You are on page 1of 4

‫جغرافية الثقافة‬

‫اإلله الذي أخرجه "هوكنج" من الكون‪...‬هل كان موجودًا أساسًا؟‬


‫محمد رضا محمد اللواتي ‪mohammed@alroya.net‬‬

‫رحم اهلل الفيلسوف الراحل "مرتضى المطهري" الذي عبرت بعض المحاقل الفلسفية العالمية عن سقوطه ص ريعا‬
‫برصاصات مباغتة ذات صباح‪ ،‬بأن عقال كليا قد أرداه الجهل قتيال‪ ،‬أقول رحمه اهلل‪ ،‬فبعد أن أنفق سنينا من عمره‬
‫منكبا على الفلسفة الغربية بمدارسها المتنوعة‪ ،‬خرج يصيح بأن المفاهيم الفلسفية التي تطارد اإلله لتحيله إلى بؤرة‬
‫العدم لدى الغربيين أو تلك التي تريد جره إلى ساحة الوجود عندهم‪ ،‬على درجة واحدة من القص ور‪ ،‬إذ أن ه ذا‬
‫اإلله الذي تتصارع حول الفلسفات هناك ال يمكن أن تتخذه حتى النملة إله لها!‬

‫كلنا نتذكر الفيلسوف االجتماعي الشهير "أوغست كونت"‪ ،‬الذي شكر اإلله نياب ة عن المجتم ع البش ري‪ ،‬ذل ك‬
‫للخدمات التي أسداها للناس‪ ،‬عندما كان الجهل يحكم عقولهم‪ ،‬فكانوا ال يعرفون لماذا تتصاعد السحب إلى الس ماء‬
‫لتمطر فيما بعد‪ ،‬فابتكروا اإلله ليقوم بهذه المهمة‪ ،‬وألنهم أيضا لم يكونوا يعرفون ما الذي يسبب الرع د تحدي دا‪،‬‬
‫كان اإلله الذي يرعد لثوران الغضب فيه هو التفسير األنسب‪ ،‬وهكذا فإن البرق الذي يلمع ليس غير أصابع ذل ك‬
‫القوي المتخفي وراء الغيوم المتراكمة‪ ،‬والذي يمسك النجوم ويجعلها كالفوانيس المعلقة حتى ال تقع على رؤس نا‪،‬‬
‫ولكن وبعد أن اتضحت أسباب الظواهر الطبيعية وكشف العلم عن أسرار الكون‪ ،‬ما عاد ضروريا أن يكون األل ه‬
‫موجودا‪ ،‬ومن هنا ال يسعنا إال أن نشكره لخدماته أبان عصور الجهل‪ ،‬ونودعه نهائيا‪.‬‬

‫واليوم‪ ،‬التفكير ذاته ولكن بنحو متطور جدا يخرجه لنا "هوكنج" في كتابه الش هير "‪ The Grand Design‬أو‬
‫التصميم الفخم" الذي يمكن تلخيصه في جملة واحدة وهي أن القانون الفيزيائي بإمكانه توليد أكوان متوازي ة وليس‬
‫الكائن فوق الطبيعي أو إله"‪ .‬هذه التفكير كان "هوكنج" يحوم حوله‪ ،‬فعال كما أشار محمد عبداهلل العليان في مقالت ه‬
‫المنشورة في الرؤية بتاريخ ‪ 21‬نوفمبر ‪ 2010‬بعنوان "أاكوان متعددة خير أم إله واحد"‪ ،‬في كتابه الذائع الص يت‬
‫"موجز في تاريخ الزمان"‪ ،‬فقد تساءل هناك "إذا كان الكون يضم تصاميمه في أعماقه وتتولد منه بذاتها فم اذا بقي‬
‫لإلله أن يفعل لكي يكون موجودا فعال؟"‪ .‬إذن‪ ،‬لم يعد لإلله "شغل" يقوم به فيما إذا أثبتنا أن الكون مغلق على نفسه‬
‫يحوي كل تلقباته وأشكاله في داخله ال بداية له وال نهاية‪ ،‬وهكذا فقد أضحى خارج رقعة شطرنج العوالم المتعددة‬
‫في النسق الواحد‪.‬‬

‫هذا اإلله تم صياغته وفقا لمباني الكنيسة القديمة وبعد ذلك دخل "هوكنج" و"دوكنز" من قبلهما "كونت" على الصعيد‬
‫االجتماعي و "كانط" على الصعيد الفلسفي‪ ،‬و "كارل ماركس" و "انجلز" وقبلهما "لينين" على صعيد تلفيقي بين أكثر‬
‫من جانب معرفي‪ ،‬أقول دخل هؤالء مع ذلك اإلله في حرب شعواء ال هوادة لها‪ .‬وذهبت مساعي "ديكارت" أدراج‬
‫الرياح لنجدته‪ ،‬ففي الوقت الذي سعى هذا األخير ووفقا لمنطق رياضي جديد تقديم يد العون لإلله الكنيسة‪ ،‬رم اه‬
‫معاصره "جون لوك" االنجليزي بسهام من نقود حادة أفقدت كل األمل في بقائه‪ ،‬ذلك ألن المف اهيم ال تي دش نها‬
‫"ديكارت" ألجل إنقاذ اإلله المزعوم وإبقاءه‪ ،‬كما وصفها "مطهري" من قبل‪ ،‬قاصرة عن أن تمارس هذا الدور‪ ،‬فلقد‬
‫تم تصور اإلله بشكل غير صحيح ثم أتبعته محاوالت محاربته أو الدفاع عنه‪ ،‬وكانت كلها على تنوعها على درجة‬
‫ذاتها من القصور‪ .‬إله "كونت" كان يمارس نشاطه في معزل عن األسباب الطبيعية‪ ،‬التي ما أن بلغه ا اإلنس ان‬
‫بالعلم‪ ،‬ألقى بفكرة اإلله بعيدا‪ ،‬فإما أن يكون ثمة سبب طبيعي يعمل‪ ،‬أو اإلله‪ ،‬وبما أنه تم اكتشاف الس بب‪ ،‬ع اد‬
‫اإلله خارج اللعبة! وإله "هوكنج" أيضا يشبه إلهه الذي تصوره في "موجز عن تاريخ الزمان" إلى حد بعي د إل ه‬
‫سلفه‪ ،‬فهو يعمل بنشاط وحيوية في جر الكون من الكثافة الحرجة إلى االمتداد الهائل هذا ع بر االنفج ار العظيم‪،‬‬
‫ذلك لتعذر فهم كيف يمكن للكون أن يقوم بجر نفسه ومد وجوده إلى هذا الحجم الح الي‪ ،‬ولكن طالم ا أن ثم ة‬
‫رياضيات ماورائية تلوح لنا بأمل في فهم كيف يتم هذا الفعل ذاتيا داخل الكون نفسه‪ ،‬فماذا سيتبقى لإلله المزعوم‬
‫من عمل يعمله؟ فهو إذن إله يعمل في عرض األسبباب الطبيعية وليس في طولها‪ ،‬فإما األسباب تعمل‪ ،‬وإما اإلله‪،‬‬
‫فإن عثرنا على السبب‪ ،‬زال العجب‪ ،‬عذرا زال اإلله!‬

‫هذا الفهم‪ ،‬ال أثر له في البيئة الشرقية للفلسفة‪ ،‬فهاهنا‪ ،‬قد تم التحقيق في مسائل اإللهيات بنحو محكم للغاي ة‪ .‬وفي‬
‫األسطر التالية سوف نعرض على قارئنا أحد أشهر وأدق أسلوب للتحقيق في هذه المسألة مارستها الفلسفة اإللهي ة‬
‫على يدي عبقريين كبيرين هما "الفارابي" و "ابن سينا"‪ .‬ونعد القارئ أن نرمي بكافة المصطلحات الفلسفية المعق دة‬
‫خارج األسطر التالية تماما حتى ال يضطر إلى اصطحاب معجم فلسفي صغير معه‪.‬‬

‫ليس من شك في أن سائر الكائنات التي تشكل سطح الكون هذا‪ ،‬والتي تتصف بالوجود والواقعية والتحقق‪ ،‬إما أن‬
‫يكون الوجود أمر ذاتي فيها وإما أن يكون قد إستعارته من غيره‪ .‬هذه القسمة إلزامية وال احتمال ثالث لها إطالقا‪.‬‬
‫ففي الحالة األولى‪ ،‬وهي حالة كون الوجود ذاتي في األشياء‪ ،‬فال يمكن تصور فقدانها للوج ود‪ ،‬وال يمكن أيض ا‬
‫تصور كسبها له‪ ،‬ذلك ألن الحالة الذاتية ال تنفك عن الذات على اإلطالق‪ .‬وفي الحالة الثانية‪ ،‬وهي التي ال يك ون‬
‫الوجود في األشياء ذاتيا فيها‪ ،‬فال شك أنه سيكون مستعارا في الكائنات‪ .‬وإال فلنتصور أن فقيرا معدما يتحرك من‬
‫نقطة "أ" إلى نقطة "ي"‪ ،‬وكل كل نقطة يصلها يكون قد تحسن وضعه ونال كماال ما وحصد أمواال‪ .‬ومن الواض ح‬
‫تماما أنه من المستحيل أن تكون ذاته مصدر غناه‪ ،‬ففاقد الشيء ال يعطي أمر عقلي ال يقبل النقض‪.‬‬

‫ولنتأمل الكون اآلن لنرى هل أن الوجود ظاهرة ذاتية فيه؟ أم أنها مستعارة؟ ال شك أن سائر العالمات تحكي عن‬
‫فقره الذاتي بمنتهى الوضوح! فلقد تحرك وفقا للفيزياء الكونية من نقطة الكثافة الحرجة‪ ،‬واتسع هذا التوسع الهائل‪،‬‬
‫وحصد كل تلك الكائنات التي تمأل سطحه‪ .‬وهذه الكائنات بدورها في حالة فقد وكسب مستمرين‪ .‬فتحتم القول بأن‬
‫ظاهرة التحقق والتواجد مستعارة فيه‪.‬‬

‫ولنتحدث اآلن عن مصدر هذه االعارة وهذا الوجود‪ ،‬هل من الممكن أن يكون عددا ال نهائيا من الموجودات أم أن‬
‫العدد ال بد أن يقف عند موجود غني بالذات هو المضفي على الكون حياته ووجوده؟ لنف ترض أوال أن للوج ود‬
‫مصادر عديدة ال نهائية تتصاعد أزال أبدا بال توقف‪ ،‬ولنرى مدى إمكانية العقل قبول هذه النتيجة‪ .‬ل و أن قائ دا‬
‫عسكريا أعطى أمرا لمن تحته من ضابط للقيام بمهمة ما‪ ،‬وهذا بدوره أمر من تحته من الجنود بالقي ام بالمهم ة‪،‬‬
‫فإن المهمة سوف تنجز‪ .‬لكن لنفترض أن القواد عدهم ال نهائي‪ ،‬فهل سوف تصل النوبة للجندي لكي ينفذ؟ حتما ال‬
‫ألن السلسلة باتت ال نهائية! لكن العالم ق تحقق‪ ،‬ومعنى هذا أن األمر قد تم تنفيذه‪ ،‬فالسلسلة تنتهي عن د مص در‬
‫للوجود غني بالذات‪ ،‬ال ثمة سبيل إلى إلغائه‪ ،‬ألن مؤداه إلغاء الوجود كله‪ .‬هذه النتيجة المستندة على منطق عقلي‬
‫محكم صاغه نصير الدين الطوسي في جملة واحدة وهي ‪ " :‬واجب الوجود موجود وإال استلزمه"‪.‬‬

‫ختاما أود أن أهمس في أذن الدكتور خالد العزري قائال‪ " :‬ال تتعجب عزيزي ال دكتور من ع دم تلقي المحاف ل‬
‫الثقافية العربية كتاب هوكنج الجديد باالهتمام الكافي ذلك ألنه ال ثمة جديد حقيقي فيه"‪.‬‬

You might also like