You are on page 1of 13

‫‪1‬‬

‫يجب أن نمارس الحياة‬


‫ال أتمالك أن أقول كلمة لشبابنا من الجنسين‪ ,‬وهم يستقبلون كل عام جديد‪ .‬أنه عام سيزيد أعمارهم سنة فهل هو‬
‫سيزيدها حياة؟‬

‫إنه يجب على كل شاب أو فتاة أن يولد من جديد في بداية كل عام‪ ...‬وذلك بأن يراجع حياته الماضية‪ .‬ويقلب‬
‫صفحات األصول والخصوم فيها‪ ,‬ما كسب منها من األخالق العليا‪ ,‬والعادات الحسنة والثقافة الصحية‪ ,‬والصحة في‬
‫النفس والجسم‪ ,‬وما خدم به أمته وعائلته‪ .‬ويقابل هذا بصفحات الخصوم مما خسر ووقع فيه من عادات وأخالق ال‬
‫‪.‬يجب بقاؤها ومن إهمال للصحة والثقافة‪ ,‬ومن إهمال لخدمة المجتمع‬

‫إن أحسن األنواع لالستماع هو ذلك الذي يزيد حياتنا حيوية وتوسعا ً وتعمقاً‪ .‬بحيث نحس أننا أحيا مما كنا‪ .‬ولن‬
‫‪.‬يتحقق لنا ذلك إال بمجهودات متوالية لالستزادة من الحياة‬

‫وإنما نستزيدها بأن ننمو‪ ,‬وبأن نتطور‪ ,‬وبأن نرقى‪ .‬وبكلمة أخرى أن نعيش في طموح‪ ,‬وأن ننظر النظرة‬
‫اإليجابية للحياة‪ .‬فال تقنع باإلقالع عن عادة سيئة وإنما نعمد‪ C‬أيضا ً إلى اتخاذ عادة حسنة‪ ,‬وال نقنع بتجنب رذيلة وإنما‬
‫‪.‬نمارس فضيلة‬

‫‪.‬ذلك أن الهدم وحده ال يكفي‪ ,‬إذ يجب أن نبني‬

‫فال تشك أيها الشاب أن ظروفك سيئة وأنها تؤخرك‪ .‬فأنا أعرف وأسلم بما فعلته بك الظروف السيئة‪ .‬ولكن ماذا‬
‫فعلت أنت بها؟ ها سكت وخضعت؟‬

‫إننا نعيش في وسط يؤثر فينا ونؤثر فيه‪ .‬ويجب أن نؤثر فيه ونغيره‪ .‬وإذا لم نستطع تغيره فلننقحه‪ .‬ويجب أن‬
‫‪.‬يسعى كل منا ألن تكون لحياته داللة‪ .‬يجب أن يكون رجالً يدل‬

‫‪:‬هاك برنامجا ً للعام الجديد‬

‫‪.‬إبطال عادة التدخين واستبدال هواية حسنة بها ‪1-‬‬

‫‪.‬قراءة ودراسة عشرين كتابا ً عصريا ً للمؤلفين الجادين الذين يهدفون إلى التنوير ‪2-‬‬

‫العودة إلى اللغة األجنبية التي كنت قد تعلمتها في المدرسة وكدت أن تنساها‪ .‬تعود إليها اآلن لدراستها واالنتفاع ‪3-‬‬
‫‪.‬بما فيها من مؤلفات متمدنة‬

‫‪.‬مصادقة الشبان المتطورين الذي يحيون حياة دالة ‪4-‬‬

‫وكثيراً ما أتأمل أحد الناس يمارس المحاماة أو الطب أو التجارة أو الزراعة‪ ,‬فأجد فيه مهارة وذكاء كما أجد‬
‫مثابرة وإخالصا ً لحرفته‪ ,‬وهو لذلك ناجح في حرفته‪ ,‬ولكن حين أواجهه وأتحدث إليه نفسا ً لنفس وأتغلغل في أعماقه‬
‫وأصارحه حتى أحمله على مصارحتي‪ ,‬ال أتمالك اإلحساس بأني إزاء رجل جاهل يحيا في هذه الدنيا وال يدري أنه‬
‫‪....‬يحيا‬
‫وذلك أن أول ما يجب أن نحترفه في هذه الدنيا أو نمارسه ليس هو المحاماة أو الطب أو الزراعة أو التجارة‪ ,‬إنما‬
‫‪.‬هو الحياة‪ ,‬يجب أن نحترف الحياة ونمارسها‬

‫إننا نحيا على كوكب من الكواكب الصغرى في هذا الكون يحتوي خمس قارات من اليابسة‪ ,‬وهذا غير ثلثيه من‬
‫الماء‪ .‬ومن حقنا في السبعين أو الثمانين سنة التي نحياها عليه أن نعرف هذه القارات الخمس وندرس أرضها ونرى‬
‫جبالها وأنهارها ومدنها وناسها‪ .‬وأن ندرس مختلف الثقافات واللغات ونتقن اللغة الفرنسية حتى نعرف األفكار‬
‫‪.‬الفرنسية كما ندرس االنجليزية كيما نعرف األفكار االنجليزية واألمريكية‬

‫ومن حقنا أن نختبر‪ ,‬فنعرف طرب الحب في شبابنا بل طيلة حياتنا‪,‬وأن نجد األشعار في األشجار‪ ,‬وأن نعرف‬
‫األحياء األولى في البحار‪ .‬وأن نقف تحت هيكل الدينصور في متحف باريس ونحيي هذا األخ القديم الذي انقرض‬
‫‪.‬قبل مائة مليون سنة وترك لنا هيكله الذي يزيد مائة ضعف عن هيكلنا كامالً‪ ,‬حتى نتأمل ومفكر ونفلسف‬

‫ومن حقنا أن نقرأ الفالسفة الذين انحنوا وخضعوا‪ ,‬والذين ثاروا ونهضوا‪ ,‬وأن نفكر أحسن مما فكروا ونجرؤ‬
‫‪.‬أكثر مما جرؤوا‬

‫ويجب أال تخدعنا حرفة العيش‪ ,‬حرفة الكسب الجزئية‪ ,‬عن احتراف الحياة الكلية وممارستها‪ .‬والحياة هي في‬
‫النهاية حب وجهد‪ ,‬وتطور وارتقاء‪ ,‬وهي اختبار مباشر بلقاء الناس واألرض والمدينة والريف وهي أيضا ً اختبار‬
‫‪.‬غير مباشر بالكتب نقرأ فيها الفلسفة والعلم واألدب والفن‬

‫ثم يجب أال نؤجل الحياة‪ ,‬إذ علينا أن نستمتع بكل هذه األشياء ونحن بعد قادرون على االستمتاع‪ ,‬أما إذا أجلنا‬
‫‪.‬حتى نمتلئ بالشيخوخة فالدنيا علينا حرام‪ ,‬والشيخوخة والموت سواء‬

‫وهذه النظرة للحياة ليست فيها قيمة فردية فقط إذ أن لها قيمة أخرى للمجتمعات البشرية‪ .‬إذ لو كانت الحياة‬
‫رسالتنا األولى لكان تفكيرنا األول يتجه إلى عواملها وليس إلى عوامل الحرب والموت والدمار التي تفكر فيها‬
‫‪.‬المجتمعات المتمدنة اآلن‬
‫اإلنسانية أسمى أنواع الذكاء‬
‫تبدو صفات الذكاء في الناس متنوعة متفاوتة‪ ,‬فهناك الذكاء التجاري الذي يلمح فيه صاحبه الثقوب التي ينظر منها‬
‫إلى الجنيه والقرش‪ .‬وهناك الذكاء العلمي الذي يخترع ويكتشف‪ ,‬وهناك ذكاء األديب الذي يجمع إلى طرب األسلوب‬
‫جمال الفكرة‪ .‬ولكن أعظم أنواع الذكاء وأسماها هو اإلنسانية‪.‬‬

‫ذلك أن اإلنسانية هي إحساس وعقل كما هي وجدان وطرب‪ .‬وحين نكون إنسانيين يزداد وجداننا حتى ليحتوي‬
‫الحيوان إلى جنب اإلنسان‪ .‬بحيث نأنف من إيذاء نملة بال سبب وبحيث نكره القسوة في معاملة الدواب قبل األطفال‪.‬‬

‫والرجل اإلنساني يحيا في هذه الدنيا كما لو كان أما ً ينظر إلي الناس بقلبه وعقله‪ .‬وليس بعقله فقط‪ ,‬وهو هنا ذكي‬
‫بل هو يغذو ذكاءه بإنسانيته‪.‬‬

‫ونحن نجد في أيامنا من يسمون أنفسهم عقالء وواقعين‪ ,‬يحتقرون الزنوج‪ ,‬ويتهمون الفقراء بالكسل والتراخي‬
‫واإلهمال ويقسون على األطفال ويضربون الحيوان‪ .‬وكل هؤالء يحيون كما لو كانوا من الحيوانات بأخالق الطبيعة‬
‫الغشيمة والغابة البدائية التي تحيا فيها الحيوانات‪.‬‬

‫وقد كان اإلنسان قبل مئات األلوف من السنين حيواناً‪ ,‬جسما ً بال نفس‪ ,‬وكان ذكاؤه أنانياً‪ ,‬أما اآلن فإن له نفسا ً‬
‫هي إنسانة جسمه‪ ,‬واإلنسانية هي الذكاء االجتماعي‪ ,‬هي كما قلنا أسمى أنواع الذكاء‪ ,‬هي احساس األمومة في‬
‫األخالق‪ ,‬وهناك العبقرية في اإلنسانية كما هناك عبقريات الفن والعلم والسياسة‪.‬‬

‫وهذه العبقرية في اإلنسانية نجد مثلها في غاندي‪ ,‬وفي شيفتزر‪ ,‬وفي فولتير‪ ,‬وفي تولستوي‪ ,‬وفي دستوفسكي‪...‬‬

‫أننا نحس حين نتصفح حيواتهم أو مؤلفاتهم أننا إزاء عظماء قد اتسموا بالعبقرية في اإلنسانية وقد اتسعت قلوبهم‬
‫للشعوب جمعاء مهما اختلفت ألوانهم أو لغاتهم‪ .‬يكرهون التعصب والقسوة ويساوون بين الناس‪ .‬وإذا كنا في محنة‬
‫العالم الحاضرة نأسف أجزع األسف على شيء فهو أن الذكاء العلمي يسود العالم ويخترع القنابل والغازات وحرب‬
‫الميكروبات والطائرات‪ ,‬بدالً من أن يسود أمثال هؤالء العباقرة في اإلنسانية الذين ينظرون إلى العالم نظرة األم‬
‫ألبنائها‪.‬‬

‫اإلنسانية هي الذكاء الكلي‪ ,‬هي الذكاء المحيط‪ ,‬هي الجمع بين العقل واإلحساس‪.‬‬
‫الحكمة ثمرة الخبرة‬
‫وليم بليك من الشعراء األنكليز الذين عاشوا في أواخر القرن الثامن عشر وعاصروا الثورة الفرنسية الكبرى‪ .‬ألّف‪,‬‬
‫قبل هذه الثورة‪ ,‬مجموعة من القصائد أطلق عليها اسم "أشعار البراءة"‪ ,‬أما بعد‪ C‬الثورة فإنه ألف مجموعة أخرى‬
‫أطلق عليها اسم "أشعار الخبرة"‪.‬‬

‫والبراءة عند بليك تعني السذاجة وما فيها من معان‪ .‬فالطفل ساذج برئ‪ ,‬والعذراء ساذجة بريئة‪ ,‬واإلنسان البدائي‬
‫يمثل السذاجة أي البراءة األولى والجهل األول‪ ,‬والرجل الذي يحيا بال تفكير برئ‪ ,‬إلخ‪....‬‬

‫والمعنى أن كل هؤالء أطهار ألنهم سذج لم يختلطوا بمجتمع متمدن يعرفون منه ألوان الفساد‪ ,‬فتدخل في قلوبهم‬
‫اإلحساسات االجتماعية التي كثيراً ما تالبس الرذائل‪ ,‬أو لم يفكروا بل قنعوا بالعقائد دون الحقائق‪.‬‬

‫ولكنه بعد الثورة ألف" أشعار الخبرة"‪ ,‬فرفع من شأن الخدمة التي نجنيها من االختبارات الماضية‪ ,‬والحقيقة التي‬
‫نحس جذورها في قلوبنا أننا نستجمل البراءة حتى ولو كانت براءة الجهل أحياناً‪ ,‬ولكننا عند التفكير نؤثر حكمة‬
‫االختبار‪.‬‬

‫فنحن مثالً نستجمل الفتاة العذراء ونؤثرها على األرملة‪ ,‬كما نستجمل الصبي الساذج ونؤثره على الرجل‬
‫المجرب‪ ,‬هذا في الوهلة األولى‪ .‬أما بعد‪ C‬التفكير فإننا نؤثر التجربة في الرجل والمرأة ونجد فيها حكمة‪ .‬ولذلك‬
‫نضطر إلى التسليم بأن المرأة خير من العذراء‪ ,‬ألن األرملة التي كانت متزوجة مارست أخالق الرجل وإدارة البيت‬
‫وتربية األطفال‪ ,‬ومعاملة المجتمع الذي تتصل به في شؤون زوجها وأبنائها ثم حملت الهموم بشأن مستقبلهم‪ .‬هذه‬
‫األرملة تجني من جميع هذه االختبارات حكمة للعيش وفلسفة للحياة‪.‬‬

‫تجن قط حكمة من معاشرة زوج سابق‪ ,‬هذا هو‬ ‫ولكن الشاب العادي يؤثر عليها الفتاة العذراء التي لو تختبر ولم ِ‬
‫الشاب العادي‪ ,‬أما الشاب الذي يفكر والذي ينشد اإليناع في نفس المرأة فإنه يؤثر األرملة على العذراء‪.‬‬

‫وقد كان الشاعر بليك يستجمل البراءة‪ ,‬فلما حدثت الثورة الفرنسية واختمرت في قلبه مبادؤها و واشتبك في‬
‫األفكار التي بعثتها حوادثها وناقش كلمات الحرية والمساواة‪ ,‬واإلخاء والجمهورية وحق الشعب في السالم ونحو‬
‫ذلك تغيرت نفسه‪ ,‬فأصبح يؤثر الحكمة والخبرة على السذاجة والبراءة‪ ,‬أي أنه بلغ سن الرشد أو النضج‪.‬‬

‫وهذا شأن الناس جميعا ً يجدون في السذاجة حالوة إذا كانوا غير ناضجين‪ ,‬فإذا نضجوا نفروا من هذه السذاجة‬
‫وما تحمل من جهل‪ ,‬ونشدوا الحكمة التي تثمرها الخبرة‪.‬‬
‫اجعل حياتك حافلة‬
‫كي تكون ذكيا ً يجب أن تجرب ذكاءك وتبسط ذهنك على ميادين مختلفة‪ .‬وال تصدق من يقول لك إن هناك‬
‫عباقرة يولدون موهوبين بالذكاء الخارق كما تولد الفتاة بالجمال الخارق‪ .‬ذلك أن الذكاء‪ ,‬مع تفاوت مقاديره بين‬
‫الناس‪ ,‬ال يصل إلى درجة العبقرية إال باالختالط بشؤون المجتمع والتقلب في مصالحه وأعماله‪.‬‬

‫فإذا حفلت حياتنا باالهتمامات االجتماعية وترددت أذهاننا فيها ظهر نبوغنا بل ظهرت عبقريتنا‪ .‬ولهذا السبب‬
‫يجب أال يكون لنا اهتمام واحد أو اهتمامات قليلة محدودة‪ ,‬ألننا حين نفعل ذلك‪ ,‬نحدد الميدان الذي يعمل فيه ذكاؤنا‬
‫فال يجد القوة أو التلقيح اللذين يزيدانه حدة وبصيرة‪.‬‬

‫فال تكن رجل عمل فقط‪ ,‬وال رجل ذهن فقط‪ ,‬بل كن االثنين‪ C,‬وال تكن أديبا ً فقط أو عالما ً فقط‪ ,‬أو فيلسوفا ً فقط بل‬
‫كن الثالثة‪ .‬كذلك ال تتقن ثروة واحدة فقط‪ ,‬مثل المال‪ ,‬بل اقتن جملة ثروات مثل المال‪ ,‬والصداقة‪ ,‬والثقافة‪ ,‬والحب‪.‬‬
‫أي يجب أن تساهم في جميع هذه األشياء وتحيا على مستويات مختلفة فيها كما لو كانت حياتك جملة حيوات‪.‬‬

‫وبهذه الحيوات المتعددة‪ ,‬وبهذه االهتمامات المتعدةة‪ ,‬تحس السعادة‪ .‬وال يمكن أن تبتئس بل ال يمكن أن تتراخى‬
‫وتفقد النشاط‪ ,‬ألنه عندما تضيع منك ثروة تتجدد أخرى‪ .‬وعندما يضعف اهتمامك بشئ تجدك قد اهتممت بآخر‪,‬‬
‫مارس عمالً بيدك وأدرس شيئا ً بعقلك‪.‬‬

‫كان تولستوي يصنع األحذية بيده ويكتب القصص بذهنه‪ C,‬وكان يحرث األرض ويقرأ الشعر‪.‬‬

‫أجل‪ ,‬يجب أن تكون حياتنا استيعابية تستوعب أكبر مقدار من االهتمامات‪ ,‬ويجب أال نتخصص إال بمقدار ما‬
‫نكسب لقوتنا في عمل معين‪ .‬أما بعد ذلك‪ ,‬بعد الكسب للقوت‪ ,‬فإن رائدنا في الحياة يجب أن يكون التعميم ال‬
‫التخصيص‪.‬‬

‫وال تقل أن العمر قصير‪ ,‬فإنه يطول ويتضاعف إلى ثالثة أو أربعة أضعافه عندما نكثر من االهتمامات‬
‫االجتماعية والسياسية واألدبية‪ C‬والعلمية التي تحفل بها حياتنا ويزيد بها ذكاؤنا‪ .‬وعندما يزيد ذكاؤنا يزيد حبنا للدنيا‬
‫والناس والكون‪ ,‬فنحس لذة الحياة فال نسأم وال نبتئس‪ C,‬إذ كيف نبتئس ولنا جملة ثروات ننفق منها‪.‬‬
‫االستهتار برهان السأم‬
‫كثيراً ما ننخدع برؤية بعض الناس يلهون ويستهترون ولسان حالهم يقول‪" :‬نعيش اليوم ألننا ال نعرف إذا كنا‬
‫سنحيا في الغد"‪ .‬والذي يخدعنا في هؤالء الناس أننا نعتقد أنهم سعداء قد حلوا مشكلة الوجود واستقروا على أن‬
‫األسلوب األمثل للحياة هو أن نحيا في مسرات متوالية نأكل ونشرب‪ ,‬وغداً نموت‪C....‬‬

‫ولكننا عندما نتأمل حالهم ونتحدث إليهم نجد أنهم في غمرة من التشاؤم والحزن قد سئموا من الحياة وضاقوا بها‬
‫إذ ال يجدون أية داللة لها‪ .‬وهم‪ ,‬كلما شملهم السأم والحزن قد سئموا الحياة وضاقوا بها إذ ال يجدون أية داللة لها‪.‬‬
‫وهم‪ ,‬كلما شملهم السأم والحزن‪ ,‬عمدوا إلى المسرات الرخيصة التي تسري عنهم تفاهة هذه الحياة التي يحيونها‪.‬‬
‫واستهتارهم في األخالق وإقبالهم على الشراب أو الطعام إنما يعود كل ذلك إلى عجزهم عن أن يرفعوا أنفسهم إلى‬
‫المقام الذي يشعرهم بالكرامة والسمو‪ ,‬وإلى عجزهم عن أن يؤدوا عمالً أو يقوموا بنشاط يجعل لحياتهم داللة‪.‬‬

‫إن خلو الحياة من الداللة هو الذي يجعل الشاب يتساءل‪ :‬لماذا أعيش؟ ومتى سأل هذا السؤال ولم يجد عنده‬
‫الجواب الشافي فإنه يستهتر‪ .‬بل هو قد يرتكب الجرائم األخالقية البشعة ألنه لم يعد يجد الداللة في االستقامة‬
‫والشرف وال نقول العظمة والمجد‪.‬‬

‫كيف إذن نوجد الداللة لحياتنا؟‬

‫نؤدي العمل ما نرى نتائجه تنمو أمام أعيننا فنفرح ونحس أن المستقبل جزء من الحاضر‪ ,‬ألن هذا العمل سيطرد‬
‫في نموه في السنين القادمة‪ C,‬أي في هذا المستقبل نبني أنفسنا‪ ,‬نبني شخصيتنا‪ ,‬أو نبني غيرنا بالتربية والتثقيف‪..‬‬

‫وتجري عملية البناء يوما ً بعد يوم فتشعرنا بتطورنا وارتقائنا وعندئذ‪ C‬نجد الداللة‪ ,‬وهي‪:‬‬

‫أنا أحيا ألني أرتقي‪ ,‬وألن لنفسي امتداداً في المستقبل يجعلني أتفاءل وأفرح‪ ,‬فال أحتاج إلى أن أقول‪ :‬لنأكل‬
‫ونشرب وغداً نموت‪.‬‬

‫إن هذه الكلمات التي تحمل معنى التشاؤم بالمستقبل‪ ,‬ومعني التفاهة في حياتنا الحاضرة‪ ,‬ومعنى الركود‬
‫واالنحالل‪ ,‬هذه الكلمات ال يمكن أن تخطر بعقل الشاب الذي يجد الداللة لحياته ألنه يتطور ويرتقي‪ ,‬وألنه يبني‬
‫شخصيته‪...‬‬

‫ومن األخطاء الفاضحة ظن الكثير من الناس أن الشبان المستهترين أكثر استمتاعا ً يحياتهم‪ ,‬وإن كانوا أقل انتفاعا ً‬
‫من الشبان الجادين‪ .‬ومنشأ هذه الخداع أننا نرى الشاب المستهتر يعيش في اللهو‪ ,‬يسهر ويتتبع شهوات الدنيا‪,‬‬
‫وينغمس في التدخين أو السكر‪ ,‬وال يتعب في كسب وال يؤدي خدمة تحتاج إلى الدرس والجهاد‪ ,‬وهو ضاحك من‬
‫هموم الدنيا هازئ بالمستقبل ال يبالي بالواجبات االجتماعية أو الرقي الشخصي‪.‬‬

‫ونرى أن الشاب الجاد في تعب‪ ,‬يجهد ويعرق ويفكر كثيراً ويحمل أعباء من الهموم واالهتمامات‪ ,‬ويضطلع‬
‫بالمسؤوليات المادية والروحية‪ ,‬وهو رزين في حديثه يقتصد في كلماته وابتساماته‪ ,‬ينام ليله ويسعى نهاره في طلب‬
‫الرزق أو ترقية شخصيته بالدرس‪ ,‬والمقارنة بين هذين االثنين توهمنا أن األول سعيد باستهتاره والثاني شقي بجده‪,‬‬
‫ولكن هذا خطأ فادح‪ ,‬ألن استمتاعات الشاب الجاد تسير على مستوى أعلى من استمتاعات الشاب المستهتر‪ ,‬كما أنها‬
‫تمتد إلى عشرات السنين في المستقبل في حين تنقطع استمتاعات الشاب المستهتر قبل أن يبلغ األربعين أو الخمسين‪.‬‬
‫إن المستهتر يحيا بال حياة تنتظره في النصف الثاني من عمره في حين يحيا الجاد حياته كلها إلى يوم وفاته‪.‬‬
‫األول‪ ,‬أي المستهتر‪ ,‬يقف عند األربعين أو الخمسين بال اهتمامات روحية أو ثقافية أو فنية أو اجتماعية‪ ,‬وبال رسالة‪,‬‬
‫وفي أغلب األحيان بال صحة‪ .‬أما الثاني‪ ,‬أي الجاد‪ ,‬فإنه ربط نفسه منذ العشرين أو قبلها بروابط االرتقاء الشخصي‬
‫والخدمة االجتماعية واالستطالعات الثقافية‪ ,‬فهو شاب يرقص قلبه بطرب الحياة حتى ولو تجاوز المائة من العمر‪.‬‬

‫وطرب الحياة ليس كأسا ً من الخمر أو وجبة لذيذة من الطعام أو صبوة غرامية‪ ,‬ألنن مهما التذذنا هذه المتع فإننا‬
‫نعرف أنها زائلة موقوتة وأنها دون ذلك االنتعاش الذهني الذي نحسه من الوقوف على نظرية في الفلسفة أو العلم‪ ,‬أو‬
‫ذلك االرتياح الجميل الذي يغمرنا حين نؤدي خدمة بارة للمجتمع‪ ,‬أو تلك اللذة الحميمة التي نحس بها حين نجول في‬
‫حقل أيام الربيع‪.‬‬

‫باق غير زائل ونحن نستمتع به طوال أعمارنا‪ ,‬وكثيراً ما أجد رجالً في العقد السابع أو‬
‫فإن طرب الحياة هنا ٍ‬
‫الثامن من عمره قد تعددت اهتماماته فتوافرت له بذلك استمتاعاته‪ ,‬ألنه أخذ حياته منذ شبابه مأخذ الجد ولم يستهتر‬
‫في حين أن أولئك المستهترين أيام شبابهم ال يكادون يبلغون الستين من العمر حتى يحسوا الحيرة وحتى يتساءلوا في‬
‫عجب‪ :‬لماذا هم أحياء؟‬

‫أيها الشباب استمتع بالجد الباقي وال تستمتع باللهو الزائل‪.‬‬


‫الخوف ضد الذكاء‬
‫أعظم األعداء للتفكير السليم وال نقول التفكير العبقري هو الخوف‪ .‬ونحن نخاف كثيراً‪ ,‬نخاف العرف االجتماعي‪,‬‬
‫لذلك نستهدف الوقار فال ننزع الطربوش مثالً إال بعد مجهود كبير‪ .‬وقد يخاف األديب الصراحة فيخرج أدبه وقوراً‬
‫ال تجد فيه سوى الكلمات والعبارات المألوفة التي ال تبعث على تفكير أو سخط‪ ,‬يخاف المخالفة للتقاليد أو العقائد‬
‫االجتماعية العامة‪ ,‬فهو يفكر وهو محاط بسياج منها يجمد ذهنه ويمنعه من الوثوب‪.‬‬

‫والخوف يحملنا على أن نسلك السلوك االجتماعي‪ ,‬ال شك في ذلك‪ ,‬ولكنه أيضا ً يحول بيننا وبين حرية الذهن‬
‫واالبتكار والتطور‪ ,‬بل أحيانا ً يزيد الخوف فيجعل الخائف مريضا ً عاجزاً عن التفكير البسيط العادي‪ ,‬وكثيراً ما نجد‬
‫الذكاء لهذا السبب في الطفل المدلل الذي لو يخوف في طفولته وإن كنا نجد إلى جانب ذلك نزقا ً في أخالقه‪ ,‬ولكن‬
‫الطفل الذي ذلل وأخضع وهو صغير قلما يبتكر في تفكيره‪ ,‬إذ هو ينشأ خاضعا يقبل أي وضع اجتماعي‪.‬‬

‫وقل في مثل ذلك المرأة‪ ,‬فإننا نعنى أكبر العناية بتخويفها من المجتمع حرصا ً على سالمتها األخالقية‪ ,‬ولذلك قلما‬
‫نجد فيها إقداماً‪ ,‬بل هي تمتنع‪ C,‬بباعث داخلي عن بحث موضوعات عديدة ألنها تخافها‪ ,‬وعندئذ‪ ,‬أي بسبب هذا‬
‫الخوف تبدو كما لو كانت غير ذكية‪.‬‬

‫إن أول شرط للذكاء هو حرية التفكير‪ ,‬أي التفكير بال خوف‪ .‬فذكاؤنا ينقص عندما ننشد الوقار في الكتابة‪ ,‬وأكاد‬
‫أقول أن الكاتب العبقري هو الكاتب الحر‪ .‬وأعني بالحرية أنه ال يرتبط بمذهب سياسي معين أو بتقاليد أدبية أو‬
‫اجتماعية ألنه حين يرتبط‪ ,‬بقيم و حواجز‪ ,‬يمنع بها نفسه عن التفكير فيما يخالف هذا المذهب أو هذه التقاليد‪.‬‬

‫وليس هناك مفر من أن نخوف أبناءنا ألن هذه الدنيا التي سيحيون بها تحتوي الكثير من األخطار‪ ,‬ولكننا نعطل‬
‫ذكاءهم إذا أسرفنا في تخويفهم‪ .‬إن دنيانا تحفل بالذكاء ولكنها تفتقر إلى الشجاعة‪ ,‬وهي تحتاج إلى التغير والتطور‬
‫بل تحتاج إلى الثورة ليس على المستعمرين والمستبدين‪ C‬فقط وإنما على التقاليد التي تمد يدها الميتة عبر القرون‬
‫المظلمة فتشل إرادتنا وتجمد حركتنا االرتقائية وتبقينا مرتبطين بالماضي ال نخطو وال نثب إلى المستقبل‪.‬‬
‫امتحانات الذكاء‬
‫الوراثة هي القدر الذي نقف أمامه عاجزين مكتوفين‪ C..‬وأولئك الذين يحبون أن يجدوا أساسا ً لألخالق أو الفضيلة في‬
‫الطبيعة يحسون العجز والحيرة عندما يواجهون الوراثة في قسوتها‪ ,‬وذلك حين يولد طفل أعمى أو أبله أو اشوه أو‬
‫نحو ذلك مما يحملنا على القول بأن بعض الناس يولدون وقد حكم عليهم القدر بالعجز والشقاء قبل ميالدهم‪ ,‬وقد‬
‫تأمل ارنيست رينان هذه الحال فصرخ صرخته المشهورة‪" :‬ال‪...‬ليس العدل أصيالً في الطبيعة"‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1905‬ظهرت امتحانات الذكاء على يد ألفريد بينيه‪ C‬الذي زعم أن الناس يتفاوتون في ذكاء الفطري‬
‫الذي يولدون به‪ .‬وأنه يمكن قياس هذا الذكاء حتى قبل العاشرة من العمر‪ ,‬وتعين بمقاييسنا قدرة الصبي أو الشاب‬
‫على احتراف عمل ما ومقدار نجاحه فيه‪ .‬وعمت العالم "امتحانات الذكاء" وصدقناها راضين أو مرغمين‪ .‬فكان‬
‫الصبي يمتحن في أشياء ال عالقة لها بتربيته‪ C‬أو وسطه‪ ,‬ثم يصدر عليه الحكم الذي يتعس أبويه أو يسعدهما والذي‬
‫قرر مصير الصبي في هذه الدنيا‪ .‬وكان "امتحان الذكاء" نوعا ً من القدر أو نوعا ً من الرضا أن العدل ليس أصيالً في‬
‫الطبيعة‪.‬‬

‫ومع أن السيكولوجيين كانوا يتشككون في قيمة هذه االمتحانات‪ ,‬لما كانوا يعرفونه من تأثيرات الوسط والمركبات‬
‫النفسية ودرجة الثقافة ونوعها‪ ,‬فأنهم كانوا يخشون التصدي لتكذيب النتائج لهذه االمتحانات ألن اإلقبال عليها كان‬
‫عظيماً‪ .‬وذلك لسهولتها وألن نتيجتها كانت معينة‪ C‬باألرقام كأنها ال تتحمل الخطأ‪.‬‬

‫ولكن رويداً رويداً أخذ الشك مكان اليقين‪ ,‬واحتاج هذه إلى السنين‪ ,‬أي منذ ‪ 1905‬حين بدأت هذه االمتحانات إلى‬
‫اآلن‪ ,‬فقد وجد أن الطفل الذي حكم عليه بالغباوة في امتحان الذكاء قد انتهى بما يقارب العبقرية‪ ,‬كما حدث العكس‪.‬‬

‫كما أن القول بأن الذكاء يقف نموه بعد سن السادسة عشرة لم يعد يصدقه أحد‪ ,‬وأن الوسط الراقي المثقف يستطيع‬
‫أن يرقى بذكاء أفراده كما أن الوسط السئ الجاهل يخفض الذكاء‪.‬‬

‫إن الكفاءات الموروثة حقيقة ال شك فيها‪ ,‬والذكاء كفاءة موروثة إلى حد ما‪ .‬ولكن التفاوت بين الناس صغير‪ ,‬بل‬
‫أحيانا ً تافه‪ .‬وما نرى من تفاوت بعد سن العشرين أو الثالثين‪ ,‬في األخالق والسلوك والمهارة والمعرفة‪ ,‬يعود إلى‬
‫الوسط في األكثر وال يعود إلى الوراثة إال في األقل‪ .‬ونحن في مصر أقدر على فهم ذلك من األوروبيين‬
‫واألمريكيين‪ ,‬فإن المرأة المصرية التي تعلمت في الجامعة واحترفت إحدى الحرف واختلطت بالمجتمع وناقشت‬
‫الدنيا في مشكالتها السياسية واالقتصادية‪ ,‬هذه المرأة تبدو ذكية بل مفرطة في الذكاء عند مقارنتها بالمرأة التي‬
‫عاشت في الحجاب تحوط جدران المنزل بحياتها‪ ,‬مع أن كلنا يعرف أنها أختها وأن الكفاءة الوراثية لالثنتين واحدة‪.‬‬

‫إن الوراثة البيولوجية قدر‪ ,‬ولكنه ليس الذي يقرر لنا التعاسة أو السعادة والخيبة أو النجاح‪ ,‬ألن هذه الصفات‬
‫جميعها تعود‪ C,‬في أكثرها بل أكاد أقول في مجموعها إلى الوسط الراقي أو الوسط المنحط أي إلى المجتمع‪.‬‬
‫تربية العظماء‬
‫قبل سنين كنت أقرأ سيرة الرحالة األمريكي ستانلي ووقفت عند قول كاتب السيرة إن هذا الرحالة كان يعنى وهو في‬
‫مجاهل افريقيا بحلق لحيته كل صباح كما لو كان في لندن أو ادنبره‪.‬‬

‫ولقد أمضى ستانلي سنوات وهو يقطع الصحاري والغابات في وسط أفريقيا ويواجه الوحوش ويأكل الجشب من‬
‫الطعام وينام على الغليظ من الفراش وال يرى غير الزنوج الذين ال يعرفون معنى لحلق اللحى وال يبالون الرجل‬
‫كاسيا ً أو عاريا ً حافيا ً أم ناعالً‪ .‬ولكن ستانلي كان يعنى في الصباح بهندامه‪ ,‬ويحلق لحيته‪ ,‬ويرجل شعره‪ ,‬ويأكل‬
‫فطوره بالشوكة والسكين‪ ,‬فإذا أتم كل ذلك نهض للرحلة كأنه يقصد إلى مكتب في أحد شوارع لندن‪.‬‬

‫وإنما كان يفعل ذلك خشية أن تنهار شخصيته أو تضعف أمام المشاق التي كان يعانيها في وسط إفريقيا‪ .‬وكان‬
‫يحس أنه إذا أهمل الحالقة صباح كل يوم فإن التبذل يأخذ في نفسه مكان التجود‪ ,‬واإلهمال يأخذ مكان العناية و ثم‬
‫تنحل أخالقه وينتقل هذا االنحالل إلى سلوكه في الوصول إلى الهدف الذي نصب نفسه له وهو االكتشاف‪ .‬فهنا رجل‬
‫عظيم أراد أن يؤيد عظمته بالعادات الصغيرة التي تبدو تافهة في ذاتها ولكنها جليلة في داللتها‪ ,‬ألنها إحدى اللبنات‬
‫التي تبنى منها عظمة الرجل‪.‬‬

‫وإزاء هذه العظمة نجد حقارة حين نقرأ أن فاروق التافه كان يؤدي أعمال الدولة وهو في السرير‪ .‬فكان يقرأ‬
‫ويوقع القوانين وهو في جلباب النوم‪ ,‬شؤون الدولة وشؤون الجنس تجتمعان في السرير‪ ...‬مع الضحكات المخنثة‬
‫والحركات المتهتكة‪C....‬‬

‫ولذلك يتمجد اسم ستانلي في التاريخ‪ ,‬ويعفن اسم فاروق في التاريخ‪.‬‬

‫وهناك حدود يعينها العظماء لسلوكهم وهي جميعا ً تبدو تافهة ألول نظرة‪ .‬ولكنها عند التأمل تكشف لنا عن‬
‫صرامة في النفس يراد منها تماسك األخالق ومتانة الشخصية وتوحد الهدف وانتظام النشاط‪.‬‬

‫إن العظيم ال يبعثر حياته وال يستسلم لكل شهوة وال ينقاد إلى كل رغبة‪ .‬ألن عظمته تعين له الهدف في حياته‬
‫وتبعثه على أن يتعهد‪ C‬نفسه بالتربية‪ ,‬وهو ينكر الكثير على نفسه كي يصل إلى هذه الهدف‪ ,‬وهو دائم اليقظة متنبه‬
‫الوجدان إلى شخصيته‪ ,‬ثم هو يأخذ بعادات صغيرة تعينه‪ C‬على بلوغ الهدف وعلى استبقاء قواه موفرة لهذا البلوغ‪.‬‬

‫ونحن حين نقعد إلى مكاتبنا كي نؤدي عمالً ما نحس جداً وتبصراً ومسؤولية ال نحس مثلها حين نؤدي مثل هذا‬
‫العمل ونحن في السرير‪ ,‬وكثير من الخيبة التي يعانيها بعض الشباب أنهم يؤدون أعمالهم مستهترين متراخين لم‬
‫يحلقوا لحاهم ولم ينتصبوا متحفزين لعملهم‪ ,‬وقلما يجيدون لذلك ما يعملون‪ ,‬ألن إهمالهم لعادات الجد في أشخاصهم‬
‫يجعل أعمالهم أيضا ً مهملة‪ ,‬وإنما نضبط أعمالنا ونحزم شؤون مهنتنا إذا كنا نحن قد ضبطنا شخصيتنا ووعينا‬
‫النفسنا الحدود والشروط التي تحول دون التراخي في أخالقنا أو الضعف في شخصيتنا‪.‬‬
‫ضرورة الجنون‬
‫كتبت إحدى الصحف كلمة عن قاسم أمين حاء فيها أنه كان ينصح لألدباء بأن يبتكروا وأن يج ّنوا‪ ,‬وقد يحتاج هذا‬
‫الكالم إلى قليل من التفسير‪ ,‬فقد كان قاسم أمين نفسه أديبا ً قبل أن يكون قاضياً‪ ,‬وقد جن جنونين‪ :‬األول في ‪1898‬‬
‫عندما أخرج كتابه الذي دعا فيه إلى سفور المرأة‪ ,‬وجن جنونه الثاني في ‪ 1906‬عندما دعا إلى إنشاء جامعة‬
‫مصرية‪.‬‬

‫ومعنى الجنون هنا مخالفة العرف ومجابهة للرأي العام بضد ما يعتقد‪ ,‬والدعوة إلى سفور المرأة في أواخر القرن‬
‫الماضي بعد مئات السنين من الحجاب والنقاب واالنفصال من المجتمع والترهل في البيت كانت تبدو بال شك جنونا ً‬
‫إذ لم تكن تقل في غرابتها عن الدعوة للرجال بأن يسيروا في عري تام ألن المالبس ترهقهم وتؤذيهم في صحتهم‪.‬‬
‫وكذلك دعوته إلى إنشاء جامعة في وجه الجهل العام كانت من الغرابة بحيث كانت تعد شذوذاً وجنوناً‪ .‬ومن كلمات‬
‫اإلنجيل التي تقترب من موضوعنا هذا قوله‪" :‬أنت لست حاراً ولست بارداً ولكنك فاتر‪ ,‬ولذلك تقيؤك نفسي"‪.‬‬

‫ولالنكليز كلمة تتردد‪ C‬في صحفهم وكتبهم هي كلمة "السخط المقدس"‪ .‬ولقد سخط قاسم أمين على حال المرأة في‬
‫‪ 1898‬وكان سخطه مقدساً‪ ,‬ولم يطق رؤيتها في فتور‪ ,‬فألف كتابه في غلواء األديب بعد أن حميت نفسه غضبا ً‬
‫ونسي وهو في هذا الغضب‪ ,‬هذه الغلواء‪ ,‬لوم الناس له أو نفورهم منه فكان مجنوناً‪ ,‬أجل‪ ,‬وكان جنونه مقدساً‪.‬‬

‫ومن هنا المعني الذي قصد إليه حين دعا األدباء إلى الجنون‪ ,‬إلى الغلواء‪ ,‬إلى الحماسة التي تنأى عن الفتور‪.‬‬
‫ونحن ال نتحمس وال نجن إال ألننا نتألم أكثر‪ ,‬ونحس أكثر‪ ,‬ونأمل أكثر من غيرنا‪ ,‬وهذا هو حال األديب العبقري‪.‬‬

‫والصلة بين العبقري والمجنون تعود إلى هذه الغلواء‪ ,‬إلى هذه الحماسة‪ ,‬التي يحسها كالهما‪ ,‬وكالهما لهذا السبب‬
‫أيضا ً يحلم ويتخيل وإن تكن أحالم األول مثمرة وأحالم الثاني عقيمة‪.‬‬

‫وعندنا في الجامعتين نحو ألفي طالبة سافرة قد ارتفعن من األنوثة إلى اإلنسانية بفضل قاسم أمين حين جن جنونه‬
‫األول ثم جنونه الثاني‪.‬‬

‫وعلى األديب أن يسخط وأن يجن وأن يكتب في غلواء وإال يكون فاتراً يقيئه القراء‪.‬‬
‫السخط المقدس‬
‫كنت أتحدث من مدة قريبة إلى أحد األميركيين‪ C,‬وجاءت مناسبة حملتني على أن أقول‪ :‬أننا أمة متسامحة‪ ,‬ولكنه‬
‫على غير ما انتظرت لم يمدح هذه الصفة التي كنت أعدها ميزتنا‪ ,‬إذ قال لي أنكم تتسامحون أكثر مما يجب‪.‬‬

‫وهو يقصد هنا إلى أننا نرضى بكثير مما تسخط عليه األمم األخرى‪ ,‬وأننا لو كنا نسخط كما يسخطون لكانت‬
‫حالنا أفضل مما هي اآلن‪ ,‬وقد عدد لي أشياء قبيحة نرضاها ونسكت عنها‪ ,‬وكان يجب أن نأباها وأن ندعو إلى‬
‫معالجتها وأال نفتر حتى تتغير‪.‬‬

‫نحن نسكت عن التذكري الذي بيعنا تذكرة السفر حين يزيد علينا من قرش إلى قرشين بدعوى التبرع إلحدى‬
‫الجمعيات‪ ,‬ونحن نسكت على الموظف التي نتقدم له بطلب فيتركنا وقوفا ً ويشرب هو القهوة على مهل‪ ,‬ونحن نسكت‬
‫على البراز نراه على طوار الشارع ألننا نتسامح في بقاء الفقر ونرضى الفقراء أن يعيشوا في مساكن تخلو من‬
‫المراحيض‪ .‬وهذا في وقت كان يبلغ فيه ثمن القنطار من القطن ثالثين‪ C‬جنيهاً‪ ,‬ونحن نسكت على الرؤساء في‬
‫المصالح يتحيزون لبعض الموظفين الذي يصطنعونهم‪ ,‬أو يرتشون منهم‪ ,‬فيرفعون درجاتهم ويتركون الموظفين‬
‫النزهاء بال حق عن الدرجات التي يستحقونها‪ ,‬ونحن نسكت عن فوضى الغالء وفوضى التلفونات وفوضى‬
‫البورصة‪....‬‬

‫نسكت كثيراً‪ ,‬وكان يجب أن نصرخ ساخطين العنين‪ C,‬وعند األوروبيين‪ C‬تعبير جميل يدل على حياتهم اليقظة‬
‫وضميرهم المتحفز‪ ,‬هو قولهم "السخط المقدس"‪ .‬هذه السخط الذي يجب أن نحسه حين نجد الفاقة السوداء تتمرغ في‬
‫الوحل‪ ,‬ونعاني من الجوع والعطش مع أن بالدنا غنية‪ C,‬وكان يجب أن نكون أغنى لو أننا كنا جادين عاملين على‬
‫زيادة ثروتنا‪ .‬هذا السخط المقدس هو الذي يجب أن نحسه حين نجد أن االستبداد‪ C‬يعلو والحق ينخفض ويداس‪.‬‬

‫إن علينا أن نحد من تسامحنا‪ ,‬وأن نسخط كثيراً على أحوالنا التعسة‪ ,‬وأن نرفض بقاء الفقر والمرض ما دمنا‬
‫قادرين‪ ,‬أم ما دام بعضنا قادراً على محوها‪.‬‬
‫شبابنا‬
‫أجد في شبابنا المتعلم‪ ,‬الذي لم يصل بعد‪ C‬إلى درجة الثقافة‪ ,‬ظاهرتين في اختيار الكتب‪ .‬األولى أنه يقرأ كثيراً من‬
‫القصص ويقبل على أية مجلة ما دامت تنشر قصصا ً غرامية‪ ,‬والثانية أنه يقبل على قراءة المؤلفات السيكولوجية في‬
‫إسراف‪.‬‬

‫وبين الظاهرتين ارتباط‪ ,‬ذلك أن شبابنا الذين حرموا األنسة والزمالة مع الفتيات ألنهم يعيشون في مجتمع يقول‬
‫بالفصل بين الجنسين‪ ,‬هؤالء الشبان يقرؤون القصص كما لو كانت تعويضا ً عما حرموه‪ .‬وكثيراً ما يكون هذا‬
‫التعويض سخيفا ً قد أغرب في الخيال بالكلمة والصورة‪ .‬ولكن شبابنا أيضا ً يصلون‪ ,‬بسبب الحرمان‪ ,‬إلى خياالت‬
‫سخيفة ال تتصل بالواقع وال تشبهه‪ ,‬ولذلك هم يرضون بهذه القصص ويلتهمونها وال يجدون فيها إسرافاً‪ .‬أما الظاهرة‬
‫الثانية وهي اإلقبال على الكتب السيكولوجية فتعود أيضاً‪ ,‬إلى حد كبير‪ ,‬إلى الفصل بين الجنسين‪ ,‬ألن هذا الفصل‬
‫يحدث لهم اضطرابات نفسية‪ ,‬فهم في قلق غامض وكظم مرهق‪ ,‬ولذلك يشترون هذه الكتب اعتماداً على أنهم‬
‫سيجدون الحل لقلقهم واضطرابهم‪ ,‬ولن يجدوه‪ ,‬ألن الحل الوحيد هو االختالط حتى تأخذ الحقائق مكان الخياالت‪.‬‬

‫ومع ذلك ال أتمالك اإلحساس بأن كتاب القصص عندنا قد نجحوا في شيء واحد خدموا به مجتمعنا‪ ,‬هو أنهم‬
‫جعلوا كلمة "الحب" من الكلمات المألوفة بل اإلحساسات المألوفة‪ ,‬فالشباب العربي حين يفكر في الزواج يفكر أيضا ً‬
‫في الحب الذي يعده حقه ويعتقد أن زواجا ً بال حب هو خيانة لقلبه وضميره‪ ,‬وقد تعلم ذلك من القصص‪.‬‬

‫هذا كسب كبير لمجتمعنا وشبابنا‪ ,‬فإن الجيل الماضي كان يخجل من ذكر الحب في شؤون الزواج‪.‬‬

‫وكذلك ال أتمالك اإلحساس بأن شبابنا قد تعلموا الكثير عن أنفسهم إلقبالهم على قراءة الكتب السيكولوجية‪ ,‬وإن‬
‫كنت أحيانا أجد مؤلفات أو مترجمات سيكولوجية غاية في التفاهة والسخافة‪.‬‬

‫ولست أقول أن قلق الشباب يعود كله إلى الفصل بين الجنسين‪ ,‬ولكني أقول إن معظمه يعود إلى ذلك‪ .‬أما أقله‬
‫فيعود إلى المكانة االجتماعية التي ينشدها الشباب بالعمل والكسب حين ال يجد وسيلة إليها‪ ,‬وكثيراً ما يحصل الشباب‬
‫على شهادته الجامعية ثم يبقى مع ذلك عامين أو ثالثة أعوام وهو ال يجد العمل واالرتزاق بها‪ .‬فيحس من ذلك بأنه‬
‫مزعزع ليست له كرامة اجتماعية‪.‬‬

‫ولكن عندما تكثر عندنا المصانع والمتاجر سيقل التعطل وتفتح أبواب الرزق‪.‬‬

You might also like