You are on page 1of 8

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫قال الشيخ الكبر ‪ ،‬و النور البهر والكبريت الحمر ‪ ،‬محيى الدين أبو عبد ال محمد بن‬
‫عربى الحاتمى الطائى الندلسى ‪ ،‬رضى ال عنه ‪ ،‬آمين ‪.‬‬
‫الحمد ل رب العالمين ‪ ،‬و صلى ال على سيدنا محمد و آله وصحبه أجمعين ‪.‬‬
‫ت أيها المريد عن " كنه ما ل بد للمريد منه " ‪ ،‬فأجبتك فى هذه الوراق و ال‬ ‫سأل َ‬
‫الموفق ل رب غيره ‪.‬‬
‫اعلم أيها المريد ‪ -‬وفقك ال و إيانا لطاعته واستعملنا و إياك بما يرضيه ‪ -‬أن القرب من‬
‫ال ‪ :‬ل ُيْعـلَـم إل بتعريفه إيانا بذلك‪ ،‬وقد فعل ذلك ‪ ،‬و ل الحمد و الشكر ‪ ،‬فأرسل الرسل ‪،‬‬
‫و أنزل الكتب ‪ ،‬و أوضح السبل الموصلة إلى السعادة البدية ‪،‬فآمنا وصدقنا ‪ ،‬و ما بقى إل‬
‫استعمال ما وقع به اليمان من العمال ‪ ،‬و تقرر فى نفوس المؤمنين ‪ :‬من وضع الشرع‬
‫فى محله ‪.‬‬
‫ثم يجب عليك أيها المريد ‪ :‬توحيد خالقك ‪ ،‬وتنزيهه عن ‪ :‬ما ل يجوز عليه سبحانه و تعالى‬
‫ن مع ال لمتنع وقوع الفعل من اللهين ‪ ،‬لختلف الرادات ‪:‬‬ ‫‪ .‬فأما توحيده ‪ ،‬فلو ثَـّم إله ثا ٍ‬
‫ن ِفيِهَما آِلَهٌة إِّل ا ُّ‬
‫ل‬ ‫وجودًا و تقديرًا ‪ ،‬و فسد النظام ‪ ،‬وذلك قوله تعالى ‪َ ) - :‬لْو َكا َ‬
‫سَدَتا (‪.‬‬
‫َلَف َ‬
‫و ل تسل ياأخى ‪ :‬بمن أشرك ‪ .‬و ل تحتاج إلى إقامة دليل على الوحدانية و الحدية ‪ ،‬فإن‬
‫المشرك قد أثبت وجود الحق تعالى معك و زاد عليه الشريك ‪ ،‬فعليه الدليل عل ما زاد ‪ .‬و‬
‫يكفيك هذا فى التوحيد ‪ ،‬فإن الوقت عزيز و العقد سالم ‪.‬‬
‫و المخالف ‪ :‬ل عين موجودة ‪ .‬و الحمد ل ‪.‬‬
‫و أما تنـزيهه ‪ ،‬فهو آكد عليك ‪ ،‬من أجل المشبهة و المجسمة الظاهرين فى هذا الزمان ‪،‬‬
‫يٌء ( و حسبك هذا‪ .‬فكل وصف يناقض هذه الية‬ ‫ش ْ‬
‫س َكِمْثِلِه َ‬
‫فاعقد على قوله ‪َ ) :‬لْي َ‬
‫مردود ‪ ،‬و ل تزد و ل تبرح من هذا الموطن ‪.‬‬
‫لذلك جاء فى السنة " كان ال و ل شىء معه " تعالى ال عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا ‪.‬‬
‫وكل آية و حديث توهم التشبيه مما يعطيه كلم العرب ‪ ،‬أو كلم من أنزل عليه ‪ :‬بشىء من‬
‫الوحى والتبليغ فيجب عليك اليمان به‪ ،‬على حد ما يعلمه ال تعالى ‪ ،‬و ما أنزله ‪ ،‬ل على‬
‫يٌء ‪-‬‬ ‫ش ْ‬‫س َكِمْثِلِه َ‬‫ما تتوهمه واصرف علم ذلك إلى ال ‪ .‬ليس بعد ‪َ -‬لْي َ‬
‫و ما ينزهه منزه إذ قد نزه نفسه بنفسه ‪ ،‬و هو أنزه ما ينبغى له ‪ .‬إنه ‪ -‬عز و جل ‪ -‬أعظم‬
‫و أجل مما علمت و جهلت ‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك أيها المريد ‪ :‬يجب عليك اليمان بالرسل صلوات ال عليهم ‪ ،‬و بما جاءوا به ؛‬
‫و ما أخبروا عنه ‪.‬‬
‫ثم حب الصحابة رضى ال عنهم أجمعين ‪ .‬ول سبيل إلى تجريحهم البته‪ ،‬و ل الطعن فيهم ‪،‬‬
‫ول تفضل أحد على الخر ‪ ،‬إل بما فضله ربه فى كتابه العزيز ‪ ،‬أو على لسان نبيه صلى‬
‫ال عليه و على آله و صحبه وسلم ‪.‬‬
‫ويجب عليك تعظيم من عظم ال تعالى و رسوله ‪ ،‬ثم التسليم لهل هذه الطريق فيما يحكى‬
‫عنهم من الحكايات ‪ ،‬وكل ما ترى منهم ‪ -‬مما ل يسع العقل و ل العلم ‪ . -‬و حسن الظن‬
‫‪1‬‬
‫بالناس أجمعين ‪ ،‬و سلمة الصدر ‪ ،‬و الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب ‪،‬‬
‫و خدمة الفقراء برؤية الفضل لهم فى ذلك حيث ارتضوك خديمًا لهم ‪ ،‬وحمل كلفهم و أذاهم‬
‫‪ ،‬وجفاهم ‪ ،‬و الصبر على أذاهم ‪.‬‬
‫ومما ل بد منه ‪ :‬الصمت إل عن ذكر ال تعالى ‪ " ،‬وتلوة القرآن الكريم " و إرشاد الضال‬
‫‪ ،‬و المر بالمعروف و النهى عن المنكر‪،‬والصلح بين المتهاجرين ‪ ،‬و التحريض على‬
‫الصدقة ‪ ،‬بل على كل خير ‪.‬‬
‫ومما ل بد منه ‪ :‬طلب شخص موافق ‪ ،‬يعينك على ما أنت بصدده و سبيله فإن " المرء‬
‫بأخيه" ‪ .‬و إياك وصحبة الضد ‪.‬‬
‫ومما ل بد منه ‪ :‬شيخ مرشد ‪ ،‬و الصدق شعار المريد ‪ ،‬لنه إذا صدق مع ال تعالى ‪ :‬جعل‬
‫كل شيطان فى حقه ملكًا ‪ ،‬يرشده إلى الخير‪ ،‬و يلهمه الخير ‪ ،‬فإن الصدق هو ‪ :‬الكسير‬
‫العظم ‪ ،‬ما وضع على شىء إل قلب عينه ‪.‬‬
‫ومما لبد منه ‪ :‬البحث عن هذه اللقمة ‪ ،‬فأساس هذا الطريق ‪ :‬اللقمة الحلل ‪ ،‬عليها قام‬
‫هذا الطريق ‪ ،‬و لتثقل على أحد ‪،‬‬
‫ول تقبل من أحد‪ ،‬واحترف ‪ ،‬وتورع فى كسبك و نطقك و نظرك و سمعك ‪ ،‬و فى جميع‬
‫حركاتك ‪.‬‬
‫و ل توسع فى ثوب و ل مسكن ‪ ،‬و ل مأكل ‪ ،‬فإن الحلل قليل ‪ :‬ل يحتمل السرف ‪ .‬و اعلم‬
‫أن النفوس إذا زرع النسان الشهوة بها ‪ :‬عسر قلعها بعد ذلك ‪ .‬هذا كله لبد منه‪.‬‬
‫ومما ل بد منه ‪ :‬قلة الطعام ‪ ،‬فإن الجوع يورث النشاط فى الطاعة ‪ ،‬و يذهب الكسل ‪.‬‬
‫وعليك بتعمير الوقات فى الليل و النهار ‪ .‬فأما الساعات التى دعاك الشرع إليها ‪ -‬إلى‬
‫الوقوف فيها ين يدى ربك ‪ -‬و هى الخمسة الوقات الواجبة عليك ‪ ،‬وباقى ما بينها من‬
‫الوقات فإن كنت صاحب حرفة ‪ ،‬فاجتهد أن تعمل فيها أيامًأ مثل الفتى ابن هارون الرشيد‬
‫رحمة ال تعالى عليه ‪.‬‬
‫و ل تفارق مصلك بعد صلة الصبح إلى طلوع الشمس ‪ ،‬و من بعد صلة العصر إلى‬
‫غروبها ‪ ،‬بذكر و خشوع و خضوع ‪.‬ول يفوتك الوقوف مصليًا من الظهر إلى العصر ‪،‬‬
‫ومن المغرب إلى العشاء الخيرة بعشرين ركعة ‪.‬‬
‫و حافظ على أربع ركعات أول النهار و قبل الظهر و قبل العصر و اجعل ِوْترك ثلثة عشر‬
‫ركعة ‪ ،‬و ل تنم إلعن غلبة ‪،‬و لتأكل إل عن فاقة ‪ ،‬و ل تلبس إل عن وقاية من حر أو برد‬
‫‪ ،‬بنية ستر العورة و دفع الذى القاطع عن عبادة ربك ‪.‬‬
‫و إن كنت ممن يعرف يكتب ‪ ،‬فاجعل على لسانك وردًا من القرآن فى المصحف ‪ ،‬تمسكه فى‬
‫حجرك و تلقى يدك اليسرى تحت المصحف ‪ ،‬بحيث تسمع نفسك ‪ ،‬و ترتل القرآن ‪ ،‬وتسأل‬
‫فى السورة التى توجب السؤال فيها و تعتبر فى الية التى فيها اعتبار ‪ ،‬و تعامل فى كل‬
‫آية بما يليق بها ‪ ،‬و ما تدل عليه من تلك الصفات ‪ ،‬فانظر ما عندك منها و ما فقدت من‬
‫ذلك ‪ ،‬فاشكره على ما عندك ‪ .‬و ما فاتك حصله ‪ .‬و إذا قرأت وصف المنافقين و الكافرين ‪،‬‬
‫فانظر ‪ :‬هل فيك من تلك الصفــــــات‬
‫شىء أم ل ؟‬
‫ومما ل بد منه ‪ :‬محاسبتك نفسك ‪ ،‬و مراعاة خواطرك فى الوقات ‪ ،‬ثم أشعر نفسك الحياء‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬من قلبك ‪ -‬من ال تعالى ‪ ،‬فإنك إذا استحـيـيت من ال منعت قلبك أن يخطر فيه خاطر‬
‫يذمه الشرع ‪ ،‬أو تتحرك بحركة ل يرتضيها الحق‪.‬‬
‫و لقد كان لنا شيخ يـقيد حركاته فى صحيفة ‪ ،‬ثم إذا جنه الليل وضعها بين يديه ‪ ،‬ثم‬
‫يحاسب نفسه على ما فيها ‪.‬‬
‫وقد زدت على شيخى بتقييدى خواطرى ‪.‬‬
‫ومما ل بد منه ‪ :‬مراعاة الخواطر و الوقات ‪ ،‬بأن تنظر فى الوقت الذى أنت فيه ‪ ،‬و تنظر‬
‫فيما قال لك الشرع أن تعـمل فـتعـمل إن كنت فى وقت فرض فأده أو ندب فبادر إليه ‪ .‬و إن‬
‫كنت فى وقت مباح فاشغل نفسك بما ندبك الحق إليه من الخير على أنواعه ‪.‬‬
‫و إذا شرعت فى مشروع يعطى قربة ‪ :‬ل تحدث نفسك أن تعيش بعده إلى عمل آخر ‪،‬‬
‫فاجعل ذلك آخر عمل من الدنيا ‪ :‬الذى تلقى به ربك ‪ .‬فإذا فعلت هذا خلصت ‪ ،‬ومع‬
‫الخلص ‪ ،‬يكون القبول ‪.‬‬
‫و مما ل بد منه ‪ :‬الجلوس على طهارة دائمًا ‪ ،‬و متى أحدثت توضأت ‪ ،‬و متى توضأت صّل‬
‫ركعتين ‪ ،‬إل أن تكون وقت كراهة نهيت عن إيقاع الصلة فيه‪ ،‬و هى ثلثة أوقات ‪:‬‬
‫طلوع الشمس ‪ ،‬إلى وقت استوائها ‪ ،‬إل يوم الجمعة ‪ ،‬و بعد العصر إلى غروبها و عند‬
‫الزوال ‪.‬‬
‫و مما لبد منه ‪ :‬البحث عن مكارم الخلق ‪ ،‬و إتيانها ‪ :‬تعين منها خلقًا ‪ .‬كذلك سوء‬
‫الخلق ‪ :‬اجتنبها كلها ‪.‬‬
‫واعلم أن من ترك خلقًا كريمًا ‪ ،‬فإنه ذو خلق ذميم ‪ .‬و اعلم أن الخلق على أصناف ‪ ،‬كما‬
‫هم الخلق على أقسام‪ ،‬فيــنـبغى أن تعرف أى خلق تستعمله‪.‬‬
‫و الذى يعم أكثر الصناف ‪ :‬إيصال الراحة إليهم ‪ ،‬و دفع الذى عنهم ‪ ،‬لكن فى رضاء‬
‫ال تعالى ‪.‬‬
‫و اعلم أن الخلق عبيد مسخرون ‪ ،‬مجبورون فى حركاتهم و نواصيهم بيد محركهم ‪ ،‬و‬
‫النبى صلى ال على آله و صحبه‬
‫و سلم قد أراحنا فى هذا المقام ‪ ،‬قال ‪ " :‬بعثت لتمم مكارم الخلق " ‪.‬‬
‫فكل موضع قال لك الشرع فيه ‪ :‬إن شئت أن تتصرف ‪ ،‬و إن شئت تركت ؛ اختر الترك ‪ .‬أو‬
‫قال لك ‪ :‬إن شئت جازيت ‪،‬‬
‫و إن شئت عفوت ‪ ،‬فاجنح إلى العفو و التسامح ‪ ،‬و أجرك على ال تعالى ‪.‬‬
‫وإياك أن تقتص لنفسك ممن أساء إليك ‪ ،‬فإن ال عز و جل سماها سيئة بالجملة ‪ ،‬و إن‬
‫كانت مما يسوء المقتص منه ‪ .‬و كل موضع قال لك الشرع ‪ :‬اغضب ؛ فإن لم تغضب فما‬
‫هو خلق حميد ‪ ،‬لن الغضب ل تعالى من مكارم الخلق مع ال تعالى ‪.‬‬
‫ظيٍم (‪.‬‬
‫عِ‬‫ق َ‬ ‫خُل ٍ‬
‫ك َلَعلى ُ‬
‫و طوبى لمن عامله و صحبه ‪ ،‬سمع ال تعالى يقول ‪َ ) :‬وِإّن َ‬
‫ومما ل بد منه ‪ :‬مجانبة الضداد ‪ ،‬و من ليس من جنسك ‪ ،‬من غير أن تعتقد فيهم السوء ‪،‬‬
‫أو يخطر ذلك فى خاطرك ‪ .‬و لكن‪ :‬نية صحبة الحق تعالى و أهله و إيثاره عليهم ‪.‬‬
‫كذلك فعامل هذه الحيوانات بالشفقة عليهم ‪ ،‬و الرحمة بهم ‪ ،‬لنهم ممن سخر ال سبحانه‬
‫لك ‪ ،‬فل تحملهم فوق طاقـتـهم‬
‫و ل تركب ما تركب منها بطرًا ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫و باشر كذلك ملك اليمين من الرقيق ‪ ،‬لنهم أخوانك ‪ ،‬قد ملكك ال نواصيهم ليرى كيف‬
‫تتصرف فيهم ‪ ،‬فأنت عبد له سبحانه و تعالى ‪ ،‬فما تحب أن يفعله معك ‪ ،‬كذلك بعينه افعل‬
‫مع غلمانك و جواريك ‪ ،‬فإن ال تعالى يجازيك ‪ ،‬و ما تحب أن يصرفه عنك من القبيح و‬
‫السوء ؛ ذلك بعينه افعله معهم ‪ ،‬فالكل عيال ال تعالى ‪ ،‬و أنت من جملة العيال ‪.‬‬
‫فإن كان لك ولد ‪ ،‬فعلمه القرآن ‪ ،‬ل لغرض من أغراض الدنيا ‪ .‬و ألزمه محافظة آداب‬
‫الشريعة السلمية والخلق الدينية ‪ .‬و احمله على الرفق و الزهد من صغره كى يعتادها ‪.‬‬
‫و ل تزرع الشهوات فى قلبه ‪ .‬و بغض إليه زينة الحياة الدنيا ‪ ،‬و ما يئول صاحبها من‬
‫نقص الحظ فى الخرة ‪ .‬و ل تعمل ذلك شحًا على درهمك و مالك ‪.‬‬
‫ومما لبد منه ‪ :‬أن ل تقترب من أبواب السلطان ‪ ،‬و ل تصاحب المتنافسين فى الدنيا ‪،‬‬
‫فإنهم يأخذون بقلبك عن ال تعالى ‪ .‬فإن اضطرك أمر إلى صحبتهم ‪ ،‬فعاملهم بالنصيحة ‪ ،‬و‬
‫ل تغشهم ‪ ،‬فإنك تعامل الحق تعالى ‪.‬و مهما فعلت سخروا منك فى عموم أحوالك فتوجه‬
‫إلى ال فى تخليصك مما أنت فيه ‪ ،‬بما هو أحسن لك فى دينك ‪.‬‬
‫و مما ل بد منه ‪ :‬الحضور مع ال تعالى فى جميع حركاتك و سكناتك ‪.‬‬
‫و أوصيك بالنفاق فى السراء و الضراء ‪ ،‬و الشدة و الرخاء ‪ .‬فإن ذلك دليل على ثقة القلب‬
‫بما عند ال تعالى ‪ ،‬فإن البخيل جبان يأتيه الشيطان فيمد أمله ‪ ،‬و يطيل عمره ‪ ،‬و يقول له‬
‫‪ " :‬إن أنفقت مالك هلكت و بقيت مثلة بين أقرانك و أصحابك ‪ ،‬بل شىء ‪ ،‬فأمسك عليك ‪،‬‬
‫و استعد إلى نوائب الزمان ‪ ،‬و ل تغتر بهذا الرخاء الذى أنت فيه‬
‫فما تدرى ما يحدث ال فى العام القابل ‪.‬‬
‫وإن كانت أوقات شدة و ضراء ‪ ،‬فيقول لك ‪ ":‬أمسك عليك شيئًا فإنك ل تدرى متى تنقضى‬
‫هذه الشدة و لعل هذا المرل يزداد إل صعوبة و احفظ على نفسك ‪ ،‬فما أحد ينفعك إذا لم‬
‫يبق معك شىء ‪ ،‬وتتأخر و تثقل على الخلق ‪ ،‬و تذهب ماء وجهك "‪.‬‬
‫فإن استمرت هذه الوسوسة على قلب هذا المسكين ‪ ،‬أدته إلى الشح و البخل ‪ ،‬و حالت بينه‬
‫سِه (‪.‬‬
‫عن ّنْف ِ‬‫خُل َ‬ ‫خْل َفِإّنَما َيْب َ‬
‫و بين قوله تعالى ‪َ ) :‬وَمن َيْب َ‬
‫و عندنا فى هذا الطريق ‪:‬إذا التحق رجل بأهل ال تعالى ‪ ،‬ثم بخل ‪ ،‬فإنه يستبدل مكانه ‪ ،‬و‬
‫ينزل عن ذلك المقام‬
‫خِلُفُه (‪ .‬و حال بينه و بين قوله تعالى ) َرّبَنا‬ ‫يٍء َفُهَو ُي ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫من قوله تعالى ) َوَما َأنَفْقُتم ّمن َ‬
‫عَلى ُقُلوِبِهْم ( فضيعوا فقراءهم ‪ ،‬فماتوا جوعًا ‪.‬‬ ‫شُدْد َ‬‫عَلى َأْمَواِلِهْم َوا ْ‬
‫س َ‬
‫طِم ْ‬
‫اْ‬
‫وحالت بينه و بين حال النبى صلى ال على آله و صحبه و سلم‪ " :‬أنفق بلل و ل تخش‬
‫من ذى العرش إقلًل " و بينه‬
‫ط كل منفق خلفًا ‪ ،‬و‬ ‫و بين قوله ‪ " :‬إن ل ملكًا فى كل يوم ينادى عند الصباح ‪ :‬اللهم أع ِ‬
‫ط كل ممسك تلفًا "‪ .‬وحالت بينه و بين حال النبى صلى ال على آله و صحبه و سلم‬ ‫أع ِ‬
‫حين أعطى الكنزين فاختار تركهما على أخذهما ‪.‬‬
‫و بين حال إبى بكر الصديق رضى ال تعالى عنه حين جاء إلى النبى صلى ال على آله و‬
‫صحبه و سلم بجميع ماله فقال ‪:‬‬
‫" ماأبقيت لهلك يا أبا بكر ‪ .‬قال ‪ :‬ال و رسوله " و جاء عمر بن الخطاب بنصف ماله ‪.‬‬
‫فقال ‪ " :‬ما أبقيت لهلك ؟‬
‫‪4‬‬
‫قال ‪ :‬النصف ‪ ،‬و تصدقت بالنصف ‪.‬‬
‫قال صلى ال على آله و صحبه و سلم ‪ " :‬ما بينكما كما بين كلمتيكما " ‪.‬‬
‫فالنفاق سبب لستجلب الرزق من الرزاق ‪ ،‬فى الدنيا و الخرة ‪ .‬فكل من أمسك فهو ل‬
‫تعالى متهم ‪ ،‬وعلى درهمه معتمد ‪ ،‬وكانت ثقته بدرهمه أعظم من ثقته بربه ‪ .‬و هذا طعن‬
‫بإيمانه ‪ ،‬و نسأل ال تعالى العافية ‪.‬‬
‫و عليك بالنفاق فى الشدة ‪ ،‬و ل تخف الفقر ‪ ،‬فليس إل كما قال رسول ال صلى ال على‬
‫آله و صحبه و سلم ‪:‬‬
‫" من قال بماله هكذا هكذا " يمينًا و شماًل ‪ ،‬و ال تعالى موف لك ما وعدك ‪ :‬شئت أم‬
‫أبيت ‪ ،‬شاء العالم أم أبى ‪ ،‬فما هلك سخى قط ‪.‬‬
‫و لول قصدى الختصار لسقنا من الخبار ما يتأيد به ما ذكرنا ‪.‬‬

‫) فصل (‬
‫وعليك بكظم الغيظ ‪ ،‬فإنه دليل على سعة الصدر ‪ .‬فإنك إذا كظمت غيظك ‪ :‬أرضيت‬
‫الرحمن ‪ ،‬و أسخطت الشيطان و قمعت نفسك و ردعتها ‪ ،‬حيث لم تنتصر لها ‪ ،‬و أدخلت‬
‫السرور على قلب من كظمت غيظك عنه ‪ ،‬و لم تجازه بفعله ‪ .‬و كان ذلك سببًا فى رجوعه‬
‫إلى الحق و إنصافه و إقراره بالجفاء عليك و التعدى ‪ .‬و ربما كان ندم على ما وقع منه‬
‫‪.‬فعليك بواقع القبول ‪ ،‬فتخلق بذلك ‪.‬‬
‫ثم الفائدة الكبرى ‪ ،‬و الفضيلة العظمى ‪ :‬إنك إذا كظمت عن من فعل ذلك الغضب ‪ :‬جازاك‬
‫ال تعالى على فعلك ‪.‬‬
‫فأى فائدة أتم من عفوك عن أخيك و تحمل أذاه ‪ ،‬و كظم غيظك ؟ وما أراد الحق أن تفعله‬
‫مع عبد ‪ ،‬فقد أراد أن يفعله معك بعينه ‪.‬‬
‫فاجتهد فى هذه الصفات ‪ ،‬فإنها تورث المودة فى قلوب الناس ‪ ،‬فإن النبى صلى ال على‬
‫آله و صحبه و سلم قد أمرنا بالتودد و التحابب ‪ ،‬و هذا من أعلى أسباب تؤدى إلى‬
‫المحبة ‪.‬‬

‫) فصل (‬
‫و عليك بالحسان ‪ ،‬فهو دليل على الحياء من ال تعالى ‪ ،‬وعلى تعظيم ال تعالى فى قلب‬
‫المحسن‪.‬‬
‫قال جبريل ‪ -‬عليه السلم‪ : -‬ما الحسان ؟‬
‫قال النبى صلى ال على آله و صحبه و سلم‪ ":‬أن تعبد ال كأنك تراه ‪ ،‬فإن لم تكن تراه‬
‫فإنه يراك " ‪.‬‬
‫قال عليه الصلة و السلم ‪ " :‬إن الحياء من اليمان " و " الحياء خير كله " ‪.‬‬
‫فمن المحال أن يكون عند المؤمن شر ‪ ،‬انتهى ‪.‬‬

‫) فصل (‬
‫و عليك بلزوم الذكر و الستغفار ‪ ،‬إن كان عقيب ذنب محاه و أزاله ‪ ،‬و إن كان عقيب‬
‫‪5‬‬
‫طاعة و إحسان ‪ ،‬فنور على نور ‪،‬‬
‫و سرور على سرور ‪ ،‬فإن الذكر أجمع للهم ‪،‬و أصفى للخاطر ‪.‬‬
‫ل بتدبر و تفكر و تعظيم و تنزيه ‪ ،‬و سؤال عند‬
‫فإن سئمت فانتقل إلى تلوة كتاب ال مرت ً‬
‫آية السؤال ‪ ،‬و خوف و تضرع عند آية خوف ‪ ،‬و وعيد و اعتبار‪ ،‬فإن القرءان ل يسأم‬
‫قارؤه ‪ ،‬لختلف المعانى فيه ‪.‬‬

‫) فصل (‬
‫وعليك بحل عقدة الصرار من قلبك ‪ .‬و ل تطيق ذلك إل أن تقول لنفسك ‪ -‬فى الّنـَفس‬
‫الخارج ‪ -‬هل تدرين يا نْفس أن الّنـَفس الخر يأتيك ‪ ،‬أم ل ؟ فلعل ‪ -‬و ال تعالى أعلم ‪-‬‬
‫ربما تموتين فى هذا الّنـَفس ‪ ،‬فإنه آخر أنفاسك فى الدنيا ‪ ،‬و أنت مصرة على السوء ‪.‬‬
‫عند ال تعالى للمصرين على الذنوب من العذاب ‪ .‬ما ل تطيقه الجبال الشوامخ ‪ ،‬كيف‬
‫بضعيفة مثلك ؟ فتوبى إلى ال تعالى ‪ ،‬فإنك ل تدرين متى يفاجئك الموت ‪ ،‬فإن ال تعالى‬
‫ت َقاَل ِإّني ُتبْ ُ‬
‫ت‬ ‫حَدُهُم الَمْو ُ‬
‫ضَر َأ َ‬
‫ح َ‬
‫حّتى ِإَذا َ‬
‫ت َ‬
‫سّيَئا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن َيْعَمُلو َ‬
‫ت الّتْوَبُة ِلّلِذي َ‬
‫س ِ‬
‫يقول ‪َ ) :‬وَلْي َ‬
‫ن (‪.‬‬
‫ال َ‬
‫و قال سيد الخلق ‪ ،‬رسول ال صلى ال على آله و صحبه و سلم ‪ " :‬إن ال تعالى يقبل‬
‫توبة العبد ما لم يغرغر "‪.‬‬
‫و كم من شخص فجأه الموت و هو يأكل و يشرب و ينكح ‪ ،‬وهو نائم ‪ :‬تخرج روحه فل‬
‫يستيقظ ‪.‬‬
‫و عظ نفسك بمثل هذا ‪ ،‬فإنه متى كان منك مثل هذا و أكثر ‪ :‬انحلت عقدة الصرار ‪.‬‬

‫) فصل (‬
‫و عليك بتقوى ال فى السر و العلنية ‪ .‬و معنى التقوى ‪ ،‬وهو ‪ :‬الحذر من عقابه ‪ ،‬فإنه‬
‫حّذُرُكُم‬
‫من خاف من عقابه بادر إلى الفعل الذى يرضى ال تعالى ‪ ،‬وال تعالى يقول ‪َ ) :‬وُي َ‬
‫ل َنْفسَُه (‪.‬‬
‫ا ُّ‬
‫حَذُروُه (‪ .‬فالتقوى مشتق من الوقاية ‪.‬‬ ‫سُكْم َفا ْ‬
‫ل َيْعَلُم َما ِفي َأنُف ِ‬
‫ن ا َّ‬
‫عَلُموا َأ ّ‬
‫وقال ‪َ ) :‬وا ْ‬
‫فاتق ال من فعل ال ‪ ،‬كما قال المصطفى صلى ال على آله و صحبه و سلم ‪ " :‬أعوذ بك‬
‫منك " ‪.‬‬
‫فكل شىء تخافه و تخشاه ‪ ،‬فاجتنب الطريق الموصلة إليه ‪ ،‬فإن المعصية طريق موصلة‬
‫إلى الشقاوة ‪.‬‬
‫و الطاعة طريق موصلة إلى السعادة ‪.‬‬

‫) فصل (‬
‫و إياك و الغترار‪ ،‬فهو ‪ :‬أن تخدعك نفسك لكرم ال تعالى و حلمه ‪ ،‬مع استمرارك على‬
‫معصيته ‪ ،‬و يخدعك إبليس لعنة ال عليه بأن يقول لك ‪ :‬لول ذنبك و مخالفتك ‪ :‬من أين‬
‫يظهر كرمه و رحمته و عفوه و مغفرته ‪.‬‬
‫و يقول لك ‪ " :‬ما على المحسنين من سبيل " فإن الرحمة سبقت لهم من ال تعالى فى‬
‫‪6‬‬
‫الدنيا و الخرة ‪.‬‬
‫فل يغررك هذا الكلم ‪ ،‬فقل له ‪ :‬أما رحمته و ما ذكرت منه كان ‪.‬‬
‫صحيح ‪ :‬أنه لول المخالفة و الذنوب لما ظهرت آثار هذه الصفات ‪ -‬على زعمك ‪ -‬و الثار‬
‫و الخبار فيها صحيحة ‪ .‬لكن يا ملعون تريد أن تغرنى بكرم ال تعالى ‪ .‬و من أين أعلم أنى‬
‫ممن عفى عنه ‪ ،‬أو يغفر له ‪.‬‬
‫نعم؛ يلحق كرمه و رحمته و مغفرته وعفوه بمن شاء من عباده‪ ،‬كما يلحق عقوبته و‬
‫نقمته بمن شاء من عصاته‪ ،‬و أنا لأدرى من أى الفريقين أنا عند فعلى هذا ‪.‬‬
‫ولعل ال تعالى كما حرمنى التوبة من المعصية هنا‪ ،‬يحرمنى عفوه قبل دخولى النار ‪،‬‬
‫فينتفم منى ‪.‬‬
‫أل ؛ و إن الذنب يزيد الكفر ‪ ،‬فلو علمت قطعًا أنى ممن يعفى عنه قطعًا ‪ ،‬و ل يؤخذ بذنب ‪،‬‬
‫ربما اغتررت بكلمك ‪ ،‬و ذلك حمق منى وجهل ‪ .‬بل كان الواجب أن أبذل جهدى فى طاعة‬
‫ال ‪ ،‬شكرًا ل تعالى ‪ ،‬وحياء منه ‪ ،‬فإنه أولى من أستحى منه ‪ .‬كيف وما بشرنى على‬
‫ل فى معصيتى بين عفوه و عذابه ‪ .‬كيف أغتر‬ ‫التعيين ‪ ،‬و ل أمننى ‪ ،‬بل تركنى مهم ً‬
‫بزورك و بزور نفسى المارة بالسوء ‪.‬‬
‫) فصل (‬
‫وعليك بالورع ‪ ،‬و هو اجتناب ما حاك فى صدرك‪ .‬قال النبى صلى ال على آله و صحبه و‬
‫سلم‪ " :‬دع ما يريبك إلى ما يريبك" ولو لم تجد غيره و أنت محتاج إليه ‪ ،‬و اتركه ل‬
‫يعوضك ال خيرًا منه ‪.‬‬
‫و ل تستعجل ‪ ،‬فالورع أساس الدين ‪ ،‬فإذا استعملته زكت أفعالك ‪ ،‬و نجحت أحوالك ‪،‬‬
‫وكملت أقوالك‪ ،‬و سارعت إليك الكرامات و كنت محفوظًا فى جميع أمورك ‪ ،‬حفظًا إلهياً ل‬
‫شك فيه ‪.‬‬
‫ال ال يا أخى ‪.‬‬
‫الورع الورع ‪.‬‬
‫) فصل (‬
‫و عليك بالزهد فى الدنيا و قلة الرغبة فيها ‪ ،‬بل أعدمها من قلبك جملة واحدة ‪.‬‬
‫و إن كنت ل بد لها طالبًا ‪ ،‬فاقتصر على طلب منها ‪ ،‬من وجهه فل تنافس أبناءها ‪ ،‬فإنها‬
‫عرض ل يبقى ‪ ،‬و ل ينال الراغب منها مراده أبدًا ‪ .‬و ال تعالى ل يعطيه إل ما قسم له ‪ .‬و‬
‫الراغب فيها ل يزال كثير الحزن عليها ‪ ،‬ممقوتًا عند ال تعالى ‪ ،‬فإن مثل الطالب لها كمثل‬
‫ماء البحر ‪ ،‬كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا ‪ .‬وحسبك من تشبيه النبى صلى ال على آله و‬
‫صحبه و سلم للدنيا‪ :‬بالجيفة و المزبلة ‪ .‬وهل يجتمع على الجيفة و المزبلة إل الكلب ‪.‬‬
‫قال ال تعالى ‪ " :‬يابن آدم إن رضيت بما قسمت لك أرحت قلبك و بدنك ‪ ،‬وجاءك رزقك و‬
‫أنت محمود ‪ ،‬وإن لم ترض بما قسمت لك ‪ ،‬أتعبت قلبك و بدنك ‪ ،‬حتى تركض وراءها‬
‫ركض الوحـوش فى الـبـرية ‪ ،‬ثــم و عـزتى و جــللى ل ينالك منها‬
‫إل ما قدرت لك ‪ ،‬و أنت مذموم " ‪.‬‬
‫ل َوَل ُتْلُقوا ِبَأْيِديُكْم ِإَلى الّتْهُلَكِة ( و هى رجوعهم إلى‬‫سِبيِل ا ِّ‬
‫قال ال تعالى ‪َ ) :‬وَأنِفُقوا ِفي َ‬
‫أموالهم بالنظر فيها‬
‫‪7‬‬
‫ن (‪.‬‬
‫سِني َ‬
‫ح ِ‬
‫ب الُم ْ‬
‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬
‫ن ا َّ‬
‫سُنوا ِإ ّ‬
‫ح ِ‬
‫) َوَأ ْ‬
‫***‬
‫والحمد ل رب العالمين‬
‫وصلى ال على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‬
‫تمت بحمد ال وحسن عونه‪.‬‬
‫***‬

‫‪8‬‬

You might also like