Professional Documents
Culture Documents
وأضاف الحنفية التماثل في الرشين ،وقد سبق بيانه في مانع القصاص العام بسبب انعدام التكافؤ
عندهم بين المرأة والرجل ،وبين الحر والعبد؛ لن ما دون النفس عندهم له حكم الموال؛ لنه خلق
وقاية للنفس كالموال ،فتعتبر فيه المماثلة كما تعتبر في إتلف الموال.
والدليل على اشتراط التماثل :قوله تعالى{ :والجروحَ قصاص} [المائدة ]45/5:وقوله عز وجل{ :وإن
عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل{ ]126/16:فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم} [البقرة ]194/2:ولن دم الجاني معصوم إل بمقدار جنايته ،فما زاد عليها معصوم يمنع
التعرض له ،فل تصح الزيادة في القصاص على قدر الجناية ( ، )1ولقصاص في الجراح إل في
الموضحة إذا كانت عمدا .وبناء عليه تكون موانع القصاص الخاصة بما دون النفس ثلثة هي:
- 1عدم التماثل في الفعل ( أو عدم إمكان الستيفاء بل حيف ول زيادة) :يشترط لجواز استيفاء
القصاص :المن من الحيف (أي الجور والظلم) وليؤمن من الحيف إل إذا كان القطع في الطراف
من المفاصل كمفصل الزند أو مفصل المرفق أو الكتف من اليد أو مفصل الكعب أو الركبة أو الورك
من الرجل ،أو كان له حد ينتهي إليه كمارن النف (وهو ما لن منه) .
فإن كان القطع من غير مفصل ،أو لم يكن له حد ينتهي إليه كالقطع من قصبة النف ،أو من نصف
الساعد أو العضد أو الساق أو الفخذ ،فل قصاص عند الحنفية والراجح عند الحنابلة ( ، )2وتجب دية
اليد أو الرّجل.
ويجب القصاص حينئذ عند المالكية ( )3كلما أمكن ،ولم يحدث خطر أو خوف؛ لن المماثلة مع
المكان حق ل ل يجوز تركها؛ لقوله تعالى{ :والجروحَ قصاص} [المائدة.]45/5:
ويرى الشافعية ( )4أنه يقتص من أقرب مفصل إلى محل الجناية دونه ،ويعطى المجني عليه حكومة
-------------------------------
( )1المغني.703/7 :
( )2البدائع ،298/7 :كشاف القناع.639/5 :
( )3الشرح الكبير للدردير.255 ،253-251/4 :
( )4مغني المحتاج ،29/4 :المهذب.180/2 :
( )7/650
(تعويض) الباقي لتعذر القصاص فيه ،فإن قطع رجل يد آخر من نصف الساعد ،فللمجني عليه أن
يقتص من الكوع (الرسغ) ؛ لنه داخل في جناية يمكن القصاص فيها ،ويأخذ الحكومة (التعويض) في
الباقي؛ لنه كسر عظم ل تمكن المماثلة فيه ،فانتقل إلى البدل .وإن قطع رجل يد آخر من نصف
العضد ،فللمقطوع أن يقتص من المرفق ،ويأخذ الحكومة (التعويض) في الباقي ،وله أن يقتص من
الكوع (الرسغ) ويأخذ الحكومة في الباقي؛ لن الجميع مفصل واحد في الجناية ،وليس له القتصاص
من الكوع إذا كان القطع من المرفق؛ لنه يتمكن من القصاص في محل الجناية ،أما في الحالة
المتقدمة فل يمكنه القتصاص في موضع الجناية.
ول قصاص باتفاق الئمة في كسر العظام كعظم الصدر أو الصلب أو العنق ،ويجب فيها الرش
كاملً؛ لن التماثل غير ممكن (. )1
كما ل قصاص بالتفاق فيما بعد (أو فوق) الموضحة من الشجاج؛ لن الستيفاء دون حيف غير
ممكن .ويقتص من الموضحة لمكان القصاص ،ول يقتص فيما دون الموضحة إل عند المالكية ()2
ول قصاص في الضرب بالسوط والعصا واللطمة والوكزة إذا لم تترك أثرا؛ لن المماثلة فيها غير
ممكنة ( )3وإنما فيها التعزير .واستثنى المالكية السوط ،ففي الضرب به قصاص .ويرى ابن القيم
القصاص في اللطمة ونحوها.
-------------------------------
( )1البدائع ،308/7 :الشرح الكبير للدردير ،253/4 :المهذب ،178/2 :مغني المحتاج.28/4 :
( )2البدائع ،309/7 :الشرح الصغير 349/4 :وما بعدها ،مغني المحتاج ،26/4 :كشاف القناع:
،652/5الشرح الكبير.252/4 :
( )3البدائع ،299/7 :الدردير في الكبير ،252/4 :وفي الصغير ،353/4 :مغني المحتاج،29/4 :
كشاف القناع ،640/5 :المغني ،60/8 :أعلم الموقعين. .318/1 :
( )7/651
- 2عدم المماثلة في الموضع قدرا ومنفعة :فل تقطع اليد بغير اليد ،ول اليمنى باليسرى ،ول البهام
أو السبابة بغيرها لعدم التجانس ،ول تقلع السن إل
بمثلها ثنية أو نابا أو ضرسا ،ول العلى بالسفل أو بالعكس ،لختلف المنفعة (. )1
- 3عدم التماثل في الصحة والكمال :فل تقطع اليد الصحيحة بالشلء ،ول الرجل الصحيحة
بالشلء ،وليؤخذ الكامل بالناقص كيد أو رجل كاملة بأخرى ناقصة الصابع .إل أن المام مالك يرى
قطع اليد أو الرجل الناقصة إصبعا بالكاملة بل غرم على الجاني ،ول خيار للمجني عليه في نقص
الصبع ،فإن نقصت أكثر من أصبع ،خيّر المجني عليه بين القصاص وأخذ الدية .وإن نقصت يد
المجني عليه أو رجله أصبعا يقتص من الجاني الكامل الصابع ،فإن نقصت أكثر من أصبع كأصبعين
فأكثر ل يقتص لها من يد أو رجل كاملة (. )2
وأحسن نموذج تطبيقي للقصاص فيما دون النفس هو قوله تعالى{ :وكتبنا عليهم فيها أن النفس
بالنفس ،والعين بالعين ،والنف بالنف ،والذن بالذن ،والسن بالسن ،والجروحَ قصاص} [المائدة:
.]45/5
-------------------------------
( )1البدائع ،297/7 :الشرح الكبير للدردير ،251/4 :المهذب 179/2 :وما بعدها،كشاف القناع:
646/5وما بعدها.
( )2البدائع ،303-300/7 :الشرح الكبير للدردير 254-252/4 :وما بعدها ،المهذب،181/2 :
كشاف القناع 649/5 :وما بعدها.
( )7/652
( )7/653
ولو كان الموت حادثا بسبب التأديب ،كالضرب الحاصل من الب أو الوصي أو المعلم ،يضمن
المتسبب الدية؛ لنه التأديب هو الفعل الذي يبقى فيه المؤدَب حيا بعده ،فإذا سرى ،تبين أنه قتل،
وليس بتأديب ،فسأل الفاعل؛ لنه متعد في فعله ،غير مأذون في القتل ،أي أن الفاعل ضامن الدية في
كل الحالت ،سواء أكان عمله مشروعا أم غير مشروع.
وقال الصاحبان ( : )1ل شيء على المقتص في الحالة الولى وهي قطع اليد قصاصا؛ لن الموت
حصل بفعل مأذون فيه ،وهو القطع .كما ل شيء عليه في الحالة الثالثة (التأديب)؛ لن الفاعل مأذون
في تأديب الصبي وتهذيبه ،والمتولد من الفعل المأذون فيه ل يكون مضمونا ،كما لو عزر المام
إنسانا فمات ،أو قطع الحاكم يد السارق ،فمات.
وتجب دية اليد في الحالة الثانية (شل اليد) ول قصاص.
- 2وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) ( : )2ل ضمان على المقتص بسريان القصاص
إلى النفس أو العضو ،أو المنفعة؛ لن السراية حصلت من فعل مأذون فيه ،مثل بقية الحدود ،ويؤيده
أن عمر وعليا قال« :من مات من حد أو قصاص :ل دية له ،الحقُ قتَله» ( . )3وهذا موافق لرأي
الصاحبين.
سراية الجناية :
ل خلف بين الفقهاء في أن سراية الجناية مضمونة ( )4؛ لنها أثر الجناية ،وبما أن الجناية
مضمونة ،فكذلك أثرها.
فإن سرت الجناية إلى النفس ،وجب القصاص.
وإن لطمه فذهب ضوء عينيه ،لم يقتص منه عند الجمهور؛ لن المماثلة فيها غير ممكنة ،وقال
الشافعية :يجب القصاص فيه بالسراية؛ لن له محلً مضبوطا (. )5
-------------------------------
( )1المراجع السابقة.
( )2الشرح الكبير للدردير ،252/4 :المهذب ،190 ،188/2 :المغني.727/7 :
( )3رواه سعيد بن منصور في سننه.
( )4المغني ،727/7 :مغني المحتاج.33/4 :
( )5المغني ،715/7 :مغني المحتاج ،29/4 :المهذب.186/2 :
( )7/654
وإن قطع الجاني أصبعا ،فتأكّلت أخرى وسقطت من مفصل ،وجب فيه القصاص عند الصاحبين
والحنابلة .وقال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء :ل قصاص وتجب دية الصبع الثانية ،لعدم تحقق العمدية (
. )1
العقوبة الصلية الثانية عند المالكية في إبانة الطراف -التعزير :
يوجب المالكية ( )2التعزير (أو الدب على حد تعبيرهم) على المعتمد عندهم في الجناية على ما دون
النفس ،بحسب اجتهاد الحاكم ،سواء في حالة العمد (ل الخطأ) الذي ل قصاص فيه ،أو العمد الذي فيه
ل ويعزر (أو يؤدب) ،سواء في الطراف أو الشجاج أو الجراح.
القصاص ،فتقطع يد الجاني مث ً
ول يرى جمهور الفقهاء حاجة لهذا التعزير مع القصاص؛ لن ال تعالى جعل العقوبة في قوله:
{والجروحَ قصاص} [المائدة ]45/5:هي القصاص دون غيره ،فمن أضاف غيرها فقد زاد على النص
بدون دليل ،وهذا الرأي أولى بالتباع.
العقوبة البدلية في إبانة الطراف ـ الدية أو الرش :
إذا امتنع القصاص لسبب من السباب وجبت الدية بدلً عنه ،كما تجب أيضا عند الشافعية والحنابلة
بصفة عقوبة أصلية إذا كانت الجناية شبه عمد.
وتجب الدية كاملة بإزالة جنس المنفعة كإتلف اليدين ،ويجب الرش بإزالة بعض المنفعة كإتلف يد
واحدة أو أصبع واحدة .والرش نوعان :مقدر وغير مقدر .والمقدر :هو ما حدد الشرع له نوعا
ومقدارا معلوما كأرش اليد والعين .وغير المقدر :هو مالم يقدر له الشرع مقدارا معينا ،وترك أمر
تقديره للقاضي.
-------------------------------
( )1المغني ،727/7 :البدائع ،307/7 :مغني المحتاج.30/4 :
( )2حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ،253/4 :الشرح الصغير.353/4 :
( )7/655
( )7/656
وأما اللسان المتكلم به ـ لسان الناطق :ففيه الدية لقوله عليه السلم في حديث ابن حزم« :وفي اللسان
الدية» .
وفي لسان الخرس عند (المالكية والحنفية والشافعية) :حكومة (أي تعويض يقدره القاضي) وعند
الحنابلة :فيه ثلث الدية ( ، )1أي حكومة ،والحكومة عند المالكية إذا لم يذهب الذوق ،وإل فالدية.
وفي لسان الطفل الذي لم ينطق دية عند الجمهور ،وحكومة عند أبي حنيفة.
وفي الذكر أو الحشفة (رأس الذكر) ولو لصغير وشيخ :الدية ،للحديث السابق في الديات« :وفي الذكر
الدية» .
وفي ذكر الخصي والعنّين ( )2عند الحنفية والحنابلة :حكومة ،وعند المالكية على الراجح والشافعية:
دية كاملة (. )3
وفي الصلب إذا انقطع الماء وهو المني الذي فيه :الدية ،للحديث السابق في الديات« :وفي الصلب
الدية» .
وفي إتلف كل من مسلك البول أو مسلك الغائط :الدية عند الفقهاء ،وهو القرب عند المالكية؛ لن
الجاني فوّت منفعة مقصودة بنحو كامل ،فيجب عليه كمال الدية (. )4
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،63/4 :المغني ،16/8 :البدائع ،311/7 :اللباب ،154/3 :الشرح الكبير للدردير:
،277/4كشاف القناع.41/6 :
( )2وهو من ل يتأتى منه الجماع.
( )3اللباب شرح الكتاب ،154/3 :الدردير في الكبير ،273/4 :مغني المحتاج ،67/4 :المغني:
،33/8كشاف القناع 47/6 :وما بعدها.
( )4البدائع ،311/7 :الدردير والدسوقي ،277/4 :مغني المحتاج ،74/4 :المغني.51/8 :
( )7/657
وفي سلخ الجلد عند الشافعية :الدية إذا لم ينبت ،وبقيت حياة مستقرة في المسلوخ ،ثم مات بسبب آخر
غير السلخ ،كأن حز غير السالخ رقبته بعد السلخ (. )1
وتجب الدية عند المالكية إذا أدت الجناية إلى تجذيم الجلد أو تبريصه ،أو تسويده (. )2
وتجب عند الحنفية والحنابلة في الجلد حكومة عدل ،إل أن الحنفية قالوا :في سلخ جلد الوجه كمال
الدية (. )3
وفي إزالة شعر الرأس أو اللحية أو الحاجبين :ولم ينبت بعدئذ :الدية عند الحنفية والحنابلة .وأما عند
المالكية والشافعية :فيجب في الكل حكومة عدل (. )4
النوع الثاني ـ العضاء التي في البدن منها اثنان :وهي ما يأتي ( : )5اليدان ،الرجلن ،العينان،
الذنان ،الشفتان ،الحاجبان إذا ذهب شعرهما نهائيا ولم ينبت ،والثديان ،والحلمتان ،والنثيان،
والشّفران ،والليتان ،واللّحيان.
فإذا ذهب واحد منها ففيه نصف الدية.
أما اليدان إن قطعتا من الرسغ أو الكتف أو المنكب ( )6ففيهما الدية ،لحديث معاذ« :وفي اليدين وفي
الرجلين الدية» ولحديث سعيد بن المسيب عن النبي صلّى ال عليه وسلم « :
-------------------------------
( )1مغني المحتاج 67/4 :وما بعدها.
( )2الدردير والدسوقي.272/4 :
( )3الدر المختار.413/5 :
( )4البدائع ،312/7 :الدرالمختار 408/5 :وما بعدها ،الدردير والدسوقي ،277/4 :مغني المحتاج:
،79/4كشاف القناع ،36/6 :المغني 10/8 :وما بعدها.
( )5البدائع.311/7 :
( )6المنكبَ :مجْمع عظم العضد والكتف.
( )7/658
في العينين الدية ،وفي اليدين الدية ،وفي الرجلين الدية ،وفي الشفتين الدية ،وفي الذنين الدية ،وفي
النثيين الدية» ( )1وفي اليد الواحدة نصف الدية؛ لما روى مالك والنسائي في حديث عمرو بن حزم:
«وفي اليد خمسون» .
وأما الرّجلن :ففيهما الدية ،وفي الرّجْل الواحدة نصف الدية ،لحديث معاذ وابن المسيب المتقدمين في
دية اليدين ،وحديث ابن حزم« :وفي الرّجل خمسون» .
والعينان :فيهما الدية لحديث ابن المسيب المتقدم ولحديث عمرو بن حزم« :في العينين الدية ،وفي
اليدين الدية ،وفي الرّجلين الدية ،وفي الشفتين الدية ،وفي العين خمسون» ( . )2وأما عين العور
ففيها عند مالك وأحمد وجماعة من الصحابة دية كاملة؛ لنها في معنى العينين ،وفيها نصف الدية
عند االشافعي ،إذ لم يفصّل الدليل ،وهو كتاب ابن حزم بين عين المبصروعين العور.
والذنان :فيهما الدية بالقطع أو القلع ،وفي أذن واحدة نصف الدية لخبر عمرو بن حزم« :في الذن
خمسون من البل» ( )3واشترط مالك لدية الذنين ذهاب السمع ،فإن لم يذهب ففيها حكومة.
والشفتان :فيهما الدية لخبر عمرو بن حزم« :وفي الشفتين الدية» .وفي كل شفة نصب الدية ،عليا أو
سفلى ،صغرت أو كبرت.
والحاجبان :إذا أزيل شعرهما ولم ينبت فيهما الدية عند الحنفية والحنابلة.
وفي أحد الحاجبين :نصف الدية؛ لن الجاني أتلف جنس منفعة مقصودة ،أو فوت جمالً مقصودا
لذاته.
وعند المالكية والشافعية في إزالة شعر الحاجبين الحكومة فقط (أي التعويض المقدر قضا ء)؛ لنه
إتلف جمال من غير منفعة ،فل تجب فيه الدية (. )4
والثديان والحَلْمتان للمرأة :فيهما الدية ،وفي إحداهما نصف الدية؛ لن فيهما جمالً ومنفعة ،فأشبها
اليدين والرجلين .قال ابن المنذر :أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة
نصف الدية ،وفي الثديين الدية .واشترط مالك لدية الحلمتين انقطاع اللبن أو فساده ،فإن لم ينقطع أو
يفسد فتجب حكومة عدل .أما الثديان ففيهما عنده الدية ،انقطع اللبن أو ل (. )5
والنثيان( :الخُِصيتان) فيها الدية؛ لنهما وكاء المني ،ولحديث عمرو بن حزم« :وفي البيضتين الدية»
( . )6
ل ومنفعة في
والشّفران ( : )7فيهما الدية ،إذا قطعا أو أشل ،وفي أحدهما نصف الدية؛ لن فيهما جما ً
المباشرة أو الجماع .فلو زالت بقطعهما البكارة وجب أرشها مع الدية (. )8
والليان :فيهما الدية عند الحنفية والشافعية والحنابلة .وفي واحدة منهما نصف الدية؛ لن فيهما جمالً
ظاهرا أو منفعة كاملة ،وليس في البدن نظيرهما .وقال المالكية في أليي الرجل :حكومة اتفاقا ،
وكذلك في المرأة قياسا على الرجل .وقال أشهب ( )9في أليي ( )10المرأة خطأ :الدية.
واللّحيان ( : )11فيهما الدية عند الشافعية والحنابلة ( ، )12وفي أحدهما نصف الدية؛ لن فيهما نفعا
وجمالً ،وليس في البدن مثلهما.
-------------------------------
( )1قال عنه الزيلعي في (نصب الراية :)371/4 :غريب.
( )2حديث عمرو بن حزم سبق تخريجه ،وقد صححه ابن حبان ،والحاكم ،وحكى ابن المنذر الجماع
فيه.
( )3رواه الدارقطني والبيهقي.
( )4البدائع ،311/7 :المغني ،11/8 :الشرح الكبير للدردير ،277/4 :بداية المجتهد،413/2 :
المهذب.208/2 :
( )5البدائع ،المكان السابق ،المغني ،30/8 :الدردير ،273/4 :مغني المحتاج.66/4 :
( )6البدائع :المكان السابق ،الدردير ،273/4 :مغني المحتاج ،79/4 :المغني.34/8 :
( )7الشفران :هما اللحمان المحيطان بحرفي فرج المرأة ،المغطيان له ،كما تحيط الشفتان بالفم.
( )8الدردير ،المكان السابق ،مغني المحتاج.67/4 :
( )9الدردير ،277/4 :مغني المحتاج.67/4 :
( )10اللية :بالفتح ألية الشاة ،ول تقل :إلية بالكسر ،ول لِيّة ،وتثنيتها «اليان» بغير تاء.
( )11اللحيان :هما العظمان اللذان فيهما السنان السفلى أي الفك السفلي.
( )12المغني ،27/8 :كشاف القناع ،44/6 :مغني المحتاج.65/4 :
( )7/659
النوع الثالث -العضاء التي منها في البدن أربعة :وهي التي:
أشفار العينين (وهي حروف الجفان التي ينبت عليها الشعر وهو الهُدْب) إذا لم تنبت ،والهداب
(وهي شعر الشفار) إذا لم تنبت.
وأما الشفار وحدها أو الجفون معها :ففيها عند الجمهور دية :لن منفعة الجنس ،سواء قطع الشفر
شفْر ربع الدية؛ لن فيهما جمالً
وحده أو قطع معه الجفن؛ لن الجفن تبع للشفر .وفي كل جُفن أو ُ
ظاهرا ،ونفعا كاملً .ويرى المالكية أن فيها حكومة عدل لعدم ورود نص فيها ،والتقدير لبد فيه من
نص ،ول يثبت بالقياس كما يرى الجمهور (.)1
وأما الهداب (أو شعر الجفن) :ففيهما عند الحنفية والحنابلة :الدية؛ لن الهداب تابعة للجفان كحلمة
الثدي ،والصابع مع الكف .وفيها عند المالكية إذا فسد منبتها :حكومة عدل كسائر الشعور (.)2
النوع الرابع -ما في البدن منه عشرة :وهو أصابع اليدين ،وأصابع الرجلين ،وفي كل اصبع
عشر الدية ,لحديث عمرو بن حزم ( :وفي كل اصبع من اصابع اليد والرجل عشر من البل ) وفي
كل أنملة ثلث الدية إل أنملة البهام ففيها نصف ديتها باتفاق المذاهب الربعة .
ول يفضل أصبع على أصبع ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :في كل أصبع عشر من البل ،وفي كل
سن خمس من البل ،والصابع سواء ،والسنان سواء» ( )3وفي الصبع الزائدة أو الشلء حكومة
عدل (. )4
وأما السنان الـ ( :)32ففيها الدية ،وفي كل سن خمس من البل أو خمس مئة درهم ما لم تصل إلى
مقدار الدية ،للحديث السابق ،ولحديث ابن حزم« :وفي السنّ خمس من البل» سواء أكانت السن
صغيرة أم كبيرة ،دائمة أم لبنية (مؤقتة قابلة للتبدل) أما السن الزائدة ففيها حكومة .وأما ما يترتب
على تغير السن من الشّين كسواد أواخضرار أو حمرة ،ففيه أرش السن عند الحنفية وحكومة عدل
عند غيرهم ( . )5وقيد المالكية إيجاب التعويض في الخضرة أو الصفرار بما إذا كانت مثل السواد
عرفا .وفي الصفرة عند الحنفية حكومة (. )6
-------------------------------
( )1البدائع ،324 ،311/7 :الدردير ،277/4 :المهذب ،201/2 :مغني المحتاج ،62/4 :المغني:
.7/8
( )2المراجع السابقة.
( )3رواه الخمسة إل الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
( )4البدائع ،318 ،303 ،314/7 :تبيين الحقائق ،134/6 :الدردير ،278/4 :مغني المحتاج،66/4 :
المغني 35/8 :وما بعدها.
( )5وهناك رواية أخرى عند الحنابلة في التسويد أو الخضرار :أن الواجب أرش أو دية السن:
خمس من البل.
( )6البدائع ،315/7 :الدردير 278/4 :وما بعدها ،مغني المحتاج 63/4 :وما بعدها،كشاف القناع:
،42/6المغني 21/8 :وما بعدها.
( )7/660
( )7/661
والقاعدة في عقوبة هذه الجنايات :هي محاولة القصاص ،كلما أمكن ،من الناحية العملية ،فإن لم يمكن
القصاص وجبت الدية أو الرش المقدر شرعا (. )1
ففي البصر الدية؛ لنه أبطل منفعة العينين .جاء في كتاب عمرو بن حزم« :وفي العينين الدية» .
وفي السمع الدية لحديث معاذ« :في السمع الدية» (، )2ونقل ابن المنذر الجماع فيه ،ولنه من
أشرف الحواس ،فكان كالبصر ،بل هو أشرف منه عند أكثر الفقهاء؛ لن به يدرك الفهم ،فلو فقد
بضربة واحدة سمعه وبصره ،فعليه ديتان.
وفي الشم لقوله عليه الصلة والسلم في حديث عمرو بن حزم« :في المشام الدية» .
وفي إبطال الذوق :الدية؛ لنه أحد الحواس الخمس ،فأشبه الشم.
وفي إذهاب الكلم :دية لخبر البيهقي« :في اللسان الدية إن منع الكلم» ولن اللسان عضو مضمون
بالدية ،فكذا منفعته العظمى كاليد والرجل.
وفي ذهاب العقل :الدية لخبر عمرو بن حزم« :وفي العقل الدية» .
-------------------------------
( )1البدائع ،311/7 :الدردير 271/4 :وما بعدها ،المهذب 201/2 :وما بعدها ،مغني المحتاج68/4 :
وما بعدها ،المغني 37/8 :وما بعدها ،كشاف القناع 32/6 :وما بعدها.
( )2رواه البيهقي.
( )7/662
وفي ذهاب جماع بجناية على الصلب :دية ،لحديث عمرو بن حزم« :وفي الذكر الدية ،وفي الصلب
الدية» والمقصود من ذلك :الجماع .وقال المالكية :لو كسر صلبه ،فأبطل إنعاظه فعليه ديتان ،فهم
يجعلون لتعطيل قوة الجماع دية ،بأن فعل معه فعلً كضربه ،فأبطل إنعاظه ،ولكسر الصلب دية
أخرى ،وإن كانت قوة الجماع فيه.
وقال الشافعية والحنابلة ( : )1لو كسر شخص صلب المجني عليه ،فذهب مع سلمة الرجل والذكر
مشيه وجماعه ،أو مشيه ومنيه ،فعليه ديتان؛ لن كل واحد منهما مضمون بالدية عند النفراد ،فكذا
عند الجتماع.
فإن ذهب بعض منفعة العضو وجب فيه بعض الدية إن كان التبعيض معروفا أو ممكن التقدير،
كذهاب بصر عين واحدة ،أو ذهاب سمع أذن واحدة دون الخرى.
فإن لم يمكن التقدير يجب عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) :حكومة .وعند المالكية :يقابل
النقص بما يناسبه من الدية ،أي بحساب ما ذهب (. )2
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،76/4 :كشاف القناع.47/6 :
( )2الدردير ،272/4 :مغني المحتاج ،77/4 :المغني ،16/8 :كشاف القناع.47 ،38 ،32/6 :
( )7/663
( )7/664
وحكومة العدل :هي على الجاني ،ول تتحملها العاقلة ،وتقدر الحكومة في الشجاج بأن ينظر كم مقدار
هذه الشجة من الموضحة ،فيجب بقدر ذلك من أرش الموضحة ،وهو نصف عشر الدية (. )1
والمفتى به عند الحنفية ومذهب الشافعية :أنها هي بمقدار التفاوت بين القيمتين :في الحر من الدية
وفي العبد من القيمة ،فإن نقص الحر عشر قيمته أخذ عشر ديته ،وهكذا بعد افتراض كون المشجوج
عبدا.
والشجاج :هي جراحات الرأس والوجه خاصة ( ، )2وهي عند الحنفية إحدى عشرة شَجة (: )3
- 1الحارصة :هي التي تحرص الجلد أي تشقه ول يظهر منها الدم.
- 2الدامعة :هي التي يظهر منها الدم ول يسيل كالدمع في العين ،وتسمى أيضا الخارصة :وهي
التي تكشط الجلد.
- 3الدامية :هي التي يسيل منها الدم ،بأن تضعف الجلد بل شق له حتى يرشح الدم .وتسمى عند
الحنابلة البازلة أو الدامعة.
- 4الباضعة :هي التي تبضع اللحم ،أي تقطعه وتشقه.
- 5المتلحمة :هي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة ولم تقرب للعظم ،هذا ما روى أبو
يوسف ،وقال محمد :المتلحمة قبل الباضعة :وهي التي يتلحم منها الدم ويسود.
- 6السّمحاق :هي التي تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة التي بين اللحم والعظم .وهذه الجلدة هي
السمحاق ،فسميت الشجة بها لوصولها إليها ،ويسميها الشافعية الملطاط :وهي التي تستوعب اللحم إلى
أن تبقى غشاوة رقيقة فوق العظم.
-------------------------------
( )1الدر المختار ،416 ،412/5 :المهذب ،199/2 :البدائع.324/7 :
( )2أما جراح الجسم فيما عد ا الرأس والوجه فتسمى «الجراح» .فالشجة إذن :هي ما كان في
الرأس والوجه .والجراحة :ماكان في سائر البدن غير الرأس والوجه.
( )3البدائع ،296/7 :الدر المختار ،411/5 :تكملة فتح القدير ،311/8 :تبيين الحقائق.132/6 :
( )7/665
- 7الموضحة ( : )1هي التي تخترق السمحاق ،وتوضح العظم ،أي تظهره وتكشفه ،ولو قدر مغرز
إبرة.
- 8الهاشمة :هي التي تهشم العظم ،أي تكسره.
- 9المنقّلة :هي التي تنقل العظم بعد كسره ،أي تحوله عن مكانه.
- 10المّة (أو المأمومة) :هي التي تصل إلى أم الدماغ :وهي جلدة تحت العظم وفوق الدماغ أي
المخ.
- 11الدامغة :هي التي تخرق غشاء الدماغ ،وتصل إلى الدماغ.
والجمهور يرون الشجاج عشرة .أما المالكية ( )2فيحذفون الثانية وهي الدامعة ،ويسمون الولى
دامية ،والثانية حارصة ،والثالثة سمحاقا ،والسادسة ملطاة أو ملطاط بتسمية أهل البلد ،ويخصصون
المة والدامغة بالرأس ،والباقي في الرأس أو الخد.
وأما الشافعية والحنابلة ( : )3فيحذفون أيضا الثانية وهي الدامعة ،ويقال عند الشافعية عن الولى:
الخارصة؛ وهي التي تكشط الجد ،ويسميها الحنابلة كالجمهور الحارصة ،أو الملطاة ،والخمسة الولى
ل مقدر فيها من الشرع.
نوعا عقوبة الشجاج :عقوبة الشجاج كما تقدم :إما عقوبة أصلية وهي القصاص إذا أمكن ،أو عقوبة
بدلية وهي الرش.
العقوبة الصلية في الشجاج ـ القصاص :
القاعدة في القصاص في جنايات العمد :أنه كلما أمكن وجب استيفاؤه ،وإذا لم يمكن وجب الرش.
وعليه تعرف أحوال القصاص في الشجاج ،ففي كل شجة يمكن فيها المماثلة :القصاص.
ل خلف في أن الموضحة فيها القصاص ،لعموم قوله سبحانه وتعالى{ :والجروحَ قصاص} [المائدة:
]45/5إل ما خص بدليل ،ولنه يمكن استيفاء القصاص فيها على سبيل المماثلة؛ لن لها حدا تنتهي
إليه السكين ،وهو العظم.
ويعتبر قدر الموضحة بالمساحة طولً وعرضا في قصاصها ،لبحجم الرأس كبرا وصغرا؛ لن
الرأسين قد يختلفان في ذلك.
ول خلف في أنه ل قصاص فيما بعد أو فوق الموضحة لتعذر استيفاء القصاص فيها على وجه
المماثلة أوالمساواة.
وأما ما دون الموضحة ففيها خلف:
-------------------------------
( )1بتخفيف الضاد أو بتشديدها.
( )2الشرح الكبير للدردير 250/4 :وما بعدها ،القوانين الفقهية :ص .350
( )3مغني المحتاج 58/4 :وما بعدها ،المهذب ،198/2 :المغني 42/8 :وما بعدها ،كشاف القناع:
51/6وما بعدها.
( )7/666
- 1قال المالكية ( ، )1وهو الصح وظاهر الرواية عند الحنفية ( : )2فيها القصاص ،سواء أكانت
في الرأس أم في الخد ،لمكان المساواة ،بأن يسبر غورها بمسبار ،ثم يتخذ حديدة بقدره ،فيقطع.
واستثنى في الشرنبللية السمحاق ،فل يقاد إجماعا.
- 2وقال الشافعية والحنابلة ( : )3ل قصاص فيما دون الموضحة ،لعدم إمكان تحقيق المماثلة،
ولحديث مرسل« :ل طلق قبل ملك ،ول قصاص فيما دون الموضحة من الجراحات» ( . )4وعلى
هذا فل قصاص في الشجاج في هذين المذهبين سوى الموضحة .
العقوبة البدلية في الشجاج ـ الرش :
الرش كما عرفنا :هو التعويض المالي الواجب بالجناية على ما دون النفس .ويرى أكثر الفقهاء
ومنهم أئمة المذاهب الربعة :أنه ليس في موضحة غير الرأس والوجه أرش مقدر ،لقول الخليفتين
الراشدين« :الموضحة في الوجه والرأس» (. )5
كما أنه ليس فيما دون الموضحة من الشجاج أرش مقدر أيضا ،بل فيه
-------------------------------
( )1القوانين الفقهية :ص ،350بداية المجتهد 399/2 :وما بعدها ،411 ،الشرح الكبير للدردير:
250/4وما بعدها.
( )2البدائع ،309/7 :الدر المختار ورد المحتار ،412 ،391/5 :اللباب شرح الكتاب.147/3 :
( )3المهذب ،198/2 :مغني المحتاج ،59 ،26/4 :المغني ،42/8 :كشاف القناع 51/6 :وما بعدها.
( )4أخرجه البيهقي عن طاوس ،وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن وعمر بن عبد العزيز ما
يؤيده (نصب الراية.)374/4 :
( )5المغني.44/8 :
( )7/667
حكومة عدل ( )1؛ إذ ليس فيه أرش مقدر في الشرع ،ول يمكن إهدارها ،فوجب فيها حكومة عدل.
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن وعمر بن عبد العزيز أن النبي صلّى ال عليه وسلم لم
يقض فيما دون الموضحة بشيء (. )2
واتفقوا على أن ما فيه أرش مقدر من الشجاج هو الموضحة فما بعدها ،لورود الشرع بتقديره ،كما
يتبين من حديث عمرو بن حزم في الديات« :وفي المأمومة ثلث الدية ،وفي الجائفة ثلث الدية ،وفي
المنقّلة خمس عشرة من البل ،وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من البل ،وفي السن
خمس من البل ،وفي الموضحة خمس من البل» (. )3
في الموضحة :خمس من البل ،أي نصف عشر الدية ،لحديث «في الموضحة خمس من البل» .
وفي الهاشمة :عشر من البل ،أي عُشر الدية؛ لحديث ابن حزم« :وفي الهاشمة عشر» .ويلحظ أن
الهاشمة عند المالكية هي في جراح البدن .وبدلها في الوجه والرأس :المنقلة.
وفي المنقّلة :خمس عشرة من البل ،لحديث ابن حزم «وفي المنقلة خمس عشرة من البل» .
وفي المة أو المأمومة :ثلث الدية،لحديث ابن حزم« :وفي المأمومة ثلث الدية» .
وفي الدامغة :ثلث الدية ،قياسا على المأمومة.
-------------------------------
( )1البدائع ،324/7 :الدر المختار ،412/5 :الشرح الكبير للدردير ،271/4 :مغني المحتاج،59/4 :
المغني 54/8 :وما بعدها.
( )2نصب الراية.374/4 :
( )3نيل الوطار ،57/7 :نصب الراية 374/4 :وما بعدها.
( )7/668
( )7/669
من الجارح ،حتى يبرأ المجروح» ( )1ولن الجراحات ينظر إلى مآلها ،لحتمال أن تسري إلى
النفس ،فيحدث القتل ،فل يعلم أنه جرح إل بالبرء.
وقال الشافعية ( : )2إن كان القصاص في الطرف ،فالمستحب أل يستوفى إل بعد استقرار الجناية
بالندمال (أي البرء) أو بالسراية إلى النفس ،فإن استوفي قبل الندمال جاز ،لما روى عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده« :أن رجلً طعن رجلً بقرْن في ركبته ،فجاء إلى النبي صلّى ال عليه وسلم
فقال :أقدني ،فقال :حتى تبرأ ،ثم جاء إليه ،فقال :أقدني ،فأقاده ،ثم جاء إليه ،فقال :يا رسول ال ،
عرجتُ ،قال :قد نهيتك ،فعصيتني ،فأبعدك ال ،وبطل عرجك ،ثم نهى رسول ال صلّى ال عليه
وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه» (. )3
تأجيل القصاص لعذر :اتفق الئمة على أنه يؤخر القصاص في الطرف أو النفس عن المرأة الحامل
حتى تضع حملها وترضع وليدها ،ويستغني عنها ولدها بإرضاع من جهة أخرى .وقال المالكية:
يؤخّر القصاص فيما دون النفس لعذر كبرد شديد أو حر يخاف منه الموت.
-------------------------------
( )1رواه الدارقطني ،وأبو بكر بن أبي شيبة مسندا ورواه البيهقي وأحمد مرسلً (نيل الوطار:
.)27/7
( )2المهذب.185/2 :
( )3رواه أحمد والدارقطني.
( )7/670
( )7/671
( )7/672
ودليلهم ما روى النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :قال رسول ال صلّى ال عليه
وسلم « :عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها» .وروى مالك في الموطأ ،والبيهقي،
وسعيد بن منصور عن ربيعة قال :قلت لسعيد بن المسيب ،كم في أصبع المرأة؟ قال :عشر ،قلت:
ففي أصبعين؟ قال :عشرون ،قلت :ففي ثلث أصابع؟ قال :ثلثون ،قلت :ففي أربع؟ قال :عشرون.
قال ربيعة :لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟ قال سعيد :هكذا السنة ياابن أخي.
ويضيف البيهقي جوابا على اعتراض ربيعة قول ابن المسيب :أعراقي أنت؟ قال ربيعة :عالم متثبت،
أو جاهل متعلم ،قال :يا ابن أخي ،إنها السنة (. )1
المبحث الثاني ـ عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ :
إن عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ ،هي الدية أو الرش ( . )2والدية المقصودة هنا هي
الكاملة ،والرش المقصود هنا :هو القل من الدية .وليس هناك أية عقوبة بدلية أخرى .وقد أبنت
أحوال وجوب الدية والرش في إبانة الطراف والشجاج والجراح العمد.
ولكن من يتحمل الدية أو الرش المقدر (ل حكومة العدل عند الحنفية) في حال الخطأ؟ العاقلة هي
التي تتحملها فيما زاد عن نصف عشر الدية في رأي الحنفية ،أو عن ثلث الدية ولو في الطرف أو
الجرح في رأي المالكية والحنابلة.
وتتحمل العاقلة عند الشافعية كل التعويض الواجب ،حتى الحكومات قل أو كثر ،كما تبين في مقدار ما
تتحمله العاقلة في شبه العمد.
ويلحظ أن عمد الصبي والمجنون عند الجمهور خطأ تحمله العاقلة ( ، )3والظهر عند الشافعية كما
بان سابقا :أن عمد الصبي عمد إذا كان مميزا ،وإل فهو خطأ ،لكن ل قصاص عليه في حالة العمد،
لكن تجب الدية في ماله ،ول تتحملها عنه عاقلته (. )4
-------------------------------
( )1قال الشافعي :كنا نقوم به ،ثم وقفت عنه ،وأنا أسأل ال الخيرة ،لنا نجد من يقول :السنة ،ثم ل
نجد نفاذا بها عن النبي صلّى ال عليه وسلم ،والقياس أولى بنا فيها .وأول الحنفية السّنة بأنها سنة
زيد بن ثابت (نصب الراية.)364/4 :
( )2الدر المختار 415/5 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص ،351مغني المحتاج.778/7 ،95/4 :
( )3المغني ،776/7الدر المختار 415/5 :وما بعدها ،بداية المجتهد 404/2 :وما بعدها ،القوانين
الفقهية :ص .347
( )4مغني المحتاج ،10/4 :المهذب.174/2 :
( )7/673
صلُ الثّالث :الجِناية على نفس غير مكتملة (الجناية على الجنين ،أو الجهاض )
ال َف ْ
إذا ضرب إنسان (أب أو أم أو غيرهما) امرأة حاملً على بطنها أو ظهرها ،أو جنبها أورأسها أو
عضو من أعضائها ،أو أخافها بالضرب أو القتل أو الصياح عليها فأجهضت أوألقت جنينها ،فإما أن
تلقيه ميتا أو حيا ،وفيه مبحثان:
المبحث الول ـ حالة إلقاء الجنين ميتاً :
إذا انفصل الجنين عن أمه ميتا ،فعقوبة الجاني هي دية الجنين ،ودية الجنين ذكرا أو أنثى ،عمدا أو
خطأ :غرة ( )1ـ عبد أو أمة ،قيمتها خمس من البل ،أي نصف عشر الدية ،أو ما يعادلها وهو
خمسون دينارا أو خمس مئة درهم عند الحنفية أو ست مئة درهم عند الجمهور (، )2على الخلف في
تقويم الدينار بالدراهم.
والدليل عليه أحاديث صحيحة متعددة ،منها :ما رواه أبو هريرة رضي ال عنه قال« :اقتتلت امرأتان
من هذيل ،فرمت إحداهما الخرى بحجر فقتلتها وما
-------------------------------
( )2غرة كل شيء :خياره ،وسمي العبد أو المة غرة؛ لنهما من أنفس الموال ،وأصل الغرة:
البياض في وجه الفرس.
( )2البدائع ،325/7 :الشرح الكبير للدردير ،268/4 :مغني المحتاج ،103/4 :المهذب،198/2 :
المغني ،799/7 :بداية المجتهد.407/2 :
( )7/674
في بطنها ،فاختصموا إلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،فقضى أن دية جنينها غرة ـ عبد أو
وليدة ( ، )1وقضى بدية المرأة ( )2على عاقلتها» (. )3
من تجب عليه الغرة :إذا كانت الجناية عمدا ،وجبت مغلظة ،أي حالّةً معجلة في مال الجاني المتعمد،
ول يتصور العمد إل عند المالكية ،وبناء عليه قالوا :دية الجنين تكون حالّة معجلة ل منجّمة (أي
مقسّطة) ،وتكون من النقدين :الذهب أو الفضة ،ول تكون من البل ،وتكون في مال الجاني في العمد
مطلقا ،وكذا في حالة الخطأ إل أن تبلغ ثلث دية الجاني فأكثر ،فتكون حينئذ على العاقلة ( ، )4كما لو
ضرب مجوسي مسلمة فألقت جنينا.
وأما في حالة الخطأ أو شبه العمد ،وهذا هو المتصور عند الجمهور ،فتحمل العاقلة الدية ،والجاني
واحد من العاقلة عند الجمهور ،وليس واحدا منها عند الحنابلة ،كما بان في دية القتل شبه العمد.
والدليل له حديث المغيرة« :أن امرأة ضربتها ضَرّتها بعمود فِسطاط (خيمة) ،فقتلتها وهي حبلى ،فأتي
بها النبي صلّى ال عليه وسلم ،فقضى فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين غرة ،فقال عصبتها:
طلّ ( )6؟ فقال :سجع مثل سجع
أندي مال طعِم ول شرب ول صاح ول استهل ( ، )5مثل ذلك يُ َ
العراب» (. )7
-------------------------------
( )1الوليدة :المة الصغيرة ،أقل سنها سبع سنين ،ولذا عبر عنها بوليدة دون أمة لئل يتوهم اشتراط
كبرها.
( )2التي توفيت بعدئذ.
( )3متفق عليه بين أحمد والشيخين .قال ابن تيمية :وفيه دليل على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة (
نيل الوطار.)69/7 :
( )4الشرح الكبير ،268/4 :بداية المجتهد ،408/2 :القوانين الفقهية :ص .351 ،347
( )5استهل المولود :صاح عند الولدة.
( )6يطل :أي يبطل ويهدر.
( )7رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ،والترمذي ولكنه لم يذكر اعتراض العصبة وجوابه.
واستدل بذلك على ذم السجع في الكلم ،وكراهته إذا كان ظاهر التكلف .ول يكره إذا كان عفويا وهو
حق أو في مباح.
( )7/675
لكن الشافعية قالوا :إن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففة ،وإن كانت شبه عمد ،وجبت دية مغلظة
كما في الدية الكاملة.ونص الحنفية على أن العاقلة تضمن الغرة إذا أسقطت الم عمدا جنينها ميتا
بدواء أو فعل ،كأن ضربت هي بطنها ،بل إذن زوجها .فإن أذن أو لم يتعمد فل غرة ،لعدم التعدي (
. )1ول خلف بين العلماء في إلزام الم بالغرة في هذه الحالة ،وأضاف إليها الشافعية والحنابلة
وجوب الكفارة (. )2
وتتعدد الغرة بتعدد الجنة.
وتجب دية الجنين عند الحنفية والحنابلة في سنة ( ، )3وهو الصح عند الشافعية ( )4؛ لن التأجيل
في ثلث سنين خاص بدية نفس كاملة .فإن كانت الدية بمقدار ثلث دية المسلم كدية الذمي فتؤجل سنة
فقط .ومثلها دية المأمومة.
من تجب له الغرة :اتفق أئمة المذاهب الربعة وهو الراجح عند المالكية ( )5على أن الغرة تورث
عن الجنين بحسب الفرائض الشرعية المعلومة لذوي الفرض والتعصب .والجاني الضارب إذا كان
قريبا ولو أبا ل يرث من الغرة شيئا؛ لنه قاتل بغير حق ،والقاتل ل يرث بنص الحديث النبوي.
شروط وجوب دية الجنين :يشترط لوجوب دية الجنين شرطان:
ً - 1أن تؤثر الجناية في الجنين كضرب أو إيجار دواء ونحوهما.
ً - 2انفصال الجنين ميتا ،فلو لم ينفصل أو انفصل حيا ،لم تجب له الدية.
-------------------------------
( )1الدر المختار ومناقشة رد المحتار 418/5 :وما بعدها ،تبيين الحقائق )2( .142/6 :المغني:
،816/7الشرح الكبير ،268/4 :كشاف القناع.21/6 :
( )3تبيين الحقائق ،140/6 :كشاف القناع.64/6 :
( )4المهذب ،198/2 :مغني المحتاج 97 ،55/4 :ومابعدها.
( )5البدائع ،326/7 :الدر المختار ،417/5 :تبيين الحقائق ،142/6 :الشرح الكبير ،269/4 :الشرح
الصغير ،380/4 :مغني المحتاج ،104/4 :المغني ،805/7 :كشاف القناع.22/6 :
( )7/676
هل تجب الكفارة على الضارب؟ ل كفارة عند الحنفية ( )1على الضارب ،إن سقط الجنين كامل
الخلقة ميتا ،إل أن يشاء ذلك ،فهو أفضل ،تقربا إلى ال تعالى بما يشاء إن استطاع ،ويستغفر ال
سبحانه مما صنع ،أي أنه ل كفارة وجوبا بل ندبا.
وكذلك قال المالكية ( : )2تستحب الكفارة في قتل الجنين ،ول تجب.
وقال الشافعية والحنابلة ( : )3تجب الكفارة في الجهاض ،سواء ألقت الم الجنين حيا أم ميتا؛ لنه
نفس مضمونة ،ولقوله تعالى{ :ومن قتَل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء ]92/4:والجنين
محكوم بإيمانه تبعا لبويه أو لحد أبويه .وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق ،وقد
نص ال على الكفارة في أهل الميثاق .فمن لم يجد الرقبة حسا ،أو شرعا بأن وجدها بأكثر من ثمن
المثل ،صام شهرين متتابعين.
متى يجب التعويض المالي (الغرة) عن الجنين؟
اختلف الفقهاء في وقت وجوب الغرة عن الجنين :فقال الحنفية :يكفي استبانة بعض خلقه كظفر
وشعر ( . )4وقال المالكية :تجب الغرة إذا كان الجنين
-------------------------------
( )1البدائع ،326/7 :تبيين الحقائق ،141/6 :اللباب شرح الكتاب ،171/3 :الدر المختار.418/5 :
( )2القوانين الفقهية :ص ،348بداية المجتهد.408/2 :
( )3المغني 815/7 :وما بعدها ،96/8 ،كشاف القناع ،65/6 :مغني المحتاج ،108/4 :المهذب:
.217/2
( )4الفتاوى الهندية ،34/6 :حاشية ابن عابدين.587/6 :
( )7/677
مضغة أو كاملً ،أما إن كان علقة أي دما مجتمعا بحيث إذا صب عليه الماء الحار يذوب ،فليس فيه
شيء (. )1
وقال الشافعية والحنابلة :تجب غرة الجنين إذا كان مضغة وثبت ذلك بالشهادة ،فعند الشافعية :بشهادة
أربعة نسوة ،وعند الحنابلة بشهادة ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية .ول شيء فيه إذا كان نطفة
أو علقة (. )2
المبحث الثاني ـ حالة إلقاء الجنين حياً :
إذا انفصل الجنين حيا ثم مات بسبب الجناية عمدا ،فهل يجب القصاص من الضارب؟
قال المالكية ( : )3الراجح وجوب القصاص إذا أدى الفعل في الغالب إلى الموت كالضرب على
البطن أو الظهر .وتجب الدية فقط ل الغرة إذا لم يؤد الفعل غالبا إلى نتيجة كالضرب على اليد أو
الرجل؛ لن الجنين إذا استهل صار من جملة الحياء ،فلم يكن فيه غرة (. )4
وقال الحنفية والحنابلة والصح عند الشافعية ( : )5إن الجناية على الجنين ل تكون عمدا ،وإنما هي
شبه عمد أو خطأ؛ لنه ل يتحقق وجود الجنين وحياته حتى يقصد ،فتجب الدية كاملة .ول يرث
الضارب منها شيئا.
وأوجب الحنفية في هذه الحالة الكفارة ،كما قال الشافعية والحنابلة في إيجابها مطلقا ،سواء في حالة
إلقاء الجنين ميتا أو حيا.
وتتعدد الدية بتعدد الجنة.
فإن ماتت الم أيضا من الضربة بعد موت الجنين ،أو أنه خرج الجنين بعد موت الم حيا ثم مات،
فعلى الضارب ديتان :دية الم ،ودية الجنين لوجود سبب وجوبهما ،وهو قتل شخصين.
-------------------------------
( )1مواهب الجليل للحطاب ،257/6 :الخرشي ،38/8 :حاشية الدسوقي على الشرح الكبير.268/4 :
( )2قليوبي وعميرة ،160/4 :المهذب ،198/2 :المغني.406/8 :
( )3الشرح الكبير.269/4 :
( )4وقال ابن الحاجب :المشهور هو قول أشهب :وهو أنه ل قود في هذه الحالة ،بل تجب الدية في
مال الجاني بقسامة.
( )5البدائع ،326/7 :تبيين الحقائق ،140/6 :الدر المختار ،417/5 :الكتاب مع اللباب،170/3 :
المغني ،811/8 :مغني المحتاج.105/4 :
( )7/678
( )7/679
( )7/680
هذا ما لم يكن الكلب كلب حراسة بستان أو حقل عنب مثلً ،فل يضمن صاحبه شيئا مطلقا ،سواء
تقدم إليه الناس وأشهدوا على تقدمهم أم ل (. )1
وأما إن قام صاحب الحيوان أو حارسه بإرسال طير ،أو دابة ،أو إشلء كلب أو إغراء حيوان،
فأصاب إنسانا ،فيضمن مايتلفه بكل حال أي مطلقا ،سواء أكان سائقا له أم قائدا أم ل ،بسبب التعدي.
وهذا قول أبي يوسف ،وبه أخذ عامة مشايخ الحنفية ،وعليه الفتوى (. )2
- 2وقال المالكية في الراجح عندهم ،والشافعية والحنابلة ( : )3إن ما تفسده البهائم من الزروع
والشجر ونحوه مضمون على صاحبها ،أو راعيها أو ذي اليد عليها إن لم يوجد صاحبها إذا وقع
الضرر ليلً ،ول ضمان على ما تتلفه نهارا إذا لم يكن معها صاحبها .فإن كان معها صاحبها أو ذو
اليد الحائز كالغاصب والمستأجر والمستعير راكبا أو سائقا أو قائدا ،فهو ضامن لما تفسده من النفوس
والموال ،لما روي أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا (بستانا) فأفسدت فيه ،فقضى نبي ال صلّى
ال عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار ،وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها
( . )4
-------------------------------
( )1رد المحتار والدر المختار 432/5 :وما بعدها .وقال أبو حنيفة :ل يضمن حتى في حالة الشلء
(البدائع.)273/7 :
( )2رد المحتار على الدر المختار ،430/5 :البدائع ،273/7 :تكملة الفتح.350/8 :
( )3المنتقى على الموطأ ،61/6 :الشرح الكبير ،358/4 :بداية المجتهد ،317 ،408/2 :القوانين
الفقهية :ص ،333الفروق للقرافي ،186/4 :فتح العزيز شرح الوجيز ،246/11 :مغني المحتاج:
204/4وما بعدها ،تحفة الطلب للنصاري ،446/2 :نهاية المحتاج ،113/4 :المهذب،226/2 :
المغني ،336/8 ،283/5 :أعلم الموقعين ،25/2 :كشاف القناع ،139/4 :الطرق الحكمية :ص
،283الفصاح لبن هبيرة :ص ،275الميزان.174/2 :
( )4رواه مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان
وصححه .والحاكم والبيهقي من حديث حِرام بن مُحيّصة.
( )7/681
أما البهائم والجوارح الضارية (أي معتادة الجناية) فيضمن صاحبها مطلقا ماتتلفه من مال أو نفس
لتفريطه.
ضمان الراكب ومن في معناه وحوادث التصادم :أورد فقهاء الحنفية أمثلة فقهية واقعية لتحديد
الضامن في حوادث السير والركوب والتصادم وإتلف الحيوان ،ويمكن معرفة أحكامها في ضوء
القواعد الفقهية التالية وهي:
«ما ل يمكن الحتراز عنه ل ضمان فيه» « يضاف الفعل إلى المتسبب ما لم يتخلل واسطة» ،
«المتسبب ل يضمن إل بالتعدي» « ،المباشر ضامن وإن لم يتعدّ» « ،إذا اجتمع المباشر والمتسبب
يضاف الحكم إلى المباشر» ،تضمين المتسبب والمباشر معا عند تعدي كل منهما.
ل ـ (مال يمكن الحتراز عنه ل ضمان فيه ) :
أو ً
ومعناها أن كل ما يشق البعد عنه ل يكون سببا موجبا للضمان ،لنه من الضرورات ،ولن ما
يستحق على المرء شرعا يعتبر فيه الوسع والطاقة .وأما ما يمكن تجنبه أو الحتياط عنه فيكون سببا
موجبا للضمان.
وبناء عليه ( ، )1للناس النتفاع بالمرافق العامة كالطرقات مشيا أو ركوبا بشرط السلمة ،وعدم
الضرار بالخرين بما يمكن التحرز عنه ،دون ما ل يمكن التحرز عنه ،حتى يتيسر للناس سبيل
النتفاع ،ويتهيأ لهم ممارسة حقوقهم وحرياتهم على أساس العدل والمن والستقرار.
فما تولد من سير الماشي أو الراكب من تلف ،مما يمكن الحتراز عنه ،فهو مضمون .وما ل يمكن
الحتراز عنه ،فليس بمضمون ،إذ لو جعلناه مضمونا ،لصار الشخص ممنوعا عن السير ،وهو
مأذون به.
-------------------------------
( )1المبسوط 188/26 ،103/15 :ومابعدها ،البدائع 272/7 :وما بعدها ،تبيين الحقائق،149/6 :
مجمع الضمانات :ص ،165 ،47دررالحكام 111/2 :وما بعدها ،الدر المختار 427/5 :وما بعدها،
تكملة فتح القدير 345/8 :وما بعدها.
( )7/682
ـ فما أثارت الدابة بسنابكها من الغبار ،أو الحصى الصغار ،ل ضمان فيه ،لنه ل يمكن الحتراز
عنه وهو أمر معتاد .وأما الحصى الكبار أو الغبار الزائد عن المعتاد فيجب الضمان فيهما؛ لنه يمكن
التحرز عن إثارتهما.
وكذلك يضمن الراكب إذا ركب دابة نزقة ل يؤثر بها كبح اللجام ،لخروج ذلك عن المعتاد .ولو كبح
الدابة باللجام ،فنفحت ( )1برجلها أو بذنبها ،ومثله البول والروث واللعاب ،فهو هَدر ل ضمان فيه
لعموم البلوى به ،ولن الحتراز عنه غير ممكن ،ولقوله صلّى ال عليه وسلم « :الرِجْل جبار» ()2
أي نفحها .فإن أوقفها صاحبها في الطريق ،ضمن النفحة؛ لنه يمكن التحرز عن اليقاف والوقوف.
ـ ويضمن الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت دابته بيد أو رجل أو رأس ،أو كدمت ( ، )3أو
صدمت بصدرها ،أو خبطت بيدها؛ لن الحتراز عن ذلك ممكن؛ لنه ليس من ضرورات السير في
الطريق.
وهذا هو مذهب الشافعية ،ويلحظ أنه ل ضمان على الراكب عند المالكية في هذه الحوال عملً
بحديث« :العجماء جرحها جبار» وفرق الحنابلة بين ما
-------------------------------
( )1أي ضربت برجلها.
( )2أخرجه أبو داود والدارقطني والنسائي من حديث أبي هريرة ،ولكن تكلم الناس في هذا الحديث،
وفيه ضعف ( نصب الراية.)387/4 :
( )3الكدم :العض بأدنى الفم كما يكدم الحمار ،وبابه ضرب ونصر.
( )7/683
جنت الدابة بيدها فيضمنه الراكب ،وما جنت برجلها فل ضمان عليه ،عملً بحديث« :الرِجْل جبار»
( )1ومفهومه وجوب الضمان في جناية غير ال ِرجْل (. )2
ـ ويضمن صاحب الدابة ما تتلفه بالوطء والصدم ونحوهما إذا أوقفها في الطريق العام أو المحجة
(جادة الطريق) التي لم يؤذن فيها بالوقوف ،أو على باب المسجد لنه متع ٍد في الوقوف.
ـ ولكن ل ضمان عليه إذا أوقف الدابة في السواق أو الماكن المخصصة من قبل السلطات للوقوف
(أو المأذون بها من جهته كالمحطات الجانبية) أو في الفلة؛ لن الوقوف فيها مباح لعدم الضرار
بالناس .فإن كان راكبا عليها فوطئت إنسانا فقتلته يضمن؛ لنه قتل بطريق المباشرة.
ـ ول ضمان عليه أيضا إذا أوقف الدابة أو سار بها أو ساقها أو قادها في ملكه الخاص ،إل ما تحدثه
باليطاء برجلها أو بيدها ،وهو راكبها ،فيضمن ماتحدثه؛ لنه تصرف في ملكه الخاص ،فل يتقيد
تصرفه بشرط السلمة ،أما الوطء فهو بمنزلة فعله لحصول الهلك بثقله ،ومن تعدى على الغير في
دار نفسه ،يضمن.
ـ والسائق والقائد والرديف كالراكب ،إل أن الفرق أن الراكب قاتل بوطء الدابة بثقله وفعله ،أي أنه
مباشر ،وليس بمتسبب .والسائق ونحوه متسبب .فتجب الكفارة على الراكب في ملكه أو في غير ملكه
دون السائق والقائد.
فإذا قاد الرجل قافلة (قطارا) من الدواب ،فما أوطأته دابته يكون ضامنا .وكذا إذا صدم إنسانا؛ لن
القائد مقرب للبهيمة إلى الجناية ،وهذا مما يمكن الحتراز عنه في الجملة ،بأن يذود الناس عن
الطريق.
ـ ولو نفرت الدابة أو انفلتت من حارسها (المالك أو غيره) :فما أصابت في فورها ،فل ضمان عليه
لقوله عليه الصلة والسلم« :العجماء جبار» أي البهيمة جُرْحها جُبَار :هدر ،ولنه ل صنع له في
َنفَارها وانفلتها ،ول يمكنه الحتراز عن فعلها ،فل يكون الناشئ عنه مضمونا.
ـ ولو أرسل دابته ،فما أصابت من فورها ،ضمن؛ لن سيرها في فورها مضاف إلى إرسالها،
فكانت متعديا في الرسال ،فصار كالدافع لها ،أو كالسائق .فإن عطفت (مالت أو تحولت) يمينا أو
شمالً ،ثم أصابت شيئا ففيه احتمالن:
-------------------------------
( )1رواه سعيد بن منصور بإسناده عن هزيل بن شرحبيل ،كما روي عن أبي هريرة.
( )2المغني 338/8 :ومابعدها.
( )7/684
إن لم يكن لها طريق آخر إل ذاك ،وجب الضمان على المرسل؛ لنها باقية على الرسال.
وإن كان لها طريق آخر ،ل يضمن مرسلها؛ لنه انقطع أثر الرسال ،وصارت كالمنفلتة.
وفي كل هذه الحوال :ما كان من جناية الحيوان على بني آدم ،فهو على العاقلة؛ لن حائز الحيوان
متسبب متعد .وما كان على المال ،فهو على المسؤول عن الحيوان ،في ماله ،حالً ،أي أن ضمان
النفس على العاقلة ،وضمان المال في مال المتعدي .وهذا ما نص عليه الحنفية والشافعية (. )1
ثانيا ـ ضمان المتسبب وحده:
المتسبب :هو من يفعل فعلً يؤدي إلى ضرر ما ،ولكن بواسطة أخرى .ويضمن المتسبب أثر فعله
بشرطين:
ً - 1إذا كان متعديا ،والتعدي :هو فعل السبب بغير حق ،سواء أكان متعمدا الضرر أم ل يقصد
الضرر.
ً - 2وإذا كان هو العامل الهم في إحداث الضرر ،بأن يغلب السبب المباشرة ،كما في المثلة التالية:
ـ من ضرب دابة عليهاراكب ،أو نخسها بعود بل إذن الراكب ،فنفحت شخصا أو ضربته برجلها أو
بذنبها ،أو نفرت ،فصدمت إنسانا في فور النخسة ،ضمن الناخس أو الضارب ،دون الراكب؛ لن
الول متعد في فعله ،فما تولد عنه ،مضمون عليه ،والراكب ليس بمتعد ،فترجح جانب الناخس في
التغريم للتعدي .ويلحظ أن اشتراط كون النفحة فور النخس أمر ضروري ليتوافر معنى السببية في
إحداث الضرر (. )2
فإذا انقطع الفور بعد النخس ،فينسب الضرر إلى اختيار الدابة ،ل إلى الناخس.
وإذا حدث النخس أو الضرب بأمر الراكب ،فنفحت الدابة برجلها إنسانا ،فقتلته :فإن وقع الفعل في
مكان مأذون فيه فل ضمان .كأن كان الراكب يسير في الطريق ،أو كان واقفا في ملكه الخاص ،أو
في موضع قد أذن فيه بالوقوف من السواق العامة ونحوها؛ لن الناخس فعل بأمر الراكب فعلً
يملكه الراكب ،فصار فعله كفعل الراكب نفسه ،وفعل الراكب حينئذ ل يضمن ،فل يضمن مثله.
أما إن وقع النخس في مكان لم يؤذن بالوقوف فيه ،كالطريق العام ،فيشترك
الناخس والراكب في الضمان ،وتكون دية المجني عليه مثلً عليهما مناصفة .وسأذكر أمثلة أخرى في
حال اشتراك المتسبب والمباشر في الضمان.
-------------------------------
( )1مراجع الحنفية السابقة ،مغني المحتاج.204/4 :
( )2المبسوط ،2/27 :درر الحكام 113/2 :ومابعدها ،الدر المختار 430/5 :وما بعدها ،مجمع
الضمانات :ص ،187تكملة الفتح.352/8 :
( )7/685
( )7/686
( )7/687
ـ ولو نخس الدابة بغير أمر الراكب ،فوطئت إنسانا بقدمها أثناء الدفع ،فمات ،فالضمان عليهما؛ لن
الموت حصل بسبب فعل الناخس ،وثقل الراكب .والرديف كالراكب.
إل أن الراكب يختلف عن الناخس والسائق أو القائد في إيجاب الكفارة عليه ،وحرمانه من الميراث
والوصية عند الحنفية لمباشرته القتل ،وأما غيره فهو متسبب ،والمتسبب ل كفارة عليه ول يحرم
الميراث والوصية.
وفي قيادة قطار البل يجب الضمان على القائد فيما أوطأه أو أصابه أو صدمه البعير الول أو
الوسط أو الخير؛ لنه فعل فعلً سبب حصول التلف وهو مما يمكن الحتراز عنه .ول يختلف
الحكم كيفما كان السائق في الوسط أو الخر.
ـ ولو كان على القطار محامل ( )1فيها أناس نيام أوغير نيام ،مشتركون في القود أو السوق ،فهم
شركاء السائق والقائد في الضمان .وعلى الركبان وحدهم الكفارة .فإذا لم يكن من المحامل اشتراك
في القود أو السوق ،فهم كالمتاع ،ل شيء عليهم.
ويلحظ أن هذه الحكام ل تنطبق على السيارات اليوم ،لعدم اشتراك الركاب مع السائق في شيء،
فتكون مسؤولية الضمان على السائق وحده.
التصادم :إذا تصادم راكبان أو فارسان أو ملحان أو سائقا سيارة أو ماشيان أو راكب وماشٍ ،فماتا،
أو تلف شيء بسبب التصادم ،وجب على كل واحد
-------------------------------
حمِل :وهو الهودج.
( )1المحامل جمع مَ ْ
( )7/688
منهما عند الحنفية والحنابلة ( )1تحمل تبعة الضمان كاملة للخر ،لكن في الموت تتحمل عاقلة كل
واحد منهما دية الخر ،واليوم يتحمل كل واحد ل عاقلته تبعة فعله .وفي التلف يجب على كل
منهما تعويض ضرر الخر؛ لن الضرر قد حدث لكل واحد منهما بفعل نفسه وبفعل صاحبه أيضا.
هذا إذا كان التصادم خطأ ،فإن كان عمدا وجب عند الحنفية تحمل نصف قيمة الضمان ،أي نصف
الدية أو التعويض المالي.
ويرى المالكية ( : )2أنه إذا تصادم الفارسان ،فإن كان عمدا وماتا فل قصاص لفوات محله ،وإن
مات أحدهما اقتص من الخر له .وإن كان خطأ ومات كل واحد منهما ،فعلى كل واحد منهما دية
الخر ،وتتحملها عنه العاقلة ،كما قال الحنفية .فإن تصادمت سفينتان فتلفتا أو تلفت إحداهما فهدر ،ل
قود ول ضمان؛ لن جريهما بالريح ،وليس من عمل أربابهما (. )3
وقال الشافعية ،وزفر الحنفي ( : )4إذا اصطدم فارسان أو ماشيان ،أو سفينتان بتفريط من ربانهما،
بأن قصرا في صيانة آلتهما ،أو قدرا على ضبطهما فلم يضبطا ،أو سيرا المركبين في ريح شديدة
لتسير السفن في مثلها ،وجب على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف للخر (وكان في الماضي
الضمان على عاقلة كل منهما)؛ لن التلف حصل بفعلهما ،أي أن كل واحد هلك بفعله وفعل صاحبه
فيهدر النصف ،وينقسم الضمان عليهما ،ويهدر النصف الخر بسبب فعل كل واحد في حق نفسه.
وعند الشافعية يجب نصف الدية مغلظة على عاقلة كل منهما لورثة الخر؛ لن القتل شبه عمد؛ إذ
الغالب أن الصطدام ل يفضي إلى الموت ،فل يتحقق فيه العمد المحض ،فل يتعلق به القصاص.فإن
حدث التصادم بين السفينتين دون تفريط ،وإنما بقوة قاهرة كريح شديدة عصفت ،فل ضمان على أحد.
أما إذا كان المخطئ أحد المتصادمين ،كان الضمان عليه باتفاق الفقهاء ،كما لو صدم الماشي واقفا،
فالضمان على الماشي؛ لنه هو المتسبب ،ولو صدمت سفينة جائية سفينة واقفة ،كان الضمان على
صاحب السفينة الجائية إذا لم تكن الواقفة متعدية في وقوفها.
-------------------------------
( )1الدر المختار ،428/5 :تكملة الفتح ،348/8 :الكتاب مع اللباب ،168/3 :درر الحكام،112/2 :
مجمع الضمانات :ص ،150المغني 340/8 :ومابعدها ،غاية المنتهى ،282/3 :كشاف القناع:
.144/4
( )2بداية المجتهد ،409/2 :القوانين الفقهية :ص ،332الشرح الكبير للدردير 247/4 :وما بعدها.
( )3المراجع السابقة.
( )4المهذب ،194/2 :مغني المحتاج 89/4 :وما بعدها.
( )7/689
المبحث الثاني ـ جناية الحائط المائل ونحوه مما يحدثه الرجل في الطريق ـ سقوط البناء أو الجدار:
يجب في الجملة في حالة سقوط البناء الضمان على المتسبب في إحداث الضرر ،إما لنه يمكن
الحتراز عنه ،أو بسبب تقصيره وإهماله .وإذا حدث موت ،فالدية تجب على عاقلة مالك البناء ،لنه
متسبب .لكن ل تجب عليه الكفارة ول يحرم من الميراث والوصية عند الحنفية ،كما هو المقرر
عندهم في حالة القتل بالتسبب ،وعلى هذا إذا كانت الجناية على نفس فالواجب هو الدية ،وإذا كانت
على ما دون النفس فالواجب بها الرش على العاقلة إن بلغ عند الحنفية نصف عشر دية الرجل
وعشر دية النثى .وإن كانت الجناية على المال فيجب التعويض في مال المتسبب .وسقوط البناء :إما
أن يكون بسبب خلل أصلي عند النشاء ،أو بسبب خلل طارئ (. )1
المطلب الول ـ سقوط البناء أو الجدار بسبب خلل أصلي فيه :
ل خلف بين الفقهاء في وجوب ضمان الضرر الحادث بسبب سقوط البناء أو الجدار الذي بناه
صاحبه مائلً إلى الطريق العام أو إلى ملك غيره؛ لنه متعد بفعله ،فإنه ليس لحد النتفاع بالبناء في
هواء ملك غيره ،أو هواء مشترك ،ولنه ببنائه المشتمل على الخلل يعرضه للوقوع على غيره في
غير ملكه (. )2
ومثله :ما تولد من جناح ( )3إلى شارع ،سواء أكان يضر أم ل ،أذن فيه المام أم ل،أو ما يتلف
بالميازيب المخرجة إلى الشارع أو بما سال من مائها؛ لنه ارتفاق بالشارع ،والرتفاق بالشارع
مشروط بسلمة العاقبة ،فكل ما يحدث يكون صاحبه ضامنا.
-------------------------------
( )1البدائع.283/7 :
( )2البدائع ،283/7 :المغني 827/7 :وما بعدها ،مغني المحتاج.86/4 :
( )3جناح بفتح الجيم :هو البارز عن سمت الجدار من خشب أو غيره.
( )7/690
ومثله أيضا :لو طرح ترابا بالطريق ليطين به سطحه ،أو وضع حجرا أو خشبة أو متاعا فزلق به
إنسان ،ضمنه .وكذلك لو طرح قمامات (كناسة) وقشور بطيخ في طريق ،أو صب ماء في الطريق،
فتلف بفعله شيء ،أو قعد في الطريق للستراحة أو لمرض فعثر به عابر ،فوقع فمات أو وقع على
غيره فقتله ،يكون مضمونا؛ لن النتفاع بالطريق مشروط بسلمة العاقبة؛ ولن فيه ضررا على
المسلمين.
ومن حفر بئرا عدوانا كحفرها في ملك غيره بغير إذنه ،أو في شارع ضيق أو واسع لمصلحة نفسه
بغير إذن المام :ضمن ما تلف فيها من آدمي أو غيره ( . )1والمراد بالضمان :الدية ـ دية شبه
عمد في القتل ،والتعويض المالي في التلفات المالية .وكل ما ذكر ضمان بالتسبب ،والقاعدة تقول:
«يضاف الفعل إلى المتسبب ما لم يتخلل واسطة» .
ودليل الضمان في تلك الحالت وأمثالها هو قوله عليه الصلة والسلم« :ل ضرر ول ضرار في
السلم» (. )2
المطلب الثاني ـ سقوط البناء أو الجدار بسبب خلل طارئ عليه :
إذا بنى الشخص بناءه أو حائطه مستويا أو مستقيما ،ثم مال إلى الطريق أوإلى دار إنسان ،أو تشقق
بالعرض ل بالطول ،فسقط على شيء فأتلفه ،ففي ضمان الشيء المتلف رأيان للفقهاء:
- 1مذهب الشافعية والراجح عند الحنابلة ( : )3ل ضمان به في هذه الحالة؛ لن صاحبه تصرف
في ملكه ،والميل لم يحصل بفعله ،فأشبه ما إذا سقط بل ميل ،سواء أمكنه هدمه وإصلحه أم ل،
وسواء طولب بالنقض أم ل.
- 2مذهب الحنفية والمالكية ( : )4في المر تفصيل:
-------------------------------
( )1تبيين الحقائق ،145-142/6 :مغني المحتاج ،85-82/4 :المغني ،831-822/7 :المنتقى على
الموطأ ،41/6 :البدائع ،277/7 :اللباب شرح الكتاب.162/3 :
( )2روي من حديث عبادة بن الصامت ،وابن عباس ،وأبي سعيد الخدري ،وأبي هريرة ،وأبي لبابة،
وثعلبة بن مالك ،وجابر بن عبد ال ،وعائشة (راجع نصب الراية.)384/4 :
( )3مغني المحتاج ،86/4 :المغني ،828/7 :مجلة الحكام الشرعية للقاري (م .)1445
( )4البدائع ،283/7 :الدر المختار ،424/5 :تكملة الفتح 341/8 :ومابعدها ،الكتاب مع اللباب:
.167/3
( )7/691
أ ـ إن لم يطالب بنقضه ،حتى سقط على إنسان ،فقتله ،أو على مال فأتلفه ،فل ضمان؛ لنه بناه في
ملكه ،والميل حادث بغير فعله ،فأشبه ما لو وقع قبل ميله ،كثوب ألقته الريح في يده ،فما تولد منه ،ل
يؤاخذ به.
ب ـ وأما إن طولب بنقضه ،فلم يفعل ،ثم سقط بعدئذ يمكنه فيها نقضه ،فهو ضامن ما تلف به من
نفس أو مال؛ لنه حينئذ يصبح متعديا ،كما لو امتنع عن تسليم (أو رد) ثوب ألقت به الريح في دار
إنسان ،وطولب به ،فهلك ،يضمن .ولن للناس حق المرور دون ضرر ،وليس لحد منعهم منه.
أما إذا لم يفرط في نقضه ،وذهب حتى يستأجر عاملً يهدمه ،فسقط ،فأفسد شيئا ،فل شيء عليه؛ لن
الواجب عليه فقط إزالة الضرر بقدر المكان.
والمطالبة بالنقض أو الصلح هو المعروف بشرط التقدم ،والتقدم :هو التنبيه والتوصية أولً بدفع
وإزالة مضرة مظنونة (م 889مجلة).
الشهاد على المطالبة بالنقض :ل يشترط الشهاد لصحة التقدم أو المطالبة بالصلح ،وإنما الشهاد
كما قال الحنفية أمر ضروري لثبات سبب الضمان أي لثبات حصول الطلب عند القاضي واللزام
بالضمان عند النكار .فلو اعترف صاحب الدار أنه طولب بنقض الجدار ،وجب عليه الضمان ،وإن
لم يشهد عليه.
معنى الشهاد :الشهاد هو أن يقول الرجل« :اشهدوا أني قد تقدمت إلى هذا الرجل في هدم حائطه
هذا» أي أن المعتبر هو المطالبة بالهدم ( . )1وتعتبر شهادة رجلين أو رجل وامرأتين على التقدم ،أي
المطالبة.
-------------------------------
( )1راجع هذا وما يأتي بعده في البدائع ،284/7 :تكملة الفتح ،342/8 :الدر المختار.425/5 :
( )7/692
( )7/693
التصرف في البناء بعد الشهاد :إذا تصرف صاحب الحائط أو الدار في البناء ببيع أو غيره كهبة،
بعد الشهاد ،فسقط الحائط بعد قبض المشتري المبيع ،أو بعد ما ملكه باليجاب والقبول قبل القبض،
في زمان ل يتمكن من نقضه ،فل ضمان على صاحب الحائط الصلي ،فيما هلك بسقوطه ،لزوال
وليته بالبيع ونحوه ،فل يملك النقض ،فسقط حكم الشهاد ،حتى إنه لو رد المبيع على البائع بقضاء
أو غيره أو بخيار شرط أو رؤية للمشتري ،لم يضمن البيع ،إل إذا طولب بعد الرد .وأما إن كان
الخيار للبائع ونقض البيع ،ثم سقط الحائط وأتلف شيئا ،كان ضامنا؛ لن خيار البائع ل يلغي ولية
الصلح ،فل يلغي الشهاد.
فإن سقط الحائط بعد تفريط صاحبه قبل البيع ،التزم بالضمان .ويعتبر الجنون والردة مثل التصرف
بالبناء ،فلو جن صاحب الحائط جنونا مطبقا أو ارتد ولحق بدار الحرب ،ثم أفاق من جنونه ،أو عاد
مسلما وردت عليه الدار ،ل يضمن إل بإشهاد جديد في المستقبل (. )1
-------------------------------
( )1الدر المختار ،المكان السابق ،المغني.829/7 :
( )7/694
ول يصح إقرار عديم العقل كالمجنون ،وغير المميز .ويصح عند الحنفية خلفا لبقية الئمة إقرار
الصبي المميز بالديون والعيان؛ لنه من ضرورات التجارة.
ول يصح إقرار المستكره أو المتهم الذي يضرب ليقر في الموال والجنايات الموجبة لحد أو
قصاص ،ويلغى ،ول يترتب عليه أي أثر ،إل أن المالكية يقولون :ل يلزم إقرار المستكره ،بمعنى أنه
يخير بعد زوال الكراه بين إجازة القرار أو إلغائه أو إبطاله (. )1
ول يصح إقرار زائل العقل بنوم أو إغماء أو دواء .أما السكران المتعدي بسكره (وهو من تعاطى
مسكرا متعمدا) ( : )2فيصح إقراره في كل تصرفاته وجناياته عند الشافعية .ويصح إقراره عند
الحنفية في الموال والحوال الشخصية وفي القتل والجناية على ما دون النفس وعلى الجنين؛لنها
حقوق شخصية للعباد ،ول يصح إقراره في الحدود الخالصة ل تعالى كحد الزنا والسرقة ،لوجود
الشبهة ،وهي تدرأ بالشبهات ،لكن يضمن السكران الشيء المسروق وإن كان ل يحد.
ول يصح إقرار السكران بحق أو جناية أو غيرهما عند المالكية والحنابلة؛ لنه غير عاقل.
-------------------------------
( )1البدائع 189/7 :وما بعدها ،تكملة الفتح ،265/7 :تبيين الحقائق ،182/5 :الدر المختار،89/5 :
الدردير ،397/3 :المغني ،196/8 :حاشية الباجوري على شرح ابن القاسم لمتن أبي شجاع.4/2 :
( )2الدر المختار ،489/4 :رد المحتار والدر المختار 180/3 :وما بعدها ،الدردير ،397/3 :حاشية
الباجوري ،4/2 :المغني.138/5 :
( )7/696
واتفق الفقهاء ( )1عى أنه يجوز للمقر الرجوع عن إقراره في حقوق ال تعالى كالردة والزنا وشرب
خمر وسرقة وقطع طريق من أجل إسقاط الحد ،ل إسقاط المال؛ لنها تدرأ بالشبهات.
أما حقوق الدميين كالقرار بالقتل أو الجُرْح أو قطع طرف ،أو إسقاط جنين ،فل يجوز للمقر
الرجوع عن إقراره بها ،لتعلقها بحقوق الناس الشخصية ،ولو أن القصاص مما يدرأ بالشبهات؛ لن
الصل أل يجوز إلغاء كلم المكلف بل مقتضٍٍ.
ول يشترط تعدد القرار ،ويكفي مرة واحدة إل في القرار بالزنا عند الحنفية والحنابلة ،فإنه يطلب
كونه أربع مرات ،طلبا للتثبت في إقامة الحد ،وعملً بواقعة إقرار ماعز بن مالك أمام الرسول صلّى
ال عليه وسلم أربع مرات.
ثانيا ـ الشهادة :
إن أغلب وقائع الخصومات في الحقوق المالية والجرائم يثبت بالشهادة .وهي :إخبار صادق لثبات
حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء ( . )2ول خلف بين الفقهاء في جواز العتماد على الشهادة في
الثبات ،لورود النصوص القرآنية والنبوية الدالة على مشروعيتها والقضاء بها (. )3
وعدد الشهود اثنان إل في الزنا ،فل بد فيه من أربعة شهود لقوله تعالى{ :لول جاءوا عليه بأربعة
شهداء} [النور.]13/24:
-------------------------------
( )1فتح القدير ،120/4 :بداية المجتهد ،430/2 :الدردير ،318/4 :مغني المحتاج ،150/4 :تحفة
الطلب شرح تنقيح اللباب لزكريا النصاري :ص ،180المغني.197/8 :
( )2فتح القدير ،2/6 :الدر المختار ،385/4 :الشرح الكبير للدردير ،164/4 :مغني المحتاج:
.426/4
( )3راجع بحث الشهادة.
( )7/697
وتقبل عند الحنفية ( )1شهادة النساء مع الرجال في الموال والحوال الشخصية (الزواج والطلق
وتوابعهما) .وعند المالكية والشافعية والحنابلة ( : )2ل تقبل شهادة النساء مع الرجال إل في الموال
وتوابعها وعقودها.
ول تقبل شهادة النساء مع الرجال في المذاهب الربعة في الحدود والجنايات والقصاص ،وإنما ل بد
فيها من شهادة رجلين عدلين ،لخطورتها وضرورة التأكد من ثبوتها ،وتضييقا في طرق إثباتها،
واحتيالً لدرئها ،ولن في شهادة المرأة بدلً عن الرجل شبهة البدلية ،لقيامها مقام شهادة الرجال ،فل
تقبل فيما يندرئ بالشبهات .ويقول الزهري« :مضت السنة من رسول ال صلّى ال عليه وسلم
والخليفتين من بعده أل تجوز شهادة النساء في الحدود» ( )3وقال علي كرم ال وجهه« :ل تجوز
شهادة النساء في الحدود والدماء» (. )4
وبما أن هناك خلفات فقهية في أنواع الشهادات في الجرائم فإني أضيف لما سبق التوضيح التالي:
-------------------------------
( )1فتح القدير ،7/6 :البدائع ،277/6 :اللباب شرح الكتاب 55/4 :ومابعدها ،الهداية ،93/3 :ط
الخيرية.
( )2بداية المجتهد ،454/2 :المهذب ،333/2 :المغني 149/9 ،97/8 :ومابعدها ،الطرق الحكمية:
ص 152ومابعدها ،مغني المحتاج.118/4 :
( )3رواه ابن أبي شيبة في مصنفه .وأخرج عن الشعبي والنخعي والضحاك قالوا« :ل تجوز شهادة
النساء في الحدود» (نصب الراية.)79/4 :
( )4أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (نصب الراية ،المكان السابق).
( )7/698
( )7/699
دون يمين ( ، )1وقبل المام مالك شهادة الصبيان على بعضهم في الجراح ( )2عملً بالمصلحة
المرسلة أو إجماع أهل المدينة.
واقتصر الشافعية والحنابلة ( )3على إثبات جريمة التعزير بما تثبت به جريمة القصاص ،وهو شهادة
رجلين عدلين؛ لن العقوبة البدنية خطيرة ،فيحتاط فيها بقدر المكان ،فل تثبت به بما تثبت به
الموال من شهادة رجل وامرأتين أو شهادة رجل ويمين المدعي.
- ً 3جرائم التعزير المالي كالدية أو الغرامة :
تثبت هذه الجريمة في المذاهب الربعة ( )4بما تثبت به الحقوق المالية كشهادة رجلين أو رجل
وامرأتين؛ لنه يقصد بها المال .وأجاز غيرا لحنفية إثباته أيضا بشاهد ويمين المجني عليه .وأضاف
المالكية إمكان إثباتها بامرأتين ويمين المدعي ،ولم يجز الحنفية مطلقا مبدأ قبول شاهد ويمين ،ول
يمين وامرأتين ،عملً بما اقتصر عليه النص القرآني في قوله تعالى{ :واستشهدوا شهيدين من
رجالكم ،فإن لم يكونا رجلين ،فرجل وامرأتان} [البقرة ]282/2:فمن زاد على ذلك فقد زاد على
النص ،والزيادة على النص نسخ ،والنسخ ل يكون إل بنص مشابه.
-------------------------------
( )1تبصرة الحكام 260/1 :ومابعدها.
( )2العتصام للشاطبي 115/2 :ومابعدها ،كتابنا الوسيط في أصول الفقه :ص ،364ط ثالثة.
( )3المراجع السابقة.
( )4المراجع السابقة ،المغني.98/8 :
( )7/700
( )7/701
وتصرفات الخصوم ،فهي دليل أولي مرجح لزعم أحد المتخاصمين مع يمينه ،متى اقتنع بها القاضي،
ولم يثبت خلفها (. )1
رابعا ـ النكول عن اليمين :
النكول عن اليمين :هو المتناع عن حلف اليمين الموجهة إلى المدعى عليه بطريق القاضي .وهو ل
يعدو أن يكون مجرد قرينة على صدق المدعي في اتهام المتهم.
ويقضى به عند الحنفية والحنابلة ( )2؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم جعل جنس اليمين في جانب
المدعى عليه وحصرها فيه في قوله عليه الصلة والسلم« :البينة على المدعي ،واليمين على المدعى
عليه» .
ويقضى بالنكول عند أبي حنيفة في القصاص في الطراف حالة العمد ،وبالدية حالةالخطأ .ول يقضى
فيه عنده بالقصاص بالنفس ل بالقصاص ول بالدية ،لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف.
ول يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة والصاحبين.
كما ل يقضى بالنكول باتفاق الحنفية والحنابلة في الحدود الخالصة ل تعالى كحد الزنا والسرقة
والشرب ،لشتماله على الشبهة ،والحدود تدرأ بالشبهات.
وأما التعازير فيقضى فيها بالنكول عند الحنفية كما بان سابقا ،أما عند الحنابلة فل يقضى فيها
بالنكول ،على ما هول الظاهر في الترجيح بين الروايتين عن أحمد؛ لنه يرى قصر اليمان على
الموال والعروض التجارية (. )3
ولم يأخذ المالكية والشافعية ( )4بالنكول ،وإنما أخذوا باليمين المردودة في جانب المدعي ،ويقضى
باليمين المردودة عند المالكية في الموال وما يؤول إليها فقط كخيار وأجل دون ما سواها من
القصاص والحدود والتعازير .وأما عند الشافعية :فيقضى باليمين المردودة في جميع الحقوق
والتعازير ،ما عدا جنايات الدماء والحدود ،فل يقضى فيها بالقصاص ول بالحد.
-------------------------------
( )1المدخل الفقهي للستاذ مصطفى الزرقاء :ف.536/
( )2تكملة فتح القدير 155/6 :و ،158المبسوط ،35/17 :الدر المختار ،442/4 :المغني235/9 :
وما بعدها ،كشاف القناع 332/6 :وما بعدها.
( )3المغني ،238/9 ،67/8 :كشاف القناع.332/6 :
( )4بداية المجتهد ،454/2 :الدردرير 146/4 :ومابعدها ،مغني المحتاج ،150 ،118/4 :المهذب:
.318 ،301/2
( )5البدائع ،286/7 :الكتاب مع اللباب ،172/3 :تبيين الحقائق ،169/6 :الدر المختار.442/5 :
( )7/702
( )7/703
المطلب الثاني ـ مشروعية القسامة وحكمة التشريع وسبب وجوب القسامة :
كانت القسامة معروفة في الجاهلية ،وأول من قضى بها الوليد بن المغيرة .وثبتت مشروعية القسامة
بالسنة في أحاديث متعددة ،منها :ما رواه رجل من النصار« :أن النبي صلّى ال عليه وسلم أقر
القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية» (. )1
وقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :البينة على المدعي ،واليمين على من أنكر إل في القسامة» (
. )2
وروى الجماعة عن سهل بن أبي حَثْمة قال « :انطلق عبد ال بن سهل ،ومُحَيّصة بن مسعود إلى
خيبر ،وهو يومئذ صلح ،فتفرقا ،فأتى محيصة إلى عبد ال بن سهل ،وهو يتشحّط في دمه ( )3قتيلً،
حوَيّصة ابنا مسعود إلى النبي صلّى
فدفنه ،ثم قدم المدينة ،فانطلق عبد الرحمن بن سهل ،ومُحَيّصة و ُ
ال عليه وسلم ،فذهب عبد الرحمن يتكلم ،فقال :كبّر كبّر ( ، )4وهو أحدث القوم ،فسكت ،فتكلما،
قال :أتحلفون وتستحقون قاتلكم ،أو صاحبكم ( )5؟ فقالوا :وكيف
-------------------------------
( )1رواه أحمد ومسلم والنسائي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار (نيل الوطار:
.)34/7
( )2رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ،وهو ضعيف (نيل الوطار.)39/7 :
( )3هو الضطراب في الدم.
( )4أي دع من هو أكبر منك سنا يتكلم.
( )5فيه دليل على مشروعية القسامة .وإليه ذهب جمهور الصحابة والتابعين والعلماء من الحجاز
والكوفة والشام ،كما حكى القاضي عياض .وهي أصل مستقل من أصول الشريعة لورود الدليل بها،
فتخصص بها الدلة العامة ،وفيها حفظ للدماء وزجر للمعتدين.
( )7/704
نحلف ،ولم نشهد ولم نر؟ قال :فتبرّئكم يهود بخمسين يمينا ( ، )1فقالوا :كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟
فعقله النبي صلّى ال عليه وسلم من عنده» (. )2
وفي لفظ آخر« :أتحلفون خمسين يمينا ،وتستحقون دم صاحبكم» أي يقتص لكم من قاتله.
والحكمة من تشريع القسامة :هي أنها شرعت لصيانة الدماء وعدم إهدارها ،حتى ل يهدر (أو يطل)
دم في السلم ،وكيل يفلت مجرم من العقاب ،قال علي لعمر فيمن مات من زحام يوم الجمعة أو في
الطواف« :يا أمير المؤمنين ،ل يُطلّ دم امرئ مسلم ،إن علمت قاتله ،وإل فأعطه ديته من بيت
المال» .
وأما إلزام عصبة أو عاقلة المتهم بالقتل بالقسامة والدية عند الحنفية ( )3فبسبب وجود التقصير منهم
في الحفاظ على حياة القتيل قبل قتله في الموضع الذي وجد فيه ،ولعدم نصرته أو حمايته من اعتداء
الجاني عليه ،كما في القتل خطأ ،كأنهم شُرطة ،وبما أن حفظ المحلة عليهم ونفع ولية التصرف في
المحلة عائد إليهم ،فهم مسؤولون ،والخراج بالضمان على لسان الرسول عليه الصلة والسلم (. )4
ويلحظ أن إيجاب الدية بعد القسامة ليس هو الهدف الصلي من القسامة وإنما الغرض الحقيقي منها:
هو إظهار جريمة القتل ،وتطبيق القصاص عندما يحس الحالفون بخطورة اليمين ،ويتحرجون من
حلف اليمين الكاذبة ،فيقرون بالقتل ،فإذا حلفوا برئوا من القصاص ،وثبتت الدية لئل يهدر دم القتيل،
وعلى هذا فإن القسامة لم تشرع ليجاب الدية إذا نكلوا عن اليمان.
وإنما شرعت لدفع التهمة بالقتل ،وأما الدية فلوجود القتيل بين أظهرهم .وإلى هذا المعنى أشار عمر
حينما قيل« :أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال :أما أيمانكم فلحقن دمائكم ،وأما أموالكم فلوجود القتيل بين
أظهركم» .ومن نكل من عصبة القاتل عن اليمين حبس حتى يحلف؛ لن اليمين فيه مستحقة لذاتها،
تعظيما لمر الدم ،فيجمع بينه وبين الدية ،وذلك بعكس النكول عن اليمين في الموال؛ لن الحلف
فيها بدل عن أصل حق صاحب المال (المدعي) ،ولهذا يسقط اليمين ببذل المدعى به .وأما أيمان
القسامة فل تسقط ببذل الدية؛ لنها واجب أصلي لظهار القصاص ،وليست بدلً عن حق.
-------------------------------
( )1أي يخلصونكم عن اليمان بأن يحلفوا ،فإذا حلفوا انتهت الخصومة.
( )2نيل الوطار .34/7 :فعقله النبي صلّى ال عليه وسلم أي وداه بمئة من إبل الصدقة كما جاء في
لفظ لحمد.
( )3البدائع ،290 7/ :اللباب شرح الكتاب.172/3 :
( )4رواه مسلم وأصحاب السنن الربعة عن عائشة وضعفه البخاري وصححه الترمذي وغيره.
( )7/705
( )7/706
( )7/707
وعرفه الشافعية :بأنه قرينة حالية أو مقالية لصدق المدعي ،أو هو أن يوجد معنى يغلب معه على
الظن صدق المدعي ،كأن وجد قتيل أو بعضه كرأسه في مَحَلّة ،أو قرية صغيرة ،بينها وبين قبيلة
المقتول عداوة دينية أو دنيوية ،ول يعرف قاتله ،ول بينة بقتله .أو وجد قتيل تفرق عنه جمع كأن
ازدحموا على بئر أو على باب الكعبة ،ثم تفرقوا عن قتيل ،لقوة الظن أنهم قتلوه ،ول يشترط هنا
كونهم أعداء ،لكن يشترط أن يكونوا محصورين بحيث يتصور اجتماعهم على القتيل .وإل لم تسمع
الدعوى ول قسامة .والتحام قتال بين صفين أو وصول سلح في أحدهما للخر :لوث في حق الصف
الخر ،وشهادة العدل الواحد أو النساء ،وقول فسقة وصبيان وكفار :لوث في الصح .وعرف الحنابلة
اللوث :بأنه العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه ،لنحو ما كان بين النصار ويهود خيبر ،وما
يكون بين القبائل والحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء ،وما بين البغاة وأهل العدل ،وما بين
الشرطة واللصوص ،وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله ،فإن لم تكن عداوة
ظاهرة بين المتهم والمقتول ولكن غلب على الظن صدق المدعي كتفرق جماعة عن قتيل أو في زحام
أو شهد نساء وصبيان وفساق أو عدل فليس لوثا .وإن ادعى شخص القتل من غير وجود عداوة ،فل
بد من تعيين المدعى عليه .وإذا رفعت الدعوى على عدد غير معين لم تسمع الدعوى ،كما قال
الشافعية.
وبهذا يظهر أن المالكية يرون أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثا ،وإن كانت هنالك عداوة بين القوم
الذين منهم القتيل ،وبين أهل المحلة .ويعتبرون ادعاء المجني عليه على المتهم قبل وفاته لوثا ،وهذا
هو التدمية في العمد :وهو قول المقتول :فلن قتلني أو دمي عند فلن .ول يعتبره الشافعية وسائر
العلماء لوثا .والشاعة المتواترة على ألسنة الخاص والعام أن فلنا قتله :لوث عند الشافعية ،وليست
لوثا عند المالكية.
والخلصة أن اللوث :هو أمارة غير قاطعة على القتل ،ولكن حالت اللوث مختلف فيها بين
الجمهور.
( )7/708
( )7/709
واشترط المالكية والشافعية والحنابلة ( )1اتفاق الولياء على الدعوى ،فإن اختلفوا لم تثبت القسامة.
وعبر الشافعية عن ذلك بقولهم :أل تتناقض دعوى المدعي ،فلو ادعى على شخص انفراده بالقتل ،ثم
ادعى على آخر أنه شريكه أو أنه القاتل منفردا ،لم تسمع الدعوى الثانية ،لمناقضتها الدعوى الولى (
. )2
ً - 5إنكار المدعى عليه؛ لن اليمين وظيفة المنكر ،فإن اعترف فل قسامة.
ً - 6المطالبة بالقسامة؛ لنها أيمان ،واليمين حق المدعي ،وحق النسان يوفى عند طلبه ،كما في
سائر اليمان .ولهذا يختار أولياء القتيل من يتهمونه .ولو طولب من عليه القسامة ،فنكل عن اليمين
حبس حتى يحلف أو يقر؛ لن اليمين حق مقصود بنفسه ،ل أنه وسيلة إلى المقصود ،وهو الدية،
بدليل أنه يجمع بينه وبين الدية .قال الحارث بن الزمع لسيدنا عمر رضي ال عنه« :أنبذل أيماننا
وأموالنا؟ فقال :نعم» .وذلك بخلف اليمين في سائر الحقوق فإنها ليست مقصودة بنفسها ،بل هي
وسيلة إلى المقصود ،وهو المال المدعى ،فل يجمع بينهما ،فلو حلف المنكر أو المدعى عليه برئ.
-------------------------------
( )1المغني 71/8 :وما بعدها ،كشاف القناع ،70/6 :مغني المحتاج ،110/4 :الدردير.288/4 :
( )2هذا وقد اشترط الشافعية في كل دعوى بدم أو غيره كغصب وسرقة وإتلف ستة شروط وهي ما
يأتي:
ً - 1أن يكون محل الدعوى معلوما غالبا بأن يفصّل المدعي ما يدعيه من عمد وخطأ وشبه عمد،
ومن انفراد وشركة وعدد الشركاء.
ً - 2أن يكون موضوع الدعوى ملزما ،فل تسمع دعوى هبة شيء أو بيعه أوإقراره به حتى يقول:
وقبضته بإذن الواهب ،ويلزم البائع أو المقر التسليم إلي.
ً - 3أن يعين المدعي في دعواه المدعى عليه ،واحدا كان أو جمعا معينا كثلثة حاضرين.
ً - 4أن يكون المدعي مكلفا (بالغا عاقلً) حالة الدعاء ،فل تسمع دعوى صبي ول مجنون ،ول
سكرانٍ متعدٍ بسكره.
ً - 5أن يكون المدعى عليه أيضا مكلفا مثل المدعي ،فل تصح الدعوى على صبي ومجنون.
ً - 6أل تتناقض دعوى المدعي (راجع مغني المحتاج 109/4 :وما بعدها).
( )7/710
ً - 7أن يكون الموضع الذي وجد فيه القتيل مملوكا لحد الناس ،أو في حيازة أحد ،وإل فل قسامة
ول دية؛ لن كل واحدة منهما تجب بترك الحفظ اللزم ،فإذا لم يكن المحل ملك أحد أو في يد أحد ،ل
يلزم أحد بحفظه ،فل تجب القسامة والدية .وإنما تجب الدية في بيت المال؛ لن حفظ المكان العام
على العامة أو الجماعة ،ومال بيت المال مالهم.
وتطبيقات ذلك في المثلة التالية (: )1
ـ إذا وجد قتيل في فلة (صحراء أو برية) من الرض ،ليست ملكا لحد ،فإن كان موضعه في
مكان يسمع فيه الصوت من قرية أوبلد ،فعليهم القسامة .وإن كان في مكان ل يسمع فيه الصوت ،فل
قسامة فيه ول دية على أحد .وإنما تؤخذ ديته من بيت المال.
ـ إن وجد القتيل في وسط نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل ،وكان يجري على سطح الماء ،فل
قسامة ول دية على أحد؛ لن النهر العظيم ليس ملكا لحد ،ول في يد أحد .وإنما تجب الدية في بيت
المال.
وأما إذا لم يكن يجري على سطح الماء ،وكان محتبسا بالشاطئ (جانب النهر) أو في جزيرة،
فالقسامة على أقرب القرى من ذلك المكان إذا كانوا يسمعون الصوت؛ لنهم مسؤولون عن نصرة هذا
الموضع ،وهو تحت تصرفهم ،فكان في أيديهم.
وأما إن وجد في نهر صغير ،فالقسامة والدية على أهل النهر؛ لن النهر مملوك لهم.
-------------------------------
( )1البدائع 289/7 :ومابعدها ،اللباب ،176-174/3 :تكملة فتح القدير ،396-392/8 :الدر
المختار 445/5 :وما بعدها.448 ،
( )7/711
ـ ول قسامة في قتيل يوجد في المساجد الجامعة العامة ،أو الشوارع أوالجسور أو السواق العامة،
أو في السجن؛ لن هذه الماكن ليست مملوكة لحد ،ول في يد أحد.والدية في بيت المال.
فإن كان في مسجد مَحلّة ،فالقسامة على أهلها.
ـ وإن وجد القتيل في سفينة ،فالقسامة على من فيها من الركاب والملحين؛ لنها في أيديهم.
والسيارة أو العربة مثل السفينة.
وإذا وجد القتيل على دابة ،ومعها رجل قائد أو سائق أو راكب ،فالقسامة عليه ،والدية على عاقلته،
دون أهل المحلة؛ لنها في يده.
ومثله ،لو وجد القتيل في دار إنسان :القسامة عليه ،والدية على عاقلته.
فإن وجد على دابة تسير ،وليس في يد أحد ،فل قسامة ول دية ،وإنما الدية على بيت المال.
ـ وإن وجد القتيل بين قريتين ،بحيث يبلغ الصوت أهل كل منهما ،ليتمكنوا من النصرة ،فالقسامة
والدية على أقربهما إليه.
والخلصة :أن كل مكان يكون التصرف فيه لعامة المسلمين ل لواحد منهم ول لجماعة يحصون ،ل
قسامة ول دية على أحد ،وإنما الدية على بيت المال؛ لن الغرم بالغنم.
( )7/712
( )7/713
البل» ( )1فدل الحديث على وجوب القسامة على المدعى عليهم ،وهم أهل المحلة ،وعلى وجوب
الدية عليهم مع القسامة.
فإن حلفوا قضي عليهم (أي على أهل المحلة) بالدية في القتل العمد ،وعلى عاقلتهم (عاقلة أهل
المحلة) في القتل الخطأ.
وإن امتنع المدعى عليهم أو بعضهم عن الحلف ،حبسوا حتى يحلفوا؛ لن اليمين فيه مستحقة لذاتها،
تعظيما لمر الدم (. )2
ً - 2وقال المالكية والشافعية والحنابلة وداود الظاهري ( : )3يبدأ المدعون أولياء القتيل باليمان
الخمسين ،عملً بحديث سهل بن أبي حثمة المتقدم ،وفيه« :أتحلفون خمسين يمينا ،وتستحقون دم
صاحبكم؟» فيحلف كل ولي (بالغ عاقل) منهم أمام الحاكم والمدعى عليه ،وفي المسجد العظم بعد
الصلة عند اجتماع الناس« :بال الذي ل إله إل هو :لقد ضربه فلن فمات ،أو لقد قتله فلن» .
ويشترط أن تكون اليمين قاطعة (على البت) في ارتكاب المتهم الجريمة.
ويشترط عند المالكية ( )4أن تكون اليمان متوالية ،فل تفرق على أيام أوأوقات؛ لن للموالة أثرا في
الزجر والردع.
ول يشترط عند الشافعية على المذهب والحنابلة ( )5موالتها؛ لن اليمان من جنس الحجج ،والحجج
يجوز تفريقها ،كما لو شهد الشهود متفرقين.
فإذا لم يحلف المدعون ،حلف المدعى عليه خمسين ،وبرئ ،فيقول« :وال ما قتلته ،ول شاركت في
قتله ،ول تسببت في موته» لقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي
يتبرؤون منكم.
-------------------------------
( )1هذا الحديث غريب كما قال الزيلعي في نصب الراية 393/4 :ومابعدها.
( )2البدائع ،289/7 :اللباب مع الكتاب ،172/3 :تكملة فتح القدير ،388/8 :تبيين الحقائق.170/6 :
( )3بداية المجتهد ،421/2 :الدردير 289/4 :ومابعدها ،293 ،مغني المحتاج،116-114/4 :
المغني ،77 ،68/8 :كشاف القناع ،8/6 :القوانين الفقهية :ص .348
( )4الدردير.293/4 :
( )5مغني المحتاج ،115/4 :كشاف القناع.76/6 :
( )7/714
فإن لم يحلف المدعون ،ولم يرضوا بيمين المدعى عليه ،برئ المتهم ،وكانت دية القتيل في بيت المال
عند الحنابلة ( ، )1خلفا للمالكية والشافعية.
وإن نكل (امتنع) المدعى عليه عن اليمين ،ردت اليمان عند الشافعية ( )2على المدعين ،فإن حلفوا
عوقب المدعى عليه ،وإن لم يحلفوا ل شيء لهم.
وعند المالكية ( : )3من نكل من المدعى عليهم ،حبس حتى يحلف أو يموت في السجن ،وقيل :يجلد
مئة ويحبس عاما.
ول يحبس عليها عندالحنابلة ( )4كسائر اليمان.
المطلب السابع ـ من تجب عليه القسامة (أو من يدخل القسامة ) :
تجب القسامة على الورثة كلهم عند بعض الفقهاء وعلى بعض الورثة عند آخرين.
ً - 1قال الحنفية ( : )5الحالف هو المدعى عليه ،وتجب أيمان القسامة على بعض الورثة وهم
الرجال البالغون ،فل قسامة على صبي أو مجنون أو امرأة؛ لن سبب وجوبها هو التقصير في
النصرة ،وعدم حفظ موضع القتل ،وهؤلء ليسوا أهلً لذلك.
والصبي أو المجنون ل يدخل في القسامة في أي موضع وجد القتيل ،سواء وجد في غير ملكه ،أو في
ملكه .أما اشتراكه في الدية مع العاقلة فيدخل معها إن وجد القتيل في ملكه؛ لن وجوده في ملكه
كمباشرته القتل ،والصبي والمجنون مؤاخذان بضمان الفعال المالي.
والمرأة ل تدخل في القسامة والدية في قتيل يوجد في غير ملكها .أما إن وجد في دارها أو في قرية
لها ،ليس بها غيرها ،فعليها القسامة؛ لنها أهل لليمين ،فتستحلف وتكرر عليها اليمان في قول
الطرفين (أبي حنيفة ومحمد) .وقال أبو يوسف :ل قسامة عليها ،وإنما على عاقلتها؛ لنها ليست من
أهل النصرة.
وتدخل المرأة مع العاقلة في الدية في هذه المسألة ،استثناء من نظام العاقلة.
ول يحلف ولي القتيل مع أهل المحلة ،ول يقضى له بالجناية بيمينه؛ لن اليمين شرعت للدفع ،ل
للستحقاق.
-------------------------------
( )1المغني.78/8 :
( )2مغني المحتاج.116/4 :
( )3الشرح الكبير للدردير ،296/4 :القوانين الفقهية :ص .348
( )4المغني.87/8 :
( )5البدائع ،294/7 :تكملة الفتح 389 ،386/8 :ومابعدها ،تبيين الحقائق ،171/6 :الدر المختار:
446 ،444/6ومابعدها.
( )7/715
والقسامة والدية تجبان على القرب من عاقلة من وجد القتيل فيهم،فرب الدار وقومه أخص ،ثم أهل
المحلة ،ثم أهل المصر .وقوم الشخص أو قبيلته يرتبون أيضا :القرب فالقرب.
ول يدخل عند أبي حنيفة ومحمد السكان (كالمستأجرين والمستعيرين) مع الملك في القسامة؛ لن
المالك هو المختص بنصرة البقعة دون السكان .وقال أبو يوسف :هي عليهم جميعا؛ لن ولية التدبير
تكون بالسكنى وبالملك .والقسامة عند الطرفين على أهل الخطة ( )1دون المشترين ،ولو بقي من أهل
الخطة واحد .وقال أبو يوسف :الكل مشتركون؛ لن ضمان الشيء إنما يجب بترك الحفظ ،ممن له
ولية الحفظ ،والولية تتحقق بالملك ،والكل هنا ملك .ويظهر أن هذا الرأي في الظروف الحاضرة
هو الولى بالتباع (. )2
وإذا حلف أهل المحلة وجبت الدية في مالهم إن كانت الدعوى في قتل عمد ،وعلى عواقلهم إن كانت
في قتل خطأ.
وإذا كان مكان وجود القتيل مملوكا تجب القسامة على الملك ،والدية على عاقلتهم ،وإذا لم يكمل أهل
المحلة خمسين رجلً ،كررت اليمان عليهم حتى يتم خمسون يمينا؛ لنها الواجبة بالسنة ،فيجب
إتمامها ما أمكن .ول يبحث عن فائدة تكرار اليمان على هذا النحو ،لثبوتها هكذا بالسنة.
ً - 2والمالكية ( )3فرقوا بين نوعي القتيل :العمد والخطأ ،فقالوا:
في الخطأ :يحلف أيمان القسامة ورثة القتيل ،وإن كان الوارث واحدا أوامرأة أو أخا أو أختا لم ،وإذا
تعدد الورثة توزع اليمان على قدر الميراث ،ويجبر الكسر واحدا على صاحب الكسر الكثر،
وينتظر حضور الغائب حتى يحلف ،والصبي حتي يبلغ ،فيحلف حصته من أيمان القسامة فقط ،وأخذ
نصيبه من الدية .وإن نكل ورثة المقتول خطأ حلفت عاقلة القاتل ،كل واحد منهم يمينا واحدة .فإن لم
-------------------------------
( )1الخِطة :ما اختط للبناء ،والمراد هنا :ما خطه المام حين فتح البلدة وقسمها بين الغانمين.
والمقصود بما خطه المام :أي ما أفرزه وميزه من أراض وأعطاه لحد الناس.
( )2قال ابن عابدين في رد المحتار :447/5 :والحاصل أنه إذا كان في محلة أملك قديمة وحديثة
وسكان ،فالقسامة على القديمة دون أخويها؛ لنه إنما يكون ولية تدبير المحلة إليهم .وإذا كان فيها
أملك حديثة وسكان فعلى الحديثة .وإذا كان سكان فل شيء عليهم .قال في شرح الطحاوي :قيل هذا
في عرفهم ،وأما في عرفنا فعلى المشترين؛ لن التدبير إليهم.
( )3الشرح الكبير 293/4 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص 348ومابعدها.
( )7/716
يكن عاقلة حلف الجاني الخمسين وبرئ ،فإن نكل غرم حصته ،وإن نكل بعض الورثة حلف البعض
الخر جميع اليمان ،وأخذ حصته فقط من الدية.
ومن نكل من العاقلة يغرم حصته فقط من الدية للناكلين من ورثة القتيل.
وأما في القتل العمد :فيحلف العصبة من النسب ،سواء ورثوا أم ل .ول يحلف أقل من رجلين منهم.
ول يحلف النساء في العمد لعدم قبول شهادتهن فيه .فإن لم يوجد غيرالنساء ،صار المقتول كمن ل
وارث له ،فترد اليمان على المدعى عليه ،فيحلف خمسين يمينا أنه :ما قتل.
ً - 3وقال الشافعية ( : )1يشترك جميع الورثة رجالً ونساءً في أيمان القسامة ،وتوزع اليمان
الخمسون عليهم بحسب أنصبائهم من الرث .ويجبر الكسر للواحد.
ً - 4وقال الحنابلة ( : )2تختص اليمان بالورثة الذكور المكلفين ،وهم ذوو الفروض والعصبات
على قدر إرثهم إن كانوا جماعة ،ويجبر الكسر واحدا ،وإن كان الوارث واحدا حلفها أي الخمسين
يمينا ،ول يدخل في القسامة :النساء والصبيان والمجانين ،لقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :يقسم
خمسون رجلً منكم ،وتستحقون دم صاحبكم» ولن القسامة حجة يثبت بها قتل العمد ،فل تسمع من
النساء كالشهادة ،ولن الصبي أو المجنون ل يثبت بقوله حجة ،فلو أقر أحدهما على نفسه لم يقبل
إقراره ،فلن ل يقبل قوله في حق غيره أولى.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج.115/4 :
( )2كشاف القناع ،74/6 :المغني.80/8 :
( )7/717
( )7/718
واستدلوا على إيجاب القصاص بخبر الصحيحين« :أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» أي دم قاتل
صاحبكم ( ، )1وفي رواية «فيدفع إليكم برمته» وفي لفظ مسلم« :فيسلّم إليكم» ولن القسامة حجة
يثبت بها العمد ،أي القصد بالتفاق ،فيثبت بها القصاص كشهادة الرجلين .وقد روى الثرم بإسناده
عن عامر الحول« :أن النبي صلّى ال عليه وسلم أقاد بالقسامة بالطائف» .
انتهى الجزء السابع
ويتبعه الجزء الثامن
تتمة الفقه العام
الجهاد وتوابعه -القضاء
-------------------------------
( )1وأجاب الشافعي في الجديد عن الحديث بأن التقدير :بدل دم صاحبكم.
( )7/719
( )8/1
إن كنتم تعلمون} [التوبة ]41/9:وقال سبحانه{ :إن ال اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم
الجنة يقاتِلون في سبيل ال ،فيَقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن ،ومن أوفى
بعهده من ال ،فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ،وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة. )1( ]111/9:
وعرفه غير الحنفية بما يقارب هذا التعريف ،فقال الشافعية مثلً« :هو قتال الكفار لنصرة السلم» (
. )2
وأنسب تعريف للجهاد شرعا أنه :بذل الوسع والطاقة في قتال الكفار ومدافعتهم بالنفس والمال
واللسان.
فالجهاد يكون بالتعليم وتعلم أحكام السلم ونشرها بين الناس ،وببذل المال ،وبالمشاركة في قتال
العداء إذا أعلن المام الجهاد ،أخرج أبو داود عن أنس ابن مالك رضي ال عنه عن النبي صلّى ال
عليه وسلم قال« :جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» .
فضل الجهاد ومنزلته في السلم :
الجهاد في السلم ذروة سنامه ،وسياج مبادئه ،وطريق الحفاظ على بلد السلم والمسلمين .فهو من
أهم مبادئ السلم العظمى؛ لنه سبيل العزة والكرامة والسيادة ،لهذا كان فريضة محكمة ،وأمرا
ماضيا إلى يوم القيامة ،وما ترك قوم الجهاد إل ذَلّوا وغُزوا في عقر دارهم وخذلهم ال ،وسلط
عليهم شرار الناس وأراذلهم.
-------------------------------
( )1البدائع ،97/7 :فتح القدير 276/4 :وما بعدها ،الدر المختار.238/3 :
( )2حاشية الشرقاوي على تحفة الطلب ،391/2 :وانظر آثار الحرب للمؤلف :ص 31وما بعدها.
( )8/2
قال تعالى{ :وجاهدوا في ال حق جهاده} [الحج{ ]78/22:إن ال اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بأن لهم الجنة ،يقاتلون في سبيل ال ،ف َيقْتلون ويُقْتلون ،وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن،
ومن أوفى بعهده من ال ،فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ،وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة.]111/9:
ثم وردت أحاديث نبوية كثيرة تبين فضل الجهاد ،وأنه أفضل العمال عند ال تعالى ،سئل رسول ال
صلّى ال عليه وسلم « :أي العمل أفضل؟ قال :إيمان بال ورسوله ،قيل :ثم ماذا؟ قال :الجهاد في
سبيل ال ،قيل :ثم ماذا؟ قال :حج مبرور» ( . )1وقال النبي صلّى ال عليه وسلم « :لغدوة أو روحة
في سبيل ال خير من الدنيا وما فيها» (. )2
والمجاهد الذي يجود أو يضحي بنفسه في سبيل ال ،سبيل الجماعة والقيم العليا ،يتمتع بالخلود
والرفعة والمكانة في تاريخ البشرية وعند ال تعالى حيث يجعله في مصاف النبياء والمرسلين ،قال
ال تعالى{ :ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا ،بل أحياء عند ربهم يرزقون .فرحين بما آتاهم
ال من فضله ،ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خَلْفهم ألّ خوف عليهم ول هم يحزنون} [آل
عمران.]170-169/3:
ولقد تمنى نبي ال أن يحوز درجة الشهادة في سبيل ال ،فقال« :والذي نفس محمد بيده ،لوددت أن
أغزو في سبيل ال ،فأُقتل،ثم أغزو فأقتل ،ثم أغزو فأقتل» ( )3وقال« :يغفر للشهيد كل ذنب إل
الدّيْن» ( . )4بل إن الشهيد نفسه يتمنى
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي ال
عنه.
( )2رواه الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك رضي ال عنه.
( )3رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي ال عنه.
( )4رواه مسلم عن عبد ال بن عمرو رضي ال عنهما.
( )8/3
العودة إلى دار الدنيا ،قال النبي صلّى ال عليه وسلم « :ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا
وإن له ما على الرض من شيء ،إل الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا ،فيقتل عشر مرات لما
يرى من الكرامة» (. )1
وعقد الرسول الكريم مقارنة دقيقة بين قتلى الحرب فقال (« : )2القتلى ثلثة رجال :رجل مؤمن
جاهد بنفسه وماله في سبيل ال ،حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل ،ذلك الشهيد الممتحن ،في خيمة
ال تحت عرشه ،ل يفضله النبيون إل بدرجة النبوة .ورجل مؤمن قَرَف ( )3على نفسه من الخطايا،
جاهد بنفسه وماله في سبيل ال ،حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل ،فتلك مصمصة ( )4محت ذنوبه
وخطاياه ،إن السيف محّاء للخطايا ،وأُدخل من أي أبواب الجنة شاء ،فإن لها ثمانية أبواب ،ولجهنم
سبعة أبواب ،وبعضها أسفل من بعض .ورجل منافق جاهد بنفسه وماله في سبيل ال ،حتى إذا لقي
العدو قاتل حتى يقتل ،فذلك في النار ،إن السيف ل يمحو النفاق» (. )5
فريضة الجهاد :
إن لم يكن النفير عاماً :فالجهاد فرض كفاية ،ومعناه أنه يفترض على جميع من هو أهل للجهاد ،لكن
إذا قام به البعض سقط عن الباقين ،لقوله عز وجل{ :فضّل ال المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على
القاعدين درجة ،وكلّ وعد ال
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أنس رضي ال عنه.
( )2راجع كتاب الجهاد لعبد ال بن المبارك :ص .30
( )3قرف الذنب واقترفه ،إذا كسبه وعمله.
( )4أي مطهرة من دنس الخطايا.
( )5أخرجه من حديث عتبة بن عبد السلمي الدارمي ،والطيالسي ،وابن حبان والبيهقي وأحمد
والطبراني ،ورجال أحمد رجال الصحيح خل أبا المثنى ،المملوكي وهو ثقة.
( )8/4
الحسنى} [النساء ]95/4:ال سبحانه وعد الحسنى كلّ من المجاهدين والقاعدين عن الجهاد ،ولو كان
الجهاد فرض عين لما وعد القاعدين الحسنى؛ لن القعود يكون حراما.
وقوله سبحانه{ :وما كان المؤمنون لينفروا كافة ،فلول نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين}
[التوبة ]122/9:الية ،ولن المقصود من الجهاد ـ وهو الدعوة إلى السلم ،وإعلء الدين الحق،
ودفع شر الكفرة وقهرهم ـ يحصل بقيام البعض به ،فإذا قاموا به يسقط عن الباقين.
وإن ضعفوا عن مقاومة الكفرة ،فعلى من يجاورهم من المسلمين ،القرب ،فالقرب :أن يجاهدوا
معهم وأن يمدوهم بالسلح والمال.
ول يجوز للمرأة الشتراك في الجهاد إل بإذن زوجها؛ لن القيام بحقوق الزوجية فرض عين ،كما ل
يجوز الجهاد للولد بدون إذن أبويه أو أحدهما إذا كان الخر ميتا؛ لن بر الوالدين فرض عين ،فيكون
مقدما على فرض الكفاية.
وأقل الجهاد عند توافر القوة مرة في السنة كإحياء الكعبة ،ولقوله تعالى{ :أ َو ل يرون أنهم يفتنون في
كل عام مرة أو مرتين} [التوبة ]126/9:قال مجاهد :نزلت في الجهاد ولفعله صلّى ال عليه وسلم منذ
أمر به.
وكان الجهاد على عهد رسول ال صلّى ال عليه وسلم فرض كفاية ،لقوله تعالى{ :ل يستوي
القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} ـ إلى قوله تعالى { -وكلً وعد ال الحسنى} [النساء:
]4/95ففاضل سبحانه وتعالى بين المهاجرين والقاعدين ،ووعد كلً الحسنى ،والعاصي ل يوعد بها،
ول يفاضل بين مأجور ومأزور .وأما بعد النبي صلّى ال عليه وسلم فللكفار حالن :أحدهما ـ
يكونون ببلدهم ففرض كفاية إذا فعله من فيهم كفاية ،سقط الحرج عن الباقين.
( )8/5
الثاني ـ يدخلون بلدة لنا ،فيلزم أهلها الدفع بالممكن ،فإن عجزوا وجب القتال على من بقربهم دون
مسافة القصر من البلدة كأهلها ،ثم يلزم من بعد ذلك بقدر الكفاية دفعا عنهم وإنقاذا لهم .والتقييد بقدر
الكفاية دال على أنه ل يجب على الجميع الخروج للقتال ،بل إذا صار إليه قوم فيهم كفاية ،سقط
الحرج عن الباقين (. )1
فإن كان النفير عاماً :كأن هجم العدو على بلد إسلمي :فالجهاد فرض عين على كل قادر من
المسلمين ،لقوله سبحانه وتعالى{ :انفروا خفافا وثقالً} [التوبة ]41/9:قيل :نزلت في النفير .وقوله عز
وجل{ :ما كان لهل المدينة ومن حولهم من العراب أن يتخلفوا عن رسول ال ،ول يرغبوا بأنفسهم
عن نفسه} [التوبة ]120/9:فإذا عم النفير خرجت المرأة بغير إذن زوجها ،وجاز للولد أن يخرج بدون
إذن والديه.
ويتعين الجهاد في ثلثة أحوال (: )2
الول ـ إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان ،حرم على من حضر النصراف وتعين عليه المقام ،لقوله
تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا ال كثيرا} [النفال.]45/8:
الثاني ـ إذا نزل الكفار ببلد ،تعين على أهله قتالهم ودفعهم.
الثالث ـ إذا استنفر المام قوما ،لزمهم النفير معه ،لقول ال تعالى:
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،219 - 208/4 :المغني.348/8 :
( )2المغني.346/8 :
( )8/6
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل ال اثّاقلتم إلى الرض} [التوبة ]38/9:وللحديث
المتفق عليه« :إذا استنفرتم فانفروا» .
وهذا الحكم المذكور في فرضية الجهاد باتفاق الفقهاء (. )1
شروط الجهاد :يشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط ( : )2السلم ،والبلوغ ،والعقل ،والحرية،
والذكورة ،والسلمة من الضرر ،ووجود النفقة.
فأما السلم والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع الشرعية .وأما الحرية؛ فلن النبي كان
يبايع الحر على السلم والجهاد ،ويبايع العبد على السلم دون الجهاد.
وأما الذكورة فلحديث عائشة عند البخاري وغيره« :قلت :يا رسول ال ،نرى الجهاد أفضل العمال،
أفل نجاهد؟ فقال :لكن أفضل الجهاد :حج مبرور» .وأما السلمة من الضرر أي العمى والعرج
والمرض ،فلقوله تعالى{ :ليس على العمى حرج ،ول على العرج حرج ،ول على المريض حرج}
[النور .]61/24:وأما وجود النفقة فلقوله تعالى{ :ليس على الضعفاء ولعلى المرضى ،ول على
الذين ل يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا ل ورسوله} [التوبة ]91/9:ولن الجهاد ل يمكن إل
بآلة ،فتطلب القدرة عليها .وهذا كان في الماضي ،وأما في عصرنا فالدولة تمد المجاهد بالسلح
والنفقة.
المكلفون بالجهاد :يفترض الجهاد على القادر عليه ،فمن ل قدرة له ل جهاد عليه ،فل يطالب بالجهاد:
العمى ،والعرج ،والمريض مرضا مزمنا أو غير
-------------------------------
( )1البدائع :المرجع السابق :ص ،98تبيين الحقائق ،241/3 :فتح القدير ،278/4 :الدر المختار:
،239/3آثار الحرب :ص .87
( )2المغني.347/8 :
( )8/7
مزمن ،والمقعد ( )1والشيخ الهرم ،والضعيف والقطع ( )2والذي ل يجد ما ينفق ،والصبي ،والمرأة
ل للقتال،
والعبد؛ لن الخيرين مشغولن بخدمة الزوج والسيد؛ ولن الصبي غير مكلف ،وليس أه ً
بدليل ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال« :عُرضتُ على رسول ال صلّى ال عليه وسلم يوم
أحد ،وأنا ابن أربع عشرة سنة ،فلم يجزني في المقاتلة» الحديث .وأما كون الباقين لقتال عليهم
فلعجزهم ،وقد نزل فيهم قوله تعالى{ :ليس على العمى حرج ول على العرج حرج ،ول على
المريض حرج[ }...النور ]61/24:الية نزلت في أصحاب العذار حين همّوا بالخروج مع النبي
صلّى ال عليه وسلم حين نزلت آية التخلف عن الجهاد .وقال سبحانه{ :ليس على الضعفاء ول على
المرضى ول على الذين ل يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا ل ورسوله} [التوبة. )3( ]91/9:
ول تقاتل المرأة إل بإذن زوجها إل أن يهجم العدو على بلد المسلمين ،لصيرورة القتال حينئذ فرض
عين.
ول يقاتل الولد إل بإذن أبويه ،إل إذا صار الجهاد فرض عين ،جاء في الصحيحين « :أن رجلً
استأذن النبي صلّى ال عليه وسلم في الجهاد ،فقال :ألك والدان؟ قال :نعم ،قال :ففيهما فجاهد» .
ما يجب قبل القتال :أمر الجهاد موكول إلى المام واجتهاده ،ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك،
وينبغي أن يبتدئ بترتيب قوم في أطراف البلد يكفون
-------------------------------
( )1المقعد كما في المغرب :هو الذي أقعده الداء عن الحركة .وقيل :المقعد :المتشنج العضاء.
والزمِن :الذي طال مرضه.
( )2هو المقطوع اليد.
( )3المراجع السابقة ،البدائع :ص 98وما بعدها ،تبيين الحقائق :ص ،241فتح القدير :ص ،283
الدر المختار :ص .241
( )8/8
من بإزائهم من المشركين ،ويأمر بإعداد الحصون وحفر الخنادق ،وجميع المصالح .ويؤمّر في كل
ناحية أميرا يقلده أمر الحروب وتدبير الجهاد ( . )1فإذا ساءت العلقة بين المسلمين وغيرهم من
الكفار ووجدت دواعي القتال ،وقرر الحاكم المسلم خوض المعركة مع العدو ،فيجب حينئذ إنذار العدو
بإعلن الجهاد أوإبلغ الدعوة السلمية.
واختلف الفقهاء في حكم إبلغ الدعوة على ثلثة آراء:
الول ـ يجب قبل القتال تقديم الدعوة السلمية مطلقا ،أي سواء بلغت الدعوة العدو أم ل ،وبه قال
مالك والهادوية والزيدية ،لقوله تعالى{ :ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون}
[الفتح.]16/48:
الثاني ـ ل يجب ذلك مطلقا ،وهو رأي قوم كالحنابلة.
الثالث ـ تجب الدعوة لمن لم يبلغهم السلم ،فإن انتشر السلم ،وظهر كل الظهور ،وعرف الناس
لماذا يُدعون ،وعلى ماذا يقاتلون ،فالدعوة مستحبة تأكيدا للعلم والنذار ،وليست بواجبة ،وهذا رأي
جمهور الفقهاء والشيعة المامية والباضية .قال ابن المنذر :هو قول جمهور أهل العلم ،وقد تظاهرت
الحاديث الصحيحة على معناه ،وبه يجمع بين ما ظاهره الختلف من الحاديث (. )2
من الحاديث التي توجب البلغ :ما روي عن ابن عباس رضي ال عنهما ،قال« :ما قاتل رسول
ال صلّى ال عليه وسلم قوما قط إل دعاهم» ( )3وما رواه سليمان بن
-------------------------------
( )1المغني.352/8 :
( )2راجع آثار الحرب للمؤلف ،الطبعة الثالثة :ص 152وما بعدها ،الحكام السلطانية للماوردي:
ص .35
( )3رواه أحمد والبيهقي وأبو يعلى والطبراني وعبد الرزاق ،قال الهيثمي في مجمع الزوائد:304/5 :
ورجاله رجال الصحيح (راجع نيل الوطار 230/7 :وما بعدها ،نصب الراية.)378/3 :
( )8/9
بريدة عن أبيه ،قال« :كان رسول ال صلّى ال عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه
في خاصيته بتقوى ال ومن معه من المسلمين خيرا ..ثم قال :وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم
إلى ثلث خصال أو خلل ،فأيتهن ما أجابوك ،فاقبل منهم ،وكف عنهم :ادعهم إلى السلم فإن
أجابوك ،فاقبل منهم ،وكف عنهم ...فإن أبوا فسلهم الجزية ،فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ،وإن
أبوا فاستعن بال عليهم وقاتلهم »...الحديث (. )1
ومن الحاديث التي ل توجب البلغ أو الدعوة إلى السلم :ما روي عن عبد الرحمن بن عوف أن
رسول ال صلّى ال عليه وسلم أغار على بني المُصطَلِق وهم غارّون (أي غافلون) وأنعامهم تسقى
على الماء ،فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم ( . )2ومنها ما رواه أسامة بن زيد أن رسول ال صلّى ال
عليه وسلم كان عهد إليه فقال« :أغر على أبنى ( )3صباحا ،وحرّق» ( )4والغارة ل تكون مع
الدعوة.
الحديثان الولن وغيرهما يعتبران الدعوة إلى السلم شرطا في جواز القتال ،والحديثان الخران
يجيزان الغارة على العدو بدون دعوة جديدة ،نظرا لنه سبق له بلوغ الدعوة ،وإزاء هذا التعارض
في الظاهر قال أرباب الرأي الول والثاني :إن بعض الحاديث ينسخ بعضها ،أو يخصص الفعل
بزمن النبوة.
-------------------------------
( )1رواه الجماعة إل البخاري ،وصححه الترمذي (راجع نيل الوطار ،المرجع السابق ،جامع
الصول ،201/3 :نصب الراية ،380/3 :سبل السلم ،46/4 :اللمام :ص .)484
( )2رواه أحمد والشيخان (راجع نيل الوطار ،المرجع السابق ،ص ،232جامع الصول،204/3 :
نصب الراية3 :ص ،381سبل السلم :ص ،45اللمام :ص .)486
( )3أبنى ـ كحبلى :موضع بفلسطين بين عسقلن والرملة.
( )4رواه أبو داود وابن ماجه (راجع سنن أبي داود ،352/1 :سنن ابن ماجه :ص ،209نصب
الراية ،382/3 :نيل الوطار.)250/7 :
( )8/10
وقال الجمهور :يلجأ إلى الجمع والتوفيق بين الحاديث؛ لنه ل يلجأ إلى النسخ إل إذا تعذر الجمع بين
الدلة ،وأما ادعاء التخصيص فل دليل عليه.
فمن لم تبلغه الدعوة يجب دعاؤه إلى السلم ،فإذا بلغته استحب ذلك (. )1
وعلى هذا ،يجوز أن نبدأ العدو بالقتال والغارة والبيات عليهم ( )2؛ لنه قد وصلتهم أنباء الدعوة
السلمية .وبه يتبين أنه يشترط فيمن نقاتلهم شرطين:
- 1أل يكونوا مستأمنين أو معاهدين أو من أهل الذمة :لن دماء هؤلء معصومة مصونة ،وقد حرم
الشرع قتلهم ،كما يأتي في المعاهدات.
ً - 2إبلغهم الدعوة السلمية وتعريفهم بالسلم وبيان حقيقته وأهدافه وأسباب جهاد أعدائه .فإن
توافر هذان الشرطان جاز قتالهم من دون إنذار سابق كما تقدم.
من يقتل ومن ل يقتل من العداء في المعركة :يجوز قتل المقاتلة الذين يشتركون في الحرب برأي أو
تدبير أو قتال ،ول يجوز قتل غير المقاتلة من امرأة أو صبي أو مجنون أو شيخ هرم ،أو مريض
مقعد ،أو أشل ،أو أعمى ،أو مقطوع اليد والرجل من خلف أو مقطوع اليد اليمنى ،أو معتوه ،أو
راهب في صومعته ،أو قوم في دار أو كنيسة ترهبوا ،والعَجَزة عن القتال،والفلحين في حرثهم إل
إذا قاتلوا بقول أو فعل أو رأي أو إمداد بمال ،بدليل أن ربيعة بن رفيع السّلَمي أدرك دريد بن الصّمة
يوم حنين ،فقتله وهو شيخ كبير جاوز المئة ،ل ينتفع إل برأيه ،فبلغ ذلك رسول ال صلّى ال عليه
وسلم ولم ينكر عليه ( . )3ويجوز قتل المرأة إذا كانت مَلِكة
-------------------------------
( )1آثار الحرب :ص 153وما بعدها.
( )2البيات ـ بفتحتين :الغارة ليلً ،يقال :بيّت المر :دبره ليلً.
( )3روي ذلك في الصحيحين عن أبي موسى (نيل الوطار.)248/7 :
( )8/11
العداء؛ لن في قتلها تفريقا لجمعهم ،وكذلك إذا كان ملكهم صبيا صغيرا وأحضروه معهم في
المعركة ،ل بأس بقتله إذا كان في قتله تفريق جمعهم.
وأما أدلة عدم جواز قتلهم إذا لم يقاتلوا :فمنها قوله صلّى ال عليه وسلم « :ل تقتلوا امرأة ول وليدا»
( )1وقد ثبت أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم «نهى عن قتل النساء والصبيان» ( . )2وقال لحد
صحابته :الحق خالدا فقل له« :ل تقتلوا ذرّية ول عسيفا» ( . )3وعن ابن عباس أن النبي صلّى ال
عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال« :ل تقتلوا أصحاب الصوامع» ( . )4وعن أنس أن رسول ال
صلّى ال عليه وسلم قال« :انطلقوا باسم ال وبال ،وعلى ملة رسول ال ،ول تقتلوا شيخا فانيا ،ول
طفلً ،ول صغيرا ،ول امرأة ،ول تغلّوا ،وضموا غنائمكم ،وأصلحوا ،وأحسنوا إن ال يحب
المحسنين» (. )5
هذا في حال الحرب والقتال .أما بعد انتهاء القتال وهو ما بعد السر والخذ :فكل من ل يحل قتله في
حال القتال ل يحل قتله بعد الفراغ من القتال ،وكل من يحل قتله في حال القتال إذا قاتل يباح قتله بعد
الخذ والسر إل الصبي
-------------------------------
( )1رواه الطبراني في الكبير والوسط عن ابن عباس ولفظه..« :ول تقتلوا وليدا ول امرأة ول
شيخا» (راجع مجمع الزوائد.)316/5 :
( )2رواه الجماعة إل النسائي عن ابن عمر أنه قال« :وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي
صلّى ال عليه وسلم ،فنهى الرسول صلّى ال عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان» .ورواه الموطأ
أيضا ،وفي رواية لحمد وأبي داود« :ما كانت هذه لتقاتل» (راجع القسطلني شرح البخاري:
،142/5سنن ابن ماجه ،101/2 :منتخب كنز العمال من مسند أحمد ،319/2 :نيل الوطار:
،246/7جامع الصول 208/3 :ومابعدها ،نصب الراية ،386/3 :مجمع الزوائد.)315/5 :
( )3رواه أحمد وأصحاب السنن إل الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن رباح بن ربيع (نيل
الوطار ،المرجع السابق ،جامع الصول ،المرجع السابق ،مجمع الزوائد :ص ،316نصب الراية:
ص )388والذرية :الولدان .والعسيف :الجير.
( )4أخرجه أحمد عن ابن عباس (نيل الوطار ،المرجع السابق :ص .)247
( )5أخرجه أبو داود عن أنس (نيل الوطار ،المرجع السابق ،ص ،246سنن أبي داود،52/3 :
والمراجع السابقة).
( )8/12
والمعتوه الذي ل يعقل ،فإنه يباح قتلهما في حال القتال إذا قاتل ،ول يباح قتلهما بعد الفراغ من القتال
إذا أسرا ،حتى وإن قتل جماعة من المسلمين في القتال؛ لن القتل بعد السر بطريق العقوبة ،وهما
ليسا من أهل العقوبة ،فأما القتل في حال القتال فلدفع شر المقاتل ،فإذا وجد الشر منهما فأبيح قتلهما
لدفع الشر ،كما قال الكاساني (. )1
وينبغي للمسلمين أل يغدروا (أي يخونوا بنقض العهد) ول يغلّوا (أي يسرقوا من الغنيمة) ول يمثّلوا
بالعداء :بأن يشقوا أجوافهم ويرضخوا رؤوسهم ونحو ذلك .قال بعض الحنفية :وإنما تكره المُثْلة بعد
الظفر بهم ،أما قبله فل بأس بها (. )2
هذا هو مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والشيعة الزيدية والشافعي في أحد قوليه) .وقال
الشيعة المامية والظاهرية وابن المنذر والشافعي في أظهر قوليه :يجوز قتل من عدا النساء والصبيان
( . )3
التدمير والتخريب :ل بأس عند الضرورة الحربية بإحراق حصون العدو بالنار ،وإغراقها بالماء
وتخريبها وهدمها عليهم ،وقطع أشجارهم وإفساد زروعهم ،ونصب المجانيق ( )4ونحوها من مدافع
اليوم على حصونهم وهدمها ،لقوله تعالى { :يُخرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } [الحشر:
.]2/59
-------------------------------
( )1راجع البدائع 101/7 :وفي شرح اللباب على الكتاب :210/4 :ل بأس بقتل غير الصبي
والمجنون بعد السر ،لنه من أهل العقوبة ،الشرح الصغير 275/2 :وما بعدها ،كشاف القناع44/3 :
وما بعدها.
( )2راجع الموضوع في آثار الحرب :ص 294وما بعدها.
( )3راجع الموضوع في آثار الحرب :ص 494وما بعدها.
( )4المجانيق :جمع منجنيق ،وهي التي يرمى بها الحجارة.
( )8/13
ولنه عليه الصلة والسلم أحرق البويرة :وهي موضع بقرب المدينة ،ولن في إرسال الماء ونحوه
كسر شوكتهم وتفريق جمعهم.
ول بأس برميهم بالنبال ونحوها من وسائل القتال الحديثة ،البرية والبحرية والجوية ،وإن كان فيهم
مسلمون من السارى والتجار؛ لن رميهم ضرورة ،ويقصد الكفار بالضرب ل المسلمين؛ لنه ل
ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق.
وكذا يجوز ضرب الكفار إن تترسوا بأطفال المسلمين وأسراهم ،للضرورة وسدا لذريعة الفساد التي
قد تترتب على ترك قتلهم ،لكن يقصد الكفار بالضرب كما ذكر .وإن أصيب مسلم فل دية ول كفارة.
ولينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالكفار على قتال الكفار ،لقوله صلّى ال عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم
عن عائشة ـ لرجل تبعه يوم بدر« :ارجع فلن أستعين بمشرك» ؛ ولنه ل يؤمن غدرهم ،إذ العداوة
الدينية تحملهم على الغدر إل عند الضطرار ( ، )1وقد أجاز الكثرون من أتباع المذاهب الربعة
الستعانة بالكافر على الكفار ،إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين ،أي وكانت القيادة للمسلمين .وقيد
الشافعية ذلك أيضا بالحاجة؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم ـ استعان بصفوان بن
أمية يوم حنين ،وتعاونت خزاعة مع النبي صلّى ال عليه وسلم عام فتح مكة ،وخرج قُزمان الظفري
وهو من المنافقين مع الصحابة يوم أحد ،وهو مشرك (. )2
-------------------------------
( )1البدائع 100/7 :وما بعدها ،الكتاب مع اللباب 117/4 :وما بعدها.
( )2نيل الوطار ،136/7 :القسطلني شرح البخاري.170/5 :
( )8/14
ما يجب على المجاهدين حال القتال :يجب على المجاهدين حال التحام القتال ،وفي أثناء المعركة،
الثبات أمام عدوهم إذا غلب على ظنهم أنهم يقاومونهم ،قال ال تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة
فاثبتوا واذكروا ال كثيرا ،لعلكم تفلحون} [النفال ]45/8:وعلى المسلم أن يثبت أمام اثنين من الكفار،
قال ال تعالى{ :الن خفف ال عنكم ،وعلم أن فيكم ضعفا ،فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين،
وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن ال ،وال مع الصابرين} [النفال.]66/8:
فإن غلب على ظن المقاتلين المسلمين أنهم سيُغلبون ويقتلون ،فل بأس أن يفروا من عدوهم منحازين
إلى فئة يستنصرون بها من المسلمين .ول عبرة بالعدد ،حتى إن الواحد ،إذا لم يكن معه سلح ،فل
بأس أن يفر من اثنين مسلحين ،أو من واحد مسلح ،أو بسبب عجز لمرض ونحوه ،قال ال تعالى{ :يا
أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا ،فل تولوهم الدبار ،ومن يولهم يومئذ دبره إل متحرفا
لقتال ،أو متحيزا إلى فئة ،فقد باء بغضب من ال ،ومأواه جهنم وبئس المصير} [النفال)1( ]16/8:
.
ويؤيده ما روى ابن عمر قال« :بعث رسول ال صلّى ال عليه وسلم سرية قِبَل نجد ،وأنا فيهم،
فحاص المسلمون حيصة (يعني انهزموا من العدو) فلما قدمنا المدينة ،قلنا :نحن الفرّارون ،فقال النبي
صلّى ال عليه وسلم :بل أنتم العكّارون ( )2في سبيل ال ،أنا لكم فئة ،لترجعوا معي إلى الجهاد في
سبيل ال » ( ، )3فهذا إقرار من الرسول صلوات ال وسلمه عليه لفعل هذه السرية التي لم تستطع
متابعة القتال أمام قوة العداء ،وإن كانت حالة الحرب ما زالت قائمة معهم.
ويحرم على المسلمين بيع أهل الحرب السلح والكُرَاع (الخيول) ونحوها من وسائل القتال التي تقوي
العدو كالحديد ،ول يتاجر بها إلى العداء (. )4
-------------------------------
( )1آثار الحرب :ص 750وما بعدها ،البدائع 98/7 :وما بعدها.
( )2العكارون :العطافون الراجعون إلى الجهاد مرة أخرى.
( )3رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر (جامع الصول ،222/3 :نيل الوطار.)252/7 :
( )4الكتاب مع اللباب.123/4 :
( )8/15
( )8/16
وعن ثوبان مولى رسول ال صلّى ال عليه وسلم في قصة حبر من أحبار اليهود أنه قال للنبي« :لقد
صدقت ،وإنك لنبي» ثم انصرف (. )1
وإن كان الكافر من الصنف الثالث :فل يكفي أن يقول :ل إله إل ال ،وإنما ل بد من أن ينطق
بالشهادة الخرى ،فيقول :أشهد أن محمدا رسول ال .وحينئذ يحكم بإسلمه.
وإن كان من الصنف الرابع ،فل يكفيه النطق بالشهادتين ،وإنما ينبغي عليه أن يتبرأ من الدين الذي
عليه من اليهودية أو النصرانية .ول يقبل إسلمه أيضا إذا قال :أنا مؤمن ،أو مسلم ،أوآمنت ،أو
أسلمت؛ لن اليهود والنصارى يدعون أنهم مؤمنون ،أو مسلمون على النحو الذي هم عليه .هذا ما
قرره المام محمد ،وكان ذلك بحسب زمنه ،أما الن فالمفتى به ما قاله ابن عابدين :يكفي أن يقول
اليهودي والنصراني :أنا مسلم؛ لن اليهود والنصارى يمتنعون من قول( :أنا مسلم) فإذا قال أحدهم:
(أنا مسلم) فهو دليل إسلمه (. )2
-------------------------------
( )1أخرجه مسلم (راجع صحيح مسلم.)99/1 :
( )2رد المحتار على الدر المختار.315/3 :
( )8/17
وأما الوثني مثلً فيحكم بإسلمه إذا قال :أنا مسلم ونحوه ،بدليل حديث المقداد بن السود أنه قال :يا
رسول ال ،أرأيت إن لقيت رجلً من الكفار ،وقاتلني ،فضرب إحدى يدي بالسيف ،فقطعها ،ثم لذ
مني بشجرة ،فقال :أسلمتُ ل ،أفأقتله يا رسول ال بعد أن قالها؟ قال رسول ال صلّى ال عليه
وسلم :ل تقتله (. )1
وأما إعلن السلم ضمناً :فمثل أن يصلي الكتابي أو المشرك مع جماعة من المسلمين؛ لن الصلة
على هذه الهيئة لم تكن في شرائع من قبلنا ،فكان ذلك دليلً على الدخول في السلم .هذا عند الحنفية
ل على اليمان حال النفراد ،فكذلك
والحنابلة .وقال الشافعي :ل يحكم بإسلمه؛ لن الصلة ليست دلي ً
حال الجتماع.
وأما الحكم بالسلم تبعاً :فهو أن الصبي يحكم بإسلمه تبعا لبويه عند وجودهما ،أو وجود أحدهما،
كما إذا أسلم أحد البوين ،فالولد يتبع المسلم منهما؛ لن السلم يعلو ول يعلى عليه ،كما أنه يحكم
بإسلمه أيضا إذا سبى الصبي وحده ،وأدخل في دار السلم فهو مسلم تبعا للدار (. )2
وأما الحكام المترتبة على الدخول في السلم من قبل الكفار :فهي عصمة الدماء والموال ،لقوله
صلّى ال عليه وسلم « :أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا :ل إله إل ال ،فإذا قالوها عصموا مني
دماءهم وأموالهم إل بحقها» .
وبناء عليه إذا أسلم أهل بلدة من أهل دار الحرب قبل أن يتغلب عليهم المسلمون ،حرم قتلهم ،ول
سبيل لحد على أموالهم التي في أيديهم أو الودائع
-------------------------------
( )1أخرجه البخاري ومسلم (راجع شرح مسلم ،98/2 :اللمام :ص .)465
( )2آثار الحرب :ص 643وما بعدها ،البدائع 102/7 :وما بعدها ،رد المحتار على الدر المختار:
،316/3المغني.143/8 :
( )8/18
في بلد السلم للحديث السابق ،ولقوله عليه الصلة والسلم« :من أسلم على ما ل فهو له» (. )1
فإن تغلبنا عليهم بالحرب ،كان عقار من أسلم وزوجته وأولده الكبار فيئا للمسلمين؛ لن العقار من
جملة دارالحرب ،وزوجته كافرة حربية ل تتبعه في السلم ،وكذا أولده كفار حربيون ،ول تبعة
لهم؛ لنهم على حكم أنفسهم.
حمْل ،إذا أسلم الب أو الم ،سواء أكان
كذلك يعصم السلم عند جمهور العلماء صغار الولد وال َ
في دار الحرب أم في دار السلم؛ لن الطفل تابع لبيه أو لمه في السلم مطلقا ،إذ الولد يتبع خير
البوين دينا بالتفاق .قال ال تعالى{ :والذين آمنوا واتّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} [الطور:
.]21/52
وقال الحنفية :إذا أسلم كافر في دار السلم لم يكن أولده الصغار مسلمين بإسلمه ،إذا كانوا في دار
الحرب ،لنقطاع التبعة بتباين الدارين ،فكانوا من جملة الموال يدخلون في الفيء.
وأما الزوجة والولد الكبار :فقد اتفق أئمة المذاهب الربعة والشيعة المامية والزيدية والظاهرية
على أن إسلم الشخص ل يعصم زوجته ول أولده الكبار البالغين ،إذ إن للزوجة والولد الراشدين
حكم أنفسهم كفرا وإسلما ،لقوله تعالى{ :ول تكسب كل نفس إل عليها} [النعام { ]164/6:كل امرئ
بما كسب رهين} [الطور. )2( ]21/52:
-------------------------------
( )1رواه البيهقي وأبو يعلى وأبو عدي في الكامل مرفوعا عن أبي هريرة بلفظ« :من أسلم على شيء
فهو له» ( .راجع مجمع الزوائد ،335/5 :سنن البيقهي ،113/9 :نيل الوطار ،11/8 :نصب الراية:
.)310/3
( )2آثار الحرب :ص 652-650والمراجع المذكورة فيه.
( )8/19
وقال الصاحبان :يصح أمان العبد ،لنه مؤمن ذو قوة وامتناع يتحقق منه الخوف ،والمان يكون
بسبب الخوف.
وكذلك ل تشترط الذكورة ،فيصح أمان المرأة لحديث« :إن المرأة لتأخذ للقوم ،يعني تجير على
المسلمين» ( )1وحديث« :قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» ( . )2ول تشترط السلمة عن العمى
والزمانة والمرض ،فيصح أمان العمى والزمِن والمريض.
ول يجوز أمان التاجر في دار الحرب ،والسير فيها ،والحربي الذي أسلم هناك؛ لن هؤلء ل
يستطيعون تقدير المصلحة في المان ،ولنهم متهمون في نظر المجاهدين لكونهم تحت سلطة العدو.
وكذلك الجماعة ليست بشرط ،فيصح أمان الواحد.
ويوافق الحنفيةَ في أغلب هذه الحالت :جمهورُ الفقهاء والشيعة المامية والزيدية والباضية ،فهم
يرون أن المان يصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ،ولو كان عبدا لمسلم أو كافر ،أو فاسقا ،أو
محجورا عليه لسفه أو تفليس ،أو امرأة ،أوأعمى ،أو مقعدا أو َزمِنا أو مريضا أو خارجا على المام؛
لن الخوارج مسلمون ،قال علي رضي ال عنه« :إخواننا بغوا علينا» .
والدلة لما ذكر من القرآن والسنة والمعقول هي ما يأتي:
أما القرآن فقوله تعالى{ :وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلم ال } [التوبة]6/9:
والنص عام يشمل كل مسلم ،وكل مستأمن أو معاهد يريد سماع القرآن الكريم أو المفاوضة مع
المسلمين لمور سياسية أو حربية أو أمنية أو تجارية.
-------------------------------
( )1رواه الترمذي عن أبي هريرة ،وقال :حسن غريب (نيل الوطار.)28/8 :
( )2حديث متفق عليه بين أحمد والشيخين عن أم هانئ (نيل الوطار.)17/8 :
( )8/21
وأما السنة :فقول الرسول صلّى ال عليه وسلم « :ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ،فمن أخفر
مسلما ،فعليه لعنة ال والملئكة والناس أجمعين ،ل يقبل ال منه يوم القيامة صرفا ول عدلً» (، )1
وفي رواية «المسلمون تتكافأ دماؤهم ،وهم يد على من سواهم ،ويسعى بذمتهم أدناهم» ( ، )2وقد أنفذ
الرسول صلّى ال عليه وسلم أمان أم هانئ
-------------------------------
( )1الصرف :التوبة أو الحيلة ،والحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه عن علي بن أبي
طالب ،وأخرج البخاري نحوه عن أنس بن مالك ،وأخرجه مسلم أيضا عن أبي هريرة ،وأخرجه
غيرهم (راجع نصب الراية 393/3 :وما بعدها ،صحيح البخاري ،102/4 :القسطلني،229/5 :
،236منتخب كنز العمال في مسند أحمد ،295/2 :نيل الوطار ،28/8 :مجمع الزوائد،283/6 :
.)329/5
( )2معنى الحديث :أن المسلمين يتساوون في القصاص والديات ،ل فضل لشريف على وضيع ،وإذا
أعطى أدنى رجل منهم أمانا فليس للباقين نقضه ،ومعنى «وهم يد» أي يتناصرون على الملل
المحاربة لهم.
( )8/22
لرجل أو رجلين من أحمائها قائلً لها« :قد أجرنا من أجرت ياأم هانئ» ( )1وكذلك أجاز الرسول
عليه الصلة والسلم أمان ابنته زينب لزوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان قادما بتجارة إلى
المدينة ،فأصابتها إحدى سرايا المسلمين (. )2
وأما المعقول :فهو أن الواحد من المسلمين من أهل القتال والمنعة ،فيخافه العدو ،ويهتم هو بتحقيق
مصلحة الجماعة السلمية ،فيتم منه المان دون حاجة إلى إجازة المام؛ لن فعله تصرف صدر من
ذي أهلية له ،ووقع في محله (. )3
حكم المان :يقتضي المان ثبوت المن والطمأنينة للمستأمنين ،فيحرم قتل رجالهم وسبي نسائهم
وأولدهم ،واغتنام أموالهم ،واسترقاقهم ،ول يجوز أيضا ضرب الجزية عليهم؛ لن فعل شيء مما
ذكر غدر ،والغدر حرام.
ويشمل حكم المان نفس المستأمن ،وأولده الصغار ،وماله عند الحنابلة والحنفية استحسانا؛ لن الذن
بالدخول يقتضي ذلك.
وقال الشافعية :يدخل في المان مال المستأمن وأهله بل شرط إن كان المام هو الذي أعطى المان.
ويرى الهادوية والمالكية :أن المان يتبع الشرط (. )4
وبناء عليه يجب على المسلمين كف الذى عن المستأمنين ،وإذا انتهت مدة المان وجب على الحاكم
المسلم إبلغ المأمن ،أي تبليغ المستأمن المكان الذي يأمن فيه على نفسه وماله .ول يجوز في رأي
الجمهور نقض أمان المستأمن ما لم نخش منه الخيانة ،أو يصدر منه ما يستدعي إلغاء أمانه.
رقابة الدولة على التأمينات :للمام مراقبة كل أمان يصدر من الفراد ،وعلى التخصيص أمان المرأة
والعبد والصبي ونحوهم ،ولكن ليتوقف عند أكثر الفقهاء نفاذ المان على إجازة المام .وقال ابن
الماجشون وسحنون المالكيان :أمان المرأة موقوف على إذن المام .ورد عليهما بحديث عائشة -فيما
رواه البيهقي وأبو داود والترمذي « -إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين ،فيجوز» وفي رواية:
«أمان المرأة جائز إذا هي أعطت القوم المان» وروى الترمذي عن أبي هريرة حديث« :إن المرأة
لتأخذ للقوم ،يعني تجير على المسلمين» .
-------------------------------
( )1أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والموطأ والترمذي والبيهقي عن أم هانئ (راجع العيني
شرح البخاري ،93/15 :القسطلني ،228/5 :سنن أبي داود ،112/3 :سنن البيهقي ،94/9 :نصب
الراية ،395/3 :جامع الصول.)259/3 :
( )2أخرجه الطبراني عن أم سلمة وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف ويؤيده أيضا حديث رواه
الترمذي وقال :حسن غريب عن أبي هريرة بلفظ« :إن المرأة لتأخذ للقوم ـ يعني تجير على
المسلمين» (راجع نصب الراية 395/3 :وما بعدها ،نيل الوطار ،28/8 :مجمع الزوائد.)330/5 :
( )3راجع آثار الحرب :ص 228 ،222وما بعدها.
( )4راجع التفصيل في آثار الحرب :ص 245ومابعدها.
( )8/23
صفة المان :يرى الحنفية أن المان عقد غير لزم ،حتى لو رأى المام المصلحة في النقض نقضه؛
لنه جوازه عندهم مشروط بتحقيق المصلحة ،فإذا صارت المصلحة في النقض نقض ،ونبذ للمستأمن،
أي أُلقي إليه عهده (. )1
ويرى جمهور الفقهاء والشيعة المامية والزيدية أن المان عقد لزم من جانب المسلمين ،ويبقى
اللزوم مع بقاء عدم الضرر؛ لن المان حق على المسلم ،فليس له نبذه إل لتهمة أو مخالفة (. )2
ما ينتقض به المان :إذا كان المان مؤقتا إلى مدة معلومة ينتهي بمضي الوقت من غير حاجة إلى
النقض.
وإن كان المان مطلقا غير محدد بوقت :فانتقاضه عند الحنفية إما بنقض المام ،لكن يخبرهم بالنقض
ثم يقاتلهم ،وإما بطلب العدو نقضه ،وحينئذ يدعوهم المام إلى السلم ،فإن أبوا فإلى التعاقد بعقد
الذمة ،فإن أبوا ردهم إلى مأمنهم ثم قاتلهم،احترازا عن الغدر.
وأجاز جمهور الفقهاء للمام أن ينبذ عقد المان إذا حصل فقط ضرر للمسلمين لقوله تعالى:
-------------------------------
( )1البدائع ،107/7 :البحر الرائق ،81/5 :مخطوط السندي ،45/8 :فتح القدير ،300/4 :الكتاب مع
اللباب.126/4 :
( )2راجع آثار الحرب ،والمراجع التي فيه :ص .293
( )8/24
{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ،إن ال ل يحب الخائنين} [النفال. )1( ]58/8:
مدة المان :إذا دخل الحربي إلى دار السلم مستأمنا ،لم يمكّن من القامة فيها سنة فما فوقها ،لئل
يصير عينا للعداء وعونا عليهم .ويقول له المام أو نائبه إذا أمنه وأذن له في الدخول إلى دارنا :إن
أقمت في دارنا تمام السنة وضعت عليك الجزية ،فإن أقام تمام السنة أخذت منه الجزية ،وصار ذميا
للتزامه ذلك ،ولم يترك بعدها أن يرجع إلى دارالحرب؛ لن عقد الذمة ل ينقض.
وإن عاد المستأمن إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي ،أو ترك دينا في ذمة مسلم أو
ذمي ،صار دمه مباحا بالعود لبطلن أمانه ،وما كان في دار السلم من ماله ،فهو موقوف (أي
مجمّد بتعبير العصر) .فإن أسر أو قتل ،سقطت ديونه؛ لن يد من عليه الدين أسبق إليه من يد
الجماعة العامة ،فيختص به ،وصارت الوديعة ونحوها مما في دارنا فيئا؛ لنها في يده حكما ،فتصير
فيئا تبعا لنفسه (. )2
-------------------------------
( )1آثار الحرب :ص ،361البدائع ،المرجع السابق.
( )2الكتاب مع اللباب.135/4 :
( )8/25
المصلحة في المان :اشترط الحنفية والمالكية ( : )1أن يكون المان لمصلحة؛ لن الحرب مع العدو
مستمرة .واكتفى الشافعية والحنابلة ( )2باشتراط عدم وجود الضرر من المان ول تشترط المصلحة.
فل يجوز المان لجاسوس ونحوه ،إذ لضرر ول ضرار في السلم .والضرر :مثل تأمين جاسوس
أو مهرب سلح.
مكان المان :هو دار السلم :وهي مكان المان إذا كان المؤمّن هو المام أو أمير الجيش،
فللمستأمن التنقل في كل البلد السلمية إل إذا قيد المان في موطن معين أو كان القيد شرعيا ،والقيد
الشرعي مختلف في تحديده بين الفقهاء ( ، )3ففي رأي أبي حنيفة :يجوز للكافر دخول أي مكان في
دار السلم ،حتى الحرم المكي والمسجد الحرام ،فله الدخول والقامة في حرم مكة والمسجد مدة مقام
المسافر ـ ثلثة أيام بلياليها ـ وأجاز الحنفية لغير المسلم دخول المساجد كلها ومنها المسجد الحرام،
من غير إذن؛ لنه ليس المراد من آية {إنما المشركون نجس فل يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم
هذا} [التوبة ]28/9:النهي عن دخول المسجد الحرام ،وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون
ويعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية.
ومنع الشافعية والحنابلة غير المسلم ،ولو لمصلحة من دخول حرم مكة ،لقوله تعالى{ :يا أيها الذين
آمنوا إنما المشركون نجس فل يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة ]28/9:والمراد من
المسجد الحرام :الحرم المكي بإجماع المفسرين ،بدليل قوله تعالى عقب ذلك{ :وإن خفتم عيلة فسوف
يغنيكم ال من فضله} [التوبة ]28/9:والعيلة :هي الفقر بانقطاع التجارة حال المنع من دخول الحرم.
ويمنع غير المسلم أيضا في هذين المذهبين من دخول الحجاز أو الستيطان فيه إل بإذن المام
ولمصلحة المسلمين كحمل رسالةأو إدخال تجارة يحتاج إليها المسلمون ،وذلك لمدة ثلثة أيام فقط،
ودليلهم حديث أحمد ومسلم والترمذي عن عمر« :لئن عشت لخرجن اليهود والنصارى من جزيرة
العرب ،حتى ل أترك إل مسلما» والمراد من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة ،كما حكى ابن حجر
عن الجمهور ،بدليل رواية أحمد« :أخرجوا اليهود من الحجاز» .ودليلهم أيضا فعل عمر رضي ال
عنه ـ فيما روى البخاري والبيهقي ـ حيث أجلى اليهود والنصارى من الحجاز فقط دون جزيرة
العرب ،وأقرهم في اليمن مع أنها من جزيرة العرب.
وأجاز المالكية لغير المسلم دخول حرم مكة دون البيت الحرام ،بأمان ،لمدة ثلثة أيام أو بحسب
الحاجة في تقدير المصلحة من قبل المام ،ول يجوز عند المالكية لغير المسلم استيطان جزيرة العرب
(الحجاز واليمن) لعموم حديث عمر السابق« :لخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ،حتى ل
أدع إل مسلما» وحديث ابن عباس ـ فيما اتفق عليه البخاري ومسلم وأخرجه أبو داود ـ «أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب» وحديث عائشة عند أحمد« :ل يترك بجزيرة العرب دينان» وحديث
أبي عبيدة بن الجراح فيما يرويه أحمد والبيهقي« :أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة
العرب» وما أخرجه مالك عن الزهري مرسلً« :ل يجتمع دينان في جزيرة العرب» وأما حديث
«أخرجوا يهود أهل الحجاز» فل يصلح لتخصيص العام ،لما تقرر لدى علماء أصول الفقهاء من أن
التخصيص بموافق العام ل يصح ،وعبارتهم هي« :إفراد فرد من أفراد العام بحكمه ل يخصص
العام» .
-------------------------------
( )1فتح القدير ،300/4 :الشرح الكبير ،185/2 :الشرح الصغير.286/2 :
( )2نهاية المحتاج ،217/7 :مغني المحتاج ،238/4 :كشاف القناع ،97/3 :ط مكة.
( )3شرح السير الكبير ، 1/93 :الشباه والنظائر لبن نجيم ، 2/176 :أحكام القرآن للجصاص :
، 2/88مواهب الجليل للحطاب ، 3/381 :الدردير مع الدسوقي ، 2/185 :المهذب ، 2/257 :
الم ، 4/100 :المغني .8/529 :
( )8/26
( )8/27
وشرط مشروعيتها :أن يكون المسلمون في حال ضعف ،والكفار أقوىاء؛ لن الموادعة ترك القتال،
فل يجوز إل في حال يقع وسيلة إلى القتال .والحقيقة أن هذا الشرط حالة من الحالت التي يطلب فيها
باتفاق العلماء وجود المصلحة من عقد الهدنة ،والمصلحة كما تتحقق حال ضعفنا ،تتحقق بأغراض
أخرى كرجاء إسلم الكفار ،أو عقد الذمة ،أو التعاون معهم لدفع عدوان غيرهم ،أو لقرار السلم،
وتبادل المنافع القتصادية ونحوها ( ، )1قال تعالى{ :ول تهنوا وتدعوا إلى السّلْم وأنتم العلون ،وال
معكم} [محمد ]35/47:وقال سبحانه{ :وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكل على ال } [النفال]61/8:
وقد وادع رسول ال صلّى ال عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على إنهاء الحرب عشر سنين (. )2
ول يقاتل المعاهدون ما لم تظهر منهم بوادر الخيانة ،لقوله تعالى{ :وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ
إليهم على سواء ،إن ال ل يحب الخائنين} [النفال.]58/8:
ول بأس بأن يتم الصلح على عوض مالي يدفعه المسلمون إلى الكفار عند الضطرار،أو يدفعه
العداء للمسلمين إذا كان في الدفع مصلحة للمسلمين؛ لن ال تعالى أباح لنا الصلح مطلقا في قوله :
{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [النفال ]61/8:فيجوز ببدل أو بغير بدل ،ولن المقصود من الصلح هو
دفع الشر والخطر ،فيجوز بأية وسيلة ،وهذا باتفاق الفقهاء (. )3
-------------------------------
( )1آثار الحرب :ص ،669البدائع ،108/7 :فتح القدير.293/4 :
( )2انظر المعاهدة في القسطلني شرح البخاري ،336/5 :العيني شرح البخاري 13/14 :وما
بعدها ،شرح مسلم 135/12 :وما بعدها ،نيل الوطار 31/8 :وما بعدها ،نصب الراية،388/3 :
أخرج الحديث أبو داود عن المِسْور بن مَخرمة ومروان بن الحكم ،وأصله في البخاري ،وأخرج مسلم
بعضه عن أنس ،ورواه أحمد والبيهقي.
( )3راجع آثار الحرب :ص ،670المرجع السابق :ص ،109الدر المختار ،247/3 :اللباب شرح
الكتاب.120/4 :
( )8/28
حكم الهدنة :يترتب على الموادعة أو الهدنة إنهاء الحرب بين المتحاربين ،ويأمن العداء ـ كما في
عقد المان ـ على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولدهم؛ لن الموادعة عقد أمان أيضا ،وبناء عليه
يجب كف أذانا أو أذى الذميين عنهم حتى يتأتى ناقض للعهد منهم ( . )1ويجب لهم الوفاء بشروط
الهدنة الصحيحة شرعا .ول يوفى لهم بالشروط الباطلة كاشتراط إعادة النساء المسلمات إليهم.
الفرق بين الهدنة والمان العام :هناك فرق بين الهدنة والمان العام مع جماعة من الحربيين من نواح
أربع:
الولى ـ أن الهدنة معاهدة بين دولتين على إنهاء القتال وتوفير السلم في جميع أنحاء الدولة .أما
المان العام فهو اتفاق الدولة مع جماعة غير محصورة على المسالمة ومنح المان في بلد أو إقليم
معين.
الثانية ـ أن الهدنة طريق لنهاء الحرب بين المسلمين وغيرهم ،وأما المان العام فهو لتأمين جماعة
ولو في أثناء الحرب.
الثالثة ـ أن الجابة لطلب المان واجبة ،لقوله تعالى{ :وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى
يسمع كلم ال } [التوبة .]6/9:أما الجابة لطلب الهدنة فمباحة جائزة غير واجبة بشرط مراعاة
المصلحة السلمية.
الرابعة ـ إذا بطل أمان رجال لم يبطل أمان نسائهم والصبيان ،وإذا انتقضت الهدنة انتقض أمان
جميع المهادنين.
-------------------------------
( )1آثار الحرب :ص .686 ،682
( )8/29
صفة عقد الهدنة :يرى الحنفية أن الهدنة عقد غير لزم محتمل للنقض ،فللمام أن ينبذ عهد الكفار
إليهم ،كلما رأى في النبذ مصلحة للمسلمين ،لقوله تعالى { :وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على
سواء} [النفال ]58/8:فإذا بلغهم الخبر جاز بدؤهم بالقتال.
ول بد من النبذ تحرزا عن الغدر ،ول بد من تقدير مدة يبلغ خبر النبذ إلى جميعهم .ول ينبذ إليهم إن
بدؤوا بخيانة باتفاقهم؛ لنهم صاروا ناقضين للعهد ،فل حاجة إلى نقضه.
أما إن نقض جماعة منهم العهد ،فإن كان نقضهم بإذن ملكهم ،صاروا ناقضين للعهد؛ لنه باتفاقهم
معنى .وإن لم يكن نقضهم بإذن ملكهم ،ودخلوا بلدنا ،وقطعوا الطريق وكان لهم منعة ،وقاتلوا
المسلمين علنية ،يكون فعلهم نقضا للعهد في حقهم دون غيرهم .فإن لم يكن لهم مَنَعة ،حوربوا ،ول
يكون فعلهم نقضا للعهد في حقهم (. )1
وقرر جمهور الفقهاء أن الهدنة عقد لزم ل يجوز نقضه إل إذا وجدت خيانة ،أو غدر من العدو،
بقيام أمارات تدل عليه؛ وإن لم توجد فيجب الوفاء لهم بالعهد ،كما هو مقتضى آية النبذ السابق
ذكرها{ :وإما تخافن من قوم خيانة[ }...النفال )2( ]58/8:فإذا لم يخف المام الخيانة ،ل يجوز نبذ
عهدهم.
شروط صحة الهدنة :يشترط لصحة الهدنة الشروط الربعة التالية (: )3
ً - 1أن يعقدها مع العداء المام أو نائبه ،وإذا كانت مع إقليم عقدها والي القليم أيضا لتلك البلدة.
ً - 2أن تعقد لمصلحة إسلمية ،ول يكفي انتفاء المفسدة كما في عقد الجزية ،لعدم توافر المصلحة
في موادعة العداء ،وال تعالى يقول { :فل تهنوا وتدعوا إلى السّلْم وأنتم العلون } [محمد.]35/47:
والمصلحة كضعفنا بقلة عدد أو أهبة ،أو لرجاء إسلمهم أو بذل الجزية أو نحو ذلك كحاجة المام إلى
إعانتهم له على غيرهم ،وقد هادن النبي صلّى ال عليه وسلم صفوان بن أمية أربعة أشهر عام فتح
مكة لرجاء إسلمه ،فأسلم قبل مضيها.
-------------------------------
( )1الكتاب مع اللباب 120/4 :وما بعدها.
( )2البدائع ،109/7 :آثار الحرب :ص 361وما بعدها.
( )3مغني المحتاج.260/4 :
( )8/30
ً - 3أن تكون مؤقتة بمدة معينة ل مؤبدة ول دائمة ول مطلقة من غير مدة .والمدة كما ذكر الشافعية
أربعة أشهر ل سنة ،لقوله تعالى{ :براءة من ال ورسوله[ }...التوبة ]1/9:ثم قال{ :فسيحوا في
الرض أربعة أشهر[ }..التوبة .]2/9:وتجوز في حال ضعفنا لمدة عشر سنين فقط فما دونها بحسب
الحاجة ،ل أكثر من عشر ،لن هذا غاية مدة الهدنة ،لنه صلّى ال عليه وسلم ـ فيما رواه أبو داود
ـ هادن قريشا في الحديبية هذه المدة ،وكان ذلك قبل أن يقوى السلم.
ً - 4خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد ،كأن شرط العداء منع فك أسرانا منهم ،أو ترك مالنا الذي
استولوا عليه لهم ،أو لتعقد لهم ذمة بأقل من دينار لكل واحد ،أو بدفع مال لهم ولم تدع ضرورة إليه،
أو التنازل عن بعض واجباتهم نحو المسلمين أو دولتهم أو دينهم ،فكل شرط من هذه الشروط يفسد
عقد الهدنة ويجعلها لغية.
ما ينتقض به عقد الهدنة :قال الحنفية :إذا كانت الهدنة مؤقتة ينتهي العقد بانتهاء المدة المحددة دون
حاجة إلى النبذ.
وإن كانت الهدنة مطلقة غير معينة المدة ،أي متروكة لرأي المام :فإما أن تنتقض صراحة بنبذ العهد
من المسلمين أو من غيرهم ،وإما أن تنتقض ضمنا أو دللة بأن يوجد من العداء ما يدل على النبذ
كقطع الطريق من قبل جماعة من الكفار ،بإذن مليكهم.
وفي الجملة :ل تنتقض الهدنة عند الحنفية إل بخيانة العدو متفقين .والخيانة :كل ما ناقض العهد
والمان مما هو شرط فيه أو جرى به العرف والعادة ،مثل مقاتلة المسلمين أو مظاهرة عدو عليهم.
وقال الجمهور :تنتقض الهدنة إذا نقضها العدو بقتال أو بمناصرة عدو آخر ،أو قتل مسلم ،أو أخذ
مال ،أو بسبّ ال تعالى أو القرآن الكريم أو رسوله صلّى ال عليه وسلم ،أو التجسس
( )8/31
( )8/32
أشهر عام الفتح ( . )1ول تبلغ المدة سنة؛ لنها مدة تجب فيها الجزية.
فإن كان بالمسلمين ضعف ،فتجوز لعشر سنين فقط فما دونها بحسب الحاجة ،لن هذا غاية مدة
الهدنة ،لنه صلّى ال عليه وسلم هادن قريشا في الحديبية هذه المدة على المعتمد .فإن لم يقْو
المسلمون طوال تلك المدة فل بأس أن يجدد المام مدة مثلها أو دونها على رجاء أن يقووا ،وإذا
انقضت المدة والحاجة باقية استؤنف العقد.
وهذا هو مذهب الشيعة المامية وظاهر كلم المام أحمد ،وقال أبو الخطاب من الحنابلة :ظاهر كلم
أحمد أنه يجوز على أكثر من عشر سنين على حسب ما يراه المام من المصلحة بعد اجتهاده .والذي
يبدو أن ما نقله أبو الخطاب هو الصح عند الحنابلة (. )2
وقال الحنفية والمالكية والزيدية :ليس للهدنة مدة معينة ،إنما تقدير المدة راجع إلى اجتهاد المام قدر
الحاجة؛ لن المهادنة عقد جاز لمدة عشر سنين،فتجوز الزيادة عليها كعقد الجارة (. )3
-------------------------------
( )1راجع تلخيص الحبير ،طبع القاهرة ،بتعليق هاشم اليماني ،131/4 :الستيعاب في معرفة
الصحاب.720/2 :
( )2كشاف القناع ،104/3 :ط مكة.
( )3راجع التفصيل في آثار الحرب :ص 675وما بعدها.
( )8/33
( )8/34
( )8/35
وقال الوزاعي والثوري وفقهاء الشام والمالكية على المشهور في مذهبهم :تؤخذ الجزية من كل
كافر ،سواء أكان من العرب أم من العجم ،من أهل الكتاب ،أم من عبدة الصنام ( ، )1بدليل ما رواه
سليمان بن بريدة عن أبيه ،قال« :كان رسول ال صلّى ال عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو
سرية ،أوصاه في خاصته بتقوى ال ومن معه من المسلمين خيرا» ثم قال...« :وإذا لقيت عدوك من
المشركين فادعهم إلى ثلث خصال ،أو خلل ،فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ،ثم ادعهم
إلى السلم ...فإن هم أبوا فسلهم الجزية »...الحديث ( )2فقوله صلّى ال عليه وسلم « :عدوك» عام
يشمل كل كافر ،قال الشوكاني :هذا الحديث حجة في أن قبول الجزية ل يختص بأهل الكتاب.
الشرط الثاني :أل يكون المعاهد مرتدا ،لن حكمه القتل إذا لم يتب؛ لقوله عليه الصلة والسلم« :من
بدل دينه فاقتلوه» ( ، )3وهذ الشرط متفق عليه بين الفقهاء.
الشرط الثالث :أن يكون العقد مؤبدا :فإن أقت الصلح لم يصح العقد؛ لن عقد الذمة بالنسبة لعصمة
النسان في ماله ونفسه بديل عن السلم ،والسلم مؤبد ،فكذا بديله وهو عقد الذمة .وهذا شرط متفق
عليه أيضا (. )4
-------------------------------
( )1راجع آثار الحرب :ص 712ومابعدها ،الدر المختار ،293/3 :تبيين الحقائق.277/3 :
( )2أخرجه مسلم عن عائشة رضي ال عنها (راجع شرح مسلم 37/12 :ومابعدها).
( )3رواه الجماعة إل مسلما ،ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق (نصب الراية ،456/3 :نيل
الوطار ،190/7 :سبل السلم.)65/4 :
( )4راجع البدائع 110/7 :وما بعدها ،آثار الحرب :ص ،713 ،707فتح القدير.371/4 :
( )8/36
شروط المكلفين بالجزية :يشترط لوجوب الجزية على أهل الذمة شروط:
- 1الهلية من العقل والبلوغ :فل تجب على الصبيان والمجانين؛ لنهم ليسوا من أهل القتال.
- 2الذكورة :فل تجب على النساء؛ لنهن أيضا لسن من أهل القتال ،وال سبحانه وتعالى أوجب
الجزية على المقاتلين بقوله تعالى{ :قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر[ }...التوبة]29/9:
الية ،فالمقاتلة تقتضي المشاركة ،يعني وقوع القتال من الطرفين.
- 3الصحة والمقدرة المالية :فل تجب على المريض مرضا لمدة سنة أو أكثر السنة؛ لن للكثر
حكم الكل ،ول تجب أيضا على الفقير المتعطل عن العمل ،ول على الرهبان الذين ل يخالطون
الناس.
- 4السلمة من العاهات المزمنة ،كالمرض المزمن والعمى والشيخوخة.
- 5الحرية ،فل تجب الجزية على العبد ،لنه ليس مالكا للمال.
وفي الجملة :اتفق الفقهاء على اشتراط البلوغ والحرية والذكورة ،فل جزية على امرأة ول صبي ول
مجنون ول معتوه ول زمِن ول أعمى ول مفلوج ول شيخ كبير؛ لنها وجبت بدلً عن القيام بقتال
العداء ،وهم ل يقاتلون لعدم الهلية .ول جزية على فقير غير معتمل (أي مكتسب ولو بالسؤال)
لعدم الطاقة ،ول على الرهبان الذين ليخالطون الناس ،إذ ل يقتلون ،والصل في الجزية لسقاط
القتل ،ول جزية على العبد بأنواعه.
وخالف الشافعية والحنابلة في الرجح عندهم في الشرطين الثالث والرابع ،فلم يجيزوا إسقاط الجزية
بالعذار (. )1
-------------------------------
( )1البدائع ،المرجع السابق :ص ،111آثار الحرب :ص ،699تبيين الحقائق ،278/4 :فتح القدير:
،372/4الكتاب مع اللباب.145/4 :
( )8/37
حكم عقد الجزية :يترتب على عقد الذمة إنهاء الحرب بين المسلمين وغيرهم ،وعصمة نفوس الكفار
وأموالهم وبلدهم وأعراضهم ،فل يجوز استباحتها بعد انعقاد العقد ،بدليل حديث بريدة السابق ذكره
وفيه« :فادعهم إلى أداء الجزية ،فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» ولقوله تعالى في آية الجزية:
{قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر} [التوبة ]29/9:إلى قوله تعالى {حتى يعطوا الجزية عن
يدٍ وهم صاغرون} [التوبة ]29/9:فال سبحانه طالب بالكف عن قتال أهل الكتاب عند وجود السلم
أو بذل الجزية ،وبما أن السلم يعصم النفس والمال وما ألحق بهما ،فكذا الجزية .وقال علي رضي
ال عنه« :وإنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ،ودماؤهم كدمائنا» ( )1وروى أبو داود والبيهقي
وأحمد عن الرسول صلّى ال عليه وسلم من حديث أسامة قال« :أل من ظلم معاهدا ،أو انتقصه ،أو
كلفه فوق طاقته ،أوأخذ شيئا بغير طيب نفس منه ،فأنا حجيجه يوم القيامة» (. )2
والجزية نوعان :جزية صلحية :وهي جزية توضع بالتراضي والصلح ،فتقدر بحسب ما يقع عليه
التفاق ،فل حد لها ول لمن تؤخذ منه إل ما يقع عليه الصلح .وجزية عنوية تفرض فرضا :وهي
التي يبتدئ المام وضعها إذا غلب المسلمون على الكفار ،واستولوا على بلدهم ،وأقرهم المام على
أمرهم.
فيضع المام عند الحنفية والحنابلة على الغني الظاهر الغنى (وهو من يملك
-------------------------------
( )1آثار الحرب :ص 728وما بعدها ،111/7 ،والثر المروي عن علي غريب ،وأخرجه
الدارقطني عن علي بلفظ «من كانت له ذمتنا ،فدمه كدمنا ،وديته كديتنا» (نصب الراية.)281/3 :
( )2الحديث مروي عن صفوان بن سليم رحمه ال (راجع سنن أبي داود ،231/3 :سنن البيهقي:
،205/9منتخب كنز العمال من مسند أحمد،296/2 :جامع الصول ،257/3 :الفتح الكبير.)485/1 :
( )8/38
عشرة آلف درهم فصاعدا) في كل سنة ثمانية وأربعين درهما ،منجمة أي مقسطة على الشهر ،يأخذ
في كل شهر أربعة دراهم .ويضع على المتوسط الحال (وهو من يملك مئتي درهم فصاعدا) أربعة
وعشرين درهما منجمة أيضا على الشهر ،في كل شهر درهمين ،وعلى الفقير المعتمل (وهو من
يملك ما دون المئتي درهم ،أو ل يملك شيئا) اثني عشر درهما منجمة أيضا على الشهر ،في كل
ل بفعل عمر رضي ال عنه الذي قسم أهل الذمة ثلث طبقات :وهم
شهر درهما ( . )1وذلك عم ً
الموسرون والمتوسطون والفقراء العاملون.
ويرى المالكية :أن الجزية أربعة دنانير في كل عام على كل واحد من أهل الذهب ،وأربعون درهما
على أهل الفضة ،وذكر ابن جزي المالكي ( )2أنه ل يزاد على ذلك لقوة أحد ،ول ينقص لضعفه،
والراجح لدى المالكية أنه ينقص عن الفقير بحسب طاقته ووسعه.
وذهب الشافعية ( )3إلى أن أقل الجزية دينار ،لحديث معاذ بن جبل« :أنه صلّى ال عليه وسلم لما
وجهه إلى اليمن ،أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر» ( )4وهي ثياب يمنية ،نسبة
إلى حي من همدان في اليمن ،تنسب إلىه الثياب المعافرية .ويستحب لدى الشافعية مماكسة(مشاححة)
الذمي حتى يأخذ من المتوسط دينارين ،ومن الغني أربعة دنانير ،اقتداء بعمر رضي ال عنه ،كما
رواه البيهقي عنه.
-------------------------------
( )1الكتاب مع اللباب ،143/4 :المغني 501/8 :ومابعدها.
( )2القوانين الفقهية :ص .156
( )3مغني المحتاج.248/4 :
( )4رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي والدارقطني ،وصححه ابن حبان والحاكم من
حديث مسروق عن معاذ.
( )8/39
صفة عقد الذمة :اتفق الفقهاء على أن عقد الذمة عقد لزم من ناحية
المسلمين ،فل يملك المسلمون نقضه بأي حال .وأما بالنسبة لغير المسلمين فهو عقد غير لزم ،لكنه
ل ينتقض عند الحنفية إل بأحد أمور ثلثة :وهي أن يسلم الذمي ،أو يلحق بدار الحرب ،أو يغلب
الذميون على موضع فيحاربوننا ،ول ينتقض عهدهم بغير المذكور ،كالمتناع من إعطاء الجزية ،أو
سب النبي صلّى ال عليه وسلم ،أو قتل مسلم ،أو الزنى بمسلمة؛ لن التزام الجزية باق ،ويستطيع
الحاكم أن يجبره على أدائها ،وأما بقية المخالفات فهي معاصي ارتكبوها وهي دون الكفر ،وقد
أقررناهم عليه ،فما دونه أولى (. )1
ويرى جمهور الفقهاء ،والشيعة المامية والزيدية ،والباضية :أن عهد الذمي ينتقض بمنعه أداء
الجزية ،أو امتناعه من تطبيق أحكام السلم العامة ،أو بالجتماع على قتال المسلمين؛ لن هذه
المور من مقتضى عقد الذمة ،فارتكابها يخالف مقتضى العقد ،فيوجب نقض المعاهدة.
وكذلك قالوا ما عدا الشافعية والمامية :ينتقض العقد بارتكاب المعاصي السابقة؛ لن فيها ضررا على
المسلمين ،فأشبه المتناع عن بذل الجزية.
أما الشافعية في الصح عندهم ،فإنهم يرون أن عهد الذمة ل ينتقض بارتكاب المعاصي إذا لم يشترط
النقض في العقد ،فإن اشترط على أهل الذمة انتقاض العهد انتقض ،لمخالفة الشرط ولحوق الضرر
بالمسلمين (. )2
واتفق الفقهاء على أن أهل الذمة ملتزمون بتطبيق أحكام السلم المدنية والجنائية ،وأما العبادات
ونحوها مما يدينون به كشرب الخمور وتربية الخنازير
-------------------------------
( )1البدائع ،المرجع السابق :ص 112وما بعدها ،فتح القدير ،381/4 :تبيين الحقائق،281/3 :
الكتاب مع اللباب.147/4 :
( )2راجع آثار الحرب :ص .374-367 ،359
( )8/40
وأكلها فيتركون وما يدينون بدون تظاهر .ولكن ل يجوز لهم إحداث بِيعة ول كنيسة ( )1ول صومعة
ول بيت نار ول مقبرة في دار السلم ( . )2ولهم فقط ترميم أماكن عبادتهم هذه.
آراء الفقهاء في مقدار الجزية ووقت أدائها ومسقطاتها :يرى الحنفية والحنابلة أن الجزية مقدارها
بحسب حال المكلف بها ،فإن كان غنيا فيجب عليه ثمانية وأربعون درهما ،وإن كان متوسط الحال
فعليه أربعة وعشرون درهما ،وإن كان فقيرا عاملً فعليه اثنا عشر درهما كما ذكر .وهذا التقدير
ثابت عن سيدنا عمر رضي ال عنه (. )3
وقال المالكية في الصح :مقدار الجزية أربعون درهما ،أي أربعة دنانير ،وينقص عن الفقير بحسب
وسعه وطاقته ( . )4وذكر ابن جزي أنه ل يزاد على أربعين درهما (علما بأن الدينار عندهم عشرة
دراهم) لقوة أحد ول ينقص لضعفه.
وقال الشافعية مثل الحنفية والحنابلة :أقل الجزية دينار لكل سنة ،ويؤخذ من متوسط الحال ديناران،
ومن غني أربعة دنانير ،اقتداء بعمر رضي ال عنه كما رواه البيهقي عنه ،ودليلهم على أقل مقدار
الجزية :ما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما
-------------------------------
( )1البيعة بكسر الباء :وهي في الستعمال الغالب متعبّد النصارى ،والكنيسة متعبد اليهود .لكن في
ديار مصر والشام ،ل يستعمل لفظ البيعة ،بل تستعمل الكنيسة لمتعبد الفريقين .ولفظ الدير للنصارى
خاصة .وأصل اللغة أن الكنيسة والبيعة تطلق على كل من معبد اليهود والنصارى.
( )2الكتاب مع اللباب.146/4 :
( )3البدائع ،112/7 :الدر المختار ،292/3 :تبيين الحقائق ،276/3 :المغني ،502/8 :وأما التقدير
المذكور فمروي من طرق عن عمر ،منها ما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن عبيد ال الثقفي،
ورواه ابن زنجويه عن المغيرة بن شعبة (راجع نصب الراية 447/3 :وما بعدها).
( )4الشرح الكبير للدردير 201/2 :وما بعدها.
( )8/41
عن معاذ رضي ال عنه« :أنه صلّى ال عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم
دينارا ،أو عِدله من المعافر ،وهي ثياب تكون باليمن» (. )1
ويجب أداء الجزية عند الحنفية في أول السنة؛ لنها تجب لحماية الذمي في المستقبل .وعند سائر
المذاهب :تجب الجزية في آخر السنة؛ لنه مال يتكرر بتكرار الحول ،أو يؤخذ في آخر كل حول
كالزكاة (. )2
وتسقط الجزية باختيار السلم باتفاق الفقهاء ،لقوله عليه الصلة والسلم فيما يرويه ابن عباس:
«ليس على مسلم جزية» ( )3وفي رواية للطبراني عن ابن عمر« :من أسلم فل جزية عليه» .
وتسقط بالموت عند الحنفية والمالكية والزيدية؛ لن الجزية في رأيهم عقوبة ،فتسقط بالموت كالحدود.
وعند الشافعية والحنابلة :ل تسقط بالموت وتؤخذ من التركة؛ لنها دين وجب في الحياة ،فلم يسقط
بالموت كديون الناس.
وتسقط الجزية أيضا عند أبي حنيفة والزيدية بمضي السنة ودخول سنة أخرى؛ لن الجزية عقوبة،
فتتداخل مع بعضها كالحدود .وعند الصاحبين وسائر الئمة :ل تتداخل الجزية وتجب الجزيات كلها؛
لنها عوض ،فتعتبر بمنزلة سائر الحقوق المالية كالدية والزكاة وغيرهما (. )4
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،248/4 :وأما حديث معاذ فرواه أبو داود والترمذي والنسائي ،وصححه ابن حبان
والحاكم ،وقال الترمذي :حديث حسن ،وذكر أن بعضهم رواه مرسلً وأنه أصح (جامع الصول:
،261/3نصب الراية ،445/3 :سبل السلم 4 :ص .)66
( )2المراجع السابقة.
( )3رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني ،وذكر الترمذي أنه مرسل ( سنن أبي داود،231/3 :
مجمع الزوائد ،13/6 :منتخب كنز العمال من مسند أحمد ،38/2 :جامع الصول ،267/3 :نصب
الراية ،453/3 :نيل الوطار.)61/8 :
( )4راجع آثار الحرب :ص 694وما بعدها ،المغني 511/8 :وما بعدها.
( )8/42
( )8/43
وأما واجباتهم فهي ثلثة عشر شيئا هي:
ً - 1أداء الجزية عن كل رجل في كل عام مرة ،وهي دينار عند الشافعي ،وإن صولحوا على أكثر
من ذلك جاز ،وأربعة دنانير عند الجمهور.
ً - 2ضيافة المسلمين ثلثة أيام إذا مروا عليهم.
ً - 3دفع عشر ما يتجرون به في غير بلدهم التي يسكنونها.
ً - 4أل يبنوا كنيسة ،ول يتركوها مبنية في بلدة بناها المسلمون ،أو فتحت عنوة ،فإن فتحت صلحا
واشترطوا بقاءها جاز.
ً - 5أل يركبوا الخيل ول البغال النفيسة ،ولهم ركوب الحمير.
ً - 6أن يمنعوا من جادة الطريق ويضطروا إلى أضيقه.
ً - 7أن تكون لهم علمة يعرفون بها كالزنار ويعاقبون على تركها.
ً - 8أل يغشوا المسلمين ،ول يأووا جاسوسا ،وأل يتواطؤا مع أهل الحرب على إيذاء المسلمين،
وغير ذلك من كل ما فيه ضرر بالمسلمين.
ً - 9أل يمنعوا المسلمين من النزول في كنائسهم ليلً ونهارا.
ً - 10أن يوقروا المسلمين ،فل يضربوا مسلما ول يسبونه ول يستخدمونه.
ً - 11أن يخفوا نواقيسهم ،ول يظهروا شيئآً من شعائر دينهم.
ً - 12أل يسبوا أحدا من النبياء عليهم الصلة والسلم ،ول يظهروا معتقدهم ،وأل يطعنوا في شرع
ال عز وجل ،وأل يتعرضوا للقرآن أو الرسول صلّى ال عليه وسلم بسوء.
ً - 13إجراء أحكام السلم عليهم في المعاملت والعقوبات الجنائية ،كتحريم الزنا ،بدليل أن النبي
صلّى ال عليه وسلم رجم يهوديا ويهودية زنيا ( ، )1والمتناع من التعامل بالربا وارتكاب الفواحش
والمعاصي وأحوال الفسوق ،لكنهم يقرون على تناول الخمر لعتقادهم إباحته ،إل إذا ترافعوا إلينا،
فيحكم بينهم بشريعتنا.
-------------------------------
( )1أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي ال عنهما.
( )8/44
( )8/45
والسّلب :هو ثياب المقتول وسلحه الذي معه ،ودابته التي ركبها بما عليها ،وما كان معه من مال.
وأما ما يكون مع خادم للمقتول على فرس آخر أو ما معه من أموال على دابة أخرى ،فكله من
الغنيمة التي هي من حق جماعة الغانمين كلهم .هذا مذهب الحنفية ( )1والمالكية ( )2الذي يقتضي أن
القاتل ل يستحق سلب المقتول إل بإذن المام ،أي بأن ينفله له المام بعد انتهاء الحرب بطريق
الجتهاد .فإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة ،ويكون القاتل وغيره في السلب سواء؛
لنه مأخوذ بقوة الجيش ،فيكون غنيمة لهم.
وقال الشافعية والحنابلة :يستحق القاتل سلب المقتول في كل حال بدون إذن المام ( )3بدليل عموم
قوله صلّى ال عليه وسلم « :من قتل قتيلً فله سلبه» (. )4
-------------------------------
( )1البدائع 114/ 7:وما بعدها ،فتح القدير 333/ 4 :ومابعدها ،تبيين الحقائق.258/ 4 :
( )2بداية المجتهد ،384/1 :الفروق للقرافي.7/3 :
( )3راجع مغني المحتاج ،99/3 :المغني لبن قدامة.388/8 :
( )4رواه الجماعة إل النسائي ،ورواه الموطأ وأحمد عن أبي قتادة النصاري ورواه البيهقي عن
سمرة ،كما رواه غيرهما .وأما حديث «ليس لك من سلب قتيلك إل ما طابت به نفس إمامك» فهو
منقطع (راجع جامع الصول ،291/3 :شرح مسلم ،59/12 :مجمع الزوائد ،331/5 :نصب الراية:
،430-428/3نيل الوطار ،261/7 :سبل السلم.)52/4 :
( )8/46
وقد روي أن «أبا طلحة رضي ال عنه قتل يوم خيبر عشرين قتيلً ،وأخد أسلبهم» (. )1
ومنشأ الخلف بين الفريقين :هل قوله صلّى ال عليه وسلم « :من قتل قتيلً فله سلبه» صادر منه
بطريق المامة أم بطريق الفتيا؟
قال الحنفية والمالكية :إن السلب لم يكن للقاتل إل يوم حنين ،فتخصيص بعض المجاهدين به موكول
إلى اجتهاد المام ،فهو تصرف مقول بطريق المامة والسياسة .وما وقع منه صلّى ال عليه وسلم
بالمامة ل بد فيه من إذن المام في كل عصر من العصور.
وقال الشافعية والحنابلة :إن تنفيل السلب تصرف حادث من الرسول صلّى ال عليه وسلم بطريق
الفتيا ،ل بطريق المامة ،وكل ما وقع منه بطريق الفتيا والتبليغ يستحق بدون قضاء قاض أوإذن إمام
( . )2
وهذا الخلف يجري في فهم حديث« :من أحيا أرضا ميتة فهي له» ( )3فهل يحتاج إصلح الرض
لتملكها إلى إذن المام أو ل؟ رأيان كما ل حظنا.
والتنفيل بناء على رأي الفريق الول إنما يكون في مباح القتل ،فل يستحق بقتل غير المقاتلة كالصبي
والمرأة والمجنون ونحوهم .ول يشترط في استحقاق النفل سماع القاتل مقالة المام؛ لن إسماع كل
المجاهدين متعذر.
-------------------------------
( )1رواه أبو داود وأحمد وابن حبان والحاكم عن أنس (راجع نيل الوطار ،262/7 :نصب الراية:
.)429/3
( )2راجع الفروق للقرافي 7/3 ،195/1 :وما بعدها.
( )3رواه البخاري في صحيحه عن عائشة ،وروي عن سبعة آخرين من الصحابة (راجع نصب
الراية.)288/4 :
( )8/47
ويشترط لجواز التنفيل أن يكون قبل حصول الغنيمة في أيدي الغانمين ،فإن حصلت في أيديهم ،فل
نفل إل من الخمس ونحوه.
وحكم التنفيل :اختصاص القاتل بالنفل ،فل يشاركه فيه أحد من الغانمين ،ولكن ل يتم تملكه إل
بالحراز في دار السلم عند أبي حنيفة ،وأبي يوسف .وأما عند محمد فيتم تملكه قبل الحراز بدارنا
( . )1
- 2الفيء :الفيء في اللغة :الرجوع ،واصطلحا :هو المال الذي يؤخذ من الحربيين من غير
قتال،أي بطريق الصلح كالجزية والخراج ( . )2وقد كان الفيء لرسول ال صلّى ال عليه وسلم
خاصة يتصرف فيه كيف شاء ،لقوله تعالى{ :وما أفاء ال على رسوله منهم ،فما أوجفتم عليه من
خيل ول ركاب ،ولكن ال يسلط رسله على من يشاء ،وال على كل شيء قدير} [الحشر]6/59:
وروي عن سيدنا عمر رضي ال عنه أنه قال« :كانت أموال بني النضير مما أفاء ال عز وجل على
رسوله صلّى ال عليه وسلم ،وكانت خالصة له ،وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة ،وما بقي جعله
في الكُراع ( )3والسلح» (. )4
وأما بعد الرسول صلّى ال عليه وسلم فيكون الفيء لجماعة المسلمين ،يصرف في مصالح المسلمين
عامة .والفرق بين الرسول وغيره من الئمة :أن الئمة ينصرون بالقوة المعنوية لقومهم ،أما الرسول
عليه الصلة والسلم فإنه منصور بما آتاه ال من هيبة
-------------------------------
( )1راجع الدر المختار ورد المحتار عليه ،264-261/4 :البدائع.115/7 :
( )2راجع آثار الحرب :والمراجع التي فيه :ص .553
( )3الكراع ـ بضم الكاف :اسم يطلق على الخيل والبغال والحمير.
( )4رواه الشيخان وأحمد عن عمر (نيل الوطار ،71/8 :اللمام :ص .)503
( )8/48
خاصة به ،كما قال عليه الصلة والسلم« :نصرت بالرعب مسيرة شهر» (. )1
وبناء عليه :إذا دخل حربي في دار السلم بغير أمان ،فأخذه أحد المسلمين ،يكون فيئا لجماعة
المسلمين ،ول يختص به الخذ عند أبي حنيفة؛ لن سبب ثبوت الملك فيه متحقق بالنسبة لجميع أهل
دار السلم .وعند الصاحبين :يكون للخذ خاصة؛ لن سبب الملك وهو الخذ والستيلء وجد حقيقة
من الخد خاصة.
ويخمّس المنقول من الفيء كالغنيمة عند الشافعية ،فيكون الخمس لمن ذكرته آية الغنائم{ :واعلموا أنما
غنمتم من شيء} [النفال ]41/8:ويقسم الخمس خمسة أسهم :سهم رسول ال صلّى ال عليه وسلم
ويجعل بعد وفاته في مصالح المسلمين ،وسهم ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب ،وسهم
اليتامى ،وسهم المساكين ،وسهم أبناء السبيل.
وأما عقارات الفيء فتوقف لمصالح بيت مال المسلمين ،لية الفيء السابقة{ :ما أفاء ال على رسوله
من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر ]7/59:ومن
مصارف الفيء :النفقة على أسر المجاهدين والشهداء ،وهم المرتزقة ،وعلى العلماء ونحوهم ممن
تحتاج إليهم المة.
-------------------------------
( )1أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن جابر بن عبد ال بلفظ «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من
النبياء قبلي :نصرت بالرعب مسيرة شهر ،وجعلت لي الرض مسجدا وطهورا ،فأيما رجل من
أمتي أدركته الصلة فليصل ،وأحلت لي الغنائم ولم تحل لحد قبلي ،وأعطيت الشفاعة ،وكان النبي
يبعث إلى قومه خاصة ،وبعثت إلى الناس عامة» ويروى عن جماعة آخرين من الصحابة ،وهو
حديث متواتر (الجامع الصغير :ص ،471مجمع الزوائد ،65/6 :تلخيص الحبير ،الطبعة الجديدة
بمصر.)140/3 :
( )8/49
- 3الغنيمة :الغنيمة في اللغة :الفوز بالشيء بل مشقة ،واصطلحا :هي ما أخذ من أموال أهل
الحرب عنوة بطريق القهر والغلبة ( ، )1وللغنائم أحكام:
الحكم الول ـ ثبوت الحق والملك فيها :
إن حق الغانمين في تملك الغنائم عند الحنفية يتدرج في مراتب ثلث ،يثبت في أولها أصل الحق
العام ،ويتأكد في ثانيها هذا الحق ،ويتخصص في ثالثها حق كل مجاهد به.
ففي المرتبة الولى ـ يتعلق أصل الحق العام في تملك الغنيمة للغانمين بمجرد الخذ والستيلء،
ولكن ل تثبت الملكية قبل الحراز بدار السلم عند الحنفية (. )2
وعند بقية الئمة والشيعة الزيدية والمامية :تنتقل ملكية أموال العدو إلى الغانمين بمجرد الستيلء،
فيثبت لهم الملك في الغنيمة قبل الحراز بدار السلم (. )3
إل أن الراجح عند الشافعية أن تملك أموال العداء ل يثبت إل بالستيلء مع القسمة أو اختيار التملك
( . )4
وقد فرع الحنفية على الصل المقرر عندهم هذه الفروع الفقهية:
أ ـ إذا مات واحد من الغانمين في دار الحرب ل يورث نصيبه.
ب ـ إذا باع المام شيئا من الغنائم ،ل لحاجة المجاهدين ،ل يجوز.
جـ ـ إذا أتلف أحد الغانمين شيئا ،ل يضمنه.
د ـ إذا لحق المدد الجيش في دار الحرب ،فأحرزوا جميعهم الغنائم إلى دار السلم ،يشاركونهم في
القسمة.
هـ ـ إذا قسم المام الغنيمة في دار الحرب قسمة مجازفة بدون اجتهاد ول لحاجة المجاهدين ،فإن
القسمة ل تصح.
وأما عند الئمة الخرين فإن حكم هذه الفروع على العكس تماما مما هو مقرر لدى الحنفية.
وأما فائدة ثبوت أصل الحق العام في الغنيمة عند الحنفية فهو يظهر فيما يلي:
إذا أسلم السير في دار الحرب ،فإنه ل يكون حرا ،ويدخل في قسمة الغنيمة ،وإذا أسلم قبل السر
يكون حرا ،ول يدخل في القسمة؛ لنه بالسر يتعلق به حق الغانمين ،فإذا وجد السلم قبل السر لم
يتعلق به حق أحد.
ولو أسلم أرباب الموال قبل الحراز بدار السلم ،فإن أموالهم ل تكون خاصة بهم ،وإنما يساهمون
مع غيرهم من المجاهدين في القسمة والستحقاق ،بسبب اشتراكهم مع المجاهدين في الحراز بدار
السلم ،فيكونون كالمدد اللحق بالجيش.
-------------------------------
( )1آثار الحرب ،المرجع السابق.
( )2فتح القدير ،309/4 :البدائع.121/7 :
( )3آثار الحرب :ص 556ومابعدها.
( )4مغني المحتاج ،234/4 :المهذب.241/2 :
( )8/50
وكذلك ليس لحد المجاهدين أن يأخذ شيئا من الغنائم من غير حاجة ،لثبوت أصل الحق العام للغانمين
فيما غنموه ،ولو لم يثبت أصل الحق ،لكان المال الذي غنم بمنزلة المباح (. )1
استدل الحنفية على مذهبهم بأن الستيلء إنما يفيد الملك إذا ورد على مال مباح غير مملوك لحد،
وهذا المعنى لم يتوافر في الغنيمة؛ لنها مملوكة للعداء في الصل ،ولم تزل ملكيتهم عنها إل
بالحراز بدار السلم.
واستدل غير الحنفية بأن سبب الملك هو الستيلء التام ،وقد وجد فيفيد الملك ،كالستيلء على سائر
المباحات كالحطب والحشيش ونحوهما ،ثم إن الدلة الدالة على استحقاق الغنيمة عامة ،مثل قوله
تعالى{ :واعلموا أنما غنمتم من شيء} [النفال ]41/8:الية (. )2
وفي المرتبة الثانية ـ أي بعد الحراز بدار السلم قبل القسمة :يتأكد الحق العام في الغنيمة ويستقر
على ملك الغانمين ،ولكن ل يثبت الملك أيضا عند الحنفية.
ولهذا قالوا :لو مات أحد المجاهدين ،يورث نصيبه ،ولو باع المام شيئا من الغنيمة أو قسمها ،جاز،
ولو لحقهم مدد ل يشاركون الغانمين ،وإذا أتلف أحد شيئا من الغنيمة يضمنه.
وفي المرتبة الثالثة ـ أي بعد الحراز والقسمة يثبت الملك الخاص لكل واحد من المجاهدين فيما هو
نصيبه؛ لن القسمة إفراز النصباء وتعيينها (. )3
أوجه النتفاع بالغنيمة في دار الحرب :إذا تم الستيلء على الغنائم ،فل بأس بالنتفاع بها عند الحنفية
قبل الحراز بدار السلم ،وذلك بالكل والشرب والعلف والحطب منها ،لعموم حاجة الغانمين ،سواء
أكان المنتفع غنيا أم فقيرا؛
-------------------------------
( )1راجع البدائع 121/7 :وما بعدها ،فتح القدير 309/4 :وما بعدها ،تبيين الحقائق.251/3 :
( )2المرجعان السابقان للشافعية (مغني المحتاج والمهذب) ،المغني.422/8 :
( )3راجع فتح القدير ،310/4 :البدائع ،122/7 :تبيين الحقائق.252/3 :
( )8/51
لن في إلزام الغني حمل الطعام والعلف من دار السلم إلى دار الحرب ،مدة الذهاب والياب
والقامة ،حرجا عظيما ،فكانت الحاجة عامة.
ول يباح لهم بيع شيء مما يباح النتفاع به ،إذ ل ضرورة إلى البيع ،ولو باع أحدهم شيئا ردّ ثمنه
إلى الغنيمة ،إن تم البيع قبل قسمة الغنيمة .أما بعد القسمة :فإن كان البائع غنيا تصدق بقيمة المبيع
على الفقراء ،لتعذر توزيعه على الغانمين ،وإن كان البائع فقيرا أخذ القيمة؛ لن المبيع ،لو كان
موجودا ،لكان له حق أكله.
وكذلك إذا فضل شيء من الطعام والعلف من الغانمين بعد الحراز بدا ر السلم ،فإنه قبل القسمة
يرد إلى الغنيمة إن كان حامله غنيا ،وإن كان فقيرا يأكل منه .أما بعد القسمة :فإن كان حامل الطعام
أو العلف غنيا ،تصدق به على الفقراء إن كان موجودا ،وبقيمته إن كان هالكا ،وإن كان فقيرا ينتفع
به.
فإن لم يفضل شيء في يد من أخذ الطعام والعلف قبل الحراز بدار السلم ،فإنه ل يجوز النتفاع
بشيء من الغنيمة بعد الحراز بدار السلم ،لزوال المبيح ،وهي الضرورة (. )1
وأما ما عدا الطعام والعلف من الموال :فل يباح للمجاهدين أن يأخذوا شيئا منها ،لتعلق حق الجماعة
بها ،إل أنه إذا احتاج أحدهم إلى استعمال شيء من السلح أو الدواب أو الثياب ،لصيانة سلحه
ودابته وثيابه ،فل بأس باستعماله ،فإن استغنى عنه رده إلى المغنم؛ لن المحظور يستباح للضرورة،
والضرورة تقدر بقدرها (. )2
وإذا أراد المسلمون العودة إلى دار السلم ومعهم مواشٍ أو أسلحة ،ولم يقدروا على نقلها إلى دار
السلم ،ذبحوا المواشي وأحرقوها بعد الذبح ،وأتلفوا السلحة حتى ل يستفيد منها العدو.
-------------------------------
( )1تبيين الحقائق ،المرجع السابق :ص 252وما بعدها .البدائع ،124/7 :الكتاب مع اللباب:
.121/4
( )2المراجع السابقة.
( )8/52
( )8/53
وسهم الرسول صلّى ال عليه وسلم عند جمهور الفقهاء :كان يأخذ منه الرسول كفايته لنفسه وعياله
ويدخر منه مؤنة سنة ،ثم يصرف الباقي في مصالح المسلمين العامة كشراء السلحة ونحوها ،لقوله
صلّى ال عليه وسلم « :إنا معشر النبياء ل نورث ،ما تركناه صدقة» (. )1
والصحيح عند الحنفية أن سهم ذوي القربى كان يصرف للفقراء منهم دون الغنياء .وقال جمهور
الفقهاء :يشترك الغني والفقير والنساء في سهم القرابة ،لطلق الية{ :ولذي القربى} [النفال]41/8:
ولن النبي صلّى ال عليه وسلم أعطى العباس منه ،وكان من أغنياء قريش ،وكان الزبير يأخذ سهم
أمه صفية عمة النبي صلّى ال عليه وسلم .
ثم اختلف الناس في سهم الرسول صلّى ال عليه وسلم وسهم ذي القربى بعد وفاته.
فقالت طائفة ،منهم الشافعية :سهم الرسول عليه السلم للخليفة من بعده.
وقالت طائفة :سهم ذي القربى لقرابة الخليفة .وأجمعوا أن جعلوا هذين السهمين في المصالح العامة
كالخيول والسلحة للجهاد في سبيل ال .
وقالت الحنفية :سقط سهم الرسول بموته؛ لنه كان يأخذه بوصف الرسالة ،ل بوصف المامة .وهذا
مخالف لجمهور الئمة.
والمراد بذي القربى هنا :هم بنو هاشم وبنو طالب دون بني عبد شمس وبني نوفل؛ لن الوائل لم
يفارقوا الرسول صلّى ال عليه وسلم في جاهلية ول إسلم ،كما قال الرسول صلّى ال عليه وسلم ،
وشبك بين أصابعه ( . )2ويصرف اليوم في المصالح العامة.
والخلصة :أن مذاهب الفقهاء في قسمة خمس الغنيمة بعد عهد النبوة مايأتي:
قال الحنفية :تقسم على ثلثة أسهم :سهم لليتامى ،وسهم للمساكين ،وسهم لبناء السبيل.
-------------------------------
( )1حديث متواتر مروي عن ثلثة عشر صحابيا ،منهم عمر الذي روى الحديث عنه مالك بن أوس
بن الحدثان الذي روى حديثه الجماعة ،إل ابن ماجه ،واللفظ المذكور عن أبي هريرة (راجع النظم
المتناثر من الحديث المتواتر للسيد محمد بن جعفر الكتاني :ص ،138جامع الصول 300/3 :وما
بعدها ،تلخيص الحبير ،الطبعة المصرية.)134/3 :
( )2رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن جبير بن مطعم (جامع الصول:
،295/3نصب الراية ،425/3 :تلخيص الحبير ،الطبعة المصرية ،101/3 :نيل الوطار.)69/8 :
( )8/54
وأما ذكر ال تعالى في الخمس فإما هو لفتتاح الكلم ،تبركا باسمه تعالى .وسهم النبي صلّى ال عليه
وسلم سقط بموته ،كما سقط الصّفي :وهو شيء كان يصطفيه النبي صلّى ال عليه وسلم لنفسه ،أي
يختاره من الغنيمة ،مثل درع وسيف .وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي صلّى ال
عليه وسلم بالنصرة له ،وبعد وفاته بالفقر لنقطاع النصرة.
وقال الشافعي وأحمد والظاهرية وجمهور المحدثين :توزع الغنيمة على خمسة أسهم:
أولها ـ سهم المصالح (سهم ال ورسوله) وثانيها ـ سهم ذوي القربى وهم بنو هاشم من أولد فاطمة
وغيرها ،وثلثة أسهم أخرى إلى ما نص ال عليهم.
وقال المام مالك :إن القسمة مفوض أمرها إلى المام ،يفعل ما يراه مصلحة (. )1
وأما الربعة الخماس :فهي للغانمين ،ويساهم فيها الرجل المسلم المقاتل بأن يكون من أهل القتال،
ودخل المعركة على قصد القتال ،سواء قاتل أم لم يقاتل؛ لن الجهاد إرهاب للعدو.
-------------------------------
( )1آثار الحرب :هامش ص 628وما بعدها ،البدائع ،125/7 :بداية المجتهد ،277/1 :مغني
المحتاج.94/3 :
( )8/55
أما المرأة والصبي المميز والذمي :فليس لهم سهم كامل؛ لنهم ليسوا من أهل القتال ،ولكن يرضخ (
)1لهم بحسب ما يرى المام من عنايتهم.
ومقدار الستحقاق يختلف بحسب ما إذا كان القاتل فارسا أوراجلً ،فقال أبو حنيفة والشيعة المامية:
يعطى للفارس سهمان ،وللراجل سهم واحد.
وقال الصاحبان وجمهور العلماء والشيعة الزيدية :يعطى للفارس ثلثة أسهم ،وللراجل سهم واحد.
وسبب تفضيل الفارس على الراجل :هو أن المحارب كان في الماضي يملك الفرس التي يخرج بها
للجهاد ،ويلتزم بمؤونتها.
ومذهب الجمهور أصوب لصحة ثبوته عن الرسول صلّى ال عليه وسلم ،فإنه كما روى ابن ماجه
والبيهقي أن الرسول صلّى ال عليه وسلم أسهم يوم حنين للفارس ثلثة أسهم :للفرس سهمان وللرجل
سهم (. )2
وأما حديث الدارقطني الذي نصه« :للفارس سهمان وللراجل سهم» ففي إسناده ضعيف وفي متنه وهم
( . )3
-------------------------------
( )1الرضخ لغة :العطاء ليس بالكثير ،وشرعا :مال تقديره إلى رأي المام محله الخمس كالنفل.
والنفل في الشرع :الزيادة من خمس الغنيمة كما سبق بيانه.
( )2رواه ابن ماجه بهذا اللفظ ،وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد والبيهقي عن ابن
عمر ( نيل الوطار 281/8 :وما بعدها ،اللمام :ص ،502جامع الصول ،272/3 :سنن ابن ماجه:
،102/2سنن البيقهي.)325/6 :
( )3رواه ابن عباس ،وقال عنه الزيلعي :غريب ،وفي الباب أحاديث ،منها حديث مجمّع بن جارية
أخرجه أبو داود وأحمد والطبراني وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي والحاكم ،قال ابن القطان:
وعلة هذا الحديث الجهل بحال يعقوب بن مجمع (نصب الراية ،416/3 :آثار الحرب :حاشية ص
629وما بعدها ،والمراجع التي فيه).
( )8/56
ول يسهم لكثر من فرس واحد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر؛ لن السهام للخيل في الصل ،ثبت
على خلف القياس ،إل أن الشرع ورد به لفرس واحد ،فالزيادة عليها ترد إلى أصل القياس .وقال أبو
يوسف :يسهم لفرسين إذا كانتا مع الفارس؛ لن المجاهد قد يحتاج إلى فرسين يركب أحدهما ،فإذا
عيي ركب الخر (. )1
وصف المقاتل المستحق للغنيمة :المعتبر في تحديد وصف المقاتل بكونه فارسا أو راجلً في ظاهر
الرواية عند الحنفية :هو وقت دخوله دار الحرب بقصد الجهاد ،حتى إنه إذا دخل تاجرا ،فإنه ل
يستحق شيئا من الغنيمة ،ولو دخل فارسا ثم مات فرسه يستحق سهم الفرسان ،ودليلهم أن إرهاب
العدو يحصل بمجرد اجتياز حدود دار الحرب ،وأن معرفة حقيقة القتال وشهود الوقعة أمر متعذر أو
متعسر ،فيعتبر بالنسبة لكل المستحقين السبب المفضي إلى القتال ظاهرا ،وهو اجتياز الحدود.
ويترتب على هذا المذهب أيضا أنه لو دخل المجاهد إلى دار الحرب راجلً ،ثم اشترى فرسا ،أو
وهب له ،أو ورثه ،أو استعاره ،أو استأجره ،فقاتل فارسا :فله سهم الراجل ،لعتبار حالة دخوله إلى
دار الحرب .وقيل :له سهم فارس.
وأما الصورة العكسية لهذا ،وهي أنه لو دخل فارسا ،ثم باع فرسه ،أو آجره أو وهبه ،أو أعاره،
فقاتل ،وهو راجل :فإنه في ظاهر المذهب يستحق سهم راجل ،كما في السير الكبير لمحمد؛ لنه لما
باع فرسه مثلً تبين أنه لم يقصد الجهاد فارسا ،بل قصد به التجارة ،والعبرة في الستحقاق :اجتياز
الحدود بقصد الجهاد .وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما ال أنه يستحق سهم الفرسان ،بحسب
حالته وقت مجاوزة الحدود (. )2
وقال جمهور الفقهاء :المعتبر في تحديد وصف المستحق للغنيمة هو من حضر المعركة بنية القتال
وإن لم يقاتل مع الجيش ( ، )3لقول أبي بكر وعمر رضي ال تعالى عنهما« :إنما الغنيمة لمن شهد
الوقعة» ( )4قال الماوردي :ول مخالف لهما من الصحابة.
ويترتب على هذا :أنه لو لحق المدد بالمسلمين بعد انقضاء القتال ،فإنهم ل يستحقون شيئا من الغنيمة،
خلفا للحنفية ،كما سبق لدينا :وهو أن المدد يشارك المقاتلة في الغنائم قبل القسمة ،أو قبل إحرازها
بدار السلم.
مكان قسمة الغنائم :
يرى جمهور الفقهاء والظاهرية والشيعة المامية والزيدية :أنه يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب بعد
جعْرانَة (موضع بين مكة
انهزام العدو ،بل إنه يستحب؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم اعتمر من ال ِ
والطائف) حيث قسم غنائم حنين (واد بينه وبين مكة ثلثة أميال) ( )5وقسم الرسول عليه الصلة
والسلم الغنائم بذي الحُليفة (ميقات
-------------------------------
( )1البدائع ،126/7 :فتح القدير ،323/4 :تبيين الحقائق.254/3 :
( )2فتح القدير ،326/4 :البدائع ،المرجع نفسه :ص ،127تبيين الحقائق.255/3 :
( )3بداية المجتهد ،380/1 :مغني المحتاج ،102/3 :المغني.419/8 :
( )4رواه الشافعي رحمه ال تعالى وابن أبي شيبة عن عمر ،قال الزيلعي :غريب مرفوعا ،وهو
موقوف على عمر ،ورواه الطبراني والبيهقي وقال :هو الصحيح من قول عمر ،وأخرجه ابن عدي
عن علي (نصب الراية ،408/3 :تلخيص الحبير.)108 ،102/3 :
( )5رواه البخاري عن أنس ،وذكره الطبراني في الوسط من حديث قتادة عن أنس (تلخيص الحبير،
الطبعة المصرية ،105/3 :مجمع الزوائد ،238/5 :المنتقى على الموطأ.)199/3 :
( )8/57
أهل المدينة) ( ، )1وافتتح بلد بني المصطلق ،فقسم الرسول أموالهم في دارهم (. )2
ويقول الحنفية :ل يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب ،حتى يخرج الجيش إلى دار السلم .هذا إذا
كان المكان غير متصل بدار السلم ،فإن كان متصلً بها ،ففتح وأجري عليه حكم السلم ،كما هو
شأن غنائم حنين ،فل بأس بالقسمة .والسبب في عدم جواز القسمة عندهم هو أن ملكية الغنائم ل تتم
إل بالستيلء ،ول يتم الستيلء إل بالحراز في دار السلم .ومع هذا إذا قسم المام الغنائم بدار
الحرب عن اجتهاد ،أو لحاجة المجاهدين ،فتصح القسمة،أو لليداع فتحل إذا لم يكن عند المام وسائط
نقل أو حمولة (. )3
استيلء الكفار على أموال المسلمين :
قال جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية :يملك الكفار أموال المسلمين ،أو الذميين في دار السلم بالقهر
والغلبة ،إل أن الحنفية قالوا :ل يثبت تملكهم لموالنا إل بالحراز في دار الحرب ،فلو تمكن
المسلمون من غلبتهم وأخذوا ما في أيديهم ل يصير ملكا لهم ،وعليهم ردها إلى أربابها بغير شيء،
وكذا لو قسموها في دار السلم ،ثم غلبهم المسلمون ،فأخذوها من أيديهم ،فإنها ترد إلى أصحابها؛
لن قسمتهم ل تعتبر جائزة لعدم وجود الملكية.
وقال الشافعية والظاهرية :ل يملك الكافر مال المسلم أو الذمي بطريق الغنيمة.
-------------------------------
( )1راجع العيني شرح البخاري .311/14 :وذو الحليفة الن :ميقات أهل المدينة ،ويسمى آبار علي،
ويقع في مكان أعلى قليلً من الينبع ،ولم يكن حينئذ من دار السلم.
( )2سنن البيهقي ،54/9 :ذكره الشافعي في الم ،واستنبطه البيهقي من حديث أبي سعيد الذي ذكر
فيه أنهم سبوا كرائم العرب ،وأنهم أرادوا الستمتاع والعزل (تلخيص الحبير ،الطبعة المذكورة:
105/3وما بعدها ،الموال لبي عبيد :ص .)119
( )3راجع الموضوع في آثار الحرب :ص 631وما بعدها.
( )8/58
الدلة :
أدلة الجمهور :
- 1استدل الحنفية بأن الكفار استولوا على مال مباح غير مملوك ،ومن استولى على مال مباح غير
مملوك يملكه ،كمن استولى على الحطب والحشيش والصيد ،والدليل عل أنه غير مملوك أنه زال ملك
المسلم عنه باستيلء العدو وإحرازه في بلده؛ لنه حينئذ ل يتمكن من النتفاع بماله إل بدخوله دار
الحرب ،وهو غير مستطاع.
واستدل غير الحنفية :بأن الستيلء سبب للملك ،فيثبت قبل الحيازة إلى دار الحرب ،كاستيلء
المسلمين على مال غيرهم.
- 2قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم لمن وجد بعيره في الغنيمة« :إن وجدته لم يقسم فخذه ،وإن
وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن إن أردته» ( )1فهذا يدل على تملك العداء للبعير ،وأولوية مالكه
الول بعينه .وللجمهور أدلة أخرى.
واستدل الشافعية بأدلة ،منها أن ابن عمر ذهب له فرس ،فأخذها العدو ،فظهر عليهم المسلمون ،فرد
عليه في زمن رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،وأبَق (هرب) له عبد ،فلحق بالروم ،فظهر عليهم
المسلمون ،فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلّى ال عليه وسلم في
-------------------------------
( )1رواه مالك والدارقطني عن عبد الملك بن ميسرة عن ابن عباس (نصب الراية.)434/3 :
( )8/59
زمن أبي بكر الصديق ،والصحابة متوافرون من غير نكير منهم ( . )1قال القسطلني :وفيه دليل
للشافعية وجماعة على أن أهل الحرب ل يملكون بالغلبة شيئا من مال المسلمين ،ولصاحبه أخذه قبل
القسمة وبعدها (. )2
رد المال على صاحبه :إذا افترضنا أن العدو ظفر بأموال المسلم أو الذمي ،ثم تغلب المسلمون على
أعدائهم ،فإذا عرف صاحب المال قبل قسمة الغنيمة ،فإنه يجب رد هذه الموال على أصحابها عند
جماهير العلماء ،ومنهم أئمة المذاهب الربعة.
أما إذا كانت الغنيمة قد قسمت ،ثم عرف صاحب المال ،فله أخذه بعد دفع قيمته عند المالكية والحنفية،
والحنابلة في الظهر عن أحمد ،والزيدية.
وقال الشافعية والظاهرية والشيعة المامية :إن صاحب المال يستحقه من غير شيء ،ويعطى من كان
عنده ثمنه من خمس المصالح؛ لنه يشق نقض القسمة (. )3
أموال الحربي الذي أسلم قبل تمام الفتح :
إذا أسلم الحربي قبل أن يتم الفتح السلمي لبلده ،فما أثر هذا السلم على ماله الكائن في دار
الحرب؟
يرى المالكية في الراجح عندهم :أن مال هذا الشخص يعتبر فيئا وغنيمة إذا ظفر المسلمون ببلده،
سواء بقي في دار الحرب أم فرّ إلى دار السلم.
وهو رأي الحنفية والمامية والزيدية في العقار والرض ،أما المنقول :فإن السلم يعصمه ،ولكنهم
اشترطوا أن يكون المنقول تحت يد صاحبه.
وقال الشافعية والحنابلة والظاهرية :إن السلم يعصم المال ،سواء أكان عقارا أم منقولً.
وسبب الخلف بين الفقهاء :هو أن العاصم للمال والدم ،هل هو السلم أو الدار؟
فالفريق الول يقول :إن العاصم هو الدار ،فما لم يحز المسلم ماله وولده بدار السلم ،وأصيب في
دار الكفر ،فهوفيء .وقال الفريق الثاني :العاصم هو السلم (. )4
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومالك في الموطأ وأبو داود وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر (راجع فتح
الباري ،111/6 :العيني شرح البخاري ،2/15 :سنن ابن ماجه ،102/2 :نصب الراية ،435/3 :نيل
الوطار.)292/ :
( )2القسطلني شرح البخاري.172/5 :
( )3راجع آثار الحرب :ص 613وما بعدها.
( )4آثار الحرب ،المرجع نفسه :ص 622ومابعدها.
( )8/60
صلُ الرّابع :حكم السرى والسّبي
ال َف ْ
السرى :هم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء.
والسبي :هم النساء والطفال.
والكلم عنهم يطول جدا ،ولذا سأقصر الكلم على بحث حكم السرى والسبي بعد أسرهم وسبيهم،
ومن المعلوم أن السر مشروع لقوله تعالى{ :وخذوهم واحصروهم} [التوبة ]5/9:وقوله سبحانه:
{فشدوا الوَثاق} [محمد ]4/47:وهو كناية عن السر ،والسر في حرب المسلمين قليل؛ لن المسلم ل
يأسر عدوه عادة إل في نهاية المعركة ،أما في أثنائها فنادر ،والسير عالة على السر.
والثابت من فعل الرسول صلّى ال عليه وسلم أنه كان يمن على بعض السارى ويقتل بعضهم،
ويفادي بعضهم بالمال ،أو بالسرى ( ، )1وذلك على حسب ما تقتضيه المصلحة العامة ويراه ملئما
لحال المسلمين.
وأبدأ أولً بحكم السبي:
-------------------------------
( )1راجع نيل الوطار 8 :ص .6-2
( )8/61
حكم السبي :يعرف حكم السبي ببحث الحوال التي قد يتعرضون لها ،وهي :القتل والسترقاق ،والمن
والفداء (. )1
أما القتل بعد السر فل يجوز للنساء والذراري ،أي الولد باتفاق العلماء ،سواء أكانوا من أهل
الكتاب ،أم من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية ( )2وعبدة الوثان والثنوية (. )3
فإن اشترك النساء والولد في القتال مع قومهم بالفعل أو بالرأي ،جاز قتلهم في أثناء القتال ،وبعد
السر عند جمهور الئمة ،لوجود العلة في قتل العداء :وهي المقاتلة .وخالف الحنفية في حالة القتل
بعد السر ،فلم يجيزوا قتل المرأة والصبي والمعتوه الذي ل يعقل؛ لن القتل بعد السر بطريق
العقوبة ،وهم ليسوا من أهل العقوبة.
فأما القتل حال نشوب المعركة ،فلدفع شر القتال ،وقد وجد الشر منهم ،فأبيح قتلهم فيه ،لدفع الشر،
وقد انعدم الشر بالسر.
وأما الرق :فإنه إذا لم يجز قتل السبي بعد السر كما تقدم ،فإن المالكية يرون أن المام يخير حينئذ
بين السترقاق والمن والفداء.
وقال الحنفية :يسترقهم المام ،سواء أكانوا من العرب أم من العجم؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم
استرق نساء هوازن وذراريهم ( ، )4وكذا الصحابة استرقوا نساء المرتدين من العرب وذراريهم.
-------------------------------
( )1راجع التفصيل في آثار الحرب للمؤلف :ص 418وما بعدها ،البدائع 7 :ص .119
( )2الدهرية ـ بفتح الدال وقد يضم :منسوبة إلى الدهر لقولهم« :ما يهلكنا إل الدهر» فهم يقولون
ببقاء الدهر وإن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه ل بصانع ،فهم جحدوا الصانع المدبر العالم القادر
(راجع المنقذ من الضلل للغزالي :ص .)10
( )3الثنوية :هم القائلون بإلهين اثنين :وهما النور والظلمة (راجع اعتقادات فرق المسلمين والمشركين
للرازي :ص .)88
( )4راجع نيل الوطار ،المرجع السابق :ص .3
( )8/62
وقال الشافعية والحنابلة والزيدية والمامية :يصيرون أرقاء بنفس السبي ويقسمون مع الغنائم؛ لن
النبي صلّى ال عليه وسلم كان يقسم السبي كما يقسم المال (. )1
ويلحظ أن إرقاق السبي كان معاملة بالمثل؛ لن مشروعية الرق في السلم ،كانت على أساس
تقرير الواقع الذي كان موجودا قبل السلم؛ ولتهيئة الذهان للتخلص منه بالعتق مع مرور الزمن.
وأما المن :فقد أجاز المالكية أن يمن المام على السبي بإطلق سراحهم إلى بلدهم بدون مقابل.
وكذلك أجاز الشافعية والحنابلة لولي المر المن على السبي ،ولكن بشرط استطابة أنفس الغانمين ،إما
بالعفو عن حقوقهم ،أو بمال يعوضهم من سهم المصالح.
ولم يجز الحنفية المن مطلقا ،حتى ل يعود السبي حربا على المسلمين؛ لن النساء يقع بهن نسل،
والصبيان يبلغون ،فيصيرون حربا كذلك.
وأما الفداء :فقد أجازه المالكية ،فللمام أن يفادي بالنفوس من نساء أو صبيان .وأجازه الباضية أيضا
بالنفوس والمال.
وأجازه الشافعية على مال أو أسرى من المسلمين في أيدي العداء بعد تعويض الغانمين عنهم من
سهم المصالح ،بدليل أن الرسول صلّى ال عليه وسلم سبى نساء بني قريظة وذراريهم ،فباعهم من
المشركين (. )2
ولم يجز الحنفية والحنابلة الفداء بالسبي ،ل على مال ،ول على أسرى من المسلمين في أيدي قومهم.
-------------------------------
( )1راجع نيل الوطار 8 :ص ،51 ،3شرح مسلم 12 :ص .91
( )2رواه الشيخان وأحمد عن أبي سعيد (شرح مسلم ،المرجع السابق ،نيل الوطار 8 :ص ،55
الموال :ص .)121
( )8/63
حكم السرى :اتفق الفقهاء على أن لولي المر أن يفعل بالنسبة للسرى ما يراه الوفق لمصلحة
المسلمين ،ويختار أحد أمور حددها كل واحد من أصحاب المذاهب بما هداه إليه اجتهاده (. )1
مذهب الحنفية :أن ولي المر مخير في السرى بين أمور ثلثة :إما القتل ،وإما السترقاق ،وإما
تركهم أحرارا ذمة للمسلمين ،إل مشركي العرب والمرتدين ،فإنهم ل يسترقون ،ول تعقد لهم الذمة،
ولكن يقتلون إن لم يسلموا ،لقوله تعالى{ :ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد ،تقاتلونهم أو يسلمون}
[الفتح ]16/48:ولقوله عليه الصلة والسلم« :ل يجتمع دينان في جزيرة العرب» (. )2
ول يجوز في رواية عن أبي حنيفة الفداء بالمال أو بالسرى بعد تمام الحرب .وعند الصاحبين:
يجوز الفداء بالسارى ،وجاء في السير الكبير لمحمد بن الحسن :أنه يجوز الفداء بالمال عند الحاجة
أو بأسرى المسلمين؛ لنه ثبت عن رسول ال صلّى ال عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره :أنه فدى
رجلين من المسلمين برجل من المشركين ( ، )3وفدى بامرأة ناسا من المسلمين ،كانوا أسرى بمكة (
. )4
-------------------------------
( )1راجع آثار الحرب :ص 430وما بعدها.
( )2رواه مالك وعبد الرزاق والبيهقي وإسحاق بن راهويه وابن هشام عن أبي هريرة ،ورواه أحمد
والطبراني في الوسط عن عائشة بلفظ« :ل يترك بجزيرة العرب دينان» (سنن البيهقي 9 :ص
،208مشكل الثار للطحاوي 4 :ص ،13نصب الراية 3 :ص ،454نيل الوطار 8 :ص ،64
مجمع الزوائد 5 :ص .)325
( )3رواه مسلم وأحمد والترمذي وصححه وابن حبان عن عمران بن حصين أن رسول ال صلّى ال
عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل (نيل الوطار 7 :ص ،305
سبل السلم4 :ص .)55
( )4أخرجه مسلم عن سلمة بن الكوع ،وفيه أنه أسر امرأة من بني فزارة ،فاستوهبها الرسول منه
فوهبها له ،فبعث بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم إلى مكة ،ففدى بها ناسا من المسلمين ،كانوا
أسروا بمكة (نصب الراية 3 :ص .)404
( )8/64
وقال محمد :الجواز أظهر الروايتين عن أبي حنيفة ،وفدى الرسول عليه الصلة والسلم السارى يوم
بدر بالمال (. )1
ويحرم المن على السرى عند جمهور الحنفية؛ لن في المن تمكين السير من أن يعود حربا على
المسلمين ،فيقوي عدوهم عليهم ،وهو ل يحل.
ويرى المام محمد :أنه يجوز المن على بعض السارى إن رأى المام فيه النظر للمسلمين؛ لن
الرسول صلّى ال عليه وسلم منّ على ثمامة بن أُثال الحنفي حين أسره المسلمون ،وربطوه بسارية
من سواري المسجد (. )2
لكن يجوز باتفاق الحنفية المن على السرى تبعا للراضي ،كيل يشغل الفاتحون بالزراعة عن
الجهاد.
ومذهب الشافعية والحنابلة والمامية والزيدية والظاهرية :أن المام أو من استنابه من أحد أركان
حربه يفعل ماهو الصلح والحظ للسلم والمسلمين من أحد أمور أربعة :وهي القتل والسترقاق
والمن والفداء بمال أو بأسرى ،يفعل ذلك بالجتهاد ل بالتشهي ،فإن خفيت عليه المصلحة حبسهم حتى
يظهر له وجهها .وتقدير المصلحة يتم بحسب ما يرى في السير من قوة بأس وشدة نكاية ،أو أنه
مأمون الخيانة ،أو مرجو السلم ،أو مطاع في قومه ،أو أن المسلمين في حاجة إلى المال.
ومذهب المالكية :أن المام يتخير بما هو مصلحة للمسلمين في السرى قبل قسم الغنيمة بين أحد
أمور خمسة :القتل ،والسترقاق ،والمن ،والفداء ،وضرب الجزية عليهم.
-------------------------------
( )1رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر
أربع مئة .وروى مسلم وأحمد عن أنس قصة اقتراح أبي بكر قبول الفداء منهم ،ومعارضة عمر لذلك
(نصب الراية 2 :ص 402وما بعدها ،نيل الوطار 7 :ص ،304اللمام :ص .)495
( )2رواه الشيخان وأحمد عن أبي هريرة (شرح مسلم 12 :ص ،87نصب الراية ،المرجع السابق:
ص ،391نيل الوطار ،المرجع السابق :ص 301وما بعدها.
( )8/65
الدلة (: )1
استدل الفقهاء على جواز قتل السرى بعموم آيات القتال ،مثل قوله تعالى{ :فإذا انسلخ الشهر الحرم
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة ]5/9:وبما ثبت في السنة عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه
قتل بعض السرى يوم بدر ،فأمر بقتل عقبة بن أبي مُعيط والنضر بن الحارث ،لشدة إيذائهما للرسول
عليه الصلة والسلم ولصحبه (. )2
وأمر النبي صلّى ال عليه وسلم يوم أحد بقتل أبي عزة الشاعر الذي أطلق الرسول سراحه يوم بدر،
فنظم بعدئذ شعرا يحرض به على قتال المسلمين ،وفتح الرسول مكة وأمر بقتل هلل بن خطَل،
و ِمقْيس بن صبابة ،وعبد ال بن أبي سرح ،وقال« :اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» (
. )3
ثم إنه قد يكون في قتل بعض السرى مصلحة كبرى للمسلمين حسما لمادة الفساد ،واستئصالً لجذور
الشر ،وقطع شرايين الفتنة ،وهذا كله بحسب الضرورة.
واستدلوا على جواز استرقاق السرى الذي كان معاملة بالمثل مع المم الخرى بسبب الحرب بقوله
تعالى{ :فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم ،فشدوا الوثاق ،فإما منّا بعد ،وإما
فداءً} [محمد ]4/47:قالوا :إن السترقاق قد فهم من المر بشد الوثاق ،كما استدلوا بما ثبت في السير
والمغازي من أن الرسول صلّى ال عليه وسلم استرق بعض العرب
-------------------------------
( )1راجع آثار الحرب ،الطبعة الثالثة :ص 432وما بعدها.
( )2أخرجه أبو داود في المراسيل ،ورجاله ثقات عن سعيد بن جبير (نصب الراية ،المرجع نفسه:
ص ،402سبل السلم 4 :ص .)55
( )3رواه الشيخان :البخاري ومسلم عن أنس (مجمع الزوائد 6 :ص ،168سبل السلم 4 :ص .)54
( )8/66
كهوازن وبني المصطلق وقبائل من العرب ( ، )1واسترق النبي أسرى في غزوة خيبر وقريظة وفي
غزوة حنين ،وسبى أبو بكر وعمر رضي ال عنهما بني ناجية من قريش ،وفتحت الصحابة بلد
فارس والروم ،فسبوا من استولوا عليه.
والحكمة من البقاء على مشروعية الرق في النصوص الشرعية :هو مراعاة الوضاع القائمة في
المجتمعات القديمة ،لن الرق كان عماد الحياة الجتماعية والقتصادية ،ول يعقل أن يحرمه السلم
ويبقى مباحا عند المم الخرى التي تسترق أسرى المسلمين ،ول يعاملهم المسلمون بالمثل ،والمعاملة
بالمثل كان منهج الشريعة والخلفاء في العلقات الخارجية ،عملً بأحكام السياسة الشرعية المؤقتة،
وتحقيقا للمصلحة السلمية العامة ،ولكن السلم أيقظ الضمير العالمي بتنبيه الناس إلى علج مشكلة
الرقاء وضرورة الحسان إليهم في المعاملة والتخلص التدريجي من هذه الظاهرة بالعتق وفتح منافذ
دينية له ،حتى إن العتق من أفضل القربات إلى ال تعالى .
وأما المن فثابت جوازه في قوله تعالى{ :فإما منا بعد وإما فداء} [محمد ]4/47:وادعاء نسخ هذه الية
بآية براءة السابق ذكرها وهي { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة ]5/9:ل دليل عليه ،ول
حاجة إليه ،لمكان الجمع بين اليتين ،بحمل آية براءة على المر بالقتال عند وجود العدوان ،وفي
أثناء قيام
-------------------------------
( )1نيل الوطار 8 :ص 2وما بعدها.
( )8/67
الحرب مع العداء ،وقصر آية المن على حالة ما بعد النتهاء من الحرب والوقوع في قيد السر.
وقد منّ الرسول صلّى ال عليه وسلم على ثُمامة بن أُثال الحنفي سيد أهل اليمامة ( )1كما منّ على
أبي عزة الجمحي الشاعر ،وأبي العاص بن الربيع ،والمطّلب بن حَنْطب يوم بدر ،ومنّ أيضا على
أهل مكة بقوله عليه السلم« :اذهبوا فأنتم الطلقاء» وكذا منّ على أهل خيبر ( . )2وقال في أسارى
بدر« :لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلء النتنى ،لتركتهم له» ( )3أي لطلقتهم له بغير
فداء أي بالمن.
وأما الفداء أو المفاداة :وهو تبادل السرى أو إطلق سراحهم على عوض ،فهو جائز بآية سورة
محمد السابقة{ :فإما منا بعد وإما فداء} [محمد ،]4/47:وأول حادثة فداء كانت إثر سرية عبد ال بن
جحش ،حيث قبل الرسول عليه الصلة والسلم الفداء في السيرين اللذين أسرا في هذه السرية قبل
غزوة بدر بشهرين ( . )4وفيما بعد موقعة بدر كان فداء السارى أربعة آلف درهم إلى ما دون ذلك
( ، )5فمن لم يكن له شيء أمر أن يعلم صبيان النصار الكتابة والقراءة .وليس في المفاداة إعانة
لهل الحرب ،كما قال المانعون للفداء ،وهم الحنفية ،إذ إن تخليص المسلم من قيد السر واجب
لتمكينه من العبادة الحرة ل تعالى.
وأخرج مسلم عن إياس بن سَلَمة عن أبيه :أن سرية من المسلمين أتوا بأسرى ،فيهم امرأة من بني
فَزارة ،فبعث بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم إلى أهل مكة ،ففدى بها ناسا من المسلمين ،كانوا
أسروا بمكة.
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة في قصة الخيل التي بعثها النبي صلّى ال عليه وسلم قبل
نجد (راجع نيل ا لوطار.)301/7 :
( )2راجع هذه الحوادث في نصب الراية 3 :ص ،406-398زاد المعاد لبن القيم 2 :ص .165
( )3أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم (نيل الوطار ،المرجع السابق ،نصب
الراية 3 :ص ،405سبل السلم 4 :ص ،56اللمام :ص .)494
( )4راجع نصب الراية 2 :ص .403
( )5رواه الواقدي عن النعمان بن بشير (نصب الراية ،المرجع السابق).
( )8/68
( )8/69
وحينئذ ترتقي المة ،وتعلو كلمتها ،وترتفع سمعتها في كل مكان مما يدعو إلى سرعة الدخول في
السلم ،والتفرغ لكل متطلبات التنمية والرخاء وزيادة العطاء والنتاج .قال ال تعالى { :لقد أرسلنا
رسلَنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد ]25/57:وقال سبحانه:
{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ،إن ال نِعمّا يعظكم به} [النساء.]58/4:
- 2اللتزام بأحكام الشريعة السلمية ،شريعة ال القائمة على الحق وتعظيمه ،وحفظ الحقوق ،وأداء
الواجبات ،فل يجوز شرعا تطبيق غير أحكام ال تعالى وشرعه ،لذا هدد ال تعالى أهل الكتاب الذين
يحكمون بغير ما أنزل ال ،فقال سبحانه { :ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون } [المائدة:
{ ]44/5الظالمون } [المائدة { ، ]45/5:الفاسقون } [المائدة ،]47/5:وندّد ال تعالى بالمشركين
والمنافقين الذين يتجاوزون حدود ال والحكم بشرائع الجاهلية ،فقال تعالى { :أفحكمَ الجاهلية يبغون،
حكْما لقوم يوقنون } [المائدة ]50/5:وعلى القاضي حفظ هيبة مجلس القضاء،
ومن أحسنُ من ال ُ
وليس المراد بذلك شخص القاضي ،وإنما حفظ هيبة أحكام الشرع التي يطبقها على المتخاصمين ،فل
يعفو مثلً عمن أهانه من الخصوم أو أهان أحد الحضور.
( )8/70
- 3مراقبة ال تعالى ،وهذا واجب على القاضي والخصوم معا؛ لن قاضي الرض ليستطيع أن
يفعل شيئا أمام قاضي السماء ،فعليه أن يبحث بأناة وجدية وتعمق عن الحق وصاحبه ،وعلى الخصم
أن يعتقد أن القاضي في الدنيا ليحل الحرام ول يحرم الحلل ،فعليه الكتفاء بما يعتقد أنه حق ،دون
تجاوز ول اعتداء ،حتى وإن قضى القاضي في الظاهر بحكم معين ومقدار معين.
- 4غاية القضاء في السلم إرضاء ال تعالى بإحقاق الحق وإنصاف المظلوم ،دون تأثر بدين أو
ملة أو قومية أو قرابة ،وحتى على النفس ،قال ال تعالى { :يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط،
شهداءَ ل ولو على أنفسكم أو الوالدين والقربين ،إن يكن غنيا أو فقيرا فال أولى بهما فل تتّبعوا
الهوى أن تعدلوا ،وإن تَ ْلوُوا أو تُعرضوا فإن ال كان بما تعملون خبيرا } [النساء ]135/4:وقال
سبحانه { :يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين ل ،شهداء بالقِسْط ،وليجرمنكم شنآن قوم على أل
تعدلوا ،اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا ال ،إن ال خبير بما تعملون } [المائدة.]8/5:
- 5ركائز القضاء أو أركانه :يعتمد القضاء على أركان خمسة هي في مجملها مايأتي :
الول -الحاكم :وهو القاضي الذي عينته السلطة أو الحكومة للفصل في الدعاوى والخصومات،
وبهذا يختلف الحاكم عن المحكّم :وهوالذي يتفق عليه الخصمان للتحكيم في النزاع الدائر بينهما.
حكْم :وهو مايصدر عن القاضي من قرار لحسم النزاع وإنهاء الخصومة وله صفة اللزام،
الثاني -ال ُ
فيختلف الحكم عن الفتوى ،فإنها غير ملزمة .والحكم يكون إما بإلزام المحكوم عليه بأمر ما كتنفيذ
شيء أو إعطاء شيء ،وهذا يسمى قضاء إلزام ،وإما يمنع الحاكم المنازعة بقوله للمدعي :ليس لك
حق عند خصمك بسبب عجزك عن الثبات ،وهذا يسمى قضاء الترك.
( )8/71
الثالث -المحكوم به :وهو في قضاء اللزام ما ألزم به القاضي المحكوم عليه من إيفاء المدعي حقه،
وهو في قضاء الترك ترك المدعي المنازعة .وعلى كل فالمحكوم به هو الحق ،إما ل أو للعبد أو
مشترك بينهما.
الرابع -المحكوم عليه :هو من يصدر الحكم ضده ،أو من يستوفى منه الحق ،سواء أكان مدعى عليه
أم ل.
الخامس -المحكوم له :وهو المدعي بحق له ،سواء أكان خالصا له كالحق في الدين أو اللتزام
المالي ،أم خالصا ل كالحدود الشرعية ،أم مشتركا بين الحقين وكان حق ال هو الغالب وهو حد
القذف في رأي الحنفية ،أو حق العبد هو الغالب وهو الحق في القصاص .فإن كان الحق خالصا ل أو
حق ال فيه غالب ،فإن المحكوم له هو الشرع ،وهنا لتشترط الدعوى من شخص معين ،ويحق لكل
شخص حتى القاضي التقدم بالمر وهي دعوى الحسبة ،وهو الذي تمثله في عصرنا النيابة العامة.
- 6التقيد بوسائل الثبات :ليس للقاضي إصدا ر الحكم في قضية ما بناء على قناعته الشخصية،
وإنما لبد من التقيد في إثبات الحق بوسائل إثبات معينة كالشهادة والقرار واليمين والقرينة.
- 7العتماد على النصوص الشرعية الصلية في الكتاب والسنة من خلل التفسيرات والجتهادات
الراجحة التي أوضحت فيها هذه النصوص ،كالمذاهب الفقهية أو مدارس التفسير القرآني المختلفة أو
شرح الحاديث النبوية الصحيحة.
- 8الدمج بين مبدأ التوازن العام ومبدأ العدالة :إن التوازن بين الحقوق والواجبات عند تطبيق العدل
أمر ضروري لتحقيق المساواة بين الخصوم وتحقيق القدرة على الوفاء ،وتوازن القضاء ،وهذا هو
الذي يقال له :الحسان في العدل ،وهو الذي أمر ال تعالى به في قوله سبحانه { :إن ال يأمر بالعدل
والحسان } [النحل .]90/16:والعدل :هو فصل الخصومات بين المتنازعين بواسطة الشريعة
السلمية والحسان في العدل :هو موازنة الحقوق والواجبات عند تطبيق العدل.
( )8/72
والشريعة تفرض التكاليف مشروطة بالقدرة على الوفاء ،لقوله تعالى{ :ليكلف ال نفسا إل وُسْعها }
عسْرة فنَظِ َر ٌة إلى
[البقرة ،]286/2:وهذا يستوجب مبدأ إنظار المعسر لقوله تعالى { :وإن كان ذو ُ
ميسرة } [البقرة ]280/2:فل تكليف عند العجز ،وليخاطب الصبي ول المجنون ول الناسي ،لقوله
صلّى ال عليه وسلم فيما يرويه الطبراني عن ثوبان « :رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه» .
واشتراط القدرة يتطلب التخفيف عند المشقة ،عملً بالقاعدة الشرعية( ،المشقة تجلب التيسير).
والقدرة تستوجب العتراف بنظرية الدفاع الشرعي والخذ بنظرية الظروف الطارئة والقوة القاهرة،
كالخذ بمبدأ فسخ الجارة للعذار في مذهب الحنفية ،وفسخ البيع حال تعرض الثمار للجوائح المهلكة
أو المتلفة بقدر الثلث فأكثر في مذهب المالكية والحنابلة ،فإذا كان الوفاء بالعقد واجبا لقوله تعالى{ :يا
أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة ]1/5:فإن هذا مقيد بمبدأ عدم إرهاق المدين بعقد لم تكن
الظروف المستقبلية متوقعة فيه أو منتظرة له وقت التعاقد (. )1
وتوازن القضاء يستدعي ضرورة التسوية بين الخصوم في كل شيء ،ويندب في السلم اللجوء إلى
الصلح قبل السير في إجراءات الدعوى؛ لن الصلح يُبْقي جانب الود والسماحة والتفاهم ،ويحقق
توازنا أكثر مما يحققه الحكم القضائي.
-------------------------------
( )1نظرية الضرورة الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي ص 316ومابعدها.
( )8/73
والتوازن يقتضي كفالة حقوق الدفاع لكل منهم ،ويتطلب أيضا الجمع بين الثبات وحريته ،لذا حدد
السلم قيمة القرار والشهادة واليمين وبعض القرائن الشرعية ،وترك في الوقت نفسه للقاضي حق
تقدير وسائل أخرى كالقرائن القضائية ،حتى ليضيع حق يثبت المنطق أن مدعيه محق ،وحتى ليلزم
أي شخص بحق لم يثبته مدعيه بالحجج الكافية .وهذا التوازن جعل السلم يشدد في الثبات في
الميدان الجنائي ،فجعل إثبات الزنا بأربعة شهود يعاينون الجريمة،وجعل الشبهة دارئة للحد لصالح
المتهم ،وأباح الرجوع عن الشهادة والقرار ،فيكون ذلك دليل البراءة من الجريمة.
- 9اعتماد القضاء على الوازع الديني :إن إقامة العدل بين الناس غاية سامية ،لذا فقد أحيطت بسياج
ديني أخلقي إلى جانب الضمانات القانونية والمبادئ القضائية والخلقية مترابطة مع بعضها ،ومن
هنا قررت الشريعة لفت نظر كل من الخصوم والشهود والقضاة إلى عقاب من ادعى باطلً أو شهد
زورا أو حكم ظلما ،وإلى ثواب الذين يؤدون الشهادة على وجهها ،والذين يتحرون في أحكامهم الحق
ليس غير.
وإذا أمر القاضي أو ثبت عليه أنه جار في حكمه عمدا بقتل نفس أو قطع يد أو قصاص ،أقيد منه،
ول شيء عليه إذا أخطأ في حكم (. )1
- 10القضاء في السلم منصب خطير ،وذو مكانة كبيرة في الشريعة اللهية ،لذا وردت نصوص
كثيرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة تشيد بالقضاء وتكلف به النبياء والمرسلين،وتوجب القضاء
بالحق والعدل كما تقدم لدينا .وكما كرمت الشريعة القاضي العادل حذرت من القاضي الجائر الذي
يتبع هواه ( ، )2فقال
-------------------------------
( )1نظام القضاء في السلم للشيخ المرحوم أحمد عبد العزيز آل مبارك ص .8
( )2القضاء في السلم للستاذ محمود الشربيني :ص .13
( )8/74
سبحانه { :وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } [الجن .]15/72:وقال النبي صلّى ال عليه وسلم فيما
يرويه الحاكم والبيهقي عن عبد ال بن أبي أوفى « :إن ال تعالى مع القاضي مالم يجر ،فإذا جار،
تبرأ ال منه وألزمه الشيطان » .وقال عليه الصلة والسلم فيما يرويه أصحاب السنة الربعة
والحاكم عن بُريدة « :القضاة ثلثة ،اثنان في النار وواحد في الجنة :رجل علم الحق فقضى به فهو
في الجنة ،ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ،ورجل عرف الحق فجار في الحكم ،فهو في
النار » .
ول وجود للجراءات المعقدة في نظام المحاكمات السلمي ،كما ل تأخير في إصدار الحكام ،وإنما
يتميز نظام القضاء في السلم بالتعجيل.
هذه هي أصول المنهج السلمي في القضاء ،لما طبقت كان القضاء في الدولة السلمية تاج عز،
ومفخرة من مفاخر التاريخ ،لنه نظام يعتمد على العقيدة والدين والخلق وهو النظام الكفيل بتحقيق
المن والستقرار لي مجتمع إنساني يريد السعادة والبقاء ،ويفرض الهيبة والحترام له في أنظار
العالم .ولقد طبق هذا النظام خلل عشرات القرون من سنة ( 622حتى سنة )1924م ،أي قرابة ثلثة
عشر قرنا من الزمان ،وكان أبرز معالمه التسوية بين المام الحاكم وبين آحاد الرعية في مجلس
القضاء ،والتزام العدالة حتى مع العداء في السلم والحرب والمواطنة والتعايش الديني بين المسلمين
وغيرهم في ظل الدولة السلمية الرشيدة.
( )8/75
رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه في القضاء :ينبغي على كل قاض أن يحفظ
الرسالة العمرية في القضاء؛ لنها تضع له منهاج التقاضي ،وتحدد نظرة السلم إلى القضاء،
وأوضاع المتقاضين أمام القاضي وآداب القاضي ،وقواعد سير الدعوى ،وضوابط الشهادة في سبيل
الوصول إلى إصدار الحكم وتنفيذه ،وهذا نص الرسالة (: )1
-بسم ال الرحمن الرحيم
-من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد ال بن قيس (. )2
-سلم عليك ،فإني أحمد ال الذي ل إله إل هو
أما بعد:
- 1فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متّبعة.
- 2فافهم إذا أُدلي إليك.
- 3فإنه لينفع تكلم بحق ل نفاد له.
- 4آسِ بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك ،حتى ليطمع شريف في حيفك ،ول ييأس
ضعيف من عدلك.
- 5البينة على المدعي ،واليمين على من أنكر.
- 6والصلح جائز بين المسلمين ،إل صلحا أحل حراما ،أو حرّم حللً.
- 7ومن ادعى حقا غائبا أو بيّنةً ،فاضرب له أمدا ينتهي إليه ،فإن بيّنه أعطيته بحق ،وإن أعجزه
ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ للعذر ،وأجلى للعماء.
- 8ول يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم ،فراجعت فيه رأيك ،فهديت فيه لرشدك ،أن تراجع فيه
الحق ،فإن الحق قديم ،ليبطله شيء ،ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
- 9والمسلمون عدول بعضهم على بعض ،إل مجرّبا عليه شهادة زور ،أو مجلودا في حد ،أو ظنينا
في ولء أو قرابة.
- 10فإن ال تعالى تولى من العباد السرائر ،وستر عليهم الحدود ،إل بالبيّنات واليمان.
- 11ثم الفهمَ الفهمَ ،فيما أدلي إليك ،مما ورد عليك ،مما ليس في قرآن ول سنة ،ثم قايس المور
عند ذلك ،واعرف المثال ،ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى ال ،وأشبهها بالحق.
- 12وإياك والغضب ،والقلق ،والضجر ،والتأذي بالناس ،والتنكرعند الخصومة أو الخصوم.
- 13فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب ال به الجر ،ويحسن به ال ّذكْر.
- 14فمن خلصت نيته في الحق ،ولو على نفسه ،كفاه ال مابينه وبين الناس ،ومن تزيّن بما ليس
في نفسه شانه ال ،فإن ال ليقبل من العباد إل ما كان خالصا.
والسلم عليكم ورحمة ال .
-------------------------------
( )1انظر أعلم الموقعين لبن قيم الجوزية 85/1 :ومابعدها ،وانظر الشرح النفيس لها في هذا
الكتاب ،تبصرة الحكام.19/1 :
( )2هو أبو موسى الشعري رضي ال عنه.
( )8/76
( )8/77
( )8/78
الحاكم إسنادها« :فله عشرة أجور» وروى البيهقي خبر« :إذا جلس الحاكم للحكم بعث ال له ملكين
يسددانه ويوفقانه ،فإن عدل أقاما ،وإن جار عرجا وتركاه» .
وقد حكم النبي صلّى ال عليه وسلم بين الناس ( ، )1وبعث عليا كرم ال وجهه وأبا موسى الشعري
إلى اليمن للقضاء في المنازعات ،وبعث أيضا إليها معاذا ( ، )2وكان عتّآب بن أسيد أول قاض
لرسول ال صلّى ال عليه وسلم على مكة ،ولن الخلفاء الراشدين رضي ال عنهم حكموا بين الناس،
وبعث عمر رضي ال عنه أبا موسى الشعري إلى البصرة قاضيا ،وأرسل عبد ال بن مسعود إلى
الكوفة قاضيا .وتولى القضاء عمر وعلي ومعاذ وأبو موسى وشريح وأبو يوسف رضي ال عنهم.
وأجمع المسلمون على مشروعية تعيين القضاة ،والحكم بين الناس ،لما في القضاء من إحقاق الحق،
ولن الظلم متأصل في الطباع البشرية ،فل بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم.
نوع المشروعية :القضاء فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق أئمة المذاهب ،فيجب على المام
تعيين قاض ،ودليل الفرضية قوله تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط} [النساء]135/4:
ولنه كما ذ ُكر طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق ،وقل من ينصف من نفسه ،وبما أن
المام ل يقدر عادة على فصل الخصومات بنفسه لكثرة مشاغلة العامة ،فالحاجة تدعو إلى تولية
القضاة.
-------------------------------
( )1أخرجه أبو داود عن علي ،ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه ،وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم،
ورواه الحاكم في المستدرك (راجع نصب الراية ،المرجع السابق ،ص 60ومابعدها).
( )2أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ (نصب الراية :ص ،63تلخيص الحبير ،الطبعة المصرية:
4ص .)182
( )8/79
وأما كونه فرض كفاية :فلنه أمر بمعروف ،أو نهي عن منكر ،وهما واجبان كفائيان .قال بعضهم:
«القضاء أمر من أمور الدين ،ومصلحة من مصالح المسلمين ،تجب العناية به؛ لن بالناس إليه حاجة
عظيمة » ( ، )1وهو من أنواع القربات إلى ال عز وجل ،ولذا توله النبياء عليهم السلم ،قال ابن
مسعود« :لن أجلس قاضيا بين اثنين أحب إليّ من عبادة سبعين سنة» .
المبحث الثاني ـ شروط القاضي :
اتفق أئمة المذاهب على أن القاضي يشترط فيه أن يكون عاقلً بالغا حرا مسلما سميعا بصيرا ناطقا،
واختلفوا في اشتراط العدالة ،والذكورة ،والجتهاد (. )2
أما العدالة :فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة ،فل يجوز تولية فاسق ول من كان مرفوض
الشهادة لعدم الوثوق بقولهما ،قال تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات:
]6/49فإذا لم تقبل الشهادة من امرئ ،فلن ل يكون قاضيا أولى .والعدالة تتطلب اجتناب الكبائر،
وعدم الصرار على الصغائر ،وسلمة العقيدة ،والمحافظة على المروءة ،والمانة التي ل اتهام فيها
بجلب منفعة لنفسه أو دفع مضرة عنها من غير وجه شرعي.
وقال الحنفية :الفاسق أهل للقضاء ،حتى لو عين المام قاضيا صح قضاؤه للحاجة ،لكن ينبغي أل
يعين ،كما في الشهادة ،فإنه ل ينبغي أن يقبل القاضي شهادة الفاسق ،لكن لو قبلها منه جاز ،وفي
الحالتين( :قضاء وشهادة) يأثم من يعينه للقضاء ومن يقبل شهادته.
-------------------------------
( )1اللباب شرح الكتاب للميداني 4 :ص .77
( )2البدائع ،3/7 :الدسوقي ،129/4 :بداية المجتهد ،449/2 :مغني المحتاج ،375/4 :البجيرمي
على الخطيب ،318/4 :المغني.39/9 :
( )8/80
أما المحدود في القذف :فل يعين قاضيا كما ل تقبل شهادته عند الحنفية كبقية الئمة؛ لن القضاء من
باب الولية ،وبما أن هذا المحدود ل تقبل شهادته وهي أدنى الوليات ،فعدم تعيينه قاضيا أولى.
وأما الذكورة :فهي شرط أيضا عند غير الحنفية ،فل تولى المرأة القضاء ؛ لقوله صلّى ال عليه وسلم
« :لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ( ، )1ولن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة
والخبرة بشؤون الحياة ،والمرأة ناقصة العقل ،قليلة الرأي ،بسبب ضعف خبرتها واطلعها على واقع
الحياة ،ولنه ل بد للقاضي من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم ،والمرأة ممنوعة من
مجالسة الرجال بعدا عن الفتنة ،وقد نبه ال تعالى على نسيان المرأة ،فقال{ :أن تضل إحداهما فتذكّر
إحداهما الخرى} [البقرة ]282/2:ول تصلح للمامة العظمى ول لتولية البلدان ،ولهذا لم يولّ النبي
صلّى ال عليه وسلم ول أحد من خلفائه ول من بعدهم امرأة قضاء ول ولية بلد.
وقال الحنفية :يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الموال أي في القضاء المدني؛ لنه تجوز شهادتها في
المعاملت ،ويأثم المولي لها للحديث السابق« :لن يفلح »..أما في الحدود والقصاص أي في القضاء
الجنائي ،فل تعين قاضيا؛ لنه ل شهادة لها فيه ،ومن المعلوم أن أهلية القضاء تلزم أهلية الشهادة.
وقال ابن جرير الطبري :يجوز أن تكون المرأة حاكما على الطلق في كل شيء ،لنه يجوز أن
تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية.
وأما الجتهاد :فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية
-------------------------------
( )1رواه البخاري والنسائي والترمذي وصححه عن أبي بكرة (المقاصد الحسنة للسخاوي :ص ،340
نيل الوطار 8 :ص ،263سبل السلم 4 :ص ،123تلخيص الحبير 4 :ص .)184
( )8/81
كالقدوري ( ، )1فل يولى الجاهل بالحكام الشرعية ،ول المقلد( :وهو من حفظ مذهب إمامه ،لكنه
غير عارف بغوامضه ،وقاصر عن تقرير أدلته) لنه ل يصلح للفتوى ،فل يصلح للقضاء بالولى؛
لن ال تعالى يقول{ :وأن احكم بينهم بما أنزل ال } [المائدة ]49/5:ولم يقل بالتقليد للخرين ،وقال
سبحانه{ :لتحكم بين الناس بما أراك ال } [النساء ]105/4:وقال عز وجل{ :فإن تنازعتم في شيء
فردوه إلى ال والرسول} [النساء ]59/4:وروى بريدة عن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :القضاة،
ثلثة :واحد في الجنة ،واثنان في النار ،فأما الذي في الجنة ،فرجل عرف الحق ،فقضى به ،ورجل
عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ،ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» ( )2فالعامي
يقضي على جهل.
ويلحظ أن اشتراط وصف الجتهاد عند المالكية :هو الذي عليه عامة أهل المذهب ،لكن المعتمد
والصح عندهم أنه يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد (. )3
وأهلية الجتهاد :تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالحكام من القرآن والسنة ،ومعرفة الجماع والختلف
والقياس ولسان العرب ،ول يشترط أن يكون الفقيه محيطا بكل القرآن والسنة ،ول أن يحيط بجميع
الخبار الواردة ،ول أن يكون مجتهدا في كل المسائل ،بل يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع البحث ()4
.
-------------------------------
( )1اللباب في شرح الكتاب أي كتاب القدوري 4 :ص .78قال في الهداية :والصحيح أن أهلية
الجتهاد شرط أولوية .فأما تقلي الجاهل أي غير المجتهد فصحيح عندنا؛ لنه يمكنه أن يقضي بفتوى
غيره.
( )2رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه .وقد علق عليه ابن تيمية بقوله:
«وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلً» (نيل الوطار 263/8 :ومابعدها ،سبل السلم:
،115/4نصب الراية ،65/4 :مجمع الزوائد.)195/4 :
( )3الشرح الكبير وحاشية الدسوقي.129/4 :
( )4راجع التفصيل في كتابنا أصول الفقه :ص 1044/2ومابعدها ،ط دار الفكر.
( )8/82
وقال جمهور الحنفية :ل يشترط كون القاضي مجتهدا ،والصحيح أن أهلية الجتهاد شرط الولوية
والندب والستحباب ،فيجوز تقليد غير المجتهد للقضاء ،ويحكم بفتوى غيره أي بتقليد مجتهد؛ لن
الغرض من القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه ،وهو يتحقق بالتقليد ،لكن مع هذا
قالوا :ل ينبغي أن يقلد الجاهل بالحكام ،أي الجاهل بأدلة الحكام الشرعية تفصيلً واستنباطا؛ لن
الجاهل يفسد أكثر مما يصلح ،بل يقضي بالباطل من حيث ل يشعر به.
وبصرف النظر عن هذا الخلف فإن الواقع له مكان وأهمية ،قال المام الغزالي :اجتماع هذه
الشروط من العدالة والجتهاد وغيرهما متعذر في عصرنا لخلو العصر من المجتهد والعدل ،فالوجه
تنفيذ قضاء كل من وله سلطان ذو شوكة ،وإن كان جاهلً فاسقا (. )1
وقال الشافعية :إذا تعذرت هذه الشروط ،فولى سلطان له شوكة فاسقا أو مقلدا نفذ قضاؤه للضرورة.
وفي الجملة :إذا وجد اثنان كل منهما أهل للقضاء يقدم الفضل في العلم والديانة والورع والعدالة
والعفة والقوة ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :من تولى من أمر المسلمين شيئا فاستعمل عليهم رجلً،
وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب ال ،وسنة رسوله ،فقد خان ال ورسوله،
وجماعة المسلمين» (. )2
-------------------------------
( )1راجع البحث في البدائع ،3/7 :فتح القدير 453/5 :وما بعدها ،485 ،مختصر الطحاوي :ص
،332الدر المختار ورد المحتار عليه 312/4 :وما بعدها ،318 ،بداية المجتهد ،449/2 :الشرح
الكبير للدردير 129/4 :وما بعدها ،مغني المحتاج 375/4 :وما بعدها ،المهذب ،290/2 :المغني:
39/9وما بعدها.
( )2رواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس ،وأخرجه الحاكم وابن عدي وأحمد بن حنبل والعقيلي
والخطيب البغدادي .وعن حذيفة بن اليمان أخرجه أبو يعلى الموصلي (نصب الراية.)62/4 :
( )8/83
إثبات ولية القاضي :تثبت ولية القاضي بشهادة شاهدين يخبران بمحل وليته ،وباستفاضته خبر
تعيينه ،والولى أن يكتب له المام كتابا بالتولية ،اتباعا لفعل النبي صلّى ال عليه وسلم ،فإنه كتب
لعمرو بن حزم كتابا لما بعثه إلى اليمن ،وهو ابن سبعة عشر عاما ،وكتب أبو بكر رضي ال عنه
كتابا لنس لما بعثه إلى البحرين ،وختمه بخاتم رسول ال صلّى ال عليه وسلم .وتثبت ولية
القاضي اليوم بقرار التعيين أو التوظيف وينشر في الجريدة الرسمية ،وقد ينشر في الصحف اليومية.
ويسن للقاضي الستعانة بعلماء البلد الذي عين فيه ،كما يتعرف على العدول ليتابع عمله بوجه
أفضل.
المبحث الثالث ـ حكم قبول القضاء :
اتفق الفقهاء على أنه إذا تعين للقضاء واحد يصلح له في بلد لزمه طلبه وقبوله ،فإن امتنع عصى،
كسائر فروض العيان ،وللحاكم إجباره؛ لن الناس مضطرون إلى علمه ونظره ،فأشبه من عنده
طعام منعه عن المضطر.
فإن وجد في البلد عدد يصلح للقضاء ،فيجوز القبول والترك .وهل القبول حينئذ أفضل أو الترك؟
قال جمهور العلماء في المذاهب الربعة :الترك أفضل ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :من جعل قاضيا
بين الناس ،فقد ذبح بغير سكين» ( )1وقد امتنع بعض الصحابة كابن عمر وبعض كبار الفقهاء كأبي
حنيفة من قبول القضاء ،لما ورد فيه من التشديد
-------------------------------
( )1رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة عن أبي هريرة ،وأخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن أبي
شيبة وأبو يعلى والبزار والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان ،وله طرق منها
ما رواه ابن عدي عن ابن عباس (نيل الوطار 259/8 :وما بعدها ،نصب الراية ،64/4 :سبل
السلم ،116/4 :تلخيص الحبير ،184/4 :اللمام :ص .)512
( )8/84
والذم ،ولما فيه من الخطورة ( ، )1بل إنه يكره طلبه لقوله صلّى ال عليه وسلم لعبد الرحمن بن
سمرة« :يا عبد الرحمن بن سمرة ،ل تسأل المارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ،وإن
أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» ( )2أي صرفت إليها دون عون ،وعن أنس قال :قال رسول ال
صلّى ال عليه وسلم « :من سأل القضاء ،وكل إلى نفسه ،ومن أجبر عليه نزل إليه ملك فسدده» ()3
وعن أبي هريرة عن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :إنكم ستحرصون على المارة ،وستكون ندامة
يوم القيامة ،فنعم المرضعة ،وبئست الفاطمة» ( . )4فيكون طلب القضاء مكروها إذا كان هناك مماثل
أو أفضل منه.
لكن يندب طلب القضاء لعالم غير مشهور يرجو به نشر علمه بين الناس لتحصل المنفعة بعلمه ،كما
يندب لمن كان محتاجا إلى الرزق؛ لن القضاء طاعة لما في إقامة العدل من جزيل الثواب .ويستحب
أيضا لمن يرجو بعمله إحقاق الحق ومنع ضياع الحقوق ،وتدارك جورالقضاة أو عجزهم عن إيصال
الحقوق لهلها.
ويكره قبول القضاء لمن يخاف العجز عنه ،ول يأمن على نفسه الحيف فيه ،حتى ل يكون سببا
لمباشرة القبيح.
وقال بعض العلماء :قبول القضاء أفضل؛ لن النبياء والمرسلين صلوات ال
-------------------------------
( )1قال في كتاب الجوهرة الحنفي :وقد دخل فيه (أي في القضاء) قوم صالحون ،واجتنبه قوم
صالحون ،وترك الدخول فيه أحوط وأسلم للدين والدنيا ،لما فيه من الخطر العظيم والمر المخوف.
( )2رواه البخاري ومسلم وأحمد (نيل الوطار.)256/8 :
( )3أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد (نصب الراية ،69/4 :مجمع الزوائد ،194/4 :نيل
الوطار ،المرجع السابق).
( )4رواه البخاري وأحمد والنسائي .وقوله« :ستحرصون» بكسر الراء ،ويجوز فتحها ،وقوله« :نعم
المرضعة وبئست الفاطمة» أي نعمت المرضعة في الدنيا وبئست الفاطمة بعد الموت (نيل الوطار:
،257/8سبل السلم.)116/4 :
( )8/85
ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح عن عوف ابن مالك بلفظ «أولها ملمة،
وثانيها ندامة ،وثالثها عذاب يوم القيامة ،إل من عدل» .عليهم ،والخلفاء الراشدين ما رسوا القضاء،
ولنا فيهم قدوة ،ولن القضاء إذا أريد به وجه ال تعالى يكون عبادة خالصة ،بل هو من أفضل
العبادات ،لقوله صلّى ال عليه وسلم« :يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة ،وحد يقام في
الرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين يوما» (. )1
وقوله عليه الصلة و السلم« :إن المقسطين عند ال على منابر من نور عن يمين الرحمن ،وكلتا
يديه يمين :الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم ،وما وَلُوا» ( )2قالوا :وأما الحاديث التي فيها ذم
القضاء فهي محمولة على القاضي الجاهل أو العالم الفاسق ،أو الذي ل يأمن على نفسه الرشوة (. )3
قال القدوري الحنفي :ول بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه (أي يعلم من نفسه) أنه يؤدي
فرضه :وهو الحكم على قاعدة الشرع .ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عنه أي عن القيام به
على الوجه المشروع ،ول يأمن على نفسه الحيف (أي الظلم) .ول ينبغي للنسان أن يطلب الولية
بقلبه ،ول يسألها بلسانه ( ، )4لقوله صلّى ال عليه وسلم « :من طلب القضاء وكل إلى نفسه ومن
أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده» (. )5
-------------------------------
( )1رواه إسحاق بن راهويه والطبراني في الوسط عن ابن عباس (نصب الراية.)67/4 :
( )2رواه مسلم وأحمد والنسائي عن عبد ال بن عمر (نصب الراية ،المرجع نفسه :ص ،68نيل
الوطار.)260/8 :
( )3راجع البدائع 3/7 :ومابعدها ،فتح القدير 458/5 :ومابعدها ،الدر المختار ،319/4 :اللباب شرح
الكتاب ،78/4 :الشرح الكبير للدردير 130/4 :ومابعدها ،مغني المحتاج ،373/4 :المغني.35/9 :
( )4الكتاب78/4 :
( )5سبق تخريج الحديث قريبا .وفيه دليل على أن طلب مايتعلق بالحكم مكروه ،فيدخل المارة
والقضاء والحسبة ونحو ذلك ( نيل الوطار.) 259/8 :
( )8/86
( )8/87
( )8/88
وقال أبو حنيفة :إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلق ،نفذ حكمه ظاهرا وباطنا؛ لن مهمته القضاء
بالحق ،وأما الحديث فهو في قضية ل بينة فيها .وعلى هذا إذا ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها،
فأنكرت ،فأقام على زواجها شاهدي زور ،فقضى القاضي بالنكاح بينهما ،وهما يعلمان أنه ل نكاح
بينهما ،حل للرجل وطؤها ،وحل لها التمكين عند أبي حنيفة ،خلفا للجمهور .ومثله لو قضى بالطلق
فرق بينهما عنده ،وإن كان الرجل منكرا .ويقاس عليه البيع ونحوه.
والخلصة :إن القاضي في قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه ظاهرا وباطنا حيث كان المحل قابلً لذلك
كالعقود والفسوخ ،والقاضي غير عالم بزور الشهود .وهذا القول وإن كان هو الوجه في مذهب
الحنفية ،إل أن المفتى به عندهم هو قول الصاحبين الموافق لبقية الئمة ،وهو أن قضاء القاضي ينفذ
ظاهرا فقط ل باطنا ،أي ليس الحلل عند ال هو ما قضى به القاضي ،بل ما وافق الحق (. )1
المطلب الثاني ـ طرق إثبات الحق لدى القضاء :
يجب على القاضي أن يقضي بما ثبت عنده بطرق الثبات الشرعية :وهي البينة والقرار واليمين
والنكول على النحو الذي سيذكر في المبحث المخصص لطرق الثبات .وأشير هنا إلى أن البينة
تظهر الحق بالتفاق بشرط أن يثبت عند القاضي عدالة الشهود بالسؤال عنهم ،ممن له علم بأحوالهم
سرا وعلنية.
والقرار حجة مطلقة؛ لن النسان غير متهم بالقرار على نفسه كاذبا.
والشهادة في الموال :شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ،أو شهادة رجل ويمين المدعي عند غير
الحنفية.
-------------------------------
( )1البدائع ،15/7 :شرح فتح القدير ،492/5 :ط التجارية ،الدر المختار ورد المحتار ،462/4 :ط
الميرية.
( )8/89
واليمين تسقط بها دعوى المدعي الذي ل بينة له .وكذلك عند المام مالك :يثبت بها حق المدعي الذي
أنكره عليه خصمه.
والنكول عن اليمين من المدعى عليه يثبت به الحق للمدعي في الموال عند أبي حنيفة ( . )1ويقضى
عند المالكية بالنكول مع شاهد أو يمين المدعي أو مع يمين المدعى عليه ( . )2وهل للقاضي أن
يقضي بعلمه أو بكتاب قاض آخر إليه أو بالشهادة على الشهادة
- 1قضاء القاضي بعلم نفسه :
قال المالكية والحنابلة :ل يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ول غيره ،سواء علم ذلك قبل القضاء
وبعده ،ويجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء ،بأن أقر بين يديه طائعا .ودليلهم على عدم
الجواز قول النبي صلّى ال عليه وسلم « :إنما أنا بشر ،وإنكم تختصمون إلي ،ولعلّ بعضكم أن يكون
ألحن ( )3بحجته من بعض ،فأقضي بنحوٍ مما أسمع ،فمن قضيت له من حق أخيه شيئا ،فل يأخذه،
فإنما أقطع له قطعة من النار» ( )4فدل على أنه يقضي بما يسمع ،ل بما يعلم .وقال النبي صلّى ال
عليه وسلم في قضية
-------------------------------
( )1البدائع ،المرجع السابق :ص ،6بداية المجتهد 451/2 :ومابعدها ،الشرح الكبير للدردير:
.151/4
( )2القوانين الفقهية :ص .302
( )3أي أفطن بها ،ويجوز أن يكون معناه :أفصح تعبيرا وأظهر احتجاجا حتى يخيل أنه محق ،وهو
في الحقيقة مبطل .والرجح في المعنى :أنه أبلغه أي أحسن إيرادا للكلم مع أنه كاذب.
( )4رواه الجماعة :أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أم سلمة ،ورواه الطبراني في الوسط عن ابن
عمر ،لكن فيه متروك (نيل الوطار ،278/8 :شرح مسلم ،4/12 :مجمع الزوائد ،198/4 :اللمام:
ص .)514
( )8/90
الحضرمي والكندي« :شاهداك أو يمينه ،ليس لك منه إل ذاك» ( ، )1وهناك آثار عن بعض الصحابة
تؤيد عدم جواز القضاء بعلم نفسه (. )2
وقال الحنفية :القضاء بعلم القاضي بنفسه :بالمعاينة ،أو بسماع القرار ،أو بمشاهدة الحوال ،فيه
تفصيل:
- 1إن قضى القاضي بعلم حدث له ،في زمن القضاء وفي مكانه ،في الحقوق المدنية كالقرار بمال
لرجل ،أو الشخصية كطلق رجل امرأته ،أو في بعض الجرائم :وهي قذف رجل أو قتل إنسان ،جاز
قضاؤه .ول يجوز قضاؤه بعلم نفسه في جرائم الحدود الخالصة ل عز وجل ،إل أن في السرقة
يقضي بالمال ،ل بالقطع؛ لن الحدود يحتاط في درئها ،وليس من الحتياط فيها الكتفاء بعلم القاضي.
- 2إذا قضى القاضي بعلم نفسه قبل أن يقلد منصب القضاء ،أو بعد أن قلد ،لكن قبل أن يصل إلى
البلد الذي ولي قضاءه ،فإنه ل يجوز عند أبي حنيفة أصلً.
وعند الصاحبين :يجوز فيما سوى الحدود الخالصة ل عز وجل ،قياسا على جواز قضائه فيما علمه
في زمن القضاء.
ورد أبو حنيفة بأن القياس مع الفارق ،فالعلم المستفاد في زمن القضاء علم في وقت يكون القاضي فيه
مكلفا بالقضاء ،فأشبه البينة القائمة فيه ،أما العلم الحاصل في غير زمان القضاء :فهو علم في وقت ل
يكون القاضي مكلفا فيه بالقضاء ،فل يصلح؛ لنه ليس في معنى البينة ،فلم يجز القضاء به؛ لن البينة
المعتبرة أن يسمع القاضي الشهود في وليته ،أما ما يعلمه قبل وليته فهو بمنزلة ما يسمعه من
الشهود قبل وليته ،وهو ل قيمة له.
-------------------------------
( )1رواه أحمد والشيخان عن الشعث بن قيس (نيل الوطار.)302/8 :
( )2المغني 53/9 :وما بعدها ،الشرح الكبير للدردير ،158/4 :نيل الوطار :المرجع السابق :ص
،286بداية المجتهد 458/2 :وما بعدها.
( )8/91
والخلصة :إن أبا حنيفة يقول :ما كان من حقوق ال كالحدود الخالصة له ،ل يحكم فيه القاضي
بعلمه؛ لن حقوق ال مبنية على المساهلة والمسامحة ،وأما حقوق الناس المدنية ،فما علمه القاضي
قبل وليته ،لم يحكم به ،وما علمه في وليته ،حكم به ( . )1والمعتمد عند المتأخرين من الحنفية وهو
المفتى به :عدم جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقا في زماننا لفساد قضاة الزمن (. )2
وقال الشافعية :الظهر أن القاضي يقضي بعلمه قبل وليته أو في أثناء وليته ،أو في غير محل
وليته ،سواء أكان في الواقعة بينة أم ل ،إل في حدود ال تعالى .وعلى هذا فيجوز للقاضي أن
يقضي بعلمه في الموال قطعا ،وفي القصاص وحد القذف على الظهر؛ لنه إذا حكم بما يفيد الظن
وهو الشاهدان ،فقضاؤه بالعلم أولى .وأما الحدود الخالصة ل كالزنا والسرقة والمحاربة وشرب
المسكرات ،فل يقضي بعلمه فيها؛ لنها تدرأ بالشبهات ،ويندب سترها ،لكن إن اعترف إنسان بموجب
الحد في مجلس الحكم قضى فيه بعلمه ( ، )3لقوله صلّى ال عليه وسلم « :فإن اعترفت فارجمها» .
-------------------------------
( )1المبسوط ،93/16 :البدائع ،7/7 :مختصر الطحاوي :ص .332
( )2الدر المختار ورد المحتار 4 :ص .369
( )3مغني المحتاج 4 :ص .398
( )8/92
( )8/93
هذا كتاب فلن القاضي ببيان اسمه ونسبه؛ لنه ل يعرف أنه كتابه بدون المذكور .ويحدد في الكتاب
اسم المدعى عليه والشهود ،والمدعى به وصفاته لتمييزه عن غيره .وهذا أمر طبيعي متفق عليه.
ثانيا ـ أن يكون الكتاب مختوما ،ويشهدوا على أن هذا ختمه لصيانته عن الخلل فيه .وأن تكون
الكتابة ظاهرة مقروءة تفيد المعنى المراد وتؤدي المقصود من كتابة الشهادة أو كتابة الحكم ،ليتمكن
القاضي المكتوب له العمل بموجب الكتاب.
ثالثا ـ أن يشهد الشاهدان بما في الكتاب :بأن يقول :إنه قرأه عليهما مع الشهادة بالختم.
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد .وقال أبو يوسف :يكفي أن يشهد الشاهدان بالكتاب والخاتم ،ول تشترط
الشهادة بما في الكتاب؛ لن المقصود من هذه الشهادة حصول العلم للقاضي المرسل إلىه بأن هذا
كتاب فلن القاضي ،ويتحقق المطلوب بما ذكر .وقال الطرفان :ل يحصل هذا المقصود إل بالعلم بما
فيه.
رابعا ـ أن تكون هناك مسافة سفر القصر بين القاضي المرسل وبين المرسل إليه؛ لن القضاء
بكتاب القاضي أمر جوّز للحاجة أو للضرورة؛ لنه قضاء على غائب ،ول ضرورة فيما دون مسافة
القصر.
خامسا ـ أن يكون موضوع الكتاب في الحقوق المدنية أو الشخصية كالديون والنكاح ،وإثبات النسب،
والمغصوبات ،والمانات والمضاربة ،أو أن يكون في العقارات كالراضي والدور؛ لنها تقبل
التحديد ،وقيل :ل يقبل في المنقولت للحاجة إلى الشارة إليها عند الدعوى والشهادة.
وفي رواية عن محمد :أنه يقبل في جميع المنقولت من الدواب والثياب والمتعة ونحوها ،وبه أخذ
المتأخرون من الحنفية ،وعليه الفتوى ،وبه قال سائر الئمة الخرين.
سادسا ـ أل يكون الكتاب في الحدود والقصاص؛ لن كتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على
الشهادة ،وهي ل تقبل في العقوبات الخالصة ل عز وجل؛ لنها تدرأ بالشبهات ،وكتاب القاضي إلى
القاضي فيه شبهة.
وهذا أيضا هو الرجح عند الشافعية والحنابلة .وقال المالكية كما عرفنا :يجوز كتاب القاضي إلى
القاضي في الحدود والقصاص؛ لن العتماد على الشهود ،وقد شهدوا.
وهناك شروط أخرى من أهمها :أن الكتاب إذا وصل إلى القاضي قرأه على الخصم؛ لنه بمنزلة أداء
الشهادة ،وهو ل يكون إل بمحضر الخصم ،فكذا هذا ،منعا من اتهام القاضي في شيء.
ومن أهمها أيضا :أن الكتاب يقبل إذا كان القاضي الكاتب ما زال في منصبه عند وصول الكتاب إلى
ل للقضاء قبل وصول الكتاب ،ل يقبل؛ لن الكاتب
المرسل إليه ،فإن مات ،أو عزل أو لم يبق أه ً
صار من جملة الرعايا العاديين ،ول يقبل أيضا الكتاب إذا مات المكتوب له أو عزل ،إل أن يكتب
إلى قاضي بلد كذا وإلى كل من يقضي فيه من قضاة المسلمين.
( )8/94
( )8/95
( )8/96
وقال المالكية والشافعية والحنابلة ( : )1يجوز القضاء على الغائب البعيد الغيبة بشرط أن يكون
للمدعي بينة ،وذلك في حقوق الناس المدنية ،أما في الحدود الخالصة ل تعالى ،فل يقضى على
الغائب بها؛ لنها مبنية على المسامحة والدرء والسقاط ،لستغنائه تعالى ،بخلف حق النسان ،فإن
قامت بينة على غائب بسرقة مال ،حكم عليه بالمال دون القطع.
واستدلوا على جواز الحكم على الغائب بحديث هند ،قالت« :يا رسول ال ،إن أبا سفيان رجل شحيح،
وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؟ قال :خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ( )2فقضى لها الرسول
عليه السلم ،ولم يكن زوجها حاضرا .والواقع أن هذا الحديث ل حجة لهم فيه؛ لن أبا سفيان كان
حاضرا بمكة ،والحادثة كانت بمكة ،لما حضرت هند لمبايعة الرسول صلّى ال عليه وسلم .
قال ابن حزم :صح عن عثمان القضاء على الغائب ،وصح عن عمر أنه حكم في امرأة المفقود أنها
تتربص أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا ،ول مخالف لهما من الصحابة .ودليلهم من المعقول أن
البينة يطلب سماعها وهي مسموعة في هذه الحالة على الغائب ،فيجب الحكم بها كالبينة المسموعة
على الحاضر الساكت ،وأيضا فالحكم على الميت والصغير جائز ،وهما أعجز عن الدفاع عن نفسيهما
من الغائب ،ولن في منع الحكم عن الغائب إضاعة للحقوق التي ندب الحكام إلى حفظها.
وحد الغيبة البعيدة عند الشافعية :هو أن يكون الغائب في مسافة بعيدة عن بلد القاضي :وهي التي ل
يرجع منها مبكر إلى موضعه الذي بكّر منه ليلً بعد فراغ المحاكم ،لما في إلزامه الحضور من
المشقة .وقيل :هي مسافة القصر.
وأما الحاضر في بلد القاضي ومن بقربه :فل تسمع البينة عليه ،ول يحكم عليه في غيبته إل لتواريه،
أو تعززه ،وعجز القاضي حينئذ عن إحضاره بنفسه أو بأعوان السلطان.
-------------------------------
( )1بداية المجتهد ،460/2 :الشرح الكبير للدردير ،162/4 :مغني المحتاج ،415 ،406/4 :المهذب:
،3/2المغني.110/9 :
( )2متفق عليه بين البخاري ومسلم عن عائشة (شرح مسلم ،7/12 :اللمام :ص .)515
( )8/97
( )8/98
- ً 2التسوية بين الخصمين في المجلس والقبال :ينبغي أن يعدل القاضي بين الخصمين في
الجلوس ،والقبال ،فيجلسهما بين يديه ،ل عن يمينه ول عن يساره ،وأن يسوي بينهما في النظر
والنطق والشارة والخلوة فل يسارّ أحدهما أو يخلو به ،ول يشير إليه ،ول يلقنه حجة منعا للتهمة،
ول يضحك في وجه أحدهما؛ لنه يجترئ عليه ،ول يمازحهما ول واحدا منهما؛ لنه يذهب بمهابة
القضاء ،ول يضيف أحدهما ( ، )1ول يرفع صوته على أحدهما ،ول يكلم أحدهما بلغة ل يعرفها
الخر ،وإذا تكلم أحدهما أسكت الخر حتى يسمع كلمه ،ويفهم ،ثم يستنطق الخر ،حتى يفهم تماما
رأيه (. )2
قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :من ابتلي بالقضاء بين المسلمين ،فليسوّ بينهم في
-------------------------------
( )1روي إسحاق بن راهويه وعبد الرزاق والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة في صحيحه عن الحسن
عن علي قال « :إن النبي صلّى ال عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إل ومعه خصمه» ورواية
البيهقي له بإسناد ضعيف منقطع ،وله طريق آخر عند الطبراني في الوسط عن علي ،قال« :نهى
النبي صلّى ال عليه وسلم أن يضيف أحد الخصمين دون الخر» وفيه ضعيف (نصب الراية،73/4 :
تلخيص الحبير 193/4 :وما بعدها ،مجمع الزوائد.)197/4 :
( )2البدائع ،المرجع السابق :ص ،9المبسوط ،61/16 :فتح القدير.469/5 :
( )8/99
المجلس ،والشارة والنظر ،ول يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الخر» (. )1
وفي كتاب عمر إلى أبي موسى الشعري« :آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك ،حتى ل
يطمع شريف في حيفك ،ول ييأس ضعيف من عدلك» ( )2وعن الحسن قال« :جاء رجل فنزل على
علي رضي ال عنه ،فأضافه ،فلما قال:إني أريد أن أخاصم ،قال له علي رضي ال عنه :تحول ،فإن
النبي صلّى ال عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إل ومعه خصمه» ( ، )3وعن عبد ال بن الزبير
قال« :سنة رسول ال ؛ صلّى ال عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي» ،وفي لفظ:
«قضى رسول ال صلّى ال عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم» (. )4
وكما أنه ل يصح تلقين الخصم حجته ،يكره تلقين الشاهد ،وهو أن يقول القاضي كلما يستفيد به
الشاهد علما على الحادثة ،واستحسن أبو يوسف تلقين الشاهد الذي يستحي أو يحتار أو يهاب مجلس
القضاء ،فيترك شيئا من شروط الشهادة ،فيعينه القاضي بقوله« :أتشهد بكذا وكذا» بشرط عدم التهمة؛
لن في التلقين إحياء للحق (. )5
-------------------------------
( )1رواه إسحاق بن راهويه في مسنده وأبو يعلى والدارقطني والطبراني عن أم سلمة ،ولفظ
الدارقطني« :من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده» (فتح القدير،
المرجع السابق ،نصب الراية ،73/4 :مجمع الزوائد ،197/4 :تلخيص الحبير.)193/4 :
( )2روى الكتاب الدارقطني في سننيهما عن أبي المليح الهذلي ،وروى بعضه ابن أبي شيبة في
مصنفه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ،ونقله ابن الجوزي في سيرة عمر بن الخطاب
واعتمده ابن القيم في أعلم الموقعين (راجع نصب الراية ،81 ،63/4 :أعلم الموقعين،85/1 :
أصول الفقه للمؤلف ،628/2 :ط دار الفكر.
( )3رواه إسحاق بن راهويه عن الحسن ،ورواه أيضا عبد الرزاق والدارقطني وغيرهم كما سبق في
تخريجه قريبا (فتح القدير ،469/5 :نصب الراية.)73/4 :
( )4رواه أبو داود وأحمد والبيهقي والحاكم عن عبد ال بن الزبير وفي إسناده ضعيف (نيل الوطار:
،274/8تلخيص الحبير.)193/4 :
( )5فتح القدير ،المرجع السابق :ص ،470البدائع ،10/7 :اللباب.81/4 :
( )8/100
- ً 3قبول الهدية :ل يقبل القاضي هدية أحد إل من ذي رحم محرم ،أو ممن جرت عادته قبل
القضاء بمهاداته؛ لن المقصود في الول صلة الرحم ،وفي الثاني استدامة المعتاد .والحاصل أن
المهدي إذا كان له خصومة في الحال يحرم قبول هديته ،لنها بمعنى الرشوة ،قال صلّى ال عليه
وسلم « :هدايا العمال غلول» ( )1وروي« :هدايا العمال سحت» وفي لفظ« :هدايا السلطان سحت» .
وأخرج أبو داود عن بريدة حديثا بلفظ« :من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا ،فما أخذه بعد ذلك
فهو غلول» وقال عليه الصلة والسلم في قصة ابن اللّتبِيّة« :ما بال العامل نبعثه فيجيء ،فيقول :هذا
لكم ،وهذا أهدي إلي ،أل جلس في بيت أمه ،فينظر أيهدى إليه أم ل؟» ( )2ولن الهدية تدعو إلى
الميل للمهدي ،وينكسر بها قلب خصمه .وهذا كله دليل على تحريم قبول الهدية على الحاكم بعد تولي
القضاء؛ لن للحسان تأثيرا في طبع النسان ،والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ،فربما
مالت نفسه إلى المهدي ميلً يؤثر في الميل عن الحق عند وجود خصومة بين المهدي وبين غيره،
والقاضي ل يشعر بذلك ،ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الحسان في قلبه.
-------------------------------
( )1رواه أحمد والبيهقي وابن عدي والبزار من حديث أبي حميد الساعدي وإسناده ضعيف ،ورواه
الطبراني في ا لوسط من حديث أبي هريرة ،وإسناده أشد ضعفا (تلخيص الحبير ،189/4 :نيل
الوطار ،268/8 ،297/7 :مجمع الزوائد )200/4 :والغلول :الخيانة.
( )2متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي ،قال« :استعمل رسول ال صلّى ال عليه
وسلم رجلً من الزد ،يقال له :ابن اللتبية على الصدقة ،فلما قدم ،قال :هذا لكم ،وهذا أهدي إلي ،فقام
رسول ال صلّى ال عليه وسلم على المنبر ،فحمد ال وأثنى عليه ،ثم قال« :ما بال عامل أبعثه،
فيقول :هذا لكم ،وهذا أهدي إلى ،أفل جلس في بيت أبيه أو أمه ،حتى ينظر أيهدى له أم ل؟ والذي
نفس محمد بيده ،ل ينال أحد منها شيئا إل جاء يوم القيامة يحمله على عنقه ،إن كان بعيرا له رغاء،
أو بقرة لها خوار ،أو شاة تيعر ،ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ،ثم قال :اللهم ،هل بلّغت؟
مرتين أو ثلثا» (اللمام في أحاديث الحكام :ص ،516سنن أبي داود ،121/2 :نيل الوطار:
)297/7واللتبية بتشديد اللم المضمومة وسكون التاء وكسر الباء وتشديد الياء المكسورة .وقال ابن
السرح :ابن التبية.
( )8/101
وإن كان المهدي قريبا من القاضي ول خصومة له ،جاز قبول هديته؛ لنه ل تهمة فيه.
وإن كان المهدي أجنبيا عن القاضي ،ل تقبل هديته؛ لنه قد يكون له مآرب في المستقبل ،إل إذا كان
له عادة بالمهاداة قبل تقلد القضاء ،فيجوز قبولها بشرط أل تزيد الهدية على القدر المعتاد (. )1
ويندب للقاضي أل يبيع ول يشتري بنفسه ،لئل يحابيه أحد ،ويستغل منصبه وقربه منه إذا وقعت
خصومة بينه وبين غيره.
- ً 4إجابة الدعوة :إذا كانت الدعوة عامة :وهي (ما تكون فوق العشرة أو التي يتخذها صاحبها
سواء حضر القاضي أم ل ،مثل دعوة العرس والختان) ول خصومة لصاحب الوليمة ،فللقاضي إجابة
الدعوة؛ لن الجابة سنة ،ول تهمة فيه.
-------------------------------
( )1البدائع 9/7 :وما بعدها ،فتح القدير ،467/5 :الكتاب مع اللباب ،81/4 :الدر المختار323/4 :
وما بعدها ،مغني المحتاج.392/4 :
( )8/102
وإن كانت الدعوة خاصة :وهي (ما تكون دون العشرة أو التي ل يتخذها صاحبها لول حضور
القاضي) فل يجيبها؛ لن إجابتها ل يخلو من التهمة ،إل إذا كان صاحب الدعوة ممن اعتاد أن يتخذ
للقاضي دعوة قبل القضاء ،أو كان بينه وبين القاضي قرابة ،فل بأس بأن يحضر ،إذا لم يكن لصاحب
الدعوة خصومة ،كما تبين في حال الهدية ،لعدم وجود التهمة (. )1
- 5شهود الجنازة وعود المريض :ل بأس بأن يشهد القاضي الجنازة ويعود المريض؛ لن ذلك من
حقوق المسلمين بعضهم على بعض ( ، )2قال صلّى ال عليه وسلم« :حق المسلم على المسلم خمس:
رد السلم ،وتشميت العاطس ،وإجابة الدعوة ،وعيادة المريض ،واتباع الجنائز ،وإذا
-------------------------------
( )1البدائع ،المرجع السابق :ص ،10فتح القدير :ص ،468الدر المختار ،المرجع نفسه :ص .325
( )2المراجع السابقة.
( )8/103
( )8/104
لنه أقرب إلى الحتياط ( ، )1وأن يخصص الكاتب سجلً خاصا بالدعوى ،يذكر فيه موضوع
الدعوى والمدعي والمدعى عليه ،والشهود ،ودفوع كل من الخصمين.
- 3فهم المنازعة :ينبغي على القاضي أن يفهم الخصومة فهما دقيقا ،فيجعل فهمه وسمعه وقلبه
متجها كله إلى كلم الخصمين ،لقول سيدنا عمر في فاتحة كتابه إلى أبي موسى الشعري« :فافهم إذا
أدلي إليك ،فإنه ل ينفع تكلم بحق لنفاذ له» .
- 4صفاء القاضي وحالته النفسية :يلزم أل يكون القاضي قلقا ضجرا مضطربا وقت القضاء ،لقوله
صلّى ال عليه وسلم « :إياك والضجر والقلق» ( )2وأل يكون غضبان باتفاق العلماء ،لقوله صلّى ال
عليه وسلم « :ل يقضي القاضي وهو غضبان» ( ، )3ولقول سيدنا عمر إلى أبي موسى« :إياك
والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس ،والتنكر لهم عند الخصومة ،فإذا رأيت الخصم يتعمد الظلم،
فأوجع رأسه» ولن القاضي إذا غضب تغير عقله ،ولم يستكمل رأيه وفكره.
وفي معنى الغضب :كل ما شغل النفس من الهم والنعاس والجوع المفرط والعطش المفرط ،والتخمة،
والخوف ،والمرض ،وشدة الحزن والسرور ،ومدافعة الخبثين ،فينبغي أل يكون القاضي مشغولً
بهذه العوارض العشرة ،حتى ل تمنع الحاكم من إصابة الحق؛ لنها تمنع استحضار القلب والعقل،
واستجماع الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب ،فهي في معنى الغضب المنصوص
عليه ،فتجري مجراه ،قال عليه السلم« :ل يقضي القاضي وهو غضبان
-------------------------------
( )1البدائع ،12/7 :مختصر الطحاوي :ص .329
( )2ذكره السرخسي في المبسوط.64/16 :
( )3رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أبي بكر بلفظ« :ل يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان»
وفي لفظ ابن ماجه« :ل يقضي» وفي لفظ آخر« :ل يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» (نيل
الوطار 272/8 :وما بعدها ،مجمع الزوائد ،194/4 :شرح مسلم ،15/12 :تلخيص الحبير،189/4 :
سبل السلم.)120/4 :
( )8/105
( )8/106
وكذا لو جرحه اثنان ،وعدله ثلثة فأكثر ،يعمل بقول الجارح عند الحنفية؛ لن الترجيح ل يقع بكثرة
العدد في موضوع الشهادات (. )1
- 6مصالحة الخصمين :ل بأس للقاضي أن يرد الخصوم إلى الصلح ،إن تأمل منهما المصالحة ،قال
تعالى{ :والصلح خير} [النساء ]128/4:فكان طلب الصلح طلبا للخير.
وقال سيدنا عمر« :ردوا الخصوم حتى يصطلحوا ،فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن» .وإن
لم يتأمل القاضي الصلح من المتخاصمين ،ولم يرضيا به ،فل يردهما إلى الصلح ،ويتركهما على
الخصومة ،وينفذ القضاء على من قامت عليه الحجة (. )2
المبحث السابع ـ انتهاء ولية القاضي :
كل ما تنتهي به الوكالة ،تنتهي به ولية القاضي ،كالعزل والموت ،والجنون المطبق ،وإنجاز المهمة
الموكولة للشخص ،إل في شيء واحد ،وهو أن الموكل إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل ،أما ولي المر
إذا مات أو خلع ،فل ينعزل قضاته وولته .والفرق بين الوكالة وولية القاضي :أن الوكيل يعمل
بولية الموكل وفي حقه الخالص له ،فإن زالت أهلية الولية ،بطلت الوكالة .أما القاضي فل يعمل
بولية المام وفي حقه المجرد له ،وإنما يعمل بولية المسلمين وفي حقوقهم ،وإنما المام بمنزلة
النائب عنهم ،وولية المسلمين باقية بعد موت المام ،فلو استخلف القاضي أحدا بإذن المام ثم مات
القاضي،ل ينعزل خليفته؛ لنه نائب المام ،ل نائب القاضي (. )3
-------------------------------
( )1البدائع 10/7 :ومابعدها ،مختصر الطحاوي :ص .328
( )2البدائع ،المرجع نفسه :ص ،13مختصر الطحاوي :ص .333
( )3البدائع 37/6 ،16/7 :وما بعدها.
( )8/107
( )8/108
وقال الصاحبان وأئمة المذاهب الخرى :إذا لم يفلح الحبس في دفعه إلى الوفاء بديونه ،يحجر عليه
ويباع ماله جبرا ،ويقسم بين دائنيه قسمة غرماء .فالحبس جزاء مؤقت عند هؤلء ينتهي إما بالفراج
عن المدين إذا ثبت عسره ،أو ببيع ماله جبرا وتسديد ديونه.
ويحبس الرجل في نفقة زوجته لظلمه بامتناعه عن النفاق ،ول يحبس والد في دين ولده؛ لنه نوع
عقوبة ،فل يستحقه الولد على والده ،إل إذا امتنع والده من النفاق عليه ،دفعا لهلكه ،ولئل تسقط
النفقة بمضي الزمان.
وقد رأى الحنفية بالنسبة لثبات يسار المدين أنه يحبس إلى ظهور عسره في كل دين لزمه بدلً عن
مال حصل في يده (أي في المعاوضات) كثمن مبيع وبدل مستأجر ،أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة؛
لن التزامه بالعقد باختياره دليل يساره.
ول يحبس المدين فيما سوى ذلك كبدل الخلع ،وبدل مغصوب أو شيء متلف ونحوها إل أن يثبت
غريمه (دائنه) أن له مالً ،فيحبسه حينئذ لظهور المطل.
كيفية الحبس الشرعي ( : )1إن الحبس الشرعي في أصله ليس هو الحبس في مكان ضيق ،وإنما هو
تعويق الشخص ،ومنعه من التصرف بنفسه ،سواءأكان في بيت أم في مسجد ،أم كان بتوكل شخص
أو وكيله عليه ،وملزمته له.
وحق الملزمة يخول الدائن مراقبة مدينه عن كثب ،حتى يتمكن من معرفة الموال التي تؤول إلىه
تمهيدا للستيلء عليها وفاء لدينه.
وكان هذا هو الحبس على عهد النبي صلّى ال عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي ال عنه ،ولم يكن
له محبس معد لحبس الخصوم.
ولكن لما كثر الناس في عهد عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارا وجعلها سجنا يحبس فيها ،فانقسم
العلماء فريقين:
-------------------------------
( )1الطرق الحكمية :ص 102وما بعدها.
( )8/109
قال بعضهم :ل يتخذ الحاكم حبسا؛ إذ لم يكن لرسول ال صلّى ال عليه وسلم ول لخليفته بعده حبس،
ولكن يعوقه بمكان من المكنة ،أو يقام عليه حافظ ،أو يأمر غريمه بملزمته ،كما فعل النبي صلّى
ال عليه وسلم .
وقال آخرون وهم الكثرون كما تبين في التعزير :للحاكم أن يتخذ حبسا؛ إذ أن عمر بن الخطاب قد
اشترى من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلف درهم ،جعلها حبسا.
عزل القاضي وانعزاله :
للقاضي أن يعزل نفسه ،لنه كالوكيل عن المام ،وللوكيل أن يعزل نفسه عن الوكالة.
ول ينعزل القاضي بموت المام أو ترك منصبه ووليته بسبب من السباب؛ لن المام يمثل المة
في تعيين القضاة والموظفين.
وللمام عزل القاضي إذا أخل بواجبه أو كثرت الشكاوى منه ،أو وجد من هو أفضل منه ،أو كان
هناك مثله أو دونه وكان في عزله مصلحة للمسلمين .فإ لم يكن شيء مما سبق حرم عزله؛ لنه عبث
منهي عنه.
ول ينعزل القاضي قبل بلوغه خبر عزله ،لعدم علمه بذلك .وينعزل القاضي بنفسه بأحد أسباب ثلثة:
- ً 1زوال الهلية :بالجنون أو الغماء أو العمى أو الخرس أو الصمم ،أو فقدان أهلية الجتهاد
وضبط المور بسبب غفلة أو نسيان.
- ً 2الردة :بخروجه عن السلم؛ لنه يصبح كافرا ،وال تعالى يقول{ :ولن يجعل ال للكافرين على
المؤمنين سبيلً} [النساء.]141/4:
- ً 3الفسق :بالخلل بأحكام الشريعة أمرا ونهيا ،وبالداب العامة؛ لمنافاة ذلك لمنصب الولية إل
قاضي الضرورة :وهو القاضي الفاسق الذي يعينه سلطان ذو شوكة.
( )8/110
( )8/111
وبالمقارنة بين هذا المثال والوضع في السودان يظهر لنا أن القضية إذن هي قضية قوة ونفوذ لحماية
المبدأ والحق ،فإن كانت هناك قوة ،كان احترام المبدأ القانوني هو السائد ،وإن كان هناك ضعف
انحسر مبدأ القانون ،وظهر الستنكار والستهجان في وسائل العلم من إذاعة وصحافة ،وتجرأ
الناقدون لوصف القانون الجنائي المستمد من شريعة ال تعالى بأنه متسم بالقسوة والشدة ،وأنه سبب
التفرقة والتجزئة والنقسام ،وفصل جنوب السودان عن شماله!!
والواقع أن مشكلة جنوب السودان سياسية محضة تعتمد على دعم وتأييد خارجي ،له بواعثه وأهدافه
ومراميه المفروضة والمشبوهة المعروفة ،وليس منشأ المشكلة قضية تطبيق الشريعة.
ومع كل هذا أودّ بيان مبدأ إقليمية القانون الجنائي والقضاء ،وأقارن بين ما عليه القانون الوضعي في
العقوبات ،وبين ما قرره فقهاؤنا الشرعيون منذ قرون كثيرة ،لمعرفة أوجه الشبه والختلف في هذا
الموضوع المهم جدا ،ولدحض ذرائع الذين يريدون التخلص من أحكام شريعة ال تعالى ،بقصد إبقاء
الجريمة ترتع وتمرح ،ويكون المجرمون في أمان من العقاب الرادع الذي يستأصل ال جرام ويقطع
دابره.
( )8/112
من المعلوم أن الشريعة الغراء ذات المصدر اللهي الوحيد الثابت الصحة والصل منذ مجيئها وإلى
اليوم والغد ،تبغي الخير والسلمة والعدالة والستقرار والعيش بسلم في ديارها وفي العالم أجمع،
سواء بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم الذين يعيشون في ديار السلم وأوطانه ،وإذا تحقق
هذا الهدف ،وهو سريع التحقق إذا طبقت أحكام الشريعة بأصولها وفروعها الصحيحة ،وفي ضوء
مقاصد التشريع العامة وروحه النقية الصافية ،والتُزمت جميع الحكام الشرعية ،ليس في نطاق
العقاب الصارم وحده ،وإنما في مبنى الهيكل السياسي والجتماعي والقتصادي الشامل لجميع
المواطنين في ديار السلم بحيث يشعر الناس أن مظلة السلم رحمة كلها ،وخير كلها ،وعدل كلها،
ومصلحة كلها .وقد أثبتت التجارب أن العقوبات والنظمة الوضعية لم تحقق للناس سعادتهم ولم تكفل
أو تضمن لهم المن والسلمة والستقرار لموالهم وأنفسهم ومنازلهم وتحركاتهم وتنقلتهم وأسفارهم.
ول فرق في الحاجة إلى تطبيق شريعة السلم المدنية والجزائية بين عالم متمدن متحضر ،وعالم
بدائي أو متخلف ،فالبشر هم البشر ،والناس هم الناس ،والكل يعرف أن أكبر نسبة للجرائم في العالم
هي في الوليات المتحدة المريكية ،وأنه في كل دقيقة أو ثانية تقع جريمة في بريطانيا وأمريكا.
( )8/113
ومبدأ إقليمية قانون العقوبات وغيره في كل دولة معناه أن القانون يسري حكمه على كل ما يقع في
إقليم الدولة من جرائم مهما كانت جنسية المجرم وصفته .وأساس هذا المبدأ حق الدولة في السيادة
على إقليمها ،سواء القليم الرضي ،والمائي ،والجوي .والقليم الرضي يشمل جميع أجزاء حدود
الدولة الجغرافية من مساحة الرض اليابسة ،والقليم المائي يمتد إلى ذلك الجزء من البحر العام
الملصق لشواطئ الدولة ،ويتحدد في العرف الدولي عرضه بثلثة أميال بحرية من آخر نقطة
ينحسر عنها البحر وقت الجزر ،والقليم الجوي يضم كل طبقات الجو فوق القليمين الرضي
والمائي.
وهذا المبدأ الذي يحكم نطاق التطبيق المكاني للنصوص الجنائية الوضعية وهو ما يعبر عنه بمبدأ
( إقليمية قانون العقوبات ) هو المبدأ السائد في عالم القانون المعاصر ،ولكن يرد عليه استثناءان:
أحدهما داخلي والخر خارجي .أما الستثناء الداخلي فيقتضي إعفاء بعض الشخاص من الخضوع
لقانون العقوبات في ا لدولة ،وهم أعضاء البرلمان عما يبدونه من أفكار وآراء في أداء أعمالهم داخل
المجلس أو في لجانه ،ورؤساء الدول الجنبية ورجال السلك السياسي الجنبي ،وأفراد القوات الحربية
الجنبية الذين يقومون بمهمات أمنية لحفظ السلم بترخيص من الدولة ،وذلك عملً بالعرف الدولي
باعتبار أن هؤلء تتصل أوضاعهم بسيادة الدولة التي ينتمون إليها.
وأما الستثناء الخارجي فيعني تطبيق قانون عقوبات الدولة خارج إقليمها على جرائم تمس مصلحة
أساسية لها ،وهي الجرائم المخلة بأمن الدولة ،وجرائم تزييف النقود الوطنية ،وجرائم تزوير أختام
الدولة.
( )8/114
ولقد أجمع فقهاء السلم على وجوب تطبيق الشريعة في دار السلم على المسلمين وغيرهم ،كما
هو السائد في نظريات القوانين الوضعية ،ومنها القوانين العربية ،مع المخالفة أحيانا في بعض
الحالت ،فإن فقهاءنا اختلفوا فيما بينهم في مدى تطبيق الشريعة على المستأمن :وهو من دخل دارنا
بأمان مؤقت ،وذلك مثل الجانب الذين يدخلون أراضي دولة أخرى بتأشيرة دخول من الدولة نفسها
أو من سفاراتها أو قنصلياتها المعتمدة في خارج الدولة ،كما اختلفوا أيضا في مدى تطبيق الشريعة
على جرائم مواطني الدولة الواقعة أو التي ترتكب خارج أرض الدولة .وتطبق أحكام الشريعة على
المسلمين وغيرهم في ديار السلم في المعاملت المدنية والعقوبات الجنائية ،سواء أكانت حدودا
شرعية (عقوبات مقدرة) أم تعازير (عقوبات غير مقدرة متروك أو مفوض تقديرها إلى ولي المر
الحاكم).
ومبدأ إقليمية القضاء تابع لقليمية الشريعة ،ويجب على القاضي المسلم أن يحكم في النزاع في حقوق
الدميين من ديون ومعاملت في رأي الحنفية والشافعي في القول الصحيح ،لقول ال تعالى مخاطبا
نبيه عليه الصلة والسلم{ :وأن احكُمْ بينَهم بما أنزلَ ال ،ول تتّبعْ أهواءَهم ،واحذرْهم أن يفتنوك
عن بعضِ ما أنزلَ ال ُ إليكَ ،فإن توّلوْا فاعلمْ أنما يريدُ ال أن يُصيبَهم ببعضِ ذنوبهم ،وإن كثيرا من
ح ْكمَ الجاهلية يبغون ،ومَنْ أحسنُ من ال حُكما لقومٍ يُوقنون} [المائدة .]49/5:وهذا
الناسِ لفاسقون .أف ُ
يشمل المسلمين وغيرهم في دار السلم.
( )8/115
وذهب فقهاء آخرون (مالك والشافعي في القول الخر وأحمد) إلى أنه يخير القاضي المسلم بين الحكم
والعراض عن الحكم بين غير المسلمين في المعاملت ،لقوله تعالى{ :فإنْ جاءوك فاحكمْ بينهم أو
أعرضْ عنهم} [المائدة .]42/5:والظاهر هو الرأي الول ،لن هذه الية منسوخة بالية المتقدمة:
{وأن احكم بينهم} [المائدة ]49/5:ولننا التزمنا بمنع الظلم عن المستوطنين غير المسلمين في ديارنا،
ويلزم الدولة استئصال دابر الجرام والفساد في داخل أراضيها لحفظ الموال والدماء ،ويجب منح
غير المسلمين حق التقاضي عموما إلى محاكمنا ،وهذا يتفق مع ما قررته اتفاقية جنيف عام (1949م)
في المادة ( )42من منح الرعايا الجانب حق التقاضي ،سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم ،بعد أن
كان هذا الحق مسلوبا منهم فترة طويلة من الزمن.
ويتقوى الرأي الول بقول المام علي رضي ال عنه« :وإنما بذلوا الجزية ـ ضريبة الشخاص
كضرائب الدخل الحالية ـ لتكون أموالهم كأموالنا ،ودماؤهم كدمائنا» .وروى أبو داود والبيهقي عن
رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال« :أل من ظلم معاهدا أو انتقصه ،أو كلّفه فوق طاقته ،أو أخذ
شيئا بغير طيب نفسٍ منه ،فأنا حجيجه يوم القيامة» .
( )8/116
أما الخلف الفقهي في المستأمن فينحصر في رأيين :رأي أبي حنيفة ومحمد ،ورأي الجمهور ،أما أبو
حنيفة ومحمد رحمهما ال تعالى :فيريان أن المستأمن الذي يقيم إقامة مؤقتة في دار السلم ل تطبق
عليه العقوبات الشرعية إذا ارتكب جريمة متعلقة بحق ال تعالى ،كشرب الخمر والزنى والسرقة ،ول
تقام عليه الحدود؛ لن المستأمن التزم بما فيه حقوق العباد،ولن العقاب الديني ل ولية كاملة فيه
للحاكم المسلم على المستأمن ،لتوقيت مدة إقامته في ديارنا .أما مسؤوليته مدنيا وجنائيا فيما يمس
حقوق الشخاص ،كالقصاص والقذف والغصب والتبديد ،فهو كبقية المسلمين وغير المسلمين المقيمين
إقامة دائمة في بلد السلم (الذميين المعاهدين) لما في ذلك من صلح الجماعة ،وزجر الجاني،
وعهد الذمة القديم ما يزال ساري المفعول على غير المسلمين الحاليين المقيمين في البلد السلمية.
وأما الجمهور ومنهم أبو يوسف والشيعة المامية والزيدية :فيرون أن المستأمن كالذمي تطبق عليه
أحكام الشريعة ،ويخضع لجميع أحكام المعاملت المدنية والجرائم المخلة بالمن والنظام ،ويعاقب
على جرائمه التي تمس حق الشخص كالقصاص ،والسرقة في رأيهم ،والقذف وإتلف الموال ،وكذا
جرائمه التي تتعلق بحق ال تعالى كشرب الخمر والزنى ،لما في ذلك من ممارسة حق السيادة للدولة،
وللمحافظة على نقاوة المجتمع وسلمته وأمنه ،ولن المستأمن في دار السلم التزم بتطبيق أحكام
السلم عليه بموجب العهد أو المان ،كما أن أحكام الشريعة في المعاملت المالية من بيوع وعقود
وتعامل بالربا تطبق عليه باتفاق الفقهاء.
( )8/117
وقد اتخذت نظرية أبي حنيفة ومحمد ذريعة لعفاء الجانب من الخضوع لحكام الشريعة مما سبّب
منح المستأمنين في عهد سليمان القانوني السلطان العثماني ما يسمى بالمتيازات الجنبية التي قاست
منها البلد السلمية كثيرا ،فكانت سببا لستغلل المسلمين ،وتضييع حقوقهم ،واستعلء الجانب
عليهم ،والحد من سلطة الدولة وسيادتها ،والعفاء من الختصاص التشريعي والقضائي ،ومن العباء
المالية والخدمة العسكرية.
وينبني على رأي الجمهور أن الحصانة القضائية التي يترتب عليها في العرف الدولي الحديث عدم
خضوع رجال السلك الدبلوماسي للولية القضائية للدولة الموفد إليها ،سواء في المسائل المدنية أو
الجنائية أو الدارية ،هذه الحصانة غير مقررة لدى جماهير فقهائنا ،فالمستأمن والسفير والقنصل
ورئيس الدولة الجنبية وغيرهم من ذوي الستثناءات المتقدمة يسأل كل منهم مدنيا وجنائيا عما
يرتكبه من أعمال مخالفة في بلد السلم؛ لن دفع الفساد واجب ملزم لكل من يقيم بين المسلمين،
ولو مؤقتا ،والمجرم ل يستحق الحماية ول يصلح لداء وظيفته.
وأما المام أبو حنيفة وصاحبه محمد فيريان أيضا مسؤولية المستأمن مدنيا وجنائيا ،لكنه معفى فقط
كما تقدم من المسؤولية الجنائية التي تتعلق بالحق العام (حق ال تعالى) الذي تمارسه الدولة وترعاه،
كشرب الخمر والزنى.
( )8/118
ويرى أستاذنا المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة :أن العقوبات التعزيرية التي لم يرد في عقوبتها نص
من كتاب أو سنة ،أي غير الحدود الشرعية ،يعفى منها الممثلون السياسيون مجاراة للعرف الدولي
الحاضر ،ومراعاة لمبدأ المعاملة بالمثل؛ لن تقديرهذه العقوبات من حق ولي المر ،وله العفاء منها
لمصلحة عامة .والعرف أو القانون الدولي ،وإن كان ل يخضع الممثل السياسي لولية القضاء
القليمي خشية التحامل عليه وإهدار حصانته ،فإنه أجاز للدولة الموفد إليها تبليغ المر إلى الدولة
الموفدة لمحاكمته ،كما أن لها أن تعتبره شخصا غير مرغوب فيه ،وتطلب استدعاءه ،بل لها في
الجرائم الخطيرة أن تطرده ،ولها أن تقبض عليه إذا كان ذلك ضروريا للمحافظة على سلمتها ،كما
لها أن تطلب رفع الحصانة الدبلوسية عنه من دولته لتحاكمه هي بسبب ارتكابه جريمة في أرضها.
أما القناصل فيجوز خضوعهم للقضاء القليمي .وهكذا يقترب العرف الدولي الحاضر من الحكم
المقرر في الشريعة لدى فقهائنا.
وأما الخلف الفقهي حول تطبيق أحكام الشريعة على رعايا دار السلم إذا ارتكبوا جرائم في خارج
تلك الدار ،فيتمثل في رأيين أيضا :مذهب الحنفية ،ومذهب الجمهور .أما الحنفية :فيرون أن أحكام
الشريعة العقابية ل تطبق على الجرائم التي يقترفها المسلم أو الذمي في دار الحرب ،لعدم ولية المام
في إقامة الحدود وغيرها على جزء من أجزاء الدار أو البلد غير السلمية ،ولن وجوب إقامة الحد
مشروط بالقدرة على القامة أو التطبيق ،ول قدرة للمام على من يرتكب جريمة في دار الحرب
أثناء ارتكابها ،وإذا لم تتوافر القدرة لم تجب العقوبة.
( )8/119
إل أن أبا يوسف خالف أستاذه أبا حنيفة في أمرين:
الول ـ أن التعاقد على الربا حرام في جميع البلد ،في دار السلم وغيرها؛ لن الربا حرام في
ذاته في أي مكان من العالم.
والثاني ـ أن السير المسلم إذا قتله مسلم أو ذمي في دار الحرب ،فعليه الدية ،لنه إذا تعذر
القصاص لعدم ولية المام المسلم على تلك الدار ،فتجب الدية؛ لن السر ل يفقد عصمة المسلم،
ولنه (ل يُطَل دم في السلم) أي ل يهدر ،فإذا امتنع القصاص ،أمكن إيجاب الدية .وأما الجمهور
(مالك والشافعي وأحمد) :فيرون أن الشريعة تطبق على كل جريمة في أي مكان ارتكبت ،سواء في
حدود البلد السلمية أو خارجها ،وسواء أكان الجاني مسلما أم ذميا أم مستأمنا؛ لن المسلم ملزم
بأحكام الشريعة في أي مكان ،والذمي والمستأمن ملزمان بتلك الحكام الشرعية بمقتضى العهد
والمان .وقد أمر رسول ال صلّى ال عليه وسلم بعقوبة سكران يوم حنين في بلد المشركين ،وروى
أبو داود في المراسيل عن عبادة بن الصامت رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم
« :وأقيموا الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد ،ول تبالوا في ال لومة لئم» .
وهذا الحكم شامل في رأي الجمهور كل حرام كالتعامل بالربا وغيره من المحرمات كالقمار والرشوة،
وما أروع كلمة المام الشافعي في ذلك ،حيث قال في كتابه الم (« :)165/4ومما يوافق التنزيل
والسنة ،ويعقله المسلمون ،ويجتمعون عليه :أن الحلل في دار السلم حلل في بلد الكفر ،والحرام
في دار السلم حرام في بلد الكفر ،فمن أصاب حراما ،فقد حده ال على ما شاء منه ،ول تضع عنه
بلد الكفر شيئا» .وهذا واضح في أن الدار أو المكان ل تغير صفة التحريم للفعال ،فل تمنع
العقوبة المقررة جزاء على ارتكاب الفعل الحرام.
وهذه النظرية ـ نظرية الجمهور -هي السائدة اليوم في القوانين الوضعية ،إل أن الفرق بينهما أن
القانونيين يجيزون للدولة تطبيق العقاب على ما ترى فيه مصلحة بسبب ارتكاب الجرائم التي تقع في
خارج أراضيها ،وتطبق العقوبة الصارمة على الجرائم التي تمس مصلحة أساسية لها ،وهي ما سبق
بيانه من جرائم أمن الدولة ،وتزييف العملة ،وتزوير أختام الدولة الرسمية.
أما الشرعيون فيوجبون تطبيق عقوبات الحدود دون إعفاء ،ويجيزون لولي المر في التعزيرات
إعفاء ما ترى فيه مصلحة في ذلك .والخلصة :إن المبدأ الساسي في الحكم السلمي في ديار
السلم على المسلمين والذميين والمستأمنين هو مبدأ إقليمية القوانين ،مع بعض استثناءات كحرية
ممارسة الشعائر الدينية وحرية العقيدة ،وكذلك اختصاص القضاء اختصاص إقليمي ،ومبدأ القليمية
التشريعي والقضائي هو الذي تسير عليه القوانين الوضعية في العصر الحديث.
( )8/120
( )8/121
( )8/122
رابعا ـ أن يكون المدعى به شيئا معلوما :وعلمه إما بالشارة إليه عند القاضي إذا كان الشيء من
المنقولت ( ، )1أو ببيان حدوده إذا كان قابلً للتحديد كالراضي والدور وسائر العقارات ،أو بكشف
يجريه القاضي أو من ينوب عنه إذا لم يكن المدعى به قابلً للتحديد كحجر الرحى ،أو ببيان جنسه
ونوعه وقدره وصفته إذا كان المدعى به دينا ،كالنقود والبُر والشعير؛ لن الدين ل يصير معلوما إل
ببيان هذه المور .والسبب في اشتراط العلم بالمدعى به :هو أن المدعى عليه ل يلزم بإجابة دعوى
المدعي إل بعد معرفة المدعى به ،وكذلك الشهود ل يمكنهم الشهادة على مجهول ،ثم إن القاضي ل
يتمكن من إصدار الحكم أو القضاء بالدعوى إل إذا كان المدعى به شيئا معلوما.
خامسا ـ أن يكون موضوع الدعوى أمرا يمكن إلزام المدعى عليه به ،أي أن يكون الطلب مشروعا
ملزما في مفهومنا الحاضر:
فإذا لم يكن بالمكان إلزام المدعى عليه بشيء ،فل تقبل الدعوى ،كأن يدعي إنسان أنه وكيل هذا
الخصم عند القاضي في أمر من أموره ،أو يدعي على شخص بطلب صدقة أو بتنفيذ مقتضى عقد
باطل ،فإن القاضي ل يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛ لن الوكالة عقد غير لزم ،فيمكنه عزل
مدعي الوكالة في الحال.
-------------------------------
( )1حتى يشير إليه المدعي بالدعوى ،والشهود بالشهادة ،والمدعى عليه بالستحلف؛ لن العلم
بأقصى ما يمكن شرط ،ويتم بالشارة في المنقولت؛ لن النقل ممكن ،والشارة أبلغ في التعريف.
واليوم يكتفى بالوصف في المنقولت كالديون.
( )8/123
سادسا ـ أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت :لن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة ،تكون
دعوى كاذبة ،فلو قال شخص لمن هو أكبر سنا منه :هذا ابني ،ل تسمع دعواه؛ لستحالة أن يكون
الكبر سنا ابنا لمن هو أصغر سنا منه ،وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير :هذا ابني ،ل تسمع
دعواه (. )1
و يشترط أيضا عدم تناقض أقوال المدعي أو دعاويه ،فلو ادعى شخص على آخر دينا ،ثم ثبت أنه
أقر بعدمه ،لم تقبل دعواه ،ولو ادعى على شخص أنه القاتل وحده ،ثم ادعى أنه شريك مع آخر ،لم
تسمع الدعوى الثانية ،لمناقضتها الولى ،إل إذا صدقه المتهم الثاني بالقتل ،فيؤخذ بإقراره.
الصل في مشروعية الدعوى :الصل في الدعوى قول النبي صلّى ال عليه وسلم « :لو يعطى الناس
بدعواهم لدعى رجل أموال قوم ودماءهم ،لكن البينة على المدعي ،واليمين على من أنكر» ( )2ولفظ
مسلم« :ولكن اليمين على المدعى عليه» .
وبما أن الخصومات والمنازعات أمر واقع بين البشر ،فكان ل بد من الفصل فيها بطريق الدعوى؛
لن في امتدادها فسادا كبيرا ،وال تعالى ل يحب الفساد (. )3
-------------------------------
( )1المبسوط ،39/17 :تكملة فتح القدير 141 ،137/6 :وما بعدها ،البدائع ،224 ،222/6 :الدر
المختار ،438/4 :اللباب ،27/4 :الميزان.194/2 :
( )2حديث حسن رواه البيهقي وأحمد هكذا ورواه مسلم والبخاري بلفظ آخر (الربعين النووية :ص
،74نصب الراية ،95/4 :نيل الوطار.)305/8 :
( )3المبسوط ،28/17 :المغني ،272/9 :مغني المحتاج.461/4 :
( )8/124
المبحث الثاني ـ نوعا الدعوى ،وتعيين من هو المدعي والمدعى عليه :
الدعوى نوعان :صحيحة وفاسدة.
فالدعوى الصحيحة :هي التي استكملت شرائط الصحة المذكورة في المبحث الول ويتعلق بها
أحكامها المقصودة منها :وهي إحضار الخصم إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي ،ومطالبته
بالجواب على دعوى المدعي ،واليمين إذا أنكر المدعى به .ويثبت فيها حق المدعي :إما بالبينة أو
بنكول المدعى عليه عن اليمين.
والدعوى الفاسدة أو الباطلة :هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط الصحة المذكورة آنفا ،ول
تترتب عليها الحكام السابقة المقصودة منها ،كأن تكون الدعوى على غائب ،أو كان المدعى به
مجهولً؛ لن المجهول يتعذر إثباته بالشهادة ،فل يمكن للشهود أن يشهدوا به ،ول يتمكن القاضي من
القضاء بالمجهول ،ل بالبينة ول بالنكول عن اليمين (. )1
من هو المدعي والمدعى عليه؟
لما كانت مسائل الدعوى متوقفة على معرفة المدعي والمدعى عليه ،وهي من أهم ما تبتنى عليه
الدعاوى ،ل سيما فيما يتعلق بما يلزم به أحدهما من البينة أو اليمين ونحوهما ،كان من الضروري
تعيين المتصف بصفة المدعي والمدعى عليه ،وفي تعيينه تعريفات شتى ،منها :
المدعي :من ل يجبر على الخصومة إذا تركها؛ لنه مطالب .أو هو من خالف قوله الظاهر.
والمدعى عليه :من يجبر على الخصومة؛ لنه مطلوب ( . )2أو هو من وافق قوله الظاهر ،والظاهر
هو البراءة.
-------------------------------
( )1تكملة فتح القدير ،137/6 :المبسوط.30/17 :
( )2اللباب شرح كتاب القدوري ،26/4 :تكملة فتح القدير ،138/6 :الدر المختار ،237/4 :تكملة رد
المحتار على الدر المختار ،310/1 :البدائع.224/6 :
( )8/125
وقيل :المدعي :من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره ،أو إثبات حق في ذمته.
والمدعى عليه :من ينكر ذلك.
وقيل :المدعى عليه :هو المنكر ،والخر هو المدعي (. )1
المبحث الثالث :حكم الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الدعاء :
للقاضي الدور المهم في الدعوى ،فإذا جاء المدعي إلى المحكمة مع خصمه سأله القاضي عن
موضوع الدعوى ،فإذا كانت الدعوى صحيحة ،بأن كانت على خصم حاضر واستوفت شروطها،
طلب القاضي من المدعى عليه جوابه عن الدعوى؛ لن قطع دابر الخصومة واجب.
حكم الدعوى إذن :وجوب الجواب على المدعى عليه بقوله :ل أو نعم ،حتى إنه لو سكت ،كان سكوته
إنكارا ،فتقبل بينة المدعي ،ويحكم بها على المدعى عليه .فإن أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى،
حكم القاضي عليه؛ لنه غير متهم في إقراره على نفسه ،ويؤمر بأداء الحق لصاحبه.
وإن أنكر ،طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة ،فإن أقام البينة قضى بها ،لترجح جانب
الصدق على الكذب بالبينة .وإن عجز المدعي عن تقديم البينة ،وطلب يمين خصمه المدعى عليه،
استحلفه القاضي ،ودليله قول النبي صلّى ال عليه وسلم للمدعي في قصة الحضرمي والكندي« :ألك
بينة؟» قال :ل ،فقال النبي« :فلك يمينه» ( )2أي يمين المدعى عليه.
-------------------------------
( )1البدائع ،المرجع السابق ،المغني لبن قدامة الحنبلي.271/9 :
( )2أخرجه البخاري ومسلم عن وائل بن حجر (نصب الراية.)94/4 :
( )8/126
فإن قال المدعي ( :لي بينة حاضرة في البلد ) وطلب اليمين من المدعى عليه لم يستحلف عند أبي
حنيفة؛ لن حق المدعي في طلب اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة ،كما في الحديث المذكور
قريبا.
وقال أبو يوسف :يستحلف؛ لن طلب اليمين حق المدعي ،لقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :البينة
على من ادعى ،واليمين على من أنكر» (. )1
وهل يقضى بشاهد واحد ويمين المدعي ،وهل ترد اليمين على المدعي أو يقضى على المدعى عليه
بنكوله عن اليمين؟ هذا ما يجاب عنه في المبحث التالي:
المبحث الرابع ـ حجج المتداعين أو طرق إثبات الحق :
طرق الثبات التي يعتمد عليها في القضاء :هي الشهادة ،واليمين ،والنكول ،والقرار ،أو الشهادة مع
اليمين.
أما الشهادة :فهي حجة المدعي :لقوله صلّى ال عليه وسلم « :البينة على المدعي» ولن المدعي
يدعي أمرا خفيا ،فيحتاج إلى إظهاره ،وللبينة قوة الظهار..
وسأخصص مبحثا للكلم عن الشهادات .والسبب في تكليف المدعي البينة أو الشهادة أن جانبه
ضعيف ،لكون دعواه خلف الصل ،فكلف الحجة القوية وهي البينة ،وأن جانب المدعى عليه قوي،
لنه متمسك بالصل وهو البراءة ،فاكتفي منه بالحجة الضعيفة وهي اليمين.
والبينة إما شهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شاهد ويمين ،أو أربعة رجال ،أو أربع نسوة.
وأما اليمين :فهي حجة المدعى عليه ،لقوله عليه الصلة والسلم« :واليمين على المدعى عليه» فإن
حلف المدعى عليه ،قضى القاضي بفصل الدعوى ،وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن
يتمكن المدعي من إقامة البينة.
وإن نكل عن اليمين ،فهل ترد اليمين إلى المدعي أو يقضى عليه بالنكول؟ فيه رأيان للفقهاء ،أذكرهما
فيما يلي:
رد اليمين والقضاء بالنكول :إذا أبى المدعى عليه أن يحلف ،هل يحلف المدعي ،أو يقضى له بنكول
صاحبه عن اليمين ( )2؟ اختلف العلماء في الموضوع.
قال المالكية :ترد اليمين على المدعي بعد النكول في الموال ما يؤول إليها فقط كخيار وأجل .وذلك
إذا ثبتت الدعوى ،أما مجرد دعوى التهام فل ترد على المدعي.
وقال الشافعية :ترد اليمين على المدعي في جميع الحقوق ما عدا جنايات الدماء والحدود ،ويقضى له
بمدعاه ،ول يقضى بنكول المدعى عليه .وتعتبر اليمين المردودة إقرارا تقديريا .وهذا هو الذي صوبه
المام أحمد ،فيكون رأي مالك والشافعي وأحمد هو القول برد اليمين ،لكن المختار عند الحنابلة القول
بعدم رد اليمين.
استدل الجمهور بما روى ابن عمر« :أن النبي صلّى ال عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق» ()3
ولن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين بعد أن طلبت منه ،ظهر صدق
-------------------------------
( )1تكملة فتح القدير 151/6 :ومابعدها ،الدر المختار ،438/4 :اللباب.29/4 :
( )2النكول :استنكاف الخصم عن حلف اليمين الموجهة عليه من القاضي (المدخل الفقهي للستاذ
الزرقاء :ص ،1051الطبعة السادسة) وقال في البحر الزخار :410/ 4 :النكول لغة :التأخر عن لقاء
العدو ،وشرعا عن اليمين الواجبة.
( )3رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف ،والحاكم وصحح إسناده (سبل السلم،136/ 4 :
تلخيص الحبير.)209/ 4 :
( )8/127
المدعي ،وقوي جانبه ،فتشرع اليمين في حقه ،كالمدعى عليه قبل نكوله ،وكالمدعي إذا شهد له شاهد
واحد ،كما سأبين ،وقال تعالى{ :أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} [المائدة ]108/5:أي بعد المتناع
من اليمان الواجبة ،فدل على نقل اليمان من جهة إلى جهة.
ول يقضى عند الجمهور بالنكول :لن النكول كما يحتمل أن يكون امتناعا وتحرزا عن اليمين الكاذبة،
يحتمل أن يكون تورعا عن اليمين الصادقة ،فل يقضى للمدعي مع تردد المدعى عليه ،إذ ل يتعين
بنكوله صدق المدعي ،فل يجوز الحكم له من غير دليل ،فإذا حلف المدعي كانت يمينه دليلً عند عدم
ما هو أقوى منها (. )1
وقال الحنفية ،والحنابلة في المشهور عندهم :ل ترد اليمين على المدعي ،وإنما يقضي القاضي على
المدعى عليه بالنكول عن اليمين ،وبإلزامه بما ادعى عليه المدعي .والنكول إما أن يكون حقيقة
كقوله ( :ل أحلف ) أو حكما كأن سكت ،دون أن يكون هناك عارض كخرس وطرش.
وتعرض اليمين على المدعى عليه مرة واحدة .ولكن لزيادة الحتياط والمبالغة في إبداء العذر :ينبغي
للقاضي تكرار عرض اليمين ثلث مرات بأن يقول له :إني أعرض عليك اليمين ثلثا ،فإن حلفت
فبها ،وإل قضيت عليك بما ادعاه خصمك.
استدلوا بقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :البينة على المدعي واليمين على من أنكر» فقد جعل جنس
اليمان على المنكرين ،كما جعل جنس البينة على المدعي .وفي لفظ
-------------------------------
( )1راجع مغني المحتاج 447 ،444 ،150/4 :وما بعدها ،المهذب ،318 ،301/2 :بداية المجتهد:
،454/2الشرح الكبير للدردير 146/4 :وما بعدها ،المغني ،235/9 :الميزان ،196/2 :الطرق
الحكمية في السياسة الشرعية :ص ،116الشرح الصغير.64/5 :
( )8/128
آخر للحديث في الصحيحين« :ولكن اليمين على المدعى عليه» فحصر اليمين في جانب المدعى
عليه.
واستدل الحنفية أيضا بأن النكول دليل على كون المدعى عليه باذلً للحق إذا اعتبرنا النكول بذلً،
وهو رأي أبي حنيفة ،أو كونه مقرا إقرارا تقديريا بالحق المدعى به إذا اعتبرنا النكول إقرارا ،وهو
ل أو مقرا ،لقدم على اليمين دفعا لضرر الدعوى
رأي الصاحبين ( ، )1ولول كون المدعى عليه باذ ً
عن نفسه وقياما بالواجب؛ لن اليمين واجبة عليه بقوله صلّى ال عليه وسلم « :واليمين على من
أنكر» وكلمة (على) للوجوب (. )2
وينبغي للقاضي أن يقول للمدعى عليه« :إني أعرض اليمين عليك ثلث مرات ،فإن حلفت ،وإل
قضيت عليك بما ادعاه المدعي» فإن كرر العرض عليه ثلث مرات قضى عليه بالنكول.
-------------------------------
( )1النكول :معناه عند أبي حنيفة البذل أي ترك المنازعة والعراض عنها وإباحة المال والتبرع به
في سبيل قطع الخصومة بدفع ما يدعيه الخصم ،أي أن النكول له أثر سلبي عند أبي حنيفة ،فل يفيد
الهبة والتمليك ،ومعناه عند الصاحبين :القرار بالحق ،أي أن أثره إيجابي (راجع تكملة فتح القدير:
165/6مع شرح العناية بهامشه ،الطرق الحكمية لبن قيم الجوزية :ص 124وما بعدها) احتج أبو
حنيفة الذي جعل النكول كالبذل :بأنا لو اعتبرنا إقراره يكون كاذبا في إنكاره ،والكذب حرام ،فيفسق
بالنكول بعد النكار ،وهذا باطل ،فجعلناه بذلً وإباحة ،صيانة له عما يقدح في عدالته ،ويجعله كاذبا.
واحتج الصاحبان اللذان جعل النكول كالقرار بأن الناكل كالممتنع من اليمين الكاذبة ظاهرا ،فيصير
معترفا بالمدعى به؛ لنه لما نكل ـ مع إمكان تخلصه باليمين ـ دل نكوله على أنه لو حلف لكان
كاذبا ،وهو دليل اعترافه .ومن ثمرة الخلف أن الصبي المأذون بالتجارة هل يحلف أو ل؟ فعند أبي
حنيفة :ل يحلف لنه لو نكل كان باذلً ،وهو ليس من أهل البذل ،وعند الصاحبين :يحلف؛ لن
النكول إقرار وهو من أهل القرار (الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة :ص .)105
( )2تكملة فتح القدير ،المرجع نفسه :ص ،158 ،155المبسوط ،35/17 :البدائع 225 6/ :وما
بعدها ،230 ،الدر المختار ،442/4 :اللباب شرح الكتاب ،30/4 :المغني 235/9 :وما بعدها ،الطرق
الحكمية ،المرجع السابق.
( )8/129
مجال القضاء بالنكول :قال الحنفية وأصحاب أحمد :يقضى بالنكول في الموال ،أما غير المال أو
مال يقصد به المال كنكاح وطلق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة ،فل يقضى فيه بالنكول ،فل
يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة والصاحبين ،وإنما يقضى عندهما بالدية
أو بالرش.
وقال أبو حنيفة :يقضى بالقصاص في الطرف حالة العمد ،وبالدية حالة الخطأ ،أما في القصاص
بالنفس فل يقضى فيه عنده ل بالقصاص ول بالمال أي بالدية ،لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف.
وإذا كان ل يقضى بالنكول في القصاص عند الحنابلة ،سواء أكان في النفس أم في الطرف ،فماذا
يصنع بالجاني؟ وجهان ـ أحدهما :يخلى سبيله؛ لنه لم يثبت عليه حجة ،والثاني :يحبس حتى يقر أو
يحلف.
( )8/130
وكذلك ل يقضى بالنكول في الحدود الخالصة ل تعالى كحد الزنا والسرقة والشرب؛ لن النكول يعتبر
بذلً عند أبي حنيفة ،وإقرارا فيه شبهة عند الصاحبين؛ لنه في نفسه سكوت ،والحدود ل تحتمل
البذل ،أي ل يقبل من المتهم إباحة نفسه لقامة الحد عليه ،وتندرئ بالشبهات ،فل تثبت بدليل فيه
شبهة ،والنكول فيه شبهة ،كما أوضحت ،فل تجب به.
وقال أبو حنيفة :ل يقضى أيضا بالنكول في الشياء السبعة :وهي النكاح ،والرجعة ،والفيء في
اليلء ،والنسب ،والرق ،والستيلد ،والولء ،وليستحلف المنكر فيها؛ لن النكول عنده يعتبر بذلً
وإباحة ،والبذل ل يجري في هذه الشياء .فإذا أنكر الرجل أو المرأة عقد النكاح ،فقالت المرأة مثلً:
ل نكاح بيني وبينك،ولكن بذلت لك نفسي ،لم يصح بذلها؛ لن الزوجية ل تباح بالبذل .وكذلك في
الرجعة :بأن ادعى الرجل بعد الطلق وانقضاء المدة أنه كان قد راجعها في العدة ،وأنكرت المرأة،
أو بالعكس ،فل يحلف المنكر ،ول يصح بذله نفسه للخر.
وفي دعوى الفيء باليلء ،أي الرجوع إلى معاشرة الزوجة بعد أن حلف أل يطأها مدة أربعة أشهر
( : )1إذا ادعى الرجل بعد انقضاء مدة اليلء أنه كان قد فاء إليها في المدة ،وأنكرت المرأة أو
بالعكس ،فل يستحلف المنكر ،ول يصح بذله نفسه للخر.
وفي دعوى النسب :بأن يدعي شخص على مجهول النسب أنه ولده أو والده وأنكر المجهول أو
بالعكس ،فل يحلف المنكر ول يصح قوله :أبحت له أن يدعي نسبي ،لم يصح بذله.
وفي دعوى الرق :بأن ادعى مجهول النسب أنه عبده ،وأنكر المجهول أو بالعكس ،فل يحلف المنكر،
ول يقبل قوله :بذلت له نفسي ليسترقني.
-------------------------------
( )1هذا مأخوذ من قوله تعالى{ :للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن ال غفور
رحيم ،وإن عزموا الطلق فإن ال سميع عليم} [البقرة.]227-2/226:
( )8/131
وفي دعوى استيلد المة ،بأن ادعت أمة على مولها أنها ولدت منه ولدا ،وأنكر المولى ،ل يحلف
ول يقبل قوله :بذلت نفسي لجعل المة مستولدة مني .وفي هذه الصورة ليتأتى العكس ،أي أن يكون
من قبل المة؛ لن المولى إذا ادعى الستيلد ،ثبت ذلك بإقراره ،ول يلتفت إلى إنكار المة.
وفي دعوى الولء ،بأن ادعى إنسان على مجهول أنه عتيقه وموله وأنكر
المجهول ،أو بالعكس ،فل يحلف المنكر ،ول يصح قوله :بذلت نفسي ليجعلني موله (. )1
كل هذا بخلف الموال ،فإنه يجري فيها البذل ،فلو قال شخص :هذا المال ليس لفلن ،ولكن أبحته
وبذلته له ،لتخلص من خصومته ،صح بذله.
هذا رأي أبي حنيفة .وقال الصاحبان :يجري الستحلف والنكول في هذه الشياء السبعة؛ لن النكول
عندهما إقرار ،والقرار يجري في هذه الشياء ،لكنه فقط إقرار فيه شبهة ،فل يقبل في الحدود ،كما
أشرت .فنكول المدعى عليه دليل على كونه كاذبا في إنكاره؛ لنه لو كان صادقا لما امتنع من اليمين
الصادقة ،فكان النكول إقرارا دللة أو تقديرا ،إل أنه إقرار فيه شبهة ،وهذه الشياء تثبت بدليل فيه
شبهة ،إذ يجوز إثباتها بالشهادة على الشهادة ،وشهادة رجل وامرأتين.
-------------------------------
( )1جاريت الفقهاء في بيان بعض الحكام المتعلقة بالرق إتماما للبحث من الناحية التاريخية؛ لنهم
يصفون هذه الشياء بصفة واحدة ،ويقولون عنها« :ليجري البذل في الشياء السبعة» فكان من
الضروري ذكرها لمعرفة ما هذه الشياء السبعة ،ولبيان طبيعة هذه الحالت.
( )2تكملة فتح القدير ،166-162/6 :البدائع ،230/6 :الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه:
،443/4اللباب شرح الكتاب للميداني.31/4 :
( )8/132
والفتوى على قول الصاحبين أي بتحليف المنكر ،والقضاء عليه بالنكول في هذه الشياء ،ل في
الحدود والقصاص ،واللعان؛ لنه في معنى الحد؛ إذ أنه (أي اللعان) بالنسبة للزوج يعد قائما مقام حد
القذف ،وبالنسبة للمرأة يعد قائما مقام حد الزنا ،فل يجري النكول فيه ( . )2والخلصة عند الحنفية:
أنه ل تحليف في الحدود اتفاقا ،ويستحلف في القصاص والموال كلها اتفاقا ،واختلفوا في التحليف في
سبع مسائل ،فعند المام :ل يستحلف .وعند الصاحبين :يستحلف .وكل ما يجري فيه التعزير من
الحقوق كالضرب والشتم واللفاظ القبيحة يجري فيه التحليف ول يسقط بالتقادم ،وتقبل فيه شهادة
النساء كما في سائر الحقوق (. )1
كيفية اليمين وأثرها في الدعوى :لليمين كيفية معينة ،سواء أكانت يمينا مردودة ،أم مع الشاهد ،أم
يمينا من المدعى عليه.
اتفق العلماء على أن اليمين تكون بال عز وجل دون غيره ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :من كان
حالفا فليحلف بال أو ليصمت» ( )2ولقوله عليه السلم« :من حلف بغير ال فقد كفر» ( ، )3واتفقوا
أيضا على أن اليمين المشروعة في الحقوق التي يبرأ بها المدين هي اليمين بال .
إل أن المام مالك قال :أحب أن يحلف بال الذي ل إله إل هو ،وإن استحلف حاكم بال ،أجزأ.
-------------------------------
( )1الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة :ص .108-106
( )2أخرجه الجماعة إل النسائي عن ابن عمر ،وفي لفظ «أو ليسكت» وفي لفظ «من كان حالفا فل
يحلف إل بال » (نصب الراية ،295/3 :نيل الوطار.)227/8 :
( )3رواه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعا .ويروى «فقد أشرك»
وهو عند أحمد ،وكذا عند الحاكم ،ورواه الترمذي وابن حبان بلفظ «فقد كفر وأشرك» (نيل الوطار،
المرجع السابق).
( )8/133
وقال الشافعية :يندب تغليظ اليمين ،وإن لم يطلب الخصم تغليظها فيما ليس بمال ،ول يقصد به مال
كنكاح وطلق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة ،وفي مال يبلغ نصاب زكاة ،ل فيما دونه.
والتغليظ يكون مثلً بزيادة أسماء وصفات ال عز وجل ،كأن يقول :وال الذي ل إله إل هو عالم
الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم السر والعلنية .أو بال الطالب الغالب المدرك المهلك الذي
يعلم السر وأخفى.
وقال الحنابلة :اليمين التي يبرأ بها المدين هي اليمين بال ،وإن كان الحالف كافرا ،لقوله تعالى:
{فيقسمان بال لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة ]107/5:وقوله سبحانه{ :وأقسموا بال جهد
أيمانهم} [النور ]53/24:قال بعض المفسرين:
( )8/134
( )8/135
وقال الشافعي :يحلف في المدينة عند المنبر ،وفي مكة بين الركن والمقام ،وفي القدس في المسجد
عند الصخرة ،وكذلك يحلف في كل بلد عند المنبر ،والنصاب الذي يندب فيه التغليظ كما عرفنا هو
نصاب الزكاة ،أي عشرون دينارا (. )1
ثم قال الحنفية وغيرهم :إن كان الحالف كافرا فتغلظ اليمين في حقه ،فإن كان يهوديا ،حلف بال
الذي أنزل التوراة على موسى .وإن كان نصرانيا حلف بال الذي خلق النار ،فيغلظ على كل واحد
بحسب اعتقاده .والوثني ل يحلف إل بال .ول يحلف الكفار عند الحنفية في بيوت عباداتهم ،لكراهة
دخولها ،ولما فيه من إيهام تعظيمها .وأجاز الحنابلة تحليفهم في المواضع التي يعظمونها (. )2
الحلف على البت أو نفي العلم :ويحلف الشخص باتفاق أئمة المذاهب الربعة على البت (وهو القطع
والجزم) في فعله إثباتا كان أو نفيا؛ لنه يعلم حال نفسه ويطلع عليها ،فيقول في البيع والشراء حالة
الثبات( :وال لقد بعت بكذا أو اشتريت بكذا) وفي حالة النفي( :وال ما بعت بكذا ،ول اشتريت
بكذا).
-------------------------------
( )1بداية المجتهد ،455/2 :الشرح الكبير ،228/4 :الشرح الصغير ،314/4 :المغني،228/9 :
مغني المحتاج.472/4 ،377/3 :
( )2تكملة فتح القدير ،176/6 :البدائع ،227/6 :اللباب 40/4 :وما بعدها.
( )8/136
وكذلك يحلف الشخص أيضا على البت على فعل غيره إن كان المر إثباتا كبيع وإتلف وغصب؛
لنه يسهل معرفة الواقع والشهادة به ،وإن كان نفيا فيحلف على نفي العلم ،أي ل يعلم أنه كذلك ،لعدم
علمه بما فعل غيره ،فيقول( :وال ما علمت أنه فعل كذا) لن نفي الشيء يعسر معرفته ( . )1وعليه،
إذا ادعى إنسان على آخر أنه سرق منه شيئا أو غصب منه شيئا ،فيحلف المدعى عليه على البت أنه
ما سرق أو غصب .وإن ادعى على فعل الغير ،كأن ادعى دينا على ميت بحضور وارثه ،أو أن أباه
سرق منه شيئا ،فيحلف الوارث بال ما يعلم أن على أبيه دينا أو أنه سرق هذا الشيء.
صفة المحلوف عليه :إذا كان المدعى به أرضا وأنكر المدعى عليه ،يحلف على الحاصل فعلً في
النهاية ،فيقول( :وال ما هذه الرض لفلن ،ول شيء منها) وإن ادعى أنه أقرضه ألفا أو غصبه ألفا
أو أودعه ألفا ،وأنكر المدعى عليه ،فيحلف (بال ما يستحق المدعي رد شيء عليه) ول يحلف بال ما
استقرضت أو غصبت أو استودعت؛ لنه قد تحصل هذه السباب ثم يفسخ ،أي يزول معنى القرض
أو الغصب أو اليداع بالهبة أو بالبيع ،فلو حلف المدعى عليه على السبب الذي هو الغصب ونحوه
لتضرر به ،فيحلف على الحاصل في النهاية لدفع الضرر عنه .وقال أبو يوسف :إنه يحلف على
القرض والغصب واليداع.
ومن ادعى أنه اشترى من هذا حيوانا ،فأنكر المدعى عليه ،استحلف بال ما بينكما بيع قائم في هذا
الحيوان .ول يستحلف بال ما بعت ،خلفا لبي يوسف؛ لنه قد يبيع الحيوان ،ثم يفسخ البيع أو تطرأ
عليه القالة ،فل يبقى البيع على حاله.
-------------------------------
( )1الدر المختار ،444/4 :مغني المحتاج 473/4 :وما بعدها ،تكملة فتح القدير ،180/6 :المغني:
230/9وما بعدها .قال الكاساني في البدائع :279/5 :ومن حلف على غير فعله ،يحلف على العلم؛
لنه ل علم له بما ليس بفعله ،ومن حلف على فعل نفسه يحلف على البتات.
( )8/137
وفي النكاح ،يحلف المنكر ( :بال ما بينكما نكاح قائم في الحال ) لنه قد يطرأ عليه الخلع.
وكذلك في دعوى الطلق ،يحلّف المدعى عليه ( :بال ما هي بائن منك في هذه الساعة بالوجه الذي
ذكرته المدعية ) ول يستحلف بال ما طلقها ،خلفا لبي يوسف ،لحتمال تجدد النكاح بعد البينونة،
فيحلف على ما هو حاصل فعلً في النهاية ،لنه لو حلف على السبب الذي هو الطلق ،لتضرر
المدعى عليه ،وهذا قول أبي حنيفة ومحمد.
أما على قول أبي يوسف :فيحلف المدعى عليه في جميع هذه الصور على سبب الدعوى من طلق
ونحوه إل إذا حدث منه تعريض للقاضي بأمر طارئ كما تقدم ،فيقول المدعى عليه للقاضي إذا طلب
منه اليمين( :بال ما بعت أيها القاضي ،إن النسان قد يبيع شيئا ،ثم يقيل فيه) أي يفسخ البيع بالقالة (
. )1
العبرة في اليمين بنية القاضي المستحلف :يلحظ أن العبرة في الحلف بنية القاضي المستحلف
للخصم ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :اليمين على نية المستحلف» ( )2وقد حمل هذا الحديث على
الحاكم؛ لنه الذي له ولية الستحلف ،فلو أخذ بنية الحالف ،لبطلت فائدة اليمان وضاعت الحقوق؛
إذ كل أحد يحلف على ما يقصد ،فلو ورّى الحالف في يمينه ،بأن قصد خلف ظاهر اللفظ عند تحليف
القاضي ،أو تأول أي اعتقد خلف نية القاضي ،أو استثنى الحالف ،كقوله عقب يمينه« :إن شاء ال»
-------------------------------
( )1راجع تكملة فتح القدير 177/6 :وما بعدها ،اللباب شرح الكتاب 41/4 :وما بعدها ،البدائع:
.228/6
( )2رواه مسلم عن أبي هريرة ،وفي لفظ له« :يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (سبل السلم:
،102/4اللمام لبن دقيق العيد :ص .)427
( )8/138
أو وصل باللفظ شرطا ،مثل :إن دخلت الدار ( ، )1بحيث ل يسمع القاضي كلمه ،لم يدفع ما ذكر
إثم اليمين الفاجرة ،وإل ضاع المقصود من اليمين وهو حصول الهيبة من القدام عليها.
أثر اليمين في الدعوى :أما أثر اليمين في الدعوى فهو يترتب عليها قطع الخصومة والمنازعة وعدم
المطالبة بالحق في الحال ل مطلقا ،وإنما مؤقتا إلى وقت إمكان إقامة البينة ،فل تفيد اليمين براءة ذمة
المدعى عليه عند جمهور العلماء ( ، )2لما روى ابن عباس «أن النبي صلّى ال عليه وسلم أمر
رجلً بعد ما حلف ،بالخروج من حق صاحبه ،كأنه صلّى ال عليه وسلم علم كذبه» ( )3فدل على أن
اليمين ل توجب براءة.
القضاء بشاهد ويمين :
إذا أقام المدعي شاهدا ،وعجز عن تقديم شاهد آخر وحلف مع شاهده ،هل يقضى به بشاهده ويمينه؟
- 1قال الحنفية ( : )4ل يقضى بالشاهد الواحد مع اليمين في شيء ،لقوله تعالى{ :واستشهدوا
شهيدين من رجالكم ،فإن لم يكونا رجلين ،فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة]282/2:
وقوله سبحانه{ :وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق ]2/65:طلب القرآن الكريم إشهاد رجلين أو رجل
وامرأتين ،فقبول الشاهد الواحد ويمين المدعي زيادة على النص ،والزيادة على النص نسخ ،والنسخ
في القرآن الكريم ل يجوز إل بمتواتر أو مشهور ،وليس هناك واحد منهما.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج.475/4 :
( )2البدائع ،229/6 :مغني المحتاج ،477/4 :بداية المجتهد.454/2 :
( )3رواه أبو داود والنسائي والحاكم وأحمد عن ابن عباس.
( )4المبسوط ،30/17 :البدائع ،225/6 :مقارنة المذاهب في الفقه للستاذين شلتوت والسايس :ص
.128
( )8/139
واستدلوا بالسنة أيضا بقوله صلّى ال عليه وسلم فيما رواه مسلم وأحمد« :ولكن اليمين على المدعى
عليه» وفي لفظ «البينة على المدعي ،واليمين على من أنكر» وقال صلّى ال عليه وسلم لمدعٍ:
«شاهداك أو يمينه» (. )1
فالحديث الول أوجب اليمين على المدعى عليه ،فلو جاز القضاء بشاهد ويمين المدعي ،لما بقيت
اليمين واجبة على المدعى عليه .ثم إنه في هذا الحديث وفي الحديث الثاني جعل الرسول عليه الصلة
والسلم جنس اليمين حجة للمنكر ،فإن قبلت يمين المدعي ،لم يكن جميع أفراد اليمين على المنكرين.
وكذلك تضمن الحديث الثاني قسمة وتوزيعا بين المتخاصمين ،والقسمة تنافي اشتراك الخصمين في
أمر وقعت القسمة فيه.
والحديث الثالث خير المدعي بين أمرين ل ثالث لهما :إما البينة أو يمين المدعى عليه ،والتخيير بين
أمرين يمنع تجاوزهما إلى غيرهما أو الجمع بينهما.
- 2وقال جمهور الفقهاء ( : )2يقضى باليمين مع الشاهد في الموال ،واستدلوا بما ثبت عن النبي
صلّى ال عليه وسلم « :أنه قضى بشاهد ويمين» (. )3
قال الشافعي :وهذا الحديث ثابت ل يرده أحد من أهل العلم لو لم يكن فيه غيره ،مع أن معه غيره مما
يشده .وقال النسائي :إسناده جيد .وقال البزار :في الباب أحاديث حسان ،أصحها حديث ابن عباس
وقال ابن عبد البر :ل مطعن لحد في إسناده ،ول خلف بين أهل العلم في صحته.
القرار :
القرار سيد الدلة غالبا ،وهو إذا كان بيّنا ل خلف في وجوب القضاء به .وسأخصص مبحثا مستقلً
له.
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومسلم وأحمد عن الشعث بن قيس (نيل الوطار.)302/8 :
( )2راجع بداية المجتهد ،456/2 :الشرح الكبير للدردير ،47/4 :المهذب ،334 ،301/2 :مغني
المحتاج ،482 ،443/4 :المغني ،225 ،151/9 :الميزان ،200/2 :مقارنة المذاهب في الفقه
للستاذين شلتوت والسايس :ص ،129الطرق الحكمية في السياسة الشرعية :ص 132وما بعدها.
( )3هذا الحديث متواتر ،رواه أكثر من عشرين صحابيا كما ذكر ابن الجوزي والبيهقي ،روى ذلك
في خلفياته والصحابة كأبي هريرة وعمر وابن عمر وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وجابر بن
عبد ال وسعد بن عبادة وعبد ال بن عمرو ،والمغيرة بن شعبة ،وعمارة بن حزم ،وسُرّق ،بأسانيد
حسان ،وأصحها حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الربعة ،والدارقطني
والبيهقي (راجع نصب الراية 96/4 :وما بعدها ،نيل الوطار ،282/8 :النظم المتناثر من الحديث
المتواتر :ص ،109مجمع الزوائد ،202/4 :سبل السلم ،131/4 :اللمام :ص .)521
( )8/140
المبحث الخامس ـ حكم تعارض الدعويين مع تعارض البينتين :
قد ترفع دعويان للقضاء حول موضوع واحد ،ويكون لكل واحد من المتداعيين بينة تساند مدعاه،
وتثبت حقه في موضوع الدعوى المتنازع عليه ،فكيف يقضي القاضي بينهما؟
تنازع الدعويين قد يكون في ملك مطلق أو في ملك مقيد بسبب .والملك المطلق :أن يدعي شخص
الملك من غير أن يتعرض لذكر سبب الملكية ،بأن يقول« :هذا ملكي» ول يقول« :هذا ملكي بسبب
الشراء أو الرث أو نحوهما» .
والملك المقيد بسبب :أن يدعي شخص ملكية شيء مع بيان سبب الملكية كنتاج ونكاح وشراء وإرث (
. )1
وتعارض الدعويين في ملك مطلق يحدث عادة بين اثنين :أحدهما ـ يكون الشيء في يده وهو
المسمى صاحب اليد أو الداخل أو الحائز ( . )2والثاني ـ ل يكون الشيء في يده ،ويسمى في لغة
الفقهاء :الخارج أو غير الحائز ،وقد يتم التنازع بين الخارجين عن ذي اليد ،أو بين ذوي اليد أنفسهم.
وقد تكون بينة كل من المتنازعين مؤرخة ،أو إحداهما مؤرخة ،والخرى بدون تاريخ ،أو أن تاريخ
إحداهما أسبق من الخرى.
تبحث هذه الفتراضات في نوعين :دعوى الملك المطلق ودعوى الملك المقيد.
-------------------------------
( )1تكملة فتح القدير.156/6 :
( )2الحيازة :وضع اليد على الشيء والستيلء عليه ،وتصرف الحيازة مثل السكنى والزرع والغرس
والهبة والبيع والهدم ونحوها.
( )8/141
( )8/142
- 1إذا كانت الدعوى من الخارج على ذي اليد بدون تاريخ :فبينة المدعي وتسمى بينة الخارج أولى
بالقبول عند الحنفية والحنابلة؛ لقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :البينة على المدعي ،واليمين على
المدعى عليه» ( )1فجعل جنس البينة على المدعي ،فل يؤبه لبينة ذي اليد؛ لنه ليس بمدع ،فل تكون
البينة حجته ( . )2والدليل على أنه ليس بمدع عدم انطباق وصف المدعى عليه ،لن المدعي :هو من
يخبرعما في يد غيره لنفسه .والموصوف بهذه الصفة هو الخارج ،ل ذو اليد؛ لنه يخبر عما في يد
نفسه لنفسه ،فلم يكن مدعيا ،وإنما هو مدعى عليه ،فل تكون البينة حجة له ،فتعد بينته لغية.
ولن بينة المدعي أكثر فائدة ،فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل ،ودليل كثرة فائدتها :أنها
تثبت شيئا لم يكن ،وبينة المنكر إنما تثبت أمرا ظاهرا تدل اليد عليه ،فلم تكن مفيدة ،أي أن بينته ل
تفيد أكثر مما تفيد اليد ،أي الحيازة فقط.
- 2إذا كانت البينتان مؤرختين ،وتاريخهما سواء :يقضى للمدعي الخارج؛ لنه لم يثبت سبق ملك
أحدهما؛ إذ أنه بطل اعتبار الوقتين للتعارض ،فبقي الحال حال دعوى ملك مطلق ،كالصورة الولى.
- 3إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الخر :يقضى للسبق وقتا أيهما كان عند أبي حنيفة وأبي
يوسف ومحمد .وروي في النوادر عن محمد أنه رجع عن هذا القول عند رجوعه من الرقة ،وقال :ل
تقبل من صاحب اليد بينة على وقت ول غيره إل في النتاج؛ لنه ل قيمة لبينته إذ أنه مدعى عليه،
والبينة حجة المدعي.
-------------------------------
( )1رواه أحمد والشيخان وابن ماجه عن ابن عباس.
( )2وبعبارة أخرى :هي أن الشرع قد جعل البينة في حيز المدعي واليمين في حيز المدعى عليه،
فوجب أل ينقلب المر ،وهذا عندهم من باب العبادة.
( )8/143
والصحيح القول الول وهو ظاهر الرواية؛ لن بينة صاحب الوقت السبق أظهرت الملك له في وقت
ل ينازعه فيه أحد ،فيثبت له الحق في موضوع النزاع إلى أن يثبت الخر سببا لنقل الملكية له.
- 4إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الخر :يقضى للخارج عند أبي حنيفة ومحمد؛ لن الملك المطلق
يحتمل التأخر والسبق ،لجواز أن صاحب البينة المطلقة لو وقتت بينته ،كان وقتها أسبق .فوقع
الحتمال في سبق الملك المؤقت ،وإذا حصل الحتمال في شيء سقط اعتباره ،فيسقط اعتبار الوقت،
وتبقى الدعوى دعوى ملك مطلق ،فيقضى للخارج.
وقال أبو يوسف :يقضى لصاحب البينة المؤرخة؛ لن بينة صاحب الوقت أظهرت الملك له في وقت
معين خاص به ،ل يعارضها فيه بينة مدعي الملك المطلق بيقين ،بل تحتمل بينته المعارضة وعدمها،
والمعارضة ل تثبت بالشك ،فبقيت بينة صاحب التاريخ سالمة عن المعارضة ،فيقضى له.
وقال المالكية والشافعية في هذه الصور ( : )1تقدم بينة صاحب اليد وتسمى بينة الداخل على
الطلق؛ لنهما استويا في إقامة البينة ،فتعارضت البينتان ،وترجحت بينة صاحب اليد بيده أي
بحيازته ،كترجيح أحد الحديثين المتعارضين بالقياس ،فيقضى بالشيء لصاحب اليد ،ولن بينة المدعى
عليه تفيد معنى زائدا على كون الشيء المدعى فيه موجودا بيده.
ولن جانب المدعى عليه أقوى ،استصحابا للصل ،فالصل معه وهو بقاء ما كان على ما كان،
ويمينه تقدم على يمين المدعي ،فإذا تعارضت البينتان ،وجب إبقاء يد صاحب اليد على ما كانت
عليه ،ويقدم هو ،كما لو لم تكن بينة لحد المتنازعين.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،480/4 :المهذب.311/2 :
( )8/144
ويؤيد هذا حديث جابر بن عبد ال « :أن النبي صلّى ال عليه وسلم اختصم إليه رجلن في دابة أو
بعير ،فأقام كل واحد منهما البينة بأنها له أنتجها ،فقضى بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم للذي هي
في يده» (. )1
الثاني ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد في ملك مطلق :
إذا تنازع اثنان عينا ،وهي في يد شخص ثالث ،وهو منكرلها ،وأقام كل منهما بينة يريد بها إثبات
حقه فيها.
فقال الشافعية في الرجح :تهاترت البينتان أي تساقطتا وبطلتا لتناقض موجبيهما ،سواء أكانت البينتان
مطلقتي التاريخ ،أم متفقتين فيه ،أم إحداهما مطلقة عن التاريخ والخرى مؤرخة .فأشبه ذلك تعارض
الدليلين ول مرجح بينهما ،فكأنه ل بينة ،ويصار إلى الحكم في القضية ،كما لو تداعيا ول بينة لواحد
منهما ،فيحلف كل واحد منهما يمينا ،ويقضى بالشيء بينهما نصفين .وفي قول عندهما :يقرع بينهما،
ويرجح من خرجت قرعته (. )2
وكذلك قال المالكية :تسقط البينتان ،ويقضى كأنه ل بينة فيحلف كل منهما يمينا ،ويقسم الشيء بينهما،
فإن حلف أحدهما دون الخر قضي له (. )3
-------------------------------
( )1أخرجه البيهقي ولم يضعفه بلفظ« :أن رجلين اختصما في ناقة ،فقال كل واحد منهما :نُتجت هذه
الناقة عندي ،وأقاما بينة ،فقضى بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم للذي هي في يده .ورواه
الدارقطني وفي إسناده ضعف ،ورواه أبو حنيفة ،وأخرج نحوه عن الشافعي إل أن فيه «تداعيا دابة»
ولم يضعف إسناده (راجع سبل السلم )135/4 :وانظر حادثة مشابهة رواها الطبراني في مجمع
الزوائد.203/4 :
( )2مغني المحتاج ،480/4 :المهذب.311/2 :
( )3بداية المجتهد ،461/2 :الميزان ،195/2 :الشرح الكبير للدردير 222/4 :وما بعدها.
( )8/145
والراجح عند الحنابلة :أنه تسقط البينتان ويقترع المدعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة ،فمن
خرجت له قرعته حلف ،وأخذ العين (. )1
وقال الحنفية في الجملة :يقضى بالشيء بينهما نصفين إل أن يكون تاريخ أحدهما أسبق ،فيقضى له
به ،وتفصيله في الصور الربعة التية (: )2
1و 2ـ إذا كانت الدعوى من الخارجين ،وقامت البينتان على ملك مطلق ،بل تاريخ أو تاريخهما
سواء ،والشيء في يد ثالث :فيقضى به بينهما نصفين ،عملً بالبينتين بقدر المكان ( ، )3صيانة لهما
عن اللغاء؛ لن العمل بالدليل واجب بالقدر الممكن ،أي أنه إذا تعذر العمل بالبينتين في كل الشيء
المتنازع فيه ،أمكن العمل بهما في بعض الشيء ،فيقضى لكل واحد منهما بالنصف؛ لنهما تساويا في
الدعوى ،فيتساويان في القسمة.
ويؤيده «أن رجلين اختصما إلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم في بعير ،وأقام كل واحد منهما البينة
أنه له ،فقضى رسول ال صلّى ال عليه وسلم به بينهما نصفين» (. )4
-------------------------------
( )1المغني.287/9 :
( )2تكملة فتح القدير ،217/6 :البدائع ،236/6 :الدر المختار ،465/4 :اللباب شرح الكتاب.32/4 :
( )3لكن إن ادعى اثنان نكاح امرأة ،وأقاما البينة على ذلك ،لم يقض بواحدة من البينتين لعدم أولوية
إحداهما ،وتعذر الحكم بهما لعدم قبول المحل اشتراكهما ،ويرجع إلى تصديق المرأة لحدهما ،إذا لم
تؤقت البينتان وقتا للزواج ،فأما إذا وقتتا ،فصاحب الوقت الول أولى .وإن أقرت المرأة لحدهما قبل
إقامة البينة ،فهي امرأته لتصادقهما على الزواج ،والزواج مما يحكم به بتصادق الطرفين .فإن أقام
الخر البينة على الزواج ،قضي بها لن البينة أقوى من القرار( .اللباب شرح الكتاب.)32/ 4 :
( )4أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي عن أبي موسى الشعري بلفظ ((أن رجلين
ادعيا بعيرا على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فبعث كل واحد منهما بشاهدين ،فقسمه النبي
صلى ال عليه وسلم بينهما نصفين)) ورواه الطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة ،وفيه متروك
(نصب الراية ،109/4 :نيل الوطار ،200/8 :اللمام :ص ،522سبل السلم)13/4 :
( )8/146
- 3إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الخر :فالسبق أولى؛ لن كلً من الخارجين ينطبق عليه
وصف المدعي ،فكانت بينتاهما مسموعتين مقبولتين قضاء ،فترجح إحداهما بأسبقية التاريخ؛ لنها
أثبتت الملك في وقت لم تعارضه فيه البينة الخرى ،فيؤمر صاحب اليد بتسليم الشيء المتنازع عليه
إلى المقضي له ،إلى أن يثبت الخر انتقال الملكية إليه بطريق ما.
- 4إن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الخر :يقضى بينهما نصفين عند أبي حنيفة ،ول عبرة للتاريخ؛ لن
الملك المؤرخ يحتمل أن يكون سابقا عن تاريخ ملك الخر ،ويحتمل أن يكون متأخرا عنه ،لوجود
احتمال أن صاحب الملك الخر لو أرخ لكان تاريخه أقدم ،ونظرا لطروء الحتمال في التاريخ ،سقط
اعتباره ،فبقي ادعاء ملك مطلق بالنسبة لكل منهما .وعند أبي يوسف :يقضى لصاحب الوقت ،أي
صاحب الملك المؤرخ؛ لن البينة المؤرخة أظهرت الملك في زمان ل تعارضها فيه بيقين البينة
المطلقة عن التاريخ ،بل تحتمل المعارضة وعدم المعارضة ،فل تثبت المعارضة بالشك ،فتثبت بينة
صاحب التاريخ بل معارض ،فيكون هو أولى بالشيء.
وعند محمد :يقضى لصاحب الملك المطلق الذي لم تذكر بينته تاريخا؛ لن البينة القائمة على الملك
المطلق أقوى؛ إذ أنه مالك من الصل حكما ،بدليل استحقاقه زوائد الشيء من أولد وألبان وأصواف
وغلت ونحوها.
( )8/147
( )8/148
وكذلك إن أقام أحدهما البينة ولم يقم الخر بينة :يقضى له بالنصف الذي في يد صاحبه ،وأما ما في
يده فيترك في يده قضاء ترك.
وأيضا إذا لم يكن لحدهما بينة :يترك الشيء في يديهما قضاء ترك ،حتى لو قامت لحدهما بينة
بعدئذ تقبل؛ لنه لم يصر مقضيا عليه حقيقة.
- 2إن أرخ كل منهما بينته ،وتاريخهما سواء يقضي بالشيء بينهما نصفين ،كما في الصورة
الولى.
- 3إذا كان تاريخ أحدهما أسبق :فالسبق أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد :ل عبرة للتاريخ بالنسبة لصاحب اليد ،فيكون الشيء بينهما نصفين ،والحجج سبق بيانها.
- 4إن أرخ أحدهما دون الخر :يقضى بالشيء بينهما نصفين عند أبي حنيفة ومحمد ،ول عبرة
للوقت؛ لنه ساقط العتبار لوجود الحتمال في تقدمه عن تاريخ بينة الخر وتأخره .وقال أبو
يوسف :هو لصاحب التاريخ ،وأدلة كل من الفريقين عرفت فيما سبق.
هل ترجح بينة أحد المتداعيين بكثرة عدد الشهود أو اشتهار العدالة؟.
في الصور السابقة الذكر وغيرها من حالت تعارض البينات قرر جمهور الفقهاء أنه ل ترجح إحدى
البينتين بكثرة عدد الشهود ،ول اشتهاد العدالة؛ لن كلً من البينتين حجة كاملة من الطرفين بتقدير
الشرع ،فل تتقوى بالزيادة ،كما هو الشأن في الديات :ل يختلف مقدارها باختلف الشخاص .وقال
المام مالك :يرجح بزيادة العدالة ،كما يرجح بها أحد الخبرين
( )8/149
( )8/150
2و 3ـ كذلك يقضى بالمتاع المتنازع عليه للخارج إذا أرخا وتاريخهما سواء أو ذكر أحدهما
تاريخا دون الخر؛ لنه في الصورة الولى سقط اعتبار الوقتين للتعارض ،فبقي دعوى مطلق الملك.
وفي الصورة الثانية :ل عبرة للوقت؛ لنه يحتمل تأخر ملك الخر وتقدم ،ومع الحتمال ل ينظر إلى
الوقت.
- 4إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الخر :فهو لصاحب الوقت السبق عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛
لن بينته أثبتت له الملك في وقت ل ينازعه فيه الخر.
وقال محمد :يقضى به للخارج؛ لن دعوى الرث دعوى ملك الميت ،فكل واحد من البينتين أظهرت
ملك الميت ،لكن قام الوارث مقام الميت في ملك الميت ،فكأن المورثين ادعيا ملكا مطلقا أو مؤرخا
منذ سنة مثلً من غير ذكر سبب للملك ،وقد عرفنا أنه في هذه الحالة يقضى بالشيء للخارج عند
محمد.
ثانيا ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ثالث في دعوى الرث :
إذا وجدت دار في يد شخص ،ثم أقام شخصان آخران غيره ،كل منهما البينة على أن الدار ملك له،
مات أبوه ،وترك الدار ميراثا له.
قال الحنفية ( : )1يقضى بالدار بين الشخصين نصفين ،سواء أرخت البينتان وقت الرث أم لم
تؤرخاه ،أو كان تاريخهما سواء ،لما ذكر أن الملك الموروث هو ملك الميت بعد موته ،وإنما الوارث
يخلفه ،ويقوم مقامه في ملكه ،فكأن المورثين حضرا وادعيا ملكا مطلقا عن الوقت لهما في يد ثالث،
أو مؤقتا وكان تاريخهما سواء ،أو أحدهما مؤقتا والخر مطلقا ،وقد عرفنا أنه يقضى بالشيء حينئذ
مناصفة بين الخارجين؛ لنهما مدعيان متساويان في الدعاء.
-------------------------------
( )1المرجعان السابقان ،المبسوط :ص ،41البدائع :ص .237
( )8/151
وإن كان تاريخ أحدهما أسبق :فهو له عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لن الوارث بإقامة البينة يظهر
الملك للمورث ل لنفسه ،فيصير كأنه حضر المورثان ،وأقام كل واحد منهما بينة مؤرخة ،وتاريخ
أحدهما أسبق ،وحينئذ يقضى لسبقهما وقتا ،لثباته الملك في وقت ل تعارضه فيه بينة الخر.
وقال محمد :يقضى بالشيء بين الخارجين في هذه الحالة نصفين ،ول عبرة للتاريخ عنده في
الميراث ،لما ذكر أن الموروث ملك الميت ،والوارث قام مقامه ،فلم يكن الموت تاريخا لملك الوارث،
فسقط اعتبار التاريخ لملكه ،وكأنه لم يكن ،فبقي دعوى الملك المطلق عن التاريخ ،فيتساوى الخارجان
حينئذ.
الحالة الثانية ـ دعوى الملك بسبب الشراء :
إذا تنازع اثنان على ملكية دار مثلً ،وكانت الدار في يد أحدهما فادعى أحدهما الشراء من الخر ،أو
ادعى كل منهما الشراء من صاحبه ،أو كانت الدار في يد شخص ثالث ،فادعى كل منهما الشراء من
صاحب اليد أو من رجل آخر غير الذي ادعى عليه صاحبه ،فكيف يحكم القاضي بينهما؟ يعرف
الجواب من الصور التية:
- 1التنازع بين الخارج وذي اليد(: )1
نجد في هذه الحالة افتراضات ثلثة:
أولً ـ إذا ادعى الخارج أنه اشترى هذه الدار من صاحب اليد بألف ليرة ونقده الثمن :يقضى للخارج
بالبينة؛ لنه هو المدعي.
ثانيا ـ إذا ادعى صاحب اليد الشراء من خارج :يقضى له بالبينة؟ لنه يصح تلقي الملك من الخارج؛
لنه هو المدعي.
ثالثا ـ إذا ادعى كل واحد من الخارج وصاحب اليد أنه اشترى الدار من صاحبه بألف ليرة ونقده
الثمن ،وأقام كل واحد منهما البينة على ذلك ولم يؤرخا وقت الشراء ،أو أرخا وتاريخهما سواء:
-------------------------------
( )1البدائع 233/6 :ومابعدها ،تحفة الفقهاء 301/3 :ومابعدها الطبعة القديمة ،الكتاب مع اللباب:
.36/4
( )8/152
فإن لم يثبتا قبض المبلغ بالبينة :ل تقبل البينتان عند أبي حنيفة وأبي يوسف ،ول يجب لواحد منها
على صاحبه شيء ،ويترك المدعى به في يد الحائز ،أي صاحب اليد؛ لن كل مشت ٍر يكون مقرا بكون
المبيع ملكا للبائع .وعلى هذا تعد دعوى الشراء من كل واحد منهما إقرارا بملك المبيع لصاحبه،
وتكون البينتان قائمتين على إثبات إقرار كل واحد منهما بالملك لصاحبه ،وبين موجبي القرارين
تناف وتناقض ،فتعذر العمل بالبينتين أصلً.
وقال محمد :يقضى بالبينتين ،ويؤمر صاحب اليد بتسليم المدعى به للخارج؛ لن الجمع والتوفيق بين
الدليلين مطلوب بقدر المكان ،والتوفيق هنا ممكن :بتصحيح العقدين بأن نفترض أن صاحب اليد
اشترى المبيع أولً من الخارج
وقبضه ،ثم اشتراه الخارج ثانية من صاحب اليد ،ولم يقبضه ،وإنما باعه مرة أخرى لصاحب اليد.
فبذلك يمكن تصحيح العقدين :الول والثاني بالتقدير المذكور.
ول يصح افتراض العكس :بأن نقدر أن الخارج اشترى أولً من صاحب اليد ،ولم يقبضه ،وإنما باعه
ثانية لصاحب اليد؛ لنه يترتب على هذا الفتراض إفساد العقد الثاني؛ لن هذا بيع للعقار المبيع قبل
قبضه ،وهذا البيع غير جائز عند محمد ،كما هو معروف في عقد البيع.
وإذا صح العقدان بحسب الفتراض الول ،فيبقى الشيء في يد الحائز صاحب اليد ،فيؤمر بتسليمه
إلى الخارج.
وأما إذا أرخا ،وتاريخ أحدهما أسبق ،ولم تذكر البينتان قبضا :فإنه يقضى لصاحب البيع المتأخر وقتا،
والبيع الثاني ينقض البيع الول عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
( )8/153
وعند محمد :يقضى للخارج؛ لن بيعه إذا كان أسبق ،افترض كأنه اشترى الدار أولً ،ولم يقبضها ،ثم
باعها لصاحب اليد ،وبيع العقار قبل القبض ل يجوز عنده ،وإذا لم يجز بقي المبيع على ملك الخارج.
أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف ،فيجوز ،فصح البيعان ويقضى بالشيء لصاحب اليد.
وإذا كان بيع صاحب اليد أسبق :فيقضى بالدار للخارج اتفاقا؛ لنه إذا كان وقته أسبق يجعل سابقا في
الشراء ،كأنه اشترى من الخارج وقبض ،ثم اشترى منه الخارج ولم يقبض ،فيؤمر بتسليم الدار إليه.
وأما إن أثبتا القبض بالبينة :فقد تهاترت البينتان ،أي تساقطتا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ،ويقضى
بالدار قضاء ترك لمن كانت الدار في يده .وقال محمد :يقضى بالدار لمن كانت في يده قضاء حقيقة،
وتحصل مقاصة بين ثمن البيع الول وثمن البيع الثاني ،فمن زاد له أخذ الزيادة من صاحبه ،كأن
الخارج اشترى الدار من الداخل صاحب اليد ،فقبضها ثم اشتراها الداخل منه ،وقبض ،تصحيحا
لتصرف النسان؛ لنه مهما أمكن أن يجعل القبض قبض بيع ،يجعل.
- 2التنازع بين الخارجين على ما في يد شخص ثالث :
نجد في هذه الحالة افتراضين:
أولً ـ أن يدعي الخارجان الشراء من شخص واحد على صاحب اليد :
إذا ادعى اثنان دارا عند إنسان آخر ،كان قد اشتراه كل منهما من واحد معين ،وأقاما البينة على
الشراء منه بثمن معلوم ،ونقد الثمن:
( )8/154
قال الحنفية ( : )1فإن لم يذكرا تاريخا للشراء ول قبضا للمبيع :يقضى بالدار بينهما نصفين ويثبت
لهما الخيار كما سيُبين؛ لستوائهما في سبب الستحقاق ،وقبول محل النزاع للشتراك فيه.
وقال الشافعية في هذه الحالة :تعارضت البينتان ،فتساقطتا ،لتناف بين موجبيهما ومقتضاهما ،فكأنه ل
بينة ،فيحلف كل منهما يمينا على نفي كونه للخر بأن يقول :إن هذا الشيء ليس لك ،ثم يجعل الشيء
بينهما ،أي يقسم بينهما نصفين لقضائه صلّى ال عليه وسلم بذلك ،كما صححه الحاكم على شرط
الشيخين .وفي قول :يقرع بينهما (. )2
ثم قال الحنفية :أما إذا أرخا ،وتاريخ أحدهما أسبق :فيقضى للسبق؛ لن بينته تظهر الملك له في
وقت ل تعارضه فيه بينة الخر ،أي أن السبق أثبت الشراء في زمان ل ينازعه فيه أحد ،فاندفع
الخر به.
ولو أرخت بينة أحدهما دون الخر :فيقضى لصاحب الوقت ،لثبوت ملكه في ذلك الوقت ،فاحتمل
الخر أن يكون قبله أو بعده ،فل يقضى له بالشك.
ولو لم تؤرخ البينتان ،أوأرخت إحداهما دون الخرى ،أو كان تاريخهما سواء ،ولكن مع أحدهما
قبض :أي أن القبض ثابت في يده معاينة :فهو أولى بالشيء المتنازع عليه ،لن تمكنه من قبضه يدل
على سبق شرائه ،ولن المتداعيين استويا في إثبات الشراء بالبينة ،والقبض أمر مرجح ،فل تزول
اليد الثابتة بالشك .هذا ..إل أن تشهد بينة التاريخ أن شراءه قبل شراء الخر فيقضى له ،ويرجع
الخر بالثمن على البائع.
والخلصة :أن بينة ذي اليد أولى من بينة غير القابض في دعوى الملك بسبب ،خلفا لحالة دعوى
الملك المطلق ،فإن بينة الخارج أولى.
-------------------------------
( )1البدائع ،237/6 :تكملة فتح القدير 221/6 :وما بعدها ،الدر المختار ،456/4 :اللباب 34/4 :وما
بعدها.
( )2مغني المحتاج ،480/4 :حاشية الباجوري على متن أبي شجاع.359/2 :
( )8/155
وإذا ادعى اثنان على ثالث ذي يد ،أحدهما يدعي شراء منه ،والخر هبة وقبضا ،وأقاما البينة على
ذلك ،ول تاريخ معهما ،فالشراء أولى؛ لنه أقوى ،لكونه معاوضة من الجانبين؛ ولنه يثبت بنفسه
بخلف الهبة ،فإنه يتوقف على القبض .وإن ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأة أنه تزوجها على هذا
ل منهما معاوضة من الجانبين ،ويثبت الملك لنفسه.
الشيء ،فهما سواء لستوائهما في القوة؛ لن ك ً
وإن ادعى أحدهما رهنا وقبضا ،والخر هبة وقبضا ،فالرهن أولى؛ لن المرهون مضمون،
والموهوب غير مضمون وعقد الضمان أولى.
ثانيا ـ أن يدعي كل واحد من الخارجين الشراء من رجل غير الذي ادعى عليه صاحبه :
إذا ادعى شخصان دارا في يد شخص آخر ،وأقام كل واحد منهما البينة على أنه اشتراها من شخص
غير الذي ذكره صاحبه سوى صاحب اليد :يقضى به بينهما نصفين؛ لن المشتريين قاما مقام
البائعين ،كأنهما حضرا ،وأقاما البينة على ملك مطلق ،ولو كان المر كذلك يقضى به بينهما نصفين،
فكذا هذا ،ويثبت لهما الخيار كما سأبين.
ولو أرخا وكان تاريخهما سواء أو أرخت بينة أحدهما ولم تؤرخ الخرى :يقضى به بينهما نصفين
أيضا .وإن كان تاريخ أحدهما أسبق من الخر ،فالسبق تاريخا أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وكذا عند محمد في رواية الصول بخلف الميراث :إنه يكون بينهما نصفين عنده.
والفرق بالنسبة لمحمد بين الميراث والشراء :هو أن المشتري يثبت الملك لنفسه ،والوارث يثبت الملك
للميت.
وفي رواية عن محمد في الملء :أنه سوى بين الميراث والشراء ،وقال :ل عبرة بالتاريخ في
الشراء أيضا ،إل أن يؤرخ المدعيان ملك البائعين (. )1
-------------------------------
( )1راجع البدائع.238/6 :
( )8/156
ثبوت الخيار لمن يقضى لهما :في حالة القضاء بالدار بين المتداعيين الخارجين مناصفة ،سواء في
ادعاء الشراء من واحد أو من اثنين :يثبت الخيار لكل واحد من مدعيي الشراء :إن شاء أخذ كل واحد
منهما نصف الدار بنصف الثمن ،وإن شاء ترك لتفريق الصفقة عليه؛ لن غرض كل واحد من
المتداعيين الوصول إلى شراء
جميع المبيع ،ولم يحصل له شراؤه ،مما ترتب عليه حدوث خلل في رضا كل منهما ،فل يرضى
بالنصف مشتركا مع الخر ،فأثبت لهما الخيار.
فإن اختار كل واحد منهما أخذ نصف الدار ،رجع على البائع بنصف الثمن؛ لنه لم يحصل له في
ملكه إل نصف المبيع.
وإن اختار كل منهما رد المبيع ونقض البيع ،رجع كل واحد منهما بجميع الثمن على البائع؛ لنه
انفسخ البيع.
وإن اختار أحدهما الرد ،والخر الخذ :فإن حدث هذا قبل تخيير الحاكم لهما ،والحكم لهما نصفين،
فللخر أن يأخذ جميع المبيع بجميع الثمن؛ لن المستحق له بالعقد كل المبيع ،وامتناع استحقاقه للكل
بسبب مزاحمة الخر له ،فإذا زالت الخصومة فقد زال المانع من الستحقاق ،فيأخذه كله.
وأما إن حدث ذلك بعد قضاء القاضي وتخييره إياهما :فليس له أن يأخذ إل النصف بنصف الثمن؛
لنه بحكم القاضي ينفسخ العقد بالنسبة لكل واحد منهما في النصف ،فل يعود إل بالتجديد (. )1
-------------------------------
( )1البدائع ،237/6 :تكملة فتح القدير 221/6 :وما بعدها.
( )8/157
( )8/158
ثانيا ـ أن يقيم أحد المتنازعين على النتاج ،والخر على الملك المطلق عن النتاج :
إذا أقام أحد المتخاصمين البينة على النتاج ،والخر على الملك المطلق عن النتاج ،بأن قال :هو
ملكي ،فبينة النتاج أولى ،سواء أكان خارجا أم ذا اليد ،لما ذكر أنها تثبت أولية الملك لصاحبه ،فل
تثبت لغيره إل بالتلقي منه (. )1
ثالثا ـ ادعاء النتاج من الخارجين على ثالث يدعي ملكا مطلقا :
إذا ادعى الخارجان النتاج وهو في يد شخص ثالث يدعي ملكا مطلقا :فهو بين الخارجين نصفين ،ل
ستوائهما في سبب الستحقاق.
فإن أرخت البينتان ،واتفق تاريخهما ،فيقضى بالمدعى به أيضا نصفين ،لسقوط اعتبار الوقتين
بالتعارض.
وإن اختلف التاريخان يحكّم سن الدابة :فيقضى لصاحب الوقت الذي يوافقه سن الدابة إن علم سنها؛
لنه ظهر أن البينة الخرى كاذبة بيقين.
فإن أشكل السن ،كانت الدابة بينهما نصفين؛ لنه سقط اعتبار التاريخ ،وجعل كأنهما لم يذكرا تاريخا؛
لنه يحتمل أن يكون سنها موافقا لتاريخ أحدهما أو مخالفا لهما.
وإن خالف سنها الوقتين جميعا ،سقط اعتبار التاريخ في ظاهر الرواية؛ لنه ظهر بطلن اعتبار
التوقيت ،فكأنهما لم يؤقتا ،فبقيت البينتان قائمتين على ملك مطلق.
وذكر الحاكم الشهيد في مختصره (الكافي) أنه تتهاتر البينتان ،ويبقى النتاج في يد صاحب اليد قضاء
ترك ،قال :وهو الصحيح.
والواقع أن الصح في هاتين الحالتين :حالة إشكال السن ومخالفته للوقتين
-------------------------------
( )1البدائع ،المرجع السابق ،تكملة فتح القدير.337/6 :
( )8/159
هو ما قاله محمد ،وهو أن تكون الدابة بينهما نصفين ،سواء أكانت الدابة في يديهما ،أم في يد
أحدهما ،أم في يد شخص ثالث (. )1
ما يتكرر سببه وما ل يتكرر :
كل ما ذكرمن الحكام في تعارض الدعويين في الملك المطلق أو بسبب الرث أو الشراء ،ينطبق
على كل ما يتكرر فيه سببه ،ويصنع مرتين فأكثر كبناء وغرس ونسج خز ( )2وزرع بر ونحوه،
يقضى بالمدعى به للخارج ،فلو ادعى رجل ثوبا أنه ملكه من خزه ،أو ادعى دارا أنهاملكه بناها
بماله ،أو ادعى غرسا أنه ملكه غرسه بنفسه ،أو ادعى حنطة أنها ملكه زرعها أو حبا آخر من
الحبوب ،وأقام على مدعاه بينة وادعى ذو اليد مثل ذلك ،وأقام عليه بينة ،قضي به للخارج؛ لن هذه
الشياء ليست في معنى النتاج لتكررها.
وكل ما ذكر من الحكام في النتاج ينطبق على ما ل يتكرر فيه سبب الملك وليعاد ،ول يصنع مرتين
كنسج الثياب التي ل تنسج إل مرة واحدة ،وغزل قطن ،وحلب لبن ،وجز صوف ،ونحوها؛ لنه في
معنى النتاج ،يقضى به لصاحب اليد .فلو ادعت امرأة غزل قطن أنه ملكها ،غزلته بيدها ،أو ادعى
رجل ثوبا أنه ملكه ،نسجه بيده ،وهو مما ل يتكرر نسجه ،أو ادعى لبنا أنه ملكه حلبه من شاته ،أو
ادعى جبنا أنه ملكه ،صنعه بيده ،أو ادعى صوفا مجزوزا بأنه ملكه ،جزّه من شاته ،وأقام على مدعاه
بينة ،فادعى ذو اليد مثل ذلك ،وأقام عليه بينة ،فإنه يقضى به لذي اليد؛ لنه في معنى النتاج ،فيلحق
به (. )3
-------------------------------
( )1راجع البدائع ،234/6 :تكملة فتح القدير 246/6 :وما بعدها ،اللباب شرح الكتاب.43/4 :
( )2أي الصوف الخليط بالبريسم أي الحرير ،فإن هذا إذا بلي يغزل مرة أخرى وينسج.
( )3تكملة فتح القدير مع العناية 236/6 :وما بعدها ،البدائع :المرجع نفسه :ص ،234الدر المختار:
459/4وما بعدها ،اللباب.36/4 :
( )8/160
المبحث السادس ـ حكم تعارض الدعويين في أصل الملك فقط ،وحكم الملك وما يقتضيه من حقوق :
ل منهما ل يستحق على النفراد
يتناول هذا المطلب قضيتين مختلفتين ،وإنما جمعتُ بينهما؛ لن ك ً
مطلبا مستقلً لقلة الكلم فيه ،ولن بينهما ارتباطا جزئيا من جهة ولية التصرف في الشيء.
حكم تعارض الدعويين في أصل الملك فقط أو التنازع باليدي :
انتهى بيان تعارض الدعويين مع تعارض البينتين ،والكلم في هذا المطلب عن تعارض الدعويين ل
غير ،تمسكا بظاهر اليد ،فيحكم بين المتداعيين بأرجحية يد أحدهما على الخر ،ويظهر الحكم في
المسائل التية (: )1
- 1إذا تنازع اثنان في دابة :أحدهما راكبها ،والخر متعلق بلجامها ،فالراكب أولى؛ لن تصرفه
أقوى ،فإن الركوب يختص بالملك غالبا.
وكذلك إذا كان أحدهما راكبا على السرج ،والخر رديفه ،فالراكب أولى ،لقوة يده ،وهذا رأي أبي
يوسف ،وهو الذي مشى عليه القدوري في مختصره «الكتاب» .أما في ظاهر الرواية :فالدابة بينهما
نصفان؛ لنهما استويا في أصل الستعمال .وكذلك تكون الدابة بينهما اتفاقا إذا كانا راكبين على
السرج ،لستوائهما في التصرف.
وإن تنازعا في بعير عليه لحدهما حمل ،وللخر عليه مخلة معلقة فصاحب الحمل أولى ،لنه هو
المتصرف ،فهو ذو اليد في الواقع.
- 2إذا تنازع اثنان في قميص :أحدهما ل بسه ،والخر متعلق به ،فاللبس أولى؛ لنه أقواهما
تصرفا ،فهو مستعمل للقميص.
ولو تنازعا في بساط أحدهما جالس عليه ،والخر متعلق به :فهو بينهما نصفان ،قضاء ترك ،ل
قضاء حقيقة؛ لن القعود عليه ليس بيد عليه ،حتى إنه ل يعتبر غاصبا بالقعود عليه ،وإنما تكون اليد،
أي الحيازة على البساط إما بالنقل والتحويل ،أو بكونه في بيته ،والجلوس عليه ليس بشيء من
المرين ،فل يكون يدا عليه .وبما أنهما يدعيانه على السواء ،فيترك في يديهما لعدم وجود منازع
ينازعهما.
وإذا كان ثوب في يد رجل ،وطرف منه في يد آخر ،فهو بينهما نصفان؛ لن الزيادة من جنس
الحجة ،فإن كل واحد منهما متمسك باليد ،إل أن أحدهما أكثر استمساكا ،ومثله ل يوجب الرجحان،
كزيادة عدد الشهود ،ل تُرجح بينة أحد الخصمين.
-------------------------------
( )1المبسوط 87/17 :ومابعدها ،تكملة فتح القدير 247/6 :وما بعدها ،البدائع 255/6 :وما بعدها،
الدر المختار 461/4 :ومابعدها ،اللباب ،44/4 :مختصر الطحاوي :ص 354وما بعدها.
( )8/161
- 3إذا كان حائط بين دارين :فادعاه كل من المالكين المتجاورين ،وليس لحدهما عليه جذوع ()1
ول هو متصل ببناء كل منهما ،فإنه يكون بينهما ،لستوائهما في الستظلل به.
وإن كان لحدهما عليه جذوع ،فهو له؛ لنه مستعمل للحائط.
ولو كان لكل واحد منهما جذوع ،على السواء ،أو لحدهما أكثر من الخر ،بأن كان ثلثة فصاعدا،
فهو بينهما نصفان؛ لنهما استويا في استعمال الحائط ،فاستويا في ثبوت اليد عليه ،والزيادة على
الثلثة من جنس الحجة.
أما إن كان لحدهما ما دون الثلثة ،وللخرأكثر ،فهو لصاحب الكثير؛ لن أصل الستعمال ل يحل
بما دون الثلثة؛ لن الجدار ل يبنى له عادة ،وإنما يبنى لكثر من الثلثة ،إل أن الكثر ل نهاية له،
والثلثة أقل الجمع الصحيح ،فقيّد به .ولكن يبقى لصاحب القليل حق الستناد على الحائط ،وليس
لصاحب الحائط الحق في أن يطلب رفع الجذوع ،إل إذا أثبت بالبينة أن الحائط له ،فحينئذ يرفع
الجذع.
وإن لم يكن لهما جذوع ،ولحدهما اتصال بالبناء اتصال التزاق وارتباط ،فهو لصاحب التصال ،لنه
كالمتعلق به.
ولو كان لحدهما اتصال التزاق ،وللخر جذوع ،فصاحب الجذوع أولى؛ لنه مستعمل للحائط ،ول
استعمال من صاحب التصال.
ولو كان لحدهما اتصال التزاق وارتباط ،وللخر اتصال تربيع ( ، )2فصاحب التربيع أولى؛ لن
اتصال التربيع أقوى من اتصال اللتزاق.
ولو كان لحدهما اتصال تربيع وللخر جذوع :فالحائط لصاحب التربيع ،ولصاحب الجذوع حق
وضع الجذوع ،أي استنادها عليه؛ لن الظاهر ليس بحجة في الستحقاق .والسبب في ترجيح صاحب
التصال :أن الحائطين بالتصال يصيران كبناء واحد .وقال السرخسي :صاحب الجذوع أولى؛ لن
لصاحب التصال اليد ،ولصاحب الجذوع التصرف والتصرف أقوى .والرأي الول أرجح؛ لن
اتصال التربيع يكون حالة البناء ،وهو سابق على وضع الجذوع ،فكانت يده أسبق من وضع الخر
جذوعه ،فصار مثل سبق التاريخ.
-------------------------------
( )1الجذع :ساق النخلة أو الشجرة ،يوضع في منتصف السقف للستناد عليه ،ويوضع طرفاه على
جدارين متقابلين ،وهو الن مثل الجسور الحديدية في منتصف السقوف.
( )2اتصال التربيع :أن يكون في حائط من المدر أو الجر تداخل بين أنصاف لبنات حائط المدعي،
وأنصاف لبنات الحائط المتنازع فيه وبالعكس .وإن كان الحائط من خشب :فالتربيع :أن تكون الخشبة
مركبة في الخرى .وأما إذا ثقب فأدخل في الخرى ،فليكون تربيعا( .تكملة فتح القدير،251/6 :
الدر المختار ،461/4 :البدائع.)257/6 :
( )8/162
ثم إن التصال الذي وقع الختلف السابق في ترجيح صاحبه على صاحب الجذوع أو على العكس:
هو التصال الذي وقع في أحد طرفي أو جانبي الحائط المتنازغ فيه .وأما إذا وقع اتصال التربيع في
طرفيه أو جانبيه ،فصاحب التصال أولى بل خلف (. )1
ولو كان وجه البناء على الحائط في أحد الجانبين ،فل يرجح به باتفاق الحنفية؛ لن هذا ل يختص
بالملك.
- 4إذا كان خُص ( )2بين دارين ،أو بين حقلين ،والقُمط ( )3إلى أحدهما ،وادعى كل واحد الخص،
فهو بينهما عند أبي حنيفة رحمه ال تعالى عليه ،ول ينظر إلى القمط؛ لن هذا دليل الحيازة واليد في
الماضي ،ل وقت الدعوى ،فل يفيد في الثبات.
وقال الصاحبان :صاحب القمط أولى بالعرف والعادة ،فإن الناس في العادة يجعلون وجه البناء
والطاقات (ما عطف من البنية) وأنصاف اللبن والقمط إلى صاحب الدار ،فيدل على أنه بناؤه.
تنبيه :كل موضع قضي فيه بالملك لحد المتنازعين لكون المدعى به في يده ،تجب عليه اليمين
لصاحبه إذا طلب ،فإن حلف برئ ،وإن نكل يقضى عليه بالنكول (. )4
-------------------------------
( )1تكملة فتح القدير ،المرجع السابق :ص ،225البدائع ،المرجع نفسه :ص ،257رد المحتار:
.461/4
( )2الخص بضم الخاء :البيت من قصب ،والجمع أخصاص.
( )3القمط -بضم القاف والميم :جمع قماط ،والمراد به هنا حبل عريض ينسج من ليف أو خوص
تشد به الخيمة ونحوها.
( )4البدائع ،258/6 :رد المحتار. 461/4 :
( )8/163
( )8/164
العلو والسفل :وعلى هذا لو كان لحد الجوار سفل ،وللخر علو عليه كطوابق المنازل الحديثة ،فأراد
صاحب السفل أن يفتح بابا أو نافذة ،أو يحفر طاقا ،أو يدق وتدا على الحائط ،أو يتصرف فيه تصرفا
لم يكن في القديم ،من غير رضا صاحب العلو سواء أضر بالعلو ،بأن ترتب عليه وَهْن الحائط أم لم
يضرّ به ،فليس له ذلك عند أبي حنيفة؛ لن حرمة التصرف في ملك الغير وحقوقه ل تتوقف على
وقوع الضرر ،بل هو حرام ،سواء تضرر به أم ل.
وقال الصاحبان :لصاحب السفل أن يفعل في ملكه ما يشاء إن لم يضر بصاحب العلو؛ لن صاحب
السفل يتصرف في ملك نفسه ،فل يمنع إل لحق الغير ،وحق الغير ل يمنع المالك من التصرف لذاته،
وإنما لما يترتب عليه من إيقاع الضرر به ،بدليل أن النسان ل يمنع من الستظلل بجدار غيره،
ومن الصطلء بنار غيره ،لعدم تضرر المالك .والرسول صلّى ال عليه وسلم يقول« :ل ضرر ول
ضرار» (. )1
وإذا انهدم السفل والعلو :لم يجبر صاحب السفل على البناء؛ لن النسان ل يجبر على عمارة ملك
نفسه ،ولكن يقال لصاحب العلو :إن شئت فابن السفل من مال نفسك ،وضع عليه علوك ،وارجع عليه
بقيمته مبنيا،ثم امنع صاحب السفل عن النتفاع بالسفل حتى يرد عليك قيمة البناء؛ لن البناء ،وإن
كان تصرفا في ملك الغير ،لكن فيه ضرورة؛ لنه ل يمكنه النتفاع بملك نفسه إل بالتصرف في ملك
غيره .وأما رجوعه بقيمة البناء ،فلنه ملكه بإذن الشرع ،فله أل يمكن صاحب السفل من النتفاع
بملكه إل بعد دفع قيمته.
أما إذا هدم صاحب السفل منزله ،فانهدم الطابق العلوي ،فيجبر على إعادته؛ لنه أتلف حق صاحب
العلو بنفسه.
ويجري هذا الخلف في الحائط بين الدارين إذا انهدم ،ولهما عليه جذوع ،فإنه ل يجبر واحد منها
على بنائه ،ولكن إذا أبى أحدهما البناء ،يقال للخر :إن شئت فابن من مال نفسك ،وضع خشبك عليه،
وامنع صاحبك من الوضع والستناد ،حتى يرد عليك نصف قيمة البناء ،أو نصف ما أنفقته.
فإن هدمه أحدهما ،يجبر على عمارته (. )2
-------------------------------
( )1رواه مالك والشافعي مرسلً عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه ،وهو عند أحمد وعبد الرزاق
وابن ماجه والطبراني عن ابن عباس ،ورواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندا عن أبي سعيد
الخدري وهو حديث حسن (المقاصد الحسنة :ص ،468مجمع الزوائد ،110/4 :سبل السلم،84/3 :
اللمام :ص .)363
( )2البدائع 263/6 :وما بعدها ،الدر المختار 372/4 :وما بعدها ،درر الحكام 416/2 :وما بعدها.
( )8/165
( )8/166
أما الكتاب فقوله تعالى{ :واستشهدوا شهيدين من رجالكم ،فإن لم يكونا رجلين ،فرجل وامرأتان ممن
ترضون من الشهداء} [البقرة ]282/2:وقال تعالى{ :وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق،]2/65:
{وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة ]282/2:أمر إرشاد ل وجوب.
وأما السنة فمثل قوله صلّى ال عليه وسلم لمدع« :شاهداك أو يمينه» ( )1وخبر في السنة« :أنه
صلّى ال عليه وسلم سئل عن الشهادة ،فقال للسائل :ترى الشمس؟ قال :نعم ،فقال :على مثلها فاشهد،
أو دع» (. )2
وحكم الشهادة :وجوب القضاء على القاضي بموجبها بعد توافر شروطها .وأما حكم تحمل الشهادة
وأدائها ،فهو فرض كفائي إذا دعي الشهود إليه ،إذ لو تركه الجميع ،لضاع الحق ،ويصبح أداء
الشهادة بعد التحمل فرض عين ،فيلزم الشهود بأداء الشهادة ،ول يجوز لهم كتمانها إذا طالبهم المدعي
بها ،لقوله تعالى{ :ول يأب الشهداء إذا ما دُعوا} [البقرة ]282/2:وقوله سبحانه{ :ول تكتموا الشهادة،
ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة ]283/2:وقوله عز وجل{ :وأقيموا الشهادة ل } [الطلق)3( ]2/65:
.
ويجب أداء الشهادة بل طلب في حقوق ال تعالى ،كطلق امرأة بائنا ،ورضاع ،ووقف ،وهلل
رمضان ،وخلع ،وإيلء ،وظهار .قال الحنفية ( : )4الذي تقبل فيه الشهادة حسبة ( )5بدون الدعوى
أربعة عشر :وهي الوقف ،وطلق الزوجة ،وتعليق طلقها ،وحرية المة ،وتدبيرها ،والخلع ،وهلل
رمضان ،والنسب ،وحد الزنا ،وحد الشرب ،واليلء ،والظهار ،وحرمة المصاهرة ،ودعوى المولى
نسب العبد .وزاد ابن عابدين :الشهادة بالرضاع.
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومسلم عن الشعث بن قيس ،وقد سبق تخريجه.
( )2رواه البيهقي والحاكم وصحح إسناده وتعقبه الذهبي ،فقال « :بل هو حديث واه » وأخرجه ابن
عدي بإسناد ضعيف عن ابن عباس (سبل السلم ،130/4 :نصب الراية.)82/4 :
( )3المبسوط ،177/16 :فتح القدير ،3/6 :الدر المختار ،386/4 :الشرح الكبير للدردير،199/4 :
مغني المحتاج ،450/4 :المغني ،146/9 :المهذب.323/2 :
( )4الدر المختار ورد المحتار.440/3 :
( )5الحسبة :الجر ،أي لقصد الجر ،ل لجابة مدعٍ.
( )8/167
لكن الشهادة في الحدود :يخير فيها الشاهد بين الستر والعلم؛ لنه يكون مترددا بين شهادتي حسبة:
في إقامة الحد ،والتوقي عن هتك حرمة مسلم ،والستر
أولى وأفضل؛ لقوله صلّى ال عليه وسلم للذي شهد عنده« :لو سترته بثوبك لكان خيرا لك» ()1
وقوله عليه الصلة والسلم« :من ستر مسلما ،ستره ال في الدنيا والخرة» ( )2وقد عرفنا في
الحدود أن الرسول عليه الصلة والسلم لقن ماعزا الرجوع عن القرار بقوله« :لعلك قبلت أو
غمزت أو نظرت» ففي هذا دللة ظاهرة على أفضلية الستر.
لكن الولى أن يقول الشاهد في السرقة :أخذ المال إحياء لحق المسروق منه ،ول يقول :سرق صونا
ليد السارق عن القطع ،فيكون بهذا قد جمع بين الستر والعلم أو الظهار (. )3
المطلب الثاني ـ شروط تحمل الشهادة :
تحمل الشهادة :عبارة عن فهم الحادثة وضبطها بالمعاينة أو بالسماع .ويشترط لتحمل الشهادة شروط
ثلثة عند الحنفية (. )4
أولها ـ أن يكون الشاهد عاقلً :فل يصح تحمل الشهادة من المجنون والصبي الذي ليعقل؛ لن
التحمل يتطلب الفهم والدراك ،وهو يحصل بالعقل.
-------------------------------
( )1الواقع أن الذي قال له النبي صلّى ال عليه وسلم هذا القول وهو «هزّال» لم يشهد عنده بشيء،
ولكنه هو الذي أشار على ما عز أن يأتي النبي صلّى ال عليه وسلم ويقر عنده ،فلم يكن شاهدا؛ لن
ماعزا حد بالقرار ،فقال النبي لهزال« :لو سترته بثوبك لكان خيرا لك» رواه أبو داود والنسائي
والبزار وأحمد والطبراني عن نعيم ابن هزال (راجع نصب الراية.)74/4 :
( )2رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ« :ومن ستر مسلما ستره ال في الدنيا
والخرة» ورواه الحاكم من طريقين ،ورواه الترمذي عن ابن عمر ،ورواه أبو نعيم عن مسلم بن
مخلد مرفوعا ،ورواه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا (نصب الراية ،79/4 ،307/3 :تلخيص
الحبير.)66/4 :
( )3فتح القدير ،الدر المختار ،المرجعان السابقان ،اللباب.54/4 :
( )4البدائع ،266/6 :الدر المختار.385/4 :
( )8/168
ثانيها ـ أن يكون بصيرا وقت التحمل ،فل يصح التحمل من العمى؛ لن شرط التحمل هو السماع
من الخصم ،ول يعرف الخصم إل بالرؤية؛ لن نغمات الصوات يشبه بعضها بعضا.
وقال الحنابلة ( : )1تحمل الشهادة يكون بالرؤية والسماع ،فيجوز للعمى أن يشهد فيما يتعلق
بالسماع كالبيع والجارة وغيرهما إذا عرف المتعاقدين ،وتيقن أنه كلمهما.
وقال الشافعية ( : )2ل تجوز شهادة العمى فيما يتعلق بالبصر لجواز اشتباه الصوات ،وقد يحاكي
النسان صوت غيره ،كما قال الحنفية ،فل يجوز أن يكون شاهدا على الفعال كالقتل والتلف
والغضب والزنا وشرب الخمر ،وهذا ما قال به الحنابلة أيضا ،كما ل يجوز أن يكون شاهدا على
القوال كالبيع والقرار والنكاح والطلق ،إل فيما سماه الشافعية بصورة الضبط :وهي أن يقر
شخص في أذن العمى بنحو طلق أو مال لشخص معروف ،فيتعلق العمى به ويضبطه إلى أن
يحضر عند الحاكم ،فيشهد عليه بما سمعه منه ،فتقبل شهادته في هذه الحالة على الصحيح.
ثالثها ـ معاينة المشهود به بنفسه ل بغيره إل فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس والستفاضة؛
لقوله صلّى ال عليه وسلم للشاهد« :إذا علمت مثل الشمس فاشهد ،وإل فدع» ( )3ول يتم العلم مثل
الشمس إل بالمعاينة.
ول يشترط لتحمل الشهادة البلوغ والحرية والسلم والعدالة ،وإنما هي شروط للداء.
-------------------------------
( )1المغني 58/9 :وما بعدها.
( )2المهذب 334/2 :وما بعدها ،مغني المحتاج.446/4 :
( )3رواه الخلل في الجامع بإسناده عن ابن عباس بلفظ سبق ذكره .والمذكور هنا مروي بالمعنى.
( )8/169
وأما ما تصح فيه الشهادة بالتسامع :فهي النكاح ،والنسب ،والموت ،ودخول الرجل على امرأته،
وولية القاضي ،فللشاهد أن يشهد بهذه الشياء إذا أخبره بها من يثق به استحسانا؛ لن هذه المور
يختص بمعاينة أسبابها خواص الناس ،ويترتب عليها أحكام دائمة على ممر السنين والعوام ،فلو لم
يقبل فيها الشهادة بالتسامع ،لدى ذلك إلى الحرج وتعطيل الحكام.
والتسامع عند أبي حنيفة :هو بأن يشتهر الخبر ويستفيض بين الناس ،وتتواتر به الخبار ليحصل له
نوع من اليقين .وعند الصاحبين :بأن يخبر الشاهد رجلن عدلن أو رجل وامرأتان ،واختار قولهما
بعض الفقهاء بدليل أن القاضي يحكم بشهادة شاهدين ،ولو لم يرد المشهود به أو يسمعه بنفسه .وعند
أداء الشهادة بالتسامع ل يذكر الشاهد أمام القاضي أن شهادته بالتسامع ،وإنما يقول :أشهد بكذا.
أما فيما عدا المذكور فل يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه؛ لن الشهادة مشتقة من المشاهدة:
وهي المعاينة ،وتتم بالعلم ،فل تجوز الشهادة إل بما علمه النسان ،بدليل قوله تعالى{ :إل من شهد
بالحق ،وهم يعلمون} ( )1وقوله سبحانه{ :ول تقْف ما ليس لك به علم ،إن السمع والبصر والفؤاد،
كل أولئك كان عنه مسؤولً} [السراء. )2( ]36/17:
ل أو وكيل ،وكفر،
وقال المالكية :تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة :منها عزل قاض أو وا ٍ
وسفه ،ونكاح ،ونسب ،ورضاع ،وبيع ،وهبة ووصية (. )3
-------------------------------
( )1الية{ :ول يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إل من شهد بالحق وهم يعلمون} [الزخرف:
.]86/43
( )2المبسوط ،111/16 :فتح القدير ،20/6 :البدائع ،266/6 :اللباب ،67/4 :المغني.158/9 :
المهذب.334/2 :
( )3راجع الشرح الكبيرللدردير وحاشية الدسوقي عليه 198/4 :وما بعدها.
( )8/170
والتسامع :أن يكون المنقول عنه غير معين ول محصور ،وذلك بأن يشتهر النسب مثلً المشهود به
بين الناس العدول وغيرهم .ويشترط أن يقول الشهود :سمعنا أو لم نزل نسمع سماعا فاشيا من أهل
العدل وغيرهم أن فلنا ابن فلن.
وقال الشافعية في الصح :تجوز الشهادة بالتسامع أو الستفاضة في النسب والموت ،والوقف،
والنكاح ،وملكية الشياء ،فإن استفاض في الناس أن فلنا ابن فلن ،جاز أن يشهد به؛ لن سبب
النسب ل يدرك بالمشاهدة ،وإن استفاض في الناس أن فلنا مات ،جاز أن يشهد به؛ لن أسباب
الموت كثيرة ،ويتعذر الطلع عليها ،وإن استفاض في الناس أن هذه الدار لفلن جاز أن يشهد به؛
لن أسباب الملك ل تضبط ...وهكذا (. )1
وقال الحنابلة :تصح الشهادة بالستفاضة في النسب والولدة ،والنكاح والموت ،والملك ،والوقف،
والولية والعزل (. )2
ويشرط التسامع عند الشافعية والحنابلة في الصح مثلما قال أبو حنيفة :سماع المشهود به من جمع
كثير يؤمن تواطؤهم (أي توافقهم) على الكذب بحيث يحصل العلم (أي اليقين) أو الظن القوي
بخبرهم .ول بد من أن يقول الشاهد :أشهد بكذا.
-------------------------------
( )1المهذب ،335/2 :مغني المحتاج 448/4 :وما بعدها.
( )2المغني.161/9 :
( )8/171
الشهادة على الكتابة :بما أن الشهادة ل تجوز إل بما علمه الشاهد ،فل يحل للشاهد عند أكثر العلماء
أن يشهد بما رآه من خط نفسه ،إل أن يتذكر الشهادة؛ لن الخط يشبه الخط ،والمطلوب في الشهادة
العلم بالحادثة ،والشيء المشتبه فيه ل يفيد العلم ،فإن تذكر القضية أو الشهادة ،يشهد حينئذ على ما
علم ل على أنه خطه.
وقال أبو يوسف ومحمد وفي رواية عند الحنابلة :يجوز للشاهد أن يشهد بما يجده من خط نفسه (. )1
أنواع ما يتحمله الشاهد :
مايتحمله الشاهد نوعان :أحدهما :ما يثبت حكمه بنفسه .وهو ما يعرف بالسماع المباشر كالبيع
والقرار ،أو رؤية الفعل بالذات كالغصب والقتل.
فللشاهد إذا سمع أورأى أن يشهد به ،ويقول :أشهد أنه باع ،ول يقول :أشهدني؛ لنه كذب .ولو سمع
من وراء الحجاب ل يجوز له أن يشهد؛ لن النغمة تشبه النغمة.
والثاني :ما ل يثبت حكمه بنفسه :وهو ما ل يوجب الشهادة بنفسه ،وإنما بالنقل إلى مجلس القضاء
والنابة في الداء .فإذا سمع شاهدا يشهد بشيء لم يجز أن يشهد بنفسه على شهادته إل أن يشهده
على شهادته ،ويأمره بأدائها ليكون نائبا عنه .وكذلك لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته ويأمره
بأدائها لم يسع السامع له أن يشهد؛ لنه لم يحمله الشهادة ،وإنما حمل غيره (. )2
فالنوع الثاني إذن يكون بتكليف الشاهد لغيره نقل شهادته أمام القضاء.
-------------------------------
( )1فتح القدير ،19/6 :اللباب ،59/4 :الشرح الكبير للدردير ،193/4 :المغني.160/9 :
( )2الكتاب مع اللباب 58/4 :وما بعدها.
( )8/172
( )8/173
وقال الحنابلة والظاهرية :تقبل شهادة العبد ،لعموم آيات الشهادة ،ولن العبودية ليس لها تأثير في
الرد ،وقيدها الحنابلة فيما عدا الحدود والقصاص (. )1
- 3السلم :اتفق الفقهاء على اشتراط كون الشاهد مسلما ،فل تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لنه
متهم في حقه ،وأجاز الحنفية والحنبلية شهادة الكافر في الوصية في السفر ،لقوله تعالى{ :يا أيها الذين
آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ،أو آخران من غيركم}
[المائدة ]106/5:وأجاز الحنفية خلفا للجمهور شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض إذا كانوا عدولً
في دينهم ،وإن اختلفت مللهم كاليهود والنصارى ( ، )2لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد ال :
«أن النبي صلّى ال عليه وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض» ( )3وفي بعض رجاله
مقال.
ول تقبل شهادة الحربي المستأمن على الذمي؛ لنه ل ولية له عليه؛ لن الذمي من أهل ديارنا ،وهو
أعلى حالً منه .وتقبل شهادة الذمي على الحربي المستأمن ،كما تقبل شهادة المسلم عليه وعلى الذمي.
وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا أهل دار واحدة.
- 4البصر :يشترط عند أبي حنيفة ومحمد والشافعية :أن يكون الشاهد مبصرا ،فل تقبل شهادة
العمى؛ لنه ل بد من معرفة المشهود له والشارة إليه عند الشهادة ،ول يميز العمى بين الناس إل
بنغمة الصوت ،وفيه شبهة؛ لن الصوات تتشابه .وتشدد الحنفية فمنعوا قبول شهادة العمى وإن كان
بصيرا عند تحمل الشهادة.
-------------------------------
( )1المراجع السابقة ،البدائع :ص 267وما بعدها ،بداية المجتهد :ص ،452الشرح الكبير،165/4 :
مغني المحتاج :ص ،427المغني :ص .194
( )2المراجع السابقة ،فتح القدير ،41/6 :الكتاب مع اللباب ،63/4 :نصب الراية ،85/4 :بداية
المجتهد :ص ،452مغني المحتاج :ص ،427المغني :ص .182
( )3أخرجه ابن ماجه في سننه عن جابر بن عبد ال « :أن النبي صلّى ال عليه وسلم أجاز شهادة
أهل الكتاب ،بعضهم على بعض» وفيه مجالد وفيه مقال (نصب الراية.)85/4 :
( )8/174
وأجاز المالكية والحنابلةوأبو يوسف شهادة العمى إذا تيقن الصوت؛ لعموم اليات الواردة في
الشهادة ،ولنه رجل عدل مقبول الرواية ،فقبلت شهادته كالبصير ،ولن السمع أحد الحواس التي
يحصل بها اليقين ،ولهذا أجاز الشافعية شهادة العمى فيما يثبت بالستفاضة .كما أجازوا أن يكون
شاهدا في الترجمة؛ لنه يفسر ما سمعه بحضرة الحاكم ،وسماعه كسماع البصير (. )1
- 5النطق :اشترط الحنفية والشافعية والحنابلة أن يكون الشاهد ناطقا ،فل تقبل شهادة الخرس ،وإن
فهمت إشارته؛ لن الشارة ل تعتبر في الشهادات؛ لنها تتطلب اليقين ،وإنما المطلوب التلفظ
بالشهادة.
وأجاز المالكية قبول شهادة الخرس إذا فهمت إشارته؛ لنها تقوم مقام نطقه في طلقه ونكاحه
وظهاره ،فكذلك في شهادته (. )2
- 6العدالة :اتفق العلماء على اشتراط العدالة في الشهود ،لقوله تعالى{ :ممن ترضون من الشهداء}
[البقرة ]282/2:وقوله سبحانه{ :وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق ]2/65:فل تقبل شهادة الفاسق
كالزاني والشارب والسارق ونحوهم ،وكذا مجهول الحال ،وروي عن أبي يوسف :أن الفاسق إذا كان
وجيها في الناس ،ذا مروءة ،تقبل شهادته؛ لنه ل يستأجر لشهادة الزور لوجاهته ،ويمتنع عن الكذب
لمروءته .وقال جمهور الحنفية :ل تقبل شهادة الفاسق مطلقا ،إل أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق
نفذ قضاؤه ،ويكون القاضي عاصيا.
-------------------------------
( )1المراجع السابقة ،البدائع :ص ،268فتح القدير :ص ،27مغني المحتاج :ص ،446المهذب:
،335/2المغني :ص ،189الشرح الكبير للدردير ،167/4 :اللباب.60/4 :
( )2المغني ،110/9 :حاشية الدسوقي على الشرح الكبير.168/4 :
( )8/175
والعدالة :لغة التوسط ،وشرعا :اجتناب الكبائر وعدم الصرار على الصغائر .والحقيقة أن اجتناب
الكبائر كلها هو شرط لصحة الشهادة ،وبعد توقيها يلحظ الشأن الغالب ،فمن كثرت معاصيه أثّر ذلك
في شهادته ،ومن ندرت منه المعصية قبلت شهادته .وهذا هو حد العدالة المعتبرة ،حتى ل يترتب
على التشدد سد باب الشهادة وإماتة الحقوق.
وضابط عدالة الشاهد في مذهب الشافعية :أن يكون مجتنبا الكبائر ،وغير مصر على الصغائر ،وسليم
السريرة أي العقيدة ،ومأمونا عند الغضب ،ومحافظا على مروءة مثله.
واكتفى أبو حنيفة بظاهر العدالة في المسلم ،ول يسأل عن الشهود ،حتى يطعن الخصم بها إل في
الحدود والقصاص ،فإنه يسأل عن الشهود ،وإن لم يطعن فيهم الخصوم ،ودليله على الكتفاء بظاهر
العدالة قوله صلّى ال عليه وسلم « :المسلمون عدول بعضهم على بعض إل محدودا في قذف» ()1
ومثله مروي عن عمر رضي ال عنه ( . )2وأما دليله على استثناء الحدود والقصاص ،فهو أن
القاضي يتحايل لسقاطها عن المتهم ،فيشترط فيها استقصاء معرفة حال الشهود؛ ولنها تدرأ
بالشبهات.
-------------------------------
( )1رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه« :إل محدودا في
فرية» (نصب الراية.)81/4 :
( )2رواه الدارقطني عن أبي المليح الهذلي ،وهو في كتاب عمر المشهور إلى أبي موسى الشعري
(نصب الراية ،المرجع السابق).
( )8/176
وقال الصاحبان والفتوى على قولهما :ل بد من أن يسأل القاضي عن الشهود في السر والعلنية في
سائر الحقوق؛ لن القضاء قائم على الحجة ،وهي شهادة العدول ،فل بد من التعرف على العدالة،
وفي ذلك صيانة للحكم القضائي عن النقض والبطال بسبب الطعن في عدالة الشهود (. )1
قال المتأخرون من الحنفية :هذا الختلف اختلف عصر وزمان ،ل اختلف حجة وبرهان؛ لن
زمن أبي حنيفة كان زمن خير وصلح؛ لنه زمن التابعين ،وشهد لهم النبي صلّى ال عليه وسلم
بالخيرية ،بخلف زمان الصاحبين ،قال عليه الصلة والسلم« :خير أمتي قرني ،ثم الذين يلونهم ثم
الذين يلونهم ،ثم إن من بعدهم قوما يشهدون ول يُستشهدون ،ويخونون وليؤتمنون ،وينذرون ول
يوفون ،ويظهر فيهم السمن» (. )2
وقال فقهاء الحنفية :ل تقبل شهادة مُخنّث ،لفسقه ،وهو الذي يفعل الرديء ويؤتى كالنساء .أما الذي
في كلمه لين وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة.
ول تقبل شهادة نائحة في مصيبة غيرها بأجر ،ول مغنية ،ولو لنفسها لحرمة رفع صوتها ،خصوصا
مع الغناء ،ول شهادة مدمن الشرب لهوا ،سواء أكان الشراب خمرا أم غيره لحرمة ما ذكر في
السلم ،ول شهادة من يلعب بالطيور؛ لنه يورث غفلة ،ولنه قد يطلع على عورات النساء بصعود
سطحه ليطير طيره ،ول شهادة من يغني للناس؛ لنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة ،ول من يأتي
كبيرة موجبة للحد كالزنا والسرقة ونحوها؛ لنه يفسق ،ول من يدخل الحمام بغير إزار؛ لن كشف
العورة حرام إذا رأى الشخص غيره ،ول من يأكل الربا إذا كان مشهورا به ،ول المقامر بالنرد (أي
الزهر) والشطرنج؛ لن كل ذلك من الكبائر ،لكن الشطرنج عند الشافعي مكروه فقط ،وليس كبيرة،
إذا لم يكن قمارا.
-------------------------------
( )1راجع المبسوط ،113/16 :فتح القدير 12/6 :وما بعدها ،البدائع 268/6 :وما بعدها ،الدر
المختار ،388/4 :الكتاب مع اللباب 57/4 :وما بعدها ،بداية المجتهد ،451/2 :مغني المحتاج:
،427/4المغني 165/9 :وما بعدها.
( )2رواه الشيخان وأحمد عن عمران بن حصين (نيل الوطار ،296/8 :سبل السلم.)126/4 :
( )8/177
ول تقبل شهادة من يفعل الفعال المستقبحة ،كالبول على الطريق والكل على الطريق؛ لنه في
عرف السابقين تارك للمروءة؛ ومثله ل يمتنع عن الكذب فيتهم .ول تقبل شهادة من يظهر سب السلف
كالصحابة والتابعين لظهور فسقه ،بخلف من يخفيه؛ لنه فاسق مستور (. )1
واتفق الفقهاء على أن الفاسق إذا تاب من فسقه ،تقبل شهادته .واستثنى الحنفية المحدود في القذف،
فإنه ل تقبل شهادته عندهم وإن تاب ،خلفا لبقية الفقهاء .ومنشأ الخلف هو عود الستثناء في قوله
تعالى{ :ول تقبلوا لهم شهادة أبدا ،وأولئك هم الفاسقون ،إل الذين تابوا من بعد ذلك} [النور-4/24:
.]5فقال الحنفية :ل تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب ،لقوله تعالى{ :ول تقبلوا لهم شهادة أبدا}
[النور ]4/24:وأما الستثناء فهو راجع عندهم إلى الجملة الخيرة وحدها،أي إلى أقرب مذكور إليه.
وقال جمهور الفقهاء :تقبل شهادة المحدود في قذف بعد التوبة؛ لن الستثناء بعد الجمل المتعاطفة
بالواو يعودإليها جميعا إل إذا خصص الحكم
-------------------------------
( )1راجع الكتاب مختصر القدوري مع اللباب 61/4 :وما بعدها ،فتح القدير 34/6 :وما بعدها.
( )8/178
بالجماع ،وهنا خصص الجماع أحد الحكام السابقة عند التوبة وهو أن الحد ل يسقط بالتوبة (. )1
وتقبل شهادة أهل الهواء ،أي أصحاب البدع التي ل تكفر صاحبها مثل الجبرية والقدَرية والرافضة
والخوارج والمشبهة والمعطلة.
وكذلك تقبل شهادة القلف ( غير المختون ) إل إذا تركه استخفافا بالدين ،فل يكون حينئذ عدلً ،وتقبل
شهادة الخصي وولد الزنا إذا كان عدلً ،وشهادة الخنثى ويعتبر كأنثى (. )2
- 7عدم التهمة :أجمع الفقهاء على أن التهمة ترد بها الشهادة .والتهمة :أن يجلب الشاهد إلى
المشهود له نفعا أو يدفع عنه ضررا ،فل تجوز شهادة الوالد لولده وولد ولده ول شهادة الولد لبويه
وأجداده ،ول شهادة الخصم لخصمه .والخصم :كل من خاصم في حق ،فل تقبل شهادة الوكيل
لموكله ،ول الموصى له للميت أو الموصى عليه :وهو اليتيم في حجره ورعايته ،ول الشريك لشريكه
في أمور الشركة؛ لنها شهادة لنفسه من وجه لشتراكهما في الشركة .فلو شهد الشريك بما ليس من
شركتهما تقبل شهادته لنتفاء التهمة ،وأجاز المالكية شهادة الشريك ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :ل
تقبل شهادة خصم ول ظنين» ( )3وقوله عليه الصلة
-------------------------------
( )1مذكرة تفسير آيات الحكام بالزهر ،131/3 :وراجع بداية المجتهد ،452/2 :فتح القدير:
المرجع السابق :ص ،29البدائع ،المرجع نفسه :ص ،271مغني المحتاج ،438/4 :المغني ،المرجع
نفسه :ص 197وما بعدها ،المهذب 330/2 :وما بعدها.
( )2الكتاب مع اللباب 63/4 :ومابعدها.
( )3أخرجه مالك في الموطأ موقوفا على عمر ،وهو منقطع ،ورواه أبو داود في المراسيل عن طلحة
بن عبد ال بن عوف ،ورواه أيضا البيهقي من طريق العرج مرسلً ،ورواه الحاكم عن أبي هريرة
مرفوعا ،وفي إسناده نظر (نيل الوطار.)291/8 :
( )8/179
( )8/180
وتقبل شهادة الصديق لصديقه باتفاق الفقهاء ،والصديق :من صدق في ودادك ،بأن يسرّه ما يسرك،
ويضره ما يضرك ،ويهمه مايهمك .وقبول شهادته ،لضعف التهمة بالنسبة إليه ،بعكس شهادة الصل
للفرع ،وبالعكس ونحوهما (. )1
وأما الشرائط الخاصة ببعض الشهادات دون بعض ،فأهمها مايأتي :
- 1العدد في الشهادة بما يطلع عليه الرجال ،لقوله تعالى{ :واستشهدوا شهيدين من رجالكم ،فإن لم
يكونا رجلين ،فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة ]282/2:وذلك في الحقوق المدنية،
مالً كان الحق ،أو غير مال ،مثل النكاح والطلق والعدة والحوالة ،والوقف ،والصلح ،والوكالة،
والوصية ،والهبة ،والقرار ،والبراء ،والولدة ،والنسب ،فهذه الحقوق تثبت عند الحنفية بشهادة
رجلين أو رجل وامرأتين .وقبول شهادة المرأة هنا لتوافر أهلية الشهادة عندها :وهي الشهادة والضبط
والداء .والسبب في جعل المرأتين في مقام رجل في الشهادة :هو نقصان الضبط بسبب زيادة
النسيان ،كما في قوله تعالى{ :أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الخرى} [البقرة. )2( ]282/2:
وقال الشافعية والمالكية والحنابلة :ل تقبل شهادة النساء مع الرجال إل في الموال وتوابعها كالبيع
والجارة والهبة والوصية والرهن والكفالة؛ لن الصل عدم قبول شهادة النساء لغلبة العاطفة عليهن،
واختلل ضبط المور ،وقصور
-------------------------------
( )1راجع المبسوط 120/16 :ومابعدها ،البدائع ،272/6 :فتح القدير 31/6 :وما بعدها ،الدر
المختار 392/4 :ومابعدها ،اللباب 60/4 :وما بعدها ،بداية المجتهد 452/2 :ومابعدها ،الشرح
الكبير 168/4 :وما بعدها ،المهذب 329/2 :وما بعدها ،مغني المحتاج 433/4 :وما بعدها ،المغني:
.191 ،185/9
( )2فتح القدير ،7/6 :البدائع ،277/6 :الكتاب مع اللباب 55/4 :ومابعدها.
( )8/181
الولية على الشياء .أما ما ليس بمال ول يقصد منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والرجعة
والطلق والوكالة وقتل العمد والحدود سوى حد الزنا ،فل يثبت إل بشاهدين ذكرين ،لقوله تعالى في
الرجعة{ :وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق ]2/65:ولما روى ابن مسعود رضي ال عنه أن النبي
صلّى ال عليه وسلم قال« :ل نكاح إل بولي وشاهدي عدل» ( )1وعن الزهري أنه قال« :جرت
السنة على عهد رسول ال صلّى ال عليه وسلم والخليفتين من بعده أل تقبل شهادة النساء في الحدود
والدماء» ( )2قال الشافعية :فدل النص على الرجعة والنكاح والحدود ،وقسنا عليها كل ما ل يقصد به
المال ويطلع عليه الرجال (. )3
وفي حد الزنا :أجمع العلماء على أنه ل يثبت بأقل من أربعة شهود رجال عدول أحرار مسلمين،
لقوله تعالى{ :لول جاؤوا عليه بأربعة شهداء ،فإذ لم يأتوا بالشهداء ،فأولئك عند ال هم الكاذبون}
[النور ]13/24:وقوله سبحانه{ :واللتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم}
[النساء ]15/4:وقوله عز وجل{ :ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور.]4/24:وقد ثبت عن النبي صلّى
ال عليه وسلم أنه قال« :أربعة شهود ،وإل حد في ظهرك» (. )4
-------------------------------
( )1أخرجه البيهقي وابن حبان والطبراني في الوسط عن عمران بن حصين وعائشة وأبي هريرة
وجابر وغيرهم ،وذكر السيوطي تصحيحه (الجامع الصغير ،204/2 :نصب الراية ،167/3 :مجمع
الزوائد.)286/4 :
( )2رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الزهري ،وأخرجه عبد الرزاق عن علي ،قال« :ل تجوز
شهادة النساء في الحدود والدماء» (نصب الراية.)79/4 :
( )3المهذب ،333/2 :بداية المجتهد ،454/2 :المغني 149/9 :ومابعدها ،الطرق الحكمية :ص 152
وما بعدها.
( )4رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس بن مالك ،وأخرجه البخاري عن ابن عباس بلفظ:
«البينة وإل حد في ظهرك» (نصب الراية.)306/3 :
( )8/182
وفي سائر الحدود الخرى والقصاص اتفق الجمهور على أنها تثبت بشهادة رجلين لقوله تعالى:
{واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة ]282/2:ول تقبل فيها شهادة النساء ل مع رجل ،ول
مفردات.
وقال الظاهرية :تقبل شهادة النساء مع رجل في الحدود إذا كان النساء أكثر من واحدة ،عملً بظاهر
الية{ :فإن لم يكونا رجلين ،فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة.]282/2:
وأما ماليطلع عليه إل النساء ،فتقبل فيه شهادة النساء ،لما روي« :أن النبي صلّى ال عليه وسلم
أجاز شهادة القابلة» ( )1ولما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري ،قال« :مضت السنة أن
تجوز شهادة النساء فيما ل يطلع عليه غيرهن ،من ولدات النساء وعيوبهن» (. )2
واختلف في تحديد تلك الحالت ،فقال الحنفية :تقبل شهادة النساء في الولدة والبكارة وعيوب النساء
في موضع ل يطلع عليه الرجال ،ول تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع؛ لنه يجوز أن يطلع
عليه محارم المرأة من الرجال ،ول تقبل شهادتهن عند أبي حنيفة على استهلل الصبي بالنسبة
للرث؛ لن الستهلل صوت الصبي عند الولدة ،وهو مما يطلع عليه الرجال ،فل تكون شهادتهن
فيه حجة ،لكن تقبل شهادتهن في صلة الجنازة على المولود؛ لن الصلة من أمور الدين ،وشهادتهن
فيها حجة كشهادتهن على هلل رمضان.
-------------------------------
( )1رواه الدارقطني في سننه عن حذيفة بن اليمان ،وفيه رجل مجهول ،ورواه الطبراني في الوسط،
قال الهيثمي :وفيه من لم أعرفه ،وقال في التنقيح :هو حديث باطل ل أصل له (راجع نصب الراية:
،80/4مجمع الزوائد.)201/4 :
( )2ورواه ابن أبي شيبة أيضا (نصب الراية.)80/4 :
( )8/183
وقال الصاحبان :تقبل شهادتهن على الستهلل بالنسبة للرث أيضا؛ لن الستهلل صوت عند
الولدة ،ول يحضرها الرجال عادة ،فصار كشهادتهن على نفس الولدة .وهو الرأي الرجح عند
الكمال بن الهمام صاحب فتح القدير.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة :تقبل شهادة النساء منفردات فيما ل يراه رجال غالبا كبكارة وثيوبة
وولدة وحيض ورضاع واستهلل ولد ،وعيوب نساء تحت الثياب ،كجراحة ورتَق وقرَن وبرص
وانقضاء عدة ،ودليلهم خبر الزهري السابق ذكره ،ويقاس ما لم يذكر في الخبر على ما ذكر فيه مما
شاركه في الضابط المذكور من ولدة وعيوب النساء.
واختلفوا في العدد المشترط في شهادة النساء منفردات :فقال الحنفية والحنبلية :تقبل شهادة امرأة
واحدة عدل ( . )1وقال المالكية :يكفي امرأتان .وقال الشافعية :ليس يكفي أقل من أربع نسوة؛ لن
ال عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين ،واشتراط الثنينية (. )2
- 2التفاق في الشهادتين عند التعدد :يشترط اتفاق الشهادتين ( )3فيما
-------------------------------
( )1لن النبي صلّى ال عليه وسلم أجاز شهادة القابلة ،رواه الدارقطني عن حذيفة ،وروى أبو
الخطاب عن ابن عمر أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة»
روى أحمد والطبراني في الكبير عن ابن عمر «أنه سأل النبي صلّى ال عليه وسلم ،فقال ،أو أن
رجلً سأل النبي صلّى ال عليه وسلم فقال :ما الذي يجوز في الرضاع من الشهود؟ فقال النبي صلّى
ال عليه وسلم :رجل أو امرأة ،وفي رواية« :رجل وامرأة» وفيه ضعيف ولكن له مؤيد في أن
شهادة المرضعة وحدها تقبل (راجع سبل السلم ،218/ :مجمع الزوائد.)201/4 :
( )2راجع لكل ما ذكر :المبسوط ،112/16 :فتح القدير 6/6 :وما بعدها ،البدائع،279 ،277/6 :
الدر المختار 386/4 :وما بعدها ،اللباب 55/4 :وما بعدها ،بداية المجتهد 453/2 :وما بعدها ،الشرح
الكبير ،185/4 :المهذب 332/2 :وما بعدها ،مغني المحتاج 441/4 :وما بعدها ،المغني147/9 :
وما بعدها ،155 ،المحلى لبن حزم ،483/9 :الطرق الحكمية :ص .129
( )3يشترط عند أبي حنيفة اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى معا ،ويكتفى عند الصاحبين بالموافقة
المعنوية (الكتاب مع اللباب.)65/4 :
( )8/184
يطلب فيه العدد ،فإن اختلفت الشهادة لم تقبل؛ لن اختلف الشهادتين مثلً يوجب اختلف الدعوى.
والختلف يكون في جنس المشهود به ،وفي قدره ،وفي الزمان والمكان ونحوها.
أما الختلف في الجنس فقد يكون في العقد كأن يشهد أحدهما بالبيع والخر بالميراث أو بالهبة ،وقد
يكون في المال كأن يشهد أحدهما بمكيل والخر بموزون فل تقبل الشهادة ،لختلف العقدين،
أولختلف الجنسين.
وأما الختلف في القدر :فهوأن يدعي رجل على آخر ألفي درهم ،ويثبت ادعاءه بالبينة ،فيشهد له
شاهد بألفين ،والخر بألف ،فل تقبل الشهادة عند أبي حنيفة؛ لنه يشترط اتفاق الشاهدين باللفظ
والمعنى ،وهنا اختلف الشاهدان لفظا؛ لن أحدهما مفرد ،والخر مثنى ،واختلف اللفاظ إفرادا وتثنية
يدل على اختلف المعاني الدالة عليها ،فكان كلم كل منهما مباينا لكلم الخر ،فصار كما إذا اختلف
جنس المال ،وهذا هو الصحيح.
وتقبل هذه الشهادة عند الصاحبين على ألف درهم؛ لن الشاهدين اتفقا على اللف ،وتفرد أحدهما
بالزيادة ،فيثبت الحق فيما اتفقا عليه دون ما تفرد به أحدهما.
وهذا الختلف يجري فيما إذا شهد أحد الشاهدين على طلقة ،والخر على طلقتين أو ثلث ،ل تقبل
الشهادة عند أبي حنيفة ،وتقبل على القل عند الصاحبين.
( )8/185
واتفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أنه إذا كان المدعي يدعي ألفا وخمس مئة ،فشهد أحد الشاهدين
على اللف ،والخر على ألف وخمس مئة ،تقبل الشهادة على اللف ،لتفاق الشاهدين عليها لفظا
ومعنى؛ لن اللف والخمس مئة جملتان عطفت إحداهما على الخرى ،والعطف يقرر المعطوف عليه
ويؤكده ،بخلف اللف واللفين ،فليس بينهما حرف العطف.
وأما الختلف في الزمان والمكان :فإن كان الختلف في القرار فتقبل الشهادة؛ لن القرار يحتمل
التكرار ،فيمكن التوفيق بين الشهادتين بسماع القرار في زمانين أو مكانين.
وإن كان الختلف في الفعل كالقتل والغصب وإنشاء البيع والطلق والنكاح ونحوها ،فإنه يمنع قبول
الشهادة ،لختلفها؛ لن الفعال ل تحتمل التكرار ،فاختلف الزمان والمكان فيها يوجب اختلف
الشهادتين ،فما لم يوجد على كل حالة شاهدان ل يقبل .فلو شهد شاهدان أن زيدا قتل يوم النحر بمكة،
وشهد آخران أنه قتل يوم النحر بالكوفة ،لم تقبل الشهادتان للتيقن بكذب إحداهما.
ولو ادعى رجل على آخر قرض ألف درهم ،فشهد شاهدان :أحدهما على القرض ،والخر على
القرض والقضاء ،أي أنه أدى الدين ،يقضى بشهادتهما على القرض ،ول يقضى بالداء في ظاهر
الرواية؛ لن الشهادتين اتفقتا على القرض ،فيقضى به ،واختلفا في الداء ،فل يقضى به (. )1
-------------------------------
( )1البدائع 278/6 :ومابعدها ،فتح القدير 52/6 :وما بعدها ،مختصر القدوري مع اللباب 65/4 :وما
بعدها ،الدر المختار 405/4 :وما بعدها.
( )8/186
( )8/187
وتقبل تزكية شهود الصل بشهود الفرع؛ لن الفروع من أهل التزكية ،فصح تعديلهم ،فإن لم يزكوهم
نظر القاضي في رأي أبي يوسف في حال شهود الصل ،كما لو حضروا بأنفسهم وشهدوا .وهذا هو
الرأي الصح وظاهر الرواية .وقال محمد :ل تقبل تزكية الصول بالفروع؛ لنهم ينقلون الشهادة،
ول شهادة بدون العدالة.
وإن أنكر شهود الصل الشهادة بأن قالوا :ما لنا شهادة على هذه الحادثة ،وماتوا أو غابوا ،ثم جاء
الفروع يشهدون على شهادتهم ،أو أنكر شهود الصل تحميل الشهادة لغيرهم بأن قالوا :لم نشهدهم
على شهادتنا ،وماتوا أوغابوا ،لم تقبل شهادة شهود الفرع؛ لن التحميل شرط ،ولم يتوافر ذلك بسبب
تعارض الخبرين (. )1
شرط مكان الشهادة :
يشترط أن تكون الشهادة في مجلس القضاء (. )2
-------------------------------
( )1راجع الكتاب مع اللباب ،70-68/4 :تبيين الحقائق 237/4 :وما بعدها.
( )2البدائع ،المرجع نفسه :ص .379
( )8/188
( )8/189
ـ لو كان الشهود أربعة ،فرجع اثنان أو واحد منهم :فل ضمان عليه ،لبقاء المال للمشهود له ببقاء
الشاهدين .ولو رجع منهم ثلثة يلزمهم نصف المال المشهود عليه ،لبقاء النصف ،أي أنه ببقاء
أحدهما يبقى نصف الحق عند الحنفية والشافعية .وأما عند الحنابلة :فيغرم الشاهد الذي رجع بقدر
نسبته إلى عدد الشهود ،فإن كانوا ثلثة فرجع واحد ،فعليه الثلث ،وإن كانوا عشرة فعليه العشر.
ـ وإن شهد رجل وامرأتان على مال ،فرجعت امرأة :غرمت ربع المال ،ولو رجعتا غرمتا نصف
المال ،لبقاء نصف الحق ببقاء رجل ،ومن المعلوم أن المرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادات.وكذا
يغرم الرجل نصف المال ،إن رجع وبقيت المرأتان.
ـ ولو شهد رجل واحد ،وعشر نسوة ،على مال ،ثم رجعوا جميعا بعد صدور الحكم ،فالضمان بينهم
عند أبي حنيفة أسداسا ،على الرجل سدس المال بحسب نسبته إلى عدد النسوة ،وعلى النساء خمسة
أسداس؛ لن كل امرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادة.
وقال الصاحبان :الضمان بينهما مناصفة ،على الرجل النصف ،وعلى النساء النصف؛ لن النساء،
وإن كثرن ،لهن شطر الشهادة فقط.
ـ لو شهد اثنان على بائع ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر ،وقضى القاضي به ،ثم رجعا ،لم يضمنا
للمشهود عليه شيئا ،لن شهادتهما أدت إلى إتلف بعوض قبضه بديلً عن المبيع ،والتلف بعوض
ل يعد إتلفا ،وإن شهد الثنان بأقل من قيمة المثل ،ضمنا الجزء الناقص ،لتلفهما هذا الجزء بل
عوض.
( )8/190
ـ وكذا لو شهد اثنان على رجل أنه تزوج امرأة بمقدار مهر مثلهما ،ثم رجعا :فل ضمان عليهما،
ول يفسخ النكاح برجوعهما؛ لن منافع البضع (أي محل الستمتاع بالمرأة) غير متقومة عند
التلف ،بعكس العيان المالية ،وبما أن المنافع لتتقوم فل تضمن؛ لن التضمين يتطلب المماثلة بين
العوض والمعوض عنه ،ول مماثلة بين العيان التي تحرز وتتمول ،وبين العراض التي تزول ول
تبقى ،وإنما تتقوم منافع البضع على الزوج عند الدخول بالمرأة إظهارا لخطورة محل الستمتاع فقط،
وحينئذ تعتبر شهادة الشاهدين مؤدية إلى إتلف بعوض ،وهو أن الشاهدين أثبتا للزوج البضع بمقابلة
المال ،والتلف بعوض ل يعد إتلفا ،كما ذكر ،وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا ،ضمنا
الزيادة؛ لنهما أتلفا الزيادة من غير عوض.
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل :أنه طلق امرأته ثلثا ،وقد دخل بها وأقر الزوج بالدخول ،وقضى
القاضي بالفرقة ،ثم رجع الشاهدان :لم يضمنا ،إل ما زاد على مهر المثل؛ لنه بقدر مهر المثل
إتلف بعوض ،وهو استيفاء منافع البضع ،وإذا لم ننظر إلى معنى المعاوضة في الزواج ،فل ضمان
أيضا؛ لن المهر يجب بنفس العقد عند الحنفية ،ويتأكد بالدخول ،ل بشهادة الشهود ،فلم يترتب على
الشهادة إتلف ،فلم يجب الضمان.
وإن كان الطلق قبل الدخول ،فقضى القاضي بنصف المهر إذا كان المهر مسمى في العقد ،أو
بالمتعة إذا لم يكن المهر مسمى ،ثم رجع الشاهدان ،فإنهما يضمنان للزوج نصف المهر في الحالة
الولى ،والمتعة في الحالة الثانية؛ لن شهادتهما أدت إلى إتلف شيء على الزوج دون أن يحصل في
مقابله على عوض .ول يقال :إن الحكم الصادر من القاضي أمر ل بد منه؛ لن هذا هو حكم المهر
أو المتعة قبل الدخول .ل يقال ذلك؛ لنه بشهادة الشاهدين على الطلق ،تأكد الواجب في ذمة الزوج،
فلم يعد محتملً للسقوط بأن تحدث الفرقة من قبل المرأة.
( )8/191
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل بإجارة داره سنة ،والمستأجر ينكر ،وقضى القاضي باليجار ،ثم
رجعا بعد استيفاء منفعة السكنى ،فإنهما يغرمان للمستأجر ما زاد على أجر المثل؛ لنه بقدر أجر
المثل حصل العوض ،والباقي بغير عوض ،فتكون شهادتهما مؤدية إلى إتلف على المستأجر بقدر
الباقي وهو الزيادة.
ـ ولو شهد اثنان على رجل أنه قال لمرأته« :إن دخلت الدار فأنت طالق» وشهد اثنان آخران
بالدخول ،ثم رجعوا بعد أن قضى القاضي بالفرقة ،ضمن الشاهدان الولن؛ لن هذه شهادة على
الطلق ،وهو إتلف بغير عوض ،فيضمنان؛ لن الطلق علة الحكم ،ول يجب على شهود الدخول
شيء ؛ لن الدخول شرط .ـ ولو شهد اثنان على رجل بسرقة نصاب (وهو عشرة دراهم عند
الحنفية) فقضى القاضي بعد ادعاء المالك المسروق منه بقطع اليد ،وقطعت يده ،ثم رجع الشاهدان،
يغرمان دية اليد.
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل أنه قتل فلنا خطأ ،أو جرحه خطأ ،وقضى القاضي بالعقوبة ،ثم
رجعا ،ضمنا الدية؛ لنهما أتلفاها عليه ،وتكون في مالهما؛ لن الشهادة منهما بمنزلة القرار منهما
بالتلف ،والعاقلة (أي عصبة القاتل) لتعقل بالقرار بالقتل.
ـ ولوشهد رجلن على آخر أنه قتل فلنا عمدا ،فقضى القاضي بالقصاص ،واقتص منه أي قتل ،ثم
رجعا ،ل يقتص منهما عند الحنفية ،وهو ظاهر المدونة لمالك وقول ابن القاسم ،وإنما يضمنان الدية
في مالهما في ثلث سنين؛ لنهما معترفان ،والعاقلة ل تعقل العتراف .والدليل على أنه ل يقتص
منهما هو أنهما لم يباشرا القتل ،بل ولم يوجد منهما ـ في تقدير الحنفية ـ تسبب بالقتل؛ لن التسبب:
ما يفضي إلى ما تسبب فيه غالبا ،والشهادة ل تفضي إلى القتل
( )8/192
غالبا ،وإن أفضت إلى القضاء به ،وإنما كثيرا ما يقضى بالقتل ،ثم يتوسط الناس في الصلح على الدية
( . )1
وقال الشافعية والحنابلة وأكثر أصحاب مالك ( : )2إذا رجع الشهود ،وقد نفذ القصاص أو قتل الردة،
أو رجم الزنا ،أو الجلد أو القطع ومات المجلود أو المقطوع ،وقال الشهود :تعمدنا الشهادة ،فيقتص
منهم ،أو يلزمون بدية مغلظة في مالهم موزعة على عدد رؤوسهم ،لتسببهم في إهلك المشهود عليه،
وقتلهم نفسا بغير شبهة ،ولما روى الشعبي :أن رجلين شهدا عند علي رضي ال عنه على رجل أنه
سرق ،فقطعه ،ثم أتياه برجل آخر ،فقال :إنا أخطأنا بالول ،وهذا السارق ،فأبطل شهادتهما على
الخر ،وضمنها دية الول ،وقال« :لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما» .
وإن قال الشاهدان اللذان رجعا :أخطأنا ،فعليهما الدية مخففة في أموالهما عند الحنابلة ،لن العاقلة ل
تحمل العتراف ،وعند الشافعية :عليهما نصف الدية ،وعلى القاضي النصف الخر ،توزيعا للدية
على من باشر القتل ومن تسبب فيه.
ـ ولو شهد أربعة على رجل بالزنا ،وشهد آخران عليه بأنه محصن ،ثم رجعوا بعد إقامة الرجم:
فضمان الدية على شهود الزنا ،ول يجب شيء على شهود الحصان؛ لن الزنا علة الحكم،
والحصان شرط ،والحكم يضاف إلى العلة أو السبب ل إلى الشرط.
وأما بالنسبة لحد القذف :فإن رجع جميع الشهود يحدون حد القذف ،سواء رجعوا بعد القضاء بالرجم
أو قبل القضاء.
وإن رجع أحد الشهود بالزنا بعد الرجم :فإنه يحد حد القذف،؛ لن شهادته صارت قذفا بإقراره،
ويغرم ربع الدية ،ويتحمل ثلثة أرباع الدية الباقية الشهود الثلثة الخرون.
-------------------------------
( )1فتح القدير 95/6 :وما بعدها ،البدائع ،285/6 :الشرح الكبير.207/4 :
( )2مغني المحتاج ،457/4 :المهذب ،340/2 :المغني.247/9 :
( )8/193
وإن رجع واحد من الشهود بعد قضاء الحاكم بالرجم وقبل إقامة الحد ،فإنهم يحدون جميعا عند أبي
حنيفة وأبي يوسف؛ لن رجوعه قبل إقامة الحد بمنزلة رجوعه قبل القضاء بالحد .وعند محمد :يحد
الراجع وحده استحسانا؛ لن كلم الشهود اعتبر شهادة بدليل القضاء بموجبه ،فل ينقلب قذفا إل
بالرجوع ،ولم يرجع واحد منهم ،فينقلب كلمه خاصة قذفا ،فلم يؤثر بالنسبة للباقين ،فيظل كلمهم
شهادة.
واتفق أئمة الحنفية ما عدا زفر على أنه إذا رجع أحد الشهود قبل القضاء بالرجم ،فإن الشهود جميعا
يحدون حد القذف؛ لن كلمهم ل يعتبر شهادة بالزنا إل بقرينة القضاء به (. )1
أما أثر الرجوع عن الشهادة في حكم القاضي :فإن رجع الشهود قبل الحكم ،امتنع على القاضي الحكم
بشهادتهم ،وإن رجعوا عن شهادة في زنى ،حدّوا حد القذف .وإن رجعوا بعد إصدار الحكم ،فإن كان
قبل استيفاء الحق المالي لم يستوف من المقضي عليه ،وإن كان عقوبة لم تستوف من المتهم.
وإن رجعوا بعد استيفاء الحق لم ينقض الحكم ،لتأكد المر وتوفير الثقة بأحكام القضاة ،واتصاف
الشهود بالفسق ،والفاسق ل ينقض الحكم بقوله ،فإن كان المقضي به مالً ،غَرِم الشهود المال
المستوفى من المحكوم عليه؛ لتسببهم في تغريمه ،وإن كان المقضي به قصاصا ،اقتص منهم عند
جماعة ،ووجب عليهم الدية المغلظة عند جماعة أخرى كما تقدم .وإن كان المقضي به حدا عزّروا،
وإن شهدوا بطلق وفرّق القاضي بين الزوجين ،وجب عليهم عند الشافعي مهر المثل للزوج ،لنه
بدل ما فوتوه عليه ،وعليهم عند الحنفية الزائد عن مهر المثل كما تقدم ،ول ضمان عليه عند الحنابلة
( . )2
-------------------------------
( )1راجع البدائع.289/6 :
( )2المغني.250/9 :
( )8/194
( )8/195
( )8/196
مسلم ،فلو لم تقبل شهادتهم عند ترافعهم وتحاكمهم إلينا ،لدى ذلك إلى تظالمهم وضياع حقوقهم.
وللواحد منهم أن يزوج ابنته وأخته ،ويلي مال ولده ،وقد أجاز ال شهادة الكفار على المسلمين في
السفر في الوصية للحاجة ،وحاجتهم إلى قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم بكثير من حاجة
المسلمين إلى قبول شهادتهم عليهم.
والكافر قد يكون عدلً في دينه بين قومه ،صادق اللهجة عندهم ،فل يمنعه كفره من قبول شهادته
حلّ نسائهم ،وذلك يستلزم الرجوع إلى
عليهم إذا ارتضوه .وقد أباح ال معاملتهم ،وأكل طعامهم ،و ِ
أخبارهم قطعا ،فإذا جاز لنا العتماد على خبرهم في أمر الحلل والحرام ،فلن نرجع إلى أخبارهم
في معاملتهم أولى وأحرى.
وأما رفض قبول شهادة الحربي على الذمي أو على الحربي من دار أخرى ،فلنقطاع الولية بينهما.
- ً 2وقال الجمهور غير الحنفية :ل تقبل شهادة غير المسلمين مطلقا ،سواء اختلفت مللهم أم اتفقت.
ونقل ابن القيم عن مالك :أنه تجوز شهادة الطبيب الكافر حتى على المسلم للحاجة .واستدلوا بأوجه
هي:
الول ـ اشترط ال تعالى العدالة لقبول الشهادة في قوله{ :وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلق]2/65:
وغير المسلم ليس بعدل ،واشترط أن يكون الشهود من المسلمين ،في قوله { :منكم} [الطلق]2/65:
وفي قوله{ :ممن ترضون من الشهداء} [البقرة ]282/2:وقوله{ :واستشهدوا شهيدين من رجالكم}
[البقرة ]282/2:وآيات كثيرة أخرى .وغير المسلم ليس منا ول من رجالنا ول من المرضيين عندنا.
الثاني ـ إن ال تعالى وصف الكفار بالكذب على ال وبالفسق ،ول شهادة لكاذب ول فاسق ،ومن
كذب على ال ،فهوأولى أن يكذب على مثله من إخوانه وأقرب ،كما قال الشافعي.
الثالث ـ إن قبول شهادتهم يؤدي إلى إلزام القاضي بشهادتهم ،ول يجوز أن يلزم المسلم بشهادة
الكافر.
الرابع ـ إن في قبول شهادتهم إكراما لهم ،ورفعا لمنزلتهم وقدرهم ،ورذيلة الكفر تحول دون
إكرامهم.
والراجح لدي رأي الحنفية لقوة أدلتهم ،ولن ال لم يمنع قبول قول الكفار على المسلمين للحاجة،
بنص القرآن ،ولم يمنع ولية بعضهم على بعض ،والقاضي ملزم بالقضاء الحق عند ظهور الحجة
الصادقة ،وأما وصفهم بالكذب والفسق فهو بسبب ذات العقيدة ل لمجرد المعاملة ،ول يعد قبول
شهادتهم إكراما لكفرهم ،فهذا من جملة المصالح التي ل غنى عنها.
( )8/197
( )8/198
( )8/199
واليمين مشروعة بآيات كثيرة في القرآن ،منها قوله تعالى{ :ل يؤاخذكم ال باللغو في أيمانكم ،ولكن
يؤاخذكم بما عقّدتم اليمان} [المائدة ]89/5:وقد أمر ال تعالى نبيه أن يقسم على الحق في ثلثة
مواضع من القرآن ،وال تعالى ل يشرع محرما.
ومشروعة بأحاديث كثيرة أيضا ،منها قوله صلّى ال عليه وسلم « :لو يعطى الناس بدعواهم لدعى
رجال دماء رجال وأموالهم ،ولكن اليمين على المدعى عليه» وفي رواية البيهقي« :ولكن البينة على
المدعي ،واليمين على من أنكر» (. )1
ومنها حديث يحذر من الحلف الكاذب ليقتطع به مال أخيه ،ويدل على ما فيه من إثم كبير ،وهو من
الكبائر ،أخرج أصحاب الكتب الستة عن الشعث بن قيس ،قال :كان بيني وبين رجل ابن عم لي
خصومة في بئر ،فاختصمنا إلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،فقال« :بيّنتك أو يمينه» قلت:إذن
يحلف ول يبالي ،فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم« :من حلف على يمين هو فيها فاجر ،ليقتطع
بها مال امرئ مسلم ،لقي ال ،وهو عليه غضبان» فأنزل ال تصديق ذلك{ :إن الذين يشترون بعهد
ال وأيمانهم ثمنا قليلً ،أولئك ل خلق لهم في الخرة ،ول يكلمهم ال ،ول يزكيهم ،ولهم عذاب أليم}
[آل عمران .]77/3:وحلف عمر لبي بن كعب على نخيل ،ثم وهبه له ،وقال :خفت إن لم أحلف أن
يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم ،فتصير سنّة.
-------------------------------
( )1حديث حسن رواه البيهقي عن ابن عباس ،وبعضه في الصحيحين.
( )8/200
وأما المحلوف به :فقد اتفق الفقهاء على أن اليمين المنعقدة هي القسم بال تعالى ،أو بصفة من صفاته
مثل :وال ،ورب العالمين ،والحي الذي ل يموت ،ومَن نفسي بيده ،أو وعزة ال وعظمته ،ول يجوز
الحلف بغير ال تعالى ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :أل إن ال ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ،من كان
حالفا ،فليحلف بال أو ليصمُت» قال عمر« :فوال ما حلفت بها منذ سمعت رسول ال صلّى ال عليه
وسلم نهى عنها ذاكرا ول آثرا» ( )1أي حاكيا .ولقوله عليه السلم أيضا« :من حلف بغير ال فقد
أشرك» وفي لفظ« :فقد كفر» ( )2وقوله فيما رواه النسائي« :ل تحلفوا إل بال ،ول تحلفوا إل وأنتم
صادقون» .
واكتفى الجمهور غير المالكية بلفظ الجللة فقط ،لقوله تعالى{ :يحلفون بال لكم ِليُرضوكم} [التوبة:
{ ]62/9يحلفون بال :ما قالوا} [التوبة ]74/9:ول قتصاره صلّى ال عليه وسلم على ذلك في يمينه
بغزو قريش قائلً« :وال لغزون قريشا» (. )3
وقال المالكية ( : )4يضم إليه عبارة «ل إله إل هو» لقوله صلّى ال عليه وسلم لرجل حلّفه« :احلف
بال الذي ل إله إل هو» (. )5
واليمين تنعقد بمجرد النطق بها ولو هزلً؛ لنها من الحوال التي يستوي فيها الجد والهزل ،ل يقبل
قول الحالف في القسم :لم أرد اليمين ،ل في الظاهر ،ول فيما بينه وبين ال تعالى (. )6
-------------------------------
( )1أخرجه الجماعة إل النسائي عن ابن عمر (نصب الراية.)295/3 :
( )2رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم.
( )3رواه أبو داود عن ابن عباس (نيل الوطار.)220/8 :
( )4المبسوط ،18/16 :القوانين الفقهية :ص ،306المهذب ،322/2 :كشاف القناع،228/6 :
المغني.226/9 :
( )5رواه أبو داود بسند صالح والنسائي.
( )6المحلي على المنهاج.270/4 :
( )8/201
ول تنعقد اليمين اتفاقا إذا قال :إن شاء ال تعالى ،بشرط كونه متصلً باليمين من غير سكوت عادي؛
لن الستثناء يزيل حكم اليمين ( ، )1لقوله صلّى ال عليه وسلم « :من حلف ،فقال :إن شاء ال ،لم
يحنث» (. )2
ول تدخل النيابة في اليمين ،ول يحلف أحد عن غيره ،فلو كان المدعى عليه صغيرا أو مجنونا ،لم
يحلف عنه ،ووقف المر حتى يبلغ الصبي ،ويعقل المجنون ،ولم يحلف عنه وليه (. )3
المطلب الثاني ـ صيغة اليمين القضائية وصفتها والنية فيها واليمين بالطلق :
صيغة اليمين :هي عند الجمهور أن يقول الحالف :وال ،أو بال ،أو ورب العالمين ،أو والحي الذي
ل يموت ،أو ومَن نفسي بيده ،ونحو ذلك من كل اسم ل مختص به سبحانه وتعالى كالله ،والرحمن،
وخالق الخلق ،أو يحلف بصفة من صفات ال الذاتية مثل :وعظمة ال أو عزته أو كبريائه أو كلمه
أو مشيئته أو علمه أو قدرته أو حقه،إل أن يريد بالحق العبادات ،وبالعلم والقدرة المقدور والمعلوم،
وبالبقية ظهور آثارها ،فل تكون يمينا لحتمال اللفظ .والحلف بكتاب ال أو بالقرآن أو بالمصحف
يمين باتفاق المذاهب الربعة ( ، )4والحلف بالتوراة أو النجيل ونحوهما من كتب ال المنزلة
كالزبور يمين في رأي الحنابلة؛ لن إطلق اليمين ينصرف إلى المنزَل من عند ال ،دون المبدّل.
-------------------------------
( )1المغني.237/9 :
( )2رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الوطار.)219/8 :
( )3المغني 234/9 :وما بعدها ،المهذب.302/2 :
( )4بجيرمي الخطيب 300/4 :وما بعدها ،كشاف القناع 228/6 :وما بعدها.
( )8/202
وقال المالكية :صيغة اليمين لكل حالف في جميع الحقوق على المشهور :هي «بال الذي ل إله إل
هو» .وأما يمين الكافر :فاتفق أكثر الفقهاء ( )1على أن الكافر يحلف بال كالمسلم؛ لن اليمين ل
تنعقد بغير اسم ال ،للحديث المتقدم« :من حلف بغير ال فقد أشرك» ولما رواه البخاري« :من حلف
بغير ملة السلم فهو كما قال» .وسيأتي الكلم في تغليظ اليمين عليه ،فتغلظ عليه في رأي الحنابلة
والشافعية.
وأما صفة اليمين أو الحلف على البت ونفي العلم( : ) 2فقد اتفق الفقهاء ( )3على أن الحالف يحلف
على البت والقطع على فعل نفسه ،سواء في حال الثبات أم النفي ،فيقول مثلً :وال ما بعت أو ما
اشتريت ،أو لقد بعت أو اشتريت؛ لن النسان أعلم بأحواله وأفعاله ،فتكون يمينه حجة قاطعة.
فاليمان كلها على البت والقطع ،إل على نفي فعل الغير ،فإنها على نفي العلم؛ لحديث ابن عباس
المتقدم« :أن النبي صلّى ال عليه وسلم استحلف رجلً ،فقال له :قل :وال الذي ل إله إل هو ،ماله
عليك حق» وروى الشعث بن قيس« :أن رجلً من كِنْدة ورجلً من حضرموت اختصما إلى النبي
صلّى ال عليه وسلم في أرض من اليمن ،فقال الحضرمي :يا رسول ال ،إن أرضي اغتصبنيها أبو
هذا ،وهي في يده ،قال :هل لك بيّنة؟ قال :ل ،ولكن أحلفه ،وال العظيم ما يعلم أنها أرضي
اغتصبنيها أبوه ،فتهيأ الكندي لليمين» (. )4
-------------------------------
( )1البدائع 227/6 :وما بعدها ،تبيين الحقائق ،109/4 :القوانين الفقهية :ص ،306مغني المحتاج:
،473/4المهذب ،322/2 :كشاف القناع 228/6 :وما بعدها.
( )2الحلف على البت :أي الحلف على القطع والجزم .ونفي العلم :هو نفي اليقين أنه ل يعلم كذا،
فيحلف بال ما له علي شيء.
( )3المغني ،234-230/9 :المهذب.322/2 :
( )4رواه أبو داود.
( )8/203
ففي حال الثبات :يحلف على فعل نفسه أنه فعل كذا ،وفي حال النفي :يحلف أنه ما فعل كذا .وأما ما
يتعلق بفعل غيره ،فإن كان إثباتا ،مثل أن يدعي أنه أقرض أو باع ،ويقيم شاهدا بذلك ،فإنه عند
الجمهور غير الحنفية يحلف مع شاهده على البت والقطع،فيقول وال إنه باع؛ لن حال الثبات
يستطيع النسان الطلع عليها .وإن كان على نفي العلم مثل أن يدعى عليه دين أو غصب أو جناية،
فإنه يحلف على نفي العلم ل غير ،فيقول :وال ل أعلم أنه مدين ،أو ل أعلم أن له وارثا غير فلن،
بدليل قصة الحضرمي السابقة.
وقال الحنفية والمامية ( : )1يحلف الشخص في فعل غيره على نفي علمه مطلقا ،سواء أكان إثباتا أم
نفيا ،لما ثبت في الصحيح أن النبي صلّى ال عليه وسلم حلف اليهود في القسامة« :بال ما قتلتم ول
علمتم له قاتلً» ولن النسان ل علم له بفعل غيره ول يدرك حقيقةتصرفاته ،فيحلف على نفي العلم.
النية في اليمين :اليمين غير القضائية التي يحلفها الحالف باختياره ،أو يطلبها شخص منه دون أن
يكون له عليه حق اليمين ،تكون على نية الحالف في كل الحوال ،ويجوز للحالف التورية في يمينه،
بأن يقصد فيها غير المعنى المتبادر من اللفظ أو ينوي فيها خلف الظاهر ،للحديث المشهور الذي
رواه الجماعة إل ابن ماجه عن عمر« :إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » وقد حكى
القاضي عياض الجماع على أن الحالف من غير استحلف ومن غير تعلق حق بيمينه ،له نيته ويقبل
قوله.
-------------------------------
( )1البحر الرائق ،217/7 :المختصر النافع في فقه المامية :ص .282
( )8/204
أما اليمين القضائية الموجهة من القاضي أو نائبه لفصل الخصومة والنزاع ،فتكون باتفاق الفقهاء ()1
على نية المستحلف وهو القاضي ،فل يصح فيها التورية ،ول ينفع الستثناء ،لقوله صلّى ال عليه
وسلم « :يمينك على ما يصدّقك به صاحبك» وفي لفظ« :اليمين على نية المستحلف» ( . )2قال ابن
تيمية في منتقى الخبار :وهو محمول على المستحلف المظلوم .وقال النووي :أما إذا حلف بغير
استحلف ،وورّى ،فتنفعه التورية ،ول يحنث ،سواء حلف ابتداء من غير تحليف ،أو حلفه غير
القاضي أو غير نائبه في ذلك ،ول اعتبار بنية المستحلف غير القاضي.
واشترط الشافعية والحنابلة ( )3شرطين في كون اليمين على نية المستحلف:
ً - 1أل يحلفه القاضي بالطلق أو العتاق.
ً - 2أل يكون القاضي ظالما أو جائرا في طلب اليمين.
فإن حلفه بالطلق أو علم منه نفسه أنه على الحق ،جازت التورية؛ لن اليمين تكون غير فاجرة.
اليمين بالطلق أمام القاضي :قال جمهور الفقهاء على المفتى به عند الحنفية :إن اليمين بالطلق
لثبات الحقوق وإنهاء الخصومات أمام القاضي حرام؛ لن اليمين ل تكون إل بال ،ولن القسم
لتعظيم المقسم به ،ول يجوز تعظيم غير ال .فإن طلبه الخصم ،لم يجبه القاضي؛ لنه حرام.
وأجاز متأخرو الحنفية الحلف بالطلق إذا طلبها الخصم وألح فيها ،أو كان الحالف ل ينزجر إل بها،
لفساد الزمان ،وقلة المبالة بالحلف بال تعالى.
ل بقول عمر بن عبد العزيز رحمه ال « :تحدث
وأجاز بعض المالكية الحلف بالطلق للتغليظ ،عم ً
للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» ولن الحاجة ماسة إليه .وأفتى المام مالك بعدم وقوع
طلق المكره حينما أراد أوائل الخلفاء العباسيين بأن يوثقوا بيعة الناس لهم باليمان والطلق والعتاق،
ويكرهون الناس على ذلك ،وكان مالك يحدث بحديث« :ليس على مستكره طلق» مما أغضب
المنصور.
-------------------------------
( )1القوانين الفقهية :ص ،306مغني المحتاج ،475/4 :كشاف القناع.242/6 :
( )2اللفظ الول رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي .واللفظ الثاني رواه مسلم وابن ماجه ،عن
أبي هريرة (نيل الوطار.)218/8 :
( )3مغني المحتاج ،475/4 :كشاف القناع.242/6 :
( )8/205
( )8/206
واستحب الشافعية تغليظ اليمين إذا كانت يمين المدعي وهي اليمين المردودة أو مع الشاهد واليمين،
أو يمين المدعى عليه وإن لم يطلب الخصم تغليظها ،وذلك فيما ليس بمال ،ول يقصد به المال ،كنكاح
وطلق ولعان وقصاص ،ووصاية ووكالة ،وفي المال البالغ نصاب الزكاة ،ل فيما دونه ،لخطورته
بدليل وجوب المواساة فيه ،وعدم الهتمام بما دونه.
أما التغليظ بالزمان والمكان :فقد اختلف فيه الفقهاء على رأيين (: )1
- 1فقال الحنابلة :إذا كان الحالف مسلما ،فيحلفه القاضي بال تعالى من غير تغليظ ،اكتفاء بما ورد
في القرآن الكريم{ :فآخران يقومان مقامهما ،من الذين استحق عليهم الوليان ،فيقسمان بال لشهادتنا
أحق من شهادتهما} [المائدة ]107/5:ولم يذكر مكانا ول زمنا ،ول زيادة في اللفظ.
وقال الحنفية :إن شاء القاضي حلف الشخص من غير تغليظ ،لما روي أن رسول ال صلّى ال عليه
وسلم حلف ركانة بن عبد يزيد بال عز وجل :ما أردت البتة ،ثلثا؟ وإن شاء غلظ؛ لن الشرع ورد
بتغليظ اليمين في الجملة؛ لنه صلّى ال عليه وسلم حلف ابن صوريا العور ،وغلظ.
أما الكافر غير المسلم فتغلظ يمينه عند الحنابلة ،وإن شاء القاضي عند الحنفية والشافعية وفي قول
مرجوح عند المالكية ،فإن كان الحالف يهوديا ،أحلفه « بال الذي أنزل التوراة على موسى» زاد
الشافعية« :ونجاه من الغرق» وإن كان نصرانيا ،أحلفه «بال الذي أنزل النجيل على عيسى» وإن
كان مجوسيا أو وثنيا أحلفه «بال الذي خلقه وصوره» .وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقّوْن أن
يحلفوا فيها كاذبين ،حلّفوا فيها.
-------------------------------
( )1المراجع السابقة.
( )8/207
- 2وقال المالكية والشافعية :يجوز تغليظ اليمين بالزمان والمكان مطلقا للمسلم وغير المسلم ،ثم
اختلفوا في التغليظ بالمكان ،فقال الما لكية :تغلظ اليمين بالمكان في القسامة واللعان ،ويحلف الحالف
إن كان في المدينة على منبر رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،وإن كان في غير المدينة يحلف في
مساجد الجماعات ،ول يشترط الحلف على المنبر في سائر المساجد ،ويحلف قائما.
وتغليظ اليمين بالزمان يكون باللعان والقسامة فقط دون غيرهما ،فيكون بعد صلة العصر.
وقال الشافعية :يحلف المسلم في مكة بين الركن والمقام ،وفي المدينة عند منبر رسول ال صلّى ال
عليه وسلم ،وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر ـ خلفا للمالكية ـ وفي بيت المقدس عند
الصخرة .وتغلظ في الزمان بالستحلف بعد العصر .وهذا هو الراجح لدي لقوة أدلتهم .ويندب عندهم
تغليظ يمين المدعي (اليمين المردودة أو مع الشاهد واليمين) ويمين المدعى عليه وإن لم يطلب الخصم
تغليظها فيما ليس بمال ول يقصد به المال كنكاح وطلق ولعان وقود وعتق وإيلد ووصاية ووكالة،
وتغلظ في مال يبلغ نصاب الزكاة.
واستدلوا على جواز التغليظ بالكتاب والسنة والثار والقياس .أما الكتاب :فقوله تعالى{ :تحبسونهما
من بعد الصلة ،فيقسمان بال } [المائدة ]106/5:والمراد من بعد صلة العصر ،كما قال ابن عباس
وجماعة من التابعين .وأما السنة :فقوله صلّى ال عليه وسلم « :ل يحلف أحد على يمين آثمة عند
منبري هذا ،ولو على سواك أخضر ،إل تبوأ مقعدَه من النار ،أو وجبت له النار» (. )1
-------------------------------
( )1رواه البيهقي ومالك وأحمد وأبو داود والنسائي عن جابر.
( )8/208
وما روى عبد الرحمن بن عوف« :أنه رأى قوما يحلفون بين المقام والبيت ،فقال :أعلى دم؟ فقالوا:
ل ،فقال :أفعلى عظيم من المال؟ قالوا :ل ،قال :خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام» (. )1
وأما الثار فكثيرة منها :أن عمر رضي ال عنه استحلف رجلً بين الركن والمقام ،عندما قال
لمرأته :حبلك على غار بك .ومنها أن أبا بكر الصديق رضي ال عنه أحلف نفيس بن ملوّح في قتل
على المنبر خمسين يمينا.
وأما القياس :فقد قاسوا التغليظ بالزمان والمكان على التغليظ باللفظ ،والتغليظ في أيمان القسامة
واللعان ،بجامع الزجر في كلٍ ،بل إن التغليظ بالزمان والمكان أشد زجرا ،فجاز بالولى.
المطلب الرابع ـ شروط اليمين :
اشترط الفقهاء بالتفاق ( )2ستة شروط في اليمين القضائية ،واختلفوا في شرطين .أما المتفق عليها
فهي ما يأتي:
ً - 1أن يكون الحالف مكلفا (بالغا عاقلً) مختارا :فل يحلف الصبي والمجنون ،ول تعتبر يمين النائم
والمستكره.
ً - 2أن يكون المدعى عليه منكرا حق المدعي :فإن كان مقرا فل حاجة للحلف.
ً - 3أن يطلب الخصم اليمين من القاضي وأن يوجهها القاضي إلى الحالف :لن النبي صلّى ال عليه
وسلم استحلف رُكانة بن عبد يزيد في الطلق ،فقال« :آل ما أردت إل واحدة» فقال ركانة« :ال ما
أردت إل واحدة» (. )3
ً - 4أن تكون اليمين شخصية :فل تقبل اليمين النيابة ،لصلتها بذمة الحالف ودينه ،فل يحلف الوكيل
أو ولي القاصر ،ويوقف المر حتى يبلغ.
ً - 5أل تكون في الحقوق الخالصة ل تعالى كالحدود والقصاص.
ً - 6أن تكون في الحقوق التي يجوز القرار بها :للحديث المتقدم« :واليمين على من أنكر» فل
تجوز اليمين في الحقوق التي ل يجوز القرار بها ،فل يحلف الوكيل والوصي والقيم؛ لنه ل يصح
إقرارهم على الغير.
-------------------------------
( )1رواه الشافعي والبيهقي.
( )2البحر الرائق ،202/7 :البدائع 226/6 :وما بعدها ،بداية المجتهد 455/2 :وما بعدها ،الشرح
الكبير مع الدسوقي 145/4 :وما بعدها ،القوانين الفقهية :ص ،306ط فاس ،مغني المحتاج475/4 :
وما بعدها ،كشاف القناع 232/6 :وما بعدها ،المغني.234/9 :
( )3رواه البيهقي وأبو داود والترمذي.
( )8/209
واشترط أبو حنيفة أيضا أن يكون المدعى به مما يحتمل البذل ،فل تصح اليمين في النسب والنكاح
والرجعة والفيء في اليلء ونحوها.
وأما المختلف فيه من الشروط فهو اثنان:
ً - 1العجز عن البينة أو فقدها عند الجمهور غير الشافعية :فإذا كانت البينة حاضرة في مجلس
القضاء ،فل يصح تحليف المدعى عليه ،وكذلك ل يصح التحليف عند أبي حنيفة إذا كانت البينة في
بلد القاضي .وأجاز الصاحبان والحنابلة التحليف حينئذ .ودليلهم على هذا الشرط الحديث السابق:
«بيّنتك وإل فيمينه» فإن حق المدعي في اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة.
ولم يشترط الشافعية هذا الشرط ،عملً بحديث« :البينة على المدعي واليمين
على من أنكر» فاليمين حق المدعي وواجبة على المدعى عليه ،ولنه يحتمل أن يقر المدعى عليه،
فيستغني المدعي عن إقامة البينة.
ً - 2الخلطة بين المتخاصمين بالتعامل في رأي المالكية :حتى ل يتطاول السفلة على أصحاب المكانة
والفضل ،باستدعائهم إلى المحاكم ،وطلب اليمين منهم أوالحكم عليهم بالنكول ،وتثبت الخلطة بشهادة
اثنين على التعامل مرتين أو ثلثا .واشترطوا في غير المال وجود شاهد واحد حتى يصح توجيه
اليمين ،كالطلق والرجعة والخلع والوكالة والوصية والنسب والسلم والردة.
واستثنوا من اشتراط الخلطة أو وجود الشاهد لتوجه اليمين ثماني مسائل هي :صاحب الصنعة مع
عماله ،والمتهم بين الناس ،والضيف في ادعائه أو الدعاء عليه ،والمسافر مع رفقته في الوديعة
وغيرها ،وادعاء اليداع عند شخص ،وادعاء شيء معين كثوب بعينه ،وادعاء مريض في مرض
موته على غيره بدين ،وادعاء بائع على شخص حاضر المزايدة أنه اشترى سلعته بكذا والحاضر
ينكر الشراء ،فتتوجه اليمين في هذه الحالت ،ولو لم تثبت خلطة.
ولم يشترط هذا الشرط باقي المذاهب ،وهو الراجح لدي ،لحديث« :واليمين على من أنكر» .
( )8/210
( )8/211
أجازها المالكية والزيدية والظاهرية وابن أبي ليلى وابن القيم ،لفساد الزمان وضعف الوازع الديني،
ومنعها الجمهور (. )1
- ً 2يمين المدعى عليه :وتسمى اليمين الصلية أو الواجبة أو الدافعة أو الرافعة .وهي التي يحلفها
المدعى عليه بطلب القاضي بناء على طلب المدعي لتأكيد جوابه عن الدعوى .وهي حجة المدعى
عليه للحديث المتقدم« :ولكن اليمين على المدعى عليه» (. )2
- ً 3يمين المدعي :وهي عند الجمهور غير الحنفية اليمين التي يحلفها المدعي لدفع التهمة عنه ،أو
لثبات حقه ،أو لرد اليمين عليه .وهي ثلثة أنواع (: )3
الول ـ اليمين الجالبة :وهي التي يحلفها المدعي لثبات حقه ،إما مع شهادة شاهد واحد ،وهي اليمين
مع الشاهد ،وإما بسبب نكول المدعى عليه عن اليمين الصلية وردها إلى المدعي ليحلف ،وهي
اليمين المردودة ،وإما لثبات تهمة الجناية على القاتل ،وهي أيمان القسامة ،وإما لنفي حد القذف عنه
وهي أيمان اللعان ،وإما لتأكيد المانة ،فالقول قول المين بيمينه كالوديع والوكيل ،إذا ادعى الرد على
من ائتمنه ،إل المرتهن والمستأجر والمستعير ،فل يصدقون إل بالبينة؛ لن وجود الشيء في يدهم أو
حيازتهم كان لمصلحة أنفسهم.
الثاني ـ يمين التهمة :وهي التي توجه على المدعي بقصد رد دعوى غير محققة على المدعى عليه،
قال بها المالكية والزيدية.
الثالث ـ يمين الستيثاق أو الستظهار :وهي التي يحلفها المدعي بطلب القاضي لدفع التهمة عنه بعد
تقديم الدلة المطلوبة في الدعوى .فهي تكمل الدلة كالشهادة ،ويتثبت بها القاضي.
-------------------------------
( )1الشباه والنظائر لبن نجيم :ص ،92ط 1322هـ ،فتح العلي المالك للشيخ عليش،311/2 :
مخطوط الحاوي الكبير للماوردي/13 :ق 48ب 49 ،أ ،الطرق الحكمية لبن قيم :ص 142وما
بعدها ،البحر الزخار ،18/5 :المحلى ،462/9 :مغني المحتاج.476/4 :
( )2البدائع ،225/6 :تهذيب الفروق ،151/4 :الفرق ،240 :مغني المحتاج ،468/4 :المغني:
،224/9الطرق الحكمية :ص ،147 ،143 ،113القوانين الفقهية :ص .306
( )3المراجع السابقة.
( )8/212
ويلجأ إليها القاضي عادة إذا كانت الدعوى بحق على غائب أو ميت ،ويحتمل أن يكون المدعي قد
استوفى دينه من الميت أو الغائب أو أبرأه عنه ،أو أخذ رهنا مقابله ،وليس للشاهدين علم بذلك.
فيحلّف القاضي المدعي؛ لن البينة ل تفيد إل غلبة الظن ،فيستحق ما ادعاه بالبينة واليمين معا ،فهي
يمين القضاء بعد ثبوت الحق على الغائب والمحجور ،وقد أجيزت استحسانا بسبب احتمال الشبهة
والشك عند غياب المدين.
وقد أيدها ابن القيم قائلً :وهذ القول ليس ببعيد من قواعد الشرع ،ول سيما مع احتمال التهمة .وكان
علي يستحلف المدعي مع شهادة الشاهدين .وكان شريح يستحلف الرجل مع بينته ،وقال الوزاعي
حيّ :يستحلف مع بينته وهو قول النخعي والشعبي وابن أبي ليلى أيضا (. )1
والحسن بن َ
أحوال يمين الستظهار :
أجاز الفقهاء هذه اليمين في أحوال استثنائية للضرورة أو الحاجة ،فقال المالكية ( : )2توجه هذه
اليمين في نفقة الزوجة ،وفي الدعوى على الغائب واليتيم والوقف والمساكين وفي كل وجوه البر،
وعلى بيت المال ،وعلى كل من استحق شيئا من الحيوان وغيره .ويحلف المدعي أيضا إذا شهد له
اثنان على خط غريمه ،وفي شهادة التسامع والستفاضة ،والبينة على الغريم المجهول الحال بكونه
معدما.
-------------------------------
( )1الطرق الحكمية :ص 145وما بعدها ،المبسوط ،118/16 :تبصرة الحكام لبن فرحون بهامش
فتح العلي المالك للشيخ عليش 275/1 :وما بعدها.
( )2تبصرة الحكام ،المكان السابق.
( )8/213
وقال الحنفية ( : )1تجب يمين الستظهار في الدعاء على الميت ،ولو بدون طلب المدعى عليه،
وفي خمس حالت أخرى عند أبي حنيفة ومحمد بطلب المدعى عليه ،وبدون طلب عند أبي يوسف:
وهي حالة الستحقاق للمعقود عليه :فإذا أثبت المدعي استحقاق مال ،حلف على عدم بيعه أو هبته أو
تمليكه .وفي الشفعة :أنه طلبها بمجرد علمه بها ولم يبطلها بوجه ما ،وفي نفقة الزوجة على زوجها
الغائب أنه لم يطلقها ولم يترك لها نفقة .وفي رد المبيع بالعيب أنه لم يرض به ،وفي خيار البلوغ
للبكر أنها اختارت الفرقة مباشرة.
وقال الشافعية ( : )2توجه يمين الستظهار بدون طلب الخصم في الدعوى على الميت والغائب
والصغير والمحجور والسفيه والمجنون والمغلوب على عقله ،ومع الشاهد واليمين.
وأجاز الحنابلة في رواية عن أحمد هذه اليمين إذا قامت البينة على الغائب ،أو المستتر في البلد ،أو
الميت ،أو الصبي أو المجنون (. )3
القضاء بالنكول والقضاء بشاهد ويمين المدعي واليمين المردودة :
اتفق الفقهاء على أن المدعي إذا قدم شاهدين على دعواه وقبلت شهادتهما ،حكم له بما ادعى .وعلى
أنه إذا عجز عن البينة وطلب تحليف المدعى عليه ،وحلف ،رفضت دعواه.
-------------------------------
( )1البحر الرائق ،207/7 :الشباه والنظائر لبن نجيم :ص ،95المجلة :م ،1746وقد نصت
المجلة على أربع حالت ليمين الستظهار بل طلب :وهي ادعاء حق في التركة ،الستحقاق ،رد
المبيع بعيب ،الشفعة.
( )2مغني المحتاج 407/4 :وما بعدها ،المهذب 303/2 :وما بعدها.
( )3المحرر في الفقه الحنبلي لبي البركات ،210/2 :الفصاح لبن هبيرة :ص .483
( )8/214
واختلفوا بعدئذ على رأيين فيما إذا نكل المدعى عليه عن اليمين ،هل يقضى للمدعي بنكول صاحبه
عن اليمين ،أم ترد اليمين إلى المدعي ،فيقضى له بيمينه وشاهد واحد يقدمه للشهادة؟ قال الحنفية
والحنابلة :يقضى بالنكول في الموال ،وقال الجمهور :ل يقضى بالنكول ،وترد اليمين على المدعي.
الرأي الول ـ للحنفية والحنابلة في المشهور عندهم :
قال الحنفية والحنابلة ( : )1إذا نكل المدعى عليه عن اليمين ،فإنه يقضى عليه بالمال ،لكن ينبغي
للقاضي أن يقول له ( :إني أعرض عليك اليمين ثلث مرات ،فإن حلفت وإل قضيت عليك ) لحتمال
خشية القضاة ومهابة المجلس في المرة الولى .ول يقضى عند الحنفية بالشاهد واليمين ويقضى بها
عند الحنابلة.
ودليلهم على القضاء بالنكول :أن القاضي شريح قضى على رجل بالنكول ،فقال المدعى عليه :أنا
أحلف ،فقال شريح :مضى قضائي .وكانت ل تخفى قضاياه على أصحاب رسول ال صلّى ال عليه
وسلم ،ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر ،فيكون إجماعا منهم على جواز القضاء بالنكول .وقضى عثمان
على ابن عمر بالنكول .ورد عليه عبدا معيبا اشتراه منهم حينما نكل ،ولنه ظهر صدق المدعي في
دعواه عند نكول المدعى عليه ،فيقضى له ،كما لو أقام البينة.
واستدلوا على عدم مشروعية رد اليمين إلى المدعي بالحديث السابق« :البينة على المدعي واليمين
على من أنكر» جعل جنس اليمين على المنكر ،فتشمل كل مدعى عليه.
واستدل الحنفية على عدم مشروعية القضاء بشاهد ويمين بما يأتي من الكتاب والسنة والمعقول.
-------------------------------
( )1البدائع ،230 ،225/6 :تكملة فتح القدير ،155/6 :الطرق الحكمية :ص ،116المغني.235/9 :
( )8/215
- ً 1الكتاب :وهو قوله تعالى{ :واستشهدوا شهيدين من رجالكم ،فإن لم يكونا رجلين ،فرجل
وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة ]282/2:وقوله سبحانه{ :وأشهدوا ذوي عدل منكم}
[الطلق ]2/65:ال سبحانه طلب إشهاد اثنين ولم يذكر الشاهد واليمين ،فقبولهما زيادة على النص،
والزيادة على النص نسخ ،ونسخ القرآن ل يجوز إل بمتواتر أو مشهور ،ول يجوز بخبر الواحد،
وليس خبر رد اليمين متواترا أو مشهورا ،وإنما هو خبر آحاد.
- ً 2السنة :حديث مسلم وأحمد «ولكن اليمين على المدعى عليه» وحديث البيهقي «البينة على
المدعي واليمين على من أنكر» وقوله صلّى ال عليه وسلم لمدعٍ في حديث الجماعة« :شاهداك أو
يمينه» .الحديث الول أوجب اليمين على المدعى عليه فقط ،وجعل كل جنس اليمين على المنكر،
فإذا قبلت يمين من المدعي ،لم تكن جميع حالت اليمين على المنكرين .وكذلك الحديث الثاني جعل
جميع أفراد البينة على المدعي ،وجميع أفراد اليمين على المنكر ،والقسمة والتوزيع تنافي اشتراك
الخصمين فيما تمت فيه القسمة .والحديث الثالث خيّر المدعي بين أمرين ل ثالث لهما إما البينة أو
يمين المدعى عليه.
- ً 3المعقول :إن اليمين تقوم مقام الشاهد الثاني ،ولو جاز ذلك ،لجاز تقديم اليمين كأحد الشاهدين
على الخر ،ولكن ل يجوز تقديمه ،فل يصح أن يكون قائما مقامه.
( )8/216
( )8/217
عباس رضي ال عنهما« :أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» ( )1قال
الشافعي« :وهذا الحديث ثابت ل يرده أحد من أهل العلم ،لو لم يكن فيه غيره ،مع أن معه غيره مما
يشده» وقال الترمذي عنه :حسن غريب ،وقال النسائي :إسناده جيد .وأجمع الصحابة على القضاء
بالشاهد واليمين ،منهم أبو بكر وعمر وعلي وأبي بن كعب.
وهذا هو الرأي الراجح عندي لصحة الحديث وثبوته ،وعده السيوطي متواترا ،ولن الخلفاء الراشدين
حكموا به ،وهو ل يخالف الكتاب العزيز.
مجال القضاء بشاهد ويمين والقضاء بالنكول :
قال المالكية والشافعية وابن القيم ( : )2المواضع التي يحكم فيها بالشاهد واليمين :المال ،وما يقصد
به المال ،كالبيع والشراء وتوابعهما من اشتراط صفة في المبيع ،أو نقد غير نقد البلد ،والجارة
والجعالة ،والمساقاة والمزارعة ،والمضاربة والشركة والهبة ،والوصية لمعين ،أو الوقف عليه.
ومما يثبت بالشاهد واليمين أيضا :الغصوب ،والعواري ،والوديعة ،والصلح ،والقرار بالمال أو ما
يوجب المال ،والحوالة ،والبراء ،والمطالبة بالشفعة وإسقاطها ،والقرض ،والصداق ،وعوض الخلع،
وتسمية المهر ،والوكالة في المال واليصاء به.
وكذا يقضى بهما في الجنايات الموجبة للمال ،كالخطأ ،وما ل قصاص فيه كالهاشمة والمأمومة
والجائفة ،وقتل المسلم الكافرَ ،والحرّ العبد ،والصبيّ والمجنون.
-------------------------------
( )1رواه مسلم وأحمد والشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه .وذكر ابن الجوزي عدد
رواة هذا الحديث بما يزيد على عشرين صحابيا .ورواه أيضا أحمد والترمذي وابن ماجه عن جابر.
ورواه أيضا أحمد والدارقطني والبيهقي ومالك والشافعي عن علي رضي ال عنه ،وأخرجه أبو داود
والترمذي وابن ماجه والشافعي عن أبي هريرة رضي ال عنه .وأخرجه ابن ماجه عن سرّق.
وأخرجه أبو داود والبيهقي والطبراني عن الزبيب بن ثعلبة.
( )2الطرق الحكمية :ص 141وما بعدها ،الشرح الكبير ،147/4 :القوانين الفقهية :ص 300وما
بعدها ،حاشية الشرقاوي ،502/2 :تبصرة الحكام.270/1 :
( )8/218
وأما مجال القضاء بالنكول :فهو عند الحنفية ( )1والحنابلة في الموال ،وأما غير المال وما ل يقصد
به المال كنكاح وطلق ولعان وحد وقصاص ،ووصاية ،ووكالة ،فل يقضى فيه بالنكول ،كما تبين
سابقا ( ، )2لكن المفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين بأنه يقضى بالنكول إل في الحدود
والقصاص واللعان؛ لنه في معنى الحد .ويقضى على السارق لجل المال بالنكول ،فيضمن المال
المسروق ،ول تقطع يده.
المطلب السادس ـ حكم اليمين :
حكم اليمين :هو الثر المترتب على حلفها أمام القاضي ،سواء أكانت من المدعي أم من المدعى
عليه.
- 1حكم يمين المدعي :
يترتب على أداء اليمين من المدعي مع الشاهد عند الجمهور غير الحنفية ثبوت الحق المحلوف عليه،
بناء على الشاهد واليمين معا في الصح عند الشافعية ،وفي المعتمد عند المالكية؛ لن الحاديث
علقت القضاء عليهما معا ،وبناء على الشاهد فقط ،وإنما اليمين للتأكيد والستظهار والحتياط في
رأي الحنابلة؛ لن الشاهد حجة الدعوى ،واليمين من المدعي ليست بحجة على خصمه (. )3
- 2حكم يمين المدعى عليه :
يترتب على حلف اليمين من المدعى عليه باتفاق الفقهاء ( : )4إنهاء النزاع بين المتداعيين وسقوط
الدعوى ،وكذا انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال ،ل مطلقا ،بل مؤقتا إلى غاية إحضار البينة في
رأي الجمهور غير المالكية ،فل تبرأ ذمة المدعى عليه من الحق ،وتظل مشغولة به إلى أن يتمكن
المدعي من إثبات دعواه بوسيلة أخرى من وسائل الثبات.
وقال المالكية :يترتب على يمين المدعى عليه سقوط الدعوى مطلقا ،فليس للمدعي أن يقيم البينة بعد
الحكم باليمين ،إل لعذر كنسيان وعدم علم بالشهادة ،ثم علمه بها ،فتقبل منه ،ويحلف يمينا على عذره.
- 3حكم يمين الستيثاق أو الستظهار :
ليست هذه اليمين دليلً في الثبات ،وإنما هي لزيادة التأكيد والطمئنان وإقناع القاضي بصحة الدلة
المقدمة إليه؛ لن القاضي يوجهها للحتياط في الحكم.
-------------------------------
( )1الدر المختار 442/4 :وما بعدها ،الكتاب مع اللباب 30/4 :وما بعدها.
( )2انظر مجال القضاء بالنكول في بحث الدعوى والبينات .والنكول :المتناع من حلف اليمين،
سواء قال :ل أحلف ،أو أصر على السكوت ،بعد طلب القاضي منه اليمين.
( )3الشرح الكبير مع الدسوقي ،187 ،146/4 :تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك،271/1 :
الوجيز للغزالي ،154/2 :مغني المحتاج ،477/4 :الطرق الحكمية :ص .140-138
( )4البدائع ،229/6 :المبسوط ،119/16 :بداية المجتهد ،454/2 :الشرح الكبير مع الدسوقي:
146/4وما بعدها ،حاشية الشرقاوي ،502/2 :الطرق الحكمية :ص ،112مغني المحتاج.478/4 :
( )8/219
( )8/220
ً - 2واتفق الفقهاء أيضا على جواز اليمين في الموال ،وما يؤول إلى المال ،فيحلّف المدعى عليه
إثباتا ونفيا ،لقوله تعالى{ :إن الذين يشترون بعهد ال وأيمانهم ثمنا قليلً ،أولئك ل خلق لهم في
الخرة ،ول يكلمهم ال ،ول ينظر إليهم يوم القيامة ،ول يزكيهم ،ولهم عذابٌ أليم } [آل عمران:
]77/3وللحديث السابق عند الجماعة« :لو يعطى الناس بدعواهم ،لدعى أناس دماء قوم وأموالهم،
ولكن اليمين على المدعى عليه» .
ً - 3واتفق الفقهاء على جواز التحليف في الجنايات من قصاص وجروح وفي بعض مسائل الحوال
الشخصية .واختلفوا في بعض مسائل هذا النوع على أقوال ثلثة:
أ ـ فقال المالكية :إن التحليف غير جائز في النكاح فقط؛ لنه يجب فيه الشهادة والعلن ،إذا لم
يوجد الشهود لم يصح النكاح ،فل يقبل فيه اليمين لتحقق التهمة والكذب ،ولنه لو أقر بالنكاح ل يثبت
ول يلزم.
( )8/221
ب ـ وقال أبو حنيفة :يستثنى سبع مسائل ل يجوز فيها التحليف وهي النكاح والطلق والنسب،
والفيء في اليلء ،والعتق ،والولء ،والستيلد ،وزاد الحنابلة القود؛ لن القصد من توجيه اليمين هو
النكول عن الحلف ،والقضاء بناء عليه ،والنكول بذل وإباحة وترك للمنازعة في رأي أبي حنيفة،
صياغة عن الكذب الحرام ،وهذه المسائل ل يجوز فيها البذل والباحة ،كما تقدم سابقا ،ولن النكول
في رأي أحمد والصاحبين وإن جرى مجرى القرار ،فليس بإقرار صحيح صريح ،ل يراق به الدم
بمجرده ،ول مع يمين المدعي إل في القسامة لّلوْث .والمفتى به عند الحنفية هو رأي الصاحبين كما
تقدم ،وهو أنه يجوز التحليف في هذه المور إل في الحدود والقصاص واللعان .فإن كان المقصود
من الدعوى في هذه المسائل المال ،فيستحلف المدعى عليه ،ويثبت المال دون النكاح والنسب
والرجعة ،كأن تدعي امرأة على رجل أنه لم يدفع لها نصف المهر قبل الدخول ،أو نفقة العدة بعد
الدخول ،فيحلف.
وعند الحنابلة روايتان أرجحهما أنه ل يستحلف المدعى عليه ،ول تعرض عليه اليمين فيما ليس
بمال ،ول المقصود منه المال :وهوكل ما ل يثبت إل بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح
والطلق والرجعة والعتق والنسب والستيلد والولء والرق؛ لن هذه الحالت ل تثبت إل بشاهدين
ذكرين ،فل تعرض فيها اليمين كالحدود.
( )8/222
جـ ـ وقال الشافعية والصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية ،والشيعة المامية والزيدية والباضية:
يجوز التحليف في هذه المسائل ،ويحلف المنكر في إثباتها أو نفيها ،للحديث السابق عند الترمذي:
«البينة على المدعي ،واليمين على المدعى عليه» يتناول بعمومه كل مدعى عليه ،فإذا لم تتوافر
البينة ،حلف المدعى عليه على إنكاره حق المدعي .وقد حلف النبي صلّى ال عليه وسلم رُكانة بن
ت إل واحدة؟ فقال ركانة:
عبد يزيد على طلق امرأته البتة فيما رواه البيهقي قائلً له :وال ما أرد َ
ت إل واحدة فردها عليه.
وال ما أرد ُ
وهذا الرأي هو الراجح لدي لعموم النصوص وقوة الدلة التي اعتمدوا عليها.
تحليف الشهود اليمين :لجأ القضاة في عصرنا الحاضر بسبب كثرة الناس بدلً عن العمل بمبدأ تزكية
الشهود اللجوء إلى تحليف الشاهد اليمين ،ول مانع من هذا في رأيي ،بدليل تحليف النبي صلّى ال
عليه وسلم رُكانة على ما يريد من تطليق امرأته طلقة واحدة أم أكثر .وقد أخذ بهذا الرأي ابن أبي
ليلى ومحمد بن بشير قاضي قرطبة ،ورجحه ابن نجيم المصري وهو رأي ابن القيم .وأخذت مجلة
الحكام العدلية بذلك ،فنصت المادة ( )1727على أنه:
«إذا ألح المشهود عليه على الحاكم بتحليف الشهود بأنهم لم يكونوا في شهادتهم كاذبين ،وكان هناك
لزوم لتقوية الشهادة باليمين ،فللحاكم أن يحلّف الشهود ،وله أن يقول لهم :إن حلفتم قبلت شهادتكم،
وإل فل» .
( )8/223
( )8/224
والقرار حجة قاصرة على المقر ،ل يتعدى أثره إلى غيره ،لقصور ولية المقر على غيره ،فيقتصر
أثر القرار على المقر نفسه .والقرار أيضا سيد الدلة؛ لنتفاء التهمة فيه ( ، )1والقرار يثبت الملك
في المخبر به.
وأما الشهادة فهي حجة مطلقة ثابتة في حق جميع الناس غير مقتصرة على المقضي عليه ،لذا تسمى
بالبينة لنها مبينة يظهر بها الملك ،وقال الحنفية :البينة أقوى من القرار.
المطلب الثاني ـ ألفاظ القرار :
القرار إما أن يكون بلفظ صريح أو بلفظ ضمني أو دللة (. )2
- 1القرار بلفظ صريح :أن يقول إنسان« :لفلن علي ألف درهم» ؛ لن كلمة (علي) كلمة تفيد
اليجاب واللزام لغة وشرعا ،قال تعالى{ :ول على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلً } [آل
عمران.]97/3:
أو يقول لرجل ( :لي عليك ألف درهم ) فقال الرجل :نعم ،لن كلمتي «نعم ،وأجل» ونحوهما
للتصديق ،قال تعالى { :فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قالوا :نعم} [العراف.]44/7:
أو يقول ( :لفلن في ذمتي ألف درهم )؛ لن ما في الذمة هو الدين ،فيكون إقرارا بالدين.
-------------------------------
( )1راجع المبسوط 184/17 :ومابعدها ،تكملة فتح القدير 279/6 :وما بعدها ،الدر المختار:
،467 ،203/4اللباب ،76/2 :مغني المحتاج ،238/2 :المهذب ،343/2 :المغني ،137/5 :مجمع
الضمانات :ص .)364
( )2المبسوط ،15/18 :البدائع 207/7 :وما بعدها ،المغني ،200/5 :تكملة فتح القدير.296/6 :
اللباب.78/2 :
( )8/225
أو يقول ( :لفلن قبلي ألف درهم ) فهو إقرار بالدين على الرجح؛ لن القبالة هي الكفالة ،قال ال
سبحانه{ :والملئكة قبيلً} [السراء ]92/17:أي كفيلً .والكفالة هي الضمان .قال ال عز وجل:
{وكفلَها زكريا } [آل عمران ]37/3:على قراءة التخفيف :أي ضمن القيام بأمرها ،أو يقول ( :أليس
لي عندك ألف درهم؟ ) قال :بلى ،كان قرارا صحيحا؛ لن ( بلى) جواب للسؤال بحرف النفي ،قال
تعالى{ :ألست بربكم؟ قالوا :بلى} [العراف.]172/7:
ولو قال رجل لخر ( :له في مالي ألف درهم ) فهو إقرار له به في ماله .وهل يكون مضمونا أو
أمانةً؟ اختلف مشايخ الحنفية فيه :فقال الجصاص :إنه يكون إقرارا بالشركة بينه وبينه ،فيكون القدر
المقر به عنده أمانة؛ لنه جعل ماله ظرفا للمقر به ،وهو اللف فيقتضي ذلك الخلط بين ماليهما ،وهو
معنى الشركة.
وقال بعض مشايخ العراق :إن كان مال المقر محصورا ،أي محددا في تجارة معينة ،أو عمل معين،
يكون إقرارا بالشركة ،وإن لم يكن محصورا يكون إقرارا بالدين.
والراجح كما في مختصر القدوري أنه يدل على القرار بالدين كيفما كان المر؛ لن كلمة الظرف
في مثل هذا تستعمل في الوجوب واللتزام ،قال عليه الصلة والسلم« :وفي الركاز الخمس» (. )1
ولو قال رجل لخر ( :له من مالي ألف درهم ) ل يكون إقرارا ،بل يكون هبة ،وإذا كان هبة ل
يملكها المخاطب إل بالقبول والقبض؛ لنه ليس في هذا القول ما يدل عى اللتزام في الذمة؛ لن اللم
في ( له ) للتمليك ،والتمليك بغير عوض هبة.
ولو قال( :له عندي درهم ) فهو وديعة ،لن (عندي) ل تدل على التزام شيء في الذمة ،بل هي كلمة
تفيد الوجود ،وليس لهذا المعنى دللة على اللتزام.
-------------------------------
( )1أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة (راجع نصب الراية.)380/2 :
( )8/226
وكذلك لو قال ( :لفلن معي ،أوفي منزلي ،أو في بيتي ،أو في صندوقي ،أو في كيسي ألف درهم )
فهو وديعة؛ لن هذه اللفاظ ل تدل إل على قيام اليد أو الحيازة ،وهذا المعنى ل يفيد اللتزام في
الذمة ،فلم يكن إقرارا بالدين ،فكانت وديعة ،لتعارف الناس ذلك.
ولو قال( :لفلن عندي ألف درهم عارية) فهو قرض؛ لن (عندي) تستعمل في المانات ،وقد فسرت
بالعارية ،والمعروف أن عارية الدراهم والدنانير تكون قرضا؛ إذ ل يمكن النتفاع بها إل باستهلكها،
وإعارة ما ل يمكن النتفاع به إل باستهلكه ،يكون قرضا في العرف.
وكذلك كل ما يكال أو يوزن :يكون القرار بإعارته إقرارا بالقرض؛ إذ يتعذر النتفاع به إل
باستهلكه.
- 2القرار الضمني أو القرار دللة :قد يكون القرار بلفظ يدل على التزام الشيء ضمنا أو دللة،
مثل أن يقول شخص لغيره( :لي عليك ألف درهم) فيقول :قد قضيتها؛ لن القضاء يدل على تسليم
مثل الواجب الملتزم به في الذمة ،فيقضي سبق اللتزام بهذا المبلغ ،ول يثبت الوفاء إل بالبينة .وكذا
لو قال رجل لخر( :لي عليك ألف درهم ) فقال المخاطب( :أجلني بها)؛ لن التأجيل إنما يكون في
حق واجب ،ولو لم يذكر الضمير في هذا وفيما قبله ،ل يكون إقرارا ،لعدم انصرافه إلى الكلم
المذكور.
وفي دعوى البراء بأن قال( :أبرأتني منها) مثل قوله( :قد قضيتها)؛ لن البراء إسقاط ،وهذا إنما
يكون في مال واجب عليه.
وكذلك دعوى الصدقة والهبة بأن قال( :تصدقت بها علي أو وهبتها لي) كان ذلك أيضا إقرارا منه،
مثل دعوى القضاء؛ لن التمليك بالصدقة أو بالهبة يقتضي أسبقية الوجوب واللتزام.
وكذلك لو قال ( :أجلتك بها على فلن ) يكون إقرارا أيضا؛ لنه يعني تحويل الدين من ذمة إلى ذمة،
وهذا ل يكون بدون التزام.
ولو قال رجل لخر(:لي عليك ألف درهم ) فقال :حقا أو صدقا ،يكون إقرارا؛ لن معناه تصديقه فيما
يدعي عليه.
( )8/227
القرار بالدين المقترن بلفظ آخر :كل ما ذكر إذا كان لفظ القرار مطلقا عن التقييد بشيء آخر ،فإن
اقترن بلفظ القرار لفظ آخر مخالف لمعنى اللفظ الول ،بأن قال( :لفلن علي ألف درهم وديعة)
يكون إقرارا بالوديعة بشرط اتصاله بالقرار كالستثناء؛ لن قوله (وديعة) تغيير لحكم القرار من
كون المال دينا إلى كونه محفوظا أمانة ،وهذا بيان معتبر ،فيصح بشرط كونه موصولً بالكلم السابق
ل منفصلً ،كما هو الشرط في الستثناء.
فإن كان البيان منفصلً عن الكلم السابق ،بأن سكت ،ثم قال :عنيت به الوديعة ،ل يصح بيانه ،ول
يصدق ،ويكون إقرارا بالدين؛ لن بيانه المتأخر خلف ظاهر الكلم السابق ،فل يصدق به على
الغير .ولو قال( :علي ألف درهم وديعة قرضا ،أو وديعة دينا ،أو مضاربة قرضا أو دينا) فهو إقرار
بالدين؛ لن الجمع بين اللفظين في معناهما ممكن ،بأن يكون الشيء في مبدأ المر أمانة ،ثم يتغير
حاله ،فيصير مضمونا ،إذ الضمان قد يطرأ على المانة كالوديعة إذا استهلكت ونحوها ،والنسان
غير متهم على نفسه في القرار بالضمان.
ولو قال( :لفلن عندي أو معي ألف درهم قرضا) فهو إقرار؛ لنه بيان معتبر دال على أن وجود
اللف عنده ليس أمانة ،وإنما دينا مضمونا.
ولو قال( :عندي كذا) وأعني به القرار :صُدّق ،وإن كان كلمه منفصلً؛ لن هذا إقرار على نفسه،
فل يتهم النسان فيه.
ولو قال( :له من مالي ألف درهم ل حق لي فيها) فهو إقرار بالدين؛ لن اللف التي ل حق فيها
تكون دينا إذ لو كانت هبة لكان له فيها حق.
( )8/228
القرار المكتوب :لو ادعى رجل على آخر مالً ،وأخرج بذلك خطا بخط يده على إقرار له بالمال،
وأنكر المدعى عليه أنه خطه ،فاستكتب ،فكتب ،فكان بين الخطين مشابهة ظاهرة دالة على أنهما خطا
كاتب واحد ،قال أئمة بخارى :إنه حجة يقضى بها ،وقد نص محمد في المبسوط على أنه ل يكون
حجة؛ لنه لو قال( :هذا خطي وأنا كتبته غير أنه ليس علي هذا المال) :ل يلزمه شيء ،فهذا أولى.
ولو كتب بخطه صكا فقيل له :تشهد به؟ فقال :نعم ،فيكون إقرارا ،ولو لم يقل شيئا :ل يكون إقرارا.
ويعمل بدفتر السمسار والصراف والبياع؛ لن كل واحد من هؤلء ل يكتب في دفتره إل ماله وعليه
( . )1
والخلصة :يشترط في صيغة القرار لفظ صريح أو كناية يدل على اللتزام بالمقر به ،وفي معنى
اللفظ الصريح الكتابة مع النية ،وإشارة الخرس المفهمة.
المطلب الثالث ـ شروط صحة القرار :
اتفق الفقهاء على صحة القرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره (. )2
ويصح إقرار العبد بجريمة تقتضي حدا أو قصاصا ،كما يصح إقرار العبد المأذون في التجارة
والمعاملة بثمن الشياء ،والجرة ،والغصوب ،والودائع ،ويصح إقرار المكاتب في الموال ،ويصح
عند الحنفية إقرار العبد المحجور بالمال ،لكن ل ينفذ على السيد في الحال ،وإنما يطالب به العبد بعد
العتق والحرية .ول ينفذ عند الحنابلة إقرار العبد بالقصاص في النفس ،وإنما يطالب به بعد العتق،
ولكن يصح القرار منه بالقصاص فيما دون النفس عندهم .وبالتفاق ل يصح إقرار الصبي والمجنون
والمكرَه والمتهم في إقراره .وعلى هذا تكون شروط القرار ما يلي:
- 1العقل والبلوغ :فل يصح إقرار المجنون .ويعبر البلوغ شرطا عند الجمهور لصحة القرار ،فل
يصح إقرار الصبي غير البالغ أيضا ،لقوله عليه الصلة والسلم« :رفع القلم عن ثلثة :عن الصبي
حتى يبلغ ،وعن النائم حتى
-------------------------------
( )1مجمع الضمانات :ص 370وما بعدها.
( )2البدائع ،222/7 :تكملة فتح القدير ،281/6 :اللباب ،76/2 :تبيين الحقائق ،3/5 :الشرح الكبير
للدردير 397/3 :وما بعدها ،المهذب ،343/2 :مغني المحتاج ،238/2 :المغني ،138/5 :مجمع
الضمانات :ص 365وما بعدها.
( )8/229
يستيقظ ،وعن المجنون حتى يفيق» ( )1ورفع القلم معناه رفع التكليف والمسؤولية .ولن غير البالغ
ممنوع من التصرفات.
وليس البلوغ شرطا لصحة القرار عند الحنفية ،فيصح إقرار الصبي العاقل بالديون والعيان؛ لنه
من ضرورات التجارة.
- 2الطواعية أو الختيار :فل يصح إقرار المستكره ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقد سبق تفصيل حكم إقرارات المستكره في بحث الكراه.
- 3عدم التهمة :يشترط أل يكون المقر متهما في إقراره ،فإن اتهم بإقراره لملطفة صديق ونحوه
بطل القرار؛ لن التهمة تخل برجحان الصدق على الكذب في إقراره ،والقرار يعتبر شهادة على
النفس ،والشهادة ترد بالتهمة ،ودليل اعتباره شهادة قوله تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين
بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم} [النساء.]135/4:
- 4أن يكون المقر معلوما :فلو قال رجلن ( :لفلن على واحد منا ألف درهم ) ل يصح القرار؛
لن المقر إذا لم يكن معلوما ل يتمكن المقر له من المطالبة بالدين ،فل يكون في هذا القرار فائدة،
فل يصح.
فإذا أقر الحر البالغ العاقل لزمه إقراره عند الحنفية ،سواء أكان المقر به مجهولً أم معلوما ،ويقال له:
بيّن المجهول ،فإذا لم يبين أجبره القاضي على البيان .والقول في البيان قول المقر مع يمينه ،إن
ادعى المقر له أكثر من الذي بينه ،لنكاره
-------------------------------
( )1سبق تخريجه ،رواه المام أحمد وأصحاب السنن الربعة إل الترمذي عن السيدة عائشة،
وصححه الحاكم ،وأخرجه ابن حبان أيضا.
( )8/230
الزائد ،واليمين على من أنكر .فإن قال ( :له علي مال ) فالمرجع في بيانه إليه ،ويقبل قوله في القليل
والكثير (. )1
ويلحظ أن الشافعية ( : )2فرقوا بين أثر الحجر على السفيه وأثر الحجر على المفلس ،فقالوا :ل
يصح إقرار السفيه بدين في معاملة قبل الحجر أو بعده ،وكذا بإتلف مال في الظهر ،لنه ممنوع من
التصرف بماله .ويصح إقراره بالحد والقصاص؛ لعدم تعلقهما بالمال ،ولبُعد التهمة ،ويصح طلقه
وخلعه وظهاره ونفيه النسب بلعان ،وحكمه في العبادة كالرشيد ،لكن ل يفرّق الزكاة بنفسه ،وإذا
أحرم بحج فرض وكّل الولي ثقة ينفق عليه في طريقه ،وإ ن أحرم بتطوع ،المذهب أنه كمحصر
فيتحلل بالصوم.
أما المفلس فيصح ويقبل إقراره بعين أو دين وجب قبل الحجر في الصح في حق الغرماء ،كما لو
ثبت بالبينة ،ول يصح إقراره بدين أو حق وجب بعد الحجر بمعاملة أو مطلقا بأن لم يقيده بمعاملة ول
غيرها ،ول يقبل في حق الغرماء .ويصح نكاحه وطلقه وخلعه واقتصاصه وإسقاطه كالسفيه كما
تقدم.
المطلب الرابع ـ أنواع المقر به :
المقر به عموما نوعان :حقوق ال تعالى ،وحقوق العباد (. )3
أما حقوق ال تعالى :
فنوعان عند الحنفية:
أحدهما ـ أن يكون الحق خالصا ل ،أي للمجتمع ،وهو حد الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوه من
المسكرات ،والقرار به صحيح .ولو رجع المقر عن إقراره بموجب الحد قبل إقامة الحد ،بطل الحد،
لحتمال صدقه في الرجوع ،فأورث رجوعه شبهة ،والحدود تدرأ بالشبهات.
-------------------------------
( )1مجمع الضمانات :ص ،366-364الكتاب مع اللباب.76/2 :
( )2مغني المحتاج 172 ،148/2 :وما بعدها.
( )3راجع البدائع.223/7 :
( )8/231
ويكفي في القرار أن يكون مرة إل في الزنا عند الحنفية ،فإنه يشترط أن يكون أربع مرات ،كما
حدث في إقرار ماعز بين يدي الرسول صلّى ال عليه وسلم ،وذلك خلفا للقياس ،فيقتصر على
مورد النص.
وقال أبو يوسف وزفر :يشترط تعدد القرار بأن يكون مرتين بعدد الشهود .ولكن روي أن أبا يوسف
رجع عن هذا الرأي ،ويلحظ أن التعدد في القرار بالقذف ليس بشرط باتفاق الحنفية.
ويحكم بموجب القرار في الحدود ،سواء تقادم العهد على حدوث مقتضى الحد ،أم ل ،إل في شرب
الخمر ،فإنه ل يعتبر القرار عند أبي حنيفة وأبي يوسف بعد ذهاب الرائحة وتقادم العهد؛ لن ابن
ل وجد منه رائحة الخمر ،ولم يجلده حتى تحقق من الرائحة.
مسعود جلد رج ً
وسبق ذكر الحديث وتفصيل هذا الموضوع في مبحث حد الشرب الذي عرفنا فيه أن محمدا رحمه ال
قال :يحد شارب الخمر بالقرار أو بالشهادة ،ولو بعد ذهاب الرائحة.
الثاني ـ أن يكون للعبد فيه حق :وهو حد القذف .وقد ذكرت في مبحث هذا الحد شروط صحة
القرار بجريمة القذف والزنا وسائر الحدود.
وأما حقوق العباد أي حقوق الفراد ،فأنواع :
منها :حق طلب واستيفاء القصاص أو الدية.
ومنها :الحق في الموال النقدية ،أو العينية.
ومنها :الحق في الطلق وحق الشفعة والنسب ونحوها.
ول يشترط لصحة القرار بهذه الحقوق الفردية مايشترط للقرار بحقوق ال تعالى من التعدد ،وكونه
في مجلس القضاء ،والنطق بعبارة صريحة ،وإنما يصح القرار فيها من الخرس؛ كما ل يشترط
لصحة القرار بها الصحو ،فيصح إقرار السكران بها .وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات ،بخلف
حقوق ال تعالى.
( )8/232
والشروط المختصة بالقرار بحقوق العباد عند الحنفية هي ما يأتي (: )1
أولً ـ أن يكون المقر له معلوما ،سواء أكان موجودا أم حملً في البطن :فلو كان المقر له مجهولً،
بأن قال إنسان ( :لواحد من الناس علي ألف درهم ) ل يصح القرار؛ لنه ل يملك أحد مطالبته
بمقتضى إقراره.
ولو قال( :لحمل هند علي ألف درهم) :فإن عزا إقراره لسبب مقبول ،يصلح لثبوت الملك له ،من
طريق إرث أو وصية ( ، )2كأن يقول :مات أبو الحمل ،فورث الحمل هذا اللف ،أو يقول :أوصى
باللف فلن لهذا الحمل ،صح القرار ،وكان المبلغ المقر به للحمل ،أي الجنين بالتفاق.
وحينئذ إن جاءت هند هذه بالولد في مدة يعلم أنه كان قائما وقت القرار ،لزم المقر ما أقر به .وإن
جاءت به ميتا ،فالمال للموصي والمورث؛ لنه إقرار في الحقيقة لهما ،وإنما ينتقل إلى الجنين بعد
الولدة ،ولم ينتقل في الواقع ،فيقسم بين ورثة المورث .ولو جاءت بولدين حيين ،فالمال بينهما.
وإن بين المقر سببا مستحيلً في العادة ل يمكن حدوثه من الجنين ،كأن قال :أقرضني أو باعني شيئا،
فالقرار باطل لغ اتفاقا.
وإن أبهم القرار ،أي أطلقه ،فلم يبين سببا صالحا يتصور لثبوت الملك للحمل كالرث والوصية :لم
يصح القرار عند أبي يوسف ،قيل :وأبو حنيفة معه؛ لنه ل يثبت للجنين شيء من الحقوق المالية،
سواء أكان من جهة التجارة والمعاملة ،أم من جهة الجناية ،ومطلق القرار ينصرف إلى القرار بحق
ثابت بسبب التجارة ،فيعتبر كأن المقر صرح به ،وهو غير مقبول منه.
-------------------------------
( )1المبسوط 196/17 :ومابعدها ،البدائع 223/7 :وما بعدها ،تكملة فتح القدير ،304/6 :تبيين
الحقائق ،11/5 :الدر المختار ،474/4 :اللباب ،83/2 :مجمع الضمانات :ص .369
( )2إذ أن أهلية الجنين أهلية وجوب ناقصة فل يتمكن من ثبوت الحقوق المالية له إل ماكان من
طريق الرث ،أو الوصية ،أو الوقف ،كما هو معلوم.
( )8/233
وقال محمد والشافعي في الظهر ومالك وأحمد :يصح القرار للحمل إذا أطلقه المقر ،أي لم يسنده
إلى سبب كإرث أو وصية ،ويحمل إقراره على سبب الملكية المتصور للحمل ،بأن يحمل على أن هذا
المبلغ أوصى به رجل ،أو مات مورث الحمل وتركه ميراثا له؛ لن القرار حجة شرعية ،فإذا صدر
من أهله في محله ،فيجب إعماله ،وقد أمكن العمل به على النحو المذكور (. )1
هذا هو حكم القرار للحمل .وأما القرار بالحمل فجائز اتفاقا ،كما إذا أقر بحمل شاة لرجل ،صح
إقراره والتزم المقر بما أقر به ،سواء بيّن سببا صالحا لثبوت الملك أو أبهم؛ لن لقراره وجها
صحيحا :وهو الوصية بالحمل من جهة غير المقر ،بأن أوصى بالحمل مالك الشاة لرجل ،ومات فأقر
وارثه ،وهو عالم بوصية مورثه بأن هذا الحمل لفلن (. )2
ثانيا ـ أل يتعلق بالمقر به حق الغير؛ لن حق ا لغير معصوم محترم ،فل يجوز إبطاله من غير
رضاه ،كإقرار المريض مرض الموت بدين لوارثه ،ل يصح إقراره إل بإجازة بقية الورثة؛ لنه متهم
في هذا القرار ،إذ يجوز أنه آثر بعض الورثة على بعض .وسأفصل بحثه في مبحث لحق.
واشترط الشافعية شرطين في المقَرّ به:
- 1أل يكون الحق المقر به ملكا للمقر حين يقرّ به ،لن القرار إخبار عن كون الشيء مملوكا
للمقرّ له.
- 2أن يكون الحق المقرّ به في يد المقرّ ،ليسلمه بالقرار إلى المقرّ له ،وإل لم يتحقق مقتضى
القرار.
-------------------------------
( )1تكملة فتح القدير ،306/6 :الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه ،398/3 :المهذب 344/2 :وما
بعدها ،مغني المحتاج 241/2 :وما بعدها ،المغني 141/5 :وما بعدها.
( )2المراجع السابقة ،تكملة فتح القدير،308/6 :البدائع ،224/7 :تبيين الحقائق ،12/5 :اللباب:
.84/2
( )8/234
( )8/235
ً - 2وإذا قال« :غصبت منه شيئا» ثم بين ما ل قيمة له شرعا ،بأن قال( :غصبت صبيا حرا
صغيرا) أو (خمرا لمسلم) أو (جلد ميتة) يصدق؛ لن هذا مما يغصب عادة.
ً - 3ولو قال( :غصبت شاة أو ثوبا) :فيصدق في بيان كون ذلك سليما أو معيبا ،أو قال( :غصبت
دارا) يصدق سواء أكانت الدار في بلدة قريبة أم بعيدة؛ لن الغصب يقع على حسب ما يصادف
الشخص عادة ،سواء أكان سليما أم معيبا ،ويصدق في بيان مكان الدار؛ لنه أبهم المكان ،فكان القول
قوله في بيان المكان ،ويلزمه تسليم الدار إلى المغصوب منه إن قدر على التسليم ( . )1وإن عجز
عن التسليم ،بأن خربت الدار ،فالقول قول المقر عند أبي حنيفة وأبي يوسف ،ول يضمن العقار
عندهما؛ لنه غير مضمون القيمة بالغصب في رأيهما ،وإنما هو مضمون الرد فقط؛ لن معنى
الغصب وهو إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال لم يوجد في العقار.
وعند محمد :يضمن قية الدار؛ لن العقار عنده مضمون الرد إن كان موجودا ،ومضمون القيمة أيضا
إن كان هالكا؛ لن الغصب إزالة يد المالك عن ماله ،والفعل في المال ليس بشرط ،وقد تحقق هذا
المعنى بإبعاد يد المالك عن العقار (. )2
-------------------------------
( )1البدائع 215/7 :ومابعدها ،تكملة فتح القدير ،286/6 :المبسوط ،185/17 :مجمع الضمانات:
ص .117
( )2الخلف بين أئمة الحنفية راجع إلى اختلفهم في ضمان العقار المغصوب بالهلك ،فقال أبو
حنيفة وأبو يوسف :إذا غصب رجل عقارا ،فهلك في يده بآفة سماوية كغلبة سيل ،لم يضمنه ،لعدم
تحقق الغصب بإزالة اليد؛ لن العقار في محله بل نقل ،والتبعيد للمالك عنه فعل في المالك ،ل في
العقار ،فكان الحال كما إذا بعد المالك عن المواشي .وقال محمد :يضمنه لتحقق إثبات اليد الغاصبة
التي يترتب على ثبوتها زوال يد المالك لستحالة اجتماع اليدين على محل واحد في حالة واحدة.
فإذا انهدم البناء بفعل الغاصب ضمنه باتفاقهم جميعا؛ لن ما فعله إتلف ،والعقار يضمن بالتلف
(راجع البدائع ،147/7 :اللباب شرح مختصر الكتاب )189/2 :وراجع بحث الغصب.
( )8/236
( )8/237
ولو قال ( :علي دراهم كثيرة ) يصدق في عشرة دراهم عند أبي حنيفة؛ لنه جعل الكثرة صفة
للدراهم ،وأكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم هو العشرة ،بدليل أنه إذا زاد على العشرة يقال :أحد عشر
درهما ،واثنا عشر درهما ،ول يقال :دراهم ،فكانت العشرة أكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم ،فل
تلزمه الزيادة عليها .وعند الصاحبين :ل يصدق في أقل من مئتي درهم؛ لن المقر به دراهم كثيرة،
وما دون المئتين في حد القلة ،ولهذا لم يعتبر ما دونه نصابا للزكاة.
مفهوم المال العظيم أو الكبير :
ً 8ـ لو قال المقر ( :لفلن علي مال عظيم ) أو ( كثير ) أو ( كبير ) :فعليه مئتا درهم باتفاق
الحنفية على المشهور عندهم؛ لنه أقر بمال موصوف بوصف العظم ،ونصاب الزكاة ،أي المال الذي
تجب فيه الزكاة :وهو المئتا درهم عظيم شرعا وعرفا ،بدليل أنه اعتبر مالكه غنيا به ،فأوجب عليه
الشرع مواساة الفقراء ،والغني عظيم عند الناس ،حتى إنه يعد من الغنياء عادة بملكه النصاب
الشرعي.
هذا إذا كان المقر به من الدراهم ،فإن كان من غيرها فيقدر بأقل النصاب الشرعي الواجب فيه الزكاة
فيها ،فإذا قال ( :علي دنانير كثيرة ) فيلزمه عشرون ،وفي البل خمس وعشرون ،وفي الحنطة
خمسة أوسق أي ( )653كغ تقريبا.
وإن قال ( :علي أموال عظام ) فعليه ست مئة درهم؛ لن عظام جمع عظيم ،وأقل الجمع الصحيح
ثلثة ،وهذا على المشهور عند الحنفية (. )1
وقال الشافعية :لو أقر بمال أو بمال عظيم أو كبير أو كثير :قبل في تفسيره قليل المال وكثيره ،لن
ما من مال إل وهو عظيم وكثير بالنسبة إلى ما هو دونه.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة :إن قال ( :له علي دراهم ) لزمه ثلثة؛ لنه جمع ،وأقل الجمع
ثلثة ،وكذلك يلزمه ثلثة عند الشافعية والحنابلة إن قال:
-------------------------------
( )1راجع لما سبق :المبسوط 4/18 :وما بعدها ،البدائع 219/7 :وما بعدها ،تكملة فتح القدير:
288/6وما بعدها ،تبيين الحقائق 5/5 :وما بعدها ،الدر المختار 469/4 :وما بعدها ،اللباب.77/3 :
( )8/238
(له علي دراهم كثيرة)؛ لن الكثرة والعظمة ل حد لهاشرعا ول لغة ول عرفا ،وتختلف بحسب
النسب والضافة وأحوال الناس ،فالثلثة أكثر مما دونها ،وأقل مما فوقها .وقال المالكية :يلزمه
أربعة؛ لن الرابع أول مبادئ كثرة الجمع (. )1
المقصود بنوع الدراهم :إذا قال المقر( :لفلن علي ألف درهم) ولم يبين سبب اللتزام من بيع أو
قرض ونحوهما :ثم قال( :هي زيوف) فيصدق إذا كان البيان متصلً بالكلم السابق ،فإن كان منفصلً
ل يصدق ،لن اسم الدراهم اسم جنس يقع على الجياد والزيوف ،فكان قوله (زيوف) بيانا للنوع،
فيصح بشرط كونه متصلً بما سبق ،ل منفصلً عنه.
ولو قال ( :لفلن عندي ألف درهم ) ثم قال ( :هي زيوف ) :يصدق سواء أكان البيان متصلً بما
قبله أم منفصلً؛ لن هذا إقرار بالوديعة ،والوديعة مال محفوظ عند الوديع ،قد يكون جيدا ،وقد يكون
رديئا .والغصب في هذا مثل الوديعة.
فإن قال ( :لفلن علي ألف درهم ثمن مبيع ) أي بين سبب اللتزام ،ثم قال ( :هي زيوف ) فل
يصدق ،ويلزمه الجيد عند أبي حنيفة ،سواء أكان البيان متصلً أم منفصلً؛ لن البيع عقد معاوضة،
فيتطلب سلمة العوضين عن العيوب؛ لن كل عاقد ل يرضى إل بالعوض السليم عن العيب ،فكان
إقراره بكون الدراهم ثمنا إقرارا بصفة السلمة عن العيوب ،فيعتبر بيانه بعدئذ بالزيافة رجوعا عن
القرار ،والرجوع عن القرار ل يصح ،كما إذا قال ( :بعتك هذا الثوب على أنه معيب ) ل يصدق
وإن كان بيانه متصلً بما قبله ،فكذا الحالة التي هنا.
-------------------------------
( )1انظر الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ،407/3 :المهذب 347/2 :وما بعدها ،مغني المحتاج:
،248/2المغني.160/5 :
( )8/239
وقال الصاحبان :يصدق إن وصل كلمه بأصل القرار ،وإن فصل ل يصدق؛ لن اسم ( الدراهم )
كما يطلق على الجياد ،يطلق على الزيوف؛ لن «الدراهم » اسم جنس ،والجيد والرديء نوعان منها،
فإذا أطلق لفظ ( الدراهم ) انصرف إلى الجياد ،فيصح بيان المقر إذا كان متصلً بما قبله ،لتعيينه
بعض ما يحتمله اللفظ ،ول يصح منفصلً ،حتى ل يكون رجوعا عن القرار.
ولو قال ( :لفلن علي ألف درهم قرضا ) ثم قال( :هي زيوف) ففيه روايتان :رواية بالتفصيل مثل
قول الصاحبين في البيع :إن وصل يصدق وإن فصل ل يصدق ،ورواية تقرر أنه ل يصدق مثل قول
أبي حنيفة في البيع؛ لن القرض في الحقيقة مثل البيع :مبادلة مال بمال.
الختلف بين المقر والمقر له في اقتضاء الدين أو صفة وجود الشيء عند المقر:
لو قال ( :اقتضيت من فلن ألف درهم كانت لي عليه) أو قال( :استوفيت) أو(قبضت) أو (أخذت)
وأنكر المقر له ،فقال ( :لم يكن لك علي شيء) وقال( :هو مالي قبضته مني) فالقول قول المقر له مع
يمينه ،ويؤمر المقر برد اللف إلى المقر له ،لن القرار بالقتضاء إقرار بالقبض ،والقبض موجب
للضمان ،فهو بادعائه القبض على أساس اقتضاء اللف دينا له ،يدعي براءته عن الضمان ،والخر
ينكر فيكون القول قوله مع يمينه.
وكذلك إذا أقر الشخص أنه قبض من آخر ألف درهم كانت وديعة عنده ،وأنكر المقر له ،قائلً( :بل
أخذتها غصبا) فالقول قول المقر له ،لما بينت.
( )8/240
أما لو قال( :أودعني فلن ألف درهم) فقال فلن هذا( :ل ،بل أخذتها غصبا) :فالقول قول المقر مع
يمينه؛ لن المقر ما أقر بسبب الضمان وهو الخذ أو القبض ،بخلف ما سبق (. )1
الستثناء في القرار :إن استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه جائز بغير خلف ،فهو ثابت في لغة
العرب ،وورد في الكتاب والسنة ،قال ال تعالى{ :فلبث فيهم ألف سنة إل خمسين عاما} [العنكبوت:
]29/14وقال{ :فسجد الملئكة كلهم أجمعون إل إبليس} [الحِجر ]15/30:وقال النبي صلّى ال عليه
وسلم في الشهيد « :يكفّر عنه خطاياه كلها إل الدين» (. )2
فإذا أقر رجل بشيء واستثنى منه ،كان مقرا بالباقي بعد الستثناء ،فإذا قال( :له علي مئة إل عشرة)
كان مقرا بتسعين ،ولذا قال في تعريف الستثناء :إنه تكلم بالباقي بعد الثُنْيا (. )3
ول يصح الستثناء إل أن يكون متصلً بالكلم السابق ،بأن يتصل المستثنى بالمستثنى منه بحيث يعد
معه كلما واحدا عرفا ،فل يصح الفصل بسكوت طويل وكلم أجنبي؛ لن الستثناء مغاير لما قبله،
وليضر الفصل اليسير لعارض كسكتة تنفس أو عي أو تذكر أو انقطاع صوت أو سعال أو عطاس،
ويصح استثناء القليل من الكثير اتفاقا ،كما يصح عند الحنفية فقط استثناء الكثير من القليل في ظاهر
الرواية .وليصح استثناء الكل من الكل بغير خلف؛ لن الستثناء رفع بعض ما تناوله اللفظ،
واستثناء الكل رفع الكل ،فلو صح الستثناء صار الكلم لغوا غير مفيد.
-------------------------------
( )1راجع البدائع 217/7 :وما بعدها ،المبسوط ،126/18 :مختصر الطحاوي :ص ،115مجمع
الضمانات :ص .376
( )2هذا مأخوذ من مفهوم حديث طويل رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أنس ،وأخرج مسلم عن
عبد ال بن عمرو أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال« :القتل في سبيل ال يكفر كل شيء إل
الدين» (التاج الجامع للصول ،297/4 :اللمام :ص .)483
( )3بضم فسكون فألف مقصورة في آخره :اسم من الستثناء.
( )8/241
ويجوز الستثناء من الستثناء ،بالعطف أو بدونه مثل« :علي عشرة إل ثلثة وإل درهمين» فيكون
مستثنيا لخمسة مبقيا لخمسة ،ومثل قوله تعالى{ :قالوا :إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ،إل آل لوط إنا
لمنجوهم أجمعين ،إل امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} [الحِجر.]60-58/15:
ويصح عند المالكية والشافعية الستثناء في القرار من غير الجنس ،ول يصح ذلك عند الحنفية
والحنابلة ( . )1وتفصيله يعرف من التطبيقات التية:
واشترط الفقهاء أيضا شرطا آخر :وهو أل يستغرق المستثنى المستثنى منه ،فيصح القرار إذا قال
المقر :له علي خمسة إل أربعة ،ول يصح إذا قال :له علي خمسة إل خمسة ،فاستثناؤه باطل ،وتلزمه
الخمسة كلها؛ لنه أقرّ بها.
- 1استثناء القليل من الكثير :
إذا قال المقر( :علي عشرة دراهم إل ثلثة دراهم) يلزمه سبعة دراهم ،لن الستثناء تكلم بالباقي بعد
الثنيا ،كأنه قال :لفلن علي سبعة دراهم.
وكذا إذا قال( :علي ثلثة دراهم غير درهم) يلزمه درهمان؛ لن كلمة (غير) بالنصب تفيد الستثناء.
ولو قال( :لفلن علي ألف درهم سوى ثلثة دراهم) يلزمه ما عدا المستثنى؛ لن (سوى) من ألفاظ
الستثناء.
وكذا إذا قال( :علي ثلثة دراهم إل درهما) فعليه درهمان.
ولو قال( :علي عشرة إل ثلثة) يلزمه سبعة.
ولو قال( :إل سبعة) يلزمه ثلثة؛ لن الستثناء تكلم بالباقي بعد الستثناء.
-------------------------------
( )1المبسوط ،191/17 :البدائع 209/7 :وما بعدها ،مجمع الضمانات :ص ،371تكملة فتح القدير:
،390/6تبيين الحقائق ،13/5 :الدر المختار ،478/4 :مختصر الطحاوي :ص ،114اللباب،78/2 :
الشرح الكبير للدردير 410/3 :وما بعدها ،مغني المحتاج ،257/2 :المهذب ،349/2 :المغني:
142/5وما بعدها.162 ،
( )8/242
ولو قال( :لفلن علي ألف إل قليلً) فعليه أكثر من نصف اللف ،والقول قول المقر في الزيادة على
النصف مع يمينه؛ لن القليل من أسماء النسبة أو الضافة ،فيقتضي أن يكون ما يقابله أكثر منه،
ليكون هو بالضافة إليه قليلً.
وكذا إذا قال( :علي قريب من اللف) أو (زهاء ألف) أو (عُظْم اللف) ،لن هذا أكثر من النصف
بيقين ،وفي ا لزيادة :القول قوله.
- 2استثناء الكثير من القليل :
إذا قال المقر( :لفلن علي تسعة دراهم إل عشرة) فيجوز الستثناء في ظاهر الرواية عند الحنفية،
ويلزمه العشرة؛ لن الستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا ،وهذا المعنى متحقق في استثناء الكثير من
القليل ،إل أنه مستقبح في كلم العرب؛ لن الستثناء لستدراك الغلط ،ومثل هذا الغلط مما يندر
وقوعه غاية الندرة.
وقال أبو يوسف وبقية علماء المذاهب :ل يجوز هذا الستثناء؛ لنه لم يرد في كلم العرب.
- 3استثناء الكل من الكل :
هو مثل أن يقول شخص( :لفلن علي عشرة دراهم إل عشرة) يكون الستثناء لغيا بالتفاق ،ويلزمه
جميع ما أقر به قبل الستثناء وهو عشرة دراهم؛ لن هذا ليس باستثناء ،وإنما هو رجوع عما تكلم
به ،والرجوع عن القرار في حقوق الناس ل يصح ،فبطل الرجوع ،وبقي القرار.
- 4الستثناء من الستثناء :
الستثناء من الستثناء يكون استثناء المستثنى،أي من الكلم الذي يليه ،لكونه أقرب المذكور إليه ،ثم
ينظر إلى الباقي من المستثنى ،فيستثنى من المستثنى منه ،أي ما قبل (إل) أو غيرها من أدوات
الستثناء ،مثل أن يقول( :علي عشرة دراهم إل ثلثة إل درهما) يكون إقرار بثمانية؛ لننا صرفنا
الستثناء الخير إلى ما يليه ،فبقي درهمان يستثنيان من العشرة ،فيبقى ثمانية.
( )8/243
ولو قال( :لفلن علي عشرة دراهم إل خمسة إل ثلثة إل درهما) يكون إقررا بسبعة؛ لنا جعلنا
الدرهم مستثنى مما يليه ،وهي ثلثة ،فبقي درهمان استثناها المقر من خسمة ،فبقي ثلثة استثناها من
أصل المستثنى منه فبقي سبعة .وهكذا.
- 5الستثناء من غير الجنس (أو الستثناء المنقطع ) :
قال أبو حنيفة وأبو يوسف :إذا كان الستثناء من غير جنس المستثنى منه ينظر :إن كان المستثنى
مما ل يثبت دينا في الذمة مثل( :لفلن علي عشرة دراهم إل ثوبا) ل يصح الستثناء؛ لن المستثنى
منه وهو العشرة دراهم ثبت بالقرار دينا في الذمة ،وأما المستنثى وهو الثوب :فهوعين من العيان
ل يحتمل الثبوت واللتزام به في الذمة ،فل يكون من جنس المستثنى منه ،إذ ل مجانسة بين الثياب
والدراهم ،ل في السم ول في احتمال اللتزام به في الذمة ،فل يتحقق معنى الستثناء أصلً .ثم إنه
ل يعرف قدر الثوب من الدراهم ،فيكون المستثنى مجهولً ،وجهالة المستثنى توجب جهالة المستثنى
منه ،فل يصح الستثناء.
وأما إن كان المستثنى مما يثبت دينا في الذمة وهو المكيل والموزون والعددي المتقارب كالجوز
والبيض ،بأن قال( :لفلن علي مئة درهم إل دينارا أو إل قفيز حنطة) صح الستثناء عند الشيخين
من الحنفية ،ويلزمه مئة درهم إل قدر قيمة ما استثناه من الدينار أو القفيز؛ لن المجانسة بين
المستثنى والمستثنى منه شرط عندهما ،والمجانسة بين الدينار والدرهم متحققة إذ أن كلً منهما من
جنس الثمان التي تقدر بها قيم الشياء ،والمجانسة بين الدراهم والمكيل والموزون ونحوها متحققة
ل منها يمكن أن يثبت دينا في الذمة حالً مؤجلً ،وذلك إذا وصف المكيل أو الموزون،
أيضا؛ لن ك ً
ويكفي تحقق المجانسة بهذا المعنى.
( )8/244
وقال محمد وزفر والحنابلة ،ل يصح الستثناء في القرار من غير الجنس مطلقا ،سواء أكان
المستثنى ثوبا أم مكيلً أم موزونا؛ لن معنى الستثناء ـ وهو (إخراج بعض ما تناوله المستثنى منه
على معنى أنه لول الستثناء لكان داخلً تحت اللفظ) ـ ل يتصور في خلف الجنس ،فغير الجنس
المذكور ليس بداخل في الكلم ،فل يكون استثناء.
وقال مالك والشافعي :يصح الستثناء من غير جنس المستثنى منه ،مثل (لفلن علي ألف من الدراهم
إل ثوبا) يعني إل قدر قيمة ثوب؛ لنه ورد في القرآن الكريم ولغة العرب ،قال ال تعالى{ :وإذ قلنا
للملئكة :اسجدوا لدم ،فسجدوا إل إبليس كان من الجن} [الكهف ]18/50:وقال ال تعالى{ :فإنهم عدو
لي إل رب العالمين} [الشعراء ]77/26:وقال سبحانه{ :ما لهم به من علم إل اتباع الظن} [النساء:
]157/4وقال ال عز وجل{ :ل يسمعون فيها لغوا إل سلما} [مريم ]62/19:وقال الشاعر:
وبلدةٍ ليس بها أنيس ..... .....إل اليعافير،وإل العيس ()1
- 6الستثناء أو التعليق بمشيئة ال :
اتفق الحنفية ،والشافعية على المذهب على أن المقر إذا قال( :لفلن علي ألف إن شاء ال ) أو (إل أن
يشاء ال ) لم يلزمه شيء ،سواء قدّم اللف على المشيئة أم ل؛ لنه لم يجزم اللتزام ،بل علقه
بالمشيئة ،ومشيئة ال مغيبة عنا .وكذلك ل يلزمه شيء إذا قال( :لفلن علي ألف درهم إن شاء فلن)
فالقرار باطل؛ لن مشيئة غير ال ل توجب شيئا (. )2
-------------------------------
( )1أي رب بلدة ،الواو بمعنى رب ،واليعافير ـ جمع يعفور :وهو ولد الظبية ،وولده البقرة
الوحشية ،والعيس :البل البيض واحدها أعيس ،والنثى عيساء ،وهو استثناء منقطع ،معناه :الذي
يقوم مقام النيس :اليعافير والعيس.
( )2تكملة فتح القدير مع العناية ،314/6 :تبيين الحقائق ،15/5 :اللباب ،79/2 :مغني المحتاج:
.255/2
( )8/245
( )8/246
( )8/247
( )8/248
والقرار في المرض نوعان :إقرار باستيفاء الدين من غيره ،وإقرار بالدين لغيره.
أما إقرار المريض باستيفاء الدين من غيره :فيصح إذا كان الدين على أجنبي في حال الصحة ،ول
يصح إذا كان الدين ناشئا حال المرض لتعلق حق الغرماء بمال المريض .كذلك ل يصح إذا أقر
باستيفاء دين وجب له على وارث؛ لن إقراره بالستيفاء إقرار بالدين ،وإقرار المريض لوارثه باطل.
وأما إقرار المريض بالدين لغيره :فإن كان إقرارا لجنبي جاز عند أكثر العلماء؛ لنه غير متهم به
في حقه ،قال عمر وابنه عبد ال ( :إذا أقر المريض بدين لجنبي ،جاز ذلك من جميع تركته).
وإن كان إقرارا بالدين لوارث :لم يصح إقراره عند الحنفية والحنابلة إل ببينة أو بموافقة بقية الورثة
أو بمشاهدة القاضي؛ لنه متهم في هذا القرار ،لجواز أنه آثر بعض الورثة على بعض ،ولنه تعلق
حق الورثة بماله في مرضه ،ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلً.
وقال عمر وابنه في الثر السابق( :إذا أقر المريض لوارثه لم يجز) وروى الدراقطني في سننه عن
جعفر بن محمد عن أبيه ،قال :قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ( :لوصية لوارث ،ول إقرار له
بالدين) ( )1إل أن هذه الزيادة في الحديث غير مشهورة ،وإنما المشهور هو قول ابن عمر السابق.
فإن صدق المقر بقية الورثة فيما أقر به لواحد منهم صح القرار؛ لن المانع تعلّق حقهم في التركة،
فإذا صدقوه زال المانع (. )2
-------------------------------
( )1هذا حديث مرسل :وفيه نوح بن درّاج ضعيف ،وأسنده أبو نعيم الحافظ ،ثم ذكر ما معناه أنه
روي مرسلً أيضا ،قال ابن القطان :وهو الصواب (نصب الراية.)111/4 :
( )2المبسوط ،31 ،24/18 :البدائع ،224/7 :تكملة فتح القدير 8/7 :وما بعدها ،الدر المختار:
،481/4المغني ،197/5 :تبيين الحقائق.25/5 :
( )8/249
وهنا ذكر فقهاء الحنفية ( )1مسائل ،فقالوا :من أقر بدين لجنبي عنه في مرض موته ثم قال :هو
ابني ،ثبت نسبه منه وبطل إقراره له؛ لن دعوى النسب تستند إلى وقت العلوق (بدء الحمل) فتبين أنه
أقر لبنه فل يصح إقراره.
ولو أقر لجنبية ،ثم تزوجها ،لم يبطل إقراره لها؛ لن الزوجية طارئة يقتصر وجودها على زمان
التزوج.
ومن طلق زوجته في مرض موته طلقا ثلثا أو أقل بطلب منها ثم أقر لها بدين ومات وهي في
العدة ،فلها القل من الدين الذي أقر به ،ومن ميراثها منه؛ لن الزوجين متهمان في ذلك ،لجواز أن
يكونا توصل بالطلق إلى تصحيح القرار ،فيثبت أقل المرين .فإن تم الطلق بغير طلب المرأة،
كان الزوج فارّا بطلقه لحرمانها من الميراث ،فلها الميراث بالغا ما بلغ ويبطل القرار .وإذا انقضت
عدتها قبل موته ،ثبت إقراره ول ميراث لها.
وقال الشافعية على المذهب :يصح إقرار المريض مرض الموت لوارث ،كما يصح لجنبي؛ لن من
صح إقراره له في الصحة ،صح إقراره في المرض كالجنبي؛ ولن الظاهر أن المقر محق في
إقراره؛ لنه انتهى إلى حالة يصدق فيها الكاذب ،ويتوب فيها الفاجر (. )2
ومنشأ الخلف بين الحنفية والشافعية في القرار هو أن الشافعية قالوا :إن الفعل إذا وجد مطابقا
لظاهر الشرع حكم بصحته ،ول تعتبر التهمة في الحكام؛ لن الحكام تتبع السباب الجلية دون
المعاني الخفية .وقال أبو حنيفة رضي ال عنه:
-------------------------------
( )1الكتاب مع اللباب 85/2 :وما بعدها.
( )2مغني المحتاج ،240/2 :المهذب.354/2 :
( )8/250
كل فعل تمكنت التهمة فيه ،حكم بفساده ،لتعارض دليل الصحة والفساد (. )1
وقال المالكية :يصح إقرار المريض مرض الموت إذا لم يتهم المقر في إقراره ،ويبطل إن اتهم ،كمن
له بنت وابن عم ،فأقر لبنته ،لم يقبل ،وإن أقر لبن عمه قبل ،لنه ل يتهم في أنه يمنع ابنته ويصل
ابن عمه (. )2
هل يفضل دين الصحة؟ لو أقر شخص في صحته بدين لنسان ،وأقر في مرضه لخر :فقال الحنفية:
دين الصحة وما لزمه في مرضه بسبب معروف ،أي (ما ليس بتبرع) يقدم على ما أقر به في مرض
موته ،فإذا أقر رجل في مرض موته بديون ،وكان عليه ديون لزمته حال صحته ،سواء علم سببها أو
ثبتت بإقراره ،وعليه أيضا ديون لزمته في مرضه ،لكن علم سببها كبدل شيء تملكه أو أهلكه ،أو
مهر مثل امرأة تزوجها :فدين الصحة والدين الذي عرف سببه حال مرضه مقدم على ما أقر به في
مرضه؛ لن القرار ل يعتبر حجة إذا كان فيه إبطال حق الغير ،وإقرار المريض يترتب عليه إبطال
حق الغير؛ لن حق غرماء الصحة تعلق بمال المريض بدلً من ذمته كما أشرت ،ولهذا منع المريض
مرض الموت من التبرع ومحاباة أحد الغرماء مطلقا إذا أحاطت الديون بماله ،فإن لم يكن عليه دين
يمنع من التبرع بما يزيد عن ثلث التركة.
وإنما تقدم ديون المرض المعروفة السبب ببينة أو بمعاينة القاضي؛ لنه ل تهمة في ثبوتها؛ لن
الشيء المعاين ل مرد له .ول يجوز للمريض أن يحابي أحد الغرماء ،فيقضي دين البعض دون
البعض؛ لن في إيثار البعض إبطال حق الباقين ،إل إذا قضى الدين الذي استقرضه في مرضه ،أو
نقد ثمن ما اشتراه أثناء مرضه.
فإذا قضيت ديون الصحة والديون المعروفة السباب ،وفضل شيء عنها ،كان ذلك الفاضل مصروفا
فيما أقر به حال المرض؛ لن القرار في ذاته صحيح ،لكنه لم ينفذ في حق غرماء الصحة ،فإذا لم
يبق لهم حق ظهرت صحته.
-------------------------------
( )1تخريج الفروع على الصول :ص .102
( )2المغني ،197/5 :الشرح الكبير.398/3 :
( )8/251
وإن لم يكن على المريض ديون في صحته :جاز إقراره؛ لنه لم يتضمن إبطال حق الغير ،وكان
المقر له أولى من الورثة؛ لن قضاء الدين مقدم على حقوق الورثة .هذا هو مذهب الحنفية (. )1
وقال جمهور الفقهاء :دين الصحة ودين المرض يتساويان ،فل يقدم دين الصحة على دين المرض؛
لنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يختص أحدهما برهن ،فاستويا كما لو ثبتا ببينة ،أي
أنهما يستويان لستواء سببهما وهو القرار الصادر عن كامل الهلية ،بل إن الباعث على صدق
المقر حال المرض أقوى منه حال الصحة؛ لن المرض سبب التورع عن المعاصي والتوبة عما
جرى في الماضي (. )2
ومنشأ الخلف بين الحنفية وغيرهم في دين الصحة والمرض هو القاعدة السابقة التي ذكرها
الزنجاني ،فعند الشافعي ومن وافقهم يتساوى إقرار الصحة وإقرار المرض في استحقاق الغرماء من
التركة؛ إذ القرار مشروع في حالتي الصحة والمرض ،ول تعتبر التهمة في الحكام .وقال الحنفية:
إن القرار حال
-------------------------------
( )1راجع البدائع ،225/7 :اللباب شرح مختصر القدوري 84/2 :وما بعدها ،تكملة فتح القدير:
20/7وما بعدها ،تبيين الحقائق 23/5 :وما بعدها ،الدر المختار.482/4 :
( )2مغني المحتاج ،240/2 :المغني.197/5 :
( )8/252
الصحة أقوى من حيث إنه صادف حالة إطلق الحرية في التصرف .وإقرار المرض صادف حال
الحجر والمنع من التبرعات ،فهو متهم فيه من حيث إن الشرع قدرة التبرع ،فل يؤمن عدوله من
التبرع إلى القرار (. )1
المطلب السابع ـ القرار بالنسب :
يمكن القرار ببنوة طفل تصحيحا لوضع سابق كزواج مكتوم ،ل من زنى.
وهذا القرار بالنسب ـ أي القرابة ـ نوعان:
الول :أن يلحق المقر النسب بنفسه.
الثاني :أن يلحقه بغيره .وإلحاق النسب بالغير قد يثبت النسب ،وقد يقتصر فقط على المشاركة بالرث
دون ثبوت النسب.
وقد اشترط الفقهاء شروطا أربعة لصحة إقرار النسان بنسب على نفسه ،أي باستلحاق النسب من
نفسه .وهي (: )2
ً - 1أن يكون المقر به مجهول النسب :فإن كان معروف النسب من غيره ،لم يصح استلحاقه
بالقرار؛ لن النسب الثابت من شخص ل ينتقل إلى غيره ول يحتمل ثبوته له ،ولن المقر يقطع
نسب المقر به الثابت من غيره .وقد لعن النبي صلّى ال عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى
غير مواليه (. )3
ً - 2أن يكون المقر به محتمل الثبوت من نسب المقر ،فل يكذبه الحس ظاهرا أو ل ينازعه فيه
منازع ،بأن يكون في سن يمكن أن يكون منه بحيث يولد مثله لمثله ،فلو كان المقر به في سن ل
يتصور كونه منه ،أو كان المقر مقطوع الذكر والنثيين من زمن يتقدم على زمن بدء الحمل بالمقر
به ،لم يصح القرار بثبوت نسبه؛ لن الحس يكذبه .وكذلك إذا نازع المقر منازع آخر غيره لم يثبت
نسبه؛ لنه إذا نازعه فيه غيره تعارض القراران ،فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الخر.
-------------------------------
( )1تخريج الفروع على الصول للزنجاني :ص 102وما بعدها.
( )2راجع البدائع ،228/7 :تكملة فتح القدير ،14/7 :الدرالمختار ،485 :تبيين الحقائق،27/5 :
اللباب ،86/2 :الشرح الكبير ،414-412/3 :مغني المحتاج ،259/2 :المغني.184/5 :
( )3رواه أبو داود عن أنس بن مالك رضي ال عنه بلفظ (من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير
مواليه ،فعليه لعنة ال المتتابعة إلى يوم القيامة) ورواه الطبراني عن خارجة بن عمرو الجمحي ،وفيه
ضعيف ،وأخرجه الشيخان أيضا (الجامع الصغير ،162/2 :وراجع مجمع الزوائد،285/6 ،214/4 :
مذكرة تفسير آيات الحكام بالزهر.)11/4 :
( )8/253
ً - 3أن يصدق المقر له في إقراره إن كان أهلً للتصديق بأن يكون مكلفا ،أي بالغا عاقلً عند
الجمهور ،أو يستطيع أن يعبر عن نفسه ،أي يكون مميزا عند الحنفية؛ لن الولد له حق في نسبه،
وهو أعرف به من غيره .فإن كان الولد صغيرا ل يعبر عن نفسه ـ بحسب رأي الحنفية ـ لم يعتبر
تصديقه ،لنه بمنزلة المتاع.
وقال المالكية :ليس تصديق المقر به شرطا لثبوت النسب من المقر؛ لن النسب حق للولد على الب،
فيثبت بإقراره بدون توقف على تصديق من الولد إذا لم يقم دليلً على تكذيب المقر.
ً - 4أل يكون فيه حمل النسب على الغير ،سواء كذبه المقر له أم صدّقه؛ لن إقرار النسان حجة
قاصرة على نفسه ،ل على غيره؛ لنه على غيره شهادة أودعوى ،وشهادة الفرد فيما يطلع عليه
الرجال غير مقبولة ،والدعوى المفردة ليست بحجة.
وهذه الشروط تشترط أيضا في القرار بنسب على الغير ما عدا الشرط الخير بالطبع ،فإنه ل
يشترط عند الحنفية.
وقال الشافعية والحنابلة :يثبت النسب بالقرار على الغير بالشروط السابقة ،وبشرط كون المقر جميع
الورثة ،وبشرط كون الملحق به النسب ميتا ،فل يلحق بالحي ولو مجنونا لستحالة ثبوت نسب
الشخص ـ مع وجوده حيا ـ بقول غيره.
وعلى هذا يقول الحنفية في القرار بالنسب وفي حمل النسب على الغير ما يأتي:
- 1القرار بالنسب :يجوز إقرار الرجل بالوالدين ،والولد ،والزوجة ،سواء في حالة الصحة أو
المرض ،كهذا ابني أو أنا أبوه؛ لنه إقرار على نفسه ،وليس فيه حمل النسب على الغير ،وذلك
بالشروط المتقدمة ،وبشرط أن تكون الزوجة خالية عن زوج وعن عدته ،وأن يخلو المقر عن أخت
الزوجة أوعمتها أو خالتها ،وأل يكون في عصمته أربع سواها.
( )8/254
ويقبل إقرار المرأة بالوالدين والزوج لما تقدم ،ول يقبل إقرارها بالولد؛ لن فيه حمل النسب على
الغير ،وهو نسب الولد على الزوج ،قال ال تعالى{ :ادعوهم لبائهم} [الحزاب ]5/33:فل يقبل
إقرارها إلإذا صدقها الزوج ،أو تشهد امرأة قابلة أو غيرها على الولدة ،بخلف الرجل؛ فإنه يصح
إقراره بالولد؛ لن فيه حمل نسب الولد على نفسه.
ويلحظ أن إقرار المرأة بالولد إنما ل يصح إذا كانت ذات زوج ،أو معتدة منه ،فإن لم تكن متزوجة
ول معتدة ،فيصح إقرارها بالولد مطلقا؛ لن فيه إلزاما على نفسها دون غيرها .وكذلك يقبل إقرارها
بالولد إذا كانت متزوجة أو معتدة وادعت أن الولد من غير هذا الزوج.
وإذا صح القرار بالنسب لنسان ،شارك الورثة في الميراث؛ لنه لما ثبت نسبه من المقر صار
كالوارث المعروف ،فيشارك ورثة المقر .ول يجوز القرار بالنسب بغير هؤلء المذكورين من
الوالدين والولد والزوج والزوجة ،مثل الخ والعم والجد وابن البن ،وإ ن صدّقه المقر له؛ لنه فيه
حمل النسب على الغير ،إل إذا ثبت النسب ببرهان ،كما سيأتي.
- 2القرار بحمل النسب على الغير :القرار من الرجل بالنسب على الغير ،كهذا أخي أو عمي:
قد يثبت به النسب بإثباته بالبينة عند أبي حنيفة ومحمد ،بواسطة إقرار رجلين أو رجل وامرأتين؛ لن
في القرار حمل النسب على غيره ،فاعتبر بمثابة الشهادة ،فلزم فيه العدد المذكور.
وقال مالك :ل يثبت النسب إل بإقرار اثنين؛ لنه يحمل النسب على غيره ،فاعتبر فيه العدد كالشهادة.
وقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف :إن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الرث ،ثبت نسبه،
وإن كان الوارث واحدا ذكرا أو أنثى؛ لن النسب حق يثبت بالقرار ،فلم يطلب فيه
( )8/255
العدد كالدين ،ولن القرار قول ل تشترط فيه عدالة ،فلم يصح قياسه على الشهادة (. )1
وقد يقتصر القرار بالنسب على الغير ممن ل يصح إقراره ،كالخ والعم والجد وابن البن على
إثبات حق المشاركة في الرث ( ، )2إذا لم يكن للمقر وارث معروف.
وعلى هذا :إن كان للمقر وارث معروف نسبه :قريب كأصحاب الفروض والعصبات ،أو بعيد كذوي
الرحام ،فالوارث المعروف أولى بالميراث من المقر له؛ لنه لما لم يثبت نسبه منه ،لم يزاحم
الوارث المعروف النسب ،فلو أقر شخص بأخ وله عمة أو خالة ،فالرث للعمة أو الخالة ،ول شيء
للمقر له؛ لنهما وارثان بيقين ،فكان حقهما ثابتا بيقين ،فل يجوز إبطاله بصرف الرث إلى غيرهما.
وإن لم يكن للمقر وارث معروف :استحق المقر له ميراثه؛ لن له ولية التصرف في مال مال نفسه
عند عدم الوارث ،فيستحق جميع المال ،وإن لم يثبت نسبه منه ،لما فيه من حمل النسب على الغير،
ول تعتبر هذه وصية في الحقيقة ،حتى إنه يترتب ما يأتي:
من أقر بأخ ،ثم أوصى لخر بجميع ماله :كان للموصى له ثلث جميع ماله خاصة .فالوصية تنفذ من
الثلث؛ لن المقر له بالخوة وارث في ظنه وزعمه ،ولو كان موصى له لشترك الثنان في قسمة
التركة نصفين ،لكن يعتبر القرار المذكور يمنزلة الوصية ،بدليل أنه يجوز للمقر أن يرجع عن
القرار؛ لن نسبه لم يثبت ،فل يلزمه القرار؛ لنه وصية من وجه ،فلو أقر شخص في مرضه بأخ،
وصدقه المقر له ،ثم أنكر المقر وراثته ،ثم أوصى بماله كله لنسان ومات ول وارث له ،كان ماله
جميعا للموصى له .فإن لم يوص لحد كان ماله لبيت المال؛ لن رجوعه عن القرار صحيح؛ لن
النسب لم يثبت ،فبطل إقراره.
وإذا مات إنسان وخلف ابنا واحدا ،فأقر بأخ آخر :لم يثبت نسب أخيه؛ لن فيه حمل النسب على
الغير ،والقرار مقبول في حق نفسه غير مقبول في حق غيره ،ويشارك المقر له بالخوة المقر في
الرث من أبيه؛ لن إقراره تضمن شيئين :حمل النسب على الغير ،ول ولية له عليه ،فل يثبت
النسب ،والشتراك في المال ،وله فيه ولية ،فيثبت .ومن مات وترك ابنين ،فأقر أحدهما بأخ ثالث:
فإن صدقه أخوه المعروف في أخوته ،اشترك المقر له مع البنين في الميراث .وإن كذبه فيه ،فإنه
يقسم المال بين الخوين المعروفي النسب نصفين ،ثم يقسم النصف بين الخ المقر له ،والخ المقر
مناصفة أيضا (. )3
-------------------------------
( )1المغني ،183/5 :الشرح الكبير ،417/3 :مغني المحتاج 261/2 :وما بعدها ،البدائع229/7 :
وما بعدها.
( )2ويلزم المقر في حق نفسه أيضا بالنفقة والحضانة ،كما يلزم بالرث إذا تصادق المقر له والمقر
على القرار؛ لن إقرارهما حجة عليهما.
( )3راجع البدائع ،230/7 :تكملة فتح القدير ،19/7 :تبيين الحقائق ،28/5 :الدر المختار،487/4 :
اللباب شرح الكتاب ،87/2 :مغني المحتاج ،261/2 :المغني ،186/5 :الشرح الكبير للدردير:
.417 ،415/3
( )8/256
( )8/257
( )8/258
إل أن المالكية ( : )1أثبتوا شرب الخمر بالرائحة ،والزنا بالحمل ،ووافقهم ابن القيم في إثبات الزنا
بالحمل ،وفصل الحنابلة ( )2فقالوا :تحد الحامل بالزنا ،وزوجها بعيد عنها إذا لم تدّع شبهة ،ول يثبت
الزنا بحمل المرأة وهي خلية ل زوج لها.
قال ابن القيم ( : )3نظر جمهور الفقهاء كمالك وأحمد وأبي حنيفة إلى القرائن الظاهرة والظن الغالب
الملتحق بالقطع في اختصاص كل واحد منها بما يصلح له ،ورأوا أن الدعوى تترجح بما هو دون
ذلك بكثير ،كاليد والبراءة والنكول ،واليمين المردودة ،والشاهد واليمين ،والرجل والمرأتين ،فيثير
ذلك ظنا تترجح به الدعوى .ومعلوم أن الظن الحاصل ههنا أقوى بمراتب كثيرة من الظن الحاصل
بتلك الشياء ،وهذا مما ل يمكن جحده ودفعه.
وقد نصب ال سبحانه على الحق الموجود والمشروع علمات وأمارات تدل عليه وتبينه .ونصب
على اليمان والنفاق علمات وأدلة .واعتبر النبي صلّى ال عليه وسلم وأصحابه من بعده العلمات
في الحكام ،وجعلوها مبينة لها ،كما اعتبر العلمات في اللقطة ،وجعل صفة الواصف لها آية
وعلمة على صدقه ،وأنها له.
وجعل الصحابة الحبل علمة وآية على الزنا ،فحدوا به المرأة ،وإن لم تقر ،ولم يشهد عليها أربعة،
بل جعلوا الحبل أصدق من الشهادة ،وجعلوا رائحة الخمر وقيئه لها آية وعلمة على شربها ،بمنزلة
القرار والشاهدين.
وجعل النبي صلّى ال عليه وسلم نحر كفار قريش يوم بدر عشر جزائر أوتسعا ،آية وعلمة
على كونهم ما بين اللف والتسع مئة ،واعتبر العلمة في السيف وظهور أثر الدم به في الحكم
بالسلَب لحد المتداعيين .ونزّل الثر منزلة بينة .واعتبر إنبات الشعر حول القبُل في البلوغ ،وجعله
آية وعلمة له .فكان يقتل من السرى يوم قريظة من وجدت فيه تلك العلمة ،ويستبقي من لم تكن
فيه ،وجعل الحيض علمة على براءة الرحم من الحمل .واعتبر العلمة في الدم الذي تراه المرأة
ويشتبه عليها :هل هو حيض أو استحاضة؟ واعتبر العلمة فيه بوقته ولونه ،وحكم بكونه حيضا بناء
على ذلك.
وفرق الحنابلة بين الركاز واللقطة بالعلمات :فقالوا :الركاز:ما دفنته الجاهلية ،ويعرف برؤية
علماتهم عليه ،كأسماء ملوكهم وصورهم وصلُبهم .وأما ما عليه علمات المسلمين كأسمائهم ،أو
كقرآن ونحوه فهو لقطة؛ لنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه .وإن كان على بعضه علمة السلم،
وعلى بعضه علمة الكفار هو لقطة؛ لن الظاهر أنه صار لمسلم دفنه في الرض .وما ليس عليه
علمة فهو لقطة ،تغليبا لحكم السلم.
-------------------------------
( )1القوانين الفقهية :ص .356
( )2مطالب أولي النهى.193/6 :
( )3الطرق الحكمية في السياسة الشرعية :ص 97وما بعدها 214 ،وما بعدها.
( )8/259
حكْمِ في السلم
البَابُ السّادسِ :نظَام ال ُ
وفيه الكلم عن فصول أربعة:
الفصل الول :السيادة ـ سلطة التشريع العليا في الحكم السلمي.
الفصل الثاني :سلطة التنفيذ العليا ـ المامة.
الفصل الثالث :السلطة القضائية في السلم.
الفصل الرابع :الدولة السلمية.
صلُ الوّل :السّيادة ـ سلطة التّشريع العُليا في الحكم السلميّ
ال َف ْ
يشمل الفصل الول أربعة مباحث وهي ما يأتي:
المبحث الول ـ السيادة أو الحاكمية :
لخلف بين المسلمين في أن مصدر جميع الحكام التشريعية من أوامر ونواهٍ هو ال تعالى ،ل
يشاركه فيه أحد من الناس فيما وضع من مبادئ وأصول وتشريعات مفصلة محددة .وطريق التعرف
عليها ما أنزل ال في قرآنه أو أوحى به إلى نبيه محمد صلّى ال عليه وسلم .
( )8/260