You are on page 1of 85

‫‪2‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬

‫‪3‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪4‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬
‫عد ذباربو العاطفية الفاشلة اليت ذباوزت سبع عشرة ذبربة‪ ،‬أنفق عليها زىاء العشرين‬
‫ال يهم؛ فقد أكمل للتو ّ‬
‫حصورا‪ ،‬دوف أنثى ربفزهُ‬
‫ً‬ ‫اؼبتطورة‪ ،‬وقرر أف يعيش ما تبقى من حياتو‬
‫نوعا من األميبا ّ‬
‫عاما من عمره‪ .‬طبّن أنو قد يكوف ً‬‫ً‬
‫على التحليل واؼبراوغة‪ .‬لسبب ما‪ ،‬ربط ضجره الكوين بالنساء‪ ،‬وبدأ اإليباف بعدـ جدواىن يف حياتو يتسلل إُف قلبو شيئًا‬
‫عما لقيتو بسبب حبثو الدءوب عن أنثى‬ ‫فشيئًا كتسلل اؼبختلس‪ ،‬وبطريقة نرجسية قرر أف يُكافئ نفسو‪ ،‬وأف يُعوضها ّ‬
‫كثَتا يف صياغة مناسبة ؼبربرات قراره ذلك‪ ،‬كل ما توصل إليو يف النهاية أنو َف يعد‬
‫يُفرغ فيها حاجاتو العتيقة‪َ .‬ف يفكر ً‬
‫مستمتعا بكل غبظاهتا‪.‬‬
‫ً‬ ‫منفردا‪،‬‬
‫حباجة إُف أنثى‪ ،‬وأنو‪ ،‬على األرجح‪ ،‬سوؼ يكمل حياتو ً‬
‫وكوميض النبوة‪ ،‬تكشفت لو أفكار نَتة حوؿ حياتو اػباصة‪ ،‬واقتنع بأنو ليس يف حاجة إُف آخر يشاركو‪" .‬ىل‬
‫أخَتا‪.‬‬
‫فعبل؟" كانت تلك خبلصة التجارب وخاسبتها القيّمة‪ ،‬واغبكمة اليت امتثل ؽبا ً‬ ‫كبن حباجة إُف مشاركة ً‬
‫منذ اليوـ سوؼ ينفق راتبو الشهري يف ترفو اػباص‪ ،‬وسيغدؽ على نفسو النعماء كما َف يسبق لو من قبل‪.‬‬
‫ورغم إحساسو اؼبتعاظم باألسى واألسف على اللحظات اعبميلة اليت أضاعها من حياتو دوف أف يستمتع هبا كما هبب؛‬
‫جهدا يف سبيل ذلك‪.‬‬
‫يعوض ما فاتو‪ ،‬وأال يدخر ً‬‫إال أنو قرر أف ّ‬
‫دوف‪ ،‬حبماس ُمتقد‪ ،‬قائمة من الكماليات اليت توحي بالبذخ والًتؼ‪ ،‬وسبنح النفس ذلك الشعور العزيز بالرفاىية‬ ‫ّ‬
‫والدالؿ‪:‬‬
‫‪ ‬نافضة غبار يدوية من ريش الطاؤوس‬
‫ملوف‬
‫فانوس إضاءة ليلي ّ‬ ‫‪‬‬
‫فبسحة أقداـ من القش اؼبضغوط‬ ‫‪‬‬
‫نافورة مياه جبسية مصغرة‬ ‫‪‬‬
‫ؾبسم ببلستيكي عمبلؽ للكرة األرضية‬ ‫‪‬‬
‫مشوع معطرة للجو‬ ‫‪‬‬
‫لوحات تشكيلية للحائط‬ ‫‪‬‬
‫جوارب منزلية من فراء األرانب‬ ‫‪‬‬
‫عُت سحرية لباب الشقة‬ ‫‪‬‬
‫طقم من سباثيل الفيلة األفريقية‬ ‫‪‬‬
‫خزانة للكتب‬ ‫‪‬‬

‫‪5‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫برضى شديد ؽبذا االختيار‬
‫كتب ىذه األخَتة وىو ينظر إُف تبلؿ الكتب الناىضة يف زاوية ما من غرفتو‪ ،‬وشعر ً‬
‫نفسا‬
‫الذي رآه موف ًقا‪ .‬اضطرمت داخلو ضباسة ؿبببة إُف نفسو‪ ،‬فوضع القائمة جانبًا‪ ،‬وأشعل سيجارة برقبي‪ ،‬أخذ منها ً‬
‫عمي ًقا‪ ،‬مث سبدد على ظهره‪ ،‬وىو يتمطى يف حبور طفوِف غامر‪ .‬راح ينقب يف زوايا غرفتو عن أشياء يبكن إضافتها‪ ،‬مث‬
‫هنض فجأ ًة بذات اغبماسة‪ ،‬وأمسك القائمة من جديد‪ ،‬وأضاؼ إليها دبكر مصطنع‪:‬‬
‫‪ ‬مغطس مياه ىوائي!‬

‫يقضُت حوائجهن بالبكاء‪ .‬تلك كانت‬‫َ‬ ‫أخَتا‪ ،‬إُف قناعة كاملة بأف النساء‪ ،‬كاألطفاؿ‪،‬‬ ‫أوصلتو ذبارب حياتو‪ً ،‬‬
‫إحدى مشكبلتو الكربى اليت حالت دوف توقفو‪ ،‬اؼببكر‪ ،‬عن خوض عبلقات عاطفية منتهية بالفشل‪ .‬كاف كلّما قرر‬
‫دائما‪.‬‬
‫التوقف؛ تأخذه غريزتو إُف أحضاف أنثى جديدة‪ ،‬تصب الشهوة يف أوردتو اؼبتيبّسة‪ ،‬واؼبتعطشة إُف اعبنس ً‬
‫واحدة فقط ىي اليت ظلت تتقافز‪ ،‬باستمرار‪ ،‬من صندوؽ ذاكرتو كرؤى األنبياء‪ .‬يشعر‪ ،‬عندىا‪ ،‬بأنو َف يعش من‬
‫حياتو سوى ما قضاه بُت أحضاهنا الدافئة‪ .‬كل األظباء اليت عكرت مياه تارىبو َف تستطع أف تشوش صفاء صورهتا‬
‫اؼبنعكسة‪ ،‬وأخفقت كل ؿباوالتو اعبادة يف نسياهنا‪.‬‬
‫يب مشئوـ خرب‬ ‫حاوؿ الًتكيز على صفو مزاجو اؼبخملي قد ر اؼبستطاع‪ ،‬قبل أف يرف جرس اؽباتف ‪ ،‬وينقل إليو قر ٌ‬
‫وفاة والدتو إثر نوبة ُس َّكر‪ .‬أحزنو اػبرب‪ ،‬ألنو عٌت لو تأجيؿ أحبلمو اؼبخملية‪ ،‬وما يرتبط هبا من سعادة‪ .‬تذكر وجوه أفراد‬
‫سره كل وجو على حدة‪ ،‬قبل‬ ‫عائلتو اؼبمتدة يف بانوراما ذىنية سريعة‪ ،‬وزبيّل عبء تلقيو العزاء من ىؤالء البؤساء‪ .‬لعن يف ّ‬
‫أف ُىبرج من ثبلجتو الصغَتة قارورة اػبمر‪ ،‬ويبدأ رحلتو اؼبيتافيزيقية اليومية‪.‬‬

‫***‬

‫يف منزؿ العائلة الكبَت‪ ،‬الذي كمنازؿ النمل‪ ،‬بغرفو الكثَتة واؼبتداخلة‪ ،‬وقف أماـ جثماف ّأمو اؼبسجى على‬
‫عنقريب اعبرتق اؼبصنوع من خشب السروج‪ .‬وقبل أف يُكشف عن وجهها‪ ،‬تأمل منظر جسدىا اؼبًتىل كشحنة إسفنج‪،‬‬
‫وىو يتساءؿ عن مصَتىا‪ ،‬وعما إذا كاف ذلك اؼبصَت يستحق اؼبشقة اليت بذؽبا يف طريقو من العاصمة إُف ريف العيكورة‬
‫أـ ال!‬
‫جيدا قلقو‬
‫وللسخرية؛ فإنو ال يتذكر تفاصيل ؾبيئو من اػبرطوـ‪ ،‬أو مىت‪ ،‬بالتحديد‪ ،‬كاف ذلك‪ ،‬غَت أنو يتذكر ً‬
‫وخوفو اللذاف َف يعرؼ ؽبما سببًا‪ ،‬إضافة إُف ضيقو الذي كاف قد بدأ بالتخلّق‪ ،‬منذ أف وطأت قدماه ؿبطة السوؽ‬

‫‪6‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫الشعيب اػبرطوـ‪ ،‬وحىت وصولو إُف ىذا اؼبكاف الذي يعج بالناس ذوي األعُت اؼبخيفة‪ ،‬والوجوه الواصبة والباىتة‪ ،‬كأهنم‬
‫سباثيل نصفية يف مرسم فناف بوىيمي‪.‬‬
‫مرت بذىنو صور باىتة لوجوه بائعي اؼبثلجات يف السوؽ الشعيب اػبرطوـ‪ ،‬وأصوات طقطقة األكواب النيكلية‬
‫اؼبغرية‪ ،‬والفتيات اللوايت يبعن منتجات التجميل الصينية‪ ،‬وكريبات تفتيح البشرة‪ ،‬دوف أف يتمتعن بتلك اؼبيزة على‬
‫اإلطبلؽ‪ ،‬منتصبات على األرصفة الًتابية كعيداف القمح السمراء ربت ؽبيب الشمس‪ ،‬وىن يرددف ببل توقف‪" :‬اؼبعلقة‬
‫بنص جنيو!" والفتياف البائسُت‪ ،‬ذوي الوجوه الكاغبة‪ ،‬حفاة األقداـ‪ ،‬الراكضُت وراء أكياس النايلوف اؼبتطايرة يف اؼبكاف‬
‫ذبمع منها ؼبصنع تدوير الببلستيك مقابل حفنة من اعبنيهات‪ ،‬اليت بالكاد تكفي لكوب‬ ‫وباولوف اإلمساؾ هبا‪ ،‬وبيع ما ّ‬
‫مشوىة‪ ،‬تسَت‪ ،‬بقوائمها اػبلفية‬ ‫من عصَت العرديب اؼبثلج لكل واحد منهم‪ ،‬والرجاؿ اؼبصابُت باعبذاـ‪ ،‬كمسوخ ّ‬
‫كحشرات فضائية دميمة‪ ،‬على أرصفة وشوارع العاصمة‪ ،‬دوف أف يلتفت إليهم أحد شفقة أو امشئز ًازا‪.‬‬
‫أطفاؿ الورنيش الذين يعبئوف شوارع العاصمة اؽبادئة بأصوات كشكشة علب الصلصة الفارغة‪ ،‬إال من بعض‬
‫اغبصوات الصغَتة اؼبلساء‪ ،‬وَف يغب عن بالو‪ ،‬كذلك‪ ،‬رائحة البوؿ اليت تعبّق اؼبكاف‪ ،‬جنبًا إُف جنب مع رائحة زيوت‬
‫السيارات القديبة اؼبتكلسة على الطرقات‪ ،‬واليت ال يعلم أحد من أين جاءت‪ .‬ومواء القطط الشرسة‪ ،‬وشجار طبلب‬
‫اعبامعات مع بائعي السعوط‪ ،‬وألف صوت وصوت‪ .‬يتذكر كل ذلك‪ ،‬وكأنو حدث قبل ألف عاـ‪.‬‬
‫جيدا‪ ،‬والزالت عالقة‬ ‫للموت‪ ،‬عنده‪ ،‬رائحة مزعجة وغريبة‪ ،‬أشبو برائحة القطن اؼببلوؿ‪ .‬يعرؼ تلك الرائحة ً‬
‫الشمية منذ حادثة غرؽ قديبة‪ ،‬شارؾ فيها على مضض بغسل الضحايا‪ ،‬كما أف للموت ىيبة َف يستشعرىا‬ ‫دبراكزه ّ‬
‫جيدا‪ .‬خيّل إليو أف األمر أشبو دبسألة وقتية عابرة‪ ،‬تنتهي بافتقادنا للموتى؛ ذلك االفتقاد الذي ال يرتبط باؼبوت نفسو‪،‬‬‫ً‬
‫وإمبا بعجزنا عن التواصل مع اآلخرين‪َ .‬ف يكن يف إمكانو التعامل مع اؼبوت كحقيقة ؽبا وقعها اؼبؤَف واؼبؤسف‪ ،‬بل َف‬
‫يستطع أف يتصور اؼبوت إال من حيث أنو موقف طارئ هبعلنا نشتاؽ إُف اؼبوتى لبعض الوقت‪.‬‬
‫ما إف ُرفع الغطاء الدموري األبيض عن وجهها؛ حىت اعًتتو رغبة عارمة يف الضحك‪ .‬كانت تلك ىي اؼبرة‬
‫األوُف اليت يرى فيها أمو ساكنة! ال يتذكر أف رآىا صامتة كما ىي اآلف‪ ،‬وفمها ال يتحرؾ كما ىو عادتو منذ أف أدرؾ‬
‫حقيقة العبلقة بينو وبُت ىذه السيدة النائمة على عنقريب اعبرتق‪.‬‬
‫استغرب قدرهتا اؼبعجزة على الكبلـ اؼبستمر والنميمة‪ ،‬ويف أحايُت كثَتة‪ ،‬حُت يعجز عن التأمل والقراءة‪ ،‬هبلس‬
‫إليها‪ ،‬ويأخذ عنها أخبار أىاِف العيكورة بالتفصيل‪ :‬نفوؽ األبقار‪ ،‬آفات الزراعة‪ ،‬الزهبات اغبديثة‪ ،‬فضائح القرية‪ ،‬أسعار‬
‫البضائع‪ ،‬أنباء السوؽ وأىلو‪ ،‬قائمة الفتيات اؼبقًتحات للزواج‪ ،‬أحاديث النساء اؼبملة اليت ال يستسيغ ظباعها إال من‬
‫أمو‪ .‬ال يفعل ذلك بدافع الفضوؿ أو بدافع االطبلع على أحواؿ القرية؛ وإمبا‪ ،‬فقط‪ ،‬لقضاء الوقت‪ ،‬والبد أف ينتهي‬
‫اغبديث‪ ،‬عندىا‪ ،‬بذكر الشريشاب األجبلؼ‪ ،‬اؽباربُت من بطش الدفًتدار يف زمن موغل يف القدـ‪ ،‬ليطمئن بذلك على‬
‫استقامة خرفها على عوده‪.‬‬

‫‪7‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫أطاؿ النظر إُف وجهها؛ فخيّل إليو أهنا تبتسم أو تكاد‪ ،‬وكاف كالذي ىبترب قدرة اؼبوت على تكميم األفواه‪،‬‬
‫وفرض قانوف الصمت على أمو الثرثارة‪ .‬تصور الصراع الذي قد تعانيو‪ ،‬اآلف‪ ،‬مع اؼبوت حوؿ ىذه النقطة بالتحديد‪،‬‬
‫وقدر أهنا سوؼ تنتصر عليو يف هناية اؼبطاؼ‪ ،‬وأراد أف يشهد غبظة االنتصار قبل دفنها‪ ،‬غَت أف األيادي امتدت لًتخي‬ ‫ّ‬
‫موحدة‪ ،‬ونادى أحدىم بصوت أجش‪:‬‬ ‫الغطاء الدموري مرة أخرى على وجهها‪ ،‬ورفعوا أياديهم حبركة ميكانيكية ّ‬
‫"الفاربة"‪.‬‬
‫حل السكوف‪ ،‬فجأة‪ ،‬على الغرفة اليت سكنت رائحة اؼبوت أوردهتا الغليظة اؼبعلقة على السقف ِمرقًا من خشب‬
‫عمر‪ ،‬ما منحو فرصة جيدة لتذكر بعض تفاصيل القرية اليت سقطت من ذاكرتو منذ تسعة أعواـ‪ .‬ىاصبتو صورة‬ ‫السنط اؼب ِّ‬
‫ُ‬
‫النسوة القابعات يف الغرفة اجملاورة‪ ،‬تأتيو منهن أصوات غمغمات كحمحمة اػبيوؿ‪" .‬إهنا ورطة حقيقية!" قاؽبا وىو‬
‫يستثقل ما ينتظره بعد االنتهاء من مراسم الدفن اؼبملة‪ ،‬واليت لن ينالو منها إال غبار اؼبقابر اليت ربمل ترب األجساد‬
‫اؽبالكة‪ .‬كاف واجبو األكثر إلزامية‪ :‬تقبّل العزاء من نساء القرية اجملامبلت‪ ،‬وتعزية أخوتو‪ ،‬وضبلهن على التأسي‪ ،‬وىو ما‬
‫صربا‪ ،‬وال هبيد تقنياتو‪.‬‬
‫ال يطيق عليو ً‬
‫ما إف خرج الرجاؿ من الغرفة حاملُت النعش‪ ،‬متجاوزين باهبا اغبديدي السميك‪ ،‬حىت انطلق عويل النائحات‬
‫سره‪ ،‬وقاؿ‪" :‬يا ؼبكر النساء!"‬
‫متزامنًا مع صوت العبارة اعبنائزية اؼبعهودة‪" :‬وحدوه ‪ ..‬ال إلو إال ىو" فتبسم يف ّ‬
‫بطريقة ما‪ ،‬أحيت لو إحدى األصوات النسائية النائحة اغبادة ذكرى أكيج دينق‪ ،‬بائعة اػبمر التقليدية‪ ،‬اليت‬
‫عاقرا للخمر اعبيدة اليت تصنعها‬
‫بصحبتها ُم ً‬‫تسكن يف مكاف ما على شاطئ النيل األزرؽ‪ ،‬وتذكر تلك اللياِف اليت قضاىا ُ‬
‫بإتقاف‪ ،‬وتشتهر هبا يف اؼبنطقة "ال يقتل الوىم إال مزيد من الوىم!" قاؽبا‪ ،‬وىو يعقد العزـ على زيارهتا يف مسائو ذلك‪.‬‬

‫***‬

‫يف اؼبقربة؛ كانت الشمس يف كبد السماء‪ ،‬ترسل وىجها‪ ،‬مباشرة‪ ،‬على رؤوس الرجاؿ الذين وضعوا اعبنازة‬
‫أرضا‪ ،‬وراحوا هبتهدوف يف حفر القرب بكل نبّة‪ ،‬فيما نبس إليو أحدىم بأنو ال توجد حاجة إُف أف يرىق نفسو باغبفر؛‬‫ً‬
‫السيما وأنو يف حالة نفسية ال تسمح لو بذلك‪ ،‬ىذا الكبلـ أشعره ببعض السعادة واالرتياح‪ ،‬ولكنو كذلك ألزمو بأف‬
‫يبدي بعض مظاىر اغبزف اليت اجتهد يف اصطناعها‪.‬‬
‫بعض اؼبزارعُت القادمُت من مشروع اعبزيرة يف اعبهة الغربية للعيكورة‪ ،‬وضعوا أطراؼ جبلبيبهم ربت أسناهنم‪،‬‬
‫وأتوا راكضُت‪ ،‬عند رؤيتهم عبمهرة الرجاؿ يف اؼبقابر‪ ،‬وشرعوا يف حفر القرب مع البقية‪ ،‬وىم يرددوف‪" :‬ال حوؿ وال قوة إال‬
‫كثَتا ضباسة الرجاؿ‪ ،‬وتناوهبم على اغبفر‪ ،‬وىم يرددوف بُت‬
‫باهلل!" دوف أف يسألوا عن اعبثة اليت ينووف دفنها‪ .‬أزعجو ً‬

‫‪8‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫الفينة واألخرى‪" :‬صلي على النيب ‪ ..‬صلي على النيب" وكاف ذلك يعٍت إلزامية أف يًتؾ أحدىم الرفاش لآلخر‪ ،‬وطبّن أف‬
‫ذلك يعيق انسيابية عملية اغبفر وسرعتو‪ ،‬ولكنو أضمر ذلك يف صدره وَف يصرح بو ألحد‪.‬‬
‫كاف منظر الرجاؿ وىم وبفروف القرب‪ ،‬كأسراب غرباف نوحية متوحشة‪ ،‬تنهش ببل ىوادة جثة كلب نافق‪ ،‬بينما‬
‫وقف بعض الصبية غَت بعيد عن مكاف الدفن‪ ،‬ينظروف بعيوف فضولية إُف ما هبري‪ ،‬وقد زجرىم بعض الرجاؿ‬
‫بعيدا‪ .‬كاف الغبار اؼبتناثر من عملية اغبفر ىبتلط مع العرؽ اؼبتصبب من جبينو‪ ،‬فشعر بأنو‬‫اؼبتحمسُت‪ ،‬وأمرىم بالبقاء ً‬
‫عاد كائنًا طينيًا من جديد‪ .‬أحس باالنزعاج الشديد لذلك‪ ،‬واسًتؽ النظر إُف جثماف أمو اؼبسجى على األرض‪ ،‬علّو‬
‫يشهد غبظة انتصارىا على اؼبوت‪ ،‬ولكنها كانت ما تزاؿ ىامدة ببل حراؾ؛ فشعر باغبزف ؽبزيبتها‪ .‬امتلك قناعة راسخة‬
‫صارخا زاد من‬
‫تناقضا ً‬
‫بأف حزنو ذلك أصدؽ من حزف اآلخرين الذي َف يبنعهم من اعبد يف حفر القرب‪ ،‬ورأى يف ذلك ً‬
‫إحساسو باالستياء‪.‬‬
‫الحظ على الفور أنو مركز اىتماـ بالغ من اغبضور‪ ،‬وأف اعبميع يسعوف إُف تلبية احتياجاتو بالسرعة اؼبطلوبة‪،‬‬
‫وأشعره ذلك بالتميّز‪ .‬ىو يعلم أف أقرب الناس للميّت أكثرىم حظوة عند اؼبعزين‪ ،‬ولذلك فإنو َف يشأ أف يستغل ىذه‬
‫استغبلال سيئًا‪ ،‬واكتفى ببعض التصرفات اليت توحي بأنو مستغرؽ يف اغبزف‪.‬‬‫ً‬ ‫اغبظوة‬
‫يف البيت‪ ،‬وقبل اعبلوس يف الصالة اؼبخصصة الستقباؿ التعازي‪ ،‬طالب حامد ودالنعيم االختبلء بو لبعض‬
‫الوقت‪ ،‬وبطريقة جادة أخرج بعض األوراؽ من جيبو‪ ،‬وبدأ يعرضها عليو‪ .‬كانت األوراؽ عبارة عن‪ :‬تقارير طبية‪ ،‬ونتائج‬
‫سباما‬
‫فحوصات معملية‪ ،‬وشهادة وفاة معتمدة من اؼبستشفى‪َ .‬ف يبد أي اىتماـ بكل تلك التفاصيل؛ السيما وأنو يعلم ً‬
‫أف أمو اآلف ترقد يف قربىا بارتياح‪ ،‬وأف ىذه التقارير واألوراؽ عديبة القيمة إزاء احملصلة النهائية‪ ،‬واغبقيقة األكيدة‪ ،‬ولكنو‬
‫اكتشف يف هناية األمر أف ذلك كاف بدافع إبداء اغبرص‪ ،‬وإخبلء اؼبسئولية ال أكثر‪.‬‬

‫***‬

‫حامد ودالنعيم زوج شقيقتو الكربى رجل مشهور عنو اغبرص الشديد‪ ،‬ويُذكر أنو الوحيد يف العيكورة‪ ،‬بُت‬
‫أقرانو‪ ،‬من وبتفظ بشهادة ميبلده‪ ،‬إضافة إُف الشهادات اؼبدرسية منذ اؼبرحلة االبتدائية‪ ،‬وحىت الثانوية اليت اجتازىا‬
‫بصعوبة بالغة‪ ،‬كما أنو ما زاؿ ؿبتفظًا بتذاكر سفره إُف أديس أبابا غبضور حفل الفناف ؿبمد وردي عاـ ‪ ،1989‬إضافة‬
‫إُف بطاقة صعود الطائرة؛ بل وتذاكر اغبفل نفسو‪ .‬ورث عشق صبع األشياء واالحتفاظ هبا عن والده ودالنعيم جار اهلل‬
‫البَبلؿ‪ ،‬وال أحد يعلم اؼبعيار الذي يقيّم بو األشياء اليت تستحق االحتفاظ من تلك اليت ال تستحق‪.‬‬
‫أتاف عشراء‪ ،‬ليخطب شقيقتو‬ ‫يذكر تلك الليلة اليت جاء فيها من قرية شيخ طو سَتا على األقداـ‪ ،‬جارا وراءه ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العَركِيِّة اليت تعود إُف اإلماـ موسى الكاظم؛ انشغل ىو‬ ‫الكربى‪ ،‬وفيما راح يتحدث عن نفسو‪ ،‬وعن عائلتو وجذورىا َ‬

‫‪9‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫القصر‪ ،‬بدينًا‪ ،‬وببل رقبة إُف اغبد الذي يشبو معو دمى‬ ‫بتعداد أوجو الشبو بينو وبُت شقيقتو؛ إذ كاف قصَتا مفرطًا يف ِ‬
‫ً‬
‫اَفاتريوشكا الروسية‪ ،‬لو ثآليل بارزة ومتفرقة يف وجهو ورقبتو‪ ،‬وقواطع أسنانو األمامية متفرقة عن بعضها‪ ،‬وتتطاير شذرات‬
‫سباما‪،‬‬
‫اللعاب من فمو أثناء الكبلـ‪ ،‬وحاجباه العريضاف يكاداف يلتقياف‪ ،‬لوال عناية الطبيعة‪ ،‬وعيناه ليستا متساويتا اغبجم ً‬
‫وعندما انتبو إُف كبلمو‪" :‬ىل تزوجٍت أختك؟" أجابو على الفور‪" :‬بالتأكيد؛ فأنتما متشاهباف تقريبًا"‪.‬‬
‫نوعا من الزيف‬
‫حتما تعرؼ أمو‪ ،‬واعترب ذلك ً‬ ‫مربرا لوجوـ بعض الوجوه اليت ال يعرفها‪ ،‬واليت َف تكن ً‬‫َف هبد ً‬
‫االجتماعي الذي يطغى على اؼبناسبات من ىذا النوع‪ ،‬وفيما كاف البعض يتهامسوف‪ ،‬وبعض الفتياف يوزعوف كؤوس‬
‫دافعا أمامو كرة‬
‫الشاي اؼبنعنع على اؼبعزين دوف توقف‪ ،‬اهنمك يف متابعة جعراف وقح يسَت‪ ،‬ببل مباالة‪ ،‬دبحاذاة اعبدار‪ً ،‬‬
‫من الروث‪ ،‬دوف أف ترىبو ىيبة اللحظة اغبزائنية اؼبخيمة على اؼبكاف‪.‬‬
‫أعجبتو استقبللية ىذا اعبعراف‪ ،‬وانصرافو إُف أمور أىم بكثَت من اغبزف على اؼبوتى‪ ،‬وردبا شعر بشيء من اغبسد‬
‫ذباىو‪ .‬كل ما أراده ىو أف تنتهي مراسم العزاء ليذىب إُف أكيج دينق‪ ،‬ووبتسي طبرىا اعبيدة‪ ،‬ويضاجعها إف وجد إُف‬
‫سبيبل‪ ،‬ويعود‪.‬‬
‫ذلك ً‬
‫انتبو‪ ،‬كما انتبو اعبميع‪ ،‬على صوت بوؽ حافلة قديبة من طراز ىايس ربمل أطنانًا من البشر‪ ،‬توقفت يف‬
‫أبدا‪ ،‬ولن تتوقف العيكورة‬‫الباحة اؼبقابلة للمنزؿ؛ فأشعره ذلك دبزيد من اإلرىاؽ والتعاسة‪ ،‬وظن أف يومو اؼبمل لن ينتهي ً‬
‫ورجاال‪ ،‬ومضت النساء‪ ،‬على الفور‪ ،‬إُف القسم اآلخر من اؼبنزؿ‬ ‫عن مفاجأتو طاؼبا ىذا العزاء قائم‪ .‬ترجل الراكبوف نساءً ً‬
‫اؼبخصص للنساء‪ ،‬وىن يطلقن عويلهن اؼبيلودرامي اؼبزعج‪ ،‬بينما تقدـ الرجاؿ‪ ،‬وىم يهندموف ثياهبم‪ ،‬ويصلحوف‬
‫عماماهتم ويسرعوف اػبطى‪ ،‬ليتوقفوا أماـ الصالة مباشرة‪ ،‬وزعقوا بصوت كبلسيكي موحد‪" :‬الفاربة"‪.‬‬

‫***‬

‫نظر إُف َمن حولو‪ ،‬وتفرس يف الوجوه اليت كانت بعضها حزينة‪ ،‬وبعضها اآلخر ذات مبلمح حيادية‪ ،‬بينما‬
‫رجبل مطأطأ الرأس‬
‫جلس أشخاص غَت مألويف السحنات يف ركن قصي يتبادلوف أحاديث ضاحكة بطريقة خافتة‪ ،‬ووجد ً‬
‫قليبل خلف عمامتو‪،‬‬‫ـبفيًا وجهو بطرؼ عمامتو‪ ،‬فاقتبس منو الفكرة؛ حيث وجدىا ذكية للغاية‪ .‬كاف بإمكانو أف يغفو ً‬
‫بعيدا عن أعُت اؼبتطفلُت الذين هتمهم متابعة حالتو‬
‫بينما يعتقد اآلخروف أنو يبارس حزنو على أمو يف خصوصية‪ً ،‬‬
‫قليبل حىت أحس بدغدغة ناعمة‬‫النفسية‪ ،‬إما ليستلهموا منها ما يبقيهم حزاىن أو جملرد الفضوؿ‪ .‬ما كاد يغمض عينيو ً‬
‫طفبل يهمس يف أذنو‪" :‬ىنالك سيدة باػبارج تريد أف تعزيك‪".‬‬
‫على كتفو‪ ،‬فرفع رأسو يف استياء ليجد ً‬
‫استأذف يف لباقة مصطنعة من حامد ودالنعيم‪ ،‬وَف يفهم ؼباذا فعل ذلك‪ ،‬ولكنو وجد أنو من اعبيد أف يستأذف‬
‫متثاقبل‪ ،‬وىو يستشعر الضجر من كل ما هبري‬
‫منو‪ ،‬كتعبَت عن امتنانو ؼببلزمتو اللصيقة لو منذ وصولو من العاصمة‪ .‬قاـ ً‬

‫‪10‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫من حولو‪ ،‬وعند الباب الفاصل بُت صالة عزاء الرجاؿ‪ ،‬وصالة عزاء النساء‪ ،‬كانت عديلة عبد الرضبن بابو تقف متوشحة‬
‫عباءهتا القاسبة‪ ،‬وىي تنوح بنربات متقطعة ومنتظمة‪ ،‬وما إف رأتو حىت توقفت عن البكاء‪ ،‬ورفعت كفيها خبشوع ونبّة‪،‬‬
‫وىي تقوؿ‪" :‬الفاربة"‪.‬‬
‫أدرؾ على الفور أهنا َف ذبتهد يف قراءة الفاربة كاملة؛ فالوقت الذي استغرقتو َف يكن يكفي لقراءة آيتُت‬
‫متتاليتُت‪ ،‬ولكنو شعر باالرتياح لذلك‪ ،‬ألهنا أزاحت عنو عبء التكرار الذي بدأ يبلو ويزىد فيو‪ .‬وحبركة درامية ألقت‬
‫تبعا‬
‫عديلة بابو جبسدىا اؼبمتلئ عليو‪ ،‬وراحت تبكي يف ىستَتيا أؽببت ضباسة النساء األخريات اللوايت رحن يبكُت ً‬
‫لذلك‪.‬‬
‫َف هبد ًبدا من أف يربت على كتفيها يف ؿباولة ؼبواساهتا‪ ،‬وشغلو عن ذلك‪ ،‬الح ًقا‪ ،‬مرور وقية عبد الباسط من‬
‫أمامو‪ ،‬وَف يبد عليها أي تغَت طارئ‪ .‬كانت مثلما تركها قبل تسعة أعواـ‪ :‬بطوؽبا الفارع اؼبشدود‪ ،‬وأردافها وثدييها‬
‫اؼبغريُت‪ ،‬ونظراهتا اؼبثَتة ذات اؼبغزى اعبنسي‪ ،‬وراح يتذكر اللياِف اغبمراء اليت قضاىا معها بُت حقوؿ القصب‪ ،‬ورأيو‬
‫اؼبتطرؼ أف الظبها اؼبتخلف القدًن عبلقة مباشرة بعدـ حصوؿ اؼبتعة اعبنسية الكاملة معها‪.‬‬
‫ساعدتو تلك الذكرى اؼبمتعة على زبطي اللحظات العسَتة اليت كاف من اؼبفًتض أف يقضيها يف مواساة عمتو‬
‫الباكية على صدره‪ ،‬وأدىشو التفاين الذي تظهره النساء يف البكاء‪ .‬ىو يعلم أف عمتو وأمو َف تكونا على وفاؽ دائم‪ ،‬بل‬
‫وترا للدعاء‬
‫يكاد يتذكر عدد اؼبرات اليت دعت كل واحدة منهما على األخرى باؼبوت والثبور‪ ،‬حىت أف أمو خصصت ً‬
‫بعيدا عن بيتها وعن ناظريها‪.‬‬‫عليها بأف سبوت حرقًا‪ ،‬وتركت هلل حرية أف ىبتار الكيفية واؼبكاف الذي هبب أف ربًتؽ فيو‪ً ،‬‬
‫يف غبظة ما‪ ،‬أحس أف بقاء عمتو على صدره قد استغرؽ وقتًا أكثر فبا هبب‪ ،‬فدفعها عنو برفق وىو يقوؿ‪" :‬ما‬
‫استغبلال لوجوده بينهن‪ ،‬فبا جعلو يشتط غضبًا‪ ،‬فزجرىن دفعة واحدة‪:‬‬ ‫ً‬ ‫حدث؛ حدث وانتهى!" وتدافعت النسوة لتعزيتو‬
‫حاال"‪ .‬حاوؿ تدارؾ األمر عندما وجد بكتَتيا‬ ‫"كفاكن بكاءً! ماتت أمي وانتهى األمر‪ ،‬وقد أغبق هبا إف َف ىبرج الغداء ً‬
‫الدىشة تتكاثر يف أعُت النساء اللوايت توقفن فجأة عن البكاء والعويل‪ " :‬أعٍت؛ يتوجب علينا أف ننظر إُف اعبانب اعبيد‬
‫أخَتا‪ ،‬ومن تعاسة ىذه الدنيا‪".‬‬
‫من األمر‪ ،‬فقد ارتاحت من مرضها ً‬

‫***‬

‫أرضا‪ ،‬وبدأ اعبميع‬


‫ثبلثة عجوؿ ذحبت على الغداء ذلك اليوـ‪ ،‬تكفل هبن حامد ودالنعيم‪ .‬نصبت اؼبوائد ً‬
‫يأكلوف يف صمت مطبق؛ فلم يُسمع منهم إال صوت اصطكاؾ األطباؽ‪ ،‬وصرير األسناف‪ ،‬وحركة اؼبضغ داخل األفواه‬
‫اؼبمتلئة‪ .‬كانت تلك من اللحظات النادرة اليت شعر فيها بالسعادة اؼبطلقة؛ فمنذ وصولو إُف القرية َف ينعم هبدوء كهذا‬

‫‪11‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫طعاما منذ ؾبيئو؛ فيما امتؤلت معدتو بالشاي اؼبنعنع الذي َف يتوقف فتياف القرية‬‫الذي ينعم بو اآلف‪ ،‬كما أنو َف يتناوؿ ً‬
‫عن توزيعو على اؼبعزين خبلؿ ساعات العزاء الطويلة اؼبملة‪.‬‬
‫أيضا‬
‫الحظ حرص ودالنعيم على اعبلوس إُف جواره على مائدة الغداء‪ ،‬وَف يستطع أف يبنعو من ذلك‪ ،‬والحظ ً‬
‫أنو كاف يقتطع أجزاء من ضلع العجل اؼبطبوخ ووركو‪ ،‬ويضعها أمامو يف نكراف ذات َف يتوقعو منو على اإلطبلؽ‪ ،‬ولكن‬
‫أكثر اؼببلحظات اليت توقف عندىا كانت اغبماسة الشرىة اليت يأكل هبا اعبميع‪ ،‬واليت َف تكن منسجمة مع مناسبة‬
‫أحدا‪.‬‬
‫حزينة كهذه‪ ،‬ولكنو أضمر ذلك وَف يطلع عليو ً‬
‫من يتأمل ودالنعيم وىو يتناوؿ طعامو‪ ،‬يعرؼ سر بدانتو اؼبفرطة‪ ،‬فهو بالكاد يبضغ الطعاـ‪ ،‬ليستقر يف معدتو‬
‫كما اقتطعو بيديو‪ .‬يشعر اؼبرء أنو ال يبلك أسنانًا داخل فمو؛ بل مطحنة! فقطعة اللحم اليت هبتهد اآلخروف يف سبزيقها‪،‬‬
‫يبتلعها ىو كما يبتلع أحدنا قطعة اعبيبلتُت أو اغببلوة الطحينية‪.‬‬
‫ودالنعيم يعترب األكل مهمة مقدسة هبب أف تؤدى بكثَت من االىتماـ‪ ،‬وىو أحد اؼبؤمنُت بأف اإلنساف يعيش‬
‫ليأكل؛ لذا فإنو ينهمك يف األكل إُف حد االنفصاؿ عن الواقع؛ فبل يعود يشعر بوجود أحد حولو‪ .‬تلك أشبو حباالت‬
‫قادرا‬
‫اسعا‪ ،‬وفوضى تشعرؾ بالرثاء‪ .‬عندما يكتشف أنو َف يعد ً‬ ‫دمارا و ً‬
‫التسامي اليت تعًتي اؼبتصوفة‪ ،‬بيد أنو ُىبلف وراءه ً‬
‫قليبل من اؼباء‪ ،‬وقتها فقط يرمق من حولو بنظرات سريعة غَت آهبة‪ ،‬مث يعود ؼبواصلة‬‫على البلع؛ يتوقف برىة لَتتشف ً‬
‫طعامو بذات النهم‪.‬‬
‫بعد الغداء‪ ،‬تعاظمت حاجتو إُف التدخُت واالسًتخاء‪ .‬مد يديو ألحد الفتياف الذين تولوا غسل أيادي اؼبعزين‪،‬‬
‫كثَتا من أحواؿ القرية‪ ،‬فمات أقواـ‬ ‫وَف هبتهد يف أف ينظر إليو ؼبعرفتو؛ فهو ال يعرفو بالتأكيد‪ .‬لقد غَتت السنوات التسع ً‬
‫مهتما بالبحث يف ىذا الشأف على أية حاؿ‪ .‬كانت عادة الرجاؿ أف ينظروا يف أعُت الصبياف‪،‬‬ ‫وولد آخروف‪ ،‬وَف يكن ً‬
‫وىم يغسلوف أيديهم‪ ،‬ويسألوهنم ليعرفوا أبناء من ىم‪ ،‬ويف أي مرحلة مدرسية يدرسوف‪ ،‬وال يعرؼ أحد فائدة لذلك‪،‬‬
‫جيدا مث توجو مباشرة إُف إحدى الغرؼ الكثَتة يف منزؿ العائلة الكبَت اليت‬
‫ولكن ىذا ما جرت عليو العادة‪ .‬غسل يديو ً‬
‫يعلم أهنا لن تكوف مأىولة بالزوار‪ ،‬فعل ذلك خفية عن ودالنعيم الذي كاف يراقبو كظلو؛ أو كهذا خيّل إليو‪.‬‬
‫أغلق الباب وراءه‪ ،‬وتأكد من ذلك‪ ،‬قبل أف يرخي ستار النافذة اػبفيف‪ ،‬حجبًا ألشعة الشمس اليت كانت‬
‫على وشك الزواؿ‪ .‬أشعل سيجارة برقبي دخنها بشراىة‪ ،‬مث سبطى يف سعادة‪" .‬أصبل غبظاتنا على اإلطبلؽ ىي عندما‬
‫مستشعرا نشوة‬
‫ً‬ ‫سباما‪ .‬تلك واحدة من أىم اللحظات اليت نتهاوف يف استغبلؽبا على الوجو الصحيح‪ ".‬قاؽبا‬ ‫نكوف منعزلُت ً‬
‫ىي أقرب إُف نشوة اعبنس‪ ،‬وىو يتمدد على ظهره بعد عناء يوـ طويل وفبل‪ .‬كانت لديو رغبة يف إمضاء دقائق للتأمل‬
‫فيما جرى يف يومو ذلك على كبو سريع‪ ،‬ولكنو ناـ مباشرة دوف أف يفعل‪.‬‬
‫استيقظ فجأة‪ ،‬وأحس بأنو ناـ لوقت طويل‪ ،‬نظر من خبلؿ فتحات الستائر اػبفيفة إُف النافذة‪ ،‬فوجدىا‬
‫طويبل" ىكذا ظن؛ قبل أف يعرؼ الح ًقا أنو َف ينم سوى ساعتُت فقط‪ ،‬كانت كافية ألف‬ ‫سباما‪" .‬يبدو أنٍت مبت ً‬
‫مظلمة ً‬

‫‪12‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫تغرب الشمس‪ ،‬ووبل الظبلـ أرجاء القرية اليت َف تدخل الكهرباء أرجاء واسعة منها بعد‪ ،‬وكافية لتجدد فيو النشاط‬
‫كذلك‪ .‬كاف اؽبدوء قد بدأ يفرض سطوتو على اؼبكاف‪ ،‬ولكنو ظبع صوت ودالنعيم من جهة ما‪ ،‬فلم يشأ أف يتقابل بو؛‬
‫فخرج من أحد أبواب اؼبنزؿ اػبلفية‪.‬‬

‫***‬

‫سباما‪ ،‬رغم أنو َف يعد ينعم بليل ىانئ منذ أف استوطن العاصمة‪ ،‬وأمضى‬ ‫ليبل‪ ،‬نكهة خاصة يألفها ً‬‫للريف‪ً ،‬‬
‫فيها تسع سنوات من عمره‪ .‬تذكر ذلك اليوـ الذي أبلغو أحد زمبلئو يف العمل بأف مدير البنك يريده يف أمر عاجل‬
‫وعلى انفراد‪ .‬كاف يسمع منهم أنو رجل نزؽ ومزاجي وحاد الطباع‪ ،‬ولكنو َف يقف على شيء من ذلك؛ فقد كاف يراه‬
‫رجبل عاديًا كغَته‪ ،‬وظن أف اآلخرين ىبلعوف عليو تلك النعوت ليربروا خوفهم أمامو‪ .‬كل ما فعلو ىو أف ابتلع العلكة اليت‬‫ً‬
‫كانت يف فمو‪ ،‬ومضى إليو من فوره‪.‬‬
‫جالسا على مكتبو‬
‫دائما‪ .‬رأى قسم السيد دفع اهلل ً‬‫طرؽ الباب ودخل قبل أف يؤذف لو‪ ،‬وكانت تلك عادتو ً‬
‫سباما‪ ،‬منهم ًكا يف قراءة إحدى التقارير اؼبالية اليت ترده يوميًا من قسم األراضي والتعويضات‪ ،‬اكتفى بإلقاء‬
‫العادي مثلو ً‬
‫نظرة سريعة عليو من ربت نظارتو الطبية السميكة‪ ،‬وأشار إليو باعبلوس؛ فجلس‪.‬‬
‫ظبعو وىو يغمغم بكلمات غَت مفهومة‪ ،‬ولكنو طبّن أنو يتذمر من تلك التقارير اليت باستطاعتها أف تنهي سَتتو‬
‫اؼبهنية‪ ،‬وربيلو إُف التقاعد اؼببكر‪ .‬بعد غبظات رفع قسم السيد رأسو‪ ،‬ونزع نظارتو الطبية‪ ،‬وألقى هبا على اؼبكتب‪ ،‬وعقد‬
‫أصابع كفيو ووضعهما أماـ كرشو‪:‬‬
‫‪ -‬شرؼ الدين عبد الرحيم بابو؛ ملفك اؼبهٍت نظيف ومشرؼ‪ ،‬ويشهد لك زمبلؤؾ باألمانة وااللتزاـ‪ ،‬رغم‬
‫طبعا‪ .‬لقد رأينا أنك الوحيد اؼبستحق للًتقية‪ ،‬وسوؼ تنتقل إُف مكاتب‬ ‫بعض اؼبآخذ واؼببلحظات البسيطة ً‬
‫اإلدارة يف العاصمة؛ فما ىو رأيك؟‬
‫‪ -‬ال بأس!‬
‫‪ -‬ليست لديك اعًتاضات تذكر؛ أليس كذلك؟‬
‫عموما إذا كاف ذلك قر ًارا إداريًا فسوؼ أنفذه‪.‬‬
‫‪ -‬ال أجد فرقًا بُت ىنا وىناؾ‪ً .‬‬
‫اعتبارا من بداية الشهر القادـ‪ ،‬فتجهز منذ‬
‫‪ -‬جيد؛ سوؼ تستلم عملك يف قسم خدمة العمبلء يف اػبرطوـ ً‬
‫اآلف‪ .‬أسبٌت لك التوفيق‪.‬‬

‫‪13‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫وىم باالنصراؼ قبل أف يستوقفو قسم السيد مضي ًفا‪" :‬ال تقلق‪ ،‬سوؼ يزيد راتبك بنسبة ‪ %10‬فاؼبعيشة‬ ‫هنض ّ‬
‫لست قل ًقا‪ ".‬وىز رأسو يف احًتاـ‪ ،‬وانصرؼ على الفور‪.‬‬
‫يف اػبرطوـ أغلى فبا ىي عليو ىنا‪ ".‬ولكنو رد يف اطمئناف‪ُ " :‬‬
‫خصيصا ؽبذه اؼبناسبة‪ ،‬ولكنو َف ير يف ذلك ما‬
‫ً‬ ‫حاولت األسرة أف ربتفل هبذه اؼبناسبة‪ ،‬واشًتوا علبة ماكنتوش‬
‫سباما‪ ،‬فاضطروا إُف االكتفاء بتوزيع حلوى‬
‫يستحق االحتفاؿ‪ ،‬وشرع يف ذبهيز نفسو للسفر‪ ،‬وسافر يف اؼبوعد احملدد ً‬
‫اؼباكنتوش على اعبَتاف واألطفاؿ الذين جاءوا للمساعدة‪ ،‬أو لنقل ما هبري ألمهاهتم يف البيوت‪ .‬مازاؿ يتذكر وصايا أمو‬
‫وىو يستعد لركوب اغبافلة بأف وبذر من شيئُت‪ :‬البنات والعساكر‪.‬‬

‫"إياؾ والسياسة؛ فهي قمار بُت الشيطاف واغبكومة! احذر العساكر‪ ،‬فهؤالء ال تعرؼ قلوهبم الرضبة‪ ،‬فقد رضعوا‬
‫حليب الضباع‪ ،‬وإف اقتادوؾ إُف مكاف ما‪ ،‬فسوؼ لن نتمكن من العثور عليك مرة أخرى‪ .‬تعلّم أف تقوؿ ؽبم‬
‫دائما لتضمن السبلمة‪ .‬واحذر بنات اػبرطوـ‪ ،‬فهن أخوات األباليس‪ ،‬وال شيء يصنعنو سوى إغواء‬‫(نعم) ً‬
‫الشباف‪ ،‬وأنت ساذج وطيب ويسهل خداعك‪ ،‬والوحدة سوؼ ذبعلك تناسق وراءىن‪".‬‬

‫مسرعا قبل أف تتذكر شيئًا آخر‪ .‬ىو يعلم أهنا ستكرر‬


‫طمأهنا بكلمات حادة وحاظبة‪ ،‬واعتلى درج اغبافلة ً‬
‫وصاياىا اليت طاؼبا رددهتا على مسامع والده من قبل‪ ،‬وَف تكف عن ترديدىا لو كذلك حىت حفظها عن ظهر قلب‪ ،‬وَف‬
‫تكن لو رغبة يف ظباعها يف ذلك الوقت اغبرج‪ ،‬واغبافلة على وشك أف تغادر‪ .‬وَف ينس طعم قببلهتا اليت أغدقتها عليو‬
‫قليبل‪ ،‬مث رسم على‬
‫ذلك اليوـ‪ ،‬ورائحتها القريبة من رائحة القونقليز‪" .‬كاف فمها ال يكف عن اغبركة!" قاؽبا وىو يبتسم ً‬
‫وجهو مبلمح أخرى أكثر جدية‪.‬‬

‫‪14‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪15‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬
‫بفراسة اؼبشتاؽ للخمر‪ ،‬واؼبتلهف عليها استطاع أف يستدؿ على بيت أكيج دينق يف ظبلـ العيكورة الدامس‪،‬‬
‫كثَتا‪ .‬نفس البيوت اعبالوصية الفقَتة‪ ،‬وغيطاف الربسيم والباذقباف‬
‫وَف يكن يصعب عليو ذلك‪ ،‬فمبلمح القرية َف تتغَت ً‬
‫البائسة‪ ،‬وحظائر اغبمَت واؼبواشي اؼببنية من الطُت واؼبسقوفة من خشب السدر اؽبش وسعف النخيل اليابس‪ ،‬ونفس‬
‫األرض الًتابية يتمدد عليها خط طويل‪ ،‬متعرج ومنهوؾ‪ ،‬ىو طريق مرور العربات الوحيد يف القرية‪.‬‬
‫بضا‬
‫كانت حانة أكيج اؼبتواضعة تقبع يف ىدوء على ضفة النيل األزرؽ‪ ،‬أماـ ساحة بائسة كانت فيما مضى مر ً‬
‫كمائن لتصنيع الطوب األضبر‪ ،‬ومازالت مداميك الطوب منتشرة يف اؼبكاف كمدائن من اؼبكعبات الصغَتة أو‬ ‫للخيوؿ‪ ،‬مث َ‬
‫بقعا من الضوء على اؼبكاف كوجو أفريقي يف طقس وثٍت خاص؛‬ ‫شواىد قبور فرعونية‪ ،‬وضوء البدر شبو اؼبكتمل يًتؾ ً‬
‫لتمنحو بذلك سريالية إضافية‪ ،‬استفاد منها يف زبليق حالة من الشجن اؼبتفرد‪.‬‬
‫استشعر مثالية اللحظة من رائحة اػبمر اليت سبكنت من اخًتاؽ أنفو واالستقرار يف دماغو‪ ،‬وأعادتو‪ ،‬برفق‪ ،‬إُف‬
‫ذكريات أوشك على نسياهنا؛ فراحت سبر يف ـبيلتو الواحدة تلو األخرى‪" .‬زمالة اػبمر ال تنسى بسهولة!" ىذا ما ردده‬
‫أخَتا‪.‬‬
‫الكثَتوف‪ ،‬وما تذكره وىو يلج اغبانة ً‬
‫يف أزمنة غابرة كاف شرؼ الدين أحد مرتادي حانة أكيج اؼبواظبُت على اغبضور كل ليلة‪ ،‬وكاف ال ينسى أف‬
‫هبلب معو يف كل مرة ىدية يعرب هبا عن امتنانو العظيم بصناعتها اؼبتقنة‪ :‬ثياب‪ ،‬ومبليات‪ ،‬وأواين منزلية مستخدمة‪،‬‬
‫وفانوس زييت‪ ،‬ومبلبس داخلية يسرقها من خزانة أخواتو؛ حىت أنو قدـ ؽبا ذات ليلة ساعة يدوية من اعبلد الطبيعي‪.‬‬
‫شهد معها مواظبها اػباصة‪ ،‬عندما كانت ربتفل بأعياد اؼبيبلد اجمليدة‪ ،‬ومعها تعرؼ‪ ،‬ألوؿ مرة‪ ،‬أسرار رقصة‬
‫األرداؼ السحرية‪ ،‬وعندما قدمت أختها رابيكا من جوبا‪ ،‬كاف قد شارؾ يف احتفاؽبم األسري اؼبصغر‪ ،‬وحىت عندما‬
‫حاضرا‪ ،‬واقًتح تسميتو (قاسم)؛ ففعلوا رغم كونو اظبًا عربيًا‪ .‬عايش‬
‫ً‬ ‫وضعت رابيكا مولودىا األوؿ‪ ،‬من زوج َف يره‪ ،‬كاف‬
‫معها كل غبظاهتا اغبزينة والسعيدة؛ فتجاوز بذلك‪ ،‬عندىا‪ ،‬كونو زبونًا اعتياديًا؛ فكانت زبصو بالنخب األوؿ من اػبمر‬
‫اليت تصنعو‪.‬‬
‫يذكر تلك الليلة اليت أفرط فيها يف الشراب‪ ،‬وسقط يف إحدى حفر الكمائن‪ ،‬وَف يتمكن من العودة‪ ،‬كيف أهنا‬
‫اشا للنوـ‪ ،‬وأحاطتو برعاية كاملة‪ .‬أمضى‬ ‫ضبلتو‪ ،‬دبساعدة بعض أنصاؼ السكارى الذين تواجدوا ليلتها‪ ،‬وىيأت لو فر ً‬
‫معها أربع لياؿ متتالية‪َ ،‬ف وبتج فيهن للخروج‪ ،‬وَف يتذكر مسئولياتو اؼبرتبطة بعاؼبو اػبارجي‪ ،‬كما َف يشعر بأنو غريب عن‬
‫اؼبنزؿ‪ ،‬وتزامن ذلك مع عدد من اؼبناسبات األسرية اػباصة هبا‪ .‬ابتسم وىو يتذكر استقباؿ أسرتو لو‪ ،‬بعد اختفائو‬
‫الغامض‪ ،‬كاستقباؿ العائد من اغبرب‪ ،‬واكتشافو أنو ّفوت احتفاؿ العائلة خبتاف أحد أبناء أختو الكربى‪ ،‬وال يتذكر ختاف‬
‫َمن ِمن أبنائها كاف‪.‬‬
‫فورا إُف ركن قصي‪ ،‬وهبلس يف ىدوء‬ ‫على عكس ما توقع‪ ،‬فقد استقبلتو أكيج بربود واعتيادية جعلتو يلجأ ً‬
‫منهارا انتصب ببعض الطوب األضبر‬ ‫كثَتا‪ ،‬واعبدار الغريب الذي كاف ً‬
‫منتظرا أف ربضر لو كأس اػبمر‪ .‬تغَتت خانة اػبمر ً‬
‫ً‬

‫‪16‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫اؼبتكسر‪ ،‬وشبة راكوبة جديدة‪ ،‬شيدت من أعواد اػبيزراف‪ ،‬مغطاة بقطعة من اػبيش مثبتة حبجارة عمبلقة‪ ،‬وغرفة جديدة‬
‫عددا‬
‫مبنية من اللنب وروث البهائم والقش اليابس‪ ،‬يتدُف من داخلها قماش رث ُجعل كباب ؽبا‪ ،‬وسكاف اؼبنزؿ ازدادوا ً‬
‫وحركة‪.‬‬
‫الحظ وجود كلب غريب األطوار يرقد يف ىدوء تاـ‪ ،‬ظنو ميتًا للوىلة األوُف‪ ،‬لوال حركة ذيلو اؼبتوترة‪ .‬يرفع رأسو‬
‫يف المباالة واضحة عندما يستشعر حركة قريبة منو‪ ،‬مث يعود ليدفن رأسو بُت ساقيو من جديد‪ .‬مبلؿبو بائسة؛ بل ومعربة‬
‫جسدا وال عورة‪ ،‬وأنفو الرطب وبوـ‬ ‫بصدؽ عن البؤس والبلرغبة يف أي شيء‪ .‬شعره اػبفيف كالثوب الرث الذي ال يسًت ً‬
‫حولو رىط من الذباب؛ فبل يهشو عنو وال يتذمر‪ ،‬وكأف األمر ال يعنيو يف شيء‪.‬‬
‫يف اعبهة األخرى من اغبانة‪ ،‬كاف رجبلف ضخما اعبثة يضحكاف بصوت عاؿ‪ ،‬ونبا يتبادالف األحاديث‬
‫اؼباجنة‪ .‬كاف صوهتما كصوت رعد ُمأنسن‪ ،‬فتوقع أف تطردنبا أكيج من أجل ذلك‪ ،‬ولكنها َف تفعل‪ .‬يف اغبقيقة َف يكن‬
‫يف كبلمهما ما يُضحك على اإلطبلؽ‪ ،‬ولكنو راح يراقبهما بنصف اىتماـ‪ ،‬ريثما تأيت لو أكيج باػبمر‪ ،‬وابتسم معل ًقا‬
‫على تصرفاهتما اػبرقاء‪" :‬ىكذا يكوف األمر عندما يسكر اعبهبلء واألغبياء!" كانت لو فلسفتو اػباصة يف الشراب‪،‬‬
‫فكاف ال يرى لؤلغبياء واعبهبلء حاجة ؼبعاقرة اػبمر؛ إذ ال يرىقوف عقوؽبم يف أمر‪ ،‬لتستحق عليو اؼبكافأة بالغياب‬
‫فعبل‪.‬‬
‫اعبزئي‪ ،‬فعقوؽبم‪ ،‬بالنسبة إليو‪ ،‬غائبة ً‬
‫جلس يف تأدب حىت قدمت أكيج‪ ،‬وىي ربمل كأس اػبمر‪ ،‬ونبست بصوهتا اغباد‪ ،‬ولكنتها العربية الركيكة‪:‬‬
‫تتهور كما ىي عادتك‪ ".‬عندىا فطن ؼبعاملتها الفظة‪ ،‬وعاد يبتسم من جديد‬ ‫"زوجي ذلك اعبالس أمامك‪ ،‬فبل ّ‬
‫ويستشعر دؼء اؼبكاف وضبيميتو‪ ،‬وَف يسأؽبا عن زواجها‪ ،‬وكأنو توقع ذلك‪ ،‬أو ردبا َف يكًتث لو‪ .‬مازالت طبرىا جيدة‬
‫كما كانت قبل تسعة أعواـ‪ ،‬فتنهد يف سعادة وىو يتناوؿ كأسو الثانية‪" :‬ىذه ستكوف لروح أمي وىي يف صراعها مع‬
‫اؼبوت والصمت‪".‬‬
‫جيدا‪ ،‬صوت كفحيح األفاعي أو حشرجة ؿبتضر؛ فعرفو على الفور‪ .‬رجل يدعى النيل ِرْزقَة؛‬ ‫ظبع صوتًا يألفو ً‬
‫رث الثياب‪ ،‬شديد االتساخ إُف اغبد الذي يبدو فيو قديبًا وطاعنًا يف السن‪ .‬زبوف قدًن ؽبذه اغبانة‪ ،‬وردبا كاف جزءًا منها‪،‬‬
‫دائما‪ ،‬ويف أوقات ـبتلفة‪ .‬ورغم منظره اؼبوحي بالبؤس والفقر؛ إال أف حديثو‪ ،‬غالبًا‪ ،‬ما يشي بأصوؿ‬‫فهو هبده ىنا ً‬
‫يتمكن أحد من فهم ما‬‫َ‬ ‫السكر‪ ،‬دوف أف‬
‫كثَتا ما كاف يهذي بلغة فرنسية رصينة عندما يبلغ مبلغو من ُ‬ ‫أرستقراطية‪ ،‬و ً‬
‫يقولو‪ .‬شبة عبلقة غريبة بينو وبُت أكيج‪ ،‬فرغم أهنما دائمي الشجار؛ إال أهنا َف تكن تطالبو بنقود نظَت ما يشربو من طبر‪.‬‬
‫وكعادتو القديبة فإنو بدأ بذكر أشياء َف ربدث‪ ،‬ويتلفظ بكلمات ماجنة‪:‬‬

‫رجبل لو عضو ذكري أكرب فبا أملك؟ طبلقنا يف العاـ ‪َ 1991‬ف يكن‬
‫إِف؟ ىل تعرفُت ً‬
‫"أكيج؛ ؼباذا ترفضُت العودة ّ‬
‫ـبمورا‪ ،‬وبإمكاين إثبات ذلك‪ .‬القانوف يسمح ِف بإرغامك على الرجوع‪ ،‬أحفظ‬
‫شرعيًا‪ ،‬واؼبأذوف الذي طلقنا كاف ً‬

‫‪17‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫القانوف عن ظهر قلب‪ .‬القانوف ىو لعبة اػبارجُت على القانوف ‪ .Law est un jeu pour hors la loi‬لقد ذىبت‬
‫إُف لندف غبضور مؤسبر عن اعبفاؼ يف أفريقيا‪ ،‬اؼبرة القادمة سوؼ آخذؾ معي‪ ،‬فهنالك مؤسبر آخر عن األيدز؛‬
‫أطفاال ملونُت‪ ،‬ىل‬
‫كثَتا‪ .‬تزوجيٍت؛ وأنا أضمن لك اؼبتعة اليت تبحثُت عنها‪ ،‬وعلنا ننجب ً‬
‫ىذا يناسبك ويهمك ً‬
‫نسيت ‪"...‬‬

‫فما كاف من زوجها إال أف هنض من مكانو‪ ،‬فاكتشف شرؼ الدين مدى ضخامتو‪ ،‬وتوجو كبوه وضبلو‪ ،‬وكأنو‬
‫يضا‪ ،‬وألقى بو خارج اغبانة‪ ،‬مث عاد وجلس يف مكانو كما كاف‪ .‬ظل صوت النيل رزقة اؼببحوح يأتيو من‬ ‫ىرا مر ً‬
‫وبمل ً‬
‫اػبارج إُف أف اختفى شيئًا فشيئًا‪ ،‬وَف يوقف ما حدث صراخ الرجلُت الذي كاف قد ارتفع أكثر من ذي قبل‪ .‬كاف شرؼ‬
‫يتعجب من مقدرة أكيج دينق على إدارة اغبانة دبن فيها من سكارى‪ ،‬وىي بالتأكيد مهمة شاقة‪ ،‬وليست يسَتة على‬
‫أية حاؿ‪ :‬أف تتمكن امرأة من ترويض رجاؿ غائبُت عن الوعي‪ ،‬وأف تتحمل أمزجتهم اؼبختلفة‪ ،‬وربسن التعامل مع كل‬
‫منها‪ ،‬بطريقة ذبعلها ربافظ على قدر معقوؿ من السبلمة واألمن يف منزؽبا‪ ،‬وحبيث تضمن عودهتم إليها مرة أخرى‪.‬‬
‫َف يبض وقت طويل حىت غادر زوج أكيج الضخم ذو اؼببلمح اعبامدة بعد أف خاطبها بلغة َف يفهمها‪ ،‬ولكنها َف‬
‫تكن ودودة على أية حاؿ؛ عندىا تقدمت منو حبماسة بادية‪ ،‬وجلست إُف جواره وىي هتش عن وجهها دخاف سجائره‬
‫الكثيف كتنُت أسطوري‪ ،‬وتبادال أطراؼ اغبديث‪:‬‬
‫اذبهت إُف التدخُت؛ ما األمر؟‬
‫َ‬ ‫‪ -‬أراؾ‬
‫‪!! -‬‬
‫‪ -‬كاف البد أف أنتظر حىت يغادر جيمس‪ ،‬اعذرين‪.‬‬
‫‪ -‬من جيمس ىذا؟‬
‫‪ -‬زوجي الذي رأيتو‪ .‬دعك من ىذا؛ أين كنت طواؿ ىذه السنوات أيها اجملرـ؟‬
‫‪ -‬لقد استقر يب اؼبقاـ يف اػبرطوـ‪ ،‬وجئت صباح اليوـ فقط‪.‬‬
‫إِف أو إُف طبري!‬
‫اشتقت ّ‬
‫َ‬ ‫‪ -‬ال تقل ِف إنك‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ماتت أمي فجئت للعزاء‪.‬‬
‫‪ -‬خرب سيء؛ ومىت ماتت؟‬
‫‪ -‬ال أدري؛ ولكنها دفنت اليوـ‪ .‬لقد أثقلت صدرىا باؽبموـ ولساهنا بالنميمة‪ .‬انتهى األمر اآلف على أية حاؿ‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ال تعرؼ مىت توفيت أمك؟‬
‫‪ -‬اتصلوا يب صباح اليوـ‪ ،‬وأخربوين بأهنا توفيت‪ ،‬ونسيت أف أسأؽبم مىت كاف ذلك‪ ،‬ولكن البد أهنا توفيت‬
‫باألمس؛ فاألخبار السيئة ال تنتظر!‬

‫‪18‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫راحت ربدثو عن اؼبستجدات على حياهتا الشخصية‪ :‬ؼباذا ومىت تزوجت من جيمس عامل البناء اؼبتشائم على‬
‫الدواـ‪ ،‬وكيف باعت األبقار اليت قدمها كمهر ؽبا‪ ،‬وأنفقت شبنها يف إقامة اعبدار الغريب للمنزؿ‪ ،‬ويف بناء غرفتهما‬
‫اعبديدة‪ ،‬وأخربتو عن موت كلبها الشرس بلدغة من عقرب‪ ،‬واستيائها البالغ من الكلب الكسوؿ الذي ال ينبح إال إف‬
‫وطأ أحدىم على ذيلو اؼبتوتر‪ ،‬وأشارت حبركة من رأسها إُف الرجلُت اللذين كانا ما يزاالف يصرخاف‪:‬‬
‫السكر فقط؛ فمنذ وقت طويل َف‬ ‫طبرا جيدة بالفعل؟ إمبا يتونباف ُ‬
‫‪ -‬ىل تظن أف ىذين الرجلُت قد شربا ً‬
‫كثَتا‪ ،‬وَف يعد دبقدوري أف أشًتي إال ما‬
‫أستطع أف أنتج تلك اػبمر اليت تعرؼ‪ .‬غرارة البلح ارتفع سعرىا ً‬
‫يتبقى منو يف هناية اؼبوسم‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنها مازالت جيدة!‬
‫طبرا مزيدة باؼباء؛ وإال فكيف يبكن أف‬
‫أسقيك إال من النخب األوؿ‪ ،‬أما البقية فإنٍت أسقيهم ً‬
‫َ‬ ‫‪ -‬تعلم أنٍت ال‬
‫أجٍت رحبًا فبا أبيعو إف َف أفعل؟‬

‫ثقيبل عن كاىلها‬
‫استمع إُف حديثها باىتماـ‪ ،‬وأبدى ؽبا بعض األسى دبقدار ما جعلها تصدؽ أهنا أزاحت عبئًا ً‬
‫صبيبل؟"‪ ،‬ىز رأسو مواف ًقا‪،‬‬
‫بالفضفضة إليو‪ ،‬وَف هبد ما ىبتم بو حديثو؛ إال سؤاؽبا عن اسم كلبها اعبديد "بويب؛ أليس اظبًا ً‬
‫أرضا‪ ،‬وأطفأ ما تبقى من السجائر حبذائو‪ ،‬وانصرؼ على الفور‪.‬‬‫ووضع كأس اػبمر ً‬

‫***‬

‫متنح‪ ،‬ذلك الذي دفعو إُف اعًتاض طريق سيدة كانت ربمل صينية‬ ‫ردبا ىي شجاعة السكراف أو جُت جراءة ٍ‬
‫على رأسها‪ ،‬وىي تعرب أحد اؼبيادين اؽبادئة‪ ،‬ترتدي ثوبًا لفتو على جسدىا بطريقة مهملة كانت أشد إغراءًا فبا هبب‪،‬‬
‫سبشي متهادية تراقص أردافها‪ ،‬كأنثى إوز بري يف موسم التزاوج‪ ،‬وكاف أكثر سعادة عندما رمت اؼبصادفة احملضة بوقية‬
‫عبد الباسط أمامو‪ .‬جفلت أوؿ األمر عندما عرفت صوتو‪ ،‬مث جفلت أخرى عندما اشتمت رائحة اػبمر تنبعث من فمو‪.‬‬
‫َف يكًتث لتحذيراهتا اؼبتكررة حوؿ إمكانية أف ترانبا إحدى النساء العائدات أو اؼبتوجهات إُف بيت العزاء؛‬
‫فمد يده يتلمس أردافها اؼبكتنزة‪ ،‬وَف رباوؿ مقاومتو خوؼ أف تسقط األواين من على رأسها‪ ،‬وردبا كانت سعيدة بذلك‪.‬‬
‫أبرما اتفاقًا سر ًيعا بأف تأتيو إُف غرفتو اؼبتطرفة‪ ،‬بعد أف توصل أواين الطعاـ إُف النسوة اؼبنتظرات‪.‬‬
‫تعليما‪ ،‬وَف يلتحقن باؼبدارس على اإلطبلؽ‪.‬‬
‫وقية عبد الباسط واحدة من نساء قرية العيكورة اللوايت َف يتلقُت ً‬
‫والدىا الشيخ عبد الباسط البدري‪ ،‬إماـ اعبامع اليتيم‪ ،‬ومأذوف األنكحة الشرعي يف القرية الذي رفض تعليم الفتيات‪،‬‬

‫‪19‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫ورآه من أعظم مفاسد االستعمار اليت جلبها معو ليفسد جبلّة أىاِف السوداف اؼبتدينُت بفطرهتم‪ .‬حرص على زبصيص‬
‫جزء كبَت من خطب اعبمعة لتبياف ىذا األمر‪ ،‬والتحذير من ـباطره احملدقة باألمة‪ ،‬ولكنها كانت صبيلة ومثَتة؛ وكأف‬
‫أسَتا ؽبا حىت وفاتو‪.‬‬
‫الطبيعة أرادت أف تعاقبو على ـباوفو‪ ،‬وذبعلو ً‬
‫عرفت وقية بأمر إغرائها‪ ،‬أوؿ األمر‪ ،‬من شرؼ الدين الذي أبدى ؽبا مبلحظتو منذ أف كانت يف سن السادسة‬
‫عشر‪ ،‬وَف يكف عن التغزؿ دبحاسنها كلما رآىا‪ ،‬فأحبت منو ذلك‪ ،‬وكانت كلما رغبت يف اإلحساس بأنوثتها اؼبطموسة‬
‫يف بيت أبيها‪ ،‬تأيت إُف بيت آؿ بابو الكبَت متحججة بشأف اجتماعي ما‪.‬‬
‫يف الغرفة اؼبتطرفة كاف شرؼ الدين هبلس على كرسي من خشب البامبو الفاخر الذي َف يُلق لو أحد من أسرتو‬
‫تأكيدا على استقرار وضعو اؼبادي ىناؾ‪،‬‬
‫باال‪ ،‬ألهنم كانوا يعتربونو إحدى ربف األرستقراطية اػبرطومية اليت يرسلها ً‬ ‫ً‬
‫ازدحاما‪،‬‬
‫ً‬ ‫وتعاملوا معو بوضاعة وسخرية‪ ،‬حىت انتهى بو األمر إُف ىذه الغرفة اليت ال يأتيها أحد‪ ،‬حىت يف اؼبواسم األكثر‬
‫سعيدا بببلىتهم اليت أبدوىا ذباه أشيائو الثمينة اليت كاف‬
‫فقط من أجل إجبللو وإبداء االحًتاـ لو كأخ مغًتب‪ ،‬وكاف ً‬
‫يرسلها من حُت آلخر‪.‬‬
‫حبث يف كل مكاف يف الغرفة عن كتاب يتشاغل بو عن االنتظار اؼبمل؛ فلم هبد غَت كتب قديبة قرأىا عشرات‬
‫اؼبرات من قبل حىت ملها‪ :‬البلمنتمي لكولن ولسوف‪ ،‬ورواية مائة عاـ من العزلة لغارسيا ماركيز‪ ،‬وهتافت التهافت البن‬
‫رشد األندلسي‪ ،‬ومذكرات ؿبكوـ عليو باإلعداـ لڤيكتور ىيچو؛ لذا فإنو انصرؼ إُف ترديد بعض األغنيات الًتاثية اليت‬
‫وببها ووبفظها منذ مراحلو الثانوية‪:‬‬
‫الوجن‬
‫نايرات َ‬
‫تومي متُت ِف هبن؟‬
‫ناموا اػبلوؽ والليل جن‬
‫ُمرساِف جا‪ ،‬وقاؿ ِف‪ :‬جن‬
‫يدرجن‬
‫علي ّ‬ ‫ماشيات ّ‬
‫ميهن ُخفاؼ يتربجن‬
‫صغار بنات ِعجن‬ ‫ريفات ُ‬
‫يلهجن‬
‫زي اعبواىر َ‬
‫َّ‬
‫سرجن‬ ‫ِ‬
‫من غَت مشع ىن ّ‬
‫أخدف معاي ساعتُت َرجن‬
‫وعرجن‬
‫شالن فؤادي ّ‬

‫‪20‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫جيدا كاف الباب اغبديدي يطرؽ برقة مغرية‪ ،‬مث ينفتح على مهل‪ ،‬ليجد أمامو وقية يف كامل‬ ‫يف غبظة َف يوقت ؽبا ً‬
‫جيدا‬
‫صباؽبا األنثوي الذي اشتهاه‪ .‬دخلت يف حذر‪ ،‬وىي ترمي بنظرات خجلة وخائفة إُف اػبارج‪ ،‬مث أغلقت الباب ً‬
‫وراءىا‪ ،‬وقبل أف يقدـ على فعل شيء من تصرفاتو اجملنونة‪ ،‬وقفت قبالتو‪ ،‬وقالت يف غنج‪" :‬أمك توفيت الليلة!" فلم‬
‫ينتبو ؼببلحظتها األخبلقية‪ ،‬وقاؿ‪ ،‬وىو يبرر يديو على جسدىا يف هنم‪" :‬أجل! وأخشى أف مبوت كذلك وكبن َف نفعل‬
‫شيئًا بعد‪ ".‬وحبركة مفاجئة َف يكن يتوقعها أبعدتو عنها‪ ،‬وجلست غَت بعيد‪.‬‬
‫‪ -‬أال ربًتـ ىذه اللحظات؟‬
‫‪ -‬ليس ذنيب أنك تبدين رائعة يف ذات اليوـ الذي دفنت فيو أمي!‬
‫قليبل؟‬
‫‪ -‬أال سبنح نفسك فرصة أف ربزف عليها ولو ً‬
‫أبديت حزين منذ أف وطأت أرض العيكورة‪ ،‬وحىت دفنت يف سبلـ؛ فماذا بعد؟‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬لقد منحتها الفرصة الكافية‪.‬‬
‫‪ -‬إهنا أمك؟‬
‫تنكرت ؽبا؟‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬وىل‬
‫‪َ -‬ف تكن رببها إذف؟‬
‫‪ -‬أحبها؟ ال أحد وبب أمو مثلي؛ ولكنها ماتت اآلف‪.‬‬
‫‪ -‬أفبل تبدي بعض االحًتاـ ؼبوهتا؟‬
‫فعبل‪ ،‬ولكن موهتا ال يستحق ذلك‪ .‬لعلها سعيدة اآلف بأهنا ماتت قبل أف يتهمها‬ ‫‪ -‬ىي تستحق االحًتاـ ً‬
‫أحدىم بقتل عميت عديلة حرقًا‪ .‬ىل رباولُت التهرب مٍت؟‬
‫‪ -‬ال؛ ولكنٍت حزينة من أجل أمك‪.‬‬
‫‪ -‬إذف؛ ىل بإمكانك أف تؤجلي حزنك حىت نفرغ من ىذا؟ مازاؿ يف العمر متسع للحزف‪ ،‬ولكن اللحظات‬
‫اعبميلة تنقضي بسرعة‪.‬‬

‫حبركة فجائية مددىا إُف جواره على السرير شبو عارية‪ ،‬وراح ُيبرر لسانو الرطب على أجزاء من جسدىا اؼبتحفز‪،‬‬
‫اكتشف أف اغبزف يهبو طاقة جنسية شرسة‪،‬‬
‫َ‬ ‫والحظ شوقها اؼبخبئ إُف جنونو ورعونتو‪ ،‬وأغمضت عينيها يف استسبلـ‪.‬‬
‫وَف ينس أف يذكرىا دببلحظتو اؼبعتادة‪" :‬لو َف يكن اظبك وقية!"‬

‫***‬

‫‪21‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫ـبرجا ينهي بو تلك الليلة‪ ،‬عندما فاجأتو بقوؽبا‪" :‬اعبو‬
‫كاف على وشك أف يُلمح إُف حرارة الطقس‪ ،‬ليجد ً‬
‫صبيل ىذه الليلة!" فاكتفى بكلمة واحدة "صحيح!" رقدا فبددين على الفراش‪ ،‬ونبا ينظراف إُف سقف الغرفة الذي َف‬
‫يكن يظهر منو شيء‪ ،‬وربدثا عن أشياء كثَتة‪ .‬شيء واحد تكرر بكثرة يف كبلـ وقية‪ ،‬ذلك الذي أبدت فيو سعادهتا‬
‫تعمد ذباىلو يف كل مرة‪.‬‬
‫الغامرة بعودتو بعد ىذه السنوات‪ ،‬وىو ما ّ‬
‫راحت زبربه أهنا َف تستطع التخلص من إحساسها األنثوي الذي ارتبط بو‪ ،‬وكيف أهنا ظلت ترفض اػبطاب‬
‫الذين تقدموا ؽبا الواحد تلو اآلخر‪ ،‬ووفاة أبيها الذي وفر ؽبا حجة طويلة األمد؛ إذ َف يكن قد أقبب غَت إناث‪،‬‬
‫فتحججت برعاية أمها الضريرة وأخواهتا األربع‪ .‬وحبركة مفاجئة‪ ،‬وضعت رأسها على صدره وسألتو‪:‬‬
‫‪ -‬ؼباذا يبوت الناس؟‬
‫‪ -‬على األرجح؛ ألهنم َف يعد لديهم ما يقولونو أو يفعلونو!‬
‫كنت آشبة؟‬
‫كثَتا‪ ،‬ولكن جزءًا مٍت شعر بالسعادة‪ .‬ترى ىل ُ‬ ‫نت ً‬‫‪ -‬أتدري؛ عندما مات أيب حز ُ‬
‫‪ -‬ال أظن ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬وؼباذا ال تظن ذلك؟‬
‫‪ -‬ألف جزءًا مٍت يشعر بالسعادة ؼبوت أمي كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ح ًقا؟‬
‫‪ -‬أجل! اؼبوت شيء ـبيف لنا‪ ،‬ولكنو شيء مريح لؤلموات‪ ،‬أفبل نسعد لراحتهم؟‬
‫‪ -‬معك حق‪.‬‬

‫فعبل‪ ،‬أـ أهنا َف ترغب يف مواصلة اغبديث حوؿ اؼبوت‪ ،‬وَف‬


‫َف يعرؼ ما إذا قالت ذلك ألهنا أدركت حقيقة األمر ً‬
‫كثَتا للتأكد من ذلك‪ .‬اكتشف‪ ،‬وقتها‪ ،‬أنو ال وببذ فبارسة اعبنس يف األجواء اغبارة‪ ،‬فقط أغمض عينيو مكتفيًا‬
‫هبتهد ً‬
‫بالنشوة اليت اعًتتو عندما بدأت تدغدغ شعر صدره اؼببتل بالعرؽ‪ .‬كانت رائحة القونقليز تساور أنفو بُت اغبُت واآلخر؛‬
‫كثَتا؛ السيما عندما يُصاب باؼبلل‬
‫فيتذكر صراع أمو احملتدـ مع اؼبوت‪ ،‬ويشعر بالشفقة ذباىها‪ .‬عرؼ أنو سوؼ يفتقدىا ً‬
‫كما ىو اآلف‪.‬‬

‫***‬

‫البد أف وقية عبد الباسط غادرت أثناء غفوتو؛ فلم يشعر برحيلها‪ .‬وجد نفسو عاري الصدر‪ ،‬وَف يستطع زبمُت‬
‫الوقت بشكل قاطع‪ .‬خرج من الغرفة اليت كانت كقرب متوىج بالعتمة واغبرارة‪ .‬مرت نسمات باردة‪ ،‬عرب فناء ضيق يفصل‬

‫‪22‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫بُت غرفتُت‪ ،‬أثلجت صدره اؼببتل بالعرؽ؛ فأحس بدغدغة خفيفة منحتو الشعور بالراحة واللذة‪ .‬وعلى جدار بعيد ؼبح‬
‫سميهم‪ ،‬وال يفرؽ بُت قبائل‬ ‫مبكرا‪ ،‬وأف سكاف اؼبنزؿ مازالوا أحياءً؛ ىكذا كاف يُ ّ‬
‫ظل سيدة يبر؛ فعرؼ أف الوقت مازاؿ ً‬
‫صبيعا يف خانة واحدة‪ ،‬ولو حكمتو اػباصة من ذلك‪.‬‬ ‫النياـ واؼبوتى؛ يصنفهم ً‬
‫مستقيما؛‬
‫ً‬ ‫كانت طبر أكيج اعبنوبية ما تزاؿ تعمل يف عقلو‪ ،‬عرؼ ذلك من الصعوبة اليت واجهتو يف اؼبشي‬
‫فابتسم وىو يُكرر‪" :‬ال يقتل الوىم إال مزيد من الوىم!" عشرات الكرات اؼبطاطية اجملنونة تتقافز بُت جدراف دماغو‪،‬‬
‫فبتعا افتقده منذ سنوات‪ .‬رسم صورة متخيلة ألكيج على اعبدار‪ ،‬وراح يقبلها يف امتناف‪ ،‬مث اختتم قببلتو‬‫ُؿبدثة شغبًا ً‬
‫قائبل‪ " :‬ليس باستطاعة أحدىم أف يبنحٍت السعادة اػبالصة كما تفعلُت‪ ".‬وقرر على الفور أف يشًتي ؽبا جوالُت من‬ ‫ً‬
‫البلح اعبيد صباح الغد‪ ،‬قبل أف يتذكر أف موسم البلح قد انقضى منذ شهرين‪.‬‬
‫مستوحشا‪ ،‬وىو ما تأكد لو منذ وصولو إُف القرية‪ .‬شعر‬‫ً‬ ‫عزلتو طواؿ السنوات التسع اؼباضية جعلت منو كائنًا‬
‫أنو داخل بئر من الصفيح؛ إذ َف يكن يف مقدوره احتماؿ أكثر من صوتُت بشريُت يف وقت واحد‪ ،‬كما أنو َف هبد نفسو‬
‫نوعا ما‪ ،‬ففي إحدى اؼبرات اليت صاح فيها صباعة من‬ ‫منسجما مع حركة اعبماعة؛ فكانت ردود أفعالو تأيت متأخرة ً‬
‫ً‬
‫اؼبعزين اعبدد‪" :‬الفاربة!" تطلب األمر أف ينبهو ودالنعيم إُف ضرورة أف ينهض ويتقبل العزاء منهم‪ .‬أهنى حواره ومغازالتو‬
‫اعبدارية‪ ،‬وتوجو كبو مصدر األصوات البشرية اآلتية من وراء أحد اعبدراف‪.‬‬
‫ذبلس فتحية وزوجها حامد ودالنعيم وأبناؤنبا يف جهة واحدة من الصالة العائلية‪ ،‬بينما جلست كل من أختيو‪:‬‬
‫نعمات وعواطف يف اعبانب اؼبقابل‪ .‬توقفوا عما كانوا يتحدثوف عنو عندما وقعت أعينهم عليو‪ ،‬ويف غبظة واحدة تقريبًا‬
‫كنت طواؿ الوقت؟"‬
‫طرحوا عليو السؤاؿ ذاتو‪" :‬أين َ‬
‫بدا األمر أشبو جبحيم كوراِف فتح أمامو؛ إذ َف يكن قد ىيأ نفسو لئلجابة عن ىذا السؤاؿ‪ ،‬فرمق اعبميع بنظرة‬
‫قليبل يف غرفة الكراكيب!"‪ ،‬فهزت عواطف رأسها وكتفيها‪" :‬أَف‬ ‫أخَتا يف عيٍت أختو فتحية‪" :‬مبت ً‬
‫خاطفة‪ ،‬حىت استقرت ً‬
‫أقل لكم البد أنو ىناؾ؟"‬
‫الحظ أف وجوىهم ال تزؿ واقعة ربت تأثَت اغبزف‪ ،‬وقد اضبرت أعُت البعض من البكاء؛ فمسح شعره بإنباؿ‪،‬‬
‫صبيعا؟" ظنوا أنو يسعى إُف التحقق من خلو الدار منهم؛‬ ‫وجلس على أقرب كرسي وىو يقوؿ‪" :‬ىل غادر اؼبعزوف ً‬
‫فأسرعت نعمات باإلجابة‪" :‬بعضهم يناـ يف الداخل؛ إياؾ أف تتفوه بكلمة خرقاء"‪.‬‬
‫يف تلك األثناء كاف أحد أبناء أختو يتبوؿ على جدار قريب‪ ،‬فضحك ضحكة عالية أهناىا بسرعة عندما أخذوا‬
‫يرمقونو بنظرات ُمعاتبة أو غاضبة؛ وكأنو تفوه هبرطقة‪َ .‬ف يعلم ما إذا كاف وجومهم ذلك بسبب ُحرمة اغبداد أـ بسبب‬
‫عفوا‪ ،‬رأيت األمر مضح ًكا" غَت أهنم َف يروه كذلك‪ ،‬فقط قامت نعمات‬ ‫مربرا‪ً " :‬‬
‫وجود ضيوؼ نياـ بالداخل؛ فاعتذر ً‬
‫مسرعة إُف ابنها‪ ،‬وضربتو على أردافو العارية‪ ،‬وأخذت توخبو بشدة على فعلتو‪ ،‬فما كاف منو إال أف رفع عقَتتو بالبكاء‪،‬‬
‫وَف يرمقو أحد بذات النظرات اؼبعاتبة أو الغاضبة؛ فعرؼ أف وجومهم لو كاف بسبب ُحرمة اغبداد‪.‬‬

‫‪23‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫حدد شرؼ الدين موقفو من األطفاؿ منذ وقت طويل‪ ،‬فلم يكن وببهم أو يبلعبهم أو حىت يراىم ـبلوقات‬
‫مبلئكية كما يراىم اعبميع‪ ،‬وواحدة من أسباب فشل عبلقاتو العاطفية كاف حرصو على وضع عدـ اإلقباب شرطًا مبدئيًا‬
‫لتتويج العبلقة بالزواج‪ ،‬وَف تكن غالبية اللوايت عرفهن ليوافقن على شرط كهذا‪ ،‬األمر الذي جعلو ىبلص إُف أف الزواج‬
‫خصما من حياة زوجية سعيدة‪ ،‬فرأى يف الزواج‬ ‫بالنسبة للنساء ليس سوى وسيلة لتحقيق أمومتهن؛ وإف كانت ستأيت ً‬
‫حصورا‪ ،‬ببل امرأة‬
‫ً‬ ‫فاشبل قد يدفع شبنو من حريتو وراحتو‪ ،‬فقرر أف يعيش ما تبقى من عمره‬‫ومشروعا ً‬
‫ً‬ ‫استغبللية أنثوية‪،‬‬
‫تشاركو حياتو اليت أراد ؽبا أف تكوف ىادئة وسعيدة ما أمكن‪.‬‬
‫أسر إليو بشيء كاد‬ ‫يذكر يف مأدبة عقيقة قديبة‪ ،‬أنو أخذ صاحب الوليمة‪ ،‬وتنحى بو جانبًا‪ ،‬بطريقة درامية‪ ،‬و ّ‬
‫أف يكوف سببًا يف خصومة أسرية ال مانع ؽبا؛ إذ نصحو بأال يًتدد يف تشبيو ابنو اؼبولود بأمو إذا ما سألتو زوجتو عن‬
‫دائما يف إثبات شبو أطفاؽبن بآبائهم‪ ،‬ليس لشيء‪ ،‬ولكن ألف ذلك أقرب إُف‬ ‫ذلك‪ ،‬وفسر نصيحتو بأف النساء يرغنب ً‬
‫اهتاما‬
‫رجاال آخرين‪ ،‬بينما قد يعتربف تشبيو األطفاؿ بأمهاهتن ً‬ ‫وتأكيدا على أهنن َف يأتُت ً‬
‫ً‬ ‫وصفهن بالعفة والشرؼ‪،‬‬
‫ضمنيًا باػبيانة الزوجية‪ ،‬حىت وإف كاف ذلك بدواعي الرومانسية اليت ال مكاف ؽبا يف مثل ىذه اؼبواقف اؼبصَتية‪.‬‬
‫يوما أي عاطفة أبوية ذباه أبناء أخواتو‪ ،‬ورغم أف األمر يشعره بشيء من الضيق من وقت آلخر؛‬ ‫َف يستشعر ً‬
‫إال أنو تصاٌف مع ىذا الوضع‪ ،‬ووطن نفسو عليو‪ .‬الشيء الوحيد الذي وجده إهبابيًا كاف انصراؼ أخواتو كلي ًة إُف تربية‬
‫أبنائهن‪ ،‬وانشغاؽبن بذلك عن مطالبتو بالزواج؛ إضافة إُف مناداهتم لو بػ(خالو) ذلك اللقب الذي وجده ؿبببًا‪ ،‬وفيما عدا‬
‫يصا على مبلحظة تركة اعبينات كما يفعل اعبميع‪:‬‬ ‫متحمسا لفكرة تزويج أخواتو‪ ،‬كما أنو َف يكن حر ً‬
‫ً‬ ‫ذلك فإنو َف يكن‬
‫عمتو‪ ،‬ولوف بشرة جدتو ‪ ...‬إٍف‪.‬‬‫لو عيٍت جده‪ ،‬وأنف أمو‪ ،‬ومشية ّ‬

‫***‬

‫صباال بُت بقية أخواهتا‪ ،‬كانت أكثرىن نشاطًا يف‬


‫شبها بأمها‪ ،‬واألقل ً‬
‫نعمات بابو األخت الوسطى األكثر ً‬
‫أبدا‪ ،‬وىي‬
‫الشؤوف اؼبنزلية‪ ،‬ونادرة تلك اللحظات اليت يبكن رصدىا وىي يف حالة اسًتخاء أو سكوف‪ ،‬ال سبل العمل ً‬
‫دائمة التجديد‪ ،‬فتقوـ بتغيَت أمكنة أثاثات اؼبنزؿ بُت الفًتة واألخرى؛ حىت وإف اضطرت يف سبيل ذلك على إرغاـ كل‬
‫من يف البيت على العمل‪.‬‬
‫ربرص على تغيَت اؼببليات والستائر بانتظاـ؛ السيما يف اؼبواسم واؼبناسبات اػباصة‪ ،‬حىت يف أحلك اؼبواقف‬
‫ذبدىا هتتم بأدؽ التفاصيل‪ .‬يصفها شرؼ الدين بأهنا منظمة حد اؼبلل‪ ،‬كما أهنا َف تكن تسمح ألبنائها بأف ىبرجوا إُف‬
‫الضيوؼ غَت متعطرين أو مهندمي الثياب‪ .‬ردبا رأت يف ذلك وسيلة تعرض فيها اعبانب اعبماِف الذي تفتقده يف نفسها‪،‬‬
‫كثَتا‪.‬‬
‫دائما يف أروع صورة‪ ،‬وكاف ذلك يرىقهم ً‬ ‫كانت تتعامل مع أبنائها وكأهنم مباذج مصغرة عنها‪ ،‬فتلزمهم بأف يكونوا ً‬

‫‪24‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫"االنتماء إُف عاَف فيو نعمات يعٍت أال تطمئن إُف شيء مطل ًقا" قاؽبا يف سره‪ ،‬وىو ينظر إليها‪ ،‬ويف عينيو ترتسم‬
‫متندرا‪ " :‬من اعبيد أهنا َف تعش يف عصر الفراعنة؛ إذف أللزمتهم بتغيَت مكاف‬‫دائما ما كاف يردد ً‬
‫عبلمات إشفاؽ قدًن‪ً .‬‬
‫دائما إُف االعتداؿ والتوازف؛ فإف زوجها الشفيع حاج مرضي‬ ‫األىرامات وأبو اؽبوؿ يف كل مناسبة!" وألف الطبيعة سبيل ً‬
‫سباما‪ ،‬وما أكثر ما تندرت عائلة بابو هبذه اؼبفارقة العجيبة‪.‬‬
‫كاف على النقيض منها ً‬
‫أما عواطف‪ ،‬اؼبصابة بتساقط الشعر‪ ،‬فقد ضبلت من اظبها الكثَت؛ إذ كانت عاطفية وحاؼبة‪ .‬ظلت رباوؿ زرع‬
‫بذور الرومانسية يف صدر زوجها عبد اؼبنعم شكراهلل؛ فبل ربصد منو غَت رعونة الطباع‪ ،‬وجبلفة اؼبواقف‪ .‬أشيع يف العائلة‬
‫أف جبلفة عبد اؼبنعم كانت السبب وراء إصابتها باالكتئاب واإلحباط‪ ،‬وأف ذلك تسبب يف تساقط شعرىا بغزارة‪،‬‬
‫أبدا من ؿباوالهتا اؼبستميتة يف سبيل ترويض زوجها؛ فتسعى لبلحتفاؿ بكل مناسبة‪،‬‬ ‫ولكنها ورغم كل ذلك َف تيأس ً‬
‫مهمة كانت أـ غَت مهمة‪ :‬كذكرى زواجهما‪ ،‬وذكرى عودهتما من شهر العسل‪ ،‬وأوؿ مرة ركبا فيها اػبيل سويًا‪ ،‬وأوؿ‬
‫نبتة أزىرت يف اؼبنزؿ بعد زواجهما‪ ،‬وأوؿ ُحلي اشًتاه ؽبا‪ ،‬وأوؿ يوـ تقاببل فيو‪ ،‬وىو يزجرىا جبفاء‪:‬‬
‫معدية بائسة وقذرة ذات ضجيج عاؿ يف ظهَتة قائظة‪ ،‬وروائح العرؽ النتنة‬ ‫أي ذكرى؟ لقد تقابلنا على ظهر ّ‬ ‫" ّ‬
‫تفوح من آباط الناس والبهائم‪ ،‬وال أتذكر ذلك اليوـ إال ويتجدد غلياف الدماء يف نافوخي!"‬

‫عم سكوف َف يكن ىبًتقو إال بقايا بكاء ابن نعمات اليت راحت تبدؿ لو مبلبسو اؼببتلة بأخرى جديدة‪ ،‬وما إف‬ ‫ّ‬
‫صباحا إُف اػبرطوـ؛ فمن منكن سوؼ تتطوع بإيقاظي؟" َف يقع‬ ‫غدا ً‬ ‫انتهت حىت تكلّم شرؼ الدين‪" :‬سوؼ أغادر ً‬
‫كبلمو موقع الرضا والقبوؿ من اعبميع؛ فراحوا يلومونو على قراره اؼبتعجل باؼبغادرة‪:‬‬
‫غدا من رفاعة‬
‫احدا فقط يف عزاء أمك؟ ماذا سيقوؿ الناس عنا؟ وماذا عن الذين سيأتوف ً‬ ‫يوما و ً‬
‫"كيف تقضي ً‬
‫والكاملُت واؽببللية وسوبا لتعزيتك؟ ماذا سنقوؿ ؽبم؟ أال تدعك من جنونك ىذا؟"‬

‫باال‪ ،‬ويتعجب حرصهم البالغ على إرضاء اآلخرين‪" .‬ليس من واجيب أف‬ ‫لطاؼبا أنبل مثل ىذه األمور‪ ،‬وَف يلق ؽبا ً‬
‫أىبهم اإلحساس بأداء الواجب والرضا عن أنفسهم‪ .‬إف كانوا قادمُت من أجل أمي؛ فعليهم أف يتوجهوا إُف قربىا حيث‬
‫ترقد‪ ،‬ويقرؤوا الفاربة على روحها ىناؾ؛ فبل شأف ِف هبم‪ ".‬قذؼ صبلتو يف ىستَتيا غاضبة على وجو اعبميع‪ ،‬وأقفل‬
‫اجعا إُف غرفتو حيث كاف‪.‬‬‫ر ً‬
‫يف طريقو إُف الغرفة؛ َف يتوقف عن كيل السباب واللعنات للساعة اليت قرر فيها اجمليء إُف العيكورة‪ ،‬وازدادت‬
‫حدة غضبو عندما أحس بتبلشي مفعوؿ اػبمر يف رأسو‪ .‬ساءه إصرارىم على جذبو كبو أوىامهم الفارغة‪ ،‬واىتماماهتم‬
‫السخيفة واؼبملة‪ ،‬وؿباصرهتم لو بتصوراهتم البدائية عن الناس واألشياء‪:‬‬

‫‪25‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫كنت‬
‫علي أف أبكي كاألطفاؿ ليعلم اعبميع مقدار حيب ألمي؟ ىل هبب أف يعرؼ اآلخروف ما إذا ُ‬ ‫"ىل يتوجب ّ‬
‫أصبل أـ ال؟ ىل هبب أف أُظهر ذلك ح ًقا؟ ؼباذا يُصروف على ذبسيد اغبزف يف شكل حركات وإيباءات‬ ‫أحبها ً‬
‫عقيمة اعبدوى والفائدة؟ ؼباذا هبب أف تتوقف حياتنا لثبلثة أياـ بالتحديد؟ بل ؼباذا هبب أف تتوقف حياة األحياء‬
‫بأي ميزاف يزف ىؤالء األمور؟"‬
‫ىنا؛ بينما تبدأ حياة األموات ىناؾ؟ ّ‬

‫دخل الغرفة‪ ،‬ومارد ما يتخلق يف صدره غيظًا وحن ًقا‪َ ،‬ف يُدر مفتاح اإلنارة وراءه‪ ،‬وتوغل يف جسد الغرفة اؼبظلمة‬
‫أخَتا أماـ النافذة‬‫كدودة أسكارس عمياء تتخبط يف طريقها داخل أحشاء أحدىم‪ .‬تعثر عشرات اؼبرات قبل أف يقف ً‬
‫اؼبطلة على الشارع‪ ،‬أزاح ستارىا اػبفيف؛ فتسلل ضوء البدر شبو اؼبكتمل إُف وجهو الغاضب‪ ،‬وراحت نسمات اؽبواء‬
‫الباردة اؼبعبأة بالرطوبة تلعب يف مبلؿبو اغبانقة‪ ،‬كأنثى لعوب رباوؿ هتدئتو دوف جدوى‪ ،‬حىت أنفاس الربقبي اليت دخنها‬
‫نفعا يف كظم غيظو‪.‬‬
‫بشراىة متسرعة َف ذبد ً‬
‫القرية تقبع يف ىدوء ـبيف داخل كرش الكوف اؼبظلم‪ ،‬ونباح الكبلب البعيدة تتيو يف ىدوء متثاقل داخل النسق‬
‫باال‪.‬‬
‫الزئبقي للكوف‪ ،‬وظبلؿ أشجار اؽبجليلج الرمادية تتقافز كاألشباح يف كل مكاف‪ ،‬وسبر أماـ ناظريو دوف أف يلقي ؽبا ً‬
‫بعيدا إُف نقطة ما يف ظباء العيكورة اؼبليئة بالنجوـ واػبرافات‪ .‬خطرت يف بالو عشرات الذكريات اليت ال طعم ؽبا‪،‬‬ ‫نظر ً‬
‫وال رائحة‪ .‬بطريقة غَت مربرة مرت بذىنو صورة ألطفاؿ صغار يلعبوف ألعابًا شعبية ضبيمة‪ .‬كانت أصواهتم تأتيو وكأهنا‬
‫سباما‪ ،‬فابتسم هبدوء وىو يراقب ضوء القمر اػبافت اػبجوؿ‪ ،‬وأخذ يُردد بصوت خافت‪" :‬يا قَ ْمَرا ‪ ..‬أقِْليب‬‫خلف النافذة ً‬
‫السْن َس َن اغبَ ْمَرا ‪ُ ..‬ش ْوِيف لِيو َماْ َجا" شعر بأنو يشاركهم اللعب بطريقة زباطرية‪ ،‬وأحس بسعادة غامرة لذلك‪ ،‬مث وبعد‬
‫َّ‬
‫قليبل مث ناـ‪.‬‬
‫دقائق‪ ،‬وقف على أطراؼ أصابعو‪ ،‬ورفع ذراعيو بأقصى ما يستطيع‪ ،‬وكأنو وباوؿ الطَتاف؛ سبطى ً‬

‫‪26‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪27‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬
‫مروع‪ ،‬سيكوف ذلك‪ ،‬إذف‪ ،‬عبلمة ربذير ال يُستهاف هبا‪.‬‬ ‫قد تسقط حصاة صغَتة قبل أف وبدث اهنيار صخري ّ‬
‫البد أف نعطي كل غبظة حقها من التأمل‪ ،‬وأف نعيشها كما لو كانت آخر اللحظات‪ .‬األشياء مستقلة عن بعضها‪،‬‬
‫سباما كخرزات السبحة‪ ،‬حيث تصلح كل خرزة منها أف تكوف نقطة هناية أو نقطة بداية‪ .‬كبن‬ ‫ومًتابطة يف ذات الوقت؛ ً‬
‫فقط بغرورنا مبيل إُف افًتاض بدايات األشياء وهناياهتا اغبتمية‪ .‬ال شيء حتمي على اإلطبلؽ؛ شبة فوضى تتحكم يف كل‬
‫شيء‪ ،‬والنظاـ الذي نتونبو ىو أصل الفوضى وداللتو الصورية‪ .‬األشياء ربمل خبلصاهتا داخلها‪ ،‬كبن الذين كبب أف‬
‫فعبل!‬
‫نراىا ُمعقدة حىت نقنع أنفسنا بأننا ننجح يف حلها؛ ىي ؿبلولة ً‬
‫قبل سنوات َف يكن لشرؼ الدين رغبة يف فعل شيء‪ ،‬وال يتذكر أنو حلم بشيء قط‪ .‬كل ما أراده ىو أف هبد‬
‫أنثى بسيطة‪ ،‬يضع رأسو بُت ثدييها‪ ،‬ووبكي ؽبا عن تفاىاتو ونزواتو واختبلفو عن اآلخرين‪ ،‬وعندما أمكنو فعل الشيء‬
‫أي أنثى‪ .‬اغبقيقة أنو َف ير نفسو ُؿببًا لئلناث بصورة عامة‪ ،‬إال فيما يرتبط برغباتو‬
‫ذاتو مع حسن البلولة فإنو َف يفكر يف ّ‬
‫أبدا حىت مع نفسها‪ ،‬اللحظة‬
‫دائما‪" :‬اؼبرأة ال تصدؽ ً‬
‫الوحشية الطارئة‪ ،‬كاف يراىن ككائنات غريبة وـبادعة‪ ،‬ويقوؿ ً‬
‫الوحيدة اليت تكوف فيها صادقة ىي عندما تغضب؛ عندىا تقوؿ كل اغبقيقة‪ ".‬وَف ير يف فتيات القرية من ربرؾ فيو شيئًا‬
‫آخر غَت شهوتو‪ ،‬كن كلهن بالنسبة إليو كائنات منزلية أليفة‪ ،‬يبكن االستغناء عنها يف أية غبظة‪.‬‬
‫كثَتا؛ السيما يف تلك اللحظات اليت اختصها لنفسو‪ ،‬وَف يعرؼ قيمة‬ ‫كاف شرؼ هبالس حسن البلولة ً‬
‫الصمت‪ ،‬إال عندما خانتو الثرثرة‪ .‬ربدث معو عن نكساتو الكربى‪ ،‬وعن عزلتو اليت كانت تضيق عليو حىت أخذتو إُف‬
‫دائما ما‬
‫أسر إليو عن فساد الذات عندما زبتلط باآلخر‪ ،‬وكيف أف اآلخر ً‬ ‫وبعيدا عن اآلخرين‪ّ .‬‬
‫الداخل‪ :‬قريبًا من نفسو ً‬
‫يكوف اؼبتسبب يف فقداف صفائها الفطري‪.‬‬
‫حتما‬
‫نظر إُف الدنيا بعيٍت ؿبتضر؛ فوجدىا تقبع يف ىدوء يُقلل من قيمتها‪ ،‬وتضيق لتصبح حبجم إنساف! " ً‬
‫ستكوف صادقًا عندما زبلو مع نفسك‪ ،‬ويف حاؿ وجود شخص آخر؛ فعلى األرجح أنت ُؾبامل‪ ،‬ولكن عندما تكوف يف‬
‫صباعة؛ فأنت كاذب ال ؿبالة‪ ".‬قاؽبا وَف ُىبف استياءه من النتيجة النهائية اؼبًتتبة على ذلك‪.‬‬

‫***‬

‫الشعر اؽبجيٍت الناعم‪ ،‬واعبسد األظبر الناحل‪ ،‬من القبلئل‬


‫دوما‪ ،‬و َ‬
‫حسن البلولة‪ ،‬الشاب ذو العينُت اؼبذىولتُت ً‬
‫الذين ذىبوا إُف العاصمة‪ ،‬وعاد بعد سنتُت فقط من التحاقو جبامعة السوداف‪ ،‬وال يعلم أحد من سكاف العيكورة ؼباذا‬
‫عاد‪ ،‬ولكنو َف يعد من العاصمة كما ذىب إليها‪ .‬حياتو بعد عودتو من اػبرطوـ كانت ؿباطة بسرية غامضة‪ ،‬وحيكت‬
‫حولو الشائعات واألكاذيب‪ ،‬وَف يستطع أحد أف هبزـ بشيء فبا يقاؿ‪.‬‬

‫‪28‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫الشائعات كائنات ذاتية التكاثر‪ ،‬يكفي فقط أف زبرج الشائعة من فم ىازؿ؛ حىت تكوف ؽبا حياهتا اػباصة‬
‫نظرا لطبيعتها األسطورية‪.‬‬ ‫سباما؛ بيد أهنا تبدو أكثر ىيلمانًا وسطوة؛ ً‬
‫ونفوذىا البشع‪ .‬للشائعات قداسة كقداسة اغبقيقة ً‬
‫الشائعات‪ ،‬كالصعقة الكهربائية‪ ،‬إذا أصابت أحدىم‪ ،‬فسوؼ تنتقل إُف اآلخر دبجرد مبلمستو‪ ،‬إهنا كأساور الشرطة اليت‬
‫تضيق على اؼبعصم كلما حاوؿ اؼبسجوف فكها أو التخلص منها‪.‬‬
‫استشعر حسن البلولة شيئًا من الفخر أو اؼبسئولية عندما اكتشف خصوصيتو لدى شرؼ الدين‪ ،‬وىو الذي‬
‫سعيدا برفقتو؛ رغم كل شيء‪َ .‬ف يكونا‬ ‫كثَتا ؼبعرفة السبب‪ ،‬ولكنو كاف ً‬ ‫ينبذه اآلخروف‪ ،‬وال وببذوف االختبلط بو‪َ .‬ف يأبو ً‬
‫يلتقياف إال يف كمائن الطوب األضبر أو حقوؿ القصب‪ .‬أحب الدىشة اليت ىبلقها لو يف كل مرة يتحدث فيها عن‬
‫العيكورة وأىلها‪ ،‬وعن اإلنساف واألشياء‪ ،‬وعن اهلل والكوف‪.‬‬
‫كل منهما وجد يف اآلخر شيئًا اكتشف أنو كاف حباجة إليو‪ :‬ىو َف يكن يعرؼ أنو حباجة إُف ظباع الثرثرات‪،‬‬
‫كثَتا ليتساءال عن سر‬ ‫وشرؼ الدين نفسو َف يعرؼ أنو وبتاج إُف أحد يسمعو‪ .‬اكتشفا ذلك دبحض اؼبصادفة‪ ،‬وَف يتوقفا ً‬
‫التقائهما اآلف فقط؛ رغم أهنما من قرية واحدة‪ ،‬ويعرفاف بعضهما منذ زمن طويل‪ .‬ابتسم شرؼ الدين لصديقو البلولة مرة‬
‫وقاؿ‪:‬‬
‫سعيدا حىت تلك اللحظة اليت ذبد فيها فتاة‬
‫"اآلخر ىو كبن يا البلولة! ولكنو اعبانب السيئ منا‪ .‬قد تعيش ً‬
‫تعجبك؛ فتحبها‪ ،‬ومنذ تلك اللحظة‪ ،‬بالتحديد‪ ،‬تبدأ التعاسة يف حياتك‪ .‬ماذا سيحدث لو َف تقابل تلك‬
‫حددت مسار حياتك القادمة بطريقة ما؟ حىت وإف َف تكن تعي ذلك؛ فإهنا تفعل والشك!‬ ‫ْ‬ ‫الفتاة؟ ىل‬
‫جالسا؛ تقرأ يف كتاب ال ُوبرؾ فيك إال دماغك‪ ،‬فيأتيك أحدىم‪ ،‬ويتحدث عن أشياء خرقاء ال ربب‬ ‫تكوف ً‬
‫كنت صادقًا مع نفسك فسوؼ تلطمو أو تصرخ يف وجهو؛ وإال فإنك سوؼ تضطر‬ ‫وال هتتم لسماعها‪ ،‬فإف َ‬
‫وجرؾ إُف عاؼبو‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لرسم ابتسامة ؾباملة‪ ،‬ال معٌت ؽبا سوى أنو قبح يف إخراجك من عاؼبك اػباص‪ّ ،‬‬
‫كثَتا؛ بل وكبتاج إليو يف أوقات كثَتة‪ .‬تنصرؼ‪ ،‬عندىا‪،‬‬
‫تشعر بالضيق وعدـ الرغبة يف الكبلـ‪ ،‬ىذا وبدث لنا ً‬
‫إُف النظر يف ذاتك ويف أشيائك اػباصة‪ ،‬فيمر متطفل ما‪ ،‬ويلقي عليك التحية؛ فتجد نفسك ُؾب ًربا على اػبروج‬
‫من عزلتك لًتد عليو التحية‪.‬‬
‫اػبروج من العاَف اػباص سهل‪ ،‬يكفي فقط إلقاء التحية عبعلو وبدث‪ ،‬ولكن الدخوؿ إليو ليس بالسهولة اليت‬
‫سعيدا ألنو ناؿ حسنة بأقل ؾبهود! لو َف يكن ىنالك‬ ‫تتصور‪ .‬وبينما ذباىد أنت يف إصبلح ما أتلفو‪ ،‬يكوف ىو ً‬ ‫ّ‬
‫وج ُّل ىذه األحداث ال تكوف برغبتنا‪ ،‬وال‬
‫آخر ؼبا ُوجدت اغبركة‪ .‬اآلخروف ىم من هبعلوف األحداث ربدث‪ُ ،‬‬
‫حىت برغبتهم‪".‬‬

‫‪29‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫مؤيدا كبلـ شرؼ الدين‪ ،‬ورسم ابتسامة عنت أنو مقتنع؛ بل ومندىش من بساطة الفكرة‬ ‫ىز البلولة رأسو بشدة‪ً ،‬‬
‫اليت غابت عنو‪ ،‬وَف يكتشفها إال ًتوا‪ .‬ىذا ما كاف يبقيو على تواصل دائم معو؛ رغم أنو غالبًا ما يفاجئو بأفكار غامضة‬
‫وـبيفة‪:‬‬
‫‪ -‬ىل تعرؼ الفرؽ بُت اغبب واعبنس والزواج؟‬
‫‪!! -‬‬
‫‪ -‬ىل تعرؼ الفرؽ بُت اهلل واػبَت والشر؟‬
‫‪!! -‬‬
‫سباما‬
‫‪ -‬اغبقيقة ال يوجد بينهم فرؽ على اإلطبلؽ‪( :‬اغبب) تعبَت لغوي عن عبلقة ما‪ ،‬تربط بُت اعبنس والزواج‪ً ،‬‬
‫تتزوج‪ ،‬وعندما‬
‫كما أف (اهلل) تعبَت لغوي عن عبلقة ما‪ ،‬تربط بُت اػبَت والشر‪ .‬لكي سبارس اعبنس هبب أف ّ‬
‫ؾبرد فكرة جهنمية للربط بُت اغبب واعبنس حىت‬
‫تتزوج سبارس اعبنس مع زوجتك؛ ىذا ىو اغبب! الزواج ّ‬ ‫ّ‬
‫ؾبرما‪ ،‬ألنو ال يبكن أف‬
‫يبدو األمر يف مظهره اإلنساين الرباؽ؛ وؽبذا فإف من يبارس اعبنس دوف زواج يُسمى ً‬
‫سبارس اعبنس دوف حب‪ ،‬وألنو ال يُعقل أف ربب كل من سبارس معها اعبنس‪ ،‬ووراء صراع اػبَت والشر تكمن‬
‫الفكرة اعبهنمية هلل!‬

‫وعرضا‪ ،‬ىاـ على وجهو كاؼبمسوس‪،‬‬ ‫طوال ً‬‫منذ أف عاد البلولة من اػبرطوـ‪ ،‬عاش حالة من التيو‪ .‬جاب القرية ً‬
‫قطع ظهر النيل األزرؽ إُف الضفة األخرى‪ ،‬مث عاد‪ ،‬مث غاب مرة أخرى‪ ،‬وافتقده الناس‪ .‬قاؿ بعضهم أنو توجو إُف قرية‬
‫الشيخ طو‪ ،‬وقاؿ بعضهم أنو ذىب إُف اغبصاحيصا‪ ،‬بينما طبّن آخروف أف يكوف قد عاد إُف اػبرطوـ‪ ،‬واختلفوا حوؿ‬
‫نائما يف إحدى جداوؿ حقل القصب‪ .‬مشى على رمضاء العيكورة‪ ،‬وقطع ميادينها وحقوؽبا‬ ‫أخَتا‪ً ،‬‬
‫ذلك إُف أف وجدوه‪ً ،‬‬
‫حىت تشققت قدماه‪.‬‬
‫بعض نساء العيكورة استخدمنو يف مشاريعهن اػباصة والسرية‪ ،‬ورأوا أنو ال خوؼ منو على اإلطبلؽ‪ ،‬فكاف‬
‫يدخل عليهن ببل استئذاف‪ ،‬ويشهد جلسات نزع شعر اعبسم بالشمع العسلي‪ ،‬واليت تتم يف جلسات صباعية‪ ،‬تتناقل فيو‬
‫النساء النميمة واألخبار اؼباجنة‪ ،‬وهبهز حفر الدخاف للفتيات اللوايت على وشك الزواج‪ ،‬ووبضر تدريبات رقيص العروس‬
‫السرية للمساعدة يف أي شيء قد ربتاج إليو النساء أو العروس بصفة شخصية‪ ،‬ينقل أغصاف القش اليابس اليت تستخدـ‬
‫يف اؼبطابخ التقليدية‪ ،‬ووبلب األغناـ‪ ،‬ويساعد يف تلقيحها اإلتاف باغبمَت‪ ،‬وكذلك األغناـ بالتيوس‪ .‬يفعل كل شيء‪،‬‬
‫وأي شيء‪ ،‬طاؼبا أف رغبة اؽبروب ال تراوده‪.‬‬
‫حاولوا مساعدتو على اػبروج من وحدتو‪ ،‬ذىبوا بو إُف قبة الشيخ أبو صباح يف اؽببللية‪ ،‬وقرءوا عليو التعاويذ‪،‬‬
‫وصنعوا لو األحجبة والتمائم؛ فلم تفلح‪ .‬مث ذىبوا بو إُف قبة الشيخ أب شرا‪ ،‬وطافوا بو على شيوخ أبو حراز‪ .‬عفروا رأسو‬

‫‪30‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫بًتاب القباب‪ ،‬وغسلوا جسده األظبر الناحل بالزيوت اؼبباركة‪ ،‬غَت أف ؿباوالهتم باءت بالفشل؛ بل زادت األمر سوءًا‪.‬‬
‫ذكروا أف جنية شبقة لعقت فمو وىو نائم‪ ،‬وأف إحداىن تعلقت بعضوه الذكري كحشرة طفيلية ملعونة‪ ،‬فلم يستطع‬
‫اػببلص منها‪ ،‬ولكن كل ذلك كاف ؿبض تكهنات َف يكن بوسع أحدىم اعبزـ بو على اإلطبلؽ‪.‬‬

‫***‬

‫خربا اعتياديًا أف ينجح أحدىم‪ ،‬وينتقل للدراسة اعبامعية يف اػبرطوـ‪ ،‬ردبا ألف التعليم نفسو َف يكن ذا‬ ‫كاف ً‬
‫ومؤخرا كانت‬
‫ً‬ ‫شأف عظيم يف العيكورة‪ .‬يتنافس أىاِف القرية على الزراعة‪ ،‬وحديثها يغلب على األلسنة يف اجملالس‪،‬‬
‫أي شأف آخر‪ ،‬حىت غدت غيطاف الربسيم والباذقباف مهجورة تنعق فيها الغرباف‪ ،‬وتتكاثر فيها الثعابُت‬ ‫التجارة أىم من ّ‬
‫غَت السامة‪ .‬قلة من النساء فقط من بقُت على مهنة الزراعة‪ ،‬يف حُت انصرؼ ُجل الرجاؿ إُف التجارة والربح السريع‪.‬‬
‫يتكلم أىاِف العيكورة بكثَت من الفخر والغَتة عن ـبتار عوض اعبِيد‪ ،‬وما جناه من أرباح طائلة من بيع الفوؿ‬
‫والسعوط‪ ،‬وتوسعو يف التجارة‪ ،‬واحملاؿ التجارية اليت يبلكها يف اػبرطوـ‪ ،‬وكيف أنو مد يده ألبناء عمومتو‪ ،‬ونقلهم معو إُف‬
‫ىناؾ‪ ،‬بينما تعًتيهم الشفقة كلما جاء ذكر حسن البلولة‪ ،‬وما جرى لو‪ .‬حاوؿ اعبميع أف يعرفوا شيئًا عن دراستو‪،‬‬
‫ولكنهم أخفقوا؛ رغم أنو كرر ؽبم ذلك أكثر من مرة‪ ،‬واقتنعوا يف هناية األمر أهنا دراسة ليست ذات جدوى‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تعٍت كلية الفنوف اعبميلة يا البلولة؟‬
‫تدرس الفن التشكيلي‪.‬‬ ‫‪ -‬إهنا كلية ّ‬
‫تتخرج؟‬
‫‪ -‬يعٍت؛ ماذا ستكوف يف النهاية بعدما ّ‬
‫أوال‪ ،‬مث أحدد ما هبب أف‬ ‫‪َ -‬ف أحدد بعد‪ ،‬ردبا أكوف فنانًا تشكيليًا أو كباتًا‪ ،‬هبب أف أصقل موىبيت بالدراسة ً‬
‫أكوف عليو‪.‬‬
‫‪ -‬كباتًا؟ ىل ىذا وبتاج إُف دراسة؟ ود ضيف اهلل النقاش َف يُكمل تعليمو االبتدائي‪ ،‬ورغم ذلك فهو أشهر‬
‫نقاش يف اؼبنطقة!‬

‫كانوا مقتنعُت بأف التعليم قد أفسد عقلو‪ ،‬وازدادت قناعتهم تلك عندما عاد إليهم كاؼبعتوه‪ ،‬يهيم على وجهو يف‬
‫عصى من اػبيزراف‪ .‬قالوا‪" :‬ىا قد أصبح فنانًا تشكيليًا كما أراد!"‬
‫ميادين القرية‪ ،‬وحقوؽبا اؼبهجورة‪ ،‬هبر وراءه ً‬
‫كاف على وشك أف يدس كرة السعوط داخل فمو‪ ،‬عندما ظبع جلبة قادمة كبوه‪ ،‬فعرؼ أف مظاىرًة ما تتخلّق‬
‫داخل اعبامعة‪ .‬انتقل من مكانو ذلك إُف ركن قصي‪ ،‬وتناوؿ الكرة وقذفها يف فمو‪ ،‬وراح يعاعبها بلسانو حىت استقرت‬
‫أخَتا يف مكاف ما من لثتو الداخلية‪َ .‬ف تكد النشوة تبلغ مداىا حىت تصاعدت اعبلبة مرة أخرى‪ ،‬أعلى من ذي قبل‪ .‬مث‬ ‫ً‬

‫‪31‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫رأى صبوع الطلبة‪ ،‬وىي تركض ببل ىدى وببل ىوادة كقطيع من اعبواميس الربية اليت فقدت صواهبا‪ ،‬مث ظبع صوت‬
‫فرقعات ُؾبلجلة‪ ،‬تبعتها ُسحب دخانية بيضاء أصابت عينيو وجهازه التنفسي‪.‬‬
‫على الفور مد يده واقتطف غصنًا من شجرة نيم قريبة‪ ،‬وضع أوراقها على أنفو وركض مع الراكضُت‪ .‬ظبع من‬
‫خلفو نداءات رجاؿ األمن‪" :‬حاصروىم‪ ،‬اذىبوا من اعبهة األخرى‪ ".‬ووراء تلك النداءات اؽبستَتية ارتفعت أصوات‬
‫جيدا‪ ،‬غَت أهنا كانت‬
‫سيارات الشرطة‪ ،‬وطقطقة األجهزة البلسلكية‪ ،‬وصياح الفتيات‪ ،‬وأصوات أخرى َف يتعرؼ عليها ً‬
‫سباما مع كل ما هبري‪.‬‬
‫متناغمة ً‬
‫ؿباصرا بُت عدد من رجاؿ األمن‪ .‬دفعتو غريزتو إُف اؼبقاومة‪ ،‬ولكنهم اهنالوا عليو ضربًا‬
‫فجأة؛ وجد نفسو ً‬
‫بالعصي‪ ،‬حىت خارت قواه‪ ،‬وسقطت من فمو كرة السعوط ـبتلطة بلعابو والدماء اليت بدأت تسيل من فمو‪ .‬ضبلوه من‬
‫طرؼ قميصو‪ ،‬وقذفوا بو داخل إحدى السيارات اؼبكشوفة‪ ،‬وأجربوه على التمدد‪.‬‬
‫ؿباوال‬
‫اغبي‪ ،‬رفع رأسو ً‬‫اكتظت العربة بعشرات الطبلب اؼبعتقلُت الذين تكدسوا فوؽ بعضهم كشحنة من القرديس ّ‬
‫توضيح االلتباس‪ ،‬فعاجلوه بضربات سريعة وموجعة من عصيّهم الغليظة؛ فاستسلم على الفور ؼبصَته‪.‬‬

‫***‬

‫يف مكاف آخر؛ بدأت سيارات الشرطة احململة باؼبعتقلُت تتوافد خلف بعضها أماـ مبٌت أخفت أغصاف اعبميز‬
‫كبل‬
‫اؼبتشابكة الكثَت من معاؼبو‪ .‬فتحت أبواب السيارات اؼبكشوفة‪ ،‬وأجرب من فيها على النزوؿ إما ضربًا بالعصي أو ر ً‬
‫باألقداـ‪ ،‬وسيقوا إُف داخل اؼببٌت مطأطئي الرؤوس‪ ،‬وأخذ اعبندي الذي يقف على البوابة ىبتم ظهر كل داخل منهم‬
‫بضربة من سوطو الذي من جلد البقر‪.‬‬
‫احتشدوا يف فناء اؼببٌت اؼبغطى باغبشائش القصَتة‪ ،‬والعشب الرطب‪ ،‬وَف يُسمح ؽبم باعبلوس‪ .‬سور اؼببٌت عاؿ‬
‫ومنتو بفوانيس إضاءة من تلك اليت خلفها االستعمار الربيطاين وراءه‪ ،‬وتناثرت القطط على السور‪ ،‬وكأهنا جنود مرابطة‬
‫ربرس اؼبكاف‪ .‬كانت بعض القطط تنظر إُف ما هبري بفضوؿ مشاغب‪ ،‬فيما انشغل بعضها اآلخر بتنظيف نفسها‪،‬‬
‫وكأهنا معتادة على ذلك‪ ،‬بل وتعلم ما سيجري الح ًقا‪.‬‬
‫حامبل حزامو العسكري الغليظ‪ ،‬وبدأ يضرب الطبلب ويُكرر‪:‬‬ ‫بصورة مفاجئة خرج أحد اعبنود من داخل اؼببٌت ً‬
‫أرضا" حىت أولئك الذين استفادوا فبا جرى ؼبن سبقهم‪ ،‬وسارعوا باعبلوس‪َ ،‬ف يسلموا من حزامو اجملنوف‪ .‬وقف‬ ‫أرضا ‪ً ..‬‬
‫" ً‬
‫غَت بعيد‪ ،‬وىو يبرر بصره اغباد على اعبميع‪ ،‬مث زفر زفرة حانقة‪ ،‬وعاد إُف داخل اؼببٌت‪.‬‬

‫‪32‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫أمضى الطبلب ساعتُت يف ذلك اؼبكاف اؼببتل‪ ،‬قبل أف ىبرج عليهم رجل َف تبد عليو أي مبلمح عسكرية‬
‫مهندما‪ ،‬معتنيًا حببلقة ذقنو‪ ،‬يرتدي مبلبس أنيقة اجتهد يف‬
‫ً‬ ‫مرحا خفيف الظل وصاحب نكتة‪ .‬كاف‬‫قاسية؛ بل بدا ً‬
‫سباما‪ ،‬وبدأ حديثو‪ ،‬فكاف صوتو أكثر رقة من مظهره‪:‬‬ ‫تناسق ألواهنا‪ .‬وقف أماـ طابور الطبلب‪ ،‬يف اؼبنتصف ً‬

‫أوال أعرفكم بنفسي‪ :‬أنا عدو الفوضى والشغب األوؿ‪ ،‬ال أكره شيئًا يف حيايت كلها كما أكره الفوضى‬
‫"دعوين ً‬
‫واؽبرجلة‪ .‬كانت أمي ترضعٍت حليبها يف مواعيد منتظمة وؿبددة‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت وأنا أحب النظاـ واالنضباط‪.‬‬
‫بالتأكيد تعلموف ؼباذا أنتم ىنا‪ ،‬أنتم ىنا ألنكم فوضويوف ومثَتوف للشغب‪ ،‬ويف ىذا اؼبكاف سوؼ تتعلموف كيف‬
‫ربًتموف النظاـ ورببونو‪ ،‬ولن زبرجوا من ىنا قبل أف وبدث ذلك‪ ،‬كونوا على ثقة‪".‬‬

‫خَتا يف ىذا الشخص اؼبحب للنظاـ‪ .‬طبّن أنو إف عرؼ قصتو‬


‫توسم ً‬ ‫هنض حسن البلولة بسذاجة القروي‪ ،‬وقد ّ‬
‫ُ‬
‫جالسا دبفردي‪،‬‬
‫فقد يأمر خبروجو يف اغباؿ‪ ،‬ألف وجوده ـبالف للنظاـ‪" :‬أنا َف أفعل شيئًا سيدي‪ ،‬كل ما فعلتو أنٍت كنت ً‬
‫غَتت موقعي على الفور‪ ،‬ولكن األمر حدث بسرعة‪ ،‬وَف أستطع فعل‬ ‫أكور السعوط‪ ،‬وحىت عندما عرفت بأمر اؼبظاىرة ّ‬ ‫ّ‬
‫شيء‪ ،‬وىأنذا أمامك اآلف‪ .‬صدقٍت أنا َف أفعل شيئًا‪".‬‬
‫حدؽ الرجل يف وجو حسن البلولة‪ ،‬وكأنو يريد أف يرسم لو صورة يف ذىنو‪ ،‬مث طفت ابتسامة باىتة على ؿبياه‪،‬‬
‫وأشار إليو بيده أف يتبعو‪ ،‬وىو يقوؿ‪" :‬يبدو أننا ظفرنا بأوؿ ؿبب للنظاـ!"‬

‫***‬

‫قاده معو إُف داخل اؼببٌت‪ ،‬فيما أمر اعبنود باقتياد البقية إُف مكاف آخر‪ ،‬ظبّاه "لوكاندة"‪ .‬يف إحدى اؼبكاتب كاف‬
‫شبة رجاؿ عراة الصدر يقفوف دوف حراؾ‪ ،‬وأجسامهم العضلية توحي بالغضب والشراسة‪ .‬جلس على كرسيو خلف‬
‫اؼبكتب‪ ،‬وأشار إُف البلولة باعبلوس قبالتو؛ ففعل‪.‬‬
‫‪ -‬ما اظبك؟‬
‫‪ ... -‬حسن البلولة‬
‫تكور السعوط إذف يا البلولة؟‬ ‫قلت إنك كنت ّ‬ ‫‪َ -‬‬
‫كنت أفعلو عندما اندلعت اؼبظاىرة‪.‬‬‫‪ -‬أجل سيدي‪ ،‬ىذا كل ما ُ‬
‫‪ -‬أال تعلم أف السعوط مضر بالصحة؟ وعندما تنتهي منو أين تبصقو؟ على األرض؟‬
‫‪ -‬أنا ‪...‬‬

‫‪33‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫تصرؼ غَت مسئوؿ‪ ،‬وىو ضد النظاـ‪ .‬ىل ربب النظاـ؟‬
‫‪ -‬ىذا ّ‬
‫‪ -‬بالتأكيد أحػ‪...‬‬

‫فاجأتو صفعة قوية على قفاه‪ ،‬كانت كأهنا صفعة من إلو غاضب أو كائن ماورائي ُمهتاج‪ .‬وجد نفسو يهوي على‬
‫اؼبكتب الذي أمامو‪ ،‬مث يرتد يف حركة ميكانيكية سريعة؛ ليجد اليد اػبرافية بانتظاره مرة أخرى‪ .‬حاوؿ أف ينظر وراءه‬
‫ليعرؼ مصدر الصفعات‪ ،‬لكنو َف يستطع‪ .‬مث توقف الصفع فجأة كما بدأ‪.‬‬
‫ربرض الطبلب يف أحد أركاف النقاش على اػبروج يف اؼبظاىرة‪.‬‬‫أنت ّ‬
‫‪ -‬رجاِف يقولوف إهنم أمسكوا بك و َ‬
‫لست طػ‪...‬‬
‫‪ -‬أنا؟ أنا ُ‬

‫اصبل‪،‬‬
‫مزعجا ومتو ً‬
‫عاودت اليد اؼباورائية صفعو‪ ،‬وىذه اؼبرة كانت الصفعة تغطي جزءًا من أذنو‪ ،‬حىت ظبع طنينًا ً‬
‫وضوحا‬
‫ً‬ ‫أفقده السمع لربىة‪ .‬كاف صوت الرجل اؼبهندـ من وراء اؼبكتب يأتيو من مكاف سحيق‪ ،‬مث أخذ الصوت يزداد‬
‫شيئًا فشيئًا‪.‬‬
‫أنت شيوعي يا البلولة؟‬‫‪ -‬ىل َ‬
‫أبدا‬
‫‪ -‬شيوعي؟ ً‬
‫مثلي؟‬
‫فأنت ّ‬ ‫‪ -‬إذف َ‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫‪ -‬اعًتؼ ‪ ..‬أيهما أنت؟‬
‫لست مثليًا سيدي‪.‬‬
‫‪ُ -‬‬
‫‪ -‬إذف فأنت شيوعي!‬
‫ولست شيوعيًا كذلك‪.‬‬‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫كنت ىذا أـ ذاؾ‪.‬‬
‫قليبل من التعاوف‪ .‬ال بأس سنعرؼ حاليًا ما إذا َ‬
‫‪ -‬لؤلسف ‪ ..‬ال تريد أف تبدي ولو ً‬

‫أشار بعينيو إُف اؼبخلوقات اؼباورائية اليت كانت تقف خلفو مباشرة؛ فأمسكت بعضها بتبلبيبو‪ ،‬وبعضها أمسكتو‬
‫من عضوه الذكري‪ .‬رفعتو عاليًا‪ ،‬مث قذفت بو إُف ركن ما من الغرفة اػباوية من األثاث‪ .‬أخذ الرجاؿ يف خلع مبلبسهم‪،‬‬
‫فجحظت عيناه يف خوؼ‪ .‬هنض وحاوؿ اؽبرب‪ ،‬ولكنهم أمسكوا بو كجراد يائس أوقعو حظو العاثر بُت أرجل األرملة‬
‫السوداء‪.‬‬

‫‪34‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫راح يصرخ بكل ما أويت من قوة‪ ،‬ويكيل السباب عليهم قدر ما استطاع‪ ،‬بينما أشعل عدو الفوضى والشغب‬
‫صدرا ضحكات خافتة ومتقطعة بُت اغبُت واآلخر‪ .‬أمسك بو الرجاؿ‪ ،‬وىو‬ ‫األوؿ سيجارتو‪ ،‬وىو يستمتع باؼبتابعة‪ُ ،‬م ً‬
‫وباوؿ اؽبرب‪ ،‬قذفوا بو إُف األرض‪ ،‬وأمسكوا بكاحليو بقوة َف يستطع اإلفبلت منها‪ ،‬ووضع بعضهم قطعة قماشية رطبو‬
‫على فمو وأجزاء من أنفو‪ ،‬فاختفى صوتو يف اؼبكاف‪ ،‬إال من بعض صرخات مكتومة كانت تأيت من وراء القماش الرطب‬
‫كآخر صرخة لغريق يائس من النجاة‪.‬‬
‫اعبدراف متواطئة مع ما وبدث‪ ،‬والعاَف يضيق ليصبح حبجم الغرفة اػباوية من األثاث‪ ،‬والناس كلهم يأخذوف‬
‫شكل ذلك الرجل اؼبهندـ الكاره للشغب والفوضى‪ .‬سبٌت البلولة أف ربدث معجزة تقتلعو من الغرفة باردة اعبدراف‪ ،‬أف‬
‫زبتفي اعبدراف‪ ،‬وقضباف النوافذ العالية‪ ،‬والرجاؿ اؼباورائيوف‪ ،‬وأف ىبتفي ىو نفسو‪ .‬تذكر القطط اليت رآىا على السور‪،‬‬
‫وسبٌت أف لو كاف قطًا أو أف َف يكن‪ .‬نزؼ دماءً حارة من حنجرتو أثناء صراخو‪ ،‬خارت قواه وىو وباوؿ منع اؼبهزلة من‬
‫أف ربدث؛ فلم يستطع‪.‬‬
‫خرج البلولة من اؼبعتقل بعد أسابيع من ذلك‪ ،‬فاكتشف أنو َف يكن راغبًا يف اػبروج‪ .‬كاف يتساءؿ‪" :‬ترى ىل‬
‫حشدا من‬
‫مر اعبميع دبثل ما مررت بو؟" قاؿ ذلك وىو يرى ً‬ ‫يعرؼ الناس بأمر ىذا اؼببٌت وما هبري داخلو؟ ىل ّ‬
‫بالعري والفضيحة‪ ،‬أحس بأف اعبميع قد شهدوا ما حدث لو‪ ،‬وأهنم‪ ،‬ببل استثناء‪،‬‬ ‫الراكضُت وراء اؼبركبات العامة‪ .‬شعر ُ‬
‫كثَتا‪ ،‬ومشى مطأطأ الرأس شارد الذىن‪ .‬يصيبو القليل من‬
‫يرثوف غبالو ويشعروف ذباىو بالشفقة‪ .‬آؼبو ذلك الشعور ً‬
‫الضجيج باؽبستَتيا‪ ،‬وأصابتو فوبيا من التجمهرات واغبشود‪ .‬عاد إُف قريتو يف العيكورة‪ ،‬وقد فقد صوتو وشرفو!‬

‫‪35‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪36‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬
‫متكاسبل‪ ،‬ونظر من خبلؿ النافذة ليجد‬
‫ً‬ ‫استيقظ شرؼ الدين قل ًقا على صراخ امرأة بدا قريبًا منو‪ ،‬رفع رأسو‬
‫تلوح حبذائها لطفل‪ ،‬ردبا كاف ابنها‪ ،‬وىي تتوعده بالعقاب عندما يعودا إُف‬ ‫امرأة‪ ،‬يتذكر مبلؿبها‪ ،‬وال يتذكر اظبها‪ّ ،‬‬
‫سباما بعرقو‪ .‬خرج من غرفتو اليت كقرب كافر‪،‬‬
‫قليبل‪ ،‬مث فطن إُف أنو حلم بكابوس مزعج‪ ،‬والحظ أنو مبتل ً‬ ‫البيت؛ فابتسم ً‬
‫وعلى الفور أحس حبركة غريبة يف اؼبنزؿ‪َ .‬ف يقف على وجو الغرابة بالتحديد‪ ،‬ولكنو أيقن أف البيت يعج بكائنات كثَتة‪،‬‬
‫عرؼ ذلك من أصوات اصطكاؾ األطباؽ يف اؼبطبخ‪ ،‬وظل أياد تتبلعب دبشلعيب متأرجح‪ ،‬وصوت ضحكات نسائية‬
‫خجولة‪ ،‬وأصوات رجالية متداخلة‪ ،‬ووقع أقداـ راكضة أو مسرعة‪ ،‬ونبهمات أخرى متفرقة‪ .‬ازداد شعوره بالقلق واغبَتة‪،‬‬
‫وكأنو وباوؿ تذكر شيء ما‪ ،‬وما إف ذباوز أحد اغبوائط ببضع خطوات ودخل هبو اؼبنزؿ حىت فاجأتو األصوات اؼبتعالية‪:‬‬
‫"الفاربة!"‬
‫تذكر شرؼ الدين من فوره أمر ؾبيئو باألمس إُف العيكورة‪ ،‬وبطريقة متصلة تذكر عزاء والدتو‪ ،‬ومنظر جسدىا‬
‫اؼبًتىل اؼبسجى على عنقريب اعبرتق‪ ،‬وصراعها مع اؼبوت‪ ،‬والذي َف يستطع حسم هنايتو‪ ،‬ومشواره إُف اؼبقابر‪ ،‬واستيائو‬
‫البالغ من حرارة اعبو‪ ،‬والوقت الذي ينفذ من منخار جرذ‪ ،‬وحرمانو من التدخُت لنصف يوـ‪ .‬كما تذكر قراره بالعودة إُف‬
‫اػبرطوـ اليوـ‪ ،‬ووعده ؼبديره يف العمل بذلك؛ فشعر باالستياء ألنو مازاؿ يف العيكورة‪ ،‬ويف ىذا اعبو اعبنائزي اؼبمل‪.‬‬
‫مندفعا‪ ،‬وأشار إليو بيده ليجلس إُف جواره‪ ،‬فتذكر شرؼ الدين مبلصقتو لو منذ البارحة‪،‬‬ ‫هنض حامد ودالنعيم ً‬
‫أيضا‪ ،‬ولكنو توجو كبوه‪ ،‬واستسلم ؼببلزمتو على كبو قدري‪ ،‬وما إف استوى يف جلستو‬ ‫وكيف أنو كاف مستاءً من ذلك ً‬
‫أعدت النظر يف قرار رحيلك؛ فقد جاء معزوف‬ ‫حىت أماؿ ودالنعيم رأسو باذباىو‪ ،‬ونبس يف أذنو‪" :‬حسنًا‪ ،‬صهري‪ ،‬أنك َ‬
‫جدد من الكاملُت‪ ،‬وطابت الشيخ عبد احملمود‪ ،‬واؽببللية‪ ،‬وقريبًا سيأيت آخروف من رفاعة وسوبا كذلك‪ ".‬أحس شرؼ‬
‫الدين يف حديث ودالنعيم بنربة مشاتة‪ ،‬أو كهذا طبّن‪ ،‬واكتفى هبز رأسو‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬واؽبواء ثقيل ذلك الصباح‪ ،‬وقد بدأ يشعر باؼبلل من تكرار شرح أسباب وفاة أمو للمعزين‬ ‫حارا ً‬
‫كاف اعبو ً‬
‫اعبدد‪ ،‬وَف يفهم مدى أنبية ذلك بالنسبة إليهم‪ ،‬فأوكل ىذه اؼبهمة إُف ودالنعيم؛ السيما وأنو يبلك وثائق وتقارير طبية‬
‫تدعم ما يقوؿ‪ ،‬فقط يف حاؿ احتاجوا إليها‪.‬‬
‫من مشهد أحد الفتياف‪ ،‬وىو وبمل كومة كبَتة من الرغيف داخل غريرة من اػبيش اؼبلوف‪ ،‬على دراجتو اؽبوائية‬
‫صباحا‪ .‬فقط ليقطع دابر ش ّكو باليقُت‪ ،‬نبس يف أذف‬ ‫متوجها هبا إُف القسم النسائي‪ ،‬عرؼ أف الوقت َف يتجاوز العاشرة ً‬ ‫ً‬
‫ظهرا العتاب‪" :‬أَف يتناوؿ اؼبعزوف فطورىم بعد؟" فأجابو بطريقة تشبو االعتذار‪" :‬كاف علينا أف ننتظر حىت يأيت‬ ‫ودالنعيم ُم ً‬
‫سباما أنو وقت فطور وليس غداء كما يوحي الطقس‪ .‬حرص ىذه‬ ‫فوج القادمُت من طابت الشيخ عبد احملمود‪ ".‬فتأكد لو ً‬
‫اؼبرة أال هبلس إُف جوار ودالنعيم على اؼبائدة‪ ،‬ووجد يف إقباز ذلك متعة خاصة‪.‬‬
‫بعد اإلفطار؛ تقدـ أحدىم‪ ،‬وبدأ يعظ اؼبوجودين‪َ ،‬ف يكن شرؼ الدين يعرفو‪ ،‬ولكنو طبّن من ىيئتو‪ ،‬وغبيتو‬
‫الصنعة‪ ،‬عرؼ أنو وباوؿ التأثَت يف‬
‫أحس فيو التكلف و َ‬‫الكثة أنو إماـ جامع القرية اعبديد‪ .‬تكلم بصوت متحشرج‪ّ ،‬‬

‫‪37‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫مؤثرا‪ ،‬فبل حاجة للمؤثرات الصوتية!" تكلّم االبتبلءات اإلؽبية اليت‬
‫اغباضرين‪ .‬قاؿ يف سره‪" :‬إذا َف يكن الكبلـ نفسو ً‬
‫قبوال حسنًا‪،‬‬
‫تواجو اؼبؤمن يف دنياه‪ ،‬وعن ضرورة ىذه االبتبلءات‪ ،‬وما ينتظر اؼبؤمن من ثواب إذا ىو صرب عليها‪ ،‬وتقبلها ً‬
‫سن الصرب‪ ،‬وكانت القصة‬ ‫فلم يضجر‪ ،‬وَف يقنط‪ ،‬مث دعم كبلمو بسرد قصة النيب أيوب‪ ،‬الذي يبدو أنو كاف أوؿ من ّ‬
‫نوعا ما‪ ،‬لليت يعرفها ووبفظها عن ظهر قلب‪.‬‬
‫مغايرة‪ً ،‬‬
‫تكلم عن صرب األنبياء على االبتبلءات‪ ،‬ونصح باالعتبار من سَتهتم‪ ،‬واالقتداء هبم‪ ،‬وتكلم عن اؼبوت وما‬
‫وخلَف صاٌف يدعو لو‪ ،‬فأحس أنو يعنيو بذلك‪.‬‬ ‫وعما يبقى للميّت من أعماؿ‪َ ،‬‬‫بعده‪ ،‬وعن عذاب النار‪ّ ،‬‬
‫طالت اؼبوعظة‪ ،‬وشعر شرؼ الدين بالضيق واؼبلل؛ السيما وأف اعبو قد بدأ يزداد حرارة‪ ،‬كما أف حديث الشيخ‬
‫عن النار فاقم من إحساسو بالسخونة‪ .‬سبٌت أف يتخلص من ثيابو اليت التصقت جبسده بفعل الرطوبة؛ فخطر لو أف يسبح‬
‫عاريًا يف مياه النيل‪ ،‬وعزـ على ذلك‪ .‬بدأت شهوة التدخُت ربكم وثاقها على صدره من جديد‪ ،‬ما ضاعف إصراره على‬
‫اػبروج يف أسرع وقت‪.‬‬
‫ظل ينتظر اللحظة اؼبناسبة اليت يُعلن فيها عن قراره؛ وَف تأت‪ ،‬فلم يكن الشيخ يلتقط أنفاسو‪ ،‬ويتكلم دوف‬
‫مضطرا لبلستئذاف من‬
‫ً‬ ‫انقطاع‪ ،‬فحسم أمره وضغط بكفيو على ركبتيو‪ ،‬وىو وباوؿ النهوض‪ ،‬وللمرة الثانية وجد نفسو‬
‫ودالنعيم‪ ،‬فهمس إليو بشيء من اعبدية‪" :‬أكاد أختنق من ىذا اعبو‪ ،‬أحتاج إُف قليل من اؽبواء‪ .‬سأكوف باػبارج لبعض‬
‫الوقت‪ ".‬وَف ينتظر حىت يسمع رأيو‪ ،‬وغادر على الفور‪.‬‬
‫شعورا بالضيق َف يفهم‬
‫خارج الصالة اؼبخصصة للرجاؿ‪ ،‬بعث منظر األحذية واؼبراكيب اؼبتناثرة يف نفسو ً‬
‫مصدره على وجو الدقة‪ ،‬وتدافع بعض األطفاؿ أمامو‪ ،‬وىم يركضوف غَت آهبُت حبُرمة العزاء‪ ،‬وَف يزجرىم أحد‪ .‬اصطدمت‬
‫كثَتا غَت أنو َف يستطع أف يبدي أؼبو أماـ اعبميع‪ .‬رأى أف بروز اػبصيتُت خارج اعبسد‬
‫يد أحدىم دبا بُت فخذيو‪ ،‬تأَف ً‬
‫دائما ؼبستقبلو التناسلي‪ ،‬وعندما تذكر أنو ال يرغب يف‬
‫هتديدا ً‬
‫فكرة غَت صائبة؛ إذ بإمكاف طفل شقي أف يشكل ً‬
‫التحسن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلقباب‪ ،‬شعر بشيء من‬
‫ظبع صوت بسبسة تأيت من جهة ما‪ ،‬التفت كبوه ليجد أختو عواطف واقفة عند مدخل الصالة النسائية‪ ،‬وقد‬
‫أنت يا شرؼ‪ ،‬أشكرؾ‬ ‫غطت نصف وجهها السفلي بطرؼ ثوهبا القامت؛ فتوجو كبوىا خبطوات قصَتة ومتأؼبة‪" :‬حبييب َ‬
‫ألنك َف ترحل‪ ،‬وتضعنا يف حرج مع الناس‪ .‬ىنالك نسوة يردف تعزيتك‪ ".‬ومرة أخرى تعالت األصوات‪" :‬الفاربة!"‬

‫***‬

‫األرض‪ ،‬اليت سبيل إُف اغبُمرة‪ ،‬أسفرت عن بعض النباتات الشوكية اؼبتفرقة كثآليل فَتوسية مقززة‪ .‬بدت أرض‬
‫العيكورة كظهر زاحف أسطوري مليء باغبراشف اؼبدببة‪ ،‬يناـ يف ىدوء على ضفاؼ حبَتة بركانية‪ .‬تتقاتل صغار العقارب‬

‫‪38‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫ػحر يف قوافل طويلة دبحاذاة جدراف البيوت‪ ،‬والرياح‬ ‫للظفر بظل بائس ربت أوراؽ النيم اؼبتيبسة‪ ،‬فيما يعرب مبل كلب ال َ‬
‫أخَتا‪،‬‬
‫تتواطأ مع اؼبناخ ضد اإلنساف؛ فتنفث َظبومها الغباري على وجو القرية‪ ،‬وتعرب فتحات النوافذ واألبواب لتنتحر‪ً ،‬‬
‫على جلود النساء والرجاؿ واألطفاؿ ذوي البشرة الدىنية‪.‬‬
‫للوىلة األوُف تبدو العيكورة كقرية حلت عليها اللعنة؛ فبل تسمع غَت صفَت الريح‪ ،‬وطقطقة النوافذ اػبشبية‪،‬‬
‫وحفيف أشجار اؽبجليج واؼبورينجا‪ ،‬ونباح الكبلب‪ ،‬وزعيق طيور البوقَت اؼبزعجة‪ .‬تنهض أعاصَت ترابية من ـبابئها‪ ،‬مث‬
‫تروح عن نفسها‪ ،‬يف ىذه القائظة‪ ،‬باللهو واألالعيب السحرية‪ .‬وحده ثغاء اؼباعز‪،‬‬ ‫زبتفي‪ ،‬مث تظهر مرة أخرى‪ ،‬كعفاريت ّ‬
‫خلف أقبة البيوت‪ ،‬من يهب اؼبكاف حيويتو وطابعو اإلنساين‪.‬‬
‫ألقت الشمس أشعتها على مياه النيل بشكل رأسي؛ فبدا سطحو وكأنو مغطى بورؽ القصدير‪ .‬وقف شرؼ‬
‫الدين قبالة النيل‪ ،‬وعبأ صدره بقليل من اؽبواء الساخن‪ ،‬مث شرع يف نزع ثيابو قطعة قطعة‪ ،‬بعد أف أمسك بعقب السجائر‬
‫بعيدا‪ .‬خاض بقدميو يف النهر حىت وصلت اؼبياه إُف حجابو اغباجز‪ ،‬عندىا رمى بنفسو يف‬ ‫بُت إهبامو وسبابتو وقذؼ بو ً‬
‫أحشاء النيل‪ .‬تسلل إليو شعور جيد ومنعش‪ ،‬وأخذ يغطس يف اؼباء وىبرج منو‪ ،‬وكرر ذلك حىت تعب‪ ،‬عندىا رفع قدميو‬
‫إُف مستوى رأسو‪ ،‬وطفا على ظهره‪.‬‬
‫كانت األمواج تعتلي كرشو الصغَتة‪ ،‬فتعجبو الدغدغة اليت تصدرىا‪ ،‬وراح ينفث اؼباء من فمو‪ ،‬كاغبيتاف‪،‬‬
‫فتنطلق عاليًا ؿبدثة نافورة فموية لتهطل على وجهو من جديد‪ .‬نظر إُف القرية وىي غارقة يف سراب كوين سببتو أشعة‬
‫الشمس‪ ،‬وكأهنا ستختفي بعد قليل‪ .‬الحظ وجود شبح أسود يف منتصف الصورة السرابية من الناحية القريبة منو‪ ،‬وَف‬
‫يتأكد من كنهو‪ ،‬وَف يتوقف عن السباحة حىت ىبّت ريح فجائية حركت اؼبوج بقوة‪ ،‬وكأف شيئًا ما‪ ،‬ال يعرفو‪ ،‬قد أغضب‬
‫اإللو‪ .‬وجد صعوبة بالغة يف السباحة مع ىذه األمواج اؼبتبلطمة فقرر اػبروج‪.‬‬
‫على ضفة النهر وقفت وقية عبد الباسط ترمق جسده العاري اؼببتل بنظراهتا اؼبثَتة‪" :‬رأيتك زبرج من البيت‬
‫مقنعا؛ السيما‬
‫متوجها إُف ىنا؛ فأتيت‪َ ".‬ف يكن شرؼ الدين قد سأؽبا عن سر معرفتها بوجوده ىنا‪ ،‬ولكنو وجد تربيرىا ً‬ ‫ً‬
‫كثَتا ليلة البارحة‪" .‬اعبميع توجهوا منذ الصباح لبيت العزاء‪ ،‬ولن يعودوا قبل غروب‬ ‫وأنو تذكر أهنا استمتعت معو ً‬
‫مفتوحا‪ ".‬ىز رأسو مواف ًقا‪ ،‬وغادرت ىي على الفور‪ ،‬قبل أف يقوـ بفعل‬ ‫الشمس؛ سأنتظرؾ يف البيت‪ ،‬وأترؾ لك الباب ً‬
‫طائش وؾبنوف‪ ،‬كما ىي عادتو‪.‬‬

‫***‬

‫‪39‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫طويبل حىت هبف جسده‪ ،‬فقد كانت الشمس حارقة لدرجة أنو جف دبجرد‬ ‫َف وبتج شرؼ الدين أف ينتظر ً‬
‫خروجو من اؼباء‪ ،‬ولكنو كاف ما يزاؿ وبس باالنتعاش‪ .‬اعًتتو رغبة جاؿبة يف معاقرة طبر أكيج من جديد‪ ،‬فسار دبحاذاة‬
‫النيل حىت وصل إُف منزؽبا‪.‬‬
‫طرؽ الباب‪ ،‬وكاف بإمكانو أف يدخل اغبانة‪ ،‬كعادتو‪ ،‬من اعبدار اعبنويب اؼبنهار جزئيًا‪ ،‬غَت أنو تذكر أهنا متزوجة‬
‫اآلف‪ ،‬وَف هبد لباقة يف تصرفو ذلك‪ .‬خرج إليو زقبي عمبلؽ سد فتحة الباب‪ ،‬وسألو بنربة جافة‪ ،‬ولكنة عربية ركيكة‪:‬‬
‫قليبل‪ ،‬قبل أف ُهبيب‪:‬‬
‫أوال‪ ،‬غَت أف السؤاؿ اؼبفاجئ أربكو ً‬ ‫"ماذا تريد؟" كاف شرؼ الدين قد أعد نفسو للتعريف بنفسو ً‬
‫بعضا من اػبمر‪ ".‬نظر إليو الزقبي‪ ،‬وقد قطب حاجبو‪" :‬يف ىذا الوقت؟" َف يفهم شرؼ الدين مغزى سؤالو‪ ،‬إال‬ ‫"أريد ً‬
‫أنو ىز رأسو واصطنع الظرؼ‪" :‬ال يقتل الوىم إال مزيد من الوىم!" َف يفهم جيمس معٌت ذلك‪ ،‬وَف هبد يف كبلمو ما‬
‫يدعو للضحك‪ ،‬غَت أنو ظبح لو بالدخوؿ على مضض‪.‬‬
‫للسكارى ربت الراكوبة اؼبصنوعة من أعواد اػبيزراف‪ ،‬وكانت ما تزاؿ‬ ‫توجو شرؼ الدين إُف اؼبكاف اؼبخصص ُ‬
‫نائما على حصَتة من ألياؼ النخيل‪ .‬أخرج‬ ‫مغطاة بقطعة من اػبيش مثبتة حبجارة عمبلقة‪ ،‬وأسفل منها رأى النيل رزقة ً‬
‫كأسا وضعهما أمامو مباشرة‪،‬‬
‫حامبل زجاجة اػبمر‪ ،‬و ً‬ ‫سيجارة وأشعلها‪ ،‬وظل ينتظر إُف أف جاء الزقبي العمبلؽ ً‬
‫وانصرؼ‪.‬‬
‫اغبقيقة أف شرؼ الدين َف ينتبو إُف مبلؿبو ىذه اؼبرة‪ ،‬ولكنو راح يصب اػبمر لنفسو‪ ،‬وعرؼ منذ الرشفة األوُف‬
‫كثَتا‪ ،‬بيد أنو َف يتوقف عن الشراب‪.‬‬
‫أهنا ليست من النخب األوؿ الذي تسقيو منو أكيج‪ ،‬فاستاء لذلك ً‬
‫فبدا على شريط ضيق من الظل‪ ،‬وذيلو ما يزاؿ يهتز بطريقة متوترة‪ ،‬والذباب يتجمع على‬ ‫كاف الكلب الكسوؿ ً‬
‫أنفو الرطب كما تتجمع الفراشات حوؿ الضوء‪ .‬أُزيح الستار عن مدخل إحدى الغرفتُت‪ ،‬وخرج جيمس العمبلؽ مرة‬
‫متسخا بو بقايا طعاـ بشري‪ ،‬وَف يكًتث الكلب لذلك‪ ،‬فقط رفع رأسو يف‬ ‫ً‬ ‫أخرى‪ .‬توجو ناحية الكلب ووضع أمامو طب ًقا‬
‫قليبل‪ ،‬مث أعاد دس رأسو بُت قائمتيو األماميتُت مرة أخرى‪.‬‬ ‫المباالة واضحة‪ ،‬ونظر إليو ً‬
‫يف طريق عودة الزقبي استوقفو شرؼ الدين‪ ،‬وسألو عن أكيج‪ ،‬فنظر إليو جيمس بشيء يشبو الغَتة‪ ،‬وأخربه أهنا‬
‫أيضا رأى ذلك‪ .‬كاف‬ ‫تأخذ قيلولتها يف الداخل‪ ،‬وأحس شرؼ الدين أنو أراد إخباره بأف الوقت ليس مناسبًا للزيارة‪ ،‬وىو ً‬
‫مذاؽ اػبمر سيئًا‪ ،‬ولكنو تناوؽبا دفعة واحدة‪ ،‬وانصرؼ‪.‬‬

‫***‬

‫‪40‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫إحساسا بالضيق‪ ،‬رغم ربرؾ بعض الكرات اجملنونة الصغَتة يف رأسو‪ ،‬فلم يعرؼ أف وبدد ما‬ ‫ً‬ ‫أضافت إليو اػبمر‬
‫إذا كاف تركبو يف اؼبسَت بفعل اػبمر‪ ،‬أـ بفعل أشعة الشمس‪ .‬الحظ وجود خط طويل على األرض الرملية اغبمراء‪ ،‬يبدأ‬
‫من مكاف ما داخل القرية‪ ،‬وىبتفي داخل حقل القصب‪ ،‬فعرؼ أنو حسن البلولة‪.‬‬
‫داخل حقل القصب اكتشف شرؼ الدين أف اغبرارة أخف وطأة‪ ،‬وتعجب كيف َف يفكر يف اللجوء إُف ىنا‬
‫كثَتا‪ ،‬وَف يكن يصعب عليو زبمُت أين هبده بُت سيقاف القصب اؼبتشابكة؛ إذ تعودا‬ ‫من قبل‪َ .‬ف يدـ حبثو عن البلولة ً‬
‫صدرا أصواتًا ذ ّكرتو نواح‬
‫اتساعا‪ ،‬وصرخ بفرح‪ُ ،‬م ً‬
‫اعبلوس عند ملتقى تقاطع اعبداوؿ اؼبائية‪ ،‬وما إف رآه حىت ازدادت عيناه ً‬
‫عمتو عديلة بابو اؼبتكلف‪.‬‬
‫أرضا‪ ،‬وراح ىبربه عن عملو اعبديد يف العاصمة‪ ،‬وعن‬ ‫تعرب عن االشتياؽ‪ ،‬مث جلسا ً‬ ‫تبادال بعض النظرات اليت ّ‬
‫زمبلئو يف العمل‪ .‬أخربه عن اعبانب اؼبشرؽ من اػبرطوـ‪ ،‬وعن شوارعها السرية‪ ،‬وروعة الليل يف شارع النيل‪ ،‬وعن‬
‫الفتيات يف حديقة اؼبقرف‪ ،‬وقاعة الصداقة‪ ،‬وحفبلت أبو عركي البخيت يف الفندؽ الكبَت‪ ،‬وعن جزيرة تويت القابعة يف‬
‫قلب النيل كعروس حبر أسطورية‪ ،‬وعن جنائنها اليت ترؾ فيها ذكريات صبيلة‪.‬‬
‫أخربه عن عبلقاتو العاطفية الفاشلة‪ ،‬وعن قراره األخَت بأف يدلل نفسو‪ ،‬وأف يعوضها عن اللحظات اليت أنفقها‬
‫يف مطاردة الوىم‪ .‬أخربه عن عبلقتو بوقية عبد الباسط‪ ،‬وكيف أنو ُهبل فيها قدرهتا االستثنائية على اإلغراء‪" :‬أف تقرر‬
‫أنثى وىب جسدىا ألحدىم دوف مقابل؛ ىذا ليس باألمر السهل على اإلطبلؽ!" قاؽبا بنربة امتناف‪ ،‬وعيناه تلمعاف يف‬
‫أيضا‪ ،‬عن بغضو لؤلطفاؿ وإزعاجهم الذي ال ينقطع‪ ،‬مث تذكر فجأة‪ ،‬واستطرد‪" :‬كما أف أمي توفيت‬ ‫مكر‪ .‬أخربه‪ً ،‬‬
‫كذلك!" تغَتت مبلمح البلولة‪ ،‬وأوشك أف يرفع يديو لقراءة الفاربة معو‪ ،‬إال أف شرؼ الدين خفضهما لو‪ ،‬وىو يقوؿ‪:‬‬
‫"كاف ذلك باألمس‪".‬‬
‫بعد أحاديث كثَتة ومتفرقة‪ ،‬ساد صمت طويل بينهما‪ ،‬وكأهنما قررا منح نفسيهما مهلة لبلستمتاع باؽبواء البارد‬
‫كثَتا يف ىذا اعبو اغبار‪ .‬أرخى شرؼ الدين ظهره إُف اػبلف‪ ،‬ووضع رأسو‬ ‫الذي مر فجأة؛ فلحظات كهذه قد ال تتكرر ً‬
‫على كفيّو اؼبتشابكتُت‪:‬‬
‫‪ -‬ىل تعلم‪ ،‬يا البلولة‪ ،‬ما ىي أصعب مهمة قد ينجزىا اإلنساف؟‬
‫‪!! -‬‬
‫كبَتا من الشجاعة والصرب واغبكمة؛ وىي‬ ‫قدرا ً‬‫‪ -‬الصدؽ! الصدؽ يتطلب توفر صفات كثَتة‪ ،‬فهو يتطلب ً‬
‫مهمة ال يستطيع إقبازىا إال األنبياء‪.‬‬

‫قليبل قبل أف يستدرؾ‪" :‬حىت بعض األنبياء َف يفلحوا يف ذلك!" كانت عينا البلولة جاحظتُت‪ ،‬فلم‬
‫سكت ً‬‫َ‬
‫يستطع شرؼ الدين أف يفهم ما إذا كاف ذلك وضعهما الطبيعي أـ بسبب ما قالو للتو‪ ،‬وبطريقة توحي باتصاؿ‬

‫‪41‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫اغبديث‪ ،‬التفت إليو وىو يتساءؿ‪ " :‬ؼباذا ال تأيت معي إُف اػبرطوـ؟ بإمكاننا شراء لوحات لفاف جوخ وجوناف أو حىت‬
‫قليبل وضحك مرة‬
‫الدجار دهباز ‪ ".‬ولكنو تذكر أف لوحات ىؤالء ال يبكن أف توجد يف اػبرطوـ‪ ،‬فضحك مث سكت ً‬
‫أخرى وىو يقوؿ‪ " :‬ال عبلقة لؤلمر دبا كنا نتكلم عنو؛ أليس كذلك؟ ذكرين ىذا بالرجل التحفة (علي مناسبات)‪ .‬ترى‬
‫أين ىو اآلف؟"‬

‫***‬

‫طويبل مع البلولة يف حقل القصب واتفقا‪ ،‬تقريبًا وبشكل مبدئي‪ ،‬على‬


‫كاف شرؼ الدين قد أمضى وقتًا ً‬
‫عائدا إُف اؼبنزؿ‪ ،‬وىو يتساءؿ ما إذا كاف الشيخ قد أهنى موعظتو أـ ال‪،‬‬
‫الذىاب إُف اػبرطوـ سويًا‪ ،‬وأقفل شرؼ الدين ً‬
‫قادرا على فهم الدين من‬
‫كثَتا خطب الوعظ‪ ،‬وكل ما يتعلق برجاؿ الدين‪َ .‬ف يكن ً‬ ‫وأضمر اغبقد ذباىو‪ .‬كانت تزعجو ً‬
‫دائما يقوؿ‪" :‬ال خبايا يف الدين‪ .‬هبدر بالدين أف يكشف اػببايا‬
‫حيث أنو علم كهنويت‪ ،‬لو رجالو العارفُت خبباياه‪ ،‬وكاف ً‬
‫ال أف يتحلى هبا" ولذا فإنو َف يكن وبب رجاؿ الدين‪ ،‬وَف وبب مظهرىم أو حىت الطريقة اليت يتكلموف هبا مع اآلخرين‪،‬‬
‫وكأهنم أقل منهم‪.‬‬
‫أذىل البلولة ذات يوـ‪ ،‬عندما قاؿ لو‪" :‬ال شيء اظبو (دين)‪ .‬للدين فلسفة وحيدة‪ ،‬وىي أف يبنحنا الطمأنينة‪،‬‬
‫ولكل شخص دينو اػباص‪ .‬ال يتطلب األمر أوامر ونواىي؛ تلك وظيفة األخبلؽ ال الدين‪ ،‬وواىم من ظن أهنما شيء‬
‫واحد‪ ".‬ويف أثناء ذلك تذكر أف وقية تنتظره يف منزؽبا؛ فتهللت أساريره بالفرح‪ ،‬وساعده ذلك على التصاٌف مع الواعظ‬
‫وموعظتو‪.‬‬
‫مفتوحا كما أخربتو‪ ،‬فًتدد يف طرؽ الباب قبل أف ينتبو إُف وجود سلك بارز يف الباب‪ ،‬شده‬
‫َف هبد باب منزؽبا ً‬
‫برفق فانفتح الباب‪ ،‬ليجدىا أمامو‪ ،‬وما أف أغلق الباب وراءه حىت أسندت ظهرىا عليو‪ ،‬وراحت تنظر إليو بغضب "ىل‬
‫تعلم كم من الوقت أمضيت وأنا أنتظرؾ؟ أين كنت؟" حكا ؽبا عن ذىابو إُف منزؿ أكيج‪ ،‬وعن الوقت الذي قضاه مع‬
‫البلولة‪ ،‬وَف يبد عليو أنو كاف يُربر؛ بل أخذ يقص عليها األمر‪ ،‬وكأنو َف يفهم مغزى سؤاؽبا على الوجو اؼبطلوب‪ ،‬ولكنها‬
‫َف تقاطعو‪ ،‬وراحت تنصت ؼبا يقولو باىتماـ‪ ،‬مث إهنا أعادت رسم مبلمح الغضب عندما بدأ يتغزؿ هبا "دعك من كل‬
‫ىذا‪ ،‬تبدين رائعة يف ىذه الثياب‪".‬‬
‫عاتبتو بغنج تتقنو‪ ،‬وأخربتو أهنا منذ تركتو عند ضفة النهر‪ ،‬وىي منشغلة يف هتيئة نفسها الستقبالو‪ ،‬وقضاء وقت‬
‫فبتع معو‪ ،‬حىت أهنا َف تشأ أف ترتدي مبلبسها الداخلية‪ ،‬والمتو ألنو َف يبد مبلحظتو بشأف العطر الذي تطيّبت بو؛‬
‫فعبل‪ .‬أراد أف يقص عليها طرفة ابن أختو الذي تبوؿ على اعبدار‪ ،‬فاكتشف‬ ‫فانتبو‪ ،‬وقتها‪ ،‬إُف أف رائحتها كانت صبيلة ً‬
‫أنو ال يعرؼ اظبو‪ ،‬فتجاىل األمر‪.‬‬

‫‪42‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫حاوؿ أف يستدرجها لتتمدد‪ ،‬فلم تفعل‪ ،‬وظبحت لو فقط دببلمسات جسدية وقببلت سريعة‪ ،‬ألهنا توقعت أف‬
‫تعود أمها وأخواهتا األربع يف أية غبظة‪ ،‬واقًتحت عليو أف يبضيا اؼبتبقي من الوقت يف اغبديث عن مستقبل عبلقتهما‬
‫الغريبة ىذه‪.‬‬
‫كانت ىي اؼبرة األوُف اليت يكتشف فيها شرؼ الدين أف عبلقتو بوقية عبد الباسط قد تكوف غريبة‪ ،‬وأدىشو‬
‫قدر أنو من اؼبهم أف يسمع ما تريد قولو‪ .‬ترددت وقية قبل أف‬
‫ذلك‪ ،‬وَف يكن يعرؼ ما يبكن قولو هبذا الشأف‪ ،‬ولكنو ّ‬
‫تسألو دبكر‪" :‬ؼباذا َف تفكر بالزواج حىت اآلف؟" أراد أف يقوؿ بأنو شخص مزاجي‪ ،‬ووبب أف ينزؿ من سريره من أية جهة‬
‫يُريد‪ ،‬ولكنو عدؿ عن ذلك؛ إذ َف هبدىا حجة جيّدة‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أف األطفاؿ ىم السبب‪ ،‬فأنا ال أحب األطفاؿ‪.‬‬
‫‪ -‬ىل ىنالك شخص ال ُوبب األطفاؿ؟‬
‫‪ -‬أنا‬
‫‪ -‬األطفاؿ ىم ملح اغبياة‪ ،‬والسر الذي يدفع الناس للزواج‪.‬‬
‫‪ -‬األطفاؿ مزعجوف‪.‬‬
‫‪ -‬سوؼ تعتاد إزعاجهم‪ ،‬حىت تعود ال تراىم كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬كما أهنم فوضويوف‬
‫‪ -‬أنت فقط مفرط اغبساسية‪ .‬فقط زبيّل أف قطعة منك تسَت وتكرب أماـ عينيك؟‬
‫‪ -‬لقد زبيّلت ىذا من قبل‪ ،‬وأراىا فكرة ـبيفة!‬

‫فغَتت مسار اغبديث مباشرة‪:‬‬


‫اكتشفت وقية أف الوسيلة اليت اتبعتها معو منذ البداية كانت خاطئة‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬ماذا تسمي عبلقتنا ىذه‪ ،‬وما ىو مصَتىا برأيك؟‬
‫‪ -‬أنا أراؾ امرأة فاتنة ومثَتة‪ ،‬كما أنك ِ‬
‫لست مزعجة أو ثرثارة كبقية النساء‪.‬‬
‫‪ -‬أال تفكر يف الزواج يب؟‬

‫بدا عليو االندىاش واؼبفاجأة‪ ،‬مث راح يفكر بعمق‪:‬‬


‫‪ -‬ال أجدىا فكرة سيئة على اإلطبلؽ‬
‫‪ -‬إذف؟‬
‫أوال‪ ،‬أف أزبلص من رواسب ذباريب الفاشلة‪ .‬أحتاج إُف بعض الوقت يا وقية‪.‬‬
‫‪ -‬البد‪ً ،‬‬
‫‪ -‬عمري اآلف تسعة وعشرين يا شرؼ!‬

‫‪43‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪ -‬كاف عمري تسعة وعشرين من قبل‪ ،‬وماذا يف ذلك؟‬
‫انتظرت لسنوات طويلة‪ ،‬وال أرى أنٍت قد أحتمل أكثر‪ .‬لقد بدأ الناس يتحدثوف عٍت يف ؾبالسهم‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬قد‬
‫سرا‪.‬‬
‫اػباصة‪ ،‬وىم يعتقدوف أف وراء عدـ زواجي‪ ،‬حىت اآلف‪ً ،‬‬
‫‪ -‬ماذا إذف؛ ىل نذىب إُف مأذوف األنكحة اآلف؟‬
‫طبعا‪ ،‬بعد بضع الوقت‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ليس اآلف ً‬
‫‪ -‬وىذا ما طلبتو بالضبط!‬

‫نظرت إليو يف حنق‪ ،‬واهنالت عليو ضربًا‪ ،‬مث انفجرت بالضحك‪ ،‬ورغم أنو َف يفهم سر ما حدث‪ ،‬إال أنو أعجبتو‬
‫الطريقة اغبميمة اليت انتهى هبا اغبوار‪ .‬يف أثناء ذلك ظبعا أحدىم وباوؿ فتح الباب من اػبارج‪ ،‬فنهضا فزعُت على الفور‪،‬‬
‫وطلبت منو تسلق السور اػبلفي للمنزؿ واؽبرب‪ ،‬ففعل‪.‬‬

‫‪44‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪45‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬
‫ما إف دخل من إحدى األبواب اػبلفية للمنزؿ ورأتو‪ ،‬حىت نادت عليو نعمات‪ ،‬وىي تعض ظهر سبابتها‪" :‬ما‬
‫كنت كل ىذا الوقت؟" تتبع شرؼ الدين سهاـ نظراهتا الغاضبة‪ ،‬وألقى نظرة سريعة‬ ‫ىذا؟ ما الذي فعل بك ذلك؟ وأين َ‬
‫متسخا بغبار الطوب األضبر‪ ،‬وترب الرمل النهري‪ .‬أٌف عليو صدقو أف يقوؿ حقيقة األمر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إُف حيث تنتهي؛ فوجد جلبابو‬
‫ولكنو تذكر حديثو للبلولة عن ضرورة مبلزمة اغبكمة للصدؽ‪ ،‬وزبيّل ما قد يناؿ وقية من أذى جراء صدقو‪ ،‬فابتلع‬
‫أحرؼ كلماتو األوُف‪ ،‬وعاد ىبربىا أنو كاف يقضي وقتو مع حسن البلولة يف حقل القصب‪.‬‬
‫نظرت إليو يف دىشة غاضبة‪ ،‬وىاصبتو بعتاب قاس‪" :‬البلولة مرة أخرى؟ أَف تكف عن ذلك بعد؟" عندىا‬
‫قليبل‪ ،‬وشعرت ببعض االرتياح لذلك‪ ،‬ومضت إُف‬ ‫قاطعها على الفور بأنو سوؼ يبدؿ ثيابو‪ ،‬ويصلح األمر‪ ،‬فهدأت ً‬
‫اؼبطبخ‪ ،‬وأسعده أهنا َف تلح يف صراخها‪.‬‬
‫يف هناية اليوـ اعبنائزي الثاين كاف عدد الذين قرروا اؼببيت قد بدأ بالتناقص‪ ،‬ولكن عائلة بابو أصرت على‬
‫االجتماع‪ ،‬كما ىي عادهتم يف اؼبناسبات اليت ذبمع أفراد األسرة اؼبمتدة‪ ،‬وىذه اؼبرة كانت العمة عديلة حاضرة‪ ،‬ما‬
‫طابعا عدائيًا‪.‬‬
‫أكسب االجتماع ً‬
‫ربدثوا يف شؤوف عائلية كثَتة‪ ،‬وبالتأكيد َف ينسوا أف يعاتبوه على غيابو اؼبتكرر عن ديواف العزاء‪ ،‬ونعتتو نعمات‬
‫تأثرا برحيل أمهم‪ ،‬ألنو َف يشهد وفاهتا مثلهم‪ .‬ويف بادرة‬
‫بعدـ اؼبسئولية؛ بينما دافعت عنو عواطف‪ ،‬ورأت أنو أكثرىم ً‬
‫غريبة‪ ،‬وخارجة عن اإلطار طرحت فتحية رغبتها يف ارتداء اغبجاب‪ ،‬فكاف رد زوجها حامد ودالنعيم أف ذلك شأف‬
‫ىبصها‪ ،‬وىي الوحيدة من سبلك البت فيو‪ ،‬ووافقو شرؼ الدين على ذلك‪ ،‬وأضاؼ إهنا ليست حباجة للحجاب؛ حيث‬
‫ؼباما‪ ،‬ولكنها ردت عليو يف حسم بأهنا إمبا تريد فعل ذلك ألنو أمر رباين؛ فسكت‪.‬‬ ‫ال تكاد زبرج من البيت إال ً‬
‫كن قد بدأف‪ ،‬كعادهتن‪ ،‬يف تداوؿ األحاديث السخيفة والنميمة‪ ،‬وتعجب من قدرة عمتو عديلة على إحصاء‬
‫عدد النساء اؼبخضبات‪ ،‬وأشكاؿ ورسوـ خضاهبن‪ ،‬وما كانت ترتديو كل واحدة من اؼبعزيات من ُحلي وؾبوىرات‪ .‬لكنو‬
‫تفاجأ‪ ،‬عندما اكتشف أف األخريات يتحلُت بذات اؼبيزة‪.‬‬
‫بدأف يتجادلن حوؿ مصدر ىذه اغبلي ومنشئها‪ ،‬ففيم طبّنت عديلة أهنا من اػبليج حيث يعمل أزواجهن‪،‬‬
‫أصرت نعمات أنو ذىب خرطومي‪ ،‬وكاف دليلها على ذلك أف أتفو األصناؼ اليت أرسلها زوجها‪ ،‬الشفيع حاج مرضي‪،‬‬
‫من اػبليج يبدو أغلى بكثَت فبا كن يرتدينو‪ .‬كما رحن وبصُت عدد اللوايت اجتهدف يف البكاء‪ ،‬وأظهرف صدقًا أكرب فيو‪،‬‬
‫رطبل من وزهنا‪ ،‬وزيادة وزف‬
‫وأولئك اللوايت بكُت دوف حرص ودوف عاطفة‪ .‬وتكلمن عن فقداف إحدى النسوة شبانية عشر ً‬
‫وسره أنو ظبع اسم وقبة‬
‫أخريات‪ .‬وربدثت عواطف بكثَت من االمتناف عن اللوايت ساعدهنا بإخبلص يف أعماؿ اؼبطبخ‪ّ ،‬‬
‫بينهن‪ ،‬غَت أهنا أبدت أسفها الشديد على ربطم بعض أطباؽ البايركس الصينية الفاخرة‪ ،‬اليت ال يستخدموهنا إال يف‬
‫اؼبناسبات اػباصة‪.‬‬

‫‪46‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫انتقلن بعد ذلك للحديث عن الطقس‪ ،‬وتسببو يف تأخر اؼبعزين القادمُت من مناطق بعيدة‪ ،‬وأبدى شرؼ بعض‬
‫االىتماـ هبذا اعبانب‪ ،‬وأضاؼ إف اعبو َف يكن مناسبًا لقياـ ىذه اؼبناسبة‪ ،‬ولكن أخواتو رمقنو بنظرات حانقة‪ ،‬وَف‬
‫يُسهنب يف ىذا اغبديث‪ ،‬وفضلن اػبوض يف أمر األطفاؿ‪ ،‬والدمار الذي خلفوه‪ .‬قالت نعمات‪" :‬ال أدري كيف تًتؾ‬
‫سره‪ ،‬بعد أف‬‫األمهات أطفاؽبن ىكذا دوف مراقبة أو اىتماـ؟" كانت مبلحظتها تلك ؿبل احًتاـ شرؼ‪ ،‬الذي ابتسم يف ّ‬
‫تأكد لو أف شبة آخرين يشاركونو رأيو حوؿ األطفاؿ‪ ،‬ولو جزئيًا‪.‬‬
‫وعندما بدأف يناقشن ضرورة استبداؿ اؼببليات اؼبستخدمة بأخرى جديدة‪ ،‬واختلفن حوؿ أيها يستخدمن‪،‬‬
‫منسجما معها كما أبدى ودالنعيم‪ ،‬فنهض من فوره وكاف على‬ ‫ً‬ ‫شعر باؼبلل من ظباع ىذه التفاىات اليت َف هبد نفسو‬
‫أحدا منهم َف يكن يبلحظ‪ ،‬فغادر يف ىدوء‪ .‬كن‪ ،‬وقتها‪ ،‬يناقشن أمر ألواف اؼببليات اؼببلئمة‬ ‫وشك االستئذاف‪ ،‬ولكن ً‬
‫ؼبناسبة العزاء‪.‬‬
‫أحس حبزف غامر يدانبو دوف أف يعلم سببًا لو‪ .‬حزف عميق وقدًن‪ ،‬وللحظة ما انتابتو رغبة ملحة يف البكاء‪.‬‬
‫وضوحا؛ لذا فإنو قرر اؽبروب إُف ناحية بعيدة‪.‬‬
‫ً‬ ‫الليل مزعج هبدوئو القامت‪ ،‬تصبح اآلذاف مرىفة أو األصوات أعمق وأكثر‬
‫دائما‪" :‬بكاء الرجاؿ‪ ،‬كعادهتم السرية‪ ،‬هبب أف يكوف يف اػبفاء!" يكاد يتذكر اؼبرات النادرة اليت بكى فيها‪،‬‬
‫كاف يقوؿ ً‬
‫فلم تكن فيهن واحدة ببل طبر‪" .‬ال يقتل الوىم إال مزيد من الوىم!" رددىا بصوت خافت‪ ،‬كأنو ىبشى أف يسمعو‬
‫أحد‪.‬‬

‫***‬

‫يف بيت أكيج دينق‪ ،‬كاف زوجها العمبلؽ هبلس يف مكانو اؼبعتاد‪ .‬مبلمح وجهو جامدة‪ ،‬ال توحي بشيء على‬
‫اإلطبلؽ‪ ،‬والوشم اإلبري الذي على جبينو يلمع على ضوء البدر غَت اؼبكتمل‪ ،‬كأساور من معدف قامت‪ .‬كاف يبصق من‬
‫فمو لعابًا غز ًيرا وداكنًا بُت اغبُت واآلخر‪ ،‬والكلب الكسوؿ اؼبتشائم يناـ إُف جوار برميل صدئ‪ ،‬دوف أف يزعجو الذباب‬
‫الذي وبوـ حوؿ أنفو‪ .‬النيل رزقة‪ ،‬ذو الصوت اؼببحوح‪ ،‬يناكف أكيج حبذر ىذه اؼبرة‪ ،‬ويهذي بلغة فرنسية متقنة‪:‬‬
‫" ‪Quel rapport y a-t-il entre le vin et les femmes? Pourquoi jamais rien d'autre ne nous vient à l'esprit,‬‬

‫‪ "chaque fois que l'on boit.‬فًتد عليو أكيج حبزـ إداري قاطع‪" :‬يا النيل أليك اهلل رطانة بتاء خواجات دي أكبنا ما‬
‫كررا ورتيبًا‪ ،‬حىت أنو كاف بإمكانو أف يتكهن دبا سيكوف قبل أف‬
‫صداء ساي" كل شيء كاف ُم ً‬ ‫بنفهم‪ ،‬ما تئمل لينا ُ‬
‫يكوف‪.‬‬
‫أحدا يف الشراب‪ ،‬ورأى أف اػبمر مادة تغسل الروح‪ ،‬وهتبها‬
‫منذ زمن طويل قرر شرؼ الدين أال ُهبالس ً‬
‫الصفاء‪ ،‬وأف روح اعبماعية واؼبشاركة غَت متسقة مع ىذه العملية‪ ،‬وأسقط األمر ذاتو على شؤوف كثَتة قرر فعلها دبفرده‬

‫‪47‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫السكر ال هبب أف تكوف ألكثر من ثبلثة أشخاص على األكثر‪ ،‬وإال‬ ‫دوف مشاركة من أحد‪ .‬كاف يرى أف جلسات ُ‬
‫السكر مناجاة روحية ذات طابع خاص"‪ ،‬ورأى أف اؼبناجاة البد أف تكوف فردية؛ وإال‬ ‫لكانت فوضى‪ ،‬وكاف يقوؿ‪" :‬إف ُ‬
‫فقدت خصوصيتها‪.‬‬
‫أغلب الذين جالسهم من قبل كانوا ال ىبرجوف عن أحد ثبلثة مباذج‪ :‬فهم إما ساخطوف على الدنيا‪ ،‬ال يكفوف‬
‫عن ترديد العبارات اليت توحي بالرثاء والنقمة‪ ،‬وإما فبجدوف ألناىم‪ ،‬فيكثروف اغبديث عن بطوالهتم ومغامراهتم اؼبتونبة‪،‬‬
‫ويذكروف مناقبهم اغبسنة‪ ،‬وكأهنم أنبياء‪ ،‬ولكن فقط سكارى حاليًا‪ ،‬وإما ثرثاروف ال يقدموف ألنفسهم أو جملالسيهم فائدة‬
‫جيدا؛ فمنذ أف تثقل اػبمر رؤوسهم‪ ،‬تتنزؿ عليهم شآبيب احملبة؛ فيغدقوهنا على اعبميع‪ ،‬حىت‬ ‫تذكر‪ ،‬وىؤالء يعرفهم ً‬
‫أولئك الذين يروهنم ألوؿ مرة؛ فتجد أحدىم قد ماؿ جبسده كلو على اآلخر‪ ،‬وىو يقسم لو بأنو وببو‪ ،‬وأنو فخور‬
‫دبعرفتو‪ ،‬وأنو شاكر لؤلقدار اليت صبعتو بو‪.‬‬
‫كاف اغبزف يتمدد داخلو فيضيق جلده عليو‪ .‬شعر بأنو مدينة مسكونة بأشباح تعيسة لقتلى حرب عنصرية‪،‬‬
‫لسنتها اؼبدروسة تراجيديا طقوسية بالغة‬ ‫واغبزف آؽبة لتلك اؼبدينة اؼبتفحمة َف يشهد أحد تنصيبها؛ إال أهنم خضعوا ؽبا‪ُ .‬‬
‫الصرامة‪ ،‬والبكاء صبلة إلزامية يف مواسم الكهنوت اغبزائٍت اليت ال تنقضي إال بضمور األرواح أو ذوباهنا يف اعبلود‪.‬‬
‫أراد أف يتخلص من شعوره ذلك‪ ،‬ولكنو َف يستطع‪َ .‬ف يكن يرغب يف التحدث مع أحد‪ ،‬وكأف لسانو معقود‬
‫حببل رقيق إُف قلبو اؼبنفطر‪ .‬فقط تناوؿ كأس طبره من أكيج‪ ،‬وأخذ ينظر إُف ما بُت قدميو‪ ،‬نافثًا دخانو بكل ضجر‪،‬‬
‫وىو يردد أغنية ؼبصطفى سيدأضبد‪:‬‬
‫الدنيا ليل غربة ومطر‬
‫وجع تقاسيم الوتر‬‫وطرب حزين ّ‬
‫شرب الزمن فرح السنُت‬
‫ىداه السفر‬‫والباقي ّ‬
‫يا روح غناي‬
‫الغربة ملّت من شقاي وغربيت‬
‫وبقيت براي‬
‫حاضن أساي‬
‫الوحشة ملّت من أساي وحديت‬
‫ال غنوة ال مواؿ يبدد حسريت‬
‫غَت الدموع يا ملهمة‬
‫الغربة ُمرة ومؤؼبة‬

‫‪48‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫للسكر‪ ،‬تلك اليت تشبو غبظة اؼبيبلد أو‬
‫وللمرة األوُف َف يستشعر تلك اللذة اليت تتزامن مع اللحظات األوُف ُ‬
‫اػبروج من شرنقة‪ .‬غبظة تنطفئ فيها أنوار البصر‪ ،‬لتشتعل أضواء البصَتة‪ ،‬يصبح فيها الكوف داخلك‪ ،‬فتشعر بكل‬
‫شيء‪ ،‬وال تشعر بشيء‪ .‬تبدأ اغبواس بالتعطل شيئًا فشيئًا‪ ،‬وتولد حواس أخرى مكاهنا أكثر حدة وحساسية‪ ،‬ولكنو َف‬
‫يشعر بشيء من ذلك‪ .‬وجد نفسو وقد شبل فجأة دوف مقدمات‪ ،‬وعندىا قرر اػبروج من اؼبكاف على الفور‪.‬‬
‫ىائما على وجهو يف دروب مدينتو‬
‫سار وكأنو يعلم إُف أين يتجو‪ ،‬ولكنو كاف يغرؽ داخل ذاتو يف ىدوء‪ً ،‬‬
‫اغبزائنية‪ .‬روحو تطفو على جسده‪ ،‬ويسمع أصواتًا تتزاحم يف أذنيو‪َ ،‬ف يعرؼ ما إذا كانت أصواتًا مزعجة أـ ضبيمة‪،‬‬
‫كثَتا؛ حىت وجد نفسو على قرب أمو‪ .‬أخذ يتأمل القرب‪ ،‬وكأنو يصلي يف خشوع‪ ،‬صبلتو األخَتة‪ ،‬مث‬ ‫ولكنو انشغل هبا ً‬
‫ىوى جاثيًا على ركبتيو‪.‬‬
‫مس أطراؼ القرب بأناملو اؼبرتعشة‪ ،‬وكأنو يتحسس وجو اؼبوت أو وجو أمو‪ .‬عرؼ أنو يشتاؽ إليها يف ىذه‬ ‫ّ‬
‫اللحظات‪ ،‬وأنو كاف حباجة إُف ظباع ثرثرهتا عن األبقار النافقة‪ ،‬وآفات الزراعة‪ ،‬وفضائح القرية‪ ،‬وأسعار البضائع‪ ،‬وأنباء‬
‫السوؽ وأىلو‪ ،‬وقائمة الفتيات اؼبقًتحات للزواج‪.‬‬
‫َف يتمالك نفسو وىو يتململ فوؽ قربىا كطفل حديث الوالدة؛ فأجهش بالبكاء‪ .‬راح يعتصر تراب القرب‬
‫بقبضتو‪ ،‬ويهزه بقوة‪ .‬أخذ يستنشق أخبرة اؼبوت الرابضة على القرب كرماد األسبلؼ‪ ،‬باحثًا عن رائحة أمو القريبة من رائحة‬
‫مرت عليو‪ ،‬من خزانة ذاكرتو‪ ،‬صور متداخلة وكثَتة‪ ،‬بعضها‬ ‫القونقليز‪ .‬بكى بكاء التائبُت‪ ،‬وكأنو ال يريد أف يتوقف‪ّ .‬‬
‫موغل يف القدـ‪ ،‬وبعضها اآلخر أكثر حداثة‪ ،‬كاف من بينها‪ :‬صورة أبيو الغاضبة واؼبتجهمة‪ ،‬كما يتذكرىا على الدواـ‪.‬‬
‫كانت خبلصة األمر أنو ال يتذكر غبظة سعادة حقيقية يف حياتو‪ ،‬وأف ما مضى منها قضاىا يف سلسلة من‬
‫يتيما‪،‬‬
‫كثَتا أنو أصبح ً‬‫النكسات اؼبتعاقبة‪ ،‬وأنو َف يظفر بأصدقاء حقيقيُت‪ ،‬وكانت اغبقيقة األخَتة اليت أدىشتو‪ ،‬وآؼبتو ً‬
‫فازداد بكاؤه‪.‬‬

‫***‬

‫اؼبتورـ منو‪ .‬نظر من حولو فإذا اؼبقربة ىادئة‪،‬‬


‫فبدا إُف جوار قرب أمو‪ ،‬وذراعو تلف اعبزء ّ‬
‫يف الصباح‪ ،‬وجد نفسو ً‬
‫ىدوءَ قرية موبوءة قضى الطاعوف على سكاهنا‪ ،‬والقبور سبد شواىدىا ألسنة ساخرة ومتهكمة‪ .‬نظر إُف شاىد أمو‪ ،‬وكأنو‬
‫يراه للمرة األوُف (ىذا قرب اؼبرحومة ست النفر بت جاداهلل مرزوؽ ‪ 23 /‬يونيو ‪ )2002‬انتابو شعور غريب حياؿ التاريخ‬
‫رحالة من أزمنة غابرة‪.‬‬
‫اؼبكتوب‪ ،‬وكأنو تاريخ ىبص ّ‬

‫‪49‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫خيّل إليو أف اؼبوتى ينظروف إليو بدىشة منقطعة النظَت‪ ،‬وكأهنم يتساءلوف عن ىذا الكائن اغبي الغريب الذي‬
‫قدر أهنم أحسنوا وفادتو‪ ،‬وأنو أثقل على ىدوئهم ببكائو اؼبزعج ليلة أمس؛‬ ‫قضى ليلتو معهم ىنا‪ ،‬تارًكا عاؼبو الصاخب‪ّ .‬‬
‫قليبل إُف األماـ يف امتناف‪ ،‬وغادر اؼبقربة‪ ،‬وىو يكمل نفض ما تعلق على‬ ‫متثاقبل‪ ،‬ونفض عنو الغبار‪ ،‬مث اكبٌت ً‬
‫فنهض ً‬
‫شعره من غبار‪.‬‬
‫كانت القرية ما تزاؿ تتثاءب بكسل‪ ،‬وأشعة الشمس الدافئة تتسلل خبفة‪ ،‬وكأهنا تفكر بالعودة إُف حيث‬
‫كانت‪ .‬بدأت العصافَت نشاطها الغذائي‪ ،‬وأوراؽ اؽبجليج واؼبورينجا تعزؼ أغباهنا اؼبوحية بالكآبة‪ ،‬وهنيق ضبار بعيد يشذ‬
‫اؼبوحد‪ ،‬وىبرقو برعونة‪ .‬ىز رأسو‪ ،‬وفكر أنو من اعبيد أف اغبمَت ال تتبادؿ النهيق كما تفعل الكبلب‬ ‫عن النسق الكوين ّ‬
‫والديكة‪.‬‬
‫َف تكن بو رغبة للذىاب إُف البيت‪ ،‬تذكر العزاء‪ ،‬ورتابتو القاتلة‪ ،‬الطقوس اؼبتكررة‪ ،‬والوجوه الواصبة ببل مربر‪،‬‬
‫واألطفاؿ اؼبشاغبوف‪ ،‬واألحاديث اؼبتكلفة‪ ،‬والعيوف اليت ترمقو يف فضوؿ‪ ،‬واشتهاء التدخُت الذي يثقل الصدر‪ ،‬ولعاب‬
‫افرا خبلؿ اليومُت اؼباضيُت‪.‬‬
‫ودالنعيم الذي ناؿ منو نصيبًا و ً‬
‫سقا القرية ىو الكائن البشري الوحيد الذي ينضم إُف سَتؾ الكائنات‪ ،‬راكبًا ضباره اؽبزيل مثلو‪ ،‬هبر وراءه عربة‬
‫جديدا على النوتة الكونية‪ .‬سار شرؼ الدين‬ ‫برميل اؼبياه‪ ،‬يطرؽ بعصا األراؾ الغليظة على الربميل‪ ،‬مضي ًفا بذلك صوتًا ً‬
‫ببطء شديد‪ ،‬وكأنو ال يريد أف يصل‪ .‬كانت رائحة القونقليز األمومية ما تزاؿ تسكن خياشيمو‪ ،‬تدغدغ خياالتو عن‬
‫الليلة اؼباضية‪.‬‬
‫كاف قد نسي‪ ،‬وقتها‪ ،‬أمر عودتو إُف اػبرطوـ‪ ،‬وتصوراتو عن اإلرباؾ الذي قد يسببو غيابو‪ ،‬والوعد الذي قطعو‬
‫ؼبديره يف العمل بأف يعود يف اليوـ التاِف مباشرة‪ ،‬ولكنو‪ ،‬يف الوقت ذاتو‪ ،‬كاف منهم ًكا يف اكتشاؼ سر عبلقتو الوجدانية‬
‫يوما‪ ،‬قبل أف يرحل إليها بقرار إداري قبل تسع سنوات‪ ،‬ورغم ذلك فهو غَت قادر على‬ ‫باػبرطوـ‪ .‬ىو َف وبب اػبرطوـ ً‬
‫التصاٌف مع العيكورة وأىلها‪ ،‬ويراىم مثَتين للملل‪ ،‬وباعثُت على الكآبة‪.‬‬
‫كل شيء يف ىذا اؼبكاف يبعث على اغبزف بطريقة ما‪ ،‬حىت عبلقتو بوقية عبد الباسط يكتنفها حزف من نوع‬
‫خاص‪َ .‬ف وباوؿ تفكيك كل ذلك‪ ،‬ولكنو راح يبحث عن عبلقة مناسبة بُت حزنو الذي دانبو باألمس‪ ،‬فجأة‪ ،‬وبُت‬
‫موت أمو؛ وَف يفلح‪ .‬ىز رأسو‪ ،‬وكأنو أراد أف ينفض عنها ىذه األفكار اؼبزعجة‪ ،‬وحاوؿ أف ينشغل عن ذلك بًتديد‬
‫إحدى أغنيات بوب ماري اليت يعشقها جبنوف‪:‬‬

‫‪Cause I remember when we used to sit‬‬


‫‪In the government yard in Trench town‬‬
‫‪Observing the hypocrites‬‬
‫‪As they would mingle with the good people we meet‬‬
‫‪Good friends we have had‬‬
‫‪Good friends we've lost along the way‬‬

‫‪50‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪In this bright future you can't forget your past‬‬
‫‪So dry your tears I say‬‬
‫‪No woman, no cry‬‬
‫‪Little darling don't shed no tears‬‬
‫‪Said, I remember when we used to sit‬‬
‫‪In the government yard in Trench town‬‬
‫‪And then Georgia would make the fire light‬‬
‫‪Log wood burning through the night‬‬
‫‪Then we would cook corn meal porridge‬‬
‫‪Of which I'll share with you‬‬
‫‪My feet is my only carriage‬‬
‫‪So I've got to push on through‬‬
‫‪But while I'm gone‬‬
‫‪Everything's gonna be alright‬‬
‫‪So, no woman, no cry‬‬
‫‪Oh, little darling, don't shed no tears‬‬
‫‪No woman, no cry‬‬

‫***‬

‫اليوـ كل شيء ىادئ؛ حىت اغبزف يف وجوه اؼبعزين بدأ يأخذ شكلو اغبيادي‪ ،‬ليتساوى مع الوجوه اليت يألفها‪،‬‬
‫ووبب التعامل معها‪ ،‬فقط النهنهات اليت كانت تطلقها بعض النسوة يف اعبانب اآلخر كاف ينغص عليو من حُت آلخر‪.‬‬
‫دائما فقد بدأ ودالنعيم بالتسلسل حىت جلس إُف جواره‪ ،‬وبنربة َف زبل من مكر نبس يف أذنو‪" :‬ىذا ىو اليوـ‬ ‫وكعادتو ً‬
‫وغدا نريد أف قبلس سويًا حىت ننهي أمر الًتكة‪ ،‬لينصرؼ كل منا إُف عملو وشؤونو‪".‬‬ ‫األخَت‪ً ،‬‬
‫فعبل‪ ،‬فهي َف تكن سبلك شيئًا ذا‬
‫تساءؿ شرؼ الدين‪ ،‬يف سره‪ ،‬عما إذا كانت أمو قد خلّفت وراءىا تركة ً‬
‫قيمة‪ ،‬وراح يفكر يف شأف الًتكة‪ ،‬وما ستكوف‪ ،‬وما إذا كاف اغبديث عنها اآلف أخبلقيًا أـ ال‪ .‬فكر إنو ليس من اإلنسانية‬
‫أسر يف نفسو‪" :‬هبب دفن ما يًتكو اؼبوتى معهم‪ ،‬كما‬‫آخرا‪ ،‬وقرر أف ذلك أمر ال ينم عن وفاء‪ ،‬و ّ‬‫أف يرث إنساف إنسانًا ً‬
‫كاف يفعل الفراعنة من قبل‪".‬‬
‫بدا العزاء أشبو باجتماع قروي اعتيادي‪ .‬توزع الناس يف ؾبموعات‪ ،‬وراحت كل ؾبموعة تتبادؿ األحاديث‬
‫الضاحكة‪ ،‬واؼبوضوعات الدنيوية األكثر جدية وأنبية من اؼبوت‪ ،‬وبدا أف الناس قد نسوا أمر وفاة اغباجة ست النفر‪،‬‬
‫وواجب البكاء واغبزف عليها‪ ،‬واستغلوا ىذه اؼبناسبة اليت صبعتهم من أماكن متفرقة يف تبادؿ األخبار العامة واػباصة‪ .‬كل‬
‫شيء كاف يوحي باالعتيادية؛ باستثناء قراءة الفاربة بُت اغبُت واآلخر‪ ،‬عندما يدخل أحد اؼبعزين اعبدد‪ ،‬عندىا يتلبس‬
‫اعبو اعبنائزي اؼبكاف لبعض الوقت‪ ،‬مث يعود األمر كما كاف‪.‬‬
‫بطريقتو الوثائقية اػباصة‪ ،‬التفت ودالنعيم إُف شرؼ‪ ،‬وأخرج من جيب جلبابو ورقة صفراء صغَتة‪ ،‬وىو يقوؿ‪:‬‬
‫" نسيت أف أخربؾ أف موعد زيارة عواطف للطبيب ستكوف بعد غد‪ ،‬سوؼ أذىب معكما‪ ،‬وستكوف فرصة جيدة إلهناء‬
‫‪51‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬
‫اإلجراءات القانونية بشأنك ىناؾ‪ ".‬نظر إليو شرؼ بدىشة‪ ،‬وىو يتساءؿ عن سر إصراره على إبقائو على اطبلع‪،‬‬
‫فابتسم ودالنعيم مستدرًكا‪" :‬أعٍت فيما ىبص الًتكة!" َف يفهم شرؼ الدين مغزى كبلمو‪ ،‬كما أنو َف يشعر حياؿ ابتسامتو‬
‫تلك بالراحة‪ ،‬إال أنو اكتفى هبز رأسو مواف ًقا‪ ،‬وأهنى األمر‪.‬‬

‫‪52‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪53‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬
‫أخَتا‪ ،‬معلنًا انتهاء يوـ اغبداد الثالث‪ ،‬وبدأ اؼبعزوف دبغادرة اؼبنزؿ‪ ،‬ولكن عديلة بابو مازالت تصر‬
‫حل اؼبساء ً‬
‫على البقاء‪ ،‬وَف تعد مع من عادوا إُف سوبا حبافلة من الطراز القدًن‪ ،‬واليت أقلت ما يزيد عن سبعة وثبلثُت راكبًا‪ ،‬ما بُت‬
‫رجاؿ ونساء بأطفاؽبم‪ .‬عاد بيت العائلة إُف ىدوئو القدًن‪ ،‬وأحس شرؼ الدين ببعض الراحة لذلك‪ .‬بدت الوجوه أكثر‬
‫وضوحا من ذي قبل‪ ،‬ومبلمح اغبزف تبلشت‪ ،‬إال من ُضبرة اكتنفت األعُت‪ ،‬كتذكار قدًن قد يًتكو األرؽ‪ .‬وألوؿ مرة يتاح‬ ‫ً‬
‫لو ظباع صوت طقطقة أغصاف اؼبسكيت‪ ،‬وحفيف أوراؽ السيسباف اؼبزروعاف يف فناء اؼبنزؿ‪ .‬كاف بإمكانو أف يستشعر‬
‫رحابة اؼبنزؿ من جديد‪ ،‬وأف يسمع صرير اعبنادب‪ ،‬ونقيق الضفادع‪ ،‬وصوت صافرة اؼبعديّة يف آخر رحبلهتا اؼبسائية‪.‬‬
‫أذىلتو رؤية أحد األطفاؿ َف يغادر‪ ،‬وطبن أنو ضاع من أسرتو يف زضبة وداع اؼبغادرين‪ ،‬وضحك اعبميع وىم‬
‫ىبربونو أنو ابن فتحية األصغر الذي َف يشهد مولده على األرجح‪ ،‬ولكن ذلك َف ىبفف من شعوره بالذىوؿ واالستياء‪.‬‬
‫أرضا‪ ،‬وفرش‬ ‫ربدث ودالنعيم عن رحلة اػبرطوـ اؼبفًتضة‪ ،‬وراح ىبطط ؽبا علنًا‪ .‬أحضر حقيبة جلدية وضعها ً‬
‫رجليو إُف جوارىا‪ ،‬وىو يبحث بُت رزمة كبَتة من األوراؽ واؼبلفات عن شيء ما‪ .‬عرؼ اعبميع‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬أنو يبحث‬
‫أخَتا‪ ،‬على عنواف العيادة‪ ،‬وأرقاـ‬
‫عن آخر وصفة عبلجية تلقتها عواطف من طبيبها اؼبعاًف‪ ،‬وأسفل الوصفة عثر‪ً ،‬‬
‫غدا‪.‬‬
‫ىواتفها‪ ،‬وأضاؼ الوصفة إُف ؾبموعة أخرى من األوراؽ واألدوية اليت ينوي أخذىا معو ً‬
‫يف كل ما هبري كاف شرؼ الدين منهم ًكا يف النظر إُف باطن قدـ ودالنعيم اؼبليئة بالتشققات‪ ،‬وكعب قدميو‬
‫اؼبائلُت إُف السواد‪ .‬كانت الشقوؽ اليت يف قدميو مشاهبة للجداوؿ الصغَتة اليت يف كبائن الطوب األضبر؛ تلك اليت‬
‫اتساعا‪ ،‬وكأهنا شقوؽ‬
‫يستخدموهنا لتمرير اؼباء إُف حفر الكبائن‪ .‬وبكثَت من الًتكيز‪ ،‬بدت لو تلك الشقوؽ أكثر ً‬
‫أحدثتها دودة خرافية عمبلقة يف األرض‪ .‬ف ّكر يف اؼبأساة اليت قد تصيب ذبابة عاثرة اغبظ إذا ما وقعت يف إحدى تلك‬
‫الشقوؽ‪.‬‬
‫يف تلك األثناء كانت عواطف رباوؿ ربضَت حقيبتها الصغَتة‪ ،‬بينما انشغلت نعمات بًتتيب اؼبنزؿ‪ ،‬وبدا األمر‬
‫وكأف اغبداد انتهى منذ سنوات‪ .‬حبث عن فتحية‪ ،‬ولكنها والعمة عديلة َف تكونا موجودتُت يف اؼبكاف‪ ،‬واألطفاؿ يلعبوف‬
‫مشهدا‬
‫ً‬ ‫يصوروف‬
‫حبوا عرب الصالة‪ ،‬وكأهنم ّ‬‫بدمى ؿبلية لسيارات اإلسعاؼ والشرطة‪ ،‬وبركوهنا بأيديهم‪ ،‬ويتنقلوف هبا ً‬
‫قليبل‪ ،‬مث شعر باؼبلل‪.‬‬
‫سينمائيًا ألحد األفبلـ البوليسية الشيّقة‪ ،‬تابع معهم ً‬
‫بطريقة َف يُرد ؽبا شرؼ الدين أف تكوف مثَتة‪ ،‬سأؿ فجأة‪" :‬وماذا عن الًتكة؟" عندىا توقف ودالنعيم عن‬
‫البحث بُت أوراقو‪ ،‬وتركت عواطف يديها داخل حقيبتها الصغَتة‪ ،‬وتوقفت نعمات عما كانت تقوـ بو‪ ،‬والتفتوا إليو يف‬
‫سباما وأضاؼ‪" :‬أعٍت؛ ماذا تركت أمي يستحق أف‬ ‫كثَتا‪ .‬حاوؿ استدراؾ اؼبوقف الذي هبهل أسبابو ً‬ ‫دىشة أخافتو ً‬
‫قليبل قبل أف ُهبيب‪:‬‬
‫يورث؟" نظر اعبميع إُف ودالنعيم‪ ،‬وكأهنم يوكلونو بالكبلـ نيابة عنهم؛ فتلعثم ً‬
‫أيضا‪ .‬أعٍت؛ حقوؿ القصب‪ ،‬وغيطاف الربسيم‪ ،‬وقارب‬ ‫"يف اغبقيقة إنو ليس مَتاث أمك فقط‪ ،‬بل ومَتاث أبيك ً‬
‫الصيد القدًن‪ ،‬وىذا البيت؛ إذ ترغب أخواتك يف بيع البيت لتتصرؼ كل واحدة منهن يف نصيبها كيفما تشاء‪.‬‬

‫‪54‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫أنت تعلم أف البيت أصبح قديبًا للغاية‪ ،‬كما أف اعبميع يف القرية بدءوا باالنتقاؿ إُف اػبرطوـ‪ .‬هبب أف نضع‬
‫مستقبل األطفاؿ يف االعتبار‪ ،‬أـ لديك رأي آخر‪ ،‬صهري العزيز؟"‬

‫أحس شرؼ الدين أف األمر مت الًتتيب لو مسب ًقا‪ ،‬ولكنو َف يعرؼ مب هبيب‪ ،‬فظل صامتًا لبعض الوقت‪ ،‬ولسبب‬
‫وحيدا يف مكاف ال هناية لو‪ ،‬وطيف ما‪ ،‬ىزيل وباىت‪ ،‬يقف عند أطراؼ‬ ‫ال يعلمو أحس خبوؼ شديد‪ .‬شعر بأنو يقف ً‬
‫اؼبدى البصري‪ .‬قاطعت نعمات صمتو اؼبتوجس‪" :‬كلنا نرغب بالذىاب إُف اػبرطوـ‪ ،‬لقد أخربت زوجي الشفيع باألمر‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬وىكذا سيكوف بإمكاننا‬ ‫طبعا‪ ،‬وعواطف وعبد اؼبنعم متفانباف حوؿ ذلك ً‬ ‫وأبدى موافقتو‪ ،‬ولن يبخل علينا باؼباؿ ً‬
‫صبيعا أف نظل إُف جوارؾ!"‬
‫ً‬
‫شعر شرؼ الدين دببادئ صداع يداىم مقدمة رأسو‪َ ،‬ف يستطع فهم ما هبري وما يقاؿ‪ ،‬كاف األمر وكأهنم‬
‫خططوا لكل شيء‪ ،‬وانتظروا فقط أف سبوت أمو لينفذوا ما خططوا لو‪ ،‬ولكنو َف يستبعد أف يكونوا قد خططوا لقتلها ىي‬
‫كذلك‪ .‬مرر بصره على اؼبوجودين‪ ،‬وسبعن يف نظراهتم اؼبخيفة واعبشعة‪ ،‬حىت األطفاؿ بدوا‪ ،‬لو‪ ،‬متواطئُت مع ما هبري‪.‬‬
‫ىو وحده فقط من تفاجأ باألمر على ما يبدو‪.‬‬
‫هنض شرؼ الدين بكل ىدوء‪ ،‬وخرج من الصالة العمومية‪ ،‬دوف أف ينطق حبرؼ واحد‪ .‬كانت أصوات القطط يف‬
‫موسم التزاوج تعرب أذنيو‪ ،‬وتغرؽ يف بركة الصمبلخ داخلهما دوف أف تستقر يف دماغو‪ ،‬وأضواء البدر اؼبكتمل كأهنا‬
‫عابرا كل ما يبر حولو يف المباالة‪ ،‬دخل غرفتو‬
‫كشافات منطقة عسكرية تتبعو حيثما توجو‪ .‬اخًتؽ ىدوء األزقة الطينية ً‬
‫دوف أف ينَت اإلضاءة‪ ،‬وأغلق الباب وراءه‪ ،‬مث توغل يف ظبلـ الغرفة اليت كانت تبتلعو ككرش حوت ضخم‪.‬‬
‫ألقى بنفسو على السرير‪ ،‬وظل ينظر إُف السقف الذي َف يكن يره‪ .‬شعر بأف العاَف يدور بو يف فلك ثقيل‬
‫ورتيب‪َ .‬ف يفهم سر اغبالة اليت اعًتتو‪ ،‬كانت األفكار تنهش دماغو كضباع أفريقية شرسة‪ ،‬وأصوات غريبة ودافئة تدؽ‬
‫أخَتا وراء شحمة أذنو‪.‬‬
‫طبلة أذنو ببل ىوادة‪ ،‬وفجأة أحس بدمعة وحيدة تتسلل من عينيو‪ ،‬لتسيل على خده‪ ،‬وتستقر ً‬
‫دمعة وحيدة‪ ،‬ولكنها كانت ساخنة إُف اغبد الذي جعلو يغمض عينيو بقوة‪.‬‬

‫***‬

‫قليبل أو ردبا َف يغف شيئًا‪ ،‬ولكنو أفاؽ على إثر خربشات يف خشب النافذة‪ ،‬وصوت يأتيو من ورائها‬ ‫ردبا غفا ً‬
‫متجها إُف النافذة وفتحها؛ فإذا حبسن البلولة واق ًفا‪ ،‬ويف وجهو‬
‫كنعيق البوـ‪ .‬تشبث دبا بقي لديو من وعي يانع‪ ،‬وهنض ً‬
‫قليبل‪ ،‬نظر إليو شرؼ بعمق‪ ،‬وقاؿ‪،‬‬ ‫عبلمات بؤس بادية‪ ،‬أشار إليو بالسبابة والوسطى‪ ،‬حبركة تعٍت أنو يريد أف يسَتا ً‬
‫وكأنو وبدث نفسو‪" :‬لقد جئت يف وقتك!"‬

‫‪55‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫معا ىبتفياف داخل دخاف العتمة‬ ‫تسلل شرؼ عرب النافذة‪ ،‬وكاف البلولة يبسك بعصا اػبيزراف كعادتو‪ ،‬ومضيا ً‬
‫متعرجا كسفينة‬
‫اؼبشوبة بظبلؿ البدر اؼبكتمل‪ .‬كانت عصا اػبيزراف اليت يبسكها البلولة بإنباؿ يف يده تًتؾ وراءنبا خطًا ً‬
‫تشق البحر إُف نصفُت‪ ،‬تاركة وراءىا خطًا غليظًا من الزبد‪َ .‬ف يكونا يتكلماف طواؿ الطريق‪ ،‬وكأهنما ذاىباف أو عائداف‬
‫من مأمت يعنيهما بشكل شديد اػبصوصية‪ ،‬وَف يقًتح أحدنبا على اآلخر إُف أين هبب أف يتوجها‪ ،‬ولكنهما كانا يف‬
‫طريقهما إُف حقوؿ القصب بكل ثقة‪.‬‬
‫أي غبظة أخرى‪ ،‬فقط يتوجب علينا‬ ‫دائما ىناؾ شيء يقاؿ‪ ،‬واللحظات األكثر حزنًا مهيأة للكبلـ أكثر من ّ‬ ‫ً‬
‫مهما أف يفهم‬‫مهما أف يكوف ذا معٌت‪ ،‬وليس ً‬ ‫صحيحا قواعديًا‪ ،‬ليس ً‬
‫ً‬ ‫مهما أف يكوف الكبلـ‬
‫أف نتكلم‪ ،‬وأف نثرثر‪ ،‬ليس ً‬
‫اآلخروف ما نقوؿ‪ ،‬اؼبهم ىو أف نتكلم‪ .‬أف نتنفس بعمق أثناء الكبلـ‪ ،‬أف نعرؼ كيف لبرج آالمنا اؼبكبوتة عندما نتكلم‪.‬‬
‫أف قبعل الكبلـ‪ ،‬كالعطس‪ ،‬بوابة ػبروج ما يثقل صدورنا على الدواـ‪ ،‬عندىا فقط نشعر بالراحة‪.‬‬
‫كاف شرؼ يعلم مقدار األَف الذي وبملو البلولة جراء عدـ قدرتو على الكبلـ‪ ،‬ومن أجل ىذا‪ ،‬ومن أجل‬
‫إحساسو اؼبتعاظم باؼبسئولية ذباىو كاف وبب ؾبالستو‪ ،‬ليس من باب الشفقة‪ ،‬وإمبا من باب التعويض‪ .‬حواسنا تتعاطف‬
‫مع بعضها البعض‪ ،‬وتعمل بطريقة تكميلية مث تعويضية‪ .‬البصر ال يدرؾ كل شيء؛ لذا يكملو السمع‪ ،‬وىو نفسو ال‬
‫عوضا عنها؛ لذا لن‬
‫يدرؾ كل شيء؛ فيكملو اإلحساس‪ ،‬وعندما نفقد إحدى حواسنا‪ ،‬فإف بقية اغبواس تقوـ بدورىا ً‬
‫أحدا وبسن اإلصغاء واالستماع أكثر من البُكم‪.‬‬ ‫ذبد ً‬
‫طويبل‪ ،‬قرر شرؼ الدين أف يبارس عادتو السرية النادرة يف حضور حسن البلولة للمرة األوُف‪،‬‬‫بعد صراع َف يدـ ً‬
‫وصرح‬
‫فقد أحس برغبة جارفة يف البكاء والثرثرة‪ .‬توقف عند منتصف الطريق الفاصلة بُت حقوؿ القصب وحانة أكيج‪ّ ،‬‬
‫للبلولة برغبتو يف شرب اػبمر؛ فهز البلولة رأسو دبا يشبو االمتعاض‪ ،‬وانطلق وحده إُف حقل القصب‪ ،‬بينما توجو شرؼ‬
‫الدين إُف اغبانة‪ ،‬وىو يردد بعزـ‪" :‬ال يقتل الوىم إال مزيد من الوىم‪".‬‬
‫كانت اغبانة تعج بالزوار على غَت العادة‪ ،‬وزوج أكيج العمبلؽ هبلس يف مكانو اؼبعتاد‪ ،‬يبصق لعابو الغزير‬
‫الداكن يف ىدوء مريب‪ ،‬واألحاديث اؼباجنة والقهقهات السافرة تنطلق من أسفل الراكوبة اػبيزرانية‪ .‬جلس يف مكاف‬
‫بعيد دوف أف يكًتث بكل ما حولو‪ ،‬وأخرج علبة سجائره‪ ،‬ووضعها أمامو على األرض‪ ،‬ووضع فوقها قداحتو اؼبذىبة‪.‬‬
‫بطريقة مهنية راتبة تقدمت أكيج‪ ،‬وىي ربمل قارورة اػبمر‪ ،‬وغمزت لو غمزةً فهم منها أهنا خصتو خبمر جيدة‪،‬‬
‫فابتسم ابتسامة َف تتحرؾ ؽبا كل عضبلت وجهو‪ ،‬وراح وبتسي طبره يف ىدوء وشغف‪ .‬كانت األصوات الغريبة الدافئة‬
‫ما تزاؿ سبرح يف دماغو‪ ،‬فأحس بو ككأس مقلوبة مليئة باألشباح واللعنات‪ .‬كلب أكيج اؼبسن يرقد أسفل مزيرة مياه‬
‫ُ‬
‫أخَتا‪ ،‬من سكونو األزِف‪ .‬لبعض الوقت شعر باإلشفاؽ حيالو‪ ،‬ولكنو عاد‬ ‫الشرب‪ ،‬يطارد بأنيابو براغيث أخرجتو‪ً ،‬‬
‫وأسعده أنو يبارس كلبيتو حبيوية‪.‬‬

‫‪56‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫الحظ‪ ،‬يف وجوده اؼبتخشب ذلك‪ ،‬فتاة ذبلس عند مدخل إحدى الغرفتُت الطينيتُت‪ .‬فتاة ال يعرفها‪ ،‬ولكنها‬
‫جدا عتي ًقا‪ ،‬وما أف انتبو إليها حىت تبسمت يف وجهو برقة حذرة‪ ،‬فابتسم ؽبا باؼبقابل‪،‬‬ ‫كانت ربمل يف نظراهتا الغريبة ُو ً‬
‫وحيّاىا بكأس طبره اليت كانت قد أوشكت على االنتهاء‪.‬‬
‫جاؿ يف خاطره حوار قدًن بالكاد يتذكر تفاصيلو‪ ،‬عندما أخربه أحدىم أف النساء عندما يبتسمن لرجل؛ فهن‬
‫وباولن إخباره حباجتهن إُف اعبنس‪ ،‬واعتمد يف ذلك على أنو ال شيء يسعد النساء‪ ،‬يف ىذا العاَف‪ ،‬سوى اعبنس أو ما‬
‫صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يفضي إليو‪ .‬كاف رأيو أف تلك نظرة متطرفة‪ ،‬ولكنو سبٌت‪ ،‬بينو وبُت نفسو‪ ،‬أف يكوف‬
‫َف يتذكر صاحب اؼبقولة على وجو الدقة‪ ،‬ولكنو تذكر أنو شخص قليل الكبلـ‪ ،‬وافر اؼبعرفة‪ ،‬ال يعيبو إال‬
‫ألي سبب‪ .‬تبسم ضاح ًكا ؽبذه الذاكرة‬ ‫اعوجاج يف شفتيو‪ ،‬وأنو كاف البد أف يعيد حديثو‪ ،‬من بدايتو‪ ،‬إف قاطعو أحدىم ّ‬
‫دائما ما يرد عليهم‬‫اؼببتورة اليت ذبتزئ األحداث بطريقة عشوائية‪ .‬لطاؼبا أخربه رفاقو أنو وبمل ذاكرة ُمسن خرؼ‪ ،‬ولكنو ً‬
‫مازحا‪" :‬اغبقيقة أنٍت ال أشغلها باألشياء التافهة وغَت اؼبهمة!"‪.‬‬
‫ً‬
‫رغم ضجيج اغبانة اؼبمتلئة بضحكات السكارى ونكاهتم البذيئة‪ ،‬وفحيح النيل رزقة الذي ال يكف‪ ،‬وحركة‬
‫أكيج اليت ال هتدأ‪ ،‬ودوراف الكلب حوؿ نفسو؛ إال أنو كاف يشعر هبدوء منقطع النظَت‪ ،‬وكأف ما هبري من حولو مسرحية‬
‫صامتة‪ .‬كل ما كاف حباجة إليو ىو بعض الطمأنينة ليعرب‪ ،‬بواسطتها‪ ،‬إُف خبلصة إنسانية يتمكن هبا من اكتساب التوازف‬
‫النفسي‪.‬‬
‫سخر من هتافت األشياء من حولو‪ ،‬وكأهنا كانت هتوي من صورهتا اؼبثلى لتسقط يف صورة مسخ يتلبس كل‬
‫شيء‪ .‬كل شيء ببل معٌت وببل مذاؽ‪ .‬حىت اػبمر اعبيدة اليت بدأت تشعره بالدوراف‪َ ،‬ف يكن ؽبا ذلك اؼبذاؽ اغباذؽ‬
‫الذي وبب‪َ .‬ف يستشعر تلك اللذة اليت كاف هبدىا يف معاقرة اػبمر كل مرة‪ ،‬وأحس بأنو إمبا يفعل ذلك اآلف بدافع‬
‫روتيٍت غامض‪ ،‬ال يبلك أف يسيطر عليو‪َ .‬ف يعرؼ‪ ،‬على وجو الدقة‪ ،‬ؼباذا أراد أف يغيب عن وعيو‪ ،‬ولكن قوة خفية‬
‫كانت وراء رغبتو بأف يشرب حىت الثمالة‪.‬‬
‫بعيدا مث تعود كأهنا يويو منفلت من خيط مطاطي‬ ‫عاجلتو األفكار اجملنونة‪ ،‬وبدأت تلعب يف رأسو‪ ،‬تذىب عنو ً‬
‫رقيق‪ ،‬معقود يف مكاف ما من دماغو الذي ال يكف عن إصدار الصداع‪َ .‬ف يشأ‪ ،‬يف البدء‪ ،‬أف يغٍت احًت ًاما ؼببلؾ اغبزف‬
‫كثَتا يف االختيار‪:‬‬
‫الذي رافقو إُف حانة أكيج‪ ،‬ولكنو بدأ يغٍت دوف أف يرىق نفسو ً‬
‫وقدر ما يبشي يف سور الزمن خطوات‬
‫يبلقي خطى السنُت واقفات‬
‫يبلقي ىواؾ نبت تاين وملى الساحات‬

‫***‬

‫‪57‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫مؤلتو اػبمر شجنًا‪ ،‬وقذفت بو يف جب ذكريات سحيق‪ .‬ىي ذات الصور الرتيبة والباىتة سبر أماـ عينيو‪ ،‬ذبعل‬
‫أخَتا‪،‬‬
‫كثَتا‪ ،‬قبل أف يسقط‪ً ،‬‬ ‫الصداع أكثر شراسة‪ ،‬فلم يفهم ما إذا كاف ذلك بفعلها أـ بفعل طبر أكيج اعبيدة‪ .‬ترنح ً‬
‫يف إحدى حفر كبائن الطوب‪ ،‬اؼبمتلئة باؼباء اآلسن‪ .‬ابتسم يف سخرية‪ ،‬وىو يشتم رائحة القونقليز والقطن اؼببلوؿ‪ ،‬وكانتا‬
‫أخَتا‪ ،‬من النهوض‪ ،‬واؼبضي يف سبيلو‪.‬‬ ‫أي وقت مضى ىذه اؼبرة‪ ،‬لدرجة أنو راح يسعل بقوة‪ ،‬قبل أف يتمكن‪ً ،‬‬ ‫أقوى من ّ‬
‫أخَتا‪ ،‬إُف اؼبقربة‪ .‬وقف أماـ شاىد القرب‪ ،‬وقرأه للمرة الثانية‪ ،‬ولكن بصوت عاؿ ىذه اؼبرة‪( :‬ىذا‬ ‫ساقتو قدماه‪ً ،‬‬
‫منتفخا حبجم جسدىا‬ ‫قرب اؼبرحومة ست النفر بت جاداهلل مرزوؽ ‪ 23 /‬يونيو ‪ .)2002‬أطاؿ النظر إُف القرب الذي كاف ً‬
‫قليبل مث يهبط‪ ،‬وكأهنا تتنفس بصعوبة داخلو‪ .‬بطريقة درامية جثا على ركبتيو‪ ،‬ووضع كفو على اعبزء‬ ‫اؼبًتىل‪ ،‬ورآه يصعد ً‬
‫اؼبتورـ من القرب‪ ،‬وىو يقوؿ‪" :‬ىذه اؼبرة أنا سأثرثر يا أمي!"‬
‫سقطت منو دمعة دوف قصد‪ ،‬وَف يعرىا أدىن اىتماـ‪ .‬رفع رأسو ونظر إُف السماء‪ ،‬وكأنو يستلهم اغبكمة‪ ،‬مث‬
‫خفضها وغرس كفو يف القرب‪ ،‬وسبدد جواره كطفل أرىقو اللعب؛ فقرر أف يناـ يف أحضاف أمو‪.‬‬
‫"يا للتعاسة! كم ىي الوحدة موحشة ىذه الليلة! جاء أقاربنا الذين كببهم‪ ،‬وأولئك الذين ال نراىم إال يف مواسم‬
‫اغبصاد كاعبنقو ومفاوضي اغبكومة‪ ،‬وأناس ال أعرفهم‪ ،‬كلهم جاءوا إُف عزائك‪ .‬كانت أعينهم الباكية زبفي‬
‫وراءىا مشاتة َف أفهمها‪ ،‬بعضهم ألقى الفاربة دوف اىتماـ‪ ،‬ألنو وفر اىتمامو للمأدبة؛ نعم؛ كانت ىنالك مأدبة‪،‬‬
‫ثبلثة عجوؿ تكفل هبا ودالنعيم‪ ،‬ىل تصدقُت؟‬
‫نعم؛ أكل اعبميع وشبعوا‪ ،‬وكاف بإمكاين أف أرى التخمة يف أعينهم اليت غاصت داخل وجناهتم‪ ،‬واألطفاؿ‬
‫قطعوا أوراؽ السيسباف‪ ،‬وأكلوا شبار اؼبسكيت‪ ،‬وتقاذفوا هبا‪ ،‬أحدىم كاد أف ينهي مستقبلي التناسلي‪ ،‬واألكرب‬
‫سنًا كانوا يوزعوف الشاي اؼبنعنع على اؼبعزين‪ .‬أجل إهنم طيّبوف!‬
‫ودالنعيم‪ ،‬أظهر حرصو اؼبعهود يف كل شيء‪ :‬ىو من أبلغٍت خرب موتك‪ ،‬وحرص على أف يتم الدفن قبل حلوؿ‬
‫السنة‪ .‬ىرع إُف الكاملُت وجلب منها الصيواف وأعمدتو اغبديدية‪ ،‬وحرص على أف‬ ‫اؼبساء‪ ،‬قاؿ إف تلك ىي ُ‬
‫يكوف إُف جانيب طواؿ الوقت؛ وحرص على أف يؤكد ِف موتك‪ ،‬وأطلعٍت على التقارير وشهادة الوفاة‪ ،‬ىل ِ‬
‫كنت‬
‫السكري؟‬
‫فعبل تعانُت من ُ‬
‫ً‬
‫تغَت يا أمي‪ :‬البيوت وأقبة البهائم واؼبيادين والغيطاف والنيل والناس‪ ،‬حىت أكيج أصبحت‬ ‫كل شيء يف العيكورة ّ‬
‫ضخما ومريبًا‪ ،‬ولكنٍت ال أعلم إف كانت‬‫رجبل ً‬‫تزوجت ً‬‫أيضا تغَتت‪ّ .‬‬‫طبرا مزيدة باؼباء‪ .‬أجل؛ ىي ً‬ ‫تسقي زوارىا ً‬
‫كسوال اظبو "بويب"! أشجار‬
‫آخرا ً‬‫أطفاال أـ ال‪ ،‬وكلبها الشرس مات بلدغة من عقرب‪ ،‬وامتلكت كلبًا ً‬ ‫أقببت منو ً‬
‫اؽبجليج واؼبورينجا َف تعد سبنح ظبلؽبا للبشر والبهائم‪ .‬باتت صغار العقارب تتقاتل على ظل األوراؽ اليابسة‬
‫اؼبتساقطة من شجر النيم‪ ،‬زبيّلي!‬

‫‪58‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫مبكرا‪ .‬ىل تعلمُت؟ لقد‬
‫فتحية؟ مازالت تشبو ودالنعيم‪ ،‬ولكن عبلمات الشيخوخة بدأت تظهر على وجهها ً‬
‫مؤخرا أهنا‬
‫فت ً‬ ‫قررت ارتداء اغبجاب‪ .‬قالت إهنا تنوي فعل ذلك ألنو أمر رباين‪ ،‬وزوجها وافقها على ذلك! عر ُ‬
‫طفبل‪ ،‬وَف أسأؿ عن اظبو‪ .‬ونعمات مازالت قلقة كما تركتها‪ .‬أصبحت أكثر غطرسة مذ سافر الشفيع‬ ‫أقببت ً‬
‫دائما‪ ،‬منذ أف كنا‬ ‫ِ‬
‫أيضا‪ .‬عواطف؟ بلهاء ومسكينة كما ىي‪ً ،‬‬ ‫حاج مرضي إُف اػبليج‪ .‬أظنك الحظت ذلك ً‬
‫ؿبمبل بالبضائع‬
‫تتغَت إُف األسوأ‪ ،‬إهنا يف انتظار أف يعود زوجها من واحات جغبوب‪ً ،‬‬ ‫صغارا‪ ،‬ىي الوحيدة اليت َف ّ‬
‫ً‬
‫كثَتا‪ ،‬فشعر رأسها بدأ يتساقط أكثر من ذي قبل‪ ،‬وأخشى‬ ‫اؼبهربة عرب اغبدود‪ ،‬ؽبا اهلل يا أمي! إين أشفق عليها ً‬
‫عليها من الصلع‪.‬‬
‫كعماؿ مناجم الفوسفات‬‫ال تقلقي؛ مازالت صورتو يف الصالة العمومية‪ :‬بنظراتو اغبادة‪ ،‬ومبلؿبو الواصبة ّ‬
‫أردت أف أنتزعو من اغبائط‪ ،‬وأف أىشمو كما ىشم أمنيايت بعناده األرعن‪ ،‬ولكٍت َف أستطع‪ .‬أجل‬ ‫اؼبستوحشُت‪ُ ،‬‬
‫مازلت أخشاه حىت بعد موتو‪ .‬أنا َف أقتلو يا أمي؛ أردتو فقط أف يعرؼ معٌت أف يتمٌت شيئًا فبل يتحصل عليو‪.‬‬
‫كنت أسبٌت أف أدخل كلية الفنوف اعبميلة‪ ،‬وَف أستطع أف أفهم سر رفضو حىت اللحظة‪َ ،‬ف يكن من‬ ‫تعلمُت أنٍت ُ‬
‫حقو أف يبنعٍت‪.‬‬
‫يوما أف أكوف صورة مكررة من أحد‪ .‬ؼباذا َف يفهم ِف ذلك؟ أنت كنت تفهمُت؛ أليس‬ ‫ولكنٍت َف أرغب ً‬
‫كذلك؟ مازالت رائحة شحنة القطن اليت كاف ينوي بيعها يف ود مدين تسكن خياشيمي يا أمي‪َ ،‬ف أستطع أف‬
‫أزبلص منها حىت اآلف‪ ،‬تلك الرائحة اؼببلولة اليت تذكرين بو على الدواـ؛ منذ أف أجربوين على اؼبشاركة يف غسلو‪.‬‬
‫رجبل‪ ،‬وهبب أف آخذ مكانو‪ .‬ولكنٍت كنت أريد أف أدرس الفن‬ ‫قالوا إهنا مهمة رجولية‪ ،‬وإنٍت أصبحت ً‬
‫التشكيلي‪ ،‬تلك كانت أقصى أماين وقتها‪.‬‬
‫دعك منو اآلف‪ ،‬فلم أشعر أنو أيب يف يوـ من األياـ‪ ،‬لقد قررت أف أتزوج بوقية عبد الباسط‪ ،‬تعلمُت أنٍت كنت‬ ‫ِ‬
‫أسوي أموري يف اػبرطوـ‪ ،‬وأعود للزواج هبا‪ ،‬ونرحل‬
‫أحبها‪ ،‬كما أهنا مثَتة وليست ثرثارة كبقية الفتيات‪ .‬سوؼ ّ‬
‫مرة أخرى‪ .‬كم كنت أسبٌت أف تشهدي زفايف يا أمي!‬
‫أجل؛ ومازلت أرى األطفاؿ عائ ًقا أماـ زواجنا‪ .‬ىذا ىراء‪ ،‬اؼبرأة تكذب عندما تدعي أف اىتمامها وانشغاؽبا‬
‫تعبَتا عن حبو ؽبا‪ .‬النساء‬
‫بطفلها تعبَت عن حبها لزوجها‪ ،‬ألهنا يف الوقت ذاتو ال تفهم انشغاؿ زوجها بعملو ً‬
‫كائنات أنانية‪ ،‬ولكن وقية شيء آخر‪.‬‬
‫أعلم أهنا متدينة‪ ،‬ولكن تلك بصمات أبيها إماـ القرية اؽبالك‪ .‬لقد سألتٍت ذات يوـ ؼباذا أُصر على حلق‬
‫كثَتا‪ .‬سوؼ تعتاد طريقيت بعد مضي‬
‫غبييت‪ ،‬فأخربهتا إنٍت أفعل ذلك حىت ذبد مكانًا تقبلٍت فيو! وأقنعها ىذا الرد ً‬
‫الوقت‪ ،‬ال تقلقي حياؿ ذلك‪".‬‬

‫‪59‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫أحٌت رأسو إُف األماـ‪ ،‬كاف يشعر أف عفاريت شريرة سبسك مقدمة رأسو بأصابع كبيلة وقوية‪ ،‬ذات أظافر طويلة‬
‫وحادة‪ ،‬رباوؿ غرسها داخلو‪ ،‬فيحسها أزاميل ربفر يف صبجمتو دوف رضبة‪ .‬صوت مزعج ظل يردد داخلو‪" :‬بعض األسرار‬
‫هبب أال تكشف!" حاوؿ أف يتغلب على ىذياناتو‪ ،‬فلم يستطع‪ .‬غاب يف نوبة من البكاء‪ ،‬وظل يغرس كفو يف القرب‪،‬‬
‫ويستنشق أخبرة اؼبوت‪ ،‬ويشتم رائحة أمو القريبة من رائحة القونقليز حىت ناـ على ذلك‪.‬‬

‫***‬

‫السقد كانت توحي لو‬ ‫َف يعرؼ كم أمضى من الوقت وىو نائم على قرب أمو‪ ،‬ولكن أصوات اعبنادب وطيور ُ‬
‫بأف العاَف اختفى يف بطن منتصف الليل‪ .‬أخرج كفو من القرب‪ .‬كانت تعبق برائحة القونقليز‪ ،‬وَف يشأ أف ينفض عنها‬
‫الًتبة الباردة اليت علقت هبا‪ .‬تذكر أف حسن البلولة ينتظره يف حقوؿ القصب‪ ،‬فنهض حبركة أسرع‪ ،‬وألقى نظرة أخَتة‬
‫قليبل‪".‬‬
‫على أمو يف قربىا‪ ،‬وقاؿ‪" :‬أرجوؾ ال تغضيب مٍت‪ ،‬فقط أحببت أف أثرثر معك ً‬
‫غادر اؼبقربة‪ ،‬وىو ىبشى أف تبلحقو لعنات أمو أينما حل‪ .‬الزمو اػبوؼ كمبلزمة ودالنعيم لو‪ ،‬وتناثرت أمامو‬
‫يوما‪ ،‬يبحث فيها عن سبب هبعلو غَت مقتنع دبا فعل‪ ،‬فلم هبد‪ .‬تأرجح بُت خوفو ورضاه عن‬ ‫يوما ً‬
‫سنوات عمره وبسبها ً‬
‫كثَتا أف تتفهم لو دوافعو‪ ،‬فلطاؼبا كانت كذلك‪.‬‬
‫نفسو‪ ،‬وبُت ؿببة أمو اليت كاف يعشم ً‬
‫نظر إُف بيوت العيكورة‪ ،‬وزرائبها‪ ،‬وأشجارىا وىي تغرؽ يف سراب العتمة‪ ،‬وأصوات اعبنادب تطغى على‬
‫حفيف األشجار ونباح الكبلب‪ .‬رآىا كقرى اعباف اليت تظهر فجأة مث زبتفي ثانية‪ ،‬كأهنا تراىن على قوانا العقلية‪ .‬صدره‬
‫مثقل باؽبواء الساخن والسعاؿ اعباؼ‪ ،‬وقلبو كطبوؿ قبائل بدائية يدؽ بقوة متسارعة‪.‬‬
‫رأى أال شيء مهم يف ىذا الكوف‪ ،‬وأف تارىبو ال وبمل أشياء كثَتة زبصو‪ .‬كانت األرض ربت قدميو‪ ،‬كجثة‬
‫فقمة مهولة‪ ،‬خشنة وطرية يف ذات الوقت‪ ،‬ونباتات العشر غَت اؼبشذبة كشوارب كائنات عدمية تعيش يف عصور ما قبل‬
‫اكتشاؼ اؼبرآة‪ .‬كل شيء حولو يوحي بالكآبة والوحشة‪ .‬نظر إُف الظبلـ بعينُت مذىولتُت‪ ،‬وكأنو يريد أف يتعرؼ عليو‪.‬‬
‫"السواد لوف العدـ‪ .‬ىو البللوف! الوجود واغبركة نبا من أوجدا اللوف‪ ،‬والشك أف الضوء كاف أوؿ من فض بكارة‬
‫العدمية‪ ،‬ولكن ماذا كاف لوف الضوء األوؿ يف ىذا العاَف؟ الضوء يعٍت الزمن يف إحداثيات ىذا الفراغ الكوين‪،‬‬
‫وكبن نقاط ونبية على إحداثية الكوف‪ .‬ؿباولة تغيَت األقدار كمنازلة الذباب! كل شيء ُـبطط لو مسب ًقا‪ ،‬ولكن‬
‫كيف؟"‬

‫كاف حقل القصب يف ذلك الظبلـ يبدو لو كقيامة سوداء‪ ،‬ترقص على حوافها شياطُت ذوات أجنحة مشرشة ال‬
‫زبفق‪ .‬أدىشتو قدرتو على ربديد مدخلو يف كل مرة يلج فيها اغبقل دوف بوصلة‪ ،‬وأدرؾ أال أحد من عائلة بابو يعرؼ‬

‫‪60‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫حقل القصب كما يعرفو ىو‪ .‬وبفظ كل شرب فيو‪ ،‬ومسارات اعبداوؿ اؼبائية وتقاطعاهتا‪ ،‬ومداخلها وـبارجها‪ ،‬ومىت تكوف‬
‫جحيما وسجنًا للخاطئُت‪.‬‬
‫ً‬ ‫وسائد للجنس‪ ،‬ومىت تكوف حائط مبكى‪ ،‬ومىت تكوف‬
‫وتعود عليها منذ أوكل إليو والده حفر جداولو من النهر‪ ،‬وألزمو برعايتها يف إجازاتو‬
‫عرؼ تضاريس اغبقل‪ّ ،‬‬
‫اؼبدرسية‪ ،‬وما أكثر ما عبأ إليو ـبتبئًا من غضبو وسوطو الذي ال يرحم‪ .‬أحب أعوادىا‪ ،‬وألياؼ سيقاهنا اػبشنة‪ ،‬واكتشف‬
‫موىبتو يف كبت التماثيل عند تقاطع اعبداوؿ‪ ،‬يصنع من طُت أرضها قوارب صيد‪ ،‬وأحصنة ووجوه بشرية‪ ،‬وكل ما هبوؿ‬
‫كثَتا‪.‬‬
‫يف خاطره‪ ،‬وأحب ذلك ً‬
‫كاف حقل القصب اؼبكاف الذي شهد أوُف مغامراتو العاطفية مع وقية عبد الباسط‪ ،‬عندما كانا يتواعداف فيو بعد‬
‫بعيدا عن أعُت أىاِف العيكورة الفضولية‪ .‬يتبادالف فيو اعبنس واألحبلـ واألمنيات الطيبة‪ .‬خشي شرؼ الدين أف‬ ‫الزواؿ‪ً ،‬‬
‫فعبل‪ ،‬وأثبتت لو ذلك بشكل عملي يف ىذا اغبقل‪.‬‬ ‫نوعا من االنتقاـ من أبيها‪ ،‬ولكنها كانت رببو ً‬
‫تكوف عبلقة وقية بو ً‬

‫‪61‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪The Entonic‬‬

‫‪62‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫كاف حسن البلولة ما يزاؿ ؿبتفظًا دببلؿبو اؼبمتعضة‪ ،‬عندما وصل شرؼ الدين إُف ملتقى اعبداوؿ اؼبائية داخل‬
‫حقوؿ القصب‪ ،‬حيث جلس فبس ًكا بعجينة من الطُت على ىيئة طائر َف ينتو من تشكيلو بعد‪ .‬نظر إليو بدافع الفضوؿ‬
‫ومد ساقو اليمٌت إُف‬
‫ال أكثر‪ ،‬مث عاد ينهمك يف تشكيل منحوتتو كما كاف‪ .‬جلس شرؼ‪ ،‬وىو يتكئ على كتف البلولة‪ّ ،‬‬
‫منشغبل بعجينة الطُت يقلبها بُت كفيو باىتماـ‬
‫ً‬ ‫األماـ حىت أف كعب قدمو المست سطح اعبدوؿ اؽبادئ‪ .‬ظل البلولة‬
‫وبراعة‪ ،‬بينما راح شرؼ يراقبو بذات االىتماـ حىت اكتملت؛ فرفعها أماـ عينيو‪ ،‬وراح يقلبها على ضوء البدر اؼبكتمل‪،‬‬
‫وينظر إليها بسعادة غامرة‪ ،‬وشاركو شرؼ سعادتو بكلمة واحدة‪" :‬ربفة!"‬
‫وضعها إُف جانبو حبذر شديد حىت ال تتكسر‪ ،‬مث لكز شرؼ بكوعو‪ ،‬وأشار إُف هنديو بكلتا كفيو‪ ،‬فأجابو‬
‫كنت أزور أمي‪ ".‬وبطريقة مراوغة التفت إليو وقاؿ‪" :‬أتدري؛ شيئاف بإمكاهنما تنغيص‬ ‫اآلخر بشيء من اغبياء‪" :‬أجل؛ ُ‬
‫قليبل‪ ،‬واستدرؾ‪" :‬النساء كالكرًن اؼبخفوؽ على قالب‬ ‫حيايت ُكليًا‪ :‬طوؿ اليوـ اؼبمل‪ ،‬وشح اؼبوارد اؼبيتافيزيقية!" مث سكت ً‬
‫مهما‪ ،‬ولكنو يعطي اغبلوى مذاقًا أصبل‪ ".‬بدا أنو َف يكن راغبًا يف سرد أية تفاصيل عما جرى يف‬ ‫اغبلوى‪ ،‬وجوده ليس ً‬
‫تلك الزيارة‪.‬‬
‫أي شيء‪ ،‬فهو يعرؼ العبلقة اليت تربطهما‪ ،‬ويعرؼ مدى تعلقو‬ ‫َف يكن البلولة حباجة إُف أف وبكي لو شرؼ ّ‬
‫هبا‪ ،‬ووقف على تاريخ ىذه العبلقة منذ أف تعرؼ عليو‪ .‬يف الواقع َف يكن يسمع منو إال حكاياتو مع أمو ومع وقية عبد‬
‫كثَتا عنها وعن ثرثرهتا‪ ،‬وعن رائحتها اليت تشبو رائحة القونقليز‪ ،‬تلك اليت اكتسبتها منذ أف كانت تبيع‬
‫الباسط‪ .‬ظبع منو ً‬
‫شبار القونقليز والدوـ لؤلطفاؿ أماـ إحدى اؼبدارس االبتدائية‪ ،‬وعن العداء األزِف بينها وبُت عمتو عديلة بابو‪ ،‬ودعواهتا‬
‫الصادقة واغبماسية عليها بأف سبوت ؿبًتقة‪ ،‬وعن وصاياىا اليت وبفظها عن ظهر قلب‪ ،‬وال تفتأ ترددىا على مسامعو على‬
‫الدواـ عن البنات والعساكر‪.‬‬
‫"إياؾ والسياسة؛ فهي قمار بُت الشيطاف واغبكومة! احذر العساكر‪ ،‬فهؤالء ال تعرؼ قلوهبم الرضبة‪ ،‬فقد رضعوا‬
‫حليب الضباع‪ ،‬وإف اقتادوؾ إُف مكاف ما‪ ،‬فسوؼ لن نتمكن من العثور عليك مرة أخرى‪ .‬تعلّم أف تقوؿ ؽبم‬
‫دائما لتضمن السبلمة‪ .‬واحذر بنات اػبرطوـ‪ ،‬فهن أخوات األباليس‪ ،‬وال شيء يصنعنو سوى إغواء الشباف‪،‬‬ ‫نعم ً‬
‫وأنت ساذج وطيب ويسهل خداعك‪ ،‬والوحدة سوؼ ذبعلك تناسق وراءىن‪".‬‬

‫مرت غبظات قليلة من الصمت كانت بعض السحب اػبفيفة‪ ،‬خبلؽبا‪ ،‬تشاغب البدر اؼبكتمل‪ ،‬وربجب ضوءه‬
‫عن اؼبكاف؛ فيعم الظبلـ‪ .‬تبادال النظرات يف تلك العتمة‪ ،‬وَف ينطقا بكلمة واحدة‪َ .‬ف ترتسم أية مبلمح أو تعابَت على‬
‫وجهيهما‪ ،‬كانا فقط ينظراف إُف بعضيهما يف صمت‪ ،‬وكأف أحدنبا ينتظر من اآلخر أف يقوؿ شيئًا‪ ،‬أدرؾ شرؼ الدين‬
‫كثَتا مع أمي‪ ،‬ولكن ال بأس؛ فالثرثرة معك شيء‬
‫ذلك؛ فابتسم‪" :‬أعلم أنو أنا من يتوجب عليو الكبلـ‪ .‬لقد ثرثرت ً‬

‫‪63‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫آخر‪ ".‬مد يده يتحسس الًتبة‪ ،‬مث وضع يده على عصا البلولة اػبيزرانية‪ ،‬وراح يرسم هبا على األرض خربشات ال معٌت‬
‫ؽبا غَت التوتر‪ ،‬والبحث عن مدخل مناسب‪.‬‬
‫لست حزينًا ؽبذا االكتشاؼ؛ فقد كاف ذلك طواعية‬ ‫مؤخرا أنٍت ببل أصدقاء! ُ‬
‫"ىل تعلم يا صديقي؛ اكتشفت ً‬
‫مٍت أو ردبا َف يكن كذلك‪ ،‬ولكنٍت ال أشعر بالفقد على اإلطبلؽ‪ .‬إياؾ أف تصدؽ ىؤالء‪ ،‬فهم جبناء‪ .‬اعببناء‬
‫والضعفاء فقط ىم من يبحثوف عن أصدقاء‪ .‬ىم ىبافوف الوحدة‪ ،‬الوحدة تشعرىم بضعفهم وال أنبيتهم؛ لذا فإهنم‬
‫حباجة إُف اآلخرين لكي يشعروا بأنبية أنفسهم؛ يالؤلنانية!‬
‫إِف ىكذا؛ تلك ىي اغبقيقة! ىم أنانيوف حُت يبحثوف عن صباعات ينتموف إليها‪ ،‬كل واحد منهم‬ ‫ال تنظر ّ‬
‫وبب أف يبارس دوره داخل ىذه اعبماعة؛ يفعلوف ذلك إلرضاء أنفسهم وحسب‪ .‬الوحدة تفضحهم‪ ،‬تكشف‬
‫زيف أدوارىم اليت يلعبوهنا‪ ،‬وتسقط عنهم أقنعتهم فيشعروف بالعري‪.‬‬
‫الوحدة تعٍت أف تواجو نفسك‪ ،‬وعيوبك‪ ،‬وتارىبك‪ ،‬وأخطاءؾ‪ ،‬وىم ال يقدروف على ذلك؛ بل ىبافوف منو‪.‬‬
‫يضعفوف أماـ أنفسهم؛ لذا يذوبوف يف اآلخرين‪ ،‬ألف كل واحد منهم يبنح اآلخر صورة زائفة عن نفسو؛ فتنعكس‬
‫أردت أف سبتحن كبلمي! سًتى‬‫من مرآة أعينهم إليو؛ فيشعر بالرضا والتقدير‪ .‬اسق أحدىم من طبرة أكيج إف َ‬
‫شحم وجوىهم يذوب أمامك‪ ،‬حىت ال يظل منها إال حقيقتهم‪.‬‬
‫أتعلم ؼباذا أحب اػبمر يالبلولة؟ ألهنا تزيل عٍت شوائب اآلخرين اليت تعلق يب أثناء اليوـ‪ .‬تلك االبتسامات‬
‫البلهاء اليت اضطر لرظبها ألشخاص ال أعرفهم؛ فقط جملرد أهنم مروا من أمامي‪ ،‬أو ألهنم نظروا إُف وجهي مباشرة‪،‬‬
‫شعورا أضب ًقا بأنٍت شخص لطيف‪.‬‬‫أو حىت ألمنحهم ً‬
‫شخصا‬
‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬فهي ذبعلك‬
‫ليس ىنالك ما ىو أصبل‪ ،‬وال أنقى من الوحدة يا صديقي‪ ،‬ولكن شبنها باىظ ً‬
‫دائما جيد وصبيل‪ ،‬ولكن إف َف تكن صادقًا مع نفسك حبق‪ ،‬فإف ىذا االختبلؼ سوؼ‬ ‫ـبتل ًفا‪ ،‬واالختبلؼ ً‬
‫هبعلك تشعر بالدونية والعدمية‪ ،‬وعندىا ستكوف الوحدة انطوائية ال معٌت ؽبا غَت ذبولك يف ذاتك‪ ،‬وفنائك فيها‪،‬‬
‫واػبوؼ من اآلخرين‪ .‬الوحدة شيء واالنطواء شيء آخر‪ .‬أفضل العزلة على أف أكوف ؿباطًا بأصدقاء مزيفُت يا‬
‫البلولة!‬
‫اػبوؼ ىو أصل العواطف البشرية‪ :‬لباؼ من اؼبوت؛ لذا نعيش‪ .‬لباؼ من الوحدة؛ لذا نتزوج‪ .‬لباؼ من‬
‫الفناء والعجز؛ لذا ننجب‪ .‬لباؼ من الفشل؛ لذا ننجح‪ .‬اػبوؼ ىو احملرؾ اغبقيقي وراء عمارة األرض‪ ،‬وبقائنا‬
‫دائما وبركنا اػبوؼ يا‬
‫حدا وجوديًا ما؛ نلجأ إُف التدين‪ ،‬والتعلق بأستار السماء‪ً .‬‬ ‫صبيعا‪ ،‬وعندما يصل اػبوؼ ً‬‫ً‬
‫البلولة‪ ،‬وتلك ىي اؼبصيبة‪.‬‬
‫خطرا علينا من تلك الكائنات‬‫ىبشى الناس عادة فبا ال يرونو‪ ،‬ولكن األجدر بنا أف لبشى النساء‪ ،‬فهن أعظم ً‬
‫رجبل ما‪ ،‬وعاشا قصة من اغبب اعبارؼ‪ ،‬فإهنا سوؼ تتحدى العاَف لتتوج عشقها‬ ‫اػبرافية‪ .‬زبيل أف امرأة أحبت ً‬

‫‪64‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫طفبل‪ ،‬وتعرض الرجل والطفل ػبطر ؿبدؽ‪ ،‬وَف يكن يف إمكاهنا إال أف تنقذ أحدنبا‪،‬‬ ‫بالزواج‪ .‬ولكن إف أقببا ً‬
‫فأيهما كانت زبتار برأيك؟‬
‫جيدا؛ تلك غريزة األمومة القاتلة يا‬
‫فأنت ال تعرؼ النساء ً‬
‫كنت تعتقد أهنا سوؼ زبتار سوى طفلها‪َ ،‬‬ ‫إف َ‬
‫جيدا لوجدت أنو من األجدى ؽبا أف تنقذ زوجها‪ ،‬ألنو باإلمكاف تعويض األطفاؿ‪،‬‬ ‫فكرت ً‬ ‫صديقي‪ ،‬ولو أهنا ّ‬
‫ولكن اغبب ال يعوض‪ .‬إهنا تقدـ اغبب والذكريات‪ ،‬واألحبلـ اؼبشًتكة واللحظات اعبميلة اليت قضتها مع زوجها‬
‫طفبل‪ ،‬بل‬
‫قرابُت ألمومتها العمياء‪ ،‬يف حُت بإمكاهنا أف تتحلى ببعض الوفاء والتعقل‪ ،‬ويكوف دبقدورىا أف تنجب ً‬
‫أطفاال آخرين؛ إف ىي أنقذت زوجها‪ .‬كبن نفكر هبذه الطريقة‪ ،‬ولكنهن ال يفكرف بذات الطريقة‪ ،‬وىنا مكمن‬ ‫ً‬
‫نتصوره‪.‬‬
‫أي شيء آخر قد ّ‬ ‫اػبطر‪ .‬غريزة األمومة أشد خطورة علينا من ّ‬
‫إف الورطة اليت ذبلبها على نفسها ىي أف رباوؿ الظهور دبظهر الرومانسي أمامهن‪ ،‬ألنك سوؼ تكوف‪،‬‬
‫عندىا‪ ،‬مطالبًا بأف تكوف رومانسيًا على الدواـ‪ ،‬وإال فثمة امرأة أخرى يف حياتك! وعندما تطلب من زوجتك أال‬
‫جاىزا عند عودتك‪ ،‬فإهنا تغضب وتثور‪ ،‬ألف ذلك يعٍت أنك ال‬ ‫طعاما ً‬
‫تعد شيئًا على الغداء‪ ،‬ألنك سوؼ ربضر ً‬
‫ربب طبخها‪ ،‬ولكن إذا أخربهتا بأنكما سوؼ تتناوالف طعاـ الغداء يف اػبارج‪ ،‬فإهنا سوؼ تشعر بالسعادة؛ رغم‬
‫حتما‪،‬‬
‫أف احملصلة النهائية قد تكوف واحدة‪ ،‬ولكن الفارؽ الوحيد ىنا أهنا سوؼ ربصل على تعويض جيد‪ ،‬وىي‪ً ،‬‬
‫ال ترغب يف أف تضيع ىذه الفرصة‪ ،‬وردبا يف وقت آخر‪ ،‬أو يف أوؿ مشكلة سبراف هبا سوؼ تصارحك بشكوكها‬
‫حوؿ موقفك من طبخها اؼبنزِف‪.‬‬
‫اإلنساف يا البلولة كائن ال يعقل‪ ،‬ولكنو وبس‪ .‬ىنا بالتحديد تكمن اؼبشكلة؛ أننا يف النهاية كباوؿ أف نكيّف‬
‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫دائما‪ ،‬ألننا أسرى ؼبا ُكبس‪ ،‬وليس كل ما ُكبسو‬
‫تفكَتنا وف ًقا ؼبا ُكبس‪ .‬ىذه احملاوالت التوفيقية خاطئة ً‬
‫أبدا‪ .‬ال شيء مستقيم يف ىذا الكوف‪ ،‬وحده اإلنساف اخًتع اؼبسطرة عندما اضطر إلهباده‪".‬‬ ‫ً‬

‫اتساعا‪ ،‬وبدت السماء الليلية أكثر صفاء من‬


‫طويبل‪ ،‬وكانت عينا البلولة تزداداف ً‬‫قليبل أو ً‬
‫سكت شرؼ الدين ً‬
‫فضل االثناف النظر إُف السماء لبعض الوقت‪ ،‬وكأهنما قررا أف يبنحا نفسيهما اسًتاحة قصَتة‪ ،‬أو خلوة تأملية‬
‫ذي قبل‪ّ .‬‬
‫من ذلك النوع الذي هبعلنا نفكر فيما هبب أف يقاؿ الح ًقا‪.‬‬
‫اؽبواء ثقيل كعادتو يف مثل ىذا اؼبوسم من كل عاـ‪ ،‬وخيّل لشرؼ الدين أف الكوف يطفو على سطح هنر ثقيل من‬
‫اغبمم الربكانية‪ ،‬ونقيق الضفادع‪ ،‬الذي انتبو إليو للتو‪ ،‬ضاعف من إحساسو بوحشة الليل ووحشيتو‪ .‬الحظ ابتبلؿ‬
‫ساعديو‪ ،‬وجبينو بالعرؽ الذي ال يسيل‪ ،‬وال يتحرؾ‪ ،‬وَف يكًتث بتنشيفو على اإلطبلؽ‪.‬‬

‫***‬

‫‪65‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫فيما انشغل البلولة برسم دوائر متداخلة على األرض بكعب قدمو‪ ،‬راح شرؼ الدين يتذكر‪ ،‬ببل مربر واضح‪،‬‬
‫ذلك اليوـ الذي قرر فيو الذىاب إُف كلية الفنوف اعبميلة جبامعة السوداف غبضور اؼبعرض التشكيلي اؼبعلن عنو يف‬
‫بوسًتات منشورة يف ميداف أبو جنػزير‪ ،‬وصاالت ؿببلت بيع الذىب يف السوؽ العريب وسط اػبرطوـ‪ ،‬وعلى اؼبواصبلت‬
‫العامة‪ ،‬وعلى البلفتات القماشية اؼبعلقة بُت أعمدة اإلنارة يف شوارع العاصمة‪.‬‬
‫صادؼ ذلك احتفاؿ الكلية بتخريج إحدى الدفعات‪ ،‬وكاف اؼبعرض أحد فعاليات االحتفاؿ‪ ،‬والذي شارؾ فيو‬
‫عدد من الفنانُت التشكيليُت السودانيُت وغَت السودانيُت‪ ،‬باإلضافة إُف مشاركة بعض اػبرهبُت بلوحاهتم التشكيلية‬
‫ومنحوتاهتم الفنية‪ .‬وجدىا فرصة لتجديد شغفو القدًن الذي حاوؿ والده ؿبوه باألعماؿ األكثر أنبية وفائدة‪ ،‬من وجهة‬
‫نظره‪.‬‬
‫وشاحا من ألياؼ الكشمَت النقي على كتفها‪،‬‬‫استقبلتو فتاة ظبراء ىادئة اؼببلمح عند مدخل اؼبعرض‪ ،‬تلقي ً‬
‫اسعا ذا هنايات مطرزة خبيوط حريرية المعة‪ ،‬وبنطاؿ جينز غامق اللوف‪،‬‬‫قميصا و ً‬
‫وتفرد شعرىا اؼبتفحم وراء ظهرىا‪ ،‬ترتدي ً‬
‫باىتًا عند الركبتُت‪ .‬ابتسمت يف وجهو ابتسامة أكاديبية جادة أجربتو على ردىا بابتسامة أقل جدية‪ ،‬عرضت عليو مرافقتو‬
‫يف جولتو‪ ،‬وتعريفو على أقساـ اؼبعرض‪ .‬عرؼ الح ًقا‪ ،‬من خبلؿ حديثها‪ ،‬أهنا اؼبشرفة‪ ،‬والقيّمة على أعماؿ اؼبعرض‬
‫خبلؿ فعاليات االحتفاؿ‪.‬‬
‫ولست أحد طبلب الكلية‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪ -‬يبدو أنك زائر‪،‬‬
‫فعبل؟‬
‫‪ -‬ىل أبدو كذلك ً‬
‫‪ -‬قليلوف ىم من يهتموف دبثل ىذه اؼبعارض من خارج الكلية‪.‬‬
‫‪ -‬ىذا تفسَت مريح!‬
‫فورا إُف قسم النحت؟‬ ‫‪ -‬ىل ربب قراءة اللوحات التشكيلية‪ ،‬أـ آخذؾ ً‬
‫‪ -‬أال يبكنٍت أف أظفر باالثنُت؟‬
‫‪ -‬بالتأكيد!‬

‫راح شرؼ يتنقل بسرعة من لوحة إُف أخرى‪ ،‬دوف أف يسمح ؽبا أف تكمل شرح قراءهتا لكل لوحة‪ ،‬وعندما نبهتو‬
‫فورا‪" :‬لن أُعَتؾ عيٍت لتقرئي هبما؛ آنسيت!" فعرفت أنو ال يرحب بصحبتها‪،‬‬
‫إُف ذلك بشيء من التهذيب‪ ،‬رد عليها ً‬
‫فانسحبت يف ىدوء راظبة ذات االبتسامة األكاديبية اعبادة‪ ،‬بينما احتفظت لنفسها دبزيج غريب من اغبنق والفضوؿ ذباه‬
‫ىذا الزائر غريب األطوار‪.‬‬

‫‪66‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫صرا على مشاىدة كل اللوحات اؼبعروضة‪.‬‬ ‫َف يكن يتوقف عند كل لوحة أقل من دقيقة واحدة‪ ،‬إال أنو كاف ُم ً‬
‫غمغم من وراء كفو اليت وضعها على فمو‪" :‬ؼباذا يُصر ىؤالء على إفساد الفن دبثل ىذه األعماؿ الطفولية؟" بدا مستاءً‬
‫من طريقة استخداـ الفرشاة‪ ،‬واإلنباؿ الواضح يف تفاصيل الضوء والظل‪ ،‬وعدـ استغبلؿ مساحات اللوحة على الوجو‬
‫األكمل‪ ،‬كما أنو رأى أف بعض اللوحات معروضة بطريقة خاطئة‪.‬‬
‫ساءه كذلك أف بعض زوار اؼبعرض جعلوا منو مكانًا لبللتقاء‪ ،‬وتبادؿ األحاديث اعبانبية‪ ،‬وكاف يرى أف اؼبعارض‬
‫الفنية كبيوت العبادة‪ :‬هبب أال يُسمح فيها بالكبلـ والتشويش‪ .‬سبع وطبسوف لوحة ىي عدد اللوحات اؼبعروضة‪َ ،‬ف هبد‬
‫فيها إال لوحتُت فقط تستحقاف القراءة واإلعجاب؛ فعاد لقراءهتما على مهل بشيء من الًتكيز‪ ،‬مث انتقل‪ ،‬على الفور‪،‬‬
‫إُف قسم النحت‪.‬‬
‫ظلت مشرفة القسم السمراء ذات اؼببلمح اؽبادئة تراقبو عن بُعد‪ ،‬دوف أف يشعر بذلك‪ .‬أحست بأنو يبلك عينًا‬
‫فنية ثاقبة؛ طبنت ذلك من طريقتو يف النظر إُف اللوحات‪ ،‬واستخدامو ألصابعو اليت كاف يبررىا على اللوحة من أطرافها‬
‫بدال عنها‪ ،‬وراحت تتبعو أىن‬
‫وحىت اؼبنتصف حبرفية واضحة‪ ،‬األمر الذي جعلها تستأذف من زميلتها يف استقباؿ الزوار ً‬
‫توجو‪.‬‬
‫وقف أماـ منحوتة شدت انتباىو على الفور‪ُ :‬ؾبسم جبسي لرجل شبو عار‪ ،‬يداه مغلولتاف وراء ظهره‪ ،‬ىبفي‬
‫عورتو بساقيو‪ ،‬وعلى وجهو تعابَت َف يستطع اعبزـ ما إذا كانت هنايات صرخة غاضبة‪ ،‬أـ بدايات بكاء حزين‪ ،‬أـ تعابَت‬
‫أَف من نوع غريب وـبيف‪.‬‬
‫كاف اجملسم دقيق النحت لدرجة َف تدع تفصيلة واحدة لفطنة اؼبشاىد‪ :‬العروؽ‪ ،‬العضبلت‪ ،‬تعابَت الوجو‪،‬‬
‫النِسب‪ ،‬أظافر اليدين والقدمُت‪ ،‬ذباعيد اعبلد‪ ،‬الشعر‪ ،‬تفاصيل األذنُت كل شيء كاف مثاليًا إُف اغبد البعيد‪ ،‬ودوف أف‬
‫يلتفت إُف الوراء‪:‬‬
‫‪ -‬ىل ىذه إحدى أعماؿ طبلب كلية الفنوف اعبميلة أـ عمل فناف عاؼبي؟‬
‫فت أنٍت أقف وراءؾ؟‬‫‪ -‬ألديك عيناف يف قفاؾ؟ كيف عر َ‬
‫‪ -‬اغبس األمٍت هبعلٍت أشعر باؼبراقبة‪.‬‬
‫أنت إذف أحد الرفقاء!‬
‫‪َ -‬‬
‫أنت ِ‬
‫قلت‪.‬‬ ‫‪ِ -‬‬
‫‪ -‬إنو ؾبسم "اؼبتوتر" صنعو فناف سوداين مغمور يدعى حسن البلولة‪.‬‬
‫فعبل‪.‬‬
‫‪ -‬إهنا ربفة عبقرية ً‬
‫‪ -‬اظبها منقوش على لوحة الزينكوغراؼ يف األسفل كما تبلحظ (‪)The Entonic‬‬
‫‪ -‬ىل ىي للبيع؟‬

‫‪67‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪ -‬إهنا للعرض فقط‪ ،‬ال شيء ىنا للبيع‪.‬‬

‫كاف إعجاب شرؼ الدين باجملسم اعببسي باديًا للغاية‪ ،‬لدرجة أنو َف يلتفت إُف اجملسمات واؼبنحوتات اؼبعروضة‬
‫األخرى‪ .‬وقف قبالة وجو "اؼبتوتر" وأخذ يعيد قراءة التعابَت مرة أخرى‪ ،‬وكأنو وباوؿ استنطاقو‪ .‬رأى أف كل االحتماالت‬
‫ورادة‪ ،‬وبشكل كبَت‪ .‬عينا "اؼبتوتر" مغمضتُت يف أَف‪ ،‬وشفتاه شبو اؼبطبقتُت‪ ،‬توحياف ببقايا صرخة أو بكاء أزِف ؿبموـ‪،‬‬
‫وعندما ركز أكثر؛ استطاع أف يرى أسنانو من الداخل‪ ،‬فنهض واق ًفا‪ ،‬وبدأ يصفق يف إعجاب شديد‪" :‬إنو شخص ؾبنوف‬
‫بالفعل!"‬
‫‪ -‬أال ننتقل إُف منحوتة أخرى سيدي؟‬
‫‪ -‬أخشى أف أصاب باإلحباط‪.‬‬
‫‪ -‬وؼباذا؟‬
‫اؼبعرب الوحيد يف ىذا اؼبكاف‪.‬‬
‫‪ -‬ال أريد أف أكتشف أف "اؼبتوتر" ىو الشيء العقبلين ّ‬

‫للحظة عابرة خطر يف ذىنو أف مبلمح اؼبتوتر أكثر إتقانًا من مبلمح القيّمة على اؼبعرض اليت ال توحي بشيء‬
‫مثَت للدىشة على اإلطبلؽ‪ ،‬ولكنو تبسم يف وجهها بنصف جدية‪ ،‬وىو يقرر االنصراؼ إُف بقية اجملسمات األخرى‪،‬‬
‫وكانت سعيدة لقبولو مرافقتو من جديد يف جولتو القادمة‪.‬‬

‫***‬

‫كثَتا لشرؼ الدين‪ ،‬فراح ينتقد‬


‫قليبل‪ ،‬ونبا يتنقبلف بُت اؼبنحوتات اليت َف ترؽ ً‬
‫أمضيا ساعة‪ ،‬تزيد أو تنقص ً‬
‫اضحا بالنسبة إليها‪،‬‬
‫األعماؿ اؼبعروضة‪ ،‬بينما كانت تستمع إُف انتقاداتو األكاديبية بإنصات شديد‪ .‬كاف شغفو بالفن و ً‬
‫وال وبتاج إُف فطنة خارقة‪ ،‬فعيناه تلمعاف كلما توقف لقراءة لوحة أو مشاىدة إحدى اؼبنحوتات‪ ،‬وال يكتفي بذلك؛ إمبا‬
‫وبرؾ رأسو يف صبيع االذباىات‪ ،‬وكأنو وباوؿ رؤية اللوحة من زوايا ـبتلفة ومغايرة‪ ،‬وعلى طريقتو اؼبفاجئة عرض عليها‬
‫تناوؿ كوب من العصَت البارد يف الكافتَتيا اجملاورة للمعرض‪ ،‬ووافقت على الفور‪.‬‬
‫مطوال عن مبلحظاتو اليت‬
‫كثَتا حوؿ الفن‪ ،‬وتارىبو ومدارسو‪ ،‬وتكلم ً‬‫جلسا كأهنما صديقاف ضبيماف‪ ،‬وتناقشا ً‬
‫وصرح عن‬
‫دوهنا على بعض لوحات سلفادور داِف‪ ،‬وانتقاداتو وآرائو البلذعة اليت وجهها للمدرسة السَتيالية بشكل عاـ‪ّ ،‬‬
‫وعرب عن ذلك بقولو‪" :‬السَتيالية إفصاح عن اؼبكبوت‬
‫ـباوفو من طغياف ىذه النزعة على الفن التشكيلي يف السوداف‪ّ ،‬‬
‫جيدا‪ ،‬وؼبن ال وبسن التعامل معو‪".‬‬
‫الذي ال ىبص اآلخر‪ ،‬وىي بوابة إُف العبث ؼبن ال يدركو ً‬

‫‪68‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫وعرب عن سخريتو لتصورات داِف الطفولية عن الزمن‪ ،‬وتصويره‬ ‫تكلم عن لوحة سلفادور داِف "انكسار الزمن" ّ‬
‫يف شكل ساعة جيب من ذلك النوع الذي اعتاد أرستقراطيو القرف الثامن عشر وضعها داخل سًتاهتم‪ ،‬وبٌت نقده‬
‫اعتمادا على اؼبعارؼ العلمية اؼبتوفر يف القرف التاسع عشر الذي عاش فيو داِف‪ ،‬وَف يستفد منها يف وضع تصورات أكثر‬
‫ً‬
‫دقة وعلمية عن الزمن‪ .‬قاؿ‪" :‬كاف عليو أف يستخدـ الضوء يف تعبَته عن الزمن!"‬
‫كما أنو عاب عليو اختياره للساعة الثانية عشر ونصف‪ ،‬وكيف أنو َف ينجح يف اختيار توقيت أكثر فاعلية من‬
‫رسوخا من تداعيات األحبلـ السخيفة‪.‬‬
‫ذلك‪ ،‬فقط كي ربافظ اللوحة على معناىا الوجودي األكثر ً‬
‫" بإمكاف أطفاؿ ىذا العصر أف يرظبوا لوحات تضاىي تصورات داِف البدائية‪ .‬السَتيالية نسق بدائي ال يعًتؼ‬
‫نتصور ساعة يف شكل قالب بيتزا مهًتئ‬
‫بضرورة الظاىر‪ ،‬وال بضرورة الفصل بُت الواقعي واػبياِف‪ .‬ال بأس أف ّ‬
‫تصوراتنا‪،‬‬
‫ومبلوؿ‪ ،‬فاؼببدع ابن عاؽ لبيئتو‪ ،‬وناقل غَت أمُت على األرجح‪ ،‬ولكن ليس أقل من أف نتقن رسم ّ‬
‫وننجزىا بصورة جيدة؛ وإال فإف بإمكاف نقاشي البناء أف يرظبوا أحبلمهم على جدراف اؼبنازؿ كذلك‪.‬‬
‫حلما موازيًا‪ ،‬أليس كذلك؟ إنو ؼبن الوقاحة أف يتدخل أحدنا‬
‫تفسَتا لؤلحبلـ‪ ،‬وليس ً‬
‫األجدى أف يكوف الفن ً‬
‫بتفسَت رؤى اآلخرين وأحبلمهم‪ .‬األحبلـ‪ ،‬يف أساسها‪ ،‬تفسَتات وتصورات لواقعنا اػباص‪ ،‬فكيف لنا أف نتجرأ‬
‫ونفسد ىذه التصورات بتفسَتاتنا اػباصة؟"‬

‫ظلت تستمع إليو باىتماـ بالغ‪ ،‬دوف أف ترد على تساؤالتو اليت الحظت أهنا َف تكن تساؤالت حباجة إُف إجابة‪،‬‬
‫بقدر ما كانت تساؤالت تفتح آفاقًا واسعة للبحث والتأمل‪ ،‬غَت أهنا طبّنت أف يكوف منتميًا للمدرسة الواقعية‪ ،‬وَف تأبو‬
‫تدوف مبلحظاتو وأفكاره باختزاؿ‬ ‫كثَتا ؽبذا التخمُت‪ .‬اكتفت‪ ،‬يف كل ذلك‪ ،‬هبز رأسها عبلمة على اؼبتابعة‪ ،‬وراحت ّ‬‫ً‬
‫شديد‪.‬‬
‫الحظ شرؼ الدين فجأة‪ ،‬وىو وباوؿ مناداهتا‪ ،‬أنو ال يعرؼ اظبها؛ فابتسمت يف ذات اؽبدوء الذي َف يفارقها‬
‫للحظة‪:‬‬
‫‪ -‬سوسن عباس‪ ،‬وأنت؟‬
‫‪ -‬شرؼ الدين بابو‪.‬‬
‫‪ -‬أنا خرهبة فنوف صبيلة‪ ،‬ولدي أعماِف اػباصة‪.‬‬
‫‪ -‬أنا موظف يف قسم خدمة العمبلء يف البنك الزراعي‪.‬‬
‫‪ -‬موظف بنك؟‬
‫‪ -‬الدىشة سؤاؿ علٍت أـ إجابة ُمبطنة؟‬
‫‪َ -‬ف أعرؼ أف موظفي البنوؾ لديهم اىتمامات فنية!‬

‫‪69‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪ -‬ىذا ال يعٍت شيئًا بالنسبة لوضعي‪ .‬أنا موظف طارئ؛ بإمكانك اعتباري كذلك‪.‬‬

‫ظل يُدىشها بإجاباتو الغريبة‪ ،‬ولكنها أحبت تلك الغرابة‪ ،‬وعشقت تلك الدىشة اليت يبنحها إياىا‪ .‬النساء‬
‫كائنات ُملغزة وغامضة‪ ،‬أو ىكذا يرددنا أف نراىن؛ لذا يأسرىن الرجاؿ غريبو األطوار والغامضوف‪ .‬تلك واحدة من أسرار‬
‫كثَتا‪ ،‬وغالبًا ما يكتفي برسم ابتسامة حذرة أو وقورة‪ ،‬وعندما سألتو عن ذلك‪ ،‬رد‬ ‫الطبيعة‪ .‬الحظت أنو ال يضحك ً‬
‫يدؾ أف تبدي كفتاة ُمضحكة‪ ،‬وال أريد أف أبدو كرجل ضاحك!" بصعوبة بالغة استطاعت ذباوز تلك‬ ‫بربود وثقة‪" :‬ال أر ِ‬
‫العقبة‪ ،‬والعبور بالنقاش إُف آفاؽ أوسع‪ ،‬فتكلما حوؿ كل شيء تقريبًا‪ ،‬وكانت بالكاد تتفوه جبملة مكتملة‪:‬‬
‫‪ -‬كبن‪ ،‬السودانيوف‪ ،‬من أكثر الشعوب احتفاءً باعبنس؛ السيما النساء‬
‫‪ -‬ردبا جانبك الصوب يف ذلك‪ .‬اؼبرأة غَت مصرح ؽبا باإلفصاح عن رغباهتا ومشاعرىا‪ ،‬السيما اعبنسية‪ .‬إنو قهر‬
‫اجملتمع الذكوري‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬تلك ىي اغبجة األزلية‪ .‬كل ما تفعلو النساء حبضرة الرجاؿ يفضي إُف اعبنس‪ ،‬حىت ولو َف تكن تشعر‬
‫بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫اضحا باعبنس؟‬
‫‪ -‬خذي ظاىرة "الدخاف" على سبيل اؼبثاؿ‪ ،‬أال تعتربينو احتفاءً و ً‬
‫‪ -‬وؼباذا تعتربه كذلك‪ ،‬إف دخاف خشب الطلح والشاؼ ؽبما فوائد كثَتة للنساء غَت ما ترمي إليو‪ ،‬فهما يبنحاف‬
‫كمعقم جيد‬‫اعبسد نعومة ترغب فيها النساء حىت بدواعي االىتماـ الشخصي‪ ،‬كما أهنما يستخدماف ُ‬
‫للمهبل من آثار السوائل اليت قد تؤدي إُف كثَت من األمراض‪ ،‬أضف إُف ذلك فإنو يستخدـ حملاربة الصداع‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كانت تلك فوائده‪ ،‬فلماذا ال تستخدمينو؟‬
‫‪ -‬ببساطة‪ ،‬ألنٍت لست متزوجػ‪!....‬‬
‫أيت! عقلي الباطٍت يربط الدخاف بالزواج‪ ،‬وال شيء ـبتلف يف حياة اؼبتزوجة عن غَتىا إال اعبنس‪ .‬أال‬ ‫‪ -‬أر ِ‬
‫ترغب غَت اؼبتزوجات يف ذبنب الصداع؟ أال يرغنب يف بشرة نضرة وناعمة؟ أال يرغنب يف تطهَت أعضائهن‬
‫التناسلية ألنفسهن؟ وماذا عن رقيص العروس؟‬
‫كنت على حق‪ .‬أال تبلحظ أف اعبو صبيل ىذا النهار؟‬ ‫‪ -‬ردبا َ‬

‫سباما‪ ،‬وأشجار اعبميز العمبلقة ترمي بثمارىا غَت الناضجة وظبلؽبا األسطورية على‬
‫كاف اعبو ىادئًا كمبلؿبها ً‬
‫اعبالسُت يف الكافتَتيا‪ ،‬وطيور السماف واغبماـ الربي تنتقل بُت األغصاف يف رشاقة ملفتة لؤلنظار‪ ،‬وأصوات العربات يف‬

‫‪70‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫آخرا أكثر دفئًا وضبيمية‪ ،‬بينما كاف بإمكانو أف يسمع صوت‬
‫اػبارج والناس تتداخل لتضفي على لوحة اؼبكاف أل ًقا ً‬
‫قادما من مكاف ما وىو يهتف‪:‬‬ ‫أحدىم ً‬
‫ىا مرة أخرى سنخرج للشوارع‬
‫شاىرين ىتافنا‬
‫ولسوؼ تلقانا الشوارع‬
‫بالبساالت اؼبضادة للعساكر‬
‫واؼبساخر‪ ،‬واػبنوع‬
‫ىا مرة أخرى سنصعد فوؽ ىذا االختناؽ‬
‫إُف عناؽ البندقية‬
‫سيدي ‪..‬‬
‫إف الرصاصة موعدي‬
‫لبلحتفاء بوجو ماريل اغببيبة‬
‫أو خباطر ما أكوف‬
‫ىذي الشوارع علّمتنا أف نفيق‬
‫نرب الربتقالة‬
‫أف ّ‬
‫أف مبوت فدى الرحيق‬
‫يا أخويت ضيقوا ليتسع الطريق‬

‫يف ذلك الوقت‪ ،‬كانت سوسن رباوؿ التهرب من مناقشاتو احملرجة‪ ،‬وبدأت تعرض عليو بعض لوحاهتا اليت رظبتها‬
‫بقلم الرصاص على دفًت الرسم‪ ،‬وأخذا يتناقشاف حوؽبا‪ ،‬وحوؿ اإلمكانيات البلؿبدودة للرسم بالرصاص‪ ،‬واللمسات‬
‫التعبَتية اليت يبنحها للوحة‪.‬‬
‫نصحها بالتوقف عن الرسم على الورؽ اؼبلوف‪ ،‬وضرورة االعتماد على األوراؽ البيضاء‪ ،‬واستخداـ الورؽ اػبشن‬
‫بدال عن الورؽ األملس الذي ببل تعابَت‪ ،‬ونصحها بأف تركز أكثر على دراسة نِسب األشياء‪ ،‬واالىتماـ هبا‪ ،‬واستخداـ‬ ‫ً‬
‫عوضا عن اؼبنديل الذي يسلب رسوماهتا طابع الصدؽ والتأثَت‪.‬‬ ‫أصابعها لشطف الربوز والنتوءات اػبارجية‪ً ،‬‬
‫قليبل لفًتة كانت كافية ألف يشعر باؼبلل‪ ،‬فاستأذف منها معلنًا أنو قرر مغادرة‬
‫عندما انتهيا من الكبلـ‪ ،‬صمتا ً‬
‫اعبامعة‪ .‬حاولت أف ربصل منو على وعد بتكرار الزيارة؛ إال أنو َف يفعل‪ ،‬وأشهر صبلتو احملبطة يف وجهها‪َ" :‬ف أكن أتوقع‬
‫أف تكوف كلية الفنوف اعبميلة فبلة إُف ىذه الدرجة‪".‬‬

‫‪71‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫عندىا وقفت‪ ،‬وبدأت بتجميع أوراقها‪ ،‬وابتسمت ابتسامة ؾباملة‪ ،‬مث صافحتو‪ ،‬وغادرت قبل أف يًتكها ىو‪ ،‬لكنو‬
‫جالسا لبعض الوقت حىت ظبع صوت ضجيج قادـ من بعيد‪ .‬شيئًا فشيئًا عرؼ أف مظاىرة ما على وشك أف تتخلّق‬ ‫ظل ً‬
‫داخل اعبامعة‪ ،‬فقرر اػبروج‪.‬‬

‫***‬

‫أفاؽ بوكزة أخرى من كوع حسن البلولة الذي أشار إُف السماء‪ ،‬فبلحظ أهنا امتؤلت بغيوـ داكنة‪ ،‬وبدأت ترسل‬
‫زخات خفيفة ومشاغبة من اؼبطر‪ ،‬فابتسم وىو يقوؿ‪" :‬البد أهنا خدعة إؽبية ما‪ ،‬فهذا ليس أواف اؼبطر‪ ".‬ضحكا لبعض‬
‫الوقت‪ ،‬وراحا يراقباف تأثَت تلك الزخات اؼبتساقطة على سطح اعبدوؿ الساكن‪ .‬التفت شرؼ إُف البلولة وكأنو تذكر‬
‫شيئًا‪:‬‬
‫فبتعا‬
‫أمرا ً‬
‫كنت أجلس يف شرفة الشقة‪ ،‬أتابع ىطوؿ اؼبطر باىتماـ‪ .‬كاف ذلك ً‬ ‫"يف إحدى لياِف اػبرطوـ اؼباطرة‪ُ ،‬‬
‫للغاية‪ .‬أتعس األمطار تلك اليت َف هتطل على شوارع اػبرطوـ يا البلولة‪ .‬لقد فوتت على نفسها فرصة عظيمة!‬
‫ليس أصبل من أف تشهد مولد التقاء األرض بالسماء يف عرس طيٍت مهيب‪ .‬تلك كانت بداية اغبياة كما يُقاؿ‪،‬‬
‫ولكن لؤلمطار يف اػبرطوـ رائحة شديدة اػبصوصية‪ ،‬فهي ربمل يف جرياهنا روائح السكة اغبديدية‪ ،‬وجواليص‬
‫األحياء اؼبتطرفة‪ ،‬والزرائب‪ ،‬والفنادؽ الفاخرة‪ ،‬واؼبزارع اؼبهجورة‪ ،‬وطمي النيل‪ ،‬واغبانات‪ ،‬وبيوت الدعارة‪ ،‬وحىت‬
‫التاريخ يا البلولة! تشتم كل ذلك يف وقت واحد‪ ،‬ويف ليلة واحدة‪.‬‬
‫يف سنة من السنوات؛ ىطل اؼبطر‪ .‬كاف جاري الذي يقطن يف العمارة اؼبقابلة وبمي حبيبتو من زخات اؼبطر‬
‫كثَتا‪ .‬يف السنة التالية كانا وبمياف طفليهما بذات السًتة‪ ،‬ويركضاف‪ .‬عندىا‬
‫بسًتتو‪ ،‬ويركضاف يف مشهد ال يتكرر ً‬
‫فعبل‪".‬‬
‫أحسست بشيء غريب ً‬

‫كاف البلولة يرسم ابتسامتو البكماء الوادعة‪ ،‬وىو ينظر إليو بعينيو اؼبذىولتُت‪ ،‬وراح يبسح على ركبتيو‪ ،‬وكأنو وباوؿ‬
‫أف يواسيو‪ ،‬أو يشاركو شيئًا من دؼء تلك اللحظات اليت طرأت يف خاطره‪ ،‬مث وضع قبضتيو ربت إبطيو وحرؾ ساعديو‪،‬‬
‫يوما كالعصافَت الطليقة‪".‬‬
‫فتنهد شرؼ وىو يهز رأسو‪" :‬أجل! البد أف كبلق ً‬
‫تنهد مرة أخرى عندما دانبتو الواقعية بوطأهتا الثقيلة‪ ،‬فتذكر اتفاؽ أخوتو على بيع منزؿ العائلة‪ ،‬واالنتقاؿ للعيش‬
‫يف اػبرطوـ واالستقرار هبا‪ ،‬وتلك النربة النفعية اليت استشفها من كبلمهن‪ ،‬ونربات ودالنعيم اليت بدت أكثر استغبللية‬
‫وجشعا‪ .‬فربت على ركبة البلولة‪:‬‬
‫ً‬

‫‪72‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫معا يف شقيت‪ ،‬ونقتٍت لوحات تشكيلية‪ ،‬ومنحوتات فنية بديعة‪،‬‬ ‫"ال زبف يا صديقي‪ ،‬سوؼ ترحل معي‪ ،‬ونعيش ً‬
‫تبت كل شيء‪ ،‬ودونت قائمة األشياء اليت كبتاجها‪ :‬فانوس إضاءة ليلي ملوف‪ ،‬ونافضة غبار من ريش‬ ‫لقد ر ُ‬
‫الطاووس‪ ،‬وفبسحة أقداـ من القش اؼبضغوط‪ ،‬وجوارب منزلية من فراء األرانب‪ ،‬وطقم من سباثيل الفيلة األفريقية‪،‬‬
‫ومشوع معطرة للجو‪ ،‬ومغطس مياه ىوائي‪.‬‬
‫مدوف يف قصاصة احتفظ هبا‪ .‬الًتؼ‪ ،‬واغبياة اؼبخملية ىو كل ما كبتاج أف نتظاىر بو‪ .‬سيكوف‬ ‫كل شيء ّ‬
‫فعبل‪ .‬ىل تعلم يا البلولة؛ شخصاف ال‬
‫بإمكانك أف تعيش حياة أفضل من ىذه‪ .‬ىذه اغبياة تستحق أف نعيشها ً‬
‫أنت لست أحدنبا‪ ،‬تستحق أف تعيش ىذه اغبياة‪ ،‬وأف تستمتع‬ ‫يستمتعاف جبماؿ ىذا العاَف‪ :‬األعمى واغباقد‪ .‬و َ‬
‫كثَتا‪ ،‬فاغبزف حاسة إضافية ال يتمتع هبا إال القلة من البشر‪ ،‬فقط عليك أال ذبعلو‬
‫قليبل أو ً‬
‫هبا‪ .‬ال بأس أف ربزف ً‬
‫عقيدة لك‪".‬‬

‫ابتسم البلولة يف امتناف‪ ،‬وماؿ جبسده إُف الناحية الشمالية‪ ،‬وأمسك بعصا اػبيزراف‪ ،‬ووضعها بُت ساقيو‪ ،‬وناـ‪.‬‬
‫نظر إليو شرؼ الدين‪ ،‬وكاف قد أفرغ ضبولتو من اغبزف اليومي بعد كل الذي قالو‪ ،‬وماؿ جبسده إُف الناحية األخرى‪،‬‬
‫ووضع كفيو بُت فخذيو‪ ،‬وناـ‪.‬‬

‫‪73‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪74‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬
‫صباح العيكورة كاف ـبتل ًفا ذلك اليوـ‪ ،‬ورذاذ اؼبطر الليلي أضفى على أرضها الطينية اغبمراء بري ًقا‪ ،‬كأنو ـبمل‬
‫مرجاين أُلقي على ظهر فيل ىندي‪ .‬عادت طيور أبو القرداف تظهر على ظهور اعبواميس اؽبزيلة‪ ،‬وعلى ضفاؼ النيل‪،‬‬
‫تثقب دبناقَتىا اؼبدببة أرض العيكورة الرطبة‪ ،‬تستخرج من بطنها الديداف اليت قررت االنتحار على طريقتها‪ .‬الشمس تبدو‬
‫مساؼبة للغاية‪ ،‬وكأهنا تتنفس من رئة واحدة‪ .‬النيل األزرؽ ىادئ كعادتو يف مثل ىذا الوقت‪ ،‬وذات الرائحة الغريبة تنطلق‬
‫من غيطاف الباذقباف والربسيم اؼبهجورة‪ ،‬وىديل اغبماـ‪ ،‬اؼبتهافت على فتات اػببز الناشف‪ ،‬ال يكف‪ ،‬والبلشوف الرمادي‬
‫يشاغب حواؼ النهر‪ ،‬ويتغزؿ بأمواجو الفضية‪ .‬ىكذا تستحم طيور البلشوف العيكورية كل صباح‪ ،‬ولكن ىذا الصباح‬
‫كاف ـبتل ًفا والشك‪.‬‬
‫يف اعبانب الشرقي من اؼبنزؿ العائلة‪ ،‬كانت عواطف بابو تطرؽ باب الغرفة اؼبتطرفة‪ ،‬حيث اعتقدت أف شرؼ‬
‫قضى ليلتو فيها‪ ،‬وعندما فتحت الباب وَف ذبده على فراشو‪ ،‬أطلقت من صدرىا تنهيدة ساخنة‪ ،‬وسارعت بإخطار بقية‬
‫أفراد العائلة الذين كانوا يتناولوف طعاـ اإلفطار يف غَت موعده‪ ،‬أماـ اؼبطبخ الذي ببل باب‪.‬‬
‫كاف ودالنعيم منهم ًكا يف األكل لدرجة أنو َف يشعر بشيء على اإلطبلؽ‪ ،‬حىت لكزتو فتحية‪" :‬أَف تسمع يا‬
‫مد ودالنعيم يده إُف كوب اؼباء البارد‪،‬‬
‫رجل؟ لقد غاب شرؼ ثانية‪ .‬لقد سئمنا ىذا األمر‪ ،‬وهبب وضع حد لو‪ّ ".‬‬
‫قليبل‪ ،‬مث قاؿ‪" :‬ال تقلقن‪ ،‬أعلم أين يبكن أف قبده‪ .‬لقد أعددت كل شيء‪ ،‬وسينتهي ىذا األمر قريبًا‪".‬‬ ‫وارتشف منو ً‬
‫وواصل تناوؿ طعامو مرة أخرى‪.‬‬
‫نعمات اليت دخلت للتو‪ ،‬وىي ربمل طب ًقا من سعف النخيل‪ ،‬أبدت استياءىا الواضح من األمر‪ ،‬استشاطت‬
‫أرضا‪ ،‬وعضت ظهر سبابتها‪ ،‬وأضافت متربمة‪" :‬البد أنو عاد ثانية إُف النوـ يف‬ ‫غضبًا فبا ظبعتو‪ .‬ألقت طبق السعف ً‬
‫حقل القصب‪ .‬لو أنو فقط يعود إُف رشده!" حرؾ ودالنعيم كفو األيسر مطمئنًا إياىا‪ ،‬وقاؿ‪ ،‬والطعاـ يبؤل فمو‪" :‬ىذه‬
‫اؼبرة سينتهي األمر؛ وإُف األبد‪ ،‬ولن يقف يف طريقنا شيء‪".‬‬

‫***‬

‫نائما‪ ،‬وبُت‬
‫َف يكن يعوزىم سوى القليل من اعبهد إلهباده بُت سيقاف القصب اؼبتشابكة‪ ،‬وعندما عثروا عليو ً‬
‫فخذيو عصا اػبيزراف‪ ،‬مصمصت عواطف شفتيها يف إشفاؽ‪ ،‬وىي تقوؿ‪" :‬ىا قد عاد مرة أخرى لعصا اػبيزراف!"‬
‫استيقظ شرؼ الدين على صوت ودالنعيم الغليظ وىو يوقظو‪" :‬قم يا شرؼ‪ .‬لو أعلم فقط اؼبتعة اليت ذبدىا يف النوـ يف‬
‫حقل القصب!"‬
‫رفع شرؼ رأسو بتثاقل‪ ،‬وبقايا النوـ ما تزاؿ تتشبث بأجفانو بقوة‪َ .‬ف يستطع أف يرى مبلمح الواقفُت فوؽ رأسو‬
‫بوضوح‪ ،‬كانت أشعة الشمس ربوؿ دوف ذلك‪ ،‬فبدوا لو وكأهنم كائنات طيفية ببل مبلمح على اإلطبلؽ‪ ،‬وما إف رأى‬

‫‪75‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫مذعورا‪" .‬ىدئ من روعك! ىذا أنا ودالنعيم‪ .‬قم معنا فقد تأخر الوقت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أحد ىذه الكائنات سبد يدىا كبوه حىت انتفض‬
‫أنسيت أننا سنذىب اليوـ إُف اػبرطوـ؟" َف يستطع استجماع ذاكرتو بسرعة؛ إال أنو راح يلتفت من حولو‪ ،‬وكأنو يبحث‬ ‫َ‬
‫عن شيء ما‪ ،‬مث ىدأ فجأة‪.‬‬
‫استقاـ شرؼ يف جلستو على األرض‪ ،‬وراح يبسح بباطن كفيو رواسب النعاس العالقة على عينيو‪ .‬كانت أشعة‬
‫الشمس تتسلل خبفة بُت سيقاف القصب‪ ،‬صانعة بذلك خيوطًا ضوئية متقاطعة‪ ،‬بدت كخيوط العناكب‪ ،‬تنتهي لًتسم‬
‫قليبل قبل أف يقوؿ ؽبم يف ىدوء‪" :‬ال بأس اذىبوا إُف اػبرطوـ‬
‫دوائر متباينة األحجاـ على األرض الطينية من حولو‪ .‬سبطى ً‬
‫إف شئتم‪ ،‬وسأغبق بكم أنا وصديقي البلولة‪ ".‬عندىا قفزت نعمات يف سخط‪ ،‬ورمقتو بعيٍت شيطاف غاضب‪:‬‬
‫أبدا؟ قم معنا اآلف‪.‬‬
‫‪ -‬ألن تكف عن ذكر صديقك ىذا ً‬
‫‪ -‬قلت اذىبوا أنتم‪ ،‬وأنا وصديقي سنلحق بكم‪ ،‬ردبا نستقل اغبافلة التالية مباشرة‪.‬‬
‫أي صديق يا شرؼ؟‬ ‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬حسن البلولة!‬
‫صرا على قوؿ ذلك؟ مىت تفهم أنو ال وجود ؽبذا الشخص على اإلطبلؽ؟‬ ‫لت ُم ً‬‫‪ -‬ماز َ‬

‫ذىلت عينا شرؼ وىو يسمع كبلـ نعمات‪ .‬ظل ينظر إليها لفًتة من الوقت‪ ،‬ولكنو قاطع تلك النظرات بأف رفع‬
‫منحوتة الطائر الطينية بيده‪ ،‬وأشهرىا يف وجهها‪:‬‬
‫‪ -‬انظري‪ ،‬إنو َمن صنع ىذه اؼبنحوتة الطينية‪ .‬إنو فناف عبقري!‬

‫راح اعبميع يتبادلوف النظرات فيما بينهما؛ فيما تقدمت عواطف‪ ،‬وجثت على ركبتيها أمامو‪ ،‬وىي سبسح على‬
‫شعره اؽبجيٍت األملس‪:‬‬
‫كنت شغوفًا بصناعة اؼبنحوتات الطينية منذ صغرؾ‪.‬‬
‫‪ -‬شرؼ حبييب‪ ،‬لقد َ‬
‫‪ -‬ولكن ىذه اؼبنحوتة صنعها حسن البلولة بيده‪ ،‬ووضعها إُف جانبو قبل أف يناـ‪.‬‬

‫زؾبر ودالنعيم وىو يضرب ك ًفا بكف‪:‬‬


‫‪ -‬ال أحد يف العيكورة كلها وبمل اسم حسن البلولة‪ ،‬أو حىت لقب البلولة‪ .‬فهل تعرؼ بيتو أو أين يسكن؟‬

‫‪76‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫سكت شرؼ لربىة‪ ،‬وسرح خبيالو وىو يتفرس يف وجوه من حولو‪ .‬كاف على الدواـ يفهم استياءىم من ذكر‬
‫البلولة أمامهم على أنو استياء أسري غامض وعابر‪ ،‬مصدره عدـ تقييمهم للفن‪ ،‬أو عدـ احًتامهم الختيار ألصدقائو‪،‬‬
‫ولكن األمر بدا لو جديًا ىذه اؼبرة‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذي تريدوف قولو؟ ما الذي تريدونو مٍت بالضبط؟‬
‫فورا‪ ،‬لقد رتب ودالنعيم كل شيء‪ ،‬وعثر على التقارير‬
‫‪ -‬شرؼ يا حبييب هبب أف تعود إُف اؼبصح النفسي ً‬
‫الطبيبة القديبة‪ .‬تلك كانت وصية أمك‪ .‬كبن لبشى أف تزداد حالتك سوءًا‪ ،‬فبل ذبعلنا نقلق عليك أكثر من‬
‫ذلك‪.‬‬

‫َف يستطع شرؼ أف يصدؽ ما يسمعو‪ .‬تلك النظرات اعبشعة اليت رآىا يف أعُت أخوتو‪ ،‬ازدادت شراسة‪ .‬لقد‬
‫قتلوا أمو ألهنم يعرفوف مدى تعلقو هبا‪ ،‬وىاىم اآلف وباولوف إيهامو بأنو ؾبنوف ليستولوا على الًتكة‪ .‬ردد بصوت ظبعو‬
‫مستندا على كفيو مث هنض‪ ،‬وىو يرمقهم‬
‫ً‬ ‫البعض‪ ،‬وَف يسمعو اآلخروف‪" :‬ىل يفعل اؼباؿ كل ىذا؟" تراجع إُف اػبلف‬
‫بنظرات حانقة وؿبتقرة‪ ،‬وكاف على وشك اؽبرب؛ لوال أف أمسك بو ودالنعيم وضبلو عنوة‪ ،‬وىو يصرخ‪" :‬دعوين‪ .‬دعوين‬
‫أيها القتلة!" حىت اضطر ودالنعيم إُف لكمو لكمة أفقدتو وعيو‪.‬‬

‫***‬

‫مقيدا إُف عنقريب اعبرتق‪ ،‬وأصابع العفاريت‬


‫أفاؽ شرؼ ورائحة القطن اؼببلوؿ سبؤل خياشيمو‪ .‬وجد نفسو ً‬
‫النحيلة سبسك رأسو تكاد تقتلو بالصداع‪ .‬وعشرات األصوات األزلية تتحدث إليو يف وقت واحد‪ .‬شعر بأنو سقط يف بئر‬
‫من اغبناجر الثرثارة‪ :‬نداءات‪ ،‬وصراخ‪ ،‬وعويل‪ ،‬وأناس يتكلموف بصوت عاؿ‪ ،‬وضحكات ىستَتية‪ ،‬وأصوات كؤوس‬
‫وأطباؽ تتساقط‪ ،‬وطبوؿ‪ ،‬وأمواج متبلطمة‪َ .‬ف يكن حباجة إُف أف يفهمها؛ بقدر ما كاف حباجة إُف أف تصمت‪ ،‬وتفسح‬
‫يف دماغو مساحة الستيعاب ما هبري‪.‬‬
‫لغزا‪ .‬حاوؿ أف يفهم‪ ،‬ولكنو َف يثق فيما يراه وما يسمعو‪ .‬عواطف تبكي‬ ‫وم ً‬‫مبهما ُ‬
‫كل شيء من حولو كاف ً‬
‫على سرير نائي‪ ،‬وقد غطت وجهها بوشاح أخضر‪ ،‬وفتحية ذبلس إُف جواره‪ ،‬وشفتاىا تتحركاف دوف أف يسمع ؽبما‬
‫صوتًا‪ ،‬ونعمات تقف أمامو مباشرة‪ ،‬وقد وضعت كفيها على خصرىا اؼبًتىل‪ ،‬وودالنعيم يتكلم يف ىاتفو احملموؿ بعصبية‪.‬‬
‫ورغم أف اؼبشهد من حولو بدا حيويًا وصاخبًا‪ ،‬إال أف اؽبدوء كاف يعم اؼبكاف‪ ،‬بينما تركز الضجيج يف رأسو‬
‫فقط‪ .‬حاوؿ أف يصرخ‪ ،‬ولكنو َف يستطع‪ ،‬أو ردبا فعل وغرؽ صوتو يف سكوف اؼبشهد الصامت‪ .‬ظلت رائحة القطن‬

‫‪77‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫قسرا إُف ذكريات َف يشأ‬
‫اؼببلوؿ تتنامى من حولو كأغصاف نباتات متسلقة سامة تلتف حولو‪ ،‬وتستقر يف أنفو؛ فتعيده ً‬
‫أف يتذكرىا على اإلطبلؽ‪.‬‬
‫مقيدا إُف العنقريب‪ ،‬فلم يكف عن اؽبياج‪ .‬أحس أف أعصابو‬ ‫خيّل إليو أهنم قد قرروا إلقاءه يف مياه النيل ً‬
‫وشرايينو سوؼ تنفجر من وراء جلده‪ ،‬لًتضي حاجتو إُف الصراخ‪ .‬وبطريقة ما‪ ،‬أحس أنو حباجة إُف طبر من يد أكيج‪،‬‬
‫من لببها األوؿ‪ ،‬وحرؾ شفتيو جبملتو األبدية‪" :‬ال شيء يقتل الوىم إال مزيد من الوىم!"‬
‫شبانية أعُت‪ ،‬ما بُت باكية‪ ،‬وواصبة‪ ،‬وقلقة كانت ترمقو‪ ،‬وىو فبدد كتمساح متخم وقع يف شباؾ صيادين‬
‫ؿباوال استعادة‬
‫ؿبًتفُت‪ .‬خارت قواه من ؿباوالتو الفاشلة للفكاؾ من قيده‪ .‬بعدما يئس من كل شيء‪ ،‬أغمض عينيو ً‬
‫رباطة جأشو‪ ،‬وقرر أف يستفيد من خربتو الطويلة يف قراءة الشفاه مع حسن البلولة‪.‬‬
‫فتح عينيو على مهل‪ ،‬فرأى ودالنعيم وىو يربت على كتف فتحية‪ ،‬وشفتاه تقوالف‪" :‬لقد كلمتو‪ ،‬ووعدين أف‬
‫يأيت بأسرع ما يبكن‪ ".‬وانتبو إُف تطاير رذاذ لعابو‪ ،‬وىو يقوؿ صبلتو تلك‪ ،‬بينما راحت شفتاىا تكرراف‪" :‬يا رب ‪ ..‬يا‬
‫رب" ‪ ،‬إال أنو َف يتمكن من قراءة شفيت نعمات اللتاف كانتا تتحركاف دوف توقف‪.‬‬
‫شيء ما ربرؾ داخل صدره‪َ ،‬ف يعرؼ كنهو على وجو الدقة‪ ،‬ولكنو شيء مريح ومزعج يف ذات الوقت‪ .‬شيء‬
‫ؾبددا‪ ،‬وراح يبحث عن‬
‫كتداخل تارىبُت أو أمنيتُت‪ .‬شيء جعلو يهدأ‪ ،‬ويكف عن مراقبة شفاه من حولو‪ .‬أغمض عينيو ً‬
‫ذلك الشيء الغريب الذي بدأ يتخلق داخلو‪ .‬ظنو بأهنم قرروا قذفو يف مياه النيل كاف حباجة إُف مربر وبولو إُف يقُت‪،‬‬
‫فخمن أهنم لردبا ظبعوه‪ ،‬وىو يتكلم عند قرب أمو‪ ،‬وعرفوا أمر قتلو أباه؛ عندىا شعر بالطمأنينة‪.‬‬
‫"إنو القصاص إذف! ال بأس؛ فبوسعي أف أحسم أمر إيباين بشكل قاطع ىذه اؼبرة‪ ،‬فليس من ؾباؿ غبسم ىذا‬
‫هبرب نكهة العجز‬ ‫األمر إال باؼبوت‪ .‬ولكنٍت َف أشأ أف أقتلو‪ ،‬أردتو فقط أف يعرؼ أنٍت غاضب منو‪ ،‬وأردتو أف ّ‬
‫نادما على ما فعلت‪ ،‬ألنو كاف هبب أف يكوف‪".‬‬ ‫عن ربقيق ما وبتاجو‪ ،‬ولست ً‬

‫صورت لو نفسو أنو كاف حباجة إُف مثل ىذه اغبيلة لكي وبسم مسألة وجود اهلل من عدمو بشكل جذري‪،‬‬ ‫ّ‬
‫اكتشف ذلك للمرة األوُف‪ .‬األمر اآلخر الذي أحس بو كاف خوفو من اؼبوت الذي اكتشفو للمرة األوُف كذلك‪:‬‬
‫َ‬ ‫و‬
‫" ترى؛ كيف سيكوف اؼبوت؟ وكيف ستكوف رائحتو؛ ىل كرائحة القطن اؼببلوؿ‪ ،‬أـ كرائحة القونقليز‪ ،‬أـ سيكوف‬
‫ؼبويت رائحة أخرى؟"‬

‫جالسا على كرسي خشيب‪ ،‬ربت ظبلؿ صبيز عمبلؽ‪ ،‬وفتاة‬


‫راودتو ذكريات مزعجة ظنها متآمرة عليو‪ ،‬رأى نفسو ً‬
‫ظبراء ىادئة اؼببلمح تبتسم يف وجهو ابتسامة ؾباملة‪ ،‬وتغادر اؼبكاف‪ .‬ظبع ىتافات بعض الطبلب‪ ،‬وضجيج سيارات‬

‫‪78‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫اكضا وسط ضباب دخاين أبيض‬ ‫الشرطة‪ ،‬ونداءات ىستَتية‪" :‬حاصروىم‪ ،‬اذىبوا من اعبهة األخرى‪ ".‬رأى نفسو ر ً‬
‫كثيف‪ ،‬وىو يغطي وجهو بأوراؽ النيم‪ .‬حاصره رجاؿ األمن‪ ،‬جادؽبم بأنو ليس طالبًا يف اعبامعة‪ ،‬ولكنهم اقتادوه بالقوة‪.‬‬
‫جيدا ذلك اؼببٌت الغامض‪ ،‬اؼبغطى بأكملو بأغصاف اعبميز اؼبتشابكة‪ ،‬وتلك القطط اليت على سور اؼببٌت‪،‬‬ ‫يتذكر ً‬
‫وىي تنظر إليو يف مشاتة أو يف رثاء‪ ،‬وشتائم رجاؿ الشرطة‪ ،‬والركل باألقداـ‪ ،‬والضرب باألحزمة‪.‬‬
‫مرحى‪ ،‬خفيف الظل وصاحب نكتة‪ ،‬مهندـ الثياب‪ ،‬لُت‬ ‫وضوحا كانت لشاب ثبلثيٍت بدا ً‬ ‫ً‬ ‫الصورة األكثر‬
‫الصوت‪ .‬رأى نفسو وىم يقتادونو إُف غرفة خالية من األثاث‪ .‬تذكر اضطراره األوؿ للكذب عندما سألو الرجل عن اظبو‪،‬‬
‫جاىزا يف ذىنو‪ ،‬وكذبتو الثانية عندما أنكر انتماءه للشيوعيُت‪ .‬رأى الرجاؿ عراة الصدر‪،‬‬
‫فلم هبد إال اسم حسن البلولة ً‬
‫هبردونو من مبلبسو‪ ،‬ووباولوف اغتصابو‪.‬‬
‫مفتوِف العضبلت‪ ،‬وىم ّ‬
‫فزعا‪ ،‬وىو يصرخ هبستَتيا أؽببت اؼبكاف‪ ،‬ونشرت الذعر‪ .‬ظل يردد دوف أف ينظر إُف شخص بعينو‪" :‬ال ‪..‬‬ ‫أفاؽ ً‬
‫ال‪ ،‬أنتم تصروف على زرع الوىم يف رأسي‪ ،‬يا كبلب"‪ .‬غادرت عواطف الغرفة راكضة‪ ،‬وىي تبكي‪ ،‬وَف يكن يف وسعها‬
‫رؤية أخيها يف تلك اغبالة‪.‬‬

‫***‬

‫وصل إظباعيل جقاجق (طبيب القرية اجملاورة) ‪ ،‬وىو نفسو من يلجأ إليو أىاِف العيكورة لعبلج مواشيهم‬
‫وهبائمهم يف فصل اػبريف‪ ،‬ومواسم التزاوج‪ .‬رجل أصلع إال من بعض الشعر اؼبتفرؽ يف مؤخرة رأسو‪ ،‬يرتدي بالطو‬
‫األطباء األبيض فوؽ جلباب من نوع "على اهلل"‪ ،‬وبدت عليو عبلمات االستياء واالمشئزاز‪ .‬كانت برفقتو سيدة دميمة‪،‬‬
‫ؾبعد وقصَت كألياؼ جوز اؽبند‪ ،‬وؽبا ذات مبلمح االستياء واألنفة‪ .‬بدا‬
‫غَت متناسقة اعبسم‪ ،‬تقاربو يف الطوؿ‪ ،‬ذات شعر ّ‬
‫االثناف وكأهنما سيقدماف فقرة هبلوانية مضحكة‪ ،‬أو ىكذا زبيل شرؼ‪ ،‬وىو يراقب ربركاهتما يف ىدوء ساخر‪.‬‬
‫َف يطالب بإخبلء الغرفة‪ ،‬كما ىي عادة األطباء‪ ،‬وإمبا باشر عملو بإجراءات روتينية يف البداية‪ ،‬ىدؼ منها‬
‫إظهار مهاراتو اؼبهنية‪ .‬أخرجت مساعدتو الدميمة وعاء من الكروـ اؼبتآكل من حقيبتها‪ ،‬وبدأ يغسل يديو يف الوعاء‪،‬‬
‫سباما كما يفعل قبل فحص عنزة عشراء‪ ،‬مث طلب منها إهباد أحد العروؽ يف ساعد شرؼ الذي كاف ينظر إليهما بعينُت‬ ‫ً‬
‫مذىولتُت‪ ،‬مث حقنو دبادة استخرجها من حقيبتو القماشية‪.‬‬
‫سبكن شرؼ‪ ،‬قبل أف يغيب عن وعيو‪ ،‬من رؤية بعض أىاِف القرية الذين ذبمعوا حوؿ عنقريبو‪ ،‬ونظرات‬
‫اإلشفاؽ والرثاء تتقافز من أعينهم‪ ،‬وتطعنو يف صدره‪ .‬حىت األطفاؿ الذين ربلقوا حولو‪ ،‬كانوا يتفرجوف عليو من وراء‬
‫ثياب أمهاهتم‪ ،‬ويف أعينهم الفضولية نظرات دىشة وانتباه‪ ،‬وكأهنم أماـ عرض سَتؾ حيواين مثَت‪ .‬أحس باألسى‬
‫والوضاعة لذلك‪ ،‬وسالت من عينيو الناعستُت دمعة ملؤىا الكربياء‪ ،‬مث غط يف سبات عميق‪.‬‬

‫‪79‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫‪ -‬ماذا حدث يا دكتور؟‬
‫قليبل‪ ،‬ولكن‬
‫‪ -‬ال تقلقوا؛ لقد أعطيتو حقنة مورفُت ستجعلو يناـ لبعض الوقت‪ ،‬وحُت يفيق سيكوف قد ربسن ً‬
‫هبب أف تنقلوه إُف مستشفى التجاين اؼباحي‪ ،‬فحالتو تتطلب متابعة صحية لصيقة ومتخصصة‪.‬‬

‫خرج اعبميع من الغرفة استجابة لنصيحة الطبيب الذي أوصى لو بالراحة واؽبدوء التامُت‪ ،‬وأخذوا وبوقلوف‪،‬‬
‫ويضربوف ك ًفا بكف؛ فيما كانت عواطف ال تزاؿ تبكي يف اػبارج‪ .‬أصرت على الدخوؿ إليو‪ ،‬والبقاء إُف جواره‪ ،‬وَف‬
‫يسمحوا ؽبا بذلك؛ إال بعد أف أقسمت باألسبلؼ‪ ،‬وأولياء اهلل الصاغبُت‪ ،‬وقباهبم اؼبقدسة أف تظل ىادئة‪ ،‬وأال يصدر‬
‫منها ما قد يزعجو‪.‬‬
‫دخلت على مهل‪ ،‬وكأهنا رباوؿ اختبار قدرهتا على اإليفاء بالوعد‪ ،‬والقسم الذي قطعتو على نفسها أماـ‬
‫اعبميع‪ .‬جلست إُف جواره‪ ،‬وراحت سبعن النظر إليو‪ ،‬وكأهنا تراه للمرة األوُف‪ .‬كانت مبلؿبو متعبة‪ ،‬وبقايا عرؽ فبلح على‬
‫رقبتو وجبينو‪ ،‬وشفتاه فاقدتاف لنضارهتما اؼبعتادة‪ ،‬وأضفت شعرات غبيتو غَت اؼبشذبة مز ًيدا من مبلمح البؤس واإلنباؿ‬
‫بؤسا من وراء زجاج عينيها اؼببلولتُت ببقايا بكاء حديث العهد‪.‬‬
‫على وجهو؛ كل ذلك بدا أكثر ً‬
‫عرفت عواطف أف النساء‪ ،‬اللوايت جئن مسرعات على إثر مرور إظباعيل جقاجق بالقرية‪ ،‬سوؼ يبضُت الوقت‬
‫يف اغبديث عن شرؼ الدين‪ ،‬وعن ؿبنتو مع اؼبرض‪ ،‬وتارىبو‪ ،‬وأهنن‪ ،‬مع الوقت‪ ،‬سوؼ ينصرفن إُف النميمة‪ ،‬وتناوؿ‬
‫التوافو‪ ،‬حىت ينتهُت من شرب الشاي باغبليب مع البسكويت اؼبنزِف الذي تربع نعمات يف صنعو‪ ،‬دوف أف يراعُت قلق‬
‫األسرة على ىذا اؼبسكُت‪.‬‬
‫مرت أماـ عينيها ذكريات ضبيمة حرصت على االحتفاظ هبا طازجة‪ ،‬ككل أشيائها اػباصة اليت ربتفظ هبا يف‬
‫خزانة مبلبسها‪ ،‬بأكثر فبا تعٍت ؾبرد العناية‪ .‬ذكرياهتا مع شرؼ الدين اؼبمدد أمامها كجثماف ىالك‪ ،‬ال تقدر حىت أف‬
‫سبرر كفيها عليو‪ ،‬أو أف تبكيو بتفاف وذمة‪ .‬راحت هتش الذباب عن وجهو وصدره العاري بطرؼ وشاحها الذي بلوف‬
‫حساء البازيبلء‪.‬‬
‫كاف قلقها عليو يتسلسل من ربت جلدىا كأسراب مبل متوحش‪ ،‬تقتات على خبلياىا العصبية‪ ،‬والدموع ال‬
‫تكف عن السيبلف‪ ،‬وحرصت أف يكوف كل ذلك يف صمت مطبق‪ .‬تذكرت اللحظات اؼبتوترة اليت خلّفها رفضو لزواجها‬
‫من عبد اؼبنعم شكراهلل داخل األسرة‪ ،‬وإغباحو عليها بأف ترفضو‪ ،‬وأف تصر على إكماؿ دراستها‪ .‬ومازالت كلماتو ربوـ‬
‫عروسا قبل‬
‫أيضا موقف العائلة من ذلك‪ ،‬ووسوسات عمتها عديلة اليت أرادت أف تراىا ً‬ ‫خَتة‪ .‬تتذكر ً‬
‫يف ضمَتىا كأرواح ّ‬
‫أف توافيها اؼبنيّة‪.‬‬
‫ِ‬
‫استمتعت إليو" تتذكر ىذه اعبملة اليت‬ ‫"شرؼ الدين شاب فاشل‪ ،‬وسوؼ هبرؾ معو إُف مستنقع فشلو؛ إف ِ‬
‫أنت‬
‫أي شيء‪،‬‬ ‫سرا‪" :‬سيقوؿ الناس عنو ّ‬ ‫ظلت العائلة بأسرىا ترددىا على مسامعها‪ ،‬وتقارهنا بنصائحو اليت كاف يقولو ؽبا ً‬

‫‪80‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫طويبل‪ ،‬فاالثنتاف‬
‫جاىبل ال يستحقك‪ ".‬وَف تستطع أف ذبابو إغباح أمها‪ ،‬ووسوسات عمتها ً‬ ‫لصا ً‬ ‫ولكنو يظل يف النهاية ً‬
‫أرادتا أف تطمئنا عليها قبل موهتما‪.‬‬
‫نظرت إُف قدميو اغبافيتُت‪ ،‬كأهنما ؿبفورتاف من خشب السندياف العتيق‪ ،‬وأظافره اليت ضبلت طُت كبائن الطوب‬
‫رجبل‬
‫األضبر‪ ،‬وأوساخها ذات الرائحة النتنة‪ .‬تذكرت معو معاملة والدىا القاسية لو‪ ،‬وأمنيتو التليدة يف أف يصنع منو ً‬
‫يعتمد عليو؛ السيما وأنو جاء بعد ثبلث ذبارب تناسلية ؿببطة‪َ ،‬ف تنتج غَت إناث‪.‬‬
‫يعرؼ اعبميع قسوة عبد الرحيم بابو على ولده‪ ،‬ويتندروف بتلك اغبادثة اليت عاقب فيها بابو ولده‪ ،‬لذنب َف‬
‫قاطعا مسافة تزيد عن ثبلثة كيلومًتات‪ .‬كاف سن شرؼ‬ ‫يفصح عنو‪ ،‬بأف ربط يديو إُف ذيل اغبمار‪ ،‬وسار بو إُف بيتو ً‬
‫الدين‪ ،‬وقتها‪ ،‬ال يتجاوز اغبادية عشر‪ ،‬وكرر ذلك أكثر من مرة على فًتات متباعدة‪ .‬طبنت أف ذلك ما منحو تلك‬
‫الطاقة اؼبتوحشة يف السَت على األقداـ ؼبسافات طويلة‪ ،‬عندما ظل ىبتفي عن القرية؛ ليجدوه بعدىا يف أماكن غريبة‬
‫أخَتا يف حقوؿ القصب اؼبمتدة دبحاذاة النهر‪.‬‬
‫وموحشة‪ ،‬حىت استقر بو األمر ً‬
‫ظلت عواطف ربمل طاقة عاطفية مهولة‪ ،‬حاولت إفراغها مع أسرهتا؛ فسخروا منها‪ ،‬ومن رومانسيتها اليت تأيت‬
‫يف أزمنة اجملاعة‪ ،‬والقحط‪ ،‬ونفوؽ البهائم‪ .‬مث حاولت إفراغها مع زوجها؛ فلم تفلح‪ ،‬وانتظرت أف ترزؽ منو بأطفاؿ تفرغ‬
‫فيهم عاطفتها تلك‪ ،‬ولكن عبد اؼبنعم شكراهلل كاف كالكاره للراحة؛ ال يفتأ يتنقل من بلد إُف بلد سعيًا وراء ثروة ذبعلو‬
‫أردت أف تنجح؛ فأتقن‬‫كمختار عوض اعبيد‪ ،‬تاجر الفوؿ والسعوط‪ .‬حاولت يومها أال تبدو عاطفية وىي تنصحو‪" :‬إذا َ‬
‫يتحوؿ بُت األعماؿ اؼبختلفة كلما ظبع أهنا ذبلب لو الثروة اليت‬
‫صنعة واحدة!" ولكنو كاف يريد الثراء ال النجاح‪ ،‬وظل ّ‬
‫أخَتا إُف هتريب البضائع من ليبيا‪.‬‬
‫يريد‪ ،‬حىت خلص ً‬
‫مر وقت طويل‪َ ،‬ف تكًتث عواطف غبسبانو‪ ،‬وىي يف مكاهنا هتش الذباب عن وجو أخيها وصدره العاري‪،‬‬
‫تراقب عينيو بإغباح شديد‪ ،‬وكأهنا تتوقع أف يفتحهما يف أية غبظة‪ .‬بعض الذباب ترؾ وجو شرؼ الدين احملفوؼ‬
‫باؼبخاطر‪ ،‬وقرر مهاصبة وجهها الساكن كلوحة اعبيوكاندا‪ .‬ابتسمت عواطف‪ ،‬حبذر‪ ،‬وىي تقوؿ يف سرىا‪" :‬الذباب ال‬
‫أبدا‪ ،‬ردبا يظنٍت أالعبو بوشاحي!" عندما ناؿ منها التعب‪ ،‬فردت وشاحها بشكل طوِف‪ ،‬وغطت وجو شرؼ‬ ‫وبب الراحة ً‬
‫بطرفو‪ ،‬وغطت وجهها بالطرؼ اؼبقابل‪ ،‬وغفت على ساقيو لبعض الوقت‪.‬‬

‫***‬

‫كانت سحابة بيضاء تشوش على اؼبكاف عندما أفاؽ شرؼ الدين‪ ،‬وأحس بأنو ناـ مائة عاـ‪ ،‬أو كأنو استيقظ‬
‫مقيدا حبباؿ من ألياؼ النخيل الغليظة إُف عنقريب‬
‫لتوه من اؼبوت‪ .‬حاوؿ النهوض‪ ،‬لكنو َف يستطع‪ ،‬وأدرؾ أنو مازاؿ ً‬
‫اعبرتق‪َ .‬ف تكن بو رغبة يف اؼبقاومة‪ ،‬فجسده اؽبزيل خائر القوى‪ ،‬وقبائل من النمل الزجاجي تنخر يف عظامو‪ .‬الصورة‬

‫‪81‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫اليت علقت بشباؾ بصره‪ ،‬ككابوس متوحش‪ ،‬كانت صورة أولئك األطفاؿ الفضوليُت الذين راحوا يتفرجوف عليو‪ ،‬ـبتبئُت‬
‫خلف ثياب أمهاهتم‪ ،‬والزاؿ منظرىم يبعث يف نفسو اؼبهانة‪.‬‬
‫جوعا‪ ،‬ىذا األمر يزعجو‬
‫شرؼ الدين ال وبب أف يناـ على ظهره لوقت طويل كدعسوقة عاثرة تنتظر اؼبوت ً‬
‫كثَتا‪ ،‬كما أف حباؿ ألياؼ النخيل اػبشنة كانت تزيد من ضيقو؛ إضافة إُف الشيء الرابض على ساقيو‪ ،‬وَف يتمكن من‬ ‫ً‬
‫ربديد ماىيتو بعد‪.‬‬
‫كثَتا أنو أفاؽ‪ .‬أخذت تسألو عن حالو بقلق‬
‫كفيبل بإيقاظ عواطف اليت أسعدىا ً‬ ‫انطلق منو أنُت الإرادي كاف ً‬
‫فاقدا للذاكرة‪ ،‬لتربر‬
‫جم‪ ،‬فنظر إليها مليًا‪ ،‬قبل أف يرد بسخرية‪" :‬مغلوؿ حبباؿ!" بدأت تسرد عليو ما حدث‪ ،‬وكأنو كاف ً‬
‫سبب ربطو باغبباؿ‪ ،‬لكنو ابتسم ابتسامة باردة‪ ،‬وَف ينطق بشيء‪.‬‬
‫كثَتا‪ ،‬كأنو توقع منها‬
‫أخَتا أصبح بإمكاهنا أف سبرر كفيها على صدره‪ ،‬وأف سبسح عرقو يف حنو أمومي َف يزعجو ً‬ ‫ً‬
‫ذلك‪ .‬طلب منها أف ربل قيوده‪ ،‬لكنها َف تفعل‪ .‬أخربتو أف ذلك ؼبصلحتو‪ ،‬وأف كل شيء سيعود كما كاف؛ إف ىو اقتنع‬
‫بدخوؿ اؼبصح النفسي مرة أخرى‪ ،‬فتملكتو حالة من االستياء‪ .‬شعر أنو سوؼ يبوت قبل أف ينجح يف إقناعها بفك‬
‫فبددا على ظهره كاػبنافس؛ فاستعصم بالسكوت‪.‬‬ ‫مقيدا‪ ،‬و ً‬
‫أبدا ما يعنيو أف يكوف اإلنساف ً‬ ‫قيده‪ ،‬وأهنا لن تعي ً‬
‫عددت لو أظباء اللوايت مررف لبلطمئناف عليو‪ ،‬عندما ظبعن أبواؽ سيارة الدكتور إظباعيل جقاجق‪ ،‬وشرحت لو‬
‫مدى القلق الذي تعيش فيو األسرة‪ ،‬وـبططاهتا إلصبلح ما يبكن إصبلحو من ىذا الوضع‪ ،‬وكيف أهنم قرروا االستقرار‬
‫يف اػبرطوـ من أجل أف يكونوا إُف جواره حىت يتعاىف‪ ،‬ويعود إُف سَتتو األوُف‪ .‬وكاف كأنو ال يسمع ما تقولو‪ ،‬معل ًقا بصره‬
‫عمرة‪ ،‬وراح يبلحق‪ ،‬بعينيو‪ ،‬حشرة وقعت يف شباؾ عنكبوت غائبة‪ ،‬وقاؿ يف‬ ‫بسقف الغرفة اؼبليء بأخشاب السنط اؼب ِّ‬
‫ُ‬
‫سره‪" :‬كبن صنواف يا صديقيت!"‬ ‫ّ‬
‫وصرح ؽبا برغبتو يف تناوؿ طبر من يد أكيج‬
‫باغتها جبملتو األزلية‪" :‬ال يقتل الوىم إال مزيد من الوىم!" ّ‬
‫كثَتا‪ ،‬وشرعت ربدثو عن مضار اػبمر الصحية‪ ،‬وشكوكها أف غبالتو ىذه عبلقة‬ ‫اعبنوبية‪ ،‬ولكنها َف تتفاعل مع ذلك ً‬
‫أي منهم‪ ،‬كما‬‫يتعرؼ على ّ‬‫مباشرة بإدمانو على اػبمر‪ ،‬وضربت لو أمثلة عن أناس فارقوا اغبياة بسبب ذلك‪ ،‬ولكنو َف ّ‬
‫أف حرصها على اإلشارة إُف أهنم كانوا أصحاء‪ ،‬جعلو يطعن يف صحة ىذه الروايات من أساسها‪ ،‬وقرر أهنا من ذلك‬
‫النوع من اغبكايات الوعظية اؼبلفقة‪ ،‬اليت ال وبب ظباعها على اإلطبلؽ‪.‬‬
‫‪ -‬اػبمر تريح أعصايب‪.‬‬
‫‪ -‬أعصابك لن ترتاح إال إذا عدت إُف اؼبصح النفسي‪ ،‬ىذا ما نصح بو الطبيب‪ ،‬وىذا ما أصبعت عليو األسرة‪.‬‬
‫كأسا واحدة لتحقيق ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬سأتعاىف‪ ،‬وسوؼ أحرص على أف وبدث ذلك‪ ،‬فقط أريد ً‬
‫أنت عنيد‪.‬‬
‫‪َ -‬‬
‫‪-‬و ِ‬
‫أنت طيبة القلب‪.‬‬

‫‪82‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫دفعا‪ ،‬وقررت‬
‫هنضت من جواره قبل أف يتمكن من استمالة قلبها كعادتو‪ ،‬وإقناعها بطريقتو اليت ال سبلك ؽبا ً‬
‫صرح ؽبا بقراره الزواج من وقية عبد الباسط‪،‬‬
‫اػبروج من الغرفة قبل أف ترتكب ضباقة ال ربمد عقباىا‪ .‬وقبل أف تفعل‪ّ ،‬‬
‫ومشاريعو اليت خطط ؽبا ؼبستقبلو‪ ،‬وأكد ؽبا أنو سوؼ يعمل بنصيحتها‪ ،‬ويذىب إُف اؼبصح النفسي؛ إف َف يكن من‬
‫دائما‪.‬‬
‫أجلو ىو‪ ،‬فمن أجل اغبصوؿ على حياة زوجية مستقرة‪ ،‬كما أرادت أمو ً‬
‫قليبل‪ ،‬مث التفتت إليو بدىشة غاضبة‪َ ،‬ف يفهم أسباهبا‪ .‬تقدمت إليو بضع خطوات‪،‬‬ ‫توقفت عواطف عند الباب ً‬
‫بطريقة درامية‪ ،‬قبل أف زباطبو بشيء أقل من السخط‪:‬‬
‫تتزوج فبن؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬من وقية عبد الباسط!‬
‫أنت تعلم ذلك! وردبا أقببت‬
‫تزوجت قبل عدة سنوات يا شرؼ‪ ،‬ورحلت عن القرية مع زوجها‪ ،‬و َ‬ ‫‪ -‬ولكن وقية ّ‬
‫أطفاال اآلف‪ ،‬من يدري؟‬
‫ً‬

‫كانت سلسلة اؼبفاجآت ال تتوقف عن إهباره على الدواـ‪ ،‬وكل مفاجأة تقذؼ بو إُف قعر بئر سحيقة‪ .‬شعر‬
‫شرؼ الدين بأنو يتعرض غبالة من غسل الدماغ اؼبؤسس‪ ،‬وأف اؼبؤامرة أكرب بكثَت فبا كاف يتصور‪ .‬حاوؿ أف يتشبث‬
‫يوما‪ ،‬ولن يفقده‪.‬‬
‫فعبل‪ ،‬وأنو َف يفقد عقلو ً‬
‫بوعيو الذي يؤكد لو أف كل ما حدث قد حدث ً‬
‫‪ِ -‬‬
‫ولكنك عددهتا ضمن اللوايت تفانُت يف عمل اؼبطبخ أياـ العزاء؛ أليس كذلك؟‬
‫تزوجت‪ ،‬وسافرت مع زوجها خارج‬ ‫‪ -‬تلك وقية أخرى‪ ،‬مراىقة ال تتجاوز الثانية عشرة‪ .‬وقية عبد الباسط ّ‬
‫الببلد‪ ،‬حىت أف أختها الصغرى تزوجها رجل ثري‪ ،‬وانتقل هبا وبأفراد أسرهتا إُف بورتسوداف؛ وال أحد يعرؼ‬
‫عنهم شيئًا منذ ذلك الوقت‪.‬‬
‫‪!! -‬‬
‫كثَتا‬
‫كنت رببها‪ ،‬كلنا كنا نعلم ذلك‪ ،‬ولكنها رفضت شرطك بعدـ اإلقباب‪ .‬لقد حاولنا إقناعك ً‬ ‫‪ -‬أعلم أنك َ‬
‫بالتنازؿ عن ىذا الشرط‪ ،‬ولكنك َف تستمع ألحد‪ ،‬وليست ىنالك أنثى‪ ،‬مهما كانت ؿببتها للرجل‪ ،‬تقبل‬
‫بشرط كهذا‪ .‬ال يبكنك أف تلومها يا شرؼ يا حبييب‪ ،‬كاف البد ؽبا أف تتزوج‪ ،‬لتستمر حياهتا‪ ،‬فقد كانت‬
‫على أبواب الثبلثُت‪.‬‬
‫‪!! -‬‬
‫كنت واحدة من الذين قدموا لك مواساهتم وقتها‪.‬‬
‫أنت تعلم أهنا تزوجت‪ ،‬وقد ُ‬ ‫إِف ىكذا؟ َ‬ ‫‪ -‬ؼباذا تنظر ّ‬

‫‪83‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫عشرات األسئلة اللحوحة ظلت تتقافز يف ذىنو كأطفاؿ قبائل بدائية مزعجة ال يقدر على فك طبلظبهم‪ ،‬وشفرة‬
‫لغتهم اؼبلعونة‪ .‬أسئلة فرضتها شكوكو حوؿ ما أدلت بو عواطف‪ ،‬وحوؿ ما وباوؿ اعبميع إيهامو بو‪.‬‬
‫"البد أهنم يكذبوف‪ .‬األمر يأخذ منحى أكثر جدية وسخ ًفا‪ .‬ىل يعقل أنٍت كنت أتوىم كل ذلك‪ :‬أحاديثنا‬
‫الليلية‪ ،‬ولقاءنا عند النهر‪ ،‬واعبنس‪ ،‬وطعم قببلهتا‪ ،‬وابتسامتها اؼبثَتة‪ ،‬وتسللي ؼبنزؽبا‪ ،‬وىرويب منو؟ ىل كنت أتوىم‬
‫صبيعا يتواطأوف على الكذب‪ .‬ولكن عواطف ال تكذب! ىي أكثر‬ ‫كل ذلك؟ ال‪ ..‬إهنا الًتكة اؼبلعونة من ذبعلهم ً‬
‫أيضا‪ ،‬بكل ذلك‪ .‬أجل؛ ىذا ىو‬ ‫سذاجة من أف تكذب‪ ،‬أو أف تتظاىر بالكذب؛ البد أهنم أونبوىا‪ ،‬ىي ً‬
‫التفسَت اؼبنطقي الوحيد‪.‬‬
‫أيًا يكن؛ فيجب أف أحل ىذا اغببل اللعُت‪ ،‬وأف أحبث بنفسي عن إجابات ؽبذه األسئلة‪ .‬هبب أف أثبت ؽبم‬
‫أوال‪ .‬لو كاف حسن البلولة ىنا‪ ،‬ألنقذين من ىذه‬‫أنٍت لست ؾبنونًا‪ ،‬واألىم من ىذا أف أثبت ذلك لنفسي ً‬
‫الورطة‪ .‬أجل؛ فهو الوحيد الذي أثق بو‪ ،‬وىو الوحيد الذي سوؼ يصدقٍت‪ .‬ال يبكن أف أكوف ؾبنونًا‪ ،‬ال يبكن‪".‬‬

‫تظاىر شرؼ بالعودة إُف النوـ‪ ،‬وراح يراقب عواطف من بُت سيقاف أجفانو اؼبتشابكة‪ ،‬حىت خرجت‪ ،‬وأغلقت‬
‫الباب وراءىا‪ ،‬وعندىا تنهد الصعداء‪ .‬رأسو ىو العضو الوحيد الذي بإمكانو ربريكو‪ .‬ظل يتلفت يف أرجاء الغرفة‪،‬‬
‫ـبرجا من ورطتو‪ ،‬ولكن دوف جدوى‪ ،‬ودوف أف يعلم ما يتوجب عليو فعلو‪.‬‬‫وزواياىا؛ علو هبد ً‬

‫***‬

‫جلس شرؼ الدين أماـ رب العمل الذي بدا غاضبًا أشد ما يكوف الغضب‪ ،‬لدرجة منعتو من مصافحتو‪ ،‬وظل‬
‫مستفسرا عن سر غيابو الطويل‪ ،‬وىو هبوب اؼبكتب جيئة وذىابًا‪ ،‬والحظ شرؼ أنو يرتدي دبلتو يف يده اليسرى‬
‫ً‬ ‫يزؾبر‬
‫بدال عن اليمٌت‪ ،‬كما يتذكر‪ .‬ينظر إليو شرؼ على أنو من الشخصيات القلقة اليت عرفها يف مسار حياتو‪ ،‬ولكنو يصفو‬
‫ً‬
‫دائما بأنو شخص لطيف‪.‬‬
‫ً‬
‫علي البقاء ثبلثة أياـ بعد الدفن‪.‬‬
‫‪َ -‬ف أكن أعلم أنو يتوجب ّ‬
‫أصبل‬
‫‪َ -‬ف يكن يتوجب عليك أف تذىب ً‬
‫أيضا ظننت ىذا‪ ،‬ولكنك ال تعرؼ نعمات!‬ ‫‪ -‬أنا ً‬

‫بدال عن ظهر سبابتها ىذه اؼبرة‪،‬‬


‫بعض شفتها السفلى ً‬
‫نظرت إليو نعمات حبنق‪ ،‬ولكنها َف تنطق بشيء‪ ،‬واكتفت ّ‬
‫معتذرا‪:‬‬
‫فيما وقف ودالنعيم ً‬

‫‪84‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬


‫عفوا يا دكتور‪ ،‬ىذه اؼبرة لن يهرب‪ ،‬ولكن أرجو أف تظهروا بعض اغبرص على نزالئكم؛ إهنا مسؤوليتكم قبل‬
‫‪ً -‬‬
‫كل شيء!‬

‫َف تعد اؼبفاجآت تدىش شرؼ الدين؛ لذا فإنو فضل أف يوفر طاقة اندىاشو للضحك‪" :‬حىت مديري َف يكن‬
‫مديرا!" وظل يضحك بصوت عاؿ‪ ،‬ويضرب ركبتيو بباطن كفيو‪ ،‬األمر الذي دعا الطبيب إُف استدعاء اؼبمرضُت لتقييده‬ ‫ً‬
‫بالبالطو اػباص بنزالء اؼبصحة النفسية‪ .‬شعر بشيء من اغبزف‪ ،‬وبشيء َف يشعر بو من قبل (اليأس)‪ .‬أغمض عينيو‪ ،‬وىو‬
‫يستمع إُف حوار طبيبو اؼبعاًف مع أفراد أسرتو دوف تركيز‪ ،‬حاوؿ أف يدخل إُف األعمق أكثر فأكثر‪:‬‬
‫حتما‪ ،‬والوجوه اللحمية ليست سوى‬ ‫"إنو العبث اؼبفضي إُف الفوضى والشك! كل األشياء ال تبدو كما ىي ً‬
‫أقنعة خشبية تتغَت حسب اغباجة‪ .‬ىذا زماف مؤَف يقضي على كل اؼبقوالت اؼبثالية‪ ،‬وهبعل منها ؿبض خرافات‬
‫بالية وساذجة‪ .‬اغبياة واجهة حملاؿ ذبارية تبيع األعضاء البشرية‪ ،‬واألدمغة‪ ،‬واألحبلـ الطائشة‪ ،‬وكل األمنيات‬
‫اعبميلة والعذبة‪.‬‬
‫اؼبعادالت الصعبة ليست مستحيلة بالضرورة‪ ،‬ولكنها تكتسب صعوبتها من ضراوة النتيجة‪ ،‬ووعورة الصياغة‬
‫األكاديبية‪ .‬ىكذا ىي قضييت أماـ كل اؼبشكبلت اليت تعًتيٍت‪ .‬أجد نفسي يف هناية الطريق أحاوؿ إمساؾ العصا‬
‫اجملرد‪ ،‬كيفما تكوف واجهتو الزجاجية‪:‬‬
‫للتطرؼ كبو اغبق ّ‬
‫سباما‪ ،‬رغم كل إدعاءايت العمبلنية‪ ،‬وميلي ّ‬ ‫من اؼبنتصف ً‬
‫مشوه وـبدوشة‪ ،‬أـ نظيفة وبراقة والمعة‪.‬‬‫ّ‬
‫القهر يعٍت أال نعرؼ ما نريد‪ ،‬والفقر يعٍت أال مبلك ما يف أيدينا‪ ،‬واػبوؼ يعٍت أف نفقد اإلرادة‪ ،‬واليأس يعٍت‬
‫فأنت جباف‪ .‬تلك أمور‬‫كنت ال ربلم؛ َ‬‫كنت ال تعرؼ مستقبلك؛ فأنت جاىل‪ ،‬وإذا َ‬ ‫أف نتوقف عن اغبلم‪ .‬إذا َ‬
‫دائما طيبُت‪".‬‬
‫مقضيّة؛ أما أنا فلن أموت قبل أف أىزـ القدر أو أتصاٌف معو‪ ،‬وال حل آخر ِف؛ فنحن لسنا ً‬

‫وقف شرؼ الدين وراء النافذة ذات القضباف الصماء‪ ،‬وظل يراقب أفراد أسرتو‪ ،‬وىم يقطعوف فناء اؼبصح النفسي‬
‫اػبارجي‪ :‬فتحية وزوجها ودالنعيم يف اؼبقدمة‪ ،‬ونعمات سبسك بعواطف اليت َف تكف عن البكاء منذ أفاؽ ليجد نفسو‬
‫مغلوال إُف عنقريب اعبرتق‪ .‬لسبب ما ال يعلمو اعتلت ابتسامة ساخرة وجهو اغبزين‪ ،‬وكأنو وداع من نوع شديد‬
‫ً‬
‫اػبصوصية‪ .‬أسر يف نفسو‪ ،‬وىو يرى أشعة الشمس أواف الغسق‪" :‬ال بأس؛ سأبدأ اآلف مراجعة قائمة الكماليات من‬
‫مبتسما!"‬
‫ً‬ ‫قناعا‬
‫جديد‪ ،‬وىذه اؼبرة سأضيف إليها ً‬

‫‪85‬‬ ‫النسخة اإللكترونية | هشام آدم‬

You might also like