Professional Documents
Culture Documents
املحرر
خلب
عنوان اّ بأكثر من طريقة. شهور من التأسيس صدرت عدة
P.O. Box: 44480 Abu Dhabi
ولهذا ننظر إلى مشروع تحقيق �إ�ضافة عاملية
Email:info@alrihla.com
«ارتياد اآلفاق» عنوان خالب وارد بدر السالم رحالت منها رحلة العالمة ابن هذا العدد الكبير من المخطوطات إن مشروع تحقيق الرحالت
لمشروع طموح والفت يتقصى المرأة اليوم /أبوظبي 10ديسمبر 2005 خلدون ،والتي كانت ملحقة الغنية للرحالة العرب على أنه العربية يعد مشروعًا نوعيًا
London Office:
أدب الرحلة العربي من ابن بتاريخه ،هذا بخالف العديد من مشروع ثقافي فكري علمي، لما فيه من جوانب مطلوبة
قدمي ًا وحديث ًا
Telefax: 004402089920507
بطوطة وابن جبير إلى آخر الرحالت التي تمت في العصر Adress: 50Sussex SQ يحمل قيمة معرفية عالية، مرحليا ،منها أن هذه الرحالت،
«ارتياد اآلفاق» هو االسم الذي الحديث. سيكون إضافة إلى المكتبة وقد تحقق منها أربع إلى اآلن
رحالة عربي دوّ ن رحلته في تحمله سلسلة من المنشورات
London W2 2sp UK
عالء عريبي العربية ،وربما ،إذا قيض له وهناك الكثير في طريقه إلى
كتاب ،ينطلق المشروع من فكرة المكون من يوميات وقصص
جريدة الوفد 30 /يوليو الإعالنات: عملية ترجمة دقيقة ،سيكون المعالجة ،ستبين كيفية تعامل
جوهرية هي الحوار مع اآلخر مغامرات ودراسات وبحوث.
فونو للت�سويق Vono Marketing إضافة عالمية.. العربي مع اآلخر المتقدم لجهة
ومعرفته ،فإذا كان الرحالة من خالل هذه السلسلة
يريد «المركز العربي لألدب �إحياء �أدب الرحلة Email» yvonne@vonomarketing.com محمد حسن الحربي منجزه الحضاري التقني أو
الغربيون قد سعوا بقصد أو الثقافي وكيفية احترامه له على
الجغرافي» أن يثبت بأن العرب أدب الرحلة ليس جديدًا صحيفة الخليج 17 /أكتوبر 2001
بغيره إلى تنميط الشرق وإنتاج الرغم من عدم االتفاق معه في
كانوا منذ القدم منشغلين في الثقافة العربية ،لكنه
صورة تصوغ إحكام القبضة يتجدد دائمًا برحالت الرحالة القرية الإلكرتونية
مغامرة الأوائل المنهج الفكري والبناء المنطقي
بمغامرة ارتياد اآلفاق.
عليه فإن هاجس الرحلة العربية كما يطمح إلى إعطاء دفع إضافي ومشاهداتهم وكتاباتهم إن مشروع نشر أدب الرحالت مثلًا ،ومدى إنسانية الرؤية لدى
البحث عن الجديد واآلخذ إلى الجدال اإلصالحي الدائر وتصويرهم واكتشافاتهم لمناطق العربية الذي اضطلعت به دار الرحالة العربي وهو يكتب عن
موقع «امل�سالك» على �شبكة االنرتنت
بمعطيات التطور والحداثة. حاليًا عن طريق كتب الرحالت مجهولة في الجغرافية العالمية. السويدي ومركزها ارتياد اآلفاق مجتمعات تخالفه في طريقة
www.almasalik.com
زياد بركات القديمة والحديثة. «دارة السويدي الثقافية» حققت لهو عمل جليل وحدث ريادي التفكير والمعتقد ،وتطلعاته
موقع الوراق على �شبكة االنرتنت
فضائية الجزيرة جوليا غرالخ هذا التصور عبر ثالث دورات، في الثقافة العربية لما فيه من ليكون رصيفًا لهم مع االحتفاظ
www.alwaraq.com
Qantara.de بتمايزه عنهم من حيث غائية
الدوحة 2006 / 12 /11 وأعادت إلى الحياة نصوص كشف عن مغامرة األوائل من
الرحالت إلى مكتباتنا العربية الرحالة العرب الذين جابوا اعتماره للوجود وسعيه فيه..
الخ؟
7 الرحلة دي�سمرب 2010 6
Photograph فوتوغراف Sails �أ�شرعة
أخيراً ،مجلة الرحلة ،في عددها األول .وهذه هي الصيغة التي تطلعنا إليها،
لتكون لنا مجلة جديدة من نوعها في الثقافة العربية املعاصرة.
كل شهر تصدر فيه «الرحلة» نريد أن يقوم القاريء العربي برحلة في املعرفة واملتعة
واملؤانسة .ففي عالم هيمن عليه التلفزيو ،وتراجعت أمامه الكلمة ،بات على حراس
الثقافة العربية أن يطوروا عالقة الكلمة بالصورة ،وأن يوظفوا هذه العالقة في خدمة
وعي راق يبنونه في األجيال اجلديدة املهددة بنوع من الصور االستهالكية السلبية.
مجلة الرحلة ،ستعطي ،وللمرة األولى مكانة مميزة للصورة ،وتظفها بطريقة جتعل من
العدد معرضاً للفنونن البصرية يعانق متحفاً ممتعاً من فنون الكتابة في أدب الرحلة.
بعد ذلك ،املجلة ستكونن الواجهة اجلمالية واإلعالمية الراقية ملشروع «ارتياد اآلفاق»
الذي بنيناه لبنة لبنة على مدار السنوات السبع املنصرمة .ستسعى املجلة ،أساساً ،إلى
تكريس أدب عريق ومهمل في الثقافة العربية ،هو أدب العالقة مع املكان والعالقة مع
اآلخر ،في محاولة جادة إلعادة االعتبار لثقافة امللموس واملعاين واملستدرك بالوعي
كهول و�شيوخ يف �ساحة مدينة تيهرت ،حيث جالت عد�سة «الرحلة» ،والتقطت �صورا وم�شاهد من املدينة التي الفردي والذائقة الشخصية واحلركة في اجتاه اآلخر .لم يعد مقبوالً أن نرى العالم،
طاملا مر بها التاريخ وذكرها امل�ؤرخون ،يف جهة من جهاتها اخل�رضاء العامرة بالأ�شجار املثمرة وا�شجار الزينة، نحن العرب ،بعيون غيرنا ،وحتديداً بعيون غربية .علينا أن ننهض لرؤيته بعيوننا.
توجد مغارة .هنا اعتكف العالمة ابن خلدون وكتب املقدمة. السفر في العالم يتيح لنا ذلك ،ومجلة الرحلة هي مجلة هذا السفر .فهي سوف تتيح
فرصة حقيقية للمبدعني املولعني بالسفر وكتابة اليوميات ،وللمصورين العرب الفنانني
لكي يستأنفوا اإلبداع في حقل فني ثقافي عربي انقطعت ذخيرته ،ومن شأن إحيائه
واستئناف العمل فيه أن يترك أثراً كبيراً في ثقافتنا العربية احلديثة ،وفي عالقة
العربي بنفسه وبالعالم.
لذلك فإن مجلة الرحلة سوف تعني في خطتها بأدب الرحلة املعاصرة ،باليوميات،
بالريبورتاج الرحلي ،بفن تصوير املناظر الطبيعية والظواهر واخلبرات اإلنسانية
املختلفة ،برسم األمكنة «باختصار» بكل ما يرتبط باملكان من أدب وفن على ما في ذلك
من غنى وتنوع وقدرة على املفاجأة.
بصدور مجلة «الرحلة» تكتمل حلقات مشروع «ارتياد اآلفاق» ،وتتأس الواجهة اجلمالية
واإلعالمية للمشروع ،الذي بدأناه بسلسلة كتب الرحالت ،و»جائزة ابن بطوطة لألدب
اجلغرافي» بفروعها املختلفة ،و»ندوة الرحالة العرب واملسلمني :اكتشاف الذات
واآلخر» وهي املنتدى السنوي للباحثني العرب في أدب الرحلة معاربة ومشارقة.
وكان قد سبق هذه األعمال زمنياً موقع الوراق على شبكة االنترنت ،وهو يحتوي على
سلة متكاملة من األعمال واملشروعات التي تربط الثقافة العربية حاضراً وماضياً
بالتكنولوجيا احلديثة ،وتعيد تقدمي هذه الثقافة بلغة العصر .مجلة «الرحلة» هي املنبر
العربي لثقافة الرحلة ،وهي بامتياز ثقافة العبور إلى اآلخر ،والتفاعل بني احلضارات.
وصدورها في حد ذاته دعوة إلحياء احلوار بني الثقافة العربية والثقافات األخرى.
اليافطة �رشاع والعامل على ال�سلم بحار يف مدينة.
�شاب ن�شيط يف و�سط باري�س ي�صعد ال�سلم لين�رش يف حممد �أحمد ال�سويدي
هواء املدينة خرب ًا جديداً.
هذه العالقة المتبادلة بين النص الرصيف .قال لي وراء عدد كبير من الكتب المعروضة مباشرة فوق ّ غافيًا وأنا أمشي خلف الظعون .والصوت
والمكان هي النصر الحاسم على إنّه طالب إيرلندي ،يدرس الموسيقى في إيرلندا ،أو في بريطانيا ،لم يتردد من ذيل إلى ذيل :عند غياب
الموت ،موت اللغة أو موت المكان، أعد أذكر ذلك بالتحديد .وهو يعيش لشهور عديدة متجوّال عبر المدن القمر نمرح (من المراح ،ال من المرح)!
كما أنه تجديد لحوار الكائن مع والقرى التركيّة ،يستمع إلى الموسيقى ويبيع الكتب القديمة .وقعت ّ
ويهزني الهازوز ،برفق :ال ت َنمْ ،يا خليل!
مخلوقاته ومع خالقه ،إنه النور... عيناي على كتاب باللغة األلمانيّة وإذا هو أنطولوجيا شعريّة تضمّ يقول الرجل الراكب قدميه الحافيتين،
النور األبدي الذي يأتينا من هذه شاعرا ترك ًّيا منذ القرن الثالث عشر
ً مختارات شعريّة لخمس وس ّتين لصق امرأته الطريّة التي تلتهم المسافات
الجهة ونرى تأثيره على التراب... ّ
ح ّتى العشرينات من هذا القرن ،ومن أشهرهم :يونس عمري المتوفى بصمت! وفجأة ينطلق الصوت منها ،قلقًا:
كيف نكتشف المكان ،المكان البعيد، الرومي. الدين ّصوفي من تالمذة موالنا جالل ّ
ّ سنة 1321وهو شاعر حمد ،وصلنا ،الوغد (أي الطفل) نام! قالتْ
والنائي بعيدا عن عاديته ،وبعيدا ومن أجمل قصائده« :لماذا تبكي أيّها العندليب؟ « والقاضي برهان وهي تسندني من الوقوع في الفراغ.
عن كل ما يجعل منه مألوفا ،أتذكر ّ
المتوفى سنة ،1405واألمير شام، ّ
المتوفى سنة ،1398والنسيمي ّ
الدين عيني ،وال أرى سوى القمر ،وبي ٌ وأفتح
اآلن وصولي األول إلى اسطنبول، ّ ُ
والفوضولي ،ونديم المتوفي وسليمان شلبي ،وبير سلطان عبد اهلل، رجفة من برد ليل الصحراء الخاتل في
كنا نسير على ضفة من الحصى سنة ،1730ويحي كمال البياتي ،وغيرهم .قلت :ها أنا أدخل تركيا من جئت ،مرة أخرى ،إلى هافانا؟ ُ الجو! عالم
قرب البحر ،وكان الظالم دامسا ،وفي هذا الباب البديع! وكدت أنسى مجددا لغط الحاضر من حولي. وعلي أن أختفي!
َّ القمر، اختفى قمر هافانا
الغسق الشفاف كان رذاذ البحر يضرب ما هذا الهباء األعظم؟ ما هذه الروعة؟
وجوهنا ،انتابني تلك اللحظة شعور علي مصباح -كاتب من تونس مقيم في ألمانيا رأيت القمر ،أخيرًا فابتسمت .قمر يعلو هافانا بصمت .يقف
غريب ،شيء أشبه بلحظات نسيان خليل النعيمي -طبيب وروائي من سوريا فوقها مثل صورة مرسومة في الفضاء .الهواء ساكن ،واألضواء
أو نوم ،حركة الظالم التي تسقط ذلك النور البعيد خافتة ،والناس يمشون بهدوء .يجرون أجسادهم بعناء وكأنهم
في المياه العميقة في البحر ،صوت الرحلة هي البحث عن سعادة النهار في خرائط المدن ،البحث عن يريدون أن يناموا في المكان .وأقف بعيدًا عنه ،قمر صحرائي القديم،
الصخرة التي يضرب بها الموج ،وهذا المكان الذي يثير كل ما هو شهواني وأرضي في تجربة الغموض التي حين كنا نسري لنستقي الماء من عيون الجبل السرية ،ونعود إلى
العشب الغضر والذي كنت أجاوره ختزل في تعاقب يكشف عنها ،والقلق واالنفصال ا سد ،والمدن التي ُت َ الفيء قبل سقوط القيظ .أقف في مساء هافانا البديع ،وأنا أمشي.
بحذائي ،أحسست بدماء عنيفة وتركيز وكثافة وتتفجر صورًا .الرحلة تجدد المدن بالنظرة وبالروح.. في شارع "ترانزيتو" ،يستحضر الكون نفسه من العدم .الكائنات
تنبض في داخلي ،تدفع عني الضعف تغيرها وتنعشها ،تجعلها متجددة ألنها تعطيها قيمتها ،فمدننا التي نألفها ّ
تتطلع إليك ،وأنت البسيطة التي تبدو متوحشة من شدة بساطتها،
والنوم والخور والنسيان ،شيء يلهبني وال نراها سنراها مرة أخرى بعيون اآلخرين ،بعيون الرحالة الذين تمشي مذهولًا! شيخوختها البائسة ال تخفي أعراضها المملوءة
يجعلني أركض أو أنغمر بالماء..أتحد يهبونها صورة جديدة ونظرة عميقة ،سنراها نحن أيضا على خالف بالقشف .وهي ال تتسوّل العطف منك ،حتى ولو ُخ ِّيل إليك ذلك .إنها
بالبحر والفضاء والرمال ...الرحلة ما كانت تبدو لنا ،وهكذا سيرى اآلخرون مدنهم التي ألفوها بعيوننا.
ببساطة هي هذه...الرحلة تمرين حي تحتفي برؤية الغريب ،مسرورة لمروره ،وكأنها ال تريده أن ينساها.
الرحلة منذورة للشعر من جهة ومنذورة للحقيقة من جهة أخرى، أحد من عالَم آخر! عالم ما وراء البحار الذي غمرها بهمجيته ،وهو
على الشعر ..تجديد وانبعاث للجسد وهذا التوتر والصراع يمنحها جوهرها الوجودي ،يعطيها روح الكائن ،أي
مثلما يجدد الشعر بفعالية جسد نبي! أال تدركيدعي العكس ،مثل كل المستعمرين .لكأن الغريب ّ ّ
أن المكان يبطل أن يكون فضاء خاليا أو مادة أو جمادا ،ويتحول إلى كائن هذا؟ ألم يأتها المبشرون من وراء تلك البحار ،ذات يوم؟ ولربما كان
اللغة ويمنع عنها التكلس والموت...
مثلما يهزها أو ينفضها بقوة ويجعلها
حي يعيش ويتنفس .الرحلة تمنح المكان مفاتيح الفردوس ،مثلما المكان أدخل تركيا
ُ � ذلك الكذب هو ثمن االنتصار المجيد الذي تحوّل إلى موت!
يمنح النص أبديته الحية ويجدده ،فالمكان الذي يتجدد عبر النص يؤثر هل يمكن التخلص حقا من ثقل ذاكرة
نابضة فتية تتالئم بشكل فتان مع أعرف "جبهة الكتابة" .جبهة الكائن الصغير الذي يمأل رأسه بالكون.
في النص ،يمنحه صورة جديدة ومعجما جديدا ونسقا إنشائيا جديدا،
عواطفنا..الرحلة هي الشعر ،أي بمعنى التاريخ الرابض فوق المدينة؟ هل تتخلص ليحلها ،من أجل أالّ ُتفيدّ يختلق المشاكل التي لمْ يعانِ منها ،يومًا،
إنه يجدده ويثريه ،ويغنيه بالصور واألحداث والعواطف .وهكذا كان البنايات والمعالم والجدران والحجارة
آخر هي إخالص للمعرفة والتحرر، أحدًا آخر .إحساس مريع ،مثل هذا ،مأل نفسي ،وأنا أرى إلى جاري
الشعراء يسيحون بحثا عن مكان يجدد لهم معجمهم وصورهم وحياتهم. من وهج األحياء الذين التصقوا بها في يوم
شيء يضاء في الروح وفي الدم انكب على دفتر صغير ،يرتّب فيه مقدمات المسألة، َّ الضامر الذي
واللحم ،دروب تنار من جديد تمنحها ما ،في زمن ما ،ومن الوقائع وألحداث ْ
ولواحق حلولها الالمتناهية ،جالسًا ،مثلي ،في كافتيريا "إنغالتيرا
نظرة متجددة .والرحالة شاعر تائه التي صاغتها على تلك الشاكلة؟ أال تلبس هوتيل" الشهير! وهو ما لجمني ،زمنًا طويلًا ،عن القلم .الغريب،
تسيطر عليه فكرة عمر اإلنسان األرواح بالمكان وتظل تهيم فوقه مثل كالملسوع ،منذ أن رآني أبدأ ْ أنه قام من جانبي ،وخرج من المكان
وعمر األرض ،وروح المكان. إشعاعات تحت األحمرأو فوق البنفسجي؟ الكتابة .إننا ال نكتب بلغة واحدة ،ولكننا ِّ
نفكر بها!
أليس اتصالها بنا هو الذي يستثير ذلك بدل مكاني ألصبح في مواجهة القمر ،من جديد. في الليلة الثالثة ،أُ ّ
علي بدر -روائي من العراق الحشد من الخواطر الذي يجعل ّ قمر كامل التدوير .ضوؤه ّ
يتصدر الفضاء العلوي ،بأبهة. فضي ناصع.
محتويات ذاكرتنا تنهض للحضور مجددا؟
أنت لي! وأراني في البوادي القديمة ،ماسكًا ذيل يقول لـ"هافانا"ِ :
شاب أوروبيّ أمام حديقة غولهانة يقف
فرسي الدهماء.
املجنـحة ،بعد �إقامة ت�شاكلت لياليها فبدت طوا ًال كليل العا�شقني. ا�ستجاب هريم�س لنجوى رق لها قلبه ،ف�أعارنا �صنادله ّ
�إنتعلنا ال�صنادل املقد�سة ميممني باري�س بن بريام بطل طروادة ،الذي ق�ضى للربة فينو�س ب�أنها الأجمل فكاف�أته بهيلينا
الإ�سبارطية تديفء خمدعه الطرواديّ ،وجتلب على وطنه احلرب التي دارت رحاها لع�رش �سنني ،وعادت بالويل والدمار على
طروادة و�شعبها.
ال�صباح ق�صدنا اللوفر ،وذهبنا لتح ّية الأمري الطروادي الذي ولد من ر�أ�س دافيد ،وكذلك الإمرباطور املت ّوج و ّملا �أ�رشف علينا ّ
– نابليون – الذي ح ّول �إيطاليا من ا�سم �إىل �أ ّمة ،وعرجنا على روائع ّ
الفن للتز ّود ب�أك�سجني الفنون ،فالطريق �إىل �إيطاليا
تطول ،ونحن يف حاجة للتعرف على الإرث املرتبط برحلتنا امل�أمولة ،وقد �ض ّمه املتحف ،فع�رص النه�ضة الذي بد�أ يف �إيطاليا
املرحبة ب�أنواره ،وقد ا�ستقبلت مبدعيه وكبريهم ليوناردو دافن�شي الذي انتقل اليها ،ولقى وجه ر ّبه انتقل منها �إىل فرن�سا ّ
الفرن�سي وا�سطة عقد اللوفر وتاجه :املونا ليزا ،وبها يبد�أ الذكر اجلميل ويختم.
ّ فيها ،خملفا وراءه للملك
ها هي �إيطاليا تنادينا فليوناردو حار�س ميالنو ينتظرنا عند باب حجرة طعام دير القدي�سة ماريا ديلي غرات�سي ليك�شف
لنا بع�ض �أ�رسار الع�شاء الأخري ،وفيفالدي يقف �أمام كاتدرائية �سان ماركو�س ي�ستعد و�أورك�سرتاه لعزف ف�صوله الأربعة،
تطل من �رشفتها يف فريونا وت�سائلنا عن اخبار روميو ،وراعوث �أم النبي مت�سح ر�ؤو�سنا يف قد�س �أقدا�س متحف الفنون وجولييت ّ
17 16
مقطع من البوابة البرونزية ذائعة الصيت لجبرتي
�سيدة من فلورن�سا
يف عام 1502م ،اقتنى ليوناردو عد�سات مكبرّ ة ،دلّت على بداية �ضعف ب�صره ،وبعد
ظل
ّ عام ذهب يف ّت�ش عن فتاة توافق م�شروعه اجلديد الذي مل مينحه ا�سما بعد� ،أو
�سيدة من فلورن�سا.
ي�سميه جتاوزاّ :
ّ
آخرهم (طفلة) عام 1499م .وشرع في الرسم بدأ دافنشي ،وقد ناهز الخمسينّ ،
يقلب
عام 1503م .أطلق الفلورنسيون على اللوحة أفكارا راودته عن الموت وراح يكتب:
اسم الجيوكاندا (المرحة) ،وكان يعرض تنزع الروح إلى أن تبقى مالزمة لجسدها،
على زائريه في مرسمه في فرنسا في سنيه الحس وآلية الحياة.
ّ فهو الذي يمنحها
األخيرة ثالث لوحات :األولى لوحة ّ
القديس ّ
وقال :لكل أذى ما ،ذكرى مؤلمة يخلفها،
القديسة يوح ّنا ،والثانية العذراء والطفل مع ّ إال أعظمها ،وهو الموت ،الذي يقتل الذكرى
يقدمها بقوله :سيّدة من آن ،ولوحة ثالثة ّ جنبا إلى جنب مع الحياة .وقال أيضا :أيها
النقاد على أنها الموناليزا ،االسم الذي فلورنسا ،يجمع ّ القابع في سباتك ،ما النوم؟ النوم صورة الموت ،فاألحرى
السر الدائم ح ّتى اآلن.ّ ّ
وظل يالحقها في زمن لحق بها، يخلدك بعد موتك ،بدلًا منبك أن تبتدع من األعمال ما ّ
هل اختار ليوناردو دافنشي ليزا جيرارديني من فلورنسا أن تفني حياتك نائمًا متشبهًا بالميتين .وكان ير ّدد على
ّ
ستستل نموذجا لمالك األرواح؟ تلك اليد الخفيّة التي أصحابه :الحياة المادية هي موطن الروح ،والموت هو
كلما اقتربت متأمال روحه بعد سنين ،هذا ما صرت إليه ّ إقصاؤها ،إنها تخرج «على غير إرادتها» ،وال يبدو أنها
المحدقة ،ابتسامتها ّ اللوحة ،عيناها ّ
الضيقتان ،نظرتها متجهة إلى السكنى باألعالي.
الحلي ،زيّها الضارب إلى السواد، ّ الغامضة ،عطلها من كان دافنشي قد رأى الموت رأي العين في غزوات
والدروب الموحشة الموحلة لتوسكانيا خلفها ،واأللوان سيزاري وحروبه ،رأى مصارع الرجال بشكل ّ
مكثف في
ّ
وتعلله الدائم، التي تشعرك بدنوّ ساعة غروب األجل، ذلك العام الذى بدأ فيه بصره يخبو ،رأى آالته وخرائطه
بأنه لم يفرغ منها بعد (قبل أن تفرغ منه) ،والقاعة وسالحه كيف راحت تحصد األرواح ،وانتهى بعد عام
الثالثة عشرة التي تسكنها في سماء قصر اللوفر األولى. في فلورنسا يتابع ما انتهت اليه دولة آل بورجيا وما
وأظ ّنه نظر إليها يوم السبت الثالث والعشرين من أبريل انتهى إليه سيّده ،فشرع يف ّتش عن وجه لمشروعه
وظل ينظر ّ عام 1519م ،بعد أن فرغ من إمالء وصيّته، الجديد كعادته ،ووجد ضالّته في امرأة متزوّجةّ ،
لعلها
إليها إلى أن فاضت روحه في الثاني من مايو بعد بضعة ليزا جيرارديني ذات األربع والعشرين عاما ،زوجة
الموناليزا أو السيدة ليزا استعد العالم فيه والف ّنان لولوج البحر العظيم.
ّ أيام ،بعد أن تاجر الحرير الفلورنسي .وكانت أمّا لثالثة أطفال ،مات
للثعلب في قماش ،وخرج دون أن يثير أدنى ريبة. وعلى الرغم من حماس البعض للموناليزا ،إال أنها لم أجاب بعضهمّ :أنه شعر بسحر غامض يسرى في
بهت ،قال أحدهم؛ ّ جسده ،ولم يجد له تفسيرا.
ولم يفلح البوليس في الكشف عن هويّة الخاطف، تعد عمال خارقا أو استثنائيا .ولكن بزوغ نجمها ّ
وطال التحقيق كثيرا من المشتبه بهم بمن فيهم «خيبة أمل كبيرة» قال آخر؛ بعضهم قال :خيّل لي
بدأ في منتصف القرن التاسع عشر ،وولد في السيدة مادالينا زوجة
تنزلت من السماء؛ قال شاعر كبير :رأيت قديسة ّ أنّها ّ
مرة يحوم حول اللوحة. بيكاسو الذي شوهد غير ّ شمال أوروبا بالتحديد ،إثر موجة االفتنان بعصر التاجر اغنولو دوني
وفي أواخر نوفمبر 1913م أرسل فينزنسو رسالة إلى تحرك فينا ساكنا ،فالفتاة
ّ رجال! وآخرون قالوا :لم
النهضة في إيطاليا بشكل عام ،وبعبقريّة ليوناردو (بريشة رفآئيل)
تاجر التحف الفلورنسي ألفريدو جيري يعرض فيها ليست على حظ وافر من الجمال ،إن لم تكن هناك
المتعدد المواهب بالتحديد .وكان اختيار السيّدة ّ
ر ّد السيّدة الفلورنسيّة إلى وطنها لقاء نصف مليون جملة من العيوب :فاألنف طويل نسبيّا ،والحواجب
الفلورنسيّة قصر اللوفر سكنى لها في باريس منعطفا نسيتها ريشة الف ّنان ،والعينان ضيّقتان يعوزهما
ليرة ،فأعلن التاجر قبوله العرض .وفي الثاني عشر آخر لتلك الشهرة ،إذ اختارت هذه النبيلة ودافنشي
ّ كلها جبين ،أو خفيفة الشعر، الكحل؛ وقال آخرونّ :
الخشبي
ّ استقل بيروجيا بصندوقه من ديسمبر
نفسه المنفى وطنا .ثمّ أسهم األدباء في إعالء شأنها إلى غير ذلك من مثالب.
القطار إلى فلورنسا ،واستأجر لدى وصوله غرفة في
بما دبّجوا بها من عبارات المديح والثناء .قال عنها مادالينا زوجة التاجر أجنولو دوني ،جلست ذات
فندق خامل ،سيعرف باسم الجيوكندا فيما بعد .وفي
الروائي والناقد الف ّني ثيوفيل جوتيه :عنقاء الجمال الجلسة في نفس التاريخ ونفس المدينة أمام الشاب
لحظة اللقاء الحاسمة فتح الصندوق أمام تاجر التحف
يتوقف قلبه ،وأخرج زوجا من األحذية ّ الذي كاد أن ذات االبتسامة المحيّرة ،وأثنى عليها الشاعر ييتس رافائيل الذي كان متأثرا بدافنشي ح ّتى سرق فكرته،
القديمة ،وبعضا من المالبس الداخليّة البالية التي بطريقته ،وكذلك أوسكار وايلد ،وسومرست موم، وأنجز لوحته الشبيهة بالمادونا على عجل ،دون أن
وفورستر الذى نعتها في روايته «غرفة ذات إطاللة» يثير جلبة .واللوحة تمنحك صفاء في األلوان ّ
قل
تبعث على الغثيان ،ثمّ جال العروس التي طال غيابها.
اعترف الفريدو بالمشاعر التي انتابته ساعة رآها، بقوله :تلك التي ال نحبّها ،ألنها تضنّ علينا بما يجيش نظيره ،كما أن مادلينا بدت مزيّنة بقطع المجوهرات
وكيف راح بورجيا يعرض اللوحة ويتقمّ ص دور في صدرها من حديث. ّ
يرف لها جفن. وهي ماثلة في وضع ثابت ال على خالف الموناليزا العاطل.
دافنشي نفسه« .أميرتكم ر ّدت إليكم» ،قال بيروجيا في يوم االثنين الحادي والعشرين من أغسطس جفني الموناليزا ،ولكن
ْ لقد أسهب فاساري في وصف ال يكترث المه ّتمون اليوم بموناليزا رافائيل المغمورة،
حقق مجدا مؤثال ،وها أنا أنتظر الثواب .عندها كمن ّ حلقت الموناليزا في سماوات المجد، عام 1911مّ ، كل االختبارات الحديثة التى أجريت على اللوحة لم بل بالحسناء العاطل ،ولك ّنهم يسألون :أليست العذراء
ّ
انقض رجال الشرطة من كل مكان وألقوا القبض ّ لص في الحادية والثالثين من العمر عندما خطفها ّ تعثر لهما على أثر .فهل تراه رآها أو نقل ما سمعه عند الصخور ،أوالمادونا في أكثر من لوحة له ،أو
على الثعلب فينزنسو وأودع السجن. يدعى فينزنسو بيروجيا ،رسّ ام ومرمّم وصاحب عنها؟ وهل طالت الترميمات وعوامل األكسدة طوال القديسة آن ،أو ليدا المغرية ،أكثر جماال؟ ويعجبون،ّ
ّ
تصطف طوابير الزوّ ار القادمة من ومنذ ذلك اليوم سوابق يعمل في اللوفر ،كان يريد اختطاف اآللهة الخمسمائة سنة الماضية نهار اللوحة ّ
فبدلته إلى كيف قضى السنوات الباقية من عمره -وكان قد ناهز
كل فجّ عميق أمام الغرفة 13في الدور األول من ّ مارس وفينوس لمانتينا ،ولكن اللوحة كانت أكبر (غروب) ،إذ شكا الناس ذلك منذ مطلع القرن السابع الخمسين -في لوحة أنفق عليها من ماله وروحه،
القصر لتقديم واجب االحترام للنبيلة الفلورنسيّة، من أن يحتملها كاهله ،فاكتفى بالموناليزا األصغر عشر ،وسوء ما آلت إليه اللوحة ،إثر األخطاء التي يسخر لها فريقا من العازفين والم ّهرجين، ّ إذ راح
حمدا على سالمة اإلياب. ولف الحسناء التي استسلمت حجما واألخف حمالّ . ارتكبها المرمّمون؟ ليذهب عن نفسها الغمّ والحزن أو الوحدة والملل،
يف قلب البيازا كامبو دي فيوري ( �ساحة ميدان الزهور ) يقف ن�صب جيوردانو برونو
يف �صمت وهيبة ،يف ذات املكان الذي حتلّق حوله �شرذمة من الغوغاء يف �صبيحة
ال�سابع ع�شر من فرباير عام 1600م مل�شاهدة تنفيذ حكم حمكمة التفتي�ش.
31
5
خليج ال�شعراء
بالشعر إلى رحمه األولى .ومن كوكبة النجوم تلك قال فيها الشاعر الشابّ :
«إنها أشبه بالسماء منها
اش ّتق اسم الخليج. باألرض» .فما وسع بايرون إالّ أن ّ
هب إلى تلك الشطآن
يحف بالخليج عقد من القرى أهم ّها وأجملها بورتّ يجرب فيها مواهبه في العشق والسباحة والشعر، ّ
فينيري ،وهي مفردة مركبة ومنحوتة من كلمتين: فكتب في أحد مغاورها قصيدته «القرصان»،
األولى ميناء ،واألخرى ربّة الحب فينوس .هكذا وكذلك شيللى الذي اختار أن يلقى هناك منيّته
اختار الرومان األوائل هذا المكان الرومانسي منتجعا على غرار التراجيديا اإلغريقيّة التي كان مولعا بها،
يليق بالربّة ،وأقاموا لها معبدا على هامة جبل ،ما فاحتفظ بنسخة من سوفوكليس وجدت في جيب
زال ّ
العشاق منذ القدم وإلى اليوم يسترقون القبالت بنطاله عند غرقه ،أمّا مونتيل الحائز على جائزة
بين صخوره المشرفة على وجهها الكريم .وكان نوبل في اآلداب عن عام 1975م ،فقد آثر أن ّ
يوزع
أهلها يرون أنه عند بوتوفينيري ينتهي العالم .ولكن أشعاره على أصحاب البقاالت والمحالت وكأنه يعود
نافذة على خليج الشعراء معبد فينوس في بورتي فيرني منظر بحري من شرفة شللي
إن كان اهلل هناك أو لم يكن. الكنيسة سرعان ما استلهمت خطوط حمار وحش
احتفظت زوجته ماري برماد قلبه ،طوال حياتها، إفريقي مسحت به ظهر معبد الربّة ونسبته إلى ّ
وبعد وفاتها دفن مع ابنهما فلورنس شيللي. القديس بطرس في 1277م.ّ
كان شيللي قد رثى قبل عام من موته بقصيدته واليوم يبدو مثل جرم صغير فقد ذاكرته ،وال يسع
ّ
السل في أدونيس صديقه كيتس الذي قضى بمرض الزائر إالّ الشعور بمغناطيس فينوس الطاغي في ّ
كل
روما ،ورحّ ب في مقاطعها األخيرة بالموت ،ففي مكان ،وغياب أي أثر لبخور ّ
القديس.
الموت راحته ألنه سيلتقي بالميت الحي (كيتس): ثمّ ال سبيزيا ،التي كانت يوما ما مدينة تعبق من
نور اهلل يشرق دائما ،وظالل األرض تزول، بيوتاتها وأزقتها رائحة البحر والسراخس واألصداف
ّ
والحياة كقبة مزدانة بكثير من الزجاج المعشق والطحالب العالقة على الصخور والتي منحت البحر
تلقي ظاللها على شعاع األبدية األبيض فتغير لونه صفاءه الخالص قبل أن تتحوّل الحقا إلى ميناء
ّ
فيهشمها حتى يسحقها الموت اإليطالي ،ففسد
ّ صاخب ،ومركز لألسطول الحربي
أيها الموت إن كان هذا ما تطلبه بذلك سحرها القديم .ولقد أنكرتنا كما أنكرناها،
�أ�صفهان
فلم تتوانى! لم تتراجع! ولم تحزن قلبي؟ فالميناء واألسطول ملكان قد أفسدا القرية وذهبا
اآلن ،وأكثر من أي وقت مضى ،يبدو شيئا نفيسا ببهائها.
أن تموت، ومدينة ليرشي ،وهي المدينة التي أقام فيها الشاعر
رحلة إلى روبن أيالند ورأس الرجاء الصالح وقمة جبال املائدة
كتابة وتصوير :محسن خالد
طفلتان سائحتان ترقبان من ّ
حافة الزورق جزيرة
روبن قبل بلوغها
المخلوقات األخرى.
أنواع ش ّتى ،منها النجوم الحمراء ،والشوكية ٌ وهي يف مطار كاب تاون ،بينما امل�سافرون يعربون يف عجلة ،خمطويف البال ،خمطوفياللغات والألوان ،مزعزعني بني تاريخهم
شاهدت جميع أنواع السرطانات ُ .spinyكما ُ
املخطوف ك ّله، ا ُمل ّر ،وبني جنوب �إفريقيا اليوم� ،صاحبة �أنزه و�أقيم د�ستور ونظام برملاينُ ،
كنت �أعرب بينهم و�أنا
والرخويات األخرى ،الذي يصلح لألكل منها والسام .أمّا
وك ّل ما اختُطِ ف� .أح�س�ست بذاك ال�صباح طوي ًال كجدران ،و�أنا ّ
مكر ٌ�س بتمامي لأم�سي الذي َن َفق ،قلبي يعدو متعرث ًا فوق ُ
أهم نوع َّأثر في من هذه األنواع ،وكان الجميع يلتف
"يزِّ ق
مرة �أح�س�ست بتلك العبارة ال�ساذجة التي تقول :مُ َ رَّ َ
كال�شى ،لأول ّ ذكريات كثرية ،احلزن الوجودي الفاتر ُي َلفّعني
ٍ
من حول سياجه الزجاجي ليتأمله أو ليصوره أو
حتى ليرسمه ،فالمعرض يستهوي الكثير من الفنانين نياط القلب" ،التي كانت ت�ضحكني فيما م�ضى ،وحني �أقر�أها متتلئ �أ�شداقي بال�ضحك ،وقلبي باملرح ،من حالها وحال
التشكيليين الذين يهتمون برسم األسماك وكائنات لغتها اله�شَّ ة ،مبا�رشة اال�ستجداء للرحمة .رحمتك يا رب ،ثم رحمتك يا �صباح "�سندي وودز مان".
البحر ،فهو سمك الصندوق أو الـ ،Box Jelly Fishوهو
عبارة عن صندوق مربّع بكل دقة وهندسة ،من يراه
يظن أنّه "قيطان" فانوس أبيض ،من نوع تلك الفوانيس
القديمة التي تعمل بالسبيرتو ،لوال أنّه في شكل مربّع الرعب والحذر والزمن ،اجتياز المتر في عرض هذه
ّ
المثلث الشكل ،ونظرًا لرهافتها غير قيطان الفانوس السماء الرحبة والسحاب ،ال يساوي شبحة المتر
وضعفها ،كتلك الحلوى التي يسمونها حالوة قطن، وجدت شجرة جميلة وظليلة ،اختارت ُ فوق األرض،
وبالفعل تشبه هذه األسماك أن تكون مخلوقة من ُ
لنفسها كل تلك الرفعة والخيالء ،جلست تحت ظلها
القطن الرهيف للغاية وناصع البياض ،أو هي بالضبط ألرى المدينة من زاوية محيطة ومهيمنة ،وألكتب
تشكلت من خيوط العنكبوت .ولذلك فهي ّ تبدو كأنّها وصفي هذا ،أسمي ُتها شجرة السمو العاطفي ،فقد
قاتلة وف ّتاكة للغاية ،كحال كل المخلوقات الضعيفة لعرض طبيعية الحياة البحرية بالنسبة لمحيطين، حملت من جميع جوانبها نقوشًا لمحبين ُكثر رسموا
والواهية ،ال ب ُّد لها أن تت َميّز بأسلحة دمار ال يمكن أن المحيط األطلسي والمحيط الهندي ،هذا بالرغم من َّ بأعينهم وكاميراتهم مشهد مدينة الكاب من هنا ،كما
صدها ،وذلك من أجل الحفاظ على حياتها ومن ثم ّ المتحف يحتوي أيضًا على عرض دقيق لحياة الكائنات سجّ لوا أسماءهم في ارتباط الحب بالحفر على جذعها،
نوعها في الوجود ،فهذه الصناديق المصنوعة من بداخل نهر لورينز ،Lourens Riverهنا بالطبع تلعب نقش ليليان لجانب استيوارت ،وبيتر مع حبيبته لورا،
خيوط العنكبوت مرهوبة للغاية وال يمكن ألي مخلوق ٌ
مذهل التكنولوجيا واإلمكانيات دورها ،فالمتحف شيء قمت بنقش محسن خالد لجانب سندي وودز مان، ُ
بحري االقتراب منها إال بحذر مبالغ فيه. أقلها بالفعل ،وتبدأ المخلوقات المعروضة بداخله من ّ الصبيّة البحّ ارة ،من باب المرح واالحتفاظ بالمكان محسن خالد
جداول ضخمة ومتوسعة في المقارنة بين ٌ هناك ضآلة ،كالكائنات الرخوة والبدائية ،شديدة القرب من شعرت بوخز مجهولها الدافئ فيُ وروح اللحظة ،فقد
المحيطين األطلسي والهندي ،األعماق ،طبيعة الحياة النباتات ،وحتى بلوغ الحيتان الضخمة من فصيلة قلبي ،بينما أنا أنزل مطار مدينة الكاب ،وحين كانت هذا كان حين مغادرتي لمدينة الكاب يوم السبت
البحرية فيهما ،درجات الملوحة ،الثروات ،الشواطئ أبي سيف وأبي منشار وجميع أنواع أسماك القرش. هي في تلك الساعة لدى المنطقة المعروفة بالووتر هبطت في مطارها ببداية ُ وكنت قد ُ 7جانوري،
وك ُّل شيء يدخل في إطار والثقافات المرتبطة بهماُ ، بنوع من الت َم ُّيز ُي َن َّوه الكائنات الغريبة أو التي تتميز فرونت -Water frontالوجه البحريُ -تعِدُّ الزوارق ُ
الشهر نفسه ،حللتها في ضحى غائم ،وقلبي ينكت
ٍ
التمايز بين المحيطين كمياه ،وكامتدادات لهما خارج إليها في الالفتات اإلرشادية المنتشرة في كل مكان، التي تحمل الناس من لدى بوابة مانديال الشهيرة ،من كأنّه على موعد عشق ،ومن ورائه خلفية خافتة
المياه. باإلضافة للشابّات والشبّان األدالء والمتخصصين في حيث يعبرون إلى جزيرة روبن ،التي اح ُت ِبس فيها وجارية مثل نهر ،نحو سمو مرتقب .لم أكن أعرف
كما هناك إطارات لعرض المخلوقات البحرية الجميلة، قيادة الزوّ ار بداخل المتحف. مانديال مع معظم مشاهير النضال الوطني في جنوب بأنني سأصعد مع المتسلقين إلى قمة جبال المائدة
هنا الجمال ينصب بشكل أساسي على األلوان ثم لقد أعجبتني نجوم البحر ،التي لم أكن أعرف أنها إفريقيا. التي ُتحاصر كاب تاون كمائدة مستديرة ،والمدينة
الحقًا تقاطيع الكائن ،وتقف سمكة الكالون Clown ليست عمياء فحسب ،بل هي ُخلقت بدون عيون، تت َف َّلت منها هنا وهناك ،لتنوجد منافذ وألسنة
Tiggerfishعلى رأس حسناوات األعماق ،بألوانها التي وأن مياه البحر هي التي تجري بداخل أقنيتها بدل ّ متحف األكوريم العقة للمحيط األطلسي ،من أعلى تلوح تلك المائدة
ال يمكن تصديق درجة نقاءها وتداخلها وتنوعها، الدم ،وأنها لخروج أو دخول الطعام إلى أمعائها تقوم قدمت فيها لبوابة مانديال لم أكن أعرف ّ
أن ُ في أوّ ل مرة ملعوقة لدى جانبين بألسنة من المحيط .أعلى القمة
مازحني أحد الف ّنانين األمريكان لدى هذه السمكة بقلب تلك األمعاء إلى الداخل والخارج فحسب ،وليس متحف األكوريم يجاور البوابة ،فالناس يقصدون الوتر رأيت السحاب يمور ُ األسود" ،من هناكيُس َّمى "قمة ُ
َ
قائلًا :هل تعرفني يا رجل ،من أي بلد أنت؟ ُ
قلت ال مخصصة ومعلومة كما هو الحال مع ّ عبر منافذ فرونت ألسباب عديدة ،أهمها بالطبع الذهاب لجزيرة قدمي ،والبعيد مني أراه فَ َّوارًا
ّ في مرمى َك ّفي ،وبين
روبن ،وكذلك الخروج في رحالت الصيد ،وأيضًا يتماوج وينكب أمام الجبال مثل شالل وهمي ،أو
هل تعرفني يا رجل ،من �أي بلد �أنت؟ قلتُ ال �أعرفك� ،أنا من ال�سودان .ف�أجابني �أنا �أف�ضل لمشاهدة سباقات الزوارق البحرية ،أي كان بوسعي كفتاة فاقعة البياض سندت ظهرها إلى المخفي من
أن أتوقع وجود متحف التاريخ المالحي لجنوب إفريقيا الصخور ،وتركت شعرها تتالعب به ريح الجبال.
ت�شكيلي يف الدنيا ،و�أنت ال تعرفني فقط لأنني مل �أكن �أ�ستخدم �ألوان هذه ال�سمكة .قلتُ له ُ
تأكدت من ذلك بالذهاب إلى بالقرب من هنا ،وبالفعل شوارع المدينة البعيدة من ذلك العلو تلوح كأزقة
�ضاحكاً ،وهل هي حتمل �ألواناً ال ُتوجد باخلارج �أو ي�صعب حت�ضريها؟ �أجابني :بل هي حتمل ُ
المتحف ،أما متحف األكوريم فقد توقعت أن يكون إلى تتعرج هنا وهناك في األسفل ،بين المنازل ّ صغيرة
داخل المرسى أكثر ،وهو ي َُس َّمى في دعاية تقديمه البيضاء والطوبية القانية .أثناء نزولي من قمة األسود
�ألواناً جمهولة بالن�سبة يل� ،أنا مل أ� َر بها ًء كهذا يف حياتي المخصص
ّ بـ» ،"Two Oceans Aquariumأي المتحف وتسلق المتر هنا يساوي الكثير من ّ بعدة أمتار،
تمامًا «مفهو تراكم الثروة» حتى ولو حساب قتل لنحَ ِّلق اآلن ،في الفضاء .في فضاء الكون المليء
اآلخرين ،هو الذي خدعهم باألحرى. باألالعيب.
يقول مؤرخو االسبان إن الهنود استقبلوهم مهللين يطول الليل كثيرًا بين « باريس» و «سانتياغو»
فرحين بقدومهم ،وكأنهم هبطوا من السماء! حتى ليكاد يتضاعف .وفي الصبح نرى الجبال .جبال
(والمقصود في الحقيقة :من أعالي جبال اآلنديز تحد شريط األرض الطويل الهابط من « عمالقة ُّ
متمكن من الّ المقدسة ،ألن مفهوم السماء غير البيرو» حتى « أرض النار».
شعور الهندي .وهو ما يفضح التفاوت العميق بين أرضي محصور بين سالسل ّ « التشيلي» شريط
الديني عند االسبان ،وبين الطبيعي عند الهنود. جبال «اآلنديز» المقدسة ،وبين المحيط الهاديء،
ويجعلنا ُن َخ ِّمن بسهولة عمق ال َت ْلفيق والكذب عند بطول ٤٥٠٠كم تقريبًا .و« أرض النار» هي أسفل
أرخوا لهذه الفترة من األوربيين) .ويضيف هؤالء َم ْن ّ نقطة في القطب الجنوبي .إنها « تشيلي» بالد
المؤرخون أن الهنود منذ أن اكتشفوا الخدعة، العجائب واألساطير.
وعرفوا الطبيعة العدوانية للقادمين ،قاوموهم أرضي مخيف من شدة الجمال ،ينحدر من ّ شريط
بعنف. أعالي الكرة األرضية إلى أسفلها ،متجاوزًا «مضيق
وأتصوّر أن هذا« العنف» المزعوم ،وهو بالتأكيد ماجال ْن» إلى الجنوب ،إلى أغرب نقاط الكوكب ّ
نسبي و «بدائي» عند الهنود ،كما هو حال العنف األرضي ،حيث الهنود األوائل كانوا يشعلون نيرانهم
« الفلسطيني» اليوم ،كان مبررًا إلبادة الهنود مساء للتقرب من آلهة « اآلنديز» ،ممّا جعل «
واالستيالء على أرضهم. ماجالن» يعتقد أن النار تنبجس من القاع :تلك هي
ومنذ أن استقر لهم الحال ،بنى اإلسبان « «التشيلي».
سانتياغو» لتكون عاصمة للبالد .بنوها في البدء سالسل جبال « اآلنديز» العمالقة ،تبدو وكأن
على جزيرة صغيرة وسط النهر الذي يمر بها .وأول سطح األرض ال يكفيها عُ ْرضًا ،ولذا فهي تتطاول،
أفعله ،عندما أصل إليها ،هو الذهاب لزيارة « ما ُ ـط ،من أعلى إلى أسفل ،حاضنة شريط األرض وتَـ ْنـ َم ُّ
ال مونيدا» :القصر الجمهوري الذي ُقتِل فيه « المسكين ،المُ ْـل َتمّ على نفسه ،لتقدمه ُ
«ق ْربانًا»
سلفادور أليندي» .أمام القصر التاريخي ،الذي أصبح للمحيط ِّ
لتهدئه ُ ،م َم ِّهدة ،هكذا ،للسيطرة األزلية
تاريخيًا باألحرى ،يقوم تمثاله المهيب ،وعليه َم ْرقوم عليه
قوله األخير « :إنني مؤمن بتشيلي ،وبشعبها». (المحيط الهاديء).
كلماته األخيرة ،هذه ،قالها في راديو تشيلي .وأطلق
النار. خدعوا الهنود.
أقف في ساحة القصر ،طويلًا .حولي جمهور صامت خدعوهم عندما وصلوا على خيولهم.
ومتأثّر إلى حد البكاء .ومثلهم أنا .ال أحب العاطفة وقد كان الهنود يعتقدون ،حسب مزاعم الغزاة،
الجيّاشة عندما أكون «غريبًا».أصمد أمام دموعي، بأن آلهتهم بيض ،ويمتطون الخيل .ولكن ،من أين
هذه المرة ،وأنا أقول :سأعود إلى هنا ،مرة أخرى، جاءتهم فكرة ال معقولة كهذه ،وهم على العكس من
عيني للحظات ،استعيد َّ وحدي .أقول هذا وأُ ْغمِض ذلك؟ ّ
لعل االسبان ال ي َْصدقون فيما ي َْـروون .على
خاللها وقت الهجوم في «دمشق». أي حال ،براءة الهنود العفوية ،وطبعهم المسالِم
مقابل القصر يقع الفندق الذي صار هو اآلخر بالفطرة ،وغياب مفهوم التوسّ ع والعبودية لديهم،
من معالم «سانتياغو» ،الفندق الذي منه صَ َوّر وكلها ِق َيم إنسانية خالصة ،إضافة إلى أنهم يجهلون
قصر المونيدا حيث أغتيل الرئيس أليندي
55 الرحلة دي�سمرب 2010 54
يف ،١٥٢٠كان «ماج ّال ْن» �أول َم ْن وطئ �أر�ض ما ُي ّ
�سمى اليوم
بــ« ت�شـــيلي» ،وقد و�صلها بعد عدة حماوالت فا�شلة.
بيت الشاعر ''بابلو نيرودا'' وقد صممه على شكل باخرة ،ألنه كان مصابًا ُبرهاب البحر
59 الرحلة دي�سمرب 2010 58
�أية مدينة هي هذه؟ تكاد ت�شبه �أي �شيء؟ اجلنة؟ وديان وه�ضاب و�أبنية
مل ّونة تخرج من بطن القاع لرتقى �إىل ال�سماء
أوه! ما هذه الفضاءات الالمتناهية ،وهذه اإلضاءات هذا«الكوزموس» ،أوهذا «الكون» .وليست األرض،
الكونية التي تحتفل بالتراب؟ ولماذا تبدو الشمس أقصد «الكوكب األرضي» إال ذرة في رماله .ويقولون
األزلي ،وهي لمْ تترك منذ أول ّ في فرحتها ،وبهائها أننا ال نستطيع حتى مقارنتها بذرة رمل إذا ما أخذنا
النهار سمت الكون؟ في اعتبارنا بعض ما يحتويه مركب الكوزموس
ذهبي .وهو كذلك في الصحارى األخرى، ّ لون القاع وضخامات .لنع ُْد إلى األرض. الالمتناهي من كواكب َ
ربما .وال بد أن لذلك عالقة بالنور .بنور الشمس جبال اآلنديز هي العمود الفقري للقارة .وهي صلة
الذي تر ُّده األرض إلى مصدره بعد أن ترتوي منه. الوصل لكل بلدان الجزء الجنو بي من القارة
هنا ال تغرب الشمس ،وإنما تظل تمشي بهدوء نحو األمريكية .وع ْبرها تصعد الدروب حتى «آالسكا»
فضائها األحمر. في القطب الشمالي للكوكب .تبدأ من أقصى الشمال
على الطريق الهابط نحو «سان بيدرو» ،يشرح لنا فوق «بوليفيا» ،وتنحدر مطاولة ماء المحيط حتى
الشراح “ :أُنظروا ،هذا هو البركان المقطوع الرأس”. ّ أرض النار في الجنوب.
ونكاد نشهق عَجَ بًا! لكنه يتابع “ :تقول األسطورة تبدأ عالية وشامخة ومليئة ببؤر البراكين الح َيّة
الهندية إن البركان « الفحل» الذي ال يحب أن والميتة ،أو «المقتولة» حسب المعتقدات الهندية.
يعلو عليه أحد ،أو شيء ،قطع رأس هذا ،وجعله « ألن بركانًا «فَ ْحلًا» يمكن أن يقطع رأس بركان آخر
أصـلَم» على شاكلة هضبة عالية ،مستوية الرأس ،ال ْ أقل ُفحولة منه ،أى أقل عنجهية وارتفاعًا ،وخاصة َّ
ظلَ ْت تنفث الدخان”. وإن ُّق َّمة لهاْ ، إذا كان مجاورًا له .وهي تكون ،في البدء ،متعددة
ونتساءل ،ويجيب “ :تقول أساطير الهنود ،سكان األنواء والمشاهد والقمم ،ولها صفحات أرضية
تسيـ ِّر أمور
البالد األوائل :إن البراكين هي التي ُ َ عجيبة تكاد أن تَ ْقرأ عليها تاريخ الكوزموس .وشيئًا
الكوزموس .وهم لذلك يقدسونها .يقدسون براكين فشيئًا ت َتطا َم ْن كلما ْانحَ َد َر ْت نحو الجنوب حتى
جبالهم « :جبال اآلنديز» التي ترونها اآلن تمر هور ْن» ،إلى ُف ٍ
تات جبلية عند«كاب دو ْ
ْ تتحَ َوّل،
أمامكم كالسراب .كسراب بعيد ال تدركون منه متناثرة ،وهضاب متفرقة ال هيبة لها وإن كانت
سوى سِ ماته العابرة كالبرق .أنظروا ،اآلن! وننظر. مملوءة بالجَ مال ،وجُ ُزر صغيرة محدودة ،قبل أن
ال ،أنظروًا شمالًا ،يحدد .وننظر“ .ذاك هو البركان تغرق في ماء المحيط .أريد أن أقول «المحيطات»،
القاطع للرؤوس”. ألن التقاء الماء بالماء ال حدود له ،وإن كان البحارة
وفي أقصى األفق البعيد نرى ،بالفعل ،قمة هائلة الشياطين أعطوا لكل بقعة من الماء فوق سطح
العلو .دخانها يصعد عموديًا نحو السماء .وهي الكوكب األرضي إسمًا.
محاطة بقمم أخرى أقل منها رفعة وعلوًّا ،وال تنفث
إال القليل من الدخان .لكأنها تخشى من سورة البركان المقطوع الرأس
أكثر ْت.
َ إن هي غضبها القاطعة ْ صفائح الرقيم على طول الطريق الذاهب من مدينة
يفرقون بين عناصرالطبيعة والحياة. لم يكن الهنود ِّ المناجم « :كاالما» ،إلى حاضرة « سان بيدرو
أقصد بين األشياء والفكر .أو بين المرئي والمجرد. دي آتاكاما» ،في قلب الصحراء ،حيث سنستقر
أو بين ما هو كائن ،وما يمكن له أن يكون .هل بعض الوقت ،تعيدني إلى أُصولي .وأشعر بالسعادة،
ت» كثيرًا؟ «تع َّم ْق ُ على العكس من األوربيين ،إلحساسي المفاجيء
كانت عناصر الطبيعية التي نسميها نحن بأنني قادم من ال مكان .من الصحراء .من الصحراء
«جامدة» ،بالنسبة إليهم عوامل أساسية ،وحتى العربية ،وهذه بعض منها .أنا ،إذن ،في «مكاني».
دخان الماء
من أجل أن نشاهد « الظاهرة» في أعالي اآلنديز ،نصعد ٤٥٠٠م
فوق سطح البحر ،وبدرجة حرارة ١٤تحت الصفر ،لكي نصل
إلى السفح .إلى َس ْفح كبير .إلى دائرة عمالقة تحيط بها الجبال من
جميع الجهات .في األرض ثقوب ضخمة ،وأخرى ّ
أقل شأنًا منها.
من كل ثقب يصعد الدخان .دخان الماء ،كما سيشرحون لنا،
يصعد نحو السماء .وال يحدث ذلك إال مرة في النهار ،عندما «
تحترق الماء» بفعل الحرارة الجوفية لألرض ،وقت الصباح ُ :ق َب ْيل
شروق الشمس ،وبعده بقليل ،قبل أن تتعادل الحرارتان :حرارة
جوف األرض ،وحرارة سطحها.
لكأن الماء التي تغلي في أعماق األرض ترسل أبخرتها الجهنمية
األزلي
ّ الد ْفن ّ
وتفك الحصارعنها .حصار َ لتخترق قشرة القاع،
لعناصر الطبيعة السائلة الملوّعة بانحباسها تحت كتلة اآلنديز
الخرافية.
ماذا ُتخفي حُ ْف َرة « َج ْي َز ْر تا ْتيو» العمالقة ،هذه ،غير هذا الدخان
بالتعابير التي يمكن لها أن تشرح ما يراه البصر. المشبع بالماء ال َم ْسلوقة تحت األرض؟ الدخان الذي
وفجأة تشغلني حالي ،فأصير أتَحَ َّرض :أيها الركود يَ ْن ُفر من أعماق الجبال الكونية ،متحديًا أنظمة
الكمون متى تثور؟ متى تتحرك؟ أيها ُ الكوزموس ،أو مستجيبًا لها ،باألحرى.
فَجّ بوريتاما العميق الكوزموس ،هو اآلخر ،بحاجة إلى نظام ،مثله مثل
الص َور واألحاسيس”، ت من البركان “ :أختزن ُ ت َع ّلَ ْم ُ كائناته الهشة ،السريعة العطب ،التي هي نحن.
ْ ُ ّ ُ
وفجأة ،أكتب .ت ْنشق نفسي عن ألـهوفة ،أو فكرة ،أوَ َ عندما تختلف درجات الحرارة الجوانية وال َب ّرانية،
َغ ْمر ،وتنبثق الكلمات لتأخذ طريقها إلى منطق العقل عندما يختلف التوتر بين الظاهر والباطن ،يحدث
الكاتب .خزائن إحساسي تَ ْفرغ سريعًا ،وتتأ َّهب في الكوزموس ما يحدث ،تمامًا ،عند الكائن :
لإلمتالء ،من جديد .أنا في فضاء خارق ال يسمح تنكسر القشرة الماسكة للسطح ،أو للنفس ،وتحدث
لألحاسيس بأن تغفو إال من أجل أن ترتاح ،قليلًا، فيها فوهات ،أو شروخ ،منها ينبثق التوتر المحصور
لتزداد طاقة .أن تضيق ل َتـ َّتسع أكثر عندما تفيق. في األعماق ،قبل أن يغدو الوجود ،أو التوازن،
ثمة ُش ْبه كبير بين الكائن والبركان .حاولوا أن مستحيلًا.
تلتقطوا ،على األقل ،عناصر الشبه األساسية بينكم “حرروا ما في أعماقكم ،قبل أن تنفجروا” ،هذا ما
وبينه ،ألنها هي التي ستنقذكم عند الضرورة ،إالّ زر تا ْتيو» ،في أعالي جبال«ج ْي ْتقوله لنا ظاهرة َ
إذا أردتم أن تبقوا هامدين. ديز التشيلية.اآلن ْ ْ
يطلع القمر في منتصف النهار؟ أم هي الشمس لم تحت الشمس مباشرة أقف ،اآلن ،وأكتب.
تغب ،أبدًا؟ عندما َس َريْنا كان فوقنا والنجوم تتألأل ْ أتطلع بذهول حولي ،وأطوف ببصري أنحاء « ّ
حوله في أعماق الكون .وها نحن نعود وهو ال زال الحفرة» المثيرة للقلق من شدة ضخامتها ،وأتمتم :
واقفًا في مكانه ،لكن النجوم لم تعد تحيط به .لكأنه ال بد أنها كانت فوهة بركان عمالق فَ َّجر السلسلة
عقد حلفًا مع « اآلنديز»على أالّ يغيب عنها ،أبدًا: الجبلية في أعالي اآلنديز ،ذات يوم .وهذه «
قمر الهنود الجميل. التشققات األرضية» التي أسميها أنا “ صغيرة” ُّ
وتشققات .األرض مشطورة بقسوة ، ُّ ربوع عُ ظمى ُ
مقارنة ب َبواذِخ الكون المحيطة بها ،مع أنها تقارب
وكأن اإلله َح َّززها بسكين خرافية .إنهدامات هذا ال َع ْملَقة ،ما هي إالّفوهات تَ ْنفيس كوني هائلة ،مهمتها
تعلَ ْمناها من سهول تخرب الطمأنينة التي ّ الكون ِّ تخفيف الضغط الجواني البالغ العنف حتى ال تنفجر
العشب والرمال المبسوطة على وجه القاع مثل األرض.
اللباس .هنا ،الوضع مختلف تمامًا .نحن في بؤر أقول فوهات صغيرة! وقطر الواحدة منها يتجاوز
كونية ،ال فوق قاع مفهومة. القمم واألحجار عشرات الكيلومترات .تحيط بها ُ
تحت ضوء الشمس الساطع أقف وأضيع في فضاء البركانية التي ان َق َذفَ ْت بعنف ال حدود له خارج
اآلنديز الحجريّ األحمر المتو ِّقد من الغيظ ألنه لم مشظى ومتعدد العناصر واأللوان. ّ بُؤرتها .سطحها
يبرح مكانه منذ ماليين السنين ،بعدما غيضت ماء تربتها مزيج من األرض السوداء ،واألحجار
المحيط عنه .متى يسير؟ المهروسة ،والماء ال َّنزيز ،والملح ،وبعض أقحاف
النوء ساكن مثل ُك َتل األحجار التي تقذفها البراكين رت هاهنا عند ارتمائها الالزمن له. الجبال التي َ
تك َّس ْ
من آن آلخر .الشمس في السمت .والصمت ال يمكن قدامي : س! أُخاطب أحدًا ال أراه ،وهو مع ذلك ّ ال تَ ْن َ
إختراقه ،ألن الضوء الباهر يمتص حركة الكائنات أننا في حضرة جبال كونية ال يمكن حتى للخيال
المختفية من َح َمأة الشمس .أنهكها الجوع ،وال أن يقارب هولها وعظمتها .وأزاءها تبدو اللغة فقيرة
والثلج ،ال يحيا الهندي دون أن تحيط به هذه ونسبح في األحواض الحجرية التي ابدعتها الطبيعة المياه المعدنية الساخنة في أعماق األرض .في بد .ولكن َم ْن منها يجرؤ على البحث عن طعام
ويحسها في روحه بعمق .أما هذه الرائحة، ّ العناصر، على مدى قرون .أحواض جاهزة الستقبال الحياة، أعماقها بالفعل ،وليس بالمجاز .نهبط على مراحل والشمس القاسية لها بالمرصاد؟ ال بد أنها “ شبعتْ
رائحة َمـ ْني الشجر ،أين َش َم ْـم ُتها؟ أ َ َولَمْ يكن ،ذات وكأن مهندسًا بارعًا صممها ،منذ األزل ،لهذه الغاية. المهش َمة من أ َ َزليّة السيول
َّ إلى حضيض القاع جوعًا” ! وأكاد أسمع « عبد الباسط عبد الصمد»
مساء ،في “ دمشق ”؟ ستعيد الماء ارتباطنا باآلنديز وأجماته .سننسى والبراكين .حتى تَ َف َّجر ماؤها سيولًا صغيرة الزالت يردد بصوته النحيف المتصل كلمات “ موسى” (ص)
بعد قليل ،سنخ ِّلف هذا الضوء األبيض على األرض، المتأزم إلى الحضيض .وخوفنا ّ سريعًا إنحدارنا تَفور من حرارة جوف القاع المشتعل في األعماق. لفتاه ...“ :آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا
ونترك السماء الزرقاء فوقنا ،ونغادر هذا التراب المتعثر من السقوط ،سيعقبه شعورنا باإلمتنان لهذه ّ سيدهشني نبات ال َب ْردي الذي ينمو بكثافة على نَصَ ـبًا”.
الذهبي ،تراب أرض التشيلي الخالدة .ونعود. ّ البقعة من وجه األرض .الشيء يعادل الراحة بعد َك ِت َف ّي الوادي ،غارقا في الماء الساخنة .سنتعرى أخيرًا ،نهبط فَجّ «بوريتاما» العميق ،حيث منابع
ول َ َكمْ يبدو ذلك ثقيلًا على القلب “ :العودة” .العودة العناء ،إالّ األمن بعد خوف.
التي ستجعلك تَ َت َخ ّلى عن األمكنة التي أحببتها، أقف مأخوذًا :كيف تنفطر األرض من جسد الكون؟
ولدت فيها .وأجدني أتساءل “ :ما سِ ُّر َ َ
وكأنك جراح الكوزموس العظيم الذي أبدع وأين يختفي ّ
هذا اإلرتباط المباشر والعفوي بيني وبين األمكنة، كل هذه الروائع؟ لماذا يظل الماء يسيل من ثنايا
حتى تلك التي لم أ َ َرها من قبل ؟ ولِـ َم هذا ال َت َع ُّلق جسد األرض العميقة ،وإلى أين يروح؟ لكأن جسد
وأحسني مدفوعًا ب َن ْز َوة عميقة لزيارة ُّ اآلسر بها “؟ الكائن ُص ِمّم على هذه الشاكلة ،تمامًا .وفي النهاية،
ُ
أخيرة لقصر«ال مونيدا» .القصر الذي “ قتِل “ فيه ليس نَ َسـق الحياة اإلنسانية إال تقليدًا بائسًا لعظمة
«سلفادور ألي ْندي» عام .١٩٧٣ ف بال َت َب ُّصر والصمت. الكوزموس .فألك َت ِ
في ساحة القصر أقف بصمت ،لفترة طويلة .أكاد وس ْيرنا المتباطيء،
َ األعماق، بعد خروجنا من
أنسى موعد الرحيلَ .ش َغف عميق وجميل يملؤني نتوقف تحت أضالع الجبل العمالقة ،في قرية «
بما ال أعرف كيف أصفه .المكان الذي في وجهي سوكايْده» .قرية هندية مرمية في فضاء اآلنديز
يكلمني .يراني يغدو هائلًا ومُريبًا .أحسه يتكلمّ . دون أي إعتبار .تتوسطها كنيسة صغيرة ،مبنية من
وأراه .يو ّدعني قبل أن أقوم أنا بتوديعه. الحجر والتراب ،وال يؤمها أحد ،هي كل ما بقي من
وأرى في األفق القريب مكتوبًا فوق السراب « :إنها آثار الغزاة في هذا اإلرتفاع الكوني اآلسر.
أس َر ْتني في تمطر فوق سانتياغو» ،الجملة التي َ الجبل يحرس القرية مثل أسد جاثم فوق ربوة
صباي .اللعنة! َم ْن َخ َّطها ،اآلن ،في السماء؟ وعلى يراقب الظباء التي َس َت ِرد ال َع ْين ،وال بد .والهنود
الحجر أسمع الكالم األخير الذي تَلَ َّف َظ به «أليندى» يمشون ال ُه َويْنى ،وكأن الزمن لم يعد يخصهم .لكأنهم
قبل أن تخترق الرصاصة رأسه « :إنني مؤمن فقدوا روحهم الكونية عندما هبط البيض على
بشعبي» .وي َُدوّ ي الظالم. أرضهم األولى .الشيء يثير اهتمام الهنود مما نفعل،
ـن أصابه أقف طويلًا في ساحة القصر بال حِ راكَ ،كـ َم ْ أو ال نفعل .ينظرون إلينا بحيادية ،ولكن بعدائية
ـدر .أحس إلى َشلل مفاجيء .تملؤني نَ ْـمـ َن َمـة َ
وخ َ واضحة ،وي َولّون األدبار ،وكأنهم يشتموننا على
حد يختلط قلبي بالمكان الذي أقف فيه ،حتى أي ّ وقوفنا فوق أرواح أجدادهم .الهنود «اللطفاء» بنوا
أشتهي أن آكله .أقف ،وأنا أُردد: ليظلوا على اتصال دائمقريتهم تحت الجبل ،مباشرةّ ،
عد ُت إلى « ال مونيدا» أل َو ّدعه. “ ْ مع روح الكون العليا ،كما يعتقدون.
ُ
أحب أن أ َو ِّدع األمكنة ُّ
وال أحب أن أُو ِّدع الناس. أنـــا مكـــان
أنــا مكــان “. ّ
يتكلمَ َ
وحذر ،ولكن ،لِـ َم ّ
يتكلم الهندي بهدوء َ
بعينيه؟ الكوندور والالما والجبل والريح والشمس
75 74
البحار �إىل بالد ق�صية ،بعيد ًا عن جمريات دراما حياتي .انتابني قلق عميق،
�شعرت فج�أة ب�أين �أحلق مع َّ
إلى حد ما ،على األقل بالنسبة لي في تلك اللحظة. أشعر بالخشية على نفسي فرحت أخط رسالة �شعرت ب�أين غري قادر على الإح�سا�س ب�أي �شيء .بد�أت �أ�شعر باخل�شية على نف�سي فرحت �أخط ر�سالة
كنت أتطلع إلى المستقبل عبر الشريط الضيق مسيلة للدموع ،لكني عجزت عن الكتابة ومن غير م�سيلة للدموع
لتشيلي وما وراءه ،مما يعيد أبيات قصيدة أوتيرو الممكن المحاولة .في شبه النور المحيط بنا ،دارت
سيلفا إلى ذهني. أشباح ملتفة كدوامة غير «أنها» لم تظهر .كنت عند
اعتقادي أني أحبها حتى تلك اللحظة ،عندما أدركت أن يلتهمها الكلب بنهم دفعة واحدة .ألقي له بقطعة على خططه بالغة التفاصيل بدقة ،التي ينبغي أن
أني ال أحس بشيء.
اخلرباء أجبرت على استدعائها لتعود بإشارة من يدي .توجب
أخرى ويتكرر األمر ثانية .حميته في عدم تناول نكون وفقها قد اقتربنا من النهاية ،بينما نحن في
الكرم التشيلي ،كما ال يتعبني القول ،أحد أسباب جعل الحليب تنتهي .في غمرة صخب المعجبين بكمباك، الواقع كنا قد بدأنا منذ برهة فقط.
على القتال من أجلها ،كانت ملكي ...لي ...ونمت. أدخل ،هنا ميرمار... غادرنا خيسيل محملين بمؤونة من الخضار وعلب
الترحال في البلد المجاور لنا متعة عظيمة .ولقد
أنارت شمس معتدلة اليوم الجديد ،يوم مغادرتنا، واآلن أشعر أن جذوري العظيمة مقتلعة ،حر و... اللحم المحفوظ "تبرع" بها عمي .طلب منا أن نرسل
استفدنا من ذلك أيما استفادة .استيقظت تدريجيًا
وداعنا أرض األرجنتين .لم يكن حمل الدراجة إلى احتمينا في مطبخ مركز الشرطة من عاصفة أطلقت له برقية من باريلوتشي – إذا وصلنا إلى هناك –
تحت المالءة مفكرًا بقيمة السرير الجيد ومحصيًا
«موديستا فيكتوريا» مهمة يسيرة ،لكننا نجحنا العنان لجام غضبها في الخارج .قرأت وأعدت قراءة حتى يمكنه أن يشتري برقم البرقية ورقة يانصيب،
كمية السعرات الحرارية لوجبة الليلة السابقة.
أخيرًا في تحقيق ذلك بقليل من الصبر .شكل إنزالها الرسالة التي ال تصدق .وهكذا كل أحالمي ببلدتي ما بدا لنا في غاية التفاؤل .في تلميح سخر اآلخرون
راجعت األحداث األخيرة في ذهني :ثقب عجل
صعوبة مماثلة .هانحن في تلك البقعة الصغيرة قرب المرتبطة بتلك العيون التي ودعتني في ميرامار، من أن الدراجة ستكون ذريعة جيدة للسفر ركضًا..
الجبارة الغادر ،الذي خلفنا على قارعة الطريق في
البحيرة المدعوة باسم طنان «بويرتو بليست». تحطمت بال سبب وجيه .اعتراني تعب شديد الخ ،وبالرغم من تصميمنا القوي على إثبات أنهم
المطر وفي مكان مجهول ،مساعدة راؤول الكريمة،
بضعة كيلومترات على الطريق ،ثالثة أو أربعة على وأصغيت نصف نائم إلى حديث سجين جوال مثير مخطئون ،أبقتنا خشية طبيعية من التصريح بثقتنا
صاحب الفراش الذي ننام فيه اآلن ،والمقابلة التي
األكثر ،أعادتنا إلى الماء ،بحيرة خضراء قذرة هذه يلفق ألف قصة غريبة ويشعره جهل المستمعين إليه المتبادلة.
أجريناها مع صحيفة « « Al Australفي تيموكو.
المرة ،الغونا فرياس. باألمان .كنت قادرًا على فهم معنى كلماته الدافئة يحافظ كمباك طوال الطريق الساحلي على نبضاته
كان راؤول طالب طب بيطري ،ليس مولعًا بالدراسة
رحلة قصيرة قبل الوصول أخيرًا إلى نقطة الجمارك، اللعوبة بينما الوجوه المحيطة به تميل مقتربة كي المالحية ،خارجًا دون أن يصاب بأذى من اصطدام
كما بدا ،وكان قد حمل دراجتنا القديمة المسكينة
ثم مركز دائرة الهجرة التشيلية الكائن في الجزء تسمع بشكل أفضل قصصه وهي تكشف بأسرارها. آخر آت .يصعب التحكم بالدراجة النارية مع وجود
في شاحنته ،وجلبنا إلى هذه البلدة الوديعة وسط
اآلخر من سلسلة الجبال – األدنى كثيرًا عند خط كما لو من خلل ضباب بعيد كان بإمكاني رؤية طبيب ثقل إضافي على الحامل الكائن خلف مركز الجاذبية
تشيلي .حقًا ،ربما كانت هناك لحظة أو اثنتان
العرض هذا .هناك عبرنا بحيرة أخرى تصب فيها مياه أمريكي قابلناه هناك في باريلوتشي يومىء برأسه: ينحو لرفع العجل األمامي ،وتجعلنا أدنى هفوة في
تمنى فيهما صديقنا لو أنه لم يقابلنا ،ألننا سببنا
ريو ترونادور الذي ينبع من البركان العظيم الذي «أعتقد أنكما ستصالن المكان الذي تقصدانه ،فأنتما التركيز نطير في الهواء .نتوقف عند قصاب ونشتري
له ليلة من النوم غير المريح ،لكن ينبغي عليه أن
يحمل االسم نفسه .تمتاز هذه البحيرة "إسميرالدا"، تملكان الشجاعة .لكني أظن أنكما ستمكثان فترة بعض اللحم للشواء ،وقليلًا من الحليب للكلب الذي ال
ال يلوم إال نفسه ،متباهيًا بالمال الذي أنفقه على
نقيض بحيرات األرجنتين ،بماء معتدل الحرارة في المكسيك ،إنها بالد رائعة». يحاول حتى تذوقه .ينتابني قلق على صحة الحيوان
النساء ودعوتنا ليلة إلى "كاباريه" على حسابه
يجعل السباحة متعة مغرية جدًا .هناك في أعالي البحار إلى بالد قصية،
شعرت فجأة بأني أحلق مع َّ الصغير أكثر من المال المدفوع ثمنًا للحليب .ظهر أن
طبعًا .كانت دعوته وراء تطويل إقامتنا في بالد بابلو
سلسلة الجبال في مكان يدعى كازا بانغو موقع بعيدًا عن مجريات دراما حياتي .انتابني قلق عميق، اللحم لحم حصان وحلو جدًا حتى إننا لم نقدر على
نيرودا ،واشتركنا في وصلة تفاخر حية لبعض
يشرف على منظر خالب فوق تشيلي .نقطة تقاطع شعرت بأني غير قادر على اإلحساس بأي شيء .بدأت تناوله .ضجرًا ألقي بالقطعة بعيدًا ،ومن المدهش
الوقت .خرج في النهاية ،بطبيعة الحال ،من هذه
يحتوي هذا امللف على عدد من املو�ضوعات التي تتحرك يف ف�ضاء الرحلة العربية يف الف عام ،من ابن
ف�ضالن واملقد�سي الب�شاري وابي دلف امل�سعري يف القرنني 10و� 11إىل ابن بطوطة
يف القرن الرابع ع�رش وابن خلدون يف القرن اخلام�س ع�رش ،و�أبي �سامل العيا�شي يف القرن ال�سابع ع�رش ،و�صوال �إىل
رحالة الع�رص احلديث ،طواف على ثيمات �شغلت الرحالة ون�صو�صهم ،وحيث حتولت الرحلة �إىل مر�آة الأزمنة،
والرحالة �إىل م�ؤرخ من طراز خا�ص.
ثيمات هذا امللف ون�صو�صه يف غالبيتها �شغلت �أبحاث امل�ؤمتر الدويل لأدب الرحلة امل�سمى « العرب بني البحر
وال�صحراء» ،وها هي ت�شغل �صفحات من جملة الرحلة يف عددها الأول.
وبعد �أيام من �صدور العدد الأول من جملة «الرحلة»� ،سيكون هذا امل�ؤمتر قد عقد بالتعاون بني «املركز العربي
للأدب اجلغرايف-ارتياد الآفاق» لندن�-أبو ظبي ،و «احلي الثقايف-كاتارا» يف الدوحة حتت عنوان عري�ض هو «العرب
بني البحر وال�صحراء» وير�صد الأدوار الثقافية واحل�ضارية للعرب وامل�سلمني يف عالقتهم بجوارهم ال�رشقي
وبالآخر الغربي من خالل ن�صو�ص �أدب الرحلة ،ور�ؤى الرحالة وكتابات اجلغرافيني والبلدانيني العرب
وامل�سلمني .ويتزامن انعقاد امل�ؤمتر مع منا�سبة مرور ع�رش �سنوات على ت�أ�سي�س «املركز العربي للأدب اجلغرايف-
ارتياد الآفاق» ،و�سبع �سنوات على ت�أ�سي�س «جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة» .وي�أتي هذا الن�شاط ك�أول ن�شاط
ثقايف كبري ي�ست�ضيفه «احلي الثقايف-كاتارا» يف قاعاته و�أروقته.
وكما جاء يف ن�رشة امل�ؤمتر ف�إن �أبحاثه ت�سلط ال�ضوء على م�ضيق هرمز وال�شواطئ العربية والآ�سيوية والإفريقية،
والرحالت عربها� ،إ�ضافة �إىل التوا�صل بني الآ�ستانة واجلزيرة العربية من خالل ن�صو�ص ال�سفر ،وكذلك على دور
العرب يف تاريخ العلوم البحرية والفلكية وريادتهم يف الت�أ�سي�س لعلم اجلغرافية ولأدب الرحلة ،وعلى دور رحالت
احلج يف نقل العلوم واملعارف والأفكار اجلديدة .
ير�صد عدد مهم من �أبحاث امل�ؤمتر العالقات الثقافية وال�سيا�سية واالقت�صادية بني كل من العرب وال�صني والهند
العرب بني البحر وال�صحراء
وفار�س والرتك قدمي ًا وو�سيط ،والعالقة ب�إفريقيا من جهة ،وبني العرب و�أوروبا حديث ًا من جهة �أخرى.
وي�شهد امل�ؤمتر ،وللمرة الأوىل لقا ًء ي�ضم عدد ًا من مرتجمي رحلة ابن بطوطة �إىل لغات �أوروبية و�آ�سيوية خمتلفة، الرحلة العربية يف �ألف عام
�سيقدمون �شهادات حول جتاربهم يف نقل الرحلة �إىل لغاتهم.
هنا يف هذا امللف مغامرة املا�ضي بني ما هو ذاتي وما هو مو�ضوعي تتحول �إىل م�سافات جتتازها وت�ستجليها عني
احلا�رض.
87 86
خارطة شكل إقليم جزيرة العرب أعدها حاجي «خليفة محمد بن عبد اهلل» 1732م
طيور مهاجرة في ميناء سمهرم في ظفار
عبر مصر.
الرحلة إلى زاوية العياشي وبيت اهله شاقة في الصيف ،فقد كانت رحلة صيفية...وما من كثرة طويلة هي الرحلة من الدار البيضاء إلى سجلماسة حيث تقع زاوية العياشي ،وضريحه وضريح
من الناس تفكر في زيارة قبر هذا العالم األديب وزاويته في فصل الصيف ،بل في أصعب شهور أجداده وأحفاده ،وجمعهم ينتمون إلى قبيلة آيت أعياش ،وفي المصادر المختلفة ولكن في نقل
الصيف. مباشر عن الصديق الراحل سعيد الفاضلي الذي حقق رحلته «المسماة الرحلة المغربية» ،ان
مع ذلك كانت الفكرة ان أتجول في سجلماسة وأتوقف حيثما عن لي ،ولرفاق الرحلة ذلك ،لنطلع، الرحالة واسمه الكامل عبد اهلل بن محمد بن ابي بكر بن يوسف بن موسى العياشي الملقب
عن قرب ،ولو لوقت قصير ،على المكان الذي اطلع هذا الرحالة الذي دون في رحلته العلم واألدب بعفيف الدين ولد في 1628وتوفي بالطاعون سنة .1679
والفتوى والحكمة ،والحكاية والخبر والمالحظة والخاطرة ،والطرفة ،والشعر وغير ذلك مما جعل يا لمشقة الطريق وقصر العمر .لقد شد العياشي الرحال إلى المشرق فزار مكة والمدينة وأدى
من نص رحلته ديوان أدب ،وزاوية تصوف ،وفضاء ،ومحراب عبادة. فريضة الحج ثم يمم شطر أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ،فحج وزار وعاد إلى المفرب
مفتاح الزاوية
والمتصوفة الذين عبروا هذه الواحات ذهابا وغيابا في الطريق إلى الحج ،وكذا في الرحالت في بيته ،حيث ضريحه وبستانه والهضبة التي أطل منها على العالم ،هناك عبرنا ساقية ماء،
الداخلية التي لم تتوقف عبر قرون ،والتي تركت لنا غرثا مغربيا ومغاربيا هائال ،جله ما يزال عذب ،ومررنا بنساء يغسلن المالبس واألواني ،وسرعان ما حضر صبية وحضر رجل ترك عمله
ينتظر التحقيق والنشر. وسعى أمامنا كدليل ،بمنتهى الحماسة واللطف والكرم.
محمد أحمد السويدي الذي فكك الرحلة والذي مشى معي الرحلة عبر غوغل واتصل بي مرارا وجاء فقيه فتح لنا مكتبة الزاوية حيث كتب العياشي ومخطوطاته مكبس تجليد المخطوطات
على الطريق بين نقطتي االنطالق والعودة في مسار طوله أكثر من ألف كيلومتر وخمسمائة كيلو ومالبسه ونعله وجرة السمن كلها دليل إلى نفس بسيطة متقشفة ،كذا هو الصوفي...على باب
مترا. اهلل ،ال يتطلب لكنه يفني ذاته في وجود فسيح.
هنا في هذه الصفحات ماعادت به عدسة المصور من سجلماسة ،وما اختاره محمد أحمد قصدت أن أعود ومعي صور للبيئة التي ظهر فيها العياشي في الطريق من األطلس المتوسط نحو
السويدي من نصوص حكائية ،ومرات طريفة استلها من رحلة ابي سالم العياشي لتكون قطوفا الريصاني..مررورا بالرشيدية ووصوال إلى مرزوكة على الحدود الجزائرية.
أولى من الرحلة ندنيها من ذائقة القارئ. ولما أزف الوقت كانت طريق العودة عبر جبال األطلس ،وواحات أوفوس وغيرها من الواحات
الخضراء المنخفظة في أرض تشقها األنهار ويكثر فيها النخيل .هي نفسها كطريق الرحالة
فتطلع منها تلك الشهب ،وال نعلم صنعة ذلك ،وهي رحمة اهلل علينا وعليه ،ووصلنا إلى البندر عند أم أحد المنتحلين ذلك ممن مضى ،فسأله عن واركال
من الغرائب ،والرمي بها وبالمدافع عادة المصري في الظهر ،وفيه حصن حصين في قرية على شاطئ ذلك فإذا هو ال يفقه شيئا من ذلك ،وقال :أظنه
كل منزل أقام فيه إذا أراد الرحيل. البحر في سفح جبل ،وبها آبار كثيرة ،وفيها نخيل النبي صلى اهلل عليه وسلم .فعلمت أنه إنما وجد وكان دخولنا للمدينة عشية الخميس ،وأقمنا بها
وسوق كبير يحضره أهل غزة وتأتيه األعراب الخطبة مكتوبة في صحيفة عنده فحفظها كما يوم الجمعة واليومين اللذين بعده ،ودخلنا للمدينة
باإلبل والغنم والسمن والعسل والعلف للدواب، وجدها ،إال أنه لم يحرر حفظها ونقلها ،ولعلها من لحضور صالة الجمعة ،وصلينا بجامع يسمى جامع
تون�س ووجدنا الفول فيها رخيصًا أرخص مما اكتري عليه خطب بعض من كان في أيام المهدي بن تومرت المالكية ،وخطب الخطيب بخطبة أكثر فيها اللحن
من مصر ،وبتنا بها ،وبات المصري هناك ،وأوقد (مؤسس دولة الموحدين بالمغرب) زاد فيها هذا والخطأ والتحريف ،والتقديم والتأخير ،مع إدغام
وقد خرج معنا رجل من أهل الزاوية المذكورة بالليل نيرانًا كثيرة وضرب المدافع ورمى المحارق الدعاء لإلمامين اللذين في عصره. أكثر حروفها ،حتى كأنها همهمة ،فكنت أتخوف
ممن ينتحل الفقه ومعه بعض الحمارنة قدموا في الهواء ،ولها منظر عجيب وأسلوب غريب كأ ّنَها أال تصح لنا معه جمعة إن كانت صالته كخطبته،
هنالك يمتارون تمرا ،وسألهم أمير الركب أن يدلونا شهب النجوم يرمى بها من األرض إلى السماء، فنجى اهلل ،فأحسن في قراءة الفاتحة .فما ظننا
الطريق إلى بالدهم فساروا معنا ،فبينما أنا أسير فتراها في الجو طالعة حتى ترى من هام شوامخ الألعاب النارية أن صالتنا معه مجزية ،ودعا في خطبته لإلمام
في اليوم الثاني ضحى إذ هم قد جاؤوا على خيلهم، الجبال دونها ،ثم تنعطف راجعة كأنها ثعبان ،ثم المهدي ثم للسلطان األعظم ،الخاقان األفخم ،محمد
وبأيديهم صقور ،يسألون عني في الركب حتى يُسمع لها صوت وتخرج منها شرارات من النار ،فإذا ولما وصلنا إلى البحر َّ
تأخرنا لدفن بعض األشراف بن إبراهيم بن مراد ،ثم لسلطان بلده موالي عالهم.
وجدوني ،فسلموا علي بعدما نزلوا عن خيلهم .فلما انقطعت تلك أتبعها بأخرى ،وخروجهن فيما نرى مات بعد النزول من العقبة مطعونًاَ ،
وخشي أقاربه فلما فرغ من الصالة بعثت بعض أصحابنا ليسأله
ركبوا قال لي المتفقه منهم :أريد أن تأذن لي في من نار زرقًا كأنها نار الكبريت تشتعل اشتعالًا قويًا من جور الوالة إن أوصلوه إلى البندر ،فدفن هناك عن المهدي المدعو له في الخطبة ،أهو المنتظر
الغوغاء عن إصابة الصواب لوال أن مسجد رسول في المسجد ويجتمع إليهم صبيان أهل المدينة تركنا جبال مطماطة (موقعها بالقرب من مدينة السؤال عن مسائل فقهية ،واستحسنت أدبه في
اهلل ،صلى اهلل عليه وسلم ،ال تكدره الدالء لكانوا يقرؤون لهم موالد وقصائد في مدح النبي ،صلى قابس ،ماؤها شروب ،وبها نخل كثير) عن يميننا. االستئذان في السؤال ،واستقبحت فعله في سؤاله
جديرين بالمقت بسبب ما يحصل منهم من سوء اهلل عليه وسلم ،وهم محدقون بهم ،ويسمون ذلك إياي وهو راكب وأنا ماش .فأذنت له في السؤال
األدب وسيئ األقذار في الحرم الشريف. مولد النبي ،صلى اهلل عليه وسلم ،يستعدون له حيا ًء من رده ،فأخذ يسأل عن مسائل من العبادات،
وألهل المدينة عند قدومهم عادة مذمومة ،وهي من بالدهم بالشمع والحلواء ،ويدفعون للصبيان امل�صريني
ّ لغط فبينما أنا آخذ معه في ذلك إذ نفج الركب أرنبا
أنه ال تبقى مخدرة من النساء شريفة كانت أو أجرة على ذلك ،ويقع على أرض الحرم من فتصايح الحجاج عليها يمينا وشماال ،فلما رأى ذلك
وضيعة إال خرجت تباشر البيع والشراء بنفسها، الشمع المذاب شيء كثير ألجل ذلك ،فيلتقطونه ولما كان يوم الثالثاء سابع الشهر ارتحل الركب أرسل عليها الصقر ،وأخذ يركض في إثرها ،وذهب
ولهن على الرجال في ذلك الوقت إتاوة يؤدونها ويجمعونه ويرجعون به إلى بالدهم تَ َب ُّر َكًا به، المصري من المدينة بعد إقامة ثالثة أيام بها ،وكان وتركني ولم يسمع تمام الجواب عن مسائله.
لهن يبتعن بها ما أحببن من الالئق بهن ،من طيب فتجد منهم في المسجد بالليل جماعات كثيرة الحرم الشريف في أيام إقامتهم ال تكاد تسمع فيه فتعجبت من استئذانه في السؤال وذهابه من
أو شبهه ،وربما ال تقنع إحداهن من زوجها إال على هذا النمط ،فيكثر لذلك الصياح في المسجد صوت قارئ وال مؤذن لكثرة اللغط والصخب ورفع غير استئذان قبل إتمام الجواب ،فعلمت أن الرجل
بالخمسين دينارًا فما فوقها ،فقد حُ كي أن امرأة واللغط الذي ال ينبغي ،ال سيما مع ما ينضاف إلى األصوات وازدحام الناس في المسجد ،ال ينقطع في الغالب أخرق وأن استئذانه أوال لم يكن عن
بعض المدرسين بها أعرفه طلبت منه في ذلك ذلك من والول النساء وبكاء األطفال واختالط ألن أبواب الحرم الشريف ال ذلك ليلًا وال نهارًاَّ ، أدب ،وإنما هو شيء رآه من غيره أو سمع به فعلق
اليوم ما تخرج به إلى السوق على العادة ،فدفع لها النساء بالرجال .وبالجملة فعوام المصريين من أبعد ْ
تغلق ماداموا هناك ،ويُكثِرون بالليل إيقاد الشموع بذهنه .وفي اليوم الثلث من رحيلنا من نفزاوة
تواريه الكسوة وال يُواريه إال تركه رأسًا أو الخلوة؛ عشرة دنانير ذهبًا ،فاستقلتها وذهبت من شدة
ككالم المرأة ،فالصحيح أنه عورة ،وكذلك عطرها، الغيظ فرمت بها في المرحاض وأتلفتها عليه وقالت
فال يواريه إال تركه ،ولذلك جاز لها الطيب المؤنث، له :أمثلي يخرج إلى السوق بهذا المقدار ،فلم يملك
وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه ،ألن اللون تستره من أمره إلى أن ذهب وتسلف خمسين دينارًا
الثياب ،بخالف الريح فال يستره إال الترك رأسًا ،أو فدفعها لها ،وهذه حسرة عظيمة وذل للرجال الذين
عدم الخروج ،فليتأمل. جعلهم اهلل قوامين على النساء ،فال ينبغي لذي همة
النعل الذي كان يرتديه الرحالة
أن يرضى بذلك ،بيد أن نساءهم يبالغون في الستر
الظاهر بحيث ال يبدو من المرأة وال مغرز إبرة،
فال يأت به حتى يقارب الحلم ،ولباس الملك وأوالده من األزهار ،فربما بلغ ذلك ريالًا في كل يوم ،ولقد
�أعجوبة حتى من أطرافها ،يلبسن الخفاف السود ،ويتبرقعن
ويسدلن من أزورهن ما يكون نهاية في الستر ،إال
وبني عمه ،وإن كان في غاية الرفعة واللطافة سألت شيخنا الثعالبي عن سبب إيثاره سكنى
حكى لي بعض المجاورين أنه وُ جِ د في بعض أنهن يكثرن من الطيب عند الخروج فيوجد عرف
فإنه على زي لباس العرب في تعممهم وتقمصهم، مكة على المدينة ،مع أنا نقول بفضل المدينة
على مكة ،فقالَّ : المواسم رجل مع امرأة في الحرم الشريفُ ،
فحمِال الطيب منهن من مسافة فيكون ما سترنه ظاهرًا
فيلبسون العمائم القصار ذوات األهداب الطويلة إن أهل هذه المدينة قد تحضروا
إلى الحاكم ،فشهدت البينة أنها زوجته ،وقيل أبدينه باطنًا ،وبهذا فسر بعض العلماء قوله ،صلى
ويرسلون لها العذبة إلى قريب من ذراع ،ويلبسون وغلب عليهم طبع األعاجم ورفاهيتهم وإسرافهم،
له :ما حملك على ما فعلت؟ فقال :إنه ال ولد لنا، اهلل عليه وسلم :رب كاسية في الدنيا عارية في
الدشوت الرفيعة إال أنها على هيئة دشوت األعراب، وتشبهوا بهم في ملبسهم وفي غالب أحوالهم ،وأنا
فرجوت أن تحمل المرأة ببركة هذا الحرم ،فعذر اآلخرة ،ألن الحكم في اآلخرة إنما هو للحقائق ،ومن
وال يلبسون الجوخ التي تلبسها العجم وال األقبية امرؤ مسكين فقير أخاف أن ينشأ أوالدي وأزواجي
بجهله ،ولم ُي َعاقب. هذه صفته من النساء ،وإن اكتست في الظاهر فهي
التي هي على زيهم ،ويلبسون النعال ذات السيور ويتطبعوا بطبعهم في ذلك ،بخالف أهل مكة فإنهم
في الحقيقة عاريةَّ ،
ألن حقيقة التعري إبداء ما
التي على ظهر القدم دون السرموجة (السرموجة: لم يزالوا على أعرابيتهم واستعمال البداوة وعدم
حقه أن يخفى ،كما أن التستر إخفاء ما ال ينبغي
نوع من األحذية) التي تلبسها األعاجم .وعلى
كل حال فأهل مكة قد غلبت البداوة على جميع
المباالة واالعتناء في الملبس والمأكل ،قد غلبت
عليهم البداوة ،وكثرة مخالطتهم ألهل البادية
البداوة أن يظهر ،وال خفاء أن عطر المرأة من أعظم زينتها
وألذ ما يُشتهى منها ،وقد أُمرت بإخفاء ما هذا
شؤونهم وظهرت فيهم دون أهل المدينة ،ولذلك قل وسكناهم بها حتى أمراؤها من األشراف ،فإن غالب
ولقد أُخبرت أن للنساء عليهم عادة يسمونها سبيله من أوصافها ،فإذا ظهر منها ذلك فهي في
سكنى األعاجم بها ،إال القليل ،ألنها وطن السلطان سكناهم بالبادية ،وإن كانت لهم منازل بمكة ،ومن
الشخشخة ،وهو ما تشتري به المرأة ما تشتهيه فإن من العورات ما ال الحقيقة عارية وإن اكتستَّ ،
وأوالده وأقاربه ،ونفوسهم ال تنقاد للذل وجريان ولد له مولود منهم استرضع له من العرب بالبادية،
البطالين والترتيب في ذلك بالتقدم ،فمن تقدم وال يجلسون مع األكابر في الدكة ،إنما يجلسون المسجد والحجرة الشريفة ،واآلغا بلغتهم كناية األحكام عليها في كل ورد وصدر ،فيشمئزون من
مجيئه يقدم على من تأخر مجيئه ،وليس فيهم خارجها ،ولهم ضبط وسياسة كسياسة الملوك، الخصي دون
ّ الخصي من العبيد ،واختاروا وقف
ّ عن سكنى مكة ويميلون إلى المدينة لكون عسكر
شافعي وال حنبلي ،بل كلهم حنفية ومالكية على فلكل واحد منهم رتبة معلومة وشغل معلوم .فإذا غيره لكونه أطهر وأنزه وأكثر فراغًا من االشتغال، الترك بها وهم جنسهم وأحكام السلطان ،وإن كانت
مذهب ساداتهم الذين أوقفوهم ،وذلك ألن الشافعية مر باألصاغر أحد األكابر قاموا كلهم ،وكذلك األكابر
َّ إذ ال أهل له وال ولد يشتغل بهم ،وهو أبعد من دنس نافذة هناك أيضًا ،لكنها بعيدة منهم فليست كمحل
والحنابلة ال يرون صحة وقف الحيوان. فيما بينهم ،فأكبرهم شيخ الحرم وهو يتجدد في الجنابة ومباشرة النساء ،وهم عدد كثير قريب وطنه .أخبرني بهذا من سبر حال البلدين وعلمه
ومن أوقف عبدًا من األغوات على الحجرة نسب الغالب إما في سنة أو سنتين أو أكثر ،وال يأتي من الثمانين ،يزيدون وينقصون بحسب كثرة زيادة على ما رأيته أنا من ذلك.
إليه ،سواء كان من التجار أو من األمراء أو العلماء، إال من دار السلطان من عبيده ،ويليه النقيب، الراغبين في الوقف ّ
وقلتهم ،واألربعون منهم هم
فيقال :آغا فالن ،وقد كان كبيرهم المستسلم أيام ويليه المستشار ،وهو الذي يتولى قبض الصدقات الكبار الذين يأتي رزقهم ومؤونتهم من بيت المال،
مجاورتنا األغا يحيى ،وهو من أوقاف الشيخ الصالح وما يهدى لهم أو للحجرة ،وبيده مفاتيح الحجرة وما زاد على ذلك إنما يرزقون من األوقاف التي لهم الأغوات
الحاج األبر سيدي أبي حفص بن الشيخ عبد القادر وحواصل الزيت والشمع ،والحاصل أن جميع بالمدينة ،أو مما يأتيهم من الهدايا والصدقات من
بن بوسماحة المغربي من ناحية فِجيج ،وتوفي ما يتصرف فيه األغوات ومصالح المسجد ومن أقطار األرض ،ويسمى ما سوى األربعين البطالين، ولقد أجاد شيخ الحرم في وضع هذا الحاجز وفي
األغا يحيى بعد خروجنا من المدينة ونحن ّ
بمكة، أوقافهم كل ذلك بيده ،فإذا مات أحد من األربعين ألنهم إنما يستعملون في األشغال التي هي خارج تنقية البالليع التي في صحن المسجد ،وشيخ الحرم
وتولّى مكانه اآلغا مصطفى وهو مالكي أيضًا. دخل أحد البطالين في موضعه ،وهو من كان شيخ الحجرة والمسجد النبوي من األعمال الممتهنة، وهو كبير العبيد األغوات الموقوفين على خدمة
رافعين أصواتهم بها ،فينتقلون إلى الصف الذي وكالهما كان يبالغ في تعظيمنا واإلحسان إلينا،
يليه ،ثم كذلك حتى ال يبقى في المسجد أحد إال فجزاهما اهلل خيرا ،وكل األغوات أهل خير وبركة
هم ،فيغلقون األبواب ويطفئون المصابيح كلها إال وشرفهم
ّ قد اختارهم اهلل لخدمة أشرف البقاع
جماعة من أحفاده التي في مواجهة الوجه الشريف والتي في داخل بالنسبة إلى أشرف الخلق ،صلى اهلل عليه وسلم،
الحجرة ،فيخرجون من المسجد إلى الصحن ولقد شاهدت منهم أناسا على قدم صدق في العبادة
وإلى األروقة التي بجانبه ،فيخرجون فرشهم من منهم األغا عبد النبي ،وهو شيخ البطالين إذ ذاك،
الحواصل ،وينامون هناك ،وال ينام أحد منهم في واألغا عنبر منهم أيضًا ،ولقد اعتكفت ليلة في
الليل أن أصل إلى المواجهة وأقف للتسليم والدعاء من هيبة المكان .ولقد أخبروني أنه ال يقدر أحد المسجد ،بل وال يأتيه إال من قصد منهم الصالة، المسجد فلم يبت فيه أحد غير سوى األغوات،
فما أصل إلى ذلك حتى تكاد أوصالي تتقطع هيبة، منهم بليل أن يصل إلى الروضة وأطراف الحجرة وغالب نوم الصغار منهم في مؤخر المسجد. فاجتهدت أن أساويه في القيام والصالة فما قدرت،
فإذا وصلت وسلمت وأردت إطالة الوقوف للدعاء والمواجهة إال األفراد منهم ،وأنهم يسمعون بالليل ومن وراء المسجد ،في الناحية الشامية ،ميضأة والفضل بيد اهلل.
كما كنت أفعل نهارًا فال أقدر ،فأخفف السالم قعقعة السقوف وفرقعة الشبابيك ،حتى يظن أن كبيرة فيها بئر كبيرة وأخلية ،وفتح لها باب إلى واألغوات كلهم يبيتون في المسجد ما عدا شيخ
والدعاء وأرجع ،ولقد سمعت بعض ما ذكر من أحد أبواب الحجرة فتح ،وأن بعض السقوف وقع ،فال مؤخر المسجد وال تفتح إال ليال بعد غلق األبواب، الحرم والنقيب ،وأما اآلخرون فال يبيت واحد منهم
فرقعة السقف وما أشبه ذلك فملئت منه رعبا إال يجدون شيئًا من ذلك ،واهلل أعلم ،لتنزل مالئكة وتسرج فيها المصابيح لوضوء األغوات وإزالة بداره إال لعذر بيّن من مرض أو نحوه ،ولكنهم،
أني كنت أشتغل عنه وأتلهى عن سماعه بقراءة ّ
وسلم ،أو قدوم الرحمة على قبرهّ ،
صلى اهلل عليه حقنة من احتاج إلى ذلك بليل ،فإذا غلقت األبواب جزاهم اهلل خيرًا عن تعظيم المكان وتوقيره
القرآن سرا ،فيا لها من ليلة هي نتيجة عمري بعض رجال الغيب للزيارة ،ويظهر ذلك بالليل لهدوء هدأت األصوات منهم وخشعوا ،فال تكاد تسمع من وتبجيله ،وعادتهم كل ليلة ،إذا فرغ الناس من
وفريدة أيامي ،فلئن كانت ليلة القدر كألف شهر األصوات به وخلو المكان ،وإن كان تنزل المالئكة أحد منهم كلمة ،فمن احتاج منهم إلى أحد كلمه صالة العشاء ورواتبها ،قاموا بيدهم الفوانيس الكبار
فهذه الليلة عندي كألف ليلة القدر ،اللهم ال أحصي على قبره ،صلى اهلل عليه وسلم ،وغشيان الرحمة السرار .ولقد رأيتهم يبالغون في خفضاآلخر ِّ مشعلة ،ليخرجوا الناس من المسجد ،فيأتون إلى
ثناء عليك ،أنت كما أثنيت على نفسك ،فلك الحمد له ال ينقطع ليلًا وال نهارًا ،ولقد شاهدت من الهيبة أصواتهم بالليل ،حتى بالسعال والعطاس ،وتنزل المواجهة والصف األول فيقف بعضهم أول الصف
على جزيل عطائك ولك الشكر على سوابغ آالئك. والعظمة في إحدى الليالي التي بتها في المسجد عليهم السكينة ،وتلحقهم هيبة المكان ،وليس ووسطه وآخره ،فيخرجون كل من فيه ،فإذا
فإذا كان بعد الثلث اآلخر من الليل جاء رئيس ما أعجز عن وصفه ،ولقد كنت أجهد إذا عسعس ذلك منهم مجرد استعمال ،بل لما يخالط قلوبهم يبق أحد في ذلك الصف ،تكلموا بكلمة ذكر لم َ
العدو ،سوء أدب ال يخفى وربما يحتج لذلك محتج المؤذنين ،ففتحوا له وصعد إلى المئذنة الرايسية،
بقوله عليه السالم :لو يعلم الناس ما في الصف وأذن وشرع في الدعاء والذكر والصالة على النبي،
األول الستبقوا إليه ،فال بد بتقييد ذلك بما ال يخل وسلم ،فيقوم كل من في المسجد ّ ّ
صلى اهلل عليه
بأدب البقعة المطهرة وساكنها لقوله عليه السالم: من األغوات فيتوضؤون ،ثم يصبحون كل ما في
وآتوها تمشون ،يعني الصالة ،وعليكم السكينة المسجد من المصابيح ،فإذا فرغوا من اإلصباح،
حصان مغربي اصيل والوقار ،فما أدركتم فصلوا ،وما فاتكم فأتموا، وقرب الصباح ،فتحوا أبواب الحرم ،وال يأتي وقت
والمراد بالمسابقة في الحديث المتقدم االهتمام فتحها حتى تجتمع بأبواب المسجد جماعات
بشأنه والحرص على الصالة فيه والتبكير إليه من كثيرة من المجتهدين ،ينتظرون الفتح ،فإذا فتحت
من أرادوا إدخاله بمال يدفعه عنه سيده عنه ،أو وأحكامهم فيما بينهم منضبطة غاية االنضباط ،وال غير عدو باألقدام ومزاحمة بالمناكب. األبواب دخلوا مزدحمين ،وتسابقوا الصف األول
يدفعه هو إن كان له مال ،ومع ذلك يبقى في مرتبة يحكم فيهم سلطان وال غيره ،وال يولّى عليهم وال وساداتنا األغوات ،رضي اهلل عنهم ،ال يغفلون طرفة من الروضة فيما بين القبر والمنبر ،فمن سبق إلى
الصغار المشتغلين بالخدمة الخارجية ،فإن رضوا يعزل منهم ،إال بأمر شيخهم .وال يرث معهم بيت عين عن حراسة الحرم الشريف وتأديب من أساء موضع كان أحق به ،فإذا أراد القيام لحاجة كزيارة
حاله وحسنت أخالقه تركوه حتى تأتي نوبته في المال إن مات أحدهم ،إنما يتوارثون بينهم .ومن األدب فيه بلغط ورفع صوت أو نوم ،ولو في قائلة، أو تجديد وضوء بسط نمرة له في محله ،فال
الدخول في زمرة األربعين ،وإن ظهرت منه خيانة وجبت عليه عقوبة أو أدب منهم أدبوه ،من غير إال في مؤخر المسجد ،ومن وجدوه مضطجعًا من يجلس فيه أحد ولو أبطأ ،وكثيرًا ما يعتدي في ذلك
وسوء أخالق وسرقة أو شيء يشينه ،نفوه إلى أن تكون ألحد عليهم والية ،كل ذلك تعظيمًا لجانب مد رجليه إلى ناحية دون نوم لالستراحة ،فإن ّ أقوام فيدخلون مع أول داخل من غير طهارة لقصد
حيث شاء من البالد. وسلم ،أن تكون ألحد والية ّ النبيّ ،
صلى اهلل عليه الحجرة زجروه ،وإن استقبل القبلة بوجهه أو السبق إلى الموضع وتحجيره ،فإذا بسط فيه فروته
ولقد وجدت هناك خصيا لبعض ملوك المغرب على عبيده .ولقد أنكرت منهم تأديب من لزمه الحجرة من غير أن يكون مستدبرًا لها تركوه ،وال أو منديله ذهب إذ ذاك إلى الطهارة وأسبابها ،وكثير
دفع لهم مالًا جزيال ليدخل في زمرتهم وكان كهال األدب من صغارهم في المسجد في بيت بإزاء دكتهم يغفلون عن حضور المسجد في ساعة من ليل أو منهم يبطئ في الطهارة فيحجر على الناس المحل،
ال يحسن خدمة الصغار ،فدفع لهم مالًا آخر على قريبًا من الحجرة فيسمع صياحه وصوت الضرب نهار ،فإن خرجت طائفة جلست طائفة. وربما عرض ألحدهم حاجة في منزله أو في
تحريره من الخدمة ،وقنع بأن يكون محسوبا في كل من بإزاء الحجرة ،فكنت أرى أن لو جعلوا لذلك ولهم ديار وخدم وأتباع ،وضياع وخيل ،وسعة السوق فيترك النمرة في محله فال يقربه أحد وإن
زمرتهم يناله من أوقافهم وصدقاتهم ،ولقد أصاب محلًا بعيدًا من المسجد والحجرة الشريفة ،وال دنيا ،وال يشغلهم ذلك َع َّما هم بصدده من خدمة أبطأ كثيرا ،وفي ذلك من الضرر على المصلين ما
في ذلك وأحسن النظر لنفسه إذ أنقذه اهلل من يدخل معهم من العبيد الذين يهدون من اآلفاق إال المسجد ،بل لبعضهم أزواج وسراري ،اتخذوها ال يخفى ،على أن في دخولهم مزدحمين واستباقهم
للتلذذ بما سوى الجماع. إلى الروضة ربما سمع ألقدامهم دوي من شدة
اجتماع ذلك منه خارجا عن محل البول ال يمر به الزباد عم السلطان زيد وزوج ابنته السيدة تقية النائب خدمة سالطين الدنيا إلى خدمة سلطان الدنيا
أصال ،وإنما هو جليدة رقيقة عن يمين المحل أو عنه في النظر في مصالح البلد كذلك ،واألمير الذي واآلخرة ،ومن جوار الظلمة العجزة إلى جوار
يساره يجتمع فيها ذلك العرق وتشتد عليه وتنطوي أخبرني أن سيدي علي الخضيري ذكر في شرحه تنسب إليه إمرة المدينة من الشرفاء الحسينيين الكرام البررة.
حتى يؤخذ منها .قال :فحينئذ اطمأنت نفوسنا كذلك ،والحاكم الذي يسجن ويضرب ويقتل ّ
وسلم، وبالجملة فلعبيد النبيّ ،
صلى اهلل عليه
على المختصر (يقصد مختصر خليل) أن الزباد
وأيقنا بطهارته (وردت الحكاية في كتاب :صفوة (مثل السنور الصغير يجلب من نواحي الهند) ويؤدب ،وهو من خدام السلطان كذلك .وال أعلم هل وخدام مسجده جاللة قدر ،وعظم منصب ،وسعة ّ
من انتشر). المسمى في عرف غربنا بالغالية (نوع من الطيب) ، لكل واحد من هؤالء والية على قوم بالخصوص أو ّ
أرزاق ،وكرم أخالق ،وهم أحقاء بذلك .ولكبيرهم
نجس وأن كان عرق حي لمروره بمحل البول .قال: على عمل من األعمال ،ولم يشف لي أحد غرض كلمة نافذة في المدينة ،تنفذ أحكامه ،وتمضي
وكان بعض الصالحين ال يتطيب به لذلك ،وأظنه إال مجرد العلم باإلحاطة بأخبار المدينة دينيّها تصرفاته ،في القويّ والضعيف ويطأ عقبه الكبراء
هذه الصفحات اختيرت واقتطفت من كتاب ودنيويّها لحبي لها ولساكنيها أسأل غرضًا في واألشراف.
شيخنا اللقاني .قال شيخنا :وكنت أتوهم ذلك إلى
«الرحلة العياشية» حتقيق د .سعيد الفاضلي كيفية ذلك ،ولم أبالغ في الفحص عنه ،إذ لم يتعلق أدر كيفية تصرف لم بالمدينة إقامتي طول وعلى
أن بعثت بحضرة الشيخ سيدي عبد الحفيظ إلى قط ِ
ود .سليمان القرشي ،حائزة على «جائزة ابن لي به اهلل أن يحقق لي ذلك ويجعل قبري بها على الوالة فيها ،وال من له التصرف التام بها ،فإن شيخ
من القطوط التي يستخرج منها الزباد ،وكان عند
بطوطة لألدب اجلغرافي» ، 2005منشورات أحسن حال تسر المؤمن في دينه ودنياه آمين. ّ
الخدام كما تقدم تنفذ أحكامه، الحرم وهو كبير
بعض األتراك ،فلما أحضر أمرنا متولي استخراج
دار السويدي .2006
الزباد منه بإخراجه بحضرتنا ففعل .فشاهدنا محل وكبير العسكر الساكنين بالقلعة أمير أيضًا ،وابن
فقلت يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك. عقب الراشد ،فنصبه الظاهر بيبرس بمصر ،بمماألة
فأشار إليه بإمضاء ذلك ،فشكرت ودعوت ،وقلت: الحل والعقد من الجند والفقهاء ،وانتقل األمر ّ أهل بمصر ،ألن آبائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقوه، فاستوعبوا أناسيها ،وأمتعتها ،وأضرموا النار فيما
وبقيت لي أخرى. في بيته إلى هذا الذي بمصر ،ال يعلم خالف ذلك. إلي هذا بغير مستند.وصار َّ ثي ،فاتصلت النار ُ
والخ ْر ّ بقي من سقط األقمشة
فقال :وما هي؟ ُ
سمعت مقال القضاة ،وأهل فقال لهذا الرافع :قد فاستدعى عبد الجبار كلًا منا في أمره ،فسكتنا بحيطان الدور المدعمة بالخشب ،فلم تزل تتوقد
فقلت :هؤالء المخلفون عن سلطان مصر ،من الفتيا ،وظهر أنه ليس لك حق تطلبه عندي. برهة. إلى أن اتصلت بالجامع األعظم (الجامع األموي)،
القراء والموقعين ،والدواوين ،والعمال ،صاروا إلى فانصرف راشدًا. ثم قال :ما تقولون في هذا الحديث؟ وارتفعت إلى سقفه ،فسال رصاصه ،وتهدمت
إيالتك ،والملك ال يغفل مثل هؤالء ،فسلطانكم كبير، فقال برهان الدين بن مفلح :الحديث ليس بصحيح. سقفه وحوائطه ،وكان أمرًا بلغ مبالغه في الشناعة
وعماالتكم متسعة ،وحاجة ملككم إلى المتصرفين أسألك :أن تعرف لي ما أريد؟! واستدعى ما عندي في ذلك فقلت :األمر كما قلتم والقبح .وتصاريف األمور بيد اهلل يفعل في خلقه
في صنوف الخدم أشد من حاجة غيركم. كنت لما لقيته ،وتدلَّيت إليه من السور ،كما مر من أنه غير صحيح. ما يريد ،ويحكم في ملكه ما يشاء.
فقال وما تريد لهم؟ أشار علي بعض الصحاب ممن يخبر أحوالهم بما فقال السلطان تمر :فما الذي أصار الخالفة لبني
قلت :مكتوب أمان يستنيمون (بمعنى يطمئنون) تقدمت له من المعرفة بهم ،فأشار بأن أُطرفه العباس إلى هذا العهد في اإلسالم؟ الحاكم العباسي
إليه ،ويعولون في أحوالهم عليه. ببعض هدية ،وإن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة وشافهني بالقول ،فقلت :أيدك اهلل! اختلف وكان أيام مقامي عند السلطان تمر ،خرج إليه
فقال لكاتبه :أكتب لهم بذلك. في لقاء ملوكهم ،فانتقيت من سوق الكتب مصحفًا المسلمون من لدن وفاة النبي صلى اهلل عليه من القلعة يوم أمن أهلها رجل من أعقاب الخلفاء
فشكرت ،ودعوت ،وخرجت مع الكاتب حتى كتب رائعًا حسنًا في جزء محذو ،وسجادة أنيقة، وسلم ،هل يجب على المسلمين والية رجل منهم بمصر ،من ذرية الحاكم العباسي( أبو العباس أحمد
لي مكتوب األمان ،وختمه شاه ملك بخاتم السلطان، ونسخة من قصيدة البردة المشهورة لألبوصيري في يقوم بأمورهم في دينهم ودنياهم ،أم ال يجب ذلك؟ بن أبي علي الحسن المتوفي سنة )701الذي نصبه
وانصرفت إلى منزلي .ولما قرب سفره واعتزم مدح النبي صلى اهلل عليه وسلم وأربع علب من فذهبت طائفة إلى أنه ال يجب ،ومنهم الخوارج، الظاهر بيبرس ،فوقف إلى السلطان تمر يسأله
علم الرحيل عن الشام ،دخلت عليه ذات يوم ،فلما حالوة مصر الفاخرة .وجئت بذلك فدخلت عليه، وذهب الجماعة إلى وجوبه ،واختلفوا في مستند النصفة في أمره ،ويطلب منه منصب الخالفة كما
قضينا المعتاد ،التفت إلي وقال :عندك بغلة هنا؟ وهو بالقصر األبلق جالس في إيوانه ،فلما رآني مقبلًا ذلك الوجوب ،فذهب الشيعة كلهم إلى حديث كان لسلفه.
قلت نعم. مثل قائمًا وأشار إلي عن يمينه ،فجلست وأكابر الوصية ،وأن النبي صلى اهلل عليه وسلم أوصى فقال له السلطان تمر :أنا أحضر لك الفقهاء
قال حسنة؟ من الجقطية حفافية ،فجلست قليلًا ،ثم استدرت بذلك لعلي ،واختلفوا في تنقلها عنه إلى عقبه إلى والقضاة ،فإن حكموا لك بشيء أنصفتك فيه.
قلت نعم. بين يديه ،وأشرت إلى الهدية التي ذكرتها، مذاهب كثيرة تشذ عن الحصر .وأجمع أهل السنة واستدعى الفقهاء والقضاة ،واستدعاني فيهم،
قال وتبيعها؟ فأنا اشتريها منك. خدامي ،فوضعتها ،واستقبلني ،ففتحت وهي بيد ّ على إنكار هذه الوصية ،وأن مستند الوجوب فحضرنا عنده وحضر هذا الرجل الذي يسأل
فقلت :أيدك اهلل! مثلي ال يبيع من مثلك ،إنما أنا المصحف فلما رآه وعرفه ،قام مبادرًا فوضعه على في ذلك إنما هو االجتهاد ،يعنون أن المسلمين منصب الخالفة.
أخدمك بها ،وبأمثالها لو كانت لي. رأسه .ثم ناولته البردة ،فسألني عنها وعن ناظمها يجتهدون في اختيار رجل من أهل الحق والفقه فقال له عبد الجبار :هذا مجلس النصفة فتكلم.
فقال :أنا أردت أن أكافئك عنها باإلحسان. فأخبرته بما وقفت عليه من أمرها .ثم ناولته والعدل ،يفوضون إليه النظر في أمورهم. فقال :إن هذه الخالفة لنا ولسلفنا ،وإن الحديث
فقلت :وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به، السجادة ،فتناولها وقبلها .ثم وضعت علب الحلوى ولما تعددت فرق ال َعلَويَّة وانتقلت الوصية بزعمهم صح بأن األمر لبني العباس ما بقيت الدنيا ،يعني
اصطنعتني ،وأحللتني من مجلسك محل خواصك، بين يديه ،وتناولت منها حرفًا على العادة في من بني الحنف َيّة إلى بني العباس ،أوصى بها أبو أمر الخالفة .وإني أحق من صاحب المنصب اآلن
بجوار رسالته ،فركبت معهم البحر إلى غزة، وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو اهلل أن
ونزلت بها ،وسافرت منها إلى مصر ،فوصلتها في ُ
وحملت البغلة ت،وس َك َ ُّ
وسكت َ يقابلك بمثله،
شعبان من هذه السنة ،وهي سنة ثالث وثمانمائة، -وأنا معه في المجلس -إليه ،ولم أرها بعد.
وكان السلطان صاحب مصر ،قد بعث من بابه ثم دخلت عليه يوما آخر ،فقال لي :أتسافر إلى
سفيرًا إلى األمير تمر إجابة إلى الصلح الذي طلب مصر؟
منه ،فأعقبني إليه .فلما قضى رسالته رجع ،وكان فقلت :أيَّدك اهلل ،رغبتي إنما هي أنت ،وأنت
وصوله بعد وصولي ،فبعث إلي مع بعض أصحابه قد أويت وكفلت ،فإن كان السفر إلى مصر في
يقول لي :إن األمير تمر قد بعث معي إليك ثمن خدمتك فنعم ،وإال فال بغية لي فيه.
البغلة التي ابتاع منك ،وهي هذه فخذها ،فإنه عزم َ
فالتفت إلى فقال ال ،بل تسافر إلى عيالك وأهلك
علينا من خالص ذمته من مالك هذا. ابنه ،وكان مسافرًا إلى شقحب لمرباع دوابه،
فقلت ال أقبله إال بعد إذن من السلطان الذي بعثك واشتغل يحادثه ،فقال لي الفقيه عبد الجبّار الذي
إليه ،وأما دون ذلك فال .ومضيت إلى صاحب كان يترجم بيننا :إن السلطان يوصي ابنه بك.
الدولة فأخبرته الخبر فقال :وما عليك؟! فدعوت له ،ثم رأيت أن السفر مع ابنه غير
فقلت إن ذلك ال يجمل بي أن أفعله دون اطالعكم مستبين الوجهة ،والسفر إلى صفد أقرب السواحل
عليه ،فأغضى عن ذلك ،وبعثوا إلي بذلك المبلغ بعد أملك ألمري .فقلت له ذلك ،فأجاب إليه،إلينا ُ
مدة ،واعتذر الحامل عن نقصه بأنه أُعطيه كذلك، وأوصى بي قاصدًا كان عنده من حاجب صفد ابن
وحمدت اهلل على الخالص. الداويداري فودعته وانصرفت ،واختلفت الطريق
وكتبت حينئذ كتابًا إلى صاحب المغرب ،عرفته مع ذلك القاصد ،فذهب عني ،وذهبت عنه.
بما دار بيني وبين سلطان الططر تمر ،وكيف كانت
واقعته معنا بالشام ،وضمنت ذلك في فصل من السفر إلى القاهرة
الكتاب (يقصد كتاب العبر). وسافرت في جمع من أصحابي ،فاعترضتنا جماعة
من العشير قطعوا علينا الطريق ،ونهبوا ما معنا،
ونجونا إلى قرية هنالك عرايا .واتصلنا بعد يومين
فخلَفنا بعض الملبوس ،وأجزنا بالص َب ْي َبة َ
أو ثالثة ُّ
أصدر "المركز العربي لألدب الجغرافي -ارتياد اآلفاق" كتاب مركب من
ٌ إلى صفد ،فأقمنا بها أيامًا .ثم مر بنا
"رحلة ابن خلدون" من تحقيق ابن تاويت الطنجي ،وقد حرره
و قدم له نوري الجراح ونشر الكتاب "دار السويدي" في أبو ظبي
مراكب ابن عثمان سلطان بالد الروم ،وصل فيه
رسول كان سفر إليه عن سلطان مصر ،ورجع
بالتعاون مع "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت.
النظار
ّ ظفار يف تحُ فة
مرباط شرقا ،ويرجع إغفال ابن بطوطة عن ذكر
الجبال المحيطة بالمدينة ،إلى حالة الطقس في
الوقت الذي زار فيه ظفار ،حيث يسود المناخ
الموسمي نتيجة هبوب الرياح الموسمية الغربية حجر في ميناء سمهرم عليه كتابة المسند
من المحيط الهندي ،فإذا كانت زيارته قد تمت في كتابة حممد بن م�ستهيل ال�شحري
23من رمضان من سنة 731هـ ،وهو ما يقابله ت�صوير :نوري اجلراح
في التاريخ الميالدي 30يونيو 1331م ،فيعني ذلك
أن زيارته كانت في فصل الخريف كما يسمى في
ظفار ،فالفصول األربعة يتم تقسيمها في ظفار على إن المدينة التي ذكرها ابن بطوطة في ظفار هي �أ�صبحت كتابات الرحالة واجلغرافيني حق ًال مهما للدار�سني والباحثني ،خا�صة �أولئك املهتمني بالعلوم
غير عادة تقسيم الفصول ،فعلى سبيل الذكر يبدأ مدينة المنصورة ،والتي بناها حاكمها أحمد بن الإن�سانية ،نظر ًا لغنى تلك الكتابات واحتوائها على معلومات ومالحظات قيمة تزداد احلاجة �إليها كلما
فصل الخريف في 21يونيو وينتهي 21سبتمبر، عبد اهلل الحبوضي سنة 620هـ1228 /م ،وانتقل
وخالل هذا الفصل تتساقط األمطار لمدة ثالثة إليها من ظفار القديمة ،التي يعتقد البعض أنها تقدم بها الزمن ،فقد وثق الرحالة حالة املجتمعات التي مروا بها ودونوا كل ما �شاهدوه من عادات
شهور متتالية ،وتعد هذه األمطار مهمة للنشاط مدينة مرباط ،عاصمة الدولة المنجوية ،وقد سمى وتقاليد وفنون و�أ�سلوب حياة ،ومن �أولئك ،الرحالة ابن بطوطة �صاحب رحلة (حتفة النظار يف غرائب
الزراعي في ظفار ،أما فصل الربيع الذي يسمى بعض الجغرافيين والرحالة المدينة الجديدة التي
بناها الحبوضي َ الأم�صار وعجائب الأ�سفار) ،والذي زار ظفار يف �سنة 1331م ،ور�صد احلياة االجتماعية والثقافية والدينية
(بالصرب) فيبدأ من 21سبتمبر وينتهي في 21 (بظ َفار الحبوضي).
ديسمبر ،ويبدأ فصل الشتاء في 21ديسمبر وينتهي زار ابن بطوطة ظفار في 23من رمضان من يف مدينة ظفار ،و�أ�صبحت رحلة ابن بطوطة مرجعا للعديد من الباحثني واملهتمني بتاريخ املنطقة.
127 126
وجه صاللي
الصائد والسمكة العمانيون مازالوا صائدي سمك مهرة
فوق ظهره أخرى من شدة الحر ،وأكثر أهلها بواسطة الجمال ،ويقوم واحد أو اثنان من الرجال
رؤوسهم مكشوفة ال يجعلون عليها عمائم» .تتفق بإدارة الجمال ذهابا ورواحا» كما ورد في دراسة
مالحظات ابن بطوطة مع صورة المجتمع الظفاري، باعمر ،حسين علي المشهور ،تاريخ ظفار التجاري
فال تزال بعض النسوة ذوات البشرة السمراء ( ،)1950-1800وكانت هذه الطريقة مستخدمة في
يبعن في األسواق ،ولكن دون اللباس األسود ،وهو رعي المزارع في ظفار إلى بداية سنة .1970
في الحقيقة لباس من النيلة يستورد من الهند، ويوجد هناك تشابه بين اسم هذه العادة وبين اسم
وبمرور الوقت تذهب النيلة منه ،ويتحول الثوب المزرعة في بالد المغرب العربي ،حيث يُطلق على
إلى لون السواد ،وهذا اللباس يشبه لباس النساء المزرعة هناك اسم (السانية) ،وتوجد في والية
في الصحراء الكبرى ،حيث يُطلى الثوب النسائي وهران في الغرب الجزائري بلدية اسمها (السانية)
بالنيلة ،لما للنيلة من فوائد حيث تستخدمه واسمها مشتق من الساقية أو النافورة ،وجمعها
النساء كمفتح للبشرة ،ومن هنا يُمكن أن تكون سوان كما جاء في موقع الموسوعة الحرة
مقارنة ابن بطوطة صحيحة حينما عقد مقارنة .http://ar.wikipedia.org/wiki
في ذهنه بين أهل ظفار وأهل المغرب ،وليست وقد رصد ابن بطوطة األمراض السائدة في ظفار
األزياء وحدها من دعمت تشابه أهل ظفار وأهل والمنتشرة بين أهلها حيث قال« :والغالب على
المغرب عند ابن بطوطة ،بل أسماء الجواري أيضا، أهلها رجالًا ونساء المرض المعروف بداء السفيل،
فقد نزل بدار خطيب المسجد عيسى بن علي، وهو انتفاخ القدمين ،وأكثر رجالهم مبتلون باألدر.
النارجيل اإلزار الظفاري الذي وصفه ابن بطوطة
خدام المغرب الذي يملك جواري مسميات بأسماء ّ وقد رأيت رجال في بداية العام 2000مصاب بداء
(بخيتة ،وزاد المال). السفيل ،أما األدر فيصيب الرجال في ظفار بسبب
أما فيما يتعلق بالخدم فإن ظاهرة تجارة الرقيق تسلقهم ألشجار النارجيل حيث يؤدي تسلق النخلة ظفار« ،وكيفية سقيهم أنهم يصنعون دلوا كبيرة، اللبان جيدا في المناطق التي تشتد فيها الحرارة.
كانت تجارة رائجة في ظفار ،نظرا لقربها من في بعض األحيان إلى اصطدام الخصية بجذع ويجعلون لها حباال كثيرة ،ويتحزم بكل حبل عبد لم يغب عن بال ابن بطوطة الوجبات الغذائية ألهل
السواحل اإلفريقية ،إضافة إلى كون ظفار إحدى الشجرة مما يسبب في فتقها. أو خادم ،ويجرون الدلو على عود كبير مرتفع عن ظفار ،فيقول إن األرز أكثر طعامهم ،وأكلهم الذرة،
المحطات البحرية في الذهاب والعودة من السواحل البئر ،ويصبونها في صهاريج يسقون منه» ،وهذه وإنه أحضر معه كعك وخبز من ظفار حينما سافر
اإلفريقية ،وقد قامت ثورة ظفار بعد مؤتمر حمرين احلياة االجتماعية: الطريقة تسمى في ظفار بالسناوه «وهي طريقة على ظهر المركب ،وتشتهر ظفار بصناعة خبز
1968بتجريم تجارة الرق وحررت العبيد .لكن قدم ابن بطوطة وصفا فوتوغرافيا لسكان ظفار، تقليدية في سقي المزروعات ،وأدواتها الشروعة، في تنور أرضي ،و يسمى الخبز بالكعك ،أو خبز
وضع الخدم في ظفار كان أفضل حاال من بعض حيث ذكر مالبسهم وطريقة لبسها ،فيقول «أكثر وتتكون الشروعة من حبال وعجالت وقطع من القالب ،ويذكر أنهم يشوون السمك ويأكلونه مع
المجتمعات التي عرفت الرق والعبودية. باعتها الخدم ،وهن يلبسن السواد ،...ولباسهم الحطب وأخشاب النارجيل ،إذ يُربط الغرب (دلو التمر ،ال تزال هذه العادة في ظفار ،مما يدل على
يلبس الرجال في جنوب الجزيرة العربية الفوطة القطن ،...ويشدون الفوط في أوساطهم عوض مصنوع من جلد الماعز أو الوعل) بحبل غليظ أن أهل ظفار متمسكين بعاداتهم ،منذ زيارة ابن
التي تسمى (الوزار) عوضا عن السراويل ،أما يشد فوطة في وسطه ،ويجعل ّ السروال ،وأكثرهم يسمى «الرشا» ويُنزل إلى البئر ،ومن ثم يُرفع بطوطة إلى هذه الساعة.
الماء على عجال مصنوعة من خشب جوز الهند لقد وصف ابن بطوطة طريقة سقي المزارع في
بوتشيش ،إبراهيم القادري ،في دراسته «أضواء يزال عامرا حتى اآلن ،حيث يتخذه السلطان قابوس لتطور الحياة االقتصادية ،أما العادة الثانية وهي الفوطة التي ذكرها ابن بطوطة فهي الصبيغة،
على مجتمع ظفار وعاداته الشعبية من خالل مقرا حينما يتواجد في مدينة صاللة ،ويوجد مصافحة المصلين بعد صالة الفجر والعصر وصالة وهي قطعة طويلة من القماش المصبوغ بالنيلة،
رحلة ابن بطوطة» ،وقد نتفق مع هذا الرأي بالقرب منه سوق الحصن الشعبي. الجمعة ،فإنها ال تزال موجودة في ظفار باستثناء فيشد الرجل نصفها حول وسط جسمه بينما يترك
إذا علمنا أن الفكر الصوفي قد بدأ بالظهور في التصافح بعد صالة الجمعة ،حيث ينصرف الناس إلى النصف اآلخر على ظهره ،ومع مرور الوقت أصبح
القرن السادس الهجري في منطقة جنوب الجزيرة احلياة الدينية: شؤونهم دون انتظار مصافحة جميع المصلين. هذا لباس أهل الجبل في ظفار ،وهذا اللباس يثير
العربية ،وكانت مدينة مرباط هي الحاضنة األولى إن االهتمام الذي أبداه ابن بطوطة تجاه ظفار يذكر ابن بطوطة عادة قرع الطبول واألبواق انتباه الرحالة ومنهم الرحالة البريطاني ثيسجر.
للفكر الصوفي ،إذ توجد أضرحة للعديد من علماء يرجعه بعض الباحثين إلى عدة أسباب منها تصوف واألنفار على أبواب قصر السلطان الرسولي المسمى إن الحديث عن الحياة االجتماعية في ظفار أثناء
الصوفية ،مثل محمد بن علي باعلوي ،ومحمد بن ابن بطوطة وتحمسه لعالم الصوفية والمتصوفة، (بالحصن) ،وإذا بحثنا عن هذه العادة لوجدنا شيئا زيارة ابن بطوطة ،يقودنا إلى التطرق إلى الحديث
علي القلعي ،باإلضافة إلى وجود قبر الصحابي زهير ومن خالل بعض الدالئل الواردة في الرحلة نجد منها حاضرا في الحياة الثقافية في ظفار إذ تقام عن العادات والتقاليد في تلك الفترة ،ومنها تلك
بن قرضم الذي وفد على النبي صلى اهلل عليه الصوفية حاضرة بقوة لدى ابن بطوطة من خالل األفراح وحفالت الرقص التي يؤديها الرجال والنساء المتعلقة باستقبال التجار وطريقة معاملتهم
وسلم على رأس قومه يعلنون دخول أهل ظفار إلى جلوسه مع مشايخ ظفار وخطيب الجامع كما اشار معا ،وخاصة رقصات الزنوج ،أما قصر الحصن فال وحسن ضيافتهم ،وهي عادة لم تعد موجودة نتيجة
131 130
السنبوق :مركب صاللي قديم في ميناء البليد
بالتصوف.
التشابه بين أهل ظفار وأهل المغرب:
أشرنا في بداية هذا البحث إلى أن ابن بطوطة
يُعتبر من األوائل القائلين بعروبة البربر وسكان
شمال إفريقيا ،فهو ال يُورد وجه المقارنة بين
أهل ظفار وأهل المغرب من باب عجائب األسفار،
بل يورد األدلة المادية على ذلك التشابه فيذكر
«من الغرائب أن أهل هذه المدينة أشبه الناس
بأهل المغرب في شؤونهم .نزلت بدار الخطيب
بمسجدها األعظم ،وهو عيسى بن علي ،كبير القدر
كريم النفس .فكان له جوار مسميات بأسماء خدام
المغرب ،إحداهن اسمها بخيتة واألخرى زاد المال.
ولم أسمع هذه األسماء في بلد سواها ،...وفي كل
دار من دورهم سجادة الخوص ،معلقة في البيت،
يصلي عليها صاحب البيت ،كما يفعل أهل المغرب.
وأكلهم الذرة .وهذا التشابه كله مما يقوي القول
بأن صنهاجة وسواهم من قبائل المغرب أصلهم من
حمير».
ا�سي .جتاوز الت�سعني من عمره متنق ًال الينبوعي (093 -...هـ1000-.../م تقريب ًا) �شاعر ّ
ورحالة ع ّب ّ ّ �أبو دلف م�سعر بن مهلهل اخلزرجي
الكدية
كر�سة لفنون ْ ُ
يف البالد .كان يرت ّدد �إىل ال�صاحب بن عباد فريتزق منه ويتز ّود كتبه يف �أ�سفاره� .صاحب (الق�صيدة ال�سا�سان ّية) امل َّ
الثعالبي بع�ضها يف «يتيمة الدهر» .والن�ص ّ العبا�سي ،وقد �أورد
ّ التي ت�شتمل على جمموعة كبرية من الكلمات ال�شائعة يف عام ّية الع�رص
املن�شور هنا منتزع من كتاب �سي�صدر يف من�شورات «املركز العربي للأدب اجلغرايف» .من حتقيق ال�شاعر �شاكر لعيبي.
الرسل فيما جاؤوا له تزويجهُ في رأيه ،فخاطبه بلد في الرمل ،يكون ثم انتهينا إلى مقام الباب ،وهو ٌ
ابنته من نوح بن نصر ،فأجاب إلى ذلك وأحسن في (حجبة ملك الصين) .ومنه يُستأذن لمن (يرد
ْ
نجزت الرسل .وأقمنا في ضيافته حتى
ِ إلي وإلى
َّ ببلد) الصين من قبائل الترك وغيرهم .فسرنا فيه
ّ ّ
أمور المرأة ،وتمّ ما ج َهزها به ،ثم سلمها إلى مائتي ثالثة أيام في ضيافة الملك ،يغير لنا عند كل رأس
خواص خدمه وجواريه؛ ّ جارية من
ٍ خادم وثالثماية
ٍ فرسخ مركوب .ثم انتهينا إلى وادي المقام ،فاستؤذن
ملت إلى خراسان ،إلى نوح بن نصر( ،فأولدها وحُ ْ َّ
وتقدمتنا الرسل ،فأذن لنا ،بعد أن أقمنا بهذا لنا منه،
عبد الملك) ( .ومات نصر بن أحمد قبل موافاتها، َ ْ
الوادي ،وهو أنز ُه (بالد اهلل وأحسنها) ،ثالثة أيام
فتبرك بها) .
َّ وصارت المملكة إلى نوح بن نصر، في ضيافة الملك .ثم عبرنا الوادي ،وسرنا يومًا تامًا،
وأشرفنا على مدينة سندابل .وهي قصبة الصين ،
وبلغنا أن نصرًا عمل قبره قبل وفاته بعشر سنين مرحلة منها ،ث َّم سرنا
ٍ وبها دار المملكة ،فبتنا على
،وذلك أنه أخذ له في مولده مبلغ عمره ووقت من الغد طول نهارنا حتى وصلنا إليها عند المغرب.
بالسل ،وعرف اليومّ انقضاء أجله ،وأن موته يكون
الذي يموت فيه ،فخرج يوم موته إلى بُخارى ،وقد وهي مدينة عظيمة ،تكون مسيرة يوم ،ولها ستون
عظيمة ،منيعة عالية السور ،كثيرة البساتين، وكآبة وأحضر سجلًا ملفوفًا ،فأمر القضاة ٍ غم
في ّ ٍ
ُ ّ أعلم الناس أنه ميّت يومه ذلك ،وأ َم َرهَم أن يتج َّهزوا شارعًا ،كل شارع منها إلى دار الملك ،ثم إلى باب من
القلعي ،ال
ّ ووجدت بها معدنًا للرصاص غزيرة الماء. والمعدلين ) والفقهاء والكتاب (ومن يجري مجراهم
له بجهاز التعزية والمصيبة ليتص َوّرهم بعد موته أبوابها .وارتفاع سورها تسعون ذراعًا ،وعرضه
يكون إالّ في قلعتها في سائر الدنيا .وفي هذه القلعة بختمة ) ،وأمر نوحًا ابنه أن يعمل بما فيه بعده ، ٍ
بالحال التي يراهم بها ،فسار بين يديه ألوف من تسعون ذراعًا .وعلى رأس السور نهر عظيم يتفرق
ُتضرب السيوف المعروفة بالقلعيّة ،وهي الهنديّة الصيني
ّ من ّة ي زبد في حساء من شيئًا لها واستدعى
الغلمان األتراك المرد ،وقد ظاهروا اللباس السواد ، على ستين جزءًا ،كل جزء منها ينزل على باب من
العتيقة ،وأهل هذه القلعة يمتنعون على ملكهم إذا األصفر ،فتناول منه شيئًا يسيرًا ،ثم تغرغرت عيناه، ّ
وشقوا عن صدورهم ،وجعلوا التراب على رؤوسهم، رحى تصب على ما دونها ثم إلى ً األبواب ،تتلقاه
أرادوا ويطيعونه إذا أحبّوا ،و َر ْسمُ هم َر ْسمُ الصين وحمد اهلل تعالى ،وتش ّهد ،ثم قال :هذا آخر زاد يغر
ثم تبعهم نحو ألفا جارية من أصناف الرقيق مختلفي غيرها ،ثم يصير إلى األرض ،ثم يخرج نصفه تحت
في ترك الذباحة ،وليس في جميع (أقاليم األرض) من دنياكم ،وسار إلى قبره ،ودخله ،وقرأ عشرًا فيه
األجناس واللغات على تلك الهيئة ؛ ثم جاء على السور ،فيسقي البساتين ،ويرجع نصفه إلى المدينة،
القلعي إالّ في هذه القلعة .وبينها ّ معدن للرصاص ٌ ،وخرج عنه ،واستقر به .ومات رحمه اهلل تعالى.
ٌ آثارهم عامّة الجيش واألولياء يجنبون دوابهم فيسقي أهل ذلك الشارع إلى دار الملك ،ثم يخرج
مدن وبين مدينة الصين ثالثمائة فرسخ ،وحولها وتولى األمر نوح ابنه .
ّ ويفردون قودهم ،وقد خالفوا في نصب السروج في الشارع .واآلخر إلى خارج البلد .فكل شارع
وحبوس وجنايات) .
ٌ ورساتيق ،وفيها لهم (أحكا ٌم [نحن نشك في صحة هذا الخبر ،ألن محدثنا كان ٌّ
عليها ،وس َّودوا نواصيها وجباهها ،حاثين التراب كل يخال ُِف فيه نهران .وكل خالء فيها مجريان
ربّما ذكر شيئًا ،نسأل اهلل تعالى أن ال يؤاخذنا بها]. ْ
غم
على رؤوسهم؛ واتصل بهم الرعيّة والتجار في ّ ٍ صاحبه .فالداخل يسقيهم ،والخارج يُخرج فضوالتهم
وأكلهم الب ُْسر والتمور ،وبقولهم كلها ُتباع وزنًا،
مد ًة ،ألقى َ َ يتقدمُهم أوالدهم ونساؤهم؛ َّ وضجيج، وحزن وبكا ٍء
ٍ بيت عبادةٍ عظيم ،يُقال :إنه أكبر من مسجد ( .ولهم ُ
وأرغفة خبزهم ُتباع ع ََددًا .وال (حمّ امات لهم) ،بل ملكها بسندابل مدينة الصين َّ ُ
وأقمت قال: ٍ
ٌ
ثم اتصل بهم الشاكريّة والمكارون والحمّ الون، وصور وأصنامٌ .وبد ٌه
ٌ تماثيل وفيه . المقدس [بيت]
حار ٌة يغتسلون فيها .ودرهمهم ي َِز ُن ّ أعين
ٌ عندهم أمور
ٍ عن ويسألني ، شيئًا فيفاوضني األحايين، في ٌ ٌ ٌ
ُ بضرب
ٍ فريق منهم قد غي َّر زيَّه) وشهر نفسه ٍ (كل عظيمٌ .ولهم سياسة عجيبة وأحكا ٌم متقنة) .وال
فلوس يتعاملونٌ ثلثي درهمنا ،ويُعرف بالفهريّ .ولهم استأذنت في االنصراف، أمور بلد اإلسالم .ثم
ِ من
ً من اللباس ،ثم جاء أوالده ،يمشون بين يديه حفاة يذبحون وال يأكلون اللحوم أصلًا .ومن قتل منهم
الصيني
ّ بها .ويلبسون كأهل الصين ،اإلفرند غاية في أمري، ُبق
إلي ،ولم ي ِ
أح َسنَ ّفأذ َِن لي بعد أن ْ
حاسرين ،والتراب في رؤوسهم ،وبين أيديهم وجوه شيئًا من الحيوان ُقت َِل .وهي دار مملكة الهند والترك
المثمّ ن .وملكها دون ملك الصين ،وي َْخطب لملك فخرجت على الساحل أريد «كله» .وهي أوّ ُل ُ ّ
الصينُ ،
وق ْبلته إليه ،وبيته ُ وجلة خدمه ورؤساء ُقوّ اده؛ ثم أقبل الكتاب ، معًا.
بيت عبادةٍ له. مدينة الهند ،ومنتهى مسير المراكب .ال يتهيّأ لها
تجاوزها ،وإالّ والقضاة والمعدلون والفقهاء والعلماء (يسايرونه ودخلت على ملكها فوجدته فائقًا في فنه ،كاملًاُ
وصلت إليها ،رأي ُتها
ُ ْ
غرقت ،فلما
وطني هو العامل
ومدينتـي �صنعـاء
هذا احلوار مع تيم ماكنتو�ش – �سميث الرحالة والكاتب الربيطاين املعروف ،والذي �أعطى زهرة عمره
لل�سفر مع ابن بطوطة ،جرى يف لندن التي ي�أتيها تيم زائرا .مل تكن هذه املرة زيارة �سعيدة ،بل كانت قلقة،
حزينة .فقد و�صل من �صنعاء ،التي ي�سميها بــ«مدينتي» و�صول �شخ�ص م�ضطرب ،جاء للقاء والدته
املري�ضة ،وهو ال يعرف �إن كان �سيلحق بها على قيد احلياة �أم ال .الحقا قال يل تيم :اليوم فقط �رصت يتيم ًا.
رغم حزن الفقد فهو حوار �شيق مع كاتب من طراز خمتلف ،و�إن�سان له روح وثابة تتطلع �إىل معانقة الوجود،
كل الوجود ،واالحتفاء بكل ما هو �إن�ساين ،ول�سان حاله ما نطق به ال�شيخ الأكرب حميي الدين ابن عربي :
كاتب ال رحالة
حول تجاربه مع السفر والترحال يقول سميث
«لست متيمًا بحب السفر» .يبدو هذا اعترافًا
غريبًا من رجل تعتبر سلسلة كتبه التي تتبع فيها
خطى ابن بطوطة ،المستكشف العربي الذي عاش
في القرن الرابع عشر الميالدي ،من بين أفضل
الكتب الحديثة عن األسفار والرحالت.
في كتبه عمومًا ينسج سميث خيوطًا من المعرفة
الواسعة ،التي تتسم غالبًا بالروح المرحة ،وأحيانًا
بعمق الفكر ،ودائمًا بالجاذبية ،وينسجها بوجهة
نظر لمستعرب تخرج من جامعة أكسفورد ،ولكنه
اختار أن يعيش في اليمن ويتجول في العالم العربي. تيم في مكتبة «الساقي» بلندن
في مستهل لقائي به سالني إن كنت مرتاحا في
لندن فقلت إنها مدينتي األحب ،إنها وطني الثاني. الشيخ عبد الهادي الجواهري:
فقال أما أنا فوطني هو اليومن ومدينتي هي صنعاء. �صنعـ ـاء يا دار احلـــ�ضارة والعـال « .2005الوصول إلى اليابسة».2010 . يعتبر تيم ماكنتوش -سميث الكاتب البريطاني
في اليمن يشعر تيم ماكنتوش -سميث أنه بين ومقام كـل �سميدع ومليك وعلى رغم ان تيم هو أصال كاتب نثر مميز ،فقد المولود سنة ،1961والذي طاف العالم على خطا
أهله وذويه ،وفي بعض أجزاء العالم اإلسالمي يشعر باري�س دونك يف اجلـمـــال ولندن اشتهر بكتب الرحالت ،فقد كتب عن رحالته إلى شمس الدين الطنجي ابن بطوطة لربع قرن من
أن هذا العالم الذي اختاره هو العالم الذي ينتمي وعوا�صم الرومـان والأمـريك عدد من مدن العالم العربي ،والشرق وأشهرها الزمن ،واحدا من أشهر الكتاب وأكثرهم ارتباطا
إليه أكثر مما ينتمي إلى مسقط راسه في وطنه فـجـمال تلك مـزخـرف متكلف رحلتان إلى طنجة واليمن ،ورحلة إلى هندوستان بفكرة السفر والبحث جريا وراء شيخ الرحالين
األم ،بريطانيا. وجمـالك املطبوع مـن باريك وذلك خالل تجواله وترحاله على خطى الرحالة العرب والمسلمين المنتمي برحالته واسفاره إلى
بعض من التقى به في منزله التقليدي القديم شمس الدين الطنجي المشهور بأبن ان بطوطة. عالم القرون الوسطى.
المتعدد الطبقات بصنعاء ،حيث يعيش منذ أكثر ويضيف :ال تزال صنعاء جميلة ،وهي من اهم وبالتالي فإن كتاباته األشهر هي التي تناول فيها وخالل مسيرته األدبية والبحثية وتجواله في
من 20عاما ،يقول ،إن تم يظل يكرر «لست ممن المدن التاريخية العربية ،وألن أبي كان من محبي أسفار ابن بطوطة ورحالته ،والتي أبرز من خاللها العالم ،وضع تيم ماكنتوش -سميث الذي تخرج
ينطلقون للسفر بعيدًا ويكادون يهلكون أنفسهم كتب الرحالت ،ويملك مجموعة من الكتب من صدى المستكشف العربي العظيم في أغرب األماكن من جامعة اكسفورد ،وضع العديد من المؤلفات،
على الطريق .من هذا المنطلق أعتقد أني مختلف بينها كتب مصورة ،كانت نفسي ،تسول لي أن وأعجب الحوادث. وصورت البيبي سي سلسلة من األفالم الوثائقية
عن ابن بطوطة ،فالمظاهر يمكن أن تكون خادعة». اطلع على كتبه وعلى صور اليمن خاصة ،لي في وعن سر حبه لصنعاء واختيار اليمن بلدا لسكناه عن اسفار تيم .من مؤلفاته المطبوعة“ :أسفار مع
فأنا اوال واخيرا كاتب .وبالتالي فأنا رحالة ألنني اليمن ما يقارب الستة والعشرين عامًا ،وليست وعيشه ،يقول ماكنتوش -سميث مرددًا أبيات ابن طنجة” عام « ،2001قاعة األلف عمود» عام
موجز حياة
الرحلة لديك تلخيصك الشخصي لرحلة ابن بطوطة،
شخصيته ،رحلته واخباره ،وهو تلخيص البد أن
يسر كل قاريء عربي أن يستمع إليه لكونه يقدم
له الرحالة العظيم بعيني كاتب ينتميحضارة وزمن
مختلفين...هل لك ان توجز لنا هذا التلخيص؟
تيم :ولد الشيخ أبو عبد اهلل محمد ابن بطوطة
في طنجة عام 1304م وهو ابن لقاض ينتمي إلى
المذهب المالكي في الفقه اإلسالمي ،اتجه نحو
الشرق وعمره 21عاما ،ويبدو أنه كان ينوي
الحج .ازدادت سعة اطالعه وأفقه وهو مسافر
إلى الشرق .في عام 1341م أرسله السلطان محمد
بن تغلق سلطان دلهي محمال بهدايا في مهمة إلى
إمبراطور الصين لكن ابن بطوطة أضاع هذه الهدايا
في ساحل ما
145 144
تيم :كانت الخطة األصلية تتبع أسفار ابن بطوطة
كلها في مجلد واحد ،ولكن سرعان ما تراجعت
هذه الفكرة بعد أن اتضح المدى البعيد الذي
وصلت إليه رحالت ابن بطوطة ،والتي استغرقت
نحو 29عاما .والبداية من مسقط رأس الرحالة
العظيم في طنجة بالمغرب ،ومن هنا جاء عنوان
المجلد األول.
وحيث كانت البداية غير مشجعة لتيم عند
زيارته القبر المفترض لبطله العربي ،والذي فشل
في الشعور باتصال خاص مع ساكنه وشبه القبر
بحمام عام تابع للبلدية ،وظل على مدى الصفحات
الـ 300التالية من كتابه ،يسعى الهثا وراء شعور
مراوغ بانه يصطحب أثر سلفه الرحالة العربي
معه .وجاءت النتيجة على شكل رواية شخصية
إلى حد كبير تدور حول محاولة االتصال بالماضي
من خالل األسواق ،واألزقة ،وأماكن بيع البيتزا
المنتشرة في أنحاء القارات األربع ،تتخللها لحظات
مما يطلق عليه تيم الدوار المؤقت وهو شعور
بالدوار مرتبط بالنظر إلى نقطة بالزمن ،بعيدة،
ولكن يمكن الوصول إليها بوثبة تأخذ باألنفاس.
ورغم أن كال من رحلتي تيم تبدأ بنقلة تاريخية
عظيمة ،فقد توجت كالهما بلحظات إنسانية
غريبة .ففي السوق الكبير بطنجة ،يبرز رجل رث
الثياب من بين الجمهور ،ويهمس بغموض قائال أنه
سبق ان شاهد المؤلف عند محطة القطارات ،ثم
يختفي ثانية وسط الزحام دون أي توضيح .هذه
مفاجآت السفر وتقلباته ،وتيم يكتب عنها بحماس
شديد. ما يفترض أنه ضريح ابن بطوطة في قصبة طنجة بالمغرب
عبارات وجمل ترغب بوضع خط تحتها أو نقلها
لآلخرين بصوت عال ،وتصعب قراءتها دون ان
ترتسم على شفتيك ابتسامة عريضة كل بضع تيم :زرت سوريا مرة قبل سنوات كثيرة ،ودخلت التي ينتمي إليها وهي هنا اإلسالم والمدرسة وال يعرف أحد تفاصيل أخرى عن حياته بعد ذلك
صفحات .وبمذاق ممتع يستمر طويال تحت لسانك مدينة دمشق ،مدينة نزار قباني ،ومدينة الياسمين المالكية ،وكان لديه في الوقت نفسه حب التاريخ إال فيما ندر.
يصور تيم .بكل دقة مشاعر المسافر وميله الفطري الذي في شعر هذا الشاعر المجيد .وجاءني عاشق استطالع لمعرفة المدارس األخرى والحضارات
إلى أن يكون دائما خارج السرب إلى حد ما ،فعندما تلى علي ابياتا من شعر نزار وطلب مني أن اكتب األخرى غير اإلسالمية .أقلقته الصين بكفرها �سالم املغول
يكون المرء عابر سبيل ،يمكنه أن يخطو بعيدا رسالة لحبيبته ،فسجلت االبيات وحفظتها ،ثم ومدنها الواسعة وتطورها المذهل ،كما وجد مالي كان ابن بطوطة وماركو بولو محظوظين في
عن نفسه التي بين جنبيه ،وبهذا يصبح قادرا كانت لي رحلة مع شعره. دولة غير متحضرة تماما ،اصبح ابن بطوطة مرنا حياتهما إذ إن كليهما عاشا في الفترة التي عرفت
على مالحظة سير الحياة حوله بمزيد من الوضوح نوعا ما رغم أنه يبدو من الخارج متعصبا ،لكنه بـ»سالم المغول» حيث اتخذ الخلفاء الذين جاؤوا
والعمق. اخلطة االوىل حافظ على دينه وإنسانيته. بعد جنكيز خان بعد تدميره للشرق اإلسالمي
الرحلة كيف تورطت بابن بطوطة ،وما هو المخطط ممثلًا في بغداد مبادئ تدعو إلى السالم وذلك
على حدود طالبان األولي الذي حملك على الخوض في رحلة تشبه نزار قباين بفتحهم لطرق التجارة ،وكانت خبرة ابن بطوطة
وعندما يصل حدود افغانستان يقول تيم :وفي الحرب مرة مع المعلوم ومرة مع المجهول لم تضع الرحلة سئلت مؤخرا عن معنى وجود اشعار نزار في الفقه اإلسالمي تساعده في العمل في المناطق
الوقت الذي كان يفترض أن أقوم فيه بذلك ،فإن أوزارها حتى اليوم ...وقد مضى على الشروع بها قباني في وذكره في بعض كتاباتك ..والواقع انني التي دخلت اإلسالم حديثا في ذلك الوقت.
حركة طالبان كانت ما تزال تحكم أفغانستان ،وال اكثر من عقدين؟ مشوق لمعرفة ذلك ايضا؟ كان الرحالة ابن بطوطة مقتنعا بعلو شأن الثقافة
147 146
مازلت اجد ال�سري بحثا ورحلتي
مع ابن بطوطة �ستطول
المهجورة تشير إلى األهمية التي كان عليها المكان. ابن بطوطة
في المجلد الثاني ،نقرأ ثانية كيف قدم ابن بطوطة مأخوذة من أحد مؤلفات
تيم
على حكام الهند ،حيث ظل يتلقى الهدايا الثمينة
والجواري الحسان أينما حل .كما مر بمرحلة
صوفية ،كما يسميها تيم حيث عاش الرحالة
كناسك بين مجموعة من النساك بعد أن فشل
في نيل رضا السلطان المحلي .ودعاه نفس هذا
السلطان في النهاية من المنفى ،وقادته مباهج حياة
البالط السلطاني مرة أخرى بعيدا عن حياة التأمل
الروحي التي عاش فيها.
امل�سالك
األفق الفسيح ،وبعضها أقدم من ابن بطوطة نفسه،
موقع على الإنرتنت
واضحا كصوت الرنين ،كفيال بإنجاح هذا المشروع.
وما يزال يقف هناك حجر مسود متفحم ،كما لو
كانت نيران المحارق قد انطفأت لتوها.
جديد الرحلة
يهدف هذا املوقع �إىل �إعادة اكت�شاف ح�ضارة املكانوحا�ضره لقد وقف شعر رأسي من الرهبة ،كما شعر ابن
بعد رحلة مع ابن بطوطة استمرت أكثر من
وما ات�صل به من �أحداث ووقائع ،وحكايات و�شخ�صيات ،و�سلوك بطوطة تماما قبل قرون مضت .وهو اإلحساس
عشرين عاما ،أختم بالسؤال .تيم ،ما هو مشروعك
وفكر ،من خالل املزج بني الو�سائط املتعددة واخلرائط احلية بالرعب نفسه الذي انتاب ابن بطوطة أمام هذا
المقبل ،هل بقي شيء تعمله مع ابن بطوطة؟
(املرتبطة مبوقع غرغل) ،لإحداث عملية تفاعل متبادل بني المنظر المخيف ،بل إني أستطيع سماع األصوات
بقي الكثير ،فأنا اآلن بصدد البحث عن الحياة
املكان وبني الفنون والآداب والعلوم واملعارف. نفسها تتردد في المكان.
المجهولة البن بطوطة ،سواء عن طريق الكتب
إنها مثل هذه اللحظات غير المتوقعة التي تجعل كل
أو السفر للبحث عن أي ما يخص هذا الرحالة
رحلة جديرة بتحمل العناء ألجلها ،حتى بالنسبة
العظيم ،أو عن طريق ما يسمع ويتناقل عنه ،وكل
ألولئك األكثر ولعا بالكتب أو المتنسكين الذين
ذلك يأتي بهدف إثبات شخصية السيد شمس الدين
يفضلون المكوث في بيوتهم .فهل شعر ابن بطوطة
الطنجي ،وأن ما وصلنا عنه ليس من قبيل الخرافة
بهذا الوجود الذي يكاد يخدر العمود الفقري ،أيضا؟
www.almasalik.com
أو األكذوبة بل انه واقع وقع ذات يوم ،وها انا اجد
يتذكر تيم قول الفيلسوف ديكارت ،الذي قال ذات
السير بحثا عنه لكشف جوانبه المجهولة ،وتمام
مرة إن قراءة الكتب العظيمة أشبه بمحادثة النبالء.
معرفتي به ،إنها محاولة ...فلنر ما ستسفر عنه.
لقد كان صوت ابن بطوطة «.من القرون الماضية
السفر ،وكنت أتردد على محل كوك فقال ابن ماسويه: فتقدم ابن ماسويه فأخذ إحدى في رقبته ،حمل عليه فنطحه! خروف ينطح �أ�سداً
ألقرر خطة السياحة النهائية .وقد -ال تصح ،فواهلل ما يفرق اآلن بين يديه وبختيشوع األخرى ،وأخذا فانهزم السبّعُ يدور حول البركة، و�أ�سد يفر �أمام كلب
ساعدني الحظ ووفقت لعمل برنامج ربه وبين ماني! المجسة من كلتا يديه فوجدا والخروف خلفه يطرده وينطحه!
السياحة بمساعدة المستر بروكر، ففتح المأمون عينيه وبها من العظم نبضه خارجًا عن االعتدال منذرًا ونحن قد َغلَبنا الضحك عليه. كان بمدينة دمشق َج ْرو أسد قد
أحد رؤساء محل كوك الذي رأيت فيه والتورم واالحمرار ما لم يُر مثله بالفناء ،والتزقت أيديهما ببشرته فقال األمير معين الدين رحمه رباه َسبّاع معه ،حتى كبر وصار
الكفاءة العظيمة ،فلم نترك أعجوبة قط ،وأقبل يحاول البطش بابن لعرق كان يظهر في سائر جسده أخرجوه ّ
وتأذى الناس به. يطلب الخيل،
اهلل« :ذا سبع منحوس! ِ
أو منظرا جميال يستحق الزيارة في ماسويه ،ورام مخاطبته فعجز عن كالرب أو كلعاب األفاعي ،فأنكرا
ّ اذبحوه ،واسلخوه .وهاتوا جلده». فقيل لألمير معين الدين رحمه
الدنيا الجديدة إال وقررناه في خطة ذلك ،فرمى بطرفه نحو السماء وقد معرفة العرق ،وذكرا أنهما لم يجداه عتق ذلك فذبحوه وسلخوه ،وأ َ َ اهلل وأنا عنده« :هذا السبع قد
سياحتنا التي تستغرق ثالثة شهور. امتألت عيناه دموعًا ،وانطلق لسانه في شيء من الكتب ،وأنه دال على الخروف من الذبح. آذى الناس ،والخيل تنفر منه،
وبينما كنا نعلل النفس بقرب السفر من ساعته فقال: انحالل الجسد. من عجيب أمور السباع :أن وهو في الطريق» .وكان على
وننتظر بفارغ صبر يوم قيامنا برحلتنا -يا من ال يموت ارحم من يموت. وأفاق المأمون من غشيته وفتح أسدًا ظهر عندنا في أرض شيزر. مصطبة ،بالقرب من دار معين
الجميلة ،حدثت فاجعة غرق أكبر وقضى من ساعته ،وذلك لثالث عينيه ،وأمر بإحضار ناس من الروم جرحني وال آذاني!» ،وقتلوا األسد. فخرجنا إليه ،ومعنا َرجّ الة من الدين ,في النهار والليل ،فقال:
باخرة في العالم( ،في 14فبراير /شباط عشرة ليلة بقيت من رجب سنة فسألهم عن اسم الموضع ،فأحضر له ودخل الرجل فمات في تلك الليلة أهل شيزر ،فيهم غالم للمُ ت َع َبّد «قولوا للسبّاع يجيء به» .فقال
)1912وهي التي تسمى «تيتانيك» ثمان عشرة ومائتين ،وحمل إلى عدة من األسرى واألدالء فقيل لهم: من غير جرح أصابه! إال انقطع الذي كان يطيعه أهل الجبل، للخِ وان سالر (أي مدير المطلخ
التابعة لشركة «ويت ستار الين» طرسوس فدفن بها. -ما تفسير هذا االسم وهو قلبه ،فكنت أعجب من إقدام ذلك ويكاد أن يُعبد .ومع ذلك الغالم بالفارسية)« :أ َ ْخ ِرجْ من ذبائح
أثناء سفرها ألول مرة من إنجلترا إلى القشيرة؟ الكلب على األسد ،وكل الحيوان كلب له ،فأخذ ذلك الغالم وبرك المطبخ خروفًاْ ،
اتركه في قاعة
أمريكا ،وكانت حمولتها «»46000 من "الروض المعطار في خبر االقطار" فقالوا: ينفر من األسد ويتجنبه.
ُ عليه .فوثب الكلب على ظهر الدار ،حتى نبصر كيف يكسره
طن وسرعتها 21عقدة .وسبب غرقها للحميري المتوفي سنة 800هـ -تفسيره مد رجليك. األسد ،فنفر عن الرجل وعاد إلى السبع» .فأخرج خروفًا إلى قاعة
مصادمتها ،في الساعة الثانية عشرة فلما سمعها المأمون اضطرب من "كتاب االعتبار" أسامة بن منقذ األ َ َجمة! وخرج الرجل إلى بين الدار .ودخل السبّاع ومعه
مساء ،بجبل من الجليد «آيس برج» هذا الفأل وتطير به ،فقال: 584هـ 1188 1095-/م يدي والدي رحمه اهلل يضحك. السبع .فساعة رآه الخروف ،وقد ّ
عائم على وجه الماء .وقد فصلت -سلوهم ما اسم هذا الموضع تحقيق وتقديم د .عبد الكريم األشتر وقال« :يا موالي! وحياتك ،ما أرسله السبّاع من السلسلة التي
الجرائد األوربية كيف كانت المصادمة بالعربية؟
وحصول الغرق تفصيال مسهبا ،ال داعي فقالوا:
إلعادته اآلن في رحلتنا .إال أننا نقتصر -الرقة.
من ذلك على ذكر ما رأيناه مهما، وكان فيما عمل من مولد المأمون، كالسعفة ويصيح: الماء كالحجر ،فنضحت الماء على امل�أمون قتلته �سمكة
ويستحق المدح واإلعجاب .إن عدد أنه يموت بالموضع المعروف -البرد ..البرد.. صدر المأمون ونحره وترقوته،
ثم حول إلى المضرب و ُدثِّر وأوقدت الفراش ثانية
فبلت ثوبه .ثم أخذها ّّ بعد أن فتح المأمون أربعة عشر
الركاب الذين كانوا في التيتانيك ال يقل بالرقة ،فكان يحيد عن المقام
عن 2500شخص ،كان من المستحيل بمدينة الرقة خوفًا من الموت .فلما النيران حوله وهو ،يصيح: فوضعها بين يدي المأمون في منديل حصنًا وانصرف من غزاته فنزل
نجاتهم جميعا بواسطة الستة عشر سمع هذا من الروم علم أنه الموضع -البرد. تضطرب .فقال المأمون: عين البذندون المعروفة بالقشيرة
زورقا (من زوارق النجاة) التي كانت الذي وعِ د فيه فيما تقدم من ثم أتي بالسمكة وقد فرغ من قليها -تقلى الساعة. وأقام هناك حتى ترجع رسله من
بها .ولذا ابتدئ بإنقاذ النساء واألطفال مولده ،وأن فيه وفاته .والبذندون فلم يقدر على ذوقها ،وشغله ما هو ثم أخذته رعدة من ساعته لم الحصون ،فوقف على العين ومنبع
أوال ،ثم نزل بعض الرجال في المحال غرقا وهما متعانقان تفسيره مد رجليك. فيه عن تناول شيء منها .ولما اشتد يقدر يتحرك من مكانه ،فغطي الماء فأعجبه برد مائها وصفاءه
الباقية من هذه الزوارق .وكان من على �سرير يف تايتانيك فلما ثقل المأمون ،قال: األمر عليه سأل المعتصم بختيشوع باللحف والدواويج وهو يرعد وحسن بياضه وطيب الموضع
بين الراكبين في الباخرة الكولونيل -أخرجوني أُشرف على عسكري وابن ماسويه عنه وهو في سكرات وكثرة الخضرة ،فأمر بقطع خشب
«أستور» ياور المستر «تافت» رئيس ولما قررت السفر إلى الجهات وأنظر إلى رجالي وأتبين ملكي. الموت :ما الذي يدل عليه علم طوال فبسطت على العين كالجسر
الجمهورية السابق ،وهو من أصحاب (األمريكية) ،اتفقت مع كوك وذلك بالليل .وأخرج فأشرف على الطب من أمره وهل يمكن برؤه؟ وجلس عليه والماء تحته ،وطرح
الثروة التي تقدر بمبلغ 750مليون وقررت السفر على الباخرة الخيم والجيش وانتشاره وكثرته في الماء درهمًا فقرأ كتابته وهو في
فرنك ،وكان قد تزوج في إنجلترا (كرون برنسيس سيسيل) في وما قد أوقد من النيران ،فقال: قرار الماء لصفائه ،ولم يقدر أحد
بممثلة اشتهرت بجمالها الرائع ،وكان أول مايو ،أي قبل دخول فصل -يا من ال يزول ملكه ارحم من يدخل الماء من شدة برده ،فبينما
عائدا بعد أن قضيا «شهر العسل» في الحر الشديد بأمريكا .وهذه قد زال ملكه. هو كذلك إذ الحت سمكة نحو
مصر في فصل الشتاء الماضي احتفاال الباخرة تابعة لشركة (النورد ثم رد إلى مرقده ،وأجلس المعتصم الذراع كأنها سبيكة فضة ،فأمر من
باليوبيل الذهبي لزواجهما ،فبدل أن تشر لويد) األلمانية .ولما وصلت رجلًا يلقنه الشهادة ،لما أثقل فرفع أخرجها .فلما صارت على حرف
يسرع إلى النجاة بنفسه أظهر شهامة إلى باريس أخذت أعد العدة لهذا الرجل بها صوته ليقولها المأمون، العين أو على الخشب اضطربت
وانملست من يد الفراش فوقعت في
153 152
ومروءة وصار يساعد السيدات
واألطفال على النجاة وفضلهم على
نفسه.
والذي أثر في نفسي كثيرا منتهى
اإلخالص والصداقة التي أظهرتها
السيدة «ستورس» لزوجها الذي
كان معها في هذه الباخرة ،وهو
المشهور بثروته التي ال تقل
عن 250مليون فرنك ،فإنها لما
دعيت لمفارقة الباخرة كغيرها
من السيدات أبت نفسها الشريفة
أن تفارق زوجها ،وأجابت الربان
الذي كان يدعوها إلى النجاة بنفسها
قائلة :إن الخمسين سنة التي
أمضيتها مع زوجي المحبوب بين
السعادة والشقاء ال تسمح لي اليوم
بأن أفارقه في وقت الشدة ،فأنا
الماضية ،إال أني في الحقيقة كنت السفينة ،ولكن ماذا كانت العاقبة؟
أفضل الموت معه على أن أعيش
أشعر بأن هذا السرور يكون عندي تصادمت بذلك الجبل الهائل ولشدة
لحظة واحدة بعده ،فمات االثنان
أعظم ،بعد أن أتمم هذه الرحلة وأعود سرعتها لم يمكن تحويل سيرها المسنان متعانقين بعد قبلة الوداع
سالما إلى بالدي العزيزة .ولما لم يبق وإيقافها دفعة واحدة ،فذهبت هباء األخير .وأضافت السيدة ستورس
لنا سوى 24ساعة على ميعاد السفر، منثورا. إلى صحيفة اإلخالص أكمل مثال له
ذهبت إلى كوك وتسلمت جواز إن هذه الحادثة أخذت دورا هائال يستحق أن يدون بالذهب وينشر
السفر ووقعت على حسابي عندهم، في باريس ،حتى كنا من الصباح في العالم ،ليكون عبرة ومثال لمحبي
وأخذت منه دفتر شيكات ألخذ إلى المساء ال نسمع إال أخبار المروءة والشهامة واإلخالص.
ما يلزمني من النقود بأمريكا .وقد غرق التيتانيك .إن حصول مثل إن هذا الضرب من اإلخالص قلما
أخبرت بأن الشركة اعتنت بي كثيرا، هذه الفاجعة لمما يثني الهمم عن يوجد له مثال بين الرجال والنساء.
وأعدت لي أحسن محل بالباخرة السياحات .فكم من صديق كان وهل لنا أن نؤمل ،بعد أن أبدت
156
A page from �صفحة من
�إر�ضـاع املـولود
أما كيفية إرضاعه وتغذيته ،فيجب أن يرضع ما أمكن بلبن أمه ،فإنه أشبه األغذية
بجوهر ما سلف من غذائه ،وهو في الرحم أعني طمث أمه ،فإنه بعينه
هو المستحيل لبنًا ،وهو أقبل لذلك وآلف له حتى إنه قد صح بالتجربة
أن إلقامه حلمة أمه عظيم النفع جدًا في دفع ما يؤذيه .ويجب أن يُكتفى
بإرضاعه في اليوم مرتين أو ثالثًا ،وال يبدأ في أول األمر في إرضاعه بإرضاع
كثير ،على أنه يستحب أن تكون من ترضعه في أول األمر غير أمه حتى
يعتدل مزاج أمه .واألجود أن يلعق عسلًا ثم يرضع .ويجب أن يحلب من
اللبن الذي يرضع منه الصبي في أول النهار حلبتان أو ثالث ثم يلقم الحلمة،
وخصوصًا إذا كان باللبن عيب .واألولى باللبن الرديء والحريف أن ال ترضعها
المرضعة وهي على الريق ،ومع ذلك فإنه من الواجب أن يلزم الطفل شيئين
نافعين أيضًا لتقوية مزاجه ،أحدهما :التحريك اللطيف ،واآلخر :الموسيقى
والتلحين الذي جرت به العادة لتنويم األطفال .وبمقدار قبوله لذلك يوقف على
تهيئته للرياضة ،والموسيقى :أحدهما ببدنه واآلخر بنفسه ،فإن َم َن َع عن إرضاعه
لبن والدته مانع من ضعف وفساد لبنها أو ميله إلى الرقة ،فينبغي أن يختار له
مرضعة على الشرائط التي نصفها ،بعضها في س ِّنها ،وبعضها في َسحنتها ،وبعضها
في أخالقها ،وبعضها في هيئة ثديها ،وبعضها في كيفية لبنها ،وبعضها في مقدار
مدة ما بينها وبين وضعها ،وبعضها من جنس مولودها .وإذا أصبت شرائطها فيجب أن يجاد غذاؤها فيجعل
من الحنطة والخندريس ولحوم الخرفان والجداء والسمك الذي ليس بعفن اللحم وال صلبه .والخس غذاء
وشر البقول لها الجرجير والخردل والباذروج فإنه يفسد اللبن ،وفي النعناع ُّ محمود ،واللوز أيضًا والبندق.
قوة من ذلك.
وأما شرائط المرضع فسنذكرها :ونبدأ بشريطة سنها فنقول :إن األحسن أن يكون ما بين خمس وعشرين
سنة إلى خمس وثالثين سنة ،فإن هذا هو سن الشباب وسن الصحة والكمال .وأما في شريطة سحنتها
وتركيبها ،فيجب أن تكون حسنة اللون ،قوية العنق والصدر واسعته ،عضالنية صلبة اللحم ،متوسطة
في السمن والهزال لحمانية ال شحمانية .وأما في أخالقها فأن تكون حسنة األخالق محمودتها بطيئة عن
االنفعاالت النفسانية الرديئة من الغضب والغم والجبن وغير ذلك ،فإن جميع ذلك يفسد المزاج وربما
للهّ
أعدى بالرضاع ولهذا نهى رسول ا صلى اهلل عليه وسلم عن استظئار المجنونة ،على أن سوء خلقها
أيضًا مما يسلك بها سوء العناية بتع ّهد الصبي وإقالل مداراته .وأما في هيئة ثديها ،فأن يكون ثديها مكتنزًا
عظيمًا ،وليس مع عظمه بمسترخ ،وال ينبغي أيضًا أن يكون فاحش العظم ،ويجب أن يكون معتدلًا في
الصالبة واللين .وأما في كيفية لبنها ،فأن يكون قوامه معتدلًا ،ومقداره معتدلًا ،ولونه إلى البياض ،ال كمد
وال أخضر وال أصفر وال أحمر ،ورائحته طيّبة ال ونة فيها وال عفونة .وطعمه إلى الحالوة ال مرارة فيه
وال ملوحة وال حموضة ،وإلى الكثرة ما هو وأجزاؤه متشابهة ،فحينئذ ال يكون رقيقًا سيالًا وال غليظًا جدًا
جبنيًا ،وال مختلف األجزاء ،وال كثير الرغوة ،وقد يجرب قوامه بالتقطير على الظفر فإن سال فهو رقيق،
وإن وقف عن اإلسالة من الظفر فهو ثخين .ويجرب أيضًا في زجاجة بأن يلقي عليه شيء من المر ويحرك
باألصبع فيعرف مقدار جبنيته ومائيته ،فإن اللبن المحمود هو المتعادل الجبنية والمائية ،فإن اضطر إلى
من لبنها ليس بهذه الصفة دبر فيه ،من وجه السقي ،ومن عالج المرضعة .أما من وجه السقي فما كان
من األلبان غليظًا كريه الرائحة ،فاألصوب أن يسقى بعد حلب ويعرض للهواء ،وما كان شديد الحرارة،
فاألصوب أن ال يسقى على الريق البتة.
158
Letter ر�سالة
وأتانا بشيء من الخرق مع فالصو الحرير ،وهل أما بعد ،فأعلم أن الذي ظهر لنا أنك ليس عندك
نحن ممن يعجبه ذلك ويسره؟ فنحن معشر العرب قول صحيح ،وال كالم رجيح ،وال أظنك إال غلب
ال نعرف إال الصحيح ،وال يسرنا إال مخا فيه مصلحة عليك أهل ديوانك ،وصاروا يلعبون بك كيف شاءوا،
من ال�سلطان موالي �إ�سماعيل �إىل لوي�س الرابع ع�رش
المسلمين كلهم ،ومع ذلك أعطينا لصاحبك عشرين وال بقي لك معهم ضرب وال لقب ،ودليل ذلك أننا
نصرانيا سيفظناه بها ،وظننا أنك وال بُد تراعي ما زلنا ما قبضنا منك صحة قول وال أبرمت معنا لي�س عندك قول �صحيح وال كالم رجيح
الخير وتبعث لنا ولو عشرين مسلمًا تجبر بها شئيًا ،ففال منك الذين ليس لهم رئيس وما عندهم
خواطرنا ،وتكون هي الطريق للكالم الذي تريده إال الديوان ،تكلموا معنا كلمة معنا كلمة وقبضناها
منا ،فإذا بك ما عملت شئيا من هذا ،وال جازيت ُ
واالنجليز تكلموا معنا عليك وثبتوا فيها ّ
ووفَوا بها،
بإحسان. َ
كلمة وقبضناها عليهم وثبتوا فيها ووفوا بها ،فحين هذه الر�سالة ذات قيمة ا�ستثنائية لكونها تك�شف عن طبيعة العالقة
وثانيا قبضنا لك سفينة قبل أن يقع الكالم بيننا ذهب خديمنا لبالدهم لما أن طلبوا منا ذلك فرحوا
وبينك بثالثة أيام أو أربعة على التحقيق ،وهي به وأكرموه وبروا به ،وأتى من عندهم بعشر مئة
التي قامت بني املغرب وفرن�سا يف القرن ال�سابع ع�رش يف ظل وجود
موسوقة بالسكر وتبغة وثقفناها نحوًا من ثالث مكحلة وستة عشر مئة قنطار من البارود ومئة �سلطان مغربي قوي يف احلكم ،هو موالي �إ�سماعيل �إىل مت ّيز عهده بالقوة يف
سنين بقصدك ،وال تركنا أحدًا يمد يده فيها ،وقلنا وسبعة من المسلمين أطلقوهم من األسر لوجوهنا، العالقة مع �أوروبا ،وبالبط�ش يف عالقته بخ�صومه الداخليني .لقد هزّ هذا
إنك تراعي خيرنا ،وتعمل ألولئك المسلمين طريقا وعملوا من الخير ما عملوا مراعاة لنا ،وثبتوا في ال�سلطان قب�ضته لإ�سبانيا عندما خا�ض جي�شه عدة معارك ناجحة مع
وتسرحهم ،وإن كان ليس فيهم من هو خديمنا وال قولهم ،ووفوّا بكالمهم ،وأنت ال زال لم يصح منك جي�شها وكذلك مت ّيزت دبلوما�سيته مع فرن�سا بال�شدة وال�صالبة.
من هو محسوب من جيشنا وال من هو معرفتنا، قول وال وفاء ،وأوالئك الذين كانوا قدموا إليك من
فما هو إال ممن ال خالق له ،وال يركب البحر عندنا هذه البالدج ليس هم من خدامنا وال من أصحابنا وال
إال أهل التمرييل ولو أطلقتهم وإن كانوا ليسوا ممن له معرفة معنا ،فالحاج علي معنينو حيث أسر
بشيء فتكون عملت الخير بذلك ،وتقول إنك له ولده الذ بالبعض من خدامنا واستحرم به ،وقدم
عملت مسألة تراعي عليها. إليكم على شأن أوالئك المسلمين ،وجاز على دار
وأعظم من ذلك كله هو أن رئيسا من بالدنا اسمه السباع ودار النعام ،وأتى إليكم بما أتى وال شعرنا
التاج كان أعطاه صاحبك الذي أتانا خط يده ،على به وال عرفناه كم أخذ ،وقلفنا إنه إن وصلكم
أن يشتري سفينة من الجزائر يسافر بها قرصان وال بد تعملون له غرضه في أوالئك المسلمين
وما عليه فيمن لقيه من فرانصيص ،فلما أن وتسرحونهم ،فإذا به هو تحيل على ولده إلى أن
اشتراها وسافر بها وغنم قطارمة موسوقة بالرخام جاء به ،وأنتم ما عملتهم صوابًا في غيره ،وال صدر
والريال مع ما فيها من الحرير وغيره وبعثنا مع منكم ما تراعون ألجله.
أصحابه ستة وعشرين مسلمًا ،وتعرضوا لها ثم بعد ذلك قدم لعلي مقامنا صاحبكم انبسدور
سفنكم وأخذوها وثقفتها أنت أيامًا ثم بعد ذلك
مزقتها ،والمسلمون الذين كانوا معها خدمتهم في
الغراب فلما ذا لم تردها أو تثقفها ثالث سنين كما
ثقفنا نحن سفينتكم؟ وهل هذه هي صحة القول؟
فهاذا مما يدل على عدم صحة كالمك ،ومما يثبت
االخالل بقولك وقلة وفائك ،فحتى اآلن فالذي ظهر بسم اهلل الرحمن الرحيم
لنا أنه ما يليق بنا معك إال الشر ،وإن أردت تثبيت وال حول وال قوة إال باهلل العلي العيم
المهادنة وإبرام الكالم فيها وإمضاء حجتها ،فابعث
لنا من عندك قونصو بالتفويض على هذا األمر، من عبد اهلل تعالى اإلمام المظفر باهلل ،أمير المؤمنين ،المجاهد في سبيل رب العالمين ،الشريف الحسني
ويجلس هنا في أحد مراسينا ،ويكون كالمنا معه أيده اهلل ونصره آمين.
في هذا كله ،ونبرم معه هذا األمر ،ويكون من (الطابع السلطاني بداخله)
أهل الحل والربط عندكم ،وإال فإن ظهر لكم خالف (إسماعيل بن الشريف الحسني أيده اهلل)
ذلك فأعلمنا وعرفنا بما عليه عملك وما أضمرته (وبدائرته الي ُ
ُمن واإلقبال ،وبلوغ األمال)
طويتك ،والسالم على من اتبع الهدى. إلى عظيم الروم بفرانصيص ،لويس الرابع عشر من هذا االسم .السالم على من اتبع الهدى ،وباعد طريق
ألغي والردى.
في التاسع من شعبان المبارك سنة خمس وتسعين وألف
أعضاء وفد السلطان المغربي كما رسمتهم الصحافة الفرنسية
161 160
Books كتب
163 162
الرائحة الالذعة للبارود والدم مفيدة أضاءت على الرحالة بلغة املرام
وموت العدو .أفعم جسدي بعزم وعصره ،ووضعته المقدمة في يف الرحلة �إىل بيت اهلل احلرام
فوالذي ،و أعد نفسي للمعركة."... مكانته العلمية ،فاستحقًا عن واملدينة النبوية
حين قرأت هذه اليوميات أول عملهما جائزة ابن بطوطة لألدب
مرة ،لم تكن قد وضعت في شكل الجغرافي. تعتبر هذه المخطوطة من نوادر
كتاب بعد ،ولم أعرف الشخص المخطوطات وأنفسها في مجال
الذي كتبها .كنت آنذاك صغيرة، تحقيق :عبد اهلل الحبشي الرحالت التي تركها أهل اليمن.
وتقمصت ذلك الرجل الذي سرد وحسني محمد ذياب وهي عبارة عن وصف لرحلة قام
مغامراته بطريقة تلقائية كهذه. الناشر :دار السويدي- بها المؤلف ألداء فريضة الحج عام
ثم بدأت ،وأنا مستمرة في القراءة، أبوظبي2005/ 1211هجرية
والبلدانيين العرب والمسلمين، المعرفة كما تحصلت عند األمور بقيت على حالها دون أرى من كان هذا الشخص بوضوح ّ
يقدم الرحالة وصفًا دقيقًا
أكثر ،ولكم سررت ألني ابنته. يوميات دراجة نارية لتفاصيل رحلته من لحظة
وترصد تطور الفكر الجغرافي العرب ،وبين األصول النظرية تغيير أو حتى أصبحت أسوأ،
كانت هناك لحظات آخذ فيها �إرن�ستو ت�شي غيفارا
وعلومه في الثقافة العربية بدقة اليونانية من جهة ،والمصادر تحد للذين يتحلون منا، ٍّ وهذا خروجه من مقر إقامته في
ّ مثل هذا الشاب الذي أصبح مكان جرانادو على الدراجة صنعاء وحتى وصوله الى مكة
وشمول ،وتحلل ألجل ذلك كمًا والمراجع األوربية الحديثة من
النارية وأتشبث بظهر أبي، يوميات تشي غيفارا يطبعها سحر
هائال من األفكار والتصورات جهه أخرى ،وصولًا إلى الربط بعد سنوات تشي ،بحساسية المكرمة والمدينة المنورة ،ومن
مسافرة معه فوق الجبال وحول خاص ،شخصية مألت القرن
والمعلومات الجغرافية التي وردت المبدع بين المهاد والمداخل إزاء الواقع الذي يسيء معاملة ثم عودته إلى صنعاء ،وينقل
البحيرات .وصدقًا ،إني كلما قرأت العشرين وفاضت أطيافها على
في الكتب والمخطوطات الجغرافية النظرية للدراسة وبين األمثلة أكثر التعساء بيننا ،الملتزمين لنا ما لقيه والجماعة التي ح َّج
أكثر ،كلما أحببت الفتى الذي األلفية الثالثة .مثال إنساني
وخارجها؛ في نصوص دينية المتمثلة في نماذج أساسية بالمساعدة لخلق عالم أكثر عدلًا. معها من مصاعب السفر في
كان عليه والدي ...وهو يروي لنا وكفاحي مضيء لكل األزمنة.
وعلمية وشعرية وأدبية ،وبالتالي من أدب الرحلة السفارية سأترككم اآلن مع الرجل الذي البر والبحر ،خصوصًا مشاق
عن عالم أمريكا الالتينية المعقد هذه اليوميات كتبها تشي غيفارا
فإن الدارس مسح كتب المغازي عند العرب ،في حركتهم شرقًا عرفته ،الرجل الذي أحببته... اإلبحار في المركب .وقد أعطى
الفطري ،عن فقر أهلها واالستغالل خالل رحلة في أرجاء أميركا
والتاريخ واألخبار واألموال والخراج، وغربًا ،ومع رحالة من أمثال استمتعوا بالقراءة! ودومًا إلى الرحالة وصفًا دقيقًا للمراكب
وهو ما لم يسبق االلتفات إليه من المكناسي ،والصفار ،والطهطاوي، األمام! الذي يتعرضون له... الالتينية سنة 1952وقطع خاللها
مع صديقه ألبرتو غرانادو على التي شاهدها والتي كانت ترسو
قبل الدارسين في هذا الحقل ،أو والتمجروتي ،البلوي ،الزياني، أبي (هذا الرجل الذي كان) يرينا في موانئ المدن التي مر عليها
أقله لم يجر التركيز عليه .إضافة وغيرهم .وإذا كانت الدالئل ماثلة المؤلف :أرنستو تشي غيفارا أمريكا الالتينية ،ويصف مناظرها دراجة نارية 4500كيلومتر،
فكانت البوابة التي ولج منها في أثناء رحلته ،فجاء وصفه
إلى وقوف الدراسة على الخرائط في عالقات النصوص ،فإن الوقوف الناشر :دار السويدي أبو ظبي الطبيعية بكلمات تلون كل صورة
الطبيب األرجنتيني الشاب غيفارا أشبه ما يكون بالتحقيقات
والمصورات التي رسمها وصنعها عليها وتجليتها تحت ضوء الدرس 2005 لتصل حواسنا ،حتى يمكننا
إلى فضاء أميركا الالتينية ،وصوال العلمية التي اتصف بها عالمتنا
الجغرافيون المسلمون .هذه هو ما أنجزته هذه الدراسة أن نرى األشياء كما شهدتها
الرحلة ال�سفارية إلى "سرة العالم" – عاصمة األنكا، في سائر مؤلفاته الفقهية
الدراسة جعلت هدفها األساسي هو بتميز واقتدار .وبذلك استحقت عيناه ...وفي وعيه ينمو إدراك
�إنتاج الدالئل ومنطق الأ�شياء ليعود من هناك بالشعلة التي والتاريخية ،ويتحدث عن قيادة
البحث بعمق وموضوعية وشمول بجدارة جائزة ابن بطوطة لألدب أن ما يحتاجه الفقراء ليست
د .الطائع احلداوي صهرت روحه النقية ومزجتها السفينة ودائرتها والشراع،
في تطور الفكر الجغرافي اإلسالمي الجغرافي. معرفته العلمية كطبيب ،بل قوته
بآالم شعوب القارة المنهوبة ،بدءا ويعطي معلومات مهمة عن السفن
نفسه ،بفروعه المختلفة وتحديد ومثابرته في محاولة إحالل
المستويات العلمية آلفاقه وتعيين المؤلف :د .الطائع الحداوي جهد أكاديمي رفيع المستوى، من تاريخ اإلبادات الجماعية التي وأنواعها في ذلك الوقت ،ويتحدث
تغيير اجتماعي قد يمكنهم من
َّ
ومحكم وعمل بحثي رصين ارتكبتها غزوات الرجل األبيض، ُّ
ويعد أو عن البحر وعجائبه،
رؤاه ،والتي أثرت من جملة ما الناشر :دار السويدي العيش بالكرامة التي سلبت منهم
أثرت على الفكر الجغرافي األوروبي أبوظبي2005/ يتناول أدب الرحلة بوصفه وسحقتهم لقرون. وانتهاء باألمل اإلنساني المعذب. من وصف الغوص من أهل اليمن،
في العصور الوسطى ،ومن ثم بيان منظومة معرفية وبنية مرآوية يرينا هذا المغامر الشاب بعطشه كتب أرنستو تشي غيفارا، ويروى مشاهدته للحيتان في
مساهمة العرب والمسلمين في تطور الفكر اجلغرايف تنعكس عليها وتتقاطع عندها للمعرفة ومقدرته العظيمة على إثر احتفاله بعيد ميالده الرابع البحر ،كما يتحدث عن آالت
تنمية علم الجغرافيا ،وتعميق أفكاره عند العرب وامل�سلمني العلوم والمعارف والتجارب الحب كيف يمكن للواقع إذا فسر والعشرين" :علمت أنه حين تشق الصيد وطرقـه .وبين أفضل
وتوسيع آفاقه. حتى نهاية الع�صر العبا�سي والخبرات اإلنسانية والثقافات بشكل سليم أن يخترق اإلنسان الروح الهادية العظيمة اإلنسانية ما تقدمه الرحلة ذلك الوصف
556هـ 1258م في تالقيها وتالقحها ،ما تنتجه إلى درجة تغيير طريقة تفكيره إلى شطرين متصارعين ،سأكون الشامل والدقيق لما كانت عليه
المؤلف :عبد الرحمن صالح عبد الرحمن �صالح مزوري من دالالت .وهي دراسة مبتكرة أو تفكيرها. إلى جانب الشعب .أعلم هذا، مكة المكرمة والمدينة المنورة،
مزوري في منهجها وأسلوب تناولها إذا سنحت لكم الفرصة يومًا أراه مطبوعًا في سماء الليل ،أرى ومدينة جدة في عصره.
الناشر :دار السويدي أبو ظبي تبحث هذه الدراسة المحكمة للموضوعات التي عالجتها، للسير فعلًا على خطواته، نفسي قربانًا في الثورة الحقيقية، وقد اجتهد الباحثان المحققان
2005 في نشوء الجغرافية اإلسالمية خصوصًا ربطها الخالق بين ستكتشفون بحزن أن كثيرًا من المعادل العظيم إلرادة األفراد. اللذان كشفا عن هذا النص
على أيدي الجغرافيين والرحالة األجزاء المختلفة لمكونات أشعر أن أنفي يتسع ليستنشق النادر في تقديم شروح وهوامش
165 164
Vision �أطياف
الزمان أوائل الستينات من القرن املاضي ،واملكان بادية الشام على مقربة من حمامات (أبو رباح)
الكبريتية بني حمص وتدمر ،والوقت أواخر الربيع .كانت ليلة صافية والنجوم قريبة منا تتألأل فوقنا
مبودة وبهجة وكأنها تواقة أن تسمر معنا.
كنا في رحلة جامعية لالستمتاع بصفاء صفحة السماء في البادية وتأمل حركة أجرامها .راح األستاذ
املشغول بالفلك يحدثنا عن مواقع الكواكب والنجوم وحركتها في النهر اللّ َبني (در ال ّت ّبانة) وخارجة.
كنت أعرف أسماء بعض النجوم كالثريا وامليزان والنسر الرامح والواقع وبنات نعش الكبرى والصغرى،
حيث يبدو جنم القطب مسمرا في الشمال كحارس أبدي .لكن حديث األستاذ أخذني إلى تلك العوالم
املغشاة بسدمي ضبابي ساحر .ولعلي في تلك الليلة التي سهرنا فيها حتى الثالثة صباحا، ّ القصية
وقعت في عشق أكثر من جنمة ،كما فعل غيري ،دون أن يجرؤ أحد منا على البوح مبا يختلج في حبة
القلب وسكينة الوجدان.
حياة البادية تفرض اإلملام بعلم الفلك ومسار النجوم ،كما تقضي املالحة البحرية بذلك أيضا .وقد
كان أجدادنا ،منذ أقدم العصور ،مولعني بهذا العلم والتبحر في مطالع أجرامه ومواسمه وأنوائه .في
البحر والصحراء ،ال تستطيع أن حتدد موقعك وال تعرف الشرق من الغرب وال الشمال من اجلنوب
إال بفضل تلك اخلريطة النيرة املبسوطة في السماء ،وال بد أن تعرف مطلع كل جنم وموقعه وحركته
في كل فصل ،بل وفي كل شهر.
اليوم النجمي يقل عن اليوم الشمسي نحو أربع دقائق إال قليال ،وذلك بسبب ميالن محور األرض؛
ثوان كل يوم.
وهذا يعني أن النجم يبكر في الطلوع أربع دقائق إال أربع ٍ
ال من أول يوليو /متوز ،على سبيل املثال، فلو تأملت الثريا ،وحددت موقعها في الساعة العاشرة لي ً
ستراها في مثل هذا التاريخ من السنة التالية في موقعها ذاته ،وهذا يعني أن السنة النجمية تزيد
السنة الشمسية يوما كامال كل سنة.
لم تكن سهرة مألوفة ،ومن املؤسف أنها لم تتكرر .املشاعر واخلواطر واألحالم التي عشتها في
تلك التجربة املدهشة حملتني عبر األجيال السالفة مئات السنني .ويوم زرت املرصد الفلكي في
ضاحية سمرقند ،وهو من آثار العصر الذهبي في احلضارة العربية أيام كانت بغداد عاصمة الدنيا
شرقا وغربا ،تذكرت رحلة البادية الشامية ..وأخذت أطل من الشبابيك ال ّثُمانية في جدران املرصد
الثماني ،لعلَّي أرى وميض جنم بعيد ولو في عز الظهيرة! لكن الزمن تغير ،وموجات الغزو نسفت تلك
األطياف احلضارية املشرقة على قاع التاريخ...
وأعود إلى نزهتنا في بادية الشام ،وإلى تلك احللقة الطالبية املستغرقة في حديث األستاذ وجتواله
في فضاء سماوي كاخليال .والسؤال املدهش الذي سألنا إياه األستاذ كان :أتعرفون ما هي أضخم
سفينة فضائية مأهولة؟ وحني عجزنا عن اجلواب قال :ال جتنحوا وراء اخليال ،نحن اآلن على منت
هذه السفينة ،وإن كنا ال نحس بحركتها! فاألرض تدور حول نفسها مرة كل يوم ،وتدور حول الشمس
مرة كل سنة ،والشمس وتوابعها تدور حول مركز املجرة (درب الت ّبانة) أو النهر اللّ َبني ،واملجرة تدور
حول مركز كوني ال علم لنا به ...وهكذا ننطلق في فضاء ال نهائي بسرعة خارقة ،من دون أن نشعر
بذلك.
ويبدو أن أجدادنا كانوا يدركون ذلك ،لكن كثيرا منهم آثر السكوت خوفا أن تكون نهايته كما انتهى
السهروردي واحلالج.
علي كنعان
166
Landmark كلمة
قبل بضع سنوات فوجئت خالل محاضرة لي في معرض فرنكفورت الدولي للكتاب موضوعها «الرحالة العرب
إلى أوروبا في القرن التاسع عشر ،واحلداثة» ،بتلك االنتباهة املميزة التي سجلتها النظرة األملانية إلى وحاهة
ال ال مفعوالً بك في كل وقت!فكرة أن تكون وصافاً عبر أدب الرحلة ال موصوفاً ..على الدوام ،أي فاع ً
كان وقتاً طيباً ،وأكاد أقول استثنائياً لي ،أن أملس عن قرب ،في الديار األملانية ،وقع الفكرة التي طاملا شغلتني،
وهي أن العرب لم يكن طوال الوقت كائناً عجيباً يقرأه األوروبيون ويحارون فيه! وأن هذا الكائن القادم من
ثقافة غير أوروبية ،لي ّواجه بثقافة طاملا انشغلت بشرقيته ،وعبرت عن انشغالها عبر وسائط بينها أدب الرحلة،
له نظر في الغرب ومدنيته ،مبنى على اخلبرة املباشرة.
وفي لقاءات حميمة جمعتني مرات بنخبة من الكتاب األملان من مشارب فكرية مختلفة ،أبدى البعض منهم
دهشة كبيرة من فكرة أن تكون هناك مصنفات عربية يعتد بها تعود إلى ثالثة قرون مضت ،مك ّرسة بصورة
مباشرة النطباعات ومالحظات وأفكار عن املدنية الغربية ،د ّونها مسافرون عرب حلوا في ظهراني األوروبيني،
وطافوا احلواضر األوروبية ودونوا يومياتهم .وقد اتسعت دهشتهم عندما نبهت إلى أن عدد هذه املصنفات في
الفترة التي أشرت إليها يكاد يربو على املائة مصنف.
ليس مفزعاً لثقافة أن ال تكون قرئت من قبل ثقافة أخرى ،ما دامت أعمال مؤلفيها لم تغادر اللغة التي كتبت
فيها ..إمنا املفزع أن جتهل الثقافة ذاتها .أن ال حتفظ ذاكرة القارئ العربي من مجمل أدب الرحلة العربي
الذي ميتد على مدار عشرة قرون سوى عمل أو اثنني ،هما ابن بطوطة وابن جبير للعموم ،وللمثقفني من
القراء ابن فضالن ،وأن ال حتفظ باملقابل من أدب الرحلة العربي إلى أوروبا سوى رفاعة رافع الطهطاوي
وأحمد فارس الشدياق ،وكلتا الرحتلني وضعتا في النصف األول من القرن التاسع عشر.
لقد علكت النخبة العربية اسم الطهطاوي حتى لم يعد مثقف يستطيع أن يغادر هذا االسم إلى سواه من
أسماء عشرات الرحالة الذين ال يقولون أهمية عنه ،وإلى الدرجة التي لم تبق للشدياق نفسه معاصر
الطهطاوي قارئاً متفكراً.
قرئ الطهطاوي معزوالً عن إرث كامل من أعمال الرحالة العرب املشارقة واملغاربة الذين سبقوه أو عاصروه،
فبات نسيج وحده ،وأوحى القراء والشارحون والصحافيون وحتى املفكرون من جنباء أمتنا ممن تناولوا نص
الطهطاوي على مدار القرن العشرين ،بفقر املكتبة العربية من أعمال النظرة إلى اآلخر ،أو على األقل بندرة
هذه النظرة ،بينما يتكشف لنا اليوم مع األعمال املتالحقة التي أخذت تظهر إلى النور ،مؤخراً ،أن الرحالة
العرب قبل الطهطاوي وبعده يتجاوز عددهم األلف ،وتتجاوز مصنفاتهم عددهم ،وهي مصنفات ثاوية في
مخطوطات وكراسات لم حتقق بعد ،وطبعات حجرية لم تعد في التداول ،ومؤلفات صدرت ملرة ولم تشغل
النخبة العربية املثقفة نفسها بالبحث عنها .بل إن الكثيرين من أبناء هذه النخبة لطاملا نظروا إلى هذا األدب
على أنه أدب وضيع .والتعبير هذا ليس لي وإمنا للمؤرخ الراحل نقوال زيادة الذي كان وما يزال من بني قلة من
املثقفني العرب الذين أبدوا انشغاالً بهذا األدب.
ومما يؤسف له أن أول انتباهة موضوعية وشاملة في التأريخ ألدب الرحلة العربي بصفته وثائق على وقوف
الثقافات في مرايا الثقافات ،والشعوب في مريا الشعوب ،وإن يكن ذلك عبر األفراد ،جاءت من مستعرب
روسي وليس من مؤرخ أو باحث عربي ،وأعني بها ذلك السفر الضخم الذي كتبه أغناطيوس كراتشكوفسكي
حتت عنوان «تاريخ األدب اجلغرافي العربي» ويقع في مجلدين ضخمني وما يزيد على األلف صفحة ،صرف
في تأليفهما خمسني عاماً .وبدءاً من هذا األثر التأريخي ميكن لقراء العربية أن يقفوا على مئات األعمال
واملؤلفني من جغرافيني وبلدانيني ورحالة ،ويكتشفوا بالتالي فداحة اجلهل بكل هذا الثراء.
168