You are on page 1of 34

‫وضع القليات في الدولة‬

‫السلمية‬

‫محمد بن شاكر الشريف‬


‫باحث شرعي بمجلة البيان‬

‫‪1‬‬
‫وضع القليات في الدولة السلمية‬
‫محمد‬
‫بن شاكر الشريف‬
‫باحث‬
‫شرعي بمجلة البيان‬
‫تقديم‪:‬‬
‫منذ عقدين من الزمن‪ -‬من القرن المنصرم‪ -‬أو أزيد قليل بدأ‬
‫الحديث يكثر عن أوضاع القليات وأخذ يتبلور حتى صار لفظ‬
‫القليات مصطلحا له تعريفه الخاص به وكذلك الغايات التي‬
‫يسعى واضعوا هذا المصطلح لتحقيقها وترويجها في العالم‬
‫من وراء ذلك‪ ،‬وقد استغلت حكومات الدول القوية في‬
‫العصر الحاضر)أمريكا والدول الغربية( الراغبة في إعادة‬
‫السيطرة على العالم مرة أخرى ورقة القليات وما تثيرها‬
‫من مشاكل في بعض البلدان بحجة الحفاظ على حقوق‬
‫القليات انطلقا من مفهوم حقوق النسان ذريعة للضغط‬
‫على حكومات الدول المعنية والتدخل في شئونها الداخلية‬
‫لتحقيق المصالح الستراتيجية الكبرى لتلك الدول الطامعة‪،‬‬
‫وفي هذه الورقة نحاول أن نقوم بمقاربة لمفهوم " القليات"‬
‫وما يتعلق أو يرتبط به من تصورات أو أحكام في الدولة‬
‫بوصفه شريحة من شرائح المجتمع من منظور إسلمي‪.‬‬
‫تعريف القليات‪:‬‬
‫البشرية من لدن آدم عليه السلم إلى يومنا هذا تنوعت‬
‫وتعددت في العراق والجناس واللوان واللغات وفي العقائد‬
‫والتصورات وكذلك في العمال والسلوك‪ ،‬وتبعا لذلك توزع‬
‫الناس على هذه التصنيفات واختلف تعدادهم زمانيا ومكانيا‪،‬‬
‫فعرق يكثر تعداده في مكان بينما يقل في مكان آخر في‬
‫الفترة الزمنية نفسها‪ ،‬وعرق آخر قد يكثر في زمان بينما‬
‫يقل في زمان آخر في البقعة الجغرافية نفسها ‪ ،‬وقل مثل‬
‫ذلك بالنسبة للعقائد والتصورات والجناس واللغات‪ ،‬فأصبحنا‬
‫نجد على المتداد التاريخي والجغرافي كتل بشرية قد‬
‫تمحورت حول عدة قواسم مشتركة فيما بينها وتتميز بها في‬
‫الوقت نفسه عن مجموعات أخر‪ ،‬وقد جرى الصطلح‬
‫المعاصر أن يطلق على أحدى تلك الكتل لفظ " القلية"‬
‫انطلقا من عدة محددات ‪0‬‬
‫‪2‬‬
‫محددات مفهوم القلية‪:‬‬
‫ترجع لفظة أقلية لغة إلى مادة قلل وبالرجوع لهذه المادة‬
‫في المعاجم نجد أنها تنتظم ثلثة معان‪ :‬فمنها معنى الِقْلة‬
‫التي هي ضد الكثرة قال الله تعالى‪ ":‬واذكروا إذ كنتم قليل‬
‫فكثركم" قال في اللسان ‪ ":‬الِقْلة خلف الكثرة"‪ ،1‬ومنها‬
‫ذهاب البركة قال أبو عبيد في تفسير قول ابن مسعود "الربا‬
‫‪2‬‬
‫وأن كثر فهو إلى ُقل" قال‪ :‬هو وإن كثر فليست له بركة"‬
‫ذلة يعني‬ ‫ذل وال ّ‬‫قلة كال ّ‬ ‫وكذلك قال الزمخشري‪ " :‬الُقل وال ِ‬
‫أنه ممحوق البركة"‪ 3‬وقال في اللسان ‪ ":‬وفـي حديث ابن‬
‫ل؛ معناه ِإلـى قِّلة َأي َأنه‬ ‫مسعود‪ :‬الّربا‪ ،‬وِإن ك َُثر‪ ،‬فهو ِإلـى قُ َ‬
‫ؤول ِإلـى النقص‪،‬‬ ‫وِإن كان زيادة فـي الـمال عاجل ً فإنه ي َ ُ‬
‫دقات" ‪ ،‬ومنها الضعة‬
‫‪4‬‬
‫ص َ‬ ‫حق الله الّربا وي ُْربـي ال ّ‬
‫كقوله‪ :‬يمـ َ‬
‫والدونية‪ :‬قال في اللسان ‪ ":‬الُقل من الرجال‪ :‬الخسيس‬
‫الدين"‪ 5‬ومن الشياء اللطيفة أن التجاهات المعاصرة في‬
‫بيان مفهوم القلية وتعريفها تكاد تعود إلى هذه المعاني‬
‫اللغوية‪ ،‬فمفهوم القلية له فيها ثلثة اتجاهات‪ :‬اتجاه ينظر‬
‫إلى العدد وبناء عليه ينظر إلى القلية على أنها القل عددا‬
‫بالنسبة للجماعة الخرى الكثر عددا وانطلقا من ذلك تعرف‬
‫القلية أنها‪ ":‬مجموعة من السكان لهم عادة جنسية الدولة‬
‫غير أنهم يعيشون بذاتيتهم ويختلفون عن غالبية المواطنين‬
‫في الجنس أو اللغة أو العقيدة أو الثقافة أو التاريخ أو‬
‫العادات أو كل ذلك«‪ ،‬وأيضا القلية في هذا التجاه هي‪» :‬أي‬
‫طائفة من البشر المنتمين إلى جنسية دولة بعينها متى تميز‬
‫عن أغلبية المواطنين المكونين لعنصر السكان في الدولة‬
‫المعنية من حيث العنصر أو الدين أو اللغة«‪،6‬ومن الممكن أن‬
‫تكون هذه الجماعة صاحبة النفوذ والتأثير في المجتمع و‬
‫اتجاه ينظر إلى القوة والسيطرة والتأثير وبناء عليه ينظر إلى‬
‫القلية على أنها الجماعة الضعف التي ل سيطرة لها في‬
‫المجتمع بالنسبة لبقية الجماعة القوى التي يتكون منها‬
‫‪ 1‬لسان العرب ‪11/563‬‬
‫‪ 2‬الغريب لبن سلم ‪4/92‬‬
‫‪ 3‬الفائق ‪3/222‬‬
‫‪ 4‬اللسان ‪11/563‬‬
‫‪ 5‬اللسان ‪11/564‬‬
‫‪ 6‬الملف السياسي مؤسسة البيان للصحافة والطباعة والنشر عدد الجمعة ‪10‬‬
‫ذوالقعدة ‪1424‬هـ ‪ 2 -‬يناير ‪ -2004‬العدد ‪659‬‬
‫‪3‬‬
‫المجتمع وانطلقا من ذلك تعرف القلية أنها " مجموعة من‬
‫الشخاص في الدولة ليست لها السيطرة أو الهيمنة‪ ،‬تتمتع‬
‫بجنسية الدولة إل أنها تختلف من حيث الجنس أو الديانة أو‬
‫اللغة عن باقي الشعب‪ ،‬وتصبو إلى حماية ثقافتها وتقاليدها‬
‫ولغتها الخاصة"‪ 7‬ومن الممكن أن تكون هذه الجماعة هي‬
‫الكثر عددا في المجتمع‪ ،‬واتجاه ينظر إلى المكانة والرفعة‬
‫والوجاهة وبناء عليه ينظر إلى القلية على أنها الجماعة‬
‫المستضعفة مهضومة الحقوق التي ينظر إليها نظرة دونية‬
‫وانطلقا من ذلك تعرف القلية أنها "مجموعة من مواطني‬
‫الدولة تختلف عن بقية مواطنيها من حيث الجنس أو الدين‬
‫أو اللغة أو الثقافة تقبع في ذيل السلم الجتماعي " ومن‬
‫الممكن أن تكون هذه الجماعة هي الكثر من حيث العدد‪،‬‬
‫وقد يظهر أن تكون النظرة إلى القلية من وجهة القوة‬
‫والتأثير ومن وجهة المكانة متلزمة من حيث الواقع في‬
‫أغلب الحيان والحوال للنظر إليها من ناحية العدد‪ ،‬إذ غالبا‬
‫ما تكون الكثرية العددية هي القوى صاحبة المكانة‬
‫والوجاهة‪ -‬إل في القليل النادر‪ ،-‬وعلى ذلك فإنه يمكننا‬
‫تعريف " القلية" ‪ :‬أنها مجموعة من مواطني الدولة‪ -‬أية‬
‫دولة‪ -‬تشكل أقلية عددية بالنسبة لتعداد بقية المواطنين‬
‫تتميز عنهم إما عرقيا أو قوميا أو دينيا أو ثقافيا أو لغويا أو‬
‫كل ذلك ‪ ،‬وهي في الغالب العم تعاني من ضعف أو نقص‬
‫في القوة أو المكانة تؤثر على وضعها السياسي والجتماعي‬
‫في المجتمع" ومن البين أن هذا المعنى الصطلحي للقليات‬
‫ل وجود له إل في ظل الوحدة السياسية التي يطلق عليها‬
‫لفظ " دولة " والتي تفرض سلطانها على جميع القاطنين‬
‫لقليم هذه الدولة ‪ ،‬وأما خارج إطار الدولة القومية فل معنى‬
‫للحديث عن القليات ؛ فإن كل مجموعة عرقية أو لغوية أو‬
‫دينية تكون وحدة مستقلة ‪.‬‬

‫مطالب القليات‪:‬‬
‫القليات مع شعورها بالتمايز العرقي أو الديني أو الثقافي‬
‫عن بقية المجتمع ترى أن لها مطالب تجاه الكثرية‪ ،‬وهذه‬
‫المطالب ترتبط ارتباطا وثيقا بوضع القلية في هذه البلدة أو‬
‫تلك‪ ،‬وهي ليست بالضرورة مطالب واحدة بالنسبة لجميع‬
‫المرجع السابق‬ ‫‪7‬‬

‫‪4‬‬
‫القليات في الدول المختلفة‪ ،‬وإن كان يغلب عليها التقارب‬
‫انطلقا من تقارب الوضاع في الدول المختلفة‪ ،‬كما أن هذه‬
‫المطالب هي مطالب القلية على وجه العموم وليست‬
‫مطالب أقلية محددة ) إذ إن بعضها يتعارض مع بعض بحسب‬
‫وضع القلية في مجتمعها ( فمن أهم تلك المطالب‪:‬‬
‫المحافظة على الهوية ‪0‬‬ ‫‪.1‬‬
‫المساواة في الحقوق السياسية ‪0‬‬ ‫‪.2‬‬
‫الستقلل التام ‪0‬‬ ‫‪.3‬‬
‫‪ .4‬الحكم الذاتي ‪0‬‬
‫‪ .5‬إلغاء قوانين التفرقة والتمييز ‪0‬‬
‫‪ .6‬الندماج التام في الكثرية ‪0‬‬
‫مشاكل القليات‪:‬‬
‫يترتب على وجود القليات بما تعنيه من التباين والتمايز عن‬
‫الغلبية‪-‬إذا لم يتم التعامل معها على أساس العدل‪ -‬مشاكل‬
‫كثيرة من أهمها‪ :‬تفتيت وحدة المجتمع‪ ،‬ونشوء المصادمات‬
‫بين القلية والكثرية‪ ،‬ومحاولة القلية النفصال أو الستقلل‪،‬‬
‫والتعاون مع أعداء الغلبية)المة(فالقليات عرضة للختراق‬
‫من قبل العداء‪.‬‬
‫وقد حاولت بعض النظمة المستبدة التغلب على مشاكل‬
‫القليات عن طريق محاولة إلغاء القليات والقضاء عليها‬
‫وليس عن طريق التعاون والتفاهم معها واللتقاء على كلمة‬
‫سواء‪ ،‬فقامت بأمور كثيرة منها‪ ،:‬إنكار وجود القليات‪،‬‬
‫والتهميش‪ ،‬والتمييز‪ ،‬وعدم العتراف بلغاتهم وثقافاتهم‪،‬‬
‫والتشتيت والتهجير‪ ،‬والتصفيات والقمع‪ ،‬والطرد والنفي‪،‬‬
‫والمحاكمات والسجون‪ ،‬والحرمان من الوظائف الحكومية‬
‫المهمة‪ ،‬والبعاد عن القوات المسلحة والشرطة‪ ،‬غير أن‬
‫هناك أنظمة ترفع شعارات حقوق النسان والعتراف بالخر‬
‫حاولت استيعاب القليات والستفادة منها ودمجها في‬
‫المجتمع أو إقامة العلقات معها على أساس من التوازي‬
‫والمقابلة لوضع القلية ومكانتها‪ ،‬وذلك عن طريق اللجوء إلى‬
‫خيار العلمانية الذي يقوم بتحييد دور الدين بحيث ل يتدخل‬
‫في شئون المجتمع‪ ،‬وكذلك اللجوء إلى خيار الديمقراطية‬
‫الذي يقوم بتحييد دور اللغة والعرق والثقافة‪ ،‬وأصبحت‬
‫المواطنة في هذه الدول هي العلقة الساسية التي تربط‬
‫بين جميع مواطني الدولة المعينة بصرف النظر عن‬
‫‪5‬‬
‫النتماءات الدينية والعرقية والثقافية وغيرها‪ ،‬لكن هذا الحل‬
‫رغم نجاعته في كثير من البلد التي توصف بأنها متقدمة إل‬
‫أن عليه ثلث مؤاخذات‪ :‬الولى‪ :‬إضاعة الدين وإزاحته عن‬
‫التدخل أو التأثير في الحياة‪ ،‬وهذا يعني بالنسبة للمسلم أن‬
‫يهجر الشريعة على مستوى اللتزام والتصرفات والحتكام‬
‫مما يكون له خطورته على تدين المسلم نفسه حيث قد‬
‫يخرجه ذلك خارج حظيرة الدين‪.‬‬
‫الثانية‪:‬أن الحزاب السياسية المنبثقة عن الحل الديمقراطي‬
‫قد تكون وسيلة لتأكيد النقسامات العرقية واللغوية‪ ،‬حيث‬
‫يصبح التصويت وسيلة لتأكيد الهوية والتمسك بها بديل عن‬
‫الندماج في المواطنة‪ ،‬كما قد تكون الديمقراطية هي‬
‫الوسيلة القانونية المشروعة في إجحاف الغلبية بحقوق‬
‫القلية‪ ،‬إذ أن المبدأ الديمقراطي يبين أن الذي يحصل على‬
‫الغلبية هو الذي يمثل سيادة الشعب‪ ،‬وانطلقا من هذه‬
‫السيادة فإن له أن يسن ما شاء من القوانين‪ ،‬ففي ظل‬
‫أقلية ل يتجاوز تعدادها مثل ‪ %5‬أو نحوا من ذلك تكون‬
‫الديمقراطية وسيلة لفرض ديكتاتورية الغلبية على القلية‬
‫الثالثة ‪ :‬أن هذا الحل وإن كان موجودا من الناحية النظامية‬
‫أو القانونية فإنه حل ظاهري في كثير من وجوهه أو بعضها ‪،‬‬
‫ويمكننا أن ندرك ذلك بمتابعة حالة القليات المسلمة في‬
‫البلد الغربية ‪ ،‬فرغم أن بعض هذه القليات تعد من مواطني‬
‫تلك الدول وتتمتع ظاهريا بالحقوق التي يتمتع بها المواطن‪،‬‬
‫إل أنه ل زالت هناك تفرقة ولو على مستوى العلقات‬
‫الجتماعية‪ ،‬أو نفسيات الشعوب‪ ،‬إذ لم تستطع تلك القوانين‬
‫النظرية أن تغير كثيرا من نظرة المجتمع الغربي تجاه‬
‫المسلم ولو كان مواطنا‪ ،‬فحتى الن لم نجد مسلما من‬
‫مواطني هذه الدول يحتل مكانا مرموقا أو منصبا مهما من‬
‫مناصب الدولة العليا‪ ،‬مما يدل على وجود التمييز الديني في‬
‫تلك البلد المتقدمة خاصة في مقابل السلم‪ ،‬هذا ملخص‬
‫سريع لوضع القليات في المجتمع الدولي في عصرنا الحاضر‬
‫‪ ،‬فكيف تعاملت شريعة السلم مع موضوع القليات؟هذا ما‬
‫سنعرض له في هذا البحث إن شاء الله ‪ ،‬ويتوقع أن يغطي‬
‫البحث النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬قواعد أو أصول عامة في الموضوع‪.‬‬
‫‪ -2‬أنواع القليات‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫‪ -3‬القليات بين التمايز والندماج‪.‬‬
‫القليات والمشاركة السياسية‬ ‫‪-4‬‬
‫القليات وتولي الوزارة‪:‬‬ ‫‪-5‬‬
‫تحيز القلية وتجمعهم في مكان‪:‬‬ ‫‪-6‬‬
‫القليات والجهاد في سبيل الله‪:‬‬ ‫‪-7‬‬
‫القليات والدارة‪:‬‬ ‫‪-8‬‬
‫القليات وحرية التعبير عن الخصوصيات‪:‬‬ ‫‪-9‬‬
‫‪ -10‬القليات بين التمييز والتهميش‪:‬‬
‫ولما كان الكتاب والسنة هما أصل الصول اللذان يعتمد‬
‫عليهما في تقرير الحكام‪ ،‬فإن البحث يجري على هذه‬
‫القاعدة مع الستعانة والسترشاد بفهم سلف هذه المة‬
‫وخاصة زمن الخلفة الراشدة وصدر السلم ‪ ،‬مع الجتهاد‬
‫في التمييز بين ما كان من أقوال أهل العلم معبرا عن‬
‫التشريع العام الذي تطالب به المة في كل وقت ومكان‪،‬‬
‫وما كان من قبيل السياسات الجزئية التي تمثل حلول وقتية‬
‫مرتبطة بواقعها في إطار النصوص الشرعية ‪ ،‬والتفريق بين‬
‫المرين مهم جدا ‪ ،‬إذ التشريع العام هو شرع الله ودينه ل‬
‫يملك أحد تغييره أو تبديله ‪ ،‬بينما السياسات الجزئية تمثل‬
‫الجتهاد الذي يحاول أن يطبق النص على الواقع محققا‬
‫لمرين‪:‬الول‪ :‬اللتزام بالنص وعدم الخروج عليه‪ ،‬والثاني‪:‬‬
‫مراعاة خصوصية ذلك الواقع بما ل يتعارض مع النصوص‪،‬‬
‫ومن البين أنه في هذه الحالة إذا اختلف الواقع بفعل عوامل‬
‫التغيير فإن التطبيق أيضا يختلف‪ ،‬لكن الواقع الذي يعول‬
‫عليه في تغيير التطبيق هو الواقع الناتج عن تطور الحياة في‬
‫أشكالها ووسائلها وليس الختلف الناتج عن المعصية‬
‫والمخالفة لشرع الله ‪ ،‬وهذا أوان الشروع في المقصود ‪،‬‬
‫نسأل الله بعونه ومنه وكرمه التوفيق والسداد وأن يعين‬
‫على التمام‪.‬‬

‫قواعد وأصول عامة‪:‬‬


‫يحسن بنا أن نقدم هنا بعض القواعد والصول العامة التي‬
‫يكفل التذكر لها ومراعاتها أن يظل البحث في إطاره السليم‬
‫بحيث ل يخرج عن حدوده الصحيحة وحتى تكون معينة على‬
‫فهم الحكام الجزئية التي قد يختلط المر فيها على بعض‬

‫‪7‬‬
‫الناظرين بحيث ل يرى رابطا يربط بعضها ببعض فمن تلك‬
‫القواعد ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬السلم دين الحق الذي يجب على الكافة اليمان به‬
‫والدخول فيه واتباعه وهو الرسالة الوحيدة التي بقيت‬
‫على صفائها ونقائها لم تشبها شائبة فلم يدخلها تحريف‬
‫أو تزييف‪ ،‬ولذا فإن الحكام التي اشتملت عليها أصول‬
‫السلم ) الكتاب والسنة ( هي أحكام صحيحة شرعها‬
‫الله تعالى وهو يحبها ويحب العمل بها ويثيب على ذلك‪،‬‬
‫ويبغض مخالفتها أو تركها كما يبغض مخالفيها أو تاركيها‬
‫ويعاقب على ذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬كل كتب الرسالت السابقة على السلم دخلها‬
‫التحريف والتبديل والتزييف فاختلط فيها الحق بالباطل‬
‫ولم تعد أصول تلك الرسالت ) التوراة والنجيل (‬
‫الموجودة الن في أيدي اليهود والنصارى تمثل كلمة‬
‫الله أو وحيه الصافي الذي لم يدخله تغيير أو تبديل‪ ،‬لذا‬
‫فل يحل اتباع تلك الرسالت لمن بلغته دعوة السلم‪.‬‬
‫‪ -3‬السلم ليس جنسية أو قومية ولكنه عقيدة وعمل‬
‫كل من آمن وعمل به فهو مسلم من أي جنس أو قوم‬
‫كان‪ ،‬فالسلم ليس حكرا على قوم معينين‪ ،‬أو أنه‬
‫مرتبط بجنسية معينة‪ ،‬أو مكان ما‪ ،‬أو لغة أو ثقافة‪،‬‬
‫وبالتالي فإن كل إنسان يمكنه أن يكون مسلما بالدخول‬
‫فيه وشهادة شهادة الحق من غير توقف ذلك على‬
‫موافقة أحد أو اعترافه بذلك أو تسجيله في وثيقة‬
‫رسمية‪ ،‬ومن غير أن يؤثر ذلك على جنسيته أو لغته أو‬
‫إقليمه الذي ينتمي إليه ‪.‬‬
‫‪ -4‬هداية البشرية وإرشادها إلى منهاج السلم ودعوتها‬
‫إليه وبذل المجهود في ذلك وتحمل المشاق وتجاوز‬
‫العقبات واتخاذ الوسائل المحققة لذلك ‪ ،‬مهمة انيطت‬
‫بأمة المسلمين ويجب عليهم الوفاء بذلك‪.‬‬
‫‪ -5‬المسلمون أمة واحدة من دون الناس ل تفرقهم‬
‫اللوان أو اللغات أو القوام أو البلدان‬
‫‪ -6‬ل إكراه في الدين‪ ،‬فل يجبر كافر أصلي على أن يغير‬
‫دينه ويدخل في السلم‪ ،‬ول يضيق عليه من أجل ذلك ‪.‬‬
‫‪ -7‬العدل قيمة عظيمة من القيم التي حرصت عليها‬
‫الشريعة وأكدتها سواء مع الموافق أو المخالف‪ ،‬ومع‬
‫‪8‬‬
‫القريب والبعيد ومع الصديق والعدو‪ ،‬وقد ربط الشرع‬
‫بين العدل والتقوى فل يمكن أن يحقق المسلم التقوى‬
‫إذا كان بعيدا عن العدل قال الله تعالى ‪ ":‬ول يجرمنكم‬
‫شنئان قوم على أل تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"‬
‫فمع وجود الشنئان وهو الكره والبغض فإن المسلم‬
‫مأمور بالعدل‪.‬‬
‫‪ -8‬لم يكتف السلم بإيجاب العدل وإنما حض على‬
‫الحسان الذي هو التنفل والزيادة على الواجب فقال‬
‫تعالى ‪ ":‬إن الله يأمر بالعدل والحسان" ‪.‬‬
‫‪ -9‬الوفاء بالعهود والعقود التي تعقد حتى وإن كان ذلك‬
‫مع العداء فقد قال الله تعالى‪ ":‬أوفوا بالعقود" وقال‪":‬‬
‫إن الله ل يحب الخائنين" ‪.‬‬
‫‪ -10‬النهي عن الظلم والبغي قال تعالى في الحديث‬
‫القدسي‪ ":‬يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي‬
‫وجعلته بينكم محرما فل تظالموا"‪ 8‬فالظلم محرم ولو‬
‫كان للعداء‪.‬‬
‫هذه بعض القواعد التي سوف نصطحبها معنا في هذا البحث‬
‫لكي تقود المسيرة وتعصمها بإذن الله من الوقوع في الزلل‪.‬‬

‫لفظ القليات في التراث السلمي‪:‬‬


‫ل يكاد يعثر الباحث في التراث السلمي على استخدام‬
‫للفظ القلية في المعنى المستخدم فيه اليوم‪ ،‬لكن هذا ل‬
‫يعني أنه لم تكن هناك أقليات في الدولة السلمية‪ ،‬أو أنه لم‬
‫تتم دراسة القليات في الفقه السلمي‪ ،‬بل كانت هناك في‬
‫الواقع أقليات ببعض المعاني الموجودة اليوم‪ ،‬كما تمت‬
‫دراسة أوضاع تلك القليات والحكام المتعلقة بها ولكن تحت‬
‫أسماء أخرى هي أوفق وأدل على المقصود من لفظ‬
‫القليات كما سيأتي‪ ،‬وقد تعامل السلم مع ظاهرة القلية‬
‫انطلقا من شرعه المشبع بالعدل والحسان فنتج من ذلك‬
‫الخير والستقرار للدولة وللقلية في آن واحد‪.‬‬
‫أنواع القليات‪:‬‬
‫عندما أرسل الله تعالى رسوله محمدا ‪ ‬بالهدى ودين الحق‬
‫ليظهره على الدين كله دعا قومه أول في مكة ثم بدأ في‬
‫توسيع مجال الدعوة‪ ،‬وقد عارضه المشركون في أول المر‬
‫‪8‬‬
‫أخرجه مسلم كتاب رقم‬
‫‪9‬‬
‫وتعرض هو وأتباعه لكثير من مضايقات المشركين وتعنتهم‬
‫وإيذائهم الشديد لضعفاء المسلمين ‪ ،‬لكن الرسول ‪‬‬
‫تحمل هو ومن معه وصبروا حتى فتح الله عليهم وانتشر‬
‫السلم وعم نوره جنبات الرض وقامت دولة السلم التي‬
‫شملت العديد من القاليم العربية )جزيرة العرب ( وغير‬
‫العربية )والتي تعرب أكثرها فيما بعد ( ‪ ،‬ولما كان السلم‪-‬‬
‫كما ذكرنا في القواعد والصول‪ -‬ل يكره أحدا على الدخول‬
‫فيه امتثال للتوجيه القرآني ‪ ":‬ل إكراه في الدين قد تبين‬
‫الرشد من الغي" فقد ظلت مجموعات من القوام الكافرة‬
‫في البلد المفتوحة محتفظة بدينها ولم تدخل في السلم‪،‬‬
‫وانقسمت الرض بذلك إلى جزأين‪ :‬جزء سيطر عليه‬
‫المسلمون وأقاموا فيه دينهم وبنوا عليه دولتهم كما جاء في‬
‫كتاب ربهم وسنة نبيه محمد ‪ ‬وهي ما عرف في الصطلح‬
‫الشرعي بـ"دار السلم "‪ ،‬وجزء يسيطر عليه الكافرون‬
‫بنظمهم وشركهم وأضاليلهم وهي ما عرف في الصطلح‬
‫الشرعي بـ" دار الكفر"‪ ،‬فدار السلم هي الدار )القليم (‬
‫التي يسيطر عليها المسلمون أو تحكمها شريعة السلم ولو‬
‫كان المسلمون فيها أقل عددا من غيرهم‪ ،‬ودار الكفر هي‬
‫الدار )القليم ( التي يسيطر عليها الكافرون أو تحكمها‬
‫شرائعهم الكافرة وإن كانت أعدادهم فيها قليلة‪.9‬‬
‫ومرادنا بالقلية هنا في هذا البحث " مجموعة الشخاص في‬
‫الدولة التي ليست لها السيطرة أو التحكم أو التأثير نظرا‬
‫لمخالفتها للمسلمين في دينهم )السلم( أو عقيدتهم)عقيدة‬
‫أهل السنة والجماعة( أخذا من المعنى اللغوي المتقدم الُقل‬
‫من الرجال‪ :‬خسيس الدين"‪ ،‬وإن كانت أعدادها أكثر من‬
‫غيرها‪ ،‬وانطلقا من ذلك فإنه يمكننا أن نميز هنا نوعين من‬
‫القليات‪ :‬القليات الدينية )أقليات الملل(‪ ،‬والقليات العقدية‬
‫)أقليات النحل( ‪ ،‬و القليات الدينية في بلد المسلمين‬
‫نوعان‪:‬أقلية ذات إقامة دائمة‪ ،‬وأقلية ذات إقامة مؤقتة‪ ،‬فأما‬
‫القلية ذات القامة الدائمة فهم أهل الذمة‪ ،‬وأما القلية ذات‬
‫القامة المؤقتة فهم المستأمنون‪ ،‬أما بقية الكفار في دار‬
‫الحرب فل يدخلون في الحديث عن القليات الدينية لن‬
‫إقامتهم ليست في دار السلم ‪ ،‬وكذلك كفار الدولة التي‬
‫‪ 9‬انظر بدائع الصنائع للكاساني ‪ 131-7/130‬وانظر الم للشافعي ‪ 4/279‬وانظر‬
‫العولمة وخصائص دار السلم ودار الكفر د‪/‬عابد السفياني ‪55-53‬‬
‫‪10‬‬
‫بينها وبين دار السلم معاهدة أو صلح أو هدنة فل يدخلون‬
‫في الحديث عن القليات لنها كيان متميز ل يتبع دار السلم‪.‬‬

‫أ‪-‬القليات الدينية )أهل الذمة والمستأمنون(‪:‬‬


‫أهل الذمة هم الكفار الذين أبوا الدخول في دين السلم‬
‫لكنهم رغبوا في البقاء في دار السلم والتمتع بحماية‬
‫المسلمين لهم في دينهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم‪،‬‬
‫سواء كانوا من أهل تلك البلد المفتوحة أو قدموا من ديار‬
‫الكفر راغبين في ذلك بناء على عقد يعقد بينهم وبين دولة‬
‫المسلمين يعرف بعقد الذمة‪ 10‬حيث يرتب هذا العقد حقوقا‬
‫وواجبات على الطرفين ينبغي الوفاء بها من كليهما‪ ،‬ويدخل‬
‫في هؤلء الذين يجوز أن يعقد لهم عقد الذمة‪ :‬أهل الكتاب‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬ويلحق بهم في ذلك المجوس عبدة النيران‬
‫‪ ،‬قد ثبتت النصوص بذلك وانعقد عليه الجماع ‪ ،‬أما من‬
‫عداهم من عبدة الوثان فقد اختلف أهل العلم بشأنهم هل‬
‫يجوز أن تعقد لهم الذمة أم ليس أمامهم إل السلم أو‬
‫الحرب ‪ ،‬وقد رجح طائفة من أهل العلم دخول عبدة الوثان‬
‫فيمن يجوز أن تعقد لهم الذمة‪ ، 11‬وهو الذي يعضده الدليل‬
‫على ما تبين في حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعا وفيه ‪":‬‬
‫وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلث خصال أو‬
‫خلل فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم إلى أن‬
‫يقول‪ :‬فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل‬
‫منهم وكف عنهم"‪ ،12‬فعمم بلفظ المشركين ولم يستثن من‬
‫ذلك مشركا من المشركين‪ ،‬وأما المستأمنون‪ :‬فهم الكفار‬
‫من أهل دار الحرب أو دار الصلح الذين أبوا الدخول في‬
‫السلم ورغبوا في دخول دار السلم لهدف مؤقت ل‬
‫يجمعون إقامة بل يخرجون بعد المدة المعطاة لهم من قبل‬
‫منهم إلى بلدهم ‪ ،‬وهؤلء أنواع منهم‪:‬الرسل ‪ ،‬التجار ‪،‬‬ ‫من أ ّ‬
‫المستجيرون وطالبو حاجة‪ ،‬ول شك أن استعمال لفظ " أهل‬
‫الذمة " و " المستأمن" أولى بكثير من استخدام لفظ‬
‫"القلية" لن الخير ل يحمل أية دللة ذات قيمة أخلقية بل‬
‫يحمل ما يدل على البعد عن المجتمع والغتراب عنه مما‬
‫‪10‬‬
‫انظر الموسوعة الفقهية ‪122-7/121‬‬
‫انظر أحكام أهل الذمة لبن القيم ‪90-1/87‬‬ ‫‪11‬‬

‫أخرجه مسلم كتاب الجهاد والسير رقم ‪3261‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪11‬‬
‫يكون مدعاة للتنافر‪ ،‬بينما اللفاظ المستخدمة في الشرع‬
‫تحمل دللت ذات قيم أخلقية تساهم في احترام تلك العقود‬
‫والوفاء بها‪ ،‬كما قال أهل العلم‪) :‬الذمة‪ :‬المان في قوله "‬
‫َ‬
‫ه أجاره(‪ 13‬وفي اللسان‪:‬‬ ‫ويسعى بذمتهم أدناهم " و أذ َ ّ‬
‫م ُ‬
‫َ‬ ‫مة و ال ّ‬
‫ن‬
‫ن والضما ِ‬‫ذمام‪ ،‬وهما بمعنى العَْهد والما ِ‬ ‫) الذ ّ ّ‬
‫َ‬
‫مةِ لدخولهم فـي عهد‬ ‫ي أهل الذ ّ ّ‬
‫مة ِ ذ ِ ّ‬ ‫م َ‬
‫س ّ‬
‫مةِ والـحق‪ ،‬و ُ‬‫حْر َ‬‫والـ ُ‬
‫الـمسلـمين وَأمانهم(‪ 14‬والمستأمن هو الذي أعطي له المان‬
‫)الذي هو ضد الخوف( على نفسه وماله وعرضه ودينه‪ ،‬وهو‬
‫قريب من معنى "الذمة " والفرق بينهما في الصطلح من‬
‫وجهين ‪:‬أن عقد الذمة ل يعقده إل المام أو نائبه بينما عقد‬
‫المان يجوز أن يقع عقده من آحاد المسلمين‪ ،‬وأن عقد‬
‫الذمة مؤبد بينما عقد المان مؤقت‪.‬‬
‫ول يجوز أن يعد المرتدون من القليات التي يسمح بوجودها‬
‫في الدولة السلمية‪ ،‬لن المرتد‪-‬سواء ولد على السلم أو‬
‫كان كافرا فأسلم‪ -‬إذا لم يرجع ويتوب إلى الله مما وقع فيه‬
‫فل يجوز إقراره بجزية أو عهد أو أمان أو غير ذلك وليس‬
‫أمامه إل التوبة أو القتل‪.‬‬

‫عقد الذمة‪:‬‬
‫هو عقد بين الكفار الصليين الذين يجوز إقرارهم في بلد‬
‫المسلمين وبين الدولة السلمية يلتزم بمقتضاه أهل الذمة‬
‫بأداء الجزية ) وهي مقدار مالي أو ما يقابله يؤدى لدولة‬
‫السلم ( كما يلتزمون بإجراء أحكام السلم عليهم في غير‬
‫عقائدهم وعباداتهم الخاصة بهم ول يمتنعون من ذلك‪ ،‬ويكون‬
‫لهم في مقابل ذلك المان والحماية ‪.‬‬
‫وقد بلغ من عناية المسلمين بالوفاء للقليات الدينية في‬
‫بلدهم بما عاقدوهم عليه أن الرسول ‪ ‬حرض المسلمين‬
‫على معاملتهم المعاملة الحسنة فقال‪ " :‬من قتل نفسا‬
‫معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة‬
‫أربعين عاما" وقد بوب عليه البخاري في صحيحه بقوله‪ :‬باب‬
‫إثم من قتل ذميا بغير جرم‪ ،15‬قال ابن حجر في شرحه‪":‬‬
‫والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو‬
‫‪ 13‬مختار الصحاح ‪ ،1/94‬قاله أبو عبيد‬
‫‪ 14‬لسان العرب ‪12/221‬‬
‫‪ 15‬أخرجه البخاري كتاب الديات رقم ‪6403‬‬
‫‪12‬‬
‫هدنة من سلطان أو أمان من مسلم"‪ 16‬وقال ‪ ": ‬أل من‬
‫قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة‬
‫الله فل يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين‬
‫خريفا "‪ 17‬وهذا عمر رضي الله تعالى عنه وهو على فراش‬
‫الموت يقول ‪ ":‬أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الولين‬
‫خيرا أن يعرف لهم حقهم وأن يحفظ لهم حرمتهم وأوصيه‬
‫بالنصار خيرا ‪ ‬والذين تبوؤوا الدار واليمان ‪ ‬أن يقبل من‬
‫محسنهم ويعفى عن مسيئهم‪ ،‬وأوصيه بذمة الله وذمة‬
‫رسوله ‪ ‬أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن‬
‫ل يكلفوا فوق طاقتهم"‪18‬فهو في هذا الموقف الشديد لم‬
‫يفته أن يوصي الخليفة من بعده بأهل الذمة ويجعل الوصية‬
‫بهم بجوار وصيته بالسابقين من المهاجرين والنصار‪ ،‬وينص‬
‫في وصيته على الوفاء بعهدهم وحمايتهم والذب عنهم ‪،‬‬
‫والرفق بهم‪.‬‬

‫ب‪-‬القليات العقدية)الفرق الضالة(‪:‬‬


‫كانت القليات الدينية في دولة السلم أحد نتائج شريعة‬
‫الجهاد في سبيل الله ‪ ،‬لذلك كان وجودهم مبكرا أدركه‬
‫رسول الله ‪ ، ‬لكن المر في القليات العقدية لم يكن‬
‫كذلك إذ تأخر ظهورهم في المجتمع السلمي كتجمع أو‬
‫اتجاه وإن وجد منهم آحاد وأفراد قبل ذلك‪ ،‬لن ظهورهم في‬
‫الحقيقة كان نتيجة لجتماعهم وقيامهم على النحراف في‬
‫فهم السلم والعمل به‪ ،‬فلم يكن من المتصور أن يظهروا‬
‫على هذا الوجه مبكرا في حياة الرسول ‪ ‬بل تأخر ظهورهم‬
‫إلى أواخر الخلفة الراشدة ‪ ،‬وإن كان الرسول ‪ ‬قد أشار‬
‫إلى هذه القليات بقوله‪ ":‬أل إن من قبلكم من أهل الكتاب‬
‫افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على‬
‫ثلث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي‬
‫الجماعة "‪ ،19‬وقد ظهرت تلك القليات فيما عرف في‬
‫‪ 16‬فتح الباري ‪12/259‬‬
‫‪ 17‬أخرجه الترمذي كتاب الديات رقم ‪ 1323‬وقال ‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ 18‬أخرجه البخاري كتاب الجنائز رقم ‪1305‬‬
‫‪ 19‬أخرجه أبو داود كتاب السنة رقم ‪ 3981‬من حديث معاوية ونحوه رقم ‪ 3980‬من‬
‫حديث أبي هريرة‪ ،‬وأخرجه ابن ماجه كتاب الفتن رقم ‪ 3982‬من حديث عوف بن‬
‫مالك‪ ،‬ونحوه رقم ‪ 3983‬من حديث أنس بن مالك‪ ،‬وأخرجه أحمد رقم ‪ 8046‬من‬
‫حديث أبي هريرة‪ ،‬كما أخرج أحمد أيضا حديث معاوية وحديث أنس بن مالك‪ ،‬وأخرجه‬
‫الدارمي من حديث معاوية كتاب السير ‪2406‬‬
‫‪13‬‬
‫الصطلح الشرعي بالفرق الضالة‪ ،‬أو أهل الفتراق‪ ،‬أو أهل‬
‫البدع‪ ،‬فكان منهم الخوارج والشيعة والقدرية والرافضة‬
‫والمرجئة والجهمية والمعتزلة إلى مسميات كثيرة مسطورة‬
‫في كتب الفرق‪ ،‬مصداقا لقول رسول الله السابق ‪ ، ‬وقد‬
‫كانت هناك أسباب كثيرة لظهور هذه القليات العقدية أهمها‪:‬‬
‫اتباع الشهوات التي سببها تحكم الهوى‪ ،‬واتباع الشبهات التي‬
‫سببها غلبة الجهل‪ ،‬وتقليد غير المسلمين الذي سببه التأثر‬
‫بثقافات القليات الدينية وترجمة كتبهم إلى اللسان العربي‪،‬‬
‫وفي أوقاتنا الزمنية الحديثة والمعاصرة ظهرت مسميات‬
‫جديدة وهي تشترك مع أهل البتداع والتفرق في كثير من‬
‫الصول والمناهج كالعصرانيين والحداثيين والعلمانيين‬
‫والليبراليين واليساريين والشتراكيين‪ ،‬غير أنهم داخل كل‬
‫مسمى أطياف كثيرة إذ كلمهم ليس واحدا‪ ،‬بل في كل‬
‫فريق تباينات واسعة‪ ،‬وفيهم غلة لهم أفكار وأقوال ل تجتمع‬
‫مع السلم في شخص واحد أبدا‪ ،‬حيث يوجد فيهم من يصرح‬
‫برفض مناهج السلف وما أجمعت عليه المة‪ ،‬والدعوة إلى‬
‫مناهج جديدة وفقه جديد يخالف المستقر المجمع عليه من‬
‫دين المسلمين تحت دعوى التجديد‪ ،20‬وهناك بدع في‬
‫العبادات تقع من طائفة من الناس غير أنها ل تخرجهم من‬
‫زمرة مجموع المسلمين وتدخلهم في عداد القليات العقدية‬
‫لنها بدع من قبيل المعاصي والسيئات ل من قبيل الفتراق‬
‫في العتقادات‪.‬‬

‫ج‪-‬القليات اللغوية والعرقية‪:‬‬


‫هي أقليات من حيث اللفظ فقط دون المعنى إذ ل يترتب‬
‫على هذا النوع أية أحكام خاصة بهم بل هم يدخلون في غمار‬
‫المسلمين يجري عليهم ما يجري على سائر المسلمين‪،‬‬
‫فالشريعة لم ترتب على هذه التقسيمات أية أوضاع أو أحكام‬
‫‪ ،‬وإنما تترتب الحكام بناء على الدين فالمسلم في أي إقليم‬
‫من أقاليم الدولة السلمية ليس من القلية )اصطلحا( وإن‬
‫كانت جنسيته مغايرة لجنس أبناء القليم أو لغته مغايرة‬
‫للغتهم أو لونه مخالف للونهم فهو داخل في الكثرية‪ ،‬إذ هو‬
‫يتمتع بالحقوق كلها التي يتمتع بها الكثرية كما تجب عليه‬
‫اللتزامات كلها التي يلتزم بها الكثرية‪ ،‬وهذا أمر قد عمت به‬
‫‪ 20‬انظر تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف محمد بن شاكر الشريف‬
‫‪14‬‬
‫النصوص وتصرفات المسلمين في أزمنة الخلفة الراشدة ‪،‬‬
‫فمن النصوص التي دلت على ذلك قوله تعالى‪ ":‬يا أيها‬
‫الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل‬
‫لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فذكرت الية اختلف‬
‫الناس وتمايزهم لكنها لم تجعل هذه الشياء معيارا تترتب‬
‫عليه الحكام وإنما المعيار هو اليمان وتقوى الله وقد قال‬
‫رسول الله ‪ ‬في خطبته وسط أيام التشريق ‪ ":‬يا أيها‬
‫الناس أل إن ربكم واحد وإن أباكم واحد أل ل فضل لعربي‬
‫على أعجمي ول لعجمي على عربي ول لحمر على أسود ول‬
‫أسود على أحمر إل بالتقوى أبلغت قالوا بلغ رسول الله صلى‬
‫الله عليه ‪ "..‬الحديث‪ 21‬وفي هذا المعنى وردت أحاديث‬
‫كثيرة‪ ،‬وقد جاء قوله تعالى في إهدار تلك الرابطة العرقية‬
‫حينما قال‪ ":‬وآخرين منهم لما يلحقوا بهم" وقد فسرها‬
‫رسول الله ‪ ‬فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ ":‬كنا‬
‫جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة‬
‫الجمعة فلما قرأ "وآخرين منهم لما يلحقوا بهم" قال رجل‪:‬‬
‫من هؤلء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلثا قال‪ :‬وفينا سلمان‬
‫الفارسي قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على‬
‫سلمان ثم قال لو كان اليمان عند الثريا لناله رجال من‬
‫هؤلء "‪ 22‬فهذا سلمان الفارسي وهو من الجنس أو العرق‬
‫الفارسي ليس من الجنس العربي وقد قيل فيه أنه " منهم "‬
‫و قال الرسول ‪ ‬في المقابل عن أقارب له ‪ ":‬جهارا غير‬
‫سر يقول‪ :‬أل إن آل أبي يعني فلنا ليسوا لي بأولياء إنما‬
‫وليي الله وصالح المؤمنين "‪23‬وهذا بلل بن رباح رضي الله‬
‫تعالى عنه وهو حبشي ومع ذلك فهو يتسنم مكانة عالية‬
‫مرموقة حيث يقوم بأداء وظيفة عظيمة عند المسلمين وهي‬
‫النداء للصلة‪ ،‬وعندما عير أبوالدرداء أحد المسلمين بلونه‬
‫قائل له يا ابن السوداء قال له الرسول ‪ ": ‬إنك امرؤ فيك‬
‫جاهلية"‪ 24‬فأهدرت النصوص التفريق بين المسلمين على‬
‫أساس اللغات أو اللوان أو العرق أو الجنسيات مما يعني‬
‫عدم العتداد بهذه المور في ميزان الشريعة كمقياس‬
‫أخرجه أحمد مسند النصار رقم ‪22391‬‬ ‫‪21‬‬

‫أخرجه مسلم كتاب فضائل الصحابة رقم ‪4619‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪ 23‬أخرجه مسلم كتاب اليمان رقم ‪316‬‬


‫‪ 24‬أخرجه البخاري كتاب اليمان رقم ‪ 29‬ومسلم كتاب اليمان رقم ‪3139‬‬
‫‪15‬‬
‫لتصنيف القلية‪ ،‬ولم تكتف النصوص بهذا القدر في جانب‬
‫التفضيل والمكانة الدينية‪ ،‬وإنما حتى في مجال القيادة‬
‫والحكم فهذا رسول الله ‪ ‬يقول فيما ترويه عنه أم‬
‫الحصين ‪ ":‬تقول حججت مع رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم حجة الوداع قالت فقال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم قول كثيرا ثم سمعته يقول إن أمر عليكم عبد مجدع‬
‫حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا‬
‫"‪ 25‬وهذا عمر رضي الله تعالى عنه وقد لقي نافع بن عبد‬
‫الحارث بعسفان وكان عمر يستعمله واليا على مكة‪ ،‬فلما‬
‫رآه بعيدا عن محل وليته بادره بالسؤال فقال‪ :‬من استعملت‬
‫على أهل الوادي؟ يريد مكة‪ ،‬فقال‪:‬استعملت ابن أبزى‪ ،‬ولما‬
‫كان هذا الشخص مجهول عند عمر سأله قائل‪ :‬ومن ابن‬
‫أبزى؟ قال‪:‬مولى من موالينا‪ ،‬فكأن عمر رضي الله عنه لم‬
‫يرقه أن يجعل مولى ل تميز له أميرا على قريش‪ ،‬وهم‬
‫خلصة العرب‪ ،‬فقال كالمتعجب‪ :‬فاستخلفت عليهم مولى!‬
‫قال نافع‪-‬مقدما المسوغات لما فعل‪ :-‬إنه قارئ لكتاب الله‬
‫عز وجل وإنه عالم بالفرائض‪ ،‬عندها قال عمر‪ :‬أما إن نبيكم‬
‫صلى الله عليه وسلم قد قال‪ :‬إن الله يرفع بهذا الكتاب‬
‫أقواما ويضع به آخرين"‪ 26‬وقد جاء النهي عن العصبية القائمة‬
‫على التناصر والتعاضد على أواصر الدم أو اللغة أو ما شابه‬
‫ذلك فقد قال رسول ‪ ": ‬من قتل تحت راية عمية يدعو‬
‫عصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية "‪ 27‬فإذا ذهبنا إلى‬
‫التاريخ السلمي وجدنا كثيرا من رجالت العلم والقيادة ممن‬
‫لم يكن من الكثرية بل كان ممن يمكن أن يطلق عليهم‬
‫لفظ القليات في العصر الحاضر‪ ،‬فعلى سبيل المثال ل‬
‫الحصر هذا أبوحنيفة الفقيه الكبير ليس من الكثرية العربية‬
‫وكذلك أمير المؤمنين في الحديث المام البخاري‪ ،‬وكذلك‬
‫المام مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه‬
‫وغيرهم كثير‪ ،‬وهذا عالم النحو العربي بل مدافع سيبويه لم‬
‫يكن من العرب ‪ ،‬وهذا صلح الدين اليوبي من أشهر القادة‬
‫المسلمين في تاريخ الحروب الصليبية من العرق الكردي‬
‫وليس من العرب‪ ،‬وهذا قطز بطل عين جالوت الذي هزم‬
‫‪ 25‬أخرجه مسلم كتاب المارة رقم ‪ 3422‬و أخرج البخاري نحوه كتاب الحكام رقم‬
‫‪6609‬‬
‫‪ 26‬أخرجه مسلم كتاب صلة المسافرين رقم ‪1353‬‬
‫‪ 27‬أخرجه مسلم كتاب المارة رقم ‪3340‬‬
‫‪16‬‬
‫التتار وهم من أشر الخليقة كان من المماليك‪ ،‬بل هذا طارق‬
‫بن زياد فاتح الندلس هو من البربر وليس من العرب‪،‬‬
‫والقائمة طويلة جدا وإنما ذكرنا ذلك على سبيل التنبيه ل‬
‫الحصر‪ ،‬ومن هنا يتبين بل أدنى شك أن التباينات اللغوية أو‬
‫العرقية أو اللونية لم يكن يعول عليها السلم في تعامله مع‬
‫الناس‪ ،‬فمن الممكن جدا في نظام السلم أن يكون الوالي‬
‫على إقليم من القاليم من إقليم آخر‪ ،‬أو ينتمي إلى قومية‬
‫مغايرة‪ ،‬أو لون مختلف‪ ،‬وإن كان الولى من ناحية السياسة‬
‫الشرعية أن يؤمر على الناس من يألفونه ويلتفون حوله‬
‫ويكونون له أطوع‪ ،‬وقد جرت طبائع الناس أن تكون أكثر ميل‬
‫لمن يشابههم في المظهر العام أو يوافقهم من حيث العقائد‬
‫والتصورات‪ ،‬فإذا وجد شخصان صالحان للمارة من أصحاب‬
‫العتقاد الصحيح فإن تولية المشابه للقوم أفضل من تولية‬
‫مر‬‫غيره‪ ،‬وقد كان رسول الله ‪ ‬إذا جاءه قوم مسلمين أ ّ‬
‫عليهم من كانوا يرتضونه قبل السلم‪ ،‬ومما تقدم يتبين أن‬
‫القليات اللغوية والعرقية واللونية قد اندمجت في المة‬
‫اندماجا حقيقيا وليس اندماجا صوريا ل يتعدى المظهر‬
‫الخارجي‪ ،‬فقد كانت المساواة حقيقية في التمتع بالحقوق‬
‫التي كفلتها الشريعة وفي تحمل اللتزامات التي أوجبتها‬
‫عليهم ‪ ،‬وهذا المر لم تستطع أن تقوم به أية فكرة أو منهج‬
‫من المناهج الداعية للحفاظ على حقوق القليات أو حقوق‬
‫النسان‪ ،‬إذ جل ما استطاعت تحقيقه هو إصدار بعض‬
‫التشريعات في ذلك‪ ،‬والتي لم تزد في أحيان كثيرة عن أن‬
‫تكون حبرا على ورق‪ ،‬والمثلة على ذلك كثيرة‪ ،‬ويكفى أن‬
‫نذكر ما تتعرض له نساء القليات المسلمة في تلك البلد‬
‫التي ل تمل عن الحديث عن حقوق القليات وعن عدم جواز‬
‫التمييز الديني‪ ،‬وهن في الوقت نفسه يجبرن جبرا وقسرن‬
‫قسرا بمقتضى القوانين على خلع الحجاب وعدم ارتدائه‪ ،‬لقد‬
‫اتخذت مقولة الحفاظ على العلمانية مسوغا لمنع النساء‬
‫المسلمات من حقهن المشروع في ارتداء الحجاب‪ ،‬كما‬
‫اتخذت الديمقراطية سلما لصدار التشريع الملزم القاضي‬
‫بذلك‪ ،‬ولفرض دكتاتورية الغلبية على القلية‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫القليات بين الندماج والتمايز‪:‬‬
‫هناك عوامل سواء من جانب القلية أو من جانب الكثرية‬
‫تدعو وتساعد على اندماج القلية في الكثرية‪ ،‬كما أن هناك‬
‫عوامل تدعو أيضا وتساعد على الختلف والتمايز ‪ ،‬فعوامل‬
‫الندماج من جانب القلية كثيرة من أهمها شعورها أن‬
‫اختلفها وتمايزها عن الكثرية ليس عامل حاسما في حصولها‬
‫على حقوقها أو مساواتها بالكثرية‪ ،‬فهي من ثم ل تحرص‬
‫على البقاء أو الحرص على التمايز‪،‬وخاصة في النظمة‬
‫العادلة التي تتعامل مع طبقات وشرائح المجتمع بالعدل‬
‫والقسط‪ ،‬وأما العوامل التي تساعد على الندماج من جانب‬
‫الكثرية فعلمها بأن موقفها من القلية ليس من باب الفضل‬
‫والحسان‪ ،‬وإنما هو حق كفلته لهم التشريعات‪ ،‬إضافة إلى‬
‫رحابة صدر الكثرية وحرصها على التآلف‪ ،‬وهذا يفسر حالة‬
‫المجتمع السلمي الول في صدر السلم حيث لم تظهر‬
‫مشاكل القليات رغم وجودها‪ ،‬بل ذابت كثير من القليات‬
‫واندمجت في الكثرية ) العرب(‪ ،‬وتغلبت عوامل التوحد‬
‫والتفاق بل والندماج على عوامل النعزال والبتعاد‪ ،‬وذلك‬
‫أن السلم يوحد بين المسلمين ويساوي بينهم‪ ،‬ول يعتد بتلك‬
‫الفروقات القائمة على أساس المميزات الجسمية أو اللغوية‬
‫أو الفيزيائية أو العرقية‪ ،‬ويتعامل مع المسلمين جميعا على‬
‫أنهم إخوة‪ ،‬وقد ترتب على ذلك أن تحولت كثير من البلد‬
‫التي لم تكن يوما ما بلدا عربية إلى العربية فجميع البلد‬
‫العربية الموجودة اليوم باستثاء جزيرة العرب لم تكن عربية‬
‫قبل ذلك كمصر والسودان والشام والعراق وبلد المغرب‬
‫وإنما تعربت بعد الفتح السلمي لها‪ ،‬ومن الممكن أن ننظر‬
‫إلى مثال مبكر جدا في ذلك وهي قضية المؤاخاة بين النصار‬
‫أصحاب البلد الصليين يثرب ) المدينة( وبين المهاجرين‬
‫القلية القادمة من بلدها مهاجرة إلى الله ورسوله قد تركت‬
‫ديارها وأموالها فجاءت فقيرة ليس معها شيء‪ ،‬فكان‬
‫النصاري يشاطر أخاه المهاجري ماله وعقاره حتى أن‬
‫أحدهم ليطلق إحدى زوجتيه حتى يتزوجها أخوه المهاجري‬
‫وهو أعظم ما يكون الندماج والمتزاج‪ ،‬وقد حدث ذلك‬
‫بمحض اليمان والرغبة وليس بالقهر أو الرهبة‪ ،‬وهذا المتزاج‬
‫والندماج لم يكن يعني زوال الخصوصيات والتمايزات‬
‫المحمودة‪ ،‬فقد ظل النصاري أنصاريا كما ظل المهاجري‬
‫‪18‬‬
‫مهاجريا ولم يسع الرسول ‪ ‬ول خلفاؤه من بعده في‬
‫القضاء على هذه التسميات لنها لم تكن قائمة على‬
‫العصبية‪ ،‬وكذلك القبائل لم يشرع القضاء عليها أو إلغاؤها بل‬
‫قال الله تعالى‪ ":‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‬
‫وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"‬
‫فحافظ عليها وأظهر المتنان بوجودها‪ ،‬لكنه هذب مما يمكن‬
‫أن يوجد معها مما يضر فنهى عن العصبية وعن التناصر‬
‫القائم على آصرة الدم‪ ،‬ولذلك عندما حدثت مشادة بين رجل‬
‫مهاجري كان يمزح مع رجل من النصار وقال النصاري‪ :‬يا‬
‫للنصار يستنصر برهطه‪ ،‬وقال المهاجري‪ :‬يا للمهاجرين‬
‫يستنصر برهطه‪ ،‬قال لهم الرسول ‪ ": ‬ما بال دعوى أهل‬
‫الجاهلية‪-‬ثم لما استفسرهم عن سبب ذلك التنادي‪-‬قال‪:‬‬
‫دعوها فإنها خبيثة"‪ 28‬وفي رواية " فإنها منتنة" وهذا بعكس‬
‫ما إذا لم تشعر القلية بالمان على نفسها والحصول على‬
‫حقوقها فإنها تخشى من الذوبان في الكثرية إذا تخلت عن‬
‫خصوصياتها‪ ،‬لذلك فهي تجتهد في المحافظة على تميزها ‪،‬‬
‫فإذا تمت عملية الندماج بناء على القتناع وتوفر شروط‬
‫ذلك كان هذا من أكبر السباب في تآلف المجتمع وتماسكه ‪،‬‬
‫أما إذا حدثت عملية الدمج من غير توفر شروطها‪ ،‬أو حدثت‬
‫بالقهر والعنف أوشك أن يعود التمايز أشد مما كان بمجرد‬
‫زوال المؤثر الضاغط‪ ،‬ومشاكل القليات اللغوية أو العرقية‬
‫وغيرها في الدولة السلمية لم تبرز إلى الوجود بهذا الشكل‬
‫إل مع تفتت الدولة وتمزقها وضياع معاني الخلفة الحقيقية‪-‬‬
‫وإن ظلت أزمانا باقية من الناحية الشكلية‪-‬وقد زاد ذلك‬
‫بصورة قوية مع قيام الدول العلمانية على أنقاض دولة‬
‫الخلفة‪ ،‬واستعمار تلك الدول من قبل الدول الغربية التي‬
‫بدأت في النفخ في أتون هذه المشكلة وتضخيمها‪ ،‬إن الظلم‬
‫أو التهميش الذي يمكن أن يقال إنه وقع على القليات فيما‬
‫مضى من الزمان لم يكن إل ظلما وتهميشا للمجتمع كله‬
‫القلية والكثرية لصالح النظمة الحاكمة المستبدة‪ ،‬فالظلم‬
‫الواقع على هذه الفئة هو نفسه الواقع على تلك‪ ،‬وذلك نتيجة‬
‫البعد أو التغافل عن الشريعة‪ ،‬وإن مما يذهب بهذه المشكلة‬
‫وينقضها من أساسها ‪ :‬التمسك بشريعة السلم والعمل بها‪،‬‬
‫ونشر أحكامها بين الناس وتطبيقها على الجميع وفق‬
‫أخرجه البخاري كتاب المناقب رقم ‪ 3257‬ومسلم كتاب البر والصلة رقم ‪4682‬‬ ‫‪28‬‬

‫‪19‬‬
‫تشريعها الذي ل يفرق بين المسلمين‪ ،‬وإن الحلول القائمة‬
‫على إفساد الدين بالدعوة إلى العلمانية أو استيراد النموذج‬
‫الديموقراطي لحل تلك المشكلة هي أفكار ضالة شاردة تزيد‬
‫أوار المشكلة ول تقوم بحلها‪ ،‬فهي كمن يحاول إطفاء‬
‫الحريق بسكب النفط عليه‪ ،‬وإذا كان لنا أن نقدم بعض ما‬
‫يمكن فعله في هذا المجال فإننا نوصي بما يلي‪:‬إفساح‬
‫المجال أمام تلك القوى والمجموعات للتعبير عن نفسها‬
‫وممارسة خصوصياتها ) في حدود المسموح به شرعا ( بدل‬
‫من ضغطها ومحاولة جعلها تابعة لنموذج الكثرية في الدولة‪،‬‬
‫وعدم التضييق عليها في التكلم بلغاتها الخاصة وتعليمها‬
‫لبنائهم ‪) ،‬وأما قيام الدولة بتعليم تلك اللغات الخاصة‬
‫والنفاق عليها فهي قضية مصلحية تعتمد على إمكانات‬
‫الدولة وحاجتها لتلك اللغة والفائدة العامة الراجعة من‬
‫تعليمها(‪ ،‬وفتح باب الوظائف في جميع المجالت بحيث تكون‬
‫الكفاءة والقدرة على تحقيق الهداف مع الصلح هي المعيار‪،‬‬
‫والبتعاد عن استخدام وسائل الدمج القسري والقهر لن ذلك‬
‫سرعان ما يزول بزوال القوة المؤثرة‪ ،‬وعدم التدخل في‬
‫إعادة توزيع النتشار الجغرافي للتأثير على تجمعاتهم سواء‬
‫بالتشتيت والتفريق على مساحة واسعة‪ ،‬أو بالحصر‬
‫والتضييق في مكان واحد ‪ ،‬وإذا كانت تلك القلية موجودة‬
‫على بقعة جغرافية واحدة بمعنى أنها ليست منتشرة في‬
‫أرجاء الدولة فإن الولى أن يعهد في إدارتها من حيث التعليم‬
‫والقضاء والمامة والشرطة ونحو ذلك إلى الفراد المؤهلين‬
‫الصالحين من هذه القلية‪ ،‬وإذا احتاجت إلى المعونة‬
‫والمساعدة إما لعدم الكفاية أو عدم الخبرة أو عدم‬
‫المؤهلت التي يحتاج إليها فل مانع أن يقوم بذلك أناس‬
‫يصلحون لذلك من غير هذه القلية إذ "المؤمنون أخوة " ول‬
‫يصلح أن تكون السياسة العامة المتبعة في مثل ذلك أن تدار‬
‫هذه القليات بأفراد من خارجها حتى وإن وجد فيها‬
‫المؤهلون الصالحون للدارة‪ ،‬فإن هذا مما يخالف السياسة‬
‫الشرعية‪.‬‬

‫قضايا القليات ) الدينية والعقدية (‪:‬‬

‫‪20‬‬
‫وإذ تبين بما تقدم أن القليات اللغوية والعرقية ونحوها‬
‫)المسلمة التي لم تتميز باعتقاد فاسد ( ل يخرج أصحابها عن‬
‫الدخول في الحكام العامة التي تعم جماعة المسلمين ‪ ،‬فإننا‬
‫نقصر الحديث هنا على القليات الدينية والعقدية‪:‬‬
‫‪ -1‬المشاركة السياسية‪:‬‬
‫الدولة السلمية دولة ذات عقيدة ولها رسالة ‪ ،‬ورسالتها‬
‫ليست قاصرة على توفير الرفاهية ورغد العيش في الحياة‬
‫الدنيا لفرادها‪ ،‬وإنما هي مكلفة بالعمل وفق هذه العقيدة‬
‫وتبليغ تلك الرسالة إلى كل من يمكن أن تصل إليهم‪ ،‬وهذا‬
‫يتطلب جهدا كبيرا وبذل عظيما مع ما تحتاج إليه الدولة من‬
‫الجهاد في سبيل الله لبلوغ هذه الغاية‪ ،‬وهذا يعني أنه ل يقوم‬
‫بهذه المهمة ول يقدر على ذلك إل من هو مؤمن بهذه‬
‫الرسالة معتقد لها‪ ،‬مستعد للبذل والعطاء في سبيلها‪ ،‬يرى‬
‫في نشرها وتبليغها الفلح في الدنيا والفوز في الخرة‪ ،‬لذا‬
‫كان من المور المنطقية أل يقوم على هذه الدولة إل‬
‫المؤمنون برسالتها‪ ،‬ومن هنا يتبين أن ولي المر ل يجوز أن‬
‫يكون ممن ل يؤمنون بهذه الرسالة‪ ،‬أو ممن يفهمونها فهما‬
‫فاسدا يخرج بها عن المر الذي جاءت له‪ ،‬وهذا يعني أن‬
‫القليات الدينية أو العقدية )المقبول وجودها في الدولة‬
‫السلمية( ل يسمح لها بتولي هذا المنصب‪ ،‬لنها غير مؤتمنة‬
‫على هذا المر ‪ ،‬وتكليفها بتولي المر‪ ،‬يعني أحد أمرين‪ :‬إما‬
‫تكليفها بالعمل والسعي في نصرة ما يناقض أو يخالف دينها‬
‫أو عقيدتها وهذا يعد إكراها‪ ،‬وإما التفريط في رسالة الدولة‬
‫وإضاعتها وكل المرين غير مقبول‪ ،‬يقول محمد أسد رحمه‬
‫الله ‪ ":‬إننا يجب أل نتعامى عن الحقائق فنحن ل نتوقع من‬
‫شخص غير مسلم مهما كان نزيها مخلصا وفيا محبا لبلده‬
‫متفانيا في خدمة مواطنيه أن يعمل من صميم فؤاده لتحقيق‬
‫الهداف ]اليديولوجية[ للسلم وذلك بسبب عوامل نفسية‬
‫محضة ل نستطيع أن نتجاهلها‪ ،‬إنني أذهب إلى حد القول أنه‬
‫ليس من النصاف أن نطلب منه ذلك‪ ،‬ليس هناك في الوجود‬
‫نظام ]أيديولوجي[ سواء قام على أساس الدين أو غير ذلك‬
‫من السس الفكرية من نوٍع يمكن أن يرضى بأن يضع مقاليد‬
‫أموره في يد شخص ل يعتنق الفكرة التي يقوم عليها هذا‬
‫النظام"‪ 29‬ومن هذا المنطلق أيضا فل تقبل مشاركتهم في‬
‫منهاج السلم في الحكم ص ‪84-83‬‬ ‫‪29‬‬

‫‪21‬‬
‫اختيار من يقوم بهذا المر من صالح المسلمين‪ ،‬لنهم قد ل‬
‫يختارون الصالح لتولي المر وإنما يختارون حسب مصالحهم‬
‫أو عقائدهم‪ ،‬وقد ل يدركون تحديد الصالح لتولي المر لن‬
‫مقاييسهم في الختيار ليست قائمة على أساس الشريعة‬
‫السلمية التي هي كل شيء في الدولة السلمية‪ ،‬وما جاء‬
‫في النصوص الشرعية وكلم أهل العلم دال على ما ذكرناه‬
‫قال الله تعالى‪ ":‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا‬
‫الرسول وأولي المر منكم" وقال تعالى‪ ":‬وإذا جاءهم أمر‬
‫من المن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى‬
‫أولي المر منهم‪ "..‬الية فدلت اليتان على أن ولي المر إنما‬
‫يكون من المؤمنين العدول ليس من الكافرين وعلى ذلك‬
‫اتفقت كلمة المسلمين‪ ،‬وقد حكى الجماع على ذلك غير‬
‫واحد من العلماء‪ ،‬قال القاضي عياض رحمه الله‪ ":‬أجمع‬
‫العلماء على أن المامة لتنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه‬
‫الكفر انعزل"‪ 30‬ونقل ابن القيم عن ابن المنذر قوله‪ ":‬أجمع‬
‫كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر ل ولية له على‬
‫مسلم بحال "‪ 31‬وكذلك المسلم غير العدل فل تجوز توليته‬
‫اختيارا‪ ، 32‬سواء كانت عدم عدالته من قبل الفسق والظلم‬
‫أو من قبل البتداع ومفارقة الجماعة‪ ،‬فالخارجي أو الرافضي‬
‫أو الجهمي أو القدري ونحوهم ل يجوز أن تعقد لهم المامة‬
‫على الختيار‪ ،‬وهذا المنع ليس قاصرا على الولية الكبري‬
‫فإن الوليات جميعها يشترط لها السلم والعدالة إلى جانب‬
‫شروط أخرى‪ ،‬فمن لم يتحقق بهذه الشروط فل تجوز‬
‫توليته‪ ،‬وهذا ينطبق على القليات الدينية كما ينطبق على‬
‫القليات العقدية‪.‬‬

‫‪ -2‬تولي الوزارة‪:‬‬
‫الوزير هو شخص يساعد ولي المر فيما تحمله من أمانة‬
‫القيادة‪ ،‬ويشير عليه بما يراه من المصلحة ويشد من أزره‬
‫عند المهمات‪ ،‬وقد يفوض ولي المر وزيره في تدبير أمور ما‬
‫استوزره فيه حتى يدبره على رأيه ووفق اجتهاده‪ ،‬فيكون له‬
‫الستقلل في ذلك‪ ،‬وقد يعهد إليه بتنفيذ ما يدبره ولي المر‬
‫شرح النووي على صحيح مسلم ج‪ 12 :‬ص‪229 :‬‬ ‫‪30‬‬

‫أحكام أهل الذمة ‪2/787‬‬ ‫‪31‬‬

‫اختيارا ‪ :‬بغير ضرورة أو إلجاء أو قهر‬ ‫‪32‬‬

‫‪22‬‬
‫وفق التعليمات والوامر التي يصدرها إليه أو وفق النظمة‬
‫المعمول بها والتي ينبغي عليه اللتزام بها وعدم مجاوزتها‪،‬‬
‫ويشار للولى على أنها وزارة تفويض ويشار للثانية على أنها‬
‫وزارة تنفيذ‪ ،‬ومن الممكن أن يقال إن غالبية الوزارات اليوم‬
‫إن لم يكن جميعها وزارات تنفيذ وليس وزارات تفويض إذ‬
‫المور في الوزارة إنما تسير وفق القوانين واللوائح المنظمة‬
‫لعمل الوزارة‪ ،‬فجل عمل الوزير مقصور على التنفيذ‪ ،‬وما‬
‫كان فيه من تدبير فهو تدبير في إطار التنفيذ‪ ،‬وأيا ما كان‬
‫المر فإن السلم والعدالة مطلوبان فيمن يتولى هذه‬
‫الوزارة سواء كانت وزارة تفويض أو وزارة تنفيذ‪ ،‬ووزارة‬
‫التنفيذ عند أهل العلم حكمها أضعف من حكم وزارة‬
‫التفويض وشروطها أقل‪ ،‬نظرا للختلف بين طبيعة المرين‪،‬‬
‫وقد ذكر الماوردي في أوصاف وزير التنفيذ سبعة أوصاف‬
‫قال‪ ":‬والسابع أن ل يكون من أهل الهواء فيخرجه الهوى‬
‫من الحق إلى الباطل ويتدلس عليه المحق من المبطل فإن‬
‫الهوى خادع اللباب وصارف له عن الصواب"‪ 33‬أما شروط‬
‫وزارة التفويض فهي أشد وقد ذكرها الماوردي فقال‪ ":‬ويعتبر‬
‫في تقليد هذه الوزارة شروط المامة إل النسب وحده لنه‬
‫ممضي الراء ومنفذ الجتهاد فاقتضى أن يكون على صفات‬
‫المجتهدين ‪ ،‬ويحتاج فيها إلى شرط زائد على شروط المامة‬
‫وهو أن يكون من أهل الكفاية فيما وكل ًإليه"‪ ،34‬وهذا مما‬
‫يبين أن القليات الدينية أو العقدية ليس لها أن تشغل هذا‬
‫المنصب العالي‪ ،‬لكن الماوردي رحمه الله رغم كلمه عن‬
‫الوصف السابع لوزير التنفيذ إل أنه ذكر أنه" يجوز أن يكون‬
‫هذا الوزير من أهل الذمة"‪ ، 35‬ولعل الذي دعا الماوردي‬
‫رحمه الله لذلك هو تصويره لهذا النوع من الوزارة على أنه‬
‫ليس ولية " فهو معين في تنفيذ المور وليس بوال عليها ول‬
‫متقلدا لها"‪ 36‬وذلك لما تقرر عنده أن الولية ل يجوز عقدها‬
‫لغير المسلم‪ ،‬لكن الماوردي مع ذلك محجوج بالنصوص‬
‫الشرعية التي تنهى عن ذلك ومحجوج بعمل الخلفاء‬
‫الراشدين وأصحاب السيرة المستقيمة من الخلفاء المويين‬

‫ص ‪29‬‬ ‫السلطانية‬ ‫الحكام‬ ‫‪33‬‬

‫ص ‪25‬‬ ‫السلطانية‬ ‫الحكام‬ ‫‪34‬‬

‫ص ‪30‬‬ ‫السلطانية‬ ‫الحكام‬ ‫‪35‬‬

‫ص ‪29-28‬‬ ‫السلطانية‬ ‫الحكام‬ ‫‪36‬‬

‫‪23‬‬
‫أو العباسيين‪،37‬وقد رد عليه الجويني الشافعي رحمه الله‬
‫بكلم شديد فقال‪":‬ذكر مصنف الكتاب المترجم بالحكام‬
‫السلطانية أن صاحب هذا المنصب يجوز أن يكون ذميا‪ ،‬وهذه‬
‫عثرة ليس لها مقيل‪ ،‬وهي مشعرة بخلو صاحب الكتاب عن‬
‫التحصيل‪ ،‬فإن الثقة ل بد من رعايتها‪ ،‬وليس الذمي موثوقا‬
‫به في أفعاله وأقواله وتصاريف أحواله‪ ،‬وروايته مردودة‬
‫وكذلك شهادته على المسلمين‪ ،‬فكيف يقبل قوله فيما‬
‫يسنده ويعزيه إلى إمام المسلمين" ثم ذكر بعضا من الدلة‬
‫إلى أن يقول‪ ":‬وقد نص الشافعي رحمة الله عليه أن‬
‫جم الذي ينهي إلى القاضي معاني لغات المدعين يجب‬ ‫متر ِ‬
‫ال ُ‬
‫أن يكون مسلما عدل رضيا ولست أعرف في ذلك خلفا بين‬
‫علماء القطار فكيف يسوغ أن يكون السفير بين المام‬
‫‪38‬‬
‫والمسلمين من الكفار"‬

‫‪-3‬تحيز القلية وتجمعهم في مكان‪:‬‬


‫القليات الدينية وكذلك القليات العقدية هم من أهل دار‬
‫السلم‪ ،‬ولهم الحرية في أن يسكنوا في أية ناحية أرادوا‪،‬‬
‫ويظعنوا عنها متى ما أرادوا وينزلوا في مكان آخر كيفما‬
‫شاءوا‪ ،‬ولهم أن يتجمعوا في أية بقعة من بقاع الدولة ل‬
‫يحجر عليهم ذلك ول يمنعون منه‪ ، 39‬إل أن يظهر من ذلك‬
‫ريبة وُيخاف منهم الخيانة فإنهم في هذه الحالة يتابعون‪ ،‬وإذا‬
‫ثبت عليهم شيء من ذلك بوسائل الثبات الشرعية فإنهم‬
‫يمنعون من ذلك ول يمكنون منه‪ ،‬ويحاسبون بمقتضى‬
‫الشريعة على ما تستحقه أعمالهم وتصرفاتهم‪ ،‬وقد انحاز‬
‫بعض الناس على عهد رسول الله ‪ ‬وقاموا ببناء مسجد‬
‫بزعم مساعدة الضعفاء على الصلة في الجماعة "فقالوا‪ :‬يا‬
‫رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة‬

‫‪ 37‬انظر أحكام أهل الذمة لبن القيم‪ ،‬تحطيم الصنم العلماني ص ‪110-108‬‬
‫‪ 38‬غياث المم في التياث الظلم ص ‪116-114‬‬
‫‪ 39‬وذلك في غير ما منعت منه الشريعة كدخول الحرم قال الماوردي‪ ":‬ليس لجميع من‬
‫خالف دين السلم من ذمي أو معاهد أن يدخل الحرم ل مقيما ول مارا به وهذا مذهب‬
‫الشافعي رحمه الله وأكثر الفقهاء وجوز أبو حنيفة دخولهم إليه إذا لم يستوطنوه"‬
‫الحكام السلطانية ص ‪ 170‬وأما الحجاز‪-‬دون الحرم‪ -‬فل يستوطنه مشرك من ذمي‬
‫أو معاهد ‪ ،‬وإن جاز لمن قدم منهم تاجرا أو صانعا مقام ثلثة أيام يخرجون بعد‬
‫انقضائها كما عمل عمر رضي الله عنه واستقر عليه الحكم انظر الحكام السلطانية‬
‫ص ‪171‬‬
‫‪24‬‬
‫المطيرة والليلة الشاتية"‪ 40‬و" قالوا‪ :‬يا رسول الله ربما جاء‬
‫السيل يقطع بيننا وبين الوادي‪ ،‬ويحول بيننا وبين القوم‪،‬‬
‫فنصلي في مسجدنا‪ ،‬فإذا ذهب السيل صلينا معهم "‪41‬ولكن‬
‫حقيقتهم كانت مغايرة لذلك وإنما كانت للضرار كما ذكر الله‬
‫تعالى ذلك عنهم " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا‬
‫وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله" فمنع‬
‫الله رسوله ‪ ‬من الصلة فيه وأمر الرسول ‪ ‬أصحابه‬
‫بهدم هذا المسجد وإحراقه‪ ،‬فإذا تبين أن هذه القليات قد‬
‫انحازت إلى مكان أو بقعة بقصد الضرار بالمسلمين فل‬
‫يمكنون من ذلك‪ ،‬وليس في هذا ظلم لهم لن هذا من باب‬
‫منع الضرر‪ ،‬والشريعة تمنع الضرر عنهم وعن غيرهم‪ ،‬قال‬
‫رسول الله ‪": ‬ل ضرر ول ضرار"‪ ،42‬وفي عهد الخليفة‬
‫الراشد علي رضي الله تعالى عنه خرجت الطائفة التي‬
‫عرفت باسم الخوارج وتميزوا عن بقية المسلمين وتحيزوا‬
‫إلى مكان لكن عليا لم يجعل ذلك داعيا لقتالهم أو محاربتهم‬
‫حتى يسفكوا الدم الحرام‪ ،‬فراسلهم رضي الله عنه وأرسل‬
‫جمان القرآن عبد الله بن‬ ‫إليهم من أهل العلم حبر المة وت َْر ُ‬
‫عباس ليناظرهم ويزيل الشبهة عنهم ويوضح لهم المحجة‬
‫فرجع كثير منهم‪ ،‬وبقيت منهم بقية أفسدوا في الرض‬
‫وسفكوا الدم الحرام فلم يقاتلهم ولكن أرسل إليهم يطلب‬
‫منهم القصاص فلما رفضوا عند ذلك قاتلهم رضي الله عنه‬
‫وجنده‪ ،‬وقد ذكر البيهقي في سننه قصة الخوارج وبوب عليها‬
‫بقوله " باب القوم يظهرون رأي الخوارج لم يحل به‬
‫قتالهم"‪ 43‬أي مجرد التكلم والعتقاد لرأي الخوارج فإنه وإن‬
‫كان خطأ وضلل إل إنه ل يحل قتالهم بمجرد ذلك ما لم‬
‫يفعلوا فعل يستوجب القتال‪ ،‬وقد ذكر القصة مرة أخرى‬
‫وبوب عليها بقوله" باب الخوارج يعتزلون جماعة الناس‬
‫ويقتلون واليهم من جهة المام العادل قبل أن ينصبوا إماما‬
‫ويعتقدوا ويظهروا حكما مخالفا لحكمه كان في ذلك عليهم‬
‫القصاص"‪ 44‬وقد ذكر ابن تيمية قصتهم في الفتاوى فقال‪":‬‬
‫خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب‬
‫‪ 40‬تفسير ابن جرير الطبري ‪11/22‬‬
‫‪ 41‬تفسير ابن جرير الطبري ‪ 11/25‬وانظر أيضا أحكام القرآن للجصاص ‪4/367‬‬
‫‪ 42‬أخرجه أحمد رقم ‪ 2719‬وابن ماجه كتاب الحكام رقم ‪2331‬‬
‫‪ 43‬سنن البيهقي ‪8/148‬‬
‫‪ 44‬سنن البيهقي الكبرى ج ‪ 8‬ص ‪184‬‬
‫‪25‬‬
‫وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين إلى مكان يقال له‬
‫حروراء فكف عنهم أمير المؤمنين وقال ‪ :‬لكم علينا أن ل‬
‫نمنعكم حقكم من الفيء ول نمنعكم المساجد إلى أن‬
‫استحلوا دماء المسلمين وأموالهم فقتلوا عبد الله بن خباب‬
‫وأغاروا على سرح المسلمين ; فعلم علي أنهم الطائفة التي‬
‫ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال ‪ " :‬يحقر‬
‫أحدكم صلته مع صلتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع‬
‫قراءتهم يقرءون القرآن ل يجاوز حناجرهم يمرقون من‬
‫الدين كما يمرق السهم من الرمية آيتهم فيهم رجل مخدج‬
‫اليد عليها بضعة عليها شعرات "‪ 45‬وفي رواية ‪ " :‬يقتلون أهل‬
‫السلم ويدعون أهل الوثان " فخطب الناس وأخبرهم بما‬
‫سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ‪ :‬هم هؤلء‬
‫القوم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا على سرح الناس‬
‫‪46‬‬
‫فقاتلهم ووجد العلمة بعد أن كاد ل يوجد فسجد لله شكرا"‬
‫وقد قال الماوردي نحو ذلك حيث يقول‪ ":‬فإذا اعتزلت هذه‬
‫الفئة الباغية أهل العدل وتحيزت بدار تميزت فيها عن‬
‫مخالطة الجماعة فإن لم تمتنع عن حق ولم تخرج عن طاعة‬
‫‪47‬‬
‫لم يحاربوا ما أقاموا على الطاعة وتأدية الحقوق"‬

‫‪-4‬القليات والجهاد في سبيل الله‪:‬‬


‫الجهاد في سبيل الله فريضة من فرائض الدين وعبادة من‬
‫العبادات التي طولب بها المسلمون‪ ،‬وشأن العبادات في‬
‫السلم أن يشترط في التكليف بها السلم فل يكلف بها غير‬
‫المسلم‪ ،‬وكذلك ل يصح أداؤها من غير المسلم‪ ،‬وعلى ذلك‬
‫فإن القليات الدينية ل يتوجه إليها الخطاب بالجهاد رغم أنها‬
‫تقيم في دار السلم وتتمتع بالحماية فيها‪ ،‬وقد بين رسول‬
‫الله ‪ ‬ذلك عندما جاءه مشرك يعرض عليه الخروج معه‬
‫للجهاد تقول عائشة زوج النبي ‪ " ‬خرج رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل‬
‫قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم جئت لتبعك وأصيب معك قال له‬
‫‪ 45‬أخرجه البخاري كتاب المنافب رقم ‪ 3341‬وفي عدة مواضع أخر وأخرجه مسلم‬
‫كتاب الزكاة رقم ‪1765‬‬
‫‪ 46‬مجموع الفتاوى ‪33-13/32‬‬
‫‪ 47‬الحكام السلطانية ‪63‬‬
‫‪26‬‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤمن بالله ورسوله قال ل‬
‫قال فارجع فلن أستعين بمشرك قالت ثم مضى حتى إذا كنا‬
‫بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال فارجع‬
‫فلن أستعين بمشرك قال ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له‬
‫كما قال أول مرة تؤمن بالله ورسوله قال نعم فقال له‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق"‪ 48‬وهذه هي‬
‫القاعدة العامة لكن في بعض الحالت الستثنائية وفق‬
‫شروط حددها أهل العلم يجوز الستعانة بهم من غير إجبار‬
‫لهم على ذلك‪ ،‬وعلى أن يكونوا تحت يد المسلمين فل‬
‫يستبدون بالمر بل هم خاضعون لقيادة الجيش‬
‫السلمي‪،49‬وأما القليات العقدية فهم مطالبون بالجهاد‬
‫وابتداعهم في الدين ل يسقط عنهم الفريضة فقد قال‬
‫تعالى ‪ ":‬كتب عليكم القتال وهو كره لكم" وهذه الكتابة‬
‫تشمل جميع المسلمين فل يختص بها أهل العدل دون أهل‬
‫الهواء‪ ،‬وقد قال علي رضي الله تعالى عنه في حديثه‬
‫للخوارج‪-‬وهم أهل الفرقة والبتداع ‪":‬لكم علينا ثلث ل‬
‫نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله‪ ،‬ول نمنعكم‬
‫الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا‪ ،‬ول نبدؤكم بقتال"‪ 50‬وموضع‬
‫الدللة قوله رضي الله عنه" ول نمنعكم الفيء ما كانت‬
‫أيديكم مع أيدينا" فهو لم يمنعهم من القتال في سبيل الله‬
‫ولم يحرمهم منه‪ ،‬لكن يستثنى في المشاركة في الجهاد من‬
‫القليات العقدية من يكون خروجه ضررا على الجيش‬
‫المجاهد‪ ،‬كمن عرف عنه من يكون وجهه ونصيحته لعداء‬
‫المة‪ ،‬ومن وجدت منهم الخيانة وكالجبناء الضعفاء الذين‬
‫يبثون روح الحباط والهزيمة في نفوس الجيش‪ ،‬ول شك أن‬
‫هناك من القليات من عرف عنهم خيانتهم للمة وإعانة‬
‫أعدائها عليها وتجسسهم عليها لمصلحة العدو‪ ،‬وبذر بذور‬
‫كن هؤلء من‬ ‫الخلف والشقاق بين المجاهدين‪ ،‬فل ُيم ّ‬
‫الخروج للجهاد لن خروجهم شر ووبال على الجيش المقاتل‬
‫وقد جاءت آيات في كتاب الله تعالى في منع خروج من‬
‫جع َ َ‬
‫ك‬ ‫يكون في خروجه الضرر من ذلك قوله تعالى‪ ":‬فَِإن ّر َ‬
‫‪ 48‬أخرجه مسلم كتاب الجهاد والسير رقم ‪3388‬‬
‫‪ 49‬انظر نيل الوطار للشوكاني ‪ 265-7/264‬والموسوعة الفقهية ‪151-8/150‬‬
‫‪ 50‬سنن البيهقي الكبرى ج ‪ 8‬ص ‪184‬‬

‫‪27‬‬
‫جوا ْ‬ ‫طآئَفة منهم َفاستأ ْ‬
‫خُر ُ‬ ‫ج فَُقل ّلن ت َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫رو‬ ‫ُ‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫ك ل ِل ْ‬ ‫َ‬ ‫نو‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ْ َ‬ ‫ه إ َِلى َ ِ ٍ ّ ْ ُ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ضيُتم ِبال ُْقُعودِ أ َوّ َ‬
‫ل‬ ‫م َر ِ‬ ‫ي عَد ُّوا إ ِن ّك ُ ْ‬ ‫مع ِ َ‬ ‫دا وََلن ت َُقات ُِلوا ْ َ‬
‫َ‬
‫ي أب َ ً‬ ‫مع ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن" فقد منع الله السماح للمنافقين‬ ‫خال ِِفي َ‬ ‫مع َ ا ل ْ َ‬‫دوا ْ َ‬ ‫مّرةٍ َفاقْعُ ُ‬ ‫َ‬
‫بالخروج للجهاد عقوبة لهم على تخلفهم وقعودهم عن نصرة‬
‫رسول الله ‪ ‬في خروجه لغزوة تبوك‪ ،‬وقد بين الله تعالى‬
‫أن خروج مثل هؤلء فيه الضرر الكبير فقال تعالى‪ ":‬ل َ ْ‬
‫و‬
‫م‬‫م ي َب ُْغون َك ُ ُ‬ ‫خل َل َك ُ ْ‬ ‫ضُعوا ْ ِ‬ ‫خَبال ً ول َوْ َ‬ ‫م إ ِل ّ َ‬ ‫دوك ُ ْ‬ ‫ما َزا ُ‬ ‫كم ّ‬ ‫جوا ْ ِفي ُ‬ ‫خَر ُ‬ ‫َ‬
‫ن" كما منع‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬‫م ِبال ّ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫س ّ‬‫م َ‬ ‫ة وَِفيك ُ ْ‬ ‫ال ِْفت ْن َ َ‬
‫الله تعالى خروج العراب للقتال في خيبر عقوبة لهم على‬
‫سي َُقو ُ‬
‫ل‬ ‫تخلفهم في الخروج للحديبية فقال تعالى‪َ ":‬‬
‫ْ‬
‫م‬‫ها ذ َُروَنا ن َت ّب ِعْك ُ ْ‬ ‫ذو َ‬‫خ ُ‬ ‫م ل ِت َأ ُ‬ ‫مَغان ِ َ‬ ‫م إ َِلى َ‬ ‫ذا انط َل َْقت ُ ْ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫خل ُّفو َ‬ ‫م َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫يريدو َ‬
‫من‬‫ه ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫م َقا َ‬ ‫م الل ّهِ ُقل ّلن ت َت ّب ُِعوَنا ك َذ َل ِك ُ ْ‬ ‫ن أن ي ُب َد ُّلوا ك ََل َ‬ ‫ُ ِ ُ َ‬
‫ن إ ِّل قَِليًل"‬ ‫كاُنوا َل ي َْفَقُهو َ‬ ‫ل َ‬ ‫دون ََنا ب َ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫ل تَ ْ‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫سي َُقوُلو َ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫قَب ْ ُ‬
‫وقد نص كثير من العلماء على عدم جواز السماح للمخذل‬
‫بالخروج مع الجيش قال القرطبي في تفسيره ليات منع‬
‫المنافقين ‪ ":‬وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في‬
‫الغزوات ل يجوز"‪ 51‬وقال في المبدع ‪ ":‬ويمنع المحذل وهو‬
‫الذي يفند الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج إليه‪،‬‬
‫والمرجف وهو الذي يحدث بقوة الكفار وضعفنا لقوله تعالى‬
‫"ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع‬
‫مكاتب بأخبارنا‪ ،‬ورام‬ ‫القاعدين ‪ " ...‬الية التوبة‪ ،‬وكذا يمنع ُ‬
‫بيننا بالفتن ومعروف بنفاق وزندقة؛ لن هؤلء مضرة على‬
‫المسلمين فلزم المام منعهم إزالة للضرر"‪ 52‬وقال‬
‫الغزالي ‪ ":‬وأما المخذل الذي يضعف القلوب ويكثر‬
‫الراجيف فيخرج عن الصف إذا حضر فإن شره عظيم‪ ،‬ول‬
‫‪53‬‬
‫يستحق السهم والرضخ وإن حضر‪ ،‬وهو أقل ما يعاقب به "‬
‫وقال النووي‪ ":‬المخذل للجيش يمنع الخروج مع الناس‬
‫وحضور الصف‪ ،‬فإن حضر لم يعط سهما ول رضخا"‪ 54‬وقد‬
‫قال أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله ‪ ‬للذين‬
‫قاتلهم من المرتدين لما أظهروا التوبة والعودة‪ :‬اختاروا إما‬
‫الحرب المجلية وإما السلم المخزية‪ ،‬قالوا‪ :‬هذه الحرب‬
‫المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية؟ فقال رضي الله‬
‫تفسير القرطبي ‪8/18‬‬ ‫‪51‬‬

‫‪52‬‬
‫المبدع ‪3/335‬‬
‫الوسيط ‪7/17‬‬ ‫‪53‬‬

‫روضة الطالبين ‪6/378‬‬ ‫‪54‬‬

‫‪28‬‬
‫تعالى عنه لهم كلما كان مما جاء فيه" تنزع منكم الحلقة‬
‫والسلح وتمنعون من ركوب الخيل" أي عدم تمكينهم من‬
‫الحصول على السلح والقوة وعدم المشاركة في الجهاد‪،‬‬
‫لنهم موضع ريبة وعدم ثقة‪ ،‬قال ابن تيمية رحمه الله تعالى‬
‫معلقا على ذلك‪ ":‬فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين‬
‫بعد عودهم إلى السلم يفعل بمن أظهر السلم والتهمة‬
‫ظاهرة فيه‪ ،‬فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلح والدرع‬
‫‪55‬‬
‫التي تلبسها المقاتلة"‬

‫‪-5‬القليات والدارة‪:‬‬
‫قد توجد في الدارة معاني الولية وقد ل توجد فيها تلك‬
‫المعاني‪ ،‬فأما الدارة التي لتوجد فيها تلك المعاني فإنه يجوز‬
‫أن يعهد للقليات الدينية في القيام بها‪ ،‬وذلك مثل الدارة‬
‫الفنية التخصصية‪ ،‬فل بأس في استخدامهم فيما ليس لهم‬
‫فيه سلطان على المسلمين بحيث ل يكونوا تحت أيديهم‪،‬‬
‫فقد استخدم رسول الله ‪ ‬في الهجرة دليل مأمونا من‬
‫الكفار يدله على الطريق وكذلك استخدم بعض أسرى غزوة‬
‫بدر من المشركين في تعليم أبناء النصار الكتابة وجعل ذلك‬
‫فداءهم‪ ،‬وأما الولية أو ما فيه اطلع على أسرار المسلمين‬
‫فليس لهم أن يتولوا من ذلك شيئا‪ ، 56‬وأما القليات العقدية‬
‫" فهؤلء أقسام ‪ :‬أحدها الجاهل المقلد الذي ل بصيرة له‬
‫فهذا ل يكفر ول يفسق ول ترد شهادته وليمنع من الستعانة‬
‫به في أمور المسلمين‪ ،‬الثاني‪ :‬المتمكن من السؤال وطلب‬
‫الهداية ومعرفة الحق لكنه يترك ذلك اشتغال بدنياه ومعاشه‬
‫فهذا مفرط مستحق للوعيد ‪ ،‬آثم بترك ما وجب عليه من‬
‫تقوى الله بحسب استطاعته‪ ،‬فإن غلب ما فيه من البدعة‬
‫والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته ولم‬
‫يستعمل في أمور المسلمين‪ ،‬وإن غلب ما فيه من السنة‬
‫والهدى ما فيه من البدعة والهوى جاز استعماله في أمور‬
‫المسلمين‪ ،‬الثالث‪ :‬من يعرف الحق ويتبين له الهدى بعد‬
‫السؤال والطلب فيترك ذلك تقليدا وتعصبا لصحابه‪ ،‬أو بغضا‬
‫ومعاداة لمخالفهم‪ ،‬فهذا أقل أحواله أن يكون فاسقا وتكفيره‬
‫محل اجتهاد‪ ،‬فإن كان معلنا داعية ردت شهادته وفتاويه‬
‫مجموع الفتاوى ‪35/158‬‬ ‫‪55‬‬

‫انظر تحطيم الصنم العلماني محمد بن شاكر الشريف ‪110-107‬‬ ‫‪56‬‬

‫‪29‬‬
‫وأحكامه‪ ،‬ولم تقبل له شهادة ول فتوى ول حكم ول يستعان‬
‫به في أمور المسلمين إل عند عدم القدرة على تنفيذ ذلك‪،‬‬
‫أو عند الضرورة كحال غلبة هؤلء واستيلئهم"‪ 57‬وقال ابن‬
‫مفلح‪ ":‬تحرم الستعانة بأهل الهواء في شيء من أمور‬
‫المسلمين لنهم أعظم ضررا لكونهم دعاة" ‪ 58‬فعلل ذلك‬
‫بكونهم دعاة أي يدعون الناس إلى بدعتهم‪ ،‬فمن لم يكن‬
‫داعية لم يجر عليه الحكم السابق؛ إذ ليس من كان مصرا‬
‫على البدع داعيا إليها كمن كان ساكتا‪ ،‬وينبغي عدم‬
‫المسارعة في التكفير بل ينبغي التأني والتريث واستيضاح‬
‫المور حتى ل يكون القدام على ذلك إل ببينة ل تداخلها‬
‫الشكوك‪ ،‬وقد نقل المباركفوري عن القاري قوله ‪ ":‬الصواب‬
‫عند الكثرين من علماء السلف والخلف أنا ل نكفر أهل البدع‬
‫والهواء إل إن أتوا بمكفر صريح ل استلزامي لن الصح أن‬
‫لزم المذهب ليس بلزم ومن ثم لم يزل العلماء يعاملونهم‬
‫معاملة المسلمين في نكاحهم وإنكاحهم والصلة على‬
‫موتاهم ودفنهم في مقابرهم لنهم وإن كانوا مخطئين غير‬
‫معذورين حقت عليهم كلمة الفسق والضلل إل أنهم لم‬
‫يقصدوا بما قالوه اختيار الكفر وإنما بذلوا وسعهم في إصابة‬
‫الحق فلم يحصل لهم‪ ،‬لكن لتقصيرهم بتحكيم عقولهم‬
‫وأهويتهم وإعراضهم عن صريح السنة واليات من]غير[ تأويل‬
‫سائغ‪ ،‬وبهذا فارقوا مجتهدي الفروع فإن خطأهم إنما هو‬
‫لعذرهم بقيام دليل آخر عندهم مقاوم لدليل غيرهم من‬
‫جنسه فلم يقصروا‪ ،‬ومن ثم أثيبوا على اجتهادهم "‪ ،59‬وهذه‬
‫القليات العقدية ينبغي السعي في إزالة أخطائهم وجهلهم‬
‫عن طريق الدعوة الواضحة بالحكمة والموعظة الحسنة‪،‬‬
‫ونشر العلم الصحيح بينهم‪ ،‬ومناظرة من يحسن المناظرة‬
‫منهم مناظرة من يريد هدايتهم وإخراجهم من ظلمات‬
‫البتداع والتفرق إلى نور السنة والجماعة‪ ،‬ل مناظرة من‬
‫يريد إفحامهم ولقامة الحجة وكفى‪ ،‬وقد تكون مثل هذه‬
‫المناظرات ذات جدوى إذا تمت مثنى مثتى أو نحوا من ذلك‪،‬‬
‫حتى إذا أقيمت الحجة وأزيلت الشبهة ولم يبق إل مجرد‬

‫الطرق الحكمية لبن القيم بتصرف يسير ص ‪146-145‬‬ ‫‪57‬‬

‫المبدع‪ ،3/337‬النصاف للمرداوي‪4/134‬‬ ‫‪58‬‬

‫تحفة الحوذي ج ‪ 6‬ص ‪302‬‬ ‫‪59‬‬

‫‪30‬‬
‫العناد والصرار على الباطل فإنهم والحالة هذه يعاقبون‬
‫المعاقبة الشرعية التي تناسب ذلك‪.‬‬

‫‪-6‬القليات وحرية التعبير عن الخصوصيات‪:‬‬


‫الدولة السلمية دولة عقدية من واجباتها حراسة الدين‬
‫وسياسة الدنيا به‪ ،‬ول تقتصر مهمتها على توفير رغيف الخبز‬
‫كما يقال‪ ،‬أو حتى تحقيق رفاهية الشعب وجعله يحيا حياة‬
‫رغيدة ‪ ،‬لذلك فإن قضية حرية التعبير عن الخصوصيات‬
‫الدينية أو العقدية ل بد أن ينظر إليها من خلل هذا المنظار‪،‬‬
‫لكن هذه المسألة ينظر إليها بعض الناس من خلل منظار‬
‫غير صحيح إذ يرون أن من هذه الحرية أن تتمتع القليات‬
‫الدينية بحرية الدعوة إلى عقائدها بين الكثرية‪ ،‬وهذا ل شك‬
‫تصور فيه مغالطة كبيرة‪ ،‬إذ ما علقة حرية القليات في‬
‫التعبير عن خصوصياتها بنشر ذلك بين الكثرية‪ ،‬بل هذا فيه‬
‫تعدٍ كبير على حقوق الكثرية‪ ،‬بل إنه مدعاة للتهييج‬
‫والحتراب الداخلي إذ أن الكثرية وهي وارثة الدين الحق ل‬
‫يمكن أن تقبل بمحاولة القليات الضالة بنشر ضللها بين‬
‫المسلمين‪ ،‬فكان السماح لهم بالقيام بذلك من أحد أهم‬
‫أسباب عدم الستقرار في المجتمع‪ ،‬وكان منعهم من ذلك‬
‫إضافة إلى أنه واجب شرعي مدعاة للستقرار وحفاظا على‬
‫تلك القلية من غضبة الكثرية‪ ،‬ومن العجب أن الكثرية لو‬
‫دعت بين القلية لنشر دينها لعدوا ذلك من التعدي على‬
‫حقوق القليات مع أن دعوة المسلمين القليات الدينية إلى‬
‫اعتناق السلم هو دعوة إلى الدين الصحيح الذي يحبه الله‬
‫ويرضاه‪ ،‬ودعوة المسلمين لغيرهم هي في الحقيقة من قبيل‬
‫الخير والمعروف الذي يقدمونه لهداية الضالين من الناس‪،‬‬
‫والمعنى الصحيح لحرية القلية الدينية في التعبير عن‬
‫خصوصياتها أنها ل تكره على تغيير دينها‪ ،‬وأنه يسمح لها‬
‫بممارسة شعائر دينها كما يسمح لها بتعليم ذلك لولدهم‪،‬‬
‫لن عقد الذمة مبني على ضمان حريتهم في ممارسة شعائر‬
‫دينهم‪ ،‬وعدم التدخل في خصوصيات دينهم‪ ،‬وإن كان ل يجوز‬
‫للدولة المسلمة أن تدفع راتبا من بيت مال المسلمين لمن‬
‫يقوم بتعليم القليات الدينية دينها‪ ،‬وأما القليات العقدية فإن‬
‫هذه القليات مسلمة ومن ثم يجب عليها اللتزام بالسلم‬

‫‪31‬‬
‫كما أراده الله تعالى‪ ،‬وكما أنزله على رسوله محمد ‪ ‬ولذا‬
‫فإن دولة السلم ل يجب عليها تعليم مذاهبهم البدعية أو‬
‫نشرها‪ ،‬بل ل يجوز لها ذلك لن مهمتها في الحفاظ على‬
‫السلم وتبليغه للعالمين‪.‬‬

‫‪-7‬القليات بين التمييز والتهميش‪:‬‬


‫التمييز والتهميش لفظان يستخدمان بكثرة في موضوع‬
‫القليات ويتعامل معهما في أحيان كثيرة على أنهما مترادفان‬
‫وليس المر كذلك فالتمييز يراد به الفصل بين الشياء‪ ،‬وأما‬
‫التهميش فيراد به الهمال‪ ،‬ول ينبغي تهميش القليات سواء‬
‫كانت دينية أو عقدية بل ينبغي أن تعطى حقها وأن يتم‬
‫التعامل معها بالعدل‪ ،‬وتاريخنا السلمي حافل بالعدل مع‬
‫القليات وإعطائها حقوقها ‪ ،‬لكن التمييز أمر آخر إذ حقيقة‬
‫المر أنه ما من مكان على وجه الرض إل وفيه تمييز بين‬
‫الناس‪ ،‬فل يمكن أن يعطى مثل العالم أو الطبيب أو‬
‫المهندس راتبا يتساوى مع راتب عامل النظافة‪ ،‬بل في داخل‬
‫المهنة الواحدة يحدث التمييز والتفاضل بين الناس على‬
‫أساس طبيعة المهمة والجهد المبذول والخبرة وغير ذلك من‬
‫المور‪ ،‬ولكن المشكلة الحقيقية أن يتم التمييز بين الناس‬
‫على أساس غبر صحيح‪ ،‬فالتمييز على أساس أمور ل دخل‬
‫للنسان فيها تمييز غير صحيح كالتمييز على أساس اللون أو‬
‫اللغة أو العرق‪ ،‬أما التمييز بين الناس الناشيء عن أفعال‬
‫الناس وتصرفاتهم وما كسبته أيديهم فهذا تمييز يقوم على‬
‫أساس صحيح ومحاولة إلغاء التمييز على أساس العمل هو‬
‫إفساد للعالم كله‪ ،‬ول يقبل أحد بذلك ولن تستقيم به الحياة ‪،‬‬
‫فالعالم كله مسلمه وكافره قائم على التمييز على أساس‬
‫العمل لن إلغاءه يعد من السفه‪ ،‬ول شك أن اليمان من‬
‫أعظم العمل فكيف يقبل في العقول أن ُيلغى التمييز القائم‬
‫على أساس اليمان‪ ،‬فالتدين والعتقادات عمل من كسب‬
‫النسان‪ ،‬والدين منه حق ومنه باطل‪ ،‬ومنه إيمان ومنه كفر ‪،‬‬
‫فلو لم يكن هناك تمييز على أساس اليمان لكان في هذا‬
‫أعظم الظلم‪ ،‬حيث يساوى بين الحق والباطل‪ ،‬وبين الكفر‬
‫واليمان‪ ،‬لذلك كانت مسألة الولء والبراء من المور‬
‫العظيمة في السلم وهي في حقيقتها تمييز بين الحق‬

‫‪32‬‬
‫والباطل‪ ،‬وبين اليمان والكفر وعدم المساواة بينهما‪ ،‬ول‬
‫تفسد الحياة بشيء أكثر من فسادها بالتسوية بين الحق‬
‫والباطل‪ ،‬غير أن هذا التمييز ليس تمييزا أبديا لنه ل يقوم‬
‫على أمور ل دخل للنسان فيها كاللون والجنس والقوم‪،‬‬
‫وإنما هو قائم على عمل كسبي يمكن لكل أحد أن يسعى أو‬
‫يقوم بتغييره‪ ،‬فبإمكان الكافر أن يسلم وبإمكان أهل الفرق‬
‫أن يعودوا للسنة‪ ،‬وبذلك ل يكون هناك تمييز بالنسبة لهم‬
‫وذلك بعكس التمييز الباطل القائم على صفات لزمة في‬
‫النسان ل هي من كسبه ول يقدر على تغييرها‪ ،‬فسيظل هذا‬
‫التمييز قائما دون وجود بارقة أمل في انتهائه‪ ،‬وقد دل على‬
‫هذا التمييز القائم على أساس عمل النسان آيات كثيرة من‬
‫كتاب الله تعالى فقال عز من قائل‪ ":‬أفنجعل المسلمين‬
‫كالمجرمين" وقال تعالى‪ ":‬قل هل يستوي الذين يعلمون‬
‫والذين ل يعلمون" وقال تعالى‪ ":‬ل يستوي أصحاب النار‬
‫وأصحاب الجنة" وقال‪ ":‬أم حسب الذين اجترحوا السيئات‬
‫أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم‬
‫ومماتهم ساء ما يحكمون" وغير ذلك من اليات‪ ،‬كما ميزت‬
‫الدلة الشرعية بين الناس على أساس اليمان في أسمائهم‬
‫وأحكامهم في الدنيا وفي الخرة‪ ،‬ول ينبغي لحد أن يغتر بما‬
‫هو قائم في دول الغرب عندما منعوا التمييز القائم على‬
‫أساس الدين‪،60‬فإنما ذلك لهوان الدين عندهم حيث ل‬
‫يستحق أن يكون عامل من عوامل التمييز‪ ،‬ولعل ذلك راجع‬
‫عندهم إلى ما وجدوه في دينهم من الفساد والباطيل التي ل‬
‫يمكن قبولها‪ ،‬ولن الذي في هذه الدول ليس أكثر من رغد‬
‫العيش‪ ،‬لكنهم ل يقيمون حقا أو يرفعونه ول يرفضون باطل‬
‫أو يضعونه إل ما فيه مصلحة لهم‪ ،‬فالحق والباطل عندهم‬
‫تابع للمصالح والمنافع التي يجنونها من وراء ذلك حسب‬
‫المذهب النفعي ) البراجماتي ( الذي يسيرون عليه‪،‬‬
‫وتاريخهم القديم والحديث دليل على ذلك‪ ،‬فقد احتلوا كثيرا‬
‫من الدول بغير مسوغ‪ :‬فأكلوا خيراتها ونهبوا ثرواتها‪ ،‬وساموا‬
‫أهلها سوء العذاب‪ :‬فقتلوا الرجال ورملوا النساء ويتموا‬
‫الطفال‪ ،‬وأفسدوا في الرض ونشروا فيها الرذائل‬
‫والموبقات‪ ،‬في أمور كثيرة يصعب حصرها‪ ،‬فما قدمت هذه‬
‫‪ 60‬مع العلم أن التمييز الديني عندهم موجود خاصة إذا كان السلم طرفا في‬
‫الموضوع‬
‫‪33‬‬
‫النظمة للنسانية من الدمار والفساد والظلم‪ ،‬أكثر بكثير مما‬
‫قدمته من العدل والحرية والعمار‪ ،‬لكن التمييز في ديننا ل‬
‫يعني الظلم ول إضاعة الحقوق‪ ،‬سواء حقوق القليات الدينية‬
‫أو القليات العقدية‪ ،‬فالظلم حرام حتى مع العداء ول يبيحه‬
‫شيء ‪ ،‬فمع إقرارنا بالتمييز القائم على أساس اليمان فإنه‬
‫ينبغي أن ينال كل إنسان حقه بمقتضى ما شرع الله من غير‬
‫بخس‪.‬‬

‫وفي الختام‪:‬‬
‫إن مشاكل القليات التي بدأت تظهر في بلد المسلمين لم‬
‫تكن إل نتيجة الحتلل الذي وقعت تحته أغلبية دول‬
‫المسلمين‪ ،‬ثم ظهور الدولة القومية بعد الستقلل وما نتج‬
‫عن ذلك من ضعف دولة الخلفة وتفككها وزوال الرابطة‬
‫الدينية التي كان يرتبط بها المسلمون جميعهم‪ ،‬فل توجد‬
‫مشكلة تتعلق بالقليات في الدولة التي تقوم على أساس‬
‫السلم؛ إذ القليات الموجودة فيها جميعها من رعاياها سواء‬
‫كانت أقليات دينية أو أقليات عقدية وهي تخضع للتشريعات‬
‫السائدة فيها‪ ،‬وهي إما أمور جاءت بها النصوص وإما اجتهاد‬
‫سائغ لهل العلم مبني على النصوص ومراع فيه تحقيق‬
‫مقاصد الشريعة في التعامل مع المخالفين‪:‬وهي تقوم على‬
‫أمرين الول‪ :‬دعوتهم إلى الحق ومحاولة إقناعهم به‬
‫والجتهاد في ذلك وتيسير أسبابه من غير إكراه أو إجبار‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬معاملتهم بالعدل وعدم الظلم لهم أو التعدي عليهم‬
‫عند استحكام الخلف وفق ما ترشد إليه الشريعة‪ ،‬والله‬
‫الموفق لكل خير‪.‬‬

‫‪34‬‬

You might also like