Professional Documents
Culture Documents
كل جملة سبقتها " فاء " فمن اللزم أن يكون هناك سبب ومسبب ،علة ومعلول ،مقدمة ونتيجة،
وكل الشياء التي تكلم الحق عنها سبحانه وتعالى فيما يتعلق بمشروعية القتال للمؤمنين ليحملوا
المنهج إلى الناس ،ويكون الناس -بعد سماعهم المنهج -أحرارا فيما يختارون .إذن فالقتال لم
يشرع لفرض منهج ،إنما شُرع ليفرض حرية اختيار المنهج ،بدليل قول الحق {:لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ
قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ }[البقرة.]256 :
وعلى ذلك فالسلم ل يفرض الدين ،ولكنه جاء ليفرض حرية الختيار في الدين ،فال ُقوَى التي
تعوق اختيار الفرد لدينه ،يقف السلم أمامها لترفع تسلطها عن الذين تبسط سلطانها عليهم ثم
يترك الناس أحرارا يعتنقون ما يشاءون ،بدليل أن البلد التي فتحها السلم بالسيف ،ظل فيها
بعض القوم على دياناتهم .فلو أن القتال شُرع لفرض دين لما وجدنا في بلد مفتوح بالسيف واحدا
على غير دين السلم.
وبعد أن تكلم الحق عن القتال في مواقع متعددة من سورة النساء ،وقال للنبي صلى ال عليه
عسَى اللّهُ أَن َي ُكفّ بَأْسَ الّذِينَ
سكَ وَحَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َ
وسلمَ {:فقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لَ ُتكَّلفُ ِإلّ َنفْ َ
َكفَرُو ْا وَاللّهُ َأشَدّ بَأْسا وَأَشَدّ تَنكِيلً }[النساء.]84 :
شرع الحق سبحانه وتعالى قضية استفهامية هنا ،فيها معنى النكار وفيها معنى التوبيخ وذلك
شائع في كل الساليب التي تتفق معها في القرآن الكريم .فإذا سمعت كلمة " فمالك ل تفعل كذا " ،
فكأن قياس العقل يقتضي أن تفعل ،والعجيب أل تفعل .ول يمكن أن يأتي هذا السلوب إل إذا كان
يستنكر أنك فعلت شيئا كان ينبغي أل تفعله أو أنك تركت شيئا كان عليك أن تأتي به.
فالب يقول للبن مثلً " :مالك ل تذاكر وقد قرب المتحان؟ " كأن منطق العقل يفرض على
البن إن كان قد أهمل فيما مضى من العام ،فما كان يصح للبن أن يهمل قبل المتحان ،وهذا
أمر بدهي بالقياس العقلي ،فكأن التشريع والقرآن يخاطبان المؤمنين أل يقبلوا على أي فعل إل بعد
ترجيح الختيار فيه بالحجة القائمة عليه ،فل يصح أن يقدم المؤمن على أي عمل بدون تفكير،
ول يصح أن يترك المؤمن أي عمل دون أن يعرف لماذا لم يعمله ،فكأن أسلوب " فما لكم " ،و "
سفَ }[يوسف.]11 :
ك لَ تَ ْأمَنّا عَلَىا يُو ُ
فما لك " مثل قول أولد سيدنا يعقوب {:مَا َل َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ما معنى قولهم هذا؟ معناه :أي حجة لك يا أبانا في أن تحرمنا من أن نكون مؤتمنين على يوسف
نستصحبه في خروجنا .فكأن القياس عندهم أنهم إخوة ،وأنهم عصبة ،ول يصح أن يخاف أبوهم
على يوسف ل منهم ول من شيء آخر يهدد يوسف؛ لنهم جماعة كثيرة قوية.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يظهرون اليمان ويبطنون الكفر.
إننا نعرف أن كل المعنويات يؤخذ لها أسماء من الحسيات؛ لن الدراك الحسي هو أول وسيلة
لدراك القلب ،وبعد ذلك تأتي المعاني.
وعندما نأتي لكلمة " منافقين " نجد أنها مأخوذة من أمر حسي كان يشهده العرب في بيئتهم ،حيث
يعيش حيوان اسمه " اليربوع " مثله مثل الفأر والضب .واليربوع مشهور بالمكر والخداع ،ولكي
يأمن الحيوانات التي تهاجمه فإنه يبني لنفسه جحرين ،أو جحورا متعددة ،ويفر من الحيوان
المهاجم إلى جحر ما ،ويحاول الحيوان المهاجم أن ينتظره عند فوهة هذا الجحر ،فيتركه اليربوع
إلى فتحة أخرى ،كأن اليربوع قد خطط وأعد لنفسه منافذ حتى يخادع ،فهو يصنع فوهة يدخل
فيها في الجحر ،وفوهة ثانية وثالثة ،وذلك حتى يخرج من أي فتحة منها ،وكذلك المنافق.
ونعرف أن المسائل اليمانية أو العقدية على ثلثة أشكال :فهناك المؤمن وهو الذي يقول بلسانه
ويعتقد بقلبه وهو يحيا بملكات منسجمة تماما .وهناك الكافر وهو الذي ل يعتقد ول يدين بالسلم
ول يقول لسانه غير ما يعتقد ،وملكاته منسجمة أيضا ،وإن كان ينتظره جزاء كفره في الخرة؛
فملكاته منسجمة -لكن -إلى غاية ضارة ،وهي غاية الكفر .أما " المنافق " فهو الذي يعتقد الكفر
وينعقد عليه قلبه لكن لسانه يقول عكس ذلك ،وملكاته غير منسجمة؛ فلسانه قد قال عكس ما في
قلبه؛ لذلك يحيا موزعا وقلقا ،يريد أن يأخذ خير اليمان وخير الكفر ،هذا هو المنافق.
وهناك جماعة -في تاريخ السلم -حينما رأوا انتصار المسلمين في غزوة بدر ،قالوا لنفسهم:
" الريح في جانب المسلمين ،ول نأمن أنهم بعد انتصار بدر وقتل صناديد قريش وحصولهم على
كل هذه الغنائم أن يأتوا إلينا " ،هذه الجماعة حاولت النفاق وادعت السلم وهم بمكة ،حتى إذا
دخل المسلمون مكة يكونون قد حصنوا أنفسهم .أو هم جماعة ذهبوا إلى المدينة مهاجرين ،ولم
يصبروا على مرارة الهجرة والحياة بعيدا عن الوطن والهل والمال ،فكروا في هذه المور،
وأرادوا العودة عن الدين والرجوع إلى مكة ،وقالوا للمؤمنين في المدينة " :نحن لنا أموال في مكة
وسنذهب لستردادها ونعود ".
وبلغ المسلمون الخبر وانقسم المسلمون إلى قسمين :قسم يقول :نقاتلهم ،وقسم يقول :ل نقاتلهم.
الذين يقولون " :نقاتلهم " دفعهم إلى ذلك حمية اليمان .والذين يقولون " :ل نقاتلهم " قالوا :هذه
الجماعة أظهرت اليمان ،ولم نشق عن قلوبهم ،وربما قالوا ذلك عطفا عليهم لصلت أو أواصر.
فجاء القرآن ليحسم مسألة انقسام المسلمين إلى قسمين ،ويحسم أمر الختلف.
وعندما يأتي القرآن ليحسم فهذا معناه أن رب القرآن صنع جمهور اليمان على عينه ،وساعة
يرى أي خلل فيهم فسبحانه يحسم المسألة ،فقالَ } :فمَا َلكُمْ فِي ا ْلمُنَا ِفقِينَ فِئَتَيْنِ {.
والخطاب موجه للجماعة المسلمة ،فقوله " :فمالكم " يعني أنهم متوحدون على هدف واحد ،وقوله:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" فئتين " تفيد أنهم مختلفون.
إذن فـ " فئتين " تناقض الخطاب الذي بدأه الحق بـ " فمالكم " ،كأن المطلوب من المتلقي
للقرآن أن يقدر المعنى كالتي :فما لكم افترقتم في المنافقين إلى فئتين؟ إذن فهذا أسلوب توبيخي
وتهديدي ول يصح أن يحدث مثل هذا المر ،فهل ينصب هذا الكلم على كل المخاطبين؟ ننظر،
هل القرآن مع من قال " :نقتل المنافقين " أو مع من قال بغير ذلك؟ فإن كان مع الفئة الولى فهو
ل يؤنب هذه الفئة بل يكرمها ،إن القرآن مع هذه الفئة التي تدعو إلى قتال المنافقين وليس مع
الفئة الثانية؛ لذلك فهو يؤنبها ،ويوبخها .والسلوب حين يكون توبيخا لمن يرى رأيا ،فهو تكريم
لمن يرى الرأي المقابل ،ويكون صاحب الرأي المكرم غير داخل في التوبيخ ،لنّ الحق أعطاه
الحيثية التي ترفع رأسه.
والحق يقولَ } :فمَا َلكُمْ فِي ا ْلمُنَا ِفقِينَ { أي إن الحق يقول :أي حجة لكم في أن تفترقوا في أمر
المنافقين إلى فئتين ،والقياس يقتضي أن تدرسوا المسألة دراسة عقلية ،دراسة إيمانية لتنتهوا إلى
أنه يجب أن تكونوا على رأي واحد ،ومعنى النكار هو :ل حجة لكم أيها المؤمنون في أن
تنقسموا إلى فئتين.
سهُمْ ِبمَا كَسَبُواْ { وساعة تسمع كلمة " أركسهم " ماذا نستفيد منها حتى
ويقول الحق } :وَاللّهُ أَ ْركَ َ
ولو لم نعرف معنى الكلمة؟ نستفيد أن الحق قد وضعهم في منزلة غير لئقة .ونشعر أن السلوب
دل على نكسهم وجعل مقدمهم مؤخرهم أي أنهم انقلبوا حتى ولو لم نفهم المادة المأخوذة منها
الكلمة ،وهذا من إيحاءات السلوب القرآني ،إيحاءات اللفظ ،وانسجامات حروفه.
سهُمْ { مأخوذة من " ركسهم " ومعناها " ردهم " .كأنهم كانوا
سهُمْ ِبمَا َكسَبُواْ { و } أَ ْركَ َ
} وَاللّهُ أَ ْركَ َ
على شيء ثم تركوه ثم ردهم ال إلى الشيء الول ،وهم كانوا كفارا أولً ،ثم آمنوا ،ثم أركسهم،
لكن هل ال أركسهم تعنتا عليهم أو قهرا؟ ل؛ فهذا حدث } ِبمَا َكسَبُواْ { ،وذلك حتى ل يدخل أحد
بنا في متاهة السؤال ولماذا يعاقبهم ال ويوبخهم ما دام هو سبحانه الذي فعل فيهم هذا؛ لذلك قال
س ُهمْ { مادته مأخوذة من شيء اسمه " الركس " -
سهُمْ ِبمَا كَسَبُواْ { .و } أَ ْركَ َ
لنا الحق :إنه } أَ ْر َك َ
بفتح الراء -وهو رد الشيء مقلوبا ومنه " الرّكس " بكسر الراء وهو الرجيع الذي يرجع من
معدة النسان قبل أن يتمثل الطعام .مثلما نقول " :إن فلنا غمت نفسه عليه " أو " فلن يرجع ما
في بطنه ".
وعندما ننظر إلى هذه العملية نجد أن الطعام الذي يشتهيه النسان ويحبه ويقبل عليه ويأكله بلذة،
وتنظر عيونه إليه باشتهاء ،ويده تقطع الطعام بلذة ويمضغ الطعام بلذة ،هذا الطعام بمجرد مضغة
مع بعضه ينزل في المعدة وتضاف إليه العصارات المهضمه ،فإذا رجع فإنه في هذه الحالة يكون
غير مقبول الرائحة ،بل إن النسان لو هضم الطعام وأخذ منه المفيد وأخرج البافي بعد ذلك،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فرائحة الفضلت الطبيعية ليست أسوأ من رائحة الطعام لو رجع بدون تمثيل.
فلو رأيت إنسانا يقضي حاجة وآخر يتقيأ الطعام ،فالنفس تتقزز من الذي يتقيأ أكثر مما تتقزز من
الذي يقضي حاجته؛ لن " الترجيع " يخرج طعاما خرج من شهوة المضغ والستمتاع .ولم يصل
إلى مسألة التمثيل.
ولذلك نسمع المثل " كل ما فات اللسان صار نتان " .و " الرّكس " هو الرجيع الذي يرجعه
النسان بعد الطعام قبل أن يتمثله .فالطعام بعد أن يتمثل ويخرج من المكان المخصص له يصبح
سهُمْ { أي
روثا ،وغائطا وبرازا .والحق سبحانه وتعالى قد جاء بالكلمة التي تصفهم } :وَاللّهُ أَ ْركَ َ
أنهم ارتدوا من قبل أن ينتفعوا بأي شيء من اليمان.
هذا هو التعبير القرآني الذي جاء بالعبارة التي تؤدي هذا المعنى ،وتؤدي إلى نفرتنا منهم ،فيكون
الركاس هو الرد ،وهل هو مطلق الرد ،أو رد له كيفية؟ هو رد بإهانة أيضا ،كيف؟ لن الشيء
إن كان قوامه أن يقف رأسيا ،يكون الركس أن تجعل رأسه في مكان قدمه وقدمه في مكان رأسه.
وعلى ذلك فالرد ليس ردا عاديا بل إنّه رد جعل المردود هُزُوا .وإن كانت استقامة المر على
المتداد الطولي ،يكون الركس بأن تأتي بما في الخلف إلى المام ،وبما في المام إلى الخلف،
فتقلب له كيانه ،وتعكس حاله.
سهِمْ }[النبياء.]65 :
علَىا رُءُو ِ
والقرآن يصف الكافرين والمنافقين {:ثُمّ ُن ِكسُواْ َ
لماذا ،لن الرأس مبنيٌ على القامة والهامة والرتفاع .هذا الرأس يُجْعلُ مكان القدم ،والقدم يكون
سهُمْ { أي لم يردهم مطلق الرد ،بل ردّهم ردا مهينا ،ردّا
محل الرأس .إذن فقوله } :وَاللّهُ أَ ْركَ َ
يقلب أوضاعهم.
سهُمْ ِبمَا َكسَبُواْ { إذن فل يقولن أحد :ما دام ال قد أركسهم فما ذنبهم؟ إن ال قد
} وَاللّهُ أَ ْركَ َ
أركسهم } ِبمَا كَسَبُواْ { ،فهم كانوا فاعلين ل منفعلين.
وإليكم هذا المثل -ول المثل العلى -حين تضع المدرسة أو الجامعة درجات للنجاح في كل
مادة .تجد مادة يجب أن يحصل الطالب فيها على نسبة ستين في المائة .وأخرى على سبعين في
المائة ،ويدخل التلميذ المتحان ،وعندما يرسب أحدهم ل يقال :إن المدرسة قد جعلته يرسب،
صحيح هي أرسبته ولكن وفق القوانين التي وضعتها المدرسة أو الجامعة من قبل أن يدخل التلميذ
المتحان ،ولنه لم يبذل الجهد الكافي للنجاح ،فقد أرسب نفسه.
إذن ،فال لم يأت بالرّكس ورماه عليهم .بل هم الذين كسبوا كسبا جعل قضية السنة الكونية هي
التي تؤدي بهم إلى الركس ،مثلهم مثل التلميذ الذي لم يستذكر فلم يُجب في المتحان ،فل يقال عن
هذا التلميذ :إن المدرسة أرسبته.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكنه هو الذي أرسب نفسه.
ولذلك عندما يقال :ال هو الذي أضلهم ،فما ذنبهم؟ هذه هي القضية التي يقول بها المسرفون على
س ُهمْ ِبمَا كَسَبُواْ { وكذلك أضل ال الضالين بفعلهم،
أنفسهم .ولهؤلء نقول هذه الية } :وَاللّهُ أَ ْركَ َ
كيف؟.
نحن عرفنا أن الهداية تأتي بمعنيين ،هداية الدللة وهداية المعونة ،ويأتي المسرفون على أنفسهم
الذين يودون أن تكون قضية الدين كاذبة -والعياذ بال -لن قضية الدين عندما تكون صدقا فإن
الذين أسرفوا على أنفسهم يتيقنون أنهم ذاهبون إلى داهية وأمر منكر شاق عليهم؛ لذلك نجد الواحد
منهم يتمحك في محاولة عدم التصديق ،والدخول إلى متاهات يصنعها الفهم السطحي للدين .ولذلك
نجد المناقشات التي يناقشونها تدل على أنها مناقشات المسرف على نفسه ،فيقول الواحد منهم :ما
دام ال هو الذي كتب عليّ كل شيء فلماذا يعذبني وهو الذي كتب عليّ المعاصي؟
نقول له :ولماذا آمنت في هذا الموقف بالذات أن ال هو الذي كتب؟ وما دمت قد آمنت بأن ال
هو الذي كتب فلماذا ل تؤمن به وترتضي أحكام منهجه؟ .ولكن الواحد منهم يحاول أن يقف وقفة
ليست عقلية ،فالوقفة العقلية الصحيحة تقتضي أن تأتي بالقضية المقابلة وهي أن ال إذا كان قد
كتب على العبد الطاعة فلماذا يثيبه؟ .لماذا تناسي قضية الطاعة والثواب عليها؟؛ لنه يعرف أنها
القضية التي تجلب الخير ،ووقف في القضية المقابلة التي تأتي بالشرّ ،ول يقول هذا القول إل
مسرف على نفسه .ول نرى ملتزما بمنهج اليمان يقول مثل هذه القضية ،فالمؤمن يحب أن تسير
المور على ضوء منهج ال ،ولذلك أنا إلى الن -وليسامِحْني ال وليغفر لي -أتعجب من أن
العلماء الذين سبقونا جعلوا من هذه المسألة محل خلف .وقالوا :معتزلة وأهل سنة (!!).
المسألة كلها يجب أن تفهم على أساس أن السلم دين فطرة؛ ولم يأت للفلسفة فقط ،إنّه جاء
للعقل الفطري ،ورَاعى الشاة في السلم كالفيلسوف ،ومن يكنس الشارع أو يمسح الحذية مساوٍ
لمن درس الفلسفة أو الحقوق؛ لن اليمان لم يأت لطائفة خاصة ،ولكن المنهج قد جاء للجميع،
ول بد أن تكون أدلته واضحة للجميع ،فعندما يقال لنا :إن ال يعلم كل شيء فيك ،ل يدخل معك
في متاهة ،هو -سبحانه -يقول لكَ {:ألَ َيعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك.]14 :
فالذي صنع الكرسي -ول المثل العلى -أل يعرف أن الكرسي مصنوع من الخشب ،ونوع
الخشب " زان " أو " أرو " أو " مجنة " ،وأن المسمار الذي يربط الجزء بالجزء إما مسمار
صلب وإما من معدن آخر ،وكذلك يعلم صانع الكرسي أي صنف من الغراء استعمل في لصق
أجزاء الكرسي ،وكذلك مواد الدهان التي تم دهن الكرسي بها.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سوف أصنع الكرسي من خشب الزان وعليك أن تمر يوميا لترى مراحل فعله.
ويبدأ صناعة الكرسي مرحلة مرحلة تحت إشراف الزّبون .وكذلك يعرف البدوي كيف يتكون
الرحل .وهو ما يوضع على ظهر البعير للركوب ،العربي يعرف كيف يتكون الفسطاط وهو بيت
شعْرِ .وقد جاء سبحانه بما يدحض أي جدل ،وبدون الدخول في أية مهاترات أو
يتخذ من ال ّ
مناقشات لها مقدمات ونتائج ومقدم وتال .جاء الحق بهذا القول الفصلَ {:ألَ َيعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ ُهوَ
اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك.]14 :
هو يعلم وهذا أمر سهل عليه ،ولذلك أتعجب كيف أدخل هؤلء العلماء هذه المسألة في متاهة
فلسفية ،فالسلم دين الفطرة.
ولذلك نجد العلماء الذين ناقشوا هذه المسألة -جزاهم ال خيرا -جاءوا في آخر مطافهم،
وقالوا:نهاية إقدام العقول عِقال وأكثر سعي العالمين ضللولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى
أن جمعنا فيه قِيلَ وقالواوأنا أريد أن أعرف ماذا قدمت الفلسفة النظرية للدنيا من خير؟ .لقد
انفصلت عنها الفسلفة المادية ودخلت المعمل وأخرجوا لنا البتكارات التي انتفع بها الخلق ،فماذا
فعلت الفلسفة النظرية؟ .ل شيء .ونقول :جاء السلم بالعقيدة الفطرية ،ومعنى العقيدة الفطرية أن
الناس فيها سواء ،فالدلة العقلية تقتضي الوضوح لمن َتعَلّم ولمن لم يتعلم.
والفلسفة هم الذين قالوا :بأدلة الغاية وأدلة العناية وأدلة القصد .لكن البدوي الذي سار في
الصحراء وجد بعر البعير ووجد الرمل وعليه أثر قدم ،فقال :إذا كانت البعرة تدل على البعير
والقدم تدل على المسير أفل يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟ .هو لم يدخل في فلسفة أو متاهة
مثلما دخل الفلسفة مع بعضهم في متاهات عقلية وحلها البدوي في جملة واحدة .وكذلك نجد
واحدا من الناس يسأل واحدا من أهل الشراق :أل تشتاق إلى ال؟ .فيقول له :إنّما يُشتاق إلى
غائب ،ومتى غاب ال حتى يشتاق إليه؟!
لذلك نقول لمن اختلفوا في أمر رد ال لهؤلء :نريد أن نكرم عقولكم وننظر لماذا اختلفتم في هذه
سهُمْ ِبمَا كَسَبُواْ {.
الحكاية } أَ ْر َك َ
نقول مع حسن الظن بهم ،إن كل واحد منهم تعصب لصفة من صفات الحق ،فواحد منهم يقول} :
شيْءٍ { فنقول له :أنت قد تعصبت لصفة القدرة وطلقتها في الحق.
اللّهُ خَاِلقُ ُكلّ َ
وجاء ثانٍ وقال :ولكن ال عادل .ول يمكن أن يخلق في الكافر كفره ثم يعذبه عليه .إنّه متعصب
لصفة العدل .وكل منهما ذاهب إلى صفة واحدة من صفات الحق .وتناسي الثنان أن هذه الصفات
إنما هي لذاته -تعالى -فسبحانه قادر وعادل معا.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لحداث حدث ،فالذي يمسح وجهه بيديه يوجه يديه لوجهه حتى يمسحه ،وهذ الفعل ل يفعله
صاحب الفعل ،ودليلنا على ذلك النسان اللي نضغط على أكثر من زر ليتحقق هذا الفعل ،هذا
النسان اللي حتى يتحرك حركة واحدة ل بد من ضغط وتحريك عدد آخر من القوى ،لكن
النسان حتى يمسح وجهه بيديه اكتفى بأنه بمجرد أن أراد مسح الوجه باليد مسح الوجه .فهل
أمسك من يمسح وجهه بشيء وضغط عليه ليمسح وجهه؟
إنه بمجرد أن أراد فعَل .وسائق جرافة التراب يحرك عددا من الذرع الحديدية حتى يحرك
الجرافة إلى أسفل ،ثم حركة أخرى ليفتح كباشة التراب ،وحركة تقبض أسنان الكباشة وحركة
أخرى ترفع التراب ،كل ذلك من أجل أن يرفع التراب من مكان ما إلى مكان آخر ،والواحد منا
بمجرد أن يريد أن يمسح وجهه فهو يمسح وجه ول يعرف أي عضلت تحركت ،فمن الذي فعل
كل ذلك؟ .إنه ال.
فيا من تتعصب لصفة القدرة .فال هو الذي فعل والعبد هو الذي وجه الطاقة التي تنفعل بال .فإذا
كانت إلى غير مراد ال يصير العبد عاصيا ،وإن وجهها إلى مراد ال فيكون طائعا ،ويكون له
ل " فيكون قتيلً ،ولكن القاتل
الكسب فقط ،فالذي يقتل واحدا ،هو لم يقتله؛ لنه لم يقل له " :كن قتي ً
يأتي بسكين أو سيف أو مسدس ويرتكب فعل القتل .فأداة القتل هي التي قامت بالفعل ،والقاتل إنما
أخذ اللة الصالحة لفعل ما ولغيره ،فوجهها لذلك الفعل .فيا من تريد العدل ،إن ال يعذب على
المعصية؛ لن النسان استعمل أداة مخلوقة للفعل ولعدمه ،فجعلها تؤدي فعلً غير مرادٍ ل أي ل
يرضى عنه ال ول يحبه ،ومع ذلك فال هو الفاعل لكل شيء.
سهُمْ ِبمَا
ن وَاللّهُ أَ ْركَ َ
ونعود إلى الية التي نحن بصدد خواطرنا عنهاَ } :فمَا َل ُكمْ فِي ا ْلمُنَافِقِينَ فِئَتَيْ ِ
كَسَبُواًْ { وما دام هو سبحانه الذي أركسهم بما كسبوا ،وأنتم مؤمنون بال فل بد أن يكون الرأي
ضلّ اللّهُ {؟ وسبحانه ل يريد أن يقدم
فيهم واحدا؛ لذلك يتساءل الحق } :أَتُرِيدُونَ أَن َت ْهدُواْ مَنْ َأ َ
لهم العذر ،إنما يريد أن يظهر لهم هدايته سبحانه وهي هداية ل تتأتى لهم؛ لنه قد أضلهم فأنّى
لهم الهداية .فلماذا يقف جانب من المؤمنين في صفهم؟.
لن ال حين يهدي فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء بوضع القوانين الموضحة للهداية أو
الضلل .ونحن إن سمعنا " أن ال هدى " نفهمها على معنيين؛ المعنى الول أنه " دل " ،والمعنى
الثاني أنه " أعان ومكّن ".
فـ " هدى " تكون بمعنى " دل " ،وهدى تكون بمعنى " أعان " .وسبق أن قلنا :إذا كان هناك
إنسان يمشي في الطريق ويريد التجاه إلى السكندرية وهو ل يعرف الطريق الموصل .فيسأل
شرطي المرور فيشير الشرطي :هذا هو الطريق الموصل إلى السكندرية .إنّ الشرطي هدى هذا
النسان ودله على الطريق ،لكنه لم يحمل النسان على أن يسير في الطريق ،فإذا ما صدّق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المسافر قول الشرطي وقال له :إنني أشكرك وأكثر ال من خيرك والحمد ل أنني وجدتك ،فلول
وجودك لتعبت ،هنا يقول الشرطي :أنت رجل طيب والطريق إلى السكندرية به " مطب "
وعقبه ،سأركب معك حتى أدلك على مكان هذه العقبة .وبذلك يتجاوز الشرطي مرحلة " الدللة "
إلى مرحلة " المعونة " وسبحانه أوضح :سأهدي الناس جميعا وأرشدهم وأدلهم ،فالذي يقبل على
اليمان بي سأعاونه على ذلك.
ولذلك يقول {:وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَاهُمْ فَاسْ َتحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى ا ْلهُدَىا }[فصلت.]17 :
و " هديناهم " هنا بمعن " دللناهم " فقط ،أما أن يسلكوا سبل الهداية أو ل فالمر متروك لهم.
والهداية -إذن -ترد بمعنى الدللة ،وترد بمعنى العانة .والحق يعين من؟ .يعين من آمن به
ولكن من يكفر به ل يعينه {:وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[التوبة.]37 :
وكذلك {:وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلفَاسِقِينَ }[التوبة.]24 :
إذن فلله هدايتان :هداية عم الناس بها جميعا وهي هداية الدللة ،وأخرى خص بها من جاءه مؤمنا
به ،وهي هداية " المعونة " .ولذلك قال الحق للرسول صلى ال عليه وسلم {:إِ ّنكَ لَ َت ْهدِي مَنْ
أَحْبَ ْبتَ }[القصص.]56 :
وهذا القول فيه نفي الهداية عن الرسول ،وهو سبحانه القائل أيضا {:وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَىا صِرَاطٍ
مّسْ َتقِيمٍ }[الشورى.]52 :
وليس من المعقول أن ينفي الحق الهداية عن الرسول ثم يثبتها له .ونفهم من ذلك :إنك يا رسول
ال تدل على الحق ،ولكنك ل تعين عليه .فال هدى الناس جميعا فدلهم على طريق الخير .فمن
آمن به وأقبل عليه يسر له المر.
سهُمْ ِبمَا َكسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن َتهْدُواْ مَنْ
وبذلك نكون قد عرفنا تماما معنى قوله الحق } :وَاللّهُ أَ ْركَ َ
ضلّ اللّ ُه َومَن ُيضِْللِ اللّهُ فَلَن َتجِدَ لَهُ سَبِيلً { .فالذي يضله ال هو من اكتسب ما يوجب أن يضله
َأ َ
فل تجد له سبيلً .وكان من الممكن أن يقول ال :أتريدون أن تهدوا من أضل ال ومن يضلل ال
فل تستطيعون أن تهدوه ،ولكن البلغ هو ما يوضحه سبحانه لنا :أنتم ل تستطيعون هداية هذا
المكتسب للضلل؛ ذلك أنه ل يوجد سبيل حتى تهدوه إليه .فالسبيل هو الممتنع وليس الهداية فقط.
والسبيل هو الطريق الذي يعطيك حقا في الهداية ،فإذا ما امتنع السبيل فماذا تفعل؟ ومن يضلل ال
فلن تجد له سبيلً في أن ينقض هذا القرار ،أي ل حجة له على الطلق.
ولذلك أخذنا المعنيين هنا ،فالذين ينافقون يظهرون اليمان مرة وينقلبون إلى الكفر مرة ،هم
ينكرون اليمان بقلوبهم والذي يقولون بألسنتهم هو السلم ،أمّا اليمان فلمّا يدخل في قلوبهم.
وما هو العز على النفس البشرية؟ مكنونات القلب أم مقولة اللسان؟
العز هو مكنونات القلب .وما داموا هم ل يؤمنون بقلوبهم ويقولون فقط بألسنتهم ،فالعقيدة داخلهم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
معقودة على الكفر ،وما دامت العقيدة معقودة على الكفر فهم ل يريدون أن يأتوا إلى صف
اليمان ،ولكنهم يريدون جر المؤمنين إلى معسكر الكفر؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك } :وَدّواْ َلوْ
َت ْكفُرُونَ َكمَا َكفَرُواْ فَ َتكُونُونَ.{ ...
()369 /
و { وَدّواْ } ضميرها يعود على المنافقين الذين اختلف فيهم المسلمون إلى فئتين ،وحكم ال في
صالح الفئة التي أرادت أن تقف منهم موقف القوة والبطش والجبروت ،فقال سبحانه وتعالى تعليلً
لنفاقهم { :وَدّواْ َلوْ َت ْكفُرُونَ َكمَا َكفَرُواْ } ثم إن تفاقهم معناه قلق يصيبهم من مستوى حالهم مع
مستقبل السلم أو حاضره؛ لنهم كافرون بقلوبهم ،ولكنهم يخافون أن يظهر السلم فيعاملهم
معاملة الكافرين به ،فيحاولون أن يظهروا أنهم مسلمون ليحتاطوا لنصرة السلم وذيوعه ،فهم في
كرب وتعب ،وهذا التعب يجعلهم يديرون كثيرا من الفكار في رءوسهم :يقولون نعلن أمام
المسلمين أننا مسلمون ،ونعلن أمام الكافرين أننا كافرون.
وما الذي ألجأهم إلى هذا الحال ،وقد كانوا قديما على وتيرة واحدة ،ألسنتهم مع قلوبهم قبل أن
يجيء السلم؟ إذن فالذي يعيدهم إلى حالة الستقرار النفسي وينزعهم من القلق والضطراب
والخوف على حاضرهم ومستقبلهم هو أن تنتهي قضية السلم ،فل يكون هناك مسلمون
وكافرون ومنافقون .بل يصير الكل كافرا.
{ وَدّواْ َلوْ َت ْكفُرُونَ َكمَا َكفَرُواْ } والودادة عمل القلب ،وعمل القلب تخضع له جميع الجوارح إن
قدرت ،فما داموا يودون أن يكون المسلمون كافرين ،إذن سيقفون في سبيل انتصار المسلمين،
وسيضعون العقبات التي تحقق مطلوبات قلوبهم .لذلك فاحذروهم ،سأفضح لكم أمرهم لتكونوا
على بينة من كل تصرفاتهم وخائنات أعينهم وخائنات ألسنتهم.
{ وَدّواْ َلوْ َت ْكفُرُونَ } ونعرف أن كلمة " الكفر " تعني " الستر " ،فالفعل " كفر " معناه " ستر ".
ومن عظمة اليمان بالسلم وعظمة الحق في ذاته هو أنه ل يمكن أبدا أن يطمسه خصومه،
فاللفظ الذي جاء ليحدد المضاد ل هو عينه دليل على اليمان بال .فعندما نقول " :كفر بال " أي "
ستر وجوده " ،كأنه قبل أن يستر الوجود فالوجود موجود ،ولذلك نجد أن لفظ " الكفر " نفسه
دليل على اليمان ،فلفظ " الكفر " في ذاته تعني إيمانا موجودا يجاهد صاحبه نفسه أن يغطيه
ويستره.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ وَدّواْ َلوْ َت ْكفُرُونَ َكمَا َكفَرُواْ } .وهذا القول جاء بعد أن قال الحقَ {:فمَا َلكُمْ فِي ا ْلمُنَا ِفقِينَ فِئَتَيْنِ }
[النساء.]88 :
ويدل على أنهم يوصفون مرة بالمنافقين ويوصفون مرة بالكافرين .وسماهم ال في آية بـ "
المنافقين " ويصفهم الحق في هذه الية بأنهم كفروا { وَدّواْ َلوْ َت ْكفُرُونَ َكمَا َكفَرُواْ } والكفر الذي
يجيء وصفه هنا يدل على مكنون القلب ،فالنفاق لم يعطهم إل ظاهريات السلم ،لكن الباطنيات
لم يأخذوها ،ولذلك سيكونون في الدرك السفل من النار في الخرة؛ وإن كانوا في الدنيا يعاملون
معاملة المسلمين احتراما لكلمة " ل إله إل ال محمد رسول ال ".
لكن ال يعاملهم في الخرة معاملة الكافرين ،ويزيد عليها أنهم في الدرك السفل من النار.
إذن فأصحاب الباطل إن كانت لهم قوة يجعلون لسانهم مع قلوبهم في الجهر بالباطل ،وإن كان
عندهم ضعف يجعلون قلوبهم للباطل ولسانهم للحق .وهذه العملية ليست مريحة في كل الموقعين.
ل توجد للحق طائفة .لذلك يقول سبحانه وصفا لحقيقة مشاعرهم } :وَدّواْ َلوْ َت ْكفُرُونَ
فالمريح لهم أ ّ
سوَآءً { .فهم يتمنون إزالة طائفة الحق حتى ل يكون هناك أحد أفضل من
َكمَا كَفَرُواْ فَ َتكُونُونَ َ
أحد ،مثلما نقول :مفيش حد أحسن من حد.
مثال ذلك :نجد مجموعة من الموظفين في مصلحة حكومية ،ويكون في بينهم واحد مختلس أو ل
يؤدي عمله على الشكل الراقي المطلوب ،لذلك فهو ل يحب أن يؤدي الخرون أعمالهم بمنتهى
التقان ،ويريدهم فاسدين ،ويحاول أن يغريهم بالفساد حتى يكونوا مثله؛ كي ل يظهره أمام نفسه
بمظهر النقيصة .وحتى ل يكون مكسور العين أمامهم.
ومن العجيب أننا نجد الذي يسرق يحترم المين ،وكثيرا ما نسمع عن لص من فور ما يعلم أن
هناك كمينا ينتظره ليقبض عليه فهو يبحث عن رجل أمين يضع عنده المسروقات كأمانة.
سوَآءً {.
وقول الحق عن أمنية المنافقين الكافرين بقلوبهم هو أن يكون المؤمنون مثلهم } فَ َتكُونُونَ َ
وهذه شهادة في أن صاحب الباطل يحب من صاحب الحق أن يكون معه؛ لنه حين يجده في
الحق ،فصاحب الباطل يحتقر نفسه ،وقد حدثت العجائب مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،لقد
كفروا به وعذبوا صحابته ،ولكنه هو المين باعترافهم جميعا .فها هوذا الرسول صلى ال عليه
وسلم يهاجر من مكة وخلف " عليا " كرم ال وجهه ليرد الودائع والمانات التي عنده.
هم كذبوه في الرسالة ،ولكنه المين باعترافهم جميعا؛ لذلك أودعوا عنده المانات .إذن فصاحب
الفضيلة محترم حتى عند صاحب الرذيلة .وحتى نتعرف تماما على هذا المعنى ،فلنفترض أن
إنسانا وقع في مشكلة ،سبّ أحدا من الناس ورفع المعتدي عليه دعوى فضائية على هذا المعتدي
الذي سبّه ،ولهذا المعتدي صديق عزيز ،استشهد به المعتدي عليه ،فيقول المعتدي :أتشهد عليّ؟
ويذهب الصديق إلى المحكمة ليقول " :ل يقول صديقي مثل هذا السباب " .وهنا شهد الصديق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لصديقه شهادة زور .ولنفترض أن هذا المعتدي قد تاب وأناب وصار من التقياء ،وجعله الناس
حكما بينهم ،وجاء له الصديق الذي شهد الزور من أجله ليشهد أمامه ،فهل يقبل شهادته؟ طبعا ل.
إذن صاحب الفضيلة محترم حتى عند صاحب الرذيلة ،فإذا ما حاول أحد من أصحاب الرذيلة أن
يشد صاحب الفضيلة إلى خطأ ،فهو يسعى إلى إضلله ،وينطبق على ذلك قول الحق } :وَدّواْ َلوْ
سوَآءً { وما دام هذا هو هدفهم وفكرتهم أل يتركوا المؤمنين على
َت ْكفُرُونَ َكمَا َكفَرُواْ فَ َتكُونُونَ َ
إيمانهم ،لجل أن يأخذوهم إلى صف الكفر.
وهم بذلك كمنافقين كفار قلوب غير مخلصين لصف اليمان .وهم ل يقفون من اليمان موقف
سوَآءً
الحياد ،ولكنهم يقفون منه موقف العناد والعداوة } .وَدّواْ َلوْ َت ْكفُرُونَ َكمَا َكفَرُواْ فَ َتكُونُونَ َ
{ وفي هذا تحذير واضح للمؤمنين هو :إياكم أن تأمنوهم على شيء يتعلق بمصالحكم وإيمانكم.
خذُواْ مِ ْنهُمْ َأوْلِيَآءَ { أي إياكم أن
ويصدر الحق الحكم في هذه القضية بمنتهى الوضوح } :فَلَ تَتّ ِ
تتخذوا من المنافقين نصراء لكم أو أهل مشورة؛ لن ال سبحانه فضح لكم دخائل نفوسهم ،وهذه
المسألة ليست ضربة لزب ،فإن آب الواحد منهم وأناب ورجع إلى حظيرة اليمان فلن يرده ال،
فسبحانه وتعالى ل يضطهد أحدا لمجرد أنه ارتكب الذنب؛ لنه الحق غفور ورحيم ،فما دام قد
عاد النسان إلى الصواب و َبعُد عن الخطأ ،فعلى المؤمنين أن يقبلوا من يعود إليهم بإخلص،
فالكراهية ل تنعقد ضد أحد لنه أخطأ؛ لن الكراهية تكون للعمل الخطأ ،وليست موجهة ضد
النسان المخلوق ل ،فإن أقلعوا عن الخطأ؛ فهم مقبولون من المؤمنين.
وها هوذا قاتل زيد بن الخطاب يمر أمام عمر بن الخطاب -رضي ال عنه -وقال له بعض
الناس ها هوذا قاتل أخيك زيد .فيقول عمر بن الخطاب :وماذا أفعل به وقد هداه ال للسلم؟!
وهكذا نرى أن الكراهية لم تتعد إلى ذات القاتل ،ولكن الكره يكون للفعل ،فإن أقلعت الذات عن
الفعل فالذات لها مكانتها .وهكذا يصدر الحكم الرباني } :فَلَ تَتّخِذُواْ مِ ْنهُمْ َأوْلِيَآءَ حَتّىا ُيهَاجِرُواْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ {.
والهجرة في سبيل ال كانت تكلف النسان أن يخرج من ماله ومن وطنه ومن أهله ،ويذهب إلى
حياة التقشف والتعب والمشقة ،وفي هذا ما يكفر عنه ،ويتعرف المؤمنون هنا أنه قد تاب إلى ال
فتاب ال عليه وآن له الوان أن يدخل في حوزة اليمان .فإن فعل ذلك فقد عاد إلى اليمان.
ولذلك يجب على الناس أن يفصْلوا الذوات عن الفعال .لماذا؟ لن الذوات في ذاتها ل تستحق أن
تكره ،وإنما يكره فعل الذات إن كان قبيحا سيئا.
وحين نقرأ القرآن نجده يعرض مثل هذه المسألة ،فسيدنا نوح عليه السلم عندما تلقى وحي ال
بأن يصنع السفينة ،وجلس يصنعها ويمر عليه الناس فيسخرون منه فيقول لهم سيدنا نوح :سنسخر
منكم غدا كما تسخرون منا .ويأتي له ابن ليس على منهجه ،فيدعوه نوح إلى المنهج فيقول البن:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" ل " .ويركب نوح السفينة ويقول ل :لقد وعدتني أن تنجيني أنا وأهلي.
وهنا يوضح الحق :صحيح أنا أنجيك أنت وأهلك ،ولكن ما الذي جعلك تعتبر ابنك من أهلك ،إن
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ }[هود.]46 :
الذوات عند النبياء ل نسب لها ،إنما نسب النبياء العمال {:إِنّهُ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يشكك في صدق بصيرة النسان الذي يتولى ويود غير المسلمين المخلصين .فحين يرى الواحد
منا إنسانا آخر ل يحبه ويكيد المكائد ،وعندما يراك تثق فيه وتحسن إليه ،يقول هذا الكاره :هذا
إنسان فاقد البصيرة فلو عرف ما في قلبي لما فعل ذلك.
فإذا اتخذ المؤمنون من المنافقين أولياء أو نصراء والمنافقون على ما هم عليه من نفاق لقال
المنافقون :إن المسلمين فاقدوا البصيرة وهم ل يعلمون ما في قلوبنا ،لذلك ينير الحق بصيرة
المؤمنين حتى ل نأخذ رأيا من المنافقين ينال منا.
وقد يقول المنافقون :إن هؤلء المسلمين ليس لهم ربّ يبصرهم ،فلماذا يدعون أن لهم إلها؟ لو
سهِمْ
كان لهم إله لبصرهم بما في نفوسنا .ونجد هذا الفضح لهم عندما يقول الحق {:وَيَقُولُونَ فِي أَنفُ ِ
َل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ }[المجادلة.]8 :
وعدم تعذيب الحق له وقت كفرهم له فائدة ورحمة سديركونها فيما بعد .فمِن هؤلء مَن سيكون
سيفا للسلم بعد أن كان سيفا على السلم؛ فقد ادخرهم ال ليكون بعض منهم سيفا للسلم ،فها
هو ذا ابن الوليد يهتدي ،وها هو ذا عمرو بن العاص ،وها هو ذا عكرمة بن أبي جهل ،هؤلء
سهِمْ
سيكونون سيوفا للسلم ،ول يظنن منهم أحد أنه ست َر مكنونَ نفِسه عن ال {:وَ َيقُولُونَ فِي أَنفُ ِ
َل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ }[المجادلة.]8 :
هذا القول قد أدى أمرين:
المر الول :وضح أن هناك ربا مطلعا على خائنة العين وخفايا الصدور .والمر الثاني:
أوضح أن ال لم يعذبهم لن منهم من سيمس اليمان قلوبهم وسيكونون سيوفا للسلم وسيخرج
من ذريتهم قادة يحملون الدعوة ل .ولذلك نجد النبي صلى ال عليه وسلم وقد جاء جبريل وقال
له " :إن ال قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمرهُ بما شئت
فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم قال يا محمد :إن ال قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال
وقد بعثني ربّك إليك ليأمرني بأمرك مما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الخشبين .فقال الرسول
صلى ال عليه وسلم :بل أرجو أن يخرج ال من أصلبهم مَن يعبد ال وحده ل يشرك به شيئا ".
وقد حدث ذلك .إن أسلوب معاملة المنافقين يحدده ال في هذه الية بما يلي :هم قو ٌم الكفر يسكن
القلب منهم ومظهرهم َيدّعي السلم ويتمنون أن يكون المؤمنون على شاكلتهم ،فلذلك ل يتخذ
المسلم وليا من المنافقين ول نصيرا.
ولكن إن هاجر المنافق فرحابة اليمان تتسع له ،أما إن تولّى المنافق وأعرض عن ذلك .فأسلوب
ث وَجَدّتمُوهُ ْم َولَ تَتّخِذُواْ مِ ْنهُمْ وَلِيّا
المعاملة يكون كما يحدده ال } :فَإِنْ َتوَلّوْاْ َفخُذُوهُمْ وَاقْتُلُو ُهمْ حَ ْي ُ
وَلَ َنصِيرا { لكن بعد أن يُطلق هذا المر توجد عقبة في تنفيذه ،إنها عقبة الحلف والعهود
والمواثيق التي كان يعطيها رسول ال لبعض القبائل ،وكانت هذه العهود تتلخص في أن الرسول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعاهد بعض القبائل بعدم الغارة على المسلمين وعدم إغارة المسلمين عليهم .ولذلك يحترم الحق
هذه المواثيق والحلف.
إن الحق يوضح لنا :ل تأخذوا هذا المر أيها المسلمون على إطلقه؛ لن السلم دين الوفاء
بالعهود ،وقد أعطيتم بعض القبائل عهودا بأن من لجأ إليهم يؤمنونه ويدخل في حمايتهم ،وكذلك
الذي يصل ويلجأ إلى المسلمين فعليهم حفظه ومنع التسلط عليه.
لذلك قال الحق في هذا الستثناءِ } :إلّ الّذِينَ َيصِلُونَ إِلَىا َقوْمٍ بَيْ َنكُمْ.{ ...
()370 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َعلَ اللّهُ َلكُمْ عَلَ ْي ِهمْ سَبِيلً }.
{ فَإِنِ اعْتَ َزلُوكُمْ فَلَمْ ُيقَاتِلُوكُ ْم وَأَ ْلقَوْاْ إِلَ ْي ُكمُ السَّلمَ َفمَا َ
إن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم وألقو السلم واعترفوا بأنهم ل يملكون طاقة اختيار بين قتال المسلمين أو
قتال قومهم ،فليس لكم أيها المسلمون حجة أن تعتدوا عليهم؛ فالعتداء عليهم في مثل هذه الحالة
ينهَى ال عنه وعين الحق ل تقتصر على ما نعرف ،ولكنها تتعدى إلى أدق التفاصيل؛ فهي عين
جدُونَ آخَرِينَ
ل ترى ما عرفناه فقط ولكنها تكشف لنا الحجب التي ل نعرفها ،فيقول سبحانه { :سَتَ ِ
يُرِيدُونَ أَن يَ ْأمَنُوكُمْ.} ...
()371 /
سَ َتجِدُونَ َآخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَ ْأمَنُوكُ ْم وَيَ ْأمَنُوا َق ْومَهُمْ ُكلّ مَا ُردّوا إِلَى ا ْلفِتْنَةِ أُ ْركِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ
جعَلْنَا َل ُكمْ
َيعْتَزِلُوكُ ْم وَيُلْقُوا إِلَ ْيكُمُ السّلَمَ وَ َيكُفّوا أَيْدِ َيهُمْ َفخُذُو ُه ْم وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َث ِقفْ ُتمُو ُه ْم وَأُولَ ِئكُمْ َ
عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ()91
جدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَ ْأمَنُوكُ ْم وَيَ ْأمَنُواْ َقوْ َمهُمْ }.
تبدأ هذه الية بفعل يتحدث عن المستقبل { :سَتَ ِ
معنى ذلك أن المسلمين لحظة نزول هذه الية لم يكونوا قد وجدوا مثل هؤلء القوم الذين يتحدث
عنهم الحق ،ولو لم يحدث للمعاصرين لنزول القرآن أن وجدوا مثل هؤلء ماذا كانوا يقولون عن
هذا الخبر؟ .لو لم يجدوا مثل هؤلء القوم لتشككوا في القرآن .وسبحانه يوضح أني عين معكم،
وعين لكم ،أخبرتكم بما حدث واختلفتم فيه ،وأخبركم بما لم يصل إلى أذهانكم وعلمكم فل تختلفوا
فيه ،وهذا دليل على أنكم في رعايتي وفي عنايتي.
جدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَ ْأمَنُوكُمْ } وهؤلء القوم هم قوم من بني أسد وعطفان ،وكانوا على
{ سَتَ ِ
مشارف المدينة ،وكانوا يقابلون المسلمين فيقولون " :نحن معكم " ،والحقيقة أنهم عاجزون عن
مواجهة أي معسكر .ولذلك يصفهم القرآن { :سَ َتجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَ ْأمَنُوكُ ْم وَيَ ْأمَنُواْ َق ْو َمهُمْ
ُكلّ مَا ُردّواْ إِلَى ا ْلفِتْنِةِ أُ ْركِسُواْ فِ ِيهَا } .وهؤلء كلما جاءهم الختبار { أُ ْركِسُواْ فِ ِيهَا } .أي فشلوا
في الختبار ،فعناصرهم اليمانية لم تقو بعد ،ومازالوا في حيرة من أمرهم .وعندما جاءتهم الفتنة
لتصهرهم وتكشف ما في أعماقهم ازدادت حيرتهم ،فالفتنة هي اختبار ،وليست الفتنة شيئا مذموما،
وعندما يقال :إن فلنا في فتنة فعلى المؤمن أن يدعو بالنجاح فيها ،فالفتنة ليست مصيبة تقع،
ولكن المصيبة تقع إذا رسب النسان في الفتنة.
ونعلم أن الفتنة مأخوذة من المر الحسي ،فتنة الذهب وكذلك الحديد :فتنة الذهب هي صهر الذهب
في البوتقة حتى ينصهر؛ فتطفو كالزبد كلّ العناصر الشائبة المختلطة بالذهب ،وكذلك الحديد ،يتم
صهره حتى تنفصل الذرات المتماسكة بعضها عن بعض .ويطفو الخبث.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونعرف أن الحديد أنواع :فالحديد الزهر شوائبه ظاهرة فيه وسهل الكسر .بينما نجد الحديد
الصلب بل خبث فهو صلب .وفتنة الذهب والحديد تكشف عن المعادن الغريبة المختلطة به.
ونقلت كلمة " الفتنة " من المحسات إلى المعاني ،وصارت الفتنة هي الختبار الذي ينجح فيه
النسان أو يرسب ،فهي ليست ضارة في ذاتها ،ولكنها ضارة لمن يرسب فيها.
وهكذا كان تنبؤ القرآن الذي يخبر المسلمين بأمر قوم على حدودهم ،تجعلهم الفتنة ل يقوون على
اليمان ،أي فكلما دعاهم قومهم إلى الشرك وقتال المسلمين رُدّوا على أعقابهم وانقلبوا على
رءوسهم أقبح قلب وأشنعه وكانوا شرّا من كل عدو عليكم ،ويشرح القرآن كيفية سلوك المؤمنين
تجاه هؤلء المرتكسين والمنقلبين في الفتنة { :فَإِن لّمْ َيعْتَزِلُوكُ ْم وَيُ ْلقُواْ إِلَ ْي ُكمُ السَّل َم وَ َي ُكفّواْ أَيْدِ َي ُهمْ
جعَلْنَا َل ُكمْ عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانا مّبِينا } ونلحظ أن الحق أمر
خذُوهُ ْم وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َثقِفْ ُتمُوهُ ْم وَُأوْلَـا ِئكُمْ َ
فَ ُ
بتأمين من لجأوا بضعفهم على الرغم من نفاقهم إما إلى المسلمين وإما إلى حلفاء المسلمين حين
قال في الية السابقة:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
موضوع القتل .فأوضح لهم :المسألة أنني أنا الذي عملت البنيان الدمي ،والحياة أنا الذي أهبها،
وليس من السهل لباني البنيان أن يحرض على هدمه ،إنما أنا أحرض على هدم هؤلء الذين
يقاتلونكم؛ لكي يسلم باقي البنيان لكم ،وإياكم أن تجترئوا على بنيانات الناس ،فملعون من يهدم
بنيان ال؛ لنه سبحانه هو الذي خلق الحياة وهو الذي يأخذ الحياة ،وحياة الناس ليست ملكا لهم؛
فحياة النسان نفسه ليست ملكا لنفسه ،ولذلك فمن يقتل واحدا ،عُدْوانا دون حق نقتص منه ،وأما
إن كان ذلك قد قتل خطأ فنأخذ منه الدية ،وتنتهي المسألة .لكن قاتل نفسه تحرم عليه الجنة.
إذن فقبل أن يقول لي :ل تقتل غيرك قال لي :إياك وأن تقتل نفسك .إذن فسبحانه ليس بغيور فقط
على الناس منك ،بل يغار عليك أيضا من نفسك ،ولذلك فحين شرع سبحانه القصاص في القتل
شرعة ليحميك ل ليجرئك على أن تقتل ،أما عندما يأمر سبحانه :أن من قَ َتلَ يُقتل .فهو يقسط
ويعدل ،والقصد من هذا الحفاظ على حياتين؛ لنك إن علمت أنك إن قَتَلْتَهُ قُتِلْت ل تقتل.
وما دمت ل تقتل فقد حميت حياتين حياة من كنت ستقتله وحياتك من أن يُقتص منك وهذا هو
معنى قوله {:وََلكُمْ فِي ا ْلقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الَلْبَابِ }[البقرة.]179 :
إذن فالذي يتفلسف ويقول :هذه بشاعة وكذا وكذا نقول له :الذي يشرع القصاص أيريد أن يَقتل؟
ل ،بل يريد أن يحمي حياتك؛ لن القاتل عندما يعلم أنه إن قَ َتلَ يُقتل فل يقتل ،وما دام ل يقتل
نكون قد حافظنا على حياته وحياة الخر .إذن فقوله } :وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ { قول صدق.
وعندما تكلم الحق عن القتال والقتل ينبهنا :إياكم وأن تجترئوا بسبب هذه المسائل على دماء الناس
ول على حياتهم؛ لذلك يتكلم سبحانه عن القتل المحظور في اليمان والسلم ويقولَ } :ومَا كَانَ
ِل ُم ْؤمِنٍ أَن َيقْتُلَ ُم ْؤمِنا ِإلّ خَطَئا.{ ...
()372 /
َومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ أَنْ َيقْ ُتلَ ُمؤْمِنًا إِلّا خَطَأً َومَنْ قَ َتلَ ُم ْؤمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ َرقَبَةٍ ُمؤْمِنَ ٍة َودِيَةٌ مُسَّلمَةٌ إِلَى
ع ُدوّ َلكُ ْم وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَ َتحْرِيرُ َرقَبَةٍ ُم ْؤمِنَ ٍة وَإِنْ كَانَ مِنْ َقوْمٍ
أَهْلِهِ إِلّا أَنْ َيصّ ّدقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ َقوْمٍ َ
شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ
بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَّلمَةٌ إِلَى أَهِْل ِه وَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ ُم ْؤمِنَةٍ َفمَنْ لَمْ َيجِدْ َفصِيَامُ َ
حكِيمًا ()92
َتوْبَةً مِنَ اللّهِ َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ
جاء هذا القول بعد أن تكلم سبحانه عن القتال لتثبيت أمر الدعوة ،ولما كان القتال يتطلب قتل نفس
مؤمنة َنفْسا كافرة ،ناسب ذلك أن يتكلم الحق سبحانه عن القتل.
والقتل -كما نعلم -محاولة إزهاق روح الحي بنقض بنيته .والحي وإن لم ننقض بنيته حين يأتي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أجله يموت .إذن فنقض البنية من النسان الذي يريد أن يقضي على إنسان عملٌ غايتُه إنهاء
الحياة ،فل يظنن ظان أن القاتل الذي أراد أن ينقض بنية شخص يملك أن ينهي حياته ،ولكنه
يصادف انقضاء الحياة ،فالذي ينهي الحياة هو الحق سبحانه وتعالى .ولذلك قلنا :إن الجزاء إنما
وقع على القاتل ل لنه أمات القتيل ولكن لن القاتل تعجل في أمر استأثر ال وحده به ،والقتيل
ميت بأجله ،فالحق سبحانه وتعالى هو الذي استخلف النسان في الكون ،والستخلف شرحه
الحق في قوله {:وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود.]61 :
فال هو الذي جعل النسان خليفة في الكون ليعمر هذا الكون ،وعمارة الكون تنشأ بالتفكير في
الرتقاء والصالح في الكون ،فالصالح نتركه صالحا ،وإن استطعنا أن نزيد في صلحه فلنفعل.
الرض -على سبيل المثال -تنبت الزرع ،وإن لم يزرعها النسان فهو يجد زرعا خارجا منها،
والحق يريد من النسان أن ينمي في الرض هذه الخاصية فيأتي النسان بالبذور ويحرث
الرض ويزرعها .فهذا يزيد المر الصالح صلحا .وهذا كله فرع وجود الحياة.
إذن فالستخلف في الرض لعمارها يتطلب حياة واستبقاء حياة للخليفة .وما دام استبقاء الحياة
أمرا ضروريا فل تأتي أيها الخليفة لخليفة آخر مثلك لتنهي حياته فتعطل إحياءه للرض
واستعماره لها .فالقتال إنما شُرع للمؤمنين ضد الكافرين؛ لن حركة الكافرين في الحياة حركات
مفسدة ،ودرء المفسدة دائما مقدم على جلب المصلحة .فالذي يفسد الحياة يقاتله المؤمنون كي ننهي
الحياة فيه ،ونُخَلّص الحياة من معوق فيها.
إذن فيريد الحق أن تكون الحياة لمن تصلح الرض بحياته .والكافرون يعيثون في الرض فسادا،
ويعيشون على غير منهج ،ويأخذون خير الضعيف ليصيروا هم به أقوياء ،فشرع ال القتال إما
ليؤمنوا فيخضعوا للمنهج ،وإما ليخلص الحياة من شرهم .فإذا ما وجه النسان القتل لمؤمن -
وهو في ذاته صالح للستعمار في الحياة -يكون قد جنى على الحياة ،وأيضا لو قتل النسان
نفسه يكون قد جنى على الحياة كذلك ،لماذا؟ لنه أفقد الحياة واحدا كان من الممكن أن يعمر
بحركته الرض.
فإن اجترأ على حياته أو على حياة سواه فل بد أن نؤدبه .كيف؟ قال سبحانه {:وَالّذِينَ كَسَبُواْ
السّيّئَاتِ جَزَآءُ سَيّئَةٍ ِبمِثِْلهَا }[يونس.]27 :
والتشريع السلمي وضع للقاتل عن سبق إصرار وترصد عقابا هو القتل .وبذلك يحمي التشريع
الحياة ول ينمي القتل ،بل يمنع القتل.
إذن ،فالحدود والقصاصات إنما وضعت لتعطي الحياة سعة في مقوماتها ل تضييقا في هذه
المقومات ،والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن القتال المشروع أراد أن يوضح لنا :إياكم أن
تتعدوا بهذه المسألة ،وتستعملوا القتال في غير المر المشروع ،فإذا ما اجترأ إنسان على إنسان
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لينهي حياته في غير حرب إيمانية شرعية فماذا يكون الموقف؟
يقول التشريع :إنه يقتل ،وكان يجب أن يكون في بالك أل تجترئ على إزهاق حياة أحد إل أن
يكون ذلك خطأ منك ،ولكن إن أنت فعلت خطأ نتج عنه الثر وهو القتل .فماذا يكون المر؟ هناك
منفعل لك وهو القتيل وأنت القاتل ولكن لم تكن تقصده ،هما -إذن -أمران :عدم القصد في
ارتكاب القتل الخطأ ،والمر الثاني هو حدوث القتل.
يقول التشريع في هذه المسألة :إن القاتل بدون قصد قد أزهق حياة إنسان ،وحياة هذا النسان لها
ارتباطات شتى في بيئته اليمانية العامة ،وله ارتباطاته ببيئته الهلية الخاصة كعائلته ،العائلة له
أو العائل لها أو السرة أو القرب من السرة وهو الصل والفرع ،فكم دائرة إذن؟ دائرة إيمانية
عامة ،ودائرة الهل في عمومها الواسع ،ودائرة السرة ،ودائرة خصوصية السرة في الصل
والفرع .وحين تنهي حياة إنسان في البيئة اليمانية العامة فسوف تتأثر هذه البيئة بنقصان واحد
مؤمن خاضع لمنهج ال ومفيد في حركته؛ لن الدائرة اليمانية فيها نفع عام.
لكن دائرة الهلية يكون فيها نفع خاص قليلً والدائرة السرية نجد أن نفعه فيها كان خاصا بشكل
ما ،وفي الصل والفرع نجده نفعا ُم ِهمّا وخاصا جدا .إذن فهذا القتل يشمل تفزيعا لبيئة عامة
ولبيئة أسرة ولبيئة أصل وفرع.
ولذلك أريد أن تلحظوا في أحداث الحياة شيئا يمر علينا جميعا ،ولعل كثيرا منا ل يلتفت إليه ،مع
أنه كثير الحدوث ،مثلً :إذا كنا جالسين في مجتمع وجاء واحد وقال " :فلن مات " ،وفي هذا
المجتمع أناس يعرفونه معرفة عامة .وآخرون يعرفونه معرفة خاصة ولهم به صلة ،وأناس من
أهله ،وفيه والد الميت أو ابنه ،انظروا إلى أثر النعي أو الخبر في وجوه القوم ،فكل واحد سينفعل
بالقدر الذي يصله ويربطه بمن مات .فواحد يقول " :يرحمه ال " وثانٍ يتساءل بفزع " :كيف
حدث ذلك "؟ وثالث يبكي بكاء مرا ،ورابع يبكي جاريا ليرى الميت .والخبر واحد فلماذا يتعدد
أثر وصدى النفعالت ،ولماذا لم يكن النفعال واحدا؟
نقول :إن النفعال إنما نشأ قهرا بعملية ل شعورية على مقدار نفع الفقيد لمن ينفعل لموته؛ فالذي
كان يلتقي به ِلمَاما ويسيرا في أحايين متباعدة يقول " :رحمه ال " .والذي كان يجالسه كل عيد
يفكر في ذكرياته معه ،وحتى نصل إلى أولده فنجد أن المتخرج الموظف وله أسرة يختلف
انفعاله عن الخريج حديثا أو الذي يدرس ،أو البنت الصغيرة التي مازالت تتلقى التعليم ،هؤلء
الولد يختلف تلقيهم للخبر بانفعالت شتى ،فالبن الذي له أسرة وله سكن يتلقى الخبر بانفعال
مختلف عن البن الذي مازال في الدراسة ،وانفعال البنة التي تزوجت ولها أسرة يختلف عن
انفعال البنة التي مازالت لم تجهز بعد.
إذن فالنفعال يحدث على مقدار النفعية ،ولذلك قد نجدها على صديق أكثر مما نجدها على شقيق.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقالوا :من أحب إليك ،أخوك أم صديقك؟ .قال :النافع .إذن تلقى خبر انتهاء الحياة يكون مختلفا،
فالحزن عليه والسف لفراقه إنما يكون على قدر إشاعة نفعه في المجتمع.
وهناك واحد يكون وطنه أسرته يعمل على قدر نفعها ،وواحد يكون وطنه عائلته وقريته ،وواحد
وطنه أمته .وواحد وطنه العالم كله .إذن فعندما يفجع المجتمع في واحد فالهِزة تأتي على قدر
وطنه ،وعندما يفاجأ الناس بواحد يُقتل عن طريق الخطأ فالفاعل معذور .ولكن عذره لم يمنع أن
تعدى فعله وأن الخر قد قتل؟ .فالثر قد حصل ،وتحدث الهزة للقرب له في النتفاع ،ولن
القتل خطأ فلن يتم القصاص من القاتل ،ولكن عليه أن يدفع دية ،وهذه الدية توزع على الناس
الذين تأثروا بفقدان حياته؛ لن هناك قاعدة تقول " :بسط النفع وقبض الضر ".
إنك ساعة ترى شيئا سينفعك فإن النفس تنبسط ،وعندما ترى شيئا سيضرك فإن النفس تنقبض.
وعندما يأتي للنسان خبر موت عزيز عليه فإن نفسه تنقبض ،وساعة يأتيه من بعد ذلك خير وهو
حصوله على جزء من دية القتيل فالنفس تنبسط ،وبذلك يتم علج الثر الحادث عن القتل الخطأ.
والدية بحكم الشرع تأتي من العاقلة ،وبشرط أل تؤخذ من الصول والفروع ،فل تجتمع عليهم
مصيبة فقد إنسان على يد أحد من أصولهم أو فروعهم وهم بذلك يفزّعون فل يجمع عليهم هذا
المر مع المشاركة في الدية .كأن التشريع أراد أن يعالج الهزة التي صنعها انحراف بعلج هو
وقاية من رد الفعل فيحقق التوازن في المجتمع .فمن يقتل خطأ ل يقتص منه المجتمع ولكن هناك
الدية .ومن أجل إشاعة المسئولية فالقاتل ل يدفعها ،ولكن تدفعها العاقلة؛ لن العاقلة إذا ما علمت
أن من يجني من أهلها جناية وأنّها ستتحمل معه فإنها تعلّم أفرادها في صيانة حقوق غيرهم؛ لن
كل واحد منها سيدفع ،وبذلك يحدث التوازن في المجتمع.
والحق سبحانه وتعالى يعلمنا أن نستبعد أن يقتل مؤمن مؤمنا إل عن خطأ ،فل يستقيم أن يحدث
ذلك عمدا فيقولَ } :ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ أَن َيقْتُلَ ُم ْؤمِنا ِإلّ خَطَئا { ومعنى هذا أن مثل هذا القتل ل
يصح أن يحدث عن قصد؛ لن اللّحمة -بضم اللم -اليمانية تمنع هذا.
لكن إن حدث هذا فما العلج؟َ } .ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ أَن َيقْتُلَ ُم ْؤمِنا ِإلّ خَطَئا َومَن قَ َتلَ ُم ْؤمِنا خَطَئا
فَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ ّم ْؤمِنَةٍ وَدِيَةٌ مّسَّل َمةٌ إِلَىا أَهِْلهِ {.
ول يذكر سبحانه هنا القصاص ،فالقصاص قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى {:كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ
ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى ا ْلحُرّ بِا ْلحُ ّر وَا ْلعَبْدُ بِا ْلعَبْدِ وَالُنثَىا بِالُنْثَىا }[البقرة.]178 :
والقصاص حق الولي فله أن يعفو أو أن يأخذ الدية ،كأن يقول :عفوت عن القصاص إلى الدّية.
ويجب أن نفرق بين الحد وبين القصاص .فالقصاص حق الولي ،والحد حق ال .وللولي أن
يتنازل في القصاص ،أما الحدود فل يقدر أحد أن يتنازل عنها ،لنها ليست حقا لحد ولكنها حق
ال.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فالقتل الخطأ قال فيه } :فَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ ّم ْؤمِنَةٍ { وهنا قد نسأل :وماذا يستفيد أهل المجنى عليه
بالقتل من تحرير رقبة مؤمنة؟ .هل يعود ذلك على أهل القتيل ببسط في النفعية؟ .قد ل تفيدهم في
شيء ،لكنها تفيد المجتمع؛ لن مملوك الرقبة وهو العبد أو المة هو مملوك لسيده ،والسيد يملك
حركة العبد ،ولكن عندما يكون العبد حرّا فهو حر الحركة؛ فحركة العبد مع السيد محدودة ،وفي
حريته حركة مفيدة للمجتمع.
إذن فالقبض الذي حدث من قتل نفس مؤمنة يقابلها بسط في حرية واحد كان محكوما في حركته
فنقول له :انطلق في حركتك لتخدم كل مجتمعك .ويريد الحق بذلك أن يفتح مصرفا لحرية الرقاء
ضمن المصارف الكثيرة التي جعلها السلم لذلك.
وبعد هذا القول } َودِيَةٌ مّسَّلمَةٌ إِلَىا أَهِْلهِ { لكي تصنع البسط في نفوس أهله ليعقب القبض نتيجة
خبر القتل .ولذلك نجد أسرة قد فجعت في أحد أفرادها بحادثة وعاشوا الحزن أياما ثم يأخذون
الوراق ويصرفون بها الدية أو التعويض ،مما يدل على أن في ذلك شيئا من السلوى وشيئا من
التعزية وشيئا من التعويض ،ولو كانت المسألة مزهودا فيها لقالوا " :نحن ل نريد ذلك " ،ولكن
ذلك ل يحدث.
وبعد ذلك نجد الذي فقد حياة حبيب ل يظل في حالة حزن ليفقد حياة نفسه ،ففي الواقع يكون
الحزن من الحزبين على نفسه بمقدار ما فات عليه من نفع عندما قُتل له القتيل ،والحزين إنما
حزن لن القتيل كان يثري حياته ،فلما مات صارت حياة النفع منه بل إثراء.
ولو رأينا إنسانا يحزن لفقد واحد وقلنا له :احتفظ بجثمانه لمدة أسبوع لترتوي من أشواقك إليه،
وبعد ذلك نأخذه منك لندفنه أيرضى؟ .لن يرضى أبدا بذلك .أو نقول للحزين " :لن نقدم لك طعاما
لمدة أسبوع لنك في حالة حزن هنا لن يوافق الحزين ،وزوجة الفقيد تذرف عيناها الدمع وتبكي
عليه لكنها تأكل وتشرب.
إذن فالمسألة يجب أن تكون واضحة لستقبال أقضية الحق وهي أقضية ل تنقض نواميس ال في
الكون.
وبعد ذلك يريد الحق أن يشيع التعاطف بين الناس ،فإذا قال أهل القتيل لهل القاتل :نحن ل نريد
دية ،لن مصيبتكم في القتيل مثل مصيبتنا فيه ،وكلنا إخوة فما الذي يجري في المجتمع؟ .الذي
يحدث من النفع هو أضعاف أضعاف ما تؤدية الدية ،إذن فهذا تربيب للدية ،فساعة يعرف الطفل
في العائلة أنه كان مطلوبا منهم دية لن أباه قد قَتَل ،وعفا أهل القتيل فلم يأخذوا الدّية ،هذا الطفل
ب ويعقل المور أن كل خير عند أسرته ناتج من هذا العفو وهذه العفّة ،فيحدث
ش ّ
سيعرف عندما يَ ِ
الود.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يربب إشاعة المودة والصفاء والنفعية .فإذا ما حزن واحد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لفقدان إنسان بالقتل الخطأ قد يأخذ الدية فينتفع ،وإن لم يأخذها فهو ينتفع أكثر؛ لذلك يقول الحق} :
سّلمَةٌ إِلَىا أَهِْلهِ ِإلّ أَن َيصّ ّدقُواْ {.
وَدِيَةٌ مّ َ
وهذا ما يحدث إذا ما قتل مؤمن مؤمنا خطأ في بيئة إيمانية ،ولكن ما الذي يحدث عندما يتم قتل
مؤمن لواحد من قوم أعداء والمقتول مؤمن ويعيش بين الكفار؟ .ها نحن أولء نرى عدالة
التشريع اللهي ،وحتى نزداد يقينا بأن ال هو رب الجميع؛ لذلك قال الحق } :فَإِن كَانَ مِن َقوْمٍ
عَ ُدوّ ّلكُ ْم وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ { أي كان المقتول من قوم في حالة عداء مع المسلمين فهو ل يستحق الدية؛
لنه يحيا في قوم كافرين.
هكذا نجد التشريع هنا قد شرع لثلث حالت :شرع لواحد في البيئة اليمانية ،وشرع لواحد مؤمن
في قوم هم أعداء للمؤمنين ،وشرع لواحد قد قُتل وهو من قوم متحالفين مع المسلمين .وكل واحدة
لها حكم ،والحكم في حالة أن يكون القتيل من قوم بينهم وبين المسلمين عداء وهو مؤمن ،فتحرير
رقبة مؤمنة ،وذلك للتعويض اليماني فينطلق عبد كان محدود الحركة لنّ هناك مَن مات وانتهت
حركته ،وفي هذا تعويض للمجتمع عندما تشيع حركة العبد .وماذا نفعل في الدية؟ ل يأخذون
الدية؛ لن الدية موروثة ،وهم من الكفار وليس بين الكفار والمسلمين توارث أي فليس هنا دية.
وعندما ننظر إلى قول الحق } :فَإِن كَانَ مِن َقوْمٍ عَ ُدوّ ّلكُمْ { نجد أن كلمة " عدو " مفردة في ذاتها،
ولكنها تشمل كل القوم ،وفي اللغة نقول " :هو عدو " و " هما عدو " و " هم عدو " وإن تنوعت
عداوتهم فهم أعداء ،ولكن عندما يتحد مصدر العداء فهم عدو واحد .والحق يقول } :فَإِن كَانَ مِن
َقوْمٍ عَ ُدوّ ّلكُمْ وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ ّم ْؤمِنَةٍ { ولم يورد سبحانه هنا الدية لن القوم على عداء
للسلم فل دية لهم؛ لنه ل توارث.
ويقول الحق } :وَإِن كَانَ مِن َقوْمٍ بَيْ َن ُك ْم وَبَيْ َنهُمْ مّيثَاقٌ َفدِيَةٌ مّسَّل َمةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ َرقَبَةٍ ّم ْؤمِنَةٍ
{ فإذا أعطى المسلمون قوما عهدا من العهود فل بد من الوفاء.
هذا الوفاء يقتضي تسليم دية لهله؛ لن هذا احترام للعهد ،وإل فما الفارق بيننا وبينهم ...والدية
-كما نعلم -تدفعها العاقلة ،ويقول الحق في بيان حق ال في أمر القتل الخطأ } :وَتَحْرِيرُ َرقَ َبةٍ
شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ َتوْبَةً مّنَ اللّهِ { أي فمن لم يجد الرقبة أو لم يتسع ماله
ّم ْؤمِنَةٍ َفمَن لّمْ َيجِدْ َفصِيَامُ َ
لشرائها فصيام الشهرين بكل أيامهما ،فل يفصل بينهما إل فاصل معذر كأن يكون القاتل -دون
قصد -على مرض أو على سفر .وبمجرد أن ينتهي المرض أو السفر فعليه استكمال الصوم.
ولماذا هذا التتابع الحكمي؟ .لن ال سبحانه وتعالى يريد أن يجعل هذه المسألة شاغلة لذهن
القاتل ،وما دامت تشغل ذهنه فالصيام ل بد أن يكون متتابعا ،فلو لم يكن الصيام متتابعا لصابت
شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ َتوْبَةً مّنَ اللّهِ {.
القاتل غفلةَ } .فمَن لّمْ َيجِدْ َفصِيَامُ َ
ولماذا قال الحقَ } :توْبَةً مّنَ اللّهِ {؟ .والتوبة -كما نعرف -قد تكون من العبد فنقول " :تاب
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العبد ".
وقد تسند التوبة إلى الحق فيقال " :تاب ال عليه " ومراحل التوبة ثلث :حين يشرع ال التوبة
نقول :تاب ال على العباد فشرع لهم التوبة فل أحد يتوب إل من باطن أن ال شرع التوبة؛ لنه
لو لم يشرع ال التوبة لتراكمت على العباد الذنوب والخطايا.
وتشريع التوبة هو تضييق شديد لنوازع الشر ،فلو لم يشرع ال التوبة لكان كل من ارتكب ذنبا
يعيث في الرض بالفساد ،فحين شرع ال التوبة عصم المجتمع من الشرار .فلنه شرّع التوبة،
فهو -سبحانه -يتوب ،هذه هي المرحلة الولى .وما دام ال قد شرع التوبة فالمذنب يتوب ،هذه
هي المرحلة الثانية ،وساعة شرع ال التوبة ويتوب المذنب فال يقبل التوبة ،هذه هي المرحلة
الثالثة.
وهكذا نرى دقة القرآن حين قال {:ثُمّ تَابَ عَلَ ْي ِهمْ لِيَتُوبُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[التوبة:
.]118
وبعد أن يتوبوا فإن ال يقبل التوبة عن عباده.
إذن فالتوبة الولى من ال تشريع .والتوبة الثانية من ال قبول ،والوسط بينهما هي توبة النسان.
حكِيما { فسبحانه يشرع التشريع الذي يجعل
ويذيل الحق اليةَ } :توْبَةً مّنَ اللّهِ َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ
النفوس تحيا في مُناخ طبيعي وفي تكوينها الطبيعي ،فلو تصورنا أن إنسانا قد قُتل خطأ وتركنا
أهل المقتول بل ترضية فلن يستفيد المجتمع اليماني من قتله.
إذن فالعلم من ال بالنفس البشرية جعل من قتل خطا يُفيد المجتمع اليماني بتحرير رقبة ،فيزيد
المجتمع إنسانا حرا يتحرك حركة إيمانية؛ لذلك اشترط الحق أن تكون الرقبة مؤمنة ،حتى نضمن
أن تكون الحركة في الخير ،فنحن ل نحرر رقبة كافرة؛ لن الرقبة الكافرة عندما تكون مملوكة
لسيد فشرها محصور ،لكن لو أطلقناها لكان شرها عاما.
وبعد تحرير الرقبة هناك الدية لننثرها على كل مفزع في منفعته فيمن قُتل ،ول نأخذها من أصول
القاتل وفروعه ،فل نجمع عليهم مصيبتين القتل الذي قام به أصلهم أو فرعهم؛ لن ذلك -ل شك
-سيصيبهم بالفزع والخوف عن والشفاق على مَن جنى منهم .وأن يشتركوا في تحمل الدية.
وذلك العمل ناشيء عن حكمه .فإذا كان الذي يضع الشياء في موضعها هو خالقها ،فلن يوجد
أفضل من ذلك لتستقيم المور.
وفي المجال البشرى نجد أن أي آلة من اللت -على سبيل المثال -مكونة من خمسين قطعة،
وكل قطعة ترتبط بالخرى بمسامير أو غير ذلك ،وما دامت كل قطعة في مكانها فاللة تسير
سيرا حسنا ،أما إذا توقفت اللة فإننا نستدعي المهندس ليضع كل قطعة في مكانها ،وكل شيء
حين يكون في موضعه فاللة تمشي باستقامة ،وكل حركة في الوجود مبنية على الحكمة ل ينشأ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيها فساد؛ فالفساد إنما ينشأ من حركات تحدث بدون أن تكون على حكمة .والحكمة مقولة
بالتشكيك ،فهناك حكيم وهناك.
أحكم .وقديما -على سبيل المثال -كنا نرى السلك الكهربائية دون عوازل فكان يحدث منها "
ماس " كهربائي .وعندما اكتشفنا العوازل استخدمناها وعدلنا من تصنيعنا للشياء .وكنا نجد
السلك في السيارة -مثلً -ذات لون وحجم واحد ،فكان يحدث الرتباك عند الصلح ،لكن
عندما تمت صناعة كل سلك بلون معين ،فسهل هذا عملية الصلح.
فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه ،فما بالنا حين يكون من يضع الشيء في موضعه هو
خالقنا؟ لن نجد أفضل ول أحسن من ذلك.
فإذا ما رأينا خللً في المجتمع فلنعلم أن هناك شيئا قد ناقض حكمة ال .وعندما نبحث عن العطب
سوف نجده ،تماما مثلما تبحث عن العطب في أي آلة وتأتي لها بالمهندس الذي يصلحها .ويجب
أن نرده إلى من خلق المجتمع ،ونبحث عن علج الخلل بحكم من أحكام ال .ولذلك أرشدنا الحق
إلى أننا إن اختلفنا في شيء فلنرده إلى ال وإلى الرسول حتى ل نظل في تعب.
وبعد ذلك يتكلم الحق عن القتل العمد ،وقد يقول قائل :أما كان يجب أن يحدثنا ال عن القتل العمد
أولً؟ ونقول :الحق لو تكلم عن القتل العمد أولً لكان ذلك موحيا أنه يحدث أولً ،ولكن الحق
يوضح :ل يصح أن تأتي هذه على خيال المؤمن.
ويسأل سائل :لماذا لم يقل الحق " :وما كان لمسلم " .ونقول :يجب أن ننتبه إلى أن الحق نادى
المؤمن لن اليمان عمل قلبي ،ولهذا كان النداء للمؤمنين ولم يكن النداء للمسلمين؛ لن السلم
أمر ظاهري ،فقد يقتل إنسان يتظاهر بالسلم إنسانا مؤمنا .لهذا نادى الحق بالنداء الذي يشمل
المظهر والجوهر وهو اليمان.
وحين يشرع الحق فل بد أن يأتي بالجزاء والعقاب للذي يقتل عمدا .وهو يقولَ } :ومَن َيقْ ُتلْ
ُم ْؤمِنا مّ َت َعمّدا.{ ...
()373 /
عذَابًا عَظِيمًا (
عدّ لَهُ َ
غضِبَ اللّهُ عَلَيْ ِه وََلعَنَ ُه وَأَ َ
جهَنّمُ خَاِلدًا فِيهَا وَ َ
َومَنْ َيقْ ُتلْ ُم ْؤمِنًا مُ َت َعمّدًا َفجَزَا ُؤهُ َ
)93
والقتل هنا لمؤمن بعمد ،فالمر إذن مختلف عن القتل الخطأ الذي ل يدري به القاتل إل بعد أن
يقع .وجزاء القاتل عمدا لمؤمن هو جهنم ،وليس له كفارة أبدا .هكذا يبشع الحق لنا جريمة القتل
العمد .لن التعمد يعني أن القاتل قد عاش في فكرة أن يقتل ،ولذلك يقال في القانون " :قتل عمد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مع سبق الصرار " .أي أن القاتل قد عاش القتل في تخيله ثم فعله ،وكان المفروض في الفترة
التي يرتب فيها القتل أن يراجعه وازعه الديني ،وهذا يعني أن ال قد غاب عن باله مدة التحضير
للجريمة ،وما دام قد عاش ذلك فهو قد غاب عن ال ،فلو جاء ال في باله لتراجع ،وما دام
النسان قد غاب باله عن ال فال يغيبه عن رحمته.
جهَنّمُ خَالِدا فِيهَا } وقالوا في سبب هذه الية :إن واحدا اسمه
{ َومَن َيقْ ُتلْ ُم ْؤمِنا مّ َت َعمّدا فَجَزَآ ُؤهُ َ
ِمقْيَسْ بن ضبابة كان له أخ اسمه هشام ،فوجد أخاه مقتولً في بني النجار ،وهم قوم من النصار
بالمدينة .فلما وجد هشاما قتيلً ذهب ِمقْيَس إلى سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم وأخبره
ل من بني فهر وكتب إليهم أن يدفعوا إلى ِمقْيَس قاتل أخيه ،فقال بنو
بالخبر ،فأرسل معه رج ً
النجار وال ما نعلم له قاتل ،ولكننا نؤدي الدية فأعطوه مائة من البل ثم انصرفا راجعين إلى
المدينة فعدا ِمقْيَس على الفِهري فقتله بأخيه وأخذ البل وانصرف إلى مكة مرتدّا وجعل ينشد:قتلت
به فِهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارعحللت به وترى وأدركت ثورتي وكنت إلى
الوثان أول راجعفلما بلغ سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك أهدر دمه .ومعنى " أهدر
دمه " أباح دمه ،أي أن مَن يقتله ل عقاب عليه ،إلى أن جاء يوم الفتح َفوُجد " مقيس " متعلقا
بأستار الكعبة ليحتمي بها ،فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بقتلهَ { ،ومَن َيقْتُلْ ُم ْؤمِنا مّ َت َعمّدا
ضبَ اللّهُ عَلَ ْي ِه وََلعَنَ ُه وَأَعَدّ َلهُ عَذَابا عَظِيما }.
غ ِ
جهَنّمُ خَالِدا فِيهَا وَ َ
فَجَزَآ ُؤهُ َ
وهنا نجد أكثر من مرحلة في العذاب :جزاء جهنم ،خُلود في النار ،غَضب من ال ،لعنة من ال،
إعداد من ال لعذاب عظيم .فكأن جهنم ليست كل العذاب؛ ففيه عذاب وفيه خلود في النار وفيه
غضب وفيه لعنة ثم إعداد لعذاب عظيم .وهذا ما نستعيذ بال منه .فبعضنا يتصور أن العذاب هو
جهنم فحسب ،وقد يغفل بعض عن أن هناك ألوانا متعددة من العذاب .وفي الحياة نرى إنسانا يتم
حبسه فنظن أن الحبس هو كل شيء ،ولكن عندما وصل إلى علمنا ما يحدث في الحبس عرفنا أن
فيه ما هو أشر من الحبس.
وهنا وقفة وقف العلماء فيها :هل لهذا القاتل توبة؟ واختلف العلماء في ذلك ،فعالم يقول :ل توبة
لمثل هذا القاتل .وعالم آخر قال :ل ،هناك توبة .وجاء سيدنا ابن العباس وجلس في جماعة وجاء
واحد وسأله :أللقاتل عمدا توبة؟ قال ابن العباس :ل .وبعد ذلك بمدة جاء واحد وسأل ابن العباس:
أللقاتل عمدا توبة؟ فقال ابن العباس :نعم .فقال جلساؤه :كيف تقول ذلك وقد سبق أن قلت ل،
واليوم تقول نعم.
قال ابن العباس :سائلي أولً كان يريد أن يقتل عمدا ،أما سائلي ثانيا فقد قتل بالفعل ،فالول
أرهبته والثاني لم أقَنّطه من رحمة ال.
وكيف فرق ابن العباس بين الحالتين؟ إنها الفطنة اليمانية والبصيرة التي يبسطها ال على المفتي.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فساعة يوجد النبي صلى ال عليه وسلم في صحابته يسأله واحد قائلً " :أي السلم خير "؟ فيقول
صلوات ال عليه " :تطعم الطعام وتقرأ السلم على من عرفت ومن لم تعرف " ويسأله آخر
فيجيبه بقوله " :من سلم المسلمون من لسانه ويده " وهكذا كان عليه الصلة والسلم يجيب كل
سائل بما يراه أصلح لحاله أو حال المستمع ،ويجيب كل جماعة بما هو أنفع لهم ..ويسأله عبد ال
ابن مسعود رضي ال عنه " :أي العمال أفضل؟ فيقول صلوات ال وسلمه عليه " :الصلة على
ميقاتها .قلت :ثم ماذا يا رسول ال؟ قال :أن يسلم الناس من لسانك " ".
ونعرف أن آية القتل العمد تتطلب المزيد من التفكر حول نصها " فجزاءه جهنم خالدا فيها " .وهل
الخلود هو المكث طويلً أو على طريقة التأبيد ..بمعنى أن زمن الخلود ل ينتهي؟ ولو أن زمن
الخلود ل ينتهي لما وصف الحق المكث في النار مرة بقوله {:خَالِدِينَ فِيهَا }[آل عمران.]88 :
ومرة أخرى بقوله {:خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدا }[النساء.]169 :
هذا القول يدل على أن لفظ التأبيد في " أبدا " فيه ملحظ يزيد على معنى الخلود دون تأبيد .وإذا
اتحد القولن في أن الخلود على إطلقه يفيد التأبيد ،وأن } خَاِلدِينَ فِيهَآ أَبَدا { تفيد التأبيد أيضا،
فمعنى ذلك أن اللفظ " أبدا " لم يأت بشيء زائد .والقرآن كلم ال ،وكلم ال منزه عن العبث أو
التكرار .إذن ل بد من وقفة تفيدنا أن الخلود هو المكث طويلً ،وأن الخلود أبدا هو المكث طويلً
طولً ل ينتهي ،وعلى ذلك يكون لنا فهم .فكل لفظ من القرآن محكم وله معنى .ثم إن كلمة "
ت لَ
خالدين " حين وردت في القرآن فإننا نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في خلود النارَ {:يوْمَ يَ ْأ ِ
شهِيقٌ *
شقُواْ فَفِي النّارِ َلهُمْ فِيهَا َزفِيرٌ وَ َ
سعِيدٌ * فََأمّا الّذِينَ َ
ي وَ َ
ش ِق ّ
َتكَلّمُ َنفْسٌ ِإلّ بِإِذْ ِنهِ َفمِ ْنهُمْ َ
ت وَالَرْضُ ِإلّ مَا شَآءَ رَ ّبكَ إِنّ رَ ّبكَ َفعّالٌ ّلمَا يُرِيدُ }
سمَاوَا ُ
خَاِلدِينَ فِيهَا مَا دَا َمتِ ال ّ
[هود.]107-105 :
فكأن الحق سبحانه وتعالى استثنى من الخلودِ } :إلّ مَا شَآءَ رَ ّبكَ { تفيد أن الخلود عندهم تنتهي.
ما دام هناك استثناء؛ فالستثناء ل بد له من زمن ،والزمن مستثنى من الخلود وعلى ذلك ل يكون
الخولد تأبيديا.
وعلينا أن نتناول اليات بهذه الروح ،وفي هذه المسألة نجد وقفة لعالم من أعلم العقائد في
العصر العباسي هو عمرو بن عبيد ،وكان عمرو من العلماء الذين اشتهروا بالمحافظة على
كرامة العلم وعزة العلماء لدرجة أن خليفة ذلك الزمان قال عنه وسط بعض المنتسبين إلى العلم" :
كلهم طالب صيد إل عمرو بن عبيد " وقد كانت منزلته العلمية عالية ونفسه ذات عزة إيمانية تعلو
على صغائر الحياة .وكان عمرو بن عبيد دقيق الرأي ،ويحكى عنه قيس بن أنس هذه الحكاية:
كنت في مجلس عمرو بن عبيد فإذا بعمرو بن عبيد يقول " :يؤتى بي يوم القيامة فيقال لي :لم
جهَنّمُ خَالِدا فِيهَا { وكان يجب أن
قلت بأن قاتل العمد ل توبة له .قال :فقرأت الية } :فَجَزَآ ُؤهُ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يلتفت عمرو بن عبيد إلى أن اللهام الذي جاءه أو الرؤيا التي أراها له ال بأنه سوف يؤتي به
يوم القيامة ليسأل لماذا أفتى بأل توبة لقاتل العمد ،كان يجب أن يلتفت إلى أن ذلك يتضمن أن
لقاتل العمد توبة؛ لن سؤاله عن ذلك يوم القيامة يشير إلى عتاب في ذلك.
نقول ذلك لنعرف أنّ الحق سبحانه وتعالى جعل فوق كل ذي علم عليما ..ولكنّ عمرا ذكر ما جاء
جهَنّمُ خَالِدا فِيهَا { .وقال قيس بن أنس :وكنت أصغر الجالسين سنا،
في قول الحق } :فَجَزَآ ُؤهُ َ
جهَنّمُ خَالِدا فِيهَا { وقلت أيضا {:إِنّ اللّهَ لَ َي ْغفِرُ
فقلت له :لو كنت معك لقلت كما قلتَ } :فجَزَآ ُؤهُ َ
أَن يُشْ َركَ ِب ِه وَ َيغْفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَن يَشَآءُ }[النساء.]48 :
قال قيس :فوال ما رد على عمرو بن عبيد ما قلت :ومعنى ذلك موافقة عمرو بن عبيد.
ماذا تفيد هذه؟ .تفيد أل نأخذ كلمة } خَالِدا فِيهَا { بمعنى التأبيد الذي ل نهاية له؛ لن ال قد استثنى
من الخلود في آية أخرى.
والحق سبحانه وتعالى بعد أن شرح حكم القتل العمد والقتل الخطأ ،بحث العلماء ووجدوا أن هناك
قتلً اسمه " شبه العمد " أي أنه ل عمد ول خطأً ،كأن يأتي إنسان إنسانا آخر ويضربه بآلة ل
تقتل عادة فيموت مقتولً ،وهنا يكون العمد موجودا ،فالضارب يضرب ،ويمسك بآلة ويضرب
بها ،وصادف أن تقتل اللة التي ل تقتل غالبا ،وقال العلماء :القتل معه ل به ،فل قصاص ،ولكن
فيه دية.
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح :بعد ما حدث وحدثتكم عن القتل بكل صوره وألوانه سواء
أكان القتل مباحا كقتل المسلمين الكافرين في الحرب بينهما ،أم القتل العمد ،أم القتل الخطأ ،أم
القتل شبه العمد ،لذلك ينبهنا :يجب أن تحتاطوا في هذه المسألة احتياطا لتتبينوا أين تقع سيوفكم
من رقاب إخوانكم ،فيقول } :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْ ُتمْ.{ ...
()374 /
ستَ ُم ْؤمِنًا
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلَا َتقُولُوا ِلمَنْ أَ ْلقَى إِلَ ْيكُمُ السّلَامَ لَ ْ
تَبْ َتغُونَ عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َفعِنْدَ اللّهِ َمغَانِمُ كَثِي َرةٌ كَذَِلكَ كُنْ ُتمْ مِنْ قَ ْبلُ َفمَنّ اللّهُ عَلَ ْي ُكمْ فَتَبَيّنُوا إِنّ اللّهَ
كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا ()94
فيأيها المؤمنون حين تضربون في سبيل ال فتبينوا وتثبتوا فل تعمل سيوفكم أو رماحكم أو
ستَ ُم ْؤمِنا تَبْ َتغُونَ عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ
لمَ لَ ْ
سهامكم إل بعد أن تتثبتواَ { :ولَ َتقُولُواْ ِلمَنْ أَ ْلقَى إِلَ ْي ُكمُ السّ َ
الدّنْيَا َفعِ ْندَ اللّهِ َمغَانِمُ كَثِي َرةٌ كَذاِلكَ كُنْتُمْ مّن قَ ْبلُ َفمَنّ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
خَبِيرا }.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فهذه آية تجمع بين كل المعاني ،ففيها الحكم وحيثيته والمراد منه ،وسبحانه يبدأها بقوله { :يَا
أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } ،والخطاب اليماني حيثية اللتزام بالحكم ،فلم يقل " :يا أيها الناس إذا ضربتم
فتبينوا " ،ولكنه قال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ } ،فهو يطلب
المؤمنين به بحكم لنهم آمنوا به إلها ،وما داموا قد آمنوا فعليهم اتباع ما يطلبه ال .فحيثية كل
حكم من الحكام أن المؤمن قد آمن بمن أصدر الحكم ،فإياك أيها المؤمن أن تقول " :ما العلة " أو
" ما الحكمة " وذلك حتى ل تدخل نفسك في متاهة .ول نزال نكرر هذه المسألة ،لن هذه المسألة
تطفو في أذهان الناس كثيرا ،ويسأل بعضهم عن حكمة كل شيء ،ولذلك نقول :الشيء إذا عرفت
حكمته صرت إلى الحكمة ل إلى المر بالحكم.
ونرىالن المسرفين على أنفسهم الذين ل يؤمنون بإله ،أو يؤمنون بال ولكنهم ارتكبوا الكبائر من
شهادة زور ،إلى ربا ،إلى شرب خمر ،وعندما يحلل الطباء للكشف عن كبد شارب الخمر -
على سبيل المثال -نجده قد تليف ،وأن أي جرعة خمر ستسبب الوفاة .هنا يمتنع عن شرب
الخمر .لماذا امتنع؟ .لنه عرف الحكمة .وقد يكون قائلها له مجوسيا ،فهل كان امتناعه عن الحكم
تنفيذا لمر إلهي؟ .ل ،ولكن المؤمن يمتنع عن الخمر لنها حرمت بحكم من ال والمؤمن ينفذ كل
الحكام حتى في الشياء غير الضارة ،فمن الذي قال :إن ال ل يحرم إل الشيء الضار؟ إنه قد
يحرم أمرا تأديبا للنسان .ونضرب هذا المثل -ول المثل العلى -نجد الزوج يقول لزوجه:
إياك أن تعطي ابننا بعضا من الحلوى التي أحضرتها .هو يحرم على ابنه الحلوى ل لنها ضارة،
ولكنه يريد تأديب البن والتزامه.
ظلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِّلتْ َل ُهمْ }[النساء.]160 :
والحق يقول {:فَبِ ُ
فالذي يذهب إلى تنفيذ حكم ال إنما يذهب إليه لن ال قد قاله ،ل لن حكمة الحكم مفيدة له ،فلو
ذهب إنسان إلى الحكم من أجل فائدته أو ضرره فإن اليمان يكون ناقصا ،وال يدير في كثير من
الوقات حكمته في الحكام حتى يرى النسان وجها من الوجوه الل نهائية لحكمة ال التي خفيت
عليه ،فيقول النسان :أنا كنت أقف في حكمة كذا ،ثم بينت لي الحداث واليام صدق ال فيما
قال.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخلق ،فحين يحبون أن يُخرجوا خيراتها؛ يقومون بحرثها حتى يهيجوها ،ويرموا البذور ،وبعد
ذلك الرّي .ومن بعد ذلك تخرج الثمار ،وهذه هي عملية إثارة الرض .إذن كل حركة تحتاج إلى
ضلِ اللّهِ }[المزمل:
شدة ومكافحة ،والحق يقول {:وَآخَرُونَ َيضْرِبُونَ فِي الَ ْرضِ يَبْ َتغُونَ مِن َف ْ
.]20
وما دامت المسألة ضربا في الرض فهي تحتاج إلى عزم من النسان وإلى قوة.
ولذلك يقال :الرض تحب من يهينها بالعزق والحرث .وكلما اشتدت حركة النسان في الرض
أخرجت له خيرا .والضرب في سبيل ال هو الجهاد ،أو لعداد مقومات الجهاد .والحق سبحانه
طعْتُمْ مّن ُق ّوةٍ }[النفال.]60 :
يقول لنا {:وَأَعِدّواْ َل ُهمْ مّا اسْ َت َ
فالعداد هو أمر يسبق المعارك ،وكيف يتم العداد؟
أن نقوم بإعداد الجسام ،والجسام تحتاج إلى مقومات الحياة .وأن نقوم بإعداد ال ُعدُد .والعدد
تحتاج إلى بحث في عناصر الرض ،وبحث في الصناعات المختلفة لنختار الفضل منها .وكل
عمليات العداد تطلب من النسان البحث والصنعة .ولذلك يقال في الثر الصالح:
" إن السهم الواحد في سبيل ال يغفر ال به لربعة ".
لماذا؟ .لن هناك إنسانا قام بقطع الخشب الذي يتم منه صناعة السهم وصقله ،وهناك إنسان وضع
للسهم الريش حتى يطيره إلى المام ،وهناك واضع النّبْل ،وهناك من يرمي السهم بالقوس.
والحق يريد منا أن نكون أقوياء حتى يكون الضرب منا قويا ،فيقولِ } :إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
فَتَبَيّنُواْ { ونعرف أن الضرب في سبيل ال ل يكون في ساعة الجهاد فقط ،ولكن في كل أحوال
الحياة؛ لن كل ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب .و " تبينوا " تعني أل تأخذوا المور
بظواهرها فل تمضوا أمرا أو تعملوا عملً إل إذا تثبتم وتأكدتم حتى ل يصيب المؤمنون قوما
بظلم.
ولهذا المر قصة " ،كان هناك رجل اسمه " محلّم بن جَثّامة " ،وكان بينه وبين آخر اسمه "
عامر بن الضبط الشجعي " إحن -أي شيء من البغضاء -وبعد ذلك كان " محلم " في سرية،
وهي بعض من الجند المحدود العدد وصادف " عامرا الشجعي " ،وكان " عامر " قد أسلم ،لذلك
ألقى السلم إلى " محلّم " فقال " محلم " :إن عامرا قد أسلم ليهرب مني .وقتل محلم عامرا .وذهب
إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وسأله الرسول :ولماذا لم تتبين؟ .ألم يلق إليك السلم ،فكيف
تقول إنه يقول " :السلم عليكم " لينقذ نفسه من القتل؟
فقال " :محلّم " :استغفر لي يا رسول ال.
وإذا ما قال أحد لرسول ال :استغفر لي يا رسول ال ..فرسول ال ببصيرته اليمانية يعرف على
الفور حالَ طالبِ الستغفار ،فإن قال رسول ال " :غفر ال لك " فهو يعلم أنه كان معذورا ،وإن
لم يقل رسول ال ذلك ،فيعرف طالب الستغفار أنه مذنب .ولن بين " محلم " و " عامر " إحنا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعداوات قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لمحلم " :ل غفر ال لك "؛ لن الرسول صلى ال
عليه وسلم علم أن الحَنَ والبغضاء هي التي جعلته ل يدقق في أمر " عامر ".
وقال الرواة :ومات محلّم بعد سبعة أيام من هذه الحادثة ،ودفنوه فلفظته الرض .فجاءوا إلى النبي
صلى ال عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال " :إن الرض تقبل مَن هِو شر من صاحبكم ولكن ال
أراد أن يعظكم ،ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة " ".
وعندما كانت تأتي آية مخالفة لنواميس الدنيا المفهومة للناس فالنبي يريد أل يفتتن الناس في هذه
اليات ،ومثال ذلك عندما مات إبراهيم ابن النبي ..انكسفت الشمس ..وقال الناس :انكسفت
الشمس من أجل ابن رسول ال .ولكن لن المسألة مسألة عقائد فقد وضحها رسول ال صلى ال
عليه وسلم كما جاء في الحديث الشريف:
عن المغيرة بن شعبة قال :كسفت الشمس على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم مات
إبراهيم ،فقال الناس :كسفت الشمس لموت إبراهيم ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن
الشمس والقمر ل ينكسفان لموت أحد ول لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا ال ".
لقد قالوا ذلك تكريما لرسول ال وابنه إبراهيم ،ولكن الرسول يريد أن يصحح للناس مفاهيمهم
وعقائدهم .وكذلك عندما لفظت الرض " محلم " حتى ل يفتتن أحد ول يقولن أحد .إن كل من ل
تلفظه الرض هو حسن العمل ،فهناك كفار كثيرون قد دفنوا ولم يلفظوا .لذلك قال رسول ال :إن
الرض قبلت من هو شر من " محلم " ولكن ال أراد أن يعظ الناس حتى ل يعودوا لمثلها ،ولو لم
يقل ذلك ،فماذا كان يحدث؟ .قد تحدث هِزة قليلة في جزئية ولظن الناس وقالوا :إن كل من لم
تلفظه الرض فهو حسن العمل ،ولكان أبو جهل في حال ل بأس به ،وكذلك الوليد بن المغيرة.
لكن الرسول صلى ال عليه وسلم يضع مثل هذه المور في وضعها الصحيح؛ لذلك قال :إن
الرض تقبل من هو شر من " محلم " ،ولكن ال أراد أن يعظ القوم ألّ يعودوا.
ستَ ُم ْؤمِنا
} يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُو ْا َولَ َتقُولُواْ ِلمَنْ أَ ْلقَى إِلَ ْيكُمُ السّلَمَ لَ ْ
{.
وعلى ذكر ذلك قال لي أخ كريم :كنت أسمع إحدى الذاعات وأخطأوا وقالوا (فتثبتوا) بدل من
(فتبينوا) في قوله الحق {:إِن جَآ َءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُواْ }[الحجرات.]6 :
وأقول :هذه قراءة من القراءات ،والمعاني دائما ملتقية ،فـ " تبين " معناها " طلب البيان ليَثبت ".
ونعرف أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف ،وكتابة القرآن كانت بغير نقط وبغير شكل ،وهذا
حال غير حالنا؛ حيث نجد الحروف قد تم تشكيلها بالفتحة والضمة والكسرة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونحن نعرف أن هناك حروفا مشتبهة الصورة .فـ " الباء " تتشابه مع كل من " الياء " ،والـ "
نون " والـ " تاء " والـ " ثاء " ،ولم تكن هذه النقط موجودة ،ولم تكن هذه العلمات موجودة
قبل الحجاج الثقفي ،وكانوا يقرأون من ملكة العربية ومن تلقين واتباع للوحي ،ولذلك " :فتبينوا "
ممن تتكون؟ تتكون من " :الـ " فاء " ولم يحدث فيها خلف ،والـ " تاء " وبقية الحروف هي
الـ " باء " والـ " ياء " والـ " نون ".
وكل واحدة من هذه الحرف تصلح أن تجعلها " تثبتوا " بوضع النقاط أو تجعلها " تبينوا " ،إنه
خلف في النقط .ولو حذفنا النقط لقرآناها على أكثر من صورة ،والذي نتبعه في ذلك هو ما ورد
عن الوحي الذي نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
ولذلك عندما جاءوا بشخص لم يكن يحفظ القرآن وأحضروا له مصحفا ليقرأ ما فيه فقال( :صنعة
ال ومن أحسن من ال صنعة).
ولم يحدث خلف في الـ " صاد " ولكن حدث خلف في الـ " باء " فهي صالحة لتكون باءً أو
نونا ،وكذلك " الغين " يمكن أن تكون " عيْنا " وقراءة هذه الية في قراءة " حفص " {.صِ ْبغَةَ اللّهِ
َومَنْ َأحْسَنُ مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَةً }[البقرة.]138 :
وعندما قرأها النسان الذي ل يجيد حفظ القرآن قال( :صنعة ال ومن أحسن من ال صنعة).
والمعنى واحد.
ولكن قراءة القرآن توقيفية ،واتباع للوحي الذي نزل به جبريل -عليه السلم -من عند ال على
رسوله -صلى ال عليه وسلم -ول يصح لحد أن يقرأ القرآن حسب ما يراه وإن كانت صورة
الكلمة تقبل ذلك وتتسع له ول تمنعه ،ولذا قالوا :أن للقراءة الصحيحة أركانا هي:
- 1أن تكون موافقة لوجه من وجوه اللغة العربية.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[الحجرات.]6 :
و " التبين " القصد منه التثبت ،والتبين يقتضي الذكاء والفطنة فيرى ملمح إيمان من ألقى إليه
بالسلمَ {:ولَ َتقُولُواْ ِلمَنْ أَ ْلقَى إِلَ ْيكُمُ السّلَمَ }[النساء.]94 :
فالمسلم يجب أن يفطن كيل يأخذ إنسانا بالشبهات ،ولذلك نجد النبي يحزم المر مع أسامة بن زيد
الذي قتل واحدا بعد أن أعلن هذا الواحد إسلمه ،فقال له النبي صلى ال عليه وسلم " :فكيف بل
إله إل ال .هل شققت عن قلبه ".
ويقول إسامة للرسول :لقد قال الشهادة ليحمي نفسه من الموت .وتكون الجابة :هل شققت قلبه
فعرفت ،فكيف بل إله إل ال؟! فلقول " :ل إله إل ال " حرمة.
وقد روى أن الذي نزلت فيه هذه الية هو محلم بن جثامة ،وقال بعضهم :أسامة بن زيد ،وقيل
ستَ ُم ْؤمِنا { وقال:
لمَ لَ ْ
غير ذلك .عن ابن عباس رضي ال عنهما } َولَ َتقُولُواْ ِلمَنْ أَ ْلقَى إِلَ ْي ُكمُ السّ َ
كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال :السلم عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته ،فأنزل ال في
ستَ ُمؤْمِنا {.
ذلك } :وَلَ َتقُولُواْ ِلمَنْ َأ ْلقَى إِلَ ْيكُمُ السّلَمَ َل ْ
وأهل العلم بال يقولون :نجاة ألف كافر خير من قتل مؤمن واحد بغير حق.
وجاء في بعض الروايات الخرى أنه المقداد ،وذلك فيما رواه البزار بسنده عن ابن عباس رضي
ال عنهما قال :بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم سرية فيها المقداد بن السود فلما أتوا القوم
وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ،فقال أشهد أن ل إله إل ال ،وأهوى إليه
المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه :أقتلت رجل شهد أن ل إله إل ال ،وال لذكرن ذلك للنبي
صلى ال عليه وسلم ،فلما قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسلم قالوا يا رسول ال :إن
رجل شهد أن ل إله إل ال فقتله المقداد فقال :ادعوا لي المقداد.
يا مقداد أقتلت رجل يقول :ل إله إل ال؟ فكيف لك بل إله إلا ال غدا؟ قال :فأنزل ال } يَا أَ ّيهَا
الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْ ُتمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ {.
ستَ ُم ْؤمِنا
} يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُو ْا َولَ َتقُولُواْ ِلمَنْ أَ ْلقَى إِلَ ْيكُمُ السّلَمَ لَ ْ
تَبْ َتغُونَ عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا { و " ألقي إليكم السلم " يعني جاءكم مستسلما ،أو قال تحية
المسلمين ،وليس من حق أن يلقي التهام بعدم اليمان على من جاء مسلما ،أو يقول بتحية
السلم.
وكلمة " عرض " إذا ما سمعناها ،فلنعلم أنها في المعنى اللغوي :كل ما يعرض ويزول وليس له
دوام أو استقرار أو ثبات .ونحن البشر أعراض؛ لنه ليس لنا دوام أبدا ،ويقال :إن النسان
عرض إذا ما قاس الواحد منا نفسه بالنسبة للكون؛ لن الكون ل يتم بناؤه على النسان؛ فالكون
كله الذي نراه هو عرض وسيأتي يوم ويزول.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والعرض بالنسبة للنسان أن الواحد منا قد يرى نفسه صحيحا أو سقيماَ ،هنا تكون الصحة عرضا
وكذلك المرض ،وكذلك السمنة والنحافة ،ولون البشرة إذا ما لوحته الشمس قد يتغير أبيض إلى
أسمر ،وكذلك الغنى والفقر .وكل شيء يمكن أن يذهب في النسان ويجيء هو عرض بالنسبة
للنسان ،ويكون النسان جوهرا بالنسبة له .فإذا قسنا النسان بالنسبة إلى ثابت عنه ،فالنسان
للِ
عرض ،فهذا أمر نسبي ،وإلّ فكل شيء عرض ،وكل شيء زائل } وَيَبْقَىا وَجْهُ رَ ّبكَ ذُو الْجَ َ
وَالِكْرَامِ {.
ستَ ُم ْؤمِنا تَبْ َتغُونَ عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا { .وعرض الحياة الدنيا
لمَ لَ ْ
} َولَ َتقُولُواْ ِلمَنْ أَ ْلقَى ِإلَ ْيكُمُ السّ َ
هنا هو أن يطمع القاتل فيما يملكه الذي يلقي السلم ،وقد يكون عرض الحياة الدنيا -هنا -هو
كبرياء نفس النسان عندما ينتقم من إنسان بينه وبينه إحن أو بغضاء.
وعندما نجد كلمة " عرض " وهذا العرض في " الحياة الدنيا " نفهم -إذن -أنه عرض فيما ل
قيمة له .ولذلك نجد الشاعر يعبر عن مشاعر النسان حينما يحزن لفقدان شيء كان عنده ،وينسى
النسان أنه هو شخصيا معرض للموت ،أي للذهاب عن الدنيا فيقول:نفسي التي تملك الشياء
ذاهبة فكيف آسي على شيء لها ذهباوكذلك عرض الحياة الدنيا .ونفهم كلمة " دنيا " على أساس
الشتقاق ،فهي من " الدنو " ومقابله " العلو " ومقابل " الدنيا " هو " العليا " .ومن ُيقَوّم عرض
الحياة الدنيا التقويم الصحيح فهو يملك الذكاء والحكمة والفطنة؛ لذلك ل يأخذ هذا العرض ممن
سيقتله عندما يلقي إليه بالسلم؛ لنه يستخدم البصيرة اليمانية ويأخذ الحياة الدنيا ممن خلقها.
والعاقل حتى لو أراد الحياة الدنيا فهو يطلبها من صاحب الحياة كلها ،ول يأخذها من إنسان مثله،
فالحياة الدنيا ل تنفعه؛ بدليل أنه معرض للقتل.
} تَبْ َتغُونَ عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َفعِ ْندَ اللّهِ َمغَا ِنمُ كَثِي َرةٌ { والحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب النفس
البشرية التي خلقها ،ويعلم تعلقها بالشياء التي تنفعها أو تطيل نفعها ،مثال ذلك :أنّ النسان يكون
سعيدا إذا ما ملك غداءه ،وتكون سعادته أكثر إذا امتلك الغداء والعشاء ،ويكون أكثر سعادة
واطمئنانا عندما يملك في مخزن طعامه ما يقيت شهرا أو عاما ،ويكون أكثر إشراقا عندما يمتلك
أرضا يأخذ منها الرزق ،ويمتلكها أولده من بعده.
إذن فالنسان يحب الحياة لنفسه ،ويحب امتداد حياته في غيره ،ولذلك يحزن النسان عندما ل
يكون له أولد؛ فهو يعرف أنه ميت ل محالة ،لذلك فهو يتمنى أن تكون حياته موصولة في ابنه،
وإن جاء لبنه ابن وصار للنسان حفيد فهو يسعد أكثر؛ لن ذكره يوجد في جيلين .ونقول لمثل
هذا النسان :لنفرض أنك ستحيا ألف جيل ،لكن ماذا عن حالتك في الخرةَ ،ألَ تُ َنشّئ ولدك على
الصلح حتى يدعو لك؟
ولذلك يفاجئ الحق النفس البشرية التي تهفو إلى المغانم ،ويكشفها أمام صاحبها ،فيأتي بالحكم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي يُظهر الخواطر التي تجول في النفس ساعة سماع الحكم .وعندما أراد سبحانه أن يُحرم
دخول المشركين البيت الحرام ،وسبحانه يعلم خفايا النفوس؛ لن المشركين حين يدخلون البيت
الحرام بتجاراتهم وأموالهم إنما يدخلون مكة من أجل موسم اقتصادي يبيعون فيه البضائع التي
يعيشون من ريعها وربحها طوال العام .وساعة يحرم سبحانه دخول المشركين إلى البيت الحرام،
يعلم أن أهل الحرم ساعة يسمعون هذا الحكم سيتذكرون مكاسبهم من التجارة ،فقال {:إِ ّنمَا
سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَـاذَا }[التوبة.]28 :
ا ْلمُشْ ِركُونَ نَجَسٌ فَلَ َيقْرَبُواْ ا ْلمَ ْ
خفْتُمْ
وقبل أن يقول أهل الحرم في أنفسهم :وكيف نعيش ونصرف بضائعنا؟ ،يتابع سبحانه {:وَإِنْ ِ
سوْفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ }[التوبة.]28 :
عَيْلَةً َف َ
وبذلك يكشف الحق أمام النفوس خواطرها الدفينة؛ فهو العليم بأن الحكم ساعة ينزل ما الذي
سيحدث في أذهان سامعيه؛ فهو خالقهم ،ولذلك فل أحد له من بعد ذلك تعليق!
وقوله الحق } :تَبْ َتغُونَ عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا { ينطبق في كل عصر وفي كل زمان .ويقول الحق
بعد ذلكَ } :فعِنْدَ اللّهِ َمغَانِمُ كَثِي َرةٌ { .فسبحانه الرزّاق الوهاب .ولذلك أنا أحب أن يزين الناس
س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ }
خفْتُمْ عَيْلَةً فَ َ
أماكنهم ومساكنهم بلوحات فنية مكتوب عليها {:وَإِنْ ِ
[التوبة.]28 :
وكذلك قول الحق {:تَبْ َتغُونَ عَ َرضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َفعِنْدَ اللّهِ َمغَانِمُ كَثِي َرةٌ }[النساء.]94 :
لعل ذلك يمس قلوب من بيدهم المر ،فيلتفتوا إلى ال .وبعد ذلك يقول الحق } :كَذاِلكَ كُنْتُمْ مّن
قَ ْبلُ َفمَنّ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرا {.
وفي هذا دعوة لن يمر من نزل فيهم القرآن بتاريخهم القريب ويسترجعوا ماضيهم ،فلماذا يتهم
المسلم أخاه الذي يلقي السلم بأنه مازال كافرا ول يفكر أن الذي ألقى إليه السلم هو إنسان يستر
إسلمه بين أهله لنهم كفار؟ وكان المسلم يمر بهذه الحالة عند بداية السلم؛ كان المسلم يستر
إسلمه عن أهله الذين كانوا كافرين.
وكان المسلمون الوائل قلة مستذلة تداري إيمانها ،فهل سلط ال عليهم أحدا يجترئ على التفتيش
على النوايا؟ إذن فمثلما حدث لكم قدروه لخوانكم.
} كَذاِلكَ كُنْتُمْ مّن قَ ْبلُ َفمَنّ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ { والحق يمن عليهم بأنهم صاروا أهل رفعة بكلمة السلم،
وصار المسلم منهم يمشي عزيز الجانب ول يجرؤ واحد أن يوجه إليه أي شيء .ويأتي سبحانه
هنا بكلمة " فتبينوا " مرة أخرى بعد أن قالها في صدر الية .وكان مقصودا بها أل يقتل مسلم
إنسانا ألقى السلم لمجرد أن المسلم يفكر في المسألة القتصادية ،وها هوذا يعيد سبحانه كلمة "
تبينوا " ،لقد جاءت أولً كتمهيد للحيثية ،وهي قوله } :تَبْ َتغُونَ عَ َرضَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا { وتأتي هاهنا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نتيجة للحيثية } فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرا {.
وسبحانه حين يشرع ل يشرع عن خلء ،لكنه خبير بكل ما يصلح النفس النسانية ،ول يعتقدن
أحد أنه خلقنا ثم هدانا إلى اليمان ليخذلنا في نظام الحياة ،بل خلقنا وأعطانا المنهج لنكون
نموذجا ،وليرى الناس جميعا أن الذي يحيا في رحاب المنهج تدين له الدنيا.
} إِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرا { .كأن الحق يقول :إياك أن تستر بلباقتك شيئا وتخلع عليه أمرا
غير حقيقي؛ لن الذي تطلب جزاءه هو الرقيب عليك والحسب ،ويعلم المسألة من أولها إلى
آخرها .فالذي قتل إنسانا ألقى إليه السلم ،لم يقتله لنه لم يُسلم ،ولكن لن بينهما إحنا وبغضاء،
وعليه أن يعرف أن ال عليم بما في النفوس.
ويريد الحق أن يتثبت المؤمن من نفسه حين يوجهها إلى قتل أحد يشك في إسلمه أو في إيمانه،
وحسبه من التيقن أن يبدأه صاحبه بالسلم ،ويُ َذكّر الحق سبحانه المؤمنين بأنهم كانوا قبل ذلك
يستخفون من الناس باليمان وكانوا مستترين.
فإذا كنتم أيها المؤمنون قد حدث لكم ذلك فاحترموا من غيركم أن يحصل منه ذلك ،وثقوا تمام
الثقة أن ال عليم خبير ،ل يجوز عليه -سبحانه -ول يخفي عليه أن يدس أحدكم الحن النفسية
ليُبرر قتل إنسان مسلم كانت بينه وبين ذلك المسلم عداوة.
وبعد أن تكلم الحق عن قتال المؤمنين للكافرين ،وبعد أن تكلم عن تحريم قتل المؤمن للمؤمن حتى
ل يفقد المؤمنون خلية اليمان ،بل تكون حياة كل مؤمن خيرا للحركة اليمانية في الرض ،لذلك
علينا أن نحافظ على حياة كل فرد مؤمن لنه سيساعدنا في اتساع الحركة اليمانية ،فإن حدث أن
قتل مؤمن مؤمنا خطأ ،فقد بين سبحانه وتعالى الحكم في الية رقم 92من سورة النساء.
وبعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين الفارق بين من قعد عن الجهاد في سبيل ال ومن
جاهد فقال سبحانه } :لّ يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ.{ ...
()375 /
س ِهمْ
لَا يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضّرَ ِر وَا ْل ُمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَنْفُ ِ
ضلَ اللّهُ
حسْنَى َو َف ّ
ج ًة َوكُلّا وَعَدَ اللّهُ الْ ُ
سهِمْ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ دَرَ َ
ضلَ اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ
َف ّ
ا ْلمُجَا ِهدِينَ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ َأجْرًا عَظِيمًا ()95
ولهذه الية قصة ..واقتناص الخواطر من هذه القصة يتطلب يقظة تعلمنا كيف يخاطب الحق
خلقه .فقد حدثنا سيدنا زيد بن ثابت وهو المأمون على كتابه وحي رسول ال .وهو المأمون على
جمع كتاب ال من اللخاف ومن العظام ومن صدور الصحابة ،حدثنا فقال:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
-كنت إلى جنب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فغشيته السكينة -وهذه كانت دائما تسبق نزول
الوحي على رسول ال -فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن تَ ُرضّها.
أي أن فخذ رسول ال كانت ثقيلة.
والوحي ساعة كان يأتي رسول ال صلى ال عليه وسلم ربّما كان يصنع في كيماوية رسول ال
تأثيرا ماديا بحيث إذا كان على دابة عرف الناس أنه يوحي إليه؛ لن الدابة كانت تئط تحته فإذا
كانت فخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم على فخذ زيد بن ثابت ،فل بد أن يشعر سيدنا زيد بثقل
فخذ رسول ال وقد جاءه الوحي .قال زيد :خشيت أن ترضّ فخذه فخذي -أي تصيبها بالدّق
ن وَا ْلمُجَاهِدُونَ " ،
الشديد أو الكسر .فلما سُري عنه قال اكتب " :لّ يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِي َ
فقال سيدنا ابن أم مكتوم ،وكان -كما نعلم -ضريرا مكفوف البصر قال :فكيف بمن ل يستطيع
الجهاد من المؤمنين يا رسول ال؟
إنها اليقظة اليمانية من ابن أم مكتوم ،لنه فهم موقفه من هذا القول ،ومن أنه ل يستطيع الجهاد،
وعلم أنه إن كانت الية ستظل على هذا فلن يكون مستويا مع من جاهد ،ولهذا قال قولته اليقظة:
فكيف بمن ل يستطيع ذلك يا رسول ال؟
فأخذت رسول ال السكينة ثانيةً ،ثم سرى عنه ،فقال لزيد بن ثابت :اكتب:
{ لّ يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَرِ وَا ْل ُمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ }.
فكأنها نزلت جوابا مطمئنا لمن ل يستطيع القتال مثل ابن أم مكتوم .،ولقائل أن يقول :وهل كانت
الية تنتظر أن يستدرك ابن أم مكتوم ليقول هذا؟.
ونقول :إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن ينبه كل مؤمن أنه حين يتلقى كلمة من ال أن يتدبر
ويتبيّن موقعه من هذه الكلمة؛ فإذا كان ذلك حال سيدنا ابن أم مكتوم فيما سمع رسول ال عن ربه
فهو يعلمنا كيف نستحضر دورنا من أية قضية نسمعها .وحينما سمع ابن أم مكتوم الية رأي
موقفه من هذه الية ،وهذا ما يريده الحق من خلقه.
وقال زيد بن ثابت :فكتبتها.
إنها الدقة في أداء زيد بن ثابت لتدلنا على صدق الرواية ،فحين يكتب أولً { لّ يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ
مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَ ِر وَا ْلمُجَاهِدُونَ } أل تلتصق كلمة " والمجاهدون " بكلمة " المؤمنين
" فإذا زاد الحق سبحانه وتعالى { غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَرِ } فأين تكتب؟
كأن زيد بن ثابت كان عليه أن يقوم بتصغير الكتابة ليكتب { غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَرِ } بين كلمة { مِنَ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } وكلمة { وَا ْل ُمجَاهِدُونَ }.
قال سيدنا زيد بن ثابت :لقد نزلت } غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَرِ { وحدها وكأني أنظر إلى ملحقها عند
صدع الكتف -فقد كانوا يكتبون على أكتاف العظم -والكتف التي كتب عليها سيدنا زيد بن ثابت
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كانت مشروخة وكانت هذه علمة بها.
ويريد الحق بذلك أن ينبه المؤمنين إلى أنهم حين يتلقون كتاب ال يجب أن يتلقوه بيقظة إيمانية
بحيث ل تسمع آذانهم إل ما يمر على عقولهم أولً ليفهم كل مؤمن موقفه منها ،وتمر الية على
قلوبهم ثانية لتستقر في ذاتهم عقيدة.
كذلك كانت قصة زيد بن ثابت وابن أم مكتوم والوحي في هذه الية:
} لّ يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَرِ وَا ْل ُمجَاهِدُونَ {.
وهناك حالت يأتي الفعل فل يصلح له فاعل واحد بل ل بد له من اثنين ..مثال ذلك عندما نقول:
تشارك زيد وعمرو .وعندما نصف لعبي الكرة ،نجد من يتلقف الكرة واحدا بعد الخر ،فنقول:
تلقف اللعبون الكرة رجلً بعد رجل.
وعندما يقول الحق } :لّ َيسْ َتوِي { فهذا يدل على أن هناك شيئين ل يتساويان ،فأيهما غير
المساوي للخر؟ .كلهما ل يتساوى مع الخر ،ولذلك يكون الثنان في العراب " فاعل " ،فل
يساوي المجاهدون القاعدين ول يساوي القاعدون المجاهدين؛ لن كل منهما فاعل ومفعول.
وعندما يقول } :لّ يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { فما هو مقابل " القاعدين " في الية الكريمة؟
إنه " المجاهدون " ،لكن المقابل في الحياة العادية للـ " القاعدين " هو " القائمون " ،ومقابل "
المجاهدين " هو " غير المجاهدين " .وبذلك كان من الممكن القول .ل يستوي القاعدون والقائمون،
أو أن يقال :ل يستوي المجاهدون وغير المجاهدون .فما الحكمة في مجيء القاعدين والمجاهدين؟
إن الحق يريد أن يبين أنه في بداية السلم كان كلمؤمن حين يدخل السلم يعتبر نفسه جنديا في
حالة تأهب ،وكانوا دائما على درجة استعداد قصوى ليلبوا النداء فورا؛ فالمسلم لم يكن في حالة
استرخاء ،بل في تأهب وكأنه واقف دائما ليلبي النداء ،وكأن القاعد هو الذي ليس من صفوف
المؤمنين ويبين لنا ذلك قول الرسول عليه الصلة والسلم " :من خير معاش الناس لهم رجل
ممسك عنان فرسه في سبيل ال يطير على متنه ،كلما سمع هَ ْيعَةً أو فزعه طار إليها يبتغي القتل
والموت مَظَانّه ،أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف ،أو بطن واد من هذه الوْدية
يقيم الصلة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ،ليس من الناس إل في خير ".
فإن لم يكن المؤمن متأهبا فهو قاعد ،والقاعد -كما نعرف -هو ضد القائم.
والحق يقول {:فَا ْذكُرُواْ اللّهَ قِيَاما َو ُقعُودا }[النساء.]103 :
من هذا القول نعرف أن المقابل للقيام هو القعود.
وعلينا أن نعرف أن لكل لفظ معنىً محددا ،فبعضنا يتصور أن القعود كالجلوس ،ولكن الدقة
تقتضي أن نعرف أن القعود يكون عن قيام ،وأن الجلوس يكون عن الضطجاع ،فيقال :كان
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مضطجعا فجلس ،وكان قائما فقعد.
وعندما يقول الحق هنا } :لّ يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَرِ { فالقعود مقابل
القيام ،فكأن المجاهد حالته القيام دائما ،وهو ل ينتظر إلى أن يقوم ،لكنه في انتباه واستعداد.
ويوسع الحديث الشريف الدائرة في مسئوليات المجاهد فيرسم صورة للمقاتل أنه على أتم استعداد
وعلى صهوة الفرس وممسك باللجام حتى ل تدهمه أية مفاجأة.
وهل كانت هناك مظنة أن يستوي القاعد والمجاهد؟ .ل ،ولكن يريد ال أن يبين قضية إيمانية
مستورة ،فيظهرها بشكل واضح لكل الفهام.
ونحن نقول للطالب " :إن من يستذكر ينجح ومن ل يستذكر يرسب " وهذه مسألة بديهية ،لكننا
نقولها حتى نجعلها واضحة في بؤرة شعور التلميذ فيلتفت لمسئولياته.
وعندما يقول الحق } :لّ َيسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَ ِر وَا ْلمُجَا ِهدُونَ فِي سَبِيلِ
ل واحدا في زمن رسول ال كان يظن المساواة بين القاعد والمجاهد؟
اللّهِ { هل معنى ذلك أن عق ً
ل ،ولكن الحق يريدها قضية إيمانية في بلغ إيماني من ال .وبعد ذلك يلفت النظار إلى صفة
القاعدين الذين ل يستوون مع المجاهدين فيقول } :غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَرِ { .والضرر هو الذي يفسد
ض َعفَآءِ وَلَ عَلَىا ا ْلمَ ْرضَىا َولَ
الشيء مثل المرض ،وهذا ما يوضحه قوله الحق {:لّيْسَ عَلَى ال ّ
ل وَاللّهُ
حسِنِينَ مِن سَبِي ٍ
ن لَ َيجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ِإذَا َنصَحُواْ للّ ِه وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ا ْلمُ ْ
عَلَى الّذِي َ
حمُِلكُمْ عَلَ ْيهِ َتوَّلوْا وّأَعْيُ ُنهُمْ
حمَِل ُهمْ قُ ْلتَ لَ َأجِدُ مَآ أَ ْ
غفُورٌ رّحِيمٌ * َولَ عَلَى الّذِينَ ِإذَا مَآ أَ َت ْوكَ لِتَ ْ
َ
َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ حَزَنا َألّ َيجِدُواْ مَا يُ ْن ِفقُونَ }[التوبة.]92-91 :
فالضعف ضرر أخرج النسان عن مقومات الصحة والعافية ،والمرض ضرر ،والذين ل يجدون
مالً ينفقون منه ،ول الذين يجيئون لرسول ال فل يكون بحوزة الرسول دواب تحملهم،
فينصرفون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا لنهم ل يجدون ما ينفقون .وكان المؤمن من هؤلء
يحزن لن رسول ال لم يجد له فرسا أو دابة تنقله إلى موقع القتالَ {:ولَ عَلَى الّذِينَ ِإذَا مَآ أَ َت ْوكَ
حمُِلكُمْ عَلَ ْيهِ َتوَّلوْا وّأَعْيُ ُنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ حَزَنا َألّ َيجِدُواْ مَا يُ ْن ِفقُونَ }
حمَِلهُمْ قُ ْلتَ لَ َأجِدُ مَآ َأ ْ
لِتَ ْ
[التوبة.]92 :
لقد تولوا وأعينهم تفيض من الدمع .وكلمة " تولوا " هنا لها معنى كبير ،فلم يقل الحق :إن أعينهم
تفيض من الدمع من غير التولي ،هم ل يدمعون أمام النبي ،ولكنهم يدمعون في حالة توليهم ،وهذا
انفعال نفسي من فرط التأثر؛ لنهم ل يشتركون في القتال.
وكلمة " تفيض " تدل على أن الدمع قد غلب على العين كلها ،فهم ل يصطنعون ذلك ،لكن
النفعال يغمرهم؛ لن الذي يتصنع ذلك يقوم بتعصير عينيه ويبذل جهدا للمُراءاة ،ولكن انفعال
المؤمنين الذين ل يقاتلون يغلبهم فتفيض أعينهم من الدمع.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمَىا
وهناك آية أخرى حدد فيها الحق الحالت التي ل يطالب فيها المؤمن بالقتال {:لّ ْيسَ عَلَى الَ ْ
خلْهُ جَنّاتٍ َتجْرِي
ج َومَن يُطِعِ اللّ َه وَرَسُولَهُ يُدْ ِ
ج َولَ عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَ ٌ
ج َولَ عَلَى الَعْرَجِ حَرَ ٌ
حَرَ ٌ
مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ }[الفتح.]17 :
هؤلء -إذن -هم أولو الضرر.
سهِمْ
} لّ يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَرِ وَا ْل ُمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ
{ وما داموا ل يستوون فمن الذي فيهم يكون هو الفضل؟.
ضلَ اللّهُ ا ْل ُمجَاهِدِينَ بَِأ ْموَاِلهِمْ
ذلك ما توضحه بقية الية التي تحمل المقولة اليمانية الواضحةَ } :ف ّ
حسْنَىا { .وسبحانه وعد الثنين بالحسنى
ل وَعَدَ اللّهُ الْ ُ
س ِهمْ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ دَ َرجَ ًة َوكُـ ّ
وَأَنْفُ ِ
ل منهما مؤمن ،ولكن للمجاهد درجة على القاعد .وإن تساءل أحد :ولماذا وعد
اليمانية؛ لن كُ ّ
ال القاعد من أولى الضرر بالحسنى؟ وهنا أقول :علينا أن ننتبه وأن نحسن الفهم والتدبر عندما
نقرأ القرآن؛ لن الذي أصابته آفة فناله منها ضرر ،فصبر لحكم ال في نفسه ،أل يأخذ ثوابا على
هذه؟.
لقد أخذ الثواب ول بد -إذن -أن يعطي الحق من لم يأخذ ثوابا مثله فرصة ليأخذ ثوابا آخر
حتى يكون الجميع في الستطراق اليماني سواء .لذلك يقول سبحانه:
حسْنَىا {.
ل وَعَدَ اللّهُ الْ ُ
} َوكُـ ّ
والحسنى في أولى الضرر أنه أخذ جزاء الصبر على المصيبة التي أصابته ،والذي لم يصب
بضرر سيأخذ ثواب الجهاد ،وبذلك يكون الجميع قد نالوا الحسنى من ال.
حسْنَىا َو َفضّلَ اللّهُ ا ْلمُجَا ِهدِينَ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ َأجْرا عَظِيما {.
ل وَعَدَ اللّهُ الْ ُ
} َوكُـ ّ
وسبحانه يضع أجرا جديدا للقائم مجاهدا على القاعد ،ففي صدر الية جاء بـ " درجة " أعلى
للقائم مجاهدا ،وهنا } أَجْرا عَظِيما { .ما تفسير هذا الجر العظيم؟ .التفسير يجيء في قوله} :
حمَةً.{ ...
دَ َرجَاتٍ مّ ْن ُه َو َمغْفِ َر ًة وَرَ ْ
()376 /
فسبحانه قد أعطى لولي الضرر درجة ،وفضّل المجاهد في سبيل ال على القاعد من غير أولي
الضرر درجات عدة .وساعة نسمع كلمة " درجة " فهي المنزلة ،والمنزلة ل تكفي فقط لليضاح
الشامل للمعنى ،ولكن هي المنزلة الرتقائية .أما إن كان التغير إلى منازل أخرى أقل وأدنى،
فنحن نقول " :دركات " ول نقول:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" درجات ".
ولكن هل الدرجات هي لكل المجاهدين؟ .ل؛ لننا ل بد أن نلحظ الفرق بين الخروج من الوطن
وترك الهل للجهاد؛ وعملية الجهاد في ذاتها؛ فعملية الجهاد في ذاتها تحتاج إلى همة إيمانية،
حوَْلهُمْ مّنَ الَعْرَابِ أَن
ولذلك جاء الحق بنص في سورة التوبة {:مَا كَانَ لَ ْهلِ ا ْل َمدِينَ ِة َومَنْ َ
ب َولَ
ص ٌ
ظمٌَأ َولَ َن َ
سهِمْ عَن ّنفْسِهِ ذاِلكَ بِأَ ّنهُمْ لَ ُيصِي ُبهُمْ َ
يَتَخَّلفُواْ عَن رّسُولِ اللّ ِه َولَ يَرْغَبُواْ بِأَ ْنفُ ِ
ع ُدوّ نّيْلً ِإلّ كُ ِتبَ َلهُمْ ِبهِ
خ َمصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلَ َيطَأُونَ َموْطِئا َيغِيظُ ا ْل ُكفّا َر َولَ يَنَالُونَ مِنْ َ
مَ ْ
طعُونَ
صغِي َرةً وَلَ كَبِي َر ًة َولَ َيقْ َ
ع َملٌ صَالِحٌ إِنّ اللّ َه لَ ُيضِيعُ َأجْرَ ا ْل ُمحْسِنِينَ * َولَ يُنفِقُونَ َن َفقَ ًة َ
َ
حسَنَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[التوبة.]121-120 :
وَادِيا ِإلّ كُ ِتبَ َلهُمْ لِ َيجْزِ َيهُمُ اللّهُ أَ ْ
هنا يوضح الحق أنه ل يصح لهل المدينة والعراب الذين حولهم أن يتخلفوا عن الجهاد مع
رسول ال ،ول يرضوا لنفسهم بالسعة والدعة والراحة ورسول ال صلى ال عليه وسلم في
الشدة والمشقة ،فكما ذهب إلى القتال يجب أن يذهبوا؛ لن الثواب كبير ،فل يصيبهم تعب إل ولهم
عليه أجر العمل الصالح ،ول يعانون من جوع إل ولهم أجر العمل الصالح ،ول يسيرون في
مكان يغيط الكفار إل ولهم أجر العمل الصالح .ول ينالون من عدو نَيل إل ويكتبه ال لهم عملً
صالحا ،فسبحانه يجزي بأحسن ما كانوا يعملون.
وقام العلماء بحصر تلك العطاءات الربانية بسبع درجات ،فواحد ينال الدرجات جميعا .وآخر
أصابه ظمأ فقط فنال درجة الظمأ ،فأخذ درجة النصب أي التعب ،وثالث أصابته مخمصة ،ورابع
جمع ثلث درجات ،وخامس جمع كل الدرجات.
وعندما نقوم بحساب هذه الدرجات نجدها :الصابة بالظمأ ،ال ّنصَب -أي التعب -الجوع ،ول
يطأون موطئا يغيط الكفار أي ل ينزلون في مكان يتمكن فيه المسلمون منهم ويبسطون سلطانهم
عليهم ،والمقصود الحصن الحصين عند الكافر ،النّيْل :التنكيل بالعدو ،النفقة الصغيرة أو الكبيرة،
وقطع أي واد في سبيل ال ،وهذه هي الدرجات السبع التي يجزي ال عنها بأحسن مما عمل
أصحابها ،كما فسرها العلماء ،فمن نال الدرجات السبع فقد نال منزلة عظيمة ،وكل مجاهد على
حسب ما بذل من جهد .فمن المجاهدين من ينال درجة أو اثنتين أو ثلث أو أربع أو خمس أو
ست أو سبع درجات.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نجد أن ال يُرغّب المؤمنين في أن يكونوا مجاهدين ،وأن يبذلوا الجهد لتكون كلمة ال هي العليا.
فإذا ما آمن النسان فليس له أن يتخلف عن الصف اليماني؛ لنه ما دام قد تقع نفسه باليمان فلمَ
س اليمان قلبه ،وحتى
ل ينضم إلى ركب من ينفع سواه باليمان؟ .ويريد ال أن يعبئ كل مَنْ م ّ
ولو كان موجودا في مكان يسيطر عليه الكفار ،فيدعوه لن يتخلص من التفاف الكفار حوله
وليخرج منضما إلى إخوانه المؤمنين .وليشيع اليمان لسواه ويعبر عمليا عن حبه للناس مما أحبه
لنفسه .ولكن هناك من قالوا :نحن ضعاف غير قادرين على الهجرة أو القتال في سبيل ال .فيأتي
القرآن بقطع العذر لي إنسان يتخلف عن ركب الجهاد في سبيل ال وسبيل نصرة دين ال فيقول
الحق } :إِنّ الّذِينَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ.{ ...
()377 /
هؤلء هم الذين يظلمون أنفسهم بعدم المشاركة في الجهاد وهذا ما يحدث لهم عندما تقبض
الملئكة أرواحهم .و " التوفي " معناه " القبض "؛ فيقال " :توفيت دَيْني " أي قبضته مستوفيا.
ويقال " :توفي ال النسان " أي قبضه إليه مستوفيا .والقبض له أمر أعلى ،وهو الحق .ومن بعد
ذلك هناك موكل عام هو " عزرائيل " ملك الموت ،وهناك معاونون لعزرائيل وهم الملئكة .فإذا
نسبت الوفاة فهي تنسب مرة ل ،فال يتوفى :لنه المر العلى ،وتنسب الوفاة للملئكة في قوله{:
حَتّىا ِإذَا جَآءَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ َت َوفّتْهُ رُسُلُنَا }[النعام.]61 :
وتنسب الوفاة إلى عزرائيلُ {.قلْ يَ َت َوفّاكُم مَّلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُو ّكلَ ِبكُمْ }[السجدة.]11 :
وإذا ما أطلق الحق هذه الساليب الثلثة في وصف عملية الوفاة فهل هذا اختلف وتناقض
وتضارب في أساليب القرآن؟ ل ،بل هو إيضاح لمراحل الولية التي صنعها ال ،فهو المر
العلى يصدر المر إلى عزرائيل ،وعزرائيل يطلق المر لجنوده .وفي حياتنا ما يشرح لنا هذا
المثل -ول المثل العلى -فالتلميذ قد يذهب إلى المدرسة بعد امتحان آخر العام ويعود إلى بيته
قائلً :لقد وجدت نفسي راسبا ،والسبب في ذلك هم المدرسون الذين قصدوا عدم إنجاحي.
ويرد عليه والده :المدرسون لم يفعلوا ذلك ،ولكن اللوائح التي وضعتها الوزارة لتصحيح
المتحانات هي التي جعلتك راسبا .فيرد التلميذ :لقد جعلني الناظر راسبا .وهذا قول صحيح؛ لن
الناظر يطبق القوانين التي يحكم بمقتضاها على الطالب أن يكون ناجحا أو راسبا .وقد يقول
التلميذ :إن وزير التربية والتعليم هو من جعلني راسبا .وهذا أيضا صحيح؛ لن الوزير يرسم مع
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
معاونية الخطوط الساسية التي يتم حساب درجات كل تلميذ عليها ،فإذا قال التلميذ :لقد جعلتني
الدولة راسبا ،فهو قول صحيح؛ لنه فهم تسلسل التقنين إلى مراحل العلو المختلفة ،وأي حلقة من
هذه الحلقات تصلح أن تكون فاعلً .ومن هنا نفهم أن الحق سبحانه حين يقول {:اللّهُ يَ َت َوفّى الَنفُسَ
حِينَ َموْتِـهَا }[الزمر.]42 :
فهذا قول صحيح ،مثل قوله سبحانهُ {:قلْ يَ َت َوفّاكُم مَّلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُو ّكلَ ِب ُكمْ }[السجدة.]11 :
ومثل قوله سبحانهَ {:ت َوفّتْهُ رُسُلُنَا }[النعام.]61 :
كل هذه القوال صحيحة؛ لنها تتعلق بمدارج المر.
سهِمْ } والظلم هو أن تأتي لغير ذي الحق وتعطيه ما تأخذ
{ إِنّ الّذِينَ َت َوفّا ُهمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ
من ذي الحق ،والظلم يقتضي ظالما ومظلوما وأمرا وقع الظلم فيه .فكيف يكون النسان ظالما
لنفسه وتتوفاه الملئكة على ذلك؟ .ل بد أنهم فعلوا ما يستحق ذلك .فساعة تأتي للنسان الشخصية
المعنوية اليمانية بعد أن آمن بال وآمن بالمنهج ،ثم تحدثه نفسه بالمخالفة ،هنا يواجه صراعا بين
أمرين :مسئولية الشخصية اليمانية التي َتقَبّل بها المنهج من ال ،ووازع النفس التي تلح عليه
بالنحراف.
ويدور ما هو أشبه بالجوار بين المسئولية اليمانية ووزاع النفس الملح بالنحراف .وعندما تتغلب
النفس اليمانية يعرف النسان أن نفسه صارت مطمئنة وسعيدة ،ويقول لنفسه :إنك إن طاوعت
وازع النحراف تكن قد حققت شهوة عاجلة ستكْوى بها في آخر المر ،وأنت برفضك للشهوة
تكون قد أنصفت نفسك .ولو طاوعت شهوتك العاجلة تكون قد ظلمت نفسك.
ومثل ذلك يحدث في حياتنا العادية :عندما تدلل الم ابنها بينما يطلب منه والده الستذكار ويحاول
أن يردعه ليقوم بمسئوليته الدراسية ،إن هذه الم تظلم ابنها ،وكذلك يعطينا الحق فكرة عن
الصراع بين الشخصية اليمانية والنفس النحرافية التي تريد الهوى فقط فيقول {:وَا ْتلُ عَلَ ْي ِهمْ نَبَأَ
لقْتُلَ ّنكَ قَالَ إِ ّنمَا يَ َتقَبّلُ
ابْ َنيْ ءَا َدمَ بِا ْلحَقّ ِإذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَ ُتقُ ّبلَ مِن َأحَ ِد ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِنَ الخَرِ قَالَ َ
اللّهُ مِنَ ا ْلمُتّقِينَ }[المائدة.]27 :
هنا يقول هابيل لقابيل:
-ولماذا تقتلني؟ .إنني لست أنا الذي تقبل القربان ولكن الذي تقبله هو ال فما ذنبي؟.
لقْتَُلكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ
ك َ
سطٍ يَ ِديَ إِلَ ْي َ
ويأتي بعد ذلك الحوار {:لَئِن َبسَطتَ إَِليّ يَ َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَا ِ
َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[المائدة.]28 :
عتْ َلهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ أَخِيهِ }[المائدة.]30 :
طوّ َ
ولنلتفت إلى هذا القول الحكيمَ {:ف َ
كأن هناك صراعا في نفس قابيل بين أمرين " اقتل " و " ل تقتل " ،النفس اليمانية تقول " :ل
تقتل " والنفس الشهوانية تقول " :بل عليك أن تقتل ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتغلبت النفس الشهوانية عندما طوعت له قتل أخيه ،ومهدت له ذلك .وبعد أن قتل أخاه ،وضاعت
شِرّة الغضب صار من النادمين ،ثم بدأت الحيثيات تظهر وتتضح .ويبعث ال غرابا يبحث ويحفر
عجَ ْزتُ أَنْ َأكُونَ مِ ْثلَ هَـاذَا ا ْلغُرَابِ
في الرض ليواري جثة غراب آخر .هنا قال قابيل {:أَ َ
سوْ َءةَ أَخِي }[المائدة.]31 :
فَُأوَا ِريَ َ
وهكذا نرى أن ظلم النفس هو أن نخالف ما شرع ال للنفس لينفعها نفعا أبديا مستوفيا ،ولكن
النفس قد تندفع وراء حبها للشهوات وتمنيها للنفع العاجل الذي ل خلود له ،وعندما يحقق النسان
هذا النفع العاجل لنفسه فهو يظلم نفسه.
سهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ { إذن فالملئكة تسأل ظالمي أنفسهم} :
} إِنّ الّذِينَ َت َوفّا ُهمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ
فِيمَ كُنتُمْ { أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والستفهام هنا للتوبيخ والتقريع أي لماذا ظلمتم
أنفسكم؟ ولماذا لم تفعلوا مثلما فعل إخوانكم وهاجرتم وانضممتم لموكب اليمان وموكب الجهاد؟،.
ولماذا ظللتم في أماكنكم محجوزين ومحاصرين ول تستطيعون الحركة ول تستيطعون الفِكاك؟
ض َعفِينَ فِي الَ ْرضِ { .وبال عندما يحكي لنا ال
وتكون إجابة الذين ظلموا أنفسهم } :قَالُواْ كُنّا مُسْ َت ْ
هذه الصورة التي تحدث يوم القيامة فهل سيكون عندنا وقت للستفادة منها؟ .طبعا ل؛ لنه لن
يكون لنا قدرة الستدراك لنصحح الخطأ.
والحق حين يقص علينا هذا المشهد فذلك من لطفه بنا ،وتنبيه لكل منا :احذروا أن يأتي موقف
ويحدث فيه ما أوضحته لكم ولن يستطيع أحد أن يستدرك الحياة ليصنع العمل الطيب.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا كان النسان من ظلمه وجبروته وعتوه قد صنع تحديدا للمكان ،فل ينتقل إنسان من مكان إلى
مكان إل بعد سلسلة طويلة من التعقيدات التي تحول دون النتقال من مكان إلى مكان ،فذلك
مناقضة لقضية الخلفة في الرض؛ لن الخلفة لم توزع كل جماعة على أرض ما .ولكن
ض َعهَا
النسان ،كل إنسان خليفة في الرض كل الرض ،مصداقا لقول الحق {:وَالَ ْرضَ َو َ
لِلَنَامِ }[الرحمن.]10 :
فقد جعل ال الرض متضعة مسخرة مذللة للنسان ،والرض هي أي أرض ،والنام هم كل
النام .وإن لم ينتبه العالم إلى هذه القضية ويجعلها قضية كونية اجتماعية ،سيظل العالم في فساد
وشقاء .فالذي يجعل الحياة في الرض فاسدة هو خروج بعض الراء التي تقول :إن الكثافة
السكانية تمنع أن نجد الطعام لسكان بلد ما .يقولون ذلك في حين أن أرضا أخرى تحتاج إلى أيد
عاملة ،ولذلك نجد أن البشرية أمام وضع مقلوب ،فأرض في بلد تحتاج إلى أناس ،وأناس من
بلد يحتاجون إلى الرض.
ومن الواجب أن تسيح المسألة فتأخذ الرض التي بل رجال ما تحتاجه من الرجال من البلد التي
ل أرض فيها .وهذا الضجيج الذي يعلو في الكون سببه أنه يوجد في كون ال أرض بل رجال
ورجال بل أرض ،فإذا ما ضاق مكان بإنسان فله أن يذهب إلى مكان آخر ،ولو كان المر كذلك
لسعدت البشرية ،ومن ينقض هذه القضية فعلية أن يعرف أنه ياخذ الخلفة في الرض بغير
شروطها ،فالذي يفسد المر في الرض أن النسان الخليفة في الرض نسي أنه خليفة واعتبر
نفسه أصيلً في الكون.
()378 /
ل وَالنّسَا ِء وَا ْلوِلْدَانِ لَا َيسْتَطِيعُونَ حِيَل ًة وَلَا َيهْتَدُونَ سَبِيلًا ()98
ض َعفِينَ مِنَ الرّجَا ِ
إِلّا ا ْلمُسْ َت ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعلينا أن نعرف أن هناك فرقا بين " مستضعف دعوى ومستضعف حقيقي " ،فهناك مستضعف
قد قبل استضعاف غيره له وجعل من نفسه ضعيفا .هذا هو " مستضعف دعوى ".
أما " المستضعف الحقيقي " فهو مِن هؤلء الذين يحددهم الحق:
ن لَ يَسْ َتطِيعُونَ حِيلَ ًة َولَ َيهْتَدُونَ سَبِيلً } .هؤلء هم
ل وَالنّسَآ ِء وَا ْلوِلْدَا ِ
ض َعفِينَ مِنَ الرّجَا ِ
{ ِإلّ ا ْلمُسْ َت ْ
المستضعفون فعلً حسب طبيعة عجزهم من الرجال والنساء والولدان.
هل الولد من الولدان يكون مستضعفا؟ نعم؛ لن الستضعاف إما أن يكون طارئا وإما أن يكون
ذاتيا؛ فبعض من الرجال يكون مملوكا لغيره ول يقدر على التصرف أو الذهاب ،وكذلك النساء؛
فالمرأة ل تستطيع أن تمشي وحدها وتحمي نفسها ،بل ل بد أن يوجد معها من يحميها من زوج
أن محرم لها ،وكذلك الولدان؛ لنهم بطيعتهم غير مكلفين وهم بذلك يخرجون عن نطاق التعنيف
من الملئكة لنهم ل يستطيعون حيلة ول يهتدون سبيلً.
وهذه دقة في الداء القرآني ،فالنسان مكلف بالخروج عن ظلم غيره له ولو بالحتيال ،والحتيال
هو إعمال الفكر إعمالً يعطي للنسان فرصة أكثر مما هو متاح له بالفعل .فقد تكون القوة
ضعيفة .ولكن بالحتيال قد يوسع النسان من فرص القوة .ومثال ذلك :النسان حين يريد أن
يحمل صخرة ،قد ل يستطيع ذلك بيديه ،لكنه يأتي بقضيب من الحديد ويصنع منه عتلة ويضع
تحت العتلة عجلة ،ليدحرج الصخرة ،هذه هي حيلة من الحيل ،وكذلك السّقالت التي نبني عليها،
إنها حيلة.
والذي قام ببناء الهرم ،كيف وضع الحجر الخير على القمة؟ لقد فعل ذلك بالحيلة ،والذي جلس
لينحت مسلة من الجرانيت طولها يزيد على العشرة المتار ،ثم نقلها وأقامها إنّه فعل ذلك بالحيلة.
فالحيلة هو فكر يعطي النسان قدرة فوق قدرته على المقدور عليه ،كذلك معرفة السبيل إلى
الهجرة .وكانت معرفة الطرق إلى الهجرة من مكة إلى المدينة في زمن رسول ال تحتاج إلى
خبرة حتى يتجنب الواحد منهم المفازات والمتاهات ،وحينما قال الرسول بالهجرة أحضر دليلً
للطريق ،وكان دليله كافرا ،فل يتأتى السير في مثل هذه الرض بل دليل.
ولننظر إلى قول الحق سبحانه { :فَُأوْلَـائِكَ عَسَى.} ...
()379 /
غفُورًا ()99
ع ُفوّا َ
عسَى اللّهُ أَنْ َي ْع ُفوَ عَ ْنهُ ْم َوكَانَ اللّهُ َ
فَأُولَ ِئكَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَالنّسَآ ِء وَا ْلوِلْدَانِ لَ َيسْتَطِيعُونَ حِيَل ًة َولَ َيهْ َتدُونَ سَبِيلً }[النساء.]98 :
ومع ذلك فإن ال حين أشار إلى هؤلء المستضعفين بحق قال:
{ فَُأوْلَـا ِئكَ عَسَى اللّهُ أَن َي ْعفُوَ عَ ْنهُمْ } [النساء.]99 :
وكان مقتضي الكلم أن يقول الحق " :فأولئك عفا ال عنهم " ،لكن الحق جاء بـ " عسى "
ليحثهم على رجاء أن يعفو ال عنهم ،والرجاء من الممكن أن يحدث َأوْ ل يحدث .ونعرف أن "
عسى " للرجاء ،وأنها تستخدم حين يأتي بعدها أمر محجوب نحب أن يقع.
فقد ترجو شيئا من غيرك وتقول :عساك أن تفعل كذا .وقد يقول النسان :عساي أن أفعل كذا،
وهنا يكون القائل هو الذي يملك الفعل وهذا أقوى قليلً ،ولكن النسان قد تخونه قوته؛ لذلك فعليه
أن يقول :عسى ال أن يفعل كذا ،وفي هذا العتماد على مطلق القوة .وإذا كان ال هو الذي
عسَى اللّهُ أَن َي ْع ُفوَ عَ ْن ُهمْ } ،فهذا إطماع من كريم قادر.
يقولَ { :
وبعد أن يذكر لنا القصة التي تحدث لكل من مات وتوفته الملئكة ظالما نفسه بأن ظل في أرض
ومكث فيها ،وكان من الممكن أن يهاجر إلى أرض إيمانية إسلمية سواها؛ ومع ذلك فالذي يضع
في نفسه شيئا يريد أن يحقق به قضية إيمانية فهو معان عليها لن ال سبحانه وتعالى يقول:
{ َومَن ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ.} ...
()380 /
الذي يهاجر في سبيل ال سيجد السعة إن كان قد وضع في نفسه العملية اليمانية .وفي البداية
كان المسلمون يهاجرون إلى الحبشة؛ لنهم لم يكونوا آمنين في مكة على دينهم.
ولذلك قيل :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم بسط ال له كونه واستعرض قضية العدالة في
الكون ،فلم يقبل النبي إل أن يذهب المهاجرون إلى الحبشة ،ول بد أن الحق قد أعلمه أن الحبشة
في ذلك الزمان هي أرض بل فتنة.
وقد يقول قائل :ولماذا لم يختر النبي أن يهاجر المهاجرون الوائل إلى قبيلة عربية في الجنوب أو
في الشمال؟
لقد كانت لقريش السيادة على كل الجزيرة العربية بقبائلها ،فكل القبائل تحج عند قريش ولم تكن
هناك أي بيئة عربية قادرة على أن تقف أمام هوى قريش .ولذلك استعرض سيدنا رسول ال
صلى ال عليه وسلم البلد جميعا إلى أن أمرهم بالهجرة إلى الحبشة ،والعلة في الذهاب إلى
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحبشة أن هناك ملكا ل يظلم عنده أحد .وكان العدل في ذاته وساما لذلك الملك وسماها المؤمنون
دار أمن ،وإن لم تكن دار إيمان .وأما الهجرة إلى المدينة فقد كانت إلى دار اليمان .وعلينا أن
نعرف نحن الذين نعيش في هذا الزمان أنه ل هجرة بعد الفتح ،إل إن كانت هجرة يقصد بها
صاحبها المعونة على طاعة ال .وهو ما يوضحه قوله صلى ال عليه وسلم " :المسلم من سلم
المسلمون من لسانه ويده ،والمهاجر من هجر ما نهى ال عنه ".
وهناك هجرة باقية لنا وهي الحج ،أو الهجرة إلى طلب العلم ،أو الهجرة لن هناك مجالً للطاعة
أكثر ،فلنفترض أن هناك مكانا يضيق الحكام فيه على الذهاب إلى المسجد ،فيترك أهل اليمان
هذا المكان إلى مكان فيه مجال يأخذ فيه النسان حرية أداء الفروض الدينية ،كل هذه هجرات إلى
ال .والنية في هذه الهجرات ل يمكن أن تكون محصورة فقط في طلب سعة العيش .ولذلك ل
يصح أن يكون الشغل الشاغل للناس ما يشغلهم في هذا الزمان هو سعة العيش.
ضمِن -بالبناء
س َعوْنَ فيما ُ
وها هو ذا المام على -كرم ال وجهه -يقول :عجبت للقوم يَ ْ
للمفعول -لهم ويتركون ما طلب منهم .فكل سعى الناس إنما هو للرزق والعيش وهو أمر
مضمون لهم من خالقهم جل وعلَ {:ومَن ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َيجِدْ فِي الَ ْرضِ مُرَاغَما كَثِيرا
سعَ ًة َومَن يَخْرُجْ مِن بَيْ ِتهِ ُمهَاجِرا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ ُثمّ يُدْ ِركْهُ ا ْل َموْتُ َفقَ ْد َوقَعَ َأجْ ُرهُ عَلىَ اللّهِ
وَ َ
غفُورا رّحِيما }[النساء.]100 :
َوكَانَ اللّهُ َ
ولن يجد المهاجر إل السعة من ال ،والشاعر يقول:لعمرك ما ضاقت بلد بأهلها ولكن أخلق
الرجال تضيق
وقد يقول النسان :إنني أطلب سعة الرزق بالهجرة ،ونقول :أنت تبحث عن وظيفة لها شكل
العمل وباطنها هو الكسل لنك في مجال حياتك تجد أعمالً كثيرة.
ونجد بعضا ممن يطلبون سعة الرزق يريد الواحد منهم أن يجلس على مكتب ويقبض مرتبا ،بينما
يبحث المجتمع عن العامل الفني بصعوبة ،كأن الذين يبحثون عن سعة الرزق يريدون هذه السعة
مع الكسل ،ل مع بذل الجهد.
} َومَن ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َيجِدْ فِي الَ ْرضِ مُرَاغَما كَثِيرا { وساعة تقرأ كلمة " مراغم " تعرف
أنها تفتح المجال أمام المستضعفين الذين يستذلهم الجبارون .ومادة " مراغم " هي " الراء والغين
والميم " والصل فيها " الرّغام " أي " التراب " .ويقال :سوف أفعل كذا وأنف فلن راغم ،أي
أنف فلن يذهب إلى التراب وسأفعل ما أنا مصمم عليه .وما دام هناك إنسان سيفعل شيئا برغم
أنف إنسان آخر ،فمعناه أن الثاني كان يريد أن يستذله وأراد أن يرغمه على شيء ،لكنه رفض
وفعل ما يريد.
وعندما يرى النسان جبارا يشمخ بأنفه ويتكبر ،فهو يحاول أن يعانده ويصنع غير ما يريد ويجعل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مكانه هذا النف في التراب ،ويقال في المثل الشعبي :أريد أن أكسر أنف فلن.
وعندما يهاجر من كان مستعضفا ويعاني من الذلة في بلده ،سيجد أرضا يعثر فيها على ما يرغم
أنف عدوه .فيقول العدو :برغم أنن ضيقت عليه راح إلى أحسن مما كنت أتوقع .ويرغم النسان
بهجرته أنف الجبارين.
وكلمة " مراغم " هي اسم مفعول ،وتعني مكانا إذا ما وصلت إليه ترغم أنف خصمك الذي كان
يستضعفك ،فهل هناك أفضل من هذا؟.
} َومَن ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َيجِدْ فِي الَ ْرضِ مُرَاغَما كَثِيرا { أي أنه سبحانه يعطي المهاجر أشياء
تجعل من كان يستضعفه ويستذلّه يشعر بالخزي إلى درجة أن تكون أنفه في الرّغام.
والمستضعف في أرضٍ ما يجد من يضيق عليه حركته ،لكنه عندما يهاجر في سبيل ال سيجد
سعة ورزقا.
ويتابع الحق اليةَ } :ومَن َيخْرُجْ مِن بَيْتِهِ ُمهَاجِرا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْ ِركْهُ ا ْل َم ْوتُ َفقَ ْد َوقَعَ أَجْ ُرهُ
غفُورا رّحِيما { ول أحد يعرف ميعاد الموت .فإن هاجر إنسان في سبيل ال
عَلىَ اللّ ِه َوكَانَ اللّهُ َ
فقد ل يصل إلى المراغم؛ لن الموت قد يأتيه ،وهنا يقع أجره على ال .فإذا كان سبحانه قد وعد
المهاجر في سبيله بالمكان الذي يرغم أنف خصمه وذلك سبب ،ومن مات قبل أن يصل إلى ذلك
السبب فهو قد ذهب إلى رب السبب ،ومن المؤكد أن الذهاب إلى رب السبب أكثر عطاءً .وهكذا
نجد أن المهاجر رابح حيا أو ميتا.
} َومَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ ُمهَاجِرا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ ُثمّ يُدْ ِر ْكهُ ا ْل َم ْوتُ َفقَ ْد َوقَعَ َأجْ ُرهُ عَلىَ اللّهِ َوكَانَ اللّهُ
غفُورا رّحِيما { وكلمة } َوقَعَ أَجْ ُرهُ عَلىَ اللّهِ { أي سقط أجره على ال.
َ
كأن الحق سبحانه وتعالى يقول للعبد :أنت عندما تهاجر إلى أرض ال الواسعة ،إن أدركك الموت
قبل أن تصل إلى السعة والمراغم ،فأنت تذهب إلى رحابي .والمراغم سبب من أسبابي وأنا
المسبب.
وحتى نفهم معنىَ } :وقَعَ أَجْ ُرهُ عَلىَ اللّهِ { علينا أن نقرأ قوله الحق {:وَِإذَا َوقَعَ ا ْل َقوْلُ عَلَ ْيهِم }
[النمل]82 :
والوقوع هنا هو سقوط ،ولكنه ليس كالسقوط الذي نعرفه ،بل هو الذهاب إلى ال .ولماذا يستخدم
الحق هنا " وقع " بمعنى " سقط "؟
هو سبحانه يلفتنا إلى ملحظ هام :حيث يكون الجزاء أحرص على العبد من حرص العبد عليه،
فإذا ما أدرك العبد الموت فالجزاء يسعى إليه وهو عند ال ،ويعرف الجزاء مَن يذهب إليه معرفة
كاملة.
سعَةً
وهكذا يجب أن نفهم قوله الحقَ {:ومَن ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َيجِدْ فِي الَ ْرضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َومَن َيخْرُجْ مِن بَيْتِهِ ُمهَاجِرا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ ُيدْ ِركْهُ ا ْل َم ْوتُ َفقَ ْد َوقَعَ أَجْ ُرهُ عَلىَ اللّ ِه َوكَانَ اللّهُ
غفُورا رّحِيما }[النساء]100 :
َ
وال غفور رحيم حتى لمن توانى قليلً ،وذلك حتى يلحق بالركب اليماني ويتدارك ما فاته؛ لن
ال يغفر ما فات إن حاول العبد تداركه .والهجرة تقتضي ضربا في الرض ،وتقتضي الجهاد.
وبعد أن جعل ال السلم أركانا ،جاء فحمل المسلم ما يمكن أن يؤديه من هذه الركان ،فأركان
السلم هي :الشهادة؛ والصلة؛ والصوم؛ والزكاة؛ والحج لمن استطاع إلى ذلك سبيلً ،والمسلم
ينطق بالشهادة ويؤدي الصلة ،ولكنه قد ل يملك مالً؛ لذلك يعفيه الحق من الزكاة .وقد يكون
صاحب مرض دائم فل يستطيع الصوم ،فيعفيه ال من الصوم .وقد ل تكون عنده القدرة على
الحج فيعفيه الحق من الحج .أما شهادة " ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال " فقد ل يقولها المسلم
في العمر إل مرة واحدة .ولم يبق إل ركن الصلة وهو ل يسقط عن النسان أبدا ما دامت فيه
الصلحية لدائها ،ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" رأس المر كله السلم وعموده الصلة "
ولن الصلة هي الركن الذي ل يسقط أبدا فقد جمع ال فيها كل الركان ،فعند إقامة الصلة يشهد
المسلم أل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ،وخلل الصلة يصوم النسان عن الطعام والشراب،
وإضافة إلى ذلك يصوم ويمتنع عن الكلم أيضا ،وهكذا نجد الصلة أوسع في المساك عن ركن
الصيام .فالنسان وهو يقيم الصلة يحبس نفسه عن أشياء كثيرة قد يفعلها وهو صائم ،فالصوم -
مثلً -ل يمنع النسان من الحركة إلى أي مكان لكن الصلة تمنع النسان إل من الوقوف بين
يدي ال.
إذن فالصلة تأخذ إمساكا من نوع أوسع من إمساك المؤمن في الصيام .والزكاة هي إخراج جزء
من المال ،والمال يأتي به النسان من الحركة والعمل .والحركة والعمل تأخذ من الوقت .وحين
يصلي المسلم فهو يزكي بالصل ،إنه يزكي ببذل الوقت الذي هو وعاء الحركة ،إذن ففي الصلة
زكاة واسعة.
والحج إلى البيت الحرام موجود في الصلة؛ لن المسلم يتحرى التجاه إلى البيت الحرام كقبلة
في كل صلة ،وهكذا.
ولذلك اختلفت الصلة عن بقية الركان .فلم تشرع بواسطة الوحي ،وإنما شرعت بالمباشرة بين
رب محمد ومحمد صلى ال عليه وسلم .ولن هذه هي منزلة الصلة نجد الحق يحذرنا من أن
يشغلنا الضرب في الرض عنها ،بل شرع سبحانه صلة مخصوصة اسمها " صلة الحرب
وصلة الخوف " حتى ل يقولن أحد إن الحرب تمنعنا من الصلة ،ففي الحرب يكون من الولى
بالمسلم أن يلتحم بمنهج ربه.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كذلك في السفر يشرع الحق قصر الصلوات } :وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الَ ْرضِ{ ...
()381 /
والضرب في الرض مقصود به أن يمشي المؤمن في الرض بصلبة وعزم وقوة .والقصر في
الصلة هو اختزال الكمية العددية لركعاتها .وفي اللغة " اختصار " و " اقتصار " " .القتصار "
أن تأخذ بعضا وتترك بعضا ،و " الختصار " هو أخذ الكل بصفة موجزة .مثال ذلك عندما
نختصر كتابا ما فنحن نوجز كل المعاني التي فيه في عدد أقل من الكلمات.
وقد يفكر إنسان في أن يكتب خطابا ،ثم يقول لنفسه :سأرسل برقية في الموضوع نفسه .وهنا ل
بد أن يختزل الكلمات لتحمل معاني كثيرة في ألفاظ موجزة.
والسهاب -كما نعلم -ل يأخذ من الوقت مثلما يأخذ اليجاز؛ فعندما يريد النسان اليجاز فهو
يقدح ذهنه -في وقت أطول -ليصل إلى المعاني في كلمات أقل.
ويحكى عن سعد زغلول -زعيم ثورة 1919المصرية -أنه كتب رسالة لصديق فأطال ،وأنهى
رسالته بهذه الكلمات:
وإني أعتذر إليك عن التطويل فليس عندي الوقت الكافي لليجاز .ويحكي التاريخ عن الخليفة
المسلم الذي أراد أن يهدد قائد الروم ..فكتب إليه؛ أما بعد :فسآتيك بجيش أوله عندك وآخره
عندي .وهكذا أوجز الخليفة حجم الخطر الداهم الذي سيواجه ملك الروم من جيش عرمرم سيمل
الرض إلخ.
وينقل التاريخ عن أحد قادة العرب وموقفه القتالى الذي كان صعبا في " دومة الجندل " أنه كتب
إلى خالد بن الوليد كلمتين ل غيرهما " إياك أريد " ولم يقل أكثر من ذلك ليتضح من هذا اليجاز
حجم المعاناة التي يعانيها .وقد أوردنا هذا الكلم ونحن بصدد الحديث عن القصر واليجاز.
والقصر في الصلة هو أن يؤدي المؤمن كُلّ من صلة الظهر والعصر والعشاء ركعتين بدلً من
أربع ركعات ،أما الصبح والمغرب فكلهما على حاله ،الصبح ركعتان ،والمغرب ثلث ركعات.
وحكمة مشروعية ذلك أن الصلة في وقت الحرب تقتضي أل ينشغل المقاتلون عن العدو ،ول
لةَ كَا َنتْ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابا ّم ْوقُوتا }[النساء]103 :
ينشغلوا أيضا عن قول الحق {:إِنّ الصّ َ
فإذا شرع ال للخوف صلة ،وللحرب صلة فمعنى ذلك أنه ل سبيل أبدا لن ينسى العبد المؤمن
إقامة الصلة .وإذا كانت الصلة واجبة في الحرب فلن تكون هناك مشاغل في الحياة أكثر من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مشاغل الحرب والسيف .وصلة الحرب -أي صلة الخوف -جاء بها القرآن ،أما صلة السفر
فقد جاءت بها السنة أيضا ،وفيها يقصر المؤمن صلواته أيضا {:وَِإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الَ ْرضِ فَلَ ْيسَ
خفْتُمْ أَن َيفْتِ َنكُمُ الّذِينَ َكفَرُواْ إِنّ ا ْلكَافِرِينَ كَانُواْ َل ُكمْ عَ ُدوّا
لةِ إِنْ ِ
عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَن َت ْقصُرُواْ مِنَ الصّ َ
مّبِينا }[النساء]101 :
ولو رأى الكافرون المؤمنين مصفوفين جميعا في الصلة فقد يهجمون عليهم هجمة واحدة .ولذلك
شرع الحق قصر الصلة.
ويكون الخطاب من بعد ذلك موجها للرسول صلى ال عليه وسلم { :وَِإذَا كُنتَ فِي ِهمْ فََأ َق ْمتَ َل ُهمُ
لةَ} ...
الصّ َ
()382 /
وحين يقول الحق { :فَلْ َتقُمْ طَآ ِئفَةٌ مّ ْن ُهمْ } نفهم أن ينقسم المؤمنون إلى طائفتين :طائفة تصلي مع
رسول ال ،وأخرى ترقب العدو وتحمي المؤمنين.
ولكن كيف تصلي طائفة خلف رسول ال ول تصلي أخرى وكلهم مؤمنون يطلبون شرف الصلة
مع رسول ال؟ ويأمر الحق أن يقسم النبي صلى ال عليه وسلم الصلة ليصلي بكل طائفة مرة،
ليشرف كل مقاتل بالصلة خلف رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وقصر الصلة -كما عرفنا -ينطبق على الصلة الرباعية وهي الظهر والعصر والعشاء أما
صلة الفجر وصلة المغرب فل قصر فيهما ،فليس من المتصور أن يصلي أحد ركعة ونصف
ركعة ،وفي علم الحساب نحن نجبر الكسور إلى الرقم الكبر.
وقد صلى رسول ال صلى ال عليه وسلم صلة الخوف بهيئات متعددة ،ول مانع من أن نلم بها
إلماما عاجلً؛ لن تعليم هذه الصلة عادة يكون واجبا على الئمة والعلماء الذين يصلون بالجيوش
في حالة الحرب .ولصلة الخوف طرق وكيفيات :كان الرسول صلى ال عليه وسلم ُيقَسّم الجيش
إلى قسمين؛ قسم يصلي معه وقسم يرقب العدو ،ويصلي بكل فرقة ركعتين.
وهناك طريقة أخرى وهي أن يصلي بطائفة وفرقة ركعة واحدة ،ثم ينصرفون وتأتي الطائفة التي
حمت الطائفة الولى في أثناء الصلة لتصلي هذه الطائفة الثانية ركعة مع رسول ال صلى ال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه وسلم ،وهنا يسلم رسول ال لنه أنهى الصلة.
وبعد ذلك تصلي الطائفة الولى الركعة الثانية التي عليها في القصر وتسلم ،ثم تصلي الطائفة
الثانية التي عليها في القصر وتسلم.
وهناك كيفية ثالثة وهي أن تأتي الطائفة الولى تصلي مع النبي صلى ال عليه وسلم ركعة ،ول
يصلي النبي صلى ال عليه وسلم معها الركعة الثانية بل يظل واقفا قائما إلى أن تخرج من
صلتها بالتسليم لتنادي الطائفة التي تقف في مواجهة العدو لتصلي خلف النبي صلى ال عليه
وسلم الركعة الثانية بالنسبة للنبي صلى ال عليه وسلم بينما هي الركعة بركعتها الثانية ويسلم
النبي صلى ال عليه وسلم بها وتنال الطائفة الولى بشرف بدء الصلة مع الرسول صلى ال عليه
وسلم وتحظى الطائفة الثانية بشرف السلم معه صلى ال عليه وسلم.
وهنا نسأل :هل هذه الصلة بهذا السلوب مقصورة على عهد النبي صلى ال عليه وسلم وإتماما
به لن الصلة معه هي الشرف؟ فكيف يصلي المقاتلون الخوف بعده صلى ال عليه وسلم؟ قال
العلماء :إذا كنت تعتبر القائمين بأمر القيادة هم خلفاء لرسول ال صلى ال عليه وسلم في الولية
فتقام صلة الخوف على صورتها التي جاءت في القرآن ،ولكن إذا كان لكل جماعة إمام فلتصل
كل جماعة صلة القصر كاملة خلف المام.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والدار هي مكان باستطاعة النسان أن يتبوأه ويقيم به ،فما معنى أن يتبوأ النسان اليمان وهو
أمر معنوي؟ .إنه سبحانه في هذا القول يصف النصار الذين أكرموا وفادة المهاجرين ،والدار -
كما نعرف -هي المكان الذي يرجع إليه النسان ،واليمان هو مرجع كل أمر من المور.
إذن فقد جعل الحق سبحانه اليمان كأنه يُتبوأ ،أي جعله شيئا ينزل النسان فيه ،واليمان كذلك
حقا ،والدار في هذا القول مقصود بها هنا المدينة المنورة ،حيث استقبل النصار المهاجرين{.
جدُونَ فِي صُدُورِ ِهمْ حَاجَةً ّممّآ
وَالّذِينَ تَ َبوّءُوا الدّا َر وَالِيمَانَ مِن قَبِْلهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَ ْيهِ ْم َولَ يَ ِ
خصَاصَ ٌة َومَن يُوقَ شُحّ َنفْسِهِ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }
سهِ ْم وََلوْ كَانَ ِبهِمْ َ
أُوتُواْ وَ ُيؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُ ِ
[الحشر]9 :
وهكذا يجسم الحق المعنويات لنفهم منها المر وكأنه أمر حسّي ،تماما كما قال الحق } :فَلْ ُيصَلّواْ
حذْرَ ُه ْم وَأَسْلِحَ َت ُه ْم وَدّ الّذِينَ َكفَرُواْ َلوْ َت ْغفُلُونَ عَنْ َأسْلِحَ ِت ُك ْم وََأمْ ِتعَ ِتكُمْ فَ َيمِيلُونَ عَلَ ْي ُكمْ
َم َعكَ وَلْيَ ْأخُذُواْ ِ
ح َدةً {.
مّيْلَ ًة وَا ِ
وهذا ما يوضح لنا لماذا أمر ال أن يأخذ المسلمون الحذر والسلحة؛ لن المقاتل يجب أن يخاف
على سلحه ومتاعه .فلو فقدها المقاتل لفقد أداة القتال ولصارت أدوات قتاله لعدوه .فحين يأخذ
المقاتل السلح من عدوه ،يتحول السلح إلى قوة ضد العدو.
لذلك كان التحذير من فقد السلحة والمتعة حتى ل تضاف قوة السلح والمتاع إلى قوة العدو؛
لن في ذلك إضعافا للمؤمن وقوة لخصمه.
وعدو السلم يود أن يغفل المسلمون عن السلحة والمتاع ،والمؤمن ساعة الصلة يستغرق
بيقظته مع ال ،ولكن على النسان أل يفقد يقظته إن كان يصلي أثناء الحرب ،فل يصح أن ينسى
النسان سلحه أثناء القتال حتى وهو يصلي ،فالقتال موقف ل ،فل تفصل القتال في سبيل ال عن
الصلة ل.
} وَدّ الّذِينَ َكفَرُواْ َلوْ َت ْغفُلُونَ عَنْ أَسِْلحَ ِتكُ ْم وََأمْ ِتعَ ِتكُمْ { والغفلة هي نسيان طارئ على ما ل يصح
أن يُنسى ،وفي هذا نحذير واضح؛ لن الغفلة أثناء القتال هي حلم للكافرين حتى يحققوا هدفهم
المتمثل في قول ال } :فَ َيمِيلُونَ عَلَ ْيكُمْ مّيْلَةً وَاحِ َدةً { .فمعسكر الكفر يتمنى أن يهجم على المؤمنين
ح َدةً {.
في لحظة واحدة ،هذا هو المقصود بقوله } :فَ َيمِيلُونَ عَلَ ْيكُمْ مّيْلَ ًة وَا ِ
ولكن لنر من بعد ذلك قول الحق {:وَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِن كَانَ ِبكُمْ أَذًى مّن مّطَرٍ َأوْ كُنتُمْ مّ ْرضَى أَن
عذَابا ّمهِينا }[النساء]102 :
ضعُواْ َأسْلِحَ َتكُمْ وَخُذُواْ حِذْ َركُمْ إِنّ اللّهَ أَعَدّ لِ ْلكَافِرِينَ َ
َت َ
ونجد هنا أن كلمة " الحذر " تكررت ،وسبحانه بجلل جبروته أعد للكافرين عذابا مهينا ،وفي ذلك
بشارة منه أن الكافرين لن ينالوا من المؤمنين شيئا ،فلماذا جاء المر هنا بأخذ الحذر؟ .إن أخذ
الحذر ل يعني أن ال تخلى عن المؤمنين ،ولكن لتنبيه المؤمنين أن يأخذوا بالسباب ،ول يغفلوا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدّ لِ ْلكَافِرِينَ عَذَابا ّمهِينا {.
عن المسبب لنه سبحانه هيأ وأعد العذاب المهين للكافرين } .إِنّ اللّهَ أَ َ
وهذا ما يجب أن نفهمه حتى ل يتوهم أحد أن ال عندما نبه كثيرا بضرورة الخذ بالحذر ثم أنه
يتخلى عنا ،ل .إنّه سبحانه يوضح لنا أن نأخذ بالسباب ول نهملها وهو القائل } إِنّ اللّهَ أَعَدّ
لِ ْلكَافِرِينَ عَذَابا ّمهِينا {.
لةَ{ ...
ومن بعد ذلك قال الحق } :فَإِذَا َقضَيْ ُتمُ الصّ َ
()383 /
كأن المؤمن مطالب بأل يسوّف و ُيؤَخّر الصلة عن وقتها ،وأن يذكر ال قائما وقاعدا وعلى جنبه،
وذلك لتكون الصلة دائما في بؤرة شعور النسان ،بل إن المؤمن مطالب بذكر ال حتى وهو
يسايف عدوه وينازله ،فهو يحمل السيف ولسانه رطب بذكر ال ويقول " :سبحان ال والحمد ل
ول إله إل ال وال أكبر ول حول ول قوة إل بال العلي العظيم ".
والنسان حين يسبح ال حتى وهو في حالة الشتباك مع العدو ل ينساه ال .والمؤمن قد يؤخر
الصلة في حالة الشتباك مع العدو واللتحام به ،ولكن عليه أن يدفع قلبه ونفسه إلى ذكر ال،
ففي وقت الصلة يكون مع ربه فليذكره قائما وقاعدا وفي كل حال ،وبعد أن يطمئن المسلم لموقفه
القتالي فليقض الصلة .وأنه ل يترك ربه أبدا بل وهو في الحرب يكون ذلك منه أولى؛ لنه في
حالة الحتياج إليه سبحانه ،والقتال يدفع المؤمن إلى الستعانة بربه ،وإذا كان المسلم يعرف أن ل
في أوقاته تجليات ،فل يحرمن واحد نفسه من هذه التجليات في أي وقت ،وذكر ال يقرّب العبد
من موله -فسبحانه -مع عبده إذا ذكره ،فإن كان النسان مشبعا بالطمئنان وقت الخوف
والقتال فليذكر ال ليدعم موقفه بالقوة العليا.
لةَ } أي إذا انتهى الشتباك القتالي فعلى المؤمن أن ينتقل
طمَأْنَنتُمْ فََأقِيمُواْ الصّ َ
وقوله الحق { :فَِإذَا ا ْ
من ذكر ال أثناء الشتباك إلى الصلة التي حان ميقاتها أثناء القتال .فقد كان ذكر ال وقت
الشتباك من أجل أل يضيع وقت الصلة بل كرامة لهذا الوقت ،وبل كرامة للقاء العبد مع الرب.
لةَ كَا َنتْ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابا ّم ْوقُوتا }.
ولماذا كل ذلك؟ ويأتي القول الفصل { :إِنّ الصّ َ
وقد أوضح لنا الحق صلة الخوف ،وشرع سبحانه لنا ذكره إذا ما جاء وقت الصلة في أثناء
الشتباك القتالي ،وإذا ما اتفق توقيته مع وقت الصلة ،وشرحت لنا سنة النبي صلى ال عليه
وسلم كيفية قصر الصلة في أثناء السفر ،لماذا كل ذلك؟ لن الصلة فرض ل غنى عنه على
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لةَ كَا َنتْ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابا ّم ْوقُوتا } .أي أن الصلة لها وقت.
الطلق { إِنّ الصّ َ
ول يصح أن يفهم أحد هذا المعنى -كما يفهمه البعض -بأن صلة الظهر -على سبيل المثال
-وقتها ممتد من الظهر إلى العصر ،وصحيح أن النسان إذا عاش حتى يصلي الظهر قبيل
العصر فإنها تسقط عنه ،ولكن ماذا يحدث لو مات العبد وقد فات عليه وقت يسعها؟ إذن فقد أثم
العبد ،ومن يضمن حياته حتى يؤدي الصلة مؤجلة عن موعد أدائها؟.
وقد يقول قائل :أحيانا أسمع أذان الصلة وأكون في عمل ل أستطيع أن أتركه؛ فقد أكون في
إجراء جراحة.
أو راكبا طائرة .ونقول :أسألك بال إذا كنت في هذا العمل الذي تتخيل أنك غير قادر على تركه
وأردت أن تقضي حاجة ،فماذا تصنع؟ إنك تذهب لقضاء حاجتك ،فلماذا استقطعت جزءا من وقتك
من أجل أن تقضي حاجتك؟ وقد تجد قوما كافرين يسهلون لك سؤالك عن دورة المياه لتقضي
حاجتك.
وساعة يراك هؤلء وأنت تصلي فأنت ترى على وجوههم سمة الستبشار؛ لن فيهم العبودية
الفطرية ل ،وتجد منهم من يسهل ذلك ويحضر لك مُلءة لتصلي فوقها ،ويقف في ارتعاش سببه
العبودية الفطرية ل ،فل تقل أبدا :إن الوقت ل يتسع للصلة؛ لن ال ل يكلف أبدا عبده شيئا ليس
في سعته ،والحق كلف العبد بالصلة ومعها الوقت الذي يسعها.
ول المثل العلى ،نحن نرى رئيس العمال في موقع ما يوزع العمل على عماله بما يسع وقت كل
جعَل لّهُ مَخْرَجا * وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ
منهم ،فما بالنا بالرب الخالق ،ولذلك يقول الحقَ {:ومَن يَتّقِ اللّهَ َي ْ
سبُ }[الطلق]3-2 :
ث لَ يَحْ َت ِ
حَ ْي ُ
والصلة رزق عبودي يحررك من أي خوف ،وفضلها ل حدود له لن فارضها هو الخالق
المربي ،فكيف تبخل على نفسك أن تكون موصول بربك؟
ويقول الحق من بعد ذلكَ } :ولَ َتهِنُواْ فِي ابْ ِتغَآءِ ا ْلقَوْمِ{ ...
()384 /
وَلَا َتهِنُوا فِي ابْ ِتغَاءِ ا ْلقَوْمِ إِنْ َتكُونُوا تَأَْلمُونَ فَإِ ّنهُمْ يَأَْلمُونَ َكمَا تَأَْلمُونَ وَتَ ْرجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَا
حكِيمًا ()104
علِيمًا َ
ن َوكَانَ اللّهُ َ
يَرْجُو َ
وهذه الية تذكرة لنا بكيفية الرد على من يدعون التحرر ويحاولون إظهار السلم بأنه يصلح
للعصر الذي نحياه عندما نؤوله ونطوّعه لمرادات العصر ،ناسين مرادات السلم؛ فهم يقولون:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد شرع الحق الحرب في السلم لرد العدوان .ونقول لهم :صحيح أن الحرب في السلم لرد
العدوان ،والحرب في السلم أيضا هي لتوسيع المجال لحرية العتقاد للنسان.
إن الذي يخيف هؤلء أن يكون القتال في السلم فريضة ،فيقاوم المسلمون الطغيان في أي مكان.
وهذه محاولة من أعداء السلم لصرف المسلمين حتى ل يقاوموا قهر الناس والطغيان عليهم؛
لن أعداء السلم يعرفون تماما قوة السلم الكامنة والتي يهبها لمن يؤمن به دينا ،وينخدع
بعض المسلمين بدعاوى أعداء السلم الذين يقولون :إن السلم لم يشرع الحرب إل لرد
العدوان.
ولذلك نقول لهؤلء وأولئك :ل؛ إن السلم جاء بالقتال ليحرر حق النسان في العتقاد .والمسلم
مطلوب منه أن يعلن كلمة ال ،وأن يقف في وجه من يقاوم إعلنها ،ولكن السلم ل يفرض
العقيدة بالسيف ،إنما يحمى بالسيف حرية المعتقد ،فالحق يقول { :وَلَ َتهِنُواْ فِي ابْ ِتغَآءِ ا ْل َقوْمِ } أي
ل تضعفوا في طلب القوم الذين يحاربون السلم ،والبتغاء هو أن يجعل النسان شيئا بغية له،
أي هدفا وغاية ،ويجند لها كل تخطيطات الفكر ومتعلقات الطاقة ،كأن النسان ل يرد القوم
الكافرين فقط ساعة يهاجمون دار السلم ،ولكن على المسلم أن يبتغيهم أيضا امتثالً لقول ال:
{ َولَ َتهِنُواْ فِي ابْ ِتغَآءِ ا ْلقَوْمِ } .فعلى المسلمين أن ُيعْلُوا كلمة ال ،ويدعوا الناس كافة إلى اليمان
بال .وهم في هذه الدعوة ل يفرضون كلمة ال ،لكنهم يرفعون السيف في وجه الجبروت الذي
يمنع النسان من حرية العتقاد .إن على المسلمين رفع الجبروت عن البشر حتى ولو كان في
ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ }[البقرة]216 :
ذلك مشقة عليهم لن الحق قال {:كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ
وقد خلق ال في المؤمن القدرة على أن يبتغي عدو السلم ليرفع الجبروت عن غيره من البشر،
صحيح أن الحرب مسألة مكروهة من البشر وليست رحلة سهلة ،ولكنها أحيانا تكون واجبة،
والذين أدركوا الحرب العالمية الثانية عرفوا أن " تشرشل " جاء رئيسا لوزراء بريطانيا بعد "
تشمبرلن " الذي عرف عنه أنه رجل سلم ،وحاول " تشمبرلن " أن يماطل ويلوح بالسلم مع
ألمانيا حتى تستعد انجلترا بالحرب ،وعندما استعدت انجلترا أعلن " تشمبرلن " أن سياسته غير
نافعة ،وجاء " تشرشل " وقاد دفة الحرب ،وقال للنجليز:
-انتظروا أياما سوداء وانتظروا الجوع.
لقد قال تشرشل ذلك للنجليز ،حتى إذا ما جاء الواقع بأقل من قوله ،فهم يستبشرون ويفرحون.
والحق سبحانه يقول { :وَلَ َتهِنُواْ فِي ابْ ِتغَآءِ ا ْل َقوْمِ إِن َتكُونُواْ تَأَْلمُونَ فَإِ ّنهُمْ يَ ْأَلمُونَ َكمَا تَأْلَمونَ }.
إن الحرب ترهقهم أيضا كما ترهقكم ،لكنكم أيها المؤمنون تمتازون على الكافرين بما يلي} :
حكِيما { .فأنتم وهم في اللم سواء ،ولكن
وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَ يَ ْرجُونَ َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ
الختلف هو أن المؤمنين يرجون ما ل يرجوه الكافرون ،إن المؤمنين يعلمون لحظة دخولهم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحرب أن ال معهم وهو الذي ينصرهم ومن يمت منهم يذهب إلى جنة عرضها السماوات
والرض ،وهذا ما ل يرجوه الكفرة.
والحق سبحانه وتعالى يطالب الفئة المؤمنة التي انتهت قضية عقيدتها إلى اليمان بإله واحد؛ هو
-سبحانه -أنشأهم وخلقهم وإليه يعودون ،وهذه القضية تحكم حركات حياتهم؛ إنه -سبحانه -
يطالبهم أن يؤدوا مطلوبات هذه القضية ،وأن يدافعوا عن هذه العقيدة التي تثبت للناس جميعا أنه
ل معبود -أي ل مطاع -في أمر إل الحق سبحانه وتعالى.
وحين تحكم هذه القضية أناسا فهي توحد اتجاهاتهم ول تتضارب مع حركاتهم ،ويصبحون جميعا
متعاونين متساندين متعاضدين؛ لذلك جعل ال الطائفة المؤمنة خير أمة أخرجت للناس؛ لن
رسولها صلى ال عليه وسلم خير رسول أرسل للناس ،وطلب الحق من أهل اليمان أن يجاهدوا
الكافرين والمنافقين لتصفو رقعة اليمان مما يكدر صفو حركة الحياة.
والحق يعامل خلقه كبشر ،إنّه خلقهم ويعلم طبائعهم وغرائزهم ول يخاطبهم على أنهم ملئكة،
وإنما يخاطبهم على أنهم بشر ،وهم أغيار ،ومن الغيار أن يصفو لهم أمر العقيدة مرة ،وأن تعكر
عليهم شهواتهم صفو العقيدة مرة أخرى؛ لذلك يؤكد لهم أن طريق العقيدة ليس مفروشا بالرياحين
والورود ،وإنما هو مفروش بالشواك حتى ل يتحمل رسالة الحق في الرض إل من صبر على
هذه البليا وهذه المحن .فلو كانت القضية على طرف الثمام أي سهلة التناول ل مشقة في
الحصول عليها وتدرك بدون آلم وبدون متاعب فسيدعيها كل إنسان ويصبح غير مأمون على
حمل العقيدة.
من أجل ذلك لم ينصر ال السلم أولً ،إنما جعل السلم في أول أمره ضعيفا مضطهدا ،ل
يستطيع أهله أن يحموا أنفسهم ،حتى ل يصبر على هذا اليذاء إل من ذاق حلوة اليمان مما
يجعله ل يشعر بمرارة الضطهاد ووطأة التعذيب ومشقته .فقال الحق سبحانه وتعالى } :وَلَ َتهِنُواْ
فِي ابْ ِتغَآءِ ا ْل َقوْمِ { أي ل تضعفوا في طلب القوم.
وكلمة } َولَ َتهِنُواْ فِي ابْ ِتغَآءِ ا ْلقَوْمِ { أي في طلبهم تدل على أن المة السلمية ليس مطلوبا منها
فقط أن تدفع عن نفسها عدوانا ،بل عليها أن تطلب هؤلء الذين يقفون في وجه الدعوة لتؤدبهم
حتى يتركوا الناس أحرارا في أن يختاروا العقيدة.
ل تهنوا ول تضعفوا في طلب القوم الذين يقفون في وجه الدعوة .ثم
إذن فالطلب منه سبحانه :أ ّ
قال سبحانه } :إِن َتكُونُواْ تَأَْلمُونَ فَإِ ّنهُمْ يَأَْلمُونَ َكمَا تَأْلَمونَ وَتَ ْرجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَ يَرْجُونَ { أي إنه
إذا كان يصيبكم ألم الحرب والعداد لها ،فأنتم أيضا تحاربون قوما يصيبهم ألم المواقع والحروب
والعداد لها؛ فأنتم وهم متساوون في إدراك اللم والمشقة والتعب ،ولكن يجب أل تغفلوا عن تقييم
القوة فل تهملوها؛ لنها هي القوة المرجحة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فأنتم تزيدون عليهم أنكم ترجون من ال ما ل يرجون .والشياء يجب أن ُتقَوّم بغاياتها والثواب
عليها .ل يقولن أحد أبدا " هذا يساوي ذلك " ..فل يهمل أحد قضية الثواب على العمل .ولذلك
يقول الحق سبحانه وتعالى في شرح هذه المعادلة حتى تكون الذهان على بينة منها إعدادا
حسْنَيَيْنِ }[التوبة]52 :
حدَى الْ ُ
ل للمهاُ {:قلْ َهلْ تَرَ ّبصُونَ بِنَآ ِإلّ إِ ْ
وخوضا للحرب واحتما ً
عليكم أيها الكافرون أن تعلموا أن الذي ينتظرنا هو إحدى الحسنيين ..إما أن ننتصر ونقهركم،
وإما أن نستشهد فنظفر بالحياة الخرى .وماذا عن تربص المؤمنين بالكافرين {:وَنَحْنُ نَتَرَ ّبصُ
ِبكُمْ أَن ُيصِي َبكُمُ اللّهُ ِب َعذَابٍ مّنْ عِن ِدهِ َأوْ بِأَيْدِينَا }[التوبة]52 :
كفة مَن -إذن -هي الراجحة في المعادلة؟ إنها كفة المؤمنين؛ لذلك قال الحقَ } :ولَ َتهِنُواْ فِي
ن وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَ يَرْجُونَ { فل
ابْ ِتغَآءِ ا ْل َقوْمِ إِن َتكُونُواْ تَأَْلمُونَ فَإِ ّن ُهمْ يَأَْلمُونَ َكمَا تَأْلَمو َ
تضعفوا أيها المؤمنون في طلب القوم لنهم يألمون كما تألمون ،ولكن لكم مرجّحا أعلى وهو أنكم
ترجون من ال ما ل يرجون.
ويذيل الحق قضية حث المؤمنين على طلب الكافرين وكيف يزيد المؤمنون على الكافرين بأنهم
حكِيما { إنه عليم بكل ما يصيب
يرجون من ال ما ل يرجوه الكافرون فيقولَ } :وكَانَ اللّهُ عَلِيما َ
المؤمن من ألم ،فل تعتقد أيها المؤمن أن لك أجرا سيضيع منك؛ فالشوكة التي تشاك بها في القتال
محسوبة لك ،وهو سبحانه وتعالى حين يتركك تألم أمام الكافر كما يألم .فذلك لحكمة هي أن تسير
إلى القتال وأنت واثق من قدرة إيمانك على تحمل تبعات هذا الدين.
عن عائشة رضي ال عنها قالت :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم( :ما يُصيب المؤمنَ مِنْ
شوكة فما فوقها إل رفعه ال بها درجة أو حط عنه بها خطيئة).
وبعد أن تكلم الحق عن القتال في سبيل نصرة دينه لم يحرم المؤمنين من توجيه يصفي أيضا
حركة الحياة ،لماذا؟ لنه علم أن قوما يؤمنون به وينضوون تحت لوائه صلى ال عليه وسلم،
فيوضح :أن انضواءكم أيها المؤمنون تحت لواء السلم له تبعات ،فأنتم أول من يُطبق عليه حكم
ال ،وإياكم أن تظنوا أنكم بإيمانكم وإعلن إسلمكم ل واتباعكم لرسول ال قد أخذتم شيئا يميزكم
عن بقية خلق ال ،فكما قلنا لكم دافعوا الكفار ودافعوا المنافقين نقول لكم أيضا :دافعوا أنفسكم؛
لن واحدا قد ينضم إلى السلم وبعد ذلك يظن أن السلم سيعطيه فرصة ليكون له تميز على
غيره ،ولمثل هذا النسان :نقول ل .ولذلك يخاطب رسوله صلى ال عليه وسلم ويقول له } :إِنّآ
أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ{ ..
()385 /
خصِيمًا ()105
حكُمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَا أَرَاكَ اللّ ُه وَلَا َتكُنْ لِ ْلخَائِنِينَ َ
إِنّا أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِتَ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن نفسه؛ يتكلم فيما يتعلق بالفعل بصفة التعظيم والجمع .مثال
ذلك قوله { :إِنّآ أَنْزَلْنَا } .وهذه " نون الجماعة " حيث يتطلب إنزال القرآن قوى متعددة ل تتوافر
إل لمن له الملك في كل الكون .ولنضرب لذلك مثل ول المثل العلى ..إننا نجد أن رئيس الدولة
أو الملك في أي بلد يصدر قرارا فيقول " :نحن فلنا أصدرنا القرار " .والملك أو الرئيس يعرف
أنه ليس وحده الذي يصدر القرار ،ولكن يصدره معه كل المتعاونين معه وكل العاملين تحت
رئاسته ،فما بالنا بالحق العلى سبحانه وتعالى؟ لذلك فحين يتكلم سبحانه فيما يتعلق بالذات يكون
لةَ ِل ِذكْرِي }[طه:
الحديث بواسطة ضمير الفراد {:إِنّنِي أَنَا اللّهُ ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وََأقِمِ الصّ َ
]14
ول يأتي هنا ضمير الجمع أبدا ،ول تأتي " نون التعظيم " .ولكن في هذه الية نجد الحق يقول:
حقّ } ..ونرى " نون التعظيم " واضحة ،فالقرآن كلم ال ،ونزول
{ إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
القرآن يتطلب صفات متعاضدة .فسبحانه مرة يقول {:أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ }[العنكبوت]47 :
ومرة يقول {:أَنزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ }[العنكبوت]51 :
ومرة ثالثة يقولَ {:لقَدْ أَن َزلْنَآ إِلَ ْيكُمْ كِتَابا فِيهِ ِذكْ ُركُمْ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[النبياء]10 :
ما الغاية من النزال؟ الغاية من النزال أن يوجد على الرض منهج يحكم حركة الحياة .والقرآن
علَ ْيكَ } فمعنى ذلك نزول
قد أنزل إلى الرسول وإلى من آمن بالرسالة .وحين يقول الحق { :أَنزَلْنَا َ
التكليف .وساعة نسمع كلمة { أَن َزلْنَا } فعلينا أن نعرف أن كل شيء يجيء من الحق فهو ينزل
إلينا منه سبحانه ،وكلمة " أنزل " تشعر السامع أو القارئ لها أن الجهة التي أنزلت هي جهة
أعلى ،وليست مساوية لمن أُنْ ِزلَ إليه ،وليست أدنى منه أيضا.
وكلمة { أَنزَلْنَا } تدل على أن جهة أنزلت ،وجهة أُنزل إليها ،وشيء أنزلته الجهة إلى المُنَ ّزلِ إليه.
والكتاب هو المنزل .والذي أنزله هو ال .والمُنَ ّزلِ إليه هو رسول ال وأمته .وهل أنزل الحق
سبحانه الكتاب فقط أو أنزل قبل ذلك كل ما يتعلق بمقومات الحياة؟
سوْءَا ِتكُ ْم وَرِيشا وَلِبَاسُ
وعندما نقرأ هذا القول الكريم {:يَابَنِي ءَا َدمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَ ْيكُمْ لِبَاسا ُيوَارِي َ
ال ّت ْقوَىا ذاِلكَ خَيْرٌ }[العراف]26 :
إنه لباس جاء من أعلى؛ لذلك استخدم الحق كلمة { أَنزَلْنَا } وهو ليس لباسا فقط ولكنه أيضا
يزينكم مأخوذ من ريش الطائر لنه لباسه وزينته ،فهو ل يواري العورة فحسب ولكنه جميل
أيضا ،والجمل منه أنّه لباس التقوى.
لقد جاء الحق بالمقوم للحياة سترا ورفاهية ،وبعد ذلك أنزل الحق لباس التقوى وهو الخير.
فاللباس الول يواري عورة مادية ،ولباس التقوى يواري العورات القيمية والمعنوية ،وكل ذلك
إنزال من أعلى.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ب وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ
ت وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَا َ
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانهَ {:لقَدْ أَرْسَلْنَا ُرسُلَنَا بِالْبَيّنَا ِ
حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ }[الحديد]25 :
ط وَأَنزَلْنَا الْ َ
سِالنّاسُ بِا ْلقِ ْ
إذن فكلمة " النزال " تدل على أن كل ما جاء من قِ َبلِ الحق العلى إلينا ،فهو نازل إلينا بشيء
يعالج مادتنا وقوامنا ،وبشيء يعالج معنوياتنا وقيمنا.
ويقول الحق في الية التي نحن بصدد تناولها الن } :إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ { وحين يُطلق الكتاب
فالمعنى ينصرف إلى الكتاب الجامع المانع المهيمن على سائر الكتب وهو القرآن ،وإن كان }
ا ْلكِتَابَ { يطلق على المكتوب الذي نزل على أي رسول من ال سبحانه وتعالى.
حقّ { والحق هو الشيء الثابت الذي ل يأتي واقع آخر لينقضه .وعلى
} إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
سبيل المثال :أنت في حياتك العادية حين تقول قضية صدق تحكي بها واقعا حدث مهما تكررت
روايتك لهذه التفاصيل مدة عشرين سنة فهي ل تتغير؛ لنها مطابقة للواقع .وأنت حين تقولها
تستحضر الواقع الذي حدث أمامك .ولكن إذا حَ ّدثَ إنسان بقضية كذب ل واقع له .فماذا يكون
موقفه؟ سيحكي القضية مرة بأسلوب ،وإن مر عليه أسبوع فهو ينسى بعضا مما قاله في أول مرة
فيحكي وقائع أخرى ،ذلك أن ما يرويه ليس له واقع؛ لذلك يقول كلما مغايرا لما قاله في المرة
الولى ،وهنا يعرف السامع أن هذه المسألة كاذبة.
إذن فالحق هو الشيء الثابت الذي ل ينقضه واقع أبدا .وأنزل ال الكتاب بالحق أي أنزله بالقضايا
الثابتة التي ل يأتيها الباطل من بين يديها ،فهو ثابت ل ينقضه واقع.
ويقال في حياتنا للتلميذ الناجح من أساتذته :لقد أعطيناك المرتبة الولى على زملئك بالحق .أي
أن هذا التلميذ قد أخذ حقه لنه يستحق هذه المكانة .وقوله الحق سبحانه } :إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ
حقّ { أي إن إنزال الكتاب على سيدنا رسول ال ليبلغه جاء ملتبسا ومرتبطا بالحق ول ينفك
بِالْ َ
عنه وأن رسول ال صلى ال عليه وسلم أهل لن ينزل عليه الكلمات .ووجود معنى بجانب معنى
في القرآن هو من أسرار إشعاعات الكلمات القرآنية ،فهي ل تتناقض ولكنها توضع بحكمة الخالق
لتجلو لنا المعاني.
حكُمَ بَيْنَ النّاسِ { وهذا يوضح لنا أن حكومة الدين السلمي
حقّ لِ َت ْ
} إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
وعلى رأسها الحاكم الول رسول ال صلى ال عليه وسلم إنما جاء ل ليحكم بين المؤمنين به
فقط ،بل ليحكم بين الناس .ومن شرط الحكم بين الناس القيام بالعدل فيما يختصمون فيه ،فل
يقولن واحد :هذا مسلم ،وذاك كافر ،فإذا كان الحق مع الكافر فل بد أن تعطيه له ،وإذا كان الحق
مع المسلم فيجب أن تعطيه له؛ لنك ل تحكم بين المؤمنين فقط ولكنك تحكم بين الناس.
وأنت إن حكمت بين الناس حكما يتفق مع منطق الواقع والحق.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تجعل الذي حُكم له يشهد أن دينك حق ،فعندما يكون الحق مع الكافر ،وتحكم على المؤمن بالحكم
الحق الذي ل حيف فيه حتى وإن كان عقابا ،فالكافر يقرع نفسه على أنه لم يكن من أهل هذا
الدين الذي يعترف بالحق ويحكم به ولو كان على مسلم .وأيضا يعرف المسلم ساعة يُحكم عليه
لصالح واحد غير مسلم أن المسألة ليست نسبة شكلية إلى السلم ،ولكنها نسبة موضوعية ،فل
يظنن أحد أن السلم قد جاء ليحابي مسلما على أي إنسان آخر ،ولكن السلم قد جاء ليأخذ
الجميع بمنطق الحق ،ويطبق على الجميع منهج الحق ،وليكون المسلم دائما في جانب الحق.
وسبحانه وتعالى يعطي هذه القضية لواقعة حدثت معاصرة لرسول ال .والوقائع التي حدثت
معاصرة لرسول ال بمثابة إستدرار السماء للحكام ،فالقضية تحدث وينزل فيها الحكم ،ولو
جاءت الحكام مبوبة وسقطت ونزلت مرة واحدة ،فقد تحدث الحادثة ويكون لدى المؤمنين الحكم
ويحاولون البحث عنه في الكتاب .لكن إذا ما جاء الحكم ساعة وقوع الحادثة فهو ينصب عليها،
ويكون المر أدعى للذعان له؛ لنه ثبت وأُيّد ووثّق بواقعة تطبيقية.
حكُمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّ ُه َولَ َتكُنْ
والحكم الذي نزل هو } :إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِ َت ْ
خصِيما { .وعندما يقول سبحانه " أراك " أو " علّمك " فلتعلم أن تعليم ال هو أكثر
لّلْخَآئِنِينَ َ
تصديقا من رؤيتك النسانية ،وكأنك تتمثل الشيء الذي يعلمه لك ال وكأنه مجسد أمامك ،وليس
مع العين أين.
والواقعة التي حدثت هي :كان في " بني ظفر " واحد اسمه " طعمة بن أبيرق " وسرق " طعمة "
درعا ،وهذا الدرع كان " لقتادة بن النعمان " .وخاف " طعمة " أن يحتفظ بالدرع في بيته فيعرف
الناس أنه سرق الدرع .وكان " طعمة " فيما يبدو مشهورا بأنه لص ،فذهب إلى يهودي وأودع
عنده الدرع ،وكان الدرع في جراب دقيق .وحينما خرج به " طعمة " وحمله صار الدقيق ينتثر
من خرق في الجراب وتَكوَنّ من الدقيق أثرا في الرض إلى بيت اليهودي وكان اسمه " زيد بن
السمين " وعندما تتبعوا أثر الدقيق وجدوه إلى بيت طعمة ،ولكنه حلف ما أخذها وما له بها علم
فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها وقالوا " :لقد سرق ابن السمين
" .وهنا قال ابن السمين " :أنا لم أسرق الدرع ولكن أودعه عندي " طعمة بن أبيرق " .وذهبوا إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم وجاء " بنو ظفر " وهم مسلمون " وطعمة بن أبيرق " منهم وقالوا
لرسول ال صلى ال عليه وسلم :لو حكمت على المسلم ضد اليهودي فستكون المسألة ضد
المسلمين وسيوجد العار بين المسلمين.
ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى أرسل رسوله لِ ُيعَدّل منهج الغرائز البشرية .والغريزة البشرية
بحسب اندفاعها وقصر نظرتها قد تتصور أن الحكم على المسلم وتبرئة اليهودي هو إضعاف
للمسلمين .ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يقيم المر بالقسط فينزل على رسوله {:إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خصِيما }[النساء]105 :
ح ُكمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّ ُه َولَ َتكُنْ لّلْخَآئِنِينَ َ
حقّ لِتَ ْ
ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
أي إياك أن تقول :إن هذا مسلم ول يصح أن نلصق به الجريمة التي ارتكبها حتى ل تكون سُبة
عليه ،وإياك أن تخشى ارتفاع رأس اليهودي؛ لن هناك لصا قد ظهر من بين المسلمين .ومن
الشرف للسلم أن يعاقب أي إنسان ارتكب خطأ لنه مادام قد انتسب للسلم فعليه أن يصون
هذا النتساب .وعقاب المسلم على خطأ هو شهادة للسلم على أنه لم يأت ليجامل مسلما .وعلى
كل مسلم أن يعرف أنه دخل السلمَ بحق السلم.
خصِيما { قائلين :إن كان هناك لص
لقد نظر بعض السطحيين إلى قوله الحقَ } :ولَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ َ
أو خائن أو مستغل لقوته فاتركه ول تنظر إليه ول تلتفت حتى ل يسبب لك تعبا .ولهؤلء نقول:
خصِيما { و " اللم " التي في أول " الخائنين " هي
ل ،فسبحانه وتعالى يقولَ } :ولَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ َ
للملكية أي أن الحق يأمر النبي صلى ال عليه وسلم أل يقف موقفا لصالح الخائن ،بل عليه أن
يخاصم لمصلحة الحق.
وقد حاول العلماء أن يقربوا المسافة فقالوا :ربما ل يتنبه أحد لمسألة اللم وأنها هنا للنفعية،
فيكون المنهي عنه أن يقف مسلم موقفا ينفع خائنا ،بل ل بد أن يكون على الخائن وليس معه.
خصِيما { .أي ل تكن يا
فاللم هنا تكون بمعنى " عن " .كأن الحق يقول } :وَلَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ َ
محمد مدافعا عن الخائنين.
ولماذا لم يقل الحق " عن " بدلً من " اللم "؟ نقول :إن الغاية من الدفاع عن الخصم أن ترجح
أمره وتكون له ل عليه ،لذلك جاء الحق بـ " اللم " هنا من أجل أن نعرف الغاية من " عن "
واضحة .فاللم تفيد أل ينفع المسلم خائنا ،فل تكون المسالة له ،ولذلك جاء الحق بها إيضاحا
واختصارا لنعرف أن رسوله لن يقف في جانب الخائن ولن يأتي له بما ينفعه .ولذلك قال العلماء:
إن اللم هنا بمعنى " عن " .والقرآن فيه الكثير من مثل هذا.
وبعض الناس يقول :لماذا ل يأتي باللفظ الواضح الذي يجعلنا نعرف المعنى مباشرة؟ ونقول :إن
الملحظية هنا مفيدة لنعرف في أي صف يقف القرآن والرسول المبلغ عن ربه ,مثال ذلك قوله
عمّا كَانَ َيعْبُدُ
ص ّدكُمْ َ
جلٌ يُرِيدُ أَن َي ُ
الحق {:وَِإذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـاذَا ِإلّ َر ُ
سحْرٌ
حقّ َلمّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ ِ
آبَآ ُؤكُ ْم َوقَالُواْ مَا هَـاذَآ ِإلّ ِإ ْفكٌ ّمفْتَرًى َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُواْ لِلْ َ
مّبِينٌ }
[سبأ]43 :
القائل هم الذين كفروا ،والمقول له هو الحق .وبعض الناس كان يفترض أن المنطق يقتضي أن
يقول الكفار :إنك سحر مبين .وكأن الية هي :وإذ تتلى آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما
جاءهم أنت سحر مبين .ولنلحظ أنهم لم يقولوا للحق ،ولكنهم قالوا عن الحق .ولم يقولوا للحق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ح ّدثٌ عنه وليس مخاطبا .فقالوا عنه :إنه سحر
ذلك ،بل قال بعضهم لبعض .و " الحق " هنا مُ َ
مبين.
وهناك آية أخرى يقول الحق فيهاَ {:وقَالَ الّذِينَ َكفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ َلوْ كَانَ خَيْرا مّا سَ َبقُونَآ ِإلَيْهِ }
[الحقاف]11 :
والقائل هنا هم الذين كفروا .والمقول لهم هم الذين آمنوا .والمقصود هو :أن الذين كفروا قالوا
للذين آمنوا لو كان السلم خيرا ما سبقتمونا إليه.
ولكن الحق سبحانه أوردهاَ " :لوْ كَانَ خَيْرا مّا سَ َبقُونَآ إِلَيْهِ " وذلك ليدلنا على أنهم قالوا ذلك في
غير محضر المؤمنين ،بل هم يتبادلون هذا القول فيما بينهم .وإل لو أن القول من الكافرين
للمؤمنين لكان السياق يقتضي أن يكون :لو كان خيرا ما سبقتمونا إليه.
ومن بعد ذلك يقول الحق } :وَاسْ َت ْغفِرِ اللّهَ{ ..
()386 /
والمر بالستغفار يجيء على مجرد وجود خاطر التردد بين نصرة المسلم أو نصرة اليهودي ،فلم
يكن الرسول قد نصر أحدا على أحد بعد ،ولكن مجرد هذا الخاطر يتطلب الستغفار .والذي
يصدر المر بذلك هو الحق سبحانه لرسوله ،ول اعتراض ول غضاضة أن يعدل لنا ربنا أمرا
ما.
أو أن كل خطاب من هذا اللون موجه لمن جعل المسألة موضع مساومة عند رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،كقول " بني ظفر " عندما أرادوا ألّ يحكم الرسول على اللص الذي من بينهم،
وتمحكوا في السلم .لذلك يأمر الحق الذين حدثوا رسول ال عن هذا الموضوع بالستغفار ،أو
أن يستغفر الرسول لهم ال؛ لنهم لم يقولوا ذلك إل رغبة في أل ينفضح أمر المسلمين.
سهُمْ} ..
وبعد ذلك يقول الحقَ { :ولَ تُجَا ِدلْ عَنِ الّذِينَ َيخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ
()387 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسبحانه يريد أن يشبع هذه القضية بحثا ،فقد كان يكفي أن يقول لنا ما سبق .لكنه يريد أن يحسم
مثل هذه المور؛ فل مجادلة في الذين يختانون أنفسهم .والجدل كما نعرف هو الفتل .وحين يفتل
النسان شيئا ،مثل أن يحضر بعضا من الشعر أو الصوف أو الليف ويجدلها ليصنع حبلً ،فهو
يفتل هذا الغزل ليقويه ويجعله غير هش وقابلً للشد والجذب ،ولذلك يقال عن مثل هذه العملية:
إننا نجدل الحبل حتى نعطيه القوة .وكذلك شأن الخصمين؛ كل واحد منهما يريد تقوية حجته،
فيحاول جاهدا أن يقويها بما يشاء من أساليب ليّ القول ولحنه أو الفصاحة في السلوب .لذلك
يأتي المر إلى الرسول :ل تقو مركز أي إنسان يختان نفسه.
والقرآن حين يعدل عن يخونون أنفسهم إلى " يختانون أنفسهم " ،فل بد أن لهذا معنى كبيرا؛ لن
الخيانة هي أن تأخذ غير الحق .ومن المحتمل أن يخون النسان غيره ،لكن َأمِنَ المعقول أن
يخون النسان نفسه؟ إن مثل هذه العملية تحتاج إلى افتعال كبير ،فقد يخون النسان نفسه غيره
من أجل مصلحة نفسه ،أو ليعطي نفسه شهوة ومعصية عليها عقوبة ،وهذه خيانة للنفس؛ لن
النسان في مثل هذه الحالة يغفل عن العقوبة الجلة بالشهوة العابرة العاجلة.
وهكذا نرى أن الذي يخون الناس إنما يخون ـ ضمنا ـ مصلحة نفسه .وإذا ما خان النسان
سهُمْ
نفسه فهذا ليس سهلً ويتطلب افتعالً ،ولذلك يقول الحقَ { :ولَ ُتجَا ِدلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَ ْنفُ َ
خوّانا أَثِيما }.
حبّ مَن كَانَ َ
إِنّ اللّ َه لَ ُي ِ
والية التي تحدثت من قبل ذلك عن هذا الموقف لم تأت بكلمة " خوانين " ولكن جاءت بالخائنين،
وهنا يأتي الحق بكلمة خوّان .وفيه فرق بين " خائن " ،و " خوّان " ،فالخائن تصدر منه الخيانة
مرة واحدة ،أما الخوّان فتصدر منه الخيانة مرارا .أو يكون المعنى هو :أن الخائن تصدر منه
الخيانة في أمر يسير صغير ،أما الخوّان فتصدر منه الخيانة في أمر كبير .إذن .فمرة تأتي
المبالغة في تكرير الفعل ،وأخرى في تضخيم الفعل.
ومن لطف ال أنه لم يقل " خائن "؛ لن الخائن هو من خان لمرة عابرة وانتهى المر ،ولم
يخرجه ال عن دائرة الستر إلّ إذا أخذ الخيانة طبعا وعادة وحرفة .وقد جاءت لسيدنا عمر -
رضي ال عنه -امرأة أخذ ولدها بسرقة ،وأراد عمر -رضي ال عنه -أن يقيم على ذلك الولد
الحد ،فبكت الم قائلة :يا أمير المؤمنين وال ما فعل هذا إل هذه المرة .قال عمر :كذبت .وال ما
كان ال ليأخذ عبدا بأول مرة.
ولذلك يقولون :إذا عرفت في رجل سيئة انكشفت وصارت واضحة .فلتعلم أن لها أخوات؛ فال ل
يمكن أن يفضح أول سيئة؛ لنه سبحانه يحب أن يستر عباده ،لذلك يستر العبد مرة وثانية ،ثم
خوّانا أَثِيما { ،والثم أفظع
حبّ مَن كَانَ َ
يستمر العبد في السيئة فيفضحها ال } :إِنّ اللّهَ لَ ُي ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المعاصي .والقوم الذين ذهبوا إلى رسول ال صلى ال علسه وسلم ليستشفعوا عنده لبن أبيرق
لكي يحكم له الرسول ضد اليهودي ،لماذا صنعوا ذلك؟ .لنهم استفظعوا أن يفضح أمر مسلم
ويبرأ يهودي ،استحيوا أن يحدث هذا ،وعالج القرآن هذه القضية وذلك ليأتي بالحيثية التي دعتهم
س َولَ
خفُونَ مِنَ النّا ِ
إلى أن يفعلوا هذا ويقضي على مثل هذا الفعل من أساسه ،فقالَ } :يسْتَ ْ
خفُونَ مِنَ اللّهِ{ ..
يَسْ َت ْ
()388 /
خفُونَ مِنَ اللّ ِه وَ ُهوَ َم َعهُمْ ِإذْ يُبَيّتُونَ مَا لَا يَ ْرضَى مِنَ ا ْل َق ْولِ َوكَانَ اللّهُ
س وَلَا َيسْتَ ْ
خفُونَ مِنَ النّا ِ
يَسْ َت ْ
ِبمَا َي ْعمَلُونَ ُمحِيطًا ()108
إنهم يطلبون البراءة أمام الناس في أن " طعمة " لم يفعل السرقة ،ولكن هل يملك الناس ما يملكه
ال عنهم؟ .إنه سبحانه أحق بذلك من الناس .فإذا كنتم تريدون التعمية في قضاء الرض فلن
تعموا على قضاء السماء .وهذه القضية يجب أن تحكم حركة المؤمن ،فإذا ما فكر إنسان منسوب
إلى السلم أن يفعل شيئا يغضب ال فعليه أن يفكر :أنا لو فعلت ذلك لفضحت نفسي أو فضحت
ولدي أو فضحت أسرتي أو فضحت المسلمين ،وعلى النسان المسلم أل يخشى الناس إن فعل أخ
له شيئا يشين المسلمين ،بل عليه أن يأخذ على يديه ويردُه عن فعله .ونقول لمن يستتر عن الناس:
أنت استخفيت من الناس ،ولم تستخف من ال؛ لذلك فأنت غير مأمون على ولية.
خفُونَ مِنَ اللّ ِه وَ ُهوَ َم َعهُمْ ِإذْ يُبَيّتُونَ مَا لَ يَ ْرضَىا مِنَ ا ْل َق ْولِ } و "
س َولَ َيسْتَ ْ
خفُونَ مِنَ النّا ِ
{ َيسْتَ ْ
يبيت " أي أنه يفعل أمره في الليل؛ لن الناس كانت تلجأ إلى بيوتهم في الليل ،ومعنى " يبيت " أن
يصنع مكيدة في البيت ليل ،وكل تدبير بخفاء اسمه " تبييت " حتى ولو كان في وضح النهار ،ول
يبيت إنسان في خفاء إل رغبة منه في أن ينفض عنه عيون الرائين .فنقول له :أنت تنفض العيون
س َولَ
خفُونَ مِنَ النّا ِ
التي مثلك ،لكن العيون الزلية وهي عيون الحق فلن تقدر عليها {.يَسْ َت ْ
خفُونَ مِنَ اللّهِ وَ ُهوَ َم َعهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لَ يَ ْرضَىا مِنَ ا ْلقَ ْولِ َوكَانَ اللّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ مُحِيطا }
يَسْ َت ْ
[النساء]108 :
حين نسمع كلمة " محيط " فلنعلم أن الحاطة هي تطويق المحيط للمحاط ،بحيث ل يستطيع أن
يفلت منه علما بحاله التي هو عليها ول قدرة على أن يفلت مِنْه مآل وعاقبة ،فهو سبحانه محيط
علما لنه هو الذي ل تخفى عليه خافية ،ومحيط قدرة فل يستطيع أن يفلت أحد منه إلى الخارج.
وسبحانه محيط علما بكل جزئيات الكون وتفاصيله وهو القادر فوق كل شيء .فإذا ما سمعنا كلمة
" محيط " فمعناها أن الحق سبحانه وتعالى يحيط ما يحيط به علما بكل جزئياته فل تستطيع جزئيه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن تهرب من علم الحق .وسبحانه محيط بكل شيء قدرة فل يستطيع أن يفلت من مآله شيء من
الجزاء الحق.
وبعد ذلك يقول الحق جل وعل { :هَا أَنْتُمْ هَـاؤُلءِ جَادَلْ ُتمْ عَ ْنهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا} ..
()389 /
هَا أَنْ ُتمْ َهؤُلَاءِ جَادَلْ ُتمْ عَ ْنهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َفمَنْ ُيجَا ِدلُ اللّهَ عَ ْنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَمْ مَنْ َيكُونُ عَلَ ْيهِمْ
َوكِيلًا ()109
فالذي جادل عن ابن ابيرق كان يريد أن يبرئ ساحته أمام الناس ويدين اليهودي ،وفي أنه قد
جادل أمام بشر عن بشر ،فهل تنتهي المسألة بهذا اليسر؟ ل؛ لن الدنيا ليست دار جزاء .وهب
أنه أفلت من العقوبة البشرية ،أيفلت من عقوبة ال في الخرة؟ ل ،إذن فالذي يجادل يريد أن
يعمى على قضاء الرض ،ولن يستطيع أن يعمى على قضاء الحق ،ولم يجد من يجادل عن مثل
علَ ْيهِ ْم َوكِيلً } أي
هذا الخطأ يوم القيامة .وليس هذا فقط ،ولكن الحق يذيل اليةَ { :أمْ مّن َيكُونُ َ
فمن إذن يستطيع أن يكون وكيلً عن هؤلء يوم القيامة؟ .ونعرف أن الوكيل هو الشخص اللبق
الذي يختاره بعض الناس ليكون قادرا على إقناع من أمامه .فمن يستطيع أن يقوم بذلك العمل أمام
ال؟ ل أحد.
ويقول الحق من بعد ذلكَ { :ومَن َي ْع َملْ سُوءا َأوْ يَظِْلمْ َنفْسَهُ ُثمّ يَسْ َت ْغفِرِ} ..
()390 /
وسبحانه وتعالى حينما خلق الخلق جعلهم أهل أغيار؛ لذلك لم يشأ أن يُخرج مذنبا بذنب عن دائرة
قدرته ورحمته ،بل إنه -سبحانه -شرع التوبة للمذنب حماية للمجتمع من استشراء شره .فلو
خرج كل من ارتكب ذنبا من رحمة ال ،فسوف يعاني المجتمع من شرور مثل هذا النسان،
ويصبح كل عمله نقمة مستطيرة الشر على المجتمع .إذن فالتوبة من ال ،مشروعية وقبولً ،إنما
هي حماية للبشر من شراسة من يصنع أول ذنب .وهكذا جاءت التوبة لتحمي الناس من شراسة
أهل المعصية الذين بدأوا بمعصية واحدة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الذين وقفوا في محاولة تبرئة " ابن أبيرق " انقسموا إلى قسمين :قسم في باله أن يبرئ " ابن
أبيرق " ،وقسم في باله أل يفضح مسلما .وكل من القسمين قد أذنب .ولكن هل يخرجهم هذا
غفُورا رّحِيما } والحق يعفو عن تلك المسألة.
الذنب من رحمة ال؟ .ل ،فسبحانه يقولَ { :يجِدِ اللّهَ َ
إن القسمين جميعا أصبحوا مطالبين بعمل طيب بعد أن أوضح لهم الرسول ،وفهموا مراد الحق.
وسبحانه يبقيهم في الصف اليماني ،وقد حكم رسول ال على " ابن أبيرق " لصالح اليهودي،
وبعد ذلك ارتد " ابن أبيرق " ،وذهب إلى مكة مصاحبا لِعادة الخيانة ،فنقب حائطا على رجل
ليسرق متاعه فوقع الحائط عليه فمات.
والحق سبحانه يضع المعايير ،فمن يرتكب ذنبا أو يظلم نفسه بخطيئة ثم يستغفر ال يجد ال
غفورا رحيما .ونلحظ أن بعض السطحيين ل يفهمون جيدا قول الحقَ { :ومَن َي ْع َملْ سُوءا َأوْ
غفُورا رّحِيما } فيتساءلون :أليس الذي ارتكب العمل السيئ قد
يَظِْلمْ َنفْسَهُ ُثمّ يَسْ َت ْغفِرِ اللّهَ َيجِدِ اللّهَ َ
ظلم نفسه؟
ونقول :إن دقة القرآن توضح لنا المعنى؛ فمعنى عمل سوءًا أضرّ بهذا العمل آخرين ،إنّه غير
الذي ارتكب شيئا يضرّ به نفسه فقط؛ فالذي سرق أو قتل أو اعتدى على آخر قذفا أو ضربا أو
إهانة ،مثل هذه العمال هي ارتكاب للسوء؛ فالسوء هو عمل يكرهه الناس ،ويقال :فلن رجل
سوء ،أي يلقى الناس بما يكرهون.
لكن الذي يشرب الخمر قد يكون في عزلة عن الناس لم يرتكب إساءة إلى أحد ،لكنه ظلم نفسه؛
لن النسان المسلم مطلوب منه الولية على نفسه أيضا ،والمنهج يحمي المسلم حتى من نفسه،
ويحمي النفس من صاحبها ،بدليل أننا نأخذ من يقتل غيره بالعقوبة ،وكذلك يحرم ال من الجنة من
قتل نفسه انتحارا.
وهكذا نرى حماية المنهج للنسان وكيف تحيطه من كل الجهات؛ لن النسان فرد من كون ال،
والحق يطلب من كل فرد أن يحمي نفسه .فإن صنع سوءا أي أضر بغيره ،فهذا اسمه " سوء ".
سهُمْ َذكَرُواْ
شةً َأوْ ظََلمُواْ أَ ْنفُ َ
أما حين يصنع فعلً يضر نفسه فهذا ظلم النفس {:وَالّذِينَ ِإذَا َفعَلُواْ فَاحِ َ
اللّهَ فَاسْ َت ْغفَرُواْ لِذُنُو ِبهِمْ َومَن َي ْغفِرُ الذّنُوبَ ِإلّ اللّ ُه وََلمْ ُيصِرّواْ عَلَىا مَا َفعَلُو ْا وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ }[سورة
آل عمران]135 :
وهل فعل الفاحشة مخالف لظلم النفس؟ .إنه إساءة لغيره أيضا ،لكن ظلم النفس هو الفعل الذي
يسئ إلى النفس وحدها .أو أن النسان يصنع سيئة ويمتع نفسه بها لحظة من اللحظات ول
يستحضر عقوبتها الشديدة في الخرة .وقد تجد إنسانا يرتكب المعصية ليحقق لغيره متعة ،مثال
ذلك شاهد الزور الذي يعطي حق إنسان لنسان آخر ولم يأخذ شيئا لنفسه ،بل باع دينه بدنيا
غيره ،وينطبق عليه قول الرسول صلى ال عليه وسلم:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" بادروا بالعمال ستكون فتنة كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويُمسي كافرا ،أو يمسي
مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض الدنيا ".
غفُورا رّحِيما { وال غفور ورحيم أزلً
جدِ اللّهَ َ
ظلِمْ َنفْسَهُ ُثمّ يَسْ َت ْغفِرِ اللّهَ يَ ِ
} َومَن َي ْع َملْ سُوءا َأوْ يَ ْ
ودائما ،والعبد التائب يرى مغفرة ال ورحمته.
سبْ إِثْما فَإِ ّنمَا َيكْسِبُهُ{ ..
ويقول الحق من بعد ذلكَ } :ومَن َيكْ ِ
()391 /
حكِيمًا ()111
سبْ إِ ْثمًا فَإِ ّنمَا َي ْكسِبُهُ عَلَى َنفْسِ ِه َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ
َومَنْ َي ْك ِ
ويورد الحق كلمة " كسب " عندما يتناول أمرا خَيّرًا فعله النسان ،ويصف ارتكاب الفعل السيئ
بـ " اكتسب " ،لماذا؟ لن فعل الخير عملية فطرية في النسان ل يستحيي منه ،لكن الشر دائما
هو عملية يستحيي منها النسان؛ لذلك يحب أن يقوم بها في خفية ،وتحتاج إلى افتعال من
النسان.
ولنضرب هذا المثل لليضاح -ول المثل العلى -نحن نجد الرجل ينظر إلى وسامة زوجته
بكل ملكاته ،لكنه لو نظر إلى واحدة أخرى من غير محارمه فهو يقوم بعملية لخداع ملكات النفس
حتى يتلصص ليرى هذه المرأة .ويحاول التحايل والفتعال ليتلصص على ما ليس له .ولذلك يقال
عن الحلل :إنه " كسب " ويقال عن الحرام :إنه " اكتساب "..
فإذا ما جاء القرآن للسيئة وقال " كسب سيئة " فهذا أمر يستحق اللتفات ،فالنسان قد يعمل السيئة
ويندم عليها بمجرد النتهاء منها إن كان من أهل الخير ،ونجده يويخ نفسه ويلومها ويعزم على أل
يعود إليها .لكن لو ارتكب واحد سيئة وسعد بذلك وكأنها حققت له كسبا ويفخر بها متناسيا الخطر
الجسيم الذي سوف يواجهه يوم القيامة والمصير السود ،وهو حين يفخر بالمعصية ففي ذلك
إعلن عن فساد الفطرة ،وسيادة الفجور في أعماقه ،وهو يختلف عن ذلك الذي تقع عليه المعصية
ولحظة ما يتذكرها يقشعر بدنه ويستغفر ال.
سبْ إِثْما فَإِ ّنمَا َيكْسِبُهُ عَلَىا َنفْسِهِ } فإياك أيها النسان أن تظن أنك حين تظلم أحدا بعمل
{ َومَن َيكْ ِ
سوء قد كسبت الدنيا؛ فوال لو علم الظالم ماذا أعد ال للمظلوم لضن على عدوه أن يظلمه.
وأضرب هذا المثل لليضاح -ول المثل العلى دائما -هب أن رجلً له ولدان .وجاء ولد
منهما وضرب أخاه أو خطف منه شيئا يملكه ،ورأى الب هذا الحادث ،فأين يكون قلب الب ومع
من يكون؟
إن الب يقف مع المظلوم ،ويحاول أن يرضيه ،فإن كان الخ الظالم قد أخذ منه شيئا يساوي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عشرة قروش ،فالب يعوض البن المظلوم بشيء يساوي مائة قرش .ويعيش الظالم في حسرة،
ولو علم أن والده سيكرم أخاه المظلوم لما ظلمه أبدا .إذن فالظلم قمة من قمم الغباء.
ومن ضمن المفارقات التي تروى مفارقة تقول :إن كنت ول بد مغتابا فاغتب أبويك .ول بد أن
يقول السامع لذلك :وكيف أغتاب أبي وأمي؟ فيقول صاحب المفارقة :إن والديك أولى بحسناتك،
فبدلً من أن تعطي حسناتك لعدوك ،ابحث عمن تحبهم وأعطهم حسناتك .وحيثية ذلك هي :ل تكن
أيها المغتاب أحمق لنك ل تغتاب إل عن عداوة ،وكيف تعطي لعدوك حسناتك وهي نتيجة
أعمالك؟
ونعرف ما فعله سيدنا الحسن البصري ،عندما بلغه أن واحدا قد اغتابه.
فأرسل إلى المغتاب طبقا من البلح الرطب مع رسول ،وقال للرسول :اذهب بهذا الطبق إلى فلن
وقل له :بلغ سيدي أنك اغتبته بالمس فأهديت له حسناتك ،وحسناتك بلشك أثمن من هذا
الرطب .وفي هذا إيضاح كاف لذم الغيبة.
حكِيما { ونعلم أنه إذا جاءت أي صفة
علِيما َ
سبْ إِثْما فَإِ ّنمَا َيكْسِبُهُ عَلَىا َنفْسِ ِه َوكَانَ اللّهُ َ
} َومَن َيكْ ِ
من صفات الحق داخلة في صورة كينونة أي مسبوقة بـ " كان " فإياكم أن تأخذوا " كان " على
أنها وصف لما حدث في زمن ماضٍ ،ولكن لنقل " كان ومازال " .لماذا؟ لن ال كان أزلً ،فهو
غفور رحيم قبل أن يوجد مغفور له أو مرحوم؛ فال ليس من اهل الغيار ،والصفات ثابتة له؛
لن الزمن في الحداث يتغير بالنسبة للغيار فقط ،وعلى سبيل المثال نجد الواحد من البشر
صحيحا في زمن ومريضا في زمن آخر.
ولذلك ل يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الماضي إل أصحاب الغيار .وكذلك ل يخرج الزمن
المستقبل عن الزمن الحاضر إل في أصحاب الغيار .ومادام ال هو الذي يغير ول يتغير فلن
يغيره زمن ما ،بل كان في الزل غفورا رحيما ،وليزال أيضا غفورا رحيما .وكذلك كان علم
ال أزليا وحكمته ل حدود لها.
خطِيئَةً َأوْ إِثْما{ ..
سبْ َ
وبعد ذلك يقول الحقَ } :ومَن َيكْ ِ
()392 /
سبْ خَطِي َئةً َأوْ إِ ْثمًا ثُمّ يَ ْرمِ بِهِ بَرِيئًا َفقَدِ احْ َت َملَ ُبهْتَانًا وَإِ ْثمًا مُبِينًا ()112
َومَنْ َي ْك ِ
قالوا :إن الخطيئة هي الشيء غير المتعمّد ،مثال ذلك حين نعلّم التلميذ قاعدة من قواعد النحو ،ثم
نطلب منه أن يطالع نصا من النصوص ،ونلتفت لنجد التلميذ قد نصب الفاعل ورفع المفعول،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونصحح له الخطأ ،إنّه لم يتعمده ،بل نسي القاعدة ولم يستحضرها .ونظل نصحح له الخطأ إلى
أن يتذكر القاعدة النحوية ،وبالتدريب يصبح العراب ملكة عند التلميذ فل يخطئ.
والخطيئة -إذن -هي الخطأ غير المتعمد .اما الثم فهو المر المتعمّد .فكيف إذا رمى واحد
سبْ خَطِي َئةً َأوْ إِثْما ثُمّ يَ ْرمِ
غيره بإثم ارتكبه أو خطيئة ارتكبها هو ..ما حكم ال في ذلك؟{ َومَن َيكْ ِ
بِهِ بَرِيئا َفقَدِ احْ َت َملَ ُبهْتَانا وَإِثْما مّبِينا }[النساء]112 :
لقد ارتكب الخطيئة أو الثم ،ويا ليته اكتفى بهذا ،ل ،بل يريد أن يصعد الجريمة بارتكاب جريمة
ثانية وذلك بأن يرمي بالخطيئة أو الثم بريئا ،إنّ إثمه مركب ،ولذلك قال الحقَ { :فقَدِ احْ َت َملَ
ُبهْتَانا وَإِثْما مّبِينا } واستخدام الحق هنا لكلمة " احتمل " وليس " حمل " تؤكد لنا أن هناك علجا
ومكابدة وشدة ليحمل النسان هذا الشيء الثقيل؛ فالجريمة جريمتان وليست واحدة ،لقد فعل
الخطيئة ورمى بها بريئا ،وفاعل الخطيئة يندم على فعلها مرة ،ويندم أيضا على إلصاقها ببريء.
إذن فهي حمل على أكتافه .ونعلم أن النسان ساعة يقع أسير سُعار العداوة؛ يهون عليه أن يصنع
المعصية ،ولكن بعد أن يهدأ سعار العداوة فالندم يأتيه .قال الحق {:وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَادَمَ
لقْتُلَ ّنكَ قَالَ إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ
ل َ
حقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَ ُتقُبّلَ مِن َأحَدِ ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَبّلْ مِنَ الخَرِ قَا َ
بِالْ َ
ا ْلمُ ّتقِينَ }[المائدة]27 :
هابيل -إذن -يسأل قابيل :وما ذنبي أنا في ذلك ،إن ال هو الذي يتقبل القربان وليس أنا فلماذا
تقلتني؟
لقْتَُلكَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ
ك َ
ويستمر القول الحكيم {:لَئِن بَسَطتَ إَِليّ َي َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ َي ِديَ إِلَ ْي َ
َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[المائدة]28 :
عتْ َلهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ َأخِيهِ َفقَتَلَهُ فََأصْبَحَ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ }[المائدة:
طوّ َ
وماذا يقول الحق من بعد ذلكَ {:ف َ
]30
كأن مسألة القتل كانت عملية شاقة وليست سهلة ،وأخذت مغالبة .وعلى سبيل المثال :لن يقول
أحد " :لقد طوعت الحبل " ولكن هناك من يقول " :أنا طوعت الحديد " .وسعار الغضب جعل
قابيل ينسى كل شيء وقت الجريمة ،وبعد أن وقعت ،وهدأ سعار الغضب الذي ستر موازين القيم،
هنا ظهرت موازين القيم ناصعة في النفس.
ولذلك نجد من يرتكب جريمة ما ،ويتجه بعد ذلك لتسليم نفسه إلى الشرطة ،وهو يفعل ذلك لن
سعار الجريمة انتهى وظهر ضوء موازين القيم ساطعا .وعلى ذلك نفهم قول الحقَ { :فقَدِ احْ َت َملَ
ُبهْتَانا وَإِثْما مّبِينا }.
وهذا يدل على أن من يصنع جريمة ثم يرمي البريء بالثم إنما يرتكب عملً يتطلب مشقة
وتتنازعه نفسه مرة بالندم؛ لنه فعل الجريمة ،وتنازعه نفسه مرة ثانية لنه رمى بريئا بالجريمة؛
لذلك قال الحقَ { :فقَدِ احْ َت َملَ ُبهْتَانا وَإِثْما مّبِينا } وساعة نسمع كلمة " بهتان " فهي مأخوذة من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مادة " بهت ".
والبهتان هو المر الذي يتعجب من صدوره من فاعله .مثال ذلك قوله الحق في شرح قضية
شمْسِ
سيدنا إبراهيم مع النمرود ،حيث يقول سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم {:فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْرِبِ }[البقرة]258 :
فماذا كان موقف الرجل؟{ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ }[البقرة]258 :
أي أنه سمع شيئا عجيبا يخرسه عن أن يتكلم؛ فقد جاء له سيدنا إبراهيم بأمر عجيب ل يخطر
على باله ،ول يستطيع أن يجد منه مفرا ،فكأن المور المخالفة لمنطق الحق ولمطلوب القيم أمور
غريبة عن الناس إنّها هي البهتان ،والدليل على ذلك أنها أمور يستتر فاعلها عن الناس.
وإذا ما نظرنا إلى القضية التي نزلت الية بسببها .وجدنا أن سارقا سرق وأراد أن يبرئ نفسه
وأن يُدخل في الجريمة بريئا .ويلصقها به ،وأن يرتكب المجرم الجريمة فهذا يحمّلُه إثما .أما أن
ينقل الجريمة إلى سواه فهذا يدل على وجود طاقة أخرى حتى يحتمل ما فعله ،وهذا صعب على
النفس ،ول يتعجب أحد لسماع شيء إل إذا كان هذا الشيء مخالفا لما هو مألوف ومعروف .وإنّ
في الحوار بين سيدنا إبراهيم والنمرود لدليلً واضحا وناصعا؛ فعندما قال النمرود {:أَنَا أُحْيِـي
وَُأمِيتُ }[البقرة]258 :
قصد بذلك قدرته على أن يقتل إنسانا ،ويترك إنسانا آخر لمسعاه .وهنا عاجله سيدنا إبراهيم
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ
بالقضية التي تبهته ول يدخل فيها هذا التماحك اللفظي .فقال {:فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْرِبِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ }[البقرة]258 :
أي أن النمرود سمع قولً عجيبا وليس عنده من الذكاء ما يحتاط به إلى دفعه ،وكذلك الرجل الذي
صنع الجريمة ثم رمى بها غيره احتاج إلى طاقة تتحمل هذا ،مما يدل على أن الفطرة السليمة
كارهة لفعل القبيح .فإذا ما فعل النسان ذنبا فقد حمل بهتانا ،وإذا ما عَدّى ذلك إلى أن يحمله إلى
بريء ،فذلك يعني أن المر يحتاج إلى طاقة أخرى.
إذن فقوله الحقَ } :فقَدِ احْ َت َملَ ُبهْتَانا وَإِثْما مّبِينا { أي أنه احتمل أمرا عجيبا يبهت السامع ويتعجب
كيف حدث ذلك .ويحتمل من يفعل ذلك الثمَ أيضا.
والثم -كما عرفنا -هو السيئة المتعمّدة .ويوضح الحق سبحانه وتعالى هذه القضية :إن ال
سبحانه وتعالى يحوطك يا محمد بعنايته وبرعايته وبفضله ،وإن حاول بعض من قليلي اليمان أن
يخرجوك عن هذه المسألة ،وأن يزينوا لك أن تبرئ مذنبا لتجرم آخر بريئا وإن كان المذنب
مسلما وإن كان البريئ غير مسلم ،وال لم يرسل محمدا ليحكم بين المؤمنين فقط ،ولكن صدر هذه
الية يوضح لنا أن ال أرسل محمدا ليحكم بين المؤمنين فقط ،ولكن صدر هذه الية يوضح لنا أن
ال أرسل رسوله ليحكم بالحق " :لتحكم بين الناس " أي ليحكم بين الناس على إطلقهم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإياك حين تحكم أن تقول :هذا مسلم وذلك كافر .أو تقول :هذا مسلم وذلك من أهل الكتاب ،بل
كل الناس أمام قضايا الحق سواء.
ولذلك أخذ الرسول صلى ال عليه وسلم تلك الجرعة اليمانية التي جاءت بها حادثة من الحوادث
ليقول بعد ذلك في قصة المخزومية حينما سرقت وأراد أن يقيم عليها الحد ،وكلّمه حبيبه أسامة بن
زيد في أن يرفع عنها الحد ،فقال رسول ال:
" عن عائشة رضي ال عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا :مَنْ يكلم
فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فقالوا :ومن يجرؤ عليه إل أسامة حب رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فكلمه أسامة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :أتشفع في حد من حدود ال؟! ثم
قام فاختطب فقال " :أيها الناس :إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف
تركوه ،وإن سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ،وأيم ال لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع
محمد يدها ".
ضلُ اللّهِ عَلَ ْيكَ
هذا القول مستخلص من القضية السابقة .ويقول سبحانه وتعالى } :وََلوْلَ َف ْ
حمَتُهُ{ ..
وَرَ ْ
()599 /
وهنا نتساءل :هل هَمّ أحد بإضلل رسول ال؟ علينا أن نفهم أن " الهمّ " نوعان :هم إنفاذ ،وهم
تزيين .وقد رفض رسول ال هم النفاذ ،ودفعه ال عنه لنه سبحانه وتعالى يحوط رسوله بفضله
ورحمته ويأتي بالحداث ليعلمه حكما جديدا .وفضل ال على رسوله ورحمته جعل الهم منهم هم
تزيين فقط وحفظ ال رسوله منه أيضا .وعندما تعلم الرسول هذا الحكم الجديد ،صار يقضي به
من بعد ذلك في كل قضايا الناس .فإذا ما جاء حدث من الحداث وجاء له حكم من السماء لم يكن
يعلمه رسول ال صلى ال عليه وسلم فالفضل ل لنه يزيد رسوله تعليما {.وَعَّل َمكَ مَا لَمْ َتكُنْ َتعْلَمُ
}[النساء]113 :
وكان قصد الذين دافعوا عن " ابن أبيرق " أن يزينوا لرسول ال ،وهذا هو هم التزيين ل هم
النفاذ .وكان الهدف من التزيين أن يضروا الرسول ويضلوه والعياذ بال ،ليأخذوه إلى غير
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طريق الحق وغير طريق الهدى ،وهذا أمر يضر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلو أن رسول
ال برأ المذنب الذي يعلم أنه مذنب لسْتقرّ في ذهن المذنب أن قضايا الدين ليست جادة ،أما
البريء الذي كان مطلوبا أن يدينه رسول ال ماذا يكون موقفه؟ ل بد أن يقول لنفسه :إن دين
محمد ل صدق فيه لنه يعاقب بريئا .إذن َفهَمّ التزيين يضر بالرسول عند المبرأ وعند من يراد
إلصاق الجريمة به .لكن ال صان رسوله بالفضل وبالرحمة عن هذا أيضاَ {.ل َهمّتْ طّآ ِئفَةٌ مّ ْنهُمْ أَن
ح ْكمَةَ }
شيْ ٍء وَأَن َزلَ اللّهُ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِ
س ُه ْم َومَا َيضُرّو َنكَ مِن َ
ُيضِلّوكَ َومَا ُيضِلّونَ ِإلّ أَ ْنفُ َ
[النساء]113 :
لقد أنزل الحق كتابا ليفصل في القضية ,ونزول الحكم بعد وقوع تلك الحادثة إنما جاء ليبين ضمن
ما يبين سر نزول القرآن منجما؛ لن القرآن يعالج أحداثا واقعية ،فيترك المر إلى أن يقع الحدث
ثم يصب على الحدث حكم ال الذي ينزل من السماء وقت حدوث الحدث ،وإل كيف يعالج القرآن
الحداث لو نزل مرة واحدة بينما الحداث لم تقع؟ لذلك أراد ال أن تنزل الحداث أولً ثم يأتي
ح َدةً }[الفرقان]32 :
جمْلَ ًة وَا ِ
الحكم .وقد سبق أن قال الكفارَ {:ل ْولَ نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ ا ْلقُرْآنُ ُ
ل؛ فقد أراد ال القرآن منجما ومتفرقا ومُقَسّطا لماذا؟{ كَذَِلكَ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َدكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلً }
[الفرقان]32 :
فكلما حدثت هزة للفؤاد من اللّدَد والخصومة الشديدة ومن العناد الذي كان عليه الكفار وردّهم
للحق -وهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم -ينزل نجم من القرآن ،وفي شغب البشر مع الرسول
تنزل رحمة السماء تُثَبّت الفؤاد؛ فإن تعب الفؤاد من شغب الناس؛ فآيات اتصال الرسول بالسماء
وبالوحي تنفي عنه هذه المتاعب.
ورسول ال صلى ال عليه وسلم في أمر الدعوة كانت تحدث له كل يوم هزات؛ لذلك كان في كل
لحظة يحتاج إلى تثبيت .وعندما ينزل النجم القرآني بعد العراك مع الخصوم فإن حلوة النجم
القرآني ُت َهوّنُ عليه المر ،وإذا ما جاء للرسول صلى ال عليه وسلم أمر آخر يعكر صفوه ،فهو
ينتظر حلوة الوحي لتنزل عليه ،وهذا معنى قوله تعالى {:كَ َذِلكَ لِنُثَ ّبتَ ِبهِ ُفؤَا َدكَ }[الفرقان]32 :
أي أنزلناه منجما لنثبت به فؤادك .ولو نزل القرآن جملة واحدة لقلل من مرات اتصال السماء
بمحمد صلى ال عليه وسلم ،وهو يريد مداومة اتصال السماء به .بدليل أن الوحي عندما فتر
جلس الرسول يتطلع إلى السماء ويتشوق .لماذا؟ ففي بداية النزول أرهقه الوحي ،لذلك قال
الرسول " :فضمني إليه حتى بلغ مني الجهد ".
ورأته خديجة -رضي ال عنها " -وإن جبينه ليتفصد عرقا " فاتصال جبريل بملكيته ونورانيته
برسول ال صلى ال عليه وسلم في بشريته ل بد أن يحدث تغييرا كيميائيا في نفس رسول ال
صلى ال عليه وسلم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" عن عائشة أم المؤمنين رضي ال عنها أن الحارث بن هشام رضي ال عنه سأل رسول ال
صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ،وأحيانا
ل فيكلمني فأعي ما يقول .قال عائشة رضي ال عنها :ولقد رأيته ينزل عليه
يتمثل لي الملك رج ً
الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ".
إن الرسول صلى ال عليه وسلم كان يواجه المتاعب وأراد ال بفترة الوحي أن يحس محمد
حلوة الوحي الذي نزل إليه ،وأن يشتاق إليه ،فالشوق يعين الرسول على تحمل متاعب الوحي
عندما يجيء ،ولذلك نجد أن عملية تفصد العرق لم تستمر كثيرا؛ لن الحق قال {:وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ
ن الُولَىا }[الضحى]4 :
ّلكَ مِ َ
أي أن الحق أوضح لرسوله :إنك ستجد شوقا وحلوة ولذة في أن تستقبل هذه الشياءَ {.كذَِلكَ
ك وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلً }[الفرقان]32 :
لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َد َ
وهكذا كان القرآن ينزل منجما ،على فترات ،ويسمع الصحابة عددا من آيات القرآن .ويحفظونها
ويكتبها كُتّابُ الوحي ,وبعد ذلك تأتي معجزة أخرى من معجزات القرآن مع رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فتنزل سورة كاملة على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وبعد أن يُسرى عنه يقول
للكتبة :اكتبوا هذه .ويرتب رسول ال اليات بمواقعها من السورة .ثم يقرأ رسول ال صلى ال
عليه وسلم السورة في الصلة ويسمع المصلون الترتيل الذي تكون فيه كل آية في موقعها ،وهذا
دليل على أن المسألة مدروسة دراسة دقيقة ،وأن رسول ال صلى ال عليه وسلم حين يحكي إنما
يحكي صدقا.
وإل َفقُولُوا لي :كيف ينزل الوحي على رسول ال بسورة بأكملها ويميلها للكتبة ،ثم يقرؤها في
الصلة كما نزلت وكما كتبها أصحابه ،كيف يحدث ذلك إن لم يكن ما نزل عليه صدقا كاملً من
عند ال؟ ونحن قد نجد إنسانا يتكلم لمدة ربع ساعة ،لكن لو قلنا له :أعد ما تكلمت به فلن يعيد أبدا
الكلمات نفسها ،لكن رسول ال صلى ال عليه وسلم يعيد اليات كما نزلت .مما يدل على أنه يقرأ
كتاب ال المحفوظ الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه إنه تنزيل من حكيم حميد.
حسَنَ َتفْسِيرا }[الفرقان]33 :
ق وَأَ ْ
حّولذلك يقول الحق {:وَلَ يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ ِإلّ جِئْنَاكَ بِالْ َ
أي ل يأتونك بحادثة تحدث إل جئناك بالحق فيها.
إذن لم يكن للقرآن أن ينزل منجما إل ليثبت فؤاد رسول ال صلى ال عليه وسلم من تتابع الهزات
التي يتعرض لها ،وأراد ال أن ينشر اتصال السماء برسول ال صلى ال عليه وسلم على الثلثة
والعشرين عاما التي استغرقتها الرسالة.
والترتيل هو التنجيم والتفريق الذي ينزل به القرآن فيقرأه الرسول في الصلة مثلما نزل عليه قبل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذلك دون تحريف أو تبديل ،والحق يقول {:سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى]6 :
وكل حادثة تحدث ينزل لها ما يناسبها من القرآن .كما حدثت حادثة سرقة ابن أبيرق فنزل فيها
عظِيما {.
ضلُ اللّهِ عَلَ ْيكَ َ
الحكم والحق يقول } :وَعَّل َمكَ مَا لَمْ َتكُنْ َتعْلَ ُم َوكَانَ َف ْ
فإذا ما علمك ال -يا رسول ال -ما لم تكن تعلم بنزول الكتاب ،فهل أنت يا سيدي يا رسول ال
مشرع فقط بما نزل من الكتاب؟ ل؛ فالكتاب معجزة وفيه أصول المنهج اليماني ،ولكن ال مع
ذلك فوض رسوله صلى ال عليه وسلم أن يشرّع؛ وتلك ميزة لم تكن لرسول قبله ،بدليل قوله
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ }[الحشر]7 :
الحقَ {:ومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
فالرسل من قبل الرسول صلى ال عليه وسلم يتناولون ما أخذوه عن ال ،وميز سبحانه محمدا
صلى ال عليه وسلم بتفويض التشريع .وأوضح الحق أنه عَلّمَ رسوله الكتاب والحكمة .والحكمة
حكْـمَةِ }
مقصود بها السنة ،فسبحانه القائل {:وَا ْذكُـرْنَ مَا يُتْـلَىا فِي بُيُو ِتكُـنّ مِنْ آيَاتِ اللّ ِه وَالْ ِ
[الحزاب]34 :
وسبحانه صاحب الفضل على كل الخلق وصاحب الفضل على رسوله } :وَأَن َزلَ اللّهُ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ
ضلُ اللّهِ
ح ْكمَ َة وَعَّل َمكَ مَا لَمْ َتكُنْ َتعَْل ُم َوكَانَ َفضْلُ اللّهِ عَلَ ْيكَ عَظِيما { ولنا أن نلحظ أن } َف ْ
وَالْ ِ
{ تكرر في هذه الية مرتين .ففضل ال الول في هذه الية أنه عصمه من أن تضله طائفة وتنأى
به عن الحق ،ثم كان فضل ال عليه ثانيا أنه أنزل عليه الكتاب بكل أحكامه وأعطاه الحكمة وهي
التفويض من ال لرسوله أن يشرّع.
إذن فالحق سبحانه وتعالى جعل من سنة الرسول صلى ال عليه وسلم امتدادا لوحيه .ولذلك إذا
قيل من قوم يحاولون التشكيك في حديث رسول ال :إن الصلة لم تأت في القرآن.
نقول سائلين الواحد منهم :هل تؤدي الصلة أم ل.؟
فيقول :إنني أصلي..
فنقول له :كم فرضا تصلي؟.
فيقول :خمسة فروض.
فنقول :هات هذه الفروض الخمسة من القرآن .ولسوف يصيبه البهت ،وسيلتبس عليه أمر تحديد
الصبح بركعتين والظهر بأربع ركعات ،والعصر بمثلها ،والمغرب بثلث ،والعشاء بأربع ركعات.
وسيعترف أخيرا أنه يصلي على ضوء قول الرسول " :صلوا كما رأيتموني أصلي " وهذه من
سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم.
عظِيما { وقد نجد واحدا من اهل السطحية
ضلُ اللّهِ عَلَ ْيكَ َ
} وَعَّل َمكَ مَا لَمْ َتكُنْ َتعْلَ ُم َوكَانَ َف ْ
واللجاجة يقول :القرآن يكرر الكلمات في أكثر من موقع ،ولماذا يذكر فضل ال في صدر هذه
الية ،ويذكره مرة أخرى في ذيل نفس الية؟.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نقول :أنت لم تلحظ فضل ال في الجزئية الولى لنه أنقذ رسوله من همّ التزيين بالحكم على
واحد من أهل الكتاب ظلما ،وفي الجزئية الثانية هو فضل في التمام بأنه علم رسوله الكتاب
والحكمة وكان هذا الفضل عظيما حقا.
وساعة يذهب هؤلء الناس ليحدثوا الرسول في أمر طعمة ابن أبيرق ،ألم يجلسوا معا ليتدارسوا
كيف يفلت طعمة بن أبيرق من الجريمة؟.
لقد قاموا بالتداول فيما بينهم لمر طعمة واتفقوا على أن يذهبوا للرسول؛ فكانت الصلة قريبة من
النجوى .ولذلك حرص أدب السلم على أن يحترم كرامة أي جليس ثالث مع اثنين فل يتناجى
اثنان دون صاحبهما؛ لن ذلك يحزنه.
وقد يكون المر جائزا لو كان الجلوس أربعة ،فواحد يتحدث مع آخر ،وهناك يستطيع اثنان أن
يتناجيا .إذن فالنجوى معناها المسارّة ،والمسارّة ل تكون إل عن أمر ل يحبون أن يشيع ،وقد فعل
القوم ذلك قبل أن يذهبوا إلى الرسول ليتكلموا عن حادثة طعمة بن أبيرق ،ولذلك يفضح الحق أمر
جوَاهُمْ{ ..
هذه النجوى ،فينزل القول الحق } :لّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّ ْ
()600 /
وسبحانه يوضح أمر هذه النجوى التي تحمل التبييت للضلل ،ولكن ماذا إن كانت النجوى لتعين
على حق؟ إنه سبحانه يستثنيها هنا؛ لذلك لم يصدر حكما جازما ضد كل نجوى ،واستثنى منها
نجوى مَن أمر بصدقة أو معروف أو إصلح بين الناس ،بل ويجزى عليها حسن الثواب .لذلك
س ْوفَ ُنؤْتِيهِ أَجْرا عَظِيما } .ويستخدم الحق هنا كلمة
قالَ { :ومَن َيفْ َعلْ ذاِلكَ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ فَ َ
" سوف " ،وكان من الممكن أن يأتي القول { فسنؤتيه أجرا عظيما " لكن لدقة الداء القرآني
البالغة جاءت بأبعد المسافات وهي " سوف ".
ونعرف أن جواب شرط الفعل إذا ما جاء على مسافة قريبة فنحن نستخدم " السين " ،وإذا ما جاء
جواب الشرط على مسافة بعيدة فنحن نستخدم " سوف " .وجاء الحق هنا بـ " سوف " لن مناط
الجزاء هو الخرة ،فإياك أيها العبد المؤمن أن تقول :لماذا لم يعطني ال الجزاء على الطيب في
عظِيما }
س ْوفَ ُنؤْتِيهِ أَجْرا َ
الدنيا؟؛ لن الحق سبحانه وتعالى لم يقل " :فسنؤتيه " ولكنه قال { :فَ َ
مما يدل على أن الفضل والكرام من ال؛ وإن كان عاجلً ليس هو الجزاء على هذا العمل؛ لن
جزاء الحق لعبادة المؤمنين سيكون كبيرا ،ول يدل على هذا الجزاء في الخرة إلّ " فسوف ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونعرف أن الرسول صلى ال عليه وسلم حين يمني أمته اليمانية بشيء فهو يمنيها بالخرة،
ولننظر إلى بيعة العقبة عندما جاء النصار من المدينة لمبايعة رسول ال:
فقال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه " :بايعوني على أل تشركوا
بال شيئا ول تسرقوا ول تزنوا ول تقتلوا أولدكم ول تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم
ول تعصوا في معروف ،فمن وفّى منكم فأجره على ال ،ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في
الدنيا فهو كفارة له ،ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره ال إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ".
لقد أخذت لنفسك يا رسول ال ونحن نريد أن نأخذ لنفسنا ،ماذا لنا إن نحن وفّينا بهذا؟ ولنر
عظمة الجواب وإلهامية الرد ،قال الرسول صلى ال عليه وسلم " :لكم الجنة "
كان في استطاعة رسول ال أن يقول لهم :إنكم ستنتصرون وإنكم ستأخذون مشارق الرض
ومغاربها وسيأتي لكم خير البلد السلمية كلها .لكنه بحكمته لم يقل ذلك أبدا فقد يستشهد واحد
منهم في قتال من أجل نصرة دين ال ،فماذا سيأخذ في الدنيا؟ .إنه لن يأخذ حظه من التكريم في
الدنيا ،ولكنه سينال الجزاء في الخرة.
لذلك جاء بالجزاء الذي سيشمل الكل ،وهو الجنة ليدلهم على أن الدنيا أتفه من أن يكون جزاء ال
محصورا فيها ،ويحض كل المؤمنين على أن يطلبوا جزاء الخرة؛ ونعلم جميعا هذه الحكاية،
ل يقول لصاحبه :أتحبني؟ فأجاب الصاحب :نعم أحبك .فسأل السائل :على أي قدر
ونجد رج ً
تحبني؟ قال الصاحب :قدر الدنيا .أجاب الرجل :ما أتفهني عندك!!.
عظِيما { ومن صاحب "
س ْوفَ ُنؤْتِيهِ َأجْرا َ
يقول الحقَ } :ومَن َي ْف َعلْ ذاِلكَ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ فَ َ
نؤتيه " والفاعل لهذا العطاء؟ إنه الحق سبحانه وتعالى الذي وصف الجر بأنه أجر عظيم .وكأن
الحق يبلغنا:
-يا معشر المة اليمانية التحموا بمنهج رسول ال وامتزجوا به لتكونوا معه شيئا واحدا .وإياكم
أن يكون لكم رأي منفصل عن المنهج؛ فهو مبلغ عن ال ،فمن آمن به فليلتحم به .ولذلك نجد
سيدنا أبا بكر الصديق -رضي ال عنه -ساعة حدثوه في حكاية السراء والمعراج نجده يسأل
محدثه :أقال رسول ال ما قلتموه..؟ فيقولون :بلى ،لقد قال .فيرد عليهم الصديق :إن كان قال فقد
صدق؛ فالصديق أبو بكر ل يحتاج إلى دليل على صدق ما قال رسول ال.
ويأتي الحق بالمقابل فيقولَ } :ومَن يُشَا ِققِ الرّسُولَ مِن َبعْدِ{ ...
()601 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َومَنْ ُيشَاقِقِ الرّسُولَ مِنْ َب ْعدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ ا ْلهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ُنوَلّهِ مَا َتوَلّى وَ ُنصْلِهِ
جهَنّمَ وَسَا َءتْ َمصِيرًا ()115
َ
وكلمة " يشاقق " تدل على أن شقا قد حدث في أمر كان ملتحما ،مثلما نشق قطعة الخشب فنجعلها
جزئين بعد أن كانت كتلة واحدة .وأنتم أيها المؤمنون قد التحمتم بمنهج رسول ال إيمانا ،واعترفتم
به رسول ومبلغ صدقٍ عن ال ،فإياكم أن تشرخوا هذا اللتحام .فإن جاء حكم وحاول أحد
المؤمنين أن يخرج عنه ،فهذا شقاق للرسول والعياذ بال .أو المعنى ومن سلك غير الطريقة التي
جاء بها الرسول بأن صار في شق وشرع ال في شق آخر.
{ َومَن يُشَا ِققِ الرّسُولَ مِن َبعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ ا ْلهُدَىا } نعم فقد تبين الهدى للمسلم حينما آمن بال خالقا
وربا .وآمن بالرسول مبلغا وهو بذلك قد أسلم زمامه إلى ال .ولذلك قلنا :إن عمل العقل هو أن
ينظر في أدلة الوجود العلى ل ،فإذا ما آمن النسان بالوجود العلى ل ،بقيت مرتبة ،وهي أن
يؤمن النسان بالرسول المبلغ عن ال؛ لن قصارى ما يطلبه العقل من الدليل اليماني على وجود
ال أن وراء النسان ووراء الكون قوة قادرة حكيمة عالمة فيها كل صفات الكمال.
إن العقل ل يستطيع معرفة اسم هذه القوة .ول يستطيع العقل أن يتعرف على مطلوباتها؛ لذلك
لبد من البلغ عن هذه القوة ،وإذا تبين للنسان الهدى في الوجود العلى وفي البلغ عن ال فل
بد للنسان أن يلتحم بالمنهج الذي جاء به المبلغ عن ال .ويفعل النسان مطلوب القوة العليا؛ لن
ال قد أمر به؛ ولن رسول ال قد بلغ المر أو فعله أو أقرّه .أما إذا دخل النسان في مماحكات
فإننا نقول لهَ {:ومَن ُيشَاقِقِ الرّسُولَ مِن َب ْعدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ ا ْلهُدَىا وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ُنوَلّهِ مَا
جهَنّ َم وَسَآ َءتْ َمصِيرا }[النساء]115 :
َتوَلّىا وَ ُنصْلِهِ َ
والهدى -كما نعرف -هو الطريق الموصل إلى الغاية .فكل فعل من أفعال الخلق ل بد له من
هدف .ومن فعل فعلً بل هدف يعتبره المجتمع فاقدا للتمييز .أما إذا كان النسان صاحب هدف
فهو يعترف على جدّية هدفه وأهميته .ويبحث له عن أقصر طريق ،هذا الطريق هو ما نسميه
الهدى .ومن يعرف الطريق الموصل إلى الهدى ثم يتبع غير سبيل المؤمنين فهو يشاقق الرسول،
ول يلتحم بمنهج اليمان ول يلتزم به ،ومن يشاقق إنما يرجع عن إيمانه.
وهكذا نعرف أن هناك سبيل وطريقا للرسول ،ومؤمنين اتبعوا الرسول بالتحام بالمنهج ،ومن
يشاقق الرسول يخالف المنهج الذي جاء به الرسول ،ويخالف المؤمنين أيضا.
والحق هو القائل {:وَأَنّ هَـاذَا صِرَاطِي ُمسْ َتقِيما فَاتّ ِبعُوهُ وَلَ تَتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ }[النعام]153 :
فليس للحق إل سبيل واحد .ومن يخرج عن هذا السبيل فما الذي يحدث له؟.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المحتمل أن يكون أداة شرط ويحتمل أن يكون اسما موصولً مثل قولنا :مَن يذاكرُ ينجحُ .بالضم
فيهما ،و " من " هنا هي اسم موصول؛ فالذي يذاكر هو مَن ينجح .وقد نقول :مَن يذاكرْ ينجحْ.
بالسكون وهنا " مَن " شرطية.
وفي السم الموصول نجد الجملة تسير على ما هي ،أما إذا كانت شرطية ،فهناك الجزم الذي
يقتضي سكون الفعل؛ ويقتضي -أيضا -جوابا للشرط .و " من " تصلح أن تكون اسما
موصولً ،وتصلح أن تكون أداة شرط ،ونتعرف -عادة -على وضعها مما يأتي بعدها .مثال
ذلك قوله الحقَ } :ومَن يُشَا ِققِ الرّسُولَ مِن َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُ ا ْلهُدَىا وَيَتّبِعْ { ونجد " يتبع " هنا عليها
سكون الجزم ،وهذا يدل على أن " مَنْ " شرطية.
وتختلف القراءة لو اعتبرنا " مَن " اسم موصول؛ لن هذا يستدعي ترك الفعل " يشاقق " في
وضعه كفعل مضارع مرفوع بالضمة ،وكذلك يكون " يتبعْ " فعلً مضارعا مرفوعا بالضمة؛ عند
ذلك نقول " :نوليه ما تولى ونصليه " .ولكن إن اعتبرنا " مَن " أداة شرط -وهي في هذه الية
شرطية -فل بد من جزم الفعل فنقرأها " ومن يشاققْ الرسول من بعد ما تبين له الهدى " .وكذلك
نجزم الفعل المعطوف وهو قوله( :ويتبعْ) ويجزم جواب الشرط وما عطف عليه وهو قوله:
(نولّهِ) (ونصْلِه) والجواب وما عطف عليه مجزومان بحذف حرف العلة وهي الياء من آخره }
جهَنّ َم وَسَآ َءتْ َمصِيرا { .ومعنى " َتوَلّى " أي
وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ُنوَلّهِ مَا َتوَلّىا وَ ُنصْلِهِ َ
قرب ،ويقال :فلن وَلِي فلن؛ أي صار قريبا له .ومن يتبع غير سبيل المؤمنين ،فالحق ل يريده
بل ويقربه من غير المؤمنين ويكله إلى اصحاب الكفر .وها هو ذا الحق سبحانه يقول " :أنا أغنى
الشركاء عن الشرك من عمل عملً أشرك معي فيه غيري تركته وشِركه ".
فالذي يحتاج إلى الشرك هو من زاوية من ضعف ،ويريد شريكا ليقويه فيها .وعلى سبيل المثال
-ول المثل العلى -ل نجد أحدا يشارك واحدا على تجارة إل إذا كان يملك المال الكافي لدارة
التجارة أو ل يستطيع أن يقوم على شأنها .وسبحانه حين يعلمنا " :أنا أغنى الشركاء عن الشرك.
من عمل عملً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ".
أي أن له مطلق القوة الفاعلة التي ل تحتاج إلى معونة ،ول تحتاج إلى شريك؛ لن الشركة أول
ما تشهد فإنها تشهد ضعفا من شريك واحتياجا لغريب .ولذلك فمن يشاقق الرسول في أمر إيماني
فالحق يوليه مع الذي كفر ويقربه من مراده.
وسبحانه يعلم أن النسان لن ينتفع بالشيء المشاقق لرسول ال ،بل يكون جزاء المشاقق لرسول
ال والمتبع لغير سبيل المؤمنين أن يقربه ال ويدينه من أهل الكفر والمعاصي ،ويلحقه بهم
ويحشره في زمرتهم .ول يعني هذا أن ال يمنع عن العبد الرزق ،ل ،فالرزق للمؤمن وللكافر،
وقد أمر ال السباب أن تخدم العبد إن فعلها .ومن رحمة ال وفضله أنه ل يقبض النعمة عن مثل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا العبد ،فالشمس تعطيه الضوء والحرارة ،والهواء يهب عليه ،والرض تعطيه من عناصرها
الخير {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا لَهُ
فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى]20 :
عطَآءُ رَ ّبكَ َمحْظُورا }
ك َومَا كَانَ َ
ويقول سبحانه {:كُلّ ّنمِدّ هَـاؤُل ِء وَهَـاؤُلءِ مِنْ عَطَآءِ رَ ّب َ
[السراء]20 :
وهكذا نجد العطاء الرباني غير مقصور على المؤمنين فقط ولكنه للمؤمن وللكافر ،ولو لم يكن ل
إل هذه المسألة لكانت كافية في أن نلتحم بمنهجه ونحبه.
()602 /
ل ضَلَالًا َبعِيدًا (
ضّإِنّ اللّهَ لَا َي ْغفِرُ أَنْ يُشْ َركَ بِهِ وَ َيغْفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَنْ يَشَا ُء َومَنْ يُشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَ ْد َ
)116
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واحدا يفعل ما شاء له فل يقتربون منه إلى أن يتعرض للثورة بالنقد أو يحاول أن يصنع انقلبا،
هنا تتم محاكمته بتهمة الخيانة العظمى ،فما بالنا بالذي يخرج عن نطاق اليمان كلية ويشرك
بال؟ سبحانه ل يغفر ذلك أبدا ،ولكنه يغفر ما دون ذلك ،ومن رحمة ال بالخلق أن احتفظ هو
بإرادة الغفران حتى ل يصير الناس إلى ارتكاب كل المعاصي .ولكن ل بد من توبة العبد عن
الذنب .ونعلم أن العبد ل يتم طرده من رحمة ال لمجرد ارتكاب الذنب .ونعلم أن هناك فرقا بين
من يأتي الذنب ويفعله ويقترفه وهو يعلم أنه مذنب وأن حكم ال صحيح وصادق ،لكن نفسه
ضعفت ،والذي يرد الحكم على ال .وقد نجد عبدا يريد أن يرتكب الذنب فيلتمس له وجه حل،
كقول بعضهم :إن الربا ليس حراما .هذا هو رد الحكم على ال .أما العبد الذي يقول :إنني أعرف
أن الربا حرام ولكن ظروفي قاسية وضروراتي ملحة .فهو عبد عاصٍ فقط ل يرد الحكم على
ال ،ومن يرد الحكم على ال هو -والعياذ بال -كافر.
{ إِنّ اللّ َه لَ َي ْغفِرُ أَن يُشْ َركَ بِهِ وَ َيغْفِرُ مَا دُونَ ذاِلكَ ِلمَن يَشَآءُ } ولننتبه إلى أن بعض المستشرقين
الذين يريدون أن يعيثوا في الرض فسادا.
ولكنهم بدون أن يدروا ينشرون فضيلة السلم ،وهم كما يقول الشاعر:وإذا أراد ال نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسودوحين يتكلمون في مثل هذه المور يدفعون أهل اليمان لتلمس وجه
العجاز القرآني وبلغته.
إنهم يقولون :بَلّغ محمد قومه } إِنّ اللّ َه لَ َي ْغفِرُ أَن ُيشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذاِلكَ ِلمَن َيشَآءُ { لكن
سهِ ْم لَ َتقْنَطُواْ مِن
يبدو أن السهو قد غلبه فقال في آية أخرىُ {:قلْ ياعِبَا ِديَ الّذِينَ َأسْ َرفُواْ عَلَىا أَنفُ ِ
جمِيعا }[الزمر]53 :
حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ
رّ ْ
هم يحاولون نسبة القرآن إلى محمد ل إلى ال .ويحاولون إيجاد تضارب بين اليتين الكريمتين.
ونقول ردا عليهم :إن الواحد منكم أمي ويجهل ملكة اللغة ،فلو كانت اللغة عندكم ملكة وسليقة
حمَةِ
سهِ ْم لَ َتقْنَطُواْ مِن رّ ْ
علَىا أَنفُ ِ
وطبيعة لفهم الواحد منكم قوله الحقُ {:قلْ ياعِبَا ِديَ الّذِينَ َأسْ َرفُواْ َ
جمِيعا }[الزمر]53 :
اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ
وكان الواجب أن يفهم الواحد منكم أن الشرك مسألة أكبر من الذنب؛ فالذنب هو أن يعرف
النسان قضية إيمانية ثم يخالفها ،ولكن المشرك ل يدخل في هذا المر كله؛ لنه كافر في القمة.
ولذلك فل تناقض ول تعارض ول تخالف بين اليتين الكريمتين .والمستشرقون إنما هم قوم ل
يفقهون حقيقة المعاني القرآنية.
للً
ل ضَ َ
ضّ} إِنّ اللّ َه لَ َي ْغفِرُ أَن يُشْ َركَ بِهِ وَ َيغْفِرُ مَا دُونَ ذاِلكَ ِلمَن يَشَآءُ َومَن ُيشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَ ْد َ
َبعِيدا { .والمشرك مهما أخذ من متع لحياته فحياته محدودة ،فإن بقيت له المتع فلسوف يتركها،
وإن لم تبق له المتع فهي تخرج منه .إذن ،هو إما تارك للمتع بالموت ،أو المتع تاركة له بحكم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الغيار ،فهو بين أمرين :إمّا أن يفوتها وإمّا أن تفوته .وهو راجع إلى ال ،فإذا ما ذهب إلى ال
في الخرة والحساب ،فالخرة ل زمن لها ولذلك ما أطول شقاءه بجريمته ،وهذا ضلل بعيد جدا.
ل فهو يعود مرة أخرى إلى رشده .ومن المشركين بال هؤلء الذين ل يجادلون
أما الذي يضل قلي ً
في ألوهية الحق ولكنهم يجعلون ل شركاء .وهناك بعض المشركين ينكرون اللوهية كلها وهذا
هو الكفر .فهناك إذن مشرك يؤمن بال ولكن يجعل له شركاء.
ولذلك نجد أن المشركين على عهد رسول ال يقولون عن الصنام {:مَا َنعْ ُبدُهُمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى
اللّهِ ُز ْلفَى }[سورة الزمر]3 :
ولو قالوا :ل نذبح لهم إل ليقربونا إلى ال زلفى ،مثل ،لكان من الجائز أن يدخلوا في عبادة ال،
ولكنهم يثبتون العبادة للصنام؛ لذلك ل مفر من دخولهم في الشرك .ويقول سيدنا إبراهيم عن
ع ُدوّ لِي ِإلّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء]77 :
الصنام {:فَإِ ّنهُمْ َ
إنه يضع الستثناء ليحدد بوضوح قاطع ويقول لقومه:
إن ما تعبدونه من الصنام ،كلهم عدو لي ،إل رب العالمين .كأن قوم إبراهيم كانوا يؤمنون بال
ولكن وضعوا معه بعض الشركاء .ولذلك قال إبراهيم عليه السلم عن ال {:الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ
سقِينِ }[الشعراء]79-78 :
ط ِعمُنِي وَيَ ْ
َيهْدِينِ * وَالّذِي ُهوَ يُ ْ
إذن الشرك ليس فقط إنكار الوجود ل بل قد يكون إشراكا لغير ال مع ال .ولنر من يعبدونه
ويدعونه في مصائبهم } :إِن َيدْعُونَ مِن دُونِهِ ِإلّ إِنَاثا{ ...
()603 /
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّا إِنَاثًا وَإِنْ َيدْعُونَ إِلّا شَ ْيطَانًا مَرِيدًا ()117
و " إن " هنا بمعنى ما ،فـ " إن " مرة تكون شرطية ،ومرة تكون نافية .مثل قوله في موقع
آخر {:إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ ِإلّ اللّئِي وَلَدْ َن ُهمْ }[المجادلة]2 :
أي إن الحق يقول { :إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ ِإلّ اللّئِي وَلَدْ َنهُمْ } .وكذلك " إنْ " في قوله { :إِن يَدْعُونَ مِن
دُونِهِ ِإلّ إِنَاثا } ،وكان العرب ينسبون إلى المرأة كل ما هو هيّن وضعيف ولذلك قال الحق{:
خصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }[الزخرف]18 :
َأ َومَن يُ َنشّأُ فِي الْحِلْ َي ِة وَ ُهوَ فِي ا ْل ِ
فالناث في عرف العرب ل تستطيع النصر أو الدفاع ،ولذلك يقول الشاعر:وما أدرى ولست أخال
أدرى أقوم آل حصن أم نساءوالقوم هنا مقصود بهم الرجال لنهم يقومون لمواجهة المشكلت
فلماذا تدعون مع ال إناثا؟ .هل تفعلون ذلك لنها ضعيفة ،أو لنكم تقولون :إن الملئكة بنات
ال؟ .وكانوا يعبدون الملئكة .وعندما تريدون القسمة لماذا تجعلون ل بنات؟ .على الرغم من أنه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه خلق البنين والبنات.
س َم ٌة ضِيزَىا }[النجم]22 :
ولذلك قال الحق {:تِ ْلكَ إِذا قِ ْ
أي قسمة جائرة لم يراع فيها العدل.
لتَ وَا ْلعُزّىا * َومَنَاةَ
وعندما ننظر إلى الصنام كلها نجد أن أسماءها أسماء مؤنثةَ {:أفَرَأَيْتُمُ ال ّ
لخْرَىا }[النجم]20-19 :
الثّالِثَ َة ا ُ
وكذلك كان هناك صنم اسمه " إساف " و " نائلة " ،فهل هذه الصنام إناث؟ وكيف تدعون النساء
والنساء ل ينصرن ول ينفعن؟ .وهل ما تعبدون من دون ال أصنام بأسماء إناث ،أو هي نساء،
أو هي ملئكة؟
والحق يقول { :إِن َيدْعُونَ مِن دُونِهِ ِإلّ إِنَاثا } والسلوب هنا أسلوب قطع .أي ما يدعون إل إناثا،
تماما مثلما نقول " ما أكرم إل زيدا " وهذا نفي الكرام لغير زيد ،وإثبات للكرام لزيد .فساعة
يقول الحق { :إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ِإلّ إِنَاثا } فغير الناث ل يدعونهم ،ولذلك يعطف عليها الحق:
{ وَإِن َيدْعُونَ ِإلّ شَيْطَانا مّرِيدا }.
واستخدم الحق في صدر الية أسلوب القصر ،وأسلوب القصر معناه أن يقصر الفعل على
المقصور عليه ل يتعداه إلى غيره؛ فهم يعبدون الناث ،هذا اقصر أول ،ثم قصر ثانٍ هو قوله
الحق { :وَإِن َيدْعُونَ ِإلّ شَيْطَانا مّرِيدا }.
وكان خدم الصنام يدعون أن في جوف كل صنم شيئا يتكلم إليهم؛ لذلك كان ل بد أن يكون في
جوف كل صنم شيطان يكلمهم ..وكان ذلك لونا من الخداع ،فالشياطين ليست جنّا فقط ولكن من
النس أيضا.
فهناك سدنة وخدم يقومون على خدمة اللهة ويريدون أن يجعلوا لللهة سلطانا ونفوذا حتى يأتي
الخير لللهة كالقرابين والنذور ويسعد السدنة بذلك؛ لذلك كانوا يستأجرون واحدا له صوت أجش
يتكلم من وراء الصنم ويقول :اذبحوا لي كذا .أو هاتوا لي كذا .تماما كما يحدث من الدجالين حتى
يثبتوا لنفسهم سلطانا.
وهكذا كان الذي يتكلم في جوف هذه الصنام إما شيطان من الجن ،وإمّا شيطان من النس.
والشيطان من " الشطن " وهو " البعد ".
ووصف الشيطان بأنه مريد يتطلب منا أن نعرف أن هناك كلمة " مارد " وكلمة " مريد " .وكل
المور التي تغيب عن الحس مأخوذة من المور الحسية .وعندما نمسك مادة " الميم والراء والدال
" نجد كلمات مثل " أمرد " و " امرأة مرداء " و " شجرة مرداء " ،و " صرح ممرد ".
إن المادة كلها تدور حول الملمس الملس .فأمرد تعني أملس؛ أي أن منابت الشعر فيه ناعمة.
وصرح ممرد كصرح بلقيس أي صرح مصقول صقلً ناعما لدرجة أنها اشتبهت في أنه ماء،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك كشفت عن ساقيها خوفا أن يبتل ثوبها .والشجرة المرداء هي التي ل يمكن الصعود عليها
من فرط نعومة ساقها تماما كالنخلة فإنه ل تبقى عليها الفروع ،ولذلك يدقون في ساق هذه النخلة
بعض المسامير الكبيرة حتى يصعدوا عليها.
والشيطان المريد هو المتمرد الذي ل تستطيع المساك به .إذن .فـ " مارد " و " مريد " و "
ممرد " و " مرداء " و " أمرد " ،كلها من نعومة الملمس.
} وَإِن َيدْعُونَ ِإلّ شَيْطَانا مّرِيدا {.
وعندما يحاول العصاة المساك بالشيطان في الخرة يقول لهمَ {:ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِإلّ
عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي }[إبراهيم]22 :
أَن دَ َ
وهو بذلك يتملص من الذين اتبعوه؛ لنه لم يكن يملك قوة إقناع أو قوة قهر ،فقط نادى بعضا من
الخلق فزاغت أبصارهم واتبعوه من فرط غبائهم.
والشيطان موصوف بأن ال طرده من رحمته .فالحق يقولّ } :لعَنَهُ اللّ ُه َوقَالَ لَتّخِذَنّ{ ...
()604 /
َلعَنَهُ اللّ ُه َوقَالَ لَأَتّخِذَنّ مِنْ عِبَا ِدكَ َنصِيبًا َمفْرُوضًا ()118
لماذا هذا اللعن؟ لقد أذنب الشيطان وعصى ال .وآدم أذنب أيضا وعصى ال.
فلماذا لعن ال الشيطان ،ولماذا عفا ال عن آدم؟ نجد الجابة في القرآن {:فَتََلقّىا ءَا َدمُ مِن رّبّهِ
كَِلمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[البقرة]37 :
ونعرف بهذا القول :أنّ هناك فرقا بين أن يرد المخلوق على ال حكما ،وفعل المعصية للغفلة.
فحين أمر الحق إبليس بالسجود لدم قال إبليس {:قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خََلقْتَنِي مِن نّارٍ وَخََلقْتَهُ مِن طِينٍ
}[العراف]12 :
وهذا رد للحكم على ال ،ويختلف هذا القول عن قول آدم وحواء ،قال {:رَبّنَا ظََلمْنَآ أَنفُسَنَا }
[العراف]23 :
وهكذا نجد أن آدم قد اعترف بحكم ال واعترف بأنه لم يقدر على نفسه .ولذلك فليحذر كل واحد
أن يأتي إلى ما حرّم ال ويقول :ل ،ليس هذا المر حراما لكن إن كان ل يقدر على نفسه
فليعترف ويقول :إن ما حرم ال حرام .لكني غير قادر على نفسي .وبذلك يستبعد الكفر عن
نفسه ،ويكون عاصيا فقط ولعل التوبة أو الستغفار يذهبان عنه سيئات فعله .أما من يحلل ما حرّم
ال فهو يصر على الكفر ،وطمس ال على بصيرته نتيجة لذلك.
وسبحانه وتعالى يصف الشيطان بقوله -سبحانه " :-لعنة ال " أي طرده من رحمته .وليتيقظ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ابن آدم لحبائل الشيطان وليحذره؛ لنه مطرود من رحمة ال.
ولو أن سيدنا آدم أعمل فكره لفند قول الشيطان وكيده ،ذلك أن كيد الشيطان ضعيف .ولكن آدم
س َم ُهمَآ إِنّي َل ُكمَا َلمِنَ
عليه السلم لم يتصور أن هناك من يقسم بال كذبا .فقد أقسم الشيطانَ {:وقَا َ
النّاصِحِينَ }[العراف]21 :
وكانت غفلة آدم -عليه السلم -لمر أراده ال وهو أن يكون آدم خليفة في هذه الدنيا؛ لذلك
سوَسَ َل ُهمَا الشّيْطَانُ لِيُبْ ِديَ َل ُهمَا مَا وُو ِريَ
كان من السهل أن يوسوس الشيطان لدم ولزوجهَ {:فوَ ْ
سوْءَا ِت ِهمَا َوقَالَ مَا َنهَا ُكمَا رَ ّب ُكمَا عَنْ هَـا ِذهِ الشّجَ َرةِ ِإلّ أَن َتكُونَا مََلكَيْنِ َأوْ َتكُونَا مِنَ
عَ ْن ُهمَا مِن َ
الْخَاِلدِينَ }[العراف]20 :
وأغوى الشيطان آدم وحواء بأن ال قد نهاهما عن الكل من تلك الشجرة حتى ل يكونا ملكين،
وحتى ل يستمرا في الخلود .ولو أن آدم أعمل فكره في المسألة لقال للشيطان :كل أنت من
الشجرة لتكون ملكا وتكون من الخالدين ،فأنت أيها الشيطان الذي قلت بخوف شديد ل {:قَالَ َربّ
فَأَنظِرْنِي إِلَىا َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }[الحجر]36 :
والحق يريد لنا أن نتعلم من غفلة آدم؛ لذلك ل بد للمؤمن أن يكون يقظا.
خذَنّ مِنْ عِبَا ِدكَ َنصِيبا ّمفْرُوضا }.
فسبحانه يقول عن الشيطانّ { :لعَنَهُ اللّ ُه َوقَالَ لَتّ ِ
والقرآن الكريم حين يعالج قضية ما فهذه القضية تحتاج إلى تدبر .ونلحظ أن إبليس قد تكلم بذلك
ولم يكن موجودا من البشر إل آدم وحواء ،فكيف علم ما يكون في المستقبل من أنه سيكون له
أتباع من البشر؟ وكيف قال { :لَتّخِذَنّ مِنْ عِبَا ِدكَ َنصِيبا مّفْرُوضا }؟.
لقد عرف أنه مادام قد قدر على أبيهم آدم وأمهم حواء فلسوف يقدر على أولدهما ويأخذ بعضا
من هؤلء الولد إلى جانبه ،قال ذلك ظنا من واقع أنه قدر على آدم وعلى حواء .والذين اتبعوا
إبليس من البشر صدقوا إبليس في ظنه .وكان هذا الظن ساعة قال } :لَتّخِذَنّ مِنْ عِبَا ِدكَ َنصِيبا
ّمفْرُوضا {.
وأخذ إبليس هذا الظن لنه قدر على آدم وحواء مع أن آدم وحواء قد أخذا التكليف من ال
مباشرة ،فما بالك بالولد الذين لم يأخذوا التكليف مباشرة بل عن طريق الرسل .إذن كان ظن
إبليس مبنيا على الدليل فالظن -كما نعلم -هو نسبة راجحة وغير متيقنة ،ويقابلها الوهم وهو
نسبة مرجوحة {:وََلقَ ْد صَدّقَ عَلَ ْيهِمْ إِبْلِيسُ ظَنّهُ }[سبأ]20 :
ولذلك قال إبليس أيضا {:لَئِنْ أَخّرْتَنِ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة لَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّ َتهُ ِإلّ قَلِيلً }[السراء]62 :
ج َمعِينَ }[ص]82 :
غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
وقال كذلك {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ
مادام إبليس قد قال } :لَتّخِذَنّ مِنْ عِبَا ِدكَ َنصِيبا ّمفْرُوضا {.
فهذا اعتراف بأنه لن يستطيع أن يأخذ كل أولد آدم .والفرض -كما نعلم -هو القطع .ويقال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عن الشيء المفروض :إنه المقطوع الذي ل كلم فيه أبدا.
وما وسيلة إبليس -إذن -لخذ نصيب مفروض من بني آدم؟
لمُرَ ّنهُمْ فَلَيُبَ ّتكُنّ{ ...
لمَنّيَ ّنهُ ْم َو َ
لضِلّ ّنهُ ْم وَ ُ
ويوضح الحق لنا وسائل إبليس ،على لسان إبليسَ } :و ُ
()605 /
وَلَُأضِلّ ّنهُ ْم وَلَُأمَنّيَ ّنهُ ْم وَلََآمُرَ ّنهُمْ فَلَيُبَ ّتكُنّ َآذَانَ الْأَ ْنعَا ِم وَلََآمُرَ ّنهُمْ فَلَ ُيغَيّرُنّ خَلْقَ اللّ ِه َومَنْ يَتّخِذِ الشّيْطَانَ
وَلِيّا مِنْ دُونِ اللّهِ َفقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ()119
في هذه الية تفصيل لطرق أخذ إبليس لنصيب مفروض من بني آدم .فإبليس هو القائل كما يحكى
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف]16 :
ل ْقعُدَنّ َل ُه ْم صِرَا َ
القرآنَ {:
وعرفنا من قبل أنه لن يقعد إل على الطريق الطيب؛ لن طريق من اختار السلوك السيئ ل
يحتاج إلى شيطان؛ لنه هو نفسه شيطان؛ لذلك ل يذهب إبليس إلى الخمارة ،ولكنه يقف على باب
المسجد ليرى الناس وهي تفعل الخير فيوسوس لهم ،وفي هذا إجابة لمن يقولون :إن الوساوس
تأتيني لحظة الصلة .والصلة -كما نعلم -هي أشرف موقف للعبد؛ لنه يقف بين يدي الرب؛
لذلك يحاول الشيطان أن يلهي النسان عنها حتى يحبس عنه الثواب .وهذه الوساوس ظاهرة
صحية في اليمان ،ولكنها تحتاج إلى اليقظة ،فساعة ينزع الشيطان النسان نزغة فليتذكر قول
الحق {:وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ }[العراف]200 :
وعندما نستعيذ بال فورأً يعرف الشيطان أنك منتبه له ،حتى ولو كنت تقرأ القرآن في أثناء
الصلة ووسوس لك الشيطان ،اقطع القراءة واستعذ بال ،ثم واصل القراءة والصلة ،وحين
يعرف الشيطان أنك منتبه له مرة واثنتين وثلثا فهو يبتعد عنك فل يأتي لك من بعد ذلك إلّ إذا
أحسّ منك غفلة.
ويبين لنا الحق طريقة الشيطان في أخذ النصيب المفروض من عباد ال فقال عن إبليس" :
ولضلنهم " .والضلل معناه ان يسلك الشيطان بالنسان سبيلً غير مؤدٍ للغاية الحميدة؛ لنه حين
يسلك الشخص أقصر الطرق الموصلة إلى الغاية المنصوبة ،فمعنى ذلك أنه اهتدى ،وأما إذا ذهب
بعيدا عن الغاية ،فهذا هو الضلل .والحق سبحانه وتعالى بوضعه منهج الهداية أعطانا أقصر
طريق مستقيم إلى الغاية فإذا ما انحرفنا هنا أو هناك ،فالنحراف في البداية يتسع حتى ننتهي إلى
غير غاية.
وضربنا قديما هذا المثل وقلنا :إن هناك نقطة في منتصف كل دائرة تسمى مركز الدائرة ،فإذا ما
انحرف المتجه إليها بنسبة واحد على اللف من الملليمتر فتتسع مسافة ابتعاده عنها كلما سار على
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نسبة النحراف نفسها ،برغم أنه يفترض في أن كل خطوة يخطوها تهيئ له القرب إلى الغاية.
لقد ضربنا مثلً توضيحيا بـ " الكشك " الذي يوجد قبل محطات السكك الحديدية ،حيث ينظم
عامل " الكشك " اتجاهات القطارات على القضبان المختلفة ويتيح لكل قطار أن يتوقف عند
رصيف معين حتى ل تتصادم القطارات ،ومن أجل إنجاح تلك المهمة نجد عامل التحويلت في
هذا " الكشك " يحرك قضيبا يكون سمكه في بعض الحيان عددا من الملليمترات ،ليلتصق هذا
القضيب بقضيب آخر وبذلك يسمح لعجلت القطار أن تنتقل من قضيب إلى آخر.
الضلل -إذن -أن يسلك النسان سبيلً غير موصل للغاية ،وكلما خطا السنان خطوة في هذا
السبيل ابتعد عنها ،وهذا البتعاد عن الغاية هو الضلل البعيد ،والضلل من الشيطان يكون
بتزيينه الشر والقبح للنسان ليبعده عن مسالك الخير والفضيلة.
ومن بعد ذلك يأتي على لسان الشيطان ما قاله الحق في هذه الية " :ولمنينهم " وألماني هي أن
ينصب النسان في خياله شيئا يستمتع به من غير أن يخطو له خطوة عمل تقربه من ذلك ،ومثال
ذلك النسان الذي نراه جالسا ويمني نفسه قائلً :سيكون عندي كذا ..وكذا وكذا ول يتقدم خطوة
واحدة لتحقيق ذلك.
ولذلك يقول الشاعر تسلية لنفسه:مُنًى ..إن تكن حقا ..تكن أحسن المنى وإل فقد عشنا بها زمنا
رغداأي أنه استمتع بهذه الماني في أحلم اليقظة سواء أكانت هذه الحلم امتلك قصر أم سيارة
أم غير ذلك .وكل أمنية ل تحفز النسان إلى عمل يقربه منها هي أمنية كاذبة ،ولذلك يقال " :إن
الماني بضاعة الحمقى " والشيطان يمني النسان بأنه ل يوجد بعث ول جزاء.
لمُرَنّهُمْ فَلَيُبَ ّتكُنّ آذَانَ الَ ْنعَامِ { والبتك هو :القطع .والنعام :هي
ومن بعد ذلك يقول الشيطانَ } :و َ
البل والبقر والغنم ،أي قطع آذان النعام .والقرآن قال في النعامَ {:ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ
ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَ ْرحَا ُم الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ
اثْنَيْ ِ
ن َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأ ِم الُنْثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ
إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ * َومِنَ الِ ْبلِ اثْنَيْ ِ
عَلَيْهِ أَ ْرحَا ُم الُنْثَيَيْنِ }[النعام]144-143 :
لو كان الزوج يطلق على " الثنين " لكان العدد أربعة فقط ،ويعلمنا التعبير القرآني ويوضح لنا
ان نفرق جيدا لنفهم أن معنى كلمة " زوج " ليس أبدا " اثنين " ،ولكن معناها :واحد معه غيره
من نوعه أو جنسه .فيقال عن فردة الحذاء " زوج " لن معها فردة أخرى ،ومثال آخر أيضا:
كلمة " توأم " التي نظن أنها تعني " اثنين " ،لكن المعنى الحقيقي أن التوأم هو واحد له توأم آخر،
فإذا ماأردنا التعبير عن الثنين قلنا " :توأمان ".
ن الَ ْنعَامِ { فلهذا قصة .ونحن نعرف أن
وحين أورد من خطط الشيطان } َولَمُرَ ّنهُمْ فَلَيُبَ ّتكُنّ آذَا َ
المنتفعين بالضللت يصنعون لهم سلطة زمنية حتى يربطوا الناس بأشخاصهم هم .وكان
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المشرفون على الصنام يقومون على خدمتها ،ولم يلحظ أحد أنه من الغباء َتقَبّلُ فكرة أن يخدم
البشر اللهة ،فالله هو القيوم على خلقة يرعاهم ويقوم بأسبابهم ،وكان هؤلء الناس هم المنتفعين
بخيبة الغفلة عند البشر ،وكانوا يعيشون سدنة ليأخذوا الخير ،وبطبيعة الحال فالشيطان من البشر
أو الجن يجدها وسيلة ،فيجلس في جوف الصنم ويتكلم فيأخذ السدنة والخدم هذه المسألة لترويج
الدعايات للصنم ،فيأتي الغبياء له بالنعام من البل والبقر والغنم فيذبحونها ويأكلونها.
ولذلك كان السدنة دائما وفي أغلب الحالت أهل سمنة لنهم أهل بطنة ،والنبي صلى ال عليه
وسلم قال " :إن ال يبغض الحَبْرَ السمين ".
فمثل هذا الحْبَرْ يستسهل أكل خير الناس والنتفاع به ،فهو ينتفع بضللت الناس ،ومن ينتفع
بالضللة يرى أن حظه في أن تستمر الضللة ،مثله في ذلك مثل المنتفع من تجارة المخدرات إنّه
يتمنى أن يتعاطى الناس جميعهم المخدرات ..وعندما تقوم حملت لمقاومة المخدرات يغضب
ويحزن.
ومثل ذلك أيضا تاجر السوق السوداء الذي يصيبه الغمّ عندما تأتي البضائع على قدر حاجات
الناس وتكفيهم .فكل فساد مستتر وراءه أناس ينتفعون به .وعندما يرى المنتفع بالفساد هبّة إصلح
يغضب ويحاول أن يجد وسيلة لستمرار الفساد ،ولهذا كان السدنة ينفخون في الصنام لتصدر
أصواتا ليطلبوا من وراء ذلك مطالب من الغبياء المصدقين لهم ،مثلهم مثل الدجالين الذين نسمع
عنهم حيث يقول الواحد منهم لهل المريض :إن على المريض عفريتا ،والعفريت يطلب ناقة أو
ذبيحة أو دما.
هكذا كان يفعل السدنة ،ويحاولون بشتى الطرق من الحيل والخدع حتى يأخذوا من الغافلين السذج
البل والبقر والغنم .وعندما يقطع صاحب البل أو البقر أو الغنم أذن أي واحدة منها ،فهذا يعني
أنها منذورة للصنام ،والصنام بطبيعتها ل تأكل ولكن السدنة يأكلون.
للً }
جعَلْتُمْ مّ ْنهُ حَرَاما وَحَ َ
وفي آية أخرى يقول فيها الحقُ {:قلْ أَرَأَيْتُمْ مّآ أَن َزلَ اللّهُ َل ُكمْ مّن رّزْقٍ َف َ
[يونس]59 :
ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ
ويورد الحق أيضا في هذا المرَ {:ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ
ن الِ ْبلِ اثْنَيْنِ
حَرّمَ أَ ِم الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَ ْرحَا ُم الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُن ُت ْم صَا ِدقِينَ * َومِ َ
ش َهدَآءَ إِذْ
َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ أَ ِم الُنْثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَ ْيهِ أَرْحَا ُم الُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ ُ
ضلّ النّاسَ ِبغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي
َوصّاكُمُ اللّهُ ِبهَـاذَا َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا لِ ُي ِ
ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }[النعام]144-143 :
فهل المحرم هو " الذكران " أو النثيان أو الذي اشتملت عليه أرحام النثيين؟.
ل شيء من هذه كلها محرّم؛ فقد خلقها ال كلها رزقا حللً .والنعمة نفسها تعرف وظيفتها،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونلحظ في الريف المصري عندما تُختنق جاموسة أو بقرة أو خروف بالحبل .أو يصاب بأذى أو
مرض فإنه ينام ويمد عنقه فيقال " :لقد طلب الحلل " ،كأن البهيمة تقول لصاحبها :الحقني
ل ل يفعل ذلك؛ لن لحمه غير محلل .لكن
بالذبح لتستفيد من لحمي ونتعجب لن الحمار مث ً
البهيمة تعرف فائدتها بالنسبة للنسان فتمد رقبتها طالبة الذبح ،كما نعرف أنها في أثناء حياتها
تخدم النسان إما في أن تحمل الثقال ،وإمّا أن يأخذ منها اللبان أو الوبر أو الصوف أو الشعر،
ولحظة ما يدهمها ويغشاها ويصيبها خطر فهي تمد رقبتها كأنها تطلب الذبح ليستفيد النسان من
لحمها ،فهي مسخرة للنسان وتعرف ذلك إلهاما وتسخيرا.
ومادام ال قد جعل لنا كل هذا ..فلم نقبل تحريم غير المحرّم وتحليل غير الحلل؟ لكن السدنة
كانوا يفعلون العاجيب للسيطرة على الناس ،فإذا ما ولدت الناقة أربعة أبطن وجاءت بالمولود
الخامس ذكرا يقول السدنة :يكفي أنها جاءت بأربعة بطون وأتت بالخامس فحلً ذكرا ويشقون أذن
الناقة ويتركونها؛ وعندما يراها أحد ويجد أذنها مشقوقة فالعرف يقضي بأل تستخدم في أي شيء،
ل في الرضاعة ،ول في الحمل ول يحلب لبنها ول تمنع من المياه أو الكل وتسمى " البحيرة "
ويأخذها السدنة في أي وقت؛ لنهم ل يرديون تخزين اللحوم ،يريدونها حية ليذبحوها في الوقت
ل َوصِيلَ ٍة َولَ حَامٍ }
ج َعلَ اللّهُ مِن بَحِي َر ٍة َولَ سَآئِبَةٍ وَ َ
الذي يتراءى لهم ،ولذلك قال الحق {:مَا َ
[المائدة]103 :
والبحيرة -إذن -هي الناقة التي تبحر آذاتها -أي تشق -فذلك يعني أنها جاءت بأربعة أبطن
تباعا ثم جاءت بالذكر في البطن الخامسة ويهبها صاحبها للصنام .والبحيرة سائبة مع وجود
سائبة أخرى ،وهي وإن لم تأت بأربعة أبطن ول بالذكر في البطن الخامسة ولكن صاحبها يقدمها
نذرا أو هدية لحد الصنام .وتسمى " سائبة " لن أحدا ل يقوم على شأنها ،ولكنها ترعى في أي
أرض وتشرب من أي ماء ول أحد يأخذ من لبنها أو يركبها ،ويأخذها السدنة وقت احتياجهم للحم
الطازج الغضّ .وإذا ولدت الشاة أنثى جعلوها لهم ،وإن ولدت ذكرا جعلوه للهتهم ،وإن ولدت
ذكرا وأنثى لم يذبحوا الذكر للهتهم وقالوا عن الشاة :وصلت أخاها فهذه هي الزصيلة؛ لن الناس
كانت تحتفظ بالناث من البهائم فهي وعاء النسل؛ لذلك فهبة الفحل للسدنة كان أمرا مقدورا عليه.
ويقول الشاعر:وإنما أمهات القوم أوعية مستحدثات وللحساب آباءونرى في المزارع أن إناث
المواشي تحتاج إلى فحل واحد؛ وقد يكون في البلدة كلها فحل واحد أو اثنان لناث الماشية من
النوع نفسه ،ويفرح الطفال في الريف حين تلد الماشية ذكرا؛ لنه سيتغذى قليلً ثم يتم ذبحه
ويأكلون منه .ويغضب الطفال حين تلد الماشية أنثى لنه سيتم تربيتها ،ولن يأكلوا منها.
أي أنهم قديما عندما كانت الماشية تلد في بطن واحد أنثى وذكرا ل يذبحون الذكر ويقولون:
النثى وصلت أخاها ويضمن الذكر حياته ويستخدم كفحل ليلقح بقية الناث ،ويقال عنها:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوصيلة.
هكذا نجد البحيرة هي الناقة التي أنجبت خمسة أبطن آخرها ذكر ،والسائبة وهي النذر من أول
المر ،والوصيلة وهي التي ولدت أنثى ومعها ذكر ،فيقال وصلت النثى أخاها ،أي قدمت له
الحماية .والحام هو الذكر الذي نتجت من صلبه عشرة أبطن فل يركب ول يحمل عليه ،ول يمنع
من ماء ول مرعى وقالوا :حمى ظهره.
وهناك من يتحذلق في عصرنا قائلً :أنا نباتي ،ل آكل اللحم ،على الرغم من أن الواحد منهم قد
يذبح إنسانا ويدعي الحزن عند ذبح دجاجة ،ونقول لهؤلء :انتبهوا؛ إن ال قد سخر لنا هذه النعام
وهي نفسها تحب أن ينتفع بها.
لمُرَنّهُمْ فَلَيُبَ ّتكُنّ آذَانَ الَ ْنعَامِ { وعرفنا أنهم كانوا يفعلون
ومن وسائل الشيطان ما يقوله الحقَ } :و َ
ذلك من اجل إرضاء سدنة الصنام ،هؤلء السدنة الذين أحبوا أن تظل هذه الصنام وهذه النعام
المرصودة من أجلها .ولذلك أقول دائما :آه من أن يرتبط رجل دين بمسائل دنيا؛ فهذا مصدر
للخوف من أن يزيف الدين لمصلحة الهواء.
لمُرَ ّنهُمْ فَلَ ُيغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ { .وكشف
ومن وسائل الشيطان ما يقوله الحق على لسان الشيطان } :وَ َ
لنا الحق كيف صار للشيطان أمر على هؤلء الناس ،مع ان المر يجب أن يكون ل وحده،
ونتساءل :كيف يغيرون من خلق ال؟ وكل شيء هو من خلق ال.
والخلق -كما نعلم -إيجاد من عَدم ،وسبحانه خلق كل شيء وجعل لكل كائن وظيفة ما ،فهو
خلق عن حكمه لغاية ،وهذه الغاية موجودة في علم الخالق أزلً -ول المثل العلى -نجد
المستحدَث الصناعي في السواق كغسالة الملبس مثل ونعرف أن الذي صممها إنما صممها من
أجل راحة الناس ،وقد فكر في هذا الهدف قبل أن يصنع ويصمم اللة التي تؤدي هذا العمل لتريح
الناس من تعب غسل الملبس بأيديهم ،وكذلك من صمم " الميكروفون " أراد في البداية هدفا هو
أن يصل الصوت لمن هو بعيد ،ثم بدأ البحوث والتطبيقات من أجل أن يصل إلى الغاية والقصد.
والحق سبحانه وتعالى خلق كل خلق من خلقه لغاية ،فإن استعملنا مخلوقه لغايته فلن نقع في
محظور تغيير خلق ال ،ولكن لو استعملنا المخلوق لغير الغاية فهذا هو التغيير لخلق ال ،وساعة
نريد فهم لفظ من اللفاظ فلنبحث في القرآن عن نظائره ،وقد نجد في القرآن نفسه ما يفسر القرآن
لمْرُ }
ق وَا َ
نفسه ،فالحق يقول هنا } :فَلَ ُيغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ { ،وفي موقع آخر يقولَ {:ألَ َلهُ الْخَ ْل ُ
[العراف]54 :
والخلق المعروف نراه في الكائنات ،وهناك ما ل نراه أيضا ،والمر مقصود به قوله الحق {:كُن
فَ َيكُونُ }[يس]82 :
وآية أخرى تقربنا أكثر من هذا الموضوع {:فِطْ َرتَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَ ْيهَا لَ تَبْدِيلَ لِخَ ْلقِ اللّهِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
}[الروم]30 :
وهذا يعني أن الخلق كله على أصل الفطرة .فإذا ما حاول أحد أن يغير الفطرة فهذا تغيير لخلق
ال .ما الفطرة إذن؟ .إنها الصفاء الوليّ في النفس والطبيعة .ومثال ذلك حين يوجد النسان في
بيئة ل تكذب فلن يعرف في حياته الكذب .وعندما يوجد النسان في بيئة ل تسرق فلن يعرف ما
السرقة؛ فالنسان إنما يتعرف على الموبقات من النقص المجتمعي ،بدليل أن البلدان التي طبقت
الشريعة السلمية وتم قطع عدد قليل من اليدي عقوبة وحدا في السرقة انتهت فيها السرقة.
ونشأ جيل لم ير سارقا .ومن يترك شيئا في مكان ما يظل في مكانه إلى أن يعود صاحبه ليجده،
هذه هي الفطرة السليمة ،ودليلنا على أن الفطرة سليمة بطبيعتها هو أننا نجد أن الذي يحاول صنع
أمر ما يخالف الفطرة إنما يتلصص ويستتر؛ لنه يعرف أن هذا المر غير سليم.
لقد ضربت المثل على ذلك بالرجل حين ينظر إلى زوجته ،إنّه ينظر بكل ملكاته ،أما إن نظر -
والعياذ بال -إلى محارم غيره فهو يتلصص ليختلس النظر بعيدا عن الخرين .فالنسان حين
يرتكب إثما يتكلف شيئا متنافرا ومغايرا لطبيعته .والتكلف هو التيان بشيء خارج عن الفطرة
النسانية .وتغيير كل ما يتعلق بالفطرة هو تغيير لخلق ال.
وصور الفساد ل تأتي إل من هذه الناحية.
كيف؟.
إننا نرى الحق قد خلق الزوجين الذكر والنثى .ونجد من الرجال من يستأنث -أي أنه يحاول أن
يكون أنثى -وقد يتصرف كما تسلك المرأة وتتصرف ويتزين بزينتها ويتخنث ،هذا إنسان يريد
أن يغير خلق ال .وكذلك قد نجد امرأة تريد أن تسترجل ،فهي تريد أن تغير خلق ال.
ولذلك فإننا نرى أستاذا عالما هو الدكتور حسن جاد -أمده ال بالعافية -وهو شاعر وزميل لي
ونشأنا معا ،رأى هذه الظاهرة ،ظاهرة محاولة البعض تغيير خلق ال فقال قصيدة مشهورة جاء
فيها:من حيرتي من الذين اللتي حرت بين الفتى وبين الفتاةالشاعر يعلن حيرته؛ لنه ل يتعرف
على الفارق بين الفتى والفتاة ،ففي بعض الحيان صارا من " الذين واللتي معا " لن الفتى يتشبّه
بالفتاة ،والفتاة تتشبّه بالفتى .على الرغم من احتفاظ كل منهما بخصائص نوعه ،وبما يميزه عن
النوع الخر .وبعض النساء يقمن بإجراءات لتغيير الخلقة ،كنزع شعر الحواجب من منابته
وإعادة رسم مكانه بوضع خط بالقلم الملون ،ويفضح ذلك نبتُ الشعر من جديد ،فتتحول إلى شكل
قبيح وتنسى أن الجمال إبداع تقاسيم ،فقد يكون سرّ جمال واحدة أن يكون شعر الحاجبين كثيفا،
وقد يكون سرّ الجمال للمرأة اتساع الفم ،أو طول النف.
لقد سمعنا أن أنف كليوباترا لو كان قصيرا بعض الشيء لتغير وجه التاريخ .والحق سبحانه
وتعالى كما وزع المزجة على العباد وزع أيضا أسلوب الخلق بما يغطي هذه المزجة .أل ترى
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الحياة اليومية شابا يتقدم لخطبة فتاة ل تعجبه ،أو ل يعجبها ،ويأتي آخر فيعجب بالفتاه وتعجب
الفتاة به .هو سبحانه الذي أنشأ السيال العاطفي ليتواءم الخلق بهذا السيال .وقد تحاول فتاة أن
تغير من خلق ال فتسبب بذلك فسادا للسيال العاطفي.
وقد تريد المرأة أن تجعل حمرة خديها في لون الورد فتضع عليهما بعضا من المساحيق ،أل تعلم
هذه المرأة أن زوجها وأقاربها يعرفون أنها قد صنعت ذلك بمواد خارجية ،وماذا يكون موقفها
عندما يراها زوجها في الصباح وقد أفسدت اللوان بشرتها ،وماذا يكون موقفها عندما تتقدم بها
السن وتكون مساحيق قد خنقت مسام جلدها ومنعت الجلد من التنفس ،ويتحول شكلها باستمرار
سوء فعلها إلى كائن أقرب إلى وجه القرد والعياذ بال؟ لقد غيرت بسوء الفعل خلق ال.
وكذلك الظافر التي يتم خنقها بطبقات من " البلستيك " الملون .هل تظن واحدة أن هناك رجلً
قد يتصور أن هذا هو لون أظافرها الطبيعي؟ .إن الظافر ذات لون أراده ال بحكمه ،لها نظام،
فلماذا تحرم المرأة أظافرها من الحياة الطبيعية ومن نعمة تنفس الهواء ،فالظافر تتنفس أيضا.
وقد يفتي واحد بأنه يصح للمرأة أن تتوضأ بعد أن تضع هذا الطلء ،وأقول :اتق ال؛ فهذه ليست
أصباغا؛ لن الصباغ تتخلل الجلد أو الظفر ول يذهب لون الصبغة إل بذهاب الجلد أو الظفر -
مثل الحنة -وفي هذه الحالة يصل الماء في الطهارة إلى الجلد ،أما طبقة البلستيك التي على
الظفر فل تُزال إل بمادة كيماوية ويمكن إزالتها وهي لون من الطلء وليست صبغة ول يصل
الماء معها في الغسل أو الوضوء إلى البشرة.
ومن تفعل ذلك إنما تخدع نفسها ومن يُعجب بها .ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن
يعدل من مزاج الكون فيعطي للنسان سكنا ومتعة ولكن بتوازن عاطفي وعقلي ،فلو أراد ال لخدّ
المرأة التوهج لتثير غرائز الرجل لخلق ال الخدين على هذا السلوب ،لكنه أراد للخدود أن تكون
بألوانها الطبيعية حتى تهيج الغرائز على قدر القوة التي في الرجل ،وعندما تكبر المرأة نجد
جمالها قد ذبل قليلً على قدر نسبة ذبول قدرة الرجل ،فسبحانه يعطي على قدر الطاقة حتى ل
تتحول المسألة إلى إهاجة للغرائز فقط.
إن هناك فرقا بين تصريف الغرائز وإهاجة الغرائز وإلهابها ،وما يحدث من وسائل التجميل هو
تغيير لخلق ال .وكذلك المرأة التي تحدث وشما ،أو الرجل الذي يفعل ذلك إنما يغيران من خلق
ال ،ولو كان الحق يرى أن مثل هذه العمال تزيد من الجمال لفعلها } فَلَ ُيغَيّرُنّ خَ ْلقَ اللّهِ {.
خسْرَانا مّبِينا { والولي
خسِرَ ُ
ن وَلِيّا مّن دُونِ اللّهِ َفقَدْ َ
خذِ الشّ ْيطَا َ
ويقول الحق من بعد ذلكَ } :ومَن يَتّ ِ
للشيطان هو الذي يليه ويقرب منه .ومن فعل ذلك فقد ترك الفضل وذهب إلى الضعف الذي
يورده مهاوي وموارد الهلك ،ويخسر الخسران الواضح والمحيط من كل الجهات ،ول انفلت
من مثل هذا الخسران.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحق من بعد ذلكَ } :يعِ ُدهُ ْم وَ ُيمَنّيهِمْ{ ...
()606 /
وهذا يعني أن الشيطان يقدم الوعود الكاذبة لمواليه ويخبرهم بشيء يسرهم ،فالوعد هو أن يخبر
أحد آخر بشيء يسرّه أن يوجد.
والمثال على ذلك نراه في الحياة العادية فالنسان منا يحب ماله الذي قد جاء بالتعب ،والصدقة في
ظاهر المر تنقص المال ،فيقول الحق {:الشّيْطَانُ َيعِ ُد ُكمُ ا ْل َفقْرَ }[البقرة]268 :
لماذا؟.
لن الشيطان يوسوس في صدر صاحب المال قائلً :إنك عندما تتصدق ببعض المال فمالك
ينقص .وويل لمن يرضخ لوساوس الشيطان؛ لنه يورده موارد التهلكة ،والشيطان أيضا يقدم
الماني الكاذبة في الوساوس " :ويمنيهم " .ومثال ذلك ما جاء على لسان المتفاخر على أخيه بلون
من الستهزاء والعياذ بالَ {:ومَآ َأظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَ ًة وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَجِدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا
}[الكهف]36 :
المتفاخر يقول :مادام ال قد أعطاني في الدنيا ،وما دامت مهمة ال هي العطاء الدائم فل بد أن
يعطيني ربي في الخرة أضعاف ما في الدنيا؛ ذلك أن سعيد الدنيا هو سعيد في الخرة ،فماذا كان
جزاؤه؟.
لقد رأى انهيار زراعته وعرف سوء مصير الغرور؛ لنه استجاب لوعود الشيطان ،ووعود
الشيطان ليست إل غرورا { َومَا َيعِ ُدهُمُ الشّيْطَانُ ِإلّ غُرُورا }.
فما هو الغرور؟ .هناك " غُرور " -بضم الغين ،-و " غَرور " -بفتح الغين .-والغُرور -
بضم الغين -هو الشيء يُصوّر لك على أنّه حقيقة وهو في الواقع وَهْم .والغَرور -بفتح الغين -
هو من يفعل هذه العملية ،ولذلك فالغَرور -بفتح الغين -هو الشيطان؛ لنه يزين للنسان المر
الوهمي ،ويؤثر مثلما يؤثر السراب؛ فالنسان حين يرى انكسار الشعة يخيل إليه أنه يرى ماء،
ج ْدهُ شَيْئا }[النور:
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ َلمْ يَ ِ
ويقول الحق عن ذلك {:كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَحْسَ ُبهُ ال ّ
]39
وكذلك الغُرور ،حيث يزين الشيطان شيئا للنسان ويوهمه أنه سيستمع به .فإذا ما ذهب النسان
إليه فلن يجد له حقيقة ،بل العكس ،ولذلك يفصل لنا الحق أعمال الكفار فيقول عنها {:وَالّذِينَ
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ
عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ
َكفَرُواْ أَ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسَابَ ُه وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }[النور]39 :
ِ
ويفاجأ الكافر بوجود ال الذي كان كافرا به ،ويصير أمام نكبتين :نكبة أنه كان ذاهبا إلى ماء فل
يجده فيخيب أمله ،والنكبة الثانية أن يجد ال الذي يحاسبه على النكار والكفر.
جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان]23 :
ع َملٍ فَ َ
عمِلُواْ مِنْ َ
ويقول الحقَ {:وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا َ
وقد يأتي واحد ويدعي لنفسه النسانية ويظن أنه يتكلم بالمنطق فيقول:
-هل هؤلء الناس الذين قدموا للبشرية كل هذه المخترعات التي أفادت الناس كالمواصلت
وغيرها ،أيصيرون إلى عذاب؟ .ونقول :هؤلء سيأخذون جزاء الكفر؛ لن الواحد منهم قد عمل
أعماله وليس في باله ال.
بل قام بتلك العمال وفي باله عبقرية البتكار والنسانية وهو يأخذ من النسانية التكريم ،وعليه
أن يطلب أجره ممن عمل له وليس ممن لم يعمل به ،وينطبق عليه قول الرسول:
عن أبي هريرة قال :سمعت رسول ال -صلى ال عليه وسلم يقول " :إن أول الناس يقضي يوم
القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال :فما عملت فيها؟ قال :قاتلت فيك حتى
استشهدت .قال :كذبت ولكنّك قاتلت لن يقال جريء فقد قيل ،ثم أمر به فسحب على وجهه حتى
ألقي في النار ،ورجل تعلم العلم وعلمه ،وقرأ القرآن فأتى به َفعّرفه نعمه فعرفها قال :فما عملت
فيها؟ قال :تعلمت العلم وعَلّمته ،وقرأت فيك القرآن .قال :كذبت ،ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم،
وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ،ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ،ورجل
وسع ال عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعّرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال:
ل أنفقت فيها لك .قال :كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد
ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إ ّ
فقد قيل ،ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى في النار "
ولم يغمطهم ال جزاء أعمالهم في الدنيا .فقد أخذوا من الدنيا كل التكريم.
ووزع سبحانه فضل هذه المواهب على الناس الذين في بالهم ال؛ لذلك ترى المسلم غير المتعلم
يركب الطائرة ليحج بيت ال ويُسجل أحاديث اليمان على شرائط ليسمعها من لم يحضر ويشاهد
هذه الشعيرة ،إذن فهؤلء الكافرون مسخرون للمؤمنين لنهم أتاحوا لهم النتفاع بعلمهم
واكتشافاتهم ،والمؤمنون أيضا مطالبون بأن يأخذوا بأسباب ال لينالوا كرم ال في عطاء العلم ،بل
إن ذلك واجب عليهم يأثمون إذا لم يقوموا به حتى ل يكونوا عالة على سواهم ،فل يستذلون.
} َومَا َيعِدُ ُهمُ الشّيْطَانُ ِإلّ غُرُورا { وماذا يكون نصيب هؤلء في الخرة؟ يقول سبحانه} :
جهَنّمُ{ ...
ُأوْلَـا ِئكَ مَ ْأوَا ُهمْ َ
()607 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جدُونَ عَ ْنهَا مَحِيصًا ()121
جهَنّ ُم وَلَا يَ ِ
أُولَ ِئكَ مَ ْأوَاهُمْ َ
وكلمة " مأوى " معناها المكان الذي يضطر النسان إلى أن يأوى إليه ،فهل هذا الضطرار يكون
اندفاعا أو جذبا؟ سبحانه يقول عن النار إنها ستنطق قائلةَ {:هلْ مِن مّزِيدٍ }[ق]30 :
كأن النار ستجذب أصحابها .وهم لن يجدوا عنها محيصا ،أي ل مهرب ول مفر ول معدى ،وكان
باستطاعة الواحد منهم أن يفر من مخلوق مثله في دنيا الغيار ،ولكن حين يكون المر ل وحده
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر]16 :
فل مفرّ {.لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ} ...
والمقابل لذلك يورده الحق { :وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
()608 /
عمِلُوا الصّالِحَاتِ سَ ُندْخُِل ُهمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ
وَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
حقّا َومَنْ َأصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا ()122
َ
وحين يأتي سبحانه بأمر يتعلق بالكفار وعقابهم فالنفوس مهيأة ومستعدة لتسمع عن المقابل ،فإذا
كان جزاء الكفار ينفر النسان من أن يكون منهم ،فالنفس السامعة تنجذب إلى المقابل وهو
سوْفَ ُنؤْتِيهِ َأجْرا
الحديث عن جزاء المؤمنين أصحاب العمل الصالح .وسبحانه قال من قبلَ {:ف َ
عَظِيما }[النساء]114 :
وهنا يقول { :سَنُ ْدخُِلهُمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ } .والمتيقن من ال والواثق به يعلم أنه ل
توجد مسافة تبعده عن عطاء ال ،مثال ذلك " حينما سأل النبيّ أحد الصحابة وكان اسمه الحارث
بن مالك النصاري( :كيف أصبحت يا حارث؟).
قال :أصبحت مؤمنا حقا .لقد أجاب الصحابي بكلمة كبيرة المعاني وهي اليمان حقا؛ لذلك قال
الرسول :انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك "؟
أجاب الصحابي :عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري ،وكأني أنظر إلى
عرش ربيّ بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون
فيها (يتصايحون فيها).
فقال " :يا حارث :عرفت فالزم ثلثا ".
والحق ساعة يقول " :سـ " وساعة يقول " :سوف " فلكل حرف من الحروف الداخلة على الفعل
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ سَنُ ْدخُِلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي
ملحظ ومغزى وكل عطاء من ال جميل { .وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ }.
والجنة -كما قلنا من قبل -على إطلقها تنصرف إلى جنة الخرة فهي الجنة بحق ،أما جنة
الدنيا فمن الممكن أن يتصوّحَ نباتها وشجرها وييبس ويتناثر ،أو يصيبها الجدب ،أمّا جنة الخرة
فهي ذات الكل الدائم ،وإن لم تطلق كلمة " الجنة " من أي قيد أو وصف بل قيدت ،فالقصد منها
سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ }
صحَابَ الْجَنّةِ إِذْ َأ ْق َ
معنى آخرح كقول الحق {:إِنّا بََلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأ ْ
[القلم]17 :
ضعْفَيْنِ فَإِن لّمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ }[البقرة:
وقوله سبحانهَ {:كمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ
]265
والجنة بربوة هي البستان على مكان عال ،وهي ذات مواصفات أعلى مما وصل إليه العلم
الحديث؛ لن الرض إذا كانت عالية ل تستطيع المياه الجوفية أن تفسد جذور النبات المزروع في
ضعْفَيْنِ }
هذه الرض ،فيظل النبات أخضر اللون ،ويقول الحق عن مثل هذه الجنة {:فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ
[البقرة]265 :
ويزيد على ذلك أنها بربوة ،وأنها تروى بالمطر من أعلى ،ومن الطل ،فتأخذ الرّي من المطر
للجذور ،والطل لغسل الوراق .كل ذلك يطلق على الجنة.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى { :جَنّاتٍ تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ } ويطمئننا سبحانه على
احتفاظها بنضرتها وخضرتها ،وأول شيء يمنع الخضرة هو أن يقل الماء فتذبل الخضرة.
ونجد القرآن مرة يقول { :جَنّاتٍ َتجْرِي تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ } وهذا يعني أن منبع المياه بعيد .ومرة
أخرى يقول { :جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ } ويعني أن منبع المياه لن يحجزه أحد؛ لن
النهار تجري وتنبع من تحتها.
ويعد الحق المؤمنين أصحاب العمل الصالح بالخلود في الجنة ،والخلود هو المكث طويلً ،فإذا
ل إلى المكث الدائم.
قال الحق } :خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدا { أي أن المكث في الجنة ينتقل من المكث طوي ً
حقّا َومَنْ َأصْ َدقُ مِنَ اللّهِ قِيلً { .وحين يعدك من ل يخرجه شيء عن
وهذا وعد مَن؟ } وَعْدَ اللّهِ َ
إنفاذ وعده ،فهذا هو وعد الحق -سبحانه .-أما وعد المساوي لك في البشرية فقد ل يتحقق،
لعله ساعة إنفاذ الوعد يغير رأيه ،أو ل يجد الوُجد واليسار والسّعة والغنى فل يستطيع أن يوفي
بما وعد به ،أو قد يتغير قلبه من ناحيتك ،لكن ال سبحانه وتعالى ل تتناوله الغيار ،ول يعجزه
شيء ،وليس معه إله آخر يقول له ل .إن وعده سبحانه ل رجوع فيه ول محيص عن تحقيقه.
حقّا َومَنْ َأصْ َدقُ مِنَ اللّهِ قِيلً { هو كلم منه ليوضح لكل واحد منا :أنا ل
قول ال هنا } وَعْدَ اللّهِ َ
أريد أن أستفهم منك ،لكنه جاء على صورة الستفهام لتكون الجابة من الخلق إقرارا منهم بصدق
ما يقوله ال ،أيوجد أصدق من ال؟
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتكون الجابة :ل يمكن ،حاشا ل؛ لن الكذب إنما يأتي من الكذاب ليحقق لنفسه أمرا لم يكن
ل فهو صدق.
الصدق ليحققه ،أو لخوف ممن يكذب عنده ،وال منزه عن ذلك ،فإذا قال قو ً
ومن بعد ذلك يقول الحق } :لّيْسَ بَِأمَانِ ّيكُ ْم وَل َأمَا ِنيّ{ ...
()609 /
لَيْسَ بَِأمَانِ ّيكُ ْم وَلَا َأمَا ِنيّ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ َي ْع َملْ سُوءًا ُيجْزَ بِ ِه وَلَا َيجِدْ َلهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلِيّا وَلَا
َنصِيرًا ()123
والمنية -كما عرفنا -هي أن يطمح النسان إلى شيء ممتع مسعد بدون رصيد من عمل ،إنّ
الحق سبحانه وتعالى حينما استخلف النسان في الرض طلب منه أن يستقبل كل شيء صالح في
الوجود استقبال المحافظ عليه ،فل يفسد الصالح بالفعل ،وإن أراد النسان طموحا إلى ما يسعد،
فعليه أن يزيد الصالح صلحا.
والمثل الذي نضربه لذلك ،عندما يوجد بئر يشرب منها الناس ،فهذه البئر لها حواف وجوانب
وأطراف ،وتفسد البئر إذا جاء أحد لهذه الحوافي وأزاح ما فيها من التربة ليطمر البئر.
ومن يرد استمرار صلح البئر فهو يتركها كما هي وبذلك يترك الصالح على صلحه .وإن شاء
إنسان أن يطمح إلى عمل مسعد ممتع له ولغيره فهو يعمل ليزيد الصالح صلحا ..كأن يأتي إلى
جوانب البئر ويبني حولها جدارا من الطوب كي ل يتسلل التراب إلى الماء أو على القل يصنع
غطاءً للبئر ،فإن طمح النسان اكثر فهو يفكر في راحة الناس ويحاول أن يوفر عليهم الذهاب إلى
البئر ليملوا جِرارهم وقِرَبهم فيفكر في رفع المياه بمضخة ماصة كابسة إلى صهريج عال ،ثم
يخرج من هذا الصهريج النابيب لتصل إلى البيوت ،فيأخذ كل واحد المياه وهو مرتاح ،إنه بذلك
يزيد الصالح صلحا.
أما إن أراد النسان أن يطمح إلى ممتع دون عمل ..فهذه هي الماني الكاذبة .ولو ظل إنسان
يحلم بالمنيات ول ينفذها بخطة من عمل ..فهذه هي الماني التي ل ثمرة لها سوى الخيبة
والتخلف.
إذن فالمنية هي أن يطمح إنسان إلى أمر ممتع مسعد بدون رصيد من عمل .ونعلم أن الحق
سبحانه وتعالى أعطانا من كل شيء سببا ،ولنلحظ أن الحق قد قال {:فَأَتْبَعَ سَبَبا }[الكهف]85 :
أي أن النسان مطالب بأن يصنع أشياء تً َرقّي أساليب الحياة في الرض ،فال ضمن للنسان
الخليفة مقومات الحياة الضرورية ،وعندما يريد النسان الترف والتنعم فل بد أن يكدح .ومثال
ذلك :لقد أعطى الحق النسان المطر فينزل الماء من السماء ،وينزل ماء المطر في مجارٍ محددة،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حفرها المطر لنفسه ،وقد يكون في كل مجرى تراب من صخور أو طمي؛ لذلك يقوم النسان
بترويق المياه ،ويرفعها في صهاريج لتأتيه إلى المنزل،وبدلً من أن يشربها بيده من النهر
ن الكوبَ في البداية من الفخار ،ثم من مواد مختلفة
مباشرة ،يصنع كوبا جميلً .وصنع النسا ُ
كالنحاس ثم البللور .وهكذا نجد أن كل ترف يحتاج إلى عمل يوصل إليه ،فليست المسألة
بالماني.
وكذلك النتساب إلى الدين ،ليست المسألة أن يمتثل النسان وينتسب إلى الدين شكلً ،فالرسول
صلى ال عليه وسلم جاء ليحكم بين الناس جميعا ،ول يمكن لواحد أن ينتسب شكلً إلى السلم
ليأخذ المميزات ويتميز بها عن بقية خلق ال من الديانات الخرى ،ل؛ فالنسان محكوم بما يدين
به.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جدْ لَهُ مِن دُونِ اللّ ِه وَلِيّا َولَ َنصِيرا {.
بِ ِه َولَ يَ ِ
وأبو هريرة رضي ال عنه يقول :لما نزلت هذه الية شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :سدّدوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها
والنكبة ينكبها ".
وقال بعض العلماء :المراد بالسوء في هذه الية هو الشرك بال؛ لن ال وعد أن يغفر بعض
الذنوب .واستند في ذلك إلى قوله الحقَ {:كذَِلكَ نَجْزِي ُكلّ َكفُورٍ }[فاطر]36 :
كأن الجزاء المؤلم يكون للكفار ،أما الذين آمنوا فاليمان يرفعهم إلى شرف المنزلة ليقبل ال
توبتهم ويغفر لهم ،فسبحانه الحق جعل الصلة إلى الصلة كفارة لما بينهما ،وجعل صلة الجمعة
إلى صلة الجمعة كفارة لما بينهما ،وجعل الحج كفارة لما سبقه ،وكل ذلك امتيازات إيمانية .أما
جدْ لَهُ مِن دُونِ اللّ ِه وَلِيّا َولَ َنصِيرا {.
جزاء الكفار فهو " :مَن َي ْع َملْ سُوءًا ُيجْزَ بِ ِه َولَ يَ ِ
ول يقال فلن ل يجد إل إذا بحث هذا الشخص عن شيء فلم يجده ،فالنسان بذاته ل يستغنى،
ولكن من يعمل سوءا فليبحث لنفسه عن ولي أو نصير ولن يجد.
والولي هو الذي يلي النسان ،أي يقرب منه ،ومثلها النصير والمعاون ،ول يلي النسان ول
يقرب منه إل من أحبه .ومادام قد أحب قويّ ضعيفا ،فهو قادر على الدفاع عنه ومعاونته.
ولماذا أورد الحق هنا " الولي " ،و " النصير "؟ .والولي -كما عرفنا -هو القريب الذي يلي
النسان ،أما كلمة " نصير " فتوحي أن هناك معارك وخصومة بين المؤمن وغيره ،وهناك قوة
كبرى قد يظهر للنسان أنها ل تسأل عنه لنه في سلم ورخاء ،إن هذه القوة عندما تعلم أن هناك
خصوما للمؤمن تأتي لنصرته ،بينما ل يجد الكافر وليا ول نصيرا ،ولن يجد من يقرب منه ولن
يجد من ينصره إن عضته الحداث ،وعض الحداث هو الذي يجعل الناس تتعاطف مع المصاب
حتى إن البعيد عن النسان يفزع إليه لينصره ،لكن أحدا ل ينصر على ال.
ومن بعد ذلك يقول الحقَ } :ومَن َي ْع َملْ مِنَ الصّاِلحَاتِ{ ...
()610 /
َومَنْ َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّ َة وَلَا ُيظَْلمُونَ َنقِيرًا (
)124
وجاءت كلمتا " ذكر " و " أنثى " هنا حتى ل يفهم أحد أن مجيء الفعل بصيغة التذكير في قوله
(يعمل) أن المرأة معفية منه؛ لن المرأة في كثير من الحكام نجد حكمها مطمورا في مسألة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرجل ،وفي ذلك إيحاء بأن امرها مبني على الستر.
لكن الشياء التي تحتاج إلى النص فيها فسبحانه ينص عليهاَ { .ومَن َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ مِن َذكَرٍ
َأوْ أُنْثَىا } .وجاء سبحانه هنا بلفظة (مِن) التي تدل على التبعيض ..أي على جز ٍء من كلّ فيقول:
{ َومَن َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ } ولم يقل " :ومن يعمل الصالحات " لنه يعلم خلقه .فل يوجد إنسان
يعمل كل الصالحات ،هناك من يحاول عمل بعضٍ من الصالحات حسب قدرته .والمطلوب من
المؤمن أن يعمل من الصالحات على قدر إمكاناته ومواهبه.
وتبدأ العمال الصالحة من أن يترك النسان المور الصالحة على صلحها ،فإبقاء الصالح على
صلحه معناه أن المؤمن لن يعمل الفساد ،هذه هي أول مرتبة ،ومن بعد ذلك يترقى النسان في
العمال الصالحة التي تتفق مع خلفته في الرض ،وكل عمل تصلح به خلفة النسان في
الرض هو عمل صالح؛ فالذي يرصف طريقا حتى يستريح الناس من التعب عمل صالح ،وتهيئة
المواصلت للبشر حتى يصلوا إلى غايتهم عمل صالح ،ومن يعمل على ألّ ينشغل بال البشر
بأشياء من ضروريات الحياة فهذا عمل صالح.
كل ما يعين على حركة الحياة هو عمل صالح .وقد يصنع النسان العمال الصالحة وليس في
باله إله كعلماء الدول المتقدمة غير المؤمنة بإله واحد .كذلك العلماء الملحدة قد يصنعون أعمالً
صالحة للنسان ،كرصف طرق وصناعة بعض اللت التي ينتفع بها الناس ،وقاموا بها للطموح
الكشفي ،والواحد من تلك الفئة يريد أن يثبت أنه اخترع واكتشف وخدم النسانية ونطبق عليه أنه
عمل صالحا ،لكنه غير مؤمن؛ لذلك سيأخذ هؤلء العلماء جزاءهم من النسانية التي عملوا لها،
وليس لهم جزاء عند ال.
أما من يعمل الصالحات وهو مؤمن فله جزاء واضح هوَ {:ومَن َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ مِن َذكَرٍ َأوْ
ظَلمُونَ َنقِيرا }[النساء]124 :
خلُونَ الْجَنّةَ وَلَ يُ ْ
أُنْثَىا وَ ُهوَ ُمؤْمِنٌ فَُأوْلَـا ِئكَ يَدْ ُ
قد يقول البعض :إن عدم الظلم يشمل من عمل صالحا أو سوءا ونجد من يقول :من يعمل السوء
هو الذي يجب أن يتلقى العقاب ،وتلقيه العقاب أمر ليس فيه ظلم،والحق هو القائل {:جَزَآءُ سَيّئَةٍ
ِبمِثِْلهَا }[يونس]27 :
ومن يصنع الحسنة يأخذ عشرة أمثالها .وقد يكون الجزاء سبعمائة ضعف ويأتيه ذلك فضل من
ال ،والفضل من ال غير مقيد وهو فضل بل حدود ،فكيف يأتي في هذا المقام قوله تعالىَ { :ولَ
يُظَْلمُونَ َنقِيرا } وهم قد أعطوا أضعافا مضاعفة من الجزاء الحسن ،ونقول :إن الفضل من الخلق
غير ملزم لهم ،مثل من يستأجر عاملً ويعطيه مائة جنيه كأجر شهري ،وفي آخر الشهر يعطيه
فوق الجر خمسين جنيها أو مائة ،وفي شهر آخر ل يعطيه سوى أجره ،وهذه الزيادة إعطاؤها
ومنحها فضل من صاحب العمل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما الفضل بالنسبة ل فأمره مختلف .إنه غير محدود ول رجوع فيه .وهذا هو معنى } َولَ
يُظَْلمُونَ َنقِيرا { ،فسبحانه ل يكتفي بجزاء صاحب الحسنة بحسنة ،بل يعطي جزاء الحسنة عشر
أمثالها وإلى سبعمائة ضعف ،ول يتراجع عن الفضل؛ فالتراجع في الفضل -بالنسبة ل -هو
ظلم للعبد .ول يقارن الفضل من ال بالفضل من البشر .فالبشر يمكن أن يتراجعوا في الفضل أما
ال فل رجوع عنده عن الفضل.
ج َمعُونَ }[يونس]58 :
حمَتِهِ فَ ِبذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا َي ْ
وهو القائلُ {:قلْ ِب َفضْلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ
وأصحاب العمل الصالح مع اليمان يدخلون الجنة مصداقا لقوله تعالى } :فَُأوْلَـا ِئكَ يَ ْدخُلُونَ الْجَنّةَ
وَلَ ُيظَْلمُونَ َنقِيرا { والنقير هو :النقرة في ظهره النواة ،وهي أمر ضئيل للغاية .وهناك شيء
آخر يسمى " الفتيل " وهو المادة التي تشبه الخيط في بطن نواة التمر ،وشيء ثالث يشبه الورقة
ويغلف النواة واسمه " القطمير ".
وضرب ال المثال بهذه الشياء القليلة لنعرف مدى فضله سبحانه وتعالى في عطائه للمؤمنين.
حسَنُ دِينا ِممّنْ{ ...
ومن بعد ذلك يقول الحقَ } :ومَنْ أَ ْ
()611 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فتقول:
-ل أحد أحسن ممن أسلم وجهه ل .وبذلك تكون الجابة من المخاطب إقرارا ،فالقرار -كما
نعلم -سيد الدلة.
جهَهُ ل } ونعلم أن الكلمة إذا أطلقت في عدة مواضع فهي ل تأخذ
{ َومَنْ َأحْسَنُ دِينا ِممّنْ أَسْلَمَ وَ ْ
معنى واحدا .بل يتطلب كل موضع معنى يفرضه سياق الكلم ،فإذا قال ال تعالىَ {:يوْمَ تَبْ َيضّ
سوَ ّد وُجُوهٌ }[آل عمران]106 :
وُجُوهٌ وَتَ ْ
فذلك لن الوجه هو العضو المواجه الذي توجد به تميزات تبيّن وتوضح ملمح الشخاص .لننا
لن نتعرف على واحد من كتفه أو من رجله ،بل تعرف الشخاص من سمات الوجوه.
جهَهُ }[القصص]88 :
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
وعندما نسمع قول الحقُ {:كلّ َ
فإننا نتساءل :ماالمراد بالوجه هنا؟
إن أردنا الوجه الذي يشبه وجوهنا فهذا وقوع في المحظور ،لن كل شيء متعلق بال سبحانه
وتعلى نأخذه على ضوء " ليس كمثله شيء " نقول ذلك حتى ل يقولن قائل :مادام وجه ال هو
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ
الذي لن يهلك يوم القيامة فهل تهلك يده أو غير ذلك؟ .ل؛ إن الحق حين قالُ { :كلّ َ
جهَهُ } فالمقصود بذلك ذاته فهو سبحانه وتعالى منزه عن التشبيه وسبحانه القائل {:فَأَيْ َنمَا ُتوَلّواْ
وَ ْ
جهُ اللّهِ }[البقرة]115 :
فَثَ ّم وَ ْ
إذن فوجه ال -هنا -هو الجهة التي يرتضيها ،والنسان يتجه بوجهه إلى الكعبة في أثناء
الصلة .وإياك أن تظن أنك حينما تولي وجهك صوب الكعبة أنها وجه ال؛ لن ال موجود في
كل الوجود ،فأي متجه للنسان سيجد فيه ال ،بدليل أننا نصلي حول الكعبة ،وتكون شرق واحد
وغرب آخر ،وشمال ثالث ،وجنوب رابع ،فكل الجهات موجودة في أثناء الطواف حول الكعبة
وفي أثناء الصلة ،والكعبة موجودة هكذا لنطوف حولها ،ولتكون متّجَهنا إلى ال في جميع
التجاهات.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن أسلم وجهه ل ،أي أسلم وجهته واتجاهه للهن ومعنى " أسلم " من السلم ،فـ " أسلم " تعني:
سلّم زمام أموره لواحد .حين يسلم النسان زمامه إلى مساو له فهذه شهادة لهذا المساوي أنه
يعرف في هذا المر أفضل منه .ول يسلم لمساو إل إن شهد له قبل أن يلقي إليه بزمامه أنّه
صاحب حكمة وعلم ودراية عنه .فإن لم يلمس النسان ذلك فلن يسلم له .وما أجدر النسان أن
يسلم نفسه لمن خلقه ،أليس هذا هو أفضل المور؟.
إن النسان قد يسلم زمامه لنسان آخر لنه يظن فيه الحكمة ،ولكن أيضمن أن يبقى هذا النسان
حكيما؟ إنّه كإنسان هو ابن أغيار ،وقد يتغير قلبه أو أن المسألة المسلم له لها تكون مستعصية
عليه ،لكن عندما أسلم زمامي لمن خلقني فهذا منتهى الحكمة .ولذلك قلنا :إن السلم هو أن تسلم
زمامك لمن آمنت به إلها قويا وقادرا وحكيما وعليما وله القيومية في كل زمان ومكان .وحين
حسَنُ دِينا ِممّنْ َأسْلَمَ
يسلم النسان وجهه ل فلن يصنع عملً إل كانت وجهته إلى الَ {.ومَنْ أَ ْ
حسِنٌ }[النساء]125 :
جهَ ُه ل وَ ُهوَ مُ ْ
وَ ْ
ولماذا جاءت كلمة " محسن " هنا؟ وقد تكلم صلى ال عليه وسلم عن الحسان ،ونعرف أننا آمنا
بال غيبا ،لكن عندما ندخل باليمان إلى مقام الحسان ،فإننا نعبد ال كأننا نراه فإن لم نكن نراه
فهو يرانا " .والحوار الذي دار بين رسول ال صلى ال عليه وسلم وأحد صحابته وكان اسمه
الحارث فقال له " :كيف أصبحت يا حارث؟ فقال :أصبحت مؤمنا حقا .فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :انظر ما تقول؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ " قال :عزفت نفسي عن
الدنيا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري ،وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ،وكأني أنظر إلى
أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها (يتصايحون فيها) فقال " :يا
حارث عرفت فالتزم ثلثا ".
ويعرف النسان من أهل الصلح أنّه في لقاء دائم مع ال ،لذلك يضع برنامجا لنفسه موجزة أنه
يعلم أنه ل يخلو من نظر ال إليه (وهو معكم أينما كنتم) إنه يستحضر أنه ل يغيب عن ال طرفة
عين فيستحيي أن يعصيه.
ويوضح الحديث ما رواه سيدنا عمر بن الخطاب -رضي ال عنه -عندما سأل حبريل -عليه
السلم -رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وقال له :فأخبرني عن الحسان؟ قال " :أن تعبد
ال كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
وعندما تتيقن أن ال ينظر إليك فكيف تعصيه؟ أنت ل تجرؤ أن تفعل ذلك مع عبدٍ مساوٍ لك..
فكيف تفعله مع ال؟!!
جهَ ُه ل وَ ُهوَ مُحْسِنٌ واتّبَعَ مِلّةَ
حسَنُ دِينا ِممّنْ َأسْلَ َم َو ْ
وتتجلى العظمة في قوله الحقَ } :ومَنْ أَ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا { لماذا إذن " ملة إبراهيم "؟ لن القرآن يقول عن إبراهيم {:إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتا
لِلّهِ حَنِيفا }[النحل]120 :
ومعنى كونه " ُأمّةً " :أنّه الجامع لكل خصال الخير التي ل تكاد تجتمع في فرد إل إن وزعنا
الخصال في امة بأكملها؛ فهذا شجاع وذلك حليم والثالث عالم والرابع قوي ،وهذه الصفات الخيّرة
كلها ل تجتمع في فرد واحد إل إذا جمعناها من أمة .وأراد الحق سبحانه لبراهيم عليه السلم أن
يكون جامعا لخير كثير فوصفه بقوله {:إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً }[النحل]120 :
ويقول هنا عن ملة إبراهيم } :واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا { .والملة هي الديانة و " حنيفا " أي " مائل
عن الباطل إلى الحق " .والمعنى اللغوي لكلمة " حنيف " أنّه هو " المائل " .وكان إبراهيم حنيفا
عن الباطل .ومتى تُرسل الرسل إلى القوام نعرف أن الرسل تأتي إذا طمّ الفساد وعمّ ،وحين
تكون المجتمعات قادرة على إصلح الفساد الذي فيها ..فالحق سبحانه يمهل الناس وينظرهم ،لكن
إذا ما بلغ الفساد َأوْجَهُ ،فالحق يرسل رسولً .وحين يأتي الرسول إلى قوم ينتشر فيهم الفساد،
فالرسول يميل عن الفساد ،بهذا يكون الميل عن العوجاج اعتدال } .واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا {.
خذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً { فما هي حيثيات الخُلّة؟ لنه
ويأتي الحق من بعد ذلك بالغاية الواضحة } وَاتّ َ
يتبع أفضل دين ،ويسلم ل وجهه ،وكان محسنا ،واتبع الملة ،وكان حنيفا ،هذه هي حيثيات الخُلّة.
وكلها كانت صفات سيدنا إبراهيم عليه السلم.
لقد حدثونا أن جبريل عليه السلم قد جاء لسيدنا إبراهيم عندما ألقاه أهله في النار ،فقال جبريل يا
إبراهيمم :ألك حاجة؟.
فقال إبراهيم " " :أما إليك فل " ،فقال جبريل فاسأل اربك فقال " :حسبي من سؤالي علمه بحالي "
فقال ال " :يا نار كوني بردا وسلما على إبراهيم " أي أنه ل يطلب من جبريل بذاته شيئا .وتلك
قمة السلم ل .كما أننا نعرف مدى أنس الناس بأبنائها؛ ونعلم إن إسماعيل قد جاءه ولدا في آخر
حياته ،وأوضح له الحق أنه مبتليه ،وكان البتلء غاية في الصعوبة؛ فالبن ل يموت؛ ول يقتله
أحد ولكن يقوم الب بذبحه ،فكم درجة من البتلء مر بها إبراهيم عليه السلم؟!
وسار إبراهيم لتنفيذ أمر ربه ،ولذلك نقرأ على لسان إبراهيم عليه السلم {:يابُ َنيّ إِنّي أَرَىا فِي
حكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىا }[الصافات]102 :
ا ْلمَنَامِ أَنّي َأذْبَ ُ
ويجعل الحق ذلك برؤيا في المنام ل بالوحي المباشر .ولننظر إلى ما قاله إسماعيل عليه السلم.
جدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ
لم يقل " :افعل ما بدا لك يا أبي " ولكنه قال {:ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ سَتَ ِ
الصّابِرِينَ }[الصافات]102 :
أي أن إسماعيل وإبراهيم أسلما معا لمر ال.
فماذا فعل ال؟ {:وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَ ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا َكذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ إِنّ هَـاذَا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عظِيمٍ * وَتَ َركْنَا عَلَيْهِ فِي الخِرِينَ * سَلَمٌ عَلَىا إِبْرَاهِيمَ * كَذَِلكَ
َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ * َوفَدَيْنَاهُ ِبذِبْحٍ َ
نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ * إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ * وَبَشّرْنَاهُ بِِإسْحَاقَ نَبِيّا مّنَ الصّاِلحِينَ }[الصافات:
]112-104
ول يكتفي الحق بإعطاء إبراهيم إسماعيل ابنا ،وله فداء ،ولكن رزق ال إبراهيم بابن آخر هو
إسحاق } .وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً {.
وجلس العلماء ليبحثوا معنى كلمة " خليلً " ،ويبحثوا ما فيها من صفات ،وكل الساليب التي
وردت فيها .والكلمة مأخوذة من " الخاء ولم ولم " .و " الخَل " -بفتح الخاء -هو الطريق في
الرمل ،وهو ما نسميه في عرفنا " مدقا " ،وعادة يكون ضيقا .وحينما يسير فيه اثنان فهما
يتكاتفان إن كان بينهما ودّ عالٍ ،وإن لم يكن بينهما و ّد فواحد يمشي خلف الخر .ولذلك سموا
الثنين الذين يسيران متكاتفين " خليل " فكلهما متخلل في الخر أي متداخل فيه .والخليل أيضا
هو من يسد خلل صاحبه .والخليل هو الذي يتحد ويتوافق مع صديقه في الخلل والصفات
والخلق .أو هو من يتخلل إليه النسان في مساتره ،ويتخلل هو أيضا في مساتر النسان.
والنسان قد يستقبل واحدا من أصحابه في أي مكان سواء في الصالون أو في غرفة المكتب أو
في غرفة النوم .لكن هناك من ل يستقبله إل في الصالون أو في غرفة المكتب.
} وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً { أي اصطفاه الحق اصطفاءً خاصا ،والحب قد يُشارَك فيه ،فهو
سبحانه يحب واحدا وآخر وثالثا ورابعا وكل المؤمنين ،فهو القائل:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول:فضمنا ضمة نبقى بها واحدا ولكن إسماعيل صبري قال ما يفوق هذا المعنى :لقد تخللنا كأن
بعضنا قد غاب في البعض الخر.
سمَاوَاتِ{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وَللّهِ مَا فِي ال ّ
()612 /
()613 /
ن َومَا يُتْلَى عَلَ ْي ُكمْ فِي ا ْلكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاءِ اللّاتِي لَا
وَيَسْ َتفْتُو َنكَ فِي النّسَاءِ ُقلِ اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِيهِ ّ
ن وَأَنْ َتقُومُوا لِلْيَتَامَى
ض َعفِينَ مِنَ ا ْلوِ ْلدَا ِ
ن وَا ْلمُسْ َت ْ
ن وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَ ْنكِحُوهُ ّ
ُتؤْتُونَهُنّ مَا كُ ِتبَ َلهُ ّ
ط َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ()127
بِا ْلقِسْ ِ
" ويستفتونك " أي يطلبون الفتيا ،ونعرف أن الدين قد مرّ بمراحل منها قول الحق( :يسألونك).
وهي تعبير عن سؤال المؤمنين في مواضع كثيرة .ومرحلة ثانية هي " :ويستفتونك " .وما الفارق
بين الثنين؟
لقد سألوا عن الخمر والهلّة والمحيض والنفاق .والسؤال هو لرسول ال صلى ال عليه وسلم مع
أنه قال:
" ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلفهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء
فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ".
أي أنه طلب منهم ألّ ينبشوا وألّ يُفتشوا في أشياء قد يجلبون بها على أنفسهم تكاليف جديدة ،ومع
ذلك سألوه عن رغبة في معرفة أي حكم يحدد حركة النسان في الحياة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولو كانوا ل يريدون تحديد حركة حياتهم فلماذا يسألونه؟ .كان السؤال دليلً على أن السائل قد
عشق منهج ال فأحب أن يجعل منهج ال مسيطرا على كل أفعاله ،فالشيء الذي أجمله وأوجزه
ال يحب أن يسأل عنه.
وأيضا فالسلم جاء ليجد عاداتٍ للجاهلية وللعرب ولهم أحكام يسيرون عليها صنعوها لنفسهم
فلم يغير السلم فيها شيئا ،فما أحبوا أن يستمروا في ذلك لمجرد أنه من عمل آبائهم ،ولكن أحبوا
أن يكون كل سلوك لهم من صميم أمر السلم؛ لذلك سألوه في أشياء كثيرة.
أما الستفتاء فهو عن أمر قد يوجد فيه حكم ملتبس ،ولذلك يقول الواحد في أمر ما :فلنستفت عالما
في هذا المر؛ لن معنى الستفتاء عدم قدرة واحد من الناس أو جماعة منهم في استنباط حكم أو
معرفة هذا الحكم ،ولذلك يردون هذا المر إلى أهله.
لمْرِ مِ ْنهُمْ َلعَِلمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْ ِبطُونَهُ مِ ْنهُمْ }[سورة
ل وَإِلَىا ُأوْلِي ا َ
والحق يقول {:وََلوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُو ِ
النساء]83 :
الستفتاء -إذن -يكون لحكم موجود ،ولكن المستفتي ل يملك القدرة على استنباطه .ولذلك نجد
المجتمعات السلمية تخصص دارا للفتاء؛ لن المؤمن قد ل يعلم كل الجزئيات في الدين .وقد
يعيش حياته ول تمر به هذه الجزئيات ،مثل أبواب الوقف أو المضاربة أو الميراث ،فإن حدثت له
مسألة فهو يستفتي فيها أهل الذكر .فالسؤال يكون محل العمل الرتيب ،أما الفتوى فهي أمر ليس
المطلوب أن تكون المعرفة به عامة .ولذلك يتجه المستفتي إلى أهل الذكر طالبا الفتيا.
والحق يقول { :وَيَسْ َتفْتُو َنكَ فِي النّسَآءِ } كأنهم قالوا للرسول :نريد حكم ال فيما يتعلق بالنساء حلً
وحرمة وتصرفا .فكيف يكون الجواب؟ُ { :قلِ اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِيهِنّ } ولم يؤجل ال الفتوى لستفتائهم
بل سبق أن قاله ،وعلى الرغم من ذلك فإنه -سبحانه -يفتيهم من جديد.
فلعل الحكم الذي نزل أولً ليس على بالهم أو ليسوا على ذكر منه.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومع أن الستفتاء في أمر النساء جملة :صغيرات وكبيرات ،يتيمات وغير يتيمات فلماذا جاء
الجواب في يتامى النساء؛ لن النساء الكبيرات لهن القدرة على أن يبحثن أمورهن ،ولسن
ضعيفات ،أمّا اليتيمة فهي ضعيفة الضعيفات ،وعرفنا معنى اليتيم ،واليتيم حيث ل يبلغ النسان
حدّ البلوغ سواء أكان رجلً أم امرأة أنه يتيم؛
المبلغ الذي يصبح فيه مستقلً ،فل يقال لمن بلغ َ
لذلك جاء الجواب خاصا بيتامى النساء؛ لن يتامى النساء هُنّ دائما تحت أولياء ،هؤلء الولياء
الذين نسميهم في عصرنا بـ " الوصياء " حالتان :فإن كانت البنت جميلة وذات مالٍ فالوصي
يحب أن ينكحها ليستمتع بجمالها ويستولي على مالها .وإن كانت دميمة فالوصي ل يرغب في
زواجها لذلك يعضلها ،أي يمنعها من أن تتزوج؛ لنها إن تزوجت فسيكون الزوج هو الولى
بالمال.
فاحتاجت هذه المسألة إلى تشريع واضح .وها نحن أولء نجد سيدنا عمر -رضي ال عنه -
وكانت له الفراسات التي تُسمى الفراسات الفاروقية جاءه واحد يسأله عن أمر يتيمة تحت
وصايته ،فقال سيدنا عمر:
-إن كانت جميلة فدعها تأخذ خيرا منك ،وإن كانت دميمة فخذها زوجة وليكن مالها شفيعا
لدمامتها.
ويقول الحقَ {:ومَا يُتْلَىا عَلَ ْيكُمْ فِي ا ْلكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَآءِ الّلتِي لَ ُتؤْتُو َنهُنّ مَا كُ ِتبَ َلهُنّ }
[النساء]127 :
والذي كتب لهن إما أن يكون مهورا .وإمّا أن يكون تركة ،وجاء القول الحكيم ليرفع عن المرأة
عسف الولي .وجاء المر بهذا السلوب العالي الذي ل يمكن أن يقوله غير رب كريم ،ونجد مادة
" رغب " تعني " أحب " .فإذا ما كان الحال " أحب أن يكون " يقال " :رغب فيه " ،وإذا " أحب
غبُ عَن مّلّةِ إِبْرَاهِيمَ }[البقرة]130 :
ألّ يكون " فيقال " :رغب عنه " .ولذلك قال الحقَ {:ومَن يَرْ َ
ومادامت " عن " جاءت كما في الية فما بعدها هو المتروك .لكن لو كان القول " رغب في " فهو
لمر محبوب .وكلمة " ترغبون " في هذه الية نجدها محذوفة الحرف الذي يقوم بالتعدية حبا أو
كرها؛ لنها تقصد المعنيين.
فإن كانت الرغبة في المرأة ..تصير " ترغبون في " وإن كانت المرأة دميمة وزهد فيها القول
يكون " :ترغبون عن " ول يقدر أحد غير ال على أن يأتي بأسلوب يجمع بين الموقفين
المتناقضين .وجاء الحق ليقنن للمرين معا.
ض َعفِينَ مِنَ ا ْلوِ ْلدَانِ { بجانب اليتيمات وهو الصنف
ويأتي الحق من بعد ذلك بالقول } :وَا ْلمُسْ َت ْ
المستضعف الخر ،أي اليتيم الذي لم يبلغ مبلغ الرجال وحينما يتكلم سبحانه عن الولية والوصاية
على مثل هؤلء فهو يتكلم بأسلوبين اثنين ،وإن لم يكن للنسان ملكة استقبال السلوب البليغ فقد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول :هذا كلم متناقض ،لكن لو تمتع النسان بملكة استقبال السلوب البليغ فقد يقول :إن عظمة
س َفهَآءَ َأ ْموَاَلكُمُ }[النساء:
هذا السلوب ل يمكن أن يأتي به إل رب كريم .فالحق قال {:وَلَ ُتؤْتُواْ ال ّ
]5
قال ال ذلك على الرغم من أن الموال هي في الصل ملك للسفهاء؛ فالمال ليس ماله إلى أن
يعود إليه رشده ،وقد جعل السلم الخوة اليمانية للتكاتف والتكافل ،وساعة يرى المسلمون
واحدا من السفهاء فهم يحجرون على سلوكه حماية لماله من سفهه ،والمال يصان ويحفظ
ومطلوب من الوصيّ والولي أن يحميه ،هذا ما قاله الحق في السفهاء.
والحق يتكلم في اليتامى .فيقول سبحانه {:وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىا حَتّىا ِإذَا بََلغُواْ ال ّنكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مّ ْنهُمْ
رُشْدا فَا ْد َفعُواْ إِلَ ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُمْ }[النساء]6 :
لن السفيه أو المبذر ليس لي منهما سلطة التصرف في المال بل سلطة التصرف تكون للوصي،
وينتسب المال في هذه الحالة للوصي لنه القائم عليه والحافظ له ،لكن ما إن يبلغ القاصر الرشد
فعلى الوصي أن يرد له المال.
ونحن أمام آية تضع القواعد لليتامى من النساء والمستضعفين من الولدانَ {:ومَا يُتْلَىا عَلَ ْي ُكمْ فِي
ضعَفِينَ مِنَ
ن وَا ْلمُسْ َت ْ
ن وَتَرْغَبُونَ أَن تَن ِكحُوهُ ّ
ا ْلكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَآءِ الّلتِي لَ ُتؤْتُو َنهُنّ مَا كُ ِتبَ َلهُ ّ
ط َومَا َت ْفعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبهِ عَلِيما }[النساء]127 :
سِن وَأَن َتقُومُواْ لِلْيَتَامَىا بِا ْلقِ ْ
ا ْلوِلْدَا ِ
ما معنى القيامة لليتامى بالقسط؟ والقسط -بالكسر -تعني العدل .وتختلف عن " القَسط " -بفتح
القاف -وهو يعني الجور ،قَسَط -يقْسِط أي عدل ،وقسط َيقْسُط ،أي جار ،فالعدل مصدره "
القِسط " بالكسر للقاف ،والجور مصدره " القَسط " بالفتح للقاف.
وبعض من الذين يريدون الستدراك على كلم ال سفها بغير علم -قالوا:
-يأتي القرآن بالقسط بمعنى العدل في آيات متعددة ،ثم يأتي في موقع آخر ليقول {:وََأمّا
حطَبا }[الجن]15 :
جهَنّمَ َ
ا ْلقَاسِطُونَ َفكَانُواْ لِ َ
و " القاسطون " هي اسم فاعل من قسط ،ونقول :ومن قال لكم :إن " قسط " تستخدم فقط في معنى
" عدل " ،إنها تستعمل في " عدل " وفي " جار ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليتعلم النسان لباقة الستقبال،وليفهم الكلمات في ضوء السياق.
وقديما كانت اللغة ملكة ل صناعة كما هي الن في عصرنا .كانت اللغة ملكة إلى درجة أنهم إذا
شكلوا الكتاب إلى المرسل إليه يغضب ،ويرد الكتاب إلى مرسله ويقول لمن أرسله :أتشك في
قدرتي على قراءة كتابك دون تشكيل؟ .فتشكيل الكتاب سوء ظن بالمكتوب إليه ،وفي عصرنا نجد
من يلقي خطابا يطلب تشكيل الخطاب حتى ينطق النطق السليم.
والحق سبحانه وتعالى يقول } :وَأَن َتقُومُواْ لِلْيَتَامَىا بِا ْلقِسْطِ { وجاء الحكم في قوله الحق {:وَآتُواْ
الْيَتَامَىا َأ ْموَاَلهُمْ }[النساء ]2 :وسبحانه يتكلم في المهور والموال ويرتفع بالمر إلى مرتبة اعتبار
حسن التصرف في أمور اليتامى من المسئولية اليمانية؛ فقد تكون اليتيمة ل مال لها وليست
جميلة حتى يُطمع فيها أو في مالها ،وفي هذه الحالة يجب على الولي أن يرعاها ويرعى حق ال
فيها.
سطِ { هو أمر بأن يقوم المؤمن على أمر اليتامى بالعدل؛
وقوله الحق } :وَأَن َتقُومُواْ لِلْيَتَامَىا بِا ْلقِ ْ
لن اليتيمة قد تكون مع الولي ومع أهله ،وقد يكون لليتيمة شيء من الوسامة ،فيسرع إليها الولي
بعطف وحنان زائد عن أولده ،وينبه الحق أن رعاية اليتيمة يجب أن تتسم بالعدل ،ول تزيد.
ويقول سبحانه:
} َومَا َت ْفعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيما { ليدلنا على أن أمر الفعل والقيام به ليس مناط
الجزاء ،ولكن أمر النية في الفعل هو مناط الجزاء ،فإياك أيها المؤمن أن تقول :فعلت ،ولكن قل:
فعلت بنيّة كذا.
إن الذي يمسح على رأس اليتيم يكون صاحب حظ عظيم في الثواب ،ومن يكفل اليتيم فهو مع
النبي صلى ال عليه وسلم في الجنة .والذي يقدر ذلك هو ال -سبحانه -العليم بالخفايا حسب
نية الشخص الذي يقوم بهذا العمل؛ فقد يتقرب واحد من يتيم ويتكلف العطف والحنان بينما يقصد
التقرب إلى أم اليتيم؛ لذلك فمناط الجزاء ومناط الثواب هو في النيّة الدافعة والباعثة على العمل.
ول يكفي أن يقول النسان :إن نيّتي طيبة ،ول يعمل؛ فالحديث الشريف يقول:
" إنما العمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته إلى ال ورسوله فهجرته إلى
ال ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه "
أي ل بد من ارتباط واقتران النيّة بالعمل؛ لن ال يريد منا أن نعمل الخير وبذلك يعدي النسان
الخير من نفسه إلى غيره وهذا هو المطلوب ،فوجود النيّة للخير وحدها ل يكفي ،وإن افتقد
النسان النيّة وأدّى العمل فغيره يأخذ خيره ول يأخذ هو شيئا سوى التعب .فإن أراد النسان أن
يكون له ثواب فل بد من وجود نيّة طيبة ،وعمل صالح.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولم يقل الحق " :وما تفعلوا من خير فإن ال به عليم "؛ لنه سبحانه عليم ل بعد أن نصنع العمل
بل بكمال قدرته يعلم قبل أن نصنع الخير ،وكل شيء كان معلوما ل قبل أن يخلق الوجود ،ول
ينتظر سبحانه إلى أن يقوم النسان بالعمل حتى يحصل ويحدث منه العلم .بل إنه -جل شأنه -
يعلم كل شيء علما أزليّا؛ لذلك قال } :فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبهِ عَلِيما {؛ لن كل أمر برز في الوجود إنما
كان على وفق ما علمه ال أزلً قبل أن يوجد الوجود.
وفي المجال البشري نرى المهندس يتلقى التعليمات من صاحب الرض الخلء ويقول له :صمم
لي قصرا صغيرا على مساحة كذا ومكونا من كذا حجرة .وعدد محدود من دورات المياه ،وبعد
ذلك يصمم المهندس الرسم الهندسي على الورق حسب أوامر صاحب الرض .وقد يكون صاحب
الرض دقيقا فطنا غايةً في الدقة فيقول للمهندس :إنني أريد أن تصنع لي نموذجا صغيرا قبل
البناء بحيث أرى تطبيقا واقعيا بمقياس هندسي مصغر ،وأن تبنى الحجرات بقطاعات واضحة
حتى أرى ألوانها وكيفيتها.
هكذا العالَم قبل أن يوجد ،كان معلوما علما تفصيليا بكل دقائقه وأبعاده عند خالقه ،والنماذج
المصغرة التي يصنعها البشر قد يقصر البشر فيها عن صناعة شيء لعدم توافر المواد ،كالنجار
الذي يقصر في صنع حجرة نوم من خشب الورد لندرته ،فيستعيض بخشب من نوع آخر ،وذلك
خلل في علم وقدرة المنفذ .أما خلق ال فهو يبلغ تمام الدقة؛ لنه -سبحانه -هو الصانع الول.
هذا ما يجب أن نفهمه عندما نقرأ } :فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبهِ عَلِيما {.
وبعد ذلك يتكلم الحق عما يتعلق بالنساء فيقول } :وَإِنِ امْرََأةٌ خَا َفتْ مِن َبعِْلهَا ُنشُوزا{ ...
()614 /
وَإِنِ امْرََأةٌ خَا َفتْ مِنْ َبعِْلهَا نُشُوزًا َأوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا أَنْ ُيصْلِحَا بَيْ َن ُهمَا صُ ْلحًا وَالصّلْحُ
حسِنُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا ()128
ح وَإِنْ تُ ْ
حضِ َرتِ الْأَ ْنفُسُ الشّ ّ
خَيْ ٌر وَُأ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المرأة تخاف أن يحدث .ورتب الحق الحكم على مجرد الخوف من النشوز ل حدوث النشوز
بالفعل ،وهذه لفتة لكل منا أل يترك المسائل حتى تقع ،بل عليه أن يتلفى أسبابها قبل أن تقع؛
لنها إن وقعت ربما استعصى عليه تداركها وإن رأت المرأة بعضا من ملمح نشوز الزوج
فعليها أن تعالج المر.
ونلحظ أن الحق يتكلم هنا عن نشوز الرجل ،وسبق أن تكلم سبحانه عن نشوز المرأة {:وَاللّتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ }[النساء]34 :
ما النشوز؟ عندما نسمع عن الموسيقى نجد من يقول " :هذه نغمة نشاز " أي أنها نغمة خرجت
عن تسلسل النغم وإيقاعه .والصل فيها مأخوذ من النشز ،وهو ما ارتفع وظهر من الرض،
والمفروض في الرض أن تكون مبسوطة ،فإن وجدنا فيها نتوءا فهذا اسمه نشوز.
والصل في علقة الرجل بزوجته ،أن الرجل قد أخذ المرأة سكنا له ومودة ورحمة وأفضى إليها
وأفضت إليه ،واشترط الفقهاء في الزواج التكافؤ أي أن يكون الزوجان متقاربين؛ ولذلك قال
ن وَالطّيّبُونَ لِلْطّيّبَاتِ }[النور]26 :
ن وَالْخَبِيثُونَ لِ ْلخَبِيثَاتِ وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِي َ
الحق {:الْخَبِيثَاتُ لِ ْلخَبِيثِي َ
حتى الكفاءة تكون في الطيبة أوالخبث ،فل يأتي واحد بامرأة خبيثة ويزوجها لرجل طيب كي ل
تتعبه ،ول يأتي واحد برجل خبيث ويزوجه بامرأة طيبة كي ل يتعبها؛ لن الطيب عندما يتزوج
طيبة تريحه وتقدره.
وكذلك الخبيث عندما يتزوج خبيثة فإنهما يتوافقان في الطباع والسلوك ،وفي هذا توازن ،والخبيث
إن لم يخجل من الفضيحة ،فالخبيثة ل تخجل منها أيضا ،أما الطيب والطيبة فكلهما يخشى على
مشاعر الخر ويحافظ على كرامته ،فإن خافت امرأة من بعلها نشوزا أي ارتفاعا عن المستوى
المفترض في المعاملة ،في السكن والمودة والرحمة التي ينبغي أن تكون موجودة بين الزوجين،
وهي قد أفضت إليه وأفضى إليها ،فإن خافت أن يستعلي عليها بنفسه أو بالنفقة أو ينالها
بالحتقار ،أو ضاعت منه مودته أو رحمته ،هذا كله نشوز .وبل حدوث ذلك على الزوجة الذكية
أن تنتبه لنفسها وترى ملمح ذلك النشوز في الزوج قبل أن يقع ،فإن كانت السباب من جهتها
فعليها أن تعالج هذه السباب ،وترجع إلى نفسها وتصلح من المر.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي أن يغطي الرجل المرأة وتغطي المرأة الرجل فهي ستر له وهو ستر لها وحماية .ونعرف أن
المرأة إن دخل عليها أبوها أو أخوها فهي تداري أي جزء ظاهر من جسمها ،أما عندما يدخل
عليها زوجها فل تستر ول تخفي شيئا.
ويعرف كل زوج متزوج وكل امرأة متزوجة أن بينهما إفضاءً متبادلً ،فقد أباح ال للرجل من
زوجته ما ل يبيحه لحد ،وكذلك المرأة ،فل يقول الرجل أي نعت أو وصف جارح للمرأة ،وعلى
المرأة أن تحافظ كذلك على زوجها .ولها أن تتذكر أنها اطلعت على عورته بحق ال ،واطلع على
عورتها بحق ال.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينهي هذا الخلف قبل أن يقع؛ لذلك أوجب على المرأة أن تبحث
عن سبب النشوز وسبب العراض فقد تكون قد كبرت في العمر أو نزلت بها علة ومرض وما
زال في الرجل بقية من فتوة .وقد يصح أن امرأة أخرى قد استمالته أو يرغب في الزواج بأخرى
لي سبب من السباب ،هنا على المرأة أن تعالج المسألة علج العقلء وتتنازل عن قَسْمها ،فقد
تكون غير مليحة وأراد هو الزّواج فلتسمح له بذلك ،أو تتنازل له عن شيء من المهر ،المهم أن
يدور الصلح بين الرجل وزوجته ،وهي مهمة الرجل كما أنها مهمة المرأة.
} فَلَ جُنَاْحَ عَلَ ْي ِهمَآ أَن ُيصْلِحَا بَيْ َن ُهمَا صُلْحا { والصلح هنا مهمة الثنين معا؛ لن كل مشكلة ل
تتعدى الرجل والمرأة يكون حلها يسيرا ،والذي يجعل المشكلت صعبة هم هؤلء الذين يتدخلون
في العلقة بين الرجل والمرأة ،وليس بينهما ما بين الرجل والمرأة ،والرجل قد يختلف مع المرأة
ويخرج من المنزل ويهدأ ويعود ،فتقول له الزوجة كلمة تنهي الخلف لكن إن تدخل أحد القارب
فالمشكلة قد تتعقد مِن تدخل من ل يملك سببا أو دافعا لحل المشكلة.
لذلك يجب أن ننتبه إلى قول الحق هنا } :فَلَ جُنَاْحَ عَلَ ْي ِهمَآ أَن ُيصْلِحَا بَيْ َن ُهمَا {.
وأولى درجات الصلح بين الرجل والمرأة هو أن يقوم كل منهما بمسئوليته وليتذكر الثنان قول
الحق {:وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ }[البقرة]216 :
وكذلك قول الحق سبحانه:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يصح أن يأخذ الرجل الزاوية الوحيدة للجمال الحسيّ ،بل عليه أن يأخذ الجمال بكل جوانبه
وزواياه؛ لن الجمال الحسيّ قد يأخذ بعقل الرجال ،لكن عمره قصير .وهناك زوايا من الجمال ل
نهاية إل بنهاية العمر.
وقد حدّثونا عن واحد من الصالحين كانت له امرأة شديدة المراس والتسلط عليه ،وهو رجل طيب
فقال لها :آه لو رأيتني وأنا في دروس العلم والناس يستشرفون إلى سماعي .لقد ظن أنها عندما
تراه في مجلس العلم سترتدع ،وتكون حنونة عليه.
وذهبت لحضور درس العلم ،ورآها ،وظن أن ذلك سيزرع هيبة له في قلبها ،وعاد إليها آخر
النهار وقال لها :لقد رأيتني اليوم .فقالت :رأيتك ويا حسرة ما رأيت ،رأيت كل الناس تجلس
باتزان إل أنت فقد كنت تصرخ.
وحدثونا عن هذا الرجل أن ال كان يكرمه بالمدد جزاء صبره على امرأته ،وكان المريدون يرون
إشراقات ال في تصرفاته ،وماتت امرأته .وذهب المريدون ولم يجدوا عنده الشراقات التي كانت
عنده من قبل .فسألوه :لماذا؟ فقال :ماتت التي كان يكرمني ال من أجلها.
فكما أن المطلوب من المرأة أن تصبر على الرجل ،فالرجل مطلوب منه أن يصبر علىالمرأة.
والذي يصبر عليها يؤتيه ال خيرها؛ ولذلك قالوا " :إن عمران بن حطان كان من الخوارج وكان
له امرأة جميلة وكان هو دميم الملمح ،فنظرت إليه زوجته مرة وقالت :الحمد ل فقال لها :على
أي شيء تحمدين ال؟ قالت :على أني وأنك في الجنة .قال :لم؟ .قالت :لنك رزقت بي فشكرت،
ورزقت بك فصبرت ،والشاكر والصابر كلهما في الجنة.
ول يظنن واحد أنه سيجد امرأة هي مجمع الجمال والحسن في كل شيء ،فإن كانت متدنية
المستوى في جانب فهي متميزة في جانب آخر ،فل تضيع المتياز الذي فيها من أجل قصورها
في جانب ما .وزوايا الحياة كثيرة .وقلنا سابقا :إنه ل يوجد أحد ابنا ل ،بل كلنا بالنسبة ل عبيد.
ومادمنا جميعا بالنسبة ل عبيدا وليس فينا ابن له .وسبحانه أعطانا أسباب الفضل على سواء،
فهناك فرد قد أخذ المتياز في جانب ،والخر قد نال المتياز في جانب آخر -هذا النقص في
زاوية ما ،والمتياز في زاوية أخرى ،أراد به ال أن يجعل مجموع صفات ومزايا أي إنسان
يساوي مجموع إنسان آخر حتى يتوازن العالم.
فإن وجد النسان شيئاَ ل يعجبه في المرأة ،ووجدت المرأة شيئا ل يعجبها في الرجل ،فعلى
الرجل أن يضم الزوايا كلها ليرى الصورة المكتملة للمرأة ،وأن تضم المرأة كل الزوايا حتى ترى
الصورة المكتملة للرجل.
والرجل الذي ينظر إلى كل الزوايا يحيا مرتاح البال؛ لنه يرى من الزوايا الحسنة أضعاف
الزوايا التي ليست كذلك ،والذي يرضى هو من ينظر إلى المحاسن .والذي يغضب هو من ينظر
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى المقابح .والعادل في الغضب والرضا هو مَن ينظر إلى مجموع هذا ومجموع هذا ،إنّ الحق
سبحانه وتعالى يريد أن تُبنى السرة على السلمة فيوضح لنا:
-ل تنتظر أيها الرجل ول تنتظري أيتها المرأة إلى أن يقع الخلف ،فما أن تبدو البوادر فعليكما
بحل المشكلت ،فليس هناك أحد قادر على حل المشكلت مثلكما؛ لنه ل يوجد أحد بينه وبين
غيره من الروابط والوشائج مثل ما بين الرجل وزوجته؛ لذلك قال سبحانه } :فَلَ جُنَاْحَ عَلَ ْي ِهمَآ أَن
ُيصْلِحَا بَيْ َن ُهمَا صُلْحا {.
إننا في بعض الحيان نجد الصلح يأخذ شكلية الصلح ،أما موضوع الصلح وهو إنهاء الجفوة
والمواجيد النفسية فقد ل يوجد ،والذي يعرقل الصلح هو أننا نقوم بالشكلية ول نعالج السباب
الحقيقية المدفونة في النفوس ،والتي تتسرب إلى موضوعات اخرى؛ لذلك يجب أن يكون الصلح،
ويتم بحقيقته كقول ال تعالى } :أَن ُيصِْلحَا بَيْ َن ُهمَا صُلْحا وَالصّلْحُ خَيْرٌ { وعندما تتراضى النفوس
يعم الخير على الزوجين وعلى المجتمع.
حضِ َرتِ ال ْنفُسُ الشّحّ وَإِن ُتحْسِنُو ْا وَتَ ّتقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
وبعد ذلك يتابع الحق } :وَأُ ْ
خَبِيرا { .يوضح لنا سبحانه :أنا خالقكم وأعلم طبائعكم وسجاياكم وأعلم أنني عندما أطلب من
المرأة أن تتنازل عن شيء من نفقتها كمهرها أو هدية الخطبة الولى " الشبكة " ،أو أن تتنازل
له عن ليلتها لينام عند الزوجة الخرى .وأعلم أن هذا قد يصعب على النفس ،وكذلك يصعب على
الرجل أن يتنازل عن مقاييسه ،إياكم أن يستولي الشح على تصرفاتكم بالنسبة لبعضكم البعض.
خذْنَ مِنكُم مّيثَاقا
ض وَأَ َ
ضكُمْ إِلَىا َب ْع ٍ
وجاء الحق في آية وقالَ {:وكَ ْيفَ تَ ْأخُذُونَ ُه َوقَدْ َأ ْفضَىا َب ْع ُ
غَلِيظا }[النساء]21 :
ح وَإِن ُتحْسِنُو ْا وَتَ ّتقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرا { وهناك
حضِرَتِ ال ْنفُسُ الشّ ّ
وهنا يقول } :وَُأ ْ
فرق بين الحقوق التي قد يتمسك بها أحد الزوجين ،والحسان الذي يَتطوع به .ونعرف ما فعله
قاضٍ فاضل عندما قال لخصمين :أأحكم بينكما بالعدل أو بما هو خير من العدل؟
فسأل واحد :وهل هناك خير من العدل؟ فقال القاضي :نعم إنه الفضل .فالعدل إعطاء الحق فقط،
والفضل ان يتنازل النسان عن حقه بالتراضي لخيه.
ويذيل الحق الية } :وَإِن تُحْسِنُو ْا وَتَ ّتقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرا { وسبحانه وتعالى يريد
أن يحل مشكلة نفسية قد تتعرض لها السر التي ل توجد فيها خميرة عقدية إيمانية ،ل عند الرجل
ول عند المرأة ،ولو كانت هذه السر تملك الخميرة اليمانية المسبقة وأخذت أحكام ال بحقها لما
وجدت هذه المشكلة ،إنها مشكلة التعدد.
ظاهر المر أن الرجل حين يعدد زوجاته يكون محظوظا؛ لنه غير مقيد بواحدة بل له إلى أربع،
والمغبون هي المرأة؛ لنها مقيدة بزوج واحد ،فليست كل امرأة مهضومة ،لن الزوجة الجديدة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تشعر بالسعادة .وقد نجد امرأة قال لها زوجها :سأتزوج بثانية ،ورضيت هي بذلك ،بعد أن
وازنت بين أمورها فاختارت خير المور.
روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها ،وكان لها منه ولد فقالت ل تطلقني ودعني
أقوم على ولدي وتقسم لي فقال :إن كان هذا يصلح فهو أحب إليّ فأقرها .إذن فالغمة في زواج
الرجل من زوجة أخرى ل تعم كل النساء ،فإن أحدث الزواج الغم والحزن عند الزوجة الولى
فهو يحدث سرورا عند الزوجة الثانية .والمرأة معذورة في ذلك لن الرجل أخذ حكم ال في أن
يعدد ولم يأخذ مع هذا الحكم أن يعدل .والرجل يظلم المرأة حين يأخذ الحكم الذي في صالحه وهو
إباحة التعدد ول يأخذ من مبيح التعدد وهو المشرع العلى -وهو ال -المر بأن يعدل بين
زوجاته.
لقد جنحت المجتمعات لنهم رأوا الرجل حين يتزوج بأخرى ل يلتفت إل للزوجة الجديدة ،ويهمل
القديمة وأولده منها؛ لذلك فالنساء معذورات في أن يغضبن من هذه المسألة .ولو أن الرجل أخذ
حكم ال بالعدل كما أخذ إباحة ال في التعدد لحدث التوازن .وحين تعرف المرأة الولى أن حقها
لن يضيع ل في نفسها ول في بيتها ول في رعاية أولدها .فهي تقول " :من الفضل أن يكون
متزوجا أمام عيني بدلً من أن يدس نفسه في أعراض الناس ".
إذن فالذي يثير المسألة كإشكال أن الرجل يأخذ بعض الكتاب فيعمل به ويترك بعضه فل يطبقه
ول يعمل به .والذين يأخذون إباحة ال في التعدد ل بد أن يأخذوه بأصوله التي وضعها ال في
إطار العدالة .وحين يكون للرجل امرأتان مثل سيدنا معاذ بن جبل ،فكل امرأة لها حق في
البيتوتة ،ليلة لزوجة وليلة لخرى مثل ،وكان -رضي ال عنه -ل يتوضأ عند واحدة في ليلة
الخرى مع أن الوضوء قربة ل .والعجب من ذلك عندما ماتت الزوجتان في الطاعون ،أمر
بدفن الثنتين في قبر واحد.
والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق وأمر بالعدالة في المستطاع ،وعلى الرجل أن يعدل
َزمَنا ،ويعدل نفقة ،ويعدل ابتسامة ،ويعدل مؤانسة ومواساة ،والرجل في كل ذلك يستطيع ،لكنه ل
يستطيع أن يعدل في ميل القلب ،وهو أمر مكتوم؛ لذلك قال الحق } :وَلَن تَسْ َتطِيعُواْ أَن َتعْدِلُواْ{ ...
()615 /
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ َت ْعدِلُوا بَيْنَ النّسَا ِء وََلوْ حَ َرصْتُمْ فَلَا َتمِيلُوا ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ فَتَذَرُوهَا كَا ْل ُمعَّلقَ ِة وَإِنْ
غفُورًا َرحِيمًا ()129
ُتصْلِحُوا وَتَ ّتقُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تلمني فيما تملك ول أملك) -يعني القلب .-
إذن ففيه فرق بين ميل القلب وهو مواجيد نفسية والنزوع النفسي .والعملية الوجدانية ل يقدر
عليها أحد ،ول يوجد تقنين يقول للرجل " :أحب فلنة " ..إل إذا أراد الحب العقلي ،أما الحب
العاطفي فل .والذي يأمر به الشرع هو أن يحب النسان بالعقل ،أما حب العاطفة فل تقنين له
أبدا.
وقد يحب النسان الدواء المر بعقله ل بعاطفته ويسرّ النسان من صديق جاء بهذا الدواء من
الخارج؛ لن الدواء سيشفيه بإذن ال.
إذن { وَلَن تَسْ َتطِيعُواْ أَن َتعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآ ِء وََلوْ حَ َرصْتُمْ فَلَ َتمِيلُواْ ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ } ،ما هو كل الميل؟
ويوضحه -سبحانه -بقوله { :فَتَذَرُوهَا كَا ْل ُمعَّلقَةِ } وهي المرأة التي ل هي أيّم أي ل زوج لها
فتطلب الزواج ،ول هي متزوجة فتستمتع بوجود زوج ،ويحجزها الرجل دون أن يمارس
مسئوليته عنها ،فيوضح الحق :أنا ل أطلب منك أن تميل بقلبك هنا ،أو هناك؛ لن هذه المسألة
ليست ملكا لك ،ولكني أريد العدالة في الموضوعات الخرى؛ كأن تسوّي في البيتوتة والنفقة،
ومطلوبات أولدك ،وأن تعدل بين أزواجك في المؤانسة .أما المعنى الخر وهو ميل القلب فأنا ل
أكلف به.
وسبحانه حين يشرّع لخلقه أعلم بمن خلق ،وقد جعل لكل مخلوق منا عواطف ينشأ عنها ميل،
وجعل له غرائز ،وخيارات في النفعالت ولو أراد سبحانه أن يحجر على الميل لما خلقه ،ولكنه
-جل وعل -يطلق الميول لتتم بالميول مصالح الكون مجتمعة ،فحين يمنح القلب أن يحب ،يعلم
سبحانه أن عمارة الكون تنشأ بالحب .فلو لم يحب العالم أن يكتشف أسرار ال في خلقه لما حمّل
نفسه متاعب البحث والطلع والتجربة ،وكل ما يترتب على ذلك من مشقات.
ولو لم يحب النسان إتقان عمله لما رأيت عملً مجوّدا .ولو لم يحب النسان أولده لما تحمل
المشقة في تبعات تربيتهم .إذن فالحب له مهمة .وال ل يريد منا أن نمنع الحب .لكنه يريد منا أن
نعلي مطالب الحب ،فنجعل للحب مجالته المشروعة ل أن ينطلق الحب في الكون ليعربد في
أعراض الناس.
إنك حين تجعل الحب موجها إلى خير ل يأتيك منه أو للناس شرّ .وعندما ننظر -مثل -إلى
دافع وغريزة حب الستطلع نجد أن ال قد خلقها في النسان ليصعد ابتكاراته المسعدة في
الحياة .ولو لم توجد غرائز حب الستطلع لما تعب المكتشف في أن يبتكر شيئا أو يخترعه
ويكتشفه حتى يريحنا نحن البشر ،ولما فكر النسان في أن يستعمل البخار ليحمل عن الناس
مشقات السفر ومشقات حمل الثقيل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن ال سبحانه وتعالى يريد أن يعلي غريزة حب الستطلع فينبغي أن نجعلها في مجالها
المشروع فل نجعلها تجسسا على عورات الناس مثلً ،وكذلك جعل ال غريزة المال في النسان؛
لن حب المال يدفع النسان إلى أن يعمل ،ويستفيد الناس من عمله أراد أو لم يرد .كذلك غريزة
الجنس جعلها ال في النسان ولها سعار ليحفظ بها النوع النساني .إنّه سبحانه ل يريد منها أن
تنطلق انطلقا يلغ في أعراض الناس .إذن فالغرائز خلقها ال لمهمة .والشرائع جاءت لتحفظ
الغرائز في مجال مهمتها وتمنع عنها انطلقاتها المسعورة في غير المجالت التي حددها لها
المنهج.
إذن فالميل أمر فطري في النفس البشرية وقد أوضح الحق سبحانه :أنا خلقت الميل ليخدم في
عمارة الكون ،ولكن أريد منكم أن تصعدوا الهوى وتعلوه في هذا الميل ،وحين تعددون الزوجات.
ل أطلب منكم البعد عن كل الميل؛ لن ذلك أمر ل يحكمه منطق عقلي ،ولكن أحب أن تحددوا
الميل وتجعلوه في مجاله القلبي فقط ،ول يصح أن يتعدى الميل عند أحدكم إلى ميله القالبي.
أحب أيها العبد المؤمن من شئت وأبغض من شئت ،لكن ل تجعل هذا الحب يقود قالبك لتعطي من
تحب خير غيره ظلما ،وأبغض أيها العبد من شئت ،فل يستطيع مقنن أن يقنن للقلب أن يبغض أو
يحب ،لكن بغضك ل تعديه عن قلبك إلى جوارحك لتظلم من تبغض.
ولنا السوة في سيدنا عمر بن الخطاب -رضوان ال عليه -حينما مرّ عليه قاتل أخيه ،ولفت
نظره جليس له :هذا قاتل أخيك.
هنا قال عمر -رضي ال عنه :-وماذا أفعل به وقد هداه ال للسلم؟ كأن إسلم هذا القاتل قد
أنهى المسألة عند عمر -رضي ال عنه .وعندما جاء هذا القاتل لمجلس عمر ،قال له سيدنا
ي إلوِ وجهك عني ،لن قلبي ل يرتاح لك .فسأل الرجل :أو عدم حبك لي
عمر :إذا أقبلت عل ّ
يمنعني حقا من حقوقي؟ .قال عمر :ل.
قال الرجل :إنما يبكي على الحب النساء .هذا عمر وهو الخليفة ،والرجل من الرعية .لكن عمر
الخليفة يخاف من الظلم ،ويملك هذا الشخص وهو تحت إمرة وحكم الخليفة عمر -رضي ال
عنه -قدرة الرفض لمشاعر الحب أو الكراهية ما دامت ل تمنع حقوقه كمواطن.
إن الحق سبحانه وتعالى حينما يخلق ميول القلوب يضع أيضا القاعدة :إياك أيها المؤمن أن تعدي
ميل القلب إلى القالب ،وليكن ميل القلب كما تحب .كذلك إن أنت أيها المؤمن تزوجت وبعد ذلك
تزوجت امرأة أخرى فالمنهج ل يطلب منك أن تعدل العدل المطلق الذي ينصب على شيء ل
تملكه وهو ميل قلبك.
ولكن المنهج يضع لك القواعد التي يسير عليها سلوك قالبك .وعليك أن تعدل في قسمة الزمن
والنفقة والكسوة وبشاشة الوجه وحسن الحديث .ول تخضع ذلك لميل القلب ،وبعد ذلك أنت وقلبك
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أحرار.
ونرى بعضا من الذين يحبون أن يظهروا بين الناس كفاهمين للقرآن أو دعاة تجديد ،يركبون
الموجة ضد التعدد .ونقول :قبل أن يركب الواحد منكم الموجة ضد التعدد ،ويقف منه موقف
الرافض له مدعيا أنه يفهم النص القرآني ،إنّنا نقول له :عليك أن تبحث عن أسباب السخط على
التعدد ،هي ليست من التعدد في ذاته ،ولكنها تأتي من أن المسلم يأخذ إباحة ال للتعدد .ول يأخذ
حكم ال في العدالة .فلو أن المسلم أخذ بالعدالة مع التعدد لما وجدنا مثل هذه الزمة .ولذلك يقول
الواحد من هؤلء :إن الحق سبحانه وتعالى أمر بلزوم واحدة والقتصار عليها عند خوف ترك
ح َدةً }[النساء]3 :
خفْتُمْ َألّ َتعْدِلُواْ َفوَا ِ
العدل في التعدد فقال {:فَإِنْ ِ
ثم جاء في آية أخرى وقال } :وَلَن َتسْتَطِيعُواْ أَن َتعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَ َرصْتُمْ {.
ونقول :إن الواحد منكم إن أراد أن يفهم القرآن ،فعليه أن يعلم أن الحق سبحانه لم يقف في هذه
الية عند قوله( :ولو حرصتم) إنما فرع على عدم الستطاعة في العدل فقال } :فَلَ َتمِيلُواْ ُكلّ
ا ْلمَ ْيلِ { إنه -سبحانه -فرع على عدم الستطاعة في العدل فأمر بعدم الميل كل الميل .وتلك
حكمة المشرع الول الذي يعلم مَن خلق وكيف خلق .ولو أن الحق لم يفرّع على " ولن تستطيعوا
" لجاز لهؤلء الذين يركبون الموجة المطالبة بعدم التعدد أن يقولوا ما يقولون؛ لذلك نقول لهم:
انتبهوا إلى أن الحق سبحانه أوضح :عدم استطاعتكم للعدل هو أمر أنا أعلمه ،ولذلك أطلب منكم
أل تميلوا كل الميل وذلك باستطاعتكم .ومعنى هذا أنه سبحانه قد أبقى الحكم ولم يسلبه.
} فَلَ َتمِيلُواْ ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ فَتَذَرُوهَا كَا ْل ُمعَّلقَةِ { .وفي هذا القول أمر بأل يترك الرجل زوجته الولى
كالمعلقة وهي المرأة التي لم يتحدد مصيرها ومسارها في الحياة ،فل هي بغير زوج فتتزوج ،ول
هي متزوجة فتأخذ قسمها وحظها من زوجها ،بل عليه أن يعطيها حظها في البيتوتة والنفقة
والملبس وحسن الستقبال والبشاشة والمؤانسة والمواساة.
غفُورا رّحِيما {.
ويقول الحق من بعد ذلك } :وَإِن ُتصْلِحُو ْا وَتَ ّتقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ َ
وقوله " :تصلحوا " دليل على أنه كان هناك إفساد موجود والمطلوب أن نقوم بالبحث عن السباب
التي جعلت الرجل يفسد في علقته الزوجية ليقضي عليها .وبعد ذلك على المسلم أن يستأنف
تقوى جديدة في المعاملة على ضوء ما شرع ال .وحين يصلح المسلم ما أفسد من جعل الزوجة
الولى كالمعلقة ويعطيها حقها في البيتوتة والنفقة ورعاية أولدها والقبال عليها وعلى الولد
بصورة طيبة فال سبحانه يغفر ويرحم ،ول يصلح المسلم ما أفسد إل وهو ينوي أل يستأنف عملً
إل إذا كان على منهج التقى ،ويجد الحق غفورا لما سبق ورحيما به.
وإن لم يستطع الرجل هذا ،ول قبلت المرأة أن تتنازل عن شيء من قسمها ترضية له تكن التفرقة
-هنا -أمرا واجبا .فليس من المعقول أن نحكم الحياة الزوجية والحياة السرية بسلسل من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حديد ،ول يمكن أن نربط الزوجين بعدم الفتراق إن كانت القلوب متنافرة وكذلك ل نأمن على
المرأة أن تعيش هكذا.
إن الذي يقول :ل يصح أن نفرق بين الزوجين ،نقول له :كيف تريد أن تحكم الحياة الزوجية
بالسلسل؟ والزواج صلة مبناها السكن والمودة والرحمة ،فإن انعدمت هذه العناصر فكيف يستمر
الزواج وكيف ترغم زوجا على أن يعايش زوجة ل يحبها ول يقبلها وترغم زوجة أن تعيش مع
زوج ل تحبه؟ إن التفريق بينهما في مثل هذه الحالة قد يكون وسيلة أرادها ال سبحانه وتعالى
ليرزق الزوج خيرا منها ويرزق الزوجة خيرا منه.
وكثيرا ما شهدنا هذا في واقع الحياة ،وعاش الزوج مع الزوجة الجديدة سعيدا ،وعاشت الزوجة
مع الزوج الجديد سعيدة ،أما الذين تشدقوا بمسألة عدم التفريق مع استحالة الحياة الزوجية
وهاجموا السلم في هذا المجال .فهم يرددون ما كان عند أهل الغرب :من أن الزواج ل انفصال
فيه.
إننا نرى العالم كله الن بكل النصارى واليهود وغيرهم من الملل والنّحَل يلجأون إلى الطلق؛
لن الحداث اضطرتهم إلى أن يشرعوا الطلق ،فكأنهم ذهبوا إلى السلم ل على أنه إسلم،
ولكن على أنه الحل الوحيد لمشكلتهم .فإذا ثبت أن الذين يهاجمون جزئية من جزئيات الذين
يضطرون إلهيا تحت ضغط الحداث فيجب أن ننبههم إلى عدم التسرع والعجلة والحكم على
قضايا الدين السلمي بأنها غير صالحة؛ لن الحق أرغم من لم يكن مسلما على أن ينفذ قضية
إسلمية .فهو القائل } :وَإِن يَ َتفَ ّرقَا{ ...
()616 /
حكِيمًا ()130
سعًا َ
سعَ ِت ِه َوكَانَ اللّ ُه وَا ِ
وَإِنْ يَ َتفَ ّرقَا ُيغْنِ اللّهُ كُلّا مِنْ َ
وسبحانه عنده الفضل الواسع ،وهو القادر أن يرزق الزوج زوجة صالحة تشبع كل مطالبه،
ويرزق الزوجة زوجا آخر يشبع كل احتياجاتها ويقبل دمامتها لو كانت دميمة ،ويجعله ال
صاحب عيون ترى نواحي الخير والجمال فيها .وقد نجد رجلً قد عضته الحداث بجمال امرأة
كان متزوجا بها وخبلته وجعلت أفكاره مشوشة مضطربة وبعد ذلك يرزقه ال بمن تشتاق إليه،
بامرأة أمينة عليه ،ويطمئن عندما يغترب عنها في عمله .ول تمل الهواجس صدره؛ لن قلبه قد
امتل ثقة بها وإن كانت قليلة الحظ من الجمال.
حكِيما } فإياك أن تظن بأن ال ليس عنده ما
سعَتِ ِه َوكَانَ اللّهُ وَاسِعا َ
{ وَإِن يَ َتفَ ّرقَا ُيغْنِ اللّهُ كُلّ مّن َ
يريح كل إنسان .فسبحانه عنده كل ما يريح كل الناس .وصيدلية منهج ال مليئة بالدوية ،وبعض
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخلق ل يفقهون في استخدام هذه الدوية لعلج أمراضهم.
ومن الحكمة أنه سبحانه ل يرغم اثنين على أن يعيشا معا وهما كارهان؛ لنهما افتقدا المودة
والرحمة فيما بينهما.
سمَاوَاتِ} ...
ومن بعد ذلك يعقب الحق بآية { :وَللّهِ مَا فِي ال ّ
()617 /
ض وََلقَ ْد َوصّيْنَا الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُ ْم وَإِيّاكُمْ أَنِ ا ّتقُوا اللّهَ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ
وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ
حمِيدًا ()131
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ َوكَانَ اللّهُ غَنِيّا َ
وَإِنْ َتكْفُرُوا فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
وسبحانه هو الذي يُرضي الزوج إن افترق عن زوجته ،ويرضي الزوجة إذا افترقت عن زوجها؛
لنه -جل وعل -خلق الدنيا التي لن تضيق بمطلوب الرجل أو المرأة بعد النفصال بالطلق،
فله ملك السموات والرض وهو القادر على أن يرزق الرجل امرأة هي خير ممن فارق،ويرزق
المرأة رجل هو خير ممن فارقت ،فل شيء خرج عن ملك ال وهو الواسع العطاء.
إننا كثيرا ما نجد رجلً كان يتزوج امرأة ول تلد ويشاع عنها أنها عقيم ،ويذهب الثنان إلى
معامل التحليل ،ويقال أحيانا :المرأة هي السبب في عدم النسل ،أو :الرجل هو السبب في عدم
النسل ،ويفترق الثنان ويتزوج كل منهما بآخر ،فتلد المرأة من الزوج الجديد ،ويولد للرجل من
الزوجة الجديدة؛ لن المسألة كلها مرادات ال ،وليست أمور الحياة مجرد اكتمال أسباب تُفرض
ت وَالَ ْرضِ َيخْلُقُ مَا يَشَآءُ َي َهبُ ِلمَن
سمَاوَا ِ
على ال بل هو المسبب دائما فهو القائل {:لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
عقِيما إِنّهُ عَلِيمٌ
ج َعلُ مَن َيشَآءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَ َي ْ
يَشَآءُ إِنَاثا وَ َيهَبُ ِلمَن َيشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ
قَدِيرٌ }[الشورى]50-49 :
كم صورة إذن عندنا لمثل هذا الموقف؟ .يهب لمن يشاء إناثا ،ويهب لمن يشاء الذكور ،أو
يزوجهم ذكرانا وإناثا ،ويجعل من يشاء عقيما ،هي بأربعة مقادير تجري على الرجل والمرأة.
ث يكون سعيدا .وكذلك عندما يهبه الذكور ،وعندما يهب ال لسرة
وعندما يهب ال المؤمنَ النا َ
أبناء من الذكور فقط .فالزوجة تحن أن يكون لها ابنة .وإن وهب الحق لسرة ذرّية مِن الناث
فقط ،فالمرأة والرجل يتمنيان البن ،وإن أعطاهما ال الذكور والناث نجدهما قد وصل إلى الحالة
التي تقر بها العيون عادة .والحالة التي تقر به العيون عادة مؤخرة.
إن الحالة التي تزهد النفس فيها فالحق يقربها إلى أوليات الهبة ،فقال أولً { :يَخُْلقُ مَا يَشَآءُ } ،
وبعد ذلكَ { :ي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا } ثم ذكر عطاء الذكور ،ثم يأتي بالحالة التي يكون العطاء فيها
جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا }.
في القمةَ { :أوْ يُ َزوّ ُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عقِيما }.
ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ
وأخيرا يأتي بالقَدَر الرابع الذي يجريه على بعض خلقه وهو { :وَيَ ْ
ولماذا يُسر النسان بقدرِ ال حينما يهبه ال الناث أو الذكور ،ويزداد السرور بقدر ال حينما يهبه
-سبحانه -الذكور والناث .ولماذا ل تُسر إذن أيها النسان بقدر ال حينما يجعلك عقيما؟ أتعتقد
أنك تأخذ القدر الذي تهواه ،وترد القدر الذي ليس على هواك؟ إن المواقف الربعة هي َقدَر من
ال.
ولو نظر النسان إلى كل أمر من المور الربعة لرضي بها.
أنّه سبحانه يخلق ما يشاء عقيما ،إن قالها النسان باستقبال مطمئن لقدر ال فال قد يقر عينه كما
أقر عيون الخرين بالناث أو بالذكور ،أو بالذكور والناث معا.
وأقسم لكم لو أن إنسانا -أو زوجين -أخذا قدر ال في العقم كما أخذاه في غيره من المواقف
السابقة برضا إل رزقهم بأناس يخدمونهم ،وقد ربّاهم غيرهم ،والذي يجعل الزواج المفتقدين
للنجاب يعيشون في ضيق ،هو أنهم في حياتهم ساخطون على قدر ال -والعياذ بال -فيجعل
ال حياتهم سخطا .فهو القائل في حديثه القدسي:
عن أبي هريرة -رضي ال عنه -قال :قال النبيّ -صلى ال عليه وسلم :-يقول ال تعالى" :
أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه إذا ذكرني ،فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،وإن ذكرني
في مل ،ذكرته في مل خير منهم ،وإن تقرّب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعا ،وإن تقرّب إليّ ذراعا،
تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي ،أتيته هرولة "
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ { فإياك أن تقول كون
إذن فالحق سبحانه وتعالى يقول } :وَللّهِ مَا فِي ال ّ
ال سيضيق عن رزق الرجل المفارق لزوجته أو المرأة المفارقة لزوجها من عطاء ال لهما فما
دام سبحانه قد قرر الفراق كحل لعدم توافق في حياتهما معا ..فهو سبحانه سيعطي عن سعة
للزوج وعن سعة للزوجة .وعليك أيها المسلم أن تطيع منهج الحق كما أطاع كل ما في السموات
وكل ما في الرض ،ثم اسأل نفسك هذا السؤال :مَن يقضي مصالحك كلها؟.
إنه الحق سبحانه الذي سخر أشياء ليست في طوق قدرتك ،أأرغمت الشمس أن تشرق لك بالضوء
والحرارة؟ .أأرغمت الماء أن يتبخر وينزل مطرا نقيّا؟
أأرغمت الريح أن تهب؟ أضربت الرض لتقول لها :غذّي ما أضعه فيك من بذر بالعناصر
اللزمة له والمحتاج إليها لينتج النبات؟ .كل هذا ليس في طوق إرادتك بل هو مسخر لك بأمر
ال .وإن أردت الستقامة في أمرك ،لكنت كالمسخر فيما جعل ال لك فيه اختيار ولقلت ل :أنا
أحب منهجك يا رب وما يطلبه مني سأنفذه قدر استطاعتي .فتكون بقلبك وقالبك مع أوامر المنهج
ونواهيه ،فينسجم ويتوافق الكون معك كما انسجم الكون المسخر المقهور المسير.
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَرْضِ { ،وهذا تذكير بأن كل شيء مملوك ل وفي طاعته ،فل
} وَللّهِ مَا فِي ال ّ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تشذ أيها الخليفة ل عن الكون ،فكل ما فيه يخدمك .ولتسأل نفسك :أتعيش في ضوء منهج ال أم
ل؟ لن الكون قد انسجم وهو مسخر ل ،ولم يحدث أي خلل في القوانين الكلية ،وسبحانه القائل{:
ط َولَ ُتخْسِرُواْ
ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ * وََأقِيمُواْ ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِسْ ِ
سمَآءَ َر َف َعهَا َو َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ * َألّ تَ ْ
وَال ّ
ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن]9-7 :
وهذا إيضاح من الحق تبارك وتعالى :إن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الختيارية فانظروا إلى
الكون ،فالشياء المسخرة ل يحدث منها خلل على الطلق ،ولكن الخلل إنما يأتي من اختيارات
النسان لِغير منهج ال.
} وََلقَ ْد َوصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ مِن قَبِْلكُ ْم وَإِيّاكُمْ أَنِ ا ّتقُواْ اللّهَ { يوضح سبحانه :لقد وصينا الذين
أنزلنا إليهم المنهج من قبلكم ،ووصيناكم أنتم أهل المة الخاتمة أن التزموا المنهج بالوامر
والنواهي؛ لتجعلوا اختياراتكم خاضعة لمرادات ال منكم حتى تكونوا منسجمين كالكون الذي
تعيشون فيه ،ويصبح كل شيء يسير منتظما في حياتكم ،ولم يقل الحق هذه القضية للمسلمين فقط
لكنها قضية كونية عامة جاء بها كل رسول } :وََلقَ ْد َوصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ مِن قَبِْلكُمْ {.
ولم يقل :شرعنا للذين أوتوا الكتاب من قبلكم ،ولم يقل :فرضنا ،إنما قال " :ولقد وصينا " .وكلمة
" وصية " تشعر المتلقي لها بحب الموصي للموصَى } .وَلَقَ ْد َوصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ مِن قَبِْلكُمْ
وَإِيّاكُمْ أَنِ ا ّتقُواْ اللّهَ { وتقوى ال تعني أن نفعل أوامر ال وأن نتجنب نواهيه؛ لنحكم حركة
اختياراتنا بمنهج ربنا ،فإن حكمنا حركة اختياراتنا بمنهج ال صرنا مع الكون كأننا مسخرون
لقضايا المصلحة والخير.
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ َوكَانَ اللّهُ غَنِيّا
ومن بعد ذلك يقول الحق } :وَإِن َت ْكفُرُواْ فَإِنّ للّهِ مَا فِي ال ّ
حمِيدا { ومقابل الكفر هو اليمان ،ومن يخرج عن اليمان فال غني عنه ،فل تعتقدوا أيها
َ
المخاطبون بمنهج ال أنني أستميلكم إلى اليمان لني في حاجة إلى إيمانكم ،ل ،لكني أريد منكم
فقط أن تكونوا مجتمعا سليما ،مجتمعا سعيدا ،وإن تكفروا فسيظل الملك كله ل ،وستظل حتى -
ولو كنت متمردا -في قبضة مرادات ربك .فلن تتحكم في مولد أو في ممات أو في مقدورات.
سمَآءِ
فالكون ثابت وسليم .وجاء القرآن باللفت إلى انتظام الكون يقول الحقَ {:أفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ال ّ
ي وَأَنبَتْنَا فِيهَا
سََف ْو َقهُمْ كَ ْيفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا َومَا َلهَا مِن فُرُوجٍ * وَالَ ْرضَ مَدَدْنَاهَا وَأَ ْلقَيْنَا فِيهَا َروَا ِ
سمَآءِ مَآءً مّبَارَكا فَأَنبَتْنَا ِبهِ
مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ * تَ ْبصِ َر ًة وَ ِذكْرَىا ِل ُكلّ عَبْدٍ مّنِيبٍ * وَنَزّلْنَا مِنَ ال ّ
سقَاتٍ ّلهَا طَلْعٌ ّنضِيدٌ * رّزْقا لّ ْلعِبَا ِد وََأحْيَيْنَا بِهِ بَ ْل َدةً مّيْتا كَذَِلكَ
خلَ بَا ِ
حصِيدِ * وَالنّ ْ
حبّ ا ْل َ
ت وَ َ
جَنّا ٍ
الْخُرُوجُ }[ق]11-6 :
وفي لحظة من اللحظات يأمر الحق كونا من كونه فيختل نظامه فترى الرض المستقرة وقد
سيَ أَن َتمِيدَ ِبكُمْ }[النحل]15 :
تزلزلت ،والتي قال عنها سبحانه {:وَأَلْقَىا فِي الَ ْرضِ َروَا ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسبحانه هو الذي يملكها فيجعلها تضطرب ويُحدث في موقع منها زلزالً ،فتندثر المباني التي
عليه حتى تفهم أن الدنيا ليست محكومة حكما أليا ،بل محكومة بالسباب ،وزمامها مازال في
قيومية المسبب ،ونلتفت مرة إلى بعض من الزوابع من التراب وهي تغلق المجال الجوي كله
بحيث ل يستطيع واحد أن ينظر من خلله ،وهذا لفت من ال لنا يوضح :لقد صنعت هذه القوانين
بقدرتي ،ولن تخرج هذه القوانين عن طلقة قدرتي.
ونرى بلدا تحيا على أمطار دائمة تغذي الرض ،فنجد الخضرة تكسو الجبال ول نجد شبرا
واحدا دون خصوبة أو خضرة أو شجر ،وقد يظن ظان أن هذه المسألة أمر آلي ،ويأتي الحق
ليجري على هذه المنطقة قدر الجفاف فيمنع المطر وتصير الرض الخصبة إلى جدب ،وتنفق
وتهلك الماشية ويموت البشر عطشا ،وذلك ليلفتنا الحق إلى أن المسألة غير آلية ولكنها مرادات
مُريد.
وفي موقع آخر من الكرة الرضية نجد أرضا منبسطة هادئة يعلوها جبل جميل ،وفجأة تتحول
قمة الجبل إلى فوهة بركان تلقي الحمم وتقذف بالنّار وتجري الناس لتنقذ نفسها ،ولذلك علينا أن
نعرف أن عقل العاقل إنما يتجلى في أن يختار مراداته بما يتفق مع مرادات ال ،وعلى سبيل
المثال ..لم يؤت العقل البشري القدرة الذاتية على التنبؤ بالزلزل ،لكن الحمار يملك هذه القدرة.
حمِيدا { وصدر الية
ض َوكَانَ اللّهُ غَنِيّا َ
ت َومَا فِي الَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
} وَإِن َت ْكفُرُواْ فَإِنّ للّهِ مَا فِي ال ّ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ { وذلك لتثبيت وتأكيد ضرورة الطاعة
بالمقولة نفسها } :وَللّهِ مَا فِي ال ّ
لمنهج ال حتى ينسجم النسان مع الكون .وتجيء المقولة مرة ثانية في الية نفسها ليثبت الحق
أنه غنيّ ،ول تقل إن المقولة تكررت أكثر من مرة في الية الواحدة ،ولكن قل :إن الحق جاء بها
في صدر الية لتثبت المعنى ،وجاءت في ذيل الية لتثبت معنى آخر ،فسبحانه هو الغني عن
العبادَ {:وقُلِ ا ْلحَقّ مِن رّ ّب ُكمْ َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف]29 :
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ { لثبات حيثية أن يطيع العبد خالقه .ومجيء }
ومجيء } وَللّهِ مَا فِي ال ّ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ { في ذيل الية لثبات حيثية غنى ال عن كل العباد.
وَللّهِ مَا فِي ال ّ
سمَاوَاتِ{ ...
والمقولة نفسها تأتي في الية التالية حيث يقول سبحانه } :وَللّهِ مَا فِي ال ّ
()618 /
ومجيء المقولة لثالث مرة لطمأنة النسان أن ال يضمن ويحفظ مقومات الحياة .فلن تتمردالشمس
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يوما ول تشرق .أو يتمرد الهواء ول يهب .أو تضن الرض عليك عناصرها؛ لن كل هذه
المور مسخّرة بأمر ال الذي خلقك وقد خلقها وقدّر فيها قوتك.
ولذلك يوضح ربنا :أنا الوكيل الذي أكلفكم وأكفيكم وأغنيكم عن كل وكيل.
والوكيل هو الذي يقوم لك بمهامك وتجلس أنت مرتاح البال .والنسان منا عندما يوكل عنه وكيلً
ليقوم ببعض العمال يحسّ بالسعادة على الرغم من أن هذا الوكيل الذي من البشر قد يُخطئ أو
يضطرب أو يخون أو يفقد حكمته أو يرتشي ،لكن الحق بكامل قدرته يطمئن العبد أنه الوكيل
القادر ،فلتطمئن إلى أن مقومات وجودك ثابتة؛ فسبحانه مالك الشمس فلن تخرج عن تسخيرها،
ومالك المياه ومالك الريح ومالك عناصر الرض كلها .ومادام ال هو المليك فهو الحفيظ على كل
هذه الشياء .وهو نعم الوكيل؛ لنه وكيل قادر وليس له مصلحة.
وتعالوا نقرأ هذا الحديث:
فقد ورد أن أعرابيا جاء فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول ال -صلى ال عليه وسلم
-فلما صلى رسول ال صلى ال عليه وسلم -أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللّهم
ارحمني ومحمدا ول تشرك في رحمتنا أحدا .فقال رسول ال -صلى ال عليه وسلم " :-
أتقولون هذا أضل أم بعيره ألم تسمعوا ما قال؟ " قالوا :بلى ،قال " :لقد حَظرت رحمة واسعة .إن
ال -عز وجل -خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جِنّها وإِنْسها وبهائمها وأَخّر
عنده تسعا وتسعين رحمة أتقولون هو أضل أم بعيره ".
هو إذن كفى بال وكيلً وهو نعم الوكيل ،وهو يطمئن عباده ويببن أنه -سبحانه -هو القيوم،
وتعني المبالغة في القيام ،إذن كل شيء في الكون يحتاج إلى قائم؛ لذلك فهو قيوم .ويوضح الحق
لكل إنسان :أَنِ اجتهد في العمل وبعد أن تتعب نم ملء جفونك؛ لني أنا الحق ل تأخذني سنة ول
نوم .فهل هناك وكيل أفضل من هذا؟.
{ َو َكفَىا بِاللّ ِه َوكِيلً }.
ثم يأتي الحق بحيثية أخرى تؤكد لنا أنه غني عن العالمين ،فل يكفي أن يقول :إنه غني وإنه خلق
كل ما في السموات وما في الرض ،وإن كفرت أيها النسان فالذنب عليك ،وإن آمنت فاليمان
أمان لك ،وأوضح :إياكم أيها البشر أن تعتقدوا أنكم خُِلقْتُم وشردتم وأصبحتم ل سلطان ل عليكم.
ل .فال سبحانه يقول { :إِن َيشَأْ يُ ْذهِ ْبكُمْ} ...
()619 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعض الفاقدين للبصيرة من الفلسفة قالوا :صحيح أن ال قد خلقنا ولكنا خرجنا من دائرة نفوذه.
ل ،بل سبحانه إن شاء لذهب بكم جميعا وأتى بآخرين ،وما ذلك على ال بعزيز ،وهو القائل:
{ َوكَانَ اللّهُ عَلَىا ذاِلكَ َقدِيرا }.
حين نقرأ " كان " بجانب كلمة " ال " فهي ل تحمل معنى الزمن؛ فال قدير حتى قبل أن يوجد
مقدور عليه ،فلم يكن قديرا فقط عندما خلق النسان ،بل بصفة القدرة خلق النسان؛ لن ال
سبحانه وتعالى ليس أغيار؛ لذلك يظل قديرا وموجودا في كل لحظة ،وهو كان ول يزال.
ومن بعد ذلك يقول الحق { :إِن َيشَأْ يُ ْذهِ ْبكُمْ} ...
()620 /
ومادام الرسل قد أبلغوا النسان أن عند ال ثواب الدنيا والخرة فلمَ الغفلة؟ ولمَ ل تأخذ الزيادة؟،
ولماذا نذهب إلى صفقة الدنيا فقط مادام الحق يملك ثواب الدنيا من صحة ومال وكل شيء ،وإن
اجتهد النسان في السباب يأخذ نتيجة أسبابه .فالحق يقول {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ لَهُ
فِي حَرْثِ ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى]20 :
ولم يقل الحق :إن " الخرة " في مقابلة للدنيا؛ وأن من يأخذ الدنيا لن يأخذ الخرة أو العكس ،بل
يريد -سبحانه للنسان أن يأخذ الدنيا والخرة معا ،فيا من تريد ثواب الدنيا ل تحرم نفسك
بالحمق من ثواب الخرة .وكلمة " ثواب " فيها ملحظ؛ فهناك أشياء تفعل لك وإن لم تطلب منها
أن تفعل ،وتنتفع بعملها وإن لم تطلب من الشياء أن تفعل .وهناك أشياء أخرى تنفعل بحركتك،
فإن تحركت وسعيت وعملت فيها تعطك.
مثال ذلك الرض ،فإن بذرت فيها تخرج الزرع ،واختلفات الناس في الدنيا تقدما وتأخرا
وحضارة وبداوة وقوة وضعفا إنما تأتي من القسم الذي ينفعل للنسان ،ل من القسم الذي ُي ْفعَل
للنسان .ويسخر له ،وتقدم بعض البشر في الحضارة إنما جاء لنهم بحثوا في المادة والعناصر،
وأنجزوا إنجازات علمية هائلة في المعامل ،فإن أردت أن تكون متقدما فعليك أن تتعامل مع
العناصر التي تنفعل لك ،والمم كلها إنما تأخذ حضارتها من قسم ما ينفعل لها ،وهم والمتأخرون
شركاء فقط فيما يُفعل لهم ويسخّر لصالحهم.
وإن أردنا الرتقاء أكثر في التحضر ..فعلينا أن نذهب إلى ما ُيفْعل ويسخّر لنا ونتعامل نعه حتى
ينفعل لنا ..كيف؟.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشمس تمدنا بالضوء والحرارة ،ونستطيع أن نتعامل مع الشمس تعاملً آخر يجعلها تنفعل لنا،
مثلما جئنا بعدسة اسمها " العدسة اللّمة " التي تستقبل أشعة الشمس وتتجمع الشعة في بؤرة
العدسة؛ فتحدث حرارة تشعل النار ،أي أننا جعلنا ما ُي ْفعَل لنا يتحول إلى منفعل لنا أيضا.
ويسمون ذلك الطموح النبعاثي .والمطر يفعل للنسان عندما ينزل من السماء في وديان،
ويستطيع النسان أن يحوله إلى منفعل عندما يضع توربينات ضخمة في مسارات نزوله فينتج
الكهرباء.
إذن فحضارات المم إنما تنشأ من مراحل .المرحلة الولى :تستخدم ما ينفعل لها ،والمرحلة
الثانية :ترتقي فتستخدم ما ينفعل معها .والمرحلة الثالثة :تستخدم ما يفعل لها كمنفعل لها؛ مثال
ذلك استخدام الطاقة الشمسية بوساطة أجهزة تجمع هذه الطاقة ارتقاءً مع استخدام ما يفعل للنسان
لينفعل مع النسان.
وأسمى شيء في الحضارة الن هو أشعة الليزر التي تصنع شبه المعجزات في دنيا الطب .وكلمة
" ليزر " مأخوذة كحروف من كلمات تؤدي معنى تضخيم الطاقة بواسطة النبعاث الستحثائي،
فكلمة " ليزر " -إذن -مثلها كلمة " ليمتد " فاللم من كلمة.
والياء من كلمة ،والتاء من كلمة ،والدال من كلمة ،وذلك لتدل على مسمّى.
وترجمة مسمّى " ليزر " هو تضخيم الطاقة عن طريق النبعاث الستحثائي .ففيه انبعاث تلقائي
هو مصدر الطاقة الذي يُفعل للنسان وإن لم يطلبه ،أما النبعاث الستحثائي فينتج عندما يحث
النسان الطاقة لتفعل له شيئا آخر .والنبعاث التلقائي متمثل في الشمس فتعطي ضوءا وحرارة.
وعندما جلس العلماء في المعامل وصمموا العدسة التي تنتج هذه الشعة أهاجوها وأثاروها
وأخذوا ليصنعوا منها طاقة كبيرة .وهكذا أنتجوا أشعة الليزر التي هي تضخيم للطاقة عن طريق
النبعاث الستحثائي ،ولن العنوان طويل فقد أخذوا من كل كلمة حرفا وكوّنوا كلمة " ليزر ".
إذن فالرتقاءات الحضارية تأتي عن طريق تعامل النسان مع القسم الذي ينفعل للنسان،
واستحثاث واستخدام ما يُفعل له بطريقته التلقائية لينفعل معه كأشعة الشمس مثل.
وجئنا بذكر كل ذلك من أجل أن نستوضح آفاق قول الحق } :مّن كَانَ يُرِيدُ َثوَابَ الدّنْيَا { .وكلمة "
ثواب " إذن توحي بأن هناك عملً ،فالثواب جزاء على عمل .فإن أردت ثواب الدنيا ،فل بد أن
تعمل من أجل ذلك .فل أحد يأخذ ثواب الدنيا بدون عمل.
ومن عظمة الحق ولطفه وفضله ورحمته أن جعل ثواب الدنيا جائزة لمن يعمل ،سواء آمن أم
كفر ،ولكنه خص المؤمنين بثواب باق في الخرة.
ولذلك يقال " :الدنيا متاع " .ويزيد الحق على ذلكَ } :فعِندَ اللّهِ َثوَابُ الدّنْيَا وَالخِ َر ِة َوكَانَ اللّهُ
سمِيعا َبصِيرا { .ومن الحمق أن يوجد طريق يعطي النسان جزاءين ثم يقصر همته على جزاء
َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واحد.
وهنا ملحظ آخر؛ فحينما تكلم الحق عن ثواب الدنيا ،دل على أنه ل بد من العمل لنأخذ الدنيا ،ولم
يذكر الحق ثوابا للخرة ،بل جعل سبحانه الثواب للثنين ..الدنيا والخرة ،إذن فالذي يعمل للدنيا
من المؤمنين إنما يأخذ الخرة أيضا؛ لن الخرة هي دار جزاء ،والدنيا هي مطية وطريق
وسبيل .فكأن كل عمل يفعله المسلم ويجعل ال في باله ..فال يعطيه ثوابا في الدنيا ،ويعطيه ثوابا
في الخرة.
سمِيعا َبصِيرا { -إذن -فثواب الدنيا والخرة ل يتأتى إل
ويذيل الحق اليةَ } :وكَانَ اللّهُ َ
بالعمل ،والعمل هو كل حدث يحدث من جوارح النسان ،القول -مثلً -حدث من اللسان ،وهو
عمل أيضا ،والمقابل للقول هو الفعل .فالعمال تنقسم إلى قسمين :إلى القوال وإلى الفعال.
طعَامِ
ولتوضيح هذا المر نقرأ قول الحق {:كَلّ بَل لّ ُتكْ ِرمُونَ الْيَتِيمَ * َولَ تَحَآضّونَ عَلَىا َ
سكِينِ * وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ َأكْلً ّلمّا }[الفجر]19-17 :
ا ْلمِ ْ
وعندما سمع الغنياء هذا القول عرفوا سلوكهم ،ولما سمع الفقراء هذا القول ،كأنهم قالوا :نحن ل
سكِينِ { ما يوضح
طعَامِ ا ْلمِ ْ
نملك ما نطعم به المسكين ،فكان في قوله تعالىَ } :ولَ تَحَآضّونَ عَلَىا َ
لهم الطريق إلى العطاء :أي حضوا غيركم على العطاء.
أي أن الذي ل يملك يمكنه أن يكلم الغني ليعطي المسكين ،والحضّ هو كلم .والكلم من العمل.
ض َعفَآ ِء وَلَ عَلَىا
والحق سبحانه وتعالى يستنفر المؤمنين لينصروا دين ال فيقول {:لّيْسَ عَلَى ال ّ
ن لَ َيجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا َنصَحُواْ للّ ِه وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ا ْل ُمحْسِنِينَ مِن
ا ْلمَ ْرضَىا َولَ عَلَى الّذِي َ
غفُورٌ رّحِيمٌ }[التوبة]91 :
ل وَاللّهُ َ
سَبِي ٍ
هو سبحانه أعفى الضعفاء والمرضى والذين ل يجدون ما ينفقون في القتال وأسقطه عنهم ولم
يحاسبهم عليه ،ولكن في الية نفسها ما يُحدد المطلوب من هؤلء ،وهو أن ينصحوا ل ورسوله.
إذن فغير القادر يمكنه أن يتكلم بفعل الخير ويذكّر به الخرين وينصح به ،هذا هو معنى قول
سمِيعا َبصِيرا { فسبحانه يسمع قول مّن ل يستطيع ول يملك القدرة على سلوك
الحقَ } :وكَانَ اللّهُ َ
ما ،وسبحانه بصير يرى صاحب كل سلوك.
إذن فثواب الدنيا يحتاج إلى عمل ،والعمل هو انفعال كل جارحة بمطلوبها ،فاللسان جارحة تتكلم،
واليد تعمل ،وكل جوارح النسان تعمل ،لكن ما عمل القلوب؟ عمل القلوب ل يُسمع ول يُرى،
ولذلك قال الحق عن إخلص القلب في حديث قدسي:
" الخلص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي "
وهكذا نعرف أن نية القلوب خاصة بال مباشرة ول تدخل في اختصاص رقيب وعتيد وهما
الملكان المختصان برقابة وكتابة سلوك وعمل النسان ،ولذلك نجد الحق يصف ذاته في مواقع
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كثيرة من القرآن بأنه لطيف خبير ،لطيف بعلم ما يدخل ويتغلغل في الشياء ،وخبير بكل شيء
وقدير على كل شيء .ونجد الحديث الشريف يقول لنا:
" إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .فمن كانت هجرته إلى ال ورسوله فهجرته إلى
ال ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
فالعمل يكون بالجوارح ،ومن الجوارح اللسان ،وحتى نضبط هذه المسألة لنفرق ما بين الفعل
والعمل .نقرأ ونفهم هذه الية {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف]2 :
ونجد المقابل للقول هو الفعل .والكل عمل .ويأتي نوع آخر من العمال ،ل هو قول ول هو فعل،
وهو " النية القلبية " .وعندما يقول الحق :إنه كان سميعا بصيرا ،فالمعنى سميع للقول ،وبصير
بالفعل.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ{ ...
()621 /
وساعة ينادي الحق عباده المؤمنين قائلً :يا أيها الذين آمنوا ،فكأنه يقدم حيثية الحكم الذي يأتي
بعده ،ونحن نرى القضاء البشري قبل أن ينطق بمنطوق الحكم ،يورد حيثيته ،فيقول " :بما أن
المادة القانونية رقم كذا تنص على كذا ،حكمنا بكذا " .إذن :فالحيثيات تتقدم الحكم .وحيثيات الحكم
الذي يحكم به ال هي اليمان به ،مثل قول الحق {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمُ الصّيَامُ }[البقرة:
]183
حيثية الكتابة هنا وفي أي حكم آخر هي إيمان العبد بال ربا ،فليسمع العبد من ربه .وسبحانه ل
يكلف كل الناس بالتكاليف اليمانية ،ولكنه يكلف المؤمنين فقط .وهو يقول { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ
كُونُواْ َقوّامِينَ بِا ْلقِسْطِ } فالمؤمن يدخل على اليمان بقمة القِسط ،فالقسط هو العدل ،والعدل أن
يعطي العادل كل ذي حق حقه .وحق الله الواحد أن يؤمن به النسان ويعترف أنه إله واحد.
إن قمة القِسط -إذن -هي اليمان .ومادام المؤمن قد بدأ إيمانه بقمة القِسط وهو اليمان ،فليجعل
القِسط سائدا في كل تصرفاته .وإياك أن تجعل القسط أمرا أو حدثا يقع مرة وينتهي ،وإل لما قال
الحق مع إخوانك المؤمنين { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ َقوّامِينَ بِا ْلقِسْطِ }.
ولم يقل الحق لك مع إخوانك المؤمنين :كونوا قائمين بالقسط ،بل قال { كُونُواْ َقوّامِينَ بِا ْلقِسْطِ }
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي أن المطلوب هو الستمرارية للسلوك العادل .فنحن نقول " :فلن قائم " و " فلن َقوّام ".
ونعرف أن كلمة " َقوّام " هي صيغة مبالغة .وعلى ذلك يكون المر اللهي لكل مؤمن :ل تقم
بالقسط مرة واحدة فقط ،بل اجعله خصلة لزمة فيك ،ولتفعل القسط في كل أمور حياتك .والقِسط
كما علمنا من قبل في ظاهر أمره هو العدل،وأيضا القساط هي العدل.
وقد احدثت كلمة " القسط " ضجة عند العلماء ،وقلنا تعليقا على ذلك :إن المسألة بسيرة ..فقسط
يقسُط قسوطا أي جار وظلم ،فإذا أذهب النسان الجور والظلم يقال " :أقسط فلن " أي أذهب
الجور .إذن " :القِسط -بكسر القاف -هو العدل البتدائي ،لكن القساط هو عدل أزال جورا
كان قد وقع.
وهب أن أناسا جاءوا لقاضٍ فحكم بينهم بالعدل ،فهذا هو القِسط ،وقد يستأنف أحد الطرفين حكم
المحكمة البتدائية ووجدت محكمة الستئناف خطأ في التطبيق فأصدرت حكما بإزالة الجور،
وهذا الحكم الذي من الدرجة الثانية اسمه إقساط .وهكذا ينتهي جدل العلماء حول هذه المسألة،
فالقِسط عدل من أول درجة ،والقساط يعني أنه كان هناك جور ف ُرفِع ،لنه مسبوق بهمزة اسمها
" همزة الزالة " ،فيقال :أعجم الكتاب .أي أن الكتاب كان فيه عجمة ،أي كان بالكتاب شيء
مستتر وخفيّ أي يعطي معاني اللفاظ فيزيل خفاءها.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يفعل ذلك ليرجح الحكم ،والشاهد على نفسه يقر بما فعل ،والقرار سيد الدلة .وشهادة الشاهد
تقدم للقاضي الدليل الذي يرتب عليه الحكم .وهكذا يشهد المؤمن على نفسه.
وهناك معنى آخر :أنه يشهد على نفسه ولو كانت الشهادة تجر وبال عليه ،وهذه المعاني من
معطيات الشعاعات القرآنية؛ فالمؤمن يشهد على نفسه للقرار ،وقد ل تكون الشهادة على النفس
بل قد تكون الشهادة واجبة عليه يؤديها لمصلحة غيره ول يخاف فيها الشاهد من السلطان حتى
وإن جار السلطان على المؤمن وأصابه بوبال في نفسه أو ماله ،ومن الناس من أصابه وبال في
نفسه أو أهله من السلطان لمجرد كلمة حق قيلت .فالسلطان قد ل يأخذ النسان بذنبه ،بل قد يأخذ
أهل النسان بهذا الذنب .والحق يوضح للعبد :ل تهتم بذلك ول تقولن سيعذبون العيال أو
سيأخذون كل شيء ،إنني أنا الموجود المتكفل بعبادي.
سكُمْ َأوِ ا ْلوَالِدَيْنِ
ش َهدَآءَ للّ ِه وََلوْ عَلَى أَ ْنفُ ِ
سطِ ُ
ويطلب الحق من المؤمنين } :كُونُواْ َقوّامِينَ بِا ْلقِ ْ
وَالَقْرَبِينَ { .وحين يشهد النسان على نفسه فلن يكون أبوه أو أمه أو أحد أقاربه أعز منه.
ثم يدخل بنا الحق إلى أن استحثاثات مخالفة العدالة تدخل فيها الهواء ،وحين يرجح إنسان الباطل
غير الواقع على حق واقع ،فالمرجح هو هوى النفس ،ومنشأ الهوى أن يكون المشهود عليه غنيا
فيخاف النسان أن يشهد عليه ،فيمنعه من خير ما.
ولذلك حدد الحق قوامة المؤمنين بالقسط والشهادة ل ولو على النفس أو الب أو الم أو القارب،
ول يصح أن يضع أحد من المؤمنين ثراء أو فقر المشهود له أو عليه في البال ،بل يجب أن يكون
البال مع ال فقط؛ لذلك قال } :إِن َيكُنْ غَنِيّا َأوْ َفقِيرا فَاللّهُ َأوْلَىا ِب ِهمَا فَلَ تَتّ ِبعُواْ ا ْل َهوَىا أَن َتعْدِلُواْ
{.
وقد يقول قائل :إن الهوى قد ينحاز إلى الغنيّ طمعا في ثرائه؛ فلماذا يذكر ال الفقير أيضا؟
ونقول :قد ينحاز الهوى إلى الفقير رحم ًة بالفقير فيحدّث الشاهد نفسه " أنه فقير ويستحق الرحمة
"؛ لذلك يحذرنا الحق من النحياز إلى الغني أو إلى الفقير.
ول دخل للشهادة بثراء الثري أو بفقر الفقير؛ لن العبد المؤمن ليس أولى او أحق برعاية مصالح
الناس من خالقهم -جل شأنه -ولذلك جاء بالحيثية الملجمة } فَاللّهُ َأوْلَىا ِب ِهمَا فَلَ تَتّ ِبعُواْ ا ْل َهوَىا
أَن َتعْدِلُواْ { أي أنك أيها العبد لم تخلق أحدا منهما ولكن ال خالق الثنين وهو أولى بهما فليس لك
أن تقيم شهادتك على الثراء أو على الفقر لنك لست القَيّم على الوجود.
والذي يفسد ويشوش على العدل هو الهوى ،والمثل العربي يقول " :آفة الرأي الهوى " .وإياكم
أيها المؤمنون واتباع الهوى حتى ل تفسد قدرتكم على العدل وتجنحوا بعيدا عنه .والتاريخ العربي
يحتفظ لنا في ذاكرته حكاية رجل فاضل ذهب إلى الخليفة وقال له :أعفني من القضاء! فقال
الخليفة :فمن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له كل الناس بذلك؟
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقال القاضي :وال يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرّطب -أي البلح -وبينما
أنا في بيتي وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب وكنا في بواكير الرطب ،ومن الطبيعي أن
تكون النفس في لهفة عليه مادامت تحبه ،ويتابع القاضي حكايته للخليفة :فقلت للخدام من جاء به؟
فأجاب الخادم :إنه واحد صفته كذا وكذا فتذكرت أن مَن أرسل الرطب هو واحد من المتقاضين
أمامي ،فرددت عليه الرطب ،ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب ،دخل الرجل عليّ
فعرفته فوال يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه على الرغم من أني رددت
الطبق .وهكذا استقال القاضي العربي المسلم من منصب القضاء.
ويتابع الحق سبحانه } :وَإِن تَ ْلوُواْ َأوْ ُتعْ ِرضُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرا { .أن تلووا في
الشهادة والليّ هو التحريف ..أي تحرفوا الشهادة وتغيروها ،فإن ال بما تعملون خبير ،أو أن
ُيعْرِض الشخص عن أداء الشهادة لنه يخاف من المشهود عليه؛ لذلك يقال :إنه خائف من
المشهود عليه؛ لن الشهادة ترجح حكم المشهود له؛ لهذا فهو يعرض عن الشهادة ،وإن جاء
للشهادة فهو يلف الكلمات ويلوي لسانه بها؛ لذلك يقول الحق } :وَإِن تَ ْلوُواْ َأوْ ُتعْ ِرضُواْ فَإِنّ اللّهَ
كَانَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرا {.
إذن فالذي يفسد العدل هو الهوى ،والهوى عمل القلب؛ لذلك نحتاج إلى خبرة الخبير اللطيف.
فعلينا أن نعلم أن النيات عمل القلوب ،وبذلك صار العمل ينقسم الن أمامنا إلى ثلثة أقسام :قول
لسان ،وفعل بجوارح غير اللسان ،ونيات قلوب وهوى.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه } :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ{ ...
()622 /
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا َآمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ الّذِي نَ ّزلَ عَلَى رَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ الّذِي أَنْ َزلَ مِنْ قَ ْبلُ
ل ضَلَالًا َبعِيدًا ()136
ضّسلِ ِه وَالْ َيوْمِ الَْآخِرِ َفقَ ْد َ
َومَنْ َي ْكفُرْ بِاللّهِ َومَلَائِكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُ ُ
وقد يقول إنسان ما :كيف يقول الحق في صدر هذه الية مناديا المؤمنين باليمان فقال :أمَنُوا،
وبعد ذلك يطالبهم بأن يؤمنوا؟ ونقول :نرى في بعض الحيان رجلً يجري كلمة اليمان على
لسانه ويعلم ال أن قلبه غير مصدق لما يقول ،فتكون كلمة اليمان هي حق صحيح ،ولكن بالنسبة
شهَدُ إِ ّنكَ
لمطابقتها لقلبه ليست حقا .وتعرضنا من قبل لقول الحقِ {:إذَا جَآ َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُواْ نَ ْ
شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ َلكَاذِبُونَ }[المنافقون]1 :
لَرَسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ ُه وَاللّهُ َي ْ
لقد شهد المنافقون أن رسول ال مرسل من عند ال ،هذه قضية صدق ،لكن ال العليم بما في
شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ }[المنافقون]1 :
القلوب يكشف أمرهم إلى الرسول فيقول {:وَاللّهُ َي ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد وافقت شهادتهم بألسنتهم ما علمه ال .لكن القول منهم يخالف ما في قلوبهم ،فشهد الحق إنهم
لكاذبون .ويعلم سبحانه كذبهم في شهادتهم؛ لن المنافق منهم لم يشهد صحيح الشهادة؛ لن
ن القلبَ .وبعض من الغبياء الذين يحاولون الستدراك على
الشهادة الحقة هي أن يواطئ اللسا ُ
القرآن قد عميت بصيرتهم عن الحساس باللغة والفهم لسرارها؛ لذلك يتخبطون في الفهم .فهم ل
يعرفون صفاء التلقي عن ال .وقالوا :إن بالقرآن تضاربا ،ولم يعرفوا أن كذب المنافقين لم يكن
في مقولة :إن محمدا رسول ال ،ولكن في شهادتهم بذلك ،وكذبهم ال في قولهم " :نشهد " فقط،
فقد أعلنوا اليمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
وإن أردنا أن نفهم أن الخطاب للمؤمنين عامة ،بأن يؤمنوا ،فهذا طلب للرتقاء بمزيد من اليمان،
طعِ
ولنا في قول الحق المثل الواضح في حديثه للنبي؛ قال الحق {:يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ اتّقِ اللّهَ وَلَ تُ ِ
حكِيما }[الحزاب]1 :
ن وَا ْلمُنَافِقِينَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما َ
ا ْلكَافِرِي َ
الحق هنا يقول للمتقي الول محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم " :اتق ال " ،أي يأمره بالقيام
دائما على التقوى.
إذن فمعنى قول الحق { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } أن الحق يخاطبكم بلفظ اليمان .ويريد أن
يتصل إيمانكم بعد كلمه الحق مع إيمانكم قبل كلمه ،فل ينقطع ول ينفصم خيط اليمان أبدا .بل
ل بد من المداومة على اليمان ،وأل يترك مؤمن هذا الشرف .فإن رأى واحد منكم منادًى
بوصف طُلبِ منه الوصفُ بعده فليعلم أن المراد هو المداومة.
ونعلم أن الحق هنا يخاطب مؤمنين ومنافقين وأهل كتاب؛ لذلك فل بد أن تشملهم الية { :يَا أَ ّيهَا
الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّ ِه وَرَسُوِلهِ } لن النسان إن آمن بال فقط ،فهذا يقتضي أن يبحث المؤمن
بال عن مطلوب ال ،ومطلوب ال إنما جاء به رسول؛ لذلك فاليمان بال يقتضي أن يؤمن
النسان برسول ،لن قصارى ما يعطيك العقل أيها النسان أن تؤمن بأن وراء الكون إلها خلقه
ويدبره.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرسول ،وأن تؤمن بما يقوله ال عن خلق ل تستطيع أن تدركهم كالملئكة .وهذا المر باليمان
هو مطلوب من أهل الكتاب لنهم آمنوا برسلهم ،ويطلب منهم أن يؤمنوا برسول ال وبما أُنزل
عليه.
ويترك الحق سبحانه وتعالى لخلقه أن يكتشفوا وجودا لكائنات لم تكن معلومة لنهم حُدّثوا بأن في
الكون كائنات أبلغنا ال بوجودها ول ندركها وهم الملئكة - .إذن -فالدليل عندهم يحثهم
ويدفعهم إلى الكشف والبحث.
والمثال على ذلك الميكروب الذي لم تعرفه البشرية إل في القرن السابع عشر الميلدي ،وكان
الميكروب موجودا من البداية ،لكننا لم نكن ندركه ،وبعد أن توصلت البشرية إلى صناعة المجاهر
أدركناه وعرفنا خصائصه وفصائله وأنواعه ،ومازالت الكتشافات تسعى إلى معرفة الجديد فيه،
هو جديد بالنسبة لنا ،لكنه قديم في وجوده.
ومعنى ذلك أن ال يوضح لنا :إذا حُدثَت أيها النسان من صادق على أن في الكون خلقا ل تدركه
أنت الن فعليك بالتصديق؛ فقبل اكتشاف الميكروب لو حدث الناسَ أحدٌ بوجود الميكروب في
أثناء ظلم العصور الوسطى لما صدقوا ذلك ،على الرغم من أن الميكروب مادة من مادة النسان
نفسها لكنه صغير الحجم بحيث ل توجد آلة إدراك تدركه .وعندما اخترعنا واكتشفنا الشياء التي
تضاعف صورة الشيء مئات المرات استطعنا رؤيته ،فعدم رؤية الشيء ل يعني أنه غير
موجود.
فإذا ما حدثنا ال عن خلق الملئكة والجن والشيطان الذي يجري في النسان مجرى الدم ،فهنا
يجب أن يُصدق ويؤمن الكافر والملحد بذلك ،لنه يُصدق أن الميكروب يدخل الجسم دون أن
يشعر النسان ،وبعد ذلك يتفاعل مع الدم ثم تظهر أعراض المرض من بعد ذلك ،وقد علم ذلك
بعد أن تهيأت أسباب الرؤية والعلم .فإذا كان ال قد خلق أجناسا من غير جنس مادة النسان
فلنصدق الحق {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ الّذِي نَ ّزلَ عَلَىا َرسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ
الّذِي أَن َزلَ مِن قَ ْبلُ }
[النساء]136 :
والمعروف أن الكتاب هو القرآن وهو عَلَمٌ عليه ،أما الكتاب الذي أنزل من قبل فلنعرف أن المراد
به هو جنس الكتاب ..أي كل الكتب التي نزلت على الرسل السابقين على رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،ولذلك يقال على " الـ " السابقة لكلمة الكتاب الثانية " :هي " " الـ " الجنسية.
والجنس كما نعلم -تحته أفراد كثيرة بدليل أن الحق سبحانه وتعالى يأتي بالمفرد ويدخل عليه
ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ
اللف واللم ويستثنى منه جماعة ،مثال ذلك {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ }[العصر]3-1 :
وَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نجد " النسان " هنا مفرد ،ودخلت عليه " الـ " ،واستثنى من النسان جماعة هم الذين آمنوا،
وهذا دليل على أن " النسان " أكثر من جماعة .ولذلك يقولون :إن الستثناء معيار العموم ..أي
أن اللفظ الذي استثنينا وأخذنا وأخرجنا منه لفظ عام.
ويطالبنا الحق باليمان بالكتاب أي القرآن؛ فإذا أطلقت كلمة " الكتاب " انصرفت إلى القرآن؛ لن
" الـ " هنا (للغلبة) ،مثال ذلك :يقال " :هو الرجل " ،وهذا يعني أنه رجل متفرد بمزايا الرجولة
وشهامتها وقوتها ،فإذا أطلقنا الكتاب فهي تعني القرآن؛ لن كلمة الكتاب غلب إطلقها على
القرآن فل تنصرف إلّ إليه ،أو أنه هو الكتاب الكامل الذي ل نسخ ول تبديل له ،فـ " الـ " هنا
للكمال أما الكتاب الذي أُنزل من قبل فهو يشمل التوراة والنجيل وسائر الكتب ،والصحف المنزلة
على النبياء السابقين.
للً َبعِيدا { أي إن آمن بال
ضلّ ضَ َ
} َومَن َي ْكفُرْ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفقَ ْد َ
وكفر ببقية ما ذكر في الية فهو كافر أيضا.
وكان بعض اليهود كعبدال بن سلم ،وسلم بن أخته ،وسلمة بن أخيه ،وأسد وأسيد ابني كعب،
وثعلبة بن قيس ،ويامين بن يامين قد ذهبوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقالوا " :نحن
نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ،ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ،فقال عليه
الصلة والسلم " :بل آمنوا بال ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله " فقالوا :ل
نفعل " .فنزلت فآمنوا كلهم
.والخطاب والنداء يشمل أيضا المنافقين .أي يأيها الذين آمنوا في الظاهر نفاقا ،أخلصوا ل
واجعلوا قلوبكم مطابقة للسنتكم ،فالنداء -إذن -يشمل المؤمنين ليستديموا ويستمروا
علىإيمانهم ،ويضن الكافرين من أهل الكتاب ليؤمنوا بكل رسول وبكل كتاب ،هو أيضا للمنافقين
ليخلصوا في إيمانهم حتى تطابق وتوافق قلوبهم ألسنتهم.
إذن فمن يكفر بأي شيء ذكره ال في هذه الية فقد كفر بال.
للً َبعِيدا { و " ضل " أي سار
ضلّ ضَ َ
} َومَن َي ْكفُرْ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفقَ ْد َ
للً
ل ضَ َ
ضّعلى غير هدى ،فعندما يتوه النسان عن هدفه المقصود يقال :ضل الطريق ،والذي " َ
َبعِيدا " هو من يذهب إلى متاهة بعيدة ،والمقصود بها متاهة الكفر.
وهناك ضَلل عن الهدى يمكن استدراكه ،أما الضلل البعيد والغرق في متاهة الكفر فمن الصعب
للُ متحدون في نقطة البداية ،لكنهم فريقان يختلفان ،فأحدهما يسير في طريق
استدراكه ،والضُ ّ
اليمان وهو منتبه دائما إلى غايته وهي رضاء ال بتطبيق مطلوباته ،ويحذر أن يخالف عن أمره،
والخر انحرف من البداية فوصل إلى متاهة الكفر.
ويقول الحق بعد ذلك } :إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ{ ...
()623 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا ثُمّ َكفَرُوا ثُمّ َآمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا ُثمّ ازْدَادُوا ُكفْرًا َلمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َل ُه ْم وَلَا لِ َيهْدِ َيهُمْ سَبِيلًا
()137
وهؤلء هم المنافقون الذين أعلنوا اليمان وأبطنوا الكفر وقال ال عنهم{ َوقَاَلتْ طّآ ِئفَةٌ مّنْ أَ ْهلِ
جعُونَ }[آل عمران:
ا ْلكِتَابِ آمِنُواْ بِالّذِي أُنْ ِزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُو ْا وَجْهَ ال ّنهَا ِر وَاكْفُرُواْ آخِ َرهُ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ
]72
إذن ،هم حولوا اليمان من عقيدة إلى مجرد كلمة تقال ،وكانوا في غاية الحرص على تأدية
مطلوبات السلم بالعمال الظاهرية حتى يدفعوا عن إسلمهم الريبة .أما قلوبهم فهي مع الكفر؛
ت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ
لذلك أرادوا أن يُلَبّسوا في المنطق ويُدَلسُوا فيه {.قَاَل ِ
ل الِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ }[الحجرات]14 :
خِأَسَْلمْنَا وََلمّا يَ ْد ُ
ويفضحهم الحق أمام أنفسهم .وبال عندما يعرفون أنهم مجرد مسلمين باللسان ولكن قلوبهم لم
تؤمن ويخبرهم الرسول بذلك ويقول لهم بلغا عن ال { :قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ أَسَْلمْنَا وََلمّا
خلِ الِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ } .وكانوا أسبق الناس إلى صفوف الصلة ،وعندما فضحهم الرسول
يَ ْد ُ
وأوضح لهم :أنتم لو تؤمنوا ولكنكم أسلمتم فقط .هنا عرفوا أن محمدا قد عرف خبايا قلوبهم بلغا
عن ال.
ولو قالوا :إن محمدا هو الذي عرف هذه الخبايا لما اقتصر اعترافهم به كرسولَ ،بلْ رُبّما تمادوا
في الغيّ وأرادوا أن يجعلوه إلها .ولكن رسول ال يحسم المر :ويبيّن لهم أن ال هو الذي أبلغني،
بدليل أنه ُأمِر أن يقول لهم { :قُل لّمْ ُت ْؤمِنُواْ }.
ورسول ال صلى ال عليه وسلم يقر بأن هذا المر ليس فيه شيء من عنده بل هو مأمور بالبلغ
عن ال ربّه .وفي عصرنا قال برناردشو :إن الذين يكذبون أن محمدا رسول من عند ال يريدون
أن يجعلوه إلها ،فمن أين أتى بهذه الشياء التي لم تكن معلومة في عصره؟..
إن الناس جميعا مطالبون بالتصديق بمحمد رسولً من عند ال؛ لنه قال عن أشياء ل يمكن أن
يقولها واحد من البشر .والرسول صلى ال عليه وسلم بذاته يوضح بحسم هذا الكلم ويبيّن أن هذا
ليس من عندي ،لكنه من عند ال.
ل الِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ .وهذا
خِت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ َأسَْلمْنَا وََلمّا َيدْ ُ
{ قَاَل ِ
كشف محرج ومنطقي لما في قلوبهم؛ لهذا قال السامعون للية :الحمد ل أن هناك أملً في أن
يدخل اليمان قلوبنا .وقد دخل اليمان في قلوبهم بالفعل لن كلمة (لمّا) تفيد نفي اليمان عنهم في
الزمن الماضي ولكنها تفيد أيضا توقع وحصول اليمان منهم وقد حصل.
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ُثمّ َكفَرُواْ ُثمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ ُكفْرا } أي ماتوا على الكفر ،أو آمنوا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بموسى ،ثم كفروا بعيسى ،وجاء أناس آخرون آمنوا بعيسى ،وازدادوا كفرا بعدم اليمان بمحمد،
فليس من بعد محمد صلى ال عليه وسلم استدراك.
ويخبرنا سبحانه بمصيرهم { :لّمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َل ُه ْم َولَ لِ َي ْهدِ َيهُمْ سَبِيلً } لنهم دخلوا في اليمان
مرة ثم خرجوا من اليمان.
ومعنى سلوكهم أنهم قصدوا الفتنة لن الخرين سيشاهدونهم وقد آمنوا ،وسيشاهدونهم وهم
يكفرون ،وسيعللون ذلك بأنهم عندما تعمقوا في المسائل العقدية كفروا وهم يفعلون ذلك ليهوّنوا
من شأن السلم ،ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالىَ {:وقَاَلتْ طّآ ِئفَةٌ مّنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ آمِنُواْ بِالّذِي
جعُونَ }[آل عمران]72 :
أُنْ ِزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُو ْا َوجْهَ ال ّنهَا ِر وَا ْكفُرُواْ آخِ َرهُ َلعَّلهُمْ يَرْ ِ
هم إذن يقصدون الفتنة بإظهار اليمان ثم أعلنهم الكفر وفي ذلك تشكيك للمسلمين ،ويكون مصير
ن اليمان والكفر ،وكان عاقبة أمرهم أنهم ازدادوا كفرا يكون مصيرهم ما جاء في
مَن تر ّددَ بَيْ َ
قوله } :لّمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َل ُه ْم َولَ لِ َي ْهدِ َيهُمْ سَبِيلً { فهم قد دخلوا في الخيانة العظمى اليمانية التي
يحكمها قوله الحق {:إِنّ اللّ َه لَ َي ْغفِرُ أَن ُيشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَن يَشَآءُ }[النساء]48 :
ويقول الحق عنهم هنا } :لّمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َيغْفِرَ َلهُمْ وَلَ لِ َيهْدِ َي ُهمْ سَبِيلً { .والهداية -كما نعلم -ترد
بمعانٍ متعددة ..فقد يكون المقصود منها الدللة ،فإن شئت تدخل اليمان وإن شئت ل ،ول شأن
لحد بك .والمعنى الثاني هو المعونة ،أي يقدم لك ال ما يهديك بالفعل .وعندما تعرض القرآن
عقَةُ ا ْلعَذَابِ
خذَ ْتهُ ْم صَا ِ
علَى ا ْل ُهدَىا فَأَ َ
لهذه المسألة قال {:وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ فَاسْ َتحَبّواْ ا ْل َعمَىا َ
ا ْلهُونِ ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[فصلت]17 :
فسبحانه هنا قد دلهم على الهداية ،ولم يقدم لهم الهداية الفعلية لنهم استحبوا العمى على الهدى،
فكأن ال قد دل على المنهج الذي يوصل الخير والبر لكل الناس ،فمن أقبل بإيمان فالحق يمده
بهداية المعونة ويعاونه على ازدياد الهدى ،مصداقا لقوله {:إِ ّنهُمْ فِتْ َيةٌ آمَنُواْ بِرَ ّبهِ ْم وَزِدْنَاهُمْ ُهدًى }
[الكهف]13 :
ول نريد لهذا المثل أن يغيب عن الذهان؛ لذلك أؤكده دائما :شرطي المرور الواقف في بداية
الطريق الصحراوي .يسأله سائل :ذاهب إلى السكندرية عن الطريق؛ فيدله على الطريق
الموصل للسكندرية ،هنا قام الشرطي بالدللة ،ثم شكر الرجلُ الشرطيّ وحمد ال على حسن
شرح الشرطي؛ ويحس ويشعر رجل المرور بالسعادة ،ويحذر الرجل المسافر من عقبات
الطريق ،ويركب معه ليشير له على تلك العقبات حتى يتفاداها .أي أنه من بعد الدللة قد حدثت
المعونة .كذلك الحق يدل الناس على اليمان وعلى المنهج ،فالذي يؤمن به يساعده ويخفف عليه
شعِينَ }[البقرة]45 :
الطاعة ،قال الحق سبحانه في شأن الصلة {:وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى ا ْلخَا ِ
إذن نحن نجد الهداية على مرحلتين :هداية الدللة ،وهداية المعونة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويريد الحق لقضية اليمان أن تكون قضية ثابتة متأصلة بحيث ل تطفو إلى العقل لتناقش من
جديد .فمبدأ اليمان ل يتغير في مواكب الرسالت من سيدنا آدم إلى أن ختمها بسيدنا محمد صلى
ال عليه وسلم.
وقال سبحانه {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَا ْلكِتَابِ الّذِي نَ ّزلَ عَلَىا رَسُولِهِ وَا ْلكِتَابِ
للً َبعِيدا }
ل ضَ َ
ل َومَن َيكْفُرْ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِهِ َوكُتُبِهِ وَرُسُلِ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ فَقَدْ ضَ ّ
الّذِي أَن َزلَ مِن قَ ْب ُ
[النساء]136 :
إذن سبحانه يريد من المؤمن أن يؤمن بالقمة العليا ،وهي اليمان بال واجب الوجود العلى ،وأن
يؤمن بالبلغ عنه كتابا ،وأن يؤمن بالبلغ عنه رسالة على لسان أي رسول .والذين يؤمنون مرة
برسول ثم يكفرون برسول آخر ،أو الذين يؤمنون برسول ثم يكفرون بنسبة الصاحبة أو الولد ل
ثم يزدادون كفرا بالخاتم وهو رسول ال صلى ال عليه وسلم ليس لهم مجال مع الهداية إلى ال؛
لن السلم جاء بالنهاية الخاتمة وليس للسماء من بعد ذلك استدراك ،وليس لحد من بعد ذلك
استدراك ،ولذلك قال في أول الية } :آمَنُواْ ثُمّ َكفَرُواْ ُثمّ آمَنُواْ ُثمّ َكفَرُواْ { .وقال في آخر الية} :
ثُمّ ا ْزدَادُواْ ُكفْرا { أي أنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى ال عليه وسلم وليس هناك مجال أن ينتظروا
رسولً آخر لينسخوا كفرهم بمحمد ويؤمنوا بالرسول الجديد.
ويوضح سبحانه :لم يكن ال ليهديهم لنهم هم الذين صرفوا أنفسهم عنه ،فال ل يمنع الهداية عمن
قدم يده ومدّها إليه ،بل يعاونه في هدايته ،أما من ينفض يده من يد ال فل يبايعه على اليمان فال
غني عنه ،ومادام ال غنيا عنه فسيظل في ضلله؛ لن الهداية ل تكون إل من ال .ولم يكن ال
ليهديهم سبيلً إلى هداية أخرى ول هادي إل هو .ولم يكن ال ليهديهم سبيلً إلى الجنة؛ لنهم لم
يقدموا السباب التي تؤهلهم للدخول إلى الجنة.
جهَنّمَ
ولذلك يشرحها ال في آية أخرىَ {:لمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َل ُه ْم َولَ لِ َي ْهدِ َيهُمْ طَرِيقا * ِإلّ طَرِيقَ َ
خَاِلدِينَ فِيهَآ أَبَدا }[النساء]169-168 :
وهكذا نجد طريق جهنم معبدا مُذَلّلً بالنسبة لهم.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانهَ } :بشّرِ ا ْلمُنَا ِفقِينَ{ ...
()624 /
سمة التردد والتذبذب بين اليمان والكفر ل تأتي من أصيل في اليمان ،بل تأتي من متلون في
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اليمان ،تبدو له أسباب فيؤمن ،وبعد هذا تبدو له أغيار فيكفر .وذلك شأن المنافقين المذبذبين بين
هؤلء وهؤلء .فيقول الحق { :بَشّرِ ا ْلمُنَافِقِينَ بِأَنّ َل ُهمْ عَذَابا أَلِيما }.
ونحن نعلم أن المنافق هو الذي جمع بين أمرين :إعلن إسلم ،وإبطان كفر .والنفاق مأخوذ من
نافقاء اليربوع ،وهي إحدى جحوره التي يستتر ويختفي فيها ،واليربوع حيوان صحراوي يخادع
من يريد به شرا فيفتح لنفسه بابين؛ يدخل أمام الرجل من باب ثم يخرج من باب آخر .فإن
انتظره الرجل على باب فاليربوع يخرج من الخر.
{ َبشّرِ ا ْلمُنَا ِفقِينَ } والبشارة هي الخبار بشيء يسر سيأتي زمنه بعد .وهل المنافقون يبشرون؟ ل.
إن البشارة تكون بخير؛ لذلك نتوقع أن ينذر المنافقون ول يبشرون ،ولكن ل في أساليبه البلغية
تعبيرات لتصعيد العذاب .فلو قال :أنذرهم بعذاب أليم ،لكان الكلم محتملً ،فهم -كمنافقين -
مستعدون لسماع الشر .ولكن الحق يقول { :بَشّرِ ا ْلمُنَا ِفقِينَ بِأَنّ َل ُهمْ عَذَابا أَلِيما } وذلك هو التهكم
والستهزاء والسخرية ،وهي من معينات البليغ على أداء مهمته البلغية .ونسمع المفارقات أحيانا
لتعطينا صورة أصدق من الحقيقة .فإذا جئت إلى بخيل مثلً ،وقلت له :مرحبا بك يا حاتم .ماذا
يكون موقف من يحضر هذا اللقاء؟
أنت تنقله من واقع البخيل إلى تصور حاتم الطائي أصل الكرم .وبذلك نقلت البخيل نقلتين :نقلة
من وضعه كبخيل؛ ثم السخرية منه؛ لن قولك لبخيل ما :يا حاتم هو تقريع وتهكم وسخرية
واستهزاء ،لنك نقلته من وصف خسيس وحقير إلى وصف مقابل هو سَام ورفيعٍ وعظيم تحقيرا
له واستهزاء به ،ومن المقارنة يبدو الفارق الكبير .وإذا ما جئت مثلً لرجل طويل جدا ،وقلت:
مرحبا بك يا قزم .هذه هي المفارقة ،كما تقول لقصير :مرحبا يا مارد .أو إذا جئت لطويل
لتصافحه ،فيجلس على الرض ليُسلم عليك ..هذه أيضا مفارقة .وإن جئت لرجل قصير لتصافحه
فتجلس على الرض لتسلم عليه فهذه هي السخرية والتهكم.
وهذه المفارقات إنما تأتي للداء البلغي للمعنى الذي يريده المتكلم ،فقول الحق { :بَشّرِ
ا ْلمُنَا ِفقِينَ } معناه :أنكم أيها المنافقون قد صنعتم لنفسكم بالنفاق ما كنتم تحبون ،وكأنكم نافقتم
لنكم تحبون العذاب .ومادمتم قد نافقتم لنكم تحبون العذاب ،فأنا أبشركم بأنكم ستتعذبون .والذي
ينافق أل يريد من ذلك غاية؟ لذلك يصور له الحق أن غايته هي العذاب ،فقال الحق { :بَشّرِ
ا ْلمُنَا ِفقِينَ بِأَنّ َلهُمْ عَذَابا أَلِيما }.
إنك حين تريد تصعيد أمر ما ،فأنت تنقل مخاطبك من شيء إلى الشيء المقابل وهو النقيض،
مثال ذلك :إنسان عطشان لنه محجوز أو مسجون وأراد أن يشرب شربة ماء ،من الممكن أن
يقول له الحارس :ل.
ويجعله ييأس من أن يَأتي له بكوب ماء ،أما إذا أراد الحارس تصعيد العذاب له فهو يذهب ويأتي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بكوب ماء ويقربه منه ،فإذا مد السجين يده ليأخذ كوب الماء فيسكب الحارس كوب الماء على
الرض هذا هو تصيعد العذاب .وحين يقالَ " :بشّر " فالمستمع يفهم أن هناك شيئا يسر ،فإذا قال
عذَابا أَلِيما { فمعنى ذلك أن الغم يأتي مركبا .فقد بسط الحق أنفسهم بالبشارة
الحق } :بِأَنّ َلهُمْ َ
أولً ،ثم أنهاها بالنذارة.
وعلى سبيل المثال -ول المثل العلى -يقول الب لبنه :استذكر يا بني حتى ل ترسب ،لكن
البن يستمر في اللعب ثم يقول الب :يا بني لقد اقترب المتحان ول بد أن تذاكر .ول يأبه البن
لكلم الب ،ثم يأتي المتحان ويذهب الب يوم اعلن النتيجة ،فيكون البن راسبا؛ فيقول الب
لبنه :أهنئك لقد رسبت في المتحان! فقوله أهنئك تبسط نفس البن؛ لنه يتوقع سماع خبر سار،
ويسمع بعدها لقد رسبت تعطيه الشعور بالقبض.
والحق سبحانه وتعالى يبلغ رسوله } :بَشّرِ ا ْلمُنَافِقِينَ بِأَنّ َل ُهمْ عَذَابا َألِيما { " بشر " لها علقة
بالمدلول الشتقاقي؛ لن النفعالت يظهر أثرها على بشرة وجهه؛ فإن كان النفعال حزنا فالوجه
يظهر عليه الحزن بالنقباض ،وإن كان النفعال سرورا فالوجه يظهر عليه السرور بالنبساط.
وتعكس البشرة انفعالت النفس البشرية من سرور وبشاشة وإشراق أو عبوس وتجهم ،فالبشارة
تصلح للخبار بخبر يسر ،أو بخبر يحزن ويسيء ،ولكنها غلبت على الخبر السار ،وخصت
النذارة بالخبر الذي يحزن وتنقبض النفس له.
} َبشّرِ ا ْلمُنَا ِفقِينَ بِأَنّ َلهُمْ عَذَابا أَلِيما { .والبشارة -كما قلنا -توحي بأن هناك خبرا سارا ،فيأتي
الخبر غير سار .وكما يقول الحق في آية أخرى يصور بها عذاب الكافرين يوم القيامة وكيف أنّه
يصعد العذاب معهم {:وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ }[الكهف]29 :
ساعة نسمع } وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ { نفهم أن بردا يأتي لهم أو رحمة تهب عليهم ،ولكن
الغاثة التي تأتي لهم هي {:كَا ْل ُم ْهلِ }[الكهف]29 :
ويتساءل السامع أو القارئ :هل هذه إغاثة أو تعذيب؟ وهذا تصوير لتصعيد العذاب؛ فالماء الذي
يعطى لهم كالمهل يصعّد اللم في نفوسهم.
والعذاب -كما نعلم -يأخذ قوته من المعذّب ،فإن كان المعذّب ذا قوة محدودة ،كان العذاب
محدودا .وإن كان المعذّب غير محدود القوة فالعذاب غير محدود ،فإذا ما نسب العذاب إلى قوة
القوى وهو ال فكيف يكون؟ والعذاب يوصف مرة بأنه أليم ،ومرة بأنه مهين ،ومرة بأنه عظيم،
هذه الوصاف كلها تتجمع ولكل وصف منها جهة؛ فاللم هو إحساس النفس بما يتبعها ،والعذاب
العظيم هو العذاب الذي يبلغ القمة ،وقد يبلغ العذاب القمة ولكن المعذّب يتجلد ،وعذاب الحق يفوق
قدرة متلقي العذاب فل يقدر أن يكتم اللم؛ لن درجة تحمل أي إنسان مهما تجلد ل تستطيع أن
تدفع اللم ،ومع العذاب العظيم ،نجده أليما أيضا ،فيكون العذاب الليم العظيم مؤلما للمادة ،لكن
النفس قد تكون متجلدة متأبية ،ثم تنهار ،حينئذ يكون العذاب مهينا.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولن المنافقين والكفار غارقون في المادية آثر ال وصف العذاب بأنه أليم لن اليلم يكون
للمادة ،ثم يذكر الحق سبحانه وتعالى بعض الوصاف للمنافقين فيقول } :الّذِينَ يَتّخِذُونَ
ا ْلكَافِرِينَ{ ...
()625 /
جمِيعًا ()139
الّذِينَ يَتّخِذُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَيَبْ َتغُونَ عِ ْندَهُمُ ا ْلعِ ّزةَ فَإِنّ ا ْلعِ ّزةَ لِلّهِ َ
وأول مظهر من مظاهر النفاق أن يتخذ المنافقُ الكافرَ وليا له؛ يقرب منه ويوده ،ويستمد منه
النصرة والمعونة ،والمؤانسة؛ والمجالسة ،ويترك المؤمنين .وعرفنا أن كل فعل من الفعال
البشرية ل بد أن يحدث لغاية ُتطْلَب منه ،ول يتجرد الفعل عن الغاية إل في المجنون الذي يفعل
الفعال بدون أي غاية ،لكن العاقل يفعل الفعل لغاية ،ولهذف يرجوه .والمنافقون يتخذون الكافرين
أولياء من دون المؤمنين لي غاية ولي هدف؟
ويكشف الحق هذه المسألة فيوضح :أنهم يبتغون العزة من الكافرين ،ولذلك اتخذوهم أولياء من
دون المؤمنين .ويلفتهم -جل شأنه -إلى جهلهم؛ لنهم أخذوا طريقا يوصلهم إلى ما هو ضد
الغاية.
فماداموا يبتغون العزة فليعرفوا أولً :ما العزّة؟ .العزة مأخوذة من معنى مادي وهو الصلبة
والشدة .فالرض العَزَاز أي الصلبة التي ل ينال منها المعول ،ثم نقلت إلى كل شديد ،فكل شيء
شديد فيه عِزّة .والمراد بها هنا :الغلبة والنصر ،وكل هذه المعاني تتضمنها العزة.
فإذا قيل :ال عزيز ..أي أنه سبحانه وتعالى غالب على أمره شديد ل يمكن أن يقدر على مِحاله
أو مكره أو قوته أو عقابه أحد .وإذا قيل :فلن عزيز أي ل يُغلب ،وإذا قيل :هذا الشيء عزيز
أي نادر ،ومادام الشيء نادرًأ فهو نفيس ،والمعادن النفيسة كلها أخذت حظها من ندرتها وقلتها.
وما دمتم أيها المنافقون تطلبون العزة ،أل تطلبونها ممن عنده؟ .أتطلبونها من نظائركم؟ .وعندما
تطلبون العزة فذلك لنكم ل تملكون عزة ذاتية ،فلو كانت عندكم عزة ذاتية لما طلبتم العزة من
عند الكافرين .وهذا دليل على فقدانهم العزة لنهم طلبوها من مساوٍ لهم من الغيار ،فالمنافقون
بشر ،والكفار بشر ،وبما أن كل البشر أغيار ،فمن الممكن أن يكونوا أعزاء اليوم وأذلء غدا؛ لن
ى أو قوة أو جاه ،وكل هذه من الغيار.
أسباب العزة هي غن ً
فأنتم أيها المنافقون قد طلبتم العزة ممن لم يزد عليكم ،وهو من الغيار مثلكم ،ولم تطلبوها من
صاحب العزة الذاتية الزلية البدية وهو الحق سبحانه وتعالى ،ولو أردتم العزة الحقيقية التي
تغنيكم عن الطلب من الغيار مثلكم فلتذهبوا إلى مصدر العزة الذي ل تناله الغيار وهو الحق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه وتعالى.
لذلك أوضح لهم الحق :إن أردتم أن تتعلموا طلب العزة فعليكم أن تغيروا من أسلوبكم في طلبها،
فأنتم تتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتبتغون عندهم العزة وهم من أهل الغيار،
والغيار تتبدل من يوم إلى يوم ،فإن كان الكفار أغنياء اليوم ،فغدا لن يكونوا كذلك ،ولقد رأيتم
كبشر ان الغَنّي يفتقر ،ورأيتم قويا قد ضعف ،وطلب العزة من الغيار يعني أنكم غير أعزاء،
ومع ذلك فأنتم تطلبون العزة من غير موصعها.
فإن أردتم عزة حقيقية فاطلبوها ممن ل تتغير عزته وهو الحق سبحانه وتعالى } :فَإِنّ العِ ّزةَ للّهِ
جمِيعا {.
َ
وفي هذا القول تصويب لطلب العزة .وليطلب كل إنسان العزة إيمانا بال؛ فسبحانه الذي يهب
جمِيعا { .وكلمة " جميعا " هذه دلت على أن العزة لها
العزة ول تتغير عزته } :فَإِنّ العِ ّزةَ للّهِ َ
أفراد شتى :عزة غني ،عزة سلطان ،عزة جاه ،فإن أراد واحد أن يعرفها ويعلمها فهي -جميعا
-في الحق سبحانه وتعالى.
والمؤمنون في عبوديتهم ل عبيد لله واحد؛ وقد أغنانا ال بالعبودبة له عن أن نذل لناس
كثيرين .وسبحانه قد أنقذ المؤمن باليمان من أن يذل نفسه لي مصدر من مصادر القوة ،أنقذ
الضعيف من أن يذل نفسه لقوي ،وأنقذ الفقير من أن يذل نفسه لغني ،وأنقذ المريض من أن يذل
نفسه لصحيح.
جمِيعا { فمعناها :إن أردت أيها النسان عزا ينتظم ويفوق
إذن ساعة يَقول الحق } :فَإِنّ العِ ّزةَ للّهِ َ
كل عز فاذهب إلى ال؛ لنه سبحانه أعزنا فنحن خلقه ،وعلى سبيل المثال نجد أن الحق لم يجعل
الفقير يقترض ،بل قال {:مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ }[البقرة]245 :
وهنا يرفع ال عبده الفقير إلى أعلى درجات العزة .العبد الفقير ل يقترض ،ولكن القرض مطلوب
ل ،ولذلك قال أحدهم لحد الضعفاء :إنك تسأل الناس ،أل تعف ول تسأل؟ .فقال :أنا سألت الناس
بأمر ال ،فالسائل يسأل بال ،أي أن يتخذ ال شفيعا ويسأل به .وعندما يطلب النسان العزة من
مثيل له ،فهو يعتز بقوة هذا الكائن وهي قوة ممنوحة له من ال وقد يستردها -سبحانه -منه.
فما بالنا بالقوة اللنهائية ل ،وكل قوة في الدنيا موهوبة من ال ،المال موهوب منه ،والجاه
موهوب منه ،وكل عزة هي ل.
ويقول سبحانه من بعد ذلكَ } :وقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْيكُمْ فِي ا ْلكِتَابِ{ ...
()626 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س ِمعْتُمْ آَيَاتِ اللّهِ ُي ْكفَرُ ِبهَا وَيُسْ َتهْزَأُ ِبهَا فَلَا َت ْقعُدُوا َم َعهُمْ حَتّى
َوقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْيكُمْ فِي ا ْلكِتَابِ أَنْ إِذَا َ
جمِيعًا ()140
جهَنّمَ َ
ن وَا ْلكَافِرِينَ فِي َ
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ إِ ّنكُمْ إِذًا مِثُْلهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ ا ْلمُنَافِقِي َ
يأمر الحق المؤمنين أنهم إذا سمعوا بعضا من الكافرين يهزأ بآيات ال أو يكفر بها فل يقعدوا
معهم إل أن يتحولوا إلى حديث آخر ،وذلك حتى ل يكونوا مثل الكافرين لنه سبحانه سيجمع
المنافقين والكافرين في جهنم ،وبذلك يحمي ال وحدهُ أهل اليمان ،ويصونهم من أي تهجم عليهم،
فالذين يغارون على اليمان هم الذين آمنوا ،فمادمت قد آمنت وارتضيت لنفسك السلم فإياك أن
تهادن من يتهجم على الدين؛ لنك إن هادنته كان أعز في نفسك من اليمان ،ومادمت أيها المؤمن
قد ارتضيت اليمان طريقا لك وعقيدة فلتحم هذا اليمان من أن يَ َت َهجّم عليه أحد ،فإن اجترأ أحد
على اليمان بشيء من النقد أو السخرية أو الرمي بالباطل ..فالغيرة اليمانية للمسلم تحتم عليه أن
يرفض هذا المجلس.
وكان المؤمنون في البداية قلة مستضعفة ل تستطيع الوقوف في وجه الكافرين أو المنافقين،
فساعةً يترك المؤمنون الكافرين أو المنافقين لحظة اللغو في آيات ال ،فالكافرون والمنافقون
يعلمون بذلك السلوك أن عِرض اليمان أعز على المسلمين من مجالسة هؤلء .أما إذا جالسهم
مسلم وهم يخوضون في اليمان ..فهذا يعني أنهم أعز من اليمان ،والكافرون قد يجعلونها حديثا
مستمرا لسبر غور اليمان في قلوب المسلمين .أما حين يرى الكافر مؤمنا يهب وينفر من أي
حديث فيه سخرية من السلم ،هنا يعرف الكافر أن إيمان المسلم عزيز عليه.
وهذه الية ليست آية ابتدائية إنما هي إشارة إلى حكم سبق ،ونعرف أنها نزلت في المدينة؛ فالحق
س ِمعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ ُي ْكفَرُ ِبهَا } ومعنى هذا أن هناك آية قد
يقولَ { :وقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي ا ْلكِتَابِ أَنْ إِذَا َ
نزلت من قبل في مكة؛ ويقول فيها الحق {:وَِإذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْن ُهمْ
حدِيثٍ غَيْ ِرهِ وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ الشّ ْيطَانُ فَلَ َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَىا مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }
حَتّىا َيخُوضُواْ فِي َ
[النعام]68 :
ويشير الحق هنا إلى أنه قد أنزل حكما في البداية ،وهو الحكم الذي نزل مع الكافرين في مكة؛
حيث استضعف الكافرون المؤمنين ،ولم يكن المنهج اليماني قد جاء بمنع المؤمنين أن يجالسوا
الكافرين ،فقد كان بعض المؤمنين عبيدا للكافرين ،وبعض المسلمين الوائل كان لهم مصالح
مشتركة قائمة مع الكافرين وجاء الحكم :إن ولغ هؤلء الكافرون في الدين بالباطل فاتركوا لهم
المكان.
وسبحانه هنا في سورة النساء يذكر المؤمنين بأن حكم ترك الكافرين لحظة اللغو في اليمان هو
حكم ممتد منقول للمؤمنين من البيئة الولى حيث كنتم أيها المؤمنون مع المشركين عبدة الصنام،
والحكم مستمر أيضا في المدينة حيث يوجد بعض أهل الكتاب .والتكليف من ال ،هو تكليف بما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يطيقه الجنس البشري؛ فالنسان عرضة لن ينسى ،وعليه بمجرد ان يتذكر فليقم تاركا هؤلء
الذين يخوضون في آيات ال.
وقد نزل في القرآن أن إذا سمع المؤمنون من يكفر بآيات ل ويستهزئ بها فليغادروا المكان،
ونلحظ أن الذي نزل في الية الولى ليس سماعا بل رؤية {:وَِإذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا
فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ }[النعام]68 :
س ِمعْتُمْ
ويأتي السماع في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنهاَ } :وقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْيكُمْ فِي ا ْلكِتَابِ أَنْ ِإذَا َ
آيَاتِ اللّهِ ُي ْكفَرُ ِبهَا { والمهم هو مجرد العلم سواء كان رؤية أو سماعا بأنهم يخوضون في دين
ال؛ فقد يخوض أهل الشرك أو غيرهم من أعداء السلم بما يُرى ،وقد يخوضون بما يسمع ،وقد
يخوض بعض المشركين بالغمز أو اللمز من فور رؤيتهم لمسلم.
وقوله الحق } :فَلَ َت ْقعُدُواْ َم َعهُمْ حَتّىا يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ { يوحي أنهم إذا ما خاضوا في
حديث غير الخوض في آيات ال فليقعد المؤمنون معهم .وكان ذلك في صدر السلم ،والمؤمنون
لهم مصالح مشتركة مع المشركين وأهل الكتاب ،ول يستطيع المجتمع السلمي آنئذ أن يتميز
بوحدته ،فلو قال لهم الحق على لسان رسوله :ل تقعدوا مع الكافرين أو المشركين فورا .لكان في
ذلك قطع لمصالح المؤمنين.
وكلمة " يخوضون " تعطي معنى واضحا مجسما؛ لن الصل في الخوض أن تدخل في مائع..
أي سائل ،مثل الخوض في المياه أو الطين ،والقصد في الدخول في سائل أو مائع هو إيجاد منفذ
إلى غاية.
وساعة تخوض في مائع فالمائع ل ينفصل حتى يصير جزءا هنا وجزءا هناك ويفسح لك طريقا،
بل مجرد أن يمشي النسان ويترك المائع يختلط المائع مرة أخرى ،ولذلك يستحيل أن تصنع في
المائع طريقا لك .أما إذا دخل النسان في طريق رمليّ فهو يزيح الرمال أولً ويفسح لنفسه
سدّ الطريق إل بفعل فاعل ،وأخذوا من هذا المعنى وصفَ المر
طريقا .ول تعود الرمال إلى َ
الباطل بأنه خوض؛ ذلك أن الباطل ل هدف له وهو مختلط ومرتبك ،والجدال في الباطل ل ينتهي
إلى نتيجة.
إذن " الخوض " هو الدخول في باطل ،أو الدخول إلى ما ل ينتهي الكلم فيه إلى غاية .ويقرر
العلماء :ل تخوضوا في مسألة الصفات العلية؛ لنه ل يصح الخوض فيها ،والكلم فيها لن ينتهي
حقّ قَدْ ِرهِ إِذْ قَالُواْ مَآ
إلى غاية .ولذلك يقول الحق في موقع آخر بالقرآن الكريمَ {:ومَا قَدَرُواْ اللّهَ َ
شيْءٍ ُقلْ مَنْ أَن َزلَ ا ْلكِتَابَ الّذِي جَآءَ ِبهِ مُوسَىا نُورا وَهُدًى لّلنّاسِ
أَن َزلَ اللّهُ عَلَىا َبشَرٍ مّن َ
خفُونَ كَثِيرا وَعُّلمْتُمْ مّا لَمْ َتعَْلمُواْ أَن ُت ْم َولَ آبَا ُؤكُمْ ُقلِ اللّهُ ُثمّ ذَ ْرهُمْ فِي
جعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُ ْبدُو َنهَا وَتُ ْ
تَ ْ
ضهِمْ يَ ْلعَبُونَ }[النعام]91 :
خ ْو ِ
َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد أبلغتهم يا محمد أن الذي أنزل الكتاب عليك هو الحق سبحانه وتعالى الذي أنزل من قبلُ
التوراةَ فأخفيتم بعضها وأظهرتم البعض الخر ،ثم بعد البلغ اتركهم يخوضون في باطلهم.
وفي موقع آخر يتكلم الحق من الخوضَ {:يحْذَرُ ا ْلمُنَافِقُونَ أَن تُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ سُو َرةٌ تُنَبّ ُئ ُهمْ ِبمَا فِي
ض وَنَ ْل َعبُ ُقلْ
قُلُو ِبهِم ُقلِ اسْ َتهْزِءُواْ إِنّ اللّهَ مُخْرِجٌ مّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ لَ َيقُولُنّ إِ ّنمَا كُنّا نَخُو ُ
أَبِاللّ ِه وَآيَاتِ ِه وَرَسُولِهِ كُن ُتمْ تَسْ َتهْزِءُونَ }[التوبة]65-64 :
إذن الخوض هو الدخول في مائع ،ومادمت قد دخلت في مائع فلن تجد فيه طريقا محددا بل
يختلط المدخول عليه فل تتميز الشياء ،وأخذ منه الخوض بالباطل أو الخوض باللعب الذي ليس
فيه غاية.
س ِمعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ ُي ْكفَرُ ِبهَا وَيُسْ َتهْزَأُ ِبهَا فَلَ َت ْقعُدُواْ َم َعهُمْ حَتّىا
} َوقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي ا ْلكِتَابِ أَنْ إِذَا َ
يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ {.
وتأتي الكلمة التي ترهب المؤمن وترعبه } :إِ ّنكُمْ إِذا مّثُْلهُمْ { أي إنكم إذا قعدتم معهم وهو
يخوضون في آيات ال تكفرون مثلهم؛ لنكم تسمعون الخوض في الدين بالباطل ،ومن يرض
بالكفر يكفر.
لقد أغطتنا الية مرحلية أولية ،فإذا ما كانت البيئة اليمانية مجتمعا ذاتيا متكافلً فليس لحد من
المؤمنين أن يجالس الكافرين ،ول نواليهم إل إذا والونا؛ لن الجلوس معهم في أثناء الخوض في
الدين يجرئهم على مناهج ال ،وعلى المؤمن أن ينهر أي ساخر من الدين .وعلى المؤمنين أن
يعرضوا عمّن ينحرف عن منهج ال أو يتعرض له .ولكن المجتمعات المعاصرة تكرم من
يخوض بالباطل؛ وفي ذلك إغراء للناس على أن يخوضوا في الدين بالباطل.
وقوله الحق } :فَلَ َت ْقعُدُواْ َم َعهُمْ { هو إيذان بالمقاطعة؛ فلو أن إنسانا بهذا الشكل يسكن في منزل،
ويذهب إلى البقال ليشتري منه شيئا ليأكله فيرفض البيع له ،وكذلك الجزار ،وكذلك أي إنسان في
يده مصلحة لمثل هذا الخارج عن المنهج ،وبذلك تكون المقاطعة حتى يتأدب ،ويعلم كل إنسان أن
المجتمع غيور على دينه الذي آمن به ،وأن ال أعز عليهم من كل تكريم يرونه في مجتمعهم ،ولو
أن كل واحد من هؤلء المنحرفين والموغلين في الباطل لو رأوا المجتمع وقد قاطعهم ووضع لهم
حدودا لذهبوا إلى الصواب ولبحثوا عن شيء آخر ومجال آخر يأكلون العيش منه ويطعمون
أولدهم اللقمة الحلل من هذا العمل المشروع.
جمِيعا { ول تستبطئوا هذه الحياة؛ لن
جهَنّمَ َ
ويقول الحق } :إِنّ اللّهَ جَامِعُ ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلكَافِرِينَ فِي َ
المسلم ل يأخذ المور بعمر الدنيا كقرن أو اثنين أو حتى عشرة قرون ،بل عليه أن يعرف أن
الدنيا بالنسبة له هي عمره فيها ،والعمر يمكن أن ينتهي فجأة ،ويعمل المسلم ل من أجل الدنيا
فقط ،ولكن من أجل أن يلقى ال مسلما في الخرة ،والمؤمن يخشى أن يحشره ال مع المنافقين
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والكافرين في جهنم ،وهذا مصير من يقبل السخرية أو الستهزاء بدينه.
وبعد ذلك يقول الحق } :الّذِينَ يَتَرَ ّبصُونَ ِب ُكمْ{ ...
()627 /
الّذِينَ يَتَرَ ّبصُونَ ِبكُمْ فَإِنْ كَانَ َلكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ قَالُوا أَلَمْ َنكُنْ َم َعكُمْ وَإِنْ كَانَ لِ ْلكَافِرِينَ َنصِيبٌ قَالُوا
ج َعلَ اللّهُ لِ ْلكَافِرِينَ عَلَى
حكُمُ بَيْ َنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ وَلَنْ يَ ْ
حوِذْ عَلَ ْيكُ ْم وَ َنمْ َن ْعكُمْ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فَاللّهُ َي ْ
أَلَمْ َنسْتَ ْ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ سَبِيلًا ()141
وقوله الحق { :الّذِينَ يَتَرَ ّبصُونَ ِبكُمْ } وصف للمنافقين ،ويتربص فلن بفلن .اي أن واحدا يتحفز
ليتحسس أخبار آخر ،ويرتب حاجته منه على قدر ما يرى من أخبار ،وعرفنا هذا المعنى من قوله
حسْنَيَيْنِ }[التوبة]52 :
حدَى الْ ُ
الحقُ {:قلْ َهلْ تَرَ ّبصُونَ بِنَآ ِإلّ إِ ْ
ويتربص المنافقون بالمؤمنين لنهم إن وجدوا خيرا قد أتى لهم فهم يريدون الستفادة منه ،وإن
جاء شر فالمنافقون يتجهون للستفادة من الخصوم ،فظاهرا هم يعلنون اليمان وهم في باطنهم
كفار .وهم يتربصون بالمؤمنين انتظارا لما يحدث وليرتبوا أمورهم على ما يجيء.
{ الّذِينَ يَتَرَ ّبصُونَ ِبكُمْ فَإِن كَانَ َلكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُواْ َألَمْ َنكُنْ ّم َعكُمْ } فإن فتح ال بنصره على
المؤمنين في معركة وأخذوا مغانم قال المنافقونَ { :ألَمْ َنكُنْ ّم َعكُمْ } ،فلبد لنا من سهم في هذه
الغنيمة .وإذا انتصر الكفار يذهبون إلى الكافرين مصداقا لقول الحق { :وَإِن كَانَ لِ ْلكَافِرِينَ َنصِيبٌ
علَ ْيكُ ْم وَ َنمْ َن ْعكُمْ مّنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }.
حوِذْ َ
قَالُواْ أَلَمْ َنسْتَ ْ
هم يحاولون إذن الستفادة من الكفار بقولهم :لقد تربصنا بالمؤمنين وانتظرنا ما يحدث لهم ،ول بد
حوِذْ عَلَ ْيكُ ْم وَ َنمْ َن ْعكُمْ مّنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }
لنا من نصيب ,ويقول الحق على ألسنتهم { :قَالُواْ أََلمْ نَسْ َت ْ
حوَذَ
واستحوذ على الشيء أي حازه وجعله في حيزه وملكه وسلطانه .والحق هو القائل {:اسْتَ ْ
عَلَ ْيهِمُ الشّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ِذكْرَ اللّهِ }[المجادلة]19 :
حوِذْ عَلَ ْيكُمْ } يكشف موقفهم
أي جعلهم الشيطان في حيزه ،وقول المنافقين للكافرين { :أََلمْ نَسْ َت ْ
عندما تقوم معركة بين معسكري الكفر واليمان فيحاول المنافقون معرفة تفاصيل ما ينويه
المؤمنون ،ولحظة أن يدخل المنافقون أرض المعركة فهم يمثلون دور من يأسر الكافرين حماية
لهم من سيوف المؤمنين .ثم يقولون للكافرين :نحن استحوذنا عليكم أي منعناكم أن يقتلكم
المؤمنون ،ويطلبون منهم الثمن.
ولنر الداء البياني للقرآن حين يقول عن انتصار المؤمنين { :فَإِن كَانَ َلكُمْ فَتْحٌ } أما تعبير القرآن
عن انتصار الكافرين فيأتي بكلمة " نصيب " أي مجرد شيء من الغلبة المؤقتة .ثم يأتي القول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َعلَ اللّهُ لِ ْلكَافِرِينَ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ سَبِيلً }.
حكُمُ بَيْ َن ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَلَن يَ ْ
الفصل من الحق { :فَاللّهُ َي ْ
وحين يرد ال أمر الكافرين والمؤمنين ل يرده دائما إلى أمد قد ل يطول أجل السامع وعمره ليراه
في الدنيا ،فيأتي له بالمسألة المقطوع بها؛ لذلك ل يقول للمؤمن :إنك سوف تنتصر .فالمؤمن قد
يموت قبل أن يرى النتصار .ولذلك يأتي بالمر المقطوع وهو يوم القيامة حين تكون الجنة
مصيرا مؤكدا لكل مؤمن؛ لن الحياة أتفه من أن تكون ثمنا لليمان.
ويعلمنا الرسول صلى ال عليه وسلم أل نطلب الثمن في الدنيا؛ لن الغايات تأتي لها الغيار في
هذه الدنيا ،فنعيم الحياة إما أن يفوت النسان وإما أن يفوته النسان .وثمن اليمان باقٍ ببقاء من
آمنت به.
إن القاعدة اليمانية تقول :من يعمل صالحا يدخل الجنة ،والحق يقول عن هؤلء الصالحينَ {:ففِي
حمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[آل عمران]107 :
رَ ْ
أي أن الجنة باقية بإبقاء ال لها ،وهو قادر على إفنائها ،أما رحمة ال فل فناء لها لنها صفة من
حكُمُ بَيْ َن ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ { أي لن
صفاته وهو الدائم أبدا .وحين يقول الحق سبحانه وتعالى } :فَاللّهُ يَ ْ
يوجد نقض لهذا الحكم؛ لنه ل إله إل هو وتكون المسألة منتهية .وقد حكم الحق سبحانه وتعالى
على قوم من أقارب محمد صلى ال عليه وسلم ،لقد حكم ال على عم الرسول ،فقال فيه {:تَ ّبتْ
حمّالَةَ
سبَ * سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ َل َهبٍ * وَامْرَأَتُهُ َ
يَدَآ أَبِي َل َهبٍ وَ َتبّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُ ُه َومَا كَ َ
سدٍ }[المسد]5-1 :
طبِ * فِي جِي ِدهَا حَ ْبلٌ مّن مّ َ
حَالْ َ
قول الحق سبحانه } :سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ َل َهبٍ { يدل على أن أبا لهب سيموت على الكفر ولن
يهديه ال لليمان ،مع أن كثيرا من الذين وقفوا من رسول ال مواقف العداء آمنوا برسول ال
صلى ال عليه وسلم ،ويشهد معسكر الكفر فقدان عددٍ من صناديده ،ذهبوا إلى معسكر اليمان،
فها هوذا عمر بن الخطاب ،وخالد بن الوليد ،وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم كل هؤلء آمنوا .فما
الذي كان يدري محمدا صلى ال عليه وسلم أن أبا لهب لن يكون من هؤلء؟ ولماذا لم يقل أبو
لهب :قال ابن أخي :إنني سأصلى نارا ذات لهب ،وأنا أشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول
ال وقلت كلمة اليمان .لكنه لم يقل ذلك وعلم ال الذي حكم عليه أنه لن يقول كلمة اليمان.
ألم يكن باستطاعة أبي لهب وزوجه أن يقول في جمع :نشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول
ال ،ويتم انتهاء المسألة؟ ولكن ال الذي ل معقب لحكمه قد قضى بكفرهم ،وبعد أن ينزل الحق
هذا القول الفصل في أبي لهب وزوجه يأتي قول الحق في ترتيبه المصحفي ليقول ما يوضح:
إياكم أن تفهموا أن هذه القضية تنقض ،فسيصلى أبو لهب نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب،
صمَدُ }[الخلص]2-1 :
وقال الحق بعدها مباشرةُ {:قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ * اللّهُ ال ّ
فل أحد سيغير حكم ال..
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكُمُ بَيْ َن ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ { أي ل معقب لحكم ال ،فل إله غيره يعقب عليه.
إذن فقوله الحق } :فَاللّهُ َي ْ
ج َعلَ اللّهُ لِ ْلكَافِرِينَ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ سَبِيلً { وهذه نتيجة لحكم ال ،فل يمكن أن يحكم ال
} وَلَن َي ْ
للكافرين على المؤمنين .ولن يكون للكافرين حجة أو قوة أو طريق على المؤمنين .وهل هذه
القضية تتحقق في الدنيا أو في الخرة؟ ونعلم أن الحق يحكم في الخرة التي تعطلت فيها
السباب ،ولكنه جعل السباب في الدنيا ،فمن أخذ بالسباب فنتائج السباب تعطيه؛ لن مناط
الربوبية يعطي المؤمن والكافر ،فإن أخذ الكافرون بالسباب ولم يأخذ المؤمنون بها ،فال يجعل
لهم على المؤمنين سبيلً ،وقد ينهزم المؤمنون أمام الكافرين.
والحكمة العربية تعلمنا :إياك أن تعتبر أنّ الخطأ ليس من جند الصواب .لن النسان عندما
صحّحُ له الخطأ ،فعندما يعلم المدرس تلميذه أن الفاعل مرفوع ،وأخطأ التلميذ مرة ونصب
يخطئ ُي َ
الفاعل؛ فهذا يعني أنه أخذ القاعدة أولً ثم سها عنها ،والمدرس يصحح له الخطأ ،فتلتصق القاعدة
في رأس التلميذ بأن الفاعل مرفوع .وهكذا يكون الخطأ من جنود الصواب .والباطل أيضا من
جنود الحق.
فعندما يستشرى الباطل في الناس يبرز بينهم هاتف الحق .وهكذا نرى الباطل نفسه من جند
الحق ،فالباطل هو الذي يظهر اللذعة من استشراء الفساد ،ويجعل البشر تصرخ ،وكذلك اللم
الذي يصيب النسان هو من جنود الشفاء؛ لن اللم يقول للنسان :يا هذا هناك شيء غير طبيعي
في هذا المكان .ولول اللم لما ذهب النسان إلى الطبيب.
علينا -إذن -أن نعرف ذلك كقاعدة :الخطأ من حنود الصواب ،والباطل من جنود الحق ،واللم
من جنود الشفاء ،وكل خطأ يقود إلى صواب ،ولكن بلذعة ،وذلك حتى ل ينساه النسان .وتاريخ
اللغة العربية يحكي عن العلمة سيبويه ،وهو من نذكره عندما يلحن أحد بخطأ في اللغة؛ فنقول" :
أغضب المخطئ سيبويه "؛ لن سيبويه هو الذي وضع النحو والقواعد حتى إننا إذا أطلقنا كلمة
الكتاب في عرف اللغة فالمعنى ينصرف إلى كتاب سيبويه؛ فهو مؤلف الكتاب.
وسيبوبه لم يكن أصلً عالم نحو ،بل كان عالم قراءات للقرآن ،حدث له أن كان جالسا وعيبت
عليه لحنة في مجلس ،أي أنه أخطأ في النحو وعاب عليه من حوله ذلك ،فغضب من نفسه
وحزن ،وقال :وال لجيدن العربية حتى ل ألحن فيها .وأصبح مؤلفا في النحو.
ومثال آخر :المام الشاطبي -رضي ال عنه -لم يكن عالم قراءات بل كان عالما في النحو،
وبعد ذلك جاءت له مشكلة في القراءات فلم يتعرف عليها ،فأقسم أن يجلس للقراءات ويدرسها
جيدا .وصار من بعد ذلك شيخا للقراء .فلحنة -أي غلطة -هي التي صنعت من سيبويه عالما
في النحو ،ومشكلة وعدم اهتداء في القراءات جعل من المام الشاطبي شيخا للقراء؛ على الرغم
من أن سيبويه كان عالم قراءات ،والشاطبي كان رجل نحو.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك أكررها حتى نفهمها جيدا :الخطأ من جنود الصواب ،والباطل من جنود الحق ،واللم من
جنود الشفاء والعافية.
وقد نجد الكافرين قد انتصروا في ظاهر المر على المؤمنين في بعض المواقع مثل أُحد ،وكان
ذلك للتربية؛ ففي " أحد " خالف بعض المقاتلين من المؤمنين رسول ال صلى ال عليه وسلم
وكانت الهزيمة مقدمة للتصويب ،وكذلك كانت موقعة حنين حينما أعجبتهم الكثرة:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بأمره ل نعطي لسلوكه السيئ بالً .وساعة نرى لن للكافرين سبيلً على المؤمنين فلنعلم أن
قضية من قضايا اليمان قد اختلت في نفوسهم ،ول يريد ال أن يظلوا هكذا بل يصفيهم الحق من
هذه الخطاء بأن تعضهم الحداث .فينتبهوا إلى أنهم ل يأخذون بأسباب ال.
ويقول الحق بعد ذلك } :إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ{ ...
()628 /
عهُ ْم وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النّاسَ وَلَا
إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ يُخَادِعُونَ اللّ َه وَ ُهوَ خَادِ ُ
يَ ْذكُرُونَ اللّهَ إِلّا قَلِيلًا ()142
نعرف واقع المنافقين أنهم يظهرون اليمان ويبطنون الكفر؛ ويوضح الحق :إياكم أن تظنوا أن في
قدرة مخلوق أن يفعل شيئا بدون علم ال ،وقد يمكر إنسان بك ،وهو يعلم أنك تعلم بمكره ،فهل
هذا مكر؟ ل؛ لن المكر هو المر الذي يتم خفية بتدبير ل تعلمه ،والصول في المكر أل يعلم
الممكور به شيئا .والمنافقون حين يظهرون اليمان ويبطنون الكفر يخادعون من يعلم خافية
الصدور .وكان يجب أن يأخذوا درسا من معاملة ال بوساطة المؤمنين لهم ،فقد صان المؤمنون
دم المنافقين ومالهم .وأجرى المسلمون على المنافقين أحكام السلم ،لكن ما الذي يبيته ال لهؤلء
المنافقين؟ لقد بيت لهم الدرك السفل من النار .فمن القدر -إذن -على الخداع؟
إن الذكي حقا هو من ل يخدع من يعلم أنه قادر على كشف الخداع .وكلمة " خدع " تعني مكر به
ل وفعلً ويخفى سواهما حتى يثق فيه .وبعد ذلك ينفذ المكر .وهناك كلمة " خدع
مكرا فيبدي له قو ً
" وكلمة " خادع " .والحق في هذه الية لم يقل إن ال يخدعهم ،بل قالُ { :يخَادِعُونَ اللّ َه وَ ُهوَ
عهُمْ }.
خَادِ ُ
و " خادع " تعني حدوث عمليتين ،مثل قولنا :قاتل فلن فلنا .فالقتال يحدث بين طرفين ,وكذلك
نقول :شارك فلن فلنا؛ لن مادة " فاعل " تحتاج إلى طرفين .لكن عندما نقول " قتل " ،فالفعل
يحدث من جانب واحد .والخداع يبدأ من واحد ،وعندما يرى الشخص الذي يُراد خداعه أن
خصمه أقوى منه فإنه يبيت له خداعا آخر ،وتسمى العملية كلها " مخادعة " ،ويقال :خادعه
فخدعه إذا غلبه وكان أخدع منه .ومن إذن الذي غلب؟ إن الذي بيّت الخداع ردا على خداع
خصمه هو الغالب.
ولن الخداع يحدث أولً ،وبعد ذلك يتلقى " المخدوع " المر بتبييت أكبر؛ فهو " خادع " ،والذي
يغلب نقول عنه " :أخدعه " أي أزال خداعه .وال سبحانه وتعالى عاملهم بمثل ما أرادوا أن
ل وأضمروا الكفر ،وأعطاهم ال في ظاهر
يعاملوا به المؤمنين ،فالمنافقون أظهروا اليمان أو ً
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المر أحكام المسلمين ،وفي الباطن قرر أن يعذبهم عذاب الكافرين بل وأشد من ذلك؛ لنهم
سيكونون في الدرك السفل من النار.
ع ُهمْ } وإياك أيها المسلم أن تشتق من هذه العملية اسما ل
{ إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ ُيخَادِعُونَ اللّهَ وَ ُهوَ خَادِ ُ
وتقول " المخادع "؛ لن أسماء ال توقيفية أي ل نسمي ال إل بالسماء التي سمّى بها نفسه.
وسبحانه يفعل الفعل ،لكن ل تأخذ من هذا الفعل اسما ،والحق يعطينا هنا " مشاكلة " ليوضح لنا
أن المنافقين يمكرون ويبيتون شرا للمؤمنين ،وأنت أيها المسلم تعرف أن النسان إنما يبيت الشر
على قدر طاقته التي مهما كبرت فهي محدودة بجانب طلقة قدرة ال.
ولذلك يفضح ال هذا الشر المبيت من هؤلء المنافقين ،وهم حين يمكرون فال بطلقة قدرته يمكر
بهم أي يبطل مكرهم ويجازيهم على سوء فعلتهم ،ول نقول " :ال ماكر " .ول أن يقول في الفعل
المشاكل ما يشاء.
لةِ قَامُواْ كُسَالَىا {.
ع ُه ْم وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصّ َ
} إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ ُيخَادِعُونَ اللّهَ وَ ُهوَ خَادِ ُ
إن الغايات من الحداث هي التي تضفي على الجوارح القبال على الحداث ،فإذا كنت تحب
الحدث الذي تقبل عليه فأنت تقبل عليه بكل اشتياق ولهفة .ويقيسون لهفة اللقاء لنها تحدد درجة
المحبة .والشاعر العربي يصف لقاء حبيب بحبيبته:لقاء الثنين يبين حَ ّدهْ تلهف كَ ْيفٍ واستطالة
مًدّهْفلحظة اللقاء تبين ما بين الحبيبين من مودة ،فإن كانت المسألة بينهما عشر خطوات فهما
يسرعان باللهفة فيقطعان العشر خطوات في ثلث خطوات ،وهذا معناه تقصير زمن البتعاد،
وكذلك تظهر الكيفية التي يتم بها السلم درجة المودة ،فقد يسلم أحدهما على الخر ببرود أو
بنصف ود ،أو بود كبير ،أو بود مصحوب بلهفة وأخذ متبادل بالحضان؛ وكذلك المدة التي
يحتضن كلهما الخر ،هل هي دقيقة أو دقيقتان أو ثلث؟
إذن فالذي يبين قيمة الود :التلهف ،الكيفية ،المدة .وهذه العناصر الثلثة أخذها الشعراء للتعبير
عن المودة والحب بين البشر ،وقديما كان الذين يُتَيّمون بالنساء يسترون في السلم مودتهم .وفي
الحصارة الغربية التي سقطت فيها قيم الديان نجد أن الرجل يتلقى المرأة بالقبلت.
وفي بعض البلد نجد الرجل يصافح المرأة ،فهل يصافحها بتلهف ،وهل تبادله هذه اللهفة؟ فإن
وجدت الكف مفردة ومبسوطة للمصافحة فقط فهذا سلم عادي .أما إذا ثنى أحدهما إصبعه
البنصر على كف الخر فعليم أن ترى أي طرف هو الذي قام بثني أصبعه ليحتضن اليد كلها في
يده ،فإن كان ذلك من الرجل فاللهفة منه ،وإن كان من المرأة فاللهفة منها ،وإن كان من الثنين
فاللهفة منهما معا ،ثم ما المدة التي يستغرقها بقاء اليد في اليد؟
وقد يحلو لكليهما معا -رجل وامرأة -وكأن الكلم قد أخذهما فنسي كل منهما يده في يد
ح ّدهْ تلهف كيف واستطالة مُدّهْهكذا يقابل النسان الحداث ،فإن كان
الخر.سلم نوعين يبين َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحدث سارا فالنسان يقبل عليه بلهفة .وإن كان غير ذلك فالنسان يقوم إليه متثاقلً .وكان
لةِ قَامُواْ كُسَالَىا { كأنهم
المنافقون يقومون إلى الصلة بتثاقل وتكاسل } :وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصّ َ
يؤدون الصلة كستار يخفون به نفاقهم ،ويستترون بها عن أعين المسلمين .ولم يكن قيامهم
للصلة شوقا إلى لقاء ال مثلما كان يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم لبلل -رضي ال عنه
-طالبا منه أن يؤذن للصلة:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلى ال عليه وسلم ينقل لنا حال المرائي للناس فيقول " :إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك
الصغر ،قالوا وما الشرك الصغر يا رسول ال؟ قال :الرياء ،يقول ال -عز وجل -يوم
القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون
عندهم الجزاء؟ ".
وقال صلى ال عليه وسلم " :إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة " يا فاجر " " يا غادر " " يا
مرائي " ضل عملك وحبط أجرك فخذ أجرك ممن كنت تعمل له ".
إذن فالمنافق إنما يخدع نفسه ،هو يتظاهر بالصلة ليراه الناس .ويزكي ليراه الناس ،ويحج ليراه
عمَاُلهُمْ
الناس ،هو يعمل ما أمر ال به ،لكنه ل يعلمه ال ،ولذلك قال القرآن {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
جدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ
ج ْدهُ شَيْئا َووَ َ
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ َلمْ يَ ِ
كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَحْسَ ُبهُ ال ّ
سَرِيعُ الْحِسَابِ }[النور]39 :
س َولَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفمَثَلُهُ
وقال عن لون ثان من نفاقهم {:كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النّا ِ
شيْءٍ ّممّا كَسَبُو ْا وَاللّ ُه لَ
ص ْفوَانٍ عَلَ ْيهِ تُرَابٌ فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َركَ ُه صَلْدا لّ َيقْدِرُونَ عَلَىا َ
َكمَ َثلِ َ
َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة]264 :
والصفوان هو الحجر الملس تماما وهو الذي ليس فيه خشونة ،لن الحجر إن كان به جزء من
خشونة وعليه تراب ثم سقط عليه المطر ،فالتراب يتخلل الخشونة .أما الحجر الملس فمن فور
نزول المطر ينزلق من عليه التراب .ومن يرائي المؤمنين عليه أن يأخذ أجره ممن عمل له.
ويستكمل الحق وصف الحالة النفسية للمنافقين فيقول } :مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذاِلكَ{ ...
()629 /
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَِلكَ لَا إِلَى َهؤُلَا ِء وَلَا إِلَى َهؤُلَا ِء َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ فَلَنْ َتجِدَ لَهُ سَبِيلًا ()143
والشيء المذبذب مثل المعلق في خيط فيأخذه الريح إلى ناحية ليقذفه في ناحية أخرى لنه غير
ثابت ،مأخوذ من " المذبة " ومنه جاءت تسمية " الذباب :الذي يذبه النسان فيعود مرة أخرى،
فمن سلوك الذباب أنه إذا ُذبّ عن مكان ل بد أن يعود إليه.
ك لَ إِلَىا هَـاؤُلءِ وَلَ إِلَى هَـاؤُلءِ } فهل هم الذين ذبذبوا أنفسهم أم تلك هي
{ مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذاِل َ
طبيعتهم؟ ولنتأمل عظمة الحق الذي سوى النفس البشرية؛ ففي الذات الواحدة آمر ومأمور ،والحق
سكُ ْم وَأَهْلِي ُكمْ نَارا }[التحريم]6 :
يقول {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي أن النسان يقي نفسه بأن يجعل المر يوجه المر للمأمور ،ويجعل المأمور يطيع المر،
طوّعَتْ َلهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ أَخِيهِ }[المائدة]30 :
ودليل ذلك قول الحق عن قابيلَ {:ف َ
أي أن جزءًا من الذات هو الذي طوّع بقية ذات قابيل لتقتل هابيل .فقد خلق ال النفس البشرية
كملكات متعددة ،ملكة تحب الريحية وأخرى تحب الشح ،والملكة التي تحب الريحية إنما تطلب
ثناء الناس ،والتي تحب الشح إنما تفعل ذلك ليطمئن صاحبها أنه يملك ما يغنيه .وكلتا الملكتين
سكُمْ } فالنفس تقي النفس؛ لن الملكات فيها
تتصارع في النفس الواحدة؛ لذلك يقول الحق { :قُواْ أَنفُ َ
متعددة .وبعض الملكات تحب تحقيق المتعة والشهوة ،لكن هناك ملكة إيمانية تقول :تذكر أن هذه
الشهوات عاجلة ولكنها عظيمة المتاعب فيما بعد.
عتْ لَهُ
طوّ َ
إذن فهناك صراع داخل ملكات النسان ،ويوضح لنا الحق هذا الصراع في قوله { :فَ َ
َنفْسُهُ قَ ْتلَ أَخِيهِ }.
لن قابيل أراد أن يقتل هابيل بغريزة الستعلء ،ونازعته نفسه بالخوف من الثم .لقد دارت
المراودة في نفس قابيل إلى أن سيطرت غريزة الستعلء فأمرت بالقتل وطوعت بقية النفس.
وهذا يكشف لنا أن النفس البشرية فيها ملكات متعددة ،كل ملكة لها مطلوب .والدين هو الذي يقيم
التعايش السلمي بين الملكات.
مثال آخر :الغريزة الجنسية تقيم السعار في النفس ،فيقوم الوعي اليماني بردع ذلك بأن تقول
النفس اليمانية :إياك أن تلغ في أعراض الناس حتى ل تلغ الناس في أعراضك ،ولماذا ل تذهب
وتتزوج كما شرع ال ،ول ترم أبنائك في فراش غيرك؛ لن الغريزة مخلوقة ل فل تجعل سلطان
الغريزة يأمر وينهى.
وهكذا نرى أن النفس تضم وتشمل الملكات والغرائز ،ول يصح أن يعدي النسان غريزة إلى أمر
آخر؛ لنه إن عدى الشهوات فسدت الدنيا.
وعلى سبيل المثال نحن نستخدم الكهرباء التي تعطي لنا النور في حدود ما يرسم لنا مهندس
الكهرباء ،الذي وضع القطب الموجب في مجاله وكذلك القطب السالب ،بحيث نأخذ الضوء الذي
نريده أو تعطينا شرارة لنستخدمها كقوة لدارة آلة ،لكن لو التقى القطب الموجب بالقطب السالب
على غير ما صنع المهندس لحدثت قفلة كهربائية تسبب حريقا أو فسادا.
وكذلك النفس البشرية ،إن التقى الذكر مع النثى كما شرع ال فإن البشرية تسعد ،وإن حدث غير
ذلك فالذي يحدث في المجتمع يصير حريقا نفسيا واجتماعيا ل حدود لثاره الضارة ،وهكذا نرى
أن النفس ليس فيها دافع واحد بل فيها دوافع متعددة.
ونجد غريزة الجوع تحرك النفس إلى الطعام ،ويستجيب الدين لذلك لكنه يوصي أن يأكل النسان
بشرط أل يتحول تناول الطعام إلى شره ،كما جاء في الحديث " :بحسب ابن آدم لقيمات يقمن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلبه ".
فالطعام لبقاء النوع .والنسان محب للستطلع ،فيأمر السلم النسان بأن يستطلع أسباب ال في
الكون ليزيد من صلح الكون ،وينهى السلم عن استخدام حب الستطلع في التجسس على
الناس ،وهكذا تتوازن الملكات بمنهج السلم ،وعلى المسلم أن يعايش ملكاته في ضوء منهج ال
معايشة سليمة حتى تكون النفس النسانية متساندة ل متعاندة ،لتعيش كل الملكات في سلم،
ويؤدي كل جهاز مهمته كما أراد ال.
لكن المنافق يحيا مذبذبا وقد صنع بنفسه ،فقد أرخى لبعض ملكاته العِنان على حساب ملكات
ك لَ إِلَىا هَـاؤُل ِء َولَ إِلَى هَـاؤُلءِ { إن الكافر يمتاز عن المنافق -
أخرى } مّذَ ْبذَبِينَ بَيْنَ ذاِل َ
ظاهرا -بأنه منسجم مع نفسه ،هو غير مؤمن بالسلم ويعلن ذلك ولكنه في حقيقة المر
يتصارع مع فطرته التي تدعوه إلى اليمان.
قد يقول قائل :وكيف يتساوى الذي أظهر اليمان وأبطن الكفر مع الذي أعلن الكفر؟ ونقول:
الكافر لم يخدع الطائفة المؤمنة ولم يقل كالمنافق إنه مع الفئة المؤمنة وهو ليس معها؛ بل يعلن
الكافر كفره منسجما مع نفسه ،لكن المنافق مذبذب خسيس في وضعه النساني والرجولي.
ك لَ إِلَىا هَـاؤُلءِ وَلَ إِلَى هَـاؤُل ِء َومَن ُيضِْللِ اللّهُ فَلَن َتجِدَ َلهُ سَبِيلً {.
} مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذاِل َ
وال ل يضل عبدا بشكل مباشر؛ فسبحانه يُعلم خلقه أولً بالرسل والمنهج ،لكنه يضل من يصر
على عدم اليمان ،لذلك يتركه على ضللة وعماه .صحيح أن في قدرة ال أن يأخذه إلى اليمان
قهرا ،لكنه سبحانه يترك النسان لختياره.
فإن أقبل النسان على ال فسبحانه يعينه على الهداية ،أما إن لم يقبل فليذهب إلى تيه الضلل.
ويزين له الدنيا ويعطيه منها لكنه لن يجد سبيلً؛ فسبيل ال واحد .وليس هناك سبيلن.
ونذكر هذه الحكاية؛ لنعرف قيمة سبيل ال .كان الصمعي -وهو مؤلف عربي له قيمة كبيرة -
يملك أذنا أدبية تميل إلى الساليب الجميلة من الشعر والنثر ،ووجد الصمعي إنسانا يقف أمام
باب الملتزم بالكعبة المشرفة ،وكان الرجل يدعو ال دعاء حارا " يا رب :أنا عاصيك ،ولول أنني
عاصيك لما جئت أطلب منك المغفرة ،فل إله إل أنت ،كان يجب أن أخجل من معصيتك ولكن
ماذا أفعل " .وأعجب الصمعي بالدعاء ،فقال :يا هذا إن ال يغفر لك لحسن مسألتك.
ومن بعد ذلك يقول الحق } :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ{ ...
()630 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد أخذ الحق على المنافقين أنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون ال؛ وكذلك أخذ المؤمنون على
المنافقين أنهم اتخذوا من معسكر الكفر وليا لهم من دون ال ومن دون المؤمنين ،ولهذا فأولى
بالمؤمنين أل يصنعوا ذلك ،ويوضح سبحانه :لقد أخذنا على المنافقين أنهم اتخذوا الكافرين أولياء
من دون ال ،فإياكم أن تفعلوا مثلهم.
جعَلُواْ للّهِ عَلَ ْيكُمْ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَ تَتّخِذُواْ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَآءَ مِن دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَ ْ
سُ ْلطَانا مّبِينا }.
وهذا أمر منطقي يستقيم مع منهج اليمان؛ لنكم إن فعلتم ذلك .فإنما تقدمون الحجة ليعذبكم ال،
وتعلمون أن المنافق يعلن اليمان بلسانه ويخفي الكفر في قلبه ،فكيف يكون وضع المؤمن مع
الكافر مثل وضع المنافق مع الكافر؟ ذلك أمر ل يستقيم .ومن يفعل ذلك إنما يقدم حجة ل ليعذبه.
الحق سبحانه في إرساله للرسل وفي تأييد الرسل بالمعجزات وفي إرساله المناهج المستوفية
لتنظيم حركة النسان في الحياة ،كل ذلك ليقطع الحجة على الناس حتى ل يقولن واحد :أنت لم
تقل لنا يارب كيف نسير على منهج ما؛ لذلك لم يترك -سبحانه -النسان ليفكر بعقله ليصل
بفكره إلى وجود ال ،ويكتشف أن هناك خالقا للكون .لم يتركنا سبحانه لهذه الظنون ،ولكنه أرسل
لنا الرسل بمنهج واضح ،من أجل أل يكون للناس على ال حجة من بعد الرسل ،فل يقولن واحد:
أنت لم تنبهني يارب ،والجهل بالقانون في الشرع البشري ل يعفي النسان من العقوبة إن ارتكب
جرما ،لكن ال ل يفعل ذلك؛ فهو أكرم على عباده من أنفسهم ،لذلك يرسل الرسول ليحمل المنهج
حيّ عَن بَيّنَةٍ }[النفال]42 :
الذي يبين الحلل من الحرام {:لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ َ
فل يقولن واحد :لقد أخذنا ال على غرّة .وأنتم أيها المؤمنون إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون
المؤمنين وتقربتم إليهم ونصرتموهم فأنتم أكثر شرا من المنافقين؛ لن المنافق له أسبابه ،وفي
أعماقه خيط من الكفر وخيط من اليمان ،والحجة واضحة عليكم أيها المؤمنون؛ فقد أبلغكم الحق
المنهج وأعلنتم اليمان به .فإن صنعتم غير ذلك تعطون الحق الحجة في أن يعذبكم.
جعَلُواْ للّهِ عَلَ ْيكُمْ سُلْطَانا مّبِينا } والسلطان المبين هو السلطان الواضح المحيط الذي
{ أَتُرِيدُونَ أَن تَ ْ
ل يستطيع أن يدفعه أحد ،فإذا ما كانت هناك حجة ،قد يستطيع النسان أن ينقضها ،كالمحامي
أمام المحاكم .لكن حجة ال هي سلطان مبين .أي ل تنقض أبدا.
ومن بعد ذلك يقول الحق { :إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ فِي} ...
()631 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولنر دقة التربية اليمانية .فلم يأت الحق بفصل في كتابه عن المنافقين يورد فيه كل ما يتعلق
بالمنافقين ،ل ،بل يأتي بلمحة عن المنافقين ثم يأتي بلقطة أخرى عن المؤمنين ،حتى ينفّر السامع
سفَلِ مِنَ
ك الَ ْ
من وضع المنافق ويحببَه في صفات المؤمن ،وهنا يقول { :إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ فِي الدّ ْر ِ
جدَ َلهُمْ َنصِيرا } .والدرك دائما في نزول .والثر الصالح يميز لنا ذلك بالقول:
النّا ِر وَلَن تَ ِ
" النار دركات كما أن الجنة درجات ".
فالنزول إلى أسفل هو الدرك ،والصعود إلى أعلى هو صعود الدرج .وفي عصرنا نضع مستوى
سطح البحر كمقياس؛ لن اليابسة متعرجة ،أما البحر فهو مستطرق.
ونستخدم في المر الدقيق -أيضا -ميزان المياه ،وعندما تسقط المطار على الطرق تكشف لنا
عمل المقاول الذي رصف الطرق ،هل أتقن هذا العمل أو ل؟ ونحن نلقي دلوا من المياه في
الحمام بعد تبليطه حتى ينكشف جودة أو رداءة عمل العامل ،إذن هناك شيء يفضح شيئا آخر.
والقول المصري الشائع " :إن الذي يقوم بعمل المحارة هو الذي يكشف عامل البناء " .فلو أن
الحائط غير مستو؛ فعامل المحارة مضطر أن يسد الفجوات والميول حتى يستوي سطح الحائط..
والذي يكشف جودة عامل المحارة هو عامل طلء الحائط؛ لنه إما أن يستخدم المعجون بكثرة
ليمل المناطق غير المستوية في الحائط ،وإما أن يجد المر سهل .والذي يكشف جودة أو رداءة
عمل عامل الطلء هي أشياء طبيعية مثل الغبار .والعامل الذي يريد أن يغش هو الذي يسرع
بتسليم البناء؛ لن الغبار الذي يوجد في الجو يمشي في خط مستقيم ،وعندما يوجد جدار تم طلؤه
بمادة غير جيدة فالغبار يلتصق به وكأن ال قد أراد بذلك أن يفضح من ل يتقن عمله ،وكل شيء
مرده إلى ال حتى يصل الخلق جميعا إلى الحق سبحانه مفضوحين ،إل المؤمنين الذين يعملون
صالحا ،فهؤلء يسترهم بعملهم الصالح.
جدَ َلهُمْ َنصِيرا } .وسبحانه وتعالى سبق أن
س َفلِ مِنَ النّا ِر وَلَن تَ ِ
ك الَ ْ
{ إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ فِي الدّ ْر ِ
عرض لنا صورة المنافقين المهزوزة التي ل ثبات لها على رأي ،ول وجود لها على لون يحترمه
ك لَ إِلَىا هَـاؤُل ِء َولَ إِلَى هَـاؤُلءِ }
المجتمع الذي يعيشون فيه فقال عنهم {:مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذاِل َ
[النساء]143 :
والذبذبة لون من أرجحة الشخصية التي ل يوجد لها مقوم ذاتي .وسبحانه وتعالى حين عرضهم
هذا العرض المشوه ،يوضح :أن جزائي لهم حق يناسب ما فعلوه.
وقد هيأ الحق الذهان ليجعلها مستعدة لقبول الحكم الذي أنزله عليهم حتى ل تأخذ الناس شفقة
عليهم أو رحمة بهم،وسبحانه حين يحكم حكما فهو يضمن بقيوميته ووحدانيته أل يوجد منازع له
في الحكم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكان من الممكن أن يقول سأجعله في الدرك السفل من النار .ولن توجد قوة أخرى تنتشل
جدَ َلهُمْ َنصِيرا { أي أنه حكم مشمول بالنفاذ ،ولن
المنافق؛ لذلك أتبع الحق الحكم بقوله } :وَلَن تَ ِ
يعدله أحد من خلق ال ،فسبحانه له الملك وحده ،وقد جعل سبحانه الملك في الدنيا لسباب الناس
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر:
أيضا ،أما في الخرة فل مِلك لحد ول مُلك لحدّ {.لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
]16
وبعد ذلك يتيح الحق لقوام من المنافقين أن يعدلوا رأيهم في المسألة وأن يعلنوا إيمانهم وأن
يتوبوا عما فعلوه -أتاح لهم أن يراجعوا أنفسهم ويحاسبوها فلم يغلق الباب دونهم بل قالِ } :إلّ
الّذِينَ تَابُواْ{ ...
()632 /
إذن فمن الممكن أن توجد فتحة خير قد تدفع النسان إلى التوبة ،وحتى ل يظن أحد أن الحكم هنا
نهائي ،وذلك حتى ل يفقد النسان نفسه ويتورط في مزيد من الشرور؛ لذلك قالِ { :إلّ الّذِينَ تَابُواْ
} أي تاب عن نفاقه الول ،وإذا ما كان قد ترتب على نفاقه السابق إفساد فل بد أن يصلح ما
أفسده ويعتصم بال و ُيخْلِص ل نيّ ًة وعملًِ { .إلّ الّذِينَ تَابُواْ وََأصْلَحُواْ وَاعْ َتصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخَْلصُواْ
دِي َنهُمْ للّهِ } .إذن فشروط النجاة من الدرك السفل من النار هي التوبة ،وإصلح ما أفسد،
والعتصام بال ،وإخلص دينه ل.
والتوبة هنا إقلع عن النفاق ،وأل يترك المنافق الفساد الذي صنعه نفاقه بل عليه أن يحاول جاهدا
أن يصلح ما أفسده بهذا النفاق .والعتصام بال كيف يكون؟
لقد عرفنا من قبل أنهم كانوا يفعلون ذلك لبتغاء العزة عند الكافرين ..أي أن نفس المنافق تطمئن
إلى هؤلء الكافرين فيفزع إليهم ويعتز بشدتهم وبصلبتهم؛ لذلك يوضح ال :تنزعوا هذه الفكرة
من رءوسكم وليكن اعتصامكم بال وحده لنه ل يُجِير أحد على ال ،واجعلوا العزة والمرجع إليه
وحده.
والملحظ أن الذي يتوب ويصلح ويعتصم بال يكون قد استوفى أركان اليقين اليماني بال ،لكن
الحق يقول { :وَأَخَْلصُواْ دِي َنهُمْ للّهِ } فلماذا أكد على الخلص هنا؟ لن تدبير النفاق كان ينبع من
قلوبهم أول .ونعلم أن القلب قد يذنب ،فذنب الجارحة أن تعتدي ،مثال ذلك العين تذنب حين تعتدي
على محارم الخرين ،واللسان يذنب إن تعرض بالسب أو الشتم للناس .إذن .فكل جارحة لها
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مجال معصية ،وهنا مجال معصية القلب هو النفاق وهو المر المستور .إذن فقوله الحق:
{ وََأخَْلصُواْ دِي َنهُمْ للّهِ } جاء ليؤكد ضرورة الخلص في التوبة عن النفاق ،والخلص محله
القلب.
فكأن توبة القلوب غير توبة الجوارح ،فتوبة الجوارح تكون بأن تكف الجوارح عن مجال
معاصيها .أما توبة القلب فهو أن يكف عن مجال نفاقه بأن يخلص .وبذلك أثبت الحق مزية
المؤمنين الذين لم ينغمسوا في النفاق .وجعل التائبين من المنافقين مع المؤمنين ،فكأن الصل في
س ْوفَ ُي ْؤتِ
التنعيم وفي نيل الجزاء العظيم هو الوجود مع المؤمنين { .فَُأوْلَـا ِئكَ مَعَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَ َ
اللّهُ ا ْل ُمؤْمِنِينَ َأجْرا عَظِيما }.
ومن هنا نعلم أن الجر العظيم يكون للمؤمنين .ومن يوجد مع المؤمنين ينال الجر نفسه .وقد
جعل الحق الجزاء من جنس العمل .وكان المنافقون ينافقون ليأخذوا من المؤمنين ظواهر السلم
كصون المال والدماء وليعتبرهم الجميع ظاهريا وشكليا من المسلمين ،وهم حين نافقوا المسلمين
أعطاهم المسلمون ما عندهم .وعندما تابوا وأصلحوا واعتصموا بال وأخلصوا الدين ل جعلهم ال
مع المؤمنين ،ويعطي سبحانه لهل اليمان أجرا عظيما.
ثم يقول الحق سبحانه { :مّا َي ْف َعلُ اللّهُ} ...
()633 /
وسبحانه قد أوضح من قبل أن المنافقين في الدرك السفل من النار ،واستثنى منهم من تاب
وأصلح واعتصم بال وأخلص ،ويتحدث هنا عن فكرة العذاب نفسها ،ليجليها فيقول { :مّا َي ْفعَلُ
اللّهُ ِب َعذَا ِبكُمْ } وهذا استفهام ،والستفهام أصلً سؤال من سائل يتطلب جوابا من مجيب .وسبحانه
وتعالى يريد أن يعرض قضية موثوقا بها فهو ل يأتي بها خبرا ،فهو القادر على أن يقول :أنا ل
أفعل بعذابي لكم ول أحقق لذاتي من ورائه شيئا ،فل استجلب به لي نفعا ول أدفع به عني ضرا.
لكنه هنا ل يأتي بهذه القضية كخبر من عنده ،بل يجعل المنافقين يقولونها .مثال ذلك -ول المثل
العلى -يقول واحد لخر :أنت أهنتني .ومن الجائز أن يرد الخر :أنا لم أهنك .وأقسم لك أنني
ما أهنتك .وقد يضيف :ابغني شاهدا .وهنا نجد مراحل المسألة تبدأ بالبلغ عن عدم الهانة ،ثم
القسم بأن الهانة لم تحدث ،ومن بعد ذلك طلب شاهدا على أن الهانة المزعومة قد حدثت.
وقد يقول النسان ردا على من يتهمه بالهانة :أنا أترك لك هذه المسألة ،فماذا قلت لك حتى
تعتبره إهانة؟ ومن يقول ذلك واثق أن من شعر بالهانة لو أدار رأسه وفكره فلن يجد كلمة واحدة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تحمل في طياتها شبهة الهانة.
ولو كان النسان واثقا من أنه أهان الخر ،فهو يخاف أن يقيم الخر دليل على صحة اتهامه له،
ولكن حين يقول له :وماذا قلت لك حتى تعتبر ذلك إهانة؟ .فعليه أن يبحث ولن يجد .وبذلك يكون
الحكم قد صدر منه هو.
وإذا كان ال يقول { :مّا َي ْفعَلُ اللّهُ ِبعَذَا ِبكُمْ } فهذا خطاب لجماعة كانت ستتعذب .وكانت فيهم
محادة ل .ورضي ال شهادتهم ،فكأن هذه لفتة على أن العاصي يستحق العذاب بنص الية { :مّا
َي ْفعَلُ اللّهُ ِبعَذَا ِبكُمْ } ،ومستعد لهذا العذاب لنه محاد ل .ولكن ال يقبل منه ومن أمثاله أن
يشهدوا .وهذا دليل على أن اليمان الفطري في النفس البشرية ،فإذا ما حزبها واشتد عليها المر
لم تجد إل منطق اليمان.
ويوضح الحق للمنافقين :ماذا أفعل أنا بعذابكم؟ فلن يجدوا سببا خاصا بال ليعذبهم ،فكأن الفطرة
الطبيعية قد استيقظت فيهم؛ لنهم سيديرون المسألة في نفوسهم.
وعلى مستوانا نحن البشر نرى أن الذي يدفع النسان ليعذب إنسانا آخر إنما يحدث ذلك ليشفي
غيظ قلبه ،أو ليثأر منه؛ لنه قد آلمه فيريد أن يرد هذا اليلم .أو ليمنع ضرره عنه .وال سبحانه
وتعالى ل يمكن أن يكون في أي موقع من هذه المواقع .فإذا أدار المنافقون هذه المسألة فطريا
بدون إيمان فلن يكون جوابهم إل التي :لن يفعل ال بعذابنا شيئا ،إن شكرنا وآمنا.
ونستخلص من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يريد عرض قضية يثبت فيها الحكم من الخصم
نفسه ،يلقيها على هيئة سؤال .وكان من الممكن أن يجري هذه المسألة خبرا ،إل أن الخبر هو
شهادة من ال لنفسه ،أما السؤال فستكون إجابته اقرارا من المقابل .وهذا يعمي أنهم كانوا عاصين
ومخالفين .وكأنه سبحانه قد ائتمنهم على هذا الجواب؛ لن الجواب أمر فطري ل مندوحة عنه.
وحين يدير الكافر رأسه ليظن بال ما ل يليق ،فلن يجد مثل هذا الظن أبدا.
شكَرْتُ ْم وَآمَنْتُ ْم َوكَانَ اللّهُ شَاكِرا عَلِيما { .وإن لم يشكروا ولم يؤمنوا فما
} مّا َي ْف َعلُ اللّهُ ِبعَذَا ِبكُمْ إِن َ
الذي يناله الحق من عذابهم؟ ونعلم أن عظمة الحق أنه ل يوجد شي من طاعة يعود إلى ال بنفع،
ول يوجد شيء من معصية يعود إلى ال بالضرر .ولكنه يعتبر النفع والضرر عائدين على خلق
ال ل على ال -سبحانه .-
وسبحانه يريدنا طائعين حتى نحقق السلمة في المجتمع ،سلمة البشر بعضهم من بعض .إذن
فالمسألة التي يريدها الحق ،ل يريدها لنفسه ،فهو قبل أن يخلق الخلق موجود وبكل صفات الكمال
له ،وبصفات الكمال أوجد الخلق .وإيجاد الخلق لن يزيد معه شيئا ،ولذلك قال في الحديث القدسي:
" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك
في ملكي شيئا ،يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ،يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد
واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إل كما يُنقص المخيط إذا
أدخل البحر." ..
إذن فالطاعة بالنسبة ل والمعصية بالنسبة ل ،إنما لشيء يعود على خلق ال .ولننظر إلى الرحمة
من الحق سبحانه وتعالى الذي خلق خلقا ثم حمى الخلق من الخلق ،واعتبر سبحانه أن من يحسن
معاملة المخلوق مثله فهو طائع ل ،ويحبه ال لنه أحسن إلى صنعة ال.
شكَرْتُ ْم وَآمَنْتُمْ { فإن تشكروا وتؤمنوا فلن يفعل ال بعذابكم شيئا ..أي
} مّا َي ْف َعلُ اللّهُ ِبعَذَا ِبكُمْ إِن َ
فقد أبعدتم أنفسكم عن استحقاق العذاب.
وسبحانه يريد أن يعدل مزاج المجتمع وتفاعلت أفراده مع بعضهم بعضا ،وذلك حتى يكون
المجتمع ذا بقاء ونماء وتعايش .ونعلم أن لكل إنسان سمة وموهبة ،وهذه الموهبة يريدها المجتمع.
فمن الجائز أن يكون لنسان ما أرض ويريد أن يقيم عليها بناء ،وصاحب الرض ليس مفترضا
فيه أن يدرس الهندسة أولً حتى يصمم البناء ورسومه ،وليس مفترضا فيه أن يتقن حرفة البناء
ليبني البيت ،وكذلك ليس مفروضا فيه أن يتعلم حرفة الطلء والكهرباء وغيرهما.
وكذلك ليس من المفروض فيمن يريد ارتداء جلباب أن يتعلم جز الصوف من الغنم أو غزل
القطن وكيف ينسجه وكيف يقوم بتفصيله وحياكته من بعد ذلك ،ل ،ل بد أن يكون لكل إنسان
عمل ما ينفع الناس .إذن فلكل إنسان عمل ينفع الناس به حتى يتحقق الستطراق النفعي ،ولن
كلّ منا يحتاج إلى الخر فل بد من إطار التعايش السلمي في الحياة .ل أن يكون العراك هو
أساس كل شيء؛ لن العراك يضعف القوة ويذهب بها سدى ،وسبحانه يريد كل قوى المجتمع
شكَرْتُ ْم وَآمَنْ ُتمْ { .أما إن لم تشكروا
متساندة ل متعاندة ،ولذلك قال } :مّا َي ْفعَلُ اللّهُ ِبعَذَا ِبكُمْ إِن َ
وتؤمنوا ،فعذابكم تأديب لكم ،ل يعود على ال بشيء.
ولماذا وضع الحق الشكر مع اليمان؟ لنعرف أولً ما الشكر؟ الشكر :هو إسداء ثناء إلى المنعم
ممن نالته نعمتهُ ،فتوجيه الشكر يعني أن تقول لمن أسدى لك معروفا " :كثر خيرك " ،وما
اليمان؟ إنه اليقين بأن ال واحد.
لكن ما الذي يسبق الخر .الشكر أو اليمان؟ إن اليمان بالذات جاء بعد النتفاع بالنعمة ،فعندما
جاء النسان إلى الكون وجد الكون منظما ،ولم يقل له أحد أي شيء عن أي دين أو خالق .أل
تهفو نفس هذا النسان إلى الستشراف إلى معرفة من صنع له هذا الكون؟
وعندما يأتي رسول ،فالرسول يقول للنسان :أنت تبحث عن القوة التي صنعت لك كل هذا الكون
الذي يحيط بك ،إن اسمها ال ،ومطلوبها أن تسير على هذا المنهج .هنا يكون اليمان قد وقع
موقعه من النعمة .فالشكر يكون أولً ،وبعد ذلك يوجد اليمان ،فالشكر عرفان إجمالي ،واليمان
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عرفان تفصيلي .والشكر متعلق بالنعمة .واليمان متعلق بالذات التي وهبت النعمة.
شكَرْتُ ْم وَآمَنْتُ ْم َوكَانَ اللّهُ شَاكِرا عَلِيما { والحق سبحانه يوضح لنا :أنا
} مّا َي ْف َعلُ اللّهُ ِبعَذَا ِبكُمْ إِن َ
الله واهب النعمة أشكركم .كيف يكون ذلك؟
لنضرب هذا المثل -ول المثل العلى -أنت اشتريت لبنك بعضا من اللعب ،ولم تفعل ذلك إل
بعد ان استوفيت ضرورات الحياة ،فل أحد يأتي باللعب لبنه وهو لم يأت له بطعام أو ملبس.
إذن فأنت تأتي لبنك باللعب بعد الطعام والملبس ليمل وقت فراغه ،وهذا يعني أن الضرورات قد
اكتملت .وحين تقول لبنك :إن هذه اللعبة للعب فقط ،ستأخذها ساعة تحب أن تلعب ،وتضعها في
مكانها وقت أن تذاكر ،فكل شيء هنا في هذا المنزل له مهمة يجب أن يؤديها .وهذا يعني إنك
كوالد تريد أن تؤدب ابنك حتى يلعب بلعبته وقت اللعب ول يلعب بأي شيء غيرها في المنزل؛
لنه لو لعب بكل شيء في المنزل فل بد من أن يكسر شيئا ،فل مجال للعب في التليفزيون أو في
الساعة أو الثلجة أو الغسالة حتى ل تتعطل تلك الجهزة.
وأنت كوالد تريد أن تفرق بين شيء يلعب به وشيء يُجد به .وأشياء الجد ل توجد إل عند طلبها
فقط؛ فالغسّالة ل تستخدم إل ساعة غسل الملبس ،والساعة ل نستخدمها إل لحظة أن نرغب في
معرفة الوقت .والثلجة ل تفتحها إل ساعة تريد أن تستخرج شيئا تأكله أو تشربه ،والوالد يأتي
للبن بقليل اللعب ليضع له حدا بين الشياء التي يمكنه أن يلعب بعا وبين الشياء التي ل يصح
أن يلعب بها ،فأشياء المنزل يجب أل يقرب منها البن إل وقت استعمالها .لكن بالنسبة للعبة
فالبن يلعب بها عندما يحين وقت اللعب ،لكن عليه أن يحافظ عليها .وعندما يرقب الوالد ابنه،
ويجده منفذا للتعليمات ،ويحافظ على حاجات المنزل ،ويلعب بلعبه محافظا عليها .وإن لم ُيعَلّم
الب ابنه ذلك فقد يفسد البن لعبه.
وحين يقوم البن بتنفيذ تعليمات أبيه فالب يرضى عنه ويسعد به .وعندما تخرج لعبة جديدة في
السوق فالب الراضي عن ابنه يشتري له هذه اللعبة الجديدة؛ لن الولد صار مأمونا؛ لنه يعرف
قواعد اللعب مع المحافظة على أداة اللعب .ويعرف أيضا كيف يحافظ على حاجات المنزل.
ويزداد رضاء الب عن تصرفات البن .وينشأ عن هذا الرضاء أن يشتري الب لعبا جديدة .فإذا
كان ذلك هو ما يحدث في العلقة ما بين الب والبن ،وهما مخلوقان ل ،فما بالنا بالخالق العلى
سبحانه وتعالى الذي أوجد كل المخلوقات؟
إن النسان حين يضع كل المسائل في ضوء منهج ال ،فال شاكر وعليم؛ لن ال يرضى عن
العبد الذي يسير على منهجه ،وعندما يرضى الرب عن العبد فهو يعطي له زيادة .فال شاكر
بمعنى أن البشر إن أحسنوا استقبال النعمة بوضع كل نعمة في مجالها فل تتعدى نعمة جادة ،على
نعمة هازلة ول نعمة هازلة على نعمة جادة ،فال يرضى عن العباد.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى رضاء ال أن يعطي البشر أشياء ليست من الضرورات فقط ولكن ما فوق ذلك .فسبحانه
يعطي الضرورات للكل حتى الكافر .ويعطي سبحانه ما فوق الضرورات وهي أشياء تسعد
البشر.
إذن فمعنى أن ال شاكر ..أي أن سبحانه وتعالى راض .ويثيب نتيجة لذلك ويعطي النسان من
شكَرْتُمْ لَزِيدَ ّنكُمْ }[إبراهيم]7 :
جنس الشياء ويسمو عطاؤه ،مصداقا لقوله الحق {:لَئِن َ
فالشكر هنا موجه من العبد للرب ،والزيادة من الرب إلى العبد .وإياك أيها النسان أن تصنع
الشياء شكليا ،مثل الطفل الذي يصون لعبته لحظة أن يرى الب .ومن فور أن يختفي الب أمام
عيني الطفل فهو يفسد اللعبة ،وال ليس كالب أبدا ،فالب قدراته محدودة ،ولكن ال هو الخالق
العلى الذي ل تخفى عليه خافية أبدا وسبحانه شاكر ،وهو أيضا عليم.
جهْرَ{ ...
حبّ اللّهُ ا ْل َ
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه } :لّ ُي ِ
()634 /
إنه سبحانه وتعالى يريد أن يحمي آذان المجتمع اليماني من " قالت السوء " ..أي من اللفاظ
الرديئة؛ لننا نعلم أن الناس إنما تتكلم بما تسمع ،فاللفظ الذي ل تسمعه الذن ل تجد لسانا يتكلم
به ،ونجد الطفل الذي نشأ في بيت مهذب ل ينطق ألفاظا قبيحة ،وبعد ذلك تجيء على لسانه ألفاظ
قبيحة وحينئذ نتساءل :من أين جاءت هذه اللفاظ على لسان هذا البن؟ ونعرف أنها جاءت من
الشارع؛ لن البيئة الدائمة للطفل ليس بها ألفاظ رديئة ،وعندما يتقصى النسان عن مصدر هذه
اللفاظ ،يعرف أن الطفل المهذب قضى بعضا من الوقت في بيئة أخرى تسربت إليه منها بعض
اللفاظ الرديئة.
إذن فاللغة هي بنت المحاكاة .وما تسمعه الذن يحكيه اللسان .ونعلم أن اللغة ليست جنسا وليست
دما ،بمعنى أن الطفل النجليزي لو نشأ في بيئة عربية ،فهو يتحدث العربية .ولو أخذنا طفل
عربيا ووضعناه في بيئة إنجليزية فسيتكلم النجليزية.
واللغة الواحدة فيها ألفاظ ل يتكلم بها لسان إل إن سمعها ،وإن لم يسمعها النسان فلن ينطق بها.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي المجتمع اليماني من قالت السوء التي تطرق آذان الناس
لنها ستعطيهم لغة رديئة؛ لن الناس إن تكلمت بقالت السوء ،فسيكون شكل المجتمع غريبا،
وتتردد فيه قالت سوء في آذان السوء ،فكأن الحق سبحانه يوضح :إياكم أن تنطق ألسنتكم بأشياء
ل يحبها ال ،فليست المسألة أن يريد النسان نفسه فقط بنطق كلمة ،ولكن نطق هذه الكلمة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سيرهق أجيالً؛ لن من يسمع الكلمة الرديئة سيرددها ،وسيسمعها غيره فيرددها ،وتتوالى القدوة
السيئة .ويتحمل الوزر النسان الذي نطق بكلمة السوء أولً.
وقالت السوء هذه قد تكون بالحق وقد تكون بالباطل ،فإن كانت في الحق مثل فلن نستطيع أن
نقول :إن كل الناس أهل سوء .وقد يبتدئ إنسان آخر بسباب ،ويجوز أن يدعي إنسان على آخر
سبابا .إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي الذان اليمانية من ألسنة السوء ،لذلك يقول { :لّ
جهْرَ بِالسّوءِ مِنَ ا ْل َقوْل } ومقابلها بالطبع هو :أن ال يحب الجهر بالحسن من القول.
حبّ اللّهُ الْ َ
يُ ِ
وساعة يحبك الحق المجتمع هذه الحبكة اليمانية ،أيعالج ملكة على حساب ملكة أخرى؟ .ل.
ونعلم أن النفس فيها حب النتقام وحب الدفاع عن النفس وحب الثأر وما يروح به عن نفسه
ويخفف ما يجده من الغيظ .والمثل العربي يقول " :من اسْ ُت ْغضِب ولم يغضب فهو حمار "؛ لن
الذي يُستغضب ول يغضب يكون ناقص التكوين ،فهل معنى ذلك أن ال يمتع الناس من قول كلمة
سوء ينفث بها النسان عن صدره ويريح بها نفسه؟ ل ،لكنه -سبحانه -يضع شرطا لكلمة
السوء هوِ { :إلّ مَن ظُِلمَ }؛ لن الظلم هو أخذ حق من إنسان لغيره.
وكل إنسان حريص على نفسه وعلى حقوقه .فإن وقع ظلم على إنسان فملكات نفسه تغضب
وتفور ،فإما أن ينفث بما يقول عن نفسه ،وإما أن يكبت ويكتم ذلك.
جهْرَ بِالسّوءِ مِنَ ا ْل َق ْولِ { واكتفى بذلك ،لكان كبتا للنفس البشرية.
حبّ اللّهُ ا ْل َ
فإن قال ال } :لّ يُ ِ
وعملية الكبت هذه وإن كانت طاعة لمر ال لنه ل يحب الجهر بالسوء من القول ،ولكن قد
ينفلت الكبت عند النفعال ،وينفجر؛ لذلك يضع الحق الشرط وهو وقوع ظلم .فيوضح سبحانه :أنا
ل أحب الجهر بالسوء من القول ،وأسمح به في حدوده المنفثة عن غيظ القلوب؛ لني ل أحب أن
أصلح ملكة على حساب ملكة أخرى .ولذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول:
" إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فإذا وجد أحدكم من
ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس ،وإن كان جالسا فلينم فإن لم يزُل ذلك فليتوضأ بالماء البارد أو
يغتسل فإن النار ل يطفئها إل الماء ".
أي أن يتحرك النسان من فور إحساسه بالغضب؛ فيغير من وضعه أو يقوم إلى الصلة بعد أن
يتوضأ أو يغتسل؛ لنه بذلك ينفث تنفيثا حركيا ليخفف من ضغط المواجيد على النفس الفاعلة؛
تماما كما يفك إنسان صماما عن آلة بها بخار ليخرج بعض البخار.
إذن فمن وقع عليه ظلم له أن يجهر بالسوء .والجهر له فائدتان :الولى :أن ينفث النسان عن
نفسه فل يكبت ،وثانيا :أنه أشاع وأعلن أن :هذا إنسان ظالم ،وبذلك يحتاط الناس في تعاملهم
معه .وحتى ل يخدع إنسان نفسه ويظن بمنجاة عن سيئاته ،فلو ستر كل إنسان الظلم الذي وقع
عليه لستشرى الظلم في عمل السيئات .ولكن إياك أن تتوسع أيها العبد في فهم معنى كلمة " ظلم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" هذه؛ لن الذي ينالك ممن ظلمك إما فعل وإما قول .وعليك أيها المسلم أن تقيس المر بمقياس
دقيق على قدر ما وقع عليك من ظلمَ {.فمَنِ اعْتَدَىا عَلَ ْيكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَىا عَلَ ْيكُمْ }
[البقرة]194 :
إذن فالحق سبحانه وتعالى ل يعطينا في الستثناء إل على قدر الضرورة .ويوضح :إياكم أن
تزيدوا على هذه الضرورة ،فإن كان ظلمكم بقول فأنا السميع .وإنْ كان ظلمكم بفعل فأنا العليم،
فل يتزيد واحد عن حدود اللياقة.
وبذلك يضع الحق الضوابط اليمانية والنفسية فأزاح الكبت وفي الوقت نفسه لم يقفل باب الطموح
اليماني .لقد سمح للعبد أن يجهر إن وقع عليه ظلم .لكن إن امتلك النسانُ الطموحَ اليماني
فيمكنه أل يجهر وأن يعفو .إذن فهناك فارق بين أمر يضعه الحق في يد النسان ،وأمر يلزمه به
قسرا وإكراها عليه؛ فمن ناحية الجهر ،جعل سبحانه المسألة في يد النسان ،ويحب سبحانه أن
يعفو النسان؛ لن المبادئ القرآنية يتساند بعضها مع بعض.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وذلك حتى ل يستشرى المعتدي أيضا ،فهناك إنسان إذا تركناه مرة ومرة .يستشرى ،لكن إذا ما
أوقفناه عند حده فهو يسكت ،وبذلك نرحم المجتمع من استشراء الفساد .ويُصعب الحق المسألة في
رد العتداء.
ويثور سؤال :من القادر على تحقيق المثلية بعدالة؟ .ونجد على سبيل المثال إنسانا ضرب إنسانا
آخر صفعة على الوجه ،فبأية قوة دفعٍ قد ضرب؟ وفي أي مكان ضرب؟ ولذلك نجد أن رد
العدوان على درجة المثلية المتساوية أمر صعب .ومادام المأمور به أن أعتدى بمثل ما اعتدى به
علي؛ ولن أستطيع تحقيق المثلية ،ولربما زاد المر على المثلية؛ وبعد أن كنت المعتدَى عليه
صرت المعتدِي ،بذلك يكون العفو أقرب وأسلم.
والعمليات الشعورية التي تنتاب النسان في التفاعلت المتقابلة يكون لها مواجيد في النفس تدفع
إلى النزوع.
والعملية النزوعية هي رد الفعل لما تدركه ،فإن آذاك إنسان وأتعبك واعتدى عليك فأنت تبذل
جهدًا لتكظم الغيظ ،أي أن تحبس الغيظ على شدة .فالغيظ يكون موجودا ،ولكن المطلوب أن يمنع
النسان الحركة النزوعية فقط .وعلى المغتاظ أن يمنع نفسه من النزوع ،وإن بقي الغيظ في
ظمِينَ ا ْلغَيْظَ }[آل عمران]134 :
القلب {.وَا ْلكَا ِ
هذه مرحلة أولى تتبعها مرحلة ثانية هي {:وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ }[آل عمران]134 :
فإذا كان المطلوب في المرحلة الولى منع العمل النزوعي ،فالرقى من ذلك أن تعفو ،والعفو هو
أن تخرج المسألة التي تغيظك من قلبك .وإن كنت تطلب مرحلة أرقى في كظم الغيظ والعفو
فأحسن إليه؛ لن من يرتكب العمال المخالفة هو المريض إيمانيا .وعندما ترى مريضا في بدنه
فأنت تعاونه وتساعده وإن كان عدوا لك .وتتناسى عدواته؛ فما بالنا بالمصاب في قيمه؟ إنه يحتاج
منا إلى كظم الغيظ ،أو العفو كدرجة أرقى ،أو الحسان إليه كمرحلة أكثر علوا في الرتقاء.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يبيح أن تعتدي بالمثل ،ثم يفسح المجال لنكظم الغيظ فل نعتدي ولكن
يظل السبب في القلب ،ثم يرتقي بنا مرحلة أخرى إلى العفو وأن نخرج المسألة من قلوبنا ،ثم
حسِنِينَ { ،ومن فينا غير راغب في حب ال؟
حبّ ا ْلمُ ْ
يترقى ارتقاء آخر ،فيقول سبحانه } :وَاللّهُ يُ ِ
وهكذا نرى أن الدين السلمي يأمر بأن يحسن المؤمن إلى من أساء إليه.
وقد يتساءل إنسان :كيف تطلب مني أن أحسن إلى من أساء إلي؟ والرد :أنت وهو لستما بمعزل
عن القيوم؛ فهو قيوم ول تأخذه سنة ول نوم ،وكل شيء مرئي له وكلكما صنعة ال ،وعندما
يرى ال واحدا من صنعته يعتدي عليك أو يسيء إليك فسبحانه يكون معك ويجيرك ،ويقف إلى
جانبك لنك المعتدَى عليه .إذن فالساءة من الخر تجعل الحق سبحانه في جانبك ،وتكون تلك
الساءة في جوهرها هدية لك.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعندما نفلسف كل المسائل نجد أن الذي عفا قد أخذ مما لو كان قد انتقم وثأر لنفسه؛ لنه إن انتقم
سيفعل ذلك بقدرته المحدودة ،وحين يعفو فهو يجعل المسألة ل وقدرته سبحانه غير محدودة ،إن
أراد أن يرد عليه ،وبعطاء غير محدود إن أراد أن يرضى المعتدي عليه .هذا هو الحق سبحانه
وتعالى عندما يلجأ إليه المظلوم العافي المحسن .وهو السميع العليم بكل شيء .ويقول الحق من
بعد ذلك } :إِن تُ ْبدُواْ خَيْرا{ ...
()635 /
لقد عرفنا أن الحق ل يسمح لك بالجهر بالسوء من القول إل إذا كنت مظلوما .وهذا يعني أن
المسألة تحتمل الجهر وتحتمل الخفاء ،فقال { :إِن تُ ْبدُواْ خَيْرا } أي إن تظهر الخير ،أو تخفي
ذلك ،أو تعفو عن السوء .وكل هذه المور من ظاهر وخفي من الغيار البشرية ،لكن شيئا ل
يخفى على ال .ول يمكن أن يكون للعفو مزية إيمانية إل إذا كان مصحوبا بقدرة ،فإن كان عاجزا
لما قال :عفوت .وسبحانه يعفو مع القدرة .فإن أردت أن تعفو فلتتخلق بأخلق منهج ال ،فيكون
لك العفو مع القدرة .ولنا أن نعلم أن الحق ل يريد منا أن نستخزي أو نستذل ولكن يريد منا أن
نكون قادرين ،ومادمنا قادرين فالعفو يكون عن قدرة وهذه هي المزية اليمانية؛ لن عفو العاجز
ل يعتبر عفوا.
والناس تنظر إلى العاجز الذي يقول :إنه عفا -وهو على غير قدرة -تراه أنه استخزى .أما من
أراد أن يتخلق بأخلق منهج ال فليأخذ من عطاءات ال في الكون ،ليكون قادرا وعزيزا بحيث
عفُوّا قَدِيرا }.
إن ناله سوء ،فهو يعفو عن قدرة { فَإِنّ اللّهَ كَانَ َ
وقلنا من قبل :إنك إذا لمحت كلمة " كان " على نسبة ل سبحانه وتعالى كنسبة الغفران له أو
الرحمة ،فعلينا أن نقول :كان ول يزال؛ لن الفعل مع ال ينحل عن الزمان الماضي وعن
الحاضر وعن المستقبل؛ فهو سبحانه مادام قد كان ،وهو ل تناله الغيار ،فهو يظل إلى البد.
ويقول الحق بعد ذلك { :إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ} ...
()636 /
إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِ ِه وَيُرِيدُونَ أَنْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِ ِه وَ َيقُولُونَ ُن ْؤمِنُ بِ َب ْعضٍ وَ َن ْكفُرُ
خذُوا بَيْنَ ذَِلكَ سَبِيلًا ()150
بِ َب ْعضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتّ ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسبحانه يريد أن يجعل من قضية اليمان قضية كلية واحدة ل أبعاض فيها ،فليس إعلن اليمان
بال وحده كافيا لن يكون النسان مؤمنا؛ لن مقتضى أن تؤمن بال يحتاج إلى رسول يعرفك أن
الخالق هو الذي سخر لك قوى الكون واسمه ال .وأنت ل تهتدي إلى معرفة اسم القوة الخالقة لك
إل بوساطة رسول منزل من عند ال.
ونعرف أن عمل العقل في الستنباط العقدي عاجز عن معرفة اسم خالق الكون؛ لن النسان قد
طرأ على كون منظم ،وكان من الواجب عليه أن يلتفت لفتة ليعلم القوة التي سبقت هذا الوجود
وخلقته وأن النسان قد طرأ على وجود متكامل .وقد يسمع النسان من أبيه -مثلً -أن هذا
البيت بناه الب أو الجد ،وذلك الشيء فعله فلن ابن فلن .لكن لم يسمع أحدا يقول له " :ومن
بنى السماء؟ " ولم يسمع أحدا يقول " :ومن خلق الشمس؟ " ،مع أن الناس تدعي ما ليس لها،
فكيف يُترك أعظم ما في كون ال بدون أن نعرف من أوجده؟.
إننا نجد الناس تؤرخ للشيء التافه أو المهم نسبيا في حياتهم ،نجد دراسات عن تاريخ أحجار،
ودراسات عن تاريخ صناعة الشياء؛ تاريخ المصباح الكهربي الذي اخترعه اديسون وقام بتوليد
الكهرباء من مصادر ضئيلة ويسيره ،باختصار ،نجد أن كل شيء في هذا الوجود له تاريخ ،وهذا
التاريخ يرجع بالشيء إلى أصل وجوده .وأنت إن نسبت أي صنعة مهما كانت مهمة أو تافهة
نكتشف أن واحدا تلقاها عن واحد ،ولم يبتكرها هو دفعة واحدة.
إن كل مبتكر أخذ ما انتهى إليه سابقه وبدأ عملً جديدا إلى أن وصلت المخترعات بميلدها ،ومن
يصدق أن مصباحا يُضيء وينطفئ ويحترق يضنعه إنسان ونعرف له تاريخا ،وبعد ذلك ننظر
إلى الشمس التي لم تخفت ولم تضعف ولم تنطفئ ولم تحترق ،والمصباح ينير حيزا قليل يسيرا،
والشمس تنير كونا ووجودا ،أل تحتاج الشمس إلى من يفكر في تاريخها؟
لقد سبق لنا أن قلنا :إن النسان حينما ينظر إلى الكون نظرة بعيدة عن فكرة الدين وبعيدا عن
بلغ الرسل عن الخالق وكيفية الخلق ومنهج الهداية ،فهو يقول لنفسه :تختلف مقادير الناس
باختلف مراكزها وقوتها فيما يفعلون ،هناك من يجلس على كرسي من شجر الجميز .وآخر على
كرسي مصنوع من شجر الورد ،وثالث يجلس على حصيرة.
إن النسان يعيش بصناعات غيره من البشر حسب قدره ومكانته؛ فالريفي أو البدوي يشعل النار
بصك حديدة بحجر الصوان ويحتفظ بالنار لمدة يستخدمها لكثر من مرة ،وعندما يرتقي في
استخدام النار يستخدم " مسرجة " ،ولمّا ازداد تحضرا استخدم " مصباح جاز " بزجاج ولها أرقام
تدل على قدرتها على الضاءة.
فهناك مصباح رقم خمسة ،ورقمها دليل على قوتها الخافتة ،وتتضاعف قوة " المصباح " من بعد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذلك حسب المساحة المطلوب إنارتها .ولمّا ارتقى النسان أكثر استخدم " الكلوب " .ولمّا ارتقى
أكثر استخدم الكهرباء أو النيون أو الطاقة الشمسية ،فإذا ما أشرقت الشمس فكل إنسان يطفئ
الضوء الذي يستخدمه ،فنورها يغني عن أي نور .وفي الليل يحاول النسان أن تكون حالة
الكهرباء في منزله جيدة خشية أن ينقطع سلك ما فيظلم المكان .فما بالنا بالشمس التي ل يحدث
لها مثل ذلك.
إننا نجد النسان على مر التاريخ يحاول أن يرقى إلى فهم طلقة قدرة الحق ،وإن لم يأت رسول،
أما أسماء القدرة الخالقة فل يعرفها أحد بالعقل بل بوساطة الرسل .فاسم " ال " اسم توقيفي.
فكيف يتأتى -إذن -مثل قول هؤلء :سنؤمن بال ونكفر برسله؟ كيف عرفوا -إذن -أن القوة
التي سيؤمنون بها اسمها ال؟ ل بد أنهم قد عرفوا ذلك من خلل رسول؛ لن اليمان بال إنما
يأتي بعد بلغ عن ال لرسول ليقول اسمه لمن يؤمن به.
وهل اليمان بال كقوة خفية قوية مبهمة وعظيمة يكفي؟ أو أن النسان ل بد له أن يفكر فيما
تطلبه منه هذه القوة؟ وإذا كانت هذه القوة تطلب من النسان أن يسير على منهج معين ،فمن الذي
يبلغ هذا المنهج؟
ل بد إذن من الرسول يبلغنا اسم القوة الخالقة ومطلوبها من النسان للسير على المنهج ،ويشرح
لنا كيفية طاعة هذه القوة .فل أحد -إذن -يستطيع أن يفصل اليمان بال عن الرسول ،وإل كان
إيمانا بقوة مبهمة .ول يجترئ صاحب هذا اللون من اليمان أن يقول :إن اسم هذه القوة " ال "؛
لن هذا السم يحتاج إلى بلغ من رسول.
إذن فعندما يسمع أحدنا إنسانا يقول :أنا أؤمن بال ولكن ل أؤمن بالرسل :علينا أن نقول له :هذا
أول الزلل العقلي؛ لن اليمان بال يقتضي اليمان ببلغ جاء به رسول؛ لن اليمان بال ل
ينفصل عن اليمان بالرسول.
والحق سبحانه وتعالى خلق آدم بعد أن خلق الكون وبقية المخلوقات ،ول نجد من يدعي أن آدم
هو أول من عمر هذا الوجود.وما آدم في منطق العقل واحد ولكنه عند القياس أوادمومن الممكن
أن نقول :إن هناك خلقا كثيرا قد سبقوا آدم في الوجود ،ولكن آدم هو أول الجنس البشري.
وعندما خلقه ال علمه السماء كلها حتى يستطيع أن يسير في الوجود ،فلو لم يكن قد تعلم السماء
لما استطاع أن يتحدث مع ولد من أولده ،ولما استطاع -على سبيل المثال -أن يقول لبن من
أبنائه :انظر أاشرقت الشمس أم ل؟
إذن كان ل بد لدم من معرفة السماء كلها من خلل معلم؛ لن اللغة بنت المحاكاة؛ لن أحدا ل
يستطيع أن يتكلم كلمة إل بعد أن يكون قد سمعها.
والواحد منا سمع من أبيه ،والباء سمعوا من الجداد ،وتتوالى المسألة إلى أن تصل إلى آدم،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فممن سمع آدم حتى يتكلم أول كلمة؟ ل بد أنه ال ،وهذه مسألة يجب أن يعترف بها كل إنسان
سمَآءَ كُّلهَا }[البقرة]31 :
عاقل .إذن قول الحق في قرآنه {:وَعَلّمَ ءَادَ َم الَ ْ
هو كلم منطقي بالحصاء الستقرائي ،وهو قول يتميز بمنتهى الصدق.
والنسان منا عندما يعلم ابنه الكلم يعلمه السماء .أما الفعال فل أحد يعرف كيف تعلمها.
النسان يقول لبنه :هذا كوب ،وهذه منضدة ،وذلك طبق ،وهذا طعام ،لكن ل أحد يقول لبنه" :
شرب " معناها كذا ،و " أكل " معناها كذا .إذن فالخميرة الولى للكلم هي السماء ،وبعد ذلك
تأتي المزاولت والممارسات ليتعلم النسان الفعال.
لقد ترك الحق لنا في كونه أدلة عظيمة تناسب عظمته كخالق لهذا الكون .والرسول هو الذي يأتي
بالبلغ عنه سبحانه ،فيقول لنا اسم القوة " :ال " ،وصفاتها هي " كذا " ،ومن يطعها يدخل
الجنة ،ومن يعصها يدخل النار ،ولو لم يوجد رسول نظل تائهين ول نعرف اسم القوة الخالقة ول
نعرف مطلوبها ،وهذا ما يرد به على الجماعة التي تعبد الشمس أو تعبد القمر أو النجوم ونقول
لهم :هل أنتم تعبدون الشمس؟ لعلكم فعلتم ذلك لنها أكبر قوة في نظركم.
لكن هناك سؤال هو " :ما العبادة "؟ الجابة هي :العبادة طاعة عابد لمعبود ،فماذا طلبت منكم
الشمس أن تفعلوه وماذا نهتكم ومنعتكم الشمس أل تفعلوه؟ ويعترف عبدة الشمس :لم تطلب
الشمس منا شيئا .وعلى ذلك فعبادتهم للشمس ل أساس لها؛ لنها لم تحدد منهجا لعبادتها ،ول
تستطيع أن تعد شيئا لمن عبدها ،فإله بل منهج ل قيمة له .وهكذا نرى أن عبادة أي قوة غير ال
هي عبادة تحمل تكذيبها ،واليمان بال ل ينفصل أبدا عن اليمان بالقوة المبلغة عن ال إنها
الرسل.
ويشرح الرسول لنا كيف يتصل بهذه القوة اللهية ،وتشرح القوة اللهية لنا كيفية اتصاله بالرسول
البشري بوساطة خلق آخر خلقته هذه القوة المطلقة؛ لن الرسول من البشر ،والبشر ل يستطيع أن
يتلقى عن القوة الفاعلة الكبرى .ونحن نفعل مثل هذه الشياء في صناعتنا .ونعلم أن النسان
عندما يريد أن ينام ل يرغب في وجود ضوء في أثناء نومه ،فيتخذ الليل سكنا ويتمتع بالظلمة،
لكن إن استيقظ في الليل فهو يخاف أن يسير في منزله بدون ضوء حتى ل يصطدم بشيء ،لذلك
يوقد مصباحا صغيرا في قوة الشمعة الصغيرة ليعطي نفسه الضوء ،ونسميها " الوناسة ".
ول نستطيع توصيل هذا المصباح الصغير بالكهرباء مباشرة ،وإنما نقوم بتركيب محول صغير
يأخذ من القوة الكهربية العالية ويعطى للمصباح الصغير ،فما بالنا بقوة القوى؟
إن ال جعل خلقا آخر هم الملئكة ليكونوا واسطة بينه وبين رسله .وهؤلء الرسل أعدهم سبحانه
إعدادا خاصا لتلقي هذه المهمة .إذن فالذين يريدون أن يؤمنوا بال ثم يكفروا برسله نقول لهم :ل،
هذا إيمان ناقص .ووضع الحق سبحانه وتعالى اليمان بالرسل كلهم في صيغة جمع حتى ل تفهم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كل أمة أن رسولها فقط هو الرسول المنزل من عند ال ،بل ل بد أن تؤمن كل أمة بالرسل كلهم؛
لن كل رسول إنما جاء على ميعاده من متطلبات المجتمع الذي يعاصره ،وكلهم جاءوا بعقائد
واحدة ،فلم يأت رسول بعقيدة مخالفة لعقيدة الرسول الخر؛ وإن اختلفوا في الوسائل والمسائل
التي تترتب عليها الرتقاءات الحياتية .وقد خلق الحق أولً سيدنا آدم وخلق منه زوجته حواء،
اثنين فقط ثم قال سبحانه {:وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا ِرجَالً كَثِيرا وَنِسَآءً }[النساء]1 :
كان الثنان يعيشان معا وأنجبا عددا من البناء ،وتناسل البناء فصار مطلوبا لكل أسرة من
البناء بيتا ،وكل بيت فيه أسرة يحتاج إلى رقعة من الرض ليستخرج منها أفراد السرة خيرات
تكفي الطعام .وكل فرد يحتاج على القل إلى نصف فدان ليستخرج منه حاجته للطعام .وكلما كثر
النسل اتسعت رقعة الوجود بالمواصلت البدائية ،فهذا إنسان ضاقت به منطقته فرحل إلى منطقة
أخرى فيها مطر أكثر ليستفيد منه أو خير أكثر يستخرجه .وتنتشر الجماعات وتنعزل .وصارت
لكل جماعة عادات وتقاليد وأمراض ومعايب غير موجودة في الجماعة الخرى .ولذلك ينزل
الحق سبحانه وتعالى رسولً إلى كل جماعة ليعالج الداءات في كل بيئة على حدة .وسخر الحق
سبحانه وتعالى بعض العقول لكتشافات الكون ،وبعد ذلك يصبح الكون قطعة واحدة ،فالحدث
يحدث في أمريكا لنراه في اللحظة نفسها في مصر .وزادت الرتقاءات .ولذلك كادت العادات
السيئة تكون واحدة في المجتمع النساني كله ،فتظهر السيئة في أمريكا أو ألمانيا لنجدها في
مجتمعنا .إذن فالرتقاءات الطموحية جعلت العالم وحدة واحدة :آفاته واحدة ،وعاداته واحدة.
وعندما يأتي الرسول الواحد يشملهم كلهم.
ولذلك كان ل بد أن يأتي الرسول الخاتم الجامع صلى ال عليه وسلم؛ لن العالم لم يعد منعزلً،
ليخاطب الجمع كله ،وهو خير الرسل ،وأمته خير المم إن اتبعت تعاليمه .ومن ضرورة إيمان
رسول ال والذين معه أن يؤمنوا بمن سبق من الرسل .والذين يحاولون أن يفرقوا بين الرسل هم
قوم ل يفقهون .،فاليهود آمنوا بموسى عليه السلم وأرهقوه وكفروا بعيسى .وعندما جاء عيسى
عليه السلم آمن به بعض ،وعندما جاء محمد صلى ال عليه وسلم آمن به بعض وكفر به بعض.
ولذلك سمى الحق كفرهم بالنبي الخاتم( :ثم ازدادوا كفرا) .أي أنه كفر في القمة ،فلن يأتي نبي
من بعد ذلك .واكتمل به صلى ال عليه وسلم موكب الرسالت.
إذن فالمراد من الية أن اليمان فيه إيمان قمة ،تؤمن بقوة لكنك ل تعرف اسم هذه القوة ول
مطلوبات هذه القوة ول ما ادته القوة من ثواب للمطيع ول من عقاب للعاصي .ولذلك كان ول بد
أن يوجد رسول؛ لن العقل يقود إلى ضرورة اليمان بال والرسل .وجاء الرسل في موكب واحد
لتصفية العقيدة اليمانية للله واحد ،فل يقولن واحد :لقد آمنت بهذا الرسول وكفرت ببقية الرسل.
والية التي نحن بصددها الن تتعرض لذلك فتقول {:إِنّ الّذِينَ َيكْفُرُونَ بِاللّ ِه وَرُسُِل ِه وَيُرِيدُونَ أَن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خذُواْ بَيْنَ ذاِلكَ سَبِيلً }
ض وَ َنكْفُرُ بِ َب ْعضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّ ِ
ُيفَ ّرقُواْ بَيْنَ اللّ ِه وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ ُن ْؤمِنُ بِ َب ْع ٍ
[النساء]150 :
ونحن نعلم أن " كفر " معناها " ستر " .والستر -كما نعلم -يقتضي شيئا تستره ،والشيء الذي
يتم ستره موجود قبل الستر ل بعد الستر .والذي يكفر بوجود ال هو من يستر وجود ال؛ فكأن
وجود ال قد سبق الكفر به .إذن فكلمة الكفر بال دليل على وجود ال .ونقول للكافر :ماذا سترت
بكفرك؟ وستكون إجابته هي " :ال " .أي أنه آمن بال أولً.
} إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ بِاللّ ِه وَرُسُِل ِه وَيُرِيدُونَ أَن ُيفَ ّرقُواْ بَيْنَ اللّ ِه وَرُسُِلهِ { هم الحمقى؛ لن هذا أمر
غير ممكن ،وكل رسول إنما جاء ليصل المرسل إليهم بمن أرسله .ولذلك نجد قوله الحقَ {:ومَا
َن َقمُواْ ِإلّ أَنْ أَغْنَا ُهمُ اللّ ُه وَرَسُولُهُ مِن َفضْلِهِ }[التوبة]74 :
إنه حدث واحد من ال ورسوله .لذلك نجد أن الحمقى هم من يريدون أن يفرقوا بين ال ورسله} :
ض وَ َنكْفُرُ بِ َب ْعضٍ { لهؤلء نقول :إن اليمان قضية كلية ،فموكب الرسالة من
وَيقُولُونَ ُن ْؤمِنُ بِ َب ْع ٍ
الحق سبحانه وتعالى يتضمن عقائد واحدة ثابتة ل تتغير .والحق يقول {:إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ
إِلَىا نُوحٍ }[النساء]163 :
وهذا يؤكد أن قضايا العقائد إنما جاءت من نبع واحد لعقيدة واحدة .فماذا -إذن -يريدون بمسألة
اليمان ببعض الرسل والكفر بالبعض الخر؟ يريدون السلطة الزمنية .وكان القائمون على أمر
الدين قديما هم الذين يتصرفون في كل أمر ،في القضاء وفي الهندسة وفي كل شيء ،لذلك وثق
فيهم الناس على أساس أنهم المبلغون عن ال الذين ورثوا النبوات وعرفوا العلم عن ال .ونجد
العلوم الرتقائية في الحضارات القديمة كحضارة قدماء المصريين كالتحنيط وغيرها تلك التي
مازالت إلى الن لغزا ،إنما قام بأمرها الكهنة ،وهم -كما نعلم -المنسوبون إلى الدين .كأن
الصل في كل معلومات الرض هي من هبة السماء.
لماذا إذن أخرج البشر وسنّوا قوانين من وضعهم؟ لقد فعل البشر ذلك لن السلطة الزمنية استولى
عليها رجال الدين.
ما معنى كلمة " سلطة زمنية " .كان الناس يلجأون إلى رجل الدين في كل أمورهم ،ويفاجأ رجل
الدين بأنه المقصود من كل البشر ،ويغمره الناس بأفضالهم ويعطونه مثل القرابين التي كانت
تعطى لللهة ،فيعيش في وضع مرفّه هو وأهله ويزداد سمنة من كثرة الطعام والمتعة .وعندما
يأتي إليه أحد في مسألة فهو يحاول أن يقول الرأي الذي يؤكد به سلطته الزمنية ،فإذا ما جاء
رسول ليلغي هذه المتيازات ،يسرع بتكذيبه؛ ليظل -كرجل كهنوت -على قمة السلطة .ولذلك
قال فيهم الحق {:اشْتَ َروْاْ بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنا قَلِيلً }[التوبة]9 :
أي استبدلوا بآيات ال ثمنا قليل من متاع الدنيا .فأخذوا الشيء الحقير من متاع الدنيا وتركوا آيات
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال دون أن يعملوا بها.
وعندما نبحث في تاريخ القانون .نجد قانونا إنجليزيا وآخر فرنسيا أو رومانيا ،ونجد أن المصادر
الولى لهذه القوانين هي ما كان يحكم به الكهنة .والذي جعل الناس تنعزل عن الكهنة هو
استغللهم للسلطة الزمنية .والتفت البشر الذين عاصروا هؤلء الكهنة أن الواحد منهم يقضي في
قضية بحكم ،ثم يقضي في مثيلتها بحكم مخالف ،ويغير من حكمه لقاء ما يأخذ من أجر ،فتشكك
فيهم الناس ،وعرفوا أنهم يلوون الحكام حسب أهوائهم؛ لذلك ترك الناس حكم الكهنة ،ووضعوا
هم القوانين المناسبة لهم.
إذن فالسلطة الزمنية هي التي جعلت من أتباع بعض الرسل يتعصبون لرسلهم .فإذا ما جاء
رسول آخر ،فإن أصحاب السلطة الزمنية يقاومون اليمان برسالته حتى ل يأخذ منهم السلطة
الزمنية .ولذلك يعادونه؛ لن الصل في كل رسول أن يبلغ أتباعه والذين آمنوا به ،أنه إذا جاء
رسول من عند ال فعليكم أن تسارعوا أنتم إلى اليمان به {.وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم
خذْتُمْ
ح ْكمَةٍ ثُمّ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ بِ ِه وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْ ُت ْم وَأَ َ
مّن كِتَابٍ َو ِ
شهَدُو ْا وَأَنَاْ َم َعكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ }[آل عمران]81 :
عَلَىا ذاِل ُكمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ
وهكذا أخذ ال الميثاق من النبيين بضرورة البلغ عن موكب الرسالة حتى النبي الخاتم {.إِنّ الّذِينَ
َي ْكفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِ ِه وَيُرِيدُونَ أَن ُيفَ ّرقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِ ِه وَيقُولُونَ ُن ْؤمِنُ بِ َب ْعضٍ وَ َن ْكفُرُ بِ َب ْعضٍ
خذُواْ بَيْنَ ذاِلكَ سَبِيلً }[النساء]150 :
وَيُرِيدُونَ أَن يَتّ ِ
أي أنهم يحاولون أن يفرقوا بين ال ورسله بأحكامهم التي كانوا يتبعون فيها أهواءهم للبقاء على
السلطة الزمنية ،من أجل أن يقيموا أمرا هو بين بين ،وليس في اليمان " بين بين "؛ فإما اليمان
وإما الكفر .والنظرة إلى كل هذه الية نجدها في معظمها معطوفات ،ولم يتم فيها الكلم وهي في
كليتها مبتدأ ،ل بد لها من خبر ،ويأتي الخبر في الية التاليةُ } :أوْلَـا ِئكَ ُهمُ{ ...
()637 /
و " الكافرون حقا " مقصود بها أن حقيقة الكفر موجودة فيهم؛ لننا قد نجد من يقول :وهل هناك
كافر حق ،وكافر غير ذلك؟ نعم .فالذي ل يؤمن بكل رسالت السماء قد يملك بعضا من العذر،
لنه لم يجد الرسول الذي يبلغه .أما الذي جاءه رسول وله صلة إيمانية به؛ وهذه الصلة اليمانية
لحمته بالسماء بوساطة الوحي ،فإن كفر هذا النسان فكفره فظيع مؤكدُ { .أوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ
حقّا }.
َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونلحظ أن الحق ساعة يتكلم عن الكافرين ل يعزلهم عن الحكم والجزاء الذي ينتظرهم ،بل يوجد
حقّا
الحكم معهم في النص الواحد .ول يحيل الحق الحكم إلى آية أخرىُ { :أوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ َ
عذَابا ّمهِينا } وقد جاء هنا بالجزاء على الكفر ملتصقا بالكفر ،فسبحانه قد جهز
وَأَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ َ
بالفعل العذاب المهين وأعَدّه للكافرين ولم يؤجل أمرهم أو يسوفه .ويقول رسول ال صلى ال
ي ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت "
عليه وسلم " :إن الجنّة عرضت عل ّ
ل وعرضها على الرسول صلى ال عليه وسلم ،ولو شاء الرسول أن
لقد أعد الحق الجنة والنار فع ً
يأتي المؤمنين بقطاف من ثمار الجنة لفعل .فإياكم أن تعتقدوا أن ال سيظل إلى أن تقوم الساعة،
ثم يرى كم واحدا قد كفر فيعد لهم عذابا على حسب عددهم ،ـو كم واحدا قد آمن فيعد لهم جنة
ونعيما على قدر عددهم ،بل أعد الحق الجنة على أن كل الناس مؤمنون ولهم مكان في الجنة،
وأعد النار على أن كل الناس كافرون ولهم أماكن في النار .فيأتي المؤمن للخرة ويأخذ المكان
المعد له ،ويأخذ أيضا بعضا من الماكن في الجنة التي سبق إعدادها لمن كفر .مصداقا لقوله
الحقُ {:أوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْلوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[المؤمنون]11-10 :
فسبحانه لم ينتظر ولم يؤجل المسألة إلى حد عمل الحصائية ليسأل من الذي آمن ومن الذي كفر،
ليعد لكل جماعة حسب تعدادها نارا أو جنة ،بل عامل خلقه على أساس أن كل الذي يأتي إليه من
البشر قد يكون مؤمنا ،لذلك أعد لكل منهم مكانا في الجنة ،أو أن يكون كافرا ،فأعد لكل منهم
ت وَ َتقُولُ َهلْ مِن
ل ِ
جهَنّمَ َهلِ امْتَ َ
مكانا في النار .ونجد السؤال في الخرة للنارَ {:يوْمَ َنقُولُ ِل َ
مّزِيدٍ }[ق]30 :
فالنار تطلب المزيد للماكن التي كانت معدة لمن لم يدخلها أنه آمن بال .ويرث الذين آمنوا
الماكن التي كانت معدة لمن لم يدخل الجنة لنه كفر بال وبرسله وفرق بين ال ورسله وقال
نؤمن ببعض ونكفر ببعض .ويأتي من بعد ذلك المقابل للذين كفروا بال ورسله وهم المؤمنون،
هذا هو المقابل المنطقي.
والمجيء بالمقابلت أدعى لرسوخها في الذهن .مثال ذلك عندما ينظر مدير المدرسة إلى شابين،
كل منهما في الثانوية العامة ،فيقول :فلن قد نجح لنه اجتهد ،والثاني قد خاب وفشل .هذه
المفارقة تحدث لدى السامع لها المقارنة بين سلوك الثنين.
وهاهو ذا الحق يأتي بالمقابل للكافرين بال ورسله { :وَالّذِينَ آمَنُواْ} ...
()638 /
غفُورًا
س ْوفَ ُيؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ َوكَانَ اللّهُ َ
وَالّذِينَ َآمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِهِ وَلَمْ ُيفَ ّرقُوا بَيْنَ َأحَدٍ مِ ْنهُمْ أُولَ ِئكَ َ
رَحِيمًا ()152
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويؤكد الحق هنا على أمر واضح :هو { :وَلَمْ ُيفَ ّرقُواْ بَيْنَ َأحَدٍ مّ ْنهُمْ } وكلمة " أحد " في اللغة تطلق
مرة ويراد بها المفرد ،ومرة يراد بها المفردة ،ومرة يراد بها المثنى مذكرا أو المثنى مؤنثا أو
جمع الناث وجمع التذكير .وهكذا تكون " أحد " في هذه الية تشمل كل الرسل ،بدليل قول الحق
حدٍ مّنَ النّسَآءِ }[الحزاب]32 :
سبحانه وتعالى {:يانِسَآءَ النّ ِبيّ لَسْتُنّ كَأَ َ
فكلمة أحد يستوي فيها المذكر والمؤنث والمثنى والمفرد والجمع .وكما قال الحق عن الذين
عذَابا
حقّا وَأَعْتَدْنَا ِل ْلكَافِرِينَ َ
يكفرون بال ورسله أو يفرقون بين الرسلُ { :أوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ َ
ّمهِينا } .يقول الحق في هذه الية عن الذين آمنوا بال ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم:
ح ْكمُه .ومن
غفُورا رّحِيما } فكل مقابل قد جاء معه ُ
س ْوفَ ُيؤْتِيهِمْ أُجُورَ ُه ْم َوكَانَ اللّهُ َ
{ ُأوْلَـا ِئكَ َ
بعد ذلك يقول الحقَ { :يسْأَُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ} ...
()639 /
سمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى َأكْبَرَ مِنْ ذَِلكَ َفقَالُوا أَرِنَا اللّهَ
يَسْأَُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَنْ تُنَ ّزلَ عَلَ ْي ِهمْ كِتَابًا مِنَ ال ّ
ك وَآَتَيْنَا
جلَ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َفعَ َفوْنَا عَنْ ذَِل َ
خذُوا ا ْلعِ ْ
جهْ َرةً فََأخَذَ ْتهُمُ الصّاعِقَةُ ِبظُ ْل ِمهِمْ ُثمّ اتّ َ
َ
مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ()153
هذا خطأ منهم في السؤال ،وكان المفروض أن يكون :يسألك أهل الكتاب أن تسأل ال أن ينزل
عليهم كتابا .وقد حاول المشركون في مكة أن يجدوا في القرآن ثغرة فلم يجدوا وهم أمة فصاحة
وبلغة ولسان ،واعترفوا بأن القرآن عظيم ولكن الفة بالنسبة إليهم أنه نزل على محمد صلى ال
عظِيمٍ }[الزخرف]31 :
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
عليه وسلمَ {:وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
هم اعترفوا بعظمة القرآن ،واعترافهم بعظمة القرآن مع غيظهم من نزوله على رسول ال صلى
ال عليه وسلم جعلهم مضطربين فكريا ،لقد اعترفوا بعظمة القرآن بعد أن نظروا إليه ..فمرة
قالوا :إنه سحر ،ومرة قالوا :إنه من تلقين بعض البشر ،وقالوا :إنه شعر ،وقالوا :إنه من أساطير
جلٍ
علَىا رَ ُ
الولين .وكل ذلك رهبة أمام عظمة القرآن .ثم أخيرا قالواَ { :ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ َ
مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }.
ولكن ألم يكن هو القرآن نفسه الذي نزل؟ إذن .فالفة -عندهم -أنه نزل على محمد صلى ال
سدُونَ النّاسَ عَلَىا مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ }[النساء]54 :
عليه وسلم ،وذلك من الحسد {:أَمْ يَحْ ُ
لن قولهم ل يتسم أبدا بالموضوعية ،بل كل كلمهم ُبعْدٌ عن الحق وتخبط .لقد قالوا مرة عن
القرآن :إنه سحر ،وعندما سألهم الناس :لماذا لم يسحركم القرآن إذن؟ فليس للمسحور إرادة مع
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الساحر .ولم يجدوا إجابة .وقالوا مرة عن القرآن :إنه شعر ،فتعجب منهم القوم لنهم أمة الشعر،
وقد سبق لهم أن علقوا المعلقات على جدار الكعبة ،لكنه كلم التخبط.
إذن فالمسألة كلها تنحصر في رفضهم اليمان ،فإذا أمسكتهم الحجة من تلبيبهم في شيء ،انتقلوا
إلى شيء آخر.
ويوضح سبحانه :إن كانوا يطلبون كتابا فالكتاب قد نزل ،تماما كما نزل كتاب من قبل على
موسى .وماداموا قد صدقوا نزول الكتاب على موسى ،فلماذا ل يصدقون نزول الكتاب على
علَ ْيهِمْ كِتَابا
محمد؟ ول بد أن هناك معنى خاصا وراء قوله الحق { :يَسْأَُلكَ َأ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَن تُنَ ّزلَ َ
سمَآءِ } .ونعلم أن الكتاب نزل على موسى مكتوبا جملة واحدة ،وهم كأهل كتاب يطلبون
مّنَ ال ّ
نزول القرآن بالطريقة نفسها ،وعندما ندقق في الية نجدهم يسألون أن ينزل عليهم الكتاب من
السماء؛ وكأنهم يريدون أن يعزلوا رسول ال وأن يكون الكلم مباشرة من ال لهم؛ لذلك يقول
سمْنَا بَيْ َن ُهمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا
ح َمتَ رَ ّبكَ نَحْنُ قَ َ
سمُونَ َر ْ
الحق في موقع آخر {:أَ ُهمْ َيقْ ِ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ }[الزخرف]32 :
َب ْع َ
الحق -إذن -قسم المور في الحياة الدنيا ،فكيف يتدخلون في مسألة الوحي وهو من رحمة ال:
سمَآءِ } .وهم قد نسبوا التنزيل إلى رسول ال،
{ َيسْأَُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَن تُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ كِتَابا مّنَ ال ّ
ورسول ال ما قال إني نزّلْت ،بل قال " :أنزل علي ".
ويقال في رواية من الروايات أن كعب بن الشرف والجماعة الذين كانوا حوله أرادوا أن ينزل
الوحي على كل واحد منهم بكتاب ،فيقول الوحي لكعب " :يا كعب آمن بمحمد ".
ويًنَ ّزلُ إلى كل واحد كتابا بهذا الشكل الخصوصي .أو أن ينزل ال لهم كتابا مخصوصا مع
القرآن .وكيف يطلبون ذلك وعندهم التوراة ،ويوضح ال تسلية لرسوله صلى ال عليه وسلم :ل
تستكثر منهم يا محمد أن يسألوك كتابا ينزل عليهم لنهم سألوا موسى أكبر من ذلك ،وطلبهم
تنزيل الكتاب ،هو طلب لفعل من ال ،وقد سبق لهم الغلو أكثر من ذلك عندما قالوا لموسى} :
جهْ َرةً { .وهم بمثل هذا القول تعدوا من فعل ال إلى ذات الحق سبحانه وتعالى ،لذلك ل
أَرِنَا اللّهَ َ
تستكثر عليهم مسألة طلبهم لنزول كتاب إليهم ،فقد سألوا موسى وهو رسولهم رؤية ال جهرة} :
سمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىا َأكْبَرَ مِن ذاِلكَ َفقَالُواْ أَرِنَا اللّهَ
يَسْأَُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَن تُنَ ّزلَ عَلَ ْي ِهمْ كِتَابا مّنَ ال ّ
جهْ َرةً فََأخَذَ ْتهُمُ الصّاعِقَةُ ِبظُ ْل ِمهِمْ {.
َ
ولحظة أن ترى كلمة " الصاعقة " تفهم أنها شيء يأتي من أعلى ،يبدأ بصوت مزعج .وقلنا من
صوَاعِقِ }
جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِنهِم مّنَ ال ّ
قبل أثناء خواطرنا حول آية في سورة البقرة {:يَ ْ
[البقرة]19 :
أي أنهم يضعون أصابعهم في آذانهم من الصواعق ،وهذا دليل على أن صوت الصاعقة مزعج قد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يخرق طبلة الذن ،ودليل على أن ازعاج الصاعقة فوق طاقة النسداد بأصبع واحدة؛ لن النسان
ساعة يسد أذنيه يسدها بطرف الصبع ل بكل الصابع .وبلغ من شدة ازعاج الصوت أنهم كلما
وضعوا أناملهم في آذانهم لم يمتنع الصوت المزعج.
إذن فالصاعفة صوت مزعج يأتي من أعلى ،وبعد ذلك ينزل قضاء ال إما بأمر مهلك وإمّا بنار
ظ ْل ِمهِمْ { والظلم هو أن تجعل حقا لغير صاحبه؛ ول
عقَةُ بِ ُ
خذَ ْتهُمُ الصّا ِ
تحرق وإما بريح تدمر } فَأَ َ
تجعل حقا لغير صاحبه إل أن تكون قد أخذت حقا من صاحبه .وسؤالهم هذا لون من الظلم؛ لن
الدراك للشياء هو إحاطة المُدْرِك بالمُدْرَك.
وحين تدرك شيئا بعينك فمعنى ذلك أن عينك أحاطت بالشيء المدَرَك وحيّزته بالتفصيل ،وكذلك
اللمس لمعرفة النعومة أو الخشونة ،وكذلك الذوق ليحس النسان الطعم .إذن فمعنى الدراك
بوسيلة من الوسائل أن تحيط بالشيء ال ُمدْرَك إحاطة شاملة جامعة.
فإذا كانوا قد طلبوا أن يروا ال جهرة ،فمعنى ذلك أنهم طلبوا أن تكون آلة الدراك وهي العين
محيطة بال .وحين يحيط المُدْرِك بالمُدْرَك ،يقال قدر عليه .وهل ينقلب القادر العلى مقدورا
عليه؟ حاشا ل .وذلك مطلق الظلم ونهايته ،فمن الجائز أن يرى النسان إنسانا ،ولكن ل يستقيم
أبدا ول يصح أن ينقل النسان هذه المسألة إلى ال ،لماذا؟ لنه سبحانه القائل:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جلَ مِن َبعْدِ مَا جَآءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َف َع َفوْنَا عَن
هكذا قابلوا جميل ال بالنكران والكفران } .ثُمّ اتّخَذُواْ ا ْل ِع ْ
ك وَآتَيْنَا مُوسَىا سُلْطَانا مّبِينا { والسلطان المبين الذي آتاه ال لموسى عليه السلم هو التسلط
ذاِل َ
والستيلء الظاهر عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم ،وجاءوا بالسيوف لن ال قد أعطى سيدنا
موسى قوة فل يخرج أحد عن أمره ،والقوة سلطان قاهر.
ومن بعد ذلك يقول الحق } :وَ َر َفعْنَا َف ْو َقهُمُ الطّورَ{ ...
()640 /
وَ َر َفعْنَا َف ْو َقهُمُ الطّورَ ِبمِيثَا ِقهِ ْم َوقُلْنَا َلهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا َوقُلْنَا َلهُمْ لَا َت ْعدُوا فِي السّ ْبتِ وََأخَذْنَا
مِ ْنهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ()154
إذن اجتراؤهم في البداية كان في طلب رؤية ال جهرة ،ثم العملية الثانية وهي اتخاذهم العجل
إلها .ويعالج ال هؤلء بالوامر الحسية ،لذللك نتق الجبل فوقهم {:وَإِذ نَ َتقْنَا الْجَ َبلَ َف ْو َقهُمْ كَأَنّهُ ظُلّةٌ
وَظَنّواْ أَنّ ُه وَاقِعٌ ِب ِهمْ }[العراف]171 :
مثل هؤلء ل يرضخون إل باليات المادية ،لذلك رفع ال فوقهم الجبل ،فإما ان يأخذوا ما آتاهم
ال بقوة وينفذوا المطلوب منهم ،وإما أن ينطبق عليهم الجبل ،وهكذا نرى أن كل اقتناعاتهم نتيجة
للمر المادي ،فجاءت كل المور إليهم من جهة المادةَ { .وقُلْنَا َلهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّدا } .أي أن
يدخلوا ساجدين ،وهذا إخضاع مادي أيضا .وكان هذا الباب الذي أمرهم موسى أن يدخلوه
ساجدين هو باب قرية أريحا في الشامَ { .وقُلْنَا َل ُه ْم لَ َتعْدُواْ فِي السّ ْبتِ } وسبحانه قال عنهم {:إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتَا ُنهُمْ َيوْمَ سَبْ ِتهِمْ شُرّعا وَيَوْ َم لَ َيسْبِتُونَ لَ تَأْتِيهِمْ }[العراف]163 :
وكلمة " السبت " لها اشتقاق لغوي من " سبت " و " يسبت " أي سكن وهدأ .ويقول الحق سبحانه{:
ج َعلَ َل ُكمُ اللّ ْيلَ لِبَاسا وَال ّنوْمَ سُبَاتا }[الفرقان]47 :
وَ ُهوَ الّذِي َ
أي جعل النوم سكنا لكم وقطعا لعمالكم وراحة لبدانكمَ { .وقُلْنَا َلهُ ْم لَ َتعْدُواْ فِي السّ ْبتِ } أي
نهاهم ال أن يصطادوا في يوم السبت .ويأتي يوم السبت فتأتيهم الحيتان مغرية تخرج أشرعتها
من زعانفها وهي تعوم فوق الماء ،أو تظهر على وجه الماء من كل ناحية ،وهذا من البتلءات.
ن لَ تَأْتِيهِمْ } أي أن اليام التي يكون مسموحا لهم فيها بالصيد ل تأتي لهم
{ وَ َيوْ َم لَ يَسْبِتُو َ
السماك ،ولذلك يحتالون ويصنعون الحظائر الثابتة من السلك ليدخلها السمك يوم السبت ول
يستطيع الخروج منها.
لقد احتالوا على أمر ال .هكذا يبين الحق سبحانه وتعالى مراوغة بني إسرائيل .وفعل ال بهم كل
ذلك ولكنهم احتالوا وتمردوا ورّدوه ،وحين يهادن الحق القوم الذين يدعوهم إلى اليمان فسبحانه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ُيقَدر أنه خلقهم ويُقدر الغريزة البشرية التي قد يكون من الصعب أن تلين لول داع ،فهو يدعوها
مرة فل تستقبل ،فيعفو .ثم يدعوها مرة فل تستقبل فيعفو ،ثم يدعوها مرة فل تستقبل فيعفو .وأخذ
ال عليهم العهد الوثيق المؤكد بأن يطيعوه ولكنهم عصوا ونقضوا العهد ،وبعد ذلك يقول لنا الخبر
ضهِم مّيثَا َقهُمْ} ...
لنتعلم أن ال ل يمل حتى تملوا أيها البشر .فسبحانه يقول من بعد ذلك { :فَ ِبمَا َن ْق ِ
()641 /
لقد نقضوا كل المواثيق والشياء التي تقدمت .ومعنى الميثاق هو العهد المؤكد الموثق .ونقض
الميثاق هو حله ،وهذا ما يستوجب ما يهددهم ال به ،وكفروا بآيات ال التي أنزلها لتؤيد موسى
عليه السلم ،وقتلوا أنبياء ال بغير حق .وادعوا -تعليلً لذلك -أن قلوبهم غلف ل تسمع
للدعوى اليمانية ،أي أن قلوبهم مغلفة مغطاة أي جُعل عليها غلفٌ ،بحيث ل يخرج منها ما فيها
ول يدخل فيها ما هو خارج عنها .وأرادوا بذلك الستدراك على ال ،فقالوا :قلوبنا ل يخرج منها
سوَآءٌ عَلَ ْي ِهمْ
ضلل ول يدخل فيها إيمان .وسبق أن تقدم مثل هذا في قول الحق {:إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َ
س ْم ِعهِ ْم وَعَلَىا أَ ْبصَارِهِمْ غِشَا َوةٌ
أَأَنذَرْ َت ُهمْ أَمْ َلمْ تُنْذِ ْرهُ ْم لَ ُي ْؤمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ وَعَلَىا َ
وََلهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }[البقرة]7-6 :
ونقول :أهي القلوب خُلقت غلفا ..أي أن القلوب خلقت مختوما عليها بحيث ل يدخلها هدى ول
يخرج منها ضلل ،أم أنتم الذين فعلتم الختم وأنتم الذين صنعتم الغلف؟
وسبحانه أوضح في آيتي سورة البقرة أنه جل وعل الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى
أبصارهم غشاوة .فالختم على القلب حتى ل يتعرفوا إلى الدليل؛ لن القلب محل الدلة واليقين
والعقائد .والختم على السماع والبصار هو الختم على آلت إدراك الدلئل البينات على وجود
الحق العلى؛ فمقر العقائد مختوم عليه وهو القلب ،ومضروب على الذان وعلى البصر غشاوة،
فهل هذا كائن بطبيعة تكوين هؤلء؟ ل؛ لنه إذا كان هذا بطبيعة التكوين فلماذا خصّهم ال بذلك
التكوين؟ ولماذا لم يكن الذين اهتدوا مختوما ل على قلوبهم ول على أسماعهم ول على أبصارهم؟
غير أن الواحد منهم يبرر لنفسه وللخرين انحرافه وإسرافه على نفسه بالقول " :خلقني ال هكذا "
وهذا قول مزيف وكاذب؛ لن صاحبه إنما يكفر أولً ،فلما كفر وانصرف عن الحق تركه ال
على حاله؛ لن ال أغنى الشركاء عن الشرك ،فمن اتخذ مع ال شريكا فهو للشريك وليس ل.
إذن فالختم جاء كنتيجة للكفر.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقدمت آيات سورة البقرة الحيثية :أن الكفر يحدث أولً ،ثم يأتي الختم على القلب والسمع والبصر
نتيجة لذلك .وهنا في آية سورة النساءَ { :و َقوِْلهِمْ قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَ ْيهَا ِب ُكفْرِهِمْ فَلَ
ُي ْؤمِنُونَ ِإلّ قَلِيلً } .فالكفر جاء أولً ،وفي ذلك رد على أي إنسان يقول " :إن ال ل يهديني " .ول
يلتفت إلى أن ال ل يهدي من كفر به ،وكذلك الفاسق أو الظالم ،والمثال الكبر على ذلك إبليس
الذي كفر أولً .وبعد ذلك تركه ال لنفسه واستغنى عنه.
ضهِم } لن الفهم السطحي لصول السلوب قد
ولنا هنا وقفة لفظية مع قوله الحق { :فَ ِبمَا َن ْق ِ
يتساءل :لماذا جاءت " ما " هنا؟ وبعضهم قال :إن " ما " هنا زائدة.
ونقول :إياك أن تقول إن في كلم ال حرفا زائدا؛ لن معنى ذلك أن المعنى يتم بغير وجوده
ويكون فضولً وزائدا على الحاجة ول فائدة فيه ،ولكن عليك أن تقول " :أنا ل أفهم لماذا جاء هذا
الحرف " ،خصوصا ونحن في هذا العصر نعيش كأمة بلغتها مصنوعة ،ول نملك اللسان
العربي المطبوع .ولول أننا تعلمنا العربية لما استطعنا أن نتكلمها .أما العربي الفصيح الذي نزل
عليه القرآن فقد كان يتكلم اللغة العربية دون أن يجلس إلى معلم ،ولم يتلق العلم بأن الفاعل
مرفوع والمفعول منصوب بل تكلم اللغة بطبيعته وملكته.
أما نحن فنعيش في زمن مختلف .وطغت علينا العجمة وامتلت آذاننا باللحن ،وصرنا نُعلّم أنفسنا
قواعد اللغة العربية حتى نتكلم بأسلوب صحيح.
وقد جاءت القواعد في النحو من الستنباط من السليقة العربية الولى التي كانت بغير تعليم.
واستقرأ العلماء الساليب العربية فوجدوا أن الفاعل مرفوع والمثنى يُرفع باللف ،وجمع المذكر
السالم يُرفع بـ " الواو "؛ وهكذا أخذنا القواعد من الذين ل قواعد لهم بل كانوا يتكلمون بالسليقة
وبالطبيعة والملكة.
ضهِم { ولم ينتبه واحد منهم إلى أن
لقد سمع العربي قديما ساعة نزل القرآن قوله الحق } :فَ ِبمَا َن ْق ِ
شيئا قد خرج عن السلوب الصحيح ،ونعلم أن بعضا من العرب كانوا كافرين برسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ول يصدقون القرآن ،ولو كانت هناك واحدة تخرج عن المألوف في اللغة
لصرخوا بها وأعلنوها .ولكن القرآن جاء بالكلم المعجز على لسان محمد صلى ال عليه وسلم
ليبلغهم به ،موضحا :جئت بالقرآن معجزة تعجزون عن محاكاته؛ مع أنكم عرب وفصحاء.
والمتحدّى يحاول دائما أن يتصيد خطأ ما ،ولم يقل واحد من العرب إن في القرآن لحنا ،وهذا
دليل على أن السلوب القرآني يتفق مع الملكة العربية.
ضهِم { هي في الصل :بنقضهم الميثاق فعلنا بهم ما صاروا إليه ،و " ما "
وقوله الحق } :فَ ِبمَا َن ْق ِ
جاءت هنا لماذا؟ قال بعض العلماء :إنها " ما " زائدة ،وهي زائدة للتأكيد .ونكرر :إياك أن تقول
إن في كلم ال حرفا زائدا ،لقد جاءت " ما " هنا لمعنى واضح .والحق في موقع آخر من القرآن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول {:مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَ نَذِيرٍ }[المائدة]19 :
وقالوا :إن أصل العبارة " ما جاءنا بشير " ،وإن " مِن " جاءت زائدة حتى يتسق اللفظ .ونقول:
لو أن العبارة جاءت كما قالوا لما استقام المعنى ،وليضاح ذلك أضرب هذا المثل -ول المثل
العلى -عندما يقول واحد " :ما عندي مال " فهذا نفى أن يكون عند القائل مال ،ولعل لديه قدرا
من المال القليل الذي ل يستأهل أن يسميه مالً.
ولكن إذا قال واحد " :ما عندي من مال " فالمعنى أنه ل يملك المال على إطلقه أي أنه مفلس
تماما ،ول يملك أي شيء من بداية ما يقال إنه مال .إذن " ما جاءنا بشير " ليست مثل قوله " :ما
جاءنا من بشير " .فالمعنى أنه لم يأتهم أي رسول بشير أو نذير من بداية ما يقال إنه رسول.
إذن فقوله الحق } :فَ ِبمَا َن ْقضِهِم مّيثَا َقهُمْ { أي بسبب نقض الميثاق فعلنا بهم كذا .لماذا إذن أثار
العلماء هذه الضجة؟ السبب في ذلك هو وجود ما بعد " الباء " وقبل المصدر ،أي أنهم نقضوا
العهد بكل صورة من صوره ،فنقض العهد والميثاق له صور متعددة فـ (ما) هنا استفهامية
جاءت للتعجيب أي على أيّة صورة من صور نقض ونكث العهد لعناهم؟ لعناهم لكثرة ما نقضوا
ضهِم مّيثَا َقهُ ْم َو ُكفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ َوقَتِْلهِمُ الَنْبِيَآءَ ِبغَيْرِ
من العهود والمواثيق .والحق قد قال {:فَ ِبمَا َن ْق ِ
غ ْلفٌ َبلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَ ْيهَا ِب ُكفْرِهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُونَ ِإلّ قَلِيلً }[النساء]155 :
ق َو َقوِْلهِمْ قُلُوبُنَا ُ
حَّ
ولم يقل :فبما نقضتم ميثاقهم وكفرهم بآيات ال وقتلهم النبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف ،طبع
ال على قلوبهم .فوجود " بل " يدلنا على أن هناك أمرا أضربنا عنه .فنحن نقول :جاءني زيد بل
عمرو .أي أن القائل قد أخطأ ،فقال " :جاءني زيد " واستدرك لنفسه فقال " :بل عمرو " .وبذلك
نفى مجيء زيد وأكد مجيء عمرو.
علَ ْيهَا ِبكُفْرِ ِهمْ فَلَ ُي ْؤمِنُونَ ِإلّ قَلِيلً { .كان المقتضي في السلوب
والحق قالَ } :بلْ طَ َبعَ اللّهُ َ
العادي أن يقول " :بكفرهم وبقتلهم النبياء طبع ال على قلوبهم " .ولكن سبحانه لم يقل ذلك لحكمة
بالغة .وحتى نعرف تلك الحكمة فلنبحث عن المقابل لـ " طبع ال على قلوبهم " ،المقابل هو "
فتح ال على قلوبهم بالهدى ".
ضهِم مّيثَا َقهُ ْم َو ُكفْرِهِم بَآيَاتِ اللّ ِه َوقَتِْلهِمُ
وجاء قول الحق معبرا تمام التعبير عن موقفهم } :فَ ِبمَا َنقْ ِ
ق َو َقوِْلهِمْ قُلُوبُنَا غُ ْلفٌ َبلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَ ْيهَا {.
حّالَنْبِيَآءَ ِبغَيْرِ َ
وهكذا نرى عظمة القرآن الذي يأتي بالمعنى الدقيق ويجب أن نفكر فيه ونتدبر كل كلمة منه.
الحق -إذن -يقدم السباب لما صنعه بهم بالحيثيات ،من نقضهم للميثاق ،وكفرهم بآيات ال،
وبقتلهم للنبياء بغير حق؛ لذلك لم يفتح ال عليهم بالهدى ،بل طبع ال على قلوبهم بالكفر .فوجود
" بل " دليل على أن هناك أمرا قد نفي وأمرا قد تأكد .والمر الذي نفاه ال عنهم أنه لم يفتح عليهم
بالهدى واليمان ،والمر الذي تأكد أنه سبحانه قد طبع على قلوبهم بالكفر.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غ ْلفٌ بَل ّلعَ َنهُمُ اللّهُ ِب ُكفْرِهِمْ َفقَلِيلً مّا ُي ْؤمِنُونَ }[البقرة:
وفي آية أخرى قال عنهمَ {:وقَالُواْ قُلُوبُنَا ُ
]88
فقلوبهم ليست غلفا ،ولكن هي لعنة ال لهم وإبعاده لهم وطردهم واستغناؤه عنهم؛ لذلك تركهم
لنفسهم فغلبت عليهم الشهوات .ولماذا ذيل الحق الية بقوله } :فَلَ ُي ْؤمِنُونَ ِإلّ قَلِيلً {؟ لن
المقصود به عدم إغلق باب اليمان على إطلقه أمام هؤلء الناس ،وهو -كما عرفنا من قبل -
" صيانة الحتمال " .فقد يعلن واحد من هؤلء إيمانه الذي خبأه في نفسه ،فكيف يجد الفرصة
لذلك إن كان ال قد قال عنهم جميعا } وَطَ َبعَ اللّهُ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ {؟
غبُ في إعلن اليمان منهم ل يجد الباب مفتوحا ،ولكن عندما يجد الحق قد قال } :فَلَ
إن الذي يَرْ َ
ُي ْؤمِنُونَ ِإلّ قَلِيلً { فهو يعلم أن باب اليمان مفتوح للجميع .وبعد ذلك يقول الحق } :وَ ِبكُفْرِهِمْ
َوقَوِْلهِمْ{ ...
()642 /
ويقول قائل :ألم يقل الحق من قبل إن " كفرهم " هو سبب من أسباب طبع ال على قلوبهم؟ إياك
أن تقول إن هناك كلمة في القرآن مكررة لن الذي يتكلم هو ال سبحانه وتعالى الذي ل ينسى
شيئا ،ول يكرر من غير داع ،والكفر أيضا على درجات ،مرة يكون الكفر بال ،ومرة يكون
الكفر بآيات ال ،وثالثة يكون الكفر بالرسل ،ورابعة يكون الكفر ببعض النبيين ،وخامسة يكون
الكفر ببعض الكتب السماوية.
إذن فألوان الكفر شتى .والكفر في الية السابقة كان كفرا بآيات ال ،أما كفرهم في هذه الية
فالحق يشرحه { :وَ ِبكُفْرِهِمْ َوقَوِْلهِمْ عَلَىا مَرْ َيمَ ُبهْتَانا عَظِيما } .لقد كفروا بعيسى عليه السلم،
وقالوا البهتان العظيم على مريم ،هذا كفر بآيات ال وبرسول من عند ال.
وقوله الحق " :وبكفرهم " هو عطف على " نقضهم " وعلى " كفرهم بآيات ال " وعلى " قتلهم
النبياء " وعلى " قولهم قلوبنا غلف " .ونلحظ هنا أن الحق لم يذكر الباء التي جاءت في أول
ضهِم مّيثَا َقهُمْ }.
الية السابقة حين قال { :فَ ِبمَا َن ْق ِ
وهذا يدل على أننا أمام مناط الرحمة من ربنا سبحانه وتعالى .فقد كان يكفي ارتكابهم لي واحدة
من هذه العمال المذكورة لكي يطبع ال على قلوبهم ،ولكنهم ارتكبوا كل العمال المذكورة
ل واحدا منها .وهذا دليل على أن ال ل يتصيد ويحتال ليوقعهم في الكفر
مجتمعة ،ولم يرتكبوا فع ً
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن يحنن العباد إلى اليمان.
لقد ارتكبوا أربعة أفعال جسيمة :نقضوا الميثاق ،وكفروا بآيات ال ،وقتلوا النبياء بغير حق،
وادعوا أن ال طبع على قلوبهم.
وحين جعل هذا الفعال الربعة جريمة واحدة فهذا فضل ورحمة منه.
عظِيما } وهنا نجد أنه
وبعد ذلك يذكر لهم جريمة أخرى { :وَ ِب ُكفْرِهِ ْم َو َقوِْلهِمْ عَلَىا مَرْيَمَ ُبهْتَانا َ
سبحانه قد ساوى بين قولهم البهتان على مريم وبين كل الفعال السابقة؛ لنهم اعترضوا على
رسالة ونبوة عيسى عليه السلم وهو نبي من أولي العزم من الرسل بأشياء قد تكون ضمن
السباب التي فتنت بعض الناس فيه ،لقد خلقه ال خلقا خاصا .فسبحانه خلق الناس جميعا من آدم
عليه السلم الذي صوره ال من طين ثم نفخ فيه الروح ،وجاء الخلق من التزاوج.
أما عيسى عليه السلم فقد خلقه ال بطريقة خاصة ،فكيف كفروا به وكيف يتهمون أمه مريم
عليها السلم وهي البتول؟.
ومن الجائز أن تُتهم المرأة وترمى وتوصف بكل شيء :كاذبة ،سارقة ،أو دميمة ،لكن التهام في
العرض :ل .والحق هنا يحدد موضوعين للكفر :قولهم البهتان على مريم وهو كفر بال ،وكفرهم
بعيسى الذي جاء بميلد على غير طريقة الميلد العادية على الرغم من أن هذا تكريم له ولذع
لليهود الذين غرقوا في المادية حتى إنهم قالوا( :أرنا ال جهرة).
بل إن الحق رزقهم برزق غيبي ل يعرفون أسبابه :في التيه رزقهم بالمن والسلوى ،والمن في
لون القشدة وطعم العسل البيض وهو شيء يقع على أوراق الشجر في بعض البيئات ،والسلوى
طائر يشبه السّماني ،وكانوا يأخذون المن من الشجار ويجعلونه رزقا يأتيهم ول يزرعونه ول
يتعبون فيه .لكنهم قالوا :ل ،نحن نريد أن نزرع نباتا ينمو من الرض ول ننتظر الغيب ،لن
الغيب قد يضن علينا {.فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ الَ ْرضُ مِن َبقِْلهَا }[البقرة]61 :
هم -إذن -ل يثقون بما في يد ال ،ويريدون المر المادي ،ولذلك يلفتهم الحق سبحانه وتعالى
لفتة قسرية ،ويأتي بأمر يناقض قانون المادة من أساسه؛ وهو ميلد عيسى عليه السلم بأسلوب
غير تقليدي ،والنسان يأتي إلى الدنيا من أب وأم ،ويأتي الحق بعيسى مخلوقا من أم دون أب،
ل ّولِ َبلْ ُهمْ فِي لَبْسٍ مّنْ
قاَ
خلْ ِ
فانتقضت المادية ،وهم كماديين غفلوا عن الخلق الولَ {:أ َفعَيِينَا بِالْ َ
جدِيدٍ }[ق]15 :
خَ ْلقٍ َ
إذن فلماذا الفتنة في عيسى عليه السلم؟ .لقد نقض أمامهم الساس التقليدي المادي لمجيء
النسان إلى الدنيا من ذكر وأنثى ،وجاء عيسى عليه السلم من أم دون أب .ليثبت سبحانه طلقة
القدرة وأنه جعل السباب للبشر ،فإن أراد البشر مُسَبّبا فعليهم أن يأخذوا السباب ،أما سبحانه
وتعالى فهو مس ّببُ السباب وخالقها وهو القادر -وحده -على إيجاد الشيء بتنحية كل السباب.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونعلم أن قضية الخلق دارت على اربعة أنحاء ،إما أن ينشأ الشيء من وجود الشيئين ،هذه هي
الصورة الولى .وإما أن ينشأ الشيء من عدم وجود الشيئين وهذه هي الصورة الثانية .وإما أن
ينشأ الشيء من وجود الشيء الول وعدم وجود الشيء الثاني ،وهذه هي الصورة الثالثة ،وإما أن
ينشأ الشيء من وجود الشيء الثاني مع عدم وجود الشيء الول ،وهذه هي الصورة الرابعة.
تلك هي الصور الربع لوجود شيء ما .ولم يشأ ال أن يجعل الخلق -وهو النسان المكرم الذي
سخر له الحق كل ما في الكون -على نحو واحد؛ حتى ل يقولن أحد :إن السببية مشروطة
للوجود.
بل المسبّب هو المشروط في الوجود بدليل أنه سبحانه خلق آدم عليه السلم من غير أب ول أم،
وخلقنا جميعا نحن من أب وأم ،وخلق عيسى عليه السلم من أم دون أب ،وخلق حواء من أب
دون أم.
هذه هي القسمة العقلية الواضحة ،فليست المسألة عنصرية موجودة ،ولكن قيمة واقتدار واجد.
وقدرة الحق تتجلى أيضا أمامنا حينما تكون السباب موجودة كالب والم .لكن يشاء سبحانه أن
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ يَخُْلقُ مَا يَشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا
يكون الثنان عقيمين فهو القائل {:لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
عقِيما }
ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ
ج ُهمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ
وَ َيهَبُ ِلمَن يَشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ
[الشورى]50-49 :
إذن فليست المسألة مدار أسباب تُوجَد ،بل مسَ ّببِ يريد أن يُوجِد ،وأراد الحق أن يكون مجيء
عيسى عليه السلم بهذه الصورة ليلفت بني إسرائيل لعلهم يخرجون من ضللت المادية ،فأوجده
من أم دون أب ،فكان هذا آية على طلقة قدرته ،ولكن اليهود استقبلوا هذه المسألة استقبالً على
غير مراد ال ،فكذبوا عيسى ،وقد حدث التكذيب من قبل أن يتكلم عيسى بالنجيل .ووقفوا أمام
رسالته بعنف ،والذي يدلنا على أنهم قوم كذابون ،هو رغبتهم في استمرار السيطرة الدينية لهم،
وكان عندهم شريعة تقتضي الرجم للزانية ،فلماذا إذن لم يتهموا مريم بالزنا عندما ولدت عيسى؟
ولماذا لم يعاقبوها حسب سريعة التوراة؟ ولماذا انتظروا إلى أن يجيء عيسى عليه السلم
بالنجيل ليقولوا :يا فاعل يا ابن الفاعلة .كان انتظارهم دليلً على أن ميلد عيسى عليه السلم
كان آية بينة صدعتهم وصدتهم عن ذلك ،فقد نطق عيسى عليه السلم بعد ميلده ولم تتكلم مريم
قطّ؛ لن ما حدث أمر فوق منطقها ،وجهزها ال لهذا الموقف؟ ،وأمرها بالصمت عندما يسألونها،
وأن تشير إلى المولود الذي في المهد {:فَأَشَا َرتْ إِلَ ْيهِ قَالُواْ كَ ْيفَ ُنكَلّمُ مَن كَانَ فِي ا ْل َمهْ ِد صَبِيّا *
لةِ
جعَلَنِي مُبَارَكا أَيْنَ مَا كُنتُ وََأ ْوصَانِي بِالصّ َ
جعَلَنِي نَبِيّا * وَ َ
قَالَ إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ آتَا ِنيَ ا ْلكِتَابَ وَ َ
وَال ّزكَاةِ مَا ُد ْمتُ حَيّا }[مريم]31-29 :
وانبهروا انبهارا فتت فيهم القوى ،فقوى الخصومة ساعة ترى هذا ل تجد إل النهيار ،فألحق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أبلج ،والباطل لجلج .إذن كان المر بيدهم وفي توراتهم أن من يزن يرجم ،فلماذا لم يرجموا أم
عيسى إذن؟ .ل بد أنهم صدموا بقوة جعلت موازين حقدهم تختل ،المعجزة الباهرة هي كلم
جعَلَنِي نَبِيّا { وجعلت المفاجأة أقوى
عيسى ابن مريم في المهد } :إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَا ِنيَ ا ْلكِتَابَ وَ َ
القوياء فيهم ينهار ،وتخور قواه.
وعندما نقول هذا الكلم فليس الهدف منه تصحيح عقائد أحد ،ولكننا فقط نريد أن يتضح منطق
اليمان في عقول المسلمين ،أما أبناء الديانات الخرى فهم أحرار فيما يعتقدون ،والمهم بالنسبة لنا
أن يكون ديننا وقرآننا متضحا أمام أعيننا ،ول يجرؤ أحد أن يميل به.
عظِيما { ونحن كمسلمين نستنكف أن نقول ما قالوه من بهتان
} وَ ِب ُكفْرِهِ ْم َو َقوِْلهِمْ عَلَىا مَرْيَمَ ُبهْتَانا َ
على مريم البتول ،والبهتان هو الكذب الشرس .فهناك لون من الكذب قد يكون مقبولً ،ولون من
الكذب غير مقبول :فأن يقول قائل عن رجل ورع :إنه شرب الخمر ،والقائل يعلم أنه كاذب ،فهذا
كذب ثقيل شرس ،يتحير ويتعجب من يسمعه؛ وهذا هو البهتان .ولم يستح ويمتنع اليهود حينما
رموا مريم -الطاهرة بأمر ال -بالبهتان مع أنهم علموا أن لمريم سابقة خير واستقامة.
لقد كان ماضي مريم ناصعا؛ لنه جرح مريم في عرضها ،ولو رجعوا إلى تاريخهم قبل ميلد
عيسى من مريم لوجدوا أن كل واحدة من بنات بني إسرائيل كانت تستشرف أن يكون النبي
المولود بعد موسى من بطنها .وكانوا يعرفون أن النبي القادم من بعد موسى ستلده عذراء ،وأبلغ
بنو إسرائيل بناتهم بكيفية مجيء النبي القادم عيسى ابن مريم ،تماما مثل قضية البشارة برسول
ال محمد صلى ال عليه وسلم {:فََلمّا جَآءَهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة:
]89
ومن رحمة ال بمريم نفسها أن ال جعل لها التمهيدات التي تثبت لها أمام نفسها أنها بريئة ،وأن
العملية كلها قد تمت بـ " كن " من ال ،ولم يجعل ال المسألة سرّا عن مريم فتحمل بأمر قوله" :
كن " دون أن تدري ،ل .بل أراد سبحانه أن تكون عملية مادية .وجاء الملك لمريم ونفخ فيها
بالحمل .وعرفت هي السبب ماديا بالملك والنفخ حتى ل تتهم أو تشك بأن شيئا قد حدث لها وهي
نائمة أو غير ذلك.
لقد أراد ال المسألة على تلك الصورة ليجعلها أمرا يقطع الشك لديها ،وهي التي بُشرت به -
إيناسا لها -عندما كانت صغيرة قبل البلوغ وجاءها زكريا وهو الكفيل لها والذي يأتيها بالطعام
ودخل عليها المحراب فوجد عندها الرزق وسألها } :أَنّىا َلكِ هَـاذَا { أجابتُ {:هوَ مِنْ عِندِ اللّهِ
إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران]37 :
لقد نطقت مريم البتول من قبل } :إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ { ومن الحساب أن يكون
للمرأة زوج لترزق بالولد ،ولكن ال يرزق من يشاء بغير حساب .ومن العجيب أنها في هذا القول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نبهت زكريا إلى قضية كانت في بؤرة شعوره؛ ولذلك يقول الحق {:هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ قَالَ
سمِيعُ الدّعَآءِ * فَنَادَتْهُ ا ْلمَل ِئكَ ُة وَ ُهوَ قَائِمٌ ُيصَلّي فِي
َربّ َهبْ لِي مِن لّدُ ْنكَ ذُرّيّةً طَيّ َبةً إِ ّنكَ َ
حصُورا وَنَبِيّا مّنَ الصّاِلحِينَ *
ا ْلمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّ ُركَ بِ َيحْيَـىا ُمصَدّقا ِبكَِلمَةٍ مّنَ اللّ ِه وَسَيّدا وَ َ
قَالَ َربّ أَنّىا َيكُونُ لِي غُلَ ٌم َوقَدْ بََلغَنِي ا ْلكِبَ ُر وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَِلكَ اللّهُ َي ْفعَلُ مَا يَشَآءُ }[آل
عمران]40-38 :
إذن فقد شجعت مريم زكريا على أن يدعو ربه ،وتلك سلسلة تمهيدية ليطمئن إحساس مريم أن
ولدتها لعيسى عليه السلم إنما جاءت بـ " كن " وجاء لها الحق بفاكهة الصيف في الشتاء،
وعندما قالت لسيدنا زكريا } :إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ { تنبه ودخل من هذا الباب،
فدعا ربه على الرغم من علمه أن امرأته عاقر ،وأنه بلغ من الكبر عتيا ،ومفهوم لنا معنى قول
الرجل عن نفسه إنه بلغ من الكبر عتيا؛ أي أنه لم يعد يملك القدرة على النجاب.
وهذه القضية تعطينا سبقا قرآنيا لكثير من قضايا العلم {:قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَظْمُ مِنّي وَاشْ َت َعلَ
الرّأْسُ شَيْبا }[مريم]4 :
هذا القول هو أشبه بمذكرة تفسيرية لبلوغه من الكبر عتيا .ويثبت العلم الحديث أن العظام هي
آخر وعاء لتغذية النسان ،فإن امتنع النسان عن الطعام فالدهون التي في جسده تغذية .وإن امتنع
الماء عن النسان وهو المكوّن لتسعين في المائة من وزنه يمتص النسان الماء من خليا الجسم
والعضلت واللحم .ولذلك يقال في المثل العربي :سنة اذابت الشحم ،وسنة أفنت اللحم ،وسنة
محت العظم.
فكأن البداية تكون التغذية من الشحم ومن بعد ذلك من اللحم ومن بعد الشحم واللحم يأخذ الجسم
ظمُ مِنّي
غذاءه من العظم .وهذه هي التي جاءت على لسان سيدنا زكريا } :قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَ ْ
{ .فآخر مخزن للتغذية لم يعد به ما يمكن أن يستمد منه زكريا طاقة النجاب.
وما الذي يغذيه العظم من الجسم؟ إنه يغذي المخ ،وهو السيد العلى الذي يدير كل جارحة في
الجسم ،وتعمل كل جارحة في خدمته ،ويعيش المخ بطبيعة الحال كل عمره في خدمة الجوارح،
يرتب لها قدرات العمل والتفكير والحساس والسلوك ،وما دام المخ موجودا ،فكل شيء يتم
تعويضه.
ولذلك يحاولون -الن -تعريف الموت طبيا ،فيقولون :ل يحدث الموت مادامت خليا المخ
حية؛ فإذا ماتت خليا المخ فهذا هو الموت .ومن عجيب المر أن سيد النسان له مكان في أعلى
الجسم إنه هو المخ ،داخل الجمجمة ،أما النبات فسيده في الجذور .وإن لم تجد الجذور مياها تذيب
بها العناصر في الرض فالنبات يأخذ غذاءه من الورق ،وبعد أن يذبل الورق يأخذ النبات غذاءه
من الفروع الصغيرة .وعندما تذبل تلك القروع وتجف ول ينقذ النبات إل مجيء بعض الماء
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للجذور .وكذلك المخ بالنسبة للنسان.
حسَابٍ { فدعا
فكأن مريم شجعت سيدنا زكريا عندما قالت أمامه } :إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
سيدنا زكريا ال أن يرزقه بالولد ،فجاءه الولد .وهذه القضية نطقت بها مريم وتمت تجربتها في
سيدنا زكريا .وبعد ذلك جاءها البشير بميلد المسيح عيسى ابن مريم {:إِذْ قَاَلتِ ا ْلمَل ِئكَةُ يامَرْيَمُ
سمُهُ ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيها فِي الدّنْيَا وَالخِ َر ِة َومِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ *
إِنّ اللّهَ يُبَشّ ُركِ ِبكَِلمَةٍ مّنْهُ ا ْ
ل َومِنَ الصّالِحِينَ }[آل عمران]46-45 :
وَ ُيكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َمهْ ِد َو َكهْ ً
سسْنِي
كيف يصوغ القرآن هذه الصياغة ،وكيف تقول هي {:قَاَلتْ َربّ أَنّىا َيكُونُ لِي وَلَ ٌد وَلَمْ َيمْ َ
بَشَرٌ }[آل عمران]47 :
لقد كانت سيدتنا مريم البتول تحسن الستقبال عن ال ،فساعة سمعت أن اسمه المسيح عيسى ابن
مريم ،عرفت أن نسبه لها يعني أنه بل أب .وعرفت أن الحق سبحانه ما نسبه إليها إل لنه ل أب
له.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :و َقوِْلهِمْ إِنّا قَتَلْنَا ا ْل َمسِيحَ{ ...
()643 /
َوقَوِْلهِمْ إِنّا قَتَلْنَا ا ْلمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّ ِه َومَا قَتَلُو ُه َومَا صَلَبُوهُ وََلكِنْ شُبّهَ َلهُ ْم وَإِنّ الّذِينَ
ن َومَا قَتَلُوهُ َيقِينًا ()157
شكّ مِنْهُ مَا َل ُهمْ بِهِ مِنْ عِ ْلمٍ إِلّا اتّبَاعَ الظّ ّ
اخْتََلفُوا فِيهِ َلفِي َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" وقولهم { :إِنّا قَتَلْنَا ا ْلمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ } فكأن الحق لم يشأ أن يذكر عيسى ابن
مريم إل مرتبطا أو موصوفا بقوله { :رَسُولَ اللّهِ } لنعلم بشاعة ما فعلوه ،فعيسى ابن مريم رسول
ال على رغم أنوفهم ،وخاصة أن الكلم في مجال انكارهم وجحودهم لنعم ال ،وكفرهم بآيات ال،
وكأن الحق يسخر منهم؛ لنه ما كان ال ليرسل رسولً ليبين منهجه للناس ثم يسلط الناس على
قتله قبل أن يؤدي مهمته .وجاء بكلمة { رَسُولَ اللّهِ } هنا كمقدمة ليلتفت الذهن إلى أن ما قالوه
هو الكذب.
وبعد ذلك يقول لنا سبحانهَ { :ومَا قَتَلُو ُه َومَا صَلَبُوهُ } .وكلمة " وما صلبوه " هنا هي لتوضيح أن
مجرد ظنهم أنهم قتلوا المسيح جعلهم يشيعون ذلك ويعلنونه للناس ،وهم قد فعلوا ذلك قبل أن
يتوجهوا إلى فكرة الصلب ،فقد قتلوا شخصا شبهه ال لهم ولم يكن هو المسيح وصلبوه من بعد
ذلك ،وبمجرد قتل هذا الشخص طاروا بخبر القتل قبل أن تبدأ فكرة الصلب .ويقطع ال عليهم هذا
المر ،فيقولَ { :ومَا قَتَلُو ُه َومَا صَلَبُوهُ وَلَـاكِن شُبّهَ َلهُمْ }.
وقد لفتنا سبحانه من قبل إلى أن عملية ميلد المسيح تم استقبالها من بني إسرائيل بضجة ،فعلى
رغم علمهم خبر مجيء المسيح بالميلد من غير أب ،وعلى رغم أنهم علموا بناتهم الستشراف
أن يكون لية واحدة منهن شرف حمل المسيح ،وعلى رغم ذلك قالوا البهتان في مريم التي
اصطفاها ال.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هي دليل على هوج المحاولة للقتل ،فقد ألقى شبهه على شخص آخر .وذلك دليل على أن المسألة
كانت غير طبيعية ،ليس فيها حزم التبيّن من المتربصين القتلة .ونعلم أن الحواريين وأتباع سيدنا
عيسى كانوا يلفون رءوسهم ويدارون سماتهم ،ولذلك قال الحق لنا } :وَلَـاكِن شُبّهَ َلهُمْ { أي أنهم
قد شبه لهم أنهم قتلوه.
واختلفت الروايات في كلمة " شبه لهم " ،فمن قائل :إنهم حينما طلبوا عيسى ابن مريم ليقتلوه
دخل خوخة ،والخوخة هي باب في باب ،وفي البيوت القديمة كان يوجد للبيت باب كبير لدخال
الشياء الكبيرة ،وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الفراد ،وفي سقف يسمح
بمرور الفراد ،وفي سقف البيت توجد فتحة وكوّة اسمها (روزنة) أو (ناروظة).
فلما طلبوا عيسى دخل الخوخة ،ودخل خلفه رجل اسمه " تطيانوس " وعندما رأى سيدنا عيسى
هذا المر ألهمه ال أن ينظر إلى أعلى فوجد شيئا يرفعه ،فلما استبطأ القومُ " تطيانوس " خرج
عليهم فتساءلوا :إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس؟
إذن فقد اختلط عليهم الشبه بين " تطيانوس " وعيسى ،وألقى ال شبه عيسى على " تطيانوس "
فقتلوه .أو أن عيسى عليه السلم حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال لهم عيسى :أيكم
يُلقي عليه شبهي وله الجنة؟ فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة؟ وقدم عيسى عليه
السلم الجائزة الكبرى لي مؤمن ،وقبل واحد من الحواريين هذه المهمة ،ويقال له " سرخس ".
فألقى شبه المسيح عيسى عليه ،فقتل اليهود " سرخس ".
وقالوا :إنه حينما عرف بعض الذين ذهبوا لقتل عيسى أنه رُفع ،خافوا أن تنتشر حكاية رفع
عيسى بين الناس فيؤمنوا برسالة عيسى ،وقد ينتقم الناس من الذين أرادوا قتله .ولذلك جاء القتلة
بشخص وقتلوه وألقى على هذا القتيل شبه عيسى وأعلن القتلة أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم.
أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا نبي ال عيسى لليهود ،ولما رأى المشهد ووجد المتربصين
بعيسى يدخلون على الحواريين وفيهم عيسى وسأل المتربصون الحواريين :أيكم عيسى؟ فتيقظت
ملكة التوبة في نفس الذي وشى بعيسى وقادة تأنيب الضمير على خيانة الرسول إلى أن يقول" :
أنا عيسى " .ولم يتصور المتربصون أن يجيب إنسان على قولهم " :أيكم عيسى " .إل وهو عيسى
بالفعل؛ لن مشهد المتربصين يوحي أنهم سيقتلون عيسى .وقتلوا الذي اعترف على نفسه دون
تثبت .أو أن واحدا باع عيسى لقاء ثلثين دينارأً وتشابه عليهم كبيرا بتلك الروايات .فالمهم أنهم
قالوا قتلنا عيسى .وصلبناه.
وقرآننا الذي نزل على رسولنا صلى ال عليه وسلم قالَ } :ومَا قَتَلُو ُه َومَا صَلَبُوهُ وَلَـاكِن شُبّهَ َلهُمْ
{ .وقال الحق لنا :إنه رفع عيسى إليه ،وانتهت المسألة بالنسبة لنا؛ لننا كمؤمنين ل نأخذ
الجزئيات الدينية أولً فإن صدقناها آمنا ،ل .نحن نؤمن أولً بمُنَزّل هذه الجزئيات ونصدق من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بعد ذلك كل ما جاء منه سبحانه ،وهو قال ذلك فآمنا به وانتهت المسألة.
إن البحث في هذا المر ل يعنينا في شيء ،ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قالَ } :ومَا قَتَلُوهُ َومَا
صَلَبُوهُ وَلَـاكِن شُبّهَ َلهُمْ { .ويدلنا هذا القول على عدم تثبت القتلة من شخصية القتيل ،وهو أمر
متوقع في مسألة مثل هذه ،حيث يمكن أن تختلط المور.
إننا نرى ذلك في أية حادثة تحدث مع وجود أعدادا كبيرة من البشر وأعينهم مفتوحة ،وعلى
الرغم من ذلك تختلف فيها الروايات .بل وقد تكون الحادثة مصورة ومسجلة ومع ذلك تختلف
الروايات ،فما بالنا بوجود حادثة مثل هذه في زمن قديم ل توجد به كل الحتياطات التي نراها في
زماننا؟ إذن فاضطراب الراء والروايات في تلك الحادثة أمر وارد ،ويكفينا أن الحق سبحانه
وتعالى قالَ } :ومَا قَتَلُو ُه َومَا صَلَبُوهُ {.
فعيسى باق؛ لن الحق لم يأت لنا بخبر موت عيسى .ويبقى المر على أصل ما وردت به اليات
من أن ال سبحانه وتعالى رفع عيسى ابن مريم .وكمسلمين ل نستبعد أن يكون الحق سبحانه
وتعالى قد رفعه إلى السماء؛ لن المبدأ -مبدأ وجود بشر في السماء -قد ثبت لرسولنا صلى ال
عليه وسلم ،فقد حدثنا صلى ال عليه وسلم أنه عُرج به إلى السماء ،وأنه صعد وقابل النبياء
ورأى الكثير من الرؤى ،إذن فمبدأ صعود واحد من البشر من الرض وهو ل يزال على قيد
الحياة البشرية المادية إلى السماء أمر وارد.
والخلف يكون في المدة الزمنية ،لكنه خلف ل ينقض مبدأً ،سواء صعد وبقي في السماء دقائق
أو ساعات أو شهورا .فإن حاول أحد أن يشكك في هذه المسألة نقول له :كل أمر قد يقف العقل
فيه يتناوله الحق سبحانه وتعالى تناولً موسعا .فسبحانه خالق رحيم ل يورد نصا بحيث يتوقف
العقل أمامه ،فإن قبل العقل النص كان بها ،وإن لم يقبله وجدت له مندوحة ،لنه أمر ل يتعلق
بصلب العقيدة.
فهب أن إنسانا قال إن عيسى لم يرفع بل مات ،فما الذي زاد من العقائد وما الذي نقص؟ ذلك أمر
ل يضر ول ينفع .ومثل ذلك السراء ،جاء فيه الحق بالقول القرآني {:سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ
سمِيعُ
حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ
سجِ ِد ا َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ
لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ
ال َبصِيرُ }[السراء]1 :
ولم يقل الحق أي قول في أمر المعراج ،لن السراء آية أرضية ،انتقل فيها الرسول صلى ال
عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس .ونعلم أن رسول ال لم يذهب إلى بيت المقدس قبل السراء،
بدليل أن كفار مكة أرادوا إحراج الرسول فقالوا له :صف لنا بيت المقدس .وهم واثقون من عدم
ذهابه إليه من قبل .وكان في الطريق قوافل لهم رآها صلى ال عليه وسلم ،ووصف صلى ال
عليه وسلم بيت المقدس وقال لهم عن أخبار قوافلهم .وجاءت القوافل مثبتة لصدق محمد صلى ال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه وسلم.
إذن كان السراء برسول ال صلى ال عليه وسلم آية أرضية يمكن أن يقام عليها الدليل .ولذلك
سجِدِ
سجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ
جاء بها الحق صريحة فقال } :سُبْحَانَ الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ
ل ْقصَى {.
اَ
لكن المعراج لم يذكره الحق صراحة ،فلم يكن من قريش ول من أهل الرض من رأي سدرة
المنتهى ،ولم يكن لحد من أهل الرض القدرة على أن يصف طريق المعراج.
إذن فاليات التي يقف فيها العقل يتناولها القرآن تناولً موسعا رحمة بالعقول؛ لن النسان إن
اعتقد بها فهذا أمر جائز ،وعدم العتقاد بها ل يؤثر في أصل العقيدة ،ول في أصول التكليفات،
ومدارها التصديق .ومادام الحق سبحانه وتعالى قد فوض رسوله أن يعطينا أحكاما .إن عملنا بها
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ
جزانا ال الثواب ،وإن لم نعمل بها نالنا العقاب } َومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَ ُ
{ ،فكيف ل يفوضه في أن يقول لنا بعضا من الخبار؟!
ورسول ال صلى ال عليه وسلم فيما روي عن أبي هريرة -رضي ال عنه -وذكره البخاري
في صحيحه أنه قال:
" والذي نفسي بيده ،ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلً ،فيكسر الصليب ،ويقتل الخنزير،
ويضع الجزية ،ويفيض المال حتى ل يقبله أحد ،وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما
فيها " .ثم يقول أبو هريرة :اقرأوا إن شئتم " وإن من أهل الكتاب إل ليؤمنن به قبل موته ويوم
القيامة يكون عليهم شهيدا ".
هذه أخبار أخبرنا بها رسول ال صلى ال عليه وسلم .إذن ل توجد قضية عقدية تقف مستعصية
أمام عقول المسلمين خاصة .أن البعض قد يقول :إن الحق سبحانه قد قالِ {:إذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَىا
طهّ ُركَ مِنَ الّذِينَ َكفَرُواْ }[آل عمران]55 :
ك وَرَا ِف ُعكَ إَِليّ َومُ َ
إِنّي مُ َتوَفّي َ
وقد شرحنا من قبل في خواطرنا عن سورة آل عمران كل الشرح لهذه المسألة .قلنا :إن علينا أن
ننتبه إلى " واو العطف " بين " متوفيك " و " رافعك ".
ومن قال إن " واو العطف " تقتضي الترتيب؟ إن " واو العطف " تقتضي الجمع فقط كقولنا" :
جاءني زيد وعمرو " ،هذا يعني أن زيدا جاء مع عمرو .أو ان زيدا جاء أولً ،أو أن عمرا جاء
أولً وتبعه زيد ،فـ " الواو " ل تقتضي الترتيب ،وإنما مقتضاها الجمع فقط
لكن إن قلنا " جاءني زيد فعمرو " فزيد هو الذي جاء أولً وتبعه عمرو؛ لن " الفاء " تقتضي
الترتيب ،أما " الواو " فتأتي لمطلق الجمع ول تتعلق بكيفية الجمع ،وسبحانه قال } :إِنّي مُ َت َوفّيكَ
وَرَا ِف ُعكَ إَِليّ { هذا الضرب من الجمع ليدل على أن التوفي قد تم قبل الرفع ،ودليلنا أن الحق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه أنزل في القرآن آيات تدل على مثل هذا ،كقوله الحق {:وَإِذْ َأخَذْنَا مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَا َقهُ ْم َومِ ْنكَ
ح وَإِبْرَاهِيمَ }[الحزاب]7 :
َومِن نّو ٍ
فسبحانه أخذ الميثاق من محمد صلى ال عليه وسلم وجمع معه سيدنا نوحا وإبراهيم ،فهل هذا
الجمع كان قائما على الترتيب؟ ل؛ لن نوحا متقدم جدا في الموكب الرسالي وسبق سيدنا رسول
ال بسنوات طويلة ويفصل بينهما رسل كثيرون .إذن فـ " الواو " ل تقتضي الترتيب في الجمع.
ولماذا جاء الحق بأمر الوفاة مع أمر الرفع؟ جاء الحق بذلك ليشعر عيسى أن الوفاة أمر مقطوع
به ،لكن الرفع مجرد عملية مرحلية.
ك وَرَا ِف ُعكَ ِإَليّ {؛ لن النسان المخلوق ل مكون ومركب من مادة
أو جاء قوله الحق } :إِنّي مُ َت َوفّي َ
وفي داخلها الروح ،وعندما يريد الحق أن ينهي حياة إنسان ما ،فهو يقبضه بدون سبب وبدون
نقض في البينة ،ويموت حتف أنفه ،أما إذا ما ضرب إنسان إنسانا ضربة عنيفة على رأسه
فالمضروب أيضا يموت ،لن الروح ل تحل في جسم به عطب شديد.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعندما يخبرنا واحد من الناس أن جزءا من نيويورك اسمه " مانهاتن " .وأن مانهاتن هذه هي
جزيرة يصل تعداد سكانها إلى عشرة مليين نسمة ،وفيها ناطحات سحاب ،وجاء هذا الخبر ممن
ل نعرف عنه الكذب فيسمعه من لم يَر نيويورك ،فيصير مضمون الخبر عنده علما متيقنا؛ لن
الذي أخبر به موثوق به .وإن جاء آخر ووجه للسامع عن نيويورك دعوة لزيارتها ولبى السامع
الدعوة وذهب إلى نيويورك ،هنا تحول الخبر من " علم يقين " إلى " عين اليقين " .وإن جاء ثالث
وصحب السامع إلى قلب نيويورك وطاف به في كل شوارعها ومبانيها ،فهذا هو " حق اليقين "
وأسمى أنواع اليقين هو " حق اليقين " ،وقبلها " عين اليقين " ،وقبل " عين اليقين " " علم اليقين
".
()644 /
حكِيمًا ()158
َبلْ َر َفعَهُ اللّهُ إِلَيْ ِه َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ
لقد رفعه العزيز الذي ل يغلبه أحد على الطلق ،فهو القوي الشديد الذي ل ينال منه أحد ،فإذا
كانوا قد أرادوا قتل رسوله عيسى ابن مريم ،فال غالب على أمره ،وهو العزيز بحكمة.
ويقول الحق من بعد ذلك { :وَإِن مّنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ} ...
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()645 /
شهِيدًا ()159
وَإِنْ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ إِلّا لَ ُي ْؤمِنَنّ بِهِ قَ ْبلَ َموْتِ ِه وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكُونُ عَلَ ْيهِمْ َ
و " إن " هنا هي " إن " النافية ،وهي غير " إن " الشرطية .وإليكم هذا المثال عن " إن " النافية
من موضع آخر من القرآن حين قال الحق {:الّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآ ِئهِمْ مّا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ
ُأ ّمهَا ُتهُمْ ِإلّ اللّئِي وَلَدْ َنهُمْ }[المجادلة]2 :
يصحح الحق هنا الخطأ الذي وقع فيه هؤلء الذين يظاهرون من نسائهم بقول الواحد منهم
لزوجته " :أنت علي كظهر أمي " ،فيقول سبحانه {:إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ ِإلّ اللّئِي وَلَدْ َنهُ ْم وَإِ ّنهُمْ لَ َيقُولُونَ
غفُورٌ }[المجادلة]2 :
ل وَزُورا وَإِنّ اللّهَ َل َع ُفوّ َ
مُنكَرا مّنَ ا ْلقَ ْو ِ
فيوضح سبحانه :ما أمهاتهم إل اللئي ولدنهم .و " إن " في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا
الن عنها هي " إن " النافية.
كأن الحق يقول :ما من أهل الكتاب أحد إل ليؤمن به قبل موته .وهذا شرح لمعنى " إن النافية ".
وقد يقول قائل :ما حكاية الضمائر في هذه الية؟ فالية بها أكثر من ضمير ،مثل قوله الحق:
{ وَإِن مّنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ِإلّ لَ ُي ْؤمِنَنّ بِهِ قَ ْبلَ َموْتِهِ } وعلى من تعود " به)؟ وعلى من تعود الهاء في
آخر قوله " موته "؟ هل هو موت عيسى أو موت أي واحد من أهل الكتاب ،فالمذكور عيسى،
ومذكور أيضا أهل الكتاب ،فيصح أن يكون القول كالتي:
لن يموت واحد من أهل الكتاب إل بعد أن يؤمن بعيسى ،ويصح أيضا :لن يموت عيسى إل بعد
أن يؤمن به كل واحد من أهل الكتاب ،ولن الضمير ل يعرف إل بمرجعه ،والمرجع يبين
الضمير .فإن كانت هناك ألفاظ سبقت ..فكل منها يصح أن يكون مرجعا ،أو أن يعود الضمير
عمُ ِرهِ ِإلّ فِي كِتَابٍ }[فاطر:
على بعض مرجعه كقول الحقَ {:ومَا ُي َعمّرُ مِن ّم َعمّرٍ وَلَ يُن َقصُ مِنْ ُ
]11
والمعمّر هو النسان الذي طعن في السن ،ول ينقص من عمر هذا المعمّر إل كما أراد ال،
والهاء في " عمره " تعود إلى بعض من المعمّر .ذلك أن كلمة " معمّر " مكونة من عنصرين هما
" ذات الرجل " و " عمر الرجل " ،فلما عاد الضمير عاد على الذات دون التعمير ،فيكون المعنى
هو :وما يعمّر من معمّر ول ينقص من عمر ذات لم يثبت لها التعمير .وماذا يكون الحال حين
ع َمدٍ تَ َروْ َنهَا }[الرعد]2 :
سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ
يوجد مرجعان؟ مثل قوله الحقَ {:رفَعَ ال ّ
هنا نجد مرجعين " :السماء " و " العمد " فعلى أي منهما تعود الهاء الموجودة في كلمة " ترونها "
،هل تعود " الهاء " إلى المرجع الول وهو السموات ،أو للمرجع الثاني وهو " العمد "؟ يصح أن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تعود " الهاء " إلى السموات.
.أي خلق السموات مرتفعة قائمة بقدرته ل تستند على شيء وأنتم تنظرون إليها وتشاهدونها بغير
دعائم ،ويصح أيضا أن تعود إلى العمد .أي بغير العمد التي نعرفها ولكن رفعها الحق بقوانين
عمَدٍ تَ َروْ َنهَا { أي أن العمد مختفية عن رؤية البشر .وهكذا
الجاذبية .أو رفع السموات } ِبغَيْرِ َ
يصح أن يًنسب الضمير ويعود إلى أحد المرجعين.
والية التي نحن بصددها ،نجد أنه قد تقدم فيها شيئان هما المسيح وأهل الكتاب ،وفيهما ضميران
اثنان .فهل يعود الضميران على عيسى ،أو يعودان على أهل الكتاب؟ أو يعود ضمير منهما على
عيسى والخر على أهل الكتاب؟ وأي منهما الذي يرجع على عيسى ،وأي منهما الذي يرجع على
أهل الكتاب؟ أو أن هناك مرجعا ثالثا لم يُذكر ويعلم من السياق هو محمد صلى ال عليه وسلم،
ونجد أن الضميرين قد يرجعان إلى المرجع الثالث ،أي إلى محمد صلى ال عليه وسلم الذي بشر
بمجيئه عيسى ابن مريم ،وتواتر الحاديث عن أن عيسى يوشك أن ينزل فيكسر الصليب ويقتل
الخنزير ،ولسوف يصلي عيسى ابن مريم خلف واحد من أمة رسول ال محمد صلى ال عليه
وسلم.
ولماذا التقى النصارى مع اليهود في مسألة القتل والصلب؟ هم معذورون في ذلك؛ لن الحق لم
يأت ببيان فيها آنئذ .وقولهَ } :ومَا قَتَلُوهُ َومَا صَلَبُوهُ وَلَـاكِن شُبّهَ َلهُمْ { يدل على أنهم معذورون
إن قالوا ذلك .ولكن كان الواجب أن يتمردوا على مسألة الصلب هذه ،إن كان فيه ألوهية أو جزء
من ألوهية ،وكان من الواجب أن يخفوا مسألة الصلب .ويأتي السلم ليبرئ عيسى عليه السلم
من هذه المسألة ويعين أتباع عيسى على تبرءته منها.
ولكن لم يلتفت أتباع عيسى إلى قول السلم في هذه القضية } وَلَـاكِن شُبّهَ َلهُمْ { وكان يجب لن
يلتفت إليها أتباع المسيح .وحين يقص الحق كل ذلك فهو يحكم من بعد ذلك حكما إلهيا } :بَل
ّر َفعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ { النصارى يقولون بالرفع ،ولكن بعد الصلب .ونحن المسلمين نقول بالرفع ول
صلب ،رفعه ال إليه وسينزل .وحكمة ذلك أنه لم يوجد رسول من الرسل السابقين فُتن فيه قومه
فجعلوه بعضا من إله أو إلها فلم تسكت السماء عن ذلك ،فرفعه سبحانه وسينزله ليسفه هذه
القضية ،وبعد ذلك يجري عليه قدر ال في خلقه وهو الموت.
إن الذين يقفون في هذه المسألة يجب أل يقفوا ،لن مسألة سيدنا عيسى عليه السلم بدأها ال
بعجيبة خرقت النواميس لنه وُلد من أم دون أب .فإن كنتم قد صدقتم العجيبة في الميلد ،فلماذا ل
تصدقون العجيبة في مسألة الرفع؟
وإن قال واحد منا :لقد مات عيسى عليه السلم .نقول :ماذا تقولون في نبيكم محمد عليه الصلة
والسلم؟ أصعد إلى السماء معروجا به إليها؟ ألم يكن رسول ال حيا بقانون الحياء؟ نعم كان حيا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بقانون الحياء.
وظل رسول ال صلى ال عليه وسلم مدة وجيزة في السماء ثم نزل إلينا ،إذن فالمسألة في أن
يذهب خلق من خلق ال بإرادة الحق وقدرته إلى السماء وهو حي ثم ينزل إلى الرض وهو حيّ
ليس عجيبة.
والخلف بين رفع عيسى وصعود محمد صلى ال عليه وسلم بالمعراج خلف في المدة .وهذا ل
ينقض المبدأ؛ فالمهم أنه صعد بحياته ونزل بحياته ،وظل فترة من الزمن بحياته ،إذن فمسألة
الصعود إلى السماء والبقاء فيها لمدة أمر وارد في شريعتنا السلمية .ولتأكيد هذه المسألة يقول
الحق {:وَإِن مّنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ِإلّ لَ ُي ْؤمِنَنّ بِهِ قَ ْبلَ َموْتِهِْ }[النساء]159 :
السامع السطحي لهذه الية قد يقول :إنهم أهل كتاب ول بد أن يكونوا قد آمنوا به ،وأقول :ل ،لقد
آمنوا به إيمانا مرادا لنفسهم ،وليس اليمان المراد ل ،آمنوا به إلها أو جزءا من إله وهو ما
يسمى لديهم بالثالوث -الب والبن وروح القدس -ولكن ال يريد أن يؤمنوا به رسولً وبشرا
وعبدا.
شهِيدا
وإذ قال الحق } :وَإِن مّنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ِإلّ لَ ُي ْؤمِنَنّ بِهِ قَ ْبلَ َموْتِ ِه وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكُونُ عَلَ ْيهِمْ َ
{ فمعنى هذا :ما أحد من أهل الكتاب إل ويؤمن بعيسى عليه السلم رسولً وعبدا وبشرا قبل أن
يموت.
والضمير في قولهِ } :إلّ لَ ُي ْؤمِنَنّ ِبهِ { يرجع إلى عيسى .والضمير الخر الموجود في } قَ ْبلَ َموْتِهِ
{ قد يرجع إلى عيسى أي قبل موت عيسى ولن يموت عليه السلم الموتة الحقيقية التي تنهي أجله
في الحياة إل بعد أن يؤمنوا به عبدا ورسولً وبشرا ،ولن يتحقق ذلك إل إذا جاء بشحمه ولحمه
ودمه ليقول لهم :أنتم مخطئون في أنكم أنكرتم بشارتي بمحمد الخاتم ،وأنتم مخطئون في اتهامكم
لمي ،والدليل على خطئكم هو أنني جئت مبشرا برسول للناس كافة هو محمد بن عبدال ،وهأنذا
أصلي خلف واحد من أمة ذلك الرسول .فلن يأتي عيسى -عليه السلم -بتشريع جديد بل
ليصلي خلف واحد من المؤمنين بمحمد بن عبدال صلى ال عليه وسلم.
وحين يصنع عيسى ابن مريم ذلك ،ماذا سيقول الذين فُتِنوا فيه؟ .لشك أنهم سيعلنون اليمان
برسالة محمد صلى ال عليه وسلم ،أو أن كل كتابي من الذين عاشوا في المسافة الزمنية من بعد
رفعه وحتى نزوله مرة أخرى سيعلن اليمان بعيسى كبشر ورسول وعبد قبل أن يموت ولو في
غيبوبة النهاية عندما تبلغ الروح الحلقوم وتترد في الحلق عند الموت .فقد يصح أن تكون الية
عامة } وَإِن مّنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ِإلّ لَ ُي ْؤمِنَنّ بِهِ قَ ْبلَ َموْتِهِ { ويعود الضمير فيها إلى كل كتابي قبل أن
يموت.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن النفس البشرية لها هوى قد يستر عنها الحقائق ويغلق دونها باب اليقين ويدفعها إلى ذلك غرور
الحياة ،فإذا ما جاءت سكرة الموت بالحق ،انتهى كل شيء يُبعد النسان عن منهج الحق واليقين؛
ول تبقى إل القضايا بحقها وصدقها ويقينها ،وتستيقظ النفس البشرية لحظة تظن أنها ستلقى ال
فيها ويسقط غرور الحياة ،ويراجع النسان منهم نفسه في هذه اللحظة ،ويقول :أنا اتبعت هوى
نفسي .ولكن أينفع مثل هذا اللون من اليمان صاحبَه؟ ل؛ لن مثله في ذلك مثل إيمان فرعون،
فقد قال حين أدركه الغرق {:حَتّىا إِذَآ أَدْ َركَهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنّهُ ل إِلِـاهَ ِإلّ الّذِي آمَ َنتْ بِهِ بَنواْ
ل وَأَنَاْ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ }[يونس]90 :
إِسْرَائِي َ
عصَ ْيتَ قَ ْبلُ َوكُنتَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ }[يونس]91 :
ن َوقَدْ َ
فيسمع صوتَ الحق في تلك اللحظة {:آل َ
فلم ينتفع فرعون لحظة الغرق باليمان.
حضَرَ َأحَدَ ُهمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي
ستِ ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىا إِذَا َ
ويقول -سبحانه {:-وَلَيْ َ
ن وَهُمْ ُكفّارٌ ُأوْلَـا ِئكَ أَعْتَدْنَا َل ُهمْ عَذَابا َألِيما }[النساء]18 :
تُ ْبتُ النَ َولَ الّذِينَ َيمُوتُو َ
شهِيدا { وهذا يؤكد أن عيسى عليه السلم سيشهد
ويذيل الحق الية } :وَيَوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكُونُ عَلَ ْي ِهمْ َ
على من عاصروا نزوله في الدنيا ،وسوف يشهد يوم القيامة على الذين ادعوا له باللوهية {:وَإِذْ
قَالَ اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأمّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَا َنكَ مَا
سكَ
علَمُ مَا فِي َنفْ ِ
َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي ِبحَقّ إِن كُنتُ قُلُْتهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعَْلمُ مَا فِي َنفْسِي َولَ أَ ْ
إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة]116 :
ويعاود الحق سبحانه الكلم عن فظائع اليهود فيقول } :فَ ِبظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ{ ...
()646 /
فَبِظُ ْلمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِّلتْ َلهُ ْم وَ ِبصَدّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ()160
هو سبحانه يوضح أن تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل جاء نتيجة لمواقف يعددها ال ،لقد
ارتكبوا ما ارتكبوا من ذنوب كبيرة وظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم ،وصدوا عن دين ال ،بمعنى
أنهم لم يدخلوا في السلم.
خذِهِمُ الرّبَا} ...
وتستمر الحيثيات للتحريم لبعض الطيبات لتزيد على هذين الموقفين { :وَأَ ْ
()647 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُمْ }؟.
وأي ظلم يتحدث عنه الحق في قوله { :فَبِظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا َ
الظلم معناه أن يحكم واحد لغير ذي الحق بحق ،وقمة الظلم أن يحكم واحد بأن ال شريكا ،ولذلك
عظِيمٌ }[لقمان]13 :
ظلْمٌ َ
قال سبحانه {:إِنّ الشّ ْركَ لَ ُ
وحيثيات حكم ال بتحريم أشياء كانت حللً لبني إسرائيل متعددة .وحين يحرم ال شيئا فمن
المؤكد أنه محدود بالنسبة للمحلّل؛ فالمحرم قليل ،وبقية ما لم يذكره ال إنما يدخل في نطاق
الحلل.
مثال ذلك قوله الحقُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ عَلَ ْيكُمْ َألّ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا
ظهَرَ مِ ْنهَا َومَا بَطَنَ وَلَ
وَلَ َتقْتُلُواْ َأوْلَ َد ُكمْ مّنْ إمْلَقٍ نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُ ْم وَإِيّا ُه ْم َولَ َتقْرَبُواْ ا ْل َفوَاحِشَ مَا َ
حقّ ذاِلكُ ْم َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ * َولَ َتقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ِإلّ
َتقْتُلُواْ ال ّنفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ ِإلّ بِالْ َ
س َعهَا وَإِذَا قُلْتُمْ
ط لَ ُنكَّلفُ َنفْسا ِإلّ وُ ْ
بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ حَتّىا يَبْلُغَ أَشُ ّدهُ وَأَ ْوفُواْ ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِسْ ِ
فَاعْدِلُو ْا وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَىا وَ ِب َعهْدِ اللّهِ َأ ْوفُواْ ذاِلكُ ْم َوصّاكُمْ ِبهِ َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ }[النعام]152-151 :
يورد الحق هنا المحرمات وهي أشياء محددة محدودة ،أما النعم كلها فحلل .ومن هذا المر نفهم
اتساع مدى رحمانية الحق بالخلق ،فقد وهبنا الكثير والكثير من النعم التي ل تعد ول تحصى ولم
يحرم إل القليل .وتحريم القليل جاء لتبقى كل نعمة في مجالها.
فإذا قال النسان :حرم ال هذا الشيء لنه ضار نقول :ما تقوله جائز ،ولكن ليس الضرر هو
سبب الحكم لِكل المحرمات ،فقد يحرم سبحانه أمرا لتأديب قوم ما - .ول المثل العلى -نرى
المسئول عن تربية أسرة قد يحرم على ولد فيها لونا من الطعام أو جزءا من مصروف اليد
ويكون القصد من ذلك هو العقوبة.
ولماذا استحق بنو إسرائيل عقوبة التحريم؟ .لقد جاءوا من خلف منهج ال وأحلوا لنفسهم ما حرم
ال .وماداموا قد زاغوا فأحلوا ما حرم ال فالحق يرد عليهم :لقد اجترأتم على ما حرمت
فحللتموه ،ومن حقي أن أحرم عليكم ما أحللت لكم من قبل ذلك ،حتى ل يفهم النسان أنه بتحليله
لنفسه ما حرم ال قد أخذ شيئا من وراء ال فل أحد يمكنه أن يغلب ال .ولذلك يحرم سبحانه عليه
شيئا من حلله.
والتحريم إما أن يكون تحريم تشريع ،وإما تحريم طبع أو فطرة أو ضرورة .نجد الرجل الذي
أسرف على نفسه في تناول محرمات كالخمر -مثلً -يحرم ال عليه أشياء كانت حللً له،
ويقول له الطبيب :تهرأ كبدك وصار من الممنوع عليك أن تأكل صنوفا كثيرة من الطعام
والشراب .وهكذا نرى ظلم النسان لنفسه ،وكيف نتج عنه تحريم أشياء كانت حللً له.
ومن أسرف على نفسه في تناول صنف معين من الطعام كالسكر مثلً فأكَله فوق ما تدعو به
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحاجة ،نجد سنة ال الكونية تقول له :لقد أخذت أكثر من حقك .وعطلت في جسدك القدرة على
حسن استخدام السكر فصرت مريضا ،إياك أن تتناول السكريات مرة أخرى .ويشتهي المريض
السكر والحلوى ويملك القدرة على شرائهما ،ولكنها محرمة عليه ،وكأن الحق سبحانه وتعالى
يقول له :بظلم منك لنفسك حرمت ما أحللته لك.
وآخر يملك الثروات والخدم والمزارع الشاسعة ،ويقوم له الخرون بطحن الغلل ،ويأمر بأن
يصنعوا له الخبز من أنقى أصناف الدقيق الخالي من أية قدر من " النخالة " ،ويصنعون له الخبز
البيض ،ويأكله بينما التباع يصنعون لنفسهم الخبز من الدقيق القل نقاوة ،فتقول له سنة ال:
ستأكل الخبز المصنوع من النخالة بأمر الطبيب علجا لمعائك لنك أسرفت على نفسك في أكل
الخبز المصنوع من أنقى أنواع الدقيق وليأكل رعاياك وعمالك الخبز المصنوع من أفخر ألوان
الدقيق ،فبظلم منك حرمنا ما أحل لك.
وعندما نَرى إنسانا قد حُرمَ من نعمة من نعم ال التي هي حلل له ،نعلم أنه قد حلل لنفسه شيئا
حرمه ال عليه ،أو أسرف في استعمال حق أحله ال له ،ول أحد منا يفلت من رقابة ال .إذن
فالتحريم قد يكون بالتشريع ،إذا كانت العقوبة التحريم من المشرع ،وقد يكون تحريما بالطبع
والفطرة إن كان في المر إسراف من النفس.
حّلتْ َل ُه ْم وَ ِبصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ
ولنقرأ دائما هذه الية } :فَ ِبظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ أُ ِ
اللّهِ كَثِيرا { وكذلك الذين يأخذون مالً بالربا ،لقد أخذوا الربا ليزيد مالهم ،لماذا تريدون المال؟.
أتريدون المال لذات المال؛ أم لهدف آخر؟ .صحيح أن المال رزق ،لكنه رزق غير مباشر؛ لنه
يَشْتري به الشياء التي ينتفع بها النسان ،وهي الرزق المباشر .وقلنا قديما :هب أن إنسانا في
صحراء ومعه جبل من ذهب لكن الطعام انقطع منه ،وجبل الذهب في مثل هذه الحالة ل ينفع ،بل
يصبح رغيف الخبز وكوب الماء في تلك الحالة أغلى من الذهب .والذي يزيد ماله بالربا ،أيريد
تلك الزيادة من أجل المتع؟ .سبحانه يمحق ذلك المال ويُذهبه في كوارث.
ومن أراد أن يبقي له ما أحل ال إلى أن يأتي أجله فعليه أل يبيح لنفسه أي شيء حرمه ال.
وبذلك يظل متمتعا بنعم ال عليه .فالحق هو القائلَ } :ومَا رَ ّبكَ بِظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ {.
النسان -إذن -هو الذي يظلم نفسه مصداقا لقوله الحق {:إِنّ اللّ َه لَ َيظْلِمُ النّاسَ شَيْئا وَلَـاكِنّ
سهُمْ يَظِْلمُونَ }[يونس]44 :
النّاسَ أَنفُ َ
وهكذا ظلم اليهود أنفسهم فحرم ال عليهم طيبات أُحّلت لهم .ومن الذي نقل المر الطيب إلى أمر
غير طيب؟.
إنه النسان .ولكن هل نقل ذات الشيء أو حكم الشيء؟ .لقد نقل حكم الشيء ،فجعل الشيء الحرام
شيئا حللً } .فَبِظُ ْلمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِّلتْ َلهُمْ وَ ِبصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{.
كيف يكون باستطاعتهم الصد عن سبيل ال؟ .لقد ظلموا أنفسهم وأخذوا الربا وتلك أمور تجعلهم
في ناحية الضلل وفي جانب الباطل ،وليت المر وقف عند هذا .بل أرادوا أيضا إضلل غيرهم،
وهذا هو مضمون الصد عن سبيل ال .وجعلهم هذا المر أصحابَ وزر آخر فوق أوزارهم ،فلم
حمِلُواْ َأوْزَارَهُمْ كَامِلَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َومِنْ َأوْزَارِ
يكتفوا بضللهم بل تحملوا أوزار إضلل غيرهم {.لِ َي ْ
الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ َألَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }[النحل]25 :
وقد يسمع متشكك هذا القول .فيتساءل :كيف يناقض القرآن بعضه فيقولَ {:ولَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ
أُخْرَىا }[النعام]164 :
ونقول :إن لكل وزر طريقا وحسابا ،فالنسان يحمل وزر ضلله وحده إن لم يضل به أحدا غيره،
ولكن إن حاول إضلل غيره فهو يتحمل وزر هذا الضلل.
طلِ
ويقول الحق في تكملة ظلمهم لنفسهم } :وَأَخْ ِذهِمُ الرّبَا َوقَدْ ُنهُواْ عَنْ ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ
عذَابا أَلِيما { ،وقد تعرضنا للربا من قبل .وقد أخذوا الرشوة ،وهو أكل
وَأَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ مِ ْنهُمْ َ
لمال الناس بالباطل؛ وكذلك السرقة ،والغش في السلع ،كل ذلك أخذ مال من الناس بغير حق ،وما
أخذ بغير الحق فهو باطل ،وأعد سبحانه لهم مسبقا عذابا اليما .ولكل إنسان مقعدان :مقعد من
الجنة إن قُدّر إيمانه ،ومقعد من النار إن قُدّر كفره ،ول مجال للظن بإمكان ازدحام الجنة أو
ازدحام النار ،فقد خلق ال مقاعد الجنة على أساس أن كل الناس مؤمنون ،وجعل مقاعد النار على
أساس أن كل الناس كافرون.
ولذلك يقول الحق {:الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[المؤمنون]11 :
وحين يتبوأ المؤمن مقعده في الجنة يورثه ال المقعد الخر الذي أعده للكافر؛ فقد كان للكافر قبل
أن يكفر مقعدٌ في الجنة لو اختار اليمان .وقد أعد الحق العذاب الليم لهم أي الشديد إيلمه ،وهو
مهين أيضا أي أن في قدرته قهر أي إنسان يتجلد للشدة ،فل أحد يقدر على الجَلَد أمام عذاب ال.
وهل هذا هو كل ما كان من أهل الكتاب؟ .ألم يوجد في أهل الكتاب من كان يدير مسألة برسول
ال صلى ال عليه وسلم في عقله ،ويبحث في القضايا والسمات التي جاءت مبشرّة به صلى ال
عليه وسلم في التوراة والنجيل؟ .كان من بينهم من فعل ذلك ،ويورد الحق سبحانه وتعالى
سخُونَ{ ...
التاريخ الصادق ،فيستثنى من أهل الكتاب الراسخين في العلم فيقول } :لّـاكِنِ الرّا ِ
()648 /
ك وَا ْل ُمقِيمِينَ
ك َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْل َ
سخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ مِ ْنهُ ْم وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي َ
َلكِنِ الرّا ِ
الصّلَا َة وَا ْل ُمؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآَخِرِ أُولَ ِئكَ سَ ُنؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ()162
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن لم يعمم ال الحكم على أهل الكتاب ،الذي سبق بكفرهم وظلمهم لنفسهم وأخذهم الربا وغير
ذلك ،بل وضع الستثناء ،ومثال لذلك " عبدال بن سلم " الذي أدار مسألة اليمان برسول ال في
رأسه وكان يعلم أن اليهود قوم بُهت.
فقال لرسول ال :إني أومن بك رسولً ،وال لقد عرفتك حين رأيتك كمعرفتي لبني ومعرفتي
لمحمد أشد.
ويقول الحق عن مثل هذا الموقف { :الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَ ُهمْ } .ول أحد
يتوه عن معرفة ابنه؛ كذلك الراسخون في العلم يعرفون محمدا رسولً من ال ومبلغا عنه،
والراسخ في العلم هو الثابت على إيمانه ل يتزحزح عنه ول تأخذه الهواء والنزوات .بل هو
صاحب ارتقاء صفائي في اليقين ل تشوبه شائبة أو شبهة.
ك َومَآ أُن ِزلَ مِن قَبِْلكَ } ،وقوله
{ لّـاكِنِ الرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ مِ ْن ُه ْم وَا ْل ُمؤْمِنُونَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَآ أُن ِزلَ إِلَي َ
الحقِ { :بمَآ أُن ِزلَ إِلَيكَ } هو القرآن ،وهو أصل يُرد إليه كل كتاب سابق عليه ،فحين يؤمنون بما
أنزل إلى سيدنا رسول ال ،لبد أن يؤمنوا بما جاء من كتب سابقة.
لةَ }
والملحظ للنسق السلوبي سيجد أن هناك اختلفا فيما يأتي من قول الحق { :وَا ْلمُقِيمِينَ الصّ َ
ك َومَآ أُن ِزلَ
فقد بدأ الحق الية { :لّـاكِنِ الرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ مِ ْنهُ ْم وَا ْل ُمؤْمِنُونَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَآ أُن ِزلَ إِلَي َ
لةَ }.
ك وَا ْلمُقِيمِينَ الصّ َ
مِن قَبِْل َ
ونحن نعلم أن جمع المذكر السالم يُرفع بالواو وينصب ويُجر بالياء ،ونجد هنا " المقيمين " جاءت
بالياء ،على الرغم من أنها معطوفة على مرفوع ،ويسمي علماء اللغة هذا المر بـ " كسر
العراب "؛ لن العراب يقتضي حكما ،وهنا نلتفت لكسر الحكم .والذن العربية التي نزل فيها
القرآن طُ ِب َعتْ على الفصاحة تنتبه لحظة كسر العراب.
لذلك فساعة يسمع العربي لحنا في اللغة فهو يفزع .وكلنا يعرف قصة العربي الذي سمع خليفة
من الخلفاء يخطب ،فلحن الخليفة لحنة فصرّ العرابي أذنيه ،أي جعل أصابعه خلف أذنيه يديرهما
وينصبهما ليسمع جيدا ما يقول الخليفة ،ثم لحن الخليفة لحنة أخرى ،فهب العرابي واقفا ،ثم لحن
الثالثة فقال العرابي :أشهد أنك وُلّيت هذا المر بقضاء وقدر .وكأنه يريد أن يقول " :أنت ل
تستحق أن تكون في هذه المكانة ".
وعندما تأتي آية في الكتاب الذي يتحدى الفصحاء وفيها كسر في العراب ،كان على أهل
الفصاحة أن يقولوا :كيف يقول محمد إنه يتحدى بالفصاحة ولم يستقم له العراب؛ لكن أحدا لم
يقلها ،مما يدل على أنهم تنبهوا إلى السرّ في كسر العراب الذي يلفت به الحق كل نفس إلى
لةَ }.
استحضار الوعي بهذه القضية التي يجب أن يقف الذهن عندها { :وَا ْل ُمقِيمِينَ الصّ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لماذا؟ لن الصلة تضم وتشمل العماد الساسي في أركان السلم؛ لن كل ركن من الركان له
مدة وله زمن وله مناط تكليف .فالشهادة بأن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال يكفي أن يقولها
المسلم مرة واحدة في العمر ،والصوم شهر في العام وقد ل يصوم النسان ويأخذ برخص الفطار
إن كانت له من واقع حياته أسباب للخذ برخص الفطار .والزكاة يؤديها المرء كل عام أو كل
زراعة إن كان لديه وعاء للزكاة .والحج قد يستطيعه النسان وقد ل يستطيعه .وتبقى الصلة
سقَرَ * قَالُواْ لَمْ َنكُ مِنَ ا ْل ُمصَلّينَ
كركن أساسي للدين .ولذلك نجد هذا القول الكريم {:مَا سََل َك ُكمْ فِي َ
}[المدثر]43-42 :
وأركان السلم -كما نعلم -خمسة وهي واضحة ،ومن الجائز أل يستطيع المسلم إقامتها كلها
لةَ {.
بل يقيم فقط ركنين اثنين ،كالشهادة وإقامة الصلة .وحين يقول الحق } :وَا ْل ُمقِيمِينَ الصّ َ
يلفت كل مؤمن إلى استمرارية الودادة مع ال؛ فهم قد يودّون ال شهرا في السنة بالصيام ،أو
يؤدّون بإيتاء الزكاة كلما جاء لهم عطاء من أرض أو مال ،أو يودون ال فقط إن استطاعوا
الذهاب إلى الحج .وبالصلة يو ّد المؤمن ربّه كل يوم خمس مرات ،هي -إذن -إعلن دائم
للولء لقد قلنا :إن الصلة جمعت كل أركان الدين ،ففيها نقول " :أشهد أن لإله إل ال وأن محمدا
عبده ورسوله " ،ونعلم أننا نزكي بالمال ،والمال فرع العمل ،والعمل يحتاج إلى وقت؛ والنسان
حين يصلي يُزكي بالوقت .والنسان حين يصلي يصوم عن كل المحللت له؛ ففي الصلة صيام،
ويستقبل المسلم البيت الحرام في كل صلة فكأنّه في حج.
لةَ { إنما جاء ليلفتنا إلى أهمية هذه
إذن فحين يكسر الحق العراب عند قوله } :وَا ْل ُمقِيمِينَ الصّ َ
العبادة .ولذلك يقولون :هذا كسر إعراب بقصد المدح - .فهي منصوبة على الختصاص -
ويخص به الحق المقيمين الصلة؛ لن إقامة الصلة فيها دوام إعلن الولء ل .ول ينقطع هذا
الولء في أي حال من أحوال المسلم ول في أي زمن من أزمان المسلم مادام فيه عقل.
ويقول الحق من بعد ذلك } :وَا ْل ُمؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ { كأن كل العمال
العبادية من أجل أن يستديم إعلن الولء من العبد لليمان بال .واليمان -كما نعلم -بين
قوسين :القوس الول :أن يؤمن النسان بقمة اليمان وهو اليمان بال .والقوس الثاني :أن يؤمن
النسان بالنهاية التي نصير إليها وهي اليوم الخر .ويقول سبحانه جزاءً لهؤلءُ } :أوْلَـ ِئكَ
سَ ُنؤْتِيهِمْ َأجْرا عَظِيما { هو أجر عظيم؛ لن كل واحد منهم قد شذ عن جماعته من بقية أهل
الكتاب ووقف الموقف المتأبي والرافض المتمرد على تدليس غيره ،ولنه فعل ذلك ليُبيّن صدق
القرآن في أن العلم بالرسول قد سبق وجاء في التوراة.
ومن بعد ذلك يقول الحق } :إِنّآ َأ ْوحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ{ ...
()649 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
إِنّا َأوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ َكمَا َأ ْوحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِنْ َبعْ ِد ِه وََأوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
سلَ ْيمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ()163
س وَهَارُونَ وَ ُ
ب وَيُونُ َ
ط وَعِيسَى وَأَيّو َ
وَ َيعْقُوبَ وَالْأَسْبَا ِ
ونعلم أن الحق حينما يتكلم ،يأتي بضمير التكلم .وضمير التكلم له ثلثة أوجه ،فهو يقول مرة" :
إنا " ومرة ثانية " :إنني " وثالثة يخاطب خلقه بقوله " :نحن " .وهنا يقول { :إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ
َأوْحَيْنَآ } .ونشاهد في موقع آخر من القرآن الكريم قوله الحق {:إِنّنِي أَنَا اللّهُ ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ }[طه:
]14
وفي موضع ثالث يقول {:إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ }[الحجر]9 :
لن الذكر يحتاج إلى صفات كثيرة ومتنوعة تتكاتف لتنزيل الذكر وحفظه .وحين يخاطب ال خلقه
يخاطبهم بما يُجلي مواقع الصفات من الكون الذي نعيش فيه .والكون الذي نعيش فيه يمتلئ
بالكائنات التي تخدم النسان ،وهذه الكائنات قد احتاجت إلى الكثير لتهيئ للنسان الكون قبل أن
يوجد النسان ،وذلك حتى يأتي إلى الكون ليجد نعم ال له؛ فالنسان هو الذي طرأ على كون ال.
هذا الكون الذي صار إلى إبداع كبير احتاج إلى صفات كثيرة لعداده ،احتاج إلى علم عن
الشياء ،وإلى حكمة لوضع كل شيء في مكانه ،ولقدرة تبرزه ،وإلى غنى بخزائنه حتى يفيض
على هذا الموقع بخير يختلف عن خير الموقع الخر ،وساعة يكون العمل مُتطلبا لمجالت صفات
متعددة من صفات الحق ،يقول سبحانه " :إنّ " أو " نحن " .وعندما يأتي الحديث عن ذات الحق
سبحانه وتعالى يقول " :إني أنا ال " .ول تأتي في هذه الحالة " إنّا " ول تأتي " نحن ".
والحق هنا يقول { :إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ } أي أنه أوحى بمنهج ليصير النسان سيدا في الكون ،يصون
نفسه والكون معا ،وصيانة الكائن والكون تقتضي علما وحكمة وقدرة ورحمة؛ لذلك فالوحي
ل فيقول
يحتاج إلى صفات كثيرة متآزرة صنعت الكون .ورحمة من ال بخلقه أن جعل لهم مدخ ً
سمَآءِ مَآءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ َثمَرَاتٍ مّخْتَلِفا أَ ْلوَا ُنهَا }[فاطر:
على سبيل المثال {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أن َزلَ مِنَ ال ّ
]27
هو الذي أنزل من السماء ماء ،وليس لحد من خلقه أي دخل في هذا؛ لن الماء إنما يتبخر دون
أن يدري النسان ،ولم يعرف ذلك إل منذ قرون قليلة .وعرفنا كيف يتكون السحاب من البخار،
ثم ينزل المطر من بعد ذلك .إذن ل دخل للنسان بهذا المر؛ لذلك يقول الحق { :أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ
سمَآءِ مَآءً } .ويأتي من بعد ذلك إنصاف الحق للخلق ،فيقول { :فََأخْرَجْنَا ِبهِ َثمَرَاتٍ
أن َزلَ مِنَ ال ّ
مّخْتَلِفا أَ ْلوَا ُنهَا } .ولم يقل " :فأخرجت " .بل أنصف الحق خلقه وهم المتحركون في نعمه بالعقول
التي خلقها لهم ،فسبحانه يقدر عمل الخلق من حرث وبذر ورى وذلك حتى يخرج الثمر.
إذن السلوب القرآني حين يأتي بـ " إني " يشير إلى وحدة الذات ،وحين يأتي بـ " إنّا " يشير
إلى تجمع صفات الكمال؛ لن كل فعل من أفعال ال يقتضي حشدا من الصفات علما وإرادة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقدرة وحكمة وقبضا وبسطا وإعزازا وإذللً وقهاريةً ورحمانيةً؛ لذلك ل بد من ضمير التعظيم
الذي يقول فيه النحويون :إن " نحن " و " نا " للمعظم نفسه.
وقد عظم الحق نفسه؛ لن المر هنا حشد صفات يتطلبها إيجاد الكون والقيام على أمر الكون.
ولذلك نجد بعض العارفين الذي لمحوا جلل ال في ذاته وجماله في صفاته يقولون:فسبحان رب
فوق كل مظنة تعالى جللً أن يُحاط بذاتهإذا قال " إني " ذاك وحدة قدسه وإن قال " إنّا " ذاك
حشد صفاتهوعندما ننظر إلى هذه المسألة ،نجد أن الحق سبحانه وتعالى أنصف خلقه لعلهم
يعرفونه ،فجعل لهم إيجاد أشياء وخلق أشياء .وحين يتعرض سبحانه لمر يكون له فيه فعل
ويكون لمن أقدره سبحانه من خلقه فيه فعل ،فهو يأتي بنون التعظيم لنه -سبحانه -هو الذي
أمدهم بهذه القدرات.
وحين أوجد الحق خلقه من عدم ،جعل لخلق من خلقه إيجادا؛ ولكنْ هناك فرق بين إيجاد المادة،
وإيجاد ما يتركب من المادة .فقد خلق سبحانه كل شيء من عدم ،ولكن جعل لخلقه أن يخلقوا
أشياء لكن ليست من عدم .وما ضَنّ سبحانه وتعالى عليهم بأن يذكرهم بلفظ الخلق فقال {:فَتَبَا َركَ
اللّهُ أَحْسَنُ الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون]14 :
فكأنه سبحانه وتعالى جعل من خلقه خالقين ،لكن الخالقين من خلقه لم يخلقوا من عدم محض،
وإنما كوّنوا مركّبا من موجود في مواده .فأخذوا من مواد خلقها ال فركّبوا وأوجدوا .والنسان
الذي صنع كوب الماء لم ينشئ الكوب من عدم محض وإن كانت " الكلية " في الكوب غير
موجودة فجزئيات إيجاد الكوب موجودة ،فالرمل موجود في بيئات متعددة ،وموجود أيضا ما
يصهر الرمل ،والعقل الذي يأخذ تلك العناصر ،والفكر الذي يصنع من الرمل عجينة ،ومصمم
اللت التي تصنع هذا الكوب موجود .إذن فقد أوجد النسان كوبا من جزئيات موجودة .فالفارق
-إذن -بين خلق ال وخلق خلق ال؛ أن ال خلق من عدم محض ،لذلك وصف ذاته بقوله} :
فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ الْخَاِلقِينَ {.
فأنتم أيها البشر إنما تخلقون من مخلوقات ال ولم تخلقوا من غير مخلوق ل؛ فهو سبحانه وتعالى
أحسن الخالقين .وكما أنصف الحق خلقه بأن نسب لهم خلقا ،فل ُبدّ من أن يصف نفسه بأنه أحسن
الخالقين .وأيضا إن خلق الخلق -كما قلنا وأنا ل أزال أكررها لتستقر ثابتة في الذهان -يجمد
الشيء على ما أوجدوه عليه ،فيخلقون الكوب ليظل كوبا في حجمه وشكله ولونه ،ولكنهم لم
يخلقوا كوبا ذكرا وكوبا أنثى ليجتمعا معا وينشئا أكوابا صغيرة تنمو وتكبر ،ولكن ال ينفخ بسرّ
الحياة في كل شيء فيوجده ،لذلك هو أحسن الخالقين.
ولو نظرت إلى كل شيء في الوجود لوجدت فيه سر الذات الفاعلة ،فلو نظرت إلى ذات نفسك،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لوجدت لك وسائل إدراك ،لوجدت لك سمعا ،ولوجدت لك عينا ،ولوجدت لك أنفا ولمسا وذوقا
ولكن لبعض اللت تحكم في اختيارك ،فأنت حين تفتح عينيك ترى وإن لم يرد أن ترى تغمض
عينيك .ولكن إذا أردت ال تسمع ،أتستطيع أن تجعل في أذنك آلة تقول " ل أسمع "؟ وأنت تفتح
فمك لتأكل وتتذوق ،ولكن أنت ل تفتح أنفك لتشم .أنت تمد يدك لتلمس .وقل لي بال أي انفعال لك
أن أردت أن تضحك؟ ما اللة التي في بدنك تحركها لتضحك؟ أنت ل تعرف شيئا إل سببا مثيرا
يضحك ،لكنك ل تعرف ما هي اللت التي تعمل في جسمك لتضحك .وكذلك حينما تبكي ما هي
اللت التي تعمل في ذاتك لتجعلك باكيا؟ أنت ل تعرف .ولذلك جعل ال الضحاك والبكاء مع
ك وَأَ ْبكَىا * وَأَنّهُ ُهوَ
حَاليجاد بالحياة ،والعدم بالموت جعل ذلك له سبحانه وتعالى {.وَأَنّهُ ُهوَ َأضْ َ
َأمَاتَ وََأحْيَا }[النجم]44-43 :
جعل الحق في ذاتك النسانية أشياء تفعل ولكنك ل تعرف بأي شيء تفعل ول بأي شيء تنفعل.
والذن ليس لها ما يسدها عن السمع؛ لذلك ل يأمرك الحق بأل تسمع أي شيء ،ولكن الثر
الصالح يأمر( :ل تتسمّع إلى القيلة).
لم يقل الثر الصالح " ل تسمع إل قيلة " لن النسان ل يستطيع أن يصم أذنيه عما يدور حوله،
لكنه يستطيع أل يتسمّع بألّ يلقي بأذنيه إلى ما يقال .إذن فقد جعل الحق التكليف في مقدور
اختيارات المسلم ولذلك قال {:وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْن ُهمْ حَتّىا َيخُوضُواْ
فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ }[النعام]68 :
واستخدم هنا كلمة " رأيت " لن المسلم ل يملك شيئا يسد به أذنيه حتى ل يسمع حديث الذين
يخوضون في آيات ال ،لكن أمر ال الذين يسمعون ذلك أن يسيروا بعيدا معرضين عن هؤلء
الخائضين .وسبحانه يوضح لنا ما خفي عنا ،وكل شيء في الكون وإن كان ظاهره أنه " يفعل " ،
لكنه في الحقيقة هو مقهور لما ينفعل لمرادات ال بأمر ال .ولذلك يقول العارفون بال :من جميل
إحسانه إليك أن فعل ونسب إليك.
فسبحانه وتعالى الذي يفعل كل شيء ،وليس على النسان إل توجيه اللة الفاعلة .ومن عظمة
الحق سبحانه وتعالى أن النسان حين يكون قويا ل يمكنه أن يعطي قوته لضعيف ،فل أحد منا
يقول لضعيف :خذ قدرا من قوتي لتساعدك على التحمل ،بينما يوضح ال للضعيف عمليا :تعال
إلي أعطك من مطلق قدرتي قدرا من القوة لتفعل.
إذن القوة في المخلوق ل يعطيها أبدا لمثله ،بل يعطي أثرها .مثال ذلك عندما ل يستطيع شخص
أن يحمل شيئا ثقيلً ،فيأتي آخر قَويّ ليحمله عنه ،والقوي بفعله إنما يعدي أثر قوته للضعيف،
لكنه ل يستطيع أن ينقل قوته إلى ذات الضعيف ليحمل الشيء الثقيل.
وال ل يعدي أثر قوته فحسب ولكنه يمنح ويعطي قوة إلى كل ضعيف يلجأ إليه وإلى كل قوي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أيضا .وسبحانه يتفضل بالغنى والسعة لكل غني وفقير وبرحمته إلى كل رحيم ،وبقدرته لكل
قادر ،وبحكمته لكل حكيم .إذن فكل هذه مستمدات من الحق سبحانه وتعالى .هذا هو كلمنا في "
إنّا ".
وحين يتكلم الحق قائلً " :أوحينا " فهو سبحانه يأتي بصيغة الجمع .وما الوحي؟ قال العلماء
الوحي :إعلم بخفاء؛ لن وسائل العلم شتى ،وسائل العلم هي التي تنقل قولً يقوله المبلّغ
فيعلم السامع ،أو هو إشارة يشير بها فيفهم معناها الرائي .وهذه إعلمات ليست بخفاء .بل
بوضوح ،وعندما يقول " :أوحينا " فهو يعني أنه قد أعلم ،ولكن بطريق خفي .وحين تطلق كلمة "
وحي " يكون لها معانٍ شتى ،فكل إعلم بخفاء وحي .لكن من الذي أوحى في خفاء؟ ومن الذي
أُوحي إليه في خفاء؟ وما الذي أُوحي به في خفاء؟ نجد أن الحق سبحانه وتعالى جاء في أجناس
ت الَ ْرضُ أَ ْثقَاَلهَا
ج ِ
ت الَ ْرضُ زِلْزَاَلهَا * وَأَخْ َر َ
الوجود ،وقال عن الرض وهي الجماد {:إِذَا زُلْزَِل ِ
ح ّدثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة]5-1 :
* َوقَالَ الِنسَانُ مَا َلهَا * َي ْومَئِذٍ تُ َ
أي أن الحق قد ضبط الرض على مسافة زمن قيام القيامة ،فتتحدث عندئذ -ول المثل العلى -
نحن نقدر العمر الفتراضي لما نصنع لينتهي في وقت محدد .إذن فقد أوحى ال للجماد وهي
الرض.
ويترك لنا سبحانه في صناعة المخلوقين ما يقرب لنا صنعة الخالق ،فعندما يريد النسان أن
يستيقظ في الثالثة صباحا ،وهو وقت لم يعتد فيه هذا النسان على الستيقاظ ،فهو يضبط المنبه
ليصدر عنه الجرس في الوقت المحدد ،كأن النسان بهذا الفعل قد أوحى للمنبه ،كذلك الحق صنع
الرض وأوحى لها :في الوقت المحدد ستنفجرين بحكم تكويني لك .ويوحي الحق إلى جنس
حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا َومِنَ الشّجَرِ َومِمّا َيعْرِشُونَ }
الحيوان {:وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ
[النحل]68 :
هذا إعلم بخفاء من ال للنحل .فقد جعل ال في تكوينها الغرزي ما يؤدي إلى ذلك .وهناك فرق
بين التكوين الغرزي والتكوين الختياري؛ فالتكوين الغرزي يسير بنظام آلي ل يعدل عنه ،أما
التكوين الختياري فيصح أن يعدل عنه.
ومثال آخر علىاللية نجد الحاسب اللي المسمى العقلي اللكتروني ويقوم النسان بتخزين
المعلومات فيه ،وهذا الحاسب اللي ل يستطيع أن يقول لواضع المعلومات فيه :ل تقل هذه
الحقيقة ،ول يستطيع أن يمتنع عن إعطاء ما فيه لمن يطلب هذه المعلومات إن كان يعرف كيفية
استدعائها.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بهذه المعلومات حسب المواقف المختلفة ،ويتحكم بوعي فيما يجب أن يُستر وفيما ل يجب ستره،
بل إن العقل البشري قد يكذب ويلون المعلومات .وهو قادر على تغيير الحقائق والتحكم فيها،
بينما الحاسب اللي المسمى بعقل إليكتروني ل يقدر على ذلك؛ لنه يدلي بالمعلومات حسب ما تم
" برمجته " به وتخزينه ووضعه فيه ،وهكذا يرتقي النسان في الفكر.
والحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق ،أعطى لكل كائن الغرائز التكوينية التي تناسبه أعطى
النسان القدرة على الختيار بين البديلت ،أما بقية الكائنات فقد أخذت حكم الغريزة .والكائن
الذي يسير بحكم الغريزة ل اختيار له ،ولذلك تسير كل أموره مستقيمة بناموس ثابت.
ونرى هذا المر بوضوح في حكم قهر السموات والرض والكواكب التي ل اختيار لها؛ فهي
تسير حسب القوانين التي وضعها ال لها ،وكذلك النبات .فالنسان قد يزرع شجرة فتنمو
بالتسخير الغرسي الذي وضعه ال فيها ،وتمتد الشعيرات من الجذور في باطن الرض؛ لتمتص
-بتسخير ال لها -بعض العناصر المحددة في التربة ،وينتفع نبات ما بمادة معينة قد ل تصلح
لنبات آخر.
ويأتي علماء النبات ليعملوا في حقل دراسات نمو النباتات ،وقد يكون بعضهم ضعيف اليمان
بال ،أو أن قدرات الخالق ل توجد في بؤرة شعوره دائما .فيقول :إن النبات يتغذى حسب خاصية
النابيب الشعرية .وخاصية النابيب الشعرية -كما نعرفها -هي صعود السائل إلى النابيب
التي تكون الواحدة منها ل يزيد قطرها واتساعها على قطر الشعرة .ويصعد فيها السائل إلى ما
فوق سطح الناء .وكل سائل في أي إناء إنما يأخذ استطراقَا واحدا .وعندما نضع النابيب
الشعرية في قلب هذا الناء ،فالسائل يصعد داخل هذه النابيب فوق مستوى الناء؛ لن الضغط
الجوي داخل النابيب يختلف بالنسبة لحجم المياه عنها في داخل الناء .وظن العلماء أن النبات
يتغذى بهذه الطريقة.
ونقول لهؤلء :كيف هذا والنبات يختار عناصر معينة من السائل؛ بينما النابيب الشعرية يصعد
فيها الماء بكل العناصر الموجودة في الماء؟ .إنك أيها العالم الذي غاب ال عن بؤرة شعورك قد
تدعي أن الطبيعة هي التي تفعل ذلك ،ول تلتفت إلى حقيقة واضحة وهي أن النبات ينتقي
بالتسخير الرباني الخاص بعضا من العناصر الموجودة في التربة ،ل بخاصية النابيب الشعرية.
سوّىا * وَالّذِي قَدّرَ َفهَدَىا }[العلى:
وصدق القول الحق {:سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ الَعْلَىا * الّذِي خَلَقَ َف َ
] 3 -1
فسبحانه الذي قدر فهدى كل شيء إلى احتياجاته .ويقول الحق أيضا:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فسبحانه يوحي لكل نبات بخاصية تكوين غريزي تختلف عن النبات الخر؛ لذلك نجد الفلح
يضع شجرة الفلفل بجانب عود القصب ،بجانب شجرة الرمان ،فنجد الفلفل يخرج وله مذاق
حريف ،والقصب له مذاق حلو ،والرمان له مذاق فيه الحلوة والحموضة ،إنه مختلف عن
القصب وعن الفلفل ،وهذا الختلف لم يتم بخاصية النابيب الشعرية .ويقول آخر :هذا الختلف
إنما حدث بظاهرة النتخاب الطبيعي .ونقول :لماذا ل تقول النتخاب اللهي وتستريح؟.
إذن فالوحي هو إعلم بخفاء ،وقد يكون مطمورا في تكوين الشيء بحيث إذا جاء وقته ينفعل،
تماما مثلما يدق جرس المنبه في الميعاد المحدد .والوحي إلى الحيوان يتحدد في قوله الحق{:
خذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا َومِنَ الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْرِشُونَ }[النحل]68 :
حلِ أَنِ اتّ ِ
وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ
ومن العجيب أن العالم المريكي الذي رصد حياته لدراسة النحل في أطواره وأصنافه وأجناسه
وبيئاته ،قال :أول إنتاج للنحل كان في الجبال وأقدم عسل وجده النسان للنحل كان في الخليا
التي عثر عليها من الجبال .وبعد ذلك وجد النسان النحل وعسله في الشجر العالي الذي ل
يملكه ،ثم استأنس النسان النحل وأقام له البساتين والبيوت والخليا ومما يعرشون .ولم يقرأ هذا
العالم القرآن ليعرف المراحل الثلث التي جاءت به ،لكنه درس بصدق البحث التجريبي ،وخرج
بالنتيجة نفسها التي جاء بها القرآن .وفي كل وقت وزمان نجد عالما من الكافرين يكتشف أشياء
تؤيد وتؤكد قضية اليمان عند المؤمنين .أما الوحي بالنسبة للنسان فيأخذ أشكالً أخرى ،يقول
خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ }[القصص]7 :
ضعِيهِ فَإِذَا ِ
الحق {:وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
ولم يأت إلى أم موسى رسول يُوحى إليها .لكن المر قد استقر في ذهنها ،وقد تعب العلماء كثيرا
ليقربوا معنى الوحي لذهاننا ،فقالوا عنه :إنه عرفان يجده النسان في نفسه ول يعرف مصدره،
ومع هذا العرفان دليل أنه من ال .ولذلك ل يطلب العقل عليه دليلً .والذي يصّدق على هذا هو
خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ {.
ضعِيهِ فَإِذَا ِ
أننا سمعنا قول الحق } :وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
وبال عليكم ،اجمعوا الدنيا كلها وقولوا لمرأة :إن خفت على ابنك فألقيه في البحر ،هل تصدق
الم ذلك؟! ل يمكن ،لكن أم موسى أخذت هذا المر كقضية مسلم بها ،فساعة دخل اليحاء من ال
إلى قلبها ،أو العلم بخفاء إلى وجدانها آمنت به ،ومادام العلم من ال فل شيطان يزاحمه ،بل
يدخل إلى النفس فتستقبله استقبال اليقين واليمان بل مناقشة .وألقت أم موسى بابنها بعد أن
أرضعته .وأراد ال أن يطمئنها .فأوضح لها :أَنَا أصدرت المر إلى البحر ليلقي الرضيع إلى
الساحل .وأصدرت الوامر ليلتقطه العدو فرعون.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهناك وحي للملئكة كقول الحقِ {:إذْ يُوحِي رَ ّبكَ إِلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ سَأُ ْلقِي
عبَ }[النفال]12 :
فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّ ْ
الوحي ينتظم ويشمل -إذن -كل أجناس الوجود بطريقة خفية عند عالم خفي عنا ،وهم الملئكة،
وعالم ملحوظ لنا ولمثالنا مثل الحواريين ،ومثل أم موسى.
وساعة يقول " :أوحينا " ينبهنا إلى أن العلم بخفاء أمر غير مقصور على ال؛ ذلك أن الشياطين
طعْ ُتمُوهُمْ إِ ّن ُكمْ
يوحون إلى أوليائهم {:وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ ِإلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِيُجَادِلُوكُ ْم وَإِنْ أَ َ
َلمُشْ ِركُونَ }[النعام]121 :
ضهُمْ
س وَا ْلجِنّ يُوحِي َب ْع ُ
ن الِنْ ِ
ع ُدوّا شَيَاطِي َ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ َ
ويقول أيضا عن الشياطينَ {:وكَذَِلكَ َ
إِلَىا َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ غُرُورا وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ مَا َفعَلُوهُ فَذَ ْرهُ ْم َومَا َيفْتَرُونَ }[النعام]112 :
إذن الوحي هو إعلم بخفاء ،وليس المر مقصورا على الحق سبحانه وتعالى ،بل يصح أن يكون
الوحي من ال ،أو من الشياطين ،أو من جنود الشياطين.
وقد يكون الوحي إلى الجماد وإلى الحيوان وإلى الملئكة وإلى النسان.
وعندما نحدد معنى الوحي فإننا نقول:
الوحي في اللغة إعلم بخفاء من أيّ -سواء أكان من ال أم من الشياطين -ولي ما -سواء
للرض أو للحيوان أو للنسان -وفي أيّ -سواء في خير أو شر.-
وكلمة " وحي " تصلح لي معنى من هذه المعاني بحيث إذا أطلقت انصرفت إليه .ولكن هي
بالمعنى الشرعي ل تطلق إلّ على العلم بخفاء من ال لرسوله ،ومثل ذلك حدث لمعنى الصلة،
فالصلة معناها اللغوي الدعاء ،وهناك الصلة على النبي صلى ال عليه وسلم ،والصلة المكتوبة
هي القوال والفعال ،وأخذ الشرع معنى الصلة واصطلح على أن كلمة الصلة حين يطلقها
الفقيه تنصرف إلى القوال والفعال المخصوصة المبتدأة بالتكبير والمختتمة بالتسليم.
وفي هذا المعنى الشامل للصلة نجد سيدنا عمر -رضي ال عنه -وقد دخل عليه حذيفة فسأله:
كيف أصبحت؟ .أجاب حذيفة :أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق وأصلي بغير وضوء ولي في
الرض ما ليس في السماء .وغضب سيدنا عمر ،ولول دخول سيدنا علي بن أبي طالب لكان
لسيدنا عمر شأن آخر مع حذيفة.
وسأل عليّ عمر :ما يغضبك يا أمير المؤمنين؟ .قال عمر :سألت حذيفة كيف أصبحت فقال كذا
وكذا .فقال علي -كرم ال وجهه :-نعم يا أمير المؤمنين ،أصبح يحب الفتنة ،أي يحب ماله
وولده ،فالحق قال } :إِ ّنمَآ َأ ْموَاُلكُ ْم وََأ ْولَ ُدكُمْ فِتْنَةٌ { ،وهو يكره الموت والموت حق من فينا يحبه
يا أمير المؤمنين؟ وهو يصلي بغير وضوء على النبي صلى ال عليه وسلم ،وله في الرض
زوجة وله ولد وهو ما ليس ل في السماء.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فقد أخذ حذيفة الفتنة على معنى مخصوص ،وكذلك الموت ،والصلة .وضربت هذاالمثل
لفرق بين المعاني الشرعية والمعاني اللغوية.
ونوضح الفارق بين معنى الوحي الصطلحي والمعنى اللغوي ،المعنى اللغوي للوحي هو :إعلم
ي ليّ بأي .والوحي بمعناه الشرعي :إعلم بخفاء من ال لرسوله .وكل اللوان
بخفاء من أ ّ
الخرى من الوحي نأخذها بالمعنى اللغوي.
وقوله الحق هنا في الية التي نحن بصددها } :إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ إِلَىا نُوحٍ { .و " أوحينا
" هنا قد جاءت للعلم بخفاء من ال لرسول من رسله .ونعلم أن صفات الكمال للحق سبحانه
وتعالى هي صفات الكمال المطلق .وكل الخلق مقدورون لقدرته سبحانه .ول يمكن لحد أن
يتصل اتصالً مباشرا بالعلى المطلق .ول يستطيع أحد أن يتحمل ذلك حتى الرسول .ولذلك يأتي
الحق بنورانيّين من الملئكة ليأخذوا منه ليعطوا للرسول .ويسبق ذلك إعداد الرسول لهذه المهمة.
إذن فالمسألة تمر بمراحل تصفية ،العلى يعطى للملئكة ،والملئكة يعطون للمصطفى من
الخلق ،والمصطفى مصنوع على عين ال ليتلقى الوحي ،ومن بعد ذلك يعطي الرسول لغيره من
البشر .وكل ذلك لتقريب مسافات اللتقاء .وعلى رغم تقريب مسافات اللتقاء تحصل الهزة من
آخر مرحلة حين يستقبل من أدنى مرحلة ،فحين يستقبل الرسول الوحي من ملك تحدث له هِزّة.
والرسول صلى ال عليه وسلم يقول عن أول لقاء له مع الوحي:
(حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال :اقرأ .قال :ما أنا بقارئ قال :فأخذني
فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني .فقال :اقرأ فقلت :ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى
بلغ مني الجهد ثم أرسلني .فقال :اقرأ فقلت :ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني .فقال:
اقرأ باسم ربك الذي خلق .خلق النسان من علق اقرأ وربّك الكرم).
وكان جبينه يتصفد عرقا ،ورجف فؤاده ودخل على زوجه خديجة بنت خويلد فقال " :زملوني
زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه ال ّروْع .وكان ذلك أمرا طبيعيا؛ فهذا الملك جبريل متصل ببشر
هو محمد بن عبدال ول بد أن يحدث ذلك للرسول ،وذلك حتى يتكيف ليستقبل من المَلَك.
لكن أتظل هذه الرجفة المتعبة؟ .ل ،إن الوحي يَفتر لفترة وتذهب عنه متاعبه فيشتاق الرسول إليه
ويصير قادرا على تحمل متاعبه ،مثل تصفد الجبين بالعرق ،ومثل الثقل في الحركة حتى إذا
جاءه الوحي وهو على دابة فهي تئط وتئن ،وإن جاءه الوحي وهو جالس وفخذه على فخذ واحد
من الصحابة ،فيكاد ثقل الرسول يرض عظام الرجل ويكسرها ،كل ذلك من المتاعب تحدث
للرسول في أثناء الوحي؛ لن تغييرا كيماويا يحدث في بدنه صلى ال عليه وسلم ليتأكد أن الكلم
الذي يتلقاه ليس كلما عاديا ،لكنه كلم قد جاء بإعجاز ،وأنه من عند ال.
لقد كان للوحي صلصلة كصلصلة الجرس .وكأن هذا الصوت إعلن أن زمن وساعة الوحي قد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جاءت فاستعد لها يا رسول ال .وعندما تعب رسول ال صلى ال عليه وسلم في البداية ،كان من
رحمة ال به أن يجعل الوحي يفتر عنه ،فيشتاق صلى ال عليه وسلم للوحي بسبب حلوة ما
أوحي إليه ،ويجعله هذا الشوق مستشرفا للمتاعب .وعندما فتر الوحي عن رسول ال صلى ال
عليه وسلم قال خصومه :رب محمد ودعه وجَفاه .ولم يتذكروا أن لمحمد ربا إلّ في هذه المسألة
بعد أن اتهموه بالكذب ولم يمتلكوا الذكاء حتى يعبروا عن هذا المر بتعبير ل يتناقض مع موقفهم
السابق منه .وحين رأى الحق الجهاد الحاصل لرسوله جعل الوحي يفتر حتى تبقى حلوة ما
يوحَى به ويذهب التعب ويشتاق رسول ال إلى ما يوحى إليه.
إن الشوق وتلك المحبة يجعلن رسول ال ل يشعر بوطأة اللم المادي البشري ،والنسان منا
حين يذهب إلى حبيب له يسير في الشوك والوحل ول يبالي .إذن ففتور الوحي كان لتربية الشوق
في نفسه صلى ال عليه وسلم ليستقبل الوحي ،ولينتبه كل منا حين يقرأ قول ال سبحانه وتعالى{:
ن الُولَىا }[الضحى]4 :
وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ ّلكَ مِ َ
ضعْنَا
ك صَدْ َركَ * َو َو َ
أي أن ما سيأتي لك من بعد ذلك سيسرك .ويقول الحق بعدها {:أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ
ظهْ َركَ * وَ َر َفعْنَا َلكَ ِذكْ َركَ }[الشرح]4-1 :
ك وِزْ َركَ * الّذِي أَن َقضَ َ
عَن َ
وحين عرض الحق هذه المسألة بهذه الكيفية أراد أن يبلغنا :ل تظنوا أن رب محمد -كما يقولون
-قد جفاه ،ل ،بل يعده ليستقبل أكثر مما جاء من قبل ،فسنن الكون أمامكم ،لكن كفرهم أعمى
ك َومَا
عكَ رَ ّب َ
أبصارهم وبصيرتهم ،ويقول سبحانه {:وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ إِذَا سَجَىا * مَا وَدّ َ
قَلَىا }[الضحى]3-1 :
وسبحانه يقسم بما شاء على ما شاء .والضحى هو ضحوة النهار وهي محل الحركة والكدح
والجهد والتعب ،والليل محل الراحة والسكون.
كأن الحق يوضح :إنكم إن نظرتم في آية الكون لوجدتم أن ال قد جعل الضحى للكدح والليل
لنسكن فيه وفتور الوحي هو سكون ليعاود محمد نشاطه في حركة الوحي الجديدة ،هو الحق -
ك َومَا قَلَىا { أمجيء الليل بعد
عكَ رَ ّب َ
سجَىا * مَا وَدّ َ
سبحانه -يقسم } :وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ
النهار ضن من ال على الناس بالنهار؟ ل ،إنما الليل عطاء من ال ليسكنوا وليستقبلوا النهار
الجديد.
وأنزل سبحانه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حينما سأل اليهود النبي صلى ال عليه وسلم
سمَآءِ َفقَدْ سَأَلُواْ
أن ينزل عليهم كتابا من السماء } :يَسْأَُلكَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَن تُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ كِتَابا مّنَ ال ّ
جهْ َرةً {.
مُوسَىا َأكْبَرَ مِن ذاِلكَ َفقَالُواْ أَرِنَا اللّهَ َ
فيأمره الحق أن يوضح :أنا قد أوحى ال إليّ كما أوحى إلى الرسل السابقين ،فهل أنتم شككتم في
وحي ال لموسى؟ أشككتم في وحي ال لمن سبق موسى؟ صحيح أنكم شككتم في مسألة عيسى،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن لنضع المر الذي تكذبون فيه جانبا ولنأخذ ما أنتم مصدقون به ،فيقول سبحانه } :إِنّآ َأوْحَيْنَآ
ح وَالنّبِيّينَ مِن َبعْ ِدهِ {.
إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ إِلَىا نُو ٍ
ح وَالنّبِيّينَ مِن
إذن فأنت يا محمد لست بدعا في هذه المسألة } :إِنّآ َأوْحَيْنَآ ِإلَ ْيكَ َكمَآ َأ ْوحَيْنَآ إِلَىا نُو ٍ
َبعْ ِدهِ { ويمر العلماء على هذه المسألة مرورا سريعا ،لكننا نقف عندها ونقول :قد يوحي هذا القول
أن أول وحي كان لنوح .والحقيقة أن الوحي الول كان لدم من قبل ،لكنْ هناك فارق بين الوحي
لدم والوحي للنبياء من بعده.
ومثال ذلك نوح ،فنوح طرأ على أمته وكانت أمته موجودة ثم جاء هو إلى هذه المة مبشرا
ونذيرا .أما آدم عليه السلم فقد طرأت عليه أمته؛ لذلك لم يرسله ال بمعجزة ،فهو أب للجميع.
والبناء يقلدون الباء ،بل حتى أبناء الملحدة يقلدون آباءهم .وقد أوحى ال لدم وقال له } :فَِإمّا
خ ْوفٌ عَلَ ْي ِه ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ { وإرسال الهدى لدم هو
يَأْتِيَ ّنكُم مّنّي هُدًى َفمَن تَ ِبعَ هُدَايَ فَلَ َ
مجيء الوحي إليه.
ولماذا جاء نوح في هذه الية أولً؟ لن نوحا عليه وعلى نبينا الصلة والسلم قد طرأ على أمته؛
لذلك احتاج إلى وحي وإلى معجزة .وأرسل ال نوحا إلى الناس كافة؛ لعموم الموضوع ،فلم يكن
هناك من البشر غيرهم .لكنّ محمدا صلى ال عليه وسلم أرسله ال للناس كافة؛ لن السلم هو
الدين الخاتم .وكان قوم محمد موجودين .وكذلك كان غيرهم موجودا.
} إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ ِإلَىا نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن َب ْع ِد ِه وََأوْحَيْنَآ إِلَىا إِبْرَاهِيمَ { .لماذا قال الحق} :
وَالنّبِيّينَ مِن َبعْ ِدهِ { أي من بعد نوح؟ ،ولماذا قال } :وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا إِبْرَاهِيمَ { وذكر أسماء النبياء
من بعد إبراهيم؟
يقول العلماء :هنا عطف خاص على عام لزيادة التنبيه على شرف هؤلء } ،وََأوْحَيْنَآ إِلَىا إِبْرَاهِيمَ
ن وَآتَيْنَا دَاوُودَ
ن وَسُلَ ْيمَا َ
ب وَيُونُسَ وَهَارُو َ
ق وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَاطِ وَعِيسَىا وَأَيّو َ
سمَاعِيلَ وَإسْحَا َ
وَإِ ْ
زَبُورا { ،وكأن الحق يقول :حين يسألك اليهود -يا محمد -أن تنزل عليهم كتابا من السماء قل
لهم :إن ال أوحى إليّ كما أوحى إلى ألنبياء السابقين؛ فلست بدعا من الرسل .وحتى لو أنزل
إليهم محمد كتابا في قرطاس ولمسوه بأيديهم لقالوا :هذا سحر مبين ،كما قال {:وََلوْ نَزّلْنَا عَلَ ْيكَ
كِتَابا فِي قِ ْرطَاسٍ فََلمَسُوهُ بِأَيْدِي ِهمْ َلقَالَ الّذِينَ َكفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ سِحْرٌ مّبِينٌ }[النعام]7 :
فالم ْنكِر يريد الصرار على النكار فقط .وليست المسألة جدلً في حق وإنما هي َلجَاج في باطل.
سمَاعِيلَ
ويتابع سبحانه وتعالى أسماء النبياء الذين أوحى ال إليهم } :وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا إِبْرَاهِيمَ وَإِ ْ
سلَ ْيمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورا
س وَهَارُونَ وَ ُ
ب وَيُونُ َ
ط وَعِيسَىا وَأَيّو َ
ق وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَا ِ
وَإسْحَا َ
{ ونلحظ أنه جل وعل ذكر الوحي عاما؛ لكنه حينما جاء لداود ذكر اسمَ كتابِه " الزبور " ولم يأت
في الية بأسماء الكتب المنزلة على الرسل السابقين مثل نزول التوراة على موسى ،والنجيل
على عيسى؛ لن ما جاء به داود في الزبور أمر تُجمع عليه كل الشرائع ،وهو تحميد ال والثناء
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه قلم توجد في الزبور أية أحكام.
وقد يقول قائل :إن عيسى أيضا لم تنزل عليه أحكام في النجيل .ونقول :لن النجيل يلتحم
بالتوراة؛ وجاء بالوجدانيات الدينية وكانت التوراة موجودة قبله وفيها الحكام .ولذلك فمن عجيب
أمر أهل الكتاب من يهود ونصارى ،أنهم على رغم اختلفهم في قمة المور وهي مسألة عيسى
وأم عيسى ،جاءوا آخر المر ليلتقوا ويسموا الكتابين " العهد القديم والعهد الجديد " و َيعْتبروهما
كتابا واحدا يسمونه الكتاب المقدس.
وما معنى " الزبور "؟ المادة كلها مأخوذة من " زَبَرَ البئر " ،فعندما يقوم الناس بحفر بئر ليأخذوا
منها الماء ،يخافون أن ينهال التراب من جوانبها عليه فتمطر البئر؛ لذلك يصنعون لجدران البئر
بطانة الحجارة ،وفي الريف المصري نجد انهم يصنعون تلك البطانة من السمنت.
وكلمة " زَبَرَ البئر " تؤدي معنى كل عملية لصلح البئر؛ ثم أخذ الناس هذه الكلمة في معانٍ
مختلفة ،فسموا العقل " زَبْرا " لنه يعقل المور .وإذا كان السياج من الحجارة يعقل التراب عن
البئر ويمنعه ،فكذلك العقل يحمي النسان من الشطط وليضبط النسان حريته في إطار مسئوليته
ليفكر ،ويعقل الغرائز عن الفكاك بالنسان إلى الشتات والضلل .ويخطئ الناس في بعض
الحيان في فهم معنى " العقل "؛ ويظنون أن العقل هو إطلق الحبل على الغارب للفكار دون
ل معنى كلمة العقل حتى تعرفوا مهمته.
انتظام او مسئولية ،ونقول :افهموا أو ً
صصْنَاهُمْ{ ...
ويقول الحق من بعد ذلك } :وَرُسُلً َقدْ َق َ
()650 /
والرسل الذين ذكرهم ال في الية السابقة ليسوا كل الرسل الذين يجب اليمان بهم تفصيل
فحسب ،فكما علمونا في الزهر الشريف يجب أن نؤمن بخمسة وعشرين رسول وقد نظمهم
بعض الشعراء في قوله:في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهموإدريس ،هود،
شعيب ،صالح ،وكذا ذو الكفل ،آدم ،بالمختار قد ختمواوفي سورة النعام نجد قوله الحق {:وَتِ ْلكَ
سحَاقَ
حكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا َلهُ إِ ْ
حجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىا َق ْومِهِ نَ ْرفَعُ دَ َرجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَ ّبكَ َ
ُ
سفَ َومُوسَىا
ب وَيُو ُ
وَ َيعْقُوبَ كُلّ َهدَيْنَا وَنُوحا َهدَيْنَا مِن قَ ْبلُ َومِن ذُرّيّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَ ْيمَانَ وَأَيّو َ
حسِنِينَ * وَ َزكَرِيّا وَيَحْيَىا وَعِيسَىا وَإِلْيَاسَ ُكلّ مّنَ الصّالِحِينَ *
وَهَارُونَ َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
س وَلُوطا َوكُلّ َفضّلْنَا عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ }[النعام]86-83 :
سمَاعِيلَ وَالْ َيسَ َع وَيُونُ َ
وَإِ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي هذه اليات ثمانية عشر رسولً ،وبالضافة إلى سبعة هم إدريس وهود وشعيب وصالح وذو
الكفل وآدم ومحمد صلى ال عليه وسلم ،هم إذن خمسة وعشرون رسولً ذكرهم ال ،لكن الية
التي تسبق الية التي نحن بصددها لم يذكر ال كل أسماء الرسل .وذكر أسماء بعض الرسل في
سورة النعام وبعضهم في سورة هود وبعضهم في سورة الشعراء .ويقول الحق {:وَرُسُلً َقدْ
ك َوكَلّمَ اللّهُ مُوسَىا َتكْلِيما }[النساء]164 :
صهُمْ عَلَ ْي َ
ص ْ
ل وَرُسُلً لّمْ َنقْ ُ
صصْنَاهُمْ عَلَ ْيكَ مِن قَ ْب ُ
َق َ
أي أن الخمسة والعشرين رسولً ليسوا كل الرسل الذين أرسلهم الحق إلى الخلق ،فقد قال {:وَإِن
مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا َنذِيرٌ }[فاطر]24 :
أي أنه قد قص علينا أعلم الرسل الذين كانت أممهم لها كثافة أو حيّز واسع أو لرسلهم معهم
عمل كثيف ،ولكن هناك بعض الرسل أرسلهم سبحانه إلى مائة ألف أو يزيدون مثل يونس عليه
السلم {:وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىا مِ َئةِ أَ ْلفٍ َأوْ يَزِيدُونَ }[الصافات]147 :
وكان العالم قديما في انعزالية .ولم يكن يملك من وسائل اللقتاء ما يجعل المم تندمج .وكان لكل
ل إلى كل بيئة ليعالج هذه
بيئة داءاتها ،ولكل بيئة طابع مميز في السلوك ،ولذلك أرسل ال رسو ً
الداءات ،ول يذكر الداءات الخرى حتى ل تنتقل من مجتمع إلى مجتمع آخر بالسوة .وحين علم
الحق بعلمه الزلي أن خلقه بما أقدرهم هو سبحانه على الفكر والنتاج والبحث في أسرار الكون
سيبتكرون وسائل اللتقاء؛ ليصير العالم وحدة واحدة ،وأن الشيء يحدث في الشرق فيعلمه الغرب
في اللحظة نفسها ،وأن الداءات ستصبح في العالم كله داءات واحدة؛ لذلك كان ولبد أن يوجد
الرسول الذي يعالج الداءات المجتمعة ،فكان صلى ال عليه وسلم الرسول الخاتم والرسول الجامع
ك َوكَلّمَ اللّهُ مُوسَىا
صهُمْ عَلَ ْي َ
ص ْ
ل وَرُسُلً لّمْ َنقْ ُ
صصْنَاهُمْ عَلَ ْيكَ مِن قَ ْب ُ
والرسول المانع {.وَرُسُلً َقدْ َق َ
َتكْلِيما }[النساء]164 :
ويتكلم الحق سبحانه عن تاريخ النبوات مع قومهم بكلمة " قصصنا " ولذلك حكمة ،فالقصص معناه
أنه ل عمل في الحداث للرسول ،بل تأتي الحداث في السياق كما وقعت.
وسبحانه يعلم أزلً أن خلقه سيبتكرون فنا اسمه " فن القصص ".
ومن العجيب أنهم يسمونه فن القصص ،وينسج المؤلفون حكايات خيالية أو حكايات ليس لها
واقع .وعندما يأتون إلى التاريخ الواقع يزيد المؤلف جزءا من الحداث أو يضيف من خياله
أشياء ،ويقولون هذه متطلبات إتقان فن القصص ،ويحرمون أنفسهم من أمانة النقل .ولذلك يأتي
الحق ليوضح لنا أن القص الخاص بالرسل وبغيرهم في القرآن قصص واقعي ،حقيقي ،حدث
فعلً.
وكلمة " القصص " مأخوذة من قص الثر أي أن نسير مع القدم كما تَذهب ،فل نذهب هنا ول
نذهب هناك .وحكايات النبياء في القرآن واقعية .ومن رواية الحق ل من رواية الخلق ،وثمة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فارق بين ما يرويه الحق لخلقه ليسيروا على المنهج .وما يرويه الخلق بعضهم لبعض للتسلية أو
غير ذلك .ونجد روايات الخلق تزدحم في بعض الحيان بخيال البشر ،مثل روايات جورجي
زيدان عن السلم والنبياء ،وعندما سألوه لماذا أضاف من عنده إلى الواقع ،أجاب الجابة
التقليدية :فعلت ذلك من أجل الحبكة القصصية.
ويجب أن نميز ونفرق بين روايات الخلق وقصص الحق ونضعه في بؤرة الشعور حتى ل يُدخل
أحد من خياله على قصص القرآن ما ليس فيه ،وحتى ل يأتي واحد ذات يوم ويقول :إن كل
القصص واحد .فنحن في القرآن لسنا أمام مؤلف ،بل أمام الخالق العلى الذي يروي لنا ما
صصِ ِبمَآ
يعلمنا .وسبحانه علم أزلً ما سيدور في كونه ،لذلك قال {:نَحْنُ َنقُصّ عَلَ ْيكَ َأحْسَنَ ا ْل َق َ
ن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ َلمِنَ ا ْلغَافِلِينَ }[يوسف]3 :
َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ هَـاذَا ا ْلقُرْآ َ
وسبحانه قد قص على الرسول صلى ال عليه وسلم في القرآن أحسن القصص؛ لن رسول ال
صلى ال عليه وسلم سيعالج أجناس العالم التي توزعت على جميع الرسل من إخوانه ،ومادام
عمل رسول ال صلى ال عليه وسلم سيكون مع كل الجناس البشرية الذين تفرقوا من قبل على
الرسل من إخوانه ،فل بد أن يوضح سبحانه للرسول صلى ال عليه وسلم ولمته من بعده :أنّه
حدث مع الرسول فلن كذا ،وكان مبعوثا إلى قوم كان موقفهم منه كذا ،وكانت داءات ذلك
المجتمع هي كذا وكذا .ومحمد صلى ال عليه وسلم -كما نعلم -موْكولٌ إليه علج كل أجناس
البشر وكذلك أمته من بعده ،ولبد أن يعرفوا أخبار ُكلّ المجتمعات والرسلَ ( :نحْنُ َنقُصّ عَلَ ْيكَ
ن وَإِن كُنتَ مِن قَبِْلهِ َلمِنَ ا ْلغَافِلِينَ {.
حسَنَ ا ْل َقصَصِ ِبمَآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ هَـاذَا ا ْلقُرْآ َ
أَ ْ
إذن فكلمة " قصص " تدل على أنها حكايات لحركة العقيدة التي كانت مع كل الرسل .والتاريخ -
كما نعلم -هو ربط الحداث بأزمانها ،فمرة نجعل الحدث هو المؤرّخ له ،ثم نأتي بأشخاص
كثيرين يدورون حول الحدث.
ومرة نجعل الشخص هو الصل والحداث تدور حوله ،فإذا قلنا كلمة " سيرة " فنعني أننا جعلنا
الشخص هو محور الكلم؛ ثم تدور الحداث حوله .وإن أرخنا للحدث ،نجعل الحدث هو الصل،
والشخاص تدور حوله.
مثال ذلك :عندما نأتي لنتكلم عن حدث الهجرة؛ نجعل هذا الحدث هو المحور ،ونروي كيف
هاجر رسول ال ومعه أبو بكر /وكيف هاجر عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة ،وبذلك تكون
الهجرة هي المحور وكيف دار الشخاص حول هذا الحدث الجليل.
ومثال آخر :عندما نروي سيرة من السير ،مثل سيرة النبي صلى ال عليه وسلم ،نجعل النبي
صلى ال عليه وسلم محور الحديث والتاريخ ،ونروي كيف دارت الحداث في حياته.
إذن فأخبار وقصص الرسل تكون هي المحور ونلتقط الحداث التي مرت عليهم؛ لن الرسالت
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حين تأتي الناسَ بمنهج السماء؛ تنقسم إلى قسمين :قسم نظري يريد الحق أن يعلمه لخلقه بواسطة
الرسول ،وهو القسم العلمي ،فتلك قضايا يجب أن يعلموها .وقسم عملي؛ لن الحق يريد من خلقه
أن يعلموا ويريد منهم -أيضا -بعد أن يعلموا أن يطوعوا حركة حياتهم على ضوء ما عملوا.
فليست المسألة رفاهية علم ،ولكنها مسئولية تطبيق ما علموا في محور " افعل " و " ل تفعل ".
ولو كانت المسألة أن يعلم الخلق فقط ،لكان من الممكن أن نقول :ما أيسرها من رحلة.
لقد وجدنا كفار قريش عندما طلب الرسول منهم أن يشهدوا أن ل إله إل ال ،قاوموا ذلك .ولو
كانوا يعلمون أنها مجرد كلمة تقال لقالوها .لكنهم عرفوا مطلوب الكلمة ،وعرفوا أنه لن توجد
سيادة ول عبودية ول أوامر لحد غير ال ،ومعنى ذلك المساواة المطلقة بين العباد.
إذن فكل تكليف من السماء إنما نزل ،والقصد من العلم به هو العمل به أي توظيف العلم تطبيقا،
فل قيمة لعلم دون عمل .وعندما يبلغ الرسول القوم :هذا هو الحكم ،ومطلوب من كل واحد منهم
أن يطوّع حركة حياته على ضوء هذا الحكم .وتجيء الحكام دائما في طاقة البشر.
وهناك أناس قد علموا وعملوا وهذه هي قصصهم ،هذه قصة فلن وقصة فلن .فالقصص يعطينا
الجانب العملي المطلوب للمنهج ،ولذلك قصّ لنا الحق قصص الرسل في القرآن .ويبلغنا الحق
بالنسب اليماني ،ويعلمنا النسب المعترف به عند النبياء ،فيحكي قصة نوح عليه السلم ،عندما
أوْحى إليه بضرورة أن يصنع السفينة ،وسَخِر قومُه منه ،وبعد أن صنعها جاء المر اللهي بأن
علَيْهِ مَلٌ مّن َق ْومِهِ
ك َوكُّلمَا مَرّ َ
يحمل فيها من كل زوجين اثنين .ويقول الحق {:وَ َيصْنَعُ ا ْلفُ ْل َ
عذَابٌ
س ْوفَ َتعَْلمُونَ مَن يَأْتِيهِ َ
سخَرُونَ * فَ َ
سخَرُواْ مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنكُمْ َكمَا تَ ْ
سخِرُواْ مِ ْنهُ قَالَ إِن تَ ْ
َ
ح ِملْ فِيهَا مِن ُكلّ َزوْجَيْنِ
عذَابٌ مّقِيمٌ * حَتّىا ِإذَا جَآءَ َأمْرُنَا َوفَارَ التّنّورُ قُلْنَا ا ْ
حلّ عَلَيْهِ َ
يُخْزِي ِه وَيَ ِ
ن َومَآ آمَنَ َمعَهُ ِإلّ قَلِيلٌ }
ن وَأَهَْلكَ ِإلّ مَن سَ َبقَ عَلَيْهِ ا ْلقَ ْولُ َومَنْ آمَ َ
اثْنَيْ ِ
[هود]40-38 :
قوله الحق } ِإلّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ا ْل َق ْولُ { كان يجب أل تمر على فطنة نوح؛ ذلك لنها تتضمن أن
هناك أناسا من أهله لن يؤمنوا ،فيقول لبنه {:وَنَادَىا نُوحٌ ابْ َن ُه َوكَانَ فِي َمعْ ِزلٍ يابُ َنيّ ا ْر َكبَ ّمعَنَا
وَلَ َتكُن مّعَ ا ْلكَافِرِينَ }[هود]42 :
صمُنِي مِنَ ا ْلمَآءِ }[هود]43 :
وكان الرد {:قَالَ سَآوِي إِلَىا جَ َبلٍ َي ْع ِ
ل لَ عَاصِمَ الْ َيوْمَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ ِإلّ مَن رّحِمَ }[هود]43 :
فقال نوح {:قَا َ
وبعد أن غرق ابن نوح وابتلعت الرض ماءها ،نادى نوح ربه فقالَ {:ربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنّ
ح َكمُ الْحَا ِكمِينَ }[هود]45 :
ق وَأَنتَ أَ ْ
حّوَعْ َدكَ الْ َ
نحن -إذن -أمام لقطة قصصية في قصة نوح .يلفتنا بها الحق إلى مسألة بنوة الرسالت،
فالبنوة هنا منهجية .ومن يتبع النبي هو الذي يكون من نسبه .ومن ل يتبع النبي فليس من نسبة،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك قال الحق } :قَالَ يانُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهِْلكَ { .فأهل النبوة هم الذين اتبعوا منهج النبي.
ويشرحها لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما قال عن سلمان الفارسي:
" سلمان منا أهل البيت "
ولم يقل :إن سلمان عربي ،أو إنّه من المسلمين ،لكنه قال :إنه من أهل البيت .وقد أوضح الحق
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ {.
ذلك في قصة ابن نوح } :إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ
وخاض في معنى } لَيْسَ مِنْ أَهِْلكَ { بعض الخائضين باللغو وقالوا :إن أم ابن نوح قد فعلت
ع َملٌ
السوء ،ولهؤلء نقول :استغفروا ربكم وانظروا إلى حيثية الحكم {:إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَ ْهِلكَ إِنّهُ َ
علْمٌ }[هود]46 :
غَيْ ُر صَالِحٍ فَلَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ ِ
إذن فنسبة البناء للباء من النبياء نسبة عمل ل نسبة دم ول نسبة عن زواج أو إنجاب ،أما
الذين قالوا السوء في امرأة نوح فعليهم أن يستغفروا ال ،فالحق سبحانه منزه عن التدليس على
رسوله .وهب أن أم الولد قد فعلت ذلك -معاذ ال -فما ذنب الولد تصير أمه إلى هذا؟ ل دخل
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ { يدل على أن ثبوت النبوة اليمانية يكون بالعمل
للولد بذلك ،لكن قول ال } :إِنّهُ َ
فقط.
ولننظر إلى قول رسول ال صلى ال عليه وسلم لهله وعشيرته ..فعن أبي هريرة رضي ال عنه
أنه قال " :لما نزلت (وأنذر عشيرتك القربين ،جعل النبي صلى ال عليه وسلم يدعو بطون
قريش بطنا بطنا :يا بني فلن أنقذوا أنفسكم من النار حتى انتهى إلى فاطمة فقال :يا فاطمة ابنة
محمد انقذي نفسك من النار ل أملك لكم من ال شيئا غير أن لكم رحما سأبلها بِبِللها "
ح وَامْرََأتَ لُوطٍ
ويضرب ال المثل في الزوجات؛ فيقول {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُو ٍ
حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَاِلحَيْنِ فَخَانَتَا ُهمَا فََلمْ ُيغْنِيَا عَ ْن ُهمَا مِنَ اللّهِ شَيْئا َوقِيلَ ادْخُلَ النّارَ مَعَ
كَانَتَا تَ ْ
الدّاخِلِينَ }[التحريم]10 :
وليس المقصود بالخيانة هنا الخيانة الجنسية؛ لكن لنستدل على أن الرسول وإن كان رسولً ليس
له من القدرة على أن يقهر زوجه وامرأته على عقيدة؛ فهي تملك حرية العتقاد؛ فل ولية هنا
للرجل على المرأة في العقيدة حتى إن ادعى اللوهية؛ كفرعون مثلً يقول الحق عن امرأته{:
عوْنَ ِإذْ قَاَلتْ َربّ ابْنِ لِي عِن َدكَ بَيْتا فِي الْجَنّ ِة وَنَجّنِي مِن
َوضَرَبَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرََأتَ فِرْ َ
عمَلِهِ وَنَجّنِي مِنَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ }[التحريم]11 :
عوْنَ وَ َ
فِرْ َ
هذه اللقطات تدلنا على أن قضية اليمان ل ينفع فيها النسب أو الزواج .فالبن هو العمل الصالح،
ع َملٌ غَيْرُ صَالِحٍ { فلم يذكر ذات البن ولكنه ذكر
والحيثية في ذلك قول الحق عن ابن نوح } :إِنّهُ َ
العمل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكل نبي قصة يذكرها الحق ليتضح المنهج في أذهان الناس .ويأتي ال بالمثل في المصطفَيْنَ
الخيار الذين اصطفاهم ال لهداية الناس مثل قصة سيدنا إبراهيم عليه السلم .الذي يبتليه -
سبحانه -في أول حياته بالحراق في النار .كان إبراهيم شابا يمتلئ بالمل في الحياة ،فماذا كان
من إبراهيم؟
أراد الحق نجاة إبراهيم من النار .وتركهم يتمكنون منه ويضعونه في قلب النار .ولم تمطر
السماء لتطفئ النار ،وكل ذلك لتكون حجة الحق واضحة ،وحتى يكون كيد ال كاملً لهؤلء
الكافرين .إن إبراهيم عليه السلم لم يهرب منهم ،ولم تمطر السماء ،بل ظلت النار نارا ويعطل
سبحانه ناموس النار حين دخول إبراهيم إليها.
" روي عن أبي بن كعب عن النبي صلى ال عليه وسلم أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار
قال :ل إله إل أنت سبحانك رب العالمين ،لك الحمد ولك الملك ل شريك لك .قال :ثم رموا به في
المنجنيق من مضرب شاسع فاستقبله جبريل فقال :يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال :أما إليك فل .فقال
جبريل فاسأل ربك .فقال :حسبي من سؤالي علمه بحالي .فقال ال :يا نار كوني بردا وسلما
على إبراهيم "
وفي هذا غيظ ودحض لمكر الذين مكروا بإبراهيم .إذن يعطينا الحق في القصص القرآني المثل
لنجمع من حياة كل رسول العبر ونستفيد منها ،لنكون بحق خير أمة أخرجت للناس؛ لننا أخذنا
تجارب كل رسول وجعلناها منهجا لنا في حياتنا.
وقد ابتلى الحق إبراهيم في أول حياته في نفسه ،وابتله في أخريات حياته في ابنه ،ونجح إبراهيم
في البتلء الول حين كانت حياته أهم بالنسبة إليه من كل شيء ،وحين يتقدم في السن ،فمن
المفروض أن تكون كل حياته لمن بعده من البناء فيبتليه ال في ابنه.
لم يقل له :إن ابنك سيموت وعليك بالصبر .ولم يقل له :إن واحدا سيقتل ابنك وعليك بالصبر؛ بل
يأمره بذبح ابنه ،تلك قمة البتلء .لنه لم يأت بوحي مباشر كالنفث في القلب أو الكلم من وراء
حجاب أو يرسل له ال ملكا يبلغه ما يريد ،بل برؤيا منامية } :قَالَ يابُ َنيّ إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي
حكَ { .ويقول إبراهيم لبنه المسألة كما رآها في المنام .والرؤيا عند النبياء حق.
أَذْ َب ُ
وقد يقول قائل :ولماذا لم يرد إسماعيل على أبيه بأن هذه المسألة هي مجرد رؤيا؟ ولماذا لم يأخذ
إبراهيم ولده على غرة دون أن يقول له؟.
ونقول :إن إبراهيم من فرط وشدة حنانه وحبه لبنه آثر أن ينال البن الثواب العظيم والجزاء
حكَ
الجليل بأن يقتل ويقدم حياته امتثال لمر ال ،فقال إبراهيم {:يابُ َنيّ إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي أَذْ َب ُ
فَانظُرْ مَاذَا تَرَىا }[الصافات]102 :
وها هوذا قول إسماعيل {:قَالَ ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[الصافات]102 :
ولم يقل إسماعيل لبيه " :افعل الذبح " ولكنه قال } :ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ { أي أن إسماعيل لم يأخذ
الكلم على أنه كلم من أبيه ،بل أخذه كأمر من ال .ولو أخذه أبوه على غرة قد يتحرك قلب
البن غيظا على أبيه وحقدا عليه فيعتدي على الب ،وهنا نجد حنان الب على البن جعله يخبره
بالمر التي من السماء؛ والشأن في حنان الب على البن أن ييسر له كل أمور حياته .أما حنان
الحنان فهو تيسير كل خير بعد مماته؛ لذلك لم يشأ إبراهيم أن يحرم إسماعيل من المتثال لمر
ال؛ فينال الثنان معا شرف المتثال ل .وأعطاه كل الحنان في الزمان البقى والزمان الخلد في
الدار الخرة؛ حتى نعلم أن الحق سبحانه وتعالى ل يريد منا إل المتثال لقضائه وقدره ،ويقول
الحق {:فََلمّا َأسَْلمَا وَتَلّهُ لِ ْلجَبِينِ }[الصافات]103 :
هذا شرف المتثال في التسليم ل ..ففي البداية أسلم إبراهيم أمره ل ،وعندما عرض المر على
ابنه سلم البن أمره ل ،فنال الثنان منزلة الشرف في التسليم لمر ال .ونجح الثنان في
حسِنِينَ }
الختبار ،فقال الحق {:وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * َق ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
[الصافات]105-104 :
لقد أنقذ الحق إبراهيم وابنه من مسألة الذبح ،ولهذا نقول دائما :ل يُرفع قضاء من ال على خلقه
إل أن يستسلم الخلق للقضاء ،والذين يطيلون أمد القضاء على نفوسهم هم الذين ل يرضون به.
وأتحدى أي إنسان أن يكون ال قد أجرى عليه قضاء مرض فيرضى به ويعتبر أن ذلك صحة
اليقين ،ول يرفع ال عنه المرض .فالنسان بالصحة يكون مع نعمة ال ،ولكنه بالمرض يكون مع
ال.
فقد حدثنا أبو هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال عز وجل يقول يوم
القيامة :يا بن آدم مرضت فلم تعدني .قال :يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال :أما
علمت أن عبدي فلنا مرض فلم تعده!! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ "
من إذن يجرؤ على الزهد في معية ال؟ وعندما يعرف المريض أنه في مرضه الذي يتأوه منه هو
في معية ال لستحى أن يقول " :آه " ،ولكننا ل نطلب من المريض أل يقول " آه " ،ولكن نطلب
منه أن يتوجه إلى ال ويقول " :ولكن عافيتك أوسع لي ".
وقول الحق } :فََلمّا أَسَْلمَا وَتَلّهُ ِللْجَبِينِ { هذا القول يدلنا على أن القضاء ل يُرفع إل بالرضا به،
فإن رأينا واحدا قد استمر معه القضاء فلنعلم أنه لم تحن ولن تأت عليه لحظة لرضي فيها
بالقضاء .ولم يرفع ال القضاء فقط عن إبراهيم ،ولم ُيفْد إسماعيل فقط بذبح عظيم ،بل بشر ال
سحَاقَ نَبِيّا مّنَ الصّالِحِينَ }[الصافات]112 :
إبراهيم بولد آخر اسمه إسحاق {:وَبَشّرْنَاهُ بِإِ ْ
وها هي ذي لقطة أخرى نأخذها من القصص القرآني مع سيدنا موسى؛ لنتبين ماذا يصنع المنهج
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اليماني فيمن اقتنع به ،وحدثت هذه القصة في وقت تهيئة سيدنا موسى للرسالة ،حدثت هذه
الواقعة وهو ذاهب إلى شعيب ،ولم يكن رسولً بعد ،مما يدل على أن فطرية اليمان كانت
موجودة عنده ،وأن ال قد صنعه على عينه ،لقد ورد ماء مدين ووجد الفتاتين تذودان وتطردان
الماشية عن الماء ،فماذا دار بينه وبينهما من حوار؟ .وكيف كانت رؤيته لهما أولً {:وََلمّا وَرَدَ
خطْ ُب ُكمَا قَالَتَا لَ
جدَ مِن دُو ِنهِمُ امْرَأَتَينِ َتذُودَانِ قَالَ مَا َ
سقُونَ َووَ َ
ن َوجَدَ عَلَ ْيهِ ُأمّةً مّنَ النّاسِ يَ ْ
مَآءَ مَدْيَ َ
سقِي حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآ ُء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }[القصص]23 :
نَ ْ
سقِي حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآ ُء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ { قدر من المبادئ
وفي قول المرأتين } :لَ نَ ْ
فخروجهما من البيت سببه أن الب شيخ كبير ،ومع أنهما في ضرورة وخرجتا للعمل فلم تنس
صدِرَ الرّعَآءُ { أي أنهما
سقِي حَتّىا ُي ْ
واحدة منهما أنها أنثى يجب أن تُحترم أنوثتها فقالتا } :لَ َن ْ
ستسقيان من بعد أن يذهب الزحام من الرجال حول البئر .إذن فقد أخذت بنتا شعيب الضرورة في
حجمها ولم تتخذ إحداهما من الضرورة حجة لهدار النوثة والتزاحم للوصول إلى البئر .فماذا
سقَىا َل ُهمَا {.
حدث من موسى؟َ } .ف َ
تلك الهمة اليمانية التي وُجدت في موسى قبل أن يصير رسولً ،وذلك ما يوضحه لنا الحق حتى
ل يقول إنسان :كيف أكون مثل رسول من عند ال؟.
كأن الهمة اليمانية التي وصَفتها تلك اللقطة القصصية توقظ مسئولية كل مؤمن ليسلك مثل هذه
السلوك .فعندما يرى امرأةً قد خرجت عن محيط بيتها لي عمل ،فعليه أن يقضي لها حاجتها
حتى ترجع إلى بيتها وذلك دون أن يتخذ من ذلك ذريعة ووسيلة إلى أمر ينزل بهمته وينال من
مروءته.
ولو انتشرت بيننا تلك الهمة اليمانية لما وجدنا امرأة في الطريق إل للضرورة .لقد أوضحت لنا
تلك اللقطة القصصية حرص المرأة على موضعها وموقعها من الستر ،فتقول واحدة من المرأتين
لبيها شعيب بعد أن استقدمه ليجزيه أجر ما سقى لهما {:ياأَ َبتِ اسْتَأْجِ ْرهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَ ْرتَ
لمِينُ }[القصص]26 :
ياَ
ا ْل َقوِ ّ
كأن المرأة ل يحل لها أن تتحرك في الكون هذا اللون من الحركة الواسعة ،ويسمع شعيب وهو
الرجل العاقل لبنته فكيف يستأجر رجلً وعنده ابنتان ،فيفكر شعيب ويعثر على الحل الصحيح
حكَ ِإحْدَى ابْنَ َتيّ هَاتَيْنِ عَلَىا أَن
بفطنة إيمانية ،فيستدعي موسى ويقول له {:قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِ َ
حجَجٍ }[القصص]27 :
تَأْجُرَنِي َثمَا ِنيَ ِ
وفي مثل هذه الحالة سيكون موسى متزوجا بواحدة ومُحَرّما على الخرى.
وهذه اللقطات القصصية نلتفت إليها لنتعلم منها الفطنة اليمانية .وها نحن أولء مع موسى وقد
ناداه الحق ليجعله رسولً ،ولنر صفاء النفس اليمانية وهي تتلقى مهمة الرسالة؛ إن موسى يرغب
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في أن يكون أداؤه للرسالة كاملً؛ لذلك يطلب من الحق أن يرسل معه أخاه هارون {:وََأخِي
هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ مِنّي ِلسَانا فَأَرْسِ ْلهُ َم ِعيَ ِردْءا ُيصَ ّدقُنِي إِنّي أَخَافُ أَن ُي َكذّبُونِ }[القصص]34 :
هو يرشح معه هارون للرسالة لنه حريص على النجاح في دعوته لن لسانه ثقيل لرتّة ولُثغة
وتردد في النطق من أثر الجمرة التي أصاب بها لسانَه وهو صغيير ،والرسالة تحتاج إلى بيان
وبلغة فيطلب مساعدة أخيه ولم يستنكف ذلك .فما بالنا بما هو حادث وحاصل في أيامنا ،حين
يختار الحاكم رئيسا للوزراء فل يطلب معاونة الكْفَاء ،بل قد يخشى أن يكون له نائب له كفاية
عالية فوق كفاءته.
واللقطات القصصية في القرآن تعلمنا الكثير ،وأراد الحق أن يثبت بها للمة المحمدية دقة المنهج
اليماني ،فمادام قد أرسل لنا منهجا لنعلمه ،فهو يطلب منا أن نطبق هذا المنهج ونوظفه في
حياتنا .وليس ذلك بدعا ،بل هو موجود في قصص الرسل الذين عَلِموا المنهج فطبقوه في ذواتهم
أولً؛ لن الفة أن نعلم العلم ول نطبقه.
وفي زماننا يقال ويشاع :إن التعليم الديني في المدارس ل يأتي بثمار طيبة في سلوك الطلب.
ونقول لمن يرددون ذلك :أنتم ل تفهمون طبيعة التعليم الديني؛ فتعليم الدين ل يمكن أن يتساوى
مع تعليم الجغرافيا أو الهندسة وغيرهما من العلوم؛ لننا عندما نعلم طالبا الهندسة فهو يستطيع أن
يكون عالما متفوقا فيها ويأخذ المعطيات والنظريات ويتفوق في المجال الهندسي ،ولكن لم تطلب
منه أية نظرية هندسية أن يعدل سلوكه في الحياة بأن ترشده في السلوك اليومي :افعل كذا ول
تفعل كذا.
فالنظريات الهندسية ل تتدخل في حياة الطلب ،لكن الطالب عندما يتعلم الدين إنما يتعلم أن يفعل
المر الديني ،ول يفعل الشياء المنهي عنها .والصعب في التعليم الديني هو التطبيق العملي.
عندما ل يرى التلميذ التطبيق العملي من الذين يعلمونه الدين أو من السرة ،فإنه ل يتعلم الدين،
فيقال للطالب :الدين ينهى عن الكذب ،لكن الطالب يجد الكذب سلعة رائجة في المجتمع .ويقول
الدين له :الصلة عماد الدين وتنهى عن الفحشاء والمنكر ،ول يجد الطالب من يصلي أمامه أو
يجد من يصلي ول يقيم عمارة الدين باتباع ما تأمر به الصلة من نهي عن المنكر ،إذن ففشل
التعليم الديني ل يأتي من ناحية غياب المعلم ولكن من عدم وجود التطبيق العملي للسلوك الديني.
ونعود للقص القرآني .جاء القصص ليوضح لنا التطبيق للجانب النظري من الدين ،وطبّقهُ الرسل
على أنفسهم .وأنتم يا أمة السلم لستم أقل من أحد ،بل أنتم خير أمة أخرجت للناس ،وعليكم أن
تأخذوا الخير الذي حدث في موكب الرسالت كلها وتطبقوه في ذواتكم.
صهُمْ عَلَ ْيكَ { .وقد
ص ْ
ل وَرُسُلً لّمْ َنقْ ُ
صصْنَاهُمْ عَلَ ْيكَ مِن قَ ْب ُ
هذا هو معنى قوله الحق } :وَرُسُلً َقدْ َق َ
جاء لنا القرآن بعيون القصص حتى نأخذ منها لقطات العبرة .ويقول قائل :ومن هو الرسول؟
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول العلماء :هناك رسول وهناك نبي .وأقام بعضهم مشكلة حول هذا المر ،فقال بعضهم :كل
رسول نبي ول عكس .ونقول لصحاب هذا الرأي :لو نظرنا إلى المعنى اللغوي والمعنى
ل َولَ نَ ِبيّ }
الصطلحي لرحنا أنفسنا جميعا ،فالقرآن يقولَ {:ومَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ مِن رّسُو ٍ
[الحج]52 :
إذن فالنبي أيضا مرسل من ال ،وعلى ذلك فكلهما -النبي والرسول -مرسل من عند ال ،لكنْ
يوجد فرق بين أن يرسل الحق تشريعا مع رسول ،ويكون هذا التشريع مستوعبا لشياء وأحكام لم
تكن موجودة في الرسالة السابقة عليه ،وبين أن يأتي إنسان مصطفى من ال ليطبق فقط ما جاء
في الرسالت السابقة ،فالنبياء قد أرسلهم ال ليكونوا نموذجا تطبيقيا للشرع السابق عليهم ولم
يَأتوا بشرع جديد ،لكن الرسول هو من أرسله ال بشرع جديد ليعمل به وأمره الحق بتطبيقه .هذا
هو الزائد في مهمة الرسول.
إن الحق أرسل الرسل بالشرع والتبليغ والتطبيق ،وأرسل الحق النبياء ليكونوا السوة السلوكية
فيطبقوا ما أرسل به الرسل السابقون عليهم ،وهذا أمر ل يأتي إل في المم التي لها سجل في
المكابرة مع الرسل.
ولذلك نجد أن اللجاجة دفعت بني إسرائيل إلى التفاخر بأنهم أكثر المم أنبياء ،صحيح أنهم أكثر
المم أنبياء .لكن علينا أن نعرف أن النبوات والرسالت إنما تأتي لتشفي الناس مما بهم من
داءات؛ فعندما نقول عن إنسان إنّه أكثر الناس ترددا على الطباء ،فمعنى ذلك أن أمراضه كثيرة،
وكذلك بنو إسرائيل كانت داءاتهم كثيرة.
وكثرة الرسل إليهم ل ترفع من منزلتهم .بل تدل على كثرة أمراضهم.
إذن فالرسول والنبي كلهما مرسل .والفارق أن الرسول معه تشريع سماوي ليبلغه ويطبقه،
والنبي مرسل للتطبيق ،فإن جئنا لمعنى الرسول اصطلحيا؛ فهو الموحى إليه بشرع يعمل به
وأمره ال بتبليغه .ويذيل الحق اليةَ } :وكَلّمَ اللّهُ مُوسَىا َتكْلِيما {؟.
ونقول :الوحي الذي يوحي ال به لنبيائه هو الوحي الصطلحي الشرعي الذي نتكلم عنه دون
الوحي اللغوي الذي سبق أن أفضنا فيه .والحق سبحانه وتعالى قد بين الطريقة التي يخاطب بها
ل وَحْيا َأوْ مِن
أنبياءه المصطفين لداء رسالتهم إلى خلقه ،فقالَ {:ومَا كَانَ لِ َبشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ
حكِيمٌ }[الشورى]51 :
حيَ بِإِذْ ِنهِ مَا يَشَآءُ إِنّهُ عَِليّ َ
سلَ َرسُولً فَيُو ِ
وَرَآءِ حِجَابٍ َأوْ يُرْ ِ
إذن ،فطريقة التقاء الحق بالنبياء؛ إما أن تكون بالوحي ،وإما أن تكون من وراء حجاب ،وإما أن
تكون بإرسال رسول كجبريل عليه السلم .فإذا ما نظرنا إلى الية وجدنا أن الوحي ينقسم إلى
ثلثة أقسام :وحي خاص ،وكلم من وراء حجاب ،وإرسال رسول ،وكل هذه القسام الثلثة تدخل
ل وَحْيا {.
في إطار الوحي } َومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي ما كان لبشر أن يكلمه ال إل إلهاما وقذفا في القلب ،أو يكلمهُ } مِن وَرَآءِ حِجَابٍ { وهو كلم
من ال يسمعه الرسول ،لكنه ل يرى المتكلم وهو ال .أما الوحي بواسطة الرسول ،فهو نزول
جبريل إلى الرسول بما أوحى به ال.
فإذا ما نظرنا إلى قوله الحقَ } :وكَلّمَ اللّهُ مُوسَىا َتكْلِيما { فكأنه سبحانه قد خصه بهذه العبارة
ليدل على أنه أوحى لموسى بطريقتين ،أولً :بالطريق الذي أوحى به إلى غيره من النبياء ،ثانيا:
بالطريق الخاص وهو كلم ال الذي بدأ به موسى بالوادي المقدس.
وقوله الحق " :تكليما " يدفعنا إلى التساؤل :لماذا جاء الحق بالمصدر هنا؟ .لن مطلق الوحي بأي
وسيلة سماه ال كلما .إذن فالنفخ في الرّوع كلم ،والكلم من وراء حجاب كلم ،وإرسال
الرسول بالوحي كلم .والكلم هو ما يدل على مراد المتكلم من المخاطب ،بدليل أن ال سمى
ل وَحْيا َأوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ َأوْ
الوحي في صوره الثلث كلما } َومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ
حيَ بِِإذْنِهِ مَا َيشَآءُ {.
سلَ رَسُولً فَيُو ِ
يُرْ ِ
والخفاء في الوحي إما أن يكون خفاء في السلوب ،أي ل يسمعه أحد غير الرسول ،وقد ل
يسمعه الرسول ويكون بقذف الكلم في رُوع الرسول وقلبه وهو يؤدي مؤدي الكلم أي الدللة
على ما في نفس المتكلم الذي يريد نقله للمخاطب.
أما أن يقول الحق :إنه " تكلم " مع موسى ،فهذا نقل من الخفاء إلى العلن ،أو يرسل الحق رسولً
بالكلم الموحى به .وحين قال سبحانهَ } :وكَلّمَ اللّهُ مُوسَىا َتكْلِيما { إنما ينبهنا إلى أن الوحي
لموسى ليس من الكلم الذي قسمه الحق في قولهَ } :ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإلّ َوحْيا َأوْ مِن
سلَ َرسُولً {؛ لن ال قال في كلمه لموسىَ } :وكَلّمَ اللّهُ مُوسَىا َتكْلِيما {.
وَرَآءِ حِجَابٍ َأوْ يُرْ ِ
ووقف العلماء هنا وقفة عقلية وقالوا :كيف يتكلم ال إذن؟ .ونقول :إن كل وصف ل ويوجد مثله
شيْءٌ { فإن قلت :إن ل وجودا وللنسان
لخلقه إنما نأخذه بالنسبة ل في إطار } :لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
وجودا ،فوجود النسان ليس كوجود ال ،وإن قلنا :إن ل علما ،وللنسان علما ،فعلم النسان ليس
كعلم ال ،وإن قلنا :إن ل قدرة ،وللنسان قدرة ،فقدرة النسان ليست كقدرة ال ،وإن قلنا :إن ل
استواء على العرش وللنسان استواء على الكرسي ،فاستواء ال ليس كاستواء النسان .إذن فل
بد أن تؤخذ كل صفة من صفات ال التي يوجد مثلها في البشر في إطار قوله {:لَيْسَ َكمِثْلِهِ
شيْءٌ }[الشورى]11 :
َ
وبذلك ينتهي الخلف كله في كل ما يتعلق بصفات الحق.
فالحق له يدان وله وجه ،ولكن ل يمكن للنسان أن يصور يد ال كيد البشر ،بل نأخذها في
شيْءٌ
شيْءٌ { وكذلك وجه ال .ومادمنا نأخذ صفات ال في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
إطار } لَيْسَ َكمِثِْلهِ َ
{ فل داعي للمعركة الطاحنة بين العلماء في الصفات وفي تأويل الصفات ،ول داعي أن ينقسم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العلماء إلى عالم يؤوّل الصفات وعالم ل يؤول؛ لداعي أن يقول عالم :إن يد ال هي قدرته
فيؤول ،وعالم آخر ل يؤول ويقول :ل .إن ل يدا ويسكت .ونقول للعالم الذي ل يؤول :قل :إن ل
شيْءٌ { .وإذا كنا نحن قد عرفنا في عالمنا أن الشياء تختلف
يدا وهي تناسب قوله " } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
مواجيدها في الناس باختلف الناس ،فل بد من أن نعرف أن ال ل مثيل له.
وعلى سبيل المثال :يتلقى النسان دعوة لمائدة عمدة قرية ما ،فيقدم له ألوان طعام تناسب مقام
القرية ومنصب القيادة فيها ،ويتلقى النسان دعوة لمائدة محافظ مدينة فيقدم له طعاما يناسب مقام
المدينة ومنصب القيادة فيها .ويتلقى النسان دعوة رئيس الدولة فيقدم له طعاما يناسب مقام الدولة
وهيبة منصب القيادة فيها ،إذن ل تتساوى مائدة طعام العمدة في قرية مع مائدة طعام المحافظ مع
مائدة طعام رئيس الدولة ،فإذا كان البشر يوجد الشيء الواحد وهو ملون بألوان مقامات المخلوقين
شيْءٌ {.
فكيف لنا بمقامات الخالق؟! } لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
فإذا كان الحق قد أخبرنا أنه كلم موسى تكليما في قصة الوادي عندما آنس موسى نارا وذهب إلى
طوًى * وَأَنَا اخْتَرْ ُتكَ فَاسْ َتمِعْ ِلمَا
النار .فقال الحق {:إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ فَاخَْلعْ َنعْلَ ْيكَ إِ ّنكَ بِا ْلوَادِ ا ْل ُمقَدّسِ ُ
خفِيهَا
لةَ لِ ِذكْرِي * إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ َأكَادُ ُأ ْ
يُوحَى * إِنّنِي أَنَا اللّهُ ل ِإلَـاهَ إِل أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وََأقِمِ الصّ َ
سعَىا * فَلَ َيصُدّ ّنكَ عَ ْنهَا مَن لّ ُي ْؤمِنُ ِبهَا وَاتّبَعَ َهوَاهُ فَتَرْدَىا }
لِتُجْزَىا ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا تَ ْ
[طه]16-12 :
قال له الحق كل ذلك ،وبدأه سبحانه بالكلم .وبعد ذلك جاء لموسى الوحي على طريقة مجيء
الوحي للنبياء.
والحق سبحانه وتعالى أوحى لنبيه صلى ال عليه وسلم على شتى ألوان الوحي .فقد جاء الوحي
لرسول ال إلهاما ،وجاء الوحي لرسول ال من وراء حجاب ،وجاء الوحي لرسول ال من خلل
رسول.
ومثال الوحي إلهاما هو الحديث القدسي ،وكذلك التشريع النبوي الذي تركه لنا الرسول صلى ال
عليه وسلم ،ومثال الوحي من وراء حجاب هو التكليف بالصلة ،فلم تفرض الصلة بواسطة
جبريل ،بل فرضت من ال مباشرة.
ول أدخل في نقاش ل جدوى منه حول :أحين فرض الحق على رسوله الصلة كلمه وسمع منه
رسول ال ،أم أن رسول ال قد رأى ال وهو يتكلم معه .ل داعي للخوض في أمر لم يخبرنا ال
عن كيفيته ،والدب مع ال يقتضي ذلك .قال تعالىَ } :ولَ َت ْقفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِلْمٌ {.
وإن القرآن لم يثبت بأية طريقة من طرق الوحي إل بإرسال رسول ،فكل وحي القرآن جاء
بواسطة جبريل ،فلم تأت آية بالنفخ في الرّوع .إنما جاء بالنفخ في الروع الحديث القدسي؛ لن
النفخ في الروع قد يتصور واحد أنه خاطر من الجن أو أمثال ذلك .وجاءت كل اليات القرآنية
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بواسطة جبريل؛ بمقدمات بدنية ،ويحدث تغير كيماوي في نفس رسول ال فل يشك أبدا في أنه
جبريل .وأراد الحق أن يكون الوحي بالقرآن بطريقة ل شك فيها.
وكان الرسول صلى ال عليه وسلم يسمع صوتا كصلصلة الجرس؛ وبعد ذلك يتفصد جبين
الرسول عرقا ،ويثقل جسم رسول ال حتى إن كان على دابة فهي تئط وتئن ويثقل عليها وتكاد أن
يمس بطنُها الرض .وإن كان رسول ال يلصق فخذه فخذ أحد الصحابة ،فيكاد أن يرض فخذ
الصحابي ،وتلك علمات مادية كونية ،ل يمكن أن يحدث فيها لبس.
ولقد قالوا من قبل استنادا إلى ظاهر قوله {:وََلوْ أَنّآ أَهَْلكْنَاهُمْ ِبعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ َلقَالُواْ رَبّنَا َلوْل
ل وَنَخْزَىا }[طه]134 :
أَرْسَ ْلتَ إِلَيْنَا َرسُولً فَنَتّبِعَ آيَا ِتكَ مِن قَ ْبلِ أَن نّ ِذ ّ
لو لم يرسل الحق الرسول لكان لهم حجة .ونقول للعلماء :لنفهم هذه المسألة حتى نوضح لكم أنكم
تختلفون في أمر كان يجب عليكم أل تختلفوا فيه .أبالعقل يعلم النسان مطلوب ال منه؟ أم أن
العقل يهديني إلى وجود قوة أعلى خلقت هذا الكون وتدبره؟ .وما اسم هذه القوة؟ .وما مطلوب
هذه القوة؟ .أيعرف العقل ثواب من يتبع المنهج وعقاب من يخرج عن المنهج؟ .كل هذه أمور ل
يعرفها العقل ،فالعقل حجة في اليمان بقوة عُليا فوق ذلك الكون وهي التي خلقته وتدبره وتديره،
أما الرسول فهو مبلغ بمطلوبات المنهج واسم القوة التي أرسلت والشرائع التي يجب أن يسير على
هداها النسان ،إذن فليس هناك خلف بين الرأيين.
واسأل :من الذي اكتشف الكهرباء؟ .إنه العقل البشري الباحث وراء أسرار ال في الكون ،ول
أحد يجهل هذه المسألة .وكذلك أسأل :من أول من تكلم في النسبية؟ إنه أينشتين .وإن سألنا :من
أول من تكلم في الجاذبية الرضية؟ .إسحاق نيوتن ،وكل واحد اكتشف شيئا في الكون صرنا
نعرفه .والذي صمم توليد الكهرباء التي تنير وتضيء وندير بها المصانع ،وجعل من سوق
الكهرباء صناعة رائجة تعمل فيها القدرات المالية ليشتري النسان مصابيح تنير حيزا محدودا،
ومصانع تعمل في خدمة النسان.
أبال عليكم تعرفون اسم مصمم مولدات الكهرباء ومصصم ومكتشف المصباح الكهربائي ،ول
تدرون اسم من خلق الشمس التي تنير نصف الكرة الرضية كل نصف يوم .ولم َيدّع أحد لنفسه
صناعة الشمس ،ول يوجد ابتكار في الكون إل ومعلوم مَن أبدع هذا البتكار .فالذي صنع
المصباح إنما ينير به حيزا محدودا مهما كبر ضوء المصباح ،وبعد محيط دائري معلوم يتلشى
الضوء ويصير المر إلى ظلمة ،فما بالنا بالشمس التي تنير نصف الكرة الرضية كل نصف
نهار.
إن خلق الشمس يحتاج إلى قدرة تناسب خلقها ،وتحتاج إلى حكمة تناسبها ،وليس لهذه الشمس
محيط من الزجاج ينكسر ونغيره مثلما نفعل مع المصابيح .كان لبد للعقل البشري أن يفهم أن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه الكائنات التي في الكون لها صانع يناسبها .ول يمكن أن يكون صانعها من الخلق ويسكت عن
حقه في صناعة هذه المعجزات ،ونحن نرى بعضا من الناس في بعض الحيان تدعي ملكية ما
ليس لها ،فإذا ما جاء الخالق وأبلغنا بواسطة الرسل بصناعته للكون ولم يوجد له مُعارض ،فهل
هذه الشياء والكائنات من خلقه أو ل؟ .إنها من خلقه إلى أن يوجد له معارض؟
هذه هي مهمة العقل أي أنّه يهتدي إلى القوة التي تخلق وتدبر أمر هذا الكون ول يغني العقل عن
الرسل ،ولكن العقل يؤمن في القمة اليمانية بأن هناك قوة مبهمة عالية تناسب عظمة هذا الكون
الذي طرأ عليه النسان ،ول يعرف اسم القوة ول يعرف مطلوب القوة في " افعل " ،و " ل تفعل
" ،ول يعرف العقل ماذا ادخرت القوة من ثواب للمحسن وعقاب للمسيء .لذلك لبد من وجود
رسول.
إن الحجة -إذن -تكون من شقين :الشق الول الخاص بالعقل هو في اليمان بالقوة العليا
المبهمة ،والشق الثاني الخاص بالرسل هو اليمان بالبلغ عن ال اسما وصفة ومطلوبا وجزاء،
وهكذا نرى فاتفقوا أيها العلماء ول ضرورة للخلف.
أقول ذلك حتى ل يتمادى الذي يتصيدون لدين ال وأضيف :اتفقوا أيها العلماء على أشياء محددة
لنكم تشتتون الناس بهذه الخلفات؛ فالرسول هو الحجة في الشياء التي ل دخل للعقل فيها.
ونعرف تاريخيا أن آفة الفلسفة أنها تضع وتتخذ عددا ضيقا من المجالت لتبحث فيها ،وكانت
الفلسفة قديما هي أمّ العلوم مجتمعة ،فالهندسة كانت فرعا منها ،وكذلك كل الرياضيات ،وأيضا
المواد العلمية كالكيمياء والفيزياء وكذلك أصول اللغات.
لكن عندما رأى العلماء أصحاب التجارب المعملية أن الفلسفة يدخلون في متاهات نظرية ول
يدخلون إلى مجال التجارب العلمية التطبيقية ،تركوا الفلسفة وأسسوا العلوم التجريبية منفصلة
عن الفلسفة .وأنتج العلم التجريبي لنا كل هذه الختراعات والكتشافات المعاصرة التي تسهل
علينا الحياة ونستفيد منها.
لقد ظل الفلسفة على حالهم يبحثون في النظريات بعيدين عن مجال التجارب العلمية التطبيقية.
ول تلتقي مدرسة فلسفية بمدرسة أخرى؛ لنهم يختلفون حيث الجهل طبيعة مسيطرة على الغيب
الذي يبحثون عنه ول يمكن الهتداء أبدا إلى أسرار الغيب ،إنما الغيب يبلغ به الرسل.
والمثال الذي أضربه دائما واكرره حتى يستقر في الذهان :لنفترض أننا نجلس في حجرة ثم دق
الجرس ،هنا تستوي عقولنا جميعا في أن طارقا بالباب ،ول نختلف في هذا المر .لكن عندما
ن يقول " :الطارق امرأة " وثالث
ندخل في تصور من الطارق؟ يقول واحد " :الطارق رجل " وثا ٍ
يقول " :الطارق رجل شرطة " ورابع يقول " :صديق لنا " وخامس يقول " :بشير " وسادس يقول:
" نذير " ،يحدث ذلك لننا دخلنا إلى متاهات التصور .وأقول :هذه المور ل تُترك للعقل ،فلو
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أردتم راحة أنفسكم لمنتم بالتعقل ،تعقل أن هناك طارقا بالباب ،ثم تتركون للطارق أن يعلن عن
نفسه ويقول لكم :أنا فلن وأسمي كذا وصفتي كذا وجئت إليكم من أجل كذا ،وبذلك نتفق جميعا.
لكن الفلسفة أدخلوا التصور في التعقل .ول يمكننا أن نعرف اسم الخالق بالعقل أبدا ول مطلوبه.
بل ل بد أن يبلغ عن نفسه ،فإذا انشغل العقل بأن هذا الكون العظيم ل بد له من قوة خالقة ،فلماذا
ل تبلغنا عن نفسها؟ .وإذا ما جاء رسول من أجل أن يحل اللغز الوجودي الذي يعيشه البشر
فيبلغنا أن القوة الخالقة اسمها ال .هنا أراح الحق النفس البشرية بما كانت تتمنى أن تعرفه ،ومن
عقل العاقل أن يفرح بمجيء الرسول ويستشرف إلى السماع عنه؛ لن الرسول إنما جاء يحل
اللغز الشاغل للنفس البشرية من تفسير مَن خلق الكون بهذه الدقة ،وما هي مطلوبات هذه القوة؟
ويحسم الرسول الخلف عندهم ويحل اللغز الشاغل للبال .ولذلك نرى المام عليا -كرم ال
وجهه -أمام سؤال من أحدهم:
-أعرفت محمدا بربك؟ أم عرفت ربك بمحمد؟.
ي وكان باب العلم :لو عرفت ربي بمحمد لكان محمد أوثق عندي من ربي ،ولو
فأجاب المام عل ّ
عرفت محمدا بربي لما احتجت إلى رسول ،ولكني عرفت ربي بربي وجاء محمد فيبلغني مراد
ربي مني.
هكذا حدد لنا سيدنا عليّ المسألة ..فالعقل الفطري يؤمن بقوة مبهمة وراء هذا الكون هي التي
خلقت وهي التي رزقت وهي التي أمدت بقيوميتها وقدرتها ،وبعد ذلك تجيء الرسل من أجل
تعريفنا باسم القوة ومطلوبها منا.
والذين يختلفون حول دور العقل في الحجة ودور الرسول في الحجة ،عليهم أل يتوهوا في
متاهات نحن في غنى عنها؛ لن العقل ل يمكن أن يكون الحجة بمفرده ،والرسول إنما هو مبلغ
عن القوة ،وقد يقول قائل :إذن لبد لكل رسول من رسول ،وقد يبلغ التفلسف الطريق المسدود.
لكن عندما نعلم أن الحق قد صنع كل رسول على عينه معصوما ليبلغ ،وعلى سبيل المثال نجد
سيدنا محمد بن عبدال استطاع أن يصنع أمة في ثلث وعشرين سنة ليمتد خيرها إلى يوم
القيامة ،فعل صلى ال عليه وسلم ذلك مبلغا عن ال ليهدي أمته إلى كيفية عمل الطيب والبتعاد
عن العمل الخبيث .وخلق ال محمدا على خُلق عظيم .وهكذا نعرف أن الحق قد أراح العقل من
ضرورة البحث عن اسم القوة الخالقة ومطلوبها فأرسل الرسل.
ن َومُنذِرِينَ{ ...
ويقول الحق من بعد ذلك } :رّسُلً مّبَشّرِي َ
()651 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا