Professional Documents
Culture Documents
ذكريات مجاهــــــد
October 14, 2010
Authored by: 0000
2010
مممممممممممممممممممم مممم مممممم مممممم
ممم مممممم
****************
*********************
)مذكرات مجاهد(:
ممممم ممممم
إلى كل من سالت دمائهم رخيصة في سبيل الله..
شهدائنا البرار
إلى كل المجاهدين في سبيل الله..
فوق كل أرض وتحت كل سماء
إلى كل من أثقلهم القيد ..إخواننا السرى
إلى كل من آوى ونصر وجاهد وصبر..
ولكل أرملة ويتيمة وثكلى..
ي الفضل والحسان،
إلى أعز إخواني ،ومن لهم عل ّ
بعد الله عز وجل،
)أبو رغد العتيبي( و)أبو محمد اللبناني(..
وإلى هؤلء ..أبو يونس اليمني ،أبو حكيم اليمني ،أبو عكاشة
اليمني ،أبو أسامة الزهراني ،أبو العباس المالكي ،أبو عبيدة
الردني ،أبو عبد الله العتيبي ،أبو صقر اليمني ،أبو تراب السوري،
أبو خالد الردني ،أبو طارق اليمني ،أبو حفص النجدي ،أبو الدرداء
الردني ،أبو مالك الطائفي ،أبو البراء العتيبي ،أبو عاصم اليمني،
أبو حمزة النجدي ،أبو بكر النجدي ،أبو بصير الثبيتي ،أبو ريان
مامالنجدي ،أبو دجانة اليمني ،بلل النجدي ،أبو أنس العتيبي ،أبو ه ّ
الردني ،أبو مصطفى الجزائري ،أبو خطاب الليبي ،أبو الدرداء
الفلسطيني ،أبو تمام اليمني ،أبو الفتح السوري ،أبو مصطفى
السوري ،أبو القعقاع الردني ،أبو مجاهد الشمري ،أبو خطاب
الشمري ،أبو الزبير التبوكي ،أبو عمر النجدي ،أبو شهيد الجزائري،
أبو بكر القحطاني ،أبو سليمان النجدي ،أبو محجن النجدي ،أبو
صهيب النجدي ،أبو القعقاع الجزائري ،أبو كنعان اليمني ،أبو ماهر
النجدي ،أبو عبد الله المكي ،أبو جابر السوري ،حيدرة السوداني،
عبد القادر السوري ،أبو عماد اليمني ،أبو عبد الله اليمني ،أبو بلل
الكربولي ،أبو وقاص الفلوجي ،أبو الزبير النجدي ،أبو الدرداء
اللبناني ،أبو مجزءة السوري ،أبو دجانة الجزائري ،أبو قسورة
السوري ..وبقية الخوة من المعسكر الثاني الذين لم يتسن لي
معرفة أسماؤهم ،إل أن صورهم محفورة في ذاكرتي..
إلى كل هؤلء أقول لهم بارككم الله على نصرة أخوانكم في
العراق ،يا من التحقتم بجحافل الجهاد في أرض العراق ،نصرة
لدين الله ،ونصرة لنبي هذه المة ،ونصرة لكل مظلوم ،ولكل حرة
سبيت على يد الطواغيت ،الكفرة الفجرة ،في كل أركان العالم من
حولنا ،ولكل هؤلء ُاهدي إليهم هذه المذكرات ،التي قد ترى النور
يوما ً بعد مقتلي على يد المحتلين أو على يد عملئهم ،أو ربما ل
ترى النور فتضيع ،فتموت بموتي حقائق ما جرى من أحداث يشيب
لها الولدان ،من بطولت وأحداث ل يكاد يصدقها عقل!!
للمرة الرابعة أعاود كتابة هذه القصة ،دون ملل من العيش في
أجوائها ،واستذكار لحظاتها ،بعد أن كان الدافع الرئيسي هو الطلب
من أخي الحبيب أبو محمد اللبناني ،ففي المرتين الوليتين كانت
ت الطباعة، القصة من نصيب المريكان ،أما المرة الثالثة فقد أهمل ُ
وضاعت المسودة ،حتى أصبحت للقصة قصة ،ثم عاودت الكتابة
دون يأس من إتمام ما بدأت ،وفاءً مني للخوة ،ورغبة في تدوين
ت
أحداث ما جرى ،ول يزال يجري في بلد الرافدين ..ولقد أجهد ُ
نفسي بكتابة كل صغيرة وكبيرة من الحداث ،متحريا ً الصدق
والمانة والدقة في ذلك ،مع إدغام بعض التفاصيل ،لمحاذير أمنية
تخص أمن الشخاص ،ول تمس بصلب القصة ،سائل ً الله ،عز وجل،
أن ييسر لنا المور ،ويكتب لنا الجور.
بشديد من الختصار ،وبمرور الكرام ،سأتناول هذه المرحلة،
التي ل يخفى شيء من تفاصيلها على أحد ،لنها تتناول أحداث
البلد عمومًا..
بطبيعة الحال كان الجهاد بالنسبة لهل العراق ضرب من التأريخ
مغَيبين عما تمر به المة من ويلت وأحداث القديم ،فقد كان الناس ُ
جسام ،فأفغانستان حرب أهلية ،والشيشان حركة انفصالية،
وكوسوفو أطماع دولية ،وهلم جرًا ،أما أنا ففي تلك اليام ،وكلما
قُرب شبح الحرب بت أشعر بقرب نهاية الجلوس ،واقتراب أيام
الجهاد ،ولكي تكون البداية مدروسة قمت بكتابة مجموعة من
النقاط والمبادئ المهمة في تشكيل الجماعة المسلحة ،تناهز
الربعين نقطة ،إل أنني لم أجد من يهتم بقراءتها حتى بعد بداية
الحرب ،وكان هناك بعض الخوة يشاطرونني نفس الشعور،
ويحملون نفس الهم ,فضل عن أن مصير البلد سيبقى رهن
المجهول في ظل احتلل ل يوقر كبيرا ً ول يرحم صغيرًا ،بل وحتى
هوية العراق العربية والسلمية مهددة بالتحريف والتزييف.
لذلك فقد قررنا التهيوء لمرحلة مبهمة قادمة أحد أطرافها احتلل
أمريكي ،فقررنا إعداد العدة المعنوية والمادية قدر المكان لحمل
السلح ،مع أن أحدنا كان ل يمتلك ثمن بندقية ،ولكن المهم هو
العزم والخذ بالسباب ليكون عملنا هذا معذرة إلى الله عما تمر به
المة من ويلت ،فقد كان الحال هو أن ننتظر بداية الحرب ،لنحمل
لواء المعركة.
وعلى هذا كان المر بأن نسعى لعداد العدة المعنوية والمادية قدر
المستطاع ،فكنت دائم الزيارة لبعض إخوان العقيدة فأحّرضهم
على امتلك السلح ،وأحثهم على ذلك ،دون ذكر شيء من هذه
المور لهم ..وقد بدأنا بهذه المور على قلة العدد وانعدام العدة،
فتبلورت نواة صغيرة جدا ً لجماعتنا ،مما شجعني على كتابة
)الرايات السود( والحتفاظ بها في منزلي ،وذلك قبل بدء الحرب
ببضعة أشهر ،ولم أكن اعرف أن هذا العداد كان يجري أيضا ً في
بعض المناطق الخرى ،وعلى مستوى متفاوت من ناحية الترتيب
والعدة المادية.
أما نحن فقد استقر المر على جعل أحد الخوة أميرا ً للجماعة،
سنسميه في قصتنا هذه) ،أبو نسيم( ،وهو من الخوة العزاء
الفاضل ،وكانت للكفاءة الكلمة الفصل في تقييم القادة.
وهكذا مضت اليام ،والحداث تتأزم وتتابع ،وباتت الحداث تلهو بنا،
كما يلهو الريح بزورق صغير في يوم عاصف ،حتى جاء يوم )
،(20/3/2003حيث بدأت شرارة المعركة الولى ،لتبدأ معها صفحة
جديدة من صفحات التاريخ ،لترفع شأن أناس ،وتضع شأن آخرين،
وليصبح ذلك التاريخ نقطة تحول في تاريخ المنطقة ،وتاريخ
السلم ،بل والعالم بأسره!
كان الوضع في مدينة القائم بعيدا ً نوعا ً ما عن أحداث المعركة ،فلم
تكن هناك ثمة جبهة قتال في تلك المناطق ،وأذكر عندما كنت
استقل القطار فيمر بتلك الصحاري الشاسعة غرب العراق ،أقول
في نفسي ،ل شك أن هذه المناطق ستكون من نصيب المريكان
منذ اللحظة الولى ،بل أن )صدام( لن يضع جنديا ً واحدا ً في هذه
المناطق ،لنها خسارة ل شك فيها.
ولما بدأت الحرب ،كان المر كما توقعت ،إل أن هناك أمرا ً قد طرأ
على ساحة الحداث غّير مجرى المور ،ولم يكن بالحسبان ،آل وهو
دخول الخوة العرب للمشاركة في القتال ،فقد تدفق الخوة من
كل حدب وصوب نحو الحدود العراقية ،ليدخلوا بالمئات ،إن لم يكن
باللف ،ليكون لهم نصيب من هذه الحرب.
أما المنظر في مدينة القائم فقد كان يبعث على الفرح أحيانًا،
وعلى الحزن أحيانا ً أخرى ،أما الفراح فكانت تتمثل في رؤية هذا
الكم من الشباب المسلم وهو يحمل هذا العزم والهمة ومجيئهم
من كل بلد ليقاتلوا أعداء الله ،وأما ما يبعث على الحزن فهو
المصير المجهول الذي ينتظر البلد في نهاية نفق هذه الحرب ،وكم
كان يحّز في النفس أن نرى هذه الجموع المجاهدة بهذه الهمة
والحماسة تزفهم سيارات الجيش إلى خط المعركة الول دون
ى وحزنا على تدريب ،بل ودون سلح أحيانًا ،وكان القلب يتقطع أس ً
هذا المر.
في تلك الثناء جاء الخ )عمر حديد( بزيارة للمنطقة ،ولم يكن أحد
يعلم بوجودهم في هذين البيتين ،وعندما وصل المدينة توجه إلى
بيته ليتفقده ،ففتح الباب وتفاجأ برؤية الخوة في البيت ،كما
تفاجأ الخوة بدخوله أيضًا ،فأخذ يسأل كل واحد منهما الخر وعن
سبب وجوده هنا ،إل أن )عمر حديد( كان قد عِلم أن الخوة
النصار)وهي التسمية التي تطلق على المجاهدين العراقيين( ،قد
أجلسوا الخوة في بيته ،فأخذ يمازحهم ومن ثم أخبرهم بأنه
صاحب الدار ،عندها جلس معهم واستأنس بعضهم ببعض ،فقد كان
مل ول ُيمل.بشوش الوجه ،ل ي ِ
إل أن أمرا ً كان يقطع على الخوة نشوتهم وفرحتهم أل وهو نقص
السلح ،أو انعدامه بعبارة أصح ،فلم تكن في حوزة الخوة سوى
بندقية واحدة ،يتناوبون عليها في الحراسة ،عند ذلك ذكر أحد
مام الردني( أنه وحينما كان يقاتل في الرمادي الخوة وهو )أبو ه ّ
كان بحوزتهم بعض السلحة ،منها ثلث عشرة بندقية ،وبعض
قاذفات الـ ) ، (rbgعندها لم يتردد الخوة في الذهاب لحضارها،
وفعل سار من الغد إلى الرمادي الخ )عمر حديد( والحاج )حسن
مام( و)أبو أحمد( ،وهو شقيق المير ،ووجدوا عارف( و)أبو ه ّ
السلحة في مكانها فحملوها في السيارة ،وقفلوا راجعين إلى
القائم ،وفي غمرة تلك الفرحة واجهتهم في الطريق نقطة تفتيش
للميركان لم يكن لهم عنها مفر ،ولم يكن أمامهم سوى المواجهة،
أو التسليم ،ولكن هيهات لهؤلء البطال أن يسلموا أنفسهم!
أمسك الحاج )حسن عارف( بمسدسه الذي ل يفارقه ،وحمل )أبو
مام( سكينًا ،فيما قام )أبو أحمد( بسحب بندقية من تلك البنادقه ّ
بينما كان )عمر حديد( يقود السيارة ،وجهز الخوة أنفسهم
للمواجهة ،وعندما وصلت سيارتهم إلى نقطة التفتيش ،أشار إليهم
الجندي المريكي بأن يسيروا ويعبروا نقطة التفتيش دون أن يتم
جاهم الله ،وما أن تجاوزوا السيطرة حتى تفتيش سيارتهم ،فن ّ
ً
أوقفوا السيارة ،وسجدوا لله شكرا ،فكانت لهم فرحتان ،فرحة
النجاة ،وفرحة إيصال السلح للخوة ،وعندما وصل السلح للخوة
فرحوا به فرحا ً عظيمًا.
ممممم مممممم
بعد ان قضى الخوة الوقت الطويل وهم قابعين في البيوت ،قاموا
بما أمكنهم من إعداد العدة واستغلل الوقت أمثل استغلل ،من
حلق التحفيظ ،والتدريب البدني البسيط.
دروس العلم ،و ِ
خلل هذه الفترة كان أبو رغد العتيبي قد استقرأ تقييما لكل أخ،
عرف من خلله إمكانياتهم وقابلياتهم على خوض هذا الطريق
الوعر ،وبالطبع لم يكن المر ليبقى على ما هو عليه فل جدوى من
البقاء في هذه البيوت مع ضيق المكان ،وقلة السلح ،لذا أصبح
لزاما ً عليهم تغيير المكان والبحث عن ظروف ملئمة أكثر ،خاصة
وقد بلغ عدد الخوة قرابة الخمسة والثلثين ،ونظرا لطبيعة
الظروف التي آلت إليها البلد ،بعد استقرار المريكان فيها،
ملك ،فقد أصبح وتربعهم على عرش ثرواتها دون منازع لهم في ال ُ
الناس ل يخشون أحدا ً كخشية المريكان ،فأصبح البحث عن المأوى
وتأمين أسباب المعركة أمرا ً ذي بال.
وبناءا ً على كل ما سبق ارتأى الخوة ان يبحثوا عن مكان ما في
عرض الصحراء ،ذو صفات معينة ،ليستقر الخوة فيه مدة من
الزمن ،يكملون فيه تدريبهم على السلح ،وكذلك ليتوسعوا في
تدريباتهم ،لينتشروا بعد ذلك إلى المدن ،لخوض المعارك مع
المريكان ،فكل ما عرفوه خلل بقائهم في البيوت ل يكفي سوى
للدفاع عن النفس..
وبعد جهد جهيد وجد بعض الخوة مكانا ً ملئما جدًا ،يتميز بوعورته
وقربه من النهر ،وكذلك فهو ليس بالقريب وليس بالبعيد عن
المدن ،كما أن ل يبعد سوى قرابة العشرة كيلو مترات عن مدينة
راوة ،ويقع إلى جنوب الشرق منها ،كما قاموا بالتعرف على أحد
أهالي راوة ،ليقدم لهم المساعدة في ما يحتاجه الخوة في بقائهم
هناك.
أن مسألة المياه وتوفيرها تلعب دورا ً مهما في اختيار المكان ،إل
أن الله ،عز وجل ،قد يسر لنا المر ،فجمع لنا كل الحسنات في
مكان واحد ،يشتمل على أفضل الظروف الطبيعية والمكانية
وغيرها ،ولم يكن يخطر ببالي بأن هذا المكان سيكون فيما بعد
أقرب بقاع الرض إلى قلبي على الطلق ،بعد الحرمين الشريفين،
فقد عشت فيه أياما ً وكأنها سنينًا ،لم أعش قبلها ول بعدها أجمل
منها ،فبأي شيء توصف ،وبأي كلمات أعبر عن شعوري حينئذ ,فكل
ما فيها مجلبة للسعادة الكاملة ،حتى التعب والنصب يكون أحلى من
الراحة ،والجوع أشهى فيها من الطعام في سواها ،كيف ل وأنا
كنت أعيش مع شهداء يمشون على الرض ،نحسبهم والله حسبهم،
لم أَر لهم مثيل ً في كل صفاتهم ،فالفرق بينهم وبين سواهم
شاسعا ً جدًا ،ول ينصفه وصف ،ول يبلغه مدح!
على كل حال بدأ نقل الخوة إلى هذا المكان ،وبدأ المكان يزهو
بساكنيه ،فهو بدونهم ل يطاق ،ول زلت حتى هذه الساعة ،لم أجرؤ
على الذهاب إليه ،بعد فراق الخوة ،ول استطيع أن أعرف ما
سينتابني لرؤية المكان مرة ثانية ،ولكن من دون رؤية الخوة فيه،
فيما لو قدر الله لي زيارته ولم أقتل ،فهو بحق شعور ل يوصف،
وان مدى شوقي إليه ،وخوفي منه ،متساويان!
عندما نزل الخوة هناك بدأوا بترتيب المكان ،وأول ما قاموا به هو
بناء المسجد ،وبالطبع لم يكن سقف المسجد إل من الحصير ،ولم
تكن أرضه إل من التراب ،إل أن عمرانه اليماني كان يفوق كثيرا ً
كثيرا ً عمرانه المادي ،فما أجمل الصلة في ذلك المسجد ،وكم هي
جميلة مناظر تلك النفوس الخاشعة ،التي انقطعت عن الدنيا في
كل أحوالها ،عندما قرروا سلك هذا الطريق الذي ل يسلكه إل القلة
القليلة من صفوة هذه المة ،الذين تأنف أنفسهم إل ان تعيش في
كنف العز ،فنأوا بأنفسهم عن العيش مع العوام عيش الهوام ،وهم
يرون الرض والعرض مستباح لكل خوان كفور.
أما وصف المكان بشكل عام فقد كان على ضفة نهر الفرات
الشرقية ،وكان بقرب النهر ثلث غرف صغيرة ،إحداهما هي
المطبخ ،والتي يرابط فيها أبو القعقاع الردني ،وهو شقيق القائد
أبو حفص في الشيشان )حفظه الله( ،أما الغرفة الثانية فقد كانت
مخزن للسلح ،والثالثة لبي رغد ،وبالطبع لم تكن حكرا ً عليه،
حاشاه أن ينأى بنفسه عن إخوته ،بل كانت توضع فيها بعض
الجهزة ويرقد فيها من يمرض من الخوة ،وهذه الغرف الثلث
تسمى بمجموعها المركز ،وتتصف بقية المنطقة بالودية والتلل
الصغيرة ،فهي منطقة وعرة جدا ً بالنسبة لصحراء العراق
المنبسطة.
ولم يجد الخوة الكثير من العناء في تنظيم أنفسهم وترتيب
أحوالهم وذلك لنهم بدأوا بذلك منذ البداية وقبل وصولهم
المعسكر ،وبالطبع كان أبو رغد العتيبي هو أمير المعسكر ،وكان
أبو يونس اليمني هو نائب المير وذلك لما له من خبرة سابقة في
المور العسكرية فضل عن التواضع الذي يتحلى به.
في بداية استقرار الخوة كان المسجد يحتضن معظم أوقاتهم،
فعند آذان الفجر ،والذي يرفعه دائما أبو عاصم اليمني ،وما أجمل
ذلك الذان الذي قلما سمعت صوتا ً يصدح به أجمل منه ،أقول بعد
الذان ينتفض الخوة وينزلون إلى النهر تباعًا ،كانخراط عقد
اللؤلؤ ،ليتوضئوا وبعد ذلك تقام الصلة ويصطف الخوة بضعة
حلقا ً يقرأون القرآن وأول ما يبدأون صفوف ،وبعد الصلة يتحّلقون ِ
بسورة النفال ،ويبقى الحال كذلك حتى يتموا قراءة القران وأذكار
الصباح ،ثم ينهضون للتدريب البدني ،والذي يتمثل بالهرولة
المتواصلة لما يزيد عن النصف ساعة ،وبعدها يقوم أبو عبيدة
الردني بإعطاء الخوة بعض تمارين اللياقة البدنية ،وبعد انقضاء
التمارين تأوي السود إلى عرينها ،فيعودون إلى المركز يتوافدون
كقطر الندى ،والتعب قد أخذ منهم مأخذًا ,في تلك الثناء يكون أبو
القعقاع الردني قد أعدّ لهم وجبة الفطار ،وبالطبع ليست متعددة
الصناف ،ول كثيرة الوصاف ،بل هي تمرات معدودات ،فقد كان
للمعسكر نظاما ً غذائيا ً صارمًا ،كان في بادئ المر عبارة عن تمرة
واحدة في كل وجبة ،أي ثلث تمرات في اليوم الواحد ،وبالطبع مع
التمارين الشاقة ،وكان الشاي مسموحا ً به في كل الوقات ،إل ان
الخوة لم يعتادوا بعد على الشاي العراقي الثقيل ،لكنهم ل يجدون
مفرا ً منه ،إل أنهم وبمرور الوقت بدأوا يتلذذون به ،بل إنهم
أصبحوا يفضلونه على الذي قد كانوا معتادين عليه في بلدهم.
وبعد أن يكمل الخوة إفطارهم يأخذون قسطا ً من الراحة في
المسجد ،يتجاذبون أطراف الحديث ،ويخوضون في شتى المواضيع،
وكان محور الحديث هو كيفية وصولهم إلى أرض الجهاد ،بعد أن
حلما ً بعيد المنال ،فتجد كل ثلثة أو أكثر من الخوة جالسين كانت ُ
في مكان ل يكاد يحتويهم في المسجد ،تعلوهم السكينة
والطمأنينة ،والنور باٍدعلى قسمات وجوههم ،وبالرغم من ضيق
المكان إل أن الرض لم تكن لتسع فرحتهم ،رغم وعورة درب
الجهاد ،فقد حملتهم الغيرة لما يرون في شرق البلد وغربها،
والمة تنحر أينما يتم النظر ،فمن لم يحمله دينه على الجهاد فهل
حملته الغيرة على الرض والعرض المنتهك.
كان منظر المسجد ل يخلو من راكع وساجد لله عز وجل ،تراهم
غبرًا ،ملبسهم رثة ،ولكنك تراهم أسعد الناس ،فلم أَر اسعد
شعثًاُ ،
ُ
غبوا عن الدنيا
منهم في هذه الدنيا على الطلق ،كيف ل وهم ر ِ
والقوها وراء ظهورهم ،رغبة بما عند الله عز وجل ،فوصف الجنة
والحور قّلما يفترون عن ذكرها ،ويبقى الخوة على هذا الحال إلى
أن ُيكلفوا بعمل ما ،أو أن يرقدوا من التعب حتى صلة الظهر ،وبعد
صلة الظهر يقوم الخ أبو حكيم اليمني بإلقاء درس شرعي يستفاد
منه الخوة ،وغالبا ً ما كان هذا الدرس في فقه الجهاد ،لنه يعالج
الواقع الذي نعيشه ،خاصة وان الجهاد أصل ً مغيب عن هذه المة،
فضل عن فهم فقهه وتفصيلته.
أما أبو رغد العتيبي فكان الحاضر في كل صغيرة وكبيرة لدى
الخوة ،فهو الخ الكبر ،الذي يحمل حنان الم التي ل تألوا جهدا ً
على أبنائها ،فكم كان بما فيه من التعب الشديد يهتم في تدريب
الخوة وإعدادهم ،وكذلك في تأمين كل ما يستلزمه ذلك العداد من
أمور مادية ومعنوية ،وما يزيد من معاناته هو ساقه المبتورة ،فقد
كان أبتر الساق اليسرى من أسفل الركبة ،بعد جهاد له في
أفغانستان حيث عاد إلى بلده للتداوي ،قبل أن تحتل بلد الرافدين
ليحول وجهته إليها بعد ذلك رغم إعاقته ،وكان يعاني منها بعض
اللم ،فل زال الجرح لم يلتئم بعد بما يعينه على الحركة المتواصلة
طيلة اليوم ،حيث لم تكن في المعسكر سوى سيارة واحدة من نوع
نسيان )دبل قمارة( ،أو كما يسميها هو )دتسن( خاصة وان البداية
دائما تكون صعبة وتتطلب الكثير من الحركة.
في تلك الثناء كان الخوة ممن ينتسبون إلى المنطقة ،يترتب
عليهم بقية العمال الدارية ،من تأمين السلح ،وكافة الخدمات
التي من شأنها تسهيل أمر المعركة ،خاصة وان هذه المسائل ل
يقوم بها إل أهل المنطقة ،فأهل مكة أدرى بشعابها ،لذا فقد كانوا
دؤوبي الحركة في هذا المجال وقد هجر بعضهم الهل والصحاب
وهم في ديارهم ،إل من صاحبهم في هذا الطريق الذي ُيذهب الله
به اَله ّ
م والغم.
وبعض )النصار( كان لهم دور في البحث الحثيث عن السلح وغيره
من المور المهمة ،والتي يعاني الخوة النقص منها ،وكان من
أولئك أبو حنظلة النصاري ،وهو قريب لي ،إذ تربطني معه القرابة
القريبة.
فيما يخص جمع السلح وغيره لم يقتصر المر علينا نحن الثنين،
فأنا كان لي مجهودا ً بسيطا ً ل يكاد يذكر ،أما أبو حنظلة فقد أبلى
بلءا ً حسنا ًً في هذه المور ،وكان يخاطر بنفسه أشد المخاطرة،
وكانت لذلك النتائج الطيبة ،فقد وفر بعمله هذا أعدادا ً كثيرة جدا
من صورايخ) (RBGوصواريخ مضادة للطائرات )ستريل( ،والعديد من
المور التي لم يكن ليحصل عليها ،لول فضل الله عز وجل ،ثم عمل
أبي حنظلة النصاري ومن معه من الخوة..لقد كانت مسألة جمع
م الكبر بالنسبة لنا ،وذلك بالرغم من انتشار السلح تمثل اله ّ
السلح في العراق إل أن عددنا المحدود لم يمكنا من جمع الكميات
المطلوبة ،وقد لعبت فتاوى بعض العلماء بتحريم أخذ أي شيء من
ممتلكات الدولة تحريما ً قطعيًا ،حتى السلح ،وتأكيدهم بأن أحق
الناس بها هي الدولة اللحقة بغض النظر عن توجهها ،وكأن هؤلء
العلماء ل يعنيهم أمر المريكان أو الجهاد شيئًا..
وكانت كل هذه الحداث بما أعقب انتهاء الحرب العراقية _
المريكية لتبدأ بعدها الحرب السلمية _ الصليبية ،حتى حان يوم
كان في حياتي حدا ً فاصل ً بين ما كان قبله وما كان بعده! ول ادري
بأي العبارات أبدأ ،ول بأي الكلمات أصف هذا اليوم ،ولو وددت أن
يقف بي الزمان في إحدى محطاته لما تجاوزت ذلك اليوم ،ولكنه
ببساطة نقطة تحول في حياتي ،فقد بلغت ما كنت أتمنى ،بل لم
يكن طموحي يجرؤ للوصول إلى هذا الحد..
بعد عشرين يوما من احتلل بغداد ،وبعد أن أمضيت ما مضى من
الوقت في محاولة جمع السلح ،مع أني لم أكن ذا خبرة ُتذكر في
هذا المجال ،ولكنها محاولة في تقديم ما بوسعي ،راجيا ً من ذلك
عظيم الجر قررت اللتحاق بهذا بالمعسكر الذي كان بداية لمرحلة
جديدة من حياتي.
وهكذا لملمت بعض إغراضي التي كنت أجهزها قبل الحرب بعدة
شهور ،وودعت أهلي ،ول أحد منهم يعلم حقيقة وجهتي ،ثم غادرت
منزلنا متوجها ً إلى البيت الذي أنتظر فيه من يقلني إلى المعسكر،
فجلست فيه منذ الصباح حتى المساء ،وقد كان المنزل يعج بحركة
الداخلين والمغادرين ،فقد كان الخوة ل يعرفوا بعد شيئا
من ِّيات( ,ومرت الساعات ثقيلة لول وجود أبي يزيد ،وأبو
اسمه)أ ْ
بلل الكربولي ،وعندما أسدل الليل ستره وتناولنا العشاء ،أحضر
الخوة سيارة )الدانيا( وقمنا بتحميلها بالفراش ،وبعض قطع
السلح ،وركبنا السيارة وبدأ المسير إلى الهدف ،ومعنا في السيارة
أبو يزيد وأبو بلل ،وكان خالد أبو محمد الكربولي هو من يقود
السيارة ،وكذلك رافقنا بعض الخوة في الطريق ،كان بعضهم يريد
النضمام إلى المعسكر والبعض الخر عنده عمل معين ثم يعود
للمنطقة.
واستمرت السيارة بالمسير لساعات ،ونحن ممددين فيها ،ونضع
علينا بعض الغطية ،لنتقي بها برد الليل ولتستر وجودنا في
السيارة في ذات الوقت ،وفي الطريق مررنا بإحدى القرى ،وركب
معنا بعض الخوة أيضا ً إلى نفس الوجهة ،ولم يزل الخوة يغذون
سراعًا ،حتى بدأ السير على طريق صحراوي ،ونحن نجهلالسير ِ
كل ما نمر به.
وبعد وقت ليس بالقليل بدأ الطريق يزداد وعورة ،حتى إذا ما سرنا
ل ،وإذا بأحد الخوة يحمل سلحا ً يعترض طريقنا مستوقفا ً
قلي ً
السيارة ،فلما وقفنا وإذا به أحد الخوة يتكلم بلهجة عربية لم نكن
قد بدأنا نميزها بعد من بقية اللهجات العربية ،وكان هو الخ أبو
يونس اليمني ،فعجبت من حرصه ويقظته ،مع انه يعرف أنها
سيارتنا ،فهي تتردد عليهم دائما ً إل أنه ل يتهاون فيما يخص أمن
الخوة وسلمتهم ،بل أنه لما استوقف السيارة كان على مسافة
متقدمة من موقع المعسكر ،ولما أطمأن لنا لم يركب معنا في
السيارة ،بل ظل يهرول أمامنا على قدميه ،عند ذلك بدأت دقات
قلبي تضطرب فقد أصبح الهدف على مرمى البصر ،بل وعلى
مرمى الحجر ،وكدت اقفز من السيارة ،لنني أحسست بأنها بطيئة
جدًا ،ولكني تمالكت نفسي..
وشيئا فشيئا بدأت السيارة تقترب من المعسكر ،وبدأت بعض
الجسام تلوح في ظلمة الليل حتى إذا وقفت السيارة بقرب
غطون في نوم هادئ ،يحتضن كل منهم المسجد ،وإذا بالخوة ي َ ُ
سلحه ،آمنين مطمئنين ،فإذا بأحد الخوة يجلس من نومه ،فرأيته
مرتديا ً جعبة سوداء ،وهو يضع سلحه وساقا ً اصطناعية عند رأسه،
ثم يمتشق سلحه وينهض متعكزا على ساقه الصناعيةاليسرى،
ويبدو أن التعب قد أخذ منه مأخذًا..
أما بقية الخوة فقد رفع بعضهم رأسه ليرى مصدر الصوت المزعج،
حتى إذا ما عرف أنها سيارتهم ترك رأسه ليسقط متهالكا ً على
ت من السيارة مع بقية الوسادة ليعاود النوم من جديد ..عندها نزل ُ
الخوة وكل ما أمامي يثير دهشتي وإعجابي ,أفي حلم أنا أم
ماذا ؟! هل حقا التحقت بركب الجهاد ،وهل أصبحت صور
المجاهدين هنا حقيقة ،وواقع ل خيال!؟
إلى هنا تنتهي تفاصيل الحلقة الثانية التي رأينا فيها كيف أن ثلة
من أبناء هذه المة نفروا إلى الجهاد مخلفين وراءهم الهل
والحباب والخلن ،بعضهم من أبناء الرافدين ،والبعض الخر من
بقية أمصار السلم ،تاركين الدنيا وزينتها وزخرفها ،مرتحلين إلى
الله ،إلى حيث العلياء والمجد والخلود ،باحثين عن جنان الرحمن
بين جنبات دجلة والفرات ،على ثرى أرض الرافدين ،التي دنسها
أحفاد القردة والخنازير من اليهود والصليبيين ،وعبدة النار ،الفرس
المجوس ،ثلة من الشباب المؤمن المجاهد لم تمنعهم حدود
الستعمار الصناعية ،ول قيود الحكام ،ول أفاعي الصحارى ،ول برد
الشتاء القارص ،أو حر الصيف القائظ ،فهم يعلمون أن الجر على
قدر المشقة وأن أديم هذه الرض الطهور تستحق أن تروى
بالدماء ،مدركين ومؤمنين بأن هذا الدين العظيم لن تعلو له راية،
ولن تقوم له قائمة إل بتناثر أشلء وأجساد الشهداء ،في أقدس
وأربح تجارة بين العبد وربه ،فتية ورجال سلكوا هذا الطريق تاركين
خلفهم أمهات على فراقهم يتحسرون وأبناء من فرط الشوق لهم
يتلوعون ،وآباء على فراق أبنائهم يتحسرون ،لكن أّنى لهم أن
يناموا وتغمض أجفانهم ونفر من أمتهم يئنون تحت وطأة الظلم
والجور والحتلل ،كيف ُتمسكهم الرض وعرض المسلمين ُينتهك،
وأرض السواد ُتغتصب ،ودين الله ُيستباح !!؟
ممممم مممممم
أتواصل مع القراء العزاء في سرد مذكرات المجاهد أبي حفص
العراقي الذي استأمنني عليها لقوم بنشرها بعدما تأكدت من
مقتله ،وهاأنذا أنشر ثالث حلقات مذكراته التي يؤرخ ويوثق فيها
بدايات العمل الجهادي في العراق ،ذلك الذي بدأ بثلة صغيرة
سرعان ما كبرت وتوسعت وانتشرت في كل ركن وكل زاوية من
أرض بلد النهرين التي حباها الله وأكرمها برفع راية الجهاد في
زمن الذل والعار والخنوع الذي تعيشه كثير من بلد السلم التي
ابتليت بتواطئ حكامها ممن جعلوا من أنفسهم وعروشهم نصل
السكين الذي يمسك به غزاة الديار من الصليبين واليهود والفرس
لنحر أمة السلم..
ونظرا ً للطلبات الكثيرة التي وصلتني على أيميلي الشخصي ،أو من
خلل تعليقات بعض القراء على مذكرات أبو حفص العراقي ،شهيد
الجهاد في بلد الرافدين ،والتي أقوم بنشرها على لسانه ،بناء على
وصيته ،قررت ونزول ً عند رغبة القراء زيادة عدد صفحات النشر في
كل حلقة ،سائل ً المولى القدير أن ينصر عباده المجاهدين من
أنصار ومهاجرين ،أينما حلوا وأينما نزلوا في سعيهم لعلء راية
الدين ونشر عقيدة التوحيد ،هؤلء الذين يمثلون صحوة إيمانية ل
يمكن لسكين ونصل أن توأدها.
وإليكم تفاصيل الحلقة الثالثة من مذكرات المجاهد أبو حفص
العراقي الذي يواصل سرد مذكراته وهو يستعرض بدايات العمل
الجهادي في أعقاب الحتلل الميركي للعراق قائ ً
ل:
وصلت إلى المعسكر ولم أكن لصدق ما أنا فيه من خير عظيم،
احتويت فرحتي ودهشتي ،وقمت مع بقية الخوة بتفريغ السيارة
فرش والسلح ،وأثناء ذلك كان اللقاء حميما ً جدا ً بين أبي يزيد من ال ُ
وأبي رغد العتيبي ،فقد بقي أبو رغد واقفا ً في مكانه وقد تقدم
إليه أبو محمد الكربولي مسّلما ً عليه ووقف معه للحظات ،وعند ذلك
كان أحد الخوة يحمل سلحه ،واقفا هنا تارة ،وهناك تارة أخرى،
رح فرحا ً شديدًا ،مع انه أصل ً فلما رأى السلح الذي جلبناه معنا ف ِ
كان مرحا ً طيلة الوقت ،أما أنا فقد كنت أكملت إنزال الغراض ،بما
فيها أغراضي الشخصية ،وقد وضع أبو يزيد فراشه في المسجد
وناداني لضع فراشي قريبا منه ،وفعلت ذلك ،لكن لم يطب لي
الجلوس أساسا ً فضل عن النوم.
عندها ناداني أبو محمد الكربولي وكان لم يزل واقفا مع أبي رغد
فلما وقفت عندهم سلمت على أبي رغد وقال لي أبو حنظلة)هذا
أبو رغد هو أمير المعسكر هنا( ،ثم قال لبي رغد عليك بفلن ،فأنه
قد أوجع راسي وهو يتكلم عن الذهاب لفغانستان ،فقال أبو رغد
)هذه أفغانستان قد جاءت إلى هنا( ،وكان المر كما قال فعل..
عندها انصرفت إلى فراشي ،ولكن لم يجد النوم لعيني سبي ً
ل،
فبقيت أتقلب يمنة ويسرة ،انظر إلى ما حولي عبر الظلم
الدامس ،وكان يرقد بجواري أحد الخوة ،طويل الشعر ،وكانت
بجانبه بندقية ) ،(RBkإل أن أبا رغد لم يخلد إلى النوم ،فقد كان أبو
همام الردني قد فوت عليه فرصة النوم ،لكثرة كلمه ومزاحه معه،
بالرغم من أن عيّني أبا رغد كانت تطلقان التوسلت ،إل أن المر
كان يحلو لبي همام للحديث معه ،عندها ترك أبو رغد فكرة النوم،
لنه ل جدوى من ذلك بوجود أبي همام ،فأخذ يتجول في المركز
تعينه على ذلك طرفه الصطناعية ،وعندما رأى ذلك الخ الذي كان
يرقد إلى يساري وقد أهمل سلحه ما دعا أبا رغد لسحب البندقية،
وكانت هذه الطريقة التي ُيعّلم الخوة فيها الحرص وعدم الغفلة
عن السلح ،فكان يتصيد أسلحة الخوة الذين يهملون أسلحتهم أو
يغفلون عنها ،وبعد قليل قال أبو رغد لبي همام ألم تنته حراستك
فقال له أنها ستنتهي بعد قليل ،ولكني أحب أن أواصل الحراسة،
فلما سأله عن الذي يليه في الحراسة فأخبره بأنه أبو مجاهد
الشمري ،عندها قال أبو رغد )الجر يا أبا همام أن ل تحرم أخاك
من أجر الحراسة ،وإذا كنت طامعا ً في الجر ،فأيقظه وأحرس
معه( ،وبعد قليل تقدم أبو همام من ذلك الخ الذي بجانبي وأيقظه
للحراسة فلما ذهب أبو همام أنتفض الخ وقد افتقد سلحه فلحظ
بأني ل زلت مستيقظا ً فسألني عن سلحه وهو مستغرب لفقدانه
ولوجودي في هذا المكان ،فقد نام ولست معهم ،عندها أجبته بأن
أبا رغد قد سحب سلحك فأضطر أبو مجاهد الشمري أن يحرس ليل ً
من دون سلح ،أما أنا فلم أزل أجول ببصري في المكان وأنا انظر
إلى سقف المسجد تارة ،والى الخوة الراقدين حولي تارة أخرى،
متعجبا ً من حالهم فما الذي دفع هؤلء للعزوف عن الدنيا واللجوء
إلى بقعة مظلمة في عرض الصحراء ،مع ما يلقونه من تعب
ونصب ،وهم رغم ذلك في قمة السعادة ،فالسعادة والتعب
يتقاسمان قسمات وجوههم ..وعلى هذا مرت اللحظات ،حتى بدأ
الخوة يوقظ بعضهم بعضًا ،فقد حان آذان الفجر ،فبدأو بالنهوض
من فرشهم واحدا ً تلو الخر ،وأنا ُأمعن فيهم النظر ،وكل علمات
الستفهام تدور في خلدي!
نهضت أنا معهم ،ونزلت إلى النهر ،فتوضأت وعدت إلى المسجد،
عندها رفع أبو عاصم اليمني آذان الفجر بصوته العذب ،وبعد أن
فت الصفوف ،فسمعت ص ّ
أتممنا صلة سنة الفجر ،أقيمت الصلة ،و ُ
صوت أبي رغد يقول لحد الخوة)تقدم يا أبا كنعان( ،فتقدم الخ
أبو كنعان اليمني وتخلل الصفوف وتأكد من تسويتها ،مستعينا
بمصباح صغير ،ثم تقدم إلى موضع المام ،فكبر تكبيرة الحرام،
فصلى بنا ،وكان يبدو من قراءته انه متقن لقراءة القران ..وبعد
إتمام الصلة وما تخللها من نشيج وعبرات للخوة ،جلسنا يلفنا
الظلم لذكر أذكار الصباح ،بعدها بدأ الصبح يتنفس ،فتحلق الخوة
بضع حلقات لقراءة ما حفظوه من سورة النفال ،فقد كان هناك
برنامجا إيمانيا ً موازيا ً للبرنامج التدريبي ،فجلست أنا في أقرب هذه
ب بصري في وجوه الخوة وقد بدأ ي مع دهشتي ،وتقل َ الحلقات إل ّ
ضوء الصباح يكشف عن بعض قسماتها ،فسبحان خالق هذه الوجوه
كم فيها من نور اليمان ومن وقار وطمأنينة!
عندها بدأ الخوة بالتلوة ،وقد كان يدير حلقتنا أحد الخوة أسمر
البشرة ،ضعيف البنية ،ل يكاد بصري ينزل عن وجهه ،صوته هادئًا،
مطمئنا ً جدًا ،وكان أسمه أبو دجانة اليمني ،وبالرغم من انه من
اليمن إل انه كان يسكن في بلد الحرمين ،وكان يبدو عليه الوقار
ولم اسمع في حياتي على الطلق أجمل من صوته بقراءة القرآن،
دون مبالغة ،فكان صوته من أعجب العجب ،وكان كذلك من حفظة
كتاب الله ،مضافا إليه بعض كتب الحديث كبلوغ المرام وغيره.
وكأن الله عز وجل قد أنار بصيرته لما سيكون لنا ،فقد كان المر
كذلك ،فلم يعش الخوة طويل ً ليخوضوا غمار المعارك ،بل أنهم
انتقلوا إلى دار قرارهم بعرس واحد ،وفي ليلة واحدة ،ما خل
ل ،ولكنهم فعل ً بدمائهم بعضهم ،ممن لم يصبروا بعد إخوانهم طوي ً
قد أحيا الله أجيال ً من الشباب قد انتبهوا بعد طول غفلة ،ول يزال
المر ِتباعا ً كراية يوم مؤتة ،ل يكاد حاملها يسقط شهيدا ً حتى
يبادرها التالي ،يرفعها فيغيض بها الكفار ،حتى فتح الله على
المسلمين.
أوكل أبو رغد المر إلى أبي يونس اليمني ليبدأ معنا بالتدريب
البدني كالمعتاد ،فقال لنا أبو يونس اصطفوا صفا ً واحدا ً مشيرا ً
ي لتقدم بالصف الذي من خلفي حتى يكون الصف الثاني بذلك أل ّ
هو الشطر الخر من صف طويل ،ثم تقدمني أبو يونس وبدأ
بالهرولة فتبعته ومن خلفي جميع الخوة فأبعد بنا أبو يونس ،فحينا ً
ينزل بنا واديًا ،وحينا ً يصعد بنا مرتفعا ً من الرض ،وأحيانا ً أخرى
يهرول بنا في طرق وعرة ،وقد بلغت بي المشقة مبلغا ً ولكني كنت
انظر أمامي إلى أبي يونس وهو بكامل اللياقة ل يأبه بطول
المسير والدرب العسير.
وأجمل شيء كان نقلت أقدامه بكل خفة ،والجمل من ذلك هو انه
كلما رأى حجرا ً في طريق الخوة كان يركله بقدمه بحركة جميلة
دون أن يؤثر ذلك على سيره ،فعرفت من هذه الحركة انه قائد
بمعنى الكلمة ،وان له باع طويل في الجهاد ،وذلك لنه قوي البنية،
رشيق الحركة ،ل يجد التعب إليه طريقًا ،وهو يتقدم أخوانه وانه
يعرف ما يؤذي أصحابه ويعيق سيرهم فيحرص على إزالته سواء
كان حجرا ً أو حاجزا ً معنويا ً كل ذلك استنتجته من حركته البسيطة
تلك ولم يكن تخميني يبعد عن الواقع قيد أنملة على الطلق..
قدما ونحن نمضي كذلك نهرول متسابقين الوقت كان يمضي بنا ُ
مع الزمن في محاولة لدراك ما فات المة من عصور السيادة
حسنيين إن شاء الله وخلل هذه والريادة مصممين على إحدى ال ُ
الهرولة كان بعض الخوة قد تساقطوا من هذا الصف ليعودوا
يجرون بخطاهم إلى المركز وعندما كان أبو يونس يشعر بتعب
الخوة يوقف المسير ولكن ليس للراحة بل للنزول عشر ضغطات
وعلى هذا الحال مرت بنا ساعة من الزمن أو أقل بقليل ثم عاد بنا
أبو يونس إلى المركز ،وعندما اقتربنا منه توقف الصف الطويل
فتقدم أبو عبيدة الردني ليقف أمامنا فبدأ يعطينا بعض تمارين
اللياقة البدنية وبعدها دخلنا متهالكين تحت ظل المسجد حيث كان
أبو رغد جالسا ً طيلة الفترة مع من لم يتمكن من مواصلة التمرين
وبعد أن جلسنا وقد اخذ منا التعب مأخذا ً كان الخوة يجلسون مثنى
وثلث ورباع يخوضون في مواضيع شتى وكنت قد جلست في نهاية
المسجد وبالقرب مني احد الخوة يطيل الصمت ويجلس بمعزل عن
الخوة بينما كان أبو رغد يجلس مع أبي بلل الكربولي وغيره من
النصار الجدد وفي تلك الثناء كان أبو القعقاع الردني منشغل ً
قدرا ً من
بإعداد الفطور وقد طرأت عليه بعض الزيادات فأعد ِ
الحليب وبعدها قام بتوزيع قدح من الحليب وربع رغيف من الخبز
خ أما التمر فقد أستزاد أبا رغد الخوة ،فأشار أحد الخوة لكل أ ٍ
لبي رغد وقال له السنة يا أبا رغد ،قاصدا ً بذلك أن يجعلها سبع
تمرات ،فوافق أبو رغد على ذلك وقد أخذ كل من الخوة خبزه
وتمراته ومنتظرا ً دوره ليفرغ احد الكواب ليشرب الحليب ،فقد
كان الخوة يتناوبون على الكواب لقلتها.
في اليوم التالي وبعد ان صلينا الفجر توجهت مع أبي حنظلة إلى
احد المقرات العسكرية التي أنهكها القصف المريكي في مدينة
القائم في محاولة ليجاد ما قد ينفع الخوة في المعسكر،
فالتقطنا من هناك بعض الشياء البسيطة ثم عدنا بها إلى
المعسكر ،وقد كنت هذه المرة أركز جيدا ً على الطريق حتى وصلنا
إلى مشارف مدينة راوة ،فعرجنا عليها ثم عبرنا الجسر متوجهين
إلى قلب المدينة ولم أكن قد دخلت مدينة راوة قبل أمر المعسكر
فكان كما قال عليه الصلة والسلم )سياحة أمتي الجهاد في سبيل
الله( ،وبعد ذلك بدأنا المسير في طريق صحراوي متعرج وأنا ُاطالع
الطريق وأحفظ علماته حتى بدا لنا المعسكر من بعيد ثم اقتربنا
منه أكثر فأكثر إلى ان وقفت السيارة بقرب المسجد فنزلت مرة
أخرى إلى ارض المعسكر وكنت قد أِلفت بعض الوجوه فلم تكن
دهشتي كأول مرة إل ان الشوق كان أجهدني وأنا انتظر العودة
مرة أخرى إلى ارض المعسكر.
وكان أجمل شيء هو مداومة الخوة على الحراسة فقد اختار أبو
رغد موقعا ً على أحد التلل المشرفة على المعسكر وكذلك على
الطريق المؤدية إليه بحيث يتبين للخ المرابط أي حركة في تلك
المناطق الشاسعة ،وكان كل أخ يرابط في ذلك المكان ساعة من
الزمن ،يحصدون فيها ما الله به عليم من الجور ،ويجدون في حر
م كثير من الناس أنفسهم حر َ
الشمس السعادة المفقودة ،والتي َ
ل ،وظنا ً منهم أنهم كسبوا بالقعود راحة أنفسهم وأبدانهم، منها جه ً
ة تلك التي تحررت فيها النفوس من مظاهر فما أجملها من حيا ٍ
ي من مظاهر الطغيان على شريعة الركون إلى حطام الدنيا أو أ ٍ
الرحمن.
وفي اليوم التالي ،وبعد ان أكملنا وجبة الفطور أمرنا أبو رغد
مطّلة على المعسكر وحفر الخنادق على بالتوجه إلى تلك التلل ال ُ
قممها لغرض التحصين أثناء الحراسة أو في حالة تعرضنا لهجوم
لتكون بذلك خط الدفاع الول وقد تقدمنا أبو يونس اليمني بخطاه
عّين لنا مواقع الخنادق على تلك القمم المتواضعة لتكون وخبرته لي ُ َ
لهم طريقا إلى القمم العليا التي يرجونها عند ربهم عز وجل،
دة الحفر إذا لم تكن تكفيع ّ فأنقسم الخوة عدة مجاميع وتقاسموا ُ
ت أنا مع أبي دجانة اليمني وأبو عاصم اليمني وأبو كل الخوة فذهب ُ
انس العتيبي وبدأنا بحفر الخندق حتى شارفنا على نهايته وأجمل
شيء هو اللذة والسعادة التي تمازج التعب فكان مشهدا ً عجيبا من
تفاني الخوة في عملهم واللفة والمحبة في الله تغمرهم فل
يكون بذلك للتعب تأثيرا ً عليهم.
كان أبو رغد كباقي الخوة ل يكاد يصدق بأنه عاد ثانية إلى أرض
ل ،خاصة وأنه قد عرف الجهاد ،وبالطبع فأن المر يزيد عنده قلي ً
طعم العز قبل ذلك عندما كان في أفغانستان فكان يصول ويجول
قطعت ساقه اليسرى هناك، هناك وقد ألقى الدنيا وراء ظهره حتى ُ
فأكمل العلج ،وأبى إل أن يخرج إلى أرض الجهاد في العراق ،فهو
لم يرض بحطام الدنيا ولم يألف العيش بين أهله وأصحابه ،فكان له
مطاردا ً
نشاط مشهود في تحريض الشباب وطلبة العلم حتى أصبح ُ
في الفترة الخيرة ،وشاع أمره ،وذاع صيته..
بعدها عاد الكل إلى المركز حين اقترب وقت صلة الظهر والفرحة
والغبطة تنضح من الوجوه مع قطرات العرق فرفع أبو عاصم
صفت الصفوف للقاء الرب الرؤوف ،وبعد اليمني آذان الظهر ،ف ُ
صلة الظهر جلس الخوة لوجبة الغداء ليأكلوا بعض التمرات مع
كسر الخبز ،بعدها جلسنا ل يطيب لنا النوم ،بالرغم من شدة ِ
التعب ،مستأنسين بالحديث مع بعضنا ،وكان أبا حكيم اليمني يمل
فراغنا بما تجود به قريحته من دروس فهو وبعد الصلوات يقوم
بإلقاء درس يتعلق بأحكام الجهاد فكان رحمه الله مفوها ً قّلما رأيت
أحدا ً من طلبة العلم بعلمه.
بعد صلة العصر عدنا إلى عملنا في حفر الخنادق لكمال كافة
الخنادق الدفاعية المحيطة بالمعسكر ،واستمر الحفر لساعات،
والخوة منتشرين هنا وهناك ،يجهدون أنفسهم بالعمل ،ويجدون
في ذلك راحة لنفسهم ،خاصة وأنهم تشدهم بذلك محبتهم
وتآلفهم ،فكانوا بحق كما قال الله تعالى )ان الله يحب الذين
يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص(.
أما أكثر وأجمل ما كان يشدني في تلك اليام هو تواصي الخوة
فيما بينهم بعمل الصالحات واحتساب الجور،
فكان جو المعسكر مليئا ً باليمانيات والروحانيات وكأنك في عالم
آخر.
وقد خصص أبو رغد فترةً للسباحة من الساعة الحادية عشر إلى
الساعة الواحدة ظهرا ً فل يكون لحد السباحة قبل ذلك أو بعده،
وكان بعضهم يفضل الجلوس بظهر المسجد وفي ظل الحائط على
ضفاف نهر الفرات المرتفعة من تلك الجهة ،فتهب عليهم النسائم
لتداعب وجوههم ونفوسهم ،يتقلبون بذلك بنعم الله التي أنعمها
عليهم ،وأهمها خدمة الدين والخوة والمحبة في الله.
في هذه الثناء كان الخ أبو أسامة الزهراني قد غادر الخوة لقضاء
بعض المور المهمة والعودة سريعا ً إلى المعسكر فقد كان اسم أبو
أسامة الزهراني ل يغيب عن دعاء القنوت في كل الصلوات
متشوقين لرؤيته بينهم مرة ثانية.
وفي هذه الظروف لم يكن لنا بدٌ من التخندق في الرض ،فما كان
أمامنا إل ّ حفر خندق كبير لكل مجموعة ،فبدأت معنا مرحلة جديدة
من العمل الشاق ،وبدأ العمل من جديد فقام الخوة في مجموعة
أبو أسامة الزهراني بحفر خندق كبير جدا ً في بداية المعسكر قرب
ل ،والثلثة عرضا ً المسجد يتراوح حجمه بين الربعة أمتار طو ً
وبارتفاع متر وعشرين سنتمترًا ،فكان كل وقتهم مسخر لحفر
الخندق الكبير ،فل ينصرفون عنه إل ّ لصلة أو لشيء من منهاج
المعسكر اليومي ،وبالطبع كان التدريب متواصل ً يوميا ً لم يتأثر
بكثرة العمل.
في تلك الثناء جاءنا الخبر بقدوم أبي أسامة الزهراني ،فأستبشر
الخوة لذلك ،وأخذ يبشر بعضهم بعضًا ،وعلمنا بأن أبي أسامة
سيكون في المعسكر عند غروب الشمس ،وأنهم عند أبي نسيم،
وقد جاء معهم ثمانية من الخوة الجدد ،فكانت فرحة الخوان ل
توصف لمجيء أبي أسامة الزهراني ،وعند العصر أقبلت من بعيد
سيارة نحو المعسكر ،ولما اقتربت عرف الخوة أن أبا أسامة
الزهراني هو من في السيارة برفقة شخص ،فأمتشق الخوة
سلحهم وُرميت بعض الطلقات فرحا ً بأبي أسامة ،فأستقبله
الخوة استقبال ً حارا ً ل يوصف ،وأحتضنهم واحدا ً تلو الخر ،فكان
من أعجب الخوة وبالرغم من أنه بلغ الربعين عامًا ،إل أنه في
قمة النشاط ،وعلو الهمة ،وكان طليق الوجه ،ل يعرف اليأس أو
الخمول إليه سبي ً
ل ،وعند انتهاء اللقاء الحميم ،أمر أبو أسامة كل
من أطلق ببندقيته أن يضغط عشرة ضغطات ،كعقوبة لطيفة ،وكان
قد أحضر معه بعض الطلبات التي طلبها منه الخوة في سفره،
فبدأ يوزع الغراض وغيرها ما أدخل الفرحة إلى قلوب الخوة،
وجلب معه بعض الملبس ،والحذية الرياضية للخوة ،فقام بتوزيعها
أبو وقاص الفلوجي ،وقد لحظنا عدم مجيء الخوة الستة معه،
فأخبرنا بقدومهم بعد غروب الشمس.
وبعد كلمة ألقاها أبو رغد ،ثم تله أبو يونس مرحبين بالقادمين
الجدد ،بدأ أبو أسامة بتقسيم الخوة ،وتوزيعهم على المجاميع،
فأختار أبو عكاشة أبو طارق اليمني وأبو مالك الطائفي ،ثم اختار
أبو يونس أبو طارق اليمني كذلك ،فقال له أبو أسامة )سبقك بها
عكاشة( ،فضحكنا لقولته تلك ،فأختار أبو يونس أبو الفتح السوري
وأبو تمام اليمني وأبو الدرداء اللبناني ،فكان بذلك أبا محمد
اللبناني وأبو شهيد الجزائري وأبو مصطفى السوري في مجموعة
أبي أسامة الزهراني.
أنصرف الكل مع مجموعته الجديدة ،ولول ليلة يبيت الخوة خارج
ل عند مكانه الجديد ،إل ّ المسجد ،لينتشروا في أرجاء المعسكر ،ك ٌ
إننا) ،أي مجموعة أبي عكاشة( ،بتنا ليلتنا في خندق مجموعة أبي
أسامة ،فأخذ كل من الخوة فراشه ،واتجه نحو الخندق ،ولما دخلنا
أحضر الخوة وجبة العشاء ،وكانت عبارة عن خبز وتمر ،ولول مرة
مفتوح الكمية ،إكراما ً لخواننا الجدد!!
أحضر لنا الخوة كيس تمر ليكون مصدر غذاؤنا مع كيس خبز،
وكانت تلك بداية مرحلة جديدة في حياة المعسكر فيها نوع من
التنظيم والترتيب ،وهو ما زاد الخوة محبة وتكاتفًا ..وبعد مجيء
أبو أسامة الزهراني بدأ هو بتدريب الخوة تدريبا ً قاسيا ً وشديدًا،
فقد كان عسكريا ً من الطراز الول ،وله خبرة واسعة في المور
العسكرية ،أما الموقع الذي كنا نتدرب فيه فكان عبارة عن واٍد من
أودية المكان.
واذكر أننا وفي أول تدريب لبي أسامة كنا نهرول صعودا ً على
س وطويل ،وبعد إكمال التدريب نعود المرتفعات في تدريب قا ٍ
لنسير بخط واحد نحو المركز حتى نعود إلى المكان الذي تركنا فيه
أسلحتنا وبعض ملبسنا ،حيث أن أبا أسامة أمرنا بترك أسلحتنا ونزع
أغطية الرؤوس والملبس الزائدة عن السروال الطويل والقميص
وبقي أحد الخوة يحرس عندها.
أبو رغد ل تزال ساقه ل تساعده على كثرة الحركة ،ورغم ذلك فهو
دؤوب ،ل يقر له قرار ،ول يقدر على فراق إخوته طويل ً من
الزمان ،فساقه ل تزال تؤلمه قليل ً خاصة وأن الجرح لم يكتمل
التئامه بعد ،ومع ذلك فتراه يجوب الديار بسيارته ،ذهابا ً وإيابًا ،سعيا ً
في تأمين النواقص التي هي من ضروريات المعسكر ،خاصة بعض
السلحة التي يكون نقصها مشكلة كبيرة تعيق عمل الخوة ،مثل
الحشوات الدافعة لصواريخ الـ) ،(RBGفقد كانت لدينا كميات كبيرة
منها إل ّ أن أبا عكاشة عندما أراد أن يدرب أبو طارق وأبو مالك
لحظ بأن الصواريخ تخرج بدون مسار ثابت ،فهي تذهب يمنة
ويسرة ،وتصعد وتنزل كما يحلو لها فأكتشف أن الحشوات الدافعة
بدون زعانف توجيه ،فلم تكن عندنا إل حشوات ل تتجاوز عدد أصابع
اليد الواحدة ،وهو ما كان يمثل اكبر مشكلة ،فلو أن المعسكر
تعرض لهجوم بّري فلن تكون هناك مقاومة قادرة على صد الهجوم.
في غمرة فرحتنا بقدوم أبي أسامة ومن معه ،وحينما اجتمعنا
للتدريب صباحا مع أبي أسامة أخذ الخوة يطرحون مواضيع ونصائح
شتى تخص الخوة داخل المعسكر ،كالتأكيد على تطبيق بعض
السنن وغيرها من المواضيع ،حينئذ أخبرنا أبو أسامة الزهراني بأنه
سيسافر هذا اليوم لنجاز بعض العمال المهمة ،فحزن الخوة لذلك
وطلبوا منه تأجيل سفره ،حتى أن أبا قسورة السوري دعا الله أن
يمرض أبو أسامة الزهراني ،كي يبقى عندنا في المعسكر ويؤجل
سفره ،إل أن العواطف ما كانت لتقف في طريق مصلحة الجماعة
مع شدة حزن أبا أسامة لفراق الخوة أيضًا.
ت كل مجموعة إلى مقرها ،عدا مجموعة أبو أسامة ،لن مقرها ذهب ْ
ً
انتقل إلى مكان بعيد جدا ،ونصبوا خيمة يجلسون فيها ،لذا لم يكن
بمقدورهم الذهاب والياب إل ّ بالسيارة ،فكانوا يأتون صباحا ً
للتدريب ،ثم يعودون ظهرا ً لمكانهم ،ويأتون عصرا ً إلى المسجد.
وكان أبو رغد ل يتحرك من مكان لخر إل وأخذ معه كامل عدة
القتال ،وكان يرافقه بعض الخوة على أهبة الستعداد للمواجهة،
وفي فترة من الفترات بلغ الجوع من الخوة مبلغًا ،فبدأ أبو رغد
يذهب إلى مدينة راوة ،ويقوم بتأمين احتياجات المعسكر بنفسه،
معين الوحيد مستعينا ً بأحد الخوة النصار من أهالي راوة كان هو ال ُ
لنا ،و لم يكن لنا اتصال بسواه من أهل المدينة ..وأذكر أنه ذهب
يوما ً إلى راوة وعاد وسيارته محملة بالعديد من المواد الغذائية
والمور التي يحتاجها الخوة ،ولم يقتصر المر على ذلك فقد بدأ
يعمل على توفير السلح المطلوب ،وغيرها من أساسيات العمل،
فبدأ يوسع علقاته مع الثقات من الخوة في راوة في مرحلة
جديدة من مراحل المعسكر ،فأصبح لزاما ً عليه أن يجتاز كل
الحواجز التي تقف في طريق العمل.
ممممم مممممم
حلقة رابعة من مذكرات المجاهد )أبو حفص العراقي( الذي قتل
وهو يدافع عن دين الله ،وأرض المسلمين ،وعرضهم الذي أنتهكه
أعداء الله ،عباد الصليب ،والفرس المجوس عبدة النار ،وبني
صهيون ،أخزاهم الله ،مذكرات كتبت بحبر مداده دماء الشهداء،
وأقلم رؤوسها أسنة الرماح ،لتظهر إلى العلن بصوت أزيز
الرصاص..
حيث يواصل أبو حفص العراقي سرد مذكراته وهو يروي حكايات
تكاد ل تصدق عن ثلة من أبناء هذه المة هجروا الديار وصحبة
الحباب حبا ً في الله وطمعا ً وطلبا ً للجنان ،تلك الصفوة المختارة
التي بدأت في هذه الحلقة أولى عمليات استهداف المحتلين،
فراحت تحصد الرؤوس وتحطم الليات وتسقط الطائرات ،وتتزامن
معها أولى التضحيات ،حينما توقف في محطتهم قطار الشهادة
ليحصد أولى ثمرات السعي والجهاد ،أبي عبدالله المدني وأبو
عكاشة اليمني تقبلهما الله..
تفاصيل ذلك تابعوه على لسان أبي حفص وهو يقول:
ت أرى بعض الخوة وقد تغيرت أحواله ،وأصبح وكأنه في عالم كن ُ
آخر ،وكأنه يرى ما ل نرى ،فهذا أبو مجاهد الشمري عندما رأيته
ت أنه يعاني إعاقة في النطق من كثرة سكوته أول مرة حسب ُ
وسكونه ،فهو حتى وأن جلس مع الخوة في مجالسهم يظل
محتفظا ً بصمته ،مع أنه طالب علم ل بأس به ،ولكنه كان كبقية
الخوة ممن يشغل وقته بذكر الله عز وجل ،وقراءة القرآن..
ويطول الحديث إذا تحدثنا عن أبي محجن النجدي ،فهو كان مرحا ً
جدًا ،غير أنه بدأ ينطوي على نفسه شيئا ً فشيئًا ،ويجد الراحة في
مناجاة ربه عز وجل ،أما أبو رغد العتيبي فقد بدأ يعاني الكثير من
التعب ،خاصة وأن ساقه ل يزال اللم يعاودها ،إل ّ انه ل يفتر عن
الحركة شرقا ً وغربًا ،بحثا ً عن كل ما يوفر لخوته الراحة والسعادة،
ل يعرف ليل ً ول نهارًا ،ففي أي وقت يجد فيه ما يخص الخوة
وخدمتهم هرع إليه ،غير آبه بآلمه ومتاعبه ،وقد أحسست ،كباقي
الخوة ،أنه ل بد له من أن يستريح ،وكنا جميعا نشفق عليه لما
يلقي من مصاعب ومتاعب ،ول يزيد أمره إل ّ شدة وألمًا ،أما النوم
ل ،وكان كل واحد يتمنى أن يرفع عنه شيئا ً فأصبح ل يعرف إليه سبي ً
من آلمه ،ولكننا كنا نعجز عن ذلك ،فقد كان ل ُيجارى ول ُيبارى
في خدمة دين الله عز وجل ،وكان مثال ً نادرًا ،ونموذجا ً فريدا ً من
القادة الناجحين الذين رزقهم الله نعمة البصيرة ،فكان يعرف كيف
يملك أسباب النجاح ،وقّلما رأيت له نظيرا ً من القادة الذين خاضوا
في هذا المر في بلد الرافدين ،فألمير الذي يلقي من التعب أكثر
ما يلقي جنوده ويكون أكثر اهتمامه منصبا ً في توفير كل ما من
شأنه تسيير العمال ،ومواصلة القتال ،وهو أحق من ُيولى هذا
المر ،فكان بين الخوة وكأنه أخوهم الصغر ،أما أبو يونس اليمني
فلم يكن حاله يختلف كثيرا ً عن صاحبه ،فقد كان من أفضل
الكوادر ،وكان قد نفر إلى أفغانستان منذ عام ،1998وله خبرة
لممتازة بكل أساليب القتال والسلحة ،وكان مقاتل ً شرسا ً ق ّ
ُنظرائه ،وكان يمتاز بعذوبة الصوت ،فضل ً عن تواضعه ،وهدوءه،
وحبه لخوته ،وكذلك كان أبو رغد يعتمد عليه في كل صغيرة
وكبيرة ،فهو يثق به أّيما ثقة ،وكانت له زوجة ،وابنة صغيرة اسمها
)رقية( لم تكن لُتقعده عن الجهاد في سبيل الله ،فقد كان الدين
يشغل أكثر اهتماماته ،ولقد أرخص لجله دمائه وروحه مع بقية
تالخوة ،وطالما كان ُينشد للخوة بأناشيده الحماسية ،وكلما سمع ُ
ت صورته وحركته أمام تلك الناشيد التي كان ينشدها هو ،ترآء ْ
ت أعيش فيه ،فقد ناظري ،لتعود مخيلتي إلى ذلك المحيط الذي كن ُ
أغناني الله بهم عن العالم بأسره ،وكان لبي يونس اليمني رفيق
سار معه الدرب منذ الخطوات الولى ،أل وهو أبو عكاشة اليمني،
ولم يكن أبو عكاشة ليختلف بجلسته ومتعة الحديث معه عن أبي
يونس ،ول تكاد تعرف انه أميرهم من شدة تواضعه وصدقه ،نحسبه،
والله حسيبه ،ول يغيب عن هذا المقام أبو حكيم اليماني ،أو
)حكيم( كما كنا نسميه ،لما يحمل من الحكمة ،ورجاحة الرأي ،ناهيك
عن العلم الشرعي ،وكان عمره يناهز السابعة والعشرين ،وقد كان
مدّرسا ً في أحد المعاهد الشرعية ،وبلغني عن أحد الخوة الذين
ت إلى غرفة أبي حكيم، درسوا في ذلك المعهد أنه يقول دخل ُ
ت مكتوبا ً على الجدار)هذه غرفة أبو حكيم الذي يعشق الحور فرأي ُ
ً
العين( ،فكان الحال كالمقال ،وكان حاضرا في كل صغيرة وكبيرة
ة كانت أو مع الخوة ،وكانوا يهرعون إليه في كل مسألة ،شرعي ً
شخصية ،وكانت روح الدعابة والطرفة حاضرةً فيه ،مما شد الخوة
إليه وزادهم تعلقا ً به ،ولم يكن ذا جسم جسيم ،بل كان ضعيف
الُبنية ،قوي اليمان ،صلب الرادة ،وكان من أكثر الناس حرقة
وحرصا ً على دينه ،أما أبو العباس المالكي فكانت له مكانة خاصة
في نفوس الخوة جميعًا ،بالرغم من أنه لم يتجاوز الخامسة
والعشرين من العمر ،أو أقل من ذلك ،إل ّ أن رأيه سديد ،وكان بدينا ً
دد عليه في التدريب، جدا ً حين التحاقه بالجهاد ،فكان أبو رغد ُيش ّ
أكثر من بقية الخوة ،فكان يضغط عليه في اليوم ألف ضغطة مع
قلة الطعام ،ولذلك كان وزنه يقل بشكل واضح ،فما هي إل أسابيع
ل ،وكان يعشق الـ) (RBGعشقًا ،فل قليلة حتى أصبح جسده معتد ً
ً
يفارقها ،ول تفارقه في كل الحوال ،وكان قويا في تأويل الرؤيا،
خاصة وأن الخوة كانت لهم رؤى عجيبة ،ل تعدو كثير منها عن
البشرى بالشهادة ،وتحذير من أمر ما ،أما أبو سليمان النجدي ،ذلك
ل ذكراه ،وليت لي نصيبا ً وافرا ً من م ّالخ الذي مهما كتبت فلن أ ِ
دقة الوصف ،وحسن التعبير ،كي أجزل له العطاء من المدح والثناء،
وكان من أقرب الخوة إلى قلبي ،ولما رأيته أول مرةُ ،القي في
روعي أني اعرف هذا الشخص معرفة أكيدة منذ مدة بعيدة ،إل ّ أن
كره ،إل ّ أن ذلك كان احتمال ً بعيدا ً كل البعد، ذاكرتي ل تسعفني لتذ ّ
ولم يفارقني ذلك الشعور طيلة كوني في المعسكر ،وفي أحد
ت بقربهم اليام ،وبينما هو وبعض الخوة يصلون المغرب ،كن ُ
وعيناي ل تفارقان وجهه وحركاته ،فلما انتهى من الصلة أنتبه
ت له :والله يا أخي منذ لمري ،فقال لي لماذا تنظر إلي هكذا ،فقل ُ
ت بأني أعرفك منذ زمن بعيد ،فضحك أن رأيتك أول مرة شعر ُ
وعجب لقولي ،فقال) :والله أني كذلك منذ رأيتك أول مرة،
ت في بلدي( فقلت له :أن هذا ل أحسست بأني أعرفك منذ أن كن ُ
يعدو تصديقا ً لحديث النبي ،صلى الله عليه وسلم )الرواح جنود
مجندة ،فما تعارف منها ءإتلف ،وما تناكر منها اختلف( ،فلله درك يا
مّر فراقك ،وكم هي الحياة ل تستحق أن نحياها أبا سليمان ،كم هو ُ
وقد فارقها صحبة الخير ،ورفقة الجهاد ،فوالذي نفسي بيده ل
ُتشوقني الحور العين إلى الجنة ،مهما بلغ وصفها ،وليس ُزهدا
فيها ،بقدر ما ُيشوقني لقاء الحبة محمدا ً وحزبه وثلة الخير
المباركة تلك ،واني لنتظر ذلك اليوم الذي يعود فيه اجتماعنا
ن بالله عز وجل ،واني حسن ظ ٍ سوية ،في خير دار ،وعند خير جارُ ،
من أكتب ،وأي شيء لحتار ويدور فكري في حلقة مفرغة ،فع ّ
أكتب ،فهل لي من الخيال ،وحسن المقال ما يستوعب ذلك الحديث
ت أقول في نفسي ،ترى ما حكمة الله عن أولئك الشهداء ،ول زل ُ
من أن رزقني صحبة هؤلء ،وما الحكمة من بقائي بعدهم ،دون
أنيس منهم ،وأيضا ً دون جواب يروي ضمأي ,فليت الغضا لم يقطع
الركب عرضه ،وليت الغضا ماشي الركاب لياليا.
ول أبرح هذا المقام حتى أعرج على ذكر من أقيم على أكتافه،
كبقية الخوة ،أول معسكر للمجاهدين في بلد الرافدين أل وهو أبو
دجانة اليمني الذي لم أَر له مثيل ً بهدوئه وسكينته ،فكان الوقار تاجا ً
يتحلى به في الدنيا ،فكيف به بتاج الوقار هناك ،هنيئا ً له ،وهنيئا ً
ل ُم ٍ وأمة أنجبت هكذا رجل ،مفخرة في الدنيا ،ومنجاة في الخرة
أن شاء الله تعالى..
كان أبو دجانة كثير الصمت ،هادئ السمت ،أسمر البشرة ،كثير
العَبرة ،يحفظ كتاب الله ،وبعض كتب الحديث ،وهناك أيضا ً أبو
عاصم اليماني فكان كأبي دجانة ،وكانت له مكانة مميزة لدى سائر
الخوةِ ،لما له من ظل خفيف ،وأسلوب لطيف ،فيا لعذوبة ذلك
الصوت ،فوالله لم اسمع في حياتي صوتا ً يصدح بالذان أجمل من
صوت أبي عاصم ،ولم أسمع في حياتي أجمل من قراءة أبي دجانة
دون ميل في الرأي ،وحينما أعرج على سيرة الخوة فلبد أن
أتوقف عند أبو دجانة الجزائري الذي كان مستنير الوجه ،شديد
التباع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ،كثير العبادات ،ل يتكلم إل ّ
بالعربية الفصحى ،وله نصيب وافر من العلم الشرعي ،وكان ممن
وصل إلى الفلوجة أيام الحرب الولى ،وبعد الحتلل كان قد بقى
مع بعض الخوة عند أبي وقاص الفلوجي ،فأصطحب أحدهما الخر
غربًا ،ليجتمع شملهم بالخوة في القائم ،ومن ثم إلى راوة ،وكان
ن حبا ً شديدا ً للخوة ،فهو عطوف جدًا ،وكان ل ُيبارى في
ي ُك ِ ّ
الركض ،فقد كان أسرعهم جريًا ،واذكر له موقفا ً قال فيه أنني
أتمنى الزواج في حياتي ،ل رغبة ،أو شهوة ،ولكني أحب أن يكون
لي ولد ُيبقي ذكري في الدنيا بعد موتي ،وكم تحزنني هذه العبارة
كلما تذكرتها ،ولكني اسأل الله عز وجل أن يخلد ذكره في هذه
القصة ،أو غيرها لعلها تحقق شيئا ً من أمنيته ،ول أدري أي سبب
ت أذكار الصباح والمساء يجعلني أرى صورته في مخيلتي كلما ذكر ُ
ً
دون بقية الخوة ،وأتذكر انه قد جلس يوما وأطال الجلوس وهو
يكتب وصيته على أوراق صغيرة ،وكلما ك ُِلف بعمل أنجزه ،وعاد
لكتابة وصيته ،فكنت أقول في نفسي من سيوصل وصيتك إلى
أهلك يا أبا دجانة ،وسبحان الله الذي ل تعلم نفس بأي أرض تموت،
إل بتقديره وحكمته.
في تلك الفترة بدأ خبر المعسكر شائعا ً ومعروفا ً نوعا ما لدى أهالي
مدينة راوة ،وكان موقف الخوة محرجا ً للغاية ،فالجراءات المنية
ل تسمح بمثل هذا المر ،إل ّ إنه ل حيلة لهم ول حول ول قوة ،فهل
من المعقول أن يقوم الخوة وهم غرباء بتأمين مأوى ما يزيد على
الربعين أخا ً بسلحهم ،مع تأمين احتياجاتهم ،إل َ أن أهالي المدينة
كانوا متعاطفين جدا ً مع الخوة ،مع إن القلة القليلة كانت تزورهم
هناك ،كصيادي السماك الذين ما زالوا يكررون زيارتهم إلينا ،وفي
غمرة تلك الظروف الصعبة جاءنا خبر نزل علينا كالصاعقة ،فبينما
ت بقربهقبيل صلة الظهر ،وكن ُ كان أبو رغد يسبح في نهر الفراتُ ،
أقوم بغسل ملبسه بعد إلحاح مني شديد ،جاء أبو أحمد إلى
المعسكر ووقف في المركز والخوة مجتمعين في المسجد،
فسألهم عن أبي رغد فأخبروه إنه في النهر ،وكانت قسمات وجهه
تنبئ بأمر سيئ ،فهرع أحد الخوة إلى النهر لينادي أبا رغد ،فخرج
من النهر وصعد إلى المعسكر ،متكئا ً على كتفي ،ولما وصل انفرد
دثه بحديث ليس بالطويل ،فإذا بوجه أبي رغد يتغير به أبو أحمد ،فح ّ
ّ
لونه وتبدو عليه علمات الحزن والضطراب ،وما هي إل لحظات
حتى عرف الجميع بالخبر الذي لم يكن سارًا ،أل ّ وهو إن أبا أسامة
ُ
ت في جلَبة ،وأّثر ْ
الزهراني أسر مع عشرة من الخوة ،فحدثت َ
نفوس الخوة جميعًا ،فما ترى فيهم وجها ً مستبشرًا ،أو ثغرا ً
باسمًا ،فأنفرد أبو رغد بأبي العباس المالكي وأبو يزيد العتيبي،
وكان أبو أحمد لم يزل واقفا ً في المسجد ،وبسرعة ل تعرف التردد
عاد أبو رغد للخوة ُيصّبرهم ،وُيصّبر نفسه على هذا المصاب الجلل،
إل ّ إن العواطف ل يمكن لها ان تتحكم بمجرى المور في اللحظات
الحرجة وبسرعة غادر أبو رغد مع أبو قسورة السوري وأبو العباس
المالكي وأبو وقاص الفلوجي متوجهين صوب المدينة التي يقيم
فيها أبو نسيم ليلتقوه.
بعدها عاد أبو رغد رحمه الله إلى المعسكر ليواصل مسيرته ويشق
حف بالمكاره ،وهنا طريقه مع الخوة إلى الجنة ذلك الطريق الذي ُ
ل يغيب عن البال ومما تجدر الشارة إليه ان أبا محمد اللبناني كان
قد غادر المعسكر في تلك الفترة ،وكان غيابه مفاجئا ً ودون أن
يعلم أحد منا بذلك سوى أبو رغد وبعض الخوة ،لذلك فأنه لم يكن
حاضرا ً في تلك الحداث إل ّ إنه لم يكن بعيدا ً عنها ،وكذلك فإنه لم
ملما ً بكل هذه التفاصيل.
يطل غيابه فكان ُ
ت أبا احمد في طريق العودة حتى وصلنا المدينة على كل حال صحب ُ
ت من السيارة قبل أن أصل إلى المنزل بمسافة ،فقد ل ،وترجل ُ لي ً
كانت الحركة ليل ً قليلة جدًا ،بل معدومة في تلك الفترة التي تلت
فتح لي الباب ،واستقبلني الهل ت باب منزلنا ،و ُالحتلل ،فطرق ٌ
بذهول ،فلم يكن أحد يعرف وجهتي ،وسبب غيابي عن المنزل،
سوى أمي وأبي ،خاصة وأن الحياة ل زالت شبه متوقفة ،فل ِ
مبهمة مدارس ،ول جامعات ،ول دوائر حكومية ،ول زالت الحياة ُ
للجميع ,ول حاجة لتفصيل موقف أهلي مما يجري لي ،لن كل ما
حدث كان بعيدا ً عن تصورهم ،خاصة وأنهم ل يعلمون بأني كنت
خارج المدينة ..بعدها انتظرت الصباح بفارغ الصبر ،وما إن أشرقت
الشمس حتى ذهبت إلى أبي نسيم وألتقيته في منزله الجديد ،فقد
ت معهترك منزله الول لكثرة المترددين عليه خشية الشبهة ،فجلس ُ
ل ،وكان وقتها يفكر في تأسيس معسكر ثان. وقتا ً طوي ً
أما أنا فبقيت على حالي لمدة أسبوع تقريبًا ،وبدل ً من جلوسي في
ت مع الخوة إلى معسكرهم الجديد، المنزل ،وتضييع وقتي ،ذهب ُ
لحين توفر سيارة ُتقلني إلى المعسكر الول عند إخوتي الوائل،
وكذلك طمعا ً مني لنال أجر صدقة جارية في ترتيب أولى خطوات
المعسكر الثاني ،وما هي إل ّ ساعات بعد بدء المسير حتى نزلنا في
وسط الطريق ،لصلة العصر مع الحاج حسن عارف الذي كان
برفقتنا هو الخر ،ثم واصلنا بعدها المسير لنصل إلى غايتنا ،وقد
نزلنا وأنزلنا معنا إغراضنا مع بعض البنادق ،ومن ثم غادرنا الحاج
حسن رحمه الله وبقينا نحن الثمانية في ذلك المكان الخالي من
السكان ،فبدأنا بترتيب أمورنا فيما يخص تنظيف المكان وطبخ
الطعام وغيرها من أساسيات المعسكر ،وبالطبع قمنا بتنظيم
جدول للحراسة الليلية وكان كل اثنين يحرسون سوية لمدة
ساعتين ،وفي الصباح ،وبعد صلة الفجر وحلقة التحفيظ ،نهض
الخوة للتدريب ،ولم أستطع أن أكون معهم لبعض اللم.
وفي ذلك اليوم جاء بعض الخوة ،جالبين معهم بعض الغراض،
وليتابعوا عملهم الجديد بعد فك ارتباطهم بالمعسكر الول ،وشيئا ً
فشيئا ً بدأت العداد تتزايد ،وبدأ المر يأخذ طابعا ً أكثر تنظيمًا،
ي الوقت يزداد شوقي إلى الخوة في المعسكر وكلما مضى عل ّ
الول ،وانتظر الساعة التي سأعود فيها إلى هناك ،مع أن الخوة
في المعسكر الثاني ل يقلون شأنا ً عن الخوة في المعسكر الول،
إل ّ أنه كم من منزل يألفه الفتى ،ويبقى الحنين لول منزل!
وكما ذكرنا سابقا ً بأن أبا محمد اللبناني كان قد غادر المعسكر
مكلفا ً بأمر معين،
الول لسبب غير معروف لدى الخوة ،إل ّ إنه كان ُ
وبعد أيام قلئل من استقرارنا في ذلك المكان ،جاء الخبر بقرب
وصول دفعة ُأخرى من الخوة الجدد ،فأخذنا ننتظرهم بفارغ الصبر،
وفي اليوم التالي ،وعند الظهيرة ،ب ُّلغنا بأنهم سيصلون بعد
سويعات ،وما هي إل فترة بسيطة حتى لحت لنا سيارة بيضاء
تقلهم ،فبدأ الخوة ينزلون من السيارة ،ونحن نمعن فيهم النظر،
وكان كل هؤلء الخوة من الشام ومنهم أبو ثابت وأبو الفداء وأبو
عمر وأبو سلمة وأبو مصطفى وأبو قتادة ،إل أن واحدا ً من هؤلء
الخوة الجدد ،كانت عيني وفكري ل يفترقان عن النظر إليه
والتمعن فيه ،بين مستغرب ،ومتعجب لحاله ،أل ّ وهو )أبو سهيل
اللبناني( ،فقد كان شديد بياض البشرة ،وكان صبيا ً صغيرا ً ل يتجاوز
دةعمره الرابعة عشر ،ل تكاد تسمع له صوتًا ،لقلة كلمه ،وش ّ
هدوءه ،وأجمل شيء هو المصحف والسواك اللذان يبدوان من جيبه
العلوي ،فكنت أراه ذاهبا ً وآيبا ً وهو ُينزل أغراضه من السيارة،
محتفظا ً بهدوء وسكينة وكأنه ابن الربعين عامًا ،وبعد نزول الخوة
جميعا ً سلمنا عليهم وكان استقبالنا لهم حارًا ،وبعد فترة بسيطة
جاءت سيارة ُأخرى تقل بعض الخوة ،وما فاجأني في تلك الثناء
هو رؤية الخ العزيز جدا ً )أبو محمد اللبناني( ،وقد رأيته للمرة
الولى بعد غيابه عن المعسكر الول.
ت حينها هناك ،وكانعاد أبو محمد اللبناني إلى المعسكر الثاني وكن ُ
الخوة في المعسكر الثاني مستمرين بمنهجهم التدريبي ،وفي
اليوم التالي وعند المغرب جاء أبو أحمد برفقة أحد أبناء المنطقة
من إخوة الجهاد إلى المعسكر جالبا ً معه بعض الغراض والفواكه،
وبعد المغرب توجه مباشرة إلى المعسكر الول ،الذي بات يسمى
ت أصدق ذلك بمعسكر )المأسدة( بعد تلك العمليات الجهادية ،فما كد ُ
ث الحياة الحقيقية ،بعد أسبوع من إذ صحبته عائدا ً إلى الخوة ،حي ُ
الغياب.
ت أبو كنعان وأبو احمد ،وسأل أبو احمد عن أبي ت وجالس ُ بعدها عد ُ
رغد ،فأخبره أبو كنعان بأن أبا رغد قد صحب عددا ً من الخوة
وذهبوا ليستطلعوا الطريق عّلهم يجدون دورية أميركية ليقوموا
بضربها ،ولم تمض ساعة من الزمن حتى جاء أبو رغد والخوة معه،
ت عليهم ،والشوق في صدري أحرقني لفراقهم. فسلم ُ
ت أن استفتحه بوجوه الخوة النيرة، وهكذا أصبح الصباح الذي اعتد ُ
وكان هذا الصباح حافل ً بالستقبال الحار ،والترحاب ،وفرحة
ت أمرا ً هو ان المسجد قد ارتفع الجتماع ثانية ،إل ّ أني لحظ ُ
سقفه ،وترّتب ،فسألت عنه ،فقالوا لي بأن أبا عبد الله العتيبي قد
و ذهب أبا ت لهم :ا َ
قام بهذا العمل قبل ذهابه إلى الفلوجة ،فقل ُ
عبد الله إلى الفلوجة؟! فأخبروني بأن أبا عبد الله العتيبي وأبو
عكاشة اليمني قد ذهبا إلى الفلوجة ليجلبوا لنا كمية من السلحة
ت لعدم قد جمعها لنا بعض الخوة عن طريق الخ عمر حديد ،فحزن ُ
ت معي بعض الغراض لبي عبد الله اليمني، ت قد جلب ُ
وداعهما ،وكن ُ
فلما لم أجده أودعتهما عند أبي رغد ،وفي ذلك اليوم كان لدينا
عمل جديد أل ّ وهو نقل أغراض المركز مع بعض السلحة إلى موقع
مجموعة أبي عكاشة اليمني ،فبدأنا بنقل بعضها ،بينما كان بعض
الخوة يحفرون الخنادق في موقع أبي عكاشة لخزن السلحة فيها،
وكان هذا الجراء بسبب شيوع أمر المعسكر نوعا ً ما ،لذا أردنا ان
نختصر الكثير من حركتنا داخل أرض المعسكر تمهيدا ً لترك الموقع،
دون تحديد وجهة معينة لذلك ،فقد كان المستقبل أمامنا مجهول ً
جدًا.
ممممم مممممم
محطة هي قبل الخيرة في هذه المذكرات ،محطة تبقى منها يوما ً
واحدا ً في حياة هذه النخبة المباركة التي انتخت لدينها ،واستجابت
لعويل الثكالى ،وصرخات اليتامى ،وأنين السارى ،وآهات
المعتقلين ،ملبية نداء ربها فجاهدت في سبيله ،سبحانه وتعالى،
حتى الرمق والنفس الخير الذي زهق على ثرى أرض السلم
المطهرة ،أرض السواد ،التي كانت يوما ً ما مركز الخلفة السلمية،
وبوابة الشرق الذي أنارته فتوحات أبناء المة المحمدية يوم حطموا
عرش كسرى ،وأزالوا ظلم إمبراطوريات الشرك حتى حدود
الصين..
أستكمل معكم عرض الحلقة الخامسة وهي )ما قبل الخيرة( من
مذكرات مجاهد ،والتي أرويها لكم على لسان المجاهد الشهيد بإذن
الله )أبو حفص العراقي( ،الذي عاصر هذه الثلة المباركة ،ناقل ً لنا
ما حفظه عنهم ،عسى ولعل أن يسير على خطاهم شباب هذه
المة ،الذين ل يزال كثير منهم يغط في سبات عميق ،غارق حد
التخمة في عالم الشهوات ،والملذات ،والملهيات ،والكرة،
والمعازف ،والترحال ،والسفار ،لهوا ً ل جهادًا ،فيثوبوا إلى
رشدهم ،ويعلموا أن المة بحاجة لن يصحوا ويسيروا على ذات
الخط الذي سلكه من سبقهم إلى دار الخلد والجنان..
يقول )أبو حفص العراقي( وهو يروي هذه المذكرات التي شارفت
على النتهاء واصفا ً حال إخوة الجهاد بعد سماعهم بنبأ مقتل أبي
عكاشة اليمني وأبو عبدالله المدني في معركة شرسة مع المحتلين
قرب الفلوجة أسقطوا لهم من خللها طائرة مروحية ودمروا
آليتين اثنتين ،قائ ً
ل:
في ذلك اليوم قلت لبي رغد )لم ل نكتب الراية السوداء ونرفعها
في المعسكر( ،فأستحسن الفكرة وأبلغني أن أباشر بها ،وعند
العصر وبينما كان الخوة منهمكين بترتيب بعض المور في موقع
ت أنا منهمكا ً بكتابة الراية على قطعة
أبي عكاشة رحمه الله كن ُ
قماش سوداء ،وكانت الكتابة باللون البيض ،وفي هذه الثناء كان
أغلب الخوة قد عادوا للمركز ،ولم يبق معي سوى أبو بلل
الكربولي ،حينها سمعنا أصوات الخوة في المركز وقد علت
بالتكبيرات ،ما أثار استغرابنا لذلك ،فعلمنا أن هناك أمرا ً ما قد طرأ
على الخوة ،ول بد أنه أدخل إليهم الفرحة ،فأكمل أبو بلل
ت أناالكربولي ما في يده من العمال ،ثم توجه إلى المركز ،وبقي ُ
لوحدي في الموقع لضع اللمسات الخيرة على الراية ،وبالطبع
كانت الراية عبارة عن قطعة قماش سوداء مكتوب عليها بالبيض
)ل اله إل الله محمد رسول الله( والسيف من أسفلها ،وعندما
أكملتها توجهت صوب المركز ،وفي تلك اللحظة جاء أبو صقر
اليمني مع أحد الخوة بسيارة )الدانيا( البيضاء إلى الموقع لخذ
ت معهم السيارة متوجهين نحو المركز، بعض الغراض ،فركب ُ
ت واقفا ً أثناء سير السيارة،
ت أنا في الحوض الخلفي وبقي ُ فركب ُ
ت بطرف الراية بيدي وهي ُترفرف ،فكان المنظر ل وقد أمسك ُ
يوصف لروعته ،غير أن الطريق بين موقع أبي عكاشة والمركز
ت السيارة طريقا ً آخر يمر بمحيط عبارة عن أودية لذلك ،فقد سلك ْ
المعسكر ،وكانت تلل ً صغيرة تحجب السيارة عن المركز ،وبينما كنا
نسير نحو المركز والراية ترفرف فوقها كان أبو دجانة الجزائري
جالسا ً فوق إحدى المرتفعات برفقة الخ الذي في واجب الحراسة،
ت السيارة، فنزل أبو دجانة ليستقبل السيارة فلما وصلنا إليه وقف ْ
فركب معي مباشرة وهو مندهش جدا ً لمنظر الراية وعينه مليئة
بالدمع ،فقد وقعت في نفسه أي موقع ،وعندما ركب معي أمسك
ت
كل واحد منا بطرف الراية ورفعناها فوق قمرة السيارة ،واستمر ْ
بالمسير وقد كنا نمشي بمنطقة منخفضة والمركز في منطقة
ل ،لذلك لم تظهر السيارة للخوة في المسجد إل ّ على مرتفعة قلي ً
ُبعد مئة متر وما أن ظهرت لهم السيارة البيضاء تعلوها الراية
ت كل أنظار ت التكبيرات المكان بأسره ،وتوجه ْ السوداء حتى هّز ْ
الخوة إلى الراية ،وارتفعت الصوات بالتكبير والتهليل ،وما كادت
السيارة لتقف حتى أجتمع الخوة علينا وأخذوا الراية واجتمعوا
حولها ،وأعينهم تفيض من الدمع ،وهم ُيكّبرون ،وأخذوا يدورون
د
بالراية في أرجاء المكان ،وهم على حالهم من الحماس فقد ش ّ
المنظر كل أحاسيسهم ومشاعرهم ،أما الخوة فلم يكن حالهم هذا
شكر والمتنان لكتابتي لهذه ي عبارات ال ُ ليوصف وكم انهالت عل ّ
ت
ت الراية فقد ُ
الراية ،وقد قال لي بلل النجدي )والله لما رأي ُ
ت أنظاري ومشاعري نحوها( ت أصدق ما أرى وأنشد ْ صوابي وما عد ُ
هذا ما كان من حال الخوة ..أما أنا فعند اقترابنا من المركز
ت وجود سيارة "البيك أب" التي كانت مع أبي عكاشة اليمني لحظ ُ
ت حال ً سبب تكبيرات ُ فعرف الله، رحمهم المدني الله عبد وأبو
الخوة التي سمعتها عند وجودي في موقع أبي عكاشة ،وقد
ت
لحظت كذلك ان أبو نسيم يقف مع أبي رغد على انفراد فلما نزل ُ
ت على أبي ت فسلم ُمن السيارة وأخذ الخوة الراية من يدي ذهب ُ
نسيم ثم تركتهم ُيكملون حديثهم ،وقد أدهشني منظر الخوة
ت أظن أن الراية ستحرك مشاعرهم ت ُاتبعهم النظر ،وما كن ُووقف ُ
ت إلى وتداعب قلوبهم لهذا الحد ،وبعد أن هدأت ثورة الخوة دخل ُ
ت بوجود الخ )عمر حديد( يجلس مع أبي القعقاع المطبخ ففوجئ ُ
ً
الردني وبعض الخوة ،فتفاجئ هو أيضا لرؤيتي ،فقد طالت
لحيتي ،وتغير شكلي نظرا ً للظروف التي كنا نعيش فيها ،ول
ت معه ت عليه ،وجلس ُيختلف حالي عن بقية الخوة ،عندها سّلم ُ
ل ،يسأل عن حالي واسأله عن حاله ،وكان قد جاء مع أبي نسيم قلي ً
أحد الخوة كذلك ،أما الخ )عمر حديد( فكان هو من أحضر سيارة
أبي عكاشة من الفلوجة إلى المعسكر ،وبالرغم من أنه جاء برفقة
أبي نسيم إل ّ أن لكل منهما سبب للمجيء ،كما أن أبو نسيم كان
قد أحضر معه الصبي عبد القادر السوري ليبقى مع الخوة في
المعسكر الول.
بعدها بدأت الرياح تشتد شيئا ً فشيئًا ،بينما عقد الخوة الراية على
لواء وعلقوها فوق المسجد ،فكان مشهدا ً من أجمل ما يكون،
فالراية السوداء ترفرف عاليا ً فوق مسجد بسيط ،فيه أخوة ،شعثًا،
غبرًا ،كل منهم آخذٌ بسلحه ،وكأنهم في عالم آخر ،وبعد صلة
ت زخات مطر ،ثم تحولت الرياح المغرب ازدادت شدة الرياح ،وهطل ْ
إلى عاصفة رملية ،وفي الصباح خفت الرياح والغبار وأصبح الجو
لطيفًا ،وكالعادة صلة ،ثم حلقة تحفيظ ،فبرنامج التدريب الذي ل
يزال مستمرًا ،بل أنه ازداد حصة تدريب مسائية.
بدأ أبو رغد بجولة جديدة من البحث الحثيث عن السلحة وقد فّرغ
نفسه تماما ً لجمع السلحة مستعينا ً ببعض الخوة الذين تعّرف
عليهم من أهالي راوة ،وكم لقى من الجهد والتعب في أيامه
الخيرة ،وقد كنا جميعا ً نشفق عليه لما يعانيه ،خاصة وأن ساقه
المبتورة كانت تعاود عليه اللم ،فكان لزاما ً عليه أن يعطي نفسه
دخر جهدا ً في عمله ،وكان قسطا ً من الراحة ،إل ّ أنه كان ل ي ّ
برنامجه طيلة اليام الخيرة هو ،ينام ساعتين تقريبا ً بعد صلة
حو ليغادر المعسكر ،ول يعود إل ّ عند صلة العشاء، الفجر ،ثم يص ُ
ً
ليصلي معنا ،ثم يجلس قليل ،ليعاود الذهاب مرة أخرى ،ثم يعود
ت تمّر ساعات ت قصير ،وعلى هذا المنوال كان ْ قبل صلة الفجر بوق ْ
أبي رغد وأيامه الخيرة ،وفي اليوم التالي بعد العاصفة الرملية،
وعند وقت المغرب بعد الصلة نهض أبو رغد العتيبي من المسجد،
ثم مشى خطوات معدودة قرب المسجد ،ثم ألتفت إلينا وقال) :يا
شباب اجتمعوا( ،فنهض الخوة مسرعين ،كما عّلمهم أبو رغد،
خطاب أبي رغد لم يكن ووقفوا في صفين متوازيين ،إل ّ أن ِ
حماسيا ً هذه المرة ،بل بدا عليه الحزن ،وكانت السكينة تغشي
الموقف ،وأخذ يروح ويأتي أمامنا ،ثم قال لنا) :يا شباب قد علمتم
ما آل إليه أمرنا ،وتعلمون ما نعانيه من نقص في السلحة ،لذلك
فإن أحد الخوة أبلغنا بوجود كمية ممتازة من السلح لن ينتظرنا إذا
ر غيرنا ،ولكن المشكلة هي أنه لم يتبق لدينا من المال ما جاءه مشت ٍ
يكفي ،ولذلك جمعتكم ،فمن كان له فضل من مال ،وأحب أن
يقرضنا قرضا ً حسنا ً فجزاه الله خيرًا ،وليكتب ذلك المبلغ بورقة
سر الله لنا أمر المال أعدنا لكل ذي حق حقه ،ومن أراد حتى إذا ما ي َ ّ
ً
ان يتبرع بمال في سبيل الله فجزاه الله خيرا ،وهي عند الله
بسبعمائة ضعف ،والله يضاعف لمن يشاء(.
بهذا أنهى أبو رغد كلماته ،ولكن الموقف لم ينته عند هذا الحد،
ت به من اللم والحزن العميق لسماعي هذه ويعلم الله ما مرر ُ
ً
ت نسيا منسيا، ت قبل هذا وكن ُ ت في نفسي يا ليتني م ُ الكلمات وقل ُ
خلفقد كان الخجل يغمرني ،فضل عن حزني ،بعدها بدأ الخوة ُيد ِ
سل من الصف ليحضر ما لديه من مال على ل يده في جيبه ،أو ين ّك ٌ
قلته ،فجمعوا كل المال عند أبي كنعان اليمني ،وبالطبع لم يكن
منهم من جعل هذا المال قرضا ً حسنا ً يرجو منه شيئًا ،فقد باعوا
أنفسهم لله عز وجل ،إذ لم يكن للمال ،بل وللدنيا في أعينهم قدرا ً
من الله عز وجل أن يجعلهم مجاهدين في ن ِ
م ّأو أهمية ،بل هو َ
سبيل الله ،بأموالهم وأنفسهم ،عندها كان وجه أبي رغد قد تهلل،
وفي نفس اللحظة أمر بعض الخوة ليرافقوه مسافرين إلى
الفلوجة ،حيث توجد كمية السلح المذكورة ،فركب معه الخوة
وهيئوا أنفسهم للمسير بالرغم من تأخر الوقت ،وكان الطريق
محفوفا ً بالمخاطر ،إل ّ أن تلك القلوب المتعلقة بالخرة لم يكن
ل ،عندها أراد أبو دجانة الجزائري أن يذهب يعرف الخوف إليها سبي ً
ّ
معهم فرفض أبا رغد ذلك ،فألح أبو دجانة والدمع يسيل من عينيه،
وقال لبي رغد )دعني أكون معكم ،فإن صادفنا عدو جعلت نفسي
دونك ،فليس مقتلي كمقتلك أنت(!
إل ّ أنه وكأجراء أولي بدأنا بنقل كافة السلحة والغراض إلى موقع
أبي عكاشة رحمه الله وذلك لنه أبعد المواقع عن جهة النهر ،ويقع
في واٍد صغير بين بعض المرتفعا ت المحيطة به ،وبعد أن أكملنا
نقل كافة السلحة والغراض بدأنا ببناء المسجد في موقع أبي
عكاشة رحمه الله فكان الخوة يأخذون أعمدة الخشب والحصير من
المسجد الذي في المركز ويبنون بها المسجد الجديد وهكذا ،حتى
أكتمل البناء ليستقر الخوة فيه تلك اليام هربا ً من حر الشمس
اللذعة ،وكان للسيارة طريق منبسط يصل إلى إحدى المرتفعات
المحيطة بالموقع لذلك كان الخوة مضطرين دائما ً للصعود على
تلك التلة الصغيرة ،وبالطبع كان ذلك مما يزيدهم تعبا ً في حالة نقل
الغراض أو غيرها خاصة وأن انحدار تلك المرتفعات شديد وقد
ت أن أبا رغد كان إذا جاء إلى المعسكر يبقى أحيانا ً عند
لحظ ُ
ت أن التعب كان قد بلغ به مبلغا فل السيارة لينام هناك وقد عرف ُ
ت بحفر سلم على تلك التلة تعينه ساقه على النزول والصعود ففكر ُ
وفي الصباح وعندما بدأ الخوة في التدريب استأذنت من أبي
تيونس لترك التدريب كي أبدأ بحفر السلم فأِذن لي بذلك فأخذ ُ
ت بالعمل وبعد لحظات ألتحق بي عبدالقادر عدة الحفر وبدأ ُ
ً ً
السوري فقد كان نشيطا جدا ول يمل من العمل ،وبعد أن أكمل
ل بشغله وجاءني أبو سليمان الندي الخوة التدريب أنشغل ك ٌ
فتعاوّنا جميعا ً على عملنا ذلك فأخذنا أقساطا من الراحة نستغلها
ً
بشرب الشاي فقد كان أبو سليمان قد اعتاد على الشاي العراقي
وتلذذ به وما هي إل ّ سويعات حتى أنجزنا العمل فأصبح السلم يمتد
على طول التلة فأختصر ذلك الجهد الكثير على الخوة و خاصة
على أبي رغد.
وفي صباح أحد تلك اليام الخوالي وبينما كان أبو رغد خارج
المعسكر جاء أحد الخوة من أهالي راوة يحمل في سيارته كيسا ً
من الخبز وكيسا ً آخر يحتوي على عدد من حشوات صواريخ )(RBG
يبلغ عددها ) (26وكانت هذه كمية خيالية بالنسبة لنا ،وقد فرح
الخوة بها فرحا ً عظيمًا ،وكان أيضا ً مما أدخل الفرحة إلى قلوبهم
هو علمهم بما سيخفف ذلك عن كاهل أبو رغد ،وبهذا كان وضع
الخوة يسمح بالخروج لبعض العمليات لذلك كان الخوة حريصين
على استطلع الهداف ،وفي إحدى المرات وعند عودة أبي رغد
للمعسكر بعد صلة المغرب بقيت السيارة فوق التلة بمكانها
المعتاد ولم ينزل الخوة إلى المسجد ،إل ّ إننا أحسسنا بأن هناك
أمرا ً ما ،وبعد قليل ناداني أبو حفص النجدي وقال لي تعال معي،
ت معه إلى حيث أبو رغد ،ومعه بعض الخوة ،فأخبروني بأن فذهب ُ
هناك بعض الليات تقف عند مفرق الطريق المؤدي إلى مدينة راوة
وقد اختار أبو رغد بعض الخوة لضرب هذه المفرزة ،وعلى جناح
السرعة تجهز عشرةٌ من الخوة بكامل عدتهم وركبوا السيارة
وتوجهنا إلى مقصدنا ،وسارت السيارة تلك المسافة الطويلة،
وقبل أن نصل موقع المفرزة وقفت السيارة ،ونزل الخوة،
ت أنا وأحد الخوة وجلسوا في مكان خفي قرب الطريق ،وذهب ُ
نسير بقية المسافة مشيا ً على القدام كي نستطلع العدو ونعرف
طريقة تواجدهم وانتشارهم ول زلنا نمشي حتى وصلنا المكان،
وشاء الله عز وجل أن نجدهم وقد انسحبوا تاركين المكان ،بعدها
عدنا إلى الخوة ،وهم بفارغ الصبر ولما أنبأناهم بنبأ القوم حزن ُ
عدنا بعدها إلى المعسكر الخوة لذلك وخاصة أبو حكيم اليمني ،و ُ
حوا بطلب وقد وجدنا الخوة ،وبعضهم لم يعلم بخروجنا ،كي ل ي ُل ِ ّ
الخروج معنا ،ونسأل الله تعالى أن يكتبها لنا غزوة في سبيله.
وبالطبع في غمرة تلك الحداث لم يكن أمر إخلء الموقع غائبا ً عن
بال أبي رغد إل ّ أن المر لم يكن بتلك السهولة ،فالصل في حالنا
هو أن المعسكر أمٌر طارئ ومهمته تدريب الخوة على كافة أنواع
السلحة وكافة أساليب القتال بما في ذلك التدريب الحي على
كافة ما تعلموه وكان من المقرر بعد ذلك أن ينتشر الخوة في
المدن ،في البيوت ،ليقوموا بالعمليات المدروسة ضد الميركان،
وهذا هو أصل الفكرة التي اجتمع عليها الخوة ،إل ّ أن الظروف كان
لها مجرى آخر ،فأصبح بقائنا في الصحراء هو كل ما بوسعنا! بل
وحتى ذلك أصبح متعسرا ً في اليام الخيرة فبعد صعوبة النتقال
إلى المدن ،أصبح لزاما ً علينا أن نجد موقعا ً بديل ً في الصحراء نتنقل
إليه ريثما تنفرج المور حسب ما هو مخطط لها ،لذلك فقد أنشغل
أبو رغد كثيرا ً بهذا الموضوع وذلك لن البقاء في هذا الموقع أصبح
فيه نوع من المخاطرة بأرواح الخوة ،وبالطبع كان عدد الخوة قد
ازداد وأصبح العدد قرابة الخمسين أخًا..
وقد كانت مسألة توفير المياه من أهم المور التي تتحكم في
اختيار الموقع المناسب إضافة إلى قابلية المكان لستيعاب هذا
العدد الكبير فضل ً عن أغراضهم وأمتعتهم ،وبالطبع فإن المناطق
التي على ضفاف نهر الفرات لم تكن ملئمة من الناحية المنية،
مكّثف مع أن أغلب الخوة لم يكن واستمرت عملية البحث بشكل ُ
علما ً بهذه الترتيبات.
لديهم ِ
سدى فقد وجد مكانًا ،ليس بالجيد،وأخيرا ً لم تذهب جهود أبي رغد ُ
لكنه أفضل الموجود ،وقد تفحص المكان جيدا ً مستعينا برأي الخوة
من ذوي الخبرة كأبي يونس اليمني وغيره من أهل الرأي ،عندها
أستقر رأي الجميع على النتقال لهذا الموقع الجديد ،ولكن شريطة
أن ل يطول بقاء الخوة فيه لكثر من أسبوع ،ومن ثم يجب نقل
الخوة إلى المدن يتوزعون في البيوت ..وكان هناك أمرا ً يحرص
عليه أبو رغد كثيرا ً وهو التكتيم الشديد على نبأ النتقال ،فكان
حريصا ً على أن ل يعلم أحدهم بمكان المعسكر الجديد.
دون تلكؤ أو تردد بدأ أبو رغد بترتيب النتقال إلى الموقع الثاني
وكانت فكرته بأن ينتقل مبدئيا ً سبعة من الخوة إلى الموقع الثاني
ليقوموا بترتيب الموقع وتهيئته لستقبال البقية بينما يقوم بقية
الخوة بجمع كافة الغراض والسلحة ونقلها شيئا ً فشيئا ً إلى
ت من بينهم، الموقع الثاني ،وفعل ً تم اختيار هؤلء الخوة ،وكن ُ
وكان برفقتي أبو سليمان النجدي وأبو الزبير التبوكي وأبو
مصطفى الجزائري وعبد القادر السوري وأبو همام الردني وأبو
بكر القحطاني ،فركبنا في السيارة ،وكان برفقتنا أبو صهيب
النجدي ،وأخذنا أمتعتنا وأسلحتنا مع كيس تمر نتغذى به لليام
القادمة ،وتحركت السيارة ،وبدأنا نبتعد شيئا ً فشيئا ً عن الموقع
مرنا الحزن والسى لفراق ذلك المكان الذي أحتضن في طياته يغ ُ
أجمل أيام ولحظات مرت بنا في هذه الحياة ،وإن لهذا المكان
مكانة خاصة في قلوبنا ،ول زلت حتى هذه اللحظة ل أجرؤ على
ل من ساكنيه!
الذهاب إليه وهو خا ٍ
ق في الرض ً
بعد ذلك هيئنا مكانا للسلحة كان عبارة عن ش ٍ
بالضافة إلى تهيئة مكان الطبخ وبعض المور الخرى ،وكان أبو
صهيب النجدي ينقل إلينا الغراض شيئا فشيئا ً فنقوم نحن بوضعها
في المكان المناسب ،أما أبو رغد فكان يأتينا ليل ً ليبيت عندنا بعض
كلالحيان فكان الحال بشكل عام حركة دؤوبة وسريعة في ِ
الموقعين مع التأكيد على سرية المر.
وعندما جاء أبو رغد إلينا نهارا ً كنا قد هيئنا مكانا ً لقامة المسجد
وينا الرض وأزلنا بعض الصخور والشواك ،وقمنا بتثبيت فيه ،فس ّ
ً ً
تسعة أوتاد خشبية في مساحة ل تتجاوز الثلثين مترا مربعا لنرفع
عليها سقف المسجد وجدرانه ،وبعد تثبيت تلك الوتاد جاء أبو رغد
وأخبرنا بأن نترك المكان على حاله وتحويل مكان المسجد بالرغم
من الجهد الجهيد الذي بذلناه في عملنا هذا ،وبصدر رحب بدأنا
بتسوية مكان آخر بنفس المساحة قرب المكان الول ،ل يفصل
بينهما سوى أربعة أمتار ،وقمنا بتثبيت الوتاد مرة أخرى من دون
نزعها عن المكان الول ثم قمنا بعمل سقف للمسجد باستخدام
أروقة الخيام التي عندنا مع بعض الحصائر والشياء الخرى..
في تلك الثناء كان الخوة قد أكملوا تقريبا ً نقل كل ما بحوزتنا إلى
قمنا نحن بدورنا بترتيب الموقع الجديد ،لذلك بدءالموقع الثاني و ُ
الخوة بالتوافد إلى موقعهم الجديد يتقاطرون كقطر الندى
فاستقبلناهم استقبال ً حارا ً وخلل ساعات أصبح المكان الذي كان
رحبا ً بنا يضيق بالخوة لول أن صدورهم رحبة لبعضهم ،وكان العدد
فوق طاقة المكان.
وفي خضم تلك الحداث التي كانت سريعة ومتراكمة كان أبو رغد ل
يزال مستمرا ً بذهابه وإيابه من وإلى المعسكر في محاولة ليجاد
حل لهذه الوضاع الغير ملئمة لبقاء الخوة في العراء ،وبمساعدة
بعض المتعاطفين من أهالي راوة أستطاع أبو رغد من تأمين بيت
خاص للخوة المرضى أو الجرحى في حالة الصابة وكان من نتائج
ن تسعة من الخوة تمكنوا من تأمين حركة أبي رغد الدؤوبة أ ّ
التصال مع أبي رغد فتم الترتيب لهم لللتحاق بنا ،وبعد انتظار
يومين تقريبا ً غادر أبو رغد عند الضحى ،وبعد صلة العصر لحت لنا
السيارة من بعيد ،وكانت تبدو مليئة بالخوة.
وبعد لحظات وقفت السيارة عند بداية المعسكر فبدأ الخوة ينزلون
منها ووجوههم تتفجر فرحة ،كأنهم ل يصدقون ما حولهم ،عندها
أنهال الخوة يسلمون عليهم ،مهنئين إياهم بهذا الفضل العظيم،
وكان هؤلء الخوة هم أبو الزبير النجدي وأبو حمزة النجدي وأبو
بصير الثبيتي وأبو ريان النجدي وأبو عبد الله المكي وأبو ماهر
النجدي وحيدرة السوداني ،كما أن أحد الخوة من الذين تعّرف
سر الله أن يلتقي به في عليهم أبو رغد في أول أيام الحرب قد ي ّ
تلك الفترة وهذا الخ هو أبو جابر السوري ،ولم تمر علينا تلك
اليام بتلك الحوال إل ّ والمعسكر أمسى وكأنه جنة الله على أرضه،
بالرغم من ضيق المكان ،وضعف المكانيات ،وليت شعري كم كان
حيون أجمل و)آخر( أيامهم على وجه البسيطة. الخوة ي َ ْ
كلما تقدم بنا الوقت زاد إقبال الخوة على الله عز وجل وفي تلك
ت أحوالهم فهذا ل يتكلم اليام تحديدا ً كان الخوة جميعهم قد تغير ْ
إل ّ قليل ً وهذا ل يضحك إل ّ قليل ً وذاك أصبح منهمكا ً في خدمة
الخوة ومنهم من عكف على العبادة ل تراه إل ّ ذاكرا ً أو ساجدا ً أو
راكعا ً أو قارئا لكتاب الله عز وجل ،فأبو محجن النجدي الذي كان ْ
ت
ج ّ
ل ه البريئة ل تفارق وجهه السمر لتملئه نورا ً وِبشرا ً أصبح ُ ضحكت ُ
ً
وقته منقطعا عن الدنيا وكل ما حوله ل تفارقه العَبرة أو البكاء
خوفا ً وطمعًا ،وأخذ ينأى حتى عن مجالس الخوة ،مفضل ً النفراد
بنفسه ،أما أبو مجاهد الشمري فقد كان على عكس أبي محجن
سخّر كل وقته النجدي فقد أصبح كثير الكلم والمداعبة للخوة و َ
وجهده لخدمة الخوة ،أما أبو صهيب النجدي فكان حاله ل يختلف
صحبة منذ أيام الجزيرة وهكذا الحال عن رفيقه أبا محجن فهما ُ
لكافة الخوة على الطلق ل أستثني منهم أحدا ً أبو عاصم اليمني
وأبو أنس العتيبي وأبو البراء العتيبي وأبو يونس اليمني وكل
الخوة ،وكأن كل واحد منهم يتراءى له ما ل يبدو لغيره فيعيش في
عالم لوحده ل يشاركه فيه أحد.
في هذه الثناء كانت هناك بعض الغراض قد تركها الخوة في
الموقع الول فأراد الخوة الذهاب لحضارها لكن أبا رغد أراد ان
ُيكّلف بذلك الخوة الجدد وذلك ليروا المكان الذي كان يحيى به
دة ماإخوانهم وكانت هذه أيضا ً رغبة في نفوس الخوة الجدد لش ّ
رأوا من تعّلق إخوانهم بذلك المكان ،وفعل ً ذهب الخوة ليعودوا بعد
ن الليل وكان على ج ّعدة ساعات وهم في قمة السعادة ،بعد ذلك ُ
الخوة العودة مرة أخرى إلى الموقع الول فقام أبو عبيدة الردني
باختيار بعض الخوة وكنت منهم ،وكان معي أبو صهيب النجدي وأبو
صقر اليمني وأبو تراب السوري وبلل النجدي وأبو خالد الردني
وأبو بكر القحطاني فركبنا السيارة وسرنا لي ً
ل ،وبعد أن ابتعدنا
قليل ً عن الموقع ،وكان أبو صهيب هو من يقود السيارة ،وأثناء
المسير نزل أحد الخوة من السيارة يهرول مسرعًا ،وبدأ أبو صهيب
يذهب بالسيارة يمينا ً وشمال ً فأصابنا لذلك الدهشة دون أن نعرف
ما الذي يحدث ،عندها هرع بقية الخوة ينزلون من السيارة وقد
علت أصواتهم بالضحك ،فالخطب الجلل هو عبارة عن حيوان صغير َ
يسمى )الجربوع( يعيش في الصحراء ،أعتاد أبناء جزيرة العرب على
صيده وأكله ،بل وكانوا يخرجون في نزهاتهم إلى الصحراء لمدة
أيام يعسكرون في مكان ما يصطادون هذا الحيوان اللذيذ الطعم
ذكر لي ،فلم ُأحاول ان أجّرب طعمه ول أظنني سأفعل ذلك، كما ُ
ب الخوة وقد كان الموقف في غاية الطرافة والجمال ،فقد ه ّ
يهرولون وراء هذا الحيوان ،وأبو صهيب يلحقه بأضواء السيارة كي
يضعف بصره ويكون صيدا ً سهل ً للخوة ،وقد أجهدهم وبذلوا في
صيده جهدا ً ووقتًا ،إل ّ إنهم كانوا مصممين على صيده وت ّ
م لهم
المر بعد عناء..
ت السيارة مرة ُأخرى نحو وجهتها الصلية فمضينا في بعدها تحرك ْ
طريقنا حتى وصلنا الموقع الول فأخذنا ما جئنا لجله على جناح
السرعة ثم قفلنا راجعين إلى الخوة ،وفي الصباح الباكر من اليوم
التالي عاودنا الذهاب وكان معنا هذه المرة أبو حكيم اليمني وأبو
طارق اليمني ،فلما وصلنا إلى الموقع الول قمنا بأخذ أغراضنا ثم
أراد الخوة ان يتجولوا قليل ً في المكان ،فكان منظر الموقع وهو
مهجور ل يوصف على الطلق ،ومع أن الخوة كانوا ل يزالون
أحياءا ً على الرض ،وكنت معهم ،إل ّ ان صدري قد ضاق لرؤيتي
الموقع وهو مهجور ،فقد عهدته مليئا ً بالحركة والحيوية ،ويعج
بالخوة ،عند ذلك لم أجرؤ أن أفكر بفراق الخوة في يوم من
اليام ،وكنت أتهّرب من التفكير بهادم اللذات ،ومفرق الجماعات،
شد ما أحزنني هو منظر المسجد ولم يبق منه إل ّ أعمدة من وأ ّ
الخشب خاوية ليس فيها من يملئها بحركته وحيويته ،فحتى
الغراض أحزنني عدم رؤيتها في مكانها بل وحتى الخنادق التي ما
هي إل ّ حفرة في أرض لم أتمالك نفسي عندما رأيتها خربة ليس
ت قبل هذا، م ٌ
ت بعض أطرافها ،يا ليتني ُ فيها سقف وقد تهدم ْ
ت فيه ،ل أظنني ت اليوم ورأيت المكان وتجول ُ فكيف بي إذا ذهب ُ
ت الخروج منه ،كيف ل وأنا ت إليه لما تمني ُ
أجرؤ على ذلك ،ولو دخل ُ
ت الحزان ت إلى صحرائها هاج ْ ت قرب رواة ونظر ُ ت كلما مرر ُ لزل ُ
والذكريات ل أفكر بشيء سوى ذلك الماضي الجميل والمؤلم!
أكملنا عملنا الذي جئنا لجله وأردنا الذهاب وقبل أن نركب في
السيارة كان هناك كمية من البارود مسكوب على الرض ،فأراد أبو
طارق اليمني أن ُيشعل ذلك البارود فكلما ألقى عود ثقاب أنطفئ
قبل أن يبلغ البارود فقال له أبو تراب السوري أقترب منه وأنزل
تيدك إليه ،ففعل ذلك أبو طارق فأشتعل البارود ،إل ّ إن لهبته كان ْ
ت اللهبة وجه أبو طارق فهرع الخوة إليه مسرعين كبيرة فغشي ْ
ُ
لنقاذه فخلعنا عنه عصابة رأسه وقد أصيب ببعض الحروق الطفيفة
بجبينه وذراعيه ،إل ّ إنه كان يتألم لذلك ،فلم أستطيع أن أتحمل
منظره وهو يتألم وليس بيدي ما أسعفه به وأخفف آلمه ،وبأسرع
قمناعدنا مسرعين إلى الموقع الثاني ف ُ ت ركبنا في السيارة و ُ وق ْ
بإسعافه السعافات الولية ومن ثم أخذه أبو رغد إلى راوة ليقوم
بعلجه على أكمل وجه ،ومن ثم عاد إلينا أبو طارق وهو ل زال
يعاني من آلمه ،خاصة وأن الغبار والجو الحار ل يعرفان مريضا ً ول
صحيحًا.
بالطبع لم يكن بقائنا في الموقع الثاني لكثر من أسبوع
إل ّ إن كثافة الحداث وسرعة تراكمها جعل الحديث يطول عند هذه
النقطة من الزمان.
وفي أحد أواخر هذه اليام القليلة قام أبو رغد بإرسالي إلى مدينة
القائم في مهمة إلى أحد الخوة فقام بإيصالي من المعسكر إلى
ت سيارة أجرة من راوة إلى حصيبة )كما اعتدنا مدينة راوة فأخذ ُ
ت
ُ تواعد وقد واحدة، لمدينة أسمان فهما السم( تسمية القائم بهذا
مع أبي رغد عند الساعة الواحدة ظهرا ً في مكان معين في راوة
ليأخذني إلى المعسكر وذلك بعد عودتي من مدينة القائم ،وبعد
ت إلى ذلك البيت الذي حدده أبو رغد ذهابي وعودتي سريعا ً ذهب ُ
فتح لي ،فسألته عن أبي رغد ت الباب ف ُ
ت البيت وطرق ُ فوصل ُ
ت أبا رغد وبرفقته أبو ت الدار فوجد ُ
فأخبرني بأنه موجود ،فدخل ُ
تمام وأبو عبيدة الردني وأبو القعقاع الجزائري ،ووجدت معهم في
الدار رجلن وشاب لم أكن قد رأيتهم من قبل ،وبعد السلم جلس
أبو رغد مع هذين الرجلين ،وكان يبدو إنه قد تعرف عليهم قبل ذلك
اليوم ،وكأنهم كان لديهم ما يقدمونه لنا من المساعدة سواء في
السلح أو في غيره ،وبعد فترة قصيرة أنهى أبو رغد كلمه مع
هذين الرجلين ثم جاء وجلس بقربي مع أبي تمام اليمني ،وفي تلك
الثناء كان ذلك الشاب جالسا ً لوحده طيلة تلك الفترة ،وبالطبع لم
يكن ذلك الشاب في تصورنا سوى قريب لصاحب الدار ،عندها
ت أن ذلك الشاب أقترب من صاحب الدار وجالسه وتكلم معه لحظ ُ
ت وبعدها أقترب صاحب الدار من أبي رغد وقال له )إن بصوت خاف ْ
"أبا عوف" يريد أن ينضم إليكم في المعسكر لرغبته في الجهاد في
سبيل الله( فقال له أبو رغد )جزاك الله خيرا ً على هذا التفكير،
ولكننا ل نستطيع استقبالك الن ،ولكننا سنقوم بفتح معسكر جديد
وستكون إن شاء الله أول المشاركين فيه( وبالطبع كان أبو رغد ل
يرغب بأن ُيدخل أحدا ً إلى المعسكر ،ولي سبب ،لذلك فقد كان
جوابه لبي عوف بغرض إلغاء فكرته بالدخول إلينا.
ت إن ذلك الشاب ت صاحب الدار لجواب أبي رغد عندها لحظ ُ فسك ْ
ح عليه بنفسعاود الحديث مع صاحب الدار ،وكان يبدو عليه أنه أل ّ
الطلب ،فعاود صاحب الدار الطلب من أبو رغد الذي أجابه بنفس
ت ذلك الشاب يعاود الحديث مع صاحب جوابه الول ،ومرة ثالثة رأي ُ
الدار فكرر الرجل الطلب مرة ثالثة من أبو رغد ،عندها كان
الموقف محرجا ً جدا ً بالنسبة لبي رغد ،خاصة وقد كّنا نتصور بأن
ب لصاحب الدار ،وخشينا أن يتصور أن رفض أبي هذا الشاب قري ٌ
رغد لطلبه ذلك نابع من عدم ثقة بهم ،وبالطبع هذا أمر غير مقبول
فكيف يثق الرجل بنا كل الثقة ،ويضحي من أجلنا ،فنقابله بعدم
الثقة به ،خاصة وأنه في تلك اليام لم يكن أحد يجرؤ على التفكير
بالجهاد ،أو يتعاون مع المجاهدين ،بل أنه لم يكن هناك من
ل من قليل ،ولذلك وبكل إحراج لم ل من قلي ٍ المجاهدين إل ّ قلي ٌ
يستطع أبو رغد رفض الطلب للمرة الثالثة ،فوافق على مجيء
)عبد الرحمن أبو عوف( معنا إل ّ إن أبا رغد أخبره بأنه ل يستطيع
أخذه إلى المعسكر الن ،ولكنه سيأتي لخذه عند الساعة الرابعة
فجرًا ،بعدها خرجنا من ذلك المنزل متوجهين إلى المعسكر ،وفي
طريق العودة مررنا على أحد الخوة من أهالي مدينة راوة فقام
ة في خمسة بإعطائنا كمية كبيرة من مخازن الكلشنكوف ،موضوع ً
أكياس كبيرة ،ومن ثم توجهنا مباشرة إلى المعسكر ووصلنا إلى
هناك لنجد الخوة على ما تركناهم عليه ،ومن الجدير بالذكر أن
برنامج التدريب وحلقات التحفيظ لم تتأثر بكل ما مّر بنا من
الحداث وبالرغم من أن الخوة قد أصبحوا على مستوى عال من
التدريب إل ّ أن ذلك لم يمنع من مواصلة التدريبات خاصة بعد وصول
الخوة الجدد أبو بصير الثبيتي ومن معه ،وفيهم من وزنه فوق
المستوى المطلوب كأبي حمزة النجدي وأبو الزبير النجدي ،وعلى
ت الحركة نشيطة في المعسكر حتى أسدل الليل كل حال لزال ْ
سترهُ علينا وقد صلى معنا أبو رغد ،وبعد صلة العشاء غادر
المعسكر كعادته ،خاصة وأنه في تلك اليام كان قد أتفق مع بعض
الشخاص على صفقة سلح إل ّ إن المر أصبح فيه شبه مماطلة
فكان حريصا ً على متابعة هذا الموضوع.
بتنا ليلتنا تلك حتى أذن الفجر ،فنهض الخوة للصلة وكان أبو رغد
قد وصل إلى المعسكر قبيل صلة الفجر بوقت يسير ،ولم يلحظ
الخوة بأن هناك زائر جديد مع أبي رغد ،فبعد الذكار وعندما بدأ
الصبح يتسلل إلى يومنا ذاك ،رأيت )عبد الرحمن( في المعسكر
ت إن أبا رغد قد جلبه معه قبل الفجر ،أما نحن فركبنا جميعا ً فعرف ُ
السيارة وتوجهنا إلى الساحة التي كنا نتدرب فيها وقد بقي )عبد
الرحمن( في المعسكر مع بعض الخوة الذين شغلتهم بعض
العمال عن التدريب ،فوصلنا ساحة التدريب وهي منطقة منبسطة
تبعد قرابة الكيلو مترين عن المعسكر وبعد أن انتهى التدريب ركب
بعضنا في السيارة عائدا ً إلى المعسكر ،والبعض الخر اختار العودة
ماشيا ً على القدام من باب العداد والتدريب ،وقبل ذلك بثلثة أيام
كان قد جاءنا إلى المعسكر ضيف جديد وهو أبو مجزءة السوري،
وقد كان شابا ً طويل القامة ،أبيض البشرة ،من أصل كردي ،وكان
من أكثر الخوة حبا ً للعمل وبذل الجهد ،وقد كان أبو رغد يحبه
كثيرًا ،لنه يّتسم بالجدية في كل أوقاته..
ت
ت ،وذكر ُ فاكتفيت بهذا القدر من المعلومات ،وقد أهمني ما سمع ُ
ذلك لبي رغد ،فلم يكن يرغب ببقائه معنا ،إل ّ إن اللوم يقع على
الرجل الذي عّرفه علينا ،فلم ُيبين لنا كل تفاصيله منذ البداية،
وكان عليه هو أن يحرص على عدم دخول أحد إلى المعسكر ،إل ّ
أنهم لم يكونوا قد عرفوا بعد بعض الجراءات المنية الحساسة.
وعلى كل حال فقد اقترحت على أبي رغد أن يطلب من الخوة في
المعسكر الثاني أن يأخذوه عندهم خاصة وأنهم لديهم عدد ل بأس
به من الخوة من سكنة المناطق الغربية ،إل ّ ان أبا رغد لم تعجبه
الفكرة ،ولكنه لم يهمل الموضوع ،فقال لي )إننا بكل الحوال لن
نطيل المكوث في هذا المكان ،ولن نتأخر فيه ،لكثر من بضعة أيام
فإذا انتقلنا ،فلن نأخذه معنا( وقد ذكر لي أبو رغد بأن أحد الخوة
قد رأى رؤيا تحذرنا بأن نترك الموقع خلل أسبوع وإل ّ فسوف
جل أكثر في إخلء المكان. ُيقصف المعسكر ،لذلك علينا أن ُنع ّ
ممممم مممممممم
ل ما كنت أخشاه في نقلي لهذه المذكرات هو وصولي إلى ج ّ
ُ
الحلقة الخيرة التي لم أكن أريد الوصول إليها ،حبا ً بمثل هؤلء
الرجال ،ففي هذه الحلقة ينهمر الدمع ،وتخنق النفس العبرات،
ويسود الحزن ،كيف ل وأعداء السلم استهدفوا حتى الماء والحجر
والشجر في بلد السلم فكيف الحال بالرجال الرجال من أهل
الثغور ،الذين هم عماد هذه المة ،وشريان حياتها ،وعصب جودها.
والله كم تمنيت أن ل أصل إلى ختام هذه المذكرات لنها تشعل في
الدواخل حرائق ل يمكن إخماد لهيبها ،لكن عزائي ،وعزاء المسلمين
في ذلك أنها ُتهيم في النفوس حب الله ،وتزرع المل بغد قادم
يحمل في طياته النصر لهذه المة ،بعدما رأينا صدق هذه الثلة مع
الله ،وسعيهم الحثيث لنيل الشهادة ،وفدائهم لدين الله بالنفس
والبنون والمال والهلون.
يواصل )أبو حفص العراقي( ،تقبله الله ،سرد مذكراته عن بدايات
العمل الجهادي في العراق بعدما وصل فيها إلى خاتمة تلك
المرحلة التي تكللت بنيل الشهادة لتلك الصفوة المختارة من أبناء
هذه المة في حفلة عرس جماعي ،حينما زفوا إلى الحور العين
جميعا ً في ليلة لم يبصروا نهارها ،في طريقهم إلى جنان الخلد،
نحسبهم والله حسيبهم ،حيث يتحدث )أبو حفص( عن ساعاتهم
الخيرة في هذه الحياة قائ ً
ل:
ففي ذلك اليوم قام أبو رغد العتيبي ،أمير المعسكر ،بنقل أبي
طارق اليمني وأبو العباس المالكي ،الذي كان ل يزال يعاني من
آلمه ،مستعينا ً بعكازين ،إلى البيت الذي أعده للمرضى في مدينة
راوة وبعدها أصابت أبو حفص النجدي وأبو البراء العتيبي وعكة
صحية ،لذلك أضطر أبو رغد إلى نقلهم جميعا إلى بيت المرضى ،أما
عبد الرحمن فقد قام بالحراسة ذلك اليوم بكامله بناء على طلبه،
لذلك كانت حركته نشيطة ويتجول في المكان كما يشاء ،وفي ذلك
الصباح وصل إلينا نبأ كان له في نفوسنا أشدّ الوقع ،فقد علمنا أن
الحاج حسن عارف وأبو أحمد كانا يستقلن سيارة مع شخص ثالث،
وقد كانوا متجهين إلى ناحية العبيدي في أطراف مدينة القائم لخذ
بعض السلحة ونقلها إلى المعسكر الثاني ،وعند وصولهم تلك
المنطقة قاموا بوضع السلح في السيارة ثم عادوا من حيث أتو،
وفي طريق عودتهم تفاجئوا بأن الميركان قد نصبوا نقطة تفتيش
فجائية على ذات الطريق الذي سلكوه في مجيئهم ،عندها أصبح ُ
الموقف حرجا ً فل سبيل للعودة ،خاصة وأن الموقف يشير إلى
إنهم المقصودين في تلك المفرزة ،عندها لم يتبق سوى خيار
المواجهة ،وكان الحاج حسن عارف الذي يقود السيارة قد أعتاد
على حمل مسدس في جنبه ،وحينما تقدم نحوهم وأشاروا إليه
بإيقاف السيارة ،وبكل ثقة واتزان أوقف الحاج حسن السيارة،
فتقدم إليه ضابط أمريكي ليتكلم معه ،فعاجله الحاج برصاصة في
ل ،عندها انقلبت كل الموازين ،وبسرعة فائقة خرج رأسه أردته قتي ً
الحاج حسن عارف وأبو أحمد من السيارة فأطلق الحاج الرصاص
ل ،نحسبه شهيدًا ،والله حسيبه،على الجنود فردوا عليه فأردوه قتي ً
وعند هذه النقطة انتهت كل التفاصيل بالنسبة للحاج حسن ،ول
أظنه بعد ذلك مهتم بما خّلفه وراء ظهره من الدنيا وما فيها ،أما
بالنسبة لبي أحمد وصاحبه ،فل يزال الموقف في بدايته ،فقد
تشابكت اليادي بين أبو أحمد وأحد الجنود ،حتى أصابوه بجرح،
وأجتمع عليه جنود الحتلل فأخذوه جريحًا ،أما الثالث منهما فقد
قفز بسرعة من المقعد الخلفي للسيارة إلى مكان السائق ،وقام
بتحريك السيارة للمام بسرعة فائقة ،مواصل ً السير ،يتسابق مع
وابل الرصاص الذي أطلقه عليه الميركان ،وأستمر بالمسير حتى
أبتعد عن أنظارهم ،ثم قفز من السيارة مفضل ً مواصلة الهروب
ركضًا ،وقد مكنه الله من الهرب ،دون أن يصاب بأذى حتى عاد إلى
الخوة وأخبرهم بالخبر ،هذا ما بلغنا من أخبار الخوة وقد وصل
إلينا الخبر صباح هذا اليوم ،إل ّ إن هذا الحادث قد حدث عصر
المس ،وبالطبع فقد غير هذا الحادث مجرى الحداث بكاملها،
فأصبح لزاما ً على الخوة تغيير كل المور والمعلومات التي يعرفها
أبو أحمد ،خاصة وأنه ل توجد صغيرة ول كبيرة إل ّ ويعرفها ،لذلك
فقد كان وضع الخوة محرجا ً للغاية.
عندها جاء إليه )عبد الرحمن( وقال له أن لدي كمية كبيرة من
ب غدا ً إلى بغدادت أذه ُ
شئ َ
الدوية والمواد الطبية في بغداد ،فإن ِ
لحضرها لكم مع بعض الغراض الخرى التي تحتاجون إليها في
المعسكر ،عندها لم يتردد أبو رغد في الموافقة على ذلك الطلب
لنها فرصة سانحة للتخلص من )عبد الرحمن( فلن ُيدخله مرة
أخرى للمعسكر ،عندها أخبره أبو رغد بأنه أذا خرج غدا ً صباحا ً إلى
راوة فسيأخذه معه ويوصله إلى حيث سيارات النقل إلى بغداد،
وتجدر الشارة إلى أن أبا رغد كان في أيامه الخيرة يلقي من
التعب ما الله به عليم ،فلم يكن أحد منا يلقي ما يلقيه حتى
الخوة الذين يرافقونه دائما ً في حله وترحاله ،وبالطبع لم تذهب
جهوده سدى فقد وفر لنا كمية ل بأس بها من السلحة ،إل ّ إن المر
الهم الذي كان يشغل بال أبي رغد هو إيجاد مكان بديل للمعسكر
لنقل الخوة إليه بأسرع وقت ،فحتى الصحراء لم يكن فيها مكان
ملئم ،فضل ً عن أن بقاء الخوة في الصحراء ل جدوى منه ،فهم لم
يتدربوا كي يسكنوا الصحراء بل لقتال أعداء الله والتنكيل بهم،
فكان هذا المر هو الهاجس الكبر الذي يؤرق مضجع أبو رغد،
وبالرغم من عدم الوصول إلى نتيجة إل ّ إن اليأس لم يكن ليعرف
ل من ذلك ،وبعد صلة المغرب في طريقا ً إلى قلبه ،فلم يك ِ ّ
ل أو يم ّ
عشاء عشاء ،وبقينا ننتظر صلة ال ِ ذلك اليوم تناول الخوة وجبة ال َ
ل إلى فراشه ،أما أبو رغد فقد حتى حظر وقتها ،ثم صلينا وخلد ك ٌ
ً
هيأ نفسه للخروج ،فقد كان قد أعطى مبلغا من المال لحد
ت هناك الشخاص لشراء كمية من السلح ،فتأخر الموعد وكان ْ
مماطلة في الموضوع ،فأراد أن ينهي الموضوع فأما أن يأتي
بالسلح ،أو يعيد المال من ذلك الرجل ،فغادر المكان وبينما نحن
نيام وقد بلغت الساعة الثانية ليل ً وإذا بي أسمع صوت إطلق
تكز ُالرصاص في المعسكر فلم أعلم أفي حلم أنا أم حقيقة !؟ ور ّ
ت صوت أبي رغد وهو ينادي قليل ً فإذا بالمر ليس حلمًا ،فقد سمع ُ
ت من فراشي الجميع بأعلى صوته وعلى جناح من السرعة نهض ُ
ت مسرعا ً إلى جهة الصوت ت سلحي فركض ُ ت حذائي وحمل ُولبس ُ
والخوة بين نائم وغير مصدق لما يسمع والبعض يركض إلى أبي
رغد منهم من يحمل سلحه ومنهم من دون سلح ،ولم أشعر
بنفسي إل ّ وأنا أقف بين يدي أبي رغد مع بعض الخوة ورأيت أبو
رغد يحمل بندقيته الصغيرة ،وقد أشار لبي يزيد العتيبي بأن ل
ل في مكانه ول يسمح لبقية الخوة أن يحضروا إليه ،عندها توقف ك ٌ
ت ذلك المشهد أحد يعرف شيئا ً مما يدور حوله ،وبعد أن رأي ُ
استنتجت بأن أبا رغد قد قام باستنفار للخوة ليعرف مدى
استعدادهم إذا ما داهمهم العدو،
ولم يغادر أبو رغد مكانه حتى أخبرنا بخبر آخر وهو )إن الطائرات
ت تحوم فوق المعسكر الثاني ،وأن الخوة هناك لوحدهم، قد بدأ ْ
وليس معهم أحد من المراء ،ولن نتركهم والطائرات تحوم حولهم،
ل على المكان نتيجة التعذيب الشديد ،أو فقد يكون أبو أحمد قد د ّ
ُ
إنهم أخذوا المعلومة بطريقة أخرى ،ولذلك سنقوم حال ً بالذهاب
إليهم ونجلبهم إلينا بسيارتنا حتى نجد حل ً لنا ولهم ،فمكاننا
ومكانهم أصبح غير ملئم للبقاء( ،بهذه الكلمات أنهى أبو رغد
الموقف ،واعدا ً إيانا ً بأنه سيقوم بحالة الستنفار مجددًا ،لكي ل
ينام أحدٌ منا ،إل ّ وهو آخذٌ جميع عدته ،ومرتديا حذائه ،ول يفارق
سلحه مهما كلف المر.
بعد ذلك كان علينا أن نتوجه إلى ساحة التدريب فركبنا نحن في
سيارة )الدانيا( وتوجهنا إلى ساحة التدريب كالمعتاد ،أما الخوة
فقد توجهوا مشيا ً على القدام إلى ساحة تدريب ُأخرى ،وبعد أن
عدنا سيرا ً على القدام إلى المعسكر ،وعندما وصلنا أكملنا التدريب ُ
إلى هناك جلسنا ،وكان الخوة لم يأتوا بعد من التدريب ،وقد جهز
أبو القعقاع الردني وأبو مجاهد الشمري الفطور ،ول زلنا جالسين
نتجاذب أطراف الحديث بينما عاد الخوة فاجتمعنا سوية،
مستأنسين ببعضنا ،وأجمل شيء هو أن الصبّيان عبد القادر
السوري وأبو سهيل اللبناني كانا قد لزما بعضهما ،وظل طوال
اليوم سوية ،ولم يفترقا ،فهما في نفس السن ،وبعد وجبة الفطار
أراد أبو رغد أن يذهب إلى مدينة راوة ،فصحبه )عبد الرحمن( ذاهبا ً
إلى بغداد فخرج أبو رغد من المعسكر وقد ترك الخوة يضيق بهم
ُ
ت على كاهله كل مل ما ل يطيق ،فقد ألقي ُ المكان ،إل ّ إنه كان قد ُ
ح ّ
العباء ،فأصبح لزاما ً عليه أن يقوم بتوفير المأوى المن لقرابة
المائة شخص ..وهكذا غادر أبو رغد المعسكر وعند وصوله إلى راوة
أوصل عبد الرحمن إلى حيث سيارات النقل إلى بغداد ثم توجه أبو
رغد إلى عمله.
لم يتأخر أبو رغد طويل ً في راوة ،فعاد إلى الخوة في المعسكر
وكان قد أحضر معه أبو حفص النجدي وأبو البراء العتيبي ،وكانا لم
يتماثل للشفاء بعد ،وبقي أبو طارق اليمني وأبو العباس المالكي
في بيت المرضى ،وعندما سألنا أبو رغد عن أخبار أبي احمد أخبرنا
بأن نبأ وجوده في المستشفى غير صحيح ،ولم يتأخر أبو رغد طويل ً
عندنا ،فقد غادرنا ،وكان يبدو بأن لديه عمل مهما يتعلق بوصول
أخوة جدد ،وبعد إن غادر أبو رغد بفترة قصيرة رأينا دراجة نارية
ل على ظهرها شخصين ،وعندما تسير باتجاه المعسكر وكانت ُتق ّ
اقتربت كان أحدهم يلوح لنا بيده فعرفنا أنه يقصدنا ،وما هي إل ّ
لحظات حتى عرفنا ذلك الشخص ،فقد كان أبو وقاص الفلوجي
عائدا ً من الفلوجة ،وكان لول مرة يدخل إلى الموقع الجديد،
وعندما نزل في أرض المعسكر أستقبله الخوة بعد غياب طويل،
وكانوا قد تحرقوا شوقا ً إليه ،وقد تفاجأ أبو وقاص بوجود أخوة
ل ،وعندما جلس في المسجد المعسكر الثاني فأخبرناه بالخبر كام ً
ألتف الخوة حوله ،وكان قد جلب معه بعض الغراض لبي همام
الردني ،منها ثوب جديد ،ويشماغ ،وحانت صلة الظهر ول زال أبو
رغد خارج المعسكر ،عندها جاء قطيع أغنام ومعه صبّيان على
الجانب الخر من مجرى العين ،بحثا ً عن الماء والكل ،ولما رآها أبو
أنس العتيبي أعجبه المنظر فطلب مني أن أذهب إليهم لطلب
ت أول ً بالحديث معهم لمعرفة مكانهم منهم بعض اللبن ،فبدأ ُ
ل يسكنون في ح ْ ً
وحالهم وسبب مكوثهم هنا ،فتبين أنهم بدوا ُر ّ
خيمة على بعد أربعة كيلومترات تقريبا ً منا ،أما هم فكذلك دفعهم
الفضول لمعرفة سبب تواجدنا هنا ،وقد استغربوا وجودنا بهذا العدد
في هذا المكان،
ت منهم أن يحضروا لنا لبنًا ،فرحبوا وبعد أخذ وجذب بالحديث طلب ُ
تت إلى أبي أنس العتيبي وقل ُ بذلك ووعدونا بذلك في الغد ،ثم عد ُ
ت أبا ً
ت لبنا ذكر ُ
له) :أصبر حتى الغد( ،وحتى هذه الساعة كلما رأي ُ
أنس وقد رحل من الدنيا دون أن يتوفر له ذلك الطلب البسيط،
واسأل الله أن يكون قد أبدله بنهر من اللبن في جنات النعيم ..بعد
ذلك أجتمع الخوة في المسجد وقد كان أغلب أخوة المعسكر
الثاني يجلسون في المسجد نظرا ً لضيق المكان ،فلم يكن في
ت تحوي المعسكر سوى خيمتين صغيرتين ،وسقيفة صغيرة كان ْ
أغراض المطبخ مع بعض المواد الغذائية ،وحتى تلك الخيام الصغيرة
لم تكن إل ّ ليتفيأ الخوة تحت ظللها أثناء النهار هربا ً من حّر
الشمس ،وكان منظر عبد القادر السوري وأبو سهيل اللبناني ل
يزال ُيزّين المكان ،فل تلتفت إلى زاوية من زوايا المعسكر إل
ورأيتهم سوية ،كأنهم من طيور الجنة ،تنضح البراءة من وجوههم..
وفجأة أصبح عبد القادر على غير عادته ،فلم يعد مرحا ً كعهدي به،
بل أنه كان ذلك اليوم صامتا ً ل يتكلم إلى أحد ،وقد أنطوى على
نفسه ،ولم يأنس سوى بأبي سهيل ،ولم يكن عبد القادر السوري
الوحيد الذي أصبح على هذه الحال ،بل إن أغلب الخوة كانوا كل
واحد منهم يعيش في عالم معزول عن هذه الدنيا وما فيها ،وكنت
لول مرة أرى فيها أن من ُ
كتب عليه الموت يتغير حاله لهذه
الدرجة.
ل يزال الخوة بحالهم هذا حتى صلة المغرب ،وبعد أن صلينا وقد
بدأ الليل يرخي سدوله علينا جاء أبو رغد إل ّ إن المفاجئة التي لم
نكن نعلم بها هو أنه قد أحضر معه ستة من الخوة الجدد الذين
التحقوا بنا لتوهم ،فأستقبلهم وأحضرهم إلى المعسكر ،ففرحنا
هم فلم تكن صدورهم تتسع لقدومهم وسلمنا عليهم جميعًا ،أما ُ
ت عليهم جميعا ً إل ّ أنني لم
لفرحتهم بوصولهم إلينا ومع أني سلم ُ
ُأميز ُأشكالهم بسبب اختلط الظلم ،غير إن أحدهم كان طويل أكثر
ً
ت أنتظر النهار بفارغ الصبر لراهم وأتعرف عليهم من البقية ،وكن ُ
ن عم لبي عاصم اليمني. وأعتقد بأن أحدهم كان أب َ
في ذلك اليوم كان برنامج مجموعتنا المنهاج الثقافي فطلبنا من
أبي حكيم اليمني أن يلقي درسا ً على الخوة ،فأشار علينا بأن
نجمع الخوة في المسجد ويقومون بإنشاد الناشيد ،خاصة وأن في
تل من صوت أبي عاصم ،عند ذلك ذهب ُ مجموعتنا أبو عاصم ول أجم َ
ت أرى في وجهه الشحوب الشديد وقد ت عند أبي رغد وكن ُ وجلس ُ
ت معه مع بعض الخوة ،تكلمنا في بعض المور.. أثقله التعب فجلس ُ
في تلك اللحظات كان جميع الخوة مجتمعين في المسجد ول يكاد
ت أسمعه ُينشد بكل حماس، يحتويهم ،فبدأ أبو عاصم بالنشاد وكن ُ
وقد انهمرت الدموع من عينيه ،فيما أخذ الخوة يرددون معه
ب ت الصوات مع النشيج والبكاء ،وكان الموقف أعج ُ وينشدون ،فعل ْ
ت في المعسكر ،وكأن المر ليس مجرد جلسة إنشاد ،فلم ما رأي ُ
أعهد الخوة بهذه الحال منذ أن عرفتهم ،حيث كانت أحاسيسهم
ومشاعرهم مشدودة مع الموقف ،والذي يميزهم هو إنهم كانوا
وكأنهم يجلسون ليودعوا بعضهم ،فلعلهم شعروا بقرب الرحيل،
فالدموع منهمرة ،ول أدري أهي دموع الفرح ،أم غير ذلك ،وكان
ذلك سرا ً لم أنتظر طويل ً لكتشافه!!
لم يزل الخوة على حالهم حتى حانت صلة العشاء عندها أنفض
المجلس وتهيأ الخوة للصلة وكان أبو رغد ينوي الذهاب إلى راوة
ليلتقي بذلك الرجل الذي أعطاه المال لشراء السلح ،ولم يكن أبو
رغد ينوي أن يصلي العشاء في المعسكر فقال للخوة الذين
سيذهبون معه بأن ل يصلوا في المعسكر وكان أيضا ً سيأخذ معه أبو
ت وأخبرتهما بأنهماحفص النجدي وأبو البراء العتيبي ،فذهب ُ
سيذهبان مع أبي رغد إلى بيت المرضى ،لذلك فقد حمل سلحهما
ووقفا عند أبي رغد بانتظار الذهاب ،وقبل أن يذهب أبو رغد قال
له أحد الخوة من المعسكر الثاني بأن عليه أن يترك أبو يونس
اليمني في المعسكر ،فمن الخطورة أن يكونا سوية فإذا أصاب
أحدهما مكروه كان الخر سالما ً مع ضرورة بقاء أمير للمعسكر،
فأجابه أبو رغد قائل ً )أن كل واحد من الخوة في المعسكر أمير
بحد ذاته ،وأن الخوة على مستوى عال من الدراك والشجاعة فل
حاجة أن يبقى أحدنا معهم طوال الوقت( ،وهكذا غادر أبو رغد
المعسكر برفقة أبي يونس اليمني وأبو حكيم اليمني وأبو عبيدة
الردني وأبو القعقاع الجزائري وأبو وقاص الفلوجي وأبو عمر
النجدي وهم على أتم الستعداد للقاء العدو في أي مكان وزمان،
وبالطبع كان برفقتهم أبو حفص النجدي وأبو البراء العتيبي
ليصالهما إلى بيت المرضى ،فغادر الخوة المعسكر ولم يخطر
ببالهم إنها ستكون آخر لحظاتهم فيه وأنهم لن يطئوه مرة أخرى،
ت لهم القدار لبقوا سوية مع إخوانهم.ولو علموا ما أخف ْ
ت في صلته، أما نحن فقد اجتمعنا للصلة وصلى بنا أبو حمزة وقن ْ
وأطال الدعاء ،فكان مما دعا به)اللهم خذ من دمائنا اليوم حتى
ترضى( ،وبعد الصلة ذهب الخوة إلى حيث مكان نومهم ،غير إن
الخوة في المعسكر الثاني لم يكن لهم مكان سوى المسجد،
ت واقفا ً ل إلى فراشه بقي ُفكانوا مستقرين فيه ،وبعد أن خلد ك ٌ
قليل ً مع أبي صهيب النجدي ،وكان في ذلك اليوم في غاية الفرح،
فقد أخبرني بأنه أتصل بأهله وأخبروه بأن أحد أخوته قد ُرزق
ت
بمولود ذكر ،وأنهم أسموه على أسم أبي صهيب ،بعدها بقي ُ
واقفا ً قليل ً والخوة في فراشهم وكان أبو يزيد العتيبي ل يزال
ت عنده مع أبي صهيب قليل ً ثم تركناه لينام نومة مستيقظا ً فجلس ُ
لم يستيقظ منها أبدًا ،ولم يبق أمامي سوى أن آوي إلى فراشي
كبقية الخوة ،وبالطبع كان الجميع مستعدين للستنفار ،فقد
أمسك كل واحد منهم بسلحه ولبس حذائه وكل تجهيزاته.
ت بأن أبا رغد قد اقتحم على العدو ،وأشتبك معهم في بديهيا ً عرف ُ
عرض الصحراء وسط جموعهم ،وعندما انقطعت أصوات الشتباك
ت بأن أبا رغد ومن معه لن تتوقف نبضات رشاشهم حتى عرف ُ
تتوقف نبضات قلوبهم ،فترسخ في يقيني أنه ومن معه قد لحقوا
بالخوة..
ّ
وهكذا بقى المريكان في الموقع والطائرات الحربية تحلق في
الجواء ،أما المروحيات فكانت قريبة جدا ً من الموقع ،وأستمر
ت المغرب حيث أنسحب المريكان من الرض الوضع هكذا حتى وق ُ
ول زالت طائراتهم تجوب المكان.
كل ما سبق ذكره كان مما وعته ذاكرتي ورأته عيناي مما حدث،
فالمر بكل تفاصيله هو أن طائرات حربية بدأت تقصف المكان بعد
د من الخوة ،إل ّ
ق على أح ٍإن أستمر القصف لفترة طويلة ولم ُتب ِ
ت أنا وأثنين من الخوة بقينا في تسعة منهم كنت عاشرهم ،وكن ُ
نفس الموقع ولم يكن أحدنا يعلم بالخر ،فعن نفسي لم أكن أظن
بأن أحدا ً من الخوة قد نجا من القصف ،وكذلك بقية الخوة ،وكان
أثنين من الخوة وهما أبو الحور النجدي وأبو أيوب النجدي قد
ركضوا خارج الموقع واستمروا بالركض خلل أودية أو شقوق
صغيرة جدا ً فتعقبتهم الطائرات المروحية وبدأت تطلق عليهم
مدركون ،فلم يكن أمامهم سوى أن الصواريخ ،حتى ظّنوا بأنهم ُ
جدًا ،فخروا لله ساجدين منتظرين ما ينقلهم من س ّ
يختاروا الموت ُ
هذه الحياة الدنيا إلى دار الخرة ،ولكن كانت المعجزة ،أو المفاجأة،
مها ما شئت!! فقد تركتهم الطائرات لشأنهم واستدارت عنهم س ّ
لتبحث عن ضحية أخرى ،ولم يصدقوا ذلك ثم بعدها نهضوا ليواصلوا
سر الله لهم طريقا ً إلى أن أصبحوا على مشارف انسحابهم ،وقد ي َ ّ
راوة فآواهم رجل عنده.
وأنطلق البطال إلى ساحة النزال ،ولهم هدير كهدير الرعد ،كالليث
يمشي واثق الخطى ل يهاب نباح الكلب ،ول زالت السيارة تمشي
بالخوة حتى اقتحموا وسط العداء ،فنزلوا من السيارة ،وانتشروا
سريعًا ،وبدأ إطلق النار من الطرفين ،وقد أشتد النزال ،وأثخن
الخوة بأعداء الله حتى أسقطوا لهم طائرتين ،وأحرقوا بعض
المدرعات ،واستمرت المواجهة لكثر من نصف ساعة ،لتسكت
بعدها بنادق الخوة ،ولتهدأ دقات قلوبهم ،وينتقلوا إلى عالم آخر،
ليلحقوا بإخوانهم مقبلين غير مدبرين.
وهكذا انتهت حياة ث ُّلة من البطال الذين آن للتاريخ أن يذكرهم،
فبعد أن جابوا مشارق الرض ومغاربها شاء الله أن تكون آخر
لحظاتهم في هذا المكان ،وبهذه الطريقة المشرفة.
ول أغادر هذا المقام حتى أذكر رؤيا لبي العباس المالكي يقول
فيها) :عندما ذهب الخوة بقينا نحن الربعة في البيت وقد كان
الخوة برغم حزنهم العميق على فراق الحبة إل ّ إنهم فرحين بما
نالوا من الجر إن شاء الله ،حتى إن أبا البراء العتيبي ل تفارقه
الضحكة بالرغم من مقتل أخيه أبو يزيد العتيبي ،فضل ً عن بقية
الخوة( ويضيف أبو العباس المالكي) :عند هذه اللحظات لم أشعر
بنفسي إل ّ وأنا نائم فجاءني ملكين أثنين عن يميني وعن شمالي
فتح لنا ،وهكذافحملني وطارا بي ،فلما وصلنا السماء الولى ُ
ت ورأيت شيئا ً فتح لنا ،فدخل ُالحال للثانية ،حتى وصلنا باب الجنة ،ف ُ
ت الخوة يلعبون عند ت عيني مثله ،ول خطر على قلبي ،فرأي ُ ما رأ ْ
النهر ،وكان أبو رغد العتيبي والخوة الستة معه يجلسون على
ت أبا عكاشة اليمني يجلس متكئا ً على مائدة لوحدهم ،عندها رأي ُ
ت عليه ،فقال لي إن الخوة ضيوف عندي وقد جاء أبو أريكة فسلم ُ
ً
رغد ومن معه لحقا( ،ويواصل أبو العباس المالكي وهو يروي
ت أبال) :رأيت عبد القادر السوري يمشي ،فسأل ُ تفاصيل الرؤيا قائ ً
عكاشة اليمني إلى أين يذهب عبد القادر !؟ فقال لي :ل أحد يعرف
رقم هاتف أهله ليبلغهم باستشهاده ،لذلك فأنه ذاهب إلى ُأمه في
الرؤيا ليبلغها بذلك ،وبعد ذلك جاءني الملكين وأرادا أن يأخذاني
ت ولم أرغب بالذهاب ،فهمس أبو عكاشة اليمني بأذني معهم ،فبكي ُ
عدنا كما أتينا ،حتىت مع الملكين ،و ُ ت لقوله ،وذهب ُ بكلمات ،فضحك ُ
أعاداني إلى حيث أجلس(.
أما أنا فل أدري ،أأقول أني نجوت ،أم إنهم هم الناجون ،فقد بقيت
جريحا ً طريحا ً في موقع المعسكر حتى غروب شمس ذلك اليوم
وكانت قصة بقائي دون قتل أو اعتقال من اغرب أحداث القصف
حسب اعتقادي.
ومن الغريب أيضا ً أنني في ذلك النهار الذي سبق ليلة القصف كنت
قد أتممت كتابة وصيتي فوضعتها في ظرف رسالة وكتبت عليها
اسمي ووضعتها مع بقية أغراضي إل ان القنابل والصواريخ قد
أخطأتني وأصابت وصيتي فتمزقت الوصية بينما بقيت أنا حيًا!
وهكذا انتهت تفاصيل القصف بما تحمل من أحزان وقد ذهب
ضحيته قرابة التسعين أخًا ،أما ما كان من )عبد الرحمن( فعندما
أوصله أبو رغد رحمه الله إلى راوة غّير وجهته ولم يذهب إلى
بغداد ،بل عاد وجلس في بيت أناس كان قد تعّرف عليهم مسبقاً،
ن
م ْ
وبعد القصف كان )عبد الرحمن( المتهم الول لكل ما حدث ِ
من نجا من القصف ،وشاع هذا المر عند الناس ،ولما وصل قبل َِ
هذا الخبر إلى )عبدالرحمن( قام يبكي ،ويقسم بالله إنه ليس له يد
ت ورقت قلوب هؤلء الذين هو عندهم، في كل ما حصل ،وقد خضع ْ
دقوا كلمه ،وأوصلوه إلى بغداد فبلغ بذلك مأمنه ،وبالطبع كان
فص ّ
ً
هذا التصرف أخرقا ،وغير مقبول من هؤلء ،ولكنها العاطفة العمياء
التي تسيطر على البعض ،فُأفلت بذلك )عبدالرحمن( ،لكنه لم يفلت
من قدر الله.
عاد عبد الرحمن إلى راوة بعد أكثر من شهر من القصف ،وذهب
إلى أحد الشخاص ليسأله عمن نجا من الخوة ،بحجة رغبته في
لقائهم ،ولكنه سرعان ما غير رأيه ،وقرر العودة إلى بغداد ،غير أن
ذلك الشخص قام بتأخيره بحجة تأمين سيارة ذاهبة إلى بغداد ،ثم
قام بتسليمه للخوة ،حيث ركب عبد الرحمن مع اثنين من الخوة
في سيارة )بيك أب( وساروا في الصحراء بحجة إيصاله إلى تلك
السيارة الذاهبة إلى بغداد ،بينما كان أبو محمد اللبناني يختبئ في
حوض السيارة الخلفي ،وبعد مسيرة ليست بالقصيرة أحس عبد
الرحمن بالخوف ،وفي منتصف الطريق أوقف الخوة السيارة
وانزلوا عبد الرحمن ،وظهر أبو محمد اللبناني فُأسقط في يد عبد
الرحمن ،وعلم أنه وقع في الفخ ،مع أنه لم يكن قد رأى أبو محمد
اللبناني من قبل ،ثم قام الخوة بتقييده ووضعه في الحوض
الخلفي ،وبقي معه أحد الخوة ،بينما سارت السيارة إلى مشارف
مدينة القائم عبر الصحراء ،وعند وصولهم إلى المكان المطلوب
نزلوا جميعا واقتادوا أسيرهم إلى مكان التحقيق ،فحقق معه أبو
محمد اللبناني ،وكان أول سؤال وجهه له أبو محمد هو) :أين زرعوا
لك جهاز التتبع(؟!
فأنكر عبد الرحمن هذه المسألة ،ثم وأثناء التحقيق تبين صدق
ظنهم ،وتأكدت شكوكهم به ،فقد كان هو من أرتكب هذه الجريمة،
وقد أخذ مقابل ذلك عشرين ألف دولر ،وكانت اعترافاته كالتالي:
كما أن عبد الرحمن ،بعدما أعترف بفعلته ،لم يعترف على بقية
عناصر الشبكة ،ليواصلوا العمل من بعده ،وكان مراوغا شديدًا،
والغريب في المر أنه وبالرغم من اعترافه بجريمته إل أنه كان
يرفض إعطاء أسماء الشخاص الذين يتعامل معهم وكان يحرص
بشدة على عدم إعطاء المعلومات ،لول حنكة أبو محمد اللبناني
التي انتزعت منه كل شيء ،وفي نهاية المر بدأ عبد الرحمن يتكلم
ببعض الوضوح فلم يبق له الخوة خيارا ً آخر.
مصرا ً على سؤاله الول وهو أين زرعوا جهاز إل ّ إن أبا محمد لزال ُ
التتبع ،فأراد أن يوهمه وقال له بأن الطائرات بدأت تحوم فوق
المكان فل شك أنك تحمل جهاز تتبع ،ول زال عبد الرحمن يراوغ
في الجابة عن هذا السؤال ،عندها سأل أبو محمد الخوة وقال
لهم )أين حذاءه( فقالوا له في السيارة ،فأحضروه وفتشوه ،فلم
يجدوا فيه شيئًا ،ثم ألقوه على الرض ،وبعد لحظات نظر أحدهم
إلى الحذاء فرأى فيه قطعة من الجلد مخلوعة في أسفل الحذاء
اليمن ،فقال للخوة )إن جهاز التتبع كان مزروعا ً تحت هذه
القطعة فخلعها وألقى بالجهاز في السيارة لكي يعثر المريكان
علينا بعد قتله( ،فوافقه الخ الذي كان معه في الحوض الخلفي
وقال) :نعم والله لقد كان يلعب بحذائه وهو مقيد في السيارة(
وبسرعة ذهب الخوة إلى السيارة ولم يتركوا فيها زاوية إل ّ
وفتشوها ،فكان المر كما توقعوه ،فقد عثروا على جهاز تتبع
صغير جدا ً لونه أصفر ،ملقى في حوض السيارة ،وبدون تفكير قام
الخوة بأخذ الجهاز إلى مكان بعيد جدا ً و قاموا بإتلفه.
وهنا لم يبق أمام )عبد الرحمن( خيار سوى أن يقدم لهم القربات،
وهي المعلومات المهمة التي يحتاجها الخوة ،فما أبقى في جعبته
شيء إل ّ وأخرجه ،بما في ذلك أسماء شركائه في العمل ،وقد تولى
بعض الخوة في بغداد العمل على التحري والتأكد من صحة تلك
المعلومات وقد أكدوا تورطهم في العمالة لصالح المريكان
والموساد ،فذاقوا من نفس الكأس التي ذاقها )عبد الرحمن( ،أي
أن ما أدلى به عبد الرحمن كان كلما ً واقعيا ً وليس من باب إرضاء
المحقق ،بالرغم من أنه كان ل يدلي بالمعلومة إل إذا طفح كيله.
قال لهم وبالحرف الواحد )أنا من دبر قصف المعسكر( ،وهنا نزل
هذا الكلم كالصاعقة على الخوة ،وما كادوا يصدقون ما سمعوا من
هول المفاجأة ،وقد أعادوا عليه السؤال ،فأعاد عليهم نفس الكلم:
)أنا من دبر قصف المعسكر( ،إل ّ إن هذه لم تكن المفاجأة الوحيدة
صل كل كبيرة التي فاجأهم بها،فما خفي كان أعظم ،حيث ف ّ
وصغيرة أخفاها في جوفه النتن ،كان أفظعها إنه يهودي الصل،
وأنه من يهود اليمن ،سكن أجداده الشام ،فأظهر السلم وأبطن
اليهودية ،وإنه هو من أرسل عبد الرحمن من بغداد ليضع عشرين
قرصا ً في المعسكر ،وأنه صديق حميم لعائلة عبد الرحمن ،ويحمل
رتبة ضابط في الموساد السرائيلي ويتكلم العبرية بطلقة!!
و)أبو معاذ( هذا كان ظاهره بين الناس أنه حلق ،وكان قد درس
علوم الشريعة السلمية لمدة سبع سنوات في لبنان ،وفي لبنان
تعرف على الشخصية السياسية والعسكرية اللبنانية المعروفة
)العماد ميشيل عون( والذي جنده لمصلحة الموساد ،بعدما أدخله
إلى إسرائيل ،فأندرج في سلك الموساد ،وقد سافر إلى عدة بلدان
منها إيران ،وفلسطين ،ولبنان ،وتل أبيب ،وسوريا ،والعراق ،وقد
كان يدخل إلى الراضي العراقية منذ عام 1997بطرق غير قانونية
ليقوم بتنشيط بعض الشبكات ،وكان على تواصل واتصال في تلك
الفترة مع عائلة )عبد الرحمن(!
وقد حاول بعض الخوة أن يبحثوا له عن أوليات في المعهد
الشرعي الذي درس فيه بلبنان فلم يجدوا له أثرًا ،فكان شخصية
غامضة ،مبهمة ،وقد حدد له الخوة بعض السئلة وأجابهم عليها
ومنها الهدف من هذا العمل الذي قام به ،فكان جوابه :أن هذا
العمل هو جزء بسيط من مخطط كبير ،يهدف إلى جعل العراق
ت إسرائيل إلى إسرائيل محرقة للمجاهدين ،حتى إذا ما توسع ْ
الكبرى فلن تجد أمامها ما يعيق تقدمها.
ثم سألوه عن العمل الذي كان ينوي القيام به بعد النتهاء من
قصف معسكر راوة ،فأكد أنه كان يسعى إلى اختراق جماعة أنصار
السلم ومحاولة التغلغل في صفوفهم ،وقد ثبت ذلك لدى الخوة،
فقد تعرفوا فيما بعد على أخوة كانوا في أنصار السلم ،فسألوهم
عن هذا الشخص ،فأكدوا بأنه جاء إليهم وعرض عليهم تقديم الدعم
المادي وجلب المقاتلين إلى العراق ،إل ّ أنهم لم يطمئنوا إليه
موضحين بأنهم كانوا ينوون الستفسار عنه ،إل ّ إنه ذهب ولم يعد
ثانية.
ت شاهدا ً آخر يشهد على حاله الذي أما نهاية هذا المنافق فكان ْ
مضى وصفه ،فقد أراد الخوة أن يقتصوا منه فيقوموا بقتله في
نفس مكان المعسكر ،ثأرا ً لخواننا ،وفي نفس اليوم الذي كانوا
ينوون أخذه لقتله هناك ،وبعد صلة الفجر بدأ ضابط الموساد أبو
ت روحه الخبيثة معاذ يحتضر ،ويبدو أنه شارف على الموت ،فخرج ْ
وهو يتمتم عند الحتضار )موساد ..إسرائيل ..موساد ..إسرائيل (،
ت روحه إلى غضب الله وسخطه ،وفي ول يزال يرددها حتى خرج ْ
ت روحه تيبس جسده على الفور ،وإّزرق نفس اللحظة التي خرج ْ
ت عليه علمات التسمم ،وقد كانت إحدى يديه مرتفعة، لونه ،وظهر ْ
فكلما أرادوا أن ينزلونها خرج منه خوار ،كخوار الثور ،وذلك بسبب
تيبس جسده فتضغط يده على رئتيه فيخرج الهواء من فمه فيصدر
مّرا ً لنتهاء تفاصيل تلك
هذا الصوت ،وعندها بكى الخوة ُبكاءً ُ
ت أمامهم دماء إخوانهم ،وكيف فضح الله ذلك المأساة ،وقد تمثل ْ
منون على َ
الخبيث ،بعدها أخذ أبو تمام اليمني يدعوا والخوة يؤ ّ
دعائه ،فدعا الله أن ل يجعل له في الرض قبرًا ،عندها جاء أبو
محمد اللبناني فرأى ما حدث ،وكان ينوي نحره بيديه ،اقتصاصا ً
لخوانه ،ولبنه محمد رحمهم الله جميعًا ،فلما رأى جيفته المزرقة
قال) :أن بعض العملء المهمين تزرع لهم المخابرات سنا ً مسمومًا،
حتى إذا ما ُألقي عليه القبض قتل نفسه ،فلعل هذا العميل لم يشأ
أن تكون نهايته على أيدي المسلمين ،ففضل النتحار أو لعله كان
يرجو مخرجا من قبضة الخوة فجعله القرار الخير(.
عندها حاول الخوة فتح فمه ليتأكدوا من المر ،فلم يقدروا على
ذلك فتركوه ،وحاولوا أن يحفروا له حفرة يلقونه فيها فما
استطاعوا ،لصلبة الرض ،وحاولوا ثانية في أماكن ُأخرى ول نتيجة،
فقالوا :لعل الله استجاب لدعوة أبي تمام اليمني ،عندها ذهبوا
بالجيفة إلى حيث شاء الله ،وقد ذهب أحد الخوة إلى ذلك المكان
بعد عام ،فوجد جمجمته ولم يتبق عليها شيء ،وعندما حركها سمع
فيها صوتًا ،فنظر بداخلها فوجد دماغه وقد صار أسودًا ،منكمشًا،
بحجم قبضة اليد ،وكأن الدود يأبى أن يأكله ،لما فيه من اعتقاد
ق له ذلك!
ح ّ
وأفكار خبيثة ،و ُ
فأما أبو حفص النجدي وأبو البراء العتيبي وأبو صقر اليمني فقد
سلكوا أقصر الطرق إلى الجنة ولحقوا بإخوانهم بالعمليات
الستشهادية ،وكانوا من أوائل من نفذ العمليات الستشهادية في
العراق.
أما أبو طارق اليمني فقد أنتقل من الموصل إلى ديالى لغرض
قبل المريكان ،ولم يعرفوا عتقل لثلثة أشهر من ِ معين حيث أ ُ
هويته ،ثم فّرج الله عنه ليدخل مدينة الفلوجة مع أخيه )أبو
المرضية( بعد المعركة الولى مباشرة ،ثم ذهب في عملية في
محافظة ديالى ليلحق بالركب من هناك.
أما أبو قسورة السوري فتم الفراج عنه ،وشاء الله أن يكون هناك
اتصال بينه وبين أبو محمد اللبناني ،وتم التنسيق بينهما فدخل إلى
العراق مرة أخرى حتى حانت غزوة شرطة الفلوجة فقضى فيها
نحبه رحمه الله.
أما أبو أسامة الزهراني فقد كان ينوي القيام بعملية استشهادية،
ووصل إلى الهدف ببضعة عشر مترا ً إل ّ إن العملية ألغي ْ
ت لوجود
مدنيين على مقربة من الهدف ،ثم جاء أبو العباس المالكي وجاء به
قتل في قصف أبي غريب مع إلى الفلوجة وأستمر فيها حتى ُ
الشيخ أبو أنس الشامي رحمهم الله.
أما أبو العباس المالكي فبعد قصف المعسكر كان ل يزال يمشي
على عكازين للم في ركبته ،فغادر العراق لغرض العلج ،فسمع به
بعض أقاربه فذهبوا إليه ،وأعادوه معهم إلى بلد الحرمين ،وزوجوه
ت الحكومة السعودية باعتقاله لبضعة شهور، من قريبة له ،ثم قام ْ
ً
ثم يسر الله له طريقا إلى العراق بمعجزة ،حتى وصل إلى
الفلوجة ،وقد التقيت به هناك بلقاء حميم ،وقد كان دخوله للعراق
متزامنا ً مع دخول أبي ُأسامة الزهراني ،وقد ذهب إلى أبي ُأسامة
في الموصل ليجتمعا سوية في الفلوجة ليصبح أبو العباس أو )أبو
رغد( كما أخذ يكني نفسه أسدا ً من ُأسود الفلوجة ،حتى جاءت تلك
اللحظة التي لبى فيها داعي الحق ،ليغادر من هذه الدنيا برصاصة
قناص محتل..
انتهت المذكرات التي كان ختامها مسك ،شهادة بإذن الله ،وكشف
لمخططات الموساد والسي آي إيه ،وانتهى كلم الخ )أبي حفص
العراقي( الذي كان آخر من فارق هذه الحياة من تلك الثلة
المباركة ،ليغادرنا إلى حيث الخلود البدي ،بإذن الله ،مع رفقته
وصحبته في الجهاد ،بعدما وثق لهذه المرحلة المهمة من تاريخ
الجهاد في بلد السلم ،في أرض العراق ،التي كانت ول تزال
تلتهب سعيرا ً تحت أقدام الصليبيين ،ومن لف لفهم ووقف في
خندقهم ،وأعتذر إلى الخ )أبي حفص( لدغامي بعض التفاصيل،
التي وجدت في إماطة اللثام عنها ما ل يخدم المسيرة الجهادية،
إلى جانب بعض التفاصيل التي تتعلق بسلمة بعض مما كان على
تماس مع الخوة ،أو على معرفة بهم ،لضرورات ومحاذير أمنية،
معاهدا ً إياه الحتفاظ بالنسخة الصلية من المذكرات وإعادة نشرها
بكامل تفاصيلها يوم ما ،لن الكثير من التفاصيل التي لم تر النور،
ولم أنشرها ،هي مهمة ول يجب إهمالها على المدى البعيد ،حفظا ً
للتاريخ ،وحفاظا ً على أرث هذه المة ومنجزات أخوة الجهاد فيها.
ول أريد ان أغادر هذا المقام قبل أن أشكر حرص العشرات من
المنابر العلمية والمواقع الجهادية وأصوات المقاومة على نشر
هذه المذكرات وحرصها على إيصال صوت هذا البطل وقصة
مجموعته الجهادية ،التي كانت نواة لجهاد أعاد للمة هيبتها،
وللسلم عافيته ،رغم تخاذل المخذلين ،وإرجاف المرجفين ،وخيانة
الخائنين ،وخنوع الخانعين ،وتواطؤ وصمت بعض العلماء العاملين
على هدم الدين.
وأخيرا ً أقول:
ما أسعد هذه المة بمثل هؤلء ،وما أسعدنا نحن في بلد الرافدين
يوم أصبحنا أنصارا ً لخوتنا المجاهدين المهاجرين ،الذين رووا
بدماهم الزكية الطاهرة ثرى أرض الفراتين ،قبل أن يصبحوا ثريات
في سماء الوجود.