Professional Documents
Culture Documents
ت ِّمنَ ْٱلهُد َٰى َو ْٱلفُرْ قَا ِن فَ َمن َش ِه َد نز َل فِي ِه ْٱلقُرْ ُ ُ
اس َوبَيِّنَ ٰـ ٍ آن هُدًى لّلنَّ ِ ضانَ ٱلَّ ِذى أ ِ ﴿ َش ْه ُر َر َم َ
ص ْمهُ َو َمن َكانَ َم ِريضًا أَوْ َعلَ ٰى َسفَ ٍر فَ ِع َّدةٌ ّم ْن أَي ٍَّام أُ َخ َر ي ُِري ُد ٱهَّلل ُ بِ ُك ُم ِمن ُك ُم ال َّشه َْر فَ ْليَ ُ
ْٱليُ ْس َر َوالَ ي ُِري ُد بِ ُك ُم ْٱل ُع ْس َر ..
قال ابن كثير" :يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن
إلنزال القرآن العظيم" [.]1
ش ْه ُر
قال ابن رجب الحنبلي" :وشهر رمضان له خصوصية بالقرآن كما قال تعالىَ ﴿ :
ضانَ ٱلَّ ِذى أُن ِز َل فِي ِه ٱ ْلقُ ْرآنُ ﴾" [.]2
َر َم َ
وعن ابن عباس رضي هللا عنهما قال :كان النبي صلى هللا عليه وسلم أجود الناس
بالخير ،وأجود ما يكون في شهر رمضان؛ ألن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر
رمضان حتى ينسلخ ،يعرض عليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم القرآن ،فإذا لقيه
جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة [.]3
قال ابن رجب" :دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان واالجتماع على
ذلك ،وفيه دليل على استحباب اإلكثار من تالوة القرآن في شهر رمضان" [.]4
قال ابن كثير" :يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ،ويؤمنون به،
ويعملون بما فيه من إقام الصالة واإلنفاق مما رزقهم هللا تعالى في األوقات
المشروعة ليالً ونهاراً ،سراً وعالنيةـ ﴿يَ ْر ُجونَ تِ َج ٰـ َرةً لَّن تَبُو َر﴾ أي يرجون ثوابا ً عند
هللا ال بد من حصوله" [.]5
ش ُر ٱ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ٱلَّ ِذينَ يَ ْع َملُونَ وقال عز وجل﴿ :إِنَّ َه ٰـ َذا ٱ ْلقُ ْرءانَ يِ ْه ِدى لِلَّتِى ِه َى أَ ْق َو ُم َويُبَ ّ
ون بِٱآل ِخ َر ِة أَ ْعتَ ْدنَا لَ ُه ْم َع َذابًا أَلِي ًم﴾ت أَنَّ لَ ُه ْم أَ ْج ًرا َكبِي ًرا * وأَنَّ ٱلَّ ِذينَ الَ يُ ْؤ ِمنُ َـ
ص ٰـلِ َحا ِ
ٱل َّ
[اإلسراء.]10 ،9:
قال ابن جرير" :يقول تعالى ذكره إن هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى
هللا عليه وسلم يرشد ويسدد من اهتدى به ﴿ ِللَّتِى ِه َى أَ ْق َو ُم﴾ يقول :للسبيل التي هي
أقوم من غيرها من السبل ،وذلك دين هللا الذي بعث به أنبياءه وهو اإلسالم ،يقول جل
ثناؤه :فهذا القرآن يهدي عباد هللا المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضل عنها سائر
أهل الملل المكذبين به" [.]6
ٱلصدُو ِر شفَاء ِل َما فِى ُّ اس قَ ْد َجاء ْت ُك ْم َّم ْو ِعظَةٌ ّمن َّربّ ُك ْم َو ِ وقال عز وجلٰ ﴿ :يأ َ ُّي َها ٱلنَّ ُ
ض ِل ٱهَّلل ِ َوبِ َر ْح َمتِ ِه فَبِ َذلِ َك فَ ْليَ ْف َر ُحو ْا ُه َو َخ ْي ٌر ّم َّما
َو ُهدًى َو َر ْح َمةٌ لّ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ * قُ ْل بِفَ ْ
يَ ْج َم ُعونَ ﴾ [يونس.]58 ،57:
قال ابن كثير" :يقول تعالى ممتنا ً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله
الكريمٰ ﴿ :يأ َ ُّي َها ٱلنَّ ُ
اس قَ ْد َجاء ْت ُك ْم َّم ْو ِعظَةٌ ّمن َّربّ ُك ْم﴾ أي زاجراً عن الفواحش ﴿ َو ِ
شفَاء
ٱلصدُو ِر﴾ أي من الشبه والشكوك ،وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس ﴿ َو ُهدًى
ِل َما فِى ُّ
َو َر ْح َمةٌ﴾ أي يحصل به الهداية والرحمة من هللا تعالى ،وإنما ذلك للمؤمنين به
ض ِل ٱهَّلل ِ َوبِ َر ْح َمتِ ِه فَبِ َذلِ َك فَ ْليَ ْف َر ُحو﴾
والمصدقين الموقنين بما فيه وقوله تعالى﴿ :قُ ْل بِفَ ْ
أي بهذا الذي جاءهم من هللا من الهدى ودين الحق فليفرحوا ،فإنه أولى ما يفرحون
به ﴿ ُه َو َخ ْي ٌر ّم َّما يَ ْج َم ُعونَ ﴾ أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة ال
محالة" [.]8
ش ٰـبِها ً َّمثَانِ َـي تَ ْقش َِع ُّر ِم ْنهُ ُجلُو ُد ٱلَّ ِذينَ وقال سبحانه﴿ :ٱهَّلل ُ نَ َّز َل أَ ْح َ
سنَ ٱ ْل َح ِدي ِ
ث ِكتَ ٰـبا ً ُّمتَ َ
يَ ْخش َْونَ َربَّ ُه ْم ثُ َّم تَلِينُ ُجلُو ُد ُه ْم َوقُلُوبُ ُه ْم إِلَ ٰى ِذ ْك ِر ٱهَّلل ِ َذلِ َك ُهدَى ٱهَّلل ِ يَ ْه ِدى بِ ِه َمن يَشَاء
ضلِ ِل ٱهَّلل ُ فَ َما لَهُ ِمنْ هَا ٍد﴾ [الزمر.]23:
َو َمن يُ ْ
قال ابن كثير" :هذا مدح من هللا عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله
الكريم" [.]9
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي" :فأحسن الحديث كالم هللا ،وأحسن الكتب
المنزلة من كالم هللا هذا القرآن ،وإذا كان هو األحسن عُلم أن ألفاظه أفصح األلفاظ
وأوضحها ،وأن معانيه أجل المعاني؛ ألنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه متشابها ً في
الحسن واالئتالف وعدم االختالف بوجه من الوجوه حتى إنه كلما تدبره المتدبر،
وتفكر فيه المتفكر رأى من اتفاقه حتى في معانيه الغامضة ما يبهر الناظرين ،ويجزم
بأنه ال يصدر إال من حكيم عليم" [.]10
وعن أبي موسى األشعري رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا عليه وسلم( :مثل الذي
يقرأ القرآن كاألترجة طعمها طيب وريحها طيب ،والذي ال يقرأ القرآن كالتمرة طعمها
طيب وال ريح فيها ،ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها
م ّر ،ومثلـ الفاجر الذي ال يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر وال ريح فيه) [.]11
قال ابن بطال" :لما كان ما جمع طيب الريح وطيب المطعم أفضل المأكوالت ،وشبه
النبي صلى هللا عليه وسلم المؤمن الذي يقرأ القرآن باألترجه التي جمعت طيب الريح
وطيب المطعم ،دل ذلك أن القرآن أفضل الكالم" [.]12
وقال النووي" :فيه فضيلة حافظ القرآن" [.]13
وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا عليه
وسلم قال( :خيركم من تعلم القرآن وعلّمه) وأقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في إمرة
عثمان حتى كان الحجاج ،قال :وذلك الذي أقعدني مقعدي هذ [.]14
قال ابن بطال" :حديث عثمان يدل أن قراءة القرآن أفضل أعمال البر كلها؛ ألنه لما
كان من تَعلّم القرآن أو علمه أفضل الناس وخيرهم د ّل ذلك على ما قلناه؛ ألنه إنما
وجبت له الخيرية والفضل من أجل القرآن ،وكان له فضل التعليم جاريا ً ما دام كل من
علمه تالياً" [.]15
وعن ابن عمر رضي هللا عنهما قال :سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول( :ال
حسد إال على اثنتين :رجل آتاه هللا الكتاب وقام به آناء الليل ،ورجل أعطاه هللا ماالً
فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار) [.]16
قال ابن كثير" :ومضمون الحديث أن صاحب القرآن في غبطة وهي حسن الحال،
فينبغي أن يكون شديد االغتباط بما هو فيه ،ويستحب تغبيطه بذلك" [.]17
وعن عائشة رضي هللا عنها قالت :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :الماهر
بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ،والذي يقرأ القرآن ويتتعتعـ فيه وهو عليه شاق له
أجران) [.]18
قال القاضي عياض" :يحتمل -وهللا أعلم -أن له في اآلخرة منازل يكون فيها رفيقا ً
للمالئكة السفرة التصافه بوصفهم بحمل كتاب هللا ،ويحتملـ أن يكون المراد أنه عامل
لعمل السفرة وسالك مسلكهم" [.]19
وعن البراء بن عازب رضي هللا عنهما قال :كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه
حصان مربوط بشطَنَ ْين ،فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو ،وجعل فرسه ينفر ،فلما
أصبح أتى النبي صلى هللا عليه وسلم فذكر ذلك له فقال( :تلك السكينة تنزلت للقرآن)
[.]20
قال النووي" :قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء ،والمختار منها :أنها شيء من
مخلوقات هللا تعالى فيه طمأنينةـ ورحمة ،ومعه المالئكة ،وفي الحديث فضيلة القراءة
وأنها سبب نزول الرحمة وحضور المالئكة ،وفيه فضيلة استماع القرآن" [.]21
وعن عقبة بن عامر رضي هللا عنه قال :خرج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ونحن
في الصفة فقال( :أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه
بناقتين َك ْوماو ْين [ ]22في غير إثم وال قطع رحم)؟ فقلنا :يا رسول هللا نحب ذلك،
قال ( :أفال يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب هللا عز وجل خير له
من ناقتين وثالث خير له من ثالث ،وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من اإلبل؟)
[.]23
قال أبو العباس القرطبي" :ومقصود الحديث الترغيب في تعلم القرآن وتعليمه،
وخاطبهم على ما تعارفوه ،فإنهم أهل إبل ،وإال فأق ّل جزء من ثواب القرآن وتعليمه
خير من الدنيا وما فيها" [.]24
_______________________
[ ]1تفسير القرآن العظيم (.)1/222
[ ]2لطائف المعارف (ص.)315
[ ]3رواه البخاري :فضائل القرآن ،باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى
هللا عليه وسلم ( ،)4997ومسلم :الفضائل (.)2308
[ ]4لطائف المعارف (ص )315بتصرف يسيرـ
[ ]5تفسير القرآن العظيم (.)3/561
[ ]6جامع البيان (.)8/43
[ ]7جامع البيان (.)8/139
[ ]8تفسير القرآن العظيم (.)2/436
[ ]9تفسير القرآن العظيم (.)4/55
[ ]10تيسير الكريم الرحمن (.)464-6/463
[ ]11أخرجه البخاري :فضائل القرآن ،باب فضل القرآن على سائر الكالم (،)5020
ومسلم :صالة المسافرين (.)797
[ ]12شرح البخاري (.)10/256
[ ]13شرح صحيح مسلم (.)6/83
[ ]14أخرجه البخار ي :فضائل القرآن ،باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (.)5027
[ ]15شرح البخاري (.)10/265
[ ]16أخرجه البخاري :فضائل القرآن ،اغتباط صاحب القرآن ( ،)5025ومسلم:
صالة المسافرين (.)815
[ ]17فضائل القرآن البن كثير (ص.)129
[ ]18أخرجه البخاري :التفسير ،سورة عبس ( ،)4937ومسلم كتاب :صالة
المسافرين باب :نزول السكينةـ لقراءة القرآن.)798( .
[ ]19إكمال المعلم (.)3/166
[ ]20أخرجه البخاري :فضائل القرآن ،فضل الكهف ( ،)5011ومسلم :صالة
المسافرين (.)795
[ ]21شرح صحيح مسلم (.)6/82
[ ]22ال َك ْوماء من اإلبل :مشرفة السنام عاليته (النهاية في غريب الحديث .)4/211
[ ]23أخرجه مسلم كتاب :صالة المسافرين باب :فضل قراءة القرآن في الصالة
وتعلمه (.)803
[ ]24المفهم (.)2/429
المعجزةـ الكبرى:
نعلم جميعًا أن القرآن الذي بين أيدينا هو أكبر وأعظم
معجز ٍة جاءت من عند هللا ،وأعظم من عصا موسى
وناقة صالح عليهما السالم ،وغيرهما من المعجزات،
فما هو سر هذه المعجزة والذي جعلها تتفوقـ على كل
ما سبقها من معجزات؟ قد يجيب البعض بأن معجزة
القرآن تكمنـ في أسلوبه وبالغته ،وتحدي البشر به،
وأنه صال ٌح لكل زمان ومكان و...إلخ.
نعم؛ هذا كله من أوجه إعجاز القرآن ،ولكن يبقىـ سر
إعجازه األعظم في قدرته على التغيير...ـ تغييرـ أي
حال يكون فيه ليتحول من خالله إلى إنسان ،ومن أي ٍ
عالم باهلل عاب ٍد له في كل أموره وأحواله،
إنسان آخر ٍ
ٍ
حتى يتمثلـ فيه قوله تعالى{:قُل إن صالتي ونُسُكيـ
ي ومماتيـ هلل رب العالمين}[األنعام.]162 :
ومحيا َ
كيفية التغيير:ـ
والتغييرـ الذي يُحْ ِدثُه القرآن يبدأ بدخول نورهـ إلى
القلب ،فكلما دخل النور إلى جز ٍء من أجزائه ب َّد َد ما
يقابله من ظلم ٍة أحدث ْتها المعاصي والغفالت واتباع
الهوى .وشيئًا فشيئًا يزداد النور في القلب ،وت ُدبُّ
الحياة في جنباته ،ليبدأ صاحبه حياةً جديدةً لم يعهدها
من قبل .قال تعالى{:أ َو َم ْن كان َم ْيتًا فأحييناهـ وجعلنا له
نو ًرا يمشي به في الناس َك َم ْن مثلُهُ في الظلمات ليس
بخارج منها}[األنعام:ـ .]122فالقرآن إذن هو الروح ٍ
ث في القلب فتحييه .قال تعالى{:وكذلك أوحينا التي تُبَ ُّ
إليك رُو ًحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتابُ وال
اإليمان ولكن جعلناه نو ًرا نهدي به من نشاء من ُ
عبادنا}[الشورى.]52 :
وعندما تُبثـ الروح في القلب ،وتمتلئـ جنباته بنور
اإليمان؛ فإن هذا من شأنه أن يطرد الهوى وحب
الدنيا من القلب ،مما يكون له أبلغ األثر على سلوك
العبد واهتماماته ،وهذا ما أوضحه صلى هللا عليه
وسلم للصحابة عندما سألوه عن معنى انشراح الصدر
الذي جاء في قوله تعالى{:أفَ َمن شر َح هللا صدره
نور من ربه}[الزمر ،]22 :فقال لإلسالم فهو على ٍ
القلب انشرح
َ صلى هللا عليه وسلم":إذا دخل النو ُر
وانفتح" ،قلنا :يا رسول هللا ،وما عالمة ذلك؟
قال":اإلنابة إلى دار الخلود ،والتجافي عن دار
الغرور ،واالستعداد للموت قبل نزوله"[أخرجه
الحاكم والبيهقيـ في الزهد].
ُ
القرآن الصحابة؟! لماذا غيَّر
الذي َم َّكن القرآن على إحداث هذا التغييرـ الجذري في
جيل الصحابة هو حسن تعاملهم معه ،بعد أن أدركوا
قيمته وفهموا المقصد من نزوله .ولقد كان أستاذهم
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قدوتهم في ذلك؛ فلقد
عايش صلى هللا عليه وسلم القرآن بكيانه كله
ٌ
قرآن يمشي وانصبغتـ حياته به ،حتى صار وكأنه
على األرض ،يغضبـ لغضبه ،ويرضى لرضاه .كان
القرآن قراءةً متأنية ُمتَرسِّلة،
َ صلى هللا عليه وسلم يقرأ
فيرتل السورة حتى تصبح أطو َل من أطول منها ،ولقد
ظل صلى هللا عليه وسلم ليلةً كاملةً يردد في صالته
ْ
تعالى{:إن تعذبهم فإنهم عبا ُدك آيةً واحدةً وهي قوله
وإن تغفر لهم فإنك أنت العزي ُز الحكيم}[المائدة:ْ
.]118بل إنك لتعجبُ من قوة تأثير القرآن على
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عندما يخبرنا بقوله":
شيبتنيـ هو ٌد وأخواتها قبل المشيب"[صحيح الجامع
الصغير ،ح(.])3721
أما تأثير القرآن على الصحابة؛ ف َخي ُر ٍ
دليل عليه هو
واقعهم الذي تبدل ،واهتماماتهمـ التي تغيرت،ـ ْ
فإن
أردت مثاالً لكيفية معايشة الصحابة للقرآن وقوةَ
تأثيره عليهم ،فانظر إلى أمر َعبَّاد بن بِ ْشر الذي كان
يتبادل حراسة المسلمين مع ع َّمار بن ياسر في غزوة
ذات الرِّ قاع ،فطلب من عمار ،وقد كان ُمجْ هَ ًدا ،أن
ينام أول الليل ويقف هو ،فلما رأى أن المكان آ ِم ٌن
بسهم فنزعه وأكمل ٍ صلى ،فجاء أحد المشركين فرماه
ثان فنزعه وأكمل صالته ،ثم بسهم ٍٍ صالته ،ثم رماه
ث فنزعه وأنهى التالوة وأيقظ ع ّمارًا وهو رماه بثال ٍ
يوقظه أول ما رُميْ ساجد ،فلما سأله عمار لِ َم لَ ْم
أجاب( :كنت في سور ٍة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها َ
ركعت فآذ ْنتُك ،وأيْم
ُـ ي الرمي حتى أنفدها ،فلما تابع عل َّ
هللا؛ لوال أن أُضيع ثغ ًرا أمرني رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو
أنفدها)[السيرة النبوية البن هشام].
بركة القرآن:
إذن فقيمة القرآن الحقيقية تكمن في معانيه ،وقدرته
على إحداث التغييرـ الجذري لقارئه ،وإعادة صياغة
عقله ،وبث الروح في قلبه ،وترويض نفسه ،ليخرج
ص وعلى منه عال ًما باهلل عز وجل ،عاب ًدا له بإخال ٍ
بصيرة ،وهذا لن يتحقق بمجرد القراءة العابرة
باللسان فقط ،ولو ت َّم ختمه بهذه الطريقة آالف
المرات.
وهذا ما كان يؤكد عليه الصحابة-رضوان هللا عليهم-؛
فقد قيل للسيدة عائشة-رضي هللا عنها :-إن أُناسًا يقرأ
أحدهم القرآن في ليل ٍة مرتين أو ثالثًا ،فقالت :قرؤوا
ولم يقرؤوا ،كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقوم
ليلة التمام فيقرأ سورة البقرة،ـ وسورة آل عمران،
وسورة النساء ،ال يمر بآي ٍة فيها استبشا ٌر إال دعا هللا
ٌ
تخويف إال دعا تعالى ورغب ،وال يمر بآي ٍة فيها
واستعاذ[أخرجه ابن المبارك في الزهد] .وعن أبي
لت البن عباس :إني سريع القراءة ،وإني جسرة قال :قُ ُ
أقرأ القرآن في ثالث ،فقال :ألَ ْن أقرأ البقرةَ في ليلة
فأ َّدبَّرها وأُ َرتِّلها أحب إل ّي من أن أقرأ كما
تقول[فضائل القرآن ألبي عبيد] .ومن وصايا ابن
مسعود-رضي هللا عنه :-ال ته ُّذوا القرآن ه َّذ الشعر،
وال تنثروهـ نثر الدقل ،وقِفُوا عند عجائبه ،و َحرِّ كوا به
القلوب ،وال يكن هَ ُّم أحدكم من السورة
آخرها[مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر] .ويؤكدـ
على هذا المعنى اآلجري في كتابه (أخالق حملة
القرآن) فيقول( :والقليل من الدرس للقرآن مع التفكر
فيه وتدبرهـ أحب إل ّي من قراءة الكثير من القرآن بغيرـ
تدبر وال تفكرـ فيه ،وظاهر القرآن يدل على ذلك،
رجل
ٍ والسُّنة وأقوال أئمة المسلمين .سُئل مجاهد عن
ورجل قرأ البقرة ،قراءتهما ٍ قرأ البقرة وآل عمران،
واحدة ،وركوعهما وسجودهما وجلوسهما ،أيهما
أفضل؟ فقال :الذي قرأ البقرة ،ثم قرأ{:وقرآنًا فَ َر ْقنَاه
ث}[اإلسراء:ـ .]106 لِتَ ْقرأهُ على الناس على ُم ْك ٍ
حالنا مع القرآن:
يا أخي؛ أنت تعلم أن القرآن الذي بين أيدينا هو نفس
القرآن الذي كان مع الصحابة ،وهو الذي صنع منهم
هذا الجيل الفريد!! فما الذي تغير؟! لماذا لم يَعُد
القرآن يُ ْنتِجـ مثل هذه النماذج؟! هل فقد مفعوله؟!
ُ
حاشاه أن يكون كذلك ،وهو المعجزةـ الخالدة إلى يوم
القيامة .إذن فالخلل فينا نحن ،فمع وجود المصاحف
في كل بيت،ـ وما تبثه اإلذاعات لي َل نها َر من آيات
القرآن ،ومع وجود عشرات بل مئات اآلالف من
ال ُحفَّاظ على مستوى األمة وبصور ٍـة لم تكن موجودة
في العصر األول ،إال أن األمة لم تَجْ ِن ثمارًا حقيقيةً
لهذا االهتمام بالقرآن ...لماذا؟ ألننا ال نوفر للقرآن
الشروط التي يحتاجها لتظهر آثار معجزته ،ويقوم
بمهمة التغيير؛ـ فلقد اقتصر اهتمامنا بالقرآن على
لفظه ،واختُ ِزل مفهوم تعلُّم القرآن على تعلم حروفه
وكيفية النطق بها ،دون أن يصْ َحب ذلك تعلم معانيه،
وأصبح الدافع الرئيسي لتالوته هو نيل الثوابـ
معان هادية ٍ واألجر دون النظر إلى ما تحمله آياته من
وشافي ٍة ،مما جعل الواح َد منا ي ْس َر ُح في أودية الدنيا
وهو يقرأ القرآن ،ويُفا َجأ بانتهاءـ السورة ليبدأ في
غيرها ،ويبدأ في السرحان مرةً أخرى ،دون أن يجد
حر ًجا في ذلك ،بل إنه في الغالب ما يكون سعي ًدا
وفَ ِر ًحا بما أنجزه من قراء ٍة َك ّـًًّما ال َك ْيفًا .نُدير مؤ ِّشر
المذياع على صوت قارئ القرآن ثم نتركه يرتل ِ
اآليات ،ويخاطب بها الجدران ،ثم ينصرف ك ٌّل ِمنّا
إلى ما يشغله.
وبعد
يصعب علينا األخ َذ ُـ فهذه سب ُع وسائل ال نجد فيها ما
به ،وال يبقىـ بعد ذلك إال الرغبة الصادقة في التغيير،
هذه الرغبة التي ال نشك أنها متوفرةـ لدى الجميع-
نحسن التعبير عنها بفضل هللا عز وجل ،-وعلينا أن ِ
بدعاء هللا عز وجل وسؤاله تيسيرـ طريق العودة إلى
القرآن واالنتفاع به ،قال تعالى{:وقال رب ُك ُم اُ ْد ُعوني
أستجبْ لكم}[غافر.]60 :
ِ
ولنضع نُصب أعيننا هدفًا محد ًدا نسعى للوصول إليه،
أال وهو القلب الحي ،والذي أخبر عن أمارته رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم بقوله":اإلنابة إلى دار
الخلود ،والتجافي عن دار الغرور ،واالستعداد للموت
قبل نزوله"[سبق تخريجه] .ولنستمرـ على قراءة
القرآن-بهذه الطريقة -طيلةَ حياتنا ،فالقرآن هو نِعم
القائد إلى هللا في هذه الحياة المليئة بالفتن والشهوات.
وخاصة أن الصحابى الجليل أبا موسى األشعري رضي هللا عنه قال عندما علم بأن
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يستمع إليه
وانتبه فال تتنفس من فمك كثيرا الن هذا يجفف الحبال الصوتية تدرب على أن يكون
تنفسك دوما من أنفك .