Professional Documents
Culture Documents
يحتاج مفهوم الغيرية أن يدقق معناه ،تمييزا له عن عبارات قد تجاوره أو تشمله ،فالغير يفهم في دللة الخر الخاص،
نعني بذلك ،أنا أخرى ،نعني الكائن النسان الذي يقابلني ،أي ما نقصد به الناس الخرين.
أما الخر في معناه الكثر اتساعا ،فإنه يعني كل ما يختلف عن الذات ليشمل بذلك الذوات الخرى ،و بقية الموضوعات.
و الغيرية هنا مفهوم فلسفي يتناول بالدراسة علقة أنا egoبآخر ،تلك النا التي تدرك من خلل وجهات نظر
فينومينولوجية ،ميتافيزيقية ،و اتقية ...Ethique
أما النية ،فهي كذلك مفهوم فلسفي ،لكنه يصف في دللة وجود الشيء choseو في فعل إثبات تحقق الشيء ،أي ما
يكون به الشيء و يتقّوم .لهذا فالنية قد تعني الجوهر و الماهية...لكنها إذا ما نظرنا إليها في سياق مبحث الذات ،قد
تعني ،الذاتية كذلك .
النية و الغيرية يمكن أن يفهما في سياقات متعددة ،لكن ما سيتم التركيز عليه ،هو قراءة هذا الزوج المفهومي في سياق
مبحث علقة النا بالخر أو بمعنى أدق قراءة علقة النسان بغيره على مستوى النوع و خلفه.
إن الحديث عن النية و الغيرية ،قد يعني في بعض سياقاته ،البحث في ماهية النسان ،أي ما يجعل النسان مختلفا عن
غيره من الشياء ،سواء في عملية التعرف على ذاته أو إثباتها في مستوى نظري أو عملي...كذلك في معنى تحققه و
أدوات هذا التحقق و أشكاله ...
و هي ليست أبدا عملية تحقق على منوال بقية الشياء ،بل إن لهذا الكائن نمطه الخاص في الوجود و في النشاط المحقق
لهذا الوجود...
سؤال النسان عن ماهيته) أنيته( ما هو؟ من يكون ؟ ليس وليد لحظة مخصوصة ،انه سؤال دائم .سؤال كائن يعي وجوده
و لكنه يريد أن يفهم أبعاد هذا الوجود ،ما الذي يبرره ما الذي يدعمه ،و ما هي غايته و منتهاه؟...
أسئلة ملحة ،حاول هذا الكائن بما ابتكر من أدوات و ما توصل إليه من رؤى أن يجيب عنها ،مقترحا في ذلك تصورات
عدة تتقاطع أحيانا و تتعارض أحيانا أخرى ،لكنها تبقى مع ذلك مجرد محاولت ل تروي ظمأه للمعرفة ،إذ مازال سؤال
النسان عن ذاته مستمرا و ما زال انفتاحه على الجوبة مطلقا ...
في سياق البحث عن إجابة تتعلق بماهية النسان ،تضافرت محاولت الفلسفة في إطار فهم مخصوص للنسان ،بدأ
ن ؟ فكان أن اقترحت الفلسفة ،عبر عملية تحليل نظري لبعاده مقارنة بغيره منبالجابة عن سؤال :ما يمّثل النسا َ
الكائنات ،العقل ،الفكر ،النفس العاقلة...ممثل للنسان ،فهذا الخير ليس إل الكيان النفسي ل الجسمي .إذ الجسم مكمن
الغريزة و الحيوانية ،ـ وما أسمى النساني على الحيواني ! ـ هذه المفاضلة بين النفسي و الجسدي ستصب في كون النية
هي العقلي ،هي النفس العاقلة ،وهكذا يكون " النسان هو النفس" ،و الجسد إنما هو هذا الخر الذي يفسد علينا إنسانيتنا
أحيانا ،لهذا كان " يجب أل يوجد" إذ هو عدوي ،خصمي ،ضدي سجني ،قيدي...هذا ما كانت الفلسفة الميتافيزيقية
و يؤمنون القديمة تتخذه موقفا من الجسد...أما الغير فسجناء أجسادهم و شهواتهم...يسكنون كهفا ،يعبدون الظلل ...
بالظْلمة .وهذا التعالي للنفس ) النا ( على الجسد ) الخر( سيترجم في سياق أخر ينتهي إلى تأكيد تعالي النا ) النفس(
على العالم الحسي) ظل ،وهم( و تجاوزها للزمن...و هي صورة و إن اتخذت في الفلسفة القديمة دللة النا التي تسعى
للخلص من سلطة المادة ،فقد اتخذت في الفلسفة الحديثة دللة النا التي تسعى لثبات ذاتها معرفة و وجودا ، ...مما أدى
في النهاية إلى اكتشاف " الكوجيطو" Cogitoالذي هو اكتشاف قائم على افتراض انفصال ماهوي بين :النا الوعي ،
والجسد ،العالم ،الغير .فأنا أدرك ذاتي دون حاجة للخر مهما كان ،فالجسد مجرد امتداد ،والحواس أدوات خداع ،و
العالم موضوع شك ،و الغير مصدر ارث معرفي هو نفسه موضوع ارتياب ...
هذا الفصل بين النية و الغيرية في اتجاه القول بذاتية خالصة سمتها التفكير ل غير ،يضع الغيرية موضع الهامش الذي
يدور في فلك النا ،دون أن يكون لهذا النا أن يدور في فلكه .
غير أن ما انتهت إليه الفلسفة التقليدية ) الحديثة( ،ل يصب في اتجاه دراسة أنطربولوجية ،أو دراسة للنسان كائنا طبيعيا
تاريخيا ينتمي إلى واقع موضوعي ،بل هي دراسة تأملية ،تجد في التفكير سبيل لدراك الحقائق اليقينية دون تأثر
بالمظاهر الخادعة للوقائع اليومية الحسية...وهو تقليد يقدس الفكر على حساب الوقائع ،و التصورات على حساب
الحداث ،إنها سمة الفلسفات الميتافيزيقية ،التي تنافسها فلسفات الواقع ،التاريخ و المادة...مما يعني إعادة العتبار
و شرطا في تمثل إنيته .فالنسان يظهر للهامش الذي سيصبح أصل ،و معيارا مميزا و محددا لنسانية النسان ،
كائنا تاريخيا يتحرك في فضاء من الحداث تصنع وعيه و توجهه ،و تحدد بشكل ضروري علقته بالخر ،سواء كان
الطبيعة التي يمثل جزءا منها ،أو الغير الذين يمثلون امتداده النوعي ،كائنا اجتماعيا ل يتحقق إل في النشاط الذي يربطه
بهم...إنية تحصل بمشاركة الخرين الحدث أي في صياغة التاريخ...مما يجعلها إنية متطورة ،صورة للنسان ل تتحقق
كماهية ثابتة مطلقة ،بل كماهية ) هوية( متطورة خاصة ) غرامشي )
و إن تصورا للنسان على هذه الشاكلة يعني أن نفهمه شرطا ،بما هو " كائن في العالم") هيدغر( ،هذا الكيان الذي ل
يعرف ذاته إل بأن يعترفا بالعالم ،و ل يتمثل وجوده كفكر إل به ) هوسرل ـ ، ( Husserlو ل يدرك ماهيته إدراكا
ملموسا مؤثرا إل فيه...كيانا في العالم ،هذا الخير الذي يكشفنا كما يؤكد "مرلوبنتي " Merleau-pontyشيئا ضمنه ،
و شيئا مكونا له..مع ما يعنيه العالم من فضاء هو فرصتي للقاء غيري و كشف ذاتي ،ل بما أنا وعي فقط ،بل بما أنا وعي
متجسد في العالم . ،هكذا تكون ذاتي نسيجا معقدا تؤلف ُلحمَته عناصر مختلفة ،لكنها ليست أبدا متباينة متناقضة...بل
بالعكس تماما ،متفاعلة في حيز من التبادل الجدلي .و هنا تكمن خصوصية التناول الفينومينولوجي للذات ،تلك التي تعيد
العتبار للجسد بصورة لم يسبق لها إل " نيتشه "– Nietzscheعندما جعل النا تسترد رشدها ،و ألزم "الوعي أن
يكون متواضعا" و أن يعترف بسيده الذي تمرد عليه فكان " أنا جسد" صورة جديدة لكوجيطو ينطق من خلله الجسد :أنا
النسان ،أنا الموجود الحق ،أنا السيد الصيل ...مما يعني تواضع الوعي.
و هو تواضع قرأ" فرويد "Freudبعد ذلك آثاره بصورة جديدة ،عندما نظر ل"النا النفسي" ضمن تشكيلة جديدة للقوى
المتصارعة ،مما يلغي تماما تلك الصورة المثالية للنا الديكارتي المستقل بذاته ،في اتجاه " أنا مسكين" تابع خادم...هذا
يعني صورة جديدة لنية تخترقها الغيرية بشكل كثيف ،ممثل في الجسد أحيانا ،و في الخرين أحيانا أخرى ،فكأن
الغيرية هي ما تكون عليه الغيرية ،و كأن الذات لم تعد تمتلك من ذاتها إل ما يشكله غيرها!...
ي الخرون ،و تنشطر إرادتي بين نداء الغريزة هكذا تذوب حريتي في سلطة لوعيي ،و تذوب شخصيتي في ما وضعه ف ّ
و تحذير القيم .معنى جديد للنسان ،يفترض مراجعة لكل أطروحاتنا حوله كما أكد ذلك " بول ريكور "P. Ricœurفي
تحليله لزمة الوعي ضمن فلسفات الظنة ) (Soupçonوهو نفسه الفيلسوف الذي نبهنا ،في إطار استعادته لقراءة العلقة
بين النية و الغيرية ضمن أفق إتيقي ،الى ما سماه بالبينذاتية ،Intersubjectivetéترجمة لفهٍم مخصوص لعملية تشكل
الذات و شروطها .تشكل ل يتحقق ال في اطار معنى التشارك و التفاعل ،تشارك يتجاوز الحضور المادي الموضوعي،
و التبادل المعرفي إلى مستوى تشارك نفسي عاطفي ،يجعلنا على أن نسكن الخر و يسكننا ،فنرى من خلله ذواتنا ،
مرآة تعكسنا في الخارج على حد عبارة " إ .موران ـ " "E.Morinفتصيبنا بالذهول"...هذا هو معنى الحضور الصيل
للغيرية ،ذلك الذي يصل مع " هيغل ـ "Hegelإلى مستوى الحاجة الضرورية ،التي تجعل وعيي بذاتي ل يكتمل
)موضوعيا( إل عبره ،هذا ما يحيل إليه منطق "جدلية السيد و العبد ".
أن ما يكشف عنه "ريكور" يتجاوز تماما ،فكرة إمكان إستقلل الذات بذاتها عن غيرها...و في كل مناحي وجودها .إن
الغيرية مؤلفة للنية ) الهوية( هذا معنى أن " الهو عينه غيرية"
،فل نعرف إنيتنا إل بها ،و ل ندركها وجودا إل بها ،ول نستشعرها إل بها...