You are on page 1of 19

‫الحجة في اللغة تفيد الدليل ‪ .

‬يقول الجرجاني في هذاالشأن‪" :‬الحجة ما دل به على صحة الدعوى‬


‫وقيل الحجة والدليل واحد" ومن حيث المقتضيات كشروط لمكان الحجة يقتضي المر وجود طرفين بينهما سجال أو‬
‫جدال‪.‬‬
‫يقول ابن منظورفي لسان العرب‪" :‬الحجة ما دوفع به الخصم‪ ،‬وهو رجل محجاج أي كثير الجدل‪،‬‬
‫والتحاج‪ :‬التخاصم‪،‬وحاجه محاجة وحجاجا‪ ،‬نازعه الحجة" والمحاججة جملة من الحجج التي يؤتى بها للبرهان على رأي‬
‫أو إبطال‪،‬‬
‫أو هو طريقة تقديم الحجج والستفادة منها‪" .‬والمحاجة هي إنتاج مجموعة حجج مرتبة بطريقة ما قصد إثبات أو تفنيد‬
‫قضية من القضايا‪ .‬وقد تعني المحاجة بتوسيع دللتها كل وسائل القناع باستثناء العنف والكراه"‪ .‬ومن حيث البناء‬
‫فالمحاججة تنبني على منطلقات غير يقينية‪ ،‬فميدانه هو الحتمال وليس ميدان الحقائق البديهية المطلقة‪،‬‬
‫فهناك دائما قسط من الشك مما يدفعنا دائما إلى البحث عن حجج من أجل تحقيق درجة أعلى من القناع‪ .‬أما من حيث‬
‫الوظيفة والدور فالمحاججة أداة تسعى إلى إقحام الخصم وإقناعه بمشروعية وصلحية الموقف‪.‬‬
‫ويمكننا أن نستنتج من هذا التحديد الدللي اللغوي الخلصات التالية‪:‬‬
‫ـ أنالحجاج يهدف إلى تأسيس موقف ما ومن هنا فهو يتوجه إلى متلقي‪ ،‬إنه يبحث دائما لخذ قبول وموافقة ذلك المتلقي‪.‬‬
‫ـ أن المحاججة يعتمد على تقديم عدد كبير من الحجج مختارة اختيارا حسنا ومرتبة ترتيبا محكما لتترك أثرها في المتلقي‪،‬‬
‫وهذه الخاصيةتجعله يتميز عن البرهنة‪.‬‬
‫ـ أن المحاججة يتعلق بالخطاب الطبيعي من جهتي الستعمال والمضمون‪ ،‬فهو ذو فعالية تداولية جدلية‪.‬‬
‫ـ أن المحاججة تهدف إلى جعل العقول التي يتوجه إليها تنخرط في الطروحة أو الدعوى‪.‬‬
‫ـ أن مجال المحاججة هومجال الحتمال وليس مجال الحقائق البديهية المطلقة‪.‬‬
‫المحاججة عملية استدللية في شكل متوالية من الرموز التي لها بذاتها‪ ،‬إنه نص اقتراني استدللي حسابي "ويلزم عن هذه‬
‫الخاصية الحسابية للبرهان‪ ،‬أنه في المكان إقصاء المستدل إقصاء كليا… إن طبيعته آلية صورية لهتمامه بالعلقات دون‬
‫المضمون المادي للقضايا"‪.‬‬
‫*أنه أحادي المعنى ‪ Unique‬لنه يرتبط باللغة الصطناعية ل اللغة الطبيعية ومن هنا استقلليته عن كل فعل تداولي‪.‬‬
‫*إنه ل يتوجه إل لذاته‪.‬‬
‫إن مفهوم المحاججة في دللته الفلسفية يسعى إلى الوصف والظهار والكشف عن المنطق الداخلي للخطاب لمعرفة مدى‬
‫تماسك وانسجام عناصره‪ ،‬ومدى صحة حججه وأدلته ‪ ،‬وهي النتيجة التي ينتهي إليها ‪Gaston Gra‬‬
‫حجاج‬
‫نظرية ال ِ‬

‫ُمساهمة ‪ Admin‬في الثلثاء ديسمبر ‪am 1:40 2010 ,21‬‬


‫‪ 1‬ـ توطئة‪:‬‬

‫تندرج هذه الدراسة في سياق الكشف عن خصائص البنية الخطابية للحجاج من منظور ثلة من الدارسين الذين عنوا‬
‫بتوصيف الحجاج كعملية لسانية عقلية متعددة الغراض والنساق‪ ،‬مع تبيان أنواع الحجج‪ ،‬وكيفية بنائها وترتيبه لتحقيق‬
‫الترابط النصي‪ ،‬وتفسير بياناتها؛ والفرق بين الحجاج السليم والمغالط‪ ،‬وهذا قصد تحقيق أغراض المحاجج في المجادلة أو‬
‫المحاورة أو المناظرة أو الخطبة أو أي نمط لساني يعتمد على الحجاج طلبًا للقناع أو التأثير في الخر‪ ،‬ولعل التصور‬
‫التالي يعكس هذا المبتغى‪:‬‬

‫مقدمة وتعريف‬

‫تطلق لفظة حجاج ومحاججة ‪Argumentation‬عند بريلمان وتيتيكاه على العلم وموضوعه‪ ،‬ومؤداها درس تقنيات‬
‫الخطاب التي تؤدي بالذهن إلى التسليم بما يعرض عليه من أطروحات‪ ،‬أو أن تزيد في درجة التسليم ‪ 1‬وربما كانت وظيفته‬
‫محاولة جعل العقل يذعن لما يطرح عليه من أفكار‪ ،‬أو يزيد في درجة ذلك الذعان إلى درجة تبعث على العمل المطلوب‬
‫‪ ،2‬على أن الحجاج مثلما أنه ليس موضوعيًا محضًا فإنه ليس ذاتيًا محضًا؛ ذلك أن من مقوماته حرية الختيار على أساس‬
‫عقلي‪ ،‬وعلى صعيد آخر يمكن القول بأن الحجاج في ارتباطه بالمتلقي يؤدي إلى حصول عمل ما أو العداد له‪ ،‬ومن ثّم‬
‫سيكون فحص الخطابات الحجاجية المختلفة بحثًا في صميم الفعال الكلمية وأغراضها السياقية‪ ،‬وعلقة الترابط بين‬
‫القوال والتي تنتمي إلى البنية اللغوية الحجاجية ‪ ،3‬وسيكون الحجاج مؤطرًا بالخاصية اللسانية الشكلية‪ ،‬وليس بالمحتوى‬
‫الخبري للقول الذي يربط القول بالمقام‪ ،‬ولما كان المر كذلك فإن تركيز التداولية ينصب على العلقات الترابطية بين أجزاء‬
‫الخطاب والدوات اللسانية المحققة له‪ ،‬ومن خصائص الخطاب الحجاجي الذي يميزه عن البرهان أو الستنتاج إمكان‬
‫النقض أو الدحض مما يجعل من إمكانية التسليم بالمقدمة المعطاة أمرًا نسبيًا بالنسبة إلى المخاطب‪ .‬وتتصدر المحاججة‬
‫كوظيفة لسانية قائمة الوظائف اللغوية بالرغم من عدم إشارة الدارسين الذين تناولوا موضوع وظيفة اللغة إليها كبوهار‬
‫وجاكبسون وغيرهما‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫الحجاج والبلغة‬

‫جعل أرسطو )ت ‪ 322‬ق م( السؤال تابعًا للجدل ووجها من وجوهه المتعددة‪ ،‬كما أنه المكانية الوحيدة التي تضفي سمة‬
‫الفعل )‪ (lacte‬على التفكير‪ ،‬وهذا ما يعرف في التفكير الفلسفي بـ )الفعل التفكيري( ‪ ،lacte depencer 5‬والذي يقوم على‬
‫ثلث علقات أساسية هي‪ :‬اليتوس والباتوس واللوغوس‪.‬‬

‫إن مفهوم الحجاج متصل بتحديد طبيعة الكلم في وظيفته التساؤلية ‪ ،le questionnement‬ذلك أن المساءلة من حيث هي‬
‫عملية فكرية مؤسسة على سؤال وجواب تستدعي نقاشًا يولد حجاجًا‪ ،‬ويبدو أن المحاججة موجودة بالقوة في التداول اللغوي‪،‬‬
‫إذ ل يخلو خطاب منها سواء كان شفويًا أم كتابيًا‪ ،‬وربما قدم الحجاج على مظهرين لغويين أحدهما مصرح به وهو السؤال‪،‬‬
‫ل تعبيريًا‬
‫وثانيهما ضمني تعبر عنه المكانات المقترحة كإجابات قابلة للستبدال فيما بينها ‪ ،6‬وتأخذ هذه الجابات شك ً‬
‫مميزًا له‪ ،‬وقعه وأثره البلغي على السامع‪ ،‬فقد ترد الجابة في شكل صورة مجازية لها وقعها على المتلقي‪ ،‬وهنا يحدث‬
‫التقاطع بين البلغة والحجاج‪ ،‬فلو أخذنا قول النابغة‪:‬‬

‫أنت شمس والملوك كواكب‬

‫فإننا سنواجه مشكلة مطابقة الملفوظ للواقع في الحقيقة‪ ،‬وعندها يتساءل المخاطب عن قصد المتكلم‪ ،‬وسبب اقتران الممدوح‬
‫بالشمس والملوك بالكواكب؟ ويعزى هذا التساؤل إلى الختلف القائم بين المسند والمسند إليه‪ ،‬ول يكون الحل إل في‬
‫الجواب المفسر للتماهي البلغي بين الطرفين في ظل استتار الطرف الثالث الذي يمثله وجه الشبه بين المشبه والمشبه به‪،‬‬
‫والذي يمثل وحدة معجمية صغرى تظهر في الحقل الدللي للممدوح‪ ،‬والحقل الدللي لكل من الشمس والكوكب وهي‬
‫الضاءة‪ ،‬وهذه الوحدة تلعب دورًا أساسًا في إقامة الترابط والنسجام الدللي في التركيب اللغوي‪ .‬هذا وأوضح بريلمان في‬
‫كتابه البلغة الجديدة أن نقطة التقاطع بين البلغة القديمة ونظرية المحاججة إنما هي المستمع‪.‬‬

‫الحجاج الخاطئ‪:‬‬

‫يبنى هذا النوع على المغالطة في تقديم الحجة‪ ،‬ويعبر عنه باللغة الفرنسية بمصطلح )‪ (Paralogisme‬المتكون من جزأين‬
‫هما ‪ para‬ونعني به خاطئ و ‪ logisme‬بمعنى الحجة‪ ،‬وربما أضاف بعضهم صفة النية الحسنة لهذا النوع؛ ليتميز في‬
‫التفكير الفلسفي عن مصطلح ‪.sophisme 8‬‬

‫إن الحجاج الخاطئ يقدم على المقايسة الواهمة‪ ،‬كما تسبب في حدوثه عيوب بنويه أثناء تأسيس المحاججة كالمصادرة على‬
‫المطلوب‪ ،‬أو الخطاء الناجمة عن تعدد السئلة؛ وربما أمكننا التمثيل للمغالطة الحجاجية بقولنا‪ :‬إن إسرائيل دولة نووية‬
‫وقوة عسكرية فهي إذن على حق‪ ،‬إذ يشمل هذا النوع من المغالطة الحجاج بالسلطة‪.‬‬

‫ومن أنواع الحجاج الخاطئ أيضًا المغالطة المنطقية؛ ونزعم التمثيل لها بمناظرة الشاعر العباسي "أبي العتاهية" لثمامة بين‬
‫الشرس ‪ ،9‬والمغالطة العلمية التي تشخص في تناقض أقوال المتكلم وأفعاله‪ ،‬وربما مثلنا لها في النص القرآني بقولـه‬
‫تعالى‪ ) :‬أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) )البقرة ‪ ،(44/‬وأما الحجاج المبني على التناقض الثباتي فتبينه الية من‬
‫سورة مريم )إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا)‪) ،‬مريم ‪ (19/‬فقد ذهب بعض المفسرين إلى أنها لم تنذر في‬
‫الحال بل صبرت حّتى أتاها القوم فذكرت لهم كونها نذرت‪ ،‬فيكون هذا منها تناقضًا فقد تكلمت من حيث نذرت عدم الكلم‪،‬‬
‫بينما ذهب آخرون إلى إمساكها وإكتفائها باليماء وبالرأس‪ ،‬ومن أدوات الحجاج اعتماد التهديد والترهيب كأسلوب للقناع‬
‫الخطابي في النصوص الدينية والسياسية‪ ،‬ويمكن أن نجد لهذا النوع من القناع الذي ينحو منحى استسلميًا أمثلة متعددة في‬
‫الخطابة العربية كخطبة زياد بن أبيه لهل البصرة‪ ،‬وخطبة الحجاج لهل العراق‪ ،‬وخطبة زيد بن المقنع العذري الذي سعى‬
‫ل‪:‬‬
‫في ضمان ولية العهد إلى يزيد بن معاوية‪ ،‬فخطب في حضرة معاوية )ض( قائ ً‬

‫"هذا أمر أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية‪ ،‬فإن هلك‪ ..‬وأشار إلى ولده يزيد فان أبيتم فهذا‪ ..‬وأشار إلى سيفه ‪.10‬‬

‫هذا ويمكن الحديث على أنواع أخرى للحجج منها‪:‬‬

‫‪-1‬حجة التبرير ‪ ،largument de gaspillage‬وأداتها "بما أن"‪.‬‬

‫‪-2‬حجة التجاه ‪ ،direction‬وغرضها التحذير من انتشار شيء ما‪.‬‬


‫‪-3‬الحجة التواجدية‪ ،‬تبنى على علقة الشخص بعمله‪ ،‬ويمكن أن نمثل لها بقوله )ص(‪:‬‬

‫"من حسن إسلم المرء تركه ما ل يعنيه" إذ يكن أن نقول بأن المتعلم كشخص في جوهره ليس فضوليًا‪ ،‬وعمل ترك ما ل‬
‫يعنيه من تجليات حسن السلم‪.‬‬

‫‪-4‬الججة الرمزية‪ :‬للرمز قوة تأثيرية في الذين يقرون بوجود علقة بين الرامز والمرموز إليه كدللة العلم في نسبته إلى‬
‫وطن معين‪ ،‬والهلل بالنسبة إلى حضارة السلم‪ ،‬والصليب بالنسبة إلى المسيحية‪ ،‬والميزان إلى العدالة‪.‬‬

‫ن الغاية من اعتماده حجاجيًا هو التأسيس للقاعدة‪ ،‬والبرهنة على صحتها‪.‬‬


‫‪-5‬المثل‪ :‬إ ّ‬

‫‪-6‬الستشهاد‪ :‬غايته توضيح القاعدة‪ ،‬وتكثيف حضور الفكار في الذهن‪ ،‬وربما كان الستشهاد أداة لتحويل القاعدة من‬
‫طبيعة مجردة إلى أخرى محسوسة‪ ،‬ولعل القرآن الكريم فيما يقدم لنا من أمثلة حجاجية أهم مصدر لهذه الشكال الحجاجية‪،‬‬
‫على أن العناية بالستشهاد القائم على التمثيل مقيد بجملة من القيود لعل أهمها؛ عدم إطنابه‪.‬‬

‫أّما الطريقة النفصالية فتقوم على وجود وحدة ومفهوم واحد بين العناصر الحجاجية وإنما فصل بينها لغاية حجاجية‪،‬‬
‫وللسائل أن يسأل عن طريقة الفصل بين القوال في الخطاب وعلى هذا ستكون الصورة المجازية بخاصة‪ ،‬والصور‬
‫البلغية بعامة في الخطاب أداة مهمة لتحقيق الغرض الحجاجي فيه‪ ،‬وكما اقترنت الحاجة بالغراب وأسلوب الشارة فإن‬
‫الخطاب الحجاجي غالبًا ما يشكل في جنس الخطبة التي تكرس مبدأ المفاوضة بين المتكلم والسامعين ‪.12‬‬

‫نظرية السللم الحجاجية ‪:13‬‬

‫تطرح هذه النظرية تصورًا لعمل المحاججة من حيث هو تلزم بين قول الحجة ونتيجتها‪ ،‬لكن قول الحجة والنتيجة في‬
‫تلزمها تعكس تعددًا للحجة في مقابل النتيجة الواحدة على أن هناك تفاوتا من حيث القوة فيما يخص بناء هذه الحجج‪ ،‬كما‬
‫أن الحجج قد تنتمي إلى قسم واحد كقولنا‪ :‬الطالب مجتهد )ن( فقد نجح في المسابقة بامتياز )ق ‪ (1‬وتحصل على جائزة‬
‫الجامعة )ق ‪.(2‬‬

‫أهمية نظرية السللم الحجاجية‪:‬‬

‫إن مفهوم السلم الحجاجي في الخطاب من حيث تركيزه على مبدأ التدرج في توجيه الحجج يبين أن المحاجة اللغوية ل‬
‫ترتبط بالمحتوى وإحالة هذا المحتوى على مرجع محدد بل هي رهينة القوة والضعف الذي ينفي عنها الخضوع لمنطق‬
‫الصدق والكذب‪ ،‬ومما تجدر الشارة إليه أن المتكلمين يختلفون في بناء منظومة السللم إذ أنها متسمة بالخصوصية‬
‫والذاتية‪ ،‬فالبعض يلخص موقف خصومه‪ ،‬والبعض الخر يدمجه في برهانه ويتبناه مؤقتًا‪.‬‬

‫الربط الحجاجي‪:‬‬

‫يميز محللو الخطاب الحجاجي بين نوعين من الدوات اللسانية التي تحقق الوظيفة الحجاجية والترابط داخل النص‬
‫الحجاجي؟ فأما النوع الول فتمثله عناصر نحوية في طبيعتها مثل الواو والفاء ولكن وإذن‪ ،..‬وأما الثاني فتمثله جملة من‬
‫الساليب المتضمنة داخل الملفوظ الحجاجي كالنفي والحصر‪ ،‬ويلحق بها عوامل حجاجية ذات وظيفة محددة دلليًا مثل‪:‬‬
‫"تقريبًا" و"على القل" و"منذ" "قصا" "وأبدا" وغيرها‪.‬‬

‫ن المحاججة موجودة في كل مكان في حواراتنا اليومية ومرافعات المحامين وخطب الساسة ودروس المعلمين ومناقشة‬ ‫إّ‬
‫الرسائل العلمية بشتى أشكالها‪ ،‬ومن هنا ركز الباحثون جهودهم في تأسيس نظرية تصف أدواته وتقنياته وأغراضه وتحليل‬
‫بنيته ببناء نحو خاص بالخطاب الحجاجي ينطلق من مبادئ التداولية ونظرية الفعل الكلمي‪ ،‬وهذا ما حاولت الدراسة‬
‫إبرازه‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪.perelman et Tytica, traite de I argumentation, p.05-1‬‬


‫‪.Ibid, p682-2‬‬

‫‪-3‬شكري المبخوت‪ ،‬الحجاج في اللغة‪ ،‬ضمن أعمال مخبر البلغة والحجاج‪ ،‬جامعة منوبة‪ ،‬تونس‪ ،‬ص ‪.352‬‬

‫‪.Moechler, argumantation et conversation, 1986, p5 -4‬‬

‫‪.Meyer . questions de rhetorique? p 22-23-5‬‬

‫‪-6‬محمد علي القارصي‪ ،‬البلغة والحجاج من خلل نظرية المساءلة لمشال ميار‪ ،‬ضمن فرقة البلغة والحجاج‪ ،‬منشورات‬
‫جامعة منوية‪ ،‬ص ‪ .395‬وانظر محمد يحياتن‪ ،‬نظريات المحاجة‪ ،‬مجلة اللغة والدب‪ ،‬جامعة الجزائر‪ ،‬عدد ‪،1997 ،11‬‬
‫ص ‪.280‬‬

‫‪-7‬صلح فضل‪ ،‬بلغة الخطاب وعلم النص‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬عدد ‪ ،164‬المجلس الوطني للثقافة والفنون والداب‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬ص ‪ 80‬وما بعدها‪.‬‬

‫ل في نقد الحجاج‪ ،‬ص ‪.406‬‬


‫‪-8‬محمد النويري‪ ،‬الساليب المغلطية مدخ ً‬

‫‪-9‬الصفهاني‪ ،‬الغاني‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪.5/ 6 ،1992 ،‬‬

‫‪-10‬ابن الثير‪ ،‬الكامل في التاريخ‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪508/ 3 ،1965 ،‬‬

‫‪.perelman et Tytica, traite de l argumentaion, p 501 -527-11‬‬

‫‪.perelman et Tytica, traite de l argumentaion, p562 -12‬‬

‫‪-13‬شكري المبخوت‪ ،‬نظرية الحجاج في اللغة‪ ،‬ص ‪.364- 363‬‬

‫علم الكلم ومنهج المناظرة‬

‫‪ -1‬تجديد العتبار لعلم الكلم‬


‫‪ -1 .1‬مكانة المناظرة في النتاج السلمي‪:‬‬
‫إذا صح أن ما يميز الفلسفة عن غيرها من أصناف المعرفة النسانية ويمنحها منهجية مخصوصة هو أسلوب "المناظرة"‪،‬‬
‫صح معه بالضرورة أن كل قطاع معرفي يكون حظه من العمل الفلسفي على قدر انتهاجه لهذا السلوب "المناظري"‪.‬‬
‫وما صدقت هاتان الحقيقتان المتلزمتان‪ :‬إمكان قيام الفكر الفلسفي في كل قطاع معِرفي أيًا كان من جهة‪ ،‬وانتهاج الفلسفة‬
‫لسلوب المناظرة من جهة أخرى‪ ،‬مثل صدقهما على النتاج الفكري السلمي‪ ،‬إذ لم يطّبق ولم يعّمم منهج على جميع‬
‫عّمم منهج المناظرة في هذا التراث‪ ،‬فأكسبه خصبًا فلسفيًا متميزًا‪.‬‬‫طّبق و ُ‬
‫مجالت المعرفة مثلما ُ‬
‫عرفت ‍ب"المناظرات" كما وضعت تآليف على طريقة المناظرة في مختلف الميادين‪ ،‬وظهرت‬ ‫فقد أقيمت مجالس للُمحاورة ُ‬
‫صنوف من الخطابات تقر بالمناظرة منهجًا فكريًا مثل "خطاب التهافت" و"خطاب التعارض" و"خطاب الرد" و"خطاب‬
‫جدت مذاهب ومدارس واتجاهات في مجال من مجالت المعرفة السلمية‪ ،‬كانت المناظرة‬ ‫النقض" وما إليها؛ بل حيثما ُو ِ‬
‫طريقة التعامل بينها‪ ،‬وهذا شأن الفقه )باب الخلف( والنحو )باب القياس( والدب )النقائض(‪ ،‬ولم تكن المناظرة وجه تفاعل‬
‫التيارات التي تنتسب إلى قطاع علمي واحد فحسب‪ ،‬بل طبعت أيضًا التعامل بين أهل العلم من قطاعات مختلفة )المناظرة‬
‫بين أبي سعيد السيرافي النحوي ومّتى بن يونس الفيلسوف(‪.‬‬
‫وإذا أدخلنا في العتبار أمرًا آخر وهو الدعوى التي تقول بأن اللغة تحمل سمات فكر من يتكلمونها‪ ،‬فإن غنى معجم‬
‫المناظرة في اللغة العربية ليدل بحق على تداول المسلمين الغلب لهذا المنهج الجدلي والتزامهم به أكثر من غيره في‬
‫تحصيل المعرفة وتبليغها‪ ،‬ونذكر من هذا المعجم‪ ،‬ل على سبيل الحصر وإنما على سبيل المثال‪ ،‬مجموعَة المفردات التالية‪،‬‬
‫وهي‪ ،‬بالضافة إلى لفظي "المناظرة" و"المحاورة" و"المخاطبة" و"المجادلة" و"المحاججة" و"المناقشة" و"المنازعة"‬
‫و"المذاكرة" و"المباحثة" و"المجالسة" و"المفاوضة" )في معناها القديم( و"المراجعة" و"المطارحة" و"المساجلة"‬
‫و"المعارضة" و"المناقضة" و"المداولة" و"المداخلة" وأخرى غيرها كثير‪.‬‬
‫‪-2.1‬إفادة المناظرة اليقين‪:‬‬
‫عرف من‬ ‫وإذا اتضح لنا أن طريقة المناظرة الجدلية تشمل كل مناحي الفكر السلمي‪ ،‬وكنا نعلم‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬أنها في ُ‬
‫تأثر بأرسطو تفيد الظن وحسب في مقابل منهج المنطق الذي يقيد اليقين‪ ،‬أيعني هذا أن الجزء الكبر من المعرفة السلمية‬
‫ل يرقى إلى مستوى اليقين ويكون طلبه غير نافع ول واجبًا؟‬
‫نرد على هذا السؤال من الوجوه الثلثة التية‪:‬‬
‫‪ -1.2.1‬إن النظار المسلمين وضعوا لمنهج المناظرة شروطًا وقوانين تنافس في استيفائها وضبطها وصرامتها وترتيبها‬
‫ل على ذلك من أنهم استخدموا طرق الجدل في الستدلل على‬ ‫ضوابط المنطق وأحكامه‪ ،‬باعتباره علمًا لقوانين العقل؛ ول أد ّ‬
‫قضايا من صميم المنطق نفسه‪ ،‬وبهذا فتحوا الطريق أمام مشروع رد المنطق إلى الجدل‪ :‬هذا المشروع الذي يترتب عنه أن‬
‫ل "ُمَعاَقَلة"‪.‬‬
‫النظر العقلي هو في أصله مناظرة‪ ،‬وأن ما يدعى "بالعقلنية" إن هو إ ّ‬
‫‪ -2.2.1‬إن الساليب الرياضية الحديثة التي صيغ فيها المنطق انتهت إلى ترجيح أسلوب جدلي في هذه الصياغة؛ فبعد أن‬
‫كان المناطقة‪ ،‬في مرحلة أولى‪ ،‬يكتفون بتقنين صور اللفاظ وتراكيب العبارات دون النظر إلى معانيها من صدق أو كذب‬
‫)المرحلة التركيبية(‪ ،‬أخذوا في مرحلة تالية يجعلون لمدلولت اللفاظ ومضامين العبارات دورًا حاسمًا في هذا التقنين‬
‫)المرحلة الدللية(؛ ومنها إلى مرحلة ثالثة جددوا فيها العتبار للمتكلم والمخاطب بوصفهما متناظرين يطلبان تمييز‬
‫الصواب من الخطأ‪ ،‬وفي هذا ما يزكي كامل التزكية المْنحى الذي جنح إليه المسلمون في جعل علم المنطق جزءًا من علم‬
‫المناظرة وإلباسه لباس الجدل‪.‬‬
‫‪ -3.2.1‬إن اليقين الذي ينبني عليه الجدل هو يقين عملي‪ ،‬بينما اليقين المنطقي هو يقين نظري‪ ،‬صناعي‪ ،‬صوري‪ ،‬واليقين‬
‫العملي أقوى على التوجيه وأقدر على التغيير من اليقين النظري‪ ،‬وهذا اليقين الذي ل ُينتفع به ويظل حبيس القول‬
‫والقرطاس‪.‬‬
‫‪" -3.1‬علم المناظرة العقدي" أو علم الكلم‪:‬‬
‫وإذا كانت أغلب المعارف السلمية آخذة بمسلك المناظرة الجدلي‪ ،‬فإنها تفاوتت في درجة التقيد به على قدر الفتقار إليه‬
‫ي مجال علمي إسلمي بهذا المنهج مثلما أخذ به "علم الكلم" ـ هذا العلم الذي‬ ‫بُمْقَتضى نوعية شروطها المعرفية‪ ،‬ولم يأخذ أ ّ‬
‫قام على تواجه العقائد سواء بين أصحاب الملة الواحدة أو بين أصحاب الملل المختلفة ـ حتى إننا نرى أحق أن يدعى "علم‬
‫المناظرة العقدي" من أن يدعى باسم آخر‪ ،‬فيكون "رجل الكلم" أو "المتكلم" هو من قام بالشروط التية‪ :‬بأن كان‪:‬‬
‫‪ -1.3.1‬معتقدًا‪ :‬يقوم اعتقاده في التسليم بما ورد في كتاب ال والسنة المحمدية تسليم المكلف من لدن الشرع؛ واعتبارًا لهذا‬
‫ي علم الكلم ‍ب"علم التوحيد" وعلم "الموجود بما هو موجود" على قواعد السلم‪.‬‬ ‫سّم َ‬
‫الجانب ُ‬
‫‪ -2.3.1‬ناظرًا‪ :‬لما كان النظر هو طلب الفكر لشيء مخصوص سالكًا إليه طرقًا مخصوصة يعتقد أنها قادرة على الظفر به‪،‬‬
‫فإن المتكلم يطلب تعقل أصول العقيدة وتعقيلها‪ ،‬وذلك بأن يسلك فيها سبل الستدلل والقناع‪ ،‬مما أدى إلى تسمية "علم‬
‫الكلم" "بعلم النظر والستدلل"‪.‬‬
‫طب‬‫طب ومقام المخا َ‬ ‫‪ -3.3.1‬محاورًا‪ :‬مقتضى المحاورة أّنه ل خطاب إل بين اثنين‪ ،‬لكل منهما مقامان هما مقام المخا ِ‬
‫ووظيفتان هما وظيفة العارض ووظيفة المعترض‪ .‬وقد كانت هذه الصفة الحوارية للمتكلم داعيًا إلى حمل الكلم على معنى‬
‫"المكالمة" والمناظرة وإلى تسمية "علم الكلم" بعلم "المقالت السلمية"‪.‬‬
‫وفي هذا الجمع الخاص بين أصول النقل وبين مبادئ العقل الذي تعلقت به همم المتكلمين ما دعا البعض إلى التحفظ في شأن‬
‫جدت هذه المواقف النتقادية قوة وسندًا في ما وقع فيه بعض‬ ‫"علم الكلم" والعتراض عليه بل واستنكاره‪ ،‬وقد َو َ‬
‫"المتكلمين" من شبهات مقصودة وغير مقصودة‪ ،‬وما سلكوه‪ ،‬عن عمد أو غير عمد‪ ،‬من طرق ملتبسة طلبوا بها نصرة‬
‫آرائهم‪.‬‬
‫‪ -4.1‬المتياز المنهجي والمنطقي للمتكلمين‪:‬‬
‫ل‪،‬‬
‫ليس غرضنا أن ننحاز إلى موقف معارض لهذه النزعات المنتقدة ‍ِل"علم الكلم"‪ ،‬فننتصر لمذاهب المتكلمين جملة وتفصي ً‬
‫وإنما أن ننظر فيما أصابوا فيه‪ ،‬حتى يتسنى لنا الستفادة منه في تقدير الطاقة البداعية في إنتاجهم؛ ونقدم لهذه التقدير‬
‫بالملحظات التالية‪:‬‬
‫‪ -1.4.1‬ل يمكن لحد أن ينكر دور المتكلمين في مواجهة التيارات العتقادية غير السلمية ـ المنّزلة منها وغير المنزلة ـ‬
‫والتجاهات الفكرية القائمة على العقلنية المادية والنظر غير التوحيدي المعاصرة لهم‪.‬‬
‫‪ -2.4.1‬إن المستوى الرفيع الذي حصله "المتكلمون" في ضبط المناهج العقلية والخذ بالقويم من الدلة المنطقية يفوق‬
‫المستوى الذي بلغه من يقوم من "علماء المسلمين" اليوم بالتصدي للمذاهب الفكرية غير السلمية‪ ،‬كما يفوق مستوى من‬
‫يتوّلى من "مفكري العرب" المعاصرين مهمة تجديد التنظير لمناهج البحث في النتاج السلمي‪.‬‬
‫ونثبت دعوانا هذه بالدليلين التيين‪:‬‬
‫ل مختلف أسباب عصرهم العلمية والتاريخية من وسائل نظرية‬ ‫‪ -2.4.1‬إن "المتكلمين" استوعبوا استيعابًا منهجيًا كام ً‬
‫جز من‬ ‫وأوضاع ظرفية‪ ،‬بينما ل نجد مثل هذا الستيعاب المنسق لوسائل العصر العلمية والمعطيات التاريخية في ما ُأن ِ‬
‫الدراسات المعاصرة التي تحاول تطوير الفكر السلمي‪ ،‬بل "تثويره" أو على النقيض َتجاُوزه وابتغاء غيره‪.‬‬
‫‪ -2.2.4.1‬إن "المتكلمين" انتهجوا في أبحاثهم طرقًا استدللية تمتاز بالتجريد والدقة‪ ،‬واتبعوا في تحليلتهم أساليب تمتاز‬
‫بالطرافة والعمق‪ ،‬بينما ل تستقيم للكتابات المعاصرة عن التراث مثل هذه القدرة على ممارسة مناهج التفكير المنطقي‪.‬‬
‫ل من لدن خصومه‪ ،‬من القدامى‬ ‫‪ -3.4.1‬إن هذا المتياز المنهجي والمنطقي "لعلم الكلم" يجعل الطعن فيه جملة وتفصي ً‬
‫والمحدثين‪ ،‬منطويًا على غلو وحيف كبير‪ ،‬علوة على ما يقع فيه من أخطاء منهجية نذكر منها‪:‬‬
‫ق الخصوم إلى إسقاط أحكامهم بصدد القوال والموضوعات الكلمية‪،‬‬ ‫سا َ‬
‫‪ -1.3.4.1‬الخلط بين المضمون والمنهج‪ :‬فقد اْن َ‬
‫التي قد تكتنفها بعض الشبهات وتخالطها بعض التوهمات‪ ،‬على الطريقة التي اّتِبعت في تناولها والتي قد تكون على خلف‬
‫ذلك محققة لشروط نظرية صحيحة‪.‬‬
‫‪ -2.3.4.1‬الوقوع في استعمال الساليب "الكلمية" التي أخذوها على "المتكلمين"‪ :‬إذا كان خصوم "علم الكلم" يصوغون‬
‫ن قد قاموا بشرط "الكلم"‪ ،‬في‬ ‫انتقاداتهم‪ ،‬سواء بطريقة المناظرة المباشرة أو بطريق المجادلة غير المباشرة‪ ،‬فإنهم يكونو َ‬
‫ق موِقفهم المعارض يقتضي منهم الخروج عن هذا الشرط؛ لكن كيف يتأتى لهم الخروج ما دام كل معترض‬ ‫حين كان منط ُ‬
‫واقعًا في "الكلم"‪ ،‬شاء أم أبى!‬
‫‪ -3.3.4.1‬اعتبار وضع "علم الكلم" في الخطأ والصواب مختلفًا عن وضع العلوم الخرى‪ :‬ينصح بعض الخصوم بترك‬
‫الشتغال ‍ب"الكلم" بسبب إمكان تسخيره للمفسدة بدل المنفعة‪ .‬والحق أن هذا المكان قائم في كل علم‪ .‬وما كان ذلك ليحمل‬
‫المرء على تركه‪ ،‬بل على العكس من ذلك‪ ،‬يحمله على طلب القيم الصحيحة لتوجيه الستفادة منه‪ ،‬وكذلك الشأن بصدد "علم‬
‫ل من أن يطالب الخصوم بتركه‪ ،‬كان الولى بهم أن يطلبوا القيم المشروعة لتوجيهه وتصويب النظر العقلي‬ ‫الكلم"‪ ،‬فبد ً‬
‫فيه‪.‬‬
‫بعد أن بينا امتياز "منهج المناظرة" ودوره في إنشاء "علم الكلم" وتكوين إنتاجيته الفلسفية‪ ،‬نأتي إلى استخراج بعض‬
‫سمات "نموذج المناظرة" السلمية؛ وسوف يمكننا هذا النموذج من تجديد كشف وفهم التراث السلمي‪ ،‬ومن وصف‬
‫وتحليل أكداس نصوص المناظرات‪ ،‬ومن مراجعة الحكام التي تأثرنا فيها‪ ،‬من حيث ل نشعر‪ ،‬بتقويم الغرب لهذا التراث‪،‬‬
‫هذا التقويم الذي يستند إلى تصور غير تفاعلي وغير تداولي للخطاب الطبيعي أو ُقل تصور يستبعد المخاطب ويثبت‬
‫ل كلمه إلى متوالية رياضية ل غير؛ ومما ل شك فيه أن التقويم الغربي‬ ‫حّو ً‬
‫الحضور للمتكلم وحده‪ ،‬قبل أ‪ُ ،‬يَغّيَبه هو بدوره ُم َ‬
‫للنتاج السلمي يستمد أصله من تسلط عقلنية ديكارت على الفكر الوروبي عامة والفرنسي خاصة‪.‬‬
‫كما أن صوغ نموذج المناظرة الذي هو تنظير ‍ل)تصارع الراء(‪ ،‬سوف يسمح بتكميل تنظيرات أخرى جرت لتصارعات‬
‫غير كلمية مثل "تصارع الفراد" و"تصارع الطبقات الجتماعية" و"تصارع النظمة السياسية" و"التنافس على‬
‫السلطة"‪ ،‬وما إليها‪ ،‬بل إن هذا التنظير قد يمدنا بوسائل لحكام الربط بين الصنفين من التصارعات‪ :‬الفكرية والمادية‪،‬‬
‫جل إليه الكثيرون وَلّما يستوعبوا آليات أحد الطرفين‪:‬‬
‫عِ‬‫ولمراقبة وضبط الستدلل بأحدهما على الخر‪ ،‬هذا الستدلل الذي َ‬
‫وهو التنازع الفكري الذي تمثله "المناظرة"‪.‬‬
‫لقد انتبه ابن خلدون إلى هجران المسلمين لهذا المبحث عند ذكره لطريقتين في "المناظرة" عندهم‪ :‬طريقة البزدوي الخاصة‬
‫بالدلة الشرعية وطريقة العميدي العامة؛ ول نذهب بعيدًا لنتبين هذا الهمال‪ ،‬فابن خلدون نفسه خلط بين وظيفتي "السائل"‬
‫و"المستدل"‪ ،‬وكذلك بين قانوني "العتراض" و"المعارضة"‪ ،‬ول نستغرب من ابن خلدون وقوعه في هذه الهفوات‪ ،‬وهو‬
‫الذي أقصى المنهج الجدلي من مشروعه في تأسيس علم عمراني وطلب هذا التأسيس "بوجه برهاني ل مدخل للشك فيه"‪.1‬‬
‫وممن يذكرهم حاجي خليفة في كشف الظنون باعتبارهم رتبوا قوانين "علم المناظرة"‪ :‬شمس الدين السمرقندي )المتوفى‬
‫سنة ‪‍606‬ه( وعضد الدين اليجي )المتوفى سنة ‪‍756‬ه( وطاش ُكبرى )المتوفى سنة ‪‍963‬ه(‪.2‬‬
‫هوامش‬
‫‪----------------------------------------‬‬
‫‪1‬ـ ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ط‪ .‬القاهرة‪ ،‬باب الجدال‪ ،‬ص‪.458-457 .‬‬
‫‪2‬ـ حاجي خليفة‪ ،‬كشف الظنون‪ ،‬ص‪.42-38 .‬‬
‫‪------------------------------------‬‬
‫المصدر‪:‬في أصول الحديد وتجديد علم الكلم ص ‪74-69‬‬

‫المصدر ‪ :‬د‪ .‬طه عبد الرحمن ‪ /‬موقع البلغ ‪ -‬الموسوعة السلمية‬

‫أولً ‪ :‬الطار النظري للدراسة‬

‫‍أ‪ .‬مدخل المحاججة ) ‪(Argumentation‬‬

‫تعود الجذور التاريخية لعلم الحجاج أو المحاججة) ‪ ( Argumentation‬إلى الدولة اليونانية القديمة ‪ ،‬وخاصة إلى‬
‫الفيلسوف أرسطو الذي تناول الكثير من الظواهر المرتبطة بالممارسات الحجاجية بدرجة عالية من الدقة والشمول‪ .‬إل أن‬
‫الحجاج قد عاني حالة من الركود في السياق الفكري الغربي على امتداد قرون متتالية فكان اهتمام الباحثين منصرًفا خلل‬
‫هذه الفترة إلى دراسة الجوانب البلغية والسلوبية للحجج مستندين في ذلك علي علمي المنطق والبيان مع إهمال واضح‬
‫للفعالية الحجاجية البرهانية )]‪ ,([8‬أما الجذور الحديثة لنظرية المحاججة فتعود إلى خمسينيات القرن العشرين حيث‬
‫ظهرت توجهات نظرية متعددة في تناول الحجاج) ‪ ، (Argumentation‬فكان بعضها يعالج الحجاج من منظور لساني‪,‬‬
‫والبعض ينحو بالحجاج إلى التفسيرات المنطقية ‪ ,‬والبعض الخر يري الحجة من خلل تحليل البلغة البرهانية ‪,‬‬
‫ونتعرض لتلك التوجهات بإيجاز كالتالي ‪_ :‬‬

‫المنظور اللساني ‪:‬‬ ‫·‬

‫الذي ينظر إلى الحجاج من منظور اللغة باعتباره ظاهرة لغوية ؛ فالحجاج هنا فعل لغوي ووظيفة أساسية للغة ‪ ،‬ثم إن هناك‬
‫أدوات وروابط وعبارات لغوية يتمثل دورها الساسي في القيام بالعمليات الحجاجية )]‪.([9‬‬

‫المنظور المنطقي‪:‬‬ ‫·‬

‫طا منطقًيا خطابًيا‪ ،‬تستخدم فيه اللغة كوسيلة للتواصل ‪ ،‬ويتمثل هذا النشاط في مجموعة من‬
‫ينظر إلى الحجاج باعتباره نشا ً‬
‫العمليات الذهنية‪ ، ،‬و يري أصحاب هذا التوجه الحجاج كمجموعة من الستراتيجيات الخطابية لمتكلم ما‪ ،‬يتوجه بخطابه‬
‫إلى مستقبل معين‪ ،‬من أجل إقناعه بفكره محدد ‪ ،‬ولكن ليس بالضرورة أن يكون لكل خطاب غاية حجاجية)]‪.([10‬‬

‫المنظور البلغي البرهاني ‪:‬‬ ‫·‬

‫يري أن الحجاج عملية تغطي حقل الخطاب بأكمله‪ ،‬وتستهدف القناع والستمالة ‪ ,‬وتعد عملية المحاججة وطرح الحجج في‬
‫عا من النشاط الجتماعي الذي يوجه للتواصل والحوار والتفاعل مع الخرين بهدفين فقط هما والجدل والقناع‬ ‫أي خطاب نو ً‬
‫‪ ،‬وهي عملية تفكير واستدلل منطقي فيما يطرحه الخطاب من وجهات نظر تقبل الجدل بشأن ما تقدمه من أدلة وبراهين‬
‫سواء بالرفض أو التفاق ‪ ,‬والحجج ما هي إل تقنيات الخطاب التي تؤدي بالذهن إلى التسليم بما يعرض عليه من أطروحات‬
‫وتعتمد قوة الحجة أو ضعفها علي براعة البلغة البرهانية للحجة ‪.‬‬

‫من أبرز أصحاب هذا التوجه )شايم بيرلمان ‪ ,( Chaim Perelman‬و)لوسي تاتيكا ‪, ( Lucie Olbrechts-Tyteca‬‬
‫بالضافة إلى) ستيفن تولمان ‪ (Stephen Toulmin‬الذي يعتبر من اكثر الكتاب تأثيرًا في علم المحاججة في فترتي‬
‫الستينات والسبعينات ‪.‬‬

‫وضع تولمن نظريته عن المحاججة ) ‪ ( The Uses of Argument‬في عام ‪ 1958‬م )]‪ ,([11‬ثم ادخل عليها تعديلت‬
‫في عام ‪ 1969‬م )]‪ , ([12‬أما الحقول المعرفية التي استخدم فيها الحجاج فقد تعددت وتنوعت ‪ ,‬وإن اختلفت أنماط هذا‬
‫الستخدام باختلف ذلك الحقل المعرفي فظهر الحجاج في الفلسفة ‪ ,‬واللغويات ‪ ,‬والقانون ‪ ,‬والسياسة ‪ ,‬و التصالت ‪,‬‬
‫ضا علم الذكاء الصناعي)]‪.([13‬‬‫وأي ً‬

‫‍ب‪ .‬الفرضيات الرئيسية التي قامت عليها النظرية‪.‬‬

‫تستند نظرية المحاججة علي مجموعة من الفرضيات الرئيسية تتضح فيما يلي)]‪: ([14‬‬

‫‪ .1‬تتطلب عملية المحاججة وجود فكرة رئيسية لدي المرسل يحاول إقناع المستقبل بها ‪ ,‬وعادة ما تتفاوت مساحة التفاق‬
‫عا من النشاط‬
‫علي تلك الفكرة بين طرفي العملية التصالية ‪ ,‬وتعد عملية المحاججة وطرح الحجج في أي خطاب نو ً‬
‫الجتماعي الذي يوجه للتواصل والحوار والتفاعل مع الخرين فل يمكن أن تتم عملية المحاججة في سياق فردي ‪.‬‬

‫‪ .2‬تستمد الحجة قيمتها ومعناه ودرجة فعاليتها الحجاجية من خصوصية الحقل التواصلي الذي تظهر فيه والمرجعية‬
‫الخطابية التي تستند إليها ‪ ,‬أي أن ممارسة عملية سوق الحجة وصياغتها وتدعيمها في خطاب ما هي أساس عملية القناع‬
‫والمحاججة لحداث التأثير المستهدف ويظل هذا التأثير رهين الجماع والنخراط في سياق الفكار والقيم الداعمة لتلك‬
‫الحجة‪.‬‬

‫‪ .3‬هدف أي محاججة هو الجدل و القناع ‪ ،‬وهي عملية تفكير واستدلل منطقي فيما يطرحه الخطاب من وجهات نظر‬
‫تقبل الجدل بشأن ما تقدمه من أدلة وبراهين سواء بالرفض أو القبول ‪ ,‬وتتعدد في سبيل ذلك أشكال الحجاج وتتنوع فهناك‬
‫الحجاج ) الصريح ‪ ,‬و الضمني ‪ ,‬والجدلي ‪ ,‬و التبريري ‪ ,‬و‪ ، (..‬وتتعدد استخدامات الحجاج وتتباين مرجعياتها وتأويلتها‬
‫تبًعا لنوع هذا الحجاج ‪ .‬ففي النهاية هدف كل خطاب هو القناع والتأثير من خلل ما يسوقه من حجج ) للتأثير والستمالة( ‪,‬‬
‫وأدوات إقناعية )أدلة وبراهين (‪ .‬وغاية الفعل الحجاجي بدوره كما أسلف هي القناع ومن ثم فقد ارتبط هذا الفعل بالمتلقي‬
‫وبالخر ‪ ,‬فهو يسوغ ويبرر ويدعم ويكشف ‪ ,‬وإن كانت حدوده مقيدة بقيود الحتمالية والنسبية‪.‬‬
‫أسباب اختيار نموذج تولمن في الدراسة ‪.‬‬ ‫‍ج‪.‬‬

‫استخدمت الدراسة بالتحديد نموذج تولمن لتحليل الحجة ‪ Toulmin model of argument‬في تحليل بعض نصوص‬
‫الخطاب الصحفي المتعلق بالحركات السلمية‪ ,‬حيث تنطبق مفاهيم هذا النموذج علي أي حجة في أي مجال أو حقل‬
‫معرفي‪ ،‬والذي يختلف هو فقط محتوى أو مضمون الحجة من مجال معرفي إلى آخر ) الخطب السياسية والقانونية‬
‫والعلمية…( )]‪ , ([15‬لن هذا التكنيك يعد أكثر ملئمة لتحليل وتفسير الحجج المتعلقة بالقضايا التي تقل فيها مساحات‬
‫التفاق ويتزايد تنافر الرؤى حولها‪ ,‬وتتشعب الطروحات المقدمة عنها بين التأييد والمعارضة وما بينهما ‪ ,‬وفي هذا السياق‬
‫تعد القضايا المتعلقة بالحركات السلمية من أكثر القضايا إثارة للجدل وتعدد الرؤى نظًرا للختلف الشديد بين تلك‬
‫الحركات ذات المرجعيات السلمية فيما بينها سواء في الطر الفكرية أو في الممارسات ‪ ,‬بالضافة إلى اختلف وتباعد‬
‫زوايا الرؤى التي يتناول الكتاب منها القضايا المتعلقة بالحركات السلمية كل حسب نظرته ‪ ,‬بالضافة إلى كون معظمها‬
‫تنظيمات سرية يحيط الغموض بأهدافها وممارساتها واستراتيجياتها ذلك الغموض الذي يلعب دورًا محوريًا في تزايد‬
‫الختلف حول هذه الهداف أو تلك الممارسات ‪.‬‬

‫‍د‪ .‬نموذج تولمن لتحليل الحجج ‪Toulmin model of argument‬‬

‫يتكون هذا النموذج من ستة مفاهيم تحليلية ثلثة مفاهيم منها أساسية وثلثة ثانوية)]‪: ([16‬‬

‫‪ .1‬الفكرة الرئيسية ‪_ :‬‬

‫حجة أو ادعاء أو قضية أو موضوع ما‪ ،‬وهو ترجمة لما يريد قائل الخطاب إثباته‪ .‬ويمثل هذا المفهوم الطرح الرئيسي أو‬
‫الفكرة المسيطرة على الخطاب‪ .‬وقد يعبر عنها من خلل البيانات والمعلومات المتوافرة لهذا الخطاب ‪ ,‬و تتعدد أنواع‬
‫الحجج الرئيسية المستخدمة في الخطاب كما يلي ‪_:‬‬

‫· الحجج الواقعية‪ _:‬وهي الحجج المتعلقة بواقع أو بحقائق معينة ‪.‬‬

‫· الحجج التوضيحية ‪ _:‬وهي الحجة المستمدة من تعريفات قانونية أو سياسية أو اقتصادية أو تبعا لوثائق محلية أو إقليمية‬
‫أو عالمية أو لمواثيق دولية أو سوابق تاريخية ‪.‬‬

‫· الحجج المتعلقة بالسباب ‪_:‬وهي الحجة التي ترتبط بوقائع ومشكلت معينة وأسبابها وتأثيراتها ‪.‬‬

‫· الحجج المعيارية أو المتعلقة بالقيمة ‪ _:‬وهي الحجة التي تنبع من العرف أو الدين أو القانون أو القيم أو الفضائل‬
‫الخلقية والحكام المعيارية والمستمدة من الوقائع المحيطة‬

‫· حجج السياسات ‪ _:‬وهي التي تتعلق بما يجب القيام به وكيف يعمل وأي الليات تجري لتنفيذه‪.‬‬

‫وقد تقترب أي فكرة أو حجة من النماط الخمسة المختلفة بصورة أو بأخرى ‪.‬‬

‫‪ .2‬المسوغات ‪_ :‬‬

‫حجج الدعم أو المبررات والدلئل أو الدوافع والسباب ‪ ،‬بمعنى السباب المعطاة من أجل دعم ومساندة وتشجيع الفكرة‬
‫الرئيسية أي ما الذي ساقه قائل الخطاب ليقنع المتلقين بالفكرة أو الموضوع الرئيسي للخطاب‪.‬‬

‫ومما سبق يتضح أن المسوغات )المبررات( وحجج الدعم التي أشار إليها النموذج تعمل في الخطاب عمل مسارات البرهنة‬
‫التي يستخدمها الكاتب لقناع المستقبل بفكرة الخطاب الرئيسية ‪ ,‬وبناء علي ذلك فقد رأت الباحثة أن يتم تكييف النموذج طبقا‬
‫لمقتضيات الدراسة بان يتم استخراج مسارات البرهنة المستخدمة في الخطاب وتحليلها كحجج دعم للحجة الرئيسية ‪ ,‬وقد‬
‫تأتي مسارات البرهنة في الشكال التالية ‪-:‬‬

‫منطقية الستشهاد) الستشهاد المنطقي ( ‪ -‬الوقائع التاريخية ‪ -‬الحداث المعاصرة ‪ -‬الرقام والحصائيات ‪ -‬آراء‬
‫المسئولين ‪ -‬آراء الخبراء ‪ -‬الكتب و الدراسات‪ -‬المثلة التطبيقية ‪.‬‬
‫‪ .3‬الضمانات ‪_:‬‬

‫الكفالت والرخص المتمثلة في المعتقدات السائدة والقيم والراء المشتركة والرؤى الثقافية والجتماعية المتعارف عليها‬
‫وهي التي تؤكد أو تعبر ضمنا عن الحجة‪ .‬بعبارة أخرى ما الذي يدعو هذا الخطاب لتعهد وضمان ما جاء في الخطاب من‬
‫أفكار وموضوعات‪ ،‬أو ما هو مصدر هذا الخطاب ومن أين تأتي سلطته وهنا ل بد للخطاب أن يشترك مرسله ومتلقيه في‬
‫هذه القيم والمعايير والمعتقدات التي هي أقرب إلى العرف منها إلى أشياء مفروضة أو منتظمة أو محددة ‪ ,‬وتعبر تلك‬
‫الضمانات عما هو حاصل بشأنه إجماع أو الرضية المشتركة بين المرسل والمتلقي ‪ ،‬لنه في حالة الشتراك في تلك القيم‬
‫والمعايير والعراف فهي تدعو متلقي الخطاب للمشاركة بشكل غير متعمد وبدون وعي في ذلك المطلب أو الحجة أو‬
‫الفكرة الرئيسية ‪ ,‬وهنا تربط تلك الضمانات بين الفكرة الرئيسية الخطاب وبين أسباب ومبررات دعمها أو تأييدها‪.‬‬

‫أما المفاهيم التحليلية الثانوية التي قد تتضمنها الحجة أو ل تتضمنها فيشير إليها النموذج فيما يلي‪-:‬‬

‫‪ .4‬احتمالية الحجة الرئيسية ‪_:‬‬

‫تخضع الحجة في التحليل في إطار هذا النموذج إلي احتمالية الحجة وليس إطلقها والتأكيد عليها‪ ،‬فتحليل أي حجة هو نوع‬
‫من المشروطية المؤكدة‪.‬‬

‫‪ .5‬العون ‪_:‬‬

‫المساندة التي يقدمها الخطاب للمتلقي لكي يجعل العراف والقيم والمعتقدات الضامنة والكفيلة لحجة أكثر قبول ومصداقية‬
‫من خلل جماعات المؤيدين اتجاهات الرأي العام مقالت الرأي التي يشير إليها الخطاب لمساندة حجته الرئيسية‪.‬‬

‫‪ .6‬دفاعات ‪_:‬‬

‫ردود الخطاب على التحفظات ووجهات النظر المعارضة والبديلة والمتنافسة أو المتصارعة للمطلب أو الحجة الرئيسية‬
‫سواء تم الشارة إليها من داخل الخطاب نفسه أو وجهت للخطاب من خطابات المعارضة‪ .‬ويتوقع من الخطاب أن يتعامل‬
‫ضا أن يتضمن إجابات على السئلة والعتراضات التي يمكن‬ ‫بشكل منصف مع وجهات النظر المختلفة‪ ،‬وعلى الخطاب أي ً‬
‫أن ترد في ذهن متلقي هذا الخطاب‪ ،‬وإل سيضعف هذا من حجة الخطاب ويجعلها عرضة للهجوم من حجج أخرى مضادة ‪,‬‬
‫ومن ثم تصبح هذه الدفاعات بمثابة رد مباشر للحجج المضادة أو المعارضة‪.‬‬

‫سوف تتعامل الدراسة في إطار التكنيك المنهجي المستخدم مع معارضة الخطاب لنفسه بنفسه ومدى نجاحه أو إخفاقه‬
‫في تقديم حجج وأدلة وبراهين مقنعة وملئمة وصادقة‪ .‬ويتم هذا من خلل الكشف عن الحجج والستدللت الضعيفة أو‬
‫المغلوطة التي يستخدمها الخطاب الصحفي بشأن المضامين المتعلقة بالحركات السلمية ‪.‬‬

‫هـ‪ -‬المغالطات الخطابية‬

‫تنقسم المغالطات الخطابية إلى أربعة أنواع )]‪-: ([17‬‬

‫‪.1‬مغالطات الغموض واللتباس ‪ :‬ومنها المراوغة والمواربة في استخدام الكلمات والعبارات بمعان متعددة والتلعب‬
‫باللفاظ والبهام وعدم التأكيد والقتباس في غير موضعه والتعميم غير الموضوعي وسحب الجزء على الكل‪.‬‬

‫عا وانتشاًرا في الخطابات ذات الصلة بالقضايا السياسية ‪ ,‬ويتضمن هذا‬‫‪ .2‬مغالطات التساق ‪ :‬وهذا النوع هو الكثر ذيو ً‬
‫ضا‬
‫النوع اللجوء إلى القوة أو إلى أمر ضمني أو تهديد غير مشروع وهذا على عكس التحذير والتوضيح المشروع ‪ ،‬أي ً‬
‫ضا اللجوء‬
‫الهجوم الشخصي على أشخاص يتناولها الخطاب وليس على حججهم وأقوالهم ‪ ،‬ومن هذا النوع من المغالطات أي ً‬
‫ضا إلى استجداء التعاطف ‪ ,‬و يدخل ضمن‬ ‫إلى مخاطبة المشاعر الجماهيرية أو الشعبية واللعب على أوتارها ‪ ،‬واللجوء أي ً‬
‫ضا العتماد على الصور النمطية في صياغة وتقديم الحجج وتشكيل رؤية هذا الخطاب بشكل عام ‪ ،‬ومن هذه‬ ‫هذا النوع أي ً‬
‫ضا ما يطلق عليه النسان القش ويقصد وهن أو ضعف الحجة وكذلك الحجة المشوشة ‪ ،‬وأخيًرا النتيجة غير‬ ‫المغالطات أي ً‬
‫المتسقة مع المقدمات المطروحة ‪.‬‬
‫‪ .3‬مغالطات الحتمالت المسبقة ‪ :‬ومن أشهر هذا النوع من المغالطات تداخل المقدمات مع النتائج الوقائع مع التقويم ‪،‬‬
‫التغاضي عن الدلة التي هي ضد موقف الخطاب أو التحيز لوجهة نظر الخطاب‪ ،‬أو طرح تساؤلت في صورة إجابات‬
‫ضا ما يسمى بالثنائية الخاطئة أو منطق إما وإما‪.‬‬
‫نهائية ‪ ،‬وأي ً‬

‫‪ .4‬مغالطات الستنتاجات الضعيفة ‪ :‬وتظهر هذه المغالطات نتيجة للستخدام الخاطئ لي نوع من أنواع السلطة المادية‬
‫ضا السلطة الرمزية كالعادات والتقاليد المشتركة والرأي السائد‪ ،.‬أو اللجوء إلى أسباب واهية ووهمية لثبات شئ ‪،‬‬
‫وأي ً‬
‫ضا العتماد على تعميمات غير موضوعية ونتائج متسرعة وأدلة غير وافية ‪ ،‬وتبرير الخطأ بخطأ الغير ‪ ،‬ومن هذا‬ ‫وأي ً‬
‫ضا النزلق في سلسلة من السباب والنتائج الخاطئة المترتبة عليها‪.‬‬‫النوع من المغالطات أي ً‬
‫ثانيا ‪ :‬المدخل المنهجي للدراسة‬

‫‪ -‬المشكلة البحثية ‪ :‬تحددت المشكلة البحثية في التعرف علي اتجاهات الخطاب الصحفي نحو الحركات السلمية ‪ ,‬دراسة‬
‫تحليلية مقارنة على عينة من موقعي صحيفتي الهرام المصرية ‪ ,‬و الهيرالدتربيون المريكية ‪ ,‬في الفترة من ‪ 11‬سبتمبر‬
‫‪ 2001‬م حتى ‪ 16‬مارس ‪ 2006‬م ‪.‬‬

‫‪ -‬عينة الدراسة ‪ :‬تم سحب عينة الدراسة من الرشيف الصحفي لموقعي صحيفتي الهرام المصرية النترناشيونال‬
‫هيرالدتربيون المريكية باستخدام أسلوبي السبوع الصناعي المركب ‪ ,‬والعينة العمدية وقد اعتمدت الدراسة في سحب‬
‫العينة علي الرشيف الزمني والموضوعي لصحيفتي الدراسة باستخدام محرك البحث الخاص بكل صحيفة ‪ ,‬وقد تم سحب‬
‫العينة في الفترة من ‪ 11‬سبتمبر ‪ 2001‬حتى ‪ 16‬مارس ‪. 2006‬‬

‫تساؤلت الدراسة‬ ‫‪-‬‬


‫‪--------‬‬ ‫‪-‬‬

‫مقدمة وتعريف‬
‫• تطلق لفظة حجاج ومحاججة ‪Argumentation‬عند بريلمان وتيتيكاه على العلم وموضوعه‪ ،‬ومؤداها درس تقنيات‬
‫الخطاب التي تؤدي بالذهن إلى التسليم بما يعرض عليه من أطروحات‪ ،‬أو أن تزيد في درجة التسليم ‪ 1‬وربما كانت وظيفته‬
‫محاولة جعل العقل يذعن لما يطرح عليه من أفكار‪ ،‬أو يزيد في درجة ذلك الذعان إلى درجة تبعث على العمل المطلوب‬
‫‪ ،2‬على أن الحجاج مثلما أنه ليس موضوعيًا محضًا فإنه ليس ذاتيًا محضًا؛ ذلك أن من مقوماته حرية الختيار على أساس‬
‫عقلي‪ ،‬وعلى صعيد آخر يمكن القول بأن الحجاج في ارتباطه بالمتلقي يؤدي إلى حصول عمل ما أو العداد له‪ ،‬ومن ثّم‬
‫سيكون فحص الخطابات الحجاجية المختلفة بحثًا في صميم الفعال الكلمية وأغراضها السياقية‪ ،‬وعلقة الترابط بين‬
‫القوال والتي تنتمي إلى البنية اللغوية الحجاجية ‪ ،3‬وسيكون الحجاج مؤطرًا بالخاصية اللسانية الشكلية‪ ،‬وليس بالمحتوى‬
‫الخبري للقول الذي يربط القول بالمقام‪ ،‬ولما كان المر كذلك فإن تركيز التداولية ينصب على العلقات الترابطية بين أجزاء‬
‫الخطاب والدوات اللسانية المحققة له‪ ،‬ومن خصائص الخطاب الحجاجي الذي يميزه عن البرهان أو الستنتاج إمكان‬
‫النقض أو الدحض مما يجعل من إمكانية التسليم بالمقدمة المعطاة أمرًا نسبيًا بالنسبة إلى المخاطب‪ .‬وتتصدر المحاججة‬
‫كوظيفة لسانية قائمة الوظائف اللغوية بالرغم من عدم إشارة الدارسين الذين تناولوا موضوع وظيفة اللغة إليها كبوهار‬
‫وجاكبسون وغيرهما‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫• يهدف الحجاج إلى إقناع شخص ما لعتناق فكرة معينة‪,‬و تقوم باختيار البراهين حسب الشخص المراد إقناعه‪.‬‬
‫الحجاج والبلغة‬
‫جعل أرسطو )ت ‪ 322‬ق م( السؤال تابعًا للجدل ووجها من وجوهه المتعددة‪ ،‬كما أنه المكانية الوحيدة التي تضفي سمة‬
‫الفعل )‪ (lacte‬على التفكير‪ ،‬وهذا ما يعرف في التفكير الفلسفي بـ )الفعل التفكيري( ‪ ،lacte depencer 5‬والذي يقوم على‬
‫ثلث علقات أساسية هي‪ :‬اليتوس والباتوس واللوغوس‪.‬‬
‫إن مفهوم الحجاج متصل بتحديد طبيعة الكلم في وظيفته التساؤلية ‪ ،le questionnement‬ذلك أن المساءلة من حيث هي‬
‫عملية فكرية مؤسسة على سؤال وجواب تستدعي نقاشًا يولد حجاجًا‪ ،‬ويبدو أن المحاججة موجودة بالقوة في التداول اللغوي‪،‬‬
‫إذ ل يخلو خطاب منها سواء كان شفويًا أم كتابيًا‪ ،‬وربما قدم الحجاج على مظهرين لغويين أحدهما مصرح به وهو السؤال‪،‬‬
‫ل تعبيريًا‬
‫وثانيهما ضمني تعبر عنه المكانات المقترحة كإجابات قابلة للستبدال فيما بينها ‪ ،6‬وتأخذ هذه الجابات شك ً‬
‫مميزًا له‪ ،‬وقعه وأثره البلغي على السامع‪ ،‬فقد ترد الجابة في شكل صورة مجازية لها وقعها على المتلقي‪ ،‬وهنا يحدث‬
‫التقاطع بين البلغة والحجاج‪ ،‬فلو أخذنا قول النابغة‪:‬‬
‫أنت شمس والملوك كواكب‬
‫فإننا سنواجه مشكلة مطابقة الملفوظ للواقع في الحقيقة‪ ،‬وعندها يتساءل المخاطب عن قصد المتكلم‪ ،‬وسبب اقتران الممدوح‬
‫بالشمس والملوك بالكواكب؟ ويعزى هذا التساؤل إلى الختلف القائم بين المسند والمسند إليه‪ ،‬ول يكون الحل إل في‬
‫الجواب المفسر للتماهي البلغي بين الطرفين في ظل استتار الطرف الثالث الذي يمثله وجه الشبه بين المشبه والمشبه به‪،‬‬
‫والذي يمثل وحدة معجمية صغرى تظهر في الحقل الدللي للممدوح‪ ،‬والحقل الدللي لكل من الشمس والكوكب وهي‬
‫الضاءة‪ ،‬وهذه الوحدة تلعب دورًا أساسًا في إقامة الترابط والنسجام الدللي في التركيب اللغوي‪ .‬هذا وأوضح بريلمان في‬
‫كتابه البلغة الجديدة أن نقطة التقاطع بين البلغة القديمة ونظرية المحاججة إنما هي المستمع‪.‬‬
‫الحجاج الخاطئ‪:‬‬
‫يبنى هذا النوع على المغالطة في تقديم الحجة‪ ،‬ويعبر عنه باللغة الفرنسية بمصطلح )‪ (Paralogisme‬المتكون من جزأين‬
‫هما ‪ para‬ونعني به خاطئ و ‪ logisme‬بمعنى الحجة‪ ،‬وربما أضاف بعضهم صفة النية الحسنة لهذا النوع؛ ليتميز في‬
‫التفكير الفلسفي عن مصطلح ‪.sophisme 8‬‬
‫إن الحجاج الخاطئ يقدم على المقايسة الواهمة‪ ،‬كما تسبب في حدوثه عيوب بنويه أثناء تأسيس المحاججة كالمصادرة على‬
‫المطلوب‪ ،‬أو الخطاء الناجمة عن تعدد السئلة؛ وربما أمكننا التمثيل للمغالطة الحجاجية بقولنا‪ :‬إن إسرائيل دولة نووية‬
‫وقوة عسكرية فهي إذن على حق‪ ،‬إذ يشمل هذا النوع من المغالطة الحجاج بالسلطة‪.‬‬
‫ومن أنواع الحجاج الخاطئ أيضًا المغالطة المنطقية؛ ونزعم التمثيل لها بمناظرة الشاعر العباسي "أبي العتاهية" لثمامة بين‬
‫الشرس ‪ ،9‬والمغالطة العلمية التي تشخص في تناقض أقوال المتكلم وأفعاله‪ ،‬وربما مثلنا لها في النص القرآني بقولـه‬
‫تعالى‪ ) :‬أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) )البقرة ‪ ،(44/‬وأما الحجاج المبني على التناقض الثباتي فتبينه الية من‬
‫سورة مريم )إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا)‪) ،‬مريم ‪ (19/‬فقد ذهب بعض المفسرين إلى أنها لم تنذر في‬
‫الحال بل صبرت حّتى أتاها القوم فذكرت لهم كونها نذرت‪ ،‬فيكون هذا منها تناقضًا فقد تكلمت من حيث نذرت عدم الكلم‪،‬‬
‫بينما ذهب آخرون إلى إمساكها وإكتفائها باليماء وبالرأس‪ ،‬ومن أدوات الحجاج اعتماد التهديد والترهيب كأسلوب للقناع‬
‫الخطابي في النصوص الدينية والسياسية‪ ،‬ويمكن أن نجد لهذا النوع من القناع الذي ينحو منحى استسلميًا أمثلة متعددة في‬
‫الخطابة العربية كخطبة زياد بن أبيه لهل البصرة‪ ،‬وخطبة الحجاج لهل العراق‪ ،‬وخطبة زيد بن المقنع العذري الذي سعى‬
‫ل‪:‬‬
‫في ضمان ولية العهد إلى يزيد بن معاوية‪ ،‬فخطب في حضرة معاوية )ض( قائ ً‬
‫"هذا أمر أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية‪ ،‬فإن هلك‪ ..‬وأشار إلى ولده يزيد فان أبيتم فهذا‪ ..‬وأشار إلى سيفه ‪.10‬‬
‫هذا ويمكن الحديث على أنواع أخرى للحجج منها‪:‬‬
‫‪-1‬حجة التبرير ‪ ،argument de gaspillage‬وأداتها "بما أن"‪.‬‬
‫‪-2‬حجة التجاه ‪ ،direction‬وغرضها التحذير من انتشار شيء ما‪.‬‬
‫‪-3‬الحجة التواجدية‪ ،‬تبنى على علقة الشخص بعمله‪ ،‬ويمكن أن نمثل لها بقوله )ص(‪:‬‬
‫"من حسن إسلم المرء تركه ما ل يعنيه" إذ يكن أن نقول بأن المتعلم كشخص في جوهره ليس فضوليًا‪ ،‬وعمل ترك ما ل‬
‫يعنيه من تجليات حسن السلم‪.‬‬
‫‪-4‬الججة الرمزية‪ :‬للرمز قوة تأثيرية في الذين يقرون بوجود علقة بين الرامز والمرموز إليه كدللة العلم في نسبته إلى‬
‫وطن معين‪ ،‬والهلل بالنسبة إلى حضارة السلم‪ ،‬والصليب بالنسبة إلى المسيحية‪ ،‬والميزان إلى العدالة‪.‬‬
‫ن الغاية من اعتماده حجاجيًا هو التأسيس للقاعدة‪ ،‬والبرهنة على صحتها‪.‬‬‫‪-5‬المثل‪ :‬إ ّ‬
‫‪-6‬الستشهاد‪ :‬غايته توضيح القاعدة‪ ،‬وتكثيف حضور الفكار في الذهن‪ ،‬وربما كان الستشهاد أداة لتحويل القاعدة من‬
‫طبيعة مجردة إلى أخرى محسوسة‪ ،‬ولعل القرآن الكريم فيما يقدم لنا من أمثلة حجاجية أهم مصدر لهذه الشكال الحجاجية‪،‬‬
‫على أن العناية بالستشهاد القائم على التمثيل مقيد بجملة من القيود لعل أهمها؛ عدم إطنابه‪.‬‬
‫أّما الطريقة النفصالية فتقوم على وجود وحدة ومفهوم واحد بين العناصر الحجاجية وإنما فصل بينها لغاية حجاجية‪،‬‬
‫وللسائل أن يسأل عن طريقة الفصل بين القوال في الخطاب وعلى هذا ستكون الصورة المجازية بخاصة‪ ،‬والصور‬
‫البلغية بعامة في الخطاب أداة مهمة لتحقيق الغرض الحجاجي فيه‪ ،‬وكما اقترنت الحاجة بالغراب وأسلوب الشارة فإن‬
‫الخطاب الحجاجي غالبًا ما يشكل في جنس الخطبة التي تكرس مبدأ المفاوضة بين المتكلم والسامعين ‪.12‬‬
‫نظرية السللم الحجاجية‪:‬‬
‫تطرح هذه النظرية تصورًا لعمل المحاججة من حيث هو تلزم بين قول الحجة ونتيجتها‪ ،‬لكن قول الحجة والنتيجة في‬
‫تلزمها تعكس تعددًا للحجة في مقابل النتيجة الواحدة على أن هناك تفاوتا من حيث القوة فيما يخص بناء هذه الحجج‪ ،‬كما‬
‫أن الحجج قد تنتمي إلى قسم واحد كقولنا‪ :‬الطالب مجتهد )ن( فقد نجح في المسابقة بامتياز )ق ‪ (1‬وتحصل على جائزة‬
‫الجامعة )ق ‪.(2‬‬
‫أهمية نظرية السللم الحجاجية‪:‬‬
‫إن مفهوم السلم الحجاجي في الخطاب من حيث تركيزه على مبدأ التدرج في توجيه الحجج يبين أن المحاجة اللغوية ل‬
‫ترتبط بالمحتوى وإحالة هذا المحتوى على مرجع محدد بل هي رهينة القوة والضعف الذي ينفي عنها الخضوع لمنطق‬
‫الصدق والكذب‪ ،‬ومما تجدر الشارة إليه أن المتكلمين يختلفون في بناء منظومة السللم إذ أنها متسمة بالخصوصية‬
‫والذاتية‪ ،‬فالبعض يلخص موقف خصومه‪ ،‬والبعض الخر يدمجه في برهانه ويتبناه مؤقتًا‪.‬‬
‫الربط الحجاجي‪:‬‬
‫يميز محللو الخطاب الحجاجي بين نوعين من الدوات اللسانية التي تحقق الوظيفة الحجاجية والترابط داخل النص‬
‫الحجاجي؟ فأما النوع الول فتمثله عناصر نحوية في طبيعتها مثل الواو والفاء ولكن وإذن‪ ،..‬وأما الثاني فتمثله جملة من‬
‫الساليب المتضمنة داخل الملفوظ الحجاجي كالنفي والحصر‪ ،‬ويلحق بها عوامل حجاجية ذات وظيفة محددة دلليًا مثل‪:‬‬
‫"تقريبًا" و"على القل" و"منذ" "قصا" "وأبدا" وغيرها‪.‬‬
‫ن المحاججة موجودة في كل مكان في حواراتنا اليومية ومرافعات المحامين وخطب الساسة ودروس المعلمين ومناقشة‬ ‫إّ‬
‫الرسائل العلمية بشتى أشكالها‪ ،‬ومن هنا ركز الباحثون جهودهم في تأسيس نظرية تصف أدواته وتقنياته وأغراضه وتحليل‬
‫بنيته ببناء نحو خاص بالخطاب الحجاجي ينطلق من مبادئ التداولية ونظرية الفعل الكلمي‬
‫حج‪ ،‬حجا حجه ‪ :‬غلبه بالحجة ‪.‬‬
‫حاج حجاجا ومحاجة‪ ،‬حاجه‪ :‬خاصمه فحجه‪ -‬تحاجا تحاجا‪ :‬تخاصما‬
‫احتج ‪ :‬ادعى وأتى بالحجة ‪ .‬واحتج بالشيء ‪ :‬جعله حجة وعذرا له‪.‬استحج ‪ :‬طلب الحجة وأبداها ‪.‬‬
‫الحجة جمع حجج وحجاج‪ :‬البرهان – الحجيج‪ :‬المغالب بإظهار الحجة‪.‬‬
‫المحجوج ‪ :‬المغلوب بالحجة‪.‬‬
‫وتقابلها في الفرنسية كلمة ‪ Argument‬التي تعني حجة‪ ،‬دليل برهان‬
‫النص الحجاجي هو قرين التدليل والستدلل والبرهنة والقناع يكتب لتغيير وتصحيح بعض المفاهيم والفكار الخاطئة‬
‫الراسخة في أذهان القراء من أجل تغيير سلوكهم وتقويم تصرفاتهم مؤيدا بأمثلة وأدلة وحجج دامغة‪..‬‬
‫مثال)‪ (1‬ذلك النص الذي يتحدث عن وجوب حماية الغابة لنها مصدر الحطب والخشب‪ .‬ولنها مورد اقتصادي وسياحي‬
‫هام ‪.‬‬
‫مثال )‪ :(2‬التدخين مضر بالصحة‪.‬‬
‫مثال )‪ :(3‬هل تعتقد أن الشباب يكفي ليكون النسان سعيدا؟ ‪.‬‬
‫مثال )‪ :(4‬هل التدخين مضر بالصحة؟‪.‬‬

‫مقومات النص الحجاجي‬

‫‪ -1‬بناء نص حجاجي يتضمن عادة المراحل التالية‪:‬‬


‫أ‪ -‬المقدمة ‪L'introduction‬‬
‫ب‪ -‬التوسيع ‪Le développement‬‬
‫جـ ‪ -‬الخاتمة ‪La conclusion‬‬
‫‪ -2‬أو يتضمن خطة عناصرها ‪:‬‬
‫أ‪ -‬التمهيد‪présentation du sujet) Introduction ) :‬‬
‫ب‪ -‬الفرضية )القضية(‪La thèse :‬‬
‫جـ ‪ -‬التغير والتحول )النتقال( مرحلة وسطى ‪La transition‬‬
‫د‪ -‬نقيض القضية ‪L'antithèse‬‬
‫هـ‪ -‬الستنتاج ‪la conclusion‬‬
‫‪ – 3‬أو يتضمن العناصر التالية ‪:‬‬
‫أ‪ -‬الفكرة الرئيسية التي تعرض ‪L'idée directrice ou thèse‬‬
‫ب‪ -‬وجهة النظر التي ستكون موضوع البرهنة )عناصر مجردة (‬
‫جـ ‪ -‬البراهين والحجج التي تؤكد الفكرة الرئيسة ‪Les arguments‬‬
‫د‪ -‬الشواهد والمثلة ‪les preuves ou exemples‬‬
‫التي تؤيد الفكرة والبراهين وتكون أمثلة محسوسة ‪ ،‬تجربة خاصة ‪ ،‬أحداث تاريخية ‪ ،‬أحداث أدبية‪....‬‬
‫‪ -4‬النص الحجاجي ليس فهرسا أو قائمة بالمثلة والشواهد ‪ ،‬كل برهان يجب أن يعتمد على مثال حسي واحد مناسب أو‬
‫اثنين على الكثر من بين كل المثلة المناسبة أو الممكنة‪.‬‬
‫‪ - 5‬حسن ترتيب الفكار وتلحقها مفصلة واضحة موصولة ببعضها‬
‫‪ -6‬حسن النتقال والتخلص من فكرة إلى أخرى ‪.‬‬
‫‪ -7‬الستعانة بالمثلة الحسية التوضيحية ‪.‬‬
‫‪ -8‬الهتمام بالعلقات الذهنية الساسية ‪:‬‬
‫‪ -1‬الجمع بين أ ‪ +‬ب‬
‫‪ -2‬الختيار بين ) أ( أو ) ب(‬
‫‪ -3‬التضاد بين ) أ( و ) ب(‬
‫‪ -4‬السببية ) أ( سبب ) ب(‪.‬‬
‫‪ -5‬المسببية ) النتيجة( )ب( نتيجة ) أ(‪.‬‬
‫‪ -9‬استخدام بعض الصور البيانية التوضيحية كالتشبيه‪.‬‬
‫‪ -10‬شيوع التكرار والعبارات المترادفة أو المتضادة‪.‬‬
‫النص الحجاجي يأتي في قالب شعري كما يأتي في قالب نثري كالخطابة‪ .‬والمقال بأنواعه‪...............‬‬
‫فموضوع الخطابة هو عرض وجهة نظر الخطيب التي يحاول أن يقنع بها الجمهور ويستمليهم لتغيير سلوكهم‪.‬‬
‫) خطبة هاشم بن عبد مناف( في الدعوة إلى إكرام الحجاج‪ .‬وظيفة الناقد لميخائيل نعيمة ‪ ،‬اللغة والمة للرافعي‪.......‬‬

‫النماط الحجاجية‬
‫و تحدد في نمطين ‪:‬المحاورة الجدلية)المناظرة( و المحاورة الخطابية)الخطابة( الخطابة خطاب حجاجي ‪ :‬مداره قول‬
‫للقناع في مجال المحتمل و المسائل الخلفية القابلة للنقاش و أهم اسسها أ‪ -‬المقدمة و تتجلى اهميتها في جعل القارئ او‬
‫السامع منتبها متقبل‪ .‬ب‪ -‬السرد)الحكي( و فيه تقدم الوقائع إلى القارئ او المستمع تقديما مركزا واضحا و مقبول‪ .‬ج‪-‬‬
‫الحجاج تبرير يتميز بالموضوعية و النفعال تبعا للتأثير الذي يرغب الخطيب في احداثه‪ .‬د‪ -‬النهاية تضم ملخصا موجزا‬
‫للبرهنة المقدمة‪ .‬المناظرة آلية حجاجية ‪ :‬و هي كل خطاب استدللي يقوم على المقابلة و التفاعل الموجه و هي نوع من‬
‫الجدال بالتي هي احسن بين فريقين وصول للق و الصواب من شروطها العامة ‪ 1‬وجود متناظرين ‪ 2‬وجود دعوى او ادعاء‬
‫‪ 3‬ل بد من مال يكون بعجز أحد المتناظرين او غلبة أطروحة على اخر بناءا على قوة السلم الحجاجي و يتبين من خلل هذه‬
‫القواعد الشكلية للمناظرة وجود ‪ 3‬مفاهيم هي‪ .‬الدعاء و يسمى عرض الدعوى ‪ .‬المنع و هو العتراض على الدعوى‪.‬‬
‫التدليل و من أهم شروطه صدق العرض و المعترض فيما يدعيانه‪.‬‬
‫ينتمي النص الواحد نفسه إلى أنماط نصية مختلفة‪:‬فنص سردي يحتوي ‪،‬غالبا ‪ ،‬مقاطع وصفية‪,‬تفسيرية‪...‬‬
‫آليات الحجاج‬
‫‪ 1‬الخبار من الخبر و هو ما يصح ن يدخله الصدق او الكذب و هو لفظ يدل على علم في نفس المخبر‪.‬‬
‫‪ 2‬التفسير‪ .‬يحتاج الموضوع الذي يطرح إشكالية أو قضية كما هو الشأن في المناظرة أو الخطبة في انجازه إلى أساليب‬
‫للتفسير تساهم في توضيح أبعاده و دللته و تجعل المتكلم قادرا على الشرح و التوضيح لخصمه أو من يناظره لغرض‬
‫القناع و أهم أساليبه التعريف الوصف المقارنة و السرد‪.‬‬
‫‪ 3‬القناع و بواسطته تستخدم حجج و براهين للدللة على صحة الموقف الذي يدافع عنه المتناظرون و الخطيب اعتمادا‬
‫على أدلة ملموسة من الشواهد أو أدلة تعتمد على مبادئ منطقية ‪ .‬و للقناع ضوابط بدونها ل يحصل التسليم بالرأي ‪ .‬و من‬
‫وسائل القناع و سائل لغوية و وسائل منطقية دللية‪ .‬الوسائل المنطقية الدللية و أهم عناصرها القياس المنطقي الذي يعتبر‬
‫بنية أساسية في الحجاج و وظيفته النتقال مما هو مسلم إلى ما هو مشكل‪ .‬و كذلك من عناصرها الحاديث النبوية أو اليات‬
‫القرآنية أو المقولت الفلسفية أو العلمية و حجج واقعية‪ .‬الوسائل اللغوية و من أهمها التوكيد و الشرط و النفي و التكرار‬
‫اللفظي و المعنوي و السجع و التوازن الصوتي و الطباق ‪ ...‬إلى أخره‪.‬‬

‫بلغة الحوار ‪ :‬المجال والحدود‬

‫محمد العمري‬

‫تعريف ‪:‬‬

‫"الحوار‪ ،‬في معناه العام‪ :‬خطاب )أوتخاطب( يطلب القناع بقضية أو فعل‪ .‬وفي معناه الخاص‪ :‬كل خطاب يتوخى تجاو َ‬
‫ب‬
‫ق ُمعين‪ ،‬ويأخذ رده بعين العتبار من أجل تكوين موقف في نقطة غير معينة سلفا بين المتحاورين؛ قريبة من هذا‬
‫متل ّ‬
‫الطرف أو ذاك‪ ،‬أو في منتصف الطريق بينهما‪.‬‬

‫صورُته الُمثلى مناقشٌة بين طرفين أو أكثر‪ ،‬وقد يكون تعقيبا بعد حين على صفحات الجرائد أو غيرها من وسائط التصال‬
‫التي تتيح فرصة للتعليق على رأي الخرين‪ ،‬وقد يكون في أي صيغة أخرى")(‪.‬‬

‫الذي يشغلني‪ ،‬وأنا أقترح هذا التعريف التقريبي‪ ،‬هو الخطاب السياسي في معناه العام‪ ،‬أي الخطاب الذي يتناول تدبير‬
‫الختلف في الحياة المدنية‪ .‬ولذلك لم أعتمد تعريفا سابقا يقيدني بمرجعيته أو مجال تطبيقه‪ .‬وأحيل‪ ،‬قصد الستئناس‬
‫والمقارنة‪ ،‬على تعريف دوكلس والتون وهو يهتم بالنماط الحافة بالحوار النقدي المتداخلة معه‪ ،‬مثل‪ :‬المناقشات‬
‫والمفاوضات والتحقيقات والمشاحنات)(‪ .‬كما أحيل على بيرلمان وأولبريشت تيتيكا‪ ،‬وهما يهتمان‪ ،‬في الطرف المقابل‪،‬‬
‫بالحجاج الجدلي ضمن هم منطقي فلسفي‪ ،‬اختارا له اسم البلغة الجديدة‪ ،‬وسنورده لحقا‪ .‬فبين هذ العريف والتعريفات‬
‫الخرى تداخل في الجوهر واختلف في التفاصيل‪ .‬وأستبعُد‪ ،‬من باب أولى وأحرى‪ ،‬المفهوم النقدي الدبي لكلمة "حوار"‬
‫مما يتصل بالتناص‪ ،‬أو حوار النصوص‪.‬‬
‫وبلغة الحوار هي العلم الذي يتناول مكونات الحوار وأخلقياته وآليات اشتغاله‪ .‬وهي تنتمي إلى النظرية العامة للقناع‬
‫التي هي فرع من البلغة العامة‪) ،‬أو البلغة‪ ،‬دون زيادة(‪ ،‬في مقابل فرع التخييل)(‪ .‬وقد اقترحنا تصورا لـ"دائرة الحوار"‬
‫في كتابنا المعنون بهذا السم مشفوعة بالتعليق التالي‪:‬‬

‫"دائرة الحوار هي… دائرُة الممكن‪ ،‬دائرة ما يتطلب إنجازه أخذ "الخر" بعين العتبار‪ .‬متعاونا )مشاورات( أو منازعا‬
‫)مناظرات(‪ ،‬أو منقادا دون روية )استهواء(‪ .‬وخارج هذه الدائرة توجد دائرة المطلق )أو المطلقات(‪ .‬لكل صيغة من صيغ‬
‫الحوار‪ ،‬أو جنس من أجناسه امتداد‪ :‬ففي امتداد التشاور توجد المعرفة في بعدها التخزيني‪ ،‬أي نشاط الذاكرة بشكل أساسي‪،‬‬
‫وفي امتداد المناظرة يوجد التأمل والعتبار والمعرفة المنطقية والبرهانية‪ ،‬أي نشاط العقل بصفة أساسية‪ .‬وفي امتداد‬
‫الستهواء يوجد العنف السيكولوجي والرمزي‪ ،‬أي نشاط الوجدان بشكل أساسي"‪.‬‬

‫وهكذا فإن الحوار يجري داخل دائرة الممكن‪ ،‬ولكنه قد ينزلق خارج الدائرة حين يصادر أحد الطرفين حق الخر في‬
‫المعرفة أو النظر أو العتبار )حيث يستغفله أو يستخف به(‪ .‬وقد يتم النزلق من مقام إلى مقام فيختل الحوار أو يضطرب‪،‬‬
‫كما يحدث حين القفز من المشاورة إلى المنازعة‪ ،‬أو من المناظرة إلى الستهواء‪.‬‬

‫نحيل الراغب في مزيد بيان على المرجع المذكور‪ .‬ونخصص هذه المناسبة لمعالجة ثلث نقط وهي‪ (1 :‬مجال الحوار‪ ،‬و‬
‫‪ (2‬الفرق بين الحوار والحجاج ذي التوجه المنطقي )أو الستهواء الحواري والحجاج المنطقي(‪ ،‬ثم ‪ (3‬الفرق بين نقد‬
‫الخطاب الحواري وإبداء الرأي )أو نهاية العلم وبداية الرأي في بلغة الحوار(‪ .‬وقد بدت لي هذه القضايا ـ عند تأليف كتاب‬
‫دائرة الحوار ـ بديهية‪ ،‬ثم تبين أن عدم وضع النقط على الحروف بصددها يعوق الفهم والتفاهم في هذا المجال‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ مجال الحوار‪ :‬تدبير الختلف حول القيم‬

‫يلتقي منظرو بلغة القناع من أفلطون إلى بيرلمان في التأكيد بأن مجال التخاطب الحواري )أو الحجاج( هو مجال القيم‪.‬‬
‫ج‪ .‬وذلك في مسعى منها‬ ‫عمقت هذه القناعة‪ ،‬حديثا‪ ،‬من طرف نظرية الحجا ٍ‬ ‫فهنا يتدخل الرأي وتؤثر المقامات الخطابية‪ .‬وقد ُ‬
‫لبناء منطق غير شكلي يهتم بالقناع في مجالت متعددة‪ .‬يقول ج‪.‬مورو في مقال له بعنوان "البلغة والجدل وأولى‬
‫الضرورات‪:‬‬

‫"قال سقراط لوطيفرون ‪ : Euthephron‬إذا اختلف رأينا‪ ،‬أنا وأنت‪ ،‬حول العدد )عدد الشياء الموجودة في سلة(‪ ،‬أو حول‬
‫الطول )طول قطعة من نسيج(‪ ،‬أو حول الوزن )وزن كيس من قمح(‪ ،‬فلن نتنازع من أجل هذا؛ ولن ندخل في نقاش؛‬
‫سيكفينا أن نُعَد أونقيس أو نزن وسيسوى الخلف‪ .‬إن الختلفات ل تتسع وتتسمم إل حين ل تكون هناك إجراءات للقياس‬
‫من هذا القبيل‪ ،‬حين تغيب المقاييس الموضوعية‪ .‬وهذا هو الشأن‪ ،‬حسب سقراط‪ ،‬حين نختلف حول المصيب والمخطئ‬
‫والجميل والقبيح والخيّـر والشرير‪ ،‬وبكلمة واحدة ‪ :‬حول القيم‪ ."(Platon.Euthephron.7d) .‬وعليه فإذا أردنا‪ ،‬في مثل‬
‫هذه الحالت تلفي تحول الخلف إلى أزمة‪ ،‬وتلفي الحل المعتِمد على العنف فليس هناك من سبيل غيَر الرجوع إلى نقاش‬
‫عقلني‪ .‬ويبدو الجدل‪ ،‬باعتباره فنا للمناقشة‪ ،‬المنهج الملئم لحل المشاكل التطبيقية‪ ،‬تلك التي ُتعنى بالغراض العملية حيث‬
‫تتدخل القيم")(‪.‬‬

‫وما دام الحوار أو الجدل )ل فرق في هذا المستوى( ل يتصور إل في مستَمعات )مستمعون في مكان وزمن محددين( فقد‬
‫ثار الصراع منذ القديم بين الفلسفة والبلغيين حول هوية الميدان‪ :‬طبيعة الحقيقة الممكنة‪ ،‬ومن هو أجدر بالوصول إليها‪.‬‬
‫فأية حقيقة يقيمها الفيلسوف في هذا المجال تصبح‪ ،‬من غدها‪ ،‬موضوع خلف يقتضي المجادلة والقناع‪ ،‬أي استعمال‬
‫الدوات البلغية المرصودة لمعالجة الرأي وما هو نسبي في إطار المقامات‪.‬‬

‫بناء عليه فإن الحوار يغطي‪ ،‬عندنا‪ ،‬كل المجال الذي يفلت من الصرامة البرهانية المعتمدة على البداهة )أي مجال القيم كما‬
‫تقدم(‪ ،‬غير أن الحديث عن القيم يطرح إشكال النسبية والطلق‪.‬‬

‫فحين يقال بأن القيم هي مجال القناع يتبادر إلى ذهن غير المختص العتراض بكونية القيم الكبرى مثل الحق والخير‬
‫والحرية والجمال… وهي كذلك )أي كونية( بالنسبة لكل العقلء المندمجين في المسار الحضاري للنسانية‪ ،‬بل حتى الطغاة‬
‫ليتنكرون لها بصريح اللفظ‪ .‬غير أن إطلقية هذه القيم وكونيتها ل تتجاوز مستوى النظر والشعار الذي ينبغي رفعه والذود‬
‫عنه على الدوام‪ .‬فبمجرد ما نحاول تنزيل هذه القيم على الواقع فإنها تصبح موضوع أخذ ورد حسب المستَمعات )‪les‬‬
‫‪ (auditoires‬عير تدرج من المستوى التشريعي إلى المستوى العملي الحياتي‪ .‬فما تراه الطبقات الفقيرة عدل )توزيع‬
‫الثروات( تراه الطبقات المتحكمة في الثروة مصادرة لحرية الكسب والمبادرة )أي ظلما لها(‪ .‬وليس من حل في هذه الحال‬
‫غير الحوار العقلني الذي يحتكم لترتيب الضرار والمنافع بالنسبة للمجموعة ككل حسب موازين القوى النية‪ .‬قد تتغير‬
‫هذه الموازين لحقا فيستأنف الحوار من أجل تراتبية جديدة حسب السبقيات أو الضغوط‪ .‬ومع عملية الترتيب تبدأ‬
‫التنازلت‪ :‬يتنازل كل طرف عن جوانب لتحصيل جوانب أخرى يتنازل عنها الطرف الخر راغبا أو مضطرا‪ .‬ويتم هذا‬
‫الحوار ضمن عملية تنظيم المجتمع ككل لسبقياته حسب المكانيات والكراهات‪.‬‬

‫ولذلك اعتبر بلغيو الحجاج ترتيب القيم أهم من معرفتها وتمجيدها‪ .‬قال بيرلمان‪" :‬ل شك أن تراتبيات القيم‪ ،‬منظورا إليها‬
‫من وجهة نظر البنية الحجاجية‪ ،‬هي أكثر أهمية من القيم نفسها‪ .‬فالواقع أن أكثر القيم مشترك بين عدد كبير من المستَمعات‪.‬‬
‫وتكمن خصوصية كل مستَمع في الطريقة التي يرتب بها هذه القيم أكثر مما هي كامنة في القيم التي يقبلها()”‪ .‬والبلغة هي‬
‫العلم المؤهل لتحقيق تخاطب إيجابي في مثل هذه المقامات الملتبسة‪ .‬ليس ببيان كيفية الدفاع عن الحقوق فحسب‪ ،‬كما كان‬
‫مبتدأ أمرها عند اليونان‪ ،‬ولكن بكشف أساليب التضليل والمغالطة الهادفة إلى سلبها أيضا‪.‬‬

‫فمن القيم النبيلة التي تغتال بها حرية الشعوب في العصر الحديث مفهوم المواطنة‪ .‬وذلك حين يختزله المستبدون في ضمير‬
‫"نا"‪ .‬موهمين الشتراك في السراء والضراء‪ ،‬والحال أنه أشبه بحصان طروادة الذي يقتحم به المستغلون قلعة‬
‫المستضعفين‪ .‬وهذه هي المعركة البلغية اليوم بين الشعوب العربية وحكامها‪ :‬معركة "نا"‪ ،‬حيث نجد الصوت العالي اليوم‬
‫هو‪ :‬اخرجوا من طريقنا لنواجه أعداءنا‪ .‬وهذا أمر وعاه البعض وبحث عن مخرج وتجاهله البعض فوقع في الحرج‪.‬‬

‫وفي خضم الصراع العملي أفرزت المجتمعات هيئات تحكيمية انبثقت عنها مؤسسات تشريعية‪ .‬تمثل هذه الهيئات الصمام‬
‫الول بين المطلق والعابر‪ .‬فالتداول أو الحوار بين المشرعين ليس من أجل الوصول إلى الحقيقة المطلقة‪ ،‬بل من أجل ضبط‬
‫الحوار الدني )أي التطبيقي السياسي( موقتا في انتظار أن تتغير معطيات الحياة أو يختل التوازن بين المتحاورين وهذا ما‬
‫يجري عادة في تجديد الدساتير والقوانين والمدونات‪ ،‬حيث ُيلتجأ في الخير إلى الستفتاء‪ ،‬ليسلم المر للغلبية‪ ،‬وليس‬
‫للحقيقة المطلقة التي ل وجود لها إل في أذهان الطغاة‪ .‬وقد قضى المغاربة نصف قرن من الصراع من أجل حق الحوار‬
‫حول الدستور‪.‬‬

‫وكما يستعمل المتداولون في شأن القوانين والدساتير كل كفاءاتهم القناعية في التقريب بين آرائهم‪ ،‬مؤولين وموجهين‬
‫للمرجعيات المعتمدة لديهم سيقوم المطبقون في المستوى العملي )السياسي( بجهد مماثل في تأويل النصوص التشريعية‬
‫وتوجيهها طالبين التسليم والقبول من محاوريهم في المقامات الخاصة‪ ،‬ثم متتبعيهم في المقام التحكيمي‪ ،‬أي المصوتون‪.‬‬

‫إن هذه العملية التحويلية القناعية )من المطلق إلى النسبي( عملية معقدة يلتبس فيها الفكر باللغة والحقيقة بالخير‪ .‬ورفض‬
‫هذا المسلسل أو التحايل عليه طريق معبد نحو العنف المادي‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الستهواء الحواري والحجاج المنطقي‬

‫قد يؤدي حديثنا عن الستهواء في الخطاب الحواري القناعي إلى الرتياب‪ ،‬خاصة إذا ما وقف نظر المتلقي عند النظرية‬
‫الحجاجية الفلسفية المدعوة "البلغة جديدة" التي نستفيد منها إلى أقصى الحدود‪ ،‬ولذلك لزم توضيح المقصود منه ووجه‬
‫العناية به‪.‬‬

‫لعل القارئ ل يجد صعوبة في فهم المقصود عامة من الستشارة والمناظرة؛ فل مانع من الربط ـ موقتا ـ بين ما يلوح من‬
‫مفهوميهما هنا وبين الخطابة الستشارية والقضائية )الحتكامية( عند أرسطو‪ .‬كما أنه ل مانع من انصراف الذهن مؤقتا إلى‬
‫مفهوم المناظرة في التراث العربي وعلقتها بالجدل‪ ،‬ل مانع من كل ذلك ما لم يفكر في المطابقة بين هذا وذاك‪ ،‬وإل‬
‫صارت تلك الُملِبسات )بالكسر( عائقًا للفهم‪ .‬فنحن نهتم بالنزلقات في الخطاب السياسي أساسا‪.‬‬

‫لقد حاولنا‪ ،‬بعد عمل تطبيقي موسع على النص الخطابي الحديث )في دائرة الحوار(‪ ،‬أن نجد كلمة تستوعب ما ل يستوعُبه‬
‫ت المشتركة للطرفين‪ ،‬من جهة أخرى‪،‬‬ ‫حجاجية المحتكمة إلى العقل والمسلما ِ‬‫الستعلُم والتشاور‪ ،‬من جهة‪ ،‬والمنازعُة ال ِ‬
‫فكاد ذلك يتعذر‪ .‬وترجع هذه الصعوبة إلى أن مكونات المنطقة التي ل ُيغطيها التشاوُر والتناظر مختلفٌة في طبيعتها‪ ،‬متباينة‬
‫في قيمتها الوجدانية والخلقية؛ الستمالة والمشاحنة والمغالطة )يستقر طرف منها داخل دائرة الحوار ويمتد طرف آخر‬
‫خارج الدائرة(‪ .‬وبعد تأمل طويل استقر رأينا على كلمة "استهواء" من الهوى أي الميل النفسي‪ ،‬خيرا أو شرا‪ ،‬دون احتكام‬
‫إلى العقل والعرف وما هو مشترك‪ .‬والمجال الثير للستهواء هو الشهار؛ إشهار البضائع والمواقف والفكار…الخ‬

‫وبهذا المتداد الستهوائي ينزاح تصورنا للحوار عن نظرية الحجاج الفلسفية ذات الهم المنطقي )كما نبين في الفقرة‬
‫الموالية(‪ ،‬مع اعترافنا بعظيم الفائدة التي تقدمها لنا هذه النظرية سواء في التأطير النظري أو في وصف التقنيات الحجاجية‬
‫وتصنيها؛ إننا معها وضدها في الوقت نفسه‪.‬‬
‫لقد ميز بيرلمان وأولبريشت تيتيكا فعل بين مستويين من التسليم )أو القبول بالرأي المعروض(‪ :‬التسليم التي من الخارج‬
‫حسب المقام وتترجمه كلمة ‪ ، persuasion‬والتسليم المنبعث من داخل النفس باطمئنان وتترجمه كلمة ‪ . conviction‬وهذا‬
‫النوع الثاني هو الذي َينتج عن مخاطبة مستمع كوني حيث تلتقي أفهام العقلء‪ .‬وهو موضوع الحجاج بمعناه الحق في‬
‫نظرهما؛ ففي إطاره تتحقق الحرية‪) ،‬أي الفلت من الكراهات الخارجية(‪ .‬ونص كلمهما في ذلك‪" :‬إن الحجاج غير‬
‫الملزم ‪ Non contraignant‬وغير العتباطي هو وحده القمين بأن يحقق الحرية النسانية من حيث هي ممارسة لختيار‬
‫عاقل‪ .‬فأن تكون الحرية تسليما اضطراريا ]إلزاميا[ بنظام طبيعي معطى سلفا معناه انعدام كل إمكان للختيار‪ .‬فإذا لم تكن‬
‫ممارسة الحرية منبنية على العقل فإن كل اختيار يكون ضربا من الخور‪ ،‬ويستحيل إلى حكم اعتباطي يسبح في فراغ‬
‫فكري")(‪.‬‬

‫غير أن صواب هذا النظر الفلسفي )وهو يدمج العلمي والخلقي( ل يمكن أن يشغل البلغي )والبلغي الواصف على وجه‬
‫التحديد( عن واقع إنتاج الخطاب وأحوال متلقيه‪ ،‬ويظل الحوار النقدي الذي يجري في المقام الكوني حيث تلتقي العقول غاية‬
‫يسعى البلغي نحوها دون أن يرتهن بها وجودا وعدما‪ .‬فقديما لحظ أرسطو أن الحاجة إلى السلوب نابعة من أن عامة‬
‫الناس "يتأثرون بمشاعرهم اكثر مما يتاثرون بعقولهم")(‪.‬‬

‫ويرجع هذا التقارب والتباعد إلى اللتقاء في الموضوع والغرض)القناع(‪ ،‬والختلف في مجال التطبيق‪ .‬فمن حيث‬
‫المنطلق نلتقي في استلهام خطابة أرسطو‪ .‬فقد قادت طبيعة الموضوع هؤلء المناطقة ـ كما قادتنا النصوص الخطابية‬
‫المختلفة ـ إلى رحاب البلغة الرسطية‪ .‬يقول بيرلمان في كتابه‪ :‬حقل الحجاج‪" :‬موضوع نظرية الحجاج هو دراسة‬
‫التقنيات الخطابية الهادفة إلى حث النفوس على التسليم بالطروحات المعروضة عليها‪ ،‬أو تقوية ذلك التسليم‪ .‬كما تفحص‬
‫أيضا الشروط التي تسمح بانطلق الحجاج ونموه‪ ،‬وكذا الثار المترتبة عنه()‪.‬‬

‫فهذا التعريف يستلهم التعريف الرسطي المشهور الذي نلتقي حوله‪ .‬وهو‪ ،‬حسب الترجمة العربية القديمة‪" :‬الريطورية قوة‬
‫تتكلف القناع الممكن في كل واحد من المور المفردة")("‪ .‬غير أننا في الوقت الذي نسعى فيه نحن إلى استيعاب كل‬
‫الخطابات الشفوية والكتابية ومراعاة خصوصياتها‪ ،‬وكذا الهتمام أكثر ب"الكوارث" الخطابية‪ ،‬فإن البلغة الحجاجية‬
‫تقلص موضوعها بحسب الهموم المنطقية‪ ،‬وهذا ما صرح به بيرلمان رابطا لحق كلمه بسابقه‪:‬‬

‫"إن نظريًة للحجاج من هذا القبيل توجه الذهن‪ ،‬حين النظر إلى موضوعها‪ ،‬إلى البلغة القديمة‪ ،‬ولكنني إذ أعالجها من‬
‫زاوية هموم عالم المنطق سأضطر لتقليص مباحثي من جانب وتوسيعها من جانب آخر")(‪.‬‬

‫ل خصوصيات الخطاب‬ ‫فمن الجوانب التي تتضمن توسيعا وتضييقا في الوقت نفسه المتن )أو المدونة(‪ ،‬حيث يتم إهما ُ‬
‫الشفوي واستيعاب الخطاب المكتوب اقتصاًرا على الحجج المقنعة فيهما معا الموصلة إلى الذعان‪ .‬ويكمن وراء هذا‬
‫الجراء عدم إيلء أهمية كبيرة للمحافل الخطابية في مقابل المتداد إلى المحاججة الخاصة؛ مع شخص واحد أو حتى مع‬
‫الذات؛ يتداول المرء مع نفسه حول ال"مع" و "الضد" لختبار مدى قيمة أطروحة وصلبة حجة‪.‬‬

‫وبهذا التوجه تقترب نظرية الحجاج الحديثة من مبحث الجدل أكثر من قربها من مبحث البلغة ببعديها الشعري والتداولي‪،‬‬
‫وذلك برغم اختيار النتماء لما سمي بلغة جديدة‪ .‬يقول‪":‬من هنا احتلت الطوبيقات الرسطية )باعتبارها صياغة للجدل‬
‫السوقراطي القائم على السؤال الجواب والنقد والدحض( حيزا من النظرية الفلسفية للحجاج‪ .‬فمن الملحظ‪ ،‬أن فن الحجاج‬
‫)كما نما وتطور مع جورجياس‪ ،‬وبروطاغوراس وزينون( يهتم دائما بإحداث التسليم بأطروحات توجد في حالة تعارض‬
‫)ص‪ .(13.‬فُيقوي هذا التسليم أو ُينقص من قوته بواسطة حجج متنوعة‪ ،‬إذ يعتمد التأثير على الشخص في كليته ليدفعه نحو‬
‫الفعل‪" ،‬ففي الحجاج ل يفرق بين الرادة والفعل‪ ،‬ول بين النظرية والتطبيق"‪) .‬نفسه‪ .‬ص‪.(14-13.‬‬

‫من البين إذن أننا نلتقي مع البلغة الجديدة في توسعها نحو المقامات المختلفة‪ ،‬ونبتعد عنها فيما تقلصه‪ ،‬فنعتني بالخطاب‬
‫الشفوي سواء في المحافل الخطابية من النمط القديم أو المنقولة على الشاشات‪ .‬ومن هنا يصبح لدينا امتداد ثالث نحو‬
‫الصورة باعتبارها عنصرا أساسيا في بلغة الحوار‪ ،‬وبالموسيقى أيضا كما هو الحال في الخطاب الشهاري‪ .‬وعموما فإن‬
‫الحديث عن الستهواء يستعيد بعدا غائبا عن "البلغة الجديدة" وعن علم المناظرة السلمي على حد سواء‪ ،‬وهو البعد‬
‫التخييلي الشعري‪ .‬وهو استرجاع طبيعي بحسب اختلف الستراتيجيات الموجهة؛ ففي المناظرة والحجاج يحضر التشريع‬
‫والمنطق ويغيب التخييل‪ ،‬والتخييل عندنا قسيم التداول في امتلك أرض البلغة‪ .‬فهما يشتركان في ملكية أرض المحتمل‬
‫كما بينا في مقال سابق بعنوان‪ :‬البلغة العامة والبلغة المعممة)(‪.‬‬
‫وبقدر ما تجذب الحجاجية المنطقية نحو الجدل بقدر تستحضر بلغة الحوار الفاق السفسطائية مؤمنة بأن الوقاية ل تغني‬
‫دائما عن العلج‪ :‬ل يكفي أن تعلم الناس كيف يتحاورون‪ ،‬بل ل بد أن تبين العقاب الذي ينتظرهم حين يخطئون‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ نهاية العلم وبداية الرأي في بلغة الحوار‬

‫من القضايا التي تعتبر بديهية في المجال التداولي الحجاجي التباس الداة بالموضوع‪ ،‬فهذا أمر معروف عند المنظرين‬
‫والمؤرخين على حد سواء‪ .‬ويرجع ذلك‪ ،‬في الساس‪ ،‬إلى التباس اللغة بالفكر‪ ،‬والتباس الخطاب بالقصد والفعل‪ .‬ول يتسع‬
‫المقام هنا للخوض في إشكال اللوغوس اليوناني والمنطق )من النطق( العربي‪ ،‬فضل عن "الكلم" ملفوظا وعلما للحجاج‬
‫)علم الكلم(‪ ،‬كما ل يتسع للحديث عن تغير التراكيب حسب المقاصد كما هو معلوم في مبحث "علم المعاني" ‪ .‬فقد تجاوز‬
‫المنظرون هذا الشكال بوضع الحدود بين الحقول‪ .‬ولذلك فقد كان يبدو بديهيا أثناء )تاليف كتاب دائرة الحوار(‪ ،‬أن القراء‬
‫المستهدفين سيميزون تلقائيا بين التحليل البلغي العلمي والموقف السياسي‪ ،‬غير أنني فوجئت بوجود من التبست عليه هذه‬
‫الحدود‪ ،‬أو فرضت عليه الظروف تجاهلها تمثل بالحكمة‪" :‬الباب اللي يجيك منو الريح سدو واستريح"‪ ،‬فوجب البيان)(‪.‬‬

‫صور التعرض لنقد الخطاب التداولي‬

‫صور التعرض لِـ "نقد الخطاب الحجاجي" متعددة يمكن إجمالها في منحيين كبيرين‪ :‬التعرض من الداخل والتعرض من‬
‫الخارج‪:،‬‬

‫أ – ب ـ التعرض من الداخل )النقد الوجيه(‬

‫أي من داخل منطق الخطاب‪ ،‬وهذا يكون من زاويتين‪ :‬أولهما‪ :‬مناقشة المستندات النظرية‪ ،‬والثانية‪ :‬مناقشة الجراءات‬
‫التطبيقية‪ .‬وهذا هو الطريق القويم الذي ل اعتراض عليه‪ ،‬ومن أجل التفاهم فيه كانت الجتهادات التنظيرية في مجال‬
‫البلغة والقناع‪ .‬فينبغي‪ ،‬في نظري‪ ،‬أن يتوجه النقد إلى صريح دعوى الخطاب‪ ،‬فالذي يقدم دعوى علمية أو فرضية‬
‫واضحة‪ ،‬أو يشغل آليات معروفة في منطق الجدل والمناظر والنظرية الحجاجية عامة ُيناقش من خلل هذه النظرية؛‬
‫بدحضها أو التشكيك في ملءمتها‪ ،‬أو بيان الخلل في تطبيقها‪ ،‬وما سوى ذلك هروب‪ .‬ومن المؤسف أن هذا النوع من النقد‬
‫غائب‪ ،‬ولذلك لن نطيل الحديث فيه‪ ،‬إلى حين ظهوره‪.‬‬

‫ب ـ التعرض من الخارج )التعرض غير الوجيه(‬

‫وهو الذي يشغنا هنا؛ لنه يشكل عائقا علميا‪ .‬ونقصد به التعرض باعتبارات من خارج منطق الخطاب‪ ،‬مع عدم إنكار ذلك‬
‫المنطق‪ ،‬بل مع التنويه به أحيانا‪ .‬وقد ظهر لنا منه صورتان‪ ،‬أو عاينا من صورتين‪ :‬التعرض بالمقاصد‪ ،‬والتعرض بالمثيل‪.‬‬

‫أ ‪ . 1.‬التعرض بالمقاصد‬

‫صورته‪:‬‬

‫يقول الخطيب )أو من ينوب عنه(‪ :‬انتقدت منطق خطابي لنك تخالفني الرأي!‬

‫فيجيب البلغي‪ :‬رأيك خاص وقواعد البلغة عامة‪ ،‬فهي تتناول رأيك ورأيي ورأي غيرنا‪ ،‬على حد سواء‪.‬‬

‫صوره الهروب إلى المقاصد السياسية‬ ‫جلى ُ‬‫التعرض بالمقاصد هو المستوى الدنى من مستويات التعرض من الخارج‪ ،‬وأ ْ‬
‫والمواقع الفئوية‪ .‬كأن يقال ‪ -‬وهذا مثال حي ‪ -‬بأن فحص الخطاب الدائر حول الخطة‪ ،‬فيما سميته‪" :‬العنات والمغالطة‪ ،‬في‬
‫مقام الخذ والعطاء" ينطوي على رأي‪ ،‬أي على موقف فكري‪ ،‬ثم َينـزلق العتراض في حمأة السجال من كلمة "ينطوي"‬
‫إلى عبارٍة حاسمة‪ ،‬وهي‪" :‬ليس إل‪ !"..‬وشتان ما بين الصيغتين؛ ما بين وجود موقف مطوي‪ ،‬أي "كامن" ل يطغى على‬
‫"الحكم" )المفترض بناؤه على قواعد عامة مسلمة(‪ ،‬وببن أن يحل الموقف محل "الحكم"‪ .‬فالقاضي نفسه قد يتعرض للتنازع‬
‫بين رأيه الشخصي وميله العاطفي‪ ،‬وبين القواعد العامة التي ارتضت المجموعة الحتكام إليها‪ ،‬فيختار الحكم بحسب‬
‫القواعد المشتركة إخلصا لصفته)حكم(‪ ،‬وقد ُيضيع صفته بالميل مع هواه‪.‬‬

‫ب )أو أصحاب(‬‫فعلى فرض صحة ادعاء وجود اعتبارات خارج نصية فالمر ليعدو محاسبة النوايا‪ ،‬ول يعفي صاح َ‬
‫طب اليجابي في تدبير الختلف يقتضي حتمًا الرتقاء‬ ‫الخطاب المختل حجاجيا من المآخذ المتعلقة ببناء الخطاب‪ .‬فالتخا ُ‬
‫حَكم في هذه‬
‫إلى مستوى "المناظرة" لتلفي العنف القائم على التهافت والسفسطة‪ ،‬وإل فل جْدوى من الحوار أصل‪ .‬وال َ‬
‫حكم فهو‬‫عوقب من طرف ال َ‬ ‫اللعبة ككل لعبة‪ ،‬هو الخبير بها‪ ،‬العالم بقوانينها‪ .‬وإذا ما لجأ أحد الطراف إلى استعمال العنف و ُ‬
‫المسؤول عما أصابه‪.‬‬

‫وعموما فليس من المعقول الدخول في جوهر الموقف المعبر عنه )أي موضوع الخلف( مع َمن ل يحترم المبادئ الولية‬
‫لتخاطب العقلء‪ .‬ل بد من ضبط قواعد اللعبة أول‪ .‬والطغاة وحدهم من يفضل اللعب بدون قواعد‪.‬‬

‫ل‪،‬‬
‫ض فْع ً‬
‫ومن الملئم جدا ـ ولغرض التقريب مع شيء من التسامح ـ تشبيه قضية الحوار بعملية التقاضي‪ ،‬بل الحوار تقا ٍ‬
‫ب‪،‬‬
‫كما نص أرسطو‪ .‬فمن المعروف أن الَقضاَء الذي يحترم نفسه يرفض النظر في الدعوى التي تشوب مسطرتها عيو ٌ‬
‫ب مسطري‪.‬‬ ‫فُيعتبر ذلك رفضا من حيث الشكل‪ ،‬أو ِلعْي ٍ‬

‫فاحترام "الشكل" شرط مقدم للنظر في المضمون‪ .‬إن استعمال العنف الرمزي من تهافت وسفسطة )فضل عن الكذب‬
‫والشاعة والقذف والتهديد الصريح والمبطن( يوازي استعمال العنف الجسدي والمعنوي في تكوين ملف التهام‪ .‬فل فرق‬
‫بين أن ُيكرَه "الظنين" على تحّمل تهمة ملفقة عن طريق التعذيب البدني والنفسي‪ ،‬وبين العنف المنطقي المضلل‪/‬المعنت‬
‫الهادف إلى الكراه لجبار الخر المخالف على قبول أفكار أو مواقف زائفة‪ .‬بل يمكن الستئناس بما هو أكثر من ذلك بما‬
‫نراه في المحاكمات الجنائية حيث يعترض المحامي والتهام معا على السئلة الستدراجية الهادفة إلى اليقاع بأحد‬
‫المتقاضين أو الشهود‪ ،‬وللقاضي أن يقبل العتراض وله أن يرفضه)(‪.‬‬

‫إن موضوع النظر بالنسبة إلى البلغي هو الخطاب في بنيته‪ ،‬في شروط القناع المطلوبة في كل حالة ضمن إطار عام من‬
‫القيم الخلقية التي ل ينبغي أن َيتنّكر لها من َقِبل أن يعيش في الطار المدني بين بني البشر‪ ،‬من عدل وحرية وكرامة‬
‫‪...‬الخ‪ ،‬وتصريف ذلك هو مجال الرأي‪،‬وطريق الرأي القناع بالحوار ضمن قواعد اجتهد العقلء في بلورتها واعتبارها‬
‫مبادئ عامة منذ اقدم العصور‪ .‬فما الذي يعنيه إسكات نقد الخطاب التداولي الحجاجي بشتى صور الكيد؟‬

‫قد نفهم في سياق حضاري محدد بأشراطه عدَم الحاجة إلى مناقشة "خطاب توجيهي عام" يتناول القيم المجمع عليها في‬
‫عرضة‬
‫مناسبة عاطفية دينية أو وطنية‪ ،‬أما حين يدخل الخطاب في مجال تدبير الممكن فإنه ينزع عن نفسه القدسية‪ ،‬ويصبح ُ‬
‫للخذ والرد‪.‬‬

‫لقد اختلف المسلمون في تنزيه النبياء والرسل وعصمتهم من الخطأ‪ ،‬مع إيمانهم باتصال هؤلء االنبياء والرسل بعالم‬
‫الغيب‪ ،‬واليوم ‪ -‬يا َللمسافة! ‪ -‬نتحرج من نشر مغالطات زعماء سياسيين وخطباء دين أكثرهم استهوته السهولة وطال عليه‬
‫أمد استسلم المخاطبين‪ ،‬ومداهنة المقربين‪.‬‬

‫أ ‪ . 2 .‬التعرض بالمثيل‬

‫صورته‪:‬‬

‫يقول البلغــي )للخطيب(‪ :‬في كلمك خلل حجاجي!‬

‫فيجيب الخطيب ‪ :‬يوجد مثله عند غيري!‬

‫يمثل التعرض بالمثيل المهرب الثاني للمتهافتين والسفسطائيين والمغرضين‪ .‬ويقوم هذا الحتجاج على البحث عن المثيل في‬
‫خطاب المنتقد إن كان طرفا معروفا في القضية‪ ،‬أو الجهة التي هو محسوب عليها أيديولوجيا أو سياسيا‪.‬‬

‫وقد تكون لهذا التعرض مشروعية نسبية حجاجية ِانطلقا من مبدأ "الُقدوة الحسنة" الدالة على الصدق‪ ،‬في حال ما إذا عمد‬
‫المنتقد إلى مقارنة خطاب فئة ُمعينة منعوتة بالعيب بخطاب فئة أخرى‪ ،‬ولكنه ‪ ،‬أي العتراض بالمثيل‪ ،‬ل يقوم دليل على‬
‫مشروعية التهافت‪ ،‬بل هو اعتراف بشمول العاقة‪ ،‬والتعميم ل يهون المصاب في هذه الحالة‪ .‬وقد يكون هذا المسلك بداية‬
‫لتلفي العيوب من الطرفين‪.‬‬

‫حصول‬ ‫غير أن الخطير في أحوال مثل هذه هو ميل الطراف المتهافتة إلى التساكت والمسالمة كتابة ونشرا معتمدْين ُ‬
‫"الغفلة بين البايع والشاري"‪ ،‬ما دام الضحيُة طرفًا ثالثا؛ هو عموم الجماهير التي ينظر إليها المتهافتون المغالط ون كدهماء‬
‫عاجزة عن النقد‪ ،‬حظها النقياد‪ .‬وقد يعدو المر ذلك إلى ما هو أشنع‪ :‬الصمت الكيدي )النتقام بوسائل أخرى(‪.‬‬

You might also like