Professional Documents
Culture Documents
قدمها بهنود بن سحوان ويعرف بعلي بن الشاه الفارسي .ذكر فيها السبب
الذي من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة لدبشليم ملك
الهند كتابه الذي سماه كليلة ودمنة؛ وجعله على ألسن البهائم والطير
ة لغرضه فيه من العوام ،وضنا بما ضمنه عن الطغام؛ وتنزيها ً للحكمة صيان ً
وفنونها ،ومحاسنها وعيونها؛ إذ هي للفيلسوف مندوحة ،ولخاطره مفتوحة؛
ولمحبيها تثقي ،ولطالبيها تشريف .وذكر السبب الذي من أجله أنفذ
كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز ملك الفرص بروزيه رأس الطباء إلى
بلد الهند كتاب كليلة ودمنة؛ وما كان من تلطف بروزيه عند دخوله إلى
الهند؛ حتى حضر إليه الرجل الذي استنسخه له سرا ً من خزانة الملك ليلً،
مع ما وجد من كتب علماء الهند .وقد ذكر الذي كان من بعثه بروزيه إلى
مملكة الهند لجل نقل هذا الكتاب؛ وذكر فيها ما يلزم مطالعه من إتقان
قراءته والقيام بدراسته والنظر إلى باطن كلمه؛ وأنه إن لم يكن كذلك لك
يحصل على الغاية منه .وذكر فيها حضور بروزيه قراءة الكتاب جهرًا .وقد
ذكر السبب الذي من اجله وضع بزرجمهر بابا ً مفردا ً يسمى باب بروزيه
التطبب ،وذكر فيه شأن بروزيه من أول أمره وآن مولده إلى أن بلغ
التأديب ،وأحب الحكمة واعتبر في أقسامها .وجعله قبل باب السد والثور
الذي هو أول الكتاب.
قال علي بن الشاه الفارسي :كان السبب الذي من أجله وضع بيدبا
الفيلسوف لدبشليم ملك الهند كتاب كليلة ودمنة ،أن السكندر ذا القرنين
الرومي لما فرغ من أمر الملوك الذين كانوا بناحية المغرب ،سار يريد
ملوك الشرق من الفرس وغيرهم؛ فلم يزل يحارب من نازعه ويواقع من
واقعه ،ويسالم من وادعه من ملوك الفرس ،وهم الطبقة الولى ،حتى
ظهر عليهم وقهر من ناوأه وتغلب على من حاربه؛ فتفرقوا طرائق
وتمزقوا حزائق ،فتوجه بالجنود نحو بلد الصين؛ فبدأ في طريقه بملك
الهند ليدعوه إلى طاعته والدخول في ملته ووليته .وكان على الهند في
ذلك الزمان ملك ذو سطوة وبأس وقوة ومراس ،يقال له فوٌر .فلما بلغه
إقبال ذي القرنين نحوه تأهب لمحاربته ،واستعد لمجاذبته؛ وشم إليه
أطرافه ،وجد في التألب عليه؛ وجمع له العدة في أسرع مدة من الفيلة
المعدة للحروب ،والسباع المضراة بالوثوب؛ مع الخيول المسرجة
والسيوف القواطع ،والحراب اللوامع .فلما قرب ذو القرنين من فور
الهندي وبلغه ما أعد له من الخيل التي كأنها قطع الليل مما لم يلقه بمثله
أحد من الملوك الذين كانوا في القاليم ،تخوف ذو القرنين من تقصير يقع
به إن عجل المبارزة .وكان ذو القرنين رجل ً ذا حيل ومكايد ،مع حسن
تدبير وتجربة ،فرأى إعمال الحيلة والتمهل ،واحتفر خندقا ً على عسكره؛
وأقام بمكانه لستنباط الحيلة والتدبير لمره؛ وكيف ينبغي له أي يقدم
على اليقاع به ،فاستدعى بالمنجمين ،وأمرهم بالختيار ليوم موافق تكون
له فيه سعادة لمحاربة ملك الهند والنصرة عليه .فاشتغلوا بذلك .وكان ذو
القرنين ل يمر بمدينة إل أخذ الصناع المشهورين من صناعها بالحذق من
كل صنف .فأنتجت له همته ودلته فطنته أن يتقدم إلى الصناع الذين معه
في أن يصنعوا خيل ً من نحاس مجوفة ،عليها تماثيل من الرجال ،على بك ٍ
ر
تجري ،إذا دفعت مرت سراعًا .وأمر إذا فرغوا منها أن تحشى أجوافها
بالنفط والكبريت؛ وتلبس وتقدم أمام الصف في القلب .ووقت ما يلتقي
الجمعان تضرم فيها النيران .فإن الفيلة إذا لفت خراطيمها على الفرسان
وهي حامية ،ولت هاربة ،وأوعز إلى الصناع بالتشمير والنكماش والفراغ
منها .فجدوا في ذلك وعجلوا .وقرب أيضا ً وقت اختيار المنجمين .فأعاد ذو
القرنين رسله إلى فور يدعوه إليه من طاعته والذعان لدولته .فأجاب
جواب مصر على مصرٍ على مخالفته ،مقيم ٍ على محاربته .فلما رأى ذو
القرنين عزيمته سار إليه بأهبته؛ وقدم فور الفيلة أمامه ،ودفعت الرجال
تلك الخيل وتماثيل الفرسان؛ فأقبلت الفيلة نحوها ،ولفت خراطيمها عليها.
فلما أحست بالحرارة ألقت من كان عليها ،وداستهم تحت أرجلها ،ومضت
مهزومة هاربة ،ل تلوي على شيٍء ول تمر بأحدٍ إل وطئته .وتقطع فوٍر
وجمعه ،وتبعهم أصحاب السكندر؛ وأثخنوا فيهم الجراح.
وصاح السكندر :يا ملك الهند أبرز إلينا ،وأبق على عدتك وعيالك ،ول
تحملهم على الفناء .فإنه ليس من المروءة أي يرمي الملك بعدته في
المهالك المتلفة والمواضع المجحفة ،بل يقيهم بماله ويدافع عنهم بنفسه.
فأبرز إلى ودع الجند ،فأينا قهر صاحبه فهو السعد .فلما سمع فور من ذي
ة .فبرز القرنين ذلك الكلم دعته نفسه لملقاته طمعا ً فيه؛ وظن ذلك فرص ً
إليه السكندر فتجاول على ظهري فرسيهما ساعات من النهار ليس يلقى
ة؛ ولم يزال يتعاركان .فلما أعيا السكندر أمره أحدهما من صاحبه فرص ً
ة ول حيلة أوقع ذو القرنين في عسكره صيحة عظيمة ولم يجد له فرص ً
ارتجت لها الرض والعساكر؛ فالتفت فوٌر عندما سمع الزعقة ،وظنها
مكيدة في عسكره؛ فعاجله ذو القرنين بضربة أمالته عن سرجه ،وتبعه
بأخرى؛ فوقع على الرض .فلما رأت الهند ما نزل بهم ،وما صار إليه
ملكهم؛ حملوا على السكندر فقاتلوه قتال ً أحبوا معه الموت .فوعدهم من
نفسه الحسان ،ومنحه الله أكتافهم؛ فاستولى على بلدهم ،وملك عليه
رجل ً من ثقاته .وأقام بالهند حتى استوثق مما أراد من أمرهم واتفاق
كلمتهم؛ ثم انصرف عن الهند وخلف ذلك الرجل عليهم .مضى متوجها ً نحو
ما قصد له .فلما بعد ذو القرنين عن الهند بجيوشه ،تغيرت الهند عما كانوا
عليه من طاعة الرجل الذي خلفه عليهم؛ وقالوا ليس يصلح للسياسة ول
ترضى الخاصة والعامة أن يملكوا عليهم رجل ً ليس هو منهم ول من أهل
بيوتهم .فإنه ل يزال يستذلهم ويستقلهم .واجتمعوا يملكون عليهم رجل ً من
أولد ملوكهم؛ فملكوا عليهم ملكا ً يقال له دبشليم؛ وخلعوا الرجل الذي
كان خلفه عليهم السكندر .فلما استوسق له المر ،واستقر له الملك.
وكان مع ذلك مؤيدا ً مظفرا ً منصورًا .فهابته الرعية .فلما رأى ما هو عليه
من الملك والسطوة ،عبث بالرعية واستصغر أمرهم وأساء السيرة فيهم.
وكان ل ترتقي حاله إل ازداد عتوًا .فمكث على ذلك برهة من دهره .وكان
م ،يعرف بفضله ،ويرجع في زمانه رحل فيلسوف من البراهمة ،فاض ٌ
ل حكي ٌ
في المور إلى قوله ،يقال له بيدبا .فلما رأى الملك وما هو عليه من
الظلم للرعية ،فكر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه ،ورده إلى
العدل والنصاف؛ فجمع لذلك تلميذه ،وقال :أتعلمون ما أريد أن أشاوركم
فيه? اعلموا إني أطلت الفكرة في دبشليم وما هو عليه من الخروج عن
العدل ولزوم الشر ورداءة السيرة وسوء العشرة مع الرعية؛ ونحن ما
نروض أنفسنا لمثل هذه المور إذا ظهرت من الملوك ،غل لنردهم إلى
فعل الخير ولزوم العدل.
ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه لزم وقوع المكروه بنا ،وبلوغ المحذورات إلينا؛
غذ كنا في أنفس الجهال أجهل منهم؛ وفي العيون عندهم أقل منهم.
وليس الرأي عندي الجلء عن الوطن .ول يسعنا في حكمتنا إبقاؤه على ما
هو عليه من سوء السيرة وقبح الطريقة .ول يمكننا مجاهدته بغير ألسنتنا.
ولو ذهبنا إلى أن نستعين بغيرنا لم تتهيأ لنا معاندته .وإن أحس منا
بمحالفته وإنكارنا سوء سيرته كان في ذلك بوارنا .وقد تعلمون أن مجاورة
السبع والكلب والحية والثور على طيب الوطن ونضارة العيش لغدٍر
بالنفس .وإن الفيلسوف لحقيقٌ أن تكون همته مصروفة إلى ما يحصن به
نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور؛ ويدفع المخوف لستجلب
المحبوب .ولقد كنت أسمع أن فيلسوفا ً كتب لتلميذه يقول :إن مجاور
رجال السوء ومصاحبهم كراكب البحر :إن سلم من الغرق لم يسلم من
المخاوف .فإذا هو أورد نفسه موارد المهلكات ومصادر المخوفات ،عد من
الحمير التي ل نفس لها .لن الحيوان البهيمية قد خصت في طبائعها
بمعرفة ما تكتسب به النفع وتتوقى المكروه :وذلك أننا لم نرها تورد
أنفسها موردا ً فيه هلكتها .وأنها متى أشرفت على مورد مهلك لها ،مالت
ة لها -إلى النفور والتباعدبطبائعها التي ركبت فيها -شحا ً بأنفسها وصيان ً
عنه ،وقد جمعتكم لهذا المر :لنكم أسرتي ومكان سري وموضع معرفتي؛
وبكم أعتضد ،وعليكم أعتمد .فإن الوحيد في نفسه والمنفرد برأيه حيث
كان فهو ضائع ول ناصر له .على أن العاقل قد يبلغ بحيلته ما ل يبلغ بالخيل
ة وباضت فيها على طريق والجنود .والمثل في ذلك أن قنبرةً اتخذت أدخي ً
الفيل؛ وكان للفيل مشرب يتردد إليه .فمر ذات يوم على عادته ليرد
مورده فوطئ عش القنبرة؛ وهشم بيضها وقتل فراخها .فلما نظرت ما
ساءها ،علمت أن الذي نالها من الفيل ل من غيره .فطارت فوقعت على
ة؛ ثم قالت :أيها الملك لم هشمت بيضي وقتلت فراخي ،وأنا رأسه باكي ً
ً ً
في جوارك? أفعلت هذا استصغارا منك لمري واحتقارا لشأني .قال :هو
الذي حملني على ذلك .فتركته وانصرفت إلى جماعة الطير؛ فشكت إليها
ما نالها من الفيل .فقلن لها وما عسى أن نبلغ منه ونحن الطيور? فقالت
للعقاعق والغربان :أحب منكن أن تصرن معي إليه فتفقأن عينيه؛ فإني
ة أخرى .فأجبنها إلى ذلك ،وذهبن إلى الفيل ،ولم أحتال له بعد ذلك حيل ً
يزلن ينقرن عينيه حتى ذهبن بهما .وبقي ل يهتدي إلى طريق مطعمه
ومشربه إل ما يلقمه من موضعه .فلما علمت ذلك منه ،جاءت إلى غدير
فيه ضفادع كثير ،فشكت إليها ما نالها من الفيل.
قالت الضفادع :ما حيلتنا نحن في عظم الفيل? وأين نبلغ منه .قالت :احب
منكن أن تصرن معي إلى وهدةٍ قريبةٍ منه ،فتنققن فيها ،وتضججن .فإنه
إذا سمع أصواتكن لم يشك في الماء فيهوي فيها .فأجبنها إلى ذلك؛
واجتمعن في الهاوية ،فسمع الفيل نقيق الضفادع ،وقد اجهده العطش،
فأقبل حتى وقع في الوهدة ،فارتطم فيها .وجاءت القنبرة ترفرف على
رأسه؛ وقالت :أيها الطاغي المغتر بقوته المحتقر لمري ،كيف رأيت عظم
حيلتي مع صغر جثتي عند عظم جثتك وصغر همتك? فليشر كل واحد
منكم بما يسنح له من الرأي .قالوا بأجمعهم :أيها الفيلسوف الفاضل،
والحكيم العادل ،أنت المقدم فينا ،والفاضل علينا ،وما عسى أن يكون
مبلغ رأينا عند رأيك ،وفهمنا عند فهمك? غير أننا نعلم أن السباحة في
الماء مع التماسيح تغريٌر؛ والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه .والذي
ن على نفسه ،فليس يستخرج السم من ناب الحية فيبتلعه ليجربه جا ٍ
الذنب للحية .ومن دخل على السد في غابته لم يأمن من وثبته .وهذا
الملك لم تفزعه النوائب ،ولم تؤدبه التجارب .ولسنا نأمن عليك ول على
أنفسنا سطوته وإنا نخاف عليك من سورته ومبادرته بسوٍء إذا لقيته بغير
ما يحب .فقال الحكيم بيدبا :لعمري لقد قلتم فأحسنتم ،لكن ذا الرأي
الحازم ل يدع أن يشاور من هو دونه أو فوقه في المنزلة .والرأي الفرد ل
يكتفي به في الخاصة ول ينتفع به في العامة .وقد صحت عزيمتي على
لقاء دبشليم .وقد سمعت مقالتكم؛ وتبين لي نصيحتكم والشفاق علي
وعليكم .غير أني قد رأيت رأيا ً وعزمت عزمًا؛ وستعرفون حديثي عند
الملك ومجاوبتي إياه فإذا اتصل بكم خروجي من عنده فاجتمعوا إلي.
وصرفهم يدعون له بالسلمة.
ثم إن بيدبا اختار يوما ً للدخول على الملك؛ حتى إذا كان ذلك الوقت ألقى
عليه مسوحة وهي لباس البراهمة؛ وقصد باب الملك ،وسأل عن صاحب
إذنه وأرشد إليه وسلم عليه؛ وأعلمه قال لي :إني رجل قصدت الملك في
ل من البراهمة ة .فدخل الذن على الملك في وقته؛ وقال :بالباب رج ٌ نصيح ٍ
يقال له بيدبا ،ذكر أن معه للملك نصيحة .فأذن له؛ فدخل ووقف بين يديه
وكفر وسجد له واستوى قائما ً وسكت.
وفكر دبشليم في سكوته؛ وقال :إن هذا لم يقصدنا إل لمرين :إما
ة .ثم للتماس شيٍء منا يصلح به حاله ،وإما لمر لحقه فلم تكن له به طاق ٌ
ل في مملكتها فإن للحكماء فضل ً في حكمتها قال :إن كان للملوك فض ٌ
أعظم :لن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم وليس الملوك أغنياء عن
الحكماء بالمال .وقد وجدت العلم والحيا إلفين متآلفين ل يفترقان :متى
فقد أحدهما لم يوجد الخر؛ كالمتصافيين إن عدم منهما أحد لم يطب
صاحبه نفسا ً بالبقاء تأسفا ً عليه .ومن لم يستحي من الحكماء ويكرمهم،
ويعرف فضلهم على غيرهم ،ويصنهم عن المواقف الواهنة ،وينزههم عن
المواطن الرذلة كان ممن حرم عقله ،وخسر دنياه ،وظلم الحكماء
حقوقهم ،وعد من الجهال .ثم رفع رأسه إلى بيدبا؛ وقال له :نظرت إليك
يا بيدبا ساكتا ً ل تعرض حاجتك ،ول تذكر بغيتك ،فقلت :إن الذي أسكته
ة ساورته أو حيرةٌ أدركته؛ وتأملك عند ذلك من طول وقوفك ،وقلت: هيب ٌ
لك يكن لبيدبا أن يطرقنا على غير عادةٍ عن سبب دخوله؛ فإن لم يكن من
ضيم ٍ ناله ،كنت أولى من أخذ بيده وسارع في تشريفه ،وتقدم في البلوغ
إلى مراده وإعزازه؛ وإن كانت بغيته غرضا ً من أغراض الدنيا أمرت
بإرضائه من ذلك فيما أحب؛ وإن يكن من أمر الملك ،ومما ل ينبغي أن
يبذلوه من أنفسهم ول ينقادوا إليه نظرت في قدر عقوبته؛ على أن مثله
لم يكن ليجترئ على إدخال نفسه في باب مسألة الملوك؛ وإن كان شيئا ً
من أمور الرعية يقصد فيه أني أصرف عنايتي إليهم ،نظرت ما هو؛ فإن
الحكماء ل يشيرون إل بالخير ،والجهال يشيرون بضده .وأنا قد فسحت لك
في الكلم .فلما سمع بيدبا ذلك من الملك أفرخ روعه ؛ وسرى عنه ما
كان وقع في نفسه من خوفه وكفر له وسجد؛ ثم قام بين يديه وقال :أول
ما أقول لك أسأل الله تعالى بقاء الملك على البد ،ودوام ملكه على
المد :لن الملك قد منحني في مقامي هذا محل ً جعله شرفا ً لي على
جميع من بعدي من العلماء؛ وذكرا ً باقيا ً على الدهر عند الحكماء .ثم أقبل
على الملك بوجهه ،مستبشرا ً به فرحا ً بما بدا له منه ،وقال :قد عطف
الملك علي بكرمه وإحسانه .والمر الذي دعاني إلى الدخول على الملك،
ة اختصصته بها دون وحملني على المخاطرة لكلمه ،والقدام عليه ،نصيح ٌ
غيره .وسيعلم من يتصل به ذلك أني لم أقصر عن غايةٍ فيما يجب للمولى
على الحكماء .فإن فسح في كلمي ووعاه عني ،فهو حقيق بذلك وما
يراه؛ وإن هو ألقاه ،فقد بلغت ما يلزمني وخرجت من لوم يلحقني.
قال الملك بيدبا تكلم كيف شئت :فإنني مصٍغ إليك ،ومقبل عليك ،وسامع
منك ،حتى أستفرغ ما عندك إلى آخره ،وأجازيك على ذلك بما أنت أهله.
قال بيدبا :إني وجدت المور التي اختص بها النسان من بين سائر
الحيوانات أربعة أشياء ،وهي جماع ما في العالم ،وهي الحكمة والعفة
ة في باب الحكمة .والحلم والعقل والعدل .والعلم والدب والروية داخل ٌ
ة في باب العقل .والحياء والكرم والصيانة والنفة والصبر والوقار داخل ٌ
ة
ة في باب العفة .والصدق والحسان والمراقبة وحسن الخلق داخل ٌ داخل ٌ
في باب العدل .وهذه هي المحاسن ،وأضدادها هي المساوئ .فمتى كملت
هذه في واحدٍ لم تخرجه الزيادة في نعمةٍ إلى سوء الحظ من دنياه ول
ص في عقباه ،ولم يتأسف على ما لم يعن التوفيق ببقائه ،ولم إلى نق ٍ
ه .فالحكمة يحزنه ما تجري به المقادير في ملكه ،ولك يدهش عند مكرو ٍ
ق ،وذخيرةٌ ل يضرب لها بالملق ،وحلة ل تخلق كنٌز ل يفنى على إنفا ٍ
جدها ،ولذةٌ ل تنصرم مدتها .ولئن كنت عند مقامي بين يدي الملك
أمسكت عن ابتدائه بالكلم ،وإن ذلك لم يكن مني إل لهيبته والجلل له.
ل أن يهابوا؛ ل سيما من هو في المنزلة التي جل ولعمري إن الملوك له ٌ
فيها الملك عن منازل الملوك قبله .وقد قالت العلماء :الزم السكوت؛ فإن
ة من ة؛ وتجنب الكلم الفارغ؛ فإن عاقبته الندامة .وحكي أن أربع ً فيه سلم ً
ل بكلم يكون أصل ً العلماء ضمهم مجلس الملك ،فقال لهم :ليتكلم ك ٌ
للدب .فقال أحدهم :أفضل خلة العلم السكوت .وقال الثاني :إن من انفع
الشياء للنسان أن يعرف قدر منزلته من عقله .وقال الثالث :أنفع الشياء
للنسان أل يتكلم بما ل يعنيه .وقال الرابع :أروح المور على النسان
التسليم للمقادير .واجتمع في بعض الزمان ملوك القاليم من الصين
والهند وفارس والروم؛ وقالوا ينبغي أن يتكلم كل واحدٍ منا بكلمة تدون
عنه على غابر الدهر .فقال ملك الصين :أنا على ما لم أقل أقدر مني على
رد ما قلت .وقال ملك الهند :عجبت لمن يتكلم بالكلمة فإن كانت له لم
تنفعه ،وإن كانت عليه أوبقته .وقال ملك فارس :أنا إذا تكلمت بالكلمة
ملكتني ،وإذا لم أتكلم بها ملكتها .وقال ملك الروم :ما ندمت على ما لم
أتكلم به قط ،ولقد ندمت على ما تكلمت به كثيرًا .والسكوت عند الملوك
أحسن من الهذر الذي ل يرجع منه إلى نفع .وأفضل ما استظل به النسان
لسانه .غير أن الملك ،أطال الله مدته ،لما فسح لي في الكلم وأوسع لي
فيه؛ كان أولى ما أبدأ به من المور التي هي غرضي أن يكون ثمرة ذلك
له دوني؛ وأن اختصه بالفائدة قبلي .على أن العقبى هي ما أقصد في
كلمي له؛ وإنما نفعه وشرفه راجعٌ إليه؛ وأكون أنا قد قضيت فرضا ً وجب
علي فأقول :أيها الملك إنك في منازل آبائك وأجدادك من الجبابرة الذين
أسسوا الملك قبلك ،وشيدوه دونك ،وبنوا القلع والحصون ،ومهدوا البلد،
وقادوا الجيوش؛ واستجاشوا العدة ،وطالت لم المدة؛ واستكثروا من
السلح والكراع؛ وعاشوا الدهور ،في الغبطة والسرور؛ فلم يمنعهم ذلك
من اكتساب جميل الذكر ،ول قطعهم عن اغتنام الشكر؛ ول استعمال
الحسان إلى من خولوه ،والرفاق بمن ولوه ،وحسن السيرة فيما تقلدوه؛
مع عظم ما كانوا فيه من غرة الملك ،وسكرة القتدار .وإنك أيها الملك
السعيد جدة ،الطالع كوكب سعده ،قد ورثت أرضهم وديارهم وأموالهم
ومنازلهم التي كانت عدتهم؛ فأقمت فيما خولت من الملك وورثت من
الموال والجنود؛ فلم تقم في ذلك بحق ما يجب عليك؛ بل طغيت وبغيت
وعتوت وعلوت على الرعية ،وأسأت السيرة ،وعظمت منك البلية .وكان
الولى والشبه بك أن تسلك سبيل أسلفك ،وتتبع آثار الملوك قبلك ،وتقفو
محاسن ما أبقوه لك ،وتقلع عما عاره لزم لك ،وشينه واقع بك؛ تحسن
النظر برعيتك ،وتسن لهم سنن الخير الذي يبقى بعدك ضره ،ويعقبك
الجميل فخره؛ ويكون ذلك أبقى على السلمة وأدوم على الستقامة .فإن
الجاهل المغتر من استعمل في أموره البطر والمنية ،والحازم اللبيب من
ساس الملك بالمداراة والرفق؛ فانظر أيها الملك ما ألقيت إليك ،ول يثقلن
ف
ض تجازيني به ،ول التماس معرو ٍ ذلك عليك :فلم أتكلم بهذا ابتغاء عر ٍ
تكافئني به؛ ولكني أتيتك ناصحا ً مشفقا ً عليك.
فلما فرغ منه بيدبا من مقالته ،وقضى مناصحته ،أوغر صدر الملك فأغلظ
له في الجواب استصغارا ً لمره؛ وقال :لقد تكلمت بكلم ٍ ما كنت أظن
أحدا ً من أهل مملكتي يستقبلني بمثله ،ول يقدم على ما أقدمت عليه.
فكيف أنت مع صغر شأنك ،وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت
إعجابي من إقدامك علي ،وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك .وما
ة لكن أجد شيئا ً في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك .فذلك عبرةٌ وموعظ ٌ
عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من الملوك إذا أوسعوا لهم في
مجالسهم .ثم أمر به أن يقتل ويصلب .فلما مضوا به فيما أمر ،فكر فيما
أمر به فأحجم عنه ،ثم أمر بحبسه وتقييده .فلما حبس أنفذ في طلب
تلميذه ومن كان يجتمع إليه فهربوا في البلد واعتصموا بجزائر البحار؛
فمكث بيدبا في محبسه أياما ً ل يسأل الملك عنه ،ول يلتفت إليه؛ ول
ة من الليالي سهد الملك سهدا ً يجسر أحد ٌ أن يذكره عنده؛ حتى إذا كان ليل ٌ
شديدا ً ؛ فطال سهده ،ومد إلى الفلك بصره؛ وتفكر في تفلك الفلك
وحركات الكواكب ،فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إلى استنباط شيٍء عرض
له من أمور الفلك ،والمسألة عنه .فذكر عند ذلك بيدبا ،وتفكر فيما كلمه
به؛ فأرعوى لذلك .وقال في نفسه :لقد أسأت فيما صنعت بهذا
الفيلسوف ،وضيعت واجب حقه؛ وحملني على ذلك سرعة الغضب .وقد
ة ل ينبغي أن تكون في الملوك :الغضب فإنه أجد قالت العلماء :أربع ٌ
الشياء مقتًا؛ والبخل فإن صاحبه ليس بمعذورٍ مع ذات يده؛ والكذب فإنه
ليس لحدٍ أن يجاوره؛ والعنف في المحاورة فإن السفه ليس من شأنها.
وإني أتي إلى رجل نصح لي ،ولم يكن مبلغًا؛ فعاملته بضد ما يستحق،
وكافأته بخلف ما يستوجب .وما كان هذا جزاءه مني؛ بل كان الواجب أن
أسمع كلمه ،وأنقاد لما يشير به .ثم أنفذ في ساعته من يأتيه به .فلما مثل
بين يديه قال له :يا بيدبا ألست الذي قصدت إلى تقصير همتي ،وعجزت
رأيي في سيرتي بما تكلمت به آنفًا? قال له بيدبا :أيها الملك الناصح
ح لك ولرعيتك ،ودوام الشفيق ،والصادق الرفيق ،إنما نبأتك بما فيه صل ٌ
ملكك لك ،قال له الملك :يا بيدبا أعد علي كلمك كله ،ول تدع منه حرفا ً
إل جئت به .فجعل بيدبا ينثر كلمه ،والملك مصٍغ إليه .وجعل دبشليم كلما
سمع منه شيئا ً ينكت على الرض بشيٍء كان في يده .ثم رفع طرفه إلى
بيدبا ،وأمره بالجلوس .وقال له :يا بيدبا ،إني قد استعذبت كلمك وحسن
موقعه من قلبي .وأنا ناظر في الذي أشرت به ،وعامل بما أمرت .ثم أمر
بقيوده فحلت .وألقى عليه من لباسه ،وتلقاه بالقبول .فقال بيدبا :يا أيها
ة لمثلك .قال :صدقت أيها الحكيم الملك ،إن في دون ما كلمتك به نهي ً
الفاضل .وقد وليتك من مجلسي هذا إلى جميع أقاصي مملكتي .فقال له:
أيها الملك أعفني من هذا المر :فإني غير مضطلٍع بتقويمه إل بك .فأعفاه
من ذلك .فلما انصرف ،علم أن الذي فعله ليس برأي ،فبث فرده .وقال:
إني فكرت في إعفائك مما عرضته عليك فوجدته ل يقوم إل بك ،ول ينهض
به غيرك ،ول يضطلع به سواك .فل تخالفني فيه .فأجابه بيدبا إلى ذلك.
وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيرا ً أن يعقدوا على رأسه
تاجًا ،ويركب في أهل المملكة ،ويطاف به في المدينة .فأمر الملك أن
يفعل ببيدبا ذلك .فوضع التاج على رأسه ،وركب المدينة ورجع فجلس
بمجلس العدل والنصاف :يأخذ للدني من الشريف ،ويساوي بين القوي
والضعيف؛ ورد المظالم ،ووضع سنن العدل ،وأكثر من العطاء والبذل.
واتصل الخبر بتلميذه فجاءوه من كل مكان ،فرحين بما جدد الله له من
جديد رأي الملك في بيدبا؛ وشكروا الله تعالى على توفيق بيدبا في إزالة
دبشليم عما كان عليه من سوء السيرة ،واتخذوا ذلك اليوم عيدا ً يعيدون
فيه فهو إلى اليوم عيد ٌ عندهم في بلد الهند.
فلما فرغ منه بيدبا من مقالته ،وقضى مناصحته ،أوغر صدر الملك فأغلظ
له في الجواب استصغارا ً لمره؛ وقال :لقد تكلمت بكلم ٍ ما كنت أظن
أحدا ً من أهل مملكتي يستقبلني بمثله ،ول يقدم على ما أقدمت عليه.
فكيف أنت مع صغر شأنك ،وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت
إعجابي من إقدامك علي ،وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك .وما
ة لكن أجد شيئا ً في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك .فذلك عبرةٌ وموعظ ٌ
عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من الملوك إذا أوسعوا لهم في
مجالسهم .ثم أمر به أن يقتل ويصلب .فلما مضوا به فيما أمر ،فكر فيما
أمر به فأحجم عنه ،ثم أمر بحبسه وتقييده .فلما حبس أنفذ في طلب
تلميذه ومن كان يجتمع إليه فهربوا في البلد واعتصموا بجزائر البحار؛
فمكث بيدبا في محبسه أياما ً ل يسأل الملك عنه ،ول يلتفت إليه؛ ول
ة من الليالي سهد الملك سهدا ً يجسر أحد ٌ أن يذكره عنده؛ حتى إذا كان ليل ٌ
شديدا ً ؛ فطال سهده ،ومد إلى الفلك بصره؛ وتفكر في تفلك الفلك
وحركات الكواكب ،فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إلى استنباط شيٍء عرض
له من أمور الفلك ،والمسألة عنه .فذكر عند ذلك بيدبا ،وتفكر فيما كلمه
به؛ فأرعوى لذلك .وقال في نفسه :لقد أسأت فيما صنعت بهذا
الفيلسوف ،وضيعت واجب حقه؛ وحملني على ذلك سرعة الغضب .وقد
ة ل ينبغي أن تكون في الملوك :الغضب فإنه أجد قالت العلماء :أربع ٌ
الشياء مقتًا؛ والبخل فإن صاحبه ليس بمعذورٍ مع ذات يده؛ والكذب فإنه
ليس لحدٍ أن يجاوره؛ والعنف في المحاورة فإن السفه ليس من شأنها.
وإني أتي إلى رجل نصح لي ،ولم يكن مبلغًا؛ فعاملته بضد ما يستحق،
وكافأته بخلف ما يستوجب .وما كان هذا جزاءه مني؛ بل كان الواجب أن
أسمع كلمه ،وأنقاد لما يشير به .ثم أنفذ في ساعته من يأتيه به .فلما مثل
بين يديه قال له :يا بيدبا ألست الذي قصدت إلى تقصير همتي ،وعجزت
رأيي في سيرتي بما تكلمت به آنفًا? قال له بيدبا :أيها الملك الناصح
ح لك ولرعيتك ،ودوام الشفيق ،والصادق الرفيق ،إنما نبأتك بما فيه صل ٌ
ملكك لك ،قال له الملك :يا بيدبا أعد علي كلمك كله ،ول تدع منه حرفا ً
إل جئت به .فجعل بيدبا ينثر كلمه ،والملك مصٍغ إليه .وجعل دبشليم كلما
سمع منه شيئا ً ينكت على الرض بشيٍء كان في يده .ثم رفع طرفه إلى
بيدبا ،وأمره بالجلوس .وقال له :يا بيدبا ،إني قد استعذبت كلمك وحسن
موقعه من قلبي .وأنا ناظر في الذي أشرت به ،وعامل بما أمرت .ثم أمر
بقيوده فحلت .وألقى عليه من لباسه ،وتلقاه بالقبول .فقال بيدبا :يا أيها
ة لمثلك .قال :صدقت أيها الحكيم الملك ،إن في دون ما كلمتك به نهي ً
الفاضل .وقد وليتك من مجلسي هذا إلى جميع أقاصي مملكتي .فقال له:
أيها الملك أعفني من هذا المر :فإني غير مضطلٍع بتقويمه إل بك .فأعفاه
من ذلك .فلما انصرف ،علم أن الذي فعله ليس برأي ،فبث فرده .وقال:
إني فكرت في إعفائك مما عرضته عليك فوجدته ل يقوم إل بك ،ول ينهض
به غيرك ،ول يضطلع به سواك .فل تخالفني فيه .فأجابه بيدبا إلى ذلك.
وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيرا ً أن يعقدوا على رأسه
تاجًا ،ويركب في أهل المملكة ،ويطاف به في المدينة .فأمر الملك أن
يفعل ببيدبا ذلك .فوضع التاج على رأسه ،وركب المدينة ورجع فجلس
بمجلس العدل والنصاف :يأخذ للدني من الشريف ،ويساوي بين القوي
والضعيف؛ ورد المظالم ،ووضع سنن العدل ،وأكثر من العطاء والبذل.
واتصل الخبر بتلميذه فجاءوه من كل مكان ،فرحين بما جدد الله له من
جديد رأي الملك في بيدبا؛ وشكروا الله تعالى على توفيق بيدبا في إزالة
دبشليم عما كان عليه من سوء السيرة ،واتخذوا ذلك اليوم عيدا ً يعيدون
فيه فهو إلى اليوم عيد ٌ عندهم في بلد الهند.
ثم أن بيدبا لما أخلى فكره من اشتغاله بدبشليم ،تفرغ لوضع كتب
ة ،فيها دقائق الحيل .ومضى الملك السياسة ونشط لها ،فعمل كتبا ً كثير ً
على ما رسم له بيدبا من حسن السيرة والعدل في الرعية .فرغبت إليه
الملوك الذين كانوا في نواحيه ،وانقادت له المور على استوائها .وفرحت
به رعيته وأهل مملكته .ثم أن بيدبا جمع تلميذه فأحسن صلتهم ،ووعدهم
ل .وقال لهم :لست أشك أنه وقع في نفوسكم وقت دخولي وعدا ً جمي ً
على الملك أن قلتم :إن بيدبا قد ضاعت حكمته ،وبطلت فكرته :إذ عزم
على الدخول على هذا الجبار الطاغي .فقد علمتم نتيجة رأيي وصحة
فكري .وإني لم آته جهل ً به :لني كنت أسمع من الحكماء قبلي تقول :إن
الملوك لها سورةٌ كسورة الشراب :فالملوك ل تفيق من السورة إل
بمواعظ العلماء وأدب الحكماء .والواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ
العلماء .والواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتها ،وتأديبها بحكمتها،
وإظهار الحجة البينة اللزمة لهم :ليرتدعوا عما هم عليه من العوجاج
والخروج عن العدل .فوجدت ما قالت العلماء فرضا ً واجبا ً على الحكماء
لملوكهم ليوقظوهم من رقدتهم؛ كالطبيب الذي يجب عليه في صناعته
حفظ الجساد على صحتها أو ردها إلى الصحة .فكرهت أن يموت أو أموت
وما يبقى على الرض غل من يقول :إنه كان بيدبا الفيلسوف في زمان
دبشليم الطاغي فلم يرده عما كان عليه .فإن قال قائل :إنه لم يمكنه
كلمه خوفا ً على نفسه ،قالوا :كان الهرب منه ومن جواره أولى به؛
د؛ فرأيت أن أجود بحياتي؛ فأكون قد أتيت فيما والنزعاج عن الوطن شدي ٌ
بيني وبين الحكماء بعدي عذرًا .فحملتها على التغرير أو الظفر بما أريده.
وكان من ذلك ما أنتم معاينوه :فإنه يقال في بعض المثال :إن لم يبلغ أحد
ث :إما بمشقةٍ تناله في نفسه ،وإما بوضعيةٍ في ماله أو مرتبة إل بإحدى ثل ٍ
س في دينه .ومن لم يركب الهوال لم ينل الرغائب .وإن الملك وك ٍ
ً
دبشليم قد بسط لساني في أن أضع كتابا فيه ضروب الحكمة .فليضع كل
واحد منكم شيئا ً في أي فن شاء؛ وليعرضه علي لنظر مقدار عقله ،وأين
بلغ من الحكمة فهمه .قالوا :أيها الحكيم الفاضل ،واللبيب العاقل ،والذي
وهب لك ما منحك من الحكمة والعقل والدب والفضيلة ،ما خطر هذا
ة قط .وأنت رئيسنا وفاضلنا ،وبك شرفنا ،وعلى يدك انتعاشنا. بقلوبنا ساع ً
ولكن سنجهد أنفسنا فيما أمرت .ومكث الملك على ذلك من حسن
السيرة زمانا ً يتولى ذلك له بيدبا ويقوم به.
ثم إن الملك دبشليم لما استقر له الملك ،وسقط عنه النظر في أمور
العداء بما قد كفاه ذلك بيدبا ،صرف همته إلى النظر في الكتب التي
وضعتها فلسفة الهند لبائه وأجداده؛ فوقع في نفسه أن يكون له أيضا ً
ح ينسب إليه وتذكر فيه أيامه كما ذكر آباؤه وأجداده من قبله. ب مشرو ٌ كتا ٌ
فلما عزم على ذلك ،علم أنه ل يقوم ذلك إل ببيدبا :فدعاه وخل به؛ وقال
له :يا بيدبا ،إنك حكيم الهند وفيلسوفها .وإني فكرت ونظرت في خزائن
الحكمة التي كانت للملوك قبلي؛ فلم أر فيهم أحدا ً إل وضع كتابا ً يذكر فيه
أيامه وسيرته ،وينبئ عن أدبه وأهل مملكته؛ فمنه ما وضعته الملوك
لنفسها ،وذلك لفضل حكمةٍ فيها؛ ومنها ما وضعته حكماؤها .وأخاف أن
بيلحقني ما لحق أولئك مما ل حيلة لي فيه ،ول يوجد في خزائني كتا ٌ
أذكر به من بعدي ،وأنسب إليه كما ذكر من كان قبلي بكتبهم .وقد أحببت
أن تضع لي كتابا ً بليغا ً تستفرغ فيه عقلك يكون ظاهره سياسة العامة
وتأديبها ،وباطنه أخلق الملوك وسياستها للرعية على طاعة الملك
وخدمته؛ فيسقط بذلك عني وعنهم كثيٌر مما نحتاج إليه في معاناة الملك.
وأريد أن يبقى لي هذا الكتاب من بعدي ذكرا ً على غابر الدهور .فلما سمع
بيدبا كلمه خر له ساجدًا ،ورفع رأسه وقال :أيها الملك السعيد جده ،عل
نجمك ،وغاب نحسك ،ودامت أيامك؛ إن الذي قد طبع عليه الملك من
جودة القريحة ووفور العقل حركه لعالي المور؛ وسمت به نفسه وهمته
ة؛ وأدام الله سعادة الملك وأعانه ة ،وأبعدها غاي ًإلى أشرف المراتب منزل ً
على ما عزم من ذلك ،وأعانني على بلوغ مراده .فليأمر الملك بما شاء
من ذلك :فإن صائٌر إلى غرضه ،مجتهدا ٌ فيه برأيي .قال له الملك :يا بيدبا
لم تزل موصوفا ً بحسن الرأي وطاعة الملوك في أمورهم .وقد اختبرت
منك ذلك ،واخترت أن تضع هذا الكتاب ،وتعمل فيه فكرك ،وتجهد فيه
نفسك ،بغاية ما تجد إليه السبيل .وليكن مشتمل ً على الجد والهزل واللهو
والحكمة والفلسفة .فكفر له بيدبا وسجد ،وقال :قد أجبت الملك أدام الله
ل .قال :وكم هو الجل? قال: أيامه إلى ما أمرني به ،وجعلت بيني وبينه أج ً
ة .قال :قد أجلتك؛ وأمر له بجائزةٍ سنيةٍ تعينه على عمل الكتاب فبقى سن ٌ
ً
بيدبا مفكرا في الخذ فيه ،وفي أي صورةٍ يبتدي بها فيه وفي وضعه.
ثم إن بيدبا جمع تلميذه وقال لهم :إن الملك قد ندبني لمر فيه فخري
وفخركم وفخر بلدكم ،وقد جمعتكم لهذا المر .ثم وصف لهم ما سأل
الملك من أمر الكتاب ،والغرض الذي قصد فيه ،فلم يقع لهم الفكر فيه
فلما لم يجد عندهم ما يريده فكر بفضل حكمته ،وعلم أن ذلك أمٌر إنما
يتم باستفراغ العقل وإعمال الفكر؛ وقال :أرى السفينة ل تجري في البحر
إل بالملحين :لنهم يعدلونها؛ وإنما تسلك اللجة بمدبرها الذي تفرد بإمرتها
؛ ومتى شحنت بالركاب الكثيرين وكثر ملحوها لم يؤمن عليه من الغرق.
ولم يزل يفكر فيما يعمله في باب الكتاب حتى وضعه على النفراد
ل من تلميذه كان يثق به؛ فخل به منفردا ً معه ،بعد أن أعد بنفسه ،مع رج ٍ
ً
الورق الذي كانت تكتب فيه الهند شيئا ،ومن القوت ما يقوم به وبتلميذه
ة ،وردا عليهما الباب ثم بدأ في نظم تلك المدة .وجلسا في مقصور ٍ
الكتاب وتصنيفه؛ ولم يزل هو يملي وتلميذه يكتب ،ويرجع هو فيه؛ حتى
استقر الكتاب على غاية التقان والحكام .ورتب فيه أربعة عشر بابًا؛ كل
ة والجواب عنها؛ ليكون لمن ب منها قائم بنفسه .وفي كل باب مسأل ٌ با ٍ
ظ من الهداية .وضمن تلك البواب كتابا ً واحدًا؛ وسماه كتاب نظر فيه ح ٌ
كليلة ودمنة .ثم جعل كلمه على ألسن البهائم والسباع والطير :ليكون
ة لعقول الخاصة .وضمنه أيضا ً ظاهره لهوا ً للخواص والعوام ،وباطنه رياض ً
ما يحتاج إليه النسان من سياسة نفسه وأهله وخاصته ،وجميع ما يحتاج
إليه من أمير دينه ودنياه ،وأخرته وأوله؛ ويحضه على حسن طاعته
للملوك ويجنبه ما تكون مجانبته خيرا ً له .ثم جعله باطنا ً وظاهرا ً كرسم
سائر الكتب التي برسم الحكمة :فصار الحيوان لهوًا ،وما ينطق به حكم ً
ة
وأدبًا .فلما ابتدأ بيدبا بذلك جعل أول الكتاب وصف الصديق ،وكيف يكون
الصديقان ،وكيف تقطع المودة الثابتة بينهما بحيلة ذي النميمة .وأمر
تلميذه أن يكتب على لسان بيدبا مثل ما كان الملك شرطه في أن جعله
ة .فذكر بيدبا أن الحكمة متى دخلها كلم النقلة أفسدها وجهلت لهوا ً وحكم ً
حكمتها .فلم يزل هو وتلميذه يعملن الفكر فيما سأله الملك ،حتى فتق
لهما العقل أن يكون كلمهما على لسان بهيمتين .فوقع لهما موضع اللهو
والهزل بكلم البهائم .وكانت الحكمة ما نطقا به .فأصغت الحكماء إلى
حكمه وتركوا البهائم واللهو ،وعلموا أنها السبب في الذي وضع لهم.
ومالت إليه الجهال عجبا ً من محاورة بهيمتين ،ولم يشكوا في ذلك؛
واتخذوه لهوًا ،وتركوا معنى الكلم أن يفهموه ،ولم يعلموا الغرض الذي
وضع له؛ لن الفيلسوف إنما كان غرضه في الباب الول أن يخبر عن
تواصل الخوان كيف تتأكد المودة بينهم على التحفظ من أهل السعاية
والتحرز ممن يوقع العداوة بين المتحابين :ليجر بذلك نفعا ً إلى نفسه .فلم
ة. يزل بيدبا وتلميذه في المقصورة ،حتى استتما عمل الكتاب في مدة سن ٍ
فلما تم الحول أنفذ إليه الملك أن قد جاء الوعد فماذا صنعت? فأنفذ إليه
بيدبا :إني على ما وعدت الملك .فليأمرني بحمله ،بعد أن يجمع أهل
المملكة لتكون قراءتي هذا الكتاب بحضرتهم ،فلما رجع الرسول إلى
الملك سر بذلك ،ووعده يوما ً يجمع فيه أهل المملكة .ثم نادى في أقاصي
بلد الهند ليحضروا قراءة الكتاب .فلما كان ذلك اليوم ،أمر الملك أن
ينصب لبيدبا سريٌر مثل سريره ،كراسي لبناء الملوك والعلماء .وأنفذ
فأحضره .فلما جاءه الرسول قام فلبس الثياب التي كان يلبسا إذا دخل
على الملوك وهي المسوح السود ،وحمل الكتاب تلميذه .فلما دخل على
الملك وثب الخلئق بأجمعهم ،وقام الملك شاكرًا .فلما قرب من الملك
كفر له وسجد ،ولم يرفع رأسه .فقال له الملك :يا بيدبا ارفع رأسك ،فإن
هذا يوم هناءةٍ وفرٍح وسروٍر ،وأمره أن يجلس .فحين جلس لقراءة
الكتاب ،سأله عن معنى كل باب من أبوابه ،وإلى أي شيٍء قصد فيه.
فأخبره بغرضه فيه ،وفي كل باب .فازداد الملك منه تعجبا ً وسرورًا .فقال
له :يا بيدبا ما عدوت الذي في نفسي؛ وهذا الذي كنت أطلب؛ فالطلب ما
شئت وتحكم .فدعا له بيدبا بالسعادة وطول الجد .وقال :أيها الملك أما
المال فل حاجة لي فيه ،وأما الكسوة فل أختار على لباسي ذا شيئًا؛
ة
ة .قال الملك :يا بيدبا ما حاجتك? فكل حاج ٍولست أخلي الملك من حاج ٍ
ة .قال :يأمر الملك أن يدون كتابي هذا كما دون آباؤهلك قبلنا مقضي ٌ
وأجداده كتبهم ،ويأمر بالمحافظة عليه :فإن أخاف أن يخرج من بلد
الهند ،فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛ فالملك يأمر أل يخرج من بيت
الحكمة .ثم دعا الملك بتلميذه وأحسن لهم الجوائز .ثم إنه لما ملك
كسرى أنوشروان وكان مستأثرا ً بالكتب والعلم والدب والنظر في أخبار
الوائل ويقع له خبر الكتاب؛ فلم يقر قراره حتى بعث بروزيه الطبيب
وتلطف حتى أخرجه من بلد الهند فأقره في خزائن فارس.اف أن يخرج
من بلد الهند ،فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛ فالملك يأمر أل يخرج من
بيت الحكمة .ثم دعا الملك بتلميذه وأحسن لهم الجوائز .ثم إنه لما ملك
كسرى أنوشروان وكان مستأثرا ً بالكتب والعلم والدب والنظر في أخبار
الوائل ويقع له خبر الكتاب؛ فلم يقر قراره حتى بعث بروزيه الطبيب
وتلطف حتى أخرجه من بلد الهند فأقره في خزائن فارس.
أقل ما قنعت به وأيسره عندنا! وإن كان خطره عنييدك عظيم يًا .ثييم
أقبل أنوشروان على وزيره بزرجمهر فقال له :قد عرفييت مناصييحة
بروزيه لنا ،وتجشمه المخاوف والمهالك فيما يقربه منا ،وإتعابه بدنه
فيما يسرنا ،وما أتى به إلينا من المعروف ،وما أفادنا الله على يييده
من الحكمة والدب الباقي لنا فخره ،وما عرضيينا عليييه ميين خزائننييا
لنجزيه بذلك على ما كان منه ،فلم تمل نفسه إلى شيٍء ميين ذلييك؛
وكان بغيته وطلبته منا أمرا ً يسيرا ً رآه هو الثييواب منييا لييه والكراميية
واعلم أن ذلك مما يسرني ،ول تدع شيئا ً ميين الجتهيياد والمبالغيية إل
بلغته ،وإن نالتك فيه مشقة .وهو أن تكتب بابا ً مضارعا ً لتلك البواب
التي في الكتاب؛ وتذكر فيه فضل بروزيه ،وكيييف كييان ابتييداء أمييره
وشأنه ،وتنسبه إليه وإلى حسبه وصناعته ،وتذكر فيه بعثتييه إلييى بلد
على غيرنا؛ وكيف كان حال بروزيه وقدومه من بلد الهنييد؛ فقييل مييا
لمحبتك للعلوم .واجهد أن يكون غرض هذا الكتاب الذي ينسب إلييى
بهذا الكتياب ،واجعليه أول البيواب .فيإذا أنيت عملتيه ووضيعته فيي
مقالة الملك خر له ساجدًا ،وقال :أدام الله لييك أيهييا الملييك البقيياء،
بذلك شييرفا ً باقييا ً إليى البييد .ثييم خييرج بزرجمهيير مين عنيد المليك،
فوصف بروزيه من أول يوم دفعه أبواه إلى المعلم ،ومضيه إلى بلد
إلى أن بعثه أنوشروان إلى الهند في طلييب الكتيياب .ولييم يييدع ميين
بأجود ما يكييون مين الشيرح .ثييم أعليم المليك بفراغيه منييه .فجميع
بوصف بروزيييه حييتى انتهييى إلييى آخييره .ففييرح الملييك بمييا أتييى بييه
ي
بزرجمهر ،وشكروه ومدحوه؛ وأمر الملك بمال جزيل وكسوةٍ وحل ٍ
ن؛ فلم يقبل من ذلك شيئا ً غير كسوةٍ كانت من ثييياب الملييوك.
وأوا ٍ
ثم شكر له ذلك بروزيه وقبل رأسه ويده؛ وأقبل بروزيه على الملك
وقال :أدام الله لك الملييك والسيعادة فقييد بلغييت بيي وبييأهلي غاييية
ذكري.
هذا كتاب كليلة ودمنة ،وهو مما وضعه علماء الهند من المثال والحاديث
التي ألهموا أن يدخلوا فيها أبلغ ما وجدوا من القول في النحو الذي أرادوا.
ولم تزل العلماء من أهل كل ملة يلتمسون أن يعقل عنهم ،ويحتالون في
ذلك بصنوف الحيل؛ ويبتغون إخراج ما عندهم من العلل ،حتى كان من
تلك العلل وضع هذا الكتاب على أفواه البهائم والطير .فاجتمع لهم بذلك
ل .أما هم فوجدوا متصرفا ً في القول وشعابا ً يأخذون منها .وأما الكتاب خل ٌ
ً
ة ولهوا :فاختاره الحكماء لحكمته .والسفهاء للهوه ،والمتعلم فجمع حكم ً
ٌ
من الحداث ناشط في حفظ ما صار إليه من أمر يربط في صدره ول
م .وكان كالرجل يدري ما هو ،بل عرف أنه قد ظفر من ذلك بمكتوي مرقو ٍ
الذي لما استكمل الرجولية وجد أبويه قد كنزا له كنوزا ً وعقدا له عقودا ً
استغنى بها عن الكدح فيما يعمله من أمر معيشته؛ فأغناه ما أشرف عليه
من الحكمة عن الحاجة إلى غيرها من وجوه الدب.
وينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له؛ وإلى أي
غايةٍ جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصٍح؛
ل :فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم وغير ذلك من الوضاع التي جعلها أمثا ً
يدر ما أريد بتلك المعاني ،ول أي ثمرةً يجتني منها ،ول أي نتيجة تحصل له
من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب .وإنه وإن كان غيته استتمام قراءته
إلى آخره دون معرفة ما يقرأ منه لم يعد عليه شيٌء يرجع إليه نفعه.
ومن استكثر من جمع العلوم وقراءة الكتب؛ من غير إعمال الروية فيما
يقرؤه ،كان خليقا ً أل يصيبه إل ما أصاب الرجل الذي زعمت العلماء أنه
اجتاز ببعض المفاوز ،فظهر لو موضع آثار كنز؛ فجعل يحفر ويطلب ،فوقع
ق؛ فقال في نفسه :إن أنا أخذت في نقل هذا ن وور ٍ
على شيٍء من عي ٍ
المال قليل ً قليل ً طال علي ،وقطعني الشتغال بنقله وإحرازه عن اللذة بما
أصبت منه؛ ولكن سأستأجر أقواما ً يحملونه إلى منزلي ،وأكون أنا أخرهم،
ول يكون بقي ورائي شيٌء يشغل فكري بنقله؛ وأكون قد استظهرت
لنفسي في إراحة بدني عن الكد بيسير الجرة أعطيهم إياها .ثم جاء
بالحمالين ،فجعل يحمل كل واحدٍ منهم ما يطيق ،فينطلق به إلى منزله:
فلم يجد فيه من المال شيئًا ،ل قليل ً ول كثيرًا .وإذا كل واحدٍ من الحمالين
قد فاز بما حمله لنفسه .ولك يكن له من ذلك إل العناء والتعب :لنه لم
يفكر في آخر أمره .وكذلك من قرأ هذا الكتاب ،ولم يفهم ما فيه ،ولم
يعلم غرضه ظاهرا ً وباطنًا ،لم ينتفع بما بدا له من خطه ونقشه؛ كما لو أن
ح لم ينتفع به إل أن يكسره؛ وكان أيضا ً كالرجل رجل ً قدم له جوٌز صحي ٌ
الذي طلب علم الفصيح من كلم الناس؛ فأتى صديقا ً له من العلماء ،له
م بالفصاحة ،فأعلمه حاجته إلى علم الفصيح؛ فرسم له صديقه في عل ٌ
صحيفة صفراء فصيح الكلم وتصاريفه ووجوهه؛ فانصرف المتعلم إلى
منزله؛ فجعل يكثر قراءتها ول يقف على معانيها .ثم إنه جلس ذات يوم ٍ
ة
ل من أهل العلم والدب ،فأخذ في محاورتهم؛ فجرت له كلم ٌ في محف ٍ
أخطأ فيها؛ فقال له بعض الجماعة :إنك قد أخطأت؛ والوجه غير ما تكلمت
به ،فقال وكيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء؛ وهي في منزلي?
فكانت مقالته لهم أوجب للحجة عليه وزاده ذلك قربا ٌ من الجهل وبعدا ً من
الدب.
ثم إن العاقل إذا فهم هذا الكتاب وبلغ نهاية علمه فيه ،ينبغي له أن يعمل
بنا علم منه لينتفع به؛ ويجعله مثال ً ل يحيد عنه .فإذا لم يفعل ذلك ،كان
مثله كالرجل الذي زعموا أن سارقا ً تسور عليه وهو نائم في منزله ،فعلم
به فقال :والله لسكتن حتى أنظر ماذا يصنع ،ول أذعره؛ ول أعلمه أني قد
علمت به .فإذا بلغ مراده قمت إليه ،فنغصت ذلك عليه .ثم إنه أمسك عنه.
وجعل السارق يتردد ،وطال تردده في جمعه ما يجده؛ فغلب الرجل
النعاس فنام ،وفرغ اللص مما أراد ،وأمكنه الذهاب .واستيقظ الرجل،
فوجد اللص قد أخذ المتاع وفاز به .فأقبل على نفسه يلومها ،وعرف أن
لم ينتفع بعلمه باللص :إذ لم يستعمل في أمره ما يجب .فالعلم ل يتم إل
بالعمل ،وهو كالشجرة والعمل به كالثمرة .وإنما صاحب العلم يقوم
بالعمل لينتفع به؛ وإن لم يستعمل ما يعلم ل يسمى عالمًا .ولو أن رجل ً
ل؛ ولعله إن ف ،ثم سلكه على علم ٍ به ،سمي جاه ً ق مخو ٍ ً
كان عالما بطري ٍ
حاسب نفسه وجدها قد ركبت أهواًء هجمت بها فيما هو أعرف بضررها
فيه وأذاها من ذلك السالك في الطريق المخوف الذي قد جهله .ومن
ركب هواه ورفض ما ينبغي أن يعمل بما جربه هو أو أعلمه به غيره ،كان
كالمريض العالم برديء الطعام والشراب وجيده وخفيفه وثقيله ،ثم يحمله
الشره على أكل رديئه وترك ما هو أقرب إلى النجاة والتخلص من علته.
وأقل الناس عذرا ً في اجتناب محمود الفعال وارتكاب مذمومها من أبصر
ذلك وميزه وعرف فضل بعضه على بعض كما أنه لو أن رجلين أحدهما
بصير والخر أعمى ساقهما الجل إلى حفرة فوقعا فيها ،كانا إذا صارا في
ة؛ غير أن البصير أقل عذرا ً عند الناس من الضرير :إذ قاعها بمنزلةٍ واحد ٍ
كانت له عينان يبصر بهما ،وذاك بما صار إليه جاهل غير عارف.
وعلى العالم أن يبدأ بنفسه ويؤدبها بعلمه ،ول تكون غايته اقتناؤه العلم
لمعاونة غيره ،ويكون كالعين التي يشرب منها الناس ماءها وليس لها في
ذلك شيٌء من المنفعة ،وكدودة القز التي تحكم صنعته ول تنتفع به.
فينبغي لمن يطلب العلم أن يبدأ بعظة نفسه ،ثم عليه بعد ذلك أن
يقبسه ؛ فإن خلل ً ينبغي لصاحب الدنيا أن يقتنيها ويقبسها :منها العلم
والمال .ومنها اتخاذ المعروف .وليس للعالم أن يعيب أمرا ً بشيٍء فيه
مثله ،ويكون كالعمى الذي يعير العمى بعماه .وينبغي لم طلب أمرا ً أن
ة ،ويعمل بها ،ويقف عندها؛ ول يتمادى في الطلب؛ ة ونهاي ُ يكون له فيه غاي ٌ
فإنه يقال :من سار إلى غير غاية يوشك أن تنقطع به مطيته؛ وأنه كان
حقيقا ً أل يعني نفسه في طلب ما ل حد له ،وما لم ينله أحد قبله ،ول
يتأسف عليه؛ ول يكون لدنياه مؤثرا ً على أخرته :فإن من لم يعلق قلبه
بالغايات قلت حسرته عند مفارقتها .وقد يقال في أمرين إنهما يجملن
د :أحدهما النسك والخر المال الحلل ول يليق بالعاقل أن يؤنب بكل أح ٍ
نفسه على ما فاته وليس في مقدوره؛ فربما أتاح الله ما يهنأ به ولم يكن
ي ،فألجأه ة وجوعٌ وعر ٌفي حسبانه .ومن أمثال هذا أن رجل ً كان به فاق ٌ
ذلك إلى أن سأل أقاربه أصدقاءه ،فلم يكن عند أحد منهم فضل يعود به
ق فيه؛ فقال :والله ما عليه .فبينما هو ذات ليلةٍ في منزله إذ أبصر بسار ٍ
في منزلي شيٌء أخاف عليه :فليجهد السارق جهده .فبينما السارق يجول
ة ،فقال السارق :والله ما أحب أن إذ وقعت يده على خابية فيها حنط ٌ
ل .ولعلي ل أصل إلى موضع آخر ،ولكن سأحمل يكون عنائي الليلة باط ً
هذه الحنطة .ثم بسط قميصه ليصب عليه الحنطة .فقال الرجل :أيذهب
هذا بالحنطة وليس ورائي سواها? فيجتمع علي مع العري ذهاب ما كنت
أقتات به .وما تجتمع والله هاتان الخلتان على أحدٍ إل أهلكاه .ثم صاح
ة إل الهرب بالسارق ،وأخذ هراوةً كانت عند رأسه؛ فلم يكن للسارق حلي ٌ
منه ،وترك قميصه ونجا بنفسه؛ وغدا الرجل به كاسيًا .وليس ينبغي أن
يركن إلى مثل هذا ويدع ما يجب عليه من الحذر والعمل في مثل هذا
لصلح معاشه؛ ول ينظر إلى من تواتيه المقادير وتساعده على غير
ل؛ والجمهور منهم من أتعب نفسه التماس منه :لن أولئك في الناس قلي ٌ
في الكد والسعي فيما يصلح أمره وينال به ما أراد .وينبغي أن يكون
حرصه على ما طاب كسبه وحسن نفعه؛ ول يتعرض لما يجلب عليه العناء
والشقاء؛ فيكون كالحمامة التي تفرخ الفراخ وتذبح ،ثم ل يمنعها ذلك أن
تعود فتفرخ موضعها ،وتقيم بمكانها فتؤخذ الثانية من فراخها فتذبح .وقد
يقال :إن الله تعالى قد جعل لكل شيٍء حدا ً يوقف عليه .ومن تجاوز في
أشياء حدها أوشك أن يلحقه التقصير عن بلوغها .ويقال :من كان سعيه
لخرته ودنياه فحياته له وعليه .ويقال في ثلثة أشياء يجب على صاحب
الدنيا إصلحها وبذل جهده فيها :منها أمر معيشته؛ ومنها ما بينه وبين
الناس؛ ومنها ما يكسبه الذكر الجميل بعد .وقد قيل في أمورٍ من كن فيها
ل .من التواني؛ ومنها تضييع الفرص؛ ومنها التصديق لكل لم يستقم له عم ٌ
ر .فرب مخبرٍ بشيٍء عقله ول يعرف استقامته فيصدقه. مخب ٍ
ً ً
وينبغي للعاقل أن يكون لهواه متهما؛ ول يقبل من كل أحدٍ حديثا؛ ول
يتمادى في الخطأ إذا ظهر له خطؤه ول يقدم على أمرٍ حتى يتبين له
الصواب ،وتتضح له الحقيقة؛ ول يكون كالرجل الذي يحيد عن الطريق،
فيستمر على الضلل ،فل يزداد في السير إل جهدًا ،وعن القصد إل بعدا؛ً
وكالرجل الذي تقذى عينه فل يزال يحكها ،وربما كان ذلك الحك سببا ً
لذهابها .ويجب على العاقل أن يصدق بالقضاء والقدر ،ويأخذ بالحزم،
ويحب الناس ما يحب لنفسه ،ول يلتمس صلح نفسه بفساد غيره ،فإنه
من فعل ذلك كان خليقا ً أن يصيبه ما أصاب التاجر من رفيقه.
ك ،فاستأجرا حانوتًا ،وجعل ل تاجٌر ،وكان له شري ٌ فإنه يقال إنه كان رج ٌ
متاعهما فيه .وكان أحدهما قريب المنزل من الحانوت؛ فأضمر في نفسه
أن يسرق عدل ً من أعدال رفيقه؛ ومكر الحيلة في ذلك ،وقال :إن أتيت
ليل ً لم آمن من أن أحمل عدل ً من أعدالي أو رزمة من رزمي ول أعرفها؛
ل .فأخذ رداءه ،وألقاه على العدل الذي أضمر فيذهب عنائي وتعبي باط ً
أخذه .ثم انصرف إلى منزله .وجاء رفيقه بعد ذلك ليصلح أعداله ،فوجد
رداء شريكه على بعض أعداله ،فقال :والله هذا رداء صاحبي؛ ول أحسبه
إل قد نسيه .وما الرأي أن أدعه هاهنا؛ ولكن اجعله على رزمه؛ فلعله
ل
يسبقني إلى الحانوت فيجده حيث يحب .ثم أخذ الرداء فألقاه على عد ٍ
ل قد واطأه على ما عزم عليه ،وضمن له جعل ً من أعدال رفيقه ومعه رج ٌ
على حمله؛ فصار إلى الحانوت؛ فالتمس الزار في الظلمة فوجده على
العدل؛ فاحتمل ذلك العدل؛ وأخرجه هو والرجل ،وجعل يتراوحان على
حمله؛ حتى أتى منزله ،ورمى نفسه تعبًا .فلما أصبح افتقده فإذا هو بعض
أعداله؛ فندم أشد الندامة .ثم انطلق نحو الحانوت ،فوجد شريكه قد سبقه
إليه ففتح الحانوت ووجد العدل مفقودًا :فاغتم لذلك غما ً شديدًا؛ وقال:
واسوءتاه من رفيق صالٍح قد ائتمنني على ماله وخلفني فيه! ماذا يكون
حالي عنده? ولست أشك في تهمته إياي .ولكن قد وطنت نفسي على
غرامته .ثم أتى صاحبه فوجده مغتمًا ،فسأله عن حاله؛ فقال إني قد
افتقدت العدال ،وفقدت عدل ً من أعدالك ،ول أعلم بسببه؛ وإني ل أشك
في تهمتك إياي؛ وإني قد وطنت نفسي على غرامته .فقال له :يا أخي ل
تغتم :فإن الخيانة شر ما عمله النسان ،والمكر والخديعة ل يؤديان إلى
ر؛ وصاحبهما مغرور أبدًا ،وما عاد وبال البغي إل على صاحبه :وكيف خي ٍ
كان ذلك? فأخبره بخبره ،وقص عليه قصته .فقال له رفيقه :ما مثلك إل
مثل اللص والتاجر .فقال له :وكيف كان ذلك? قال :زعموا أن تاجرا ً كان
له في منزله خابيتان إحداهما مملوءة حنطة ،والخرى مملوءة ذهبًا.
فترقبه بعض اللصوص زمانًا ،حتى إذا كان بعض اليام تشاغل التاجر عن
المنزل؛ فتغفله اللص ،ودخل المنزل ،وكمن في بعض نواحيه .فلما هي
بأخذ الخابية التي فيها الدنانير أخذ التي فيها الحنطة ،وظنها التي فيها
ب حتى أتى بها منزله فلما فتحها وعلم ما الذهب؛ ولم يزل في كدٍ وتع ٍ
فيها ندم .قال له الخائن :ما أبعدت المثل ،ول تجاوزت القياس؛ وقد
اعترفت بذنبي وخطئي عليك ،وعزيز علي أن يكون هذا كهذا .غير أن
النفس الرديئة تأمر بالفحشاء .فقبل الرجل معذرته ،وأضرب عن توبيخه
وعن الثقة به؛ وندم هو عندما عاين من سوء فعله وتقديم جهله.
وقد ينبغي للناظر في كتابنا هذا أل تكون غييايته التصييفح لييتزاويقه.
بل يشرف على ما يتضمن من المثال ،حتى ينتهي منه؛ ويقييف عنييد
الذين خلف لهم أبوهم المال الكثير ،قتنازعوه بينهم؛ فأمييا الكييبيران
عندما نظر ما صار إليه أخواه ميين إسييرافهما وتخليهمييا ميين المييال،
اقبل على نفسه يشاورها وقال :يا نفسي إنما المال يطلبه صيياحبه،
ه :لبقياء حياله ،وصيلح معاشييه ودنييياه ،وشييرف
ويجمعه من كل وج ٍ
فقيرا ً وإن كان موسرًا .وإن هو أحسيين إمسيياكه والقيييام عليييه ،لييم
يعدم المرين جميعا ً من دنيا تبقى عليه ،وحم يدٍ يضيياف إليييه؛ ومييتى
قصد إنفاقه على غير الوجوه التي علمت ،لم يلبث أن يتلفه ويبقييى
أن ينفعني الله به :ويغني أخوي على يدي :فإنما هو مال أبيي ومييال
أبيهمييا .وإن أولييى النفيياق علييى صييلة الرحييم وإن بعييدت ،فكيييف
الذي كان في بعض الخلجان يصيد فيه السمك في زورق فرأى ذات
وجدها فارغة ل شيء فيها مم ظيين .فنييدم علييى تييرك مييا فييي يييده
للطمع ،وتأسف على ما فاته ،فلما كان اليوم الثاني تنحى عين ذلييك
معاني ،وأخذوا بظاهره .ومن صييرف همتييه إلييى النظيير فييي أبييواب
وسقاها ،حتى إذا قرب خيرها وأينعت ،تشيياغل عنهييا بجمييع مييا فيهييا
من الزهر وقطيع الشيوط؛ فأهليك بتشياغله ميا كيان أحسين فيائدةً
ة.
وأجميييييييييييييييييييييييييييييييييييييل عيييييييييييييييييييييييييييييييييييييائد ً
وينبغييي للنيياظر فييي هييذا الكتيياب أن يعلييم أنييه ينقسييم إلييى أربعيية
ض :أحدها ما قصييد فيييه إلييى وضييعه علييى ألسيينة البهييائم غييير
أغرا ٍ
الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهيزل مين الشيبان ،فتسيتمال بييه
أنسا ً لقلوب الملوك ،ويكييون حرصييهم عليييه أشييد للنزهيية فييي تلييك
والسوقة ،فيكثر بذلك انتساخه ،ول يبطل فيخلق على مييرور اليييام؛
ة.
وذلك مخصوص بالفيلسوف خاص ً
قال بروزيه رأس أطباء فارس ،وهو الذي تولى انتساخ هذا الكتاب،
وترجمه من كتب الهند -وقد مضى ذكر ذلك من قبل : -أبي كان من
ة
المقاتلة ،وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة .وكان منشئي في نعم ٍ
ة ،وكنت أكرم ولد أبوي عليهما؛ وكانا بي أشد احتفاظا ً من دون كامل ٍ
إخوتي ،حتى إذا بلغت السبع سنين ،أسلماني إلى المؤدب؛ فلما حذقت
الكتابة ،شكرت أبوي؛ ونظرت في العلم ،فكان أول ما ابتدأت به وحرصت
عليه ،علم الطب :لني كنت عرفت فضله .وكلما ازددت منع علما ً ازددت
فيه حرصا ً ،وله اتباعًا .فلما همت نفسي بمداواة المرضى ،وعزمت على
ذلك آمرتها ثم خيرتها بين المور الربعة التي يطلبها الناس ،وفيها يرغبون،
ولها يسعون .فقلت :أي هذه الخلل أبتغي في علمي? وأيها أحرى بي
فأدرك منه حاجتي? المال ،أم الذكر ،أم اللذات أم الخرة? وكنت وجدت
في كتب الطب أن أفضل الطباء من واظب على طبه ،ل يبتغي إل
الخرة .فرأيت أن أطلب الشتغال بالطب ابتغاء الخرة :لئل أكون كالتاجر
ة بخرزةٍ ل تساوي شيئًا؛ مع أني قد وجدت في كتب ة ثمين ً
الذي باع ياقوت ً
الولين أن الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر الخرة ل ينقصه ذلك حظه في
الدنيا .وإن مثله مثل الزارع الذي يعمر أرضه ابتغاء الزرع ل ابتغاء العشب.
ثم هي ل محالة نابت فيها ألوان العشب مع يانع الزرع .فأقبلت على
مداواة المرضى ابتغاء أجر الخرة ،فلم أدع مريضا ً أرجو له البرء ،وآخر ل
أرجو له ذلك ،إل أني أطمع أن يخف عنه بعض المرض ،إل بالغت في
مداواته ما أمكنني القيام عليه بنفسي؛ ومن لم أقدر على القيام عليه
وصفت له ما يصلح ،وأعطيته من الدواء ما يعالج به .ولم أرد ممن فعلت
ة؛ ولم أغبط أحدا ً من نظرائي الذين هم دوني في معه ذلك جزاًء ول مكافأ ً
ة
العلم وفوقي في الجاه والمال وغيرهما مما ل يعود بصلح ول حسن سير ٍ
ل .لما تاقت نفسي إلى غشيانهم وتمنت منازلهم أثبت لها قول ً ول عم ً
الخصومة ؛ فقلت لها :يا نفس ،أما تعرفين نفعك من ضرك? أل تنتهين عن
ل انتفاعه به ،وكثر عناؤه فيه ،واشتدت المئونة تمني ما ل يناله أحد إل ق ّ
عليه وعظمت المشقة لديه بعد فراقه? يا نفسي ،أما تذكرين ما بعد هذه
الدار :فينسيك ما تشرهين إليه منها? أل تستحبين من مشاركة الفجار في
حب هذه العاجلة الفانية التي من كان في يده شيٌء منها فليس له ،وليس
ق عليه؛ فل يألفها إل المغترون الجاهلون? يا نفس انظري في أمرك، ببا ٍ
وانصرفي عن هذا السفه ،وأقبلي بقوتك وسعيك على تقديم الخير ،وإياك
ت ،وأنه مملوٌء أخلطا ً فاسدةً والشر ،واذكري أن هذا الجسد موجود ٌ لفا ٍ
ة ،تعقدها الحياة ،والحياة إلى نفاٍد؛ كالصنم المفصلة أعضاؤه إذا ركبت قذر ً
ض ،فإذا أخذ ذلكد ،ويضم يعضها إلى بع ٍ ووضعت ،يجمعها مسماٌر واح ٌ
المسمار تساقطت الوصال .يا نفس ،ل تغتري بصحبة أحبائك وأصحابك،
ول تحرصي على ذلك كل الحرص :فإن صحبتهم -على ما فيها من
السرور -كثيرة المئونة ،وعاقبة ذلك الفراق .ومثلها مثل المغرفة التي
تستعمل في جدتها لسخونة المرق ،فإذا انكسرت صارت وقودًا .يا نفس،
ل يحملنك أهلك وأقاربك على جمع ما تهلكين فيه ،إرادة صلتهم؛ فإذا أنت
كالدخنة الرجة التي تحترق ويذهب آخرون بريحها .يا نفس ،ل يبعد الكثير
ت من الصندل ،فقال :إن بعته وزنا ً باليسير؛ كالتاجر الذي كان له ملء بي ٍ
طال علي ،فباعه جزافا ً بأبخس الثمن .وقد وجدت آراء الناس مختلفة
ف.
ب ،ولقوله مخال ٌ د ،وله عدوٌ ومغتا ٌ ل را ٌ
ل على ك ٍ وأهواءهم متباينة؛ وك ٌ
ً
فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحدٍ منهم سبيل؛ وعرفت أني إن
صدقت أحدا ً منهم ل علم لي بحاله ،كنت في ذلك كالمصدق المخدوع
ل من الغنياء ،وكان معه الذي زعموا في شأنه أن سارقا ً عل ظهر بيت رج ٍ
ة من أصحابه ،فاستيقظ صاحب المنزل من حركة أقدامهم ،فعرف جماع ٌ
ً
امرأته ذلك؛ فقال لها :رويدا إني لحسب اللصوص علوا البيت ،فأيقظيني
بصوت يسمعه اللصوص وقولي أل تخبرني أيها الرجل عن أموالك هذه
الكثيرة وكنوزك العظيمة? فإذا نهيتك عن هذا السؤال فألحي علي
بالسؤال .ففعلت المرأة ذلك وسألته كما أمرها؛ وأنصتت اللصوص إلى
ق
سماع قولهما .فقال لها الرجل :أيتها المرأة ،قد ساقك القدر إلى رز ٍ
ر :فكلي واسكتي ،ول تسألي عن أمرٍ إن أخبرتك به لم آمن من واسٍع كثي ٍ
د ،فيكون في ذلك ما أكره وتكرهين .فقالت المرأة :أخبرني أن يسمعه أح ٌ
أيها الرجل ،فلعمري ما بقربنا أحد ٌ يسمع كلمنا .فقال لها :فإني أخبرك
أني لم أجمع هذه الموال إل من السرقة .قال :وكيف كان ذلك? وما كنت
تصنع? قال :ذلك لعلم ٍ أصبته في السرقة ،وكان المر علي يسيرًا ،وأنا
آمن من أن يتهمني أحد ٌ أو يرتاب في.ين .فقالت المرأة :أخبرني أيها
الرجل ،فلعمري ما بقربنا أحد ٌ يسمع كلمنا .فقال لها :فإني أخبرك أني لم
أجمع هذه الموال إل من السرقة .قال :وكيف كان ذلك? وما كنت تصنع?
قال :ذلك لعلم ٍ أصبته في السرقة ،وكان المر علي يسيرًا ،وأنا آمن من
أن يتهمني أحد ٌ أو يرتاب في.
قالت :فاذكر لي ذلك ،قال :كنت أذهب في الليلة المقمرة ،أنا وأصحابي،
حتى أعلو داء بعض الغنياء مثلنا؛ فأنتهي إلى الكوة التي يدخل منها الضوء
فأرقي بهذه الرقية وهي شولم شولم سبع مرات ،وأعتنق الضوء؛ فل
د ،فل أدع مال ً ول متاعا ً إل أخذته .ثم أرقي بتلك الرقية يحس بوقوعي أح ٌ
ت .وأعتنق الضوء فيجذبني؛ فأصعد إلى أصحابي ،فنمضي سبع مرا ٍ
سالمين آمنين .فلما سمع اللصوص ذلك قالوا :قد ظفرنا الليلة بما نريد
من المال؛ ثم إنهم أطالوا المكث حتى ظنوا أن صاحب الداء وزوجته قد
ت؛ ثم هجعا؛ فقام قائدهم إلى مدخل الضوء؛ وقال :شولم شولم سبع مرا ٍ
اعتنق الضوء لينزل إلى أرض المنزل ،فوقع على أم رأسه منكسًا .فوثب
إليه الرجل بهراوته ،وقال له :من أنت? قال :أنا المصدق المخدوع المغتر
يما ل يكون أبدًا؛ وهذه ثمرة رقيتك .فلما تحرزت من تصديق ما ل يكون،
ولم آمن إن صدقته أن يوقعني في مهلكةٍ عدت إلى طلب الديان
والتماس العدل منها؛ فلم أجد عند أحدٍ ممن كلمته جوابا ً فيما سألته عنه
فيها ،ولم أر فيما كلموني به شيئا ً يحق لي في عقلي أن أصدق به ول أن
ة آخذ منه ،الرأي أن ألزم دين آبائي وأجدادي أتبعه .فقلم لما لم أجد ثق ً
الذي وجدتهم عليه .فلما ذهبت التمس العذر لنفسي في لزوم دين الباء
ة؛ بل وجدتها تريد أن والجداد ،لم أجد لها على الثبوت على دين الباء طاق ً
تتفرغ للبحث عن الديان والمسألة عنها ،وللنظر فيها؛ فهجس في قلبي
وخطر على بالي قرب الجل وسرعة انقطاع الدنيا واعتباط أهلها وتحزم
الدهر حياتهم .ففكرت في ذلك .فلما خفت من التردد والتحول ،رأيت أل
ل تشهد النفس أنه أتعرض لما أتخوف منه المكروه؛ وأن أقتصر على عم ٍ
يوافق كل الديان .فكففت يدي عن القتل والضرب ،وطرحت نفسي عن
المكروه والغضب والسرقة والخيانة والكذب والبهتان والغيبة ،وأضمرت
د ،ول أكذب بالبعث ول القيامة ول الثواب ول في نفسي أل أبغي على أح ٍ
العقاب؛ وزايلت الشرار بقلبي ،وحاولت الجلوس مع الخيار بجهدي،
ن ،ووجدت مكسبه إذا وفق الله ورأيت الصلح ليس كمثله صاحب ول قري ٌ
وأعان يسيرًا؛ ووجدته ل ينقص على النفاق منه؛ بل يزداد جدةً وحسنا؛ً
ووجدته ل خوف عليه من السلطان أن يغصبه ،ول من الماء أن يغرقه ،ول
من النار أن تحرقه ،ول من اللصوص أن تسرقه ،ول من السباع وجوارح
الطير أن تمزقه؛ووجدت الرجل الساهي اللهي المؤثر اليسير يناله في
يومه ويعدمه في غده على الكثير الباقي نعيمه ،يصيبه ما أصاب التاجر
س ،فاستأجر لثقبه رج ً
ل ،اليوم بمائة الذي زعموا أنه كان له جوهٌر نفي ٌ
ع.ج موضو ٌ دينار؛ وانطلق به إلى المنزل ليعمل؛ وإذا في ناحية البين صن ٌ
فقال التاجر للصانع :هل تحسن أن تلعب بالصنج? قال نعم .وكان بلعبه
ماهرًا .فقال التاجر :دونك الصنج فأسمعنا ضربك به .فأخذ الرجل الصنج،
ولم يزل يسمع التاجر الضرب الصحيح ،والصوت الرفيع ،والتاجر يشير
بيده ورأسه طربًا ،حتى أمسى .فلما حان وقت الغروب قال الرجل
للتاجر :مر لي بالجرة .فقال له التاجر :وهل عملت شيئا ً تستحق به
الجرة? فقال له :عملت ما أمرتني به ،وأنا أجيرك ،وما استعملتني عملت؛
ولم يزل به حتى استوفى منه مائة دينار .وبقي جوهره غير مثقوب .فم
أزدد في الدنيا وشهواتها نظرًا ،إل ازددت فيها زهادةً ومنها هربًا .ووجدت
النسك هو الذي يمهد للمعاد كما يمهد الوالد لولده؛ ووجدته هو الباب
المفتوح إلى النعيم المقيم؛ووجدت الناسك قد تدبر فعلته بالسكينة فشكر؛
وتواضع وقنع فاستغنى ،ورضي ولم يهتم ،وخلع الدنيا فنجا من الشرور،
ورفض الشهوات فصار طاهرًا ،واطرح الحسد فوجبت له المحبة ،وسخت
نفسه بك شيٍء؛ واستعمل العقل وأبصر العاقبة فأمن الندامة ،ولم يخف
الناس ولم يدب إليهم فسلم منهم .فلم أزدد في أمر النسك نظرًا ،إل
ة ،حتى هممت أن أكون من أهله .ثم تخوفت أل أصبر على ازددت فيه رغب ً
عيش الناسك ،ولم آمن إن تركت الدنيا وأخذت في النسك ،أن أضعف عن
ذلك؛ ورفضت إعمال ً كنت أرجو عائدتها؛ وقد كنت أعملها فأنتفع بها في
ع،
الدنيا ،فيكون مثلي في ذلك مثل الكلب الذي مر بنهرٍ وفي فيه ضل ٌ
فرأى ظلها في الماء ،فهوى ليأخذها ،فأتلف ما كان معه؛ ولم يجد في
ة ،وخفت من الضجر وقلة الصبر، ة شديد ًالماء شيئًا .فهبت النسك مهاب ً
وأردت الثبوت على حالتي التي كنت عليها .ثم بدا لي أن أسبر ما أخاف
أل أصبر عليه من الذى والضيق والخشونة في النسك؛ وما يصيب صاحب
الدنيا من البلء؛ وكان عندي أنه ليس شيٌء من شهوات الدنيا ولذاتها إل
وهو متحول إلى الذى ومولد ٌ للحزن .فالدنيا كالماء الملح الذي يصيبه
الكلب فيجد فيه ريح اللحم؛ فل يزال يطلب ذلك حتى يدمي فاه .وكالحدأة
التي تظفر بقطعة من اللحم ،فيجتمع عليها الطير ،فل تزال تدور وتدأب
حتى تعيا وتتعب؛ فإذا تعبت ألقت ما معها .وكالكوز من العسل الذي في
ف ،وكأحلم ت ذعا ٌة وآخره مو ٌأسفله السم الذي يذاق منه حلوةٌ عاجل ٌ
النائم التي يفرح بها النسان في نومه ،فإذا استيقظ ذهب الفرح .فلما
فكرت في هذه المور ،رجعت إلى طلب النسك ،وهزني الشتياق إليه؛ ثم
ة ،وقد ل تثبت على أمرٍ تعزم خاصمت نفسي إذ هي في شرورها سارح ٌ
ض سمع من خصم ٍ واحدٍ فحكم له ،فلما خضر الخصم الثاني عاد عليه :كقا ٍ
إلى الول وقضى عليه .ثم نظرت في الذي أكابده من احتمال النسك
وضيقه؛ فقلت :ما أصغر هذه المشقة في جانب روح البد وراحته .ثم
نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا ،فقلت :ما أمر هذا وأوجعه،
ة
وهو يدفع إلى عذاب البد وأهواله! وكيف ل يستحلي الرجل مرارةً قليل ً
ة? ة تعقبها مرارةٌ دائم ٌ ة? وكيف ل تمر عليه حلوةٌ قليل ٌ تعقبها حلوةٌ طويل ٌ
م واحد ٌ ة ،ل يأتي عليه يو ٌ وقلت :لو أن رجل ً عرض عليه أن يعيش مائة سن ٍ
ة ؛ ثم أعيد عليه من الغد؛ غير أنه يشرط له ،أنه إذا إل بضع منه بضع ٌ
استوفى السنين المائة ،نجا من كل ألم وأذى ،وصار إلى المن والسرور،
كان حقيقا ً أل يرى تلك السنين شيئًا .أسبر ما أخاف أل أصبر عليه من
الذى والضيق والخشونة في النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البلء؛
وكان عندي أنه ليس شيٌء من شهوات الدنيا ولذاتها إل وهو متحول إلى
الذى ومولد ٌ للحزن .فالدنيا كالماء الملح الذي يصيبه الكلب فيجد فيه ريح
اللحم؛ فل يزال يطلب ذلك حتى يدمي فاه .وكالحدأة التي تظفر بقطعة
من اللحم ،فيجتمع عليها الطير ،فل تزال تدور وتدأب حتى تعيا وتتعب؛
فإذا تعبت ألقت ما معها .وكالكوز من العسل الذي في أسفله السم الذي
ف ،وكأحلم النائم التي يفرح بها ت ذعا ٌة وآخره مو ٌ يذاق منه حلوةٌ عاجل ٌ
النسان في نومه ،فإذا استيقظ ذهب الفرح .فلما فكرت في هذه المور،
رجعت إلى طلب النسك ،وهزني الشتياق إليه؛ ثم خاصمت نفسي إذ هي
ض سمع من ة ،وقد ل تثبت على أمرٍ تعزم عليه :كقا ٍ في شرورها سارح ٌ
خصم ٍ واحدٍ فحكم له ،فلما خضر الخصم الثاني عاد إلى الول وقضى
عليه .ثم نظرت في الذي أكابده من احتمال النسك وضيقه؛ فقلت :ما
أصغر هذه المشقة في جانب روح البد وراحته .ثم نظرت فيما تشره إليه
النفس من لذة الدنيا ،فقلت :ما أمر هذا وأوجعه ،وهو يدفع إلى عذاب
ة? ة تعقبها حلوةٌ طويل ٌ البد وأهواله! وكيف ل يستحلي الرجل مرارةً قليل ً
ة? وقلت :لو أن رجل ً ة تعقبها مرارةٌ دائم ٌ
وكيف ل تمر عليه حلوةٌ قليل ٌ
ة؛ م واحد ٌ إل بضع منه بضع ٌ ة ،ل يأتي عليه يو ٌ
عرض عليه أن يعيش مائة سن ٍ
ثم أعيد عليه من الغد؛ غير أنه يشرط له ،أنه إذا استوفى السنين المائة،
نجا من كل ألم وأذى ،وصار إلى المن والسرور ،كان حقيقا ً أل يرى تلك
السنين شيئًا.
وكيف يأبى الصبر على أيام قلئل يعيشها في النسك ،وأذى تلك اليام
ب .أوليس النسان ل يعقب خيرا ً كثيرًا? فلنعلم أن الدنيا كلها بلٌء وعذا ٌ قلي ٌ
ً
إنما يتقلب في عذاب الدنيا من حين يكون جنينا إلى أن يستوفي أيام
م، حياته? فإذا كان طفل ً ذاق من العذاب ألوانًا :إن جاع فليس به استطعا ٌ
ة؛ مع ما يلقى من أو عطش فليس به استسقاٌء ،أو وجع فليس به استغاث ٌ
الوضع والحمل واللف والدهن والمسح؛ إن أنيم على ظهره لم يستطع
تقلبًا؛ ثم يلقى أصناف العذاب مادام رضيعًا ،فإذا أفلت من هذا الرضاع،
أخذ في عذاب الدب ،فأذيق من ألوانًا :من عنف المعلم ،وضجر الدرس،
ظ.وسآمة الكتابة؛ ثم له من الدواء والحمية والسقام والوجاع أوفى ح ٍ
فإذا أدرك كانت همته في جمع المال وتربية الولد ومخاطرة الطلب
والسعي والكد والتعب .وهو مع ذلك يتقلب مع أعدائه الباطنية اللزمة له:
وهي الصفراء والسوداء والريح والبلغم والدم والسم المميت والحية
اللذعة؛ مع الخوف من السباع والهوام؛ مع صرف الحر والبرد والمطر
والرياح؛ ثم أنواع عذاب الهرم لمن يبلغه .فلو لم يخف من هذه المور
شيئًا ،وكان قد أمن ووثق بالسلمة منها فلم يفكر فيها ،لوجب عليه أن
يعتبر بالساعة التي يحضره فيها الموت ،فيفارق الدنيا؛ ويتذكر ما هو نازل
ن به من به في تلك الساعة :من فراق الحبة والهل والقارب وكل منو ٍ
الدنيا ،والشراف على الهول العظيم بعد الموت .فلو لم يفعل ذلك ،لكان
حقيقا ً أن يعد عاجزا ً مفرطا ً محبا ً للدناءة مستحقا ً للوم؛ فمن ذا الذي يعلم
ول يحتال لغد جهده في الحيلة ،ويرفض ما يشغله ويلهيه من شهوات
الدنيا وغرورها? و لسيما في هذا الزمان الشبيه بالصافي وهو كدٌر فإنه
وإن كان الملك حازما ً عظيم المقدرة ،رفيع الهمة بليغ الفحص ،عدل ً
مرجوا ً صدوقا ً شكورًا ،رحب الذراع مفتقدا ً مواظبا ً مستمرا ً عالما ً بالناس
نو والمور ،محبا ً للعلم والخير والخيار ،شديدا ً على الظلمة ،غير جبا ٍ
خفيف القياد ،رفيقا ً بالتوسع على الرعية فيما يحبون ،والدفع لما يكرهون؛
ن ،فكأن أمور الصدق قد نزعت من فإنا قد نرى الزمان مدبرا ً بكل مكا ٍ
الناس ،فأصبح ما كان عزيزا ً فقده مفقودًا ،وموجودا ً ما كان ضائرا ً وجوده.
وكأن الخير أصبح ذابل ً والشر أصبح ناضرًا .وكأن الفهم أصبح قد زالت
سبله .وكأن الحق ولى كسيرا ً وأقبل الباطل تابعه .وكأن اتباع الهوى
ل؛ وأصبح المظلوم بالحيف مقرا ً وإضاعة الحكم أصبح بالحكام موك ً
ل .وكأن الحرص أصبح فاغرا ً فاه من كل وجه ٍ
ة والظالم لنفسه مستطي ً
ل .وكأن الشرار يتلقف ما قرب منه وما بعد .وكأن الرضا أصبح مجهو ً
يقصدون السماء صعودًا .وكأن الخيار يريدون بطن الرض؛ وأصبحت
ة؛ وأصبح السلطان منتقل ً عن أهل الفضل إلى أهل ة ممكن ٌالدناءة مكرم ٌ
النقص .وكأن الدنيا جذلة مسرورةٌ تقول :قد غيبت الخيرات وأظهرت
السيئات .فلما فكرت في الدنيا وأمورها؛ وأن النسان هو أشرف الخلق
فيها وأفضله؛ ثم هو ل يتقلب إل في الشرور والهموم ،عرفت أنه ليس
ل يعلم ذلك ثم ل يحتال لنفسه في النجاة؛ فعجبت من ذلك ن ذو عق ٍ
إنسا ٌ
كل العجب .ثم نظرت فإذا النسان ل يمنعه عن الحتيال لنفسه إل لذةٌ
صغيرةٌ حقيرةٌ غير كبيرةٍ من الشم والذوق والنظر والسمع واللمس :فعله
يصيب منها الطفيف أو يقتني منها اليسير؛ فإذا ذلك يشغله ويذهب به عن
الهتمام لنفسه وطلب النجاة لها.
لل نجيا مين خيوف فيي ٍ فالتمست للنسان مث ً
ل ،فإذا مثله مثيل رجي ٍ
رءوسهن من أحجارهن ،ثم نظر فإذا في قيياع الييبئر تنييين فاتييح فيياه
منتظر له ليقع فيأخذه؛ فرفع بصره إلى الغصنين فييإذا فييي أصييلهما
أن الجرذيين دائبييان فيي قطيع الغصيينين؛ وميتى انقطعيا وقيع عليى
التنين .فلم يزل لهيا ً غافل ً مشغول ً بتلك الحلوة حتى سقط في فم
ت وشييرورًا،
التنييين فهلييك .فشييبهت بييالبئر الييدنيا المملييوءة آفييا ٍ
وشبهت بالعسل هذه الحلوة القليلة التي ينال منها النسان فيطعييم
عن سبيل قصده .فحينئذ ٍ صار أمري إلى الرضييا بحييالي وإصييلح مييا
فيه دليل ً على هداي ،وسلطانا ً على نفسي ،وقواما ً لمييري ،فييأقمت
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف ،وهو رأس البراهمة :اضرب لنا مثل ً
لمتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال ،حتى يحملهما على العداوة
والبغضاء .قال بيدبا :إذا ابتلي المتحابان بأن يدخل بينهما الكذوب المحتال،
لم يلبثا أن يتقاطعا ويتدابرا .ومن أمثال ذلك أنه كان بأرض دستاوند رج ٌ
ل
خ وكان له ثلثة بنين .فلما بلغوا أشدهم أسرفوا في مال أبيهم؛ ولمشي ٌ
ً
ة يكسبون لنفسهم بها خيرا .فلمهم أبوهم؛ ووعظهم يكونوا احترفوا حرف ً
على سوء فعلهم؛ وكان من قوله لهم :يا بني إن صاحب الدنيا يطلب ثلثة
أمور لن يدركها إل بأربعة أشياء :أما الثلثة التي يطلب ،فالسعة في الرزق
والمنزلة في الناس والزاد للخرة؛ وأما الربعة التي يحتاج إليها في درك
هذه الثلثة ،فاكتساب المال من أحسن وجه يكون ،ثم حسن القيام على
ما اكتسب منه ،ثم استثماره ،ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الهل
والخوان ،فيعود عليه نفعه في الخرة .فمن ضيع شيئا ً من هذه الحوال لم
ل يعيش به؛ وإن يدرك ما أراد من حاجته :لنه إن لم يكتسب ،لم يكن ما ٌ
ب ثم لم يحسن القيام عليه ،أوشك المال أن يفنى ل واكتسا ٍهو كان ذا ما ٍ
ويبقى معدمًا؛ وإن هو وضعه ولم يستثمره ،لم تنعه قلة النفاق من سرعة
ع
الذهاب :كالكحل الذي ل يؤخذ منه إل غبار الميل ثم هو مع ذلك سري ٌ
فناؤه .وإن أنفقه في غير وجهه ،ووضعه في غير موضعه ،وأخطأ في
مواضع استحقاقه ،صار بمنزلة الفقير الذي ل مال له؛ ثم ل يمنع ذلك ماله
من التلف بالحوادث والعلل التي تجري عليه؛ كمحبس الماء الذي ل تزال
س يخرج الماء منه ض ومتنف ٌ ج ومفي ٌ المياه تنصب فيه ،فإن لم يكن له مخر ٌ
ة ،وربما انبثق البثق العظيم بقدر ما ينبغي ،خرب وسال ونز من نواٍح كثير ٍ
فذهب الماء ضياعًا .ثم أنبني الشيخ اتعظوا بقول أبيهم وأخذوا به وعلموا
ض يقال لها ميون؛ فأتى أن فيه الخير وعولوا عليه؛ فانطلق أكبرهم نحو أر ٍ
ة يجرها ثوران يقال ل كثيٌر؛ وكان معه عجل ٌن فيه وح ٌفي طريقه على مكا ٍ
لحدهما شتربة وللخر بندبة ،فوحل شتربة في ذلك المكان ،فعالجه
الرجل وأصحابه حتى بلغ منهم الجهد ،فلم يقدروا على إخراجه؛ فذهب
الرجل وخلف عنده رجل ً يشارفه :لعل الوحل ينشف فيتبعه بالثور .فلما
بات الرجل بذلك المكان ،تبرم به واستوحش؛ فترك الثور والتحق بصاحبه،
فأخبره أن الثور قد مات؛ وقال له :إن النسان إذا انقضت مدته وحانت
منيته فهو وإن اجتهد في التوقي من المور التي يخاف فيها على نفسه
الهلك لم يغن ذلك عنه شيئًا؛ وربما عاد اجتهاده في توقيه وحذره وبال ً
عليه .
ف من السباع؛ وكان الرجل ً
كالذي قيل :إن رجل سلك مفازةً فيها خو ٌ
ب من خبيرا ً بوعث تلك الرض وخوفها؛ فلما سار غير بعيد اعترض له ذئ ٌ
أحد الذئاب وأضراها؛ فلما رأى الرجل أن الذئب قاصد نحوه خاف منه،
ة خلف ونظر يمينا ً وشمال ً ليجد موضعا ً يتحرز فيه من الذئب فلم ير إل قري ً
واد؛ ورأى الذئب قد أدركه ،فألقى نفسه في الماء ،وهو ل يحسن
م من أهل القرية؛ فتواقعوا السباحة ،وكاد يغرق ،لول أن بصر به قو ٌ
لخراجه فأخرجوه ،وقد أشرف على الهلك؛ فلما حصل الرجل عندهم
وأمن على نفسه من غائلة الذئب رأى على عدوة الوادي بيتا ً مفردًا؛
ة من اللصوص فقال :أدخل هذا البيت فأستريح فيه .فلما دخله وجد جماع ً
ل من التجار .وهم يقتسمون ماله؛ ويريدون قد قطعوا الطريق على رج ٍ
قتله؛ فلما رأى الرجل ذلك خاف على نفسه ومضى نحو القرية؛ فأسند
ظهره إلى حائط من حيطانها ليستريح مما حل به من الهول والعياء ،إذ
سقط الحائط عليه فمات .قال التاجر :صدقت؛ قد بلغني هذا الحديث.
ب كثير وأما الثور فإنه خلص من مكانه وانبعث .فلم يزل في مرٍج مخص ٍ
الماء والكل؛ فلما سمن وأمن جعل يخور ويرفع صوته بالخوار .وكان قريبا ً
ب م؛ وهو ملك تلك الناحية ،ومعه سباعٌ كثيرةٌ وذئا ٌ ة فيها أسد ٌ عظي ٌمنه أجم ٌ
ً
وبنات آوى وثعالب وفود ٌ ونموٌر؛ وكان هذا السد منفردا برأيه دون أخذٍ
برأي أحدٍ من أصحابه .فلما سمع خوار الثور ،ولم يكن رأى ثورا ُ قط ،ول
سمع خواره؛ لنه كان مقيما ً مكانه ل يبرح ول ينشط؛ بل يؤتى برزقه كل
يوم ٍ على يد جنده .وكان فيمن معه من السباع ابنا آوى يقال لحدهما
ب .فقال دمنة لخيه كليلة :يا كليلة وللخر دمنة؛ وكانا ذوي دهاء وعلم ٍ وأد ٍ
أخي ما شأن السد مقيما ً مكانه ل يبرح ول ينشط? قال له كليلة :ما
شأنك أنت والمسألة عن هذا? نحن على باب ملكنا آخذين بما أحب
وتاركين لما يكره؛ ولسنا من أهل المرتبة التي يتناول أهلها كلم الملوك
والنظر في أمورهم .فأمسك عن هذا ،واعلم أنه من تكلف من القول
والفعل ما ليس من شأنه أصابه ما أصاب القرد من النجار .قال دمنة:
وكيف كان ذلك? قال كليلة :زعموا ً أن قردا ً رأى نجارا ً يشق خشبة بين
وتدين ،وهو راكب عليها؛ فأعجبه ذلك .ثم إن النجار ذهب لبعض شأنه.
فقام القرد؛ وتكلف ما ليس من شغله ،فركب الخشبة ،وجعل ظهره قبل
الوتد ،ووجهه قبل الخشبة؛ فتدلى ذنبه في الشق ،ونزع الوتد فلزم الشق
عليه فخر مغشيا ً عليه .فكان ما لقي من النجار من الضرب أشد مما
أصابه من الخشبة .قال دمنة :قد سمعت ما ذكرت ،ولكن اعلم أن كل من
يدنو من الملوك ليس يدنو منهم لبطنه ،وإنما يدنو منهم ليسر الصديق
ويكبت العدو .وإن من الناس من ل مروءة له؛ وهم الذين يفرحون بالقليل
ويرضون بالدون؛ كالكلب الذي يصيب عظما ً يابسا ً فيفرح به .وأما أهل
الفضل والمروءة فل يقنعهم القليل ،ول يرضون به ،دون أن تسموا به
ل؛ كالسد الذي يفترس ل له ،وهو أيضا ً لهم أه ٌ نفوسهم إلى ما هم أه ٌ
الرنب ،فإذا رأى البعير تركها وطلب البعير ،أل ترى أن الكلب يبصبص
بذنبه .حتى ترمى له الكسرة ،وأن الفيل المعترف بفضله وقوته إذا قدم
ل وكان ذا إليه علفه ل يعتلفه حتى يمسح ويتملق له .قمن عاش ذا ما ٍ
ل على أهله وإخوانه فهو وإن قل عمره طويل العمر .ومن ل وإفضا ٍفض ٍ
ك على نفسه وذويه فالمقبور أحيا منه. ة وإمسا ٌ كان في عيشه ضيقٌ وقل ٌ
ومن عمل لبطنه وقنع وترك ما سوى ذلك عد من البهائم.
ة
ن منزل ً قال كليلة :قد فهمت ما قلت؛ فراجع عقلك ،واعلم أن لكل إنسا ٍ
وقدرًا .فإن كان في منزلته التي هو فيها متماسكًا ،كان حقيقا ً أن يقنع.
وليس لنا من المنزلة ما يحط حالنا التي نحن عليها .قال دمنة :إن المنازل
ة على قدر المروءة؛ فالمرء ترفعه مروءته من المنزلة ة مشترك ٌمتنازع ٌ
الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة؛ ومن ل مروءة له يحط نفسه من المنزلة
د،
الرفيعة إلى المنزلة الوضيعة .إن الرتفاع إلى المنزلة الشريفة شدي ٌ
ن؛ كالحجر الثقيل :رفعه من الرض إلى العاتق عسٌر، والنحطاط منه مهي ٌ
ن .فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من المنازل ،وأن ووضعه إلى الرض هي ٌ
نلتمس ذلك بمروءتنا .ثم كيف نقنع بها ونحن نستطيع التحول عنها? قال
كليلة :فما الذي اجتمع عليه رأيك? قال دمنة :أريد أن أتعرض لسد عند
هذه الفرصة :فإن السد ضعيف الرأي .ولعلي على هذه الحال أدنو منه
ة .قال كليلة :وما يدريك أن السد قد التبس ة ومكان ً فأصيب عنده منزل ً
عليه أمره? قال دمنة :بالحس والرأي أعلم ذلك منه :فإن الرجل ذا الرأي
يعرف حال صاحبه وباطن أمره بما يظهر له من دله وشكله .قال كليلة:
م
فكيف ترجو المنزلة عند السد ولست بصاحب السلطان ،ول لك عل ٌ
بخدمة السلطين? قال دمنة :الرجل الشديد القوي ل يعجزه الحمل
الثقيل ،وإن لم تكن عادته الحمل؛ والرجل الضعيف ل يستقل به وإن كان
ذلك من صناعته .قال كليلة :فإن السلطان ل يتوخى بكرامته فضلء من
بحضرته؛ ولكنه يؤثر الدنى ومن قرب منه .ويقال :إن مثل السلطان في
ذلك مثل شجر الكرم الذي ل يعلق إل بأقرب الشجر .وكيف ترجو المنزلة
عند السد ولست تدنو منه? قال دمنة :قد فهمت كلمك جميعه وما
ب من السلطان ول ذلك ق .لكن اعلم أن الذي هو قري ٌ ذكرت ،وأنت صاد ٌ
ة؛
في موضعه ول تلك منزلته ،ليس كمن دنا منه بعد البعد وله حقٌ وحرم ٌ
وأنا ملتمس بلوغ مكانتهم بجهدي .وقد قيل :ل يواظب على باب السلطان
إل من يطرح النفة ويحمل الذى ويكظم الغيظ ويرفق بالناس ويكتم
السر؛ فإذا وصل إلى ذلك فقد بلغ مراده .قال كليلة :هبك وصلت إلى
السد ،فما توفيقك عنده الذي ترجو أن تنال به المنزلة والحظوة لديه?
قال دمنة :لو دنوت منه وعرفت أخلقه ،لرفقت في متابعته وقلة الخلف
له .وإذا أراد أمرا ً هو في نفسه صواب ،زينته له وصبرته عليه ،وعرفته بما
فيه من النفع والخير؛ وشجعته عليه وعلى الوصول إليه ،حتى يزداد به
سرورًا .وإذا أراد أمرا ً بما فيه الضر والشين ،وأوقفته على ما في تركه من
النفع والزين ،بحسب ما أجد إليه السبيل .وأنا أرجو أن أزداد بذلك عند
ة ويرى مني ما ل يراه من غيري :فإن الرجل الديب الرفيق لو السد مكان ً
ً
شاء أن يبطل حقا أو يحق باطل ً لفعل :كالمصور الماهر الذي يصور في
ة وليست ة ،وأخرى كأنها داخل ٌ
ة وليست بخارج ٍ الحيطان صورا ً كأنها خارج ٌ
ة .قال كليلة :أما إن قلت هذا أو قلت هذا فإن أخاف عليك من بداخل ٍ
ة .وقد قالت العلماء :إن أمورا ً ثلثة ل يجترئ السلطان فإن صحبته خطر ٌ
ل ،وهي :صحبة السلطان ،وائتمان عليهن إل أهوج ،ول يسلم منهن إل قلي ٌ
النساء على السرار ،وشرب السم للتجربة .وإنما شبه العلماء السلطان
بالجبل الصعب المرتقى الذي فيه الثمار الطيبة والجواهر النفيسة والدوية
ف.النافعة .وهو مع ذلك معدن السباع والنمور والذئاب وكل ضارٍ مخو ٍ
د ،والمقام فيه أشد .قال دمنة :صدقت فيما ذكرت؛ غير فالرتقاء إليه شدي ٌ
أنه من لم يركب الهوال ،لم ينل الرغائب؛ ومن ترك المر الذي لعله يبلغ
ة لما لعله أن يتوقاه ،فليس ببالٍغ جسيمًا .وقد قيل: ة ومخاف ً فيه حاجته هيب ً
إن خصال ً ثلثا ً لن يستطيعها أحد إل يمعونة من علو همةٍ وعظيم خط ٍ
ر:
منها عمل السلطان وتجارة البحر ومناجزة العدو .وقد قالت العلماء في
الرجل الفاضل الرشيد :إن ل يرى إل في مكانين ،ول يليق به غيرهما :إما
مع الملوك مكرمًا ،وإما مع النساك متعبدًا ،كالفيل إنما جماله وبهاؤه في
مكانتين :إما أن تراه وحشيا ً وإما مركبا ً للملوك .قال كليلة :خار الله لك
فيما عزمت عليه.
ثم إن دمنة انطلق حتى دخل السد فسلم عيه .فقال السد لبعض
جلسائه :من هذا? فقال فلن بن فلن .قال :قد كنت أعرف أباه .ثم سأله
أين تكون? قال :لم أزل ملزما ً باب الملك ،رجاء أن يحضر أمٌر فأعين
الملك به بنفسي ورأيي :فإن أبواب الملك تكثر فيها المور التي ربما
تحتاج فيها إلى الذي ل يؤبه له؛ وليس أحد ٌ يصغر أمره إل وقد يكون عنده
بعض الغناء والمنافع على قدره؛ حتى العود الملقى في الرض ربما نفع،
فيأخذه الرجل فيكون عدته عند الحاجة إليه .فلما سمع السد قول دمنة
ة ورأيًا .فأقبل على من حضر فقال :إن الرجل أعجبه ،وظن أن عنده نصيح ً
ذا العلم والمروءة يكون خامل الذكر خافض المنزلة ،فتأبى منزلته إل أن
تشب وترتفع؛ كالشعلة من النار يضربها صاحبها وتأبى إل ارتفاعًا .فلما
عرف دمنة أن السد قد عجب منه قال :إن رعية الملك تحضر باب الملك،
ر .وقد يقال :إن الفضل في أمرين: رجاء أن يعرف ما عندها من علم ٍ واف ٍ
فضل المقاتل على المقاتل والعالم على العالم .وإن كثرة العوان إذا لم
يكونوا مختبرين ربما تكون مضرة ً على العمل :فإن العمل ليس رجاؤه
بكثرة العوان ولكن بصالحي العوان .ومثل ذلك مثل الرجل الذي يحمل
الحجر الثقيل ،فيقل به نفسه ،ول يجد له ثمنًا .والرجل الذي يحتاج إلى
الجذوع ل يجزئه القصب وإن كثر .فأنت الن أيها الملك حقيقٌ أل تحقر
مروءة ٌ أنت تجدها عند رجل صغير المنزلة :فإن الصغير ربما عظم،
كالعصب يؤخذ من الميتة فإذا عمل منه القوس أكرم ،فتقبض عليه
الملوك وتحتاج إليه في البأس واللهو.
وأحب دمنة أن يري القوم أن ما ناله من كرامة الملك غنما هو لرأيه
ومروءته وعقله :لنهم عرفوا قبل ذلك أن ذلك لمعرفته أباه ،فقال :إن
السلطان ل يقرب الرجال لقرب آبائهم ،ول يبعدهم لبعدهم ،ولكن ينبغي
ل بما عنده :لنه ل شيء أقرب إلى الرجل من جسده أن ينظر إلى كل رج ٍ
ومن جسده ما يدوى حتى يؤذيه ول يدفع ذلك عنه إل بالدواء الذي يأتيه
من بعد.
ً ً
فلما فرغ دمنة من مقالته هذه أعجب الملك به إعجابا شديدا ،وأحسن
الرد عليه ،وزاد في كرامته .ثم قال لجلسائه :ينبغي للسلطان أل يلج في
ل طبعه الشراسة، تضييع حق ذوي الحقوق .والناس في ذلك رجلن :رج ٌ
فهو كالحية إن وطئها الواطئ فلم تلدغه ،لم يكن جديرا ً أن يغره ذلك
ل أصل طباعه السهولة ،فهو منها ،فيعود إلى وطئها ثانية فتلدغه؛ ورج ٌ
كالصندل البارد الذي إذا أفرط في حكه صار حارا ً مؤذيًا.
ثم إن دمنة استأنس بالسد وخل به .فقال يوما :أرى الملك قد أقام في
ن واحدٍ ل يبرح منه ،فما سبب ذلك? فبينما هما في هذا الحديث إذ خار مكا ٍ
ً
شتربة خوارا شديدا :فهيج السد وكره أن يخبر دمنة بما ناله؛ وعلم دمنة ً
ة .فسأله :هل راب الملك ة وهيب ًأن ذلك الصوت قد أدخل على السد ريب ً
سماع هذا الصوت? قال لم يربني شيٌء سوى ذلك .قال دمنة :ليس
ت .فقد قالت العلماء :إن ليس من ق أن يدع مكانه لجل صو ٍ الملك بحقي ٍ
كل الصوات تجب الهيبة .قال السد :وما مثل ذلك?
ة ،وكلماة فيها طبل معلق على شجر ٍ قال دمنة :زعموا أن ثعلبا ً أتى أجم ً
هبت الريح على قضبان تلك الشجرية حركتها ،فضربت الطبل فسمع له
م؛ فتوجه الثعلب نحوه لجل ما سمع من عظم صوته؛ فلما أتاه ت عظي ٌصو ٌ
وجده ضخمًا ،فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم .فعالجه حتى شقه.
فلما رآه أجوف ل شيء فيه ،قال :ل أدري لعل أفشل الشياء أجهرها
ة .وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن هذا الصوت الذي صوتا ً وأعظمها جث ً
راعنا ،لو وصلنا إليه ،لوجدناه ايسر مما في أنفسنا .فإن شاء الملك بعثني
وأقام بمكانه حتى آتيه ببيان هذا الصوت .فوافق السد قوله ،فأذن له
بالذهاب نحو الصوت .فانطلق دمنة إلى المكان الذي فيه شتربة .فلما
فصل دمنة من عند السد ،فكر السد في أمره ،وندم على إرسال دمنة
حيث أرسله ،وقال في نفسه :وأصبت في ائتماني دمنة ،وقد كان ببابي
مطروحًا ،فإن الرجل إذا كان يحضر باب الملك ،وقد أبطلت حقوقه من
غير جرم كان منه ،أو كان مبغيا ً عليه عند سلطانه؛ أو كان عنده معروفا ً
ٍ
بالشره والحرص ،أو كان قد أصابه ضٌر وضيقٌ فلم ينعشه ،أو كان قد
اجترم جرما ً فهو يخاف العقوبة منه ،أو كان يرجو شيئا ً يضر الملك وله منه
نفع؛ أو يخاف في شيٍء مما ينفعه ضرًا ،أو كان لعدو الملك مسالمًا،
ق أن يعجل بالسترسال إليه، ً
ولمسالمه محاربا ،فليس السلطان بحقي ٍ
ب .وقد كان ببابي مطروحا ً ة أري ٌوالثقة به ،والئتمان له :فإن دمنة داهي ٌ
مجفوًا .ولعله قد احتمل علي بذلك ضغنًا ،ولعل ذلك يحمله على خيانتي
وإعانة عدوي ونقيصتي عنده؛ ولعله صادف صاحب الصوت أقوى سلطانا ً
د،ي .ثم قام من مكانه فمشى غير بعي ٍ مني فيرغب به عني ويميل مع عل ّ
فبصر بدمنة مقبل ً نحوه فطابت نفسه بذلك ،ورجع إلى مكانه ،ودخل دمنة
على السد فقال له :ماذا صنعت? وماذا رأيت? قال :رأيت ثورا ً هو صاحب
الخوار والصوت الذي سمعته .قال :فما قوته? قال :ل شوكة له .وقد
دنوت منه وحاورته محاورة الكفاء ول يصغرن عندك أمره :فإن الريح
الشديدة ل تعبأ بضعيف الحشيش ،لكنها تحطم طوال النخل وعظيم
الشجر .قال دمنة :ل تهابن أيها الملك منه شيئًا؛ ول يكبرن عليك أمره:
فأنا آتيك به ليكون لك عبدا ً سامعا ً مطيعًا .قال السد :دونك وما بدا لك.
فانطلق دمنة إلى الثور ،فقال له غير هائب ول مكترث :إن السد أرسلني
إليك لتيه بك .وأمرني ،إن أنت عجلت إليه طائعًا ،أو أؤمنك على ما سلف
من ذنبك في التأخر عنه وتركك لقاءه؛ وإن أنت تأخرت عنه وأحجمت ،أن
أعجل الجرعة إليه فأخبره .قال له شتربة :ومن هو هذا السد الذي
أرسلك إلي? وأين هو? وما حاله? قال دمنة :هو ملك السباع ،وهو بمكان
كذا ،ومعه جند ٌ كثيٌر من جنسه فرعب شتربة من ذكر السد والسباع.
وقال :إن أنت جعلت لي المان على نفسي أقبلت معك إليه .فأعطاه
دمنة من المان ما وثق به .ثم أقبل والثور معه ،حتى دخل على السد
فأحسن السد إلى الثور وقّربه؛ وقال له :متى قدمت هذه البلد? وما
أقدمكها? فقص شتربة عليه قصته .فقال له السد اصحبني والزمني :فإني
مكرمك .فدعا الثور وأثنى عليه.
ثم إن السد قرب شتربة وأكرمه وأنس به وأتمنه على أسراره وشاوره
ة فيه وتقريبا ً منه؛ حتى صار في أمره ،ولم تزده اليام إل عجبا ً به ورغب ً
ة .فلما رأى دمنة أن الثور قد اختص بالسد دونه أخص أصحابه عنده منزل ً
ودون أصحابه ،وأنه قد صاد صاحب رأيه وخلواته ولهوه ،حسده حسدا ً
عظيمًا ،وبلغ منه غيظه كل مبلغ :فشكا ذلك إلى أخيه كليلة ،وقال له :أل
تعجب يا أخي من عجز رأيي ،وصنعي بنفسي? ونظري فيما ينفع السد،
وأغفلت نفع نفسي حتى جلبت إلى السد ثورا ً غلبني على منزلتي.
قال كليلة :أخبرني عن رأيك وما تريد أن تعرم عليه في ذلك .قال دمنة:
أما أنا فلست اليوم أرجو أن تزداد منزلتي عند السد فوق ما كانت عليه؛
ة العاقل جدير ولكن ألتمس أن أعود إلى ما كنت عليه :فإن أمورا ً ثلث ً
بالنظر فيها ،والحتيال لها بجهده :منها النظر فيما مضى من الضر والنفع،
فيحترس من الضر الذي أصابه فيما سلف لئل يعود إلى ذلك الضر،
ويلتمس النفع الذي مضى ويحتال لمعاودته؛ ومنها النظر فيما هو مقيم فيه
من المنافع والمضاء ،والستيثاق بما ينفع والهرب مما يضر؛ ومنها النظر
في مستقبل ما يرجو من قبل النفع ،وما يخاف من قبل الضر ،فيستتم ما
يرجو ويتوقى ما يخاف بجهده .وإني لما نظرت في المر الذي به أرجو أن
ة ول وجها ً إل تعود منزلتي ،وما غلبت عليه مما كنت فيه ،لم أجد حيل ً
الحتيال لكل العشب هذا ،حتى أفرق بينه وبين الحياة :فإنه إن فارق
السد عادت لي منزلتي .ولعل ذلك يكون خيرا ً للسد :فإن إفراطه في
تقريب الثور خليقٌ أن يشينه ويضره في أمره .قال كليلة :ما أرى على
السد في رأيه في الثور ومكانه منه ومنزلته عنده شينا ً ول شرًا .قال
دمنة :إنما يؤتى السلطان ويفسد أمره من قبل ستة أشياء :الحرمان
والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخرق.
فأما الحرمان فأن يحرم صالح العوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي
والنجدة والمانة ،وترك التفقد لمن هو كذلك .وأما الفتنة فهي تحارب
الناس ووقوع الحرب بينهم .وأما الهوى فالغرام بالحدث واللهو والشراب
والصيد وما أشبه ذلك .وأما الفظاظة فهي إفراط الشدة حتى يجمح
اللسان بالشتم واليد بالبطش في غير موضعهما .وأما الزمان فهو ما
يصيب الناس من السنين والموت ونقص الثمرات والغزوات وأشباه ذلك.
وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين ،واللين في موضع الشدة.
وإن السد قد أغرم بالثور إغراما ً شديدا ً هو الذي ذكرت لك أنه خليق لن
يشينه ويضره في أمره .قال كليلة :وكيف تطيق الثور وهو أشد منك
وأكرم على السد وأكثر أعوانًا? قال دمنة :ل تنظر إلى صغري وضعفي:
فإن المور ليست بالضعف ول القوة ول الصغر ول الكبر في الجثة :فرب
ف قد بلغ حيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثير من القوياء. صغيرٍ ضعي ٍ
أولم يبلغك أن غرابا ً ضعيفا ً احتال لسود حتى قتله? قال كليلة :وكيف كان
ل؛ وكان ذلك? قال دمنة :زعموا أن غرابا ً كان له وكٌر في شجرةٍ على جب ٍ
ن أسود ،فكان الغراب إذا فرخ عمد السود إلى فراخه قريبا ً منه حجر ثعبا ٍ
فأكله؛ فبلغ ذاك من الغراب وأحزنه ،فشكا ذلك إلى صديق له من بنات
آوى؛ وقال له :أريد مشاورتك في أمرٍ قد عزمت عليه؛ قال :وما هو? قال
الغراب :قد عزمت أن أذهب اليوم إلى السود إذا نام ،فأنقر عينيه،
فأفقأهما ،لعلي أستريح منه .قال ابن آوى :بئس الحيلة التي احتلت؛
فالتمس أمرا ً تصيب فيه بغيتك من السود ،من غير أن تغرر بنفسك
وتخاطر بها .وإياك أن يكون مثلك مثل العلجوم الذي أراد قتل السرطان
فقتل نفسه .قال الغراب :وكيف كان ذلك?
شش في أجمةٍ كبيرة السمك؛ فعاش قال ابن آوى :زعموا أن علجوما ً ع ّ
د؛ فجلس بها ما عاش؛ ثم هرم فلم يستطع صيدًا؛ فأصابه جوعٌ وجهد ٌ شدي ٌ
ن ،فرأى حالته وما هو عليه حزينا ً يلتمس الحيلة في أمره؛ فمر به سرطا ٌ
من الكآبة والحزن؛ فدنا منه وقال :مالي أراك أيها الطائر هكذا حزينا ً
كئيبًا? قال العلجوم :وكيف ل أحزن وقد كنت أعيش من صيد ما ها هنا من
السمك? وإني قد رأيت اليوم صيادين قد مرا بهذا المكان؛ فقال أحدهما
ل? فقال الخر :إني قد رأيت لصاحبه :إن ها هنا سمكا ً كثيرا ً أفل نصيده أو ً
في مكان كذا سمكا ً أكثر من هذا السمك ،فلنبدأ بذلك ،فإذا فرغنا منه جئنا
إلى هذا فأفنيناه .وقد علمت أنهما إذا فرغا مما هناك ،انتهيا إلى هذه
الجمة فاصطادا ما فيها؛ فإذا كان ذلك فهو هلكي ونفاذ مدتي .فانطلق
السرطان من ساعته إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك؛ فأقبلن إلى
العلجوم فاستشرنه؛ وقلن له :إنا أتينا لك لتشير علينا :فإن ذا العقل ل يدع
مشاورة عدوه .قال العلجوم :أما مكابرة الصيادين فل طاقة لي بها؛ ول
ة
ك ومياهٌ عظيم ٌ ب من ها هنا ،فيه سم ٌ ة إل المصير إلى غديرٍ قري ٍ أعلم حيل ً
ب ،فإن استطعن النتقال إليه ،كان فيه صلحكن وخصبكن .فقلن له: وقص ٌ
ما يمن علينا بذلك غيرك .فجعل العلجوم يحمل في كل يوم سمكتين حتى
ينتهي بهما إلى بعض التلل فيأكلهما؛ حتى إذا كان ذات يوم جاء لخذ
السمكتين؛ فجاءه السرطان؛ فقال له :إني أيضا ً قد أشفقت من مكاني
هذا واستوحشت منه فاذهب بي إلى ذلك الغدير؛ فاحتمله وطار به ،حتى
إذا دنا من التل الذي كان يأكل السمك فيه نظر السرطان فرأى عظام
ة هناك؛ فعلم أن العلجوم هو صاحبها؛ وأنه يريد به مثل السمك مجموع ً
ذلك .فقال في نفسه :إذا لقي الرجل عدوه في المواطن التي يعلم أنه
فيها هالك .سواٌء قاتل أم لم يقاتل؛ كان حقيقا ً أن يقاتل عن نفسه كرما ً
وحفاظا ً ،ثم أهوى بكلبتيه على عنق العلجوم ،فعصره فمات؛ وتخلص
السرطان إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك .وإنما ضربت لك هذا المثل
ر ،إن أنت لتعلم أن بعض الحيلة مهلكة للمحتال ولكني أدلك على أم ٍ
قدرت عليه ،كان فيه هلك السود من غير أن تهلك به نفسك ،وتكون فيه
سلمتك .قال الغراب وما ذاك? قال ابن آوى :تنطلق فتبصر في طيرانك:
لعلك أن تظفر بشيٍء من حلي النساء فتخطفه؛ ول تزال طائرا ً واقعًا،
بحيث ل تفوت العيون ،حتى تأتي حجر السود فترمي بالحلي عنده .فإذا
رأى الناس ذلك أخذوا حليهم وأراحوك من السود .فانطلق الغراب محلقا
في السماء؛ فوجد امرأةً من بنات العظماء فوق سطح تغتسل؛ وقد
ة؛ فانقض واختطف من حليها عقدًا ،وطار به، وضعت ثيابها وحليها ناحي ً
د؛ حتى انتهى المر فتبعه الناس؛ ولم يزل طائرا ً واقعًا ،بحيث يراه كل أح ٍ
إلى جحر السود؛ فألقى العقد عليه ،والناس ينظرون إليه .فلما أتوه أخذوا
العقد وقتلوا السود .وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن الحيلة تجرئ
مال تجزئ القوة .قال كليلة :إن الثور لو لم يجتمع مع شدته رأيه لكان كما
تقول .ولكن له مع شدته وقوته حسن الرأي والعقل .فماذا تستطيع له?
قال دمنة :إن الثور لكما ذكرت في قوته ورأيه ،ولكنه مقٌر لي بالفضل؛
وأنا خليق أن اصرعه كما صرعت الرنب السد .قال كليلة :وكيف كان
ذلك?
ض كثيرة المياه والعشب؛ وكان في ً
قال دمنة :زعموا أن أسدا كان في أر ٍ
تلك الرض من الوحوش في سعة المياه والمرعى شيٌء كثيٌر؛ إل أنه لم
يكن ينفعها ذلك لخوفها من السد؛ فاجتمعت وأتت إلى السد ،فقالت له:
إنك لتصيب منا الدابة بعد الجهد والتعب؛ وقد رأينا لك رأيا ً فيه صلح لك
ة نرسل بها ن لنا .فإن أنت امنتنا ولم تخفنا ،فلك علينا في كل يوم ٍ داب ٌ وأم ٌ
إليك في وقت غدائك :فرضي السد بذلك ،وصالح الوحوش عليه ،ووفين
له به .ثم إن أرنبا ً أصابتها القرعة ،وصارت غداء السد؛ فقالت للوحوش:
إن أنتن رفقتن بي فيما ل يضركن؛ رجوت أن أريحكن من السد .فقالت
الوحوش :وما الذي تكلفيننا من المور? قالت :تأمرن الذي ينطلق بي إلى
السد أن يمهلني ريثما أبطئ عليه بعض البطاء .فقلن لها ذلك لك.
ة؛ حتى جاوزت الوقت الذي كان يتغدى فيه السد. فانطلقت الرنب متباطئ ً
ً
ثم تقدمت إليه وحدها رويدا ،وقد جاع؛ فغضب وقام من مكانه نحوها؛
فقال لها :من أين أقبلت? قالت :أنا رسول الوحوش إليك :بعثني ومعي
ب لك ،فتبعني أسد ٌ في بعض تلك الطريق ،فأخذها مني ،وقال :أنا أولى أرن ٌ
بهذه الرض وما فيها من الوحش .فقلت :إن هذا غداء الملك أرسلني به
ة لخبرك .فقال الوحوش إليه .فل تغصبنه ،فسبك وشتمك .فأقبلت مسرع ً
السد :انطلقي معي فأريني موضع هذا السد .فانطلقت الرنب إلى جب
ف؛ فاطلعت فيه ،وقالت :هذا المكان .فاطلع السد، فيه ماٌء غامٌر صا ٍ
فرأى ظله وظل الرنب في الماء؛ فلم يشك في قولها؛ ووثب إليه ليقاتله،
فغرق في الجب .فانقلبت الرنب إلى الوحوش فأعلمتهن صنيعها بالسد.
قال كليلة :إن قدرت على هلك الثور بشيٍء ليس فيه مضرةٌ للسد
فشأنك :فإن الثور قد أضر بي وبك وبغيرنا من الجند؛ وإن أنت لم تقدر
على ذلك إل بهلك السد ،فل تقدم عليه؛ فإنه غدٌر مني ومنك .ثم إن دمنة
ة؛ ثم أتاه على خلوةٍ منه؛ فقال له ترك الدخول على السد أياما ً كثير ً
السد :ما حبسك عني? منذ زمان لم أرك .أل لخيرٍ كان انقطاعك? قال
دمنة :فليكن خيرا ً أيها الملك .قال السد :وهل حدث أمٌر? قال دمنة:
م
حدث ما لم يكن الملك يريده ول أحد من جنده .قال :وما ذاك? قال :كل ٌ
م يكرهه سامعه ،ول يشجع عليه ع .قال :أخبرني به .قال دمنة إنه كل ٌ فظي ٌ
ة ،ورأيك يدلك على أن يوجعني أن أقول قائله .وإنك أيها الملك لذو فضيل ٍ
ما تكره؛ وأثق بك أن تعرف نصحي وإيثاري إياك على نفسي .وإنه ليعرض
لي أنك غير مصدقي فيما أخبرك به؛ ولكني إذا تذكرت وتفكرت أن
ة بك لم أجد بدا ً من أداء الحق الذي نفوسنا ،معاشر الوحوش ،متعلق ٌ
يلزمني وإن أنت لم تسألني وخفت أل تقبل مني فإنه يقال :من كتم
السلطان نصيحته والخوان رأيه فقد خان نفسه .قال السد :فما ذاك?
قال دمنة :حدثني المين الصدوق عندي أن شتربة خل برءوس جندك،
وقال :قد خبرت السد وبلوت رأيه ومكيدته وقوته :فاستبان لي أن ذلك
ن من الشئون .فلما ز ،وسيكون لي وله شأ ٌ ف وعج ٍ
يئول منه إلى ضع ٍ
ن غداٌر؛ وأنك أكرمته الكرامة كلها، بلغني ذلك علمت أن شتربة خوا ٌ
وجعلته نظير نفسك ،وهو يظن أنه مثلك .وأنك متى زلت عن مكانك صار
له ملكك؛ ول يدع جهدا ً إل بلغه فيك .وقد كان يقال :إذا عرف الملك من
الرجل أنه قد ساواه في المنزلة والحال ،فليصرعه؛ فإن لم يفعل به ذلك،
كان هو المصروع .وشتربة أعلم بالمور وأبلغ فيها؛ والعاقل هو الذي يحتال
للمر قبل تمامه ووقوعه :فإنك ل تأمن أن يكون ول تستدركه .فإنه يقال:
م وأحزم منه وعاجٌز؛ فأحد الحازمين من إذا نزل به المر ة :حاز ٌ
الرجال ثلث ٌ
ً
لم يدهش له ،ولم يذهب قلبه شعاعا ،ولم تعي به حيلته ومكيدته التي
يرجو بها المخرج منه؛ وأحزم من هذا المتقدم ذو العدة الذي يعرف البتلء
قبل وقوعه ،فيعظمه إعظامًا ،ويحتال له حتى كأنه قد لزمه :فيحسم الداء
نقبل أن يبتلي به ،ويدفع المر قبل وقوعه .وأما العاجز فهو في تردد ٍ وتم ٍ
ن حتى يهلك .ومن أمثال ذلك مثل السمكات الثلث .قال السد: وتوا ٍ
وكيف كان ذلك?
ة وأكيس منها ت :كيس ٌ ً
قال دمنة :زعموا أن غديرا كان فيه ثلث سمكا ٍ
ة؛ وكان ذلك الغدير بنجوةً من الرض ل يكاد يقربه أحد ٌ وبقربه نهر وعاجز ٌ
جاٍر .فاتفق أنه اجتاز بذلك النهر صيادان؛ فأبصرا الغدير ،فتواعدا أن يرجعا
إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك .فسمع السمكات قولهما :فأما
أكيسهن لما سمعت قولهما ،وارتابت بهما ،وتخوفت منهما؛ فلم تعرج على
شيٍء حتى خرجت من المكان الذي يدخل فيه الماء من النهر إلى الغدير.
وأما الكيسة فإنها مكثت مكانها حتى جاء الصيادان؛ فلما رأتهما ،وعرفت
ما يريدان ،ذهبت لتخرج من حيث يدخل الماء؛ فإذا بهما قد سدا ذلك
المكان فحينئذ ٍ قالت :فرطت ،وهذه عاقبة التفريط؛ فكيف الحيلة على
هذه الحال .وقلما تنجع حيلة العجلة والرهاق ،غير أن العاقل ل يقنط من
ل ،ول يدع الرأي والجهد .ثم إنها تماوتت منافع الرأي ،ول ييئس على حا ٍ
ة ،وتارةً على بطنها؛ فأخذها فطفت على وجه الماء منقلبة على ظهرها تار ً
الصيادان فوضعاها على الرض بين النهر والغدير؛ فوثبت إلى النهر فنجت.
ل في إقبال وإدبار حتى صيدت. وأما العاجزة فما تز ْ
قال السد :قد فهمت ذلك؛ ول أظن الثور يغشني ويرجو لي الغوائل .
ط? ولم أدع خيرا ً إل فعلته معه? ول أمني ً
ة وكيف يفعل ولم ير مني سوءا ً ق ّ
إل بلغته إياها? .قال دمنة :إن اللئيم ل يزال نافعا ً ناصحا ً حتى يرفع إلى
المنزلة التي ليس لها بأهل؛ فإذا بلغها التمس ما فوقها؛ ول سيما أهل
الخيانة والفجور :فإن اللئيم الفاجر ل يخدم السلطان ول ينصح له إل من
ق .فإذا استغنى وذهبت الهيبة عاد إلى جوهره؛ كذنب الكلب الذي فر ٍ
ً ً
يربط ليستقيم فل يزال مستويا ما دام مربوطا؛ فإذا حل انحنى واعوج كما
كان .واعلم أيها الملك أنه من لم يقبل من ُنصاِئحه ما يثقل عليه مما
ينصحون له به ،لم يحمد رأيه؛ كالمريض الذي يدع ما يبعث له الطبيب؛
ويعمد إلى ما يشتهيه .وحق على موازر السلطان أن يبالغ في التحضيض
له على ما يزيد من سلطانه قوةً ويزينه؛ والكف عما يضره ويشينه؛ وخير
الخوان والعوان أقلهم مداهنة في النصيحة؛ وخير الثناء ما كان على
أفواه الخيار؛ وأشرف الملوك من لم يخالطه بطٌر؛ وخير الخلق أعونها
على الورع .وقد قيل :لو أن أمرا ً توسد النار وافترش الحيات ،كان أحق أل
يهنئه النوم .والرجل إذا أحس من صاحبه بعداوةٍ يريده بها؛ ل يطمئن إليه؛
وأعجز الملوك آخذهم بالهوينى ،وأقلهم نظرا ً في مستقبل المور.
وأشبههم بالفيل الهائج الذي ل يلتفت إلى شيٍء :فإن حز به أمر تهاون به،
وإن أضاع المور حمل ذلك على قرنائه .قال له السد :لقد أغلظت في
ل .وإن كان شتربة معاديا ً لي ،كما ل محمو ٌ القول؛ وقول الناصح مقبو ٌ
ً
تقول ،فإنه ل يستطيع لي ضرا؛ وكيف يقدر على ذلك وهو آكل عشب وأنا
ة .ثم ليس إلى الغدر آكل لحم? وإنما هو لي طعام ،وليس علي منه مخاف ٌ
به سبيل بعد المان الذي جعلته له ،وبعد إكرامي له ،وثنائي عليه .وإن
غيرت ما كان مني وبدلته .سفهت رأيي وجهلت نفسي وغدرت بذمتي.
ة :فإنقال دمنة :ل يغرنك قولك :هو لي طعام وليس علي منه مخاف ٌ
شتربة إن لم يستطعك بنفسه احتال لك من قبل غيره .ويقال :إن
ة من نهاٍر ،وأنت ل تعرف أخلقه فل تأمنه على ف ساع ً استضافك ضي ٌ
نفسك؛ ول تأمن أن يصلك منه أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث.
قال السد :وكيف كان ذلك?
ً
ل من الغنياء دهرا فكانت قال دمنة :زعموا أن قملة لزمت فراش رج ٍ
م ل يشعر ،وتدب دبيبا ً رفيقًا؛ فمكث كذلك حينا ً تصيب من دمه وهو نائ ٌ
ث؛ فقالت له :بت الليلة عندنا في دم ٍ ة من الليالي برغو ٌ حتى استضافها ليل ً
ن؛ فأقام البرغوث عندها حتى إذا أوى الرجل إلى فراشه ش لي ٍ
ب وفرا ٍ
طي ٍ
ة أيقظته؛ وأطارت النوم عنه؛ فقام الرجل وثب عليه البرغوث فلدغه لدغ ً
وأمر أن يفتش فراشه؛ فنظر فلم ير إل القملة؛ فأخذت فقصعت وفر
البرغوث .وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن صاحب الشر بسببه .وإن
كنت ل تخاف من شتربة ،فخف غيره من جندك الذين قد حملهم عليك
وعلى عداوتك .فوقع في نفس السد كلم دمنة .فقال :فما الذي ترى إذا?ً
ل ،ول يزال صاحبه منه وبماذا تشير? قال دمنة :إن الضرس ل يزال متآك ً
في ألم ٍ وأًذى حتى يفارقه .والطعام الذي قد عفن في البطن ،الراحة في
قذفه .والعدو المخوف ،دواؤه قتله .قال السد :لقد تركتني أكره مجاورة
ل إليه ،وذاكرا ً له ما وقع في نفسي منه؛ ثم آمره شتربة إياي؛ وأنا مرس ٌ
باللحاق حيث أحب .فكره دمنة ذلك ،وعلم أن السد متى كلم شتربة في
ذلك وسمع منه جوابا ً عرف باطل ما أتى به ،واطلع على غدره وكذبه؛ ولم
يخف عليه أمره .فقال للسد :أما إرسالك إلى شتربة فل أراه لك رأيا ً ول
حزمًا؛ فلينظر الملك في ذلك :فإن شتربة متى شعر بهذا المر ،خفت أن
يعاجل الملك بالمكابرة .وهو إن قاتلك قاتلك مستعدًا؛ وإن فارقك ،فارقك
فراقا ً يليك منه النقص ،ويلزمك منه العار .مع أن ذوي الرأي من الملوك ل
ة :فلذنب يعلنون عقوبة من لم يعلن ذنبه؛ ولكن لكل ذنب عندهم عقوب ٌ
العلنية عقوبة العلنية ،ولذنب السر عقوبة السر .قال السد :إن الملك إذا
عاقب أحدا ً عن ظنةٍ ظنها من غير تيقن بجرمه ،فنفسه عاقب وإياها ظلم.
قال دمنة :أما إذا كان هذا رأي الملك ،فل يدخلن عليك شتربة إل وأنت
ة :فإني ل أحسب الملك حين مستعد ٌ له؛ وإياك أن تصيبك منه غرةٌ أو غفل ٌ
ة .ومن علمات ذلك أنك ترى يدخل عليه إل سيعرف أنه قد هم بعظيم ٍ
ل؛ وتراه يهزلونه متغيرًا؛ وترى أوصاله ترعد؛ وتراه ملتفتا ً يمينا ً وشما ً
قرنيه فعل الذي هم بالنطاح والقتال .قال السد :سأكون منه على حذٍر؛
وإن رأيت منه ما يدل على ما ذكرت علمت أن ما في أمره ش ٌ
ك.
فلما فرغ دمنة من حمل السد على الثور ،وعرف أنه قد وقع في نفسه ما
كان يلتمس ،وأن السد سيتحذر الثور ،ويتهيأ له ،أراد أن يأتي الثور ليغريه
بالسد؛ وأحب أن يكون إتيانه من قبل السد مخافة أن يبلغه ذلك فيتأذى
به .فقال :أيها الملك أل آتي بشتربة فانظر إلى حاله وأمره؛ وأسمع كلمه:
لعلي اطلع على سره ،فأطلع الملك على ذلك ،وعلى ما يظهر لي منه?
فأذن له السد في ذلك .فانطلق فدخل على شتربة كالكئيب الحزين .فلما
رآه الثور رحب به ،وقال :كان سبب انقطاعك عني? فإني لم أرك منذ
ة! قال دمنة :ومتى كان أهل السلمة من ل يملك م؛ ولعلك في سلم ٍأيا ٍ
ف .حتى نفسه ،وأمره بيد غيره ممن ل يوثق به ،ول ينفك على خطرٍ وخو ٍ
ما من ساعة تمر ويأمن فيها على نفسه .قال شتربة :وما الذي حدث?
ن .ومن ذا الذي غالب القدر? ومن ذا قال دمنة :حدث ما قدر وهو كائ ٌ
الذي بلغ من الدنيا جسيما ً من المور فلم يبطر? ومن ذا الذي بلغ منياه
فلم يغتر? ومن ذا الذي تبع هواه فلم يخسر? ومن ذا الذي طلب من
اللئام فلم يحرم? ومن ذا الذي خالط الشرار فسلم? ومن ذا الذي صحب
السلطان فذام له منه المن والحسان? قال شتربة :إني أسمع منك كلما ً
ب ،وهالك منه أمٌر .قال دمنة :أجل، يدل على أنه قد رابك من السد ري ٌ
لقد رابني منه ذلك ،وليس هو في أمر نفسي ،قال شتربة :ففي نفس من
رابك? قال دمنة :قد تعلم ما بيني وبينك ،وتعلم حقك علي ،وما كنت
جعلت لك من العهد والميثاق أيام أرسلني السد إليك ،فلم أجد لك بدا ً من
حفظك وإطلعك على ما أطلعت عليه مما أخاف عليك منه .قال شتربة:
وما الذي بلغك? قال دمنة :حدثني الخبير الصدوق الذي ل مرية في قوله
أن السد قال لبعض أصحابه وجلسائه :قد أعجبني سمن الثور؛ وليس لي
ة ،فأنا آكله ومطعم أصحابي من لحمه .فلما بلغني هذا إلى حياته حاج ٌ
القول ،وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك لقضي حقك؛ وتحتال أنت
لمرك .فلما سمع شتربة كلم دمنة ،وتذكر ما كان من دمنة جعل له من
ه ونصح له؛ صد َقَ ُ
العهد والميثاق ،وفكر في أمر السد ،ظن أن دمنة قد َ
ه بما قال دمنة .فأهمه ذلك؛ وقال :ما كان للسد أن ورأى أن المر شبي ٌ
يغدر بي ولم آت إليه ذنبًا ،ول إلى أحد من جنده ،منذ صحبته؛ ول أظن
السد إل قد حمل علي بالكذب وشبه عليه أمري :فإن السد قد صحبه
قوم سوٍء؛ وجّرب منهم الكذب وأمورا ً هي تصدق عنده ما بلغه من
غيرهم :فإن صحبة الشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالخيار؛
وحملته تجربته على الخطأ كخطأ البطة التي زعموا أنها رأت في الماء
ة ،فحاولت أن تصيدها ،فلما جربت ذلك مراراً، ب ،فظنته سمك ً ضوء كوك ٍ
ة،
علمت أنه ليس بشيٍء يصاد فتركته .ثم رأت من غد ذلك اليوم سمك ً
فظنت أنها مثل الذي رأته بالمس ،فتركتها ولم تطلب صيدها .فإن كان
ب فصدقه علي وسمعه في ،فما جرى على غيري السد بلغه عني كذ ٌ
ة ،فإن يجري علي .وإن كان لم يبلغه شيٌء ،وأراد السوء بي من غير عل ٍ
ذلك لمن أعجب المور .وقد كان يقال :إن من العجب أن يطلب الرجل
رضا صاحبه ول يرضى .وأعجب من ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط .فإذا
ل .وإذا كانت عن ة ،كان الرضا موجودا ً والعفو مأمو ً كانت الموجدة عن عل ٍ
ة ،انقطع الرجاء :لن العلة إذا كانت المودة في ورودها ،كان الرضا غير عل ٍ
مأمول ً في صدورها.
قد نظرت :فل أعلم بيني وبين السد جرمًا ،ول صغير ذنب ،ول كبيره.
ولعمري ما يستطيع أحد أطال صحبة صاحب أن يحترس في كل شيٍء من
أمره ،ول أن يتحفظ من أن يكون منه صغيرةٌ أو كبيرةٌ يكرهها صاحبه؛
ة نظر فيها، ولكن الرجل ذا العقل وذا الوفاء إذا سقط عنده صاحبه سقط ً
وعرف قدر مبلغ خطئه عمدا ً كان أو خطًأ .ثم ينظر هل في الصفح عنه
أمٌر يخاف ضره وشينه? فل يؤاخذ صاحبه بشيٍء يد فيه إلى الصفح عنه
ل .فإن كان السد قد اعتقد على ذنبًا؛ فلست أعلمه؛ إل أني خالفته سبي ً
ة له؛ فعساه أن يكون قد أنزل أمري على الجراءة في بعض رأيه نصيح ً
ً
عليه والمخالفة له؛ ول أجد لي في هذا المحضر إثما ما :لني لم أخالفه
دين ،ولم أجاهر في شيٍء إل ما قد ندر من خالفة الّرشد والمنفعة وال ّ
بشيٍء من ذلك على رءوس جنده وعند أصحابه؛ ولكني كنت أخلو به
وأكلمه سرا ً كلم الهائب الموقر وعلمت أنه من التمس الرخص من
الخوان عند المشاورة ،ومن الطباء عند المرض ،ومن الفقهاء عند
الشبهة ،أخطأ منافع الرأي؛ وازداد فيما وقع فيه من ذلك تورطا ً ،وحمل
الوزر .وإن لم يكن هذا ،فعسى أن يكون ذلك من بعض سكرات
ة ،وإن صوحب بالسلمة والثقة السلطان :فإن مصاحبة السلطان خطر ٌ
والمودة وحسن الصحبة .وإن لم يكن هذا ،فبعض ما أوتيت من الفضل قد
جعل لي فيه الهلك .وإن لم يكن هذا ول هذا ،فهو إذا ً من مواقع القضاء
والقدر الذي ل يدفع عنه؛ وهو الذي يحمل الرجل الضعيف على ظهر الفيل
الهائج؛ وهو الذي يسلط على الحية ذات الحمة من ينزع حمتها ويلعب بها؛
وهو الذي يجعل العاجز حازمًا ،ويثبط الشهم ،ويوسع على المقتر ،ويشجع
الجبان ،ويجبن الشجاع عندما تعتريه المقادير من العلل التي وضعت عليه
القدار.
قال دمنة :إن إرادة السد بك ليست من تحميل الشرار ول سكرة
ن غداٌر: السلطان ول غير ذلك ،ولكنها الغدر والفجور منه :فإن فاجٌر خوا ٌ
ت .قال شتربة :فأراني قد استلذذت الحلوة م ممي ٌ لطعامه حلوةٌ وآخره س ٌ
إذ ذقتها :وقد انتهيت إلى آخرها الذي هو الموت؛ ولول الحين ما كان
ب فأنا في هذه الورطة مقامي عند السد ،وهو آكل لحم ٍ وأنا آكل عش ٍ
كالنحلة التي تجلس على نور النيلوفر إذ تستلذ ريحه وطعمه ،فتحبسها
تلك اللذة؛ فإذا جاء الليل ينضم عليها ،فترتبك فيه وتموت .ومن لم يرض
من الدنيا بالكفاف الذي يغنيه وطمحت عينه إلى ما سوى ذلك ،ولم
يتخوف من عاقبتها ،كان كالذباب الذي ل يرضى بالشجرة والرياحين ،ول
يقنعه ذلك ،حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل ،فيضربه الفيل
بآذانه فيهلكه .ومن يبذل وده ونصيحته لمن ل يشكره ،فهو كمن يبذر في
السباخ .ومن يشر على المعجب ،فهو كمن يشاور الميت أو يسار الصم.
قال دمنة :دع عنك هذا الكلم واحتل لنفسك .قال شتربة :بأي شيٍء أحتال
لنفسي ،إذا أراد السد أكلي ،مع ما عرفتني به من رأي السد وسوء
أخلقه? وأعلم أنه لم يرد بي إل خيرًا ،ثم أراد أصحابه بمكرهم وفجورهم
هلكي لقدروا على ذلك فإنه إذا اجتمع المكرة الظلمة على البريء
الصحيح ،كانوا خلقاء أن يهلكوه ،وإن كانوا ضعفاء وهو قوي؛ كما أهلك
الذئب والغراب وابن آوى الجمل ،حين اجتمعوا عليه بالمكر والخديعة
والخيانة .قال دمنة :وكيف كان ذلك?
ق من طرق ً
قال شتربة :زعموا أن أسدا كان في أجمةٍ مجاورةٍ لطري ٍ
ب وابن آوى؛ وأن رعاةً مروا ب وغرا ٌ
ة :ذئ ٌ
ب ثلث ٌ الناس؛ وكان له أصحا ٌ
ل ،فدخل تلك الجمة حتى ل ،فتخلف منها جم ٌ بذلك الطريق ،ومعهم جما ٌ
انتهى إلى السد؛ فقال له السد :من أين أقبلت? قال :من موضع كذا.
قال :فما حاجتك? قال :ما يأمرني به الملك .قال :تقيم عندنا في السعة
ل .ثم إن السد مضى والمن والخصب .فأقام السد والجمل معه زمنا ً طوي ً
في بعض اليام لطلب الصيد ،فلقي فيل ً عظيمًا ،فقاتله قتال ً شديدًا؛
وأفلت منه مثقل ً مثخنا ً بالجراح ،يسيل منه الدم ،وقد خدشه الفيل بأنيابه.
فلما وصل إلى مكانه ،وقع ل يستطيع حراكًا ،ول يقدر على طلب الصيد؛
فلبث الذئب والغراب وابن آوى أياما ً ل يجدون طعامًا :لنهم كانوا يأكلون
ل ،وعرف السد ذلك من فضلت السد وطعامه؛ فأصابهم جوعٌ شديد ٌ وهزا ٌ
منهم؛ فقال :لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون .فقالوا ل تهمنا أنفسنا:
لكنا نرى الملك على ما نراه .فليتنا نجد ما يأكله ويصلحه .قال السد :ما
أشك في نصيحتكم ،ولكن انتشروا لعلكم تصيبون صيدا ً تأتونني به؛
ق .فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند فيصيبني ويصيبكم منه رز ٌ
ة ،وتشاوروا فيما بينهم ،وقالوا :مالنا ولهذا الكل السد؛ فتنحوا ناحي ً
العشب الذي ليس شأنه من شأننا ،ول رأيه من رأينا? أل نزين للسد
فيأكله ويطعمنا من لحمه? قال ابن آوى :هذا مما ل نستطيع ذكره للسد:
لنه قد أمن الجمل ،وجعل له من ذمته عهدًا .قال الغراب :أنا أكفيكم أمر
السد .ثم انطلق فدخل على السد؛ فقال له السد :هل أصبت شيئًا? قال
الغراب :إنما يصيب من يسعى ويبصر .وأما نحن فل سعي لنا ول بصر :لما
بنا من الجوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه؛ إن وافقنا الملك فنحن
له مجيبون .قال السد :وما ذاك? قال الغراب :هذا الجمل آكل العشب
ة.
ة ،ول عمل يعقب مصلح ً المتمّرغ بيننا من غير منفعة لنا منه ،ول رد عائد ٍ
فلما سمع السد ذلك غضب وقال :ما أخطأ رأيك ،وما اعجز مقالك،
وأبعدك من الوفاء والرحمة? وما كنت حقيقا ً أن تجتري علي بهذه المقالة،
وتستقبلني بهذا الخطاب؛ مع ما علمت من أني قد أمنت الجمل ،وجعلت
له من ذمتي .أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدقٌ بصدقةٍ هي أعظم أجرا ً
ة ،وحقن دما ً مهدرًا? وقد أمنته ولست بغادر به .قال ممن أمن نفسا ً خائف ً
الغراب :إني لعرف ما يقول الملك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل
البيت؛ وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة؛ والقبيلة يفتدى بها أهل المصر؛
وأهل المصر فداء الملك .وقد نزلت بالملك الحاجة؛ وأنا أجعل له من ذمته
مخرجًا ،على أل يتكلف الملك ذلك ،ول يليه بنفسه ،ول يأمر به أحدًا؛ ولكنا
ح وظفٌر .فسكت السد عن جواب الغراب نحتال بحيلةٍ لنا وله فيها إصل ٌ
عن هذا الخطاب .فلما عرف الغراب إقرار السد أتى أصحابه ،فقال لهم:
قد كلمت السد في أكله الجمل؛ على أن نجتمع نحن والجمل عند السد،
فنذكر ما أصابه ،ونتوجع له اهتماما ً منا بأمره ،وحرصا ً على صلحه؛
ويعرض كل واحدٍ منا نفسه عليه تجمل ً ليأكله ،فيرد الخران عليه ،ويسفها
رأيه ،ويبينان الضرر في أكله .فإذا فعلنا ذلك ،سلمنا كلنا ورضي السد عنا.
ففعلوا ذلك ،وتقدموا إلى السد؛ فقال الغراب :قد احتجت أيها الملك إلى
ما يقويك؛ ونحن أحق أن نهب أنفسنا لك :فإنا بك نعيش؛ فإذا هلكت
ة؛ فليأكلني الملك:فليس لحدٍ منا بقاٌء عندك ،ول لنا في الحياة من خير ٍ
فقد طبت بذلك نفسًا .فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت؛ فل خير للملك
ع .قال ابن آوى لكن أنا أشبع الملك ،فليأكلني: في أكلك؛ وليس فيك شب ٌ
ً
فقد رضيت بذلك ،وطبت عنه نفسا .فرد عليه الذئب والغراب بقولهما:
ن قذٌر .قال الذئب :إني لست كذلك ،فليأكلني الملك ،فقد إنك لمنت ٌ
ً
سمحت بذلك ،وطبن عنه نفسا؛ فاعترضه الغراب وابن آوى وقال :قد
ب .فظن الجمل أنه إذا قالت الطباء :من أراد قتل نفسه فليأكل لحم ذئ ٍ
ض ً
عرض نفسه على الكل ،التمسوا له عذرا كما التمس بعضهم لبع ٍ
العذار ،فيسلم ويرضى السد عنه بذلك ،وينجو من المهالك .فقال :لكن
ف ،فليأكلني
ي ،وبطني نظي ٌ ب هن ٌ
ي؛ ولحمي طي ٌ أنا في للملك شبعٌ ور ٌ
الملك ،ويطعم أصحابه وخدمه :فقد رضيت بذلك ،وطابت نفسي عنه،
وسمحت به .فقال الذئب والغراب وابن آوى :لقد صدق الجمل وكرم؛
وقال ما عرف.
ثم إنهم وثبوا عليه فمزقوه.م إنهم وثبوا عليه فمزقوه.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنه إن كان أصحاب السد قد اجتمعوا
على هلكي فإني لست أقدر أن أمتنع منهم ،ول أحترس؛ وإن كان رأي
السد لي على غير ما هم من الرأي في ،فل ينفعني ذلك ،ول يغني عني
شيئًا .وقد يقال :خير السلطين من عدل في الناس .ولو أن السد لم يكن
في نفسه لي إل الخير والرحمة ،لغيرته كثرة القاويل :فإنها إذا كثرت لم
تلبث دون أن تذهب الرقة والرأفة .أل ترى الماء ليس كالقول؛ وأن الحجر
لم يلبث حتى يثقبه ويؤثر فيه .وكذلك القول في النسان .قال دمنة :فماذا
تريد أن تصنع الن? قال شتربة :ما أرى إل الجتهاد والمجاهدة بالقتال:
فإنه ليس للمصلي في صلته ،ول للمتصدق في صدقته ،ول للورع في
ورعه من الجر ما للمجاهد عن نفسه ،إذا كانت مجاهدته على الحق .قال
دمنة :ل ينبغي لحد أن يخاطر بنفسه ،وهو يستطيع غير ذلك ،ولكن ذا
ق
ئ قبل ذلك بما استطاع من رف ٍ الرأي جاعل القتال آخر الحيل؛ وباد ٍ
ل .وقد قيل :ل تحقرن العدو الضعيف المهين ،ول سيما إذا كان ذا وتمح ٍ
حيلةٍ ويقدر على العوان؛ فكيف بالسد على جراءته وشدته? فإن من
حقر عدوه لضعفه أصابه ما أصاب وكيل البحر من الطيطوى قال شتربة:
وكيف كان ذلك? قال دمنة :زعموا أن طائرا ً من طيور البحر يقال له
ة له ،فلما جاء أوانالطيطوى كان وطنه على ساحل البحر ،ومعه زوج ٌ
تفريخها قالت النثى للذكر :لو التمسنا مكانا ً حريزا ً نفرخ فيه :فإني أخشى
من وكيل البحر إذا مد الماء أن يذهب بفراخنا .فقال لها :أفرخي مكانك:
ب .قالت له :يا غافل ليحسن فإنه موافق لنا؛ والماء والزهر منا قري ٌ
نظرك :فإن أخاف وكيل البحر أن يذهب بفراخنا .فقال لها أفرخي مكانك:
فإنه ل يفعل ذلك فقالت له :ما أشد تعنتك ! أما تذكر وعيده وتهديده
إياك? أل تعرف نفسك وقدرك? فأبى أن يطيعها .فلما أكثرت عليه ولم
يسمع قولها ،قالت له :إن من لم يسمع قول الناصح يصيبه ما أصاب
السلحفاة حين لم تسمع قول البطتين .قال الذكر :وكيف كان ذلك? قالت
ب ،وكان فيه بطتان وكان في النثى :زعموا أن غديرا ً كان عنده عش ٌ
ة .فاتفق أن غيض ذلك ة ،بينها وبين البطتين مودةٌ وصداق ٌ الغدير سلحفا ٌ
الماء؛ فجاءت البطتان لوداع السلحفاة ،وقالتا :السلم عليك فإننا ذاهبتان
عن هذا المكان لجل نقصان الماء عنه .فقالت :إنما يبين نقصان الماء
على مثلي :فإني كالسفينة ل أقدر على العيش إل بالماء .فأما أنتما
فتقدران على العيش حيث كنتما .فاذهبا بي معكما .قالتا لها :نعم .قالت:
كيف السبيل إلى حملي? قالتا :نأخذ بطرفي عوٍد ،وتتعلقين بوسطه؛
ونطير بك في الجو .وإياك ،إذا سمعت الناس يتكلمون ،أن تنطقي .ثم
ب :سلحفاة بين بطتين ،قد أخذتاها فطارتا بها في الجو .فقال الناس :عج ٌ
حملتاها .فلما سمعت ذلك قالت :فقأ الله أعينكم أيها الناس ،فلما فتحت
فاها بالنطق وقعت على الرض فماتت .قال الذكر :قد سمعت مقالتك؛
فل تخافي وكيل البحر .فلما مد الماء ذهب بفراخها .فقالت النثى :قد
ن .قال الذكر :سوف أنتقم منه .ثم مضى عرفت في بدء المر أن هذا كائ ٌ
إلى جماعة الطير فقال لهن :إنكن أخواتي وثقاتي :فأعنني .قلن :ما تريد
أن نفعل? قال :تجتمعن وتذهبن معي إلى سائر الطير ،فنشكو إليهن ما
لقيت من وكيل البحر؛ ونقول لهن :إنكن طيٌر مثلنا :فأعننا .فقالت له
جماعة الطير :إن العنقاء هي سيدتنا وملكتنا :فاذهب بنا إليها حتى نصيح
بها ،فنظهر لنا؛ فنشكو إليها ما نالك من وكيل البحر؛ ونسألها أن تنتقم لنا
بقوة ملكها .ثم إنهن ذهبن إليها من الطيطوى ،فستغثنها؛ وصحن بها؛
فتراءت لهن فأخبرنها بقصتهن؛ وسألنها أن تسير معهن إلى محاربة وكيل
البحر ،فأجابتهن إلى ذلك .فلما علم وكيل البحر أن العنقاء قد قصدته في
ك ل طاقة له به .فرد فراخ الطيطوى؛ جماعة الطير خاف من محاربة مل ٍ
وصالحه فرجعت العنقاء عنه.
ً
وإنما حدثتك بهذا الحديث لتعلم أن القتال مع السد ل أراه لك رأيا .قال
ر
ة ل متغي ٍ شتربة :فما أنا بمقاتل السد ،ول ناصب له العداوة سرا ً ول علني ً
له عما كنت عليه ،حتى يبدو لي منه ما أتخوف فأغالبه .فكره دمنة قوله،
وعلم أن السد إن لم ير من الصور العلمات التي ذكرها له اتهمه وأساء
به الظن .فقال دمنة لشتربة :اذهب إلى السد فستعرف حين ينظر إليك
ما يريد منك .قال شتربة :وكيف أعرف ذلك? قال دمنة :سترى السد حين
تدخل عليه مقعيا ً على ذنبه ،رافعا ً صدره إليك ،مادا ً بصره نحوك ،قد صر
أذنيه وفغر فاه ،واستوى للوثبة .قال شتربة :إن رأيت هذه العلمات من
السد عرفت صدقك في قولك .ثم إن دمنة لما فرغ من حمل السد على
الصور ،والثور على السد توجه إلى كليلة .فلما التقيا ،قال كليلة :إلم
ب من الفراغ على ما أحب انتهى عملك الذي كنت فيه? قال دمنة :قري ٌ
وتحب .ثم إن كليلة ودمنة انطلقا جميعا ً ليحضرا قتال السد والثور ،وينظرا
ما يجري بينهما ،ويعاينا ما يئول إليه أمرهما .وجاء شتربة ،فدخل على
السد ،فرآه مقعيا ً كما وصفه له دمنة ،فقال :ما صاحب السلطان إل
كصاحب الحية التي في مبيته ومقيله ،فل يدري متى تهيج به .ثم إن السد
نظر إلى الثور فرأى الدللت التي ذكرها له دمنة :فلم يشك أنه جاء
لقتاله .فواثبه ،ونشأ بينهما الحرب ،واشتد قتال الثور والسد ،وطال،
وسالت بينهما الدماء .فلما رأى كليلة أن السد قد بلغ منه ما قد بلغ .قال
لدمنة :أيها الفسل ما أنكر جهلتك وأسوأ عاقبتك في تدبيرك! قال دمنة:
وما ذاك? قال كليلة :جرح السد وهلك الثور .وإن أخرق الخرق من حمل
صاحبه على سوء الخلق والمبارزة والقتال ،وهو يجد إلى غير ذلك سبي ً
ل.
وإن العاقل يدبر الشياء ويقيسها قبل مباشرتها :فما رجا أن يتم له منها
أقدم عليه ،وما خاف أن يتعذر عليه منها انحرف عنه ،ولم يلتفت إليه.
وإني لخاف عليك عاقبة بغيك هذا :فإنك قد أحسنت القول ولم تحسن
العمل .أين معاهدتك إياي أنك ل تضر بالسد في تدبيرك? وقد قيل :ل خير
في القول إل مع العمل ،ول في الفقه إل مع الورع ،ول في الصدقة إل مع
النية ،ول في المال إل مع الجود ،ول في الصدق إل مع الوفاء ،ول في
الحياة إل مع الصحة ،ول في المن إل مع السرور.
ً
واعلم أن الدب يذهب عن العاقل الطيش ،ويزيد الحمق طيشا؛ كما أن
النهار يزيد كل ذي بصر نظرًا ،ويزيد الخفاش سوء النظر.
وقد أذكرني أمرك شيئا ً سمعته ،فإن يقال :إن السلطان إذا كان صالحًا،
ووزراؤه وزراء سوٍء ،منعوا خيره ،فل يقدر أحد ٌ أن يدنو منه .ومثله في
ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح :ل يقدر أحد ٌ أن يتناوله ،وإن
كان إلى الماء محتاجًا .وأنت يا دمنة أردت أل يدنو من السد أحد سواك.
وهذا أمٌر ل يصح ول يتم أبدًا .وذلك للمثل المضروب :إن البحر بأمواجه،
والسلطان بأصحابه .ومن الحمق الحرص على التماس الخوان بغير الوفاء
لهم ،وطلب الخرة بالرياء ،ونفع النفس بغير الضر .وما عظتي وتأديبي
إياك إل كما قال الرجل للطائر :ل تلتمس تقويم ما ل يستقيم ،ول تعالج
تأديب من ل يتأدب .قال دمنة :وكيف كان ذلك? قال كليلة :زعموا أن
ل ،فالتمسوا في ليلةٍ باردةٍ ذات رياح ة من القردة كانوا سكانا ً في جب ٍ
جماع ً
ة تطير كأنها شرارة ناٍر ،فظنوها نارًا، وأمطارٍ نادرًا ،فلم يجدوا ،فرأوا يراع ً
وجمعوا حطبا ً كثيرا ً فألقوه عليها ،وجعلوا ينفخون طمعا ً أن يوقدوا نارا ً
ة ،ينظرون إليه يصطلون بها من البرد .وكان قريبا ً منهم طائر على شجر ٍ
وينظر إليهم ،وقد رأى ما صنعوا ،فجعل يناديهم ويقول :ل تتعبوا فإن الذي
رأيتموه ليس بناٍر .فلما طال ذلك عليه عزم على القرب منهم لنهاهم عما
ل فعرف ما عزم عليه .فقال له :ل تلتمس تقومي ما هم فيه ،فمر به رج ٌ
ل يستقيم :فإن الحجر المانع الذي ل ينقطع ل تجرب عليه السيوف،
والعود الذي ل نحني ل يعمل منه القوس :فل تتعب .فأبى الطائر أن
يطيعه ،وتقدم إلى القردة ليعرفهم أن البراعة ليسن بناٍء .فتناوله بعض
القردة فضرب به الرض فمات .فهذا مثلي معك في ذلك .ثم قد غلب
ة .ولهذا ب والفجور ،وهما خلتا سوٍء ،والخصب شرهما عاقب ً عليك الخ ّ
مثل .قال دمنة :وما ذلك المثل?
قال كليلة :زعموا أن خبا ً ومغفل اشتركا في تجارةٍ وسافرا ،فبينما هما في
ً
الطريق ،إذ تخلف المغفل لبعض حاجته ،فوجد كيسا ً فيه ألف دينار،
فأخذه؛ فأحس به الخب ،فرجعا إلى بلدهما؛ حتى إذا دنوا من المدينة قعدا
لقتسام المال .فقال المغفل :خذ نصفه وأعطني نصفه؛ وكان الخب قد
قرر في نفسه أن يذهب باللف جميعه .فقال له :ل نقتسم ،فإن الشركة
ة ،وتأخذ مثلها؛ والمفاوضة أقرب إلى الصفاء والمخالطة؛ ولكن آخذ نفق ً
ن حريٌز .فإذا احتجنا جئنا أنا وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة :فهو مكا ٌ
ً
د .فأخذا منه يسيرا ،ودفنا وأنت فنأخذ حاجتنا منه؛ ول يعلم بموضعنا أح ٌ
ة ،ودخل البلد .ثم إن الخب خالف المغفل إلى الباقي في أصل دوح ٍ
الدنانير فأخذها ،وسوى الرض كما كانت .وجاء المغفل بعد ذلك بأشهر
فقال للخب :قد احتجت إلى نفقةٍ فانطلق بنا نأخذ حاجتنا؛ فقام الخب معه
وذهبا إلى المكان فحفرا ،فلم يجدا شيئًا .فأقبل الخب على وجهه يلطمه
يقول :ل تغتر بصحبة صاحب :خالفتني إلى الدنانير فأخذتها .فجعل المغفل
يحلف ويلعن آخذها ول يزداد الحب إل شدة في اللطم .وقال :ما أخذها
غيرك .وهل شعر بها أحد ٌ سواك? ثم طال ذلك بينهما ،فترافعا إلى
القاضي ،فاقتص القاضي قصتهما ،فادعى الخب أن المغفل أخذها ،وجحد
المغفل .فقال للخب :ألك على دعواك بينة? قال :نعم الشجرة التي كانت
الدنانير عندها تشهد لي أن المغفل أخذها .وكان الخب قد أمر أباه أن
يذهب فيتوارى في الشجرة بحيث إذا سئلت أجاب .فذهب أبو الخب
فدخل جوف الشجرة .م إن القاضي لما سمع ذلك من الخب أكبره،
وانطلق هو وأصحابه والخصب والمغفل معه؛ حتى وافى الشجرة؛ فسألها
عن الخبر .فقال الشيخ من جوفها :نعم المغفل أخذها .فلما سمع القاضي
ذلك اشتد تعجبه .فدعا بحطب وأمر أن تحرق الشجرة .فأضرمت حولها
النيران فاستغاث أبو الخب عند ذلك .فأخرج وقد أشرف على الهلك.
فسأله القاضي عن القصة فأخبره بالخبر؛ فأوقع بالخب ضربًا ،وبأبيه
صفعًا ،وأركبه مشهورا ً ،وغّرم الخب الدنانير فأخذها وأعطاها المغفل.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعمل أن الحب والخديعة ربما كان صاحبها هو
المغبون .وإنك يا دمنة جامعٌ للخب والخديعة والفجور .وإني أخشى عليك
ثمرة عملك ،مع أنك لست بناٍج من العقوبة :لنك ذو لونين ولسانين .وإنما
عذوبة ماء النهار ما لم تبلغ إلى البحار .وصلح أهل البيت ما لم يكن فيهم
المفسد .وإنه ل شيء أشبه بك من الحية ذات اللسانين التي فيها السم:
فإن قد يجري من لسانك كسمها .وإني لم أزل لذلك السم من لسانك
خائفًا ،ولما يحل بك متوقعًا ،والمفسد بين الخوان والصحاب كالحية يربيها
الرجل ويطعمها ويمسحها ويكرمها ،ثم ل يكون له منها غير اللدغ .وقد
يقال :الزم ذا العقل وذا الكرم ،واسترسل إليهما ،وإياك ومفارقتهما؛
ً
م :فالعاقل الكريم واصحب الصاحب إذا كان عاقل ً كريما أو عاقل ً غير كري ٍ
ل ،والعاقل غير الكريم أصحبه ،وإن كان غير محمود الخليقة ،وأحذر كام ٌ
من سوء أخلقه وانتفع بعقله ،والكريم غير العاقل ،الزمه ول تدع
مواصلته ،وإن كنت ل تحمد عقله ،وانتفع بكرمه ،وانفعه بعقلك؛ والقرار
كل القرار من اللئيم الحمق .وإني بالفرار منك لجديٌر .وكيف يرجو
إخوانك عندك كرما ً وودا ً وقد صنعت بملكك الذي أكرمك وشرفك ما
نصنعت? وإن مثلك مثل التاجر الذي قال :إن أرضا ً تأكل جرذانها مائة م ّ
حديدًا ،ليس بمستنكر على بزاتها أن تختطف الفيال .قال دمنة :وكيف
كان ذلك?
قال كليلة :زعموا أنه كان بأرض كذا تاجٌر ،فأراد الخروج إلى بعض
الوجوه لبتغاء الرزق؛ وكان عنده مائة من حديدًا؛ فأودعها رجل ً ميين
الحديد ،فقال لييه :إنييه قييد أكلتييه الجييرذان .فقييال :قييد سييمعت أنييه
وادعى .ثم إن التاجر خرج ،فلقي ابنا ً للرجل؛ فأخذه وذهب بييه إلييى
منزله؛ ثم رجع إليه الرجل من الغد فقال له :هل عندك علم بييابني:
فقال له التاجر :إني لما خرجت من عندك بالمس ،رأيييت بازي يا ً قييد
اختطف صبيًا ،ولعله ابنك .فلطم الرجل على رأسييه وقييال :يييا قييوم
بزاتها الفيلة .قال له الرجل :أنا أكلت حديدك وهذا ثمنه .فاردد على
ابني .وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنييك إذا غييدرت بصيياحبك فل
شك أنك بمن سواه أغدر؛ وأنه إذا صيياحب أحييد صيياحبا ً وغييدر بميين
ع :فل شيء أضيع
سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة موض ٌ
من مودةٍ تمنح من ل وفاء له ،وحباٍء يصييطنع عنييد ميين ل شييكر لييه،
الشر :كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيبًا ،وإذا مرت بالنتن حملت
فانتهى كليلة من كلمه إلى هذا المكان وقد فرغ السييد ميين الثييور،
ثم فكر في قتله بعد أن قتله وذهب عنه الغضب .وقال :لقد فجعني
كان بريئا ً أو مكذوبا ً عليه؛ فحزن وندم على ما كان منه ،وتبين ذلييك
في وجهه؛ وبصر به دمنة ،فترك محياورة كليلية ،وتقيدم إليى السيد
فقال له :ليهنئك الظفيير إذ أهلييك اللييه أعييداءك .فميياذا يحزنييك أيهييا
ل ترحمه أيها الملك :فإن العاقييل ل يرحييم ميين يخييافه .وإن الرجييل
الحازم ربما أبغض الرجل وكرهه ،ثم قربييه وأدنيياه :لمييا يعلييم عنييده
من الغناء والكفاية ،فعل الرجل المتكاره على الييدواء الشيينيع رجيياء
أن يسر سمها إلى بدنه .فرضي السد بقول دمنة .ثم علم بعد ذلييك
ة.
بكذبه وغدره وفجوره فقتله شر قتل ٍ
وكان عند السد وجيهًا ،وعليه كريمًا ،واتفييق أن كليليية أخييذه الوجييد
الشغبر إلى دمنة ،فأخبره بموت كليلة فبكى وحزن ،وقال :ما أصيينع
بالدنيا بعد مفارقة الخ الصفى?????! ولكن أحمد الله تعييالى حيييث
لم يمت كليلة حتى أبقى لي من ذوي قرابتي أخ يا ً مثلييك :فييإني قييد
ومراعاتك لي ،وقد علمت أنك رجائي وركني فيما أنا فيه ،فأريد من
إنعامك أن تنطلق إلى مكان كذا ،فتنظر إلييى مييا جمعتييه أنييا وأخييي
بحيلتنا وسعينا ومشيئة اللييه تعييالى ،فتييأتيني بييه ،ففعييل الشييغبر ميا
أمره به دمنة .فلما وضع المال بين يديه أعطياه شيطره ،وقييال ليه:
إنك على الييدخول والخييروج علييى السييد أقييدر ميين غيييرك ،فتفييرغ
لشأني ،واصرف اهتمامك إلي ،واسمع مييا أذكيير بييه عنييد السييد ،إذا
رفع إليه ما يجري بيني وبين الخصوم ،وما يبييدو ميين أم السييد فييي
حقي ،وما ترى من متابعيية السييد لهييا ،ومخييالفته إياهييا فييي أمييري،
وأحفظ ذلك كله .فأخذ الشغبر ما أعطاه دمنة وانصييرف عنييه علييى
هذا العهد .فانطلق إلى منزله فوضع المال فيييه .ثييم إن السييد بك ّيير
من الغد فجلس ،حتى إذا مضى من النهييار سيياعتان ،اسييتأذن عليييه
أصحابه فأذن لهم ،فدخلوا عليييه ،ووضييعوا الكتيياب بييين يييديه .فلمييا
عرف قولهم وقول دمنة دعا أمه فقرأ عليها ذلك .فلمييا سييمعت مييا
فييي الكتيياب نييادت بييأعلى صييوتها :إن أنييا أغلظييت فييي القييول فل
تلومني :فإنك لست تعرف ضرك من نفعييك .أليييس هييذا ممييا كنييت
أنهاك عيين سييماعه :لنييه كلم هييذا المجييرم المسيييء إلينييا ،الغييادر
بذمتنا? ثم إنها خرجت مغضبة ،وذلك بعين الشغبر الذي أخيياه دمنيية
فبينما هو عنده إذ جاء رسول انطلق بدمنة إلى الجمع عند القاضي.
فلما مثل بين يدي القاضي استفتح سيد المجلس فقال :يا دمنة قييد
أنبأني بخبرك المين الصادق وليس ينبغي لنا أن نفحص عيين شييأنك
أكثر من هذا :لن العلميياء قييالوا :إن اللييه تعييالى جعييل الييدنيا سييببا ً
الهادين إلى الجنة الداعين إلى معرفة الله تعالى .وقييد ثبييت شييأنك
أمرك والفحص عن شأنك وإن كييان عنييدنا ظيياهرا ً بينييا .قييال دمنيية:
دفع المظلومين ومن ل ذنب له إلى قاض غير عادل بييل المخاصييمة
عنهم والذود .فكيف ترى أن أقتل ولم أخاصم? وتعجل ذلك موافقيية
لهواك ولم تمض بعد ذلييك ثلثيية أيييام .ولكيين صييدق الييذي قييال :إن
الذي تعود عمل البر هين عليه عمله وإن أضربه .قييال القاضييي :إن
يغني من الحق شيئا .وأنتم إن ظننتم أني مجييرم فيمييا فعلييت فيإني
أعلم بنفسي منكم وعلمي بنفسي يقين لشك فيه وعلمكم بي غاية
الشك وإنما قبح أمري عندكم أني سعيت بغيري فما عييذري عنييدكم
إذا سعيت بنفسي كاذبا عليها فأسلمتها للقتل والعطب على معرفيية
مني ببراءتي وسلمي مما قرفت به? ونفسي لعظم النفييس علييى
حرمة وأوجبها حقًا .فلو فعلت هييذا بأقصيياكم وأدنيياكم ،لمييا وسييعني
في ديني ،ول حسن بي في مروءتي ،ول حييق لييي أن أفعلييه فكيييف
منك نصيحة فقد أخطأت موضعها وإن كانت خديعة فإن أقبح الخداع
ما نظرته وعرفت أنه من غير أهله مع أن الخداع والمكر ليسييا ميين
الجهال والشرار سنة يقتدون بها :لن أمييور القضيياة يأخييذ بصييوابها
أهل الصواب وبخطئها أهل الخطأ والباطل والقليلو الورع وأنا خائف
عليك أيها القاضي من مقالتك هذه أعظم الرزايا والبليا وليييس ميين
البلء و المصييبة أنيك ليم تيزل فيي نفيس المليك والجنيد والخاصية
والعاميية فاض يل ً فييي رأيييك مقنع يا ً فييي عييدلك مرضيييا ً فييي حكمييك
وعفافك وفضلك وإنما البلء كيف أنسيت ذلك في أمري .فلما سمع
القاضي ذلك من لفظ دمنيية نهييض فرفعييه إلييى السييد علييى وجهييه
فنظر في السد ثم دعا أمه فعرضه عليها .فقالت حين تييدبرت كلم
دمنة للسد :لقد صيار اهتميامي بميا أتخيوف مين احتييال دمنية ليك
بغير ذنب .فوقع قولهيا فيي نفسييه .فقيال لهيا :أخييبريني عيين الييذي
إذا تذكرت أني استظهرت عليه بركييوب مييا نهييت عنييه العلميياء ميين
ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما سمع منه .ثم انصرفت وأرسلت إلييى
قالت العلماء :من كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة .فلم تييزل
به حتى قام فدخل علييى السيد فشيهد عنييده بميا سيمع ميين إقيرار
دمنة .فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد المحبوس الذي سمع إقرار
دمنة وحفظه إلى السد فقال :إن عندي شييهادة .فييأخرجوه .فشييهد
على دمنة بما سمع من إقيراره .فقيال لهميا السيد :ميا منعكميا أن
فكرهنا التعرض لغير ما يمضي به الحكم حييتى إذا شييهد أحييدنا قييام
فقتل أشنع قتلة .فمن نظر في هذا فليعلم أن من أراد منفعة نفسه
بضر غيره بالخلبة والمكر فإنه سيجري على خلبته ومكييره.ي يا ً فييي
حكمك وعفافك وفضلك وإنما البلء كيييف أنسيييت ذلييك فييي أمييري.
فلما سمع القاضي ذلك من لفظ دمنة نهض فرفعه إلى السد علييى
وجهه فنظر في السد ثم دعا أمه فعرضه عليها .فقالت حين تدبرت
كلم دمنة للسد :لقد صار اهتمامي بما أتخوف من احتيال دمنة لييك
بغير ذنب .فوقع قولهيا فيي نفسييه .فقيال لهيا :أخييبريني عيين الييذي
إذا تذكرت أني استظهرت عليه بركييوب مييا نهييت عنييه العلميياء ميين
ذكره لك ويقوم هو بعلمه وما سمع منه .ثم انصرفت وأرسلت إلييى
النمر وذكرت له ما يحق عليه من حسن معاونته السد علييى الحييق
قالت العلماء :من كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة .فلم تييزل
به حتى قام فدخل علييى السيد فشيهد عنييده بميا سيمع ميين إقيرار
دمنة .فلما شهد النمر بذلك أرسل الفهد المحبوس الذي سمع إقرار
دمنة وحفظه إلى السد فقال :إن عندي شييهادة .فييأخرجوه .فشييهد
على دمنة بما سمع من إقيراره .فقيال لهميا السيد :ميا منعكميا أن
فكرهنا التعرض لغير ما يمضي به الحكم حييتى إذا شييهد أحييدنا قييام
فقتل أشنع قتلة .فمن نظر في هذا فليعلم أن من أراد منفعة نفسه
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف :قد سمعت مثل المتحابين كيف قطع
بينهما الكذب وإلى ماذا صار عاقبة أمره من بعد ذلك .فحدثني ،إن رأيت؛
عن إخوان الصفاء كيف يبتدأ تواصلهم ويستمع بعضهم ببعض? قال
الفيلسوف :إن العاقل ل يعدل بالخوان شيئا فالخوان هم العوان على
الخير كله ،والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه .ومن أمثال ذلك مثل
الحمامة المطوقة والجرذ والظبي والغراب .قال الملك :وكيف كان ذلك?
قال بيدبا :زعموا أنه كان بأرض سكاوندجين ،عند مدينة داهر ،مكان كثير
الصيد ،ينتابه الصيادون؛ وكان في ذلك المكان شجرة كثيرة الغصان
ملتفة الورق فيها وكر غراب فبينما هو ذات يوم ساقط في وكره إذ بصر
بصياد قبيح المنظر ،سيئ الخلق ،على عاتقه شبكة ،وفي يده عصا ً مقبل ً
نحو الشجرة ،فذعر منه الغراب؛ وقال :لقد ساق هذا الرجل إلى هذا
المكان :إما حيني وإما حين غيري .فلثبتن مكاني حتى أنظر ماذا يصنع .ثم
إن الصياد نصب شبكته ،ونثر عليها الحب ،وكمن قريبا منها ،فلم يلبث إل
قليل ،حتى مرت به حمامة يقال لها المطوقة ،وكانت سيدة الحمام ومعها
ب يلتقطنه حمام كثير؛ فعميت هي وصواحبها عن الشرك ،فوقعن على الح ّ
فعلقن في الشبكة كلهن؛ وأقبل الصياد فرحا ً مسرورًا .فجعلت كل حمامة
تضطرب في حبائلها وتلتمس الخلص لنفسها .قالت المطوقة :ل تخاذلنا
في المعالجة ول تكن نفس إحداكن أهم إليها م نفس صاحبتها؛ ولكن
نتعاون جميعا ً فنقلع الشبكة فينجو بعضنا ببعض؛ فقلعن الشبكة جميعهن
بتعاونهن ،وعلون في الجو؛ ولم يقطع الصياد رجاءه منهن وظن أنهن ل
يجاوزن إل قريبا ً ويقعن .فقال الغراب :لتبعهن وأنظرو ما يكون منهن.
فالتفتت المطوقة فرأت الصياد يتبعهن .فقالت للحمام :هذا الصياد مجد
في طلبكن ،فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يخف عليه أمرنا ولم يزل يتبعنا
وإن نحن توجهنا إلى العمران خفي عليه أمرنا ،وانصرف .وبمكان كذا جرذ ٌ
هو لي أخ؛ فلو انتهينا إليه قطع عنا هذا الشرك .ففعلن ذلك .وأيس الصياد
منهن وانصرف .وتبعهن الغراب .فلما انتهت الحمامة المطوقة إلى الجرذ،
أمرت الحمام أن يسقطن ،فوقعن؛ وكان للجرذ مائة حجر للمخاوف فنادته
المطوقة باسمه ،وكان اسمه زيرك ،فأجابها الجرذ من حجره :من أنت?
قالت :أنا خليلتك المطوقة .فأقبل إليها الجرذ يسعى ،فقال لها :ما أوقعك
في هذه الورطة? قالت له :ألم تعلم أنه ليس من الخير والشر شيء إل
هو مقدٌر على من تصيبه المقادير ،وهي التي أوقعتني في هذه الورطة؛
فقد ل يمتنع من القدر من هو أقوى مني وأعظم أمرًا؛ وقد تنكسف
الشمس والقمر إذا قضي ذلك عليهما .ثم إن الجرذ أخذ في قرض العقد
الذي فيه المطوقة .فقالت له المطوقة :ابدأ بقطع عقد سائر الحمام ،وبع
ذلك أقبل على عقدي؛ وأعادت ذلك عليه مرارًا ،وهو ل يلتفت إلى قولها،
ي كأنك فلما أكثرت عليه القول وكررت ،قال لها :لقد كررت القول عل ّ
ً
ليس لك في نفسك حاجة ،ول لك عليها شفقة ،ول ترعين لها حقا .قالت:
إني أخاف ،إن أنت بدأت بقطع عقدي أن تمل وتكسل عن قطع ما بقي؛
ض وإن أدركك وعرفت أنك إن بدأت بهن قبلي ،وكنت أنا الخيرة لم تر َ
الفتور أن أبقى في الشرك قال الجرذ :هذا مما يزيد الرغبة والمودة فيك.
ثم إن الجرذ أخذ في قرض الشبكة حتى فرغ منها ،فانطلقت المطوقة
وحمامها معها.
فلما رأى الغراب صنع الجرذ ،رغب في مصادقته ،فجاء وناداه باسمه،
فأخرج الجرذ رأسه ،فقال له :ما حاجتك? قال :إني أريد مصادقتك .قال
الجرذ :ليس بيني وبينك تواصل ،وإنما العاقل ينبغي له أن يلتمس ما يجد
ل ،فإنما أنت الكل ،وأنا طعام إليه سبي ً
ل ،ويترك التماس ما ليس إليه سبي ٌ
لك .قال الغراب :إن أكلي إياك ،وإن كنت لي طعامًا ،مما ل يغني عني
شيئًا؛ وإن مودتك آنس لي مما ذكرت ولست بحقيق ،إذا جئت أطلب
مودتك ،أن تردني خائبًا .فإنه قد ظهر لي منك من حسن الخلق ما رغبني
فيك ،وإن لم تكن تلتمس إظهار ذلك :فإن العاقل ل يخفي فضله ،وإن هو
أخفاه؛ كالمسك الذي يكتم ثم ل يمنعه ذلك من النشر الطيب والرج
الفائح .قال الجرذ .إن أشد العداوة عداوة الجوهر :وهي عداوتان :منها ما
هو متكافئ كعداوة الفيل والسد .فإنه ربما قتل السد الفيل أو الفيل
وته من أحد الجانبين على الخر كعداوة ما بيني وبين السد ،ومنها ما ق ّ
السنور وبيني وبينك :فإن العداوة التي بيننا ليست تضرك ،وإنما ضررها
ي :فإن الماء لو أطيل إسخانه لم يمنعه ذلك من إطفائه النار إذا عائد عل ّ
صب عليها ،وإنما مصاحب العدوّ ومصالحه كصاحب الحية يحملها في كمه،
والعاقل ل يستأنس إلى العدو الريب.
قال الغراب :قد فهمت ما تقول ،وأنت خليق أن تأخذ بفضل خليقتك،
ي المر بقولك :ليس إلى التواصل بيننا وتعرف صدق مقالتي ول تصعب عل ّ
سبيل :فإن العقلء الكرام ل يبتغون على معروف جزاء ،والمودة بين
الصالحين سريع اتصالها بطيٌء انقطاعها .ومثل ذلك مثل الكوز من
الذهب :بطيء النكسار ،سريع العادة ،هّين الصلح ،إن أصابه ثلم أو
كسر ،والمودة بين الشرار سريعٌ انقطاعها ،بطيء اتصالها .ومثل ذلك
مثل الكوز من الفخار سريع النكسار ينكسر من أدنى عيب ول وصل له
أبدًا .والكريم يود ّ الكريم واللئيم ل يود ّ أحدا ً إل عن رغبة أو رهبة .وأنا إلى
دك ومعروفك محتاج :لنك كريم وأنا ملزم لبابك غير ذائق طعاما ً حتى و ّ
تؤاخيني .قال الجرذ :قد قبلت إخاءك :فإني لم أردد أحدا ً عن حاجة قطّ،
وإنما بدأت بما بدأتك به إرادة التوثق لنفسي فإن أنت غدرت بي لم تقل:
إني وجدت الجرذ سريع النخداع .ثم خرج من حجره ،فوقف عند الباب.
ي ،والستئناس بي? فهل في فقال له الغراب :ما يمنعك من الخروج إل ّ
نفسك بعد ذلك مني ريبة? قال الجرذ :إن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم
أمرين ويتواصلون عليهما وهما ذات النفس ،وذات اليد .فالمتباذلون ذات
النفس هم الصفياء ،وأما المتباذلون ذات اليد فهم المتعاونون الذين
يلتمس بعضهم النتفاع ببعض .ومن كان يصنع المعروف لبعض منافع الدنيا
فإنما مثله فيما يبذل ويعطى كمثل الصياد وإلقائه الحب للطير ،ل يريد
بذلك نفع الطير وإنما يريد نفع نفسه .فتعاطى ذات النفس أفضل من
تعاطي ذات اليد .وإني وثقت منك بذات نفسك ،ومنحتك من نفسي مثل
ن بك ،ولكن قد عرفت أن ذلك .وليس يمنعني من الخروج إليك سوء ظ ّ
لك أصحابا ً جوهرهم كجوهرك ،وليس رأيهم ف ّ
ي رأيك.
قال الغراب :إن من علمة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقًا ،ولعدو
صديقه عدوًا؛ وليس لي بصاحب ول صديق من ل يكون لك محبًا؛ وإنه
يهون عن قطيعة من كان كذلك من جوهري .ثم إن الجرذ خرج إلى
الغراب فتصافحا وتصافيا ،وأنس كل واحد منهما بصاحبه؛ حتى إذا مضت
لهما أيام قال الغراب للجرذ :إن جحرك قريب من طريق الناس ،وأخاف
ر؛ ولي مكان في عزلة ،ولي فيه صديقٌ من أن يرميك بعض الصبيان بحج ٍ
السلحف وهو مخصب من السمك ونحن واجدون هناك ما نأكل فأريد أن
أنطلق بك إلى هناك لنعيش آمنين .قال الجرذ :إن لي أخبار وقصصا ً
سأقصها عليك إذا انتهينا حيث تريد فافعل ما تشاء .فأخذ الغراب بذنب
الجرذ وطار به حتى بلغ به حيث أراد .فلما دنى من العين التي فيها
السلحفاة بصرت السلحفاة بغراب ومعه جرذ فذعرت منه ولم تعلم أنه
صاحبها ،فناداه فخرجت إليه وسألته من أين أقبلت? فأخبرها بقصته حين
تبع الحمام وما كان من أمره وأمر الجرذ حتى انتهى إليها .فلما سمعت
السلحفاة شأن الجرذ عجبت من عقله ووفاءه ورحبت به وقالت له :ما
ي الخبار التي ساقك إلى هذه الرض? قال الغراب للجرذ :اقصص عل ّ
زعمت أنك تحدثني بها فأخبرني بها مع جواب ما سألت السلحفاة :فإنها
عندك بمنزلتي ،فبدأ الجرذ وقال :كان منزلي أول أمري بمدينة ماروت في
بيت رجل ناسك وكان خاليا ً من الهل والعيال ،وكان يؤتى في كل يوم
بسلة من الطعام فيأكل منها حاجته ويعلق الباقي ،وكنت أرصد الناسك،
حتى يخرج وأثب إلى السلة ،فل أدع فيها طعاما ً إل أكلته ،وأرمي به إلى
الجرذان .فجهد الناسك مرارا ً أن يعلق السلة مكانا ً ل أناله فلم يقدر على
ذلك ،حتى نزل به ذات ليلة ضيف فأكل جميعًا ،ثم أخذا في الحديث فقال
الناسك للضيف :من أي أرض أقبلت? وأين تريد الن? وكان الرجل قد
ما وطئ من البلد ،ورأى جاب الفاق ورأى عجائب فأنشأ يحدث الناسك ع ّ
فرني عن السلة، من العجائب ،وجعل الناسك خلل ذلك يصفق بيديه لين ّ
فغضب الضيف وقال :أنا أحدثك وأنت تهزأ بحديثي! فما حملك على أن
فر جرذا ً قد
سألتني? فاعتذر إليه الناسك ،وقال :إنما أصفق بيدي لن ّ
تحيرت في أمره ،ولست أضع في البيت شيئا ً إل أكله ،فقال الضيف :جرذ ٌ
واحد يفعل ذلك أم جرذان كثيرة? فقال الناسك :فما أستطيع له حيلة .قال
الضيف :لقد ذكرتني قول الذي قال :لمر ما باعت هذه المرأة سمسما ً
مقشورا ً بغير مقشور! قال الناسك :وكيف كان ذلك?
قال الضيف :نزلت مرة على رجل بمكان كذا ،فتعشينا ،ثم فرش لي.
وانقلب الرجل على فراشه ،فسمعته يقول في آخر الليل لمرأته :إني
أريد أن أدعو غدا ً رهطا ليأكلوا عندنا ،فاصنعي لهم طعامًا .فقالت المرأة:
كيف تدعو الناس إلى طعامك ،وليس في بيتك فضل عن عيالك? وأنت
رجل ل تبقي شيئا ً ول تدخره .قال الرجل :ل تندمي على شيٍء أطعمناه
وأنفقناه :فإن الجمع والدخار ربما كانت عاقبته كعاقبة الذئب .قالت
ص، المرأة وكيف كان ذلك? قال الرجل :زعموا أنه خرج ذات يوم رجل قان ٌ
ومعه قوصه ونشابه فلم يجاوز غير بعيد ،حتى رمى ظبيًا ،فحمله ورجع
طالبا ً منزله ،فاعترضه خنزير بريّ فرماه بنشابةٍ نفذت فيه ،فأدركه
الخنزير وضربه بأنيابه ضربة أطارت من يده القوس ،ووقعا ميتين ،فأتى
ة ،ولكن عليهم ذئب فقال :هذا الرجل والظبي والخنزير يكفيني أكلهم مد ً
أبدأ بهذا الوتر فآكله ،فيكون قوت يومي ،فعالج الوتر حتى قطعه فلما
انقطع طارت سية القوس فضربت حلقه فمات .وإنما ضربت لك هذا
المثل لتعلمي أن الجمع والدخار وخيم العاقبة .فقالت المرأة :نعم ما
ة
قلت! وعندنا من الرز والسمسم ما يكفي ستة نفر أو سبعة ،فأنا غادي ٌ
على اصطناع الطعام ،فادع من أحببت .وأخذت المرأة حين أصبحت
ف ،وقالت لغلم لهم :اطرد سمسما ً فقشرته ،وبسطته في الشمس ليج ّ
عنه الطير والكلب وتفرغت المرأة لصنعها؛ وتغافل الغلم عن السمسم؛
ب ،فعاث فيه؛ فاستقذرته المرأة ،وكرهت أن تصنع منه طعاما ً ما؛ فجاء كل ٌ
فذهبت به إلى السوق ،فأخذت به مقايضة سمسما ً غير مقشور :مثل ً
ل :لمرٍ ما باعت هذه المرأة ف في السوق؛ فقال رج ٌ
ل ،وأنا واق ٌ
بمث ٍ
سمسما ً مقشورا ً بغير مقشوٍر .وكذلك قولي في هذا الجرذ الذي ذكرت
أنه على غير علةٍ ما يقدر على ما شكوت منه .فالتمس لي فأسا ً لعلي
أحتقره جحره فأطلع على بعض شأنه .فاستعار الناسك من بعض جيرانه
فأسًا ،فأتى بها الضيف ،وأنا حينئذ ٍ في غير جحري أسمع كلمهما ،وفي
جحري كيس فيه مائة دينار ،ل أدري من وضعها ،فاحتفر الضيف حتى
انتهى إلى الدنانير فأخذها وقال الناسك :ما كان هذا الجرذ يقوى على
الوثوب حيث كان يثب إل بهذه الدنانير :فإن المال جعل له قوة وزيادة في
الرأي والتمكن .وسترى بعد هذا أنه ل يقدر على الوثوب حيث كان يثب.
فلما كان من الغد اجتمع الجرذان التي كانت معي فقالت :قد أصابنا
الجوع ،وأنت رجائنا فانطلقت ومعي الجرذان إلى المكان الذي كنت أثب
منه إلى السلة فحاولت ذلك مرارًا :فلم أقدر عليه فاستبان للجرذان نقص
حالي فسمعتهن يقلن :انصرفن عنه ،ول تطمعن فيما عنده :فإنا نرى له
حال ً ل نحسبه إل قد احتاج معها إلى من يعوله .فتركني ،ولحقن بأعدائي
وجفونني ،وأخذن في غيبتي عند من يعاديني ويحسدني .فقلت في نفسي:
ما الخوان ول العوان ول الصدقاء إل بالمال ووجدت من ل مال له ،إذا
ما يريده :كالماء الذي يبقى في الودية من مطر أراد أمرا ً قعد به العدم ع ّ
الشتاء :ل يمر إلى نهر ول يجري إلى مكان ،فتشربه أرضه .ووجدت من ل
إخوان له ل أهل له ،ومن ل ولد له ل ذكر له :ومن ل مال له ل عقل له،
ول دنيا ول آخرة له :لن الرجل إذا افتقر قطعه أقاربه وإخوانه :فإن
الشجرة النابتة في السباخ ،المأكولة من كل جانب ،كحال الفقير المحتاج
إلى ما في أيدي الناس.
ً
ووجدت الفقر رأس كل بلء ،وجالبا إلى صاحبه كل مقت ،ومعدن النميمة.
ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمنًا ،وأساء به الظن من كان
يظن فيه حسنًا :فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعًا .وليس من خلة
م ،فإن كان شجاعا ً قيل :أهوج ،وإن كان هي للغني مدح إل وهي للفقير ذ ٌ
مي مبذرًا ،وإن كان حليما ً سمي ضعيفًا ،وإن كان وقورا سمي جوادا ً س ّ
بليدًا .فالموت أهون من الحاجة التي تحوج صاحبها إلى المسألة ،ول سيما
مسألة الشحاء واللئام :فإن الكريم لو كلف أن يدخل يده في فم الفعى،
فيخرج منه سما ً فيبتلعه كان ذلك أهون عليه وأحب إليه من مسألة البخيل
الّلئم .وقد كنت رأيت الضيف حين أخذ الدنانير فقاسمها الناس ،فجعل
ن الليل ،فطمعت أن أصيب الناسك نصيبه في خريطة عند رأسه ولما ج ّ
منها شيئا ً فأرده إلى جحري ،ورجوت أن يزيد ذلك في قوتي ،ويراجعني
بسببه بعض أصدقائي .فانطلقت إلى الناسك وهو نائم ،حتى انتهيت عند
رأسه ،ووجدت الضيف يقظان ،وبيده قضيب ،فضربني على رأسي ضربة
موجعة ،فسعيت إلى جحري .فلما سكن عني اللم ،هيجني الحرص
والشره ،فخرجت طمعا ً كطمعي الول ،وإذا الضيف يرصدني ،فضربني
ضربة أسالت مني الدم ،فتقلبت ظهرا ً لبطن إلى جحري ،فخررت مغشيا ً
ي ،فأصابني من الوجع ما بغض إلى المال رعدة وهيبة .ثم تذكرت عل ّ
فوجدت البلء في الدنيا إنما يسوقه الحرص والشره ،ول يزال صاحب
الدنيا في بلية وتعب ونصب ،ووجدت تجشم السفار البعيدة في طلب
ى بالمال ،ولم أر كالرضا شيئًا،سخ ّي من بسط اليد إلى ال ّ الدنيا أهون عل ّ
فصار أمري إلى أن رضيت وقنعت ،وانتقلت من بيت الناسك إلى البرية،
وكان لي صديق من الحمام ،فسيقت إلي بصداقته صداقة .ثم ذكر لي
الغراب ما بينك وبينه من المودة ،وأخبرني أنه يريد إتيانك ،فأحببت أن
آتيك معه ،فكرهت الوحدة ،فإنه ل شيء من سرور الدنيا يعدل صحبة
الخوان ،ول غم فيها يعدل البعد عنهم .وجربت :فعلمت أنه ل ينبغي
للعاقل أن يلتمس من الدنيا غير الكفاف الذي يدفع به الذى عن نفسه:
وهو اليسير من المطعم والمشرب ،إذا اشتمل على صحة البدن ورفاهة
البال.
ً
ولو أن رجل وهبت له الدنيا بما فيهان لم يك ينتفع من ذلك إل بالقليل
الذي يدفع به عن نفسه الحاجة :فأقبلت مع الغراب إليك على هذا الرأي،
وأنا لك أخ ،فلتكن منزلتي عندك كذلك .فلما فرغ الجرذ من كلمه أجابته
ب ،وقالت :قد سمعت كلمك ،وما أحسن ما ق عذ ٍ السلحفاة بكلم ٍ رقي ٍ
تحدثت به! إل أني رأيتك تذكر بقايا أمورٍ هي في نفسك .واعلم أن حسن
الكلم ل يتم إل بحسن العمل ،وأن المريض الذي قد علم دواء مرضه إن
ة .فاستعمل رأيك ،ول يتداو به ،لم يغن به شيئًا ،ولم يجد لدائه راحة ول خف ً
تحزن لقلة المال :فإن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال :كالسد
الذي يهاب ،وإن كان رابضًا ،والغني الذي ل مروءة له يهان وإن كان كثير
ن عليك المال :كالكلب ل يحفل به ،وإن طوق وخلخل بالذهب .فل تكبر ّ
غربتك :فإن العاقل ل غربة له :كالسد الذي ل ينقلب إل ومعه قوته.
فلتحسن تعاهدك لنفسك :فإنك إذا فعلت ذلك جاءك الخير يطلبك كما
ل الفضل للحازم البصير بالمور ،وأما جع َ
يطلب الماء انحداره .وإنما ُ
تالكسلن المتردد فإن الفضل ل يصحبه .وقد قيل في أشياء ليس لها ثبا ٌ
ول بقاء :ظل الغمامة في الصيف ،وخلة الشرار ،والبناء على غير أساس،
دم
والمال الكثير :فالعاقل ل يحزن لقلته ،وإنما مال العاقل عقله ،وما ق ّ
من صالح ،فهو واثق بأنه ل يسلب ما عمل ول يوآخذ بشيٍء لم يعمله ،وهو
ة ،ليس له وقت خليق أل يغفل عن أمر أخرته :فإن الموت ل يأتي إل بغت ً
معين .وأنت عن موعظتي غني بما عندك من العلم .ولكن رأيت أن أقضي
مالك من حق قبلنا :لنك أخونا وما عندنا من النصح مبذول لك .فلما سمع
الغراب كلم السلحفاة للجرذ وردها عليه وملطفتها إياه فرح بذلك وقال:
ي ،وأنت جديرة أن تسّري نفسك بمثل ما لقد سررتني وأنعمت عل ّ
دة السرور من ل يزال عنده منهم سررتني به .وإن أولى أهل الدنيا بش ّ
جماعة يسرهم ويسرونه ،ويكون من وراء أمورهم وحاجاتهم بالمرصاد:
فإن الكريم إذا عثر ل يأخذ بيده إل الكرام :كالفيل إذا وحل ل تخرجه إل
الفيلة .فبينما الغراب في كلمه ،إذ أقبل نحوهم ظبي يسعى ،فذعرت منه
السلحفاة ،فغاصت في الماء ،وخرج الجرذ إلى جحره ،وطار الغراب فوقع
على شجرة.
ثم إن الغراب حلق في السماء لينظر هل للظبي طالب? فنظر فلم يرّ
شيئًا؛ فنادى الجرذ والسلحفاة ،وخرجا ،فقالت السلحفاة للظبي ،حين رأته
ينظر إلى الماء :اشرب إن كان بك عطش ،ول تخف :فإنه ل خوف عليك.
فدنا الظبي فرحبت به السلحفاة وحّيته وقالت له :من أين أقبلت? قال:
كنت أسنح بهذه الصحارى فلم تزل الساورة تطردني من مكان إلى مكان
حتى رأيت اليوم شبحًا .فخفت أن يكون قانصا ً قالت :ل تخف :فإنا لم نرى
دنا ومكاننا والماء والمرعى كثيران عندنا هاهنا قانصا ً قط ،ونحن نبذل لك و ّ
فارغب في صحبتنا .فأقام الظبي معهم وكان لهم عريش يجتمعون فيه
ويتذاكرون الحاديث والخبار .فبينما الغراب والجرذ والسلحفاة ذات يوم
في العريش غاب الظبي فتوقعوه ساعة فلم يأت .فلما أبطأ أشفقوا أن
ت ،فقال الجرذ والسلحفاة للغراب :انظر هل ترى مما يكون قد أصابه عن ٌ
يلينا شيئًا? فحلق الغراب في السماء فنظر :فإذا الظبي في الحبائل
مقتنصا ً فانقض مسرعا ً فأخبرهما بذلك فقالت السلحفاة والغراب للجرذ:
هذا أمر ل يرجى فيه غيرك ،فأغث أخاك ،فسعى الجرذ مسرعًا ،فأتى
الظبي ،فقال له :كيف وقعت في هذه الورطة وأنت من الكياس? قال
الظبي :هل يغني الكيس مع المقادير شيئًا ،فبينما هما في الحديث إذ
وافتهما السلحفاة فقال لها الظبي .ما أصبت بمجيئك إلينا :فإن القانص لو
انتهى إلينا وقد قطع الجرذ الحبائل استبقه عدوًا ،وللجرذ أحجاٌر كثيرة،
والغراب يطير وأنت ثقيلة :ل سعى لك ول حركة وأخاف عليك القانص.
فقالت :ل عيش مع فراق الحبة وإذا فارق الليف أليفه فقد سلب فؤاده،
وحرم سروره ،وغشى بصره ،فلم ينتهي كلمهما حتى وافى القانص،
ووافق ذلك فراغ الجرذ من قطع الشرك ،فنجا الظبي بنفسه ،وطار
الغراب محلقا ً ودخل الجرذ بعض الحجار ولم يبق غير السلحفاة ،ودنا
طعة ،فنظر يمينا ً وشمال ً فلم يجد غير السلحفاة الصياد فوجد حبالته مق ّ
تدب ،فأخذها وربطها ،فلم يلبث الغراب والجرذ والظبي أن اجتمعوا
فنظروا القانص قد ربط السلحفاة فاشتد حزنهم ،وقال الجرذ :ما أرانا
نجاوز عقبة من البلء إل صرنا في أشد منها .ولقد صدق الذي قال :ل يزال
ج به العثار وإن مشى النسان مستمرا ً في إقباله ما لم يعثر ،فإذا عثر ل ّ
في جدد الرض .وحذري على السلحفاة خير الصدقاء التي خلتها ليست
للمجازاة ول للتماس مكافأة ،ولكنها خلة الكرم والشرف ،خلة هي أفضل
ح لهذا الجسد الموكل به من خلة الوالد لولده ،خلة ل يزيلها إل الموت .وي ٌ
البلء الذي ل يزال في تصرف وتقلب ،ول يدوم له شيء ،ول يلبث معه
ل ،لكن ل أمر :كما ل يدوم للطالع من النجوم طلوع ،ول للفل منها أفو ٌ
ل ،والفل طالعًا ،وكما تكون آلم الكلوم وانتقاض يزال للطالع منها آف ً
الجراحات ،كذلك من قرحت كلومه بفقد إخوانه بعد اجتماعه بهم.
ن حذرنا وحذرك وكلمييك ،وإن كييان فقال الظبي والغراب للجرذ :إ ّ
الناس عند البلء ،وذو المانة عند الخذ والعطاء ،والهل والولد عنييد
الفاقة ،كييذلك يختييبر الخييوان عنييد النييوائب .قييال الجييرذ :أرى ميين
ويقع الغراب عليك كأنه يأكييل منييك ،وأسييعى أنييا فييأكون قريبيا ً ميين
القييانص ،مراقبييا ً لييه ،فعّلييه أن يرمييي مييا معييه ميين الليية ،ويضييع
السلحفاة ،ويقصدك طامعا ً فيك ،راجيا ً تحصيلك .فإذا دنا منييك ففيير
عنه رويدًا :بحيث ل ينقطع طمعه منك ،ومكنه ميين أخييذك مييرة بعييد
خولط في عقله وفكر في أمر الظبي والغراب الذي كأنه يأكل منييه
ن أو
وقييرض حبييالته فاسييتوحش ميين الرض وقييال :هييذه أرض جيي ّ
كانوا عليه .فإذا كان هذا الخلييق مييع صييغره وضييعفه قييد قييدر علييى
في الصحبة.
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف :قد سمعت مثل إخوان الصفاء
وتعاونهم ،فاضرب لي مثل العدوّ الذي ل ينبغي أن يغتر به ،وإن أظهر
تضرعا ً وملقًا ،قال الفيلسوف :من اغتر بالعدو الذي لم يزل عدوًا ،أصابه
ما أصاب البوم من الغربان .قال الملك وكيف كان ذلك?
قال بيدبا :زعموا أنه كان في جبل في الجبال شجرة من شجر الدوح ،فيها
ل من أنفسهن ،وكان عند هذه الشجرة كهف وكر ألف غراب ،وعليهن وا ٍ
ل منهن .فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته، فيه ألف بوم ،وعليهن وا ٍ
وفي نفسه العداوة لملك الغربان ،وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك
للبوم ،فأغار ملك البوم في أصحابه على الغربان في أوكارها ،فقتل وسبى
ل ،فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى منها خلقا ً كثيرُا ،وكانت الغارة لي ً
ملكها فقلن له :قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم ،وما مّنا لل أصبح
قتيل ً أو جريحا ً أو مكسور الجناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب
ن عائدات وأشد مما أصابنا ضرا ً علينا جراءتهن علينا ،وعلمهن بمكاننا ،وه ّ
ن بمكاننا :فإنما نحن لك ،ولك الرأي ،أيها إلينا غير منقطعات عّنا :لعلمه ّ
الملك ،فانظر لنا ولنفسك ،وكان في الغربان خمسة معترف لهن بحسن
ن في المور ،ويلقى عليهن أزمة الحوال .وكان الملك الرأي ،يسند إليه ّ
كثيرا ً ما يشاورهن في المور ،ويأخذ آراءهن في الحوادث والنوازل .فقال
الملك للول من الخمسة :ما رأيك في هذا المر? قال :رأي قد سبقتنا إليه
العلماء ،وذلك أنهم قالوا :ليس للعدو الحنق إل الهرب منه .قال الملك
للثاني :ما رأيك في هذا المر? قال :رأي ما رأى هذا من الهرب .قال
الملك :ل أرى لكما ذلك رأيًا ،أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول
نكبة أصابتنا منه ول ينبغي لنا ذلك ولكن نجمع أمرنا ونستعد لعدونا ونذكي
نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه
مستعدين ونقاتله قتال ً غير مراجعين فيه ،ول مقصرين عنه وتلقى أطرافنا
أطراف العدو ونتحرز بحصوننا وندافع عدوّنا :بالناة مرة وبالجلد أخرى
حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا ،وقد ثنينا عدونا عّنا .ثم قال الملك للثالث :ما
رأيك أنت? قال :ما أرى ما قال رأيًا .ولكن نبث العيون ونبعث الجواسيس
ونرسل الطلئع بيننا وبين عدونا فنعلم أيريد صلحنا أم يريد حربنا أم يريد
الفدية? فإن رأينا أمره أمر طامع في مال ،لم نكره الصلح على خراٍج
نؤديه إليه كل سنة ،ندفع به عن أنفسنا ونطمئن في أوطاننا :فغن من أراء
الملوك إذا أشتدت شوكة عدوهم ،فخافوه على أنفسهم وبلدهم ،أن
يجعلوا الموال جنة البلد والملك والرعية .قال الملك للرابع :فما رأيك في
هذا الصلح? قال ل أراه رأيا ً بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة
المعيشة خيٌر من أن نضيع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه مع
شطط .ويقال في أن البوم لو عرضنا ذلك عليهن لما رضين مّنا إل بال ّ
المثال :قارب عدوك بعض المقاربة :لتنال حاجتك.
ل نفسك .ومثل ول تقاربه كل المقاربة :فيتجرىء عليك ويضعف جندك وتذ ّ
ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس :إذا أملتها قليل ً زاد ظلها ،وإذا
ل .وليس عدونا راضيا ً مّنا بالدون في جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظ ّ
المقاربة ،فالرأي لنا ولك المحاربة .قال الملك للخامس :ما تقول أنت?
وماذا ترى :القتال أم الصلح أم الجلء عن الوطن? قال :أما القتال فل
سبيل للمرء إلى قتال من ل يقوى عليه وقد يقال :إنه من ل يعرف نفسه
وعدوه وقاتل من ل يقوى عليه ،حمل نفسه على حتفها مع أن العاقل ل
يستصغر عدوًا :فإن من استصغر عدوه اغتر به ومن اغتر بعدوه لم يسلم
منه .وأنا للبوم شديد الهيبة وإن أضربن عن قتالنا وقد كنت أهابها قبل
ذلك ،فإن الحازم ل يأمن عدوه على كل حال فإن كان بعيدا ً لم يأمن
سطوته ،وإن كان مكثبا ً لم يأمن من وثبته ،وإن كان وحيدا ً لم يأمن من
مكره .وأحزم القوام وأكسيهم من كره القتال لجل النفقة فيه :فإن ما
دون القتال النفقة فيه من الموال والقول والعمل ،والقتال النفقة فيه من
النفس والبدان .فل يكونن القتال للبوم من رأيك ،أيها الملك :فإن من
قاتل من ل يقوى عليه فقد غرر بنفسه .فإذا كان الملك محصنا ً للسرار،
متخيرا ً للوزراء ،مهيبا ً في أعين الناس ،بعيدا ً من أن يقدر عليه ،كان خليقا ً
أل يسلب صحيح ما أوتى من الخير .وأنت ،أيها الملك ،كذلك .وقد
استشرتني في أمر جوابك مّني عنه ،في بعضه علنية ،وفي بعضه سٌر
وللسرار منازل :منها ما يدخل فيه الرهط ،ومنها ما يستعان فيه بالقوم،
ومنها ما يدخل فيه الرجلن .ولست أرى لهذا السر على قدر منزلته أن
ن ولسانان .فنهض الملك من ساعته ،وخل به، يشارك فيه إل أربع آذا ٍ
فاستشاره ،فكان أول ما سأله عنه الملك أنه قال :هل يعلم ابتداء عداوة
ما بيننا وبين البوم? قال :نعم :كلمة تكلم بها غراب .قال الملك :وكيف
كان ذلك? قال الغراب :زعموا أن جماعة من الكراكي لم يكن لها ملك،
فأجمعت أمرها على أن يملكن عليهن ملك البوم فبينما هي في مجمعها إذ
وقع لها غراب ،فقالت :لو جاءنا هذا الغراب .لستشرناه؛ فلم يلبثن دون
أن جاءهن الغراب .فاستشرنه ،فقال :لو أن الطير بادت من القاليم،
وفقد الطاوس والبط والنعام والحمار من العالم لما اضطررتن إلى أن
ن البوم التي هي أقبح الطير منظرًا ،وأسوؤها خلقًا ،وأقلها تمّلكن عليك ّ
ل ،وأشدها غضبا ً وأبعدها من كل رحمة ،مع عماها وما بها من العشا عق ً
بالنهار ،وأشد من ذلك وأقبح أمورها سفهها وسوء أخلقها ،إل أن ترين أن
تملكنها وتكن أنتن تدبرن المور دونها برأيكن وعقولكن ،كما فعلت الرنب
التي زعمت أن القمر ملكها ،ثم عملت برأيها ،قال الطير :وكيف كان
ذلك?
ً
قال الغراب :زعموا أن أرضا من أراضي الفيلة تتابعت عليها السنون،
وأجدبت ،وقل ماؤها ،وغارت عيونها ،وذوى نبتها ،ويبس شجرها ،فأصاب
الفيلة عطش شديد :فشكون ذلك إلى ملكهن ،فأرسل الملك رسوله
ورواده في طلب الماء ،في كل ناحية .فرجع إليه بعض الرسل ،فأخبره
إني قد وجدت بمكان كذا عينا ً يقال لها عين القمر ،كثيرة الماء .فتوجه
ملك الفيلة بأصحابه إلى تلك العين ليشرب منها هو وفيلته .وكانت العين
في أرض للرانب ،فوطئن الرانب في أجحارهن ،فأهلكن منهن كثيرًا،
فاجتمعت الرانب إلى ملكها فقلن له :قد علمت ما أصابنا من الفيلة
ب من الرانب يقال فقال :ليحضرن منكن كل ذي رأي رأيه .فتقدمت أرن ٌ
لها فيروز .وكان الملك يعرفها بحسن الرأي والدب ،فقالت :إن رأى
الملك أن يبعثني إلى الفيلة ويرسل معي أمينًا ،ليرى ويسمع ما أقول،
ويرفعه إلى الملك ،فقال لها الملك :أنت أمينة ،ونرضى بقولك ،فانطلقي
إلى الفيلة ،وبلغي عني ما تريدين .واعلمي أن الرسول برأيه وعقله ،ولينه
وفضله ،يخبر عن عقل المرسل .فعليك باللين والرفق والحلم والتأني:
فإن الرسول هو الذي يلين الصدور إذا رفق ،ويخشن الصدور إذا خرق .ثم
إن الرنب انطلقت في ليلة قمراء ،حتى انتهت إلى الفيلة ،وكرهت أن
ن غير متعمدات .ثم تدنو منهن :مخافة أن يطأنها بأرجلهن ،فيقتلنها ،وإن ك ّ
أشرفت على الجبل ونادت ملك الفيلة وقالت له :إن القمر أرسلني إليك،
والرسول غير ملوم فيما يبلغ ،وإن أغلظ في القول .قال ملك الفيلة :فما
الرسالة? قالت :يقول لك :إن من عرف فضل قوته على الضعفاء ،فاغتر
بذلك في شأن القوياء ،قياسا ً لهم على الضعفاء ،كانت قوته وبال ً عليه.
وأنت قد عرفت فضل قوتك على الدواب ،فغّرك ذلك ،فعمدت إلى العين
درتها .فأرسلني إليك :فأنذرك أل التي تسمى باسمي ،فشربت منها ،وك ّ
ش بصرك ،وأتلف نفسك .وإن كنت ُ
تعود إلى مثل ذلك .وإنك إن فعلت أغ ّ
ك من رسالتي ،فهلم إلى العين من ساعتك :فإني موافيك بها. في ش ّ
فعجب ملك الفيلة من قول الرنب ،فانطلق إلى العين مع فيروز الرسول.
فلما نظر إليها ،رأى ضوء القمر فيها .فقالت له فيروز الرسول :خذ
بخرطومك من الماء فاغسل به وجهك ،واسجد للقمر .فأدخل الفيل
خرطومه في الماء ،فتحرك فخيل للفيل أن القمر ارتعد .فقال :ما شأن
القمر ارتعد? أتراه غضب من إدخالي الخرطوم في الماء? قالت فيروز
الرنب :نعم .فسجد الفيل للقمر مرة أخرى ،وتاب إليه مما صنع ،وشرط
أل يعود إلى مثل ذلك هو ول أحد من فيلته .قال الغراب :ومع ما ذكرت
ب والمكر والخديعة ،وشر الملوك الخادع ،ومن من أمر البوم إن فيها الخ ّ
ابتلى بسلن مخادع ،وخدمه ،أصاب ما أصاب الرنب والفرد حين احتكما
إلى السنور .قالت الكراكي :وكيف كان ذلك? قال الغراب :كان لي جارا ً
من االصفاردة في أصل شجرة قريبة من وكرى وكان يكثر مواصلتي ثم
فقدته فلم أعلم أين غاب وطالت غيبته عني .فجاءت أرنب إلى مكان
الصفرد فسكنته فكرهت أن أخاصم الرنب فلبثت فيه زمانًا .ثم إن
الصفرد غاد بعد زمان فأتى منزله فوجد فيه الرنب .فقال لها :هذا
المكان لي ،فانتقلي عنه .قالت الرنب :المسكن لي ،وتحت يدي؛ وأنت
ي .قال الصفرد :القاضي منا دع له .فإن كان لك حقٌ فاستعد بإثباته عل ّ م ّ
قريب :فهلمي بنا إليه .قالت الرنب :ومن القاضي? قال الصفرد :إن
ة،بساحل البحر سنورا ً متعبدًا ،يصوم النهار ،ويقوم الليل كله؛ ول يؤذي داب ٍ
ول يهرق دمًا ،عيشه من الحشيش ومما يقذفه إليه البحر .فإن أحببت
تحاكمنا إليه ،ورضينا به .قالت الرنب :المسكن لي ،وتحت يدي ،وأنت
ي.مدع له .فإن كان لك حق فاستعد بإثباته عل ّ
قال الصفرد :القاضي? منا قريب :إن بساحل البحر سنورًامعبدًا ،يصوم
النهار ،ويقوم الليل كله ،وليؤذى دابة ،ول يهريق دمًا ،عيشه من الحشيش
ومما يقذفه إليه البحر .فإن أحببت تحاكما إليه ،ورضينا به .قالت الرنب:
ما أرضاني به إذا كان كما وصفت .فانطلقا إليه فتبعهما لنظر إلى حكومة
الصوام القوام ثم إنهما ذهبا إليه فلما بصر النور بالرنب والصفرد مقبيلين
نحوه ،انتصب قائما ً يصلي ،وأظهر الخشوع والتنسك .فعجبا لما رأيا من
حاله ودنوا منه هائبين له ،وسلما عليه وسأله أن يقضي بينهما .فأمر هما
أن يقصا عليه القصة ففعل .فقال لهما :قد بلغني الكبر وثقلت أذناي:
فادنوا مني فاسمعانى ما تقولن .فدنوا منه ،وأعادا عليه القصة وسأله
الحكم فقال قد فهمت ما قلتما ،وأنا مبتدئكما بالنصيحة قبل الحكومة
بينكما :فأنا آمركما بتقوى الله وألتطلبا إل الحق هو الذي يفلح ،وأن قضى
عليه وطالب الحق هو الذي يفلح وإن قضى عليه وطالب الباطل مخصوم
وإن قضى له .وليس لصاحب الدنيا من دنياه شئ ل مال ول صديق سوى
العمل الصالح يقدمه فذو العقل حقيق أن يكون سعيه في طلب ما يبقى
وعود نفعه عليه غدًا ،وأن يمقت بسعيه فيما سوى ذلك من أمور الدنيا:
فإن منزلة المال عند العاقل بمنزلة المدر ،ومنزلة الناس عنده فيما يحب
ص
سّنور لم يزل يق ّ أهم من الخير ويكره من الشر بمنزلة نفسه .ثم إن ال ّ
عليهما من جنس هذا وأشباهه ،حتى أنسا إليه ،وأقبل عليه ،ودنوا منه ،ثم
وثب عليهما فقتلهما .قال الغراب :ثم إن البوم تجمع مع ما وصفت لكن
من الشؤم سائر العيوب :فل يكونن تمليك البوم من رأ يكن .فلما سمع
الكراكى ذلك من كلم الغراب أضربن عن تمليك البوم .زكان هناك بوم
حاضر قد سمع ما قالوا ،فقال الغراب :لقد وترتني أعظم الترة ،ول أعلم
أنه سلف مني إليك سوٌء أوجب هذا .وبعد فاعلم أن الفأس يقطع به
الشجر فيعود ينبت السيف يقطع اللحم ثم يعود فيندمل واللسان ل يندمل
جرحه ول تؤسى مقاطعه .والنصل من السهم يغيب في اللحم ثم ينزع
فيخرج ،وأشباه النصل من الكلم إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم
ئ :فللنار الماء ،وللسم الدواء وللحزن الصبر تستخرج .ولكل حريق مطف ٌ
ونلر الحقد ل تخبو أبدًا .وقد غرستم معاشر الغربان بيننا وبينكم شجر
الحقد والعداوة والبغضاء.
ى مغضبًا ،فأخبر ملك البوم بما جرى وبكل ما فلما قضى البوم مقالته ،ول ّ
كان منقول الغراب ،ثم إن الغراب ندم على ما فرط منه ،وقال :والله لقد
خرقت في قولي الذي جلبت به العداوة والبغضاء على نفسي وقومي!
وليتني لم أخبر الكراكي بهذه الحال! ول أعلمتها بهذا المر! ولعل أكثر
الطير قد رأى أكثر مما رأيت ،وعلم أضعاف ما علمت ،فمنعها من الكلم
بمثل ما اتقاء ما لم أتق ،والنظر فيما لم أنظر فيه من حذار العواقب ،ل
سيما إذا كان الكلم أفظع كلم ،يلقى منه سامعه وقائله المكروه مما
يورث الحقد والضغينة ،فل ينبغي لشباه هذا الكلم ،أن تسمى كلمًا ،ولكن
سهامًا .والعاقل ،وإن كان واثقا ً بقوته وفضله ،ل ينبغي أن يحمل ذلك على
أن يجلب العداوة على نفسه اتكال ً على ما عنده من الرأي والقوة ،كما أنه
وإن كان عنده الترياق ل ينبغي له أن يشرب السم اتكال ً على ما عنده.
وصاحب حسن العمل ،وإن قصر به القول في مستقبل المر ،كان فضله
بّينا ً واضحا ً في العاقبة والختار ،وصاحب حسن القول ،وإن أعجب الناس
منه حسن صفته للمور لم تحمد عاقبة أمره .وأنا صاحب القول الذي ل
عاقبة له محمودة .أليس من سفهي اجترائي على التكلم في المر
الجسيم ل أستشير فيه أحدًا ،ولم أعمل فيه رأيًا? ومن لم يستشر النصاء
الولياء ،وعمل برأيه من غير تكرار النظر والروية ،لم يغتبط بمواقع رأيه.
فما كان أغناني عما كسبت يومي هذا ،وما وقعت فيه من الهم! وعاتب
الغراب نفسه بهذا الكلم وأشباهه وذهب .فهذا ما سألتني عنه من ابتداء
العداوة بيننا وبين البوم.
وأما القتال فقد علمت رأيي فيه ،وكراهتي له ،ولكن عندي من الرأي
ب قوم والحيلة غير القتال ما يكون فيه الفرج إن شاء الله تعالى :فإنه ر ّ
قد احتالوا بآرائهم حتى ظفروا بما أرادوا .ومن ذلك حديث الجماعة الذين
ظفروا بالناسك ،وأخذوا عريضه قال الملك :وكيف كان ذلك?
قال الغراب :زعموا ان ناسكا ً اشتى عريضا ً ضخما ً ليجعله قربانًا ،فانطلق
به يقوده فبصر به قوم من المكرة ،فأتمروا بينهم أن يأخذوه من الناسك.
فعرض له أحدهم فقال له :أيها الناسك ،ما هذا الكلب الذي معك? ثم
عرض له الخر فقال لصاحبه :ما هذا الناسك ،لن الناسك ل يقود كلبًا.
ب،ن الذي يقوده كل ٌ فلم يزالو مع الناسك على هذا ومثله حتى لم يشك أ ّ
وأن الذي باعه إياه سحر عينه ،فأطلقه من يده ،فأخذه الجماعة المحتالون
ومضوا به .وإنما ضربت لك هذا المثل لما أرجو أن نصيب من حاجتنا
بالرفق والحيلة .وإني أريد من الملك أن ينقرني على رؤوس الشهاد،
وينتف ريشي وذنبي ،ثم يطرحني في أصل هذه الشجرة ،ويرتحل الملك
هو وجنوده إلى مكان كذا .فأرجو أّني أصبر وأطلع على أحوالهم ،ومواضع
تحصينهم وأبوابهم ،فأخادعهم وآتي إليكم لنهجم عليهم ،وننا منهم غرضنا
إن شاء الله تعالى.
قال الملك :أتطيب نفسك لذلك? قال :نعم ،وكيف ل تطيب نفسي لذلك
وفيه أعظم الراحات للملك وجنوده? ففعل الملك بالغراب ما ذكر ،ثم
ارتحل عنه فجعل الغراب يئن ويهمس حتى رأته البوم وسمعته يئن،
فأخبرن ملكهن بذلك ،فقصد نحوه ليسأله عن الغربان فلما دنا منه أمر
بوما ً أن يسأله فقال له :من أنت? وأين الغربان? فقال :أما اسمي ففلن،
وأما ما سألتني عنه فإني أحسبك ترى أن حالي حال من ل يعلم السرار
فقيل لملك البوم :هذا وزير ملك الغربان وصاحب رأيه ،فنسأله بأي ذنب
صنع به ما صنع? فسئل الغراب عن أمره فقال :إن ملكنا استشار جماعتنا
ن :وكنت يومئذٍ بمحضرٍ من المر ،فقال :أيها الغربان ،ما ترون في فيك ّ
ً
ذلك? فقلت :أيها الملك ل طاقة لنا بقتال البوم :لنهن أشد بطشا ،وأحد
قلبا ً مّنا ولكن أرى أن نلتمس الصلح ،ثم نبذل الفدية في ذلك ،فإن قبلت
البوم ذلك مّنا ،وإل هربنا في البلد وإذا كان القتال بيننا وبين البوم كان
ن بالرجوع عن ن وشرا ً لنا ،فالصلح أفضل من الخصومة وأمرته ّ خيرا ً له ّ
الحرب ،وضربت لهن المثال في ذلك ،وقلت لهن :إن العدوّ الشديد ل يرد
بأسه وغضبه مثل الخضوع له :أل ترين إلى الحشيش كيف يسلم من
عاصف الريح للينه وميله معها حيث مالت فعصينني في ذلك وزعمن أنهن
نيردن القتال وأتهمنني في ما قلت ،وقلنا إنك قد مالت البوم علينا وردد َ
قولي ونصيحتي وعذبنني بهذا العذاب وتركني الملك وجنوده وأرتحل ول
علم لي بهن بعد ذلك :فلما سمع ملك البوم مقالة الغراب قال لبعض
وزرائه :ما تقول في الغراب? وما ترى فيه? قال :ما أرى إل المعاجلة له
بالقتل :فإن هذا أفضل عُد َد ِ الغربان ،وفي قتله لنا راحة من مكره وفقده
على الغربان شديد ويقال :من ظفر بالساعة التي فيها ينجح العمل ثم ل
يعاجله بالذي ينبغي له فليس بحكيم ومن طلب المر الجسيم فأمكنه ذلك
فأغفله فاته المر وهو خليق أل تعود له الفرصة ثانية ومن وجد عدوه
ضعيفا ً ولم ينجز قتله ندم إذا استقوى ولم يقدر عليه قال الملك لوزير
آخر :ما ترى أنت في هذا الغراب? قال :أرى أل تقتله :فإن العدو الذليل
ل لن يستبقى ويرحم ويصفح عنه ول سيما المستجير الذي ل ناصر له أه ٌ
ل لن يؤمن.الخائف :فإنه أه ٌ
قال ملك البوم لوزير آخر من وزائه :ما تقول في الغراب? قال :أرى أن
تستبقيه وتحسن إليه :فإنه خليق أن ينصحك والعاقل يرى معادات بعض
أعدائه بعضا ً ظفرا ً حسنا ً ويرى أشتغال بعض أعدائه ببعض خلصا ً لنفسه
منهم ونجاة كنجاة الناسك من اللص والشيطان حين اختلفا عليه قال
الملك له :وكيف كان ذلك?
قال الوزير :زعموا أن ناسكا ً أصاب من رجل بقرة حلوبا ً فانطلق بها
يقودها إلى منزله ،فعرض له لص أراد سرقتها واتبعه شيطان يريد
اختطافه .فقال الشيطان للص :من أنت? قال أنا اللص ،أريد أن أسرق
البقرة من الناسك إذا نام .فمن أنت? قال :أنا الشيطان أريد أختطافه إذا
نام وأذهب به فاتهيا على هذا إلى المنزل فدخل الناسك منزله ودخل خلفه
وأدخل البقرة فربطها في زاوية المنزل وتعشى ونام .فأقبل اللص
والشيطان يأتمران فيه واختلفا على من يبدأ بشغله أول ً فقال الشيطان
للص :إن أنت بدأت بأخذ البقرة فربما استيقظ وصاح ،واجتمع الناس :فل
أقدر على أخذه فأنظرني ريثما آخذه ،وشأنك وما تريد .فأشفق اللص إن
بدأ الشيطان باختطافه فربما استيقظ فل يقدر على أخذ البقرة ،فقال :ل،
بل انظرني أنت حتى آخذ البقرة وشأنك زما تريد فلم يزال في المجادلة
هكذا حتى نادى اللص :أيها الناسك انتبه :فهذا الشيطان يريد اختطافك،
ونادى الشيطان :أيها الناسك انتبه :فهذا اللص يريد أن يسرق بقرتك
فانتبه الناسك وجيرانه بأصواتهما ،وهرب الخبيثان .قال الوزير الول الذي
ن ووقع كلمه في نفس أشار بقتل الغراب :أظن أن الغراب قد خدعك ّ
ن الرأي في غير موضعه فمهل ً مهل ً ن موقعه ،فتردن أن تضع ّالغبي منك ّ
أيها الملك عن هذا الرأي .فلم يلتفت الملك إلى قوله وأمر الغراب أن
يحمل إلى منازل البوم ،ويكرم ويستوصى به خيرًا.
ثم إن الغراب قال للملك يوما ً وعنده جماعة من البوم وفيهن الوزير الذي
ي من الغربان وأنه ل يستريح أشار بقتله :أيها الملك قد علمت ما جرى عل ّ
قلبي إل بأخذي بثأري منهن ،وإني قد نظرت في ذلك فإذا بي ل أقدر على
ما رمت :لني غراب وقد روى عن العلماء أنهم قالوا :من طابت نفسه
بأن يحرقها فقد قرب لله أعظم القربان ل يدعو عند ذلك بدعوة إل
استجيب له فإن رأى الملك أن يأمرني فأحرق نفسي وأدعو ربي أن
يحولني بوما ً فأكون أشد عداوة وأقوى بأسا ً عل الغربان لعلي أنتقم منهن!
قال الوزير الذي أشار بقتله :ما أشبهك في خير ما تظهر وشر ما تخفي إل
بالخمرة الطيبة الطعم والريح المنقع فيها السم أرأيت لو أحرقنا جسمك
بالنار كان جوهرك وطباعك متغيرة! أليست أخلقك تدور معك حيثما درت،
وتصير بعد ذلك إلى أصلك وطويتك? كالفأرة التي خيرت في الزواج بين
الشمس والريح والسحاب والجبل فلم يقع اختيارها إل على الجرذ وقيل
له :وكيف كان ذلك?
قال :زعموا أنه كان ناسكا ً مستجاب الدعوة فبينما هو ذات يوم جالسا ً
على ساحل البحر إذ مرت به حدأة في رجلها درص فأرة فوقعت منها عند
الناسك ،وأدركته لها رحمة ،فأخذها ولفها في ورقة ،وذهب بها إلى منزله،
ثم خاف أن تشق على أهله تربيتها فدعا ربه أن يحولها جارية :فتحولت
جارية حسناء فانطلق بها إلى امرأته ،فقال لها هذه ابنتي فاصنعي معها
صنيعك بولدي .فلما كبرت قال لها الناسك :يا بنية أختاري من أحببت حتى
أزوجك به .فقالت ،أما إذا خيرتني فإني أختار زوجا ً يكون أقوى الشياء.
فقال الناسك لعلك تريدين الشمس! ثم انطلق إلى الشمس فقال :أيها
الخلق العظيم إن لي جارية وقد طلبت زوجا ً يكون أقوى الشياء ،فهل
أنت متزوجها? فقالت الشمس أنا أدلك على من هو أقوى مني :السحاب
الذي يغطيني ،ويرد حر شعاعي ويكسف أشعة أنواري .فذهب الناسك إلى
السحاب فقال له ما قال للشمس ،فقال السحاب :وأنا أدلك على من هو
أقوى مني :فاذهب إلى الريح التي تقبل بي وتدبر وتذهب بي شرقا ً وغربا ً
فجاء الناسك إلى الريح فقال لها كقوله للسحاب فقالت :وأنا أدلك على
من هو أقوى مني وهو الجبل الذي ل أقدر على تحريكه فمضى إلى الجبل
وقال له القول المذكور فأجابه الجبل وقال له :أنا أدلك على من هو أقوى
مني :الجرذ الذي ل أستطيع المتناع منه إذا ثقبني واتخذني مسكنًا.
فانطلق الناسك إلى الجرذ فقال له :هل أنت متزوج هذه الجارية? فقال
وكيف أتزوجها وجحري ضيق? إنما يتزوج الجرذ الفأرة فدعا الناسك ربه
أن يحولها فأرة كما كانت وذلك برضى الجارية ،فأعادها الله إلى عنصرها
الول فانطلقت مع الجرذ فهذا مثلك أيها المخادع فلم يلتفت ملك البوم
إلى ذلك القول ،ورفق بالغراب ولم يزدد له إل إكراما ً حتى إذا طاب عيشه
ونبت ريشه واطلع على ما أراد أن يطلع عليه راغ روغة .فأتى أصحابه بما
رأى وسمع فقال للملك :إني قد فرغت مما كنت أريد ولم يبقى إل أن
تسمع وتطيع ،فقال له :أنا والجند تحت أمرك ،فاحتكم كيف شئت.
قال الغراب :إن البوم بمكان كذا في جبل كثير الحطب وفي ذلك الموضع
قطيع من الغنم مع رجل راع ،ونحن مصيبون هناك نارًا ،ونلقيها في أنقاب
البوم ونقذف عليها من يابس الحطب ونتراوح عليها ضربا ً بأجنحتنا حتى
تضرم النار في الحطب :فمن خرج منهن احترق ومن لم يخرج مات
ة ورجعن إلى ن البوم قاطب ً بالدخان موضعه ففعل الغربان ذلك :فأهلك ّ
منازلهن سالمات آمنات.
ثم إن ملك الغربان قال لذلك الغراب :كيف صبرت على صحبة البوم ول
صبر للخيار على صحبة الشرار? فقال الغراب :إنما ما قلته أيها الملك
لكذلك لكن العاقل إذا أتاه المر الفظيع العظيم الذي يخاف من عدم
تحمله الجائحة على نفسه وقومه لم يجزع من شدة الصبر عليه ،لما يرجو
من أن يعقبه صبره حسن العاقبة زكثير الخير فلم يجد لذلك ألمًا ،ولم
تكره نفسه الخضوع لمن هو دونه حتى يبلغ حاجته فيغتبط بخاتمة أمره
وعاقبة صبره .فقال الملك :أخبرني عن عقول البوم :فقال الغراب :لم
أجد فيهن عاقل ً إل الذي كان يحثهن على قتلي ،وكان حرضهن على ذلك
مرارا ً فكن أضعف شيء رأيًا! فلم ينظرن في رأيه ويذكرن أني قد كنت ذا
منزلة في الغربان ،وأني أعد من ذوي الرأي ولم يتخوفن مكري وحيلتي
ن من الناصح الشفيق ول أخفين دوني أسرارهن وقد قال العلماء: ول قبل ّ
ً
ينبغي للملك أن يحصن أموره من أهل النميمة ول يطلع أحدا منهم على
مواضع سره فقال الملك :ما أهلك البوم في نفسي إل الغي ،وضعف رأي
الملك وموافقته وزراء السوء فقال الغراب :صدقت أيها الملك ،إنه قلما
ل من ل من أكثر من الطعام إل مرض .وق ّ ى ولم يطع ،وق ّ ظفر أحد بغن ً
ن ذو وثق بوزراء السوء وسلم من أن يقع في المهالك وكان يقال :ل يطمع ّ
ي الدب في س ّ
ب في كثرة الصديق ،ول ال ّ الكبر في حسن الثناء ،ول الخ ّ
الشرف ،ول الشحيح في البّر ،ول الحريص في قلة الذنوب ول الملك
المحتال ،المتهاون بالمور ،الضعيف الوزراء في ثبات ملكه ،وصلح رعّيته
ن
قة شديدة في تصنعك للبوم ،وتضرعك له ّ قال الملك :لقد احتملت مش ّ
قال الغراب :إنه من احتمل مشقة يرجو نفعها ،ونحى عن نفسه النفة
والحمية ،ووطنها على الصبر حمد غب رأيه ،كما صبر السود على حمل
ملك الضفادع على ظهره ،وشبع بذلك وعاش قال الملك :وكيف كان
ذلك? قال الغراب :زعموا أن أسود من الحيات كبر ،وضعف بصره وذهبت
قوته :فلم يستطع صيدا ً ولم يقدر على طعام وأنه انساب يتلمس شيئا ً
يعيش به ،حتى انتهى إلى عين كثيرة الضفادع ،قد كان يأتيها قبل ذلك،
ن مظهرا ً للكآبة فيصيب من ضفاضعها رزقه فرمى نفسه قريبا ً منه ّ
والحزن فقال له ضفدع :ما لي أراك أيها السود كئيبا ً حزينًا? قال :ومن
أحرى بطول الحزن مني! وإنما كان أكثر معيشتي مما كنت أصيب من
الضفادع فابتليت ببلء وحرمت على الضفادع من أجله ،حتى إني إذا
التقيت ببعضها ل أقدر على إمساكه .فانطلق الضفدع إلى ملك الضفادع،
فبشره بما سمع من السود فقال له :كيف كان أمرك? قال سعيت منذ
أيام في طلب ضفدع وذلك عند المساء فاضطررته إلى بيت ناسك،
ودخلت في أثره في ظلمة وفي البيت ابن الناسك ،فأصبت إصبعه،
فظننت أنها الضفدع ،فلدغته فمات فخرجت هاربًا ،فتبعني الناسك في
ي ولعنني وقال :كما قتلت ابني البريء ظلما ً وتعديًا ،أدعوأثري ،ودعا عل ّ
عليك أن تذل وتصير مركبا ً لملك الضفادع ،فل تستطيع أخذها ،ول أكل
شيء منها ،إل ما يتصدق به عليك ملكها فأتيت إليك لتركبني مقرا ً بذلك
راضيا ً به فرغب ملك الضفادع بركوب السود ،وظن أن ذلك فخرا ً له
وشرف ورفعة فركب و استطاب له ذلك.
فقال له السود :قد علمت أيها الملك أني محروم فاجعل لي رزقا ً
أعيش به فقال ملك الضفادع :لعمري لبييد ميين رزق يقييوم بييك ،إذا
فعاش بذلك ،ولم يضره خضوعه للعدو الذليل ،بل انتفع بذلك وصييار
له رزقا ً ومعيشة وكذلك كان صبري على ما صييبرت عليييه ،التماس يا ً
لهذا النفع العظيم الذي اجتمع لنييا فيييه الميين الظفيير ،وهلك العييدو
للعييدو ميين صييرعة المكييابرة :فييإن النييار ل تزيييد بحييدتها وحرهييا إذا
أصابت الشجرة على أن تحرق مييا فييوق الرض منهييا والميياء بييبرده
قليلها :النار والمرض والعدو والدين .قييال الغييراب :وكييل ذلييك ميين
عزمًا .فإن استويا في العزم فأسعدهما جدا ً وكان يقال :ميين حييارب
طالعك كان ذلك ،فإن رأى الرجل الواحد ،العاقييل الحييازم أبلييغ فييي
والعدة .وإن من عجيب أمرك عندي طول لبثك بين ظهرانييي البييوم
تسمع الكلم الغليظ ،ثم لم تسقط بينهن بكلميية! قييال الغييراب :لييم
لييذة الطعييام والشييراب ،ول النييوم ول القييرار وكييان يقييال :ل يجييد
المريض لذة الطعام والنوم حتى يبرأ ،ول الرجييل الشييره الييذي قييد
أطعمه سلطانه في مال وعمل في يده ،حتى ينجزه لييه ،ول الرجييل
الذي قد ألح عليه عدوه ،وهو يخافه صباحا ً ومساًء حتى يستريح منه
قلبه ومن وضع الحمل الثقيل عن يديه أراح نفسه ومن أميين عييدوه
ثليييييييييييييييييييييييييييييييييييييييج صيييييييييييييييييييييييييييييييييييييييدره.
قال الغراب :أسأل الله الذي أهلك عدوك أن يمتعك بسلطانك ،وأن
الملك إذا لم يكن في ملكه قرة عيون رعيته ،فمثله مثل زنمة العنز
التي يمصها ،وهو يحسبها حلمة الضرع ،فل يصادف فيها خيييرًا .قييال
الملك :أيها الييوزير الصييالح ،كيييف كييانت سيييرة البييوم وملكهييا فييي
حروبها ،وفيما كانت فيه ميين أمورهييا? قييال الغييراب :كييانت سيييرته
سيرة بطيير ،وأشيير وخيلء وعجييز وفخيير مييع مييا فيييه ميين الصييفات
الذميمة وكل أصحابه ووزرائه شيبه به ،إل الييوزير الييذي كييان يشييير
عليه بقتلي :فإنه كان حكيما ً أريبًا ،فيلسوفا ً حازما ً عالمًا ،قلمييا يييرى
مثله في علو الهمة ،وكمال العقل ،وجودة الييرأي قييال الملييك :وأي
خصلة رأيت منه كانت أدل على عقلييه? قيال خلتييان :إحيداهما رأييه
في قتلي والخرى أنه لييم يكتييم صيياحبه نصيييحته وإن اسييتقلها ولييم
يكن كلمه كلم عنف وقسوة ولكنه كلم رفق ولييين حييتى إنييه ربمييا
أخبره ببعض عيوبه ول يصرح بحقيقة الحال بييل يضييرب لييه المثييال
ويدثه بعيب غيره فيعرف عيبه فل يجد ملكه إلى الغضب عليه سبيل ً
وكان مما سمعته يقول لملكييه :إنييه ل ينبغييي للملييك أن يغفييل عيين
أمره فإنه أمر جسيم ل يظفر بييه ميين النيياس إل قليييل ول يييدرك إل
بالحزم فإن الملك عزيز فمن ظفير بيه فليحسين حفظيه وتحصيينه،
فإنه قد قيل إنه فييي قليية بقيياءه بمنزليية قليية بقيياء الظييل عيين ورق
النيلوفر وهو في خفة زواله ،وسرعة إقباله وإدباره كالريح وفي قلة
المطر .فهذا مثل أهل العداوة الذين ل ينبغي أن يغتر بهيم ،وإن هيم
فيه .ثم قال الغيلم :وما منعييك أن تعلمنييي عنييد منزلييي حييتى كنييت
أحمل قليبي معيي? فهيذه سينة فينيا معاشير القيردة إذا خيرج أحيد
لزيارة صديق خّلف قلبه عند أهله أوفييي موضييعه ،للنظيير إذا نظرنييا
إلى حرم المزور وليس قلوبنا معنييا قييال الغيلييم :وأييين قلبييك الن?
قال :خّلفته في الشجرة فإن شئت فييارجع بييي إلييى الشييجرة حييتى
آتيك به ففرح الغيلم بذلك وقال :لقد وافقني صاحبي بدون أن أغدر
به .ثم رجع بالقرد إلى مكانه فلما أبطأ على الغيلم ،ناداه :يا خليلييي
احمل قلبك وانيزل فقيد حبسيتني فقيال القيرد :هيهيات أتظين أّنيي
كالحمار الذي زعييم ابين آوى أنييه لييم يكيين ليه قليب ول أذنييان قيال
ة ،وكان
الغيلم :وكيف ذلك? قال القرد :زعموا أنه كان أسد في أجم ً
معه ابن آوى يأكل من فواضل طعامه ،فأصاب السد جرب ،وضعف
شديد فلم يستطيع الصيد فقال له ابن آوى :ما بالك يا سيد السييباع
قد تغيرت أحوالك? قال :هذا الجييرب الييذي قييد أجهييدني وليييس لييه
دواء إل قلب حمار وأذناه قال ابن آوى :مييا أيسيير هييذا وقييد عرفييت
بمكان كذا حمارا ً مع قصار يحمل عليه ثيابه ،وأنا آتيييك بييه ثييم دلييف
إلى الحمار فأتاه وسلم عليه فقال له :مالي أراك مهييزو ً
ل? قييال مييا
يطعمني صاحبي شيئا ً فقال له :وكيف ترضى المقام معه على هذا?
قال :فما لي حيلة في الهرب منه ،لسييت أتييوجه إلييى جهيية إل جهيية
أضربي إنسان فكدني وأجاعني قال ابن آوى :فأنا أدلك علييى مكييان
معزول عن الناس ،ل يمر به إنسان ،خصيب المرعى فيه قطيع ميين
الحمر لم تر عين مثلها حسنا ً وسمنا ً قال الحمار :وما يحبسنا وسمنا ً
وقال الحمار :وما يحبسنا عنها? فانطلق بنييا إليهييا ،فييانطلق بييه ابيين
آوى نحو السد ،وتقدم ابن آوى ودخل الغابيية علييى السييد ،فييأخبره
بمكان الحمار فخرج إليه وأراد أن يثبت عليه ،فلم يستطيع لضييعفه،
وتخلص الحمار منه فأفلت هلعا ً علييى وجهييه فلمييا رأى ابيين آوى أن
السد لم يقدر على الحمار ،قال ليه :أعجيزت ييا سييد السييباع إليى
هذه الغاية? فقال له :إن جئتني به مرة أخرى ،فلن ينجيو منيي أبيدا ً
فمضى ابن آوى إلى الحمار فقال له :ما الذي جرى عليييك? إن أحييد
الحمر رآك غريبًا ،فخيرج يتلقياك مرحبيا ً بيك ،وليو ثبيت ليه لنسيك،
ومضى بك إلى أصحابه فلما سمع الحميار كلم ابين آوى ،ولييم يكيين
رأى أسدا ً قط ،صدقه وأخذ طريقه إلى السد وأعلمه بمكييانه وقييال
له :استعد له فقد خدعته لك :فل يدركّنك الضعف في هذه النوبة إن
أفلت فلن يعود معي أبدا ً فجأش جأش السد لتحريض ابن آوى لييه،
وخرج إلى موضع الحمار فلما بصر به عاجله بوبثة افترسييه بهييا .ثييم
قال :قد ذكرت الطباء أنه ليؤكل إل بعد الغسل والطهور :فيياحتفظ
به حتى أعود فآكل قلبه وأذنيه ،وأترك ما سوى ذلك قوت يا ً لييك فلمييا
ذهب السد ليغتسل ،عمد ابن آوى إلى الحمييار فأكييل قلبييه وأذنيييه،
رجاء أن يتطير السد منه ،فل يأكل منه شيئًا ،فقييال لبيين آوى :أييين
قلب الحمار وآذناه? قال ابن آوى :ألم تعلم أنه لو كان له قلب يفقه
به ،وأذنان يسمع بهما ،لم يرجع إليك بعد ما أفلت ونجا ميين الهلكيية:
واّنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أني لست كذلك الحمار الذي زعم
ي وخييدعتني
ابن آوى أنه لم يكن له قلب وأذنان ،ولكنك احتلييت عل ي ّ
فخدعتك بمثل خديعتك ،واستدركت فارط أمري .وقد قيل :إن الذي
في قوله وفعله ،وإن وقييع فييي ورطيية أمكنييه التخلييص منهييا بحيلتييه
وعقله :كالرجل الذي يعثر على الرض ،ثم ينهض عليها معتمدا ً فهذا
نادما ً ويصير أمره إلى ما صار إليه الناسك من قتل ابن عييرس وقييد
كان له ودودًا .قال الملك :وكيف كان ذلك? قال الفيلسوف :زعمييوا
زمنا ً لم يرزقا ولدا ً ثم حملت منه بعد اليياس فسييرت الميرأة وسيير
الناسك بذلك فحمد الله تعالى وسأله أن يكييون الحمييل ذكييرا ً وقييال
لزوجته :أبشري فإني أرجو أن يكون غلما ً لنا فيه منافع ،وقرة عين،
فعل ذلك أصابه ما أصاب الناسييك الييذي أراق علييى رأسييه السييمن
والعسل .قال لها :وكيف ذلك? قالت :زعموا أن ناسييكا ً كييان يجييري
عليه من بيت رجل تاجر ،فييي كييل يييوم رزق ميين السييمن والعسييل
وكان يأكل منه قوته وحاجته ويرفع الباقي ويجعله في جرة ،فيعلقها
فييي وتييد فييي ناحييية الييبيت حييتى أمتلت فبينمييا الناسييك ذات يييوم
مستلق على ظهره والعكاز في يده والجرة معلقة على رأسه ،تف ّ
كر
في غلء السمن والعسل ،فقال :سيأبيع ميا فيي هيذه الجيرة بيدينار
ول تلبث قليل ً حتى تصير غنما ً كثيرة إذا ولت أولدها ،ثم حييرر علييى
هذا النحييو بسيينين فوجييد ذلييك أكييثر ميين أربعمييائة عنييز ،فقييال :أنييا
أشتري بها ميائة مين البقيير ،وأشييترى أرضيا ً وبييذرًا ،وأسيتأجر أكيرة
خمس سنين أل وقد أصبت من الزرع مال ً كيثيرًا ،فيأبني بيتيا ً فياخرا ً
وأشتري إماء وعبيد ،وأتزوج امرأة جميلة ذات حسن ،ثم تييأتي بغلم
تييأديبه وأشييدد عليييه فييي ذلييك ،فييإن يقبييل منييي ،وإل ضييربته بهييذه
العكازة وأشار إلى الجرة فكسرها ،فسال ما كان فيهييا علييى وجهييه
وإنما ضربت لك هذا المثل لكي ل تعجل بذكر ما ل ينبغي ذكره ،وما
ل تدري أيصح أم ل يصح فيياتعظ الناسييك بمييا حكييت زوجتييه .ثييم إن
المرأة ولدت غلما ً جميل ً ففرح به أبوه وبعد أيام حان لها أن تتطهيير
فقالت المييرأة للناسييك :اقعييد عنييد ابنييك حييتى أذهييب إلييى الحمييام
فلم يلبيث أن جياءه رسييول المليك يسييتدعيه ولييم يجييد مين يخلفيه
عندابنه غير ابن عرس داجن عنده كان قييد ربيياه صييغيرا ً فهييو عنييده
عديل ولده فتركه الناسك عند الصبي وأغلييق عليهمييا الييبيت وذهييب
مع الرسول .فخرج من بعض أحجار الييبيت حييية سييوداء فييدنت ميين
من دمها ثم جاء الناسك وفتح الباب فالتقاه ابن عرس كالمبشر لييه
بما صنع من قتل الحية .فلما رآه ملوثا ً بالدم وهو مذعور طار عقلييه
وظن أنه قد خنق ولده ولم يتثبت في أمره ولم يتو فيييه حييتى يعلييم
حقيقة الحال ويعمل بغير ما يظن من ذلك ولكين عجييل أبين عيرس
وضربه بعكازه كانت فييي يييده علييى أم رأسييه فمييا .ودخييل الناسييك
فرأى الغلم سليما ً حيا ً وعنده أسود مقطع .فلما عرف القصة وتبين
له سوء فعله في العجلة لطم على رأسه .وقال :ليني لم أرزق هييذا
الولد ولم أغدر هذا الغدر ودخلت امرأتيه فوجيدته عليى تليك الحيال
فقالت له :ماشأنك فأخبرها بالخبر من حسن فعل ابن عرس وسوء
مكافأته له فقالت :هذه ثمرة العجليية فهييذا مثييل ميين ل يتثبييت فييي
ثم إن الجرذ خييرج بعييد ذلييك ،وكييره أن يييدنو ميين السيّنور ،فنيياداه
السّنور :أيها الصديق الناصح ،ذو البلء الحسن عندي ،ما منعييك ميين
ي ول تقطييع
م ،إل ي ّ
ي ،هل ي ّ
ي ،لجازيك بأحسيين مييا أسييديت إل ي ّ
الدنوّ إل ّ
م إخائي :فإنه من اتخذ صديقًا ،وقطييع إخيياءه ،وأضيياع صييداقتهُ ،
ح يرِ َ
تنسييى ،وأنييت حقي يقٌ أن تلتمييس مكافييأة ذلييك منييي وميين إخييواني
ب صييداقة
حلييف واجتهييد علييى صييدقه فيمييا قييال .فنيياداه الجييرذ :ر ّ
لم يحترس منها ،وقع موقع الرجل الذي يركب نيياب الفيييل المغتلييم
وإنما سمي الصيديق صيديقًا :لميا يرجيى مين نفعيه ،وسيمي العيدو
عدوًا :لما يخاف من ضرره .والعاقييل إذا رجييا نفييع العييدو أظهيير لييه
الصداقة ،وإذا خاف ضّر الصيديق أظهير ليه العيداوة .أل تيرى? تّتبيع
البهائم أمهاتها رجاء ألبانها ،فإذا انقطع ذلييك انصييرفت عنهييا .وربمييا
قطع الصديق عن صديقه بعض ما كان يصله ،فلم يخييف شييّره :لن
أصل أمره لم يكن عداوة .فأما من كان أصل أمره عداوة جوهرييية،
ثم أحدث صداقة لحاجة حملته على ذلك ،فإنه إذا زالت الحاجة التي
حملته على ذلك ،زالت صداقته ،فتحييولت عييداوة وصييار إلييى أصييل
أمره :كالماء الذي يسخن بالنار ،فإذا رفع عنها عاد باردًا .وليس من
أعدائي عدوّ أضر لي منك .وقد اضطرني وإياك وإلى ما أحييدثنا ميين
وأخاف أن يكون مع ذهابه عود العداوة .ول خير للضعيف فييي قييرب
العدو القوي ،ول للذليل في قرب العدو العزيز .ول أعلييم لييك قبلييي
من العدو القوي أقرب إلى السلمة ميين القييوي إذا اغييتر بالضييعيف
جل النصراف عنه ،حين يجييد إلييى ذلييك سييبيل .واعلييم أن
دا ،ثم يع ّ
ب ّ
أعدائه بما جعل له من نفسه ،ول يثق به كل الثقيية ،ول يييأمنه علييى
نفسه مع القرب منه .وينبغي أن يبعييد عنييه مييا اسييتطاع .وأنييا أودك
من بعيد ،وأحب لك من البقاء والسلمة ،ما لييم أكيين أحبييه لييك ميين
قبل .ول عليك أن تجازيني على صيينيعي إل بمثييل ذلييك :إذ ل سييبيل
قال الملك :إنك لو لم تكن اجتزيت منا فيما صيينعناه بييك ،بييل كييان
صنيعك بنا من غير ابتداء منا بالغدر كان المر كمييا ذكييرت .وأمييا إذا
كنا نحن بدأناك ،فما ذنبك? ومييا الييذي يمنعييك ميين الثقيية بنييا? هلييم
فارجع :فإنك آمن .قال فنزة :اعلم أن الحقاد لها في القلوب مواقع
ولحقاد تكون بين كثير من الناس :فمن كان ذا عقل كان على إماتة
الحقد أحرص منييه عليى تربيتييه .قيال فنييزة :إن ذلييك لكميا ذكييرت،
ناس ما وتر به ،مصروف عنه فكره فيه .وذو الييرأي يتخييوف المكيير
يقطع إخوانه ول يضيع الحفاظ ،وإن هو خاف علييى نفسييه ،حييتى إن
ذلك ،فل يدعوه إلى مفارقتهم ،ول يمنعه من إلفته إياهم .قال فنزة:
إن الحقاد مخوفة حيثما كانت .فأخوفها وأشدها ما كان فييي أنفييس
مكرمة وفخرًا .وإن العاقل ل يغييتر بسييكون الحقييد إذا سييكن فإنمييا
مثل الحقد في القلب ،إذا لم يجد محركًا ،مثل الجميير المكنييون ،مييا
لم سجد حطبًا ،فليس ينفك القد متطلعا ً إلى العلل ،كما تبتغي النييار
الحطب فإذا وج علة استعر استعار النار ،فل يطفئه حسيين كلم ،ول
النفس .مع أنه رب واتر يطمع فيي مراجعية الموتيور بميا يرجيو أن
يقدر عليه من النفع له ،والدفع عنه .ولكني أنا أضعف عيين أن أقييدر
على ما تقول ما كان ذلييك عنييي مغنييا ً ول أزل فييي خييوف ووحشيية
وسوء ظن ،ما اصطحبنا .فليس الرأي بينييي وبينييك إل الفييراق .وأنييا
قال الملك :لقد علمت أنه ل يستطيع أحد لحد ضرا ً ول نفعًا ،وأنه ل
لك في الذي صنعت بابني ذنيب ،ول ل بنيي فيميا صينع بابنيك ذنيب.
إنما كان ذلك كله قدرا ً مقييدورًا ،وكلنييا لييه عليية :فل نوأخييذ بمييا بييه
القدر .قال فنزة :إن القدر لكما ذكرت ،لكن ل يمنع ذلك الحازم من
وأخذا ً بالحزم والقوة .وأنا أعلم أنييك تكلمنييي بغييير مييا فييي نفسييك.
والمر بيني وبينك غير صغير :لن ابنك قتل ابنييي ،وأنييا فقييأت عييين
تأبى الموت .وقد كان يقال :الفاقيية بلء والحييزن بلء وقييرب العييدو
بلء وفراق الحبة بلء والسييقم بلء والهييرم بلء ،ورأس البليييا كلهييا
الموت .وليس أحد بأعلم بما في نفييس الموجييع الحزييين مميين ذاق
مثل ما به .فأنا بما في نفسي عالم بما نفسك :للمثييل الييذي عنييدي
من ذلك .ول خير لي في صييحبتك :فإنييك ليين تتييذكر صيينيعي بابنييك،
وليين أتييذكر صيينيع ابنييك بييابني ،إل أحييدث ذلييك لقلوبنييا تغييييرًا.
قييال الملييك :ل خييير فيميين ل يسييتطيع العييراض عمييا فييي نفسييه،
وينساه ويهمله ،حييتى ل بييذكر منييه شيييئًا ،ول يكييون لييه فييي نفسييه
موقع .قال فنزة :إن الرجل الييذي فييي بيياطن قييدمه قرحيية ،إن هييو
العين إذا استقبل بها الريح ،تعرض لن تزداد رمدًا .وكذلك الواتر إذا
دنا من الموتور ،فقد عرض نقسه للهلك .ول ينبغييي لصيياحب الييدنيا
إل توقي المهالك والمتالف ،وتقدير المور وقلة التكال على الحييول
والقوة ،وقلة الغترار بمن ل يأمن :فإنه من اتكل على قوته ،فحمله
ذلك على أن يسك الطريق المخوف ،فقد سييعى فييي حتييف نفسييه.
ومن ل يقدر لطاقته طعامه وشرابه وحمييل نفسييه مييا ل تطيييق ول
تحمل فقد قتل نفسه .ومن ل يقدر لقمته ،وعظمهييا فييوق مييا يسييع
فوه ،فربما غص بها فمات .ومن اغتر بكلم عدوه ،وانخدع له وضيييع
الحزم ،فهو أعدى الحزم لنفسه من عدوه .وليس لحييد النظيير فييي
القدر الذي ل يدري مييا ييأتيه منييه ول مييا يصييرف عنيه ،ولكيين علييه
يثق بأحد ما استطاع ،ول يقيم على خوف وهو يجد عنه مييذهبًا .وأنييا
خلل ً خمسا ً من تزودهين كفينيه فيي كيل وجيه ،وآنسينه فيي غربية،
من ذلك كله ول يرجو عن النفس خلفًا .وشر المال ما ل إنفاق منييه
وشر الزواج التي ل تواتي بعلها ،وشر الولد العاصي العيياق لوالييديه
الذي يخافه البريء ،ول يواظب على حفظ أهل مملكته ،وشيير البلد
بلد بل خصب فيها ول أمن ،وإنييه ل أميين لييي عنييدك أيهييا الملييك ول
طمأنينة لييي فييي جييوارك .وثييم ودع الملييك وطييار .فهييذا مثييل ذوي
فبينما أم السد تقص عليه هذه المقالة ،إذ دخل على السييد بعييض
ثقاته ،فأخبره ببراءة ابن آوى .فقالت أم السد ،بعد أن اطلع الملييك
أن يجزى بعمله ،وقد عرفت سييرعة الغضييب وفييرط الهفييوة ،وميين
وتعطف عليه ،ول يوئسيينك ميين مناصييحته مييا فييرط منييك إليييه ميين
للخوان والصحاب وإن ثقليت علييه منيه المئونية .وأميا مين ينبغيي
وقد عرفت ابن آوى وجربته وأنييت حقيييق بمواصييلته .فييدعى السيد
بابن آوى وأعتذر إليه مما كان منه ووعده خييرًا ،وقيال :إنيي معتييذر
منعة نفسه بضر أخيه ،ومن كان غير ناظر له كنظره لنفسه ،أو كان
يريد أن يرضيه بغير الحق لجل إتباع هواه .وكثيرا ً ما يقييع ذلييك بييين
الخلء .وقد كان من الملك إلى ما علم فل يغلظيين علييى نفسييه مييا
ل ينبغي أن يصييحبوا ميين عيياقبوه أشييد العقيياب ،ول ينبغييي لهييم أن
حالة إبعاده والقصاء له .فلم يلتفت السد إلى كلمييه .ثييم قييال لييه:
الحسان ،الخلل الكثيرة من الساءة .وقد عدنا إلى الثقة بييك ،فعييد
إلى الثقة بنا :فإن لنا ولك بذلك غطة وسييرورًا .فعيياد ابيين آوى إلييى
ولية ما كان يلي ،وضاعف له الملييك الكراميية ،ولييم تييزده اليييام إل
تقربا ً من السلطان.
فلما كان بعد سبعة أيام جاءت البشائر بقدوم الرسل فخرج الملك
فجلس على التخت ،وأذن للشراف ،وجاءته الهدايا كما اخبره
كباريون الحكيم .فلما رأى الملك ذلك اشتد عجبه وفرحه من علم
كباريون .وقال :ما وفقت حين قصصت رؤياي على البراهمة
فأمروني بما أمروني به .ولول أن الله تعالى تداركني برحمته لكنت
قد هلكت وأهلكت؛ وكذلك ل ينبغي لكل أحد أن يسمع إل من
الخلء ذوي العقول .وإن إيراخت أشارت بالخير فقلبته .ورأيت به
النجاح .فضعوا الهدية بين يديها لتأخذ منها ما اختارت .ثم قال ليلذ:
خذ الكليل واحملها واتبعني بها إلى مجلس النساء .ثم إن الملك
دعا إيراخت وحورقناه أكرم نسائه بين يديه .فقال ليلذ :ضع
الكسوة والكليل بين يدي إيراخت لتأخذ أيها شاءت .فوضعت
الهدايا بين يدي إيراخت .فأخذت منها الكليل ،وأخذت حورقناه
كسوة من أفخر الثياب وأحسنها .وكان من عادة الملك أن يكون
ليلة عند إيراخت وليلة عند حورقناه .وكان من سنة الملك أن تهيء
له المرأة التي يكون عندها في ليلتها أرزا ً بحلوة فتطعمه إياه.
فأتى الملك إيراخت في نوبتها .وقد صنعت له أرزًا .فدخلت عليه
صحفة والكليل على رأسها .فعلمت حورقناه بذلك فغارت من
بال ّ
إيراخت .فلبست تلك الكسوة .ومرت بين يدي الملك وتلك الثياب
تضيء عليها مع نور وجهها كما تضيء الشمس .فلما رآها الملك
أعجبته .ثم التفت إلى إيراخت فقال :إنك جاهلة حين أخذت الكليل
وتركت الكسوة إلي ليس في خزائننا مثلها .فلما سمعت إيراخت
م رأيها أخذها من
مدح الملك لحورقناه وثناءه عليها وتجهيلها هي وذ ّ
ذلك الغيرة والغيظ .فضربت بالصحفة رأس الملك .فسال الرز
على وجهه .فقام الملك من مكانه ودعا بإيلذ .فقال له :أل ترى،
وأنا ملك العالم ،كيف حقرتني هذه الجاهلة ،وفعلت بي ما ترى?
فانطلق بها فاقتلها ول ترحمها .فخرج إيلذ من عند الملك وقال :ل
أقتاها حتى يسكن عنه الغضب .فالمرأة عاقلة سديدة الرأي من
الملكات إلي ليس لها عديل في النساء .وليس الملك بصابر عنها.
وقد خلصته من الموت ،وعملت أعمال ً صالحة .ورجاؤنا فيها عظيم.
م تؤخر قتلها حتى تراجعني? فلست مل ْ
ولست آمنة أن يقول :ل َ
قاتلها حتى أنظر رأي الملك فيها ثانية :فإن رأيته نادما ً حزينا ً على
ما صنع جئت بها حية .وكنت قد عملت عمل ً عظيمًا .وأنجيت
إيراخت من القتل .وحفظت قلب الملك .واتخذت عند عامة الناس
وبا ً رأيه في الذي فعله وأمر
بذلك يدًا .وإن رأيته فرحا ً مستريحا ً مص ّ
به فقتلها ل يفوت .ثم انطلق بها إلى منزله ،ووكل بها خادما ً من
أمنائه ،وأمره بخدمتها وحراستها ،حتى ينظر ما يكون من أمرها
وأمر الملك .ثم خضب سيفه بالدم ودخل على الملك كالكئيب
الحزين .فقال أيها الملك :إني قد أمضيت أمرك في إيراخت .فلم
يلبث الملك أن سكن عنه الغضب ،وذكر جمال إيراخت وحسنها.
واشتد أسفه عليها .وجعل يعزي نفسه عنها .ويتجلد وهو مع ذلك
يستحي أن يسأل إيلذ :أحقا ً أمضى أمره فيها أم ل? ورجا لما عرف
من عقل إيلذ أل يكون قد فعل ذلك .ونظر إليه إيلذ بفضل عقله
فعلم الذي به ،فقال له :ل تهتم ول تحزن أيها الملك :فإنه ليس في
الهم والحزن منفعة .ولكنهما ينحلن الجسم ويفسدانه .فاصبر أيها
الملك على ما لست بقادر عليه أبدًا .وإن أحب الملك حدثته بحديث
يسليه .قال :حدثني.
قال إيلذ :زعموا أن حمامتين ذكرا ً وأنثى مل عشهما من الحنطة
والشعير .فقال الذكر للنثى :إنا إذا وجدنا في الصحارى ما نعيش به
فلسنا نأكل مما هاهنا شيئًا .فإذا جاء الشتاء ولم يكن في الصحارى
شيء رجعنا إلى ما في عشنا فأكلناه .فرضيت النثى بذلك .وقالت
له :نعم ما رأيت .وكان ذلك الحب نديا ً حين وضعاه في عشهما.
فانطلق الذكر فغاب .فلما جاء الصيف يبس الحب وانضمر .فلما
رجع الذكر رأى الحب ناقصًا .فقال لها :أليس كنا أجمعنا رأينا على
أل نأكل منه شيئًا? فلم أكلته? فجعلت تحلف أنها ما أكلت منه شيئًا.
وجعلت تعتذر إليه .فلم يصدقها .وجعل ينقرها حتى ماتت .فلما
جاءت المطار ودخل الشتاء تندى الحب وامتل العش كما كان .فلما
رأى الذكر ذلك ندم .ثم اضطجع إلى جانب حمامته وقال :ما ينفعني
الحب والعيش بعدك إذا طلبتك فلم أجدك ،ولم أقدر عليك ،وإذا
فكرت في أمرك وعلمت أني قد ظلمتك ،ول أقدر على تدارك ما
فات .ثم استمر على حزنه فلم يطعم طعاما ً ول شرابا ً حتى مات
إلى جانبها .والعاقل ل يعجل في العذاب والعقوبة ،ول سيما من
يخاف الندامة ،كما ندم الحمام الذكر .وقد سمعت أيضا ً أن رجل ً
دخل الجبل وعلى رأسه كارة من العدس فوضع الكارة عن ظهره
ليستريح .فنزل قرد من شجرة فأخذ ملء كفه من العدس وصعد
إلى الشجرة .فسقطت من يده حبة فنزل في طلبها فلم يجدها.
وانتثر ما كان في يده من العدس أجمع .وأنت أيضا ً أيها الملك
عندك ستة عشر ألف امرأة تدع أن تلهو بهن وتطلب التي ل
تجد??! فلما سمع الملك ذلك خشي أن تكون إيراخت قد هلكت.
فقال ليلذ :لم ل تأنيت وتثبت? بل أسرعت عند سماع كلمة واحدة
فتعلقت بها ،وفعلت ما أمرتك به من ساعتك? قال إيلذ :إن الذي
قوله واحد ل يختلف هو الله الذي ل تبديل لكلماته ول اختلف
لقوله .قال الملك :لقد أفسدت أمري وشددت حزني بقتل إيراخت.
قال إيلذ :إثنان ينبغي لهما أن يحزنا :الذي يعمل الثم في كل يوم،
والذي لم يعمل خيرا ً قط :لن فرحهما في الدنيا ونعيمهما قليل.
وندامتهما إذ يعاينان الجزاء طويلة ل يستطاع إحصاؤها .قال الملك:
ة ل أحزن على شيٍء أبدًا .قال إيلذ :اثنان ل
لئن رأيت إيراخت حي ً
ينبغي لهما أن يحزنا :المجتهد في البر كل يوم ،والذي لم يأثم قط.
قال الملك :ما أنا بناظرٍ إلى إيراخت أكثر مما نظرت قال إيلذ:
اثنان ل ينظران :العمى والذي ل عقل له .وكما أن العمى ل ينظر
السماء ونجومها وأرضها ول ينظر القرب والبعد ،كذلك الذي ل عقل
له ل يعرف الحسن من القبيح ول المحسن من المسيء .قال
الملك :لو رأيت إيراخت لشتد فرحي .قال إيلذ :اثنان هما
الفرحان :البصير والعالم .فكما أن البصير يبصر أمور العالم وما فيه
من زيادة ونقصان والقريب والبعيد ،فكذلك العالم يبصر البر والثم،
ويعرف عمل الخرة ،ويتبين له نجاته ،ويهتدي إلى صراط
المستقيم .قال الملك :ينبغي لنا أن نتباعد منك يإيلذ ونأخذ الحذر
ونلزم التقاء .قال إيلذ :اثنان يجب أن نتباعد منهما :الذي يقول ل
بر ول إثم ول عقاب ول ثواب ول شيء على مما أنا فيه ،والذي ل
يكاد فيه يصرف بصره عما ليس له بمحرم ول أذنه عن استماع
السوء ،ول قلبه عما تهم به نفسه من الثم والحرص .قال الملك:
صارت يدي من إيراخت صفرًا .قال إيلذ :ثلثة أشياء أصفار :النهر
الذي ليس فيه ماء ،والرض التي ليس فيها ملك ،والمرأة التي
ليس لها بعل ،قال الملك :إنك يا إيلذ لتلقي الجواب .قال إيلذ:
ثلثة يلقون بالجواب :الملك الذي يعطي ويقسم من خزائنه،
والمرأة المهداة التي تهوى من ذوي الحسب ،والرجل العالم
الموفق للخير.
ثم إن إيلذ لمييا رأى الملييك أشييتد بييه الميير ،قييال :أيهييا الملييك إن
إيراخت بالحياة .فلما سمع الملك ذلك اشتد فرحه .وقال يإيلذ :إنما
ولكنها فعلت ذلك للغيرة .وقد كان ينبغيي ليي أن أعيرض عين ذليك
وأتحمله ،ولكنك يييا إيلذ أردت أن تختييبرني وتييتركني فييي شييك ميين
أمرها .وقد أخييذت عنيدي أفضييل الييدي .وأنيا لييك شيياكر .فييانطلق
فأتني بها .فخرج ميين عنييد الملييك فييأتي إيراخييت وأمرهييا أن تييتزين
ففعلت ذلك .وانطلق بها إلى الملييك .فلمييا دخلييت سييجدت لييه .ثييم
قامت بين يديه .وقييالت :أحمييد اللييه تعييالى ثييم أحمييد الملييك الييذي
أحسن إلي :قد أذنبت الذنب العظيم الذي لم أكن للبقاء أهل ً بعييده،
فوسعه حلمه وكرم طبعه ورأفته ،ثم أحمييد إيلذ الييذي آخيير أمييري،
جوهره ووفاء عهده .وقال الملك ليلذ :ما أعظم يييدك عنييدي وعنييد
إيراخت وعند العامة :إذ قد أحييتها بعد ما أمرت بقتلها :فييأنت الييذي
ترى ،وتحكم عليه بما تريد .فقد جعلت ذلك إليك ووثقييت بييك .قييال
مل َ
ك والسرور .فلست بمحمود علييى إيلذ :أدام الله لك أيها الملك ال ُ
ذلك .فإنما أنا عبدك .لكن حاجتي أل ّ يعجل الملك في المر الجسيم
الذي يندم على فعله ،وتكيون عياقبته الغيم والحيزن .ول سييما فيي
مثل هذه الملكة الناصحة المشفقة التي ل يوجيد فيي الرض مثلهيا:
فقال الملك بحق قلت يا إيلذ ،وقد قبلت قولك ،ولست عامل ً بعدها
عمل ً صغيرا ً ول كبيرًا ،فضل ً عيين مثييل هييذا الميير العظيييم الييذي مييا
سييلمت منييه ،إل بعييد المييؤامرة والنظيير والييتردد إلييى ذوي العقييول
ومشاورة أهل المودة والرأي .ثم أحسن الملك جائزة ليلذ ،وم ّ
كنييه
من أولئك البراهمة الذين أشاروا بقتل أحبائه فأطلق فيهم السيييف،
وقرت عين الملك وعيون عظماء أهل مملكته ،وحمييدوا اللييه وأثنييوا
على كباريون بسعة علمه وفضل حكمته :لنييه بعلمييه خل ّييص الملييك
وأنها خرجت قييي طلييب الصيييد وخلفتهمييا فييي كهفهمييا ،فم يّر بهمييا
جانبها شغبر .فلما سمع ذليك مين صييياحها قيال لهيا :مييا هييذا اليذي
تصنعين? وما نزل بك? فأخبريني به .قالت اللبييؤة شييبلي م يّر بهمييا
يأت إليك شيئا ً إل وقد كنيت تفعليين بغييرك مثليه ،وتيأتين إليى غيير
واحد مثل ذلك ،ممن كان يجد بحميمه ومن يعز عليه مثل ما تجدين
بشبليك .فاصبري على فعل غيرك كما صبر غيرك على فعلك :فييإنه
قد قيل :كما تدين تيدان .ولكييل عميل ثميرة مين الثييواب والعقياب.
وهما على قدره في الكثرة والقلة .كالزرع إذا حضر الحصاد أعطييى
على حسب بذره .قالت اللبؤة :بين لي مييا تقييول ،وأفصييح لييي عيين
إشارته .قال الشغبر :كم أتيى ليك مين العمير? قيالت اللبييؤة :ميائة
سنة .قال الشغبر :ما كان قوتك? قالت اللبؤة :لحييم الييوحش .قييال
الشغبر :من كان يطعمك إييياه? قييالت اللبييؤة :كنييت أصيييد الييوحش
وآكله .قال الشغبر :أرأيت الوحش التي كنيت تيأكلين ،أميا كيان لهيا
آباء وأمهات? قالت :بلى .قال الشييغبر :فمييا بييالي ل أرى ول أسييمع
لتلك الباء والمهات من الجزع والضجيج ما أرى وأسمع لك? أما أنه
فيها ،وجهالتك بما يرجع عليك من ضرها .فلما سييمعت اللبييؤة ذلييك
من كلم الشغبر عرفت أن ذلك مما جنت على نفسييها ،وأن عملهييا
كان جورا ً وظلمًا ،فيتركت الصيييد ،وانصيرفت عين أكيل اللحييم إليى
الثمار والمسك والعبادة .فلما رأى ذلك ورشييان الييذي كييان صيياحب
تلك الغيضة وكان عيشييه ميين الثمييار .قييال لهييا :قييد كنييت أظيين أن
الشجرة عامنا هذا لييم تحمييل :لقليية الميياء ،فلمييا أبصييرتك تأكلينهييا،
وأنييت آكليية اللحييم ،فييتركت رزقييك وطعامييك ومييا قسييم اللييه لييك،
وتحولت إلى رزق غيييرك فانتقصييته ،ودخلييت عليييه فيييه؛ علمييت أن
الشجر العام أثمرت كما كانت تثمر قبل اليوم ،وإنما أتت قلة الثميير
من جهتك .فويل للشجر وويييل للثميار ووييل لمين عيشيه منهييا! ميا
أسرع هلكهم إذا دخل عليهم في أرزاقهم ،وغلبهم عليهييا ميين ليييس
له فيها حظ ولم يكن معتادا ً لكلهييا! فلمييا سييمعت اللبييؤة ذلييك ميين
بضرٍ يصيبه عن ضّر الناس ،كيياللبؤة الييتي انصييرفت لمييا لقيييت فييي
على الّنسك والعبادة .والناس أحق بحسن النظر في ذلك :فييإنه قييد
قيل :ما ل ترضاه لنفسك ل تصيينعه لغيييرك :فييإن فييي ذلييك العييدل:
مشيتها ،وطمع أن يتعلمها .فراض على ذلك نفسه ،فلم يقييدر علييى
إحكامها ،وأيس منها ،وأراد أن يعود إلى مشيته التي كان عليها :فإذا
هو قد اختلط وتخلييع فييي مشيييته ،وصييار أقبييح الطييير مشيييًا .وإنمييا
ضربت لك هذا المثل لما رأيت من أنك تركت لسانك الييذي طبعييت
تدركه ،وتنسى لسانك ،وترجع إلى أهلك وأنييت ش يّرهم لسييانًا :فييإنه
قد قيل :إنه يعد جاهل ً من تكلف من المور ما ل يشاكله ،وليس من
فقال للسائح :اطمئن حتى آتيك بطعام فلست أرضى لييك مييا فييي
البيت .ثم خرج وهو يقول :قد أصبت فرصتي :أريييد أن أنطلييق إلييى
الملك وأدله على ذلك ،فتحسيين منزلييتي عنييده .فييانطلق إلييى بيياب
الملك ،فأرسل إليه :إن الذي قتل ابنتك وأخذ حليها عنييدي .فأرسييل
الملك وأتى بالسائح فلما نظر الحلييي معييه لييم يمهلييه ،وأميير بييه أن
السائح يبكي ويقول بأعلى صوته :لو أني أطعت القرد والحية والببر
هييذا البلء ،وجعييل يكييرر هييذا القييول .فسييمعت مقييالته تلييك الحييية
خلصه .فانطلقت حتى لدغت ابن الملك ،فدعى الملييك أهييل العلييم
فرقوه ليشفوه فلم يغنوا عنه شيئًا .ثم مضت الحييية إلييى أخييت لهييا
من الجن ،فأخبرتها بما صنع السائح إليهييا ميين المعييروف ،ومييا وقييع
فيه .فرقت له ،وانطلقت إلى ابن الملك ،وتخييايلت لييه .وقييالت لييه:
إنييك ل تييبرأ حييتى يرقيييك هييذا الرجييل الييذي قييد عيياقبتموه ظلم يًا.
وانطلقت الحية إلى السائح فدخلت عليه السييجن ،وقييالت لييه :هييذا
الذي كنت نهيتك عنه من اصطناع المعروف إلى هذا النسييان :ولييم
مها .وقالت له :إذا جاءوا بييك لييترقي
تطعني .وأتته بورق ينفع من س ّ
ابن الملك فاسقه من ماء هذا الورق :فإنه يييبرأ .وإذا سييألك الملييك
عن حالك فاصدقه :فإنك تنجوا إن شاء الله تعيالى .وإن ابين المليك
أخبر الملك أنيه سيمع قيائل ً يقيول :إنيك لين تيبرأ حيتى يرقييك هيذا
ولده .فقال :ل أحسن الرقي ،ولكين اسيقه مين مياء هيذه الشيجرة
فيبرأ بإذن اللييه تعييالى .فسييقاه فييبرئ الغلم .ففييرح الملييك بييذلك:
له ،وتخليص بعضها إياه ،عبرة لمن اعتبر ،وفكرة لميين تفكيير ،وأدب
في وضع المعروف والحسييان عنييد أهييل الوفيياء والكييرم ،قربييوا أو
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف :قد سمعت هذا المثل .فإن
كان الرجل ل يصيب الخير إل بعقله ورأيه وتثبته في المور كما
يزعمون ،فما بال الرجل الجاهل يصيب البلء والضر? .قال بيدبا:
كما أن النسان ل يبصر إل بعينيه ول يسمع إل بأذنيه ،كذلك العمل،
إنما هو بالحلم والعقل والتثبت ،غير أن القضاء والقدر يغلبان على
ذلك .ومثل ذلك مثل ابن الملك وأصحابه .قال الملك :وكيف كان
ذلك? قال الفيلسوف :زعموا أن أربعة نفر اصطحبوا في طريق
واحدة ،أحدهم ابن الملك والثاني ابن تاجر والثالث ابن شريف ذو
جمال والرابع ابن أكار .وكانوا جميعا ً محتاجين ،وقد أصابهم ضرر
وجهد شديد في موضع غربة ل يملكون إل ما عليهم من الثياب.
فبينما هم يمشون إذ فكروا في أمرهم وكان كل إنسان منهم راجعا ً
إلى طباعه وما كان يأتيه منه الخير :قال ابن الملك :إنما أمر الدنيا
كله بالقضاء والقدر ،والذي قدر على النسان يأتيه على كل حال،
والصبر للقضاء والقدر وانتظارهما أفضل المور وقال ابن التاجر:
العقل أفضل من كل شيء وقال ابن الشريف :الجمال أفضل مما
ذكرتم.
فانطلق ابن الملك حتى أتى إلى باب لمدينة فجلس على متكأ في
باب المدينة ،واتفق أن ملك تلك الناحية مات ولم يخلف ولدا ً ول
أحدا ً ذا قرابة .فمّروا عليه بجنازة الملك ولم يحزنه وكلهم يحزنون.
فأنكروا حاله وشتمه البواب ،وقال له :من أنت يا هذا? وما يجلسك
على باب المدينة ول نراك تحزن لموت الملك? وطرده البواب عن
الباب فلما ذهبوا عاد الغلم فجلس مكانه .فلما دفنوا الملك ورجعوا
بصر به البواب فغضب وقال له :ألم أنهك عن الجلوس في هذا
الموضع? وأخذه وحبسه .فلما كان الغد اجتمع أهل تلك المدينة
يتشاورون فيمن يملكونه عليهم ،وك ّ
ل منهم يتطاول ينظر صاحبه،
ويختلفون بينهم .فقال لهم البواب :إني رأيت أمس غلما ً جالسا ً
على الباب ،ولم أره يحزن لحزننا ،فكلمته فلم يجبني ،فطردته عن
الباب .فلما عدت رأيته جالسا ً فأدخلته السجن مخافة أن يكون
عينًا .فبعثت أشراف أهل المدينة إلى الغلم فجاءوا به ،وسألوه عن
حاله ،وما أقدمه إلى مدينتهم .فقال :أنا ابن ملك فويران ،وإنه لما
ك ،فهربت من يده حذرا ً على
مل ْ
مات والدي غلبني أخي على ال ُ
نفسي حتى انتهيت إلى هذه الغاية .فلما ذكر الغلم ما ذكره من
أمره عرفه من كان يغشى أرض أبيه منهم ،وأثنوا على أبيه خيرًا.
ثم إن الشراف اختاروا الغلم أن يملكوه عليهم ورضوا به .وكان
لهل تلك المدينة سنة إذا ملكوا عليهم ملكا ً حملوه على فيل أبيض،
وطافوا به حوالي المدينة .فلما فعلوا به ذلك مّر بباب المدينة فرأى
الكتابة على الباب فأمر أن يكتب :إن الجتهاد والجمال والعقل وما
أصاب الرجل في الدنيا من خير أو شر إنما هو بقضاء وقدر من الله
عّز وجل .وقد ازددت في ذلك اعتبارا ً بما ساق الله إلي من الكرامة
والخير .ثم انطلق إلى مجلسه فجلس على سرير ملكه وأرسل إلى
أصحابه الذين كان معهم فأحضرهم فأشرك صاحب العقل مع
م صاحب الجتهاد إلى أصحاب الزرع ،وأمر لصاحب
الوزراء ،وض ّ
ل كثير ثم نفاه كي ل يفتتن به .ثم جمع علماء أرضه
الجمال بما ٍ
وذوي الرأي منهم وقال لهم :أما أصحابي فقد تيقنوا أن الذي
رزقهم الله سبحانه وتعالى من الخير إنما هو بقضاء الله وقدره،
وإنما أحب أن تعلموا ذلك وتستيقنوه ،فإن الذي منحني الله وهيأه
لي إنما كان بقدر ،ولم يكن بجمال ول عقل ول اجتهاد .وما كنت
أرجو إذ طردني أخي أن يصيبني ما يعيشني من القوت فضل ً عن
أن أصيب هذه المنزلة ،وما كنت أؤمل أن أكون بها :لني قد رأيت
ل ،وأشد اجتهادا ً
في هذه الرض من هو أفضل مني حسنا ً وجما ً
وأسد رأيًا ،فساقني القضاء إلى أن أعتززت بقدر من الله ،وكان
في ذلك الجمع شيخ فنهض حتى استوى قائمًا ،وقال :إنك قد
تكلمت بكلم كامل عقل وحكمة ،وإن الذي بلغ بك ذلك وفوز عقلك
وحسن ظّنك ،وقد حققت ظننا فيك ورجاءنا لك .وقد عرفنا ما
ك
مل ِ
ذكرت ،وصدقناك فيما وصفت .والذي ساق الله إليك من ال ُ
والكرامة كنت أهل ً له ،لما قسم الله تعالى لك من العقل والرأي.
وإني أسعد الناس في الدنيا والخرة من رزقه الله رأيا ً وعق ً
ل.
وقد أحسن الله إلينا إذ وفق لنا عند موت ملكنا وكّرمنا بك .ثم قام
شيخ آخر سائح فحمد الله عيّز وجيل وأثنييى عليييه وقيال :إنييي كنييت
أخدم وأنا غلم قبل أن أكون سائحًا ،رجل ً من أشراف النيياس .فلمييا
بدا لي رفييض الييدنيا فييارقت ذلييك الرجييل ،وقييد كييان أعطيياني ميين
واحد فأبى .فقلت فييي نفسييي :أشييتري أحييدهما وأتييرك الخيير .ثييم
لقيا من الجوع والهزال ،ولم آمن عليهما الفات .فانطلقت بهما إلى
فطارا ووقعا على شجرة مثمرة .فلما صارا فيي أعلهيا شيكرا ليي،
وسمعت أحدهما يقول للخر :لقد خلصنا هذا السائح من البلء الذي
فيأخذها? فقلت لهما :كيف تدلنني على كنز لم تييره العيييون وأنتمييا
لم تبصرا الشييبكة? فقييال :إن القضيياء إذا نييزل صييرف العيييون عيين
موضع الشيء وغ ّ
شى البصر وإنما صرف القضاء اعيننا عن الشييرك
مملوءة دنانير ،فدعوت لهما بالعافية ،وقلت لهما :الحمييد للييه الييذي
شيء ،ول يستطيع أحد أن يتجيياوزه .وأنيا اخييبر الملييك بييذلك رأيتييه:
فإن أمر الملك أتيته بالمال فأودعته في خزائنه .فقييال الملييك ذلييك