You are on page 1of 86

‫‪www.alrihla.

com‬‬ ‫‪From The Editor‬‬ ‫من املحرر‬


‫الرحلة‬
‫مؤسسها وراعيها ‪Founded Sponsered‬‬
‫حممد �أحمد ال�سويدي‬
‫‪Mohamed Al Sowaidi‬‬

‫رئيس التحرير ‪Edetor in Chief‬‬


‫‪92‬‬ ‫‪122‬‬ ‫‪50‬‬ ‫نوري اجل َّراح‬
‫‪Nouri Al Jarrah‬‬

‫مدير التحرير ‪Consulting Edetor‬‬


‫هذه المجلة في شكلها وخطتها الصحفية‪ ،‬نريد لها أن تكون حدثًا‬
‫علي كنعان‬ ‫في تاريخ الصحافة العربية‪ .‬سيما أنها األولى من نوعها ألدب الرحلة‬
‫‪Ali Kanaan‬‬
‫في اللغة العربية‪ .‬ستصدر شهريًا لتكون منبرًا يغطي األخبار والكتابة‬
‫اإلخراج الفني‬ ‫والفنون الخاصة بالسفر واالكتشاف‪.‬‬
‫ناصر بخيت‬ ‫وبالتالي ستحفل مجلة الرحلة باالستطالعات والرسوم والصور‬
‫والخرائط المعاصرة عن السفر وأدبه وفنونه‪ ،‬فتقرب البعيد‪ ،‬وتضيء‬

‫‪38‬‬ ‫‪112‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪74‬‬ ‫كُ تاب العدد‬


‫محمد أحمد السويدي‪ ،‬دنيس جونسن‬
‫على المجهول‪ ،‬وتجعل القاريء العربي يقوم برحالت في العالم والناس‬
‫والمدنية والطبيعة‪.‬‬
‫ديفس‪ ،‬محسن خالد‪ ،‬علي كنعان‪ ،‬عبد‬ ‫مع كل عدد‪ ،‬وعلى رأس كل شهر‪ ،‬تشرع مجلة الرحلة نوافذها على‬
‫الرحمن بن خلدون‪ ،‬أسامة بن منقذ‪،‬‬
‫العالم وما يذخر به من ثراء وتقدم علمي وأدبي وفني وعلى صعيد‬
‫محمد علي باشا‪ ،‬إرنستو غيفارا‪، ،‬شاكر‬
‫لعيبي‪ ،‬أحمد إبراهيم الفقيه‪ ،‬علي بدر‪ ،‬علي‬ ‫إنساني‪ ،‬وفي الوقت نفسه تفتح نافذة على الماضي لتنقل إلينا أخباره‬
‫الأبواب والزوايا‪:‬‬ ‫العبور من بوابة دافن�شي ‪ -‬حممد‬ ‫‪ 16‬رحلة يف �إيطاليا النه�ضة‬ ‫مصباح‪ ،‬شاكر نوري‪ ،‬تيم ماكنتوش ‪ -‬سميث‪،‬‬ ‫عبر طرق السفر والتجارة والحضارة القديمة والوسيطة‪ ،‬لتنقل لنا‬
‫أطياف‪ ،‬كلمة من احملرر‪ ،‬البريد‪،‬‬ ‫�أحمد ال�سويدي‬ ‫نوري اجلراح‪ ،‬آبو دلف املسعري‪ ،‬املقدسي‬ ‫قصص السفر والمسافرين وكيف تطورت عالقات العرب بجغرافية العالم‬
‫فوتوغراف‪ ،‬سندباد‪ 24 ،‬ساعة‪ ،‬صفحة‬ ‫البشاري‪ ،‬محمد الشحري‪ ،‬نوري اجلراح‬ ‫بحرًا وبرًا‪ ،‬وكيف قدموا أنفسهم للعالم وتفاعلوا معه عبر العصور‪.‬‬
‫ال�سجني الأكرث حرية يف العامل‬ ‫‪ 38‬الو�صول �إىل زنزانة مانديال‬
‫من‪ ،‬غرائب األمصار‪ ،‬كتب‪ ،‬إيجاز‪،‬‬ ‫خطة المجلة تنهض على تبويب مبتكر وحيوي ففي تبويبها مثلًا هناك‪:‬‬
‫حم�سن خالد‬
‫حملات‪ ،‬زيارة‪ ،‬رسالة‪ ،‬احلوار‬ ‫التدقيق اللغوي‬
‫أشرعة‪ ،‬مسالك‪ ،‬أسواق‪ ،‬مدن‪ ،‬تجارة‪ ،‬استشراق‪ ،‬دبلوماسية‪ ،‬سكك‬
‫أمين حجازي‬
‫الغالف‪:‬‬ ‫ت�شيلي‪� :‬شريط القاع‬ ‫‪ 50‬الرحلة ال�سماوية يف �أر�ض الرباكني‬ ‫حديد استكشافات‪ ،‬فلك‪ ،‬مواصالت‪ ،‬هجرة‪ ،‬حياة طبيعية‪ ،‬آثار‪ ،‬رواد‪،‬‬
‫حجر في ميناء سمهرم وعليه كتابة‬ ‫املح�صور بني الآنديز واملحيط ‪ -‬خليل النعيمي‬ ‫التصوير‬ ‫رحالت قديمة‪ ،‬سندباد الجديد‪ ،‬أدوات‪ ،‬يوميات‪ ،‬جزر وبحار‪ ،‬كوارث‪،‬‬
‫بحروف املسند ‪ -‬تصوير‪ :‬نوري اجلراح‬ ‫محمد أحمد السويدي‪ ،‬محسن خالد‪،‬‬ ‫خزانة الرحلة‪ ،‬فوتوغراف‪ ..‬وغيرها من األبواب‪ .‬وهناك ملفات شهرية‪،‬‬
‫رحلة �إرن�ستو ت�شي غيفارا يف �أمريكا الالتينية‬ ‫‪ 74‬يوميات دراجة نارية‬
‫نوري اجلراح‪ ،‬خليل النعيمي‪ ،‬كمال بستاني‬ ‫وخرائط‪ ،‬وأقراص موسيقا وأفالم وثائقية توزع مع المجلة شهريا‪.‬‬
‫اال�شرتاكات‬ ‫‪� -‬صور وحكايات‬ ‫‪ 92‬يف ب�ستان ابي �سامل العيا�شي‬ ‫وسيكون من شأن هذه المجلة أن تنشر يوميات الفائزين بجوائز ابن‬
‫سنوي ًا‪ :‬الوطن العربي ‪ 30‬دوالر ‪.‬‬ ‫بطوطة للرحلة المعاصرة الذين أرسلهم المركز في بعثات حول العالم‪.‬‬
‫األمريكيتان‪ 40 :‬دوالر‪ .‬آوروبا‪ 35 :‬يورو‬ ‫عر�ض حممد بن م�ستهيل ال�شحري‬ ‫‪ 122‬ظفار يف حتفة النظار‬ ‫أخيرًا‪ ،‬تهدف المجلة الوصول إلى قراء العربية من مختلف األعمار‬
‫ترسل قيمة االشتراك مبوجب حوالة‬ ‫والمرجعيات‪ ،‬بما يغطي مساحة واسعة منهم‪ ،‬وتحض األجيال الطالعة‬
‫مصرفية على عنوان املجلة‪.‬‬ ‫ابن خلدون يف �ضيافة‬ ‫‪ 112‬اللقاء العجيب بني العامل وال�سفاح‬ ‫على السفر للسياحة والمتعة والمعرفة وإقامة الصالت مع اآلخرين بما‬
‫ثمن النسخة‪ 2٫50 :‬دوالر للوطن‬ ‫تيمور لنك عند �أبواب دم�شق‬
‫يساعد على رفع االلتباس وردم الفجوة المعرفية والنفسية بين العرب‬
‫العربي‪ 3 ،‬يورو أو ما يعادلها في آوروبا‬
‫والعالم‪.‬‬

‫املحرر‬

‫‪5‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪Mail‬‬ ‫الربيد‬

‫صارت لهذا األدب مؤسسة عربية‬ ‫أصقاع األرض ونشروا العلم‬


‫تعنى به‪ .‬بينما تأسست له في‬ ‫ورجعوا ومعهم علم آخر ومعرفة‬
‫الغرب جمعيات ومراكز بحث‬ ‫جديدة بأقوام أخرى وحضاراتهم‪.‬‬
‫ودور نشر مختصة منذ مطلع‬ ‫جهاد الخازن‬ ‫تآسس املركز العربي لألدب اجلغرافي واسمه‬
‫األدبي "ارتياد اآلفاق" مطلع سنة ‪ 2000‬في محاولة‬
‫القرن التاسع عشر‪.‬‬ ‫الحياة ‪ 18 /‬مارس ‪2001‬‬ ‫ع ــربيـة جتمــع علم ــاء ودارس ـ ــي املشــرق واملغ ــرب‪،‬‬
‫نقوال زيادة‬ ‫إلحياء االهتمـ ــام بأدب الــرحلة وبثقافة العلقة مع‬
‫املكـ ــان وهـ ــو غير ربحي مختص بتحقيق ونش ــر‬
‫بيروت أواخر ‪2005‬‬ ‫كلما قر�أت اال�سم‬ ‫كالسي ــكيات أدب الـ ــرحلة‪ ،‬والكشف عن يوميات‬
‫الرحلة الـ ــعرب واملس ـ ــلمني عبر الق ــرون‪ ،‬وصوالً‬
‫ال اخفي هنا فرحي كلما قرأت‬ ‫إل ــى مــدونات الرحـ ــالة في الق ـ ــرنني التاسع عشر‬
‫جائزة ابن بطوطة‬ ‫االسم األدبي لهذا المركز «ارتياد‬ ‫والعشرين‪ ،‬والرحالت املعاصرة‪.‬‬
‫جائزة ابن بطوطة» أول جائزة‬ ‫اآلفاق» فهو اسم على جسم وعلم‬
‫ألدب الرحالت في الوطن العربي‪،‬‬ ‫على فكرة إلى أبعد الحدود‪ ،‬لما‬
‫املركز العربي للأدب اجلغرايف‬
‫خصصتها «دار السويدي للنشر»‬ ‫يجسده من معاني المغامرة مع‬ ‫‪www.alrihla.com‬‬
‫التي أسسها الشاعر اإلماراتي‬ ‫نصوص السفر بحثًا وتحقيقًا‬
‫محمد أحمد السويدي ويشرف‬ ‫وإبداعًا ونشرًا في مضمار طال‬ ‫�أعمال التحقيق والتحرير والبحث‬
‫على سلسلة أدب الرحالت‬ ‫إهماله‪ ،‬بل وطالما اعتبر شأنه‬ ‫جائزة ابن بطوطة للأدب اجلرايف‬
‫الشاعر نوري الجراح‪ ،‬وقد‬ ‫صغيرًا‪ ،‬هو مضمار علم وأدب‬ ‫ندوة الرحالة العرب وامل�سلمني‬ ‫هاتان الصفحتان مخصصتان لنشر المالحظات واألفكار واالنطباعات‬
‫تم تأسيس دار النشر خصيصًا‬ ‫طالما شغفت به‪ ،‬وألَّفت فيه‬ ‫دار ال�سويدي النا�شرة لأعمال املركز‬ ‫التي تصدر عن القراء حول المجلة ومشروعها في أدب الرحلة‪.‬‬
‫إلصدار كتب الرحالت العربية‬ ‫أكثر من كتاب منذ أواسط القرن‬ ‫قدمنا هذه الزاوية على غيرها من الزوايا تقديرًا للقراء واهتمامًا‬
‫‪Abu Dhabi Office::‬‬ ‫بمالحظلتهم وآرائهم‪ .‬في هذا العدد ننشر استثنا ًء آراء بمشروع ارتياد اآلفاق‬
‫سواء القديمة أو الحديثة‪ ،‬وبعد‬ ‫الماضي‪ ،‬وقد طال الوقت حتى‬
‫‪tel: 00971263287‬‬
‫كانت قد نشرت في الصحافة العربية‪.‬‬
‫‪fax: 0097126214311‬‬

‫خلب‬
‫عنوان اّ‬ ‫بأكثر من طريقة‪.‬‬ ‫شهور من التأسيس صدرت عدة‬
‫‪P.O. Box: 44480 Abu Dhabi‬‬
‫ولهذا ننظر إلى مشروع تحقيق‬ ‫�إ�ضافة عاملية‬
‫‪Email:info@alrihla.com‬‬
‫«ارتياد اآلفاق» عنوان خالب‬ ‫وارد بدر السالم‬ ‫رحالت منها رحلة العالمة ابن‬ ‫هذا العدد الكبير من المخطوطات‬ ‫إن مشروع تحقيق الرحالت‬
‫لمشروع طموح والفت يتقصى‬ ‫المرأة اليوم ‪ /‬أبوظبي ‪ 10‬ديسمبر ‪2005‬‬ ‫خلدون‪ ،‬والتي كانت ملحقة‬ ‫الغنية للرحالة العرب على أنه‬ ‫العربية يعد مشروعًا نوعيًا‬
‫‪London Office:‬‬
‫أدب الرحلة العربي من ابن‬ ‫بتاريخه‪ ،‬هذا بخالف العديد من‬ ‫مشروع ثقافي فكري علمي‪،‬‬ ‫لما فيه من جوانب مطلوبة‬
‫قدمي ًا وحديث ًا‬
‫‪Telefax: 004402089920507‬‬
‫بطوطة وابن جبير إلى آخر‬ ‫الرحالت التي تمت في العصر‬ ‫‪Adress: 50Sussex SQ‬‬ ‫يحمل قيمة معرفية عالية‪،‬‬ ‫مرحليا‪ ،‬منها أن هذه الرحالت‪،‬‬
‫«ارتياد اآلفاق» هو االسم الذي‬ ‫الحديث‪.‬‬ ‫سيكون إضافة إلى المكتبة‬ ‫وقد تحقق منها أربع إلى اآلن‬
‫رحالة عربي دوّ ن رحلته في‬ ‫تحمله سلسلة من المنشورات‬
‫‪London W2 2sp UK‬‬
‫عالء عريبي‬ ‫العربية‪ ،‬وربما‪ ،‬إذا قيض له‬ ‫وهناك الكثير في طريقه إلى‬
‫كتاب‪ ،‬ينطلق المشروع من فكرة‬ ‫المكون من يوميات وقصص‬
‫جريدة الوفد ‪ 30 /‬يوليو‬ ‫الإعالنات‪:‬‬ ‫عملية ترجمة دقيقة‪ ،‬سيكون‬ ‫المعالجة‪ ،‬ستبين كيفية تعامل‬
‫جوهرية هي الحوار مع اآلخر‬ ‫مغامرات ودراسات وبحوث‪.‬‬
‫فونو للت�سويق ‪Vono Marketing‬‬ ‫إضافة عالمية‪..‬‬ ‫العربي مع اآلخر المتقدم لجهة‬
‫ومعرفته‪ ،‬فإذا كان الرحالة‬ ‫من خالل هذه السلسلة‬
‫يريد «المركز العربي لألدب‬ ‫�إحياء �أدب الرحلة‬ ‫‪Email» yvonne@vonomarketing.com‬‬ ‫محمد حسن الحربي‬ ‫منجزه الحضاري التقني أو‬
‫الغربيون قد سعوا بقصد أو‬ ‫الثقافي وكيفية احترامه له على‬
‫الجغرافي» أن يثبت بأن العرب‬ ‫أدب الرحلة ليس جديدًا‬ ‫صحيفة الخليج‪ 17 /‬أكتوبر ‪2001‬‬
‫بغيره إلى تنميط الشرق وإنتاج‬ ‫الرغم من عدم االتفاق معه في‬
‫كانوا منذ القدم منشغلين‬ ‫في الثقافة العربية‪ ،‬لكنه‬
‫صورة تصوغ إحكام القبضة‬ ‫يتجدد دائمًا برحالت الرحالة‬ ‫القرية الإلكرتونية‬
‫مغامرة الأوائل‬ ‫المنهج الفكري والبناء المنطقي‬
‫بمغامرة ارتياد اآلفاق‪.‬‬
‫عليه فإن هاجس الرحلة العربية‬ ‫كما يطمح إلى إعطاء دفع إضافي‬ ‫ومشاهداتهم وكتاباتهم‬ ‫إن مشروع نشر أدب الرحالت‬ ‫مثلًا‪ ،‬ومدى إنسانية الرؤية لدى‬
‫البحث عن الجديد واآلخذ‬ ‫إلى الجدال اإلصالحي الدائر‬ ‫وتصويرهم واكتشافاتهم لمناطق‬ ‫العربية الذي اضطلعت به دار‬ ‫الرحالة العربي وهو يكتب عن‬
‫موقع «امل�سالك» على �شبكة االنرتنت‬
‫بمعطيات التطور والحداثة‪.‬‬ ‫حاليًا عن طريق كتب الرحالت‬ ‫مجهولة في الجغرافية العالمية‪.‬‬ ‫السويدي ومركزها ارتياد اآلفاق‬ ‫مجتمعات تخالفه في طريقة‬
‫‪www.almasalik.com‬‬
‫زياد بركات‬ ‫القديمة والحديثة‪.‬‬ ‫«دارة السويدي الثقافية» حققت‬ ‫لهو عمل جليل وحدث ريادي‬ ‫التفكير والمعتقد‪ ،‬وتطلعاته‬
‫موقع الوراق على �شبكة االنرتنت‬
‫فضائية الجزيرة‬ ‫جوليا غرالخ‬ ‫هذا التصور عبر ثالث دورات‪،‬‬ ‫في الثقافة العربية لما فيه من‬ ‫ليكون رصيفًا لهم مع االحتفاظ‬
‫‪www.alwaraq.com‬‬
‫‏‪Qantara.de‬‬ ‫بتمايزه عنهم من حيث غائية‬
‫الدوحة ‪2006 / 12 /11‬‬ ‫وأعادت إلى الحياة نصوص‬ ‫كشف عن مغامرة األوائل من‬
‫الرحالت إلى مكتباتنا العربية‬ ‫الرحالة العرب الذين جابوا‬ ‫اعتماره للوجود وسعيه فيه‪..‬‬
‫الخ؟‬
‫‪7‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪Photograph‬‬ ‫فوتوغراف‬ ‫‪Sails‬‬ ‫�أ�شرعة‬

‫ثقافة العبور �إىل الآخر‬

‫أخيراً‪ ،‬مجلة الرحلة‪ ،‬في عددها األول‪ .‬وهذه هي الصيغة التي تطلعنا إليها‪،‬‬
‫لتكون لنا مجلة جديدة من نوعها في الثقافة العربية املعاصرة‪.‬‬
‫كل شهر تصدر فيه «الرحلة» نريد أن يقوم القاريء العربي برحلة في املعرفة واملتعة‬
‫واملؤانسة‪ .‬ففي عالم هيمن عليه التلفزيو‪ ،‬وتراجعت أمامه الكلمة‪ ،‬بات على حراس‬
‫الثقافة العربية أن يطوروا عالقة الكلمة بالصورة‪ ،‬وأن يوظفوا هذه العالقة في خدمة‬
‫وعي راق يبنونه في األجيال اجلديدة املهددة بنوع من الصور االستهالكية السلبية‪.‬‬
‫مجلة الرحلة‪ ،‬ستعطي‪ ،‬وللمرة األولى مكانة مميزة للصورة‪ ،‬وتظفها بطريقة جتعل من‬
‫العدد معرضاً للفنونن البصرية يعانق متحفاً ممتعاً من فنون الكتابة في أدب الرحلة‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬املجلة ستكونن الواجهة اجلمالية واإلعالمية الراقية ملشروع «ارتياد اآلفاق»‬
‫الذي بنيناه لبنة لبنة على مدار السنوات السبع املنصرمة‪ .‬ستسعى املجلة‪ ،‬أساساً‪ ،‬إلى‬
‫تكريس أدب عريق ومهمل في الثقافة العربية‪ ،‬هو أدب العالقة مع املكان والعالقة مع‬
‫اآلخر‪ ،‬في محاولة جادة إلعادة االعتبار لثقافة امللموس واملعاين واملستدرك بالوعي‬
‫كهول و�شيوخ يف �ساحة مدينة تيهرت‪ ،‬حيث جالت عد�سة «الرحلة»‪ ،‬والتقطت �صورا وم�شاهد من املدينة التي‬ ‫الفردي والذائقة الشخصية واحلركة في اجتاه اآلخر‪ .‬لم يعد مقبوالً أن نرى العالم‪،‬‬
‫طاملا مر بها التاريخ وذكرها امل�ؤرخون‪ ،‬يف جهة من جهاتها اخل�رضاء العامرة بالأ�شجار املثمرة وا�شجار الزينة‪،‬‬ ‫نحن العرب‪ ،‬بعيون غيرنا‪ ،‬وحتديداً بعيون غربية‪ .‬علينا أن ننهض لرؤيته بعيوننا‪.‬‬
‫توجد مغارة‪ .‬هنا اعتكف العالمة ابن خلدون وكتب املقدمة‪.‬‬ ‫السفر في العالم يتيح لنا ذلك‪ ،‬ومجلة الرحلة هي مجلة هذا السفر‪ .‬فهي سوف تتيح‬
‫فرصة حقيقية للمبدعني املولعني بالسفر وكتابة اليوميات‪ ،‬وللمصورين العرب الفنانني‬
‫لكي يستأنفوا اإلبداع في حقل فني ثقافي عربي انقطعت ذخيرته‪ ،‬ومن شأن إحيائه‬
‫واستئناف العمل فيه أن يترك أثراً كبيراً في ثقافتنا العربية احلديثة‪ ،‬وفي عالقة‬
‫العربي بنفسه وبالعالم‪.‬‬
‫لذلك فإن مجلة الرحلة سوف تعني في خطتها بأدب الرحلة املعاصرة‪ ،‬باليوميات‪،‬‬
‫بالريبورتاج الرحلي‪ ،‬بفن تصوير املناظر الطبيعية والظواهر واخلبرات اإلنسانية‬
‫املختلفة‪ ،‬برسم األمكنة «باختصار» بكل ما يرتبط باملكان من أدب وفن على ما في ذلك‬
‫من غنى وتنوع وقدرة على املفاجأة‪.‬‬
‫بصدور مجلة «الرحلة» تكتمل حلقات مشروع «ارتياد اآلفاق»‪ ،‬وتتأس الواجهة اجلمالية‬
‫واإلعالمية للمشروع‪ ،‬الذي بدأناه بسلسلة كتب الرحالت‪ ،‬و»جائزة ابن بطوطة لألدب‬
‫اجلغرافي» بفروعها املختلفة‪ ،‬و»ندوة الرحالة العرب واملسلمني‪ :‬اكتشاف الذات‬
‫واآلخر» وهي املنتدى السنوي للباحثني العرب في أدب الرحلة معاربة ومشارقة‪.‬‬
‫وكان قد سبق هذه األعمال زمنياً موقع الوراق على شبكة االنترنت‪ ،‬وهو يحتوي على‬
‫سلة متكاملة من األعمال واملشروعات التي تربط الثقافة العربية حاضراً وماضياً‬
‫بالتكنولوجيا احلديثة‪ ،‬وتعيد تقدمي هذه الثقافة بلغة العصر‪ .‬مجلة «الرحلة» هي املنبر‬
‫العربي لثقافة الرحلة‪ ،‬وهي بامتياز ثقافة العبور إلى اآلخر‪ ،‬والتفاعل بني احلضارات‪.‬‬
‫وصدورها في حد ذاته دعوة إلحياء احلوار بني الثقافة العربية والثقافات األخرى‪.‬‬
‫اليافطة �رشاع والعامل على ال�سلم بحار يف مدينة‪.‬‬
‫�شاب ن�شيط يف و�سط باري�س ي�صعد ال�سلم لين�رش يف‬ ‫حممد �أحمد ال�سويدي‬
‫هواء املدينة خرب ًا جديداً‪.‬‬

‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪8‬‬


‫‪The New Sinbad‬‬ ‫�سندباد اجلديد‬

‫هذه العالقة المتبادلة بين النص‬ ‫الرصيف‪ .‬قال لي‬ ‫وراء عدد كبير من الكتب المعروضة مباشرة فوق ّ‬ ‫غافيًا وأنا أمشي خلف الظعون‪ .‬والصوت‬
‫والمكان هي النصر الحاسم على‬ ‫إنّه طالب إيرلندي‪ ،‬يدرس الموسيقى في إيرلندا‪ ،‬أو في بريطانيا‪ ،‬لم‬ ‫يتردد من ذيل إلى ذيل‪ :‬عند غياب‬
‫الموت‪ ،‬موت اللغة أو موت المكان‪،‬‬ ‫أعد أذكر ذلك بالتحديد‪ .‬وهو يعيش لشهور عديدة متجوّال عبر المدن‬ ‫القمر نمرح (من المراح‪ ،‬ال من المرح)!‬
‫كما أنه تجديد لحوار الكائن مع‬ ‫والقرى التركيّة‪ ،‬يستمع إلى الموسيقى ويبيع الكتب القديمة‪ .‬وقعت‬ ‫ّ‬
‫ويهزني الهازوز‪ ،‬برفق‪ :‬ال ت َنمْ ‪ ،‬يا خليل!‬
‫مخلوقاته ومع خالقه‪ ،‬إنه النور‪...‬‬ ‫عيناي على كتاب باللغة األلمانيّة وإذا هو أنطولوجيا شعريّة تضمّ‬ ‫يقول الرجل الراكب قدميه الحافيتين‪،‬‬
‫النور األبدي الذي يأتينا من هذه‬ ‫شاعرا ترك ًّيا منذ القرن الثالث عشر‬
‫ً‬ ‫مختارات شعريّة لخمس وس ّتين‬ ‫لصق امرأته الطريّة التي تلتهم المسافات‬
‫الجهة ونرى تأثيره على التراب‪...‬‬ ‫ّ‬
‫ح ّتى العشرينات من هذا القرن‪ ،‬ومن أشهرهم‪ :‬يونس عمري المتوفى‬ ‫بصمت! وفجأة ينطلق الصوت منها‪ ،‬قلقًا‪:‬‬
‫كيف نكتشف المكان‪ ،‬المكان البعيد‪،‬‬ ‫الرومي‪.‬‬ ‫الدين ّ‬‫صوفي من تالمذة موالنا جالل ّ‬
‫ّ‬ ‫سنة ‪ 1321‬وهو شاعر‬ ‫حمد‪ ،‬وصلنا‪ ،‬الوغد (أي الطفل) نام! قالتْ‬
‫والنائي بعيدا عن عاديته‪ ،‬وبعيدا‬ ‫ومن أجمل قصائده‪« :‬لماذا تبكي أيّها العندليب؟ « والقاضي برهان‬ ‫وهي تسندني من الوقوع في الفراغ‪.‬‬
‫عن كل ما يجعل منه مألوفا‪ ،‬أتذكر‬ ‫ّ‬
‫المتوفى سنة ‪ ،1405‬واألمير شام‪،‬‬ ‫ّ‬
‫المتوفى سنة ‪ ،1398‬والنسيمي‬ ‫ّ‬
‫الدين‬ ‫عيني‪ ،‬وال أرى سوى القمر‪ ،‬وبي‬ ‫ٌ‬ ‫وأفتح‬
‫اآلن وصولي األول إلى اسطنبول‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫والفوضولي‪ ،‬ونديم المتوفي‬ ‫وسليمان شلبي‪ ،‬وبير سلطان عبد اهلل‪،‬‬ ‫رجفة من برد ليل الصحراء الخاتل في‬
‫كنا نسير على ضفة من الحصى‬ ‫سنة ‪ ،1730‬ويحي كمال البياتي‪ ،‬وغيرهم‪ .‬قلت‪ :‬ها أنا أدخل تركيا من‬ ‫جئت‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬إلى هافانا؟‬ ‫ُ‬ ‫الجو! عالم‬
‫قرب البحر‪ ،‬وكان الظالم دامسا‪ ،‬وفي‬ ‫هذا الباب البديع! وكدت أنسى مجددا لغط الحاضر من حولي‪.‬‬ ‫وعلي أن أختفي!‬
‫َّ‬ ‫القمر‪،‬‬ ‫اختفى‬ ‫قمر هافانا‬
‫الغسق الشفاف كان رذاذ البحر يضرب‬ ‫ما هذا الهباء األعظم؟ ما هذه الروعة؟‬
‫وجوهنا‪ ،‬انتابني تلك اللحظة شعور‬ ‫علي مصباح ‪ -‬كاتب من تونس مقيم في ألمانيا‬ ‫رأيت القمر‪ ،‬أخيرًا فابتسمت‪ .‬قمر يعلو هافانا بصمت‪ .‬يقف‬
‫غريب‪ ،‬شيء أشبه بلحظات نسيان‬ ‫خليل النعيمي ‪ -‬طبيب وروائي من سوريا‬ ‫فوقها مثل صورة مرسومة في الفضاء‪ .‬الهواء ساكن‪ ،‬واألضواء‬
‫أو نوم‪ ،‬حركة الظالم التي تسقط‬ ‫ذلك النور البعيد‬ ‫خافتة‪ ،‬والناس يمشون بهدوء‪ .‬يجرون أجسادهم بعناء وكأنهم‬
‫في المياه العميقة في البحر‪ ،‬صوت‬ ‫الرحلة هي البحث عن سعادة النهار في خرائط المدن‪ ،‬البحث عن‬ ‫يريدون أن يناموا في المكان‪ .‬وأقف بعيدًا عنه‪ ،‬قمر صحرائي القديم‪،‬‬
‫الصخرة التي يضرب بها الموج‪ ،‬وهذا‬ ‫المكان الذي يثير كل ما هو شهواني وأرضي في تجربة الغموض التي‬ ‫حين كنا نسري لنستقي الماء من عيون الجبل السرية‪ ،‬ونعود إلى‬
‫العشب الغضر والذي كنت أجاوره‬ ‫ختزل في تعاقب‬ ‫يكشف عنها‪ ،‬والقلق واالنفصال ا سد‪ ،‬والمدن التي ُت َ‬ ‫الفيء قبل سقوط القيظ‪ .‬أقف في مساء هافانا البديع‪ ،‬وأنا أمشي‪.‬‬
‫بحذائي‪ ،‬أحسست بدماء عنيفة‬ ‫وتركيز وكثافة وتتفجر صورًا‪ .‬الرحلة تجدد المدن بالنظرة وبالروح‪..‬‬ ‫في شارع "ترانزيتو"‪ ،‬يستحضر الكون نفسه من العدم‪ .‬الكائنات‬
‫تنبض في داخلي‪ ،‬تدفع عني الضعف‬ ‫تغيرها وتنعشها‪ ،‬تجعلها متجددة ألنها تعطيها قيمتها‪ ،‬فمدننا التي نألفها‬ ‫ّ‬
‫تتطلع إليك‪ ،‬وأنت‬ ‫البسيطة التي تبدو متوحشة من شدة بساطتها‪،‬‬
‫والنوم والخور والنسيان‪ ،‬شيء يلهبني‬ ‫وال نراها سنراها مرة أخرى بعيون اآلخرين‪ ،‬بعيون الرحالة الذين‬ ‫تمشي مذهولًا! شيخوختها البائسة ال تخفي أعراضها المملوءة‬
‫يجعلني أركض أو أنغمر بالماء‪..‬أتحد‬ ‫يهبونها صورة جديدة ونظرة عميقة‪ ،‬سنراها نحن أيضا على خالف‬ ‫بالقشف‪ .‬وهي ال تتسوّل العطف منك‪ ،‬حتى ولو ُخ ِّيل إليك ذلك‪ .‬إنها‬
‫بالبحر والفضاء والرمال ‪...‬الرحلة‬ ‫ما كانت تبدو لنا‪ ،‬وهكذا سيرى اآلخرون مدنهم التي ألفوها بعيوننا‪.‬‬
‫ببساطة هي هذه‪...‬الرحلة تمرين حي‬ ‫تحتفي برؤية الغريب‪ ،‬مسرورة لمروره‪ ،‬وكأنها ال تريده أن ينساها‪.‬‬
‫الرحلة منذورة للشعر من جهة ومنذورة للحقيقة من جهة أخرى‪،‬‬ ‫أحد من عالَم آخر! عالم ما وراء البحار الذي غمرها بهمجيته‪ ،‬وهو‬
‫على الشعر‪ ..‬تجديد وانبعاث للجسد‬ ‫وهذا التوتر والصراع يمنحها جوهرها الوجودي‪ ،‬يعطيها روح الكائن‪ ،‬أي‬
‫مثلما يجدد الشعر بفعالية جسد‬ ‫نبي! أال تدرك‬‫يدعي العكس‪ ،‬مثل كل المستعمرين‪ .‬لكأن الغريب ّ‬ ‫ّ‬
‫أن المكان يبطل أن يكون فضاء خاليا أو مادة أو جمادا‪ ،‬ويتحول إلى كائن‬ ‫هذا؟ ألم يأتها المبشرون من وراء تلك البحار‪ ،‬ذات يوم؟ ولربما كان‬
‫اللغة ويمنع عنها التكلس والموت‪...‬‬
‫مثلما يهزها أو ينفضها بقوة ويجعلها‬
‫حي يعيش ويتنفس‪ .‬الرحلة تمنح المكان مفاتيح الفردوس‪ ،‬مثلما المكان‬ ‫أدخل تركيا‬
‫ُ‬ ‫�‬ ‫ذلك الكذب هو ثمن االنتصار المجيد الذي تحوّل إلى موت!‬
‫يمنح النص أبديته الحية ويجدده‪ ،‬فالمكان الذي يتجدد عبر النص يؤثر‬ ‫هل يمكن التخلص حقا من ثقل ذاكرة‬
‫نابضة فتية تتالئم بشكل فتان مع‬ ‫أعرف "جبهة الكتابة"‪ .‬جبهة الكائن الصغير الذي يمأل رأسه بالكون‪.‬‬
‫في النص‪ ،‬يمنحه صورة جديدة ومعجما جديدا ونسقا إنشائيا جديدا‪،‬‬
‫عواطفنا‪..‬الرحلة هي الشعر‪ ،‬أي بمعنى‬ ‫التاريخ الرابض فوق المدينة؟ هل تتخلص‬ ‫ليحلها‪ ،‬من أجل أالّ ُتفيد‬‫ّ‬ ‫يختلق المشاكل التي لمْ يعانِ منها‪ ،‬يومًا‪،‬‬
‫إنه يجدده ويثريه‪ ،‬ويغنيه بالصور واألحداث والعواطف‪ .‬وهكذا كان‬ ‫البنايات والمعالم والجدران والحجارة‬
‫آخر هي إخالص للمعرفة والتحرر‪،‬‬ ‫أحدًا آخر‪ .‬إحساس مريع‪ ،‬مثل هذا‪ ،‬مأل نفسي‪ ،‬وأنا أرى إلى جاري‬
‫الشعراء يسيحون بحثا عن مكان يجدد لهم معجمهم وصورهم وحياتهم‪.‬‬ ‫من وهج األحياء الذين التصقوا بها في يوم‬
‫شيء يضاء في الروح وفي الدم‬ ‫انكب على دفتر صغير‪ ،‬يرتّب فيه مقدمات المسألة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الضامر الذي‬
‫واللحم‪ ،‬دروب تنار من جديد تمنحها‬ ‫ما‪ ،‬في زمن ما‪ ،‬ومن الوقائع وألحداث‬ ‫ْ‬
‫ولواحق حلولها الالمتناهية‪ ،‬جالسًا‪ ،‬مثلي‪ ،‬في كافتيريا "إنغالتيرا‬
‫نظرة متجددة‪ .‬والرحالة شاعر تائه‬ ‫التي صاغتها على تلك الشاكلة؟ أال تلبس‬ ‫هوتيل" الشهير! وهو ما لجمني‪ ،‬زمنًا طويلًا‪ ،‬عن القلم‪ .‬الغريب‪،‬‬
‫تسيطر عليه فكرة عمر اإلنسان‬ ‫األرواح بالمكان وتظل تهيم فوقه مثل‬ ‫كالملسوع‪ ،‬منذ أن رآني أبدأ‬ ‫ْ‬ ‫أنه قام من جانبي‪ ،‬وخرج من المكان‬
‫وعمر األرض‪ ،‬وروح المكان‪.‬‬ ‫إشعاعات تحت األحمرأو فوق البنفسجي؟‬ ‫الكتابة‪ .‬إننا ال نكتب بلغة واحدة‪ ،‬ولكننا ِّ‬
‫نفكر بها!‬
‫أليس اتصالها بنا هو الذي يستثير ذلك‬ ‫بدل مكاني ألصبح في مواجهة القمر‪ ،‬من جديد‪.‬‬ ‫في الليلة الثالثة‪ ،‬أُ ّ‬
‫علي بدر‪ -‬روائي من العراق‬ ‫الحشد من الخواطر الذي يجعل‬ ‫ّ‬ ‫قمر كامل التدوير‪ .‬ضوؤه ّ‬
‫يتصدر الفضاء العلوي‪ ،‬بأبهة‪.‬‬ ‫فضي ناصع‪.‬‬
‫محتويات ذاكرتنا تنهض للحضور مجددا؟‬
‫أنت لي! وأراني في البوادي القديمة‪ ،‬ماسكًا ذيل‬ ‫يقول لـ"هافانا"‪ِ :‬‬
‫شاب أوروبي‬‫ّ‬ ‫أمام حديقة غولهانة يقف‬
‫فرسي الدهماء‪.‬‬

‫‪11‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪10‬‬


‫وتبلغ مساحة هذا القصر مع البحيرة‬ ‫مقالة له نشرت في «المجلة الجغرافية» عام‬ ‫وهران تتذكر بألم أقدام الجيش‬
‫حوالي ثالث مائة هكتار‪.‬‬ ‫‪ .1925‬لذلك تسابق كل من برترام توماس وجون‬ ‫اإلنكشاري والغزاة اإلسبان‬
‫وتتكون هيكلية هذا القصر ‪-‬‬ ‫فيلبي في ثالثينيات القرن العشرين من األلفية‬ ‫والمستعمرين الفرنسيين دون أن‬
‫اللوحة الجماليّة البديعة ‪ -‬من‬ ‫الثانية لعبور الربع الخالي‪ ،‬تلك الصحراء التي‬ ‫تنسى الطاعون‪.‬‬
‫البحيرة السابقة بحيرة (كون مينغ)‪,‬‬ ‫سماها العرب األقدمون مفازة صَ ْيهَد‪ .‬لكن برترام‬ ‫والقيروان تتألق بالمجانين ‪.‬‬
‫ّ‬
‫تشكل ثالثة أرباع هذا القصر‪,‬‬ ‫التي‬ ‫توماس هو من فاز بإحراز قصب السبق حين‬ ‫وفاس‪ ..‬تؤدي بك أزقتها إلى المتاهة‪..‬‬
‫ومن جبل تغطيه غابات جميلة‬ ‫اجتاز بيداء الربع الخالي من صاللة حتى قطر عام‬ ‫متاهة الذاكرة والكتابة‪ ..‬ابن عربي‬
‫متناسقة‪ ،‬و يطلق عليه الصينيون‪:‬‬ ‫‪ ،1931‬تاركًا لمنافسه جون فيلبي عكس رحلته‬ ‫وابن خلدون وابن باجة‪.‬‬
‫(جبل العمر المديد)‪ ،‬وهو جبل‬ ‫تلك باجتيازها بعد عام واحد فقط من الشمال إلى‬ ‫وتلمسان‪ ..‬مدينة الحرير والسبع‬
‫مغطى بطبقة وفيرة‬ ‫متوسط االرتفاع ّ‬ ‫الجنوب‪ .‬وقبل ذلك بكثير استطاع الرحالة جيمس‬ ‫وثالثين منارة والحرير‪ ...‬وهمفري‬
‫من النباتات المتناسقة‪ ,‬واألشجار‬ ‫ويل ستيد عام ‪ ،1835‬الذي لم يعبُر الربع الخالي‪،‬‬ ‫بوغارت يتذكر « كازابالنكا «‪.‬‬
‫وأصيلة تستعير لون أبواب بيوتها من‬
‫القديمة التي ال تزال تحتفظ بجاذبيتها‬ ‫يرصد من قمة الجبل األخضر المشهد المترامي‬ ‫أن ُ‬
‫وسحرها حتى اآلن‪ .‬وهو ّ‬ ‫زرقة السماء‪.‬‬
‫يطل‬ ‫لذلك الربع قائلًا في وصفه‪« :‬سهول شاسعة من‬
‫أما العرائش‪ ..‬فقد اختارها جان جينيه‪،‬‬
‫ّ‬
‫وتتوزع‬ ‫على بحيرة (كون مينغ)‪.‬‬ ‫الرمال المتحركة الفضفاضة تمتد على مرمى‬
‫منزال فقيرا‪ ..‬أمام البحر ‪.‬‬
‫�س�ؤال املدينة‬
‫مقصورات هذا القصر على مساحة‬ ‫البصر‪ ،‬والتي في اجتيازها حتى البدويّ الشديد بالكاد يجرؤ على‬
‫ما هي المدينة؟‬
‫جبل العمر المديد‪ ،‬وهي في آية من‬ ‫المجازفة‪ .».‬لكن الرحالة البريطاني ويلفرد ثسيجر هو الوحيد الذي‬ ‫هل تكفي القواميس الباردة لتصف لحظة افتراق عن‬
‫أنصنعها نحن أم تصنعنا هي؟‬
‫اإلبداع في التصميم‪ ،‬و الروعة في‬ ‫استطاع اجتياز تلك البيداء بشاعرية وحُ ب قل نظيرهما‪ ،‬وبوصف لمّ اح‬ ‫لنسأل المعماريين والبنائين‪ ..‬ولم ال‬ ‫ميناء أو عن امرأة أو عن مدينة تركت فيها أحالمك؟‬
‫الجمال و الزخرفة والتصوير‪ .‬وهي‬ ‫لحياة البدو الذين رافقوه فشرب من مشربهم ولبس مالبسهم وتعلم‬ ‫نسأل دواة الحبر‪ ..‬وريشة الوراقين؟‬ ‫المدينة تسألك‪ ..‬وأنت تسألها‪ ..‬لكن ثمة من يفك أسرارها‪.‬‬
‫تقع بالقرب من باب القصر الشرقي‪,‬‬ ‫ته وأضحت ذكراه‬ ‫أس َر ُ‬
‫لغتهم‪ ،‬في محاولة منه للتماهي مع حياتهم التي َ‬ ‫من أين نبدأ في الكتابة عن المدن؟‬
‫المدينة تأخذ شكل الحبر‪ ..‬والحبر‬
‫بجوار شاطئ البحيرة‪ ,‬وتجمع بين‬ ‫الطيبة الوحيدة من هذه الحياة التي تتغير باستمرار وال تتيح ألولئك‬ ‫يأخذ شكل الحروف‪ .‬تبزغ هذه المدن‬ ‫أمن خرائط الجغرافيا أم من سجالت التاريخ أم من أرقام الدليل‬
‫فخامة القصور اإلمبراطورية عبر‬ ‫البدو إال أن يغيروا نمط حياتهم كما يروي في كتابه الشيق «الرمال‬ ‫في ذاكرتي كلما حاولت نسيانها‪..‬‬ ‫السياحي ـ كم هي مقيتة األدلة السياحية! ‪ -‬أم نبدأ من عيون‬
‫تشكلها التاريخي‪ ,‬وجمال الحدائق‬‫ّ‬ ‫العربية» عن رحلتيه اللتين َع َبر فيهما الربع الخالي مرتين بين ‪1946‬‬ ‫النساء؟‬
‫وأتذكر أن لكل مدينة عطرا خاصا‪ ،‬هو‬
‫المشهورة في جنوب الصين‪ ,‬وروعة‬ ‫‪ 1948 -‬منزعجًا من هول المصير الذي سيؤولون إليه بعد اكتشاف‬ ‫عطر األم ‪.‬‬ ‫وهل يمكن أن نقرأ المدن من غير أن نقرأ عيون النساء؟‬
‫هندستها وتخطيطها الجمالي المدهش‪.‬‬ ‫النفط في الجزيرة العربية‪.‬‬ ‫أليست المدن تولد من رحم الذاكرة؟‬ ‫قال لي صديق ذات مرة‪:‬‬
‫ومن أهم المقاصير الموجودة في هذا‬ ‫« ‪ ...‬ويا صديقي‪ ،‬فالمدينة مثل المرأة‪ ،‬ليست مستوطنة في‬
‫واأللفاظ تولد من رحم دواة الحبر؟‬
‫القصر مقصورة (الفضيلة البوذية)‬ ‫محمد الحارثي ‪ -‬شاعر من سلطنة عمان‬ ‫الجسد‪ ،‬بل هي مستوطنة في الروح‪« ...‬‬
‫التي تقع على قمة الجبل‪ ,‬وهي ّ‬
‫تعد‬ ‫ثم أضاف‪:‬‬
‫شاكر نوري ‪ -‬شاعر وروائي عراقي‬
‫مركزًا للقصر الصيفي‪ ,‬ورمزًا روحيًا‬ ‫الق�صر ال�صيفي يف بكني‬ ‫مقيم في اإلمارات العربية المتحدة‬
‫«من يصدق أننا نحب مدننا رغم أن مدننا هي كلها انهيارات‬
‫ّ‬ ‫القلب؟»‬
‫ودينيًا مهمًا جدًا‪ ،‬حيث كان أفراد‬ ‫يعد هذا القصر أكبر حديقة إمبراطورية موجودة في العالم في وقتنا‬
‫المدن هنا موجودة على الخارطة أمامي‪ ،‬أبصرها‪ ،‬أفتح أبوابها‪،‬‬
‫الحاضر‪ ,‬وأكملها و أكثرها جمالًا وقيمة ثقافية ومعماريّة‪ .‬وقد أُدرج‬ ‫هد‬
‫�ص ْي َ‬
‫األسرة اإلمبراطورية يتعبدون تقربا‬ ‫عبور مفازة َ‬ ‫لكني أرغب أن أكون فيها مرة واحدة‪ ..‬وفي لحظة واحدة‪.‬‬
‫إلى بوذا داخل هذه المقصورة‪ .‬وقد‬ ‫يجسد‬‫ّ‬ ‫هذا القصر في قائمة التراث العالمي‪ ،‬وذلك في عام ‪ ,1998‬وهو‬ ‫من المصادفات التاريخية التي سيبدو‬ ‫المدينة هاجس‪ ،‬يتشكل كبذرة في الوعي قبل أن تغزو القلب‪.‬‬
‫بُنيت هذه المقصورة البوذية على‬ ‫خالصة الحدائق الصينيّة التقليدية‪ ،‬وجوهرها األساس‪ .‬وقد بني بجوار‬ ‫سردها‪ ،‬هنا‪ ،‬ذا فائدة وطرافة هي‬ ‫ومدن المغرب العربي‪ ،‬هذا البياض الذي ما إن تدخل في دائرته‬
‫قاعدة من األحجار الضخمة‪ ،‬وبلغ‬ ‫جبل ساحر االخضرار‪ ،‬وعليه أيضًا‪ .‬و حتى تكتمل الصورة الجماليّة لدى‬ ‫أنه لوال مقالة لـ باكون يقترح فيها‬ ‫حتى تكتشف أنك داخل في مدن تركت قدسيتها لتصبح مدنا‬
‫ارتفاعها أكثر من عشرين مترًا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫يشقوا‬ ‫اإلمبراطور تشان لونغ فقد جمع آالف العمال و الفالحين لكي‬ ‫إمكانية عبور الربع الخالي بالمنطاد‬ ‫مألوفة‪ ،‬تتألق بشمس القادمين وتأفل بقمر العشاق‪.‬‬
‫وتتكوّن المقصورة من ثمانية جوانب‪،‬‬ ‫بحيرة واسعة أمامه‪ ,‬بحيث يبدو الجبل وراء القصر والبحيرة أمامه‪.‬‬ ‫لكان بيرسي كوكس أثناء رحلته بين‬ ‫في هذه النقاط القصية‪ ،‬تقترب من نفسك ومن غرائزك‪،‬‬
‫وثالثة طوابق يغطيها سقف قرميدي‬ ‫«عبري» و»أدَم» في العام ‪ 1905‬أول‬ ‫تستقبلها باحات المنازل المطلة على السماء‪:‬‬
‫مطلي بالمينا الخضراء والصفراء وهي‬ ‫من سيحظى من األوروبيين بريادة‬ ‫الرباط‪ ..‬مدينة تتنفس برئة قرية‪.‬‬
‫من أهم رموز العمران اإلمبراطوري‬ ‫اكتشاف الربع الخالي بعد أن وافق‬ ‫الجزائر تنفتح كجرح أو كفم على الفضاء‪.‬‬
‫الصيني‪.‬‬ ‫رفاقه البدو على مرافقته في تلك‬ ‫قرطاج‪ ..‬ما تزال تبحث عن هنيبعل‪.‬‬
‫الرحلة‪ ،‬لكنه تراجع عن تلك الفكرة‬ ‫طنجة تنظر إلى األندلس بحنين طارق بن زياد‪ ..‬وإلى الصين‬
‫من «رحلة بكين» ‪2001 -‬‬
‫بعد أن قرأ تلك المقالة‪ ،‬كما يروي في‬ ‫وسمرقند بحماس ابن بطوطة‪.‬‬
‫محمد عبد الرحمن يونس‬

‫‪13‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪12‬‬


‫‪24 Hours‬‬ ‫‪� 24‬ساعة‬

‫حياة مفعمة باحلرية يف �إفريقيا‬


‫أوراق من طفولتي في وادي حلفا وإفريقيا‬

‫دينيس جونسون ديفز‬

‫وصلت إلى إنكلترا قادمًا من إفريقيا وعمري ‪ 11‬سنة‪،‬‬


‫فأنا مولود في كندا سنة ‪ ،1922‬رحلت مع عائلتي‬
‫طفلًا إلى القاهرة‪ ،‬فإلى وادي حلفا في السودان‪ ،‬ثم‬
‫إلى أوغندا‪ ،‬بعد ذلك إلى إنكلترا التي لم أحبذ العيش‬
‫فيها أبدًا‪ ..‬عندما جئت إلى ما كان ينبغي أن يكون‬
‫وطني في األحوال الطبيعية‪ ..‬لندن كانت مشاعري‪،‬‬
‫ولما رجعت وجدت لي أمًا جديدة‪ ..‬والغريب أن‬ ‫من اللعبة ألنني دون سن الـ ‪ 16‬سنة‪ .‬والدي الذي لم‬ ‫وحواسي وتصوراتي وما أحب وافضل وأرفض‪ ،‬قد‬
‫أمي قالت مرة ألبي أن الصديقة الفالنية مسكينة‪،‬‬ ‫يكن يهتم بالرياضة‪ ..‬زعل‪ ..‬وقال للناظر‪ :‬إذا لم تترك‬ ‫تشكلت وانتهى األمر‪ ..‬والسبب أنني عشت طفولة‬
‫فلنأخذها معنا في رحلة‪ ..‬وهو ما حصل‪ ..‬وخالل تلك‬ ‫ابني يلعب السكواش سأخرجه من المدرسة‪ .‬فقال‬ ‫في بيئة مختلفة‪ ..‬كانت طفولتي غريبة ففي وادي‬
‫الرحلة بدأت عالقة بينها وبين أبي‪ ..‬كانت أمي طيبة‬ ‫له الناظر‪ :‬لن أسمح له بممارسة اللعبة مادام صغيرًا‪..‬‬ ‫حلفا ومصر مثلًا كنت وحيدأ ً لم يكن هناك أطفال‬
‫القلب‪ ،‬ولم تفكر أن شيئًا من هذا القبيل يمكن أن‬ ‫وهذا مخالف للقواعد‪ ،‬وال نستطيع تغيير القوانين من‬ ‫إنكليز غيري‪ ..‬وفي السودان كان كل أصدقائي من‬
‫يحدث‪ .‬دخلت في العائلة ونسفتها‪ ،‬عدت من مصر‪..‬‬ ‫أجل ابنك! كانت معحزة ووقعت‪ ،‬فقد كنت أحلم لليال‬ ‫العرب‪ ،‬وكنت أتقن العربية في ذلك الوقت أكثر‬
‫كما قلت‪ ..‬ولم أجد عائلتي!‬ ‫طويلة بالخالص من هذه المدرسة‪ ..‬فإذا بوالدي الذي‬ ‫من إتقاني اإلنكليزية‪ ..‬لكن الذي ال يعرف أن يقرأ‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن صباي المبكر أي أول ما جئت إلى لندن‬ ‫كان محاميًا يومها يتسبب بخالص من تلك المدرسة‪.‬‬ ‫ويكتب العربية ينساها‪ .‬لم أسعد بهذا االنتقال‪ ..‬في‬
‫لم يكن سيئة‪ ..‬بل كانت أيامًا وسنوات جميلة على‬ ‫جاء والدي إلى لندن ليعمل سكرتيرًا لمنظمة‬ ‫إنكلترا يتحدثون عن المسرح والفن والحضارة‪ ..‬وفي‬
‫الصعيد العائلي‪.‬‬ ‫السيارات‪ .‬أما والدتي فكانت تهتم بالكتابة‪ ،.‬وقد‬ ‫السودان كان عندي حمار وفي أوغندا كان عندي‬
‫في أفريقيا لم تكن هناك أي عنصرية من الناس نحو‬ ‫كتبت ونشرت بعض األعمال األدبية‪ .‬وقد اهتمت هي‬ ‫بسكليت‪ ..‬في السودان كنت أركب الحمار بفرح‬
‫المختلفين عنهم لونًا أو ثقافة أو تكوينًا‪ .‬عدت إلى‬ ‫بدراستي‪ ،‬فقد كان علي ان أدرس واواصل دراستي‬ ‫كبير‪ ..‬وكانت لي صور في النيل على ظهر مركب‪..‬‬
‫وادي حلفا مرات كثيرة لكنني لم أذهب إلى كامباال‬ ‫لدخول جامعة كامبردج‪ ..‬وقد حاولت ذلك في سن‬ ‫حياة بسيطة‪ ،‬بدائية‪ ،‬لكنها رائعة الجمال‪ ،‬فهي حياة‬
‫حيث عشت سنوات‪ ..‬أيضًا‪ ..‬إنما زرت زنجبار‪ ..‬ومن‬ ‫مبكرة‪ ..‬فرفضت الجامعة‪ ..‬قالوا أن علي أن أبلغ ‪18‬‬
‫مفعمة بالحرية‪ .‬في إنكلترا حشرت في مدرسة كلها‬
‫زنجبار سافرت إلى كينيا حيث كنت مرة في مدرسة‬ ‫سنة حتى يسمح لي بدخول الجامعة‪ ...‬وقد توصلت‬ ‫أوامر وضوابط ونواهي صارمة‪ ..‬وكان الضرب ينزل‬
‫داخلية‪ ،‬وهناك التقيت الناظر‪ ..‬وسألني أنت كنت هنا؟‬ ‫والدتي معهم إلى تسوية فدخلت في سن ‪ 16‬سنة‪..‬‬ ‫بنا ‪ ..‬كانوا يضربوننا بقسوة في ذلك الوقت‪ .‬لذلك‬
‫قلت نعم‪ ..‬كنت هنا من سنة ‪ 1926‬إلى ‪ ،1932‬فاستغرب‬ ‫وخالل ذلك الوقت الفاصل دخلت لسنة في مدرسة‬ ‫كرهت المدرسة واشتقت إلى الحياة الحرة والعفوية‬
‫كثيرًا‪ ..‬لكنني سعدت‪ ،‬وكنت أعتقد أن مدرستي كبيرة‬ ‫اللغات الشرقية في لندن ودرست العربية‪ ،‬وذلك‬ ‫في إفريقيا‪ ..‬ولك ان تتخيل المصاعب النفسية التي‬
‫جدًا‪ ..‬كان لها ضخامتها في ذاكرتي ومخيلتي‪ ..‬ولما‬ ‫سنة ‪.1937‬‬ ‫تحل بالطفل والناشيء في المدرسة الداخلية‪..‬‬
‫دخلت إليها وجدتها أصغر بكثير مما كنت أتصور‪ .‬تلك‬ ‫عندما كنت ما أزال في إنكلترا أذكر أننا كنا نسافر‬ ‫من الصباح إلى الليل‪ ،‬وهكذا‪ ..‬واستطعت أن أهرب‬
‫كانت السنوات السعيدة في حياتي‪.‬‬ ‫أمي وأبي وأنا بالسيارة ونمضي أسبوعين في فرنسا‬ ‫بمعجزة‪ ..‬ففي تلك الفترة من حياتي‪ ،‬لم أكن شاطرًا‬
‫مثلًا‪ ..‬نشاهد الكنائس ‪ ..‬وكان هذا مملًا بالنسبة لي‪..‬‬ ‫في األلعاب الرائجة بين األقران‪ ..‬كنت أجيد السكواش‬
‫قلت لهم مرة أعطوني الفلوس وأنا أسافر إلى مصر‪.‬‬ ‫وحسب‪ .‬فقد كانت أمي تحب هذه اللعبة ووجدت‬
‫مستعرب بريطاني معروف يعيش في القاهرة‪ ،‬أول من ترجم رواية‬
‫لنجيب محفوظ والطيب صالح وتوفيق احلكيم وتوفيق يوسف‬ ‫وذات مرة فوجئت بأمي وأبي يوافقان‪ ،‬وكان عمري‬ ‫نفسي بطلًا للعبة السكواش ‪..‬مع أن جميع الذين‬ ‫هذه ال�صور التقطتها عد�سة م�صور الرحلة تنتمي �إىل البيئة‬
‫عواد وغسان كنفاني وغيرهم‬ ‫‪ 14‬سنة فقط‪ ..‬وها هما يسمحان لي بالسفر إلى مصر‬ ‫يلعبونها كانوا أكبر سنًا مني‪ ..‬لكن الناظر حرمني‬ ‫ال�سودانية التي عا�ش فييها الكاتب الربيطاين‪ ،‬وخرب �إن�سانها‬
‫في تلك السن‪ ..‬رحت وسكنت في منطقة السكاكيني‪،‬‬ ‫وجماليات طبيعتها‪ ،‬من وادي حلفا وحتى �سهول مملكة مروي‬

‫‪15‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪14‬‬


‫تمثال ليوناردو دافنشي حارس مدينة ميالنو‬
‫تصوير‪ :‬محمد أحمد السويدي‬

‫املجنـحة‪ ،‬بعد �إقامة ت�شاكلت لياليها فبدت طوا ًال كليل العا�شقني‪.‬‬ ‫ا�ستجاب هريم�س لنجوى رق لها قلبه‪ ،‬ف�أعارنا �صنادله ّ‬
‫�إنتعلنا ال�صنادل املقد�سة ميممني باري�س بن بريام بطل طروادة‪ ،‬الذي ق�ضى للربة فينو�س ب�أنها الأجمل فكاف�أته بهيلينا‬
‫الإ�سبارطية تديفء خمدعه الطرواديّ ‪ ،‬وجتلب على وطنه احلرب التي دارت رحاها لع�رش �سنني‪ ،‬وعادت بالويل والدمار على‬
‫طروادة و�شعبها‪.‬‬
‫ال�صباح ق�صدنا اللوفر‪ ،‬وذهبنا لتح ّية الأمري الطروادي الذي ولد من ر�أ�س دافيد‪ ،‬وكذلك الإمرباطور املت ّوج‬ ‫و ّملا �أ�رشف علينا ّ‬
‫– نابليون – الذي ح ّول �إيطاليا من ا�سم �إىل �أ ّمة‪ ،‬وعرجنا على روائع ّ‬
‫الفن للتز ّود ب�أك�سجني الفنون‪ ،‬فالطريق �إىل �إيطاليا‬
‫تطول‪ ،‬ونحن يف حاجة للتعرف على الإرث املرتبط برحلتنا امل�أمولة‪ ،‬وقد �ض ّمه املتحف‪ ،‬فع�رص النه�ضة الذي بد�أ يف �إيطاليا‬
‫املرحبة ب�أنواره‪ ،‬وقد ا�ستقبلت مبدعيه وكبريهم ليوناردو دافن�شي الذي انتقل اليها‪ ،‬ولقى وجه ر ّبه‬ ‫انتقل منها �إىل فرن�سا ّ‬
‫الفرن�سي وا�سطة عقد اللوفر وتاجه‪ :‬املونا ليزا‪ ،‬وبها يبد�أ الذكر اجلميل ويختم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فيها‪ ،‬خملفا وراءه للملك‬
‫ها هي �إيطاليا تنادينا فليوناردو حار�س ميالنو ينتظرنا عند باب حجرة طعام دير القدي�سة ماريا ديلي غرات�سي ليك�شف‬
‫لنا بع�ض �أ�رسار الع�شاء الأخري‪ ،‬وفيفالدي يقف �أمام كاتدرائية �سان ماركو�س ي�ستعد و�أورك�سرتاه لعزف ف�صوله الأربعة‪،‬‬
‫تطل من �رشفتها يف فريونا وت�سائلنا عن اخبار روميو‪ ،‬وراعوث �أم النبي مت�سح ر�ؤو�سنا يف قد�س �أقدا�س متحف الفنون‬ ‫وجولييت ّ‬

‫رحلة يف �إيطاليا النه�ضة‬


‫يعد �سفينته البوليفار لي�أخذنا‬ ‫املعا�رصة يف بولونيا‪ ،‬وال�س ّيدة مونتاجو حت�ضرّ لنا الإ�س ّرب�سو على الطريقة اجلنو ّية‪ ،‬وبايرون ّ‬
‫اىل رحلة يف خليج ال�شعراء برفقة �شيللي‪� ،‬أ ّما كاروزو‪ ،‬فقد وعدنا �أن يغنّي لأجلنا ثانية يف مدينته نابويل‪�« :‬أو �ساال ميو»‪.‬‬

‫العبور من بوابة دافن�شي‬


‫هنا يوا�صل حممد �أحمد ال�سويدي رحلته الإيطالية‪� ،‬إنها رحلة من بوابات خمتلفة‪ ،‬لكن �أعلى هذه البوابات واكرثها جاذبية‬
‫وقوة وثراء هي �شخ�ص ليوناردو دافن�شي جوهرة النه�ضة الأوربية وا�سطورتها الفنية‪.‬‬ ‫‪ .‬حممد �أحمد ال�سويدي‬

‫‪17‬‬ ‫‪16‬‬
‫مقطع من البوابة البرونزية ذائعة الصيت لجبرتي‬

‫‪19‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪18‬‬


‫‪1‬‬

‫�سيدة من فلورن�سا‬

‫يف عام ‪1502‬م‪ ،‬اقتنى ليوناردو عد�سات مكبرّ ة‪ ،‬دلّت على بداية �ضعف ب�صره‪ ،‬وبعد‬
‫ظل‬
‫ّ‬ ‫عام ذهب يف ّت�ش عن فتاة توافق م�شروعه اجلديد الذي مل مينحه ا�سما بعد‪� ،‬أو‬
‫�سيدة من فلورن�سا‪.‬‬
‫ي�سميه جتاوزا‪ّ :‬‬
‫ّ‬

‫آخرهم (طفلة) عام ‪1499‬م‪ .‬وشرع في الرسم‬ ‫بدأ دافنشي‪ ،‬وقد ناهز الخمسين‪ّ ،‬‬
‫يقلب‬
‫عام ‪1503‬م‪ .‬أطلق الفلورنسيون على اللوحة‬ ‫أفكارا راودته عن الموت وراح يكتب‪:‬‬
‫اسم الجيوكاندا (المرحة)‪ ،‬وكان يعرض‬ ‫تنزع الروح إلى أن تبقى مالزمة لجسدها‪،‬‬
‫على زائريه في مرسمه في فرنسا في سنيه‬ ‫الحس وآلية الحياة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فهو الذي يمنحها‬
‫األخيرة ثالث لوحات‪ :‬األولى لوحة ّ‬
‫القديس‬ ‫ّ‬
‫وقال‪ :‬لكل أذى ما‪ ،‬ذكرى مؤلمة يخلفها‪،‬‬
‫القديسة‬ ‫يوح ّنا‪ ،‬والثانية العذراء والطفل مع ّ‬ ‫إال أعظمها‪ ،‬وهو الموت‪ ،‬الذي يقتل الذكرى‬
‫يقدمها بقوله‪ :‬سيّدة من‬ ‫آن‪ ،‬ولوحة ثالثة ّ‬ ‫جنبا إلى جنب مع الحياة‪ .‬وقال أيضا‪ :‬أيها‬
‫النقاد على أنها الموناليزا‪ ،‬االسم الذي‬ ‫فلورنسا‪ ،‬يجمع ّ‬ ‫القابع في سباتك‪ ،‬ما النوم؟ النوم صورة الموت‪ ،‬فاألحرى‬
‫السر الدائم ح ّتى اآلن‪.‬‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وظل يالحقها في زمن‬ ‫لحق بها‪،‬‬ ‫يخلدك بعد موتك‪ ،‬بدلًا من‬‫بك أن تبتدع من األعمال ما ّ‬
‫هل اختار ليوناردو دافنشي ليزا جيرارديني من فلورنسا‬ ‫أن تفني حياتك نائمًا متشبهًا بالميتين‪ .‬وكان ير ّدد على‬
‫ّ‬
‫ستستل‬ ‫نموذجا لمالك األرواح؟ تلك اليد الخفيّة التي‬ ‫أصحابه‪ :‬الحياة المادية هي موطن الروح‪ ،‬والموت هو‬
‫كلما اقتربت متأمال‬ ‫روحه بعد سنين‪ ،‬هذا ما صرت إليه ّ‬ ‫إقصاؤها‪ ،‬إنها تخرج «على غير إرادتها»‪ ،‬وال يبدو أنها‬
‫المحدقة‪ ،‬ابتسامتها‬ ‫ّ‬ ‫اللوحة‪ ،‬عيناها ّ‬
‫الضيقتان‪ ،‬نظرتها‬ ‫متجهة إلى السكنى باألعالي‪.‬‬
‫الحلي‪ ،‬زيّها الضارب إلى السواد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الغامضة‪ ،‬عطلها من‬ ‫كان دافنشي قد رأى الموت رأي العين في غزوات‬
‫والدروب الموحشة الموحلة لتوسكانيا خلفها‪ ،‬واأللوان‬ ‫سيزاري وحروبه‪ ،‬رأى مصارع الرجال بشكل ّ‬
‫مكثف في‬
‫ّ‬
‫وتعلله الدائم‪،‬‬ ‫التي تشعرك بدنوّ ساعة غروب األجل‪،‬‬ ‫ذلك العام الذى بدأ فيه بصره يخبو‪ ،‬رأى آالته وخرائطه‬
‫بأنه لم يفرغ منها بعد (قبل أن تفرغ منه)‪ ،‬والقاعة‬ ‫وسالحه كيف راحت تحصد األرواح‪ ،‬وانتهى بعد عام‬
‫الثالثة عشرة التي تسكنها في سماء قصر اللوفر األولى‪.‬‬ ‫في فلورنسا يتابع ما انتهت اليه دولة آل بورجيا وما‬
‫وأظ ّنه نظر إليها يوم السبت الثالث والعشرين من أبريل‬ ‫انتهى إليه سيّده‪ ،‬فشرع يف ّتش عن وجه لمشروعه‬
‫وظل ينظر‬ ‫ّ‬ ‫عام ‪1519‬م‪ ،‬بعد أن فرغ من إمالء وصيّته‪،‬‬ ‫الجديد كعادته‪ ،‬ووجد ضالّته في امرأة متزوّجة‪ّ ،‬‬
‫لعلها‬
‫إليها إلى أن فاضت روحه في الثاني من مايو بعد بضعة‬ ‫ليزا جيرارديني ذات األربع والعشرين عاما‪ ،‬زوجة‬
‫الموناليزا أو السيدة ليزا‬ ‫استعد العالم فيه والف ّنان لولوج البحر العظيم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أيام‪ ،‬بعد أن‬ ‫تاجر الحرير الفلورنسي‪ .‬وكانت أمّا لثالثة أطفال‪ ،‬مات‬

‫‪21‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪20‬‬


‫بونتي فيشو‪( Ponte Vecchio‬الجسر المسقوف) في فلورنسا‬

‫‪23‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪22‬‬


‫‪2‬‬
‫اجليوكندا‬
‫اختطاف اآللهة مارس‬
‫وفينوس للرسام مانتينا‬

‫كل من �شاهد زوجة تاجر احلرير‬


‫هل �سبق لك �أن ر�أيت املوناليزا وجها لوجه؟ �س�ألت ّ‬
‫عما انتابه حلظة لقائها العني بالعني؟‬
‫الفلورن�سي ّ‬

‫للثعلب في قماش‪ ،‬وخرج دون أن يثير أدنى ريبة‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من حماس البعض للموناليزا‪ ،‬إال أنها لم‬ ‫أجاب بعضهم‪ّ :‬أنه شعر بسحر غامض يسرى في‬
‫بهت‪ ،‬قال أحدهم؛‬ ‫ّ‬ ‫جسده‪ ،‬ولم يجد له تفسيرا‪.‬‬
‫ولم يفلح البوليس في الكشف عن هويّة الخاطف‪،‬‬ ‫تعد عمال خارقا أو استثنائيا‪ .‬ولكن بزوغ نجمها‬ ‫ّ‬
‫وطال التحقيق كثيرا من المشتبه بهم بمن فيهم‬ ‫«خيبة أمل كبيرة» قال آخر؛ بعضهم قال‪ :‬خيّل لي‬
‫بدأ في منتصف القرن التاسع عشر‪ ،‬وولد في‬ ‫السيدة مادالينا زوجة‬
‫تنزلت من السماء؛ قال شاعر كبير‪ :‬رأيت‬ ‫قديسة ّ‬ ‫أنّها ّ‬
‫مرة يحوم حول اللوحة‪.‬‬ ‫بيكاسو الذي شوهد غير ّ‬ ‫شمال أوروبا بالتحديد‪ ،‬إثر موجة االفتنان بعصر‬ ‫التاجر اغنولو دوني‬
‫وفي أواخر نوفمبر ‪1913‬م أرسل فينزنسو رسالة إلى‬ ‫تحرك فينا ساكنا‪ ،‬فالفتاة‬
‫ّ‬ ‫رجال! وآخرون قالوا‪ :‬لم‬
‫النهضة في إيطاليا بشكل عام‪ ،‬وبعبقريّة ليوناردو‬ ‫(بريشة رفآئيل)‬
‫تاجر التحف الفلورنسي ألفريدو جيري يعرض فيها‬ ‫ليست على حظ وافر من الجمال‪ ،‬إن لم تكن هناك‬
‫المتعدد المواهب بالتحديد‪ .‬وكان اختيار السيّدة‬ ‫ّ‬
‫ر ّد السيّدة الفلورنسيّة إلى وطنها لقاء نصف مليون‬ ‫جملة من العيوب‪ :‬فاألنف طويل نسبيّا‪ ،‬والحواجب‬
‫الفلورنسيّة قصر اللوفر سكنى لها في باريس منعطفا‬ ‫نسيتها ريشة الف ّنان‪ ،‬والعينان ضيّقتان يعوزهما‬
‫ليرة‪ ،‬فأعلن التاجر قبوله العرض‪ .‬وفي الثاني عشر‬ ‫آخر لتلك الشهرة‪ ،‬إذ اختارت هذه النبيلة ودافنشي‬
‫ّ‬ ‫كلها جبين‪ ،‬أو خفيفة الشعر‪،‬‬ ‫الكحل؛ وقال آخرون‪ّ :‬‬
‫الخشبي‬
‫ّ‬ ‫استقل بيروجيا بصندوقه‬ ‫من ديسمبر‬
‫نفسه المنفى وطنا‪ .‬ثمّ أسهم األدباء في إعالء شأنها‬ ‫إلى غير ذلك من مثالب‪.‬‬
‫القطار إلى فلورنسا‪ ،‬واستأجر لدى وصوله غرفة في‬
‫بما دبّجوا بها من عبارات المديح والثناء‪ .‬قال عنها‬ ‫مادالينا زوجة التاجر أجنولو دوني‪ ،‬جلست ذات‬
‫فندق خامل‪ ،‬سيعرف باسم الجيوكندا فيما بعد‪ .‬وفي‬
‫الروائي والناقد الف ّني ثيوفيل جوتيه‪ :‬عنقاء الجمال‬ ‫الجلسة في نفس التاريخ ونفس المدينة أمام الشاب‬
‫لحظة اللقاء الحاسمة فتح الصندوق أمام تاجر التحف‬
‫يتوقف قلبه‪ ،‬وأخرج زوجا من األحذية‬ ‫ّ‬ ‫الذي كاد أن‬ ‫ذات االبتسامة المحيّرة‪ ،‬وأثنى عليها الشاعر ييتس‬ ‫رافائيل الذي كان متأثرا بدافنشي ح ّتى سرق فكرته‪،‬‬
‫القديمة‪ ،‬وبعضا من المالبس الداخليّة البالية التي‬ ‫بطريقته‪ ،‬وكذلك أوسكار وايلد‪ ،‬وسومرست موم‪،‬‬ ‫وأنجز لوحته الشبيهة بالمادونا على عجل‪ ،‬دون أن‬
‫وفورستر الذى نعتها في روايته «غرفة ذات إطاللة»‬ ‫يثير جلبة‪ .‬واللوحة تمنحك صفاء في األلوان ّ‬
‫قل‬
‫تبعث على الغثيان‪ ،‬ثمّ جال العروس التي طال غيابها‪.‬‬
‫اعترف الفريدو بالمشاعر التي انتابته ساعة رآها‪،‬‬ ‫بقوله‪ :‬تلك التي ال نحبّها‪ ،‬ألنها تضنّ علينا بما يجيش‬ ‫نظيره‪ ،‬كما أن مادلينا بدت مزيّنة بقطع المجوهرات‬
‫وكيف راح بورجيا يعرض اللوحة ويتقمّ ص دور‬ ‫في صدرها من حديث‪.‬‬ ‫ّ‬
‫يرف لها جفن‪.‬‬ ‫وهي ماثلة في وضع ثابت ال‬ ‫على خالف الموناليزا العاطل‪.‬‬
‫دافنشي نفسه‪« .‬أميرتكم ر ّدت إليكم»‪ ،‬قال بيروجيا‬ ‫في يوم االثنين الحادي والعشرين من أغسطس‬ ‫جفني الموناليزا‪ ،‬ولكن‬
‫ْ‬ ‫لقد أسهب فاساري في وصف‬ ‫ال يكترث المه ّتمون اليوم بموناليزا رافائيل المغمورة‪،‬‬
‫حقق مجدا مؤثال‪ ،‬وها أنا أنتظر الثواب‪ .‬عندها‬ ‫كمن ّ‬ ‫حلقت الموناليزا في سماوات المجد‪،‬‬ ‫عام ‪1911‬م‪ّ ،‬‬ ‫كل االختبارات الحديثة التى أجريت على اللوحة لم‬ ‫بل بالحسناء العاطل‪ ،‬ولك ّنهم يسألون‪ :‬أليست العذراء‬
‫ّ‬
‫انقض رجال الشرطة من كل مكان وألقوا القبض‬ ‫ّ‬ ‫لص في الحادية والثالثين من العمر‬ ‫عندما خطفها ّ‬ ‫تعثر لهما على أثر‪ .‬فهل تراه رآها أو نقل ما سمعه‬ ‫عند الصخور‪ ،‬أوالمادونا في أكثر من لوحة له‪ ،‬أو‬
‫على الثعلب فينزنسو وأودع السجن‪.‬‬ ‫يدعى فينزنسو بيروجيا‪ ،‬رسّ ام ومرمّم وصاحب‬ ‫عنها؟ وهل طالت الترميمات وعوامل األكسدة طوال‬ ‫القديسة آن‪ ،‬أو ليدا المغرية‪ ،‬أكثر جماال؟ ويعجبون‪،‬‬‫ّ‬
‫ّ‬
‫تصطف طوابير الزوّ ار القادمة من‬ ‫ومنذ ذلك اليوم‬ ‫سوابق يعمل في اللوفر‪ ،‬كان يريد اختطاف اآللهة‬ ‫الخمسمائة سنة الماضية نهار اللوحة ّ‬
‫فبدلته إلى‬ ‫كيف قضى السنوات الباقية من عمره ‪ -‬وكان قد ناهز‬
‫كل فجّ عميق أمام الغرفة ‪ 13‬في الدور األول من‬ ‫ّ‬ ‫مارس وفينوس لمانتينا‪ ،‬ولكن اللوحة كانت أكبر‬ ‫(غروب)‪ ،‬إذ شكا الناس ذلك منذ مطلع القرن السابع‬ ‫الخمسين‪ -‬في لوحة أنفق عليها من ماله وروحه‪،‬‬
‫القصر لتقديم واجب االحترام للنبيلة الفلورنسيّة‪،‬‬ ‫من أن يحتملها كاهله‪ ،‬فاكتفى بالموناليزا األصغر‬ ‫عشر‪ ،‬وسوء ما آلت إليه اللوحة‪ ،‬إثر األخطاء التي‬ ‫يسخر لها فريقا من العازفين والم ّهرجين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إذ راح‬
‫حمدا على سالمة اإلياب‪.‬‬ ‫ولف الحسناء التي استسلمت‬ ‫حجما واألخف حمال‪ّ .‬‬ ‫ارتكبها المرمّمون؟‬ ‫ليذهب عن نفسها الغمّ والحزن أو الوحدة والملل‪،‬‬

‫‪25‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪24‬‬


‫في الطريق إلى بوسيتانو‬

‫‪27‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪26‬‬


‫‪3‬‬
‫الشيميرا –رمز مدينة أريتسو‬
‫ُل ْذ فراراً من �أريت�سو‬

‫قط‪ ،‬وفعلت كل ما من �ش�أنه جعل �أبنائها‬


‫�أريت�سو‪ ،‬هي الأم التي مل تكن يوما ر�ؤوما ّ‬
‫كحبات م�سبحة بعيدا عنها‪� ،‬إنها مدينة ت�شبه رحما يلفظ �أبناءه ‪ ،‬ما �أن‬
‫ّ‬ ‫ينفرطون‬
‫حدق بي الرجل بغلظة‪ ،‬ونفاذ صبر‪ ،‬وقال بإجنيليز ّية‬ ‫ّ‬ ‫ال�سري‪.‬‬ ‫تقطع عنها حبلهم‬
‫ّ‬
‫مهشمة ال تكاد تفهم ما معناه‪ :‬ال ميكنك ذلك‪ ،‬فالطباخون‬‫ّ‬
‫كادوا أن ينتهوا من إعداد أطباقك‪ ،‬ولقد انتهوا هم‬
‫أنفسهم من تناول وجباتهم‪ ،‬وماعادوا يطيقون على أكل‬ ‫أو لعلّه املاء‪ ،‬أو الشمس‪.‬‬ ‫لقد دفعت إلى احلياة نوابغ كبترارك واوروتينو وفاساري‪،‬‬
‫املزيد‪ ،‬وأنا كذلك‪ ،‬أما الزبائن فكما ترى منهمكني بتناول‬ ‫أزقتّها القدمية‪ ،‬في جدران بيوتها أو في الشيميرا وجه‬ ‫لكنها مدينة ال تفتقر إلى اجلمال وال إلى البهاء‪ ،‬وال‬ ‫ولفظتهم كفم عجوز تلفظ النوى‪ ،‬فمن يلومهم إذا ساروا‬
‫الطعام‪ ،‬فأين ستراني اذهب بأطباقك؟‬ ‫األسد وذيل الثعبان ورأس املعزة تنبثق من الظهر‪ ،‬رمز‬ ‫احملدقة بك‪ ،‬وال ساحتها‬
‫ّ‬ ‫الهواء املنعش‪ ،‬وال من اخلضرة‬ ‫في األرض‪.‬‬
‫فقلت له البأس سأسدد الثمن‪ ،‬وكنت أريد بذلك أن‬ ‫مدينتهم‪ ،‬وحيوانهم األسطوري الذي جاء على ذكره‬ ‫أجمل الساحات‪ ،‬وهي مع ذلك ما زالت في القلب من‬ ‫زرتها وكأني ذهبت أفتّش عن تلك األسباب التي جعلت‬
‫ال يبالغ بسورة غضبه‪ ،‬وأن أعمل على تهدئته‪ ،‬ولكنه‬ ‫هومر في إلياذته‪.‬‬ ‫توسكانيا‪ ،‬لع ّل السبب – قلت في نفسي – وانا أجوب‬ ‫نوابغها يتقلبون في البالد‪ ،‬ودفعني ذلك إلى شعور من‬
‫أعد نفسه ملثل هذه اخلطوب‪ ،‬فقال‪ :‬وقد‬ ‫كان يبدو كمن ّ‬ ‫دخلتها وأنا أريد ان أتعقّب ما بذره بترارك وصحبه في‬ ‫شوارع املدينة‪ ،‬وألتقط صور وجوه أهلها‪ ،‬مخبوء في‬ ‫التّوجس من سبب ما‪ ،‬لعلّه في الهواء‪ ،‬أو في اجلغرافيا‪،‬‬
‫بالغ بنفاد صبره أكثر من ذي قبل‪ :‬األمر ال يتعلّق بثمن‬ ‫طريق السالكني إليها‪ ،‬كنت اف ّكر أن رجاال كهؤالء منحوا‬
‫ماطلبت‪ ،‬بل مبا طلبت أنت بنفسك‪ ،‬أين سأذهب به‪،‬‬ ‫العالم طريقتهم في احلياة‪ ،‬البد وأن تكون بقايا منهم‬
‫ماذا سأفعل باطباقك الثالث إن لم تأكلها‪.‬‬ ‫علقت في طرقات اريتسو وسبلها الضيقة وساحاتها‬
‫شعرت في تلك اللحظة أن الرجل قد خرج من عباءة‬ ‫ومصاطبها‪.‬‬
‫أريتينو‪ ،‬أو أن إلريتينو أحفادا ما زالوا يداولون حرفة‬ ‫حانت ساعة الغداء‪ ،‬ورحنا نفتّش عن مطعم نلوذ به‪،‬‬
‫اإلبتزاز‪ ،‬واستعدت على نحو غير متو ّقع في موقف كهذا‬ ‫فشدتنا لوحة عريضة‪ ،‬ومدخل نصب كالفخ لطريدة‬ ‫ّ‬
‫صورة أريتينو‪ ،‬ويده املقطوعة األصابع‪ ،‬ومتاثل الشبه‬ ‫مثلنا‪ ،‬فدخلناه‪ ،‬وأدركنا على الفور ملاذا هجر بترارك‬
‫حليتي الرجلني‪ ،‬فقلت في نفسي أن حلية أريتينو‬ ‫ّ‬ ‫بني‬ ‫أريتسو ‪.‬‬
‫وحدها ال تكفي‪.‬‬ ‫لم نكن نعرف قراءة قائمة طعام باإلتروسكان ّية‪ ،‬كما أ ّنه‬
‫لقد حتققت أسوأ كوابيسي‪ ،‬وحدث ماكنت أخشاه من‬ ‫ليس لنا سابق معرفة باملكان ور ّواده‪ ،‬فقد دفعتنا إليه‬
‫رجل‬
‫حيث لم أحتسب‪ ،‬فقد كنت متوجسا من مصادفة ٍ‬ ‫الصدفة احملضة‪ ،‬وتلك اللوحة البغيضة التي نصبت‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مدينة كهذه‪.‬‬ ‫كهذا في‬ ‫للسادرين‪ .‬كان الناس من حولنا متجهمون غالظا‪،‬‬
‫يحدثهم باإليطالية‬‫ّ‬ ‫ثم استدار ناحية زبائنه وصار‬ ‫يعكفون على ازدراد الطعام بنهم‪ ،‬تقول مالمحهم إ ّننا‬
‫مما جعلني ملفوفا بغاللة من احلرج الشديد‪ ،‬وهكذا‬ ‫نتحدر من جدود إتروسكان‪.‬‬‫ّ‬
‫اضطررنا إلى التظاهر باألكل‪ .‬كان األكل غليظا كاملطعم‬ ‫لم نكن نشعر باجلوع الذي دفعنا إلى جحيم دانتي‬
‫وصاحبه‪.‬‬ ‫هذا بال شفقة‪ ،‬فاختار صاحبي طبقا واخترت طبقا‬
‫وخرجنا من املطعم عدوا‪ ،‬بل من أريتسو كلها كما خرج‬ ‫آخر‪ ،‬وعندما ن ّبهني أن طلبي مك ّون من ثالثة أطباق‬
‫من قبلنا بترارك وفاساري‪ ،‬وفارقنا املكان ولسان حالنا‬ ‫على التوالي‪ ،‬حاولت استدراك األمر على عجل‪ ،‬فقلت‬
‫يقول‪ ،‬كما يقول الطليان‪( :‬لذ فرارا من فوجيا‪ ،‬ال من‬ ‫لصاحب املطعم بهمس بعد أن سألته اإلقتراب‪ :‬سأكتفي‬
‫فوجيا نفسها‪ ،‬ولكن من أهل فوجيا)‪.‬‬ ‫بالطبق الرئيسي وال حاجة لي بالطبقني األخريني‪.‬‬
‫ميدان اريتسو (من اجمل ساحات ايطاليا)‬
‫‪29‬‬ ‫‪28‬‬
‫‪4‬‬
‫عزيزي برونو‬

‫يف قلب البيازا كامبو دي فيوري ( �ساحة ميدان الزهور ) يقف ن�صب جيوردانو برونو‬
‫يف �صمت وهيبة‪ ،‬يف ذات املكان الذي حتلّق حوله �شرذمة من الغوغاء يف �صبيحة‬
‫ال�سابع ع�شر من فرباير عام ‪1600‬م مل�شاهدة تنفيذ حكم حمكمة التفتي�ش‪.‬‬

‫جرد الفيلسوف المشاغب من ثيابه‪ ،‬وربط لسانه‬ ‫ّ‬


‫ّ‬
‫السليط‪ ،‬وشد إلى خازوق من الحديد وأحرق فوق‬
‫كومة من الخشب‪ .‬أثر أنّه خاطب القضاة عندما‬
‫تمثال البابون في روما‬ ‫ّ‬
‫أشد جزعا من هذا‬ ‫«لعلكم ّ‬ ‫تلوا عليه قرارهم قائال‪:‬‬
‫تلقيته»‪ .‬لم يكن ذنب برونو‬ ‫الحكم م ّني أنا الذي ّ‬
‫الذي جناه سوى أنّه ذهب مذهب كوبرنيكوس في‬
‫أن األرض ليست مركز الكون كما زعم بطليموس‬
‫وأن البابا ليس مركز األرض‪ ،‬وأن األرض ما هي‬
‫ذرة في فضاء ال متناه‪ ،‬كون ال نهائي ليس له‬ ‫إال ّ‬
‫خيّل إليه أنه رآه‪ ،‬وأن كوبرنيكوس ما هو إالّ مدلّس‬ ‫ّ‬
‫يتفضل عليها بالنزر القليل‬ ‫بها فيوجّ هها ّأنى شاء بما‬ ‫مركز أو محيط تنفث فيه الحياة روح واحدة‪.‬‬
‫كبير‪ .‬أقف أمام النصب الذي أقيم احتفاء بذكرى‬ ‫من المال‪ ،‬والذي هو في األصل مالها هي‪ .‬لم يحتمل‬ ‫وخالف أستاذه قائال‪ :‬أن النجوم (وذلك قبل‬
‫الرجل العظيم‪ ،‬والذي جمعت فيه التبرعات من‬ ‫الحاكم البابوي هذا التحريض فأسلم برونو إلى‬ ‫مولد التلسكوب) غير ثابتة وأنّها تغيّر‬
‫كل أصقاع الدنيا عام ‪1889‬م في قلب ساحة الكامبو‬ ‫محكمة التفتيش بعد أن قبض عليه في البندقيّة‬ ‫مواقعها على الدوام وتساءل ما إذا كان‬
‫يلفه صمت ووقار‪:‬‬ ‫دي فيوري وأهمس للهيكل الذي ّ‬ ‫وذلك بعد أن طاف أوروبا ستة عشر عاما محاضرا‬ ‫هناك نجوم تسكنها كائنات ذكيّة‬
‫عزيزي برونو أنت من ألي الفضل إلى ما بلغه الغرب‬ ‫في أرقى جامعاتها كأكسفورد والسوربون والكوليج‬ ‫فهل مات المسيح من أجلها أيضا‪.‬‬
‫تقدم ال بفلسفتك وعلمك فحسب بل بحدسك‬ ‫من ّ‬ ‫دي فرانس وحمل بعدها أسيرا في مركبة إلى روما‬ ‫وقال ما أشبه الشعب بالبهيمة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشعريّ الذي حيّر الزمان‪ .‬لعلك تأسى أو لعلك تبتسم‬ ‫وتعرض في عاصمة األنوار إلى الكثير من المهانة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتحكم‬ ‫والحاكم بالطفل الذي‬
‫إلى ما بلغناه نحن‪ ،‬فنحن يا سيّدي بعد خمسة قرون‬ ‫واإلذالل من عبيد البابا ورهطه قبل أن يصدر عليه‬
‫خلت على رحيلك ما زلنا بسالمة صدر شبيهة‬ ‫الحكم بالهرطقة والموت حرقا‪ .‬وبعد ثالثة وثالثين‬
‫بغباوة طبع نقسم بأن األرض هي مركز الكون وأن‬ ‫عاما من هذا التاريخ وخوف لقاء نفس المصير من‬
‫المجرات الضخمة ما هي إالّ مصابيح تزيّن صفحة‬ ‫ّ‬ ‫محكمة التفتيش ذاتها وقف الشيخ الكبير جاليليو‬
‫السماء وما زلنا على يقين راسخ بأن الحاكم الذي‬ ‫بعد أن أبصر ورأى بمناظيره وعدساته أن الكون‬ ‫نصب برونو في ساحة‬
‫صاح قائال (على ّ‬
‫حد قولك)‪ - :‬يا أيها الرجال كونوا‬ ‫أكبر ممّ ا يظنّ البابا نفسه وأعلن أمام المحكمة في‬ ‫ميدان الزهور –روما‬
‫حميرا ‪ -‬هو مركز األرض الذي ندور في فلكه‪.‬‬ ‫أشد الندم على هرطقته وزيف ما‬ ‫ّ‬ ‫روما بأنه نادم‬

‫‪31‬‬
‫‪5‬‬
‫خليج ال�شعراء‬

‫إيطالية ب�أنها تيجان تكلّل هامات‬


‫ّ‬ ‫يف طريقه �إىل جنوه‪ ،‬و�صف برتارك مدن الريفريا ال‬
‫الزوردية‬
‫ّ‬ ‫اجلبال املنحدرة �إىل بحار‬

‫بالشعر إلى رحمه األولى‪ .‬ومن كوكبة النجوم تلك‬ ‫قال فيها الشاعر الشاب‪ّ :‬‬
‫«إنها أشبه بالسماء منها‬
‫اش ّتق اسم الخليج‪.‬‬ ‫باألرض»‪ .‬فما وسع بايرون إالّ أن ّ‬
‫هب إلى تلك الشطآن‬
‫يحف بالخليج عقد من القرى أهم ّها وأجملها بورت‬‫ّ‬ ‫يجرب فيها مواهبه في العشق والسباحة والشعر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فينيري‪ ،‬وهي مفردة مركبة ومنحوتة من كلمتين‪:‬‬ ‫فكتب في أحد مغاورها قصيدته «القرصان»‪،‬‬
‫األولى ميناء‪ ،‬واألخرى ربّة الحب فينوس‪ .‬هكذا‬ ‫وكذلك شيللى الذي اختار أن يلقى هناك منيّته‬
‫اختار الرومان األوائل هذا المكان الرومانسي منتجعا‬ ‫على غرار التراجيديا اإلغريقيّة التي كان مولعا بها‪،‬‬
‫يليق بالربّة‪ ،‬وأقاموا لها معبدا على هامة جبل‪ ،‬ما‬ ‫فاحتفظ بنسخة من سوفوكليس وجدت في جيب‬
‫زال ّ‬
‫العشاق منذ القدم وإلى اليوم يسترقون القبالت‬ ‫بنطاله عند غرقه‪ ،‬أمّا مونتيل الحائز على جائزة‬
‫بين صخوره المشرفة على وجهها الكريم‪ .‬وكان‬ ‫نوبل في اآلداب عن عام ‪1975‬م‪ ،‬فقد آثر أن ّ‬
‫يوزع‬
‫أهلها يرون أنه عند بوتوفينيري ينتهي العالم‪ .‬ولكن‬ ‫أشعاره على أصحاب البقاالت والمحالت وكأنه يعود‬

‫نافذة على خليج الشعراء‬ ‫معبد فينوس في بورتي فيرني‬ ‫منظر بحري من شرفة شللي‬

‫‪33‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪32‬‬


‫قرية في الشينكوي تيري (األراضي الخمس) في الريفييرا اإليطالية‬

‫‪35‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪34‬‬


‫ر�سم ميثل حرق جثمان ال�شاعر‬
‫الإنكليزي �شللي بح�ضور‬
‫�صديقه بايرون‬

‫إن كان اهلل هناك أو لم يكن‪.‬‬ ‫الكنيسة سرعان ما استلهمت خطوط حمار وحش‬
‫احتفظت زوجته ماري برماد قلبه‪ ،‬طوال حياتها‪،‬‬ ‫إفريقي مسحت به ظهر معبد الربّة ونسبته إلى‬ ‫ّ‬
‫وبعد وفاتها دفن مع ابنهما فلورنس شيللي‪.‬‬ ‫القديس بطرس في ‪1277‬م‪.‬‬‫ّ‬
‫كان شيللي قد رثى قبل عام من موته بقصيدته‬ ‫واليوم يبدو مثل جرم صغير فقد ذاكرته‪ ،‬وال يسع‬
‫ّ‬
‫السل في‬ ‫أدونيس صديقه كيتس الذي قضى بمرض‬ ‫الزائر إالّ الشعور بمغناطيس فينوس الطاغي في ّ‬
‫كل‬
‫روما‪ ،‬ورحّ ب في مقاطعها األخيرة بالموت‪ ،‬ففي‬ ‫مكان‪ ،‬وغياب أي أثر لبخور ّ‬
‫القديس‪.‬‬
‫الموت راحته ألنه سيلتقي بالميت الحي (كيتس)‪:‬‬ ‫ثمّ ال سبيزيا‪ ،‬التي كانت يوما ما مدينة تعبق من‬
‫نور اهلل يشرق دائما‪ ،‬وظالل األرض تزول‪،‬‬ ‫بيوتاتها وأزقتها رائحة البحر والسراخس واألصداف‬
‫ّ‬
‫والحياة كقبة مزدانة بكثير من الزجاج المعشق‬ ‫والطحالب العالقة على الصخور والتي منحت البحر‬
‫تلقي ظاللها على شعاع األبدية األبيض فتغير لونه‬ ‫صفاءه الخالص قبل أن تتحوّل الحقا إلى ميناء‬
‫ّ‬
‫فيهشمها‬ ‫حتى يسحقها الموت‬ ‫اإليطالي‪ ،‬ففسد‬
‫ّ‬ ‫صاخب‪ ،‬ومركز لألسطول الحربي‬
‫أيها الموت إن كان هذا ما تطلبه‬ ‫بذلك سحرها القديم‪ .‬ولقد أنكرتنا كما أنكرناها‪،‬‬

‫�أ�صفهان‬
‫فلم تتوانى! لم تتراجع! ولم تحزن قلبي؟‬ ‫فالميناء واألسطول ملكان قد أفسدا القرية وذهبا‬
‫اآلن‪ ،‬وأكثر من أي وقت مضى‪ ،‬يبدو شيئا نفيسا‬ ‫ببهائها‪.‬‬
‫أن تموت‪،‬‬ ‫ومدينة ليرشي‪ ،‬وهي المدينة التي أقام فيها الشاعر‬

‫ن�صف العامل‬ ‫أن تتوقف أنفاسك في منتصف الليل بال ألم‪،‬‬


‫بينما أنت تدفع روحك خارجك‬
‫تحسس موقع القلب في‬ ‫ّ‬ ‫بيرسي شيللي‪ ،‬وربما فيها‬
‫صدره قبل أن يفقده في رحلته األخيرة‪ .‬كما أقام بها‬
‫في نشوة ما بعدها نشوة‪ ،‬وانجذاب يفوق كل وصف‪.‬‬ ‫الحقا الروائي دي إتش لورنس‪.‬‬
‫مدينة �أ�صفهان يف كتابات‬ ‫كيف للجنة أن تكون إذا لم تعد فيها بورتو فينو‪،‬‬ ‫ثمّ لوفيرنو التي أبحر منها شيللي في صبيحة يوم‬
‫لن تكون كذلك أبدا‪ ،‬كنت ّ‬
‫الرحالة العرب والرتك والإيرانيني‬ ‫أتطلع إلى مينائها والحياة‬ ‫الثامن من يوليو عام ‪ 1822‬مع زمرة من صحبه ولم‬
‫تدب فيه‪ ،‬ومن ذلك المكان الذي يشرف عليه‬ ‫ّ‬ ‫التي‬ ‫ّ‬
‫ليريشي‪.‬‬ ‫يصل منهم أحد إلى‬
‫كنت أرنو إلى سفن صغيرة راسية على الرصيف‬ ‫مات شيللي غرقا‪ ،‬وعُ ثر على جثته بعد أيام عند‬
‫تخرج الحبال من خواصرها إلى قضبان حديدية‬ ‫تحللت على نحو جعل بايرون ينفر‬ ‫فياريجيو وقد ّ‬
‫يف العدد القادم‬ ‫لتثبيتها‪ ،‬وكان المشهد عرسا من األلوان يشعرك‬ ‫منها فزعا فسبح إلى سفينته البوليفار بعد أن حرق‬
‫بأن نبتون يرقص طربا‪ .‬رأيت رجال بقميصه األحمر‬ ‫جسد الشاعر وانتزع صديقه تريالوني من الجسد‬
‫وهو منهمك بجمع القواقع على حافة زورقه‪ ،‬قلت‬ ‫المحترق القلب‪.‬‬
‫لصاحبي وأنا أرمقه‪ :‬ستكون هذه وجبتنا اليوم في‬ ‫كتبت الصحافة البريطانية بعد أن بلغها نبأ وفاته‪:‬‬
‫بورتو فينو‪.‬‬ ‫طوى الموت شيللي‪ ،‬الشاعر الرقيق‪ ،‬واآلن سيعرف‬

‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪36‬‬


‫الو�صول �إىل زنزانة مانديال‬
‫هنا عا�ش ال�سجني الأكرث حرية يف العامل‬

‫رحلة إلى روبن أيالند ورأس الرجاء الصالح وقمة جبال املائدة‬
‫كتابة وتصوير‪ :‬محسن خالد‬
‫طفلتان سائحتان ترقبان من ّ‬
‫حافة الزورق جزيرة‬
‫روبن قبل بلوغها‬

‫المخلوقات األخرى‪.‬‬
‫أنواع ش ّتى‪ ،‬منها النجوم الحمراء‪ ،‬والشوكية‬ ‫ٌ‬ ‫وهي‬ ‫يف مطار كاب تاون‪ ،‬بينما امل�سافرون يعربون يف عجلة‪ ،‬خمطويف البال‪ ،‬خمطوفياللغات والألوان‪ ،‬مزعزعني بني تاريخهم‬
‫شاهدت جميع أنواع السرطانات‬ ‫ُ‬ ‫‪ .spiny‬كما‬ ‫ُ‬
‫املخطوف ك ّله‪،‬‬ ‫ا ُمل ّر‪ ،‬وبني جنوب �إفريقيا اليوم‪� ،‬صاحبة �أنزه و�أقيم د�ستور ونظام برملاين‪ُ ،‬‬
‫كنت �أعرب بينهم و�أنا‬
‫والرخويات األخرى‪ ،‬الذي يصلح لألكل منها والسام‪ .‬أمّا‬
‫وك ّل ما اختُطِ ف‪� .‬أح�س�ست بذاك ال�صباح طوي ًال كجدران‪ ،‬و�أنا ّ‬
‫مكر ٌ�س بتمامي لأم�سي الذي َن َفق‪ ،‬قلبي يعدو متعرث ًا فوق‬ ‫ُ‬
‫أهم نوع َّأثر في من هذه األنواع‪ ،‬وكان الجميع يلتف‬
‫"يزِّ ق‬
‫مرة �أح�س�ست بتلك العبارة ال�ساذجة التي تقول‪ :‬مُ َ‬ ‫رَّ َ‬
‫كال�شى‪ ،‬لأول ّ‬ ‫ذكريات كثرية‪ ،‬احلزن الوجودي الفاتر ُي َلفّعني‬
‫ٍ‬
‫من حول سياجه الزجاجي ليتأمله أو ليصوره أو‬
‫حتى ليرسمه‪ ،‬فالمعرض يستهوي الكثير من الفنانين‬ ‫نياط القلب"‪ ،‬التي كانت ت�ضحكني فيما م�ضى‪ ،‬وحني �أقر�أها متتلئ �أ�شداقي بال�ضحك‪ ،‬وقلبي باملرح‪ ،‬من حالها وحال‬
‫التشكيليين الذين يهتمون برسم األسماك وكائنات‬ ‫لغتها اله�شَّ ة‪ ،‬مبا�رشة اال�ستجداء للرحمة‪ .‬رحمتك يا رب‪ ،‬ثم رحمتك يا �صباح "�سندي وودز مان"‪.‬‬
‫البحر‪ ،‬فهو سمك الصندوق أو الـ‪ ،Box Jelly Fish‬وهو‬
‫عبارة عن صندوق مربّع بكل دقة وهندسة‪ ،‬من يراه‬
‫يظن أنّه "قيطان" فانوس أبيض‪ ،‬من نوع تلك الفوانيس‬
‫القديمة التي تعمل بالسبيرتو‪ ،‬لوال أنّه في شكل مربّع‬ ‫الرعب والحذر والزمن‪ ،‬اجتياز المتر في عرض هذه‬
‫ّ‬
‫المثلث الشكل‪ ،‬ونظرًا لرهافتها‬ ‫غير قيطان الفانوس‬ ‫السماء الرحبة والسحاب‪ ،‬ال يساوي شبحة المتر‬
‫وضعفها‪ ،‬كتلك الحلوى التي يسمونها حالوة قطن‪،‬‬ ‫وجدت شجرة جميلة وظليلة‪ ،‬اختارت‬ ‫ُ‬ ‫فوق األرض‪،‬‬
‫وبالفعل تشبه هذه األسماك أن تكون مخلوقة من‬ ‫ُ‬
‫لنفسها كل تلك الرفعة والخيالء‪ ،‬جلست تحت ظلها‬
‫القطن الرهيف للغاية وناصع البياض‪ ،‬أو هي بالضبط‬ ‫ألرى المدينة من زاوية محيطة ومهيمنة‪ ،‬وألكتب‬
‫تشكلت من خيوط العنكبوت‪ .‬ولذلك فهي‬ ‫ّ‬ ‫تبدو كأنّها‬ ‫وصفي هذا‪ ،‬أسمي ُتها شجرة السمو العاطفي‪ ،‬فقد‬
‫قاتلة وف ّتاكة للغاية‪ ،‬كحال كل المخلوقات الضعيفة‬ ‫لعرض طبيعية الحياة البحرية بالنسبة لمحيطين‪،‬‬ ‫حملت من جميع جوانبها نقوشًا لمحبين ُكثر رسموا‬
‫والواهية‪ ،‬ال ب ُّد لها أن تت َميّز بأسلحة دمار ال يمكن‬ ‫أن‬ ‫المحيط األطلسي والمحيط الهندي‪ ،‬هذا بالرغم من َّ‬ ‫بأعينهم وكاميراتهم مشهد مدينة الكاب من هنا‪ ،‬كما‬
‫صدها‪ ،‬وذلك من أجل الحفاظ على حياتها ومن ثم‬ ‫ّ‬ ‫المتحف يحتوي أيضًا على عرض دقيق لحياة الكائنات‬ ‫سجّ لوا أسماءهم في ارتباط الحب بالحفر على جذعها‪،‬‬
‫نوعها في الوجود‪ ،‬فهذه الصناديق المصنوعة من‬ ‫بداخل نهر لورينز ‪ ،Lourens River‬هنا بالطبع تلعب‬ ‫نقش ليليان لجانب استيوارت‪ ،‬وبيتر مع حبيبته لورا‪،‬‬
‫خيوط العنكبوت مرهوبة للغاية وال يمكن ألي مخلوق‬ ‫ٌ‬
‫مذهل‬ ‫التكنولوجيا واإلمكانيات دورها‪ ،‬فالمتحف شيء‬ ‫قمت بنقش محسن خالد لجانب سندي وودز مان‪،‬‬ ‫ُ‬
‫بحري االقتراب منها إال بحذر مبالغ فيه‪.‬‬ ‫أقلها‬ ‫بالفعل‪ ،‬وتبدأ المخلوقات المعروضة بداخله من ّ‬ ‫الصبيّة البحّ ارة‪ ،‬من باب المرح واالحتفاظ بالمكان‬ ‫محسن خالد‬
‫جداول ضخمة ومتوسعة في المقارنة بين‬ ‫ٌ‬ ‫هناك‬ ‫ضآلة‪ ،‬كالكائنات الرخوة والبدائية‪ ،‬شديدة القرب من‬ ‫شعرت بوخز مجهولها الدافئ في‬‫ُ‬ ‫وروح اللحظة‪ ،‬فقد‬
‫المحيطين األطلسي والهندي‪ ،‬األعماق‪ ،‬طبيعة الحياة‬ ‫النباتات‪ ،‬وحتى بلوغ الحيتان الضخمة من فصيلة‬ ‫قلبي‪ ،‬بينما أنا أنزل مطار مدينة الكاب‪ ،‬وحين كانت‬ ‫هذا كان حين مغادرتي لمدينة الكاب يوم السبت‬
‫البحرية فيهما‪ ،‬درجات الملوحة‪ ،‬الثروات‪ ،‬الشواطئ‬ ‫أبي سيف وأبي منشار وجميع أنواع أسماك القرش‪.‬‬ ‫هي في تلك الساعة لدى المنطقة المعروفة بالووتر‬ ‫هبطت في مطارها ببداية‬ ‫ُ‬ ‫وكنت قد‬ ‫ُ‬ ‫‪ 7‬جانوري‪،‬‬
‫وك ُّل شيء يدخل في إطار‬ ‫والثقافات المرتبطة بهما‪ُ ،‬‬ ‫بنوع من الت َم ُّيز ُي َن َّوه‬ ‫الكائنات الغريبة أو التي تتميز‬ ‫فرونت ‪-Water front‬الوجه البحري‪ُ -‬تعِدُّ الزوارق‬ ‫ُ‬
‫الشهر نفسه‪ ،‬حللتها في ضحى غائم‪ ،‬وقلبي ينكت‬
‫ٍ‬
‫التمايز بين المحيطين كمياه‪ ،‬وكامتدادات لهما خارج‬ ‫إليها في الالفتات اإلرشادية المنتشرة في كل مكان‪،‬‬ ‫التي تحمل الناس من لدى بوابة مانديال الشهيرة‪ ،‬من‬ ‫كأنّه على موعد عشق‪ ،‬ومن ورائه خلفية خافتة‬
‫المياه‪.‬‬ ‫باإلضافة للشابّات والشبّان األدالء والمتخصصين في‬ ‫حيث يعبرون إلى جزيرة روبن‪ ،‬التي اح ُت ِبس فيها‬ ‫وجارية مثل نهر‪ ،‬نحو سمو مرتقب‪ .‬لم أكن أعرف‬
‫كما هناك إطارات لعرض المخلوقات البحرية الجميلة‪،‬‬ ‫قيادة الزوّ ار بداخل المتحف‪.‬‬ ‫مانديال مع معظم مشاهير النضال الوطني في جنوب‬ ‫بأنني سأصعد مع المتسلقين إلى قمة جبال المائدة‬
‫هنا الجمال ينصب بشكل أساسي على األلوان ثم‬ ‫لقد أعجبتني نجوم البحر‪ ،‬التي لم أكن أعرف أنها‬ ‫إفريقيا‪.‬‬ ‫التي ُتحاصر كاب تاون كمائدة مستديرة‪ ،‬والمدينة‬
‫الحقًا تقاطيع الكائن‪ ،‬وتقف سمكة الكالون ‪Clown‬‬ ‫ليست عمياء فحسب‪ ،‬بل هي ُخلقت بدون عيون‪،‬‬ ‫تت َف َّلت منها هنا وهناك‪ ،‬لتنوجد منافذ وألسنة‬
‫‪ Tiggerfish‬على رأس حسناوات األعماق‪ ،‬بألوانها التي‬ ‫وأن مياه البحر هي التي تجري بداخل أقنيتها بدل‬ ‫ّ‬ ‫متحف األكوريم‬ ‫العقة للمحيط األطلسي‪ ،‬من أعلى تلوح تلك المائدة‬
‫ال يمكن تصديق درجة نقاءها وتداخلها وتنوعها‪،‬‬ ‫الدم‪ ،‬وأنها لخروج أو دخول الطعام إلى أمعائها تقوم‬ ‫قدمت فيها لبوابة مانديال لم أكن أعرف ّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫في أوّ ل مرة‬ ‫ملعوقة لدى جانبين بألسنة من المحيط‪ .‬أعلى القمة‬
‫مازحني أحد الف ّنانين األمريكان لدى هذه السمكة‬ ‫بقلب تلك األمعاء إلى الداخل والخارج فحسب‪ ،‬وليس‬ ‫متحف األكوريم يجاور البوابة‪ ،‬فالناس يقصدون الوتر‬ ‫رأيت السحاب يمور‬ ‫ُ‬ ‫األسود"‪ ،‬من هناك‬‫يُس َّمى "قمة ُ‬
‫َ‬
‫قائلًا‪ :‬هل تعرفني يا رجل‪ ،‬من أي بلد أنت؟ ُ‬
‫قلت ال‬ ‫مخصصة ومعلومة كما هو الحال مع‬ ‫ّ‬ ‫عبر منافذ‬ ‫فرونت ألسباب عديدة‪ ،‬أهمها بالطبع الذهاب لجزيرة‬ ‫قدمي‪ ،‬والبعيد مني أراه فَ َّوارًا‬
‫ّ‬ ‫في مرمى َك ّفي‪ ،‬وبين‬
‫روبن‪ ،‬وكذلك الخروج في رحالت الصيد‪ ،‬وأيضًا‬ ‫يتماوج وينكب أمام الجبال مثل شالل وهمي‪ ،‬أو‬
‫هل تعرفني يا رجل‪ ،‬من �أي بلد �أنت؟ قلتُ ال �أعرفك‪� ،‬أنا من ال�سودان‪ .‬ف�أجابني �أنا �أف�ضل‬ ‫لمشاهدة سباقات الزوارق البحرية‪ ،‬أي كان بوسعي‬ ‫كفتاة فاقعة البياض سندت ظهرها إلى المخفي من‬
‫أن أتوقع وجود متحف التاريخ المالحي لجنوب إفريقيا‬ ‫الصخور‪ ،‬وتركت شعرها تتالعب به ريح الجبال‪.‬‬
‫ت�شكيلي يف الدنيا‪ ،‬و�أنت ال تعرفني فقط لأنني مل �أكن �أ�ستخدم �ألوان هذه ال�سمكة‪ .‬قلتُ له‬ ‫ُ‬
‫تأكدت من ذلك بالذهاب إلى‬ ‫بالقرب من هنا‪ ،‬وبالفعل‬ ‫شوارع المدينة البعيدة من ذلك العلو تلوح كأزقة‬
‫�ضاحكاً‪ ،‬وهل هي حتمل �ألواناً ال ُتوجد باخلارج �أو ي�صعب حت�ضريها؟ �أجابني‪ :‬بل هي حتمل‬ ‫ُ‬
‫المتحف‪ ،‬أما متحف األكوريم فقد توقعت أن يكون إلى‬ ‫تتعرج هنا وهناك في األسفل‪ ،‬بين المنازل‬ ‫ّ‬ ‫صغيرة‬
‫داخل المرسى أكثر‪ ،‬وهو ي َُس َّمى في دعاية تقديمه‬ ‫البيضاء والطوبية القانية‪ .‬أثناء نزولي من قمة األسود‬
‫�ألواناً جمهولة بالن�سبة يل‪� ،‬أنا مل أ� َر بها ًء كهذا يف حياتي‬ ‫المخصص‬
‫ّ‬ ‫بـ»‪ ،"Two Oceans Aquarium‬أي المتحف‬ ‫وتسلق المتر هنا يساوي الكثير من‬ ‫ّ‬ ‫بعدة أمتار‪،‬‬

‫‪41‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪40‬‬


‫تتعرج‬
‫ّ‬ ‫�شوارع املدينة البعيدة من ذلك العلو تلوح ك�أزقة �صغرية‬
‫هنا وهناك يف الأ�سفل‪ ،‬بني املنازل البي�ضاء والطوبية القانية‬
‫بالنسبة للسجناء طبعًا‪ ،‬وكانت تمرر أجندة السيطرة‬
‫من خالله‪ ،‬فهم ال يعطونهم ما يكفيهم ليكون التفكير‬
‫فيه دومًا‪ ،‬والصراع حوله‪ ،‬ومع الحرمان من الدخان‬
‫يتم تشتيت قدرات السجين الذهنية تمامًا بجعله‬
‫بهيمة ينحصر تفكيرها في متطلبات غرائزها اليومية‬
‫فحسب‪ ،‬ومع الحرمان من الصحف والتلفاز والراديو‬
‫ألجل العزل المعرفي‪ ،‬يكتمل لهم إزالة السجين‬
‫من الوجود‪ .‬ومحو الشعور لديه بالزمن وبالحراك‬
‫والتبدل‪ ،‬فيسقط بذلك العالم الخارجي من اهتماماته‪.‬‬ ‫الجوال التي تقدم عروضها في كل‬
‫أحد أعضاء فرق المسرح ّ‬ ‫في الطريق إلى عمق الجزيرة والمعتقل‬
‫هنا ُتوجد الكثير من العنابر الصغيرة جدًا‪،‬‬ ‫ناحية من بوابة مانديال‬
‫فالحال يختلف قليلًا عن بعض أقسام َّتلة الدستور‬
‫بجوهانسبيرغ‪ ،‬الحمّ امات ُتقارب ذلك الوضع المزري‬ ‫تحركنا ناحية الجزيرة في الساعة الواحدة من يوم‬ ‫أعرفك‪ ،‬أنا من السودان‪ .‬فأجابني أنا أفضل تشكيلي‬
‫الذي تحدثنا عنه في خلية مانديال وغاندي‪ ،‬وإن‬ ‫الجمعة‪ .‬الجانب األسفل من القارب ُمهَيكل بطريقة‬ ‫في الدنيا‪ ،‬وأنت ال تعرفني فقط ألنني لم أكن أستخدم‬
‫تختلف عنه قليلًا لعامل ِك َبر المساحة على الجزيرة‬ ‫تشبه مقهى متحركًا‪ ،‬قاعة كبيرة الحجم‪ ،‬وهناك‬ ‫قلت له ضاحكًا‪ ،‬وهل هي تحمل‬ ‫ألوان هذه السمكة‪ُ .‬‬
‫بالطبع‪ ،‬وضيق المكان في ّتلة الدستور‪ .‬واضح َّ‬
‫أن العنبر‬ ‫تلفزيون يعرض حال المساجين أيام روبن أيالند في‬ ‫ألوانًا ال ُتوجد بالخارج أو يصعب تحضيرها؟ أجابني‪:‬‬
‫هنا مصمم ليكون باردًا في الشتاء وحارًا في الصيف‪،‬‬ ‫فتوتها ودورها‪.‬‬ ‫بل هي تحمل ألوانًا مجهولة بالنسبة لي‪ ،‬أنا لم أ َر‬
‫تمثال مانديال‬
‫كأكواخ الزنك الحديدية‪ ،‬التي ال ُت َؤثِّر على الطبيعة‬ ‫اخترت أن أكون في الطابق األعلى كي أرى جيدًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بها ًء كهذا في حياتي‪ .‬بعدها انتقلت ألغرب موضوعة‬
‫بتاتًا‪ ،‬تقف في تمام مواعيد العطالة والالوظيفة‪ ،‬الحر‬ ‫هناك الكثير من الغزالن البرية تتجول في انسراح‬ ‫وكي أت َم َّكن من التصوير‪ ،‬وأخذ راحتي في تدوين‬ ‫في المتحف‪ ،‬وهي األسماك التي تحمل وجوه‬
‫يشعلها ومع البرد ُ‬
‫تثلج‪.‬‬ ‫وحرية تامة‪ ،‬المقبرة أجمل ما أثارني‪ ،‬ألنها تحتفظ‬ ‫مالحظاتي‪ .‬مكبرات الصوت كانت تزودنا بالمعلومات‬ ‫حيوانات معروفة لنا‪ ،‬بكل دقة وتطابق‪ ،‬وليست من‬‫ٍ‬
‫تسأل إمرأة إسبانية فنسنت‪ ،‬الغسيل يا سيد فنسنت‪،‬‬ ‫بمدافن قديمة جدًا‪ ،‬لبحارين وقناصين وقراصنة‬ ‫والسرد التاريخي‪ ،‬منذ أن كانت الجزيرة قرية‬ ‫نوع الموضوعات التي يصنعها التهويل الصحفي‪ ،‬من‬
‫كيف كنتم تغسلون مالبسكم؟‬ ‫ورهبان ومساجين وقتلة ومناضلين‪ ،‬قساوسة‬ ‫عادية وإلى أن استحالت لسجن يضم المجرمين‬ ‫جنس ّ‬
‫أن اسم الجاللة أو الرسول وُ جِ د مكتوبًا على‬
‫يقول فنسنت‪ ،‬مع نظرة إلى السحب التي تمر‪ ،‬كنا‬ ‫وأئمة مساجد من جميع الجنسيات‪ .‬أخذونا للمكان‬ ‫تذكرت سؤال ذلك‬‫ُ‬ ‫والسياسيين في بقعة واحدة‪.‬‬ ‫ظهر سمكة‪ ،‬أو رأس طفل وأحيانًا السحب تكتب‬
‫نستخدم ماء المطر في غسل مالبسنا‪ ،‬يشير إلى‬ ‫الذي كان يعمل فيه مانديال مكسرًا للصخور‪ ،‬ما تزال‬ ‫اإلنجليزي لي على قمة جبال المائدة‪ ،‬حين قال لي‬ ‫في يوم عرفة اسم الجاللة في السماء‪ ،‬وحين تنظر‬
‫قيعان وأخاديد في األرض السبخة والحمراء‪ ،‬يمكنك‬ ‫كومة من الحجارة التي كان يعمل عليها مانديال‬ ‫ٌ‬ ‫هناك‬ ‫بأن موقع الجزيرة واضح ومكشوف‪ ،‬فقلت له هذا‬ ‫َّ‬ ‫إلى الصور ال تجد إال خياالت صاحب الموضوع‪ ،‬هنا‬
‫الحفرة كطشت غير‬ ‫يا سيدتي أن تستعملي تلك ُ‬ ‫كأثَارةٍ منه وممن كانوا معه‪.‬‬ ‫اآلن فقط‪ ،‬ألنه من المسموح لك النظر إلى الجزيرة‬ ‫الحكاية مختلفة كثيرًا‪ ،‬فالسمكة القطة ‪Striped eel-‬‬
‫ّ‬
‫مكلف أبدًا‪.‬‬ ‫وكانت إجراءات األبارتيد تعمل مع مانديال دائمًا‬ ‫األسود‪ .‬وبالفعل‬ ‫من كل الزوايا‪ ،‬بل ومن قمة رأس ُ‬
‫‪ catfish‬هي هي‪ ،‬بدون مبالغة أو خياالت‪ ،‬وهي تعيش‬
‫التجوال بين عنبر وآخر غير مُصَ َّرح به‪ ،‬وقطعًا‬ ‫بسياسة العزل‪ ،‬كما ُتحَ ِّرم عليهم الحديث مع بعضهم‬ ‫في السابق كان هناك نوع من التعتيم الممارس على‬ ‫في المياه الدافئة من المحيط الهندي‪ ،‬والباسفيكي‬
‫وتصرف‬ ‫ستتلَ َّقى عقوبة صارمة لو ت َن َّقلت بين العنابر‪ُ ،‬‬ ‫بعضًا‪ ،‬كي ال يكون هنالك تنوير‪ ،‬أو تنظيم وتخطيط ألي‬ ‫موقع الجزيرة‪ .‬أما اآلن فيكفيها أنها أصبحت مادة‬ ‫الغربي‪ ،‬وكذلك البحر األحمر نزولًا إلى جنوب إفريقيا‬
‫لك عشرة أيام من العمل اإلضافي في تكسير الصخور‪.‬‬ ‫ألن السجين السياسي‬ ‫فعل جماعي‪ .‬كنا محظوظين َّ‬ ‫للدعاية والسياحة‪ .‬هذه الجزيرة كانت في تاريخها‬ ‫وحتى ميناء اليزابيث‪ ،‬وتتميّز برقتها لدرجة أنها ال‬
‫والزيارة ممنوعة إال نادرًا وفي حاالت استثنائية‬ ‫السابق فينسنت ديبا ‪ Vincent Diba‬كان دليلنا‪ ،‬هم‬ ‫القديم جدًا مُجَ َّرد منطقة وادعة بمساجدها وكنائسها‬ ‫تحتمل اللمس‪ .‬وأيضًا هناك أسماك حصان البحر التي‬
‫تستوجب منتهى الضرورة‪ ،‬ويتم الترتيب لها بشكل‬ ‫يتعاقدون مع من بقي حيًا من السجناء السابقين كي‬ ‫وتجارها وسُ َّكانها من كل شاكلة ولون وصقع‪ ،‬وإن‬ ‫تطابق بالفعل وجه الحصان ‪ Knysna Seahorse‬وهي‬
‫صارم ودقيق لدرجة القسوة المهينة والمزرية للزائر‬ ‫يشرحوا للزوار والمبعوثين الصحفيين والسياسيين‬ ‫كانت المياه العذبة ُتجلب لها من الخارج‪ .‬الكنيسة‬ ‫ال ُتوجد بالعالم كله‪ ،‬إال في منطقة كينيسا التي تحمل‬
‫والمُ زار‪.‬‬ ‫ما كان يجري في روبن أيالند‪ ،‬وفنسنت ال تبدو عليه‬ ‫التي بداخلها بناها الكابتن ريتشارد وولف ‪Captain‬‬ ‫اسمها ومنطقة سوارتفيلي ‪ Swartvlei‬وشواطئ الكاب‬
‫ذهب بنا فنسنت بعد ذلك في جولة حول السجن‪،‬‬ ‫الشيخوخة أبدًا‪ ،‬يلوح كرجل في بداية العقد الخامس‬ ‫‪ Richard Wolfe‬في العام ‪1841‬م‪ ،‬كما هناك كلينيك‬
‫كنت متشوقًا ألرى زنزانة مانديال‪ ،‬يسمونها الخلية‬ ‫ُ‬ ‫وإن كان مسجونًا منذ العام ‪1923‬م وقضى ‪ 18‬عامًا‬ ‫الجنوبية‪.‬‬
‫طبي ومدرسة ابتدائية ومسجد وسوبر ماركت‬
‫ُ‬
‫رقم ‪ 5‬وفيها توجد متعلقاته‪ ،‬ذكروا َّ‬
‫بأن الملعقة التي‬ ‫ً‬ ‫جزيرة روبن‬
‫بداخل روبن أيالند‪.‬‬ ‫ارة‬‫حياة قَ َّ‬ ‫كبير‪ ،‬أي أنها في السابق كانت تعيش‬
‫كان يستخدمها قد سُ رقت بواسطة أحد السياح‪،‬‬ ‫شرح لنا كيف كان يقوم السجناء بتدريس بعضهم‬ ‫وطبيعية إبّان العام ‪1657‬م قبل أن ُتحَ وّل إلى سجن لم‬ ‫علي اآلن الذهاب لبوابة مانديال ومنها إلى جزيرة‬ ‫ُ‬
‫قلت ّ‬
‫ولذلك أُغلقت "الخلية" وأصبحت متحفًا للحفاظ‬ ‫بعضًا‪ ،‬ثم قادنا لقوائم الطعام التي كانت ُت َقدَّ م للسجناء‪،‬‬ ‫تنقض عجائبه إال في العام ‪1996‬م‪ .‬أثناء تجوالنا كانت‬
‫ِ‬ ‫روبن‪ ،‬وسأعود لالستمتاع بهذا المتحف مرة ثانية‪.‬‬
‫على ما تبقى من متعلقات مانديال‪ .‬هناك البطانية‬ ‫ما تزال بطاقة فنسنت كسجين موجودة‪ ،‬وهي مكبّرة‬
‫التي كانت له‪ ،‬وهي تشبه البطاطين العسكرية جدًا‪،‬‬ ‫بحجم واضح ليتم قراءة البيانات من عليها‪ ،‬والجزيرة‬
‫كوز للشراب ومسند ُم َغ َّبر‪ ،‬الزنزانة تبدو مترين‬ ‫كانت مخصصة للسجناء السود والهنود ومن األجناس‬
‫قلتُ ّ‬
‫علي الآن الذهاب لبوابة مانديال ومنها �إىل جزيرة روبن‪ ،‬و�س�أعود لال�ستمتاع بهذا املتحف‬
‫الناس هنا ألخذ الصور‪ ،‬فالوقت‬ ‫ُ‬ ‫في مترين‪ .‬تدافَع‬ ‫األخرى غير األوربية فحسب‪ ،‬األوربيون لم يكن‬ ‫ُ‬
‫اخرتت �أن �أكون يف‬ ‫مرة ثانية‪ .‬حتركنا ناحية اجلزيرة يف ال�ساعة الواحدة من يوم اجلمعة‪.‬‬
‫ُ‬
‫أخذت الكثير من‬ ‫المسموح به يشارف على االنتهاء‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫موضوع كبير‬ ‫يتم سجنهم هنا على اإلطالق‪ .‬األكل‬ ‫مت َّكن من الت�صوير‪ ،‬و�أخذ راحتي يف تدوين مالحظاتي‪.‬‬ ‫الطابق الأعلى كي �أرى جيداً‪ ،‬وكي �أ َ‬
‫‪45‬‬ ‫‪44‬‬
‫الصور بتلكئي المعهود‪ ،‬الدليل ينبهني لكوني ال أُراعي‬
‫القوانين‪ ،‬قلت له‪ ،‬جئت من بالد بعيدة لكي تترسخ‬
‫أؤرخ لها في سجل مذكراتي‬ ‫األشياء في رأسي‪ ،‬ولكي ّ‬
‫بكاميرتي‪ ،‬إنني كاتب وما أنا بسائح‪ .‬أخذنا فنسنت‬
‫بعدها إلى الفصل الدراسي الذي كان في السابق ملجأ‬
‫للسجناء‪ ،‬يتدارسون فيه ما سمح السجّ ان بذلك؟‬
‫صاف كان يلفح وجوهنا بينما نحن نخرج إلى‬ ‫ٍ‬ ‫هواء‬
‫فسحة العنابر الكبرى‪ ،‬كانت هنالك منارة عالية‬
‫للجزيرة‪ ،‬ال تضاهيها في االرتفاع إال تلك األبراج‬
‫طربيزة في باحة السجن كانت مخصصة الستخدام ُ‬
‫الح ّراس‬ ‫صخور فتتها مانديال خالل فترة األشغال الشاقة‬
‫ُ‬
‫والح َّراس‪ ،‬الساحة العامة ينتصب‬ ‫المخصصة للدرك‬
‫فيها بفخار كولينالي أصيل مدف ٌع كبير كان يستخدم‬
‫قارة السحر والغابة‪ ،‬الخلق والطقس الديني‪ ،‬األقنعة‬ ‫ّ‬ ‫السجناء أن يهرب هو اآلخر من هنا‪ ،‬المسألة ليست‬ ‫في الحراسة‪ ،‬فلم يكونوا يستبعدون أن يتم الهجوم‬
‫وكنوز سليمان‪ ،‬ورؤية كورنتها المبذولة بكل‬ ‫مستحيلة فحسب‪ ،‬بل الهرب من الكاتارز يبدو مزحة‬ ‫على الجزيرة‪ ،‬فمعظم قادة النضال في جنوب إفريقيا‬
‫مجانية التاريخ والبحار‪ ،‬ألمزجة المغامرين الكبار‪،‬‬ ‫مسلية مقارنة بالهرب من جزيرة روبن الشهيرة‪.‬‬ ‫كانوا بداخلها‪ ،‬وربما يصدرون تعليماتهم لخالياهم‬
‫القراصنة والغزاة‪ ،‬المستطلعين‪ُ ،‬‬
‫وتجّ ار العاج والذهب‬ ‫هاهنا أمضى مانديال من العمر ما يكفي لوالدة إنسان‬ ‫السريّة بمهاجمتها‪ ،‬لذا فالحراسة على الجزيرة لم‬
‫والرقيق‪ .‬قلت إذن لنذهب إلى ما هو أبعد‪ ،‬إلى رأس‬ ‫تخرجه من الجامعة‪ .‬معظم‬ ‫ّ‬ ‫وعيشه حتى مرحلة‬ ‫مجرد طاقم حُ ّراس‪ ،‬أبدًا‪ ،‬بل مليشيا‬
‫ّ‬ ‫يكن يقوم بها‬
‫الرجاء الصالح‪ ،‬بالرغم من أنّها دونها المدن والجبال‪،‬‬ ‫من دخل هذا المكان إما أ َّنه مات من سوء التغذية‬ ‫عسكرية كاملة وبكامل عتادها‪.‬‬
‫وتكلفتها تكون مرتفعة جدًا لو حاول الشخص أن‬ ‫والمعاملة‪ ،‬وإما أنّه أُصيب بالوحشة وانتحر بنفسه‪،‬‬ ‫أذكر أنني في رحلة العودة لمحت فنسنت يجلس‬
‫ُ‬
‫تشاركت نفقات الذهاب مع‬ ‫يذهب إليها بمفرده‪ ،‬لذا‬ ‫أو أُصيب بكامل الجنون لي ُْلقِي به ُ‬
‫الح ّراس بعدها‬ ‫معنا في الزورق ورائي لم يكن هناك كرسي مجاور‬
‫سالي دومينك‪ ،‬صاحبة ذلك الصباح‪ ،‬ليكن رأس الرجاء‬ ‫في مياه المحيط‪ ،‬كما قال لي فنست‪ .‬الذي تنفرط‬ ‫له‪ ،‬دعوته ليجلس بقربي وأخذت أتحدث معه حول‬
‫الصالح‪ ،‬وجبال المائدة باألصل هي منتظرة منذ القديم‪،‬‬ ‫أعصابه وال يستطيع التماسك‪ ،‬يُلقى في المحيط‪،‬‬ ‫السجن والسجناء‪ ،‬أنا شخصيًا شغلتني فكرة الهرب‬
‫فل ُتضف النتظارها قليل انتظار‪.‬‬ ‫هذا قانون معروف هنا‪ ،‬فهم لم يكونوا يعتقدون ّ‬
‫بأن‬ ‫من هذه الجزيرة‪ ،‬سألته‪ ،‬هل هناك من فَ َّكر في الهرب‬
‫خرجنا في طرق الطبيعة الوعرة وهي تصطرع مع‬ ‫األسود يمتلك عقلًا باألساس‪ ،‬لكي يبعث بعدها إلى‬ ‫أو من استطاع ذلك؟‬
‫التكنلوجيا الوعرة‪ ،‬ورأس المال الوعر‪ ،‬الجسور‬ ‫مصحة تستعيده له‪ ،‬والذي ينجو من كل ذلك يموت‬ ‫أجاب نعم‪ ،‬وقاطعني بسؤال من أي بلد قدمت‪ ،‬قلت‬
‫القافزة‪ ،‬الطائرة‪ ،‬الدرابزينية‪ ،‬حتى تخال نفسك تسير‬ ‫ألن المعتقلين كلهم محكومون‬ ‫موتًا طبيعيًا بالداخل‪ّ ،‬‬ ‫له أنا سوداني وجئت من اإلمارات‪ .‬قال اإلمارات بلد‬
‫كل‬‫في عالم مالئكي وبأجمل األجنحة‪ ..‬غاية الجمال‪ُّ ،‬‬ ‫بالتأبيدة‪.‬‬
‫شيء فيه يبدو كالرسم بخطوط ّ‬ ‫ثري‪ .‬قلت له نعم‪.‬‬
‫معلقة في السماء‪،‬‬ ‫كعروق للمدينة في‬
‫ٍ‬ ‫الحت بوّابة مانديال من بعيد‪،‬‬
‫عندما ارتفعت بنا السيارة من إحدى جوانب جبل‬ ‫إن هناك سجينان سياسيان حاوال الهرب‪ ،‬ديفيد‬ ‫قال َّ‬
‫المحيط‪ ،‬بين َغ َبش المياه والضباب‪ ،‬فما أصدق أنها‬
‫المائدة أصبح بوسعي النظر إلى المدينة من زاوية‬ ‫ُ‬ ‫ستورمان ‪ David Stuurman‬الذي نجح في الهروب ولم‬
‫تاريخ هذه البالد منطقة ال يلجها‬ ‫بوّابة‪ ،‬من هنا ولج‬
‫شاملة وجميلة‪ ،‬توقفنا لنلتقط بعض الصور من ذلك‬ ‫يُقبض عليه ثانية‪ .‬والنجاح في عملية كهذه ال ب ُّد له‬
‫الزمن نفسه إن لم يكن في صحبة مانديال‪.‬‬
‫ً‬
‫مبهولة في البحر‪ ،‬أو كأنها‬ ‫العلو‪ ،‬فبدت منه المدينة‬ ‫أن يتم على مراحل‪ ،‬اإلفالت أولًا من حُ ّراس الساحة‬
‫شفطت البحر إلى حضنها‪.‬‬ ‫الداخلية للعنابر‪ ،‬ثم من حُ ّراس البوابات الخارجية‬
‫أمتعنا ذلك الصباح المج ّنح والمعروش بالرذاذ‪ ،‬قبل أن‬ ‫ر�أ�س الرجاء ال�صالح‬ ‫للسجن‪ ،‬وبعدها مرواغة المليشيا العسكرية‬
‫نصل إلى مدينة سايمون ‪ Simon’s Town‬التي هي‬ ‫الصباحات دائمًا تشبه أن تكون نسا ًء‪ ،‬في صباح‬ ‫المتخندقة خارج كل ذلك‪ ،‬لتفصل بين مجمل الجزيرة‬
‫أكبر مدينة في تلك األنحاء‪ ،‬نزلنا كي ندخل إلى‬ ‫سالي دومينك األشقر قليلًا‪ ،‬الصباح البعيد والمعروش‬ ‫إن المناضل ديفيد أفلت من كل‬ ‫ومياه المحيط‪ ،‬قال ّ‬
‫مرسى السفن الضخم الذي يقوم على وجهها البحري‪،‬‬ ‫بالرذاذ‪ ،‬نَ َّسقت لي مديرة ُنزل تويليب مع سائحة‬ ‫هذه الحراسات بالليل‪ ،‬ثم نجح بعدها في المرحلة‬
‫الحراس منعونا من الدخول إلى هناك‪ ،‬غافلتهم‬ ‫ولكن ُ‬ ‫سويدية من جذور فرنسية للذهاب إلى منطقة رأس‬ ‫األخطر من كل ذلك‪ ،‬وهي تمضية الليل كله سباحة‬
‫ُ‬
‫قليلًا والتقطت بعض الصور ليأتي أحدهم ويقول لي‬ ‫الرجاء الصالح البعيدة جدًا من الكاب‪ ،‬في نَ ْفس الصباح‬ ‫حتى شواطئ مدينة الكاب واإلفالت من الحارس‬ ‫من داخل سجن مانديال أما الفراش والمغسلة‬
‫امسحها اآلن وفورًا‪ ،‬و َم ّد بوزه ناحية الكاميرا مدعيًا‬ ‫هيأته لمهمة أخرى‪ ،‬فقد رأيت الجميع‬ ‫الذي كنت قد ُ‬ ‫الكبير "الغرق"‪ ،‬أما السجين الثاني الذي حاول الهرب‬ ‫والتواليت فهي في زنزانته الشخصية‬
‫أنه "بصير" بالتكنولوجيا‪ ،‬فجعلتها ُتصَ ِّوت تصويتات‬ ‫ال يذهبون من مدينة الكاب دون رؤيتها وتوديعها‬ ‫فهو ماكانا ‪ Makana‬والذي نجح في خداع الحرس‪،‬‬
‫مضحكة ألؤكد له أنها لم تمسح الصور فحسب‪ ،‬بل‬ ‫من لدى أعلى قمة في جبل المائدة‪ُ ،‬تعرف برأس‬ ‫واجتياز كل تلك السياجات والمتاريس‪ ،‬ولكن لم يفلح‬
‫أعلنت توبتها عن التصوير‪ ،‬وتطالب بكاهن لالعتراف‪.‬‬ ‫األسود‪ ،‬ولكن ما كان بوسعي أن أُف ِّوت تلك الفرصة‬ ‫في خداع المحيط األطلسي‪ ،‬فلقي حتفه غرقًا‪.‬‬
‫هذه المدينة تجذب التشكيليين بجميع ألوانهم‬ ‫القارة الغامضة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حافة‬ ‫لرؤية رأس الرجاء الصالح‪،‬‬ ‫أضاف بأ َّنه في الثمانينات استطاع أحد المجرمين‬

‫‪47‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪46‬‬


‫الذي اشتري ُته بمجازفتي فقد بقيت ألكثر من ربع‬ ‫لآلخرين فهم يطبخونها مع الصوص واللحم‪ .‬منظر الناس‬
‫ألن الهواء أخذ يشتد‪.‬‬ ‫ساعة‪ّ ،‬‬ ‫في ذلك الضباب وبين الخضرة بمالبسهم الملوّنة‪ ،‬بدا‬
‫هبطنا مرة ثانية وتجوّلنا بين شعاب الجبل والحشائش‪،‬‬ ‫يهزني‬ ‫فاتنًا ومنغمسًا في المرح ألبعد الحدود‪ ،‬لم ّ‬
‫التسكع في الطبيعة طاقة مجانية للروح دون شك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مشهد مثله إال حينما مررت ببحيرة بروما في قلب‬ ‫ٌ‬
‫أخذ نهارُ نا يجفل بعيدًا‪ ،‬ومعه الحماسة والنشاط‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مدينة جوهانسبيرغ ورأيت حشودًا من الناس يصَ لون‬
‫الصباحيين‪ ،‬أفواجٌ تصل وأفواجٌ تغادر‪ ،‬زحفنا مرة ثانية‬ ‫بين األشجار وعلى الحشائش‪ ،‬في ثياب بيضاء كلهم‪،‬‬
‫ناحية األرض‪ ،‬لنرتاح قليلًا في المطاعم واالستراحات‬ ‫القساوسة يخطبون‪ ،‬ف َِرق اإلنشاد الديني ُترتّل‪ ،‬مثل‬
‫المقامة بأسفل قمة رأس الرجاء الصالح‪ .‬ثم انطلقنا‬ ‫هذه المشاهد تجعل اإلنسان فخورًا بنفسه وبالطبيعة‬
‫إيابًا من جديد‪ ،‬لنمر بمدينة سايمون ثانية‪ .‬قررنا‬ ‫في آن‪ .‬هكذا هم جعلوا من الطبيعة الخضراء كلها‬
‫سالي وأنا زيارة المدينة األشهر في هذه األنحاء‪ ،‬ثم‬ ‫كنيستهم‪.‬‬
‫أجرينا اتفاقًا جديدًا مع السائق ل ُي َغ ِّير طريقه ويأخذنا‬ ‫واصلنا في زحفنا ذلك ألكثر من ساعة ونصف‪،‬‬
‫إلى مدينة ستيلن بوش ‪ ،Stellen Boasch‬مدينة النبيذ‪،‬‬ ‫حتى بلغنا المحطة بقرب النقطة النهائية‪ ،‬هنا أقاموا‬
‫والتي تبعد قليلًا عن طريقنا األول‪ .‬ولكم يشبه مدخلها‬ ‫بناءات مسيّجة ومكاتب تعطي الكثير من المعلومات‬
‫مدخل فيلم الموسيقار راي شارلز‪ ،‬الذي يبدأ بالزجاج‬ ‫عن رأس الرجاء الصالح‪ ،‬باإلضافة لمحطة صغيرة آللة‬
‫المُ َع َّلق في األشجار تمرجحه الريح‪ ،‬نَ ْفس المشهد هنا‪،‬‬ ‫الفنكيلور ‪ Funicular‬إذ يسمونها‪ ،‬أي ترولي الجبال‬
‫األشجار تمتلئ بالقناني المُ َع َّلقة‪ ،‬ما جعل ذلك الفيلم‬ ‫الذي يسير بالحبال الكهربائية المُ َع َّلقة‪ ،‬فالناس الذين‬
‫يقفز إلى رأسي فور دخولنا المدينة‪ ،‬التي هي مزرعة‬ ‫التسلق يركبونه‪ ،‬وهناك من يركبه‬ ‫ّ‬ ‫ال يستطيعون‬
‫تتكون من مئات المزارع الصغيرة لصناعة‬ ‫َّ‬ ‫عمالقة‬ ‫ألجل المرح واالستمتاع بركوبه‪ .‬كما يُوجد مطعم‬
‫النبيذ الجنوب إفريقي الشهير‪ ،‬وتعتبر من أبرز معالم‬ ‫صغير وبار محشوران بين الصخور وجذوع الشجر‪.‬‬
‫السياحة في جنوب إفريقيا‪ .‬الناحية التي جئناها منها‬ ‫يلهث وتحت‬ ‫ُ‬ ‫كل من يمر بك قريبًا من القمة تجده‬ ‫بوابة مانديال كرنفال كبير‪ :‬سباقات زوارق‪ ،‬فرق رقص ومسرح‪ ،‬معارض‪ ،‬سحرة‪ ،‬وسيّ اح من كل أنحاء العالم‬
‫تعتبر بمثابة المعرض أو السوق الذي‬ ‫ُ‬ ‫هي ناحية‬ ‫مطر من العرق‪ ،‬ولكن نسبة لهواء المرتفع المنعش‪،‬‬
‫يعرض فيه أصحاب المزارع والشركات منتجاتهم‪.‬‬ ‫عدة دقائق على صخرة أو بنش‪،‬‬ ‫بمجرد جلوسك ّ‬ ‫ّ‬
‫واألدميرال جينج خه الصيني المسلم‪ ،‬الذي جاب مياه‬ ‫ّ‬
‫المتسلقة‬ ‫وحركاتهم لهدوئها وجمال طبيعتها‪ ،‬البيوت‬
‫اختاروا له مكانًا دافئًا يجاور بحيرة كبيرة وإن هي‬ ‫تستجمع طاقتك فورًا وتفارق بلل العرق‪ ،‬المكان ملئ‬
‫أصغر حجمًا من بحيرة بروما في جوهانسبيرغ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫التسلق‪.‬‬ ‫بالبنشات كي يستجم عليها الناس من عناء‬ ‫كوننا في أضخم آرمادا تبجّ ح بها التاريخ المالحي‪.‬‬ ‫كما يمكن تسميتها‪ ،‬تبدو كنباتات زاحفة قامت‬
‫البحيرات هنا وأنواع النبات هي التمايز الوحيد الذي‬ ‫بعد عشر دقائق أخرى "بلغنا َو ْقع الصوت‪ ،‬ووقوع‬ ‫الدراجات تعين الناس‬ ‫أوّ ل ما تلمحه موقعًا الستئجار ّ‬ ‫بتس ُّلق الصخور والمرتفعات‪ ،‬التشكيليون يأتونها من‬ ‫َ‬
‫أن الدراجات ستكون مرهقة‬ ‫ّ‬
‫التسلق‪ ،‬وإن رأينا ّ‬ ‫في‬ ‫أرجاء متفرقة من الدنيا ومن داخل جنوب إفريقيا‪،‬‬
‫القارة اإلفريقية لدى آخرها بجنوب‬ ‫ّ‬ ‫يقف بين طبيعة‬ ‫الخالص‪ ،‬خارجًا‪ ،‬هنا يجري تأمل الشرنقة وهي‬
‫ّ‬
‫أكثر من السير على األقدام‪ ،‬كما أنك تستخدمها لمسافة‬ ‫هناك مشاغل ومعارض فنون كثيرة جدًا‪ ،‬قمنا بزيارة‬
‫إفريقيا‪ ،‬وبين أوّ لها في بلدان المغرب تونس والجزائر‬ ‫تختفي" كما يقول الشاعر نوري الجَ ّراح‪ .‬االزدحام لدى‬
‫والمغرب األقصى‪ ،‬أما ناحية الهضاب القصيرة بداخل‬ ‫القمة ونقطة النهاية كان مزعجًا‪ ،‬ال يمكن للناس كلهم‬ ‫صغيرة بعدها يستحيل االعتماد عليها‪ ،‬اتفقنا على ذلك‬ ‫واحد من أهمها تمتلكه سيدة لطيفة ومح ّنكة في‬
‫المدن وطبيعة ولون األرض فمتطابقة كما ّ‬
‫تقدم‪.‬‬ ‫الدخول في لحظة واحدة‪ ،‬والطريق الذي تدخل منه ال‬ ‫ثالثتنا‪ ،‬السائق وسالي وأنا‪ .‬رك ّنا السيارة وانطلقنا في‬ ‫آن‪ ،‬معرضها تشارك فيه كمية كبيرة من الفنانين‪،‬‬
‫أُقيمت مراوح ال حصر لها فوق جداول صغيرة من‬ ‫ألن الناس يسيرون من خلفك‪،‬‬ ‫يمكنك أن ترجع عبره ّ‬ ‫المرتفعات التي تمتلئ ببشر من كا َّفة أنحاء الدنيا‪.‬‬ ‫اشترت منها سالي دومينك تمثالًا جميلًا وغاليًا‪،‬‬
‫"وأنهار من‬ ‫البالستيك يجري فيها النبيذ‪ّ ،‬‬
‫تذكرت اآلية‪:‬‬ ‫ُ‬
‫محدد بعالمة كالصليب‪ ،‬والهواية تحيطها من‬ ‫ّ‬ ‫النقطة‬ ‫كلهم يقصدون رأس الجبل لبلوغ تلك "الق ِْر َمة" الشهيرة‬ ‫بعدها اتجهنا ناحية رأس الرجاء الصالح مباشرة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫طقس‬
‫ٌ‬ ‫َخ ْم ٍر ل َ َّذةٍ للشاربين"‪ ،‬وإن كان الهدف منها هنا‬ ‫الجهات األربع‪ ،‬لذلك سوّروها بجدار صخري مرتفع‪،‬‬ ‫من جبل نقطة رأس الرجاء الصالح‪ ،‬التي تراها من‬ ‫نَ ْفس طرق المرتفعات المتعرجة والخضراء‪ ،‬تلتف‬
‫غريب‪ ،‬فهذه المراوح تدفع بهوائها من خالل مواسير‬ ‫يفكر أحد في التجوّل خارج حدود نقطة‬ ‫كي ال ّ‬ ‫األرض معيّنة بمحطة ضخمة أسفلها قليلًا‪ ،‬أما النقطة‬ ‫من حول الهضاب وتتخللها‪ ،‬بعد مسيرة معقولة‬
‫يتسرب منها النبيذ في رفق‪ ،‬ليكون له رذاذ‬ ‫ّ‬ ‫صغيرة‬ ‫في بأن ال‬ ‫النهاية‪ ،‬أما أنا فلم يردعني صياح الناس ّ‬ ‫نفسها فهي تشبه أبراج المراقبة المعروفة‪ ،‬وإن كانت‬ ‫أخرى‪ ،‬أصبح الطريق يكتظ بالسيارات ف َن َّبهنا السائق‬
‫ّ‬
‫ليتنفحوه بأيديهم و ُي َع ِّرضون‬ ‫وغبار م ُْسكِ ر‪ ،‬يأتي الناس‬ ‫ُ‬ ‫أقفز من فوق الجدار الصخري‪ ،‬لقد جئت من أقصى‬ ‫مستديرة‪ ،‬ومسيّجة لحجب الناس عن الهاوية التي‬ ‫إلى أننا قد اقتربنا‪ ،‬وبالفعل أخذنا نرى قوافل وقواطر‬
‫وجوههم له‪ ،‬كما نفعل بأعواد البخور وروائحها‪.‬‬ ‫وعلي أن أنظر إلى المحيط من هنا‪ ،‬وليس من‬ ‫ّ‬ ‫الدنيا‬ ‫تحيطها من الجوانب كلها‪ ،‬من ذلك العلو ترى السفن‬ ‫والرحالين والمغامرين يملؤون فسحة الوادي‬ ‫َّ‬ ‫السياح‬
‫ُ‬ ‫العمالقة مثل سفن أطفال ورقية‪.‬‬ ‫لو المرتفعات‬ ‫َّ‬ ‫عُ‬ ‫الرياضية‬ ‫بمالبسهم‬ ‫نون‬ ‫و‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُل‬
‫ي‬ ‫و‬ ‫الرحيب‪،‬‬
‫هي مدينة باخوس بتفوّق‪ ،‬تجوّلت لجوار البحيرة التي‬ ‫ودسست نفسي بإحكام بين‬ ‫صور الهيلكوبتر‪ ،‬فعلتها‬
‫رأيت فيها من الطيور المائة أنواعًا غريبة جدًا‪ ،‬تتسم‬ ‫ُ‬ ‫ألن الهواء خارج الجدار كان قويًا‬ ‫صخرتين ثابتتين‪ّ ،‬‬ ‫تتقدم ألكثر من عشرة أمتار دون أخذ‬ ‫ّ‬ ‫ال تستطيع أن‬ ‫نحو النقطة المأكولة في جنبة الجبل‪ ،‬تلك القرمة‬
‫بمالمح تشبه طيورًا تأتينا في مواسم الصيف عادة‪ .‬لم‬ ‫جدًا‪ ،‬ثم أخرجت كاميرتي ألسجّ ل تلك اللحظة التي‬ ‫راحة‪ ،‬أخذ السائق يمضغ عُ شبة التقطها من األرض‬ ‫الشهيرة للمنطقة التي يتحَ دَّ د بها رأس الرجاء الصالح‬
‫تشبه عُ شبة "التمليكة" السودانية كثيرًا‪ ،‬وإن هي‬ ‫فوق قمة الجبل‪ ،‬ما كنا نراها في الصور ُ‬
‫والخ َرط‪.‬‬
‫أستطع االقتراب منها وتصويرها لطبيعة الشط الزَّ لِق‬ ‫ربما ال تتكرر ثانية‪ ،‬فالشاعر محمد أحمد السويدي‬
‫للبحيرة‪ ،‬تناولنا غداءنا هناك والشمس تلمع باحمرار‬ ‫لن ُي َب ِّدد أمواله كلها على رحالتي‪.‬‬ ‫إن اسمها سورفيكز‬ ‫أخشن منها‪ ،‬سألته عنها‪ ،‬فقال ّ‬
‫ُ‬ ‫هــاهو يا ربي‪ ..‬المنعـــرج أو الكـــورنر التي التف مــــن‬
‫مغيبها‪ ،‬ثم غادرنا مدينة أبي نواس ناحية الكاب تاون‬ ‫لو بقيت بداخل الجدار لن يسمح لك تزاحم الناس‬ ‫‪ ،Sourfigs‬سألته سالي باستغراب هل تأكلونها هكذا‪،‬‬ ‫حولها العمالقة وجوابو البحار العظماء‪ ،‬أمثال "ماركو‬
‫من جديد‪.‬‬ ‫بأكثر من خمسة دقائق‪ ،‬أما في مكاني الخاص ذلك‬ ‫قال ال‪ ،‬ولكن تلك طريقته هو في أكلها‪ ،‬أما بالنسبة‬ ‫بولو"‪" ،‬ماجالن"‪" ،‬فاسكو داغاما" ورفيقه "ابن ماجد"‪،‬‬

‫‪49‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪48‬‬


‫ت�شـــيــلــي‪ :‬رَ‬
‫�شيط القاع بني الآنديزْ واملحيط‬
‫الرحلة ال�سماوية يف �أر�ض الرباكني‬
‫« م�سكني َم ْن ال ي�سافر‪ ،‬لأنه ميت»‬
‫ـ بابلو نريودا ـ‬
‫خليل نعيمي حائز على «جائزة ابن بطوطة للرحلة املعا�رصة » لعام ‪ ٢٠٠٦‬التي مينحها املركز‬
‫العربي للأدب اجلغرايف «ارتياد الآفاق»‪ ،‬عن كتابه «قراءة العامل»‪ .‬له يف �أدب الرحلة العديد من‬
‫امل�ؤلفات بينها‪« :‬خم ّيلة الأمكنة‪ :‬من نواك�شوط �إىل ا�ستانبول»‪« ،‬كتاب الهند‪ :‬احلج �إىل هاري دوار»‬

‫كتابة خليل النعيمي‬


‫هذا النص عن التشيلي لروائي وجراح من البادية السورية مقيم‬
‫في باريس منذ ربع قرن‪ ،‬وهو رحالة عتيد يتجول في العالم‬
‫بأكبر قدر من الحرية الفكرية والروحية‪ .‬تجربة النعيمي تفصح‬
‫(وتضمر بطبيعة الحال) غنى فكريًا ورؤيويًا غير مسبوق في أدب‬
‫الرحلة الحديث المكتوب بالعربية‪ ،‬وهو عندي نموذج للرحالة‬
‫الحديث المثابر على السفر وكتابة اليوميات ونشرها‪ ،‬ولكن‬
‫الساخر أيضًا من فكرة االكتشاف الجغرافي‪ ،‬والمتطلع إلى المكان‬
‫واإلنسان بوصفهما كينونة متصلة‪ ،‬وإلى الذات واآلخر بوصفهما‬
‫الصوة الكاملة للكائن‪ .‬ولعل ابرز ما يشغل النعيمي حقًا هو‬
‫اإلنسان وجوده الفردي وحياته االجتماعية وأثره الحضاري في‬
‫عالم مدهش الجمال‪ ،‬ولكنه قاس وغير رحيم بالبشر‪.‬‬
‫يوميات رحالته التي شملت أربع قارات؛ ذات اللغة الكثيفة‪،‬‬
‫والمطبوعة بتلك النزعة الرؤيوية‪ ،‬لعلها أن تنطق عن هواه‬
‫كرحالة يجرب أن يقبض بكلتي يديه على ماء العالم‪ .‬وخطواته‬
‫جاست العالم جبلًا وسهلًا قرية ومدينة‪ ،‬بدوًا وحضرًا‪ ،‬بحرًا‬
‫وصحراء‪ ،‬وتنفست رئتاه هواء الكوكب في صباحات وأماسي‪،‬‬
‫تحت سماء مفعمة بزرقة الوجود‪ .‬فالرحالة الشرقي هذا ال‬
‫يسافر ليرى العالم بعينيه‪ ،‬وحسب‪ ،‬وإنما بقلبه أولًا‪ ،‬كما يفعل‬
‫الصوفي السارح في هيام مع المطلق ومخيلة بصيرة‪.‬‬
‫مع هذه الرحلة إلى ارض التشيلي ارض البراكين كأني بالكاتب‬
‫يقول‪ :‬أما وقد اك ُتشف العالم منذ قرون وقرون‪ ،‬فلم يبق علينا‪،‬‬
‫نحن البشر إال أن نرى العالم بعيون الشعراء‪ ،‬ليمكننا أن نكتشف‬
‫القارة االخيرة‪ :‬اإلنسان‪.‬‬

‫خليل النعيمي في صحراء ''آتاكاما'' التشيلية‬


‫‪53‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪52‬‬
‫�أقف يف �ساحة الق�رص‪ ،‬طوي ًال‪ .‬حويل جمهور �صامت‬
‫ومت�أ ّثر �إىل حد البكاء‪ .‬ومثلهم �أنا‬

‫تمامًا «مفهو تراكم الثروة» حتى ولو حساب قتل‬ ‫لنحَ ِّلق اآلن‪ ،‬في الفضاء‪ .‬في فضاء الكون المليء‬
‫اآلخرين‪ ،‬هو الذي خدعهم باألحرى‪.‬‬ ‫باألالعيب‪.‬‬
‫يقول مؤرخو االسبان إن الهنود استقبلوهم مهللين‬ ‫يطول الليل كثيرًا بين « باريس» و «سانتياغو»‬
‫فرحين بقدومهم‪ ،‬وكأنهم هبطوا من السماء!‬ ‫حتى ليكاد يتضاعف‪ .‬وفي الصبح نرى الجبال‪ .‬جبال‬
‫(والمقصود في الحقيقة ‪ :‬من أعالي جبال اآلنديز‬ ‫تحد شريط األرض الطويل الهابط من «‬ ‫عمالقة ُّ‬
‫متمكن من ال‬‫ّ‬ ‫المقدسة‪ ،‬ألن مفهوم السماء غير‬ ‫البيرو» حتى « أرض النار»‪.‬‬
‫شعور الهندي‪ .‬وهو ما يفضح التفاوت العميق بين‬ ‫أرضي محصور بين سالسل‬ ‫ّ‬ ‫« التشيلي» شريط‬
‫الديني عند االسبان‪ ،‬وبين الطبيعي عند الهنود‪.‬‬ ‫جبال «اآلنديز» المقدسة‪ ،‬وبين المحيط الهاديء‪،‬‬
‫ويجعلنا ُن َخ ِّمن بسهولة عمق ال َت ْلفيق والكذب عند‬ ‫بطول ‪ ٤٥٠٠‬كم تقريبًا‪ .‬و« أرض النار» هي أسفل‬
‫أرخوا لهذه الفترة من األوربيين)‪ .‬ويضيف هؤالء‬ ‫َم ْن ّ‬ ‫نقطة في القطب الجنوبي‪ .‬إنها « تشيلي» بالد‬
‫المؤرخون أن الهنود منذ أن اكتشفوا الخدعة‪،‬‬ ‫العجائب واألساطير‪.‬‬
‫وعرفوا الطبيعة العدوانية للقادمين‪ ،‬قاوموهم‬ ‫أرضي مخيف من شدة الجمال‪ ،‬ينحدر من‬ ‫ّ‬ ‫شريط‬
‫بعنف‪.‬‬ ‫أعالي الكرة األرضية إلى أسفلها‪ ،‬متجاوزًا «مضيق‬
‫وأتصوّر أن هذا« العنف» المزعوم‪ ،‬وهو بالتأكيد‬ ‫ماجال ْن» إلى الجنوب‪ ،‬إلى أغرب نقاط الكوكب‬ ‫ّ‬
‫نسبي و «بدائي» عند الهنود‪ ،‬كما هو حال العنف‬ ‫األرضي‪ ،‬حيث الهنود األوائل كانوا يشعلون نيرانهم‬
‫« الفلسطيني» اليوم‪ ،‬كان مبررًا إلبادة الهنود‬ ‫مساء للتقرب من آلهة « اآلنديز»‪ ،‬ممّا جعل «‬
‫واالستيالء على أرضهم‪.‬‬ ‫ماجالن» يعتقد أن النار تنبجس من القاع ‪ :‬تلك هي‬
‫ومنذ أن استقر لهم الحال‪ ،‬بنى اإلسبان «‬ ‫«التشيلي»‪.‬‬
‫سانتياغو» لتكون عاصمة للبالد‪ .‬بنوها في البدء‬ ‫سالسل جبال « اآلنديز» العمالقة‪ ،‬تبدو وكأن‬
‫على جزيرة صغيرة وسط النهر الذي يمر بها‪ .‬وأول‬ ‫سطح األرض ال يكفيها عُ ْرضًا‪ ،‬ولذا فهي تتطاول‪،‬‬
‫أفعله‪ ،‬عندما أصل إليها‪ ،‬هو الذهاب لزيارة «‬ ‫ما ُ‬ ‫ـط‪ ،‬من أعلى إلى أسفل‪ ،‬حاضنة شريط األرض‬ ‫وتَـ ْنـ َم ُّ‬
‫ال مونيدا»‪ :‬القصر الجمهوري الذي ُقتِل فيه «‬ ‫المسكين‪ ،‬المُ ْـل َتمّ على نفسه‪ ،‬لتقدمه ُ‬
‫«ق ْربانًا»‬
‫سلفادور أليندي»‪ .‬أمام القصر التاريخي‪ ،‬الذي أصبح‬ ‫للمحيط ِّ‬
‫لتهدئه‪ ُ ،‬م َم ِّهدة‪ ،‬هكذا‪ ،‬للسيطرة األزلية‬
‫تاريخيًا باألحرى‪ ،‬يقوم تمثاله المهيب‪ ،‬وعليه َم ْرقوم‬ ‫عليه‬
‫قوله األخير‪ « :‬إنني مؤمن بتشيلي‪ ،‬وبشعبها»‪.‬‬ ‫(المحيط الهاديء)‪.‬‬
‫كلماته األخيرة‪ ،‬هذه‪ ،‬قالها في راديو تشيلي‪ .‬وأطلق‬
‫النار‪.‬‬ ‫خدعوا الهنود‪.‬‬
‫أقف في ساحة القصر‪ ،‬طويلًا‪ .‬حولي جمهور صامت‬ ‫خدعوهم عندما وصلوا على خيولهم‪.‬‬
‫ومتأثّر إلى حد البكاء‪ .‬ومثلهم أنا‪ .‬ال أحب العاطفة‬ ‫وقد كان الهنود يعتقدون‪ ،‬حسب مزاعم الغزاة‪،‬‬
‫الجيّاشة عندما أكون «غريبًا»‪.‬أصمد أمام دموعي‪،‬‬ ‫بأن آلهتهم بيض‪ ،‬ويمتطون الخيل‪ .‬ولكن‪ ،‬من أين‬
‫هذه المرة‪ ،‬وأنا أقول ‪ :‬سأعود إلى هنا‪ ،‬مرة أخرى‪،‬‬ ‫جاءتهم فكرة ال معقولة كهذه‪ ،‬وهم على العكس من‬
‫عيني للحظات‪ ،‬استعيد‬ ‫َّ‬ ‫وحدي‪ .‬أقول هذا وأُ ْغمِض‬ ‫ذلك؟ ّ‬
‫لعل االسبان ال ي َْصدقون فيما ي َْـروون‪ .‬على‬
‫خاللها وقت الهجوم في «دمشق»‪.‬‬ ‫أي حال‪ ،‬براءة الهنود العفوية‪ ،‬وطبعهم المسالِم‬
‫مقابل القصر يقع الفندق الذي صار هو اآلخر‬ ‫بالفطرة‪ ،‬وغياب مفهوم التوسّ ع والعبودية لديهم‪،‬‬
‫من معالم «سانتياغو»‪ ،‬الفندق الذي منه صَ َوّر‬ ‫وكلها ِق َيم إنسانية خالصة‪ ،‬إضافة إلى أنهم يجهلون‬
‫قصر المونيدا حيث أغتيل الرئيس أليندي‬
‫‪55‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪54‬‬
‫يف ‪ ،١٥٢٠‬كان «ماج ّال ْن» �أول َم ْن وطئ �أر�ض ما ُي ّ‬
‫�سمى اليوم‬
‫بــ« ت�شـــيلي»‪ ،‬وقد و�صلها بعد عدة حماوالت فا�شلة‪.‬‬

‫يتكدسون فيه‪ ،‬وقائع الهجوم‬ ‫ّ‬ ‫الصحافيون األجانب الذين كانوا‬


‫البربري على «أليندي» وحاشيته‪ .‬وعندما أدرك « أليندي»‬
‫مصيره المُ فجع‪ ،‬طلب من أهله‪ ،‬أن يغادروا القصر‪ ،‬ألنه يريد‬
‫اإلذاعي‬
‫ّ‬ ‫أن يظل وحيدًا بعض الوقت‪ .‬كان يريد أن يم ّهد لخطابه‬
‫ـن يعرف أنه سينتصر بعد قليل‪.‬‬ ‫األخير‪ ،‬وأن يلقيه بشجاعة َم ْ‬
‫وإن كان هذا الــ«قليل» بعيدًا‪ .‬وأي أهمية لزمن ال يحمل‬
‫موقفًا وال سلوكًا جديدًا‪ .‬يومها‪ ،‬يوم قتله‪ ،‬ألقى خطابه الشهير‪،‬‬
‫المحفورة كلماته األخيرة على التمثال‪ ،‬والتي ال زال صداها ُ‬
‫يرنّ‬
‫في عيون التشيليين الذين كنت أراهم ساهمين‪ ،‬وكأنهم يقرأون‬
‫الوقت‪.‬‬
‫اآلن سيأخذوننا إلى « ساحة األسلحة»‪ ،‬والدليل يحكي‪ “ :‬أنظروا‬
‫إلى اليمين‪.‬القصر العربي األندلسي‪ .‬بنى على طراز قصر الحمراء‬
‫في أسبانيا‪ .‬وهو اليوم متحف للفنون”‪ .‬ويتابع الدليل ‪ “ :‬أنظروا‬
‫حولكم‪ .‬هل ال حظتم غياب نمط معماري موحد في سانتياغو” ؟‬
‫ويضيف مشمئزًا ‪ “ :‬من السهل أن يالحظ الزائر ذلك وسط هذا‬
‫االمتزاج العشوائي الصاخب للعمارة هنا”‪ .‬ويتابع بحماس ‪ “ :‬أنظروا‬
‫هناك‪ ،‬على اليمين‪ ،‬في أفق النظر‪ ،‬البيت الجميل األحمر هو أول‬
‫بيت بُني بعد اإلستقالل عام ‪ .١٨١٠‬وه أجمل دار في سانتياغو‪،‬‬
‫كلها”‪.‬‬
‫وبالفعل يبدو القصر عندما نقترب منه ‪ :‬جميلًا‪ ،‬رائعًا‪ ،‬وعلى‬
‫فكِ ر‪ .‬ويقطعني صوت الدليل من‬ ‫نمط العمارة الكولونيالية‪ .‬أُ ّ‬
‫جديد‪ “ :‬نحن اآلن في مركز المدينة‪ .‬وكما رأيتم فإن البساطة‬
‫والفقر هما السائدان”‪ .‬وبعد لحظة صمت أمام المشهد المحزن‪،‬‬
‫يتابع ‪ “ :‬على العكس من أوربا‪ ،‬هنا يسكن البسطاء وذوو الدخل‬
‫المحدود في مراكز المدن‪ .‬واألثرياء يذهبون بعيدًا‪ ،‬يختبئون‬
‫يحرضنا‪ .‬ولكن‪ ،‬كيف‪،‬‬ ‫في قصورهم‪ ،‬وال يراهم أحد منا”‪ .‬أحسه ِّ‬
‫وبأية وسيلة‪ ،‬يمكن لإلنسانية أن تحقق المساواة؟‬
‫«وسط المدينة» فقير‪ ،‬قريب من القلب‪ ،‬وكثير األلوان‬
‫سيتأفَ ُف من مشهد كهذا‪ ،‬أكاد أعرفه‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫لست أنا الذي‬ ‫والفقاعات‪.‬‬
‫ت صغيرًا بما هو أشنع منه‪ .‬أنا‪،‬‬ ‫مغمض العينين‪ ،‬أنا الذي تَلَ َوّعْ ُ‬
‫َ‬
‫والنظر‪ .‬أستدير إلى‬ ‫في الحقيقة‪ ،‬في مقامي‪ .‬وأُطيل التأمّل‬
‫الجهات جميعًا‪ .‬أريد أن أشتمل بكل ما يمكن للعين أن ترسله‬
‫إلى القلب‪ .‬أحاول أن أُدرك كيف تتماثل أقطاب اإلنسانية رغم‬
‫افتراقها الكبير‪ .‬كيف يحس الكائن الذي لم يسعفه الحظ بأن‬
‫خلَص من بؤسه القديم‪ .‬أريد‪ ،‬ويريد الدليل شيئًا آخر‪ .‬وأفترق‬ ‫ي ًَت ّ‬

‫فوهة بركان خامد لكن ماءها يحترق‬


‫‪57‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪56‬‬
‫وكنت أضطرب شغفًا للبالد البعيدة‬ ‫ُ‬ ‫على «المونيدا»‪.‬‬ ‫عنهم‪ .‬أصير وحيدًا في جسدي‪ ،‬عديدًا في مشاعري‬
‫بالرؤى واألحالم‪.‬‬
‫التي تملؤني ُ‬ ‫وارتكاساتي‪.‬‬
‫وكنت حزينًا لذلك وكأنه‬ ‫ُ‬ ‫كان « أليندي » قد ُقتل‪،‬‬ ‫في « ساحة الجيوش»( بالزا دي آرماس)‪ ،‬أجد مقهى‬
‫كنت متح ِّفزًا ومتعاطفًا ال معه فحسب‪ ،‬وإنما‪،‬‬ ‫أبي‪ُ .‬‬ ‫صغيرًا‪ ،‬خاتلًا في الزاوية‪ .‬أجلس فيه على َو َجل‪.‬‬
‫مثل كثيرين غيري في ذلك العهد الذي يبدو اآلن‬ ‫أطلب القهوة بالحليب‪ .‬وأدع نفسي تتأمل العابرين‬
‫جميلًا‪ ،‬مع كل الحركات المناهضة للقمع في العالم‪.‬‬ ‫بحرية‪ ،‬وتت َم َعّن في أنحاء المكان بال قيود‪ .‬المكان‬
‫كنت أقف طويلًا أمام الصور والعالمات‪ ،‬مأخوذًا‪ .‬لم‬ ‫ُ‬ ‫يشف عن خفايا الكائنات التي تقيم‬ ‫ُّ‬ ‫هو الوحيد الذي‬
‫يكن يخطر لي أنني سأقف ذات يوم أمام قصر«ال‬ ‫فيه‪ .‬لماذا نلجأ إلى األساليب األخرى‪ ،‬إذن؟‬
‫مونيدا»‪ ،‬نفسه‪ .‬أقف طويلًا وأنا أستعيد واجهة‬ ‫جو «سانتياغو» لطيف هذا النهار‪ .‬ال برد‪ ،‬وال حر‪،‬‬
‫السينما العتيقة وصورها المعلقة في الفراغ‪.‬‬ ‫والناس لُ َطفاء‪ .‬وأتساءل ‪ “ :‬كيف تتكوّن ذاكرتنا‬
‫الطريق إلى « ْ‬
‫فالباريزو»‬ ‫النقدية حول األمكنة وسُ ّكانها”؟ وكيف ننتقل من‬
‫في الطريق إلى «فالباريزو«‪ ،‬صفائح الهضاب مثل‬ ‫موضع إلى آخر‪ ،‬ونحن ‪ ،‬أحيانًا‪ ،‬ال نغادر المكان”؟‬
‫أنصال َم ْسنونة‪ ،‬تتوالى بال حدود‪ .‬لكأن المحيط‬ ‫ال ُنغادره بالمعنى النفسي‪ ،‬أو المعرفي‪ ،‬مع أننا نبعد‬
‫ص َقلَها عمدًا على هذا الشكل قبل أن ي ُْلقي بها على‬ ‫عنه آالف الكيلو مترات‪.‬‬
‫وجه القاع ‪ .‬المحيط الذي ي َُسمّ ى هادئًا‪.‬‬ ‫وتحاصرني الذكرى‪ :‬في «دمشق»‪ ،‬عندما صعد‬
‫هضاب بركانية قذفَ ْت بها الماء ذات يوم‪،‬‬ ‫كنت متحمّ سًا له‪،‬‬ ‫« أليندي» إلى قمة السلطة‪ُ ،‬‬
‫وتدح َر َج ْت متالحقة حتى أسفل نقطة في القطب‬ ‫ْ‬ ‫ومنحازًا إليه بال حدود‪ .‬كان الفضاء الدمشقي‪،‬‬
‫األخرى‪ ،‬تَ ْلحق اإلنحدار مثل‬ ‫الجنوبي‪ .‬األرض‪ ،‬هي ُ‬ ‫ُفرز مثل هذه العواطف الجَ يّاشة‪ ،‬والتي‬ ‫آنذاك‪ ،‬ي ِ‬
‫الماء‪ .‬بين الهضاب نكتشف الوديان‪ .‬ألن العل َّو ال‬ ‫ُ‬
‫تبدو‪ ،‬أحيانًا‪ ،‬غير مفهومة‪ .‬كنت أحلم بأن أراه‪.‬‬
‫يوجد دون إنخفاض‪ .‬واإلنخفاض في األرض‪ ،‬كما‬ ‫يبق على لساني‬ ‫بأن أرى تشيلي‪ .‬وعندما ُقتِل‪ ،‬لم َ‬
‫والخ ْصب‪ .‬وهنا‪ ،‬في‬ ‫َ‬ ‫في الجسد‪ ،‬هو مصدر الثروة‬ ‫كلما ُذكِر سوى‪ “ :‬إنها تمطر فوق سانتياغو”‪ .‬وقبل‬
‫‪ ،‬والبشر‪،‬‬ ‫الثريّ‬ ‫هذه اإلنخفاضات العظمى‪ ،‬تج َّمع الماء‬ ‫أن أذهب بعيدًا‪ ،‬يسحبنا الدليل نحو قمة الهضبة‬
‫والشجر‪ ،‬وأكاد أقول والجَ مال‪ .‬والجمال أصلًا‬ ‫ْ‬
‫توبال»‪،‬‬ ‫كريس‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫«سان‬ ‫المطلة على المدينة‪ .‬هضبة‬
‫ُخصوبة‪ .‬أما قمـم الجبال الصاعدة نحو السماء فال‬ ‫الرحّ الة‪ ،‬حيث يقوم تمثال العذراء حامية‬ ‫قديس َ‬
‫تحتاج إلى شيء«ثانويّ » كهذا‪ ،‬ألنها مكتفية بعلوّها‬ ‫«سانتياغو»‪ ،‬أو كما يلفظونها محليًا ‪ « :‬سانْ‬
‫حتى ولو كان قاحلًا‪ .‬أ َوليس البشر كذلك‪ ،‬أيضًا؟‬ ‫جياكو»‬
‫(ومعناها سان جاك)‪.‬‬
‫بابلو نيرودا‬ ‫أمر سريعًا على التمثال‪ .‬فليس ثمة ما يثير الدهشة‬ ‫ُّ‬
‫في «فالباريزو» سنزور بيت الشاعر « بابلو‬ ‫فيه‪ .‬عندما تكون قد رأيت تمثال المسيح فوق أعلى‬
‫نيرودا» الحائز على جائزة «نوبل» ‪.١٩٧١‬‬ ‫جبل في «ريو دي جانيرو»‪ ،‬فسيبدو هذا لعبة‬
‫ولد ‪ ،١٩٠٤‬في مقاطعة حدودية بعيدة‪ ،‬في جنوب‬ ‫طفولية‪ ،‬شديدة البساطة‪ .‬أعود إلى «أليندي»‪ .‬في‬
‫التشيلي بالقرب من القطب الجنوبي‪ .‬أبوه عامل‬ ‫وكنت أتردد‬ ‫ُ‬ ‫أواسط السبعينيات جئت إلى «باريس»‪.‬‬
‫في السكك الحديدية‪ .‬واسمه الحقيقي ‪« :‬ريكادو‬ ‫على صالة سينما تجريبية في قلب الحي الالتيني‪،‬‬
‫ْ‬
‫«فاسوالتو» اسم‬ ‫نيفتالي ريّس»‪ ،‬و تَ َسمّ ى أيضًا‪ ،‬بـ‬ ‫شدني كثيرًا ‪ « :‬إنها‬ ‫تعرض‪ ،‬وحدها‪ ،‬الفيلم الذي ّ‬
‫أمه‪ .‬وقد أتخذ في حياته أكثر من اسم ( يذكرنا‬ ‫ّ‬
‫تمطر فوق سانتياغو»‪ .‬كان الفيلم يتعلق بالهجوم‬

‫بيت الشاعر ''بابلو نيرودا'' وقد صممه على شكل باخرة‪ ،‬ألنه كان مصابًا ُبرهاب البحر‬
‫‪59‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪58‬‬
‫�أية مدينة هي هذه؟ تكاد ت�شبه �أي �شيء؟ اجلنة؟ وديان وه�ضاب و�أبنية‬
‫مل ّونة تخرج من بطن القاع لرتقى �إىل ال�سماء‬

‫هذا بفرناندو بيسوا البرتغالي)‪ ،‬ولكنه اشتهر فقط بـ«بابلو‬


‫تعرف وهو فتى على الشاعرة التشيلية الشهيرة‪:‬‬ ‫نيرودا»‪ّ .‬‬
‫«غابرييال ميسترال»‪ ،‬وكانت قد حازت قبله على«نوبل» عام‬
‫‪ ،١٩٤٥‬وهي ُت َع ُّد بشكل من األشكال معلمة له‪.‬‬
‫اشتهر بحبه للنساء‪ .‬وعاش مع الكثيرات‪ ،‬دون أن يكون مخلصًا‬
‫ألي منهن‪ .‬كان فقيرًا‪ ،‬ولكنه لم يكن بائسًا وال معدمًا‪ .‬عمل في‬
‫مهن كثيرة‪ ،‬كان آخرها سفيرًا لبالده في باريس‪ .‬توفي عام ‪.١٩٧٣‬‬
‫مأخوذًا بالودْ يان والهضاب ذات الروعة الالمحدودة‪ ،‬ونحن نسير‬
‫نحو «فالباريزو»‪ ،‬أتساءل‪ :‬كيف تتحدد األرض‪ ،‬وما هو دور‬
‫الهضاب والوديان في جاللها؟ وخارج التناقض الشكلي البسيط‬
‫بينهما‪ ،‬ماذا يعني هذا الالتماثل المستمر لعناصر الكون؟ وأي‬
‫فضاء مرهق للعين سيكون فضاء العالم لو كانت األرض منبسطة‬
‫التك ُّسر‪ ،‬هذا اإلنحدار والصعود المتواليان‪ ،‬هذا‬ ‫فقط؟ أيكون هذا َ‬
‫الخالق الذي نحسه بوضوح في صفائح األرض العظمى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التناقض‬
‫أنفسنا الوالهةَ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫هو‪ ،‬وحده‪ ،‬مصدر السعادة التي بها تَ ْـمأل عيوننا‬
‫إلى اإلختالف؟ وفي الحقيقة ليس الجَ مال سوى شعور الدهشة‬
‫العميق إزاء مظاهر الكون‬
‫(والكائن جزء منها)‪.‬‬
‫أية مدينة هي هذه؟ تكاد تشبه أي شيء؟ الجنة؟ وديان وهضاب‬
‫وأبنية ملوّنة تخرج من بطن القاع لترقى إلى السماء‪ .‬إلى قمم‬
‫هي نفسها جنائن كونية مرمية للبشر ليستأنسوا بها من أجل‬
‫اكتشاف روح الكون بال توتر أو ضغينة‪ .‬ومع ذلك أُبيد أهلها ذات‬
‫«فال بارا ئيزو» ( أو وادي الجنة)‪ .‬ياسالم‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫يوم‪ .‬واسمها الحقيقي‬
‫أصعد إلى أعلى قمة في الجبل‪ .‬أرى الماء في األسفل باهتًا وبعيدًا‪.‬‬
‫إلي‪ .‬إلى القمة‬ ‫ومن قاع الوادي تَ َتراقى األبنية الملونة إلى أن تصل َّ‬
‫وأتطلع‪ .‬وأرى‪ .‬تالل مملوءة‬ ‫ّ‬ ‫التي الفوق لها سوى السماء‪ .‬أستدير‪.‬‬
‫بتالل‪ .‬تالل األبنية التي تعلو األبنية األخفض منها تتراصف مثل‬
‫ركام أسطوري يريد أن يدفن كونًا عمالقًا وال يحالفه الحظ‪.‬‬
‫وحدها‪ ،‬الشمس تسطع بهدوء فوق ارتجاجات المحيط الذي ال‬
‫يتململ وال يغضب مهما راح من البشر ومهما جاء‪ .‬ب ََش ُره في‬
‫قلبه‪ .‬وهو حريص على أالّ يسمح للمتطفلين بأن يؤذوهم كثيرًا‪.‬‬
‫عسى أن يستطيع تحقيق ذلك‪ .‬ولكن لِـ َم ال؟ أ َولم يكن إلهًا بالنسبة‬
‫للهنود الذين قَ َّدسوه؟‬
‫فجأة‪ ،‬ينقشع الغمام عن أعالي الهضاب‪ ،‬وتأخذ ألوان البنايات‬
‫بالسطوع وكأنها تريد أن تزهو بنفسها بعد أن امتألت بنور‬
‫ْ‬
‫''فال باريزو'' أو ''وادي الجنة'‬ ‫منظر لمدينة‬
‫‪61‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪60‬‬
‫المحيط الهاديء ليعيش فيه‪ .‬وكان عندما يشرب‪،‬‬ ‫الشمس‪ .‬بنايات «فالباريزو» أعجوبة التشيلي‬
‫و«ينبسط»‪ ،‬يقول ألصحابه ‪ ”:‬أرأيتم! يمكن أن‬ ‫الحقيقية‪ .‬ألوان وأساطير تمأل فضاء هذه المدينة‬
‫بدوار البحر دون أن نكون مضطرين للركوب‬ ‫ُنصاب ُ‬ ‫التي تشبه في وجه من وجوهها مدينة «عَمّ ان»‬
‫في باخرة”‪ .‬وقد أصبح اليوم متحفًا يضمّ مخلفات‬ ‫األردنية‪ .‬وإذا كانت «عَمّ ان» سوداء‪ ،‬وشهباء‪،‬‬
‫الشاعر وأغراضه وأثاثه‪.‬‬ ‫لوني ال يُقارن‪ .‬لها‬‫ّ‬ ‫وأحيانًا باللون‪ ،‬فإن هذه َمـ ْنجم‬
‫أمام البيت الباخرة أقف طويلًا متأملًا الفضاء الرائع‪،‬‬ ‫أشكال وأحجام من اللون واإلشعاع‪ .‬لكأن الفضاء‪،‬‬
‫والمحيط الهاديء‪ ،‬وأعالى الهضاب المحيطة به‪،‬‬ ‫فضاءها‪ ،‬ال يستقيم وجوده إالّ باللون والنور‪ .‬حتى‬
‫وأتذكر أسماء نظائر «بيسوا» وأحد ها المدعو‬ ‫َّ‬ ‫عل وكأنها إحدى التزيينات‬ ‫الشمس تبدو من ٍ‬
‫‪«:‬ريكادو ريس»‪ .‬وباألسم نفسه رواية للبرتغالي‬ ‫اليومية لهذه المدينة التي بال نظير‪ .‬وكل ذلك من‬
‫اآلخر‪ ،‬حائز جائزة نوبل ‪« :‬ساراماغو»‪ ،‬والتي‬ ‫أجل أن يشعر الزائر بالسعادة ‪ :‬سعادة ألوان الطيف‬
‫فيرناندو بيسوا»‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫تدور أحداثها حول «ثنائية» «‬ ‫الالمحدودة‪.‬‬
‫«بابلو نيرودا» يتربع فوق المحيط الهاديء‪ ،‬وفمه‬ ‫غياب اللون بالدة‪.‬‬
‫ممتليء بالضحك‪ .‬بضحك كبير وسعيد‪ .‬كان يحب‬ ‫بالدة حقيقية‪ ،‬تجعل الكائن يشبه الحجر‪ ،‬واألرض‬
‫رح ْت صَ ْدره لهذه الفضيلة‬ ‫الحياة كثيرا‪ .‬ولقد َش َ‬ ‫تشبه التراب‪َ .‬س َكن الكائن هو الكائن نفسه‪ .‬هذا‬
‫«غابرييال ميسترال» شاعرة البؤساء والرعاة‪ ،‬عندما‬ ‫صرت مقتنعًا به في «فالباريزو»‪ .‬والعربي القديم‬ ‫ُ‬ ‫ما‬
‫«غض اإلهاب»‪ .‬وحفظ الدرس جيدًا‪ .‬ال بد‬ ‫ّ‬ ‫كان‬ ‫الشعر ذا اللون الواحد لقرون‬ ‫الذي َس َكن بيت َ‬
‫أنه يتذكر‪ ،‬اآلن‪ ،‬في غمرة الضحك السعيد‪ ،‬النساء‬ ‫ّ‬ ‫ني‪ ،‬وال شعوره‬ ‫طويلة‪ ،‬لم يتغيّر إحساسه ّ‬
‫اللَ ْو ّ‬
‫الكثيرات اللواتي عشقهنّ بال إخالص‪ .‬وأنتقل من‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫بالضوء ( أألن ضوء الشمس الباهر َضأل الفروق‬
‫واحدة إلى أخرى دون تأنيب ضمير‪ .‬لقد كان قلبه‬ ‫لديه؟) عندما ح َو ْته ْألواح الحجر والطين في المدن‬
‫م ُْف َعمًا بحب اإلنسانية وليس فيه مكان للهفوات‪.‬‬ ‫الكثيرة‪ .‬لكأنه يستحي من التعبير عن مشاعره‬
‫وأجدني أُردد‪ ،‬في باحة بيته الجميل ‪ “ :‬أُ ْر ُق ْد‬ ‫أض ِرحة‪ ،‬وهي هنا جِ نان‪.‬‬ ‫اللونية‪ .‬بيوتنا تكاد تكون ْ‬
‫َ‬
‫بحياتك‪،‬‬ ‫ت‬ ‫بسالم‪ ،‬سيدي بابلو نيرودا‪ .‬بعد أن تَ َم َّتعْ َ‬ ‫لِنتجا َو ْز حاالت البذخ في القصور والمضافات‪ .‬إننا‬
‫َ‬
‫بموتك ”‪.‬‬ ‫تَم َّتع اآلن‬ ‫نتكلم هنا عن مدينة «هامشية» َ‬
‫أنقذ ْتها ألوانها من‬
‫اإلهمال‪ .‬وألوانها تشبه إلى حد بعيد ألوان أحياء‬
‫أرض النار‬ ‫التانغو التاريخية البائسة في «بوينس ايرس» في‬
‫هذا الصباح‪ ،‬سنسافر إلى الصحراء التشيلية‪ ،‬ذات‬ ‫األرجنتين‪ .‬وهو ما يجعلنا نحس أننا نشارك السكان‬
‫طاول‬‫العجائب الكثيرة ‪ :‬صحراء «آتاكاما» التي ُت ِ‬ ‫بعض ما يسكنون ‪ :‬ألوان بيوتهم‪.‬‬
‫سالسل جبال « ْ‬
‫اآلنديز» منذ بداياتها إلى نهاياتها‬ ‫ل َ ِوّنوا بيوتكم قبل أن يأخذكم السيل‪ .‬سيل الزمان‬
‫في القطب الجنوبي للكوكب األرضي‪.‬‬ ‫الذي ال ُي ِّفرق األسود عن األبيض‪.‬‬
‫وكما أوضح علماء البيئة والجيولوجيا‪ ،‬حديثًا‪،‬‬ ‫في أعلى الهضبة المركزية في «فالباريزو» سنزور‬
‫يستحسن استعمال عبارة ‪« :‬الكوكب األرضي»‪،‬‬ ‫بيت الشاعر التشيلي الشهير‪ ،‬كما قيل من قبل‪،‬‬
‫على التسميات «الدينية» القديمة‪ ،‬مثل األرض‪،‬‬ ‫«بابلو نيرودا»‪ .‬منزل جميل مصمم على هيئة‬
‫تذكيرا بالطوفان)‪ ،‬والقاع ( تذكيرًا‬
‫ً‬ ‫واليابسة (‬ ‫باخرة عمالقة بطوابق ثالث‪« .‬بابلو نيرودا» كان‬
‫بالسماء)‪ ،‬والكرة األرضية‪ ،‬وغيرها‪ .‬ألن االكتشافات‬ ‫يحب البحر‪ ،‬ولكنه يخشى السفر في البواخر‪.‬‬
‫الحديثة ب َّي َن ْت كم هو شديد الوسع والالمحدودية‬ ‫ولذا بنى هذا البيت ـ الباخرة‪ ،‬في أعلى قمة على‬

‫‪63‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪62‬‬


‫مل يكن الهنود احلمر يف ّ ِرقون بني عنا�رصالطبيعة واحلياة‪ .‬بني الأ�شياء والفكر‬
‫�أو بني املرئي واملجرد‪� .‬أو بني ما هو كائن‪ ،‬وما ميكن له �أن يكون‬

‫أوه! ما هذه الفضاءات الالمتناهية‪ ،‬وهذه اإلضاءات‬ ‫هذا«الكوزموس»‪ ،‬أوهذا «الكون»‪ .‬وليست األرض‪،‬‬
‫الكونية التي تحتفل بالتراب؟ ولماذا تبدو الشمس‬ ‫أقصد «الكوكب األرضي» إال ذرة في رماله‪ .‬ويقولون‬
‫األزلي‪ ،‬وهي لمْ تترك منذ أول‬ ‫ّ‬ ‫في فرحتها‪ ،‬وبهائها‬ ‫أننا ال نستطيع حتى مقارنتها بذرة رمل إذا ما أخذنا‬
‫النهار سمت الكون؟‬ ‫في اعتبارنا بعض ما يحتويه مركب الكوزموس‬
‫ذهبي‪ .‬وهو كذلك في الصحارى األخرى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لون القاع‬ ‫وضخامات‪ .‬لنع ُْد إلى األرض‪.‬‬ ‫الالمتناهي من كواكب َ‬
‫ربما‪ .‬وال بد أن لذلك عالقة بالنور‪ .‬بنور الشمس‬ ‫جبال اآلنديز هي العمود الفقري للقارة‪ .‬وهي صلة‬
‫الذي تر ُّده األرض إلى مصدره بعد أن ترتوي منه‪.‬‬ ‫الوصل لكل بلدان الجزء الجنو بي من القارة‬
‫هنا ال تغرب الشمس‪ ،‬وإنما تظل تمشي بهدوء نحو‬ ‫األمريكية‪ .‬وع ْبرها تصعد الدروب حتى «آالسكا»‬
‫فضائها األحمر‪.‬‬ ‫في القطب الشمالي للكوكب‪ .‬تبدأ من أقصى الشمال‬
‫على الطريق الهابط نحو «سان بيدرو»‪ ،‬يشرح لنا‬ ‫فوق «بوليفيا»‪ ،‬وتنحدر مطاولة ماء المحيط حتى‬
‫الشراح‪ “ :‬أُنظروا‪ ،‬هذا هو البركان المقطوع الرأس”‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أرض النار في الجنوب‪.‬‬
‫ونكاد نشهق عَجَ بًا! لكنه يتابع ‪ “ :‬تقول األسطورة‬ ‫تبدأ عالية وشامخة ومليئة ببؤر البراكين الح َيّة‬
‫الهندية إن البركان « الفحل» الذي ال يحب أن‬ ‫والميتة‪ ،‬أو «المقتولة» حسب المعتقدات الهندية‪.‬‬
‫يعلو عليه أحد‪ ،‬أو شيء‪ ،‬قطع رأس هذا‪ ،‬وجعله «‬ ‫ألن بركانًا «فَ ْحلًا» يمكن أن يقطع رأس بركان آخر‬
‫أصـلَم» على شاكلة هضبة عالية‪ ،‬مستوية الرأس‪ ،‬ال‬ ‫ْ‬ ‫أقل ُفحولة منه‪ ،‬أى أقل عنجهية وارتفاعًا‪ ،‬وخاصة‬ ‫َّ‬
‫ظلَ ْت تنفث الدخان”‪.‬‬ ‫وإن ّ‬‫ُق َّمة لها‪ْ ،‬‬ ‫إذا كان مجاورًا له‪ .‬وهي تكون‪ ،‬في البدء‪ ،‬متعددة‬
‫ونتساءل‪ ،‬ويجيب ‪ “ :‬تقول أساطير الهنود‪ ،‬سكان‬ ‫األنواء والمشاهد والقمم‪ ،‬ولها صفحات أرضية‬
‫تسيـ ِّر أمور‬
‫البالد األوائل‪ :‬إن البراكين هي التي ُ َ‬ ‫عجيبة تكاد أن تَ ْقرأ عليها تاريخ الكوزموس‪ .‬وشيئًا‬
‫الكوزموس‪ .‬وهم لذلك يقدسونها‪ .‬يقدسون براكين‬ ‫فشيئًا ت َتطا َم ْن كلما ْانحَ َد َر ْت نحو الجنوب حتى‬
‫جبالهم ‪« :‬جبال اآلنديز» التي ترونها اآلن تمر‬ ‫هور ْن»‪ ،‬إلى ُف ٍ‬
‫تات جبلية‬ ‫عند«كاب دو ْ‬
‫ْ‬ ‫تتحَ َوّل‪،‬‬
‫أمامكم كالسراب‪ .‬كسراب بعيد ال تدركون منه‬ ‫متناثرة‪ ،‬وهضاب متفرقة ال هيبة لها وإن كانت‬
‫سوى سِ ماته العابرة كالبرق‪ .‬أنظروا‪ ،‬اآلن! وننظر‪.‬‬ ‫مملوءة بالجَ مال‪ ،‬وجُ ُزر صغيرة محدودة‪ ،‬قبل أن‬
‫ال ‪ ،‬أنظروًا شمالًا ‪ ،‬يحدد‪ .‬وننظر‪“ .‬ذاك هو البركان‬ ‫تغرق في ماء المحيط‪ .‬أريد أن أقول «المحيطات»‪،‬‬
‫القاطع للرؤوس”‪.‬‬ ‫ألن التقاء الماء بالماء ال حدود له‪ ،‬وإن كان البحارة‬
‫وفي أقصى األفق البعيد نرى‪ ،‬بالفعل‪ ،‬قمة هائلة‬ ‫الشياطين أعطوا لكل بقعة من الماء فوق سطح‬
‫العلو‪ .‬دخانها يصعد عموديًا نحو السماء‪ .‬وهي‬ ‫الكوكب األرضي إسمًا‪.‬‬
‫محاطة بقمم أخرى أقل منها رفعة وعلوًّا‪ ،‬وال تنفث‬
‫إال القليل من الدخان‪ .‬لكأنها تخشى من سورة‬ ‫البركان المقطوع الرأس‬
‫أكثر ْت‪.‬‬
‫َ‬ ‫إن هي‬ ‫غضبها القاطعة ْ‬ ‫صفائح الرقيم على طول الطريق الذاهب من مدينة‬
‫يفرقون بين عناصرالطبيعة والحياة‪.‬‬ ‫لم يكن الهنود ِّ‬ ‫المناجم ‪« :‬كاالما»‪ ،‬إلى حاضرة « سان بيدرو‬
‫أقصد بين األشياء والفكر‪ .‬أو بين المرئي والمجرد‪.‬‬ ‫دي آتاكاما»‪ ،‬في قلب الصحراء‪ ،‬حيث سنستقر‬
‫أو بين ما هو كائن‪ ،‬وما يمكن له أن يكون‪ .‬هل‬ ‫بعض الوقت‪ ،‬تعيدني إلى أُصولي‪ .‬وأشعر بالسعادة‪،‬‬
‫ت» كثيرًا؟‬ ‫«تع َّم ْق ُ‬ ‫على العكس من األوربيين‪ ،‬إلحساسي المفاجيء‬
‫كانت عناصر الطبيعية التي نسميها نحن‬ ‫بأنني قادم من ال مكان‪ .‬من الصحراء‪ .‬من الصحراء‬
‫«جامدة»‪ ،‬بالنسبة إليهم عوامل أساسية‪ ،‬وحتى‬ ‫العربية‪ ،‬وهذه بعض منها‪ .‬أنا‪ ،‬إذن‪ ،‬في «مكاني»‪.‬‬

‫‪65‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪64‬‬


‫يفرقون كثيرًا بين وجودهم ووجودها‪ .‬فالحجر‬ ‫«عاقلة»‪ .‬وهم ال ِّ‬
‫عندهم ليس هو الحجر عندنا‪ .‬أقصد أن إعتبارهم له يختلف‬
‫عن إعتبارنا‪ .‬هم كانوا يعتقدون بأن لألشياء فاعليّة وكيانًا‪ .‬لكل‬
‫«شيء» حجم‪ ،‬ومساحة فعل خاصة به‪ .‬له مجال تأثيره‪ ،‬تمامًا‪،‬‬
‫إن لَمْ يكن «الشيء»‪ ،‬أو‬ ‫«يدب» على قدمين‪ْ .‬‬
‫ُّ‬ ‫مثل الكائن الذي‬
‫«العنصر األولي» أكثر أهمية وفاعلية من البشريّ ‪ .‬ولذلك كانو‬
‫يحترمون عناصر الكون‪ ،‬ويقدسون بعضها‪.‬‬
‫كانوا يعتقدون أن البراكين التي تنفث دخان نيرانها الجوّانية‪،‬‬
‫إنما تعبّر عن عنف كامن في أعماقها‪ .‬عنف جدير بأن يهدد‬
‫الطبيعة‪ ،‬ويفني الكائنات‪ .‬لذلك كانوا يخشون غضبها كثيرًا‪،‬‬
‫ويحجّ ون إليها مقدسين‪.‬‬
‫العالَم عندهم ليس هو جُ موع البشر البائس الذي يزحف كالديدان‬
‫أمام هذه القمم العمالقة‪ .‬وإنما هو مجموع عناصر الكون‪ .‬فذرة‬
‫الرمل‪ ،‬مثلًا‪ ،‬ليست أقل أهمية من غيرها‪ .‬ولكي يكون الكائن‬
‫منسجمًا مع ذاته‪ ،‬كما كانوا يعتقدون‪ ،‬ال بد أن يكون منسجمًا مع‬
‫ظلوا كذلك‬‫عناصر الكون األخرى‪ ،‬وإال فإنه يسعى إلى الخراب‪ّ .‬‬
‫إلى أن جاء الفكر الديني التوحيدي‪ ،‬على أيدي الغزاة القادمين من‬
‫« الشرق األوربي»‪ ،‬ليدمّر ثقافتهم ‪« :‬ثقافة التالؤم العميق بين‬
‫الكائن وبين عناصر الكون»‪ ،‬ويبيد حضارتهم المسالمة بعمق‪.‬‬

‫دخان الماء‬
‫من أجل أن نشاهد « الظاهرة» في أعالي اآلنديز‪ ،‬نصعد ‪٤٥٠٠‬م‬
‫فوق سطح البحر‪ ،‬وبدرجة حرارة ‪ ١٤‬تحت الصفر‪ ،‬لكي نصل‬
‫إلى السفح‪ .‬إلى َس ْفح كبير‪ .‬إلى دائرة عمالقة تحيط بها الجبال من‬
‫جميع الجهات‪ .‬في األرض ثقوب ضخمة‪ ،‬وأخرى ّ‬
‫أقل شأنًا منها‪.‬‬
‫من كل ثقب يصعد الدخان‪ .‬دخان الماء‪ ،‬كما سيشرحون لنا‪،‬‬
‫يصعد نحو السماء‪ .‬وال يحدث ذلك إال مرة في النهار‪ ،‬عندما «‬
‫تحترق الماء» بفعل الحرارة الجوفية لألرض‪ ،‬وقت الصباح ‪ُ :‬ق َب ْيل‬
‫شروق الشمس‪ ،‬وبعده بقليل‪ ،‬قبل أن تتعادل الحرارتان ‪ :‬حرارة‬
‫جوف األرض‪ ،‬وحرارة سطحها‪.‬‬
‫لكأن الماء التي تغلي في أعماق األرض ترسل أبخرتها الجهنمية‬
‫األزلي‬
‫ّ‬ ‫الد ْفن‬ ‫ّ‬
‫وتفك الحصارعنها‪ .‬حصار َ‬ ‫لتخترق قشرة القاع‪،‬‬
‫لعناصر الطبيعة السائلة الملوّعة بانحباسها تحت كتلة اآلنديز‬
‫الخرافية‪.‬‬
‫ماذا ُتخفي حُ ْف َرة « َج ْي َز ْر تا ْتيو» العمالقة‪ ،‬هذه‪ ،‬غير هذا الدخان‬

‫خليل النعيمي أمام أحد تماثيل ''جزيرة باك‬


‫‪67‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪66‬‬
‫ربوع ُعظمى وت�ش ُّققات‪ .‬الأر�ض م�شطورة بق�سوة ‪ ،‬وك�أن الإله‬
‫َح َّززها ب�سكني خرافية‬

‫بالتعابير التي يمكن لها أن تشرح ما يراه البصر‪.‬‬ ‫المشبع بالماء ال َم ْسلوقة تحت األرض؟ الدخان الذي‬
‫وفجأة تشغلني حالي‪ ،‬فأصير أتَحَ َّرض ‪ :‬أيها الركود‬ ‫يَ ْن ُفر من أعماق الجبال الكونية‪ ،‬متحديًا أنظمة‬
‫الكمون متى تثور؟‬ ‫متى تتحرك؟ أيها ُ‬ ‫الكوزموس‪ ،‬أو مستجيبًا لها‪ ،‬باألحرى‪.‬‬
‫فَجّ بوريتاما العميق‬ ‫الكوزموس‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬بحاجة إلى نظام‪ ،‬مثله مثل‬
‫الص َور واألحاسيس”‪،‬‬ ‫ت من البركان ‪ “ :‬أختزن ُ‬ ‫ت َع ّلَ ْم ُ‬ ‫كائناته الهشة‪ ،‬السريعة العطب‪ ،‬التي هي نحن‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وفجأة‪ ،‬أكتب‪ .‬ت ْنشق نفسي عن ألـهوفة‪ ،‬أو فكرة‪ ،‬أو‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫عندما تختلف درجات الحرارة الجوانية وال َب ّرانية‪،‬‬
‫َغ ْمر‪ ،‬وتنبثق الكلمات لتأخذ طريقها إلى منطق العقل‬ ‫عندما يختلف التوتر بين الظاهر والباطن‪ ،‬يحدث‬
‫الكاتب‪ .‬خزائن إحساسي تَ ْفرغ سريعًا‪ ،‬وتتأ َّهب‬ ‫في الكوزموس ما يحدث‪ ،‬تمامًا‪ ،‬عند الكائن ‪:‬‬
‫لإلمتالء‪ ،‬من جديد‪ .‬أنا في فضاء خارق ال يسمح‬ ‫تنكسر القشرة الماسكة للسطح‪ ،‬أو للنفس‪ ،‬وتحدث‬
‫لألحاسيس بأن تغفو إال من أجل أن ترتاح‪ ،‬قليلًا‪،‬‬ ‫فيها فوهات‪ ،‬أو شروخ‪ ،‬منها ينبثق التوتر المحصور‬
‫لتزداد طاقة‪ .‬أن تضيق ل َتـ َّتسع أكثر عندما تفيق‪.‬‬ ‫في األعماق‪ ،‬قبل أن يغدو الوجود‪ ،‬أو التوازن‪،‬‬
‫ثمة ُش ْبه كبير بين الكائن والبركان‪ .‬حاولوا أن‬ ‫مستحيلًا‪.‬‬
‫تلتقطوا‪ ،‬على األقل‪ ،‬عناصر الشبه األساسية بينكم‬ ‫“حرروا ما في أعماقكم‪ ،‬قبل أن تنفجروا”‪ ،‬هذا ما‬
‫وبينه‪ ،‬ألنها هي التي ستنقذكم عند الضرورة‪ ،‬إالّ‬ ‫زر تا ْتيو»‪ ،‬في أعالي جبال‬‫«ج ْي ْ‬‫تقوله لنا ظاهرة َ‬
‫إذا أردتم أن تبقوا هامدين‪.‬‬ ‫ديز التشيلية‪.‬‬‫اآلن ْ‬ ‫ْ‬
‫يطلع القمر في منتصف النهار؟ أم هي الشمس لم‬ ‫تحت الشمس مباشرة أقف‪ ،‬اآلن‪ ،‬وأكتب‪.‬‬
‫تغب‪ ،‬أبدًا؟ عندما َس َريْنا كان فوقنا والنجوم تتألأل‬ ‫ْ‬ ‫أتطلع بذهول حولي‪ ،‬وأطوف ببصري أنحاء «‬ ‫ّ‬
‫حوله في أعماق الكون‪ .‬وها نحن نعود وهو ال زال‬ ‫الحفرة» المثيرة للقلق من شدة ضخامتها‪ ،‬وأتمتم ‪:‬‬
‫واقفًا في مكانه‪ ،‬لكن النجوم لم تعد تحيط به‪ .‬لكأنه‬ ‫ال بد أنها كانت فوهة بركان عمالق فَ َّجر السلسلة‬
‫عقد حلفًا مع « اآلنديز»على أالّ يغيب عنها‪ ،‬أبدًا‪:‬‬ ‫الجبلية في أعالي اآلنديز‪ ،‬ذات يوم‪ .‬وهذه «‬
‫قمر الهنود الجميل‪.‬‬ ‫التشققات األرضية» التي أسميها أنا “ صغيرة”‬ ‫ُّ‬
‫وتشققات‪ .‬األرض مشطورة بقسوة ‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ربوع عُ ظمى‬ ‫ُ‬
‫مقارنة ب َبواذِخ الكون المحيطة بها‪ ،‬مع أنها تقارب‬
‫وكأن اإلله َح َّززها بسكين خرافية‪ .‬إنهدامات هذا‬ ‫ال َع ْملَقة‪ ،‬ما هي إالّفوهات تَ ْنفيس كوني هائلة‪ ،‬مهمتها‬
‫تعلَ ْمناها من سهول‬ ‫تخرب الطمأنينة التي ّ‬ ‫الكون ِّ‬ ‫تخفيف الضغط الجواني البالغ العنف حتى ال تنفجر‬
‫العشب والرمال المبسوطة على وجه القاع مثل‬ ‫األرض‪.‬‬
‫اللباس‪ .‬هنا‪ ،‬الوضع مختلف تمامًا‪ .‬نحن في بؤر‬ ‫أقول فوهات صغيرة! وقطر الواحدة منها يتجاوز‬
‫كونية ‪ ،‬ال فوق قاع مفهومة‪.‬‬ ‫القمم واألحجار‬ ‫عشرات الكيلومترات‪ .‬تحيط بها ُ‬
‫تحت ضوء الشمس الساطع أقف وأضيع في فضاء‬ ‫البركانية التي ان َق َذفَ ْت بعنف ال حدود له خارج‬
‫اآلنديز الحجريّ األحمر المتو ِّقد من الغيظ ألنه لم‬ ‫مشظى ومتعدد العناصر واأللوان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بُؤرتها‪ .‬سطحها‬
‫يبرح مكانه منذ ماليين السنين‪ ،‬بعدما غيضت ماء‬ ‫تربتها مزيج من األرض السوداء‪ ،‬واألحجار‬
‫المحيط عنه‪ .‬متى يسير؟‬ ‫المهروسة‪ ،‬والماء ال َّنزيز‪ ،‬والملح‪ ،‬وبعض أقحاف‬
‫النوء ساكن مثل ُك َتل األحجار التي تقذفها البراكين‬ ‫رت هاهنا عند ارتمائها الالزمن له‪.‬‬ ‫الجبال التي َ‬
‫تك َّس ْ‬
‫من آن آلخر‪ .‬الشمس في السمت‪ .‬والصمت ال يمكن‬ ‫قدامي ‪:‬‬ ‫س! أُخاطب أحدًا ال أراه‪ ،‬وهو مع ذلك ّ‬ ‫ال تَ ْن َ‬
‫إختراقه‪ ،‬ألن الضوء الباهر يمتص حركة الكائنات‬ ‫أننا في حضرة جبال كونية ال يمكن حتى للخيال‬
‫المختفية من َح َمأة الشمس‪ .‬أنهكها الجوع‪ ،‬وال‬ ‫أن يقارب هولها وعظمتها‪ .‬وأزاءها تبدو اللغة فقيرة‬

‫صحارى الملح الغنية بالمعادن‬


‫‪69‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪68‬‬
‫بعد قليل‪� ،‬سنخ ّ ِلف هذا ال�ضوء الأبي�ض على الأر�ض‪ ،‬ونرتك ال�سماء الزرقاء‬
‫الذهبي‪ ،‬تراب �أر�ض الت�شيلي اخلالدة‬
‫ّ‬ ‫فوقنا‪ ،‬ونغادر هذا الرتاب‬

‫والثلج‪ ،‬ال يحيا الهندي دون أن تحيط به هذه‬ ‫ونسبح في األحواض الحجرية التي ابدعتها الطبيعة‬ ‫المياه المعدنية الساخنة في أعماق األرض‪ .‬في‬ ‫بد‪ .‬ولكن َم ْن منها يجرؤ على البحث عن طعام‬
‫ويحسها في روحه بعمق‪ .‬أما هذه الرائحة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العناصر‪،‬‬ ‫على مدى قرون‪ .‬أحواض جاهزة الستقبال الحياة‪،‬‬ ‫أعماقها بالفعل‪ ،‬وليس بالمجاز‪ .‬نهبط على مراحل‬ ‫والشمس القاسية لها بالمرصاد؟ ال بد أنها “ شبعتْ‬
‫رائحة َمـ ْني الشجر‪ ،‬أين َش َم ْـم ُتها؟ أ َ َولَمْ يكن‪ ،‬ذات‬ ‫وكأن مهندسًا بارعًا صممها‪ ،‬منذ األزل‪ ،‬لهذه الغاية‪.‬‬ ‫المهش َمة من أ َ َزليّة السيول‬
‫َّ‬ ‫إلى حضيض القاع‬ ‫جوعًا” ! وأكاد أسمع « عبد الباسط عبد الصمد»‬
‫مساء‪ ،‬في “ دمشق ”؟‬ ‫ستعيد الماء ارتباطنا باآلنديز وأجماته‪ .‬سننسى‬ ‫والبراكين‪ .‬حتى تَ َف َّجر ماؤها سيولًا صغيرة الزالت‬ ‫يردد بصوته النحيف المتصل كلمات “ موسى” (ص)‬
‫بعد قليل‪ ،‬سنخ ِّلف هذا الضوء األبيض على األرض‪،‬‬ ‫المتأزم إلى الحضيض‪ .‬وخوفنا‬ ‫ّ‬ ‫سريعًا إنحدارنا‬ ‫تَفور من حرارة جوف القاع المشتعل في األعماق‪.‬‬ ‫لفتاه‪ ...“ :‬آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا‬
‫ونترك السماء الزرقاء فوقنا‪ ،‬ونغادر هذا التراب‬ ‫المتعثر من السقوط‪ ،‬سيعقبه شعورنا باإلمتنان لهذه‬ ‫ّ‬ ‫سيدهشني نبات ال َب ْردي الذي ينمو بكثافة على‬ ‫نَصَ ـبًا”‪.‬‬
‫الذهبي‪ ،‬تراب أرض التشيلي الخالدة‪ .‬ونعود‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫البقعة من وجه األرض‪ .‬الشيء يعادل الراحة بعد‬ ‫َك ِت َف ّي الوادي‪ ،‬غارقا في الماء الساخنة‪ .‬سنتعرى‬ ‫أخيرًا‪ ،‬نهبط فَجّ «بوريتاما» العميق‪ ،‬حيث منابع‬
‫ول َ َكمْ يبدو ذلك ثقيلًا على القلب ‪ “ :‬العودة”‪ .‬العودة‬ ‫العناء‪ ،‬إالّ األمن بعد خوف‪.‬‬
‫التي ستجعلك تَ َت َخ ّلى عن األمكنة التي أحببتها‪،‬‬ ‫أقف مأخوذًا ‪ :‬كيف تنفطر األرض من جسد الكون؟‬
‫ولدت فيها‪ .‬وأجدني أتساءل ‪ “ :‬ما سِ ُّر‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وكأنك‬ ‫جراح الكوزموس العظيم الذي أبدع‬ ‫وأين يختفي ّ‬
‫هذا اإلرتباط المباشر والعفوي بيني وبين األمكنة‪،‬‬ ‫كل هذه الروائع؟ لماذا يظل الماء يسيل من ثنايا‬
‫حتى تلك التي لم أ َ َرها من قبل ؟ ولِـ َم هذا ال َت َع ُّلق‬ ‫جسد األرض العميقة‪ ،‬وإلى أين يروح؟ لكأن جسد‬
‫وأحسني مدفوعًا ب َن ْز َوة عميقة لزيارة‬ ‫ُّ‬ ‫اآلسر بها “؟‬ ‫الكائن ُص ِمّم على هذه الشاكلة‪ ،‬تمامًا‪ .‬وفي النهاية‪،‬‬
‫ُ‬
‫أخيرة لقصر«ال مونيدا»‪ .‬القصر الذي “ قتِل “ فيه‬ ‫ليس نَ َسـق الحياة اإلنسانية إال تقليدًا بائسًا لعظمة‬
‫«سلفادور ألي ْندي» عام ‪.١٩٧٣‬‬ ‫ف بال َت َب ُّصر والصمت‪.‬‬ ‫الكوزموس‪ .‬فألك َت ِ‬
‫في ساحة القصر أقف بصمت‪ ،‬لفترة طويلة‪ .‬أكاد‬ ‫وس ْيرنا المتباطيء‪،‬‬
‫َ‬ ‫األعماق‪،‬‬ ‫بعد خروجنا من‬
‫أنسى موعد الرحيل‪َ .‬ش َغف عميق وجميل يملؤني‬ ‫نتوقف تحت أضالع الجبل العمالقة‪ ،‬في قرية «‬
‫بما ال أعرف كيف أصفه‪ .‬المكان الذي في وجهي‬ ‫سوكايْده»‪ .‬قرية هندية مرمية في فضاء اآلنديز‬
‫يكلمني‪ .‬يراني‬ ‫يغدو هائلًا ومُريبًا‪ .‬أحسه يتكلم‪ّ .‬‬ ‫دون أي إعتبار‪ .‬تتوسطها كنيسة صغيرة‪ ،‬مبنية من‬
‫وأراه‪ .‬يو ّدعني قبل أن أقوم أنا بتوديعه‪.‬‬ ‫الحجر والتراب‪ ،‬وال يؤمها أحد‪ ،‬هي كل ما بقي من‬
‫وأرى في األفق القريب مكتوبًا فوق السراب ‪ « :‬إنها‬ ‫آثار الغزاة في هذا اإلرتفاع الكوني اآلسر‪.‬‬
‫أس َر ْتني في‬ ‫تمطر فوق سانتياغو»‪ ،‬الجملة التي َ‬ ‫الجبل يحرس القرية مثل أسد جاثم فوق ربوة‬
‫صباي‪ .‬اللعنة! َم ْن َخ َّطها‪ ،‬اآلن‪ ،‬في السماء؟ وعلى‬ ‫يراقب الظباء التي َس َت ِرد ال َع ْين‪ ،‬وال بد‪ .‬والهنود‬
‫الحجر أسمع الكالم األخير الذي تَلَ َّف َظ به «أليندى»‬ ‫يمشون ال ُه َويْنى‪ ،‬وكأن الزمن لم يعد يخصهم‪ .‬لكأنهم‬
‫قبل أن تخترق الرصاصة رأسه ‪ « :‬إنني مؤمن‬ ‫فقدوا روحهم الكونية عندما هبط البيض على‬
‫بشعبي»‪ .‬وي َُدوّ ي الظالم‪.‬‬ ‫أرضهم األولى‪ .‬الشيء يثير اهتمام الهنود مما نفعل‪،‬‬
‫ـن أصابه‬ ‫أقف طويلًا في ساحة القصر بال حِ راك‪َ ،‬كـ َم ْ‬ ‫أو ال نفعل‪ .‬ينظرون إلينا بحيادية‪ ،‬ولكن بعدائية‬
‫ـدر‪ .‬أحس إلى‬ ‫َشلل مفاجيء‪ .‬تملؤني نَ ْـمـ َن َمـة َ‬
‫وخ َ‬ ‫واضحة‪ ،‬وي َولّون األدبار‪ ،‬وكأنهم يشتموننا على‬
‫حد يختلط قلبي بالمكان الذي أقف فيه‪ ،‬حتى‬ ‫أي ّ‬ ‫وقوفنا فوق أرواح أجدادهم‪ .‬الهنود «اللطفاء» بنوا‬
‫أشتهي أن آكله‪ .‬أقف‪ ،‬وأنا أُردد‪:‬‬ ‫ليظلوا على اتصال دائم‬‫قريتهم تحت الجبل‪ ،‬مباشرة‪ّ ،‬‬
‫عد ُت إلى « ال مونيدا» أل َو ّدعه‪.‬‬ ‫“ ْ‬ ‫مع روح الكون العليا‪ ،‬كما يعتقدون‪.‬‬
‫ُ‬
‫أحب أن أ َو ِّدع األمكنة‬ ‫ُّ‬
‫وال أحب أن أُو ِّدع الناس‪.‬‬ ‫أنـــا مكـــان‬
‫أنــا مكــان “‪.‬‬ ‫ّ‬
‫يتكلمَ‬ ‫َ‬
‫وحذر‪ ،‬ولكن‪ ،‬لِـ َم‬ ‫ّ‬
‫يتكلم الهندي بهدوء َ‬
‫بعينيه؟ الكوندور والالما والجبل والريح والشمس‬

‫أعلى‪ :‬صورة بابلو نيرودا على طابع بريد‬


‫‪73‬‬ ‫أسفل‪ :‬إلى اليمين سلفدور أليندي ‪ -‬إلى اليسار‪ :‬فبكتور جارا‬
‫‪72‬‬
‫يوميات دراجة نارية‬
‫على العقبات العديدة التي وضعتها األمم العصرية في‬
‫طرق الرحالة المحتملين‪ .‬لحفظ ماء الوجه‪ ،‬قررنا‬
‫رحلة �إرن�ستو ت�شي غيفارا يف �أرجاء �أمريكا الالتينية‬
‫القول إننا ذاهبون إلى تشيلي كاحتياط ليس إال‪.‬‬
‫كانت مهمتي الرئيسة قبل المغادرة أن أُمتحن في‬ ‫يوميات تشي غيفارا يطبعها سحر خاص‪ ،‬شخصية مألت القرن‬
‫أكبر عدد ممكن من المواد وعلى ألبيرتو تحضير‬ ‫العشرين وفاضت أطيافها على األلفية الثالثة‪ .‬مثال إنساني وكفاحي‬
‫الدراجة للرحلة الطويلة‪ ،‬ودراسة وتخطيط دربنا‪.‬‬ ‫مضيء لكل األزمنة‪ .‬هذه صفحات مقتطفة من اليوميات التي كتبها‬
‫غابت عنا في تلك اللحظات ضخامة مسعانا‪ .‬كان كل‬ ‫تشي غيفارا خالل رحلة في أرجاء أميركا الالتينية سنة ‪ 1952‬قطع‬
‫ما بوسعنا رؤيته غبار الطريق أمامنا ونحن فوق‬ ‫خاللها مع صديقه ألبرتو غرانادو على دراجة نارية ‪ 4500‬كيلومتر‪،‬‬
‫الدراجة نلتهم الكيلومترات طائرين إلى الشمال‪.‬‬ ‫كانت البوابة التي ولج منها الطبيب األرجنتيني الشاب غيفارا إلى‬
‫فضاء أميركا الالتينية‪ ،‬وصوال إلى «سرة العالم» – عاصمة األنكا‪،‬‬
‫اكت�شاف املحيط‬ ‫ليعود من هناك بالشعلة التي صهرت روحه النقية ومزجتها بآالم‬
‫القمر في تمامه يطل صورة ظلية قبالة البحر‪،‬‬ ‫شعوب القارة المنهوبة‪.‬‬
‫يكسو األمواج بانعكاسات فضية‪ .‬نراقب المد والجزر‬ ‫كان صباح من شهر أكتوبر‪/‬تشرين األول‪ .‬مستفيدًا‬ ‫إنها الرحلة هي التي وضعت غيفارا على الطريق التي اختار‪ ،‬طريق‬
‫المستمرين‪ ،‬بأفكارنا الواضحة‪ ،‬ونحن جالسان على‬ ‫من عطلة السابع عشر منه‪ ،‬ذهبت إلى قرطبة‬ ‫الفداء‪ .‬وعلى درب العودة إلى غرناطةِ األرجنتين‪ ،‬كتب أرنستو‬
‫كثيب رملي‪ .‬كان البحر دائما بالنسبة لي مؤتمنًا‬ ‫(كانت آنذاك عطلة وطنية احتفاال بذكرى خروج‬ ‫تشي غيفارا‪ ،‬إثر احتفاله بعيد ميالده الرابع والعشرين‪« :‬علمت أنه‬
‫على األسرار‪ ،‬صديقًا يمتص كل ما يباح له وال يفشي‬ ‫خوان بيرون من السجن عام ‪ .1945‬كان بيرون‬ ‫حين تشق الروح الهادية العظيمة اإلنسانية إلى شطرين متصارعين‪،‬‬
‫قط منها شيئًا‪ ،‬ودومًا يقدم خير النصح ‪ -‬ويمكن أن‬ ‫رئيس األرجنتين من ‪ 1946‬وحتى ‪ ، 1955‬ومن‬ ‫سأكون إلى جانب الشعب‪ .‬أعلم هذا‪ ،‬أراه مطبوعًا في سماء الليل‪،‬‬
‫تفسر أصواته الطافحة بالمعنى على أي وجه تريد‪.‬‬ ‫‪ 1973‬حتى موته سنة ‪ . )1974‬كنا في بيت ألبيرتو‬ ‫أرى نفسي قربانًا في الثورة الحقيقية‪ ،‬المعادل العظيم إلرادة األفراد‪.».‬‬
‫بالنسبة أللبيرتو‪ ،‬هو منظر جديد مشوش بغرابة‪،‬‬ ‫جرانادو نشرب «متة» حلوة تحت كرمة ونعلق‬ ‫هل نستطيع قراءة يوميات تشي غيفارا الشاب‪ ،‬بعيدا عن صورة‬
‫والحدة‪ ،‬التي تتابع بها عيناه كل موجة تتجمع‬ ‫على األحداث الراهنة في «الحياة بنت الكلبة» هذه‬ ‫األسطورة التي تخطت الزمن بإنسانيتها المذهلة وكفاحيتها العظيمة؟‬
‫وترتفع ثم تهمد على الشاطىء‪ ،‬تعكس دهشته‪.‬‬ ‫ونصلح دون طائل «الجبارة (‪ : La Poderosa‬دراجة‬
‫ألبيرتو‪ ،‬المقترب من الثالثين‪ ،‬يرى األطلسي أول‬ ‫جرانادو النارية – نورتون ‪ ، 500‬التي تعني حرفيًا‬
‫مرة ويغمره االكتشاف الذي يعني عددًا ال متناهيًا‬ ‫«الجبارة»)‪ .‬كان ألبيرتو يندب حقيقة أن عليه‬
‫من الدروب إلى كل أطراف العالم‪ .‬يمأل الهواء العليل‬ ‫وظيفته في مستعمرة الجذام في سان فرانسيسكو‬
‫الحواس بقوة البحر وحالته‪ ،‬يتحول كل شيء إثر‬ ‫ديل شانيار‪ ،‬وضآلة راتبه في المستشفى اإلسباني‪.‬‬
‫لمسته‪ ،‬حتى كمباك (‪ Comeback‬االسم اإلنجليزي‬ ‫وأنا كنت قد تركت أيضًا عملي‪ ،‬لكني على عكسه‬
‫المستعار الذي أطلقه إرنستو على الكلب الصغير‬ ‫كنت سعيدًا بالمغادرة‪ .‬شعرت بعدم الراحة أكثر‬
‫الذي يأخذه إلى صديقته "تشيشنيا " التي تقضي‬ ‫من أي وقت مضى وألني أملك روح حالم كنت‬
‫عطلتها في ميرامار) بأنفه الصغير الغريب الشامخ‬ ‫متعبًا بشكل خاص من كلية الطب والمستشفيات‬
‫يحدق في األشرطة الفضية المنتشرة أمامه عدة‬ ‫واالمتحانات‪.‬‬
‫مرات في الدقيقة‪.‬‬ ‫بلغنا في طرقات حلم يقظتنا بالدًا نائية‪ ،‬وأبحرنا في‬
‫كمباك‪ ،‬رمز وكائن قادر على البقاء حيًا في آن‪ :‬رمز‬ ‫بحار مدارية وارتحلنا عبر كل آسيا‪ .‬وفجأة برز‬
‫الوحدة التي تريد عودتي‪ ،‬حي رغم حظه التعس –‬ ‫السؤال منسابًا كما لو كان جزءًا من تخيالتنا‪:‬‬
‫سقطتان عن الدراجة (إحداهما طار وحقيبته من‬ ‫«لم ال نذهب إلى أمريكا الشمالية؟»‬
‫المقعد الخلفي) – إسهال بطنه المتواصل وحتى أن‬ ‫«أمريكا الشمالية؟ لكن‪ ،‬كيف؟»‬
‫داسه مرة حصان‪.‬‬ ‫«على متن الجبارة‪ ،‬يا رجل‪».‬‬
‫نحن في فيليا خيسيل‪ ،‬شمال مار ديل بالتا‪ ،‬نحظى‬ ‫هكذا اتخذنا قرار الرحلة‪ ،‬ولم يحد قط عن المبدأ‬
‫بكرم ضيافة بيت عمي ونراجع أول ‪ 1200‬كلم –‬ ‫الرئيس المطروح آنذاك‪ :‬االرتجال‪ .‬انضم إلينا أخوة‬
‫من الجلي أنها األسهل‪ ،‬رغم أنها تمنحنا حسًا صحيًا‬ ‫ألبيرتو في شرب المتة ونحن على وشك االنتهاء من‬
‫بالمسافات‪ .‬ال ندري إن كنا سنصل إلى هناك أم ال‪،‬‬ ‫وضع مخططنا بعدم التخلي إطالقًا عن الفكرة حتى‬
‫لكننا نعلم أن بلوغ ذلك سيكون صعبًا – على األقل‬ ‫نحقق الحلم‪ .‬وهكذا بدأ العمل الرتيب في مالحقة‬
‫هكذا كان انطباعنا في تلك المرحلة‪ .‬ألبيرتو يضحك‬ ‫تأشيرات الدخول والشهادات والوثائق‪ ،‬أي التغلب‬

‫‪75‬‬ ‫‪74‬‬
‫البحار �إىل بالد ق�صية‪ ،‬بعيد ًا عن جمريات دراما حياتي‪ .‬انتابني قلق عميق‪،‬‬
‫�شعرت فج�أة ب�أين �أحلق مع َّ‬
‫إلى حد ما‪ ،‬على األقل بالنسبة لي في تلك اللحظة‪.‬‬ ‫أشعر بالخشية على نفسي فرحت أخط رسالة‬ ‫�شعرت ب�أين غري قادر على الإح�سا�س ب�أي �شيء‪ .‬بد�أت �أ�شعر باخل�شية على نف�سي فرحت �أخط ر�سالة‬
‫كنت أتطلع إلى المستقبل عبر الشريط الضيق‬ ‫مسيلة للدموع‪ ،‬لكني عجزت عن الكتابة ومن غير‬ ‫م�سيلة للدموع‬
‫لتشيلي وما وراءه‪ ،‬مما يعيد أبيات قصيدة أوتيرو‬ ‫الممكن المحاولة‪ .‬في شبه النور المحيط بنا‪ ،‬دارت‬
‫سيلفا إلى ذهني‪.‬‬ ‫أشباح ملتفة كدوامة غير «أنها» لم تظهر‪ .‬كنت عند‬
‫اعتقادي أني أحبها حتى تلك اللحظة‪ ،‬عندما أدركت‬ ‫أن يلتهمها الكلب بنهم دفعة واحدة‪ .‬ألقي له بقطعة‬ ‫على خططه بالغة التفاصيل بدقة‪ ،‬التي ينبغي أن‬
‫أني ال أحس بشيء‪.‬‬
‫اخلرباء‬ ‫أجبرت على استدعائها لتعود بإشارة من يدي‪ .‬توجب‬
‫أخرى ويتكرر األمر ثانية‪ .‬حميته في عدم تناول‬ ‫نكون وفقها قد اقتربنا من النهاية‪ ،‬بينما نحن في‬
‫الكرم التشيلي‪ ،‬كما ال يتعبني القول‪ ،‬أحد أسباب جعل‬ ‫الحليب تنتهي‪ .‬في غمرة صخب المعجبين بكمباك‪،‬‬ ‫الواقع كنا قد بدأنا منذ برهة فقط‪.‬‬
‫على القتال من أجلها‪ ،‬كانت ملكي‪ ...‬لي‪ ...‬ونمت‪.‬‬ ‫أدخل‪ ،‬هنا ميرمار‪...‬‬ ‫غادرنا خيسيل محملين بمؤونة من الخضار وعلب‬
‫الترحال في البلد المجاور لنا متعة عظيمة‪ .‬ولقد‬
‫أنارت شمس معتدلة اليوم الجديد‪ ،‬يوم مغادرتنا‪،‬‬ ‫واآلن أشعر أن جذوري العظيمة مقتلعة‪ ،‬حر و‪...‬‬ ‫اللحم المحفوظ "تبرع" بها عمي‪ .‬طلب منا أن نرسل‬
‫استفدنا من ذلك أيما استفادة‪ .‬استيقظت تدريجيًا‬
‫وداعنا أرض األرجنتين‪ .‬لم يكن حمل الدراجة إلى‬ ‫احتمينا في مطبخ مركز الشرطة من عاصفة أطلقت‬ ‫له برقية من باريلوتشي – إذا وصلنا إلى هناك –‬
‫تحت المالءة مفكرًا بقيمة السرير الجيد ومحصيًا‬
‫«موديستا فيكتوريا» مهمة يسيرة‪ ،‬لكننا نجحنا‬ ‫العنان لجام غضبها في الخارج‪ .‬قرأت وأعدت قراءة‬ ‫حتى يمكنه أن يشتري برقم البرقية ورقة يانصيب‪،‬‬
‫كمية السعرات الحرارية لوجبة الليلة السابقة‪.‬‬
‫أخيرًا في تحقيق ذلك بقليل من الصبر‪ .‬شكل إنزالها‬ ‫الرسالة التي ال تصدق‪ .‬وهكذا كل أحالمي ببلدتي‬ ‫ما بدا لنا في غاية التفاؤل‪ .‬في تلميح سخر اآلخرون‬
‫راجعت األحداث األخيرة في ذهني‪ :‬ثقب عجل‬
‫صعوبة مماثلة‪ .‬هانحن في تلك البقعة الصغيرة قرب‬ ‫المرتبطة بتلك العيون التي ودعتني في ميرامار‪،‬‬ ‫من أن الدراجة ستكون ذريعة جيدة للسفر ركضًا‪..‬‬
‫الجبارة الغادر‪ ،‬الذي خلفنا على قارعة الطريق في‬
‫البحيرة المدعوة باسم طنان «بويرتو بليست»‪.‬‬ ‫تحطمت بال سبب وجيه‪ .‬اعتراني تعب شديد‬ ‫الخ‪ ،‬وبالرغم من تصميمنا القوي على إثبات أنهم‬
‫المطر وفي مكان مجهول‪ ،‬مساعدة راؤول الكريمة‪،‬‬
‫بضعة كيلومترات على الطريق‪ ،‬ثالثة أو أربعة على‬ ‫وأصغيت نصف نائم إلى حديث سجين جوال مثير‬ ‫مخطئون‪ ،‬أبقتنا خشية طبيعية من التصريح بثقتنا‬
‫صاحب الفراش الذي ننام فيه اآلن‪ ،‬والمقابلة التي‬
‫األكثر‪ ،‬أعادتنا إلى الماء‪ ،‬بحيرة خضراء قذرة هذه‬ ‫يلفق ألف قصة غريبة ويشعره جهل المستمعين إليه‬ ‫المتبادلة‪.‬‬
‫أجريناها مع صحيفة « ‪ « Al Austral‬في تيموكو‪.‬‬
‫المرة‪ ،‬الغونا فرياس‪.‬‬ ‫باألمان‪ .‬كنت قادرًا على فهم معنى كلماته الدافئة‬ ‫يحافظ كمباك طوال الطريق الساحلي على نبضاته‬
‫كان راؤول طالب طب بيطري‪ ،‬ليس مولعًا بالدراسة‬
‫رحلة قصيرة قبل الوصول أخيرًا إلى نقطة الجمارك‪،‬‬ ‫اللعوبة بينما الوجوه المحيطة به تميل مقتربة كي‬ ‫المالحية‪ ،‬خارجًا دون أن يصاب بأذى من اصطدام‬
‫كما بدا‪ ،‬وكان قد حمل دراجتنا القديمة المسكينة‬
‫ثم مركز دائرة الهجرة التشيلية الكائن في الجزء‬ ‫تسمع بشكل أفضل قصصه وهي تكشف بأسرارها‪.‬‬ ‫آخر آت‪ .‬يصعب التحكم بالدراجة النارية مع وجود‬
‫في شاحنته‪ ،‬وجلبنا إلى هذه البلدة الوديعة وسط‬
‫اآلخر من سلسلة الجبال – األدنى كثيرًا عند خط‬ ‫كما لو من خلل ضباب بعيد كان بإمكاني رؤية طبيب‬ ‫ثقل إضافي على الحامل الكائن خلف مركز الجاذبية‬
‫تشيلي‪ .‬حقًا‪ ،‬ربما كانت هناك لحظة أو اثنتان‬
‫العرض هذا‪ .‬هناك عبرنا بحيرة أخرى تصب فيها مياه‬ ‫أمريكي قابلناه هناك في باريلوتشي يومىء برأسه‪:‬‬ ‫ينحو لرفع العجل األمامي‪ ،‬وتجعلنا أدنى هفوة في‬
‫تمنى فيهما صديقنا لو أنه لم يقابلنا‪ ،‬ألننا سببنا‬
‫ريو ترونادور الذي ينبع من البركان العظيم الذي‬ ‫«أعتقد أنكما ستصالن المكان الذي تقصدانه‪ ،‬فأنتما‬ ‫التركيز نطير في الهواء‪ .‬نتوقف عند قصاب ونشتري‬
‫له ليلة من النوم غير المريح‪ ،‬لكن ينبغي عليه أن‬
‫يحمل االسم نفسه‪ .‬تمتاز هذه البحيرة "إسميرالدا"‪،‬‬ ‫تملكان الشجاعة‪ .‬لكني أظن أنكما ستمكثان فترة‬ ‫بعض اللحم للشواء‪ ،‬وقليلًا من الحليب للكلب الذي ال‬
‫ال يلوم إال نفسه‪ ،‬متباهيًا بالمال الذي أنفقه على‬
‫نقيض بحيرات األرجنتين‪ ،‬بماء معتدل الحرارة‬ ‫في المكسيك‪ ،‬إنها بالد رائعة‪».‬‬ ‫يحاول حتى تذوقه‪ .‬ينتابني قلق على صحة الحيوان‬
‫النساء ودعوتنا ليلة إلى "كاباريه" على حسابه‬
‫يجعل السباحة متعة مغرية جدًا‪ .‬هناك في أعالي‬ ‫البحار إلى بالد قصية‪،‬‬
‫شعرت فجأة بأني أحلق مع َّ‬ ‫الصغير أكثر من المال المدفوع ثمنًا للحليب‪ .‬ظهر أن‬
‫طبعًا‪ .‬كانت دعوته وراء تطويل إقامتنا في بالد بابلو‬
‫سلسلة الجبال في مكان يدعى كازا بانغو موقع‬ ‫بعيدًا عن مجريات دراما حياتي‪ .‬انتابني قلق عميق‪،‬‬ ‫اللحم لحم حصان وحلو جدًا حتى إننا لم نقدر على‬
‫نيرودا‪ ،‬واشتركنا في وصلة تفاخر حية لبعض‬
‫يشرف على منظر خالب فوق تشيلي‪ .‬نقطة تقاطع‬ ‫شعرت بأني غير قادر على اإلحساس بأي شيء‪ .‬بدأت‬ ‫تناوله‪ .‬ضجرًا ألقي بالقطعة بعيدًا‪ ،‬ومن المدهش‬
‫الوقت‪ .‬خرج في النهاية‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬من هذه‬

‫‪77‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪76‬‬


‫ا�ستطعنا تعقب قن�صل �سفارتنا الذي ظهر �أخري ًا ًا متحجر الوجه و�سمح لنا بالنوم يف الباحة‪ ،‬بعد خطبة‬
‫الذعة �ساخرة حول واجباتنا كمواطنني‬ ‫للبلدة‪ ،‬لكننا لم نكن في الواقع نعرف‪ .‬اجتمعت‬ ‫المعضلة المحتومة (نقص النقود)‪ ،‬بمعنى أننا أجبرنا‬
‫العائلة كلها بعد حين حول المقالة وأصبحت كل‬ ‫على تأجيل زيارتنا إلى مكان اللهو المثير لالهتمام‬
‫األخبار األخرى في الصحيفة موضع ازدراء أولمبي‪.‬‬ ‫ذاك‪ ،‬وإن قدم لنا تعويضًا على ذلك فراشًا ومأوى‪.‬‬
‫تشيلي‪ ،‬مبلغ كبير بالنسبة لنا‪ .‬في أيام سوكويا هذه‪،‬‬ ‫مفرطًا‪ ،‬خاصة في ما يتعلق بجسده‪ ،‬وعليه ربح‬ ‫وهكذا‪ ،‬ونحن متنعمان بتقديرهم‪ ،‬ودعنا هؤالء‬ ‫وها نحن في الواحدة صباحًا نشعر بالرضا ونلتهم‬
‫جاء فريق بولو الماء من قرطبة في زيارة لسانتياجو‪.‬‬ ‫المسكين كل رهان أجريناه معه لحمل أثاث أكثر‬ ‫الناس الذين ال نذكر عنهم شيئًا‪ ،‬وال حتى أسماءهم‪.‬‬ ‫كل ما على المائدة‪ ،‬وهو كثير حقًا‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫كان كثير من الالعبين من أصدقائنا‪ ،‬لذا قمنا بزيارة‬ ‫منا االثنين والمالك معًا (لعب األخير دور األحمق‬ ‫طلبنا السماح لنا بترك الدراجة في مرآب رجل‬ ‫ما جلب الحقًا‪ .‬ثم استولينا على سرير مضيفنا ألن‬
‫مجاملة لهم أثناء لعبهم مباراة‪ ،‬فدعينا إلى إحدى‬ ‫براحة همجية)‪.‬‬ ‫يعيش على أطراف البلدة وسرنا هناك‪ ،‬لم نعد مجرد‬ ‫والده كان قد نقل إلى سانتياجو ولم يبق كثير من‬
‫الوالئم التشيلية النمط التي تسير على النحو التالي‪:‬‬ ‫استطعنا تعقب قنصل سفارتنا الذي ظهر أخيرًا في ما‬ ‫متشردين محبوبين بدراجة مقطورة‪ ،‬كال‪ ،‬أصبحنا‬ ‫األثاث في البيت‪.‬‬
‫«تفضل فخذ خنزير‪ ،‬جرب بعض الجبن‪ ،‬اشرب‬ ‫يمكن أن يدعى مكتبًا متحجر الوجه (ال بأس إذا أخذ‬ ‫اآلن «الخبراء» وعوملنا كذلك‪ .‬قضينا اليوم كله في‬ ‫كان ألبيرتو الساكن دون حركة يقاوم محاولة‬
‫نبيذًا أكثر» وتقف – إذا استطعت – من إجهاد كل‬ ‫في االعتبار أن ذلك كان يوم أحد) وسمح لنا بالنوم‬ ‫إصالح وإعداد الدراجة بينما بين فينة وأخرى تأتي‬ ‫شمس الصباح إلقالق نومه العميق‪ ،‬بينما رحت‬
‫عضالت الصدر في جسمك‪ .‬صعدنا في اليوم التالي‬ ‫في الباحة‪ ،‬بعد خطبة الذعة ساخرة حول واجباتنا‬ ‫خادمة داكنة البشرة ومعها بعض الطعام الخفيف‪ .‬في‬ ‫أرتدي مالبسي ببطء‪ ،‬مهمة لم نجدها صعبة على‬
‫إلى سانتا لوسيا‪ ،‬كتلة صخرية في وسط المدينة‬ ‫كمواطنين الخ‪ ،‬توج كرمه بتقديم ‪ 200‬بيسوس لنا‪،‬‬ ‫الساعة الخامسة‪ ،‬بعد شاي بعد الظهيرة اللذيذ الذي‬ ‫وجه الخصوص ألن الفرق بين لباسنا في الليل‬
‫لها تاريخها الخاص‪ .‬كنا نقوم بمهمة تصوير المدينة‬ ‫رفضناها العتبارها إهانة‪ .‬لو أنه عرض هذا المبلغ‬ ‫أعده مضيفنا‪ ،‬ودعنا تيموكو وانطلقنا إلى الشمال‪.‬‬ ‫وفي النهار يكون عادة الحذاء‪ .‬تباهت الصحفية‬
‫بسالم عندما وصل موكب أعضاء سوكويا يقودهم‬ ‫بعد ثالثة أشهر لكانت هناك قصة أخرى‪ .‬يا للتوفير!‬ ‫بعدد وافر من الصفحات على عكس صحفنا اليومية‬
‫أشخاص بهيئات مميزة من النادي المضيف‪ .‬أُحرج‬ ‫تشبه أجواء سانتياجو إلى حد ما أجواء قرطبة‪،‬‬ ‫الو�صول �إىل �سانتياجو‬ ‫الفقيرة غير المتطورة‪ ،‬لكني لم أكن مهتمًا بأي شيء‬
‫المساكين – غير متأكدين أيقدموننا إلى سيدات‬ ‫رغم أن إيقاعها اليومي أسرع وحركة المرور فيها‬ ‫سوى خبر محلي وجدته مطبوع بحروف كبيرة في‬
‫وصلنا سانتياجو يوم أحد وكان الذهاب مباشرة إلى‬
‫المجتمع التشيلي المرموقات‪ ،‬كما فعلوا الحقًا‪ ،‬أو‬ ‫نوعًا ما أكثف‪ .‬تذكرنا أبنيتها وطبيعة شوارعها‬ ‫القسم الثاني‪:‬‬
‫مرآب أوستين أول ما قمنا به‪ .‬كنا نحمل رسالة‬
‫لعب دور الحمقى والتظاهر بعدم معرفتنا (تذكر‬ ‫ومناخها وحتى وجوه أهلها بمدننا المتوسطية‪ .‬لم‬ ‫خبيرا جذام من األرجنتين يطوفان‬
‫توصية إلى المالك‪ ،‬لكننا دهشنا بتعاسة حين وجدنا‬
‫مالبسنا غير التقليدية)‪ ،‬لكنهم نجحوا في إدارة‬ ‫نستطع معرفة المدينة جيدًا ألننا كنا هناك لبضعة‬ ‫أمريكا الالتينية على دراجة نارية‬
‫أن المرآب مقفل‪ .‬أخيرًا‪ ،‬أقنعنا المسؤول هناك قبول‬
‫الورطة العويصة بكل مهارة ممكنة وكانوا ودودين‬ ‫أيام وتحت ضغط الوقت إلنجاز كثير من المهام قبل‬ ‫ثم بحروف أصغر‪:‬‬
‫الدراجة وغادرنا لندفع من عرق الجبين لقاء ما‬
‫– كما يمكن للناس أن يكونوا من عوالم مختلفة عن‬ ‫الشروع في الترحال ثانية‪.‬‬ ‫موجودان في تيموكو ويريدان زيارة رابا‪-‬نوي‬
‫تبقى من رحلتنا‪.‬‬
‫عوالمهم وعالمنا في تلك اللحظة المعينة من حياتنا‪.‬‬ ‫رفض قنصل بيرو منحنا تأشيرة دخول دون رسالة‬ ‫هذه خالصة تهورنا‪ .‬نحن‪ ،‬خبراء‪ ،‬شخصيات رئيسة‬
‫كان لمهمتنا كناقلي أثاث مراحل مختلفة‪:‬‬
‫أخيرًا حل اليوم الكبير‪ ،‬وانحدرت دمعتان حرثتا‬ ‫توصية من مثيله األرجنتيني‪ ،‬الذي رفض بدوره‬ ‫في حقل الجذام في الدول األمريكية‪ ،‬بتجربة‬
‫األولى‪ ،‬المثيرة بشكل خاص‪ ،‬تتألف من استهالك‬
‫وداع للجبارة‬ ‫وجنتي ألبيرتو بشكل رمزي‪ .‬مع آخر‬ ‫إعطاءها لنا بحجة أن الدراجة قد ال توصلنا إلى هناك‬ ‫واسعة‪ ،‬عالجنا ‪ 3000‬مريض‪ ،‬نعرف أهم مراكز‬
‫ٍ‬ ‫كيلوجرامين من العنب في وقت قياسي‪ ،‬يساعدنا‬
‫المتروكة خلفنا في المرآب‪ ،‬شرعنا رحلتنا إلى‬ ‫وسينتهي بنا األمر لطلب المساعدة من السفارة (لم‬ ‫الجذام في القارة والباحثين في الحاالت الصحية في‬
‫في ذلك غياب أصحاب البيت‪ .‬الثانية‪ ،‬وصول أصحاب‬
‫فالباريسو‪ .‬انطلقنا في طريق جبلي رائع‪ ،‬أجمل ما‬ ‫يدر المالك الصغير أن الدراجة قد انتهت)‪ ،‬لكنه‬ ‫هذه المراكز‪ ،‬قبلنا زيارة هذا البلدة الصغيرة الرائعة‬
‫البيت وبالتالي القيام ببعض المهام الصعبة‪ .‬الثالثة‪،‬‬
‫يمكن للحضارة أن تقدمه مقارنة بعجائب الطبيعة‬ ‫الن أخيرًا ومنحنا تأشيرة بيرو مقابل ‪ 400‬بيسوس‬ ‫الكئيبة‪ .‬حسبنا أنهم قد يقدرون كليًا احترامنا‬
‫اكتشاف ألبيرتو أن غرور زميل سائق الشاحنة كان‬

‫‪79‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪78‬‬


‫اجلزء الذي ي�ستحق الو�صف يف ليما هو مركز املدينة املحيط بكاتدرائيتها الرائعة املختلفة متام ًا عن الثقل‬
‫في الصباح ذهبنا إلى متحف اآلثار وعلم اإلنسان‪ .‬شيء‬ ‫على مجموعة قيمة‪ ،‬توليفة ثقافية كاملة‪.‬‬ ‫الوح�شي لكاتدرائية كوزكو‪ ،‬حيث خلد الغزاة �أنف�سهم بق�سوة‬
‫ال يصدق‪ ،‬لكن ضيق الوقت كان يعنى أننا لن نتمكن‬ ‫ليما هادئة على عكس قرطبة‪ ،‬وإن كانت لها سمة‬
‫عمن رؤية كل شيء‪ .‬كرسنا بعد الظهر للتعرف على‬ ‫المدينة االستعمارية نفسها‪ ،‬أو باألحرى الريفية‪.‬‬
‫مستشفى الجذام المسمى دي غيا القريب‪ ،‬برفقة‬ ‫زرنا القنصلية حيث كانت هناك رسائل في انتظارنا‪.‬‬
‫عن الثقل الوحشي لكاتدرائية كوزكو‪ ،‬حيث خلد‬ ‫الحقيقية (التي لم تخربها أيدي البشر)‪ ،‬في شاحنة‬
‫دليلنا الدكتور الدكتور مولينا‪ ،‬وهو باإلضافة إلى‬ ‫بعد قراءتها ذهبنا لنرى ما يمكننا فعله برسالة‬
‫الغزاة أنفسهم بقسوة‪ .‬في ليما‪ ،‬أصبح الفن أسلوبيًا‬ ‫تحمل حملنا الثقيل‪ ،‬نحن المتحررين من األحمال‪.‬‬
‫كونه مختصا جيدا في الجذام‪ ،‬من الواضح أنه جراح‬ ‫التوصية التي نحملها إلى بيروقراطي في مكتب‬
‫بلمسة أنثوية نوعًا ما‪ :‬أبراج الكاتدرائية عالية‬
‫صدر ممتاز‪ .‬كما هي عادتنا ذهبنا لتناول الطعام في‬ ‫وزارة الخارجية‪ ،‬الذي لم يود‪ ،‬طبعًا‪ ،‬أن يتعرف‬
‫مهيبة‪ ،‬لعلها األرفع بين كل كاتدرائيات المستعمرات‬
‫بيت الدكتور بيسي‪.‬‬ ‫علينا‪ .‬همنا على وجهينا من مركز شرطة إلى‬
‫اإلسبانية‪ُ .‬تركت القطع الخشبية الفنية السخية‬
‫مدينة الفرا�ش‬
‫أضعنا صباح يوم السبت كله في مركز المدينة في‬ ‫آخر – حتى حصلنا أخيرًا في واحدة منها على طبق‬ ‫كنا في نهاية واحدة من أهم مراحل رحلتنا‪ ،‬دون‬
‫في كوزكو وتبنت هنا الذهب‪ .‬صحن الكنائس هنا‬
‫محاولة لصرف ‪ 50‬كرونا سويديا‪ .‬نجحنا أخيرًا‬ ‫أرز – وبعد الظهر زرنا الدكتور هوجو بيسي‪ ،‬خبير‬ ‫سنت أو أي فرصة في المدى القصير لكسب أي‬ ‫ٍ‬
‫خفيف طليق الهواء‪ ،‬على نقيض تلك الكهوف المظلمة‬
‫بعد قليل من الخداع‪ .‬قضينا بعد الظهر في اكتشاف‬ ‫الجذام‪ ،‬الذي رحب بنا بلطف غير عادي لمسؤول عن‬ ‫نقود‪ ،‬لكننا كنا سعداء‪.‬‬
‫والعدوانية في مدينة إنكا‪ .‬اللوحات متألقة ساطعة‬
‫المختبر الذي ال يحتوي على ما يستحق الحسد‪.‬‬ ‫وحدة طبية محترمة مثل هذه‪ .‬أمن مكان إقامتنا‬ ‫مدينة جميلة أخمدت ماضيها االستعماري تحت‬
‫أيضًا‪ ،‬مبهجة إلى حد ما‪ ،‬وتتبع مدارس أحدث من‬
‫في الواقع‪ ،‬كان بحاجة إلى الكثير‪ .‬مع ذلك‪ ،‬كانت‬ ‫في مستشفى الجذام‪ ،‬ودعانا تلك الليلة لتناول‬ ‫بيوتها الجديدة (بعد زيارة كوزكو تبدو كثيرًا‬
‫لوحات الفنانين الهجن المتكتمين على أنفسهم‪،‬‬
‫سجالت حياة األشخاص مروعة في وضوحها ومنهج‬ ‫الطعام في بيته‪ .‬تبين أنه متحدث رائع‪ ،‬وكان الوقت‬ ‫كذلك)‪ .‬شهرتها كمدينة ودرة ثمينة غير مبررة‪،‬‬
‫الذين رسموا القديسين بغضب مظلم أسير‪ .‬تحمل‬
‫تنظيمها وكذلك في تفاصيلها الشاملة‪ .‬في المساء‬ ‫متأخرًا حين ذهبنا للنوم‪.‬‬ ‫غير أن ضواحيها السكنية متصلة مع المنتجعات‬
‫كل الكنائس في واجهاتها ومذابحها الخواص الكاملة‬
‫كنا مدعوين على العشاء في بيت الدكتور بيسي‪،‬‬ ‫كما استيقظنا في وقت متأخر أيضًا وتناولنا اإلفطار‪.‬‬ ‫المقبولة القريبة من البحر بشوارع عريضة‪ .‬يسافر‬
‫لفن شوريجوريسك (عمارة باروك إسبانية تتصف‬
‫وكالعادة أثبت مهارته في الحديث المفعم بالحياة‪.‬‬ ‫كان من الواضح عدم وجود "أمر" بتقديم الطعام لنا‪ ،‬لذا‬ ‫سكان ليما من المدينة إلى ميناء كالالو على طول‬
‫بالسطح المفصل والمعقد المحكم‪ ) .‬المزين بالذهب‪.‬‬
‫األحد يوم مهم بالنسبة لنا‪ ،‬إذ رأينا أول مصارعة‬ ‫قررنا الذهاب إلى كلالو وزيارة الميناء‪ .‬كان الذهاب‬ ‫عدة طرق رئيسة عريضة في غضون دقائق‪ .‬ال‬
‫أهلت هذه الثروة الهائلة األرستقراطية لمقاومة‬
‫ثيران‪ ،‬وبالرغم من أنها جرت تحت اسم «نوفيالدا»‪،‬‬ ‫بطيئًا ألن ذلك كان األول من مايو‪/‬أيار وليست‬ ‫يتحلى الميناء بفتنة خاصة (يبدو أن بناء جميع‬
‫جيوش تحرير أمريكا حتى اللحظة األخيرة‪ .‬ليما هي‬
‫مصارعة مع ثيران ومصارعين أقل كفاءة من‬ ‫هناك مواصالت عامة‪ ،‬فسرنا على األقدام مسافة‬ ‫المواني يسير على نسق واحد) باستثناء الحصن‪،‬‬
‫المثال الكامل لبيرو التي لم تتطور ما وراء ظروف‬
‫المألوف‪ ،‬كنا في غاية اإلثارة لدرجة أني لم أقدر‬ ‫‪ 14‬كيلومترا‪ .‬لم يكن هناك شيء معين لزيارته‬ ‫موقع معارك عديدة‪ .‬وقفنا على طول أسواره الضخمة‬
‫االستعمار اإلقطاعية‪ ،‬وما زالت في انتظار دم ثورة‬
‫على التركيز على أحد كتب تيللو التي كنت أقرأها‬ ‫في كالالو‪ ،‬وأقل من ذلك المراكب األرجنتينية‪.‬‬ ‫متعجبين من عمل اللورد كوتشراني الخارق حين‬
‫التحرر الحقيقي‪.‬‬
‫في المكتبة ذاك الصباح‪ .‬وصلنا في بداية المصارعة‪،‬‬ ‫بوجه جريء أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬قدمنا أنفسنا‬ ‫قاد بحارته األمريكيين الالتينيين وهاجم هذا‬
‫غير أن هناك ركنا في الجزء الفاخر من المدينة‬
‫ومع دخولنا كان ثمة ثور يقتل لكن ليس بالطريقة‬ ‫في مركز شرطة متسولين بعض الطعام‪ ،‬ثم عدنا‬ ‫الحصن واحتله في واحدة من أشهر فصول تاريخ‬
‫عزيزًا على قلبي‪ ،‬وكثيرًا ما كنا نذهب هناك الستعادة‬
‫العادية «ضربة رحمة»‪ ،‬وعليه كان الثور يعاني‬ ‫بسرعة إلى ليما‪ .‬مرة أخرى تناولنا الطعام في منزل‬ ‫تحرير أمريكا الالتينية‪.‬‬
‫ذكريات ماتشو بيتشو‪ ،‬ذلك هو متحف اآلثار وعلم‬
‫مطروحا على األرض والمصارع يحاول إنهاء المهمة‬ ‫الدكتور بيسي‪ ،‬الذي أخبرنا عن تجاربه مع أنواع‬ ‫الجزء الذي يستحق الوصف في ليما هو مركز‬
‫اإلنسان‪ .‬كان دون خوليو تيللو قيم المتحف دارسا‬
‫والجمهور يصرخ‪ .‬صاحب الثور الثالث إثارة معتبرة‬ ‫الجذام المختلفة‪.‬‬ ‫المدينة المحيط بكاتدرائيتها الرائعة المختلفة تمامًا‬
‫تجري في عروقه دماء هندية نقية‪ .‬يحتوي المتحف‬

‫‪81‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪80‬‬


‫بجد �إىل اجلذام‪� ،‬ستكون‬
‫ٍ‬ ‫�إن كان هناك ما �سيجعلنا نكر�س �أنف�سنا‬
‫العاطفة التي �أظهرها لنا كل ه�ؤالء املر�ضى الذين قابلناهم يف الطريق‪.‬‬
‫لالختصار‪ .‬كانا في منتهى اللطف‪ ،‬خاصة األكبر‬ ‫أشياء ال يفهمونها‪».‬‬
‫سنًا‪ .‬داومنا على السير بالعربة طوال اليوم هابطين‬ ‫كان ألبيرتو مستعدًا ألن يصبح عنيفًا‪ ،‬لذا أمسكت به‬
‫إلى أماكن أكثر بهجة‪ ،‬أصابني صداع وشعور عام‬ ‫برفق وهذا ثناه عن فعل ذلك‪.‬‬
‫باعتالل الصحة‪ ،‬ما لم أعانِ منه منذ مغادرتنا‬ ‫كانت الطريقة التي ودعنا بها مرضى المستشفى‬ ‫الثالثة بعد الظهر قابلنا الدكتور بيسي الذي أعطى‬ ‫عندما أمسك بالمصارع بشكل مشهدي وألقى به إلى‬
‫تيكليو‪ .‬حين أصبحنا على ارتفاع ‪ 4853‬مترًا فوق‬ ‫في ليما‪ ،‬على بساطتها‪ ،‬من أهم األشياء التي تركت‬ ‫ألبيرتو طاقمًا أبيض وقدم لي جاكيت من اللون‬ ‫األرض‪ ،‬وكان هذا كل ما في األمر‪ .‬أقفل االحتفال‬
‫سطح البحر بدأت في التحسن‪ .‬عندما عبرنا وانوكو‬ ‫تأثيرا قويًا لدينا‪ .‬قدموا لنا مئة نصف من السوليس‬ ‫نفسه‪ .‬استوى الجميع‪ ،‬فبدونا إلى حد ما كالبشر‪.‬‬ ‫مع موت الثور السادس غير المالحظ‪ .‬فن! لم أر منه‬
‫واقترابنا من تينغو ماريا كسر محور العجلة األمامي‬ ‫مع رسالة معبرة جدًا‪ .‬بعد ذلك جاء بعضهم لوداعنا‬ ‫لم يكن في بقية اليوم شيء مهم‪ .‬مرت بضعة أيام‬ ‫شيئًا‪ .‬شجاعة! إلى حد ما‪ .‬مهارة! ليست كثيرة‪.‬‬
‫من جهة اليسار‪ ،‬لكن من حسن الحظ أن العجلة‬ ‫شخصيًا وفي أكثر من حالة ذرفوا دموعًا‪ ،‬وهم‬ ‫وضعنا خاللها قدمًا في ركاب الجواد‪ ،‬وإن بقينا غير‬ ‫إثارة! نسبية‪ .‬باختصار‪ ،‬كل شيء يعتمد على ما‬
‫التصقت بالرفرف فلم تنقلب العربة‪ .‬اضطررنا تلك‬ ‫يشكروننا على القليل من الحياة التي بعثت فيهم‪.‬‬ ‫متأكدين من موعد المغادرة‪ .‬كان علينا أن نغادر‬ ‫ستفعله هنالك يوم األحد‪.‬‬
‫الليلة للنزول بفندق‪ .‬احتجت إلى أخذ حقنة‪ ،‬لكن‬ ‫صافحنا أيديهم‪ ،‬قبلنا هداياهم وجلسنا معهم نصغي‬ ‫قبل يومين‪ ،‬غير أن الشاحنة التي من المفترض‬ ‫صباح االثنين ذهبنا ثانية إلى المتحف‪ .‬في المساء‬
‫كما شاء حظي كسرت إبرة الحقنة‪.‬‬ ‫إلى مباراة كرة قدم تبث في المذياع‪ .‬إن كان هناك‬ ‫أن تقلنا لم تغادر بعد‪ .‬األجزاء العديدة التي تشكل‬ ‫إلى بيت الدكتور بيسي‪ ،‬حيث قابلنا برفسور طب‬
‫كان اليوم التالي هادئًا خاليًا من األحداث ويوم ربو‪،‬‬ ‫بجد إلى الجذام‪ ،‬ستكون‬
‫ٍ‬ ‫ما سيجعلنا نكرس أنفسنا‬ ‫رحلتنا كانت تسير سيرًا حسنًا‪ .‬في ما يتعلق في‬ ‫نفسي‪ ،‬الدكتور فالينزا‪ ،‬متحدث جيد آخر روى لنا‬
‫لكن في الليل حالفنا الحظ حين ذكر ألبيرتو بصوت‬ ‫العاطفة التي أظهرها لنا كل هؤالء المرضى الذين‬ ‫إثراء معلوماتنا‪ ،‬زرنا متاحف ومكتبات‪ ،‬لكن المتحف‬ ‫حكايات عن الحرب وأخرى مثل الحكاية التالية‪:‬‬
‫كئيب أن اليوم‪ 20 ،‬مايو‪/‬أيار‪ ،‬هو ذكرى الشهر‬ ‫قابلناهم في الطريق‪.‬‬ ‫الوحيد الذي له أهمية حقيقية كان متحف اآلثار‬ ‫«قبل أيام ذهبت إلى دار السينما المحلية لمشاهدة‬
‫السادس لرحيلنا‪ .‬كان ذلك ذريعة لتطاير السوليس‪.‬‬ ‫ليما كمدينة ال ترقى إلى تقليدها الطويل كعاصمة‬ ‫وعلم اإلنسان الذي أسسه الدكتور تيللو‪ .‬من منظور‬ ‫فيلم لكانتينفالس‪ .‬كان الجميع يضحكون لكني لم أفهم‬
‫بعد القارورة الثالثة تعثر ألبيرتو وانطرح أرضًا‪،‬‬ ‫بالنيابة‪ ،‬لكن ضواحيها السكنية جميلة جدًا‬ ‫علمي‪ ،‬كان الجذام حيث قابلنا الدكتور بيسي أهم‬ ‫شيئًا‪ ،‬ولم يكن ذلك شيئًا غير عادي‪ ،‬ألن الباقين لم‬
‫متخليًا عن القرد الصغير الذي يحمله بين يديه‬ ‫وواسعة وكذلك شوارعها الجديدة‪ .‬األمر المثير‬ ‫حدث‪ ،‬بينما كان الباقون تالمذته وعليهم قطع طريق‬ ‫يستطيعوا فهم شيء أيضًا‪ .‬إذًا‪ ،‬لم كانوا يضحكون؟ في‬
‫وغاب عن المكان‪ .‬استمر كامبا األصغر في احتساء‬ ‫لالهتمام كان عدد الشرطة المحيطين بالسفارة‬ ‫طويل قبل تقديم شيء له قيمة تذكر‪ .‬وحيث لم‬ ‫الواقع كانوا يضحكون على أنفسهم‪ .‬كل واحد منهم‬
‫نصف قارورة أخرى حتى سقط على األرض‪.‬‬ ‫الكولومبية‪ .‬كان هناك ما ال يقل عن ‪ 50‬شرطيا‬ ‫يكن هناك مختصون في الكيمياء الحيوية في بيرو‪،‬‬ ‫يضحك على جزء منهم‪ .‬نحن دولة فتية دون تقاليد‬
‫غادرنا بسرعة في الصباح التالي قبل أن تستيقظ‬ ‫بالبزة الرسمية والمالبس المدنية يقومون بحراسة‬ ‫يدير المختبر أطباء مختصون تحدث ألبيرتو مع‬ ‫أو ثقافة‪ ،‬وبالكاد مك َت َشفون‪ ،‬لذا ضحكوا على كل‬
‫المرأة التي تملك المحل‪ ،‬ألننا لم ندفع الفاتورة ولم‬ ‫دائمة حول المبنى كله‪.‬‬ ‫بعضهم‪ ،‬حيث وصلهم بأناس من بيونس أيرس‪ .‬انسجم‬ ‫الفساد الذي استطاعت حضارتنا الناشئة إصالحه…‬
‫يملك األخوان كامبا مالًا بسبب تصليح محور العجلة‪.‬‬ ‫اليوم األول في رحلة الخروج من ليما لم يكن شيئًا‬ ‫ألبيرتو مع اثنين منهم‪ ،‬لكن الثالث… حسنًا‪ ،‬قدم‬ ‫لكن هل نضجت أمريكا الشمالية تمامًا رغم ناطحات‬
‫سارت العربة بنا طوال النهار حتى انتهى بنا األمر‬ ‫يذكر‪ .‬رأينا الطريق إلى ال أورويا والباقي قطعناه في‬ ‫ألبيرتو نفسه باسم الدكتور جرانادو‪ ،‬مختص في‬ ‫سحابها وعرباتها وثروتها الجيدة؟ هل تركت شبابها‬
‫إلى أحد حواجز الطرق التي أقامها الجيش لمنع الناس‬ ‫الليل‪ ،‬إلى أن وصلنا سيرو دي باسكو في الفجر‪.‬‬ ‫الجذام …الخ فاعتبروه طبيبًا‪ .‬أجاب الرجل السخيف‬ ‫في الوراء؟ كال‪ ،‬الفروق في الشكل فقط‪ ،‬هم ليسوا‬
‫من السفر عند هطول مطر غزير‪.‬‬ ‫سافرنا في صحبة األخوين بيكيرا‪ ،‬اللذين أطلقنا‬ ‫الذي سأله بقوله «كال‪ ،‬ال يوجد مختصون بالكيمياء‬ ‫أساسيين أصيلين‪ ،‬كل أمريكا واحدة في ذلك‪ .‬فهمت‬
‫انطلقنا ثانية في اليوم التالي وحجزنا ثانية عند‬ ‫عليهما لقب «كامباالتشي» (تعني باإلسبانية تحف‬ ‫الحيوية هنا‪ ،‬ومثلما هناك قانون يمنع األطباء من‬ ‫أميركا كلها وأنا أشاهد الكوميدي الشهير كاتينفالس!"‬
‫حاجز‪ .‬لم يسمح لنا بالمرور حتى حلول المساء‪ ،‬وإن‬ ‫زينة كالخزف والتماثيل أو مخزن خردة) أو كامبا‪،‬‬ ‫فتح الصيدليات‪ ،‬فإننا ال نسمح للصيادلة بالتدخل في‬ ‫لم تسنح فرصة يوم الثالثاء لزيارة المتحف‪ ،‬لكن في‬

‫‪83‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪82‬‬


‫بالمساعدة‪.‬‬ ‫توقفنا مرة أخرى في بلدة صغيرة تدعى نيسكويال‪،‬‬
‫ذهبنا للسباحة بعد ظهر ذلك اليوم في ريو أوكايالي‬ ‫آخر موقف لنا في ذاك النهار‪.‬‬
‫التي بدت إلى حد ما مثل بارانا العليا‪ .‬صادفنا الوكيل‬ ‫كان الدرب ال يزال مقفلًا في اليوم التالي‪ ،‬لذا‬
‫المساعد الذي قال إنه ضمن الكثير لنا‪ ،‬إكرامًا له‬ ‫ذهبنا إلى مركز الجيش للحصول على بعض الطعام‪.‬‬
‫وافق الربان على أن ندفع تكاليف الدرجة الثالثة‬ ‫غادرنا بعد الظهر ومعنا جندي جريح ليساعدنا في‬
‫ونسافر في الدرجة األولى‪ .‬صفقة عظيمة‍!‬ ‫المرور عند حواجز الطرق العسكرية‪ .‬بالفعل‪ ،‬بعد‬
‫كان هناك نوعان نادران من السمك حيث نسبح‬ ‫كلومترات على الطريق‪ ،‬حين كانت باقي الشاحنات‬
‫يدعوهما مواطنو المنطقة «بوفيو»‪ .‬تقول األسطورة‬ ‫متوقفة‪ ،‬سمح لشاحنتنا بالمرور إلى بوكالبا التي‬
‫إنها تأكل الرجال وتغتصب النساء وترتكب ألف‬ ‫وصلناها بعد حلول الليل‪ .‬دفع كامبا الصغير ثمن‬
‫عميلة عنف أخرى‪ .‬من الواضح أنها دولفين نهري‪،‬‬ ‫وجبتنا‪ ،‬وللوداع شربنا أربع زجاجات من النبيذ‬
‫التي لها أعضاء تناسلية مثل المرأة‪ ،‬فضال عن سمات‬ ‫التي جعلته عاطفيًا فنذر لنا حبه السرمدي‪ ،‬ودفع‬
‫غريبة أخرى‪ .،‬لذا يستخدمها الهنود كبديل لكن‬ ‫ثمن إقامتنا في الفندق‪.‬‬
‫عليهم قتلها حالما ينتهون من معاشرتها ألن منطقة‬ ‫كانت المهمة الرئيسة الملقاة علينا هي الوصول‬
‫األعضاء التناسلية تقبض على عضو الرجل وال يمكن‬ ‫إلى إيكيتوس‪ .‬كان رئيس البلدية أول من زرناه‪،‬‬
‫إخراجه‪ .‬قمنا تلك الليلة بمهمة مقابلة زمالئنا‬ ‫شخص يدعى كوهين سمعنا عنه كثيرًا‪ .‬كان يهوديًا‬
‫الشاقة في المستشفي لنطلب مكانًا نقيم فيه‪ .‬كما‬ ‫فيما يتعلق بالمال‪ ،‬لكنه رجل طيب‪ .‬ال ريب أنه‬
‫هو متوقع قابلونا ببرود وكان يمكن أن يرفضوا‬ ‫كان بخيلًا مغلول اليد‪ ،‬المشكلة كانت هل هو من‬
‫طلبنا لو لم تكسبنا رباطة جأشنا ودهم فقدموا لنا‬ ‫نوعية جيدة‪ .‬عهد بنا إلى وكيل الشحن البحري‬
‫سريرين حيث استطعنا إراحة عظامنا المتعبة‪.‬‬ ‫الذي أرسلنا بدوره للحديث مع الربان اللطيف‪،‬‬
‫الذي وعدنا بمنحنا امتياز السفر في الدرجة األولى‬
‫ودفع تكاليف السفر في الدرجة الثالثة‪ .‬لم يسرنا‬
‫ي�صدر قريب ًا‬ ‫هذه الصفحات مقتطفة من الكتاب الذي أصدرته "دار السويدي" في‬
‫أبو ظبي حتت عنوان "يوميات دراجة نارية" ترجمة صالح صالح‪.‬‬
‫ذلك‪ ،‬فذهبنا لمقابلة رئيس الحامية العسكرية الذي‬
‫قال إنه ال يملك ما يقدمه لنا‪ .‬ثم وعد المسؤول‬
‫الثاني بعد استجوابنا (وبذلك أبدى غبا ًء عظيمًا)‬
‫ترجمة نعمان الحموي‬
‫‪85‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪84‬‬
‫‪The File‬‬
‫امللف‬

‫يحتوي هذا امللف على عدد من املو�ضوعات التي تتحرك يف ف�ضاء الرحلة العربية يف الف عام‪ ،‬من ابن‬
‫ف�ضالن واملقد�سي الب�شاري وابي دلف امل�سعري يف القرنني ‪ 10‬و‪� 11‬إىل ابن بطوطة‬
‫يف القرن الرابع ع�رش وابن خلدون يف القرن اخلام�س ع�رش‪ ،‬و�أبي �سامل العيا�شي يف القرن ال�سابع ع�رش‪ ،‬و�صوال �إىل‬
‫رحالة الع�رص احلديث‪ ،‬طواف على ثيمات �شغلت الرحالة ون�صو�صهم‪ ،‬وحيث حتولت الرحلة �إىل مر�آة الأزمنة‪،‬‬
‫والرحالة �إىل م�ؤرخ من طراز خا�ص‪.‬‬

‫ثيمات هذا امللف ون�صو�صه يف غالبيتها �شغلت �أبحاث امل�ؤمتر الدويل لأدب الرحلة امل�سمى « العرب بني البحر‬
‫وال�صحراء»‪ ،‬وها هي ت�شغل �صفحات من جملة الرحلة يف عددها الأول‪.‬‬
‫وبعد �أيام من �صدور العدد الأول من جملة «الرحلة»‪� ،‬سيكون هذا امل�ؤمتر قد عقد بالتعاون بني «املركز العربي‬
‫للأدب اجلغرايف‪-‬ارتياد الآفاق» لندن‪�-‬أبو ظبي‪ ،‬و «احلي الثقايف‪-‬كاتارا» يف الدوحة حتت عنوان عري�ض هو «العرب‬
‫بني البحر وال�صحراء» وير�صد الأدوار الثقافية واحل�ضارية للعرب وامل�سلمني يف عالقتهم بجوارهم ال�رشقي‬
‫وبالآخر الغربي من خالل ن�صو�ص �أدب الرحلة‪ ،‬ور�ؤى الرحالة وكتابات اجلغرافيني والبلدانيني العرب‬
‫وامل�سلمني‪ .‬ويتزامن انعقاد امل�ؤمتر مع منا�سبة مرور ع�رش �سنوات على ت�أ�سي�س «املركز العربي للأدب اجلغرايف‪-‬‬
‫ارتياد الآفاق»‪ ،‬و�سبع �سنوات على ت�أ�سي�س «جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة»‪ .‬وي�أتي هذا الن�شاط ك�أول ن�شاط‬
‫ثقايف كبري ي�ست�ضيفه «احلي الثقايف‪-‬كاتارا» يف قاعاته و�أروقته‪.‬‬

‫وكما جاء يف ن�رشة امل�ؤمتر ف�إن �أبحاثه ت�سلط ال�ضوء على م�ضيق هرمز وال�شواطئ العربية والآ�سيوية والإفريقية‪،‬‬
‫والرحالت عربها‪� ،‬إ�ضافة �إىل التوا�صل بني الآ�ستانة واجلزيرة العربية من خالل ن�صو�ص ال�سفر‪ ،‬وكذلك على دور‬
‫العرب يف تاريخ العلوم البحرية والفلكية وريادتهم يف الت�أ�سي�س لعلم اجلغرافية ولأدب الرحلة‪ ،‬وعلى دور رحالت‬
‫احلج يف نقل العلوم واملعارف والأفكار اجلديدة‪ .‬‬
‫ير�صد عدد مهم من �أبحاث امل�ؤمتر العالقات الثقافية وال�سيا�سية واالقت�صادية بني كل من العرب وال�صني والهند‬
‫العرب بني البحر وال�صحراء‬
‫وفار�س والرتك قدمي ًا وو�سيط‪ ،‬والعالقة ب�إفريقيا من جهة‪ ،‬وبني العرب و�أوروبا حديث ًا من جهة �أخرى‪.‬‬
‫‪ ‬وي�شهد امل�ؤمتر‪ ،‬وللمرة الأوىل لقا ًء ي�ضم عدد ًا من مرتجمي رحلة ابن بطوطة �إىل لغات �أوروبية و�آ�سيوية خمتلفة‪،‬‬ ‫الرحلة العربية يف �ألف عام‬
‫�سيقدمون �شهادات حول جتاربهم يف نقل الرحلة �إىل لغاتهم‪.‬‬

‫هنا يف هذا امللف مغامرة املا�ضي بني ما هو ذاتي وما هو مو�ضوعي تتحول �إىل م�سافات جتتازها وت�ستجليها عني‬
‫احلا�رض‪.‬‬

‫‪87‬‬ ‫‪86‬‬
‫خارطة شكل إقليم جزيرة العرب أعدها حاجي «خليفة محمد بن عبد اهلل» ‪ 1732‬م‬
‫طيور مهاجرة في ميناء سمهرم في ظفار‬

‫أشكال رمال في صحراء ليوا على تخوم الربع الخالي‬


‫في الجوار‬ ‫زاوية العياشي في سجلماسة‬

‫يف ب�ستان �أبي �سامل العيا�شي‬


‫اختيار‪ :‬محمد أحمد السويدي‬ ‫�صور وحكايات‬
‫تصوير‪ :‬كمال بستاني‬

‫عبر مصر‪.‬‬
‫الرحلة إلى زاوية العياشي وبيت اهله شاقة في الصيف‪ ،‬فقد كانت رحلة صيفية‪...‬وما من كثرة‬ ‫طويلة هي الرحلة من الدار البيضاء إلى سجلماسة حيث تقع زاوية العياشي‪ ،‬وضريحه وضريح‬
‫من الناس تفكر في زيارة قبر هذا العالم األديب وزاويته في فصل الصيف‪ ،‬بل في أصعب شهور‬ ‫أجداده وأحفاده‪ ،‬وجمعهم ينتمون إلى قبيلة آيت أعياش‪ ،‬وفي المصادر المختلفة ولكن في نقل‬
‫الصيف‪.‬‬ ‫مباشر عن الصديق الراحل سعيد الفاضلي الذي حقق رحلته «المسماة الرحلة المغربية»‪ ،‬ان‬
‫مع ذلك كانت الفكرة ان أتجول في سجلماسة وأتوقف حيثما عن لي‪ ،‬ولرفاق الرحلة ذلك‪ ،‬لنطلع‪،‬‬ ‫الرحالة واسمه الكامل عبد اهلل بن محمد بن ابي بكر بن يوسف بن موسى العياشي الملقب‬
‫عن قرب‪ ،‬ولو لوقت قصير‪ ،‬على المكان الذي اطلع هذا الرحالة الذي دون في رحلته العلم واألدب‬ ‫بعفيف الدين ولد في ‪ 1628‬وتوفي بالطاعون سنة ‪.1679‬‬
‫والفتوى والحكمة‪ ،‬والحكاية والخبر والمالحظة والخاطرة‪ ،‬والطرفة‪ ،‬والشعر وغير ذلك مما جعل‬ ‫يا لمشقة الطريق وقصر العمر‪ .‬لقد شد العياشي الرحال إلى المشرق فزار مكة والمدينة وأدى‬
‫من نص رحلته ديوان أدب‪ ،‬وزاوية تصوف‪ ،‬وفضاء‪ ،‬ومحراب عبادة‪.‬‬ ‫فريضة الحج ثم يمم شطر أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين‪ ،‬فحج وزار وعاد إلى المفرب‬

‫‪93‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪92‬‬


‫في جوار الزاوية‪ :‬حياة بسيطة‬

‫مفتاح الزاوية‬

‫والمتصوفة الذين عبروا هذه الواحات ذهابا وغيابا في الطريق إلى الحج‪ ،‬وكذا في الرحالت‬ ‫في بيته‪ ،‬حيث ضريحه وبستانه والهضبة التي أطل منها على العالم‪ ،‬هناك عبرنا ساقية ماء‪،‬‬
‫الداخلية التي لم تتوقف عبر قرون‪ ،‬والتي تركت لنا غرثا مغربيا ومغاربيا هائال‪ ،‬جله ما يزال‬ ‫عذب‪ ،‬ومررنا بنساء يغسلن المالبس واألواني‪ ،‬وسرعان ما حضر صبية وحضر رجل ترك عمله‬
‫ينتظر التحقيق والنشر‪.‬‬ ‫وسعى أمامنا كدليل‪ ،‬بمنتهى الحماسة واللطف والكرم‪.‬‬
‫محمد أحمد السويدي الذي فكك الرحلة والذي مشى معي الرحلة عبر غوغل واتصل بي مرارا‬ ‫وجاء فقيه فتح لنا مكتبة الزاوية حيث كتب العياشي ومخطوطاته مكبس تجليد المخطوطات‬
‫على الطريق بين نقطتي االنطالق والعودة في مسار طوله أكثر من ألف كيلومتر وخمسمائة كيلو‬ ‫ومالبسه ونعله وجرة السمن كلها دليل إلى نفس بسيطة متقشفة‪ ،‬كذا هو الصوفي‪...‬على باب‬
‫مترا‪.‬‬ ‫اهلل‪ ،‬ال يتطلب لكنه يفني ذاته في وجود فسيح‪.‬‬
‫هنا في هذه الصفحات ماعادت به عدسة المصور من سجلماسة‪ ،‬وما اختاره محمد أحمد‬ ‫قصدت أن أعود ومعي صور للبيئة التي ظهر فيها العياشي في الطريق من األطلس المتوسط نحو‬
‫السويدي من نصوص حكائية‪ ،‬ومرات طريفة استلها من رحلة ابي سالم العياشي لتكون قطوفا‬ ‫الريصاني‪..‬مررورا بالرشيدية ووصوال إلى مرزوكة على الحدود الجزائرية‪.‬‬
‫أولى من الرحلة ندنيها من ذائقة القارئ‪.‬‬ ‫ولما أزف الوقت كانت طريق العودة عبر جبال األطلس‪ ،‬وواحات أوفوس وغيرها من الواحات‬
‫الخضراء المنخفظة في أرض تشقها األنهار ويكثر فيها النخيل‪ .‬هي نفسها كطريق الرحالة‬

‫‪95‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪94‬‬


‫المدخل الرئيسي لمبنى الزاوية‬ ‫من متعلقات الرحالة‬

‫فتطلع منها تلك الشهب‪ ،‬وال نعلم صنعة ذلك‪ ،‬وهي‬ ‫رحمة اهلل علينا وعليه‪ ،‬ووصلنا إلى البندر عند‬ ‫أم أحد المنتحلين ذلك ممن مضى‪ ،‬فسأله عن‬ ‫واركال‬
‫من الغرائب‪ ،‬والرمي بها وبالمدافع عادة المصري في‬ ‫الظهر‪ ،‬وفيه حصن حصين في قرية على شاطئ‬ ‫ذلك فإذا هو ال يفقه شيئا من ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬أظنه‬
‫كل منزل أقام فيه إذا أراد الرحيل‪.‬‬ ‫البحر في سفح جبل‪ ،‬وبها آبار كثيرة‪ ،‬وفيها نخيل‬ ‫النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬فعلمت أنه إنما وجد‬ ‫وكان دخولنا للمدينة عشية الخميس‪ ،‬وأقمنا بها‬
‫وسوق كبير يحضره أهل غزة وتأتيه األعراب‬ ‫الخطبة مكتوبة في صحيفة عنده فحفظها كما‬ ‫يوم الجمعة واليومين اللذين بعده‪ ،‬ودخلنا للمدينة‬
‫باإلبل والغنم والسمن والعسل والعلف للدواب‪،‬‬ ‫وجدها‪ ،‬إال أنه لم يحرر حفظها ونقلها‪ ،‬ولعلها من‬ ‫لحضور صالة الجمعة‪ ،‬وصلينا بجامع يسمى جامع‬
‫تون�س‬ ‫ووجدنا الفول فيها رخيصًا أرخص مما اكتري عليه‬ ‫خطب بعض من كان في أيام المهدي بن تومرت‬ ‫المالكية‪ ،‬وخطب الخطيب بخطبة أكثر فيها اللحن‬
‫من مصر‪ ،‬وبتنا بها‪ ،‬وبات المصري هناك‪ ،‬وأوقد‬ ‫(مؤسس دولة الموحدين بالمغرب) زاد فيها هذا‬ ‫والخطأ والتحريف‪ ،‬والتقديم والتأخير‪ ،‬مع إدغام‬
‫وقد خرج معنا رجل من أهل الزاوية المذكورة‬ ‫بالليل نيرانًا كثيرة وضرب المدافع ورمى المحارق‬ ‫الدعاء لإلمامين اللذين في عصره‪.‬‬ ‫أكثر حروفها‪ ،‬حتى كأنها همهمة‪ ،‬فكنت أتخوف‬
‫ممن ينتحل الفقه ومعه بعض الحمارنة قدموا‬ ‫في الهواء‪ ،‬ولها منظر عجيب وأسلوب غريب كأ ّنَها‬ ‫أال تصح لنا معه جمعة إن كانت صالته كخطبته‪،‬‬
‫هنالك يمتارون تمرا‪ ،‬وسألهم أمير الركب أن يدلونا‬ ‫شهب النجوم يرمى بها من األرض إلى السماء‪،‬‬ ‫فنجى اهلل‪ ،‬فأحسن في قراءة الفاتحة‪ .‬فما ظننا‬
‫الطريق إلى بالدهم فساروا معنا‪ ،‬فبينما أنا أسير‬ ‫فتراها في الجو طالعة حتى ترى من هام شوامخ‬ ‫الألعاب النارية‬ ‫أن صالتنا معه مجزية‪ ،‬ودعا في خطبته لإلمام‬
‫في اليوم الثاني ضحى إذ هم قد جاؤوا على خيلهم‪،‬‬ ‫الجبال دونها‪ ،‬ثم تنعطف راجعة كأنها ثعبان‪ ،‬ثم‬ ‫المهدي ثم للسلطان األعظم‪ ،‬الخاقان األفخم‪ ،‬محمد‬
‫وبأيديهم صقور‪ ،‬يسألون عني في الركب حتى‬ ‫يُسمع لها صوت وتخرج منها شرارات من النار‪ ،‬فإذا‬ ‫ولما وصلنا إلى البحر َّ‬
‫تأخرنا لدفن بعض األشراف‬ ‫بن إبراهيم بن مراد‪ ،‬ثم لسلطان بلده موالي عالهم‪.‬‬
‫وجدوني‪ ،‬فسلموا علي بعدما نزلوا عن خيلهم‪ .‬فلما‬ ‫انقطعت تلك أتبعها بأخرى‪ ،‬وخروجهن فيما نرى‬ ‫مات بعد النزول من العقبة مطعونًا‪َ ،‬‬
‫وخشي أقاربه‬ ‫فلما فرغ من الصالة بعثت بعض أصحابنا ليسأله‬
‫ركبوا قال لي المتفقه منهم‪ :‬أريد أن تأذن لي في‬ ‫من نار زرقًا كأنها نار الكبريت تشتعل اشتعالًا قويًا‬ ‫من جور الوالة إن أوصلوه إلى البندر‪ ،‬فدفن هناك‬ ‫عن المهدي المدعو له في الخطبة‪ ،‬أهو المنتظر‬

‫‪99‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪98‬‬


‫ممر في الطريق خروجا من الزاوية‬ ‫جرة السمن الخاصة بأبي سالم العياشي ومكبس الورق الخاص به‪ ،‬والفقيه يشرح للزائر‬

‫الغوغاء عن إصابة الصواب لوال أن مسجد رسول‬ ‫في المسجد ويجتمع إليهم صبيان أهل المدينة‬ ‫تركنا جبال مطماطة (موقعها بالقرب من مدينة‬ ‫السؤال عن مسائل فقهية‪ ،‬واستحسنت أدبه في‬
‫اهلل‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ال تكدره الدالء لكانوا‬ ‫يقرؤون لهم موالد وقصائد في مدح النبي‪ ،‬صلى‬ ‫قابس‪ ،‬ماؤها شروب‪ ،‬وبها نخل كثير) عن يميننا‪.‬‬ ‫االستئذان في السؤال‪ ،‬واستقبحت فعله في سؤاله‬
‫جديرين بالمقت بسبب ما يحصل منهم من سوء‬ ‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهم محدقون بهم‪ ،‬ويسمون ذلك‬ ‫إياي وهو راكب وأنا ماش‪ .‬فأذنت له في السؤال‬
‫األدب وسيئ األقذار في الحرم الشريف‪.‬‬ ‫مولد النبي‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يستعدون له‬ ‫حيا ًء من رده‪ ،‬فأخذ يسأل عن مسائل من العبادات‪،‬‬
‫وألهل المدينة عند قدومهم عادة مذمومة‪ ،‬وهي‬ ‫من بالدهم بالشمع والحلواء‪ ،‬ويدفعون للصبيان‬ ‫امل�صريني‬
‫ّ‬ ‫لغط‬ ‫فبينما أنا آخذ معه في ذلك إذ نفج الركب أرنبا‬
‫أنه ال تبقى مخدرة من النساء شريفة كانت أو‬ ‫أجرة على ذلك‪ ،‬ويقع على أرض الحرم من‬ ‫فتصايح الحجاج عليها يمينا وشماال‪ ،‬فلما رأى ذلك‬
‫وضيعة إال خرجت تباشر البيع والشراء بنفسها‪،‬‬ ‫الشمع المذاب شيء كثير ألجل ذلك‪ ،‬فيلتقطونه‬ ‫ولما كان يوم الثالثاء سابع الشهر ارتحل الركب‬ ‫أرسل عليها الصقر‪ ،‬وأخذ يركض في إثرها‪ ،‬وذهب‬
‫ولهن على الرجال في ذلك الوقت إتاوة يؤدونها‬ ‫ويجمعونه ويرجعون به إلى بالدهم تَ َب ُّر َكًا به‪،‬‬ ‫المصري من المدينة بعد إقامة ثالثة أيام بها‪ ،‬وكان‬ ‫وتركني ولم يسمع تمام الجواب عن مسائله‪.‬‬
‫لهن يبتعن بها ما أحببن من الالئق بهن‪ ،‬من طيب‬ ‫فتجد منهم في المسجد بالليل جماعات كثيرة‬ ‫الحرم الشريف في أيام إقامتهم ال تكاد تسمع فيه‬ ‫فتعجبت من استئذانه في السؤال وذهابه من‬
‫أو شبهه‪ ،‬وربما ال تقنع إحداهن من زوجها إال‬ ‫على هذا النمط‪ ،‬فيكثر لذلك الصياح في المسجد‬ ‫صوت قارئ وال مؤذن لكثرة اللغط والصخب ورفع‬ ‫غير استئذان قبل إتمام الجواب‪ ،‬فعلمت أن الرجل‬
‫بالخمسين دينارًا فما فوقها‪ ،‬فقد حُ كي أن امرأة‬ ‫واللغط الذي ال ينبغي‪ ،‬ال سيما مع ما ينضاف إلى‬ ‫األصوات وازدحام الناس في المسجد‪ ،‬ال ينقطع‬ ‫في الغالب أخرق وأن استئذانه أوال لم يكن عن‬
‫بعض المدرسين بها أعرفه طلبت منه في ذلك‬ ‫ذلك من والول النساء وبكاء األطفال واختالط‬ ‫ألن أبواب الحرم الشريف ال‬ ‫ذلك ليلًا وال نهارًا‪َّ ،‬‬ ‫أدب‪ ،‬وإنما هو شيء رآه من غيره أو سمع به فعلق‬
‫اليوم ما تخرج به إلى السوق على العادة‪ ،‬فدفع لها‬ ‫النساء بالرجال‪ .‬وبالجملة فعوام المصريين من أبعد‬ ‫ْ‬
‫تغلق ماداموا هناك‪ ،‬ويُكثِرون بالليل إيقاد الشموع‬ ‫بذهنه‪ .‬وفي اليوم الثلث من رحيلنا من نفزاوة‬

‫‪101‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪100‬‬


‫بعض المخطوطات الخاصة بالعياشي‬

‫تواريه الكسوة وال يُواريه إال تركه رأسًا أو الخلوة؛‬ ‫عشرة دنانير ذهبًا‪ ،‬فاستقلتها وذهبت من شدة‬
‫ككالم المرأة‪ ،‬فالصحيح أنه عورة‪ ،‬وكذلك عطرها‪،‬‬ ‫الغيظ فرمت بها في المرحاض وأتلفتها عليه وقالت‬
‫فال يواريه إال تركه‪ ،‬ولذلك جاز لها الطيب المؤنث‪،‬‬ ‫له‪ :‬أمثلي يخرج إلى السوق بهذا المقدار‪ ،‬فلم يملك‬
‫وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه‪ ،‬ألن اللون تستره‬ ‫من أمره إلى أن ذهب وتسلف خمسين دينارًا‬
‫الثياب‪ ،‬بخالف الريح فال يستره إال الترك رأسًا‪ ،‬أو‬ ‫فدفعها لها‪ ،‬وهذه حسرة عظيمة وذل للرجال الذين‬
‫عدم الخروج‪ ،‬فليتأمل‪.‬‬ ‫جعلهم اهلل قوامين على النساء‪ ،‬فال ينبغي لذي همة‬
‫النعل الذي كان يرتديه الرحالة‬
‫أن يرضى بذلك‪ ،‬بيد أن نساءهم يبالغون في الستر‬
‫الظاهر بحيث ال يبدو من المرأة وال مغرز إبرة‪،‬‬
‫فال يأت به حتى يقارب الحلم‪ ،‬ولباس الملك وأوالده‬ ‫من األزهار‪ ،‬فربما بلغ ذلك ريالًا في كل يوم‪ ،‬ولقد‬
‫�أعجوبة‬ ‫حتى من أطرافها‪ ،‬يلبسن الخفاف السود‪ ،‬ويتبرقعن‬
‫ويسدلن من أزورهن ما يكون نهاية في الستر‪ ،‬إال‬
‫وبني عمه‪ ،‬وإن كان في غاية الرفعة واللطافة‬ ‫سألت شيخنا الثعالبي عن سبب إيثاره سكنى‬
‫حكى لي بعض المجاورين أنه وُ جِ د في بعض‬ ‫أنهن يكثرن من الطيب عند الخروج فيوجد عرف‬
‫فإنه على زي لباس العرب في تعممهم وتقمصهم‪،‬‬ ‫مكة على المدينة‪ ،‬مع أنا نقول بفضل المدينة‬
‫على مكة‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬ ‫المواسم رجل مع امرأة في الحرم الشريف‪ُ ،‬‬
‫فحمِال‬ ‫الطيب منهن من مسافة فيكون ما سترنه ظاهرًا‬
‫فيلبسون العمائم القصار ذوات األهداب الطويلة‬ ‫إن أهل هذه المدينة قد تحضروا‬
‫إلى الحاكم‪ ،‬فشهدت البينة أنها زوجته‪ ،‬وقيل‬ ‫أبدينه باطنًا‪ ،‬وبهذا فسر بعض العلماء قوله‪ ،‬صلى‬
‫ويرسلون لها العذبة إلى قريب من ذراع‪ ،‬ويلبسون‬ ‫وغلب عليهم طبع األعاجم ورفاهيتهم وإسرافهم‪،‬‬
‫له‪ :‬ما حملك على ما فعلت؟ فقال‪ :‬إنه ال ولد لنا‪،‬‬ ‫اهلل عليه وسلم‪ :‬رب كاسية في الدنيا عارية في‬
‫الدشوت الرفيعة إال أنها على هيئة دشوت األعراب‪،‬‬ ‫وتشبهوا بهم في ملبسهم وفي غالب أحوالهم‪ ،‬وأنا‬
‫فرجوت أن تحمل المرأة ببركة هذا الحرم‪ ،‬فعذر‬ ‫اآلخرة‪ ،‬ألن الحكم في اآلخرة إنما هو للحقائق‪ ،‬ومن‬
‫وال يلبسون الجوخ التي تلبسها العجم وال األقبية‬ ‫امرؤ مسكين فقير أخاف أن ينشأ أوالدي وأزواجي‬
‫بجهله‪ ،‬ولم ُي َعاقب‪.‬‬ ‫هذه صفته من النساء‪ ،‬وإن اكتست في الظاهر فهي‬
‫التي هي على زيهم‪ ،‬ويلبسون النعال ذات السيور‬ ‫ويتطبعوا بطبعهم في ذلك‪ ،‬بخالف أهل مكة فإنهم‬
‫في الحقيقة عارية‪َّ ،‬‬
‫ألن حقيقة التعري إبداء ما‬
‫التي على ظهر القدم دون السرموجة (السرموجة‪:‬‬ ‫لم يزالوا على أعرابيتهم واستعمال البداوة وعدم‬
‫حقه أن يخفى‪ ،‬كما أن التستر إخفاء ما ال ينبغي‬
‫نوع من األحذية) التي تلبسها األعاجم‪ .‬وعلى‬
‫كل حال فأهل مكة قد غلبت البداوة على جميع‬
‫المباالة واالعتناء في الملبس والمأكل‪ ،‬قد غلبت‬
‫عليهم البداوة‪ ،‬وكثرة مخالطتهم ألهل البادية‬
‫البداوة‬ ‫أن يظهر‪ ،‬وال خفاء أن عطر المرأة من أعظم زينتها‬
‫وألذ ما يُشتهى منها‪ ،‬وقد أُمرت بإخفاء ما هذا‬
‫شؤونهم وظهرت فيهم دون أهل المدينة‪ ،‬ولذلك قل‬ ‫وسكناهم بها حتى أمراؤها من األشراف‪ ،‬فإن غالب‬
‫ولقد أُخبرت أن للنساء عليهم عادة يسمونها‬ ‫سبيله من أوصافها‪ ،‬فإذا ظهر منها ذلك فهي في‬
‫سكنى األعاجم بها‪ ،‬إال القليل‪ ،‬ألنها وطن السلطان‬ ‫سكناهم بالبادية‪ ،‬وإن كانت لهم منازل بمكة‪ ،‬ومن‬
‫الشخشخة‪ ،‬وهو ما تشتري به المرأة ما تشتهيه‬ ‫فإن من العورات ما ال‬ ‫الحقيقة عارية وإن اكتست‪َّ ،‬‬
‫وأوالده وأقاربه‪ ،‬ونفوسهم ال تنقاد للذل وجريان‬ ‫ولد له مولود منهم استرضع له من العرب بالبادية‪،‬‬

‫‪103‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪102‬‬


‫الخط المغربي وزخارف المخطوط‬ ‫مخطوطة جميلة الخط‬

‫البطالين والترتيب في ذلك بالتقدم‪ ،‬فمن تقدم‬ ‫وال يجلسون مع األكابر في الدكة‪ ،‬إنما يجلسون‬ ‫المسجد والحجرة الشريفة‪ ،‬واآلغا بلغتهم كناية‬ ‫األحكام عليها في كل ورد وصدر‪ ،‬فيشمئزون من‬
‫مجيئه يقدم على من تأخر مجيئه‪ ،‬وليس فيهم‬ ‫خارجها‪ ،‬ولهم ضبط وسياسة كسياسة الملوك‪،‬‬ ‫الخصي دون‬
‫ّ‬ ‫الخصي من العبيد‪ ،‬واختاروا وقف‬
‫ّ‬ ‫عن‬ ‫سكنى مكة ويميلون إلى المدينة لكون عسكر‬
‫شافعي وال حنبلي‪ ،‬بل كلهم حنفية ومالكية على‬ ‫فلكل واحد منهم رتبة معلومة وشغل معلوم‪ .‬فإذا‬ ‫غيره لكونه أطهر وأنزه وأكثر فراغًا من االشتغال‪،‬‬ ‫الترك بها وهم جنسهم وأحكام السلطان‪ ،‬وإن كانت‬
‫مذهب ساداتهم الذين أوقفوهم‪ ،‬وذلك ألن الشافعية‬ ‫مر باألصاغر أحد األكابر قاموا كلهم‪ ،‬وكذلك األكابر‬
‫َّ‬ ‫إذ ال أهل له وال ولد يشتغل بهم‪ ،‬وهو أبعد من دنس‬ ‫نافذة هناك أيضًا‪ ،‬لكنها بعيدة منهم فليست كمحل‬
‫والحنابلة ال يرون صحة وقف الحيوان‪.‬‬ ‫فيما بينهم‪ ،‬فأكبرهم شيخ الحرم وهو يتجدد في‬ ‫الجنابة ومباشرة النساء‪ ،‬وهم عدد كثير قريب‬ ‫وطنه‪ .‬أخبرني بهذا من سبر حال البلدين وعلمه‬
‫ومن أوقف عبدًا من األغوات على الحجرة نسب‬ ‫الغالب إما في سنة أو سنتين أو أكثر‪ ،‬وال يأتي‬ ‫من الثمانين‪ ،‬يزيدون وينقصون بحسب كثرة‬ ‫زيادة على ما رأيته أنا من ذلك‪.‬‬
‫إليه‪ ،‬سواء كان من التجار أو من األمراء أو العلماء‪،‬‬ ‫إال من دار السلطان من عبيده‪ ،‬ويليه النقيب‪،‬‬ ‫الراغبين في الوقف ّ‬
‫وقلتهم‪ ،‬واألربعون منهم هم‬
‫فيقال‪ :‬آغا فالن‪ ،‬وقد كان كبيرهم المستسلم أيام‬ ‫ويليه المستشار‪ ،‬وهو الذي يتولى قبض الصدقات‬ ‫الكبار الذين يأتي رزقهم ومؤونتهم من بيت المال‪،‬‬
‫مجاورتنا األغا يحيى‪ ،‬وهو من أوقاف الشيخ الصالح‬ ‫وما يهدى لهم أو للحجرة‪ ،‬وبيده مفاتيح الحجرة‬ ‫وما زاد على ذلك إنما يرزقون من األوقاف التي لهم‬ ‫الأغوات‬
‫الحاج األبر سيدي أبي حفص بن الشيخ عبد القادر‬ ‫وحواصل الزيت والشمع‪ ،‬والحاصل أن جميع‬ ‫بالمدينة‪ ،‬أو مما يأتيهم من الهدايا والصدقات من‬
‫بن بوسماحة المغربي من ناحية فِجيج‪ ،‬وتوفي‬ ‫ما يتصرف فيه األغوات ومصالح المسجد ومن‬ ‫أقطار األرض‪ ،‬ويسمى ما سوى األربعين البطالين‪،‬‬ ‫ولقد أجاد شيخ الحرم في وضع هذا الحاجز وفي‬
‫األغا يحيى بعد خروجنا من المدينة ونحن ّ‬
‫بمكة‪،‬‬ ‫أوقافهم كل ذلك بيده‪ ،‬فإذا مات أحد من األربعين‬ ‫ألنهم إنما يستعملون في األشغال التي هي خارج‬ ‫تنقية البالليع التي في صحن المسجد‪ ،‬وشيخ الحرم‬
‫وتولّى مكانه اآلغا مصطفى وهو مالكي أيضًا‪.‬‬ ‫دخل أحد البطالين في موضعه‪ ،‬وهو من كان شيخ‬ ‫الحجرة والمسجد النبوي من األعمال الممتهنة‪،‬‬ ‫وهو كبير العبيد األغوات الموقوفين على خدمة‬

‫‪105‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪104‬‬


‫قبر العياشي ابي سالم‪ :‬تنقصه العناية‬

‫رافعين أصواتهم بها‪ ،‬فينتقلون إلى الصف الذي‬ ‫وكالهما كان يبالغ في تعظيمنا واإلحسان إلينا‪،‬‬
‫يليه‪ ،‬ثم كذلك حتى ال يبقى في المسجد أحد إال‬ ‫فجزاهما اهلل خيرا‪ ،‬وكل األغوات أهل خير وبركة‬
‫هم‪ ،‬فيغلقون األبواب ويطفئون المصابيح كلها إال‬ ‫وشرفهم‬
‫ّ‬ ‫قد اختارهم اهلل لخدمة أشرف البقاع‬
‫جماعة من أحفاده‬ ‫التي في مواجهة الوجه الشريف والتي في داخل‬ ‫بالنسبة إلى أشرف الخلق‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫الحجرة‪ ،‬فيخرجون من المسجد إلى الصحن‬ ‫ولقد شاهدت منهم أناسا على قدم صدق في العبادة‬
‫وإلى األروقة التي بجانبه‪ ،‬فيخرجون فرشهم من‬ ‫منهم األغا عبد النبي‪ ،‬وهو شيخ البطالين إذ ذاك‪،‬‬
‫الحواصل‪ ،‬وينامون هناك‪ ،‬وال ينام أحد منهم في‬ ‫واألغا عنبر منهم أيضًا‪ ،‬ولقد اعتكفت ليلة في‬
‫الليل أن أصل إلى المواجهة وأقف للتسليم والدعاء‬ ‫من هيبة المكان‪ .‬ولقد أخبروني أنه ال يقدر أحد‬ ‫المسجد‪ ،‬بل وال يأتيه إال من قصد منهم الصالة‪،‬‬ ‫المسجد فلم يبت فيه أحد غير سوى األغوات‪،‬‬
‫فما أصل إلى ذلك حتى تكاد أوصالي تتقطع هيبة‪،‬‬ ‫منهم بليل أن يصل إلى الروضة وأطراف الحجرة‬ ‫وغالب نوم الصغار منهم في مؤخر المسجد‪.‬‬ ‫فاجتهدت أن أساويه في القيام والصالة فما قدرت‪،‬‬
‫فإذا وصلت وسلمت وأردت إطالة الوقوف للدعاء‬ ‫والمواجهة إال األفراد منهم‪ ،‬وأنهم يسمعون بالليل‬ ‫ومن وراء المسجد‪ ،‬في الناحية الشامية‪ ،‬ميضأة‬ ‫والفضل بيد اهلل‪.‬‬
‫كما كنت أفعل نهارًا فال أقدر‪ ،‬فأخفف السالم‬ ‫قعقعة السقوف وفرقعة الشبابيك‪ ،‬حتى يظن أن‬ ‫كبيرة فيها بئر كبيرة وأخلية‪ ،‬وفتح لها باب إلى‬ ‫واألغوات كلهم يبيتون في المسجد ما عدا شيخ‬
‫والدعاء وأرجع‪ ،‬ولقد سمعت بعض ما ذكر من‬ ‫أحد أبواب الحجرة فتح‪ ،‬وأن بعض السقوف وقع‪ ،‬فال‬ ‫مؤخر المسجد وال تفتح إال ليال بعد غلق األبواب‪،‬‬ ‫الحرم والنقيب‪ ،‬وأما اآلخرون فال يبيت واحد منهم‬
‫فرقعة السقف وما أشبه ذلك فملئت منه رعبا إال‬ ‫يجدون شيئًا من ذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬لتنزل مالئكة‬ ‫وتسرج فيها المصابيح لوضوء األغوات وإزالة‬ ‫بداره إال لعذر بيّن من مرض أو نحوه‪ ،‬ولكنهم‪،‬‬
‫أني كنت أشتغل عنه وأتلهى عن سماعه بقراءة‬ ‫ّ‬
‫وسلم‪ ،‬أو قدوم‬ ‫الرحمة على قبره‪ّ ،‬‬
‫صلى اهلل عليه‬ ‫حقنة من احتاج إلى ذلك بليل‪ ،‬فإذا غلقت األبواب‬ ‫جزاهم اهلل خيرًا عن تعظيم المكان وتوقيره‬
‫القرآن سرا‪ ،‬فيا لها من ليلة هي نتيجة عمري‬ ‫بعض رجال الغيب للزيارة‪ ،‬ويظهر ذلك بالليل لهدوء‬ ‫هدأت األصوات منهم وخشعوا‪ ،‬فال تكاد تسمع من‬ ‫وتبجيله‪ ،‬وعادتهم كل ليلة‪ ،‬إذا فرغ الناس من‬
‫وفريدة أيامي‪ ،‬فلئن كانت ليلة القدر كألف شهر‬ ‫األصوات به وخلو المكان‪ ،‬وإن كان تنزل المالئكة‬ ‫أحد منهم كلمة‪ ،‬فمن احتاج منهم إلى أحد كلمه‬ ‫صالة العشاء ورواتبها‪ ،‬قاموا بيدهم الفوانيس الكبار‬
‫فهذه الليلة عندي كألف ليلة القدر‪ ،‬اللهم ال أحصي‬ ‫على قبره‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وغشيان الرحمة‬ ‫السرار‪ .‬ولقد رأيتهم يبالغون في خفض‬‫اآلخر ِّ‬ ‫مشعلة‪ ،‬ليخرجوا الناس من المسجد‪ ،‬فيأتون إلى‬
‫ثناء عليك‪ ،‬أنت كما أثنيت على نفسك‪ ،‬فلك الحمد‬ ‫له ال ينقطع ليلًا وال نهارًا‪ ،‬ولقد شاهدت من الهيبة‬ ‫أصواتهم بالليل‪ ،‬حتى بالسعال والعطاس‪ ،‬وتنزل‬ ‫المواجهة والصف األول فيقف بعضهم أول الصف‬
‫على جزيل عطائك ولك الشكر على سوابغ آالئك‪.‬‬ ‫والعظمة في إحدى الليالي التي بتها في المسجد‬ ‫عليهم السكينة‪ ،‬وتلحقهم هيبة المكان‪ ،‬وليس‬ ‫ووسطه وآخره‪ ،‬فيخرجون كل من فيه‪ ،‬فإذا‬
‫فإذا كان بعد الثلث اآلخر من الليل جاء رئيس‬ ‫ما أعجز عن وصفه‪ ،‬ولقد كنت أجهد إذا عسعس‬ ‫ذلك منهم مجرد استعمال‪ ،‬بل لما يخالط قلوبهم‬ ‫يبق أحد في ذلك الصف‪ ،‬تكلموا بكلمة ذكر‬ ‫لم َ‬

‫‪107‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪106‬‬


‫أحصنة األلعاب النارية وفرسانها يرتدون ازياء تقليدية‬

‫العدو‪ ،‬سوء أدب ال يخفى وربما يحتج لذلك محتج‬ ‫المؤذنين‪ ،‬ففتحوا له وصعد إلى المئذنة الرايسية‪،‬‬
‫بقوله عليه السالم‪ :‬لو يعلم الناس ما في الصف‬ ‫وأذن وشرع في الدعاء والذكر والصالة على النبي‪،‬‬
‫األول الستبقوا إليه‪ ،‬فال بد بتقييد ذلك بما ال يخل‬ ‫وسلم‪ ،‬فيقوم كل من في المسجد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫صلى اهلل عليه‬
‫بأدب البقعة المطهرة وساكنها لقوله عليه السالم‪:‬‬ ‫من األغوات فيتوضؤون‪ ،‬ثم يصبحون كل ما في‬
‫وآتوها تمشون‪ ،‬يعني الصالة‪ ،‬وعليكم السكينة‬ ‫المسجد من المصابيح‪ ،‬فإذا فرغوا من اإلصباح‪،‬‬
‫حصان مغربي اصيل‬ ‫والوقار‪ ،‬فما أدركتم فصلوا‪ ،‬وما فاتكم فأتموا‪،‬‬ ‫وقرب الصباح‪ ،‬فتحوا أبواب الحرم‪ ،‬وال يأتي وقت‬
‫والمراد بالمسابقة في الحديث المتقدم االهتمام‬ ‫فتحها حتى تجتمع بأبواب المسجد جماعات‬
‫بشأنه والحرص على الصالة فيه والتبكير إليه من‬ ‫كثيرة من المجتهدين‪ ،‬ينتظرون الفتح‪ ،‬فإذا فتحت‬
‫من أرادوا إدخاله بمال يدفعه عنه سيده عنه‪ ،‬أو‬ ‫وأحكامهم فيما بينهم منضبطة غاية االنضباط‪ ،‬وال‬ ‫غير عدو باألقدام ومزاحمة بالمناكب‪.‬‬ ‫األبواب دخلوا مزدحمين‪ ،‬وتسابقوا الصف األول‬
‫يدفعه هو إن كان له مال‪ ،‬ومع ذلك يبقى في مرتبة‬ ‫يحكم فيهم سلطان وال غيره‪ ،‬وال يولّى عليهم وال‬ ‫وساداتنا األغوات‪ ،‬رضي اهلل عنهم‪ ،‬ال يغفلون طرفة‬ ‫من الروضة فيما بين القبر والمنبر‪ ،‬فمن سبق إلى‬
‫الصغار المشتغلين بالخدمة الخارجية‪ ،‬فإن رضوا‬ ‫يعزل منهم‪ ،‬إال بأمر شيخهم‪ .‬وال يرث معهم بيت‬ ‫عين عن حراسة الحرم الشريف وتأديب من أساء‬ ‫موضع كان أحق به‪ ،‬فإذا أراد القيام لحاجة كزيارة‬
‫حاله وحسنت أخالقه تركوه حتى تأتي نوبته في‬ ‫المال إن مات أحدهم‪ ،‬إنما يتوارثون بينهم‪ .‬ومن‬ ‫األدب فيه بلغط ورفع صوت أو نوم‪ ،‬ولو في قائلة‪،‬‬ ‫أو تجديد وضوء بسط نمرة له في محله‪ ،‬فال‬
‫الدخول في زمرة األربعين‪ ،‬وإن ظهرت منه خيانة‬ ‫وجبت عليه عقوبة أو أدب منهم أدبوه‪ ،‬من غير‬ ‫إال في مؤخر المسجد‪ ،‬ومن وجدوه مضطجعًا من‬ ‫يجلس فيه أحد ولو أبطأ‪ ،‬وكثيرًا ما يعتدي في ذلك‬
‫وسوء أخالق وسرقة أو شيء يشينه‪ ،‬نفوه إلى‬ ‫أن تكون ألحد عليهم والية‪ ،‬كل ذلك تعظيمًا لجانب‬ ‫مد رجليه إلى ناحية‬ ‫دون نوم لالستراحة‪ ،‬فإن ّ‬ ‫أقوام فيدخلون مع أول داخل من غير طهارة لقصد‬
‫حيث شاء من البالد‪.‬‬ ‫وسلم‪ ،‬أن تكون ألحد والية‬ ‫ّ‬ ‫النبي‪ّ ،‬‬
‫صلى اهلل عليه‬ ‫الحجرة زجروه‪ ،‬وإن استقبل القبلة بوجهه أو‬ ‫السبق إلى الموضع وتحجيره‪ ،‬فإذا بسط فيه فروته‬
‫ولقد وجدت هناك خصيا لبعض ملوك المغرب‬ ‫على عبيده‪ .‬ولقد أنكرت منهم تأديب من لزمه‬ ‫الحجرة من غير أن يكون مستدبرًا لها تركوه‪ ،‬وال‬ ‫أو منديله ذهب إذ ذاك إلى الطهارة وأسبابها‪ ،‬وكثير‬
‫دفع لهم مالًا جزيال ليدخل في زمرتهم وكان كهال‬ ‫األدب من صغارهم في المسجد في بيت بإزاء دكتهم‬ ‫يغفلون عن حضور المسجد في ساعة من ليل أو‬ ‫منهم يبطئ في الطهارة فيحجر على الناس المحل‪،‬‬
‫ال يحسن خدمة الصغار‪ ،‬فدفع لهم مالًا آخر على‬ ‫قريبًا من الحجرة فيسمع صياحه وصوت الضرب‬ ‫نهار‪ ،‬فإن خرجت طائفة جلست طائفة‪.‬‬ ‫وربما عرض ألحدهم حاجة في منزله أو في‬
‫تحريره من الخدمة‪ ،‬وقنع بأن يكون محسوبا في‬ ‫كل من بإزاء الحجرة‪ ،‬فكنت أرى أن لو جعلوا لذلك‬ ‫ولهم ديار وخدم وأتباع‪ ،‬وضياع وخيل‪ ،‬وسعة‬ ‫السوق فيترك النمرة في محله فال يقربه أحد وإن‬
‫زمرتهم يناله من أوقافهم وصدقاتهم‪ ،‬ولقد أصاب‬ ‫محلًا بعيدًا من المسجد والحجرة الشريفة‪ ،‬وال‬ ‫دنيا‪ ،‬وال يشغلهم ذلك َع َّما هم بصدده من خدمة‬ ‫أبطأ كثيرا‪ ،‬وفي ذلك من الضرر على المصلين ما‬
‫في ذلك وأحسن النظر لنفسه إذ أنقذه اهلل من‬ ‫يدخل معهم من العبيد الذين يهدون من اآلفاق إال‬ ‫المسجد‪ ،‬بل لبعضهم أزواج وسراري‪ ،‬اتخذوها‬ ‫ال يخفى‪ ،‬على أن في دخولهم مزدحمين واستباقهم‬
‫للتلذذ بما سوى الجماع‪.‬‬ ‫إلى الروضة ربما سمع ألقدامهم دوي من شدة‬

‫‪109‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪108‬‬


‫الطفولة طرافة الوجود‬ ‫في جوار الزاوية‪ :‬وقائع حياة‬

‫اجتماع ذلك منه خارجا عن محل البول ال يمر به‬ ‫الزباد‬ ‫عم السلطان زيد وزوج ابنته السيدة تقية النائب‬ ‫خدمة سالطين الدنيا إلى خدمة سلطان الدنيا‬
‫أصال‪ ،‬وإنما هو جليدة رقيقة عن يمين المحل أو‬ ‫عنه في النظر في مصالح البلد كذلك‪ ،‬واألمير الذي‬ ‫واآلخرة‪ ،‬ومن جوار الظلمة العجزة إلى جوار‬
‫يساره يجتمع فيها ذلك العرق وتشتد عليه وتنطوي‬ ‫أخبرني أن سيدي علي الخضيري ذكر في شرحه‬ ‫تنسب إليه إمرة المدينة من الشرفاء الحسينيين‬ ‫الكرام البررة‪.‬‬
‫حتى يؤخذ منها‪ .‬قال‪ :‬فحينئذ اطمأنت نفوسنا‬ ‫كذلك‪ ،‬والحاكم الذي يسجن ويضرب ويقتل‬ ‫ّ‬
‫وسلم‪،‬‬ ‫وبالجملة فلعبيد النبي‪ّ ،‬‬
‫صلى اهلل عليه‬
‫على المختصر (يقصد مختصر خليل) أن الزباد‬
‫وأيقنا بطهارته (وردت الحكاية في كتاب‪ :‬صفوة‬ ‫(مثل السنور الصغير يجلب من نواحي الهند)‬ ‫ويؤدب‪ ،‬وهو من خدام السلطان كذلك‪ .‬وال أعلم هل‬ ‫وخدام مسجده جاللة قدر‪ ،‬وعظم منصب‪ ،‬وسعة‬ ‫ّ‬
‫من انتشر)‪.‬‬ ‫المسمى في عرف غربنا بالغالية (نوع من الطيب) ‪،‬‬ ‫لكل واحد من هؤالء والية على قوم بالخصوص أو‬ ‫ّ‬
‫أرزاق‪ ،‬وكرم أخالق‪ ،‬وهم أحقاء بذلك‪ .‬ولكبيرهم‬
‫نجس وأن كان عرق حي لمروره بمحل البول‪ .‬قال‪:‬‬ ‫على عمل من األعمال‪ ،‬ولم يشف لي أحد غرض‬ ‫كلمة نافذة في المدينة‪ ،‬تنفذ أحكامه‪ ،‬وتمضي‬
‫وكان بعض الصالحين ال يتطيب به لذلك‪ ،‬وأظنه‬ ‫إال مجرد العلم باإلحاطة بأخبار المدينة دينيّها‬ ‫تصرفاته‪ ،‬في القويّ والضعيف ويطأ عقبه الكبراء‬
‫هذه الصفحات اختيرت واقتطفت من كتاب‬ ‫ودنيويّها لحبي لها ولساكنيها أسأل غرضًا في‬ ‫واألشراف‪.‬‬
‫شيخنا اللقاني‪ .‬قال شيخنا‪ :‬وكنت أتوهم ذلك إلى‬
‫«الرحلة العياشية» حتقيق د‪ .‬سعيد الفاضلي‬ ‫كيفية ذلك‪ ،‬ولم أبالغ في الفحص عنه‪ ،‬إذ لم يتعلق‬ ‫أدر كيفية تصرف‬ ‫لم‬ ‫بالمدينة‬ ‫إقامتي‬ ‫طول‬ ‫وعلى‬
‫أن بعثت بحضرة الشيخ سيدي عبد الحفيظ إلى قط‬ ‫ِ‬
‫ود‪ .‬سليمان القرشي‪ ،‬حائزة على «جائزة ابن‬ ‫لي به اهلل أن يحقق لي ذلك ويجعل قبري بها على‬ ‫الوالة فيها‪ ،‬وال من له التصرف التام بها‪ ،‬فإن شيخ‬
‫من القطوط التي يستخرج منها الزباد‪ ،‬وكان عند‬
‫بطوطة لألدب اجلغرافي» ‪ ، 2005‬منشورات‬ ‫أحسن حال تسر المؤمن في دينه ودنياه آمين‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الخدام كما تقدم تنفذ أحكامه‪،‬‬ ‫الحرم وهو كبير‬
‫بعض األتراك‪ ،‬فلما أحضر أمرنا متولي استخراج‬
‫دار السويدي ‪.2006‬‬
‫الزباد منه بإخراجه بحضرتنا ففعل‪ .‬فشاهدنا محل‬ ‫وكبير العسكر الساكنين بالقلعة أمير أيضًا‪ ،‬وابن‬

‫‪111‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪110‬‬


‫ابن خلدون يف �ضيافة تيمور لنك عند �أبواب دم�شق �سنة ‪ 803‬هـ‬
‫هنا يبرز دور ابن خلدون الذي طلب من القضاة‬
‫الذين اجتمعوا في مدرسة العادلية‪ ،‬وشكلوا‪-‬‬
‫بحضوره ‪ -‬وفدًا للقاء تيمور‪ ،‬وبحث صيغة‬ ‫وال�سفاح‬
‫َّ‬ ‫العال‬
‫مِ‬ ‫اللقاء العجيب بني‬
‫االستسالم أن يساعدوه على الخروج معهم‪ .‬وبالفعل‬
‫فإن ابن خلدون سيتدلى من السور ويخرج من‬
‫المدينة المحاصرة بعد عودة الوفد من اللقاء األول‬
‫له مع تيمور‪ .‬رأس الوفد القاضي برهان الدين‬
‫بن ابرهيم بن محمد بن مفلح‪ ،‬وكان يجيد إلى‬
‫جانب اللغة العربية‪ ،‬اللغتين التركية والفارسية‪.‬‬
‫يذكر ابن خلدون أنه خالل اللقاء الذي دار بين‬
‫القضاة الدمشقيين وتيمور‪ ،‬سأل األخير عن ابن‬
‫فر مع الوفد المسافر‬‫خلدون باالسم‪ ،‬وما إذا كان ّ‬
‫رسم يمثل ابن خلدون‬ ‫إلى القاهرة لطلب النجدة؟ فقيل له ال‪ ،‬وهو موجود‬
‫في المدرسة العادلية حيث يقيم‪ .‬ويذكر المؤرخ‬
‫بينه وبين تيمور من سؤال وجواب وحوار حول‬ ‫المغربي أن تيمور أحسن لقاء الوفد وكتب له‬
‫مسائل مختلفة‪ .‬وال يذكر ابن خلدون شيئًا عن‬ ‫الرقاع باألمان‪ ،‬ورد أعضاءه إلى المدينة بوعود‬
‫وساطته بين قضاة المدينة والسفاح‪ ،‬إال ما كان من‬ ‫وآمال عراض‪ ،‬إذا ما أمكنهم إقناع المدافعين بالكف‬
‫طلبه العون لبعض األصدقاء والمعارف في المدينة‬ ‫عن األعمال الحربية وفتح األبواب لجيشه‪.‬‬
‫أن يلحقهم تيمور في خدمته‪.‬‬ ‫في تلك الليلة بات ابن خلدون على أهبة الخروج‬
‫للقاء تيمورلنك‪ ،‬ولما علم المدافعون عن المدينة‬
‫مستويات النص‬ ‫بأخبار الوفد‪ ،‬والمفاوضات دارت سجاالت واسعة‬
‫يمكن قراءة هذا النص في مستويات مختلفة‪ .‬في‬ ‫بين فريقي الداعين إلى الصمود والقتال حتى‬
‫جانب منه تتجلى لغة ابن خلدون الموضوعية‬ ‫النصر أو الشهادة‪ ،‬وبين القائلين باالستسالم‪،‬‬
‫الخالية من أي مبالغة‪ ،‬والبعيدة عن الحماسة؛ لغة‬ ‫ووقعت شجارات يذكر ابن خلدون أحدها بقوله‪:‬‬
‫تقرير ورصد وإخبار‪ .‬وعلى رغم أنه أقرب إلى‬ ‫"فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد‬
‫سرديات أدب الرحلة منه إلى الدرس والتحليل‬ ‫الجامع‪ ،‬وأنكر البعض ما وقع من االستنامة إلى‬
‫العلمي الذي طالما كان األركز واألكثر أساسية‬ ‫القول (أي االطمئنان إلى وعود التتار)"‪ .‬وهنا يعبر‬ ‫�شد ابن خلدون رحاله متوجه ًا من املغرب نحو امل�رشق‪ .‬وقد وردت �أخبار هذه‬ ‫يف �سنة ‪ 803‬هجرية ّ‬
‫في آثار ابن خلدون كعالم اجتماع ومؤرخ‪ ،‬فإن ما‬ ‫ابن خلدون عن خشيته على نفسه من أذى‬ ‫الرحلة ووقائعها يف ذيل كتابه "العرب" حتت عنوان "التعريف بابن خلدون ورحلته �رشق ًا وغرب ًا"‪ .‬ويت�ضمن‬
‫يسرده ابن خلدون ويدونه عن هذا اللقاء يترك‬ ‫الرافضين االستسالم‪ .‬وعلى األرجح أن المؤرخ‬
‫ُ‬
‫المجال واسعًا أمام التكهن والتحليل‪ ،‬والقراءة‬ ‫المغربي لم ينم تلك الليلة‪ ،‬وفي الفجر سيكون‬ ‫هذا الق�سم الأخري من الكتاب ما يعرب كتاب ًا م�ستق ًال‪ ،‬ترجم فيه ابن خلدون لنف�سه‪ ،‬م�ستعر�ض ًا ن�ش�أته‬
‫المعاصرة بحرية كبيرة‪ .‬فهو لم يصمت عما وسم‬ ‫رت سحرًا إلى جماعة‬ ‫عند السور‪ .‬يقول‪ّ ..." :‬‬
‫وبك ُ‬ ‫وم�شيخته وحاله‪ .‬ودون وقائع رحالته املتكررة ما بني املغرب وتون�س واجلزائر والأندل�س ومن ثم رحلته‬
‫شخصه من خضوع خالل اللقاء‪ ،‬وال هو سكت‬ ‫ُ‬
‫وطلبت الخروج أو التدلي من‬ ‫القضاة عند الباب‪،‬‬ ‫�إىل ال�شام والقاهرة‪ ،‬مبا يف ذلك �أخبار توليه املنا�صب وعزله عنها يف امل�رشق العربي‪ .‬وما لعبه من �أدوار يف‬
‫عن محاولته استمالة تيمورلنك عن طريق‬ ‫السور‪ ،‬لما حدث عندي من تو ّهمات ذلك الخبر‪،‬‬ ‫ال�سيا�سة والق�ضاء‪ ،‬وما ت�ضلع به من دور الو�سيط بني �سالطني امل�رشق و�سالطني املغرب‪.‬‬
‫الخطاب والهدية‪ .‬في خطابه زيغ ومواربة وتدليس‬ ‫علي أولًا‪ ،‬ثم أصبحوا‪ ،‬ودلّوني من السور‪،‬‬
‫فأبو ّ‬
‫واستعمال للخرافة لم يعهد عنه في تأريخه أو في‬ ‫فوجدت بطانته –يقصد تيمور‪ -‬عند الباب‪ ،‬ونائبه‬ ‫ُ‬ ‫و�صل ابن خلدون �إىل دم�شق مع و�صول التتار �إىل �أ�سوارها‪ .‬و�إذا كانت واقعة �سقوط هذه املدينة العظيمة‬
‫نظرته إلى األشياء‪ ،‬السيما عندما يم ِّثل ابن خلدون‬ ‫الذي عيّنه للوالية على دمشق"‪ .‬وكان هذا التتاري‬ ‫حتت �سيوف التتار هي واحدة من الوقائع الأكرث �ش�ؤم ًا يف تاريخها‪ ،‬ملا �شهدته خالل ذلك من فظائع تق�شعر‬
‫الشوق للقاء من كتبت له األقدار أن يلتقي به‪.‬‬ ‫يدعى شاه ملك‪ ،‬يصف ابن خلدون لقاءه به على‬ ‫لها الأبدان‪ ،‬ف�إن هذه امل�صادفة �ست�شكل عالمة فارقة يف حياة ابن خلدون‪ .‬ولعل هذا العالمة الكبري ما كان‬
‫أما الهدية‪ :‬المصحف‪ ،‬والسجادة والقصيدة وعلب‬ ‫يت ّ‬
‫وفدوني‪،‬‬ ‫وفد ُ‬
‫النحو التالي‪ " :‬فحيّيتهم وحيّوني‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ليخطر يف باله يوم ًا �أن يلعب دور الو�سيط بني املدينة وتيمور لنك الذي ن�صب خيمته حتت �أ�سوارها و�رضب‬
‫الحلوى‪ ،‬فهي تحمل أكثر من تحية وترحاب‪.‬‬ ‫وقدم لي شاه ملك‪ ،‬مركوبًا‪ ،‬وبعث معي من بطانة‬
‫إنها في تلك اللحظة العصيبة بالنسبة إلى مدينة‬ ‫السلطان من أوصلني إليه"‪.‬‬ ‫احل�صار عليها‪ ،‬فدافعت املدينة عن نف�سها متحدة �إىل �أن بد�أت بوادر الفرقى تدب ب�سبب خالف بني القلعة‬
‫محاصرة فعلة غريبة من عالم هو قاض وفقيه‬ ‫بعد ذلك نجوز إلى واقعة دخول ابن خلدون على‬ ‫املدافعة عنها والق�ضاة الذين ي�أ�سوا من �إمكان ا�ستمرار املدينة يف ال�صمود‪ ،‬وخافوا على �أنف�سهم وعلى‬
‫ومؤرخ له مكانته في ديار اإلسالم‪ ،‬كما لو كانت‬ ‫تيمور لنك في خيمته‪ .‬والنص المنشور‪ ،‬هنا‪ ،‬هو‬ ‫رعاياهم من مذبحة ال تبقي �أحد ًا يف دم�شق‪ ،‬ف�آثروا ت�سليم املدينة‪ .‬لكن �أهل القلعة رف�ضوا اال�ست�سالم‬
‫تقديرًا إستثنائيًا لما قام به‪ ،‬وما سيقوم به سفاح‬ ‫ما دونه ابن خلدون بنفسه عما دار في هذا اللقاء‬ ‫لتيمور لنك وع�ساكره وقرروا موا�صلة الدفاع‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫العادلية‪ ،‬واتفق رأيهم على طلب األمان من األمير‬
‫تمر على بيوتهم وحرمهم‪ ،‬وشاوروا في ذلك نائب‬
‫القلعة‪ ،‬فأبى عليهم ذلك ونكره‪ ،‬فلم يوافقوه‪ .‬وخرج‬
‫القاضي برهان الدين بن مفلح الحنبلي (‪803--749‬‬
‫وكان يحسن اللغتين التركية والفارسية ) ومعه‬
‫شيخ الفقراء‪ ،‬فأجابهم إلى التأمين‪ ،‬وردهم باستدعاء‬
‫الوجوه والقضاة‪ ،‬فخرجوا إليه متدلين من السور‬
‫بما صبحهم من التقدمة‪ ،‬فأحسن لقاءهم وكتب لهم‬
‫الرقاع باألمان‪ ،‬وردهم على أحسن اآلمال‪ ،‬واتفقوا‬
‫معه على فتح المدينة من الغد‪ ،‬وتصرف الناس في‬
‫المعامالت‪ ،‬ودخول أمير ينزل بمحل اإلمارة منها‪،‬‬
‫ويملك أمرهم بعز واليته‪.‬‬
‫رسم يمثل تيمور لنك‬
‫تيمور لنك يسأل عن ابن خلدون‬
‫فقلت‪ :‬جئت من بالدي لقضاء الفرض ركبت إليها‬ ‫وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عني‪ ،‬وهل‬
‫المدرسة العادلية القسم الشمالي‬
‫البحر‪ ،‬ووافيت مرسى اإلسكندرية يوم الفطر سنة‬ ‫سافرت مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة‪ ،‬فأخبره‬
‫أربع وثمانين من هذه المائة الثامنة‪ ،‬والمفرحات‬ ‫بمقامي بالمدرسة حيث كنت‪ ،‬وبتنا تلك الليلة‬
‫بأسوارهم لجلوس الظاهر على تخت الملك لتلك‬ ‫على أهبة الخروج إليه‪ ،‬فحدث بين بعض الناس‬ ‫بلين القول‪ ،‬وجزيل اإلنعام فأصخيت‪ ،‬وسافرت‬ ‫يطوق مدينة ويتأهب لالنقضاض عليها‪.‬‬
‫العشرة األيام بعددها‪.‬‬ ‫تشاجر في المسجد الجامع‪ ،‬وأنكر البعض ما وقع‬ ‫معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثالث‬ ‫هنا في هذا النص القيم بما يعكسه من أحوال‬
‫فقال لي‪ :‬وما فعل معك؟‬ ‫من االستنامة إلى القول‪.‬‬ ‫وثمانمائة‪ ،‬فوصلنا إلى غزة‪ ،‬فأرحنا بها أيامًا نترقب‬ ‫شخصية لعالم كبير‪ ،‬في برهة غير شخصية أبدًا‪،‬‬
‫قلت‪ :‬كل خير‪ ،‬بر مقدمي‪ ،‬وأرغد قراي‪ ،‬وزودني‬ ‫األخبار‪ ،‬ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الططر إلى‬ ‫وما يحمله من دالالت استثنائية في حركة الكاتب‬
‫للحج‪ ،‬ولما رجعت وفر جرايتي‪ ،‬وأقمت في ظله‬ ‫وبلغني الخبر من جوف الليل‪ ،‬فخشيت البادرة‬ ‫أن نزلنا شقحب (جنوب دمشق)‪ ،‬وأسرينا فصبحنا‬ ‫والمثقف باتجاه الغازي العدو‪ ،‬يمكننا أن نقف‬
‫ونعمته‪ ،‬رحمه اهلل وجزاه‪.‬‬ ‫على نفسي‪ ،‬وبكرت سحرًا إلى جماعة القضاة عند‬ ‫دمشق‪ ،‬واألمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبك‬ ‫على نموذج في سلوك المثقف‪ ،‬ال نغامر في إطالق‬
‫فقال‪ :‬وكيف كانت توليته إياك القضاء؟‬ ‫الباب‪ ،‬وطلبت الخروج أو التدلي من السور‪ ،‬لما‬ ‫قاصدًا دمشق‪ ،‬فضرب السلطان خيامه وأبنيته‬ ‫توصيف جازم في رخاوته‪ ،‬ولكننا ندعو‪ ،‬أقله‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬مات قاضي المالكية قبل موته بشهر‪،‬‬ ‫حدث عندي من توهمات ذلك الخبر‪ ،‬فأبوا علي‬ ‫بساحة قبة يلبغا‪ .‬ويئس األمير تمر من مهاجمة‬ ‫إلى التأمل فيه‪ ،‬في سياق إعادة النظر‪ ،‬وفي سياق‬
‫وكان يظن بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة‪،‬‬ ‫أولًا‪ ،‬ثم أصخوا لي‪ ،‬ودلّوني من السور‪ ،‬فوجدت‬ ‫البلد‪ ،‬فأقام بمرقب على قبة يلبغا يراقبنا ونراقبه‬ ‫الضرورة القائلة بأهمية جذور األشياء في فهم‬
‫وتحري المعدلة والحق‪ ،‬واإلعراض عن الجاه‪،‬‬ ‫بطانته عند الباب‪ ،‬ونائبه الذي عينه للوالية على‬ ‫أكثر من شهر‪ .‬تجاول العسكران في هذه األيام‬ ‫ظواهر حديثة تتعلق بموقف المثقف من الطاغية‬
‫فوالني مكانه‪ ،‬ومات لشهر بعدها‪ ،‬فلم يرض أهل‬ ‫دمشق‪ ،‬واسمه شاه ملك‪ ،‬من بني جقطاي أهل‬ ‫مرات ثالثًا أو أربعًا‪ ،‬فكانت حربهم سجالًا‪ ،‬ثم نمي‬ ‫أكان أهليًا أم غريمًا خارجيًا وغازيًا له سمعة كتلك‬
‫الدولة بمكاني‪ ،‬فأدالوني منها بغيري جزاهم اهلل‪.‬‬ ‫وفديت ّ‬
‫وفدوني‪،‬‬ ‫عصابته‪ ،‬فحييتهم وحيوني‪ّ ،‬‬ ‫الخبر إلى السلطان وأكابر أمرائه‪ ،‬أن بعض األمراء‬ ‫التي أسبغتها على تيمورلنك أعماله الوحشية بحق‬
‫فقال لي‪ :‬وأين ولدك؟‬ ‫وقدم لي شاه ملك‪ ،‬مركوبًا‪ ،‬وبعث معي من بطانة‬ ‫المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر‬ ‫اإلنسان والمدنية في التاريخ‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬بالمغرب الجواني كاتبًا للملك األعظم هنالك‪.‬‬ ‫السلطان من أوصلني إليه‪ .‬فلما وقفت بالباب خرج‬ ‫للثورة بها‪ ،‬فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشية‬ ‫ما يضاعف من قوة المفارقة في سلوك ابن‬
‫فقال وما معنى الجواني في وصف المغرب‪ ،‬فقلت‬ ‫اإلذن بإجالسي في خيمة هنالك تجاور خيمة‬ ‫من انتقاض الناس وراءهم‪ ،‬واختالل الدولة بذلك‪،‬‬ ‫خلدون خالل لقاء تيمور لنك أنه عالم رصد البعد‬
‫هو في عرف خطابهم معناه الداخلي‪ ،‬أي األبعد‪ ،‬ألن‬ ‫جلوسه‪ ،‬ثم زيد في التعريف باسمي أني القاضي‬ ‫فأسروا ليلة الجمعة‪ ،‬وركبوا جبل الصالحية‪،‬‬ ‫المتحضر في سلوك الناس والمجتمعات!‬
‫المغرب كله على ساحل البحر الشامي من جنوبه‪،‬‬ ‫المالكي المغربي‪ ،‬فاستدعاني‪ ،‬ودخلت عليه بخيمة‬ ‫ثم انحطوا في شعابه‪ ،‬وساروا على شافة البحر‬ ‫لقاء األمير تَمُ ر سلطان المُ ُغل ّ‬
‫والططر‬
‫فاألقرب إلى هنا برقه‪ ،‬إفريقية (تونس السوم)‪،‬‬ ‫جلوسه‪ ،‬متكئًا على مرفقه‪ ،‬وصحاف الطعام تمر‬ ‫إلى غزة‪ ،‬وركب الناس ليلًا يعتقدون أن السلطان‬
‫والمغرب األوسط (الجزائر اليوم)‪ :‬تلمسان وبالد‬ ‫بين يديه‪ ،‬يشير بها إلى عصب ال َم ُغل جلوسًا أمام‬ ‫سار على الطريق األعظم إلى مصر‪ ،‬فساروا عصبًا‬ ‫لما وصل الخبر إلى مصر بأن األمير تمر َملَ َك‬
‫زناتة‪ ،‬واألقصى‪ :‬فاس ومراكش‪ ،‬وهو معنى الجواني‪.‬‬ ‫خيمته‪َ ،‬حلَقًا َحلَقًا‪ .‬فلما دخلت عليه فاتحت‬ ‫وجماعات على شقحب إلى أن وصلوا إلى مصر‪،‬‬ ‫بالد الروم‪ ،‬وخرب سيواس ورجع إلى الشام‪ ،‬جمع‬
‫فقال لي‪ :‬وأين مكان طنجة من ذلك المغرب؟‬ ‫بالسالم‪ ،‬وأوميت إيماءة الخضوع‪ ،‬فرفع رأسه‪،‬‬ ‫وأصبح أهل دمشق متحيرين قد عميت عليهم‬ ‫السلطان عساكره‪ ،‬وفتح ديوان العطاء‪ ،‬ونادى في‬
‫فقلت‪ :‬في الزاوية التي بين البحر المحيط‪ ،‬والخليج‬ ‫ومد يده إلي فقبلتها‪ ،‬وأشار بالجلوس فجلست‬ ‫األنباء‪.‬‬ ‫الجند بالرحيل إلى الشام‪ ،‬وكنت أنا يومئذ معزولًا‬
‫المسمى بالزقاق‪ ،‬وهو خليج البحر الشامي‪.‬‬ ‫حيث انتهيت‪ .‬ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد‬ ‫عن الوظيفة‪ ،‬فاستدعاني َد َواداره يشبك (من أمراء‬
‫وس ْبته؟‬
‫فقال‪َ :‬‬ ‫الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم‪،‬‬ ‫قضاة دمشق يستسلمون‬ ‫الملك الظاهر)‪ ،‬وأرادني على السفر معه في ركاب‬
‫قلت‪ :‬على مسافة من طنجة على ساحل الزقاق‪،‬‬ ‫فأقعده يترجم ما بيننا‪ ،‬وسألني‪ :‬من أين جئت من‬ ‫وجاءني القضاة والفقهاء‪ ،‬واجتمعت بمدرسة‬ ‫السلطان‪ ،‬فتجافيت عن ذلك‪ .‬ثم أظهر العزم علي‬
‫ومنها التعدية إلى األندلس‪ ،‬لقرب مسافته‪ ،‬ألنها‬ ‫المغرب‪ ،‬ول َم جئت؟‬

‫‪115‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪114‬‬


‫إنه من عقبة ملوك بابل‪ ،‬فذهب هو إلى ترجيح‬ ‫نفسي من ذلك كله ترقب له فوقع في نفسي ألجل‬
‫القول اآلخر‪.‬‬ ‫الوجل الذي كنت فيه أن أفاوضه في شيء من ذلك‬
‫فقلت‪ :‬يعكر علينا رأي الطبري‪ ،‬فإنه مؤرخ األمة‬ ‫يستريح إليه‪ ،‬ويأنس به مني‪ ،‬ففاتحته وقلت‪ :‬أيدك‬
‫ومحدثهم‪ ،‬وال يرجحه غيره‪.‬‬ ‫اهلل! لي اليوم ثالثون‪ ،‬أو أربعون سنة أتمنى لقاءك‪.‬‬
‫فقال‪ :‬وما علينا من الطبري؟ نحضر كتب التاريخ‬ ‫فقال لي الترجمان عبد الجبار‪ :‬وما سبب ذلك‪،‬‬
‫للعرب والعجم‪ ،‬ونناظرك‪.‬‬ ‫فقلت‪ :‬أمران‪ ،‬األول أنك سلطان العالم‪ ،‬وملك الدنيا‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬وأنا أيضًا أناظر على رأي الطبري‪.‬‬ ‫وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد‬
‫ملك مثلك‪ ،‬ولست ممن يقول في األمور بالجزاف‪،‬‬
‫خبر فتح باب دمشق‬ ‫فإني من أهل العلم‪ ،‬وأبين ذلك فأقول‪ :‬إن الملك إنما‬
‫وانتهى بنا القول‪ ،‬فسكت‪ ،‬وجاءه الخبر بفتح باب‬ ‫يكون بالعصبية‪ ،‬وعلى كثرتها يكون قدر الملك‪،‬‬
‫المدينة‪ ،‬وخروج القضاة وفاء بما زعموا من الطاعة‬ ‫واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد‪ ،‬أن أكثر أمم‬
‫التي بذل لهم فيها األمان‪ ،‬فرفع من بين أيدينا‪ ،‬لما‬ ‫البشر فرقتان‪ :‬العرب والترك‪ ،‬وأنتم تعلمون ملك‬
‫في ركبته من الداء‪ ،‬وحمل على فرسه فقبض‬ ‫العرب كيف كان لما اجتمعوا في دينهم على نبيهم‪،‬‬
‫شكائمه‪ ،‬واستوى في مركبه‪ .‬وضربت اآلالت‬ ‫وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس وانتزاع‬
‫حفافيه حتى ارت َّج لها الجو‪ .‬وسار نحو دمشق‪،‬‬ ‫ملكهم أفراسياب خراسان من أيديهم شاهد بنصابهم‬ ‫أعمدة جوبيتر (سوق المسكية)‬ ‫جانب من السور بين باب السالم وباب توما‬
‫ونزل في تربة منجك عند باب الجابية‪ ،‬فجلس‬ ‫من الملك‪ .‬وال يساويهم في عصبيتهم أحد من‬
‫ُ‬
‫ودخلت‬ ‫هناك‪ ،‬ودخل إليه القضاة وأعيان البلد‪،‬‬ ‫ملوك األرض من كسرى‪ ،‬أو قيصر‪ ،‬أو اإلسكندر‪،‬‬ ‫قد سمعت كثيرًا من الحدثان في ظهوره‪ ،‬وكان‬ ‫هناك نحو العشرين ميلًا‪.‬‬
‫في جملتهم‪ ،‬فأشار إليهم باالنصراف‪ ،‬وإلى شاه‬ ‫نصر (‪ : )561-604‬أعظم ملوك‬ ‫أو بختنصر (نبوخذ ّ‬ ‫المنجمون المتكلمون في قِرانات الع ُْل ِو ّيَ ْين (لقاء‬ ‫فقال‪ :‬وفاس؟‬
‫ملك نائبه أن يخلع عليهم في وظائفهم‪ ،‬وأشار إلي‬ ‫الكلدانيين) أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫زحل بالمشتري) يترقبون القِران العاشر في المثلثة‬ ‫فقلت‪ :‬ليست على البحر‪ ،‬وهي في وسط التلول‪،‬‬
‫بالجلوس‪ ،‬فجلست بين يديه‪ .‬ثم استدعى أمراء‬ ‫وأين الفرس من الترك‪ ،‬وأما قيصر واإلسكندر‬ ‫الهوائية‪ ،‬وكان يترقب عام ستة وستين من المائة‬ ‫وكرسي ملوك المغرب من بني َمرين‪.‬‬
‫دولته القائمين على أمر البناء‪ ،‬فأحضروا عُ رفاء‬ ‫فملوك الروم‪ ،‬وأين الروم من الترك‪ ،‬وأما بختنصر‬ ‫السابعة‪ .‬فلقيت ذات يوم من عام أحد وستين‬ ‫فقال‪ :‬وسِ جِ ْل َ‬
‫ماسة؟‬
‫البُنيان المهندسين‪ ،‬وتناظروا في إذهاب الماء الدائر‬ ‫فكبير أهل بابل‪ ،‬والنبط‪ .‬وأين هؤالء من الترك‪،‬‬ ‫بجامع القرويين من فاس‪ ،‬الخطيب أبا علي بن‬ ‫قلت‪ :‬في الحد ما بين األرياف والرمال من جهة‬
‫بحفير القلعة‪ ،‬لعلهم يعثرون بالصناعة على منفذه‪،‬‬ ‫وهذا برهان ظاهر على ما ادعيته في هذا الملك‪.‬‬ ‫باديس خطيب قسنطينة‪ ،‬وكان ماهرًا في ذلك الفن‪،‬‬ ‫الجنوب‪.‬‬
‫فتناظروا في مجلسه طويلًا‪ ،‬ثم انصرفوا‪ ،‬وانصرفت‬ ‫وأما األمر الثاني مما يحملني على تمني لقائه‪،‬‬ ‫فسألته عن هذا القرآن المتوقع‪ ،‬وما هي آثاره؟‬ ‫فقال‪ :‬ال يقنعني هذا‪ ،‬وأحب أن تكتب لي بالد‬
‫إلى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنته في ذلك‪،‬‬ ‫فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب‪،‬‬ ‫فقال لي‪ :‬يدل على ثائر عظيم في الجانب الشمالي‬ ‫المغرب كلها‪ ،‬أقاصيها وأدانيها وجباله وأنهاره وقراه‬
‫فأذن فيه‪.‬‬ ‫واألولياء‪ ،‬وذكرت ما قصصته من ذلك قبل‪ .‬فقال‬ ‫الشرقي‪ ،‬من أمة بادية أهل خيام‪ ،‬تتغلب على‬ ‫وأمصاره‪ ،‬حتى كأني أشاهده‪.‬‬
‫لي‪ :‬وأراك قد ذكرت بختنصر مع كسرى‪ ،‬وقيصر‪،‬‬ ‫الممالك‪ ،‬وتقلب الدول‪ ،‬وتستولي على أكثر‬ ‫فقلت‪ :‬يحصل ذلك بسعادتك‪.‬‬
‫سقوط القلعة وحريق "األموي"!‬ ‫واإلسكندر‪ ،‬ولم يكن في عدادهم‪ ،‬ألنهم ملوك أكابر‪.‬‬ ‫المعمور‪.‬‬
‫وأقمت في ك ِْسر البيت‪ ،‬واشتغلت بما طلب مني‬ ‫وبختنصر قائد من قواد الفرس‪ ،‬كما أنا نائب من‬ ‫فقلت‪ :‬ومتى زمنه؟‬ ‫العالم والسفاح‬
‫في وصف بالد المغرب‪ ،‬فكتبته في أيام قليلة‪،‬‬ ‫نواب صاحب التخت‪ ،‬وهو هذا‪ ،‬وأشار إلى الصف‬ ‫فقال‪ :‬عام أربعة وثمانين تنتشر أخباره‪ .‬وكتب لي‬ ‫وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب‬
‫ورفعته إليه فأخذه من يدي‪ ،‬وأمر فوقعه بترجمته‬ ‫القائمين وراءه‪ ،‬وكان واقفًا معهم‪ ،‬وهو ربيبه الذي‬ ‫بمثل ذلك الطبيب ابن َز ْر َزر اليهودي‪ ،‬طبيب ملك‬ ‫ُ‬
‫وأوعبت الغرض فيه في مختصر وجيز‬ ‫من ذلك‪،‬‬
‫إلى اللسان المُ غلي‪ .‬ثم اشتد في حصار القلعة‪،‬‬ ‫تقدم لنا أنه تزوج أمه بعد أبيه ساطلمش فلم يلفه‬ ‫اإلفرنج ابن أُذفونش ومنجمه‪ .‬وكان شيخي رحمه‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنظفة‬
‫ونصب عليها اآلالت من المجانيق‪ ،‬والنفوط‪،‬‬ ‫هناك‪ ،‬وذكر له القائمون في ذلك الصف أنه خرج‬ ‫اهلل إمام المعقوالت محمد بن إبراهيم اآلبِلي متى‬ ‫القطع‪ .‬ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته‬
‫والعرادات‪ ،‬والنقب‪ ،‬فنصبوا أليام قليلة ستين‬ ‫عنهم‪.‬‬ ‫فاوضته في ذلك‪ ،‬أو سايَل ُته عنه يقول‪ :‬أمره قريب‪،‬‬ ‫يسمونه الرش َتة‪ ،‬ويحكمونه على أبلغ ما يمكن‪،‬‬
‫منجنيقًا إلى ما يشاكلها من اآلالت األخرى‪ ،‬وضاق‬ ‫إلي‪ ،‬فقال‪ :‬ومن أي الطوائف هو بختنصر؟‬ ‫فرجع َّ‬ ‫َ‬
‫عشت أن تراه‪.‬‬ ‫وال بد لك إن‬ ‫فأحضرت األواني منه‪ ،‬وأشار تعرضها علي‪ ،‬فمثلت‬
‫الحصار بأهل القلعة‪ ،‬وتهدم بناؤها من كل جهة‪،‬‬ ‫فقلت‪ :‬بين الناس فيه خالف‪ ،‬فقيل من النبط بقية‬ ‫وأما المتصوفة فكنا نسمع عنهم بالمغرب لرقبهم‬ ‫قائمًا‪ ،‬وتناولتها وشربت واستطبت‪ ،‬ووقع ذلك منه‬
‫فطلبوا األمان‪.‬‬ ‫ملوك بابل‪ ،‬وقيل من الفرس األولى‪ ،‬فقال‪ :‬يعني‬ ‫لهذا الكائن‪ ،‬ويرون إن القائم به هو الفاطمي‬ ‫أحسن المواقع‪ ،‬ثم جلست وسكتنا‪ ،‬وقد غلبني‬
‫وكان بها جماعة من خدام السلطان ومخلفه‪،‬‬ ‫من ولد منوشهر (منوجِ هر‪ :‬اسم ملك من الفرس‬ ‫المشار إليه في األحاديث النبوية من الشيعة‬ ‫الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعية‪،‬‬
‫فأمنهم السلطان تمر‪ ،‬وحضروا عنده‪ .‬وخرب‬ ‫فضي الطلعة) قلت نعم هكذا ذكروا‪.‬‬ ‫القدماء‪ ،‬ومعناه ّ‬ ‫وغيرهم‪ ،‬فأخبرني يحيى بن عبد اهلل حافد الشيخ‬ ‫صدر الدين المناوي‪ ،‬أسره التابعون لعسكر مصر‪،‬‬
‫القلعة وطمس معالمها‪ ،‬وصادر أهل البلد على‬ ‫فقال‪ :‬ومنوشهر له علينا والدة من قبل األمهات‪.‬‬ ‫أبي يعقوب البادسي كبير األولياء بالمغرب‪ ،‬إن‬ ‫بشقحب‪ ،‬وردوه‪ ،‬فحبس عندهم في طلب الفدية‬
‫قناطير من األموال استولى عليها بعد أن أخذ جميع‬ ‫ثم أفضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه‪،‬‬ ‫الشيخ قال لهم ذات يوم‪ ،‬وقد انفتل من صالة الغداة‪:‬‬ ‫منه‪ ،‬فأصابنا من ذلك وجل‪.‬‬
‫ما خلفه صاحب مصر هنالك‪ ،‬من األموال والظهر‬ ‫وقلت له‪ :‬وهذا مما يجعلني على تم ّني لقائه‪.‬‬ ‫إن هذا اليوم ولد فيه القائم الفاطمي‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫فزورت في نفسي كالمًا أخاطبه به‪ ،‬وأتلطفه‬
‫والخيام أطلق أيدي النهابة على بيوت أهل المدينة‪،‬‬ ‫فقال الملك‪ :‬وأي القولين أرجح عندك فيه‪ ،‬فقلت‬ ‫في عشر األربعين من المائة الثامنة‪ ،‬فكان في‬ ‫بتعظيم أحواله‪ ،‬وملكه‪ .‬وكنت قبل ذلك بالمغرب‬

‫‪117‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪116‬‬


‫التأنيس بذلك‪ .‬ثم قسم هو ما فيها من الحلوى بين‬ ‫هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن‬
‫الحاضرين في مجلسه‪ ،‬وتقبل ذلك كله‪ ،‬وأشعر‬ ‫عبد اهلل بن عباس‪ ،‬وبث دعاته بخراسان‪ ،‬وقام أبو‬
‫بالرضى به‪ .‬ثم ح َوّمت على الكالم بما عندي في‬ ‫مسلم بهذه الدعوة‪ ،‬فملك خراسان والعراق‪ ،‬ونزل‬
‫شأن نفسي‪ ،‬وشأن أصحاب لي هنالك‪ .‬فقلت‪ :‬أيدك‬ ‫شيعتهم الكوفة‪ ،‬واختاروا لألمر أبا العباس السفاح‬
‫اهلل! لي كالم أذكره بين يديك‪.‬‬ ‫بن صاحب هذه الدعوة‪ ،‬ثم أرادوا أن تكون بيعته‬
‫فقال‪ :‬قل‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫والشيعة‪ ،‬فكاتبوا كبار‬ ‫على إجماع من أهل الس َّنة‬
‫فقلت‪ :‬أنا غريب بهذه البالد غربتين‪ ،‬واحدة من‬ ‫األمة يومئذ‪ ،‬وأهل الحل والعقد‪ ،‬بالحجاز والعراق‪،‬‬
‫المغرب الذي هو وطني ومنشئي وأخرى من مصر‬ ‫يشاورونهم في أمره‪ ،‬فوقع اختيارهم كلهم على‬
‫وأهل جيلي بها‪ ،‬وقد حصلت في ظلك‪ ،‬وأنا أرجو‬ ‫الرضى به‪ ،‬فبايع له شيعته بالكوفة بيعة إجماع‬
‫رأيك لي فيما يؤنسني في غربتي؟‬ ‫وإصفاق ثم عهد بها إلى أخيه المنصور‪ ،‬وعهد‬
‫فقال‪ :‬قل الذي تريد أفعله لك؟‬ ‫بها المنصور إلى بنيه‪ ،‬فلما تزل متناقلة فيهم‪ ،‬إما‬
‫فقلت‪ :‬حال الغربة أنستني ما أريد‪ ،‬وعساك ‪-‬أيدك‬ ‫بعهد أو باختيار أهل العصر‪ ،‬إلى أن كان المستعصم‬
‫اهلل‪ -‬أن تعرف لي ما أريد (!!!)‬ ‫آخرهم ببغداد‪ .‬فلما استولى عليها هوالكو ((نحو‬
‫فقال‪ :‬انتقل من المدينة إلى األردو (المعسكر‬ ‫‪ :)1265-1217‬فاتح مغولي ومؤسس دولة المغول‬
‫بالتركية) عندي‪ ،‬وأنا إن شاء اهلل أوفى كنه‬ ‫اإللخانية في إيران ‪ ) 1265-1251‬وقتله‪ ،‬افترق‬
‫قصدك‪.‬‬ ‫قرابته‪ ،‬ولحق بعضهم بمصر‪ ،‬وهو أحمد الحاكم من‬ ‫دار قديمة في شقحب‬

‫فقلت يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك‪.‬‬ ‫عقب الراشد‪ ،‬فنصبه الظاهر بيبرس بمصر‪ ،‬بمماألة‬
‫فأشار إليه بإمضاء ذلك‪ ،‬فشكرت ودعوت‪ ،‬وقلت‪:‬‬ ‫الحل والعقد من الجند والفقهاء‪ ،‬وانتقل األمر‬ ‫ّ‬ ‫أهل‬ ‫بمصر‪ ،‬ألن آبائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقوه‪،‬‬ ‫فاستوعبوا أناسيها‪ ،‬وأمتعتها‪ ،‬وأضرموا النار فيما‬
‫وبقيت لي أخرى‪.‬‬ ‫في بيته إلى هذا الذي بمصر‪ ،‬ال يعلم خالف ذلك‪.‬‬ ‫إلي هذا بغير مستند‪.‬‬‫وصار َّ‬ ‫ثي‪ ،‬فاتصلت النار‬ ‫ُ‬
‫والخ ْر ّ‬ ‫بقي من سقط األقمشة‬
‫فقال‪ :‬وما هي؟‬ ‫ُ‬
‫سمعت مقال القضاة‪ ،‬وأهل‬ ‫فقال لهذا الرافع‪ :‬قد‬ ‫فاستدعى عبد الجبار كلًا منا في أمره‪ ،‬فسكتنا‬ ‫بحيطان الدور المدعمة بالخشب‪ ،‬فلم تزل تتوقد‬
‫فقلت‪ :‬هؤالء المخلفون عن سلطان مصر‪ ،‬من‬ ‫الفتيا‪ ،‬وظهر أنه ليس لك حق تطلبه عندي‪.‬‬ ‫برهة‪.‬‬ ‫إلى أن اتصلت بالجامع األعظم (الجامع األموي)‪،‬‬
‫القراء والموقعين‪ ،‬والدواوين‪ ،‬والعمال‪ ،‬صاروا إلى‬ ‫فانصرف راشدًا‪.‬‬ ‫ثم قال‪ :‬ما تقولون في هذا الحديث؟‬ ‫وارتفعت إلى سقفه‪ ،‬فسال رصاصه‪ ،‬وتهدمت‬
‫إيالتك‪ ،‬والملك ال يغفل مثل هؤالء‪ ،‬فسلطانكم كبير‪،‬‬ ‫فقال برهان الدين بن مفلح‪ :‬الحديث ليس بصحيح‪.‬‬ ‫سقفه وحوائطه‪ ،‬وكان أمرًا بلغ مبالغه في الشناعة‬
‫وعماالتكم متسعة‪ ،‬وحاجة ملككم إلى المتصرفين‬ ‫أسألك‪ :‬أن تعرف لي ما أريد؟!‬ ‫واستدعى ما عندي في ذلك فقلت‪ :‬األمر كما قلتم‬ ‫والقبح‪ .‬وتصاريف األمور بيد اهلل يفعل في خلقه‬
‫في صنوف الخدم أشد من حاجة غيركم‪.‬‬ ‫كنت لما لقيته‪ ،‬وتدلَّيت إليه من السور‪ ،‬كما مر‬ ‫من أنه غير صحيح‪.‬‬ ‫ما يريد‪ ،‬ويحكم في ملكه ما يشاء‪.‬‬
‫فقال وما تريد لهم؟‬ ‫أشار علي بعض الصحاب ممن يخبر أحوالهم بما‬ ‫فقال السلطان تمر‪ :‬فما الذي أصار الخالفة لبني‬
‫قلت‪ :‬مكتوب أمان يستنيمون (بمعنى يطمئنون)‬ ‫تقدمت له من المعرفة بهم‪ ،‬فأشار بأن أُطرفه‬ ‫العباس إلى هذا العهد في اإلسالم؟‬ ‫الحاكم العباسي‬
‫إليه‪ ،‬ويعولون في أحوالهم عليه‪.‬‬ ‫ببعض هدية‪ ،‬وإن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة‬ ‫وشافهني بالقول‪ ،‬فقلت‪ :‬أيدك اهلل! اختلف‬ ‫وكان أيام مقامي عند السلطان تمر‪ ،‬خرج إليه‬
‫فقال لكاتبه‪ :‬أكتب لهم بذلك‪.‬‬ ‫في لقاء ملوكهم‪ ،‬فانتقيت من سوق الكتب مصحفًا‬ ‫المسلمون من لدن وفاة النبي صلى اهلل عليه‬ ‫من القلعة يوم أمن أهلها رجل من أعقاب الخلفاء‬
‫فشكرت‪ ،‬ودعوت‪ ،‬وخرجت مع الكاتب حتى كتب‬ ‫رائعًا حسنًا في جزء محذو‪ ،‬وسجادة أنيقة‪،‬‬ ‫وسلم‪ ،‬هل يجب على المسلمين والية رجل منهم‬ ‫بمصر‪ ،‬من ذرية الحاكم العباسي( أبو العباس أحمد‬
‫لي مكتوب األمان‪ ،‬وختمه شاه ملك بخاتم السلطان‪،‬‬ ‫ونسخة من قصيدة البردة المشهورة لألبوصيري في‬ ‫يقوم بأمورهم في دينهم ودنياهم‪ ،‬أم ال يجب ذلك؟‬ ‫بن أبي علي الحسن المتوفي سنة ‪ )701‬الذي نصبه‬
‫وانصرفت إلى منزلي‪ .‬ولما قرب سفره واعتزم‬ ‫مدح النبي صلى اهلل عليه وسلم وأربع علب من‬ ‫فذهبت طائفة إلى أنه ال يجب‪ ،‬ومنهم الخوارج‪،‬‬ ‫الظاهر بيبرس‪ ،‬فوقف إلى السلطان تمر يسأله‬
‫علم الرحيل عن الشام‪ ،‬دخلت عليه ذات يوم‪ ،‬فلما‬ ‫حالوة مصر الفاخرة‪ .‬وجئت بذلك فدخلت عليه‪،‬‬ ‫وذهب الجماعة إلى وجوبه‪ ،‬واختلفوا في مستند‬ ‫النصفة في أمره‪ ،‬ويطلب منه منصب الخالفة كما‬
‫قضينا المعتاد‪ ،‬التفت إلي وقال‪ :‬عندك بغلة هنا؟‬ ‫وهو بالقصر األبلق جالس في إيوانه‪ ،‬فلما رآني مقبلًا‬ ‫ذلك الوجوب‪ ،‬فذهب الشيعة كلهم إلى حديث‬ ‫كان لسلفه‪.‬‬
‫قلت نعم‪.‬‬ ‫مثل قائمًا وأشار إلي عن يمينه‪ ،‬فجلست وأكابر‬ ‫الوصية‪ ،‬وأن النبي صلى اهلل عليه وسلم أوصى‬ ‫فقال له السلطان تمر‪ :‬أنا أحضر لك الفقهاء‬
‫قال حسنة؟‬ ‫من الجقطية حفافية‪ ،‬فجلست قليلًا‪ ،‬ثم استدرت‬ ‫بذلك لعلي‪ ،‬واختلفوا في تنقلها عنه إلى عقبه إلى‬ ‫والقضاة‪ ،‬فإن حكموا لك بشيء أنصفتك فيه‪.‬‬
‫قلت نعم‪.‬‬ ‫بين يديه‪ ،‬وأشرت إلى الهدية التي ذكرتها‪،‬‬ ‫مذاهب كثيرة تشذ عن الحصر‪ .‬وأجمع أهل السنة‬ ‫واستدعى الفقهاء والقضاة‪ ،‬واستدعاني فيهم‪،‬‬
‫قال وتبيعها؟ فأنا اشتريها منك‪.‬‬ ‫خدامي‪ ،‬فوضعتها‪ ،‬واستقبلني‪ ،‬ففتحت‬ ‫وهي بيد ّ‬ ‫على إنكار هذه الوصية‪ ،‬وأن مستند الوجوب‬ ‫فحضرنا عنده وحضر هذا الرجل الذي يسأل‬
‫فقلت‪ :‬أيدك اهلل! مثلي ال يبيع من مثلك‪ ،‬إنما أنا‬ ‫المصحف فلما رآه وعرفه‪ ،‬قام مبادرًا فوضعه على‬ ‫في ذلك إنما هو االجتهاد‪ ،‬يعنون أن المسلمين‬ ‫منصب الخالفة‪.‬‬
‫أخدمك بها‪ ،‬وبأمثالها لو كانت لي‪.‬‬ ‫رأسه‪ .‬ثم ناولته البردة‪ ،‬فسألني عنها وعن ناظمها‬ ‫يجتهدون في اختيار رجل من أهل الحق والفقه‬ ‫فقال له عبد الجبار‪ :‬هذا مجلس النصفة فتكلم‪.‬‬
‫فقال‪ :‬أنا أردت أن أكافئك عنها باإلحسان‪.‬‬ ‫فأخبرته بما وقفت عليه من أمرها‪ .‬ثم ناولته‬ ‫والعدل‪ ،‬يفوضون إليه النظر في أمورهم‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬إن هذه الخالفة لنا ولسلفنا‪ ،‬وإن الحديث‬
‫فقلت‪ :‬وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به‪،‬‬ ‫السجادة‪ ،‬فتناولها وقبلها‪ .‬ثم وضعت علب الحلوى‬ ‫ولما تعددت فرق ال َعلَويَّة وانتقلت الوصية بزعمهم‬ ‫صح بأن األمر لبني العباس ما بقيت الدنيا‪ ،‬يعني‬
‫اصطنعتني‪ ،‬وأحللتني من مجلسك محل خواصك‪،‬‬ ‫بين يديه‪ ،‬وتناولت منها حرفًا على العادة في‬ ‫من بني الحنف َيّة إلى بني العباس‪ ،‬أوصى بها أبو‬ ‫أمر الخالفة‪ .‬وإني أحق من صاحب المنصب اآلن‬

‫‪119‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪118‬‬


‫مئذنة العروس‬ ‫مئذنة جامع محمد الطالوي‬

‫بجوار رسالته‪ ،‬فركبت معهم البحر إلى غزة‪،‬‬ ‫وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو اهلل أن‬
‫ونزلت بها‪ ،‬وسافرت منها إلى مصر‪ ،‬فوصلتها في‬ ‫ُ‬
‫وحملت البغلة‬ ‫ت‪،‬‬‫وس َك َ‬ ‫ُّ‬
‫وسكت َ‬ ‫يقابلك بمثله‪،‬‬
‫شعبان من هذه السنة‪ ،‬وهي سنة ثالث وثمانمائة‪،‬‬ ‫‪-‬وأنا معه في المجلس‪ -‬إليه‪ ،‬ولم أرها بعد‪.‬‬
‫وكان السلطان صاحب مصر‪ ،‬قد بعث من بابه‬ ‫ثم دخلت عليه يوما آخر‪ ،‬فقال لي‪ :‬أتسافر إلى‬
‫سفيرًا إلى األمير تمر إجابة إلى الصلح الذي طلب‬ ‫مصر؟‬
‫منه‪ ،‬فأعقبني إليه‪ .‬فلما قضى رسالته رجع‪ ،‬وكان‬ ‫فقلت‪ :‬أيَّدك اهلل‪ ،‬رغبتي إنما هي أنت‪ ،‬وأنت‬
‫وصوله بعد وصولي‪ ،‬فبعث إلي مع بعض أصحابه‬ ‫قد أويت وكفلت‪ ،‬فإن كان السفر إلى مصر في‬
‫يقول لي‪ :‬إن األمير تمر قد بعث معي إليك ثمن‬ ‫خدمتك فنعم‪ ،‬وإال فال بغية لي فيه‪.‬‬
‫البغلة التي ابتاع منك‪ ،‬وهي هذه فخذها‪ ،‬فإنه عزم‬ ‫َ‬
‫فالتفت إلى‬ ‫فقال ال‪ ،‬بل تسافر إلى عيالك وأهلك‬
‫علينا من خالص ذمته من مالك هذا‪.‬‬ ‫ابنه‪ ،‬وكان مسافرًا إلى شقحب لمرباع دوابه‪،‬‬
‫فقلت ال أقبله إال بعد إذن من السلطان الذي بعثك‬ ‫واشتغل يحادثه‪ ،‬فقال لي الفقيه عبد الجبّار الذي‬
‫إليه‪ ،‬وأما دون ذلك فال‪ .‬ومضيت إلى صاحب‬ ‫كان يترجم بيننا‪ :‬إن السلطان يوصي ابنه بك‪.‬‬
‫الدولة فأخبرته الخبر فقال‪ :‬وما عليك؟!‬ ‫فدعوت له‪ ،‬ثم رأيت أن السفر مع ابنه غير‬
‫فقلت إن ذلك ال يجمل بي أن أفعله دون اطالعكم‬ ‫مستبين الوجهة‪ ،‬والسفر إلى صفد أقرب السواحل‬
‫عليه‪ ،‬فأغضى عن ذلك‪ ،‬وبعثوا إلي بذلك المبلغ بعد‬ ‫أملك ألمري‪ .‬فقلت له ذلك‪ ،‬فأجاب إليه‪،‬‬‫إلينا ُ‬
‫مدة‪ ،‬واعتذر الحامل عن نقصه بأنه أُعطيه كذلك‪،‬‬ ‫وأوصى بي قاصدًا كان عنده من حاجب صفد ابن‬
‫وحمدت اهلل على الخالص‪.‬‬ ‫الداويداري فودعته وانصرفت‪ ،‬واختلفت الطريق‬
‫وكتبت حينئذ كتابًا إلى صاحب المغرب‪ ،‬عرفته‬ ‫مع ذلك القاصد‪ ،‬فذهب عني‪ ،‬وذهبت عنه‪.‬‬
‫بما دار بيني وبين سلطان الططر تمر‪ ،‬وكيف كانت‬
‫واقعته معنا بالشام‪ ،‬وضمنت ذلك في فصل من‬ ‫السفر إلى القاهرة‬
‫الكتاب (يقصد كتاب العبر)‪.‬‬ ‫وسافرت في جمع من أصحابي‪ ،‬فاعترضتنا جماعة‬
‫من العشير قطعوا علينا الطريق‪ ،‬ونهبوا ما معنا‪،‬‬
‫ونجونا إلى قرية هنالك عرايا‪ .‬واتصلنا بعد يومين‬
‫فخلَفنا بعض الملبوس‪ ،‬وأجزنا‬ ‫بالص َب ْي َبة َ‬
‫أو ثالثة ُّ‬
‫أصدر "المركز العربي لألدب الجغرافي‪ -‬ارتياد اآلفاق" كتاب‬ ‫مركب من‬
‫ٌ‬ ‫إلى صفد‪ ،‬فأقمنا بها أيامًا‪ .‬ثم مر بنا‬
‫"رحلة ابن خلدون" من تحقيق ابن تاويت الطنجي‪ ،‬وقد حرره‬
‫و قدم له نوري الجراح ونشر الكتاب "دار السويدي" في أبو ظبي‬
‫مراكب ابن عثمان سلطان بالد الروم‪ ،‬وصل فيه‬
‫رسول كان سفر إليه عن سلطان مصر‪ ،‬ورجع‬
‫بالتعاون مع "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت‪.‬‬

‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪120‬‬


‫سنة ‪ 731‬هـ‪ 30 /‬يونيو ‪1331‬م‪ ،‬قادما إليها من كلوا‬
‫ار الحموض‬ ‫«ركبنا البحر من كلوا إلى مدينة ُظ َف ِ‬
‫وهي آخر بالد اليمن على ساحل البحر الهندي‪،‬‬
‫ومنها ُتحمل الخيل العتاق إلى الهند‪ ،‬ويقطع البحر‬
‫فيما بينها وبين بالد الهند مع مساعدة الريح في‬
‫مرة من قالقوط من بالد الهند‬ ‫شهر كامل‪ ،‬قد قطعته ّ‬
‫إلى ظفار في ثمانية وعشرين يوما بالريح الطيب‪،‬‬
‫لم ينقطع لنا جريٌ بالليل وال بالنهار‪ ،‬وبين ظفار‬
‫وعدن مسيرة شهر في الصحراء‪ ،‬وبينها وبين‬
‫حضرموت ستة عشر يوما‪ ،‬وبينها وبين عُ مان‬
‫عشرون يوما»‪ ،‬سمى ابن بطوطة ظفار الحموض‪،‬‬
‫ولكن اسمها الصحيح هو ظفار الحبوضي‪ ،‬وقد‬
‫زارها مرتين‪ ،‬كانت الزيارة األولى ضمن رحلته‬
‫األولى التي امتدت نحو ‪ 28‬سنة‪ ،‬وزار ظفار مرة‬
‫أخرى حين عودته من القارة الهندية‪.‬‬
‫كانت ظفار حينما زارها ابن بطوطة في عهد‬
‫الدولة الرسولية‪ ،‬أيام السلطان المُ غيث ابن الملك‬
‫الفائز ابن عم ملك اليمن‪ ،‬وكان أبوه أميرا على‬
‫ظفار من قِبل صاحب اليمن‪.‬‬
‫ُقدم ابن بطوطة في رحلته وصفا لمدينة ظفار‬ ‫ي ّ‬
‫من حيث المكان فيقول‪« :‬ومدينة في صحراء‬
‫منقطعة ال قرية بها وال عمالة لها»‪ ،‬ولكن في الواقع‬
‫الجغرافي فإن مدينة ظفار – صاللة الحالية‪ -‬تقع‬
‫في سهل حجري أجرد منبسط يسمى (الجربيب)‬
‫تحيط به جبال ظفار من جهة الشمال وبحر‬
‫العرب من جهة الجنوب‪.‬‬
‫يمتد هذا السهل من مرفأ ريسوت غربا إلى مدينة‬

‫النظار‬
‫ّ‬ ‫ظفار يف تحُ فة‬
‫مرباط شرقا‪ ،‬ويرجع إغفال ابن بطوطة عن ذكر‬
‫الجبال المحيطة بالمدينة‪ ،‬إلى حالة الطقس في‬
‫الوقت الذي زار فيه ظفار‪ ،‬حيث يسود المناخ‬
‫الموسمي نتيجة هبوب الرياح الموسمية الغربية‬ ‫حجر في ميناء سمهرم عليه كتابة المسند‬
‫من المحيط الهندي‪ ،‬فإذا كانت زيارته قد تمت في‬ ‫كتابة حممد بن م�ستهيل ال�شحري‬
‫‪ 23‬من رمضان من سنة ‪ 731‬هـ‪ ،‬وهو ما يقابله‬ ‫ت�صوير‪ :‬نوري اجلراح‬
‫في التاريخ الميالدي ‪ 30‬يونيو ‪1331‬م‪ ،‬فيعني ذلك‬
‫أن زيارته كانت في فصل الخريف كما يسمى في‬
‫ظفار‪ ،‬فالفصول األربعة يتم تقسيمها في ظفار على‬ ‫إن المدينة التي ذكرها ابن بطوطة في ظفار هي‬ ‫�أ�صبحت كتابات الرحالة واجلغرافيني حق ًال مهما للدار�سني والباحثني‪ ،‬خا�صة �أولئك املهتمني بالعلوم‬
‫غير عادة تقسيم الفصول‪ ،‬فعلى سبيل الذكر يبدأ‬ ‫مدينة المنصورة‪ ،‬والتي بناها حاكمها أحمد بن‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬نظر ًا لغنى تلك الكتابات واحتوائها على معلومات ومالحظات قيمة تزداد احلاجة �إليها كلما‬
‫فصل الخريف في ‪ 21‬يونيو وينتهي ‪ 21‬سبتمبر‪،‬‬ ‫عبد اهلل الحبوضي سنة ‪620‬هـ‪1228 /‬م‪ ،‬وانتقل‬
‫وخالل هذا الفصل تتساقط األمطار لمدة ثالثة‬ ‫إليها من ظفار القديمة‪ ،‬التي يعتقد البعض أنها‬ ‫تقدم بها الزمن‪ ،‬فقد وثق الرحالة حالة املجتمعات التي مروا بها ودونوا كل ما �شاهدوه من عادات‬
‫شهور متتالية‪ ،‬وتعد هذه األمطار مهمة للنشاط‬ ‫مدينة مرباط‪ ،‬عاصمة الدولة المنجوية‪ ،‬وقد سمى‬ ‫وتقاليد وفنون و�أ�سلوب حياة‪ ،‬ومن �أولئك‪ ،‬الرحالة ابن بطوطة �صاحب رحلة (حتفة النظار يف غرائب‬
‫الزراعي في ظفار‪ ،‬أما فصل الربيع الذي يسمى‬ ‫بعض الجغرافيين والرحالة المدينة الجديدة التي‬
‫بناها الحبوضي َ‬ ‫الأم�صار وعجائب الأ�سفار)‪ ،‬والذي زار ظفار يف �سنة ‪1331‬م‪ ،‬ور�صد احلياة االجتماعية والثقافية والدينية‬
‫(بالصرب) فيبدأ من ‪ 21‬سبتمبر وينتهي في ‪21‬‬ ‫(بظ َفار الحبوضي)‪.‬‬
‫ديسمبر‪ ،‬ويبدأ فصل الشتاء في ‪ 21‬ديسمبر وينتهي‬ ‫زار ابن بطوطة ظفار في ‪ 23‬من رمضان من‬ ‫يف مدينة ظفار‪ ،‬و�أ�صبحت رحلة ابن بطوطة مرجعا للعديد من الباحثني واملهتمني بتاريخ املنطقة‪.‬‬

‫‪123‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪122‬‬


‫مرعى خصب ف البليدة‬

‫اطالل البلدة ومبانيها في ميناء سمهرم‬


‫بحر‪ ،‬فهم صيادون في معظم أنشطتهم االقتصادية‪،‬‬ ‫احلياة االقت�صادية‪:‬‬

‫إشارة إلى ضريح عابر بن هود في صاللة‬


‫فهو يصف قرية األحقاف بأنها قرية صيادين‪ ،‬وهو‬ ‫عدد ابن بطوطة األنشطة االقتصادية التي يمارسها‬
‫وصف صحيح لنشاط السكان القاطنين في السواحل‬ ‫أهل ظفار‪ ،‬فيقول بأنهم أهل تجارة وال عيش لهم إال‬
‫التي مر عليها ابن بطوطة في رحلته في ظفار‪.‬‬ ‫منها‪ ،‬وكان حكمه على ذلك بناء على مشاهدته‬
‫كان سمك السردين في ظفار يلفت أنظار الرحالة‪،‬‬ ‫للسوق الموجود خارج القرية في مكان يسمى‬
‫فقد ذكر ابن المجاور «ومطعوم دوابهم السمك‬ ‫الحرجاء‪ ،‬وقد وصف السوق بأنه من أقذر األسواق‬
‫اليابس وهو ال َع ْيد‪ ،‬ولم يزبلوا أراضيهم إال بالسمك»‪،‬‬ ‫وأشدها نتنا‪ ،‬وأكثرها ذبابا لكثرة ما يباع بها من‬
‫ولم يكن الرحالة العرب وحدهم من ذكر سمك‬ ‫الثمرات والسمك‪ ،‬وهو كالم دقيق إذا اعتبرنا أن‬
‫السردين في ظفار‪ ،‬فهذا الرحالة البريطاني‬ ‫الرجل قد جاء إلى ظفار في موسم الخريف‪ ،‬حيث‬
‫ثيسيجر يقول حينما زار صاللة في ‪ 15‬أكتوبر‬ ‫يكثر الذباب‪ ،‬وتصبح األماكن رطبا بفعل األمطار‪،‬‬
‫‪1945‬م‪»،‬عندما وصلت كان الصيادون يصطادون‬ ‫وذلك ال يعني أن ما ينطبق على السوق ينطبق على‬
‫بشباكهم سمك السردين‪ ،‬وتحت أشعة الشمس‬ ‫أهل ظفار‪ ،‬فقد قال عنهم «يغتسلون مرات في‬
‫يجففون كميات كبيرة منه‪ ،‬ورائحتها العفنة تعم‬ ‫اليوم‪ ،...‬ولهم في كل مسجد مطاهر كثيرة معدة‬
‫البلدة»‪ ،‬ويتم اصطياد السردين في صاللة في‬ ‫لالغتسال»‪ ،‬وذلك يعني أن الرجل يكتب بعفوية‬
‫الشواطئ الممتدة من ريسوت غربا إلى شواطئ‬ ‫عما يتذكره‪ ،‬دون أن يتحامل على أهل البلدان التي‬
‫طاقة شرقا‪.‬‬ ‫زارها‪.‬‬
‫ويتم صيد السردين بطريقتين تقليديتين‪ ،‬الطريقة‬ ‫ويقول أيضا عن ظفار «ومنها تحمل الخيل العتاق‬
‫األولى تتم في شهر أكتوبر وتمتد حتى شهر‬ ‫إلى الهند»‪ ،‬كذلك وصفه عن استقبال أهل ظفار‬
‫أبريل وتسمى (الضواغي) وتعني تعاون عدد كبير‬ ‫للتجار‪ ،‬كل ما ذكره يدعم وصفه ألهل ظفار بأنهم‬ ‫الدارسين والمهتمين بالتاريخ العُماني بشكل عام‬ ‫في ‪ 21‬مارس‪ ،‬وبعد الشتاء يأتي فصل الصيف‬
‫من الناس لصيد السردين بكميات كبيرة‪ ،‬ويقوم‬ ‫أهل تجارة‪.‬‬ ‫وتاريخ ظفار بصفة خاصة‪ ،‬وذلك للمعلومات‬ ‫‪21‬‬ ‫ويسمى (القيظ) ويبدأ من ‪ 21‬مارس وينتهي‬
‫الصيادين يقودهم الربان باإلبحار في السنبوق‪،‬‬ ‫أما قوله «أكثر سمكها النوع المعروف بالسردين‪،‬‬ ‫الدقيقة التي احتفظت بها ذاكرة ابن بطوطة لمدة‬ ‫يونيو‪.‬‬
‫ويلقون بالشبكة الكبيرة في البحر‪ ،‬التي تجمع‬ ‫وهو بها في النهاية من السمن‪ ،‬ومن العجائب أن‬ ‫ربع قرن من الزمان‪ ،‬وقد رصد من خالل إقامته‬ ‫لكن ذلك ال يعني أن ما كتبه ابن بطوطة في‬
‫أعدادا كبيرة من السردين‪ ،‬ومن ثم يسحبون‬ ‫دوابهم إنما علفها من هذا السردين‪ ،‬وكذلك غنمهم‪،‬‬ ‫بعض الظواهر االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬وكتب‬ ‫ظفار يدخل في باب التزييف أو االفتراء‪ ،‬فقد أنصف‬
‫الشبكة إلى الشاطئ»‪ ،‬كما ذكر باعمر‪ ،‬حسين‬ ‫ولم أر ذلك في سواها»‪.‬‬ ‫عن بعض العادات الدينية كما رآها‪ ،‬واعتمادا على‬ ‫أهل ظفار ولم يجاملهم‪ ،‬في الوقت الذي نجد فيه‬
‫علي المشهور‪ ،‬تاريخ ظفار التجاري ( ‪.)1950-1800‬‬ ‫وهو قول صحيح‪ ،‬ألن المجتمع في ظفار مجتمع‬ ‫وصفه يمكننا أن نتحدث عن ثالثة جوانب من‬ ‫إجحافا بحق بعض المدن العُمانية التي كتب‬
‫أما الطريق الثانية فتسمى صيد عْ يد العال‪ ،‬وهي‬ ‫رعوي يربي الماشية إلطعام ماشيتهم من أجل‬ ‫حياة أهل ظفار في رحلة (تحفة النظار في غرائب‬ ‫عنها بعض المغالطات مثل قصته مع السلطان حامي‬
‫عادة اقتصادية تنتشر في سواحل محافظة ظفار‬ ‫االنتفاع بحليبها ولحمها وسمنها‪ ،‬وظهرها‪.‬‬ ‫األمصار وعجائب األسفار) هي الحياة االقتصادية‪،‬‬ ‫الفساد‪.‬‬
‫ويمارسها الذكور من سن العاشرة إلى سن الستين‪،‬‬ ‫إذا وصف ابن بطوطة أهل ظفار بأنهم أهل تجارة‪،‬‬ ‫والحياة االجتماعية‪ ،‬والحياة الدينية‪ ،‬وسنتحدث‬ ‫إن زيارة ابن بطوطة لظفار‪ ،‬ووصفه للحالة التي‬
‫وتشارك النساء في هذه العادة ولكن بأعداد قليلة‬ ‫فيمكننا أن نضيف أيضا أن أهل ظفار هم أهل‬ ‫عن كل جانب ببعض التفصيل‪.‬‬ ‫رآها فيها‪ُ ،‬تعد من أهم المراجع التي اعتمد عليها‬

‫‪125‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪124‬‬


‫جوز النارجيل الذي تحدث عنه ابن بطوطة‬

‫وعثمان وعلي‪ ،‬أما الظهر فيحمل ألقاب المظفر‬


‫يوسف‪« :‬السلطان الملك المظفر شمس الدين يوسف‬
‫بن الملك المنصور عمر»‪ ،‬ويوجد على الحاشية‬
‫اسم آخر خلفاء العباسين‪ ،‬المستعصم باهلل أمير‬
‫المؤمنين‪ ،‬باإلضافة إلى دار الضرب والتاريخ‪ ،‬تتسم‬
‫دراهم األسرة الرسولية برقتها وبكونها أخف كثيرا‬
‫من الدراهم التقليدية‪ ،‬ومن المحتمل أن يكون‬
‫الرحالة األمريكي ويندل فيليبس هو الذي أخذ معه‬
‫هذه العملة المعدنية من ظفار إلى نيويورك‪.‬‬

‫ساهمت ذاكرة ابن بطوطة في حفظ العملة‬


‫الرسولية وذكرها ضمن المظاهر االقتصادية التي‬
‫شاهدها وكتبها كما هي‪ ،‬األمر الذي جعل الباحثين‬
‫يتوصلون إلى معرفة النقد المتداول في ظفار أيام‬ ‫ملتقى الخور بالبحر في مدخل ميناء سمهرم‬
‫الرسوليين‪ ،‬كما يكشف أيضا عن االستقالل اإلداري‬
‫لسلطان ظفار عن القوى اإلقليمية في جنوب‬ ‫لها‪ ،‬فقد ذكر بأن دراهم هذه المدينة من النحاس‬ ‫إال من صيد األسماك‪ ،‬وسمكهم يُعرف باللخم‪،‬‬ ‫ويقتصر دورهن على تقليب ال َع ْيد و جمعها‪.‬‬
‫الجزيرة العربية‪.‬‬ ‫والقصدير‪ ،‬وال ُتنفق في سواها‪ ،‬وقد قمنا بالبحث‬ ‫وهو شبيه كلب البحر‪ ،‬يُشرح ويقدد ويقتات‬ ‫ُتمارس هذه العادة في آخر شهر أبريل من كل سنة‬
‫يذكر ابن بطوطة العديد من المحاصيل الزراعية‬ ‫عن هذه العُملة‪ ،‬ووجدنا أنه كانت في ظفار دار‬ ‫به‪ ،‬وبيوتهم من عظام السمك»‪ ،‬وهو قول صحيح‪،‬‬ ‫عندما تجنح أعداد كبيرة من أسماك السردين إلى‬
‫في ظفار ويعدد استخداماتها وفوائدها‪ ،‬فهو يتحدث‬ ‫ضرب للنقود أيام حكم الدولة الرسولية‪ ،‬التي‬ ‫فإلى هذه الساعة فإن أهل حاسك يشتغلون بصيد‬ ‫الشواطئ الشرقية لمحافظة ظفار‪ ،‬وقد قمت‬
‫عن شجرة النارجيل (جوز الهند)‪ ،‬ويتحدث عن‬ ‫حكمت ظفار أثناء زيارة ابن بطوطة‪ ،‬وقد سكت‬ ‫السمك‪ ،‬ومنها سمك القرش الذي يُقدد ويجفف‪،‬‬ ‫بصيد عيد العال‪ ،‬وجففتها وحشوتها في أكياس من‬
‫التنبول‪ ،‬وعن شجر الموز‪ ،‬والقمح الذي يُسمى في‬ ‫عملة معدنية هي درهم على الطراز الرسولي‬ ‫وتلك هي طريقة حفظه‪ ،‬وتوجد في قرية حاسك‬ ‫الخيش لنطعهما لإلبل‪ ،‬أو نقوم بتخزينها في حفر‬
‫ظفار العلس‪ ،‬ويسمى بذلك ألنه يُطحن‪ ،‬كما ذكر‬ ‫التقليدي مؤرخ في ‪689‬هـ‪ ،‬وهذه العملة موجودة‬ ‫القديمة بقايا البيوت التي شاهدها ابن بطوطة‪،‬‬ ‫ونغطيها بساتر من البالستيك أو من أقمشة بالية‪،‬‬
‫أيضا شجرة اللبان حينما نزل في بندر حاسك‪،‬‬ ‫حاليا ضمن مجموعة الجمعية األمريكية لقطع‬ ‫وعظام األسماك التي ذكرها هي عظام لحوت العنبر‪،‬‬ ‫ومن ثم نفرش فوقها التراب والرمال‪.‬‬
‫وسماه شجر الكندر‪ ،‬ويستخرج من الجبال المحيط‬ ‫النقود في نيويورك‪ ،‬ويحمل وجه هذا الدرهم لفظ‬ ‫فإذا جنح الحوت إلى البر‪ ،‬ينتفع األهالي بعظمه‪.‬‬ ‫باإلضافة إلى سمك السردين يذكر ابن بطوطة‬
‫بحاسك أجود أنواع اللبان في ظفار‪ ،‬وذلك لبعده‬ ‫الشهادتين والمعنى المأخوذ من اآلية ‪ 33‬من سورة‬ ‫يُعد ابن بطوطة من الرحالة القالئل الذين تحدثوا‬ ‫أصناف عدة من األسماك التي رآها في ظفار فيقول‬
‫عن المناطق التي تتأثر بالرياح الموسمية‪ ،‬ويكون‬ ‫التوبة‪ ،‬وأسماء الخلفاء الراشدين‪ ،‬أبو بكر وعمر‬ ‫عن العملة المتداولة في ظفار أثناء زيارتهم‬ ‫عن أهل حاسك «وال معيشة ألهل ذلك المرسى‬

‫‪127‬‬ ‫‪126‬‬
‫وجه صاللي‬
‫الصائد والسمكة العمانيون مازالوا صائدي سمك مهرة‬

‫فوق ظهره أخرى من شدة الحر‪ ،‬وأكثر أهلها‬ ‫بواسطة الجمال‪ ،‬ويقوم واحد أو اثنان من الرجال‬
‫رؤوسهم مكشوفة ال يجعلون عليها عمائم»‪ .‬تتفق‬ ‫بإدارة الجمال ذهابا ورواحا» كما ورد في دراسة‬
‫مالحظات ابن بطوطة مع صورة المجتمع الظفاري‪،‬‬ ‫باعمر‪ ،‬حسين علي المشهور‪ ،‬تاريخ ظفار التجاري‬
‫فال تزال بعض النسوة ذوات البشرة السمراء‬ ‫( ‪ ،)1950-1800‬وكانت هذه الطريقة مستخدمة في‬
‫يبعن في األسواق‪ ،‬ولكن دون اللباس األسود‪ ،‬وهو‬ ‫رعي المزارع في ظفار إلى بداية سنة ‪.1970‬‬
‫في الحقيقة لباس من النيلة يستورد من الهند‪،‬‬ ‫ويوجد هناك تشابه بين اسم هذه العادة وبين اسم‬
‫وبمرور الوقت تذهب النيلة منه‪ ،‬ويتحول الثوب‬ ‫المزرعة في بالد المغرب العربي‪ ،‬حيث يُطلق على‬
‫إلى لون السواد‪ ،‬وهذا اللباس يشبه لباس النساء‬ ‫المزرعة هناك اسم (السانية)‪ ،‬وتوجد في والية‬
‫في الصحراء الكبرى‪ ،‬حيث يُطلى الثوب النسائي‬ ‫وهران في الغرب الجزائري بلدية اسمها (السانية)‬
‫بالنيلة‪ ،‬لما للنيلة من فوائد حيث تستخدمه‬ ‫واسمها مشتق من الساقية أو النافورة‪ ،‬وجمعها‬
‫النساء كمفتح للبشرة‪ ،‬ومن هنا يُمكن أن تكون‬ ‫سوان كما جاء في موقع الموسوعة الحرة‬
‫مقارنة ابن بطوطة صحيحة حينما عقد مقارنة‬ ‫‪.http://ar.wikipedia.org/wiki‬‬
‫في ذهنه بين أهل ظفار وأهل المغرب‪ ،‬وليست‬ ‫وقد رصد ابن بطوطة األمراض السائدة في ظفار‬
‫األزياء وحدها من دعمت تشابه أهل ظفار وأهل‬ ‫والمنتشرة بين أهلها حيث قال‪« :‬والغالب على‬
‫المغرب عند ابن بطوطة‪ ،‬بل أسماء الجواري أيضا‪،‬‬ ‫أهلها رجالًا ونساء المرض المعروف بداء السفيل‪،‬‬
‫فقد نزل بدار خطيب المسجد عيسى بن علي‪،‬‬ ‫وهو انتفاخ القدمين‪ ،‬وأكثر رجالهم مبتلون باألدر‪.‬‬
‫النارجيل‬ ‫اإلزار الظفاري الذي وصفه ابن بطوطة‬
‫خدام المغرب‬ ‫الذي يملك جواري مسميات بأسماء ّ‬ ‫وقد رأيت رجال في بداية العام ‪ 2000‬مصاب بداء‬
‫(بخيتة‪ ،‬وزاد المال)‪.‬‬ ‫السفيل‪ ،‬أما األدر فيصيب الرجال في ظفار بسبب‬
‫أما فيما يتعلق بالخدم فإن ظاهرة تجارة الرقيق‬ ‫تسلقهم ألشجار النارجيل حيث يؤدي تسلق النخلة‬ ‫ظفار‪« ،‬وكيفية سقيهم أنهم يصنعون دلوا كبيرة‪،‬‬ ‫اللبان جيدا في المناطق التي تشتد فيها الحرارة‪.‬‬
‫كانت تجارة رائجة في ظفار‪ ،‬نظرا لقربها من‬ ‫في بعض األحيان إلى اصطدام الخصية بجذع‬ ‫ويجعلون لها حباال كثيرة‪ ،‬ويتحزم بكل حبل عبد‬ ‫لم يغب عن بال ابن بطوطة الوجبات الغذائية ألهل‬
‫السواحل اإلفريقية‪ ،‬إضافة إلى كون ظفار إحدى‬ ‫الشجرة مما يسبب في فتقها‪.‬‬ ‫أو خادم‪ ،‬ويجرون الدلو على عود كبير مرتفع عن‬ ‫ظفار‪ ،‬فيقول إن األرز أكثر طعامهم‪ ،‬وأكلهم الذرة‪،‬‬
‫المحطات البحرية في الذهاب والعودة من السواحل‬ ‫البئر‪ ،‬ويصبونها في صهاريج يسقون منه»‪ ،‬وهذه‬ ‫وإنه أحضر معه كعك وخبز من ظفار حينما سافر‬
‫اإلفريقية‪ ،‬وقد قامت ثورة ظفار بعد مؤتمر حمرين‬ ‫احلياة االجتماعية‪:‬‬ ‫الطريقة تسمى في ظفار بالسناوه «وهي طريقة‬ ‫على ظهر المركب‪ ،‬وتشتهر ظفار بصناعة خبز‬
‫‪ 1968‬بتجريم تجارة الرق وحررت العبيد‪ .‬لكن‬ ‫قدم ابن بطوطة وصفا فوتوغرافيا لسكان ظفار‪،‬‬ ‫تقليدية في سقي المزروعات‪ ،‬وأدواتها الشروعة‪،‬‬ ‫في تنور أرضي‪ ،‬و يسمى الخبز بالكعك‪ ،‬أو خبز‬
‫وضع الخدم في ظفار كان أفضل حاال من بعض‬ ‫حيث ذكر مالبسهم وطريقة لبسها‪ ،‬فيقول «أكثر‬ ‫وتتكون الشروعة من حبال وعجالت وقطع من‬ ‫القالب‪ ،‬ويذكر أنهم يشوون السمك ويأكلونه مع‬
‫المجتمعات التي عرفت الرق والعبودية‪.‬‬ ‫باعتها الخدم‪ ،‬وهن يلبسن السواد‪ ،...‬ولباسهم‬ ‫الحطب وأخشاب النارجيل‪ ،‬إذ يُربط الغرب (دلو‬ ‫التمر‪ ،‬ال تزال هذه العادة في ظفار‪ ،‬مما يدل على‬
‫يلبس الرجال في جنوب الجزيرة العربية الفوطة‬ ‫القطن‪ ،...‬ويشدون الفوط في أوساطهم عوض‬ ‫مصنوع من جلد الماعز أو الوعل) بحبل غليظ‬ ‫أن أهل ظفار متمسكين بعاداتهم‪ ،‬منذ زيارة ابن‬
‫التي تسمى (الوزار) عوضا عن السراويل‪ ،‬أما‬ ‫يشد فوطة في وسطه‪ ،‬ويجعل‬ ‫ّ‬ ‫السروال‪ ،‬وأكثرهم‬ ‫يسمى «الرشا» ويُنزل إلى البئر‪ ،‬ومن ثم يُرفع‬ ‫بطوطة إلى هذه الساعة‪.‬‬
‫الماء على عجال مصنوعة من خشب جوز الهند‬ ‫لقد وصف ابن بطوطة طريقة سقي المزارع في‬

‫‪129‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪128‬‬


‫موقع مدينة البليد‪ :‬زارها ابن بطوطة وتحدث عنها‬
‫قباب في جوار ضريح عابر بن هود‬

‫قبر عابر بن هود‬


‫لوحة تشير الى زيارة ابن بطوطة موقع مدينة البليد‬

‫بوتشيش‪ ،‬إبراهيم القادري‪ ،‬في دراسته «أضواء‬ ‫يزال عامرا حتى اآلن‪ ،‬حيث يتخذه السلطان قابوس‬ ‫لتطور الحياة االقتصادية‪ ،‬أما العادة الثانية وهي‬ ‫الفوطة التي ذكرها ابن بطوطة فهي الصبيغة‪،‬‬
‫على مجتمع ظفار وعاداته الشعبية من خالل‬ ‫مقرا حينما يتواجد في مدينة صاللة‪ ،‬ويوجد‬ ‫مصافحة المصلين بعد صالة الفجر والعصر وصالة‬ ‫وهي قطعة طويلة من القماش المصبوغ بالنيلة‪،‬‬
‫رحلة ابن بطوطة»‪ ،‬وقد نتفق مع هذا الرأي‬ ‫بالقرب منه سوق الحصن الشعبي‪.‬‬ ‫الجمعة‪ ،‬فإنها ال تزال موجودة في ظفار باستثناء‬ ‫فيشد الرجل نصفها حول وسط جسمه بينما يترك‬
‫إذا علمنا أن الفكر الصوفي قد بدأ بالظهور في‬ ‫التصافح بعد صالة الجمعة‪ ،‬حيث ينصرف الناس إلى‬ ‫النصف اآلخر على ظهره‪ ،‬ومع مرور الوقت أصبح‬
‫القرن السادس الهجري في منطقة جنوب الجزيرة‬ ‫احلياة الدينية‪:‬‬ ‫شؤونهم دون انتظار مصافحة جميع المصلين‪.‬‬ ‫هذا لباس أهل الجبل في ظفار‪ ،‬وهذا اللباس يثير‬
‫العربية‪ ،‬وكانت مدينة مرباط هي الحاضنة األولى‬ ‫إن االهتمام الذي أبداه ابن بطوطة تجاه ظفار‬ ‫يذكر ابن بطوطة عادة قرع الطبول واألبواق‬ ‫انتباه الرحالة ومنهم الرحالة البريطاني ثيسجر‪.‬‬
‫للفكر الصوفي‪ ،‬إذ توجد أضرحة للعديد من علماء‬ ‫يرجعه بعض الباحثين إلى عدة أسباب منها تصوف‬ ‫واألنفار على أبواب قصر السلطان الرسولي المسمى‬ ‫إن الحديث عن الحياة االجتماعية في ظفار أثناء‬
‫الصوفية‪ ،‬مثل محمد بن علي باعلوي‪ ،‬ومحمد بن‬ ‫ابن بطوطة وتحمسه لعالم الصوفية والمتصوفة‪،‬‬ ‫(بالحصن)‪ ،‬وإذا بحثنا عن هذه العادة لوجدنا شيئا‬ ‫زيارة ابن بطوطة‪ ،‬يقودنا إلى التطرق إلى الحديث‬
‫علي القلعي‪ ،‬باإلضافة إلى وجود قبر الصحابي زهير‬ ‫ومن خالل بعض الدالئل الواردة في الرحلة نجد‬ ‫منها حاضرا في الحياة الثقافية في ظفار إذ تقام‬ ‫عن العادات والتقاليد في تلك الفترة‪ ،‬ومنها تلك‬
‫بن قرضم الذي وفد على النبي صلى اهلل عليه‬ ‫الصوفية حاضرة بقوة لدى ابن بطوطة من خالل‬ ‫األفراح وحفالت الرقص التي يؤديها الرجال والنساء‬ ‫المتعلقة باستقبال التجار وطريقة معاملتهم‬
‫وسلم على رأس قومه يعلنون دخول أهل ظفار إلى‬ ‫جلوسه مع مشايخ ظفار وخطيب الجامع كما اشار‬ ‫معا‪ ،‬وخاصة رقصات الزنوج‪ ،‬أما قصر الحصن فال‬ ‫وحسن ضيافتهم‪ ،‬وهي عادة لم تعد موجودة نتيجة‬

‫‪131‬‬ ‫‪130‬‬
‫السنبوق‪ :‬مركب صاللي قديم في ميناء البليد‬

‫بالتصوف‪.‬‬
‫التشابه بين أهل ظفار وأهل المغرب‪:‬‬
‫أشرنا في بداية هذا البحث إلى أن ابن بطوطة‬
‫يُعتبر من األوائل القائلين بعروبة البربر وسكان‬
‫شمال إفريقيا‪ ،‬فهو ال يُورد وجه المقارنة بين‬
‫أهل ظفار وأهل المغرب من باب عجائب األسفار‪،‬‬
‫بل يورد األدلة المادية على ذلك التشابه فيذكر‬
‫«من الغرائب أن أهل هذه المدينة أشبه الناس‬
‫بأهل المغرب في شؤونهم‪ .‬نزلت بدار الخطيب‬
‫بمسجدها األعظم‪ ،‬وهو عيسى بن علي‪ ،‬كبير القدر‬
‫كريم النفس‪ .‬فكان له جوار مسميات بأسماء خدام‬
‫المغرب‪ ،‬إحداهن اسمها بخيتة واألخرى زاد المال‪.‬‬
‫ولم أسمع هذه األسماء في بلد سواها‪ ،...‬وفي كل‬
‫دار من دورهم سجادة الخوص‪ ،‬معلقة في البيت‪،‬‬
‫يصلي عليها صاحب البيت‪ ،‬كما يفعل أهل المغرب‪.‬‬
‫وأكلهم الذرة‪ .‬وهذا التشابه كله مما يقوي القول‬
‫بأن صنهاجة وسواهم من قبائل المغرب أصلهم من‬
‫حمير»‪.‬‬

‫نذكر بأن الظفاريين‬ ‫في ختام هذه الجولة يبقى أن ّ‬


‫ال يزالون يحتفظون ببعض العادات االجتماعية التي‬
‫ذكرها ابن بطوطة مثل التقوى وإكرام الضيف‪،‬‬
‫وأهل تواضع وحسن أخالق ومحبة للغرباء‪ ،‬كما‬
‫ال يزال طبق الرز بالسمك من أفضل الوجبات في‬
‫ظفار‪ ،‬بل يعتبر الطبق اليومي في أي بيت ظفاري‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أكل التمر مع السمك‪ ،‬وصيد السردين‬
‫وتجفيفه‪ ،‬وال زال الناس في ظفار يسمون أبنائهم‬
‫وبناتهم بأسماء مثل بخيت وبخيتة وزاد المال‪.‬‬
‫إن رحلة ابن بطوطة إلى ظفار تعتبر من أهم‬
‫الوثائق التاريخية واالجتماعية لهذه المنطقة‪ ،‬وال‬ ‫الشيخ أبي بكر‪ ،‬أبي العباس أحمد وأبي عبد اهلل‬ ‫في ظفار اإلقليم‪ ،‬حينما نزلوا من المركب بإحدى‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وقد أكرمه النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يُمكن أن ُتذكر ظفار دون ذكر رحلة ابن بطوطة‬ ‫محمد ابني الشيخ المذكور‪ ،‬باإلضافة إلى ذكر‬ ‫جزر كوريا موريا (الحالنيات حاليا)‪ ،‬ووجدوا‬ ‫لبعد بالده وكتب له كتابًا إلى قومه‪.‬‬
‫وتقديم تصوره عن مدينة ظفار (البليد الحالية)‬ ‫قاضي المدينة أبي هاشم عبد الملك الزبيدي‪ ،‬والتي‬ ‫بالجزيرة شيخا نائما‪ ،‬وليس معه متاع فال ركوة‬ ‫وتحظى قبور علماء الصوفية في ظفار باهتمام‬
‫والتي اتسعت وأصبح يُطلق عليها مدينة صاللة‪،‬‬ ‫ما تزال عائلته (الزبيدي) موجودة اآلن في ظفار‪.‬‬ ‫وال إبريق وال عُ كاز وال نعل‪ ،‬وهي عادة من انقطع‬ ‫الناس‪ ،‬ويوجد العديد من األسر التي تطوعت‬
‫وهذا ما قدمه أدب الرحلة إلى الثقافة العربية‪.‬‬ ‫إن قوة التذكير عند ابن بطوطة واحتفاظه بأسماء‬ ‫إلى اهلل وترك الدنيا‪ ،‬وقد رفض طعامهم‪ ،‬وصلى‬ ‫لخدمة هذه األضرحة‪ ،‬وتقام عند قبر محمد‬
‫لقد اجتهدنا هنا لكشف وتوضيح بعض اآلثار التي‬ ‫العلماء والشيوخ في ظفار‪ ،‬تعود إلى أنه أعاد الحياة‬ ‫بهم العصر والمغرب والعشاء‪ ،‬وكان حسن الصوت‬ ‫بن علي باعلوي‪ ،‬بعض الشعائر المعروفة لدى‬
‫ذكرها ابن بطوطة حينما زار ظفار‪ ،‬مثل ذكر‬ ‫إلى اللحظة الصوفية التي رآها وسمعها وعايشها‬ ‫مجيدا لها‪.‬‬ ‫الصوفيين مثل الحضرة التي تقام صبيحة كل يوم‬
‫األسر الحاكمة في ظفار من المنجويين وحتى آل‬ ‫أثناء تواجده في ظفار‪ ،‬ألن قوة التذكر تكمن في‬ ‫إذن هل نستطيع أن نقول إن (الذاكرة الصوفية)‬ ‫جمعة‪ ،‬وليلة المولد النبوي‪ ،‬وليلة الخامس عشر‬
‫كثير‪ ،‬وكذلك الكشف عن الدرهم الرسولي‪ ،‬وإلقاء‬ ‫إعادة الحياة إلى الشيء المراد تذكره‪ ،‬ومن ثم‬ ‫لدى ابن بطوطة‪ ،‬حفظت اسم صاحب الزاوية‬ ‫من شعبان والتي تسمى بالشعبانية‪ .‬وقد انتقل‬
‫الضوء على الفكر الصوفي في ظفار‪ ،‬وكذلك التطرق‬ ‫يمكن استرجاع المعلومة من الذهن‪ ،‬ومن هنا‬ ‫الشيخ الصالح العابد أبي محمد بن أبي بكر بن‬ ‫التصوف من مرباط إلى ظفار الحبوضي‪.‬‬
‫إلى التشابه بين لهجات أهل ظفار وأهل المغرب‪.‬‬ ‫نقول إن ظفار قد ارتبطت في ذهن ابن بطوطة‬ ‫عيسى من أهل ظفار‪ ،‬كما احتفظت بأسماء أبناء‬ ‫يذكر ابن بطوطة صورة أخرى من صور التصوف‬

‫‪133‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪132‬‬


‫ومعها خنجر عريض النصل‪ ،‬فأقبلت تدخله بين‬ ‫ذلك الملبن‪ ،‬وتكلمت بكالم لها فأنزلوها ثم أصعدوها‬ ‫عجوز يف �سفينة تقتل �شابة بخ�شبة‬
‫أضالعها موضعًا موضعًا وتخرجه‪ ،‬والرجالن يخنقانها‬ ‫ثانية ففعلت كفعلها في المرة األولى‪ ،‬ثم أنزلوها‬
‫بالحبل حتى ماتت‪.‬‬ ‫وأصعدوها ثالثة ففعلت فعلها في المرتين‪ ،‬ثم دفعوا‬ ‫لت�سافر مع امللك �إىل العامل الآخر‬
‫ثم وافى أقرب الناس إلى ذلك الميت فأخذ خشبة‬ ‫إليها دجاجة فقطعت رأسها ورمت به وأخذوا‬
‫وأشعلها بالنار‪ ،‬ثم مشى القهقرى نحو قفاه إلى‬ ‫الدجاجة فألقوها في السفينة‪.‬‬ ‫ف�ضالن‬
‫َ‬ ‫قطوف من رحلة ابنُ‬
‫السفينة ووجهه إلى الناس‪ ،‬والخشبة المشعلة‬ ‫فسألت الترجمان عن فعلها‪ ،‬فقال‪ :‬قالت في أول مرة‬
‫في يده الواحدة‪ ،‬ويده األخرى على باب استه وهو‬ ‫أصعدوها‪ :‬هو ذا أرى أبي وأمي‪ .‬وقالت في الثانية‪:‬‬ ‫بتكليف من‬
‫ٍ‬ ‫ال نعرف الكثري عنه‪ .‬انطلق ابنُ ف�ضالنَ يوم اخلمي�س ‪� 11‬صفر �سنة ‪309‬هـ ‪ ،‬املوافق ‪ 21‬حزيران �سنة ‪921‬م‪ ،‬برحل ٍة �شائق ٍة‬
‫عريان‪ ،‬حتى أحرق الخشب المعبأ الذي تحت‬ ‫هو ذا أرى جميع قرابتي الموتى قعودًا‪ .‬وقالت في‬ ‫ُ‬
‫الرحلة من بغداد وحتى ما يعتقد اليوم انه فنلندا �أحد ع�رش �شهراً‬ ‫ال�صقالبة العونَ منه‪ .‬وا�ستغرقت‬‫ُ‬ ‫العبا�سي الذي طلب‬
‫ِّ‬ ‫اخلليف ِة ا ُمل ْقتَدِ ِر‬
‫السفينة‪ ،‬من بعدما وضعوا الجارية التي قتلوها في‬ ‫المرة الثالثة‪ :‬هو ذا أرى موالي قاعدًا في الجنة‪،‬‬ ‫املختلف ثقافي ًا‪ .‬وقد مر الرحالة على الرتك‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫وامل�شاق وامل�صاعبِ ال�سيا�س َّي ِة واالنفتاح على الآخ ِر‬ ‫الذهابِ ‪ ،‬وكانت ً‬
‫مليئة باملغامراتِ‬ ‫يف َّ‬
‫جنب موالها‪.‬‬ ‫والجنة حسنة خضراء ومعه الرجال والغلمان وهو‬ ‫الوخزر والرو�س‪ ،‬و�صوال �إىل بالد ال�صقالبة‪ .‬وقد اعتمد حمرر الطبعة الأحدث من هذه الرحلة ال�شاعر �شاكر لعيبي على التحقيق الذي‬
‫الناس بالخشب والحطب‪ ،‬ومع كل واحد‬ ‫ُ‬ ‫ثم وافى‬ ‫يدعوني فاذهبوا بي إليه‪.‬‬ ‫ا�ستند على خمطوطة م�شهد‪-‬ايران‪ .‬و�صدرت هذه الطبعة عن «م�رشوع ارتياد الآفاق» �سنة ‪ ،2003‬و�ست�صدر قريبا يف طبعة جديدة‪.‬‬
‫خشبة قد ألهب رأسها‪ ،‬فيلقيها في ذلك الخشب‬ ‫فمروا بها نحو السفينة فنزعت سوارين كانا عليها‬
‫فتأخذ النار في الحطب‪ ،‬ثم في السفينة‪ ،‬ثم في القبة‬ ‫ودفعتهما إلى المرأة التي تسمى ملك الموت وهي التي‬
‫والرجل والجارية وجميع ما فيها‪ .‬ثم هبت ريح‬ ‫تقتلها‪ .‬ونزعت خلخالين كانا عليها ودفعتهما إلى‬
‫وغشوه بالمضربات الديباج الرومي والمساند الديباج‬ ‫وكان يقال لي إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت أمورًا‬
‫عظيمة هائلة فاشتد لهب النار واضطرم تسعرها‪.‬‬ ‫الجاريتين اللتين كانتا تخدمانها‪ ،‬وهما ابنتا المرأة‬
‫الرومي‪ ،‬ثم جاءت امرأة عجوز يقولون لها ملك الموت‬ ‫أقلها الحرق‪ ،‬فكنت أحب أن‬
‫وكان إلى جانبي رجل من الروسية فسمعته يكلم‬ ‫المعروفة بملك الموت‪.‬‬
‫ففرشت على السرير الفرش التي ذكرنا‪ ،‬وهي وليت‬ ‫أقف على ذلك‪ ،‬حتى بلغني موت رجل منهم جليل‬
‫الترجمان الذي معي‪ ،‬فسألته عما قال له؟ فقال‪ :‬إنه‬ ‫ثم أصعدوها إلى السفينة ولم يدخلوها إلى القبة‬
‫خياطته وإصالحه‪ ،‬وهي تقتل الجواري‪ ،‬ورأيت‬ ‫فجعلوه في قبره وسقفوا عليه عشرة أيام حتى فرغوا‬
‫يقول‪ :‬أنتم يا معاشر العرب حمقى‪.‬‬ ‫وجاء الرجال ومعهم التراس والخشب‪ ،‬ودفعوا إليها‬
‫جوان بيرة ضخمة مكفهرة‪.‬‬ ‫من قطع ثيابه وخياطتها‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬لم ذلك؟ قال‪ :‬إنكم تعمدون إلى أحب الناس‬ ‫قدحًا نبيذًا فغنت عليه وشربته‪ .‬فقال لي الترجمان‪:‬‬
‫فلما وافوا قبره نحوا التراب عن الخشب‪ ،‬ونحوا‬ ‫وذلك أن الرجل الفقير منهم يعملون له سفينة صغيرة‬
‫إليكم وأكرمهم عليكم فتطرحونه في التراب وتأكله‬ ‫إنها تودع صواحباتها بذلك‪ .‬ثم دفع إليها قدحًا آخر‬
‫الخشب واستخرجوه في اإلزار الذي مات فيه‪،‬‬ ‫ويجعلونه فيها ويحرقونها‪ ،‬والغني يجمعون ماله‬
‫التراب والهوام والدود‪ ،‬ونحن نحرقه بالنار في‬ ‫فأخذته وطولت الغناء‪ ،‬والعجوز تستحثها على‬
‫فرأيته قد اسود لبرد البلد‪ ،‬وقد كانوا جعلوا معه في‬ ‫ويجعلونه ثالثة أثالث‪ :‬فثلث ألهله‪ ،‬وثلث يقطعون له‬
‫لحظة فيدخل الجنة من وقته وساعته‪.‬‬ ‫شربه والدخول إلى القبة التي فيها موالها‪ ،‬فرأيتها‬
‫قبره نبيذًا وفاكهة وطنبورًا‪ ،‬فأخرجوا جميع ذلك فإذا‬ ‫به ثيابًا‪ ،‬وثلث ينبذون به نبيذًا يشربونه يوم تقتل‬
‫ثم ضحك ضحكًا مفرطًا‪ ،‬فسألت عن ذلك فقال‪ :‬من‬ ‫وقد تبلدت وأرادت دخول القبة فأدخلت رأسها بينها‬ ‫جاريته نفسها ُ‬
‫هو لم ينتن ولم يتغير منه شيء غير لونه‪.‬‬ ‫وتحرق مع موالها‪.‬‬
‫محبة ربه له قد بعث الريح حتى تأخذه في ساعة‪،‬‬ ‫وبين السفينة‪ ،‬فأخذت العجوز رأسها وأدخلتها القبة‬
‫فألبسوه سراويل ورانا وخفًا وقرطقًا وقفتان‬ ‫وهم مستهترون بالنبيذ يشربونه ليلًا ونهارًا‪ ،‬وربما‬
‫فما مضت على الحقيقة ساعة حتى صارت السفينة‬ ‫ودخلت معها‪.‬‬
‫ديباج له أزرار ذهب‪ ،‬وجعلوا على رأسه قلنسوة‬ ‫مات الواحد منهم والقدح في يده‪ .‬وإذا مات الرئيس‬
‫والحطب والجارية والمولى رمادًا مددًا‪.‬‬ ‫وأخذ الرجال يضربون بالخشب على التراس لئال‬
‫ديباج سمورية‪ ،‬وحملوه حتى أدخلوه القبة التي‬ ‫منهم قال أهله لجواريه وغلمانه‪ :‬من منكم يموت‬
‫ثم بنوا على موضع السفينة وكانوا قد أخرجوها من‬ ‫يسمع صوت صياحها فيجزع غيرها من الجواري وال‬
‫على السفينة‪ ،‬وأجلسوه على المضربة وأسندوه‬ ‫معه؟ فيقول بعضهم‪ :‬أنا‪ .‬فإذا قال ذلك فقد وجب عليه‪،‬‬
‫النهر شبيها بالتل المدور‪ ،‬ونصبوا في وسطه خشبة‬ ‫يطلبن الموت مع مواليهن‪ .‬ثم دخل إلى القبة ستة‬
‫بالمساند‪ ،‬وجاءوا بالنبيذ والفاكهة والريحان فجعلوه‬ ‫ال يستوي له أن يرجع أبدا ولو أراد ذلك ما ُترك‪ .‬وأكثر‬
‫كبيرة خدنك‪ ،‬وكتبوا عليها اسم الرجل واسم ملك‬ ‫رجال فجامعوا بأسرهم الجارية ثم أضجعوها إلى‬
‫معه‪.‬‬ ‫من يفعل هذا الجواري‪.‬‬
‫الروس وانصرفوا‪.‬‬ ‫جانب موالها‪ ،‬وأمسك اثنان رجليها واثنان يديها‬
‫وجاءوا بخبز ولحم وبصل فطرحوه بين يديه‪،‬‬ ‫فلما مات ذلك الرجل الذي قدمت ذكره قالوا لجواريه‪:‬‬
‫قال‪ :‬ومن رسم ملك الروس أن يكون معه في قصره‬ ‫وجعلت العجوز التي تسمى ملك الموت في عنقها‬
‫وجاءوا بكلب فقطعوه نصفين وألقوه في السفينة‪ .‬ثم‬ ‫من يموت معه فقالت إحداهن‪ :‬أنا فوكلوا بها جاريتين‬
‫أربعمئة رجل من صناديد أصحابه وأهل الثقة‬ ‫حبلًا مخالفًا ودفعته إلى اثنين ليجذباه‪ ،‬وأقبلت‬
‫جاءوا بجميع سالحه فجعلوه إلى جانبه‪ ،‬ثم أخذوا‬ ‫تحفظانها وتكونان معها حيث سلكت‪ ،‬حتى إنها ربما‬
‫عنده‪ ،‬فهم يموتون بموته ويقتلون دونه‪ ،‬ومع كل‬
‫دابتين فأجروهما حتى عرقتا ثم قطعوهما بالسيف‬ ‫غسلتا رجليها بأيديهما‪ .‬وأخذوا في شأنه وقطع‬
‫واحد منهم جارية تخدمه وتغسل رأسه وتصنع‬
‫وألقوا لحمهما في السفينة‪.‬‬ ‫الثياب له وإصالح ما يحتاج إليه‪ ،‬والجارية في كل يوم‬
‫له ما يأكل ويشرب‪ ،‬وجارية أخرى يطؤها‪ .‬وهؤالء‬
‫ثم جاءوا ببقرتين فقطعوهما أيضا وألقوهما فيها ثم‬ ‫تشرب وتغني فرحة مستبشرة‪.‬‬
‫األربعمئة يجلسون تحت سريره‪ ،‬وسريره عظيم‬ ‫ُ‬
‫أحضروا ديكًا ودجاجة فقتلوهما وطرحوهما فيها‪.‬‬ ‫حضرت‬ ‫فلما كان اليوم الذي يُحرق فيه هو والجارية‬
‫مرصع بنفيس الجوهر‪ ،‬ويجلس معه على السرير‬
‫والجارية التي تريد أن تقتل ذاهبة وجائية تدخل‬ ‫إلى النهر الذي فيه سفينته‪ ،‬فإذا هي قد أخرجت‬
‫أربعون جارية لفراشه‪ ،‬وربما وطئ الواحدة منهن‬
‫قبة من قبابهم فيجامعها صاحب القبة ويقول‬ ‫قبة ً‬‫ً‬ ‫وجعل لها أربعة أركان من خشب الخدنك وغيره‪،‬‬
‫بحضرة أصحابه الذين ذكرنا‪.‬‬
‫لها‪ :‬قولي لموالك إنما فعلت هذا من محبتك‪.‬‬ ‫وجعل أيضًا حولها مثل األنابير الكبار من الخشب‪ .‬ثم‬
‫وال ينزل عن سريره‪ ،‬فإذا أراد قضاء حاجة قضاها في‬
‫فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة جاءوا‬ ‫مدت حتى جعلت على ذلك الخشب‪ ،‬وأقبلوا يذهبون‬
‫طشت‪ ،‬وإذا أراد الركوب قدموا دابته إلى السرير‬
‫بالجارية إلى شيء قد عملوه مثل ملبن الباب‪،‬‬ ‫ويجيئون ويتكلمون بكالم ال أفهم‪ ،‬وهو بعد في قبره‬
‫فركبها منه‪ ،‬وإذا أراد النزول قدم دابته حتى‬
‫فوضعت رجليها على أكف الرجال وأشرفت على‬ ‫لم يخرجوه‪ .‬ثم جاءوا بسرير فجعلوه على السفينة‬
‫يكون نزوله عليه‪ ،‬وله خليفة يسوس الجيوش‬
‫ويواقع األعداء ويخلفه في رعيته‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪134‬‬
‫الفل�سطيني الذي من فل�سطني‬
‫قطوف من رحلة املقد�سي الب�شاري‬
‫ولد املقد�سي كما يرى البع�ض عام ‪ 336‬للهجرة �أي �سنة ‪ 947‬امليالدية وتويف �سنة ‪ 380‬الهجرية التي تعادل �سنة ‪ 990‬امليالدية‪.‬‬
‫وللأ�سف ال�شديد ف�إن معظم معاجم الرجاالت قد �أغفلت ذكره‪ ،‬حتى �أن معا�رصه ابن الندمي �صاحب (الفهر�ست) ال�شهري الذي �صنّفه‬
‫عام ‪ 377‬الهجري مل يذكر عنه �شيئ ًا مثلما مل ِّ‬
‫يعرج على الكثري من جغرافيي امل�سلمني‪ ،‬وهو �أمر ّ‬
‫يدل على عدم �إيالء الثقافة املعا�رصة‬
‫البن الندمي اهتمام ًا كبري ًا لأدب الرحلة والرحالت‪.‬‬

‫قال‪:‬‬ ‫هذا البحر‬


‫ُ‬
‫ودعوت في المحافل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واختلفت إلى المدارس‪.‬‬ ‫فتعجب أهل المجلس من ذلك‪.‬‬ ‫ُخرم‬
‫تخرم األحجارُ كما ي َّ‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬سمعت أن عندكم‬ ‫«وبينا أنا يومًا جالس مع أبي علي بن حازم أنظر في‬
‫وتكلمت في المجالس‪ .‬وأكلت مع الصوفية الهرائس‪.‬‬ ‫أدعيت ما ال يقبل‬‫َ‬ ‫محصل وقد‬‫ِّ‬ ‫وقيل‪ :‬أنت رجل‬ ‫الخشب‪.‬‬ ‫البحر ونحن بساحل عدن إذ قال لي‪:‬‬
‫ومع الخانقائيين الثرائد‪ ،‬ومع النواتي العصائد‪.‬‬ ‫منك وما مثلك إال كصاحب الناقة مع الحجاج‪.‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫‪ -‬ما لي أراك متفكرًا‪.‬‬
‫وطردت في الليالي من المساجد‪ ،‬وسحت في‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫‪ -‬أجل‪.‬‬ ‫قلت‪:‬‬
‫وتهت في الصحاري‪ .‬وصدقت في الورع‬ ‫ُ‬ ‫البراري‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أما قولي أجل‪ »..‬إلى آخر القصة‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫‪ -‬أيد اهلل الشيخ قد حار عقلي في هذا البحر‬
‫زمانا‪ ،‬وأكلت الحرام عيانا‪ .‬وصحبت عباد جبل‬ ‫أنا من فلسطين‬ ‫‪ -‬أحجاركم لينة ولصناعكم لطافة»‪.‬‬ ‫لكثرة االختالف فيه‪ ،‬والشيخ اليوم من أعلم الناس‬
‫لبنان‪ ،‬وخالطت حينًا السلطان‪ .‬وملكت العبيد‪،‬‬ ‫هنا مثال أخير لهذه السرديات ويكشف عن روح‬ ‫به ألنه إمام التجار ومراكبه أبدًا تسافر إلى‬
‫وحملت على رأسي بالزبيل‪ .‬وأشرفت مرارًا‬ ‫الفكاهة والطرافة لدى المقدسي‪:‬‬ ‫الرحالة ساردا‬ ‫أقاصيه‪ ،‬فإن رأى أن يصفه لي صفة اعتمد عليها‬
‫على الغرق‪ ،‬وقطع على قوافلنا الطرق‪ .‬وخدمت‬ ‫ُ‬
‫فسألت‬ ‫«وبعث إلي أمير عدن مصحفًا أجلده‪،‬‬ ‫يبدو المقدسي (حكواتيًا) حقيقيًا في بعض تلك‬ ‫وأرجع من الشك إليها فعل‪.‬‬
‫القضاة والكبراء‪ ،‬وخاطبت السالطين والوزراء‪.‬‬ ‫عن األشراس بالعطارين فلم يعرفوه ودلّوني على‬ ‫السرديات بل قصاصًا يستمتع بحبكات وعقد وحل‬ ‫فقال‪:‬‬
‫وصاحبت في الطرق الفساق‪ ،‬وبعت البضائع في‬ ‫المحتسب وقالوا عساه يعرفه‪ ،‬فلما سألته‪،‬‬ ‫قصته‪ ،‬يقول مثلًا‪:‬‬ ‫‪ -‬على الخبير بها سقطت‪( .‬ثم مسح الرمل بكفه‬
‫األسواق‪ .‬وسجنت في الحبوس‪ ،‬وأخذت على أني‬ ‫قال‪:‬‬ ‫وكنت يومًا في مجلس القاضي المختار أبي يحيى‬ ‫ورسم البحر عليه ال طيلسان وال طير‪ ،‬وجعل له‬
‫جاسوس‪ ،‬وعاينت حرب الروم في الشواني وضرب‬ ‫‪ -‬من أين أنت؟‬ ‫بن بهرام بالبصرة فجرى ذكر مصر إلى أن سئلت‬ ‫معارج متلسنة وشعبًا عدة ثم قال)‪ :‬هذه صفة هذا‬
‫النواقيس في الليالي‪ .‬وجلدت المصاحف بالكرى‪،‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫أج ُّل؟‬
‫بلد َ‬
‫أي ٍ‬ ‫البحر ال صورة له غيرها»‪.‬‬
‫واشتريت الماء بالغال وركبت الكنائس والخيول‪،‬‬ ‫‪ -‬من فلسطين‪.‬‬ ‫قلت‪:‬‬
‫ومشيت في السمائم والثلوج‪ ،‬ونزلت في عرصة‬ ‫قال‪:‬‬ ‫‪ -‬بلدنا‪.‬‬ ‫عارف بالعمارة‬
‫الج ّهال في محلة‬ ‫ُ‬
‫وسكنت بين ُ‬ ‫ّ‬
‫االجلة‪،‬‬ ‫الملوك بين‬ ‫‪ -‬أنت من بلدة الرخاء لو كان لهم أشراس ألكلوه‬ ‫قيل‪ :‬فأيها أطيب؟‬ ‫وقال في مطارحته ألحد البنائين في شيراز أثناء‬
‫الحاكة‪ .‬وكم نلت العز والرفعة‪ ،‬ودبر في قتلي‬ ‫عليك بالنشاء»‪.‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫إحدى رحالته‪ ،‬وفيها يتكشف عارفًا بفن العمارة‪،‬‬
‫غير مرة‪ .‬وحججت وجاورت‪ ،‬وغزوت ورابطت‪.‬‬ ‫يت بستة وثالثين إسمًا ُد ُ‬
‫عيت‬ ‫«ولقد سُ ِّم ُ‬ ‫‪ -‬بلدنا‪،‬‬ ‫وقد كان يقول قبل ذلك‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬مالحظات‬
‫وشربت بمكة من السقاية السويق‪ ،‬وأكلت الخبز‬ ‫وطبت بها مثل‪ :‬مقدسي وفلسطيني ومصري‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وخ‬ ‫قيل‪ :‬فأيها أفضل؟‬ ‫جد مهمة أخرى عن معرفته ونظراته الجمالية‬
‫والجلبان بالسيق‪ .‬ومن ضيافة ابراهيم الخليل‪،‬‬ ‫ومغربي وخراساني وسلمي ومقرئ وفقيه وصوفي‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫بالعمارة في ثنايا كتابه‪:‬‬
‫وجميز عسقالن السبيل‪ .‬وكسيت خلع الملوك‬ ‫وولي وعابد وزاهد وسياح ووراق ومجلد‬ ‫‪ -‬بلدنا؟‬ ‫«وجلست يومًا إلى بعض البنائين‪ ،‬أعني بشيراز‪،‬‬
‫وأمروا لي بالصالت‪ .‬وعريت وافتقرت مرات‪،‬‬ ‫ومذكر وإمام ومؤذن وخطيب وغريب‬ ‫ّ‬ ‫وتاجر‬ ‫قيل‪ :‬فأيها أحسن؟‬ ‫وأصحابه ينقشون بمعاول وحشة وإذا حجارتهم‬
‫وكاتبني السادات‪ ،‬ووبخني األشراف‪ .‬وعرضت‬ ‫وكرى‬
‫ّ‬ ‫وعراقي وبغدادي وشامي وحنيفي ومتؤدب‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫قدروها ثم خطوا‬ ‫على ثَ َخانة اللبن فإذا اعتدلت َّ‬
‫علي األوقاف‪ ،‬وخضعت لألخالف‪ .‬ورُ ميت بالبدع‪،‬‬ ‫ومتفقه ومتعلم وفرائضي واستاذ ودانشومند‬ ‫‪ -‬بلدنا‪.‬‬ ‫خطًا وقطعوه بالمعول‪ ،‬فربما انكسرت البالطة فإذا‬
‫ُ‬
‫واتهمت بالطمع‪ .‬وأقامني األمراء والقضاة أمينا‪،‬‬ ‫وشيخ ونشاسته وراكب ورسول‪ ،‬وذلك الختالف‬ ‫قيل‪:‬‬ ‫أعتدلت أقاموها على حدها‪ .‬فقلت لهم‪:‬‬
‫ودخلت في الوصايا وجعلت وكيال‪ .‬وامتحنتُ‬ ‫البلدان التي حللتها‪ ،‬وكثرة المواضع التي دخلتها‪.‬‬ ‫فأيها أكثر خيرات؟‬ ‫ُ‬
‫وأحكيت لهم‬ ‫‪ -‬لو أتخذتم َم ْس َفنة وربَّعتم األحجار‪،‬‬
‫الطرارين‪ ،‬ورأيت دول العيّارين‪ .‬واتبعني االرذلون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ثم إنه لم يبق شيء مما يلحق المسافرين إال وقد‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫بناء فلسطين وطارحتهم مسائل في البناء‪.‬‬
‫وعاندني الحاسدون‪ ،‬وسعي بي إلى السالطين‪.‬‬ ‫أخذت منه نصيبًا غير الكدية وركوب الكبيرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬بلدنا‪.‬‬ ‫فقال لي األستاذ‪:‬‬
‫ودخلت حمامات طبرية‪ ،‬والقالع الفارسية‪ .‬ورأيت‬ ‫وتعبدت‪ ،‬وفقهتُ‬
‫ُ‬ ‫وتأدبت‪ ،‬وتزهدتُ‬
‫ُ‬ ‫فقد تفقهتُ‬ ‫قيل‪ :‬فأيها أكبر؟‬ ‫‪ -‬أنت مصري؟‬
‫يوم الفوّارة‪ ،‬وعيد بربارة‪ ،‬وبئر قضاعه‪ ،‬وقصر‬ ‫وأذنت على المنائر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وخطبت على المنابر‪،‬‬ ‫وأدبت‪.‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫قلت‪:‬‬
‫يعقوب وضياعه»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وأممت في المساجد‪ ،‬وذكرت في الجوامع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬بلدنا‪.‬‬ ‫‪ -‬ال بل فلسطيني؟‪.‬‬
‫‪137‬‬ ‫‪136‬‬
‫من البحر الأحمر �إىل نهر ال�صني‬
‫قطوف من رحلة �أبي دلف‬

‫ا�سي‪ .‬جتاوز الت�سعني من عمره متنق ًال‬ ‫الينبوعي (‪093 -...‬هـ‪1000-.../‬م تقريب ًا) �شاعر ّ‬
‫ورحالة ع ّب ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أبو دلف م�سعر بن مهلهل اخلزرجي‬
‫الكدية‬
‫كر�سة لفنون ْ‬ ‫ُ‬
‫يف البالد‪ .‬كان يرت ّدد �إىل ال�صاحب بن عباد فريتزق منه ويتز ّود كتبه يف �أ�سفاره‪� .‬صاحب (الق�صيدة ال�سا�سان ّية) امل َّ‬
‫الثعالبي بع�ضها يف «يتيمة الدهر»‪ .‬والن�ص‬ ‫ّ‬ ‫العبا�سي‪ ،‬وقد �أورد‬
‫ّ‬ ‫التي ت�شتمل على جمموعة كبرية من الكلمات ال�شائعة يف عام ّية الع�رص‬
‫املن�شور هنا منتزع من كتاب �سي�صدر يف من�شورات «املركز العربي للأدب اجلغرايف»‪ .‬من حتقيق ال�شاعر �شاكر لعيبي‪.‬‬

‫الرسل فيما جاؤوا له تزويجه‬‫ُ‬ ‫في رأيه‪ ،‬فخاطبه‬ ‫بلد في الرمل‪ ،‬يكون‬ ‫ثم انتهينا إلى مقام الباب‪ ،‬وهو ٌ‬
‫ابنته من نوح بن نصر ‪ ،‬فأجاب إلى ذلك وأحسن‬ ‫في (حجبة ملك الصين)‪ .‬ومنه يُستأذن لمن (يرد‬
‫ْ‬
‫نجزت‬ ‫الرسل‪ .‬وأقمنا في ضيافته حتى‬
‫ِ‬ ‫إلي وإلى‬
‫َّ‬ ‫ببلد) الصين من قبائل الترك وغيرهم‪ .‬فسرنا فيه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أمور المرأة‪ ،‬وتمّ ما ج َهزها به‪ ،‬ثم سلمها إلى مائتي‬ ‫ثالثة أيام في ضيافة الملك‪ ،‬يغير لنا عند كل رأس‬
‫خواص خدمه وجواريه؛‬ ‫ّ‬ ‫جارية من‬
‫ٍ‬ ‫خادم وثالثماية‬
‫ٍ‬ ‫فرسخ مركوب ‪ .‬ثم انتهينا إلى وادي المقام‪ ،‬فاستؤذن‬
‫ملت إلى خراسان‪ ،‬إلى نوح بن نصر‪( ،‬فأولدها‬ ‫وحُ ْ‬ ‫َّ‬
‫وتقدمتنا الرسل‪ ،‬فأذن لنا‪ ،‬بعد أن أقمنا بهذا‬ ‫لنا منه‪،‬‬
‫عبد الملك) ‪( .‬ومات نصر بن أحمد قبل موافاتها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫الوادي‪ ،‬وهو أنز ُه (بالد اهلل وأحسنها) ‪ ،‬ثالثة أيام‬
‫فتبرك بها) ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وصارت المملكة إلى نوح بن نصر‪،‬‬ ‫في ضيافة الملك‪ .‬ثم عبرنا الوادي‪ ،‬وسرنا يومًا تامًا‪،‬‬
‫وأشرفنا على مدينة سندابل‪ .‬وهي قصبة الصين ‪،‬‬
‫وبلغنا أن نصرًا عمل قبره قبل وفاته بعشر سنين‬ ‫مرحلة منها‪ ،‬ث َّم سرنا‬
‫ٍ‬ ‫وبها دار المملكة‪ ،‬فبتنا على‬
‫‪ ،‬وذلك أنه أخذ له في مولده مبلغ عمره ووقت‬ ‫من الغد طول نهارنا حتى وصلنا إليها عند المغرب‪.‬‬
‫بالسل‪ ،‬وعرف اليوم‬‫ّ‬ ‫انقضاء أجله‪ ،‬وأن موته يكون‬
‫الذي يموت فيه‪ ،‬فخرج يوم موته إلى بُخارى ‪ ،‬وقد‬ ‫وهي مدينة عظيمة‪ ،‬تكون مسيرة يوم‪ ،‬ولها ستون‬
‫عظيمة‪ ،‬منيعة عالية السور‪ ،‬كثيرة البساتين‪،‬‬ ‫وكآبة وأحضر سجلًا ملفوفًا‪ ،‬فأمر القضاة‬ ‫ٍ‬ ‫غم‬
‫في ّ ٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أعلم الناس أنه ميّت يومه ذلك‪ ،‬وأ َم َرهَم أن يتج َّهزوا‬ ‫شارعًا‪ ،‬كل شارع منها إلى دار الملك‪ ،‬ثم إلى باب من‬
‫القلعي ‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫ووجدت بها معدنًا للرصاص‬ ‫غزيرة الماء‪.‬‬ ‫والمعدلين ) والفقهاء والكتاب (ومن يجري مجراهم‬
‫له بجهاز التعزية والمصيبة ليتص َوّرهم بعد موته‬ ‫أبوابها ‪ .‬وارتفاع سورها تسعون ذراعًا ‪ ،‬وعرضه‬
‫يكون إالّ في قلعتها في سائر الدنيا‪ .‬وفي هذه القلعة‬ ‫بختمة ) ‪ ،‬وأمر نوحًا ابنه أن يعمل بما فيه بعده ‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بالحال التي يراهم بها‪ ،‬فسار بين يديه ألوف من‬ ‫تسعون ذراعًا‪ .‬وعلى رأس السور نهر عظيم يتفرق‬
‫ُتضرب السيوف المعروفة بالقلعيّة ‪ ،‬وهي الهنديّة‬ ‫الصيني‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫ّة‬ ‫ي‬ ‫زبد‬ ‫في‬ ‫حساء‬ ‫من‬ ‫شيئًا‬ ‫لها‬ ‫واستدعى‬
‫الغلمان األتراك المرد‪ ،‬وقد ظاهروا اللباس السواد ‪،‬‬ ‫على ستين جزءًا‪ ،‬كل جزء منها ينزل على باب من‬
‫العتيقة‪ ،‬وأهل هذه القلعة يمتنعون على ملكهم إذا‬ ‫األصفر ‪ ،‬فتناول منه شيئًا يسيرًا‪ ،‬ثم تغرغرت عيناه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وشقوا عن صدورهم‪ ،‬وجعلوا التراب على رؤوسهم‪،‬‬ ‫رحى تصب على ما دونها ثم إلى‬ ‫ً‬ ‫األبواب‪ ،‬تتلقاه‬
‫أرادوا ويطيعونه إذا أحبّوا‪ ،‬و َر ْسمُ هم َر ْسمُ الصين‬ ‫وحمد اهلل تعالى‪ ،‬وتش ّهد‪ ،‬ثم قال‪ :‬هذا آخر زاد يغر‬
‫ثم تبعهم نحو ألفا جارية من أصناف الرقيق مختلفي‬ ‫غيرها‪ ،‬ثم يصير إلى األرض‪ ،‬ثم يخرج نصفه تحت‬
‫في ترك الذباحة‪ ،‬وليس في جميع (أقاليم األرض)‬ ‫من دنياكم‪ ،‬وسار إلى قبره‪ ،‬ودخله‪ ،‬وقرأ عشرًا فيه‬
‫األجناس واللغات على تلك الهيئة ؛ ثم جاء على‬ ‫السور‪ ،‬فيسقي البساتين‪ ،‬ويرجع نصفه إلى المدينة‪،‬‬
‫القلعي إالّ في هذه القلعة‪ .‬وبينها‬ ‫ّ‬ ‫معدن للرصاص‬ ‫ٌ‬ ‫‪ ،‬وخرج عنه‪ ،‬واستقر به‪ .‬ومات رحمه اهلل تعالى‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫آثارهم عامّة الجيش واألولياء يجنبون دوابهم‬ ‫فيسقي أهل ذلك الشارع إلى دار الملك‪ ،‬ثم يخرج‬
‫مدن‬ ‫وبين مدينة الصين ثالثمائة فرسخ ‪ ،‬وحولها‬ ‫وتولى األمر نوح ابنه ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويفردون قودهم ‪ ،‬وقد خالفوا في نصب السروج‬ ‫في الشارع‪ .‬واآلخر إلى خارج البلد‪ .‬فكل شارع‬
‫وحبوس وجنايات) ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ورساتيق ‪ ،‬وفيها لهم (أحكا ٌم‬ ‫[نحن نشك في صحة هذا الخبر‪ ،‬ألن محدثنا كان‬ ‫ٌّ‬
‫عليها‪ ،‬وس َّودوا نواصيها وجباهها‪ ،‬حاثين التراب‬ ‫كل يخال ُِف‬ ‫فيه نهران‪ .‬وكل خالء فيها مجريان‬
‫ربّما ذكر شيئًا‪ ،‬نسأل اهلل تعالى أن ال يؤاخذنا بها]‪.‬‬ ‫ْ‬
‫غم‬
‫على رؤوسهم؛ واتصل بهم الرعيّة والتجار في ّ ٍ‬ ‫صاحبه‪ .‬فالداخل يسقيهم‪ ،‬والخارج يُخرج فضوالتهم‬
‫وأكلهم الب ُْسر والتمور‪ ،‬وبقولهم كلها ُتباع وزنًا‪،‬‬
‫مد ًة‪ ،‬ألقى َ‬ ‫َ‬ ‫يتقدمُهم أوالدهم ونساؤهم؛‬ ‫َّ‬ ‫وضجيج‪،‬‬ ‫وحزن وبكا ٍء‬
‫ٍ‬ ‫بيت عبادةٍ عظيم‪ ،‬يُقال‪ :‬إنه أكبر من مسجد‬ ‫‪( .‬ولهم ُ‬
‫وأرغفة خبزهم ُتباع ع ََددًا‪ .‬وال (حمّ امات لهم) ‪ ،‬بل‬ ‫ملكها‬ ‫بسندابل مدينة الصين َّ‬ ‫ُ‬
‫وأقمت‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫ثم اتصل بهم الشاكريّة والمكارون والحمّ الون‪،‬‬ ‫وصور وأصنامٌ‪ .‬وبد ٌه‬
‫ٌ‬ ‫تماثيل‬ ‫وفيه‬ ‫‪.‬‬ ‫المقدس‬ ‫[بيت]‬
‫حار ٌة يغتسلون فيها ‪ .‬ودرهمهم ي َِز ُن‬ ‫ّ‬ ‫أعين‬
‫ٌ‬ ‫عندهم‬ ‫أمور‬
‫ٍ‬ ‫عن‬ ‫ويسألني‬ ‫‪،‬‬ ‫شيئًا‬ ‫فيفاوضني‬ ‫األحايين‪،‬‬ ‫في‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ُ‬ ‫بضرب‬
‫ٍ‬ ‫فريق منهم قد غي َّر زيَّه) وشهر نفسه‬ ‫ٍ‬ ‫(كل‬ ‫عظيمٌ ‪ .‬ولهم سياسة عجيبة وأحكا ٌم متقنة) ‪ .‬وال‬
‫فلوس يتعاملون‬‫ٌ‬ ‫ثلثي درهمنا‪ ،‬ويُعرف بالفهريّ ‪ .‬ولهم‬ ‫استأذنت في االنصراف‪،‬‬ ‫أمور بلد اإلسالم‪ .‬ثم‬
‫ِ‬ ‫من‬
‫ً‬ ‫من اللباس‪ ،‬ثم جاء أوالده‪ ،‬يمشون بين يديه حفاة‬ ‫يذبحون وال يأكلون اللحوم أصلًا‪ .‬ومن قتل منهم‬
‫الصيني‬
‫ّ‬ ‫بها‪ .‬ويلبسون كأهل الصين ‪ ،‬اإلفرند‬ ‫غاية في أمري‪،‬‬ ‫ُبق‬
‫إلي‪ ،‬ولم ي ِ‬
‫أح َسنَ ّ‬‫فأذ َِن لي بعد أن ْ‬
‫حاسرين‪ ،‬والتراب في رؤوسهم‪ ،‬وبين أيديهم وجوه‬ ‫شيئًا من الحيوان ُقت َِل‪ .‬وهي دار مملكة الهند والترك‬
‫المثمّ ن‪ .‬وملكها دون ملك الصين‪ ،‬وي َْخطب لملك‬ ‫فخرجت على الساحل أريد «كله» ‪ .‬وهي أوّ ُل‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الصين‪ُ ،‬‬
‫وق ْبلته إليه‪ ،‬وبيته ُ‬ ‫وجلة خدمه ورؤساء ُقوّ اده؛ ثم أقبل‬ ‫الكتاب ‪،‬‬ ‫معًا‪.‬‬
‫بيت عبادةٍ له‪.‬‬ ‫مدينة الهند‪ ،‬ومنتهى مسير المراكب‪ .‬ال يتهيّأ لها‬
‫تجاوزها‪ ،‬وإالّ‬ ‫والقضاة والمعدلون والفقهاء والعلماء (يسايرونه‬ ‫ودخلت على ملكها فوجدته فائقًا في فنه ‪ ،‬كاملًا‬‫ُ‬
‫وصلت إليها ‪ ،‬رأي ُتها‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫غرقت ‪ ،‬فلما‬

‫‪139‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪138‬‬


‫‪Interview‬‬ ‫حوار‬

‫الكاتب والرحالة الربيطاين تيم ماكنتو�ش ‪� -‬سميث يف جل�سة لندنية مع «الرحلة»‬

‫وطني هو العامل‬
‫ومدينتـي �صنعـاء‬

‫هذا احلوار مع تيم ماكنتو�ش – �سميث الرحالة والكاتب الربيطاين املعروف‪ ،‬والذي �أعطى زهرة عمره‬
‫لل�سفر مع ابن بطوطة‪ ،‬جرى يف لندن التي ي�أتيها تيم زائرا‪ .‬مل تكن هذه املرة زيارة �سعيدة‪ ،‬بل كانت قلقة‪،‬‬
‫حزينة‪ .‬فقد و�صل من �صنعاء‪ ،‬التي ي�سميها بــ«مدينتي» و�صول �شخ�ص م�ضطرب‪ ،‬جاء للقاء والدته‬
‫املري�ضة‪ ،‬وهو ال يعرف �إن كان �سيلحق بها على قيد احلياة �أم ال‪ .‬الحقا قال يل تيم‪ :‬اليوم فقط �رصت يتيم ًا‪.‬‬
‫رغم حزن الفقد فهو حوار �شيق مع كاتب من طراز خمتلف‪ ،‬و�إن�سان له روح وثابة تتطلع �إىل معانقة الوجود‪،‬‬
‫كل الوجود‪ ،‬واالحتفاء بكل ما هو �إن�ساين‪ ،‬ول�سان حاله ما نطق به ال�شيخ الأكرب حميي الدين ابن عربي ‪:‬‬

‫ر�أى الربق �رشقيا فحن �إىل ال�رشق‬


‫ولو الح غــربيا حلن �إىل الغــرب‬
‫فـ�إن غــرامي بالربوق وملحــهـا‬
‫ولي�س غرامي بالأماكن والرتب‬
‫ابن بطوطة هو كاتب الأ�سفار‬
‫النموذجي يف العامل‪ ،‬ورحالته‬
‫غطت العامل الإ�سالمي كله‬
‫وما حوله‪ ،‬من متبكتو �إىل‬
‫بكني‬

‫لدي أي رغبة في أن اغادرها‪ .‬وإذا كان وطني هو‬


‫العالم كله‪ ،‬فإن صنعاء هي مدينتي‪.‬‬

‫كاتب ال رحالة‬
‫حول تجاربه مع السفر والترحال يقول سميث‬
‫«لست متيمًا بحب السفر»‪ .‬يبدو هذا اعترافًا‬
‫غريبًا من رجل تعتبر سلسلة كتبه التي تتبع فيها‬
‫خطى ابن بطوطة‪ ،‬المستكشف العربي الذي عاش‬
‫في القرن الرابع عشر الميالدي‪ ،‬من بين أفضل‬
‫الكتب الحديثة عن األسفار والرحالت‪.‬‬
‫في كتبه عمومًا ينسج سميث خيوطًا من المعرفة‬
‫الواسعة‪ ،‬التي تتسم غالبًا بالروح المرحة‪ ،‬وأحيانًا‬
‫بعمق الفكر‪ ،‬ودائمًا بالجاذبية‪ ،‬وينسجها بوجهة‬
‫نظر لمستعرب تخرج من جامعة أكسفورد‪ ،‬ولكنه‬
‫اختار أن يعيش في اليمن ويتجول في العالم العربي‪.‬‬ ‫تيم في مكتبة «الساقي» بلندن‬
‫في مستهل لقائي به سالني إن كنت مرتاحا في‬
‫لندن فقلت إنها مدينتي األحب‪ ،‬إنها وطني الثاني‪.‬‬ ‫الشيخ عبد الهادي الجواهري‪:‬‬
‫فقال أما أنا فوطني هو اليومن ومدينتي هي صنعاء‪.‬‬ ‫�صنعـ ـاء يا دار احلـــ�ضارة والعـال‬ ‫‪« .2005‬الوصول إلى اليابسة»‪.2010 .‬‬ ‫يعتبر تيم ماكنتوش ‪ -‬سميث الكاتب البريطاني‬
‫في اليمن يشعر تيم ماكنتوش ‪ -‬سميث أنه بين‬ ‫ومقام كـل �سميدع ومليك‬ ‫وعلى رغم ان تيم هو أصال كاتب نثر مميز‪ ،‬فقد‬ ‫المولود سنة ‪ ،1961‬والذي طاف العالم على خطا‬
‫أهله وذويه‪ ،‬وفي بعض أجزاء العالم اإلسالمي يشعر‬ ‫باري�س دونك يف اجلـمـــال ولندن‬ ‫اشتهر بكتب الرحالت‪ ،‬فقد كتب عن رحالته إلى‬ ‫شمس الدين الطنجي ابن بطوطة لربع قرن من‬
‫أن هذا العالم الذي اختاره هو العالم الذي ينتمي‬ ‫وعوا�صم الرومـان والأمـريك‬ ‫عدد من مدن العالم العربي‪ ،‬والشرق وأشهرها‬ ‫الزمن‪ ،‬واحدا من أشهر الكتاب وأكثرهم ارتباطا‬
‫إليه أكثر مما ينتمي إلى مسقط راسه في وطنه‬ ‫فـجـمال تلك مـزخـرف متكلف‬ ‫رحلتان إلى طنجة واليمن‪ ،‬ورحلة إلى هندوستان‬ ‫بفكرة السفر والبحث جريا وراء شيخ الرحالين‬
‫األم‪ ،‬بريطانيا‪.‬‬ ‫وجمـالك املطبوع مـن باريك‬ ‫وذلك خالل تجواله وترحاله على خطى الرحالة‬ ‫العرب والمسلمين المنتمي برحالته واسفاره إلى‬
‫بعض من التقى به في منزله التقليدي القديم‬ ‫شمس الدين الطنجي المشهور بأبن ان بطوطة‪.‬‬ ‫عالم القرون الوسطى‪.‬‬
‫المتعدد الطبقات بصنعاء ‪ ،‬حيث يعيش منذ أكثر‬ ‫ويضيف‪ :‬ال تزال صنعاء جميلة‪ ،‬وهي من اهم‬ ‫وبالتالي فإن كتاباته األشهر هي التي تناول فيها‬ ‫وخالل مسيرته األدبية والبحثية وتجواله في‬
‫من ‪ 20‬عاما‪ ،‬يقول‪ ،‬إن تم يظل يكرر «لست ممن‬ ‫المدن التاريخية العربية‪ ،‬وألن أبي كان من محبي‬ ‫أسفار ابن بطوطة ورحالته‪ ،‬والتي أبرز من خاللها‬ ‫العالم‪ ،‬وضع تيم ماكنتوش ‪ -‬سميث الذي تخرج‬
‫ينطلقون للسفر بعيدًا ويكادون يهلكون أنفسهم‬ ‫كتب الرحالت‪ ،‬ويملك مجموعة من الكتب من‬ ‫صدى المستكشف العربي العظيم في أغرب األماكن‬ ‫من جامعة اكسفورد‪ ،‬وضع العديد من المؤلفات‪،‬‬
‫على الطريق‪ .‬من هذا المنطلق أعتقد أني مختلف‬ ‫بينها كتب مصورة‪ ،‬كانت نفسي ‪ ،‬تسول لي أن‬ ‫وأعجب الحوادث‪.‬‬ ‫وصورت البيبي سي سلسلة من األفالم الوثائقية‬
‫عن ابن بطوطة‪ ،‬فالمظاهر يمكن أن تكون خادعة»‪.‬‬ ‫اطلع على كتبه وعلى صور اليمن خاصة‪ ،‬لي في‬ ‫وعن سر حبه لصنعاء واختيار اليمن بلدا لسكناه‬ ‫عن اسفار تيم‪ .‬من مؤلفاته المطبوعة‪“ :‬أسفار مع‬
‫فأنا اوال واخيرا كاتب‪ .‬وبالتالي فأنا رحالة ألنني‬ ‫اليمن ما يقارب الستة والعشرين عامًا‪ ،‬وليست‬ ‫وعيشه‪ ،‬يقول ماكنتوش ‪ -‬سميث مرددًا أبيات‬ ‫ابن طنجة” عام ‪« ،2001‬قاعة األلف عمود» عام‬

‫‪143‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪142‬‬


‫لقطتان لتيم في المغرب والهند‬

‫مجرد سياحة او معامرة لقياس المسافات بين‬


‫زمنين زمن الرحالة القروسطي‪ ،‬والزمن الحديث‪.‬‬
‫هذا مجرد ملمح بسيط من الهدف‪ ،‬جزء صغير من‬
‫طموح الرحلة‪ .‬الواقع أن ابن بطوطة‪ ،‬الذي أمضى‬
‫أكثر من ربع قرن يتنقل بين آسيا وأفريقيا‪ ،‬انما‬
‫يوفر لنا صورة مفصلة وغير مسبوقة عن واقع‬
‫الحضارة في القرون الوسطى‪ .‬وهنا تكمن اهميته‬
‫الفعلية‪ ،‬والطاقة المذهلة الكامنة في نصه السردي‬
‫وما احتوى عليه من اخبار وحكايات ومعلومات‬
‫وتواريخ واسماء بشرية وجغرافية‪.‬‬

‫موجز حياة‬
‫الرحلة لديك تلخيصك الشخصي لرحلة ابن بطوطة‪،‬‬
‫شخصيته‪ ،‬رحلته واخباره‪ ،‬وهو تلخيص البد أن‬
‫يسر كل قاريء عربي أن يستمع إليه لكونه يقدم‬
‫له الرحالة العظيم بعيني كاتب ينتميحضارة وزمن‬
‫مختلفين‪...‬هل لك ان توجز لنا هذا التلخيص؟‬
‫تيم‪ :‬ولد الشيخ أبو عبد اهلل محمد ابن بطوطة‬
‫في طنجة عام ‪ 1304‬م وهو ابن لقاض ينتمي إلى‬
‫المذهب المالكي في الفقه اإلسالمي‪ ،‬اتجه نحو‬
‫الشرق وعمره ‪ 21‬عاما‪ ،‬ويبدو أنه كان ينوي‬
‫الحج‪ .‬ازدادت سعة اطالعه وأفقه وهو مسافر‬
‫إلى الشرق‪ .‬في عام ‪1341‬م أرسله السلطان محمد‬
‫بن تغلق سلطان دلهي محمال بهدايا في مهمة إلى‬
‫إمبراطور الصين لكن ابن بطوطة أضاع هذه الهدايا‬
‫في ساحل ما‬

‫أغلفة بعض إصدارات الرحالة‬


‫ليبار‪ ،‬وبدال من المخاطرة بالعودة إلى دلهي أقام‬
‫في جزر المالديف اإلسالمية وعمل فيها كقاض‪.‬‬
‫وبعد أكثر من سنة اتخذ طريقه نحو الصين عن‬ ‫هذا الجزء من رحلته‪ .‬وبالمثل مع العراق‪ .‬فلم‬ ‫عنوان “قاعة األلف عمود” أصدره في عام ‪.2005‬‬ ‫كاتب‪ ،‬وليس العكس‪.‬‬
‫طريق سيالن والبنغال وسومطرة‪ .‬بالتأكيد كان‬ ‫يكن لديه الكثير مما يقوله‪ ،‬أو حكايات مشوقة‬ ‫من هنا‪ ،‬وبينما توحي كتبه وأدبياته بأنه رجل‬
‫ابن بطوطة يحاول تطبيق ما جاء في األثر‪« :‬اطلبوا‬ ‫عما وجده هناك‪ ،‬لذا‪ ،‬تخليت عن هذا الجزء‬ ‫م�سار الرحلة‬ ‫مسفار ولد وفي جيبه أدلة رحالت‪ ،‬فإنه في‬
‫العلم ولو في الصي‪.‬‬ ‫أيضًا‪ .‬كانت الطريق التي سلكها ابن بطوطة إلى‬ ‫الرحلة كيف كان مخططك في رحلة تتبعك لمسار‬ ‫الحقيقة يفضل عادة الجلوس في منزله بين أرفف‬
‫الهند من أفغانستان قد اكتنفتها صعوبات كثيرة‪.‬‬ ‫ابن بطوطة ففي رحالته‪ .‬هل كان ذلك ممكنا دائما‬ ‫مكتبته‪.‬‬
‫مملكة مايل‬ ‫وكما أوضحت في الكتاب الخاص بالهند‪ ،‬الفرصة‬ ‫بالنسبة إليك‪ ...‬خصوصا ان بعض المدن الواقعة اليوم‬ ‫وبعد أن عاد من رحلة استمرت عدة أشهر في‬
‫عاد ابن بطوطة إلى المغرب وإسبانيا عبر دول‬ ‫الوحيدة لحل هذه المشكلة كانت السير راجلًا‬ ‫على مسار رحلته تعتبر اماكن يسودها االضطراب‬ ‫إسبانيا متعقبًا خطى سلفه الذي يعود للقرون‬
‫فتك بها مرض الطاعون ثم قام برحلة إلى منطقة‬ ‫عبر الحدود بين باكستان وأفغانستان‪.‬‬ ‫السياسي؟‬ ‫الوسطى‪ ،‬فإنه اآلن يعد لجولة في الصحراء‬
‫الصحارى ثم مملكة مالي حيث انتهت رحلته في‬ ‫تيم‪ :‬هذه مالحظة في مكانها‪ .‬والواقع انني تتبعت‬ ‫األفريقية الكبرى إلعداد الجزء الثالث من ثالثية‬
‫عام ‪1353‬م‪ .‬وقد قام بقطع مسافات تعادل ما قطعه‬ ‫ملاذا ابن بطوطة‬ ‫طريق ابن بطوطة‪ ،‬ولكن ليس بشكل أعمى‪ .‬فابن‬ ‫ابن بطوطة‪ ،‬ولينهي المغامرة التي بدأها في كتابه‬
‫ماركو بولو قبل عشر سنوات منه‪ ،‬لكنه‪ ،‬أي ابن‬ ‫الرحلة لكن لماذا ابن بطوطة‪ ..‬كهدف يكاد يكون‬ ‫بطوطة سافر مثلًا عبر الجزائر‪ ،‬وعندما كان علي‬ ‫“أسفار مع ابن طنجة” الصادر عام ‪ ،2001‬الذي يبدأ‬
‫بطوطة‪ ،‬ال يعتمد في أسفاره على معلومات غير‬ ‫األبرز لك ككاتب‪ ...‬تمشي على خطاه‪ ،‬وتبحث في‬ ‫أن أفعل مثله خالل سنوات التسعينات‪ ،‬كانت‬ ‫من مسقط رأس الرحالة العظيم في طنجة بالمغرب‪،‬‬
‫مؤكدة أو ثانوية‪ .‬وقد كتب المختصر لرحالته ابن‬ ‫زوايا حياته المكشوف منها والغامض أو الظليل؟‬ ‫البالد تعاني من حمامات دم‪ .‬في الواقع ال أعتقد‬ ‫والرحلة التي تواصلت في رحلته التي جال بها في‬
‫جزي نيابة عن السلطان المغربي في عام ‪،1356‬‬ ‫تيم‪ :‬الواقع ان الرحلة على خطا ابن بطوطة ليست‬ ‫أنه كان مهتمًا جدًا بالجزائر‪ ،‬لذا تغاضيت عن‬ ‫أرجاء الهند‪ ،‬وهي الرحلة التي ضمنها كتابًا يحمل‬

‫‪145‬‬ ‫‪144‬‬
‫تيم‪ :‬كانت الخطة األصلية تتبع أسفار ابن بطوطة‬
‫كلها في مجلد واحد‪ ،‬ولكن سرعان ما تراجعت‬
‫هذه الفكرة بعد أن اتضح المدى البعيد الذي‬
‫وصلت إليه رحالت ابن بطوطة‪ ،‬والتي استغرقت‬
‫نحو ‪ 29‬عاما‪ .‬والبداية من مسقط رأس الرحالة‬
‫العظيم في طنجة بالمغرب‪ ،‬ومن هنا جاء عنوان‬
‫المجلد األول‪.‬‬
‫وحيث كانت البداية غير مشجعة لتيم عند‬
‫زيارته القبر المفترض لبطله العربي‪ ،‬والذي فشل‬
‫في الشعور باتصال خاص مع ساكنه وشبه القبر‬
‫بحمام عام تابع للبلدية‪ ،‬وظل على مدى الصفحات‬
‫الـ ‪ 300‬التالية من كتابه‪ ،‬يسعى الهثا وراء شعور‬
‫مراوغ بانه يصطحب أثر سلفه الرحالة العربي‬
‫معه‪ .‬وجاءت النتيجة على شكل رواية شخصية‬
‫إلى حد كبير تدور حول محاولة االتصال بالماضي‬
‫من خالل األسواق‪ ،‬واألزقة‪ ،‬وأماكن بيع البيتزا‬
‫المنتشرة في أنحاء القارات األربع‪ ،‬تتخللها لحظات‬
‫مما يطلق عليه تيم الدوار المؤقت وهو شعور‬
‫بالدوار مرتبط بالنظر إلى نقطة بالزمن‪ ،‬بعيدة‪،‬‬
‫ولكن يمكن الوصول إليها بوثبة تأخذ باألنفاس‪.‬‬
‫ورغم أن كال من رحلتي تيم تبدأ بنقلة تاريخية‬
‫عظيمة‪ ،‬فقد توجت كالهما بلحظات إنسانية‬
‫غريبة‪ .‬ففي السوق الكبير بطنجة‪ ،‬يبرز رجل رث‬
‫الثياب من بين الجمهور‪ ،‬ويهمس بغموض قائال أنه‬
‫سبق ان شاهد المؤلف عند محطة القطارات‪ ،‬ثم‬
‫يختفي ثانية وسط الزحام دون أي توضيح‪ .‬هذه‬
‫مفاجآت السفر وتقلباته‪ ،‬وتيم يكتب عنها بحماس‬
‫شديد‪.‬‬ ‫ما يفترض أنه ضريح ابن بطوطة في قصبة طنجة بالمغرب‬
‫عبارات وجمل ترغب بوضع خط تحتها أو نقلها‬
‫لآلخرين بصوت عال‪ ،‬وتصعب قراءتها دون ان‬
‫ترتسم على شفتيك ابتسامة عريضة كل بضع‬ ‫تيم‪ :‬زرت سوريا مرة قبل سنوات كثيرة ‪ ،‬ودخلت‬ ‫التي ينتمي إليها وهي هنا اإلسالم والمدرسة‬ ‫وال يعرف أحد تفاصيل أخرى عن حياته بعد ذلك‬
‫صفحات‪ .‬وبمذاق ممتع يستمر طويال تحت لسانك‬ ‫مدينة دمشق‪ ،‬مدينة نزار قباني‪ ،‬ومدينة الياسمين‬ ‫المالكية‪ ،‬وكان لديه في الوقت نفسه حب‬ ‫التاريخ إال فيما ندر‪.‬‬
‫يصور تيم‪ .‬بكل دقة مشاعر المسافر وميله الفطري‬ ‫الذي في شعر هذا الشاعر المجيد‪ .‬وجاءني عاشق‬ ‫استطالع لمعرفة المدارس األخرى والحضارات‬
‫إلى أن يكون دائما خارج السرب إلى حد ما‪ ،‬فعندما‬ ‫تلى علي ابياتا من شعر نزار وطلب مني أن اكتب‬ ‫األخرى غير اإلسالمية‪ .‬أقلقته الصين بكفرها‬ ‫�سالم املغول‬
‫يكون المرء عابر سبيل‪ ،‬يمكنه أن يخطو بعيدا‬ ‫رسالة لحبيبته‪ ،‬فسجلت االبيات وحفظتها‪ ،‬ثم‬ ‫ومدنها الواسعة وتطورها المذهل‪ ،‬كما وجد مالي‬ ‫كان ابن بطوطة وماركو بولو محظوظين في‬
‫عن نفسه التي بين جنبيه‪ ،‬وبهذا يصبح قادرا‬ ‫كانت لي رحلة مع شعره‪.‬‬ ‫دولة غير متحضرة تماما‪ ،‬اصبح ابن بطوطة مرنا‬ ‫حياتهما إذ إن كليهما عاشا في الفترة التي عرفت‬
‫على مالحظة سير الحياة حوله بمزيد من الوضوح‬ ‫نوعا ما رغم أنه يبدو من الخارج متعصبا‪ ،‬لكنه‬ ‫بـ»سالم المغول» حيث اتخذ الخلفاء الذين جاؤوا‬
‫والعمق‪.‬‬ ‫اخلطة االوىل‬ ‫حافظ على دينه وإنسانيته‪.‬‬ ‫بعد جنكيز خان بعد تدميره للشرق اإلسالمي‬
‫الرحلة كيف تورطت بابن بطوطة‪ ،‬وما هو المخطط‬ ‫ممثلًا في بغداد مبادئ تدعو إلى السالم وذلك‬
‫على حدود طالبان‬ ‫األولي الذي حملك على الخوض في رحلة تشبه‬ ‫نزار قباين‬ ‫بفتحهم لطرق التجارة‪ ،‬وكانت خبرة ابن بطوطة‬
‫وعندما يصل حدود افغانستان يقول تيم‪ :‬وفي‬ ‫الحرب مرة مع المعلوم ومرة مع المجهول لم تضع‬ ‫الرحلة سئلت مؤخرا عن معنى وجود اشعار نزار‬ ‫في الفقه اإلسالمي تساعده في العمل في المناطق‬
‫الوقت الذي كان يفترض أن أقوم فيه بذلك‪ ،‬فإن‬ ‫أوزارها حتى اليوم‪ ...‬وقد مضى على الشروع بها‬ ‫قباني في وذكره في بعض كتاباتك‪ ..‬والواقع انني‬ ‫التي دخلت اإلسالم حديثا في ذلك الوقت‪.‬‬
‫حركة طالبان كانت ما تزال تحكم أفغانستان‪ ،‬وال‬ ‫اكثر من عقدين؟‬ ‫مشوق لمعرفة ذلك ايضا؟‬ ‫كان الرحالة ابن بطوطة مقتنعا بعلو شأن الثقافة‬

‫‪147‬‬ ‫‪146‬‬
‫مازلت اجد ال�سري بحثا ورحلتي‬
‫مع ابن بطوطة �ستطول‬

‫مني بخيبة أمل‪ .‬فقد وجد القصر المتداعي‬


‫مسودا تغطيه بقرب ملعب‪ ،‬خيوط العنكبوت لكرة‬
‫القدم ومكب نفايات ترعى فيه وليس سوى بضعة‬
‫لوحات‪ .‬الماعز مهملة ملقاة على األرض في الساحة‬ ‫خارطة لرحلة‬

‫المهجورة تشير إلى األهمية التي كان عليها المكان‪.‬‬ ‫ابن بطوطة‬

‫في المجلد الثاني‪ ،‬نقرأ ثانية كيف قدم ابن بطوطة‬ ‫مأخوذة من أحد مؤلفات‬
‫تيم‬
‫على حكام الهند‪ ،‬حيث ظل يتلقى الهدايا الثمينة‬
‫والجواري الحسان أينما حل‪ .‬كما مر بمرحلة‬
‫صوفية‪ ،‬كما يسميها تيم حيث عاش الرحالة‬
‫كناسك بين مجموعة من النساك بعد أن فشل‬
‫في نيل رضا السلطان المحلي‪ .‬ودعاه نفس هذا‬
‫السلطان في النهاية من المنفى‪ ،‬وقادته مباهج حياة‬
‫البالط السلطاني مرة أخرى بعيدا عن حياة التأمل‬
‫الروحي التي عاش فيها‪.‬‬

‫بني املادة والروح‬


‫كان ابن بطوطة مسلما يسعى لاللتزام بأحكام دينه‪،‬‬
‫لكنه اتسم ببعض التناقض في شخصيته‪ ،‬حيث لم‬
‫يستطع حسم أمره بين المادة والروح‪ .‬يقول تيم‪:‬‬
‫لقد أراد ابن بطوطة الحصول سميث على الوظائف‬ ‫ولكنه كان دائما‪ ،‬بالطبع‪ ،‬ملتزما بخط الشريعة‬
‫الجيدة‪ ،‬والرواتب العالية‪ ،‬وغير هذا‪ ،‬ولكنه كان‬ ‫اإلسالمية‪ .‬ينتهي المجلد األول في القسطنطينية‪،‬‬ ‫وإلى جانب ماركو بولو‪ ،‬والذي قطع نحو ثلث‬ ‫أعتقد أنهم كانوا سيرحبون بغرباء يستكشفون ‪.‬‬
‫متيما أيضا بالنساك والعباد واألماكن المقدسة‪.‬‬ ‫حيث اقتيد ابن بطوطة‪ ،‬في قصر بالكرنه‪ ،‬محاطا‬ ‫هذه المسافة فقط‪ ،‬يعد ابن بطوطة كاتب األسفار‬ ‫الجغرافيا التاريخية لبالدهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫شعرت كما لو أنني كنت أقف‬ ‫وفي لحظات نادرة‪،‬‬ ‫بالفسيفساء البراقة ورجال الحاشية الصامتين‪،‬‬ ‫النموذجي في العالم‪ ،‬حيث غطى كل العالم اإلسالمي‬ ‫ورغم هذه المعوقات ‪ -‬أو بفضلها ‪ -‬يرسم تيم‪،‬‬
‫جنبا إلى جنب مع هذا الرحالة األسطوري «الحاضر‬ ‫إلى حضرة اإلمبراطور أندرونيكوس الثالث نفسه‪،‬‬ ‫وما حوله‪ ،‬من تمبكتو إلى بكين‪ ،‬واجتاز عددا ال‬ ‫ببطء وبقلم خفيف صورة للمغامر غريب األطوار‬
‫الخالد» الحاالت‪ ،‬واللحظة األهم في رحالته‪،‬‬ ‫وريث القياصرة‪ .‬وبعدما وقف أمام الرجل ذي‬ ‫يحصى من الممالك واإلمارات والمشيخات‪ .‬ومع‬ ‫الذي سبقه بنحو سبعة قرون‪ .‬وبعيدا عن كتاب‬
‫جاءته في الهند‪ ،‬قرب مدينة دار‪ ،‬التي تعرف اآلن‬ ‫الحذاء البنفسجي‪ ،‬حدثه ابن بطوطة عن أسفاره‪،‬‬ ‫عودته إلى المغرب‪ ،‬جمع الكثير من النوادر الكفيلة‬ ‫ابن بطوطة الموسوعي والذي يتحف‪ ،‬فيه القارئ‬
‫بماديا براديش‪ .‬فهناك‪ ،‬شهد ابن بطوطة طقوس‬ ‫وطلب بتواضع دليال ومترجما يجوالن به بين‬ ‫بأن تجعل المستمعين في حالة ذهول‪ .‬وأمره حاكم‬ ‫بحكايات عن رحلته شملت وصفا مسهبا للهدايا‬
‫مرعبة إلحراق أحياء‪ ،‬كانت فيها الزوجات األرامل‬ ‫األماكن المهمة في االمبراطورية البيزنطية‪ .‬تأثر‬ ‫فاس أن يضع قصصه في رحالت » كتاب‪ ،‬فكانت‬ ‫التي أنعم بها عليه الملوك والخانات والمهراجات‬
‫يلقين أنفسهن فوق محارق جثث أزواجهن في‬ ‫اإلمبراطور بحديثه وطيب خاطره‪ ،‬وأرسله مكرما‬ ‫النتيجة كتاب ابن بطوطة‪.‬‬ ‫الذين مر بهم‪ ،‬فإن اإلشارات إلى السيرة الذاتية‬
‫الجنازات‪ .‬ووصف ابن بطوطة تلك الطقوس بتفصيل‬ ‫على صهوة حصان مكسو مزين‪ ،‬تحفه مظلة تقيه‬ ‫البن بطوطة نفسه تظل هزيلة إلى حد بعيد في‬
‫رهيب‪ ،‬ولم ينس تسجيل كلمات زوجة قبل أن‬ ‫حر الشمس‪ ،‬برفقة مترجم محترف‪ .‬كان ابن‬ ‫�شخ�صية م�شاك�سة‬ ‫كتابه‪ .‬فكل ما نعرفه عنه أنه ترك موطنه طنجة‬
‫تلقي بنفسها إلى التهلكة‪ .‬وقد عثرت على الموقع‬ ‫بطوطة بارعا في انتزاع إعجاب الحكام والناس‬ ‫يقول تيم‪ :‬لقد كان ابن بطوطة شخصية مشاكسة‬ ‫حوالي عام ‪ 1325‬وهو في سن ‪ 21‬ألداء فريضة الحج‬
‫ووجدت أن المكان لم يتغير قيد أنملة عما كان‬ ‫ووصف األجواء من حوله‪.‬‬ ‫‪ ،‬ومفعمة بالحيوية صغيرا‪ ،‬ويشبه إلى حد ما‬ ‫إلى مكة‪ ،‬وعاد بعد أن قضى نصف حياته مسافرا‪،‬‬
‫عليه قبل ‪ 660‬عاما فما تزال األشجار ذاتها تعلو في‬ ‫غير أن تيم‪ ،‬وفي المكان ذاته باسطنبول اليوم‪،‬‬ ‫كلب صيد نشيط‪ .‬كانت لديه الكثير من الرغبات‪،‬‬ ‫قطع خاللها نحو ‪ 120‬ألف كيلومتر‪.‬‬

‫‪149‬‬ ‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪148‬‬


‫لوحة من أعمال الفنان والرحالة االسكتلندي ديفد روبيرتس‬

‫‪www.almasalik.com‬‬ ‫ي�صور ماكنتو�ش بكل دقة م�شاعر امل�سافر وميله‬


‫الفطري �إىل �أن يكون دائما خارج ال�رسب‬

‫ابن بطوطة‪ ،‬وهو يتردد عبر القرون الخوالي كلها‬

‫امل�سالك‬
‫األفق الفسيح‪ ،‬وبعضها أقدم من ابن بطوطة نفسه‪،‬‬
‫موقع على الإنرتنت‬
‫واضحا كصوت الرنين‪ ،‬كفيال بإنجاح هذا المشروع‪.‬‬
‫وما يزال يقف هناك حجر مسود متفحم‪ ،‬كما لو‬
‫كانت نيران المحارق قد انطفأت لتوها‪.‬‬
‫جديد الرحلة‬
‫يهدف هذا املوقع �إىل �إعادة اكت�شاف ح�ضارة املكانوحا�ضره‬ ‫لقد وقف شعر رأسي من الرهبة‪ ،‬كما شعر ابن‬
‫بعد رحلة مع ابن بطوطة استمرت أكثر من‬
‫وما ات�صل به من �أحداث ووقائع‪ ،‬وحكايات و�شخ�صيات‪ ،‬و�سلوك‬ ‫بطوطة تماما قبل قرون مضت‪ .‬وهو اإلحساس‬
‫عشرين عاما‪ ،‬أختم بالسؤال‪ .‬تيم‪ ،‬ما هو مشروعك‬
‫وفكر ‪ ،‬من خالل املزج بني الو�سائط املتعددة واخلرائط احلية‬ ‫بالرعب نفسه الذي انتاب ابن بطوطة أمام هذا‬
‫المقبل‪ ،‬هل بقي شيء تعمله مع ابن بطوطة؟‬
‫(املرتبطة مبوقع غرغل)‪ ،‬لإحداث عملية تفاعل متبادل بني‬ ‫المنظر المخيف‪ ،‬بل إني أستطيع سماع األصوات‬
‫بقي الكثير‪ ،‬فأنا اآلن بصدد البحث عن الحياة‬
‫املكان وبني الفنون والآداب والعلوم واملعارف‪.‬‬ ‫نفسها تتردد في المكان‪.‬‬
‫المجهولة البن بطوطة‪ ،‬سواء عن طريق الكتب‬
‫إنها مثل هذه اللحظات غير المتوقعة التي تجعل كل‬
‫أو السفر للبحث عن أي ما يخص هذا الرحالة‬
‫رحلة جديرة بتحمل العناء ألجلها‪ ،‬حتى بالنسبة‬
‫العظيم‪ ،‬أو عن طريق ما يسمع ويتناقل عنه‪ ،‬وكل‬
‫ألولئك األكثر ولعا بالكتب أو المتنسكين الذين‬
‫ذلك يأتي بهدف إثبات شخصية السيد شمس الدين‬
‫يفضلون المكوث في بيوتهم‪ .‬فهل شعر ابن بطوطة‬
‫الطنجي‪ ،‬وأن ما وصلنا عنه ليس من قبيل الخرافة‬
‫بهذا الوجود الذي يكاد يخدر العمود الفقري‪ ،‬أيضا؟‬

‫‪www.almasalik.com‬‬
‫أو األكذوبة بل انه واقع وقع ذات يوم‪ ،‬وها انا اجد‬
‫يتذكر تيم قول الفيلسوف ديكارت‪ ،‬الذي قال ذات‬
‫السير بحثا عنه لكشف جوانبه المجهولة‪ ،‬وتمام‬
‫مرة إن قراءة الكتب العظيمة أشبه بمحادثة النبالء‪.‬‬
‫معرفتي به‪ ،‬إنها محاولة‪ ...‬فلنر ما ستسفر عنه‪.‬‬
‫لقد كان صوت ابن بطوطة ‪ «.‬من القرون الماضية‬

‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪150‬‬


‫‪Wonderland‬‬ ‫غرائب الأم�صار‬

‫السفر‪ ،‬وكنت أتردد على محل كوك‬ ‫فقال ابن ماسويه‪:‬‬ ‫فتقدم ابن ماسويه فأخذ إحدى‬ ‫في رقبته‪ ،‬حمل عليه فنطحه!‬ ‫خروف ينطح �أ�سداً‬
‫ألقرر خطة السياحة النهائية‪ .‬وقد‬ ‫‪ -‬ال تصح‪ ،‬فواهلل ما يفرق اآلن بين‬ ‫يديه وبختيشوع األخرى‪ ،‬وأخذا‬ ‫فانهزم السبّعُ يدور حول البركة‪،‬‬ ‫و�أ�سد يفر �أمام كلب‬
‫ساعدني الحظ ووفقت لعمل برنامج‬ ‫ربه وبين ماني!‬ ‫المجسة من كلتا يديه فوجدا‬ ‫والخروف خلفه يطرده وينطحه!‬
‫السياحة بمساعدة المستر بروكر‪،‬‬ ‫ففتح المأمون عينيه وبها من العظم‬ ‫نبضه خارجًا عن االعتدال منذرًا‬ ‫ونحن قد َغلَبنا الضحك عليه‪.‬‬ ‫كان بمدينة دمشق َج ْرو أسد قد‬
‫أحد رؤساء محل كوك الذي رأيت فيه‬ ‫والتورم واالحمرار ما لم يُر مثله‬ ‫بالفناء‪ ،‬والتزقت أيديهما ببشرته‬ ‫فقال األمير معين الدين رحمه‬ ‫رباه َسبّاع معه‪ ،‬حتى كبر وصار‬
‫الكفاءة العظيمة‪ ،‬فلم نترك أعجوبة‬ ‫قط‪ ،‬وأقبل يحاول البطش بابن‬ ‫لعرق كان يظهر في سائر جسده‬ ‫أخرجوه‬ ‫ّ‬
‫وتأذى الناس به‪.‬‬ ‫يطلب الخيل‪،‬‬
‫اهلل‪« :‬ذا سبع منحوس! ِ‬
‫أو منظرا جميال يستحق الزيارة في‬ ‫ماسويه‪ ،‬ورام مخاطبته فعجز عن‬ ‫كالرب أو كلعاب األفاعي‪ ،‬فأنكرا‬
‫ّ‬ ‫اذبحوه‪ ،‬واسلخوه‪ .‬وهاتوا جلده»‪.‬‬ ‫فقيل لألمير معين الدين رحمه‬
‫الدنيا الجديدة إال وقررناه في خطة‬ ‫ذلك‪ ،‬فرمى بطرفه نحو السماء وقد‬ ‫معرفة العرق‪ ،‬وذكرا أنهما لم يجداه‬ ‫عتق ذلك‬ ‫فذبحوه وسلخوه‪ ،‬وأ َ َ‬ ‫اهلل وأنا عنده‪« :‬هذا السبع قد‬
‫سياحتنا التي تستغرق ثالثة شهور‪.‬‬ ‫امتألت عيناه دموعًا‪ ،‬وانطلق لسانه‬ ‫في شيء من الكتب‪ ،‬وأنه دال على‬ ‫الخروف من الذبح‪.‬‬ ‫آذى الناس‪ ،‬والخيل تنفر منه‪،‬‬
‫وبينما كنا نعلل النفس بقرب السفر‬ ‫من ساعته فقال‪:‬‬ ‫انحالل الجسد‪.‬‬ ‫من عجيب أمور السباع‪ :‬أن‬ ‫وهو في الطريق»‪ .‬وكان على‬
‫وننتظر بفارغ صبر يوم قيامنا برحلتنا‬ ‫‪ -‬يا من ال يموت ارحم من يموت‪.‬‬ ‫وأفاق المأمون من غشيته وفتح‬ ‫أسدًا ظهر عندنا في أرض شيزر‪.‬‬ ‫مصطبة‪ ،‬بالقرب من دار معين‬
‫الجميلة‪ ،‬حدثت فاجعة غرق أكبر‬ ‫وقضى من ساعته‪ ،‬وذلك لثالث‬ ‫عينيه‪ ،‬وأمر بإحضار ناس من الروم‬ ‫جرحني وال آذاني!»‪ ،‬وقتلوا األسد‪.‬‬ ‫فخرجنا إليه‪ ،‬ومعنا َرجّ الة من‬ ‫الدين‪ ,‬في النهار والليل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫باخرة في العالم‪( ،‬في ‪ 14‬فبراير‪ /‬شباط‬ ‫عشرة ليلة بقيت من رجب سنة‬ ‫فسألهم عن اسم الموضع‪ ،‬فأحضر له‬ ‫ودخل الرجل فمات في تلك الليلة‬ ‫أهل شيزر‪ ،‬فيهم غالم للمُ ت َع َبّد‬ ‫«قولوا للسبّاع يجيء به»‪ .‬فقال‬
‫‪ )1912‬وهي التي تسمى «تيتانيك»‬ ‫ثمان عشرة ومائتين‪ ،‬وحمل إلى‬ ‫عدة من األسرى واألدالء فقيل لهم‪:‬‬ ‫من غير جرح أصابه! إال انقطع‬ ‫الذي كان يطيعه أهل الجبل‪،‬‬ ‫للخِ وان سالر (أي مدير المطلخ‬
‫التابعة لشركة «ويت ستار الين»‬ ‫طرسوس فدفن بها‪.‬‬ ‫‪ -‬ما تفسير هذا االسم وهو‬ ‫قلبه‪ ،‬فكنت أعجب من إقدام ذلك‬ ‫ويكاد أن يُعبد‪ .‬ومع ذلك الغالم‬ ‫بالفارسية)‪« :‬أ َ ْخ ِرجْ من ذبائح‬
‫أثناء سفرها ألول مرة من إنجلترا إلى‬ ‫القشيرة؟‬ ‫الكلب على األسد‪ ،‬وكل الحيوان‬ ‫كلب له‪ ،‬فأخذ ذلك الغالم وبرك‬ ‫المطبخ خروفًا‪ْ ،‬‬
‫اتركه في قاعة‬
‫أمريكا‪ ،‬وكانت حمولتها «‪»46000‬‬ ‫من "الروض المعطار في خبر االقطار"‬ ‫فقالوا‪:‬‬ ‫ينفر من األسد ويتجنبه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عليه‪ .‬فوثب الكلب على ظهر‬ ‫الدار‪ ،‬حتى نبصر كيف يكسره‬
‫طن وسرعتها ‪ 21‬عقدة‪ .‬وسبب غرقها‬ ‫للحميري المتوفي سنة ‪ 800‬هـ‬ ‫‪ -‬تفسيره مد رجليك‪.‬‬ ‫األسد‪ ،‬فنفر عن الرجل وعاد إلى‬ ‫السبع»‪ .‬فأخرج خروفًا إلى قاعة‬
‫مصادمتها‪ ،‬في الساعة الثانية عشرة‬ ‫فلما سمعها المأمون اضطرب من‬ ‫"كتاب االعتبار" أسامة بن منقذ‬ ‫األ َ َجمة! وخرج الرجل إلى بين‬ ‫الدار‪ .‬ودخل السبّاع ومعه‬
‫مساء‪ ،‬بجبل من الجليد «آيس برج»‬ ‫هذا الفأل وتطير به‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫‪584‬هـ ‪1188 1095-/‬م‬ ‫يدي والدي رحمه اهلل يضحك‪.‬‬ ‫السبع‪ .‬فساعة رآه الخروف‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬
‫عائم على وجه الماء‪ .‬وقد فصلت‬ ‫‪ -‬سلوهم ما اسم هذا الموضع‬ ‫تحقيق وتقديم د‪ .‬عبد الكريم األشتر‬ ‫وقال‪« :‬يا موالي! وحياتك‪ ،‬ما‬ ‫أرسله السبّاع من السلسلة التي‬
‫الجرائد األوربية كيف كانت المصادمة‬ ‫بالعربية؟‬
‫وحصول الغرق تفصيال مسهبا‪ ،‬ال داعي‬ ‫فقالوا‪:‬‬
‫إلعادته اآلن في رحلتنا‪ .‬إال أننا نقتصر‬ ‫‪ -‬الرقة‪.‬‬
‫من ذلك على ذكر ما رأيناه مهما‪،‬‬ ‫وكان فيما عمل من مولد المأمون‪،‬‬ ‫كالسعفة ويصيح‪:‬‬ ‫الماء كالحجر‪ ،‬فنضحت الماء على‬ ‫امل�أمون قتلته �سمكة‬
‫ويستحق المدح واإلعجاب‪ .‬إن عدد‬ ‫أنه يموت بالموضع المعروف‬ ‫‪ -‬البرد‪ ..‬البرد‪..‬‬ ‫صدر المأمون ونحره وترقوته‪،‬‬
‫ثم حول إلى المضرب و ُدثِّر وأوقدت‬ ‫الفراش ثانية‬
‫فبلت ثوبه‪ .‬ثم أخذها ّ‬‫ّ‬ ‫بعد أن فتح المأمون أربعة عشر‬
‫الركاب الذين كانوا في التيتانيك ال يقل‬ ‫بالرقة‪ ،‬فكان يحيد عن المقام‬
‫عن ‪ 2500‬شخص‪ ،‬كان من المستحيل‬ ‫بمدينة الرقة خوفًا من الموت‪ .‬فلما‬ ‫النيران حوله وهو‪ ،‬يصيح‪:‬‬ ‫فوضعها بين يدي المأمون في منديل‬ ‫حصنًا وانصرف من غزاته فنزل‬
‫نجاتهم جميعا بواسطة الستة عشر‬ ‫سمع هذا من الروم علم أنه الموضع‬ ‫‪ -‬البرد‪.‬‬ ‫تضطرب‪ .‬فقال المأمون‪:‬‬ ‫عين البذندون المعروفة بالقشيرة‬
‫زورقا (من زوارق النجاة) التي كانت‬ ‫الذي وعِ د فيه فيما تقدم من‬ ‫ثم أتي بالسمكة وقد فرغ من قليها‬ ‫‪ -‬تقلى الساعة‪.‬‬ ‫وأقام هناك حتى ترجع رسله من‬
‫بها‪ .‬ولذا ابتدئ بإنقاذ النساء واألطفال‬ ‫مولده‪ ،‬وأن فيه وفاته‪ .‬والبذندون‬ ‫فلم يقدر على ذوقها‪ ،‬وشغله ما هو‬ ‫ثم أخذته رعدة من ساعته لم‬ ‫الحصون‪ ،‬فوقف على العين ومنبع‬
‫أوال‪ ،‬ثم نزل بعض الرجال في المحال‬ ‫غرقا وهما متعانقان‬ ‫تفسيره مد رجليك‪.‬‬ ‫فيه عن تناول شيء منها‪ .‬ولما اشتد‬ ‫يقدر يتحرك من مكانه‪ ،‬فغطي‬ ‫الماء فأعجبه برد مائها وصفاءه‬
‫الباقية من هذه الزوارق‪ .‬وكان من‬ ‫على �سرير يف تايتانيك‬ ‫فلما ثقل المأمون‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫األمر عليه سأل المعتصم بختيشوع‬ ‫باللحف والدواويج وهو يرعد‬ ‫وحسن بياضه وطيب الموضع‬
‫بين الراكبين في الباخرة الكولونيل‬ ‫‪ -‬أخرجوني أُشرف على عسكري‬ ‫وابن ماسويه عنه وهو في سكرات‬ ‫وكثرة الخضرة‪ ،‬فأمر بقطع خشب‬
‫«أستور» ياور المستر «تافت» رئيس‬ ‫ولما قررت السفر إلى الجهات‬ ‫وأنظر إلى رجالي وأتبين ملكي‪.‬‬ ‫الموت‪ :‬ما الذي يدل عليه علم‬ ‫طوال فبسطت على العين كالجسر‬
‫الجمهورية السابق‪ ،‬وهو من أصحاب‬ ‫(األمريكية)‪ ،‬اتفقت مع كوك‬ ‫وذلك بالليل‪ .‬وأخرج فأشرف على‬ ‫الطب من أمره وهل يمكن برؤه؟‬ ‫وجلس عليه والماء تحته‪ ،‬وطرح‬
‫الثروة التي تقدر بمبلغ ‪ 750‬مليون‬ ‫وقررت السفر على الباخرة‬ ‫الخيم والجيش وانتشاره وكثرته‬ ‫في الماء درهمًا فقرأ كتابته وهو في‬
‫فرنك‪ ،‬وكان قد تزوج في إنجلترا‬ ‫(كرون برنسيس سيسيل) في‬ ‫وما قد أوقد من النيران‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫قرار الماء لصفائه‪ ،‬ولم يقدر أحد‬
‫بممثلة اشتهرت بجمالها الرائع‪ ،‬وكان‬ ‫أول مايو‪ ،‬أي قبل دخول فصل‬ ‫‪ -‬يا من ال يزول ملكه ارحم من‬ ‫يدخل الماء من شدة برده‪ ،‬فبينما‬
‫عائدا بعد أن قضيا «شهر العسل» في‬ ‫الحر الشديد بأمريكا‪ .‬وهذه‬ ‫قد زال ملكه‪.‬‬ ‫هو كذلك إذ الحت سمكة نحو‬
‫مصر في فصل الشتاء الماضي احتفاال‬ ‫الباخرة تابعة لشركة (النورد‬ ‫ثم رد إلى مرقده‪ ،‬وأجلس المعتصم‬ ‫الذراع كأنها سبيكة فضة‪ ،‬فأمر من‬
‫باليوبيل الذهبي لزواجهما‪ ،‬فبدل أن‬ ‫تشر لويد) األلمانية‪ .‬ولما وصلت‬ ‫رجلًا يلقنه الشهادة‪ ،‬لما أثقل فرفع‬ ‫أخرجها‪ .‬فلما صارت على حرف‬
‫يسرع إلى النجاة بنفسه أظهر شهامة‬ ‫إلى باريس أخذت أعد العدة لهذا‬ ‫الرجل بها صوته ليقولها المأمون‪،‬‬ ‫العين أو على الخشب اضطربت‬
‫وانملست من يد الفراش فوقعت في‬

‫‪153‬‬ ‫‪152‬‬
‫ومروءة وصار يساعد السيدات‬
‫واألطفال على النجاة وفضلهم على‬
‫نفسه‪.‬‬
‫والذي أثر في نفسي كثيرا منتهى‬
‫اإلخالص والصداقة التي أظهرتها‬
‫السيدة «ستورس» لزوجها الذي‬
‫كان معها في هذه الباخرة‪ ،‬وهو‬
‫المشهور بثروته التي ال تقل‬
‫عن ‪ 250‬مليون فرنك‪ ،‬فإنها لما‬
‫دعيت لمفارقة الباخرة كغيرها‬
‫من السيدات أبت نفسها الشريفة‬
‫أن تفارق زوجها‪ ،‬وأجابت الربان‬
‫الذي كان يدعوها إلى النجاة بنفسها‬
‫قائلة‪ :‬إن الخمسين سنة التي‬
‫أمضيتها مع زوجي المحبوب بين‬
‫السعادة والشقاء ال تسمح لي اليوم‬
‫بأن أفارقه في وقت الشدة‪ ،‬فأنا‬
‫الماضية‪ ،‬إال أني في الحقيقة كنت‬ ‫السفينة‪ ،‬ولكن ماذا كانت العاقبة؟‬
‫أفضل الموت معه على أن أعيش‬
‫أشعر بأن هذا السرور يكون عندي‬ ‫تصادمت بذلك الجبل الهائل ولشدة‬
‫لحظة واحدة بعده‪ ،‬فمات االثنان‬
‫أعظم‪ ،‬بعد أن أتمم هذه الرحلة وأعود‬ ‫سرعتها لم يمكن تحويل سيرها‬ ‫المسنان متعانقين بعد قبلة الوداع‬
‫سالما إلى بالدي العزيزة‪ .‬ولما لم يبق‬ ‫وإيقافها دفعة واحدة‪ ،‬فذهبت هباء‬ ‫األخير‪ .‬وأضافت السيدة ستورس‬
‫لنا سوى ‪ 24‬ساعة على ميعاد السفر‪،‬‬ ‫منثورا‪.‬‬ ‫إلى صحيفة اإلخالص أكمل مثال له‬
‫ذهبت إلى كوك وتسلمت جواز‬ ‫إن هذه الحادثة أخذت دورا هائال‬ ‫يستحق أن يدون بالذهب وينشر‬
‫السفر ووقعت على حسابي عندهم‪،‬‬ ‫في باريس‪ ،‬حتى كنا من الصباح‬ ‫في العالم‪ ،‬ليكون عبرة ومثال لمحبي‬
‫وأخذت منه دفتر شيكات ألخذ‬ ‫إلى المساء ال نسمع إال أخبار‬ ‫المروءة والشهامة واإلخالص‪.‬‬
‫ما يلزمني من النقود بأمريكا‪ .‬وقد‬ ‫غرق التيتانيك‪ .‬إن حصول مثل‬ ‫إن هذا الضرب من اإلخالص قلما‬
‫أخبرت بأن الشركة اعتنت بي كثيرا‪،‬‬ ‫هذه الفاجعة لمما يثني الهمم عن‬ ‫يوجد له مثال بين الرجال والنساء‪.‬‬
‫وأعدت لي أحسن محل بالباخرة‬ ‫السياحات‪ .‬فكم من صديق كان‬ ‫وهل لنا أن نؤمل‪ ،‬بعد أن أبدت‬

‫مو�سوعة رحالت احلج‬


‫«رون برنسيس سيسيل»‪ .‬وقد‬ ‫ينصحنا بالرجوع عن عزمنا‪ ،‬ولكن‬ ‫هذه السيدة أمام العالم أجمع هذا‬
‫أخبرني أيضًا محل كوك إنه سيمر‬ ‫هلل الحمد‪ ،‬أنا ورفيقاي مسلمون‬ ‫المثال لإلخالص الكامل‪ ،‬أن هذه‬
‫على محل سكننا اليوم «‪ 30‬أبريل‬ ‫مخلصون هلل ولدينه الحنيف‪،‬‬ ‫الروح الطاهرة ستسري بين النفوس‬
‫مائة رحلة �إىل مكة واملدينة وبيت املقد�س‬
‫سنة ‪ »1912‬الساعة ‪ 8‬ونصف مساء‬ ‫نعتقد أن لكل أجل كتابا‪ ،‬فيقيننا‬ ‫في أكثر األسرات حتى تقوي صالت‬
‫من هو مكلف بأخذ أمتعتنا الثقيلة‬ ‫ننثن‬
‫باهلل زادنا توكال عليه‪ ،‬فلم ِ‬ ‫المحبة بين أفرادها‪ ،‬وبذلك تسود‬
‫إلرسالها مباشرة إلى الباخرة حتى ال‬ ‫عن عزمنا‪ .‬وكنت كلما سئلت‪ :‬هل‬ ‫األلفة بين أبناء البشر؟‬
‫نتعب‪ ،‬وقد حصل ذلك‪ .‬وبما أننا غدا‬ ‫أنت مسافر؟ قلت نعم‪.‬‬ ‫أما أسباب الغرق فهي االعتقاد بأن‬
‫صباحا سنقوم الساعة ‪ 9‬والدقيقة‬ ‫‪ -‬أفلست خائفا؟‬ ‫هذه الباخرة الكبيرة متينة جدا‬
‫‪ 50‬من محطة «سان الزار» ويلزمنا‬ ‫‪ -‬ال‪ .‬إن اهلل قادر أن يحميني من‬ ‫وال سبيل إلى أن تغرق‪ ،‬ولذا أمر‬
‫أن نكون مبكرين إلى المحطة‪ ،‬فضلنا‬ ‫األذى‪ ،‬وهو الحي الذي ال يموت‪.‬‬ ‫ربانها بأن يسرع في السير بآخر‬
‫أن نبادر إلى النوم حتى يكون لنا من‬ ‫إني ال أريد أن أخفي عليك‪ ،‬أيها‬ ‫قوة باخرته حتى يقطع المسافة‬
‫ِّ‬
‫مشاق‬ ‫الراحة ما يساعدنا على تحمل‬ ‫القارئ‪ ،‬مقدار ما كان من تأثري من‬ ‫بين إنجلترا وأمريكا في مدة أقل‬
‫السفر‪ ،‬إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬ ‫سماع كل هذه األخبار المزعجة‬ ‫مما تقطعها باقي بواخر العالم فتأخذ‬
‫التي ال تطمئن القلوب لها‪ .‬نعم‪ ،‬إني‬ ‫التيتانيك الشهرة وتفوز بالسبق‪.‬‬
‫األمير محمد علي باشا‬ ‫كنت أشعر بسرور ألني سأرى‬ ‫ولكن‪ ،‬يا لألسف‪ ،‬خاب الظن‬
‫الرحلة األميركية ‪1912 -‬‬ ‫أشياء جديدة لم أرها أثناء سياحاتي‬ ‫وكانت العاقبة وباال‪ .‬لقد أسرعت‬

‫الرحلة دي�سمرب ‪2010‬‬ ‫‪154‬‬


‫‪Abeigment‬‬ ‫�إيجاز‬

‫مدينة‬ ‫من علماء البلدان‪ .‬كان تاجرًا‪.‬‬ ‫م�صطلحات‬


‫رحل من بغداد سنة ‪331‬هـ‪،‬‬
‫ودخل المغرب وصقلية‪ ،‬وجاب‬ ‫خريطة‪:‬‬
‫الر ُّي‪ :‬مدينة مشهورة من أمهات البالد‬ ‫َّ‬ ‫بالد األندلس وغيرها‪ .‬ويقال‪ :‬كان‬ ‫‪Carte, Carta, Cart, Map‬‬
‫وأعالم المدن‪ ،‬كثيرة الفواكه والخيرات‪،‬‬ ‫عينًا للفاطميين‪ .‬وله "المسالك‬ ‫علم الخرائط وفن رسمها‪:‬‬
‫وهي محط الحاج على طريق السابلة‬ ‫والممالك"‪.‬‬ ‫‪Cartographie, Cartography‬‬
‫وقصبة بالد الجبال‪ ،‬بينها وبين نيسابور‬ ‫الكارتوغرافيا‪ :‬هي مجموعة الدراسات‬
‫مائة وستون فرسخًا‪ ،‬وإلى قزوين سبعة‬ ‫البيروني‬ ‫والتجارب العلمية والفنية والتقنية‬
‫وعشرون فرسخًا‪ ،‬ومن قزوين إلى أبهر‬ ‫بدأ القرن الحادي عشر مشرقًا‬ ‫المستخلصة من مشاهدات الرحالة‬
‫اثنا عشر فرسخًا‪ ،‬وإلى زنجان خمسة عثر‬ ‫بالنسبة للعلم العربي؛ ففي عام‬ ‫والبلدانيين ومالحظاتهم المباشرة‬
‫فرسخًا‪.‬‬ ‫(‪390‬هـ‪ )1000 :‬أتم تأليف كتابه‬ ‫واالستفادة من مدوناتهم من أجل إعداد‬
‫الري بلد بناه فيروز بن‬ ‫العمراني‪:‬‬ ‫قال‬ ‫عالمة‬‫المشهور "اآلثار الباقية" ّ‬ ‫الخرائط والمصورات والتصاميم‪ ،‬وكيفية‬
‫َّ‬
‫الري‬‫َّ‬ ‫ذكر‬ ‫ثم‬ ‫فيروز‪،‬‬ ‫رام‬ ‫وسماه‬ ‫يزدجرد‬ ‫شاب هو البيروني‪ ،‬وهو كتاب ال‬ ‫استعمالها كذلك‪.‬‬
‫المشهورة بعدها وجعلهما بلدتين‪ ،‬وال‬ ‫مثيل له في جميع آداب الشرق‪.‬‬
‫الري المشهورة فإني‬ ‫أعرف األخرى‪ ،‬فأما َّ‬ ‫وفي خالل نصف قرن تقريبًا من‬ ‫الخرائط البحرية‪:‬‬
‫رأيتها‪ ،‬وهي مدينة عجيبة الحسن مبنية‬ ‫هذا التاريخ لم يتوقف البيروني‬ ‫‪Cartes marines‬‬
‫باآلجر المنمق الملمع بالزرقة‪ ،‬وإلى جانبها‬ ‫عن تزويد مختلف فروع العلم‬
‫جبل مشرف عليها أقرع ال ينبت فيه شيء‪.‬‬ ‫بمؤلفاته العديدة التي يمكن القول‬ ‫األرصاد الجوية‬
‫بأنها بلغت ذروتها بكتابه عن الهند‬ ‫‪Météorologie, meterology‬‬
‫وكانت مدينة عظيمة خرب أكثرها‪ ،‬واتفق‬
‫أنني اجتزت في خرابها في سنة ‪617‬هـ وأنا‬ ‫المسمى "تحقيق ما للهند‪ ،"....‬ذلك‬
‫الكتاب الذي وصفه روزن منذ‬ ‫رسم الخرائط والبيانات الجوية‪:‬‬
‫منهزم من التتر‪ ،‬فرأيت حيطان خرابها قائمة‬
‫‪Meteorographics‬‬
‫ومنابرها باقية وتزاويق الحيطان بحالها‬ ‫أكثر من خمسين عامًا بأنه "أثر‬
‫لقرب عهدها بالخراب‪ ،‬إال أنها خاوية على‬ ‫فريد في بابه ال مثيل له في األدب‬
‫علم الظواهر الجوية ودراسة األنواء‪:‬‬
‫عروشها‪.‬‬ ‫العلمي القديم أو الوسيط سواء في‬
‫‪Météorologie meteorology‬‬
‫ووصفها اإلصطخري بأنها كانت أكبر من‬ ‫الغرب أو الشرق"‪.‬‬
‫والري مدينة ليس بعد‬ ‫أصبهان‪ .‬وقال‪َّ :‬‬ ‫ولد البيروني في الثاني من ذي‬
‫الدسار (ج دسر) ‪:‬‬
‫بغداد في المشرق أعمر منها‪ .‬وهي مدينة‬ ‫الحجة عام (‪362‬هـ‪ 4 :‬سبتمبر ‪)973‬‬
‫مسمار أو خيط من ليف تشد به ألواح‬
‫مقدارها فرسخ ونصف في مثله‪ ،‬والغالب‬ ‫بضاحية من ضواحي خوارزم‪،‬‬
‫السفينة‪.‬‬
‫وللري قرى‬ ‫على بنائها الخشب والطين‪َّ .‬‬ ‫ومنها أخذ نسبته البيروني التي‬
‫كبار كل واحدة أكبر من مدينة وعدَّ د منها‬ ‫تنطق في العربية بكسر الباء‪،‬‬
‫الد َقل ‪:‬‬
‫َّ‬
‫ومرج َبى وغير ذلك من القرى‬ ‫َ‬ ‫قوهذ والسد‬ ‫وكنيته أبو الريحان غير واضحة‬
‫(الصاري الرئيسي) وهو العمود الخشبي‬
‫التي بلغني أنها تخرج من أهلها ما يزيد على‬ ‫بدورها‪ ،‬كما وأن نسبه مجهول‬
‫الذي يمد عليها الشراع‪.‬‬
‫عشرة آالف رجل‪.‬‬ ‫تمامًا‪ .‬أما اسمه محمد بن أحمد‬ ‫َّ‬
‫الطوْ ف (جمع أطواف)‪:‬‬
‫قال جعفر بن محمد الرازي‪ :‬لما قدم المهدي‬ ‫فال يفاد منه شيء البتة‪ ،‬بل جرت‬
‫ما يعوم على وجه الماء‪ ،‬وهي قطع من‬
‫الري في خالفة المنصور بَ َنى مدينة َّ‬
‫الري‬ ‫َّ‬ ‫العادة على استعمال هذه األسماء‬
‫خشب أو قرب ينفخ فيها ويشد بعضها‬
‫التي بها الناس اليوم وجعل حولها خندقًا‬ ‫عندما تكون األسماء الحقيقية غير‬
‫إلى بعض فتصير كهيئة سطح لركوب‬
‫وجرى ذلك على‬ ‫َ‬ ‫وبَ َنى فيها مسجدًا جامعًا‬ ‫معروفة‪ .‬توفي البيروني بغزنة‬
‫الماء أو حمل األمتعة‪.‬‬
‫يد عمار بن أبي الخصيب وكتب اسمه‬ ‫في الثالث من رجب عام (‪444‬هـ‬
‫على حائطها وتَ َّم عملها سنة ‪158‬هـ وجعل‬ ‫الموافق ‪ 13‬ديسمبر ‪.)1048‬‬
‫لها فصيلًا يطيف به فارقين آجر‪ ،‬والفارقين‬ ‫أطلق علماء الغرب على القرن‬ ‫�أعالم‬
‫الخندق وسماها المحمدية‪ .‬فأهل الري‬ ‫الحادي عشر اسم عصر البيروني‬
‫يدعون المدينة الداخلة المدينة‪ ،‬ويسمون‬ ‫ألنه أكبر شخصية علمية عاشت‬ ‫ابن حوقل ‪:‬‬
‫الفصيل المدينة الخارجة‪ ،‬والحصن‬ ‫في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫(توفي سنة ‪977‬م) محمد بن حوقل‬
‫المعروف بالزينبدى في داخل المدينة‬ ‫البغدادي الموصلي‪ ،‬أبو القاسم‪ :‬رحالة‪،‬‬
‫المعروفة بالمحمدية‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫‪A page from‬‬ ‫�صفحة من‬

‫كتاب القانون ‪ -‬ابن �سينا‬

‫�إر�ضـاع املـولود‬
‫أما كيفية إرضاعه وتغذيته‪ ،‬فيجب أن يرضع ما أمكن بلبن أمه‪ ،‬فإنه أشبه األغذية‬
‫بجوهر ما سلف من غذائه‪ ،‬وهو في الرحم أعني طمث أمه‪ ،‬فإنه بعينه‬
‫هو المستحيل لبنًا‪ ،‬وهو أقبل لذلك وآلف له حتى إنه قد صح بالتجربة‬
‫أن إلقامه حلمة أمه عظيم النفع جدًا في دفع ما يؤذيه‪ .‬ويجب أن يُكتفى‬
‫بإرضاعه في اليوم مرتين أو ثالثًا‪ ،‬وال يبدأ في أول األمر في إرضاعه بإرضاع‬
‫كثير‪ ،‬على أنه يستحب أن تكون من ترضعه في أول األمر غير أمه حتى‬
‫يعتدل مزاج أمه‪ .‬واألجود أن يلعق عسلًا ثم يرضع‪ .‬ويجب أن يحلب من‬
‫اللبن الذي يرضع منه الصبي في أول النهار حلبتان أو ثالث ثم يلقم الحلمة‪،‬‬
‫وخصوصًا إذا كان باللبن عيب‪ .‬واألولى باللبن الرديء والحريف أن ال ترضعها‬
‫المرضعة وهي على الريق‪ ،‬ومع ذلك فإنه من الواجب أن يلزم الطفل شيئين‬
‫نافعين أيضًا لتقوية مزاجه‪ ،‬أحدهما‪ :‬التحريك اللطيف‪ ،‬واآلخر‪ :‬الموسيقى‬
‫والتلحين الذي جرت به العادة لتنويم األطفال‪ .‬وبمقدار قبوله لذلك يوقف على‬
‫تهيئته للرياضة‪ ،‬والموسيقى‪ :‬أحدهما ببدنه واآلخر بنفسه‪ ،‬فإن َم َن َع عن إرضاعه‬
‫لبن والدته مانع من ضعف وفساد لبنها أو ميله إلى الرقة‪ ،‬فينبغي أن يختار له‬
‫مرضعة على الشرائط التي نصفها‪ ،‬بعضها في س ِّنها‪ ،‬وبعضها في َسحنتها‪ ،‬وبعضها‬
‫في أخالقها‪ ،‬وبعضها في هيئة ثديها‪ ،‬وبعضها في كيفية لبنها‪ ،‬وبعضها في مقدار‬
‫مدة ما بينها وبين وضعها‪ ،‬وبعضها من جنس مولودها‪ .‬وإذا أصبت شرائطها فيجب أن يجاد غذاؤها فيجعل‬
‫من الحنطة والخندريس ولحوم الخرفان والجداء والسمك الذي ليس بعفن اللحم وال صلبه‪ .‬والخس غذاء‬
‫وشر البقول لها الجرجير والخردل والباذروج فإنه يفسد اللبن‪ ،‬وفي النعناع‬ ‫ُّ‬ ‫محمود‪ ،‬واللوز أيضًا والبندق‪.‬‬
‫قوة من ذلك‪.‬‬
‫وأما شرائط المرضع فسنذكرها‪ :‬ونبدأ بشريطة سنها فنقول‪ :‬إن األحسن أن يكون ما بين خمس وعشرين‬
‫سنة إلى خمس وثالثين سنة‪ ،‬فإن هذا هو سن الشباب وسن الصحة والكمال‪ .‬وأما في شريطة سحنتها‬
‫وتركيبها‪ ،‬فيجب أن تكون حسنة اللون‪ ،‬قوية العنق والصدر واسعته‪ ،‬عضالنية صلبة اللحم‪ ،‬متوسطة‬
‫في السمن والهزال لحمانية ال شحمانية‪ .‬وأما في أخالقها فأن تكون حسنة األخالق محمودتها بطيئة عن‬
‫االنفعاالت النفسانية الرديئة من الغضب والغم والجبن وغير ذلك‪ ،‬فإن جميع ذلك يفسد المزاج وربما‬
‫للهّ‬
‫أعدى بالرضاع ولهذا نهى رسول ا صلى اهلل عليه وسلم عن استظئار المجنونة‪ ،‬على أن سوء خلقها‬
‫أيضًا مما يسلك بها سوء العناية بتع ّهد الصبي وإقالل مداراته‪ .‬وأما في هيئة ثديها‪ ،‬فأن يكون ثديها مكتنزًا‬
‫عظيمًا‪ ،‬وليس مع عظمه بمسترخ‪ ،‬وال ينبغي أيضًا أن يكون فاحش العظم‪ ،‬ويجب أن يكون معتدلًا في‬
‫الصالبة واللين‪ .‬وأما في كيفية لبنها‪ ،‬فأن يكون قوامه معتدلًا‪ ،‬ومقداره معتدلًا‪ ،‬ولونه إلى البياض‪ ،‬ال كمد‬
‫وال أخضر وال أصفر وال أحمر‪ ،‬ورائحته طيّبة ال ونة فيها وال عفونة‪ .‬وطعمه إلى الحالوة ال مرارة فيه‬
‫وال ملوحة وال حموضة‪ ،‬وإلى الكثرة ما هو وأجزاؤه متشابهة‪ ،‬فحينئذ ال يكون رقيقًا سيالًا وال غليظًا جدًا‬
‫جبنيًا‪ ،‬وال مختلف األجزاء‪ ،‬وال كثير الرغوة‪ ،‬وقد يجرب قوامه بالتقطير على الظفر فإن سال فهو رقيق‪،‬‬
‫وإن وقف عن اإلسالة من الظفر فهو ثخين‪ .‬ويجرب أيضًا في زجاجة بأن يلقي عليه شيء من المر ويحرك‬
‫باألصبع فيعرف مقدار جبنيته ومائيته‪ ،‬فإن اللبن المحمود هو المتعادل الجبنية والمائية‪ ،‬فإن اضطر إلى‬
‫من لبنها ليس بهذه الصفة دبر فيه‪ ،‬من وجه السقي‪ ،‬ومن عالج المرضعة‪ .‬أما من وجه السقي فما كان‬
‫من األلبان غليظًا كريه الرائحة‪ ،‬فاألصوب أن يسقى بعد حلب ويعرض للهواء‪ ،‬وما كان شديد الحرارة‪،‬‬
‫فاألصوب أن ال يسقى على الريق البتة‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫‪Letter‬‬ ‫ر�سالة‬

‫وأتانا بشيء من الخرق مع فالصو الحرير‪ ،‬وهل‬ ‫أما بعد‪ ،‬فأعلم أن الذي ظهر لنا أنك ليس عندك‬
‫نحن ممن يعجبه ذلك ويسره؟ فنحن معشر العرب‬ ‫قول صحيح‪ ،‬وال كالم رجيح‪ ،‬وال أظنك إال غلب‬
‫ال نعرف إال الصحيح‪ ،‬وال يسرنا إال مخا فيه مصلحة‬ ‫عليك أهل ديوانك‪ ،‬وصاروا يلعبون بك كيف شاءوا‪،‬‬
‫من ال�سلطان موالي �إ�سماعيل �إىل لوي�س الرابع ع�رش‬
‫المسلمين كلهم‪ ،‬ومع ذلك أعطينا لصاحبك عشرين‬ ‫وال بقي لك معهم ضرب وال لقب‪ ،‬ودليل ذلك أننا‬
‫نصرانيا سيفظناه بها‪ ،‬وظننا أنك وال بُد تراعي‬ ‫ما زلنا ما قبضنا منك صحة قول وال أبرمت معنا‬ ‫لي�س عندك قول �صحيح وال كالم رجيح‬
‫الخير وتبعث لنا ولو عشرين مسلمًا تجبر بها‬ ‫شئيًا‪ ،‬ففال منك الذين ليس لهم رئيس وما عندهم‬
‫خواطرنا‪ ،‬وتكون هي الطريق للكالم الذي تريده‬ ‫إال الديوان‪ ،‬تكلموا معنا كلمة معنا كلمة وقبضناها‬
‫منا‪ ،‬فإذا بك ما عملت شئيا من هذا‪ ،‬وال جازيت‬ ‫ُ‬
‫واالنجليز تكلموا معنا‬ ‫عليك وثبتوا فيها ّ‬
‫ووفَوا بها‪،‬‬
‫بإحسان‪.‬‬ ‫َ‬
‫كلمة وقبضناها عليهم وثبتوا فيها ووفوا بها‪ ،‬فحين‬ ‫هذه الر�سالة ذات قيمة ا�ستثنائية لكونها تك�شف عن طبيعة العالقة‬
‫وثانيا قبضنا لك سفينة قبل أن يقع الكالم بيننا‬ ‫ذهب خديمنا لبالدهم لما أن طلبوا منا ذلك فرحوا‬
‫وبينك بثالثة أيام أو أربعة على التحقيق‪ ،‬وهي‬ ‫به وأكرموه وبروا به‪ ،‬وأتى من عندهم بعشر مئة‬
‫التي قامت بني املغرب وفرن�سا يف القرن ال�سابع ع�رش يف ظل وجود‬
‫موسوقة بالسكر وتبغة وثقفناها نحوًا من ثالث‬ ‫مكحلة وستة عشر مئة قنطار من البارود ومئة‬ ‫�سلطان مغربي قوي يف احلكم‪ ،‬هو موالي �إ�سماعيل �إىل مت ّيز عهده بالقوة يف‬
‫سنين بقصدك‪ ،‬وال تركنا أحدًا يمد يده فيها‪ ،‬وقلنا‬ ‫وسبعة من المسلمين أطلقوهم من األسر لوجوهنا‪،‬‬ ‫العالقة مع �أوروبا‪ ،‬وبالبط�ش يف عالقته بخ�صومه الداخليني‪ .‬لقد هزّ هذا‬
‫إنك تراعي خيرنا‪ ،‬وتعمل ألولئك المسلمين طريقا‬ ‫وعملوا من الخير ما عملوا مراعاة لنا‪ ،‬وثبتوا في‬ ‫ال�سلطان قب�ضته لإ�سبانيا عندما خا�ض جي�شه عدة معارك ناجحة مع‬
‫وتسرحهم‪ ،‬وإن كان ليس فيهم من هو خديمنا وال‬ ‫قولهم‪ ،‬ووفوّا بكالمهم‪ ،‬وأنت ال زال لم يصح منك‬ ‫جي�شها وكذلك مت ّيزت دبلوما�سيته مع فرن�سا بال�شدة وال�صالبة‪.‬‬
‫من هو محسوب من جيشنا وال من هو معرفتنا‪،‬‬ ‫قول وال وفاء‪ ،‬وأوالئك الذين كانوا قدموا إليك من‬
‫فما هو إال ممن ال خالق له‪ ،‬وال يركب البحر عندنا‬ ‫هذه البالدج ليس هم من خدامنا وال من أصحابنا وال‬
‫إال أهل التمرييل ولو أطلقتهم وإن كانوا ليسوا‬ ‫ممن له معرفة معنا‪ ،‬فالحاج علي معنينو حيث أسر‬
‫بشيء فتكون عملت الخير بذلك‪ ،‬وتقول إنك‬ ‫له ولده الذ بالبعض من خدامنا واستحرم به‪ ،‬وقدم‬
‫عملت مسألة تراعي عليها‪.‬‬ ‫إليكم على شأن أوالئك المسلمين‪ ،‬وجاز على دار‬
‫وأعظم من ذلك كله هو أن رئيسا من بالدنا اسمه‬ ‫السباع ودار النعام‪ ،‬وأتى إليكم بما أتى وال شعرنا‬
‫التاج كان أعطاه صاحبك الذي أتانا خط يده‪ ،‬على‬ ‫به وال عرفناه كم أخذ‪ ،‬وقلفنا إنه إن وصلكم‬
‫أن يشتري سفينة من الجزائر يسافر بها قرصان‬ ‫وال بد تعملون له غرضه في أوالئك المسلمين‬
‫وما عليه فيمن لقيه من فرانصيص‪ ،‬فلما أن‬ ‫وتسرحونهم‪ ،‬فإذا به هو تحيل على ولده إلى أن‬
‫اشتراها وسافر بها وغنم قطارمة موسوقة بالرخام‬ ‫جاء به‪ ،‬وأنتم ما عملتهم صوابًا في غيره‪ ،‬وال صدر‬
‫والريال مع ما فيها من الحرير وغيره وبعثنا مع‬ ‫منكم ما تراعون ألجله‪.‬‬
‫أصحابه ستة وعشرين مسلمًا‪ ،‬وتعرضوا لها‬ ‫ثم بعد ذلك قدم لعلي مقامنا صاحبكم انبسدور‬
‫سفنكم وأخذوها وثقفتها أنت أيامًا ثم بعد ذلك‬
‫مزقتها‪ ،‬والمسلمون الذين كانوا معها خدمتهم في‬
‫الغراب فلما ذا لم تردها أو تثقفها ثالث سنين كما‬
‫ثقفنا نحن سفينتكم؟ وهل هذه هي صحة القول؟‬
‫فهاذا مما يدل على عدم صحة كالمك‪ ،‬ومما يثبت‬
‫االخالل بقولك وقلة وفائك‪ ،‬فحتى اآلن فالذي ظهر‬ ‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫لنا أنه ما يليق بنا معك إال الشر‪ ،‬وإن أردت تثبيت‬ ‫وال حول وال قوة إال باهلل العلي العيم‬
‫المهادنة وإبرام الكالم فيها وإمضاء حجتها‪ ،‬فابعث‬
‫لنا من عندك قونصو بالتفويض على هذا األمر‪،‬‬ ‫من عبد اهلل تعالى اإلمام المظفر باهلل‪ ،‬أمير المؤمنين‪ ،‬المجاهد في سبيل رب العالمين‪ ،‬الشريف الحسني‬
‫ويجلس هنا في أحد مراسينا‪ ،‬ويكون كالمنا معه‬ ‫أيده اهلل ونصره آمين‪.‬‬
‫في هذا كله‪ ،‬ونبرم معه هذا األمر‪ ،‬ويكون من‬ ‫(الطابع السلطاني بداخله)‬
‫أهل الحل والربط عندكم‪ ،‬وإال فإن ظهر لكم خالف‬ ‫(إسماعيل بن الشريف الحسني أيده اهلل)‬
‫ذلك فأعلمنا وعرفنا بما عليه عملك وما أضمرته‬ ‫(وبدائرته الي ُ‬
‫ُمن واإلقبال‪ ،‬وبلوغ األمال)‬
‫طويتك‪ ،‬والسالم على من اتبع الهدى‪.‬‬ ‫إلى عظيم الروم بفرانصيص‪ ،‬لويس الرابع عشر من هذا االسم‪ .‬السالم على من اتبع الهدى‪ ،‬وباعد طريق‬
‫ألغي والردى‪.‬‬
‫في التاسع من شعبان المبارك سنة خمس وتسعين وألف‬
‫أعضاء وفد السلطان المغربي كما رسمتهم الصحافة الفرنسية‬
‫‪161‬‬ ‫‪160‬‬
‫‪Books‬‬ ‫كتب‬

‫عشرين جنيهًا إسترلينيًا‪.‬‬ ‫�سندباد من ال�سودان‬


‫طويلًا وكتب مقالًا نشرته الديلي‬ ‫�أحمد ح�سن مطر‬
‫في عام ‪1925‬م رأى أن سفره إلى‬
‫تلغراف تنبأ بنشوب الحرب‬
‫أمريكا الالتينية سيهيئ له فرص‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬وتصَ ُّدع عصبة‬ ‫أحمد حسن مطر الرحالة‬
‫النجاح‪ ،‬ويحكى أنه لم يملك أكثر‬
‫األمم‪.‬‬ ‫السوداني األشهر في القرن‬
‫من عشرة جنيهات إسترلينية‬
‫وفي عام ‪ 1956‬دعاه السيد عبد‬ ‫العشرين‪ ،‬طاف العالم مرارًا‬
‫بعد ما دفع ثمن التذاكر على‬
‫اهلل بك خليل للرجوع إلى‬ ‫خالل ‪ 33‬سنة وقعت ما بين‬
‫باخرة في الدرجة األولى‪.‬‬
‫السودان ف َن َّظم وزارة الخارجية‬ ‫النصف األول من القرن العشرين‬
‫وصل إلى األرجنتين‪ ،‬وهو ال‬
‫السودانية وكان من رأي عبد‬
‫يعرف أحدًا هناك‪ ،‬ف َن َّظم لنفسه‬ ‫والنصف الثاني منه‪.‬‬
‫اهلل خليل أن ُي َع ِيّنه سفيرًا‪،‬‬ ‫عندما استلم العمل في مصلحة‬
‫عددًا من المحاضرات التي ألقاها‬
‫ولكن وقفت عقبات أمامه‪ ،‬ف ُع ِيّن‬ ‫البريد والبرق‪ ،‬وعمل مع‬
‫في األندية العربية نظير أجر‬
‫وأرضي في تجربة الغموض التي‬ ‫الراحل د‪ .‬سعيد الفاضل بالتعاون‬ ‫في أن الوقوف عندها سيعطي‬ ‫مسؤولًا عن المراسم والترجمة‪.‬‬
‫دفعته له وكالة صحيفة بوينس‬ ‫اسكندر رينو الذي تولى بناء‬
‫يكشف عنها‪ ،‬والقلق واالنفصال‬ ‫مع تلميذه وصديقه سليمان‬ ‫فكرة عامة وشاملة وموضوعية‬ ‫ولما استولى العسكر عام ‪1958‬م‬
‫إيرس‪ .‬وبعد أسبوع حصل على‬ ‫خزان سنار‪ ،‬استطاع في فترة‬
‫الذي يذهب وال يعود‪ ،‬واألرض‬ ‫القرشي‬ ‫عن خصائص القرن الحادي عشر‬ ‫على الحكم في السودان‪ ،‬استطاع‬
‫ترخيص إلصدار جريدة باللغتين‬ ‫وجيزة أن يتحدث اإليطالية‪ .‬سنة‬
‫الباردة التي تتحول إلى شعر‬ ‫الهجري الثقافية واالجتماعية‬ ‫مطر أن يدعو وفودًا من أمريكا‬
‫العربية واألسبانية‪ .‬ويحكى أنه‬ ‫‪ 1918‬اتصل بشركة إنجليزية‬
‫غنائي للتجسد‪ ،‬والرحالة شاعر‬ ‫المؤلف‪ :‬أبو سالم عبد اهلل بن‬ ‫واالقتصادية والسياسية‪ ،‬فكانت‪،‬‬ ‫الالتينية‪ ،‬وكان أول وفد هو وفد‬
‫لم يكن يعرف من اللغة األسبانية‬ ‫في ود مدني وعمل معها فكان‬
‫أصيل وغامض‪ ،‬مكتشف رائد‪،‬‬ ‫محمد العياشي‬ ‫كما وصفها‪ ،‬صاحبها ديوان علم‬ ‫كوبا وكان به شي جيفارا‪ ،‬وظهر‬
‫غير األلفاظ المشتركة بينها وبين‬ ‫المُ حَ ِّرك لكل أعمال الشركة في‬
‫كائن مليء باألسرار‪ ،‬إنه مثل‬ ‫تحقيق‪ :‬د‪ .‬سعيد الفاضلي‪،‬‬ ‫ال كتاب سمر وفكاهة‪ ،‬فقد‬ ‫جيفارا في حديث في اإلذاعة‬
‫اللغة الفرنسية واإليطالية‪ ،‬ولكنه‬ ‫مكاتب الحكومة ومع الشركة‬
‫الشاعر متوحش قليال‪ ،‬وحيواني‬ ‫د‪ .‬سليمان القرشي‬ ‫دارت عجلتها باتجاه الديني‬ ‫السودانية ترجمه مطر‪.‬‬
‫استعان ببعض الشباب العرب‬ ‫الزراعية السودانية‪.‬‬
‫أيضا ألنه يفترس الجمال بنهم مثل‬ ‫الناشر‪ :‬دار السويدي‪ -‬أبوظبي‬ ‫في تساوق تام مع العلمي‪ ،‬وال‬ ‫كتاب مهم ومؤثر عن مغامر من‬
‫في تحرير القسم األسباني وبعد‬ ‫قرر مطر أن يهجر السودان‪،‬‬
‫حيوان جائع‪.‬‬ ‫غرابة أن يتالزم الهدفان عند‬ ‫طراز فريدد‬
‫أسبوع أتقن اللغة األسبانية!‬ ‫فذهب إلى القاهرة عام ‪ 1922‬ورأى‬
‫بهذا الوعي رفيع المستوى كتب‬ ‫خرائط منت�صف الليل‬ ‫أبي سالم العياشي الفقيه العالم‪،‬‬
‫عانت األرجنتين انقالبًا عسكريًا‪،‬‬ ‫أن ميدانه هو الصحافة‪ ،‬فاتصل‬
‫الروائي العراقي يوميات اتصاله‬ ‫علي بدر‬ ‫والمؤمن الورع خالل رحلته‬
‫وأُغلقت كل الصحف ما عدا‬
‫المؤلف‪ :‬أحمد صالح مطر‬
‫بجريدة األهرام ولم ُت َر ِّحب به‪،‬‬
‫باألمكنة التي زارها وسفره‬ ‫الروحية إلى من المغرب العربي‬ ‫حررها وقدَّ م لها‪ :‬محسن خالد‬
‫صحيفة مطر واستطاع مطر أن‬ ‫وعرضت عليه جريدة المقطم‬
‫عنها‪ ،‬مدن صنعت التاريخ‪:‬‬ ‫اختير هذا الكتاب للفوز بجائزة‬ ‫إلى الديار المقدسة وجوارها‬ ‫الناشر‪ :‬دار السويدي‪ -‬أبو ظبي‬
‫يلج مغاليق السياسة‪ ،‬وخاض‬ ‫أن يعمل مراسلًا لها في باريس‬
‫اسطانبول‪ ،‬أثينا‪ ،‬الجزائر طهران‪،‬‬ ‫ابن بطوطة للرحلة المعاصرة في‬ ‫المشرقي‪ .‬ولكونها تمت في سياق‬
‫االنتخابات وحصل على مقعد في‬ ‫بمكافأة‪ ،‬فذهب إلى باريس‬
‫لكنها اآلن مسرح وقائع معاصرة‬ ‫سنتها الثالثة‪ ،‬وهو األول لمؤلفه‬ ‫تاريخي محدد‪ ،‬ونظرا لخصوصية‬ ‫الرحلة العيا�شية‬ ‫واستطاع أن ينشئ مكتبًا باسمه‪،‬‬
‫البرلمان األرجنتيني ونال كل‬
‫وجمال سديمي منهوب تحت‬ ‫في هذا الميدان‪ ،‬لكونه يجمع‬ ‫المجتمع العربي اإلسالمي‪،‬‬ ‫‪1661‬م–‪1663‬‬
‫أصوات العرب هناك‪ .‬لكنه ضاق‬ ‫وليس باسم المقطم‪ .‬وتأخرت‬
‫بصر الساكنة والزوار‪ ،‬في‬ ‫في لغته وموضوعاته وأفكاره‬ ‫االقتصادية والسياسية والثقافية‬ ‫�أبو �سامل عبد اهلل العيا�شي‬
‫بالعيش في األرجنتين فهاجر إلى‬ ‫المكافأة شهرين‪ ،‬فكتب للدكتور‬
‫عالم اكتشف بال رحمة ولم‬ ‫بين توق المسافر إلى السفر‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬خالل القرن الحادي‬
‫بوليفيا‪ ،‬وأخرج صحيفة أخرى‬ ‫فارس نمر وشاهين مكاريوس‬
‫يبق للرحالة المعاصرين إال‬ ‫الحر بحثًا عن المعرفة مقرونة‬ ‫عشر للهجرة‪ ،‬فقد عمد الرحالة‬ ‫تعتبر هذه الرحلة ديوان علم‬
‫هناك باسم الوطن وباللغتين‬ ‫مهددًا بأ ّنَه سيستقيل‪ ،‬فأرسلت‬
‫أن يكتشفوا على سطح الصور‬ ‫بالمتعة‪ ،‬وبين العين التي ترى‬ ‫العالم بحرص الفقيه‪ ،‬وعين‬ ‫وأدب‪ ،‬وسجل تاريخ وتصوف‪،‬‬
‫العربية واألسبانية‪ ،‬وشخص بعد‬ ‫المقطم له مبلغ ثالثين جنيهًا‬
‫المرئية صور أعماقهم اإلنسانية‪.‬‬ ‫العالم ذاخرًا بالحقائق المرئية‬ ‫الرحالة اليقظة‪ ،‬إلى تسجيل‬ ‫وكتاب أخبار وآثار‪ ،‬انفردت‪،‬‬
‫ذلك إلى البرازيل وأخرج صحيفة‬ ‫إسترلينيًا‪ ،‬ولكنه َش َّق طريقه‬
‫لغة مدهشة في نضارتها‬ ‫والمحتجبة‪ ،‬وقد عبر عن‬ ‫وتدوين كل ما صادفه في‬ ‫دون سواها من الكتب والرحالت‬
‫بالعربية والبرتغالية‪ ،‬ودخل‬ ‫وامتد مكتبه إلى التعاون مع‬
‫وجاذبيتها‪ ،‬وعين ترى العالم‬ ‫الكاتب شغفه باألمكنة من خالل‬ ‫طريقه أثناء رحلته الموسوعية‬ ‫وأمهات المصادر‪ ،‬بإيراد جملة‬
‫البرلمان وكاد أن يكون وزيرًا‪.‬‬ ‫صحف أمريكية‪ ،‬وصحف في‬
‫بحواس خالقة وتقرن المرئي في‬ ‫َّ‬ ‫لغة مبدعة ذكية في التقاطاتها‪،‬‬ ‫من أفكار ومعتقدات‪ ،‬وأعراف‬ ‫من النصوص والرسائل واإلجازات‬
‫ولما نشبت الحرب اإليطالية‬ ‫أمريكا الالتينية‪ ،‬فنجح في لقائه‬
‫المدن القديمة باألبدي الذي ال‬ ‫وشاعرية في ما تنزع إليه من‬ ‫وعادات‪ ،‬وطقوس وممارسات‪،‬‬ ‫والنقول وخطب الكتب التي ال‬
‫اإلثيوبية‪ ،‬جاء إلى ميدان القتال‬ ‫مع السياسي الفرنسي الشهير‬
‫يرى من دون عمل قلب‪ .‬يوميات‬ ‫مغامرة مع األمكنة وبحث فيها‪.‬‬ ‫تداخل في تكوينها الخرافي‬ ‫نكاد نقف لها على أثر في غيرها‬
‫كمراسل عسكري‪ ،‬يرتدي بدلة‬ ‫حينذاك كليمنصو‪ ،‬والتقى بالعالم‬
‫استحق عنها صاحبها بجدارة‬ ‫فالرحلة له هي الشعر والشعري‬ ‫بالديني‪ ،‬وشارك في نشأتها‬ ‫نص يكشف النقاب‬ ‫من المظان‪ٌّ ،‬‬
‫ضابط برازيلي برتبة عميد‪ ،‬وبعد‬ ‫السياسي بونكاريه‪ ،‬وبالفنانة‬
‫جائزة ابن بطوطة للرحلة‬ ‫بامتياز‪ ،‬مادام العالم قد تم‬ ‫االجتماعي واالقتصادي‪ ،‬وتعاون‬ ‫عن عدد من المواقف والرجال‪،‬‬
‫ذلك ذهب إلى برلين‪ ،‬فالتقى‬ ‫العالمية سارة برنار‪ ،‬ونشر‬
‫المعاصرة‪.‬‬ ‫اكتشافه منذ قرون‪.‬‬ ‫على تشكيلها اليومي والمعيش‬ ‫والطرق والزوايا‪ ،‬والكتب‬
‫بصديقه القديم يونس بحري‬ ‫لقاءه معها في أكثر من عشرين‬
‫الرحلة لدى كاتب هذه اليوميات‬ ‫جنبا إلى جنب مع الثقافي‬ ‫واألشعار‪،‬والخزائن والمكتبات‪،‬‬
‫وبالسياسي الفلسطيني تاج الدين‬ ‫صحيفة‪ ،‬فأبرقت له جريدة‬
‫تأليف‪ :‬علي بدر‬ ‫هي البحث عن سعادة النهار في‬ ‫والمكتسب‪.‬‬ ‫والوقائع واألحداث‪ ،‬والمعارك‬
‫الحسيني‪ ،‬و َرتَّب له لقاء مع‬ ‫األهرام ليتعاون معها وعرضت‬
‫الناشر‪ :‬دار السويدي ‪ -‬أبوظبي‬ ‫خرائط المدن‪ ،‬البحث عن المكان‬ ‫هذا النص أكبر أثر دونه المغرب‬ ‫والجوالت‪ ،‬والبيوع والمعامالت‪،‬‬
‫أدولف هتلر‪ .‬ولم يستقر ببرلين‬ ‫عليه مكافأة شهرية قدرها‬
‫‪2006‬‬ ‫الذي يثير كل ما هو شهواني‬ ‫العربي في أدب الرحلة‪ .‬حققه‬ ‫واإلجازات والتوقيعات التي ال شك‬

‫‪163‬‬ ‫‪162‬‬
‫الرائحة الالذعة للبارود والدم‬ ‫مفيدة أضاءت على الرحالة‬ ‫بلغة املرام‬
‫وموت العدو‪ .‬أفعم جسدي بعزم‬ ‫وعصره‪ ،‬ووضعته المقدمة في‬ ‫يف الرحلة �إىل بيت اهلل احلرام‬
‫فوالذي‪ ،‬و أعد نفسي للمعركة‪."...‬‬ ‫مكانته العلمية‪ ،‬فاستحقًا عن‬ ‫واملدينة النبوية‬
‫حين قرأت هذه اليوميات أول‬ ‫عملهما جائزة ابن بطوطة لألدب‬
‫مرة‪ ،‬لم تكن قد وضعت في شكل‬ ‫الجغرافي‪.‬‬ ‫تعتبر هذه المخطوطة من نوادر‬
‫كتاب بعد‪ ،‬ولم أعرف الشخص‬ ‫المخطوطات وأنفسها في مجال‬
‫الذي كتبها‪ .‬كنت آنذاك صغيرة‪،‬‬ ‫تحقيق‪ :‬عبد اهلل الحبشي‬ ‫الرحالت التي تركها أهل اليمن‪.‬‬
‫وتقمصت ذلك الرجل الذي سرد‬ ‫وحسني محمد ذياب‬ ‫وهي عبارة عن وصف لرحلة قام‬
‫مغامراته بطريقة تلقائية كهذه‪.‬‬ ‫الناشر‪ :‬دار السويدي‪-‬‬ ‫بها المؤلف ألداء فريضة الحج عام‬
‫ثم بدأت‪ ،‬وأنا مستمرة في القراءة‪،‬‬ ‫أبوظبي‪2005/‬‬ ‫‪ 1211‬هجرية‬
‫والبلدانيين العرب والمسلمين‪،‬‬ ‫المعرفة كما تحصلت عند‬ ‫األمور بقيت على حالها دون‬ ‫أرى من كان هذا الشخص بوضوح‬ ‫ّ‬
‫يقدم الرحالة وصفًا دقيقًا‬
‫أكثر‪ ،‬ولكم سررت ألني ابنته‪.‬‬ ‫يوميات دراجة نارية‬ ‫لتفاصيل رحلته من لحظة‬
‫وترصد تطور الفكر الجغرافي‬ ‫العرب‪ ،‬وبين األصول النظرية‬ ‫تغيير أو حتى أصبحت أسوأ‪،‬‬
‫كانت هناك لحظات آخذ فيها‬ ‫�إرن�ستو ت�شي غيفارا‬
‫وعلومه في الثقافة العربية بدقة‬ ‫اليونانية من جهة‪ ،‬والمصادر‬ ‫تحد للذين يتحلون منا‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫وهذا‬ ‫خروجه من مقر إقامته في‬
‫ّ‬ ‫مثل هذا الشاب الذي أصبح‬ ‫مكان جرانادو على الدراجة‬ ‫صنعاء وحتى وصوله الى مكة‬
‫وشمول‪ ،‬وتحلل ألجل ذلك كمًا‬ ‫والمراجع األوربية الحديثة من‬
‫النارية وأتشبث بظهر أبي‪،‬‬ ‫يوميات تشي غيفارا يطبعها سحر‬
‫هائال من األفكار والتصورات‬ ‫جهه أخرى‪ ،‬وصولًا إلى الربط‬ ‫بعد سنوات تشي‪ ،‬بحساسية‬ ‫المكرمة والمدينة المنورة‪ ،‬ومن‬
‫مسافرة معه فوق الجبال وحول‬ ‫خاص‪ ،‬شخصية مألت القرن‬
‫والمعلومات الجغرافية التي وردت‬ ‫المبدع بين المهاد والمداخل‬ ‫إزاء الواقع الذي يسيء معاملة‬ ‫ثم عودته إلى صنعاء‪ ،‬وينقل‬
‫البحيرات‪ .‬وصدقًا‪ ،‬إني كلما قرأت‬ ‫العشرين وفاضت أطيافها على‬
‫في الكتب والمخطوطات الجغرافية‬ ‫النظرية للدراسة وبين األمثلة‬ ‫أكثر التعساء بيننا‪ ،‬الملتزمين‬ ‫لنا ما لقيه والجماعة التي ح َّج‬
‫أكثر‪ ،‬كلما أحببت الفتى الذي‬ ‫األلفية الثالثة‪ .‬مثال إنساني‬
‫وخارجها؛ في نصوص دينية‬ ‫المتمثلة في نماذج أساسية‬ ‫بالمساعدة لخلق عالم أكثر عدلًا‪.‬‬ ‫معها من مصاعب السفر في‬
‫كان عليه والدي‪ ...‬وهو يروي لنا‬ ‫وكفاحي مضيء لكل األزمنة‪.‬‬
‫وعلمية وشعرية وأدبية‪ ،‬وبالتالي‬ ‫من أدب الرحلة السفارية‬ ‫سأترككم اآلن مع الرجل الذي‬ ‫البر والبحر‪ ،‬خصوصًا مشاق‬
‫عن عالم أمريكا الالتينية المعقد‬ ‫هذه اليوميات كتبها تشي غيفارا‬
‫فإن الدارس مسح كتب المغازي‬ ‫عند العرب‪ ،‬في حركتهم شرقًا‬ ‫عرفته‪ ،‬الرجل الذي أحببته‪...‬‬ ‫اإلبحار في المركب‪ .‬وقد أعطى‬
‫الفطري‪ ،‬عن فقر أهلها واالستغالل‬ ‫خالل رحلة في أرجاء أميركا‬
‫والتاريخ واألخبار واألموال والخراج‪،‬‬ ‫وغربًا‪ ،‬ومع رحالة من أمثال‬ ‫استمتعوا بالقراءة! ودومًا إلى‬ ‫الرحالة وصفًا دقيقًا للمراكب‬
‫وهو ما لم يسبق االلتفات إليه من‬ ‫المكناسي‪ ،‬والصفار‪ ،‬والطهطاوي‪،‬‬ ‫األمام!‬ ‫الذي يتعرضون له‪...‬‬ ‫الالتينية سنة ‪ 1952‬وقطع خاللها‬
‫مع صديقه ألبرتو غرانادو على‬ ‫التي شاهدها والتي كانت ترسو‬
‫قبل الدارسين في هذا الحقل‪ ،‬أو‬ ‫والتمجروتي‪ ،‬البلوي‪ ،‬الزياني‪،‬‬ ‫أبي (هذا الرجل الذي كان) يرينا‬ ‫في موانئ المدن التي مر عليها‬
‫أقله لم يجر التركيز عليه‪ .‬إضافة‬ ‫وغيرهم‪ .‬وإذا كانت الدالئل ماثلة‬ ‫المؤلف‪ :‬أرنستو تشي غيفارا‬ ‫أمريكا الالتينية‪ ،‬ويصف مناظرها‬ ‫دراجة نارية ‪ 4500‬كيلومتر‪،‬‬
‫فكانت البوابة التي ولج منها‬ ‫في أثناء رحلته‪ ،‬فجاء وصفه‬
‫إلى وقوف الدراسة على الخرائط‬ ‫في عالقات النصوص‪ ،‬فإن الوقوف‬ ‫الناشر‪ :‬دار السويدي أبو ظبي‬ ‫الطبيعية بكلمات تلون كل صورة‬
‫الطبيب األرجنتيني الشاب غيفارا‬ ‫أشبه ما يكون بالتحقيقات‬
‫والمصورات التي رسمها وصنعها‬ ‫عليها وتجليتها تحت ضوء الدرس‬ ‫‪2005‬‬ ‫لتصل حواسنا‪ ،‬حتى يمكننا‬
‫إلى فضاء أميركا الالتينية‪ ،‬وصوال‬ ‫العلمية التي اتصف بها عالمتنا‬
‫الجغرافيون المسلمون‪ .‬هذه‬ ‫هو ما أنجزته هذه الدراسة‬ ‫أن نرى األشياء كما شهدتها‬
‫الرحلة ال�سفارية‬ ‫إلى "سرة العالم" – عاصمة األنكا‪،‬‬ ‫في سائر مؤلفاته الفقهية‬
‫الدراسة جعلت هدفها األساسي هو‬ ‫بتميز واقتدار‪ .‬وبذلك استحقت‬ ‫عيناه‪ ...‬وفي وعيه ينمو إدراك‬
‫�إنتاج الدالئل ومنطق الأ�شياء‬ ‫ليعود من هناك بالشعلة التي‬ ‫والتاريخية‪ ،‬ويتحدث عن قيادة‬
‫البحث بعمق وموضوعية وشمول‬ ‫بجدارة جائزة ابن بطوطة لألدب‬ ‫أن ما يحتاجه الفقراء ليست‬
‫د‪ .‬الطائع احلداوي‬ ‫صهرت روحه النقية ومزجتها‬ ‫السفينة ودائرتها والشراع‪،‬‬
‫في تطور الفكر الجغرافي اإلسالمي‬ ‫الجغرافي‪.‬‬ ‫معرفته العلمية كطبيب‪ ،‬بل قوته‬
‫بآالم شعوب القارة المنهوبة‪ ،‬بدءا‬ ‫ويعطي معلومات مهمة عن السفن‬
‫نفسه‪ ،‬بفروعه المختلفة وتحديد‬ ‫ومثابرته في محاولة إحالل‬
‫المستويات العلمية آلفاقه وتعيين‬ ‫المؤلف‪ :‬د‪ .‬الطائع الحداوي‬ ‫جهد أكاديمي رفيع المستوى‪،‬‬ ‫من تاريخ اإلبادات الجماعية التي‬ ‫وأنواعها في ذلك الوقت‪ ،‬ويتحدث‬
‫تغيير اجتماعي قد يمكنهم من‬
‫َّ‬
‫ومحكم‬ ‫وعمل بحثي رصين‬ ‫ارتكبتها غزوات الرجل األبيض‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫ويعد أو‬ ‫عن البحر وعجائبه‪،‬‬
‫رؤاه‪ ،‬والتي أثرت من جملة ما‬ ‫الناشر‪ :‬دار السويدي‬ ‫العيش بالكرامة التي سلبت منهم‬
‫أثرت على الفكر الجغرافي األوروبي‬ ‫أبوظبي‪2005/‬‬ ‫يتناول أدب الرحلة بوصفه‬ ‫وسحقتهم لقرون‪.‬‬ ‫وانتهاء باألمل اإلنساني المعذب‪.‬‬ ‫من وصف الغوص من أهل اليمن‪،‬‬
‫في العصور الوسطى‪ ،‬ومن ثم بيان‬ ‫منظومة معرفية وبنية مرآوية‬ ‫يرينا هذا المغامر الشاب بعطشه‬ ‫كتب أرنستو تشي غيفارا‪،‬‬ ‫ويروى مشاهدته للحيتان في‬
‫مساهمة العرب والمسلمين في‬ ‫تطور الفكر اجلغرايف‬ ‫تنعكس عليها وتتقاطع عندها‬ ‫للمعرفة ومقدرته العظيمة على‬ ‫إثر احتفاله بعيد ميالده الرابع‬ ‫البحر‪ ،‬كما يتحدث عن آالت‬
‫تنمية علم الجغرافيا‪ ،‬وتعميق أفكاره‬ ‫عند العرب وامل�سلمني‬ ‫العلوم والمعارف والتجارب‬ ‫الحب كيف يمكن للواقع إذا فسر‬ ‫والعشرين‪" :‬علمت أنه حين تشق‬ ‫الصيد وطرقـه‪ .‬وبين أفضل‬
‫وتوسيع آفاقه‪.‬‬ ‫حتى نهاية الع�صر العبا�سي‬ ‫والخبرات اإلنسانية والثقافات‬ ‫بشكل سليم أن يخترق اإلنسان‬ ‫الروح الهادية العظيمة اإلنسانية‬ ‫ما تقدمه الرحلة ذلك الوصف‬
‫‪556‬هـ ‪1258‬م‬ ‫في تالقيها وتالقحها‪ ،‬ما تنتجه‬ ‫إلى درجة تغيير طريقة تفكيره‬ ‫إلى شطرين متصارعين‪ ،‬سأكون‬ ‫الشامل والدقيق لما كانت عليه‬
‫المؤلف‪ :‬عبد الرحمن صالح‬ ‫عبد الرحمن �صالح مزوري‬ ‫من دالالت‪ .‬وهي دراسة مبتكرة‬ ‫أو تفكيرها‪.‬‬ ‫إلى جانب الشعب‪ .‬أعلم هذا‪،‬‬ ‫مكة المكرمة والمدينة المنورة‪،‬‬
‫مزوري‬ ‫في منهجها وأسلوب تناولها‬ ‫إذا سنحت لكم الفرصة يومًا‬ ‫أراه مطبوعًا في سماء الليل‪ ،‬أرى‬ ‫ومدينة جدة في عصره‪.‬‬
‫الناشر‪ :‬دار السويدي أبو ظبي‬ ‫تبحث هذه الدراسة المحكمة‬ ‫للموضوعات التي عالجتها‪،‬‬ ‫للسير فعلًا على خطواته‪،‬‬ ‫نفسي قربانًا في الثورة الحقيقية‪،‬‬ ‫وقد اجتهد الباحثان المحققان‬
‫‪2005‬‬ ‫في نشوء الجغرافية اإلسالمية‬ ‫خصوصًا ربطها الخالق بين‬ ‫ستكتشفون بحزن أن كثيرًا من‬ ‫المعادل العظيم إلرادة األفراد‪.‬‬ ‫اللذان كشفا عن هذا النص‬
‫على أيدي الجغرافيين والرحالة‬ ‫األجزاء المختلفة لمكونات‬ ‫أشعر أن أنفي يتسع ليستنشق‬ ‫النادر في تقديم شروح وهوامش‬

‫‪165‬‬ ‫‪164‬‬
‫‪Vision‬‬ ‫�أطياف‬

‫نزهة يف �أ�ضخم �سفينة ف�ضائية‬

‫الزمان أوائل الستينات من القرن املاضي‪ ،‬واملكان بادية الشام على مقربة من حمامات (أبو رباح)‬
‫الكبريتية بني حمص وتدمر‪ ،‬والوقت أواخر الربيع‪ .‬كانت ليلة صافية والنجوم قريبة منا تتألأل فوقنا‬
‫مبودة وبهجة وكأنها تواقة أن تسمر معنا‪.‬‬
‫كنا في رحلة جامعية لالستمتاع بصفاء صفحة السماء في البادية وتأمل حركة أجرامها‪ .‬راح األستاذ‬
‫املشغول بالفلك يحدثنا عن مواقع الكواكب والنجوم وحركتها في النهر اللّ َبني (در ال ّت ّبانة) وخارجة‪.‬‬
‫كنت أعرف أسماء بعض النجوم كالثريا وامليزان والنسر الرامح والواقع وبنات نعش الكبرى والصغرى‪،‬‬
‫حيث يبدو جنم القطب مسمرا في الشمال كحارس أبدي‪ .‬لكن حديث األستاذ أخذني إلى تلك العوالم‬
‫املغشاة بسدمي ضبابي ساحر‪ .‬ولعلي في تلك الليلة التي سهرنا فيها حتى الثالثة صباحا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫القصية‬
‫وقعت في عشق أكثر من جنمة‪ ،‬كما فعل غيري‪ ،‬دون أن يجرؤ أحد منا على البوح مبا يختلج في حبة‬
‫القلب وسكينة الوجدان‪.‬‬
‫حياة البادية تفرض اإلملام بعلم الفلك ومسار النجوم‪ ،‬كما تقضي املالحة البحرية بذلك أيضا‪ .‬وقد‬
‫كان أجدادنا‪ ،‬منذ أقدم العصور‪ ،‬مولعني بهذا العلم والتبحر في مطالع أجرامه ومواسمه وأنوائه‪ .‬في‬
‫البحر والصحراء‪ ،‬ال تستطيع أن حتدد موقعك وال تعرف الشرق من الغرب وال الشمال من اجلنوب‬
‫إال بفضل تلك اخلريطة النيرة املبسوطة في السماء‪ ،‬وال بد أن تعرف مطلع كل جنم وموقعه وحركته‬
‫في كل فصل‪ ،‬بل وفي كل شهر‪.‬‬
‫اليوم النجمي يقل عن اليوم الشمسي نحو أربع دقائق إال قليال‪ ،‬وذلك بسبب ميالن محور األرض؛‬
‫ثوان كل يوم‪.‬‬
‫وهذا يعني أن النجم يبكر في الطلوع أربع دقائق إال أربع ٍ‬
‫ال من أول يوليو‪ /‬متوز‪ ،‬على سبيل املثال‪،‬‬ ‫فلو تأملت الثريا‪ ،‬وحددت موقعها في الساعة العاشرة لي ً‬
‫ستراها في مثل هذا التاريخ من السنة التالية في موقعها ذاته‪ ،‬وهذا يعني أن السنة النجمية تزيد‬
‫السنة الشمسية يوما كامال كل سنة‪.‬‬
‫لم تكن سهرة مألوفة‪ ،‬ومن املؤسف أنها لم تتكرر‪ .‬املشاعر واخلواطر واألحالم التي عشتها في‬
‫تلك التجربة املدهشة حملتني عبر األجيال السالفة مئات السنني‪ .‬ويوم زرت املرصد الفلكي في‬
‫ضاحية سمرقند‪ ،‬وهو من آثار العصر الذهبي في احلضارة العربية أيام كانت بغداد عاصمة الدنيا‬
‫شرقا وغربا‪ ،‬تذكرت رحلة البادية الشامية‪ ..‬وأخذت أطل من الشبابيك ال ّثُمانية في جدران املرصد‬
‫الثماني‪ ،‬لعلَّي أرى وميض جنم بعيد ولو في عز الظهيرة! لكن الزمن تغير‪ ،‬وموجات الغزو نسفت تلك‬
‫األطياف احلضارية املشرقة على قاع التاريخ‪...‬‬
‫وأعود إلى نزهتنا في بادية الشام‪ ،‬وإلى تلك احللقة الطالبية املستغرقة في حديث األستاذ وجتواله‬
‫في فضاء سماوي كاخليال‪ .‬والسؤال املدهش الذي سألنا إياه األستاذ كان‪ :‬أتعرفون ما هي أضخم‬
‫سفينة فضائية مأهولة؟ وحني عجزنا عن اجلواب قال‪ :‬ال جتنحوا وراء اخليال‪ ،‬نحن اآلن على منت‬
‫هذه السفينة‪ ،‬وإن كنا ال نحس بحركتها! فاألرض تدور حول نفسها مرة كل يوم‪ ،‬وتدور حول الشمس‬
‫مرة كل سنة‪ ،‬والشمس وتوابعها تدور حول مركز املجرة (درب الت ّبانة) أو النهر اللّ َبني‪ ،‬واملجرة تدور‬
‫حول مركز كوني ال علم لنا به‪ ...‬وهكذا ننطلق في فضاء ال نهائي بسرعة خارقة‪ ،‬من دون أن نشعر‬
‫بذلك‪.‬‬
‫ويبدو أن أجدادنا كانوا يدركون ذلك‪ ،‬لكن كثيرا منهم آثر السكوت خوفا أن تكون نهايته كما انتهى‬
‫السهروردي واحلالج‪.‬‬

‫علي كنعان‬

‫‪166‬‬
‫‪Landmark‬‬ ‫كلمة‬

‫�ألف عام جمهولة من ال�سفر‬

‫قبل بضع سنوات فوجئت خالل محاضرة لي في معرض فرنكفورت الدولي للكتاب موضوعها «الرحالة العرب‬
‫إلى أوروبا في القرن التاسع عشر‪ ،‬واحلداثة»‪ ،‬بتلك االنتباهة املميزة التي سجلتها النظرة األملانية إلى وحاهة‬
‫ال ال مفعوالً بك في كل وقت!‬‫فكرة أن تكون وصافاً عبر أدب الرحلة ال موصوفاً‪ ..‬على الدوام‪ ،‬أي فاع ً‬
‫كان وقتاً طيباً‪ ،‬وأكاد أقول استثنائياً لي‪ ،‬أن أملس عن قرب‪ ،‬في الديار األملانية‪ ،‬وقع الفكرة التي طاملا شغلتني‪،‬‬
‫وهي أن العرب لم يكن طوال الوقت كائناً عجيباً يقرأه األوروبيون ويحارون فيه! وأن هذا الكائن القادم من‬
‫ثقافة غير أوروبية‪ ،‬لي ّواجه بثقافة طاملا انشغلت بشرقيته‪ ،‬وعبرت عن انشغالها عبر وسائط بينها أدب الرحلة‪،‬‬
‫له نظر في الغرب ومدنيته‪ ،‬مبنى على اخلبرة املباشرة‪.‬‬
‫وفي لقاءات حميمة جمعتني مرات بنخبة من الكتاب األملان من مشارب فكرية مختلفة‪ ،‬أبدى البعض منهم‬
‫دهشة كبيرة من فكرة أن تكون هناك مصنفات عربية يعتد بها تعود إلى ثالثة قرون مضت‪ ،‬مك ّرسة بصورة‬
‫مباشرة النطباعات ومالحظات وأفكار عن املدنية الغربية‪ ،‬د ّونها مسافرون عرب حلوا في ظهراني األوروبيني‪،‬‬
‫وطافوا احلواضر األوروبية ودونوا يومياتهم‪ .‬وقد اتسعت دهشتهم عندما نبهت إلى أن عدد هذه املصنفات في‬
‫الفترة التي أشرت إليها يكاد يربو على املائة مصنف‪.‬‬
‫ليس مفزعاً لثقافة أن ال تكون قرئت من قبل ثقافة أخرى‪ ،‬ما دامت أعمال مؤلفيها لم تغادر اللغة التي كتبت‬
‫فيها‪ ..‬إمنا املفزع أن جتهل الثقافة ذاتها‪ .‬أن ال حتفظ ذاكرة القارئ العربي من مجمل أدب الرحلة العربي‬
‫الذي ميتد على مدار عشرة قرون سوى عمل أو اثنني‪ ،‬هما ابن بطوطة وابن جبير للعموم‪ ،‬وللمثقفني من‬
‫القراء ابن فضالن‪ ،‬وأن ال حتفظ باملقابل من أدب الرحلة العربي إلى أوروبا سوى رفاعة رافع الطهطاوي‬
‫وأحمد فارس الشدياق‪ ،‬وكلتا الرحتلني وضعتا في النصف األول من القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫لقد علكت النخبة العربية اسم الطهطاوي حتى لم يعد مثقف يستطيع أن يغادر هذا االسم إلى سواه من‬
‫أسماء عشرات الرحالة الذين ال يقولون أهمية عنه‪ ،‬وإلى الدرجة التي لم تبق للشدياق نفسه معاصر‬
‫الطهطاوي قارئاً متفكراً‪.‬‬
‫قرئ الطهطاوي معزوالً عن إرث كامل من أعمال الرحالة العرب املشارقة واملغاربة الذين سبقوه أو عاصروه‪،‬‬
‫فبات نسيج وحده‪ ،‬وأوحى القراء والشارحون والصحافيون وحتى املفكرون من جنباء أمتنا ممن تناولوا نص‬
‫الطهطاوي على مدار القرن العشرين‪ ،‬بفقر املكتبة العربية من أعمال النظرة إلى اآلخر‪ ،‬أو على األقل بندرة‬
‫هذه النظرة‪ ،‬بينما يتكشف لنا اليوم مع األعمال املتالحقة التي أخذت تظهر إلى النور‪ ،‬مؤخراً‪ ،‬أن الرحالة‬
‫العرب قبل الطهطاوي وبعده يتجاوز عددهم األلف‪ ،‬وتتجاوز مصنفاتهم عددهم‪ ،‬وهي مصنفات ثاوية في‬
‫مخطوطات وكراسات لم حتقق بعد‪ ،‬وطبعات حجرية لم تعد في التداول‪ ،‬ومؤلفات صدرت ملرة ولم تشغل‬
‫النخبة العربية املثقفة نفسها بالبحث عنها‪ .‬بل إن الكثيرين من أبناء هذه النخبة لطاملا نظروا إلى هذا األدب‬
‫على أنه أدب وضيع‪ .‬والتعبير هذا ليس لي وإمنا للمؤرخ الراحل نقوال زيادة الذي كان وما يزال من بني قلة من‬
‫املثقفني العرب الذين أبدوا انشغاالً بهذا األدب‪.‬‬
‫ومما يؤسف له أن أول انتباهة موضوعية وشاملة في التأريخ ألدب الرحلة العربي بصفته وثائق على وقوف‬
‫الثقافات في مرايا الثقافات‪ ،‬والشعوب في مريا الشعوب‪ ،‬وإن يكن ذلك عبر األفراد‪ ،‬جاءت من مستعرب‬
‫روسي وليس من مؤرخ أو باحث عربي‪ ،‬وأعني بها ذلك السفر الضخم الذي كتبه أغناطيوس كراتشكوفسكي‬
‫حتت عنوان «تاريخ األدب اجلغرافي العربي» ويقع في مجلدين ضخمني وما يزيد على األلف صفحة‪ ،‬صرف‬
‫في تأليفهما خمسني عاماً‪ .‬وبدءاً من هذا األثر التأريخي ميكن لقراء العربية أن يقفوا على مئات األعمال‬
‫واملؤلفني من جغرافيني وبلدانيني ورحالة‪ ،‬ويكتشفوا بالتالي فداحة اجلهل بكل هذا الثراء‪.‬‬

‫نوري اجل ّ َراح‬

‫‪168‬‬

You might also like