‪ :‬هو إخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه (‪ ، )1‬وهو حجة قاصرة على المقر ل يتعدى أثره‬
‫إلى غيره‪ ،‬لقصور ولية القرار على غيره‪ ،‬فيقتصر أثر القرار على المقر نفسه‪ .‬ويؤخذ بمقتضى‬
‫القرار؛ لن النسان غير متهم على نفسه‪.‬‬
‫ول خلف في جواز العتماد على الٍقرارفي العبادات والمعاملت والحوال الشخصية والجرائم أو‬
‫الجنايات والحدود‪ ،‬فقد أجمعت المة على صحة القرار مطلقا‪ ،‬وكونه حجة في مختلف العصور‪ ،‬إذا‬
‫كان صحيحا‪.‬‬
‫واتفق العلماء على صحة القرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره (‪. )2‬‬
‫ويشترط في القرار بالجناية أو الجريمة الموجبة لحد أو قصاص أو تعزير أن يكون واضحا مفصلً‪،‬‬
‫قاطعا في العتراف بارتكاب الجرم‪ ،‬عمدا أو خطأ أو شبه عمد‪.‬‬
‫فل يصح القرار المجمل الغامض أو المشتمل على شبهة‪ ،‬حتى يتحدد نوع العقاب‪ ،‬إذ ل عقاب مثلً‬
‫على القتل دفاعا عن النفس أو المال‪ ،‬أو استعمالً لحق‪ ،‬أو تنفيذا لقصاص‪.‬‬
‫ول يصح إقرار المتهم في إقراره لملطفة صديق ونحوه؛ لن التهمة تخل برجحان جانب الصدق‬
‫على الكذب في إقراره‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪.467/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،222/7 :‬تكملة الفتح‪ ،281/6 :‬تبيين الحقائق‪ ،3/5 :‬الشرح الكبير للدردير‪ 397/3 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،343/2 :‬مغني المحتاج‪ ،238/2 :‬المغني‪.138/5 :‬‬
‫( ‪)7/695‬‬

‫ول يصح إقرار عديم العقل كالمجنون‪ ،‬وغير المميز‪ .‬ويصح عند الحنفية خلفا لبقية الئمة إقرار‬
‫الصبي المميز بالديون والعيان؛ لنه من ضرورات التجارة‪.‬‬
‫ول يصح إقرار المستكره أو المتهم الذي يضرب ليقر في الموال والجنايات الموجبة لحد أو‬
‫قصاص‪ ،‬ويلغى‪ ،‬ول يترتب عليه أي أثر‪ ،‬إل أن المالكية يقولون‪ :‬ل يلزم إقرار المستكره‪ ،‬بمعنى أنه‬
‫يخير بعد زوال الكراه بين إجازة القرار أو إلغائه أو إبطاله (‪. )1‬‬
‫ول يصح إقرار زائل العقل بنوم أو إغماء أو دواء‪ .‬أما السكران المتعدي بسكره (وهو من تعاطى‬
‫مسكرا متعمدا) (‪ : )2‬فيصح إقراره في كل تصرفاته وجناياته عند الشافعية‪ .‬ويصح إقراره عند‬
‫الحنفية في الموال والحوال الشخصية وفي القتل والجناية على ما دون النفس وعلى الجنين؛لنها‬
‫حقوق شخصية للعباد‪ ،‬ول يصح إقراره في الحدود الخالصة ل تعالى كحد الزنا والسرقة‪ ،‬لوجود‬
‫الشبهة‪ ،‬وهي تدرأ بالشبهات‪ ،‬لكن يضمن السكران الشيء المسروق وإن كان ل يحد‪.‬‬
‫ول يصح إقرار السكران بحق أو جناية أو غيرهما عند المالكية والحنابلة؛ لنه غير عاقل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 189/7 :‬وما بعدها‪ ،‬تكملة الفتح‪ ،265/7 :‬تبيين الحقائق‪ ،182/5 :‬الدر المختار‪،89/5 :‬‬
‫الدردير‪ ،397/3 :‬المغني‪ ،196/8 :‬حاشية الباجوري على شرح ابن القاسم لمتن أبي شجاع‪.4/2 :‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار‪ ،489/4 :‬رد المحتار والدر المختار‪ 180/3 :‬وما بعدها‪ ،‬الدردير‪ ،397/3 :‬حاشية‬
‫الباجوري‪ ،4/2 :‬المغني‪.138/5 :‬‬

‫( ‪)7/696‬‬

‫واتفق الفقهاء (‪ )1‬عى أنه يجوز للمقر الرجوع عن إقراره في حقوق ال تعالى كالردة والزنا وشرب‬
‫خمر وسرقة وقطع طريق من أجل إسقاط الحد‪ ،‬ل إسقاط المال؛ لنها تدرأ بالشبهات‪.‬‬
‫أما حقوق الدميين كالقرار بالقتل أو الجُرْح أو قطع طرف‪ ،‬أو إسقاط جنين‪ ،‬فل يجوز للمقر‬
‫الرجوع عن إقراره بها‪ ،‬لتعلقها بحقوق الناس الشخصية‪ ،‬ولو أن القصاص مما يدرأ بالشبهات؛ لن‬
‫الصل أل يجوز إلغاء كلم المكلف بل مقتضٍٍ‪.‬‬
‫ول يشترط تعدد القرار‪ ،‬ويكفي مرة واحدة إل في القرار بالزنا عند الحنفية والحنابلة‪ ،‬فإنه يطلب‬
‫كونه أربع مرات‪ ،‬طلبا للتثبت في إقامة الحد‪ ،‬وعملً بواقعة إقرار ماعز بن مالك أمام الرسول صلّى‬
‫ال عليه وسلم أربع مرات‪.‬‬
‫ثانيا ـ الشهادة ‪:‬‬
‫إن أغلب وقائع الخصومات في الحقوق المالية والجرائم يثبت بالشهادة‪ .‬وهي‪ :‬إخبار صادق لثبات‬
‫حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء (‪ . )2‬ول خلف بين الفقهاء في جواز العتماد على الشهادة في‬
‫الثبات‪ ،‬لورود النصوص القرآنية والنبوية الدالة على مشروعيتها والقضاء بها (‪. )3‬‬
‫وعدد الشهود اثنان إل في الزنا‪ ،‬فل بد فيه من أربعة شهود لقوله تعالى‪{ :‬لول جاءوا عليه بأربعة‬
‫شهداء} [النور‪.]13/24:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،120/4 :‬بداية المجتهد‪ ،430/2 :‬الدردير‪ ،318/4 :‬مغني المحتاج‪ ،150/4 :‬تحفة‬
‫الطلب شرح تنقيح اللباب لزكريا النصاري‪ :‬ص ‪ ،180‬المغني‪.197/8 :‬‬
‫(‪ )2‬فتح القدير‪ ،2/6 :‬الدر المختار‪ ،385/4 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،164/4 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪.426/4‬‬
‫(‪ )3‬راجع بحث الشهادة‪.‬‬

‫( ‪)7/697‬‬

‫وتقبل عند الحنفية (‪ )1‬شهادة النساء مع الرجال في الموال والحوال الشخصية (الزواج والطلق‬
‫وتوابعهما)‪ .‬وعند المالكية والشافعية والحنابلة (‪ : )2‬ل تقبل شهادة النساء مع الرجال إل في الموال‬
‫وتوابعها وعقودها‪.‬‬
‫ول تقبل شهادة النساء مع الرجال في المذاهب الربعة في الحدود والجنايات والقصاص‪ ،‬وإنما ل بد‬
‫فيها من شهادة رجلين عدلين‪ ،‬لخطورتها وضرورة التأكد من ثبوتها‪ ،‬وتضييقا في طرق إثباتها‪،‬‬
‫واحتيالً لدرئها‪ ،‬ولن في شهادة المرأة بدلً عن الرجل شبهة البدلية‪ ،‬لقيامها مقام شهادة الرجال‪ ،‬فل‬
‫تقبل فيما يندرئ بالشبهات‪ .‬ويقول الزهري‪« :‬مضت السنة من رسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫والخليفتين من بعده أل تجوز شهادة النساء في الحدود» (‪ )3‬وقال علي كرم ال وجهه‪« :‬ل تجوز‬
‫شهادة النساء في الحدود والدماء» (‪. )4‬‬
‫وبما أن هناك خلفات فقهية في أنواع الشهادات في الجرائم فإني أضيف لما سبق التوضيح التالي‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،7/6 :‬البدائع‪ ،277/6 :‬اللباب شرح الكتاب‪ 55/4 :‬ومابعدها‪ ،‬الهداية‪ ،93/3 :‬ط‬
‫الخيرية‪.‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،454/2 :‬المهذب‪ ،333/2 :‬المغني‪ 149/9 ،97/8 :‬ومابعدها‪ ،‬الطرق الحكمية‪:‬‬
‫ص ‪ 152‬ومابعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪.118/4 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن أبي شيبة في مصنفه‪ .‬وأخرج عن الشعبي والنخعي والضحاك قالوا‪« :‬ل تجوز شهادة‬
‫النساء في الحدود» (نصب الراية‪.)79/4 :‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (نصب الراية‪ ،‬المكان السابق)‪.‬‬

‫( ‪)7/698‬‬

‫‪ - ً 1‬جرائم القصاص في النفس أو ما دونها ‪:‬‬


‫ل تثبت عند أئمة المذاهب الربعة إل بشهادة رجلين عدلين‪ .‬ول تقبل فيها شهادة رجل وامرأتين‪ ،‬ول‬
‫شهادة شاهد ويمين المدعي ـ المجني عليه (‪ ، )1‬ول تثبت بالشهادة على الشهادة (‪ ، )2‬ول بكتاب‬
‫القاضي إلى قاض آخر (‪ )3‬؛ لن القصاص عقوبة خطيرة‪ ،‬فيحتاط لدرئه باشتراط شاهدين عدلين‪.‬‬
‫إل أن المالكية (‪ )4‬أجازوا استحسانا في جراح النفس عمدا أو خطأ إثباتها بشهادة شاهد واحد ويمين‬
‫المجني عليه‪ .‬كما أنهم أجازوا إثبات جراح العمد بشاهد عدل وامرأتين‪ ،‬أو أحدهما مع اليمين‪ .‬وهذه‬
‫إحدى المستحسنات الربع‪ ،‬إذ هي ليست بمال‪ ،‬ول آيلة له‪.‬‬
‫‪ - ً 2‬جرائم التعزير البدني كالضرب والحبس ونحوهما ‪:‬‬
‫يرى الحنفية (‪ )5‬أن التعزير يغلب فيه حق الدمي‪ ،‬فتثبت جريمة التعزير عندهم بما تثبت به سائر‬
‫حقوق العباد من القرار والبينة والنكول عن اليمين (‪ ، )6‬وعلم القاضي‪ ،‬وشهادة النساء مع الرجال‪،‬‬
‫والشهادة على الشهادة‪ ،‬وكتاب القاضي إلى القاضي‪.‬‬
‫والمالكية كما قالوا في جرائم القصاص أجازوا إثبات جرائم التعزير البدني بشاهد ويمين المدعي‪.‬‬
‫وأجاز بعض المالكية التعزير في بعض الجرائم بشاهد واحد‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،17/30 :‬البدائع‪ ،225/6 :‬بداية المجتهد‪ ،256/2 :‬الدردير‪ ،187/4 :‬المهذب‪،301/4 :‬‬
‫‪ ،334‬مغني المحتاج‪ ،482 ،443 ،118/4 :‬المغني‪.97/8 ،252 ،151/9 :‬‬
‫(‪ )2‬فتح القدير‪ ،20/6 :‬الدردير‪ ،198/4 :‬المهذب‪،334/2 :‬المغني‪.158/9 :‬‬
‫(‪ )3‬تبيين الحقائق‪ ،241/4 :‬الدردير‪ ،159/4 :‬بداية المجتهد‪ ،458/2 :‬مغني المحتاج‪،452/4 :‬‬
‫المغني‪.90/9 :‬‬
‫(‪ )4‬الشرح الكبير للدردير‪ 187/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )5‬الدر المختار وحاشيته‪ 204/3 :‬ومابعدها‪ ،‬البدائع‪.65/7 :‬‬
‫(‪ )6‬ونكول الجاني عن اليمين مجرد قرينة تقوي موقف المجني عليه‪.‬‬

‫( ‪)7/699‬‬

‫دون يمين (‪ ، )1‬وقبل المام مالك شهادة الصبيان على بعضهم في الجراح (‪ )2‬عملً بالمصلحة‬
‫المرسلة أو إجماع أهل المدينة‪.‬‬
‫واقتصر الشافعية والحنابلة (‪ )3‬على إثبات جريمة التعزير بما تثبت به جريمة القصاص‪ ،‬وهو شهادة‬
‫رجلين عدلين؛ لن العقوبة البدنية خطيرة‪ ،‬فيحتاط فيها بقدر المكان‪ ،‬فل تثبت به بما تثبت به‬
‫الموال من شهادة رجل وامرأتين أو شهادة رجل ويمين المدعي‪.‬‬
‫‪ - ً 3‬جرائم التعزير المالي كالدية أو الغرامة ‪:‬‬
‫تثبت هذه الجريمة في المذاهب الربعة (‪ )4‬بما تثبت به الحقوق المالية كشهادة رجلين أو رجل‬
‫وامرأتين؛ لنه يقصد بها المال‪ .‬وأجاز غيرا لحنفية إثباته أيضا بشاهد ويمين المجني عليه‪ .‬وأضاف‬
‫المالكية إمكان إثباتها بامرأتين ويمين المدعي‪ ،‬ولم يجز الحنفية مطلقا مبدأ قبول شاهد ويمين‪ ،‬ول‬
‫يمين وامرأتين‪ ،‬عملً بما اقتصر عليه النص القرآني في قوله تعالى‪{ :‬واستشهدوا شهيدين من‬
‫رجالكم‪ ،‬فإن لم يكونا رجلين‪ ،‬فرجل وامرأتان} [البقرة‪ ]282/2:‬فمن زاد على ذلك فقد زاد على‬
‫النص‪ ،‬والزيادة على النص نسخ‪ ،‬والنسخ ل يكون إل بنص مشابه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبصرة الحكام‪ 260/1 :‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬العتصام للشاطبي‪ 115/2 :‬ومابعدها‪ ،‬كتابنا الوسيط في أصول الفقه‪ :‬ص ‪ ،364‬ط ثالثة‪.‬‬
‫(‪ )3‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )4‬المراجع السابقة‪ ،‬المغني‪.98/8 :‬‬

‫( ‪)7/700‬‬

‫ثالثا ـ القرائن ‪:‬‬


‫القرينة‪ :‬هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا‪ ،‬فتدل عليه‪ .‬ومنه يفهم أنه ل بد في القرينة من تحقق‬
‫أمرين‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساسا للعتماد عليه‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن توجد صلة تربط بين المر الظاهر والمر الخفي‪.‬‬
‫ول يحكم عند جمهور الفقهاء بالقرائن في الحدود؛ لنها تدرأ بالشبهات‪ ،‬ول في القصاص إل في‬
‫القسامة للحتياط في أمر الدماء وإزهاق النفوس‪ ،‬بالعتماد على وجود القتيل في محلة المتهمين عند‬
‫من ل يشترط قرينة اللوث (العداوة الظاهرة) أو بالعتماد على مجرد اللوث عند من يشترطه‪ .‬ويحكم‬
‫بها في نطاق المعاملت المالية والحوال الشخصية عند عدم وجود بينة في إثبات الحقوق الناشئة‬
‫عنها‪ ،‬ولكنها تقبل إثبات العكس بأدلة أخرى‪.‬‬
‫وأخذ بعض الفقهاء كابن فرحون المالكي وابن القيم الحنبلي (‪ )1‬بالقرائن أحيانا مع التحفظ والحذر‪،‬‬
‫ولو في نطاق الحدود‪ ،‬وصار ذلك مذهب المالكية والحنابلة‪ ،‬مثل إثبات الزنا بالحمل‪ ،‬وإثبات شرب‬
‫الخمر بظهور رائحتها من فم المتهم‪ ،‬وثبوت السرقة بوجود المسروق في حيازة المتهم‪ ،‬ورد‬
‫المسروقات أو الوديعة أو اللقطة لمن يصفها بعلمات مميزة‪ .‬ونحوه كثير في إثبات الحق والملكية‬
‫والهلية والولدة‪.‬‬
‫واعتبر الحنفية القرينة القطعية (‪ )2‬بينة نهائية كافية للقضاء بها‪ ،‬كما لو رئي شخص مدهوشا ملطخا‬
‫بالدم‪ ،‬ومعه سكين ملوثة بالدم‪ ،‬بجوار مضرج بدمائه في مكان‪ ،‬فيعتبر هو القاتل (م‪ 1741/‬من‬
‫المجلة)‪ .‬أما القرينة غير القطعية الدللة ولكنها ظنية أغلبية‪ ،‬ومنها القرائن العرفية‪ ،‬أو المستنبطة من‬
‫وقائع الدعوى‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبصرة الحكام‪ ،312/1 :‬الطرق الحكمية في السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪ 97‬وما بعدها‪ 214 ،‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬عرفت المجلة القرينة القاطعة‪ :‬بأنها المارة البالغة حد اليقين (م‪.)1741/‬‬

‫( ‪)7/701‬‬

‫وتصرفات الخصوم‪ ،‬فهي دليل أولي مرجح لزعم أحد المتخاصمين مع يمينه‪ ،‬متى اقتنع بها القاضي‪،‬‬
‫ولم يثبت خلفها (‪. )1‬‬
‫رابعا ـ النكول عن اليمين ‪:‬‬
‫النكول عن اليمين‪ :‬هو المتناع عن حلف اليمين الموجهة إلى المدعى عليه بطريق القاضي‪ .‬وهو ل‬
‫يعدو أن يكون مجرد قرينة على صدق المدعي في اتهام المتهم‪.‬‬
‫ويقضى به عند الحنفية والحنابلة (‪ )2‬؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم جعل جنس اليمين في جانب‬
‫المدعى عليه وحصرها فيه في قوله عليه الصلة والسلم‪« :‬البينة على المدعي‪ ،‬واليمين على المدعى‬
‫عليه» ‪.‬‬
‫ويقضى بالنكول عند أبي حنيفة في القصاص في الطراف حالة العمد‪ ،‬وبالدية حالةالخطأ‪ .‬ول يقضى‬
‫فيه عنده بالقصاص بالنفس ل بالقصاص ول بالدية‪ ،‬لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف‪.‬‬
‫ول يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة والصاحبين‪.‬‬
‫كما ل يقضى بالنكول باتفاق الحنفية والحنابلة في الحدود الخالصة ل تعالى كحد الزنا والسرقة‬
‫والشرب‪ ،‬لشتماله على الشبهة‪ ،‬والحدود تدرأ بالشبهات‪.‬‬
‫وأما التعازير فيقضى فيها بالنكول عند الحنفية كما بان سابقا‪ ،‬أما عند الحنابلة فل يقضى فيها‬
‫بالنكول‪ ،‬على ما هول الظاهر في الترجيح بين الروايتين عن أحمد؛ لنه يرى قصر اليمان على‬
‫الموال والعروض التجارية (‪. )3‬‬
‫ولم يأخذ المالكية والشافعية (‪ )4‬بالنكول‪ ،‬وإنما أخذوا باليمين المردودة في جانب المدعي‪ ،‬ويقضى‬
‫باليمين المردودة عند المالكية في الموال وما يؤول إليها فقط كخيار وأجل دون ما سواها من‬
‫القصاص والحدود والتعازير‪ .‬وأما عند الشافعية‪ :‬فيقضى باليمين المردودة في جميع الحقوق‬
‫والتعازير‪ ،‬ما عدا جنايات الدماء والحدود‪ ،‬فل يقضى فيها بالقصاص ول بالحد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المدخل الفقهي للستاذ مصطفى الزرقاء‪ :‬ف‪.536/‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير‪ 155/6 :‬و ‪ ،158‬المبسوط‪ ،35/17 :‬الدر المختار‪ ،442/4 :‬المغني‪235/9 :‬‬
‫وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪ 332/6 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪ ،238/9 ،67/8 :‬كشاف القناع‪.332/6 :‬‬
‫(‪ )4‬بداية المجتهد‪ ،454/2 :‬الدردرير‪ 146/4 :‬ومابعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،150 ،118/4 :‬المهذب‪:‬‬
‫‪.318 ،301/2‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ ،286/7 :‬الكتاب مع اللباب‪ ،172/3 :‬تبيين الحقائق‪ ،169/6 :‬الدر المختار‪.442/5 :‬‬

‫( ‪)7/702‬‬

‫المبحث الثاني ـ إثبات القتل بطريق خاص ـ القَسامة ‪:‬‬


‫وفيه ثمانية مطالب‪ :‬معنى القسامة‪ ،‬ومشروعيتها‪ ،‬وآراء الفقهاء في شرعيتها‪ ،‬ومحل القسامة‬
‫(الجريمة التي تجوز فيها) ومتى تكون‪ ،‬وشروطها‪ ،‬وكيفيتها‪ ،‬ومن تجب عليه‪ ،‬وحكمها أو ما يجب‬
‫بها‪.‬‬
‫المطلب الول ـ معنى القسامة ‪:‬‬
‫القسامة لغة‪ :‬مصدر بمعنى القسم أي اليمين‪ .‬وشرعا‪ :‬هي اليمان المكررة في دعوى القتل‪ ،‬وهي‬
‫خمسون يمينا من خمسين رجلً‪ .‬يقسمها عند الحنفية (‪ : )5‬أهل المحلّة التي وجد فيها القتيل‬
‫ويتخيرهم ولي الدم‪ ،‬لنفي تهمة القتل عن المتهم‪ ،‬فيقول الواحد منهم‪ :‬بال ما قتلته ول علمت له قاتلً‪.‬‬
‫فإذا حلفوا غرموا الدية‪.‬وعند الجمهور غير الحنفية (‪ : )1‬يحلفها أولياء القتيل لثبات تهمة القتل على‬
‫الجاني‪ ،‬بأن يقول كل واحد منهم‪ :‬بال الذي ل إله إل هو‪ :‬لقد ضربه فلن فمات‪ ،‬أو لقد قتله فلن‪.‬‬
‫فإن نكل بعضهم (أي ورثة القتيل) عن اليمين‪ ،‬حلف الباقي جميع اليمان‪ ،‬وأخذ حصته من الدية‪ .‬وإن‬
‫نكل الكل أو لم يكن هناك لوث (قرينة على القتل أو العداوة الظاهرة) ترد اليمين على المدعى عليه‬
‫ليحلف أولياؤه خمسين يمينا‪ .‬فإن لم يكن له أولياء (عاقلة) حلف المتهم (الجاني) الخمسين‪ ،‬وبرئ‪.‬‬
‫وإذا حلف أولياء القتيل وجب عند المالكية القصاص في حالة العمد‪ ،‬والدية في الخطأ‪ .‬وتجب الدية‬
‫فقط في كل الحالت عند الشافعية‪ ،‬على ما سأبين‪ ،‬وأوجب الحنابلة القصاص في دعوى القتل عمدا‪،‬‬
‫والدية في القتل شبه العمد أو الخطأ‪.‬‬
‫فهل القسامة إذن دليل نفي أو دليل إثبات؟‬
‫قال الحنفية‪ :‬القسامة دليل لنفي التهمة عن المدعى عليهم‪ .‬وقال الجمهور‪ :‬إنها دليل للمدعين لثبات‬
‫تهمة القتل على القاتل إذا لم تتوافر وسائل الثبات الخرى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير‪ ،293/4 :‬بداية المجتهد‪ ،421/2 :‬مغني المحتاج‪ ،114 ،109/4 :‬المهذب‪:‬‬
‫‪ ،318/2‬المغني‪ ،68/8 :‬كشاف القناع‪ 66/6 :‬وما بعدها‪.76 ،‬‬

‫( ‪)7/703‬‬

‫المطلب الثاني ـ مشروعية القسامة وحكمة التشريع وسبب وجوب القسامة ‪:‬‬
‫كانت القسامة معروفة في الجاهلية‪ ،‬وأول من قضى بها الوليد بن المغيرة‪ .‬وثبتت مشروعية القسامة‬
‫بالسنة في أحاديث متعددة‪ ،‬منها‪ :‬ما رواه رجل من النصار‪« :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم أقر‬
‫القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية» (‪. )1‬‬
‫وقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬البينة على المدعي‪ ،‬واليمين على من أنكر إل في القسامة» (‬
‫‪. )2‬‬
‫وروى الجماعة عن سهل بن أبي حَثْمة قال‪ « :‬انطلق عبد ال بن سهل‪ ،‬ومُحَيّصة بن مسعود إلى‬
‫خيبر‪ ،‬وهو يومئذ صلح‪ ،‬فتفرقا‪ ،‬فأتى محيصة إلى عبد ال بن سهل‪ ،‬وهو يتشحّط في دمه (‪ )3‬قتيلً‪،‬‬
‫حوَيّصة ابنا مسعود إلى النبي صلّى‬
‫فدفنه‪ ،‬ثم قدم المدينة‪ ،‬فانطلق عبد الرحمن بن سهل‪ ،‬ومُحَيّصة و ُ‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فذهب عبد الرحمن يتكلم‪ ،‬فقال‪ :‬كبّر كبّر (‪ ، )4‬وهو أحدث القوم‪ ،‬فسكت‪ ،‬فتكلما‪،‬‬
‫قال‪ :‬أتحلفون وتستحقون قاتلكم‪ ،‬أو صاحبكم (‪ )5‬؟ فقالوا‪ :‬وكيف‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد ومسلم والنسائي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار (نيل الوطار‪:‬‬
‫‪.)34/7‬‬
‫(‪ )2‬رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪ ،‬وهو ضعيف (نيل الوطار‪.)39/7 :‬‬
‫(‪ )3‬هو الضطراب في الدم‪.‬‬
‫(‪ )4‬أي دع من هو أكبر منك سنا يتكلم‪.‬‬
‫(‪ )5‬فيه دليل على مشروعية القسامة‪ .‬وإليه ذهب جمهور الصحابة والتابعين والعلماء من الحجاز‬
‫والكوفة والشام‪ ،‬كما حكى القاضي عياض‪ .‬وهي أصل مستقل من أصول الشريعة لورود الدليل بها‪،‬‬
‫فتخصص بها الدلة العامة‪ ،‬وفيها حفظ للدماء وزجر للمعتدين‪.‬‬

‫( ‪)7/704‬‬

‫نحلف‪ ،‬ولم نشهد ولم نر؟ قال‪ :‬فتبرّئكم يهود بخمسين يمينا (‪ ، )1‬فقالوا‪ :‬كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟‬
‫فعقله النبي صلّى ال عليه وسلم من عنده» (‪. )2‬‬
‫وفي لفظ آخر‪« :‬أتحلفون خمسين يمينا‪ ،‬وتستحقون دم صاحبكم» أي يقتص لكم من قاتله‪.‬‬
‫والحكمة من تشريع القسامة‪ :‬هي أنها شرعت لصيانة الدماء وعدم إهدارها‪ ،‬حتى ل يهدر (أو يطل)‬
‫دم في السلم‪ ،‬وكيل يفلت مجرم من العقاب‪ ،‬قال علي لعمر فيمن مات من زحام يوم الجمعة أو في‬
‫الطواف‪« :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ل يُطلّ دم امرئ مسلم‪ ،‬إن علمت قاتله‪ ،‬وإل فأعطه ديته من بيت‬
‫المال» ‪.‬‬
‫وأما إلزام عصبة أو عاقلة المتهم بالقتل بالقسامة والدية عند الحنفية (‪ )3‬فبسبب وجود التقصير منهم‬
‫في الحفاظ على حياة القتيل قبل قتله في الموضع الذي وجد فيه‪ ،‬ولعدم نصرته أو حمايته من اعتداء‬
‫الجاني عليه‪ ،‬كما في القتل خطأ‪ ،‬كأنهم شُرطة‪ ،‬وبما أن حفظ المحلة عليهم ونفع ولية التصرف في‬
‫المحلة عائد إليهم‪ ،‬فهم مسؤولون‪ ،‬والخراج بالضمان على لسان الرسول عليه الصلة والسلم (‪. )4‬‬
‫ويلحظ أن إيجاب الدية بعد القسامة ليس هو الهدف الصلي من القسامة وإنما الغرض الحقيقي منها‪:‬‬
‫هو إظهار جريمة القتل‪ ،‬وتطبيق القصاص عندما يحس الحالفون بخطورة اليمين‪ ،‬ويتحرجون من‬
‫حلف اليمين الكاذبة‪ ،‬فيقرون بالقتل‪ ،‬فإذا حلفوا برئوا من القصاص‪ ،‬وثبتت الدية لئل يهدر دم القتيل‪،‬‬
‫وعلى هذا فإن القسامة لم تشرع ليجاب الدية إذا نكلوا عن اليمان‪.‬‬
‫وإنما شرعت لدفع التهمة بالقتل‪ ،‬وأما الدية فلوجود القتيل بين أظهرهم‪ .‬وإلى هذا المعنى أشار عمر‬
‫حينما قيل‪« :‬أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال‪ :‬أما أيمانكم فلحقن دمائكم‪ ،‬وأما أموالكم فلوجود القتيل بين‬
‫أظهركم» ‪ .‬ومن نكل من عصبة القاتل عن اليمين حبس حتى يحلف؛ لن اليمين فيه مستحقة لذاتها‪،‬‬
‫تعظيما لمر الدم‪ ،‬فيجمع بينه وبين الدية‪ ،‬وذلك بعكس النكول عن اليمين في الموال؛ لن الحلف‬
‫فيها بدل عن أصل حق صاحب المال (المدعي)‪ ،‬ولهذا يسقط اليمين ببذل المدعى به‪ .‬وأما أيمان‬
‫القسامة فل تسقط ببذل الدية؛ لنها واجب أصلي لظهار القصاص‪ ،‬وليست بدلً عن حق‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أي يخلصونكم عن اليمان بأن يحلفوا‪ ،‬فإذا حلفوا انتهت الخصومة‪.‬‬
‫(‪ )2‬نيل الوطار‪ .34/7 :‬فعقله النبي صلّى ال عليه وسلم أي وداه بمئة من إبل الصدقة كما جاء في‬
‫لفظ لحمد‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،290 7/ :‬اللباب شرح الكتاب‪.172/3 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم وأصحاب السنن الربعة عن عائشة وضعفه البخاري وصححه الترمذي وغيره‪.‬‬

‫( ‪)7/705‬‬

‫المطلب الثالث ـ آراء الفقهاء في شرعية القسامة ‪:‬‬


‫أقر فقهاء المذاهب الربعة والشيعة والظاهرية مشروعية القسامة لثبوتها بالسنة النبوية‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬
‫وروى القاضي عياض عن جماعة السلف (منهم أبو قلبة وسالم بن عبد ال والحكم بن عتيبة وقتادة‬
‫وسليمان بن يسار وإبراهيم بن عُلَيّة ومسلم بن خالد‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز في رواية عنه) أن‬
‫القسامةغير ثابتة‪ ،‬لمخالفتها لصول الشريعة من وجوه (‪: )1‬‬
‫منها ـ أن اليمين ل تجوز إل على ما علم قطعا أوشوهد حسا‪.‬‬
‫ومنها ـ أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر‪.‬‬
‫ومنها ـ أن حديث سهل السابق الوارد بها ليس فيه حكم بها‪ ،‬وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية‪،‬‬
‫فتلطف بهم النبي صلّى ال عليه وسلم ليريهم كيفية بطلنها‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن القسامة ثبتت بحديث خاص‪ ،‬فل يترك العمل بها من أجل الدليل العام‪ ،‬فتكون مخصصة‬
‫له‪ ،‬لما فيها من حفظ الدماء‪ ،‬وزجر المعتدين‪ ،‬وتعذر قيام الشهادة على القتل حيث يرتكبه القاتل غالبا‬
‫في الخفاء‪ ،‬وأما دعوى أن النبي قال ذلك للتلطف بهم في بيان بطلنها‪ ،‬فمردود‪ ،‬لثبوتها في أحاديث‬
‫ووقائع أخرى‪ ،‬منها حديث أبي سلمة المتقدم الذي أقر به النبي صلّى ال عليه وسلم القسامة على ما‬
‫كانت عليه في الجاهلية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نيل الوطار‪ ،36/7 :‬بداية المجتهد‪.419/2 :‬‬

‫( ‪)7/706‬‬

‫المطلب الرابع ـ محل القسامة ومتى تكون؟‬


‫ل تكون القسامة إل في جريمة القتل فقط أيا كان نوع القتل عمدا أو خطأ أو شبه عمد‪ ،‬دون بقية‬
‫العتداءات على النفس من قطع أو جرح أو تعطيل منفعة عضو؛ لن النص ورد في القتل‪ ،‬فيقتصر‬
‫في القسامة على محل ورودها‪ ،‬وعلى هذا تثبت الجراح بالعتراف والشهادة‪ ،‬ول قسامة في الجراح‪.‬‬
‫كما ل تكون عند الحنفية (‪ )1‬إل إذا كان القاتل مجهولً‪ ،‬فإن كان معلوما فل قسامة‪ ،‬ويجب حينئذ‬
‫القصاص أو الدية‪.‬‬
‫ول تكون القسامة عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (‪ )2‬إل إذا كان هناك لوث (أو لطخ‪ ،‬أو‬
‫شبهة) ولم توجد بينة للمدعي في تعيين القاتل‪ ،‬ول إقرار‪.‬‬
‫واللوث كما عرفه المالكية‪ :‬هو المر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بوقوع المدعى به‪ ،‬أو المر الذي‬
‫ينشأ عنه غلبة الظن بأنه قتل‪ .‬وذكروا له أمثلة خمسة يظهر منها تعيين القاتل بدليل غير كاف لثبات‬
‫القتل‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يقول المجروح المُدمى البالغ الحر المسلم‪ :‬دمي عند فلن‪ ،‬مع وجود الجرح وأثر الضرب‪،‬‬
‫أو يقول‪ :‬قتلني فلن‪ ،‬سواء أكان ا ْلمُدمى عدلً أم فاسقا (مسخوطا)‪ .‬والتدمية في العمد لوث باتفاق‬
‫المالكية‪ .‬وفيها قولن في الخطأ‪ ،‬أرجحهما أنها لوث‪.‬‬
‫‪ - 2‬شهادة عدلين على معاينة الضرب أو الجرح‪ ،‬أو على إقرار المُدمى في المثال الول‪.‬‬
‫‪ - 3‬شهادة واحد على معاينة الجرح أوالضرب‪.‬‬
‫‪ - 4‬شهادة واحد على معاينة القتل‪.‬‬
‫‪ - 5‬أن يوجد القتيل‪ ،‬وبقربه شخص عليه أثر القتل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،288/7 :‬تكملة فتح القدير‪ ،383/8 :‬تبيين الحقائق‪.169/6 :‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪ ،287/4 :‬بداية المجتهد‪ ،422/2 :‬مغني المحتاج‪ 111/4 :‬ومابعدها‪ ،‬نهاية‬
‫المحتاج‪ ،105/7 :‬المهذب‪ 318/2 :‬ومابعده‪ ،‬المغني‪ ،68/8 :‬كشاف القناع‪ ،68/6 :‬القوانين الفقهية‪:‬‬
‫ص ‪.349‬‬

‫( ‪)7/707‬‬

‫وعرفه الشافعية‪ :‬بأنه قرينة حالية أو مقالية لصدق المدعي‪ ،‬أو هو أن يوجد معنى يغلب معه على‬
‫الظن صدق المدعي‪ ،‬كأن وجد قتيل أو بعضه كرأسه في مَحَلّة‪ ،‬أو قرية صغيرة‪ ،‬بينها وبين قبيلة‬
‫المقتول عداوة دينية أو دنيوية‪ ،‬ول يعرف قاتله‪ ،‬ول بينة بقتله‪ .‬أو وجد قتيل تفرق عنه جمع كأن‬
‫ازدحموا على بئر أو على باب الكعبة‪ ،‬ثم تفرقوا عن قتيل‪ ،‬لقوة الظن أنهم قتلوه‪ ،‬ول يشترط هنا‬
‫كونهم أعداء‪ ،‬لكن يشترط أن يكونوا محصورين بحيث يتصور اجتماعهم على القتيل‪ .‬وإل لم تسمع‬
‫الدعوى ول قسامة‪ .‬والتحام قتال بين صفين أو وصول سلح في أحدهما للخر‪ :‬لوث في حق الصف‬
‫الخر‪ ،‬وشهادة العدل الواحد أو النساء‪ ،‬وقول فسقة وصبيان وكفار‪ :‬لوث في الصح‪ .‬وعرف الحنابلة‬
‫اللوث‪ :‬بأنه العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه‪ ،‬لنحو ما كان بين النصار ويهود خيبر‪ ،‬وما‬
‫يكون بين القبائل والحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء‪ ،‬وما بين البغاة وأهل العدل‪ ،‬وما بين‬
‫الشرطة واللصوص‪ ،‬وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله‪ ،‬فإن لم تكن عداوة‬
‫ظاهرة بين المتهم والمقتول ولكن غلب على الظن صدق المدعي كتفرق جماعة عن قتيل أو في زحام‬
‫أو شهد نساء وصبيان وفساق أو عدل فليس لوثا‪ .‬وإن ادعى شخص القتل من غير وجود عداوة‪ ،‬فل‬
‫بد من تعيين المدعى عليه‪ .‬وإذا رفعت الدعوى على عدد غير معين لم تسمع الدعوى‪ ،‬كما قال‬
‫الشافعية‪.‬‬
‫وبهذا يظهر أن المالكية يرون أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثا‪ ،‬وإن كانت هنالك عداوة بين القوم‬
‫الذين منهم القتيل‪ ،‬وبين أهل المحلة‪ .‬ويعتبرون ادعاء المجني عليه على المتهم قبل وفاته لوثا‪ ،‬وهذا‬
‫هو التدمية في العمد‪ :‬وهو قول المقتول‪ :‬فلن قتلني أو دمي عند فلن‪ .‬ول يعتبره الشافعية وسائر‬
‫العلماء لوثا‪ .‬والشاعة المتواترة على ألسنة الخاص والعام أن فلنا قتله‪ :‬لوث عند الشافعية‪ ،‬وليست‬
‫لوثا عند المالكية‪.‬‬
‫والخلصة أن اللوث‪ :‬هو أمارة غير قاطعة على القتل‪ ،‬ولكن حالت اللوث مختلف فيها بين‬
‫الجمهور‪.‬‬

‫( ‪)7/708‬‬

‫المطلب الخامس ـ شروط القسامة ‪:‬‬


‫اشترط الحنفية (‪ )1‬في القسامة سبعة شروط هي ما يأتي‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬أن يكون بالقتيل أثر القتل من جراحة أو أثر ضرب أو خنق‪ ،‬فإن لم يكن شيء من ذلك فل‬
‫قسامة فيه ول دية‪ ،‬لنه إذا لم يكن به أثر القتل‪ ،‬فالظاهر أنه مات حتف أنفه‪ ،‬فل يجب به شيء‪ .‬فإذا‬
‫وجد والدم يخرج من فمه أو من أنفه أو دبره‪ ،‬أو ذكره‪ ،‬ل شيء فيه؛ لن الدم يخرج من هذه‬
‫المواضع عادة بدون الضرب‪ ،‬وإنما بسبب القيء أو الرعاف ونحوهما‪ ،‬فل يعرف كونه قتيلً‪.‬‬
‫وإن كان الدم يخرج من عينه أو أذنه‪ ،‬ففيه القسامة والدية؛ لن الدم ل يخرج من هذه المواضع عادة‪،‬‬
‫فكان خروجه بسبب القتل‪ .‬وعلى هذا ل يشترط الحنفية‪ :‬اللوث‪ ،‬وإنما يكفي أن توجد الجثة في محلها‬
‫وبها أثر القتل‪.‬‬
‫وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية (‪ : )2‬يشترط للقسامة وجود لوث‪ ،‬ولكن ليس من شرط اللوث قرينة‬
‫القتل أن يكون بالقتيل أثر‪ ،‬بل ل بد من تحقق الموت قتلً بسبب‪ ،‬ل قضاءً وقدرا محضا؛ لن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم لم يسأل النصار في قتيل خيبر‪ ،‬هل كان بقتيلهم أثر أو ل‪ ،‬ولن القتل يحصل‬
‫بما ل أثر له كالخنق وعصر الخصيتين‪ .‬ومن به أثر قد يموت حتف أنفه لسقطته أوصرعته أو يقتل‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬أن يكون القاتل مجهولً‪ ،‬فإن علم فل قسامة فيه‪ ،‬ولكن يجب القصاص بشروطه في القتل العمد‪،‬‬
‫وتجب الدية في شبه العمد والخطأ ونحوهما‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬أن يكون القتيل من بني آدم‪ ،‬فل قسامة في بهيمة وجدت في محلة قوم‪ ،‬ول غرم فيها‪.‬‬
‫ً‪ - 4‬رفع الدعوى إلى القضاء من أولياء القتيل؛ لن القسامة يمين‪ ،‬واليمين لتجب من دون الدعوى‪،‬‬
‫كما في كل الدعاوى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،290-287/7 :‬الكتاب مع اللباب‪ ،173/3 :‬تبيين الحقائق‪ ،171/6 :‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ 443/5‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪ ،287/4 :‬مغني المحتاج‪ ،111/4 :‬المغني‪ ،71/8 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص‬
‫‪.349‬‬

‫( ‪)7/709‬‬

‫واشترط المالكية والشافعية والحنابلة (‪ )1‬اتفاق الولياء على الدعوى‪ ،‬فإن اختلفوا لم تثبت القسامة‪.‬‬
‫وعبر الشافعية عن ذلك بقولهم‪ :‬أل تتناقض دعوى المدعي‪ ،‬فلو ادعى على شخص انفراده بالقتل‪ ،‬ثم‬
‫ادعى على آخر أنه شريكه أو أنه القاتل منفردا‪ ،‬لم تسمع الدعوى الثانية‪ ،‬لمناقضتها الدعوى الولى (‬
‫‪. )2‬‬
‫ً‪ - 5‬إنكار المدعى عليه؛ لن اليمين وظيفة المنكر‪ ،‬فإن اعترف فل قسامة‪.‬‬
‫ً‪ - 6‬المطالبة بالقسامة؛ لنها أيمان‪ ،‬واليمين حق المدعي‪ ،‬وحق النسان يوفى عند طلبه‪ ،‬كما في‬
‫سائر اليمان‪ .‬ولهذا يختار أولياء القتيل من يتهمونه‪ .‬ولو طولب من عليه القسامة‪ ،‬فنكل عن اليمين‬
‫حبس حتى يحلف أو يقر؛ لن اليمين حق مقصود بنفسه‪ ،‬ل أنه وسيلة إلى المقصود‪ ،‬وهو الدية‪،‬‬
‫بدليل أنه يجمع بينه وبين الدية‪ .‬قال الحارث بن الزمع لسيدنا عمر رضي ال عنه‪« :‬أنبذل أيماننا‬
‫وأموالنا؟ فقال‪ :‬نعم» ‪ .‬وذلك بخلف اليمين في سائر الحقوق فإنها ليست مقصودة بنفسها‪ ،‬بل هي‬
‫وسيلة إلى المقصود‪ ،‬وهو المال المدعى ‪ ،‬فل يجمع بينهما‪ ،‬فلو حلف المنكر أو المدعى عليه برئ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ 71/8 :‬وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪ ،70/6 :‬مغني المحتاج‪ ،110/4 :‬الدردير‪.288/4 :‬‬
‫(‪ )2‬هذا وقد اشترط الشافعية في كل دعوى بدم أو غيره كغصب وسرقة وإتلف ستة شروط وهي ما‬
‫يأتي‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬أن يكون محل الدعوى معلوما غالبا بأن يفصّل المدعي ما يدعيه من عمد وخطأ وشبه عمد‪،‬‬
‫ومن انفراد وشركة وعدد الشركاء‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬أن يكون موضوع الدعوى ملزما‪ ،‬فل تسمع دعوى هبة شيء أو بيعه أوإقراره به حتى يقول‪:‬‬
‫وقبضته بإذن الواهب‪ ،‬ويلزم البائع أو المقر التسليم إلي‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬أن يعين المدعي في دعواه المدعى عليه‪ ،‬واحدا كان أو جمعا معينا كثلثة حاضرين‪.‬‬
‫ً‪ - 4‬أن يكون المدعي مكلفا (بالغا عاقلً) حالة الدعاء‪ ،‬فل تسمع دعوى صبي ول مجنون‪ ،‬ول‬
‫سكرانٍ متعدٍ بسكره‪.‬‬
‫ً‪ - 5‬أن يكون المدعى عليه أيضا مكلفا مثل المدعي‪ ،‬فل تصح الدعوى على صبي ومجنون‪.‬‬
‫ً‪ - 6‬أل تتناقض دعوى المدعي (راجع مغني المحتاج‪ 109/4 :‬وما بعدها)‪.‬‬

‫( ‪)7/710‬‬

‫ً‪ - 7‬أن يكون الموضع الذي وجد فيه القتيل مملوكا لحد الناس‪ ،‬أو في حيازة أحد‪ ،‬وإل فل قسامة‬
‫ول دية؛ لن كل واحدة منهما تجب بترك الحفظ اللزم‪ ،‬فإذا لم يكن المحل ملك أحد أو في يد أحد‪ ،‬ل‬
‫يلزم أحد بحفظه‪ ،‬فل تجب القسامة والدية‪ .‬وإنما تجب الدية في بيت المال؛ لن حفظ المكان العام‬
‫على العامة أو الجماعة‪ ،‬ومال بيت المال مالهم‪.‬‬
‫وتطبيقات ذلك في المثلة التالية (‪: )1‬‬
‫ـ إذا وجد قتيل في فلة (صحراء أو برية) من الرض‪ ،‬ليست ملكا لحد‪ ،‬فإن كان موضعه في‬
‫مكان يسمع فيه الصوت من قرية أوبلد‪ ،‬فعليهم القسامة‪ .‬وإن كان في مكان ل يسمع فيه الصوت‪ ،‬فل‬
‫قسامة فيه ول دية على أحد‪ .‬وإنما تؤخذ ديته من بيت المال‪.‬‬
‫ـ إن وجد القتيل في وسط نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل‪ ،‬وكان يجري على سطح الماء‪ ،‬فل‬
‫قسامة ول دية على أحد؛ لن النهر العظيم ليس ملكا لحد‪ ،‬ول في يد أحد‪ .‬وإنما تجب الدية في بيت‬
‫المال‪.‬‬
‫وأما إذا لم يكن يجري على سطح الماء‪ ،‬وكان محتبسا بالشاطئ (جانب النهر) أو في جزيرة‪،‬‬
‫فالقسامة على أقرب القرى من ذلك المكان إذا كانوا يسمعون الصوت؛ لنهم مسؤولون عن نصرة هذا‬
‫الموضع‪ ،‬وهو تحت تصرفهم‪ ،‬فكان في أيديهم‪.‬‬
‫وأما إن وجد في نهر صغير‪ ،‬فالقسامة والدية على أهل النهر؛ لن النهر مملوك لهم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 289/7 :‬ومابعدها‪ ،‬اللباب‪ ،176-174/3 :‬تكملة فتح القدير‪ ،396-392/8 :‬الدر‬
‫المختار‪ 445/5 :‬وما بعدها‪.448 ،‬‬

‫( ‪)7/711‬‬

‫ـ ول قسامة في قتيل يوجد في المساجد الجامعة العامة‪ ،‬أو الشوارع أوالجسور أو السواق العامة‪،‬‬
‫أو في السجن؛ لن هذه الماكن ليست مملوكة لحد‪ ،‬ول في يد أحد‪.‬والدية في بيت المال‪.‬‬
‫فإن كان في مسجد مَحلّة‪ ،‬فالقسامة على أهلها‪.‬‬
‫ـ وإن وجد القتيل في سفينة‪ ،‬فالقسامة على من فيها من الركاب والملحين؛ لنها في أيديهم‪.‬‬
‫والسيارة أو العربة مثل السفينة‪.‬‬
‫وإذا وجد القتيل على دابة‪ ،‬ومعها رجل قائد أو سائق أو راكب‪ ،‬فالقسامة عليه‪ ،‬والدية على عاقلته‪،‬‬
‫دون أهل المحلة؛ لنها في يده‪.‬‬
‫ومثله‪ ،‬لو وجد القتيل في دار إنسان‪ :‬القسامة عليه‪ ،‬والدية على عاقلته‪.‬‬
‫فإن وجد على دابة تسير‪ ،‬وليس في يد أحد‪ ،‬فل قسامة ول دية‪ ،‬وإنما الدية على بيت المال‪.‬‬
‫ـ وإن وجد القتيل بين قريتين‪ ،‬بحيث يبلغ الصوت أهل كل منهما‪ ،‬ليتمكنوا من النصرة‪ ،‬فالقسامة‬
‫والدية على أقربهما إليه‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬أن كل مكان يكون التصرف فيه لعامة المسلمين ل لواحد منهم ول لجماعة يحصون‪ ،‬ل‬
‫قسامة ول دية على أحد‪ ،‬وإنما الدية على بيت المال؛ لن الغرم بالغنم‪.‬‬

‫( ‪)7/712‬‬

‫المطلب السادس ـ كيفية القسامة (صيغتها وحالفها ) ‪:‬‬


‫اختلف الفقهاء فيمن يبدأ بحلف اليمان الخمسين‪ ،‬هل المدعون أو المدعى عليهم؟‬
‫ً‪ - 1‬قال الحنفية (‪ : )1‬يبدأ بتحليف المدعى عليهم‪ ،‬كما هو الصل في أن اليمين على المدعى عليه‪،‬‬
‫ويتخيرهم ولي الدم؛ لن اليمين حقه‪ ،‬فيختار من يتهمه بالقتل‪ ،‬فيحلف كل واحد منهم‪« :‬بال ما قتلته‪،‬‬
‫ولعلمت له قاتلً» ‪.‬‬
‫واستدلوا بما أخرجه البخاري عن سعيد بن عبيد الطائي‪ ،‬عن بشير بن يسار‪« :‬أن رجلً من النصار‬
‫يقال له سهل بن أبي حَثْمة» روى حديثا وفيه «فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ :‬تأتون بالبينة‬
‫على من قتله؟ قالوا‪ :‬ما لنا بينة‪ ،‬قال‪ :‬فيحلفون لكم‪ ،‬قالوا‪ :‬ما نرضى بأيمان يهود‪ ،‬وكره رسول ال‬
‫صلّى ال عليه وسلم أن يبطل دمه‪ ،‬فوداه بمائة بعير من إبل الصدقة» (‪. )2‬‬
‫واحتجوا أيضا بما أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من‬
‫النصار‪« :‬أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال ليهود‪ ،‬وبدأ بهم‪ :‬يحلف منكم خمسون رجلً (أي‬
‫خمسين يمينا) فأبوا‪ ،‬فقال للنصار‪ :‬احلفوا‪ ،‬فقالوا‪ :‬نحلف على الغيب يا رسول ال ؟! فجعلها رسول‬
‫ال صلّى ال عليه وسلم دية على يهود؛ لنه وجد بين أظهرهم» (‪. )3‬‬
‫واستدل الكاساني (‪ )4‬بما روي عن زياد بن أبي مريم أنه قال‪ « :‬جاء رجل إلى النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إني وجدت أخي قتيلً في بني فلن‪ ،‬فقال عليه الصلة والسلم‪ :‬اجمع‬
‫منهم خمسين‪ ،‬فيحلفون بال ‪ :‬ما قتلوه‪ ،‬ول علموا له قاتلً‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ليس لي من أخي إل‬
‫هذا؟ فقال‪ :‬بل لك مئة من‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،286/7 :‬اللباب مع الكتاب‪ ،172/3 :‬تبيين الحقائق‪170/6 :‬‬
‫(‪ )2‬نصب الراية‪392/4 :‬‬
‫(‪ )3‬نصب الراية‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬قال ابن رشد في بداية المجتهد‪ :421/2 :‬وهو حديث صحيح‬
‫السناد؛ لنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة بن أبي عبد الرحمن‪.‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪.286/7 :‬‬

‫( ‪)7/713‬‬

‫البل» (‪ )1‬فدل الحديث على وجوب القسامة على المدعى عليهم‪ ،‬وهم أهل المحلة‪ ،‬وعلى وجوب‬
‫الدية عليهم مع القسامة‪.‬‬
‫فإن حلفوا قضي عليهم (أي على أهل المحلة) بالدية في القتل العمد‪ ،‬وعلى عاقلتهم (عاقلة أهل‬
‫المحلة) في القتل الخطأ‪.‬‬
‫وإن امتنع المدعى عليهم أو بعضهم عن الحلف‪ ،‬حبسوا حتى يحلفوا؛ لن اليمين فيه مستحقة لذاتها‪،‬‬
‫تعظيما لمر الدم (‪. )2‬‬
‫ً‪ - 2‬وقال المالكية والشافعية والحنابلة وداود الظاهري (‪ : )3‬يبدأ المدعون أولياء القتيل باليمان‬
‫الخمسين‪ ،‬عملً بحديث سهل بن أبي حثمة المتقدم‪ ،‬وفيه‪« :‬أتحلفون خمسين يمينا‪ ،‬وتستحقون دم‬
‫صاحبكم؟» فيحلف كل ولي (بالغ عاقل) منهم أمام الحاكم والمدعى عليه‪ ،‬وفي المسجد العظم بعد‬
‫الصلة عند اجتماع الناس‪« :‬بال الذي ل إله إل هو‪ :‬لقد ضربه فلن فمات‪ ،‬أو لقد قتله فلن» ‪.‬‬
‫ويشترط أن تكون اليمين قاطعة (على البت) في ارتكاب المتهم الجريمة‪.‬‬
‫ويشترط عند المالكية (‪ )4‬أن تكون اليمان متوالية‪ ،‬فل تفرق على أيام أوأوقات؛ لن للموالة أثرا في‬
‫الزجر والردع‪.‬‬
‫ول يشترط عند الشافعية على المذهب والحنابلة (‪ )5‬موالتها؛ لن اليمان من جنس الحجج‪ ،‬والحجج‬
‫يجوز تفريقها‪ ،‬كما لو شهد الشهود متفرقين‪.‬‬
‫فإذا لم يحلف المدعون‪ ،‬حلف المدعى عليه خمسين‪ ،‬وبرئ‪ ،‬فيقول‪« :‬وال ما قتلته‪ ،‬ول شاركت في‬
‫قتله‪ ،‬ول تسببت في موته» لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي‬
‫يتبرؤون منكم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬هذا الحديث غريب كما قال الزيلعي في نصب الراية‪ 393/4 :‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،289/7 :‬اللباب مع الكتاب‪ ،172/3 :‬تكملة فتح القدير‪ ،388/8 :‬تبيين الحقائق‪.170/6 :‬‬
‫(‪ )3‬بداية المجتهد‪ ،421/2 :‬الدردير‪ 289/4 :‬ومابعدها‪ ،293 ،‬مغني المحتاج‪،116-114/4 :‬‬
‫المغني‪ ،77 ،68/8 :‬كشاف القناع‪ ،8/6 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.348‬‬
‫(‪ )4‬الدردير‪.293/4 :‬‬
‫(‪ )5‬مغني المحتاج‪ ،115/4 :‬كشاف القناع‪.76/6 :‬‬

‫( ‪)7/714‬‬

‫فإن لم يحلف المدعون‪ ،‬ولم يرضوا بيمين المدعى عليه‪ ،‬برئ المتهم‪ ،‬وكانت دية القتيل في بيت المال‬
‫عند الحنابلة (‪ ، )1‬خلفا للمالكية والشافعية‪.‬‬
‫وإن نكل (امتنع) المدعى عليه عن اليمين‪ ،‬ردت اليمان عند الشافعية (‪ )2‬على المدعين‪ ،‬فإن حلفوا‬
‫عوقب المدعى عليه‪ ،‬وإن لم يحلفوا ل شيء لهم‪.‬‬
‫وعند المالكية (‪ : )3‬من نكل من المدعى عليهم‪ ،‬حبس حتى يحلف أو يموت في السجن‪ ،‬وقيل‪ :‬يجلد‬
‫مئة ويحبس عاما‪.‬‬
‫ول يحبس عليها عندالحنابلة (‪ )4‬كسائر اليمان‪.‬‬
‫المطلب السابع ـ من تجب عليه القسامة (أو من يدخل القسامة ) ‪:‬‬
‫تجب القسامة على الورثة كلهم عند بعض الفقهاء وعلى بعض الورثة عند آخرين‪.‬‬
‫ً‪ - 1‬قال الحنفية (‪ : )5‬الحالف هو المدعى عليه‪ ،‬وتجب أيمان القسامة على بعض الورثة وهم‬
‫الرجال البالغون‪ ،‬فل قسامة على صبي أو مجنون أو امرأة؛ لن سبب وجوبها هو التقصير في‬
‫النصرة‪ ،‬وعدم حفظ موضع القتل‪ ،‬وهؤلء ليسوا أهلً لذلك‪.‬‬
‫والصبي أو المجنون ل يدخل في القسامة في أي موضع وجد القتيل‪ ،‬سواء وجد في غير ملكه‪ ،‬أو في‬
‫ملكه‪ .‬أما اشتراكه في الدية مع العاقلة فيدخل معها إن وجد القتيل في ملكه؛ لن وجوده في ملكه‬
‫كمباشرته القتل‪ ،‬والصبي والمجنون مؤاخذان بضمان الفعال المالي‪.‬‬
‫والمرأة ل تدخل في القسامة والدية في قتيل يوجد في غير ملكها‪ .‬أما إن وجد في دارها أو في قرية‬
‫لها‪ ،‬ليس بها غيرها‪ ،‬فعليها القسامة؛ لنها أهل لليمين‪ ،‬فتستحلف وتكرر عليها اليمان في قول‬
‫الطرفين (أبي حنيفة ومحمد)‪ .‬وقال أبو يوسف‪ :‬ل قسامة عليها‪ ،‬وإنما على عاقلتها؛ لنها ليست من‬
‫أهل النصرة‪.‬‬
‫وتدخل المرأة مع العاقلة في الدية في هذه المسألة‪ ،‬استثناء من نظام العاقلة‪.‬‬
‫ول يحلف ولي القتيل مع أهل المحلة‪ ،‬ول يقضى له بالجناية بيمينه؛ لن اليمين شرعت للدفع‪ ،‬ل‬
‫للستحقاق‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪.78/8 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪.116/4 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير للدردير‪ ،296/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.348‬‬
‫(‪ )4‬المغني‪.87/8 :‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ ،294/7 :‬تكملة الفتح‪ 389 ،386/8 :‬ومابعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ ،171/6 :‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ 446 ،444/6‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/715‬‬

‫والقسامة والدية تجبان على القرب من عاقلة من وجد القتيل فيهم‪،‬فرب الدار وقومه أخص‪ ،‬ثم أهل‬
‫المحلة‪ ،‬ثم أهل المصر‪ .‬وقوم الشخص أو قبيلته يرتبون أيضا‪ :‬القرب فالقرب‪.‬‬
‫ول يدخل عند أبي حنيفة ومحمد السكان (كالمستأجرين والمستعيرين) مع الملك في القسامة؛ لن‬
‫المالك هو المختص بنصرة البقعة دون السكان‪ .‬وقال أبو يوسف‪ :‬هي عليهم جميعا؛ لن ولية التدبير‬
‫تكون بالسكنى وبالملك‪ .‬والقسامة عند الطرفين على أهل الخطة (‪ )1‬دون المشترين‪ ،‬ولو بقي من أهل‬
‫الخطة واحد‪ .‬وقال أبو يوسف‪ :‬الكل مشتركون؛ لن ضمان الشيء إنما يجب بترك الحفظ‪ ،‬ممن له‬
‫ولية الحفظ‪ ،‬والولية تتحقق بالملك‪ ،‬والكل هنا ملك‪ .‬ويظهر أن هذا الرأي في الظروف الحاضرة‬
‫هو الولى بالتباع (‪. )2‬‬
‫وإذا حلف أهل المحلة وجبت الدية في مالهم إن كانت الدعوى في قتل عمد‪ ،‬وعلى عواقلهم إن كانت‬
‫في قتل خطأ‪.‬‬
‫وإذا كان مكان وجود القتيل مملوكا تجب القسامة على الملك‪ ،‬والدية على عاقلتهم‪ ،‬وإذا لم يكمل أهل‬
‫المحلة خمسين رجلً‪ ،‬كررت اليمان عليهم حتى يتم خمسون يمينا؛ لنها الواجبة بالسنة‪ ،‬فيجب‬
‫إتمامها ما أمكن‪ .‬ول يبحث عن فائدة تكرار اليمان على هذا النحو‪ ،‬لثبوتها هكذا بالسنة‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬والمالكية (‪ )3‬فرقوا بين نوعي القتيل‪ :‬العمد والخطأ‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫في الخطأ‪ :‬يحلف أيمان القسامة ورثة القتيل‪ ،‬وإن كان الوارث واحدا أوامرأة أو أخا أو أختا لم‪ ،‬وإذا‬
‫تعدد الورثة توزع اليمان على قدر الميراث‪ ،‬ويجبر الكسر واحدا على صاحب الكسر الكثر‪،‬‬
‫وينتظر حضور الغائب حتى يحلف‪ ،‬والصبي حتي يبلغ‪ ،‬فيحلف حصته من أيمان القسامة فقط‪ ،‬وأخذ‬
‫نصيبه من الدية‪ .‬وإن نكل ورثة المقتول خطأ حلفت عاقلة القاتل‪ ،‬كل واحد منهم يمينا واحدة‪ .‬فإن لم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الخِطة‪ :‬ما اختط للبناء‪ ،‬والمراد هنا‪ :‬ما خطه المام حين فتح البلدة وقسمها بين الغانمين‪.‬‬
‫والمقصود بما خطه المام‪ :‬أي ما أفرزه وميزه من أراض وأعطاه لحد الناس‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال ابن عابدين في رد المحتار‪ :447/5 :‬والحاصل أنه إذا كان في محلة أملك قديمة وحديثة‬
‫وسكان‪ ،‬فالقسامة على القديمة دون أخويها؛ لنه إنما يكون ولية تدبير المحلة إليهم‪ .‬وإذا كان فيها‬
‫أملك حديثة وسكان فعلى الحديثة‪ .‬وإذا كان سكان فل شيء عليهم‪ .‬قال في شرح الطحاوي‪ :‬قيل هذا‬
‫في عرفهم‪ ،‬وأما في عرفنا فعلى المشترين؛ لن التدبير إليهم‪.‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير‪ 293/4 :‬ومابعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ 348‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/716‬‬

‫يكن عاقلة حلف الجاني الخمسين وبرئ‪ ،‬فإن نكل غرم حصته‪ ،‬وإن نكل بعض الورثة حلف البعض‬
‫الخر جميع اليمان‪ ،‬وأخذ حصته فقط من الدية‪.‬‬
‫ومن نكل من العاقلة يغرم حصته فقط من الدية للناكلين من ورثة القتيل‪.‬‬
‫وأما في القتل العمد‪ :‬فيحلف العصبة من النسب‪ ،‬سواء ورثوا أم ل‪ .‬ول يحلف أقل من رجلين منهم‪.‬‬
‫ول يحلف النساء في العمد لعدم قبول شهادتهن فيه‪ .‬فإن لم يوجد غيرالنساء‪ ،‬صار المقتول كمن ل‬
‫وارث له‪ ،‬فترد اليمان على المدعى عليه‪ ،‬فيحلف خمسين يمينا أنه‪ :‬ما قتل‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬وقال الشافعية (‪ : )1‬يشترك جميع الورثة رجالً ونساءً في أيمان القسامة‪ ،‬وتوزع اليمان‬
‫الخمسون عليهم بحسب أنصبائهم من الرث‪ .‬ويجبر الكسر للواحد‪.‬‬
‫ً‪ - 4‬وقال الحنابلة (‪ : )2‬تختص اليمان بالورثة الذكور المكلفين‪ ،‬وهم ذوو الفروض والعصبات‬
‫على قدر إرثهم إن كانوا جماعة‪ ،‬ويجبر الكسر واحدا‪ ،‬وإن كان الوارث واحدا حلفها أي الخمسين‬
‫يمينا‪ ،‬ول يدخل في القسامة‪ :‬النساء والصبيان والمجانين‪ ،‬لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬يقسم‬
‫خمسون رجلً منكم‪ ،‬وتستحقون دم صاحبكم» ولن القسامة حجة يثبت بها قتل العمد‪ ،‬فل تسمع من‬
‫النساء كالشهادة‪ ،‬ولن الصبي أو المجنون ل يثبت بقوله حجة‪ ،‬فلو أقر أحدهما على نفسه لم يقبل‬
‫إقراره‪ ،‬فلن ل يقبل قوله في حق غيره أولى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪.115/4 :‬‬
‫(‪ )2‬كشاف القناع‪ ،74/6 :‬المغني‪.80/8 :‬‬

‫( ‪)7/717‬‬

‫المطلب الثامن ـ مايجب بالقسامة (أو الثر المترتب عليها ) ‪:‬‬


‫اتفق الفقهاء على أن الدية تجب بالقسامة على العاقلة في القتل خطأ أو شبه عمد‪ ،‬مخففة في الول‪،‬‬
‫ومغلظة في الثاني‪.‬‬
‫أما في القتل العمد‪ :‬فيرى الحنفية‪ ،‬والشافعية في المذهب الجديد (‪ : )1‬أنه ليجب القصاص‪ ،‬وإنما‬
‫تجب الدية حالّة في مال المقسم عليه (المتهم)‪ ،‬لخبر البخاري‪« :‬إما أن تدوا صاحبكم‪ ،‬أو تأذنوا‬
‫بحرب» فقد أطلق النبي صلّى ال عليه وسلم إيجاب الدية‪ ،‬ولم يفصل بين العمد والخطأ‪ ،‬ولو صلحت‬
‫أيمان القسامة ليجاب القصاص لذكره النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولن القسامة حجة ضعيفة‪،‬‬
‫مشتملة على شبهة؛ لن اليمين تفيد غلبة الظن‪ ،‬فل توجب القصاص‪ ،‬احتياطا لمر الدماء التي ل‬
‫تراق بالشبهة‪ ،‬كالثبات بالشاهد واليمين‪.‬‬
‫وقد روي إيجاب الدية عن عمر وعلي في قتيل وجد بين قريتين على أقربهما إليه‪.‬‬
‫وقال المالكية والحنابلة (‪ : )2‬يجب القصاص بالقسامة في القتل العمد‪ .‬لكن عند المالكية‪ :‬إذا تعدد‬
‫المتهمون ل يقتل بالقسامة أكثر من واحد‪ .‬وعند الحنابلة‪ :‬ل قصاص إذا وجد مانع يمنع منه كعدم‬
‫المكافأة‪ .‬غير أن هذا القيد في كل قصاص‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تكملة فتح القدير‪ ،388/8 :‬الدر المختار ورد المحتار‪ 446/5 :‬ومابعدها‪ ،‬اللباب شرح الكتاب‪:‬‬
‫‪ ،172/3‬مغني المحتاج‪ 116/4 :‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،423/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،297 ،288/4 :‬كشاف القناع‪ ،76/6 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ 68/8‬وما بعدها‪.85 ،77 ،‬‬

‫( ‪)7/718‬‬
‫واستدلوا على إيجاب القصاص بخبر الصحيحين‪« :‬أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» أي دم قاتل‬
‫صاحبكم (‪ ، )1‬وفي رواية «فيدفع إليكم برمته» وفي لفظ مسلم‪« :‬فيسلّم إليكم» ولن القسامة حجة‬
‫يثبت بها العمد‪ ،‬أي القصد بالتفاق‪ ،‬فيثبت بها القصاص كشهادة الرجلين‪ .‬وقد روى الثرم بإسناده‬
‫عن عامر الحول‪« :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم أقاد بالقسامة بالطائف» ‪.‬‬
‫انتهى الجزء السابع‬
‫ويتبعه الجزء الثامن‬
‫تتمة الفقه العام‬
‫الجهاد وتوابعه ‪ -‬القضاء‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬وأجاب الشافعي في الجديد عن الحديث بأن التقدير‪ :‬بدل دم صاحبكم‪.‬‬

‫( ‪)7/719‬‬

‫‪......................................‬ال ِفقْ ُه السلميّ وأدلُّتهُ‪...............................‬‬


‫‪.........................................‬الجزء الثامن‪.....................................‬‬
‫البَابُ الرّابع‪ :‬الجهاد وتوابعه‬
‫ويشتمل على أربعة فصول‪:‬‬
‫‪ - 1‬حكم الجهاد وقواعده‪.‬‬
‫‪ - 2‬انتهاء الحرب بالسلم أو بالمعاهدات‪.‬‬
‫‪ - 3‬حكم النفال والغنائم‪.‬‬
‫‪ - 4‬حكم السرى والسبي‪.‬‬
‫صلُ الوّل‪ :‬حكم الجهاد وقواعده‬
‫ال َف ْ‬
‫يتكلم الفقهاء عادة عن العلقات الدولية العامة والخاصة بين المسلمين وغيرهم فيما يسمونه «كتاب‬
‫السّيَر» (‪ . )1‬والسير‪ :‬جميع سيرة‪ ،‬وهي السنة والطريقة‪ ،‬ويقصد بها هنا سيرة الرسول صلّى ال‬
‫عليه وسلم في غزواته‪ ،‬وذلك يشمل البحث في حقيقة الجهاد والمكفلين بالقتال وواجبات المسلمين قبل‬
‫بدء المعركة وفي أثنائها وبعد انتهائها‪ ،‬وحكم المعاهدات من أمان وهدنة وعقد ذمة‪ ،‬وحكم النفال‬
‫والغنائم وكيفية تقسيم خمس الغنيمة‪ ،‬وحكم أموال المسلمين التي استولى عليها العداء‪ ،‬وحكم‬
‫السرى‪ ،‬وحكم المرتدين‪.‬‬
‫وسأذكر هنا هذه الموضوعات مجملة؛ لن تفصيلها يحتاج إلى مؤلف ضخم (‪. )2‬‬
‫معنى الجهاد‪ :‬الجهاد لغة‪ :‬بذل الجهد وهو الوسع والطاقة‪ :‬مأخوذ من الجهد بالضم‪ ،‬أوا لمبالغة في‬
‫العمل‪ :‬مأخوذ من الجهد بالفتح‪ .‬واصطلحا عند الحنفية‪ :‬هو الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله‬
‫بالمال والنفس‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬انفروا خفافا وثقالً ‪ ،‬وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل ال‪ ،‬ذلكم‬
‫خير لكم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السير‪ :‬بكسر السين وفتح الياء‪ .‬وللمام محمد بن الحسن كتابان‪« :‬السير الكبير» و «السير‬
‫الصغير» من كتب ظاهر الرواية‪ ،‬وقد وصفت بصفة المذكر لقيامها مقام المضاف الذي هو الكتاب‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر آثار الحرب في الفقه السلمي ـ رسالتنا التي حصلنا بها على درجة الدكتوراه في‬
‫الحقوق بمرتبة الشرف الولى مع التبادل مع الجامعات الجنبية‪ ،‬ط ثالثة‪.‬‬

‫( ‪)8/1‬‬

‫إن كنتم تعلمون} [التوبة‪ ]41/9:‬وقال سبحانه‪{ :‬إن ال اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم‬
‫الجنة يقاتِلون في سبيل ال ‪ ،‬فيَقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن‪ ،‬ومن أوفى‬
‫بعهده من ال ‪ ،‬فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به‪ ،‬وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة‪. )1( ]111/9:‬‬
‫وعرفه غير الحنفية بما يقارب هذا التعريف‪ ،‬فقال الشافعية مثلً‪« :‬هو قتال الكفار لنصرة السلم» (‬
‫‪. )2‬‬
‫وأنسب تعريف للجهاد شرعا أنه‪ :‬بذل الوسع والطاقة في قتال الكفار ومدافعتهم بالنفس والمال‬
‫واللسان‪.‬‬
‫فالجهاد يكون بالتعليم وتعلم أحكام السلم ونشرها بين الناس‪ ،‬وببذل المال‪ ،‬وبالمشاركة في قتال‬
‫العداء إذا أعلن المام الجهاد‪ ،‬أخرج أبو داود عن أنس ابن مالك رضي ال عنه عن النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم قال‪« :‬جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» ‪.‬‬
‫فضل الجهاد ومنزلته في السلم ‪:‬‬
‫الجهاد في السلم ذروة سنامه‪ ،‬وسياج مبادئه‪ ،‬وطريق الحفاظ على بلد السلم والمسلمين‪ .‬فهو من‬
‫أهم مبادئ السلم العظمى؛ لنه سبيل العزة والكرامة والسيادة‪ ،‬لهذا كان فريضة محكمة‪ ،‬وأمرا‬
‫ماضيا إلى يوم القيامة‪ ،‬وما ترك قوم الجهاد إل ذَلّوا وغُزوا في عقر دارهم وخذلهم ال ‪ ،‬وسلط‬
‫عليهم شرار الناس وأراذلهم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،97/7 :‬فتح القدير‪ 276/4 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪.238/3 :‬‬
‫(‪ )2‬حاشية الشرقاوي على تحفة الطلب‪ ،391/2 :‬وانظر آثار الحرب للمؤلف‪ :‬ص ‪ 31‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/2‬‬

‫قال تعالى‪{ :‬وجاهدوا في ال حق جهاده} [الحج‪{ ]78/22:‬إن ال اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم‬
‫بأن لهم الجنة‪ ،‬يقاتلون في سبيل ال ‪ ،‬ف َيقْتلون ويُقْتلون‪ ،‬وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن‪،‬‬
‫ومن أوفى بعهده من ال ‪ ،‬فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به‪ ،‬وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة‪.]111/9:‬‬
‫ثم وردت أحاديث نبوية كثيرة تبين فضل الجهاد‪ ،‬وأنه أفضل العمال عند ال تعالى‪ ،‬سئل رسول ال‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬أي العمل أفضل؟ قال‪ :‬إيمان بال ورسوله‪ ،‬قيل‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪ :‬الجهاد في‬
‫سبيل ال ‪ ،‬قيل‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪ :‬حج مبرور» (‪ . )1‬وقال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬لغدوة أو روحة‬
‫في سبيل ال خير من الدنيا وما فيها» (‪. )2‬‬
‫والمجاهد الذي يجود أو يضحي بنفسه في سبيل ال ‪ ،‬سبيل الجماعة والقيم العليا‪ ،‬يتمتع بالخلود‬
‫والرفعة والمكانة في تاريخ البشرية وعند ال تعالى حيث يجعله في مصاف النبياء والمرسلين‪ ،‬قال‬
‫ال تعالى‪{ :‬ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا‪ ،‬بل أحياء عند ربهم يرزقون‪ .‬فرحين بما آتاهم‬
‫ال من فضله‪ ،‬ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خَلْفهم ألّ خوف عليهم ول هم يحزنون} [آل‬
‫عمران‪.]170-169/3:‬‬
‫ولقد تمنى نبي ال أن يحوز درجة الشهادة في سبيل ال ‪ ،‬فقال‪« :‬والذي نفس محمد بيده‪ ،‬لوددت أن‬
‫أغزو في سبيل ال ‪ ،‬فأُقتل‪،‬ثم أغزو فأقتل‪ ،‬ثم أغزو فأقتل» (‪ )3‬وقال‪« :‬يغفر للشهيد كل ذنب إل‬
‫الدّيْن» (‪ . )4‬بل إن الشهيد نفسه يتمنى‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي ال‬
‫عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم عن عبد ال بن عمرو رضي ال عنهما‪.‬‬

‫( ‪)8/3‬‬
‫العودة إلى دار الدنيا‪ ،‬قال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا‬
‫وإن له ما على الرض من شيء‪ ،‬إل الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا‪ ،‬فيقتل عشر مرات لما‬
‫يرى من الكرامة» (‪. )1‬‬
‫وعقد الرسول الكريم مقارنة دقيقة بين قتلى الحرب فقال (‪« : )2‬القتلى ثلثة رجال‪ :‬رجل مؤمن‬
‫جاهد بنفسه وماله في سبيل ال ‪ ،‬حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل‪ ،‬ذلك الشهيد الممتحن‪ ،‬في خيمة‬
‫ال تحت عرشه‪ ،‬ل يفضله النبيون إل بدرجة النبوة‪ .‬ورجل مؤمن قَرَف (‪ )3‬على نفسه من الخطايا‪،‬‬
‫جاهد بنفسه وماله في سبيل ال ‪ ،‬حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل‪ ،‬فتلك مصمصة (‪ )4‬محت ذنوبه‬
‫وخطاياه‪ ،‬إن السيف محّاء للخطايا‪ ،‬وأُدخل من أي أبواب الجنة شاء‪ ،‬فإن لها ثمانية أبواب‪ ،‬ولجهنم‬
‫سبعة أبواب‪ ،‬وبعضها أسفل من بعض‪ .‬ورجل منافق جاهد بنفسه وماله في سبيل ال ‪ ،‬حتى إذا لقي‬
‫العدو قاتل حتى يقتل‪ ،‬فذلك في النار‪ ،‬إن السيف ل يمحو النفاق» (‪. )5‬‬
‫فريضة الجهاد ‪:‬‬
‫إن لم يكن النفير عاماً‪ :‬فالجهاد فرض كفاية‪ ،‬ومعناه أنه يفترض على جميع من هو أهل للجهاد‪ ،‬لكن‬
‫إذا قام به البعض سقط عن الباقين‪ ،‬لقوله عز وجل‪{ :‬فضّل ال المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على‬
‫القاعدين درجة‪ ،‬وكلّ وعد ال‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أنس رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع كتاب الجهاد لعبد ال بن المبارك‪ :‬ص ‪.30‬‬
‫(‪ )3‬قرف الذنب واقترفه‪ ،‬إذا كسبه وعمله‪.‬‬
‫(‪ )4‬أي مطهرة من دنس الخطايا‪.‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه من حديث عتبة بن عبد السلمي الدارمي‪ ،‬والطيالسي‪ ،‬وابن حبان والبيهقي وأحمد‬
‫والطبراني‪ ،‬ورجال أحمد رجال الصحيح خل أبا المثنى‪ ،‬المملوكي وهو ثقة‪.‬‬

‫( ‪)8/4‬‬

‫الحسنى} [النساء‪ ]95/4:‬ال سبحانه وعد الحسنى كلّ من المجاهدين والقاعدين عن الجهاد‪ ،‬ولو كان‬
‫الجهاد فرض عين لما وعد القاعدين الحسنى؛ لن القعود يكون حراما‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪{ :‬وما كان المؤمنون لينفروا كافة‪ ،‬فلول نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين}‬
‫[التوبة‪ ]122/9:‬الية‪ ،‬ولن المقصود من الجهاد ـ وهو الدعوة إلى السلم‪ ،‬وإعلء الدين الحق‪،‬‬
‫ودفع شر الكفرة وقهرهم ـ يحصل بقيام البعض به‪ ،‬فإذا قاموا به يسقط عن الباقين‪.‬‬
‫وإن ضعفوا عن مقاومة الكفرة‪ ،‬فعلى من يجاورهم من المسلمين‪ ،‬القرب‪ ،‬فالقرب‪ :‬أن يجاهدوا‬
‫معهم وأن يمدوهم بالسلح والمال‪.‬‬
‫ول يجوز للمرأة الشتراك في الجهاد إل بإذن زوجها؛ لن القيام بحقوق الزوجية فرض عين‪ ،‬كما ل‬
‫يجوز الجهاد للولد بدون إذن أبويه أو أحدهما إذا كان الخر ميتا؛ لن بر الوالدين فرض عين‪ ،‬فيكون‬
‫مقدما على فرض الكفاية‪.‬‬
‫وأقل الجهاد عند توافر القوة مرة في السنة كإحياء الكعبة‪ ،‬ولقوله تعالى‪{ :‬أ َو ل يرون أنهم يفتنون في‬
‫كل عام مرة أو مرتين} [التوبة‪ ]126/9:‬قال مجاهد‪ :‬نزلت في الجهاد ولفعله صلّى ال عليه وسلم منذ‬
‫أمر به‪.‬‬
‫وكان الجهاد على عهد رسول ال صلّى ال عليه وسلم فرض كفاية‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ل يستوي‬
‫القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} ـ إلى قوله تعالى ‪{ -‬وكلً وعد ال الحسنى} [النساء‪:‬‬
‫‪ ]4/95‬ففاضل سبحانه وتعالى بين المهاجرين والقاعدين ‪ ،‬ووعد كلً الحسنى‪ ،‬والعاصي ل يوعد بها‪،‬‬
‫ول يفاضل بين مأجور ومأزور‪ .‬وأما بعد النبي صلّى ال عليه وسلم فللكفار حالن‪ :‬أحدهما ـ‬
‫يكونون ببلدهم ففرض كفاية إذا فعله من فيهم كفاية‪ ،‬سقط الحرج عن الباقين‪.‬‬

‫( ‪)8/5‬‬

‫الثاني ـ يدخلون بلدة لنا‪ ،‬فيلزم أهلها الدفع بالممكن‪ ،‬فإن عجزوا وجب القتال على من بقربهم دون‬
‫مسافة القصر من البلدة كأهلها‪ ،‬ثم يلزم من بعد ذلك بقدر الكفاية دفعا عنهم وإنقاذا لهم‪ .‬والتقييد بقدر‬
‫الكفاية دال على أنه ل يجب على الجميع الخروج للقتال‪ ،‬بل إذا صار إليه قوم فيهم كفاية‪ ،‬سقط‬
‫الحرج عن الباقين (‪. )1‬‬
‫فإن كان النفير عاماً‪ :‬كأن هجم العدو على بلد إسلمي‪ :‬فالجهاد فرض عين على كل قادر من‬
‫المسلمين‪ ،‬لقوله سبحانه وتعالى‪{ :‬انفروا خفافا وثقالً} [التوبة‪ ]41/9:‬قيل‪ :‬نزلت في النفير‪ .‬وقوله عز‬
‫وجل‪{ :‬ما كان لهل المدينة ومن حولهم من العراب أن يتخلفوا عن رسول ال ‪ ،‬ول يرغبوا بأنفسهم‬
‫عن نفسه} [التوبة‪ ]120/9:‬فإذا عم النفير خرجت المرأة بغير إذن زوجها‪ ،‬وجاز للولد أن يخرج بدون‬
‫إذن والديه‪.‬‬
‫ويتعين الجهاد في ثلثة أحوال (‪: )2‬‬
‫الول ـ إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان‪ ،‬حرم على من حضر النصراف وتعين عليه المقام‪ ،‬لقوله‬
‫تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا ال كثيرا} [النفال‪.]45/8:‬‬
‫الثاني ـ إذا نزل الكفار ببلد‪ ،‬تعين على أهله قتالهم ودفعهم‪.‬‬
‫الثالث ـ إذا استنفر المام قوما‪ ،‬لزمهم النفير معه‪ ،‬لقول ال تعالى‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،219 - 208/4 :‬المغني‪.348/8 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪.346/8 :‬‬

‫( ‪)8/6‬‬

‫{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل ال اثّاقلتم إلى الرض} [التوبة‪ ]38/9:‬وللحديث‬
‫المتفق عليه‪« :‬إذا استنفرتم فانفروا» ‪.‬‬
‫وهذا الحكم المذكور في فرضية الجهاد باتفاق الفقهاء (‪. )1‬‬
‫شروط الجهاد‪ :‬يشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط (‪ : )2‬السلم‪ ،‬والبلوغ‪ ،‬والعقل‪ ،‬والحرية‪،‬‬
‫والذكورة‪ ،‬والسلمة من الضرر‪ ،‬ووجود النفقة‪.‬‬
‫فأما السلم والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع الشرعية‪ .‬وأما الحرية؛ فلن النبي كان‬
‫يبايع الحر على السلم والجهاد‪ ،‬ويبايع العبد على السلم دون الجهاد‪.‬‬
‫وأما الذكورة فلحديث عائشة عند البخاري وغيره‪« :‬قلت‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬نرى الجهاد أفضل العمال‪،‬‬
‫أفل نجاهد؟ فقال‪ :‬لكن أفضل الجهاد‪ :‬حج مبرور» ‪ .‬وأما السلمة من الضرر أي العمى والعرج‬
‫والمرض‪ ،‬فلقوله تعالى‪{ :‬ليس على العمى حرج‪ ،‬ول على العرج حرج‪ ،‬ول على المريض حرج}‬
‫[النور‪ .]61/24:‬وأما وجود النفقة فلقوله تعالى‪{ :‬ليس على الضعفاء ولعلى المرضى‪ ،‬ول على‬
‫الذين ل يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا ل ورسوله} [التوبة‪ ]91/9:‬ولن الجهاد ل يمكن إل‬
‫بآلة ‪ ،‬فتطلب القدرة عليها‪ .‬وهذا كان في الماضي‪ ،‬وأما في عصرنا فالدولة تمد المجاهد بالسلح‬
‫والنفقة‪.‬‬
‫المكلفون بالجهاد‪ :‬يفترض الجهاد على القادر عليه‪ ،‬فمن ل قدرة له ل جهاد عليه‪ ،‬فل يطالب بالجهاد‪:‬‬
‫العمى‪ ،‬والعرج‪ ،‬والمريض مرضا مزمنا أو غير‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ :‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،98‬تبيين الحقائق‪ ،241/3 :‬فتح القدير‪ ،278/4 :‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ ،239/3‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪.87‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪.347/8 :‬‬

‫( ‪)8/7‬‬

‫مزمن‪ ،‬والمقعد (‪ )1‬والشيخ الهرم‪ ،‬والضعيف والقطع (‪ )2‬والذي ل يجد ما ينفق‪ ،‬والصبي‪ ،‬والمرأة‬
‫ل للقتال‪،‬‬
‫والعبد؛ لن الخيرين مشغولن بخدمة الزوج والسيد؛ ولن الصبي غير مكلف‪ ،‬وليس أه ً‬
‫بدليل ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال‪« :‬عُرضتُ على رسول ال صلّى ال عليه وسلم يوم‬
‫أحد‪ ،‬وأنا ابن أربع عشرة سنة‪ ،‬فلم يجزني في المقاتلة» الحديث‪ .‬وأما كون الباقين لقتال عليهم‬
‫فلعجزهم‪ ،‬وقد نزل فيهم قوله تعالى‪{ :‬ليس على العمى حرج ول على العرج حرج‪ ،‬ول على‬
‫المريض حرج‪[ }...‬النور‪ ]61/24:‬الية نزلت في أصحاب العذار حين همّوا بالخروج مع النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم حين نزلت آية التخلف عن الجهاد‪ .‬وقال سبحانه‪{ :‬ليس على الضعفاء ول على‬
‫المرضى ول على الذين ل يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا ل ورسوله} [التوبة‪. )3( ]91/9:‬‬
‫ول تقاتل المرأة إل بإذن زوجها إل أن يهجم العدو على بلد المسلمين‪ ،‬لصيرورة القتال حينئذ فرض‬
‫عين‪.‬‬
‫ول يقاتل الولد إل بإذن أبويه‪ ،‬إل إذا صار الجهاد فرض عين‪ ،‬جاء في الصحيحين‪ « :‬أن رجلً‬
‫استأذن النبي صلّى ال عليه وسلم في الجهاد‪ ،‬فقال‪ :‬ألك والدان؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬ففيهما فجاهد» ‪.‬‬
‫ما يجب قبل القتال‪ :‬أمر الجهاد موكول إلى المام واجتهاده‪ ،‬ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك‪،‬‬
‫وينبغي أن يبتدئ بترتيب قوم في أطراف البلد يكفون‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المقعد كما في المغرب‪ :‬هو الذي أقعده الداء عن الحركة‪ .‬وقيل‪ :‬المقعد‪ :‬المتشنج العضاء‪.‬‬
‫والزمِن‪ :‬الذي طال مرضه‪.‬‬
‫(‪ )2‬هو المقطوع اليد‪.‬‬
‫(‪ )3‬المراجع السابقة‪ ،‬البدائع‪ :‬ص ‪ 98‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ :‬ص ‪ ،241‬فتح القدير‪ :‬ص ‪،283‬‬
‫الدر المختار‪ :‬ص ‪.241‬‬

‫( ‪)8/8‬‬
‫من بإزائهم من المشركين‪ ،‬ويأمر بإعداد الحصون وحفر الخنادق‪ ،‬وجميع المصالح‪ .‬ويؤمّر في كل‬
‫ناحية أميرا يقلده أمر الحروب وتدبير الجهاد (‪ . )1‬فإذا ساءت العلقة بين المسلمين وغيرهم من‬
‫الكفار ووجدت دواعي القتال‪ ،‬وقرر الحاكم المسلم خوض المعركة مع العدو‪ ،‬فيجب حينئذ إنذار العدو‬
‫بإعلن الجهاد أوإبلغ الدعوة السلمية‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء في حكم إبلغ الدعوة على ثلثة آراء‪:‬‬
‫الول ـ يجب قبل القتال تقديم الدعوة السلمية مطلقا‪ ،‬أي سواء بلغت الدعوة العدو أم ل‪ ،‬وبه قال‬
‫مالك والهادوية والزيدية‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون}‬
‫[الفتح‪.]16/48:‬‬
‫الثاني ـ ل يجب ذلك مطلقا‪ ،‬وهو رأي قوم كالحنابلة‪.‬‬
‫الثالث ـ تجب الدعوة لمن لم يبلغهم السلم‪ ،‬فإن انتشر السلم‪ ،‬وظهر كل الظهور‪ ،‬وعرف الناس‬
‫لماذا يُدعون‪ ،‬وعلى ماذا يقاتلون‪ ،‬فالدعوة مستحبة تأكيدا للعلم والنذار‪ ،‬وليست بواجبة‪ ،‬وهذا رأي‬
‫جمهور الفقهاء والشيعة المامية والباضية‪ .‬قال ابن المنذر‪ :‬هو قول جمهور أهل العلم‪ ،‬وقد تظاهرت‬
‫الحاديث الصحيحة على معناه‪ ،‬وبه يجمع بين ما ظاهره الختلف من الحاديث (‪. )2‬‬
‫من الحاديث التي توجب البلغ‪ :‬ما روي عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬قال‪« :‬ما قاتل رسول‬
‫ال صلّى ال عليه وسلم قوما قط إل دعاهم» (‪ )3‬وما رواه سليمان بن‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪.352/8 :‬‬
‫(‪ )2‬راجع آثار الحرب للمؤلف‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ :‬ص ‪ 152‬وما بعدها‪ ،‬الحكام السلطانية للماوردي‪:‬‬
‫ص ‪.35‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد والبيهقي وأبو يعلى والطبراني وعبد الرزاق‪ ،‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد‪:304/5 :‬‬
‫ورجاله رجال الصحيح (راجع نيل الوطار‪ 230/7 :‬وما بعدها‪ ،‬نصب الراية‪.)378/3 :‬‬

‫( ‪)8/9‬‬

‫بريدة عن أبيه‪ ،‬قال‪« :‬كان رسول ال صلّى ال عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه‬
‫في خاصيته بتقوى ال ومن معه من المسلمين خيرا‪ ..‬ثم قال‪ :‬وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم‬
‫إلى ثلث خصال أو خلل‪ ،‬فأيتهن ما أجابوك‪ ،‬فاقبل منهم‪ ،‬وكف عنهم‪ :‬ادعهم إلى السلم فإن‬
‫أجابوك‪ ،‬فاقبل منهم‪ ،‬وكف عنهم‪ ...‬فإن أبوا فسلهم الجزية‪ ،‬فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم‪ ،‬وإن‬
‫أبوا فاستعن بال عليهم وقاتلهم‪ »...‬الحديث (‪. )1‬‬
‫ومن الحاديث التي ل توجب البلغ أو الدعوة إلى السلم‪ :‬ما روي عن عبد الرحمن بن عوف أن‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم أغار على بني المُصطَلِق وهم غارّون (أي غافلون) وأنعامهم تسقى‬
‫على الماء‪ ،‬فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم (‪ . )2‬ومنها ما رواه أسامة بن زيد أن رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم كان عهد إليه فقال‪« :‬أغر على أبنى (‪ )3‬صباحا‪ ،‬وحرّق» (‪ )4‬والغارة ل تكون مع‬
‫الدعوة‪.‬‬
‫الحديثان الولن وغيرهما يعتبران الدعوة إلى السلم شرطا في جواز القتال‪ ،‬والحديثان الخران‬
‫يجيزان الغارة على العدو بدون دعوة جديدة‪ ،‬نظرا لنه سبق له بلوغ الدعوة‪ ،‬وإزاء هذا التعارض‬
‫في الظاهر قال أرباب الرأي الول والثاني‪ :‬إن بعض الحاديث ينسخ بعضها‪ ،‬أو يخصص الفعل‬
‫بزمن النبوة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الجماعة إل البخاري‪ ،‬وصححه الترمذي (راجع نيل الوطار‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬جامع‬
‫الصول‪ ،201/3 :‬نصب الراية‪ ،380/3 :‬سبل السلم‪ ،46/4 :‬اللمام‪ :‬ص ‪.)484‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد والشيخان (راجع نيل الوطار‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،232‬جامع الصول‪،204/3 :‬‬
‫نصب الراية‪3 :‬ص ‪ ،381‬سبل السلم‪ :‬ص ‪ ،45‬اللمام‪ :‬ص ‪.)486‬‬
‫(‪ )3‬أبنى ـ كحبلى‪ :‬موضع بفلسطين بين عسقلن والرملة‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود وابن ماجه (راجع سنن أبي داود‪ ،352/1 :‬سنن ابن ماجه‪ :‬ص ‪ ،209‬نصب‬
‫الراية‪ ،382/3 :‬نيل الوطار‪.)250/7 :‬‬

‫( ‪)8/10‬‬

‫وقال الجمهور‪ :‬يلجأ إلى الجمع والتوفيق بين الحاديث؛ لنه ل يلجأ إلى النسخ إل إذا تعذر الجمع بين‬
‫الدلة‪ ،‬وأما ادعاء التخصيص فل دليل عليه‪.‬‬
‫فمن لم تبلغه الدعوة يجب دعاؤه إلى السلم‪ ،‬فإذا بلغته استحب ذلك (‪. )1‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬يجوز أن نبدأ العدو بالقتال والغارة والبيات عليهم (‪ )2‬؛ لنه قد وصلتهم أنباء الدعوة‬
‫السلمية‪ .‬وبه يتبين أنه يشترط فيمن نقاتلهم شرطين‪:‬‬
‫‪ - 1‬أل يكونوا مستأمنين أو معاهدين أو من أهل الذمة‪ :‬لن دماء هؤلء معصومة مصونة‪ ،‬وقد حرم‬
‫الشرع قتلهم‪ ،‬كما يأتي في المعاهدات‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬إبلغهم الدعوة السلمية وتعريفهم بالسلم وبيان حقيقته وأهدافه وأسباب جهاد أعدائه‪ .‬فإن‬
‫توافر هذان الشرطان جاز قتالهم من دون إنذار سابق كما تقدم‪.‬‬
‫من يقتل ومن ل يقتل من العداء في المعركة‪ :‬يجوز قتل المقاتلة الذين يشتركون في الحرب برأي أو‬
‫تدبير أو قتال‪ ،‬ول يجوز قتل غير المقاتلة من امرأة أو صبي أو مجنون أو شيخ هرم‪ ،‬أو مريض‬
‫مقعد‪ ،‬أو أشل‪ ،‬أو أعمى‪ ،‬أو مقطوع اليد والرجل من خلف أو مقطوع اليد اليمنى‪ ،‬أو معتوه‪ ،‬أو‬
‫راهب في صومعته‪ ،‬أو قوم في دار أو كنيسة ترهبوا‪ ،‬والعَجَزة عن القتال‪،‬والفلحين في حرثهم إل‬
‫إذا قاتلوا بقول أو فعل أو رأي أو إمداد بمال‪ ،‬بدليل أن ربيعة بن رفيع السّلَمي أدرك دريد بن الصّمة‬
‫يوم حنين‪ ،‬فقتله وهو شيخ كبير جاوز المئة‪ ،‬ل ينتفع إل برأيه‪ ،‬فبلغ ذلك رسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم ولم ينكر عليه (‪ . )3‬ويجوز قتل المرأة إذا كانت مَلِكة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 153‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البيات ـ بفتحتين‪ :‬الغارة ليلً‪ ،‬يقال‪ :‬بيّت المر‪ :‬دبره ليلً‪.‬‬
‫(‪ )3‬روي ذلك في الصحيحين عن أبي موسى (نيل الوطار‪.)248/7 :‬‬

‫( ‪)8/11‬‬

‫العداء؛ لن في قتلها تفريقا لجمعهم‪ ،‬وكذلك إذا كان ملكهم صبيا صغيرا وأحضروه معهم في‬
‫المعركة‪ ،‬ل بأس بقتله إذا كان في قتله تفريق جمعهم‪.‬‬
‫وأما أدلة عدم جواز قتلهم إذا لم يقاتلوا‪ :‬فمنها قوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ل تقتلوا امرأة ول وليدا»‬
‫(‪ )1‬وقد ثبت أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم «نهى عن قتل النساء والصبيان» (‪ . )2‬وقال لحد‬
‫صحابته‪ :‬الحق خالدا فقل له‪« :‬ل تقتلوا ذرّية ول عسيفا» (‪ . )3‬وعن ابن عباس أن النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال‪« :‬ل تقتلوا أصحاب الصوامع» (‪ . )4‬وعن أنس أن رسول ال‬
‫صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬انطلقوا باسم ال وبال ‪ ،‬وعلى ملة رسول ال‪ ،‬ول تقتلوا شيخا فانيا‪ ،‬ول‬
‫طفلً‪ ،‬ول صغيرا‪ ،‬ول امرأة‪ ،‬ول تغلّوا‪ ،‬وضموا غنائمكم‪ ،‬وأصلحوا‪ ،‬وأحسنوا إن ال يحب‬
‫المحسنين» (‪. )5‬‬
‫هذا في حال الحرب والقتال‪ .‬أما بعد انتهاء القتال وهو ما بعد السر والخذ‪ :‬فكل من ل يحل قتله في‬
‫حال القتال ل يحل قتله بعد الفراغ من القتال‪ ،‬وكل من يحل قتله في حال القتال إذا قاتل يباح قتله بعد‬
‫الخذ والسر إل الصبي‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الطبراني في الكبير والوسط عن ابن عباس ولفظه‪..« :‬ول تقتلوا وليدا ول امرأة ول‬
‫شيخا» (راجع مجمع الزوائد‪.)316/5 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه الجماعة إل النسائي عن ابن عمر أنه قال‪« :‬وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فنهى الرسول صلّى ال عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان» ‪ .‬ورواه الموطأ‬
‫أيضا‪ ،‬وفي رواية لحمد وأبي داود‪« :‬ما كانت هذه لتقاتل» (راجع القسطلني شرح البخاري‪:‬‬
‫‪ ،142/5‬سنن ابن ماجه‪ ،101/2 :‬منتخب كنز العمال من مسند أحمد‪ ،319/2 :‬نيل الوطار‪:‬‬
‫‪ ،246/7‬جامع الصول‪ 208/3 :‬ومابعدها‪ ،‬نصب الراية‪ ،386/3 :‬مجمع الزوائد‪.)315/5 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد وأصحاب السنن إل الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن رباح بن ربيع (نيل‬
‫الوطار‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬جامع الصول‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬مجمع الزوائد‪ :‬ص ‪ ،316‬نصب الراية‪:‬‬
‫ص ‪ )388‬والذرية‪ :‬الولدان‪ .‬والعسيف‪ :‬الجير‪.‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه أحمد عن ابن عباس (نيل الوطار‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.)247‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه أبو داود عن أنس (نيل الوطار‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،246‬سنن أبي داود‪،52/3 :‬‬
‫والمراجع السابقة)‪.‬‬

‫( ‪)8/12‬‬

‫والمعتوه الذي ل يعقل‪ ،‬فإنه يباح قتلهما في حال القتال إذا قاتل‪ ،‬ول يباح قتلهما بعد الفراغ من القتال‬
‫إذا أسرا‪ ،‬حتى وإن قتل جماعة من المسلمين في القتال؛ لن القتل بعد السر بطريق العقوبة‪ ،‬وهما‬
‫ليسا من أهل العقوبة‪ ،‬فأما القتل في حال القتال فلدفع شر المقاتل‪ ،‬فإذا وجد الشر منهما فأبيح قتلهما‬
‫لدفع الشر‪ ،‬كما قال الكاساني (‪. )1‬‬
‫وينبغي للمسلمين أل يغدروا (أي يخونوا بنقض العهد) ول يغلّوا (أي يسرقوا من الغنيمة) ول يمثّلوا‬
‫بالعداء‪ :‬بأن يشقوا أجوافهم ويرضخوا رؤوسهم ونحو ذلك‪ .‬قال بعض الحنفية‪ :‬وإنما تكره المُثْلة بعد‬
‫الظفر بهم‪ ،‬أما قبله فل بأس بها (‪. )2‬‬
‫هذا هو مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والشيعة الزيدية والشافعي في أحد قوليه)‪ .‬وقال‬
‫الشيعة المامية والظاهرية وابن المنذر والشافعي في أظهر قوليه‪ :‬يجوز قتل من عدا النساء والصبيان‬
‫( ‪. )3‬‬
‫التدمير والتخريب‪ :‬ل بأس عند الضرورة الحربية بإحراق حصون العدو بالنار‪ ،‬وإغراقها بالماء‬
‫وتخريبها وهدمها عليهم‪ ،‬وقطع أشجارهم وإفساد زروعهم‪ ،‬ونصب المجانيق (‪ )4‬ونحوها من مدافع‬
‫اليوم على حصونهم وهدمها‪ ،‬لقوله تعالى‪ { :‬يُخرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } [الحشر‪:‬‬
‫‪.]2/59‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع البدائع‪ 101/7 :‬وفي شرح اللباب على الكتاب‪ :210/4 :‬ل بأس بقتل غير الصبي‬
‫والمجنون بعد السر‪ ،‬لنه من أهل العقوبة‪ ،‬الشرح الصغير‪ 275/2 :‬وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪44/3 :‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع الموضوع في آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 294‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع الموضوع في آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 494‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬المجانيق‪ :‬جمع منجنيق‪ ،‬وهي التي يرمى بها الحجارة‪.‬‬

‫( ‪)8/13‬‬

‫ولنه عليه الصلة والسلم أحرق البويرة‪ :‬وهي موضع بقرب المدينة‪ ،‬ولن في إرسال الماء ونحوه‬
‫كسر شوكتهم وتفريق جمعهم‪.‬‬
‫ول بأس برميهم بالنبال ونحوها من وسائل القتال الحديثة‪ ،‬البرية والبحرية والجوية‪ ،‬وإن كان فيهم‬
‫مسلمون من السارى والتجار؛ لن رميهم ضرورة‪ ،‬ويقصد الكفار بالضرب ل المسلمين؛ لنه ل‬
‫ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق‪.‬‬
‫وكذا يجوز ضرب الكفار إن تترسوا بأطفال المسلمين وأسراهم‪ ،‬للضرورة وسدا لذريعة الفساد التي‬
‫قد تترتب على ترك قتلهم‪ ،‬لكن يقصد الكفار بالضرب كما ذكر‪ .‬وإن أصيب مسلم فل دية ول كفارة‪.‬‬
‫ولينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالكفار على قتال الكفار‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم‬
‫عن عائشة ـ لرجل تبعه يوم بدر‪« :‬ارجع فلن أستعين بمشرك» ؛ ولنه ل يؤمن غدرهم‪ ،‬إذ العداوة‬
‫الدينية تحملهم على الغدر إل عند الضطرار (‪ ، )1‬وقد أجاز الكثرون من أتباع المذاهب الربعة‬
‫الستعانة بالكافر على الكفار‪ ،‬إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين‪ ،‬أي وكانت القيادة للمسلمين‪ .‬وقيد‬
‫الشافعية ذلك أيضا بالحاجة؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم ـ استعان بصفوان بن‬
‫أمية يوم حنين‪ ،‬وتعاونت خزاعة مع النبي صلّى ال عليه وسلم عام فتح مكة‪ ،‬وخرج قُزمان الظفري‬
‫وهو من المنافقين مع الصحابة يوم أحد‪ ،‬وهو مشرك (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 100/7 :‬وما بعدها‪ ،‬الكتاب مع اللباب‪ 117/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬نيل الوطار‪ ،136/7 :‬القسطلني شرح البخاري‪.170/5 :‬‬

‫( ‪)8/14‬‬

‫ما يجب على المجاهدين حال القتال‪ :‬يجب على المجاهدين حال التحام القتال‪ ،‬وفي أثناء المعركة‪،‬‬
‫الثبات أمام عدوهم إذا غلب على ظنهم أنهم يقاومونهم‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة‬
‫فاثبتوا واذكروا ال كثيرا‪ ،‬لعلكم تفلحون} [النفال‪ ]45/8:‬وعلى المسلم أن يثبت أمام اثنين من الكفار‪،‬‬
‫قال ال تعالى‪{ :‬الن خفف ال عنكم‪ ،‬وعلم أن فيكم ضعفا‪ ،‬فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين‪،‬‬
‫وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن ال ‪ ،‬وال مع الصابرين} [النفال‪.]66/8:‬‬
‫فإن غلب على ظن المقاتلين المسلمين أنهم سيُغلبون ويقتلون‪ ،‬فل بأس أن يفروا من عدوهم منحازين‬
‫إلى فئة يستنصرون بها من المسلمين‪ .‬ول عبرة بالعدد‪ ،‬حتى إن الواحد‪ ،‬إذا لم يكن معه سلح‪ ،‬فل‬
‫بأس أن يفر من اثنين مسلحين‪ ،‬أو من واحد مسلح‪ ،‬أو بسبب عجز لمرض ونحوه‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬يا‬
‫أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا‪ ،‬فل تولوهم الدبار‪ ،‬ومن يولهم يومئذ دبره إل متحرفا‬
‫لقتال‪ ،‬أو متحيزا إلى فئة‪ ،‬فقد باء بغضب من ال ‪ ،‬ومأواه جهنم وبئس المصير} [النفال‪)1( ]16/8:‬‬
‫‪.‬‬
‫ويؤيده ما روى ابن عمر قال‪« :‬بعث رسول ال صلّى ال عليه وسلم سرية قِبَل نجد‪ ،‬وأنا فيهم‪،‬‬
‫فحاص المسلمون حيصة (يعني انهزموا من العدو) فلما قدمنا المدينة‪ ،‬قلنا‪ :‬نحن الفرّارون‪ ،‬فقال النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪ :‬بل أنتم العكّارون (‪ )2‬في سبيل ال ‪،‬أنا لكم فئة‪ ،‬لترجعوا معي إلى الجهاد في‬
‫سبيل ال » (‪ ، )3‬فهذا إقرار من الرسول صلوات ال وسلمه عليه لفعل هذه السرية التي لم تستطع‬
‫متابعة القتال أمام قوة العداء‪ ،‬وإن كانت حالة الحرب ما زالت قائمة معهم‪.‬‬
‫ويحرم على المسلمين بيع أهل الحرب السلح والكُرَاع (الخيول) ونحوها من وسائل القتال التي تقوي‬
‫العدو كالحديد‪ ،‬ول يتاجر بها إلى العداء (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 750‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 98/7 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬العكارون‪ :‬العطافون الراجعون إلى الجهاد مرة أخرى‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر (جامع الصول‪ ،222/3 :‬نيل الوطار‪.)252/7 :‬‬
‫(‪ )4‬الكتاب مع اللباب‪.123/4 :‬‬
‫( ‪)8/15‬‬

‫صلُ الثّاني‪ :‬انتهاء الحرب بالسلم أو بالمعاهدات‬


‫ال َف ْ‬
‫ينتهي القتال بطرق متعددة منها اعتناق السلم‪ ،‬أو عقد معاهدة مع المسلمين أو بالمان‪.‬‬
‫المبحث الول ـ انتهاء القتال بالسلم ‪:‬‬
‫الكلم هنا عن طرق الدخول في السلم‪ ،‬وعن أحكام إعلن السلم في ظروف القتال‪.‬‬
‫أما طرق الدخول في السلم‪ ،‬فمنها الصريح‪ ،‬ومنها الضمني‪ ،‬ومنها التبعي‪.‬‬
‫فإعلن السلم صراحة‪ :‬يكون بالنطق بالشهادتين أو بالشهادة مع التبري من عقيدته السابقة‪ .‬والكفار‬
‫في هذا المر أصناف أربعة‪ :‬صنف ينكرون وجود ال وهم الدُهرية‪ ،‬وصنف ينكرون وحدانية الخالق‬
‫وهم الوثنية والمجوس‪ ،‬وصنف يقرون بوجود ال ووحدانيته إل أنهم ينكرون النبوة والرسالة‪ ،‬وصنف‬
‫ينكرون فقط رسالة سيدنا محمد صلّى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫فإن كان الكافر من الصنف الول والثاني‪ ،‬فيكفي أن يقول ليُحكم بإسلمه‪ :‬ل إله إل ال ‪ ،‬أو يقول‪:‬‬
‫أشهد أن محمدا رسول ال ‪ ،‬بدليل قوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‪ :‬ل‬
‫إله إل ال ‪ ،‬فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إل بحقها‪ ،‬وحسابهم على ال » (‪. )1‬‬
‫عن أبي مالك عن أبيه قال‪ :‬سمعت رسول ال صلّى ال عليه وسلم يقول‪ « :‬من قال‪ :‬ل إله إل ال ‪،‬‬
‫وكفر بما يعبد من دون ال ‪ ،‬حرم ماله ودمه‪ ،‬وحسابه على ال » (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬هذا حديث متواتر عن تسعة عشر صحابيا بألفاظ‪ ،‬منها‪ :‬ما رواه مسلم والبخاري وأبو داود‬
‫وغيرهم عن أبي هريرة‪ ،‬ومنها‪ :‬ما رواه الشيخان عن ابن عمر‪ ،‬ومنها‪ :‬ما رواه البخاري والترمذي‬
‫وأبو داود والنسائي عن أنس‪ ،‬ومنها غير ذلك (راجع العيني شرح البخاري‪ ،215/14 :‬شرح مسلم‪:‬‬
‫‪ ،210/1‬سنن البيهقي‪ ،182/9 :‬نيل الوطار‪ 197/7 :‬وما بعدها‪ ،‬نصب الراية‪ ،379/3 :‬النظم‬
‫المتناثر‪ :‬ص ‪.)29‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم (راجع شرح مسلم‪ ،212/1 :‬جامع الصول‪.)161/1 :‬‬

‫( ‪)8/16‬‬

‫وعن ثوبان مولى رسول ال صلّى ال عليه وسلم في قصة حبر من أحبار اليهود أنه قال للنبي‪« :‬لقد‬
‫صدقت‪ ،‬وإنك لنبي» ثم انصرف (‪. )1‬‬
‫وإن كان الكافر من الصنف الثالث‪ :‬فل يكفي أن يقول‪ :‬ل إله إل ال ‪ ،‬وإنما ل بد من أن ينطق‬
‫بالشهادة الخرى‪ ،‬فيقول‪ :‬أشهد أن محمدا رسول ال ‪ .‬وحينئذ يحكم بإسلمه‪.‬‬
‫وإن كان من الصنف الرابع‪ ،‬فل يكفيه النطق بالشهادتين‪ ،‬وإنما ينبغي عليه أن يتبرأ من الدين الذي‬
‫عليه من اليهودية أو النصرانية‪ .‬ول يقبل إسلمه أيضا إذا قال‪ :‬أنا مؤمن‪ ،‬أو مسلم‪ ،‬أوآمنت‪ ،‬أو‬
‫أسلمت؛ لن اليهود والنصارى يدعون أنهم مؤمنون‪ ،‬أو مسلمون على النحو الذي هم عليه‪ .‬هذا ما‬
‫قرره المام محمد‪ ،‬وكان ذلك بحسب زمنه‪ ،‬أما الن فالمفتى به ما قاله ابن عابدين‪ :‬يكفي أن يقول‬
‫اليهودي والنصراني‪ :‬أنا مسلم؛ لن اليهود والنصارى يمتنعون من قول‪( :‬أنا مسلم) فإذا قال أحدهم‪:‬‬
‫(أنا مسلم) فهو دليل إسلمه (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (راجع صحيح مسلم‪.)99/1 :‬‬
‫(‪ )2‬رد المحتار على الدر المختار‪.315/3 :‬‬

‫( ‪)8/17‬‬

‫وأما الوثني مثلً فيحكم بإسلمه إذا قال‪ :‬أنا مسلم ونحوه‪ ،‬بدليل حديث المقداد بن السود أنه قال‪ :‬يا‬
‫رسول ال ‪ ،‬أرأيت إن لقيت رجلً من الكفار‪ ،‬وقاتلني‪ ،‬فضرب إحدى يدي بالسيف‪ ،‬فقطعها‪ ،‬ثم لذ‬
‫مني بشجرة ‪ ،‬فقال‪ :‬أسلمتُ ل ‪ ،‬أفأقتله يا رسول ال بعد أن قالها؟ قال رسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم ‪ :‬ل تقتله (‪. )1‬‬
‫وأما إعلن السلم ضمناً‪ :‬فمثل أن يصلي الكتابي أو المشرك مع جماعة من المسلمين؛ لن الصلة‬
‫على هذه الهيئة لم تكن في شرائع من قبلنا‪ ،‬فكان ذلك دليلً على الدخول في السلم‪ .‬هذا عند الحنفية‬
‫ل على اليمان حال النفراد‪ ،‬فكذلك‬
‫والحنابلة‪ .‬وقال الشافعي‪ :‬ل يحكم بإسلمه؛ لن الصلة ليست دلي ً‬
‫حال الجتماع‪.‬‬
‫وأما الحكم بالسلم تبعاً‪ :‬فهو أن الصبي يحكم بإسلمه تبعا لبويه عند وجودهما‪ ،‬أو وجود أحدهما‪،‬‬
‫كما إذا أسلم أحد البوين‪ ،‬فالولد يتبع المسلم منهما؛ لن السلم يعلو ول يعلى عليه‪ ،‬كما أنه يحكم‬
‫بإسلمه أيضا إذا سبى الصبي وحده‪ ،‬وأدخل في دار السلم فهو مسلم تبعا للدار (‪. )2‬‬
‫وأما الحكام المترتبة على الدخول في السلم من قبل الكفار‪ :‬فهي عصمة الدماء والموال ‪ ،‬لقوله‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‪ :‬ل إله إل ال ‪ ،‬فإذا قالوها عصموا مني‬
‫دماءهم وأموالهم إل بحقها» ‪.‬‬
‫وبناء عليه إذا أسلم أهل بلدة من أهل دار الحرب قبل أن يتغلب عليهم المسلمون‪ ،‬حرم قتلهم‪ ،‬ول‬
‫سبيل لحد على أموالهم التي في أيديهم أو الودائع‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ومسلم (راجع شرح مسلم‪ ،98/2 :‬اللمام‪ :‬ص ‪.)465‬‬
‫(‪ )2‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 643‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 102/7 :‬وما بعدها‪ ،‬رد المحتار على الدر المختار‪:‬‬
‫‪ ،316/3‬المغني‪.143/8 :‬‬

‫( ‪)8/18‬‬

‫في بلد السلم للحديث السابق‪ ،‬ولقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬من أسلم على ما ل فهو له» (‪. )1‬‬
‫فإن تغلبنا عليهم بالحرب‪ ،‬كان عقار من أسلم وزوجته وأولده الكبار فيئا للمسلمين؛ لن العقار من‬
‫جملة دارالحرب‪ ،‬وزوجته كافرة حربية ل تتبعه في السلم‪ ،‬وكذا أولده كفار حربيون‪ ،‬ول تبعة‬
‫لهم؛ لنهم على حكم أنفسهم‪.‬‬
‫حمْل‪ ،‬إذا أسلم الب أو الم‪ ،‬سواء أكان‬
‫كذلك يعصم السلم عند جمهور العلماء صغار الولد وال َ‬
‫في دار الحرب أم في دار السلم؛ لن الطفل تابع لبيه أو لمه في السلم مطلقا‪ ،‬إذ الولد يتبع خير‬
‫البوين دينا بالتفاق‪ .‬قال ال تعالى‪{ :‬والذين آمنوا واتّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} [الطور‪:‬‬
‫‪.]21/52‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬إذا أسلم كافر في دار السلم لم يكن أولده الصغار مسلمين بإسلمه‪ ،‬إذا كانوا في دار‬
‫الحرب‪ ،‬لنقطاع التبعة بتباين الدارين‪ ،‬فكانوا من جملة الموال يدخلون في الفيء‪.‬‬
‫وأما الزوجة والولد الكبار‪ :‬فقد اتفق أئمة المذاهب الربعة والشيعة المامية والزيدية والظاهرية‬
‫على أن إسلم الشخص ل يعصم زوجته ول أولده الكبار البالغين‪ ،‬إذ إن للزوجة والولد الراشدين‬
‫حكم أنفسهم كفرا وإسلما‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ول تكسب كل نفس إل عليها} [النعام‪ { ]164/6:‬كل امرئ‬
‫بما كسب رهين} [الطور‪. )2( ]21/52:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البيهقي وأبو يعلى وأبو عدي في الكامل مرفوعا عن أبي هريرة بلفظ‪« :‬من أسلم على شيء‬
‫فهو له» ‪( .‬راجع مجمع الزوائد‪ ،335/5 :‬سنن البيقهي‪ ،113/9 :‬نيل الوطار‪ ،11/8 :‬نصب الراية‪:‬‬
‫‪.)310/3‬‬
‫(‪ )2‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 652-650‬والمراجع المذكورة فيه‪.‬‬
‫( ‪)8/19‬‬

‫المبحث الثاني ـ انتهاء القتال بالمان‬


‫الكلم عن المان ببيان ركنه وشروطه وحكمه وصفته وما يبطل به ومكانه ومدته والمصلحة فيه‪.‬‬
‫تعريف المان وركنه ونوعاه‪ :‬المن في اللغة‪ :‬ضد الخوف‪ ،‬وفي اصطلح الشرعيين كما عرفه‬
‫الشافعية‪ :‬عقد يفيد ترك القتل والقتال مع الحربيين‪ .‬وركنه‪ :‬اللفظ الدال على المان‪ ،‬نحو قول‬
‫المجاهد‪ :‬أمنتكم أو أنتم آمنون‪ ،‬أو أعطيتكم المان‪ ،‬ونحوها‪.‬‬
‫وهو إما عام أو خاص‪:‬‬
‫فالعام‪ :‬ما يكون لجماعة غير محصورين كأهل ولية‪ ،‬ول يعقده إل المام أو نائبه‪ ،‬كعقد الهدنة وعقد‬
‫الذمة؛ لن هذا العقد من المصالح العامة التي يختص المام بالنظر فيها‪.‬‬
‫والخاص‪ :‬ما يكون للواحد أو لعدد محصور كعشرة فما دون‪ .‬ول يجوز لكثر من ذلك كأهل بلدة‬
‫كبيرة‪ ،‬لما فيه من افتئات على المام‪ ،‬وتعطيل للجهاد‪ .‬وما نص عليه الحنفية من إعطاء الفرد حق‬
‫تأمين أهل حصن أو مدينة ل دليل عليه؛ لن الحاديث الواردة في المان محصورة في حالت فردية‬
‫معينة كما سنرى‪.‬‬
‫والعام‪ :‬إما مؤقت وهو الهدنة‪ ،‬أو مؤبد وهو عقد الذمة (‪. )1‬‬
‫شروط المان‪ :‬اشترط الحنفية لصحة المان شروطا أربعة (‪: )2‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون المسلمون في حال ضعف‪ ،‬والكفار في حال القوة‪.‬‬
‫‪ - 2‬العقل‪ :‬فل يجوز أمان المجنون والصبي غير المميز؛ لن العقل شرط في أهلية التصرف‪.‬‬
‫‪ - 3‬البلوغ وسلمة العقل عن الفات المرضية‪.‬‬
‫‪ - 4‬السلم‪ :‬فل يصح أمان الكافر ولو ذميا‪ ،‬وإن كان يقاتل مع المسلمين؛ لنه متهم بالنسبة‬
‫للمسلمين‪ ،‬فل تؤمن خيانته‪ ،‬والمان مبني على مراعاة مصلحة المسلمين‪ ،‬والكافر مشكوك في تقديره‬
‫المصلحة‪.‬‬
‫ول تشترط الحرية‪ ،‬فيصح أمان العبد عند الجمهور‪ ،‬ولم يجز أبو حنيفة أمان العبد المحجور عن‬
‫القتال إل أن يأذن له موله بالقتال؛ لن المان عنده من جملة العقود‪ ،‬والعبد محجور عليه‪ ،‬فل يصح‬
‫عقده‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 225‬وما بعدها‪ 285 ،‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،106/7 :‬فتح القدير‪ ،298/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،247/3 :‬الدر المختار‪.249/3 :‬‬
‫( ‪)8/20‬‬

‫وقال الصاحبان‪ :‬يصح أمان العبد‪ ،‬لنه مؤمن ذو قوة وامتناع يتحقق منه الخوف‪ ،‬والمان يكون‬
‫بسبب الخوف‪.‬‬
‫وكذلك ل تشترط الذكورة‪ ،‬فيصح أمان المرأة لحديث‪« :‬إن المرأة لتأخذ للقوم‪ ،‬يعني تجير على‬
‫المسلمين» (‪ )1‬وحديث‪« :‬قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» (‪ . )2‬ول تشترط السلمة عن العمى‬
‫والزمانة والمرض‪ ،‬فيصح أمان العمى والزمِن والمريض‪.‬‬
‫ول يجوز أمان التاجر في دار الحرب‪ ،‬والسير فيها‪ ،‬والحربي الذي أسلم هناك؛ لن هؤلء ل‬
‫يستطيعون تقدير المصلحة في المان‪ ،‬ولنهم متهمون في نظر المجاهدين لكونهم تحت سلطة العدو‪.‬‬
‫وكذلك الجماعة ليست بشرط‪ ،‬فيصح أمان الواحد‪.‬‬
‫ويوافق الحنفيةَ في أغلب هذه الحالت‪ :‬جمهورُ الفقهاء والشيعة المامية والزيدية والباضية‪ ،‬فهم‬
‫يرون أن المان يصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار‪ ،‬ولو كان عبدا لمسلم أو كافر‪ ،‬أو فاسقا‪ ،‬أو‬
‫محجورا عليه لسفه أو تفليس‪ ،‬أو امرأة‪ ،‬أوأعمى‪ ،‬أو مقعدا أو َزمِنا أو مريضا أو خارجا على المام؛‬
‫لن الخوارج مسلمون‪ ،‬قال علي رضي ال عنه‪« :‬إخواننا بغوا علينا» ‪.‬‬
‫والدلة لما ذكر من القرآن والسنة والمعقول هي ما يأتي‪:‬‬
‫أما القرآن فقوله تعالى‪{ :‬وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلم ال } [التوبة‪]6/9:‬‬
‫والنص عام يشمل كل مسلم‪ ،‬وكل مستأمن أو معاهد يريد سماع القرآن الكريم أو المفاوضة مع‬
‫المسلمين لمور سياسية أو حربية أو أمنية أو تجارية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي عن أبي هريرة‪ ،‬وقال‪ :‬حسن غريب (نيل الوطار‪.)28/8 :‬‬
‫(‪ )2‬حديث متفق عليه بين أحمد والشيخين عن أم هانئ (نيل الوطار‪.)17/8 :‬‬

‫( ‪)8/21‬‬

‫وأما السنة‪ :‬فقول الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم‪ ،‬فمن أخفر‬
‫مسلما‪ ،‬فعليه لعنة ال والملئكة والناس أجمعين‪ ،‬ل يقبل ال منه يوم القيامة صرفا ول عدلً» (‪، )1‬‬
‫وفي رواية «المسلمون تتكافأ دماؤهم‪ ،‬وهم يد على من سواهم‪ ،‬ويسعى بذمتهم أدناهم» (‪ ، )2‬وقد أنفذ‬
‫الرسول صلّى ال عليه وسلم أمان أم هانئ‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الصرف‪ :‬التوبة أو الحيلة‪ ،‬والحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه عن علي بن أبي‬
‫طالب‪ ،‬وأخرج البخاري نحوه عن أنس بن مالك‪ ،‬وأخرجه مسلم أيضا عن أبي هريرة‪ ،‬وأخرجه‬
‫غيرهم (راجع نصب الراية‪ 393/3 :‬وما بعدها‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،102/4 :‬القسطلني‪،229/5 :‬‬
‫‪ ،236‬منتخب كنز العمال في مسند أحمد‪ ،295/2 :‬نيل الوطار‪ ،28/8 :‬مجمع الزوائد‪،283/6 :‬‬
‫‪.)329/5‬‬
‫(‪ )2‬معنى الحديث‪ :‬أن المسلمين يتساوون في القصاص والديات‪ ،‬ل فضل لشريف على وضيع‪ ،‬وإذا‬
‫أعطى أدنى رجل منهم أمانا فليس للباقين نقضه‪ ،‬ومعنى «وهم يد» أي يتناصرون على الملل‬
‫المحاربة لهم‪.‬‬

‫( ‪)8/22‬‬

‫لرجل أو رجلين من أحمائها قائلً لها‪« :‬قد أجرنا من أجرت ياأم هانئ» (‪ )1‬وكذلك أجاز الرسول‬
‫عليه الصلة والسلم أمان ابنته زينب لزوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان قادما بتجارة إلى‬
‫المدينة‪ ،‬فأصابتها إحدى سرايا المسلمين (‪. )2‬‬
‫وأما المعقول‪ :‬فهو أن الواحد من المسلمين من أهل القتال والمنعة‪ ،‬فيخافه العدو‪ ،‬ويهتم هو بتحقيق‬
‫مصلحة الجماعة السلمية‪ ،‬فيتم منه المان دون حاجة إلى إجازة المام؛ لن فعله تصرف صدر من‬
‫ذي أهلية له‪ ،‬ووقع في محله (‪. )3‬‬
‫حكم المان‪ :‬يقتضي المان ثبوت المن والطمأنينة للمستأمنين‪ ،‬فيحرم قتل رجالهم وسبي نسائهم‬
‫وأولدهم‪ ،‬واغتنام أموالهم‪ ،‬واسترقاقهم‪ ،‬ول يجوز أيضا ضرب الجزية عليهم؛ لن فعل شيء مما‬
‫ذكر غدر‪ ،‬والغدر حرام‪.‬‬
‫ويشمل حكم المان نفس المستأمن‪ ،‬وأولده الصغار‪ ،‬وماله عند الحنابلة والحنفية استحسانا؛ لن الذن‬
‫بالدخول يقتضي ذلك‪.‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬يدخل في المان مال المستأمن وأهله بل شرط إن كان المام هو الذي أعطى المان‪.‬‬
‫ويرى الهادوية والمالكية‪ :‬أن المان يتبع الشرط (‪. )4‬‬
‫وبناء عليه يجب على المسلمين كف الذى عن المستأمنين‪ ،‬وإذا انتهت مدة المان وجب على الحاكم‬
‫المسلم إبلغ المأمن‪ ،‬أي تبليغ المستأمن المكان الذي يأمن فيه على نفسه وماله‪ .‬ول يجوز في رأي‬
‫الجمهور نقض أمان المستأمن ما لم نخش منه الخيانة‪ ،‬أو يصدر منه ما يستدعي إلغاء أمانه‪.‬‬
‫رقابة الدولة على التأمينات‪ :‬للمام مراقبة كل أمان يصدر من الفراد‪ ،‬وعلى التخصيص أمان المرأة‬
‫والعبد والصبي ونحوهم‪ ،‬ولكن ليتوقف عند أكثر الفقهاء نفاذ المان على إجازة المام‪ .‬وقال ابن‬
‫الماجشون وسحنون المالكيان‪ :‬أمان المرأة موقوف على إذن المام‪ .‬ورد عليهما بحديث عائشة ‪ -‬فيما‬
‫رواه البيهقي وأبو داود والترمذي ‪ « -‬إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين‪ ،‬فيجوز» وفي رواية‪:‬‬
‫«أمان المرأة جائز إذا هي أعطت القوم المان» وروى الترمذي عن أبي هريرة حديث‪« :‬إن المرأة‬
‫لتأخذ للقوم‪ ،‬يعني تجير على المسلمين» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والموطأ والترمذي والبيهقي عن أم هانئ (راجع العيني‬
‫شرح البخاري‪ ،93/15 :‬القسطلني‪ ،228/5 :‬سنن أبي داود‪ ،112/3 :‬سنن البيهقي‪ ،94/9 :‬نصب‬
‫الراية‪ ،395/3 :‬جامع الصول‪.)259/3 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الطبراني عن أم سلمة وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف ويؤيده أيضا حديث رواه‬
‫الترمذي وقال‪ :‬حسن غريب عن أبي هريرة بلفظ‪« :‬إن المرأة لتأخذ للقوم ـ يعني تجير على‬
‫المسلمين» (راجع نصب الراية‪ 395/3 :‬وما بعدها‪ ،‬نيل الوطار‪ ،28/8 :‬مجمع الزوائد‪.)330/5 :‬‬
‫(‪ )3‬راجع آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 228 ،222‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬راجع التفصيل في آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 245‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/23‬‬

‫صفة المان‪ :‬يرى الحنفية أن المان عقد غير لزم‪ ،‬حتى لو رأى المام المصلحة في النقض نقضه؛‬
‫لنه جوازه عندهم مشروط بتحقيق المصلحة‪ ،‬فإذا صارت المصلحة في النقض نقض‪ ،‬ونبذ للمستأمن‪،‬‬
‫أي أُلقي إليه عهده (‪. )1‬‬
‫ويرى جمهور الفقهاء والشيعة المامية والزيدية أن المان عقد لزم من جانب المسلمين‪ ،‬ويبقى‬
‫اللزوم مع بقاء عدم الضرر؛ لن المان حق على المسلم‪ ،‬فليس له نبذه إل لتهمة أو مخالفة (‪. )2‬‬
‫ما ينتقض به المان‪ :‬إذا كان المان مؤقتا إلى مدة معلومة ينتهي بمضي الوقت من غير حاجة إلى‬
‫النقض‪.‬‬
‫وإن كان المان مطلقا غير محدد بوقت‪ :‬فانتقاضه عند الحنفية إما بنقض المام‪ ،‬لكن يخبرهم بالنقض‬
‫ثم يقاتلهم‪ ،‬وإما بطلب العدو نقضه‪ ،‬وحينئذ يدعوهم المام إلى السلم‪ ،‬فإن أبوا فإلى التعاقد بعقد‬
‫الذمة‪ ،‬فإن أبوا ردهم إلى مأمنهم ثم قاتلهم‪،‬احترازا عن الغدر‪.‬‬
‫وأجاز جمهور الفقهاء للمام أن ينبذ عقد المان إذا حصل فقط ضرر للمسلمين لقوله تعالى‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،107/7 :‬البحر الرائق‪ ،81/5 :‬مخطوط السندي‪ ،45/8 :‬فتح القدير‪ ،300/4 :‬الكتاب مع‬
‫اللباب‪.126/4 :‬‬
‫(‪ )2‬راجع آثار الحرب‪ ،‬والمراجع التي فيه‪ :‬ص ‪.293‬‬

‫( ‪)8/24‬‬

‫{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء‪ ،‬إن ال ل يحب الخائنين} [النفال‪. )1( ]58/8:‬‬
‫مدة المان‪ :‬إذا دخل الحربي إلى دار السلم مستأمنا‪ ،‬لم يمكّن من القامة فيها سنة فما فوقها‪ ،‬لئل‬
‫يصير عينا للعداء وعونا عليهم‪ .‬ويقول له المام أو نائبه إذا أمنه وأذن له في الدخول إلى دارنا‪ :‬إن‬
‫أقمت في دارنا تمام السنة وضعت عليك الجزية‪ ،‬فإن أقام تمام السنة أخذت منه الجزية‪ ،‬وصار ذميا‬
‫للتزامه ذلك‪ ،‬ولم يترك بعدها أن يرجع إلى دارالحرب؛ لن عقد الذمة ل ينقض‪.‬‬
‫وإن عاد المستأمن إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي‪ ،‬أو ترك دينا في ذمة مسلم أو‬
‫ذمي‪ ،‬صار دمه مباحا بالعود لبطلن أمانه‪ ،‬وما كان في دار السلم من ماله‪ ،‬فهو موقوف (أي‬
‫مجمّد بتعبير العصر)‪ .‬فإن أسر أو قتل‪ ،‬سقطت ديونه؛ لن يد من عليه الدين أسبق إليه من يد‬
‫الجماعة العامة‪ ،‬فيختص به‪ ،‬وصارت الوديعة ونحوها مما في دارنا فيئا؛ لنها في يده حكما‪ ،‬فتصير‬
‫فيئا تبعا لنفسه (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ ،361‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬الكتاب مع اللباب‪.135/4 :‬‬

‫( ‪)8/25‬‬

‫المصلحة في المان‪ :‬اشترط الحنفية والمالكية (‪ : )1‬أن يكون المان لمصلحة؛ لن الحرب مع العدو‬
‫مستمرة‪ .‬واكتفى الشافعية والحنابلة (‪ )2‬باشتراط عدم وجود الضرر من المان ول تشترط المصلحة‪.‬‬
‫فل يجوز المان لجاسوس ونحوه‪ ،‬إذ لضرر ول ضرار في السلم‪ .‬والضرر‪ :‬مثل تأمين جاسوس‬
‫أو مهرب سلح‪.‬‬
‫مكان المان‪ :‬هو دار السلم ‪ :‬وهي مكان المان إذا كان المؤمّن هو المام أو أمير الجيش‪،‬‬
‫فللمستأمن التنقل في كل البلد السلمية إل إذا قيد المان في موطن معين أو كان القيد شرعيا‪ ،‬والقيد‬
‫الشرعي مختلف في تحديده بين الفقهاء (‪ ، )3‬ففي رأي أبي حنيفة‪ :‬يجوز للكافر دخول أي مكان في‬
‫دار السلم‪ ،‬حتى الحرم المكي والمسجد الحرام‪ ،‬فله الدخول والقامة في حرم مكة والمسجد مدة مقام‬
‫المسافر ـ ثلثة أيام بلياليها ـ وأجاز الحنفية لغير المسلم دخول المساجد كلها ومنها المسجد الحرام‪،‬‬
‫من غير إذن؛ لنه ليس المراد من آية {إنما المشركون نجس فل يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم‬
‫هذا} [التوبة‪ ]28/9:‬النهي عن دخول المسجد الحرام‪ ،‬وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون‬
‫ويعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية‪.‬‬
‫ومنع الشافعية والحنابلة غير المسلم‪ ،‬ولو لمصلحة من دخول حرم مكة‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا إنما المشركون نجس فل يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة‪ ]28/9:‬والمراد من‬
‫المسجد الحرام‪ :‬الحرم المكي بإجماع المفسرين‪ ،‬بدليل قوله تعالى عقب ذلك‪{ :‬وإن خفتم عيلة فسوف‬
‫يغنيكم ال من فضله} [التوبة‪ ]28/9:‬والعيلة‪ :‬هي الفقر بانقطاع التجارة حال المنع من دخول الحرم‪.‬‬
‫ويمنع غير المسلم أيضا في هذين المذهبين من دخول الحجاز أو الستيطان فيه إل بإذن المام‬
‫ولمصلحة المسلمين كحمل رسالةأو إدخال تجارة يحتاج إليها المسلمون‪ ،‬وذلك لمدة ثلثة أيام فقط‪،‬‬
‫ودليلهم حديث أحمد ومسلم والترمذي عن عمر‪« :‬لئن عشت لخرجن اليهود والنصارى من جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬حتى ل أترك إل مسلما» والمراد من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة‪ ،‬كما حكى ابن حجر‬
‫عن الجمهور‪ ،‬بدليل رواية أحمد‪« :‬أخرجوا اليهود من الحجاز» ‪ .‬ودليلهم أيضا فعل عمر رضي ال‬
‫عنه ـ فيما روى البخاري والبيهقي ـ حيث أجلى اليهود والنصارى من الحجاز فقط دون جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬وأقرهم في اليمن مع أنها من جزيرة العرب‪.‬‬
‫وأجاز المالكية لغير المسلم دخول حرم مكة دون البيت الحرام‪ ،‬بأمان‪ ،‬لمدة ثلثة أيام أو بحسب‬
‫الحاجة في تقدير المصلحة من قبل المام‪ ،‬ول يجوز عند المالكية لغير المسلم استيطان جزيرة العرب‬
‫(الحجاز واليمن) لعموم حديث عمر السابق‪« :‬لخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب‪ ،‬حتى ل‬
‫أدع إل مسلما» وحديث ابن عباس ـ فيما اتفق عليه البخاري ومسلم وأخرجه أبو داود ـ «أخرجوا‬
‫المشركين من جزيرة العرب» وحديث عائشة عند أحمد‪« :‬ل يترك بجزيرة العرب دينان» وحديث‬
‫أبي عبيدة بن الجراح فيما يرويه أحمد والبيهقي‪« :‬أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة‬
‫العرب» وما أخرجه مالك عن الزهري مرسلً‪« :‬ل يجتمع دينان في جزيرة العرب» وأما حديث‬
‫«أخرجوا يهود أهل الحجاز» فل يصلح لتخصيص العام‪ ،‬لما تقرر لدى علماء أصول الفقهاء من أن‬
‫التخصيص بموافق العام ل يصح‪ ،‬وعبارتهم هي‪« :‬إفراد فرد من أفراد العام بحكمه ل يخصص‬
‫العام» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،300/4 :‬الشرح الكبير‪ ،185/2 :‬الشرح الصغير‪.286/2 :‬‬
‫(‪ )2‬نهاية المحتاج‪ ،217/7 :‬مغني المحتاج‪ ،238/4 :‬كشاف القناع‪ ،97/3 :‬ط مكة‪.‬‬
‫(‪ )3‬شرح السير الكبير ‪ ، 1/93 :‬الشباه والنظائر لبن نجيم ‪ ، 2/176 :‬أحكام القرآن للجصاص ‪:‬‬
‫‪ ، 2/88‬مواهب الجليل للحطاب ‪ ، 3/381 :‬الدردير مع الدسوقي ‪ ، 2/185 :‬المهذب ‪، 2/257 :‬‬
‫الم ‪ ، 4/100 :‬المغني ‪.8/529 :‬‬

‫( ‪)8/26‬‬

‫المبحث الثالث ـ انتهاء الحرب بالهدنة ‪:‬‬


‫الكلم عن الهدنة أو الصلح المؤقت أوالموادعة يتناول البحث في ركنها وشروطها وحكمها وصفتها‬
‫وما تنتقض به ومدتها‪.‬‬
‫تعريف الموادعة وصيغتها‪ :‬الموادعة‪ :‬هي مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض‬
‫أو غيره‪ ،‬سواء فيهم من يقر على دينه ومن لم يقر‪ ،‬دون أن يكونوا تحت حكم السلم (‪ . )1‬وعاقدها‬
‫هو المام أو نائبه باتفاق الفقهاء‪ ،‬فإن عقدها أحد الفراد‪ ،‬عدّ ذلك افتياتا على المام أو نائبه‪ ،‬ولم‬
‫يصح العقد عند الجمهور‪.‬‬
‫ويصح عند الحنفية إذا توله فريق من المسلمين بغير إذن المام إذا توافرت المصلحة للمسلمين فيه؛‬
‫لن المعول عليه وجود المصلحة‪ ،‬وقد وجدت‪ ،‬ولن الموادعة أمان‪ ،‬وأمان الواحد كأمان الجماعة (‬
‫‪. )2‬‬
‫وصيغتها‪ :‬لفظ الموادعة أو المسالمة أو المصالحة أو المعاهدة أو المهادنة ونحوها‪.‬‬
‫وركنها‪ :‬اليجاب والقبول بين المام أو نائبه‪ ،‬وحاكم العداء‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع آثار الحرب‪ ،‬والمراجع التي فيه‪ :‬ص ‪.662‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،108/7 :‬الدسوقي‪ ،189/2 :‬مغني المحتاج‪ ،260/4 :‬المغني‪ ،462/8 :‬الفروق‪.207/1 :‬‬

‫( ‪)8/27‬‬

‫وشرط مشروعيتها‪ :‬أن يكون المسلمون في حال ضعف‪ ،‬والكفار أقوىاء؛ لن الموادعة ترك القتال‪،‬‬
‫فل يجوز إل في حال يقع وسيلة إلى القتال‪ .‬والحقيقة أن هذا الشرط حالة من الحالت التي يطلب فيها‬
‫باتفاق العلماء وجود المصلحة من عقد الهدنة‪ ،‬والمصلحة كما تتحقق حال ضعفنا‪ ،‬تتحقق بأغراض‬
‫أخرى كرجاء إسلم الكفار‪ ،‬أو عقد الذمة‪ ،‬أو التعاون معهم لدفع عدوان غيرهم‪ ،‬أو لقرار السلم‪،‬‬
‫وتبادل المنافع القتصادية ونحوها (‪ ، )1‬قال تعالى‪{ :‬ول تهنوا وتدعوا إلى السّلْم وأنتم العلون‪ ،‬وال‬
‫معكم} [محمد‪ ]35/47:‬وقال سبحانه‪{ :‬وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكل على ال } [النفال‪]61/8:‬‬
‫وقد وادع رسول ال صلّى ال عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على إنهاء الحرب عشر سنين (‪. )2‬‬
‫ول يقاتل المعاهدون ما لم تظهر منهم بوادر الخيانة‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ‬
‫إليهم على سواء‪ ،‬إن ال ل يحب الخائنين} [النفال‪.]58/8:‬‬
‫ول بأس بأن يتم الصلح على عوض مالي يدفعه المسلمون إلى الكفار عند الضطرار‪،‬أو يدفعه‬
‫العداء للمسلمين إذا كان في الدفع مصلحة للمسلمين؛ لن ال تعالى أباح لنا الصلح مطلقا في قوله ‪:‬‬
‫{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [النفال‪ ]61/8:‬فيجوز ببدل أو بغير بدل‪ ،‬ولن المقصود من الصلح هو‬
‫دفع الشر والخطر‪ ،‬فيجوز بأية وسيلة‪ ،‬وهذا باتفاق الفقهاء (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ ،669‬البدائع‪ ،108/7 :‬فتح القدير‪.293/4 :‬‬
‫(‪ )2‬انظر المعاهدة في القسطلني شرح البخاري‪ ،336/5 :‬العيني شرح البخاري‪ 13/14 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬شرح مسلم‪ 135/12 :‬وما بعدها‪ ،‬نيل الوطار‪ 31/8 :‬وما بعدها‪ ،‬نصب الراية‪،388/3 :‬‬
‫أخرج الحديث أبو داود عن المِسْور بن مَخرمة ومروان بن الحكم‪ ،‬وأصله في البخاري‪ ،‬وأخرج مسلم‬
‫بعضه عن أنس‪ ،‬ورواه أحمد والبيهقي‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع آثار الحرب‪ :‬ص ‪ ،670‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،109‬الدر المختار‪ ،247/3 :‬اللباب شرح‬
‫الكتاب‪.120/4 :‬‬

‫( ‪)8/28‬‬

‫حكم الهدنة‪ :‬يترتب على الموادعة أو الهدنة إنهاء الحرب بين المتحاربين‪ ،‬ويأمن العداء ـ كما في‬
‫عقد المان ـ على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولدهم؛ لن الموادعة عقد أمان أيضا‪ ،‬وبناء عليه‬
‫يجب كف أذانا أو أذى الذميين عنهم حتى يتأتى ناقض للعهد منهم (‪ . )1‬ويجب لهم الوفاء بشروط‬
‫الهدنة الصحيحة شرعا‪ .‬ول يوفى لهم بالشروط الباطلة كاشتراط إعادة النساء المسلمات إليهم‪.‬‬
‫الفرق بين الهدنة والمان العام‪ :‬هناك فرق بين الهدنة والمان العام مع جماعة من الحربيين من نواح‬
‫أربع‪:‬‬
‫الولى ـ أن الهدنة معاهدة بين دولتين على إنهاء القتال وتوفير السلم في جميع أنحاء الدولة‪ .‬أما‬
‫المان العام فهو اتفاق الدولة مع جماعة غير محصورة على المسالمة ومنح المان في بلد أو إقليم‬
‫معين‪.‬‬
‫الثانية ـ أن الهدنة طريق لنهاء الحرب بين المسلمين وغيرهم‪ ،‬وأما المان العام فهو لتأمين جماعة‬
‫ولو في أثناء الحرب‪.‬‬
‫الثالثة ـ أن الجابة لطلب المان واجبة‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى‬
‫يسمع كلم ال } [التوبة‪ .]6/9:‬أما الجابة لطلب الهدنة فمباحة جائزة غير واجبة بشرط مراعاة‬
‫المصلحة السلمية‪.‬‬
‫الرابعة ـ إذا بطل أمان رجال لم يبطل أمان نسائهم والصبيان‪ ،‬وإذا انتقضت الهدنة انتقض أمان‬
‫جميع المهادنين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪.686 ،682‬‬

‫( ‪)8/29‬‬

‫صفة عقد الهدنة‪ :‬يرى الحنفية أن الهدنة عقد غير لزم محتمل للنقض‪ ،‬فللمام أن ينبذ عهد الكفار‬
‫إليهم‪ ،‬كلما رأى في النبذ مصلحة للمسلمين‪ ،‬لقوله تعالى‪ { :‬وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على‬
‫سواء} [النفال‪ ]58/8:‬فإذا بلغهم الخبر جاز بدؤهم بالقتال‪.‬‬
‫ول بد من النبذ تحرزا عن الغدر‪ ،‬ول بد من تقدير مدة يبلغ خبر النبذ إلى جميعهم‪ .‬ول ينبذ إليهم إن‬
‫بدؤوا بخيانة باتفاقهم؛ لنهم صاروا ناقضين للعهد‪ ،‬فل حاجة إلى نقضه‪.‬‬
‫أما إن نقض جماعة منهم العهد‪ ،‬فإن كان نقضهم بإذن ملكهم‪ ،‬صاروا ناقضين للعهد؛ لنه باتفاقهم‬
‫معنى‪ .‬وإن لم يكن نقضهم بإذن ملكهم‪ ،‬ودخلوا بلدنا‪ ،‬وقطعوا الطريق وكان لهم منعة‪ ،‬وقاتلوا‬
‫المسلمين علنية‪ ،‬يكون فعلهم نقضا للعهد في حقهم دون غيرهم‪ .‬فإن لم يكن لهم مَنَعة‪ ،‬حوربوا‪ ،‬ول‬
‫يكون فعلهم نقضا للعهد في حقهم (‪. )1‬‬
‫وقرر جمهور الفقهاء أن الهدنة عقد لزم ل يجوز نقضه إل إذا وجدت خيانة‪ ،‬أو غدر من العدو‪،‬‬
‫بقيام أمارات تدل عليه؛ وإن لم توجد فيجب الوفاء لهم بالعهد‪ ،‬كما هو مقتضى آية النبذ السابق‬
‫ذكرها‪{ :‬وإما تخافن من قوم خيانة‪[ }...‬النفال‪ )2( ]58/8:‬فإذا لم يخف المام الخيانة‪ ،‬ل يجوز نبذ‬
‫عهدهم‪.‬‬
‫شروط صحة الهدنة‪ :‬يشترط لصحة الهدنة الشروط الربعة التالية (‪: )3‬‬
‫ً‪ - 1‬أن يعقدها مع العداء المام أو نائبه‪ ،‬وإذا كانت مع إقليم عقدها والي القليم أيضا لتلك البلدة‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬أن تعقد لمصلحة إسلمية‪ ،‬ول يكفي انتفاء المفسدة كما في عقد الجزية‪ ،‬لعدم توافر المصلحة‬
‫في موادعة العداء‪ ،‬وال تعالى يقول‪ { :‬فل تهنوا وتدعوا إلى السّلْم وأنتم العلون } [محمد‪.]35/47:‬‬
‫والمصلحة كضعفنا بقلة عدد أو أهبة‪ ،‬أو لرجاء إسلمهم أو بذل الجزية أو نحو ذلك كحاجة المام إلى‬
‫إعانتهم له على غيرهم‪ ،‬وقد هادن النبي صلّى ال عليه وسلم صفوان بن أمية أربعة أشهر عام فتح‬
‫مكة لرجاء إسلمه‪ ،‬فأسلم قبل مضيها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الكتاب مع اللباب‪ 120/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،109/7 :‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 361‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪.260/4 :‬‬

‫( ‪)8/30‬‬

‫ً‪ - 3‬أن تكون مؤقتة بمدة معينة ل مؤبدة ول دائمة ول مطلقة من غير مدة‪ .‬والمدة كما ذكر الشافعية‬
‫أربعة أشهر ل سنة‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬براءة من ال ورسوله‪[ }...‬التوبة‪ ]1/9:‬ثم قال‪{ :‬فسيحوا في‬
‫الرض أربعة أشهر‪[ }..‬التوبة‪ .]2/9:‬وتجوز في حال ضعفنا لمدة عشر سنين فقط فما دونها بحسب‬
‫الحاجة‪ ،‬ل أكثر من عشر‪ ،‬لن هذا غاية مدة الهدنة‪ ،‬لنه صلّى ال عليه وسلم ـ فيما رواه أبو داود‬
‫ـ هادن قريشا في الحديبية هذه المدة‪ ،‬وكان ذلك قبل أن يقوى السلم‪.‬‬
‫ً‪ - 4‬خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد‪ ،‬كأن شرط العداء منع فك أسرانا منهم‪ ،‬أو ترك مالنا الذي‬
‫استولوا عليه لهم‪ ،‬أو لتعقد لهم ذمة بأقل من دينار لكل واحد‪ ،‬أو بدفع مال لهم ولم تدع ضرورة إليه‪،‬‬
‫أو التنازل عن بعض واجباتهم نحو المسلمين أو دولتهم أو دينهم‪ ،‬فكل شرط من هذه الشروط يفسد‬
‫عقد الهدنة ويجعلها لغية‪.‬‬
‫ما ينتقض به عقد الهدنة‪ :‬قال الحنفية‪ :‬إذا كانت الهدنة مؤقتة ينتهي العقد بانتهاء المدة المحددة دون‬
‫حاجة إلى النبذ‪.‬‬
‫وإن كانت الهدنة مطلقة غير معينة المدة‪ ،‬أي متروكة لرأي المام‪ :‬فإما أن تنتقض صراحة بنبذ العهد‬
‫من المسلمين أو من غيرهم‪ ،‬وإما أن تنتقض ضمنا أو دللة بأن يوجد من العداء ما يدل على النبذ‬
‫كقطع الطريق من قبل جماعة من الكفار‪ ،‬بإذن مليكهم‪.‬‬
‫وفي الجملة‪ :‬ل تنتقض الهدنة عند الحنفية إل بخيانة العدو متفقين‪ .‬والخيانة‪ :‬كل ما ناقض العهد‬
‫والمان مما هو شرط فيه أو جرى به العرف والعادة‪ ،‬مثل مقاتلة المسلمين أو مظاهرة عدو عليهم‪.‬‬
‫وقال الجمهور‪ :‬تنتقض الهدنة إذا نقضها العدو بقتال أو بمناصرة عدو آخر‪ ،‬أو قتل مسلم‪ ،‬أو أخذ‬
‫مال‪ ،‬أو بسبّ ال تعالى أو القرآن الكريم أو رسوله صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬أو التجسس‬

‫( ‪)8/31‬‬

‫على المسلمين‪ ،‬أو الزنا بمسلمة ونحوها (‪. )1‬‬


‫واستدلوا على النقض بأدلة كثيرة‪ ،‬منها قوله تعالى‪{ :‬فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة‪]7/9:‬‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬إل الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا‪ ،‬ولم يظاهروا عليكم أحدا‪،‬‬
‫فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} [التوبة‪ ]4/9:‬وقوله عز وجل‪{ :‬وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم‪،‬‬
‫وطعنوا في دينكم‪ ،‬فقاتلوا أئمة الكفر‪ ،‬إنهم ل أيمان لهم لعلهم ينتهون} [التوبة‪.]12/9:‬‬
‫ومن أدلة الجمهور أيضا‪ :‬ما روى البيهقي وغيره أنه لما نقضت قريش عهد النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم أي صلح الحديبية‪ ،‬خرج إليهم‪ ،‬فقاتلهم وفتح مكة‪ ،‬بسبب مظاهرة بعضهم لبعض (‪ . )2‬ومن‬
‫المعروف أن بني النضير لما أرادوا قتل رسول ال صلّى ال عليه وسلم بإلقاء الجدار عليه نقض‬
‫عهدهم‪ ،‬كما روى البيهقي وغيره (‪. )3‬‬
‫مدة الهدنة‪ :‬اتفق الفقهاء على أن عقد الصلح مع العدو ل بد من أن يكون مقدرا بمدة معينة‪ ،‬فل تصح‬
‫المهادنة إلى البد من غير تقدير بمدة‪ ،‬وإنما هي عقد مؤقت؛ لن الصلح الدائم يفضي إلى ترك‬
‫الجهاد‪ .‬ومع هذا التفاق فإنهم اختلفوا في المدة التي تجوز بها الهدنة‪.‬‬
‫فقال الشافعية‪ :‬إذا كان بالمسلمين قوة فتجوز لمدة أربعة أشهر فما فوقها إلى ما دون سنة في الظهر‪،‬‬
‫لقوله تعالى‪{ :‬براءة من ال ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين‪ ،‬فسيحوا في الرض أربعة‬
‫أشهر} [التوبة‪ ]2-1/9:‬ولن الرسول صلّى ال عليه وسلم هادن صفوان بن أمية أربعة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 380‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البيهقي عن مروان بن الحكم‪ ،‬والمسْور بن مخرمة (نصب الراية‪.)390/3 :‬‬
‫(‪ )3‬وراجع شرح مسلم‪.91/12 :‬‬

‫( ‪)8/32‬‬
‫أشهر عام الفتح (‪ . )1‬ول تبلغ المدة سنة؛ لنها مدة تجب فيها الجزية‪.‬‬
‫فإن كان بالمسلمين ضعف‪ ،‬فتجوز لعشر سنين فقط فما دونها بحسب الحاجة‪ ،‬لن هذا غاية مدة‬
‫الهدنة‪ ،‬لنه صلّى ال عليه وسلم هادن قريشا في الحديبية هذه المدة على المعتمد‪ .‬فإن لم يقْو‬
‫المسلمون طوال تلك المدة فل بأس أن يجدد المام مدة مثلها أو دونها على رجاء أن يقووا‪ ،‬وإذا‬
‫انقضت المدة والحاجة باقية استؤنف العقد‪.‬‬
‫وهذا هو مذهب الشيعة المامية وظاهر كلم المام أحمد‪ ،‬وقال أبو الخطاب من الحنابلة‪ :‬ظاهر كلم‬
‫أحمد أنه يجوز على أكثر من عشر سنين على حسب ما يراه المام من المصلحة بعد اجتهاده‪ .‬والذي‬
‫يبدو أن ما نقله أبو الخطاب هو الصح عند الحنابلة (‪. )2‬‬
‫وقال الحنفية والمالكية والزيدية‪ :‬ليس للهدنة مدة معينة‪ ،‬إنما تقدير المدة راجع إلى اجتهاد المام قدر‬
‫الحاجة؛ لن المهادنة عقد جاز لمدة عشر سنين‪،‬فتجوز الزيادة عليها كعقد الجارة (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع تلخيص الحبير‪ ،‬طبع القاهرة‪ ،‬بتعليق هاشم اليماني‪ ،131/4 :‬الستيعاب في معرفة‬
‫الصحاب‪.720/2 :‬‬
‫(‪ )2‬كشاف القناع‪ ،104/3 :‬ط مكة‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع التفصيل في آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 675‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/33‬‬

‫المبحث الرابع ـ انتهاء الحرب بعقد الذمة ‪:‬‬


‫الكلم عن عقد الذمة ببيان ركنه وشرائطه وحكمه وصفته ومقدار الجزية ومسقطاتها‪.‬‬
‫تعريف عقد الذمة أو الصلح المؤبد وركنه‪ :‬الذمة في اللغة العهد‪ ،‬وهو المان والضمان والكفالة‪.‬‬
‫وعند الفقهاء (‪ : )1‬هو التزام تقرير الكفار في ديارنا وحمايتهم والدفاع عنهم ببذل الجزية (‪)2‬‬
‫والستسلم من جهتهم‪ .‬ول يعقدها إل المام أو نائبه؛ لنها من المصالح العظمى التي تحتاج إلى نظر‬
‫واجتهاد‪ ،‬وهذا ل يتأتى لغير المام أونائبه‪ ،‬لكن قال المالكية‪ :‬إن عقدها غير المام فيأمنون‪ ،‬ويسقط‬
‫عنهم القتل والسر‪ ،‬وللمام النظر بأن يمضيها أو يردهم لمأمنهم (‪. )3‬‬
‫ويحرم قتال أهل الذمة وقتلهم ما داموا ملتزمين بشروط العهد‪ ،‬لما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة‬
‫رضي ال عنه أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬من قتل رجلً من أهل الذمة‪ ،‬لم يجد ريح الجنة‪،‬‬
‫وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما» ‪ .‬وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي ال‬
‫عنه‪ :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬أل من قتل نفسا معاهدة له ذمة ال ورسوله‪ ،‬فقد أخفر بذمة‬
‫ال ‪ ،‬فل يرح رائحة الجنة‪ ،‬وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا» ‪.‬‬
‫وحكمة عقد الذمة‪ :‬تحقيق التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم‪ ،‬وتمكين غير المسلمين من الطلع‬
‫على حقائق السلم ومبادئه‪ ،‬فيلتقي الجميع على الحق والعقيدة الصالحة‪.‬‬
‫والجزية بديل عن حماية المسلمين لهل الذمة وعن المشاركة في الجهاد‪ ،‬ودليل مادي على الولء‬
‫للدولة السلمية‪.‬‬
‫وركن العقد أو صيغته‪ :‬إما لفظ صريح يدل عليه ‪ ،‬مثل لفظ العهد والعقد على أسس معينة‪ ،‬وإما فعل‬
‫يدل على قبول الجزية‪ ،‬كأن يدخل حربي دار السلم بأمان‪ ،‬ويمكث فيها سنة‪ ،‬فيطلب إلىه إما أن‬
‫يخرج أو يصبح ذميا‪ ،‬فإن اختار البقاء عندنا صار من أهل الذمة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع آثار الحرب للمؤلف‪ :‬ص ‪.692‬‬
‫(‪ )2‬الجزية‪ :‬ما يؤخذ من أهل الذمة‪ ،‬لنها تجزئ من القتل‪ ،‬أي تعصم‪.‬‬
‫(‪ )3‬فتح القدير‪ ،368/4 :‬الخرشي‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،166/3 :‬مغني المحتاج‪ ،243/4 :‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪ 92/3‬ط مصر‪.‬‬

‫( ‪)8/34‬‬

‫شروط صحة العقد‪ :‬يشترط في المعقود له عقد الذمة شروط ثلثة‪:‬‬


‫الول ـ أل يكون المعاهد من مشركي العرب‪ ،‬فإنه ل يقبل منهم إل السلم أو القتال‪ ،‬لقوله تعالى‬
‫عن المشركين‪{ :‬تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح‪ ،]16/48:‬وإنما يعقد عقد الذمة مع أهل الكتاب‪ ،‬لقوله‬
‫سبحانه‪{ :‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر‪ ،‬ول يحرمون ما حرم ال ورسوله‪ ،‬ول يدينون‬
‫دين الحق من الذين أوتوا الكتاب‪ ،‬حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة‪ ]29/9:‬ويعقد‬
‫هذا العقد أيضا مع المجوس؛ لن لهم شبهة كتاب‪ ،‬لما قال عبد الرحمن بن عوف‪ :‬أشهد لسمعت‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم يقول‪« :‬سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (‪ . )1‬وعن عمر‪« :‬أنه لم يأخذ‬
‫الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن ابن عوف أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم أخذها من‬
‫مجوس هجَر» (‪. )2‬‬
‫وهذا الشرط متفق عليه بين الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية والباضية والشيعة المامية‬
‫والزيدية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الشافعي‪ ،‬ورواه الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال‪ :‬ل أدري ما‬
‫أصنع بالمجوس‪ ،‬فقال عبد الرحمن بن عوف‪ :‬أشهد لسمعت رسول ال صلّى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫«سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وهذا منقطع ورجاله ثقات‪ ،‬ورواه أيضا البزار والدارقطني وابن أبي‬
‫شيبة مرسلً (جامع الصول‪ ،264/3 :‬نصب الراية‪ ،448/3 :‬نيل الوطار‪.)56/8 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي (جامع الصول‪ :‬ص ‪ ،261‬نصب الراية‪ :‬ص ‪،448‬‬
‫نيل الوطار‪ ،56/8 :‬سبل السلم‪.)65/4 :‬‬

‫( ‪)8/35‬‬

‫وقال الوزاعي والثوري وفقهاء الشام والمالكية على المشهور في مذهبهم‪ :‬تؤخذ الجزية من كل‬
‫كافر‪ ،‬سواء أكان من العرب أم من العجم‪ ،‬من أهل الكتاب‪ ،‬أم من عبدة الصنام (‪ ، )1‬بدليل ما رواه‬
‫سليمان بن بريدة عن أبيه‪ ،‬قال‪« :‬كان رسول ال صلّى ال عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو‬
‫سرية‪ ،‬أوصاه في خاصته بتقوى ال ومن معه من المسلمين خيرا» ثم قال‪...« :‬وإذا لقيت عدوك من‬
‫المشركين فادعهم إلى ثلث خصال‪ ،‬أو خلل‪ ،‬فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم‪ ،‬ثم ادعهم‬
‫إلى السلم‪ ...‬فإن هم أبوا فسلهم الجزية‪ »...‬الحديث (‪ )2‬فقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬عدوك» عام‬
‫يشمل كل كافر‪ ،‬قال الشوكاني‪ :‬هذا الحديث حجة في أن قبول الجزية ل يختص بأهل الكتاب‪.‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬أل يكون المعاهد مرتدا‪ ،‬لن حكمه القتل إذا لم يتب؛ لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬من‬
‫بدل دينه فاقتلوه» (‪ ، )3‬وهذ الشرط متفق عليه بين الفقهاء‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أن يكون العقد مؤبدا‪ :‬فإن أقت الصلح لم يصح العقد؛ لن عقد الذمة بالنسبة لعصمة‬
‫النسان في ماله ونفسه بديل عن السلم‪ ،‬والسلم مؤبد‪ ،‬فكذا بديله وهو عقد الذمة‪ .‬وهذا شرط متفق‬
‫عليه أيضا (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 712‬ومابعدها‪ ،‬الدر المختار‪ ،293/3 :‬تبيين الحقائق‪.277/3 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم عن عائشة رضي ال عنها (راجع شرح مسلم‪ 37/12 :‬ومابعدها)‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الجماعة إل مسلما‪ ،‬ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق (نصب الراية‪ ،456/3 :‬نيل‬
‫الوطار‪ ،190/7 :‬سبل السلم‪.)65/4 :‬‬
‫(‪ )4‬راجع البدائع‪ 110/7 :‬وما بعدها‪ ،‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ ،713 ،707‬فتح القدير‪.371/4 :‬‬
‫( ‪)8/36‬‬

‫شروط المكلفين بالجزية‪ :‬يشترط لوجوب الجزية على أهل الذمة شروط‪:‬‬
‫‪ - 1‬الهلية من العقل والبلوغ‪ :‬فل تجب على الصبيان والمجانين؛ لنهم ليسوا من أهل القتال‪.‬‬
‫‪ - 2‬الذكورة‪ :‬فل تجب على النساء؛ لنهن أيضا لسن من أهل القتال‪ ،‬وال سبحانه وتعالى أوجب‬
‫الجزية على المقاتلين بقوله تعالى‪{ :‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر‪[ }...‬التوبة‪]29/9:‬‬
‫الية‪ ،‬فالمقاتلة تقتضي المشاركة‪ ،‬يعني وقوع القتال من الطرفين‪.‬‬
‫‪ - 3‬الصحة والمقدرة المالية‪ :‬فل تجب على المريض مرضا لمدة سنة أو أكثر السنة؛ لن للكثر‬
‫حكم الكل‪ ،‬ول تجب أيضا على الفقير المتعطل عن العمل‪ ،‬ول على الرهبان الذين ل يخالطون‬
‫الناس‪.‬‬
‫‪ - 4‬السلمة من العاهات المزمنة‪ ،‬كالمرض المزمن والعمى والشيخوخة‪.‬‬
‫‪ - 5‬الحرية‪ ،‬فل تجب الجزية على العبد‪ ،‬لنه ليس مالكا للمال‪.‬‬
‫وفي الجملة‪ :‬اتفق الفقهاء على اشتراط البلوغ والحرية والذكورة‪ ،‬فل جزية على امرأة ول صبي ول‬
‫مجنون ول معتوه ول زمِن ول أعمى ول مفلوج ول شيخ كبير؛ لنها وجبت بدلً عن القيام بقتال‬
‫العداء‪ ،‬وهم ل يقاتلون لعدم الهلية‪ .‬ول جزية على فقير غير معتمل (أي مكتسب ولو بالسؤال)‬
‫لعدم الطاقة‪ ،‬ول على الرهبان الذين ليخالطون الناس‪ ،‬إذ ل يقتلون‪ ،‬والصل في الجزية لسقاط‬
‫القتل‪ ،‬ول جزية على العبد بأنواعه‪.‬‬
‫وخالف الشافعية والحنابلة في الرجح عندهم في الشرطين الثالث والرابع‪ ،‬فلم يجيزوا إسقاط الجزية‬
‫بالعذار (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،111‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ ،699‬تبيين الحقائق‪ ،278/4 :‬فتح القدير‪:‬‬
‫‪ ،372/4‬الكتاب مع اللباب‪.145/4 :‬‬

‫( ‪)8/37‬‬

‫حكم عقد الجزية‪ :‬يترتب على عقد الذمة إنهاء الحرب بين المسلمين وغيرهم‪ ،‬وعصمة نفوس الكفار‬
‫وأموالهم وبلدهم وأعراضهم‪ ،‬فل يجوز استباحتها بعد انعقاد العقد‪ ،‬بدليل حديث بريدة السابق ذكره‬
‫وفيه‪« :‬فادعهم إلى أداء الجزية‪ ،‬فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» ولقوله تعالى في آية الجزية‪:‬‬
‫{قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر} [التوبة‪ ]29/9:‬إلى قوله تعالى {حتى يعطوا الجزية عن‬
‫يدٍ وهم صاغرون} [التوبة‪ ]29/9:‬فال سبحانه طالب بالكف عن قتال أهل الكتاب عند وجود السلم‬
‫أو بذل الجزية‪ ،‬وبما أن السلم يعصم النفس والمال وما ألحق بهما‪ ،‬فكذا الجزية‪ .‬وقال علي رضي‬
‫ال عنه‪« :‬وإنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا‪ ،‬ودماؤهم كدمائنا» (‪ )1‬وروى أبو داود والبيهقي‬
‫وأحمد عن الرسول صلّى ال عليه وسلم من حديث أسامة قال‪« :‬أل من ظلم معاهدا‪ ،‬أو انتقصه‪ ،‬أو‬
‫كلفه فوق طاقته‪ ،‬أوأخذ شيئا بغير طيب نفس منه‪ ،‬فأنا حجيجه يوم القيامة» (‪. )2‬‬
‫والجزية نوعان‪ :‬جزية صلحية‪ :‬وهي جزية توضع بالتراضي والصلح‪ ،‬فتقدر بحسب ما يقع عليه‬
‫التفاق‪ ،‬فل حد لها ول لمن تؤخذ منه إل ما يقع عليه الصلح‪ .‬وجزية عنوية تفرض فرضا‪ :‬وهي‬
‫التي يبتدئ المام وضعها إذا غلب المسلمون على الكفار‪ ،‬واستولوا على بلدهم‪ ،‬وأقرهم المام على‬
‫أمرهم‪.‬‬
‫فيضع المام عند الحنفية والحنابلة على الغني الظاهر الغنى (وهو من يملك‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 728‬وما بعدها‪ ،111/7 ،‬والثر المروي عن علي غريب‪ ،‬وأخرجه‬
‫الدارقطني عن علي بلفظ «من كانت له ذمتنا‪ ،‬فدمه كدمنا‪ ،‬وديته كديتنا» (نصب الراية‪.)281/3 :‬‬
‫(‪ )2‬الحديث مروي عن صفوان بن سليم رحمه ال (راجع سنن أبي داود‪ ،231/3 :‬سنن البيهقي‪:‬‬
‫‪ ،205/9‬منتخب كنز العمال من مسند أحمد‪،296/2 :‬جامع الصول‪ ،257/3 :‬الفتح الكبير‪.)485/1 :‬‬

‫( ‪)8/38‬‬

‫عشرة آلف درهم فصاعدا) في كل سنة ثمانية وأربعين درهما‪ ،‬منجمة أي مقسطة على الشهر‪ ،‬يأخذ‬
‫في كل شهر أربعة دراهم‪ .‬ويضع على المتوسط الحال (وهو من يملك مئتي درهم فصاعدا) أربعة‬
‫وعشرين درهما منجمة أيضا على الشهر‪ ،‬في كل شهر درهمين‪ ،‬وعلى الفقير المعتمل (وهو من‬
‫يملك ما دون المئتي درهم‪ ،‬أو ل يملك شيئا) اثني عشر درهما منجمة أيضا على الشهر‪ ،‬في كل‬
‫ل بفعل عمر رضي ال عنه الذي قسم أهل الذمة ثلث طبقات‪ :‬وهم‬
‫شهر درهما (‪ . )1‬وذلك عم ً‬
‫الموسرون والمتوسطون والفقراء العاملون‪.‬‬
‫ويرى المالكية‪ :‬أن الجزية أربعة دنانير في كل عام على كل واحد من أهل الذهب‪ ،‬وأربعون درهما‬
‫على أهل الفضة‪ ،‬وذكر ابن جزي المالكي (‪ )2‬أنه ل يزاد على ذلك لقوة أحد‪ ،‬ول ينقص لضعفه‪،‬‬
‫والراجح لدى المالكية أنه ينقص عن الفقير بحسب طاقته ووسعه‪.‬‬
‫وذهب الشافعية (‪ )3‬إلى أن أقل الجزية دينار‪ ،‬لحديث معاذ بن جبل‪« :‬أنه صلّى ال عليه وسلم لما‬
‫وجهه إلى اليمن‪ ،‬أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر» (‪ )4‬وهي ثياب يمنية‪ ،‬نسبة‬
‫إلى حي من همدان في اليمن‪ ،‬تنسب إلىه الثياب المعافرية‪ .‬ويستحب لدى الشافعية مماكسة(مشاححة)‬
‫الذمي حتى يأخذ من المتوسط دينارين‪ ،‬ومن الغني أربعة دنانير‪ ،‬اقتداء بعمر رضي ال عنه‪ ،‬كما‬
‫رواه البيهقي عنه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الكتاب مع اللباب‪ ،143/4 :‬المغني‪ 501/8 :‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.156‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪.248/4 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي والدارقطني‪ ،‬وصححه ابن حبان والحاكم من‬
‫حديث مسروق عن معاذ‪.‬‬

‫( ‪)8/39‬‬

‫صفة عقد الذمة‪ :‬اتفق الفقهاء على أن عقد الذمة عقد لزم من ناحية‬
‫المسلمين‪ ،‬فل يملك المسلمون نقضه بأي حال‪ .‬وأما بالنسبة لغير المسلمين فهو عقد غير لزم‪ ،‬لكنه‬
‫ل ينتقض عند الحنفية إل بأحد أمور ثلثة‪ :‬وهي أن يسلم الذمي‪ ،‬أو يلحق بدار الحرب‪ ،‬أو يغلب‬
‫الذميون على موضع فيحاربوننا‪ ،‬ول ينتقض عهدهم بغير المذكور‪ ،‬كالمتناع من إعطاء الجزية‪ ،‬أو‬
‫سب النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬أو قتل مسلم‪ ،‬أو الزنى بمسلمة؛ لن التزام الجزية باق‪ ،‬ويستطيع‬
‫الحاكم أن يجبره على أدائها‪ ،‬وأما بقية المخالفات فهي معاصي ارتكبوها وهي دون الكفر‪ ،‬وقد‬
‫أقررناهم عليه‪ ،‬فما دونه أولى (‪. )1‬‬
‫ويرى جمهور الفقهاء‪ ،‬والشيعة المامية والزيدية‪ ،‬والباضية‪ :‬أن عهد الذمي ينتقض بمنعه أداء‬
‫الجزية‪ ،‬أو امتناعه من تطبيق أحكام السلم العامة‪ ،‬أو بالجتماع على قتال المسلمين؛ لن هذه‬
‫المور من مقتضى عقد الذمة‪ ،‬فارتكابها يخالف مقتضى العقد‪ ،‬فيوجب نقض المعاهدة‪.‬‬
‫وكذلك قالوا ما عدا الشافعية والمامية‪ :‬ينتقض العقد بارتكاب المعاصي السابقة؛ لن فيها ضررا على‬
‫المسلمين‪ ،‬فأشبه المتناع عن بذل الجزية‪.‬‬
‫أما الشافعية في الصح عندهم‪ ،‬فإنهم يرون أن عهد الذمة ل ينتقض بارتكاب المعاصي إذا لم يشترط‬
‫النقض في العقد‪ ،‬فإن اشترط على أهل الذمة انتقاض العهد انتقض‪ ،‬لمخالفة الشرط ولحوق الضرر‬
‫بالمسلمين (‪. )2‬‬
‫واتفق الفقهاء على أن أهل الذمة ملتزمون بتطبيق أحكام السلم المدنية والجنائية‪ ،‬وأما العبادات‬
‫ونحوها مما يدينون به كشرب الخمور وتربية الخنازير‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 112‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ ،381/4 :‬تبيين الحقائق‪،281/3 :‬‬
‫الكتاب مع اللباب‪.147/4 :‬‬
‫(‪ )2‬راجع آثار الحرب‪ :‬ص ‪.374-367 ،359‬‬

‫( ‪)8/40‬‬

‫وأكلها فيتركون وما يدينون بدون تظاهر‪ .‬ولكن ل يجوز لهم إحداث بِيعة ول كنيسة (‪ )1‬ول صومعة‬
‫ول بيت نار ول مقبرة في دار السلم (‪ . )2‬ولهم فقط ترميم أماكن عبادتهم هذه‪.‬‬
‫آراء الفقهاء في مقدار الجزية ووقت أدائها ومسقطاتها‪ :‬يرى الحنفية والحنابلة أن الجزية مقدارها‬
‫بحسب حال المكلف بها‪ ،‬فإن كان غنيا فيجب عليه ثمانية وأربعون درهما‪ ،‬وإن كان متوسط الحال‬
‫فعليه أربعة وعشرون درهما‪ ،‬وإن كان فقيرا عاملً فعليه اثنا عشر درهما كما ذكر‪ .‬وهذا التقدير‬
‫ثابت عن سيدنا عمر رضي ال عنه (‪. )3‬‬
‫وقال المالكية في الصح‪ :‬مقدار الجزية أربعون درهما‪ ،‬أي أربعة دنانير‪ ،‬وينقص عن الفقير بحسب‬
‫وسعه وطاقته (‪ . )4‬وذكر ابن جزي أنه ل يزاد على أربعين درهما (علما بأن الدينار عندهم عشرة‬
‫دراهم) لقوة أحد ول ينقص لضعفه‪.‬‬
‫وقال الشافعية مثل الحنفية والحنابلة‪ :‬أقل الجزية دينار لكل سنة‪ ،‬ويؤخذ من متوسط الحال ديناران‪،‬‬
‫ومن غني أربعة دنانير‪ ،‬اقتداء بعمر رضي ال عنه كما رواه البيهقي عنه‪ ،‬ودليلهم على أقل مقدار‬
‫الجزية‪ :‬ما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البيعة بكسر الباء‪ :‬وهي في الستعمال الغالب متعبّد النصارى‪ ،‬والكنيسة متعبد اليهود‪ .‬لكن في‬
‫ديار مصر والشام‪ ،‬ل يستعمل لفظ البيعة‪ ،‬بل تستعمل الكنيسة لمتعبد الفريقين‪ .‬ولفظ الدير للنصارى‬
‫خاصة‪ .‬وأصل اللغة أن الكنيسة والبيعة تطلق على كل من معبد اليهود والنصارى‪.‬‬
‫(‪ )2‬الكتاب مع اللباب‪.146/4 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،112/7 :‬الدر المختار‪ ،292/3 :‬تبيين الحقائق‪ ،276/3 :‬المغني‪ ،502/8 :‬وأما التقدير‬
‫المذكور فمروي من طرق عن عمر‪ ،‬منها ما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن عبيد ال الثقفي‪،‬‬
‫ورواه ابن زنجويه عن المغيرة بن شعبة (راجع نصب الراية‪ 447/3 :‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )4‬الشرح الكبير للدردير‪ 201/2 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/41‬‬

‫عن معاذ رضي ال عنه‪« :‬أنه صلّى ال عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم‬
‫دينارا‪ ،‬أو عِدله من المعافر‪ ،‬وهي ثياب تكون باليمن» (‪. )1‬‬
‫ويجب أداء الجزية عند الحنفية في أول السنة؛ لنها تجب لحماية الذمي في المستقبل‪ .‬وعند سائر‬
‫المذاهب‪ :‬تجب الجزية في آخر السنة؛ لنه مال يتكرر بتكرار الحول‪ ،‬أو يؤخذ في آخر كل حول‬
‫كالزكاة (‪. )2‬‬
‫وتسقط الجزية باختيار السلم باتفاق الفقهاء‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم فيما يرويه ابن عباس‪:‬‬
‫«ليس على مسلم جزية» (‪ )3‬وفي رواية للطبراني عن ابن عمر‪« :‬من أسلم فل جزية عليه» ‪.‬‬
‫وتسقط بالموت عند الحنفية والمالكية والزيدية؛ لن الجزية في رأيهم عقوبة‪ ،‬فتسقط بالموت كالحدود‪.‬‬
‫وعند الشافعية والحنابلة‪ :‬ل تسقط بالموت وتؤخذ من التركة؛ لنها دين وجب في الحياة‪ ،‬فلم يسقط‬
‫بالموت كديون الناس‪.‬‬
‫وتسقط الجزية أيضا عند أبي حنيفة والزيدية بمضي السنة ودخول سنة أخرى؛ لن الجزية عقوبة‪،‬‬
‫فتتداخل مع بعضها كالحدود‪ .‬وعند الصاحبين وسائر الئمة‪ :‬ل تتداخل الجزية وتجب الجزيات كلها؛‬
‫لنها عوض‪ ،‬فتعتبر بمنزلة سائر الحقوق المالية كالدية والزكاة وغيرهما (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،248/4 :‬وأما حديث معاذ فرواه أبو داود والترمذي والنسائي‪ ،‬وصححه ابن حبان‬
‫والحاكم‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬حديث حسن‪ ،‬وذكر أن بعضهم رواه مرسلً وأنه أصح (جامع الصول‪:‬‬
‫‪ ،261/3‬نصب الراية‪ ،445/3 :‬سبل السلم‪ 4 :‬ص ‪.)66‬‬
‫(‪ )2‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني‪ ،‬وذكر الترمذي أنه مرسل ( سنن أبي داود‪،231/3 :‬‬
‫مجمع الزوائد‪ ،13/6 :‬منتخب كنز العمال من مسند أحمد‪ ،38/2 :‬جامع الصول‪ ،267/3 :‬نصب‬
‫الراية‪ ،453/3 :‬نيل الوطار‪.)61/8 :‬‬
‫(‪ )4‬راجع آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 694‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ 511/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪)8/42‬‬

‫حقوق الذميين وواجباتهم‪ :‬للذميين حقوق وواجبات (‪. )1‬‬


‫أ ما حقوقهم فهي ما يأتي‪:‬‬
‫ً‪- 1‬التزام تقريرهم في بلدنا إل الحرم المكي في رأي الجمهور غير أبي حنيفة‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬إنما‬
‫المشركون نجس‪ ،‬فل يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة‪ ]28/9:‬والمراد به الحرم‪ ،‬بدليل‬
‫قوله تعالى‪{ :‬وإن خفتم عيلة} [التوبة‪ ]28/9:‬وأجاز أبو حنيفة لهم دخول الحرم المكي كالحجاز كله‪،‬‬
‫ولكنهم ل يستوطنون به‪ ،‬ومنع الستيطان ل يمنع من دخوله‪.‬‬
‫ومنع المالكية استيطان الكفار في جزيرة العرب‪ ،‬وهي الحجاز واليمن‪ ،‬لكنهم أجازوا لهم دخول الحرم‬
‫المكي دون البيت الحرام بأمان‪.‬‬
‫وأجاز الحنابلة دخول الكفار إلى الحجاز للتجارة‪ ،‬ولكن ل يمكنون من القامة فيه أكثر من ثلثة أيام‪،‬‬
‫وعن بعضهم‪ :‬أربعة أيام‪.‬‬
‫وحظر المام الشافعي تمكين الكافر من دخول مكة وحرمها بأي حال فإن دخلها خفية‪ ،‬وجب‬
‫إخراجه‪ ،‬وإن مات ودفن فيها‪ ،‬نبش وأخرج منها ما لم يتغير‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬وجوب الكف عنهم وحمايتهم‪ ،‬بسبب عصمة أنفسهم وأموالهم بالعقد‪ ،‬وإنهاء الحرب معهم‬
‫ومسالمتهم‪ ،‬لحديث بريدة رضي ال عنه عند مسلم‪« :‬فسلهم الجزية‪ ،‬فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ‬
‫عنهم» ‪ ،‬وروى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه قال‪« :‬وأوصيه بذمة ال وذمة رسوله‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪ :‬أن يوفى لهم بعهدهم‪ ،‬وأن يقاتَل من وراءهم‪ ،‬ول يكلّفوا إل طاقتهم» ‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬عدم التعرض لكنائسهم ول لخمورهم وخنازيرهم ما لم يظهروها‪ ،‬فإن أظهروا الخمر أرقناها‬
‫عليهم‪ ،‬وإن لم يظهروها وأراقها مسلم‪ ،‬ضمنها في رأي المالكية والحنفية‪ ،‬ول يضمنها في رأي‬
‫الشافعية والحنابلة‪ .‬ويؤدب منهم من أظهر الخنزير‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ 156‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،258/2 :‬تحفة الحوذي شرح الترمذي ‪:‬‬
‫‪ ،231/5‬المغني‪.531-529/8 :‬‬

‫( ‪)8/43‬‬
‫وأما واجباتهم فهي ثلثة عشر شيئا هي‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬أداء الجزية عن كل رجل في كل عام مرة‪ ،‬وهي دينار عند الشافعي‪ ،‬وإن صولحوا على أكثر‬
‫من ذلك جاز‪ ،‬وأربعة دنانير عند الجمهور‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬ضيافة المسلمين ثلثة أيام إذا مروا عليهم‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬دفع عشر ما يتجرون به في غير بلدهم التي يسكنونها‪.‬‬
‫ً‪ - 4‬أل يبنوا كنيسة‪ ،‬ول يتركوها مبنية في بلدة بناها المسلمون‪ ،‬أو فتحت عنوة‪ ،‬فإن فتحت صلحا‬
‫واشترطوا بقاءها جاز‪.‬‬
‫ً‪ - 5‬أل يركبوا الخيل ول البغال النفيسة‪ ،‬ولهم ركوب الحمير‪.‬‬
‫ً‪ - 6‬أن يمنعوا من جادة الطريق ويضطروا إلى أضيقه‪.‬‬
‫ً‪ - 7‬أن تكون لهم علمة يعرفون بها كالزنار ويعاقبون على تركها‪.‬‬
‫ً‪ - 8‬أل يغشوا المسلمين‪ ،‬ول يأووا جاسوسا‪ ،‬وأل يتواطؤا مع أهل الحرب على إيذاء المسلمين‪،‬‬
‫وغير ذلك من كل ما فيه ضرر بالمسلمين‪.‬‬
‫ً‪ - 9‬أل يمنعوا المسلمين من النزول في كنائسهم ليلً ونهارا‪.‬‬
‫ً‪ - 10‬أن يوقروا المسلمين‪ ،‬فل يضربوا مسلما ول يسبونه ول يستخدمونه‪.‬‬
‫ً‪ - 11‬أن يخفوا نواقيسهم‪ ،‬ول يظهروا شيئآً من شعائر دينهم‪.‬‬
‫ً‪ - 12‬أل يسبوا أحدا من النبياء عليهم الصلة والسلم‪ ،‬ول يظهروا معتقدهم‪ ،‬وأل يطعنوا في شرع‬
‫ال عز وجل‪ ،‬وأل يتعرضوا للقرآن أو الرسول صلّى ال عليه وسلم بسوء‪.‬‬
‫ً‪ - 13‬إجراء أحكام السلم عليهم في المعاملت والعقوبات الجنائية‪ ،‬كتحريم الزنا‪ ،‬بدليل أن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم رجم يهوديا ويهودية زنيا (‪ ، )1‬والمتناع من التعامل بالربا وارتكاب الفواحش‬
‫والمعاصي وأحوال الفسوق‪ ،‬لكنهم يقرون على تناول الخمر لعتقادهم إباحته‪ ،‬إل إذا ترافعوا إلينا‪،‬‬
‫فيحكم بينهم بشريعتنا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي ال عنهما‪.‬‬

‫( ‪)8/44‬‬

‫صلُ الثّالث‪ :‬حكم النفال والغنائم‬


‫ال َف ْ‬
‫يترتب على قيام الحرب آثار في أموال العدو تعرف لدى الفقهاء بأموال الفيء والغنائم‪ :‬وهي ما‬
‫وصلت من الحربيين أو كانوا سبب وصولها (‪ . )1‬ومن هذه الموال ما يعرف باسم خاص يخص به‬
‫المام أحد المجاهدين ويعرف بالنفال‪ .‬فما معنى كل لفظ على حدة وما حكمه؟‬
‫‪ - 1‬ال ّنفَل‪ :‬النفل في اللغة‪ :‬عبارة عن الزيادة‪ ،‬وفي الصطلح‪ :‬عبارة عما خصه المام لبعض‬
‫المجاهدين تحريضا لهم على القتال‪ ،‬سمي نفلً‪ ،‬لكونه زيادة عن حصته من الغنيمة‪.‬‬
‫والتنفيل‪ :‬تخصيص بعض المجاهدين بالزيادة‪ ،‬كأن يقول ولي المر‪ :‬من أصاب شيئا فله ربعه أو‬
‫ثلثه‪ ،‬أو فهو له‪ ،‬أو من قتل قتيلً فله سَلبَه (‪ )2‬أو يقول لسرية‪« :‬ما أصبتم فهو لكم» ‪.‬‬
‫وهذا جائز لما فيه من تحريض على القتال‪ ،‬وال تعالى يقول‪{ :‬يا أيها النبي حرّض المؤمنين على‬
‫القتال} [النفال‪ ]65/8:‬ويجوز التنفيل في سائر الموال من الذهب والفضة والسَلبَ وغيرها‪.‬‬
‫ول بأس أن يُنفّل المام في حال القتال‪ ،‬ويحرض بال ّنفَل على القتال‪ ،‬فيقول‪ :‬من قتل قتيلً فله سلبه‪،‬‬
‫أو يقول لسرية (هي القطعة من الجيش)‪ :‬قد جعلت لكم الربع أو النصف بعد أخذ الخمس‪ ،‬لما فيه من‬
‫تقوية القلوب‪ ،‬وإغراء المقاتلة على المخاطرة وإظهار الجلدة رغبة في القتال‪ .‬وقال ال تعالى‪:‬‬
‫{حرض المؤمنين على القتال} [النفال‪ ]65/8:‬وهذا نوع من التحريض‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪.121‬‬
‫(‪ )2‬سيأتي تفسير السلب قريبا‪ ،‬وهذا نص حديث‪.‬‬

‫( ‪)8/45‬‬

‫والسّلب‪ :‬هو ثياب المقتول وسلحه الذي معه‪ ،‬ودابته التي ركبها بما عليها‪ ،‬وما كان معه من مال‪.‬‬
‫وأما ما يكون مع خادم للمقتول على فرس آخر أو ما معه من أموال على دابة أخرى‪ ،‬فكله من‬
‫الغنيمة التي هي من حق جماعة الغانمين كلهم‪ .‬هذا مذهب الحنفية (‪ )1‬والمالكية (‪ )2‬الذي يقتضي أن‬
‫القاتل ل يستحق سلب المقتول إل بإذن المام‪ ،‬أي بأن ينفله له المام بعد انتهاء الحرب بطريق‬
‫الجتهاد‪ .‬فإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة‪ ،‬ويكون القاتل وغيره في السلب سواء؛‬
‫لنه مأخوذ بقوة الجيش‪ ،‬فيكون غنيمة لهم‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬يستحق القاتل سلب المقتول في كل حال بدون إذن المام (‪ )3‬بدليل عموم‬
‫قوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من قتل قتيلً فله سلبه» (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 114/ 7:‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ 333/ 4 :‬ومابعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪.258/ 4 :‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،384/1 :‬الفروق للقرافي‪.7/3 :‬‬
‫(‪ )3‬راجع مغني المحتاج‪ ،99/3 :‬المغني لبن قدامة‪.388/8 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه الجماعة إل النسائي‪ ،‬ورواه الموطأ وأحمد عن أبي قتادة النصاري ورواه البيهقي عن‬
‫سمرة‪ ،‬كما رواه غيرهما‪ .‬وأما حديث «ليس لك من سلب قتيلك إل ما طابت به نفس إمامك» فهو‬
‫منقطع (راجع جامع الصول‪ ،291/3 :‬شرح مسلم‪ ،59/12 :‬مجمع الزوائد‪ ،331/5 :‬نصب الراية‪:‬‬
‫‪ ،430-428/3‬نيل الوطار‪ ،261/7 :‬سبل السلم‪.)52/4 :‬‬

‫( ‪)8/46‬‬

‫وقد روي أن «أبا طلحة رضي ال عنه قتل يوم خيبر عشرين قتيلً‪ ،‬وأخد أسلبهم» (‪. )1‬‬
‫ومنشأ الخلف بين الفريقين‪ :‬هل قوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من قتل قتيلً فله سلبه» صادر منه‬
‫بطريق المامة أم بطريق الفتيا؟‬
‫قال الحنفية والمالكية‪ :‬إن السلب لم يكن للقاتل إل يوم حنين‪ ،‬فتخصيص بعض المجاهدين به موكول‬
‫إلى اجتهاد المام‪ ،‬فهو تصرف مقول بطريق المامة والسياسة‪ .‬وما وقع منه صلّى ال عليه وسلم‬
‫بالمامة ل بد فيه من إذن المام في كل عصر من العصور‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬إن تنفيل السلب تصرف حادث من الرسول صلّى ال عليه وسلم بطريق‬
‫الفتيا‪ ،‬ل بطريق المامة‪ ،‬وكل ما وقع منه بطريق الفتيا والتبليغ يستحق بدون قضاء قاض أوإذن إمام‬
‫( ‪. )2‬‬
‫وهذا الخلف يجري في فهم حديث‪« :‬من أحيا أرضا ميتة فهي له» (‪ )3‬فهل يحتاج إصلح الرض‬
‫لتملكها إلى إذن المام أو ل؟ رأيان كما ل حظنا‪.‬‬
‫والتنفيل بناء على رأي الفريق الول إنما يكون في مباح القتل‪ ،‬فل يستحق بقتل غير المقاتلة كالصبي‬
‫والمرأة والمجنون ونحوهم‪ .‬ول يشترط في استحقاق النفل سماع القاتل مقالة المام؛ لن إسماع كل‬
‫المجاهدين متعذر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود وأحمد وابن حبان والحاكم عن أنس (راجع نيل الوطار‪ ،262/7 :‬نصب الراية‪:‬‬
‫‪.)429/3‬‬
‫(‪ )2‬راجع الفروق للقرافي‪ 7/3 ،195/1 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري في صحيحه عن عائشة‪ ،‬وروي عن سبعة آخرين من الصحابة (راجع نصب‬
‫الراية‪.)288/4 :‬‬

‫( ‪)8/47‬‬

‫ويشترط لجواز التنفيل أن يكون قبل حصول الغنيمة في أيدي الغانمين‪ ،‬فإن حصلت في أيديهم‪ ،‬فل‬
‫نفل إل من الخمس ونحوه‪.‬‬
‫وحكم التنفيل‪ :‬اختصاص القاتل بالنفل‪ ،‬فل يشاركه فيه أحد من الغانمين‪ ،‬ولكن ل يتم تملكه إل‬
‫بالحراز في دار السلم عند أبي حنيفة‪ ،‬وأبي يوسف‪ .‬وأما عند محمد فيتم تملكه قبل الحراز بدارنا‬
‫( ‪. )1‬‬
‫‪ - 2‬الفيء‪ :‬الفيء في اللغة‪ :‬الرجوع‪ ،‬واصطلحا‪ :‬هو المال الذي يؤخذ من الحربيين من غير‬
‫قتال‪،‬أي بطريق الصلح كالجزية والخراج (‪ . )2‬وقد كان الفيء لرسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫خاصة يتصرف فيه كيف شاء‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وما أفاء ال على رسوله منهم‪ ،‬فما أوجفتم عليه من‬
‫خيل ول ركاب‪ ،‬ولكن ال يسلط رسله على من يشاء‪ ،‬وال على كل شيء قدير} [الحشر‪]6/59:‬‬
‫وروي عن سيدنا عمر رضي ال عنه أنه قال‪« :‬كانت أموال بني النضير مما أفاء ال عز وجل على‬
‫رسوله صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬وكانت خالصة له‪ ،‬وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة‪ ،‬وما بقي جعله‬
‫في الكُراع (‪ )3‬والسلح» (‪. )4‬‬
‫وأما بعد الرسول صلّى ال عليه وسلم فيكون الفيء لجماعة المسلمين‪ ،‬يصرف في مصالح المسلمين‬
‫عامة‪ .‬والفرق بين الرسول وغيره من الئمة‪ :‬أن الئمة ينصرون بالقوة المعنوية لقومهم‪ ،‬أما الرسول‬
‫عليه الصلة والسلم فإنه منصور بما آتاه ال من هيبة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع الدر المختار ورد المحتار عليه‪ ،264-261/4 :‬البدائع‪.115/7 :‬‬
‫(‪ )2‬راجع آثار الحرب‪ :‬والمراجع التي فيه‪ :‬ص ‪.553‬‬
‫(‪ )3‬الكراع ـ بضم الكاف‪ :‬اسم يطلق على الخيل والبغال والحمير‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الشيخان وأحمد عن عمر (نيل الوطار‪ ،71/8 :‬اللمام‪ :‬ص ‪.)503‬‬

‫( ‪)8/48‬‬
‫خاصة به‪ ،‬كما قال عليه الصلة والسلم‪« :‬نصرت بالرعب مسيرة شهر» (‪. )1‬‬
‫وبناء عليه‪ :‬إذا دخل حربي في دار السلم بغير أمان‪ ،‬فأخذه أحد المسلمين‪ ،‬يكون فيئا لجماعة‬
‫المسلمين‪ ،‬ول يختص به الخذ عند أبي حنيفة؛ لن سبب ثبوت الملك فيه متحقق بالنسبة لجميع أهل‬
‫دار السلم‪ .‬وعند الصاحبين‪ :‬يكون للخذ خاصة؛ لن سبب الملك وهو الخذ والستيلء وجد حقيقة‬
‫من الخد خاصة‪.‬‬
‫ويخمّس المنقول من الفيء كالغنيمة عند الشافعية‪ ،‬فيكون الخمس لمن ذكرته آية الغنائم‪{ :‬واعلموا أنما‬
‫غنمتم من شيء} [النفال‪ ]41/8:‬ويقسم الخمس خمسة أسهم‪ :‬سهم رسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫ويجعل بعد وفاته في مصالح المسلمين‪ ،‬وسهم ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب‪ ،‬وسهم‬
‫اليتامى‪ ،‬وسهم المساكين‪ ،‬وسهم أبناء السبيل‪.‬‬
‫وأما عقارات الفيء فتوقف لمصالح بيت مال المسلمين‪ ،‬لية الفيء السابقة‪{ :‬ما أفاء ال على رسوله‬
‫من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر‪ ]7/59:‬ومن‬
‫مصارف الفيء‪ :‬النفقة على أسر المجاهدين والشهداء‪ ،‬وهم المرتزقة‪ ،‬وعلى العلماء ونحوهم ممن‬
‫تحتاج إليهم المة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن جابر بن عبد ال بلفظ «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من‬
‫النبياء قبلي‪ :‬نصرت بالرعب مسيرة شهر‪ ،‬وجعلت لي الرض مسجدا وطهورا‪ ،‬فأيما رجل من‬
‫أمتي أدركته الصلة فليصل‪ ،‬وأحلت لي الغنائم ولم تحل لحد قبلي‪ ،‬وأعطيت الشفاعة‪ ،‬وكان النبي‬
‫يبعث إلى قومه خاصة‪ ،‬وبعثت إلى الناس عامة» ويروى عن جماعة آخرين من الصحابة‪ ،‬وهو‬
‫حديث متواتر (الجامع الصغير‪ :‬ص ‪ ،471‬مجمع الزوائد‪ ،65/6 :‬تلخيص الحبير‪ ،‬الطبعة الجديدة‬
‫بمصر‪.)140/3 :‬‬

‫( ‪)8/49‬‬

‫‪ - 3‬الغنيمة‪ :‬الغنيمة في اللغة‪ :‬الفوز بالشيء بل مشقة‪ ،‬واصطلحا ‪ :‬هي ما أخذ من أموال أهل‬
‫الحرب عنوة بطريق القهر والغلبة (‪ ، )1‬وللغنائم أحكام‪:‬‬
‫الحكم الول ـ ثبوت الحق والملك فيها ‪:‬‬
‫إن حق الغانمين في تملك الغنائم عند الحنفية يتدرج في مراتب ثلث‪ ،‬يثبت في أولها أصل الحق‬
‫العام‪ ،‬ويتأكد في ثانيها هذا الحق‪ ،‬ويتخصص في ثالثها حق كل مجاهد به‪.‬‬
‫ففي المرتبة الولى ـ يتعلق أصل الحق العام في تملك الغنيمة للغانمين بمجرد الخذ والستيلء‪،‬‬
‫ولكن ل تثبت الملكية قبل الحراز بدار السلم عند الحنفية (‪. )2‬‬
‫وعند بقية الئمة والشيعة الزيدية والمامية‪ :‬تنتقل ملكية أموال العدو إلى الغانمين بمجرد الستيلء‪،‬‬
‫فيثبت لهم الملك في الغنيمة قبل الحراز بدار السلم (‪. )3‬‬
‫إل أن الراجح عند الشافعية أن تملك أموال العداء ل يثبت إل بالستيلء مع القسمة أو اختيار التملك‬
‫( ‪. )4‬‬
‫وقد فرع الحنفية على الصل المقرر عندهم هذه الفروع الفقهية‪:‬‬
‫أ ـ إذا مات واحد من الغانمين في دار الحرب ل يورث نصيبه‪.‬‬
‫ب ـ إذا باع المام شيئا من الغنائم‪ ،‬ل لحاجة المجاهدين‪ ،‬ل يجوز‪.‬‬
‫جـ ـ إذا أتلف أحد الغانمين شيئا‪ ،‬ل يضمنه‪.‬‬
‫د ـ إذا لحق المدد الجيش في دار الحرب‪ ،‬فأحرزوا جميعهم الغنائم إلى دار السلم‪ ،‬يشاركونهم في‬
‫القسمة‪.‬‬
‫هـ ـ إذا قسم المام الغنيمة في دار الحرب قسمة مجازفة بدون اجتهاد ول لحاجة المجاهدين‪ ،‬فإن‬
‫القسمة ل تصح‪.‬‬
‫وأما عند الئمة الخرين فإن حكم هذه الفروع على العكس تماما مما هو مقرر لدى الحنفية‪.‬‬
‫وأما فائدة ثبوت أصل الحق العام في الغنيمة عند الحنفية فهو يظهر فيما يلي‪:‬‬
‫إذا أسلم السير في دار الحرب‪ ،‬فإنه ل يكون حرا‪ ،‬ويدخل في قسمة الغنيمة‪ ،‬وإذا أسلم قبل السر‬
‫يكون حرا‪ ،‬ول يدخل في القسمة؛ لنه بالسر يتعلق به حق الغانمين‪ ،‬فإذا وجد السلم قبل السر لم‬
‫يتعلق به حق أحد‪.‬‬
‫ولو أسلم أرباب الموال قبل الحراز بدار السلم‪ ،‬فإن أموالهم ل تكون خاصة بهم‪ ،‬وإنما يساهمون‬
‫مع غيرهم من المجاهدين في القسمة والستحقاق‪ ،‬بسبب اشتراكهم مع المجاهدين في الحراز بدار‬
‫السلم‪ ،‬فيكونون كالمدد اللحق بالجيش‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬آثار الحرب‪ ،‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتح القدير‪ ،309/4 :‬البدائع‪.121/7 :‬‬
‫(‪ )3‬آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 556‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪ ،234/4 :‬المهذب‪.241/2 :‬‬

‫( ‪)8/50‬‬
‫وكذلك ليس لحد المجاهدين أن يأخذ شيئا من الغنائم من غير حاجة‪ ،‬لثبوت أصل الحق العام للغانمين‬
‫فيما غنموه‪ ،‬ولو لم يثبت أصل الحق‪ ،‬لكان المال الذي غنم بمنزلة المباح (‪. )1‬‬
‫استدل الحنفية على مذهبهم بأن الستيلء إنما يفيد الملك إذا ورد على مال مباح غير مملوك لحد‪،‬‬
‫وهذا المعنى لم يتوافر في الغنيمة؛ لنها مملوكة للعداء في الصل‪ ،‬ولم تزل ملكيتهم عنها إل‬
‫بالحراز بدار السلم‪.‬‬
‫واستدل غير الحنفية بأن سبب الملك هو الستيلء التام‪ ،‬وقد وجد فيفيد الملك‪ ،‬كالستيلء على سائر‬
‫المباحات كالحطب والحشيش ونحوهما‪ ،‬ثم إن الدلة الدالة على استحقاق الغنيمة عامة‪ ،‬مثل قوله‬
‫تعالى‪{ :‬واعلموا أنما غنمتم من شيء} [النفال‪ ]41/8:‬الية (‪. )2‬‬
‫وفي المرتبة الثانية ـ أي بعد الحراز بدار السلم قبل القسمة‪ :‬يتأكد الحق العام في الغنيمة ويستقر‬
‫على ملك الغانمين‪ ،‬ولكن ل يثبت الملك أيضا عند الحنفية‪.‬‬
‫ولهذا قالوا‪ :‬لو مات أحد المجاهدين‪ ،‬يورث نصيبه‪ ،‬ولو باع المام شيئا من الغنيمة أو قسمها‪ ،‬جاز‪،‬‬
‫ولو لحقهم مدد ل يشاركون الغانمين‪ ،‬وإذا أتلف أحد شيئا من الغنيمة يضمنه‪.‬‬
‫وفي المرتبة الثالثة ـ أي بعد الحراز والقسمة يثبت الملك الخاص لكل واحد من المجاهدين فيما هو‬
‫نصيبه؛ لن القسمة إفراز النصباء وتعيينها (‪. )3‬‬
‫أوجه النتفاع بالغنيمة في دار الحرب‪ :‬إذا تم الستيلء على الغنائم‪ ،‬فل بأس بالنتفاع بها عند الحنفية‬
‫قبل الحراز بدار السلم‪ ،‬وذلك بالكل والشرب والعلف والحطب منها‪ ،‬لعموم حاجة الغانمين‪ ،‬سواء‬
‫أكان المنتفع غنيا أم فقيرا؛‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع البدائع‪ 121/7 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ 309/4 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪.251/3 :‬‬
‫(‪ )2‬المرجعان السابقان للشافعية (مغني المحتاج والمهذب)‪ ،‬المغني‪.422/8 :‬‬
‫(‪ )3‬راجع فتح القدير‪ ،310/4 :‬البدائع‪ ،122/7 :‬تبيين الحقائق‪.252/3 :‬‬

‫( ‪)8/51‬‬

‫لن في إلزام الغني حمل الطعام والعلف من دار السلم إلى دار الحرب‪ ،‬مدة الذهاب والياب‬
‫والقامة‪ ،‬حرجا عظيما‪ ،‬فكانت الحاجة عامة‪.‬‬
‫ول يباح لهم بيع شيء مما يباح النتفاع به‪ ،‬إذ ل ضرورة إلى البيع‪ ،‬ولو باع أحدهم شيئا ردّ ثمنه‬
‫إلى الغنيمة‪ ،‬إن تم البيع قبل قسمة الغنيمة‪ .‬أما بعد القسمة‪ :‬فإن كان البائع غنيا تصدق بقيمة المبيع‬
‫على الفقراء‪ ،‬لتعذر توزيعه على الغانمين‪ ،‬وإن كان البائع فقيرا أخذ القيمة؛ لن المبيع‪ ،‬لو كان‬
‫موجودا‪ ،‬لكان له حق أكله‪.‬‬
‫وكذلك إذا فضل شيء من الطعام والعلف من الغانمين بعد الحراز بدا ر السلم‪ ،‬فإنه قبل القسمة‬
‫يرد إلى الغنيمة إن كان حامله غنيا‪ ،‬وإن كان فقيرا يأكل منه‪ .‬أما بعد القسمة‪ :‬فإن كان حامل الطعام‬
‫أو العلف غنيا‪ ،‬تصدق به على الفقراء إن كان موجودا‪ ،‬وبقيمته إن كان هالكا‪ ،‬وإن كان فقيرا ينتفع‬
‫به‪.‬‬
‫فإن لم يفضل شيء في يد من أخذ الطعام والعلف قبل الحراز بدار السلم‪ ،‬فإنه ل يجوز النتفاع‬
‫بشيء من الغنيمة بعد الحراز بدار السلم‪ ،‬لزوال المبيح‪ ،‬وهي الضرورة (‪. )1‬‬
‫وأما ما عدا الطعام والعلف من الموال‪ :‬فل يباح للمجاهدين أن يأخذوا شيئا منها‪ ،‬لتعلق حق الجماعة‬
‫بها‪ ،‬إل أنه إذا احتاج أحدهم إلى استعمال شيء من السلح أو الدواب أو الثياب‪ ،‬لصيانة سلحه‬
‫ودابته وثيابه‪ ،‬فل بأس باستعماله‪ ،‬فإن استغنى عنه رده إلى المغنم؛ لن المحظور يستباح للضرورة‪،‬‬
‫والضرورة تقدر بقدرها (‪. )2‬‬
‫وإذا أراد المسلمون العودة إلى دار السلم ومعهم مواشٍ أو أسلحة‪ ،‬ولم يقدروا على نقلها إلى دار‬
‫السلم‪ ،‬ذبحوا المواشي وأحرقوها بعد الذبح‪ ،‬وأتلفوا السلحة حتى ل يستفيد منها العدو‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبيين الحقائق‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 252‬وما بعدها‪ .‬البدائع‪ ،124/7 :‬الكتاب مع اللباب‪:‬‬
‫‪.121/4‬‬
‫(‪ )2‬المراجع السابقة‪.‬‬

‫( ‪)8/52‬‬

‫الحكم الثاني ـ كيفية ومكان قسمة الغنائم ‪:‬‬


‫إن كيفية توزيع الغنائم موضحة في قوله تعالى‪{ :‬واعلموا أنما غنمتم من شيء‪ ،‬فأن ل خمسه‪،‬‬
‫وللرسول‪ ،‬ولذي القربى‪ ،‬واليتامى‪ ،‬والمساكين‪ ،‬وابن السبيل إن كنتم آمنتم بال ‪ ،‬وما أنزلنا على عبدنا‬
‫يوم الفرقان يوم التقى الجمعان‪ ،‬وال على كل شيء قدير} [النفال‪ ]41/8:‬فتقسم الغنيمة خمسة أسهم‪:‬‬
‫الخمس لمن ذكرتهم الية والربعة الخماس للغانمين‪ ،‬وهذا ما بينه ابن عباس‪ :‬قال‪ :‬كان رسول ال‬
‫صلّى ال عليه وسلم إذا بعث سرية‪ ،‬فغنموا‪ ،‬خمّس الغنيمة‪ ،‬فضرب ذلك الخمس في خمسة‪ ،‬ثم قرأ‪:‬‬
‫{واعلموا أنما غنمتم من شيء‪[ }...‬النفال‪ ]41/8:‬الية‪ ،‬فجعل سهم ال وسهم الرسول واحدا‪ ،‬ولذي‬
‫القربى‪ ،‬فجعل هذين السهمين قوة في الخيل والسلح‪ ،‬وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل ل‬
‫يعطيه غيرهم‪ ،‬وجعل السهم الربعة الباقية‪ :‬للفرس سهمين‪ ،‬ولراكبه سهما‪ ،‬وللراجل سهما (‪. )1‬‬
‫ويقول بعض العلماء‪ :‬تقسم الغنيمة على ستة أسهم‪ ،‬منها سهم الكعبة‪.‬‬
‫وقال المام مالك‪ :‬إن أمرالقسمة موكول إلى نظر المام‪ ،‬ومصروف في مصالح المسلمين‪ .‬وما ذكر‬
‫في الية تنبيه على أهم من يدفع إليهم الخمس (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البيهقي‪ :‬والطبراني وفي سنده متروك (راجع سنن البيهقي‪ ،324/6 :‬مجمع الزوائد‪،340/ :‬‬
‫نصب الراية‪ 426/3 :‬وما بعدها‪ ،‬تلخيص الحبير ‪،‬الطبعة المصرية‪ 99/3 :‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )2‬آثار الحرب‪ :‬هامش ص ‪.629‬‬

‫( ‪)8/53‬‬

‫وسهم الرسول صلّى ال عليه وسلم عند جمهور الفقهاء‪ :‬كان يأخذ منه الرسول كفايته لنفسه وعياله‬
‫ويدخر منه مؤنة سنة‪ ،‬ثم يصرف الباقي في مصالح المسلمين العامة كشراء السلحة ونحوها‪ ،‬لقوله‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إنا معشر النبياء ل نورث‪ ،‬ما تركناه صدقة» (‪. )1‬‬
‫والصحيح عند الحنفية أن سهم ذوي القربى كان يصرف للفقراء منهم دون الغنياء‪ .‬وقال جمهور‬
‫الفقهاء‪ :‬يشترك الغني والفقير والنساء في سهم القرابة‪ ،‬لطلق الية‪{ :‬ولذي القربى} [النفال‪]41/8:‬‬
‫ولن النبي صلّى ال عليه وسلم أعطى العباس منه‪ ،‬وكان من أغنياء قريش‪ ،‬وكان الزبير يأخذ سهم‬
‫أمه صفية عمة النبي صلّى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫ثم اختلف الناس في سهم الرسول صلّى ال عليه وسلم وسهم ذي القربى بعد وفاته‪.‬‬
‫فقالت طائفة‪ ،‬منهم الشافعية‪ :‬سهم الرسول عليه السلم للخليفة من بعده‪.‬‬
‫وقالت طائفة‪ :‬سهم ذي القربى لقرابة الخليفة‪ .‬وأجمعوا أن جعلوا هذين السهمين في المصالح العامة‬
‫كالخيول والسلحة للجهاد في سبيل ال ‪.‬‬
‫وقالت الحنفية‪ :‬سقط سهم الرسول بموته؛ لنه كان يأخذه بوصف الرسالة‪ ،‬ل بوصف المامة‪ .‬وهذا‬
‫مخالف لجمهور الئمة‪.‬‬
‫والمراد بذي القربى هنا‪ :‬هم بنو هاشم وبنو طالب دون بني عبد شمس وبني نوفل؛ لن الوائل لم‬
‫يفارقوا الرسول صلّى ال عليه وسلم في جاهلية ول إسلم‪ ،‬كما قال الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫وشبك بين أصابعه (‪ . )2‬ويصرف اليوم في المصالح العامة‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬أن مذاهب الفقهاء في قسمة خمس الغنيمة بعد عهد النبوة مايأتي‪:‬‬
‫قال الحنفية‪ :‬تقسم على ثلثة أسهم‪ :‬سهم لليتامى‪ ،‬وسهم للمساكين‪ ،‬وسهم لبناء السبيل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حديث متواتر مروي عن ثلثة عشر صحابيا‪ ،‬منهم عمر الذي روى الحديث عنه مالك بن أوس‬
‫بن الحدثان الذي روى حديثه الجماعة‪ ،‬إل ابن ماجه‪ ،‬واللفظ المذكور عن أبي هريرة (راجع النظم‬
‫المتناثر من الحديث المتواتر للسيد محمد بن جعفر الكتاني‪ :‬ص ‪ ،138‬جامع الصول‪ 300/3 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬تلخيص الحبير‪ ،‬الطبعة المصرية‪.)134/3 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن جبير بن مطعم (جامع الصول‪:‬‬
‫‪ ،295/3‬نصب الراية‪ ،425/3 :‬تلخيص الحبير‪ ،‬الطبعة المصرية‪ ،101/3 :‬نيل الوطار‪.)69/8 :‬‬

‫( ‪)8/54‬‬

‫وأما ذكر ال تعالى في الخمس فإما هو لفتتاح الكلم‪ ،‬تبركا باسمه تعالى‪ .‬وسهم النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم سقط بموته‪ ،‬كما سقط الصّفي‪ :‬وهو شيء كان يصطفيه النبي صلّى ال عليه وسلم لنفسه‪ ،‬أي‬
‫يختاره من الغنيمة‪ ،‬مثل درع وسيف‪ .‬وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم بالنصرة له‪ ،‬وبعد وفاته بالفقر لنقطاع النصرة‪.‬‬
‫وقال الشافعي وأحمد والظاهرية وجمهور المحدثين‪ :‬توزع الغنيمة على خمسة أسهم‪:‬‬
‫أولها ـ سهم المصالح (سهم ال ورسوله) وثانيها ـ سهم ذوي القربى وهم بنو هاشم من أولد فاطمة‬
‫وغيرها‪ ،‬وثلثة أسهم أخرى إلى ما نص ال عليهم‪.‬‬
‫وقال المام مالك‪ :‬إن القسمة مفوض أمرها إلى المام‪ ،‬يفعل ما يراه مصلحة (‪. )1‬‬
‫وأما الربعة الخماس‪ :‬فهي للغانمين‪ ،‬ويساهم فيها الرجل المسلم المقاتل بأن يكون من أهل القتال‪،‬‬
‫ودخل المعركة على قصد القتال‪ ،‬سواء قاتل أم لم يقاتل؛ لن الجهاد إرهاب للعدو‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬آثار الحرب‪ :‬هامش ص ‪ 628‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ ،125/7 :‬بداية المجتهد‪ ،277/1 :‬مغني‬
‫المحتاج‪.94/3 :‬‬

‫( ‪)8/55‬‬
‫أما المرأة والصبي المميز والذمي‪ :‬فليس لهم سهم كامل؛ لنهم ليسوا من أهل القتال‪ ،‬ولكن يرضخ (‬
‫‪ )1‬لهم بحسب ما يرى المام من عنايتهم‪.‬‬
‫ومقدار الستحقاق يختلف بحسب ما إذا كان القاتل فارسا أوراجلً‪ ،‬فقال أبو حنيفة والشيعة المامية‪:‬‬
‫يعطى للفارس سهمان‪ ،‬وللراجل سهم واحد‪.‬‬
‫وقال الصاحبان وجمهور العلماء والشيعة الزيدية‪ :‬يعطى للفارس ثلثة أسهم‪ ،‬وللراجل سهم واحد‪.‬‬
‫وسبب تفضيل الفارس على الراجل‪ :‬هو أن المحارب كان في الماضي يملك الفرس التي يخرج بها‬
‫للجهاد‪ ،‬ويلتزم بمؤونتها‪.‬‬
‫ومذهب الجمهور أصوب لصحة ثبوته عن الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فإنه كما روى ابن ماجه‬
‫والبيهقي أن الرسول صلّى ال عليه وسلم أسهم يوم حنين للفارس ثلثة أسهم‪ :‬للفرس سهمان وللرجل‬
‫سهم (‪. )2‬‬
‫وأما حديث الدارقطني الذي نصه‪« :‬للفارس سهمان وللراجل سهم» ففي إسناده ضعيف وفي متنه وهم‬
‫( ‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الرضخ لغة‪ :‬العطاء ليس بالكثير‪ ،‬وشرعا‪ :‬مال تقديره إلى رأي المام محله الخمس كالنفل‪.‬‬
‫والنفل في الشرع‪ :‬الزيادة من خمس الغنيمة كما سبق بيانه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن ماجه بهذا اللفظ‪ ،‬وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد والبيهقي عن ابن‬
‫عمر ( نيل الوطار‪ 281/8 :‬وما بعدها‪ ،‬اللمام‪ :‬ص ‪ ،502‬جامع الصول‪ ،272/3 :‬سنن ابن ماجه‪:‬‬
‫‪ ،102/2‬سنن البيقهي‪.)325/6 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن عباس‪ ،‬وقال عنه الزيلعي‪ :‬غريب‪ ،‬وفي الباب أحاديث‪ ،‬منها حديث مجمّع بن جارية‬
‫أخرجه أبو داود وأحمد والطبراني وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي والحاكم‪ ،‬قال ابن القطان‪:‬‬
‫وعلة هذا الحديث الجهل بحال يعقوب بن مجمع (نصب الراية‪ ،416/3 :‬آثار الحرب‪ :‬حاشية ص‬
‫‪ 629‬وما بعدها‪ ،‬والمراجع التي فيه)‪.‬‬

‫( ‪)8/56‬‬

‫ول يسهم لكثر من فرس واحد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر؛ لن السهام للخيل في الصل‪ ،‬ثبت‬
‫على خلف القياس‪ ،‬إل أن الشرع ورد به لفرس واحد‪ ،‬فالزيادة عليها ترد إلى أصل القياس‪ .‬وقال أبو‬
‫يوسف‪ :‬يسهم لفرسين إذا كانتا مع الفارس؛ لن المجاهد قد يحتاج إلى فرسين يركب أحدهما‪ ،‬فإذا‬
‫عيي ركب الخر (‪. )1‬‬
‫وصف المقاتل المستحق للغنيمة‪ :‬المعتبر في تحديد وصف المقاتل بكونه فارسا أو راجلً في ظاهر‬
‫الرواية عند الحنفية‪ :‬هو وقت دخوله دار الحرب بقصد الجهاد‪ ،‬حتى إنه إذا دخل تاجرا‪ ،‬فإنه ل‬
‫يستحق شيئا من الغنيمة‪ ،‬ولو دخل فارسا ثم مات فرسه يستحق سهم الفرسان‪ ،‬ودليلهم أن إرهاب‬
‫العدو يحصل بمجرد اجتياز حدود دار الحرب‪ ،‬وأن معرفة حقيقة القتال وشهود الوقعة أمر متعذر أو‬
‫متعسر‪ ،‬فيعتبر بالنسبة لكل المستحقين السبب المفضي إلى القتال ظاهرا‪ ،‬وهو اجتياز الحدود‪.‬‬
‫ويترتب على هذا المذهب أيضا أنه لو دخل المجاهد إلى دار الحرب راجلً‪ ،‬ثم اشترى فرسا‪ ،‬أو‬
‫وهب له‪ ،‬أو ورثه‪ ،‬أو استعاره‪ ،‬أو استأجره‪ ،‬فقاتل فارسا‪ :‬فله سهم الراجل‪ ،‬لعتبار حالة دخوله إلى‬
‫دار الحرب‪ .‬وقيل‪ :‬له سهم فارس‪.‬‬
‫وأما الصورة العكسية لهذا‪ ،‬وهي أنه لو دخل فارسا‪ ،‬ثم باع فرسه‪ ،‬أو آجره أو وهبه‪ ،‬أو أعاره‪،‬‬
‫فقاتل‪ ،‬وهو راجل‪ :‬فإنه في ظاهر المذهب يستحق سهم راجل‪ ،‬كما في السير الكبير لمحمد؛ لنه لما‬
‫باع فرسه مثلً تبين أنه لم يقصد الجهاد فارسا‪ ،‬بل قصد به التجارة‪ ،‬والعبرة في الستحقاق‪ :‬اجتياز‬
‫الحدود بقصد الجهاد‪ .‬وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما ال أنه يستحق سهم الفرسان‪ ،‬بحسب‬
‫حالته وقت مجاوزة الحدود (‪. )2‬‬
‫وقال جمهور الفقهاء‪ :‬المعتبر في تحديد وصف المستحق للغنيمة هو من حضر المعركة بنية القتال‬
‫وإن لم يقاتل مع الجيش (‪ ، )3‬لقول أبي بكر وعمر رضي ال تعالى عنهما‪« :‬إنما الغنيمة لمن شهد‬
‫الوقعة» (‪ )4‬قال الماوردي‪ :‬ول مخالف لهما من الصحابة‪.‬‬
‫ويترتب على هذا‪ :‬أنه لو لحق المدد بالمسلمين بعد انقضاء القتال‪ ،‬فإنهم ل يستحقون شيئا من الغنيمة‪،‬‬
‫خلفا للحنفية‪ ،‬كما سبق لدينا‪ :‬وهو أن المدد يشارك المقاتلة في الغنائم قبل القسمة‪ ،‬أو قبل إحرازها‬
‫بدار السلم‪.‬‬
‫مكان قسمة الغنائم ‪:‬‬
‫يرى جمهور الفقهاء والظاهرية والشيعة المامية والزيدية‪ :‬أنه يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب بعد‬
‫جعْرانَة (موضع بين مكة‬
‫انهزام العدو‪ ،‬بل إنه يستحب؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم اعتمر من ال ِ‬
‫والطائف) حيث قسم غنائم حنين (واد بينه وبين مكة ثلثة أميال) (‪ )5‬وقسم الرسول عليه الصلة‬
‫والسلم الغنائم بذي الحُليفة (ميقات‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،126/7 :‬فتح القدير‪ ،323/4 :‬تبيين الحقائق‪.254/3 :‬‬
‫(‪ )2‬فتح القدير‪ ،326/4 :‬البدائع‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ ،127‬تبيين الحقائق‪.255/3 :‬‬
‫(‪ )3‬بداية المجتهد‪ ،380/1 :‬مغني المحتاج‪ ،102/3 :‬المغني‪.419/8 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه الشافعي رحمه ال تعالى وابن أبي شيبة عن عمر‪ ،‬قال الزيلعي‪ :‬غريب مرفوعا‪ ،‬وهو‬
‫موقوف على عمر‪ ،‬ورواه الطبراني والبيهقي وقال‪ :‬هو الصحيح من قول عمر‪ ،‬وأخرجه ابن عدي‬
‫عن علي (نصب الراية‪ ،408/3 :‬تلخيص الحبير‪.)108 ،102/3 :‬‬
‫(‪ )5‬رواه البخاري عن أنس‪ ،‬وذكره الطبراني في الوسط من حديث قتادة عن أنس (تلخيص الحبير‪،‬‬
‫الطبعة المصرية‪ ،105/3 :‬مجمع الزوائد‪ ،238/5 :‬المنتقى على الموطأ‪.)199/3 :‬‬

‫( ‪)8/57‬‬

‫أهل المدينة) (‪ ، )1‬وافتتح بلد بني المصطلق‪ ،‬فقسم الرسول أموالهم في دارهم (‪. )2‬‬
‫ويقول الحنفية‪ :‬ل يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب‪ ،‬حتى يخرج الجيش إلى دار السلم‪ .‬هذا إذا‬
‫كان المكان غير متصل بدار السلم‪ ،‬فإن كان متصلً بها‪ ،‬ففتح وأجري عليه حكم السلم‪ ،‬كما هو‬
‫شأن غنائم حنين‪ ،‬فل بأس بالقسمة‪ .‬والسبب في عدم جواز القسمة عندهم هو أن ملكية الغنائم ل تتم‬
‫إل بالستيلء‪ ،‬ول يتم الستيلء إل بالحراز في دار السلم‪ .‬ومع هذا إذا قسم المام الغنائم بدار‬
‫الحرب عن اجتهاد‪ ،‬أو لحاجة المجاهدين‪ ،‬فتصح القسمة‪،‬أو لليداع فتحل إذا لم يكن عند المام وسائط‬
‫نقل أو حمولة (‪. )3‬‬
‫استيلء الكفار على أموال المسلمين ‪:‬‬
‫قال جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية‪ :‬يملك الكفار أموال المسلمين‪ ،‬أو الذميين في دار السلم بالقهر‬
‫والغلبة‪ ،‬إل أن الحنفية قالوا‪ :‬ل يثبت تملكهم لموالنا إل بالحراز في دار الحرب‪ ،‬فلو تمكن‬
‫المسلمون من غلبتهم وأخذوا ما في أيديهم ل يصير ملكا لهم‪ ،‬وعليهم ردها إلى أربابها بغير شيء‪،‬‬
‫وكذا لو قسموها في دار السلم‪ ،‬ثم غلبهم المسلمون‪ ،‬فأخذوها من أيديهم‪ ،‬فإنها ترد إلى أصحابها؛‬
‫لن قسمتهم ل تعتبر جائزة لعدم وجود الملكية‪.‬‬
‫وقال الشافعية والظاهرية‪ :‬ل يملك الكافر مال المسلم أو الذمي بطريق الغنيمة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع العيني شرح البخاري‪ .311/14 :‬وذو الحليفة الن‪ :‬ميقات أهل المدينة‪ ،‬ويسمى آبار علي‪،‬‬
‫ويقع في مكان أعلى قليلً من الينبع‪ ،‬ولم يكن حينئذ من دار السلم‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن البيهقي‪ ،54/9 :‬ذكره الشافعي في الم‪ ،‬واستنبطه البيهقي من حديث أبي سعيد الذي ذكر‬
‫فيه أنهم سبوا كرائم العرب‪ ،‬وأنهم أرادوا الستمتاع والعزل (تلخيص الحبير‪ ،‬الطبعة المذكورة‪:‬‬
‫‪ 105/3‬وما بعدها‪ ،‬الموال لبي عبيد‪ :‬ص ‪.)119‬‬
‫(‪ )3‬راجع الموضوع في آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 631‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/58‬‬

‫الدلة ‪:‬‬
‫أدلة الجمهور ‪:‬‬
‫‪ - 1‬استدل الحنفية بأن الكفار استولوا على مال مباح غير مملوك‪ ،‬ومن استولى على مال مباح غير‬
‫مملوك يملكه‪ ،‬كمن استولى على الحطب والحشيش والصيد‪ ،‬والدليل عل أنه غير مملوك أنه زال ملك‬
‫المسلم عنه باستيلء العدو وإحرازه في بلده؛ لنه حينئذ ل يتمكن من النتفاع بماله إل بدخوله دار‬
‫الحرب‪ ،‬وهو غير مستطاع‪.‬‬
‫واستدل غير الحنفية‪ :‬بأن الستيلء سبب للملك‪ ،‬فيثبت قبل الحيازة إلى دار الحرب‪ ،‬كاستيلء‬
‫المسلمين على مال غيرهم‪.‬‬
‫‪ - 2‬قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم لمن وجد بعيره في الغنيمة‪« :‬إن وجدته لم يقسم فخذه‪ ،‬وإن‬
‫وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن إن أردته» (‪ )1‬فهذا يدل على تملك العداء للبعير‪ ،‬وأولوية مالكه‬
‫الول بعينه‪ .‬وللجمهور أدلة أخرى‪.‬‬
‫واستدل الشافعية بأدلة‪ ،‬منها أن ابن عمر ذهب له فرس‪ ،‬فأخذها العدو‪ ،‬فظهر عليهم المسلمون‪ ،‬فرد‬
‫عليه في زمن رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأبَق (هرب) له عبد‪ ،‬فلحق بالروم‪ ،‬فظهر عليهم‬
‫المسلمون‪ ،‬فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلّى ال عليه وسلم في‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مالك والدارقطني عن عبد الملك بن ميسرة عن ابن عباس (نصب الراية‪.)434/3 :‬‬

‫( ‪)8/59‬‬

‫زمن أبي بكر الصديق‪ ،‬والصحابة متوافرون من غير نكير منهم (‪ . )1‬قال القسطلني‪ :‬وفيه دليل‬
‫للشافعية وجماعة على أن أهل الحرب ل يملكون بالغلبة شيئا من مال المسلمين‪ ،‬ولصاحبه أخذه قبل‬
‫القسمة وبعدها (‪. )2‬‬
‫رد المال على صاحبه‪ :‬إذا افترضنا أن العدو ظفر بأموال المسلم أو الذمي‪ ،‬ثم تغلب المسلمون على‬
‫أعدائهم‪ ،‬فإذا عرف صاحب المال قبل قسمة الغنيمة‪ ،‬فإنه يجب رد هذه الموال على أصحابها عند‬
‫جماهير العلماء‪ ،‬ومنهم أئمة المذاهب الربعة‪.‬‬
‫أما إذا كانت الغنيمة قد قسمت‪ ،‬ثم عرف صاحب المال‪ ،‬فله أخذه بعد دفع قيمته عند المالكية والحنفية‪،‬‬
‫والحنابلة في الظهر عن أحمد‪ ،‬والزيدية‪.‬‬
‫وقال الشافعية والظاهرية والشيعة المامية‪ :‬إن صاحب المال يستحقه من غير شيء‪ ،‬ويعطى من كان‬
‫عنده ثمنه من خمس المصالح؛ لنه يشق نقض القسمة (‪. )3‬‬
‫أموال الحربي الذي أسلم قبل تمام الفتح ‪:‬‬
‫إذا أسلم الحربي قبل أن يتم الفتح السلمي لبلده‪ ،‬فما أثر هذا السلم على ماله الكائن في دار‬
‫الحرب؟‬
‫يرى المالكية في الراجح عندهم‪ :‬أن مال هذا الشخص يعتبر فيئا وغنيمة إذا ظفر المسلمون ببلده‪،‬‬
‫سواء بقي في دار الحرب أم فرّ إلى دار السلم‪.‬‬
‫وهو رأي الحنفية والمامية والزيدية في العقار والرض‪ ،‬أما المنقول‪ :‬فإن السلم يعصمه‪ ،‬ولكنهم‬
‫اشترطوا أن يكون المنقول تحت يد صاحبه‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة والظاهرية‪ :‬إن السلم يعصم المال‪ ،‬سواء أكان عقارا أم منقولً‪.‬‬
‫وسبب الخلف بين الفقهاء‪ :‬هو أن العاصم للمال والدم‪ ،‬هل هو السلم أو الدار؟‬
‫فالفريق الول يقول‪ :‬إن العاصم هو الدار‪ ،‬فما لم يحز المسلم ماله وولده بدار السلم‪ ،‬وأصيب في‬
‫دار الكفر‪ ،‬فهوفيء‪ .‬وقال الفريق الثاني‪ :‬العاصم هو السلم (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومالك في الموطأ وأبو داود وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر (راجع فتح‬
‫الباري‪ ،111/6 :‬العيني شرح البخاري‪ ،2/15 :‬سنن ابن ماجه‪ ،102/2 :‬نصب الراية‪ ،435/3 :‬نيل‬
‫الوطار‪.)292/ :‬‬
‫(‪ )2‬القسطلني شرح البخاري‪.172/5 :‬‬
‫(‪ )3‬راجع آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 613‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬آثار الحرب‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ 622‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/60‬‬
‫صلُ الرّابع‪ :‬حكم السرى والسّبي‬
‫ال َف ْ‬
‫السرى‪ :‬هم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء‪.‬‬
‫والسبي‪ :‬هم النساء والطفال‪.‬‬
‫والكلم عنهم يطول جدا‪ ،‬ولذا سأقصر الكلم على بحث حكم السرى والسبي بعد أسرهم وسبيهم‪،‬‬
‫ومن المعلوم أن السر مشروع لقوله تعالى‪{ :‬وخذوهم واحصروهم} [التوبة‪ ]5/9:‬وقوله سبحانه‪:‬‬
‫{فشدوا الوَثاق} [محمد‪ ]4/47:‬وهو كناية عن السر‪ ،‬والسر في حرب المسلمين قليل؛ لن المسلم ل‬
‫يأسر عدوه عادة إل في نهاية المعركة‪ ،‬أما في أثنائها فنادر‪ ،‬والسير عالة على السر‪.‬‬
‫والثابت من فعل الرسول صلّى ال عليه وسلم أنه كان يمن على بعض السارى ويقتل بعضهم‪،‬‬
‫ويفادي بعضهم بالمال‪ ،‬أو بالسرى (‪ ، )1‬وذلك على حسب ما تقتضيه المصلحة العامة ويراه ملئما‬
‫لحال المسلمين‪.‬‬
‫وأبدأ أولً بحكم السبي‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع نيل الوطار‪ 8 :‬ص ‪.6-2‬‬

‫( ‪)8/61‬‬

‫حكم السبي‪ :‬يعرف حكم السبي ببحث الحوال التي قد يتعرضون لها‪ ،‬وهي‪ :‬القتل والسترقاق‪ ،‬والمن‬
‫والفداء (‪. )1‬‬
‫أما القتل بعد السر فل يجوز للنساء والذراري‪ ،‬أي الولد باتفاق العلماء‪ ،‬سواء أكانوا من أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬أم من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية (‪ )2‬وعبدة الوثان والثنوية (‪. )3‬‬
‫فإن اشترك النساء والولد في القتال مع قومهم بالفعل أو بالرأي‪ ،‬جاز قتلهم في أثناء القتال‪ ،‬وبعد‬
‫السر عند جمهور الئمة‪ ،‬لوجود العلة في قتل العداء‪ :‬وهي المقاتلة‪ .‬وخالف الحنفية في حالة القتل‬
‫بعد السر‪ ،‬فلم يجيزوا قتل المرأة والصبي والمعتوه الذي ل يعقل؛ لن القتل بعد السر بطريق‬
‫العقوبة‪ ،‬وهم ليسوا من أهل العقوبة‪.‬‬
‫فأما القتل حال نشوب المعركة‪ ،‬فلدفع شر القتال‪ ،‬وقد وجد الشر منهم‪ ،‬فأبيح قتلهم فيه‪ ،‬لدفع الشر‪،‬‬
‫وقد انعدم الشر بالسر‪.‬‬
‫وأما الرق‪ :‬فإنه إذا لم يجز قتل السبي بعد السر كما تقدم‪ ،‬فإن المالكية يرون أن المام يخير حينئذ‬
‫بين السترقاق والمن والفداء‪.‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬يسترقهم المام‪ ،‬سواء أكانوا من العرب أم من العجم؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫استرق نساء هوازن وذراريهم (‪ ، )4‬وكذا الصحابة استرقوا نساء المرتدين من العرب وذراريهم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع التفصيل في آثار الحرب للمؤلف‪ :‬ص ‪ 418‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 7 :‬ص ‪.119‬‬
‫(‪ )2‬الدهرية ـ بفتح الدال وقد يضم‪ :‬منسوبة إلى الدهر لقولهم‪« :‬ما يهلكنا إل الدهر» فهم يقولون‬
‫ببقاء الدهر وإن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه ل بصانع‪ ،‬فهم جحدوا الصانع المدبر العالم القادر‬
‫(راجع المنقذ من الضلل للغزالي‪ :‬ص ‪.)10‬‬
‫(‪ )3‬الثنوية‪ :‬هم القائلون بإلهين اثنين‪ :‬وهما النور والظلمة (راجع اعتقادات فرق المسلمين والمشركين‬
‫للرازي‪ :‬ص ‪.)88‬‬
‫(‪ )4‬راجع نيل الوطار‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.3‬‬

‫( ‪)8/62‬‬

‫وقال الشافعية والحنابلة والزيدية والمامية‪ :‬يصيرون أرقاء بنفس السبي ويقسمون مع الغنائم؛ لن‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم كان يقسم السبي كما يقسم المال (‪. )1‬‬
‫ويلحظ أن إرقاق السبي كان معاملة بالمثل؛ لن مشروعية الرق في السلم‪ ،‬كانت على أساس‬
‫تقرير الواقع الذي كان موجودا قبل السلم؛ ولتهيئة الذهان للتخلص منه بالعتق مع مرور الزمن‪.‬‬
‫وأما المن‪ :‬فقد أجاز المالكية أن يمن المام على السبي بإطلق سراحهم إلى بلدهم بدون مقابل‪.‬‬
‫وكذلك أجاز الشافعية والحنابلة لولي المر المن على السبي‪ ،‬ولكن بشرط استطابة أنفس الغانمين‪ ،‬إما‬
‫بالعفو عن حقوقهم‪ ،‬أو بمال يعوضهم من سهم المصالح‪.‬‬
‫ولم يجز الحنفية المن مطلقا‪ ،‬حتى ل يعود السبي حربا على المسلمين؛ لن النساء يقع بهن نسل‪،‬‬
‫والصبيان يبلغون‪ ،‬فيصيرون حربا كذلك‪.‬‬
‫وأما الفداء‪ :‬فقد أجازه المالكية‪ ،‬فللمام أن يفادي بالنفوس من نساء أو صبيان‪ .‬وأجازه الباضية أيضا‬
‫بالنفوس والمال‪.‬‬
‫وأجازه الشافعية على مال أو أسرى من المسلمين في أيدي العداء بعد تعويض الغانمين عنهم من‬
‫سهم المصالح‪ ،‬بدليل أن الرسول صلّى ال عليه وسلم سبى نساء بني قريظة وذراريهم‪ ،‬فباعهم من‬
‫المشركين (‪. )2‬‬
‫ولم يجز الحنفية والحنابلة الفداء بالسبي‪ ،‬ل على مال‪ ،‬ول على أسرى من المسلمين في أيدي قومهم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع نيل الوطار‪ 8 :‬ص ‪ ،51 ،3‬شرح مسلم‪ 12 :‬ص ‪.91‬‬
‫(‪ )2‬رواه الشيخان وأحمد عن أبي سعيد (شرح مسلم‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬نيل الوطار‪ 8 :‬ص ‪،55‬‬
‫الموال‪ :‬ص ‪.)121‬‬

‫( ‪)8/63‬‬

‫حكم السرى‪ :‬اتفق الفقهاء على أن لولي المر أن يفعل بالنسبة للسرى ما يراه الوفق لمصلحة‬
‫المسلمين‪ ،‬ويختار أحد أمور حددها كل واحد من أصحاب المذاهب بما هداه إليه اجتهاده (‪. )1‬‬
‫مذهب الحنفية‪ :‬أن ولي المر مخير في السرى بين أمور ثلثة‪ :‬إما القتل‪ ،‬وإما السترقاق‪ ،‬وإما‬
‫تركهم أحرارا ذمة للمسلمين‪ ،‬إل مشركي العرب والمرتدين‪ ،‬فإنهم ل يسترقون‪ ،‬ول تعقد لهم الذمة‪،‬‬
‫ولكن يقتلون إن لم يسلموا‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد‪ ،‬تقاتلونهم أو يسلمون}‬
‫[الفتح‪ ]16/48:‬ولقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬ل يجتمع دينان في جزيرة العرب» (‪. )2‬‬
‫ول يجوز في رواية عن أبي حنيفة الفداء بالمال أو بالسرى بعد تمام الحرب‪ .‬وعند الصاحبين‪:‬‬
‫يجوز الفداء بالسارى‪ ،‬وجاء في السير الكبير لمحمد بن الحسن‪ :‬أنه يجوز الفداء بالمال عند الحاجة‬
‫أو بأسرى المسلمين؛ لنه ثبت عن رسول ال صلّى ال عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره‪ :‬أنه فدى‬
‫رجلين من المسلمين برجل من المشركين (‪ ، )3‬وفدى بامرأة ناسا من المسلمين‪ ،‬كانوا أسرى بمكة (‬
‫‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع آثار الحرب‪ :‬ص ‪ 430‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مالك وعبد الرزاق والبيهقي وإسحاق بن راهويه وابن هشام عن أبي هريرة‪ ،‬ورواه أحمد‬
‫والطبراني في الوسط عن عائشة بلفظ‪« :‬ل يترك بجزيرة العرب دينان» (سنن البيهقي‪ 9 :‬ص‬
‫‪ ،208‬مشكل الثار للطحاوي‪ 4 :‬ص ‪ ،13‬نصب الراية‪ 3 :‬ص ‪ ،454‬نيل الوطار‪ 8 :‬ص ‪،64‬‬
‫مجمع الزوائد‪ 5 :‬ص ‪.)325‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم وأحمد والترمذي وصححه وابن حبان عن عمران بن حصين أن رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل (نيل الوطار‪ 7 :‬ص ‪،305‬‬
‫سبل السلم‪4 :‬ص ‪.)55‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه مسلم عن سلمة بن الكوع‪ ،‬وفيه أنه أسر امرأة من بني فزارة‪ ،‬فاستوهبها الرسول منه‬
‫فوهبها له‪ ،‬فبعث بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم إلى مكة‪ ،‬ففدى بها ناسا من المسلمين‪ ،‬كانوا‬
‫أسروا بمكة (نصب الراية‪ 3 :‬ص ‪.)404‬‬

‫( ‪)8/64‬‬

‫وقال محمد‪ :‬الجواز أظهر الروايتين عن أبي حنيفة‪ ،‬وفدى الرسول عليه الصلة والسلم السارى يوم‬
‫بدر بالمال (‪. )1‬‬
‫ويحرم المن على السرى عند جمهور الحنفية؛ لن في المن تمكين السير من أن يعود حربا على‬
‫المسلمين‪ ،‬فيقوي عدوهم عليهم‪ ،‬وهو ل يحل‪.‬‬
‫ويرى المام محمد‪ :‬أنه يجوز المن على بعض السارى إن رأى المام فيه النظر للمسلمين؛ لن‬
‫الرسول صلّى ال عليه وسلم منّ على ثمامة بن أُثال الحنفي حين أسره المسلمون‪ ،‬وربطوه بسارية‬
‫من سواري المسجد (‪. )2‬‬
‫لكن يجوز باتفاق الحنفية المن على السرى تبعا للراضي‪ ،‬كيل يشغل الفاتحون بالزراعة عن‬
‫الجهاد‪.‬‬
‫ومذهب الشافعية والحنابلة والمامية والزيدية والظاهرية‪ :‬أن المام أو من استنابه من أحد أركان‬
‫حربه يفعل ماهو الصلح والحظ للسلم والمسلمين من أحد أمور أربعة‪ :‬وهي القتل والسترقاق‬
‫والمن والفداء بمال أو بأسرى‪ ،‬يفعل ذلك بالجتهاد ل بالتشهي‪ ،‬فإن خفيت عليه المصلحة حبسهم حتى‬
‫يظهر له وجهها‪ .‬وتقدير المصلحة يتم بحسب ما يرى في السير من قوة بأس وشدة نكاية‪ ،‬أو أنه‬
‫مأمون الخيانة‪ ،‬أو مرجو السلم‪ ،‬أو مطاع في قومه‪ ،‬أو أن المسلمين في حاجة إلى المال‪.‬‬
‫ومذهب المالكية‪ :‬أن المام يتخير بما هو مصلحة للمسلمين في السرى قبل قسم الغنيمة بين أحد‬
‫أمور خمسة‪ :‬القتل‪ ،‬والسترقاق‪ ،‬والمن‪ ،‬والفداء‪ ،‬وضرب الجزية عليهم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر‬
‫أربع مئة‪ .‬وروى مسلم وأحمد عن أنس قصة اقتراح أبي بكر قبول الفداء منهم‪ ،‬ومعارضة عمر لذلك‬
‫(نصب الراية‪ 2 :‬ص ‪ 402‬وما بعدها‪ ،‬نيل الوطار‪ 7 :‬ص ‪ ،304‬اللمام‪ :‬ص ‪.)495‬‬
‫(‪ )2‬رواه الشيخان وأحمد عن أبي هريرة (شرح مسلم‪ 12 :‬ص ‪ ،87‬نصب الراية‪ ،‬المرجع السابق‪:‬‬
‫ص ‪ ،391‬نيل الوطار‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 301‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/65‬‬
‫الدلة (‪: )1‬‬
‫استدل الفقهاء على جواز قتل السرى بعموم آيات القتال‪ ،‬مثل قوله تعالى‪{ :‬فإذا انسلخ الشهر الحرم‬
‫فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة‪ ]5/9:‬وبما ثبت في السنة عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه‬
‫قتل بعض السرى يوم بدر‪ ،‬فأمر بقتل عقبة بن أبي مُعيط والنضر بن الحارث‪ ،‬لشدة إيذائهما للرسول‬
‫عليه الصلة والسلم ولصحبه (‪. )2‬‬
‫وأمر النبي صلّى ال عليه وسلم يوم أحد بقتل أبي عزة الشاعر الذي أطلق الرسول سراحه يوم بدر‪،‬‬
‫فنظم بعدئذ شعرا يحرض به على قتال المسلمين‪ ،‬وفتح الرسول مكة وأمر بقتل هلل بن خطَل‪،‬‬
‫و ِمقْيس بن صبابة‪ ،‬وعبد ال بن أبي سرح‪ ،‬وقال‪« :‬اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» (‬
‫‪. )3‬‬
‫ثم إنه قد يكون في قتل بعض السرى مصلحة كبرى للمسلمين حسما لمادة الفساد‪ ،‬واستئصالً لجذور‬
‫الشر‪ ،‬وقطع شرايين الفتنة‪ ،‬وهذا كله بحسب الضرورة‪.‬‬
‫واستدلوا على جواز استرقاق السرى الذي كان معاملة بالمثل مع المم الخرى بسبب الحرب بقوله‬
‫تعالى‪{ :‬فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم‪ ،‬فشدوا الوثاق‪ ،‬فإما منّا بعد‪ ،‬وإما‬
‫فداءً} [محمد‪ ]4/47:‬قالوا‪ :‬إن السترقاق قد فهم من المر بشد الوثاق‪ ،‬كما استدلوا بما ثبت في السير‬
‫والمغازي من أن الرسول صلّى ال عليه وسلم استرق بعض العرب‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع آثار الحرب‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ :‬ص ‪ 432‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود في المراسيل‪ ،‬ورجاله ثقات عن سعيد بن جبير (نصب الراية‪ ،‬المرجع نفسه‪:‬‬
‫ص ‪ ،402‬سبل السلم‪ 4 :‬ص ‪.)55‬‬
‫(‪ )3‬رواه الشيخان‪ :‬البخاري ومسلم عن أنس (مجمع الزوائد‪ 6 :‬ص ‪ ،168‬سبل السلم‪ 4 :‬ص ‪.)54‬‬

‫( ‪)8/66‬‬

‫كهوازن وبني المصطلق وقبائل من العرب (‪ ، )1‬واسترق النبي أسرى في غزوة خيبر وقريظة وفي‬
‫غزوة حنين‪ ،‬وسبى أبو بكر وعمر رضي ال عنهما بني ناجية من قريش‪ ،‬وفتحت الصحابة بلد‬
‫فارس والروم‪ ،‬فسبوا من استولوا عليه‪.‬‬
‫والحكمة من البقاء على مشروعية الرق في النصوص الشرعية‪ :‬هو مراعاة الوضاع القائمة في‬
‫المجتمعات القديمة‪ ،‬لن الرق كان عماد الحياة الجتماعية والقتصادية‪ ،‬ول يعقل أن يحرمه السلم‬
‫ويبقى مباحا عند المم الخرى التي تسترق أسرى المسلمين‪ ،‬ول يعاملهم المسلمون بالمثل‪ ،‬والمعاملة‬
‫بالمثل كان منهج الشريعة والخلفاء في العلقات الخارجية‪ ،‬عملً بأحكام السياسة الشرعية المؤقتة‪،‬‬
‫وتحقيقا للمصلحة السلمية العامة‪ ،‬ولكن السلم أيقظ الضمير العالمي بتنبيه الناس إلى علج مشكلة‬
‫الرقاء وضرورة الحسان إليهم في المعاملة والتخلص التدريجي من هذه الظاهرة بالعتق وفتح منافذ‬
‫دينية له‪ ،‬حتى إن العتق من أفضل القربات إلى ال تعالى ‪.‬‬
‫وأما المن فثابت جوازه في قوله تعالى‪{ :‬فإما منا بعد وإما فداء} [محمد‪ ]4/47:‬وادعاء نسخ هذه الية‬
‫بآية براءة السابق ذكرها وهي { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة‪ ]5/9:‬ل دليل عليه‪ ،‬ول‬
‫حاجة إليه‪ ،‬لمكان الجمع بين اليتين‪ ،‬بحمل آية براءة على المر بالقتال عند وجود العدوان‪ ،‬وفي‬
‫أثناء قيام‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نيل الوطار‪ 8 :‬ص ‪ 2‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/67‬‬

‫الحرب مع العداء‪ ،‬وقصر آية المن على حالة ما بعد النتهاء من الحرب والوقوع في قيد السر‪.‬‬
‫وقد منّ الرسول صلّى ال عليه وسلم على ثُمامة بن أُثال الحنفي سيد أهل اليمامة (‪ )1‬كما منّ على‬
‫أبي عزة الجمحي الشاعر‪ ،‬وأبي العاص بن الربيع‪ ،‬والمطّلب بن حَنْطب يوم بدر‪ ،‬ومنّ أيضا على‬
‫أهل مكة بقوله عليه السلم‪« :‬اذهبوا فأنتم الطلقاء» وكذا منّ على أهل خيبر (‪ . )2‬وقال في أسارى‬
‫بدر‪« :‬لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلء النتنى‪ ،‬لتركتهم له» (‪ )3‬أي لطلقتهم له بغير‬
‫فداء أي بالمن‪.‬‬
‫وأما الفداء أو المفاداة‪ :‬وهو تبادل السرى أو إطلق سراحهم على عوض‪ ،‬فهو جائز بآية سورة‬
‫محمد السابقة‪{ :‬فإما منا بعد وإما فداء} [محمد‪ ،]4/47:‬وأول حادثة فداء كانت إثر سرية عبد ال بن‬
‫جحش‪ ،‬حيث قبل الرسول عليه الصلة والسلم الفداء في السيرين اللذين أسرا في هذه السرية قبل‬
‫غزوة بدر بشهرين (‪ . )4‬وفيما بعد موقعة بدر كان فداء السارى أربعة آلف درهم إلى ما دون ذلك‬
‫(‪ ، )5‬فمن لم يكن له شيء أمر أن يعلم صبيان النصار الكتابة والقراءة‪ .‬وليس في المفاداة إعانة‬
‫لهل الحرب‪ ،‬كما قال المانعون للفداء‪ ،‬وهم الحنفية‪ ،‬إذ إن تخليص المسلم من قيد السر واجب‬
‫لتمكينه من العبادة الحرة ل تعالى‪.‬‬
‫وأخرج مسلم عن إياس بن سَلَمة عن أبيه‪ :‬أن سرية من المسلمين أتوا بأسرى‪ ،‬فيهم امرأة من بني‬
‫فَزارة‪ ،‬فبعث بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم إلى أهل مكة‪ ،‬ففدى بها ناسا من المسلمين‪ ،‬كانوا‬
‫أسروا بمكة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة في قصة الخيل التي بعثها النبي صلّى ال عليه وسلم قبل‬
‫نجد (راجع نيل ا لوطار‪.)301/7 :‬‬
‫(‪ )2‬راجع هذه الحوادث في نصب الراية‪ 3 :‬ص ‪ ،406-398‬زاد المعاد لبن القيم‪ 2 :‬ص ‪.165‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم (نيل الوطار‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬نصب‬
‫الراية‪ 3 :‬ص ‪ ،405‬سبل السلم‪ 4 :‬ص ‪ ،56‬اللمام‪ :‬ص ‪.)494‬‬
‫(‪ )4‬راجع نصب الراية‪ 2 :‬ص ‪.403‬‬
‫(‪ )5‬رواه الواقدي عن النعمان بن بشير (نصب الراية‪ ،‬المرجع السابق)‪.‬‬

‫( ‪)8/68‬‬

‫البَابُ الخامِس‪ :‬القَضاء وطرق إثبات الحقّ‬


‫سأبحث هنا أمر القضاء أو الحكم بين الناس‪ ،‬ووسيلة الوصول إلى الحق بطريق القضاء وهي‬
‫الدعوى‪ ،‬وطرق إثبات الحق لدى القاضي بالشهادة وباليمين والنكول والقرار‪ ،‬والقرائن‪ ،‬وذلك في‬
‫فصول ثلثة‪:‬‬
‫الفصل الول ـ القضاء وآدابه‬
‫الفصل الثاني ـ الدعوى والبينات‬
‫الفصل الثالث ـ طرق الثبات‬
‫وأمهد لهذه الفصول ببيان منهج السلم في القضاء‪.‬‬
‫المنهج السلمي في الميدان القضائي‬
‫المنهج‪ :‬معناه المسلك وطريقة العمل‪ ،‬والقضاء‪ :‬فصل الخصومات وإنهاء المنازعات بإلزام الخصم‬
‫بالحكم الشرعي‪ ،‬وهو أحد أركان الدولة السلميةأو الخلفة أو المامة العظمى‪ ،‬ومحور نظام الحكم‪،‬‬
‫والمظهر العملي الحازم للزام الناس باحترام أحكام الشريعة وإعلن هيبتها ونفوذها وتطبيقها في‬
‫العلقات الجتماعية لحقاق الحق‪ ،‬وإبطال الباطل‪ ،‬وإبراز العدل والنصاف بين الناس‪ ،‬المؤمنين‬
‫منهم وغير المؤمنين‪.‬‬
‫لذا كان أحد وظائف النبياء‪ ،‬وكان الخلفاء والولة والقضاة يتولونه بالنيابة عن المة التي يمثلها‬
‫الخليفة أو المام العظم‪ .‬ولشك بأن العدل في التصور السلمي هو أساس الملك‪ ،‬والظلم مؤذن‬
‫بخراب المدنيات وتدمير كيان المم والشعوب‪ ،‬والقضاء على مصالح الفراد والجماعة‪ ،‬لنه يؤدي‬
‫إلى التذمر ويعجل بالفوضى ويدفع إلى النتقام والتخريب‪.‬‬
‫فالقضاء في غاية الهمية والحساسية‪ ،‬ومادام هو بخير فالمة بخير‪ ،‬وإذا فسد القضاء فسدت المة‬
‫والبلد‪ .‬ونظرا لهذه الحساسية المفرطة للقضاء‪ ،‬كان منهج السلم فيه يقوم على السس التالية‪:‬‬
‫‪ - 1‬النظر في الدعوى بموضوعية وتجرد وحياد دون محاباة خصم أو ميل لحد الخصمين دون‬
‫الخر‪ .‬وهذا واجب ديني خطير من أوليات نظام القضاء إرساء لمعالم الحق والعدل‪ ،‬وإيفاء الحقوق‪،‬‬
‫ونشر المن والستقرار في صفوف الناس‪ ،‬ونزع الضغينة والحقد‪ ،‬وتوفير الصفاء والوئام‪ ،‬وملء‬
‫النفوس بالثقة والطمئنان والرضا والمحبة‪.‬‬

‫( ‪)8/69‬‬

‫وحينئذ ترتقي المة‪ ،‬وتعلو كلمتها‪ ،‬وترتفع سمعتها في كل مكان مما يدعو إلى سرعة الدخول في‬
‫السلم‪ ،‬والتفرغ لكل متطلبات التنمية والرخاء وزيادة العطاء والنتاج‪ .‬قال ال تعالى‪ { :‬لقد أرسلنا‬
‫رسلَنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد‪ ]25/57:‬وقال سبحانه‪:‬‬
‫{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل‪ ،‬إن ال نِعمّا يعظكم به} [النساء‪.]58/4:‬‬
‫‪ - 2‬اللتزام بأحكام الشريعة السلمية‪ ،‬شريعة ال القائمة على الحق وتعظيمه‪ ،‬وحفظ الحقوق‪ ،‬وأداء‬
‫الواجبات‪ ،‬فل يجوز شرعا تطبيق غير أحكام ال تعالى وشرعه‪ ،‬لذا هدد ال تعالى أهل الكتاب الذين‬
‫يحكمون بغير ما أنزل ال‪ ،‬فقال سبحانه‪ { :‬ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون } [المائدة‪:‬‬
‫‪ { ]44/5‬الظالمون } [المائدة‪ { ، ]45/5:‬الفاسقون } [المائدة‪ ،]47/5:‬وندّد ال تعالى بالمشركين‬
‫والمنافقين الذين يتجاوزون حدود ال والحكم بشرائع الجاهلية‪ ،‬فقال تعالى‪ { :‬أفحكمَ الجاهلية يبغون‪،‬‬
‫حكْما لقوم يوقنون } [المائدة‪ ]50/5:‬وعلى القاضي حفظ هيبة مجلس القضاء‪،‬‬
‫ومن أحسنُ من ال ُ‬
‫وليس المراد بذلك شخص القاضي‪ ،‬وإنما حفظ هيبة أحكام الشرع التي يطبقها على المتخاصمين‪ ،‬فل‬
‫يعفو مثلً عمن أهانه من الخصوم أو أهان أحد الحضور‪.‬‬

‫( ‪)8/70‬‬

‫‪ - 3‬مراقبة ال تعالى‪ ،‬وهذا واجب على القاضي والخصوم معا؛ لن قاضي الرض ليستطيع أن‬
‫يفعل شيئا أمام قاضي السماء‪ ،‬فعليه أن يبحث بأناة وجدية وتعمق عن الحق وصاحبه‪ ،‬وعلى الخصم‬
‫أن يعتقد أن القاضي في الدنيا ليحل الحرام ول يحرم الحلل‪ ،‬فعليه الكتفاء بما يعتقد أنه حق‪ ،‬دون‬
‫تجاوز ول اعتداء‪ ،‬حتى وإن قضى القاضي في الظاهر بحكم معين ومقدار معين‪.‬‬
‫‪ - 4‬غاية القضاء في السلم إرضاء ال تعالى بإحقاق الحق وإنصاف المظلوم‪ ،‬دون تأثر بدين أو‬
‫ملة أو قومية أو قرابة‪ ،‬وحتى على النفس‪ ،‬قال ال تعالى‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط‪،‬‬
‫شهداءَ ل ولو على أنفسكم أو الوالدين والقربين‪ ،‬إن يكن غنيا أو فقيرا فال أولى بهما فل تتّبعوا‬
‫الهوى أن تعدلوا‪ ،‬وإن تَ ْلوُوا أو تُعرضوا فإن ال كان بما تعملون خبيرا } [النساء‪ ]135/4:‬وقال‬
‫سبحانه‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين ل ‪ ،‬شهداء بالقِسْط‪ ،‬وليجرمنكم شنآن قوم على أل‬
‫تعدلوا‪ ،‬اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا ال ‪ ،‬إن ال خبير بما تعملون } [المائدة‪.]8/5:‬‬
‫‪ - 5‬ركائز القضاء أو أركانه‪ :‬يعتمد القضاء على أركان خمسة هي في مجملها مايأتي ‪:‬‬
‫الول ‪ -‬الحاكم‪ :‬وهو القاضي الذي عينته السلطة أو الحكومة للفصل في الدعاوى والخصومات‪،‬‬
‫وبهذا يختلف الحاكم عن المحكّم‪ :‬وهوالذي يتفق عليه الخصمان للتحكيم في النزاع الدائر بينهما‪.‬‬
‫حكْم‪ :‬وهو مايصدر عن القاضي من قرار لحسم النزاع وإنهاء الخصومة وله صفة اللزام‪،‬‬
‫الثاني ‪ -‬ال ُ‬
‫فيختلف الحكم عن الفتوى‪ ،‬فإنها غير ملزمة‪ .‬والحكم يكون إما بإلزام المحكوم عليه بأمر ما كتنفيذ‬
‫شيء أو إعطاء شيء‪ ،‬وهذا يسمى قضاء إلزام‪ ،‬وإما يمنع الحاكم المنازعة بقوله للمدعي‪ :‬ليس لك‬
‫حق عند خصمك بسبب عجزك عن الثبات‪ ،‬وهذا يسمى قضاء الترك‪.‬‬

‫( ‪)8/71‬‬

‫الثالث ‪ -‬المحكوم به‪ :‬وهو في قضاء اللزام ما ألزم به القاضي المحكوم عليه من إيفاء المدعي حقه‪،‬‬
‫وهو في قضاء الترك ترك المدعي المنازعة‪ .‬وعلى كل فالمحكوم به هو الحق‪ ،‬إما ل أو للعبد أو‬
‫مشترك بينهما‪.‬‬
‫الرابع ‪ -‬المحكوم عليه‪ :‬هو من يصدر الحكم ضده‪ ،‬أو من يستوفى منه الحق‪ ،‬سواء أكان مدعى عليه‬
‫أم ل‪.‬‬
‫الخامس ‪ -‬المحكوم له‪ :‬وهو المدعي بحق له‪ ،‬سواء أكان خالصا له كالحق في الدين أو اللتزام‬
‫المالي‪ ،‬أم خالصا ل كالحدود الشرعية‪ ،‬أم مشتركا بين الحقين وكان حق ال هو الغالب وهو حد‬
‫القذف في رأي الحنفية‪ ،‬أو حق العبد هو الغالب وهو الحق في القصاص‪ .‬فإن كان الحق خالصا ل أو‬
‫حق ال فيه غالب‪ ،‬فإن المحكوم له هو الشرع‪ ،‬وهنا لتشترط الدعوى من شخص معين‪ ،‬ويحق لكل‬
‫شخص حتى القاضي التقدم بالمر وهي دعوى الحسبة‪ ،‬وهو الذي تمثله في عصرنا النيابة العامة‪.‬‬
‫‪ - 6‬التقيد بوسائل الثبات‪ :‬ليس للقاضي إصدا ر الحكم في قضية ما بناء على قناعته الشخصية‪،‬‬
‫وإنما لبد من التقيد في إثبات الحق بوسائل إثبات معينة كالشهادة والقرار واليمين والقرينة‪.‬‬
‫‪ - 7‬العتماد على النصوص الشرعية الصلية في الكتاب والسنة من خلل التفسيرات والجتهادات‬
‫الراجحة التي أوضحت فيها هذه النصوص‪ ،‬كالمذاهب الفقهية أو مدارس التفسير القرآني المختلفة أو‬
‫شرح الحاديث النبوية الصحيحة‪.‬‬
‫‪ - 8‬الدمج بين مبدأ التوازن العام ومبدأ العدالة‪ :‬إن التوازن بين الحقوق والواجبات عند تطبيق العدل‬
‫أمر ضروري لتحقيق المساواة بين الخصوم وتحقيق القدرة على الوفاء‪ ،‬وتوازن القضاء‪ ،‬وهذا هو‬
‫الذي يقال له‪ :‬الحسان في العدل‪ ،‬وهو الذي أمر ال تعالى به في قوله سبحانه‪ { :‬إن ال يأمر بالعدل‬
‫والحسان } [النحل‪ .]90/16:‬والعدل‪ :‬هو فصل الخصومات بين المتنازعين بواسطة الشريعة‬
‫السلمية والحسان في العدل‪ :‬هو موازنة الحقوق والواجبات عند تطبيق العدل‪.‬‬

‫( ‪)8/72‬‬

‫والشريعة تفرض التكاليف مشروطة بالقدرة على الوفاء‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ليكلف ال نفسا إل وُسْعها }‬
‫عسْرة فنَظِ َر ٌة إلى‬
‫[البقرة‪ ،]286/2:‬وهذا يستوجب مبدأ إنظار المعسر لقوله تعالى‪ { :‬وإن كان ذو ُ‬
‫ميسرة } [البقرة‪ ]280/2:‬فل تكليف عند العجز‪ ،‬وليخاطب الصبي ول المجنون ول الناسي‪ ،‬لقوله‬
‫صلّى ال عليه وسلم فيما يرويه الطبراني عن ثوبان‪ « :‬رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا‬
‫عليه» ‪.‬‬
‫واشتراط القدرة يتطلب التخفيف عند المشقة‪ ،‬عملً بالقاعدة الشرعية‪( ،‬المشقة تجلب التيسير)‪.‬‬
‫والقدرة تستوجب العتراف بنظرية الدفاع الشرعي والخذ بنظرية الظروف الطارئة والقوة القاهرة‪،‬‬
‫كالخذ بمبدأ فسخ الجارة للعذار في مذهب الحنفية‪ ،‬وفسخ البيع حال تعرض الثمار للجوائح المهلكة‬
‫أو المتلفة بقدر الثلث فأكثر في مذهب المالكية والحنابلة‪ ،‬فإذا كان الوفاء بالعقد واجبا لقوله تعالى‪{ :‬يا‬
‫أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة‪ ]1/5:‬فإن هذا مقيد بمبدأ عدم إرهاق المدين بعقد لم تكن‬
‫الظروف المستقبلية متوقعة فيه أو منتظرة له وقت التعاقد (‪. )1‬‬
‫وتوازن القضاء يستدعي ضرورة التسوية بين الخصوم في كل شيء‪ ،‬ويندب في السلم اللجوء إلى‬
‫الصلح قبل السير في إجراءات الدعوى؛ لن الصلح يُبْقي جانب الود والسماحة والتفاهم‪ ،‬ويحقق‬
‫توازنا أكثر مما يحققه الحكم القضائي‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نظرية الضرورة الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي ص ‪ 316‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/73‬‬

‫والتوازن يقتضي كفالة حقوق الدفاع لكل منهم‪ ،‬ويتطلب أيضا الجمع بين الثبات وحريته‪ ،‬لذا حدد‬
‫السلم قيمة القرار والشهادة واليمين وبعض القرائن الشرعية‪ ،‬وترك في الوقت نفسه للقاضي حق‬
‫تقدير وسائل أخرى كالقرائن القضائية‪ ،‬حتى ليضيع حق يثبت المنطق أن مدعيه محق‪ ،‬وحتى ليلزم‬
‫أي شخص بحق لم يثبته مدعيه بالحجج الكافية‪ .‬وهذا التوازن جعل السلم يشدد في الثبات في‬
‫الميدان الجنائي‪ ،‬فجعل إثبات الزنا بأربعة شهود يعاينون الجريمة‪،‬وجعل الشبهة دارئة للحد لصالح‬
‫المتهم‪ ،‬وأباح الرجوع عن الشهادة والقرار‪ ،‬فيكون ذلك دليل البراءة من الجريمة‪.‬‬
‫‪ - 9‬اعتماد القضاء على الوازع الديني‪ :‬إن إقامة العدل بين الناس غاية سامية‪ ،‬لذا فقد أحيطت بسياج‬
‫ديني أخلقي إلى جانب الضمانات القانونية والمبادئ القضائية والخلقية مترابطة مع بعضها‪ ،‬ومن‬
‫هنا قررت الشريعة لفت نظر كل من الخصوم والشهود والقضاة إلى عقاب من ادعى باطلً أو شهد‬
‫زورا أو حكم ظلما‪ ،‬وإلى ثواب الذين يؤدون الشهادة على وجهها‪ ،‬والذين يتحرون في أحكامهم الحق‬
‫ليس غير‪.‬‬
‫وإذا أمر القاضي أو ثبت عليه أنه جار في حكمه عمدا بقتل نفس أو قطع يد أو قصاص‪ ،‬أقيد منه‪،‬‬
‫ول شيء عليه إذا أخطأ في حكم (‪. )1‬‬
‫‪ - 10‬القضاء في السلم منصب خطير‪ ،‬وذو مكانة كبيرة في الشريعة اللهية‪ ،‬لذا وردت نصوص‬
‫كثيرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة تشيد بالقضاء وتكلف به النبياء والمرسلين‪،‬وتوجب القضاء‬
‫بالحق والعدل كما تقدم لدينا‪ .‬وكما كرمت الشريعة القاضي العادل حذرت من القاضي الجائر الذي‬
‫يتبع هواه (‪ ، )2‬فقال‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نظام القضاء في السلم للشيخ المرحوم أحمد عبد العزيز آل مبارك ص ‪.8‬‬
‫(‪ )2‬القضاء في السلم للستاذ محمود الشربيني‪ :‬ص ‪.13‬‬

‫( ‪)8/74‬‬
‫سبحانه‪ { :‬وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } [الجن‪ .]15/72:‬وقال النبي صلّى ال عليه وسلم فيما‬
‫يرويه الحاكم والبيهقي عن عبد ال بن أبي أوفى‪ « :‬إن ال تعالى مع القاضي مالم يجر‪ ،‬فإذا جار‪،‬‬
‫تبرأ ال منه وألزمه الشيطان » ‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم فيما يرويه أصحاب السنة الربعة‬
‫والحاكم عن بُريدة ‪ « :‬القضاة ثلثة‪ ،‬اثنان في النار وواحد في الجنة‪ :‬رجل علم الحق فقضى به فهو‬
‫في الجنة‪ ،‬ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار‪ ،‬ورجل عرف الحق فجار في الحكم‪ ،‬فهو في‬
‫النار » ‪.‬‬
‫ول وجود للجراءات المعقدة في نظام المحاكمات السلمي‪ ،‬كما ل تأخير في إصدار الحكام‪ ،‬وإنما‬
‫يتميز نظام القضاء في السلم بالتعجيل‪.‬‬
‫هذه هي أصول المنهج السلمي في القضاء‪ ،‬لما طبقت كان القضاء في الدولة السلمية تاج عز‪،‬‬
‫ومفخرة من مفاخر التاريخ‪ ،‬لنه نظام يعتمد على العقيدة والدين والخلق وهو النظام الكفيل بتحقيق‬
‫المن والستقرار لي مجتمع إنساني يريد السعادة والبقاء‪ ،‬ويفرض الهيبة والحترام له في أنظار‬
‫العالم‪ .‬ولقد طبق هذا النظام خلل عشرات القرون من سنة (‪ 622‬حتى سنة ‪)1924‬م‪ ،‬أي قرابة ثلثة‬
‫عشر قرنا من الزمان‪ ،‬وكان أبرز معالمه التسوية بين المام الحاكم وبين آحاد الرعية في مجلس‬
‫القضاء‪ ،‬والتزام العدالة حتى مع العداء في السلم والحرب والمواطنة والتعايش الديني بين المسلمين‬
‫وغيرهم في ظل الدولة السلمية الرشيدة‪.‬‬

‫( ‪)8/75‬‬

‫رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه في القضاء‪ :‬ينبغي على كل قاض أن يحفظ‬
‫الرسالة العمرية في القضاء؛ لنها تضع له منهاج التقاضي‪ ،‬وتحدد نظرة السلم إلى القضاء‪،‬‬
‫وأوضاع المتقاضين أمام القاضي وآداب القاضي‪ ،‬وقواعد سير الدعوى‪ ،‬وضوابط الشهادة في سبيل‬
‫الوصول إلى إصدار الحكم وتنفيذه‪ ،‬وهذا نص الرسالة (‪: )1‬‬
‫‪ -‬بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫‪ -‬من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد ال بن قيس (‪. )2‬‬
‫‪ -‬سلم عليك‪ ،‬فإني أحمد ال الذي ل إله إل هو‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫‪ - 1‬فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متّبعة‪.‬‬
‫‪ - 2‬فافهم إذا أُدلي إليك‪.‬‬
‫‪ - 3‬فإنه لينفع تكلم بحق ل نفاد له‪.‬‬
‫‪ - 4‬آسِ بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك‪ ،‬حتى ليطمع شريف في حيفك‪ ،‬ول ييأس‬
‫ضعيف من عدلك‪.‬‬
‫‪ - 5‬البينة على المدعي‪ ،‬واليمين على من أنكر‪.‬‬
‫‪ - 6‬والصلح جائز بين المسلمين‪ ،‬إل صلحا أحل حراما ‪ ،‬أو حرّم حللً‪.‬‬
‫‪ - 7‬ومن ادعى حقا غائبا أو بيّنةً‪ ،‬فاضرب له أمدا ينتهي إليه‪ ،‬فإن بيّنه أعطيته بحق‪ ،‬وإن أعجزه‬
‫ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ للعذر‪ ،‬وأجلى للعماء‪.‬‬
‫‪ - 8‬ول يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم‪ ،‬فراجعت فيه رأيك‪ ،‬فهديت فيه لرشدك‪ ،‬أن تراجع فيه‬
‫الحق‪ ،‬فإن الحق قديم‪ ،‬ليبطله شيء‪ ،‬ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل‪.‬‬
‫‪ - 9‬والمسلمون عدول بعضهم على بعض‪ ،‬إل مجرّبا عليه شهادة زور‪ ،‬أو مجلودا في حد‪ ،‬أو ظنينا‬
‫في ولء أو قرابة‪.‬‬
‫‪ - 10‬فإن ال تعالى تولى من العباد السرائر‪ ،‬وستر عليهم الحدود‪ ،‬إل بالبيّنات واليمان‪.‬‬
‫‪ - 11‬ثم الفهمَ الفهمَ‪ ،‬فيما أدلي إليك‪ ،‬مما ورد عليك‪ ،‬مما ليس في قرآن ول سنة‪ ،‬ثم قايس المور‬
‫عند ذلك‪ ،‬واعرف المثال‪ ،‬ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى ال ‪ ،‬وأشبهها بالحق‪.‬‬
‫‪ - 12‬وإياك والغضب‪ ،‬والقلق‪ ،‬والضجر‪ ،‬والتأذي بالناس‪ ،‬والتنكرعند الخصومة أو الخصوم‪.‬‬
‫‪ - 13‬فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب ال به الجر‪ ،‬ويحسن به ال ّذكْر‪.‬‬
‫‪ - 14‬فمن خلصت نيته في الحق‪ ،‬ولو على نفسه‪ ،‬كفاه ال مابينه وبين الناس‪ ،‬ومن تزيّن بما ليس‬
‫في نفسه شانه ال ‪ ،‬فإن ال ليقبل من العباد إل ما كان خالصا‪.‬‬
‫والسلم عليكم ورحمة ال ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر أعلم الموقعين لبن قيم الجوزية‪ 85/1 :‬ومابعدها‪ ،‬وانظر الشرح النفيس لها في هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬تبصرة الحكام‪.19/1 :‬‬
‫(‪ )2‬هو أبو موسى الشعري رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)8/76‬‬

‫صلحيات القاضي ‪:‬‬


‫يحدد قانون القضاء في العصر الحديث صلحيات القاضي واختصاصه‪ ،‬ويوزع تلك الصلحيات بين‬
‫القضاة بحسب الموضوع عادة‪ ،‬إما في المسائل المدنية أو في المسائل الجنائية أو الحوال الشخصية‬
‫أوفي القضايا التجارية أو الدارية أو الدستورية أو أمن الدولة أو نحو ذلك‪.‬‬
‫وأما أعمال القاضي الشرعي في تصور فقهائنا‪ ،‬فمنها ماهو متفق عليه ومنها ماهو مختلف فيه‪ ،‬وقد‬
‫اتفق الفقهاء على تولي القاضي للمور التية (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬الفصل بين المتخاصمين‪ ،‬إما بصلح عن تراضٍ أو بإجبار على حكم نافذ‪.‬‬
‫‪ - 2‬قمع الظالمين ونصرة المظلومين وإيصال الحق إلى ذويه‪.‬‬
‫‪ - 3‬تنفيذ الوصايا‪.‬‬
‫‪ - 4‬النظر في شؤون الوقاف‪.‬‬
‫‪ - 5‬الحجر على السفهاء‪.‬‬
‫‪ - 6‬المواريث‪.‬‬
‫‪ - 7‬شؤون اليتام والمجانين وإقامة الوصياء لحفظ أموالهم‪.‬‬
‫‪ - 8‬الجراحات والدماء‪.‬‬
‫‪ - 9‬الثبات‪.‬‬
‫عضَلهن (‪ )2‬الولياء‪.‬‬
‫‪ - 10‬عقد نكاح النساء اللتي ليس لهن أولياء أو َ‬
‫‪ - 11‬منع التعدي على الطرقات والفنية العامة‪ .‬وللقاضي المطالبة بهذه العمال إن لم تسند إليه‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء حول تولي القاضي الشؤون التية‪:‬‬
‫‪ - 1‬إقامة الحدود‪.‬‬
‫‪ - 2‬صلة الجمعة والعيدين‪.‬‬
‫‪ - 3‬أموال الصدقات‪.‬‬
‫فبعضهم أسندها للقاضي؛ لنه كالوصي المطلق إل ما اختص به الخليفة نفسه من شؤون الجيش وقتال‬
‫البغاة وجباية الخراج‪.‬‬
‫وبعضهم لم يدخلها في اختصاص القاضي لنه وكيل عن المام العظم‪ ،‬وليس للوكيل أن يتعدى‬
‫حدود وكالته‪.‬‬
‫ودليلهم أن عمر رضي ال عنه نهى الولة عن تنفيذ حكم العدام على أحد إل بعد مشاورته‬
‫وموافقته‪ ،‬وقاسوا القضاة على الولة‪ .‬ويظهر أن هذا الرأي هو الرجح؛ لن القاضي وكيل عن‬
‫المام العظم‪ ،‬فليس له أن يتعدى حدود وكالته‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نظام القضاء في السلم للشيخ أحمد عبد العزيز آل مبارك‪ :‬ص ‪.14-12‬‬
‫(‪ )2‬منعهن الولياء عن الزواج‪.‬‬

‫( ‪)8/77‬‬

‫صلُ الوّل‪ :‬القضاء وآدابه‬


‫ال َف ْ‬
‫الكلم عن القضاء في المباحث التسعة التية‪:‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف القضاء ومشروعيته‪.‬‬
‫المبحث الثاني ـ شروط القاضي‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ حكم قبول القضاء‪.‬‬
‫المبحث الرابع ـ صلحيات القاضي‪.‬‬
‫المبحث الخامس ـ واجبات القضاة‪.‬‬
‫المبحث السادس ـ آداب القضاة‪.‬‬
‫المبحث السابع ـ انتهاء ولية القاضي‪.‬‬
‫المبحث الثامن ـ متى يجوز حبس المدين؟‬
‫المبحث التاسع ـ عزل القاضي وانعزاله‪.‬‬
‫وأبدأ ببحثها كلً على حدة‪.‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف القضاء ومشروعيته ‪:‬‬
‫القضاء لغة‪ :‬انقضاء الشيء وإتمامه‪ ،‬والحكم بين الناس‪ ،‬والقاضي‪ :‬الحاكم‪ ،‬وشرعا‪ :‬فصل‬
‫الخصومات وقطع المنازعات (‪ . )1‬وعرفه الشافعية بأنه فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم‬
‫ال تعالى‪ ،‬أي إظهار حكم الشرع في الواقعة‪ .‬وسمي القضاء حكما‪ :‬لما فيه من الحكمة التي توجب‬
‫وضع الشيء في محله‪ ،‬لكونه يكف الظالم عن ظلمه‪ ،‬أو من إحكام الشيء (‪. )2‬‬
‫والصل في مشروعيته‪ :‬الكتاب والسنة والجماع (‪: )3‬‬
‫أما الكتاب‪ :‬فقول ال تعالى‪{ :‬يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض فاحكم بين الناس بالحق‪ ،‬ول تتبع‬
‫الهوى‪ ،‬فيضلك عن سبيل ال } [ص‪ ]26/38:‬وقول ال تعالى‪{ :‬وأن احكم بينهم بما أنزل ال }‬
‫[المائدة‪ ]49/5:‬وقوله تعالى‪{ :‬فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة‪ ]42/5:‬وقوله عز وجل‪{ :‬إنا أنزلنا إليك‬
‫الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ال } [النساء‪ ]105/4:‬ونحوها من اليات‪.‬‬
‫وأما السنة‪ :‬فما روى عمرو بن العاص عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه قال‪« :‬إذا اجتهد الحاكم‪،‬‬
‫فأصاب‪ ،‬فله أجران‪ ،‬وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (‪ ، )4‬وفي رواية صحح‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ 4 :‬ص ‪ ،309‬الشرح الكبير للدردير‪ 4 :‬ص ‪.129‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ 4 :‬ص ‪ ،372‬وانظر فتح القدير‪ 5 :‬ص ‪.453‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط‪ 16 :‬ص ‪ 59‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ 9 :‬ص ‪ ،34‬مغني المحتاج‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬المهذب‪:‬‬
‫‪ 2‬ص ‪.289‬‬
‫(‪ )4‬متفق عليه بين البخاري ومسلم عن عمرو وأبي هريرة‪ ،‬ورواه الحاكم والدارقطني عن عقبة بن‬
‫عامر وأبي هريرة وابن عمر بلفظ‪« :‬إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر‪ ،‬وإن أصاب فله عشر أجور» ‪.‬‬
‫(راجع نصب الراية‪ 4 :‬ص ‪ ،63‬شرح مسلم‪ 12 :‬ص ‪ ،13‬سبل السلم‪ 4 :‬ص ‪ ،117‬مجمع‬
‫الزوائد‪ 4 :‬ص ‪ ،195‬اللمام‪ :‬ص ‪.)514‬‬

‫( ‪)8/78‬‬

‫الحاكم إسنادها‪« :‬فله عشرة أجور» وروى البيهقي خبر‪« :‬إذا جلس الحاكم للحكم بعث ال له ملكين‬
‫يسددانه ويوفقانه‪ ،‬فإن عدل أقاما‪ ،‬وإن جار عرجا وتركاه» ‪.‬‬
‫وقد حكم النبي صلّى ال عليه وسلم بين الناس (‪ ، )1‬وبعث عليا كرم ال وجهه وأبا موسى الشعري‬
‫إلى اليمن للقضاء في المنازعات‪ ،‬وبعث أيضا إليها معاذا (‪ ، )2‬وكان عتّآب بن أسيد أول قاض‬
‫لرسول ال صلّى ال عليه وسلم على مكة‪ ،‬ولن الخلفاء الراشدين رضي ال عنهم حكموا بين الناس‪،‬‬
‫وبعث عمر رضي ال عنه أبا موسى الشعري إلى البصرة قاضيا‪ ،‬وأرسل عبد ال بن مسعود إلى‬
‫الكوفة قاضيا‪ .‬وتولى القضاء عمر وعلي ومعاذ وأبو موسى وشريح وأبو يوسف رضي ال عنهم‪.‬‬
‫وأجمع المسلمون على مشروعية تعيين القضاة‪ ،‬والحكم بين الناس‪ ،‬لما في القضاء من إحقاق الحق‪،‬‬
‫ولن الظلم متأصل في الطباع البشرية‪ ،‬فل بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم‪.‬‬
‫نوع المشروعية‪ :‬القضاء فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق أئمة المذاهب‪ ،‬فيجب على المام‬
‫تعيين قاض‪ ،‬ودليل الفرضية قوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط} [النساء‪]135/4:‬‬
‫ولنه كما ذ ُكر طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق‪ ،‬وقل من ينصف من نفسه‪ ،‬وبما أن‬
‫المام ل يقدر عادة على فصل الخصومات بنفسه لكثرة مشاغلة العامة‪ ،‬فالحاجة تدعو إلى تولية‬
‫القضاة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود عن علي‪ ،‬ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه‪ ،‬وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم‪،‬‬
‫ورواه الحاكم في المستدرك (راجع نصب الراية‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ 60‬ومابعدها)‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ (نصب الراية‪ :‬ص ‪ ،63‬تلخيص الحبير‪ ،‬الطبعة المصرية‪:‬‬
‫‪ 4‬ص ‪.)182‬‬

‫( ‪)8/79‬‬

‫وأما كونه فرض كفاية‪ :‬فلنه أمر بمعروف‪ ،‬أو نهي عن منكر‪ ،‬وهما واجبان كفائيان‪ .‬قال بعضهم‪:‬‬
‫«القضاء أمر من أمور الدين‪ ،‬ومصلحة من مصالح المسلمين‪ ،‬تجب العناية به؛ لن بالناس إليه حاجة‬
‫عظيمة » (‪ ، )1‬وهو من أنواع القربات إلى ال عز وجل‪ ،‬ولذا توله النبياء عليهم السلم‪ ،‬قال ابن‬
‫مسعود‪« :‬لن أجلس قاضيا بين اثنين أحب إليّ من عبادة سبعين سنة» ‪.‬‬
‫المبحث الثاني ـ شروط القاضي ‪:‬‬
‫اتفق أئمة المذاهب على أن القاضي يشترط فيه أن يكون عاقلً بالغا حرا مسلما سميعا بصيرا ناطقا‪،‬‬
‫واختلفوا في اشتراط العدالة‪ ،‬والذكورة‪ ،‬والجتهاد (‪. )2‬‬
‫أما العدالة‪ :‬فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة‪ ،‬فل يجوز تولية فاسق ول من كان مرفوض‬
‫الشهادة لعدم الوثوق بقولهما‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات‪:‬‬
‫‪ ]6/49‬فإذا لم تقبل الشهادة من امرئ‪ ،‬فلن ل يكون قاضيا أولى‪ .‬والعدالة تتطلب اجتناب الكبائر‪،‬‬
‫وعدم الصرار على الصغائر‪ ،‬وسلمة العقيدة‪ ،‬والمحافظة على المروءة‪ ،‬والمانة التي ل اتهام فيها‬
‫بجلب منفعة لنفسه أو دفع مضرة عنها من غير وجه شرعي‪.‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬الفاسق أهل للقضاء‪ ،‬حتى لو عين المام قاضيا صح قضاؤه للحاجة‪ ،‬لكن ينبغي أل‬
‫يعين‪ ،‬كما في الشهادة‪ ،‬فإنه ل ينبغي أن يقبل القاضي شهادة الفاسق‪ ،‬لكن لو قبلها منه جاز‪ ،‬وفي‬
‫الحالتين‪( :‬قضاء وشهادة) يأثم من يعينه للقضاء ومن يقبل شهادته‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬اللباب شرح الكتاب للميداني‪ 4 :‬ص ‪.77‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،3/7 :‬الدسوقي‪ ،129/4 :‬بداية المجتهد‪ ،449/2 :‬مغني المحتاج‪ ،375/4 :‬البجيرمي‬
‫على الخطيب‪ ،318/4 :‬المغني‪.39/9 :‬‬

‫( ‪)8/80‬‬
‫أما المحدود في القذف‪ :‬فل يعين قاضيا كما ل تقبل شهادته عند الحنفية كبقية الئمة؛ لن القضاء من‬
‫باب الولية‪ ،‬وبما أن هذا المحدود ل تقبل شهادته وهي أدنى الوليات‪ ،‬فعدم تعيينه قاضيا أولى‪.‬‬
‫وأما الذكورة‪ :‬فهي شرط أيضا عند غير الحنفية‪ ،‬فل تولى المرأة القضاء ؛ لقوله صلّى ال عليه وسلم‬
‫‪« :‬لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (‪ ، )1‬ولن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة‬
‫والخبرة بشؤون الحياة‪ ،‬والمرأة ناقصة العقل‪ ،‬قليلة الرأي‪ ،‬بسبب ضعف خبرتها واطلعها على واقع‬
‫الحياة‪ ،‬ولنه ل بد للقاضي من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم‪ ،‬والمرأة ممنوعة من‬
‫مجالسة الرجال بعدا عن الفتنة‪ ،‬وقد نبه ال تعالى على نسيان المرأة ‪ ،‬فقال‪{ :‬أن تضل إحداهما فتذكّر‬
‫إحداهما الخرى} [البقرة‪ ]282/2:‬ول تصلح للمامة العظمى ول لتولية البلدان‪ ،‬ولهذا لم يولّ النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم ول أحد من خلفائه ول من بعدهم امرأة قضاء ول ولية بلد‪.‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الموال أي في القضاء المدني؛ لنه تجوز شهادتها في‬
‫المعاملت‪ ،‬ويأثم المولي لها للحديث السابق‪« :‬لن يفلح‪ »..‬أما في الحدود والقصاص أي في القضاء‬
‫الجنائي‪ ،‬فل تعين قاضيا؛ لنه ل شهادة لها فيه‪ ،‬ومن المعلوم أن أهلية القضاء تلزم أهلية الشهادة‪.‬‬
‫وقال ابن جرير الطبري‪ :‬يجوز أن تكون المرأة حاكما على الطلق في كل شيء‪ ،‬لنه يجوز أن‬
‫تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية‪.‬‬
‫وأما الجتهاد‪ :‬فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري والنسائي والترمذي وصححه عن أبي بكرة (المقاصد الحسنة للسخاوي‪ :‬ص ‪،340‬‬
‫نيل الوطار‪ 8 :‬ص ‪ ،263‬سبل السلم‪ 4 :‬ص ‪ ،123‬تلخيص الحبير‪ 4 :‬ص ‪.)184‬‬

‫( ‪)8/81‬‬

‫كالقدوري (‪ ، )1‬فل يولى الجاهل بالحكام الشرعية‪ ،‬ول المقلد‪( :‬وهو من حفظ مذهب إمامه‪ ،‬لكنه‬
‫غير عارف بغوامضه‪ ،‬وقاصر عن تقرير أدلته) لنه ل يصلح للفتوى‪ ،‬فل يصلح للقضاء بالولى؛‬
‫لن ال تعالى يقول‪{ :‬وأن احكم بينهم بما أنزل ال } [المائدة‪ ]49/5:‬ولم يقل بالتقليد للخرين‪ ،‬وقال‬
‫سبحانه‪{ :‬لتحكم بين الناس بما أراك ال } [النساء‪ ]105/4:‬وقال عز وجل‪{ :‬فإن تنازعتم في شيء‬
‫فردوه إلى ال والرسول} [النساء‪ ]59/4:‬وروى بريدة عن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬القضاة‪،‬‬
‫ثلثة‪ :‬واحد في الجنة‪ ،‬واثنان في النار‪ ،‬فأما الذي في الجنة‪ ،‬فرجل عرف الحق‪ ،‬فقضى به‪ ،‬ورجل‬
‫عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار‪ ،‬ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (‪ )2‬فالعامي‬
‫يقضي على جهل‪.‬‬
‫ويلحظ أن اشتراط وصف الجتهاد عند المالكية‪ :‬هو الذي عليه عامة أهل المذهب‪ ،‬لكن المعتمد‬
‫والصح عندهم أنه يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد (‪. )3‬‬
‫وأهلية الجتهاد‪ :‬تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالحكام من القرآن والسنة‪ ،‬ومعرفة الجماع والختلف‬
‫والقياس ولسان العرب‪ ،‬ول يشترط أن يكون الفقيه محيطا بكل القرآن والسنة‪ ،‬ول أن يحيط بجميع‬
‫الخبار الواردة‪ ،‬ول أن يكون مجتهدا في كل المسائل‪ ،‬بل يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع البحث (‪)4‬‬
‫‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬اللباب في شرح الكتاب أي كتاب القدوري‪ 4 :‬ص ‪ .78‬قال في الهداية‪ :‬والصحيح أن أهلية‬
‫الجتهاد شرط أولوية‪ .‬فأما تقلي الجاهل أي غير المجتهد فصحيح عندنا؛ لنه يمكنه أن يقضي بفتوى‬
‫غيره‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه‪ .‬وقد علق عليه ابن تيمية بقوله‪:‬‬
‫«وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلً» (نيل الوطار‪ 263/8 :‬ومابعدها‪ ،‬سبل السلم‪:‬‬
‫‪ ،115/4‬نصب الراية‪ ،65/4 :‬مجمع الزوائد‪.)195/4 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير وحاشية الدسوقي‪.129/4 :‬‬
‫(‪ )4‬راجع التفصيل في كتابنا أصول الفقه‪ :‬ص ‪ 1044/2‬ومابعدها‪ ،‬ط دار الفكر‪.‬‬

‫( ‪)8/82‬‬

‫وقال جمهور الحنفية‪ :‬ل يشترط كون القاضي مجتهدا‪ ،‬والصحيح أن أهلية الجتهاد شرط الولوية‬
‫والندب والستحباب‪ ،‬فيجوز تقليد غير المجتهد للقضاء‪ ،‬ويحكم بفتوى غيره أي بتقليد مجتهد؛ لن‬
‫الغرض من القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه‪ ،‬وهو يتحقق بالتقليد‪ ،‬لكن مع هذا‬
‫قالوا‪ :‬ل ينبغي أن يقلد الجاهل بالحكام‪ ،‬أي الجاهل بأدلة الحكام الشرعية تفصيلً واستنباطا؛ لن‬
‫الجاهل يفسد أكثر مما يصلح‪ ،‬بل يقضي بالباطل من حيث ل يشعر به‪.‬‬
‫وبصرف النظر عن هذا الخلف فإن الواقع له مكان وأهمية‪ ،‬قال المام الغزالي‪ :‬اجتماع هذه‬
‫الشروط من العدالة والجتهاد وغيرهما متعذر في عصرنا لخلو العصر من المجتهد والعدل‪ ،‬فالوجه‬
‫تنفيذ قضاء كل من وله سلطان ذو شوكة‪ ،‬وإن كان جاهلً فاسقا (‪. )1‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬إذا تعذرت هذه الشروط‪ ،‬فولى سلطان له شوكة فاسقا أو مقلدا نفذ قضاؤه للضرورة‪.‬‬
‫وفي الجملة‪ :‬إذا وجد اثنان كل منهما أهل للقضاء يقدم الفضل في العلم والديانة والورع والعدالة‬
‫والعفة والقوة‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من تولى من أمر المسلمين شيئا فاستعمل عليهم رجلً‪،‬‬
‫وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب ال ‪ ،‬وسنة رسوله‪ ،‬فقد خان ال ورسوله‪،‬‬
‫وجماعة المسلمين» (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع البحث في البدائع‪ ،3/7 :‬فتح القدير‪ 453/5 :‬وما بعدها‪ ،485 ،‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص‬
‫‪ ،332‬الدر المختار ورد المحتار عليه‪ 312/4 :‬وما بعدها‪ ،318 ،‬بداية المجتهد‪ ،449/2 :‬الشرح‬
‫الكبير للدردير‪ 129/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ 375/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،290/2 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ 39/9‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس‪ ،‬وأخرجه الحاكم وابن عدي وأحمد بن حنبل والعقيلي‬
‫والخطيب البغدادي‪ .‬وعن حذيفة بن اليمان أخرجه أبو يعلى الموصلي (نصب الراية‪.)62/4 :‬‬

‫( ‪)8/83‬‬

‫إثبات ولية القاضي‪ :‬تثبت ولية القاضي بشهادة شاهدين يخبران بمحل وليته‪ ،‬وباستفاضته خبر‬
‫تعيينه‪ ،‬والولى أن يكتب له المام كتابا بالتولية‪ ،‬اتباعا لفعل النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فإنه كتب‬
‫لعمرو بن حزم كتابا لما بعثه إلى اليمن‪ ،‬وهو ابن سبعة عشر عاما‪ ،‬وكتب أبو بكر رضي ال عنه‬
‫كتابا لنس لما بعثه إلى البحرين‪ ،‬وختمه بخاتم رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ .‬وتثبت ولية‬
‫القاضي اليوم بقرار التعيين أو التوظيف وينشر في الجريدة الرسمية‪ ،‬وقد ينشر في الصحف اليومية‪.‬‬
‫ويسن للقاضي الستعانة بعلماء البلد الذي عين فيه‪ ،‬كما يتعرف على العدول ليتابع عمله بوجه‬
‫أفضل‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ حكم قبول القضاء ‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه إذا تعين للقضاء واحد يصلح له في بلد لزمه طلبه وقبوله‪ ،‬فإن امتنع عصى‪،‬‬
‫كسائر فروض العيان‪ ،‬وللحاكم إجباره؛ لن الناس مضطرون إلى علمه ونظره‪ ،‬فأشبه من عنده‬
‫طعام منعه عن المضطر‪.‬‬
‫فإن وجد في البلد عدد يصلح للقضاء‪ ،‬فيجوز القبول والترك‪ .‬وهل القبول حينئذ أفضل أو الترك؟‬
‫قال جمهور العلماء في المذاهب الربعة‪ :‬الترك أفضل‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من جعل قاضيا‬
‫بين الناس‪ ،‬فقد ذبح بغير سكين» (‪ )1‬وقد امتنع بعض الصحابة كابن عمر وبعض كبار الفقهاء كأبي‬
‫حنيفة من قبول القضاء‪ ،‬لما ورد فيه من التشديد‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة عن أبي هريرة‪ ،‬وأخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن أبي‬
‫شيبة وأبو يعلى والبزار والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان‪ ،‬وله طرق منها‬
‫ما رواه ابن عدي عن ابن عباس (نيل الوطار‪ 259/8 :‬وما بعدها‪ ،‬نصب الراية‪ ،64/4 :‬سبل‬
‫السلم‪ ،116/4 :‬تلخيص الحبير‪ ،184/4 :‬اللمام‪ :‬ص ‪.)512‬‬

‫( ‪)8/84‬‬

‫والذم‪ ،‬ولما فيه من الخطورة (‪ ، )1‬بل إنه يكره طلبه لقوله صلّى ال عليه وسلم لعبد الرحمن بن‬
‫سمرة‪« :‬يا عبد الرحمن بن سمرة‪ ،‬ل تسأل المارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها‪ ،‬وإن‬
‫أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» (‪ )2‬أي صرفت إليها دون عون‪ ،‬وعن أنس قال‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من سأل القضاء‪ ،‬وكل إلى نفسه‪ ،‬ومن أجبر عليه نزل إليه ملك فسدده» (‪)3‬‬
‫وعن أبي هريرة عن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬إنكم ستحرصون على المارة‪ ،‬وستكون ندامة‬
‫يوم القيامة‪ ،‬فنعم المرضعة‪ ،‬وبئست الفاطمة» (‪ . )4‬فيكون طلب القضاء مكروها إذا كان هناك مماثل‬
‫أو أفضل منه‪.‬‬
‫لكن يندب طلب القضاء لعالم غير مشهور يرجو به نشر علمه بين الناس لتحصل المنفعة بعلمه‪ ،‬كما‬
‫يندب لمن كان محتاجا إلى الرزق؛ لن القضاء طاعة لما في إقامة العدل من جزيل الثواب‪ .‬ويستحب‬
‫أيضا لمن يرجو بعمله إحقاق الحق ومنع ضياع الحقوق‪ ،‬وتدارك جورالقضاة أو عجزهم عن إيصال‬
‫الحقوق لهلها‪.‬‬
‫ويكره قبول القضاء لمن يخاف العجز عنه‪ ،‬ول يأمن على نفسه الحيف فيه‪ ،‬حتى ل يكون سببا‬
‫لمباشرة القبيح‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬قبول القضاء أفضل؛ لن النبياء والمرسلين صلوات ال‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬قال في كتاب الجوهرة الحنفي‪ :‬وقد دخل فيه (أي في القضاء) قوم صالحون‪ ،‬واجتنبه قوم‬
‫صالحون‪ ،‬وترك الدخول فيه أحوط وأسلم للدين والدنيا‪ ،‬لما فيه من الخطر العظيم والمر المخوف‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري ومسلم وأحمد (نيل الوطار‪.)256/8 :‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد (نصب الراية‪ ،69/4 :‬مجمع الزوائد‪ ،194/4 :‬نيل‬
‫الوطار‪ ،‬المرجع السابق)‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري وأحمد والنسائي‪ .‬وقوله‪« :‬ستحرصون» بكسر الراء‪ ،‬ويجوز فتحها‪ ،‬وقوله‪« :‬نعم‬
‫المرضعة وبئست الفاطمة» أي نعمت المرضعة في الدنيا وبئست الفاطمة بعد الموت (نيل الوطار‪:‬‬
‫‪ ،257/8‬سبل السلم‪.)116/4 :‬‬

‫( ‪)8/85‬‬

‫ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح عن عوف ابن مالك بلفظ «أولها ملمة‪،‬‬
‫وثانيها ندامة‪ ،‬وثالثها عذاب يوم القيامة‪ ،‬إل من عدل» ‪ .‬عليهم‪ ،‬والخلفاء الراشدين ما رسوا القضاء‪،‬‬
‫ولنا فيهم قدوة‪ ،‬ولن القضاء إذا أريد به وجه ال تعالى يكون عبادة خالصة‪ ،‬بل هو من أفضل‬
‫العبادات‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم‪« :‬يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة‪ ،‬وحد يقام في‬
‫الرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين يوما» (‪. )1‬‬
‫وقوله عليه الصلة و السلم‪« :‬إن المقسطين عند ال على منابر من نور عن يمين الرحمن‪ ،‬وكلتا‬
‫يديه يمين‪ :‬الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم‪ ،‬وما وَلُوا» (‪ )2‬قالوا‪ :‬وأما الحاديث التي فيها ذم‬
‫القضاء فهي محمولة على القاضي الجاهل أو العالم الفاسق‪ ،‬أو الذي ل يأمن على نفسه الرشوة (‪. )3‬‬
‫قال القدوري الحنفي‪ :‬ول بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه (أي يعلم من نفسه) أنه يؤدي‬
‫فرضه‪ :‬وهو الحكم على قاعدة الشرع‪ .‬ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عنه أي عن القيام به‬
‫على الوجه المشروع‪ ،‬ول يأمن على نفسه الحيف (أي الظلم)‪ .‬ول ينبغي للنسان أن يطلب الولية‬
‫بقلبه‪ ،‬ول يسألها بلسانه (‪ ، )4‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من طلب القضاء وكل إلى نفسه ومن‬
‫أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده» (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه إسحاق بن راهويه والطبراني في الوسط عن ابن عباس (نصب الراية‪.)67/4 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم وأحمد والنسائي عن عبد ال بن عمر (نصب الراية‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ ،68‬نيل‬
‫الوطار‪.)260/8 :‬‬
‫(‪ )3‬راجع البدائع‪ 3/7 :‬ومابعدها‪ ،‬فتح القدير‪ 458/5 :‬ومابعدها‪ ،‬الدر المختار‪ ،319/4 :‬اللباب شرح‬
‫الكتاب‪ ،78/4 :‬الشرح الكبير للدردير‪ 130/4 :‬ومابعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،373/4 :‬المغني‪.35/9 :‬‬
‫(‪ )4‬الكتاب‪78/4 :‬‬
‫(‪ )5‬سبق تخريج الحديث قريبا‪ .‬وفيه دليل على أن طلب مايتعلق بالحكم مكروه‪ ،‬فيدخل المارة‬
‫والقضاء والحسبة ونحو ذلك ( نيل الوطار‪.) 259/8 :‬‬

‫( ‪)8/86‬‬

‫المبحث الرابع ـ صلحيات القاضي ‪:‬‬


‫تشتمل ولية القاضي على عشرة أمور (‪: )1‬‬
‫الول ـ الفصل بين المتخاصمين إما بصلح عن تراضٍ‪ ،‬وإما بإجبار على حكم نافذ‪.‬‬
‫الثاني ـ قمع الظالمين عن الغصب والتعدي وغير ذلك‪ ،‬ونصرة المظلومين وإيصال كل ذي حق إلى‬
‫حقه‪.‬‬
‫الثالث ـ إقامة الحدود والقيام بحقوق ال تعالى‪.‬‬
‫الرابع ـ النظر في الدماء والجراح‪.‬‬
‫الخامس ـ النظر في أموال اليتامى والمجانين وتقديم الوصياء عليهم حفظا لموالهم‪.‬‬
‫السادس ـ النظر في الحباس (الوقاف)‪.‬‬
‫السابع ـ تنفيذ الوصايا‪.‬‬
‫الثامن ـ عقد نكاح النساء إذا لم يكن لهن ولي أو عضلهن الولي‪.‬‬
‫التاسع ـ النظر في المصالح العامة من طرقات المسلمين وغير ذلك‪.‬‬
‫العاشر ـ المر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول والفعل‪.‬‬
‫وهذا دليل على أن القاضي ينظر في المور المدنية والجنائية والحوال الشخصية‪ ،‬والقضايا الدارية‬
‫وحقوق ال تعالى‪ ،‬أي حقوق المجتمع‪ ،‬فهو قاضي مدني وجنائي وشرعي وإداري ومحتسب‪ ،‬ولكن ل‬
‫مانع شرعا من التخصص الموضوعي في القضاء إذا ازدحمت الدعاوى وكثرت المشكلت‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.293‬‬

‫( ‪)8/87‬‬

‫المبحث الخامس ـ واجبات القضاة ‪:‬‬


‫يجب على القاضي التقيد ببعض الواجبات فيما يتعلق بمصادر الحكام التي يستمد منها حكمه‪،‬‬
‫وطريق ثبوت الحق بالبينة أو القرار ونحوهما وما يتعلق بالمقضي له والمقضي عليه‪.‬‬
‫المطلب الول ـ ما يقضي به القاضي من الحكام الشرعية وصفة قضائه ‪:‬‬
‫يجب على القاضي أن يقضي في كل حادثة بما يثبت عنده أنه حكم ال تعالى‪ :‬إما بدليل قطعي‪ ،‬وهو‬
‫النص المفسر الذي ل شبهة فيه من كتاب ال عز وجل‪ ،‬أو السنة المتواترة أو المشهورة‪ ،‬أو الجماع‪.‬‬
‫وإما بدليل ظاهر موجب للعمل‪ ،‬كظواهر النصوص المذكورة في القرآن الكريم أو السنة المشرفة‪ ،‬أو‬
‫الثابت بالقياس الشرعي‪ ،‬ويعمل به في المسائل الجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء‪.‬‬
‫فإن لم يجد القاضي حكم الحادثة في المصادر الربعة‪ :‬الكتاب والسنة والجماع والقياس‪،‬يجب عليه‬
‫العمل بما أدى إليه اجتهاده‪ ،‬إن كان مجتهدا؛ لن ثمرة اجتهاده هو الحق بالنسبة إليه ظاهرا‪ ،‬فل يعمل‬
‫باجتهاد غيره‪.‬‬
‫وهل للمجتهد أن يقضي برأي مجتهد آخر أفقه منه؟ قال أبو حنيفة‪ :‬له القضاء به‪ .‬وقال الصاحبان‪:‬‬
‫ليس له القضاء به‪ .‬ومرجع الخلف هو أن كون أحد المجتهدين أفقه من غيره هل يصلح مرجحا؟‬
‫عند أبي حنيفة‪ :‬يصلح؛ لن اجتهاده أقرب إلى الصواب‪ .‬وعند الصاحبين‪ :‬ل يصلح مرجحا؛ لن‬
‫كون العالم أفقه من غيره ليس من جنس الدليل الذي يستند إليه في استنباط الحكم‪.‬‬
‫والصحيح عند المالكية أن القاضي إذا كان من أهل الجتهاد‪ ،‬فله أن يقضي بما رأى‪ ،‬وإن كان غيره‬
‫أعلم منه؛ لن التقليد ل يصح للمجتهد فيما يرى خلفه بالجماع (‪. )1‬‬
‫وإن لم يكن القاضي مجتهدا‪ :‬يختار قول الفقه والورع من المجتهدين بحسب اعتقاده (‪. )2‬‬
‫صفة قضاء القاضي‪ :‬قال جمهور العلماء‪ :‬قضاء القاضي ينفذ ظاهرا ل باطنا؛ لنا مأمورون باتباع‬
‫الظاهر‪ ،‬وال يتولى السرائر‪ ،‬فل يحل هذا الحكم حراما ول يحرم حللً‪ ،‬فلو حكم بشهادة شاهدين‬
‫ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنا‪ ،‬سواء في المال وغيره‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫«إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض‪ ،‬فأقضي له بنحو مما أسمع‪ ،‬فمن‬
‫قضيت له من حق أخيه بشيء فل يأخذه‪ ،‬فإنما أقطع له قطعة من النار» متفق عليه (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المقدمات الممهدات‪.263/2 :‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،68/16 :‬البدائع‪ 5/7 :‬وما بعدها‪ ،‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪.327‬‬
‫(‪ )3‬راجع مغني المحتاج‪ ،397/4 :‬المغني‪ ،58/9 :‬بداية المجتهد‪ 450/2 :‬ومابعدها‪ ،‬المقدمات‬
‫الممهدات‪.266/2 :‬‬

‫( ‪)8/88‬‬
‫وقال أبو حنيفة‪ :‬إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلق‪ ،‬نفذ حكمه ظاهرا وباطنا؛ لن مهمته القضاء‬
‫بالحق‪ ،‬وأما الحديث فهو في قضية ل بينة فيها‪ .‬وعلى هذا إذا ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها‪،‬‬
‫فأنكرت‪ ،‬فأقام على زواجها شاهدي زور‪ ،‬فقضى القاضي بالنكاح بينهما‪ ،‬وهما يعلمان أنه ل نكاح‬
‫بينهما‪ ،‬حل للرجل وطؤها‪ ،‬وحل لها التمكين عند أبي حنيفة‪ ،‬خلفا للجمهور‪ .‬ومثله لو قضى بالطلق‬
‫فرق بينهما عنده‪ ،‬وإن كان الرجل منكرا‪ .‬ويقاس عليه البيع ونحوه‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن القاضي في قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه ظاهرا وباطنا حيث كان المحل قابلً لذلك‬
‫كالعقود والفسوخ‪ ،‬والقاضي غير عالم بزور الشهود‪ .‬وهذا القول وإن كان هو الوجه في مذهب‬
‫الحنفية‪ ،‬إل أن المفتى به عندهم هو قول الصاحبين الموافق لبقية الئمة‪ ،‬وهو أن قضاء القاضي ينفذ‬
‫ظاهرا فقط ل باطنا‪ ،‬أي ليس الحلل عند ال هو ما قضى به القاضي‪ ،‬بل ما وافق الحق (‪. )1‬‬
‫المطلب الثاني ـ طرق إثبات الحق لدى القضاء ‪:‬‬
‫يجب على القاضي أن يقضي بما ثبت عنده بطرق الثبات الشرعية‪ :‬وهي البينة والقرار واليمين‬
‫والنكول على النحو الذي سيذكر في المبحث المخصص لطرق الثبات‪ .‬وأشير هنا إلى أن البينة‬
‫تظهر الحق بالتفاق بشرط أن يثبت عند القاضي عدالة الشهود بالسؤال عنهم‪ ،‬ممن له علم بأحوالهم‬
‫سرا وعلنية‪.‬‬
‫والقرار حجة مطلقة؛ لن النسان غير متهم بالقرار على نفسه كاذبا‪.‬‬
‫والشهادة في الموال‪ :‬شهادة رجلين أو رجل وامرأتين‪ ،‬أو شهادة رجل ويمين المدعي عند غير‬
‫الحنفية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،15/7 :‬شرح فتح القدير‪ ،492/5 :‬ط التجارية‪ ،‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،462/4 :‬ط‬
‫الميرية‪.‬‬

‫( ‪)8/89‬‬

‫واليمين تسقط بها دعوى المدعي الذي ل بينة له‪ .‬وكذلك عند المام مالك‪ :‬يثبت بها حق المدعي الذي‬
‫أنكره عليه خصمه‪.‬‬
‫والنكول عن اليمين من المدعى عليه يثبت به الحق للمدعي في الموال عند أبي حنيفة (‪ . )1‬ويقضى‬
‫عند المالكية بالنكول مع شاهد أو يمين المدعي أو مع يمين المدعى عليه (‪ . )2‬وهل للقاضي أن‬
‫يقضي بعلمه أو بكتاب قاض آخر إليه أو بالشهادة على الشهادة‬
‫‪ - 1‬قضاء القاضي بعلم نفسه ‪:‬‬
‫قال المالكية والحنابلة‪ :‬ل يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ول غيره‪ ،‬سواء علم ذلك قبل القضاء‬
‫وبعده‪ ،‬ويجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء‪ ،‬بأن أقر بين يديه طائعا‪ .‬ودليلهم على عدم‬
‫الجواز قول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إنما أنا بشر‪ ،‬وإنكم تختصمون إلي‪ ،‬ولعلّ بعضكم أن يكون‬
‫ألحن (‪ )3‬بحجته من بعض‪ ،‬فأقضي بنحوٍ مما أسمع‪ ،‬فمن قضيت له من حق أخيه شيئا‪ ،‬فل يأخذه‪،‬‬
‫فإنما أقطع له قطعة من النار» (‪ )4‬فدل على أنه يقضي بما يسمع‪ ،‬ل بما يعلم‪ .‬وقال النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم في قضية‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،6‬بداية المجتهد‪ 451/2 :‬ومابعدها‪ ،‬الشرح الكبير للدردير‪:‬‬
‫‪.151/4‬‬
‫(‪ )2‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.302‬‬
‫(‪ )3‬أي أفطن بها‪ ،‬ويجوز أن يكون معناه‪ :‬أفصح تعبيرا وأظهر احتجاجا حتى يخيل أنه محق‪ ،‬وهو‬
‫في الحقيقة مبطل‪ .‬والرجح في المعنى‪ :‬أنه أبلغه أي أحسن إيرادا للكلم مع أنه كاذب‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الجماعة‪ :‬أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أم سلمة‪ ،‬ورواه الطبراني في الوسط عن ابن‬
‫عمر‪ ،‬لكن فيه متروك (نيل الوطار‪ ،278/8 :‬شرح مسلم‪ ،4/12 :‬مجمع الزوائد‪ ،198/4 :‬اللمام‪:‬‬
‫ص ‪.)514‬‬

‫( ‪)8/90‬‬

‫الحضرمي والكندي‪« :‬شاهداك أو يمينه‪ ،‬ليس لك منه إل ذاك» (‪ ، )1‬وهناك آثار عن بعض الصحابة‬
‫تؤيد عدم جواز القضاء بعلم نفسه (‪. )2‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬القضاء بعلم القاضي بنفسه‪ :‬بالمعاينة‪ ،‬أو بسماع القرار‪ ،‬أو بمشاهدة الحوال‪ ،‬فيه‬
‫تفصيل‪:‬‬
‫‪ - 1‬إن قضى القاضي بعلم حدث له‪ ،‬في زمن القضاء وفي مكانه‪ ،‬في الحقوق المدنية كالقرار بمال‬
‫لرجل‪ ،‬أو الشخصية كطلق رجل امرأته‪ ،‬أو في بعض الجرائم‪ :‬وهي قذف رجل أو قتل إنسان‪ ،‬جاز‬
‫قضاؤه‪ .‬ول يجوز قضاؤه بعلم نفسه في جرائم الحدود الخالصة ل عز وجل‪ ،‬إل أن في السرقة‬
‫يقضي بالمال‪ ،‬ل بالقطع؛ لن الحدود يحتاط في درئها‪ ،‬وليس من الحتياط فيها الكتفاء بعلم القاضي‪.‬‬
‫‪ - 2‬إذا قضى القاضي بعلم نفسه قبل أن يقلد منصب القضاء‪ ،‬أو بعد أن قلد‪ ،‬لكن قبل أن يصل إلى‬
‫البلد الذي ولي قضاءه‪ ،‬فإنه ل يجوز عند أبي حنيفة أصلً‪.‬‬
‫وعند الصاحبين‪ :‬يجوز فيما سوى الحدود الخالصة ل عز وجل‪ ،‬قياسا على جواز قضائه فيما علمه‬
‫في زمن القضاء‪.‬‬
‫ورد أبو حنيفة بأن القياس مع الفارق‪ ،‬فالعلم المستفاد في زمن القضاء علم في وقت يكون القاضي فيه‬
‫مكلفا بالقضاء‪ ،‬فأشبه البينة القائمة فيه‪ ،‬أما العلم الحاصل في غير زمان القضاء‪ :‬فهو علم في وقت ل‬
‫يكون القاضي مكلفا فيه بالقضاء‪ ،‬فل يصلح؛ لنه ليس في معنى البينة‪ ،‬فلم يجز القضاء به؛ لن البينة‬
‫المعتبرة أن يسمع القاضي الشهود في وليته‪ ،‬أما ما يعلمه قبل وليته فهو بمنزلة ما يسمعه من‬
‫الشهود قبل وليته‪ ،‬وهو ل قيمة له‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد والشيخان عن الشعث بن قيس (نيل الوطار‪.)302/8 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ 53/9 :‬وما بعدها‪ ،‬الشرح الكبير للدردير‪ ،158/4 :‬نيل الوطار‪ :‬المرجع السابق‪ :‬ص‬
‫‪ ،286‬بداية المجتهد‪ 458/2 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/91‬‬

‫والخلصة‪ :‬إن أبا حنيفة يقول‪ :‬ما كان من حقوق ال كالحدود الخالصة له‪ ،‬ل يحكم فيه القاضي‬
‫بعلمه؛ لن حقوق ال مبنية على المساهلة والمسامحة‪ ،‬وأما حقوق الناس المدنية‪ ،‬فما علمه القاضي‬
‫قبل وليته‪ ،‬لم يحكم به‪ ،‬وما علمه في وليته‪ ،‬حكم به (‪ . )1‬والمعتمد عند المتأخرين من الحنفية وهو‬
‫المفتى به‪ :‬عدم جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقا في زماننا لفساد قضاة الزمن (‪. )2‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬الظهر أن القاضي يقضي بعلمه قبل وليته أو في أثناء وليته‪ ،‬أو في غير محل‬
‫وليته‪ ،‬سواء أكان في الواقعة بينة أم ل‪ ،‬إل في حدود ال تعالى‪ .‬وعلى هذا فيجوز للقاضي أن‬
‫يقضي بعلمه في الموال قطعا‪ ،‬وفي القصاص وحد القذف على الظهر؛ لنه إذا حكم بما يفيد الظن‬
‫وهو الشاهدان‪ ،‬فقضاؤه بالعلم أولى‪ .‬وأما الحدود الخالصة ل كالزنا والسرقة والمحاربة وشرب‬
‫المسكرات‪ ،‬فل يقضي بعلمه فيها؛ لنها تدرأ بالشبهات‪ ،‬ويندب سترها‪ ،‬لكن إن اعترف إنسان بموجب‬
‫الحد في مجلس الحكم قضى فيه بعلمه (‪ ، )3‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬فإن اعترفت فارجمها» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،93/16 :‬البدائع‪ ،7/7 :‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪.332‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار ورد المحتار‪ 4 :‬ص ‪.369‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ 4 :‬ص ‪.398‬‬

‫( ‪)8/92‬‬

‫‪ - 2‬قضاء القاضي بكتاب قاض آخر إليه ‪:‬‬


‫اتفق الفقهاء على أن القاضي له أن يقضي بكتاب قاض آخر إليه فيما ثبت عنده في الحقوق المالية‬
‫للحاجة إليه‪ ،‬فقد يكون لمرئ حق في غير بلده‪ ،‬ول يمكنه إتيانه والمطالبة به إل بكتاب القاضي‬
‫بشرط أن يشهد شاهدان عدلن على أن الكتاب المرسل هو كتاب قاضٍ‪ ،‬وأن يشهد بثبوت الحكم عنده‬
‫على نحو معين‪ ،‬وأجاز المام مالك أن يحكم القاضي بكتاب قاضٍ في الحدود والقصاص أيضا (‪. )1‬‬
‫ولكتاب القاضي إلى قاض آخر صورتان‪:‬‬
‫الولى‪ :‬كتابة الشهادة التي سمعها القاضي من الشهود إما مع تعديل الشهود وتزكيتهم أو بدون تعديل‪،‬‬
‫ليبحث القاضي الخر عن أحوال الشهود‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬كتابة صورة الحكم الذي حكم به على الشخص الغائب ويرسلها إلى القاضي الثاني لتنفيذ‬
‫الحكم عليه‪.‬‬
‫وبما أن الحنفية ل يجيزون القضاء على الغائب كما سيأتي بيانه‪ ،‬فالصورة الثانية لتنفيذ الحكم‪.‬‬
‫والولى مقدمة لصدار الحكم‪.‬‬
‫وقد اشترط علماء المذاهب في قبول كتاب القاضي شروطا أكتفي بذكر شروط الحنفية منها وهي (‪)2‬‬
‫‪:‬‬
‫أولً ـ البينة على أنه كتابه‪ :‬فيشهد شاهدان رجلن أو رجل وامرأتان على أن‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بداية المجتهد‪ 2 :‬ص ‪ ،458‬المغني‪ 9 :‬ص ‪ ،90‬مغني المحتاج‪ 4 :‬ص ‪ ،452‬المهذب‪ 2 :‬ص‬
‫‪ ،304‬المبسوط‪ 16 :‬ص ‪ ،95‬الميزان‪ 2 :‬ص ‪ ،188‬الشرح الكبير للدردير‪ 4 :‬ص ‪ ،159‬فتح‬
‫القدير‪ 5 :‬ص ‪ 277‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪.241/4 :‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬البدائع‪ 7 :‬ص ‪ 7‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬اللباب شرح‬
‫الكتاب للميداني‪ 4 :‬ص ‪ 84‬وما بعدها‪ ،‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،330‬درر الحكام‪ 2 :‬ص ‪ 412‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ ،184/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،297‬الشرح الكبير‪.159/4 :‬‬

‫( ‪)8/93‬‬
‫هذا كتاب فلن القاضي ببيان اسمه ونسبه؛ لنه ل يعرف أنه كتابه بدون المذكور‪ .‬ويحدد في الكتاب‬
‫اسم المدعى عليه والشهود‪ ،‬والمدعى به وصفاته لتمييزه عن غيره‪ .‬وهذا أمر طبيعي متفق عليه‪.‬‬
‫ثانيا ـ أن يكون الكتاب مختوما‪ ،‬ويشهدوا على أن هذا ختمه لصيانته عن الخلل فيه‪ .‬وأن تكون‬
‫الكتابة ظاهرة مقروءة تفيد المعنى المراد وتؤدي المقصود من كتابة الشهادة أو كتابة الحكم‪ ،‬ليتمكن‬
‫القاضي المكتوب له العمل بموجب الكتاب‪.‬‬
‫ثالثا ـ أن يشهد الشاهدان بما في الكتاب‪ :‬بأن يقول‪ :‬إنه قرأه عليهما مع الشهادة بالختم‪.‬‬
‫وهذا قول أبي حنيفة ومحمد‪ .‬وقال أبو يوسف‪ :‬يكفي أن يشهد الشاهدان بالكتاب والخاتم‪ ،‬ول تشترط‬
‫الشهادة بما في الكتاب؛ لن المقصود من هذه الشهادة حصول العلم للقاضي المرسل إلىه بأن هذا‬
‫كتاب فلن القاضي‪ ،‬ويتحقق المطلوب بما ذكر‪ .‬وقال الطرفان‪ :‬ل يحصل هذا المقصود إل بالعلم بما‬
‫فيه‪.‬‬
‫رابعا ـ أن تكون هناك مسافة سفر القصر بين القاضي المرسل وبين المرسل إليه؛ لن القضاء‬
‫بكتاب القاضي أمر جوّز للحاجة أو للضرورة؛ لنه قضاء على غائب‪ ،‬ول ضرورة فيما دون مسافة‬
‫القصر‪.‬‬
‫خامسا ـ أن يكون موضوع الكتاب في الحقوق المدنية أو الشخصية كالديون والنكاح‪ ،‬وإثبات النسب‪،‬‬
‫والمغصوبات‪ ،‬والمانات والمضاربة‪ ،‬أو أن يكون في العقارات كالراضي والدور؛ لنها تقبل‬
‫التحديد‪ ،‬وقيل‪ :‬ل يقبل في المنقولت للحاجة إلى الشارة إليها عند الدعوى والشهادة‪.‬‬
‫وفي رواية عن محمد‪ :‬أنه يقبل في جميع المنقولت من الدواب والثياب والمتعة ونحوها‪ ،‬وبه أخذ‬
‫المتأخرون من الحنفية‪ ،‬وعليه الفتوى‪ ،‬وبه قال سائر الئمة الخرين‪.‬‬
‫سادسا ـ أل يكون الكتاب في الحدود والقصاص؛ لن كتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على‬
‫الشهادة‪ ،‬وهي ل تقبل في العقوبات الخالصة ل عز وجل؛ لنها تدرأ بالشبهات‪ ،‬وكتاب القاضي إلى‬
‫القاضي فيه شبهة‪.‬‬
‫وهذا أيضا هو الرجح عند الشافعية والحنابلة‪ .‬وقال المالكية كما عرفنا‪ :‬يجوز كتاب القاضي إلى‬
‫القاضي في الحدود والقصاص؛ لن العتماد على الشهود‪ ،‬وقد شهدوا‪.‬‬
‫وهناك شروط أخرى من أهمها‪ :‬أن الكتاب إذا وصل إلى القاضي قرأه على الخصم؛ لنه بمنزلة أداء‬
‫الشهادة‪ ،‬وهو ل يكون إل بمحضر الخصم‪ ،‬فكذا هذا‪ ،‬منعا من اتهام القاضي في شيء‪.‬‬
‫ومن أهمها أيضا‪ :‬أن الكتاب يقبل إذا كان القاضي الكاتب ما زال في منصبه عند وصول الكتاب إلى‬
‫ل للقضاء قبل وصول الكتاب‪ ،‬ل يقبل؛ لن الكاتب‬
‫المرسل إليه‪ ،‬فإن مات‪ ،‬أو عزل أو لم يبق أه ً‬
‫صار من جملة الرعايا العاديين‪ ،‬ول يقبل أيضا الكتاب إذا مات المكتوب له أو عزل‪ ،‬إل أن يكتب‬
‫إلى قاضي بلد كذا وإلى كل من يقضي فيه من قضاة المسلمين‪.‬‬

‫( ‪)8/94‬‬

‫‪ - 3‬قضاء القاضي بالشهادة على الشهادة ‪:‬‬


‫اتفق الفقهاء على قبول الشهادة على الشهادة في الموال‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم}‬
‫[الطلق‪ ]2/65:‬وللحاجة إليها؛ لن الشهادة الصلية قد تتعذر بسبب حبس أو مرض أو عجز‪ .‬ول‬
‫تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود الخالصة ل عند الحنفية والحنابلة‪ ،‬والشافعية في الظهر؛ لن‬
‫الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات‪ ،‬والشهادة على الشهادة فيها شبهة‪ ،‬فإنه يعترضها احتمال‬
‫الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الصل‪.‬‬
‫وقال المام مالك‪ :‬تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود وكل الحقوق المالية؛ لن موجب الحد يثبت‬
‫بشهادة الصل‪ ،‬فيثبت بالشهادة على الشهادة كالموال (‪ ، )1‬وسأفصل هذا الموضوع في بحث‬
‫الشهادات إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫المطلب الثالث ـ واجبات القاضي نحو المقضي له ‪:‬‬
‫يجب على القاضي نحو المقضي له أمور (‪: )2‬‬
‫ً‪ - 1‬أن يكون ممن تقبل شهادته للقاضي‪ ،‬فإن كل من ل تقبل شهادته له‪ :‬ل يجوز قضاء القاضي له؛‬
‫لن القضاء له قضاء لنفسه من جهة‪ ،‬فلم يكن القضاء مجردا‪ ،‬وإنما فيه تهمة‪ ،‬فل يصح القضاء‪.‬‬
‫وعليه فل يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه‪ ،‬ول لبويه وإن علوا‪ ،‬ول لزوجته‪ ،‬ول لولده وإن سفلوا‪،‬‬
‫ول لشريكه في المال المشترك بينهما‪ ،‬ول لكل من ل تجوز شهادته لهم‪ ،‬لوجود التهمة‪ ،‬وهذا رأي‬
‫أكثر الفقهاء (‪. )3‬‬
‫ً‪ - 2‬أن يكون المقضي له حاضرا وقت القضاء‪،‬فإن كان غائبا لم يجز القضاء له إل إذا كان عنه‬
‫وكيل حاضر؛ لن القضاء على الغائب عند الحنفية ل يجوز‪ ،‬فكذلك ل يجوز القضاء للغائب أيضا‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬طلب القضاء من القاضي في حقوق الناس؛ لن القضاء وسيلة إلى الحق‪ ،‬وحق النسان ل‬
‫يستوفى إل بطلبه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع فتح القدير‪ ،74/6 :‬مغني المحتاج‪ ،453/4 :‬المغني‪ ،206/9 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.297‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،8/7 :‬اللباب شرح الكتاب‪ ،90/4 :‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪.332‬‬
‫(‪ )3‬بداية المجتهد‪ ،460/2 :‬مغني المحتاج‪ ،393/4 :‬المغني‪.107/9 :‬‬

‫( ‪)8/95‬‬

‫المطلب الرابع ـ واجبات القاضي نحو المقضي عليه ‪:‬‬


‫يجب على القاضي أل يحكم على من ل يجوز أن يشهد عليه‪ ،‬فل يقضي على عدوه‪ ،‬ويجوز أن‬
‫يقضي له‪ .‬ويجب أن يكون المقضي عليه حاضرا عند الحنفية‪ ،‬فل يجوز القضاء على الغائب بالبينة‬
‫إذا لم يكن عنه وكيل حاضر (‪ )1‬كوكيله ووصيه ومتولي الوقف أو نائبه‪ ،‬لقول النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم ‪« :‬فإنما أقضي له بحسب ما أسمع» وما روي عن علي أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال حين‬
‫أرسله إلى اليمن‪« :‬ل تقض لحد الخصمين حتى تسمع كلم الخر» (‪ ، )2‬ولنه قضاء لحد‬
‫الخصمين وحده‪ ،‬فلم يجز‪ ،‬كما لو كان الخر في البلد‪ ،‬ولنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة‬
‫ويقدح فيها‪ ،‬فلم يجز الحكم عليه‪.‬‬
‫وعدم جواز القضاء على الغائب عند الحنفية‪ ،‬سواء أكان الخصم غائبا وقت الشهادة أم بعدها وبعد‬
‫التزكية‪ ،‬وسواء أكان غائبا عن مجلس القضاء أم عن البلد التي فيها القاضي‪ ،‬إل أن يكون ذلك‬
‫ضروريا‪ ،‬كما إذا توجه القضاء على الخصم‪ ،‬فاستتر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ ،222/6 :‬اللباب‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،88‬تكملة فتح القدير‪،137/6 :‬‬
‫تكملة رد المحتار على الدر المختار‪ ،314/1 :‬المبسوط‪.39/17 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود والترمذي وقال‪ :‬هذا حسن صحيح‪ ،‬وأخرجه أيضا ابن حبان وصححه وأحمد‪،‬‬
‫وقواه ابن المديني عن علي بلفظ‪« :‬يا علي إذا جلس إليك الخصمان‪ ،‬فل تقض بينهما حتى تسمع من‬
‫الخر‪ ،‬كما سمعت من الول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» (نيل الوطار‪ ،375/8 :‬سبل‬
‫السلم‪.)120/4 :‬‬

‫( ‪)8/96‬‬

‫وقال المالكية والشافعية والحنابلة (‪ : )1‬يجوز القضاء على الغائب البعيد الغيبة بشرط أن يكون‬
‫للمدعي بينة‪ ،‬وذلك في حقوق الناس المدنية‪ ،‬أما في الحدود الخالصة ل تعالى‪ ،‬فل يقضى على‬
‫الغائب بها؛ لنها مبنية على المسامحة والدرء والسقاط‪ ،‬لستغنائه تعالى‪ ،‬بخلف حق النسان‪ ،‬فإن‬
‫قامت بينة على غائب بسرقة مال‪ ،‬حكم عليه بالمال دون القطع‪.‬‬
‫واستدلوا على جواز الحكم على الغائب بحديث هند‪ ،‬قالت‪« :‬يا رسول ال‪ ،‬إن أبا سفيان رجل شحيح‪،‬‬
‫وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؟ قال‪ :‬خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (‪ )2‬فقضى لها الرسول‬
‫عليه السلم‪ ،‬ولم يكن زوجها حاضرا‪ .‬والواقع أن هذا الحديث ل حجة لهم فيه؛ لن أبا سفيان كان‬
‫حاضرا بمكة‪ ،‬والحادثة كانت بمكة‪ ،‬لما حضرت هند لمبايعة الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫قال ابن حزم‪ :‬صح عن عثمان القضاء على الغائب‪ ،‬وصح عن عمر أنه حكم في امرأة المفقود أنها‬
‫تتربص أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا‪ ،‬ول مخالف لهما من الصحابة‪ .‬ودليلهم من المعقول أن‬
‫البينة يطلب سماعها وهي مسموعة في هذه الحالة على الغائب‪ ،‬فيجب الحكم بها كالبينة المسموعة‬
‫على الحاضر الساكت‪ ،‬وأيضا فالحكم على الميت والصغير جائز‪ ،‬وهما أعجز عن الدفاع عن نفسيهما‬
‫من الغائب‪ ،‬ولن في منع الحكم عن الغائب إضاعة للحقوق التي ندب الحكام إلى حفظها‪.‬‬
‫وحد الغيبة البعيدة عند الشافعية‪ :‬هو أن يكون الغائب في مسافة بعيدة عن بلد القاضي‪ :‬وهي التي ل‬
‫يرجع منها مبكر إلى موضعه الذي بكّر منه ليلً بعد فراغ المحاكم‪ ،‬لما في إلزامه الحضور من‬
‫المشقة‪ .‬وقيل‪ :‬هي مسافة القصر‪.‬‬
‫وأما الحاضر في بلد القاضي ومن بقربه‪ :‬فل تسمع البينة عليه‪ ،‬ول يحكم عليه في غيبته إل لتواريه‪،‬‬
‫أو تعززه‪ ،‬وعجز القاضي حينئذ عن إحضاره بنفسه أو بأعوان السلطان‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بداية المجتهد‪ ،460/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،162/4 :‬مغني المحتاج‪ ،415 ،406/4 :‬المهذب‪:‬‬
‫‪ ،3/2‬المغني‪.110/9 :‬‬
‫(‪ )2‬متفق عليه بين البخاري ومسلم عن عائشة (شرح مسلم‪ ،7/12 :‬اللمام‪ :‬ص ‪.)515‬‬

‫( ‪)8/97‬‬

‫المبحث السادس ـ آداب القضاة ‪:‬‬


‫ينبغي على القاضي أن يلتزم بآداب معينة تقتضيها مصلحة القضاء وإقامة العدل بين الناس‪ ،‬وهذه‬
‫الداب مستمدة في أغلبها من كتاب سيدنا عمر بن الخطاب رضي ال عنه في القضاء والسياسة إلى‬
‫أبي موسى الشعري رضي ال عنه‪.‬‬
‫وأذكر هنا أهمها عند الحنفية وأصنفها إلى قسمين‪ :‬آداب عامة‪ ،‬وآداب خاصة‪.‬‬
‫الداب العامة ‪:‬‬
‫‪ - ً 1‬المشاورة‪ :‬يندب للقاضي أن يجلس معه جماعة من الفقهاء يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله‬
‫من الحكام أو يشكل عليه من القضايا‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وشاورهم في المر} [آل عمران‪ ]159/3:‬وأخرج‬
‫الترمذي عن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪« :‬ما رأيت أحدا بعد رسول ال صلّى ال عليه وسلم أكثر‬
‫مشاورة لصحابه منه» ‪.‬‬
‫فإن اتفق رأي الفقهاء على أمر قضى به‪ ،‬كما كان يفعل الخلفاء الراشدون‪ ،‬وإن اختلفوا أخذ بأحسن‬
‫أقاويلهم وقضى بما رآه صوابا‪ ،‬إل أن يكون غيره أفقه منه‪ ،‬فيجوز له الخذ برأيه وترك رأيه‬
‫الشخصي‪ .‬وإن اعتمد على قول بعضهم‪ ،‬ثم رأى الصواب في قول الخر‪ ،‬فله أن يعدل عن الرأي‬
‫الول؛ لن المور الجتهادية يجوز للقاضي أن يأخذ بأحد الراء فيها قبل صدور الحكم‪ .‬أما بعد‬
‫الحكم فليس له أن يبطل الحكم الذي صدر منه؛ لنه صار بالقضاء كالرأي المتفق عليه‪ ،‬ولكن له أن‬
‫يعمل في المستقبل بخلف الرأي السابق (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 11/7 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ ،316/4 :‬الكتاب مع اللباب‪ ،81/4 :‬أصول الفقه للمؤلف‪:‬‬
‫‪ ،1115/2‬ط دار الفكر‪.‬‬

‫( ‪)8/98‬‬

‫‪ - ً 2‬التسوية بين الخصمين في المجلس والقبال‪ :‬ينبغي أن يعدل القاضي بين الخصمين في‬
‫الجلوس‪ ،‬والقبال‪ ،‬فيجلسهما بين يديه‪ ،‬ل عن يمينه ول عن يساره‪ ،‬وأن يسوي بينهما في النظر‬
‫والنطق والشارة والخلوة فل يسارّ أحدهما أو يخلو به‪ ،‬ول يشير إليه‪ ،‬ول يلقنه حجة منعا للتهمة‪،‬‬
‫ول يضحك في وجه أحدهما؛ لنه يجترئ عليه‪ ،‬ول يمازحهما ول واحدا منهما؛ لنه يذهب بمهابة‬
‫القضاء‪ ،‬ول يضيف أحدهما (‪ ، )1‬ول يرفع صوته على أحدهما‪ ،‬ول يكلم أحدهما بلغة ل يعرفها‬
‫الخر‪ ،‬وإذا تكلم أحدهما أسكت الخر حتى يسمع كلمه‪ ،‬ويفهم‪ ،‬ثم يستنطق الخر‪ ،‬حتى يفهم تماما‬
‫رأيه (‪. )2‬‬
‫قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من ابتلي بالقضاء بين المسلمين‪ ،‬فليسوّ بينهم في‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬روي إسحاق بن راهويه وعبد الرزاق والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة في صحيحه عن الحسن‬
‫عن علي قال ‪« :‬إن النبي صلّى ال عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إل ومعه خصمه» ورواية‬
‫البيهقي له بإسناد ضعيف منقطع‪ ،‬وله طريق آخر عند الطبراني في الوسط عن علي‪ ،‬قال‪« :‬نهى‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم أن يضيف أحد الخصمين دون الخر» وفيه ضعيف (نصب الراية‪،73/4 :‬‬
‫تلخيص الحبير‪ 193/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مجمع الزوائد‪.)197/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،9‬المبسوط‪ ،61/16 :‬فتح القدير‪.469/5 :‬‬

‫( ‪)8/99‬‬

‫المجلس‪ ،‬والشارة والنظر‪ ،‬ول يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الخر» (‪. )1‬‬
‫وفي كتاب عمر إلى أبي موسى الشعري‪« :‬آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك‪ ،‬حتى ل‬
‫يطمع شريف في حيفك‪ ،‬ول ييأس ضعيف من عدلك» (‪ )2‬وعن الحسن قال‪« :‬جاء رجل فنزل على‬
‫علي رضي ال عنه‪ ،‬فأضافه‪ ،‬فلما قال‪:‬إني أريد أن أخاصم‪ ،‬قال له علي رضي ال عنه‪ :‬تحول‪ ،‬فإن‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إل ومعه خصمه» (‪ ، )3‬وعن عبد ال بن الزبير‬
‫قال‪« :‬سنة رسول ال ؛ صلّى ال عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي» ‪ ،‬وفي لفظ‪:‬‬
‫«قضى رسول ال صلّى ال عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم» (‪. )4‬‬
‫وكما أنه ل يصح تلقين الخصم حجته‪ ،‬يكره تلقين الشاهد‪ ،‬وهو أن يقول القاضي كلما يستفيد به‬
‫الشاهد علما على الحادثة‪ ،‬واستحسن أبو يوسف تلقين الشاهد الذي يستحي أو يحتار أو يهاب مجلس‬
‫القضاء‪ ،‬فيترك شيئا من شروط الشهادة‪ ،‬فيعينه القاضي بقوله‪« :‬أتشهد بكذا وكذا» بشرط عدم التهمة؛‬
‫لن في التلقين إحياء للحق (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه إسحاق بن راهويه في مسنده وأبو يعلى والدارقطني والطبراني عن أم سلمة‪ ،‬ولفظ‬
‫الدارقطني‪« :‬من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده» (فتح القدير‪،‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬نصب الراية‪ ،73/4 :‬مجمع الزوائد‪ ،197/4 :‬تلخيص الحبير‪.)193/4 :‬‬
‫(‪ )2‬روى الكتاب الدارقطني في سننيهما عن أبي المليح الهذلي‪ ،‬وروى بعضه ابن أبي شيبة في‬
‫مصنفه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪ ،‬ونقله ابن الجوزي في سيرة عمر بن الخطاب‬
‫واعتمده ابن القيم في أعلم الموقعين (راجع نصب الراية‪ ،81 ،63/4 :‬أعلم الموقعين‪،85/1 :‬‬
‫أصول الفقه للمؤلف‪ ،628/2 :‬ط دار الفكر‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه إسحاق بن راهويه عن الحسن‪ ،‬ورواه أيضا عبد الرزاق والدارقطني وغيرهم كما سبق في‬
‫تخريجه قريبا (فتح القدير‪ ،469/5 :‬نصب الراية‪.)73/4 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود وأحمد والبيهقي والحاكم عن عبد ال بن الزبير وفي إسناده ضعيف (نيل الوطار‪:‬‬
‫‪ ،274/8‬تلخيص الحبير‪.)193/4 :‬‬
‫(‪ )5‬فتح القدير‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،470‬البدائع‪ ،10/7 :‬اللباب‪.81/4 :‬‬

‫( ‪)8/100‬‬

‫‪ - ً 3‬قبول الهدية‪ :‬ل يقبل القاضي هدية أحد إل من ذي رحم محرم‪ ،‬أو ممن جرت عادته قبل‬
‫القضاء بمهاداته؛ لن المقصود في الول صلة الرحم‪ ،‬وفي الثاني استدامة المعتاد‪ .‬والحاصل أن‬
‫المهدي إذا كان له خصومة في الحال يحرم قبول هديته‪ ،‬لنها بمعنى الرشوة‪ ،‬قال صلّى ال عليه‬
‫وسلم ‪« :‬هدايا العمال غلول» (‪ )1‬وروي‪« :‬هدايا العمال سحت» وفي لفظ‪« :‬هدايا السلطان سحت» ‪.‬‬
‫وأخرج أبو داود عن بريدة حديثا بلفظ‪« :‬من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا‪ ،‬فما أخذه بعد ذلك‬
‫فهو غلول» وقال عليه الصلة والسلم في قصة ابن اللّتبِيّة‪« :‬ما بال العامل نبعثه فيجيء‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا‬
‫لكم‪ ،‬وهذا أهدي إلي‪ ،‬أل جلس في بيت أمه‪ ،‬فينظر أيهدى إليه أم ل؟» (‪ )2‬ولن الهدية تدعو إلى‬
‫الميل للمهدي‪ ،‬وينكسر بها قلب خصمه‪ .‬وهذا كله دليل على تحريم قبول الهدية على الحاكم بعد تولي‬
‫القضاء؛ لن للحسان تأثيرا في طبع النسان‪ ،‬والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها‪ ،‬فربما‬
‫مالت نفسه إلى المهدي ميلً يؤثر في الميل عن الحق عند وجود خصومة بين المهدي وبين غيره‪،‬‬
‫والقاضي ل يشعر بذلك‪ ،‬ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الحسان في قلبه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد والبيهقي وابن عدي والبزار من حديث أبي حميد الساعدي وإسناده ضعيف‪ ،‬ورواه‬
‫الطبراني في ا لوسط من حديث أبي هريرة‪ ،‬وإسناده أشد ضعفا (تلخيص الحبير‪ ،189/4 :‬نيل‬
‫الوطار‪ ،268/8 ،297/7 :‬مجمع الزوائد‪ )200/4 :‬والغلول‪ :‬الخيانة‪.‬‬
‫(‪ )2‬متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي‪ ،‬قال‪« :‬استعمل رسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم رجلً من الزد‪ ،‬يقال له‪ :‬ابن اللتبية على الصدقة‪ ،‬فلما قدم‪ ،‬قال‪ :‬هذا لكم‪ ،‬وهذا أهدي إلي‪ ،‬فقام‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم على المنبر‪ ،‬فحمد ال وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪« :‬ما بال عامل أبعثه‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬هذا لكم‪ ،‬وهذا أهدي إلى‪ ،‬أفل جلس في بيت أبيه أو أمه‪ ،‬حتى ينظر أيهدى له أم ل؟ والذي‬
‫نفس محمد بيده‪ ،‬ل ينال أحد منها شيئا إل جاء يوم القيامة يحمله على عنقه‪ ،‬إن كان بعيرا له رغاء‪،‬‬
‫أو بقرة لها خوار‪ ،‬أو شاة تيعر‪ ،‬ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه‪ ،‬ثم قال‪ :‬اللهم‪ ،‬هل بلّغت؟‬
‫مرتين أو ثلثا» (اللمام في أحاديث الحكام‪ :‬ص ‪ ،516‬سنن أبي داود‪ ،121/2 :‬نيل الوطار‪:‬‬
‫‪ )297/7‬واللتبية بتشديد اللم المضمومة وسكون التاء وكسر الباء وتشديد الياء المكسورة‪ .‬وقال ابن‬
‫السرح‪ :‬ابن التبية‪.‬‬

‫( ‪)8/101‬‬

‫وإن كان المهدي قريبا من القاضي ول خصومة له‪ ،‬جاز قبول هديته؛ لنه ل تهمة فيه‪.‬‬
‫وإن كان المهدي أجنبيا عن القاضي‪ ،‬ل تقبل هديته؛ لنه قد يكون له مآرب في المستقبل‪ ،‬إل إذا كان‬
‫له عادة بالمهاداة قبل تقلد القضاء‪ ،‬فيجوز قبولها بشرط أل تزيد الهدية على القدر المعتاد (‪. )1‬‬
‫ويندب للقاضي أل يبيع ول يشتري بنفسه‪ ،‬لئل يحابيه أحد‪ ،‬ويستغل منصبه وقربه منه إذا وقعت‬
‫خصومة بينه وبين غيره‪.‬‬
‫‪ - ً 4‬إجابة الدعوة‪ :‬إذا كانت الدعوة عامة‪ :‬وهي (ما تكون فوق العشرة أو التي يتخذها صاحبها‬
‫سواء حضر القاضي أم ل‪ ،‬مثل دعوة العرس والختان) ول خصومة لصاحب الوليمة‪ ،‬فللقاضي إجابة‬
‫الدعوة؛ لن الجابة سنة‪ ،‬ول تهمة فيه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 9/7 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ ،467/5 :‬الكتاب مع اللباب‪ ،81/4 :‬الدر المختار‪323/4 :‬‬
‫وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪.392/4 :‬‬

‫( ‪)8/102‬‬

‫وإن كانت الدعوة خاصة‪ :‬وهي (ما تكون دون العشرة أو التي ل يتخذها صاحبها لول حضور‬
‫القاضي) فل يجيبها؛ لن إجابتها ل يخلو من التهمة‪ ،‬إل إذا كان صاحب الدعوة ممن اعتاد أن يتخذ‬
‫للقاضي دعوة قبل القضاء‪ ،‬أو كان بينه وبين القاضي قرابة‪ ،‬فل بأس بأن يحضر‪ ،‬إذا لم يكن لصاحب‬
‫الدعوة خصومة‪ ،‬كما تبين في حال الهدية‪ ،‬لعدم وجود التهمة (‪. )1‬‬
‫‪ - 5‬شهود الجنازة وعود المريض‪ :‬ل بأس بأن يشهد القاضي الجنازة ويعود المريض؛ لن ذلك من‬
‫حقوق المسلمين بعضهم على بعض (‪ ، )2‬قال صلّى ال عليه وسلم‪« :‬حق المسلم على المسلم خمس‪:‬‬
‫رد السلم‪ ،‬وتشميت العاطس‪ ،‬وإجابة الدعوة‪ ،‬وعيادة المريض‪ ،‬واتباع الجنائز‪ ،‬وإذا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،10‬فتح القدير‪ :‬ص ‪ ،468‬الدر المختار‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.325‬‬
‫(‪ )2‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫( ‪)8/103‬‬

‫استنصحك فانصح له» (‪ )1‬فهي السادسة‪.‬‬


‫الداب الخاصة ‪:‬‬
‫‪ - 1‬مكان القضاء‪ :‬قال الشافعية‪ :‬يستحب أن يكون مجلس القضاء فسيحا بارزا للناس‪ ،‬متلئما مع‬
‫الوقت والفصول‪ ،‬متناسبا مع الحر والبرد‪ ،‬ل مسجدا‪ ،‬فيكره اتخاذ المسجد مجلسا للحكم؛ لن مجلس‬
‫القاضي‪ ،‬ل يخلو عن اللغط‪ ،‬وارتفاع الصوات‪ ،‬وقد يحتاج لحضار المجانين والصغار وذوات‬
‫العذار بالحيض والنفاس والجنابة‪ ،‬والكفار‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬والمسجد يصان عن ذلك كله‪ .‬أخرج مسلم‪:‬‬
‫«أنه صلّى ال عليه وسلم حين سمع من ينشد ضالته في المسجد‪ ،‬قال‪ :‬إن المساجد لم تبن لهذا‪ ،‬إنما‬
‫بنيت لما بنيت له» فإن صادف وقوع قضية أو أكثر وقت الحضور في المسجد لصلة أو غيرها‪ ،‬فل‬
‫بأس بفصلها‪ ،‬وعليه يحمل ما جاء عنه صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬وعن خلفائه في القضاء في المساجد (‬
‫‪. )2‬‬
‫وقال الحنفية والمالكية والحنابلة‪ :‬ل بأس من القضاء في المساجد‪ ،‬اقتداء برسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم (‪ )3‬وبصحابته (‪ )4‬وتابعيهم رضي ال عنهم‪ ،‬كانوا يجلسون في المسجد للقضاء‪ ،‬والقتداء بهم‬
‫واجب (‪. )5‬‬
‫‪ - 2‬معاونو القاضي‪ :‬يندب أن يكون للقاضي جلواز وهو المسمى بصاحب المجلس أي الحارس في‬
‫عرفنا‪ ،‬وأن يكون له أعوان يستحضرون الخصوم ويمتثلون بين يديه إجللً له‪ ،‬ليكون المجلس مهيبا‬
‫ويذعن المتمرد للحق‪ ،‬وأن يكون للقاضي ترجمان لجواز أن يحضر المحاكمة من ل يعرف القاضي‬
‫لغته من المدعي والمدعى عليه والشهود‪.‬‬
‫وأن يتخذ القاضي كاتبا‪ ،‬لنه يحتاج إلى حفظ الدعاوى والبينات والقرارات‪ ،‬وقد يشق عليه الكتابة‬
‫بنفسه‪ ،‬فيحتاج إلى كاتب يستعين به‪ .‬وينبغي أن يكون الكاتب عفيفا صالحا من أهل الشهادة‪ ،‬وله‬
‫معرفة بالفقه‪ .‬وينبغي أن يقعد الكاتب حيث يرى القاضي ما يكتب وما يصنع؛‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة‪ ،‬ورواه البخاري‬
‫في الدب المفرد من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الفريقي (نصب الراية‪ 72/4 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫جامع الصول‪ ،338/7 :‬سبل السلم‪ ،148/4 :‬مجمع الزوائد‪.)184/8 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪.390/4 :‬‬
‫(‪ )3‬راجع بعض حوادث قضائه صلّى ال عليه وسلم والخلفاء الراشدين في المسجد في (نصب‬
‫الراية‪ 71/4 :‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )4‬راجع نصب الراية‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.72‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ ،13/7 :‬فتح القدير‪ ،465/5 :‬الدر المختار‪ ،323/4 :‬اللباب‪ :‬ص ‪ ،80‬الشرح الكبير‬
‫للدردير‪ ،137/4 :‬المغني‪.45/9 :‬‬

‫( ‪)8/104‬‬

‫لنه أقرب إلى الحتياط (‪ ، )1‬وأن يخصص الكاتب سجلً خاصا بالدعوى‪ ،‬يذكر فيه موضوع‬
‫الدعوى والمدعي والمدعى عليه‪ ،‬والشهود‪ ،‬ودفوع كل من الخصمين‪.‬‬
‫‪ - 3‬فهم المنازعة‪ :‬ينبغي على القاضي أن يفهم الخصومة فهما دقيقا‪ ،‬فيجعل فهمه وسمعه وقلبه‬
‫متجها كله إلى كلم الخصمين‪ ،‬لقول سيدنا عمر في فاتحة كتابه إلى أبي موسى الشعري‪« :‬فافهم إذا‬
‫أدلي إليك‪ ،‬فإنه ل ينفع تكلم بحق لنفاذ له» ‪.‬‬
‫‪ - 4‬صفاء القاضي وحالته النفسية‪ :‬يلزم أل يكون القاضي قلقا ضجرا مضطربا وقت القضاء‪ ،‬لقوله‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إياك والضجر والقلق» (‪ )2‬وأل يكون غضبان باتفاق العلماء‪ ،‬لقوله صلّى ال‬
‫عليه وسلم ‪« :‬ل يقضي القاضي وهو غضبان» (‪ ، )3‬ولقول سيدنا عمر إلى أبي موسى‪« :‬إياك‬
‫والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس‪ ،‬والتنكر لهم عند الخصومة‪ ،‬فإذا رأيت الخصم يتعمد الظلم‪،‬‬
‫فأوجع رأسه» ولن القاضي إذا غضب تغير عقله‪ ،‬ولم يستكمل رأيه وفكره‪.‬‬
‫وفي معنى الغضب‪ :‬كل ما شغل النفس من الهم والنعاس والجوع المفرط والعطش المفرط‪ ،‬والتخمة‪،‬‬
‫والخوف‪ ،‬والمرض‪ ،‬وشدة الحزن والسرور‪ ،‬ومدافعة الخبثين‪ ،‬فينبغي أل يكون القاضي مشغولً‬
‫بهذه العوارض العشرة‪ ،‬حتى ل تمنع الحاكم من إصابة الحق؛ لنها تمنع استحضار القلب والعقل‪،‬‬
‫واستجماع الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب‪ ،‬فهي في معنى الغضب المنصوص‬
‫عليه‪ ،‬فتجري مجراه‪ ،‬قال عليه السلم‪« :‬ل يقضي القاضي وهو غضبان‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،12/7 :‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪.329‬‬
‫(‪ )2‬ذكره السرخسي في المبسوط‪.64/16 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أبي بكر بلفظ‪« :‬ل يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان»‬
‫وفي لفظ ابن ماجه‪« :‬ل يقضي» وفي لفظ آخر‪« :‬ل يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» (نيل‬
‫الوطار‪ 272/8 :‬وما بعدها‪ ،‬مجمع الزوائد‪ ،194/4 :‬شرح مسلم‪ ،15/12 :‬تلخيص الحبير‪،189/4 :‬‬
‫سبل السلم‪.)120/4 :‬‬

‫( ‪)8/105‬‬

‫مهموم‪ ،‬ول مصاب‪ ،‬ول يقضي وهو جائع» (‪. )1‬‬


‫فإن حكم القاضي في الغضب وما شاكله ل ينفذ قضاؤه عند بعض الحنابلة؛ لنه منهي عنه‪ ،‬والنهي‬
‫يقتضي فساد المنهي عنه‪.‬‬
‫وقال بعضهم وهو مذهب الشافعي والجمهور‪ :‬ينفذ قضاؤه (‪. )2‬‬
‫وإذا أخطأ القاضي في قضائه‪ ،‬كان خطؤه على المقضي له‪ ،‬وإن تعمد الخطأ بجور‪ ،‬كان الخطأ عليه‬
‫( ‪. )3‬‬
‫‪ - 5‬تزكية الشهود‪ :‬ل يسأل القاضي عن حالة الشهود فيما سوى الحدود والقصاص‪ ،‬وهذا من آداب‬
‫القضاء عند أبي حنيفة؛ لن القضاء عنده بظاهر العدالة‪ .‬وعند الصاحبين‪ :‬من واجبات القضاء‪،‬‬
‫وسأفصل الموضوع في بحث شروط أداء الشهادة‪ .‬والسؤال يكون أولً سرا‪ ،‬ثم يكون علنية خوفا‬
‫من الحتيال والتزوير‪ ،‬بأن يسمى غير العدل باسم العدل‪ ،‬فإذا اتفق اثنان عدلن أو أكثر على تزكية‬
‫رجل‪ ،‬قبل قوله وعمل به‪ .‬وعدالة المزكين شرط؛ لن من ل يكون عدلً في نفسه‪ ،‬كيف يعدّل غيره‬
‫وأما العدد‪ :‬فهو شرط فضيلة وكمال عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لن التزكية ليست بشهادة‪ .‬وعند‬
‫محمد‪ :‬شرط جواز؛ لن التزكية في معنى الشهادة‪.‬‬
‫ولو اختلف المعدلن‪ ،‬فعدله أحدهما‪ ،‬وجرحه الخر‪ ،‬سأل القاضي غيرهما‪ ،‬فإن عدله آخر أخذ‬
‫بالتزكية‪ ،‬وإن جرحه أخذ بالجرح؛ لن خبر الثنين أولى من خبر الواحد بالقبول؛ لنه حجة مطلقة‪.‬‬
‫وإن عدله اثنان‪ ،‬وجرحه اثنان‪ ،‬عمل بالجرح؛ لن المجرح يعتمد حقيقة الحال‪ ،‬والمعدل يبني المر‬
‫على الظاهر؛ لن الظاهر من حال النسان أن يظهر الصلح‪ ،‬ويكتم الفسق‪ ،‬فكان قبول قول الجارح‬
‫أولى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أبو عوانة في صحيحه‪ ،‬وأخرج البيهقي والدارقطني والطبري بسند ضعيف عن أبي سعيد‬
‫الخدري مرفوعا‪ « :‬ليقضي القاضي إل وهو شبعان ريان » ( مجمع الزوائد‪ ،195/4 :‬نيل الوطار‪:‬‬
‫‪ ،273/8‬تلخيص الحبير‪ ،‬المرجع السابق )‪.‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،64/16 :‬المغني‪ ،49/9 :‬مغني المحتاج‪ ،391/4 :‬البدائع‪ ،9/7 :‬بداية المجتهد‪:‬‬
‫‪.462/2‬‬
‫(‪ )3‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪.364‬‬

‫( ‪)8/106‬‬

‫وكذا لو جرحه اثنان‪ ،‬وعدله ثلثة فأكثر‪ ،‬يعمل بقول الجارح عند الحنفية؛ لن الترجيح ل يقع بكثرة‬
‫العدد في موضوع الشهادات (‪. )1‬‬
‫‪ - 6‬مصالحة الخصمين‪ :‬ل بأس للقاضي أن يرد الخصوم إلى الصلح‪ ،‬إن تأمل منهما المصالحة‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬والصلح خير} [النساء‪ ]128/4:‬فكان طلب الصلح طلبا للخير‪.‬‬
‫وقال سيدنا عمر‪« :‬ردوا الخصوم حتى يصطلحوا‪ ،‬فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن» ‪ .‬وإن‬
‫لم يتأمل القاضي الصلح من المتخاصمين‪ ،‬ولم يرضيا به‪ ،‬فل يردهما إلى الصلح‪ ،‬ويتركهما على‬
‫الخصومة‪ ،‬وينفذ القضاء على من قامت عليه الحجة (‪. )2‬‬
‫المبحث السابع ـ انتهاء ولية القاضي ‪:‬‬
‫كل ما تنتهي به الوكالة‪ ،‬تنتهي به ولية القاضي‪ ،‬كالعزل والموت‪ ،‬والجنون المطبق‪ ،‬وإنجاز المهمة‬
‫الموكولة للشخص‪ ،‬إل في شيء واحد‪ ،‬وهو أن الموكل إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل‪ ،‬أما ولي المر‬
‫إذا مات أو خلع‪ ،‬فل ينعزل قضاته وولته‪ .‬والفرق بين الوكالة وولية القاضي‪ :‬أن الوكيل يعمل‬
‫بولية الموكل وفي حقه الخالص له‪ ،‬فإن زالت أهلية الولية‪ ،‬بطلت الوكالة‪ .‬أما القاضي فل يعمل‬
‫بولية المام وفي حقه المجرد له‪ ،‬وإنما يعمل بولية المسلمين وفي حقوقهم‪ ،‬وإنما المام بمنزلة‬
‫النائب عنهم‪ ،‬وولية المسلمين باقية بعد موت المام‪ ،‬فلو استخلف القاضي أحدا بإذن المام ثم مات‬
‫القاضي‪،‬ل ينعزل خليفته؛ لنه نائب المام‪ ،‬ل نائب القاضي (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 10/7 :‬ومابعدها‪ ،‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪.328‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ ،13‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪.333‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ 37/6 ،16/7 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/107‬‬

‫المبحث الثامن ـ متى يجوز حبس المدين؟‬


‫بينت في بحث التعزير أن الحبس جائز شرعا لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬مطل الغني ظلم» والظالم‬
‫يحبس‪.‬‬
‫فإذا رفعت الدعوى إلى القاضي‪ ،‬وثبت الحق عنده على أحد المتخاصمين‪ ،‬وطلب صاحب الحق حبس‬
‫غريمه‪ ،‬لم يعجل القاضي بحبسه‪ ،‬وإنما يعمل بما يأتي (‪: )1‬‬
‫ً‪ - 1‬إذا ثبت لدى القاضي أن المدين معسر أو معدم ل مال له‪ :‬ل يحكم بحبسه في الدين‪ ،‬باتفاق‬
‫الفقهاء لقوله تعالى‪{ :‬وإن كان ذو عسرة ف َنظِرة إلى ميسرة} [البقرة‪ ]280/2:‬إذ ل فائدة من حبسه‪،‬‬
‫فيكون ظلما‪ ،‬وإنما يترك ليسعى في الرض ويكتسب‪ ،‬فيتمكن من سداد دينه كله أو بعضه‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬إذا كان مشكوكا في أمر المدين‪ ،‬أهو معسر أم موسر‪ ،‬جاز حبسه عند جمهور الفقهاء حبس‬
‫تلوم واختبار‪ ،‬إذا كان الدين من ديون المعاوضة (‪ )2‬كثمن مبيع ودين قرض‪ ،‬وطلب غرماؤه حبسه‪،‬‬
‫وادعوا أن له مالً يخفيه أو ينكره‪ .‬وينتهي هذا الحبس بالفراج عن المدين إذا ثبت عسره‪ ،‬كالحالة‬
‫السابقة‪ ،‬إذ ل حبس للمدين المعدم‪ ،‬ويكون حبسه حينئذ ظلما ‪ ،‬ول يحول القاضي بينه وبين غرمائه‬
‫بعد خروجه من الحبس‪ ،‬ولهم حق ملزمته‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬إذا ثبت يسار المدين بالدلة المعروفة‪ ،‬لم يأمر القاضي فورا بحبسه‪ ،‬وإنما يأمره بأداء المال‬
‫المستحق عليه لصاحبه؛ لن الحبس جزاء المماطلة‪ ،‬فل بد من ظهورها‪ ،‬إذا ثبت الحق بإقراره‪ .‬أما‬
‫إن ثبت الحق بالبينة‪ ،‬وامتنع من الوفاء بالدين المستحق‪ ،‬أو تأخر عن الدفع من غير ضرورة‪ ،‬جاز‬
‫حبسه شهرين أو ثلثة أو أكثر أو أقل بحسب تقدير القاضي لحوال الشخاص‪.‬‬
‫ويظل محبوسا أبدا في رأي أبي حنيفة وزفر حتى يقوم بالوفاء‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬اللباب شرح الكتاب‪ ،82/4 :‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪.106 - 101‬‬
‫(‪ )2‬أما إذا كان الدين من غير معاوضة كأرش الجناية ونفقة القارب‪ ،‬فل يحبس المدين بسببه إذا‬
‫ادعى العسار‪ .‬ولم يجز ابن القيم هذه التفرقة ورفض الحبس في الحالتين‪ ،‬حتى يثبت موجبه‪ ،‬ويظهر‬
‫أن هذا الرأي هو الرجح تحقيقا للعدالة‪.‬‬

‫( ‪)8/108‬‬

‫وقال الصاحبان وأئمة المذاهب الخرى‪ :‬إذا لم يفلح الحبس في دفعه إلى الوفاء بديونه‪ ،‬يحجر عليه‬
‫ويباع ماله جبرا‪ ،‬ويقسم بين دائنيه قسمة غرماء‪ .‬فالحبس جزاء مؤقت عند هؤلء ينتهي إما بالفراج‬
‫عن المدين إذا ثبت عسره‪ ،‬أو ببيع ماله جبرا وتسديد ديونه‪.‬‬
‫ويحبس الرجل في نفقة زوجته لظلمه بامتناعه عن النفاق‪ ،‬ول يحبس والد في دين ولده؛ لنه نوع‬
‫عقوبة‪ ،‬فل يستحقه الولد على والده‪ ،‬إل إذا امتنع والده من النفاق عليه‪ ،‬دفعا لهلكه‪ ،‬ولئل تسقط‬
‫النفقة بمضي الزمان‪.‬‬
‫وقد رأى الحنفية بالنسبة لثبات يسار المدين أنه يحبس إلى ظهور عسره في كل دين لزمه بدلً عن‬
‫مال حصل في يده (أي في المعاوضات) كثمن مبيع وبدل مستأجر‪ ،‬أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة؛‬
‫لن التزامه بالعقد باختياره دليل يساره‪.‬‬
‫ول يحبس المدين فيما سوى ذلك كبدل الخلع‪ ،‬وبدل مغصوب أو شيء متلف ونحوها إل أن يثبت‬
‫غريمه (دائنه) أن له مالً‪ ،‬فيحبسه حينئذ لظهور المطل‪.‬‬
‫كيفية الحبس الشرعي (‪ : )1‬إن الحبس الشرعي في أصله ليس هو الحبس في مكان ضيق‪ ،‬وإنما هو‬
‫تعويق الشخص‪ ،‬ومنعه من التصرف بنفسه‪ ،‬سواءأكان في بيت أم في مسجد‪ ،‬أم كان بتوكل شخص‬
‫أو وكيله عليه‪ ،‬وملزمته له‪.‬‬
‫وحق الملزمة يخول الدائن مراقبة مدينه عن كثب‪ ،‬حتى يتمكن من معرفة الموال التي تؤول إلىه‬
‫تمهيدا للستيلء عليها وفاء لدينه‪.‬‬
‫وكان هذا هو الحبس على عهد النبي صلّى ال عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي ال عنه‪ ،‬ولم يكن‬
‫له محبس معد لحبس الخصوم‪.‬‬
‫ولكن لما كثر الناس في عهد عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارا وجعلها سجنا يحبس فيها‪ ،‬فانقسم‬
‫العلماء فريقين‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪ 102‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/109‬‬

‫قال بعضهم‪ :‬ل يتخذ الحاكم حبسا؛ إذ لم يكن لرسول ال صلّى ال عليه وسلم ول لخليفته بعده حبس‪،‬‬
‫ولكن يعوقه بمكان من المكنة‪ ،‬أو يقام عليه حافظ‪ ،‬أو يأمر غريمه بملزمته‪ ،‬كما فعل النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وقال آخرون وهم الكثرون كما تبين في التعزير‪ :‬للحاكم أن يتخذ حبسا؛ إذ أن عمر بن الخطاب قد‬
‫اشترى من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلف درهم‪ ،‬جعلها حبسا‪.‬‬
‫عزل القاضي وانعزاله ‪:‬‬
‫للقاضي أن يعزل نفسه‪ ،‬لنه كالوكيل عن المام‪ ،‬وللوكيل أن يعزل نفسه عن الوكالة‪.‬‬
‫ول ينعزل القاضي بموت المام أو ترك منصبه ووليته بسبب من السباب؛ لن المام يمثل المة‬
‫في تعيين القضاة والموظفين‪.‬‬
‫وللمام عزل القاضي إذا أخل بواجبه أو كثرت الشكاوى منه‪ ،‬أو وجد من هو أفضل منه‪ ،‬أو كان‬
‫هناك مثله أو دونه وكان في عزله مصلحة للمسلمين‪ .‬فإ لم يكن شيء مما سبق حرم عزله؛ لنه عبث‬
‫منهي عنه‪.‬‬
‫ول ينعزل القاضي قبل بلوغه خبر عزله‪ ،‬لعدم علمه بذلك‪ .‬وينعزل القاضي بنفسه بأحد أسباب ثلثة‪:‬‬
‫‪ - ً 1‬زوال الهلية‪ :‬بالجنون أو الغماء أو العمى أو الخرس أو الصمم‪ ،‬أو فقدان أهلية الجتهاد‬
‫وضبط المور بسبب غفلة أو نسيان‪.‬‬
‫‪ - ً 2‬الردة‪ :‬بخروجه عن السلم؛ لنه يصبح كافرا‪ ،‬وال تعالى يقول‪{ :‬ولن يجعل ال للكافرين على‬
‫المؤمنين سبيلً} [النساء‪.]141/4:‬‬
‫‪ - ً 3‬الفسق‪ :‬بالخلل بأحكام الشريعة أمرا ونهيا‪ ،‬وبالداب العامة؛ لمنافاة ذلك لمنصب الولية إل‬
‫قاضي الضرورة‪ :‬وهو القاضي الفاسق الذي يعينه سلطان ذو شوكة‪.‬‬

‫( ‪)8/110‬‬

‫‪......................‬إقليمية الشريعة والقضاء في ديار السلم‪..........................‬‬


‫كلما هبّت رياح الضعف والوهن على بلد إسلمي أو عربي‪ ،‬أثيرت حوله مشكلت عديدة تتعلق‬
‫بأوضاع غير المسلمين من الناحية القانونية أو الجتماعية أو السياسية‪ ،‬وتبدأ مظاهر الفتنة بالتساؤل‪:‬‬
‫هل تطبق عليهم أحكام الشريعة السلمية‪ ،‬أو أنهم يخضعون لقوانين خاصة بهم؟ وذلك كما كان عليه‬
‫الحال في أواخر عهد السلطة العثمانية‪ ،‬حيث تقرر بمساعي الدول الكبرى ما يسمى بنظام المتيازات‬
‫الجنبية الذي عانت منه البلد الشيء الكثير‪ ،‬ويعاصرنا الن الوضع المتأزم في السودان بين الشمال‬
‫والجنوب بمناسبة إقرار القانون الجنائي لعفاء الجنوبيين من أحكامه‪ ،‬بل حتى إقليم الخرطوم عاصمة‬
‫الدولة‪ ،‬التي يختل فيها المن اختللً ملحوظا‪ ،‬وتكثر جرائم النهب والسرقة والقتل في الفترة التي‬
‫أوقف فيها تطبيق الحدود الشرعية‪.‬‬
‫ومثل هذه التساؤلت ل تتردد بالنسبة لغير المواطنين في ربوع الدول القوية الغربية أو الشرقية‪ ،‬فل‬
‫يعترض أحد على تطبيق أحكام قانون عقوبات تلك الدولة‪ ،‬مهما اشتد وقسا‪ ،‬ومهما تعنّت الساسة‬
‫وتغطرسوا‪ ،‬ويظل مبدأ إقليمية القانون الذي هو جزء من سيادة الدولة هو المحترم والمطبق‪،‬‬
‫ويتصدى قضاء الدولة الحالي للنظر في أي جريمة وقعت على أرضها أو إقليمها‪ ،‬أو حتى على‬
‫وسائل النقل والمواصلت البرية والبحرية والجوية التابعة لها من طائرات وسفن‪ ،‬ولو في غير إقليم‬
‫الدولة البري أو البحري أو الجوي‪ ،‬وتبادر الدولة على الفور إلى طرد دبلوماسي مثلً لطلقه عيارا‬
‫ناريا في شارع أو قرب سفارته‪ ،‬وتعلن الدولة صراحة كما حدث في بريطانيا في السبوعين‬
‫الخيرين من شهر أيلول(سبتمبر ‪ )1988‬قائلة لغير النجليز‪ :‬إما أن تحترموا قوانيننا أو ترحلوا من‬
‫بلدنا‪ ،‬حفاظا على ا لمن الداخلي والسلم والستقرار‪.‬‬

‫( ‪)8/111‬‬

‫وبالمقارنة بين هذا المثال والوضع في السودان يظهر لنا أن القضية إذن هي قضية قوة ونفوذ لحماية‬
‫المبدأ والحق‪ ،‬فإن كانت هناك قوة‪ ،‬كان احترام المبدأ القانوني هو السائد‪ ،‬وإن كان هناك ضعف‬
‫انحسر مبدأ القانون‪ ،‬وظهر الستنكار والستهجان في وسائل العلم من إذاعة وصحافة‪ ،‬وتجرأ‬
‫الناقدون لوصف القانون الجنائي المستمد من شريعة ال تعالى بأنه متسم بالقسوة والشدة‪ ،‬وأنه سبب‬
‫التفرقة والتجزئة والنقسام‪ ،‬وفصل جنوب السودان عن شماله!!‬
‫والواقع أن مشكلة جنوب السودان سياسية محضة تعتمد على دعم وتأييد خارجي‪ ،‬له بواعثه وأهدافه‬
‫ومراميه المفروضة والمشبوهة المعروفة‪ ،‬وليس منشأ المشكلة قضية تطبيق الشريعة‪.‬‬
‫ومع كل هذا أودّ بيان مبدأ إقليمية القانون الجنائي والقضاء‪ ،‬وأقارن بين ما عليه القانون الوضعي في‬
‫العقوبات‪ ،‬وبين ما قرره فقهاؤنا الشرعيون منذ قرون كثيرة‪ ،‬لمعرفة أوجه الشبه والختلف في هذا‬
‫الموضوع المهم جدا‪ ،‬ولدحض ذرائع الذين يريدون التخلص من أحكام شريعة ال تعالى‪ ،‬بقصد إبقاء‬
‫الجريمة ترتع وتمرح‪ ،‬ويكون المجرمون في أمان من العقاب الرادع الذي يستأصل ال جرام ويقطع‬
‫دابره‪.‬‬

‫( ‪)8/112‬‬

‫من المعلوم أن الشريعة الغراء ذات المصدر اللهي الوحيد الثابت الصحة والصل منذ مجيئها وإلى‬
‫اليوم والغد‪ ،‬تبغي الخير والسلمة والعدالة والستقرار والعيش بسلم في ديارها وفي العالم أجمع‪،‬‬
‫سواء بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم الذين يعيشون في ديار السلم وأوطانه‪ ،‬وإذا تحقق‬
‫هذا الهدف‪ ،‬وهو سريع التحقق إذا طبقت أحكام الشريعة بأصولها وفروعها الصحيحة‪ ،‬وفي ضوء‬
‫مقاصد التشريع العامة وروحه النقية الصافية‪ ،‬والتُزمت جميع الحكام الشرعية‪ ،‬ليس في نطاق‬
‫العقاب الصارم وحده‪ ،‬وإنما في مبنى الهيكل السياسي والجتماعي والقتصادي الشامل لجميع‬
‫المواطنين في ديار السلم بحيث يشعر الناس أن مظلة السلم رحمة كلها‪ ،‬وخير كلها‪ ،‬وعدل كلها‪،‬‬
‫ومصلحة كلها‪ .‬وقد أثبتت التجارب أن العقوبات والنظمة الوضعية لم تحقق للناس سعادتهم ولم تكفل‬
‫أو تضمن لهم المن والسلمة والستقرار لموالهم وأنفسهم ومنازلهم وتحركاتهم وتنقلتهم وأسفارهم‪.‬‬
‫ول فرق في الحاجة إلى تطبيق شريعة السلم المدنية والجزائية بين عالم متمدن متحضر‪ ،‬وعالم‬
‫بدائي أو متخلف‪ ،‬فالبشر هم البشر‪ ،‬والناس هم الناس‪ ،‬والكل يعرف أن أكبر نسبة للجرائم في العالم‬
‫هي في الوليات المتحدة المريكية‪ ،‬وأنه في كل دقيقة أو ثانية تقع جريمة في بريطانيا وأمريكا‪.‬‬

‫( ‪)8/113‬‬

‫ومبدأ إقليمية قانون العقوبات وغيره في كل دولة معناه أن القانون يسري حكمه على كل ما يقع في‬
‫إقليم الدولة من جرائم مهما كانت جنسية المجرم وصفته‪ .‬وأساس هذا المبدأ حق الدولة في السيادة‬
‫على إقليمها‪ ،‬سواء القليم الرضي‪ ،‬والمائي‪ ،‬والجوي‪ .‬والقليم الرضي يشمل جميع أجزاء حدود‬
‫الدولة الجغرافية من مساحة الرض اليابسة‪ ،‬والقليم المائي يمتد إلى ذلك الجزء من البحر العام‬
‫الملصق لشواطئ الدولة‪ ،‬ويتحدد في العرف الدولي عرضه بثلثة أميال بحرية من آخر نقطة‬
‫ينحسر عنها البحر وقت الجزر‪ ،‬والقليم الجوي يضم كل طبقات الجو فوق القليمين الرضي‬
‫والمائي‪.‬‬
‫وهذا المبدأ الذي يحكم نطاق التطبيق المكاني للنصوص الجنائية الوضعية وهو ما يعبر عنه بمبدأ‬
‫( إقليمية قانون العقوبات ) هو المبدأ السائد في عالم القانون المعاصر‪ ،‬ولكن يرد عليه استثناءان‪:‬‬
‫أحدهما داخلي والخر خارجي‪ .‬أما الستثناء الداخلي فيقتضي إعفاء بعض الشخاص من الخضوع‬
‫لقانون العقوبات في ا لدولة‪ ،‬وهم أعضاء البرلمان عما يبدونه من أفكار وآراء في أداء أعمالهم داخل‬
‫المجلس أو في لجانه‪ ،‬ورؤساء الدول الجنبية ورجال السلك السياسي الجنبي‪ ،‬وأفراد القوات الحربية‬
‫الجنبية الذين يقومون بمهمات أمنية لحفظ السلم بترخيص من الدولة‪ ،‬وذلك عملً بالعرف الدولي‬
‫باعتبار أن هؤلء تتصل أوضاعهم بسيادة الدولة التي ينتمون إليها‪.‬‬
‫وأما الستثناء الخارجي فيعني تطبيق قانون عقوبات الدولة خارج إقليمها على جرائم تمس مصلحة‬
‫أساسية لها‪ ،‬وهي الجرائم المخلة بأمن الدولة‪ ،‬وجرائم تزييف النقود الوطنية‪ ،‬وجرائم تزوير أختام‬
‫الدولة‪.‬‬

‫( ‪)8/114‬‬
‫ولقد أجمع فقهاء السلم على وجوب تطبيق الشريعة في دار السلم على المسلمين وغيرهم ‪ ،‬كما‬
‫هو السائد في نظريات القوانين الوضعية‪ ،‬ومنها القوانين العربية‪ ،‬مع المخالفة أحيانا في بعض‬
‫الحالت‪ ،‬فإن فقهاءنا اختلفوا فيما بينهم في مدى تطبيق الشريعة على المستأمن‪ :‬وهو من دخل دارنا‬
‫بأمان مؤقت‪ ،‬وذلك مثل الجانب الذين يدخلون أراضي دولة أخرى بتأشيرة دخول من الدولة نفسها‬
‫أو من سفاراتها أو قنصلياتها المعتمدة في خارج الدولة‪ ،‬كما اختلفوا أيضا في مدى تطبيق الشريعة‬
‫على جرائم مواطني الدولة الواقعة أو التي ترتكب خارج أرض الدولة‪ .‬وتطبق أحكام الشريعة على‬
‫المسلمين وغيرهم في ديار السلم في المعاملت المدنية والعقوبات الجنائية‪ ،‬سواء أكانت حدودا‬
‫شرعية (عقوبات مقدرة) أم تعازير (عقوبات غير مقدرة متروك أو مفوض تقديرها إلى ولي المر‬
‫الحاكم)‪.‬‬
‫ومبدأ إقليمية القضاء تابع لقليمية الشريعة‪ ،‬ويجب على القاضي المسلم أن يحكم في النزاع في حقوق‬
‫الدميين من ديون ومعاملت في رأي الحنفية والشافعي في القول الصحيح‪ ،‬لقول ال تعالى مخاطبا‬
‫نبيه عليه الصلة والسلم‪{ :‬وأن احكُمْ بينَهم بما أنزلَ ال ‪ ،‬ول تتّبعْ أهواءَهم‪ ،‬واحذرْهم أن يفتنوك‬
‫عن بعضِ ما أنزلَ ال ُ إليكَ‪ ،‬فإن توّلوْا فاعلمْ أنما يريدُ ال أن يُصيبَهم ببعضِ ذنوبهم‪ ،‬وإن كثيرا من‬
‫ح ْكمَ الجاهلية يبغون‪ ،‬ومَنْ أحسنُ من ال حُكما لقومٍ يُوقنون} [المائدة‪ .]49/5:‬وهذا‬
‫الناسِ لفاسقون‪ .‬أف ُ‬
‫يشمل المسلمين وغيرهم في دار السلم‪.‬‬

‫( ‪)8/115‬‬

‫وذهب فقهاء آخرون (مالك والشافعي في القول الخر وأحمد) إلى أنه يخير القاضي المسلم بين الحكم‬
‫والعراض عن الحكم بين غير المسلمين في المعاملت‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬فإنْ جاءوك فاحكمْ بينهم أو‬
‫أعرضْ عنهم} [المائدة‪ .]42/5:‬والظاهر هو الرأي الول‪ ،‬لن هذه الية منسوخة بالية المتقدمة‪:‬‬
‫{وأن احكم بينهم} [المائدة‪ ]49/5:‬ولننا التزمنا بمنع الظلم عن المستوطنين غير المسلمين في ديارنا‪،‬‬
‫ويلزم الدولة استئصال دابر الجرام والفساد في داخل أراضيها لحفظ الموال والدماء‪ ،‬ويجب منح‬
‫غير المسلمين حق التقاضي عموما إلى محاكمنا‪ ،‬وهذا يتفق مع ما قررته اتفاقية جنيف عام (‪1949‬م)‬
‫في المادة (‪ )42‬من منح الرعايا الجانب حق التقاضي‪ ،‬سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم‪ ،‬بعد أن‬
‫كان هذا الحق مسلوبا منهم فترة طويلة من الزمن‪.‬‬
‫ويتقوى الرأي الول بقول المام علي رضي ال عنه‪« :‬وإنما بذلوا الجزية ـ ضريبة الشخاص‬
‫كضرائب الدخل الحالية ـ لتكون أموالهم كأموالنا‪ ،‬ودماؤهم كدمائنا» ‪ .‬وروى أبو داود والبيهقي عن‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬أل من ظلم معاهدا أو انتقصه‪ ،‬أو كلّفه فوق طاقته‪ ،‬أو أخذ‬
‫شيئا بغير طيب نفسٍ منه‪ ،‬فأنا حجيجه يوم القيامة» ‪.‬‬

‫( ‪)8/116‬‬

‫أما الخلف الفقهي في المستأمن فينحصر في رأيين‪ :‬رأي أبي حنيفة ومحمد‪ ،‬ورأي الجمهور‪ ،‬أما أبو‬
‫حنيفة ومحمد رحمهما ال تعالى‪ :‬فيريان أن المستأمن الذي يقيم إقامة مؤقتة في دار السلم ل تطبق‬
‫عليه العقوبات الشرعية إذا ارتكب جريمة متعلقة بحق ال تعالى‪ ،‬كشرب الخمر والزنى والسرقة‪ ،‬ول‬
‫تقام عليه الحدود؛ لن المستأمن التزم بما فيه حقوق العباد‪،‬ولن العقاب الديني ل ولية كاملة فيه‬
‫للحاكم المسلم على المستأمن‪ ،‬لتوقيت مدة إقامته في ديارنا‪ .‬أما مسؤوليته مدنيا وجنائيا فيما يمس‬
‫حقوق الشخاص‪ ،‬كالقصاص والقذف والغصب والتبديد‪ ،‬فهو كبقية المسلمين وغير المسلمين المقيمين‬
‫إقامة دائمة في بلد السلم (الذميين المعاهدين) لما في ذلك من صلح الجماعة‪ ،‬وزجر الجاني‪،‬‬
‫وعهد الذمة القديم ما يزال ساري المفعول على غير المسلمين الحاليين المقيمين في البلد السلمية‪.‬‬
‫وأما الجمهور ومنهم أبو يوسف والشيعة المامية والزيدية‪ :‬فيرون أن المستأمن كالذمي تطبق عليه‬
‫أحكام الشريعة‪ ،‬ويخضع لجميع أحكام المعاملت المدنية والجرائم المخلة بالمن والنظام‪ ،‬ويعاقب‬
‫على جرائمه التي تمس حق الشخص كالقصاص‪ ،‬والسرقة في رأيهم‪ ،‬والقذف وإتلف الموال‪ ،‬وكذا‬
‫جرائمه التي تتعلق بحق ال تعالى كشرب الخمر والزنى‪ ،‬لما في ذلك من ممارسة حق السيادة للدولة‪،‬‬
‫وللمحافظة على نقاوة المجتمع وسلمته وأمنه‪ ،‬ولن المستأمن في دار السلم التزم بتطبيق أحكام‬
‫السلم عليه بموجب العهد أو المان‪ ،‬كما أن أحكام الشريعة في المعاملت المالية من بيوع وعقود‬
‫وتعامل بالربا تطبق عليه باتفاق الفقهاء‪.‬‬

‫( ‪)8/117‬‬

‫وقد اتخذت نظرية أبي حنيفة ومحمد ذريعة لعفاء الجانب من الخضوع لحكام الشريعة مما سبّب‬
‫منح المستأمنين في عهد سليمان القانوني السلطان العثماني ما يسمى بالمتيازات الجنبية التي قاست‬
‫منها البلد السلمية كثيرا‪ ،‬فكانت سببا لستغلل المسلمين‪ ،‬وتضييع حقوقهم‪ ،‬واستعلء الجانب‬
‫عليهم‪ ،‬والحد من سلطة الدولة وسيادتها‪ ،‬والعفاء من الختصاص التشريعي والقضائي‪ ،‬ومن العباء‬
‫المالية والخدمة العسكرية‪.‬‬
‫وينبني على رأي الجمهور أن الحصانة القضائية التي يترتب عليها في العرف الدولي الحديث عدم‬
‫خضوع رجال السلك الدبلوماسي للولية القضائية للدولة الموفد إليها‪ ،‬سواء في المسائل المدنية أو‬
‫الجنائية أو الدارية‪ ،‬هذه الحصانة غير مقررة لدى جماهير فقهائنا‪ ،‬فالمستأمن والسفير والقنصل‬
‫ورئيس الدولة الجنبية وغيرهم من ذوي الستثناءات المتقدمة يسأل كل منهم مدنيا وجنائيا عما‬
‫يرتكبه من أعمال مخالفة في بلد السلم؛ لن دفع الفساد واجب ملزم لكل من يقيم بين المسلمين‪،‬‬
‫ولو مؤقتا‪ ،‬والمجرم ل يستحق الحماية ول يصلح لداء وظيفته‪.‬‬
‫وأما المام أبو حنيفة وصاحبه محمد فيريان أيضا مسؤولية المستأمن مدنيا وجنائيا‪ ،‬لكنه معفى فقط‬
‫كما تقدم من المسؤولية الجنائية التي تتعلق بالحق العام (حق ال تعالى) الذي تمارسه الدولة وترعاه‪،‬‬
‫كشرب الخمر والزنى‪.‬‬

‫( ‪)8/118‬‬

‫ويرى أستاذنا المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة‪ :‬أن العقوبات التعزيرية التي لم يرد في عقوبتها نص‬
‫من كتاب أو سنة‪ ،‬أي غير الحدود الشرعية‪ ،‬يعفى منها الممثلون السياسيون مجاراة للعرف الدولي‬
‫الحاضر‪ ،‬ومراعاة لمبدأ المعاملة بالمثل؛ لن تقديرهذه العقوبات من حق ولي المر‪ ،‬وله العفاء منها‬
‫لمصلحة عامة‪ .‬والعرف أو القانون الدولي‪ ،‬وإن كان ل يخضع الممثل السياسي لولية القضاء‬
‫القليمي خشية التحامل عليه وإهدار حصانته‪ ،‬فإنه أجاز للدولة الموفد إليها تبليغ المر إلى الدولة‬
‫الموفدة لمحاكمته‪ ،‬كما أن لها أن تعتبره شخصا غير مرغوب فيه‪ ،‬وتطلب استدعاءه‪ ،‬بل لها في‬
‫الجرائم الخطيرة أن تطرده‪ ،‬ولها أن تقبض عليه إذا كان ذلك ضروريا للمحافظة على سلمتها‪ ،‬كما‬
‫لها أن تطلب رفع الحصانة الدبلوسية عنه من دولته لتحاكمه هي بسبب ارتكابه جريمة في أرضها‪.‬‬
‫أما القناصل فيجوز خضوعهم للقضاء القليمي‪ .‬وهكذا يقترب العرف الدولي الحاضر من الحكم‬
‫المقرر في الشريعة لدى فقهائنا‪.‬‬
‫وأما الخلف الفقهي حول تطبيق أحكام الشريعة على رعايا دار السلم إذا ارتكبوا جرائم في خارج‬
‫تلك الدار‪ ،‬فيتمثل في رأيين أيضا‪ :‬مذهب الحنفية‪ ،‬ومذهب الجمهور‪ .‬أما الحنفية‪ :‬فيرون أن أحكام‬
‫الشريعة العقابية ل تطبق على الجرائم التي يقترفها المسلم أو الذمي في دار الحرب‪ ،‬لعدم ولية المام‬
‫في إقامة الحدود وغيرها على جزء من أجزاء الدار أو البلد غير السلمية‪ ،‬ولن وجوب إقامة الحد‬
‫مشروط بالقدرة على القامة أو التطبيق‪ ،‬ول قدرة للمام على من يرتكب جريمة في دار الحرب‬
‫أثناء ارتكابها‪ ،‬وإذا لم تتوافر القدرة لم تجب العقوبة‪.‬‬

‫( ‪)8/119‬‬
‫إل أن أبا يوسف خالف أستاذه أبا حنيفة في أمرين‪:‬‬
‫الول ـ أن التعاقد على الربا حرام في جميع البلد‪ ،‬في دار السلم وغيرها؛ لن الربا حرام في‬
‫ذاته في أي مكان من العالم‪.‬‬
‫والثاني ـ أن السير المسلم إذا قتله مسلم أو ذمي في دار الحرب‪ ،‬فعليه الدية‪ ،‬لنه إذا تعذر‬
‫القصاص لعدم ولية المام المسلم على تلك الدار‪ ،‬فتجب الدية؛ لن السر ل يفقد عصمة المسلم‪،‬‬
‫ولنه (ل يُطَل دم في السلم) أي ل يهدر‪ ،‬فإذا امتنع القصاص‪ ،‬أمكن إيجاب الدية‪ .‬وأما الجمهور‬
‫(مالك والشافعي وأحمد)‪ :‬فيرون أن الشريعة تطبق على كل جريمة في أي مكان ارتكبت‪ ،‬سواء في‬
‫حدود البلد السلمية أو خارجها‪ ،‬وسواء أكان الجاني مسلما أم ذميا أم مستأمنا؛ لن المسلم ملزم‬
‫بأحكام الشريعة في أي مكان‪ ،‬والذمي والمستأمن ملزمان بتلك الحكام الشرعية بمقتضى العهد‬
‫والمان‪ .‬وقد أمر رسول ال صلّى ال عليه وسلم بعقوبة سكران يوم حنين في بلد المشركين‪ ،‬وروى‬
‫أبو داود في المراسيل عن عبادة بن الصامت رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫‪« :‬وأقيموا الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد‪ ،‬ول تبالوا في ال لومة لئم» ‪.‬‬
‫وهذا الحكم شامل في رأي الجمهور كل حرام كالتعامل بالربا وغيره من المحرمات كالقمار والرشوة‪،‬‬
‫وما أروع كلمة المام الشافعي في ذلك‪ ،‬حيث قال في كتابه الم (‪« :)165/4‬ومما يوافق التنزيل‬
‫والسنة‪ ،‬ويعقله المسلمون‪ ،‬ويجتمعون عليه‪ :‬أن الحلل في دار السلم حلل في بلد الكفر‪ ،‬والحرام‬
‫في دار السلم حرام في بلد الكفر‪ ،‬فمن أصاب حراما‪ ،‬فقد حده ال على ما شاء منه‪ ،‬ول تضع عنه‬
‫بلد الكفر شيئا» ‪ .‬وهذا واضح في أن الدار أو المكان ل تغير صفة التحريم للفعال‪ ،‬فل تمنع‬
‫العقوبة المقررة جزاء على ارتكاب الفعل الحرام‪.‬‬
‫وهذه النظرية ـ نظرية الجمهور ‪ -‬هي السائدة اليوم في القوانين الوضعية‪ ،‬إل أن الفرق بينهما أن‬
‫القانونيين يجيزون للدولة تطبيق العقاب على ما ترى فيه مصلحة بسبب ارتكاب الجرائم التي تقع في‬
‫خارج أراضيها‪ ،‬وتطبق العقوبة الصارمة على الجرائم التي تمس مصلحة أساسية لها‪ ،‬وهي ما سبق‬
‫بيانه من جرائم أمن الدولة‪ ،‬وتزييف العملة‪ ،‬وتزوير أختام الدولة الرسمية‪.‬‬
‫أما الشرعيون فيوجبون تطبيق عقوبات الحدود دون إعفاء‪ ،‬ويجيزون لولي المر في التعزيرات‬
‫إعفاء ما ترى فيه مصلحة في ذلك‪ .‬والخلصة‪ :‬إن المبدأ الساسي في الحكم السلمي في ديار‬
‫السلم على المسلمين والذميين والمستأمنين هو مبدأ إقليمية القوانين‪ ،‬مع بعض استثناءات كحرية‬
‫ممارسة الشعائر الدينية وحرية العقيدة‪ ،‬وكذلك اختصاص القضاء اختصاص إقليمي‪ ،‬ومبدأ القليمية‬
‫التشريعي والقضائي هو الذي تسير عليه القوانين الوضعية في العصر الحديث‪.‬‬
‫( ‪)8/120‬‬

‫صلُ الثّاني‪ :‬الدّعوى والبَيّنات (‪)1‬‬


‫ال َف ْ‬
‫خطة الموضوع ‪:‬‬
‫الكلم هنا عن وسيلة الوصول إلى الحق وهي الدعوى‪ ،‬وعن طرق إثبات الحق‪ :‬وهي الشهادة‬
‫واليمين والنكول والقرار والقرائن‪ ،‬وعن تعارض الدعويين مع تعارض البينتين‪ ،‬في المباحثات‬
‫التية‪:‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف الدعوى وركنها وشرائطها والصل في مشروعيتها‪.‬‬
‫المبحث الثاني ـ نوعا الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الدعاء‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ حكم الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الدعاء‪.‬‬
‫المبحث الرابع ـ حجج المتداعين أو طرق إثبات الحق‪.‬‬
‫المبحث الخامس ـ حكم تعارض الدعويين مع تعارض البينتين‪.‬‬
‫المبحث السادس ـ حكم تعارض الدعويين فقط في الملك‪ ،‬وحكم الملك وما يقتضيه من حقوق‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البينات جمع بينة وهي اسم لما يبين الحق ويظهره‪ ،‬وهي تارة تكون باليمان وتارة تكون‬
‫بالشهود‪ ،‬سموا بذلك؛ لن بهم يتبين الحق‪ ،‬وقد جمعت البينات لنها مختلفة وأفردت الدعوى؛ لن‬
‫حقيقتها واحدة‪.‬‬

‫( ‪)8/121‬‬

‫المبحث الول ـ تعريف الدعوى‪ ،‬وركنها‪ ،‬وشرائطها‪ ،‬والصل في مشروعيتها ‪:‬‬


‫تعريف الدعوى‪ :‬الدعوى لغة‪ ،‬قول يقصد به النسان إيجاب حق على غيره أو هي الطلب والتمني‪،‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬ولهم ما يدّعون} [يس‪ ]57/36:‬وتجمع على دعاوى ودعاوي‪ .‬وشرعا‪ :‬إخبار بحق‬
‫للنسان على غيره عند الحاكم (‪. )1‬‬
‫وركنها‪ :‬هو قول الرجل‪ :‬لي على فلن‪ ،‬أو قبل فلن كذا‪ ،‬أو قضيت حق فلن‪ ،‬أو أبرأني عن حقه‪،‬‬
‫ونحوها (‪. )2‬‬
‫وشرائطها عند الحنفية ‪:‬‬
‫أولً ـ أهلية العقل أو التمييز‪ :‬يشترط أن يكون المدعي والمدعى عليه عاقلين‪ ،‬فل تصح دعوى‬
‫المجنون والصبي غير المميز‪ ،‬كما ل تصح الدعوى عليهما‪ ،‬فل يلزمان بالجابة على دعوى الغير‬
‫عليهما‪ ،‬ول تسمع البينة عليهما‪.‬‬
‫ثانيا ـ أن تكون في مجلس القضاء‪ :‬لن الدعوى ل تصح في غير هذا المجلس‪.‬‬
‫ثالثا ـ أن تكون دعوى المدعي على خصم حاضر لدى الحاكم عند سماع الدعوى والبينة والقضاء‪،‬‬
‫فل تقبل الدعوى على غائب‪ ،‬كما ل يقضى على غائب عند الحنفية‪ ،‬سواء أكان غائبا وقت الشهادة أم‬
‫بعدها‪ ،‬وسواء أكان غائبا عن مجلس القاضي أم عن البلد التي فيها القاضي‪ .‬ول يشترط هذا الشرط‬
‫في المذاهب الخرى‪.‬‬
‫وقد سبق لدينا أن المالكية والشافعية والحنابلة في الرجح‪ :‬يجوزون القضاء على الغائب إذا أقام‬
‫المدعي البينة على صحة دعواه‪ ،‬وذلك في الحقوق المدنية ل في الحدود الخالصة ل تعالى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،437/4 :‬تكملة فتح القدير‪ ،137/6 :‬اللباب شرح الكتاب‪ ،26/4 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،461/4‬المغني‪.271/9 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪.222/6 :‬‬

‫( ‪)8/122‬‬

‫رابعا ـ أن يكون المدعى به شيئا معلوما‪ :‬وعلمه إما بالشارة إليه عند القاضي إذا كان الشيء من‬
‫المنقولت (‪ ، )1‬أو ببيان حدوده إذا كان قابلً للتحديد كالراضي والدور وسائر العقارات‪ ،‬أو بكشف‬
‫يجريه القاضي أو من ينوب عنه إذا لم يكن المدعى به قابلً للتحديد كحجر الرحى‪ ،‬أو ببيان جنسه‬
‫ونوعه وقدره وصفته إذا كان المدعى به دينا‪ ،‬كالنقود والبُر والشعير؛ لن الدين ل يصير معلوما إل‬
‫ببيان هذه المور‪ .‬والسبب في اشتراط العلم بالمدعى به‪ :‬هو أن المدعى عليه ل يلزم بإجابة دعوى‬
‫المدعي إل بعد معرفة المدعى به‪ ،‬وكذلك الشهود ل يمكنهم الشهادة على مجهول‪ ،‬ثم إن القاضي ل‬
‫يتمكن من إصدار الحكم أو القضاء بالدعوى إل إذا كان المدعى به شيئا معلوما‪.‬‬
‫خامسا ـ أن يكون موضوع الدعوى أمرا يمكن إلزام المدعى عليه به‪ ،‬أي أن يكون الطلب مشروعا‬
‫ملزما في مفهومنا الحاضر‪:‬‬
‫فإذا لم يكن بالمكان إلزام المدعى عليه بشيء‪ ،‬فل تقبل الدعوى‪ ،‬كأن يدعي إنسان أنه وكيل هذا‬
‫الخصم عند القاضي في أمر من أموره‪ ،‬أو يدعي على شخص بطلب صدقة أو بتنفيذ مقتضى عقد‬
‫باطل‪ ،‬فإن القاضي ل يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛ لن الوكالة عقد غير لزم‪ ،‬فيمكنه عزل‬
‫مدعي الوكالة في الحال‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حتى يشير إليه المدعي بالدعوى‪ ،‬والشهود بالشهادة‪ ،‬والمدعى عليه بالستحلف؛ لن العلم‬
‫بأقصى ما يمكن شرط‪ ،‬ويتم بالشارة في المنقولت؛ لن النقل ممكن‪ ،‬والشارة أبلغ في التعريف‪.‬‬
‫واليوم يكتفى بالوصف في المنقولت كالديون‪.‬‬

‫( ‪)8/123‬‬

‫سادسا ـ أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت‪ :‬لن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة‪ ،‬تكون‬
‫دعوى كاذبة‪ ،‬فلو قال شخص لمن هو أكبر سنا منه‪ :‬هذا ابني‪ ،‬ل تسمع دعواه؛ لستحالة أن يكون‬
‫الكبر سنا ابنا لمن هو أصغر سنا منه‪ ،‬وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير‪ :‬هذا ابني‪ ،‬ل تسمع‬
‫دعواه (‪. )1‬‬
‫و يشترط أيضا عدم تناقض أقوال المدعي أو دعاويه‪ ،‬فلو ادعى شخص على آخر دينا‪ ،‬ثم ثبت أنه‬
‫أقر بعدمه‪ ،‬لم تقبل دعواه‪ ،‬ولو ادعى على شخص أنه القاتل وحده‪ ،‬ثم ادعى أنه شريك مع آخر‪ ،‬لم‬
‫تسمع الدعوى الثانية‪ ،‬لمناقضتها الولى‪ ،‬إل إذا صدقه المتهم الثاني بالقتل‪ ،‬فيؤخذ بإقراره‪.‬‬
‫الصل في مشروعية الدعوى‪ :‬الصل في الدعوى قول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬لو يعطى الناس‬
‫بدعواهم لدعى رجل أموال قوم ودماءهم‪ ،‬لكن البينة على المدعي‪ ،‬واليمين على من أنكر» (‪ )2‬ولفظ‬
‫مسلم‪« :‬ولكن اليمين على المدعى عليه» ‪.‬‬
‫وبما أن الخصومات والمنازعات أمر واقع بين البشر‪ ،‬فكان ل بد من الفصل فيها بطريق الدعوى؛‬
‫لن في امتدادها فسادا كبيرا‪ ،‬وال تعالى ل يحب الفساد (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،39/17 :‬تكملة فتح القدير‪ 141 ،137/6 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ ،224 ،222/6 :‬الدر‬
‫المختار‪ ،438/4 :‬اللباب‪ ،27/4 :‬الميزان‪.194/2 :‬‬
‫(‪ )2‬حديث حسن رواه البيهقي وأحمد هكذا ورواه مسلم والبخاري بلفظ آخر (الربعين النووية‪ :‬ص‬
‫‪ ،74‬نصب الراية‪ ،95/4 :‬نيل الوطار‪.)305/8 :‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط‪ ،28/17 :‬المغني‪ ،272/9 :‬مغني المحتاج‪.461/4 :‬‬

‫( ‪)8/124‬‬
‫المبحث الثاني ـ نوعا الدعوى‪ ،‬وتعيين من هو المدعي والمدعى عليه ‪:‬‬
‫الدعوى نوعان‪ :‬صحيحة وفاسدة‪.‬‬
‫فالدعوى الصحيحة‪ :‬هي التي استكملت شرائط الصحة المذكورة في المبحث الول ويتعلق بها‬
‫أحكامها المقصودة منها‪ :‬وهي إحضار الخصم إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي‪ ،‬ومطالبته‬
‫بالجواب على دعوى المدعي‪ ،‬واليمين إذا أنكر المدعى به‪ .‬ويثبت فيها حق المدعي‪ :‬إما بالبينة أو‬
‫بنكول المدعى عليه عن اليمين‪.‬‬
‫والدعوى الفاسدة أو الباطلة‪ :‬هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط الصحة المذكورة آنفا‪ ،‬ول‬
‫تترتب عليها الحكام السابقة المقصودة منها‪ ،‬كأن تكون الدعوى على غائب‪ ،‬أو كان المدعى به‬
‫مجهولً؛ لن المجهول يتعذر إثباته بالشهادة‪ ،‬فل يمكن للشهود أن يشهدوا به‪ ،‬ول يتمكن القاضي من‬
‫القضاء بالمجهول‪ ،‬ل بالبينة ول بالنكول عن اليمين (‪. )1‬‬
‫من هو المدعي والمدعى عليه؟‬
‫لما كانت مسائل الدعوى متوقفة على معرفة المدعي والمدعى عليه‪ ،‬وهي من أهم ما تبتنى عليه‬
‫الدعاوى‪ ،‬ل سيما فيما يتعلق بما يلزم به أحدهما من البينة أو اليمين ونحوهما‪ ،‬كان من الضروري‬
‫تعيين المتصف بصفة المدعي والمدعى عليه‪ ،‬وفي تعيينه تعريفات شتى‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫المدعي‪ :‬من ل يجبر على الخصومة إذا تركها؛ لنه مطالب‪ .‬أو هو من خالف قوله الظاهر‪.‬‬
‫والمدعى عليه‪ :‬من يجبر على الخصومة؛ لنه مطلوب (‪ . )2‬أو هو من وافق قوله الظاهر‪ ،‬والظاهر‬
‫هو البراءة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تكملة فتح القدير‪ ،137/6 :‬المبسوط‪.30/17 :‬‬
‫(‪ )2‬اللباب شرح كتاب القدوري‪ ،26/4 :‬تكملة فتح القدير‪ ،138/6 :‬الدر المختار‪ ،237/4 :‬تكملة رد‬
‫المحتار على الدر المختار‪ ،310/1 :‬البدائع‪.224/6 :‬‬

‫( ‪)8/125‬‬

‫وقيل‪ :‬المدعي‪ :‬من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره‪ ،‬أو إثبات حق في ذمته‪.‬‬
‫والمدعى عليه‪ :‬من ينكر ذلك‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬المدعى عليه‪ :‬هو المنكر‪ ،‬والخر هو المدعي (‪. )1‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬حكم الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الدعاء ‪:‬‬
‫للقاضي الدور المهم في الدعوى‪ ،‬فإذا جاء المدعي إلى المحكمة مع خصمه سأله القاضي عن‬
‫موضوع الدعوى‪ ،‬فإذا كانت الدعوى صحيحة‪ ،‬بأن كانت على خصم حاضر واستوفت شروطها‪،‬‬
‫طلب القاضي من المدعى عليه جوابه عن الدعوى؛ لن قطع دابر الخصومة واجب‪.‬‬
‫حكم الدعوى إذن‪ :‬وجوب الجواب على المدعى عليه بقوله‪ :‬ل أو نعم‪ ،‬حتى إنه لو سكت‪ ،‬كان سكوته‬
‫إنكارا‪ ،‬فتقبل بينة المدعي‪ ،‬ويحكم بها على المدعى عليه‪ .‬فإن أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى‪،‬‬
‫حكم القاضي عليه؛ لنه غير متهم في إقراره على نفسه‪ ،‬ويؤمر بأداء الحق لصاحبه‪.‬‬
‫وإن أنكر‪ ،‬طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة‪ ،‬فإن أقام البينة قضى بها‪ ،‬لترجح جانب‬
‫الصدق على الكذب بالبينة‪ .‬وإن عجز المدعي عن تقديم البينة‪ ،‬وطلب يمين خصمه المدعى عليه‪،‬‬
‫استحلفه القاضي‪ ،‬ودليله قول النبي صلّى ال عليه وسلم للمدعي في قصة الحضرمي والكندي‪« :‬ألك‬
‫بينة؟» قال‪ :‬ل‪ ،‬فقال النبي‪« :‬فلك يمينه» (‪ )2‬أي يمين المدعى عليه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬المغني لبن قدامة الحنبلي‪.271/9 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري ومسلم عن وائل بن حجر (نصب الراية‪.)94/4 :‬‬

‫( ‪)8/126‬‬

‫فإن قال المدعي‪ ( :‬لي بينة حاضرة في البلد ) وطلب اليمين من المدعى عليه لم يستحلف عند أبي‬
‫حنيفة؛ لن حق المدعي في طلب اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة‪ ،‬كما في الحديث المذكور‬
‫قريبا‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف‪ :‬يستحلف؛ لن طلب اليمين حق المدعي‪ ،‬لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬البينة‬
‫على من ادعى‪ ،‬واليمين على من أنكر» (‪. )1‬‬
‫وهل يقضى بشاهد واحد ويمين المدعي‪ ،‬وهل ترد اليمين على المدعي أو يقضى على المدعى عليه‬
‫بنكوله عن اليمين؟ هذا ما يجاب عنه في المبحث التالي‪:‬‬
‫المبحث الرابع ـ حجج المتداعين أو طرق إثبات الحق ‪:‬‬
‫طرق الثبات التي يعتمد عليها في القضاء‪ :‬هي الشهادة‪ ،‬واليمين‪ ،‬والنكول‪ ،‬والقرار‪ ،‬أو الشهادة مع‬
‫اليمين‪.‬‬
‫أما الشهادة‪ :‬فهي حجة المدعي‪ :‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬البينة على المدعي» ولن المدعي‬
‫يدعي أمرا خفيا‪ ،‬فيحتاج إلى إظهاره‪ ،‬وللبينة قوة الظهار‪..‬‬
‫وسأخصص مبحثا للكلم عن الشهادات‪ .‬والسبب في تكليف المدعي البينة أو الشهادة أن جانبه‬
‫ضعيف‪ ،‬لكون دعواه خلف الصل‪ ،‬فكلف الحجة القوية وهي البينة‪ ،‬وأن جانب المدعى عليه قوي‪،‬‬
‫لنه متمسك بالصل وهو البراءة‪ ،‬فاكتفي منه بالحجة الضعيفة وهي اليمين‪.‬‬
‫والبينة إما شهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شاهد ويمين‪ ،‬أو أربعة رجال‪ ،‬أو أربع نسوة‪.‬‬
‫وأما اليمين‪ :‬فهي حجة المدعى عليه‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬واليمين على المدعى عليه» فإن‬
‫حلف المدعى عليه‪ ،‬قضى القاضي بفصل الدعوى‪ ،‬وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن‬
‫يتمكن المدعي من إقامة البينة‪.‬‬
‫وإن نكل عن اليمين‪ ،‬فهل ترد اليمين إلى المدعي أو يقضى عليه بالنكول؟ فيه رأيان للفقهاء‪ ،‬أذكرهما‬
‫فيما يلي‪:‬‬
‫رد اليمين والقضاء بالنكول‪ :‬إذا أبى المدعى عليه أن يحلف‪ ،‬هل يحلف المدعي‪ ،‬أو يقضى له بنكول‬
‫صاحبه عن اليمين (‪ )2‬؟ اختلف العلماء في الموضوع‪.‬‬
‫قال المالكية‪ :‬ترد اليمين على المدعي بعد النكول في الموال ما يؤول إليها فقط كخيار وأجل‪ .‬وذلك‬
‫إذا ثبتت الدعوى‪ ،‬أما مجرد دعوى التهام فل ترد على المدعي‪.‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬ترد اليمين على المدعي في جميع الحقوق ما عدا جنايات الدماء والحدود‪ ،‬ويقضى له‬
‫بمدعاه‪ ،‬ول يقضى بنكول المدعى عليه‪ .‬وتعتبر اليمين المردودة إقرارا تقديريا‪ .‬وهذا هو الذي صوبه‬
‫المام أحمد‪ ،‬فيكون رأي مالك والشافعي وأحمد هو القول برد اليمين‪ ،‬لكن المختار عند الحنابلة القول‬
‫بعدم رد اليمين‪.‬‬
‫استدل الجمهور بما روى ابن عمر‪« :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق» (‪)3‬‬
‫ولن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين بعد أن طلبت منه‪ ،‬ظهر صدق‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تكملة فتح القدير‪ 151/6 :‬ومابعدها‪ ،‬الدر المختار‪ ،438/4 :‬اللباب‪.29/4 :‬‬
‫(‪ )2‬النكول‪ :‬استنكاف الخصم عن حلف اليمين الموجهة عليه من القاضي (المدخل الفقهي للستاذ‬
‫الزرقاء‪ :‬ص ‪ ،1051‬الطبعة السادسة) وقال في البحر الزخار‪ :410/ 4 :‬النكول لغة‪ :‬التأخر عن لقاء‬
‫العدو‪ ،‬وشرعا عن اليمين الواجبة‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف‪ ،‬والحاكم وصحح إسناده (سبل السلم‪،136/ 4 :‬‬
‫تلخيص الحبير‪.)209/ 4 :‬‬

‫( ‪)8/127‬‬
‫المدعي‪ ،‬وقوي جانبه ‪ ،‬فتشرع اليمين في حقه‪ ،‬كالمدعى عليه قبل نكوله‪ ،‬وكالمدعي إذا شهد له شاهد‬
‫واحد‪ ،‬كما سأبين‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} [المائدة‪ ]108/5:‬أي بعد المتناع‬
‫من اليمان الواجبة‪ ،‬فدل على نقل اليمان من جهة إلى جهة‪.‬‬
‫ول يقضى عند الجمهور بالنكول‪ :‬لن النكول كما يحتمل أن يكون امتناعا وتحرزا عن اليمين الكاذبة‪،‬‬
‫يحتمل أن يكون تورعا عن اليمين الصادقة‪ ،‬فل يقضى للمدعي مع تردد المدعى عليه‪ ،‬إذ ل يتعين‬
‫بنكوله صدق المدعي‪ ،‬فل يجوز الحكم له من غير دليل‪ ،‬فإذا حلف المدعي كانت يمينه دليلً عند عدم‬
‫ما هو أقوى منها (‪. )1‬‬
‫وقال الحنفية‪ ،‬والحنابلة في المشهور عندهم‪ :‬ل ترد اليمين على المدعي‪ ،‬وإنما يقضي القاضي على‬
‫المدعى عليه بالنكول عن اليمين‪ ،‬وبإلزامه بما ادعى عليه المدعي‪ .‬والنكول إما أن يكون حقيقة‬
‫كقوله‪ ( :‬ل أحلف ) أو حكما كأن سكت‪ ،‬دون أن يكون هناك عارض كخرس وطرش‪.‬‬
‫وتعرض اليمين على المدعى عليه مرة واحدة‪ .‬ولكن لزيادة الحتياط والمبالغة في إبداء العذر‪ :‬ينبغي‬
‫للقاضي تكرار عرض اليمين ثلث مرات بأن يقول له‪ :‬إني أعرض عليك اليمين ثلثا‪ ،‬فإن حلفت‬
‫فبها‪ ،‬وإل قضيت عليك بما ادعاه خصمك‪.‬‬
‫استدلوا بقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬البينة على المدعي واليمين على من أنكر» فقد جعل جنس‬
‫اليمان على المنكرين‪ ،‬كما جعل جنس البينة على المدعي‪ .‬وفي لفظ‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع مغني المحتاج‪ 447 ،444 ،150/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،318 ،301/2 :‬بداية المجتهد‪:‬‬
‫‪ ،454/2‬الشرح الكبير للدردير‪ 146/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ ،235/9 :‬الميزان‪ ،196/2 :‬الطرق‬
‫الحكمية في السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪ ،116‬الشرح الصغير‪.64/5 :‬‬

‫( ‪)8/128‬‬

‫آخر للحديث في الصحيحين‪« :‬ولكن اليمين على المدعى عليه» فحصر اليمين في جانب المدعى‬
‫عليه‪.‬‬
‫واستدل الحنفية أيضا بأن النكول دليل على كون المدعى عليه باذلً للحق إذا اعتبرنا النكول بذلً‪،‬‬
‫وهو رأي أبي حنيفة‪ ،‬أو كونه مقرا إقرارا تقديريا بالحق المدعى به إذا اعتبرنا النكول إقرارا‪ ،‬وهو‬
‫ل أو مقرا‪ ،‬لقدم على اليمين دفعا لضرر الدعوى‬
‫رأي الصاحبين (‪ ، )1‬ولول كون المدعى عليه باذ ً‬
‫عن نفسه وقياما بالواجب؛ لن اليمين واجبة عليه بقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬واليمين على من‬
‫أنكر» وكلمة (على) للوجوب (‪. )2‬‬
‫وينبغي للقاضي أن يقول للمدعى عليه‪« :‬إني أعرض اليمين عليك ثلث مرات‪ ،‬فإن حلفت‪ ،‬وإل‬
‫قضيت عليك بما ادعاه المدعي» فإن كرر العرض عليه ثلث مرات قضى عليه بالنكول‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬النكول‪ :‬معناه عند أبي حنيفة البذل أي ترك المنازعة والعراض عنها وإباحة المال والتبرع به‬
‫في سبيل قطع الخصومة بدفع ما يدعيه الخصم‪ ،‬أي أن النكول له أثر سلبي عند أبي حنيفة‪ ،‬فل يفيد‬
‫الهبة والتمليك‪ ،‬ومعناه عند الصاحبين‪ :‬القرار بالحق‪ ،‬أي أن أثره إيجابي (راجع تكملة فتح القدير‪:‬‬
‫‪ 165/6‬مع شرح العناية بهامشه‪ ،‬الطرق الحكمية لبن قيم الجوزية‪ :‬ص ‪ 124‬وما بعدها) احتج أبو‬
‫حنيفة الذي جعل النكول كالبذل‪ :‬بأنا لو اعتبرنا إقراره يكون كاذبا في إنكاره‪ ،‬والكذب حرام‪ ،‬فيفسق‬
‫بالنكول بعد النكار‪ ،‬وهذا باطل‪ ،‬فجعلناه بذلً وإباحة‪ ،‬صيانة له عما يقدح في عدالته‪ ،‬ويجعله كاذبا‪.‬‬
‫واحتج الصاحبان اللذان جعل النكول كالقرار بأن الناكل كالممتنع من اليمين الكاذبة ظاهرا‪ ،‬فيصير‬
‫معترفا بالمدعى به؛ لنه لما نكل ـ مع إمكان تخلصه باليمين ـ دل نكوله على أنه لو حلف لكان‬
‫كاذبا‪ ،‬وهو دليل اعترافه‪ .‬ومن ثمرة الخلف أن الصبي المأذون بالتجارة هل يحلف أو ل؟ فعند أبي‬
‫حنيفة ‪ :‬ل يحلف لنه لو نكل كان باذلً‪ ،‬وهو ليس من أهل البذل‪ ،‬وعند الصاحبين‪ :‬يحلف؛ لن‬
‫النكول إقرار وهو من أهل القرار (الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة‪ :‬ص ‪.)105‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ ،158 ،155‬المبسوط‪ ،35/17 :‬البدائع‪ 225 6/ :‬وما‬
‫بعدها‪ ،230 ،‬الدر المختار‪ ،442/4 :‬اللباب شرح الكتاب‪ ،30/4 :‬المغني‪ 235/9 :‬وما بعدها‪ ،‬الطرق‬
‫الحكمية‪ ،‬المرجع السابق‪.‬‬

‫( ‪)8/129‬‬

‫مجال القضاء بالنكول‪ :‬قال الحنفية وأصحاب أحمد‪ :‬يقضى بالنكول في الموال‪ ،‬أما غير المال أو‬
‫مال يقصد به المال كنكاح وطلق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة‪ ،‬فل يقضى فيه بالنكول‪ ،‬فل‬
‫يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة والصاحبين‪ ،‬وإنما يقضى عندهما بالدية‬
‫أو بالرش‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة‪ :‬يقضى بالقصاص في الطرف حالة العمد‪ ،‬وبالدية حالة الخطأ‪ ،‬أما في القصاص‬
‫بالنفس فل يقضى فيه عنده ل بالقصاص ول بالمال أي بالدية‪ ،‬لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف‪.‬‬
‫وإذا كان ل يقضى بالنكول في القصاص عند الحنابلة‪ ،‬سواء أكان في النفس أم في الطرف‪ ،‬فماذا‬
‫يصنع بالجاني؟ وجهان ـ أحدهما‪ :‬يخلى سبيله؛ لنه لم يثبت عليه حجة‪ ،‬والثاني‪ :‬يحبس حتى يقر أو‬
‫يحلف‪.‬‬

‫( ‪)8/130‬‬

‫وكذلك ل يقضى بالنكول في الحدود الخالصة ل تعالى كحد الزنا والسرقة والشرب؛ لن النكول يعتبر‬
‫بذلً عند أبي حنيفة‪ ،‬وإقرارا فيه شبهة عند الصاحبين؛ لنه في نفسه سكوت‪ ،‬والحدود ل تحتمل‬
‫البذل‪ ،‬أي ل يقبل من المتهم إباحة نفسه لقامة الحد عليه‪ ،‬وتندرئ بالشبهات‪ ،‬فل تثبت بدليل فيه‬
‫شبهة‪ ،‬والنكول فيه شبهة‪ ،‬كما أوضحت‪ ،‬فل تجب به‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة‪ :‬ل يقضى أيضا بالنكول في الشياء السبعة‪ :‬وهي النكاح‪ ،‬والرجعة‪ ،‬والفيء في‬
‫اليلء‪ ،‬والنسب‪ ،‬والرق‪ ،‬والستيلد‪ ،‬والولء‪ ،‬وليستحلف المنكر فيها؛ لن النكول عنده يعتبر بذلً‬
‫وإباحة‪ ،‬والبذل ل يجري في هذه الشياء‪ .‬فإذا أنكر الرجل أو المرأة عقد النكاح‪ ،‬فقالت المرأة مثلً‪:‬‬
‫ل نكاح بيني وبينك‪،‬ولكن بذلت لك نفسي‪ ،‬لم يصح بذلها؛ لن الزوجية ل تباح بالبذل‪ .‬وكذلك في‬
‫الرجعة‪ :‬بأن ادعى الرجل بعد الطلق وانقضاء المدة أنه كان قد راجعها في العدة‪ ،‬وأنكرت المرأة‪،‬‬
‫أو بالعكس‪ ،‬فل يحلف المنكر‪ ،‬ول يصح بذله نفسه للخر‪.‬‬
‫وفي دعوى الفيء باليلء‪ ،‬أي الرجوع إلى معاشرة الزوجة بعد أن حلف أل يطأها مدة أربعة أشهر‬
‫(‪ : )1‬إذا ادعى الرجل بعد انقضاء مدة اليلء أنه كان قد فاء إليها في المدة‪ ،‬وأنكرت المرأة أو‬
‫بالعكس‪ ،‬فل يستحلف المنكر‪ ،‬ول يصح بذله نفسه للخر‪.‬‬
‫وفي دعوى النسب‪ :‬بأن يدعي شخص على مجهول النسب أنه ولده أو والده وأنكر المجهول أو‬
‫بالعكس‪ ،‬فل يحلف المنكر ول يصح قوله‪ :‬أبحت له أن يدعي نسبي‪ ،‬لم يصح بذله‪.‬‬
‫وفي دعوى الرق‪ :‬بأن ادعى مجهول النسب أنه عبده‪ ،‬وأنكر المجهول أو بالعكس‪ ،‬فل يحلف المنكر‪،‬‬
‫ول يقبل قوله‪ :‬بذلت له نفسي ليسترقني‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬هذا مأخوذ من قوله تعالى‪{ :‬للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن ال غفور‬
‫رحيم‪ ،‬وإن عزموا الطلق فإن ال سميع عليم} [البقرة‪.]227-2/226:‬‬

‫( ‪)8/131‬‬
‫وفي دعوى استيلد المة‪ ،‬بأن ادعت أمة على مولها أنها ولدت منه ولدا‪ ،‬وأنكر المولى‪ ،‬ل يحلف‬
‫ول يقبل قوله‪ :‬بذلت نفسي لجعل المة مستولدة مني‪ .‬وفي هذه الصورة ليتأتى العكس‪ ،‬أي أن يكون‬
‫من قبل المة؛ لن المولى إذا ادعى الستيلد‪ ،‬ثبت ذلك بإقراره‪ ،‬ول يلتفت إلى إنكار المة‪.‬‬
‫وفي دعوى الولء‪ ،‬بأن ادعى إنسان على مجهول أنه عتيقه وموله وأنكر‬
‫المجهول‪ ،‬أو بالعكس‪ ،‬فل يحلف المنكر‪ ،‬ول يصح قوله‪ :‬بذلت نفسي ليجعلني موله (‪. )1‬‬
‫كل هذا بخلف الموال‪ ،‬فإنه يجري فيها البذل‪ ،‬فلو قال شخص‪ :‬هذا المال ليس لفلن‪ ،‬ولكن أبحته‬
‫وبذلته له‪ ،‬لتخلص من خصومته‪ ،‬صح بذله‪.‬‬
‫هذا رأي أبي حنيفة‪ .‬وقال الصاحبان‪ :‬يجري الستحلف والنكول في هذه الشياء السبعة؛ لن النكول‬
‫عندهما إقرار‪ ،‬والقرار يجري في هذه الشياء‪ ،‬لكنه فقط إقرار فيه شبهة‪ ،‬فل يقبل في الحدود‪ ،‬كما‬
‫أشرت‪ .‬فنكول المدعى عليه دليل على كونه كاذبا في إنكاره؛ لنه لو كان صادقا لما امتنع من اليمين‬
‫الصادقة‪ ،‬فكان النكول إقرارا دللة أو تقديرا‪ ،‬إل أنه إقرار فيه شبهة‪ ،‬وهذه الشياء تثبت بدليل فيه‬
‫شبهة‪ ،‬إذ يجوز إثباتها بالشهادة على الشهادة‪ ،‬وشهادة رجل وامرأتين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬جاريت الفقهاء في بيان بعض الحكام المتعلقة بالرق إتماما للبحث من الناحية التاريخية؛ لنهم‬
‫يصفون هذه الشياء بصفة واحدة‪ ،‬ويقولون عنها‪« :‬ليجري البذل في الشياء السبعة» فكان من‬
‫الضروري ذكرها لمعرفة ما هذه الشياء السبعة‪ ،‬ولبيان طبيعة هذه الحالت‪.‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير‪ ،166-162/6 :‬البدائع‪ ،230/6 :‬الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه‪:‬‬
‫‪ ،443/4‬اللباب شرح الكتاب للميداني‪.31/4 :‬‬

‫( ‪)8/132‬‬

‫والفتوى على قول الصاحبين أي بتحليف المنكر‪ ،‬والقضاء عليه بالنكول في هذه الشياء‪ ،‬ل في‬
‫الحدود والقصاص‪ ،‬واللعان؛ لنه في معنى الحد؛ إذ أنه (أي اللعان) بالنسبة للزوج يعد قائما مقام حد‬
‫القذف‪ ،‬وبالنسبة للمرأة يعد قائما مقام حد الزنا‪ ،‬فل يجري النكول فيه (‪ . )2‬والخلصة عند الحنفية‪:‬‬
‫أنه ل تحليف في الحدود اتفاقا‪ ،‬ويستحلف في القصاص والموال كلها اتفاقا‪ ،‬واختلفوا في التحليف في‬
‫سبع مسائل‪ ،‬فعند المام‪ :‬ل يستحلف‪ .‬وعند الصاحبين‪ :‬يستحلف‪ .‬وكل ما يجري فيه التعزير من‬
‫الحقوق كالضرب والشتم واللفاظ القبيحة يجري فيه التحليف ول يسقط بالتقادم‪ ،‬وتقبل فيه شهادة‬
‫النساء كما في سائر الحقوق (‪. )1‬‬
‫كيفية اليمين وأثرها في الدعوى‪ :‬لليمين كيفية معينة‪ ،‬سواء أكانت يمينا مردودة‪ ،‬أم مع الشاهد‪ ،‬أم‬
‫يمينا من المدعى عليه‪.‬‬
‫اتفق العلماء على أن اليمين تكون بال عز وجل دون غيره‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من كان‬
‫حالفا فليحلف بال أو ليصمت» (‪ )2‬ولقوله عليه السلم‪« :‬من حلف بغير ال فقد كفر» (‪ ، )3‬واتفقوا‬
‫أيضا على أن اليمين المشروعة في الحقوق التي يبرأ بها المدين هي اليمين بال ‪.‬‬
‫إل أن المام مالك قال‪ :‬أحب أن يحلف بال الذي ل إله إل هو‪ ،‬وإن استحلف حاكم بال ‪ ،‬أجزأ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة‪ :‬ص ‪.108-106‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الجماعة إل النسائي عن ابن عمر‪ ،‬وفي لفظ «أو ليسكت» وفي لفظ «من كان حالفا فل‬
‫يحلف إل بال » (نصب الراية‪ ،295/3 :‬نيل الوطار‪.)227/8 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعا‪ .‬ويروى «فقد أشرك»‬
‫وهو عند أحمد‪ ،‬وكذا عند الحاكم‪ ،‬ورواه الترمذي وابن حبان بلفظ «فقد كفر وأشرك» (نيل الوطار‪،‬‬
‫المرجع السابق)‪.‬‬

‫( ‪)8/133‬‬

‫وقال الشافعية‪ :‬يندب تغليظ اليمين‪ ،‬وإن لم يطلب الخصم تغليظها فيما ليس بمال‪ ،‬ول يقصد به مال‬
‫كنكاح وطلق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة‪ ،‬وفي مال يبلغ نصاب زكاة‪ ،‬ل فيما دونه‪.‬‬
‫والتغليظ يكون مثلً بزيادة أسماء وصفات ال عز وجل‪ ،‬كأن يقول‪ :‬وال الذي ل إله إل هو عالم‬
‫الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم السر والعلنية‪ .‬أو بال الطالب الغالب المدرك المهلك الذي‬
‫يعلم السر وأخفى‪.‬‬
‫وقال الحنابلة‪ :‬اليمين التي يبرأ بها المدين هي اليمين بال ‪ ،‬وإن كان الحالف كافرا‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬
‫{فيقسمان بال لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة‪ ]107/5:‬وقوله سبحانه‪{ :‬وأقسموا بال جهد‬
‫أيمانهم} [النور‪ ]53/24:‬قال بعض المفسرين‪:‬‬

‫( ‪)8/134‬‬

‫«من أقسم بال ‪ ،‬فقد أقسم جهد اليمين» (‪. )1‬‬


‫وقال الحنفية‪ :‬للقاضي أن يحلّف المسلم من غير تغليظ مثل‪ ( :‬بال) أو (وال)‪ ،‬وله أن يغلظ‪ ،‬أي يؤكد‬
‫اليمين بذكر أوصاف ال تعالى مثل قوله‪ :‬قل‪( :‬وال الذي ل إله إل هو عالم الغيب والشهادة الرحمن‬
‫الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلنية‪ :‬ما لفلن هذا علي ول قبلي هذا المال الذي ادعاه وهو‬
‫كذا وكذا‪ ،‬ول شيء منه) وله أن يزيد على هذه الصيغة وله أن ينقص منها‪ ،‬إل أنه يجتنب العطف‬
‫كيل يتكرر اليمين؛ لن المطلوب منه يمين واحدة‪ .‬ول يستحلف بالطلق في ظاهر الرواية‪ ،‬لقوله‬
‫عليه الصلة والسلم‪« :‬من كان حالفا فليحلف بال أو ليصمت» وفي لفظ‪« :‬أو ليذر» ‪.‬‬
‫ول يجب تغليظ اليمين عند الحنفية والحنابلة على المسلم بزمان كيوم الجمعة بعد العصر‪ ،‬ول بمكان‬
‫مثل بين الركن والمقام بمكة‪ ،‬وعند منبر النبي صلّى ال عليه وسلم في المدينة؛ لن المقصود تعظيم‬
‫المقسم به‪ ،‬أي ال تعالى‪ ،‬وهو حاصل بدون ذلك‪ ،‬وفي إيجابه حرج على القاضي‪ ،‬حيث يكلف‬
‫حضورها‪ ،‬والحرج مرفوع (‪. )2‬‬
‫وقال مالك والشافعي كما تقدم‪ :‬تغلظ اليمين في الزمان في اللعان؛ لن ال تعالى قال في اللعان محددا‬
‫أن يكون بعد صلة العصر‪{ :‬تحبسونهما من بعد الصلة فيقسمان بال إن ارتبتم ل نشتري به ثمنا}‬
‫[المائدة‪ ]106/5:‬وتغلظ في المكان عند الحلف على قدر معين من الحقوق‪ ،‬وهذا القدر عند مالك ثلثة‬
‫دراهم فصاعدا‪ ،‬فمن ادعي عليه بثلثة دراهم فأكثر‪ ،‬وجبت عليه اليمين في المسجد الجامع‪ ،‬فإن كان‬
‫مسجد النبي عليه الصلة والسلم‪ ،‬فل خلف أنه يحلف على المنبر‪ ،‬وإن كان في غيره من المساجد‪،‬‬
‫ففيه روايتان‪ :‬إحداهما وهي الراجحة حيثما كان في المسجد‪ ،‬والثانية عند المنبر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع بداية المجتهد‪ ،455/2 :‬المغني‪ ،226/9 :‬مغني المحتاج‪.472/4 :‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير‪ ،174/6 :‬البدائع‪ ،227/6 :‬اللباب شرح الكتاب‪ 40/4 :‬ومابعدها‪ ،‬المغني‪:‬‬
‫‪ 288/9‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/135‬‬

‫وقال الشافعي‪ :‬يحلف في المدينة عند المنبر‪ ،‬وفي مكة بين الركن والمقام‪ ،‬وفي القدس في المسجد‬
‫عند الصخرة‪ ،‬وكذلك يحلف في كل بلد عند المنبر‪ ،‬والنصاب الذي يندب فيه التغليظ كما عرفنا هو‬
‫نصاب الزكاة ‪ ،‬أي عشرون دينارا (‪. )1‬‬
‫ثم قال الحنفية وغيرهم‪ :‬إن كان الحالف كافرا فتغلظ اليمين في حقه‪ ،‬فإن كان يهوديا ‪ ،‬حلف بال‬
‫الذي أنزل التوراة على موسى‪ .‬وإن كان نصرانيا حلف بال الذي خلق النار‪ ،‬فيغلظ على كل واحد‬
‫بحسب اعتقاده‪ .‬والوثني ل يحلف إل بال‪ .‬ول يحلف الكفار عند الحنفية في بيوت عباداتهم‪ ،‬لكراهة‬
‫دخولها‪ ،‬ولما فيه من إيهام تعظيمها‪ .‬وأجاز الحنابلة تحليفهم في المواضع التي يعظمونها (‪. )2‬‬
‫الحلف على البت أو نفي العلم‪ :‬ويحلف الشخص باتفاق أئمة المذاهب الربعة على البت (وهو القطع‬
‫والجزم) في فعله إثباتا كان أو نفيا؛ لنه يعلم حال نفسه ويطلع عليها‪ ،‬فيقول في البيع والشراء حالة‬
‫الثبات‪( :‬وال لقد بعت بكذا أو اشتريت بكذا) وفي حالة النفي‪( :‬وال ما بعت بكذا‪ ،‬ول اشتريت‬
‫بكذا)‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بداية المجتهد‪ ،455/2 :‬الشرح الكبير‪ ،228/4 :‬الشرح الصغير‪ ،314/4 :‬المغني‪،228/9 :‬‬
‫مغني المحتاج‪.472/4 ،377/3 :‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير‪ ،176/6 :‬البدائع‪ ،227/6 :‬اللباب‪ 40/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/136‬‬

‫وكذلك يحلف الشخص أيضا على البت على فعل غيره إن كان المر إثباتا كبيع وإتلف وغصب؛‬
‫لنه يسهل معرفة الواقع والشهادة به‪ ،‬وإن كان نفيا فيحلف على نفي العلم‪ ،‬أي ل يعلم أنه كذلك‪ ،‬لعدم‬
‫علمه بما فعل غيره‪ ،‬فيقول‪( :‬وال ما علمت أنه فعل كذا) لن نفي الشيء يعسر معرفته (‪ . )1‬وعليه‪،‬‬
‫إذا ادعى إنسان على آخر أنه سرق منه شيئا أو غصب منه شيئا‪ ،‬فيحلف المدعى عليه على البت أنه‬
‫ما سرق أو غصب‪ .‬وإن ادعى على فعل الغير‪ ،‬كأن ادعى دينا على ميت بحضور وارثه‪ ،‬أو أن أباه‬
‫سرق منه شيئا‪ ،‬فيحلف الوارث بال ما يعلم أن على أبيه دينا أو أنه سرق هذا الشيء‪.‬‬
‫صفة المحلوف عليه‪ :‬إذا كان المدعى به أرضا وأنكر المدعى عليه‪ ،‬يحلف على الحاصل فعلً في‬
‫النهاية‪ ،‬فيقول‪( :‬وال ما هذه الرض لفلن‪ ،‬ول شيء منها) وإن ادعى أنه أقرضه ألفا أو غصبه ألفا‬
‫أو أودعه ألفا‪ ،‬وأنكر المدعى عليه‪ ،‬فيحلف (بال ما يستحق المدعي رد شيء عليه) ول يحلف بال ما‬
‫استقرضت أو غصبت أو استودعت؛ لنه قد تحصل هذه السباب ثم يفسخ‪ ،‬أي يزول معنى القرض‬
‫أو الغصب أو اليداع بالهبة أو بالبيع‪ ،‬فلو حلف المدعى عليه على السبب الذي هو الغصب ونحوه‬
‫لتضرر به‪ ،‬فيحلف على الحاصل في النهاية لدفع الضرر عنه‪ .‬وقال أبو يوسف‪ :‬إنه يحلف على‬
‫القرض والغصب واليداع‪.‬‬
‫ومن ادعى أنه اشترى من هذا حيوانا‪ ،‬فأنكر المدعى عليه‪ ،‬استحلف بال ما بينكما بيع قائم في هذا‬
‫الحيوان‪ .‬ول يستحلف بال ما بعت‪ ،‬خلفا لبي يوسف؛ لنه قد يبيع الحيوان‪ ،‬ثم يفسخ البيع أو تطرأ‬
‫عليه القالة‪ ،‬فل يبقى البيع على حاله‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،444/4 :‬مغني المحتاج‪ 473/4 :‬وما بعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪ ،180/6 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ 230/9‬وما بعدها‪ .‬قال الكاساني في البدائع‪ :279/5 :‬ومن حلف على غير فعله‪ ،‬يحلف على العلم؛‬
‫لنه ل علم له بما ليس بفعله‪ ،‬ومن حلف على فعل نفسه يحلف على البتات‪.‬‬

‫( ‪)8/137‬‬

‫وفي النكاح‪ ،‬يحلف المنكر‪ ( :‬بال ما بينكما نكاح قائم في الحال ) لنه قد يطرأ عليه الخلع‪.‬‬
‫وكذلك في دعوى الطلق‪ ،‬يحلّف المدعى عليه‪ ( :‬بال ما هي بائن منك في هذه الساعة بالوجه الذي‬
‫ذكرته المدعية ) ول يستحلف بال ما طلقها‪ ،‬خلفا لبي يوسف‪ ،‬لحتمال تجدد النكاح بعد البينونة‪،‬‬
‫فيحلف على ما هو حاصل فعلً في النهاية‪ ،‬لنه لو حلف على السبب الذي هو الطلق‪ ،‬لتضرر‬
‫المدعى عليه‪ ،‬وهذا قول أبي حنيفة ومحمد‪.‬‬
‫أما على قول أبي يوسف‪ :‬فيحلف المدعى عليه في جميع هذه الصور على سبب الدعوى من طلق‬
‫ونحوه إل إذا حدث منه تعريض للقاضي بأمر طارئ كما تقدم‪ ،‬فيقول المدعى عليه للقاضي إذا طلب‬
‫منه اليمين‪( :‬بال ما بعت أيها القاضي‪ ،‬إن النسان قد يبيع شيئا‪ ،‬ثم يقيل فيه) أي يفسخ البيع بالقالة (‬
‫‪. )1‬‬
‫العبرة في اليمين بنية القاضي المستحلف‪ :‬يلحظ أن العبرة في الحلف بنية القاضي المستحلف‬
‫للخصم‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬اليمين على نية المستحلف» (‪ )2‬وقد حمل هذا الحديث على‬
‫الحاكم؛ لنه الذي له ولية الستحلف‪ ،‬فلو أخذ بنية الحالف‪ ،‬لبطلت فائدة اليمان وضاعت الحقوق؛‬
‫إذ كل أحد يحلف على ما يقصد‪ ،‬فلو ورّى الحالف في يمينه‪ ،‬بأن قصد خلف ظاهر اللفظ عند تحليف‬
‫القاضي‪ ،‬أو تأول أي اعتقد خلف نية القاضي‪ ،‬أو استثنى الحالف‪ ،‬كقوله عقب يمينه‪« :‬إن شاء ال»‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع تكملة فتح القدير‪ 177/6 :‬وما بعدها‪ ،‬اللباب شرح الكتاب‪ 41/4 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪:‬‬
‫‪.228/6‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم عن أبي هريرة‪ ،‬وفي لفظ له‪« :‬يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (سبل السلم‪:‬‬
‫‪ ،102/4‬اللمام لبن دقيق العيد‪ :‬ص ‪.)427‬‬

‫( ‪)8/138‬‬
‫أو وصل باللفظ شرطا‪ ،‬مثل‪ :‬إن دخلت الدار (‪ ، )1‬بحيث ل يسمع القاضي كلمه‪ ،‬لم يدفع ما ذكر‬
‫إثم اليمين الفاجرة‪ ،‬وإل ضاع المقصود من اليمين وهو حصول الهيبة من القدام عليها‪.‬‬
‫أثر اليمين في الدعوى‪ :‬أما أثر اليمين في الدعوى فهو يترتب عليها قطع الخصومة والمنازعة وعدم‬
‫المطالبة بالحق في الحال ل مطلقا‪ ،‬وإنما مؤقتا إلى وقت إمكان إقامة البينة‪ ،‬فل تفيد اليمين براءة ذمة‬
‫المدعى عليه عند جمهور العلماء (‪ ، )2‬لما روى ابن عباس «أن النبي صلّى ال عليه وسلم أمر‬
‫رجلً بعد ما حلف‪ ،‬بالخروج من حق صاحبه‪ ،‬كأنه صلّى ال عليه وسلم علم كذبه» (‪ )3‬فدل على أن‬
‫اليمين ل توجب براءة‪.‬‬
‫القضاء بشاهد ويمين ‪:‬‬
‫إذا أقام المدعي شاهدا‪ ،‬وعجز عن تقديم شاهد آخر وحلف مع شاهده‪ ،‬هل يقضى به بشاهده ويمينه؟‬
‫‪ - 1‬قال الحنفية (‪ : )4‬ل يقضى بالشاهد الواحد مع اليمين في شيء‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬واستشهدوا‬
‫شهيدين من رجالكم‪ ،‬فإن لم يكونا رجلين‪ ،‬فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة‪]282/2:‬‬
‫وقوله سبحانه‪{ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق‪ ]2/65:‬طلب القرآن الكريم إشهاد رجلين أو رجل‬
‫وامرأتين‪ ،‬فقبول الشاهد الواحد ويمين المدعي زيادة على النص‪ ،‬والزيادة على النص نسخ‪ ،‬والنسخ‬
‫في القرآن الكريم ل يجوز إل بمتواتر أو مشهور‪ ،‬وليس هناك واحد منهما‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪.475/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،229/6 :‬مغني المحتاج‪ ،477/4 :‬بداية المجتهد‪.454/2 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود والنسائي والحاكم وأحمد عن ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )4‬المبسوط‪ ،30/17 :‬البدائع‪ ،225/6 :‬مقارنة المذاهب في الفقه للستاذين شلتوت والسايس‪ :‬ص‬
‫‪.128‬‬

‫( ‪)8/139‬‬

‫واستدلوا بالسنة أيضا بقوله صلّى ال عليه وسلم فيما رواه مسلم وأحمد‪« :‬ولكن اليمين على المدعى‬
‫عليه» وفي لفظ «البينة على المدعي‪ ،‬واليمين على من أنكر» وقال صلّى ال عليه وسلم لمدعٍ‪:‬‬
‫«شاهداك أو يمينه» (‪. )1‬‬
‫فالحديث الول أوجب اليمين على المدعى عليه‪ ،‬فلو جاز القضاء بشاهد ويمين المدعي‪ ،‬لما بقيت‬
‫اليمين واجبة على المدعى عليه‪ .‬ثم إنه في هذا الحديث وفي الحديث الثاني جعل الرسول عليه الصلة‬
‫والسلم جنس اليمين حجة للمنكر‪ ،‬فإن قبلت يمين المدعي‪ ،‬لم يكن جميع أفراد اليمين على المنكرين‪.‬‬
‫وكذلك تضمن الحديث الثاني قسمة وتوزيعا بين المتخاصمين‪ ،‬والقسمة تنافي اشتراك الخصمين في‬
‫أمر وقعت القسمة فيه‪.‬‬
‫والحديث الثالث خير المدعي بين أمرين ل ثالث لهما‪ :‬إما البينة أو يمين المدعى عليه‪ ،‬والتخيير بين‬
‫أمرين يمنع تجاوزهما إلى غيرهما أو الجمع بينهما‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقال جمهور الفقهاء (‪ : )2‬يقضى باليمين مع الشاهد في الموال‪ ،‬واستدلوا بما ثبت عن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬أنه قضى بشاهد ويمين» (‪. )3‬‬
‫قال الشافعي‪ :‬وهذا الحديث ثابت ل يرده أحد من أهل العلم لو لم يكن فيه غيره‪ ،‬مع أن معه غيره مما‬
‫يشده‪ .‬وقال النسائي‪ :‬إسناده جيد‪ .‬وقال البزار‪ :‬في الباب أحاديث حسان‪ ،‬أصحها حديث ابن عباس‬
‫وقال ابن عبد البر‪ :‬ل مطعن لحد في إسناده‪ ،‬ول خلف بين أهل العلم في صحته‪.‬‬
‫القرار ‪:‬‬
‫القرار سيد الدلة غالبا‪ ،‬وهو إذا كان بيّنا ل خلف في وجوب القضاء به‪ .‬وسأخصص مبحثا مستقلً‬
‫له‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم وأحمد عن الشعث بن قيس (نيل الوطار‪.)302/8 :‬‬
‫(‪ )2‬راجع بداية المجتهد‪ ،456/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،47/4 :‬المهذب‪ ،334 ،301/2 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،482 ،443/4 :‬المغني‪ ،225 ،151/9 :‬الميزان‪ ،200/2 :‬مقارنة المذاهب في الفقه‬
‫للستاذين شلتوت والسايس‪ :‬ص ‪ ،129‬الطرق الحكمية في السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪ 132‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬هذا الحديث متواتر‪ ،‬رواه أكثر من عشرين صحابيا كما ذكر ابن الجوزي والبيهقي‪ ،‬روى ذلك‬
‫في خلفياته والصحابة كأبي هريرة وعمر وابن عمر وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وجابر بن‬
‫عبد ال وسعد بن عبادة وعبد ال بن عمرو‪ ،‬والمغيرة بن شعبة‪ ،‬وعمارة بن حزم‪ ،‬وسُرّق‪ ،‬بأسانيد‬
‫حسان‪ ،‬وأصحها حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الربعة‪ ،‬والدارقطني‬
‫والبيهقي (راجع نصب الراية‪ 96/4 :‬وما بعدها‪ ،‬نيل الوطار‪ ،282/8 :‬النظم المتناثر من الحديث‬
‫المتواتر‪ :‬ص ‪ ،109‬مجمع الزوائد‪ ،202/4 :‬سبل السلم‪ ،131/4 :‬اللمام ‪ :‬ص ‪.)521‬‬

‫( ‪)8/140‬‬
‫المبحث الخامس ـ حكم تعارض الدعويين مع تعارض البينتين ‪:‬‬
‫قد ترفع دعويان للقضاء حول موضوع واحد‪ ،‬ويكون لكل واحد من المتداعيين بينة تساند مدعاه‪،‬‬
‫وتثبت حقه في موضوع الدعوى المتنازع عليه‪ ،‬فكيف يقضي القاضي بينهما؟‬
‫تنازع الدعويين قد يكون في ملك مطلق أو في ملك مقيد بسبب‪ .‬والملك المطلق‪ :‬أن يدعي شخص‬
‫الملك من غير أن يتعرض لذكر سبب الملكية‪ ،‬بأن يقول‪« :‬هذا ملكي» ول يقول‪« :‬هذا ملكي بسبب‬
‫الشراء أو الرث أو نحوهما» ‪.‬‬
‫والملك المقيد بسبب‪ :‬أن يدعي شخص ملكية شيء مع بيان سبب الملكية كنتاج ونكاح وشراء وإرث (‬
‫‪. )1‬‬
‫وتعارض الدعويين في ملك مطلق يحدث عادة بين اثنين‪ :‬أحدهما ـ يكون الشيء في يده وهو‬
‫المسمى صاحب اليد أو الداخل أو الحائز (‪ . )2‬والثاني ـ ل يكون الشيء في يده‪ ،‬ويسمى في لغة‬
‫الفقهاء‪ :‬الخارج أو غير الحائز‪ ،‬وقد يتم التنازع بين الخارجين عن ذي اليد‪ ،‬أو بين ذوي اليد أنفسهم‪.‬‬
‫وقد تكون بينة كل من المتنازعين مؤرخة‪ ،‬أو إحداهما مؤرخة‪ ،‬والخرى بدون تاريخ‪ ،‬أو أن تاريخ‬
‫إحداهما أسبق من الخرى‪.‬‬
‫تبحث هذه الفتراضات في نوعين‪ :‬دعوى الملك المطلق ودعوى الملك المقيد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تكملة فتح القدير‪.156/6 :‬‬
‫(‪ )2‬الحيازة‪ :‬وضع اليد على الشيء والستيلء عليه‪ ،‬وتصرف الحيازة مثل السكنى والزرع والغرس‬
‫والهبة والبيع والهدم ونحوها‪.‬‬

‫( ‪)8/141‬‬

‫النوع الول ـ تعارض الدعويين مع تعارض البينتين في ملك مطلق ‪:‬‬


‫نجد في هذا القسم احتمالت ثلثة‪ :‬وهي التعارض في الدعويين بين الخارج عن ذي اليد وذي اليد‪،‬‬
‫والتعارض في الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد‪ ،‬والتعارض في الدعويين بين ذوي اليد‪.‬‬
‫الول ـ تعارض الدعويين بين الخارج وذي اليد‪ :‬إذا كانت الدعوى من الخارج أي (غير الحائز)‬
‫على ذي اليد أي (الحائز) دعوى الملك‪ ،‬وأقام كل منهما بينة‪ ،‬فإما أن تكون البينتان غير مؤرختين‪،‬‬
‫أو مؤرختين وتاريخهما سواء‪ ،‬أو تاريخ أحدهما أسبق من الخر‪ ،‬أو أحدهما بتاريخ‪ ،‬والخر من غير‬
‫تاريخ‪.‬‬
‫ففي هذه الصور قال الحنفية والحنابلة في الجملة‪ :‬تقدم بينة المدعي‪ ،‬أي الخارج إل أن تكون بينة‬
‫أحدهما أسبق تاريخا من الخرى‪ ،‬فتقدم عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪ ،‬ول تقبل بينة صاحب اليد في‬
‫الملك المطلق؛ لنها ل تفيد أكثر مما تفيد اليد؛ إذ أن ظاهر الملك ثابت له باليد فلم تثبت له شيئا‬
‫زائدا‪ .‬والتفصيل فيما يأتي (‪: )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،32/17 :‬تكملة فتح القدير‪ 156/6 :‬ومابعدها‪ ،‬البدائع‪ ،232 ،225/6 :‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ ،455/4‬كتاب القدوري مع اللباب‪ ،32/4 :‬المغني‪ 275/9 :‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/142‬‬

‫‪ - 1‬إذا كانت الدعوى من الخارج على ذي اليد بدون تاريخ‪ :‬فبينة المدعي وتسمى بينة الخارج أولى‬
‫بالقبول عند الحنفية والحنابلة؛ لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬البينة على المدعي‪ ،‬واليمين على‬
‫المدعى عليه» (‪ )1‬فجعل جنس البينة على المدعي‪ ،‬فل يؤبه لبينة ذي اليد؛ لنه ليس بمدع‪ ،‬فل تكون‬
‫البينة حجته (‪ . )2‬والدليل على أنه ليس بمدع عدم انطباق وصف المدعى عليه‪ ،‬لن المدعي‪ :‬هو من‬
‫يخبرعما في يد غيره لنفسه‪ .‬والموصوف بهذه الصفة هو الخارج‪ ،‬ل ذو اليد؛ لنه يخبر عما في يد‬
‫نفسه لنفسه‪ ،‬فلم يكن مدعيا‪ ،‬وإنما هو مدعى عليه‪ ،‬فل تكون البينة حجة له‪ ،‬فتعد بينته لغية‪.‬‬
‫ولن بينة المدعي أكثر فائدة‪ ،‬فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل‪ ،‬ودليل كثرة فائدتها‪ :‬أنها‬
‫تثبت شيئا لم يكن‪ ،‬وبينة المنكر إنما تثبت أمرا ظاهرا تدل اليد عليه‪ ،‬فلم تكن مفيدة‪ ،‬أي أن بينته ل‬
‫تفيد أكثر مما تفيد اليد‪ ،‬أي الحيازة فقط‪.‬‬
‫‪ - 2‬إذا كانت البينتان مؤرختين‪ ،‬وتاريخهما سواء‪ :‬يقضى للمدعي الخارج؛ لنه لم يثبت سبق ملك‬
‫أحدهما؛ إذ أنه بطل اعتبار الوقتين للتعارض‪ ،‬فبقي الحال حال دعوى ملك مطلق‪ ،‬كالصورة الولى‪.‬‬
‫‪ - 3‬إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الخر‪ :‬يقضى للسبق وقتا أيهما كان عند أبي حنيفة وأبي‬
‫يوسف ومحمد‪ .‬وروي في النوادر عن محمد أنه رجع عن هذا القول عند رجوعه من الرقة‪ ،‬وقال‪ :‬ل‬
‫تقبل من صاحب اليد بينة على وقت ول غيره إل في النتاج؛ لنه ل قيمة لبينته إذ أنه مدعى عليه‪،‬‬
‫والبينة حجة المدعي‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد والشيخان وابن ماجه عن ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )2‬وبعبارة أخرى‪ :‬هي أن الشرع قد جعل البينة في حيز المدعي واليمين في حيز المدعى عليه‪،‬‬
‫فوجب أل ينقلب المر‪ ،‬وهذا عندهم من باب العبادة‪.‬‬

‫( ‪)8/143‬‬

‫والصحيح القول الول وهو ظاهر الرواية؛ لن بينة صاحب الوقت السبق أظهرت الملك له في وقت‬
‫ل ينازعه فيه أحد‪ ،‬فيثبت له الحق في موضوع النزاع إلى أن يثبت الخر سببا لنقل الملكية له‪.‬‬
‫‪ - 4‬إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الخر‪ :‬يقضى للخارج عند أبي حنيفة ومحمد؛ لن الملك المطلق‬
‫يحتمل التأخر والسبق‪ ،‬لجواز أن صاحب البينة المطلقة لو وقتت بينته‪ ،‬كان وقتها أسبق‪ .‬فوقع‬
‫الحتمال في سبق الملك المؤقت‪ ،‬وإذا حصل الحتمال في شيء سقط اعتباره‪ ،‬فيسقط اعتبار الوقت‪،‬‬
‫وتبقى الدعوى دعوى ملك مطلق‪ ،‬فيقضى للخارج‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف‪ :‬يقضى لصاحب البينة المؤرخة؛ لن بينة صاحب الوقت أظهرت الملك له في وقت‬
‫معين خاص به‪ ،‬ل يعارضها فيه بينة مدعي الملك المطلق بيقين‪ ،‬بل تحتمل بينته المعارضة وعدمها‪،‬‬
‫والمعارضة ل تثبت بالشك‪ ،‬فبقيت بينة صاحب التاريخ سالمة عن المعارضة‪ ،‬فيقضى له‪.‬‬
‫وقال المالكية والشافعية في هذه الصور (‪ : )1‬تقدم بينة صاحب اليد وتسمى بينة الداخل على‬
‫الطلق؛ لنهما استويا في إقامة البينة‪ ،‬فتعارضت البينتان‪ ،‬وترجحت بينة صاحب اليد بيده أي‬
‫بحيازته‪ ،‬كترجيح أحد الحديثين المتعارضين بالقياس‪ ،‬فيقضى بالشيء لصاحب اليد‪ ،‬ولن بينة المدعى‬
‫عليه تفيد معنى زائدا على كون الشيء المدعى فيه موجودا بيده‪.‬‬
‫ولن جانب المدعى عليه أقوى‪ ،‬استصحابا للصل‪ ،‬فالصل معه وهو بقاء ما كان على ما كان‪،‬‬
‫ويمينه تقدم على يمين المدعي‪ ،‬فإذا تعارضت البينتان‪ ،‬وجب إبقاء يد صاحب اليد على ما كانت‬
‫عليه‪ ،‬ويقدم هو‪ ،‬كما لو لم تكن بينة لحد المتنازعين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،480/4 :‬المهذب‪.311/2 :‬‬

‫( ‪)8/144‬‬

‫ويؤيد هذا حديث جابر بن عبد ال ‪« :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم اختصم إليه رجلن في دابة أو‬
‫بعير‪ ،‬فأقام كل واحد منهما البينة بأنها له أنتجها‪ ،‬فقضى بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم للذي هي‬
‫في يده» (‪. )1‬‬
‫الثاني ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد في ملك مطلق ‪:‬‬
‫إذا تنازع اثنان عينا‪ ،‬وهي في يد شخص ثالث‪ ،‬وهو منكرلها‪ ،‬وأقام كل منهما بينة يريد بها إثبات‬
‫حقه فيها‪.‬‬
‫فقال الشافعية في الرجح‪ :‬تهاترت البينتان أي تساقطتا وبطلتا لتناقض موجبيهما‪ ،‬سواء أكانت البينتان‬
‫مطلقتي التاريخ‪ ،‬أم متفقتين فيه‪ ،‬أم إحداهما مطلقة عن التاريخ والخرى مؤرخة‪ .‬فأشبه ذلك تعارض‬
‫الدليلين ول مرجح بينهما‪ ،‬فكأنه ل بينة‪ ،‬ويصار إلى الحكم في القضية‪ ،‬كما لو تداعيا ول بينة لواحد‬
‫منهما‪ ،‬فيحلف كل واحد منهما يمينا‪ ،‬ويقضى بالشيء بينهما نصفين‪ .‬وفي قول عندهما‪ :‬يقرع بينهما‪،‬‬
‫ويرجح من خرجت قرعته (‪. )2‬‬
‫وكذلك قال المالكية‪ :‬تسقط البينتان‪ ،‬ويقضى كأنه ل بينة فيحلف كل منهما يمينا‪ ،‬ويقسم الشيء بينهما‪،‬‬
‫فإن حلف أحدهما دون الخر قضي له (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البيهقي ولم يضعفه بلفظ‪« :‬أن رجلين اختصما في ناقة‪ ،‬فقال كل واحد منهما‪ :‬نُتجت هذه‬
‫الناقة عندي‪ ،‬وأقاما بينة‪ ،‬فقضى بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم للذي هي في يده‪ .‬ورواه‬
‫الدارقطني وفي إسناده ضعف‪ ،‬ورواه أبو حنيفة‪ ،‬وأخرج نحوه عن الشافعي إل أن فيه «تداعيا دابة»‬
‫ولم يضعف إسناده (راجع سبل السلم‪ )135/4 :‬وانظر حادثة مشابهة رواها الطبراني في مجمع‬
‫الزوائد‪.203/4 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،480/4 :‬المهذب‪.311/2 :‬‬
‫(‪ )3‬بداية المجتهد‪ ،461/2 :‬الميزان‪ ،195/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪ 222/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/145‬‬

‫والراجح عند الحنابلة‪ :‬أنه تسقط البينتان ويقترع المدعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة‪ ،‬فمن‬
‫خرجت له قرعته حلف‪ ،‬وأخذ العين (‪. )1‬‬
‫وقال الحنفية في الجملة‪ :‬يقضى بالشيء بينهما نصفين إل أن يكون تاريخ أحدهما أسبق‪ ،‬فيقضى له‬
‫به‪ ،‬وتفصيله في الصور الربعة التية (‪: )2‬‬
‫‪ 1‬و ‪ 2‬ـ إذا كانت الدعوى من الخارجين‪ ،‬وقامت البينتان على ملك مطلق‪ ،‬بل تاريخ أو تاريخهما‬
‫سواء‪ ،‬والشيء في يد ثالث‪ :‬فيقضى به بينهما نصفين‪ ،‬عملً بالبينتين بقدر المكان (‪ ، )3‬صيانة لهما‬
‫عن اللغاء؛ لن العمل بالدليل واجب بالقدر الممكن‪ ،‬أي أنه إذا تعذر العمل بالبينتين في كل الشيء‬
‫المتنازع فيه‪ ،‬أمكن العمل بهما في بعض الشيء‪ ،‬فيقضى لكل واحد منهما بالنصف؛ لنهما تساويا في‬
‫الدعوى‪ ،‬فيتساويان في القسمة‪.‬‬
‫ويؤيده «أن رجلين اختصما إلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم في بعير‪ ،‬وأقام كل واحد منهما البينة‬
‫أنه له‪ ،‬فقضى رسول ال صلّى ال عليه وسلم به بينهما نصفين» (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪.287/9 :‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير‪ ،217/6 :‬البدائع‪ ،236/6 :‬الدر المختار‪ ،465/4 :‬اللباب شرح الكتاب‪.32/4 :‬‬
‫(‪ )3‬لكن إن ادعى اثنان نكاح امرأة‪ ،‬وأقاما البينة على ذلك‪ ،‬لم يقض بواحدة من البينتين لعدم أولوية‬
‫إحداهما‪ ،‬وتعذر الحكم بهما لعدم قبول المحل اشتراكهما‪ ،‬ويرجع إلى تصديق المرأة لحدهما‪ ،‬إذا لم‬
‫تؤقت البينتان وقتا للزواج‪ ،‬فأما إذا وقتتا‪ ،‬فصاحب الوقت الول أولى‪ .‬وإن أقرت المرأة لحدهما قبل‬
‫إقامة البينة‪ ،‬فهي امرأته لتصادقهما على الزواج‪ ،‬والزواج مما يحكم به بتصادق الطرفين‪ .‬فإن أقام‬
‫الخر البينة على الزواج‪ ،‬قضي بها لن البينة أقوى من القرار‪( .‬اللباب شرح الكتاب‪.)32/ 4 :‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي عن أبي موسى الشعري بلفظ ((أن رجلين‬
‫ادعيا بعيرا على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبعث كل واحد منهما بشاهدين‪ ،‬فقسمه النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم بينهما نصفين)) ورواه الطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة‪ ،‬وفيه متروك‬
‫(نصب الراية‪ ،109/4 :‬نيل الوطار‪ ،200/8 :‬اللمام‪ :‬ص ‪ ،522‬سبل السلم‪)13/4 :‬‬

‫( ‪)8/146‬‬

‫‪ - 3‬إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الخر‪ :‬فالسبق أولى؛ لن كلً من الخارجين ينطبق عليه‬
‫وصف المدعي‪ ،‬فكانت بينتاهما مسموعتين مقبولتين قضاء‪ ،‬فترجح إحداهما بأسبقية التاريخ؛ لنها‬
‫أثبتت الملك في وقت لم تعارضه فيه البينة الخرى‪ ،‬فيؤمر صاحب اليد بتسليم الشيء المتنازع عليه‬
‫إلى المقضي له‪ ،‬إلى أن يثبت الخر انتقال الملكية إليه بطريق ما‪.‬‬
‫‪ - 4‬إن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الخر‪ :‬يقضى بينهما نصفين عند أبي حنيفة‪ ،‬ول عبرة للتاريخ؛ لن‬
‫الملك المؤرخ يحتمل أن يكون سابقا عن تاريخ ملك الخر‪ ،‬ويحتمل أن يكون متأخرا عنه‪ ،‬لوجود‬
‫احتمال أن صاحب الملك الخر لو أرخ لكان تاريخه أقدم‪ ،‬ونظرا لطروء الحتمال في التاريخ‪ ،‬سقط‬
‫اعتباره‪ ،‬فبقي ادعاء ملك مطلق بالنسبة لكل منهما‪ .‬وعند أبي يوسف‪ :‬يقضى لصاحب الوقت‪ ،‬أي‬
‫صاحب الملك المؤرخ؛ لن البينة المؤرخة أظهرت الملك في زمان ل تعارضها فيه بيقين البينة‬
‫المطلقة عن التاريخ‪ ،‬بل تحتمل المعارضة وعدم المعارضة‪ ،‬فل تثبت المعارضة بالشك‪ ،‬فتثبت بينة‬
‫صاحب التاريخ بل معارض‪ ،‬فيكون هو أولى بالشيء‪.‬‬
‫وعند محمد‪ :‬يقضى لصاحب الملك المطلق الذي لم تذكر بينته تاريخا؛ لن البينة القائمة على الملك‬
‫المطلق أقوى؛ إذ أنه مالك من الصل حكما‪ ،‬بدليل استحقاقه زوائد الشيء من أولد وألبان وأصواف‬
‫وغلت ونحوها‪.‬‬

‫( ‪)8/147‬‬

‫الثالث ـ تعارض الدعويين في ملك مطلق بين ذوي اليد ‪:‬‬


‫إذا كانت هناك دار يحوزها اثنان‪ ،‬أي تحت يدهما‪ ،‬فادعاها كل منهما‪ ،‬وأقام كل منهما بينة على‬
‫ملكيته لها‪ ،‬فقال الشافعية على الصحيح (‪ : )1‬تهاترت البينتان‪،‬‬
‫أي تساقطتا وبطلتا لتعارضهما وتناقض موجبهما‪ ،‬كتعارض الدليلين دون مرجح لحدهما‪ ،‬فيقضى‬
‫ببقاء الدار في يدهما‪ ،‬كما كانت قضاء ترك‪ ،‬إذ ليس أحدهما أولى بها من الخر‪ .‬وفي قول‪ :‬يقرع‬
‫بينهما كما أشرت سابقا‪.‬‬
‫وقال الحنابلة‪ :‬إذا تنازع رجلن في عين في أيديهما‪ ،‬وأقام كل واحد منهما بينة‪ ،‬وتساوت البينتان‪،‬‬
‫تعارضتا‪ ،‬وقسمت العين بينهما نصفين‪ ،‬لما روى أبو موسى رضي ال عنه‪« :‬أن رجلين اختصما إلى‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين‪ ،‬فقضى رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين» رواه أبو داود‪ ،‬ولن كل واحد من المتنازعين يعد بالنسبة لما في‬
‫يده داخلً في نصف الشيء‪ ،‬وخارجا عن النصف الخر (‪ )2‬وقد عرفنا أنه يقضى ببينة الخارج؛ لنه‬
‫هو المدعي‪.‬‬
‫وقال الحنفية في الجملة‪ :‬يقضى بالشيء بين صاحبي اليد نصفين‪ ،‬إل أن تكون بينة أحدهما أسبق‬
‫تاريخا من بينة الخر‪ ،‬وتفصيله فيما يأتي (‪. )3‬‬
‫‪ - 1‬إن أقام كل واحد من صاحبي اليد بينة أن الشيء له‪ :‬فإنه يقضى لكل واحد منهما بالنصف الذي‬
‫في يد صاحبه؛ لنه كما ذكر عند الحنابلة يعتبر خارجا بالنسبة لذلك النصف‪ ،‬والخارج‪ :‬هو المدعي‪،‬‬
‫وهوالذي تقبل بينته‪ ،‬وأما النصف الذي في يده فيترك في يده قضاء ترك‪ ،‬وعلى هذا فكأن الدار‬
‫الواحدة بمنزلة دارين‪ ،‬في يد كل واحد منهما دار‪ ،‬وكل واحد منهما يدعيها‪ ،‬فكان كل واحد منهما‬
‫مدعيا لما في يد صاحبه‪ ،‬فعليه البينة‪ ،‬ومنكر الدعوى‪ :‬صاحبه بالنسبة لما في يده‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،480/4 :‬المهذب‪.311/2 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ 280/9 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ 240/6 :‬ومابعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪ 248/6 :‬ومابعدها‪ ،‬المبسوط‪ ،32/17 :‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ ،460/4‬الكتاب مع اللباب‪.32/4 :‬‬

‫( ‪)8/148‬‬

‫وكذلك إن أقام أحدهما البينة ولم يقم الخر بينة‪ :‬يقضى له بالنصف الذي في يد صاحبه‪ ،‬وأما ما في‬
‫يده فيترك في يده قضاء ترك‪.‬‬
‫وأيضا إذا لم يكن لحدهما بينة‪ :‬يترك الشيء في يديهما قضاء ترك‪ ،‬حتى لو قامت لحدهما بينة‬
‫بعدئذ تقبل؛ لنه لم يصر مقضيا عليه حقيقة‪.‬‬
‫‪ - 2‬إن أرخ كل منهما بينته‪ ،‬وتاريخهما سواء يقضي بالشيء بينهما نصفين‪ ،‬كما في الصورة‬
‫الولى‪.‬‬
‫‪ - 3‬إذا كان تاريخ أحدهما أسبق‪ :‬فالسبق أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪.‬‬
‫وقال محمد‪ :‬ل عبرة للتاريخ بالنسبة لصاحب اليد‪ ،‬فيكون الشيء بينهما نصفين‪ ،‬والحجج سبق بيانها‪.‬‬
‫‪ - 4‬إن أرخ أحدهما دون الخر‪ :‬يقضى بالشيء بينهما نصفين عند أبي حنيفة ومحمد‪ ،‬ول عبرة‬
‫للوقت؛ لنه ساقط العتبار لوجود الحتمال في تقدمه عن تاريخ بينة الخر وتأخره‪ .‬وقال أبو‬
‫يوسف‪ :‬هو لصاحب التاريخ‪ ،‬وأدلة كل من الفريقين عرفت فيما سبق‪.‬‬
‫هل ترجح بينة أحد المتداعيين بكثرة عدد الشهود أو اشتهار العدالة؟‪.‬‬
‫في الصور السابقة الذكر وغيرها من حالت تعارض البينات قرر جمهور الفقهاء أنه ل ترجح إحدى‬
‫البينتين بكثرة عدد الشهود‪ ،‬ول اشتهاد العدالة؛ لن كلً من البينتين حجة كاملة من الطرفين بتقدير‬
‫الشرع‪ ،‬فل تتقوى بالزيادة‪ ،‬كما هو الشأن في الديات‪ :‬ل يختلف مقدارها باختلف الشخاص‪ .‬وقال‬
‫المام مالك‪ :‬يرجح بزيادة العدالة‪ ،‬كما يرجح بها أحد الخبرين‬

‫( ‪)8/149‬‬

‫المرويين‪ ،‬ول يرجح بكثرة العدد (‪. )1‬‬


‫النوع الثاني ‪ -‬تعارض الدعويين مع تعارض البينتين في دعوى الملك بسبب‪ :‬دعوى الملك بسبب‬
‫كما عرفنا‪ :‬هي أن يذكر فيها سبب الملك من إرث أو شراء أو نتاج‪ .‬وأبحث كل حالة على حدة فيما‬
‫يأتي‪ .‬ومجمل القول في الملك المقيد عند الحنفية‪ :‬هو أنه إذا ادعى اثنان تلقي الملك من واحد‬
‫وأحدهما قابض‪ ،‬أو ادعيا الشراء من اثنين‪ ،‬وأرخا وتأريخ ذي اليد أسبق‪ ،‬ففي هاتين الصورتين تقبل‬
‫بينة ذي اليد باتفاق الحنفية‪.‬‬
‫الحالة الولى ـ دعوى الملك بسبب الرث ‪:‬‬
‫يكون بحث تعارض دعويي الملك بسبب الرث في حالتين‪ :‬حالة ما إذا كان أحد المتداعيين خارجا‪،‬‬
‫والخر صاحب يد‪ ،‬وحالة ما إذا كان التداعي بين خارجين على ما في يد ثالث‪.‬‬
‫أولً ـ تعارض الدعويين بين الخارج وذي اليد في دعوى الملك بالرث ‪:‬‬
‫إذا كان متاع في يد رجل‪ ،‬فأقام رجل البينة أن أباه مات وتركه ميراثا له‪ ،‬وأقام صاحب اليد البينة أن‬
‫أباه مات وتركه ميراثا له‪ ،‬فقال الحنفية‪ :‬يقضى به للخارج سواء ذكروا وقتا أم لم يؤقتوا‪ ،‬أو أرخوا‬
‫وكان تاريخهما سواء‪ .‬فإن كان تاريخ أحدها أسبق فهو له‪ .‬وتفصيله فيما يأتي (‪: )2‬‬
‫‪ - 1‬إذا أقام كل واحد من الخارج وذي اليد البينة على أنه ملكه مات أبوه وتركه ميراثا له‪ :‬يقضى به‬
‫للخارج؛ لن كل واحد من المتداعيين أثبت ملكية المتاع للميت‪ ،‬لكن قام الوارث مقام الميت فيما‬
‫يملكه‪ ،‬فكأن الوارثين ادعيا ملكا مطلقا من غير سبب‪ ،‬فيقضى به للخارج‪ ،‬كما عرفنا في دعوى الملك‬
‫المطلق‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تكملة فتح القدير‪ ،243/6 :‬المبسوط‪ ،41/17 :‬الدر المختار‪ ،495/4 :‬اللباب‪ ،37/4 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،482/4 :‬الميزان‪ ،195/2 :‬المغني‪ ،282/9 :‬بداية المجتهد‪ ،461/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪:‬‬
‫‪.220/4‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،44/17 :‬البدائع‪.233/6 :‬‬

‫( ‪)8/150‬‬

‫‪ 2‬و ‪ 3‬ـ كذلك يقضى بالمتاع المتنازع عليه للخارج إذا أرخا وتاريخهما سواء أو ذكر أحدهما‬
‫تاريخا دون الخر؛ لنه في الصورة الولى سقط اعتبار الوقتين للتعارض‪ ،‬فبقي دعوى مطلق الملك‪.‬‬
‫وفي الصورة الثانية‪ :‬ل عبرة للوقت؛ لنه يحتمل تأخر ملك الخر وتقدم‪ ،‬ومع الحتمال ل ينظر إلى‬
‫الوقت‪.‬‬
‫‪ - 4‬إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الخر‪ :‬فهو لصاحب الوقت السبق عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛‬
‫لن بينته أثبتت له الملك في وقت ل ينازعه فيه الخر‪.‬‬
‫وقال محمد‪ :‬يقضى به للخارج؛ لن دعوى الرث دعوى ملك الميت‪ ،‬فكل واحد من البينتين أظهرت‬
‫ملك الميت‪ ،‬لكن قام الوارث مقام الميت في ملك الميت‪ ،‬فكأن المورثين ادعيا ملكا مطلقا أو مؤرخا‬
‫منذ سنة مثلً من غير ذكر سبب للملك‪ ،‬وقد عرفنا أنه في هذه الحالة يقضى بالشيء للخارج عند‬
‫محمد‪.‬‬
‫ثانيا ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ثالث في دعوى الرث ‪:‬‬
‫إذا وجدت دار في يد شخص‪ ،‬ثم أقام شخصان آخران غيره‪ ،‬كل منهما البينة على أن الدار ملك له‪،‬‬
‫مات أبوه‪ ،‬وترك الدار ميراثا له‪.‬‬
‫قال الحنفية (‪ : )1‬يقضى بالدار بين الشخصين نصفين‪ ،‬سواء أرخت البينتان وقت الرث أم لم‬
‫تؤرخاه‪ ،‬أو كان تاريخهما سواء‪ ،‬لما ذكر أن الملك الموروث هو ملك الميت بعد موته‪ ،‬وإنما الوارث‬
‫يخلفه‪ ،‬ويقوم مقامه في ملكه‪ ،‬فكأن المورثين حضرا وادعيا ملكا مطلقا عن الوقت لهما في يد ثالث‪،‬‬
‫أو مؤقتا وكان تاريخهما سواء‪ ،‬أو أحدهما مؤقتا والخر مطلقا‪ ،‬وقد عرفنا أنه يقضى بالشيء حينئذ‬
‫مناصفة بين الخارجين؛ لنهما مدعيان متساويان في الدعاء‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجعان السابقان‪ ،‬المبسوط‪ :‬ص ‪ ،41‬البدائع‪ :‬ص ‪.237‬‬

‫( ‪)8/151‬‬

‫وإن كان تاريخ أحدهما أسبق‪ :‬فهو له عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لن الوارث بإقامة البينة يظهر‬
‫الملك للمورث ل لنفسه‪ ،‬فيصير كأنه حضر المورثان‪ ،‬وأقام كل واحد منهما بينة مؤرخة‪ ،‬وتاريخ‬
‫أحدهما أسبق‪ ،‬وحينئذ يقضى لسبقهما وقتا‪ ،‬لثباته الملك في وقت ل تعارضه فيه بينة الخر‪.‬‬
‫وقال محمد‪ :‬يقضى بالشيء بين الخارجين في هذه الحالة نصفين‪ ،‬ول عبرة للتاريخ عنده في‬
‫الميراث‪ ،‬لما ذكر أن الموروث ملك الميت‪ ،‬والوارث قام مقامه‪ ،‬فلم يكن الموت تاريخا لملك الوارث‪،‬‬
‫فسقط اعتبار التاريخ لملكه‪ ،‬وكأنه لم يكن‪ ،‬فبقي دعوى الملك المطلق عن التاريخ‪ ،‬فيتساوى الخارجان‬
‫حينئذ‪.‬‬
‫الحالة الثانية ـ دعوى الملك بسبب الشراء ‪:‬‬
‫إذا تنازع اثنان على ملكية دار مثلً‪ ،‬وكانت الدار في يد أحدهما فادعى أحدهما الشراء من الخر‪ ،‬أو‬
‫ادعى كل منهما الشراء من صاحبه‪ ،‬أو كانت الدار في يد شخص ثالث‪ ،‬فادعى كل منهما الشراء من‬
‫صاحب اليد أو من رجل آخر غير الذي ادعى عليه صاحبه‪ ،‬فكيف يحكم القاضي بينهما؟ يعرف‬
‫الجواب من الصور التية‪:‬‬
‫‪ - 1‬التنازع بين الخارج وذي اليد(‪: )1‬‬
‫نجد في هذه الحالة افتراضات ثلثة‪:‬‬
‫أولً ـ إذا ادعى الخارج أنه اشترى هذه الدار من صاحب اليد بألف ليرة ونقده الثمن‪ :‬يقضى للخارج‬
‫بالبينة؛ لنه هو المدعي‪.‬‬
‫ثانيا ـ إذا ادعى صاحب اليد الشراء من خارج‪ :‬يقضى له بالبينة؟ لنه يصح تلقي الملك من الخارج؛‬
‫لنه هو المدعي‪.‬‬
‫ثالثا ـ إذا ادعى كل واحد من الخارج وصاحب اليد أنه اشترى الدار من صاحبه بألف ليرة ونقده‬
‫الثمن‪ ،‬وأقام كل واحد منهما البينة على ذلك ولم يؤرخا وقت الشراء‪ ،‬أو أرخا وتاريخهما سواء‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 233/6 :‬ومابعدها‪ ،‬تحفة الفقهاء‪ 301/3 :‬ومابعدها الطبعة القديمة‪ ،‬الكتاب مع اللباب‪:‬‬
‫‪.36/4‬‬

‫( ‪)8/152‬‬

‫فإن لم يثبتا قبض المبلغ بالبينة‪ :‬ل تقبل البينتان عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪ ،‬ول يجب لواحد منها‬
‫على صاحبه شيء‪ ،‬ويترك المدعى به في يد الحائز‪ ،‬أي صاحب اليد؛ لن كل مشت ٍر يكون مقرا بكون‬
‫المبيع ملكا للبائع‪ .‬وعلى هذا تعد دعوى الشراء من كل واحد منهما إقرارا بملك المبيع لصاحبه‪،‬‬
‫وتكون البينتان قائمتين على إثبات إقرار كل واحد منهما بالملك لصاحبه‪ ،‬وبين موجبي القرارين‬
‫تناف وتناقض‪ ،‬فتعذر العمل بالبينتين أصلً‪.‬‬
‫وقال محمد‪ :‬يقضى بالبينتين‪ ،‬ويؤمر صاحب اليد بتسليم المدعى به للخارج؛ لن الجمع والتوفيق بين‬
‫الدليلين مطلوب بقدر المكان‪ ،‬والتوفيق هنا ممكن‪ :‬بتصحيح العقدين بأن نفترض أن صاحب اليد‬
‫اشترى المبيع أولً من الخارج‬
‫وقبضه‪ ،‬ثم اشتراه الخارج ثانية من صاحب اليد‪ ،‬ولم يقبضه‪ ،‬وإنما باعه مرة أخرى لصاحب اليد‪.‬‬
‫فبذلك يمكن تصحيح العقدين‪ :‬الول والثاني بالتقدير المذكور‪.‬‬
‫ول يصح افتراض العكس‪ :‬بأن نقدر أن الخارج اشترى أولً من صاحب اليد‪ ،‬ولم يقبضه‪ ،‬وإنما باعه‬
‫ثانية لصاحب اليد؛ لنه يترتب على هذا الفتراض إفساد العقد الثاني؛ لن هذا بيع للعقار المبيع قبل‬
‫قبضه‪ ،‬وهذا البيع غير جائز عند محمد‪ ،‬كما هو معروف في عقد البيع‪.‬‬
‫وإذا صح العقدان بحسب الفتراض الول‪ ،‬فيبقى الشيء في يد الحائز صاحب اليد‪ ،‬فيؤمر بتسليمه‬
‫إلى الخارج‪.‬‬
‫وأما إذا أرخا‪ ،‬وتاريخ أحدهما أسبق‪ ،‬ولم تذكر البينتان قبضا‪ :‬فإنه يقضى لصاحب البيع المتأخر وقتا‪،‬‬
‫والبيع الثاني ينقض البيع الول عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪.‬‬

‫( ‪)8/153‬‬

‫وعند محمد‪ :‬يقضى للخارج؛ لن بيعه إذا كان أسبق‪ ،‬افترض كأنه اشترى الدار أولً‪ ،‬ولم يقبضها‪ ،‬ثم‬
‫باعها لصاحب اليد‪ ،‬وبيع العقار قبل القبض ل يجوز عنده‪ ،‬وإذا لم يجز بقي المبيع على ملك الخارج‪.‬‬
‫أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪ ،‬فيجوز‪ ،‬فصح البيعان ويقضى بالشيء لصاحب اليد‪.‬‬
‫وإذا كان بيع صاحب اليد أسبق‪ :‬فيقضى بالدار للخارج اتفاقا؛ لنه إذا كان وقته أسبق يجعل سابقا في‬
‫الشراء‪ ،‬كأنه اشترى من الخارج وقبض‪ ،‬ثم اشترى منه الخارج ولم يقبض‪ ،‬فيؤمر بتسليم الدار إليه‪.‬‬
‫وأما إن أثبتا القبض بالبينة‪ :‬فقد تهاترت البينتان ‪ ،‬أي تساقطتا عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪ ،‬ويقضى‬
‫بالدار قضاء ترك لمن كانت الدار في يده‪ .‬وقال محمد‪ :‬يقضى بالدار لمن كانت في يده قضاء حقيقة‪،‬‬
‫وتحصل مقاصة بين ثمن البيع الول وثمن البيع الثاني‪ ،‬فمن زاد له أخذ الزيادة من صاحبه‪ ،‬كأن‬
‫الخارج اشترى الدار من الداخل صاحب اليد‪ ،‬فقبضها ثم اشتراها الداخل منه‪ ،‬وقبض‪ ،‬تصحيحا‬
‫لتصرف النسان؛ لنه مهما أمكن أن يجعل القبض قبض بيع‪ ،‬يجعل‪.‬‬
‫‪ - 2‬التنازع بين الخارجين على ما في يد شخص ثالث ‪:‬‬
‫نجد في هذه الحالة افتراضين‪:‬‬
‫أولً ـ أن يدعي الخارجان الشراء من شخص واحد على صاحب اليد ‪:‬‬
‫إذا ادعى اثنان دارا عند إنسان آخر‪ ،‬كان قد اشتراه كل منهما من واحد معين‪ ،‬وأقاما البينة على‬
‫الشراء منه بثمن معلوم‪ ،‬ونقد الثمن‪:‬‬

‫( ‪)8/154‬‬

‫قال الحنفية (‪ : )1‬فإن لم يذكرا تاريخا للشراء ول قبضا للمبيع‪ :‬يقضى بالدار بينهما نصفين ويثبت‬
‫لهما الخيار كما سيُبين؛ لستوائهما في سبب الستحقاق‪ ،‬وقبول محل النزاع للشتراك فيه‪.‬‬
‫وقال الشافعية في هذه الحالة‪ :‬تعارضت البينتان‪ ،‬فتساقطتا‪ ،‬لتناف بين موجبيهما ومقتضاهما‪ ،‬فكأنه ل‬
‫بينة‪ ،‬فيحلف كل منهما يمينا على نفي كونه للخر بأن يقول‪ :‬إن هذا الشيء ليس لك‪ ،‬ثم يجعل الشيء‬
‫بينهما‪ ،‬أي يقسم بينهما نصفين لقضائه صلّى ال عليه وسلم بذلك‪ ،‬كما صححه الحاكم على شرط‬
‫الشيخين‪ .‬وفي قول‪ :‬يقرع بينهما (‪. )2‬‬
‫ثم قال الحنفية‪ :‬أما إذا أرخا‪ ،‬وتاريخ أحدهما أسبق‪ :‬فيقضى للسبق؛ لن بينته تظهر الملك له في‬
‫وقت ل تعارضه فيه بينة الخر‪ ،‬أي أن السبق أثبت الشراء في زمان ل ينازعه فيه أحد‪ ،‬فاندفع‬
‫الخر به‪.‬‬
‫ولو أرخت بينة أحدهما دون الخر‪ :‬فيقضى لصاحب الوقت‪ ،‬لثبوت ملكه في ذلك الوقت‪ ،‬فاحتمل‬
‫الخر أن يكون قبله أو بعده‪ ،‬فل يقضى له بالشك‪.‬‬
‫ولو لم تؤرخ البينتان‪ ،‬أوأرخت إحداهما دون الخرى‪ ،‬أو كان تاريخهما سواء‪ ،‬ولكن مع أحدهما‬
‫قبض‪ :‬أي أن القبض ثابت في يده معاينة‪ :‬فهو أولى بالشيء المتنازع عليه‪ ،‬لن تمكنه من قبضه يدل‬
‫على سبق شرائه‪ ،‬ولن المتداعيين استويا في إثبات الشراء بالبينة‪ ،‬والقبض أمر مرجح‪ ،‬فل تزول‬
‫اليد الثابتة بالشك‪ .‬هذا‪ ..‬إل أن تشهد بينة التاريخ أن شراءه قبل شراء الخر فيقضى له‪ ،‬ويرجع‬
‫الخر بالثمن على البائع‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬أن بينة ذي اليد أولى من بينة غير القابض في دعوى الملك بسبب‪ ،‬خلفا لحالة دعوى‬
‫الملك المطلق‪ ،‬فإن بينة الخارج أولى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،237/6 :‬تكملة فتح القدير‪ 221/6 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ ،456/4 :‬اللباب‪ 34/4 :‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،480/4 :‬حاشية الباجوري على متن أبي شجاع‪.359/2 :‬‬

‫( ‪)8/155‬‬

‫وإذا ادعى اثنان على ثالث ذي يد‪ ،‬أحدهما يدعي شراء منه‪ ،‬والخر هبة وقبضا‪ ،‬وأقاما البينة على‬
‫ذلك‪ ،‬ول تاريخ معهما‪ ،‬فالشراء أولى؛ لنه أقوى‪ ،‬لكونه معاوضة من الجانبين؛ ولنه يثبت بنفسه‬
‫بخلف الهبة‪ ،‬فإنه يتوقف على القبض‪ .‬وإن ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأة أنه تزوجها على هذا‬
‫ل منهما معاوضة من الجانبين‪ ،‬ويثبت الملك لنفسه‪.‬‬
‫الشيء‪ ،‬فهما سواء لستوائهما في القوة؛ لن ك ً‬
‫وإن ادعى أحدهما رهنا وقبضا‪ ،‬والخر هبة وقبضا‪ ،‬فالرهن أولى؛ لن المرهون مضمون‪،‬‬
‫والموهوب غير مضمون وعقد الضمان أولى‪.‬‬
‫ثانيا ـ أن يدعي كل واحد من الخارجين الشراء من رجل غير الذي ادعى عليه صاحبه ‪:‬‬
‫إذا ادعى شخصان دارا في يد شخص آخر‪ ،‬وأقام كل واحد منهما البينة على أنه اشتراها من شخص‬
‫غير الذي ذكره صاحبه سوى صاحب اليد‪ :‬يقضى به بينهما نصفين؛ لن المشتريين قاما مقام‬
‫البائعين‪ ،‬كأنهما حضرا‪ ،‬وأقاما البينة على ملك مطلق‪ ،‬ولو كان المر كذلك يقضى به بينهما نصفين‪،‬‬
‫فكذا هذا‪ ،‬ويثبت لهما الخيار كما سأبين‪.‬‬
‫ولو أرخا وكان تاريخهما سواء أو أرخت بينة أحدهما ولم تؤرخ الخرى‪ :‬يقضى به بينهما نصفين‬
‫أيضا‪ .‬وإن كان تاريخ أحدهما أسبق من الخر‪ ،‬فالسبق تاريخا أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪.‬‬
‫وكذا عند محمد في رواية الصول بخلف الميراث‪ :‬إنه يكون بينهما نصفين عنده‪.‬‬
‫والفرق بالنسبة لمحمد بين الميراث والشراء‪ :‬هو أن المشتري يثبت الملك لنفسه‪ ،‬والوارث يثبت الملك‬
‫للميت‪.‬‬
‫وفي رواية عن محمد في الملء‪ :‬أنه سوى بين الميراث والشراء‪ ،‬وقال‪ :‬ل عبرة بالتاريخ في‬
‫الشراء أيضا‪ ،‬إل أن يؤرخ المدعيان ملك البائعين (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع البدائع‪.238/6 :‬‬

‫( ‪)8/156‬‬

‫ثبوت الخيار لمن يقضى لهما‪ :‬في حالة القضاء بالدار بين المتداعيين الخارجين مناصفة‪ ،‬سواء في‬
‫ادعاء الشراء من واحد أو من اثنين‪ :‬يثبت الخيار لكل واحد من مدعيي الشراء‪ :‬إن شاء أخذ كل واحد‬
‫منهما نصف الدار بنصف الثمن‪ ،‬وإن شاء ترك لتفريق الصفقة عليه؛ لن غرض كل واحد من‬
‫المتداعيين الوصول إلى شراء‬
‫جميع المبيع‪ ،‬ولم يحصل له شراؤه‪ ،‬مما ترتب عليه حدوث خلل في رضا كل منهما‪ ،‬فل يرضى‬
‫بالنصف مشتركا مع الخر‪ ،‬فأثبت لهما الخيار‪.‬‬
‫فإن اختار كل واحد منهما أخذ نصف الدار‪ ،‬رجع على البائع بنصف الثمن؛ لنه لم يحصل له في‬
‫ملكه إل نصف المبيع‪.‬‬
‫وإن اختار كل منهما رد المبيع ونقض البيع‪ ،‬رجع كل واحد منهما بجميع الثمن على البائع؛ لنه‬
‫انفسخ البيع‪.‬‬
‫وإن اختار أحدهما الرد‪ ،‬والخر الخذ‪ :‬فإن حدث هذا قبل تخيير الحاكم لهما‪ ،‬والحكم لهما نصفين‪،‬‬
‫فللخر أن يأخذ جميع المبيع بجميع الثمن؛ لن المستحق له بالعقد كل المبيع‪ ،‬وامتناع استحقاقه للكل‬
‫بسبب مزاحمة الخر له‪ ،‬فإذا زالت الخصومة فقد زال المانع من الستحقاق‪ ،‬فيأخذه كله‪.‬‬
‫وأما إن حدث ذلك بعد قضاء القاضي وتخييره إياهما‪ :‬فليس له أن يأخذ إل النصف بنصف الثمن؛‬
‫لنه بحكم القاضي ينفسخ العقد بالنسبة لكل واحد منهما في النصف‪ ،‬فل يعود إل بالتجديد (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،237/6 :‬تكملة فتح القدير‪ 221/6 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/157‬‬

‫الحالة الثالثة ـ دعوى الملك بسبب النتاج ‪:‬‬


‫النتاج‪ :‬هو ولدة الحيوان‪ ،‬مشتق من فعل (نُتجت) المبني للمجهول‪ :‬يعني ولدت ووضعت‪ .‬والمراد‬
‫هنا‪ :‬ولدة الحيوان في ملك النسان نفسه أو في ملك بائعه‪ ،‬أو في ملك مورثه‪.‬‬
‫إذا تنازع رجلن في دابة مثلً‪ ،‬فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه‪ ،‬وأقام كل واحد منهما‬
‫بينة أنها له نُتجت عنده أو عند بائعه أو عند مورثه‪ ،‬فكيف يقضي القاضي بينهما؟‬
‫نجد هنا ثلثة افتراضات أذكر حكمها عند الحنفية‪:‬‬
‫أولً ـ أن يدعي الخارج وصاحب اليد نتاج أي (منتوج) دابة‪ ،‬ويقيم كل واحد منهما بينة على النتاج‬
‫من غير تاريخ‪ ،‬أو أرخا تاريخا واحدا‪ :‬فصاحب اليد أولى؛ لن صاحب اليد ل يستحق الملك هنا‬
‫بظاهر يده فقط‪ ،‬وإنما تثبت بينته شيئا آخر عدا الحيازة باليد‪ ،‬وهوأولية الملك بالنتاج؛ لن النتاج ل‬
‫يتكرر حدوثه‪ ،‬كما تُثبت بينة الخارج‪ ،‬فاستوت البينتان في إظهار أولية الملك‪ ،‬وترجحت بينة ذي اليد‬
‫باليد‪ ،‬فيقضى له‪ .‬وذلك بخلف الملك المطلق فهناك ل تُثبت بينته إل ما هو ثابت له بظاهر يده‪،‬‬
‫باعتبار أن الملك ينتقل ويتكرر حدوثه‪.‬‬
‫وفي هذا ورد حديث جابر‪« :‬أن رجلين اختصما في ناقة‪ ،‬فقال كل واحد منهما‪ :‬نتجت هذه الناقة‬
‫عندي‪ ،‬وأقاما بينة‪ ،‬فقضى بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم للذي هي في يده» (‪ )1‬ويقضى في‬
‫ظاهر مذهب الحنفية لصاحب اليد قضاء حقيقة‪ ،‬ل أن يترك في يده قضاء ترك‪ .‬وهو موافق لمذهب‬
‫الشافعية‪.‬‬
‫وقال عيسى بن أبان‪ :‬تتهاتر البينتان ويترك المدعى به في يد صاحب اليد قضاء ترك (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الدارقطني والبيهقي وإسناده ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع المبسوط‪ ،63/17 :‬البدائع‪ ،234/6 :‬تكملة فتح القدير‪ ،235/6 :‬الدر المختار‪،459/4 :‬‬
‫اللباب‪.35/4 :‬‬

‫( ‪)8/158‬‬

‫ثانيا ـ أن يقيم أحد المتنازعين على النتاج‪ ،‬والخر على الملك المطلق عن النتاج ‪:‬‬
‫إذا أقام أحد المتخاصمين البينة على النتاج‪ ،‬والخر على الملك المطلق عن النتاج‪ ،‬بأن قال‪ :‬هو‬
‫ملكي‪ ،‬فبينة النتاج أولى‪ ،‬سواء أكان خارجا أم ذا اليد‪ ،‬لما ذكر أنها تثبت أولية الملك لصاحبه‪ ،‬فل‬
‫تثبت لغيره إل بالتلقي منه (‪. )1‬‬
‫ثالثا ـ ادعاء النتاج من الخارجين على ثالث يدعي ملكا مطلقا ‪:‬‬
‫إذا ادعى الخارجان النتاج وهو في يد شخص ثالث يدعي ملكا مطلقا‪ :‬فهو بين الخارجين نصفين‪ ،‬ل‬
‫ستوائهما في سبب الستحقاق‪.‬‬
‫فإن أرخت البينتان‪ ،‬واتفق تاريخهما‪ ،‬فيقضى بالمدعى به أيضا نصفين‪ ،‬لسقوط اعتبار الوقتين‬
‫بالتعارض‪.‬‬
‫وإن اختلف التاريخان يحكّم سن الدابة‪ :‬فيقضى لصاحب الوقت الذي يوافقه سن الدابة إن علم سنها؛‬
‫لنه ظهر أن البينة الخرى كاذبة بيقين‪.‬‬
‫فإن أشكل السن‪ ،‬كانت الدابة بينهما نصفين؛ لنه سقط اعتبار التاريخ‪ ،‬وجعل كأنهما لم يذكرا تاريخا؛‬
‫لنه يحتمل أن يكون سنها موافقا لتاريخ أحدهما أو مخالفا لهما‪.‬‬
‫وإن خالف سنها الوقتين جميعا‪ ،‬سقط اعتبار التاريخ في ظاهر الرواية؛ لنه ظهر بطلن اعتبار‬
‫التوقيت‪ ،‬فكأنهما لم يؤقتا‪ ،‬فبقيت البينتان قائمتين على ملك مطلق‪.‬‬
‫وذكر الحاكم الشهيد في مختصره (الكافي) أنه تتهاتر البينتان‪ ،‬ويبقى النتاج في يد صاحب اليد قضاء‬
‫ترك‪ ،‬قال‪ :‬وهو الصحيح‪.‬‬
‫والواقع أن الصح في هاتين الحالتين‪ :‬حالة إشكال السن ومخالفته للوقتين‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬تكملة فتح القدير‪.337/6 :‬‬

‫( ‪)8/159‬‬
‫هو ما قاله محمد‪ ،‬وهو أن تكون الدابة بينهما نصفين‪ ،‬سواء أكانت الدابة في يديهما‪ ،‬أم في يد‬
‫أحدهما‪ ،‬أم في يد شخص ثالث (‪. )1‬‬
‫ما يتكرر سببه وما ل يتكرر ‪:‬‬
‫كل ما ذكرمن الحكام في تعارض الدعويين في الملك المطلق أو بسبب الرث أو الشراء‪ ،‬ينطبق‬
‫على كل ما يتكرر فيه سببه‪ ،‬ويصنع مرتين فأكثر كبناء وغرس ونسج خز (‪ )2‬وزرع بر ونحوه‪،‬‬
‫يقضى بالمدعى به للخارج‪ ،‬فلو ادعى رجل ثوبا أنه ملكه من خزه‪ ،‬أو ادعى دارا أنهاملكه بناها‬
‫بماله‪ ،‬أو ادعى غرسا أنه ملكه غرسه بنفسه‪ ،‬أو ادعى حنطة أنها ملكه زرعها أو حبا آخر من‬
‫الحبوب‪ ،‬وأقام على مدعاه بينة وادعى ذو اليد مثل ذلك‪ ،‬وأقام عليه بينة‪ ،‬قضي به للخارج؛ لن هذه‬
‫الشياء ليست في معنى النتاج لتكررها‪.‬‬
‫وكل ما ذكر من الحكام في النتاج ينطبق على ما ل يتكرر فيه سبب الملك وليعاد‪ ،‬ول يصنع مرتين‬
‫كنسج الثياب التي ل تنسج إل مرة واحدة‪ ،‬وغزل قطن‪ ،‬وحلب لبن‪ ،‬وجز صوف‪ ،‬ونحوها؛ لنه في‬
‫معنى النتاج‪ ،‬يقضى به لصاحب اليد‪ .‬فلو ادعت امرأة غزل قطن أنه ملكها‪ ،‬غزلته بيدها‪ ،‬أو ادعى‬
‫رجل ثوبا أنه ملكه‪ ،‬نسجه بيده‪ ،‬وهو مما ل يتكرر نسجه‪ ،‬أو ادعى لبنا أنه ملكه حلبه من شاته‪ ،‬أو‬
‫ادعى جبنا أنه ملكه‪ ،‬صنعه بيده‪ ،‬أو ادعى صوفا مجزوزا بأنه ملكه‪ ،‬جزّه من شاته‪ ،‬وأقام على مدعاه‬
‫بينة‪ ،‬فادعى ذو اليد مثل ذلك‪ ،‬وأقام عليه بينة‪ ،‬فإنه يقضى به لذي اليد؛ لنه في معنى النتاج‪ ،‬فيلحق‬
‫به (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع البدائع‪ ،234/6 :‬تكملة فتح القدير‪ 246/6 :‬وما بعدها‪ ،‬اللباب شرح الكتاب‪.43/4 :‬‬
‫(‪ )2‬أي الصوف الخليط بالبريسم أي الحرير‪ ،‬فإن هذا إذا بلي يغزل مرة أخرى وينسج‪.‬‬
‫(‪ )3‬تكملة فتح القدير مع العناية‪ 236/6 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ :‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ ،234‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ 459/4‬وما بعدها‪ ،‬اللباب‪.36/4 :‬‬

‫( ‪)8/160‬‬

‫المبحث السادس ـ حكم تعارض الدعويين في أصل الملك فقط‪ ،‬وحكم الملك وما يقتضيه من حقوق ‪:‬‬
‫ل منهما ل يستحق على النفراد‬
‫يتناول هذا المطلب قضيتين مختلفتين‪ ،‬وإنما جمعتُ بينهما؛ لن ك ً‬
‫مطلبا مستقلً لقلة الكلم فيه‪ ،‬ولن بينهما ارتباطا جزئيا من جهة ولية التصرف في الشيء‪.‬‬
‫حكم تعارض الدعويين في أصل الملك فقط أو التنازع باليدي ‪:‬‬
‫انتهى بيان تعارض الدعويين مع تعارض البينتين‪ ،‬والكلم في هذا المطلب عن تعارض الدعويين ل‬
‫غير‪ ،‬تمسكا بظاهر اليد‪ ،‬فيحكم بين المتداعيين بأرجحية يد أحدهما على الخر‪ ،‬ويظهر الحكم في‬
‫المسائل التية (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬إذا تنازع اثنان في دابة‪ :‬أحدهما راكبها‪ ،‬والخر متعلق بلجامها‪ ،‬فالراكب أولى؛ لن تصرفه‬
‫أقوى‪ ،‬فإن الركوب يختص بالملك غالبا‪.‬‬
‫وكذلك إذا كان أحدهما راكبا على السرج‪ ،‬والخر رديفه‪ ،‬فالراكب أولى‪ ،‬لقوة يده‪ ،‬وهذا رأي أبي‬
‫يوسف‪ ،‬وهو الذي مشى عليه القدوري في مختصره «الكتاب» ‪.‬أما في ظاهر الرواية‪ :‬فالدابة بينهما‬
‫نصفان؛ لنهما استويا في أصل الستعمال‪ .‬وكذلك تكون الدابة بينهما اتفاقا إذا كانا راكبين على‬
‫السرج‪ ،‬لستوائهما في التصرف‪.‬‬
‫وإن تنازعا في بعير عليه لحدهما حمل‪ ،‬وللخر عليه مخلة معلقة فصاحب الحمل أولى‪ ،‬لنه هو‬
‫المتصرف‪ ،‬فهو ذو اليد في الواقع‪.‬‬
‫‪- 2‬إذا تنازع اثنان في قميص‪ :‬أحدهما ل بسه‪ ،‬والخر متعلق به‪ ،‬فاللبس أولى؛ لنه أقواهما‬
‫تصرفا‪ ،‬فهو مستعمل للقميص‪.‬‬
‫ولو تنازعا في بساط أحدهما جالس عليه‪ ،‬والخر متعلق به‪ :‬فهو بينهما نصفان‪ ،‬قضاء ترك‪ ،‬ل‬
‫قضاء حقيقة؛ لن القعود عليه ليس بيد عليه‪ ،‬حتى إنه ل يعتبر غاصبا بالقعود عليه‪ ،‬وإنما تكون اليد‪،‬‬
‫أي الحيازة على البساط إما بالنقل والتحويل‪ ،‬أو بكونه في بيته‪ ،‬والجلوس عليه ليس بشيء من‬
‫المرين‪ ،‬فل يكون يدا عليه‪ .‬وبما أنهما يدعيانه على السواء‪ ،‬فيترك في يديهما لعدم وجود منازع‬
‫ينازعهما‪.‬‬
‫وإذا كان ثوب في يد رجل‪ ،‬وطرف منه في يد آخر‪ ،‬فهو بينهما نصفان؛ لن الزيادة من جنس‬
‫الحجة‪ ،‬فإن كل واحد منهما متمسك باليد‪ ،‬إل أن أحدهما أكثر استمساكا‪ ،‬ومثله ل يوجب الرجحان‪،‬‬
‫كزيادة عدد الشهود‪ ،‬ل تُرجح بينة أحد الخصمين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ 87/17 :‬ومابعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪ 247/6 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 255/6 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫الدر المختار‪ 461/4 :‬ومابعدها‪ ،‬اللباب‪ ،44/4 :‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪ 354‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/161‬‬
‫‪ - 3‬إذا كان حائط بين دارين‪ :‬فادعاه كل من المالكين المتجاورين‪ ،‬وليس لحدهما عليه جذوع (‪)1‬‬
‫ول هو متصل ببناء كل منهما‪ ،‬فإنه يكون بينهما‪ ،‬لستوائهما في الستظلل به‪.‬‬
‫وإن كان لحدهما عليه جذوع‪ ،‬فهو له؛ لنه مستعمل للحائط‪.‬‬
‫ولو كان لكل واحد منهما جذوع‪ ،‬على السواء‪ ،‬أو لحدهما أكثر من الخر‪ ،‬بأن كان ثلثة فصاعدا‪،‬‬
‫فهو بينهما نصفان؛ لنهما استويا في استعمال الحائط‪ ،‬فاستويا في ثبوت اليد عليه‪ ،‬والزيادة على‬
‫الثلثة من جنس الحجة‪.‬‬
‫أما إن كان لحدهما ما دون الثلثة‪ ،‬وللخرأكثر‪ ،‬فهو لصاحب الكثير؛ لن أصل الستعمال ل يحل‬
‫بما دون الثلثة؛ لن الجدار ل يبنى له عادة‪ ،‬وإنما يبنى لكثر من الثلثة‪ ،‬إل أن الكثر ل نهاية له‪،‬‬
‫والثلثة أقل الجمع الصحيح‪ ،‬فقيّد به‪ .‬ولكن يبقى لصاحب القليل حق الستناد على الحائط‪ ،‬وليس‬
‫لصاحب الحائط الحق في أن يطلب رفع الجذوع‪ ،‬إل إذا أثبت بالبينة أن الحائط له‪ ،‬فحينئذ يرفع‬
‫الجذع‪.‬‬
‫وإن لم يكن لهما جذوع‪ ،‬ولحدهما اتصال بالبناء اتصال التزاق وارتباط‪ ،‬فهو لصاحب التصال‪ ،‬لنه‬
‫كالمتعلق به‪.‬‬
‫ولو كان لحدهما اتصال التزاق‪ ،‬وللخر جذوع‪ ،‬فصاحب الجذوع أولى؛ لنه مستعمل للحائط‪ ،‬ول‬
‫استعمال من صاحب التصال‪.‬‬
‫ولو كان لحدهما اتصال التزاق وارتباط‪ ،‬وللخر اتصال تربيع (‪ ، )2‬فصاحب التربيع أولى؛ لن‬
‫اتصال التربيع أقوى من اتصال اللتزاق‪.‬‬
‫ولو كان لحدهما اتصال تربيع وللخر جذوع‪ :‬فالحائط لصاحب التربيع‪ ،‬ولصاحب الجذوع حق‬
‫وضع الجذوع‪ ،‬أي استنادها عليه؛ لن الظاهر ليس بحجة في الستحقاق‪ .‬والسبب في ترجيح صاحب‬
‫التصال‪ :‬أن الحائطين بالتصال يصيران كبناء واحد‪ .‬وقال السرخسي‪ :‬صاحب الجذوع أولى؛ لن‬
‫لصاحب التصال اليد‪ ،‬ولصاحب الجذوع التصرف والتصرف أقوى‪ .‬والرأي الول أرجح؛ لن‬
‫اتصال التربيع يكون حالة البناء‪ ،‬وهو سابق على وضع الجذوع‪ ،‬فكانت يده أسبق من وضع الخر‬
‫جذوعه‪ ،‬فصار مثل سبق التاريخ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الجذع‪ :‬ساق النخلة أو الشجرة‪ ،‬يوضع في منتصف السقف للستناد عليه‪ ،‬ويوضع طرفاه على‬
‫جدارين متقابلين‪ ،‬وهو الن مثل الجسور الحديدية في منتصف السقوف‪.‬‬
‫(‪ )2‬اتصال التربيع‪ :‬أن يكون في حائط من المدر أو الجر تداخل بين أنصاف لبنات حائط المدعي‪،‬‬
‫وأنصاف لبنات الحائط المتنازع فيه وبالعكس‪ .‬وإن كان الحائط من خشب‪ :‬فالتربيع‪ :‬أن تكون الخشبة‬
‫مركبة في الخرى‪ .‬وأما إذا ثقب فأدخل في الخرى‪ ،‬فليكون تربيعا‪( .‬تكملة فتح القدير‪،251/6 :‬‬
‫الدر المختار‪ ،461/4 :‬البدائع‪.)257/6 :‬‬

‫( ‪)8/162‬‬

‫ثم إن التصال الذي وقع الختلف السابق في ترجيح صاحبه على صاحب الجذوع أو على العكس‪:‬‬
‫هو التصال الذي وقع في أحد طرفي أو جانبي الحائط المتنازغ فيه‪ .‬وأما إذا وقع اتصال التربيع في‬
‫طرفيه أو جانبيه‪ ،‬فصاحب التصال أولى بل خلف (‪. )1‬‬
‫ولو كان وجه البناء على الحائط في أحد الجانبين‪ ،‬فل يرجح به باتفاق الحنفية؛ لن هذا ل يختص‬
‫بالملك‪.‬‬
‫‪ - 4‬إذا كان خُص (‪ )2‬بين دارين‪ ،‬أو بين حقلين‪ ،‬والقُمط (‪ )3‬إلى أحدهما‪ ،‬وادعى كل واحد الخص‪،‬‬
‫فهو بينهما عند أبي حنيفة رحمه ال تعالى عليه‪ ،‬ول ينظر إلى القمط؛ لن هذا دليل الحيازة واليد في‬
‫الماضي‪ ،‬ل وقت الدعوى‪ ،‬فل يفيد في الثبات‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬صاحب القمط أولى بالعرف والعادة‪ ،‬فإن الناس في العادة يجعلون وجه البناء‬
‫والطاقات (ما عطف من البنية) وأنصاف اللبن والقمط إلى صاحب الدار‪ ،‬فيدل على أنه بناؤه‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬كل موضع قضي فيه بالملك لحد المتنازعين لكون المدعى به في يده‪ ،‬تجب عليه اليمين‬
‫لصاحبه إذا طلب‪ ،‬فإن حلف برئ‪ ،‬وإن نكل يقضى عليه بالنكول (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تكملة فتح القدير‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،225‬البدائع‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ ،257‬رد المحتار‪:‬‬
‫‪.461/4‬‬
‫(‪ )2‬الخص بضم الخاء‪ :‬البيت من قصب‪ ،‬والجمع أخصاص‪.‬‬
‫(‪ )3‬القمط ‪ -‬بضم القاف والميم‪ :‬جمع قماط‪ ،‬والمراد به هنا حبل عريض ينسج من ليف أو خوص‬
‫تشد به الخيمة ونحوها‪.‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،258/6 :‬رد المحتار‪. 461/4 :‬‬

‫( ‪)8/163‬‬

‫حكم الملك وما يقتضيه من حقوق ‪:‬‬


‫حكم الملك أو مقتضاه عند الحنفية‪ :‬هو أن يثبت لصاحبه ولية التصرف في الشيء المملوك بمطلق‬
‫اختياره‪ ،‬دون أن يكون لحد عليه حق الجبار على التصرف إل لضرورة‪ ،‬أو حق المنع من‬
‫التصرف‪ ،‬وإن تضرر به إل إذا تعلق به حق الغير‪ ،‬فيمنع عن التصرف مراعاة لحق الغير‪ ،‬ول‬
‫يكون لغير المالك شيء من حقوق التصرف في ملك غيره بدون إذنه أو رضاه إل لضرورة‪.‬‬
‫وبناء عليه للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء‪ ،‬سواء أكان تصرفا يتعدى ضرره إلى غيره‪،‬‬
‫أم ل يتعدى‪ ،‬فله أن يبني في ملكه مرحاضا أو حماما أورحى أو تنورا‪ ،‬وله أن يؤجر بناءه لحداد أو‬
‫قصار‪ ،‬وله أن يحفر في ملكه بئرا أو بالوعة‪ ،‬وإن كان يتأذى به جاره‪ ،‬وليس لجاره أن يمنعه؛ لن‬
‫حق الملكية حق مطلق‪ ،‬ويتقيد هذا الحق عند وجود عارض من تعلق حق الخرين به‪ ،‬لكن يجب أن‬
‫يمتنع النسان عن كل ما يؤذي جاره ديانة‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬المؤمن من أمن جاره‬
‫بوائقه» (‪. )1‬‬
‫فلو تصرف المالك في ملكه تصرفا أدى إلى أن يوهن بناء جاره أو سقوط حائط جاره‪ ،‬ل يضمن؛‬
‫لنه لم يتعد على ملك الغير‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الطبراني في الكبير والوسط عن طلق بن علي بلفظ «ليس بالمؤمن‪ :‬الذي ل يأمن جاره‬
‫بوائقه» أي شره‪ ،‬وفيه أيوب بن عتبة ضعفه الجمهور‪ ،‬وهو صدوق كثير الخطأ‪ ،‬واعتبر السيوطي‬
‫هذا الحديث حسنا (مجمع الزوائد‪ ،169/8 :‬الجامع الصغير‪.)135/2 :‬‬

‫( ‪)8/164‬‬

‫العلو والسفل‪ :‬وعلى هذا لو كان لحد الجوار سفل‪ ،‬وللخر علو عليه كطوابق المنازل الحديثة‪ ،‬فأراد‬
‫صاحب السفل أن يفتح بابا أو نافذة‪ ،‬أو يحفر طاقا‪ ،‬أو يدق وتدا على الحائط‪ ،‬أو يتصرف فيه تصرفا‬
‫لم يكن في القديم‪ ،‬من غير رضا صاحب العلو سواء أضر بالعلو‪ ،‬بأن ترتب عليه وَهْن الحائط أم لم‬
‫يضرّ به‪ ،‬فليس له ذلك عند أبي حنيفة؛ لن حرمة التصرف في ملك الغير وحقوقه ل تتوقف على‬
‫وقوع الضرر‪ ،‬بل هو حرام‪ ،‬سواء تضرر به أم ل‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬لصاحب السفل أن يفعل في ملكه ما يشاء إن لم يضر بصاحب العلو؛ لن صاحب‬
‫السفل يتصرف في ملك نفسه‪ ،‬فل يمنع إل لحق الغير‪ ،‬وحق الغير ل يمنع المالك من التصرف لذاته‪،‬‬
‫وإنما لما يترتب عليه من إيقاع الضرر به‪ ،‬بدليل أن النسان ل يمنع من الستظلل بجدار غيره‪،‬‬
‫ومن الصطلء بنار غيره‪ ،‬لعدم تضرر المالك‪ .‬والرسول صلّى ال عليه وسلم يقول‪« :‬ل ضرر ول‬
‫ضرار» (‪. )1‬‬
‫وإذا انهدم السفل والعلو‪ :‬لم يجبر صاحب السفل على البناء؛ لن النسان ل يجبر على عمارة ملك‬
‫نفسه‪ ،‬ولكن يقال لصاحب العلو‪ :‬إن شئت فابن السفل من مال نفسك‪ ،‬وضع عليه علوك‪ ،‬وارجع عليه‬
‫بقيمته مبنيا‪،‬ثم امنع صاحب السفل عن النتفاع بالسفل حتى يرد عليك قيمة البناء؛ لن البناء‪ ،‬وإن‬
‫كان تصرفا في ملك الغير‪ ،‬لكن فيه ضرورة؛ لنه ل يمكنه النتفاع بملك نفسه إل بالتصرف في ملك‬
‫غيره‪ .‬وأما رجوعه بقيمة البناء‪ ،‬فلنه ملكه بإذن الشرع‪ ،‬فله أل يمكن صاحب السفل من النتفاع‬
‫بملكه إل بعد دفع قيمته‪.‬‬
‫أما إذا هدم صاحب السفل منزله‪ ،‬فانهدم الطابق العلوي‪ ،‬فيجبر على إعادته؛ لنه أتلف حق صاحب‬
‫العلو بنفسه‪.‬‬
‫ويجري هذا الخلف في الحائط بين الدارين إذا انهدم‪ ،‬ولهما عليه جذوع‪ ،‬فإنه ل يجبر واحد منها‬
‫على بنائه‪ ،‬ولكن إذا أبى أحدهما البناء‪ ،‬يقال للخر‪ :‬إن شئت فابن من مال نفسك‪ ،‬وضع خشبك عليه‪،‬‬
‫وامنع صاحبك من الوضع والستناد‪ ،‬حتى يرد عليك نصف قيمة البناء‪ ،‬أو نصف ما أنفقته‪.‬‬
‫فإن هدمه أحدهما‪ ،‬يجبر على عمارته (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مالك والشافعي مرسلً عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه‪ ،‬وهو عند أحمد وعبد الرزاق‬
‫وابن ماجه والطبراني عن ابن عباس‪ ،‬ورواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندا عن أبي سعيد‬
‫الخدري وهو حديث حسن (المقاصد الحسنة‪ :‬ص ‪ ،468‬مجمع الزوائد‪ ،110/4 :‬سبل السلم‪،84/3 :‬‬
‫اللمام‪ :‬ص ‪.)363‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ 263/6 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ 372/4 :‬وما بعدها‪ ،‬درر الحكام‪ 416/2 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/165‬‬

‫صلُ الثّالث‪ :‬طرق الثبات‬


‫ال َف ْ‬
‫يشتمل هذا الفصل على المباحث الربعة التالية‪:‬‬
‫‪ - 1‬الشهادة‪.‬‬
‫‪ - 2‬اليمين‪.‬‬
‫‪ - 3‬القرار‪.‬‬
‫‪ - 4‬القرائن‪.‬‬
‫المبحث الول ـ الشهادة والرجوع عنها ‪:‬‬
‫أشرت في الفصل السابق إلى أن البينات ومنها الشهادات من أهم طرق إثبات الحق عند القاضي‪،‬‬
‫ووعدت بتخصيص مبحث مستقل للشهادة أتكلم فيه عن حكم أداء الشهادة وشروط تحملها؛ وشروط‬
‫أدائها‪ ،‬وحكم الرجوع عن الشهادة‪ ،‬في المطالب الستة التية‪:‬‬
‫المطلب الول ـ تعريف الشهادة وركنها وحكمها‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ شروط تحمل الشهادة‪.‬‬
‫المطلب الثالث ـ شروط أداء الشهادة‪.‬‬
‫المطلب الرابع ـ حكم الرجوع عن الشهادة‪.‬‬
‫المطلب الخامس ـ عقوبة شاهد الزور‪.‬‬
‫المطلب السادس ـ شهادة غير المسلمين‪.‬‬
‫المطلب الول ـ تعريف الشهادة وركنها وحكمها ‪:‬‬
‫الشهادة‪ :‬مصدر شهد من الشهود بمعنى الحضور‪،‬وهي لغة‪ :‬خبر قاطع‪ .‬وشرعا‪ :‬إخبار صادق لثبات‬
‫حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء (‪. )1‬‬
‫وركنها‪ :‬لفظ ( أشهد ) ل غير؛ لن النصوص اشترطت هذا اللفظ‪ ،‬إذ المر القرآني ورد فيها بهذه‬
‫اللفظة‪ ،‬ولن فيها زيادة تأكيد‪ ،‬فإن قوله‪ ( :‬أشهد ) من ألفاظ اليمين‪ .‬وهي تتضمن معنى المشاهدة أي‬
‫الطلع على الشيء‪ .‬فلو قال‪( :‬شهدت) ل يجوز؛ لن الماضي موضوع للخبار عما وقع‪ ،‬والشهادة‬
‫يقصد بها الخبار في الحال (‪. )2‬‬
‫والصل في الشهادة قبل الجماع‪ :‬الكتاب والسنة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،2/6 :‬الدر المختار‪ ،385/4 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،164/4 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪.426/4‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬البدائع‪ ،266/6 :‬اللباب شرح الكتاب‪ ،57/4 :‬المغني‪.216/9 :‬‬

‫( ‪)8/166‬‬

‫أما الكتاب فقوله تعالى‪{ :‬واستشهدوا شهيدين من رجالكم‪ ،‬فإن لم يكونا رجلين‪ ،‬فرجل وامرأتان ممن‬
‫ترضون من الشهداء} [البقرة‪ ]282/2:‬وقال تعالى‪{ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق‪،]2/65:‬‬
‫{وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة‪ ]282/2:‬أمر إرشاد ل وجوب‪.‬‬
‫وأما السنة فمثل قوله صلّى ال عليه وسلم لمدع‪« :‬شاهداك أو يمينه» (‪ )1‬وخبر في السنة‪« :‬أنه‬
‫صلّى ال عليه وسلم سئل عن الشهادة‪ ،‬فقال للسائل‪ :‬ترى الشمس؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬على مثلها فاشهد‪،‬‬
‫أو دع» (‪. )2‬‬
‫وحكم الشهادة‪ :‬وجوب القضاء على القاضي بموجبها بعد توافر شروطها‪ .‬وأما حكم تحمل الشهادة‬
‫وأدائها‪ ،‬فهو فرض كفائي إذا دعي الشهود إليه‪ ،‬إذ لو تركه الجميع‪ ،‬لضاع الحق‪ ،‬ويصبح أداء‬
‫الشهادة بعد التحمل فرض عين‪ ،‬فيلزم الشهود بأداء الشهادة‪ ،‬ول يجوز لهم كتمانها إذا طالبهم المدعي‬
‫بها‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ول يأب الشهداء إذا ما دُعوا} [البقرة‪ ]282/2:‬وقوله سبحانه‪{ :‬ول تكتموا الشهادة‪،‬‬
‫ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة‪ ]283/2:‬وقوله عز وجل‪{ :‬وأقيموا الشهادة ل } [الطلق‪)3( ]2/65:‬‬
‫‪.‬‬
‫ويجب أداء الشهادة بل طلب في حقوق ال تعالى‪ ،‬كطلق امرأة بائنا‪ ،‬ورضاع‪ ،‬ووقف‪ ،‬وهلل‬
‫رمضان‪ ،‬وخلع‪ ،‬وإيلء‪ ،‬وظهار‪ .‬قال الحنفية (‪ : )4‬الذي تقبل فيه الشهادة حسبة (‪ )5‬بدون الدعوى‬
‫أربعة عشر‪ :‬وهي الوقف‪ ،‬وطلق الزوجة‪ ،‬وتعليق طلقها‪ ،‬وحرية المة‪ ،‬وتدبيرها‪ ،‬والخلع‪ ،‬وهلل‬
‫رمضان‪ ،‬والنسب‪ ،‬وحد الزنا‪ ،‬وحد الشرب‪ ،‬واليلء‪ ،‬والظهار‪ ،‬وحرمة المصاهرة‪ ،‬ودعوى المولى‬
‫نسب العبد‪ .‬وزاد ابن عابدين‪ :‬الشهادة بالرضاع‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم عن الشعث بن قيس‪ ،‬وقد سبق تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البيهقي والحاكم وصحح إسناده وتعقبه الذهبي‪ ،‬فقال‪ « :‬بل هو حديث واه » وأخرجه ابن‬
‫عدي بإسناد ضعيف عن ابن عباس (سبل السلم‪ ،130/4 :‬نصب الراية‪.)82/4 :‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط‪ ،177/16 :‬فتح القدير‪ ،3/6 :‬الدر المختار‪ ،386/4 :‬الشرح الكبير للدردير‪،199/4 :‬‬
‫مغني المحتاج‪ ،450/4 :‬المغني‪ ،146/9 :‬المهذب‪.323/2 :‬‬
‫(‪ )4‬الدر المختار ورد المحتار‪.440/3 :‬‬
‫(‪ )5‬الحسبة‪ :‬الجر‪ ،‬أي لقصد الجر‪ ،‬ل لجابة مدعٍ‪.‬‬

‫( ‪)8/167‬‬

‫لكن الشهادة في الحدود‪ :‬يخير فيها الشاهد بين الستر والعلم؛ لنه يكون مترددا بين شهادتي حسبة‪:‬‬
‫في إقامة الحد‪ ،‬والتوقي عن هتك حرمة مسلم‪ ،‬والستر‬
‫أولى وأفضل؛ لقوله صلّى ال عليه وسلم للذي شهد عنده‪« :‬لو سترته بثوبك لكان خيرا لك» (‪)1‬‬
‫وقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬من ستر مسلما‪ ،‬ستره ال في الدنيا والخرة» (‪ )2‬وقد عرفنا في‬
‫الحدود أن الرسول عليه الصلة والسلم لقن ماعزا الرجوع عن القرار بقوله‪« :‬لعلك قبلت أو‬
‫غمزت أو نظرت» ففي هذا دللة ظاهرة على أفضلية الستر‪.‬‬
‫لكن الولى أن يقول الشاهد في السرقة‪ :‬أخذ المال إحياء لحق المسروق منه‪ ،‬ول يقول‪ :‬سرق صونا‬
‫ليد السارق عن القطع‪ ،‬فيكون بهذا قد جمع بين الستر والعلم أو الظهار (‪. )3‬‬
‫المطلب الثاني ـ شروط تحمل الشهادة ‪:‬‬
‫تحمل الشهادة‪ :‬عبارة عن فهم الحادثة وضبطها بالمعاينة أو بالسماع‪ .‬ويشترط لتحمل الشهادة شروط‬
‫ثلثة عند الحنفية (‪. )4‬‬
‫أولها ـ أن يكون الشاهد عاقلً‪ :‬فل يصح تحمل الشهادة من المجنون والصبي الذي ليعقل؛ لن‬
‫التحمل يتطلب الفهم والدراك‪ ،‬وهو يحصل بالعقل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الواقع أن الذي قال له النبي صلّى ال عليه وسلم هذا القول وهو «هزّال» لم يشهد عنده بشيء‪،‬‬
‫ولكنه هو الذي أشار على ما عز أن يأتي النبي صلّى ال عليه وسلم ويقر عنده‪ ،‬فلم يكن شاهدا؛ لن‬
‫ماعزا حد بالقرار‪ ،‬فقال النبي لهزال‪« :‬لو سترته بثوبك لكان خيرا لك» رواه أبو داود والنسائي‬
‫والبزار وأحمد والطبراني عن نعيم ابن هزال (راجع نصب الراية‪.)74/4 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ‪« :‬ومن ستر مسلما ستره ال في الدنيا‬
‫والخرة» ورواه الحاكم من طريقين‪ ،‬ورواه الترمذي عن ابن عمر‪ ،‬ورواه أبو نعيم عن مسلم بن‬
‫مخلد مرفوعا‪ ،‬ورواه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا (نصب الراية‪ ،79/4 ،307/3 :‬تلخيص‬
‫الحبير‪.)66/4 :‬‬
‫(‪ )3‬فتح القدير‪ ،‬الدر المختار‪ ،‬المرجعان السابقان‪ ،‬اللباب‪.54/4 :‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،266/6 :‬الدر المختار‪.385/4 :‬‬

‫( ‪)8/168‬‬

‫ثانيها ـ أن يكون بصيرا وقت التحمل‪ ،‬فل يصح التحمل من العمى؛ لن شرط التحمل هو السماع‬
‫من الخصم‪ ،‬ول يعرف الخصم إل بالرؤية؛ لن نغمات الصوات يشبه بعضها بعضا‪.‬‬
‫وقال الحنابلة (‪ : )1‬تحمل الشهادة يكون بالرؤية والسماع‪ ،‬فيجوز للعمى أن يشهد فيما يتعلق‬
‫بالسماع كالبيع والجارة وغيرهما إذا عرف المتعاقدين‪ ،‬وتيقن أنه كلمهما‪.‬‬
‫وقال الشافعية (‪ : )2‬ل تجوز شهادة العمى فيما يتعلق بالبصر لجواز اشتباه الصوات‪ ،‬وقد يحاكي‬
‫النسان صوت غيره‪ ،‬كما قال الحنفية‪ ،‬فل يجوز أن يكون شاهدا على الفعال كالقتل والتلف‬
‫والغضب والزنا وشرب الخمر‪ ،‬وهذا ما قال به الحنابلة أيضا‪ ،‬كما ل يجوز أن يكون شاهدا على‬
‫القوال كالبيع والقرار والنكاح والطلق‪ ،‬إل فيما سماه الشافعية بصورة الضبط‪ :‬وهي أن يقر‬
‫شخص في أذن العمى بنحو طلق أو مال لشخص معروف‪ ،‬فيتعلق العمى به ويضبطه إلى أن‬
‫يحضر عند الحاكم‪ ،‬فيشهد عليه بما سمعه منه‪ ،‬فتقبل شهادته في هذه الحالة على الصحيح‪.‬‬
‫ثالثها ـ معاينة المشهود به بنفسه ل بغيره إل فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس والستفاضة؛‬
‫لقوله صلّى ال عليه وسلم للشاهد‪« :‬إذا علمت مثل الشمس فاشهد‪ ،‬وإل فدع» (‪ )3‬ول يتم العلم مثل‬
‫الشمس إل بالمعاينة‪.‬‬
‫ول يشترط لتحمل الشهادة البلوغ والحرية والسلم والعدالة‪ ،‬وإنما هي شروط للداء‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ 58/9 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪ 334/2 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪.446/4 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه الخلل في الجامع بإسناده عن ابن عباس بلفظ سبق ذكره‪ .‬والمذكور هنا مروي بالمعنى‪.‬‬

‫( ‪)8/169‬‬

‫وأما ما تصح فيه الشهادة بالتسامع‪ :‬فهي النكاح‪ ،‬والنسب‪ ،‬والموت‪ ،‬ودخول الرجل على امرأته‪،‬‬
‫وولية القاضي‪ ،‬فللشاهد أن يشهد بهذه الشياء إذا أخبره بها من يثق به استحسانا؛ لن هذه المور‬
‫يختص بمعاينة أسبابها خواص الناس‪ ،‬ويترتب عليها أحكام دائمة على ممر السنين والعوام‪ ،‬فلو لم‬
‫يقبل فيها الشهادة بالتسامع‪ ،‬لدى ذلك إلى الحرج وتعطيل الحكام‪.‬‬
‫والتسامع عند أبي حنيفة‪ :‬هو بأن يشتهر الخبر ويستفيض بين الناس‪ ،‬وتتواتر به الخبار ليحصل له‬
‫نوع من اليقين‪ .‬وعند الصاحبين‪ :‬بأن يخبر الشاهد رجلن عدلن أو رجل وامرأتان‪ ،‬واختار قولهما‬
‫بعض الفقهاء بدليل أن القاضي يحكم بشهادة شاهدين‪ ،‬ولو لم يرد المشهود به أو يسمعه بنفسه‪ .‬وعند‬
‫أداء الشهادة بالتسامع ل يذكر الشاهد أمام القاضي أن شهادته بالتسامع‪ ،‬وإنما يقول‪ :‬أشهد بكذا‪.‬‬
‫أما فيما عدا المذكور فل يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه؛ لن الشهادة مشتقة من المشاهدة‪:‬‬
‫وهي المعاينة‪ ،‬وتتم بالعلم‪ ،‬فل تجوز الشهادة إل بما علمه النسان‪ ،‬بدليل قوله تعالى‪{ :‬إل من شهد‬
‫بالحق‪ ،‬وهم يعلمون} (‪ )1‬وقوله سبحانه‪{ :‬ول تقْف ما ليس لك به علم‪ ،‬إن السمع والبصر والفؤاد‪،‬‬
‫كل أولئك كان عنه مسؤولً} [السراء‪. )2( ]36/17:‬‬
‫ل أو وكيل‪ ،‬وكفر‪،‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة‪ :‬منها عزل قاض أو وا ٍ‬
‫وسفه‪ ،‬ونكاح‪ ،‬ونسب‪ ،‬ورضاع‪ ،‬وبيع‪ ،‬وهبة ووصية (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الية‪{ :‬ول يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إل من شهد بالحق وهم يعلمون} [الزخرف‪:‬‬
‫‪.]86/43‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،111/16 :‬فتح القدير‪ ،20/6 :‬البدائع‪ ،266/6 :‬اللباب‪ ،67/4 :‬المغني‪.158/9 :‬‬
‫المهذب‪.334/2 :‬‬
‫(‪ )3‬راجع الشرح الكبيرللدردير وحاشية الدسوقي عليه‪ 198/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/170‬‬

‫والتسامع‪ :‬أن يكون المنقول عنه غير معين ول محصور‪ ،‬وذلك بأن يشتهر النسب مثلً المشهود به‬
‫بين الناس العدول وغيرهم‪ .‬ويشترط أن يقول الشهود‪ :‬سمعنا أو لم نزل نسمع سماعا فاشيا من أهل‬
‫العدل وغيرهم أن فلنا ابن فلن‪.‬‬
‫وقال الشافعية في الصح‪ :‬تجوز الشهادة بالتسامع أو الستفاضة في النسب والموت‪ ،‬والوقف‪،‬‬
‫والنكاح‪ ،‬وملكية الشياء‪ ،‬فإن استفاض في الناس أن فلنا ابن فلن‪ ،‬جاز أن يشهد به؛ لن سبب‬
‫النسب ل يدرك بالمشاهدة‪ ،‬وإن استفاض في الناس أن فلنا مات‪ ،‬جاز أن يشهد به؛ لن أسباب‬
‫الموت كثيرة‪ ،‬ويتعذر الطلع عليها‪ ،‬وإن استفاض في الناس أن هذه الدار لفلن جاز أن يشهد به؛‬
‫لن أسباب الملك ل تضبط‪ ...‬وهكذا (‪. )1‬‬
‫وقال الحنابلة‪ :‬تصح الشهادة بالستفاضة في النسب والولدة‪ ،‬والنكاح والموت‪ ،‬والملك‪ ،‬والوقف‪،‬‬
‫والولية والعزل (‪. )2‬‬
‫ويشرط التسامع عند الشافعية والحنابلة في الصح مثلما قال أبو حنيفة‪ :‬سماع المشهود به من جمع‬
‫كثير يؤمن تواطؤهم (أي توافقهم) على الكذب بحيث يحصل العلم (أي اليقين) أو الظن القوي‬
‫بخبرهم‪ .‬ول بد من أن يقول الشاهد‪ :‬أشهد بكذا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المهذب‪ ،335/2 :‬مغني المحتاج‪ 448/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪.161/9 :‬‬

‫( ‪)8/171‬‬
‫الشهادة على الكتابة‪ :‬بما أن الشهادة ل تجوز إل بما علمه الشاهد‪ ،‬فل يحل للشاهد عند أكثر العلماء‬
‫أن يشهد بما رآه من خط نفسه‪ ،‬إل أن يتذكر الشهادة؛ لن الخط يشبه الخط‪ ،‬والمطلوب في الشهادة‬
‫العلم بالحادثة‪ ،‬والشيء المشتبه فيه ل يفيد العلم‪ ،‬فإن تذكر القضية أو الشهادة‪ ،‬يشهد حينئذ على ما‬
‫علم ل على أنه خطه‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف ومحمد وفي رواية عند الحنابلة‪ :‬يجوز للشاهد أن يشهد بما يجده من خط نفسه (‪. )1‬‬
‫أنواع ما يتحمله الشاهد ‪:‬‬
‫مايتحمله الشاهد نوعان ‪ :‬أحدهما‪ :‬ما يثبت حكمه بنفسه‪ .‬وهو ما يعرف بالسماع المباشر كالبيع‬
‫والقرار‪ ،‬أو رؤية الفعل بالذات كالغصب والقتل‪.‬‬
‫فللشاهد إذا سمع أورأى أن يشهد به‪ ،‬ويقول‪ :‬أشهد أنه باع‪ ،‬ول يقول‪ :‬أشهدني؛ لنه كذب‪ .‬ولو سمع‬
‫من وراء الحجاب ل يجوز له أن يشهد؛ لن النغمة تشبه النغمة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬ما ل يثبت حكمه بنفسه‪ :‬وهو ما ل يوجب الشهادة بنفسه‪ ،‬وإنما بالنقل إلى مجلس القضاء‬
‫والنابة في الداء‪ .‬فإذا سمع شاهدا يشهد بشيء لم يجز أن يشهد بنفسه على شهادته إل أن يشهده‬
‫على شهادته‪ ،‬ويأمره بأدائها ليكون نائبا عنه‪ .‬وكذلك لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته ويأمره‬
‫بأدائها لم يسع السامع له أن يشهد؛ لنه لم يحمله الشهادة‪ ،‬وإنما حمل غيره (‪. )2‬‬
‫فالنوع الثاني إذن يكون بتكليف الشاهد لغيره نقل شهادته أمام القضاء‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،19/6 :‬اللباب‪ ،59/4 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،193/4 :‬المغني‪.160/9 :‬‬
‫(‪ )2‬الكتاب مع اللباب‪ 58/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/172‬‬

‫المطلب الثالث ـ شروط أداء الشهادة ‪:‬‬


‫يشترط في مذهب الحنفية لجواز أداء الشهادة عند القاضي شروط في الشاهد وفي الشهادة نفسها‪ ،‬وفي‬
‫مكان الشهادة‪ .‬وفي إيضاح هذه الشروط نتبين من تقبل شهادته‪ ،‬ومن ل تقبل‪ ،‬وحالة اختلف الشهود‬
‫في الشهادة‪ ،‬وصفة العدالة في الشهود‪.‬‬
‫شروط الشاهد ‪:‬‬
‫يشترط في الشاهد شرائط عامة في كل الشهادات‪ ،‬وشرائط خاصة ببعض أنواع الشهادات‪.‬‬
‫أما الشرائط العامة فهي ما يأتي (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬أهلية العقل والبلوغ‪ :‬يشترط أن يكون الشاهد عاقلً بالغا باتفاق الفقهاء‪ ،‬فل تقبل شهادة من ليس‬
‫بعاقل إجماعا‪ ،‬مثل المجنون والسكران والطفل؛ لنه ل تحصل الثقة بقوله‪ ،‬ول تقبل شهادة صبي غير‬
‫بالغ؛ لنه ل يتمكن من أداء الشهادة على الوجه المطلوب‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬واستشهدوا شهيدين من‬
‫رجالكم} [البقرة‪ ]282/2:‬وقوله‪{ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق‪ ]2/65:‬وقوله‪{ :‬ممن ترضون من‬
‫الشهداء} [البقرة‪ ]282/2:‬والصبي ممن ل يرضي؛ ولن الصبي ل يأثم بكتمان الشهادة‪ ،‬فدل على أنه‬
‫ليس بشاهد‪.‬‬
‫وأما شهادة الصبيان بعضهم على بعض‪ ،‬فتجوز عند المام مالك في الجراح وفي القتل‪ ،‬خلفا‬
‫لجمهور الفقهاء‪ ،‬بشرط أن يتفقوا في الشهادة‪ ،‬وأن يشهدوا قبل تفرقهم‪ ،‬وأل يدخل بينهم كبير (‪. )2‬‬
‫‪ - 2‬الحرية‪ :‬اتفق الحنفية والمالكية والشافعية على أن الشاهد يشترط فيه أن يكون حرا‪ ،‬فل تقبل‬
‫شهادة رقيق‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ضرب ال مثلً عبدا مملوكا ل يقدر على شيء} [النحل‪ ]75/16:‬ولن‬
‫الشهادة فيها معنى الولية‪ ،‬وهو ل ولية له‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 267/6 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،452 ،451/2 :‬البدائع‪ ،164/6 :‬المرجع السابق‪ ،‬الشرح الكبير للدردير‪،165/4 :‬‬
‫المغني‪ ،164/9 :‬مغني المحتاج‪.427/4 :‬‬

‫( ‪)8/173‬‬

‫وقال الحنابلة والظاهرية‪ :‬تقبل شهادة العبد‪ ،‬لعموم آيات الشهادة‪ ،‬ولن العبودية ليس لها تأثير في‬
‫الرد‪ ،‬وقيدها الحنابلة فيما عدا الحدود والقصاص (‪. )1‬‬
‫‪ - 3‬السلم‪ :‬اتفق الفقهاء على اشتراط كون الشاهد مسلما‪ ،‬فل تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لنه‬
‫متهم في حقه‪ ،‬وأجاز الحنفية والحنبلية شهادة الكافر في الوصية في السفر‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم‪ ،‬أو آخران من غيركم}‬
‫[المائدة‪ ]106/5:‬وأجاز الحنفية خلفا للجمهور شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض إذا كانوا عدولً‬
‫في دينهم‪ ،‬وإن اختلفت مللهم كاليهود والنصارى (‪ ، )2‬لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد ال ‪:‬‬
‫«أن النبي صلّى ال عليه وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض» (‪ )3‬وفي بعض رجاله‬
‫مقال‪.‬‬
‫ول تقبل شهادة الحربي المستأمن على الذمي؛ لنه ل ولية له عليه؛ لن الذمي من أهل ديارنا‪ ،‬وهو‬
‫أعلى حالً منه‪ .‬وتقبل شهادة الذمي على الحربي المستأمن‪ ،‬كما تقبل شهادة المسلم عليه وعلى الذمي‪.‬‬
‫وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا أهل دار واحدة‪.‬‬
‫‪ - 4‬البصر‪ :‬يشترط عند أبي حنيفة ومحمد والشافعية‪ :‬أن يكون الشاهد مبصرا‪ ،‬فل تقبل شهادة‬
‫العمى؛ لنه ل بد من معرفة المشهود له والشارة إليه عند الشهادة‪ ،‬ول يميز العمى بين الناس إل‬
‫بنغمة الصوت‪ ،‬وفيه شبهة؛ لن الصوات تتشابه‪ .‬وتشدد الحنفية فمنعوا قبول شهادة العمى وإن كان‬
‫بصيرا عند تحمل الشهادة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪ ،‬البدائع‪ :‬ص ‪ 267‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد‪ :‬ص ‪ ،452‬الشرح الكبير‪،165/4 :‬‬
‫مغني المحتاج‪ :‬ص ‪ ،427‬المغني‪ :‬ص ‪.194‬‬
‫(‪ )2‬المراجع السابقة‪ ،‬فتح القدير‪ ،41/6 :‬الكتاب مع اللباب‪ ،63/4 :‬نصب الراية‪ ،85/4 :‬بداية‬
‫المجتهد‪ :‬ص ‪ ،452‬مغني المحتاج‪ :‬ص ‪ ،427‬المغني‪ :‬ص ‪.182‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه ابن ماجه في سننه عن جابر بن عبد ال ‪« :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم أجاز شهادة‬
‫أهل الكتاب‪ ،‬بعضهم على بعض» وفيه مجالد وفيه مقال (نصب الراية‪.)85/4 :‬‬

‫( ‪)8/174‬‬

‫وأجاز المالكية والحنابلةوأبو يوسف شهادة العمى إذا تيقن الصوت؛ لعموم اليات الواردة في‬
‫الشهادة‪ ،‬ولنه رجل عدل مقبول الرواية‪ ،‬فقبلت شهادته كالبصير‪ ،‬ولن السمع أحد الحواس التي‬
‫يحصل بها اليقين‪ ،‬ولهذا أجاز الشافعية شهادة العمى فيما يثبت بالستفاضة‪ .‬كما أجازوا أن يكون‬
‫شاهدا في الترجمة؛ لنه يفسر ما سمعه بحضرة الحاكم‪ ،‬وسماعه كسماع البصير (‪. )1‬‬
‫‪ - 5‬النطق‪ :‬اشترط الحنفية والشافعية والحنابلة أن يكون الشاهد ناطقا‪ ،‬فل تقبل شهادة الخرس‪ ،‬وإن‬
‫فهمت إشارته؛ لن الشارة ل تعتبر في الشهادات؛ لنها تتطلب اليقين‪ ،‬وإنما المطلوب التلفظ‬
‫بالشهادة‪.‬‬
‫وأجاز المالكية قبول شهادة الخرس إذا فهمت إشارته؛ لنها تقوم مقام نطقه في طلقه ونكاحه‬
‫وظهاره‪ ،‬فكذلك في شهادته (‪. )2‬‬
‫‪ - 6‬العدالة‪ :‬اتفق العلماء على اشتراط العدالة في الشهود‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ممن ترضون من الشهداء}‬
‫[البقرة‪ ]282/2:‬وقوله سبحانه‪{ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق‪ ]2/65:‬فل تقبل شهادة الفاسق‬
‫كالزاني والشارب والسارق ونحوهم‪ ،‬وكذا مجهول الحال‪ ،‬وروي عن أبي يوسف‪ :‬أن الفاسق إذا كان‬
‫وجيها في الناس‪ ،‬ذا مروءة‪ ،‬تقبل شهادته؛ لنه ل يستأجر لشهادة الزور لوجاهته‪ ،‬ويمتنع عن الكذب‬
‫لمروءته‪ .‬وقال جمهور الحنفية‪ :‬ل تقبل شهادة الفاسق مطلقا‪ ،‬إل أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق‬
‫نفذ قضاؤه‪ ،‬ويكون القاضي عاصيا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪ ،‬البدائع‪ :‬ص ‪ ،268‬فتح القدير‪ :‬ص ‪ ،27‬مغني المحتاج‪ :‬ص ‪ ،446‬المهذب‪:‬‬
‫‪ ،335/2‬المغني‪ :‬ص ‪ ،189‬الشرح الكبير للدردير‪ ،167/4 :‬اللباب‪.60/4 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ ،110/9 :‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبير‪.168/4 :‬‬

‫( ‪)8/175‬‬

‫والعدالة‪ :‬لغة التوسط‪ ،‬وشرعا‪ :‬اجتناب الكبائر وعدم الصرار على الصغائر‪ .‬والحقيقة أن اجتناب‬
‫الكبائر كلها هو شرط لصحة الشهادة ‪،‬وبعد توقيها يلحظ الشأن الغالب‪ ،‬فمن كثرت معاصيه أثّر ذلك‬
‫في شهادته‪ ،‬ومن ندرت منه المعصية قبلت شهادته‪ .‬وهذا هو حد العدالة المعتبرة‪ ،‬حتى ل يترتب‬
‫على التشدد سد باب الشهادة وإماتة الحقوق‪.‬‬
‫وضابط عدالة الشاهد في مذهب الشافعية‪ :‬أن يكون مجتنبا الكبائر‪ ،‬وغير مصر على الصغائر‪ ،‬وسليم‬
‫السريرة أي العقيدة‪ ،‬ومأمونا عند الغضب‪ ،‬ومحافظا على مروءة مثله‪.‬‬
‫واكتفى أبو حنيفة بظاهر العدالة في المسلم‪ ،‬ول يسأل عن الشهود‪ ،‬حتى يطعن الخصم بها إل في‬
‫الحدود والقصاص‪ ،‬فإنه يسأل عن الشهود‪ ،‬وإن لم يطعن فيهم الخصوم‪ ،‬ودليله على الكتفاء بظاهر‬
‫العدالة قوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬المسلمون عدول بعضهم على بعض إل محدودا في قذف» (‪)1‬‬
‫ومثله مروي عن عمر رضي ال عنه (‪ . )2‬وأما دليله على استثناء الحدود والقصاص‪ ،‬فهو أن‬
‫القاضي يتحايل لسقاطها عن المتهم‪ ،‬فيشترط فيها استقصاء معرفة حال الشهود؛ ولنها تدرأ‬
‫بالشبهات‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه‪« :‬إل محدودا في‬
‫فرية» (نصب الراية‪.)81/4 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه الدارقطني عن أبي المليح الهذلي‪ ،‬وهو في كتاب عمر المشهور إلى أبي موسى الشعري‬
‫(نصب الراية‪ ،‬المرجع السابق)‪.‬‬

‫( ‪)8/176‬‬
‫وقال الصاحبان والفتوى على قولهما‪ :‬ل بد من أن يسأل القاضي عن الشهود في السر والعلنية في‬
‫سائر الحقوق؛ لن القضاء قائم على الحجة‪ ،‬وهي شهادة العدول‪ ،‬فل بد من التعرف على العدالة‪،‬‬
‫وفي ذلك صيانة للحكم القضائي عن النقض والبطال بسبب الطعن في عدالة الشهود (‪. )1‬‬
‫قال المتأخرون من الحنفية‪ :‬هذا الختلف اختلف عصر وزمان‪ ،‬ل اختلف حجة وبرهان؛ لن‬
‫زمن أبي حنيفة كان زمن خير وصلح؛ لنه زمن التابعين‪ ،‬وشهد لهم النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫بالخيرية‪ ،‬بخلف زمان الصاحبين‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم‪« :‬خير أمتي قرني‪ ،‬ثم الذين يلونهم ثم‬
‫الذين يلونهم‪ ،‬ثم إن من بعدهم قوما يشهدون ول يُستشهدون‪ ،‬ويخونون وليؤتمنون‪ ،‬وينذرون ول‬
‫يوفون‪ ،‬ويظهر فيهم السمن» (‪. )2‬‬
‫وقال فقهاء الحنفية‪ :‬ل تقبل شهادة مُخنّث‪ ،‬لفسقه‪ ،‬وهو الذي يفعل الرديء ويؤتى كالنساء‪ .‬أما الذي‬
‫في كلمه لين وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة‪.‬‬
‫ول تقبل شهادة نائحة في مصيبة غيرها بأجر‪ ،‬ول مغنية‪ ،‬ولو لنفسها لحرمة رفع صوتها‪ ،‬خصوصا‬
‫مع الغناء‪ ،‬ول شهادة مدمن الشرب لهوا‪ ،‬سواء أكان الشراب خمرا أم غيره لحرمة ما ذكر في‬
‫السلم‪ ،‬ول شهادة من يلعب بالطيور؛ لنه يورث غفلة‪ ،‬ولنه قد يطلع على عورات النساء بصعود‬
‫سطحه ليطير طيره‪ ،‬ول شهادة من يغني للناس؛ لنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة‪ ،‬ول من يأتي‬
‫كبيرة موجبة للحد كالزنا والسرقة ونحوها؛ لنه يفسق‪ ،‬ول من يدخل الحمام بغير إزار؛ لن كشف‬
‫العورة حرام إذا رأى الشخص غيره‪ ،‬ول من يأكل الربا إذا كان مشهورا به‪ ،‬ول المقامر بالنرد (أي‬
‫الزهر) والشطرنج؛ لن كل ذلك من الكبائر‪ ،‬لكن الشطرنج عند الشافعي مكروه فقط‪ ،‬وليس كبيرة‪،‬‬
‫إذا لم يكن قمارا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع المبسوط‪ ،113/16 :‬فتح القدير‪ 12/6 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 268/6 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر‬
‫المختار‪ ،388/4 :‬الكتاب مع اللباب‪ 57/4 :‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد‪ ،451/2 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،427/4‬المغني‪ 165/9 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الشيخان وأحمد عن عمران بن حصين (نيل الوطار‪ ،296/8 :‬سبل السلم‪.)126/4 :‬‬

‫( ‪)8/177‬‬

‫ول تقبل شهادة من يفعل الفعال المستقبحة‪ ،‬كالبول على الطريق والكل على الطريق؛ لنه في‬
‫عرف السابقين تارك للمروءة؛ ومثله ل يمتنع عن الكذب فيتهم‪ .‬ول تقبل شهادة من يظهر سب السلف‬
‫كالصحابة والتابعين لظهور فسقه‪ ،‬بخلف من يخفيه؛ لنه فاسق مستور (‪. )1‬‬
‫واتفق الفقهاء على أن الفاسق إذا تاب من فسقه‪ ،‬تقبل شهادته‪ .‬واستثنى الحنفية المحدود في القذف‪،‬‬
‫فإنه ل تقبل شهادته عندهم وإن تاب‪ ،‬خلفا لبقية الفقهاء‪ .‬ومنشأ الخلف هو عود الستثناء في قوله‬
‫تعالى‪{ :‬ول تقبلوا لهم شهادة أبدا‪ ،‬وأولئك هم الفاسقون‪ ،‬إل الذين تابوا من بعد ذلك} [النور‪-4/24:‬‬
‫‪ .]5‬فقال الحنفية‪ :‬ل تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ول تقبلوا لهم شهادة أبدا}‬
‫[النور‪ ]4/24:‬وأما الستثناء فهو راجع عندهم إلى الجملة الخيرة وحدها‪،‬أي إلى أقرب مذكور إليه‪.‬‬
‫وقال جمهور الفقهاء‪ :‬تقبل شهادة المحدود في قذف بعد التوبة؛ لن الستثناء بعد الجمل المتعاطفة‬
‫بالواو يعودإليها جميعا إل إذا خصص الحكم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع الكتاب مختصر القدوري مع اللباب‪ 61/4 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ 34/6 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/178‬‬

‫بالجماع‪ ،‬وهنا خصص الجماع أحد الحكام السابقة عند التوبة وهو أن الحد ل يسقط بالتوبة (‪. )1‬‬
‫وتقبل شهادة أهل الهواء‪ ،‬أي أصحاب البدع التي ل تكفر صاحبها مثل الجبرية والقدَرية والرافضة‬
‫والخوارج والمشبهة والمعطلة‪.‬‬
‫وكذلك تقبل شهادة القلف ( غير المختون ) إل إذا تركه استخفافا بالدين‪ ،‬فل يكون حينئذ عدلً‪ ،‬وتقبل‬
‫شهادة الخصي وولد الزنا إذا كان عدلً‪ ،‬وشهادة الخنثى ويعتبر كأنثى (‪. )2‬‬
‫‪ - 7‬عدم التهمة‪ :‬أجمع الفقهاء على أن التهمة ترد بها الشهادة‪ .‬والتهمة‪ :‬أن يجلب الشاهد إلى‬
‫المشهود له نفعا أو يدفع عنه ضررا‪ ،‬فل تجوز شهادة الوالد لولده وولد ولده ول شهادة الولد لبويه‬
‫وأجداده‪ ،‬ول شهادة الخصم لخصمه‪ .‬والخصم‪ :‬كل من خاصم في حق‪ ،‬فل تقبل شهادة الوكيل‬
‫لموكله‪ ،‬ول الموصى له للميت أو الموصى عليه‪ :‬وهو اليتيم في حجره ورعايته‪ ،‬ول الشريك لشريكه‬
‫في أمور الشركة؛ لنها شهادة لنفسه من وجه لشتراكهما في الشركة‪ .‬فلو شهد الشريك بما ليس من‬
‫شركتهما تقبل شهادته لنتفاء التهمة‪ ،‬وأجاز المالكية شهادة الشريك‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ل‬
‫تقبل شهادة خصم ول ظنين» (‪ )3‬وقوله عليه الصلة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مذكرة تفسير آيات الحكام بالزهر‪ ،131/3 :‬وراجع بداية المجتهد‪ ،452/2 :‬فتح القدير‪:‬‬
‫المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،29‬البدائع‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ ،271‬مغني المحتاج‪ ،438/4 :‬المغني‪ ،‬المرجع‬
‫نفسه‪ :‬ص ‪ 197‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ 330/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الكتاب مع اللباب‪ 63/4 :‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه مالك في الموطأ موقوفا على عمر‪ ،‬وهو منقطع‪ ،‬ورواه أبو داود في المراسيل عن طلحة‬
‫بن عبد ال بن عوف‪ ،‬ورواه أيضا البيهقي من طريق العرج مرسلً‪ ،‬ورواه الحاكم عن أبي هريرة‬
‫مرفوعا‪ ،‬وفي إسناده نظر (نيل الوطار‪.)291/8 :‬‬

‫( ‪)8/179‬‬

‫والسلم‪« :‬ل تقبل شهادة بدوي على حضري» (‪. )1‬‬


‫ول تقبل شهادة العدو على عدوه بالتفاق حتى عند الحنفية؛ لن العداوة تورث التهمة‪ ،‬ول يؤمن‬
‫غمْر على‬
‫التقول فيها‪ ،‬ولقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ل تجوز شهادة الخائن‪ ،‬ول خائنة‪ ،‬ول ذي ِ‬
‫أخيه‪ ،‬ول تجوز شهادة القانع لهل البيت‪ ،‬والقانع‪ :‬الذي ينفق على أهل البيت» (‪ )2‬والمراد بالعدو‬
‫الذي ترد شهادته‪ :‬هو صاحب العداوة الدنيوية‪ ،‬وهو من يبغض المشهود عليه بحيث يتمنى زوال‬
‫نعمته‪ ،‬ويحزن بسروره‪ ،‬ويفرح بمصيبته‪.‬‬
‫واتفقوا على جواز شهادة الخ والعم والخال ونحوهم بعضهم لبعض‪ ،‬لنعدام التهمة؛ لن مال كل‬
‫واحد منهم مستقل عن الخر عرفا وعادة‪ ،‬فكانوا كالجانب‪.‬‬
‫واختلفوا في شهادة أحد الزوجين للخر‪ ،‬فردها جمهور الفقهاء؛ لن كل واحد منهما يرث الخر‪،‬‬
‫وينتفع بماله عادة‪ ،‬فينتفع بشهادته لصاحبه‪.‬‬
‫وأجاز الشافعية قبولها؛ لن الحاصل بين الزوجين عقد يطرأ ويزول فل يمنع قبول الشهادة‪ ،‬كما لو‬
‫شهد الجير للمستأجر وعكسه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ‪« :‬ل تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية»‬
‫(انظر نيل الوطار‪ ،291/8 :‬سبل السلم‪ ،129/4 :‬اللمام‪ :‬ص ‪ )520‬والبدوي‪ :‬من سكن البادية‪،‬‬
‫َنسَب على غير قياس النسبة‪ ،‬والقياس بادوي‪ ،‬والقرية‪ :‬المصر الجامع‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود وأحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن دقيق العيد وابن ماجه بإسناد حسن‪ ،‬قال ابن‬
‫حجر في التلخيص‪ :‬وسنده قوي‪ .‬وروايته من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪ .‬وقوله «ذو‬
‫الغمر» ‪ :‬أي صاحب الشحناء والحقد‪ ،‬والغمر بكسر الغين وسكون الميم‪ ،‬وقال صاحب سبل السلم‪:‬‬
‫بفتح الغين وفتح الميم وكسرها‪ ،‬والقانع‪ :‬هو الخادم المنقطع إلى الخدمة‪ ،‬فل تقبل شهادته للتهمة بجلب‬
‫النفع لنفسه كالجير الخاص (نصب الراية‪ ،83/4 :‬نيل الوطار‪ ،291/8 :‬سبل السلم‪،128/4 :‬‬
‫اللمام‪ :‬ص ‪.)519‬‬

‫( ‪)8/180‬‬

‫وتقبل شهادة الصديق لصديقه باتفاق الفقهاء‪ ،‬والصديق‪ :‬من صدق في ودادك‪ ،‬بأن يسرّه ما يسرك‪،‬‬
‫ويضره ما يضرك‪ ،‬ويهمه مايهمك‪ .‬وقبول شهادته‪ ،‬لضعف التهمة بالنسبة إليه‪ ،‬بعكس شهادة الصل‬
‫للفرع‪ ،‬وبالعكس ونحوهما (‪. )1‬‬
‫وأما الشرائط الخاصة ببعض الشهادات دون بعض‪ ،‬فأهمها مايأتي ‪:‬‬
‫‪ - 1‬العدد في الشهادة بما يطلع عليه الرجال‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬واستشهدوا شهيدين من رجالكم‪ ،‬فإن لم‬
‫يكونا رجلين‪ ،‬فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة‪ ]282/2:‬وذلك في الحقوق المدنية‪،‬‬
‫مالً كان الحق‪ ،‬أو غير مال‪ ،‬مثل النكاح والطلق والعدة والحوالة‪ ،‬والوقف‪ ،‬والصلح‪ ،‬والوكالة‪،‬‬
‫والوصية‪ ،‬والهبة‪ ،‬والقرار‪ ،‬والبراء‪ ،‬والولدة‪ ،‬والنسب‪ ،‬فهذه الحقوق تثبت عند الحنفية بشهادة‬
‫رجلين أو رجل وامرأتين‪ .‬وقبول شهادة المرأة هنا لتوافر أهلية الشهادة عندها‪ :‬وهي الشهادة والضبط‬
‫والداء‪ .‬والسبب في جعل المرأتين في مقام رجل في الشهادة‪ :‬هو نقصان الضبط بسبب زيادة‬
‫النسيان‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{ :‬أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الخرى} [البقرة‪. )2( ]282/2:‬‬
‫وقال الشافعية والمالكية والحنابلة‪ :‬ل تقبل شهادة النساء مع الرجال إل في الموال وتوابعها كالبيع‬
‫والجارة والهبة والوصية والرهن والكفالة؛ لن الصل عدم قبول شهادة النساء لغلبة العاطفة عليهن‪،‬‬
‫واختلل ضبط المور‪ ،‬وقصور‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع المبسوط‪ 120/16 :‬ومابعدها‪ ،‬البدائع‪ ،272/6 :‬فتح القدير‪ 31/6 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر‬
‫المختار‪ 392/4 :‬ومابعدها‪ ،‬اللباب‪ 60/4 :‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد‪ 452/2 :‬ومابعدها‪ ،‬الشرح‬
‫الكبير‪ 168/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ 329/2 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ 433/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪:‬‬
‫‪.191 ،185/9‬‬
‫(‪ )2‬فتح القدير‪ ،7/6 :‬البدائع‪ ،277/6 :‬الكتاب مع اللباب‪ 55/4 :‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/181‬‬
‫الولية على الشياء‪ .‬أما ما ليس بمال ول يقصد منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والرجعة‬
‫والطلق والوكالة وقتل العمد والحدود سوى حد الزنا‪ ،‬فل يثبت إل بشاهدين ذكرين‪ ،‬لقوله تعالى في‬
‫الرجعة‪{ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق‪ ]2/65:‬ولما روى ابن مسعود رضي ال عنه أن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬ل نكاح إل بولي وشاهدي عدل» (‪ )1‬وعن الزهري أنه قال‪« :‬جرت‬
‫السنة على عهد رسول ال صلّى ال عليه وسلم والخليفتين من بعده أل تقبل شهادة النساء في الحدود‬
‫والدماء» (‪ )2‬قال الشافعية‪ :‬فدل النص على الرجعة والنكاح والحدود‪ ،‬وقسنا عليها كل ما ل يقصد به‬
‫المال ويطلع عليه الرجال (‪. )3‬‬
‫وفي حد الزنا‪ :‬أجمع العلماء على أنه ل يثبت بأقل من أربعة شهود رجال عدول أحرار مسلمين‪،‬‬
‫لقوله تعالى‪{ :‬لول جاؤوا عليه بأربعة شهداء‪ ،‬فإذ لم يأتوا بالشهداء‪ ،‬فأولئك عند ال هم الكاذبون}‬
‫[النور‪ ]13/24:‬وقوله سبحانه‪{ :‬واللتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم}‬
‫[النساء‪ ]15/4:‬وقوله عز وجل‪{ :‬ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور‪.]4/24:‬وقد ثبت عن النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم أنه قال‪« :‬أربعة شهود‪ ،‬وإل حد في ظهرك» (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البيهقي وابن حبان والطبراني في الوسط عن عمران بن حصين وعائشة وأبي هريرة‬
‫وجابر وغيرهم‪ ،‬وذكر السيوطي تصحيحه (الجامع الصغير‪ ،204/2 :‬نصب الراية‪ ،167/3 :‬مجمع‬
‫الزوائد‪.)286/4 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الزهري‪ ،‬وأخرجه عبد الرزاق عن علي‪ ،‬قال‪« :‬ل تجوز‬
‫شهادة النساء في الحدود والدماء» (نصب الراية‪.)79/4 :‬‬
‫(‪ )3‬المهذب‪ ،333/2 :‬بداية المجتهد‪ ،454/2 :‬المغني‪ 149/9 :‬ومابعدها‪ ،‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪152‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس بن مالك‪ ،‬وأخرجه البخاري عن ابن عباس بلفظ‪:‬‬
‫«البينة وإل حد في ظهرك» (نصب الراية‪.)306/3 :‬‬

‫( ‪)8/182‬‬

‫وفي سائر الحدود الخرى والقصاص اتفق الجمهور على أنها تثبت بشهادة رجلين لقوله تعالى‪:‬‬
‫{واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة‪ ]282/2:‬ول تقبل فيها شهادة النساء ل مع رجل‪ ،‬ول‬
‫مفردات‪.‬‬
‫وقال الظاهرية‪ :‬تقبل شهادة النساء مع رجل في الحدود إذا كان النساء أكثر من واحدة‪ ،‬عملً بظاهر‬
‫الية‪{ :‬فإن لم يكونا رجلين‪ ،‬فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة‪.]282/2:‬‬
‫وأما ماليطلع عليه إل النساء‪ ،‬فتقبل فيه شهادة النساء‪ ،‬لما روي‪« :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫أجاز شهادة القابلة» (‪ )1‬ولما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري‪ ،‬قال‪« :‬مضت السنة أن‬
‫تجوز شهادة النساء فيما ل يطلع عليه غيرهن‪ ،‬من ولدات النساء وعيوبهن» (‪. )2‬‬
‫واختلف في تحديد تلك الحالت‪ ،‬فقال الحنفية‪ :‬تقبل شهادة النساء في الولدة والبكارة وعيوب النساء‬
‫في موضع ل يطلع عليه الرجال‪ ،‬ول تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع؛ لنه يجوز أن يطلع‬
‫عليه محارم المرأة من الرجال‪ ،‬ول تقبل شهادتهن عند أبي حنيفة على استهلل الصبي بالنسبة‬
‫للرث؛ لن الستهلل صوت الصبي عند الولدة‪ ،‬وهو مما يطلع عليه الرجال‪ ،‬فل تكون شهادتهن‬
‫فيه حجة‪ ،‬لكن تقبل شهادتهن في صلة الجنازة على المولود؛ لن الصلة من أمور الدين‪ ،‬وشهادتهن‬
‫فيها حجة كشهادتهن على هلل رمضان‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الدارقطني في سننه عن حذيفة بن اليمان‪ ،‬وفيه رجل مجهول‪ ،‬ورواه الطبراني في الوسط‪،‬‬
‫قال الهيثمي‪ :‬وفيه من لم أعرفه‪ ،‬وقال في التنقيح‪ :‬هو حديث باطل ل أصل له (راجع نصب الراية‪:‬‬
‫‪ ،80/4‬مجمع الزوائد‪.)201/4 :‬‬
‫(‪ )2‬ورواه ابن أبي شيبة أيضا (نصب الراية‪.)80/4 :‬‬

‫( ‪)8/183‬‬

‫وقال الصاحبان‪ :‬تقبل شهادتهن على الستهلل بالنسبة للرث أيضا؛ لن الستهلل صوت عند‬
‫الولدة‪ ،‬ول يحضرها الرجال عادة‪ ،‬فصار كشهادتهن على نفس الولدة‪ .‬وهو الرأي الرجح عند‬
‫الكمال بن الهمام صاحب فتح القدير‪.‬‬
‫وقال المالكية والشافعية والحنابلة‪ :‬تقبل شهادة النساء منفردات فيما ل يراه رجال غالبا كبكارة وثيوبة‬
‫وولدة وحيض ورضاع واستهلل ولد‪ ،‬وعيوب نساء تحت الثياب‪ ،‬كجراحة ورتَق وقرَن وبرص‬
‫وانقضاء عدة‪ ،‬ودليلهم خبر الزهري السابق ذكره‪ ،‬ويقاس ما لم يذكر في الخبر على ما ذكر فيه مما‬
‫شاركه في الضابط المذكور من ولدة وعيوب النساء‪.‬‬
‫واختلفوا في العدد المشترط في شهادة النساء منفردات‪ :‬فقال الحنفية والحنبلية‪ :‬تقبل شهادة امرأة‬
‫واحدة عدل (‪ . )1‬وقال المالكية‪ :‬يكفي امرأتان‪ .‬وقال الشافعية‪ :‬ليس يكفي أقل من أربع نسوة؛ لن‬
‫ال عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين‪ ،‬واشتراط الثنينية (‪. )2‬‬
‫‪ - 2‬التفاق في الشهادتين عند التعدد‪ :‬يشترط اتفاق الشهادتين (‪ )3‬فيما‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬لن النبي صلّى ال عليه وسلم أجاز شهادة القابلة‪ ،‬رواه الدارقطني عن حذيفة‪ ،‬وروى أبو‬
‫الخطاب عن ابن عمر أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة»‬
‫روى أحمد والطبراني في الكبير عن ابن عمر «أنه سأل النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال‪ ،‬أو أن‬
‫رجلً سأل النبي صلّى ال عليه وسلم فقال‪ :‬ما الذي يجوز في الرضاع من الشهود؟ فقال النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم ‪ :‬رجل أو امرأة‪ ،‬وفي رواية‪« :‬رجل وامرأة» وفيه ضعيف ولكن له مؤيد في أن‬
‫شهادة المرضعة وحدها تقبل (راجع سبل السلم‪ ،218/ :‬مجمع الزوائد‪.)201/4 :‬‬
‫(‪ )2‬راجع لكل ما ذكر‪ :‬المبسوط‪ ،112/16 :‬فتح القدير‪ 6/6 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪،279 ،277/6 :‬‬
‫الدر المختار‪ 386/4 :‬وما بعدها‪ ،‬اللباب‪ 55/4 :‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد‪ 453/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الشرح‬
‫الكبير‪ ،185/4 :‬المهذب‪ 332/2 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ 441/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪147/9 :‬‬
‫وما بعدها‪ ،155 ،‬المحلى لبن حزم‪ ،483/9 :‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪.129‬‬
‫(‪ )3‬يشترط عند أبي حنيفة اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى معا‪ ،‬ويكتفى عند الصاحبين بالموافقة‬
‫المعنوية (الكتاب مع اللباب‪.)65/4 :‬‬

‫( ‪)8/184‬‬

‫يطلب فيه العدد‪ ،‬فإن اختلفت الشهادة لم تقبل؛ لن اختلف الشهادتين مثلً يوجب اختلف الدعوى‪.‬‬
‫والختلف يكون في جنس المشهود به‪ ،‬وفي قدره‪ ،‬وفي الزمان والمكان ونحوها‪.‬‬
‫أما الختلف في الجنس فقد يكون في العقد كأن يشهد أحدهما بالبيع والخر بالميراث أو بالهبة‪ ،‬وقد‬
‫يكون في المال كأن يشهد أحدهما بمكيل والخر بموزون فل تقبل الشهادة‪ ،‬لختلف العقدين‪،‬‬
‫أولختلف الجنسين‪.‬‬
‫وأما الختلف في القدر‪ :‬فهوأن يدعي رجل على آخر ألفي درهم‪ ،‬ويثبت ادعاءه بالبينة‪ ،‬فيشهد له‬
‫شاهد بألفين‪ ،‬والخر بألف‪ ،‬فل تقبل الشهادة عند أبي حنيفة؛ لنه يشترط اتفاق الشاهدين باللفظ‬
‫والمعنى‪ ،‬وهنا اختلف الشاهدان لفظا؛ لن أحدهما مفرد‪ ،‬والخر مثنى‪ ،‬واختلف اللفاظ إفرادا وتثنية‬
‫يدل على اختلف المعاني الدالة عليها‪ ،‬فكان كلم كل منهما مباينا لكلم الخر‪ ،‬فصار كما إذا اختلف‬
‫جنس المال‪ ،‬وهذا هو الصحيح‪.‬‬
‫وتقبل هذه الشهادة عند الصاحبين على ألف درهم؛ لن الشاهدين اتفقا على اللف‪ ،‬وتفرد أحدهما‬
‫بالزيادة‪ ،‬فيثبت الحق فيما اتفقا عليه دون ما تفرد به أحدهما‪.‬‬
‫وهذا الختلف يجري فيما إذا شهد أحد الشاهدين على طلقة‪ ،‬والخر على طلقتين أو ثلث‪ ،‬ل تقبل‬
‫الشهادة عند أبي حنيفة‪ ،‬وتقبل على القل عند الصاحبين‪.‬‬

‫( ‪)8/185‬‬

‫واتفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أنه إذا كان المدعي يدعي ألفا وخمس مئة‪ ،‬فشهد أحد الشاهدين‬
‫على اللف‪ ،‬والخر على ألف وخمس مئة‪ ،‬تقبل الشهادة على اللف‪ ،‬لتفاق الشاهدين عليها لفظا‬
‫ومعنى؛ لن اللف والخمس مئة جملتان عطفت إحداهما على الخرى‪ ،‬والعطف يقرر المعطوف عليه‬
‫ويؤكده‪ ،‬بخلف اللف واللفين‪ ،‬فليس بينهما حرف العطف‪.‬‬
‫وأما الختلف في الزمان والمكان‪ :‬فإن كان الختلف في القرار فتقبل الشهادة؛ لن القرار يحتمل‬
‫التكرار‪ ،‬فيمكن التوفيق بين الشهادتين بسماع القرار في زمانين أو مكانين‪.‬‬
‫وإن كان الختلف في الفعل كالقتل والغصب وإنشاء البيع والطلق والنكاح ونحوها‪ ،‬فإنه يمنع قبول‬
‫الشهادة‪ ،‬لختلفها؛ لن الفعال ل تحتمل التكرار‪ ،‬فاختلف الزمان والمكان فيها يوجب اختلف‬
‫الشهادتين‪ ،‬فما لم يوجد على كل حالة شاهدان ل يقبل‪ .‬فلو شهد شاهدان أن زيدا قتل يوم النحر بمكة‪،‬‬
‫وشهد آخران أنه قتل يوم النحر بالكوفة‪ ،‬لم تقبل الشهادتان للتيقن بكذب إحداهما‪.‬‬
‫ولو ادعى رجل على آخر قرض ألف درهم‪ ،‬فشهد شاهدان‪ :‬أحدهما على القرض‪ ،‬والخر على‬
‫القرض والقضاء‪ ،‬أي أنه أدى الدين‪ ،‬يقضى بشهادتهما على القرض‪ ،‬ول يقضى بالداء في ظاهر‬
‫الرواية؛ لن الشهادتين اتفقتا على القرض‪ ،‬فيقضى به‪ ،‬واختلفا في الداء‪ ،‬فل يقضى به (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 278/6 :‬ومابعدها‪ ،‬فتح القدير‪ 52/6 :‬وما بعدها‪ ،‬مختصر القدوري مع اللباب‪ 65/4 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ 405/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/186‬‬

‫شروط في الشهادة نفسها ‪:‬‬


‫يشترط في الشهادة شروط منها‪:‬‬
‫‪ - 1‬لفظ الشهادة‪ :‬ينبغي أن يذكر الشاهد لفظة الشهادة‪ ،‬فإن قال الشاهد‪ :‬أعلم أو أتيقن‪ ،‬لم تقبل‬
‫شهادته في تلك الحادثة‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن تكون الشهادة موافقه للدعوى‪ :‬فإن خالفتها ل تقبل ‪ ،‬إل إذا وفق المدعي بين الدعوى وبين‬
‫الشهادة عند إمكان التوفيق (‪. )1‬‬
‫وتجوز الشهادة على الشهادة في كل الحقوق التي ل تسقط بالشبهة‪ ،‬لشدة الحاجة إليها؛ إذ قد يعجز‬
‫الصل عن أداء الشهادة لعذر من العذار‪ ،‬فلو لم تجز الشهادة على شهادته‪ ،‬أدى إلى ضياع الحقوق‪.‬‬
‫ول تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود والقصاص‪ ،‬وإنما تشترط فيها الصالة؛ لنها تسقط بالشبهة‬
‫كما عرفنا‪.‬‬
‫وتجوز في الشهادة على الشهادة شهادة شاهدين على شهادة شاهدين؛ لن نقل الشهادة من جملة‬
‫الحقوق‪ ،‬وقد شهدا بحق‪ ،‬ثم بحق آخر‪ ،‬فتقبل؛ لن شهادة الشهادتين على حقين جائزة‪.‬‬
‫ول تقبل شهادة واحد على شهادة واحد؛ لن شهادة الفرد ل تثبت الحق‪.‬‬
‫وصفة الشهاد في الشهادة على الشهادة‪ :‬أن يقول شاهد الصل لشاهد الفرع‪ :‬اشهد على شهادتي أني‬
‫أشهد أن فلن ابن فلن أقر عندي بكذا‪ ،‬وأشهدني على نفسه؛ لنه ل بد أن يشهد شاهد الصل عند‬
‫الفرع كما يشهد القاضي لينقله إلى مجلس القضاء‪.‬‬
‫وإن لم يقل العبارة الخيرة السابقة وهي «أشهدني على نفسه» جاز ذلك؛ لن من سمع إقرار غيره‪،‬‬
‫حل له الشهادة‪ ،‬وإن لم يقل له‪ :‬اشهد‪.‬‬
‫ويقول شاهد الفرع عند الداء لما تحمله‪ :‬أشهد أن فلنا أشهدني على شهادته أنه يشهد أن فلنا أقر‬
‫عنده بكذا‪ ،‬وقال لي‪ :‬اشهد على شهادتي بذلك؛ لنه ل بد من شهادة الفرع‪ ،‬وذكر شهادة الصل‪،‬‬
‫وذكر تحميله الشهادة‪.‬‬
‫وقال في الدر المختار‪ :‬القصر أن يقول الصل‪ :‬اشهد على شهادتي بكذا‪ ،‬ويقول الفرع‪ :‬أشهد على‬
‫شهادته بكذا‪ .‬وهذا ما أفتى به السرخسي وغيره‪ ،‬وابن الكمال‪ ،‬وهو الصح‪.‬‬
‫ول تقبل شهادة الفرع إل أن يتعذر حضور شهود الصل‪ ،‬كأن يموت شهود الصل عند الداء‪ ،‬أو‬
‫يغيبوا مسيرة سفر ثلثة أيام فصاعدا‪ ،‬أو يمرضوا مرضا قويا بحيث ل يستطيعون معه حضور‬
‫مجلس الحاكم؛ لن جواز هذه الشهادة للحاجة‪ ،‬وإما تمس الحاجة عند عجز الصل‪ ،‬وبهذه الشياء‬
‫يتحقق العجز‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪ ،‬البدائع‪ :‬ص ‪ ،273‬فتح القدير‪ :‬ص ‪ ،10‬اللباب‪.64/4 :‬‬

‫( ‪)8/187‬‬
‫وتقبل تزكية شهود الصل بشهود الفرع؛ لن الفروع من أهل التزكية‪ ،‬فصح تعديلهم‪ ،‬فإن لم يزكوهم‬
‫نظر القاضي في رأي أبي يوسف في حال شهود الصل‪ ،‬كما لو حضروا بأنفسهم وشهدوا‪ .‬وهذا هو‬
‫الرأي الصح وظاهر الرواية‪ .‬وقال محمد‪ :‬ل تقبل تزكية الصول بالفروع؛ لنهم ينقلون الشهادة‪،‬‬
‫ول شهادة بدون العدالة‪.‬‬
‫وإن أنكر شهود الصل الشهادة بأن قالوا‪ :‬ما لنا شهادة على هذه الحادثة‪ ،‬وماتوا أو غابوا‪ ،‬ثم جاء‬
‫الفروع يشهدون على شهادتهم‪ ،‬أو أنكر شهود الصل تحميل الشهادة لغيرهم بأن قالوا‪ :‬لم نشهدهم‬
‫على شهادتنا‪ ،‬وماتوا أوغابوا‪ ،‬لم تقبل شهادة شهود الفرع؛ لن التحميل شرط‪ ،‬ولم يتوافر ذلك بسبب‬
‫تعارض الخبرين (‪. )1‬‬
‫شرط مكان الشهادة ‪:‬‬
‫يشترط أن تكون الشهادة في مجلس القضاء (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع الكتاب مع اللباب‪ ،70-68/4 :‬تبيين الحقائق‪ 237/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.379‬‬

‫( ‪)8/188‬‬

‫المطلب الرابع ـ حكم الرجوع عن الشهادة ‪:‬‬


‫الرجوع عن الشهادة‪ :‬أن يقول الشاهد‪ :‬رجعت عما شهدت به‪ ،‬ونحوه‪ ،‬فلو أنكر شهادته بعد القضاء ل‬
‫يكون رجوعا‪ ،‬ول يصح الرجوع إل في مجلس القضاء؛ لنه فسخ للشهادة‪ ،‬فيكون في المكان الذي‬
‫تعتبر فيه الشهادة‪ ،‬وهو المحكمة‪ ،‬ولن الرجوع توبة‪ ،‬والتوبة تكون بحسب الجناية‪:‬السر بالسر‪،‬‬
‫والعلنية بالعلنية (‪ ، )1‬أي إذا كان الذنب سرا فالتوبة سرية‪ ،‬وإن كان علنية فالتوبة علنية‪.‬‬
‫وإذا لم يصح الرجوع عن الشهادة في غير المحكمة‪ :‬فلو ادعى المشهود عليه رجوع الشاهدين أو‬
‫أراد يمينهما أنهما لم يرجعا‪ ،‬ل يحلفان‪ ،‬وكذا لو أقام المشهود عليه بينة على هذا الرجوع‪ ،‬ل تقبل؛‬
‫لنه ادعى رجوعا باطلً؛ إذ أنه في غير المحكمة‪ ،‬وإقامة البينة وإلزام اليمين ل تقبل إل على دعوى‬
‫صحيحة‪ ،‬بدليل أنه لو أقام البينة أن الشاهد رجع عند قاضي بلدة كذا‪ ،‬وحكم عليه بضمان المال‪ ،‬تقبل‬
‫بينته‪.‬‬
‫وكذلك ل يصح الرجوع عن الشهادة بعد صدور الحكم من القاضي‪ ،‬وإذا رجع الشهود حينئذ‪ ،‬لم‬
‫ينتقص الحكم الذي حكم بشهادتهما فيه‪ ،‬ول يفسخه القاضي باتفاق العلماء‪ ،‬وإذا رجع الشهود قبل‬
‫صدور الحكم‪ ،‬لم يحكم القاضي بشهادتهما‪ ،‬ويصح رجوعهما حينئذ؛ لن الشهادة إخبار يحتمل الغلط‪.‬‬
‫ويترتب على الرجوع عن الشهادة بعد الحكم‪ :‬أن الشهود يلتزمون بضمان الغرم أو التلف الذي تسببوا‬
‫في إلحاقه بالمشهود عليه من مال أو دية باتفاق المذاهب الربعة على الراجح عند بعضهم‪ ،‬لقرارهم‬
‫على أنفسهم بسبب الضمان‪ ،‬فهم قد أخرجوا المال من يد المشهود عليه بغير حق‪ ،‬ويوزع الضمان‬
‫بينهم‪ ،‬ول ضمان عليهم إذا كان المشهود عليه قد استوفى عوضا عما أتلف عليه‪ .‬وإذا كانت الشهادة‬
‫على حد زنا مثلً‪ ،‬ثم رجع الشهود كلهم أو بعضهم‪ ،‬فيقام عليهم حد القذف (‪ . )2‬وتطبيقات هذه‬
‫القاعدة تعرف عند الحنفية في المسائل التية (‪: )3‬‬
‫ـ إذا شهد شاهدان على رجل بمال‪ ،‬وقضى القاضي به‪ ،‬وسلم المدعى عليه المال إلى المدعي‪ ،‬ثم‬
‫رجع الشاهدان‪ :‬ضمنا المال بينهما نصفين‪ .‬ولو رجع أحدهما‪ ،‬غرم نصف المال‪ ،‬وبقي النصف‬
‫الخر ببقاء شاهد‪ .‬ودليل الضمان أن الشاهدين تسببا بإتلف مال المشهود عليه تعديا‪ ،‬والتسبب سبب‬
‫الضمان‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬هذا بعض حديث معاذ رضي ال عنه حين بعثه النبي صلّى ال عليه وسلم إلى أهل اليمن‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أوصني‪ ،‬فقال‪ :‬عليك بتقوى ال تعالى ما استطعت‪ .‬إلى أن قال‪« :‬وإذا عملت شرا‪ ،‬فأحدث توبة‪:‬‬
‫السر بالسر‪ ،‬والعلنية بالعلنية» (فتح القدير‪.)87/6 :‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،16 ،8 ،2/17 ،177/16 :‬فتح القدير‪ 85/6 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 283/6 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫الدر المختار‪ 412/4 :‬وما بعدها‪ ،‬اللباب شرح الكتاب‪ 72/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪359‬‬
‫وما بعدها‪ ،‬الشرح الكبير للدردير‪ ،207/4 :‬مغني المحتاج‪ 456/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪،340/2 :‬‬
‫المغني‪ 248/9 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬مراجع الحنفية السابقة‪.‬‬

‫( ‪)8/189‬‬

‫ـ لو كان الشهود أربعة‪ ،‬فرجع اثنان أو واحد منهم‪ :‬فل ضمان عليه‪ ،‬لبقاء المال للمشهود له ببقاء‬
‫الشاهدين‪ .‬ولو رجع منهم ثلثة يلزمهم نصف المال المشهود عليه‪ ،‬لبقاء النصف‪ ،‬أي أنه ببقاء‬
‫أحدهما يبقى نصف الحق عند الحنفية والشافعية‪ .‬وأما عند الحنابلة‪ :‬فيغرم الشاهد الذي رجع بقدر‬
‫نسبته إلى عدد الشهود‪ ،‬فإن كانوا ثلثة فرجع واحد‪ ،‬فعليه الثلث‪ ،‬وإن كانوا عشرة فعليه العشر‪.‬‬
‫ـ وإن شهد رجل وامرأتان على مال‪ ،‬فرجعت امرأة‪ :‬غرمت ربع المال‪ ،‬ولو رجعتا غرمتا نصف‬
‫المال‪ ،‬لبقاء نصف الحق ببقاء رجل‪ ،‬ومن المعلوم أن المرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادات‪.‬وكذا‬
‫يغرم الرجل نصف المال‪ ،‬إن رجع وبقيت المرأتان‪.‬‬
‫ـ ولو شهد رجل واحد‪ ،‬وعشر نسوة‪ ،‬على مال‪ ،‬ثم رجعوا جميعا بعد صدور الحكم‪ ،‬فالضمان بينهم‬
‫عند أبي حنيفة أسداسا‪ ،‬على الرجل سدس المال بحسب نسبته إلى عدد النسوة‪ ،‬وعلى النساء خمسة‬
‫أسداس؛ لن كل امرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادة‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬الضمان بينهما مناصفة‪ ،‬على الرجل النصف‪ ،‬وعلى النساء النصف؛ لن النساء‪،‬‬
‫وإن كثرن‪ ،‬لهن شطر الشهادة فقط‪.‬‬
‫ـ لو شهد اثنان على بائع ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر‪ ،‬وقضى القاضي به‪ ،‬ثم رجعا‪ ،‬لم يضمنا‬
‫للمشهود عليه شيئا‪ ،‬لن شهادتهما أدت إلى إتلف بعوض قبضه بديلً عن المبيع‪ ،‬والتلف بعوض‬
‫ل يعد إتلفا‪ ،‬وإن شهد الثنان بأقل من قيمة المثل‪ ،‬ضمنا الجزء الناقص‪ ،‬لتلفهما هذا الجزء بل‬
‫عوض‪.‬‬

‫( ‪)8/190‬‬

‫ـ وكذا لو شهد اثنان على رجل أنه تزوج امرأة بمقدار مهر مثلهما‪ ،‬ثم رجعا‪ :‬فل ضمان عليهما‪،‬‬
‫ول يفسخ النكاح برجوعهما؛ لن منافع البضع (أي محل الستمتاع بالمرأة) غير متقومة عند‬
‫التلف‪ ،‬بعكس العيان المالية‪ ،‬وبما أن المنافع لتتقوم فل تضمن؛ لن التضمين يتطلب المماثلة بين‬
‫العوض والمعوض عنه‪ ،‬ول مماثلة بين العيان التي تحرز وتتمول‪ ،‬وبين العراض التي تزول ول‬
‫تبقى‪ ،‬وإنما تتقوم منافع البضع على الزوج عند الدخول بالمرأة إظهارا لخطورة محل الستمتاع فقط‪،‬‬
‫وحينئذ تعتبر شهادة الشاهدين مؤدية إلى إتلف بعوض‪ ،‬وهو أن الشاهدين أثبتا للزوج البضع بمقابلة‬
‫المال‪ ،‬والتلف بعوض ل يعد إتلفا‪ ،‬كما ذكر‪ ،‬وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا‪ ،‬ضمنا‬
‫الزيادة؛ لنهما أتلفا الزيادة من غير عوض‪.‬‬
‫ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل‪ :‬أنه طلق امرأته ثلثا‪ ،‬وقد دخل بها وأقر الزوج بالدخول‪ ،‬وقضى‬
‫القاضي بالفرقة‪ ،‬ثم رجع الشاهدان‪ :‬لم يضمنا‪ ،‬إل ما زاد على مهر المثل؛ لنه بقدر مهر المثل‬
‫إتلف بعوض‪ ،‬وهو استيفاء منافع البضع‪ ،‬وإذا لم ننظر إلى معنى المعاوضة في الزواج‪ ،‬فل ضمان‬
‫أيضا؛ لن المهر يجب بنفس العقد عند الحنفية‪ ،‬ويتأكد بالدخول‪ ،‬ل بشهادة الشهود‪ ،‬فلم يترتب على‬
‫الشهادة إتلف‪ ،‬فلم يجب الضمان‪.‬‬
‫وإن كان الطلق قبل الدخول‪ ،‬فقضى القاضي بنصف المهر إذا كان المهر مسمى في العقد‪ ،‬أو‬
‫بالمتعة إذا لم يكن المهر مسمى‪ ،‬ثم رجع الشاهدان‪ ،‬فإنهما يضمنان للزوج نصف المهر في الحالة‬
‫الولى‪ ،‬والمتعة في الحالة الثانية؛ لن شهادتهما أدت إلى إتلف شيء على الزوج دون أن يحصل في‬
‫مقابله على عوض‪ .‬ول يقال‪ :‬إن الحكم الصادر من القاضي أمر ل بد منه؛ لن هذا هو حكم المهر‬
‫أو المتعة قبل الدخول‪ .‬ل يقال ذلك؛ لنه بشهادة الشاهدين على الطلق‪ ،‬تأكد الواجب في ذمة الزوج‪،‬‬
‫فلم يعد محتملً للسقوط بأن تحدث الفرقة من قبل المرأة‪.‬‬

‫( ‪)8/191‬‬

‫ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل بإجارة داره سنة‪ ،‬والمستأجر ينكر‪ ،‬وقضى القاضي باليجار‪ ،‬ثم‬
‫رجعا بعد استيفاء منفعة السكنى‪ ،‬فإنهما يغرمان للمستأجر ما زاد على أجر المثل؛ لنه بقدر أجر‬
‫المثل حصل العوض‪ ،‬والباقي بغير عوض‪ ،‬فتكون شهادتهما مؤدية إلى إتلف على المستأجر بقدر‬
‫الباقي وهو الزيادة‪.‬‬
‫ـ ولو شهد اثنان على رجل أنه قال لمرأته‪« :‬إن دخلت الدار فأنت طالق» وشهد اثنان آخران‬
‫بالدخول‪ ،‬ثم رجعوا بعد أن قضى القاضي بالفرقة‪ ،‬ضمن الشاهدان الولن؛ لن هذه شهادة على‬
‫الطلق‪ ،‬وهو إتلف بغير عوض‪ ،‬فيضمنان؛ لن الطلق علة الحكم‪ ،‬ول يجب على شهود الدخول‬
‫شيء ؛ لن الدخول شرط‪ .‬ـ ولو شهد اثنان على رجل بسرقة نصاب (وهو عشرة دراهم عند‬
‫الحنفية) فقضى القاضي بعد ادعاء المالك المسروق منه بقطع اليد‪ ،‬وقطعت يده‪ ،‬ثم رجع الشاهدان‪،‬‬
‫يغرمان دية اليد‪.‬‬
‫ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل أنه قتل فلنا خطأ‪ ،‬أو جرحه خطأ‪ ،‬وقضى القاضي بالعقوبة‪ ،‬ثم‬
‫رجعا‪ ،‬ضمنا الدية؛ لنهما أتلفاها عليه‪ ،‬وتكون في مالهما؛ لن الشهادة منهما بمنزلة القرار منهما‬
‫بالتلف‪ ،‬والعاقلة (أي عصبة القاتل) لتعقل بالقرار بالقتل‪.‬‬
‫ـ ولوشهد رجلن على آخر أنه قتل فلنا عمدا‪ ،‬فقضى القاضي بالقصاص‪ ،‬واقتص منه أي قتل‪ ،‬ثم‬
‫رجعا‪ ،‬ل يقتص منهما عند الحنفية‪ ،‬وهو ظاهر المدونة لمالك وقول ابن القاسم‪ ،‬وإنما يضمنان الدية‬
‫في مالهما في ثلث سنين؛ لنهما معترفان‪ ،‬والعاقلة ل تعقل العتراف‪ .‬والدليل على أنه ل يقتص‬
‫منهما هو أنهما لم يباشرا القتل‪ ،‬بل ولم يوجد منهما ـ في تقدير الحنفية ـ تسبب بالقتل؛ لن التسبب‪:‬‬
‫ما يفضي إلى ما تسبب فيه غالبا‪ ،‬والشهادة ل تفضي إلى القتل‬

‫( ‪)8/192‬‬
‫غالبا‪ ،‬وإن أفضت إلى القضاء به‪ ،‬وإنما كثيرا ما يقضى بالقتل‪ ،‬ثم يتوسط الناس في الصلح على الدية‬
‫( ‪. )1‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة وأكثر أصحاب مالك (‪ : )2‬إذا رجع الشهود‪ ،‬وقد نفذ القصاص أو قتل الردة‪،‬‬
‫أو رجم الزنا‪ ،‬أو الجلد أو القطع ومات المجلود أو المقطوع‪ ،‬وقال الشهود‪ :‬تعمدنا الشهادة‪ ،‬فيقتص‬
‫منهم‪ ،‬أو يلزمون بدية مغلظة في مالهم موزعة على عدد رؤوسهم‪ ،‬لتسببهم في إهلك المشهود عليه‪،‬‬
‫وقتلهم نفسا بغير شبهة‪ ،‬ولما روى الشعبي‪ :‬أن رجلين شهدا عند علي رضي ال عنه على رجل أنه‬
‫سرق‪ ،‬فقطعه‪ ،‬ثم أتياه برجل آخر‪ ،‬فقال‪ :‬إنا أخطأنا بالول‪ ،‬وهذا السارق‪ ،‬فأبطل شهادتهما على‬
‫الخر‪ ،‬وضمنها دية الول‪ ،‬وقال‪« :‬لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما» ‪.‬‬
‫وإن قال الشاهدان اللذان رجعا‪ :‬أخطأنا‪ ،‬فعليهما الدية مخففة في أموالهما عند الحنابلة‪ ،‬لن العاقلة ل‬
‫تحمل العتراف‪ ،‬وعند الشافعية‪ :‬عليهما نصف الدية‪ ،‬وعلى القاضي النصف الخر‪ ،‬توزيعا للدية‬
‫على من باشر القتل ومن تسبب فيه‪.‬‬
‫ـ ولو شهد أربعة على رجل بالزنا‪ ،‬وشهد آخران عليه بأنه محصن‪ ،‬ثم رجعوا بعد إقامة الرجم‪:‬‬
‫فضمان الدية على شهود الزنا‪ ،‬ول يجب شيء على شهود الحصان؛ لن الزنا علة الحكم‪،‬‬
‫والحصان شرط‪ ،‬والحكم يضاف إلى العلة أو السبب ل إلى الشرط‪.‬‬
‫وأما بالنسبة لحد القذف ‪ :‬فإن رجع جميع الشهود يحدون حد القذف‪ ،‬سواء رجعوا بعد القضاء بالرجم‬
‫أو قبل القضاء‪.‬‬
‫وإن رجع أحد الشهود بالزنا بعد الرجم‪ :‬فإنه يحد حد القذف‪،‬؛ لن شهادته صارت قذفا بإقراره‪،‬‬
‫ويغرم ربع الدية‪ ،‬ويتحمل ثلثة أرباع الدية الباقية الشهود الثلثة الخرون‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ 95/6 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ ،285/6 :‬الشرح الكبير‪.207/4 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،457/4 :‬المهذب‪ ،340/2 :‬المغني‪.247/9 :‬‬

‫( ‪)8/193‬‬

‫وإن رجع واحد من الشهود بعد قضاء الحاكم بالرجم وقبل إقامة الحد‪ ،‬فإنهم يحدون جميعا عند أبي‬
‫حنيفة وأبي يوسف؛ لن رجوعه قبل إقامة الحد بمنزلة رجوعه قبل القضاء بالحد ‪ .‬وعند محمد‪ :‬يحد‬
‫الراجع وحده استحسانا؛ لن كلم الشهود اعتبر شهادة بدليل القضاء بموجبه‪ ،‬فل ينقلب قذفا إل‬
‫بالرجوع‪ ،‬ولم يرجع واحد منهم‪ ،‬فينقلب كلمه خاصة قذفا‪ ،‬فلم يؤثر بالنسبة للباقين‪ ،‬فيظل كلمهم‬
‫شهادة‪.‬‬
‫واتفق أئمة الحنفية ما عدا زفر على أنه إذا رجع أحد الشهود قبل القضاء بالرجم‪ ،‬فإن الشهود جميعا‬
‫يحدون حد القذف؛ لن كلمهم ل يعتبر شهادة بالزنا إل بقرينة القضاء به (‪. )1‬‬
‫أما أثر الرجوع عن الشهادة في حكم القاضي‪ :‬فإن رجع الشهود قبل الحكم‪ ،‬امتنع على القاضي الحكم‬
‫بشهادتهم‪ ،‬وإن رجعوا عن شهادة في زنى‪ ،‬حدّوا حد القذف‪ .‬وإن رجعوا بعد إصدار الحكم‪ ،‬فإن كان‬
‫قبل استيفاء الحق المالي لم يستوف من المقضي عليه‪ ،‬وإن كان عقوبة لم تستوف من المتهم‪.‬‬
‫وإن رجعوا بعد استيفاء الحق لم ينقض الحكم‪ ،‬لتأكد المر وتوفير الثقة بأحكام القضاة‪ ،‬واتصاف‬
‫الشهود بالفسق‪ ،‬والفاسق ل ينقض الحكم بقوله‪ ،‬فإن كان المقضي به مالً‪ ،‬غَرِم الشهود المال‬
‫المستوفى من المحكوم عليه؛ لتسببهم في تغريمه‪ ،‬وإن كان المقضي به قصاصا‪ ،‬اقتص منهم عند‬
‫جماعة‪ ،‬ووجب عليهم الدية المغلظة عند جماعة أخرى كما تقدم‪ .‬وإن كان المقضي به حدا عزّروا‪،‬‬
‫وإن شهدوا بطلق وفرّق القاضي بين الزوجين‪ ،‬وجب عليهم عند الشافعي مهر المثل للزوج‪ ،‬لنه‬
‫بدل ما فوتوه عليه‪ ،‬وعليهم عند الحنفية الزائد عن مهر المثل كما تقدم‪ ،‬ول ضمان عليه عند الحنابلة‬
‫( ‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع البدائع‪.289/6 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪.250/9 :‬‬

‫( ‪)8/194‬‬

‫المطلب الخامس ـ عقوبة شاهد الزور ‪:‬‬


‫إذا أقر الشاهد أنه شهد زورا‪ ،‬فقال أبو حنيفة‪ :‬يشهّر به في السواق إن كان سوقيا‪ ،‬أو بين قومه إن‬
‫كان غير سوقي‪ ،‬وذلك بعد صلة العصر في مكان تجمع الناس‪ .‬ول يعزر بالضرب‪ ،‬أو بالحبس؛‬
‫لن المقصود هو التوصل إلى النزجار‪ ،‬وهو يحصل بالتشهير‪ ،‬بل ربما يكون أعظم عند الناس من‬
‫الضرب‪ ،‬فيكتفى به‪.‬وقال الصاحبان‪ :‬نوجعه ضربا‪ ،‬ونحبسه‪ ،‬حتى يتوب (‪. )1‬‬
‫ويوافق الشافعية رأي الصاحبين (‪ ، )2‬قالوا‪ :‬ومن شهد بالزور فسق وردت شهادته؛ لنها من‬
‫الكبائر‪،‬بدليل ما روى خُرَيم بن فاتك قال‪ :‬صلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم صل ة الصبح‪ ،‬فلما‬
‫عدّلت شهادة الزور بالشراك بال ‪ ،‬ثلث مرات (‪ ، )3‬ثم تل قوله عز‬
‫انصرف‪ ،‬قام قائما‪ ،‬ثم قال‪ُ :‬‬
‫وجل‪{ :‬فاجتنبوا الرجس من الوثان واجتنبوا قول الزور} [الحج‪ .]30/22:‬وإذا ثبت أنه شاهد زور‪،‬‬
‫ورأى المام تعزيره بالضرب أو بالحبس أو الزجر‪ ،‬فعل‪ ،‬وإن رأى أن يشهر أمره في سوق ومصله‬
‫وقبيلته‪ ،‬وينادى عليه أنه شاهد زور فاعرفوه‪ ،‬فعل‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬اذكروا الفاسق بما‬
‫فيه ليحذره الناس» (‪ )4‬وشدد المالكية والحنابلة على شاهد الزور فقالوا‪ :‬يعزر بالسجن والضرب‬
‫ويطاف به في المجالس (‪. )5‬‬
‫المطلب السادس ـ القضاء بشهادة غير المسلمين ‪:‬‬
‫شهادة غير المسلمين إما على بعضهم بعضا‪ ،‬وإما على المسلمين (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبيين الحقائق‪ ،241/4 :‬الكتاب مع اللباب‪ 70/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪ 328/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن خريم بن فاتك بلفظ «عدت شهادة الزور والشراك‬
‫بال ‪ ،‬ثلث مرات‪..‬إلخ» (الترغيب والترهيب‪ 221/3 :‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن أبي الدنيا وابن عدي والطبراني والخطيب عن معاوية بن حَيْدة بلفظ‪« :‬اذكروا الفاجر‬
‫بما فيه يحذره الناس» وهو ل يصح (كشف الخفا‪.)242/2 ،114/1 :‬‬
‫(‪ )5‬القوانين الفقهية لبن جزي‪ :‬ص ‪ ،309‬المحرر في الفقه الحنبلي لبي البركات‪.355/2 :‬‬
‫(‪ )6‬المراجع السابقة في شروطهم الشهادة‪ ،‬بداية المجتهد‪ ،452/2 :‬الطرق الحكمية في السياسة‬
‫الشرعية لبن قيم‪ :‬ص ‪ ،193-176‬ط السنة المحمدية‪ ،‬مقارنة المذاهب في الفقه للستاذين السايس‬
‫وشلتوت‪ :‬ص ‪.137-131‬‬

‫( ‪)8/195‬‬

‫أولً ـ شهادة غير المسلمين على بعضهم ‪:‬‬


‫للفقهاء رأيان في قبول شهادة الكفار على بعضهم‪:‬‬
‫‪ - ً 1‬قال الحنفية‪ :‬تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض‪ ،‬بدليل الكتاب والسنة والمعقول‪ .‬أما الكتاب‬
‫فقوله تعالى‪{ :‬ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} [آل عمران‪ ]75/3:‬فأخبر أن منهم‬
‫المين على مثل هذا القدر من المال‪ ،‬ول ريب أن الشهادة تعتمد على صفة المانة‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [النفال‪ ]73/8:‬فأثبت لهم الولية على بعضهم‬
‫بعضا‪ ،‬والولية أعلى رتبة من الشهادة‪ ،‬وغاية الشهادة أن تشبه بها‪.‬‬
‫وأما السنة‪ :‬فما رواه جابر بن عبد ال رضي ال عنه‪« :‬أن اليهود جاؤوا إلى رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا‪ ،‬فقال لهم رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ :‬ائتوني بأربعة منكم‬
‫يشهدون‪ ،‬قالوا‪ :‬وكيف؟ الحديث» والذي في الصحيح‪« :‬مُرّ على رسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫حمّم (‪ ، )1‬فقال‪ :‬ما شأن هذا؟ فقالوا‪ :‬زنى‪ ،‬فقال‪ :‬ما تجدون في كتابكم؟ ‪..‬الحديث» فأقام‬
‫بيهودي قد ُ‬
‫الحد بقولهم‪ ،‬ولم يسأل اليهودي واليهودية‪ ،‬ول طلب اعترافهما وإقرارهما‪.‬‬
‫وقد جاء في القصة أنه صلّى ال عليه وسلم قال لليهود‪« :‬ائتوني بأربعة منكم يشهدون عليه» فقد قبل‬
‫النبي شهادتهم على الفعل وحكم بناء عليها‪.‬‬
‫وأما المعقول‪ :‬فهو أن الكفار يتعاملون فيما بينهم بأنواع المعاملت من المداينات وعقود المعاوضات‬
‫وغيرها‪ ،‬وتقع بينهم الجنايات‪ ،‬ول يحضرهم غالبا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬التحميم‪ :‬تسخيم الوجه بالفحم‪.‬‬

‫( ‪)8/196‬‬

‫مسلم‪ ،‬فلو لم تقبل شهادتهم عند ترافعهم وتحاكمهم إلينا‪ ،‬لدى ذلك إلى تظالمهم وضياع حقوقهم‪.‬‬
‫وللواحد منهم أن يزوج ابنته وأخته‪ ،‬ويلي مال ولده‪ ،‬وقد أجاز ال شهادة الكفار على المسلمين في‬
‫السفر في الوصية للحاجة‪ ،‬وحاجتهم إلى قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم بكثير من حاجة‬
‫المسلمين إلى قبول شهادتهم عليهم‪.‬‬
‫والكافر قد يكون عدلً في دينه بين قومه‪ ،‬صادق اللهجة عندهم‪ ،‬فل يمنعه كفره من قبول شهادته‬
‫حلّ نسائهم‪ ،‬وذلك يستلزم الرجوع إلى‬
‫عليهم إذا ارتضوه‪ .‬وقد أباح ال معاملتهم‪ ،‬وأكل طعامهم‪ ،‬و ِ‬
‫أخبارهم قطعا‪ ،‬فإذا جاز لنا العتماد على خبرهم في أمر الحلل والحرام‪ ،‬فلن نرجع إلى أخبارهم‬
‫في معاملتهم أولى وأحرى‪.‬‬
‫وأما رفض قبول شهادة الحربي على الذمي أو على الحربي من دار أخرى‪ ،‬فلنقطاع الولية بينهما‪.‬‬
‫‪ - ً 2‬وقال الجمهور غير الحنفية‪ :‬ل تقبل شهادة غير المسلمين مطلقا‪ ،‬سواء اختلفت مللهم أم اتفقت‪.‬‬
‫ونقل ابن القيم عن مالك‪ :‬أنه تجوز شهادة الطبيب الكافر حتى على المسلم للحاجة‪ .‬واستدلوا بأوجه‬
‫هي‪:‬‬
‫الول ـ اشترط ال تعالى العدالة لقبول الشهادة في قوله‪{ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق‪]2/65:‬‬
‫وغير المسلم ليس بعدل‪ ،‬واشترط أن يكون الشهود من المسلمين‪ ،‬في قوله‪ { :‬منكم} [الطلق‪]2/65:‬‬
‫وفي قوله‪{ :‬ممن ترضون من الشهداء} [البقرة‪ ]282/2:‬وقوله‪{ :‬واستشهدوا شهيدين من رجالكم}‬
‫[البقرة‪ ]282/2:‬وآيات كثيرة أخرى‪ .‬وغير المسلم ليس منا ول من رجالنا ول من المرضيين عندنا‪.‬‬
‫الثاني ـ إن ال تعالى وصف الكفار بالكذب على ال وبالفسق‪ ،‬ول شهادة لكاذب ول فاسق‪ ،‬ومن‬
‫كذب على ال ‪ ،‬فهوأولى أن يكذب على مثله من إخوانه وأقرب‪ ،‬كما قال الشافعي‪.‬‬
‫الثالث ـ إن قبول شهادتهم يؤدي إلى إلزام القاضي بشهادتهم‪ ،‬ول يجوز أن يلزم المسلم بشهادة‬
‫الكافر‪.‬‬
‫الرابع ـ إن في قبول شهادتهم إكراما لهم‪ ،‬ورفعا لمنزلتهم وقدرهم‪ ،‬ورذيلة الكفر تحول دون‬
‫إكرامهم‪.‬‬
‫والراجح لدي رأي الحنفية لقوة أدلتهم‪ ،‬ولن ال لم يمنع قبول قول الكفار على المسلمين للحاجة‪،‬‬
‫بنص القرآن‪ ،‬ولم يمنع ولية بعضهم على بعض‪ ،‬والقاضي ملزم بالقضاء الحق عند ظهور الحجة‬
‫الصادقة‪ ،‬وأما وصفهم بالكذب والفسق فهو بسبب ذات العقيدة ل لمجرد المعاملة‪ ،‬ول يعد قبول‬
‫شهادتهم إكراما لكفرهم‪ ،‬فهذا من جملة المصالح التي ل غنى عنها‪.‬‬

‫( ‪)8/197‬‬

‫ثانيا ـ شهادة غير المسلمين على المسلمين ‪:‬‬


‫للفقهاء أيضا رأيان في قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين‪.‬‬
‫‪ - ً 1‬فقال الجمهور غير الحنابلة‪ :‬ل تقبل شهادتهم على المسلمين؛ لن الشهادة ولية‪ ،‬ول ولية‬
‫للكافر على المسلم‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ولن يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً} [النساء‪.]141/4:‬‬
‫‪ - ً 2‬وأجازها الحنابلة في الوصية في السفر للضرورة إذا لم يوجد غيرهم‪ ،‬وكذا في كل ضرورة‬
‫حضرا وسفرا‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدَكم الموتُ حين الوصية‬
‫اثنان ذوا عدل منكم‪ ،‬أو آخران من غيركم‪ ،‬إن أنتم ضربتم في الرض‪ ،‬فأصابتكم مصيبة الموت}‬
‫[المائدة‪.]106/5:‬‬
‫وصح عن ابن عباس أنه قال في هذه الية‪« :‬هذا لمن مات‪ ،‬وعنده المسلمون فأمر ال أن يشهد في‬
‫وصيته عدلين من المسلمين» ثم قال تعالى‪{ :‬أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الرض}‬
‫[المائدة‪ ]106/5:‬فهذا لمن مات‪ ،‬وليس عنده أحد من المسلمين‪ ،‬فأمر ال عز وجل أن يشهد رجلين‬
‫من غير المسلمين‪ .‬فإن ارتيب بشهادتهما‪ ،‬استحلفا بعد الصلة بال ‪ :‬ل نشتري بشهادتنا ثمنا‪ ،‬وقضى‬
‫به ابن مسعود في زمن عثمان‪ ،‬وكذلك علي‪ ،‬وقضى به أبو موسى الشعري في الكوفة وكثير من‬
‫التابعين‪.‬‬
‫وعن سعيد بن المسيب‪{ :‬أو آخران من غيركم} [المائدة‪ ]106/5:‬قال‪« :‬من أهل الكتاب» وفي رواية‬
‫صحيحة عنه‪« :‬من غير أهل ملتكم» ‪.‬‬
‫وصح عن شريح قال‪« :‬ل تجوز شهادة المشركين على المسلمين إل في الوصية‪ .‬ول تجوز في‬
‫الوصية إل أن يكون مسافرا» ‪.‬‬
‫وصح عن الشعبي‪{ :‬أو آخران من غيركم} [المائدة‪ ]106/5:‬قال‪« :‬من اليهود والنصارى» ‪.‬‬
‫وأما ادعاء نسخ هذه الية ـ فيما روي عن زيد بن أسلم وغيره ـ فيرده ما صح عن عائشة ـ فيما‬
‫يرويه جبير بن نفير ـ أنها قالت‪ :‬هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قالت‪ :‬فإنها آخر سورة أنزلت‪،‬‬
‫فما وجدتم فيها من حلل فأحلوه‪ ،‬وما وجدتم فيهامن حرام فحرموه‪ .‬فالحق أن الية محكمة‪ ،‬وأن‬
‫حكمها شرع دائم‪ ،‬وأن شهادة غير المسلمين جائزة مقبولة في الوصية إذا كان المسلم على سفر‪ ،‬ولم‬
‫يجد أحدا من المسلمين‪ .‬وقال ابن القيم‪ :‬قال شيخنا ابن تيمية رحمه ال ‪ :‬وقول المام أحمد في قبول‬
‫شهادتهم في هذا الموضع‪ ( :‬هو ضرورة )‪ :‬يقتضي هذا التعليل ُقبولها في كل ضرورة حضرا‬
‫وسفرا‪.‬‬

‫( ‪)8/198‬‬

‫المبحث الثاني ـ اليمين ‪:‬‬


‫يتضمن مطالب سبعة هي‪:‬‬
‫الول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها والمحلوف به‪.‬‬
‫الثاني ـ صيغة اليمين القضائية وصفتها والنية فيها واليمين بالطلق‪.‬‬
‫الثالث ـ تغليظ اليمين باللفظ وبالزمان والمكان‪.‬‬
‫الرابع ـ شروط اليمين‪.‬‬
‫الخامس ـ أنواع اليمين‪.‬‬
‫السادس ـ حكم اليمين‪.‬‬
‫السابع ـ أنواع الحقوق التي تجوز فيها اليمين‪.‬‬
‫المطلب الول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها والمحلوف به ‪:‬‬
‫اليمين مؤنث‪ ،‬وهي لغة‪ :‬الحَلف والقسم‪ .‬واصطلحا بمعناها العام هي توكيد الشيء أو الحق أو الكلم‬
‫إثباتا أو نفيا بذكر اسم ال أو صفة من صفاته (‪. )1‬‬
‫أما تعريف اليمين القضائية لثبات الدعوى‪ :‬فهي تأكيد ثبوت الحق أو نفيه أمام القاضي بذكر اسم ال‬
‫أو بصفة من صفاته‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبيين الحقائق‪ ،107/3 :‬الشرح الكبير مع الدسوقي‪ 126/2 :‬وما بعدها‪ ،‬حاشية القليوبي على‬
‫شرح المحلي للمنهاج‪ ،270/4 :‬كشاف القناع‪.236/6 :‬‬

‫( ‪)8/199‬‬

‫واليمين مشروعة بآيات كثيرة في القرآن‪ ،‬منها قوله تعالى‪{ :‬ل يؤاخذكم ال باللغو في أيمانكم‪ ،‬ولكن‬
‫يؤاخذكم بما عقّدتم اليمان} [المائدة‪ ]89/5:‬وقد أمر ال تعالى نبيه أن يقسم على الحق في ثلثة‬
‫مواضع من القرآن‪ ،‬وال تعالى ل يشرع محرما‪.‬‬
‫ومشروعة بأحاديث كثيرة أيضا‪ ،‬منها قوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬لو يعطى الناس بدعواهم لدعى‬
‫رجال دماء رجال وأموالهم‪ ،‬ولكن اليمين على المدعى عليه» وفي رواية البيهقي‪« :‬ولكن البينة على‬
‫المدعي‪ ،‬واليمين على من أنكر» (‪. )1‬‬
‫ومنها حديث يحذر من الحلف الكاذب ليقتطع به مال أخيه‪ ،‬ويدل على ما فيه من إثم كبير‪ ،‬وهو من‬
‫الكبائر‪ ،‬أخرج أصحاب الكتب الستة عن الشعث بن قيس‪ ،‬قال‪ :‬كان بيني وبين رجل ابن عم لي‬
‫خصومة في بئر‪ ،‬فاختصمنا إلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪« :‬بيّنتك أو يمينه» قلت‪:‬إذن‬
‫يحلف ول يبالي‪ ،‬فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم‪« :‬من حلف على يمين هو فيها فاجر‪ ،‬ليقتطع‬
‫بها مال امرئ مسلم‪ ،‬لقي ال ‪ ،‬وهو عليه غضبان» فأنزل ال تصديق ذلك‪{ :‬إن الذين يشترون بعهد‬
‫ال وأيمانهم ثمنا قليلً‪ ،‬أولئك ل خلق لهم في الخرة‪ ،‬ول يكلمهم ال ‪ ،‬ول يزكيهم‪ ،‬ولهم عذاب أليم}‬
‫[آل عمران‪ .]77/3:‬وحلف عمر لبي بن كعب على نخيل‪ ،‬ثم وهبه له‪ ،‬وقال‪ :‬خفت إن لم أحلف أن‬
‫يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم‪ ،‬فتصير سنّة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حديث حسن رواه البيهقي عن ابن عباس‪ ،‬وبعضه في الصحيحين‪.‬‬

‫( ‪)8/200‬‬

‫وأما المحلوف به‪ :‬فقد اتفق الفقهاء على أن اليمين المنعقدة هي القسم بال تعالى‪ ،‬أو بصفة من صفاته‬
‫مثل‪ :‬وال ‪ ،‬ورب العالمين‪ ،‬والحي الذي ل يموت‪ ،‬ومَن نفسي بيده‪ ،‬أو وعزة ال وعظمته‪ ،‬ول يجوز‬
‫الحلف بغير ال تعالى‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬أل إن ال ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم‪ ،‬من كان‬
‫حالفا‪ ،‬فليحلف بال أو ليصمُت» قال عمر‪« :‬فوال ما حلفت بها منذ سمعت رسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم نهى عنها ذاكرا ول آثرا» (‪ )1‬أي حاكيا‪ .‬ولقوله عليه السلم أيضا‪« :‬من حلف بغير ال فقد‬
‫أشرك» وفي لفظ‪« :‬فقد كفر» (‪ )2‬وقوله فيما رواه النسائي‪« :‬ل تحلفوا إل بال ‪ ،‬ول تحلفوا إل وأنتم‬
‫صادقون» ‪.‬‬
‫واكتفى الجمهور غير المالكية بلفظ الجللة فقط‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬يحلفون بال لكم ِليُرضوكم} [التوبة‪:‬‬
‫‪{ ]62/9‬يحلفون بال ‪ :‬ما قالوا} [التوبة‪ ]74/9:‬ول قتصاره صلّى ال عليه وسلم على ذلك في يمينه‬
‫بغزو قريش قائلً‪« :‬وال لغزون قريشا» (‪. )3‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )4‬يضم إليه عبارة «ل إله إل هو» لقوله صلّى ال عليه وسلم لرجل حلّفه‪« :‬احلف‬
‫بال الذي ل إله إل هو» (‪. )5‬‬
‫واليمين تنعقد بمجرد النطق بها ولو هزلً؛ لنها من الحوال التي يستوي فيها الجد والهزل‪ ،‬ل يقبل‬
‫قول الحالف في القسم‪ :‬لم أرد اليمين‪ ،‬ل في الظاهر‪ ،‬ول فيما بينه وبين ال تعالى (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه الجماعة إل النسائي عن ابن عمر (نصب الراية‪.)295/3 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود عن ابن عباس (نيل الوطار‪.)220/8 :‬‬
‫(‪ )4‬المبسوط‪ ،18/16 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،306‬المهذب‪ ،322/2 :‬كشاف القناع‪،228/6 :‬‬
‫المغني‪.226/9 :‬‬
‫(‪ )5‬رواه أبو داود بسند صالح والنسائي‪.‬‬
‫(‪ )6‬المحلي على المنهاج‪.270/4 :‬‬

‫( ‪)8/201‬‬

‫ول تنعقد اليمين اتفاقا إذا قال‪ :‬إن شاء ال تعالى‪ ،‬بشرط كونه متصلً باليمين من غير سكوت عادي؛‬
‫لن الستثناء يزيل حكم اليمين (‪ ، )1‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من حلف‪ ،‬فقال‪ :‬إن شاء ال ‪ ،‬لم‬
‫يحنث» (‪. )2‬‬
‫ول تدخل النيابة في اليمين‪ ،‬ول يحلف أحد عن غيره‪ ،‬فلو كان المدعى عليه صغيرا أو مجنونا‪ ،‬لم‬
‫يحلف عنه‪ ،‬ووقف المر حتى يبلغ الصبي‪ ،‬ويعقل المجنون‪ ،‬ولم يحلف عنه وليه (‪. )3‬‬
‫المطلب الثاني ـ صيغة اليمين القضائية وصفتها والنية فيها واليمين بالطلق ‪:‬‬
‫صيغة اليمين‪ :‬هي عند الجمهور أن يقول الحالف‪ :‬وال ‪ ،‬أو بال ‪ ،‬أو ورب العالمين‪ ،‬أو والحي الذي‬
‫ل يموت‪ ،‬أو ومَن نفسي بيده‪ ،‬ونحو ذلك من كل اسم ل مختص به سبحانه وتعالى كالله‪ ،‬والرحمن‪،‬‬
‫وخالق الخلق‪ ،‬أو يحلف بصفة من صفات ال الذاتية مثل‪ :‬وعظمة ال أو عزته أو كبريائه أو كلمه‬
‫أو مشيئته أو علمه أو قدرته أو حقه‪،‬إل أن يريد بالحق العبادات‪ ،‬وبالعلم والقدرة المقدور والمعلوم‪،‬‬
‫وبالبقية ظهور آثارها‪ ،‬فل تكون يمينا لحتمال اللفظ‪ .‬والحلف بكتاب ال أو بالقرآن أو بالمصحف‬
‫يمين باتفاق المذاهب الربعة (‪ ، )4‬والحلف بالتوراة أو النجيل ونحوهما من كتب ال المنزلة‬
‫كالزبور يمين في رأي الحنابلة؛ لن إطلق اليمين ينصرف إلى المنزَل من عند ال ‪ ،‬دون المبدّل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪.237/9 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الوطار‪.)219/8 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪ 234/9 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪.302/2 :‬‬
‫(‪ )4‬بجيرمي الخطيب‪ 300/4 :‬وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪ 228/6 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/202‬‬

‫وقال المالكية‪ :‬صيغة اليمين لكل حالف في جميع الحقوق على المشهور‪ :‬هي «بال الذي ل إله إل‬
‫هو» ‪ .‬وأما يمين الكافر‪ :‬فاتفق أكثر الفقهاء (‪ )1‬على أن الكافر يحلف بال كالمسلم؛ لن اليمين ل‬
‫تنعقد بغير اسم ال ‪ ،‬للحديث المتقدم‪« :‬من حلف بغير ال فقد أشرك» ولما رواه البخاري‪« :‬من حلف‬
‫بغير ملة السلم فهو كما قال» ‪ .‬وسيأتي الكلم في تغليظ اليمين عليه‪ ،‬فتغلظ عليه في رأي الحنابلة‬
‫والشافعية‪.‬‬
‫وأما صفة اليمين أو الحلف على البت ونفي العلم(‪ : ) 2‬فقد اتفق الفقهاء (‪ )3‬على أن الحالف يحلف‬
‫على البت والقطع على فعل نفسه‪ ،‬سواء في حال الثبات أم النفي‪ ،‬فيقول مثلً‪ :‬وال ما بعت أو ما‬
‫اشتريت‪ ،‬أو لقد بعت أو اشتريت؛ لن النسان أعلم بأحواله وأفعاله‪ ،‬فتكون يمينه حجة قاطعة‪.‬‬
‫فاليمان كلها على البت والقطع‪ ،‬إل على نفي فعل الغير‪ ،‬فإنها على نفي العلم؛ لحديث ابن عباس‬
‫المتقدم‪« :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم استحلف رجلً‪ ،‬فقال له‪ :‬قل‪ :‬وال الذي ل إله إل هو‪ ،‬ماله‬
‫عليك حق» وروى الشعث بن قيس‪« :‬أن رجلً من كِنْدة ورجلً من حضرموت اختصما إلى النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم في أرض من اليمن‪ ،‬فقال الحضرمي‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن أرضي اغتصبنيها أبو‬
‫هذا‪ ،‬وهي في يده‪ ،‬قال‪ :‬هل لك بيّنة؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ولكن أحلفه‪ ،‬وال العظيم ما يعلم أنها أرضي‬
‫اغتصبنيها أبوه‪ ،‬فتهيأ الكندي لليمين» (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 227/6 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ ،109/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،306‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،473/4‬المهذب‪ ،322/2 :‬كشاف القناع‪ 228/6 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحلف على البت‪ :‬أي الحلف على القطع والجزم‪ .‬ونفي العلم‪ :‬هو نفي اليقين أنه ل يعلم كذا‪،‬‬
‫فيحلف بال ما له علي شيء‪.‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪ ،234-230/9 :‬المهذب‪.322/2 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود‪.‬‬

‫( ‪)8/203‬‬

‫ففي حال الثبات‪ :‬يحلف على فعل نفسه أنه فعل كذا‪ ،‬وفي حال النفي‪ :‬يحلف أنه ما فعل كذا‪ .‬وأما ما‬
‫يتعلق بفعل غيره‪ ،‬فإن كان إثباتا‪ ،‬مثل أن يدعي أنه أقرض أو باع‪ ،‬ويقيم شاهدا بذلك‪ ،‬فإنه عند‬
‫الجمهور غير الحنفية يحلف مع شاهده على البت والقطع‪،‬فيقول وال إنه باع؛ لن حال الثبات‬
‫يستطيع النسان الطلع عليها‪ .‬وإن كان على نفي العلم مثل أن يدعى عليه دين أو غصب أو جناية‪،‬‬
‫فإنه يحلف على نفي العلم ل غير‪ ،‬فيقول‪ :‬وال ل أعلم أنه مدين‪ ،‬أو ل أعلم أن له وارثا غير فلن‪،‬‬
‫بدليل قصة الحضرمي السابقة‪.‬‬
‫وقال الحنفية والمامية (‪ : )1‬يحلف الشخص في فعل غيره على نفي علمه مطلقا‪ ،‬سواء أكان إثباتا أم‬
‫نفيا‪ ،‬لما ثبت في الصحيح أن النبي صلّى ال عليه وسلم حلف اليهود في القسامة‪« :‬بال ما قتلتم ول‬
‫علمتم له قاتلً» ولن النسان ل علم له بفعل غيره ول يدرك حقيقةتصرفاته‪ ،‬فيحلف على نفي العلم‪.‬‬
‫النية في اليمين‪ :‬اليمين غير القضائية التي يحلفها الحالف باختياره‪ ،‬أو يطلبها شخص منه دون أن‬
‫يكون له عليه حق اليمين‪ ،‬تكون على نية الحالف في كل الحوال‪ ،‬ويجوز للحالف التورية في يمينه‪،‬‬
‫بأن يقصد فيها غير المعنى المتبادر من اللفظ أو ينوي فيها خلف الظاهر‪ ،‬للحديث المشهور الذي‬
‫رواه الجماعة إل ابن ماجه عن عمر‪« :‬إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » وقد حكى‬
‫القاضي عياض الجماع على أن الحالف من غير استحلف ومن غير تعلق حق بيمينه‪ ،‬له نيته ويقبل‬
‫قوله‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البحر الرائق‪ ،217/7 :‬المختصر النافع في فقه المامية‪ :‬ص ‪.282‬‬
‫( ‪)8/204‬‬

‫أما اليمين القضائية الموجهة من القاضي أو نائبه لفصل الخصومة والنزاع‪ ،‬فتكون باتفاق الفقهاء (‪)1‬‬
‫على نية المستحلف وهو القاضي‪ ،‬فل يصح فيها التورية‪ ،‬ول ينفع الستثناء‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه‬
‫وسلم ‪« :‬يمينك على ما يصدّقك به صاحبك» وفي لفظ‪« :‬اليمين على نية المستحلف» (‪ . )2‬قال ابن‬
‫تيمية في منتقى الخبار‪ :‬وهو محمول على المستحلف المظلوم‪ .‬وقال النووي‪ :‬أما إذا حلف بغير‬
‫استحلف‪ ،‬وورّى‪ ،‬فتنفعه التورية‪ ،‬ول يحنث‪ ،‬سواء حلف ابتداء من غير تحليف‪ ،‬أو حلفه غير‬
‫القاضي أو غير نائبه في ذلك‪ ،‬ول اعتبار بنية المستحلف غير القاضي‪.‬‬
‫واشترط الشافعية والحنابلة (‪ )3‬شرطين في كون اليمين على نية المستحلف‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬أل يحلفه القاضي بالطلق أو العتاق‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬أل يكون القاضي ظالما أو جائرا في طلب اليمين‪.‬‬
‫فإن حلفه بالطلق أو علم منه نفسه أنه على الحق‪ ،‬جازت التورية؛ لن اليمين تكون غير فاجرة‪.‬‬
‫اليمين بالطلق أمام القاضي‪ :‬قال جمهور الفقهاء على المفتى به عند الحنفية‪ :‬إن اليمين بالطلق‬
‫لثبات الحقوق وإنهاء الخصومات أمام القاضي حرام؛ لن اليمين ل تكون إل بال ‪ ،‬ولن القسم‬
‫لتعظيم المقسم به‪ ،‬ول يجوز تعظيم غير ال‪ .‬فإن طلبه الخصم‪ ،‬لم يجبه القاضي؛ لنه حرام‪.‬‬
‫وأجاز متأخرو الحنفية الحلف بالطلق إذا طلبها الخصم وألح فيها‪ ،‬أو كان الحالف ل ينزجر إل بها‪،‬‬
‫لفساد الزمان‪ ،‬وقلة المبالة بالحلف بال تعالى‪.‬‬
‫ل بقول عمر بن عبد العزيز رحمه ال ‪« :‬تحدث‬
‫وأجاز بعض المالكية الحلف بالطلق للتغليظ‪ ،‬عم ً‬
‫للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» ولن الحاجة ماسة إليه‪ .‬وأفتى المام مالك بعدم وقوع‬
‫طلق المكره حينما أراد أوائل الخلفاء العباسيين بأن يوثقوا بيعة الناس لهم باليمان والطلق والعتاق‪،‬‬
‫ويكرهون الناس على ذلك‪ ،‬وكان مالك يحدث بحديث‪« :‬ليس على مستكره طلق» مما أغضب‬
‫المنصور‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،306‬مغني المحتاج‪ ،475/4 :‬كشاف القناع‪.242/6 :‬‬
‫(‪ )2‬اللفظ الول رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي‪ .‬واللفظ الثاني رواه مسلم وابن ماجه‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة (نيل الوطار‪.)218/8 :‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،475/4 :‬كشاف القناع‪.242/6 :‬‬
‫( ‪)8/205‬‬

‫المطلب الثالث ـ تغليظ اليمين باللفظ وبالزمان والمكان ‪:‬‬


‫أجاز الفقهاء من السنة والشيعة ما عدا الحنابلة والظاهرية (‪ )1‬تغليظ اليمين باللفظ‪ ،‬والتغليظ عند‬
‫المالكية يكون بقول الحالف‪« :‬بال الذي ل إله إل هو» وعند الجمهور‪« :‬بال الذي ل إله إل هو عالم‬
‫الغيب والشهادة‪ ،‬الرحمن الرحيم‪ ،‬الذي يعلم من السر ما يعلم من العلنية» ونحوه‪ ،‬لحديث ابن عباس‬
‫المتقدم وقول النبي صلّى ال عليه وسلم لرجل‪« :‬احلف بال الذي ل إله إل هو‪ ،‬ماله عندك شيء »‬
‫وهذا هو الراجح لدي؛ لن القصد باليمين الزجر عن الكذب‪ ،‬وهذه اللفاظ أبلغ في الزجر‪ ،‬وأمنع من‬
‫القدام على الكذب‪.‬‬
‫أما الظاهرية والحنابلة فلم يجيزوا تغليظ اليمين‪ ،‬ويكتفى بلفظ الجللة فقط؛ لنه يتضمن كل معاني‬
‫الترغيب والترهيب‪ ،‬واقتصارا على ما ورد في القرآن‪ ،‬مثل‪{ :‬فيقسمان بال } [المائدة‪ ]106/5:‬وما‬
‫ورد في السنة‪« :‬من كان حالفا فليحلف بال أو ليصمت» (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،227/6 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ 306‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،322/2 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،472/4‬المغني‪ 227/9 :‬وما بعدها‪ ،‬الروضة البهية‪ ،159/2 :‬المحلى‪ 468/9 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬متفق عليه من حديث ابن عمر‪.‬‬

‫( ‪)8/206‬‬

‫واستحب الشافعية تغليظ اليمين إذا كانت يمين المدعي وهي اليمين المردودة أو مع الشاهد واليمين‪،‬‬
‫أو يمين المدعى عليه وإن لم يطلب الخصم تغليظها‪ ،‬وذلك فيما ليس بمال‪ ،‬ول يقصد به المال‪ ،‬كنكاح‬
‫وطلق ولعان وقصاص‪ ،‬ووصاية ووكالة‪ ،‬وفي المال البالغ نصاب الزكاة‪ ،‬ل فيما دونه‪ ،‬لخطورته‬
‫بدليل وجوب المواساة فيه‪ ،‬وعدم الهتمام بما دونه‪.‬‬
‫أما التغليظ بالزمان والمكان‪ :‬فقد اختلف فيه الفقهاء على رأيين (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬فقال الحنابلة‪ :‬إذا كان الحالف مسلما‪ ،‬فيحلفه القاضي بال تعالى من غير تغليظ‪ ،‬اكتفاء بما ورد‬
‫في القرآن الكريم‪{ :‬فآخران يقومان مقامهما‪ ،‬من الذين استحق عليهم الوليان‪ ،‬فيقسمان بال لشهادتنا‬
‫أحق من شهادتهما} [المائدة‪ ]107/5:‬ولم يذكر مكانا ول زمنا‪ ،‬ول زيادة في اللفظ‪.‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬إن شاء القاضي حلف الشخص من غير تغليظ‪ ،‬لما روي أن رسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم حلف ركانة بن عبد يزيد بال عز وجل‪ :‬ما أردت البتة‪ ،‬ثلثا؟ وإن شاء غلظ؛ لن الشرع ورد‬
‫بتغليظ اليمين في الجملة؛ لنه صلّى ال عليه وسلم حلف ابن صوريا العور‪ ،‬وغلظ‪.‬‬
‫أما الكافر غير المسلم فتغلظ يمينه عند الحنابلة‪ ،‬وإن شاء القاضي عند الحنفية والشافعية وفي قول‬
‫مرجوح عند المالكية‪ ،‬فإن كان الحالف يهوديا‪ ،‬أحلفه « بال الذي أنزل التوراة على موسى» زاد‬
‫الشافعية‪« :‬ونجاه من الغرق» وإن كان نصرانيا‪ ،‬أحلفه «بال الذي أنزل النجيل على عيسى» وإن‬
‫كان مجوسيا أو وثنيا أحلفه «بال الذي خلقه وصوره» ‪ .‬وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقّوْن أن‬
‫يحلفوا فيها كاذبين‪ ،‬حلّفوا فيها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪.‬‬

‫( ‪)8/207‬‬

‫‪ - 2‬وقال المالكية والشافعية‪ :‬يجوز تغليظ اليمين بالزمان والمكان مطلقا للمسلم وغير المسلم‪ ،‬ثم‬
‫اختلفوا في التغليظ بالمكان‪ ،‬فقال الما لكية‪ :‬تغلظ اليمين بالمكان في القسامة واللعان‪ ،‬ويحلف الحالف‬
‫إن كان في المدينة على منبر رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬وإن كان في غير المدينة يحلف في‬
‫مساجد الجماعات‪ ،‬ول يشترط الحلف على المنبر في سائر المساجد‪ ،‬ويحلف قائما‪.‬‬
‫وتغليظ اليمين بالزمان يكون باللعان والقسامة فقط دون غيرهما‪ ،‬فيكون بعد صلة العصر‪.‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬يحلف المسلم في مكة بين الركن والمقام‪ ،‬وفي المدينة عند منبر رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر ـ خلفا للمالكية ـ وفي بيت المقدس عند‬
‫الصخرة‪ .‬وتغلظ في الزمان بالستحلف بعد العصر‪ .‬وهذا هو الراجح لدي لقوة أدلتهم‪ .‬ويندب عندهم‬
‫تغليظ يمين المدعي (اليمين المردودة أو مع الشاهد واليمين) ويمين المدعى عليه وإن لم يطلب الخصم‬
‫تغليظها فيما ليس بمال ول يقصد به المال كنكاح وطلق ولعان وقود وعتق وإيلد ووصاية ووكالة‪،‬‬
‫وتغلظ في مال يبلغ نصاب الزكاة‪.‬‬
‫واستدلوا على جواز التغليظ بالكتاب والسنة والثار والقياس‪ .‬أما الكتاب‪ :‬فقوله تعالى‪{ :‬تحبسونهما‬
‫من بعد الصلة‪ ،‬فيقسمان بال } [المائدة‪ ]106/5:‬والمراد من بعد صلة العصر‪ ،‬كما قال ابن عباس‬
‫وجماعة من التابعين‪ .‬وأما السنة‪ :‬فقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ل يحلف أحد على يمين آثمة عند‬
‫منبري هذا‪ ،‬ولو على سواك أخضر‪ ،‬إل تبوأ مقعدَه من النار‪ ،‬أو وجبت له النار» (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البيهقي ومالك وأحمد وأبو داود والنسائي عن جابر‪.‬‬

‫( ‪)8/208‬‬

‫وما روى عبد الرحمن بن عوف‪« :‬أنه رأى قوما يحلفون بين المقام والبيت‪ ،‬فقال‪ :‬أعلى دم؟ فقالوا‪:‬‬
‫ل‪ ،‬فقال‪ :‬أفعلى عظيم من المال؟ قالوا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام» (‪. )1‬‬
‫وأما الثار فكثيرة منها‪ :‬أن عمر رضي ال عنه استحلف رجلً بين الركن والمقام‪ ،‬عندما قال‬
‫لمرأته‪ :‬حبلك على غار بك‪ .‬ومنها أن أبا بكر الصديق رضي ال عنه أحلف نفيس بن ملوّح في قتل‬
‫على المنبر خمسين يمينا‪.‬‬
‫وأما القياس‪ :‬فقد قاسوا التغليظ بالزمان والمكان على التغليظ باللفظ‪ ،‬والتغليظ في أيمان القسامة‬
‫واللعان‪ ،‬بجامع الزجر في كلٍ‪ ،‬بل إن التغليظ بالزمان والمكان أشد زجرا‪ ،‬فجاز بالولى‪.‬‬
‫المطلب الرابع ـ شروط اليمين ‪:‬‬
‫اشترط الفقهاء بالتفاق (‪ )2‬ستة شروط في اليمين القضائية‪ ،‬واختلفوا في شرطين‪ .‬أما المتفق عليها‬
‫فهي ما يأتي‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬أن يكون الحالف مكلفا (بالغا عاقلً) مختارا‪ :‬فل يحلف الصبي والمجنون‪ ،‬ول تعتبر يمين النائم‬
‫والمستكره‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬أن يكون المدعى عليه منكرا حق المدعي‪ :‬فإن كان مقرا فل حاجة للحلف‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬أن يطلب الخصم اليمين من القاضي وأن يوجهها القاضي إلى الحالف‪ :‬لن النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم استحلف رُكانة بن عبد يزيد في الطلق‪ ،‬فقال‪« :‬آل ما أردت إل واحدة» فقال ركانة‪« :‬ال ما‬
‫أردت إل واحدة» (‪. )3‬‬
‫ً‪ - 4‬أن تكون اليمين شخصية‪ :‬فل تقبل اليمين النيابة‪ ،‬لصلتها بذمة الحالف ودينه‪ ،‬فل يحلف الوكيل‬
‫أو ولي القاصر‪ ،‬ويوقف المر حتى يبلغ‪.‬‬
‫ً‪ - 5‬أل تكون في الحقوق الخالصة ل تعالى كالحدود والقصاص‪.‬‬
‫ً‪ - 6‬أن تكون في الحقوق التي يجوز القرار بها‪ :‬للحديث المتقدم‪« :‬واليمين على من أنكر» فل‬
‫تجوز اليمين في الحقوق التي ل يجوز القرار بها‪ ،‬فل يحلف الوكيل والوصي والقيم؛ لنه ل يصح‬
‫إقرارهم على الغير‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الشافعي والبيهقي‪.‬‬
‫(‪ )2‬البحر الرائق‪ ،202/7 :‬البدائع‪ 226/6 :‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد‪ 455/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الشرح‬
‫الكبير مع الدسوقي‪ 145/4 :‬وما بعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،306‬ط فاس‪ ،‬مغني المحتاج‪475/4 :‬‬
‫وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪ 232/6 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪.234/9 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه البيهقي وأبو داود والترمذي‪.‬‬

‫( ‪)8/209‬‬

‫واشترط أبو حنيفة أيضا أن يكون المدعى به مما يحتمل البذل‪ ،‬فل تصح اليمين في النسب والنكاح‬
‫والرجعة والفيء في اليلء ونحوها‪.‬‬
‫وأما المختلف فيه من الشروط فهو اثنان‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬العجز عن البينة أو فقدها عند الجمهور غير الشافعية‪ :‬فإذا كانت البينة حاضرة في مجلس‬
‫القضاء‪ ،‬فل يصح تحليف المدعى عليه‪ ،‬وكذلك ل يصح التحليف عند أبي حنيفة إذا كانت البينة في‬
‫بلد القاضي‪ .‬وأجاز الصاحبان والحنابلة التحليف حينئذ‪ .‬ودليلهم على هذا الشرط الحديث السابق‪:‬‬
‫«بيّنتك وإل فيمينه» فإن حق المدعي في اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة‪.‬‬
‫ولم يشترط الشافعية هذا الشرط‪ ،‬عملً بحديث‪« :‬البينة على المدعي واليمين‬
‫على من أنكر» فاليمين حق المدعي وواجبة على المدعى عليه‪ ،‬ولنه يحتمل أن يقر المدعى عليه‪،‬‬
‫فيستغني المدعي عن إقامة البينة‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬الخلطة بين المتخاصمين بالتعامل في رأي المالكية‪ :‬حتى ل يتطاول السفلة على أصحاب المكانة‬
‫والفضل‪ ،‬باستدعائهم إلى المحاكم‪ ،‬وطلب اليمين منهم أوالحكم عليهم بالنكول‪ ،‬وتثبت الخلطة بشهادة‬
‫اثنين على التعامل مرتين أو ثلثا‪ .‬واشترطوا في غير المال وجود شاهد واحد حتى يصح توجيه‬
‫اليمين‪ ،‬كالطلق والرجعة والخلع والوكالة والوصية والنسب والسلم والردة‪.‬‬
‫واستثنوا من اشتراط الخلطة أو وجود الشاهد لتوجه اليمين ثماني مسائل هي‪ :‬صاحب الصنعة مع‬
‫عماله‪ ،‬والمتهم بين الناس‪ ،‬والضيف في ادعائه أو الدعاء عليه‪ ،‬والمسافر مع رفقته في الوديعة‬
‫وغيرها‪ ،‬وادعاء اليداع عند شخص‪ ،‬وادعاء شيء معين كثوب بعينه‪ ،‬وادعاء مريض في مرض‬
‫موته على غيره بدين‪ ،‬وادعاء بائع على شخص حاضر المزايدة أنه اشترى سلعته بكذا والحاضر‬
‫ينكر الشراء‪ ،‬فتتوجه اليمين في هذه الحالت‪ ،‬ولو لم تثبت خلطة‪.‬‬
‫ولم يشترط هذا الشرط باقي المذاهب‪ ،‬وهو الراجح لدي‪ ،‬لحديث‪« :‬واليمين على من أنكر» ‪.‬‬
‫( ‪)8/210‬‬

‫المطلب الخامس ـ أنواع اليمين ‪:‬‬


‫الصل العام في توزيع طرق إثبات الحق بين الخصمين المتنازعين أمام القضاء‪ :‬أن يطالب المدعي‬
‫بالبينة أو الشهادة‪ ،‬ويطالب المدعى عليه باليمين عند العجز عن البينة في رأي الجمهور غير الشافعية‬
‫كما تقدم‪ ،‬فالبينة حجة المدعي‪ ،‬واليمين حجة المدعى عليه‪ ،‬واليمين تُشرع في حق كل مدعى عليه‪،‬‬
‫سواء أكان مسلما أم كافرا‪ ،‬عدلً أم فاسقا‪ ،‬امرأة أم رجلً (‪ ، )1‬لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫«البينة على المدعي‪ ،‬واليمين على المدعى عليه» ‪.‬‬
‫واختلف الحنفية (‪ )2‬في تحديد المدعي والمدعى عليه‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬المدعي‪ :‬من إذا ترك الخصومة‬
‫ل يجبر عليها‪ ،‬والمدعى عليه‪ :‬من إذا ترك الجواب يجبر عليه‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬المدعي‪ :‬من يلتمس قبل غيره لنفسه عينا أو دينا أو حقا‪ .‬والمدعى عليه‪ :‬من يدفع ذلك‬
‫عن نفسه‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬ينظر إلى المتخاصمين‪ ،‬أيهما كان منكرا فالخر يكون مدعيا‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬المدعي‪ :‬من يخبر عما في يد غيره لنفسه‪ .‬والمدعى عليه‪ :‬من يخبر عما في يد نفسه‬
‫لنفسه‪.‬‬
‫والظهر عند الشافعية (‪ : )3‬أن المدعي من يخالف قوله الظاهر‪ :‬وهو براءة الذمة‪ ،‬والمدعى عليه‪:‬‬
‫من يوافق قوله الظاهر‪.‬‬
‫واليمين بحسب الحالف أنواع ثلثة‪ :‬يمين الشاهد‪ ،‬ويمين المدعى عليه‪ ،‬ويمين المدعي‪.‬‬
‫‪ - ً 1‬يمين الشاهد‪ :‬هي اليمين التي يحلفها الشاهد قبل أداء الشهادة للطمئنان إلى صدقه‪،‬وهي التي‬
‫يلجأ إلىها في عصرنا بدلً من تزكية الشاهد‪ .‬وقد‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،225/6 :‬المغني‪ )2( .227/9 :‬البدائع‪.224/6 :‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪.464/4 :‬‬

‫( ‪)8/211‬‬

‫أجازها المالكية والزيدية والظاهرية وابن أبي ليلى وابن القيم‪ ،‬لفساد الزمان وضعف الوازع الديني‪،‬‬
‫ومنعها الجمهور (‪. )1‬‬
‫‪ - ً 2‬يمين المدعى عليه‪ :‬وتسمى اليمين الصلية أو الواجبة أو الدافعة أو الرافعة‪ .‬وهي التي يحلفها‬
‫المدعى عليه بطلب القاضي بناء على طلب المدعي لتأكيد جوابه عن الدعوى‪ .‬وهي حجة المدعى‬
‫عليه للحديث المتقدم‪« :‬ولكن اليمين على المدعى عليه» (‪. )2‬‬
‫‪ - ً 3‬يمين المدعي‪ :‬وهي عند الجمهور غير الحنفية اليمين التي يحلفها المدعي لدفع التهمة عنه‪ ،‬أو‬
‫لثبات حقه‪ ،‬أو لرد اليمين عليه‪ .‬وهي ثلثة أنواع (‪: )3‬‬
‫الول ـ اليمين الجالبة‪ :‬وهي التي يحلفها المدعي لثبات حقه‪ ،‬إما مع شهادة شاهد واحد‪ ،‬وهي اليمين‬
‫مع الشاهد‪ ،‬وإما بسبب نكول المدعى عليه عن اليمين الصلية وردها إلى المدعي ليحلف‪ ،‬وهي‬
‫اليمين المردودة‪ ،‬وإما لثبات تهمة الجناية على القاتل‪ ،‬وهي أيمان القسامة‪ ،‬وإما لنفي حد القذف عنه‬
‫وهي أيمان اللعان‪ ،‬وإما لتأكيد المانة‪ ،‬فالقول قول المين بيمينه كالوديع والوكيل‪ ،‬إذا ادعى الرد على‬
‫من ائتمنه‪ ،‬إل المرتهن والمستأجر والمستعير‪ ،‬فل يصدقون إل بالبينة؛ لن وجود الشيء في يدهم أو‬
‫حيازتهم كان لمصلحة أنفسهم‪.‬‬
‫الثاني ـ يمين التهمة‪ :‬وهي التي توجه على المدعي بقصد رد دعوى غير محققة على المدعى عليه‪،‬‬
‫قال بها المالكية والزيدية‪.‬‬
‫الثالث ـ يمين الستيثاق أو الستظهار‪ :‬وهي التي يحلفها المدعي بطلب القاضي لدفع التهمة عنه بعد‬
‫تقديم الدلة المطلوبة في الدعوى‪ .‬فهي تكمل الدلة كالشهادة‪ ،‬ويتثبت بها القاضي‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشباه والنظائر لبن نجيم‪ :‬ص ‪ ،92‬ط ‪ 1322‬هـ‪ ،‬فتح العلي المالك للشيخ عليش‪،311/2 :‬‬
‫مخطوط الحاوي الكبير للماوردي‪/13 :‬ق ‪ 48‬ب‪ 49 ،‬أ‪ ،‬الطرق الحكمية لبن قيم‪ :‬ص ‪ 142‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬البحر الزخار‪ ،18/5 :‬المحلى‪ ،462/9 :‬مغني المحتاج‪.476/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،225/6 :‬تهذيب الفروق‪ ،151/4 :‬الفرق‪ ،240 :‬مغني المحتاج‪ ،468/4 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ ،224/9‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪ ،147 ،143 ،113‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.306‬‬
‫(‪ )3‬المراجع السابقة‪.‬‬

‫( ‪)8/212‬‬

‫ويلجأ إليها القاضي عادة إذا كانت الدعوى بحق على غائب أو ميت‪ ،‬ويحتمل أن يكون المدعي قد‬
‫استوفى دينه من الميت أو الغائب أو أبرأه عنه‪ ،‬أو أخذ رهنا مقابله‪ ،‬وليس للشاهدين علم بذلك‪.‬‬
‫فيحلّف القاضي المدعي؛ لن البينة ل تفيد إل غلبة الظن‪ ،‬فيستحق ما ادعاه بالبينة واليمين معا‪ ،‬فهي‬
‫يمين القضاء بعد ثبوت الحق على الغائب والمحجور‪ ،‬وقد أجيزت استحسانا بسبب احتمال الشبهة‬
‫والشك عند غياب المدين‪.‬‬
‫وقد أيدها ابن القيم قائلً‪ :‬وهذ القول ليس ببعيد من قواعد الشرع‪ ،‬ول سيما مع احتمال التهمة‪ .‬وكان‬
‫علي يستحلف المدعي مع شهادة الشاهدين‪ .‬وكان شريح يستحلف الرجل مع بينته‪ ،‬وقال الوزاعي‬
‫حيّ‪ :‬يستحلف مع بينته وهو قول النخعي والشعبي وابن أبي ليلى أيضا (‪. )1‬‬
‫والحسن بن َ‬
‫أحوال يمين الستظهار ‪:‬‬
‫أجاز الفقهاء هذه اليمين في أحوال استثنائية للضرورة أو الحاجة‪ ،‬فقال المالكية (‪ : )2‬توجه هذه‬
‫اليمين في نفقة الزوجة‪ ،‬وفي الدعوى على الغائب واليتيم والوقف والمساكين وفي كل وجوه البر‪،‬‬
‫وعلى بيت المال‪ ،‬وعلى كل من استحق شيئا من الحيوان وغيره‪ .‬ويحلف المدعي أيضا إذا شهد له‬
‫اثنان على خط غريمه‪ ،‬وفي شهادة التسامع والستفاضة‪ ،‬والبينة على الغريم المجهول الحال بكونه‬
‫معدما‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪ 145‬وما بعدها‪ ،‬المبسوط‪ ،118/16 :‬تبصرة الحكام لبن فرحون بهامش‬
‫فتح العلي المالك للشيخ عليش‪ 275/1 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬تبصرة الحكام‪ ،‬المكان السابق‪.‬‬

‫( ‪)8/213‬‬

‫وقال الحنفية (‪ : )1‬تجب يمين الستظهار في الدعاء على الميت‪ ،‬ولو بدون طلب المدعى عليه‪،‬‬
‫وفي خمس حالت أخرى عند أبي حنيفة ومحمد بطلب المدعى عليه‪ ،‬وبدون طلب عند أبي يوسف‪:‬‬
‫وهي حالة الستحقاق للمعقود عليه‪ :‬فإذا أثبت المدعي استحقاق مال‪ ،‬حلف على عدم بيعه أو هبته أو‬
‫تمليكه‪ .‬وفي الشفعة‪ :‬أنه طلبها بمجرد علمه بها ولم يبطلها بوجه ما‪ ،‬وفي نفقة الزوجة على زوجها‬
‫الغائب أنه لم يطلقها ولم يترك لها نفقة‪ .‬وفي رد المبيع بالعيب أنه لم يرض به‪ ،‬وفي خيار البلوغ‬
‫للبكر أنها اختارت الفرقة مباشرة‪.‬‬
‫وقال الشافعية (‪ : )2‬توجه يمين الستظهار بدون طلب الخصم في الدعوى على الميت والغائب‬
‫والصغير والمحجور والسفيه والمجنون والمغلوب على عقله‪ ،‬ومع الشاهد واليمين‪.‬‬
‫وأجاز الحنابلة في رواية عن أحمد هذه اليمين إذا قامت البينة على الغائب‪ ،‬أو المستتر في البلد‪ ،‬أو‬
‫الميت‪ ،‬أو الصبي أو المجنون (‪. )3‬‬
‫القضاء بالنكول والقضاء بشاهد ويمين المدعي واليمين المردودة ‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن المدعي إذا قدم شاهدين على دعواه وقبلت شهادتهما‪ ،‬حكم له بما ادعى‪ .‬وعلى‬
‫أنه إذا عجز عن البينة وطلب تحليف المدعى عليه‪ ،‬وحلف‪ ،‬رفضت دعواه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البحر الرائق‪ ،207/7 :‬الشباه والنظائر لبن نجيم‪ :‬ص ‪ ،95‬المجلة‪ :‬م ‪ ،1746‬وقد نصت‬
‫المجلة على أربع حالت ليمين الستظهار بل طلب‪ :‬وهي ادعاء حق في التركة‪ ،‬الستحقاق‪ ،‬رد‬
‫المبيع بعيب‪ ،‬الشفعة‪.‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ 407/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ 303/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬المحرر في الفقه الحنبلي لبي البركات‪ ،210/2 :‬الفصاح لبن هبيرة‪ :‬ص ‪.483‬‬

‫( ‪)8/214‬‬

‫واختلفوا بعدئذ على رأيين فيما إذا نكل المدعى عليه عن اليمين‪ ،‬هل يقضى للمدعي بنكول صاحبه‬
‫عن اليمين‪ ،‬أم ترد اليمين إلى المدعي‪ ،‬فيقضى له بيمينه وشاهد واحد يقدمه للشهادة؟ قال الحنفية‬
‫والحنابلة‪ :‬يقضى بالنكول في الموال‪ ،‬وقال الجمهور‪ :‬ل يقضى بالنكول‪ ،‬وترد اليمين على المدعي‪.‬‬
‫الرأي الول ـ للحنفية والحنابلة في المشهور عندهم ‪:‬‬
‫قال الحنفية والحنابلة (‪ : )1‬إذا نكل المدعى عليه عن اليمين‪ ،‬فإنه يقضى عليه بالمال‪ ،‬لكن ينبغي‬
‫للقاضي أن يقول له‪ ( :‬إني أعرض عليك اليمين ثلث مرات‪ ،‬فإن حلفت وإل قضيت عليك ) لحتمال‬
‫خشية القضاة ومهابة المجلس في المرة الولى‪ .‬ول يقضى عند الحنفية بالشاهد واليمين ويقضى بها‬
‫عند الحنابلة‪.‬‬
‫ودليلهم على القضاء بالنكول‪ :‬أن القاضي شريح قضى على رجل بالنكول‪ ،‬فقال المدعى عليه‪ :‬أنا‬
‫أحلف‪ ،‬فقال شريح‪ :‬مضى قضائي‪ .‬وكانت ل تخفى قضاياه على أصحاب رسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر‪ ،‬فيكون إجماعا منهم على جواز القضاء بالنكول‪ .‬وقضى عثمان‬
‫على ابن عمر بالنكول‪ .‬ورد عليه عبدا معيبا اشتراه منهم حينما نكل‪ ،‬ولنه ظهر صدق المدعي في‬
‫دعواه عند نكول المدعى عليه‪ ،‬فيقضى له‪ ،‬كما لو أقام البينة‪.‬‬
‫واستدلوا على عدم مشروعية رد اليمين إلى المدعي بالحديث السابق‪« :‬البينة على المدعي واليمين‬
‫على من أنكر» جعل جنس اليمين على المنكر‪ ،‬فتشمل كل مدعى عليه‪.‬‬
‫واستدل الحنفية على عدم مشروعية القضاء بشاهد ويمين بما يأتي من الكتاب والسنة والمعقول‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،230 ،225/6 :‬تكملة فتح القدير‪ ،155/6 :‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪ ،116‬المغني‪.235/9 :‬‬

‫( ‪)8/215‬‬

‫‪ - ً 1‬الكتاب‪ :‬وهو قوله تعالى‪{ :‬واستشهدوا شهيدين من رجالكم‪ ،‬فإن لم يكونا رجلين‪ ،‬فرجل‬
‫وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة‪ ]282/2:‬وقوله سبحانه‪{ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم}‬
‫[الطلق‪ ]2/65:‬ال سبحانه طلب إشهاد اثنين ولم يذكر الشاهد واليمين‪ ،‬فقبولهما زيادة على النص‪،‬‬
‫والزيادة على النص نسخ‪ ،‬ونسخ القرآن ل يجوز إل بمتواتر أو مشهور‪ ،‬ول يجوز بخبر الواحد‪،‬‬
‫وليس خبر رد اليمين متواترا أو مشهورا‪ ،‬وإنما هو خبر آحاد‪.‬‬
‫‪ - ً 2‬السنة‪ :‬حديث مسلم وأحمد «ولكن اليمين على المدعى عليه» وحديث البيهقي «البينة على‬
‫المدعي واليمين على من أنكر» وقوله صلّى ال عليه وسلم لمدعٍ في حديث الجماعة‪« :‬شاهداك أو‬
‫يمينه» ‪ .‬الحديث الول أوجب اليمين على المدعى عليه فقط‪ ،‬وجعل كل جنس اليمين على المنكر‪،‬‬
‫فإذا قبلت يمين من المدعي‪ ،‬لم تكن جميع حالت اليمين على المنكرين‪ .‬وكذلك الحديث الثاني جعل‬
‫جميع أفراد البينة على المدعي‪ ،‬وجميع أفراد اليمين على المنكر‪ ،‬والقسمة والتوزيع تنافي اشتراك‬
‫الخصمين فيما تمت فيه القسمة‪ .‬والحديث الثالث خيّر المدعي بين أمرين ل ثالث لهما إما البينة أو‬
‫يمين المدعى عليه‪.‬‬
‫‪ - ً 3‬المعقول‪ :‬إن اليمين تقوم مقام الشاهد الثاني‪ ،‬ولو جاز ذلك‪ ،‬لجاز تقديم اليمين كأحد الشاهدين‬
‫على الخر‪ ،‬ولكن ل يجوز تقديمه‪ ،‬فل يصح أن يكون قائما مقامه‪.‬‬

‫( ‪)8/216‬‬

‫الرأي الثاني ـ للجمهور ‪:‬‬


‫قال الجمهور من أهل السنة والشيعة (‪ )1‬وصوبه المام أحمد‪ :‬ل يقضى بالنكول‪ ،‬ولكن ترد اليمين‬
‫إلى المدعي فيحلف‪ ،‬فيأخذ حقه‪ ،‬ويقضى بالشاهد واليمين‪.‬‬
‫والنكول‪ :‬أن يقول‪ :‬أنا ناكل‪ ،‬أو يقول‪ :‬ل أحلف‪.‬‬
‫استدلوا على عدم جواز القضاء بالنكول بالحديث المتقدم‪« :‬البينة على المدعي‪ ،‬واليمين على المدعى‬
‫عليه» فإنه جعل البينة حجة المدعي‪ ،‬واليمين حجة المدعى عليه‪ ،‬ولم يذكر عليه الصلة والسلم‬
‫النكول‪ ،‬فلو كان حجة المدعي لذكره‪ ،‬ولن النكول يحتمل لكونه كاذبا في النكار‪ ،‬ويحتمل لكونه‬
‫صادقا في النكار‪ ،‬تورعا عن اليمين الصادقة‪ ،‬فل يكون حجة القضاء مع الشك والحتمال‪.‬‬
‫واستدلوا على مشروعية القضاء برد اليمين‪ :‬بما روى الدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث نافع‬
‫عن ابن عمر‪« :‬أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق» وبقوله تعالى‪{ :‬أو‬
‫يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} [المائدة‪ ]108/5:‬وثبت عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم القول برد‬
‫اليمين‪.‬‬
‫واستدلوا مع الحنابلة على جواز القضاء بشاهد ويمين المدعي‪ :‬بما روى ابن‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،306 ،301‬بداية المجتهد‪ ،459 ،456/2 :‬الشرح الكبير مع الدسوقي‪:‬‬
‫‪ ،187/4‬تهذيب الفروق‪ ،151/4 :‬مغني المحتاج‪ 468/4 :‬وما بعدها‪ 477 ،‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪:‬‬
‫‪ ،318 ،301/2‬المغني‪ ،235 ،225/9 :‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪ ،142-132 ،116‬المختصر النافع في‬
‫فقه المامية‪ :‬ص ‪ ،283‬البحر الزخار‪ ،404/4 :‬المحلى‪.464/9 :‬‬

‫( ‪)8/217‬‬

‫عباس رضي ال عنهما‪« :‬أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» (‪ )1‬قال‬
‫الشافعي‪« :‬وهذا الحديث ثابت ل يرده أحد من أهل العلم‪ ،‬لو لم يكن فيه غيره‪ ،‬مع أن معه غيره مما‬
‫يشده» وقال الترمذي عنه‪ :‬حسن غريب‪ ،‬وقال النسائي‪ :‬إسناده جيد‪ .‬وأجمع الصحابة على القضاء‬
‫بالشاهد واليمين‪ ،‬منهم أبو بكر وعمر وعلي وأبي بن كعب‪.‬‬
‫وهذا هو الرأي الراجح عندي لصحة الحديث وثبوته‪ ،‬وعده السيوطي متواترا‪ ،‬ولن الخلفاء الراشدين‬
‫حكموا به‪ ،‬وهو ل يخالف الكتاب العزيز‪.‬‬
‫مجال القضاء بشاهد ويمين والقضاء بالنكول ‪:‬‬
‫قال المالكية والشافعية وابن القيم (‪ : )2‬المواضع التي يحكم فيها بالشاهد واليمين‪ :‬المال‪ ،‬وما يقصد‬
‫به المال‪ ،‬كالبيع والشراء وتوابعهما من اشتراط صفة في المبيع‪ ،‬أو نقد غير نقد البلد‪ ،‬والجارة‬
‫والجعالة‪ ،‬والمساقاة والمزارعة‪ ،‬والمضاربة والشركة والهبة‪ ،‬والوصية لمعين‪ ،‬أو الوقف عليه‪.‬‬
‫ومما يثبت بالشاهد واليمين أيضا‪ :‬الغصوب‪ ،‬والعواري‪ ،‬والوديعة‪ ،‬والصلح‪ ،‬والقرار بالمال أو ما‬
‫يوجب المال‪ ،‬والحوالة‪ ،‬والبراء‪ ،‬والمطالبة بالشفعة وإسقاطها‪ ،‬والقرض‪ ،‬والصداق‪ ،‬وعوض الخلع‪،‬‬
‫وتسمية المهر‪ ،‬والوكالة في المال واليصاء به‪.‬‬
‫وكذا يقضى بهما في الجنايات الموجبة للمال‪ ،‬كالخطأ‪ ،‬وما ل قصاص فيه كالهاشمة والمأمومة‬
‫والجائفة‪ ،‬وقتل المسلم الكافرَ‪ ،‬والحرّ العبد‪ ،‬والصبيّ والمجنون‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم وأحمد والشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه‪ .‬وذكر ابن الجوزي عدد‬
‫رواة هذا الحديث بما يزيد على عشرين صحابيا‪ .‬ورواه أيضا أحمد والترمذي وابن ماجه عن جابر‪.‬‬
‫ورواه أيضا أحمد والدارقطني والبيهقي ومالك والشافعي عن علي رضي ال عنه‪ ،‬وأخرجه أبو داود‬
‫والترمذي وابن ماجه والشافعي عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬وأخرجه ابن ماجه عن سرّق‪.‬‬
‫وأخرجه أبو داود والبيهقي والطبراني عن الزبيب بن ثعلبة‪.‬‬
‫(‪ )2‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪ 141‬وما بعدها‪ ،‬الشرح الكبير‪ ،147/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ 300‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬حاشية الشرقاوي‪ ،502/2 :‬تبصرة الحكام‪.270/1 :‬‬

‫( ‪)8/218‬‬

‫وأما مجال القضاء بالنكول‪ :‬فهو عند الحنفية (‪ )1‬والحنابلة في الموال‪ ،‬وأما غير المال وما ل يقصد‬
‫به المال كنكاح وطلق ولعان وحد وقصاص‪ ،‬ووصاية‪ ،‬ووكالة‪ ،‬فل يقضى فيه بالنكول‪ ،‬كما تبين‬
‫سابقا (‪ ، )2‬لكن المفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين بأنه يقضى بالنكول إل في الحدود‬
‫والقصاص واللعان؛ لنه في معنى الحد‪ .‬ويقضى على السارق لجل المال بالنكول‪ ،‬فيضمن المال‬
‫المسروق‪ ،‬ول تقطع يده‪.‬‬
‫المطلب السادس ـ حكم اليمين ‪:‬‬
‫حكم اليمين‪ :‬هو الثر المترتب على حلفها أمام القاضي‪ ،‬سواء أكانت من المدعي أم من المدعى‬
‫عليه‪.‬‬
‫‪ - 1‬حكم يمين المدعي ‪:‬‬
‫يترتب على أداء اليمين من المدعي مع الشاهد عند الجمهور غير الحنفية ثبوت الحق المحلوف عليه‪،‬‬
‫بناء على الشاهد واليمين معا في الصح عند الشافعية‪ ،‬وفي المعتمد عند المالكية؛ لن الحاديث‬
‫علقت القضاء عليهما معا‪ ،‬وبناء على الشاهد فقط ‪ ،‬وإنما اليمين للتأكيد والستظهار والحتياط في‬
‫رأي الحنابلة؛ لن الشاهد حجة الدعوى‪ ،‬واليمين من المدعي ليست بحجة على خصمه (‪. )3‬‬
‫‪ - 2‬حكم يمين المدعى عليه ‪:‬‬
‫يترتب على حلف اليمين من المدعى عليه باتفاق الفقهاء (‪ : )4‬إنهاء النزاع بين المتداعيين وسقوط‬
‫الدعوى‪ ،‬وكذا انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال‪ ،‬ل مطلقا‪ ،‬بل مؤقتا إلى غاية إحضار البينة في‬
‫رأي الجمهور غير المالكية‪ ،‬فل تبرأ ذمة المدعى عليه من الحق‪ ،‬وتظل مشغولة به إلى أن يتمكن‬
‫المدعي من إثبات دعواه بوسيلة أخرى من وسائل الثبات‪.‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬يترتب على يمين المدعى عليه سقوط الدعوى مطلقا‪ ،‬فليس للمدعي أن يقيم البينة بعد‬
‫الحكم باليمين‪ ،‬إل لعذر كنسيان وعدم علم بالشهادة‪ ،‬ثم علمه بها‪ ،‬فتقبل منه‪ ،‬ويحلف يمينا على عذره‪.‬‬
‫‪ - 3‬حكم يمين الستيثاق أو الستظهار ‪:‬‬
‫ليست هذه اليمين دليلً في الثبات‪ ،‬وإنما هي لزيادة التأكيد والطمئنان وإقناع القاضي بصحة الدلة‬
‫المقدمة إليه؛ لن القاضي يوجهها للحتياط في الحكم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ 442/4 :‬وما بعدها‪ ،‬الكتاب مع اللباب ‪ 30/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر مجال القضاء بالنكول في بحث الدعوى والبينات‪ .‬والنكول‪ :‬المتناع من حلف اليمين‪،‬‬
‫سواء قال‪ :‬ل أحلف‪ ،‬أو أصر على السكوت‪ ،‬بعد طلب القاضي منه اليمين‪.‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير مع الدسوقي‪ ،187 ،146/4 :‬تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك‪،271/1 :‬‬
‫الوجيز للغزالي‪ ،154/2 :‬مغني المحتاج‪ ،477/4 :‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪.140-138‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،229/6 :‬المبسوط‪ ،119/16 :‬بداية المجتهد‪ ،454/2 :‬الشرح الكبير مع الدسوقي‪:‬‬
‫‪ 146/4‬وما بعدها‪ ،‬حاشية الشرقاوي‪ ،502/2 :‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪ ،112‬مغني المحتاج‪.478/4 :‬‬

‫( ‪)8/219‬‬

‫المطلب السابع ـ أنواع الحقوق التي يجوز فيها اليمين ‪:‬‬


‫هناك حقوق يجوز فيها اليمين بالتفاق‪ ،‬وحقوق ل يجوز فيها اليمين اتفاقا‪ ،‬وحقوق مختلف فيها على‬
‫التفصيل التالي (‪: )1‬‬
‫ً‪ - 1‬اتفق الفقهاء على عدم جواز التحليف في حقوق ال تعالى المحضة‪ ،‬سواء أكانت حدودا كالزنا‬
‫والسرقة وشرب المسكرات‪ ،‬أم عبادات كالصلة والصوم والحج والنذر والكفارة‪ ،‬إل إذا تعلق بها حق‬
‫مالي لدمي فيجوز؛ لن الحدود تدرأ بالشبهات‪ ،‬ول يقضى فيها بالنكول عند الحنفية والحنابلة؛ لنه‬
‫بذل عند أبي حنيفة‪ ،‬وإقرار فيه شبهة العدم عند أحمد والصاحبين‪ ،‬والحدود ل تحتمل البذل‪ ،‬ول تثبت‬
‫بدليل فيه شبهة؛ لن النكول قائم مقام القرار‪ ،‬ول يجوز إقامة الحد بما يقوم مقام غيره‪ .‬ولنه لو‬
‫أقر‪ ،‬ثم رجع‪ ،‬قبل منه وخلي من غير يمين‪ ،‬فلن ل يستحلف مع عدم القرار أولى‪ ،‬ولنه يستحب‬
‫ستره‪.‬‬
‫وأما أن العبادات ل يستحلف فيها‪ ،‬فلنها علقة بين العبد وربه‪ ،‬فل يتدخل فيها أحد‪ ،‬قال المام‬
‫أحمد‪« :‬ل يحلف الناس على صدقاتهم» فإذا ادعى الساعي الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم‬
‫وكمل النصاب‪ ،‬فالقول عند أحمد قول رب المال من غير يمين‪ .‬ونقل ابن قدامة عن الشافعي وأبي‬
‫يوسف ومحمد أنه يستحلف؛ لنها دعوى مسموعة‪ ،‬فتشبه حق الدمي‪ .‬أما إذا تعلق بالحدود وغيرها‬
‫حق مالي للعباد كالمال في السرقة‪ ،‬فيجوز فيها الستحلف‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبيين الحقائق‪ ،297/4 :‬تكملة فتح القدير‪ ،165 ،162/6 :‬البدائع‪ ،227/6 :‬الشرح الكبير مع‬
‫الدسوقي‪ ،227/4 :‬الوجيز للغزالي‪ ،160/2 :‬المهذب‪ 301/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪110‬‬
‫وما بعدها‪ ،124 ،‬المغني‪ 237/9 :‬ومابعدها‪ ،‬البحر الزخار‪ 404/4 :‬و ‪ ،133/5‬شرائع السلم‪:‬‬
‫‪ ،223 ،214/2‬شرح النيل‪.583/6 :‬‬

‫( ‪)8/220‬‬

‫ً‪ - 2‬واتفق الفقهاء أيضا على جواز اليمين في الموال‪ ،‬وما يؤول إلى المال‪ ،‬فيحلّف المدعى عليه‬
‫إثباتا ونفيا‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬إن الذين يشترون بعهد ال وأيمانهم ثمنا قليلً‪ ،‬أولئك ل خلق لهم في‬
‫الخرة‪ ،‬ول يكلمهم ال ‪ ،‬ول ينظر إليهم يوم القيامة‪ ،‬ول يزكيهم‪ ،‬ولهم عذابٌ أليم } [آل عمران‪:‬‬
‫‪ ]77/3‬وللحديث السابق عند الجماعة‪« :‬لو يعطى الناس بدعواهم‪ ،‬لدعى أناس دماء قوم وأموالهم‪،‬‬
‫ولكن اليمين على المدعى عليه» ‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬واتفق الفقهاء على جواز التحليف في الجنايات من قصاص وجروح وفي بعض مسائل الحوال‬
‫الشخصية‪ .‬واختلفوا في بعض مسائل هذا النوع على أقوال ثلثة‪:‬‬
‫أ ـ فقال المالكية‪ :‬إن التحليف غير جائز في النكاح فقط؛ لنه يجب فيه الشهادة والعلن‪ ،‬إذا لم‬
‫يوجد الشهود لم يصح النكاح‪ ،‬فل يقبل فيه اليمين لتحقق التهمة والكذب‪ ،‬ولنه لو أقر بالنكاح ل يثبت‬
‫ول يلزم‪.‬‬

‫( ‪)8/221‬‬

‫ب ـ وقال أبو حنيفة‪ :‬يستثنى سبع مسائل ل يجوز فيها التحليف وهي النكاح والطلق والنسب‪،‬‬
‫والفيء في اليلء‪ ،‬والعتق‪ ،‬والولء‪ ،‬والستيلد‪ ،‬وزاد الحنابلة القود؛ لن القصد من توجيه اليمين هو‬
‫النكول عن الحلف‪ ،‬والقضاء بناء عليه‪ ،‬والنكول بذل وإباحة وترك للمنازعة في رأي أبي حنيفة‪،‬‬
‫صياغة عن الكذب الحرام‪ ،‬وهذه المسائل ل يجوز فيها البذل والباحة‪ ،‬كما تقدم سابقا‪ ،‬ولن النكول‬
‫في رأي أحمد والصاحبين وإن جرى مجرى القرار‪ ،‬فليس بإقرار صحيح صريح‪ ،‬ل يراق به الدم‬
‫بمجرده‪ ،‬ول مع يمين المدعي إل في القسامة لّلوْث‪ .‬والمفتى به عند الحنفية هو رأي الصاحبين كما‬
‫تقدم‪ ،‬وهو أنه يجوز التحليف في هذه المور إل في الحدود والقصاص واللعان‪ .‬فإن كان المقصود‬
‫من الدعوى في هذه المسائل المال‪ ،‬فيستحلف المدعى عليه‪ ،‬ويثبت المال دون النكاح والنسب‬
‫والرجعة‪ ،‬كأن تدعي امرأة على رجل أنه لم يدفع لها نصف المهر قبل الدخول‪ ،‬أو نفقة العدة بعد‬
‫الدخول‪ ،‬فيحلف‪.‬‬
‫وعند الحنابلة روايتان أرجحهما أنه ل يستحلف المدعى عليه‪ ،‬ول تعرض عليه اليمين فيما ليس‬
‫بمال‪ ،‬ول المقصود منه المال‪ :‬وهوكل ما ل يثبت إل بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح‬
‫والطلق والرجعة والعتق والنسب والستيلد والولء والرق؛ لن هذه الحالت ل تثبت إل بشاهدين‬
‫ذكرين‪ ،‬فل تعرض فيها اليمين كالحدود‪.‬‬

‫( ‪)8/222‬‬

‫جـ ـ وقال الشافعية والصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية‪ ،‬والشيعة المامية والزيدية والباضية‪:‬‬
‫يجوز التحليف في هذه المسائل‪ ،‬ويحلف المنكر في إثباتها أو نفيها‪ ،‬للحديث السابق عند الترمذي‪:‬‬
‫«البينة على المدعي‪ ،‬واليمين على المدعى عليه» يتناول بعمومه كل مدعى عليه‪ ،‬فإذا لم تتوافر‬
‫البينة‪ ،‬حلف المدعى عليه على إنكاره حق المدعي‪ .‬وقد حلف النبي صلّى ال عليه وسلم رُكانة بن‬
‫ت إل واحدة؟ فقال ركانة‪:‬‬
‫عبد يزيد على طلق امرأته البتة فيما رواه البيهقي قائلً له‪ :‬وال ما أرد َ‬
‫ت إل واحدة فردها عليه‪.‬‬
‫وال ما أرد ُ‬
‫وهذا الرأي هو الراجح لدي لعموم النصوص وقوة الدلة التي اعتمدوا عليها‪.‬‬
‫تحليف الشهود اليمين‪ :‬لجأ القضاة في عصرنا الحاضر بسبب كثرة الناس بدلً عن العمل بمبدأ تزكية‬
‫الشهود اللجوء إلى تحليف الشاهد اليمين‪ ،‬ول مانع من هذا في رأيي‪ ،‬بدليل تحليف النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم رُكانة على ما يريد من تطليق امرأته طلقة واحدة أم أكثر‪ .‬وقد أخذ بهذا الرأي ابن أبي‬
‫ليلى ومحمد بن بشير قاضي قرطبة‪ ،‬ورجحه ابن نجيم المصري وهو رأي ابن القيم‪ .‬وأخذت مجلة‬
‫الحكام العدلية بذلك‪ ،‬فنصت المادة (‪ )1727‬على أنه‪:‬‬
‫«إذا ألح المشهود عليه على الحاكم بتحليف الشهود بأنهم لم يكونوا في شهادتهم كاذبين‪ ،‬وكان هناك‬
‫لزوم لتقوية الشهادة باليمين‪ ،‬فللحاكم أن يحلّف الشهود‪ ،‬وله أن يقول لهم‪ :‬إن حلفتم قبلت شهادتكم‪،‬‬
‫وإل فل» ‪.‬‬

‫( ‪)8/223‬‬

‫المبحث الثالث ـ القرار‬


‫يتضمن هذا المبحث المطالب التية‪:‬‬
‫المطلب الول ـ تعريف القرار وحجيته وحكمه‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ ألفاظ القرار‪.‬‬
‫المطلب الثالث ـ شروط صحة القرار‪.‬‬
‫المطلب الرابع ـ أنواع المقر به بشكل عام‪.‬‬
‫المطلب الخامس ـ القرار بالموال‪.‬‬
‫المطلب السادس ـ القرار في حال الصحة وفي حال المرض‪.‬‬
‫المطلب السابع ـ القرار بالنسب‪.‬‬
‫المطلب الول ـ تعريف القرار وحجيته وحكمه ‪:‬‬
‫القرار لغة‪ :‬الثبات‪ ،‬مأخوذ من قولهم‪ :‬قرّ الشيء يقر قرارا‪ :‬إذا ثبت‪ ،‬وشرعا‪ :‬هوإخبار عن ثبوت‬
‫حق للغير على نفسه‪ .‬وبما أن القرار إخبار متردد بين الصدق والكذب‪ ،‬فكان محتملً لهذين‬
‫المرين‪ ،‬إل أنه جعل حجة بدليل معقول‪ :‬وهو أنه ظهر رجحان الصدق على الكذب فيه؛ لن النسان‬
‫غير متهم فيما يقر به على نفسه‪ ،‬فإن المال محبوب المرء طبعا‪ ،‬فل يقر به لغيره كاذبا‪ ،‬فلم يكن في‬
‫القرار تهمة وريبة‪.‬‬
‫وأدلة حجيته من الكتاب والسنة والجماع هي ما يلي‪:‬‬
‫أما الكتاب‪ :‬فقوله تعالى {أأقررتم‪ ،‬وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا‪ :‬أقررنا} [آل عمران‪ ]81/3:‬فال‬
‫سبحانه طلب منهم القرار‪ ،‬ولو لم يكن القرار حجة‪ ،‬لما طلبه‪ .‬وقوله سبحانه‪{ :‬كونوا قوامين بالقسط‬
‫شهداء ل ولو على أنفسكم} [النساء‪ ]135/4:‬قال المفسرون‪ :‬شهادة المرء على نفسه إقرار‪ .‬وقوله عز‬
‫وجل‪{ :‬بل النسان على نفسه بصيرة} [القيامة‪ ]14/75:‬قال ابن عباس‪ :‬أي شاهد بالحق‪.‬‬
‫وأما السنة‪ :‬فخبر الصحيحين في قصة العسيف‪« :‬واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا‪ ،‬فإن اعترفت‬
‫فارجمها» فأثبت الرسول صلّى ال عليه وسلم الحد بالعتراف‪.‬‬
‫وأما الجماع‪ :‬فإن المة السلمية أجمعت على صحة القرار‪ ،‬وكونه حجة من لدن رسول ال صلّى‬
‫ال عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير‪.‬‬
‫وبالقياس ثبتت الحجية أيضا‪ :‬وهو أننا إذا قبلنا الشهادة على القرار‪ ،‬فلن نقبل القرار أولى‪.‬‬
‫وحكمة تشريع القرار‪ :‬التوصل لثبات الحقوق وإيصالها إلى أصحابها من أقرب الطرق وأيسرها‪،‬‬
‫لن الشرع يحرص على حفظ الموال وصيانتها من الضياع‪ ،‬كما يحرص على أداء حقوق ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وحكم القرار‪ :‬ظهور ما أقر به المقر‪ ،‬ل ثبوت الحق وإنشاؤه من أول المر‪ ،‬ولذا ل يصح القرار‬
‫بالطلق مع الكراه‪ ،‬مع أن النشاء يصح مع الكراه عند الحنفية‪ ،‬فمن أقر لغيره بمال‪ ،‬والمقر له‬
‫يعلم أنه كاذب في إقراره ل يحل له أخذه عن كره منه فيما بينه وبين ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)8/224‬‬

‫والقرار حجة قاصرة على المقر‪ ،‬ل يتعدى أثره إلى غيره‪ ،‬لقصور ولية المقر على غيره‪ ،‬فيقتصر‬
‫أثر القرار على المقر نفسه‪ .‬والقرار أيضا سيد الدلة؛ لنتفاء التهمة فيه (‪ ، )1‬والقرار يثبت الملك‬
‫في المخبر به‪.‬‬
‫وأما الشهادة فهي حجة مطلقة ثابتة في حق جميع الناس غير مقتصرة على المقضي عليه‪ ،‬لذا تسمى‬
‫بالبينة لنها مبينة يظهر بها الملك‪ ،‬وقال الحنفية‪ :‬البينة أقوى من القرار‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ ألفاظ القرار ‪:‬‬
‫القرار إما أن يكون بلفظ صريح أو بلفظ ضمني أو دللة (‪. )2‬‬
‫‪ - 1‬القرار بلفظ صريح‪ :‬أن يقول إنسان‪« :‬لفلن علي ألف درهم» ؛ لن كلمة (علي) كلمة تفيد‬
‫اليجاب واللزام لغة وشرعا‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ول على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلً } [آل‬
‫عمران‪.]97/3:‬‬
‫أو يقول لرجل‪ ( :‬لي عليك ألف درهم ) فقال الرجل‪ :‬نعم‪ ،‬لن كلمتي «نعم‪ ،‬وأجل» ونحوهما‬
‫للتصديق‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قالوا‪ :‬نعم} [العراف‪.]44/7:‬‬
‫أو يقول‪ ( :‬لفلن في ذمتي ألف درهم )؛ لن ما في الذمة هو الدين‪ ،‬فيكون إقرارا بالدين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع المبسوط‪ 184/17 :‬ومابعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪ 279/6 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ ،467 ،203/4‬اللباب‪ ،76/2 :‬مغني المحتاج‪ ،238/2 :‬المهذب‪ ،343/2 :‬المغني‪ ،137/5 :‬مجمع‬
‫الضمانات‪ :‬ص ‪.)364‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،15/18 :‬البدائع‪ 207/7 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ ،200/5 :‬تكملة فتح القدير‪.296/6 :‬‬
‫اللباب‪.78/2 :‬‬

‫( ‪)8/225‬‬

‫أو يقول‪ ( :‬لفلن قبلي ألف درهم ) فهو إقرار بالدين على الرجح؛ لن القبالة هي الكفالة‪ ،‬قال ال‬
‫سبحانه‪{ :‬والملئكة قبيلً} [السراء‪ ]92/17:‬أي كفيلً‪ .‬والكفالة هي الضمان‪ .‬قال ال عز وجل‪:‬‬
‫{وكفلَها زكريا } [آل عمران‪ ]37/3:‬على قراءة التخفيف‪ :‬أي ضمن القيام بأمرها‪ ،‬أو يقول‪ ( :‬أليس‬
‫لي عندك ألف درهم؟ ) قال‪ :‬بلى‪ ،‬كان قرارا صحيحا؛ لن ( بلى) جواب للسؤال بحرف النفي‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬ألست بربكم؟ قالوا‪ :‬بلى} [العراف‪.]172/7:‬‬
‫ولو قال رجل لخر‪ ( :‬له في مالي ألف درهم ) فهو إقرار له به في ماله‪ .‬وهل يكون مضمونا أو‬
‫أمانةً؟ اختلف مشايخ الحنفية فيه‪ :‬فقال الجصاص‪ :‬إنه يكون إقرارا بالشركة بينه وبينه‪ ،‬فيكون القدر‬
‫المقر به عنده أمانة؛ لنه جعل ماله ظرفا للمقر به‪ ،‬وهو اللف فيقتضي ذلك الخلط بين ماليهما‪ ،‬وهو‬
‫معنى الشركة‪.‬‬
‫وقال بعض مشايخ العراق‪ :‬إن كان مال المقر محصورا‪ ،‬أي محددا في تجارة معينة‪ ،‬أو عمل معين‪،‬‬
‫يكون إقرارا بالشركة‪ ،‬وإن لم يكن محصورا يكون إقرارا بالدين‪.‬‬
‫والراجح كما في مختصر القدوري أنه يدل على القرار بالدين كيفما كان المر؛ لن كلمة الظرف‬
‫في مثل هذا تستعمل في الوجوب واللتزام‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم‪« :‬وفي الركاز الخمس» (‪. )1‬‬
‫ولو قال رجل لخر‪ ( :‬له من مالي ألف درهم ) ل يكون إقرارا‪ ،‬بل يكون هبة‪ ،‬وإذا كان هبة ل‬
‫يملكها المخاطب إل بالقبول والقبض؛ لنه ليس في هذا القول ما يدل عى اللتزام في الذمة؛ لن اللم‬
‫في ( له ) للتمليك‪ ،‬والتمليك بغير عوض هبة‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬له عندي درهم ) فهو وديعة‪ ،‬لن (عندي) ل تدل على التزام شيء في الذمة‪ ،‬بل هي كلمة‬
‫تفيد الوجود‪ ،‬وليس لهذا المعنى دللة على اللتزام‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة (راجع نصب الراية‪.)380/2 :‬‬

‫( ‪)8/226‬‬
‫وكذلك لو قال‪ ( :‬لفلن معي‪ ،‬أوفي منزلي‪ ،‬أو في بيتي‪ ،‬أو في صندوقي‪ ،‬أو في كيسي ألف درهم )‬
‫فهو وديعة؛ لن هذه اللفاظ ل تدل إل على قيام اليد أو الحيازة‪ ،‬وهذا المعنى ل يفيد اللتزام في‬
‫الذمة‪ ،‬فلم يكن إقرارا بالدين‪ ،‬فكانت وديعة‪ ،‬لتعارف الناس ذلك‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬لفلن عندي ألف درهم عارية) فهو قرض؛ لن (عندي) تستعمل في المانات‪ ،‬وقد فسرت‬
‫بالعارية‪ ،‬والمعروف أن عارية الدراهم والدنانير تكون قرضا؛ إذ ل يمكن النتفاع بها إل باستهلكها‪،‬‬
‫وإعارة ما ل يمكن النتفاع به إل باستهلكه‪ ،‬يكون قرضا في العرف‪.‬‬
‫وكذلك كل ما يكال أو يوزن‪ :‬يكون القرار بإعارته إقرارا بالقرض؛ إذ يتعذر النتفاع به إل‬
‫باستهلكه‪.‬‬
‫‪ - 2‬القرار الضمني أو القرار دللة‪ :‬قد يكون القرار بلفظ يدل على التزام الشيء ضمنا أو دللة‪،‬‬
‫مثل أن يقول شخص لغيره‪( :‬لي عليك ألف درهم) فيقول‪ :‬قد قضيتها؛ لن القضاء يدل على تسليم‬
‫مثل الواجب الملتزم به في الذمة‪ ،‬فيقضي سبق اللتزام بهذا المبلغ‪ ،‬ول يثبت الوفاء إل بالبينة‪ .‬وكذا‬
‫لو قال رجل لخر‪( :‬لي عليك ألف درهم ) فقال المخاطب‪( :‬أجلني بها)؛ لن التأجيل إنما يكون في‬
‫حق واجب‪ ،‬ولو لم يذكر الضمير في هذا وفيما قبله‪ ،‬ل يكون إقرارا‪ ،‬لعدم انصرافه إلى الكلم‬
‫المذكور‪.‬‬
‫وفي دعوى البراء بأن قال‪( :‬أبرأتني منها) مثل قوله‪( :‬قد قضيتها)؛ لن البراء إسقاط‪ ،‬وهذا إنما‬
‫يكون في مال واجب عليه‪.‬‬
‫وكذلك دعوى الصدقة والهبة بأن قال‪( :‬تصدقت بها علي أو وهبتها لي) كان ذلك أيضا إقرارا منه‪،‬‬
‫مثل دعوى القضاء؛ لن التمليك بالصدقة أو بالهبة يقتضي أسبقية الوجوب واللتزام‪.‬‬
‫وكذلك لو قال‪ ( :‬أجلتك بها على فلن ) يكون إقرارا أيضا؛ لنه يعني تحويل الدين من ذمة إلى ذمة‪،‬‬
‫وهذا ل يكون بدون التزام‪.‬‬
‫ولو قال رجل لخر‪(:‬لي عليك ألف درهم ) فقال‪ :‬حقا أو صدقا‪ ،‬يكون إقرارا؛ لن معناه تصديقه فيما‬
‫يدعي عليه‪.‬‬

‫( ‪)8/227‬‬

‫القرار بالدين المقترن بلفظ آخر‪ :‬كل ما ذكر إذا كان لفظ القرار مطلقا عن التقييد بشيء آخر‪ ،‬فإن‬
‫اقترن بلفظ القرار لفظ آخر مخالف لمعنى اللفظ الول ‪ ،‬بأن قال‪( :‬لفلن علي ألف درهم وديعة)‬
‫يكون إقرارا بالوديعة بشرط اتصاله بالقرار كالستثناء؛ لن قوله (وديعة) تغيير لحكم القرار من‬
‫كون المال دينا إلى كونه محفوظا أمانة‪ ،‬وهذا بيان معتبر‪ ،‬فيصح بشرط كونه موصولً بالكلم السابق‬
‫ل منفصلً‪ ،‬كما هو الشرط في الستثناء‪.‬‬
‫فإن كان البيان منفصلً عن الكلم السابق‪ ،‬بأن سكت‪ ،‬ثم قال‪ :‬عنيت به الوديعة‪ ،‬ل يصح بيانه‪ ،‬ول‬
‫يصدق‪ ،‬ويكون إقرارا بالدين؛ لن بيانه المتأخر خلف ظاهر الكلم السابق‪ ،‬فل يصدق به على‬
‫الغير‪ .‬ولو قال‪( :‬علي ألف درهم وديعة قرضا‪ ،‬أو وديعة دينا‪ ،‬أو مضاربة قرضا أو دينا) فهو إقرار‬
‫بالدين؛ لن الجمع بين اللفظين في معناهما ممكن‪ ،‬بأن يكون الشيء في مبدأ المر أمانة‪ ،‬ثم يتغير‬
‫حاله‪ ،‬فيصير مضمونا‪ ،‬إذ الضمان قد يطرأ على المانة كالوديعة إذا استهلكت ونحوها‪ ،‬والنسان‬
‫غير متهم على نفسه في القرار بالضمان‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬لفلن عندي أو معي ألف درهم قرضا) فهو إقرار؛ لنه بيان معتبر دال على أن وجود‬
‫اللف عنده ليس أمانة‪ ،‬وإنما دينا مضمونا‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬عندي كذا) وأعني به القرار‪ :‬صُدّق‪ ،‬وإن كان كلمه منفصلً؛ لن هذا إقرار على نفسه‪،‬‬
‫فل يتهم النسان فيه‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬له من مالي ألف درهم ل حق لي فيها) فهو إقرار بالدين؛ لن اللف التي ل حق فيها‬
‫تكون دينا إذ لو كانت هبة لكان له فيها حق‪.‬‬

‫( ‪)8/228‬‬

‫القرار المكتوب‪ :‬لو ادعى رجل على آخر مالً‪ ،‬وأخرج بذلك خطا بخط يده على إقرار له بالمال‪،‬‬
‫وأنكر المدعى عليه أنه خطه‪ ،‬فاستكتب‪ ،‬فكتب‪ ،‬فكان بين الخطين مشابهة ظاهرة دالة على أنهما خطا‬
‫كاتب واحد‪ ،‬قال أئمة بخارى‪ :‬إنه حجة يقضى بها‪ ،‬وقد نص محمد في المبسوط على أنه ل يكون‬
‫حجة؛ لنه لو قال‪( :‬هذا خطي وأنا كتبته غير أنه ليس علي هذا المال)‪ :‬ل يلزمه شيء‪ ،‬فهذا أولى‪.‬‬
‫ولو كتب بخطه صكا فقيل له‪ :‬تشهد به؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فيكون إقرارا‪ ،‬ولو لم يقل شيئا‪ :‬ل يكون إقرارا‪.‬‬
‫ويعمل بدفتر السمسار والصراف والبياع؛ لن كل واحد من هؤلء ل يكتب في دفتره إل ماله وعليه‬
‫( ‪. )1‬‬
‫والخلصة‪ :‬يشترط في صيغة القرار لفظ صريح أو كناية يدل على اللتزام بالمقر به‪ ،‬وفي معنى‬
‫اللفظ الصريح الكتابة مع النية‪ ،‬وإشارة الخرس المفهمة‪.‬‬
‫المطلب الثالث ـ شروط صحة القرار ‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على صحة القرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره (‪. )2‬‬
‫ويصح إقرار العبد بجريمة تقتضي حدا أو قصاصا‪ ،‬كما يصح إقرار العبد المأذون في التجارة‬
‫والمعاملة بثمن الشياء‪ ،‬والجرة‪ ،‬والغصوب‪ ،‬والودائع‪ ،‬ويصح إقرار المكاتب في الموال‪ ،‬ويصح‬
‫عند الحنفية إقرار العبد المحجور بالمال‪ ،‬لكن ل ينفذ على السيد في الحال‪ ،‬وإنما يطالب به العبد بعد‬
‫العتق والحرية‪ .‬ول ينفذ عند الحنابلة إقرار العبد بالقصاص في النفس‪ ،‬وإنما يطالب به بعد العتق‪،‬‬
‫ولكن يصح القرار منه بالقصاص فيما دون النفس عندهم‪ .‬وبالتفاق ل يصح إقرار الصبي والمجنون‬
‫والمكرَه والمتهم في إقراره‪ .‬وعلى هذا تكون شروط القرار ما يلي‪:‬‬
‫‪ - 1‬العقل والبلوغ‪ :‬فل يصح إقرار المجنون‪ .‬ويعبر البلوغ شرطا عند الجمهور لصحة القرار‪ ،‬فل‬
‫يصح إقرار الصبي غير البالغ أيضا‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬رفع القلم عن ثلثة‪ :‬عن الصبي‬
‫حتى يبلغ‪ ،‬وعن النائم حتى‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪ 370‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،222/7 :‬تكملة فتح القدير‪ ،281/6 :‬اللباب‪ ،76/2 :‬تبيين الحقائق‪ ،3/5 :‬الشرح الكبير‬
‫للدردير‪ 397/3 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،343/2 :‬مغني المحتاج‪ ،238/2 :‬المغني‪ ،138/5 :‬مجمع‬
‫الضمانات‪ :‬ص ‪ 365‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/229‬‬

‫يستيقظ‪ ،‬وعن المجنون حتى يفيق» (‪ )1‬ورفع القلم معناه رفع التكليف والمسؤولية‪ .‬ولن غير البالغ‬
‫ممنوع من التصرفات‪.‬‬
‫وليس البلوغ شرطا لصحة القرار عند الحنفية‪ ،‬فيصح إقرار الصبي العاقل بالديون والعيان؛ لنه‬
‫من ضرورات التجارة‪.‬‬
‫‪ - 2‬الطواعية أو الختيار‪ :‬فل يصح إقرار المستكره‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬رفع عن أمتي‬
‫الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقد سبق تفصيل حكم إقرارات المستكره في بحث الكراه‪.‬‬
‫‪ - 3‬عدم التهمة‪ :‬يشترط أل يكون المقر متهما في إقراره‪ ،‬فإن اتهم بإقراره لملطفة صديق ونحوه‬
‫بطل القرار؛ لن التهمة تخل برجحان الصدق على الكذب في إقراره‪ ،‬والقرار يعتبر شهادة على‬
‫النفس‪ ،‬والشهادة ترد بالتهمة‪ ،‬ودليل اعتباره شهادة قوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين‬
‫بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم} [النساء‪.]135/4:‬‬
‫‪ - 4‬أن يكون المقر معلوما‪ :‬فلو قال رجلن‪ ( :‬لفلن على واحد منا ألف درهم ) ل يصح القرار؛‬
‫لن المقر إذا لم يكن معلوما ل يتمكن المقر له من المطالبة بالدين‪ ،‬فل يكون في هذا القرار فائدة‪،‬‬
‫فل يصح‪.‬‬
‫فإذا أقر الحر البالغ العاقل لزمه إقراره عند الحنفية‪ ،‬سواء أكان المقر به مجهولً أم معلوما‪ ،‬ويقال له‪:‬‬
‫بيّن المجهول‪ ،‬فإذا لم يبين أجبره القاضي على البيان‪ .‬والقول في البيان قول المقر مع يمينه‪ ،‬إن‬
‫ادعى المقر له أكثر من الذي بينه‪ ،‬لنكاره‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬سبق تخريجه‪ ،‬رواه المام أحمد وأصحاب السنن الربعة إل الترمذي عن السيدة عائشة‪،‬‬
‫وصححه الحاكم‪ ،‬وأخرجه ابن حبان أيضا‪.‬‬

‫( ‪)8/230‬‬

‫الزائد‪ ،‬واليمين على من أنكر‪ .‬فإن قال‪ ( :‬له علي مال ) فالمرجع في بيانه إليه‪ ،‬ويقبل قوله في القليل‬
‫والكثير (‪. )1‬‬
‫ويلحظ أن الشافعية (‪ : )2‬فرقوا بين أثر الحجر على السفيه وأثر الحجر على المفلس‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل‬
‫يصح إقرار السفيه بدين في معاملة قبل الحجر أو بعده‪ ،‬وكذا بإتلف مال في الظهر‪ ،‬لنه ممنوع من‬
‫التصرف بماله‪ .‬ويصح إقراره بالحد والقصاص؛ لعدم تعلقهما بالمال‪ ،‬ولبُعد التهمة‪ ،‬ويصح طلقه‬
‫وخلعه وظهاره ونفيه النسب بلعان‪ ،‬وحكمه في العبادة كالرشيد ‪ ،‬لكن ل يفرّق الزكاة بنفسه‪ ،‬وإذا‬
‫أحرم بحج فرض وكّل الولي ثقة ينفق عليه في طريقه‪ ،‬وإ ن أحرم بتطوع‪ ،‬المذهب أنه كمحصر‬
‫فيتحلل بالصوم‪.‬‬
‫أما المفلس فيصح ويقبل إقراره بعين أو دين وجب قبل الحجر في الصح في حق الغرماء‪ ،‬كما لو‬
‫ثبت بالبينة‪ ،‬ول يصح إقراره بدين أو حق وجب بعد الحجر بمعاملة أو مطلقا بأن لم يقيده بمعاملة ول‬
‫غيرها‪ ،‬ول يقبل في حق الغرماء‪ .‬ويصح نكاحه وطلقه وخلعه واقتصاصه وإسقاطه كالسفيه كما‬
‫تقدم‪.‬‬
‫المطلب الرابع ـ أنواع المقر به ‪:‬‬
‫المقر به عموما نوعان‪ :‬حقوق ال تعالى‪ ،‬وحقوق العباد (‪. )3‬‬
‫أما حقوق ال تعالى ‪:‬‬
‫فنوعان عند الحنفية‪:‬‬
‫أحدهما ـ أن يكون الحق خالصا ل‪ ،‬أي للمجتمع‪ ،‬وهو حد الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوه من‬
‫المسكرات‪ ،‬والقرار به صحيح‪ .‬ولو رجع المقر عن إقراره بموجب الحد قبل إقامة الحد‪ ،‬بطل الحد‪،‬‬
‫لحتمال صدقه في الرجوع‪ ،‬فأورث رجوعه شبهة‪ ،‬والحدود تدرأ بالشبهات‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪ ،366-364‬الكتاب مع اللباب‪.76/2 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ 172 ،148/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع البدائع‪.223/7 :‬‬

‫( ‪)8/231‬‬

‫ويكفي في القرار أن يكون مرة إل في الزنا عند الحنفية‪ ،‬فإنه يشترط أن يكون أربع مرات‪ ،‬كما‬
‫حدث في إقرار ماعز بين يدي الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬وذلك خلفا للقياس‪ ،‬فيقتصر على‬
‫مورد النص‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف وزفر‪ :‬يشترط تعدد القرار بأن يكون مرتين بعدد الشهود‪ .‬ولكن روي أن أبا يوسف‬
‫رجع عن هذا الرأي‪ ،‬ويلحظ أن التعدد في القرار بالقذف ليس بشرط باتفاق الحنفية‪.‬‬
‫ويحكم بموجب القرار في الحدود‪ ،‬سواء تقادم العهد على حدوث مقتضى الحد‪ ،‬أم ل‪ ،‬إل في شرب‬
‫الخمر‪ ،‬فإنه ل يعتبر القرار عند أبي حنيفة وأبي يوسف بعد ذهاب الرائحة وتقادم العهد؛ لن ابن‬
‫ل وجد منه رائحة الخمر‪ ،‬ولم يجلده حتى تحقق من الرائحة‪.‬‬
‫مسعود جلد رج ً‬
‫وسبق ذكر الحديث وتفصيل هذا الموضوع في مبحث حد الشرب الذي عرفنا فيه أن محمدا رحمه ال‬
‫قال‪ :‬يحد شارب الخمر بالقرار أو بالشهادة‪ ،‬ولو بعد ذهاب الرائحة‪.‬‬
‫الثاني ـ أن يكون للعبد فيه حق‪ :‬وهو حد القذف‪ .‬وقد ذكرت في مبحث هذا الحد شروط صحة‬
‫القرار بجريمة القذف والزنا وسائر الحدود‪.‬‬
‫وأما حقوق العباد أي حقوق الفراد‪ ،‬فأنواع ‪:‬‬
‫منها‪ :‬حق طلب واستيفاء القصاص أو الدية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬الحق في الموال النقدية‪ ،‬أو العينية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬الحق في الطلق وحق الشفعة والنسب ونحوها‪.‬‬
‫ول يشترط لصحة القرار بهذه الحقوق الفردية مايشترط للقرار بحقوق ال تعالى من التعدد‪ ،‬وكونه‬
‫في مجلس القضاء‪ ،‬والنطق بعبارة صريحة‪ ،‬وإنما يصح القرار فيها من الخرس؛ كما ل يشترط‬
‫لصحة القرار بها الصحو‪ ،‬فيصح إقرار السكران بها‪ .‬وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات‪ ،‬بخلف‬
‫حقوق ال تعالى‪.‬‬

‫( ‪)8/232‬‬

‫والشروط المختصة بالقرار بحقوق العباد عند الحنفية هي ما يأتي (‪: )1‬‬
‫أولً ـ أن يكون المقر له معلوما‪ ،‬سواء أكان موجودا أم حملً في البطن‪ :‬فلو كان المقر له مجهولً‪،‬‬
‫بأن قال إنسان‪ ( :‬لواحد من الناس علي ألف درهم ) ل يصح القرار؛ لنه ل يملك أحد مطالبته‬
‫بمقتضى إقراره‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬لحمل هند علي ألف درهم)‪ :‬فإن عزا إقراره لسبب مقبول‪ ،‬يصلح لثبوت الملك له‪ ،‬من‬
‫طريق إرث أو وصية (‪ ، )2‬كأن يقول‪ :‬مات أبو الحمل‪ ،‬فورث الحمل هذا اللف‪ ،‬أو يقول‪ :‬أوصى‬
‫باللف فلن لهذا الحمل‪ ،‬صح القرار‪ ،‬وكان المبلغ المقر به للحمل‪ ،‬أي الجنين بالتفاق‪.‬‬
‫وحينئذ إن جاءت هند هذه بالولد في مدة يعلم أنه كان قائما وقت القرار‪ ،‬لزم المقر ما أقر به‪ .‬وإن‬
‫جاءت به ميتا‪ ،‬فالمال للموصي والمورث؛ لنه إقرار في الحقيقة لهما‪ ،‬وإنما ينتقل إلى الجنين بعد‬
‫الولدة‪ ،‬ولم ينتقل في الواقع‪ ،‬فيقسم بين ورثة المورث‪ .‬ولو جاءت بولدين حيين‪ ،‬فالمال بينهما‪.‬‬
‫وإن بين المقر سببا مستحيلً في العادة ل يمكن حدوثه من الجنين‪ ،‬كأن قال‪ :‬أقرضني أو باعني شيئا‪،‬‬
‫فالقرار باطل لغ اتفاقا‪.‬‬
‫وإن أبهم القرار‪ ،‬أي أطلقه‪ ،‬فلم يبين سببا صالحا يتصور لثبوت الملك للحمل كالرث والوصية‪ :‬لم‬
‫يصح القرار عند أبي يوسف‪ ،‬قيل‪ :‬وأبو حنيفة معه؛ لنه ل يثبت للجنين شيء من الحقوق المالية‪،‬‬
‫سواء أكان من جهة التجارة والمعاملة‪ ،‬أم من جهة الجناية‪ ،‬ومطلق القرار ينصرف إلى القرار بحق‬
‫ثابت بسبب التجارة‪ ،‬فيعتبر كأن المقر صرح به‪ ،‬وهو غير مقبول منه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ 196/17 :‬ومابعدها‪ ،‬البدائع‪ 223/7 :‬وما بعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪ ،304/6 :‬تبيين‬
‫الحقائق‪ ،11/5 :‬الدر المختار‪ ،474/4 :‬اللباب‪ ،83/2 :‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪.369‬‬
‫(‪ )2‬إذ أن أهلية الجنين أهلية وجوب ناقصة فل يتمكن من ثبوت الحقوق المالية له إل ماكان من‬
‫طريق الرث‪ ،‬أو الوصية‪ ،‬أو الوقف‪ ،‬كما هو معلوم‪.‬‬

‫( ‪)8/233‬‬
‫وقال محمد والشافعي في الظهر ومالك وأحمد‪ :‬يصح القرار للحمل إذا أطلقه المقر‪ ،‬أي لم يسنده‬
‫إلى سبب كإرث أو وصية‪ ،‬ويحمل إقراره على سبب الملكية المتصور للحمل‪ ،‬بأن يحمل على أن هذا‬
‫المبلغ أوصى به رجل‪ ،‬أو مات مورث الحمل وتركه ميراثا له؛ لن القرار حجة شرعية‪ ،‬فإذا صدر‬
‫من أهله في محله‪ ،‬فيجب إعماله‪ ،‬وقد أمكن العمل به على النحو المذكور (‪. )1‬‬
‫هذا هو حكم القرار للحمل‪ .‬وأما القرار بالحمل فجائز اتفاقا‪ ،‬كما إذا أقر بحمل شاة لرجل‪ ،‬صح‬
‫إقراره والتزم المقر بما أقر به‪ ،‬سواء بيّن سببا صالحا لثبوت الملك أو أبهم؛ لن لقراره وجها‬
‫صحيحا‪ :‬وهو الوصية بالحمل من جهة غير المقر‪ ،‬بأن أوصى بالحمل مالك الشاة لرجل‪ ،‬ومات فأقر‬
‫وارثه‪ ،‬وهو عالم بوصية مورثه بأن هذا الحمل لفلن (‪. )2‬‬
‫ثانيا ـ أل يتعلق بالمقر به حق الغير؛ لن حق ا لغير معصوم محترم‪ ،‬فل يجوز إبطاله من غير‬
‫رضاه‪ ،‬كإقرار المريض مرض الموت بدين لوارثه‪ ،‬ل يصح إقراره إل بإجازة بقية الورثة؛ لنه متهم‬
‫في هذا القرار‪ ،‬إذ يجوز أنه آثر بعض الورثة على بعض‪ .‬وسأفصل بحثه في مبحث لحق‪.‬‬
‫واشترط الشافعية شرطين في المقَرّ به‪:‬‬
‫‪ - 1‬أل يكون الحق المقر به ملكا للمقر حين يقرّ به‪ ،‬لن القرار إخبار عن كون الشيء مملوكا‬
‫للمقرّ له‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن يكون الحق المقرّ به في يد المقرّ‪ ،‬ليسلمه بالقرار إلى المقرّ له‪ ،‬وإل لم يتحقق مقتضى‬
‫القرار‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تكملة فتح القدير‪ ،306/6 :‬الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه‪ ،398/3 :‬المهذب‪ 344/2 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ 241/2 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ 141/5 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المراجع السابقة‪ ،‬تكملة فتح القدير‪،308/6 :‬البدائع‪ ،224/7 :‬تبيين الحقائق‪ ،12/5 :‬اللباب‪:‬‬
‫‪.84/2‬‬

‫( ‪)8/234‬‬

‫المطلب الخامس ـ القرار بالموال ‪:‬‬


‫يصح القرار بالموال‪ ،‬سواء أكان المال عينا من العيان‪ ،‬أم دينا ثابتا في الذمة‪ ،‬وسواء أكان المقر‬
‫به معلوما أم مجهولً باتفاق العلماء؛ لن جهالة المقر به ل تمنع صحة القرار؛ لن الحق قد يلزم‬
‫النسان مجهولً بأن أتلف مالً ل يدري قيمته‪ ،‬أو يطالب بتعويض جناية على أعضاء النسان ل يعلم‬
‫مقداره‪ ،‬فل تمنع الجهالة صحة القرار‪ ،‬والقرار‪ :‬إخبار عن ثبوت الحق‪ ،‬فيصح به‪ .‬وحينئذ يصح‬
‫أن يقول المقر‪ :‬علي شيء أو حق‪ ،‬فيلزمه مجهولً‪ ،‬ثم يطالب ببيان المجهول‪،‬‬
‫ليتمكن الغير من استيفائه‪ ،‬فإن لم يبين أجبره القاضي على البيان بالحبس ونحوه؛ لن المقر لزمه‬
‫تفريغ ذمته التي شغلها بصحيح إقراره‪ ،‬ويتم ببيان مقدار المقر به‪.‬‬
‫وهذا بخلف جهالة المقر له‪ ،‬فإن جهالته تفسد القرار؛ لن المجهول ل يصلح مستحقا‪ ،‬وبخلف‬
‫جهالة المقر‪ ،‬فإنها تفسد القرار أيضا لجهالة المقضي عليه بوجوب دفع الحق إلى صاحبه‪ ،‬فل يتمكن‬
‫المقر له من المطالبة‪ ،‬فيصبح القرار عديم الفائدة (‪. )1‬‬
‫وعلى هذا‪ ،‬إن جهالة المقر به ل تمنع صحة القرار‪ ،‬وجهالة المشهود به تمنع صحة الشهادة‬
‫والقضاء؛ لنه ل يمكن القضاء بمجهول‪ ،‬وأما في القرار فيطالب المقر ببيان الشيء أو الحق الذي‬
‫أقر به‪ ،‬والقول قوله مع يمينه‪ .‬ويظهر الحكم في المسائل التية التي تعتبر نموذج القبول عند القاضي‬
‫لبيان ما يبينه المقر‪:‬‬
‫في الغصب ‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬إذا أقر إنسان أنه «غصب من فلن مالً» أو قال «لفلن علي شيء‪ ،‬أو حق» فالقرار صحيح‬
‫ويلزمه أن يبين شيئا له قيمة‪ ،‬ول يقبل منه أن يبين شيئا ل قيمة له‪ ،‬لنه في المثال الول ل يرد‬
‫الغصب إل على ما هو مال‪ ،‬وفي المثال الثاني أخبر المقر عن التزامه شيئا في ذمته‪ ،‬وما ل قيمة له‬
‫ل يلزم في الذمة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبيين الحقائق‪ ،4/5 :‬تكملة فتح القدير‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ ،282‬اللباب‪ ،76/2 :‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ ،469/4‬مغني المحتاج‪ ،247/2 :‬المهذب‪ ،348/2 :‬المغني‪.171/5 :‬‬

‫( ‪)8/235‬‬

‫ً‪ - 2‬وإذا قال‪« :‬غصبت منه شيئا» ثم بين ما ل قيمة له شرعا‪ ،‬بأن قال‪( :‬غصبت صبيا حرا‬
‫صغيرا) أو (خمرا لمسلم) أو (جلد ميتة) يصدق؛ لن هذا مما يغصب عادة‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬ولو قال‪( :‬غصبت شاة أو ثوبا)‪ :‬فيصدق في بيان كون ذلك سليما أو معيبا‪ ،‬أو قال‪( :‬غصبت‬
‫دارا) يصدق سواء أكانت الدار في بلدة قريبة أم بعيدة؛ لن الغصب يقع على حسب ما يصادف‬
‫الشخص عادة‪ ،‬سواء أكان سليما أم معيبا‪ ،‬ويصدق في بيان مكان الدار؛ لنه أبهم المكان‪ ،‬فكان القول‬
‫قوله في بيان المكان‪ ،‬ويلزمه تسليم الدار إلى المغصوب منه إن قدر على التسليم (‪ . )1‬وإن عجز‬
‫عن التسليم‪ ،‬بأن خربت الدار‪ ،‬فالقول قول المقر عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪ ،‬ول يضمن العقار‬
‫عندهما؛ لنه غير مضمون القيمة بالغصب في رأيهما‪ ،‬وإنما هو مضمون الرد فقط؛ لن معنى‬
‫الغصب وهو إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال لم يوجد في العقار‪.‬‬
‫وعند محمد‪ :‬يضمن قية الدار؛ لن العقار عنده مضمون الرد إن كان موجودا‪ ،‬ومضمون القيمة أيضا‬
‫إن كان هالكا؛ لن الغصب إزالة يد المالك عن ماله‪ ،‬والفعل في المال ليس بشرط‪ ،‬وقد تحقق هذا‬
‫المعنى بإبعاد يد المالك عن العقار (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 215/7 :‬ومابعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪ ،286/6 :‬المبسوط‪ ،185/17 :‬مجمع الضمانات‪:‬‬
‫ص ‪.117‬‬
‫(‪ )2‬الخلف بين أئمة الحنفية راجع إلى اختلفهم في ضمان العقار المغصوب بالهلك‪ ،‬فقال أبو‬
‫حنيفة وأبو يوسف‪ :‬إذا غصب رجل عقارا‪ ،‬فهلك في يده بآفة سماوية كغلبة سيل‪ ،‬لم يضمنه‪ ،‬لعدم‬
‫تحقق الغصب بإزالة اليد؛ لن العقار في محله بل نقل‪ ،‬والتبعيد للمالك عنه فعل في المالك‪ ،‬ل في‬
‫العقار‪ ،‬فكان الحال كما إذا بعد المالك عن المواشي‪ .‬وقال محمد‪ :‬يضمنه لتحقق إثبات اليد الغاصبة‬
‫التي يترتب على ثبوتها زوال يد المالك لستحالة اجتماع اليدين على محل واحد في حالة واحدة‪.‬‬
‫فإذا انهدم البناء بفعل الغاصب ضمنه باتفاقهم جميعا؛ لن ما فعله إتلف‪ ،‬والعقار يضمن بالتلف‬
‫(راجع البدائع‪ ،147/7 :‬اللباب شرح مختصر الكتاب‪ )189/2 :‬وراجع بحث الغصب‪.‬‬

‫( ‪)8/236‬‬

‫المكيال والميزان ‪:‬‬


‫ً‪ -4‬لو قال المقر‪( :‬علي مد حنطة أو رطل شعير) فيعتبر بيانه بحسب مد البلد أو رطل البلد الذي‬
‫أقر فيه‪.‬‬
‫الوزن أو العدد ‪:‬‬
‫ً‪ - 5‬لو قال‪( :‬علي ألف درهم) فهو على ما يتعارفه أهل البلد من اعتبار الوزن أو العدد‪ .‬فإن لم يكن‬
‫شيئا متعارفا‪ ،‬فيحمل على الوزن؛ لن الدراهم في الصل موزونة‪ .‬ويلحظ أن المعتبر في عرفنا‬
‫اليوم هو العدد‪ ،‬فإذا أقر بألف ليرة ذهبية أو فضية‪ ،‬فينصرف إقراره إلى العدد‪ ،‬فيلزم بهذا المبلغ‬
‫عددا‪ ،‬ل وزنا؛ لن الوزان متحدة عند سك النقود‪.‬‬
‫المقصود بدريهم ونحوه ‪:‬‬
‫ً‪ - 6‬لو قال‪ ( :‬لفلن علي دريهم أو دنينير ) فيلزم بدرهم تام ودينار كامل؛ لن التصغير قد يذكر‬
‫لصغر الحجم‪ ،‬وقد يذكر لستحقار الدرهم‪ ،‬ونحوهما‪.‬‬
‫المقصود بدراهم ودنانير ‪:‬‬
‫ً‪ - 7‬لو قال‪ ( :‬لفلن علي دراهم أو دنانير) فيصدق على ثلثة فأكثر؛ لن أقل الجمع الصحيح ثلثة‪.‬‬

‫( ‪)8/237‬‬

‫ولو قال‪ ( :‬علي دراهم كثيرة ) يصدق في عشرة دراهم عند أبي حنيفة؛ لنه جعل الكثرة صفة‬
‫للدراهم‪ ،‬وأكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم هو العشرة‪ ،‬بدليل أنه إذا زاد على العشرة يقال‪ :‬أحد عشر‬
‫درهما‪ ،‬واثنا عشر درهما‪ ،‬ول يقال‪ :‬دراهم‪ ،‬فكانت العشرة أكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم‪ ،‬فل‬
‫تلزمه الزيادة عليها‪ .‬وعند الصاحبين‪ :‬ل يصدق في أقل من مئتي درهم؛ لن المقر به دراهم كثيرة‪،‬‬
‫وما دون المئتين في حد القلة‪ ،‬ولهذا لم يعتبر ما دونه نصابا للزكاة‪.‬‬
‫مفهوم المال العظيم أو الكبير ‪:‬‬
‫ً‪ 8‬ـ لو قال المقر‪ ( :‬لفلن علي مال عظيم ) أو ( كثير ) أو ( كبير ) ‪ :‬فعليه مئتا درهم باتفاق‬
‫الحنفية على المشهور عندهم؛ لنه أقر بمال موصوف بوصف العظم‪ ،‬ونصاب الزكاة‪ ،‬أي المال الذي‬
‫تجب فيه الزكاة‪ :‬وهو المئتا درهم عظيم شرعا وعرفا‪ ،‬بدليل أنه اعتبر مالكه غنيا به‪ ،‬فأوجب عليه‬
‫الشرع مواساة الفقراء‪ ،‬والغني عظيم عند الناس‪ ،‬حتى إنه يعد من الغنياء عادة بملكه النصاب‬
‫الشرعي‪.‬‬
‫هذا إذا كان المقر به من الدراهم‪ ،‬فإن كان من غيرها فيقدر بأقل النصاب الشرعي الواجب فيه الزكاة‬
‫فيها‪ ،‬فإذا قال‪ ( :‬علي دنانير كثيرة ) فيلزمه عشرون‪ ،‬وفي البل خمس وعشرون‪ ،‬وفي الحنطة‬
‫خمسة أوسق أي (‪ )653‬كغ تقريبا‪.‬‬
‫وإن قال‪ ( :‬علي أموال عظام ) فعليه ست مئة درهم؛ لن عظام جمع عظيم‪ ،‬وأقل الجمع الصحيح‬
‫ثلثة‪ ،‬وهذا على المشهور عند الحنفية (‪. )1‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬لو أقر بمال أو بمال عظيم أو كبير أو كثير‪ :‬قبل في تفسيره قليل المال وكثيره‪ ،‬لن‬
‫ما من مال إل وهو عظيم وكثير بالنسبة إلى ما هو دونه‪.‬‬
‫وقال المالكية والشافعية والحنابلة‪ :‬إن قال‪ ( :‬له علي دراهم ) لزمه ثلثة؛ لنه جمع‪ ،‬وأقل الجمع‬
‫ثلثة‪ ،‬وكذلك يلزمه ثلثة عند الشافعية والحنابلة إن قال‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع لما سبق‪ :‬المبسوط‪ 4/18 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 219/7 :‬وما بعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪:‬‬
‫‪ 288/6‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ 5/5 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ 469/4 :‬وما بعدها‪ ،‬اللباب‪.77/3 :‬‬

‫( ‪)8/238‬‬

‫(له علي دراهم كثيرة)؛ لن الكثرة والعظمة ل حد لهاشرعا ول لغة ول عرفا‪ ،‬وتختلف بحسب‬
‫النسب والضافة وأحوال الناس‪ ،‬فالثلثة أكثر مما دونها‪ ،‬وأقل مما فوقها‪ .‬وقال المالكية‪ :‬يلزمه‬
‫أربعة؛ لن الرابع أول مبادئ كثرة الجمع (‪. )1‬‬
‫المقصود بنوع الدراهم‪ :‬إذا قال المقر‪( :‬لفلن علي ألف درهم) ولم يبين سبب اللتزام من بيع أو‬
‫قرض ونحوهما‪ :‬ثم قال‪( :‬هي زيوف) فيصدق إذا كان البيان متصلً بالكلم السابق‪ ،‬فإن كان منفصلً‬
‫ل يصدق‪ ،‬لن اسم الدراهم اسم جنس يقع على الجياد والزيوف‪ ،‬فكان قوله (زيوف) بيانا للنوع‪،‬‬
‫فيصح بشرط كونه متصلً بما سبق‪ ،‬ل منفصلً عنه‪.‬‬
‫ولو قال‪ ( :‬لفلن عندي ألف درهم ) ثم قال‪ ( :‬هي زيوف )‪ :‬يصدق سواء أكان البيان متصلً بما‬
‫قبله أم منفصلً؛ لن هذا إقرار بالوديعة‪ ،‬والوديعة مال محفوظ عند الوديع‪ ،‬قد يكون جيدا‪ ،‬وقد يكون‬
‫رديئا‪ .‬والغصب في هذا مثل الوديعة‪.‬‬
‫فإن قال‪ ( :‬لفلن علي ألف درهم ثمن مبيع ) أي بين سبب اللتزام‪ ،‬ثم قال‪ ( :‬هي زيوف ) فل‬
‫يصدق‪ ،‬ويلزمه الجيد عند أبي حنيفة‪ ،‬سواء أكان البيان متصلً أم منفصلً؛ لن البيع عقد معاوضة‪،‬‬
‫فيتطلب سلمة العوضين عن العيوب؛ لن كل عاقد ل يرضى إل بالعوض السليم عن العيب‪ ،‬فكان‬
‫إقراره بكون الدراهم ثمنا إقرارا بصفة السلمة عن العيوب‪ ،‬فيعتبر بيانه بعدئذ بالزيافة رجوعا عن‬
‫القرار‪ ،‬والرجوع عن القرار ل يصح‪ ،‬كما إذا قال‪ ( :‬بعتك هذا الثوب على أنه معيب ) ل يصدق‬
‫وإن كان بيانه متصلً بما قبله‪ ،‬فكذا الحالة التي هنا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي‪ ،407/3 :‬المهذب‪ 347/2 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،248/2‬المغني‪.160/5 :‬‬

‫( ‪)8/239‬‬

‫وقال الصاحبان‪ :‬يصدق إن وصل كلمه بأصل القرار‪ ،‬وإن فصل ل يصدق؛ لن اسم ( الدراهم )‬
‫كما يطلق على الجياد‪ ،‬يطلق على الزيوف؛ لن «الدراهم » اسم جنس‪ ،‬والجيد والرديء نوعان منها‪،‬‬
‫فإذا أطلق لفظ ( الدراهم ) انصرف إلى الجياد‪ ،‬فيصح بيان المقر إذا كان متصلً بما قبله‪ ،‬لتعيينه‬
‫بعض ما يحتمله اللفظ‪ ،‬ول يصح منفصلً‪ ،‬حتى ل يكون رجوعا عن القرار‪.‬‬
‫ولو قال‪ ( :‬لفلن علي ألف درهم قرضا ) ثم قال‪( :‬هي زيوف) ففيه روايتان‪ :‬رواية بالتفصيل مثل‬
‫قول الصاحبين في البيع‪ :‬إن وصل يصدق وإن فصل ل يصدق‪ ،‬ورواية تقرر أنه ل يصدق مثل قول‬
‫أبي حنيفة في البيع؛ لن القرض في الحقيقة مثل البيع‪ :‬مبادلة مال بمال‪.‬‬
‫الختلف بين المقر والمقر له في اقتضاء الدين أو صفة وجود الشيء عند المقر‪:‬‬
‫لو قال‪ ( :‬اقتضيت من فلن ألف درهم كانت لي عليه) أو قال‪( :‬استوفيت) أو(قبضت) أو (أخذت)‬
‫وأنكر المقر له‪ ،‬فقال ‪( :‬لم يكن لك علي شيء) وقال‪( :‬هو مالي قبضته مني) فالقول قول المقر له مع‬
‫يمينه‪ ،‬ويؤمر المقر برد اللف إلى المقر له‪ ،‬لن القرار بالقتضاء إقرار بالقبض‪ ،‬والقبض موجب‬
‫للضمان‪ ،‬فهو بادعائه القبض على أساس اقتضاء اللف دينا له‪ ،‬يدعي براءته عن الضمان‪ ،‬والخر‬
‫ينكر فيكون القول قوله مع يمينه‪.‬‬
‫وكذلك إذا أقر الشخص أنه قبض من آخر ألف درهم كانت وديعة عنده‪ ،‬وأنكر المقر له‪ ،‬قائلً‪( :‬بل‬
‫أخذتها غصبا) فالقول قول المقر له‪ ،‬لما بينت‪.‬‬

‫( ‪)8/240‬‬

‫أما لو قال‪( :‬أودعني فلن ألف درهم) فقال فلن هذا‪( :‬ل‪ ،‬بل أخذتها غصبا)‪ :‬فالقول قول المقر مع‬
‫يمينه؛ لن المقر ما أقر بسبب الضمان وهو الخذ أو القبض‪ ،‬بخلف ما سبق (‪. )1‬‬
‫الستثناء في القرار‪ :‬إن استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه جائز بغير خلف‪ ،‬فهو ثابت في لغة‬
‫العرب‪ ،‬وورد في الكتاب والسنة‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬فلبث فيهم ألف سنة إل خمسين عاما} [العنكبوت‪:‬‬
‫‪ ]29/14‬وقال‪{ :‬فسجد الملئكة كلهم أجمعون إل إبليس} [الحِجر‪ ]15/30:‬وقال النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم في الشهيد‪ « :‬يكفّر عنه خطاياه كلها إل الدين» (‪. )2‬‬
‫فإذا أقر رجل بشيء واستثنى منه‪ ،‬كان مقرا بالباقي بعد الستثناء‪ ،‬فإذا قال‪( :‬له علي مئة إل عشرة)‬
‫كان مقرا بتسعين‪ ،‬ولذا قال في تعريف الستثناء‪ :‬إنه تكلم بالباقي بعد الثُنْيا (‪. )3‬‬
‫ول يصح الستثناء إل أن يكون متصلً بالكلم السابق‪ ،‬بأن يتصل المستثنى بالمستثنى منه بحيث يعد‬
‫معه كلما واحدا عرفا‪ ،‬فل يصح الفصل بسكوت طويل وكلم أجنبي؛ لن الستثناء مغاير لما قبله‪،‬‬
‫وليضر الفصل اليسير لعارض كسكتة تنفس أو عي أو تذكر أو انقطاع صوت أو سعال أو عطاس‪،‬‬
‫ويصح استثناء القليل من الكثير اتفاقا‪ ،‬كما يصح عند الحنفية فقط استثناء الكثير من القليل في ظاهر‬
‫الرواية‪ .‬وليصح استثناء الكل من الكل بغير خلف؛ لن الستثناء رفع بعض ما تناوله اللفظ‪،‬‬
‫واستثناء الكل رفع الكل‪ ،‬فلو صح الستثناء صار الكلم لغوا غير مفيد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع البدائع‪ 217/7 :‬وما بعدها‪ ،‬المبسوط‪ ،126/18 :‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،115‬مجمع‬
‫الضمانات‪ :‬ص ‪.376‬‬
‫(‪ )2‬هذا مأخوذ من مفهوم حديث طويل رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أنس‪ ،‬وأخرج مسلم عن‬
‫عبد ال بن عمرو أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬القتل في سبيل ال يكفر كل شيء إل‬
‫الدين» (التاج الجامع للصول‪ ،297/4 :‬اللمام‪ :‬ص ‪.)483‬‬
‫(‪ )3‬بضم فسكون فألف مقصورة في آخره‪ :‬اسم من الستثناء‪.‬‬

‫( ‪)8/241‬‬

‫ويجوز الستثناء من الستثناء‪ ،‬بالعطف أو بدونه مثل‪« :‬علي عشرة إل ثلثة وإل درهمين» فيكون‬
‫مستثنيا لخمسة مبقيا لخمسة‪ ،‬ومثل قوله تعالى‪{ :‬قالوا‪ :‬إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين‪ ،‬إل آل لوط إنا‬
‫لمنجوهم أجمعين‪ ،‬إل امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} [الحِجر‪.]60-58/15:‬‬
‫ويصح عند المالكية والشافعية الستثناء في القرار من غير الجنس‪ ،‬ول يصح ذلك عند الحنفية‬
‫والحنابلة (‪ . )1‬وتفصيله يعرف من التطبيقات التية‪:‬‬
‫واشترط الفقهاء أيضا شرطا آخر‪ :‬وهو أل يستغرق المستثنى المستثنى منه‪ ،‬فيصح القرار إذا قال‬
‫المقر‪ :‬له علي خمسة إل أربعة‪ ،‬ول يصح إذا قال‪ :‬له علي خمسة إل خمسة‪ ،‬فاستثناؤه باطل‪ ،‬وتلزمه‬
‫الخمسة كلها؛ لنه أقرّ بها‪.‬‬
‫‪ - 1‬استثناء القليل من الكثير ‪:‬‬
‫إذا قال المقر‪( :‬علي عشرة دراهم إل ثلثة دراهم) يلزمه سبعة دراهم‪ ،‬لن الستثناء تكلم بالباقي بعد‬
‫الثنيا‪ ،‬كأنه قال‪ :‬لفلن علي سبعة دراهم‪.‬‬
‫وكذا إذا قال‪( :‬علي ثلثة دراهم غير درهم) يلزمه درهمان؛ لن كلمة (غير) بالنصب تفيد الستثناء‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬لفلن علي ألف درهم سوى ثلثة دراهم) يلزمه ما عدا المستثنى؛ لن (سوى) من ألفاظ‬
‫الستثناء‪.‬‬
‫وكذا إذا قال‪( :‬علي ثلثة دراهم إل درهما) فعليه درهمان‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬علي عشرة إل ثلثة) يلزمه سبعة‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬إل سبعة) يلزمه ثلثة؛ لن الستثناء تكلم بالباقي بعد الستثناء‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،191/17 :‬البدائع‪ 209/7 :‬وما بعدها‪ ،‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪ ،371‬تكملة فتح القدير‪:‬‬
‫‪ ،390/6‬تبيين الحقائق‪ ،13/5 :‬الدر المختار‪ ،478/4 :‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،114‬اللباب‪،78/2 :‬‬
‫الشرح الكبير للدردير‪ 410/3 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،257/2 :‬المهذب‪ ،349/2 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ 142/5‬وما بعدها‪.162 ،‬‬

‫( ‪)8/242‬‬

‫ولو قال‪( :‬لفلن علي ألف إل قليلً) فعليه أكثر من نصف اللف‪ ،‬والقول قول المقر في الزيادة على‬
‫النصف مع يمينه؛ لن القليل من أسماء النسبة أو الضافة‪ ،‬فيقتضي أن يكون ما يقابله أكثر منه‪،‬‬
‫ليكون هو بالضافة إليه قليلً‪.‬‬
‫وكذا إذا قال‪( :‬علي قريب من اللف) أو (زهاء ألف) أو (عُظْم اللف)‪ ،‬لن هذا أكثر من النصف‬
‫بيقين‪ ،‬وفي ا لزيادة‪ :‬القول قوله‪.‬‬
‫‪ - 2‬استثناء الكثير من القليل ‪:‬‬
‫إذا قال المقر‪( :‬لفلن علي تسعة دراهم إل عشرة) فيجوز الستثناء في ظاهر الرواية عند الحنفية‪،‬‬
‫ويلزمه العشرة؛ لن الستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا‪ ،‬وهذا المعنى متحقق في استثناء الكثير من‬
‫القليل‪ ،‬إل أنه مستقبح في كلم العرب؛ لن الستثناء لستدراك الغلط‪ ،‬ومثل هذا الغلط مما يندر‬
‫وقوعه غاية الندرة‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف وبقية علماء المذاهب‪ :‬ل يجوز هذا الستثناء؛ لنه لم يرد في كلم العرب‪.‬‬
‫‪ - 3‬استثناء الكل من الكل ‪:‬‬
‫هو مثل أن يقول شخص‪( :‬لفلن علي عشرة دراهم إل عشرة) يكون الستثناء لغيا بالتفاق‪ ،‬ويلزمه‬
‫جميع ما أقر به قبل الستثناء وهو عشرة دراهم؛ لن هذا ليس باستثناء‪ ،‬وإنما هو رجوع عما تكلم‬
‫به‪ ،‬والرجوع عن القرار في حقوق الناس ل يصح‪ ،‬فبطل الرجوع‪ ،‬وبقي القرار‪.‬‬
‫‪ - 4‬الستثناء من الستثناء ‪:‬‬
‫الستثناء من الستثناء يكون استثناء المستثنى‪،‬أي من الكلم الذي يليه‪ ،‬لكونه أقرب المذكور إليه‪ ،‬ثم‬
‫ينظر إلى الباقي من المستثنى‪ ،‬فيستثنى من المستثنى منه‪ ،‬أي ما قبل (إل) أو غيرها من أدوات‬
‫الستثناء‪ ،‬مثل أن يقول‪( :‬علي عشرة دراهم إل ثلثة إل درهما) يكون إقرار بثمانية؛ لننا صرفنا‬
‫الستثناء الخير إلى ما يليه‪ ،‬فبقي درهمان يستثنيان من العشرة‪ ،‬فيبقى ثمانية‪.‬‬

‫( ‪)8/243‬‬

‫ولو قال‪( :‬لفلن علي عشرة دراهم إل خمسة إل ثلثة إل درهما) يكون إقررا بسبعة؛ لنا جعلنا‬
‫الدرهم مستثنى مما يليه‪ ،‬وهي ثلثة‪ ،‬فبقي درهمان استثناها المقر من خسمة‪ ،‬فبقي ثلثة استثناها من‬
‫أصل المستثنى منه فبقي سبعة‪ .‬وهكذا‪.‬‬
‫‪ - 5‬الستثناء من غير الجنس (أو الستثناء المنقطع ) ‪:‬‬
‫قال أبو حنيفة وأبو يوسف‪ :‬إذا كان الستثناء من غير جنس المستثنى منه ينظر‪ :‬إن كان المستثنى‬
‫مما ل يثبت دينا في الذمة مثل‪( :‬لفلن علي عشرة دراهم إل ثوبا) ل يصح الستثناء؛ لن المستثنى‬
‫منه وهو العشرة دراهم ثبت بالقرار دينا في الذمة‪ ،‬وأما المستنثى وهو الثوب‪ :‬فهوعين من العيان‬
‫ل يحتمل الثبوت واللتزام به في الذمة‪ ،‬فل يكون من جنس المستثنى منه‪ ،‬إذ ل مجانسة بين الثياب‬
‫والدراهم‪ ،‬ل في السم ول في احتمال اللتزام به في الذمة‪ ،‬فل يتحقق معنى الستثناء أصلً‪ .‬ثم إنه‬
‫ل يعرف قدر الثوب من الدراهم‪ ،‬فيكون المستثنى مجهولً‪ ،‬وجهالة المستثنى توجب جهالة المستثنى‬
‫منه‪ ،‬فل يصح الستثناء‪.‬‬
‫وأما إن كان المستثنى مما يثبت دينا في الذمة وهو المكيل والموزون والعددي المتقارب كالجوز‬
‫والبيض‪ ،‬بأن قال‪( :‬لفلن علي مئة درهم إل دينارا أو إل قفيز حنطة) صح الستثناء عند الشيخين‬
‫من الحنفية‪ ،‬ويلزمه مئة درهم إل قدر قيمة ما استثناه من الدينار أو القفيز؛ لن المجانسة بين‬
‫المستثنى والمستثنى منه شرط عندهما‪ ،‬والمجانسة بين الدينار والدرهم متحققة إذ أن كلً منهما من‬
‫جنس الثمان التي تقدر بها قيم الشياء‪ ،‬والمجانسة بين الدراهم والمكيل والموزون ونحوها متحققة‬
‫ل منها يمكن أن يثبت دينا في الذمة حالً مؤجلً‪ ،‬وذلك إذا وصف المكيل أو الموزون‪،‬‬
‫أيضا؛ لن ك ً‬
‫ويكفي تحقق المجانسة بهذا المعنى‪.‬‬

‫( ‪)8/244‬‬

‫وقال محمد وزفر والحنابلة‪ ،‬ل يصح الستثناء في القرار من غير الجنس مطلقا‪ ،‬سواء أكان‬
‫المستثنى ثوبا أم مكيلً أم موزونا؛ لن معنى الستثناء ـ وهو (إخراج بعض ما تناوله المستثنى منه‬
‫على معنى أنه لول الستثناء لكان داخلً تحت اللفظ) ـ ل يتصور في خلف الجنس‪ ،‬فغير الجنس‬
‫المذكور ليس بداخل في الكلم‪ ،‬فل يكون استثناء‪.‬‬
‫وقال مالك والشافعي‪ :‬يصح الستثناء من غير جنس المستثنى منه‪ ،‬مثل (لفلن علي ألف من الدراهم‬
‫إل ثوبا) يعني إل قدر قيمة ثوب؛ لنه ورد في القرآن الكريم ولغة العرب‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬وإذ قلنا‬
‫للملئكة‪ :‬اسجدوا لدم‪ ،‬فسجدوا إل إبليس كان من الجن} [الكهف‪ ]18/50:‬وقال ال تعالى‪{ :‬فإنهم عدو‬
‫لي إل رب العالمين} [الشعراء‪ ]77/26:‬وقال سبحانه‪{ :‬ما لهم به من علم إل اتباع الظن} [النساء‪:‬‬
‫‪ ]157/4‬وقال ال عز وجل‪{ :‬ل يسمعون فيها لغوا إل سلما} [مريم‪ ]62/19:‬وقال الشاعر‪:‬‬
‫وبلدةٍ ليس بها أنيس ‪ ..... .....‬إل اليعافير‪،‬وإل العيس (‪)1‬‬
‫‪ - 6‬الستثناء أو التعليق بمشيئة ال ‪:‬‬
‫اتفق الحنفية‪ ،‬والشافعية على المذهب على أن المقر إذا قال‪( :‬لفلن علي ألف إن شاء ال ) أو (إل أن‬
‫يشاء ال ) لم يلزمه شيء‪ ،‬سواء قدّم اللف على المشيئة أم ل؛ لنه لم يجزم اللتزام‪ ،‬بل علقه‬
‫بالمشيئة‪ ،‬ومشيئة ال مغيبة عنا‪ .‬وكذلك ل يلزمه شيء إذا قال‪( :‬لفلن علي ألف درهم إن شاء فلن)‬
‫فالقرار باطل؛ لن مشيئة غير ال ل توجب شيئا (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أي رب بلدة‪ ،‬الواو بمعنى رب‪ ،‬واليعافير ـ جمع يعفور‪ :‬وهو ولد الظبية‪ ،‬وولده البقرة‬
‫الوحشية‪ ،‬والعيس‪ :‬البل البيض واحدها أعيس‪ ،‬والنثى عيساء‪ ،‬وهو استثناء منقطع‪ ،‬معناه‪ :‬الذي‬
‫يقوم مقام النيس‪ :‬اليعافير والعيس‪.‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير مع العناية‪ ،314/6 :‬تبيين الحقائق‪ ،15/5 :‬اللباب‪ ،79/2 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪.255/2‬‬

‫( ‪)8/245‬‬

‫العطف في القرار ‪:‬‬


‫لو قال المقر‪( :‬علي درهم ودرهم) أو (درهم فدرهم) أو (درهم ثم درهم)‪ :‬لزمه درهمان عند الحنفية‬
‫والحنابلة والمالكية؛ لن حرف العطف يقتضي الجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه‪.‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬إن أقر بدرهم في وقت‪ ،‬ثم أقر بدرهم في وقت آخر‪ :‬لزمه درهم واحد‪ ،‬لنه إخبار‪،‬‬
‫فيجوز أن يكون قوله خبرا عما أخبر به أولً‪ ،‬وهذا مذهب الحنابلة أيضا خلفا للحنفية‪ .‬وإن قال‪:‬‬
‫(علي درهم ودرهم) أو (درهم ثم درهم)‪ :‬لزمه درهمان؛ لن الواو تقتضي أن يكون المعطوف غير‬
‫المعطوف عليه‪ .‬وإن قال‪( :‬درهم فدرهم) لزمه درهم واحد إذا لم يرد العطف؛ لنه يحتمل الصفة‬
‫أي فدرهم لزم لي أو أجود منه (‪. )1‬‬
‫وقال الحنفية (‪ : )2‬لو قال المقر‪( :‬علي ألف ونيّف) فعليه اللف‪ ،‬والقول قوله في بيان النيف؛ لنه‬
‫عبارة عن الزيادة‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬لفلن علي بضع وخمسون درهما) ل يصدق في بيان البضع في أقل من ثلثة دراهم؛ لن‬
‫البضع في اللغة من الثلثة إلى التسعة‪ ،‬فيحمل على أقل المتعارف؛ لنه متيقن به‪.‬‬
‫ولو قال‪( :‬علي لفلن مئة درهم) فالمائة‪ :‬دراهم‪ .‬ولو قال‪( :‬مئة ودينار) فالمائة‪ :‬دنانير‪ ،‬ويكون‬
‫المعطوف عليه من جنس المعطوف‪ ،‬وهذا هو الحكم أيضا في كل مكيل وموزون وعددي متقارب؛‬
‫لنها تثبت دينا في الذمة‪.‬‬
‫أما في عروض السلع كالثياب والعددي المتفاوت كالبطيخ والرمان ونحوهما‪ ،‬بأن قال‪( :‬علي مئة‬
‫وثوب) أو (عشرة ودابة) أو (ألف ورمانة) فيلزمه المعطوف المسمى وهو الثوب أو الدابة ونحوهما‪.‬‬
‫والمرجع في بيان المعطوف عليه وهو المئة وغيرهما إليه‪ ،‬لعطفه مفسرا على مبهم‪ ،‬والعطف لم‬
‫يوضع للبيان‪ ،‬فبقيت المئة مبهمة‪ ،‬فيرجع في البيان إليه؛ لنه هو الذي أبهم الكلم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ ،157/5 :‬المهذب‪ ،348/2 :‬مغني المحتاج‪ 252/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الشرح الكبير للدردير‪:‬‬
‫‪.407/3‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،222/7 :‬اللباب شرح الكتاب‪ ،79/2 :‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،473/4 :‬تكملة فتح‬
‫القدير‪ ،299/6 :‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪.113‬‬

‫( ‪)8/246‬‬

‫الستدراك في القرار ‪:‬‬


‫الستدراك إما أن يكون في الصفة أو في القدر‪ ،‬والستدراك في القدر إما أن‬
‫يكون في نفس الجنس‪ ،‬أو في غير الجنس‪ ،‬فهذه ثلثة أنواع للستدراك (‪. )1‬‬
‫‪ - 1‬الستدراك في الصفة‪ :‬بأن يقول‪( :‬علي قفيز حنطة جيدة‪ ،‬ل بل وسط) فيلزمه الجود عند‬
‫الحنفية؛ لنه غير متّهم في زيادة الصفة‪ ،‬متّهم في نقصان الصفة‪ ،‬فكان مستدركا في الجيد‪ ،‬راجعا في‬
‫الوسط‪ ،‬فيصح استدراكه‪ ،‬ول يصح الرجوع عن القرار‪.‬‬
‫‪ - 2‬الستدراك في القدر في نفس الجنس‪ :‬بأن يقول‪( :‬علي ألف درهم‪ ،‬ل بل ألفان) أو قال‪( :‬علي‬
‫دينار‪ ،‬ل بل ديناران) فيلزمه الكثر في المذاهب الربعة؛ لن القرار إخبار‪ ،‬والمخبر عنه مما‬
‫يجري الغلط في قدره أو صفته عادة‪ ،‬فيحتاج إلى استدراك الغلط فيه‪ ،‬فيقبل الستدراك إذا لم يكن‬
‫متهما فيه؛ لنه نفى القتصار على درهم واحد أو دينار واحد‪ ،‬وأثبت الزيادة عليه‪.‬‬
‫‪ - 3‬الستدراك في القدر بخلف الجنس‪ :‬بأن يقول‪( :‬علي ألف درهم‪ ،‬ل بل مئة دينار) أو (علي‬
‫قفيز حنطة‪ ،‬بل قفيز شعير)‪ :‬وحكمه أنه يلزمه جميع ما أقر به عند جمهور الفقهاء؛ لن الغلط في‬
‫خلف الجنس ل يقع عادة‪ ،‬فل يحتاج لستدراكه‪ ،‬ولن ما قبل الستدراك ل يمكن أن يكون نفس ما‬
‫بعده ول بعضه‪ ،‬فكان مقرا بهما‪ ،‬ول يقبل رجوعه عن شيء منهما‪.‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬لو قال المقر‪( :‬علي درهم‪ ،‬ل بل ديناران) فإن الدرهم يسقط‪ ،‬ويلزمه الديناران؛ لن‬
‫(بل) نقلت حكم الول للثاني‪ ،‬و (ل) للتأكيد على مذهب جمهور النحاة (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ :‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،212‬المبسوط‪ 103/18 :‬وما بعدها‪ ،‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪.377‬‬
‫(‪ )2‬راجع البدائع‪ ،212/7 :‬الشرح الكبير‪ ،407/3 :‬مغني المحتاج‪ ،253/2 :‬المهذب‪،348/2 :‬‬
‫المغني‪ 158/5 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/247‬‬

‫المطلب السادس ـ القرار في حال الصحة وفي حال المرض ‪:‬‬


‫المراد بالصحيح‪ :‬من ليس في مرض الموت‪ ،‬سواء أكان غير مريض أصلً أم مريضا بغير مرض‬
‫الموت‪.‬‬
‫والمراد بالمريض‪ :‬من هو في مرض الموت (‪ . )1‬فالمقصود من المرض والصحة هو المعنى‬
‫الشرعي الذي تتبدل به الحكام بحسب حالة كل منهما‪ ،‬وذلك في الطلق والوصايا والقرار‬
‫وغيرهما‪ ،‬وليس المقصود بهما المعنى اللغوي‪.‬‬
‫ومرض الموت‪ :‬هو المرض الذي يعجز صاحبه عن ممارسة أعماله المعتادة على أن يكون مما‬
‫يخاف منه الهلك غالبا‪ ،‬ويتصل به الموت فعلً‪ .‬فهذه ثلث صفات لبد من تحقيقها كلها‪ ،‬بحيث لو لم‬
‫تتحقق واحدة منهن لم يعتبر المرض مرض موت‪ .‬فلو كان المرض يسيرا ل يمنع صاحبه من القيام‬
‫بشؤون نفسه كما يعتاده الصحيح‪ ،‬أو كان مما تغلب النجاة منه عادة‪ ،‬ولو مات منه فعلً‪ ،‬أو كان مما‬
‫يخاف منه الهلك غالبا‪ ،‬ولكنه لم يمت فعلً‪ ،‬فإنه ل يعد مرض موت‪ ،‬وحينئذ يعتبر تصرف المريض‬
‫فيه كتصرف الصحيح في الصحة والنفاذ (‪. )2‬‬
‫والقرار في حال الصحة‪ :‬يصح للوارث والجنبي‪ ،‬وينفذ من جميع مال المقر‪ ،‬لعدم تعلق حق الورثة‬
‫بماله في حال الصحة‪ ،‬بل يثبت الدين في الذمة‪ ،‬وإنما يتعلق الدين بالتركة حالة المرض‪ ،‬أي يتعين‬
‫فيها وينتقل من الذمة إليها‪ .‬وعلى هذا فل يقدم الدين السابق على اللحق‪ ،‬ويتساوى الغرماء أي‬
‫(الدائنون) في أخذ حقوقهم إذا صار المدين مريضا‪ ،‬فليس لحد أفضلية على الخرين‪ ،‬ول يحق‬
‫للمدين أن يؤثر في حال مرضه بعض الغرماء على بعض‪ ،‬بعكس حال الصحة‪ ،‬فإن له أن يؤثر‬
‫البعض‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المدخل الفقهي العام للستاذ الزرقاء‪ :‬ص ‪ ،795‬الطبعة السادسة‪.‬‬
‫(‪ )2‬اللباب شرح الكتاب‪ ،84/2 :‬أصول الفقه للمؤلف‪ ،173/1 :‬ط دار الفكر‪.‬‬

‫( ‪)8/248‬‬

‫والقرار في المرض نوعان‪ :‬إقرار باستيفاء الدين من غيره‪ ،‬وإقرار بالدين لغيره‪.‬‬
‫أما إقرار المريض باستيفاء الدين من غيره‪ :‬فيصح إذا كان الدين على أجنبي في حال الصحة‪ ،‬ول‬
‫يصح إذا كان الدين ناشئا حال المرض لتعلق حق الغرماء بمال المريض‪ .‬كذلك ل يصح إذا أقر‬
‫باستيفاء دين وجب له على وارث؛ لن إقراره بالستيفاء إقرار بالدين‪ ،‬وإقرار المريض لوارثه باطل‪.‬‬
‫وأما إقرار المريض بالدين لغيره‪ :‬فإن كان إقرارا لجنبي جاز عند أكثر العلماء؛ لنه غير متهم به‬
‫في حقه‪ ،‬قال عمر وابنه عبد ال ‪ ( :‬إذا أقر المريض بدين لجنبي‪ ،‬جاز ذلك من جميع تركته)‪.‬‬
‫وإن كان إقرارا بالدين لوارث‪ :‬لم يصح إقراره عند الحنفية والحنابلة إل ببينة أو بموافقة بقية الورثة‬
‫أو بمشاهدة القاضي؛ لنه متهم في هذا القرار‪ ،‬لجواز أنه آثر بعض الورثة على بعض‪ ،‬ولنه تعلق‬
‫حق الورثة بماله في مرضه‪ ،‬ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلً‪.‬‬
‫وقال عمر وابنه في الثر السابق‪( :‬إذا أقر المريض لوارثه لم يجز) وروى الدراقطني في سننه عن‬
‫جعفر بن محمد عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪( :‬لوصية لوارث‪ ،‬ول إقرار له‬
‫بالدين) (‪ )1‬إل أن هذه الزيادة في الحديث غير مشهورة‪ ،‬وإنما المشهور هو قول ابن عمر السابق‪.‬‬
‫فإن صدق المقر بقية الورثة فيما أقر به لواحد منهم صح القرار؛ لن المانع تعلّق حقهم في التركة‪،‬‬
‫فإذا صدقوه زال المانع (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬هذا حديث مرسل‪ :‬وفيه نوح بن درّاج ضعيف‪ ،‬وأسنده أبو نعيم الحافظ‪ ،‬ثم ذكر ما معناه أنه‬
‫روي مرسلً أيضا‪ ،‬قال ابن القطان‪ :‬وهو الصواب (نصب الراية‪.)111/4 :‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،31 ،24/18 :‬البدائع‪ ،224/7 :‬تكملة فتح القدير‪ 8/7 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ ،481/4‬المغني‪ ،197/5 :‬تبيين الحقائق‪.25/5 :‬‬

‫( ‪)8/249‬‬

‫وهنا ذكر فقهاء الحنفية (‪ )1‬مسائل‪ ،‬فقالوا‪ :‬من أقر بدين لجنبي عنه في مرض موته ثم قال‪ :‬هو‬
‫ابني‪ ،‬ثبت نسبه منه وبطل إقراره له؛ لن دعوى النسب تستند إلى وقت العلوق (بدء الحمل) فتبين أنه‬
‫أقر لبنه فل يصح إقراره‪.‬‬
‫ولو أقر لجنبية‪ ،‬ثم تزوجها‪ ،‬لم يبطل إقراره لها؛ لن الزوجية طارئة يقتصر وجودها على زمان‬
‫التزوج‪.‬‬
‫ومن طلق زوجته في مرض موته طلقا ثلثا أو أقل بطلب منها ثم أقر لها بدين ومات وهي في‬
‫العدة‪ ،‬فلها القل من الدين الذي أقر به‪ ،‬ومن ميراثها منه؛ لن الزوجين متهمان في ذلك‪ ،‬لجواز أن‬
‫يكونا توصل بالطلق إلى تصحيح القرار‪ ،‬فيثبت أقل المرين‪ .‬فإن تم الطلق بغير طلب المرأة‪،‬‬
‫كان الزوج فارّا بطلقه لحرمانها من الميراث‪ ،‬فلها الميراث بالغا ما بلغ ويبطل القرار‪ .‬وإذا انقضت‬
‫عدتها قبل موته‪ ،‬ثبت إقراره ول ميراث لها‪.‬‬
‫وقال الشافعية على المذهب‪ :‬يصح إقرار المريض مرض الموت لوارث‪ ،‬كما يصح لجنبي؛ لن من‬
‫صح إقراره له في الصحة‪ ،‬صح إقراره في المرض كالجنبي؛ ولن الظاهر أن المقر محق في‬
‫إقراره؛ لنه انتهى إلى حالة يصدق فيها الكاذب‪ ،‬ويتوب فيها الفاجر (‪. )2‬‬
‫ومنشأ الخلف بين الحنفية والشافعية في القرار هو أن الشافعية قالوا‪ :‬إن الفعل إذا وجد مطابقا‬
‫لظاهر الشرع حكم بصحته‪ ،‬ول تعتبر التهمة في الحكام؛ لن الحكام تتبع السباب الجلية دون‬
‫المعاني الخفية‪ .‬وقال أبو حنيفة رضي ال عنه‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الكتاب مع اللباب‪ 85/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،240/2 :‬المهذب‪.354/2 :‬‬

‫( ‪)8/250‬‬

‫كل فعل تمكنت التهمة فيه‪ ،‬حكم بفساده‪ ،‬لتعارض دليل الصحة والفساد (‪. )1‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬يصح إقرار المريض مرض الموت إذا لم يتهم المقر في إقراره‪ ،‬ويبطل إن اتهم‪ ،‬كمن‬
‫له بنت وابن عم‪ ،‬فأقر لبنته‪ ،‬لم يقبل‪ ،‬وإن أقر لبن عمه قبل‪ ،‬لنه ل يتهم في أنه يمنع ابنته ويصل‬
‫ابن عمه (‪. )2‬‬
‫هل يفضل دين الصحة؟ لو أقر شخص في صحته بدين لنسان‪ ،‬وأقر في مرضه لخر‪ :‬فقال الحنفية‪:‬‬
‫دين الصحة وما لزمه في مرضه بسبب معروف‪ ،‬أي (ما ليس بتبرع) يقدم على ما أقر به في مرض‬
‫موته‪ ،‬فإذا أقر رجل في مرض موته بديون‪ ،‬وكان عليه ديون لزمته حال صحته‪ ،‬سواء علم سببها أو‬
‫ثبتت بإقراره‪ ،‬وعليه أيضا ديون لزمته في مرضه‪ ،‬لكن علم سببها كبدل شيء تملكه أو أهلكه‪ ،‬أو‬
‫مهر مثل امرأة تزوجها‪ :‬فدين الصحة والدين الذي عرف سببه حال مرضه مقدم على ما أقر به في‬
‫مرضه؛ لن القرار ل يعتبر حجة إذا كان فيه إبطال حق الغير‪ ،‬وإقرار المريض يترتب عليه إبطال‬
‫حق الغير؛ لن حق غرماء الصحة تعلق بمال المريض بدلً من ذمته كما أشرت‪ ،‬ولهذا منع المريض‬
‫مرض الموت من التبرع ومحاباة أحد الغرماء مطلقا إذا أحاطت الديون بماله‪ ،‬فإن لم يكن عليه دين‬
‫يمنع من التبرع بما يزيد عن ثلث التركة‪.‬‬
‫وإنما تقدم ديون المرض المعروفة السبب ببينة أو بمعاينة القاضي؛ لنه ل تهمة في ثبوتها؛ لن‬
‫الشيء المعاين ل مرد له‪ .‬ول يجوز للمريض أن يحابي أحد الغرماء‪ ،‬فيقضي دين البعض دون‬
‫البعض؛ لن في إيثار البعض إبطال حق الباقين‪ ،‬إل إذا قضى الدين الذي استقرضه في مرضه‪ ،‬أو‬
‫نقد ثمن ما اشتراه أثناء مرضه‪.‬‬
‫فإذا قضيت ديون الصحة والديون المعروفة السباب‪ ،‬وفضل شيء عنها‪ ،‬كان ذلك الفاضل مصروفا‬
‫فيما أقر به حال المرض؛ لن القرار في ذاته صحيح‪ ،‬لكنه لم ينفذ في حق غرماء الصحة‪ ،‬فإذا لم‬
‫يبق لهم حق ظهرت صحته‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تخريج الفروع على الصول‪ :‬ص ‪.102‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ ،197/5 :‬الشرح الكبير‪.398/3 :‬‬

‫( ‪)8/251‬‬

‫وإن لم يكن على المريض ديون في صحته‪ :‬جاز إقراره؛ لنه لم يتضمن إبطال حق الغير‪ ،‬وكان‬
‫المقر له أولى من الورثة؛ لن قضاء الدين مقدم على حقوق الورثة‪ .‬هذا هو مذهب الحنفية (‪. )1‬‬
‫وقال جمهور الفقهاء‪ :‬دين الصحة ودين المرض يتساويان‪ ،‬فل يقدم دين الصحة على دين المرض؛‬
‫لنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يختص أحدهما برهن‪ ،‬فاستويا كما لو ثبتا ببينة‪ ،‬أي‬
‫أنهما يستويان لستواء سببهما وهو القرار الصادر عن كامل الهلية‪ ،‬بل إن الباعث على صدق‬
‫المقر حال المرض أقوى منه حال الصحة؛ لن المرض سبب التورع عن المعاصي والتوبة عما‬
‫جرى في الماضي (‪. )2‬‬
‫ومنشأ الخلف بين الحنفية وغيرهم في دين الصحة والمرض هو القاعدة السابقة التي ذكرها‬
‫الزنجاني‪ ،‬فعند الشافعي ومن وافقهم يتساوى إقرار الصحة وإقرار المرض في استحقاق الغرماء من‬
‫التركة؛ إذ القرار مشروع في حالتي الصحة والمرض‪ ،‬ول تعتبر التهمة في الحكام‪ .‬وقال الحنفية‪:‬‬
‫إن القرار حال‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع البدائع‪ ،225/7 :‬اللباب شرح مختصر القدوري‪ 84/2 :‬وما بعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪:‬‬
‫‪ 20/7‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ 23/5 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪.482/4 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،240/2 :‬المغني‪.197/5 :‬‬

‫( ‪)8/252‬‬

‫الصحة أقوى من حيث إنه صادف حالة إطلق الحرية في التصرف‪ .‬وإقرار المرض صادف حال‬
‫الحجر والمنع من التبرعات‪ ،‬فهو متهم فيه من حيث إن الشرع قدرة التبرع‪ ،‬فل يؤمن عدوله من‬
‫التبرع إلى القرار (‪. )1‬‬
‫المطلب السابع ـ القرار بالنسب ‪:‬‬
‫يمكن القرار ببنوة طفل تصحيحا لوضع سابق كزواج مكتوم‪ ،‬ل من زنى‪.‬‬
‫وهذا القرار بالنسب ـ أي القرابة ـ نوعان‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن يلحق المقر النسب بنفسه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يلحقه بغيره‪ .‬وإلحاق النسب بالغير قد يثبت النسب‪ ،‬وقد يقتصر فقط على المشاركة بالرث‬
‫دون ثبوت النسب‪.‬‬
‫وقد اشترط الفقهاء شروطا أربعة لصحة إقرار النسان بنسب على نفسه‪ ،‬أي باستلحاق النسب من‬
‫نفسه‪ .‬وهي (‪: )2‬‬
‫ً‪ - 1‬أن يكون المقر به مجهول النسب‪ :‬فإن كان معروف النسب من غيره‪ ،‬لم يصح استلحاقه‬
‫بالقرار؛ لن النسب الثابت من شخص ل ينتقل إلى غيره ول يحتمل ثبوته له‪ ،‬ولن المقر يقطع‬
‫نسب المقر به الثابت من غيره‪ .‬وقد لعن النبي صلّى ال عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى‬
‫غير مواليه (‪. )3‬‬
‫ً‪ - 2‬أن يكون المقر به محتمل الثبوت من نسب المقر‪ ،‬فل يكذبه الحس ظاهرا أو ل ينازعه فيه‬
‫منازع‪ ،‬بأن يكون في سن يمكن أن يكون منه بحيث يولد مثله لمثله‪ ،‬فلو كان المقر به في سن ل‬
‫يتصور كونه منه‪ ،‬أو كان المقر مقطوع الذكر والنثيين من زمن يتقدم على زمن بدء الحمل بالمقر‬
‫به‪ ،‬لم يصح القرار بثبوت نسبه؛ لن الحس يكذبه‪ .‬وكذلك إذا نازع المقر منازع آخر غيره لم يثبت‬
‫نسبه؛ لنه إذا نازعه فيه غيره تعارض القراران‪ ،‬فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الخر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تخريج الفروع على الصول للزنجاني‪ :‬ص ‪ 102‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع البدائع‪ ،228/7 :‬تكملة فتح القدير‪ ،14/7 :‬الدرالمختار‪ ،485 :‬تبيين الحقائق‪،27/5 :‬‬
‫اللباب‪ ،86/2 :‬الشرح الكبير‪ ،414-412/3 :‬مغني المحتاج‪ ،259/2 :‬المغني‪.184/5 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود عن أنس بن مالك رضي ال عنه بلفظ (من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير‬
‫مواليه‪ ،‬فعليه لعنة ال المتتابعة إلى يوم القيامة) ورواه الطبراني عن خارجة بن عمرو الجمحي‪ ،‬وفيه‬
‫ضعيف‪ ،‬وأخرجه الشيخان أيضا (الجامع الصغير‪ ،162/2 :‬وراجع مجمع الزوائد‪،285/6 ،214/4 :‬‬
‫مذكرة تفسير آيات الحكام بالزهر‪.)11/4 :‬‬

‫( ‪)8/253‬‬

‫ً‪ - 3‬أن يصدق المقر له في إقراره إن كان أهلً للتصديق بأن يكون مكلفا‪ ،‬أي بالغا عاقلً عند‬
‫الجمهور‪ ،‬أو يستطيع أن يعبر عن نفسه‪ ،‬أي يكون مميزا عند الحنفية؛ لن الولد له حق في نسبه‪،‬‬
‫وهو أعرف به من غيره‪ .‬فإن كان الولد صغيرا ل يعبر عن نفسه ـ بحسب رأي الحنفية ـ لم يعتبر‬
‫تصديقه‪ ،‬لنه بمنزلة المتاع‪.‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬ليس تصديق المقر به شرطا لثبوت النسب من المقر؛ لن النسب حق للولد على الب‪،‬‬
‫فيثبت بإقراره بدون توقف على تصديق من الولد إذا لم يقم دليلً على تكذيب المقر‪.‬‬
‫ً‪ - 4‬أل يكون فيه حمل النسب على الغير‪ ،‬سواء كذبه المقر له أم صدّقه؛ لن إقرار النسان حجة‬
‫قاصرة على نفسه‪ ،‬ل على غيره؛ لنه على غيره شهادة أودعوى‪ ،‬وشهادة الفرد فيما يطلع عليه‬
‫الرجال غير مقبولة‪ ،‬والدعوى المفردة ليست بحجة‪.‬‬
‫وهذه الشروط تشترط أيضا في القرار بنسب على الغير ما عدا الشرط الخير بالطبع‪ ،‬فإنه ل‬
‫يشترط عند الحنفية‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬يثبت النسب بالقرار على الغير بالشروط السابقة‪ ،‬وبشرط كون المقر جميع‬
‫الورثة‪ ،‬وبشرط كون الملحق به النسب ميتا‪ ،‬فل يلحق بالحي ولو مجنونا لستحالة ثبوت نسب‬
‫الشخص ـ مع وجوده حيا ـ بقول غيره‪.‬‬
‫وعلى هذا يقول الحنفية في القرار بالنسب وفي حمل النسب على الغير ما يأتي‪:‬‬
‫‪ - 1‬القرار بالنسب‪ :‬يجوز إقرار الرجل بالوالدين‪ ،‬والولد‪ ،‬والزوجة‪ ،‬سواء في حالة الصحة أو‬
‫المرض‪ ،‬كهذا ابني أو أنا أبوه؛ لنه إقرار على نفسه‪ ،‬وليس فيه حمل النسب على الغير‪ ،‬وذلك‬
‫بالشروط المتقدمة‪ ،‬وبشرط أن تكون الزوجة خالية عن زوج وعن عدته‪ ،‬وأن يخلو المقر عن أخت‬
‫الزوجة أوعمتها أو خالتها‪ ،‬وأل يكون في عصمته أربع سواها‪.‬‬

‫( ‪)8/254‬‬

‫ويقبل إقرار المرأة بالوالدين والزوج لما تقدم‪ ،‬ول يقبل إقرارها بالولد؛ لن فيه حمل النسب على‬
‫الغير‪ ،‬وهو نسب الولد على الزوج‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬ادعوهم لبائهم} [الحزاب‪ ]5/33:‬فل يقبل‬
‫إقرارها إلإذا صدقها الزوج‪ ،‬أو تشهد امرأة قابلة أو غيرها على الولدة‪ ،‬بخلف الرجل؛ فإنه يصح‬
‫إقراره بالولد؛ لن فيه حمل نسب الولد على نفسه‪.‬‬
‫ويلحظ أن إقرار المرأة بالولد إنما ل يصح إذا كانت ذات زوج‪ ،‬أو معتدة منه‪ ،‬فإن لم تكن متزوجة‬
‫ول معتدة‪ ،‬فيصح إقرارها بالولد مطلقا؛ لن فيه إلزاما على نفسها دون غيرها‪ .‬وكذلك يقبل إقرارها‬
‫بالولد إذا كانت متزوجة أو معتدة وادعت أن الولد من غير هذا الزوج‪.‬‬
‫وإذا صح القرار بالنسب لنسان‪ ،‬شارك الورثة في الميراث؛ لنه لما ثبت نسبه من المقر صار‬
‫كالوارث المعروف‪ ،‬فيشارك ورثة المقر‪ .‬ول يجوز القرار بالنسب بغير هؤلء المذكورين من‬
‫الوالدين والولد والزوج والزوجة‪ ،‬مثل الخ والعم والجد وابن البن‪ ،‬وإ ن صدّقه المقر له؛ لنه فيه‬
‫حمل النسب على الغير‪ ،‬إل إذا ثبت النسب ببرهان‪ ،‬كما سيأتي‪.‬‬
‫‪ - 2‬القرار بحمل النسب على الغير‪ :‬القرار من الرجل بالنسب على الغير‪ ،‬كهذا أخي أو عمي‪:‬‬
‫قد يثبت به النسب بإثباته بالبينة عند أبي حنيفة ومحمد‪ ،‬بواسطة إقرار رجلين أو رجل وامرأتين؛ لن‬
‫في القرار حمل النسب على غيره‪ ،‬فاعتبر بمثابة الشهادة‪ ،‬فلزم فيه العدد المذكور‪.‬‬
‫وقال مالك‪ :‬ل يثبت النسب إل بإقرار اثنين؛ لنه يحمل النسب على غيره‪ ،‬فاعتبر فيه العدد كالشهادة‪.‬‬
‫وقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف‪ :‬إن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الرث‪ ،‬ثبت نسبه‪،‬‬
‫وإن كان الوارث واحدا ذكرا أو أنثى؛ لن النسب حق يثبت بالقرار‪ ،‬فلم يطلب فيه‬
‫( ‪)8/255‬‬

‫العدد كالدين‪ ،‬ولن القرار قول ل تشترط فيه عدالة‪ ،‬فلم يصح قياسه على الشهادة (‪. )1‬‬
‫وقد يقتصر القرار بالنسب على الغير ممن ل يصح إقراره‪ ،‬كالخ والعم والجد وابن البن على‬
‫إثبات حق المشاركة في الرث (‪ ، )2‬إذا لم يكن للمقر وارث معروف‪.‬‬
‫وعلى هذا‪ :‬إن كان للمقر وارث معروف نسبه‪ :‬قريب كأصحاب الفروض والعصبات‪ ،‬أو بعيد كذوي‬
‫الرحام‪ ،‬فالوارث المعروف أولى بالميراث من المقر له؛ لنه لما لم يثبت نسبه منه‪ ،‬لم يزاحم‬
‫الوارث المعروف النسب‪ ،‬فلو أقر شخص بأخ وله عمة أو خالة‪ ،‬فالرث للعمة أو الخالة‪ ،‬ول شيء‬
‫للمقر له؛ لنهما وارثان بيقين‪ ،‬فكان حقهما ثابتا بيقين‪ ،‬فل يجوز إبطاله بصرف الرث إلى غيرهما‪.‬‬
‫وإن لم يكن للمقر وارث معروف‪ :‬استحق المقر له ميراثه؛ لن له ولية التصرف في مال مال نفسه‬
‫عند عدم الوارث‪ ،‬فيستحق جميع المال‪ ،‬وإن لم يثبت نسبه منه‪ ،‬لما فيه من حمل النسب على الغير‪،‬‬
‫ول تعتبر هذه وصية في الحقيقة‪ ،‬حتى إنه يترتب ما يأتي‪:‬‬
‫من أقر بأخ‪ ،‬ثم أوصى لخر بجميع ماله‪ :‬كان للموصى له ثلث جميع ماله خاصة‪ .‬فالوصية تنفذ من‬
‫الثلث؛ لن المقر له بالخوة وارث في ظنه وزعمه‪ ،‬ولو كان موصى له لشترك الثنان في قسمة‬
‫التركة نصفين‪ ،‬لكن يعتبر القرار المذكور يمنزلة الوصية‪ ،‬بدليل أنه يجوز للمقر أن يرجع عن‬
‫القرار؛ لن نسبه لم يثبت‪ ،‬فل يلزمه القرار؛ لنه وصية من وجه‪ ،‬فلو أقر شخص في مرضه بأخ‪،‬‬
‫وصدقه المقر له‪ ،‬ثم أنكر المقر وراثته‪ ،‬ثم أوصى بماله كله لنسان ومات ول وارث له‪ ،‬كان ماله‬
‫جميعا للموصى له‪ .‬فإن لم يوص لحد كان ماله لبيت المال؛ لن رجوعه عن القرار صحيح؛ لن‬
‫النسب لم يثبت‪ ،‬فبطل إقراره‪.‬‬
‫وإذا مات إنسان وخلف ابنا واحدا‪ ،‬فأقر بأخ آخر‪ :‬لم يثبت نسب أخيه؛ لن فيه حمل النسب على‬
‫الغير‪ ،‬والقرار مقبول في حق نفسه غير مقبول في حق غيره‪ ،‬ويشارك المقر له بالخوة المقر في‬
‫الرث من أبيه؛ لن إقراره تضمن شيئين‪ :‬حمل النسب على الغير‪ ،‬ول ولية له عليه‪ ،‬فل يثبت‬
‫النسب‪ ،‬والشتراك في المال‪ ،‬وله فيه ولية‪ ،‬فيثبت‪ .‬ومن مات وترك ابنين‪ ،‬فأقر أحدهما بأخ ثالث‪:‬‬
‫فإن صدقه أخوه المعروف في أخوته‪ ،‬اشترك المقر له مع البنين في الميراث‪ .‬وإن كذبه فيه‪ ،‬فإنه‬
‫يقسم المال بين الخوين المعروفي النسب نصفين‪ ،‬ثم يقسم النصف بين الخ المقر له‪ ،‬والخ المقر‬
‫مناصفة أيضا (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ ،183/5 :‬الشرح الكبير‪ ،417/3 :‬مغني المحتاج‪ 261/2 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪229/7 :‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬ويلزم المقر في حق نفسه أيضا بالنفقة والحضانة‪ ،‬كما يلزم بالرث إذا تصادق المقر له والمقر‬
‫على القرار؛ لن إقرارهما حجة عليهما‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع البدائع‪ ،230/7 :‬تكملة فتح القدير‪ ،19/7 :‬تبيين الحقائق‪ ،28/5 :‬الدر المختار‪،487/4 :‬‬
‫اللباب شرح الكتاب‪ ،87/2 :‬مغني المحتاج‪ ،261/2 :‬المغني‪ ،186/5 :‬الشرح الكبير للدردير‪:‬‬
‫‪.417 ،415/3‬‬

‫( ‪)8/256‬‬

‫المبحث الرابع ـ القضاء بالقرائن ‪:‬‬


‫أهمية القرائن‪ :‬القضاء بالقرائن أصل من أصول الشرع‪ ،‬وذلك سواء في حال وجود البينة أو القرار‪،‬‬
‫أم في حال فقد أي دليل من دلئل الثبات‪ .‬فقد تمنع القرينة سماع الدعوى كادعاء فقير معسر إقراض‬
‫غني موسر‪ ،‬وقد ترد البينة أو القرار حال وجود التهمة‪ ،‬مثل قرابة الشاهد للمشهود له‪ ،‬أو كون‬
‫القرار في مرض الموت‪ ،‬وقد تستخدم القرينة دليلً مرجحا أثناء تعارض البينات مثل وضع اليد‬
‫ونحوه كما عرفنا‪ ،‬وقد تعتبر القرينة دليلً وحيدا مستقلً إذا لم يوجد دليل سواها‪ ،‬مثل رد دعوى‬
‫الزوجة القاطنة مع زوجها بعدم النفاق عليها‪ ،‬في رأي المالكية والحنابلة‪ .‬قال ابن القيم‪ :‬ومن أهدر‬
‫المارات والعلمات في الشرع بالكلية‪ ،‬فقد عطل كثيرا من الحكام‪ ،‬ووضع كثيرا من الحقوق (‪. )1‬‬
‫تعريف القرينة‪ :‬القرينة لغة‪ :‬هي العلمة الدالة على شيء مطلوب (‪ . )2‬واصطلحا‪ :‬هي كل أمارة‬
‫ظاهرة تقارن شيئا خفيا فتدل عليه‪ .‬يفهم من هذا التعريف أنه ل بد في القرينة من أمرين‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪.100‬‬
‫(‪ )2‬التعريفات للجرجاني‪ :‬ص ‪.152‬‬

‫( ‪)8/257‬‬

‫‪ - 1‬أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساسا للعتماد عليه‪.‬‬


‫‪ - 2‬أن توجد صلة مؤشرة بين المر الظاهر والمر الخفي‪.‬‬
‫وبمقدار قوة هذه الصلة تنقسم القرائن قسمين‪ :‬قرائن قوية‪ ،‬وقرائن ضعيفة‪ .‬وللفقهاء والقضاة دور‬
‫ملحوظ في استنباط نتائج معينة من القرائن‪ .‬ومن القرائن الفقهية‪ :‬اعتبار ما يصلح للرجال من متاع‬
‫البيت عند اختلف الزوجين في ملكيته هو للرجل‪ ،‬كالعمامة والسيف‪ ،‬وما يصلح للنساء فقط كالحلي‬
‫للمرأة بشهادة الظاهر‪ ،‬وملحظة العرف والعادة (‪. )1‬‬
‫ومن القرائن القضائية‪ :‬الحكم بالشيء لمن كان في يده‪ ،‬باعتبار أن وضع اليد قرينة على الملك بحسب‬
‫الظاهر‪.‬‬
‫وإذا كانت القرينة قطعية تبلغ درجة اليقين‪ ،‬مثل الحكم على الشخص بأنه قاتل إذا رئي مدهوشا‬
‫ملطخا بالدم‪ ،‬ومعه سكين بجوار مضرج بدمائه في مكان‪ ،‬فإنها تعد وحدها بينة نهائية كافية للقضاء‪.‬‬
‫أما إذا كانت القرينة غير قطعية‪ ،‬ولكنها ظنية أغلبية‪ ،‬كالقرائن العرفية‪ ،‬أو المستنبطة من وقائع‬
‫الدعوى وتصرفات الطراف المتخاصمين‪ ،‬فإنها تعد دليلً مرجحا لجانب أحد الخصوم‪ ،‬متى اقتنع بها‬
‫القاضي‪ ،‬ولم يوجد دليل سواها‪ ،‬أو لم يثبت خلفها بطريق أقوى‪.‬‬
‫ول يحكم عند جمهور الفقهاء بهذه القرائن في الحدود؛ لنها تدرأ بالشبهات ول في القصاص إل في‬
‫القسامة‪ ،‬للحتياط في موضوع الدماء وإزهاق النفوس‪ .‬ويحكم بها في نطاق المعاملت المالية‬
‫والحوال الشخصية عند عدم وجود بينة في إثبات الحقوق الناشئة عنها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الكتاب مع اللباب‪.50/4 :‬‬

‫( ‪)8/258‬‬

‫إل أن المالكية (‪ : )1‬أثبتوا شرب الخمر بالرائحة‪ ،‬والزنا بالحمل‪ ،‬ووافقهم ابن القيم في إثبات الزنا‬
‫بالحمل‪ ،‬وفصل الحنابلة (‪ )2‬فقالوا‪ :‬تحد الحامل بالزنا‪ ،‬وزوجها بعيد عنها إذا لم تدّع شبهة‪ ،‬ول يثبت‬
‫الزنا بحمل المرأة وهي خلية ل زوج لها‪.‬‬
‫قال ابن القيم (‪ : )3‬نظر جمهور الفقهاء كمالك وأحمد وأبي حنيفة إلى القرائن الظاهرة والظن الغالب‬
‫الملتحق بالقطع في اختصاص كل واحد منها بما يصلح له‪ ،‬ورأوا أن الدعوى تترجح بما هو دون‬
‫ذلك بكثير‪ ،‬كاليد والبراءة والنكول‪ ،‬واليمين المردودة‪ ،‬والشاهد واليمين‪ ،‬والرجل والمرأتين‪ ،‬فيثير‬
‫ذلك ظنا تترجح به الدعوى‪ .‬ومعلوم أن الظن الحاصل ههنا أقوى بمراتب كثيرة من الظن الحاصل‬
‫بتلك الشياء‪ ،‬وهذا مما ل يمكن جحده ودفعه‪.‬‬
‫وقد نصب ال سبحانه على الحق الموجود والمشروع علمات وأمارات تدل عليه وتبينه‪ .‬ونصب‬
‫على اليمان والنفاق علمات وأدلة‪ .‬واعتبر النبي صلّى ال عليه وسلم وأصحابه من بعده العلمات‬
‫في الحكام‪ ،‬وجعلوها مبينة لها‪ ،‬كما اعتبر العلمات في اللقطة‪ ،‬وجعل صفة الواصف لها آية‬
‫وعلمة على صدقه‪ ،‬وأنها له‪.‬‬
‫وجعل الصحابة الحبل علمة وآية على الزنا‪ ،‬فحدوا به المرأة‪ ،‬وإن لم تقر‪ ،‬ولم يشهد عليها أربعة‪،‬‬
‫بل جعلوا الحبل أصدق من الشهادة‪ ،‬وجعلوا رائحة الخمر وقيئه لها آية وعلمة على شربها‪ ،‬بمنزلة‬
‫القرار والشاهدين‪.‬‬
‫وجعل النبي صلّى ال عليه وسلم نحر كفار قريش يوم بدر عشر جزائر أوتسعا‪ ،‬آية وعلمة‬
‫على كونهم ما بين اللف والتسع مئة‪ ،‬واعتبر العلمة في السيف وظهور أثر الدم به في الحكم‬
‫بالسلَب لحد المتداعيين‪ .‬ونزّل الثر منزلة بينة‪ .‬واعتبر إنبات الشعر حول القبُل في البلوغ‪ ،‬وجعله‬
‫آية وعلمة له‪ .‬فكان يقتل من السرى يوم قريظة من وجدت فيه تلك العلمة‪ ،‬ويستبقي من لم تكن‬
‫فيه‪ ،‬وجعل الحيض علمة على براءة الرحم من الحمل‪ .‬واعتبر العلمة في الدم الذي تراه المرأة‬
‫ويشتبه عليها‪ :‬هل هو حيض أو استحاضة؟ واعتبر العلمة فيه بوقته ولونه‪ ،‬وحكم بكونه حيضا بناء‬
‫على ذلك‪.‬‬
‫وفرق الحنابلة بين الركاز واللقطة بالعلمات‪ :‬فقالوا‪ :‬الركاز‪:‬ما دفنته الجاهلية‪ ،‬ويعرف برؤية‬
‫علماتهم عليه‪ ،‬كأسماء ملوكهم وصورهم وصلُبهم‪ .‬وأما ما عليه علمات المسلمين كأسمائهم‪ ،‬أو‬
‫كقرآن ونحوه فهو لقطة؛ لنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه‪ .‬وإن كان على بعضه علمة السلم‪،‬‬
‫وعلى بعضه علمة الكفار هو لقطة؛ لن الظاهر أنه صار لمسلم دفنه في الرض‪ .‬وما ليس عليه‬
‫علمة فهو لقطة‪ ،‬تغليبا لحكم السلم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.356‬‬
‫(‪ )2‬مطالب أولي النهى‪.193/6 :‬‬
‫(‪ )3‬الطرق الحكمية في السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪ 97‬وما بعدها‪ 214 ،‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/259‬‬

‫حكْمِ في السلم‬
‫البَابُ السّادس‪ِ :‬نظَام ال ُ‬
‫وفيه الكلم عن فصول أربعة‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬السيادة ـ سلطة التشريع العليا في الحكم السلمي‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬سلطة التنفيذ العليا ـ المامة‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬السلطة القضائية في السلم‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬الدولة السلمية‪.‬‬
‫صلُ الوّل‪ :‬السّيادة ـ سلطة التّشريع العُليا في الحكم السلميّ‬
‫ال َف ْ‬
‫يشمل الفصل الول أربعة مباحث وهي ما يأتي‪:‬‬
‫المبحث الول ـ السيادة أو الحاكمية ‪:‬‬
‫لخلف بين المسلمين في أن مصدر جميع الحكام التشريعية من أوامر ونواهٍ هو ال تعالى‪ ،‬ل‬
‫يشاركه فيه أحد من الناس فيما وضع من مبادئ وأصول وتشريعات مفصلة محددة‪ .‬وطريق التعرف‬
‫عليها ما أنزل ال في قرآنه أو أوحى به إلى نبيه محمد صلّى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫( ‪)8/260‬‬

You might also like