You are on page 1of 223

‫تفسير الشعراوي‬

‫حكِيمًا (‪)165‬‬
‫ل َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ‬
‫سِ‬‫حجّةٌ َب ْعدَ الرّ ُ‬
‫رُسُلًا مُبَشّرِينَ َومُنْذِرِينَ لِئَلّا َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ ُ‬

‫نعرف أن البشارة تكون بأمر سار يأتي من بعد‪ .‬والنذارة هي إخبار بأمر مسيء يأتي من بعد‪.‬‬
‫والعزيز سبحانه ل يُغلب‪ .‬والحكيم سبحانه وضع كل شيء في موضعه‪ ،‬لماذا؟‪ .‬لن الرسل‬
‫يبشرون وينذرون بأن هناك جنة ونارا وحسابا‪ ،‬فإياكم أن تظنوا أن الذي كفر بقادر على أن‬
‫يصنع شيئا لنفسه؛ وال عزيز وغنيّ عن خلقه جميعا‪.‬‬
‫ونعلم أن الحق ل يجرم سلوكا إل بنص‪ ،‬وقبل أن يعاقب فهو يضع القواعد التي ل يصح الخروج‬
‫حكِيما } فعزته وحكمته هي التي أتاحت لنا أن نعرف‬
‫عنها‪ .‬وحين يقول الحق‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ عَزِيزا َ‬
‫شهَدُ‪} ...‬‬
‫منهجه‪ .‬ويقول الحق من بعد ذلك‪ { :‬لّـاكِنِ اللّهُ َي ْ‬

‫(‪)652 /‬‬

‫شهِيدًا (‪)166‬‬
‫ن َوكَفَى بِاللّهِ َ‬
‫شهَدُو َ‬
‫شهَدُ ِبمَا أَنْ َزلَ إِلَ ْيكَ أَنْ َزلَهُ ِبعِ ْلمِ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَةُ َي ْ‬
‫َلكِنِ اللّهُ يَ ْ‬

‫شهَدُ } نأخذ منها‬


‫وساعة نسمع " لكن " فمعنى ذلك أن هناك استدراكا‪ .‬وقوله الحق‪ { :‬لّـاكِنِ اللّهُ َي ْ‬
‫بلغا من الحق‪ .‬خصومك يا محمد ل يشهدون أنك أهل لهذه الرسالة‪ ،‬ويستدرك ال عليهم‬
‫ويوضح لهم أنه سبحانه هو الذي خلق النسان وهو أعلم بقانون صيانته‪ .‬ومنهج ال إلى البشر‬
‫بواسطة الرسل هو قانون صيانة ذلك النسان‪.‬‬
‫وإذا كان أهل الكتاب ل يشهدون بما أنزل ال إلى رسوله صلى ال عليه وسلم وينكرون ما في‬
‫كتبهم من البشارة بمحمد صلى ال عليه وسلم كرسول خاتم‪ ،‬فإن ال يشهد وكفى بال شهيدا‪.‬‬
‫لقد أنزل القرآن بعلمه‪ ،‬وهو الذي ل تخفى عليه خافية‪ ،‬وهو الذي خلق كل الخلق ويعلم ‪ -‬وهو‬
‫العليم ‪ -‬ما يصلح للبشر من قوانين‪ .‬وفي أعرافنا البشرية نجد أن الذي يصنع الصنعة يضع‬
‫قانون صيانتها لتؤدي مهمتها كما ينبغي‪ ،‬كذلك ال الذي خلق النسان‪ ،‬هو سبحانه الذي وضع له‬
‫قانون صيانته بـ " افعل " و " ل تفعل "‪ .‬ولذلك يقول الحق‪َ {:‬ألَ َيعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ ُهوَ اللّطِيفُ‬
‫الْخَبِيرُ }[الملك‪]14 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونجد النسان منا يذهب بساعته إلى عامل إصلح الساعات فيكشف عليها ويقرر ما فيها من‬
‫فساد‪ ،‬فما بالنا بخالق النسان‪ .‬إنّ العبث الذي يوجد في العالم سببه أن الناس قد استقبلوا خلق ال‬
‫لهم‪ ،‬ولم يدع أحد أنه خلق نفسه أو خلق غيره‪ ،‬ومع ذلك يحاولون أن يقننوا قوانين صيانة‬
‫للنسان خارجة عن منهج ال‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬دعوا خالق النسان‪ ،‬يضع لكم قانون صيانة النسان بـ " افعل " ول " تفعل " وإن أردتم‬
‫أن تشرّعوا‪ ،‬فلتشرعوا في ضوء منهج ال‪ ،‬وإن حدث أي عطب في النسان فلنرده إلى قانون‬
‫صيانة الصانع الول وهو القرآن؛ لن المتاعب إنما تنبع من أن النسان يتناسى في بعض‬
‫الحيان أنه من صنعة ال‪ ،‬ويحاول أن يصنع لنفسه قانون صيانة بعيدا عن منهج ال‪ ،‬والذي يزيل‬
‫متاعب النسانية هو أن تعود إلى قانون صيانتها الذي وضعه الخالق تبارك وتعالى‪.‬‬
‫شهَدُونَ } والملئكة تشهد لنها نالت‬
‫ش َهدُ ِبمَآ أَن َزلَ إِلَ ْيكَ أَنزَلَهُ ِبعِ ْل ِم ِه وَا ْلمَل ِئكَةُ يَ ْ‬
‫{ لّـاكِنِ اللّهُ يَ ْ‬
‫شرف أن يكون المبلغ لرسول ال منهم وهو جبريل عليه السلم‪ ،‬وهم أيضا الذين يحسبون‬
‫حسابات العمل الصالح أو الفاسد للنسان ويكتبونها في صحيفته‪ ،‬وهم كذلك الذين حملوا ما في‬
‫شهِيدا } لماذا لم يقل ال‬
‫اللوح المحفوظ وبلغوا ما أمروا بتبليغه وهم يعرفون الكثير { َوكَفَىا بِاللّهِ َ‬
‫هنا وكفى بال وبالملئكة شهودا؟‪ .‬لن الحق سبحانه وتعالى ل يأخذ شهادة الملئكة تعزيزا‬
‫لشهادته‪.‬‬
‫ونحن ل نأخذ شهادة الملئكة تعزيزا لشهادة ال وإل كانت الملئكة أوثق عندنا من ال‪ .‬وسبحانه‬
‫يؤرخ شهادة الناس وشهادة الملئكة‪ ،‬لكنك يا رسول ال تكفيك شهادة ال‪.‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)653 /‬‬

‫إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قَ ْد ضَلّوا ضَلَالًا َبعِيدًا (‪)167‬‬

‫إنّ كُفر الكافر إنما يعود عليه‪ ،‬وهو يملك الختيار بين الكُفر واليمان‪ ،‬لكن أن يصد الكافر غيره‬
‫عن اليمان فهذا ضلل متعدّ؛ لقد ضل في نفسه‪ ،‬وهو يحاول أن يضل غيره؛ لذلك ل يحمل‬
‫وزره فقط ولكن يحمل أوزار من يضلّهم‪.‬‬
‫وكيف يكون الصدّ عن سبيل ال؟‪ .‬بمحاولة أهل الضلل أن يمنعوا آيات الهُدى من أن تصل إلى‬
‫س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآنِ وَا ْلغَوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ }‬
‫آذان الناس‪ ،‬فيقولوا ما رواه الحق عنهم‪ {:‬لَ تَ ْ‬
‫[فصلت‪]26 :‬‬
‫ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ }‬
‫س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫ولو فهموا معنى هذه الية لما قالوا ما جاء فيها‪ ،‬فقولهم‪ { :‬لَ تَ ْ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي اصنعوا ضجة تشوّش على سماع القرآن‪ ،‬وهم قد علموا أن هذا القرآن عندما يصل إلى‬
‫السماع فإنه يبلغ الهداية‪ ،‬ولو كان القرآن غير مؤثر لما قالوا ذلك‪ ،‬إذن هم يعترفون بأنهم يُغلَبُون‬
‫عندما يصل صوت القرآن إلى آذان البشر المدعوين إلى الهداية‪.‬‬
‫{ إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ َق ْد ضَلّواْ ضَلَالً َبعِيدا }‪ .‬كان يكفي أن يقول الحق { َقدْ‬
‫ضَلّواْ } ‪ ،‬لكنه جاء بالمصدر التأكيدي { قَ ْد ضَلّو ْا ضَلَالً َبعِيدا } أي إنه الضلل بعينه‪ ،‬وهو فوق‬
‫ذلك ضلل بعيد‪.‬‬
‫وعندما ننظر في كلمة " بعيد " ‪ ،‬نعرف أن الشيء البعيد هو الذي بينه وبين مصدره مسافة زمنية‬
‫طويلة‪ .‬والذي يضل قصارى ضلله أن ينتهي بانتهاء حياته‪ ،‬لكن الذي يعمل على إضلل غيره‬
‫فهو يجعل الضلل يمتد‪ ،‬أي أن الضلل سيأخذ في هذه الحالة زمنا أكبر من حياة المُضل‪،‬‬
‫ويتوالى الضلل عن المضلين أجيالً‪ ،‬وهكذا يصبح الضلل ممتدا‪.‬‬
‫والضلل المعروف في الماديات البشرية هو ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬أن يسير النسان إلى طريق‬
‫فيضل إلى طريق آخر‪ .‬وقصارى ما يضل فيه هو أن يذهب إلى مفازه ‪ -‬أي صحراء ‪ -‬ول يجد‬
‫ماء ول طعاما فيموت‪ .‬لكن الضال المضل يجعل ضلله يأخذ زمن الدنيا والخرة وبذلك يكون‬
‫ضلله ممتدا‪.‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)654 /‬‬

‫جهَنّمَ خَالِدِينَ‬
‫إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا وَظََلمُوا لَمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َلهُ ْم وَلَا لِ َي ْهدِ َيهُمْ طَرِيقًا (‪ )168‬إِلّا طَرِيقَ َ‬
‫فِيهَا أَبَدًا َوكَانَ َذِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا (‪)169‬‬

‫والحديث هنا يبدأ عن الكفر والظلم { إِنّ الّذِينَ َكفَرُو ْا وَظََلمُواْ }‪ .‬والكفر هو ستر الوجود العلى‪،‬‬
‫والظلم معناه أنهم عاشوا بمنهج بشري ل يؤدي لهم متاعا ول سعادة في حياتهم الدنيا‪ ،‬وبذلك‬
‫يكونون قد ظلموا أنفسهم‪ .‬ومن بعد ذلك يقودهم هذا المنهج إلى عذاب الخرة‪ .‬والذي كفر ستر‬
‫وجود ال وحرم نفسه بستر الوجود العلى من المنهج الذي يأتي به ال إنه بذلك قد ضل ضللً‬
‫شقَىا }[طه‪]123 :‬‬
‫ضلّ َولَ يَ ْ‬
‫بعيدا‪ .‬وسبحانه القائل‪ {:‬فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُم مّنّي ُهدًى َفمَنِ اتّبَعَ ُهدَايَ فَلَ َي ِ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ }[البقرة‪]38 :‬‬
‫وهناك آية أخرى يقول فيها الحق‪َ {:‬فمَن تَبِعَ ُهدَايَ فَلَ َ‬
‫والذي يأخذ بهوى نفسه وبمنهج البشر فإن له معيشة ضنكا ضيقة شديدة‪ .‬ول يظنن ظان أن الذي‬
‫يأخذ ويتناول المور بهواه قد أخذ انطلقا بل حدود وراحة ل نهاية لها‪ ،‬ل؛ لن الذي يفعل ذلك‬
‫قد يرتاح مرة لكنه يقابل التعب ويعيش فيه ول ينفك عنه من بعد ذلك‪ ،‬وهكذا يظلم نفسه‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬لقد ظلموا أنفسهم‪ ،‬ومعنى ذلك أنه ل بد من وجود ظالم ومظلوم‪ .‬فمن هو الظالم‬
‫ومن هو المظلوم؟‪ .‬كل واحد منهم الظالم‪ .‬وكل واحد منهم المظلوم؛ لن النسان مركب من‬
‫ملكات متعددة‪ ،‬ملكة شهوات تريد أن تنطلق إلى الشهوات‪ ،‬وملكة قيم تريد أن يحفظ النسان نفسه‬
‫ويسير على صراط القيم المستقيم‪.‬‬
‫وفي حالة من يكفر ول يتبع منهج ال إنما يترك الفرصة لملكة الشهوات أن تظلم ملكة القيم‪.‬‬
‫والسلم إنما جاء ليوازي بين الملكات لتتساند في النفس البشرية‪ ،‬فل يطغى سيال ملكة على‬
‫ظَلمُواْ َلمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َل ُه ْم َولَ لِ َي ْهدِ َيهُمْ طَرِيقا * ِإلّ طَرِيقَ‬
‫سيال ملكة أخرى‪ {.‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ وَ َ‬
‫جهَنّمَ خَاِلدِينَ فِيهَآ أَبَدا َوكَانَ ذاِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرا }[النساء‪]169-168 :‬‬
‫َ‬
‫هذا هو حكم الحق في الذين يكفرون ويظلمون أنفسهم‪ ،‬لن ينالوا مغفرة ال وليس أمامهم إل‬
‫طريق جهنم خالدين فيها أبدا‪ .‬ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬ياأَ ّيهَا النّاسُ‪} ...‬‬

‫(‪)655 /‬‬

‫يَا أَ ّيهَا النّاسُ َقدْ جَا َءكُمُ الرّسُولُ بِا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ُكمْ فََآمِنُوا خَيْرًا َل ُك ْم وَإِنْ َت ْكفُرُوا فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي‬
‫حكِيمًا (‪)170‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ‬
‫ال ّ‬

‫فبعد أن وصف لنا ‪ -‬بإيجاز محكم ‪ -‬سلسلة المعارك التي نشأت بين الرسول واليهود مرة‪ ،‬ومرة‬
‫أخرى بينه وبين المشركين‪ ،‬وها هوذا سبحانه يخاطب الناس جميعا‪ ،‬ليصفي مركز منهج ال في‬
‫الرض‪ ،‬فيقول منبها كل الناس‪ :‬لقد جاءت رسالة محمد عليه الصلة والسلم تصفية لكل‬
‫الرسالت التي سبقت‪ ،‬وعلى الناس جميعا أن يميزوا‪ ،‬ليختاروا الحياة اليمانية الجديدة؛ لن‬
‫الرسول قد جاء بالنور والبرهان‪ ،‬الذي يرجح ما هو عليه صلى ال عليه وسلم على ما هم عليه‪،‬‬
‫والنور الذي يهديهم سواء السبيل‪.‬‬
‫لقد كان الناس قبل رسول ال على مَِللٍ وعلى أديان ونحل شتى‪ ،‬فجاء البرهان بأن السلم قد‬
‫جاء ناسخا وخاتما‪ .‬والبرهان هو تعاليم هذا الدين وأدلته‪ ،‬فل حجة لحد أن يتمسك بشيء مما كان‬
‫عليه‪ .‬وجاء محمد بالنور الذي يهدي النسان إلى سواء السبيل‪ ،‬وهذه تصفية عقدية شاملة‪ ،‬أو كما‬
‫نقول بالعامية " أوكازيون إيماني " تتخلص به البشرية من كل ما يشوب عقائدها‪ ،‬ولتبدأ مرحلة‬
‫جديدة‪.‬‬
‫حقّ مِن رّ ّبكُمْ } والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير مهما‬
‫{ ياأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآ َءكُمُ الرّسُولُ بِالْ َ‬
‫تغيرت عليه الظروف؛ لن الحق صدق له لون واحد‪ ،‬فإذا ما رأيتم جميعا حادثة واحدة‪ ،‬ثم جاء‬
‫كل واحد منكم فأخبر بها إخبار صدق فلن تختلف رواية الحادثة من واحد لخر‪ .‬أما إن سولت‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نفس بعض الناس لهم أن يتزيدوا في الحادثة فكل واحد سيحكي الحادثة على لون مختلف عن بقية‬
‫اللوان‪ ،‬وقد يسافر خيال أحدهم في شطحة الكذب ويسترسل فيه‪.‬‬
‫إذن فالذي ل يتغير في الحق هو أن يحكوا جميعا الرواية الواحدة بصدق ولو كانوا مليين الناس‪،‬‬
‫لكن إن سولت نفوس بعضهم الكذب وحسنته له وأغرته به لختلفت الرواية؛ لن الكذب مشاع‬
‫أوهام ول حقيقة له‪ .‬والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا‪ :‬لقد جاءكم الرسول بالحق مهما تغيرت‬
‫الظروف والحوال‪ ،‬ومهما جئتم إليه من أي لون‪ ،‬سواء في العقديات أو في العباديات أو في‬
‫الخلق أو في السلوك‪ .‬وستجدون كل شيء ثابتا لنّه الحق‪.‬‬
‫سمَآءِ مَآءً َفسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا‬
‫ويضرب الحق سبحانه وتعالى لنا مثلً في هذا الحق‪ {:‬أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ‬
‫طلَ }[الرعد‪]17 :‬‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫حّ‬‫اللّهُ الْ َ‬
‫كل وادٍ يأخذ ماء على قدر حجمه‪ ،‬وساعة ينزل السيل من الجبال يحمل معه التراب والقش‬
‫والشياء التي ل لزوم لها‪ ،‬وهو ما نسميه " الريم " وهو الزّبَد الرابي‪ .‬وكذلك الحديد أو النحاس‬
‫أو الذهب الذي نصنع منه الحلي أو أدوات المتاع‪ ،‬وعندما نضع هذه المعادن في النار‪ ،‬نجد الزّبَد‬
‫يفور على سطح هذه المعادن عندما تنصهر‪ ،‬وتسمى هذه الشياء الخبث‪.‬‬

‫جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ‬


‫ويوضح الحق لنا كيف يضرب الحق والباطل‪ {.‬فََأمّا الزّبَدُ فَ َيذْ َهبُ ُ‬
‫فِي الَ ْرضِ }[الرعد‪]17 :‬‬
‫ومهما اختلطت بالحق أشياء فهو كحق يبعد ويطرد هذه الفقاقيع والخبث وينحيها عنه‪ .‬فإن عل‬
‫الباطل يوما على الحق فلنعلم أنه علو الزّبَد الذي يذهب جفاء مرميا به ومطروحا‪ ،‬وسيظل الحق‬
‫حقّ مِن رّ ّبكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرا ّلكُمْ {‪.‬‬
‫هو الحق‪ .‬وسبحانه يقول‪ } :‬ياأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآ َء ُكمُ الرّسُولُ بِالْ َ‬
‫واليمان هو اعتناق العقيدة بوجود الله العلى‪ ،‬والبلغ عنه بواسطة الرسل‪ ،‬وأن للحق ملئكة‪،‬‬
‫وأن هناك بعثا بعد الموت‪ ،‬وحسابا‪ .‬ويقتضي اليمان أن نعمل العمل وَفق مقتضياته وذلك هو‬
‫اختيار الخير‪ ،‬ولنعلم جيدا أن اليمان ل ينفصل عن العمل‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫وماذا يحدث لو لم يؤمن الناس؟ ها هوذا الحق يقول‪ } :‬وَإِن َت ْكفُرُواْ فَإِنّ للّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫حكِيما { وسبحانه غني‪ ،‬وسيظل كَونُه الثابتُ ‪ -‬بنظرية القهر والتسخير‬
‫ض َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ‬
‫وَالَرْ ِ‬
‫‪ -‬هو كونه‪ ،‬ولن يتغير شيء في الكون بكفر الكافرين‪ ،‬سوى سخط الكون عليهم لنه مسخر لهم؛‬
‫لن الكون ملك ل‪ ،‬ولن تتغير السماء ول النجوم ول القمر ول المطر ول أي شيء‪.‬‬
‫ونقول لك‪ :‬لو نظرت إلى الدنيا لوجدت الفساد فيها ناشئا مما فعلته وأحدثته يد النسان على غير‬
‫منهج ال‪ ،‬أما الشيء الذي لم تدخل فيه يد النسان فهو ل يفسد‪ ،‬ولم نر يوما الشمس وقد عصيت‬
‫عن الشروق أو الغروب‪ ،‬وكذلك القمر لم تختل حركته‪ ،‬وكذلك النجوم في الفلك‪ ،‬وتسير الرياح‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بأمر خالقها‪ ،‬وكل شيء في الكون منتظم الحركة‪ ،‬اللهم إل الشياء التي يتدخل فيها النسان‪ ،‬فإذا‬
‫كان قد دخلها بمواصفات منهج ال فهي منسجمة مع نفسها ومع الكون‪ ،‬وإن دخلها بغير‬
‫مواصفات منهج ال فلن تستقيم‪ ،‬بل تفسد‪.‬‬
‫سهِمْ }[الرعد‪]11 :‬‬
‫ولذلك قال الحق‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ ُيغَيّرُ مَا ِب َقوْمٍ حَتّىا ُيغَيّرُواْ مَا بِأَ ْنفُ ِ‬
‫إن المر الفاسد إنما يأتي من داخل نفوس البشر عندما يضلون عن منهج ال‪ ،‬ولذلك نقول‪ :‬أشَكى‬
‫الناس أزمة ضوء؟‪ .‬ل؛ لن الشمس ليست في متناولنا‪ ،‬وكذلك لم يشك الناس أزمة هواء‪ ،‬لكنهم‬
‫ل فل يعمل‪ ،‬وإما أن‬
‫يشكون أزمة طعام؛ لن الطعام ينبت من الرض‪ ،‬فإما أن يكسل النسان مث ً‬
‫يعمل ويخرج ثمرا فيأخذه بعضهم ويضنوا ويبخلوا ول يعطوه لغيرهم‪ ،‬وهذا سبب من أسباب‬
‫الفساد الناشئ في الكون‪.‬‬
‫وجاء الحق لهم بما يمكن أن يكون فتحا يدخلون فيه باليمان بمنهج الرسول الخاتم‪ ،‬ويكفرون عن‬
‫أخطائهم مع أنبيائهم ومع محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يقول سبحانه‪ } :‬ياَأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لَ َتغْلُواْ فِي‬
‫دِي ِنكُمْ‪{ ...‬‬

‫(‪)656 /‬‬

‫حقّ إِ ّنمَا ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ‬


‫يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لَا َتغْلُوا فِي دِي ِنكُ ْم وَلَا َتقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلّا الْ َ‬
‫اللّ ِه َوكَِلمَتُهُ َأ ْلقَاهَا إِلَى مَرْ َي َم وَرُوحٌ مِنْهُ فََآمِنُوا بِاللّ ِه وَرُسُلِهِ وَلَا َتقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْ َتهُوا خَيْرًا َلكُمْ إِ ّنمَا اللّهُ‬
‫ض َوكَفَى بِاللّ ِه َوكِيلًا (‪)171‬‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫إِلَ ٌه وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ َيكُونَ لَ ُه وَلَدٌ َلهُ مَا فِي ال ّ‬

‫يبدأ الحق بأمر موجه لهل الكتاب‪ { :‬لَ َتغْلُواْ فِي دِي ِنكُمْ } والغلو هو الخروج عن حد العتدال في‬
‫الحكم‪ ،‬لن كل شيء له وسط وله طرفان‪ ،‬وعندما يمسك شخص طرفا نطلب منه أل يكون هناك‬
‫إفراط أو تفريط‪ .‬وقد وقع أهل الكتاب في هذا المأزق‪ ،‬فلم يأخذوا المر بالعتدال دون إفراط أو‬
‫تفريط‪ ،‬لقد كفر اليهود بعيسى واتهموا مريم بالزنا‪ ،‬وهذا غلو في الكُرْه‪ ،‬وغالى النصارى في‬
‫الحب لعيسى فقالوا‪ :‬إنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلثة؛ وهذا غلو‪ ،‬ويطلب الحق منهم أن يقفوا من‬
‫أمر الدين موقف العتدال‪ { :‬لَ َتغْلُواْ فِي دِي ِنكُ ْم َولَ َتقُولُواْ عَلَى اللّهِ ِإلّ ا ْلحَقّ }‪.‬‬
‫إن أمر المنهج ل يحتاج إلى غلو‪ ،‬ولذلك جاء محمد صلى ال عليه وسلم من عند ال بالدين‬
‫الوسط الذي يضع كل أمر في نصابه‪ .‬وشرح لنا بإخبارات النبوة وإلهامها ما سوف يحدث للمام‬
‫علي بن أبي طالب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ ،-‬وقد حدث ما تنبأ به رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فالخوارج كفّروا عليا‪ ،‬والمسرفون بالتشيع قالوا‪ :‬إنه نبي‪ ،‬وبعضهم زاد السراف فجعله إلها‪.‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لعليّ ‪ -‬كرم ال وجهه ‪:-‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫" إن فيك من عيسى مثل‪ .‬أبغضته اليهود حتى بهتوا ُأمّهُ‪ ،‬وأحبته النصارى حتى انزلوه المنزل‬
‫الذي ليس له "‪.‬‬
‫وكما قال سيدنا علي ‪ -‬كرم ال وجهه ‪ " :-‬أل وإنه يهلك فيّ اثنان‪ :‬محبٌ يقرظني بما ليس فيّ‪،‬‬
‫ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني‪ ،‬أل إني لست بنبيّ ول يوحى إليّ‪ ،‬ولكني أعمل بكتاب ال‬
‫وسنة نبيه ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬ما استطعت‪ ،‬فما أمرتكم من طاعة ال فحق عليكم طاعتي‬
‫فيما أحببتم وكرهتم "‪.‬‬
‫وقد أخبر الرسول صلى ال عليه وسلم عليّا أن المحب الذي يغالي في حبه ليس مع عليّ وكذلك‬
‫الكاره المبغض؛ فالذي يحب عليا بغلو جعل منه إلها أو رسولً‪ ،‬والذي أبغض عليا جعله كافرا‪.‬‬
‫وكذلك النصارى من أهل الكتاب جاءوا إلى عيسى فأحبوه بغلو وجعلوه إلها أو ابن إله أو ثالث‬
‫حقّ إِ ّنمَا ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ‬
‫ثلثة‪ ،‬فيقول لهم الحق‪ { :‬لَ َتغْلُواْ فِي دِي ِنكُ ْم َولَ َتقُولُواْ عَلَى اللّهِ ِإلّ الْ َ‬
‫مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ }‪ .‬وقوله الحق‪ { :‬عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ } رد على غلو اليهود الذين‬
‫رفضوا اليمان بعيسى‪ ،‬وقالوا في عيسى وأمه البهتان العظيم‪.‬‬
‫وقوله الحق عن عيسى ابن مريم‪َ { :‬رسُولُ اللّ ِه َوكَِلمَتُهُ أَ ْلقَاهَا إِلَىا مَرْيَ َم وَرُوحٌ مّنْهُ } رد على‬
‫غلو النصارى الذين نصبوه إلها أو جعلوه ابنا ل أو ثالث ثلثة‪ ،‬فعيسى عليه السلم هو ابن مريم‬
‫وعندما بشرها به الحق وقالت‪:‬‬

‫{ أَنّىا َيكُونُ لِي وَلَ ٌد وَلَمْ َيمْسَسْنِي بَشَرٌ }[آل عمران‪]47 :‬‬
‫قالت ذلك بفطنة الصديقية التي جعلتها تنبه إلى أنها لم يمسسها بشر‪ ،‬ومادام الحق قد نسبه إليها‬
‫فليس له أب‪ ،‬سيولد عيسى دون أن يمسسها بشر‪ ،‬ويوضح سبحانه ذلك عندما يقول‪ } :‬إِ ّنمَا‬
‫ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ َوكَلِمَتُهُ أَ ْلقَاهَا إِلَىا مَرْيَ َم وَرُوحٌ مّنْهُ {‪ .‬فعيسى روح من الحق؛‬
‫لنه سبحانه قال‪ {:‬فَ َنفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا }[النبياء‪]91 :‬‬
‫وما معنى " كلمته "؟‪ .‬هذا القول يدل على أن الروح نفخت ثم جاءت كلمة " كن " التي قال عنها‬
‫سبحانه‪ِ {:‬إذَا َقضَىا َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ }[آل عمران‪]47 :‬‬
‫لقد احتاج وجود عيسى إلى أمرين‪ " :‬روح " و " كن "‪ .‬والشبهة عند النصارى مردها إلى أن‬
‫عنصر الذكورة لم يلمس مريم؛ وقالوا‪ :‬مادام ال قد قال‪ :‬إن عيسى روح منه فهو جزء من ال‪،‬‬
‫جمِيعا‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ َ‬
‫ونسوا أن كل شيء من ال‪ ،‬وسبحانه القائل‪ {:‬وَسَخّرَ َلكُمْ مّا فِي ال ّ‬
‫مّنْهُ }[الجاثية‪]13 :‬‬
‫فهل هذا يعني أن " الرض " قطعة من ال وكذلك الشمس؟‪ .‬ل‪ .‬فإذا كانت الشبهة قد جاءت من‬
‫غياب عنصر الذكورة مع وجود عنصر النوثة لكان من الواجب منطقيا أن تكون الشبهة في آدم‬
‫قبل أن تكون الشبهة في عيسى؛ لن آدم جاء من غير ذكورة ول أنوثة؛ فل أب ول أم له؛ لقد‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قال القرآن بمنتهى البساطة ومنتهى الوسع‪ {:‬إِنّ مَ َثلَ عِيسَىا عِندَ اللّهِ َكمَ َثلِ ءَادَمَ خََلقَهُ مِن تُرَابٍ‬
‫ثُمّ قَالَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[آل عمران‪]59 :‬‬
‫ول يملك أحد القيد على فضل ال ووسعه‪ ،‬ومسألة آدم كانت أدق‪ ،‬لكن ال بتفضله يساوي بين‬
‫خلق عيسى وخلق آدم‪ ،‬وهذا هو التلطف في الجدل‪ .‬وأخبرنا سبحانه عن عيسى أنه جاء بأمر‬
‫ختُ فِيهِ مِن رّوحِي }[الحجر‪]29 :‬‬
‫سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ‬
‫منه‪ ،‬وقال في آدم‪ {:‬فَإِذَا َ‬
‫إذن فآدم قد احتاج إلى المرين نفسيهما‪ " :‬كن " ‪ ،‬و " النفخ فيه من الروح " ‪ ،‬وعندما ننظر إلى‬
‫هذه المسألة نجد أننا ل بد أن نتعرض لقضية خلق آدم‪ ،‬حتى نعرف كيف تسلسلت مسألة الخلق‪،‬‬
‫سواء أكان الخلق ملئكة أم خلق آدم أم خلق حواء أو غيرهم من الخلق‪ ،‬كذلك خلق عيسى‪ .‬لقد‬
‫كان خلق آدم غيبا عن آدم‪ ،‬وليس لدم نفسه ول لمن جاء بعده أن يتكلم كيف خُلق؛ لن هذه‬
‫المسألة ل دخل لحد بها‪ ،‬ويقول لنا الخلق محذرا من أن نستمع إلى قوم يقولون بغير ذلك عن‬
‫سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ‬
‫ت وَالَ ْرضِ َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شهَدّت ُهمْ خَ ْلقَ ال ّ‬
‫الخلق فقال‪ {:‬مّآ أَ ْ‬
‫عضُدا }[الكهف‪]51 :‬‬
‫َ‬
‫ول يمكن ‪ -‬إذن ‪ -‬أن نستمع إلى هؤلء الذين افترضوا أن أصل النسان قرد أو غير ذلك؛ لن‬
‫الذي يتكلم عن الخلق بغير علم من عند ال‪ ،‬فهو يتكلم في أمر لم يشهده‪.‬‬

‫والخلق الول أمر ل يمكن أن يدخل المعمل التجريبي؛ لن المعمل التجريبي إنما يحلل مواد‬
‫موجودة بالفعل‪ .‬إذن فالحكم على أمور بغَير ما أخبرنا بها ال أمر باطل‪ .‬ولم يكن هناك أحد مع‬
‫ال ساعة خلق الخلق ليقول لنا كيف تم ذلك‪ .‬وعَِلمْنا هذه المسائل بإخبار الخالق لنا فهو العلم بنا‪،‬‬
‫والخالق أخبرنا أنه خلقنا من ماء وتراب وطين وحمأ مسنون وصلصال كالفخار‪ ،‬وحدثنا بذلك في‬
‫آيات متعددة‪ .‬والذين يريدون أن يكذبوا القرآن يقولون‪ :‬إن القرآن لم يأت بخبر واحد عن خلق‬
‫الخلق‪ ،‬فمرة يقول إن الخلق كان من ماء ومرة كان من تراب‪ ،‬ومرة كان من طين‪ ،‬ومرة كان‬
‫من صلصال‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬أحين يتكلم الحق عن مراحل الخلق فهل في هذا تضاد؟‪ .‬اصل الخلق ماء‪ ،‬خلطه الحق‬
‫بتراب‪ ،‬وبعد وضع الماء على التراب صار الثنان طينا‪ ،‬ثم إذا تركنا الطين إلى أن يختمر‪،‬‬
‫يصير حمأ مسنونا‪ ،‬وبعد ذلك يصير صلصالً‪ ،‬ومن بعد ذلك خلق منه الحق آدم‪ .‬إذن فكل شيء‬
‫تكلم عنه سبحانه في خلق آدم إنما يتفق مع كل اليات التي جاءت عن هذا الخلق‪ .‬وهو القائل عن‬
‫ختُ فِيهِ مِن رّوحِي }[الحجر‪]29 :‬‬
‫سوّيْتُهُ وَنَفَ ْ‬
‫آدم‪ {:‬فَِإذَا َ‬
‫وبعد صنع ال القالب الذي يشبه التمثال الذي نراه‪ ،‬ولكن تنقصه الحركة ولحياة‪ ،‬فيأتي النفخ في‬
‫الروح بكلمة " كن "‪ .‬إذن نحن نحتاج إلى روح وإلى كلمة‪ .‬والروح عنصر وجودي‪ .‬وعندما‬
‫تختلط بالقالب تحدث الحياة‪ ،‬ول بد من بعد ذلك من الرادة بكلمة " كن "‪ .‬ولذلك نجد النسان قد‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يصنع نفس خلطة النسان الكيماوية لكنها ل تصير إنسانا؛ لن المر ينقص الذْن بميلد النسان‪.‬‬
‫وساعة يتكلم الحق عن خلق آدم وهو أمر لم نشهده‪ ،‬فذلك من رحمته بنا‪ ،‬ويترك لنا سبحانه في‬
‫الكون دليلً على صدقه عن خلق آدم‪ ،‬فإذا كنا لم نشهد خلق الحياة فنحن نشهد نقيض الحياة وهو‬
‫الموت‪ ،‬الذي يحدث فيه أولً خروج الروح‪ ،‬ومن بعد ذلك ينتفخ الجسم كأنه الحمأ المسنون‪ ،‬ثم‬
‫يتبخر الماء‪ ،‬وبعد ذلك يتحلل إلى تراب‪ .‬هذه هي مراحل الموت التي تبدأ من خروج الروح‬
‫ويتصلب الجسم إلى أن يَرِم ثم يتبخر الماء‪ ،‬وتبقى العناصر في الرض‪.‬‬
‫وإذا كنا لم نعرف كيف بدأت الحياة‪ ،‬فنحن نعرف كيف انتهت الحياة أمامنا بالمر المشهدي‪،‬‬
‫وجعل سبحانه أمر انتهاء الحياة أمامنا دليلً على صدقة في إخبارنا بالحياة وكيف بدأت؛ لن‬
‫نقض الحياة يكون بالموت‪ ،‬ونقض أي شيء إنما يتم على عكس طريقة بنائه‪ .‬وآخر أمر دخل في‬
‫النسان هو الروح‪ ،‬ولذلك فهي أول ما يخرج من النسان عند الموت‪.‬‬

‫وبعد ذلك يتصلب الجسم‪ ،‬وبعد ذلك يصير رمة وهي الحمأ المسنون‪ .‬وبعد ذلك يتبخر الماء‬
‫ويبقى أخيرا التراب‪.‬‬
‫وقد حللوا النسان حديثا‪ .‬فوجدوا فيه عناصر كثيرة‪ ،‬ثم حللوا طينة الرض الخصبة التي يخرج‬
‫منها الزرع الذي يقتات منه النسان‪ ،‬فوجدوا هذه الطينة مكونة من هذه العناصر‪.‬‬
‫ومن العجيب أن العناصر المكونة للنسان هي نفسها المكونة لطين التربة الخصبة‪ ،‬مما يدل على‬
‫تأكيد الصدق في أن ال خلقنا من طين‪ ،‬وجعل استبقاء حياتنا مما يخرج من هذا الطين بعناصره‬
‫المختلفة‪ ،‬جتى يمد كل عنصر من الطين كل عنصر من الوجود النساني‪ .‬ولما قاموا بتحليل‬
‫النسان مقارنا بتحليل التربة وجدوا أن أضخم عنصر في تكوين النسان هو الوكسجين ونسبته‬
‫على ما أذكر سبع وستون بالمائة‪ ،‬وبعده عنصر الكربون‪ ،‬ونسبته على ما أذكر تسع عشرة‬
‫بالمائة‪ ،‬إلى أن تنتهي العناصر المكونة للنسان والتربة إلى المنجنيز ونسبته تقل عن واحدة‬
‫بالمائة‪ ،‬وأهم هذه العناصر هو‪:‬‬
‫الوكسجين‪ ،‬الكربون‪ ،‬الهيدروجين‪ ،‬النتروجين‪ ،‬الكلور‪ ،‬الكبريت‪ ،‬الكالسيوم‪ ،‬والفوسفور‪،‬‬
‫والبوتاسيوم‪ ،‬الصوديوم‪ ،‬الحديد‪ ،‬اليود‪ ،‬والسيلوز‪ ،‬والمنجنيز‪ .‬هذه هي أهم وأكثر العناصر‬
‫المكونة لتركيب النسان وهي العناصر نفسها الموجودة في تركيبة الطين وبعضها عناصر مكونة‬
‫للمركبات العضوية وبعضها عناصر غير عضوية وبعضها عناصر وظائفها ثابتة ومعروفة‪،‬‬
‫ويسأل أهل الذكر في تفاصيل ذلك‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال فالذين قاموا بتحليل التربة وعناصر النسان لم يكونوا علماء دين‪ ،‬ولم يكن في‬
‫بالهم إقامة الدليل على صدق ال في القرآن‪ ،‬ذلك أن بعضهم يجهل مسألة القرآن كلها‪ ،‬ولكن‬
‫الحق سبحانه وتعالى أجرى على لسان رسوله حديثا يشرح لنا حقيقة إثبات صحة كل ما فيه ولو‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جاء على لسان رجل فاجر‪ ،‬فقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" إن ال ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر "‬
‫فسبحانه ‪ -‬إذن ‪ -‬أراد أن ينصر الدين بالكافرين‪ ،‬وجعل بعضا منهم يصلون إلى أشياء لو أنهم‬
‫علموا أنها ستخدم قضايا الهدى لما أعلنوها‪ .‬ومن حكمة ال أن جعل الكافرين غير قادرين على‬
‫إغفال نصرة الدين‪ ،‬وجعل سبحانه بعضا منهم يخدمون الدين على رغم أنوفهم‪ .‬ونريد أن نأخذ‬
‫من هذه المسألة فهما عميقا‪ ،‬يتسم باللطف والسماحة‪ ،‬فإذا كان ال قد خلق النسان الول من‬
‫ختُ فِيهِ مِن رّوحِي }[الحجر‪]29 :‬‬
‫سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ‬
‫طين‪ ،‬وهناك آية أخرى قال عنها الحق‪ {:‬فَإِذَا َ‬
‫وآية ثالثة قال فيها سبحانه‪ {:‬كُنْ فَ َيكُونُ }[آل عمران‪]47:‬‬
‫إذن فخلق آدم احتاج إلى أمرين‪ :‬النفخ من روح الحق‪ ،‬والمر " كن " ‪ ،‬وهما المران أنفسهما في‬
‫مسألة خلق عيسى‪ ،‬روح من الحق‪ ،‬وكلمته التي ألقاها إلى مريم‪ ،‬وهذه دليل صدق لقوله الحق‪{:‬‬
‫إِنّ مَ َثلَ عِيسَىا عِندَ اللّهِ َكمَ َثلِ ءَادَمَ }[آل عمران‪]59 :‬‬
‫والحق قد قص لنا أنه خلق آدم من طين وصنع القالب وسواه بيديه‪:‬‬

‫خَلقْتُ بِيَ َديّ َأسْ َتكْبَ ْرتَ َأمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ‬
‫جدَ ِلمَا َ‬
‫{ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَن َتسْ ُ‬
‫خََلقْتَنِي مِن نّا ٍر وَخََلقْتَهُ مِن طِينٍ }[ص‪]76-75 :‬‬
‫فإذا كان الهيكل الذي خلقه ال ونفخ فيه الروح‪ ،‬ودبت فيه الحياة ثم تناسل النسل من آدم إلى أن‬
‫تقوم الساعة‪ ،‬فهل مجيء عيسى على الصورة التي جاء بها يكون أمرا عسيرا على ال؟‪ .‬ل‪.‬‬
‫وساعة أنجب آدم أول ذرية له؛ ألم يخرج لحظتها حيوان منوي من آدم إلى البويضة في رحم‬
‫حواء؛ وأراد به ال ميلد أول نسل من آدم وهو جزء من آدم‪ ،‬وهذا الحيوان المنوي له مادة وله‬
‫حياة‪ ،‬ومادته معروفة‪ ،‬وحياة هذا الحيوان المنوي هي التي تسمح له بالحركة لتلقيح البويضة‪ ،‬هذه‬
‫المادة مخلوقة من آدم‪ ،‬والحياة التي فيه من روح آدم‪ ،‬وآدم نفسه خلقه ال بيديه‪ ،‬وهذا إثبات أن‬
‫الحيوان المنوي هو جزء مما خلقه ال بيديه وهو آدم‪ ،‬وفي الحيوان المنوي حياة مما نفخه ال من‬
‫روحه‪ ،‬وانتقل إلى رحم حواء وأخصب البويضة وولدته حواء‪ ،‬واستمر ميلد حيوانات منوية حية‬
‫تخصب بويضات حية ليستمر الخصب والنسل والحفاد‪.‬‬
‫إننا إذا سلسلنا نسل آدم إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬فكل ذرة من ذرات من يوجد آخر الدنيا مكونة من‬
‫شيء به خلق من خلق ال في القالب‪ ،‬وفيه شيء من نفخ ال في الروح؛ ولم يطرأ عليه موت‬
‫أبدا؛ فلو طرأ عليه موت أو فناء لما صلح أن ينجب مثله‪ .‬وهكذا نعلم أن كل واحد فينا به جزء‬
‫من القالب الذي صنعه ال بيديه‪ ،‬وفيه جزء من نفخ الروح‪.‬‬
‫وأكرر المثل الذي أضر به دائما ليستقر في أذهان الناشئة؛ لو جئنا بسنتيمتر مكعب من سائل‬
‫ملون مركز‪ ،‬وأضفناه إلى لتر من الماء‪ ،‬ثم أخذنا قطرة من لتر الماء سنجد بها جزءا ضئيلً من‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السنتيمتر المكعب الملون‪ .‬وإذا أخذنا هذه القطرة وأضفناها إلى برميل من المياه فيصير في‬
‫البرميل جزء من السنتيمتر المكعب الملون‪ .‬وإذا أخذنا من البرميل قطرة من المياه‪ ،‬وأضفناها إلى‬
‫البحر فإن جزءا من السنتيمتر الملون يصير بالبحر‪ .‬إذن فكل نسل آدم ‪ -‬إلى أن تقوم الساعة ‪-‬‬
‫فيه جُ َزيْء ‪ -‬من آدم عليه السلم‪.‬‬
‫ونلحظ أن كثيرا من المفكرين والمثقفين في الغرب صاروا يبتعدون عن فكرة بنوة عيسى ل‪.‬‬
‫وعندما يدخلون في نقاش حول هذه المسألة يقولون‪ :‬إنها بنوة حب‪ .‬وإذا كانت المسألة بنوة حب‪،‬‬
‫فال يحب جميع عباده ونصير نحن مثل المسيح ويصير المسيح مثلنا‪ .‬فالخلق كلهم عيال ال‪،‬‬
‫والحديث القدسي يقول‪:‬‬
‫" الناس كلهم عيال ال وأحبهم إلى ال أنفعهم بعياله "‬
‫ولو أخذنا هذا القول بالدقة التجريبية المعملية نجد أن هذا القول صدق وحق؛ لننا جميعا قد‬
‫صدرنا عن قدرة ال وإرادته وكل منا فيه شيء من صنع ال منذ بداية خلق آدم‪ ،‬إذن هو بشر‬
‫مثلنا ويتميز عنا بأن السماء اختارته رسولً‪.‬‬

‫أما القول بالثالوث‪ .‬فبعضهم يقول‪ :‬نقصد بالثالوث ثالوث الصفات‪ .‬وهل ثالوث الصفات تأتي فيه‬
‫إضافيات؟‪ .‬كالقول " بالب والبن والروح القدس "؟ لن يوجد أب إل إذا وُجد ابن‪ ،‬ولن يوجد ابن‬
‫إل إذا وجد أب‪.‬‬
‫إننا نعلم أن هناك حقائق ثابتة وهناك حقائق إضافية؛ فالنسان يكون ابنا وأبا‪ ،‬فهو ابن بالنسبة‬
‫لوالده‪ ،‬وهو أب بالنسبة لبنه‪ ،‬وكل هذه صفات إضافية‪ ،‬وصفات الحق يُفترض فيها أنها تجتمع ل‬
‫أن تكون إضافية‪ ،‬وعندما يقال‪ " :‬الب والبن والروح القدس " فهذا القول ل يحمل صفات إلهية‪،‬‬
‫بل صفات إضافية‪ ،‬وحاول بعضهم أن يقول‪ " :‬إن فاتحة الكتاب يوجد فيها التثليث؛ لنكم تقولون‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‪ ،‬أنتم تفتتحون القرآن بثلث صفات هي ال والرحمن والرحيم " وقلت‬
‫لهم‪ :‬نحن نقول " بسم ال الرحمن الرحيم " ول نقول " بسم ال والرحمن والرحيم "‪.‬‬
‫وما الذي يجعل الحق يُنجب ابنا منذ أكثر من ألف وتسعمائة سنة؟‪ .‬ثم يترك سبحانه الزمان‬
‫السابقة على ميلد المسيح محرومة من ميلد ابن له؟‪ .‬لماذا يترك ال الزمان كلها بدون ابن ل‪،‬‬
‫ويختص البشرية بابن له منذ حوالي عشرين قرنا فقط؟‪ .‬ثم ما المدة الزمنية التي شرفها ال بابنه‬
‫بأن أوجده فيها؟‬
‫أتكفي ثلثة وثلثون عاما فقط ‪ -‬وهي عمر المسيح ‪ -‬لتشريف البشرية بوجود ابن ال؟‪ .‬ولماذا‬
‫يحرم ال ‪ -‬إذن ‪ -‬بقية الزمان من بدء الخليقة إلى يوم القيامة من هذا الشرف؟‪.‬‬
‫ونسأل أيضا لماذا يريد أي كائن إنجاب ابن؟‪ .‬إنه يرغب ذلك ليضمن استبقاء الحياة؛ لن النسان‬
‫يعرف أنه سيموت‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الموت والحياة وهو الباقي أبدا‪ ،‬وليس‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في حاجة لستبقاء حياته في أحد من البشر ويؤكد لنا ذلك في سورة الخلص‪ُ {.‬قلْ ُهوَ اللّهُ أَحَدٌ‬
‫صمَدُ * َلمْ يَلِ ْد وََلمْ يُولَدْ * وَلَمْ َيكُنْ لّهُ ُكفُوا أَحَدٌ }[الخلص‪]4-1 :‬‬
‫* اللّهُ ال ّ‬
‫وهم يقولون‪ " :‬إله واحد " ‪ ،‬ومرة أخرى يقولون‪ " :‬إله أحد "‪ .‬وواحد ل تساوي " أحد "‬
‫والدارسون للغة والمنطق يعرفون أن هناك شيئا اسمه " الكل " وشيئا اسمه " الجزء " وشيئا اسمه‬
‫" الكلي " وشيئا اسمه " الجزئي "‪.‬‬
‫" فالكلي " يطلق على ماله أفراد مثل النسان‪ :‬كخالد ومحمد وعليّ‪ ،‬و " الكل " يُطلق على ماله‬
‫أجزاء‪ ،‬مثال ذلك الكرسي نجده مكونا من أشياء؛ كالخشب والغراء والمسامير وغير ذلك من‬
‫مواد‪.‬‬

‫فالكرسي ‪ -‬إذن ‪ُ " -‬كلّ " لنه مصنوع من مواد كثيرة‪ .‬وحقيقة الخشب تختلف عن حقيقة‬
‫المسمار؛ لذلك فالكرسي " ُكلّ " لنه مكون من أشياء كثيرة مختلفة الحقائق‪ .‬ول يصح أن نطلق‬
‫على أي شيء من مكونات الكرسي اسم " كُل "‪ .‬فل نقول‪ " :‬المسمار كرسي " أو " الخشب‬
‫كرسي "؛ لن الكرسي يُطلق على مجموع الخشب والمسامير والغراء والطلء في شكل وترتيب‬
‫معين‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ ،‬كلمة " إنسان " وهي كلمة تطلق على كثيرين‪ ،‬ولن الحقائق متفقة نطلق على‬
‫النسان كلمة " كُلّي "‪.‬‬
‫ويصح أن نطلق على أي كائن يتمتع بالصفات المتفق عليها للنسان لقب إنسان‪ ،‬فنقول محمد‬
‫إنسان وزيد إنسان‪ ،‬وعليّ إنسان‪ " .‬فالكل " له أجزاء‪ ،‬وللـ " كلي " جزئيات‪ ،‬ويكون الكل شيئا‬
‫واحدا ولكنه ذو أجزاء‪ ،‬فقد يكون عندنا كرسي واحد‪ .‬ولكن لهذا الكرسي أجزاء‪.‬‬
‫وهل نقول على الحق سبحانه وتعالى‪ :‬انه " كل " أو " كلي "؟‪ .‬ل نقول على اسم الحق " كل " أو‬
‫" كلي "؛ لنه اسم ل يطلق على كثيرين فليس كليا لنه واحدٌ‪ ،‬وليس له أجزاء؛ لنه أحد‪ ،‬وليس له‬
‫أفراد لنه واحد‪ .‬فل يقال ل سبحانه وتعالى " كل " أو " جزء " أو " كلي " أو " جزئي " ‪ ،‬فلو‬
‫كان كُلّيا لكان ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬له أفراد ولو كان " كُلّ " لكان له أجزاء‪ ،‬ولكن ال واحد ل أفراد له‪،‬‬
‫وأحد ل أجزاء له‪.‬‬
‫ولذلك يَرُدّ القرآن على أي قائل بغير هذا‪ ،‬فيقول‪ُ {:‬قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ }[الخلص‪]1 :‬‬
‫حدٌ }[البقرة‪]163 :‬‬
‫ويقول أيضا‪ {:‬وَإِلَـا ُهكُمْ إِلَـا ٌه وَا ِ‬
‫حقّ‬
‫ب لَ َتغْلُواْ فِي دِي ِن ُك ْم َولَ َتقُولُواْ عَلَى اللّهِ ِإلّ الْ َ‬
‫وقد قلت كل ذلك لنفهم قوله الحق‪ {:‬ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫إِ ّنمَا ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ َوكَِلمَتُهُ أَ ْلقَاهَا إِلَىا مَرْيَ َم وَرُوحٌ مّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّ ِه وَرُسُِلهِ‬
‫وَلَ َتقُولُواْ ثَلَ َثةٌ ان َتهُواْ خَيْرا }[النساء‪]171 :‬‬
‫وقوله الحق‪ " :‬انتهوا " أي اقضوا على كلمات الباطل‪ ،‬و " خيرا لكم " أي تمسكوا بكلمات الحق‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفي قوله‪ " :‬ان َتهُواْ خَيْرا ّلكُمْ { تخلية وإبعاد لكلمات الباطل‪ ،‬نأخذ ذلك من قوله‪( :‬انتهوا) وتحلية‬
‫لكلمات الحق ونأخذها من قوله ‪ -‬سبحانه ‪ } :-‬خَيْرا ّلكُمْ {‪.‬‬
‫حدٌ { أي أنه سبحانه ل أفراد له‪ ،‬ويضيف‪ } :‬سُ ْبحَانَهُ أَن َيكُونَ َلهُ‬
‫ويقول الحق‪ } :‬إِ ّنمَا اللّهُ إِلَـا ٌه وَا ِ‬
‫وَلَدٌ { ‪ ،‬وساعة نسمع كلمة " سبحانه " فلنفهم أنها تنزيه للذات الخالقة‪.‬‬
‫ولذلك نجد كلمة " سبحانه " تأتي في المور العجيبة التي يقف فيها العقل‪ ،‬وعلى الرغم من وجود‬
‫كفار في هذا الوجود‪ ،‬وعلى الرغم من وجود مجترئين على ال في هذا العالم‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫وجود من ينعتون البشر بألفاظ اللوهية‪ ،‬إلأن إنسانا واحدا لم يجترئ على أن يقول لمخلوق‬
‫كلمة‪ " :‬سبحانك " ‪ ،‬ولذلك نقول ل عز وجل " سبحانك أيضا في سبحانك "‪.‬‬

‫كذلك لم نجد أحدا من أي ملة أو عقيدة أو دين قد سمى نفسه باسم " ال " ‪ ،‬وهو سبحانه يتحدى‬
‫به حتى الكفرة والملحدة أن يسمى هذا السم لمسمى أي مسمى‪ .‬وبال هل يوجد واحد من‬
‫المتبجحين الكافرين يسمي ابنا له " ال "؟‪.‬‬
‫حتى هذه لم توجد؛ لن هذا الكافر غير واثق أنه على حق‪ .‬ومن الجائز أن يفعل ذلك فتحدث له‬
‫كارثة‪ .‬ولو كان هناك كافر واحد مؤمن بما يقول بأنه ل إله لهذا الكون لسمّى ابنا له " ال "‪ .‬لكن‬
‫سمِيّا }[مريم‪]65 :‬‬
‫أحدا ل يجترئ على هذه‪َ {:‬هلْ َتعَْلمُ لَهُ َ‬
‫وكان هذا التحدي موجودا من قبل أن تنزل هذه الية‪ .‬فماذا عن الذي جاء بعدها بزمن؟ وهل‬
‫اجترأ أحد على أن يسمي ابنا له " ال "؟ لم يجترئ أحد على هذه أيضا على الرغم من أنهم‬
‫يسمون بكل شيء؛ وكان عندنا في القرية واحد أطلق على ابنته اسما طويلً عجيبا‪ .‬لقد سمّاها "‬
‫ورد انتشي في دندشة روح الفؤاد والملك وفا " وهو حرّ في ذلك‪ ،‬لكن لم يجرؤ أحد على الطلق‬
‫أن يسمي ابنه " ال " ‪ ،‬وهذا دليل على أن الملحدة والكفار على باطل‪ .‬ويخاف أي منهم أن‬
‫يجترئ على هذه المسألة‪ ،‬ويتحدى الحق بسبحانك ويتحدى بالذات " ال " ‪ ،‬ولذلك فليقل كل واحد‬
‫" سبحانك " وهو مطمئن‪ " ،‬ول تقال إل لك " ‪ ،‬واستقرئوا وتتبعوا المدائح التي قيلت للناس جميعا‪،‬‬
‫أقال واحد من البشر لواحد من البشر " سبحانك "؟‬
‫ما قالها أحد قط‪ .‬وهكذا يتحكم ال في أمر للنسان اختيار فيه‪ ،‬ول يجرؤ إنسان على إطلق هذه‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫حدٌ سُ ْبحَانَهُ أَن َيكُونَ َل ُه وَلَدٌ لّهُ مَا فِي ال ّ‬
‫السماء على أحد من البشر‪ } .‬إِ ّنمَا اللّهُ إِلَـا ٌه وَا ِ‬
‫َومَا فِي الَ ْرضِ { و " الولد " كما نعلم يكون مما في السموات أو مما في الرض؛ فكيف يكون له‬
‫وملكه‪ ،‬وهو ابنه؟ إن هذا الدعاء ل يستقيم أبدا‪ ،‬ولذلك يذيل الحق الية‪َ } :‬وكَفَىا بِاللّهِ َوكِيلً {‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬لّن َيسْتَن ِكفَ ا ْل َمسِيحُ‪{ ...‬‬

‫(‪)657 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لَنْ يَسْتَ ْن ِكفَ ا ْلمَسِيحُ أَنْ َيكُونَ عَ ْبدًا لِلّهِ وَلَا ا ْلمَلَا ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ َومَنْ يَسْتَ ْن ِكفْ عَنْ عِبَادَ ِت ِه وَيَسْ َتكْبِرْ‬
‫جمِيعًا (‪)172‬‬
‫حشُرُهُمْ إِلَيْهِ َ‬
‫فَسَيَ ْ‬

‫مصدر الشرف للنسان أن يحس ويشعر بتجلي ال عليه بعبوديته له‪ ،‬وسبحانه عندما أراد أن‬
‫يتجلى على نبينا الخاتم صلى ال عليه وسلم ويسري به إلى المسجد القصى؛ قال‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي‬
‫حوْلَهُ }[السراء‪]1 :‬‬
‫ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫ج ِد ا َ‬
‫جدِ ا ْلحَرَامِ ِإلَىا ا ْلمَسْ ِ‬
‫أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫ولم يقل‪ " :‬سبحان الذي أسرى برسوله " ولكنه قال‪ { :‬سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ }؛ لن " العبودية‬
‫" عطاء علوي من ال‪ ،‬فكأن سيدنا محمدا صلى ال عليه وسلم عندما تناهى في العبودية ل نال‬
‫تناهي الخير‪ ،‬فمن إذن يستنكف أن يكون عبدا ل؟ ل يستنكف المسيح ذلك‪ ،‬وكذلك الملئكة ل‬
‫تستنكف أن تكون عبيدا ل‪ { .‬وَلَ ا ْلمَل ِئكَةُ ا ْلمُقَرّبُونَ } ويسمون ذلك ارتقاء في النفي‪ ،‬مثلما يقول‬
‫فلح‪ :‬ل يستطيع شيخ الخفر أن يقف أمامي ول العمدة‪.‬‬
‫إذن فالملئكة في الخلق أحسن من البشر‪ .‬ولذلك قال الحق‪ { :‬لّن َيسْتَن ِكفَ ا ْل َمسِيحُ أَن َيكُونَ عَبْدا‬
‫للّ ِه َولَ ا ْلمَل ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ } وقال بعض العلماء‪ :‬إن خواص البشر أفضل من خواص الملئكة‪،‬‬
‫وعوام الملئكة أفضل من عوام البشر والصل في اللغات أن توضع اللفاظ أولً لمحسّات‪ ،‬ثم‬
‫تنتقل من المحسّات إلى المعنويات؛ لن إلف النسان في أول تكوين المدركات له إنما يكون‬
‫سمْعَ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ‬
‫بالحسّ‪ ،‬كما قال الحق‪ {:‬وَاللّهُ َأخْرَ َ‬
‫شكُرُونَ }[النحل‪]78 :‬‬
‫لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫وَالَبْصَا َر وَا َ‬
‫إذن مادام سبحانه قد قال‪ { :‬لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا } فالذي يأتي من بعدها إنما يأتي كوسيلة للعلم‪ ،‬وهي‬
‫حواس السمع والبصار والقدرة على تكوين الخبرة‪ .‬ومثال ذلك عندما ندرس في الفقه موضوع‬
‫الغصب‪ .‬والغصب هو أن يأخذ أحد حق غيره قهرا وعلنية‪ ،‬وهو غير السرقة التي يأخذها‬
‫السارق خفية‪ .‬وغير الخطف؛ لن الخطف هو أن تمتد يد لتشد شيئا من أمام صاحبه ويجري‬
‫الخاطف بعيدا‪ ،‬أما الغصب فهو الخذ عنوة‪.‬‬
‫وكلها ‪ -‬الغصب‪ ،‬والسرقة‪ ،‬والخطف ‪ -‬هي أخذ لغير الحق‪ ،‬والغصب مأخوذ من امر حسيّ هو‬
‫س ّميَ أخذ الحق من صاحبه غصبا‪ ،‬كأنه أخذ للجلد‪ .‬ونُقل المعنى من‬
‫سلخ الجلد عن الشاة‪ .‬و ُ‬
‫المُحسّات إلى المعنويات‪ .‬وفي الية التي نحن بصددها يقول الحق‪ { :‬لّن يَسْتَن ِكفَ ا ْلمَسِيحُ أَن‬
‫َيكُونَ عَبْدا للّ ِه وَلَ ا ْلمَل ِئكَةُ ا ْلمُقَرّبُونَ }‪ .‬و " يستنكف " مثلها مثل " يستفهم " ‪ ،‬ومثل " يستخرج "‪.‬‬
‫إذن فهناك مادة اسمها " نكف " ‪ ،‬و " ال ّنكْف " عملية حسّية تتمثل في أن يزيل النسان دمعة العين‬
‫بأصبعه‪ .‬ولنفرض أن إنسانا يعلم أن له كرامة في البيت وجاء له ظرف نفسي جعله يبكي‪ ،‬فدخل‬
‫عليه ابنه أو زوجته‪ ،‬فهو يحاول إزالة الدمع بأصبعه‪ " .‬واستنكف " معناها أزال " ال ّنكْف "‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والنكف معناه أن يزيل الدمع بأصبعه‪ .‬وإزالة الدمع بالصبع تعني أن صاحب الدمع يستكبر أن‬
‫يراه أحد باكيا لنه مقهور على أمر قد كان‪ ،‬وهذه العملية ل تحدث إل عندما يريد النسان أن‬
‫يستر بكاءه عن أحد‪.‬‬
‫وانتقلت هذه الكلمة من المعنى الحسيّ إلى أي مجال فيه استعلء‪ ،‬مثلما يستنكف إنسان أن يسير‬
‫في طريق إنسان آخر‪ ،‬أو أن يجلس مع آخر‪ ،‬أو يجلس في مقعد أقل من مقعد آخر‪.‬‬
‫ويشرح ذلك المعنى الدارج بأن المسيح ل يجد غضاضة أن كان عبدا ل‪ ،‬ول يستكبر على ذلك‬
‫بل هو يُشرف به‪ .‬والملئكة المقربون أيضا تشرف بهذا المر‪ ،‬والملئكة المقربون هم الذين ل‬
‫يعلمون شيئا عن هذا العالم وليس لهم عمل إل التسبيح ل؛ لنهم عرفوا العبودية ل‪ .‬وهي عبودية‬
‫ليست لمن يَسْ َتذِل‪ ،‬لكنها لمن يُعزّ‪ ،‬وليست عبودية للذي يأخذ ولكنها للذي يعطي‪ .‬والذي يستنكف‬
‫من ذلك ل يعرف قيمة العبودية ل؛ لذلك ل يستنكف المسيح أن يكون عبدا ل‪ ،‬ول الملئكة‬
‫المقربون‪.‬‬
‫جمِيعا { المستنكفون؛ أو‬
‫ويضيف الحق‪َ } :‬ومَن َيسْتَ ْن ِكفْ عَنْ عِبَادَتِ ِه وَيَسْ َتكْبِرْ َفسَيَحْشُ ُرهُمْ إِلَيهِ َ‬
‫الذين على طريقة الستنكاف‪ ،‬ومن يشجعهم على ذلك‪ ،‬كل هؤلء يصيرون إلى جهنم‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)658 /‬‬

‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ فَ ُي َوفّيهِمْ ُأجُورَهُ ْم وَيَزِي ُدهُمْ مِنْ َفضْلِهِ وََأمّا الّذِينَ اسْتَ ْن َكفُوا‬
‫فََأمّا الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬
‫جدُونَ َلهُمْ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَلِيّا وَلَا َنصِيرًا (‪)173‬‬
‫عذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَ ِ‬
‫وَاسْ َتكْبَرُوا فَ ُيعَذّ ُبهُمْ َ‬

‫لماذا لم يأت ال بشرط الية الثاني الذي يتحدث عن المستنكفين والمستكبرين مقدما على شطر‬
‫الية الول؟‪ .‬ولماذا لم يواصل الحديث عن الذين استنكفوا واستكبروا ليستكمل ما جاء بشأنهم في‬
‫الية السابقة ويبينْ كيف أن مصيرهم إلى العذاب حيث ل يجدون من دون ال وليا ول نصيرا‪ ،‬ثم‬
‫بعد ذلك يحدثنا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟‪.‬‬
‫ذلك أن الحق ساعة يتكلم عن جماعة خرجت عن المنهج فهو ل يمنحهم ثواب هؤلء الذين لم‬
‫يخرجوا عن المنهج‪ ،‬فيأتي أ ّولً بثواب الطائعين ليستشرف إليه الخارجون عن طاعة ال‪ ،‬ثم‬
‫يحرمهم من هذا الثواب لتكون حسرة الخارجين عن المنهج أشد‪ " .‬والضد يظهر حسنه الضد "‪.‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَ ُي َوفّيهِمْ ُأجُورَهُ ْم وَيَزيدُ ُهمْ مّن َفضْلِهِ } ونعلك‬
‫لقد قال الحق‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫أن الجر على العمل‪ .‬لماذا الفضل إذن؟‪ .‬لقد عرفنا من قبل أن العمل جاء فيه حديث شريف‪:‬‬
‫" لن يُدخل أحدا عمله الجنة‪ ،‬قالوا‪ :‬ول أنت يا رسول ال؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ول أنا إل أن يتغمدني ال‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بفضل ورحمة‪ ،‬فسددوا وقاربوا ول يتمنين أحدكم الموت‪ ،‬إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا‪ ،‬وإما‬
‫مسيئا فلعله أن يستعتب "‬
‫حمَتِهِ فَ ِبذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ }[يونس‪]58 :‬‬
‫والحق قد قال‪ُ {:‬قلْ ِب َفضْلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ‬
‫وفطن الناس إلى ذلك فقالوا‪ " :‬اللهم بالفضل ل بالعدل "؛ لن الفضل هو الذي يعطينا المنازل‬
‫المتميزة‪ ،‬وقد يضيعنا العدل‪.‬‬
‫عمِلُواْ‬
‫ويقول الحق مرة أخرى عن هؤلء الذين استنكفوا واستكبروا‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫الصّالِحَاتِ فَ ُي َوفّيهِمْ ُأجُورَهُ ْم وَيَزيدُ ُهمْ مّن َفضْلِ ِه وََأمّا الّذِينَ اسْتَن َكفُواْ وَاسْ َتكْبَرُواْ فَ ُيعَذّ ُب ُهمْ عَذَابا أَلِيما‬
‫وَلَ َيجِدُونَ َلهُمْ مّن دُونِ اللّ ِه وَلِيّا َولَ َنصِيرا } أي أنهم لن يجدوا من يشفع لهم عند ال‪ ،‬ول من‬
‫ينصرهم ول أحد بقادر أن يرد عنهم العذاب‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول الحق‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ‪} ...‬‬

‫(‪)659 /‬‬

‫يَا أَ ّيهَا النّاسُ َقدْ جَا َءكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكُمْ نُورًا مُبِينًا (‪)174‬‬

‫والبرهان هو العجاز الدال على صدق المبلغ الخير عن ال‪ ،‬وهو الحجة الدامغة‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬ما هو البرهان وما هو النور؟‪ .‬ونعلم أن كل رسول يأتي بمعجزة تثبت صدق‬
‫بلغه عن ربه قد تكون المعجزة بعيدة عن المنهج‪ ،‬ثم يعطيهم الرسول المنهج ببلغ من ال؛ مثال‬
‫ذلك أن معجزة سيدنا موسى كانت العصا لكن منهجه هو التوراة‪ .‬إذن فالمعجزة هي البرهان على‬
‫صدق الرسول فيما بلغ عن ربه‪ ،‬وقد ل يكون للمعجزة صلة بالمنهج‪ ،‬فعيسى عليه السلم كانت‬
‫معجزته إبراء الكمه والبرص وإحياء الموتى بإذن ال ومنهجه النجيل‪.‬‬
‫اما رسولنا محمد صلى ال عليه وسلم وهو النبي الخاتم فقد تجلت معجزته في أنها عين منهجه‪،‬‬
‫إنّها القرآن ولم تنفصل المعجزة عن المنهج؛ لنه رسول عام إلى الناس كافة وإلى أن تقوم‬
‫الساعة‪ .‬هذا هو البرهان‪ .‬أما " النور " فقد جاء أيضا من أمر حسيّ؛ لن النور يمنع النسان من‬
‫أن يتعثر في مشيته أو أن يخطئ الطرق أو أن يصطدم بالشياء فيؤذيها أو تؤذيه‪ .‬إذن النور‬
‫الموجود في القرآن هو حقائق القيم‪ ،‬أما نور ال في الماديات فهو أمر معروف للكافة‪.‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)660 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضلٍ وَ َيهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا‬
‫حمَةٍ مِنْ ُه َو َف ْ‬
‫صمُوا ِبهِ فَسَ ُيدْخُِلهُمْ فِي َر ْ‬
‫فََأمّا الّذِينَ َآمَنُوا بِاللّ ِه وَاعْ َت َ‬
‫(‪)175‬‬

‫لقد آمنوا بال واعتصموا به‪ ،‬ما معنى العتصام؟‪ .‬قديما كان الرجل عندما يقع في هوة يصرخ‬
‫ليحذبه إنسان خارج الهوة بيده‪ ،‬وهذا هو الصل في العتصام‪ ،‬أي يستمسك النسان بمن ينقذه‬
‫من هاوية أو كارثة‪ ،‬والحق يعطي السباب‪ ،‬فإذا جاءت الشمس وسار فيها إنسان فقد أعطاه ال‬
‫الشجرة ليستظل بها‪ .‬وإذا ما نزل المطر فيمكن أن نستتر منه بمظلة‪ ،‬وإذا عطش إنسان فال‬
‫يعطيه سببا ليأخذ كوب ماء‪ ،‬والعاقل هو الذي يذكر عند كل سبب من أوجد السبب‪.‬‬
‫فإياك أيها المؤمن أن تغتر بالسباب؛ لن عدم الغترار بالسباب يحمي النسان‪ .‬فعندما تأتيه‬
‫أمور في ظاهرها شر‪ ،‬فمادام مجريها هو ال فهي خير بالتأكيد‪ ،‬لكنك ل تعلم‪.‬‬
‫وما أضل علم النسان في كثير من المسائل؛ فالنسان قد يحسب أمرا أنّه هو الحسن‪ ،‬فيظهر له‬
‫بعد حين أنه السوء‪ ،‬وقد يعتبر إنسان أمرا هو السيئ‪ ،‬فيظهر له بعد حين أنه الحسن‪ ،‬ول يوجد‬
‫واحد منا إل وفي حياته أشياء كان يظنها خيرا؛ فإذا بها شر‪ ،‬أو كان يظنها شرا فإذا بها خير‪.‬‬
‫والشر هو ما يأتيه النسان لنفسه بعمله‪ ،‬أما المور التي تقع على النسان فحكمتها تمشي على‬
‫مقتضى علم ال ل على مقتضى هوى البشر‪.‬‬
‫إننا نجد من يقول‪ :‬إنني أدعو ال بكذا ول يستجيب لي‪ .‬ونقول‪ :‬أنك تدعو بأشياء تظنها الخير لك؛‬
‫لكن ال يعلم أن هذه الشياء ليست هي الخير؛ لذلك ل يعطيها لك‪ ،‬فإن كنت مؤمنا بال ومعتصما‬
‫به فأنت تهمس لنفسك‪ :‬أَِليَ في هذا المر مدخل أم ل مدخل لي فيه؟‪ .‬فإذا كان لك فيه مدخل‬
‫حظّي من‬
‫فاللوم على نفسك‪ .‬وإن كان المر قد أجراه عليك فهو خير لك ول حكمة في ذلك‪.‬و َ‬
‫الدنيا سواء لنني رضيت بحكم ال في العسر واليسرفإن أقبلت كان الجزاء على النجا وإن أدبرت‬
‫ضلٍ‬
‫ح َمةٍ مّنْ ُه َو َف ْ‬
‫صمُواْ بِهِ فَسَيُ ْدخُِلهُمْ فِي رَ ْ‬
‫كان الجزاء على الصبر{ فََأمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّ ِه وَاعْ َت َ‬
‫وَ َيهْدِيهِمْ إِلَ ْي ِه صِرَاطا مّسْ َتقِيما }‪ .‬وماداموا قد آمنوا بال واعتصموا بال واعتصموا به فسيهديهم‬
‫صراطه المستقيم‪ ،‬وعاقبة الهداية وثمرتها فسرها وبيّنها قوله الحق‪ {:‬وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى‬
‫وَآتَاهُمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد‪]17 :‬‬
‫وقال لنا الرسول صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" من عمل بما عَلِم ورّثه ال عِ ْلمَ ما لم يعلم "‬
‫أي يصير مأمونا على العلم؛ لن العلم الذي أخذه عن ال وظّفه في خدمة غيره‪ ،‬ولم يدخره أو‬
‫يعطله‪ .‬ويختتم الحق سبحانه وتعالى سورة النساء بقوله‪ { :‬يَسْ َتفْتُونَكَ ُقلِ اللّهُ ُيفْتِيكُمْ‪} ...‬‬

‫(‪)661 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ك وَ ُهوَ‬
‫صفُ مَا تَ َر َ‬
‫ختٌ فََلهَا ِن ْ‬
‫يَسْ َتفْتُو َنكَ ُقلِ اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِي ا ْلكَلَاَلةِ إِنِ امْ ُرؤٌ هََلكَ لَ ْيسَ لَ ُه وَلَدٌ وَلَهُ أُ ْ‬
‫خ َوةً ِرجَالًا وَنِسَاءً‬
‫ك وَإِنْ كَانُوا ِإ ْ‬
‫يَرِ ُثهَا إِنْ لَمْ َيكُنْ َلهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فََل ُهمَا الثّلُثَانِ ِممّا تَ َر َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ (‪)176‬‬
‫حظّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمْ أَنْ َتضِلّوا وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫فَلِل ّذكَرِ مِ ْثلُ َ‬

‫والستفتاء هو طلب الفتيا‪ .‬ومعناها إرادة معرفة حكم شرعي ل في أمر ل يجد السائل علما له‬
‫فيه‪ .‬وكان الصحابة يستفتون رسول ال‪ ،‬مع أنه صلى ال عليه وسلم قال لهم‪:‬‬
‫" ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلفهم على أنبيائهم‪ ،‬فإذا أمرتكم‬
‫بشيء فأتوا منه ما استطعتم‪ ،‬وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه "‬
‫وجاء القرآن في كثير من اليات بـ " يسألونك "‪ .‬كأن الحق يعلمنا أن الصحابة أرادوا أن يثبتوا‬
‫أنهم أحبوا منهج ال فأرادوا أن يبنوا حياتهم كلها على منهج ال‪ ،‬ولو كانوا قد كرهوا منهج ال لما‬
‫سألوا‪ ،‬لقد وجدوا أن السلم قد جاء‪ ،‬ووجد أشياء الجاهلية وأقرها‪ ،‬ووجد أشياء قام بتغييرها؛ ولم‬
‫يرد الصحابة أن يصنعوا الشياء على أنّها امتداد لصنع الجاهلية‪ ،‬بل أرادوا أن يصنعوها على‬
‫أنها حكم للسلم؛ لذلك جاءت أسئلتهم الكثيرة‪ .‬والفتوى تكون في حكم‪ .‬والسؤال يكون في حكم‬
‫وفي غير حكم‪ .‬وهم يطلبون الفتوى في الكللة‪ ،‬ودقة القرآن في إيجاز السؤال‪ { :‬يَسْ َتفْتُو َنكَ ُقلِ‬
‫جلٌ يُو َرثُ كَلَلَةً }‬
‫اللّهُ ُيفْتِيكُمْ فِي ا ْلكَلَلَةِ } وقد تقدم من قبل الحديث عن الكللة‪ {:‬وَإِن كَانَ َر ُ‬
‫[النساء‪]12 :‬‬
‫إل أن الذي تقدم هناك كان عن الصلة من ناحية الم‪ ،‬وسؤال جابر بن عبدال كان عن الصلة من‬
‫ناحية الب‪.‬‬
‫فعن جابر بن عبدال ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال‪:‬‬
‫(مرضت مرضا فأتاني النبيّ ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وأبو بكر وهما ماشيان فوجداني أغمي‬
‫عليّ‪ ،‬فتوضا النبيّ ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬ثم صبّ وَضوءه عليّ فأفقت فإذا النبيّ ‪ -‬صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ -‬فقلت يا رسول ال كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء‬
‫حتى نزلت آية الميراث "‪.‬‬
‫وفي رواية أخرى عن المام أحمد فقلت‪ :‬إنه ل يرثني إل كللة‪ ،‬فكيف الميراث؟ فأنزل ال آية‬
‫الفرائض‪ .‬وبعض العلماء قال‪ :‬إن كلمة " كللة " مأخوذة من كلل التعب؛ لن الكللة في الشرع‬
‫هو من ليس له ولد ول والد‪ ،‬والنسان بين حياتين؛ حياة يعولها والد‪ ،‬وعندما يكبر ويضعف‬
‫تصير حياته يعولها ولد؛ لذلك فالذي ليس له والد ول ولد يعيش مرهقا؛ فليس له والد سبق‬
‫بالرعاية‪ ،‬وليس له ولد يحمله في الكبر؛ لذا سمي بالكللة‪.‬‬
‫وبعضهم قال‪ :‬إنها من الكليل؛ أي التاج‪ .‬وهو محيط بالرأس من جوانبه والمقصود به القارب‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المحيطون بالنسان وليس لهم به صلة أعلى أي من الباء‪ ،‬أو من أدنى أي من البناء‪.‬‬
‫ك وَ ُهوَ يَرِ ُثهَآ إِن لّمْ َيكُنْ ّلهَآ وَلَدٌ } أي أن‬
‫ختٌ فََلهَا ِنصْفُ مَا تَ َر َ‬
‫{ إِن امْ ُرؤٌ هََلكَ لَيْسَ لَهُ وَلَ ٌد وَلَهُ ُأ ْ‬
‫الكللة هي أن يموت أحد وله أخت شقيقة أو أخت من أب فهي ترث النصف؛ وإذا ماتت هذه‬
‫الخت فالخ يرثها سواء أكان شقيقا أم أخا لب‪.‬‬

‫وإن ترك الرجل الكلل أختين أو أكثر فلهما الثلثان مما ترك ذلك الخ‪ .‬وإن كان له إخوة من‬
‫ظ الُنثَيَيْنِ {‪ .‬أي‬
‫خ َوةً رّجَالً وَنِسَآءً فَلِل ّذكَرِ مِ ْثلُ حَ ّ‬
‫رجال ونساء‪ ،‬فها هوذا قول الحق‪ } :‬وَإِن كَانُواْ إِ ْ‬
‫أن للذكر من الخوة مثل حظ النثيين‪.‬‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ {‪.‬‬
‫ويختم الحق الية‪ } :‬يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمْ أَن َتضِلّو ْا وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫أي أنه الحق يبين أحكامه خشية أن يصيب القوم الضلل‪ .‬وقد علم سبحانه أزلً بكل سلوك‪ ،‬وكل‬
‫خافية‪ ،‬وهو العليم أبدا بما ينفع الناس جميعا‪ .‬وبذلك انتهينا بعون ال من خواطرنا في سورة‬
‫النساء‪.‬‬

‫(‪)662 /‬‬

‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا َأ ْوفُوا بِا ْلعُقُودِ ُأحِّلتْ َلكُمْ َبهِيمَةُ الْأَ ْنعَامِ إِلّا مَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ غَيْرَ مُحِلّي الصّيْ ِد وَأَنْ ُتمْ‬
‫ح ُكمُ مَا يُرِيدُ (‪)1‬‬
‫حُ ُرمٌ إِنّ اللّهَ يَ ْ‬

‫البداية ‪ -‬إذن ‪ -‬عن ضرورة الوفاء بالعقود وتحليل تناول بهيمة النعام كطعام‪ .‬وسورة المائدة ‪-‬‬
‫كما نعلم ‪ -‬جاءت في الترتيب المصحفي بعد سورة النساء التي تتضمن الكثير من العقود‬
‫اليمانية؛ فقد تضمنت سورة النساء عقود النكاح والصداق والوصية والدّين والميراث‪ ،‬وكلها‬
‫أحكام لعقود‪ ،‬فكأن الحق سبحانه وتعالى من بعد سورة النساء يقول لنا‪ :‬لقد عرفتم ما في سورة‬
‫النساء من عقود‪ ،‬فحافظوا عليها وأوفوا بها‪.‬‬
‫ونلحظ أن سورة البقرة جاءت بعدها سورة آل عمران‪ ،‬وفي كلتيهما حديث عن الماديين من‬
‫اليهود‪ ،‬وسورة النساء والمائدة تواجه أيضا المجتمع المدني بالمدينة بعد أن كان القرآن بمكة‬
‫يواجه مسألة تربية وغرس العقيدة اللهية الواحدة والنبوات‪ .‬وقد خدمت سورة البقرة وسورة آل‬
‫عمران مسألة العقيدة المنهجية والنبياء‪ ،‬وسورة النساء تتضمن حسم العقيدة الحكمية‪.‬‬
‫وها نحن أولء أمام سورة المائدة التي يقول فيها الحق‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َأ ْوفُواْ بِا ْل ُعقُودِ }‬
‫والحق يخاطب المؤمنين بالسم الموصول‪ ،‬ولم يقل‪ :‬يا أيها المؤمنون " ‪ ،‬وهذا يدل على أن‬
‫اليمان ليس أمرا عابرا يمر بالنسان فترة من الزمن؛ ولكن اليمان يتجدد بتجدد الفعل حتى ينفذ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المؤمن الحكام التي جاء بها العقد اليماني‪ .‬وحين يتوجه الحق بخطابه للذين آمنوا‪ ،‬إنما يؤكد لنا‬
‫أنه ل يقتحم على أحد حياته ليكلفه‪ ،‬وإن كان سبحانه كرب للعالمين قد خلق الخلق وأوجد الوجود‬
‫وسخّره للخلق‪.‬‬
‫ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬لم يستخدم هذا الحق ليأمر البشر باليمان‪ ،‬بل دعا الناس جميعا أولً إلى‬
‫اليمان‪ ،‬فمن آمن ينزل إليه التشريف بالتكليف ويكون القول الحق‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } أي يا‬
‫من آمنتم بال إلها‪ .‬والله لبد له من صفات تناسب اللوهية‪ ،‬كطلقة القدرة والجاه والحكمة‬
‫والقهر‪ .‬وسبحانه ل يكلف مَن لم يؤمن به‪ ،‬بل يدعو من لم يؤمن إلى اليمان‪ ،‬ولذلك نجد أن كل‬
‫آيات الحكام تبدأ بالقول الحق‪ { :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ }؛ لن لكل إيمان تبعة‪.‬‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َأ ْوفُواْ بِا ْل ُعقُودِ } ونعرف أن اللغة بها أسرة ألفاظ؛ فـ " أوفوا " على سبيل‬
‫المثال فيها " وفى "‪ .‬والمصارع هو " يفي " ‪ ،‬وفي أفعالها " أوفى " و " َوفّى " ‪ ،‬حسب المراحل‬
‫المختلفة قوة وضعفا وكثرة وقلة‪ ،‬مثال ذلك قوله الحق‪ {:‬وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّىا }[النجم‪]37 :‬‬
‫وقد قام سيدنا إبراهيم عليه السلم بالكثير من النجاز‪ {:‬وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }‬
‫[البقرة‪]124 :‬‬
‫ول بد أن يكون قوله الحق‪ { :‬وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّىا } شرحا لما قام به إبراهيم من مواجهة‬
‫البتلء‪ ،‬فالتوفية هي التمام‪ .‬والحق يقول‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َأ ْوفُواْ بِا ْل ُعقُودِ } أي عليكم يا من‬
‫آمنتم بال أن تتموا العقود‪.‬‬

‫والتمام إما أن ينطلق إلى الفراد ويشملها فل ينقص فرد‪ ،‬وإما أن يلتفت إلى الكيفيات فل تختل‬
‫كيفية‪ ،‬هذا هو التمام‪ .‬وقد يأتي إنسان بكل فصول الكتاب ويقرأها‪ ،‬فيكون قد وفى قراءة كل‬
‫الجزاء‪ ،‬ولكن الحق يريد أن يتقن النسان تنفيذ كل جزئية في كتاب التكليف‪ .‬وسبحانه طلب منا‬
‫أن نشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال وأن نقيم الصلة وأن نؤتي الزكاة وأن نصوم‬
‫رمضان وأن نحج البيت إن استطعنا إلى ذلك سبيل‪ ،‬وقد يؤدي شخص كل هذه العمال وبذلك‬
‫يكون قد قام بآداء التكليف‪ ،‬لكن هناك إنسان آخر يؤدي كل جزئية بتمامها فل يختصر شيئا منها‬
‫بل إنّه يوفيها بل تدليس‪.‬‬
‫والحق هنا يخاطب المؤمنين‪ } :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َأ ْوفُواْ بِا ْل ُعقُودِ { أي أننا أمام " إيمان " و " عقد‬
‫"‪ .‬وشرحنا معنى اليمان‪ ،‬أما العقد فهو العلقة الموثقة بين طرفين‪ ،‬وعلى كل طرف أن يلتزم بما‬
‫عليه وأن يأخذ ما له‪ .‬وسمي العقد عقدا؛ لن العقد هو الربط‪ ،‬أي شيء ل ينحل من بعد ذلك‪.‬‬
‫ولذلك نسمي ما يستقر في مواجيد الناس ونفوسهم " عقيدة "‪ .‬لنها المر المعقود‪ ،‬وليس المر‬
‫الطارئ الذي يأتي اليوم وينتهي غدا‪ .‬والشيء المعقود في نظر الفقه هو المر الذي ل يطفو إلى‬
‫العقل ليُبحث من جديد‪ ،‬بل إنه مستقر وثابت في القلب‪ .‬ويأمر سبحانه بالوفاء بالعقود‪ .‬والعقود ‪-‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كما نعلم ‪ -‬هي جمع لـ " عقد " وبالسلم عقود كثيرة‪ ،‬تبدأ بالعقد الول وهو عقد الذر‪ {:‬وَإِذْ‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا }‬
‫سهِمْ أََل ْ‬
‫شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َت ُه ْم وَأَ ْ‬
‫خذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ‬
‫أَ َ‬
‫[العراف‪]172 :‬‬
‫ويريد سبحانه الوفاء بهذا العهد الول فل يأتي النسان ساعة التطبيق ويفر منها‪ ،‬ثم نأتي إلى عهد‬
‫الستخلف في الرض وبه استخلف فيها آدم وذريته من بعده‪ ،‬وإياك أن تظن أنك الصيل في‬
‫الكون حين تدوم لك السباب وتدين لك بعض الوقت‪ .‬ل تظن أن الشياء قد دانت لك بمهارتك‬
‫أنت فقط‪ ،‬وحين تبذر البذور في الرض وتروي الرض فاعلم أن الزرع ينبت بتسخير ال‬
‫أَ ْرضَه لك‪.‬‬
‫وإياك من الظن لحظة تركب المهر أنك الخيال الفارس الذي روّض المهر‪ ،‬ل‪ ،‬إنه تسخير الحق‬
‫للفرس‪ .‬ونجد الفرس في بعض الحايين يجمح ليقع الفارس من فوق ظهره‪ ،‬لعلنا ننتبه إلى‬
‫الجزئية التي ل يصح أن تغيب عنا‪ ،‬فلو لم يذلل ال الخيل لنا لما استطعنا أن نركبها‪َ {.‬أوَلَمْ يَ َروْاْ‬
‫عمَِلتْ أَ ْيدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُ ْم َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ }‬
‫خَلقْنَا َلهُم ِممّا َ‬
‫أَنّا َ‬
‫[يس‪]72-71 :‬‬
‫وعلى المؤمن أن يتذكر أيضا أن الحق سبحانه ذلل الجمل لصاحبه‪ ،‬وجعل الطفل الصغير يأمر‬
‫الجمل فيرقد على الرض؛ ليضع عليه الحمال الثقيلة‪ ،‬ويأمره فيقوم‪.‬‬

‫أما إن واجه الثعبان أو الحية فهو ل يجرؤ على تذليلهما‪ ،‬وهذا لفت من الحق للخلق لقدرته‬
‫المطلقة؛ فقد ذلل لهم الكبير‪ ،‬وأفزعهم أضعاف ذلك من الثعبان ذي الجسم الصغير‪ {.‬وَذَلّلْنَاهَا َل ُهمْ‬
‫َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُ ْم َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس‪]72 :‬‬
‫ومن التذليل يأتي رضوخ بقية الكائنات للنسان؛ فالحمار عند الفلح يحمل السماد للرض من‬
‫بقايا فضلت النسان والحيوان‪ ،‬ول ينطق الحمار معترضا‪ ،‬ويأتي الفلح ليرتقي في حياته‬
‫ويصير شيخا للخفر‪ ،‬فيأمر أن يستحم الحمار‪ ،‬ويشتري له السرج ليركبه وهو ذاهب للقاء المأمور‬
‫في المركز‪ ،‬ولم يعص الحمار في الحالتين‪ .‬إنه التذليل‪.‬‬
‫إياك أن تظن أن مهارتك وحدها أيها النسان هي التي ذللت لك الكائنات‪ ،‬فلو اعتمد المر على‬
‫المهارة وحدها‪ ،‬لذلل النسان البرغوث الصغير الذي يهاجمه في أي وقت‪ ،‬وقد يفزعك ذلك‬
‫ض ُعفَ‬
‫البرغوث الصغير طوال الليل‪ .‬وقد تسهر أسرة بأكملها من أجل قتل برغوث واحد‪َ {.‬‬
‫طلُوبُ }[الحج‪]73 :‬‬
‫ب وَا ْلمَ ْ‬
‫الطّاِل ُ‬
‫ولذلك أمرنا الحق أن نقول قبل البدء في أي عمل " بسم ال الرحمن الرحيم "‪ .‬وإياك أن تقبل على‬
‫العمل بقوتك وحدها‪ .‬فالعمل إنما ينفعل لك لنه سبحانه قد أخضعه لك‪ .‬وأنت تبدأ العمل باسم ال‬
‫لنه سبحانه الذي استخلفك وأخضع لك الكائنات المذللة‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شقَىا }[طه‪]123 :‬‬
‫ضلّ َولَ يَ ْ‬
‫ثم هناك ذلك العهد الذي قال فيه الحق لدم‪َ {:‬فمَنِ اتّ َبعَ ُهدَايَ فَلَ َي ِ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْي ِه ْم وَلَ ُهمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة‪]38 :‬‬
‫والعهد الذي قال فيه الحق‪َ {:‬فمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَ َ‬
‫وهذا عهد لكل البشر‪ ،‬والمسلمون عاهدوا رسول ال صلى ال عليه وسلم في العقبة بأن ينصروه‬
‫ويمنعوا عنه ما يمنعون عن أنفسهم‪ .‬وعاهدوا الرسول في الحديبية‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه يأمر بالوفاء بكل العقود‪ ،‬وكل ما نتج عن قمة العقائد وهو اليمان بال؛ فما جاء‬
‫من ال الذي آمنت به يُعتبر عقدا أنت شريك فيه‪ ،‬لن العقد يكون دائما بين طرفين‪ ،‬ولم يرغم ال‬
‫أحدا على اليمان به‪ ،‬ولكن النسان يؤمن بال اختيارا‪ .‬ومادام المؤمن قد آمن بال من طوع‬
‫اختياره‪ ،‬فل بد أن يتبع منهجه‪.‬‬
‫ومن آمن هو الذي يذهب إلى الحق قائلً‪ :‬يارب إن ما تأمر به سأفعله‪ .‬وهذا اعتراف بالعقد‪.‬‬
‫وكتابة أي عقد إيماني هو تنفيذ لهذا العقد والتوقيع مع ال‪ ،‬وبذلك يشترك العبد مع ال في هذا‬
‫التعاقد؛ لن إيمان العبد بال يجعله طرفا في العقد‪ .‬والله يشرع له‪ ،‬وينفذ العبد التشريع ليلتقي‬
‫الجزاء الوفى‪.‬‬
‫العقد إذن قد يكون بين العبد وربّه‪ ،‬أو بين العبد وخلق ال المساوين له‪ ،‬أو بين العبد ونفسه‪ ،‬لكنهم‬
‫أطلقوا على العقد الذي بين النسان ونفسه اسما هو " العهد " وهو النذر‪ ،‬كأن ينذر العبد الصيام‬
‫أو الصلة‪ ،‬ويجب على العبد تنفيذ ما نذر به مادام عاهد ال على ذلك‪.‬‬

‫والعقد الذي بين العبد وغيره من البشر وكذلك العقد بينه وبين نفسه إنما ينبعان من العقد الساسي‬
‫وهو العقد الول‪ ..‬إنّه اليمان بال‪.‬‬
‫إذن فقول الحق‪َ } :‬أ ْوفُواْ بِا ْل ُعقُودِ { أي نفذوا ما أمر ال به حللً‪ ،‬وامتنعوا عن الشيء الذي جعله‬
‫الحق حراما‪ .‬ول داعي ‪ -‬إذن ‪ -‬للختلف في معنى " العقود " والتساؤل‪ :‬هل هي العقود التي‬
‫بين العبد وربه‪ ،‬أو بين العبد والناس‪ ،‬أو بين العبد ونفسه‪ ،‬فكل ما نبع من العقد القمة هو عقد‬
‫على المؤمن وإلزام عليه أن يوفي به‪.‬‬
‫} يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َأ ْوفُواْ بِا ْل ُعقُودِ أُحِّلتْ َل ُكمْ َبهِيمَ ُة الَ ْنعَامِ { سبحانه يستهل السورة بالوفاء‬
‫بالعقود‪ ،‬ثم إعلن تحليل بهيمة النعام‪ .‬ونعرف أن النسان قد طرأ على الكون‪ ،‬وأنه سبحانه قد‬
‫خلق الكون أولً‪ .‬ثم خلق النسان فيه‪ ،‬وهذا من رحمة ال بالنسان فلم يخلق النسان أولً‪ ،‬بل‬
‫خلق له الشمس وأعد الكون قبل أن يخلق النسان‪ ،‬وحين طرأ النسان على الكون وجد فيه قوام‬
‫الحياة من الجماد ومن النبات ومن الحيوان‪.‬‬
‫وقمة المسخرات للنسان هي الحيوان؛ لن الجماد والنبات يخدمان الحيوان‪ ،‬ويشترك الحيوان مع‬
‫النسان في أنّ له حياة ودماء وجوارح‪ .‬وجاء الحق عنا بالعلن عن أعلى المنزلة في خدمة‬
‫النسان وهو بهيمة النعام } أُحِّلتْ َلكُمْ َبهِيمَةُ الَ ْنعَامِ { ويأمرنا بأن نوفي بالعقود‪ ،‬وله سبحانه‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتعالى كل الحق فقد قدم لنا الثمن بخلق الكون مسخرا لنا وقمة المخلوقات المسخرة هي النعام‪.‬‬
‫كأن } ُأحِّلتْ َلكُمْ َبهِيمَ ُة الَ ْنعَامِ { حيثية مقدمة من الحق‪ .‬ونلحظ أنه جاء هنا بصيغة المبنى‬
‫للمجهول في " أحلت "؛ لن اليمان جعلنا طرفا في أن تكون بهيمة النعام حِلً لنا‪.‬‬
‫ووقف العلماء عند " بهيمة النعام "‪ .‬وفي اللغة العربية نجد صيغة " فعيل " التي تأتي بمعنى "‬
‫فاعل " وتأتي بمعنى " مفعول " ‪ ،‬مثلما نقول " ال رحيم " أي أنه راحم؛ هو " فاعل " ‪ ،‬ونقول "‬
‫فلن قتيل " أي مقتول أي مفعول به‪ .‬و " بهيمة النعام " هنا تأتي بأي معنى‪ ،‬أهي بمعنى فاعل أو‬
‫بمعنى مفعول؟‪ ،‬و " بهيمة " إن نظرنا إلى أنّها مبهمة؛ لن أمورها مجهولة يصعب إدراكها علينا‬
‫ول نعرف حركتها أو إشارتها أو لغاتها التي تتفاهم بها فتكون فعيلة بمعنى مفعولة‪ .‬وتصلح أن‬
‫تكون فعيلة بمعنى فاعل؛ لنها ل تفهم‪ ،‬ونحن المبهمون عليها‪ .‬ونقول‪ :‬هي محكومة بالتسخير‪.‬‬
‫ولم يصنف النسان طعامها وهو العلف إل بعد أن رآها وهي سائبة حرة تتجه إلى العلف لتأكله‪،‬‬
‫إذن فهي التي علمت النسان صنف علومها‪ .‬فل يقولن إنسان‪ :‬إنها بهيمة ل تفهم‪ ،‬وليعرف أنها لم‬
‫تخلق لتفهم مسائل النسان‪ ،‬لنها مسخرة له وقد يتعلم هو منها‪.‬‬

‫ودليلنا أن ال امتن على بعض المصطفين من خلقه بأن علمهم منطق الطير‪ ،‬فقد حزّ في نفس‬
‫الهدهد أن رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون ال‪ ،‬وهو الطائر فقد فهم أن السجود ل‬
‫يكون إلّ ل الواحد القهار ل للشمس‪ ،‬وهكذا نرى النسان يتعلم الكثير من أخلق الحيوانات‬
‫وعاداتها؛ ولذلك نجد هواة تربية الحيوانات يتعرفون على طعام هذه الحيوانات بعد أن يتتبعوها‬
‫ويعرفوا ماذا تأكل‪ ،‬وعن أي شي تبتعد‪ ،‬والفلح يقدم البرسيم للجاموس ول يقدم له النعناع؛ لنه‬
‫رأى الجاموس وهو ح ّر ل يأكل النعناع بل يأكل البرسيم‪ ،‬وقال الحق على لسان النمل‪ {:‬ا ْدخُلُواْ‬
‫سلَ ْيمَانُ وَجُنُو ُدهُ }[النمل‪]18 :‬‬
‫طمَ ّنكُمْ ُ‬
‫حِ‬‫مَسَاكِ َنكُ ْم لَ يَ ْ‬
‫نحن إذن الذين ل نفهم لغة النمل‪ ،‬ونجد البهيمة محكومة بالغريزة‪ ،‬لكن النسان يملك العقل‪ ،‬لكنه‬
‫يغطي عقله بالهوى‪.‬‬
‫وقول ال‪ُ } :‬أحِّلتْ َلكُمْ { دليل على أن الذي أحلها‪ ،‬جعل التحليل لها في التسخير بدليل أن الحبل‬
‫إن التف حول رقبة جاموسة أو رقبة خروف وقبل أن يختنق نجد الحيوان يمد رقبته‪ ،‬فيقول‬
‫الناس‪ :‬لقد طلب الحلل‪ ،‬فنادوا الجزار‪ .‬وكأنه ‪ -‬وهو الحيوان ‪ -‬يطلب الذبح لينتفع الناس به‪،‬‬
‫وكأنه يحس بالخسارة إن ضاع لحمه بل فائدة‪ ،‬وهذا دليل على أنه مذلل‪ ،‬أما الحيوان غير المحلل‬
‫فمن العجيب أنه لو حدث معه ذلك لما مد رقبته‪.‬‬
‫والنعام هي المذكورة في قوله الحق‪َ {:‬ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ }[النعام‪:‬‬
‫‪]143‬‬
‫ن الِ ْبلِ اثْنَيْنِ َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ }[النعام‪]144 :‬‬
‫وكذلك قول الرحمن‪َ {:‬ومِ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنها ثمانية أزواج؛ ثم ألحق رسول ال صلى ال عليه وسلم الظباء وحمر الوحش‪ ،‬ولم يحرم إل‬
‫كل ذي ذنب كالسباع وكل ذي مخلب من الطير‪ ،‬ولو لم يقيد ال هذا التحليل لنصرف بدون قيد‪،‬‬
‫ولسأنا إلى أنفسنا بأكل الميتة والموقوذة والمتردية‪ ،‬ولكن الحق أنقذنا من ذلك وحرم علينا تلك‬
‫الشياء الضارة‪.‬‬
‫} يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َأ ْوفُواْ بِا ْل ُعقُودِ { إذن فمن حق ال عليكم أيها المؤمنون أن توفوا بالعقود؛ لنه‬
‫قدم لكم الكون بكل أجناسه وكل عناصره لخدمتكم‪ .‬وأحلّ أقرب الجناس إلى النسان لما فيه من‬
‫ح ُكمُ مَا يُرِيدُ { ولو لم يضع‬
‫حياة وحس وحركة‪ ،‬فيقول‪ } :‬غَيْرَ مُحِلّي الصّيْ ِد وَأَنْ ُتمْ حُ ُرمٌ إِنّ اللّهَ يَ ْ‬
‫الحق ذلك التشريع لكَل النسان ‪ -‬وهو مُحْ ِرمٌ ‪ -‬بهيمة النعام‪ ،‬وقد حرم سبحانه الصيد في اثناء‬
‫الحرام‪ ،‬وكذلك في حمى الحرم‪ .‬والحَرَم ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬مركزه الكعبة‪ ،‬وحول الكعبة المسجد‪.‬‬
‫وتختلف مناطق الحرام وتسمى الميقات المكاني‪ ،‬فالميقات المكاني للحج والعمرة لمن كان خارج‬
‫الحرم (ذو الحليفة) وذلك للمتوجه من المدينة وهي (آبار علي)‪ ،‬والجحفة وهي الن (رابغ)‬
‫للمتوجه من مصر والشام المغرب‪ ،‬و(يََلمْلَم)للمتوجه من تهامة‪ ،‬و(قَرْن المنازل) للمتوجه من نجد‬
‫اليمن ونجد الحجاز‪ ،‬و(ذات عرق) للمتوجه من المشرق والعراق وغيره‪.‬‬

‫أما الميقات المكاني للحج لمن بمكة فهو مكة نفسها‪ ،‬أما ميقات العمرة المكاني لمن بالحرم فهو‬
‫الخروج لدنى الحل وهي الجعرانة ثم التنعيم (مسجد عائشة) ثم الحديبية‪.‬‬
‫والميقات الزماني للحج شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة‪ ،‬أما ميقات العمرة الزماني‬
‫فهو جميع السنة إلّ إذا كان محرما بحج أو بعمرة أخرى أو كان ذلك قبل النفر لنشغاله بالرمي‬
‫والمبيت فيمتنع الحرام بها‪ .‬والتنعيم والجعرانة والحديبية‪ ،‬تلك هي حدود الحرم‪ .‬والصيد في‬
‫حدود الحرم حرم‪ ،‬وفي كل زمان وعلى كل إنسان‪ ،‬أما في غير الحرم‪ ،‬فالصيد حرام لمن كان‬
‫محرما فقط‪ ،‬وغير المحرم من حقه الصيد‪.‬‬
‫وبذلك يؤدب الحق سبحانه وتعالى خلقه ويجعلهم على ذكر دائم للمنهج فيأتي لهم في مكان ويقول‬
‫لهم‪ :‬الصيد محرم في هذا المكان‪ ،‬والطعام والشراب محرم في هذا الزمان؛ كصوم رمضان‪.‬‬
‫وعدة الشهور عندنا كمسلمين اثنا عشر شهرا‪ .‬أربعة منها حُرُم‪ .‬ذو القعدة وذو الحجة والمحرم‬
‫ورجب‪.‬‬
‫وفي الميقات يحرم الصيد على الحاج فقط‪ ،‬وهذا انضباط إيماني‪ .‬وعندما يأتي النسان إلى‬
‫الميقات فهو يحرم‪ ،‬أي يغير وضعه ويلبس لباسا خاصا بالحج‪ ،‬يلبسه كل الناس ليكون الكل‬
‫سواسية؛ لن الناس إنما يميزون بهندامهم وهيئاتهم‪ ،‬فيأمر سبحانه أن يطرح النسان هذا التمايز‬
‫من فور الحرام‪ .‬وما كان من الحلل أن يفعله المسلم قبل الميقات وقد منعه السلم منه ل يجرؤ‬
‫على أن يفعله بعد الميقات والحرام‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويستطيع المسلم قبل الميقات أن يحلق ويتطيب ويصطاد ويقطع من النبات؛ لكنه ما إن يبدأ‬
‫الحرام يمتنع عن ذلك حتى يستعد لما يشحن أعماقه بالوجود مع المنعم ل مع النعمة‪ ،‬هذا هو‬
‫التهيؤ للدخول إلى بيت المنعم‪ ،‬ولذلك يضع المسلم النعمة على جانب ليبقى مع المنعم‪ .‬ويمنع‬
‫النسان أن يصيد في الحرم محرما كان أو غير محرم ليشعر الكل أن الحرم ل فقط‪ .‬وتستعد كل‬
‫النفوس للقاء المهابة‪ .‬ويمتنع النسان من أول الميقات عن أشياء كثيرة بداية من الصيد‬
‫والستمتاع بالحقوق الزوجية؛ ثم يدخل منطقة يحرم فيها الصيد على كل الناس كرمز للمهابة‪.‬‬
‫ويحج المسلم في حياته مرة واحدة كأداء الفريضة؛ وفي كل مرة تحج وتقصد بيت ربّك يوضح‬
‫ال لك فيها‪ :‬ل تنشغل بالنعم لنك ذاهب إلى المنعم‪ ،‬ويمحو سبحانه بالحج كل الذنوب‪ } .‬غَيْرَ‬
‫مُحِلّي الصّيْ ِد وَأَنْ ُتمْ حُ ُرمٌ { فإن أردناها محرمين فهي صحيحة‪ ،‬وإن أردناها للحرم فهي صحيحة؛‬
‫لن الصيد محرم في منطقة الحرم للحاج أو لغيره‪.‬‬
‫حكُمُ مَا يُرِيدُ { وسبحانه بدأ الية بقوله‪ } :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ { هكذا‬
‫ويذيل الحق الية‪ } :‬إِنّ اللّهَ يَ ْ‬
‫نرى أن التذييل منطقي يتفق فيه آخر الية مع صدرها؛ لن ال حين يخاطب المؤمنين الذين‬
‫آمنوا به‪ ،‬فمن لوازم اليمان أن ينفذوا حكم ال الذي آمنوا به ومادام المؤمن قد آمن بال إلها‬
‫فليتجه إلى ما يريده ال من أحكام ليفعلها لكن عمومية الية قد تجعل واحدا يعزل الية عن‬
‫صدرها‪ ،‬رغبة في التشكيك في السلم‪ ،‬فيقول‪ :‬إن ال يقول إنه يحكم ما يريد‪ ،‬وقد أراد من‬
‫ح ُكمُ مَا يُرِيدُ { ‪ ،‬بينما ل يؤمن الكل؟‪.‬‬
‫الناس من يؤمن ومن ل يؤمن‪ ،‬فكيف يقول‪ } :‬يَ ْ‬

‫ونقول‪ :‬ل تعزل الية عن صدرها؛ لن ال إنما يخاطب في هذه الية من آمن به ربا‪ ،‬ومن آمن‬
‫بالله يعمد ويقصد ويتجه إلى ما يريده ال من حكم ليطبقه‪ .‬ول يعتقدَنّ أحد أنّ الكافرين خارجون‬
‫حكُمُ مَا يُرِيدُ { فالذي تمرد على حكم ال يقتضيه المنطق‬
‫عن إرادته سبحانه في قوله‪ } :‬إِنّ اللّهَ يَ ْ‬
‫أن يظل متمردا على حكم الله‪.‬‬
‫لكن المتمرد على حكم ال التكليفي الشرعي ل يجرؤ ول يملك أن يكون منطقيا مع نفسه‪ ،‬فإن‬
‫حكم ال عليه بالضعف‪ .‬فليقل للضعف‪ :‬ل‪ ،‬أنا لن أضعف وأنا قوي‪ .‬ل أحد يملك من مثل هذا‬
‫المر شيئا‪ .‬المتمرد يأخذه ملك الموت وهو غير مريض‪ ،‬فماذا إذن يصنع تمرد المتمرد إزاء‬
‫الموت؟‬
‫إذن هناك أمور يخضع فيها النسان ‪ -‬كل إنسان ‪ -‬لحكم ال‪ .‬وخضوع النسان لحكم ال في‬
‫بعض المور أقوى من خضوع المؤمن لها؛ لن المؤمن حين آمن بال يستقبل الموت ‪ -‬على‬
‫سبيل المثال ‪ -‬كحكم من ال‪ ،‬أما المتمرد الذي ل يصلي ول يؤدي أي أمر تكليفي‪ ،‬ويتعرض‬
‫للغيار بما فيها الموت‪ ،‬فهو يعاني من كل ذلك مشقّة وَحِدّة تفوق حدة استقبال المؤمن للغيار أو‬
‫الموت‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ح ُكمُ مَا يُرِيدُ { هو قضية عامة؛ لن الذي تمرد على حكمه سبحانه‬
‫إذن فقوله الحق‪ } :‬إِنّ اللّهَ يَ ْ‬
‫فيما له فيه اختيار‪ ،‬كان من الواجب أن يكون منطقيا مع نفسه‪ ،‬فيتمرد على حكم يجريه ال عليه‪،‬‬
‫وذلك بعكس كثير من الحكام الوضعية فإنها ل تقوى على هذا التمرد‪ ،‬ويكون هنا حكم ال أقوى؛‬
‫لن المتمرد لن يجرؤ على الرد على أمر ال‪ .‬فل يظنن ظان أن ال جعل للختيار في العبد‬
‫طلقة‪ ،‬لكنه جعل للختيار في العبد تقييدا‪ ،‬وللقدرة القادرة طلقة‪ ،‬فإن تمرد متمرد على اليمان؛‬
‫فلن يجرؤ على التمرد في أشياء أخرى‪ .‬إذن فال يحكم ما يريد‪.‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪ } :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)663 /‬‬

‫ي وَلَا ا ْلقَلَائِ َد وَلَا َآمّينَ الْبَ ْيتَ‬


‫شهْرَ ا ْلحَرَا َم وَلَا ا ْلهَ ْد َ‬
‫شعَائِرَ اللّ ِه وَلَا ال ّ‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا لَا ُتحِلّوا َ‬
‫ن صَدّوكُمْ‬
‫ضوَانًا وَِإذَا حَلَلْ ُتمْ فَاصْطَادُوا وَلَا َيجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآَنُ َقوْمٍ أَ ْ‬
‫الْحَرَامَ يَبْ َتغُونَ َفضْلًا مِنْ رَ ّبهِ ْم وَ ِر ْ‬
‫ن وَا ّتقُوا‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ أَنْ َتعْتَدُوا وَ َتعَاوَنُوا عَلَى الْبِ ّر وَال ّت ْقوَى وَلَا َتعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَا ِ‬
‫عَنِ ا ْلمَ ْ‬
‫اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ (‪)2‬‬

‫شعَآئِرَ اللّهِ } وهي تأتي بعد آية َاحَلّت أشياءَ‪،‬‬


‫بداية هذه الية تقول‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ ُتحِلّواْ َ‬
‫كأن الحق يقول للعبد‪ :‬مادمت قد أعطيت فأنا أمنع عنك؛ أعطيتك أشياء وأمنعك أشياء‪ .‬وسبحانه‬
‫حين يخطر على النسان شيئا ويمنعه منه؛ فهو يعطي هذا الشيء لخ مؤمن‪ ،‬ومادام المر كذلك‬
‫فل يستطيع ول يصح أن تنظر إلى الشيء المسلوب منك فقط بل انظر إلى المسلوب من غيرك‬
‫بالنسبة لك‪.‬‬
‫وعلى سبيل المثال حين يأمرك الحق‪ " :‬ل تسرق " ‪ ،‬فأنت شخص واحد‪ ،‬ويقيد سبحانه حريتك‬
‫بهذا المر‪ ،‬وقيد في الوقت نفسه حرية كل الناس بالنسبة إليك‪ .‬وعندما تقارن المر بالنسبة لنفسك‬
‫تجد أنك المستفيد أساسا؛ لن كل الناس ستطبق حكم ال بأل يسرقوا منك شيئا‪ ،‬وفي هذا خدمة‬
‫لكل عبد‪ .‬وهب أن واحدا سرق‪ ،‬إنه لن يستطيع أن يسرق من كل الناس‪ .‬ولو سرق ألف من‬
‫الناس شخصا واحدا فما الذي يبقى له؟!‬
‫وحين يأمر الحق العبد أل ينظر إلى محارم غيره‪ ،‬فظاهر المر أنّه تقييد لحركة العبد‪ ،‬لكن الواقع‬
‫أنه سبحانه قيد حركة الناس كلها من أجل هذا العبد‪ ،‬وأمرهم أل ينظروا إلى محارم غيرهم‪.‬‬
‫إذن ساعة ترى أيها المسلم نهيا أمر به ال‪ ،‬فل تصب النهي عليك‪ .‬ولكن صب النهي أيضا على‬
‫شعَآئِرَ اللّهِ } أي ل‬
‫كل الناس بالنسبة لك‪ .‬وساعة يقول الحق‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ ُتحِلّواْ َ‬
‫تجعلوا شعائر ال حللً‪ .‬والشعائر هي معالم الدين كلها‪ .‬ونقول " هذه الدولة شعارها النسر "‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫معنى ذلك أننا إذا رأينا الشعار نعرف البلد‪ .‬وكذلك أعلم الدول‪ ،‬فهذا علم لمصر‪ ،‬وذاك علم‬
‫لنجلترا‪ ،‬وثالث علم لفرنسا‪ ،‬وكل محافظة في مصر ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬تضع لنفسها شعارا‬
‫وعلما‪ ،‬إذن فالشعار هو ال َمعْلَم الذي يدل على الشيء‪ .‬وشعائر ال هي معالم دين ال المتركزة في‬
‫" افعل " و " ل تفعل " زمانا ومكانا‪ ،‬عقائد وأحكاما‪.‬‬
‫لكن الشعائر غلبت على ما نسميه مناسك الحج‪ ،‬وأول عملية في مناسك الحج هي الحرام‪ ،‬أي ل‬
‫نهمل الحرام‪ .‬ومن شعائر الحج الطواف‪ ،‬فل تحل شعائر ال‪ ،‬ووجب عليك أن تطوف حول‬
‫البيت‪ ،‬وكذلك السعي بين الصفا والمروة‪ ،‬والوقوف بعرفات‪ ،‬ورمي الجمار‪ ،‬كل هذه شعائر ال‬
‫التي أمر أل يحلها المؤمنون‪ ،‬أي أمر ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أل يتهاونوا فيها؛ لن هذه الشعائر هي‬
‫الضابط اليماني‪ .‬وأن ننظر إلى أن أمر ال لكل حاج أو معتمر بالحرام هو أمر بالعزلة لبعض‬
‫الوقت عن النعمة؛ لن النسان يذهب للحج في رحلة إلى المنعم‪ .‬وأن النسان يغير ملبسه‬
‫بملبس موحدة ول يتفاضل فيها أحد على أحد؛ لن الناس في الحياة اليومية تتفاضل بهندامهم‪،‬‬
‫وتدل الملبس على مواقعهم الجتماعية‪.‬‬

‫وعندما يخلعون جميعا ملبسهم ويرتدون لباسا جديدا موحدا‪ ،‬تكون السمة المميزة هي إعلن‬
‫الولء ل‪.‬‬
‫وكذلك عندما يأتي المر بأل يقص النسان شعرة منه سواء أكان عظيما في مجتمعه أم فقيرا‬
‫ويتراءى الناس جميعا وينظر بعضهم إلى بعض فيجدون أنهم على سواء على الرغم من اختلف‬
‫منازلهم وأقدارهم وتكون ذلة الكبير مساوية لذلة الصغير‪ .‬وذلك انضباط إيماني ل بين النسان‬
‫والمساوي له‪ ،‬ولكنه النضباط مع الكون كله‪ ،‬بكل أجناسه‪ .‬فالشجرة بجانب الحرم محرم على كل‬
‫إنسان أن يقطعها أو يقطع جزءا منها‪ .‬وبذلك يأمن النبات في الحرم‪ ،‬وكذلك الحمام والحيوانات‬
‫وأيضا يأمن لنسان؛ لن الجميع في حَرمِ رب الجميع‪ ،‬وتلك مسألة تصنع رعشة ورهبة إيمانية‬
‫في النفس البشرية‪ .‬وتكون فترة الحج هي فترة النضباط اليماني‪ .‬وتتوافق فيها كل أجناس‬
‫الوجود‪ .‬فالنسان يتساوى مع النسان ول يلمس الحيوانَ كذلك النباتَ‪ ،‬ويبقى الجماد وهو خادم‬
‫الجميع من أجناس الكون؛ لن الحيوان يخدم النسان‪ ،‬والنبات يخدم الحيوان‪ ،‬والجماد يخدم الكل‪،‬‬
‫وهو خادم غير مخدوم‪ .‬ويصنع الحق حماية للجماد في الكعبة نفسها‪ ،‬فيأمر الناس باستلم الحجر‬
‫السود أو بتقبيله إذا تيسر ذلك أو بالشارة إليه‪.‬‬
‫فهذا السيد العالي ‪ -‬النسان ‪ -‬على النبات والحيوان يأتي إلى جماد فيعظمه ويوقره‪ ،‬فالذي ل‬
‫يستطيع تقبيل الحجر السود عليه تحيته بأن يشير إليه بيده‪ ،‬حتى يكون الحج مقبولً منه؛ لذلك‬
‫يتزاحم الناس للذهاب إلى الحجر السود‪ ،‬وهكذا يكون الجماد مصونا في بيت ال الحرام‪.‬‬
‫ويعوضه ال بأن جعله منسكا‪ ،‬وجعله شعيرة وجعل الناس تزدحم عليه وتقبله بينما ل يقبل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النسان الحيوان أو النبات‪ ،‬لكنه يقبّل الجماد أدنى الجناس‪ .‬وهذه قمة التوازن الوجودي‪ .‬فالنسان‬
‫المختار المتعالي على الجناس يذهب صاغرا لتقبيل أو استلم الحجر السود بأمر ال‪.‬‬
‫ويرجم النسان حجرا آخر هو رمز إبليس‪ ،‬وذلك حتى يعرف النسان أن الحجرية ليست قيمة في‬
‫حد ذاتها‪ ،‬ولكنها أوامر المر العلى‪ ،‬حتى ل يستقر في ذهن النسان تعظيم الحجر‪ ،‬فالحاج يقبل‬
‫حجرا ويرجم ويرمي حجرا آخر‪.‬‬
‫شعَآئِرَ اللّهِ {؛ لن ال جعل الشعائر لتحقق النضباط اليماني‪ ،‬وبقاء‬
‫} يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَ ُتحِلّواْ َ‬
‫ذكر الستخلف ل فل يدعي أحد أنه أصيل في الكون‪ ،‬بل الكل عبيد ل‪ .‬والوجود كله هو سلسلة‬
‫من الخدمة؛ فالنسان يخدم النسان‪ ،‬والحيوان يخدم النسان‪ ،‬والنبات يخدم النسان والحيوان‪،‬‬
‫والجماد يخدم الكل؛ لكن ل أحد أفضل من أحد‪ ،‬بل الجماد نفسه مسبح بحمد ال‪ ،‬وقد ل يسبح‬
‫ش َفقْنَ مِ ْنهَا‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫ت وَالَ ْرضِ وَا ْلجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لمَانَةَ عَلَى ال ّ‬
‫النسان‪ {.‬إِنّا عَ َرضْنَا ا َ‬
‫جهُولً }[الحزاب‪]72 :‬‬
‫حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ‬
‫وَ َ‬
‫وهذا المر بعدم الحل لشعائر ال جعل كل عشيرة تأخذ حقا من التقدير والحترام‪ ،‬ول يظنن ظان‬
‫أن شعيرة من الشعائر ستأخذ لذاتها تقديسا ذاتيا‪ ،‬بل كله تقديس موهوب من ال ويسلبه ال‪.‬‬

‫شهْرَ الْحَرَامَ { أي ل تحلوا الشهر الحرام‪ ،‬أي عليكم أن تحرموا هذا‬


‫شعَآئِرَ اللّهِ وَلَ ال ّ‬
‫} لَ ُتحِلّواْ َ‬
‫الشهر الحرام‪ ،‬فقد جعله ال شهرا حراما لمصلحة النسان‪ ،‬ويحمي به سبحانه عزة وذلة النسان‬
‫أمام عدوه‪ ،‬يحمي انكسار نفس الضعيف أمام القوي‪ .‬فالقويّ القادر على القتال قد تهفو نفسه إلى‬
‫أن يتوقف عن الحرب فترة يلتقط فيها النفاس‪ ،‬ولو فعل ذلك لكان إعلنا للتخاذل أمام الخصم‪،‬‬
‫ولذلك يأتي الحق بزمان يقول فيه‪ :‬أنا حرمت الحرب في الشهر الحرم‪ .‬هنا يقول المقاتل‪ :‬لقد‬
‫حرم ال القتال في الشهر الحرم‪ ،‬وتلك حماية للنسان‪ ،‬وليذوق لذة المن والسلم والطمأنينة؛ فقد‬
‫يعشق النسان القوي السلمَ من بعد ذلك‪.‬‬
‫لماذا إذن جاء الحق هنا بالشهر الحرام بينما نحن نعرف أن الشهر الحرم أربعة؟ إن نظرنا إلى‬
‫الشهر الحرم كجنس فهي تطلق على كل شهر من الشهور الربعة‪ ،‬وإذا اعتبرنا الشهر الحرام‬
‫أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة‪ ،‬فالمعنى صحيح ونعرف أن‬
‫الشهر الحرم أربعة‪ ،‬ثلثة متصلة‪ ،‬وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد منفصل هو‬
‫رجب‪ ،‬وسبحانه وتعالى يعلم أن كل فعل من الفعال لبد له من زمان ولبد له من مكان‪ .‬فحبن‬
‫ل يوجد حدث‪ ،‬ل يوجد زمان ولمكان‪ ،‬ولم يأت الزمان والمكان إل بعد أن أحدث ال في كونه‬
‫شيئا‪ .‬ول يقولن واحد‪ :‬متى كان ال ول أين كان ال؛ لن " متى " و " أين " من مخلوقات ال‪.‬‬
‫وجعل سبحانه لكل حدث زمانا ومكانا‪ .‬ولذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليحمي عزة الناس‬
‫وليجعل لهم من تشريعه الرحيم ستارا يستتر فيه ضعيفهم‪ ،‬ويراجع فيه قويّهم لعله يرعوي ويرجع‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عن غيّه وظلمه فأوجد أماكن محرمة‪ ،‬وأزمنة محرمة‪ ،‬والماكن المحرمة هي التي عند الحرم‪{:‬‬
‫َومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا }[آل عمران‪]97 :‬‬
‫حيث ُي َؤمّن النسان أخاه النسان إذا ما دخل الحرم‪ .‬وكذلك في الزمان جعل سبحانه الشهر‬
‫الحرم‪.‬‬
‫لقد أخذ الحق الحدث للزمان والمكان‪ .‬وكان القوي قديما يحارب ويقترب من النصر‪ .‬وعندما يهل‬
‫الشهر الحرام يستمر في الحرب‪ ،‬ثم يعلن أن الشهر الحرام هو الذي سيأتي بعد الحرب‪ ،‬ولذلك‬
‫يأمر سبحانه بعدم تغيير زمان الشهر الحرام؛ لن ال يريد بالشهر الحرام أن ينهي سعار الحرب‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول الحق‪َ } :‬ولَ ا ْلهَ ْديَ { والهدي هو ما يهدي إلى الحرم؛ وهو جمع هدية‪ ،‬وهناك من‬
‫يقدم للكعبة هدية‪ ،‬ومجموع الهدايا تسمى هديا‪ .‬وهدي الحرم إنما جعله ال للحرم؛ فالحرم قديما‬
‫كان بوادٍ غير ذي زرع‪ ،‬ولم تكن به حيوانات كثيرة‪.‬‬

‫وكانوا يأتون بالهدي معهم عندما يحجون‪ ،‬لذلك حرم ال القتراب من الهدي لنها هدايا إلى‬
‫الحرم‪ .‬والحجيج أفواج كثيرة‪ ،‬وعندما يأتي أناس كثيرون في واد غير ذي زرع يحتاجون إلى‬
‫الطعام‪ ،‬ول يصح أن يجعل المؤمن الهدي لغير ما أهدي إليه‪ ،‬فقد يشتاق إنسان صحب معه الهدي‬
‫إلى أكل اللحم وهو في الطريق إلى الكعبة فيذبحه ليأكل منه؛ وهذا الفعل حرام؛ لن الهدي إنما‬
‫جاء إلى الحرم ويجب أن يُهدى ويقدم إلى الحرم‪ .‬وعلى النسان أن يصون هدي غيره أيضا‪.‬‬
‫} َولَ ا ْلقَلئِدَ { وهي جمع " قلدة " والقلدة هي ما تعلق بالرقبة‪ .‬وقديما كان الذاهب إلى الحج‬
‫يخاف على الهدي أن يشرد منه؛ لذلك كانوا يضعون حول عنق الهدي قلدة حتى يعرف من يراه‬
‫أنه " هدي " ذاهب إلى الحرم‪ .‬والهدي الول هو الهدي العام الذي ل قلئد حول عنقه‪ ،‬والقلئد‬
‫تعبر عن الهدي الذي توجد حول رقابه قلئد وتدل عليه وتكون علمة على أنه مهدي إلى الحرم‪،‬‬
‫وقد يكون النهي هنا حتى عن استحلل القلدة التي حول رقبة الهدي حتى ل تضيع الحكمة‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى حين يعبر بعبارة ما فهو يعبر بعبارة تؤدي المعنى ببلغة‪.‬‬
‫وكانوا قديما عندما ل يجدون قلدة يأخذون لحاء الشجر وقشره ويقطعون منه قطعة ويربطونها‬
‫حول رقبة الهدي‪ ،‬وذلك حتى يعرف الناس أن هذا هدي ذاهب إلى الحرم‪ .‬ويضمن سبحانه اقتيات‬
‫الوافد إليه‪ .‬ل من القوت العادي ولكن يطعمه من اللحم أيضا‪ ،‬ويجعل ذلك من ضمن المناسك‪.‬‬
‫أليس هو من دعا هؤلء الناس إلى الحج؟ أليس هؤلء هم ضيوف الرحمن؟!‬
‫إن النسان منا يقوم بذبح الذبائح لضيوفه‪ ،‬فما بالنا بالحق العلى سبحانه وتعالى؟ لذلك جعل‬
‫الهدي طعاما لضيوفه‪ .‬وتزدحم الناس في منى وعرفات بكثرة ل حدود لها‪ ،‬ولبد أن يكرمهم ال‬
‫بألذ وأطيب الطعام‪ ،‬والفقير يذهب إلى المذبح ويأخذ من اللحم أطيبه ويقوم بتجفيفه في الهواء‬
‫والشمس ويخزنه ليطعم منه طويل وهو ما يعرف ويسمى بالقديد‪ .‬والحق سبحانه وتعالى يأتي‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالحكم بطريقة لها منتهى البلغة‪ ،‬فهو يحرم حتى قلدة الهدي أن يلمسها أحد‪.‬‬
‫ي َولَ ا ْلقَلئِ َد وَل آمّينَ الْبَ ْيتَ الْحَرَامَ يَبْ َتغُونَ َفضْلً‬
‫شهْرَ ا ْلحَرَا َم َولَ ا ْلهَ ْد َ‬
‫ويقول سبحانه‪َ } :‬ولَ ال ّ‬
‫ضوَانا { أي ل تمنعوا أناسا ذاهبين إلى بيت ال الحرام ول تصدوهم عن السبيل‪ ،‬فهم‬
‫مّن رّ ّبهِ ْم وَ ِر ْ‬
‫جسٌ }[التوبة‪]28 :‬‬
‫وفد ال‪ .‬وقد جاء هذا القول قبل أن يُنَزّل الحق قوله‪ {:‬إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ نَ َ‬
‫وكان غير المسلمين يحجون بيت ال الحرام من قبل نزول هذه الية‪ ،‬فلم يكن الحكم قد صدر‪.‬‬
‫ونتساءل‪ :‬هل الكافرون بال يبتغون فضلً من ال؟‪ .‬نعم ففضل ال يغمر الجميع حتى الكافر‪ ،‬لكن‬
‫رضوان ال ل يكون على الكافر‪.‬‬

‫والفضل من التجارة التي كانوا يتاجرون بها‪ ،‬وفضل ال موجود حتى في أيامنا هذه على الكفار‬
‫أيضا‪.‬‬
‫لكن كيف يتأتى رضوان ال على الكافر؟‪ .‬إنه رضوان ال المتوهم في معتقدهم‪ .‬فهم يعتقدون أنهم‬
‫ضوَانا { ‪ ،‬فلم يقل‪:‬‬
‫يفعلون ذلك إرضاءً ل‪ .‬وتتجلى دقة القرآن حين يقول‪َ } :‬فضْلً مّن رّ ّبهِ ْم وَ ِر ْ‬
‫فضلً من ال ورضوانا؛ لن العبد المؤمن هو من يختص بتنفيذ التكاليف اليمانية‪.‬‬
‫ول عطاءان‪ :‬عطاء الربوبية‪ ،‬فهو المربي الذي استدعى إلى الكون المؤمن والكافر ‪ -‬وسبحانه ‪-‬‬
‫سخر السباب للكل؛ هذا هو عطاء الربوبية‪ ،‬فالشمس تشرق على المؤمن والكافر‪ ،‬والسباب قد‬
‫تعطي المؤمن والكافر‪ ،‬أما عطاء اللوهية فيتمثل في " افعل " و " ل تفعل "‪ .‬ويقول الحق هنا‪} :‬‬
‫يَبْ َتغُونَ َفضْلً مّن رّ ّبهِمْ {‪ .‬إذن فجناحا المنهج اليماني ‪ -‬افعل ول تفعل ‪ -‬ليست في بالهم‪ .‬ومن‬
‫بعد ذلك يقول الحق‪ } :‬وَِإذَا حََللْتُمْ فَاصْطَادُواْ { أي إذا انتهى الحرام‪ ،‬وبعد أن يخرج الحاج من‬
‫الحرم ويتحلل من إحرامه فمن حقه أن يصطاد‪.‬‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ { وقبل أن ينزل تحريم زيارة المشركين‬
‫صدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ‬
‫} َولَ يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ أَن َ‬
‫للبيت الحرام كان من حسن المعاملة أل يأخذ المؤمنون الكفار الذين يزورون البيت الحرام فيعتدوا‬
‫عليهم انتقاما لما فعله الكفار من قبل؛ لذلك أمر الحق المؤمنين أل يقولوا‪ :‬ها هم أولء قد جاءوا‬
‫لنا فلنرد لهم الصاع صاعين مثلما فعلوا معنا في صلح الحديبية عندما منعونا من البيت الحرام‪.‬‬
‫لنكم أيها المؤمنون قد أخذتم من ال القوامة على منهجه في الرض‪ ،‬والقائم على منهج ال في‬
‫الرض يجب أل تكون له ذاتية ول عصبية أسرية‪ ،‬ول عصبية قبلية؛ لنه جاء ليهيمن على الدنيا‬
‫كلها‪ ،‬ومن الصّغار أن ينتقم المؤمن من الكافر عندما يأتي إلى بيت ال‪ .‬ول يليق ذلك بمهمة‬
‫القوامة على منهج ال‪.‬‬
‫ح ُكمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّ ُه َولَ َتكُنْ‬
‫حقّ لِتَ ْ‬
‫ولذلك قال الحق لرسوله‪ {:‬إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫خصِيما }[النساء‪]105 :‬‬
‫لّلْخَآئِنِينَ َ‬
‫وحينما أمر الحق رسوله أن يحكم بين الناس فذلك الحكم يقتضي عدم تمييز المؤمن على الكافر؛‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لن المسلمين هم ال ُقوّام‪ ،‬وهم خير أمة أخرجها ال للناس كافة‪ .‬ولو فهم الناس أن خير المة‬
‫السلمية عائد عليهم لما حاربوها‪.‬‬
‫فنحن ‪ -‬المسلمين ‪ -‬لسنا خيرا لنفسنا فقط‪ ،‬ولكننا أمة لخير الناس جميعا‪ .‬ولذلك قال الحق‪ } :‬لَ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ أَن َتعْتَدُواْ { أي ل يصح أن يحملكم الغضب‬
‫صدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ‬
‫يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ أَن َ‬
‫على قوم أن تعتدوا عليهم لنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية‪ .‬وعندما يسمع الكافر أن‬
‫ال سبحانه وتعالى يوصي من آمن به على من كفر به ماذا يكون موقفه؟ إنّه يلمس رحمة الرب‪.‬‬
‫وفي ذلك لذع للكافر لنه لم يؤمن‪ ،‬لكن لو اعتدى المؤمن على الكافر ردا على العدوان السابق‪،‬‬
‫لقال الكافر لنفسه‪ :‬لقد رد العدوان‪.‬‬

‫أما حين يرى الكافر أن المؤمن لم يعتد امتثالً لمر ال بذلك‪ ،‬عندئذ يرى أن السلم أعاد صياغة‬
‫أهله بما يحقق لهم السمو النفسي الذي يتعالى عن الضغن والحقد والعصبية‪ ،‬ويعبر الداء القرآني‬
‫عن ذلك بدقة‪ ،‬فلم يأت الدين ليكبت عواطف أو غرائز ول يجعل النسان أفلطونيا كما يدعون‪.‬‬
‫ولم يقل‪ :‬اكتموا بغضكم‪ ،‬ولكنه أوضح لنا أي‪ :‬ل يحملكم كرههم وبغضهم على أن تعتدوا عليهم‪.‬‬
‫فسبحانه ل يمنع الشنآن‪ ،‬وهو البغض‪ ،‬لنه مسألة عاطفية‪.‬‬
‫فسبحانه يعلم أن منع ذلك إنما يكبت المؤمنين وكأنه يطلب منهم المر المحال‪ .‬لذلك فالبغض من‬
‫حرية النسان‪ .‬ولكن إياك أن يحملك البغض أو الكره على أن تعتدي عليهم‪.‬‬
‫ونرى سيدنا عمر يمر عليه قاتل أخيه زيد بن الخطاب‪ ،‬يقول له أحدهم‪ :‬هذا قاتل زيد‪ ،‬فيقول‬
‫عمر‪ :‬وماذا أصنع به وقد هداه ال إلى السلم‪ ،‬فإذا كان السلم جبّ الكفر أل يجب دم أخٍ‬
‫لعمر؟ ولكن عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬يقول لقاتل أخيه‪:‬‬
‫عندما تراني نحّ وجهك عني‪ .‬قال ذلك لنه يعرف دور العاطفة ويعرف أنه ل يحب قاتل أخيه‪،‬‬
‫فقال قاتل أخي عمر‪ :‬وهل عدم حبك لي يمنعني حقا من حقوقي؟ فقال غمر‪ :‬ل‪ .‬بل تأخذ حقوقك‬
‫كلها‪ .‬فقال قاتل أخي عمر‪ :‬ل ضير؛ إنما يبكي على الحب النساء‪ .‬فاليمان هو الذي منع عمر من‬
‫أن ينتقم من قاتل أخيه‪.‬‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ أَن َتعْتَدُواْ { اي أنه سبحانه ل يمنع‬
‫صدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ‬
‫} َولَ يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ أَن َ‬
‫مواجيد المؤمنين ووجدانهم وضمائرهم وقلوبهم التي تنفعل بالبغض والكره؛ لنه يعلم أن ذلك ل‬
‫يطيقه النسان؛ لنها أمور عاطفية‪ .‬والعواطف ل يقنن لها بتشريع‪ .‬ولكن اعلموا أن هذه‬
‫العواطف ل تبيح لكم العتداء‪.‬‬
‫وهكذا يتدخل السلم في الحركة النسانية ليفعل النسان أمرا أو يتجنب فعل أمر ما؛ فالسلم ل‬
‫يتدخل إل في النزوع وهي تعبير عن مرحلة لحقة للدراك الذي يسبب للنسان العاطفة محبة أو‬
‫كراهية‪ ،‬ثم يعبر النسان عن هذه العاطفة بالنزوع؛ لن مظاهر الشعور ثلثة‪ :‬إدراك‪ ،‬ووجدان‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونزوع‪ ،‬فحين يمشي إنسان في بستان فيه أزهار ويرى الوردة فهذا إدراك‪ ،‬ول يمنع السلم هذا‬
‫الدراك‪ .‬وعندما يعجب النسان بالوردة ويحبها فهذه حرية‪ ،‬لكن أن تمتد اليد لتقطف الوردة فهذا‬
‫ممنوع‪.‬‬
‫إن التشريع ل يتدخل في العملية النزوعية فقط إل في مجال واحد وهو ما يتعلق بالمرأة‪ .‬إن‬
‫السلم يتدخل من أولى المراحل من مرحلة الدراك‪ .‬فالرجل حين يرى امرأة جميلة فهذا إدراك‪،‬‬
‫وعندما ينشغل قلبه بحبها فهذا وجدان‪ ،‬لكن أن يقترب منها النسان فهذا نزوع‪.‬‬
‫لقد رأف الحق بالرجل ان أمره أن يغض البصر من البداية؛ لن النسان لن يستطيع مطلقا أن‬
‫يفصل بين الدراك والوجدان والنزوع‪.‬‬

‫فكل من الدراك والوجدان يصنعان تفاعلً في التركيب الكيماوي للرجل‪ .‬فإما أن يعف النسان‬
‫نفسه ويكبت أحاسيسه‪ ،‬وإما أل يعف فيلغ في أعراض الناس؛ لذلك يخدم الشرع النسان من أول‬
‫جهُمْ ذاِلكَ‬
‫حفَظُواْ فُرُو َ‬
‫المر حين يأمره بغض البصر‪ُ {:‬قلْ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ َي ُغضّواْ مِنْ أَ ْبصَارِ ِه ْم وَيَ ْ‬
‫جهُنّ‬
‫حفَظْنَ فُرُو َ‬
‫ن وَيَ ْ‬
‫ضضْنَ مِنْ أَ ْبصَارِهِ ّ‬
‫أَ ْزكَىا َلهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َيصْ َنعُونَ * َوقُل لّ ْل ُم ْؤمِنَاتِ َي ْغ ُ‬
‫}[النور‪]31-30 :‬‬
‫هنا يتدخل الشرع من أول مرحلة الدراك‪ ،‬فبعدها ل يمكن فصل النزوع عن المواجيد؛ لن رؤية‬
‫المرأة تحدث تفاعلً كيماويا في نفس الرجل‪ ،‬وكذلك الرجل يحدث تفاعلً كيماويا في نفس المرأة‪.‬‬
‫أما الوردة فل تحدث مثل هذا التفاعل‪ .‬ويستطيع النسان اقتناء زهرية للورود‪.‬‬
‫إذن فالمراد أن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع المؤمن أن تجيش عواطفه البشرية بالبغض وبالكره؛‬
‫لن ذلك انفعال مطلوب لليمان‪ .‬وبعض من أعداء السلم يقول‪ :‬آيات القرآن تتعارض؛ لنه‬
‫جدُ َقوْما ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ ُيوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وََلوْ كَانُواْ آبَآ َءهُمْ َأوْ‬
‫يقول‪ {:‬لّ تَ ِ‬
‫أَبْنَآءَ ُهمْ }[المجادلة‪]22 :‬‬
‫والنسب اليماني يمنع ذلك‪.‬‬
‫ط ْع ُهمَا‬
‫ويقول القرآن في موضع آخر{ وَإِن جَا َهدَاكَ عَلَىا أَن تُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ فَلَ تُ ِ‬
‫َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا }[لقمان‪]15 :‬‬
‫والذي يتعمق جيدا يعرف أن المعروف يصنعه النسان مع من يحب ومن ل يحب‪ .‬أما الودّ فهو‬
‫عمل القلب‪ ،‬وهذا ما نهى عنه ال بالنسبة للمشركين به‪ ،‬أما المعروف فالمسلم مطالب أن يفعله‬
‫حتى بالنسبة لمن يكرهه‪.‬‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ { إذن فالحق لم يمنع البغض‪ .‬ولكنه منع‬
‫صدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ‬
‫} َولَ يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ أَن َ‬
‫النزوع المترتب على الشنآن ولو وُجد سبب من السباب كما حدث في صلح الحديبية‪ .‬وبعد ذلك‬
‫يأمر‪ } :‬وَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الْب ّر وَال ّت ْقوَىا {‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذه الية هي التي تجعل مسألة اليمان قضية عالمية‪ ،‬وكلمة " تعاون " على وزن " تفاعل " ‪،‬‬
‫والتفاعل يأتي من اثنين؛ مثلما نقول " تشارك "؛ فهي تقتضي اثنين؛ كأن نقول‪ :‬تشارك زيد‬
‫وعمرو أو‪ :‬شارك زيد عمرا أو شارك عمرو زيدا‪ .‬وكلهما متساو‪ ..‬اللهم إل تغليب واحد بأن‬
‫يأتي فاعل مرة ومفعول مرة ثانية‪ ،‬والفاعل في هذه الحالة فاعل ومفعول في آن واحد‪ ،‬والمفعول‬
‫أيضا فاعل في الوقت نفسه‪.‬‬
‫ومثال ذلك قولنا " قاتل فلن فلنا " أي أن الثنين اشتبكا في قتال أي مفاعلة‪ .‬وساعة يأتي اثنان‬
‫في فعل واحد‪ ،‬فهناك فاعل ومفعول‪ .‬وهناك فرق بين أن تقول‪ :‬أعن فلنا‪ ،‬فالمطلوب هنا أمر‬
‫لواحد بالمعاونة لخر‪.‬‬
‫وهذا يختلف عن القول‪ :‬تعاون مع فلن‪ ،‬أي أن تتشاركا معا في المعاونة‪ .‬ومسائل الحياة أكثر‬
‫من أن تستوعبها موهبة واحدة‪ .‬فأنت حين تبني بيتا تحتاج إلى من يحفر الساس ويبني الجدران‪.‬‬

‫ومن يصنع الطوب ومن يصنع السمنت ومن يصنع الحديد‪ ،‬ول يستطيع إنسان واحد أن يتعلم كل‬
‫هذه الحرف ليبني بيتا‪ .‬لكن التعاون خصص لكل إنسان عمل يقوم به‪ ،‬فهناك متخصص في كل‬
‫جزئية يحتاج إليها النسان في حياكة الملبس‪ ،‬والطب‪ ،‬والصيدلة وغيرها من أوجه احتياجات‬
‫الحياة‪ ،‬والحق يأمر‪ " :‬وتعاونوا " ليسير دولب الحياة ويستفيد النسان من كل المواهب لقاء‬
‫إخلصه في أداء عمله‪ ،‬و " تعاونوا " هي أن تأتي بشيء فيه تفاعل ما‪ ،‬ومعنى الشيء الذي فيه‬
‫تفاعل أنه يوجد " مُعين " و " مُعان "‪.‬‬
‫ولكن المعين ل يظل دائما معينا‪ ،‬بل سينقلب في يوم ما إلى أن يكون مُعانا‪ ،‬والمعان ل يظل‬
‫مُعانا‪ ،‬بل سيأتي وقت يصير فيه مُعينا‪ ،‬وهذا هو التفاعل الذي تحتاج إليه أقضية الحياة التي‬
‫شاءها ال للنسان الخليفة في الرض والمطالب أن يعبد ال الذي ل شريك له‪ ،‬وأن يعمر هذه‬
‫الرض‪ .‬ول تتأتى عمارة الرض إل بالحركة فيها‪ ،‬والحركة في الرض أوسع من أن تتحملها‬
‫الطاقة النفسية لفرد واحد‪ ،‬بل ل بد أن تتكاتف الطاقات كلها لنشاء هذه العمارة‪.‬‬
‫إننا حين نبني عمارة واحدة نستخدم أجهزة كثيرة لطاقات كثيرة بداية من المهندس الذي يرفع‬
‫مساحة القطعة من الرض ويرسمها‪ ،‬وإن شاء الترقي في صنعته يصنع نموذجا مجسدا لما‬
‫يرغب في بنائه‪ ،‬وبعد ذلك يأتي الحافر ليحفر في الرض ثم من يضع الساس‪ ،‬ومن يضع‬
‫الحديد‪ .‬ومن يصنع " الخرسانة " المسلحة‪.‬‬
‫ثم يأتي من يرفع البناء‪ ،‬ومن يقوم بالعمال الصحية من توصيلت للمياه والمجاري‪ ،‬ثم يأتي من‬
‫يصمم التوصيلت الكهربائية‪ ،‬وهكذا تتعاون طاقات كثيرة لبناء واحد‪ ،‬ول تتحمله طاقة إنسان‬
‫واحد‪.‬‬
‫إذن فالتعاون أمر ضروري للستخلف في الحياة‪ .‬ومادام الستخلف في الحياة بقتضي من‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النسان عمارة هذه الحياة‪ ،‬وعمارة الحياة تقتضي أل نفسد الشيء الصالح بل نزيده صلحا‪،‬‬
‫وحين يقول الحق‪ } :‬وَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الْب ّر وَال ّت ْقوَىا َولَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَانِ { أي انه يريد‬
‫كونا عامرا ل كونا خربا‪ .‬والشيء الصالح في ذاته يبقيه على صلحه‪ .‬إذن فعمارة الحياة تتطلب‬
‫منا أن نتعاون على الخير ل على الثم‪.‬‬
‫والبر‪ ،‬ما هو؟ البر هو ما اطمأنت إليه نفسك؛ والثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه‬
‫أحد‪ ،‬فساعة يأتي إليك أمر تريد أن تفعله وتخاف أن يراك غيرك وأنت ترتكبه فهذا هو الثم؛ لنه‬
‫لو لم يكن إثما لحببت أن يراك الناس وأنت تفعل ذلك‪ .‬إذن قوله الحق‪ } :‬وَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ‬
‫وَال ّتقْوَىا وَلَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الِثْمِ وَا ْلعُ ْدوَانِ { هو أمر لكل جماعة أن تتعاون على الخير‪ ،‬وهذه‬
‫مناسبة لقول لكل جماعة‪:‬‬
‫تعاونوا معا بشرط أل تجعلوا لجمعياتكم نشاطا يُنسب إلى غير دينكم‪.‬‬

‫مثال ذلك الجمعيات المسماة بـ " الروتاري " أو " الماسونية " ويقال‪ :‬إن نشاطها خيري‪ .‬ونقول‪:‬‬
‫كل جمعية خيرية على العين والرأس ولكن لماذا تكونونها وأنتم تقلدون فيها الغرب؟ لماذا ل‬
‫تصنعون الخير باسم دينكم فيعرف العالم أن هذا خير قادم من بلد مسلمة‪ .‬والخير كل الخير أل‬
‫نأخذ هذه السماء الجنبية ونطلقها على جمعياتنا حتى ل يظنن ظان أن الخير يصنعه غيرنا‪ .‬وإن‬
‫كان للواحد منا طاقة على العمل الخيري؛ فليعمل من خلل الدين السلمي‪ .‬وليعلم كل إنسان أن‬
‫الدين طلب منا أن تكون كل حياتنا للخير‪ .‬وهذا ما يجب أن يستقر في الذهان حتى ل يأخذ الظن‬
‫الخاطئ كل من يصيبه خير من هذه الجمعيات بأن الخير قادم من غير دين السلم‪.‬‬
‫إننا مكلفون بنسبة الخير الذي يقوم به إلى ديننا؛ لن ديننا أمرنا به وحثنا عليه‪ ،‬وليعلم كل مسلم‬
‫أنه ليس فقيرا إلى القيم حتى يتسولها من الخارج‪ ،‬بل في دين السلم ما يغنينا جميعا عن كل‬
‫هؤلء‪ .‬وإذا كنا نفعل الخير ونقدم الخدمة الجتماعية للناس فلماذا نسميها هذا السم وننسبها إلى‬
‫عمِلَ‬
‫قوم آخرين‪ ،‬ولنقرأ جميعا قول الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬ومَنْ َأحْسَنُ َق ْولً ّممّن دَعَآ إِلَى اللّهِ وَ َ‬
‫صَالِحا َوقَالَ إِنّنِي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ }[فصلت‪]33 :‬‬
‫فعلى النسان منا أن يعمل الخير وهو يعلن أن السلم يأمره بذلك‪ ،‬ول ينسب عمل الخير إلى "‬
‫الروتاري " أو غير ذلك من الجمعيات‪ .‬فنسبة الخير من المسلم إلى جمعيات خارجة عن السلم‬
‫حرام على المسلم؛ لنه تعاون ليس ل‪ ،‬والحق يقول‪ } :‬وَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الْب ّر وَال ّت ْقوَىا َولَ َتعَاوَنُواْ‬
‫عَلَى الِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَانِ { هو يريد منا أن نبني الخير وأن نمنع الهدم‪ ،‬وعلى كل منا أن يعرف أنه ل‬
‫يستطيع وحده أن يقيم كل أبنية الخير‪.‬‬
‫وقد نسأل الفقير صاحب الثوب الواحد من أين أتى برغيف الخبز‪ ،‬فيشير إلى بقال أعطاه هذا‬
‫الرغيف‪ .‬ونلتفت إلى أن ال قد سخر هذا البقال أن يأتي بالخبز ليشتري منه كل الناس‪ ،‬ويتصدق‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ببعضه على الفقير‪ .‬وهذا تيسير أراده ال‪ .‬وعندما نذهب إلى المخبز‪ ،‬نجد أن الدقيق جاء إلى‬
‫المخبز من المطحن‪ ،‬وفي المطحن نجد عشرات العمال والمهندسين يعملون من أجل طحن الدقيق‬
‫الذاهب للمخبز ليعجنه واحد‪ ،‬ويخبزه آخر‪ ،‬ويبيعه ثالث‪.‬‬
‫ويجب أن نلتفت هنا إلى قدرة ال الذي سخر بعضا من الممولين الذين فكروا في خير أنفسهم‬
‫واشتروا هذه اللت الضخمة للطحين وإنضاج الخبز‪ ،‬وهي آلت ل يستطيع الفرد أن يشتريها‬
‫بمفرده‪ ،‬لرتفاع ثمنها وتأتي من الدول الجنبية‪ ،‬وتلك الدول فيها من المعامل والعلماء الذين‬
‫يدرسون الحركة والطاقة من أجل تصميم هذه الجهزة‪ ،‬ليأكل النسان رغيفا واحدا‪.‬‬

‫هذه هي مشيئة الحق من أجل أن تنتظم كل حركة الحياة؛ فالرغيف يعرضه البقال‪ ،‬وعمل فيه‬
‫الخباز ومن قبله الطحان‪ ،‬والعجان ومن استورد اللة؛ ومن صممها‪ ،‬وشاركت فيه المدرسة التي‬
‫علمت المهندس الذي صمم اللة؛ كل ذلك عمل فيه تعاون من أجل خدمة رغيف الخبز‪ ،‬على‬
‫الرغم من أن النسان منا ل يفكر في رغيف الخبز إل ساعة أن يجوع‪.‬‬
‫إذن فحركة الحياة كلها تم بناؤها على التعاون‪ .‬لكن ماذا إن تعاون الناس على الثم؟ إنهم إن فعلوا‬
‫ذلك يهدمون الخير؛ لن التعاون على الثم إنما يبدأ من كل من يعين على أمر يخالف أمر ال‪،‬‬
‫وأوامر ال تنحصر في " افعل " و " ل تفعل " ‪ ،‬ما ليس فيه " افعل " و " ل تفعل " فهو مباح‪ ،‬إن‬
‫شئت فعلته وإن شئت ل تفعله‪ .‬والذي يأمر بتطبيق " افعل " ويحزم المر مع " ل تفعل " وينهى‬
‫عنه ويجرّم من يفعله هو متعاون على البر والتقوى‪.‬‬
‫ومن يعمل ضد ذلك؛ يتعاون على الثم والعدوان؛ لنه ينقل الفعال من دائرة " افعل " إلى دائرة "‬
‫ل تفعل "‪ .‬وينقل النواهي من " ل تفعل " إلى دائرة " افعل "؛ هذا هو التعاون على الثم‪.‬‬
‫ضمِن عمارة الكون‬
‫علَى الِثْمِ وَا ْلعُ ْدوَانِ { َ‬
‫علَى الْبرّ وَالتّ ْقوَىا وَلَ َتعَاوَنُواْ َ‬
‫وقوله الحق‪ } :‬وَ َتعَاوَنُواْ َ‬
‫وضَمِن منع الفساد في الكون‪ .‬فالذي يرتشي والذي يسهل عملية الرشوة‪ ،‬وهو الوسيط والسفير‬
‫بين الراشي والمرتشي ويُسمّى الرائش والذي يحمل الخمر والذي يدلس‪ ،‬كل هؤلء متعاونون‬
‫على الثم والعدوان‪ ،‬حتى البواب الذي يجلس على باب عمارة ويعلم أن بها شقة تدار لعمال‬
‫مشبوهة ويأخذ ثمن ذلك هو متعاون على الثم‪.‬‬
‫نقول لكل هؤلء‪ :‬إياكم أن تفتنوا بما يدره عليكم فعل الثم؛ لكن لننظر مصير كل منكم فلن يترك‬
‫ال أمثالكم دون أن ينهي الواحد منكم حياته بمأساة‪ ،‬حتى المرأة التي استنزفت الناس بجمالها‪،‬‬
‫تنتهي حياتها بالضنك من العيش ثم ل تجد مأوى إل القلوب الرحيمة التي لم تفتتن بهذا الجمال‬
‫ولم تتمتع به في الحرام؛ لن الرجل إن نظر إلى امرأة أعانته على أفثم سيتذكر كل المصائب‬
‫التي جاءته منها فيكرهها‪.‬‬
‫لقد أراد الحق بهذا عدالة في الكون ليستقيم‪ ،‬وكل من يأخذ شيئا من إثم يكتوي بنار هذا الثم في‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحياة‪ ،‬وكل فرد فيكم مطالب بعمل حصر وإحصاء للمال الذي جاءه من عرقه وحلله ويكتبه‪،‬‬
‫والقرش الذي جاءه من حرام‪ .‬وبعد ذلك يقوم بعمل حصر وإحصاء للكوارث التي أصابته‪ .‬وكم‬
‫كلفته من مصاريف‪.‬‬
‫إنه لو فعل ذلك لوجد أن الكوارث تأخذ كل الحرام وتجوز على المال الذي كسبه من حلل‪ .‬ول‬
‫تختلف هذه المسألة أبدا ول يتركها ال للخرة؛ فسبحانه يريد أن يعدل نظام الكون‪ ،‬وإل كيف‬
‫يشهد من ل يؤمن بيوم الحساب قدرة ال على إجراء التوازن في كونه؟ إن الحق أراد الحساب في‬
‫الدنيا حتى ل يعربد من ل يؤمن بيوم الحساب في كون ال‪.‬‬

‫إن كل معربد سوف يرى مصير معربد سبقه‪ .‬كذلك الذين يتمتعون بثمرات الثم في هذه الدنيا‬
‫يجب أن يفطنوا إلى نفوسهم قبل أن يفوتهم الوان‪ ،‬المعذور فقط هم الطفال الذين ل نضج لهم‬
‫ول دراية؛ لنهم يعيشون من أموال الثم‪ .‬لكن ما إن يبلغ الولد الرشد وكذلك البنت ثم ترى مال‬
‫يتدفق عليها من مصادر غير حل‪ ،‬عليها أن تستحي من شراء " فستان " من هذا المال أو أن تأكل‬
‫منه لقمة خبز‪ ،‬وليفطن النسان أن ال قد أباح للنسان أن يسأل عن مصدر المال حتى ل يأخذ‬
‫لنفسه من المال الموبوء الخبيث‪ .‬وأن يسأل النسان الصدقة خير من أن يصرف على نفسه مالً‬
‫موبوءا‪ .‬ولن يترك الحق مثل هذا النسان سائل أبدا‪.‬‬
‫وليكتب كل واحد منكم هذا القول الكريم أمامه‪ } :‬وَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّ ْقوَىا وَلَ َتعَاوَنُواْ عَلَى‬
‫الِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَانِ {‪ .‬وليجعلها ميزانا يزن بها صور الذين يراهم في الكون؛ حتى ولو كانت صورة‬
‫سائق التاكسي الذي يدلس على رجل وامرأة في طريق مظلم ويأخذ أجرا على هذا‪ ،‬ليحسب هذا‬
‫الرجل النقود التي سـتأتي من هذا الباب‪ ،‬وليحسب النقود التي ستخرج على ألم فيه‪ ،‬أو ألم فيمن‬
‫يرعى من ولد أو بنت‪.‬‬
‫} وَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّ ْقوَىا وَلَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الِثْ ِم وَا ْل ُع ْدوَانِ { وصور العدوان شتى يعاني منها‬
‫المجتمع وتهزه بعنف‪ ،‬عدوان على الوقت لن النسان يأخذ أجرا على العمل ول يقوم به‪،‬‬
‫وعدوان يضرّ به إنسانا بأن يأخذ حقه أو أن يرتشي‪ ،‬كل ذلك عدوان‪ .‬وحتى يصير المجتمع‬
‫مجتمعا إيمانيا سليما ل بد أن يحافظ على قضية الستخلف في الرض‪ ،‬وأن يعلم أن هذا يقتضي‬
‫عمارة الكون وعدم الفساد فيه‪.‬‬
‫شدِيدُ ا ْلعِقَابِ { فكأن هذه المخالفات السابقة‬
‫ن وَا ّتقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬
‫} َولَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَا ِ‬
‫التي تحدث هي نتيجة عدم التعاون على البر‪ ،‬ونتيجة التعاون على الثم والعدوان‪ ،‬ولهذه المخالفة‬
‫عقاب شديد‪ ،‬أما التقوى فمعناها أن نفعل ما أمر به ال أن نفعله‪ ،‬وأن ننتهي عما نهى ال عنه‪،‬‬
‫فل ننقل فعلً من دائرة " ل تفعل " إلى دائرة " افعل " وكذلك العكس‪ .‬وبذلك نجعل بيننا وبين‬
‫الجبار وقاية‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبعض السطحيين قد ينظر إلى بعض من آيات القرآن ويقول‪ :‬إن بها تناقضا؛ فيقولون‪ :‬بعض من‬
‫آيات القرآن تقول‪ } :‬ا ّتقُواْ النّارَ { ‪ ،‬وبعض اليات تقول‪ } :‬ا ّتقُواْ اللّهَ { فهل للنار وقاية؟ وهل ل‬
‫وقاية؟ وهؤلء ل يفهمون أن " اتقوا " تعني‪ :‬اجعل وقاية بينك وبين ما يؤذيك ويتعبك‪ ،‬فـ } ا ّتقُواْ‬
‫اللّهَ { تعني اجعل بينك وبين عقاب ال وقاية وهي الدرع التي يقيمها النسان بتنفيذ أوامر ال بـ‬
‫" افعل " والمتثال لنواهي ال بـ " ل تفعل "‪.‬‬

‫وعندما تجعل بينك وبين ال وقاية‪ ،‬فأنت تجعل بينك وبين غضب ال وقاية‪ ،‬وهكذا تتساوى "‬
‫تقوى ال " مع " اتقاء النار "‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية } إِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ {‪ .‬إنّ ما يجعل الناس تتهاون في التعاون على البر‬
‫ويجترئون على الثم أنهم ل يجدون من مجتمعاتهم رادعا‪ ،‬ولو وجدوا الردع من المجتمع لحمى‬
‫المجتمع أفراده من الثم‪ .‬وإن صار للمجتمع وعي إيماني لقاطع المخالفين وأشعرهم بأنهم‬
‫منبوذون‪ ،‬وساعة يرى أمثال هؤلء الناس أنهم منبوذون من المجتمع اليماني فهم يرجعون إلى‬
‫المنهج الحق‪.‬‬
‫فما يغري الناس على الجرائم الكبيرة إلّ تهاون المجتمع في الجرائم الصغيرة‪ .‬ولذلك يلفتنا الحق‬
‫أنه لن يترك المر كما تركه بعض من خلقه؛ لن الخلق قد يجاملون وقد ل يقفون أمام ما يفعله‬
‫بعضهم من آثام‪ ،‬لكن ال شديد العقاب‪ ،‬سيأتي العقاب في وقت ليس للفرد فيه جاه من مال أو‬
‫حسب أو نسب يحميه من ال‪ ،‬فإن أطمعك ضعف المجتمع في أن تتعاون على الثم فعليك أن‬
‫تخاف ال؛ لن عقابه شديد‪.‬‬
‫وكيف يأتي العقاب إلى المذنب؟ ل نعرف؛ لننا لسنا آلهة‪ ،‬ونجد العقاب يتسلل إلى المذنب في‬
‫نفسه كمرض مؤلم ل يصرف المذنب فيه ما عنده من مال فقط‪ ،‬لكنه قد يسأل الناس ليعالج نفسه‪،‬‬
‫أو يعالج من يحب‪ .‬وجنود عقاب ال قد ل تتأخر للخرة بل تتسلل إلى حياة المذنب دون أن‬
‫يعرفها وهذه هي شدة العقاب‪.‬‬
‫وبعد ذلك يأتي الحق بأمر تحريم أشياء بعد أن حلل ال أشياء في قوله‪ } :‬أُحِّلتْ َل ُكمْ َبهِيمَ ُة الَ ْنعَامِ‬
‫{‪ .‬لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين تخصيصا لما أحل من النعام‪ ..‬فقد حلل ال من الضأن‬
‫اثنين ومن المعز اثنين ومن البل اثنين ومن البقر اثنين‪ .‬وألحق الرسول بها الظباء وبقر الوحش‪،‬‬
‫وكل ذات أربع من حيوان البحر‪ ،‬وكان قول ال‪ِ } :‬إلّ مَا يُتْلَىا عَلَ ْيكُمْ { مؤذنا بأن هناك تحريما‬
‫قادما سيأتي‪ ،‬ويبين الحق بالقرآن ما يحرمه ال‪ } :‬حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَةُ‪{ ...‬‬

‫(‪)664 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ ُة وَالدّ ُم وَلَحْمُ الْخِنْزِي ِر َومَا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَا ْلمُنْخَ ِنقَ ُة وَا ْل َموْقُو َذ ُة وَا ْلمُتَرَدّ َيةُ‬
‫سقٌ الْ َيوْمَ‬
‫سمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَِل ُكمْ فِ ْ‬
‫صبِ وَأَنْ َتسْ َتقْ ِ‬
‫وَالنّطِيحَ ُة َومَا َأ َكلَ السّبُعُ ِإلّا مَا َذكّيْتُمْ َومَا ذُبِحَ عَلَى الّن ُ‬
‫علَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي‬
‫شوْنِ الْ َيوْمَ َأ ْكمَ ْلتُ َلكُمْ دِي َنكُ ْم وَأَ ْت َم ْمتُ َ‬
‫شوْهُ ْم وَاخْ َ‬
‫يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ دِي ِن ُكمْ فَلَا َتخْ َ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪)3‬‬
‫خ َمصَةٍ غَيْرَ مُتَجَا ِنفٍ لِإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫وَ َرضِيتُ َلكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا َفمَنِ اضْطُرّ فِي َم ْ‬

‫الية تبدأ بقوله‪ { :‬حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَةُ } ونلحظ أن البداية فعل مبني للمجهول‪ .‬على الرغم من أن‬
‫الفاعل في التحريم واضح وهو ال‪ .‬ولم يقتحم سبحانه على أحد‪ ،‬فالنسان نفسه اشترك في العقد‬
‫اليماني مع ربّه فألزمه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬والعبد من جانبه التزم؛ لذلك يقول الحق‪ " :‬حرمت " ‪،‬‬
‫حرمها سبحانه كإله وشاركه في ذلك العبد الذي آمن بال إلها‪.‬‬
‫والميتة هي التي ذهبت منها الحياة أو خرجت منها الروح بدون نقض للبنية‪ ،‬أي ماتت حتف‬
‫أنفها‪ ،‬فذهاب الحياة له طريقان‪ :‬طريق هو الموت أي بدون نقض بنية‪ ،‬وطريق بنقض البنية؛‬
‫فعندما يخنق النسان كائنا آخر يمنع عنه النفس وفي هذا إزهاق للروح بنقض شيء في البنية؛‬
‫لن التنفس أمر ضروري‪ ،‬وقد يزهق النسان روحا آخر يضربه بالرصاص؛ لن الروح ل تحل‬
‫إل في جسد له مواصفات خاصة‪.‬‬
‫لكَن هناك جوارح يمكن أن تبقى الروح في الجسم دونها‪ ،‬والمثال على ذلك اليد إن قطعت‪ ،‬أما إن‬
‫توقف قلب النسان فقد يشقون صدره ويدلكون هذا القلب فينبض مرة أخرى بشرط أن يكون المخ‬
‫مازال حيا‪ ،‬وأقصى مدة لحياة المخ دون هواء سبع دقائق في حالت نادرة‪ .‬فما أن يصاب المخ‬
‫بالعطب حتى يحدث الموت‪ .‬ولذلك عرف الطباء الموت الكلينيكي بأنه توقف المخ‪ .‬إذن فهناك‬
‫موت‪ ،‬وهناك قتل‪ ،‬وفي كليهما ذهاب للروح‪.‬‬
‫وفي الموت تذهب الروح أولً‪ ،‬وفي القتل تذهب الروح بسبب نقض البنية‪ .‬والميتة هي التي‬
‫ذهبت منها الحياة بدون نقض البنية‪ ،‬ومن رحمة ال أن حرم الميتة؛ لنها ماتت بسبب ل نراه في‬
‫عضو من أعضائها‪ ،‬حتى ل نأكلها بدائها‪.‬‬
‫وكذلك حرم الدم‪ ،‬وهو السائل الذي يجري في الوردة والشرايين ويعطي الجسم الدفء والحرارة‬
‫وينقل الغذاء‪ ،‬وللدم مجالن في الجريان؛ فهو يحمل الفضلت من الكلى والرئة‪ ،‬وهناك دم نقي‬
‫يحمل الغذاء‪ ،‬والوعية الدموية بها لونان من الدم‪ :‬دم فاسد ودم صالح‪ .‬وعندما نأخذ هذا الدم قد‬
‫يكون فيه النوع الصالح ويكون فيه أيضا النوع الذي لم تخرج منه الشوائب التي في الكلى‬
‫والرئة‪ ،‬ولذلك يسمونه الدم المسفوح‪ ،‬أي الجاري؛ وكانوا يأخذونه قديما ويملون به أمعاء الذبائح‬
‫ويقومون بشيه ويأكلونه‪.‬‬
‫وهناك دم غير فاسد‪ ،‬مثال ذلك الكبد‪ ،‬فهو قطعة متوحدة‪ ،‬وكذلك الطحال‪ ،‬والنبي صلى ال عليه‬
‫وسلم قال‪:‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫" أحلت لكم ميتتان ودمان‪ ،‬فأما الميتتان‪ :‬فالسمك والجراد‪ ،‬وأما الدمان‪ :‬فالكبد والطحال "‬
‫إذن فالكبد والطحال مستثنيان من الدم‪ ،‬لكن إذا جئنا للدم المسفوح فهو حرام‪ .‬والحكمة في تحليل‬
‫السمك والجراد هي عدم وجود نفس سائلة بهما‪ ،‬فليس في لحمها دم سائل‪ ،‬وعندما نقطع سمكة‬
‫كبيرة ل ينزل منها دم‪.‬‬

‫بل يوجد فقط عند الغشية التي في الرأس ول يوجد في شعيراته‪ .‬وعندما يموت السمك ويؤكل‬
‫فل خطر منه‪ ،‬وكذلك الجراد‪.‬‬
‫ويأتي بعد ذلك في سلسلة المحرمات } وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ {‪ .‬ول يقولن مؤمن‪ :‬لماذا حرم ال لحم‬
‫الخنزير؟ لقد ذهب العلم إلى كل مبحث ليعرف لماذا حرم ال الميتة وكذلك الدم حتى عرف‬
‫العلماء أن ال ل يريد أن ينقل داء من حيوان ميت إلى النسان‪ ،‬وكذلك حرم ال الدم لن به‬
‫فضلت سامة " كالبولينا " وغيرها‪.‬‬
‫ولكل تحريم حكمة قد تكون ظاهرة‪ ،‬وقد تكون خافية‪ .‬والقرآن قد نزل على رسول أمي في أمة‬
‫أمية ل تعرف المسائل العلمية الشديدة التعقيد‪ ،‬وطبق المؤمنون الوائل تعاليم القرآن لن ال الذي‬
‫آمنا به إلها حكيما هو قائلها‪ ،‬وهو يريد صيانة صنعته؛ وكل صانع من البشر يضع قواعد صيانة‬
‫ما صنع‪ .‬ولم نجد صانع أثاث ‪ -‬مثل ‪ -‬يحطم دولب ملبس‪ ،‬بل نجده باذل الجهد ليجمل‬
‫الصنعة‪ ،‬ومادام ال هو الذي خلقنا وآمنا به إلها؛ فل بد لنا أن ننفذ ما يأمرنا به‪ ،‬وأن نتجنب ما‬
‫نهانا عنه‪ ،‬ول يمنع ذلك أن نتلمس أسباب العلم‪ ،‬رغبة في ازدياد أسباب اليمان بال ومن أجل أن‬
‫نرد على أي فضولي مجادل‪ ،‬على الرغم من أنه ليس من حق أحد أن يجادل في دين ال؛ لن‬
‫الذي يرغب في الجدال فليجادل في القمة أولً؛ وهي وجود ال‪ ،‬وفي البلغ عن ال بواسطة‬
‫الرسول؛ فإن اقتنع‪ ،‬فعليه أن يطبق ما قاله ال‪ .‬فالدين ل يمكن أن نبحثه من أذنابه‪ ،‬ولكن يبحث‬
‫الدين من قمته‪ .‬ونحن ننفذ أوامر ال‪ .‬ولذلك نجد أول حكم يأتي لم يقل الحق فيه‪ :‬يا أيها الناس‬
‫كتب عليكم كذا‪ ،‬ولكن سبحانه يقول‪ } :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ { أي يا من آمنت بي خذ الحكم مني‪.‬‬
‫وأكرر المثل الذي ضربته سابقا‪ :‬أثمن ما عند النسان صحته‪ ،‬فإذا تعرضت صحته للختلل فهو‬
‫يدرس السباب؛ إن كان يرهقه الطعام يختار طبيبا على درجة علم عالية في الجهاز الهضمي‪،‬‬
‫ويكتب الطبيب الدواء‪ ،‬ول يقول المريض للطبيب‪ :‬أنا لن أتناول هذا الدواء إل إذا قلت لي لماذا‬
‫وماذا سيفعل هذا الدواء‪.‬‬
‫إذن فالعقل مهمته أن ينتهي إلى الطبيب الذي اقتنع به‪ ،‬وما كتبه الطبيب من تعاليم فعليك تنفيذها‪،‬‬
‫وكذلك اليمان بال‪ ،‬فمادام النسان قد آمن بال إلها فعليه أن ينفذ الوامر في حركة الحياة بـ "‬
‫افعل " و " ل تفعل " ‪ ،‬والمريض ل يناقش طبيبا‪ ،‬فكيف يناقش أي إنسان ربه‪ " :‬لم كتبت علي‬
‫هذا "؟‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والطبيب من البشر قد يخطئ؛ وقد يتسبب في موت مريض‪ ،‬وعندما نشك في قدرة طبيب ما‬
‫نستدعي عددا من الطباء لستشارة كبيرة‪.‬‬

‫وننفذ أوامر الطباء‪ ،‬ول يجرؤ أحد أن يناقش ال سبحانه وتعالى بل نقول‪ :‬كل أوامرك مطاعة‪.‬‬
‫إننا ننفذ أوامر الطباء فكيف ل ننفذ أوامر ال؟ إن النسان يضع ثثقته في البشر الخطائين‪ ،‬ول‬
‫يمكن ‪ -‬إذن ‪ -‬أن تعلو على الثقة في رب السماء؛ لذلك فالعاقلون هم الذين أخذوا أوامر ال‬
‫وطبقوها جون من مناقشة؛ لن العقل كالمطية يوصل النسان إلى عتبة السلطان‪ ،‬ولكن ل يدخل‬
‫معك عليه‪ ،‬وحين تسمع من ال فأنت تنفذ ما أمر به‪.‬‬
‫علَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ ُة وَا ْلدّ ُم وََلحْمُ ا ْلخِنْزِيرِ { وقد أثبتت التحليلت أن بلحم الخنزير دودة شريطية‬
‫} حُ ّر َمتْ َ‬
‫ودودة حلزونية وعددا آخر من الديدان التي ل يقهرها علج‪.‬‬
‫والمحرمات من بعد ذلك } َومَآ أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ { أي رفع الصوت به لغير ال كقولهم‪ :‬باسم‬
‫اللت والعزى عند ذبحه‪ ،‬ول يقال عند ذبحه‪ " :‬ال أكبر بسم ال "؛ لن النسان منتفع في الكون‬
‫الذي يعيش فيه بالجناس التي طرأ عليها‪ ،‬لقد وجد النسان هذه الجناس في انتظاره لتخدمه لنه‬
‫خليفة ال في الرض‪ ،‬والحيوان له روح ولكنه يقل عن النسان بالتفكير‪ ،‬والنبات تحت الحيوان‪،‬‬
‫والجماد أقل من النبات‪ .‬وساعة يأخذ النسان خدمة هذه المسخرات‪ ،‬فعليه أن يذكر الخالق المنعم‪،‬‬
‫وعندما يذبح النسان حيوانا‪ ،‬فهو يذبحه بإذن الكبر من النسان والحيوان والكون كله‪ ،‬يذبحه‬
‫باسم الخالق‪.‬‬
‫إن هناك من ينظر إلى اللحم قائلً‪ :‬أنا ل آكل لحم الحيوانات لني ل أحب الذبح للحيوان شفقة‬
‫ورحمة‪ ،‬لكن آكل النبات‪ .‬ونقول‪ :‬لو أدركت ما في النبات من حياة أكنت تمتنع عن أكله؟ لقد ثبت‬
‫في عصرنا أن للنبات حياة‪ ،‬بل وللجماد حياة أيضا؛ لنك عندما تفتت حصوة من الصوان أو أي‬
‫نوع من الحجار‪ ،‬فأنت تعاند بدقات المطرقة ما في تلك الحصوة من تعانق الجزيئات المتماسكة‪،‬‬
‫حمْ ِدهِ }[السراء‪]44 :‬‬
‫شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ ِب َ‬
‫وقد تفعل ذلك وأنت ل تدري أن فيها حياة‪ {.‬وَإِن مّن َ‬
‫والصالحون من عباد ال يعرفون ذلك ويديرون لعمالهم وتعاملهم مع ما سواهم من المخلوقات‬
‫جميعا ‪ -‬حيوان أو جماد ‪ -‬على أنها مسبّحة لذلك ل يمتهنون الشياء ول يحتقرونها مهما دقت‬
‫وحقرت وإنما يتلطفون معها حتى لو ذبحوا حيوانا فإنهم يرحمون ذلك الحيوان فل يشحذون ول‬
‫يسنون السكين أمامه ول يذبحون حيوانا أمام حيوان آخر فضل على أنهم يطعمون ويسقون ما‬
‫يرديون ذبحه لنهم يعلمون أنه مسبح ولكنهم فعلوا فيه ما فعلوا لن ال أباح لهم ذلك ليستديموا‬
‫حياتهم بأكله فهم أهل تكليف من ال‪ ،‬أما ما عداهم فهم أهل تسخير‪.‬‬
‫} َومَآ أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ { تشرح لنا أن الحق هو الذي حلل لنا أن نأكل من الذي له حس وحركة‪،‬‬
‫كالحيوان الذي يتطامن للنسان فيذبحه‪ ،‬ول بد للنسان أن يعرف الشكر لواهب النعمة‪ ،‬فـ " بسم‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال ال أكبر " تؤكد أنك لم تذبحه إل باسم من أحله لك‪.‬‬

‫عمَِلتْ أَ ْيدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُمْ‬
‫{ َأوََلمْ يَ َروْاْ أَنّا خََلقْنَا َلهُم ِممّا َ‬
‫َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس‪]72-71 :‬‬
‫إذن فالكل من ضمن التذليل‪ ،‬وعندما تذبح الحيوان ل بد أن تذكر من ذلل لك ذلك‪ .‬ويحرم الحق‬
‫أكل المنخنقة‪ ،‬أي الحيوان الذي مات خنقا؛ لن قوام الحياة ثلثة؛ طعام‪ ،‬شراب‪ ،‬هواء‪ ،‬وهذا من‬
‫حكمة الخالق الذي خلق الصنعة ورتب المر حسب الهم والمهم‪ ،‬فالنسان قد يصبر على الجوع‬
‫إلى ثلثين يوما؛ لن ربنا سبحانه وتعالى قدر لك ‪ -‬أيها النسان ‪ -‬ظروف الغيار‪ ،‬فجعل في‬
‫جسمك مخزونا لزمن قد تجوع فيه‪ ،‬وجعل للنسان شهوة إلى الطعام‪ ،‬وغالبا ل يأكل النسان‬
‫ليسد الرمق فقط‪ ،‬ولكن بشهوة في الكل‪.‬‬
‫إن ربنا يوضح لنا‪ :‬أنا أحترم شهوتك للطعام‪ ،‬ولتأخذ حركتُك الضروريّ لها من الطاقة‪ ،‬والزائد‬
‫سيُخزن في الجسم كدهون ولحم‪ ،‬فإن جاء يوم ل تجد فيه طعاما أخذت من الدهون المخزونة‬
‫طاقة لك‪ .‬وهذه من دقة الصنعة‪ ،‬وإن قارنتها بسيارة صنعها النسان إذا ما فرغ منها الوقود فإنها‬
‫تقف ول تسير‪ ،‬أما صنعة الخالق فهي ل تقف إن توقف الطعام بل تستمر إلى ثلثين يوما‪ ،‬وربما‬
‫حن على النسان قلب إنسان آخر فأحضر له الطعام‪ ،‬وربما احتال النسان ليخرج من مأزق عدم‬
‫وجود الطعام‪.‬‬
‫إن المرأة العربية وصفت الشدة والعوز فقالت‪ " :‬سنة أذابت الشحم‪ ،‬وسنة أذهبت اللحم‪ ،‬وسنة‬
‫محت العظم " أي أن المر درجات‪ ،‬فالنسان يتغذى من دهنه ثم من لحمه ثم من عظامه‪ ،‬ويصبر‬
‫النسان على الماء مدة تترواح ما بين ثلثة‪ ،‬وعشرة أيام‪ ،‬حسب كمية المياه المخزونة في الجسم‪.‬‬
‫أما الهواء فل يصبر عنه النسان إل بمقدار الشهيق والزفير‪ ،‬فإن حُبس الهواء عن النسان مات‪.‬‬
‫فال َنفَس هو أهم ضرورة للحياة‪ ،‬ولذلك نجد من حكمة الحق سبحانه أنه لم يملّك الهواء لحد؛ لن‬
‫أحدا لو امتلك الهواء بالنسبة لنسان آخر فقد يمنع عنه الهواء لحظة غضب فتنتهي منه الحياة‪.‬‬
‫واللغة العربية فيها من السعة ومن دقة الداء ما يدل على أن هناك أسرارا للمعاني‪ ،‬تلتقي عند‬
‫شيء ما‪ ،‬فمثلً إذا قلت‪َ :‬نفْس‪ ،‬أو نفيس‪ ،‬أو نفَس‪ ،‬نجد أنها ثلث كلمات مكونة من مادة واحدة‬
‫هي " النون والفاء والسين " ‪ ،‬النفْس هي اتصال الروح بالمادة فتنشأ الحياة بها‪ ،‬ويلهم ربنا النفس‬
‫فجورها وتقواها‪ ،‬وال ّنفَس‪ :‬وهو الريح تدخل وتخرج من فم وأنف الحي ذي الرئة حال التنفس ول‬
‫تدوم الحياة إل به‪ ،‬ومادام أساس الحياة هو النفَس فيجب أل تكون حياتك إل من أجل نفيس‪،‬‬
‫ويجب أن تحترم خلق ال لك وأل يكون سعيك في الدنيا إل من أجل نفيس‪ ،‬ول نفيس إل اليمان‪.‬‬

‫وفي اللغة العربية أمثلة كثيرة لما يسمى بالجناس‪ ،‬فنحن نسمي الكل في الميعاد " وجبة " ‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونسمي المسئولية " واجبا " ونسمي دقة القلب " الوجيب "‪ .‬ولذلك عندما أراد الشعراء أن يتفننوا‬
‫جاء واحد منهم بلفظين متماثلين ولكل منهما معنى مختلف فقال‪:‬رحلت عن الديار لكم أسير وقلبي‬
‫في محبتكم أسيرفأسير في الشطر الول يمعنى أمشي‪ ،‬وأسير في الشطر الثاني من البيت بمعنى‬
‫مأسور ومقيد‪.‬‬
‫فالمنخنقة إذن هي التي منع عنها النفس‪ ،‬ومادام مَنْع النفس أوصلها إلى الخنق فهي إلى الموت‪،‬‬
‫فلماذا جاء ذكرها مرة أخرى بعد الميتة؟ لقد جاء ذكر المنخنقة لن النسان قد يلحقها بالذبح‪ ،‬فإن‬
‫سال منها دم‪ ،‬وطرفت فيها عين أو تحرك الذيل فهي حلل‪ .‬أما إن لم يلحقها النسان وذبحها ولم‬
‫يسل منها دم فهي حرام‪ ،‬ويحرم الحق الموقوذة‪ ،‬وهي البهيمة التي يتم ضربها بأي شيء إلى أن‬
‫تصل للموت‪ ،‬فهي قد ماتت‪ ،‬بنقض بنية وكذلك المتردية التي وقعت من ارتفاع حتى ماتت‪،‬‬
‫وكذلك } وَالنّطِيحَةُ { أي التي نطحها حيوان آخر إلى أن ماتت‪َ } .‬ومَآ َأ َكلَ السّبُعُ { وهو ما يبقى‬
‫من أكل السبع من لحم ما افترسه من حيوان مأكول‪ِ } ،‬إلّ مَا َذكّيْتُمْ { ‪ ،‬والذكاة هي الذبح الذي‬
‫يسيل منه الدم وتأتي بعده حركة من المذبوح‪ .‬والمقصود بقوله } ِإلّ مَا َذكّيْتُمْ { هو المنخنقة‬
‫والموقوذة والمتردية والنطيحة‪ ،‬فإن أدركها النسان وذبحها وسال منها دم وصدرت منها حركة‬
‫فهي حلل‪.‬‬
‫هذا هو رأي علي بن أبي طالب ‪ -‬كرم ال وجهه ‪ -‬وهو مفتي اليمان‪ .‬وابن عباس ‪ -‬رضي ال‬
‫عنه ‪ -‬وهو حَبْر المة قال ‪ -‬أيضا ‪ -‬في قوله الحق‪ِ } :‬إلّ مَا َذكّيْتُمْ { هو استثناء لغير الميتة‬
‫والدم ولحم الخنزير ومقصود به المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة‪ .‬وهذا يوضح لنا أن‬
‫هناك حيوانات شرسة قد ل يقوى النسان عليها‪ .‬وأحيانا قد يقدر النسان عليها فيقوم بتكتيفها‬
‫بالحبال‪ ،‬وأحيانا يضربها بآلة لتختل وتضعف قليل ويتملكها الجزار ليذبحها‪.‬‬
‫ونلحظ أن الحق لم يحدد الحيز من الجسم الذي أصيبت فيه الموقوذة سواء أكان البطن أم الرأس‬
‫أم الظهر‪ ،‬فالحيوان المضروب رميا بالحجارة قد تأتي الحجار في الرأس أو البطن أو الظهر‪،‬‬
‫فمن الجائز أن يضرب النسان الحيوان الشرس ليستطيع أن يذبحه‪.‬‬
‫والحجة عندنا في التحليل أو التحريم هي‪ :‬أيسيل منها الدم ساعة الذبح أم ل؟ وهل يصدر عن‬
‫جسمها حركة ولو طرفة عين؟ فإن توافر ذلك في الذبيحة فهي حلل‪ ،‬وهكذا نعرف أن قوله‬
‫الحق‪ِ } :‬إلّ مَا َذكّيْتُمْ { هو استثناء لغير الثلثة الول وهي‪ :‬الميتة والدم ولحم الخنزير ومعها ما‬
‫أهل لغير ال به لنه محرم بطبيعة اليمان العقدي‪.‬‬

‫} َومَآ َأ َكلَ السّبُعُ ِإلّ مَا َذكّيْتُ ْم َومَا ذُبِحَ عَلَى الّنصُبِ { ويحرم الحق ما أكله السبع إل إذا كان‬
‫الحيوان الذي أكله السبع لم يمت واستطاع واحد أن يذبحه الذبح الشرعي‪ .‬وسبحانه يحريم ما لم‬
‫يذبح بالسلوب الشرعي‪ ،‬فل يحل ذَبْح بعظم أو بِسِنّ والذي ذبح على النصب‪ ،‬أي المذبوح على‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحجار المنصوبة كالصنام فهو حرام‪ ،‬والكلم هنا عقدي‪ ،‬والتحريم هنا بعارض عقدي‪.‬‬
‫و " الّنصُب " من اللفاظ التي وردت مفردا ووردت جمعا‪ .‬فـ " نصُب " هي جمع‪ ،‬مثلما نجمع‬
‫حمُر " ‪ ،‬وفي هذه الحالة يكون مفردها " نِصاب " ‪ ،‬ومرة تكون " نصب "‬
‫كلمة " حمار " ونقول " ُ‬
‫مفردا‪ ،‬مثلها مثل " طُنُب " وهو الحبل وجمعها " أطناب " أي حبال‪ ،‬وفي هذه الحالة يكون جمع "‬
‫ُنصُب " هو " أ ْنصَاب "‪.‬‬
‫والّنصُب هي حجارة كانت منصوبة حول الكعبة يذبح عليها المشركون الذبائح تقربا لللهة‪.‬‬
‫والتحريم هنا بسبب عقدي مثله مثل تحريم ما أهل لغير ال به‪ ،‬فما أهل لغير ال فيه شرك بال‬
‫فافتقد ذكر ال الذي ذلل للنسان هذا الحيوان القريب من النسان في الحس والحركة وغير ذلك‪.‬‬
‫وكذلك أيضا ما ذبح على النصب محرم؛ لن النصب غير واهب ول معط‪ ،‬والواجب أن نتقرب‬
‫إلى الواجد الواهب‪.‬‬
‫سمُواْ بِالَ ْزلَمِ { واستسقم أي طلب القسمة‪ ،‬وكانت القسمة في بعض الحيان عملية‬
‫} وَأَنْ َتسْ َتقْ ِ‬
‫محرجة فيريدون إلصاقها بعيرهم‪ ،‬وهنا يقال‪ " :‬إن الزلم هي التي أمرتني "‪ .‬والزلم هي قداح‬
‫من الخشب مكتوب على بعضها‪ " :‬أمرني ربي " ومكتوب على البعض الخر‪ " :‬نهاني ربي "‬
‫وبعض من هذه القداح غفل بغير كتابة‪ .‬وكان المشرك إذا أراد السفر فهو يذهب إلى سادن الكعبة‬
‫أو الكاهن‪ ،‬ويخرج السادن أو الكاهن الزلم من الكيس‪ ،‬ويحرك القداح ويختار المشرك قِدْحا‪،‬‬
‫فإن قرأ عليه " أمرني ربي " يسافر إلى المهمة التي يريدها‪ ،‬وإن لم يقرأ عليه ووجده غفل فهو‬
‫يعيد الكَ ّرةَ؛ فإن وجد " نهاني ربي " ل يسافر‪.‬‬
‫ونسأل‪ :‬من هو الرب الذي أمر؟ هل هو الرب العلى‪ ،‬أو الرب الذي كانوا يعبدونه؟ أي إله كانوا‬
‫يقصدون؟ إن كان المقصود به الله العلى‪ ،‬فمن أدراهم أن ال أمر بهذا السفر أو نهى عن ذلك‬
‫السفر؟ إن ذلك كذب على ال‪ .‬وإن كان الذي أمر هو الرب الذي يعبدونه‪ ،‬فهذا أمر باطل من‬
‫أساسه‪ ،‬إذن فـ " استقسم " أي أنّه طلب حظه وقسمته بواسطة القداح‪ .‬وكان الستقسام يتم في‬
‫مسائل الزواج أو عدم الزواج‪ ،‬والكلم هنا في هذه الية عن الكل؛ فالسياق عن تحليل ألوان‬
‫الطعام فلماذا هذا الستقسام؟‬
‫من هذا نعرف أنهم كانوا في الجاهلية يخضعون للون من الستقسام بالزلم‪ ،‬كانت عندهم عشرة‬
‫قداح وكان مكتوبا عليها أسماء‪ ،‬فواحد على سبيل المثال مكتوب عليه " الفذ " وعليه علمة‬
‫واحدة‪.‬‬

‫أي أن الذي يسحب هذا القدح يأخذ نصيبا واحدا؛ أما المكتوب عليه " التوأم " فيأخذ نصيبين‪،‬‬
‫والمكتوب عليه " الرقيب " يأخذ ثلثة أنصباء‪ ،‬والمكتوب عليه " الحِلس " يأخذ أربعة أنصباء‪،‬‬
‫والمكتوب عليه " النافر " يأخذ خمسة أنصباء؛ والمكتوب عليه " المُسْبل " يأخذ ستة أنصبة‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ووالمكتوب عليه " المُعلّي " يأخذ سبعة أنصبة‪ ،‬والباقي ثلثة أنواع مكتوب على كل واحد منها إما‬
‫" المنيح " وإمّا " السفيح " وإمّا " الوغد "‪.‬‬
‫وعندما يقومون بذبح الجمل كانوا يقسمونه إلى ثمانية وعشرين نصيبا بعدد النصبة التي ينالها‬
‫الشخاص السبعة الوائل‪ ،‬أما من خرج لهم " المنيح " أو " السفيح " أو " الوغد " فل نصيب لهم‬
‫ويدفعون ثمن الذبيحة‪.‬‬
‫سمُواْ بِالَزْلَمِ { أي أن مسألة طلب القسمة بواسطة الزلم هو‬
‫إذن فقوله الحق‪ } :‬وَأَنْ تَسْ َتقْ ِ‬
‫أسلوب مجحف وحرام‪ ،‬وهو لون من الميسر‪ ،‬والستقسام بالزلم خلف القرعة‪ ،‬فالقرعة تكون‬
‫بين اثنين متساويين ول يريد أحدهما أن يظلم الخر‪ ،‬فيخرجا الهوى من الختيار‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬اثنان من البشر يملكان بيتا‪ ،‬وتحري كل منهما العدل في القسمة ويلجآن إلى القرعة‬
‫بأن يكتب كل منهما اسمه في ورقة ثم يضعا الورقتين في إناء ضيق ويحضر طفل صغير ل‬
‫يعرف المسألة ويغمض عينيه ويشد ورقة من الثنتين‪ ،‬فيأخذ كل واحد النصيب الذي حددته‬
‫القرعة‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ :‬الرجل المتزوج بأكثر من واحدة‪ ،‬عليه أن يقرع بين النساء إن أراد صحبة إحداهن‬
‫في سفر‪ ،‬والقرعة هنا حتى ل تغضب واحدة من الزوجات‪ ،‬وحتى ل يكون الهوى هو الحكم‪،‬‬
‫وبذلك يخرج من دائرة لوم مَن ل تخرج قرعتها‪.‬‬
‫ولنا في رسول ال صلى ال عليه وسلم السوة الحسنة‪ ،‬فعندما أراد صلى ال عليه وسلم أل يكسر‬
‫خاطر أي واحد من النصار عندما هاجر إلى المدينة‪ ،‬وتطلع كل واحد من النصار إلى أن ينزل‬
‫رسول ال في بيته‪ ،‬وحاول كل واحد أن يمسك بزمام الناقة وأن يجعلها تقف أمام بيته‪ ،‬فقال لهم‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" خلوا سبيلها فإنها مأمورة "‬
‫فعندما تميل الناقة وتقف عند أي بيت لن يقول أحد‪ :‬إن النبي آثر فلنا على فلن‪ .‬جعلها الرسول‬
‫في يد من ل يقدر أحد على ان يخالفه عليه‪ ،‬وكذلك فالستخارة غير الستقسام‪ .‬إذن فالستقسام‬
‫بالزلم هو المحرم شرعا؛ لنها عملية غير مناسبة وهي ظالمة‪ ،‬ووردت هنا في سياق ألوان‬
‫الطعام‪.‬‬

‫سقٌ { والفسق هو‬


‫ويقول سبحانه عن كل تلك اللوان من المحرمات؛ إنّ ارتكابها فسق‪ } .‬ذاِلكُمْ فِ ْ‬
‫الخروج عن الطاعة‪ .‬والمعاني ‪ -‬كما علمنا من قبل ‪ -‬مأخوذة من المحسّات؛ لن إلف النسان‬
‫في أول إدراكاته بالمحسات‪ ،‬فهو يرى ويسمع ويشم‪ ،‬وبعد ذلك تأتي المور العقلية‪.‬‬
‫وأصل الفسق هو خروج الرطبة عن قشرتها؛ فالبلحة عندما تترطب تنكمش الثمرة داخل القشرة‬
‫وتخرج منها عندئذ يقال‪ " :‬فسقت الرطبة " أي خرجت من قشرتها‪ ،‬وكذلك من يخرج عن منهج‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال يسمونه فاسقا؛ تماما مثل الرطبة‪ ،‬وفي هذا رمزية تدل على أن شرع ال سياج يحيط‬
‫بالنسان؛ فالذي يخرج عن منهج ال يكون فاسقا‪ .‬وإياك أيها المسلم أن تخرج عن شرع ال؛ لن‬
‫الرطبة عندما تخرج عن القشرة فالذباب يحوم حولها ويصيبها التراب وتعافها النفس‪َ ،‬فكَان دين‬
‫ال كإطار يحمي النسان باليمان‪.‬‬
‫وهذه الحكام كلها تبني قضية الدين‪ ،‬قضية عقدية في اللوهية‪ ،‬قضية البلغ عن اللوهية‬
‫بواسطة الرسالة‪ .‬وأحكام تنظم حركة المجتمع بالعقود والمانات والنكحة وغيرها‪ ،‬كل هذه‬
‫الحكام تصنع هيكل الدين العام‪ .‬وقد مر هيكل الدين العام بمرحلتين‪ :‬المرحلة المكية وكان كل‬
‫هدفها التركيز على العقيدة واليمان بوحدانية ال والنبوات والبلغ عن ال‪ ،‬وبعد ذلك في المرحلة‬
‫المدنية جاءت سورة النساء وسورة المائدة لتتكلما عن الحكام‪.‬‬
‫وبالعقيدة وبالبلغ عن ال وبالحكام يكتمل الدين؛ لذلك يقول الحق‪ } :‬الْ َيوْمَ يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن‬
‫دِي ِنكُمْ { كأن الكافرين كان لهم أمل في أن يحبطوا هذا الدين وأن يبطلوه وأن ينقضوه‪ ،‬وكذلك‬
‫المؤمنون بأديان سابقة أو بكتب سابقة كانوا يحبون أن يطرأ على القرآن الفعال التي مارسوها‬
‫مع كتابهم من النسيان والترك والتحريف‪ ،‬وسبحانه هو القائل عن أصحاب الكتب السابقة‪ {:‬وَنَسُواْ‬
‫حظّا ّممّا ُذكِرُواْ بِهِ }[المائدة‪]13 :‬‬
‫َ‬
‫إذن فقد أرادوا أن ينسى المسلمون ‪ -‬أيضا ‪ -‬حظا من القرآن‪ ،‬لكن الحق يخبر بأنهم يئسوا أن‬
‫ينسى المسلمون حظا مما ذكروا به؛ لن الصحابة حفظوا القرآن في الصدور وكتبوه في السطور‬
‫ومن لسان الرسول مباشرة‪ .‬ولم يحدث مثلما حدث مع الرسل السابقين‪ .‬فقد تم تسجيل هذه الكتب‬
‫المنزلة عليهم بعد ثلثة أو أربعة قرون‪ ،‬بل أمر الرسول صلى ال عليه وسلم بكتابة القرآن من‬
‫فور نزول كل نجم من اليات‪ ،‬وكان يأمر بوضع اليات بترتيب معين‪.‬‬
‫إن على الذين كفروا أن ييأسوا من أن ينسى المسلمون حظا مما ذكروا به‪ .‬وهؤلء القوم من أهل‬
‫الكتاب لم ينسوا حظا مما ذكروا به فقط‪ ،‬ل أيضا حرفوا الكتاب عن مواضعه وكتموا ما أنزل‬
‫ب وَيَشْتَرُونَ بِهِ َثمَنا قَلِيلً أُولَـا ِئكَ مَا يَ ْأكُلُونَ فِي‬
‫ال‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَآ أَن َزلَ اللّهُ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫بُطُو ِنهِمْ ِإلّ النّارَ }[البقرة‪]174 :‬‬
‫وهم يئسوا من أن يكتم المسلمون ما أنزل ال‪ ،‬بدليل أن رسول ال صلى اله عليه وسلم كان يأتي‬
‫بحكم في شيء‪ ،‬ثم يغير ال ذلك الحكم‪ ،‬فل يستحي رسول ال أن يبلغ‪ :‬أن الحكم الذي قلته لكم قد‬
‫غيره ال لي‪.‬‬

‫وهل يستنكف أن يعدل ال له؟ وهذا دليل على أمانة البلغ عن ال؛ لذلك يئس الكافرون بألوانهم‬
‫المختلفة من أن ينسى المؤمنون حظا مما ذكروا به؛ لن تسجيل القرآن كان أمينا بصورة ل نهاية‬
‫لها‪ ،‬وظل القرآن مكتوبا في السطور ومحفوظا في الصدور‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق يعلن عن يأس الكفار من مشركين وأهل كتاب بقوله‪ } :‬الْ َيوْمَ يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن دِي ِنكُمْ {‬
‫يئسوا لن المراحل التي مرت بالكتب السابقة لن تمر بهذا الدين‪ .‬وقد توهم أهل الكتاب أن‬
‫السلم سيمر بما طرأ عليهم‪ ،‬وظن بعضهم أن المسلمين سيصيرون إلى ما صار إليه أهل الكتاب‬
‫من ترك لدينهم وإهدار له‪ .‬وكذلك ظن بعض كفار قريش أن المسلمين سيصيرون إلى ما صار‬
‫إليه أهل الكتاب‪ ،‬فقد كانت عندهم التوراة وهم مع ذلك ل يتبعون كتابهم‪ ،‬فيرد الحق على كل‬
‫هؤلء‪ } :‬الْ َيوْمَ يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن دِي ِن ُكمْ {‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬اليوم " يعني الزمان الذي مضى والزمان المستبقل‪ ،‬فقد أتم ال دين السلم ورضيه لنا‬
‫وفتحت مكة للمسلمين ودخل الناس في دين ال أفواجا‪ .‬وصار القرآن مكتوبا ومحفوظا‪ .‬وبذلك‬
‫تأكد يأس الكافرين والمشركين أن يُنسى القرآن أو أن يُكتم القرآن؛ لن من أنزل عليه الكتاب‪،‬‬
‫كان إذا جاء أمر يتعلق به فهو يقوله‪ .‬وعندما مال قلب المسلمين ذات مرة إلى تبرئة المسلم الذي‬
‫حقّ‬
‫سرق وأن تلصق التهمة باليهودي البريء‪ ،‬هنا نزل من القرآن قوله‪ {:‬إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫خصِيما }[النساء‪]105 :‬‬
‫ح ُكمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّ ُه َولَ َتكُنْ لّلْخَآئِنِينَ َ‬
‫لِتَ ْ‬
‫لقد أمر الحق أن يكون النبي هو الحكم العدل حتى ولو كان حكما ضد مسلم‪ ,‬ويأمر الحق رسوله‬
‫أن يستغفر ال إن كان قد ألم به خاطر أن ينصر المسلم الخائن على اليهودي الذي لم يسرق‪ ،‬إنها‬
‫سماحة دين السلم‪.‬‬
‫} الْ َي ْومَ يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن دِي ِن ُكمْ {‪ .‬ولقد تم دين ال‪ .‬ودخل الناس إلى السلم أفواجا‪ .‬ولن‬
‫يُنسى القرآن‪ .‬ولن يكتم القرآن أحد‪ .‬ولن يحرف القرآن أحد‪ .‬ولن يحدث للقرآن ما حدث للكتب‬
‫السابقة من نسيان وكتمان وتحريف‪ ،‬أو التيان بأشياء أخرى والقول والزعم بأنها من عند ال‪،‬‬
‫وهي ليست من عند ال‪ .‬إذن فقد يئس الذين كفروا من أن يتزيد المسلمون في دينهم‪ .‬ولن توجد‬
‫بين المسلمين تلك المثالب والعيوب التي ظهرت في القوام السابقة‪.‬‬
‫} الْ َي ْومَ يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن دِي ِن ُكمْ { لقد يئسوا من أن يُغلب السلم‪ ،‬بل إن السلم سَ َيغْلب‪.‬‬
‫وأرادوا أن يطفئوا نور ال بأفواههم ويأبى ال إل أن يتم نوره‪.‬‬

‫شوْهُمْ { وقد حكم سبحانه أل يأتي أمر يحقق لعداء‬


‫خَ‬‫} الْ َي ْومَ يَئِسَ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن دِي ِن ُكمْ فَلَ تَ ْ‬
‫السلم الشماتة به‪ ،‬أو أن تتحقق لهم الفرصة في انكسار السلم‪ ،‬فل تخشوهم أيها المسلمون‬
‫لنكم منصورون عليهم‪ ،‬ولن تدخلوا في أسباب الخيبة التي دخلوا فيها‪ .‬وعليكم أيها المؤمنون‬
‫بخشية ال‪.‬‬
‫ولو أراد أحد تغيير شيء من منهجه سبحانه سيلقى العقاب‪ ،‬وسبحانه ل يغير ما بقوم حتى يغيروا‬
‫ما بأنفسهم‪ ،‬فكتاب ال معكم وترك فيكم رسول ال صلى ال عليه وسلم منهجه‪ ،‬فإن خالفتم المنهج‬
‫فستتلقون العقاب‪ ،‬كما هزم ال المسلمين في أحُد أمام المشركين لنهم خالفوا المنهج‪ .‬فما نفعهم‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنهم كانوا مسلمين منسوبين للسلم بينما هم يخالفون عن أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫إذن فل خشية من المسلمين لعدائهم‪ .‬ولكن الخشية تكون ل‪ ،‬فإن خفتم فخافوا ال وحافظوا على‬
‫تنفيذ منهج ال‪ .‬ومادام سبحانه هو المر‪ :‬ل تخش أعداء ال لنه زرع في قلوبهم اليأس من أن‬
‫ينسى المسلمون المنهج‪ ،‬او أن يتزايدوا في الدين‪ ،‬أو يكتموا الدين‪ ،‬فهم ل يحرفونه ول يزيدون‬
‫فيه‪ .‬إذن فالعيب كل العيب أل تطبقوا منهج ال‪.‬‬
‫خ َمصَةٍ‬
‫} الْ َي ْومَ َأ ْكمَ ْلتُ َل ُكمْ دِي َن ُك ْم وَأَ ْت َممْتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َلكُمُ الِسْلمَ دِينا َفمَنِ اضْطُرّ فِي مَ ْ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ { والكمال هو أن يأتي الشيء على كماله‪ ،‬وكمال الشيء‬
‫ف لِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫غَيْرَ مُتَجَا ِن ٍ‬
‫باستيفاء أجزائه‪ ،‬واستيفاء كل جزء للمراد منه‪ .‬وقد أتم ال استمرار النعمة بتمام المنهج‪.‬‬
‫لقد رضي الحق السلم دينا للمسلمين‪ .‬ومادام رضي سبحانه السلم منهجا‪ ،‬فإياكم أن يرتفع‬
‫رأس ليقول‪ :‬لنستدرك على ال؛ لن ال قال‪ " :‬أكملت " فل نقص‪ .‬وقال‪ " :‬أتممت " فل زيادة‪.‬‬
‫وعندما يأتي من يقول‪ :‬إن التشريع السلمي ل يناسب العصر‪ .‬نرد‪ :‬إن السلم يناسب كل‬
‫عصر‪ ،‬وإياك أن تستدرك على ال؛ لنك بمثل هذا القول تريد أن تقول‪ :‬إن ال قد غفل عن كذا‬
‫وأريد أو أصوب ل‪ ،‬وسبحانه قال‪ " :‬أكملت " فل تزيد‪ ،‬وقال‪ " :‬أتممت " فل استدراك‪ ،‬وقال‪" :‬‬
‫ورضيت " فمن خالف ذلك فقد غَلّب رضاه على رضا ربه‪.‬‬
‫إن الخالق سبحانه هو أعلم بخلقه تمام العلم‪ ،‬ويعلم جل وعل أن الخلق ذو أغيار‪ ،‬وقد تطرأ عليهم‬
‫ظروف تجعل تطبيق المنهج بحذافيره عسيرا عليهم أو معتذرا فل يترك لهم أن يترخصوا هم‪ ،‬بل‬
‫هو الذي يرخص‪ ،‬فل يقولن أحد‪ :‬إن هذه مسألة ليست في طاقتنا‪ .‬فساعة علم الحق أن هناك أمرا‬
‫ليس في طاقة المسلم فقد خففه من البداية‪ .‬وما دمنا ذوي أغيار‪ ،‬وصاحب الغيار ينتقل مرة من‬
‫قوة إلى ضعف‪ ،‬ومن وجود إلى عدم‪ ،‬ومن عزة إلى ذلة؛ لذلك قدر سبحانه أن يكون من المؤمنين‬
‫بهذا المنهج الكامل من ل يستطيع القيام لمرض أو مخمصة‪ ،‬فرخص لنا سبحانه وتعالى‪َ } :‬فمَنِ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ {‪.‬‬
‫خ َمصَةٍ غَيْرَ مُ َتجَا ِنفٍ لِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫اضْطُرّ فِي مَ ْ‬

‫إذن فالحق قد ذكر أن شيئا من الغيار قد يطرأ على النفس البشرية‪ ،‬وما دام استبقاء الحياة‬
‫يتطلب القوت‪ ،‬والنسان قد يمر بمخمصة وهي المجاعة التي تسبب الضمور في البطن‪ ،‬هنا‬
‫يرخص الحق للجائع في مخمصة أن يأكل الميتة أو ما في حكمها بشرط الضطرار لستبقاء‬
‫الحياة‪ ،‬فل يقول واحد على سبيل المثال‪:‬‬
‫أنا مضطر أن أتعامل مع البنك بالربا لني أريد أن أتاجر في مائة ألف جنيه وليس معي إل ألف‬
‫جنيه‪ .‬وهذا ما هو حادث في كل الناس‪ .‬هنا أقول‪ :‬ل‪ .‬عليك بالتجارة في اللف التي تملكها ول‬
‫تقل أنا مضطر للتعامل في الربا‪ .‬فالمضطر هو الذي يعيش في مجاعة وإن لم يفعل ذلك يموت أو‬
‫يموت من يعول‪ .‬وقد رخص الشرع للنسان الذي ل يملك مالً أن يقترض من المرابي إن لم يجد‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من يقرضه ليشتري دواء أو طعاما أو شيئا يضطر إليه لنفسه أو لمن يعول‪ .‬والثم هنا يكون على‬
‫المرابي‪ ،‬ل على المقترض لنه مضطر‪.‬‬
‫خ َمصَةٍ غَيْرَ مُ َتجَا ِنفٍ لِثْمٍ { ‪ ،‬أي أنه كاره للثم وإن ذهب‬
‫ضطُرّ فِي مَ ْ‬
‫ولذلك قال الحق‪َ } :‬فمَنِ ا ْ‬
‫إليه‪ .‬ولذلك يباح للمضطر على قدر الضرورة‪ .‬لدرجة أن رجال الشريعة قالوا‪ :‬إن على النسان‬
‫المضطر أل يأكل من الميتة أو ما في حكمها بالقدر الذي يشبع‪ ،‬بل يأخذ أقل الطعام الذي يمسك‬
‫عليه رمقه ويبقى حياته فقط‪ .‬فإذا كان يسير في الصحراء فعليه أل يأخذ من الميتة أو ما في‬
‫حكمها إلّ قدرا يسيرا لنه ل يجد شيئا يتقوت به‪.‬‬
‫إذن فمعنى اضطر في مخمصة شرط أن يكون غير متجانف لثم‪ ،‬أي ل يكون مائلً إلى الثم‬
‫فرحا به‪ ،‬فعليه أل يأخذ إل على قدر الضرورة‪ .‬ومادام على قدر الضرورة فهو لن يحمل معه من‬
‫هذه الشياء المحرمة إل ما يقيم أوده ويمسك روحه‪ .‬والمضطر هو من فقد السباب البشرية‪.‬‬
‫وسبحانه وتعالى قد بسط أسبابه في الكون ومد بها يديه إلى خلقه‪ ،‬وأمر السباب‪ :‬استجيبي لهم‬
‫مؤمنين كانوا أو كافرين‪ ،‬فالذي يزرع ويحسن الزراعة والري والبذر والحرث فال يعطيه‪ ،‬والذي‬
‫يتقن عمله كتاجر تتسع تجارته وتزيد أرباحه‪ {.‬مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْ ِث ِه َومَن‬
‫كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا }[الشورى‪]20 :‬‬
‫إن عطاء السباب هو عطاء الربوبية‪ .‬والمضطر هو من فقد أسبابه‪ .‬ولذلك فالحق يجيب‬
‫المضطر إذا دعاه‪ .‬وقد يقول قائل‪ :‬إنني أدعو ال ول يجيبني‪ .‬ونقول‪ :‬إنك غير مضطر لنك‬
‫تدعو ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬بأن تسكن في قصر بدلً من الشقة التي تسكنها‪ ،‬وأنت تدعو بأن‬
‫يعطيك ال سيارة فارهة وأنت تملك وسيلة مواصلت عادية‪.‬‬

‫ضطَرّ إِذَا دَعَاهُ‬


‫فالمضطر ‪ -‬إذن ‪ -‬هو الذي فقد السباب ومقومات الحياة‪َ {.‬أمّن يُجِيبُ ا ْل ُم ْ‬
‫شفُ السّوءَ }[النمل‪]62 :‬‬
‫وَ َيكْ ِ‬
‫وقد ضربنا من قبل المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬بتاجر يستورد بضائع تصله من الخارج في‬
‫صناديق ثقيلة‪ .‬تحملها السيارات الضخمة‪ ،‬ويقوم أحد العمال أمامه بحمل صندوق ضخم‪ ،‬فغلب‬
‫الصندوقُ العامل‪ .‬وهنا يقفز التاجر ليسند العامل‪.‬‬
‫وهذه هي المساندة في المجال البشري‪ ،‬إذن فل يَردّ واحد أسبابَ ال من يده ويقول من بعد ذلك‪:‬‬
‫يارب أعني؛ لن ال في تلك اللحظة يوضح للعبد‪ :‬إنّ عندك أسبابي ومادامت أسبابي موجودة‪،‬‬
‫فل تطلب من ذاتي إل بعد أن تنفذ أسبابي من عندك؛ لذلك يباح للمضطر أن يأخذ القدر الذي يردّ‬
‫به السوء عن نفسه‪.‬‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ { ومادام سبحانه قد رخص لنا‬
‫ف لِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫خ َمصَةٍ غَيْرَ مُتَجَا ِن ٍ‬
‫ضطُرّ فِي َم ْ‬
‫} َفمَنِ ا ْ‬
‫ذلك‪ ،‬فما الداعي أن يذيل الية بمغفرته ورحمته؟ ولنفهم أن النسان يأخذ الغفر مرة على أنه ستر‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العقاب عنه‪ ،‬وقد يكون الغفر سترَ الذنب عن العبد لن ال رحيم‪ .‬وهذا ما يشرح لنا ما قاله الحق‬
‫لرسوله‪ {:‬لّ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِن ذَن ِبكَ }[الفتح‪]2 :‬‬
‫فسبحانه يغفر بستر العقاب‪ ،‬ويقدم الغفر لستر الذنب فل يفارقه النسان ويقول الحق بعد ذلك‪} :‬‬
‫حلّ‪{ ...‬‬
‫يَسْأَلُو َنكَ مَاذَآ أُ ِ‬

‫(‪)665 /‬‬

‫جوَارِحِ ُمكَلّبِينَ ُتعَّلمُو َنهُنّ ِممّا عَّل َمكُمُ‬


‫حلّ َل ُكمُ الطّيّبَاتُ َومَا عَّلمْتُمْ مِنَ الْ َ‬
‫حلّ َلهُمْ ُقلْ ُأ ِ‬
‫يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا ُأ ِ‬
‫حسَابِ (‪)4‬‬
‫علَيْ ِه وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْ ِ‬
‫سمَ اللّهِ َ‬
‫سكْنَ عَلَ ْي ُك ْم وَا ْذكُرُوا ا ْ‬
‫اللّهُ َفكُلُوا ِممّا َأمْ َ‬

‫فبعد أن بين الحق ما حرم وما أحل‪ ،‬نجد أن المحَّللَ غير محصور‪ ،‬بل المحصور هو المحرم؛‬
‫لن الحق حرم عشرة أشياء‪ ،‬فإن هذه الشياء العشرة ليست هي كل الموجودات في الكون‪،‬‬
‫فالموجودات في الكون كثيرة‪ .‬وسبحانه وتعالى حين خلق آدم وجعله يتناسل ويتكاثر للخلفة في‬
‫الرض؛ قدر في هذه الرض مقومات استبقاء الحياة لذلك النوع‪.‬‬
‫والستبقاء نوعان‪ :‬استبقاء حياة الذات للنسان‪ ،‬واستبقاء حياة نوع النسان‪ ،‬واستبقاء حياة الذات‬
‫تكون بالتنَفس والشراب والطعام‪ ،‬واستبقاء حياة النوع تكون بالنكاح والتناسل‪.‬‬
‫إذن يوجد بقاءان لستمرار الخلفة‪ :‬البقاء الول‪ :‬أن تبقى الحياة وذلك بمقوماتها‪ ،‬والبقاء الثاني‪:‬‬
‫أن يبقى نوع الحي وذلك بالتكاثر‪ .‬وحتى تبقى الحياة ويتكاثر النسان ل بد من وجود أشياء‬
‫وأجناس تخدم النسان وتعطيه الطاقة‪.‬‬
‫ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ‬
‫وطمأننا سبحانه وتعالى على الرزق حينما قال‪ُ {:‬قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خََل َ‬
‫سيَ مِن َف ْوقِهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫وَتَ ْ‬
‫سمَآ ِء وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَرْضِ ائْتِيَا‬
‫سوَآءً لّلسّآئِلِينَ * ثُمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ‬
‫َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ‬
‫طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت‪]11-9 :‬‬
‫َ‬
‫وهو بذلك يخبرنا بأنه قدر في الرض أقواتها‪ ،‬وقدر هذه القوات للنسان الخليفة في الرض‪،‬‬
‫لتقيت النسان لهذه الحياة‪ ،‬ويُبقي النسان نوعه بالنكاح‪ .‬وحين يعد العبد النعم التي وفرها له‬
‫الحق يجدها ل تحصى‪ .‬ولم يحاول النسان على طول تاريخه أن يحسب ويحصي نعم ال في‬
‫الرض؛ لن القبال على الحصاء يكون نتيجة المظنة بالقدرة على الحاطة بالنعم‪ .‬وقد عرف‬
‫النسان بداية أنه ل يقدر على الحاطة بنعم ال؛ فلم يجرؤ أحد على أن يعدها‪ .‬ولذلك قال الحق‬
‫حصُوهَا }[إبراهيم‪]34 :‬‬
‫سبحانه‪ {:‬وَإِن َت ُعدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ ُت ْ‬
‫وقد استخدم " إن " وهي للمر المشكوك فيه‪ .‬إذن فهي نعم كثيرة ل نقدر على إحصائها‪ .‬ونسأل‪:‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أيقول الحق لنا النعم المحللة أو الشياء المحرمة؟ وبما أن المحلل كثير ل نهاية له‪ ،‬وبما أن‬
‫المحرم محصور؛ لذلك يورد لنا الشياء المحرمة‪ .‬وقد بين لنا الحق عشرة أشياء محرمة من‬
‫النعم‪ .‬ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن عدم قدرة النسان على إحصاء نعمه‬
‫ظلُومٌ َكفّارٌ }[إبراهيم‪:‬‬
‫حصُوهَا إِنّ النْسَانَ لَ َ‬
‫سبحانه وتعالى قال في آية‪ {:‬وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ ُت ْ‬
‫‪]34‬‬
‫حصُوهَآ إِنّ اللّهَ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }[النحل‪]18 :‬‬
‫وقال في آية أخرى‪ {:‬وَإِن َتعُدّواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ لَ ُت ْ‬
‫وظاهر كلم الناس يقول‪ :‬إنها عبارات تقال وتتكرر‪ ،‬ولكننا نقول‪ :‬يجب أن ننتبه إلى أن النعمة‬
‫تحتاج إلى من يعطيها وهو المُنعِم‪ ،‬ومن تعطى له وهو المنعم عليه‪ .‬إذن فنحن أمام ثلثة عناصر‪:‬‬
‫نعمة‪ ،‬ومُنعِم‪ ،‬ومُنْعَمِ عليه‪.‬‬

‫أما من جهة النعمة وأفرادها فلن يقدر البشر على إحصائها لنها فوق الحصر‪ .‬ومن جهة المنعم‬
‫فهو غفور رحيم‪ .‬ومن جهة المنعم عليه فهو ظلوم كفار‪ .‬لماذا يأتي ال لنا بمثل هذه الحقائق؟‬
‫إنه سبحانه لو عاملنا بكفرنا وجحودنا وظلمنا لمنع النعمة‪ ،‬ولكن استدامة نعمة ال علينا فضل منه‬
‫ورحمة لنها تشملنا حتى ولو كنا ظالمين وكنا كفارا؛ لذلك كان من اللزم أن يأتي بهاتين اليتين‪،‬‬
‫فمن ناحية النعمة لن نقدر على حصرها‪ .‬ومن ناحية المنعم فهو غفور رحيم‪ .‬ومن ناحية المنعم‬
‫عليه فهو ظلوم كفار‪ .‬ولذلك فعندما يرتكب النسان ذنبا فإن أهل اليمان يقولون له‪ :‬ل تيأس؛‬
‫فربك هو‪ ،‬هو‪ ،‬إنه غفور رحيم‪ .‬ولذلك ل تستحي أيها العبد أن تطلب من ربك شيئا على الرغم‬
‫من معصيتك‪ ،‬فال غفور رحيم‪ .‬وعندما ننظر إلى مقومات الشياء‪ ،‬فإننا نعرف المقوم الساسي‪.‬‬
‫لكن هناك مقومات تخدم المقوم الساسي‪ .‬ومثال ذلك نحن نأخذ القمح وندرسه‪ ،‬ونصنع من حبوب‬
‫القمح دقيقا لنصنع منه خبزا‪ .‬ويحتاج القمح إلى مقومات كثيرة حتى يخرج من الرض ‪ -‬وهو‬
‫مقوم أساسي ‪ -‬إن القمح يحتاج إلى ري منتظم وحرث وخلف ذلك‪ ،‬إذن فالذي خلقنا قدر لنا هذه‬
‫الشياء‪ ،‬ومادام قد قدر لنا كل هذه الشياء‪ ،‬فعلينا أن نسمع تعاليمه‪ .‬وهو قد أوضح‪ :‬إياك أن تظن‬
‫أن كل ما خلقت من خلق فأنا مُحِلّه لك؛ لني قد أخلق خلقا ليس من طبيعته أن تتناوله‪ ،‬وليس من‬
‫طبيعتك أن تتناوله‪ ،‬ولكن لهذا المخلوق عمل فيما تتناوله كالحرث والري والتسميد للقمح‪ ،‬إنها‬
‫وسائل وأسباب للحصول عليه‪ .‬فإذا ما قال قائل‪ :‬مادام هو سبحانه قد خلق هذه المحركات فلماذا‬
‫حرمها؟‬
‫ونقول‪ :‬هذه الشياء ليس لها عمل مباشر فيك ولكن لها عمل آخر في الكون‪ .‬وإذا كنا نحن البشر‬
‫نصنع آلة ما‪ ،‬ويقول المخترع لنا‪ :‬قد صممت هذه اللة ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬لتدار بالديزل‪،‬‬
‫وآلة أخرى تدار البنزين‪ ،‬والبنزين أنواع‪ ،‬ولو جئنا لللة التي تدار ببنزين ووضعنا لها سولرا‪،‬‬
‫ما الذي يحدث لها؟ إنها تفسد‪ ،‬هذا في المجال البشري فما بالنا بخالق البشر؟‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد صنع الحق صنعته وهي النسان ووضع المواصفات التي تسير هذه اللة‪ ،‬وعلينا أن نخضع‬
‫لتعاليمه حتى ل تفسد حياتنا فل نخرج عن تلك التعاليم؛ لنك عندما تخالف وتخرج عما وصفته‬
‫لصنعتك من نظام‪ ،‬فاللة التي من صناعتك تفسد‪.‬‬
‫وفي حياتنا آلف المثلة‪ ..‬فالذي صنع الكهرباء ووضع العلمات للسلك السالبة والسلك‬
‫الموجبة‪ ،‬لنأخذ الضوء أو الحركة‪ .‬وإذا ما حدث خطأ في هذه التوصيلت الكهربية؛ نفاجأ بحدوث‬
‫قطع في الكهرباء‪ ،‬وقد تحدث حرائق نتيجة شرارة من التصال الخاطئ‪.‬‬
‫إذن فكل تكاثر وإنجاب من كل سالب وموجب أي ذكر وأنثى ل بد أن يكون على مواصفات من‬
‫صنعه وإل يحدث قطع ودمار‪ ،‬فإن تزوجنا بشرع ال ورسوله‪ ،‬استقامت الحياة‪ ،‬وإن حدث شيء‬
‫على غير شرع ال‪ ،‬تشتعل الحرائق في الكون‪.‬‬

‫ولذلك تجد العجب أمامك عندما تشهد عقد قران‪ ،‬تجد ولي الزوجة وهو مبتسم منشرح يوجه‬
‫الدعوات للناس لن شابا جاء يتزوج ابنته ويقدم الحلوى‪ ،‬لكن لو كانت هذه العروس تجلس في‬
‫المنزل وحاول شاب أن يتلصص لرؤيتها‪ ،‬فما الذي يحدث في قلب والدها؟ إنه يغلي من الضيق‬
‫والغضب والتوتر ومن الذي يتلصص لنه ذهب إلى الفتاة بغير ما أحل الخالق‪ .‬لكن عندما يدق‬
‫الباب ويخطبها من أبيها؛ فالب يفرح‪ ،‬فقد جاء في الثر‪( :‬جدع الحلل أنف الغيرة)‪.‬‬
‫ونجد الب ينتقل من موقف الغيرة إلى موقف الفرح يوم زفاف ابنته‪ ،‬وتذهب الم صباح اليوم‬
‫التالي للزفاف لترى حالة ابنتها ولتطمئن‪ ،‬هل البنة سعيدة أو ل؟ إذن‪ .‬فل يقولن أحد‪ :‬إن ال‬
‫خلق أشياء فلماذا حرمها؟‪ ،‬لن ال خلق تلك الشياء ولها عمل فيما أحل‪ ،‬ومادام سبحانه قد جعل‬
‫لهذه الشياء عملً فيما أحل‪ .‬فليس لك دخل إل بالحلل‪.‬‬
‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ { أي‬
‫حلّ َلهُمْ ُقلْ ُأ ِ‬
‫ولذلك يقول الحق ردا على تساؤل المؤمنين‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ مَاذَآ أُ ِ‬
‫أن كل طيب قد حلله ال‪ ،‬وكل خبيث حرمه ال‪ ،‬فل تقولن‪ :‬هذا طيب فيجب أن يكون حللً‪،‬‬
‫وهذا خبيث فيجب أن يكون حراما‪ ،‬ولكن قل‪ :‬هذا خلل فيجب أن يكون طيبا‪ ،‬وهذا حرام فيجب‬
‫أن يكون خبيثا‪ .‬وإياك أن تحكم أول بأن هذا طيب وهذا خبيث ثم تبنى على ذلك التحريم‬
‫والتحليل‪ ،‬فأنت ل تعرف مثلما يعرف خالقك عن كيفية وجدوى ترتيب الشياء بالنسبة لك‪ ،‬حتى‬
‫ل تقع في دائرة الذين يستطيبون المسائل الضارة؛ كهؤلء الذين يتناولون المخدرات والسموم‬
‫والخمور‪ ،‬بل يجب أن تحرص على فهم ما أحل ال فستراه طيبا‪ ،‬وترفض ما حرم ال لنه‬
‫خبيث‪ ،‬فل تظن أبدا أن كل طيب ظاهريا محلل لك؛ لن هذا الشيء الطيب في ظاهره قد يكون‬
‫خبيثا‪.‬‬
‫وعليك أن تترك تحديد الطيب والخبيث لخالقك‪ ،‬فهو أدرى بك وبالمناسب لك‪ .‬امّا أنت فتعرف‬
‫الشيء الطيب من تحليل ال له‪ .‬وتعرف الخبيث من تحريم ال له‪ .‬والحكم هنا يكون للتكليف‪ ،‬فال‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هو الذي خلق‪ ،‬وال هو الذي يعلم الصالح للنسان‪ .‬فالمسألة إذن ليست العناصر؛ ولكنها إرادة‬
‫الخالق لتلك العناصر‪ ،‬فهو الذي قدر فهدى‪.‬‬
‫الخلصة إذن في هذا الموضوع هي‪ :‬أن الحق أحل للمؤمنين الطيبات وكل شيء أحله ال يكون‬
‫طيبا‪ ،‬وكل شيء حرمه ال يكون خبيثا‪ ،‬فل تنظر أنت إلى الراء البشرية التي يقول بعضها على‬
‫شيء إنه طيب فيكون حللً‪ ،‬وإن ذلك الشيء خبيث فيكون حراما‪ ،‬فأنت وغيرك من البشر ل‬
‫يعرفون ترتيب الشياء ول فائدتها ول مضرتها بالنسبة لك‪.‬‬

‫والدليل‪ :‬أن البشر يتدخلون في بعض الحيان في تحريم أشياء بالنسبة لبعضهم البعض‪ ،‬فنجد‬
‫الطبيب يقول للمريض‪ :‬أنت مريض بالسكر فل يصح أن تتناول النشويات والسكريات‪.‬‬
‫فإذا كنا نسمع كلم الطبيب وهو من البشر‪ ،‬أفل يجدر بنا أن نستحي ونستمع لمر الخالق؟! بل‬
‫نتجاسر ونسأل‪ :‬لماذا حرمت علينا يا رب الشيء الفلني؟ وقد يخطئ الطبيب لكن ال ل يمكن أن‬
‫يخطئ‪ .‬فهو ربنا المأمون علينا‪ ،‬فما أحله ال يكون الطيب وما حرمه يكون الخبيث‪ ،‬وهذه قضية‬
‫يتعرض لها أناس كثيرون‪ ،‬فعلى سبيل المثال نسمع من يستشهد الستشهاد الخاطئ وفي غير‬
‫س َعهَا }[البقرة‪]286 :‬‬
‫ل وُ ْ‬
‫موضوعه بقول الحق‪ {:‬لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ‬
‫ويقول‪ :‬إن عملي يأخذ كل وقتي‪ .‬ول فسحة عندي لقامة الصلة‪ ،‬وال لم يكلفنا إل ما في الوسع‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬وهل أنت تقدر الوسع وتبني التكليف عليه؟ ل‪ .‬عليك أن تسأل نفسك‪ :‬أكلفك ال بالصلة‬
‫أم ل؟‪ .‬فإذا كان الحق قد كلفك بالصلة‪ ،‬وغيرها من أركان السلم فهو الذي علم وسع النسان‬
‫في العمل‪ .‬ويجب أن تقدم التكليف أولً لتعرف طاقة الوسع من بعد ذلك‪ .‬وكذلك أسأل نفسك عما‬
‫حلله ال واعرف أنه طيب وما حرمه ال فهو خبيث‪.‬‬
‫حلّ َل ُكمُ الطّيّبَاتُ { وإذا سألنا ما تلك الطيبات؟ عرفنا أنها غير ما‬
‫حلّ َلهُمْ ُقلْ أُ ِ‬
‫} َيسْأَلُو َنكَ مَاذَآ ُأ ِ‬
‫حرم ال‪ ،‬فكل غير محرم طيب‪ ،‬أو أنهم سألوا عن أشياء سيكون الجواب السابق هو الجابة‬
‫الطبيعية لها‪ ،‬وقدم ال الجمال الذي سبق أن شرحناه‪ .‬وبعد ذلك يكون المسئول عنه في مسألة‬
‫الصيد بالكلب‪ ،‬فجاء لهم بالبيان في مسألة الصيد بالكلب‪ ،‬وكانت تلك مسألة مشهورة عند‬
‫جوَارِحِ { فقد‬
‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ َومَا عَّلمْ ُتمْ مّنَ الْ َ‬
‫العرب بالجاهلية‪ ،‬وكذلك صيد الطيور‪ .‬فقال‪ُ } :‬قلْ ُأ ِ‬
‫وضع الحق القضية العامة أولً‪ ،‬ثم خصص بعد ذلك‪.‬‬
‫لقد كانت مسألة صيد الجوارح موضوع سؤال من عدي بن حاتم ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬عن الصيد‬
‫بالكلب وبالطيور‪ .‬وعلينا أن نحسن الفهم عن القرآن بحسن الفهم عن النص‪ ،‬فالحق يقول هنا‪} :‬‬
‫جوَارِحِ { فهل الكلب والفهود والنمور التي تصطاد‬
‫ت َومَا عَّلمْتُمْ مّنَ ا ْل َ‬
‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَا ُ‬
‫ُقلْ أُ ِ‬
‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ { هي قضية منتهية‪.‬‬
‫بواسطتها هي المحللة لنا لننا علمناها الصيد؟ ل‪ُ } .‬قلْ ُأ ِ‬
‫جوَارِحِ ُمكَلّبِينَ ُتعَّلمُو َنهُنّ ِممّا عَّل َمكُمُ اللّهُ َفكُلُواْ‬
‫وبعد ذلك فهنا كلم جديد هو‪َ } :‬ومَا عَّلمْ ُتمْ مّنَ الْ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكْنَ عَلَ ْيكُمْ {‪.‬‬
‫ِممّآ َأمْ َ‬
‫إذن فالذي أُحل هو ما أمسكت ما علمت من الجوارح‪ ،‬وليست الجوارح التي يعلمها النسان‪ ،‬اي‬
‫أن الحق أحل لنا الطيبات وأكل ما أمسكت علينا الكلب التي علمناها الصيد‪ .‬و " الجوارح "‬
‫مفردها " جارح " ومعناها " كاسب " ‪ ،‬ولذلك تسمى أيدينا جوارح‪ ،‬وعيوننا جوارح‪ ،‬وآذاننا‬
‫جوارح؛ لننا نكسب بها المدركات‪.‬‬

‫فالعين جارحة تكسب المرئي‪ ،‬والذن جارحة تكسب المسموع‪ .‬والنف جارحة تكسب المشموم‪.‬‬
‫واللمس جارحة لننا نكسب بها الملموس‪ .‬ويقول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي يَ َت َوفّاكُم بِاللّ ْيلِ‬
‫وَ َيعْلَمُ مَا جَ َرحْتُم بِال ّنهَارِ }[النعام‪]60 :‬‬
‫جوَارِحِ‬
‫و " ما جرحتم " أي ما كسبتم‪ ،‬إذن فالجارحة هي الكاسبة‪ .‬وقوله الحق‪َ } :‬ومَا عَّلمْتُمْ مّنَ الْ َ‬
‫{ مقصود به الحيوانات التي نعلمها كيف تصطاد لنا‪ ،‬وسميت جوارح‪ ،‬لنها كاسبة لصحابها‬
‫الصيد‪ ،‬فالنسان يطلقها لتكسب له الصيد‪ ،‬أو أنها في الغالب تجرح ما اصطادته‪ .‬وكل المعنيين‬
‫يصح ويعبّر‪.‬‬
‫والصل في ما عَلّم النسان من الجوارح هو الكلب‪ ،‬وألحق بالكلب غيرها مثل الفهود والنمور‬
‫جوَارِحِ ُمكَلّبِينَ ُتعَّلمُو َنهُنّ ِممّا عَّل َمكُمُ اللّهُ { أي ما بذلتم‬
‫عّلمْتُمْ مّنَ ا ْل َ‬
‫والصقور‪ .‬والحق قال‪َ } :‬ومَا َ‬
‫من جهد في تدريب هذه الجوارح للصيد‪ ،‬فالنسان ل يطلق الكلب أو الصقر ليصطاد‪ ،‬لكنه يقوم‬
‫‪ -‬أولً ‪ -‬بتدريب الحيوان على ذلك‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬عندما يقوم مدرب القرود بتدريب كل قرد عل اللعاب المختلفة‪ ،‬وكذلك مدرب "‬
‫السيرك " الذي يقوم بتدريب السود والفيلة‪ ،‬فهذا الفيل الضخم يقف بأربعة أرجل على اسطوانة‬
‫قطرها متر واحد‪ ،‬وذلك كله ممكن بالتدريب بما علمكم ال وألهمكم أيها البشر وبما أعطاكم من‬
‫طول البال وسعة الحيلة‪.‬‬
‫وننتبه هنا إلى نقطة هامة‪ :‬إن النسان يقوم بتدريب الحيوان على ألعاب ومهام مختلفة ولكن الفيل‬
‫‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬ل يقدر على تدريب ابنه الفيل الصغير على اللعاب نفسها‪ .‬وهذا هو‬
‫الفارق بين النسان والفيل‪ ،‬فابن النسان يتعلم من والده وقد يتفوق عليه‪ ،‬لكن تدريب الحيوان‬
‫مقصور على الحيوان نفسه ول يتعداه إلى غيره من الحيوانات من الجنس نفسه أو الذرية فل‬
‫يستطيع الحيوان الذي درّبته ورّوضته وعلمته أن ينقل ذلك إلى ذريته ونسله فل يستطيع أن يعلم‬
‫ابنه‪.‬‬
‫وكلمة " مكلب " تعني النسان الذي يعلم الكلب ويدربها على عملية الصيد‪ .‬وقال البعض‪ :‬إن "‬
‫مكلب " أي الرجل الذي يقتني الكلب؛ لكنا نقول‪ :‬إن النسان قد يقتني الكلب لكنه ل يقوم‬
‫بتدريبها‪ ،‬إذن المكلب هو الذي يحترف تدريب الكلب‪ ،‬ومثله مثل سائس الخيل الذي يدرب‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الخيل؛ فالحصان يحتاج إلى تدريب قبل أن يمتطيه النسان أو قبل أن يستخدمه في جر العربات‪.‬‬
‫ولماذا ذكر ال " المكلبين " ولم يذكر مدربي الفهود؟‪ .‬لن الغالب أن الكلب شبه مستأنس‪ ،‬أما‬
‫استئناس الفهد فأمر صعب بعض الشيء‪ .‬و " مكلبين " تعني المنقطعين لتعليم الكلب عملية‬
‫الصيد‪ .‬ويعرف معلم الكلب أن الكلب قد تعلم الصيد بأنه إذا ما أغراه بالصيد فإن الكلب يذهب‬
‫إليه‪ .‬وإذا ما زجره المدرب فهو يرجع من الطريق‪ .‬وإذا ما ذهب الكلب إلى الصيد بعد تعليمه‬
‫وتدريبه وأمره المدرب أن يحمل الصيد ويأتي؛ فالكلب يطيع المر‪.‬‬

‫ويأتي بالصيد سليما ول يأكل منه‪ .‬فهذه أمارة وعلمة على أن الكلب تعلم الصيد ويمكن تلخيصها‬
‫في هذه الخطوات‪ :‬إذا أرسلته للصيد ذهب‪ ،‬وإذا زجرته انزجر‪ ،‬وإذا استدعيته جاء ويأتي بالصيد‬
‫سليما ل يأكل منه‪ .‬فإن أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم؛ لنه أمسك الصيد على نفسه‪ ،‬ولم‬
‫يمسكه على صاحبه‪ .‬ولذلك حدد الحق عملية الصيد بقوله عن الحيوانات التي تؤدي هذه‬
‫علَ ْيكُمْ {‪.‬‬
‫سكْنَ َ‬
‫المهمة‪ِ } :‬ممّآ َأمْ َ‬
‫ومن ضمن عملية التدريب هناك إطار إيماني‪ ،‬فالتدريب العضلي هو عملية يعلمها المكلّب للكلب‪,‬‬
‫أما الطار اليماني فهو ذكر اسم ال على الصيد‪ } :‬وَا ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ { وذلك حتى يكون‬
‫الصيد حللً‪ ،‬ول يقع في دائرة } َومَآ أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ {‪ .‬وإذا ما هجم الكلب على الصيد وقتله‪،‬‬
‫يكون الصيد حللً‪ ،‬إن كان صاحب الكلب قد قال‪ " :‬بسم ال وال أكبر " قبل أن يرسل الكلب إلى‬
‫الصيد‪ .‬وإن لم يذكر اسم ال فعليه أن ينتظر إلى أن يعود الكلب بالصيد‪ ،‬فإن كان في الصيد‬
‫الحياة فليذكّه أي يذبحه‪ ،‬ويذكر اسم ال‪ ،‬وإن مات الصيد قبل ذلك فل يأكل منه‪ .‬وكذلك إذا‬
‫ل وقبل أن يطلق الرصاصة فليأكل من الصيد‪.‬‬
‫اصطاد النسان بالبندقية‪ ..‬إن ذكر اسم ال أو ً‬
‫حلّ َل ُكمُ الطّيّبَاتُ { هذه هي القضية العامة‪ ،‬ومن بعد ذلك يحدد لنا‬
‫حلّ َلهُمْ ُقلْ أُ ِ‬
‫} َيسْأَلُو َنكَ مَاذَآ ُأ ِ‬
‫الحق أل نأكل الكلب‪ ،‬ولكن هذه الكلب التي نعلمها الصيد وتصطاد لنا ما نأكله بشرط أن تذكر‬
‫اسم ال على الصيد قبل إطلق الكلب للصيد‪ ،‬أو بعد أن تذبح الصيد الذي اصطاده الكلب‪ ،‬فذكر‬
‫اسم ال مسألة أساسية في تناول النعم‪ ،‬لننا نذكر المذلل والمسخر‪ ،‬ول يصح أن نأخذ النعمة من‬
‫وراء صاحبها دون أن نتذكره بكلمة‪.‬‬
‫ب { وتقوى ال في هذا المجال تعني أل‬
‫ويذيل الحق الية بقوله‪ } :‬وَا ّتقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَا ِ‬
‫يؤدي النسان هذه المور شكليا‪ ،‬وعلى المؤمن أن يتقي ال في تنفيذ أوامره بنية خالصة ودقة‬
‫سلوك؛ لنه سبحانه سريع الحساب بأكثر من معنى‪ ،‬فمهما طالت دنياك فهي منتهية‪ .‬ومادام‬
‫الموت هو نهاية الحياة فالحياة قصيرة بالنسبة للفرد‪ .‬وإياك أن تستطيل عمر الدنيا؛ لن عمر الدنيا‬
‫لك ولغيرك فل تحسب المر بالنسبة إليك على أساس عمر غيرك الذي قد يطول عن عمرك‪ .‬إذن‬
‫مدة الحياة محدودة‪ ،‬ومادام الموت قد جاء‪ ،‬فعلى المؤمن أن يتذكر قول رسول ال صلى ال عليه‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسلم‪:‬‬
‫" إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته "‪.‬‬
‫والنسان منا يعرف من خبر القرآن أن الموت مثل النوم‪ .‬ل يعرف النسان منا كم ساعة قد‬
‫نامها‪ ،‬ونعرف من خبر أهل الكهف أنهم تساءلوا فيما بينهم‪:‬‬

‫{ َوكَذاِلكَ َبعَثْنَا ُهمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْ َنهُمْ قَالَ قَا ِئلٌ مّ ْنهُمْ كَم لَبِثْ ُتمْ قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالُواْ رَ ّبكُمْ‬
‫أَعْلَمُ ِبمَا لَبِثْتُمْ }[الكهف‪]19 :‬‬
‫إذن هم لم يتبينوا أنهم ناموا ثلثمائة عام وتسعة أعوام إل بعد أن سألوا‪ ،‬وكذلك من يموت فهو لن‬
‫يدري كم مات إل يوم البعث‪ .‬أو أنه سبحانه سريع الحساب أي أن له حسابا قبل حساب الخرة‪،‬‬
‫وهو حساب الدنيا‪ .‬فعندما يرتكب العبد المخالفات التي نهى عنها ال‪ ،‬ويأكل غير ما حلل ال‪ ،‬فهو‬
‫سبحانه قادر على أن يجازي العبد في الدنيا في نفسه بالمراض أو التعب أو المرض النفسي‪،‬‬
‫ويقف الطباء أمام حالته حائرين‪ .‬وقوله الحق‪ } :‬إِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ { يصح ان تكون السرعة‬
‫في الحساب في الدنيا ويصح أن تكون في الخرة‪.‬‬
‫أو أنه سبحانه سريع الحساب بمعنى أنه يحاسب الجميع في أقل من لمح البصر‪ ،‬فالبعض يظن‬
‫ظنا خاطئا أنهم سيقفون يوم القيامة في طابور طويل ليتلقى كل واحد حسابه‪ .‬ل‪ ،‬هو سبحانه‬
‫يحاسب الجميع بسرعة تناسب طلقة قدرته‪ .‬ولذلك عندما سئل المام علي ‪ -‬كرم ال وجهه ‪:-‬‬
‫كيف سيحاسب ال كل الناس في وقت واحد ويقال إن مقداره كنصف يوم من أيام البشر؟‪ .‬فقال‬
‫المام علي‪ :‬فكما يرزقهم جميعا في وقت واحد هو قادر على حسابهم في وقت واحد‪.‬‬
‫فسبحانه لم يجعل البشر تقف طابورا في الرزق‪ ،‬بل كل واحد يتنفس وكل واحد يأكل‪ ،‬وكل إنسان‬
‫يسعى في أرض ال لينال من فضله‪ .‬ول أحد بقادر على أن يحسب الزمن على ال؛ لن الزمن‬
‫إنما يُحسب على الذي يحدث الحدث وقدرته عاجزة‪ ،‬لذلك يحتاج إلى زمن‪.‬‬
‫إننا عندما ننقل حجرا متوسط الحجم من مكانه فإن ذلك ل يكلف الرجل القوي إل بعضا من ُقوّته‪،‬‬
‫لكن هذا العمل بالنسبة لطفل صغير يحتاج إلى وقت طويل‪ ،‬فما بالنا بخالق النسان والكون؟ وما‬
‫بالنا بالفاعل الذي هو قوة القوى؟ هو ل يحتاج إلى زمن‪ ،‬وهو سريع الحساب بكل المعاني‪.‬‬
‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ‪{ ...‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪ } :‬الْ َيوْمَ أُ ِ‬

‫(‪)666 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حصَنَاتُ مِنَ‬
‫حلّ َلهُ ْم وَا ْلمُ ْ‬
‫طعَا ُمكُمْ ِ‬
‫حلّ َلكُ ْم وَ َ‬
‫طعَامُ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ ِ‬
‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ وَ َ‬
‫الْ َيوْمَ ُأ ِ‬
‫حصِنِينَ غَيْرَ‬
‫حصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكُمْ إِذَا آَتَيْ ُتمُوهُنّ أُجُورَهُنّ ُم ْ‬
‫ت وَا ْلمُ ْ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنَا ِ‬
‫عمَلُ ُه وَ ُهوَ فِي الْآَخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (‪)5‬‬
‫ن َومَنْ َي ْكفُرْ بِالْإِيمَانِ َفقَدْ حَ ِبطَ َ‬
‫ن وَلَا مُتّخِذِي َأخْدَا ٍ‬
‫مُسَافِحِي َ‬

‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ }‪ .‬وأعادها حتى يؤكد على أن‬


‫سبحانه يبدأ الية بتكرار المر السابق‪ { :‬الْ َي ْومَ أُ ِ‬
‫النسان ل يصح أن ينظر إلى المر الطيب إل من زاوية أنه محلل من ال‪.‬‬
‫وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن كيفية تناول المحللت‪ ،‬وأسلوب التعامل مع الصيد‪ .‬نأتي هنا‬
‫حلّ ّل ُهمْ } فهل كل طعام أهل‬
‫طعَا ُمكُمْ ِ‬
‫حلّ ّل ُك ْم وَ َ‬
‫طعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ ِ‬
‫لوقفة‪ ،‬فسبحانه يقول‪ { :‬وَ َ‬
‫الكتاب حل لنا؟ إن بعضهم يأكل الخنزير‪ .‬ل‪ ،‬بل الحلل من طعام أهل الكتاب هو الطعام الذي‬
‫يكون من جنس ما حلل ال لكم‪ ،‬ول يستقيم أن يستنكف النسان من أنه طعام أهل كتاب؛ لن‬
‫الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل من النسان الذي ارتبط بالسماء ارتباطا حقيقيا كالمسلمين‪،‬‬
‫ومن ارتبطوا بالسماء وإن اختلف تصورهم ل‪ ،‬يريد سبحانه أن يكون بينهم نوع من التصال‬
‫لنهم ارتبطوا جميعا بالسماء‪ ،‬ويجب أن يعاملوا على قدر ما دخلهم من إيمان باتصال الرض‬
‫بالسماء‪.‬‬
‫إياك أن تقول بمقاطعة أهل الكتاب ل‪ ،‬ولكن انظر إلى طعامهم فإن كان من جنس الطعام المحلل‬
‫في السلم فهو حلل‪ .‬ول يصح أن تمنع واحدا من أهل الكتاب من طعامك؛ لن ال يريد أن‬
‫ينشئ شيئا من اللفة يتناسب مع الناس الذين سبق أن السماء لها تشريع فيهم ويعترفون بالله وإن‬
‫اختلفوا في تصوره‪.‬‬
‫وضرب لنا ‪ -‬سبحانه ‪ -‬المثل مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ففي أول مجيء الدعوة‬
‫السلمية‪ ،‬واجهت معسكرا ملحدا يعبد النار‪ ،‬ول يؤمن بالله وهو معسكر فارس؛ ومعسكرا‬
‫يؤمن بالله وهو معسكر الروم؛ كانت هناك قوتان في العالم‪ :‬قوة شرقية وقوة غربية‪ .‬وعندما‬
‫يأتي رسول ليأخذ الناس إلى طريق ال‪ ،‬فل بد أن يكون قلبه وقلوب المؤمنين معه مع الذين آمنوا‬
‫بإله وبنمهج ورسالة‪ ،‬ول يكون قلبه مع الملحدة الذين يعبدون غير ال‪.‬‬
‫ولنر العظمة اليمانية في الرسول عليه الصلة والسلم‪ .‬نجد الذين يؤمنون بال ويكفرون به‬
‫كرسول أولى عنده ممن يكفرون بال‪ .‬ولذلك عندما قامت الحرب بين فارس والروم كانت الغلبة‬
‫أول لفارس‪ .‬وكانت عواطف الرسول والذين آمنوا معه مع الروم؛ لنهم أقرب إلى معسكر‬
‫اليمان الوليد وإن كانوا يكفرون بمحمد فقد كانوا يؤمنون بال‪ ،‬وأن هناك منهجا وهناك يوم بعث‪،‬‬
‫ولذلك يضربها الحق مثل في القرآن ليعطينا عدة لقطات‪ ،‬وأولى هذه اللقطات هي أن المسلمين‬
‫في جانب من عنده رائحة اليمان‪ ،‬فيقول سبحانه‪ {:‬الـم * غُلِ َبتِ الرّومُ * فِي َأدْنَى الَ ْرضِ وَهُم‬
‫لمْرُ مِن قَ ْبلُ َومِن َبعْ ُد وَ َي ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ *‬
‫مّن َبعْدِ غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ سِنِينَ لِلّ ِه ا َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بِ َنصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن َيشَآ ُء وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ }‬

‫[الروم‪]5-1 :‬‬
‫وتبدأ هذه اليات بخبر عن هزيمة الروم‪ ،‬ثم نبوءة من الحق بأنهم سيغلبون في بضع سنين‪ .‬ويوم‬
‫نصرهم سيفرح المؤمنون بنصر ال‪ .‬وتنظر القوة السلمية التي جاءت لتؤسس دينا واسعا جامعا‬
‫مانعا إلى معركة بين دولتين عظيمتين كلتيهما على أقصى ما يكون من الرقي الحضاري‪ ،‬هذه‬
‫القوة السلمية تتعاطف مع الروم وتحزن ‪ -‬القوة السلمية ‪ -‬لن الفرس قد غَلَبت‪ .‬فيأتي الحق‬
‫بالخبر اليقين وهو سَ َتغِْلبُ الروم‪.‬‬
‫وبال من الذي يستطيع أن يحكم في نهاية معركة بين قوتين عظيمتين؟ إنه حكم ل يستغرق يوما‪،‬‬
‫حتى ولو كان قائله عرف أن هناك مددا قادما للقوة التي ستنتصر‪ ،‬إنه حكم يستغرق بضع سنين‪.‬‬
‫فمن الذي يستطيع أن يتحكم في معركة ستحدث بعد بضع سنين؟ ل يستطيع الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم أن يجازف بهذا الحكم‪ ،‬وهو ل يعرف استعدادات كل قوة وحجم قواتها وأسلحتها‪ ،‬لكن‬
‫المر يأتي كخبر موثق من ال‪ {:‬وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ سِنِينَ }[الروم‪]4-3 :‬‬
‫وهذا كلم موثق‪ ،‬لنه قرآن مسطور يقرأه المؤمنون تعبدا‪ .‬وعندما سمع أبو بكر الصديق هذه‬
‫الية‪ ،‬قال لقد أقمت رهانا بأن الروم ستنتصر بعد ثلث سنين‪ ،‬وطالبه الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم أن يمد مدة الرهان لن ال قال‪ } :‬فِي ِبضْعِ سِنِينَ { والبضع ما بين الثلث إلى التسع‪،‬‬
‫ولذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم لسيدنا أبي بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬فزايده في الخطر ومادّه‬
‫في الجل فجعلت مائة قلوص (ناقة) إلى تسع سنين‪ .‬كأن هذا المر قد لقي الوثوق الكامل من‬
‫المؤمنين؛ لن ال سبحانه وتعالى قد أخبر بالنصر‪.‬‬
‫لقد أوردنا ذلك هنا حتى نفهم أن عواطف الرسول صلى ال عليه وسلم كانت مع الذين يؤمنون‬
‫بكتاب وبرسول‪ .‬ونحن هنا نجد الحق يحلل لنا مطاعمة أهل الكتاب حتى تكون هناك صلة بيننا‬
‫حلّ ّلهُمْ {‪.‬‬
‫طعَا ُمكُمْ ِ‬
‫حلّ ّلكُ ْم وَ َ‬
‫طعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ ِ‬
‫وبين من يؤمن بإله وبمنهج السماء‪ } :‬وَ َ‬
‫وأوضح الحق سبحانه ذلك في آيات أخرى حينما قال‪ {:‬لّ يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ ُيقَاتِلُوكُمْ فِي‬
‫سطِينَ * إِ ّنمَا يَ ْنهَاكُمُ‬
‫حبّ ا ْل ُمقْ ِ‬
‫ن وََلمْ يُخْ ِرجُوكُمْ مّن دِيَا ِر ُكمْ أَن تَبَرّوهُ ْم وَ ُتقْسِطُواْ ِإلَ ْيهِمْ إِنّ اللّهَ يُ ِ‬
‫الدّي ِ‬
‫جكُمْ أَن َتوَّلوْهُ ْم َومَن‬
‫ن وَأَخْ َرجُوكُم مّن دِيَا ِركُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىا ِإخْرَا ِ‬
‫اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّي ِ‬
‫يَ َتوَّلهُمْ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ }[الممتحنة‪]9-8 :‬‬
‫فسبحانه يريد أن نوازن في أسلوب تعاملنا فل نساوي بين ملحد مشرك ومؤمن بصلة السماء‬
‫بالرض وإن كفر برسول ال‪ .‬وأن يكون هناك قدر محدود من التواصل النساني‪ .‬فالذي يحل‬
‫للمؤمنين من طعام أهل الكتاب هو الذي يكون حلل في منهج السلم‪ .‬ويجب أن ينتبه المسلم إلى‬
‫أن بعض أطعمة أهل الكتاب تدخلها الخمور وعليه المتناع عن كل ما هو محرم في ديننا ولياكل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من طعامهم ما هو حلل لدينا‪.‬‬

‫فل يشرب المسلم خمرا‪ ،‬ول يأكل المؤمن لحم الخنزير‪.‬‬


‫والطعام كما نعلم وسيلة لستبقاء الحياة‪ .‬وها هوذا ينتقل إلى استبقاء النوع وهو التناسل؛ فقد أحل‬
‫حصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ مِن قَبِْلكُمْ إِذَآ آتَيْ ُتمُوهُنّ ُأجُورَهُنّ‬
‫ال لنا أن نتزوج من بناتهم } وَا ْلمُ ْ‬
‫ن َولَ مُتّخِذِي َأخْدَانٍ {‪.‬‬
‫حصِنِينَ غَيْرَ مُسَا ِفحِي َ‬
‫مُ ْ‬
‫والمحصنة لها معنيان‪ :‬وهي إما أن تكون الحرة في مقابل المة‪ ،‬وإما أن تكون المتزوجة؛ لن‬
‫الحصان يعني الوقاية من أن تختلط اختلطا غير شريف‪ .‬وكانت الحرة قديما ل تفعل الفعل‬
‫القبيح‪ .‬وكان البغاء مقصورا على الماء؛ لن المة ل أب لها ول أخ ول عائل‪ ،‬وهي ُمهْدَرة‬
‫الكرامة‪ .‬ولذلك نجد أن هندا زوجة أبي سفيان عندما سمعت عن الزنا من رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم تساءلت‪ :‬يا رسول ال َأوَ تزني الحرة؟! كأن الحرة لم تكن لتزني في الجاهلية؛ لن‬
‫الحرة تستطيع أن تمتنع عكس غيرها‪.‬‬
‫والمحصنة أيضا هي المتزوجة‪ .‬ويساوي الحق بين المحصنة من المؤمنات والمحصنة من أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬والمراد هنا الحرة العفيفة ويشترط وضع المهر لكل واحدة منهن‪ .‬وبعض العلماء يقول‪:‬‬
‫عندما تتزوج مسلمة يكفي أن تسمي لها المهر‪ ،‬لن الدين الواحد يعطي المان العهدي‪ ،‬أما‬
‫الزواج من كتابية فيجب أن يحدد النسان المهر وأن يقرره وأن يوفي بذلك‪ .‬فاليتاء هو أن يسمي‬
‫النسان المهر ويقرره ويشهد عليه الشهود‪ .‬ويستطيع أن يجعل النسان المهر كله مؤخرا‪.‬‬
‫والشرط أن يكون الرجل محصنا أي متعففا‪.‬‬
‫خدَانٍ { أي صدائق لهم دون زواج‪ ،‬والسفح هو‬
‫خذِي أَ ْ‬
‫ويحدد الحق‪ } :‬غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَ مُتّ ِ‬
‫الصب‪ .‬والمرأة البغي هي من يسفح معها أي رجل‪ ،‬والخدن هي الخليلة أو العشيقة دون زواج‪،‬‬
‫والخدن كذلك يطلق على الذكر كما يطلق على النثى‪ .‬وإياك أن تفكر في أمر إقامة علقة زواج‬
‫متعة‪ ،‬بل ل بد أن يكون القبال على الزواج بنية الزواج التأبيدي ل الزواج الستمتاعي‪.‬‬
‫عمَلُ ُه وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ {؛‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪َ } :‬ومَن َي ْكفُرْ بِالِيمَانِ َفقَدْ حَ ِبطَ َ‬
‫لن فائدة اليمان أن يستقبل المؤمن الحكام ممن آمن به إلها وينفذها‪ .‬فإن سترت شيئا من أحكام‬
‫ال التي آمنت بها فقد كفرت باليمان‪ .‬والحق ل يضره أن يكفر الناس جميعا؛ لنه هو الذي خلق‬
‫الخلق بداية وهو متصف بكل صفات القدرة والكمال‪.‬‬
‫إذن فالعالم كله ل يضيف إلى ال شيئا‪ ،‬فقبل أن يخلق ال النسان كانت كل صفات الكمال‬
‫موجودة ل‪ .‬وكل ثمار الطاعة والعبادة واليمان إنما تعود على النسان‪ .‬فإن جاء النسان إلى‬
‫الحكام التي شرعها ال له‪ ،‬وستر حكما منها فكأنه كفر بقضية اليمان‪ .‬وإن أنكر جزئية من‬
‫جزئيات اليمان‪ ،‬فهذا لون من الكفر‪ ،‬ويا ليت من يفعل ذلك أن يقول‪ " :‬إن هذه الجزئية صحيحة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولكن ل أقدر على نفسي "‪.‬‬

‫ففي هذه الحالة يكون النسان مؤمنا عاصيا يستغفر ال أو يتوب‪ ،‬أما الكفر فل‪ :‬والكفر باليمان‬
‫يؤدي إلى حبط العمل‪ .‬وهذا دليل على أن الحق يخاطب إنسانا يلتزم في بعض الشياء ول يلتزم‬
‫في البعض الخر‪ .‬وهنا يوضح الحق للنسان‪ :‬إن ما أديت من خير في أعمالك سيذهب بثوابه‬
‫ويحبط جزاءه ما منعت تنفيذه من أحكام ال‪ ،‬وجاء الحق بكلمة " حبط " التي تدل على أن العمل‬
‫بطل وذهب ذهابا ل يعود‪ .‬فالماشية حين تأكل طعاما لم ينضج بعد وإن كان من جنس ما تطعم‬
‫مثل البرسيم في بدايته ويسمى " الرّبة " ‪ ،‬هذا اللون من الطعام عندما ترعى فيه البهائم يحدث لها‬
‫انتفاخ في البطن وتموت‪.‬‬
‫والعرب تسمي هذا الداء الحُباط‪ .‬فالحَبَط إذن هو انتفاخ البطن في الماشية التي تأكل أكل غير‬
‫مناسب لها‪ .‬ويظن صاحبها أنها قد سمنت بينما هي تموت في الواقع‪ .‬وكذلك يكون العمل على‬
‫غير ما شرع ال‪ .‬والحق بدأ قضايا اليمان في هذه السورة بقوله‪ {:‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َأ ْوفُواْ‬
‫بِا ْل ُعقُودِ }[المائدة‪]1 :‬‬
‫فكل عقد إيماني يتعلق بالوحدانية ل وبالبلغ عن ال‪ ،‬وكل عقد عُقد بين المؤمنين بعضهم بعضا‪،‬‬
‫وكل عقد عقده النسان بينه وبين نفسه؛ هذه العقود مطلوب الوفاء بها‪ ،‬ومن يكفر بهذه الشياء فقد‬
‫حبط عمله‪ .‬وحبط العمل يأتي نتيجة أن النسان أنهى عمله وختمه بهذا اللون من الكفر وظن أنه‬
‫عمل عمل صالحا‪ .‬لكن العمل يحبط تماما كما تذهب البهيمة لترعى شيئا ل يتناسب معها فينتفخ‬
‫بطنها‪ .‬فيخيل للرائي أن ذلك شبع وأن ذلك عافية‪ ،‬ثم ل تلبث أن تنفق وتموت‪ .‬كذلك عمل الذي‬
‫يكفر باليمان‪ ،‬يظن أنه عمل شيئا ولكن ذلك الشيء متلف له‪ .‬واليات القرآنية تكلمت عن هذا‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا‬
‫عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ‬
‫المعنى كثيرا؛ فالحق يقول عن الكافرين بال‪ {:‬أَ ْ‬
‫جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا }[النور‪]39 :‬‬
‫ونعلم أن السراب هو شيء من انعكاسات الضوء يخدع الرائي السائر في الصحراء فيظن أنه‬
‫ماء‪ ،‬ويسير إليه النسان فل يجده ماء‪ ،‬هكذا يكون عمل الذي يكفر بآيات ال‪ .‬إنها أعمال تبدو‬
‫متوهمة النفع‪ .‬وقول الحق سبحانه‪َ } :‬ووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ { أي أن مثل هذا النسان يفاجأ بوجود ال‪،‬‬
‫كأن مسألة وجود الله لم تكن بخياله من قبل‪ ،‬والنسان ل يأخذ أجره إل لمن عمل به‪ .‬فهل عمل‬
‫الواحد من هؤلء ل حتى يأخذ منه أجرا؟‪ .‬ل‪ .‬لم يعمل ل‪ ،‬ولذلك نجد أن بعض السطحيين في‬
‫الفهم يقولون‪ :‬كيف ل يجزي ال الجزاء الحسن هؤلء العلماء الذين اخترعوا العلجات‬
‫للمراض‪ ،‬والعلماء الذين ابتكروا الشياء التي تنفع الناس؟ كيف ل يحسن ال جزاءهم في‬
‫الخرة؟‬
‫ونقول‪ :‬لقد فعلوا ذلك ولم يكن ال في بالهم‪ ،‬كان في بالهم النسانية‪ ،‬وقد أعطتهم الخلود في‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذكرى وأقامت لهم التماثيل ومنحتهم أوسمة ووضعت فيهم المؤلفات لتمدحهم‪.‬‬

‫هم قد عملوا للناس فأعطاهم الناس‪ .‬وهؤلء الكافرون بتقدمهم في العلوم؛ مسخرون للنسان‬
‫المؤمن؛ فالمؤمن يستفيد من الكهرباء‪ ،‬وينتفع بها المسلمون ليقرأوا القرآن والعلم والذكر‪ .‬ويستفيد‬
‫المسلم من الطائرات فيذهب بها إلى الحج وزيارة المدينة المنورة‪ ،‬وينتفع بها كذلك في شئون‬
‫دنياه‪ ،‬وعلى المؤمنين أن يأخذوا بالسباب حتى ل يكونوا أذلة وعالة على غيرهم‪ .‬والحق يسخر‬
‫علم الكفار للمؤمنين‪ ،‬ول يثاب الكفار على هذا العمل من ال‪ .‬ولذلك يقول الحق عن أعمالهم‬
‫جدَ‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا وَوَ َ‬
‫حسَبُهُ ال ّ‬
‫عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ‬
‫مرة‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }[النور‪]39 :‬‬
‫صفٍ‬
‫عمَاُلهُمْ كَ َرمَادٍ اشْتَ ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َي ْومٍ عَا ِ‬
‫ومرة أخرى يقول الحق‪ {:‬مّ َثلُ الّذِينَ َكفَرُواْ بِرَ ّبهِمْ أَ ْ‬
‫للُ الْ َبعِيدُ }[إبراهيم‪]18 :‬‬
‫شيْءٍ ذاِلكَ ُهوَ الضّ َ‬
‫لّ َيقْدِرُونَ ِممّا كَسَبُواْ عَلَىا َ‬
‫سعْ ُيهُمْ فِي الْحَيَاةِ‬
‫ضلّ َ‬
‫ن َ‬
‫عمَالً * الّذِي َ‬
‫وها هوذا سبحانه وتعالى يقول‪ُ {:‬قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ‬
‫طتْ‬
‫ن صُنْعا * ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ َكفَرُواْ بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ وَلِقَائِهِ َفحَبِ َ‬
‫حسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُيحْسِنُو َ‬
‫الدّنْيَا وَ ُهمْ يَ ْ‬
‫عمَاُلهُمْ فَلَ ُنقِيمُ َل ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَزْنا }[الكهف‪]105-103 :‬‬
‫أَ ْ‬
‫إذن فالنسان الذي يستر اليمان بعضه أو كله‪ ،‬هو إنسان حابط العمل‪ ،‬وهو في الخرة من‬
‫الخاسرين؛ لن النجاح في الخرة نتيجة لعمل الدنيا‪ .‬ومادام قد عمل لغير ال في الدنيا فل بد أن‬
‫يكون من الخاسرين في الخرة‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ } :‬وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ { يوضح لنا ضرورة أل نخدع ويغرر بنا لن‬
‫بعضا من الكافرين يكسب بعضا من الشهرة والجاه والثروة نتيجة اختراعاتهم؛ فكل ذلك أمور‬
‫فانية‪ ،‬وهم مستسلمون لسنة ال‪ ،‬فإما أن يفوتهم النعيم وإما أن يفوتوا النعيم‪ .‬والحساب الختامي‬
‫يكون في الخرة‪ ،‬فالكافر وإن أخذ شيئا من الكسب في ظاهر هذه الحياة الدنيا فهو خاسر في‬
‫الخرة‪.‬‬
‫وبعد ذلك ينتقل الحق ليربط لنا كل قضايا الدنيا رباطا وافيا‪ .‬فبعد أن يتكلم عن مقومات الحياة‬
‫وعن مقومات النوع بالنكاح وغيره‪ ،‬يوضح‪ :‬كل هذه نعم أعطيتها لكم وأريد أن آخذ بأيديكم بعد‬
‫أن بينت لكم فضل هذه النعم عليكم؛ لتلتقوا بصاحب كل هذه النعم‪ .‬هو سبحانه يريد أن يأخذنا من‬
‫مشاغل الدنيا لنلقى المنعم‪ .‬وحتى تلقى أيها المسلم الله المنعم ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فل بد أن تعد نفسك‬
‫لهذا اللقاء؛ لنها ليست مسألة طارئة؛ فل بد من العداد الروحي والعداد البدني والعداد‬
‫المكاني والعداد الزماني‪.‬‬
‫إن العداد البدني يكون بالطهارة‪ .‬والعداد الزماني هو مواقيت الصلة‪ .‬والعداد المكاني هو‬
‫وجود مكان طاهر لقامة الصلة وإعداد اتجاهي بتحديد وجهة الصلة إلى القبلة‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذه كلها مواصفات تهيئ النفس البشرية للوقوف بين يدي من أنعم على النسان بكل النعم‪.‬‬
‫ولذلك نقول‪ :‬إن الصلة إعلن استدامة الولء اليماني للخالق الممد المنعم؛ فهو الذي خلق من‬
‫عدم وأمد من عدم‪ .‬وقد فرض الحق سبحانه وتعالى الصلة خمس مرات في اليوم؛ ليقطع على‬
‫النسان سبيل الغفلة عنه‪ .‬وإذا ما أراد النسان أن يلقى ال في الوقات التي بين الصلوات؛ وأراد‬
‫أن يعلن استدامة اليمان وهو يقوم بأي عمل غير الصلة فليذكر ال؛ لننا نعرف القاعدة الشرعية‬
‫القائلة‪:‬‬
‫[ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب]‪.‬‬
‫مثال ذلك أن النسان حين يصلي فهو يحتاج إلى قوة‪ .‬والقوة تتولد في الجسم نتيجة تناول الطعام‪.‬‬
‫إذن عملية صناعة الطعام أمر واجب وكل ما يترتب على ذلك عملية واجبة‪ .‬ولذلك عندما يأتي‬
‫واحد ويقول‪ :‬أريد أن أنقطع للعبادة وأعتزل حركة الحياة‪ .‬لنقل له‪ :‬افعل ذلك بشرط واحد هو أل‬
‫تنتفع بحركة متحرك واحد في الحياة‪ ،‬ول تتناول أي طعام‪ ،‬ذلك أن الرغيف الذي يقدمه لك إنسان‬
‫هو من عمل بشر كثيرين لم ينقطعوا عن الحياة‪ .‬ولنقل أيضا‪ :‬لماذا ترتدي هذا الجلباب؟‪ .‬إنه‬
‫نتيجة حركة حياة بشر آخرين‪ ،‬فهناك من زرع القطن وآخر حلج هذا القطن وثالث حوله إلى‬
‫غزل ورابع نسجه وخامس قام بتفصيل هذا الجلباب‪ .‬ولتنظر إلى ما خَلْف كل واحد من آلت‪.‬‬
‫وإياك أن تنتفع بحركة واحد مشغول بالسباب مادمت قد قررت النقطاع عن حركة الحياة‪.‬‬
‫إن الشغل بالسباب عبادة؛ لن العبادة ل تتم إل به‪ .‬وما ل يتم الواجب إل به فهو واجب‪ .‬ولذلك‬
‫فَ َتعَلّم المهارات المفيدة للحياة هو فرض كفاية؛ والفرض الواجب على النسان‪ :‬احد اثنين‪ :‬إما‬
‫فرض عين وهو المر المكلف به الفرد ولبد أن يؤديه ول يجوز أن يؤديه أحدٌ نيابة عنه؛‬
‫كالصلة‪ ،‬وإنا فرض كفاية‪ :‬وهو ما ل يتم الواجب إل به لذلك كان واجبا‪ ،‬فكل منا يريد الطعام‪.‬‬
‫لذلك ل بد من تقسيم العمل‪ ،‬فهذا يزرع وهذا يصنع‪ ،‬فل بد من زراعة القمح ول بد من إقامة‬
‫المطاحن ول بد من إقامة الفران‪ .‬ول بد من مهندسين يصممون هذه اللت‪ .‬وكل ذلك أمور‬
‫تسهل للنسان أن يمتلك القوة لداء الصلة؛ وأن يقف بين يدي الحق ليؤدي الصلة‪ .‬إذن فكل‬
‫ذلك أمر واجب‪ ،‬وهو فرض كفاية‪ .‬أي أنه فرض إذا قام به البعض سقط عن الباقين‪ ،‬وإن لم يقم‬
‫به بعضنا يكون الثم على الجميع‪.‬‬
‫ومثال آخر هو الصلة على الميت هي فرض كفاية‪ ،‬فمن يصلي على الميت فهو يؤدي عنا‪ ،‬وإن‬
‫لم يصل أحد على الميت يكون الثم على كل مسلم‪ ،‬هكذا تتسع رقعة الثم‪.‬‬

‫وكل العمال التي ل يتم الواجب إل لها فهي واجب‪ ،‬ولذلك فهي فرض كفاية‪ ،‬إن قام به البعض‬
‫سقط الطلب عن الباقين‪ ،‬وإن لم يقم به البعض فالثم على الجميع‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وما موقف ولي المر في هذا؟‪ .‬على ولي المر أن يفرض القيام بفرض الكفاية على أحد الناس‪،‬‬
‫وإل تعطلت الواجبات التي نقول عنها‪ :‬إنها واجبات دينية‪ .‬فحين يذهب المسلم إلى السوق فل يجد‬
‫خبزا؛ يضعف ول يملك الفكاك من المجاعة؛ ولن يقدر على الصلة أو العمل لينتج أو يجد ادخارا‬
‫يكفيه أن يحج إذن‪ :‬ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب؛ لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما حثنا‬
‫ج ُمعَةِ‬
‫لةِ مِن َيوْمِ الْ ُ‬
‫على أداء الصلة في يوم الجمعة يقول‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُو ِديَ لِلصّ َ‬
‫س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَِلكُمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ }[الجمعة‪]9 :‬‬
‫فَا ْ‬
‫هو سبحانه يخرجنا من العمل إلى الصلة‪ ،‬ولم يخرجنا إلى الصلة من فراغ‪ ،‬لنلتفت إلى دقة‬
‫الداء القرآني حين يقول الحق‪ } :‬وَذَرُواْ الْبَيْعَ { وحين يذر النسان البيع‪ ،‬فهو يذر الشراء من‬
‫باب أولى؛ لن البيع والشراء وجهان لعملية واحدة‪ .‬والخلف فقط أن المشتري قد يشتري السلعة‬
‫وهو كاره لن يشتري؛ لنه يستهلك نقوده فيما يشتريه‪ ،‬أما البائع فيريد أن يحصل على ثمن البيع‬
‫فورا‪ ،‬وغالبا ما يحصل على ربح من وراء ذلك‪ ،‬وتلك هي قمة الكسب‪ .‬فكسب الزارع ‪ -‬على‬
‫سبيل المثال ‪ -‬يأتيه بعد شهور من الزراعة‪ .‬وكسب الموظف يأتيه أول الشهر‪ .‬لكن البائع يحصل‬
‫على الكسسب فورا‪ .‬ولذلك يأمرنا الحق أن نذر البيع إذا سمعنا نداء الصلة يوم الجمعة‪ ،‬وماذا‬
‫بعد انتهاء الصلة؟‪.‬‬
‫ضلِ اللّهِ وَا ْذكُرُواْ اللّهَ‬
‫ض وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ‬
‫لةُ فَان َتشِرُواْ فِي الَ ْر ِ‬
‫ها هوذا الحق يقول‪ {:‬فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ‬
‫كَثِيرا ّلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[الجمعة‪]10 :‬‬
‫إذن فل يقولن أحد أنا منقطع طوال حياتي للصلة‪ .‬فلن يستطيع أحد أن يذهب إلى الصلة ما لم‬
‫يكن يملك مقومات حياته‪ .‬ومقومات الحياة تقتضي أن يضرب النسان في الرض‪ .‬ول بد أن‬
‫يبتغي النسان من فضل ال‪ .‬إذن‪ ،‬فالسعي في الرض هو عبادة؛ لن ما ل يتم الواجب إل به‬
‫فهو واجب‪ .‬ويريد الحق سبحانه وتعالى أل يعزل قضية تتعلق بمقومات الحياة طعاما وإنكاحا عن‬
‫الصلة‪ .‬فيأتي الحق سبحانه وتعالى بشروط الوضوء استعدادا للصلة بعد أن يتحدث عن أحكام‬
‫تحليل الطعمة وتحريم بعضها‪ ،‬وبعض من أحكام النكاح‪ ،‬وذلك لنعرف أن مسئوليات اليمان‬
‫ل ونقول‪ :‬هذا عمل تعبدي وذاك عمل غير تعبدي‪.‬‬
‫كلها مترابطة‪ ،‬فل يصح أن نعزل عم ً‬
‫والمؤلفون عندما يضعون الكتب في الفقه ويخصصون أقساما في هذه الكتب للعبادات وأقساما‬
‫للمعاملت‪ ،‬فهذا التقسيم تقسيم تصنيفي تأليفي‪ ،‬لكن كل ما يطلبه الكون لينصلح فهو عبادة لخالق‬
‫س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَيْعَ { وهذا أمر‪.‬‬
‫هذا الكون‪ ،‬بدليل أنه قال‪ } :‬فَا ْ‬

‫لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ {‪.‬‬


‫ويتلوه أمر آخر‪ } :‬فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ‬
‫إن النسان ل ينفذ أمرا ويهمل أمرا آخر‪ ،‬ولكن عليه بمقتضى اليمان أن ينفذ المرين معا‪ ،‬فإن‬
‫تأخر النسان في أي من المرين فهو مذنب؛ لذلك يخبرنا سبحانه ‪ -‬من بعد الحديث عن النعم‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التي أنعم بها علينا ‪ -‬بما أحل لنا من بهيمة النعام‪ ،‬وبما قص علينا من الزواج من المحصنات؛‬
‫ها هوذا يدخلنا إلى رحابه بالستعداد للصلة لنه واهب كل النعم‪ .‬ويأمرنا بالستعداد للصلة وأن‬
‫يعد كل واحد منا نفسه لها‪.‬‬
‫وهذا العداد يؤهل المسلم ليلقى الحق فقال‪ } :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)667 /‬‬

‫سكُمْ‬
‫ق وَامْسَحُوا بِ ُرءُو ِ‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِذَا ُقمْتُمْ إِلَى الصّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُو َه ُك ْم وَأَيْدِ َيكُمْ إِلَى ا ْلمَرَا ِف ِ‬
‫حدٌ مِ ْنكُمْ مِنَ‬
‫سفَرٍ َأوْ جَاءَ أَ َ‬
‫طهّرُوا وَإِنْ كُنْ ُتمْ مَ ْرضَى َأوْ عَلَى َ‬
‫وَأَرْجَُلكُمْ إِلَى ا ْل َكعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْ ُتمْ جُنُبًا فَا ّ‬
‫سحُوا ِبوُجُو ِهكُ ْم وَأَيْدِي ُكمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ‬
‫صعِيدًا طَيّبًا فَامْ َ‬
‫جدُوا مَاءً فَتَ َي ّممُوا َ‬
‫ا ْلغَائِطِ َأوْ لَا َمسْتُمُ النّسَاءَ فََلمْ تَ ِ‬
‫شكُرُونَ (‪)6‬‬
‫طهّ َركُ ْم وَلِيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكُمْ َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫ج وََلكِنْ يُرِيدُ لِ ُي َ‬
‫ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ حَرَ ٍ‬
‫اللّهُ لِيَ ْ‬

‫سبحانه يأمرنا بوضوح محدد‪ :‬إذا أردتم القيام إلى الصلة فل بد لكم من تنفيذ عملية الوضوء‪.‬‬
‫وتتعرض الية إلى الركان الساسية في الوضوء‪ .‬وقد يلتبس المر على بعض الناس ول‬
‫يستطيع أن يميز بين سنن الوضوء وأركان الوضوء؛ لن السنن تقتضي أن يغسل النسان يديه ثم‬
‫يتمضمض‪ ،‬ثم يستنشق الماء وهكذا‪ .‬هذه هي السنن التي تمتزج بالركان الساسية للوضوء‪.‬‬
‫غسِلُواْ وُجُو َهكُمْ } والغسل يتطلب إسالة الماء على‬
‫ويبدأ الحق أركان الوضوء الساسية بقوله‪ { :‬فا ْ‬
‫العضو وأن يقطر منه الماء بعد ذلك‪ .‬والمسح هو اللمس بالماء ليصيب العضو ول يتقطر منه‬
‫الماء؛ إنه مجرد بلولة بالماء‪ .‬والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في هذه الية عن الوضوء‪ ،‬تكلم‬
‫عن أشياء تُغسل وعن شيء يُمسح‪ .‬فالمر بالغسل يشمل الوجه واليدين إلى المرافق والرجلين إلى‬
‫الكعبين‪ .‬والمر بالمسح يشمل بعض الرأس‪ .‬والغسل قد يكفي مرة أو اثنتين أو ثلثا ليتأكد‬
‫النسان تماما من الغسل‪ ،‬ولكن إذا كانت المياه قليلة فيكفي أن يغسل الجزاء المطلوبة مرة وأن‬
‫يتأكد أنه قد غسل المساحات المطلوبة‪.‬‬
‫إن الزيادة على المرة الواحدة إل ثلث مرات أمر مسنون ل واجب وغسل الوجه معروف تماما‬
‫للجميع‪ ،‬فالوجه هو ما به المواجهة‪ .‬والمواجهة تكون من منبت الشعر إلى الذقن‪ ،‬وتحت منتهى‬
‫لحييه وهما العظمان اللذان تنبت عليهما السنان السفلى‪ ،‬هذا في الطول‪ ،‬وفي العرض يشمل‬
‫الوجه ما بين شحمتي الذنين‪ .‬ول أحد يختلف في تحديد الوجه‪ ،‬ولذلك أطلق الحق الوجه ولم‬
‫يعينه بغاية‪ ،‬فلم يقل‪ :‬اغسل وجهك من كذا إلى كذا؛ ولكنه أمر بغسل الوجه‪ ،‬فل اختلف في‬
‫مدلول الوجه لدى الجميع‪ .‬والكل متفق عليه‪ ،‬هذا إذا ما بدأنا بالفروض الساسية‪ .‬لكن إذا ما بدأنا‬
‫بالسنن فنحن نغسل الكفين إلى الرسغين أول ثم نتمضمض ونستنشق‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبعض العارفين بال يقول عن هذه المقدمات التي هي من السنن‪ :‬إنها لم تأت اعتباطا؛ لن‬
‫تعريف الماء هو‪ :‬السائل الذي ل لون له ول طعم ول رائحة‪ ،‬وإن تغير أي وصف من هذه‬
‫الوصاف يكون السائل قد خرج عن المائية‪ .‬فساعة تأخذ الماء بيديك ستطمئن على لون الماء‪،‬‬
‫وتعرف أنه ل لون له‪ ،‬وعندما تتمضمض فأنت تطمئن إلى أنه ل طعم له؛ وعندما تستنشق فأنت‬
‫تطمئن على أن الماء ل رائحة له‪ ،‬وبذلك تطمئن إلى أن الماء الذي تستعمله في الوضوء يكون قد‬
‫استوفى الوصاف قبل أن تبدأ في عمل المطلوب من أركان الوضوء التي يطلبها ال‪ ،‬والسنة‬
‫تقدمت هنا على الركان لحكمة هي أن توفر للنسان الثقة في الماء الذي يتوضأ منه‪ .‬وبعد ذلك‬
‫يغسل النسان الوجه من منابت شعر الرأس وتحت منتهى لحييه وذلك طول وما بين شحمتي‬
‫الذنين عرضًا‪.‬‬

‫وبعد غسل الوجه قال الحق‪ } :‬وَأَ ْيدِ َيكُمْ إِلَى ا ْلمَرَافِقِ { وميز الحق هنا اليدي بتحديد المساحة‬
‫المطلوب غسلها بأنها إلى المرافق‪ ،‬أي أنه زاد غاية لم توجد في الوجه‪ ،‬ولكن جاء المر بغسل‬
‫اليدين إلى المرافق؛ لن اليد تطلق في اللغة ويراد بها الكف‪ ،‬مثال ذلك في حكم الحق على‬
‫طعُواْ أَيْدِ َي ُهمَا }[المائدة‪]38 :‬‬
‫السارق والسارقة‪ {:‬فَاقْ َ‬
‫وتطلق اليد أيضا ويراد بها الكف والساعد إلى المرفق‪ .‬وتطلق اليد أيضا ويراد بها إلى الكتف‪.‬‬
‫فلليد ثلث إطلقات‪ .‬ولو أن الحق قد أمر بغسل اليد ولم يحدد الغسل بـ " إلى المرافق " لغسل‬
‫البعض كفيه فقط‪ ،‬وغسل البعض يديه إلى المرافق‪ ،‬ولغسل البعض يديه إلى الكتفين؛ ولن الحق‬
‫يريد غسل اليد على وجه واحد محدد؛ لذلك قال‪ } :‬وَأَيْدِ َيكُمْ إِلَى ا ْلمَرَا ِفقِ {‪.‬‬
‫إذن فساعة يريد الحق شيئا محددا‪ ،‬فهو يأتي بالسلوب الذي يحدده تحديدا يقطع الجتهاد في هذا‬
‫الشيء‪ .‬وكلمة " إلى " تحدد لنا الغاية‪ ،‬كما أن " مِن " تحدد البتداء‪ ،‬ولكن هل تدخل الغاية هنا أم‬
‫ل؟ هل تدخل المرافق في الغسل أم ل؟ إن " إلى " قد تدخل الغاية ومرة أخرى ل تدخل الغاية‪.‬‬
‫جدِ‬
‫جدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَسْ ِ‬
‫فمثال إدخالها الغاية قوله تعالى‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫حوْلَهُ }[السراء‪]1 :‬‬
‫ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫اَ‬
‫هل أسرى الحق برسوله صلى ال عليه وسلم إلى المسجد القصى ولم يدخله؟ ل أحد يعقل ذلك‪.‬‬
‫إن " إلى " هنا تقتضي أن تدخل الغاية؛ لن الرسول صلى ال عليه وسلم كان قد ذهب إلى‬
‫المسجد القصى بمراد السراء إليه والدخول والصلة فيه‪ .‬ويقول سبحانه‪ُ {:‬ثمّ أَ ِتمّواْ الصّيَامَ ِإلَى‬
‫الّل ْيلِ }[البقرة‪]187 :‬‬
‫فهل يدخل الليل في الصيام؟ ل‪ ،‬لننا لو أدخلنا الليل في الصوم لصار في الصيام وصالٌ أي‬
‫نصل الليل بالنهار صائمين‪ .‬إذن فمع " إلى " تجد الغاية تدخل مرة‪ ،‬وتجدها ل تدخل مرة أخرى‪.‬‬
‫واختلف بعض العلماء حول المرفق هل يدخل في الغسل أو ل؟ وصار في عموم التفاق أن يدخل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المرفق في الغسل احتياطيا؛ لن أحدا ل يستطيع تحديد المرفق من أين وإلى أين‪ .‬ونعرف أن‬
‫هناك احتياطات للتعقل‪ ،‬فمرة نحتاط بالتساع ومرة نحتاط بالتضييق‪.‬‬
‫مثال ذلك عندما نصلي في البيت الحرام‪ .‬ونحن نعرف أن الكعبة بناء واضح الجدران‪ ،‬وبجانب‬
‫جدار من جدران الكعبة يوجد الحطيم وهو حجر إسماعيل وهو جزء من الكعبة يحيطه قوس‪.‬‬
‫وعندما يصلي إنسان حول الكعبة‪ ،‬هل يتجه إلى الحطيم أم إلى بناء الكعبة؛ لنه مقطوع بكعبيته‪،‬‬
‫والحتياط هنا احتياط بالنقص‪ ،‬فنتوجه إلى الكعبة وهي البناء العالي فقط‪ ،‬ولكن عند الطواف‪.‬‬
‫فإننا نطوف حول الكعبة والحطيم‪ ،‬أي أن الحتياط هنا يكون بالزيادة؛ لننا إذا ما طفنا حتى من‬
‫وراء المسجد فهو طواف حول البيت الحرام‪.‬‬

‫إذن فالحتياط يكون مرة بالنقص ومرة يكون بالزيادة‪ .‬وفي مجال الوضوء يكون غسل المرافق‬
‫هو احتياط بالزيادة؛ ذلك أن " إلى " تكون الغاية بها مرة داخلة‪ ،‬ومرة تكون الغاية بها غير داخلة‪.‬‬
‫سكُمْ { السلوب هنا يختلف؛‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك‪ } :‬وَامْسَحُواْ بِ ُرؤُو ِ‬
‫فالمطلوب هو المسح‪ .‬كان المطلوب أولً هو الغسل للوجه على اطلقه؛ لنه ل خلف على‬
‫الوجه‪ ،‬ثم غسل اليدين إلى المرافق‪ ،‬وتم تحديد الغاية لن الحق يريد الغسل لليدين على لون يقطع‬
‫الجدل والجتهاد فيه‪ .‬ولو قال الحق‪ " :‬امسحوا رءوسكم " مثلما قال‪ " :‬اغسلوا وجوهكم " لما كان‬
‫هناك خلف‪ .‬لكن لو قال‪ " :‬امسحوا بعض رؤوسكم " فهل يوجد خلف؟ نعم فذلك البعض لم‬
‫يحدد‪ .‬ولو قال‪ " :‬امسحوا ربع رءوسكم " فهل يوجد خلف؟ نعم قد يوجد خلف لن تحديد الربع‬
‫عسير وشاق‪.‬‬
‫سكُمْ { مع أن في الية أساليب كثيرة‪ ،‬منها‬
‫لماذا إذن اختار الحق هنا هذا السلوب } امْسَحُواْ بِ ُرؤُو ِ‬
‫أسلوب مجرد عن الغاية‪ ،‬وأسلوب موجود به الغاية‪ ،‬وهذا السلوب ل هو مجرد ول هو موجود‬
‫سكُمْ { ولنا أن نبحث عن كيفية استعمال حرف (الباء) التي‬
‫سحُواْ بِ ُرؤُو ِ‬
‫به الغاية؟ وقال الحق‪ } :‬امْ َ‬
‫تسبق " رءوسكم "‪.‬‬
‫إن " الباء " في اللغة تأتي بمعان كثيرة‪ .‬قال ابن مالك في اللفية‪:‬بالباء استعن وعد عوض الصق‬
‫ومثل " مع " و " من " و " عن " بها انطقومقصود بها أن تعطي الحرية للمشرع؛ لن الباء تأتي‬
‫لمعان كثيرة‪ ،‬للستعانة مثل‪ :‬كتبت بالقلم‪ ،‬ولتعدية الفعل اللزم نحو‪ :‬ذهبت بالمريض إلى‬
‫الطبيب‪ ،‬وللتعويض مثل‪ :‬اشتريت القلم بعشرين جنيها‪ ،‬واللتصاق نحو‪ :‬مررت بخالد‪ ،‬وتأتي‬
‫بمعنى " مع " مثل‪ :‬بعتك البيت بأثاثه أي مع أثاثه‪ ،‬وبمعنى " من " مثل‪ :‬شرب بماء النيل أي من‬
‫ب وَاقِعٍ { ‪ ،‬وتأتي أيضا للظرفية‬
‫ماء النيل‪ ،‬وبمعنى " عن " مثل قوله تعالى } سََألَ سَآ ِئلٌ ِبعَذَا ٍ‬
‫نحو‪ :‬ذهبت إلى فلن بالليل أي في الليل‪ ،‬وتكون السببية نحو‪ :‬باجتهاد محمد منح الجائزة أي‬
‫حمْدِ رَ ّبكَ { أي سبح مصاحبا حمد‬
‫بسبب اجتهاده‪ ،‬إلى غير ذلك من المصاحبة نحو‪ } :‬فَسَبّحْ ِب َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ربك‪.‬‬
‫إن الذي يقول‪ :‬امسحوا بعض رءوسكم ولو شعرة‪ ،‬فهذا أمر يصلح ويكفي وتسعفه الباء لغة‪،‬‬
‫والمسح يقتضي اللصاق‪ ،‬واللة الماسحة هي اليد‪ .‬وهناك من يقول‪ :‬نأخذ على قدر الداة‬
‫الماسحة وهي اليد أي مسح مقدار ربع الرأس‪.‬‬
‫إذن كل حكم من هذه الحكام يصلح لتمام تنفيذ حكم مسح الرأس‪ ،‬ولو أن ال يريدها على لون‬
‫غسِلُواْ‬
‫واحد لوضح ما أراد‪ ،‬فإن أراد كل الرأس لقال‪ " :‬امسحوا رءوسكم " كما قال‪ } :‬فا ْ‬
‫وُجُو َهكُمْ { ‪ ،‬وإن كان يريد غاية محددة‪ ،‬لحدد كما حدد غسل اليدين إلى المرفقين‪.‬‬

‫ومادام سبحانه قد جاء بالباء‪ ،‬والباء في اللغة تحتمل معاني كثيرة؛ لذلك فمن ذهب إلى واحدة منها‬
‫تكفي‪ ،‬لن أي غاية محتملة بالباء أمر صحيح‪.‬‬
‫طئَ الحكم الخر‪ .‬بل عليه أن يقول‪ :‬هذا هو‬
‫والمر هنا أن يتفهم كل منفذ لحكم محتمل أل ُيخَ ّ‬
‫مقدار فهمي لحكم ال‪ .‬وال ترك لنا أن نفهم بمدلول الباء كما أرادها في اللغة‪ .‬وقد خلقك الحق‬
‫أيها النسان مقهورا لشياء ل قدرة لك فيها؛ كحركة الجوارح‪ ،‬وكالشياء التي تصيب النسان‬
‫كالموت‪.‬‬
‫إن هناك أشياء أنت مخير فيها‪ ،‬ولذلك كان تكليف الحق لك مبنيا على هذا؛ ففي أشياء يقول لك‪" :‬‬
‫افعل كذا " أو " ل تفعل كذا " وفي أشياء أخرى يترك لك حرية التصرف في أدائها‪ .‬وذلك حتى‬
‫يتسق التكليف مع طبيعة التكوين النساني‪ .‬فلم َيصُب ال النسان في قالب حديدي‪ .‬ولنا في سلوك‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم القدوة الحسنة؛ هذا الرسول الذي أوكل إليه الحق إيضاح كل ما‬
‫غمض من أمور الدين؛ فقال له الحق‪ {:‬وَأَنْزَلْنَا ِإلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِ ْم وََلعَّلهُمْ‬
‫يَ َت َفكّرُونَ }[النحل‪]44 :‬‬
‫وحينما كان الرسول صلى ال عليه وسلم مع المؤمنين في غزوة الحزاب التي قال عنها الحق‪{:‬‬
‫شدِيدا }[الحزاب‪]11 :‬‬
‫هُنَاِلكَ ابْتُِليَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالً َ‬
‫هذه المعركة كانت قاسية‪ ،‬حرك الحق فيها الريح وتفرق فيها أعداء السلم‪ ،‬وصرف الحق‬
‫الحزاب ورجع الرسول صلى ال عليه وسلم إلى المدينة‪ .‬وكان من المفروض أن يرتاح‬
‫المؤمنون المقاتلون‪ .‬لكن قبل أن يخلعوا ملبس الحرب جاء جبريل إلى الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم وقال‪َ :‬أوَ قد وضعت السلح يا رسول ال؟ قال‪ :‬نعم‪ :‬فقال جبريل‪ :‬فما وضعت الملئكة‬
‫السلح بعد‪ ،‬وما رجعت الن إل من طلب القوم‪ ،‬إن ال عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى‬
‫بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم‪ .‬فـ (أمر رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬مؤذنا‬
‫ضهّم العصرُ في الطريق‪،‬‬
‫فأذن في الناس‪ " :‬ل يصلين أحدٌ العصرَ إل في بني قُريظة فأدرك َب ْع ِ‬
‫فقال بعضهم ل نصلي العصرَ حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يُردْ منا ذلك فذُكر للنبي‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صلى ال عليه وسلم فلم ُيعَنّف أحدًا منهم "‪.‬‬
‫هي مسألة كبرى إذن‪ .‬والتزاما بأمر النبوة خرج الصحابة إلى مواقع بني قريظة‪ .‬وكادت الشمس‬
‫تغرب وهم في الطريق؛ وانقسموا إلى قسمين؛ قسم قال‪ :‬ستغيب الشمس ولم نصل العصر فلنصله‬
‫قبل أن تغيب الشمس‪ .‬وقال القسم الثاني‪ :‬لقد أمرنا النبي أل نصلي العصر إل في بني قريظة‪،‬‬
‫ولن نصليه إل هناك وإن غابت الشمس‪ .‬وصلى القسم الول ولم يصل القسم الثاني‪.‬‬

‫وعندما ذهبوا إلى المشرع وهو رسول ال صلى ال عليه وسلم وذكروا له المر لم يعب على أي‬
‫جانب منهم شيئا‪ ،‬وأقر هذا وأقر ذاك‪ .‬وتلك فطنة النبوة‪ ،‬فالنبي صلى ال عليه وسلم يعلم أن كل‬
‫حدث من الحداث يتطلب زمانا ويتطلب مكانا‪ ،‬والذين صلوا نظروا إلى عنصرية الزمن‪ ،‬وخافوا‬
‫أن تغيب الشمس قبل ذلك‪ .‬والذين لم يصلوا نظروا إلى عنصرية المكان فلم يصلوا العصر إل في‬
‫مواقع بني قريظة‪ .‬وأقر رسول ال المرين معا‪.‬‬
‫إن هذا يدلنا على أن هناك أشياء يتركها الحق قصدا دون تحديد قاطع لنه يحبها على أي لون‪،‬‬
‫مثال ذلك أن فعل من يمسح ربع رأسه في الوضوء جائز‪ ،‬وفعل من يمسح رأسه كلها جائز‪،‬‬
‫وجاء الحق بالباء الصالحة لي وجه من وجوه مسح الرأس‪ ،‬وكذلك شأن الخلفات في المور‬
‫الجتهادية‪ .‬وإذا كانت القاعدة الشرعية تقول‪ " :‬ل اجتهاد مع النص " فهذا ل يكون إل مع النص‬
‫الذي ل يحتمل الجتهاد‪.‬‬
‫وليس كل التشريع هكذا؛ لنه سبحانه أوضح ما ل يحتمل الجتهاد‪ ،‬وأوضح ما يحتمل الجتهاد؛‬
‫وحينما كلف ال عبده النسان بتكليفات‪ ،‬إنما كلفه بما يتناسب وتكوينه‪ ،‬وكما أن تكوين النسان‬
‫فيه أشياء هو مقهور عليها‪ .‬فهناك الحكام التي ل اختيار له فيها‪ ،‬وهناك أمور اختيارية‪ ،‬وما‬
‫وصل إليه المجتهد هو حق وصواب يحتمل الخطأ‪ ،‬وما وصل إليه غيره خطأ يحتمل الحق‬
‫والصواب‪ .‬وكل ما وصل إليه طرف من الجتهاد حق لن النبي صلى ال عليه وسلم صوّب من‬
‫صلى العصر قبل أن يصل إلى أرض بني قريظة‪ ،‬وصوب كذلك من صلى العصر بعد أن وصل‬
‫إلى مواقع بني قريظة‪ .‬فالرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬اعتبر فعل كل فريق منهما صوابا‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد المر بمسح الرأس‪ " :‬وأرجلكم "‪ .‬وكان سياق النص يقتضي كسر اللم في "‬
‫أرجلكم " ولكن الحق جاء بالرجل معطوفة على غسل الوجه واليدين‪ .‬وغير معطوفة على "‬
‫برءوسكم " وهذا يعني أن الرجلين ل تدخلن في حيز المسح؛ إنما تدخلن في حيز الغسل‪.‬‬
‫ونبه الحق بالحركة العرابية على أنها ليست معطوفة على الجزء المصرح بمسحه‪ ،‬ولكنّها‬
‫معطوفة على العضاء المطلوب غسلها‪ .‬ولم يأت الحق بالممسوح في جانب والمغسول في جانب‬
‫ليدل على أن الترتيب في هذه الركان أمر تعبدي وإل لجاء بالمغسول معا والممسوح معا‪ ،‬ويحدد‬
‫الحق أيضا غسل الرجلين إلى الكعبين‪ } :‬وَأَرْجَُلكُمْ إِلَى ا ْل َكعْبَينِ {‪ .‬والرجل تطلق على القدم‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتطلق على القدم والساق إلى أصل الفخذ‪ .‬ويريد سبحانه غسل الرجلين محدودا إلى الكعبين‪.‬‬
‫وحتى نعلم أن هذه مسائل تعبدية؛ عرفنا أن اليد تطلق على الكف‪ ،‬ومن أطراف الصابع إلى‬
‫الكتف يطلق عليه " يد " أيضا‪ ،‬والمرفق في اليد هو الحد الوسط‪ ،‬و " الكعبين " هو الحد الول في‬
‫الساق؛ لن الوسط بعد الساق هو الركبة‪.‬‬

‫إذن‪ .‬ترتيب المسألة في اليدين كف وساعد وعضد؛ والمرفق في وسط اليد‪ ،‬وفي الرجلين يقف‬
‫المر عند الحد الول وهو الكعبان‪ .‬هي ‪ -‬إذن ‪ -‬مسألة تعبدية وليست مسألة قياسية‪.‬‬
‫ويبين الحق لنا أنه إذا أراد أمرا بدقة فهو يحدده بل تدخل أو خلف‪ .‬أما إذا جاء بأمر غير‬
‫واضح فهو إِذْنٌ منه سبحانه أن نجتهد فيه لنشعر أن لنا بعض الختيار في بعض ما تعبدنا ال به‪،‬‬
‫وكله داخل في مرادات ال؛ لن إيراد النص ‪ -‬شامل ‪ -‬لكل المفهومات هو ِإذْنٌ بهذا المفهوم‬
‫وإِذْنٌ بذلك المفهوم‪.‬‬
‫ن وَإِن كُنتُمْ جُنُبا‬
‫سكُمْ وَأَرْجَُلكُمْ ِإلَى ا ْل َكعْبَي ِ‬
‫سحُواْ بِ ُرؤُو ِ‬
‫ق وَامْ َ‬
‫غسِلُواْ وُجُو َهكُ ْم وَأَيْدِ َيكُمْ إِلَى ا ْلمَرَافِ ِ‬
‫} فا ْ‬
‫ح ِدثُ حدثا أصغر‪ .‬وهناك فرق بين‬
‫طهّرُواْ {‪ .‬إنّ الوضوء شرع لغير الجنب‪ .‬أي أنه لمن يُ ْ‬
‫فَا ّ‬
‫إخراج ما ينقض الوضوء وهو ما يؤذي‪ ،‬وبين إخراج ما يُمتع‪ ،‬فإنزال المني أو حدوث الجماع‬
‫يقتضي الطهارة بالغتسال‪ .‬ونعلم أن النسان حين يستمتع بطعام؛ أو يستمتع برائحة‪ ،‬أو بأي‬
‫شيء هو محدود بوسيلة الستمتاع به‪ ،‬أما الستمتاع بالجماع فل يعرف أحد بأي عضو أدرك‬
‫لذته‪ .‬وهي مسألة معقدة إلى الن‪ .‬ول يعرف أحد كيف تحدث‪ ،‬مما يدل على أن جميع ذرات‬
‫التكوين النساني مشتركة فيها‪ .‬ومادام المر كذلك فالطهور يقتضي أن يغسل النسان كل جسمه‪:‬‬
‫لمَسْتُمُ‬
‫سفَرٍ َأوْ جَآءَ َأحَدٌ مّ ْنكُمْ مّنَ ا ْلغَائِطِ َأ ْو َ‬
‫طهّرُواْ وَإِن كُنتُم مّ ْرضَى َأوْ عَلَىا َ‬
‫} وَإِن كُنتُمْ جُنُبا فَا ّ‬
‫صعِيدا طَيّبا فَامْسَحُواْ ِب ُوجُو ِهكُ ْم وَأَيْدِيكُمْ {‪.‬‬
‫النّسَآءَ فَلَمْ َتجِدُواْ مَآءً فَتَ َي ّممُو ْا َ‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬أليست " لمستم النساء " كالجنابة؟‬
‫ونقول‪ :‬إن الذي يجيء هنا هو حكم ثان يوضح لنا ما ينوب عن المياه‪ ،‬لن الحق يرتب لِعبادة ل‬
‫تسقط عن المكلف أبدا؛ لذلك لن يكلفه بشيء قد ل يجده‪ ،‬فقد ل يجد النسان المياه‪ ،‬وعليه إذن‬
‫بالتيمم؛ لن الصلة عبادة ل تسقط أبدا عن المكلف حتى في حالة مرضه الذي ل يستطيع أن‬
‫يحرك معه أي عضو من جسمه‪ ،‬هنا يسمح سبحانه للمريض أن يصلي جالسا‪ ،‬أو مستلقيا أو‬
‫يصلي باليماء برأسه‪ ،‬أو يصلّي بأهداب عينيه‪ ،‬وحتى مريض الشلل عليه إجراء خواطر الصلة‬
‫وأركانها على قلبه؛ لن فرض الصلة عبادة ل تسقط أبدا عن النسان مادام فيه عقل‪.‬‬
‫إننا نعرف أن الصلة هي الركن الوحيد من أركان السلم الذي يتطلب الستدامة‪ ،‬فيكفي المرء‬
‫أن يقول الشهادة مرة واحدة في العمر‪ ،‬ويسقط الصوم عن النسان إن كان مريضا‪ ،‬ويطعم غيره‪،‬‬
‫أو يؤديه في أوقات أخرى إن كان مريضا مرضا مؤقتا أو على سفر‪ .‬وقد ل يؤدي النسان الزكاة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لنه فقير‪ ،‬وكذلك الحج ل يجب على من لم يملك الستطاعة من مال أو عافية‪ ،‬ول تبقى من‬
‫أركان السلم غير الصلة فإنها ل تسقط أبدا‪.‬‬

‫إن عظمة الصلة توضحها كيفية تشريعها؛ لن تشريعات أركان السلم كانت بالوحي‪ ،‬أما‬
‫تشريع الصلة فقد جاء وحده بالمباشرة ولم يقل ال لجبريل‪ " :‬قل للنبي التكليف بالصلة "‪ .‬بل‬
‫استدعى ال النبي صلى ال عليه وسلم إليه وكلفه بالصلة‪.‬‬
‫وقلنا من قبل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬حين يريد النسان أن يقدم أمرا لمرءوسيه‪ ،‬فالموضوع قد‬
‫يأخذ دوره في الوراق اليومية التي تنزل منه إليهم‪ .‬أما إذا كان الموضوع مُهمّا فهو يتصل بالقائد‬
‫التنفيذي للمرءوسين ويوضح مدى أهمية الموضوع‪ ،‬أما إذا كان الموضوع غاية في الهمية‬
‫فالرئيس يستدعي القائد التنفيذي للمرءوسين ويبلغه أهمية الموضوع‪ .‬إذن فكيفية إنزال التكليف‬
‫تكون على قدر أهمية الموضوعات فما بالنا ‪ -‬إذن ‪ -‬بركن استدعى ال فيه محمدا إلى السماء‬
‫ليكلفه به؟‬
‫وقد رأينا أن بعض التكليفات تجيء إلى رسول ال باللهام أن يفعله‪ ،‬وبعضها جاء بالوحي من‬
‫جبريل أن يفعله‪ ،‬أما الصلة فقد فرضها ال عندما استدعى محمدا إلى السماء إلى الرفيق العلى‬
‫وفرض ال عليه الصلة بالمباشرة‪ ،‬وعلى أمة محمد أن تؤدي هذا الفرض خمس مرات في اليوم‪،‬‬
‫ول تسقط أبدا‪ .‬ولذلك جعلها الحق فارقة بين المسلم والكافر‪ ،‬إن المسلم ساعة أذان الصلة يقوم‬
‫إلى الصلة‪ ،‬وهي استدعاء من الخالق لمن خلقه ليحضر في حضرته كل يوم خمس مرات‪ .‬وأنت‬
‫حر بعد ذلك أل تبرح لقاء ربك؛ ول يمل ال حتى يمل العبد‪.‬‬
‫وإياكم أن تجعلوا للزمان مع ال تخطيطا؛ فتقولوا‪ :‬هذا للعمل والضرب في الرض‪ ،‬وذلك لذكر‬
‫ال؛ فمع ضربكم في الرض لتبتغوا من فضل ال‪ ،‬إياكم أن تنسوا ال؛ لن ذكر ال أمر دائم في‬
‫كل حركة يقصدها النسان لعمارة هذا الوجود‪ ،‬وقد أراد الحق منا بوجودنا أن نعبده وحده ل‬
‫شريك له‪ {:‬وَإِلَىا َثمُودَ أَخَاهُ ْم صَالِحا قَالَ يا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ ِإلَـاهٍ غَيْ ُرهُ ُهوَ أَنشََأكُمْ مّنَ‬
‫الَ ْرضِ وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا فَاسْ َتغْفِرُوهُ ثُمّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنّ رَبّي قَرِيبٌ مّجِيبٌ }[هود‪]61 :‬‬
‫إذن فكل ما يؤدي إلى عمارة الكون والرتقاء به هو أمر عبادي‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى يربط "‬
‫العبادة " الصطلحية في الفقه بحركة الحياة كلها‪ .‬ونجد مثال لذلك حيما تكلمنا في سورة البقرة‬
‫عن السرة كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬لّ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِن طَّلقْتُمُ النّسَآءَ مَا لَمْ َتمَسّوهُنّ َأوْ َتفْ ِرضُواْ‬
‫حسِنِينَ‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ْ‬
‫َلهُنّ فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ مَتَاعا بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬
‫ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِنصْفُ مَا فَ َرضْتُمْ ِإلّ أَن َي ْعفُونَ‬
‫* وَإِن طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِن قَ ْبلِ أَن َتمَسّوهُ ّ‬
‫ضلَ بَيْ َن ُكمْ إِنّ اللّهَ ِبمَا‬
‫سوُاْ ا ْل َف ْ‬
‫ح وَأَن َت ْعفُواْ َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَىا َولَ تَن َ‬
‫عقْ َدةُ ال ّنكَا ِ‬
‫َأوْ َيعْ ُفوَاْ الّذِي بِ َي ِدهِ ُ‬
‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[البقرة‪]237-236 :‬‬
‫ذلك أمر الدنيا ومصالح السرة‪ ،‬وهو كلم في شئون تنظيم السرة‪ ،‬ثم ينقلنا من بعد الكلم في‬
‫لةِ‬
‫تنظيم السرة إلى أمر نقول عنه إنه العبادة وهو قوله الحق‪ {:‬حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَاتِ والصّ َ‬
‫خفْتُمْ فَرِجَالً َأوْ ُركْبَانا فَإِذَآ َأمِنتُمْ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ َكمَا عَّل َمكُم مّا لَمْ‬
‫ا ْلوُسْطَىا َوقُومُواْ للّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ ِ‬
‫َتكُونُواْ َتعَْلمُونَ }[البقرة‪]239-238 :‬‬
‫ثم يعود بعد ذلك إلى شئون تنظيم السرة فيقول سبحانه‪ {:‬وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا‬
‫ح ْولِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ }[البقرة‪]240 :‬‬
‫ج ِهمْ مّتَاعا إِلَى الْ َ‬
‫َوصِيّةً لَزْوَا ِ‬
‫إذن فقد أخرجنا من كلم في نظام السرة إلى الصلة‪ ،‬ثم عاد بنا مرة أخرى إلى نظام السرة‬
‫حتى تتداخل كل المور لتكون عبادة متماسكة متحدة فل تقول‪ " :‬هذه عبادة وتلك ليست عبادة " ‪،‬‬
‫وأيضا؛ لن الكلم في الصلة وسط كلمه عن أمور السرة ينبهنا‪ :‬إذا ذهبت إلى الصلة فربما‬
‫هدّأت الصلة من شِرة غضبك وحماسك ونزلت عليك سكينة تعينك أل تنسى الفضل بينك وبين‬
‫زوجك‪.‬‬
‫في هذه السورة ‪ -‬سورة المائدة ‪ -‬صنع الحق معنا مثلما صنع في سورة البقرة؛ فبعد أن تكلم في‬
‫أشياء وقص علينا أمر النعمة‪ ،‬ها هوذا يدخل بنا إلى رحاب المنعم‪ ،‬إل إنه سبحانه لم يدخلنا على‬
‫المنعم إل بتهيئة طهورية‪ .‬طهارة أبعاض؛ كالوضوء بأن نغسل الوجه ونغسل اليدين إلى المرفقين‬
‫ونمسح على الرأس ونغسل الرجلين إلى الكعبين‪ .‬وأحكم في أشياء وترك للجتهاد مدخل في‬
‫أشياء‪ ،‬أحكمها في ثلثة؛ غسل الوجه‪ ،‬وغسل اليدين إلى المرفقين‪ ،‬وغسل الرجلين إلى الكعبين‪،‬‬
‫لكنه حينما تكلم عن الرءوس لم يقل‪ " :‬امسحوا رءوسكم " ول‪ " :‬امسحوا ربع رءوسكم " ‪ ،‬ول "‬
‫امسحوا بعض رءوسكم " مما يدل على أن للمجتهد أن يفهم في " الباء " ما تُتيحهُ اللغة من " الباء‬
‫"‪ .‬إذن أعطانا الحق أشياء محكمة وأشياء للجتهاد‪ .‬وبعد طهارة البعاض يذكرنا بطهارة البدن‬
‫من الجنابة‪.‬‬
‫ونلتفت إلى الكلم الذي تقدم حيث أورد الحق فيه ما أحل لنا من بهيمة النعام من طعام وشراب‪،‬‬
‫ثم تكلم في النكاح حتى أنه وسع لنا دائرة الستمتاع ودائرة النسال بأن أباح لنا أن نتزوج‬
‫الكتابيات‪ ،‬وفي هذا توسيع لرقعة الزواج فلم يقصر الزواج على المسلمات‪.‬‬
‫ولما كان الطعام الذي أحله ال ينشأ عنه ما يخرج منا من بول وغائط‪ ،‬والنكاح الذي أحله ال‬
‫يغير كيماوية الجسد؛ لذلك جعل ال الوضوء لشيء‪ ،‬والجنابة لها شيء آخر؛ فعن الطعام ينشأ‬
‫الخبثان‪ ،‬وعن الجماع أو خروج المني ينشأ الحدث الكبر؛ فكان ول بد بعد أن يتكلم عن طهارة‬
‫البعاض في الحدث الصغر أن يتكلم عن التطهير الكلي في الحدث الكبر؛ فقال‪ } :‬وَإِن كُن ُتمْ‬
‫طهّرُواْ {‪.‬‬
‫جُنُبا فَا ّ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال سبحانه وتعالى يريد لنا أن نستديم اتصالتنا به ولم يشأ أن يجعل الوسيلة للصلة بأمر الماء‬
‫فقط؛ لننا قد نفقد الماء وقد يوجد الماء ول نقدر على استعماله؛ فلم يشأ الحق أن يقطع الصلة بأن‬
‫يجعل الوسيلة الوحيدة للتطهر هي الماء‪ ،‬فأوجد وسيلة أخرى‪ .‬فإن فقدت الماء أيها النسان فل بد‬
‫ان تدخل إلى لقاء ال بينة تطهير آخر وهو التيمم‪ .‬هذا أمر ل يفقده من عاش على الرض‪ .‬إذن‬
‫طهّر بالتراب‪ .‬لذلك يقول سبحانه‪:‬‬
‫طهّر بالماء وعندنا َت َ‬
‫فعندنا َت َ‬
‫جدُواْ مَآءً‬
‫لمَسْتُمُ النّسَآءَ فََلمْ تَ ِ‬
‫حدٌ مّ ْنكُمْ مّنَ ا ْلغَا ِئطِ َأ ْو َ‬
‫سفَرٍ َأوْ جَآءَ أَ َ‬
‫} وَإِن كُنتُم مّ ْرضَى َأوْ عَلَىا َ‬
‫صعِيدا طَيّبا { فإن كان النسان مريضا ل يقدر على استعمال الماء‪ ،‬أو كان على سفر ول‬
‫فَتَ َي ّممُو ْا َ‬
‫يجد الماء؛ أو جاء أحد من الغائط‪ ،‬أي من قضاء الحاجة في مكان غويط وهو الوطئ المنخفض‬
‫من الرض‪ ،‬وكانت العرب قديما تفعل ذلك حتى ل يراهم أحد ويكونوا في ستر‪ ،‬رجالً أو نساءً‪،‬‬
‫وحتى بعد ملمسة النساء‪ .‬إن لم يجد النسان بعدها ماء فالتيمم هو البديل‪ ،‬وإياكم أن تقولوا إن‬
‫الماء هو الوسيلة الوحيدة للتطهر‪ ،‬فقد جعل للماء أيضا خليفة وهو التراب‪ .‬والتراب أوسع دائرة‬
‫من الماء‪ .‬فكأنه سبحانه وتعالى يريد أن يديم علينا نعمة البقاء به‪ .‬ولكي يديم علينا نعمة اللقاء به‬
‫جعل للماء ‪ -‬الذي يكون محصورا ‪ -‬خليفة وهو التراب وهو غير محصور‪.‬‬
‫ول نريد أن ندخل في متاهات الخلف عن الطهارة من ملمسة النساء‪ ،‬بين اللمس والملمسة؛‬
‫فاللمس ل يقتضي المفاعلة‪ ،‬أما الملمسة فتقتضي المفاعلة‪ .‬واقتضاء المفاعلة ينقل المسألة من‬
‫مجرد اللمس إلى معنى آخر هو الجماع‪.‬‬
‫صعِيدا { و " الصعيد " هو ما‬
‫وفي حالة الجنابة وعدم وجود الماء فالتيمم هو البديل } فَتَ َي ّممُو ْا َ‬
‫صعد على وجه الرض من جنس الرض بحيث ل تدخله صناعة النسان كالتراب والحجر‪ ،‬لكن‬
‫الطوب الحمر (الجُرّ) الذي نصنعه نحن فليس من الصعيد الصالح للتيمم؛ لن صنعة النسان قد‬
‫دخلته‪.‬‬
‫والركان المفروضة في طهارة البعاض أربعة‪ ،‬أما طهارة الجسم فهي طهارة واحدة تشمل كل‬
‫الجسم‪ .‬وفي حالة التيمم جعل الحق الطهارة استعدادا للصلة عوضا عن الوضوء بمسح الوجه‬
‫واليدين‪ ،‬وكذلك في الطهارة من الجنابة‪ .‬ونلحظ أنه سبحانه جاء بالمسح في الوضوء على بعض‬
‫من الرأس كإيناس متقدم‪ ،‬وذلك حتى يكون لنا إلف بالمسح حينما نتيمم‪.‬‬
‫ج َعلَ عَلَ ْيكُم مّنْ حَرَجٍ { وجعل الحق الطهارة‬
‫سحُواْ ِبوُجُو ِهكُ ْم وَأَيْدِي ُكمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَ ْ‬
‫} فَامْ َ‬
‫بالماء أو التراب إزالة للحرج؛ فالنسان الذي لن يجد ماء سيقع في الحرج بالتأكيد؛ لنه يريد أن‬
‫يصلي ول يجد وسيلة للطهارة‪ .‬وإذا كان عنده القليل من الماء ليشرب فهل يتوضأ أو يستديم‬
‫الحياة ويُبقي على نفسه بشرب الماء؟‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ول يريد ال أن ُيعْنت خلقه ول أن يوقعهم في الحرج‪ ،‬بل خفف عليهم وجعل عنصر التراب يكفي‬
‫طهّ َركُمْ {‪.‬‬
‫كبديل للماء‪ } .‬وَلَـاكِن يُرِيدُ لِ ُي َ‬
‫وإياك أن تفهم أن الطهارة هي للتنظيف؛ لن معنى الطهارة لو اقتصر على التنظيف لكانت‬
‫الطهارة بالماء فقط‪ ،‬فلماذا إذن نمسح وجوهنا بالتراب؟ إن هذا يوضح أن الطهارة غير النظافة‪،‬‬
‫فلو قال قائل‪ :‬سأنظف نفسي بـ " الكولونيا "‪ .‬نقول له‪ :‬ل‪ .‬ليس هذا هو المطلوب‪ .‬وال ل يطلب‬
‫نظافة بهذا المعنى‪ ،‬ولكن يطلب التطهير‪ .‬والتطهير يكون بشرط من تدخل عليه ‪ -‬وهو ال‬
‫سبحانه ‪ -‬وقد وضع الحق لذلك أمرين‪ :‬إما بالماء وإما بالتيمم بالتراب‪ .‬فالطهارة تجعل المرء‬
‫صالحا ليستقبل ربه على ضوء ما شرع به‪ .‬والذي يضع الشرط لذلك هو ال وليس أنت أيها‬
‫العبد‪ .‬وسبحانه قد أوضح أو العبد يكون طاهرا بالماء أو بالتراب‪ ،‬وبهذه الطهارة يكون صالحا‬
‫لستقبال ال له‪ .‬وأعاد ال النسان في قربه منه إلى أصل إيجاده وهو الماء والتراب‪.‬‬
‫} وَلِيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكُمْ { والنسان مغمور بنعم كثيرة‪ .‬فهب أن إنسانا غاب عنه أبوه لكن خير الب‬
‫يصله كل يوم من مال وطعام وشراب ووسائل ترفيه‪ ،‬وبذلك يأخذ النسان نعمة الغاية من وجود‬
‫أب له‪ .‬ومع ذلك يشتاق هذا النسان المستمتع بنعمة والده الغائب إلى أن يكون مع والده‪ ،‬هذا هو‬
‫تمام النعمة بين الب والبن وكلهما مخلوق ل‪ ،‬فما بالنا بتمام النعمة من الخالق لعباده؟‬
‫إن العبد الصالح يتمنى أن يرى مَن أنعم عليه؛ لذلك وضع الحق شرط الطهارة للقائه‪ .‬وعندما‬
‫يحضر النسان لحضرة ربه بالصلة ويكبر‪ " :‬ال أكبر " فهو منذ تلك اللحظة يوجد في حضرة‬
‫ال‪ .‬وإذا كانت الفيوضات تتجلى على النسان من نعمة مخلوق مثله سواء أكان أخا أم أبا أم قريبا‬
‫وهي نعمة مادية يراها النسان سواء أكانت طعاما أم شرابا أم لباسا‪ .‬فما بالنا بفيوضات المنعم‬
‫الخالق الذي أنعم على النسان‪ ،‬إنها فيوضات من غيب؛ فكرمه لك غيب كالعتدال في المزاج‬
‫والعافية ورضا النفس وسمو الفكر‪.‬‬
‫إذن فقوله الحق‪ } :‬وَلِيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي ُكمْ { أي أنكم عشتم قبل ذلك مع نعمة المنعم‪ ،‬وسبحانه يدعوكم‬
‫إلى لقاء المنعم‪ ،‬ذلك تمام النعمة‪ .‬وأضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬إننا نجد البن ينظر‬
‫إلى هدايا الب الغائب ويقول‪ :‬أنا ل أريد هذه الشياء ولكني أريد أبي‪.‬‬
‫إن تمام النعمة ‪ -‬في المستوى البشري ‪ -‬أن يرى النسانُ المنعِمَ عليه وهو إنسان مثله‪ ،‬أما تمام‬
‫النعمة على المخلوق من الخالق فيستدعي أن يتطهر النسان بما حدده له ال وأن يصلي فيلقى‬
‫ال‪.‬‬
‫شكُرُونَ { ساعة نسمع‪ :‬أنا فعلت ذلك وذلك لعلك تشكر‪ ،‬فهذا يعني أنك‬
‫} وَلِيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكُمْ َلعَّل ُكمْ تَ ْ‬
‫إن فعلت ما آمرك به فستجد أمرا عظيما‪.‬‬

‫شكُر عليه كأن ما فعله ال للنسان يوجب عند النسان نعمة أخرى‬
‫والمر الطبيعي يقتضي أن تَ ْ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا‬
‫ل يمكن أن يستقبلها إل بالشكر‪ ،‬مثلما قال ال‪ {:‬وَاللّهُ َأخْرَ َ‬
‫شكُرُونَ }[النحل‪]78 :‬‬
‫لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫سمْ َع وَالَبْصَا َر وَا َ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ ا ْل ّ‬
‫وَ َ‬
‫إنّ السمع والبصار والفئدة هي منافذ الدراك‪ .‬ومادام الحق قد خلقنا ول نعلم شيئا‪ ،‬وجعل لنا‬
‫أدوات الدراك‪ .‬وأوضح‪ :‬أنا خلقت لك هذه الدوات للدراك لعلك تشكر‪ ،‬أي تلمح آثارها في‬
‫نفسك مما يربي عندك ملكة الدراك للمدركات‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ‪{ ...‬‬

‫(‪)668 /‬‬

‫طعْنَا وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ‬


‫س ِمعْنَا وَأَ َ‬
‫وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُ ْم َومِيثَاقَهُ الّذِي وَاثَ َقكُمْ ِبهِ إِذْ قُلْ ُتمْ َ‬
‫بِذَاتِ الصّدُورِ (‪)7‬‬

‫وللنسان أن يسأل‪ :‬وما هو الذكر؟‪ .‬الذكر هو حفظ الشيء أو استحضاره‪ ،‬فإذا كان حفظ الشيء‬
‫فهو حفظ لذاته‪ ،‬لكن الستحضار يكون لمعنى الشيء‪ .‬إذن فهناك فرق بين حفظ الشيء‬
‫واستحضار الشيء‪ ،‬هذا هو معنى الذكر‪ .‬وقد يكون الذكر بمعنى القول؛ لنك ل تقول الشيء إل‬
‫بعد أن تستحضره‪ .‬ولذلك نجد في تكوين الجهاز العصبي العلى ذاكرة‪ ،‬وحافظة‪ ،‬ومخيلة‪.‬‬
‫ومن عجيب أمر التكوين الخلقي أن تمر أحداث على النسان في زمن مضى ول يذكرها النسان‬
‫لمدة طويلة تصل إلى سنوات‪ ،‬ثم يأتي للننسان ظرف من تداعي المعاني فيذكر النسان هذا‬
‫الشيء الذي حدث منذ عشرين عاما‪.‬‬
‫إذن فالشيء الذي أدركه النسان منذ عشرين سنة على سبيل المثال لم يذهب‪ ،‬ولو ذهب ما ذكره‬
‫النسان‪ ،‬لكنه غاب فقط عن الذهن عشرين عاما أو أكثر؛ فلما تداعت المعاني تذكره النسان‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أن هذا الشيء كان محفوظا عند النسان وإن توارى عنه مدة طويلة‪.‬‬
‫فالذاكرة ‪ -‬إذن ‪ -‬معناها أن يستدعي النسان المحفوظ ليصير في بؤرة شعوره‪ .‬مثال ذلك‪:‬‬
‫حادث وقع بين إنسان وآخر منذ أكثر من عشرين عاما‪ .‬ونسي النسان هذا الحادث‪ .‬فلما التقى‬
‫بصديقه‪ ،‬وجلسا يتذاكران الماضي تذكر الصديق الحادث الذي حدث له منذ أكثر من عشرين‬
‫عاما‪.‬‬
‫إذن فالحادثة لم تذهب من الذاكرة‪ ،‬ولكنها محفوظة موجودة في حواشي الشعور البعيدة‪ ،‬وكلما بعد‬
‫النسان في الزمن يبدو وكأنه نسي الحادثة‪ ،‬لكن عندما يأتي تداعي المعاني فالحادثة تأتي في‬
‫بؤرة الشعور‪ .‬فإذا ما جاءت في بؤرة الشعور من حواشي الشعور حيث مخزن الحافظة‪ ،‬يتذكرها‬
‫النسان‪ .‬وهذه هي قوة الخالق جل وعل‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد يسجل أحدنا على شريط تسجيل بعضا من الكلم‪ .‬ومن بعد ذلك يجب أن يسجل كلما آخر‬
‫على الشريط نفسه فيمسح الكلم الذي سجله أولً‪ ،‬ولكن ذاكرة النسان تختلف‪ ،‬فساعة تأتي‬
‫المسائل في بؤرة شعوره فالنسان يتذكرها‪ .‬وإذا ما جاءت مسألة أخرى بعدها فل بد أن تتزحزح‬
‫المسألة الولى من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور؛ لن بؤرة الشعور ل تستقبل إل خاطرا‬
‫واحدا‪ ،‬فإن شغلت بؤرة الشعور بخاطر آخر فهي تحفظ الخاطر الول في حواشي الحافظة‪ .‬ول‬
‫يمسح خاطر خاطرا آخر‪ .‬فإن أراد النسان أن يستدعي الخاطر القديم‪ ،‬كان ذلك في مقدوره‪،‬‬
‫وهذا هو الفارق بين تسجيل الخالق وتسجيل المخلوق‪.‬‬
‫وبعد ذلك نجد ان التذكر يكون للمعاني‪ ،‬فالذي يخزن في ذاكرة النسان ليس َأجْرَاما‪ ،‬فلو كانت‬
‫أجراما لما وسعها المخ‪ .‬ولهذا فالمعاني ل تتزاحم فيه‪ ،‬بل تتراكم بحيث إذا ما جاء تداعي المعاني‬
‫فالنسان يتذكر ما يريد أن يذكره‪ ،‬وذلك ل يمكن أن يحدث إل إذا كان المخ من صنع الخالق‬
‫العلى‪.‬‬

‫ومادامت المعاني ليس لها حيز فالنسان يقدر على حفظها في الذاكرة‪.‬‬
‫النسان قد يجلس ليتذكر أسماء الجبال في العالم فيقول‪ :‬من جبال العالم قمة " إفريست " ‪ ،‬وجبال‬
‫" الهماليا " ‪ ،‬وجبل " أحد " وجبل " ثور "‪ .‬وساعة يتذكر هذه السماء فهو يتصور معانيها‪،‬‬
‫فالموجود في ذهن النسان معاني هذا الكلمات وليس أجرام هذه الكائنات؛ لذلك فل تزاحم أبدا في‬
‫المعاني بل تظل موجودة ومختزنة في الذاكرة وحاشية الشعور‪.‬‬
‫وإياكم أن تفهموا أن إنسانا يملك من الذكاء ما يحفظ به الشيء من مرة واحدة‪ :‬وآخرَ أقل ذكاء‬
‫يحفظ بعد قراءة الشيء مرتين‪ ،‬وثالثا يحفظ عن ثلث مرات ل‪ ،‬لن النسان يملك ذهنا كآلة‬
‫التصوير يلتقط من مرة واحدة‪ ،‬لكن لو أخذ النسان صورة لمكان وجاء شيء يضبب عدسة‬
‫الصورة فهو يعيد التصوير‪ ،‬وكذلك الذهن إن أراد النسان أن يأخذ لقطة لشيء ما لتستقر في‬
‫بؤرة الشعور وفي بؤرة الشعر شيء آخر‪ ،‬فالشيء ل يستقر في الذهن‪ ،‬بل ل بد من قراءة‬
‫مضمون اللقطة مرة ثانية ليؤكد النسان المعلومات لتنطبع في بؤرة الشعور‪.‬‬
‫ومثال ذلك الطالب الذي يدخل ساحة المدرسة التي يُعقد بها المتحان‪ .‬وقبل أن يدق جرس‬
‫المتحان بخمس دقائق يأتي له واحد من زملئه ويقول له‪ :‬ها ذاكرت الموضوع الفلني‪ .‬فيقول‬
‫الطالب‪ :‬ل لم استذكره‪ .‬فيقول الصاحب‪ :‬هذا الموضوع سيأتي منه سؤال في المتحان‪ .‬فيخطف‬
‫الطالب كتابا ويقرأ فيه هذا الموضوع لمرة واحدة‪ .‬هذا الطالب في هذه اللحظة ل يتذكر ماذا‬
‫سيأكل على الغداء هذا اليوم‪ ،‬أو من سيقابل‪ .‬بل يعرف أنه بصدد أمر فرصته ضيقة‪ ،‬ويركز كل‬
‫ذهنه ليستقبل ما يقرأه‪ .‬وفي لحظة واحدة يحفظ هذا الموضوع‪ .‬وإذا جاء المتحان ووجد السؤال‬
‫فهو يجيب عليه بأدق التفاصيل‪ .‬وقد نجد طالبا آخر جلس ليام يحاول استذكار هذا الدرس بل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طائل‪.‬‬
‫إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة‪ ،‬شريطة أل يستقبل النسان ما يقرأه أو يسمعه من معلومات والذهن‬
‫مشغول بأشياء أخرى‪ .‬والدليل على ذلك‪ :‬أن النسان قد يسمع القصيدة مرة واحدة أو يسمع‬
‫الخطبة مرة واحدة فيحفظ من القصيدة أكثر من بيت‪ ،‬أو يحفظ من الخطبة أكثر من مقطع؛ لن‬
‫ذهن النسان في تلك اللحظة كان خياليا فالتقط البيات التي حفظها‪ ،‬وكذلك الخطبة‪ ،‬أما بقية‬
‫أجزاء القصيدة أو الخطبة فقد يكون الذهن شرد إلى أشياء أخرى‪ .‬ولذلك يحاول النسان أن يكرر‬
‫الستماع والصغاء والقراءة أكثر من مرة ليهيئ ويعد بؤرة الشعور‪ ،‬فيحفظ النسان ما يريد‪.‬‬
‫إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة‪ ،‬أما الذاكرة فهي تتذكر أي تستحضر المعاني التي قد تختفي في‬
‫الحافظة‪ ،‬ول شيء يضيع في الحافظة أبدا‪ ،‬بحيث إذا جاء الستدعاء طفت المعاني على السطح‪.‬‬

‫كأن انطباعات النسان في نعم ال ل تُنسى أبدا‪ .‬وهي موجودة عند النسان‪ ،‬ولكنها تريد من‬
‫النسان أن يستدعيها من الحافظة ويطلبها‪.‬‬
‫ولنر دقة الداء القرآني‪ } :‬وَا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْي ُكمْ { سبحانه يقول هنا " نعمة " مع ان نعم ال‬
‫كثيرة‪ ،‬ولكن ال قد آثر أن يأتي بالمفرد ولم يأت بالجمع‪ .‬وذلك ليبين للنسان أن أية نعمة في أية‬
‫زاوية من حياة النسان تستحق أن يذكرها النسان؛ فنعم ال كثيرة‪ ،‬ولكن ليتذكر النسان ولو‬
‫نعمة واحدة هي نعمة اليجاد من عدم‪ ،‬أو نعمة البصر‪ ،‬أو السمع‪ .‬وكل نعمة من هذه النعم‬
‫تستحق من النسان أن يتذكرها دائما‪ ،‬ول تطرد نعمة نعمة أخرى‪ ،‬فما بالنا إذا كانت النعم كثيرة؟‬
‫ولو تمعن النسان في كل نعمة لحتاجت إلى أن يتذكرها دائما‪ ،‬أو أن النعمة اسم للجنس كله؛ لن‬
‫المفرد يطلق على كل الجنس‪ ،‬مثل النسان فإنها تطلق على كل فرد من أفراده مثل محمد وعلي‬
‫وخالد‪.‬‬
‫وكلمة " النعمة " قد تُنسب إلى سببها كنعمة سببها مروءة واحد من البشر‪ ،‬وهي محدودة بمقدار‬
‫الثر الذي أحدثته‪ .‬لكن نحن هنا أمام نعمة المسبب وهو ال‪ ،‬ول بد أن تناسب نعمة ال جلل‬
‫وجمال عظمته وعطائه‪.‬‬
‫} وَا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ َومِيثَاقَهُ الّذِي وَا َث َقكُم بِهِ { و " واثق " تقتضي امرين‪ :‬فالنسان طرف‬
‫الحتياج والفقر والخذ‪ ،‬والرب صاحب الفضل والعطاء والغنى‪ ،‬إنه هو الربوبية وأنت العبودية‪،‬‬
‫وهو الحق القائل‪ {:‬وََأوْفُواْ ِب َعهْدِي أُوفِ ِب َع ْه ِدكُمْ }[البقرة‪]40 :‬‬
‫علَ‬
‫علَ " ‪ ،‬ول بد في " فا َ‬
‫إذن فـ " واثقكم " تعني التأكيد من طرفين؛ لن " واثق " على وزن " فا َ‬
‫" أن تكون من اثنين‪ .‬ومثال ذلك " شارك " تقولها لثنين أو أكثر؛ فنقول‪ " :‬شارك زيد عمرا "؛‬
‫وكذلك " قاتل زيد عمرا "‪ .‬وحين يقول الحق‪ :‬إنه " واثق عباده " أي أنه شاركهم في هذا الميثاق‬
‫وقبله منهم‪ .‬لكن أي ميثاق هذا؟‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُمْ‬
‫ونحن نعرف الميثاق الول الذي هو ميثاق الذر‪ {:‬وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ُ‬
‫ش ِهدْنَآ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا َ‬
‫سهِمْ أََل ْ‬
‫شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫وَأَ ْ‬
‫غَافِلِينَ }[العراف‪]172 :‬‬
‫وهو ميثاق الفطرة قبل أن توجد النفس وشهواتها‪ .‬وبعد ذلك هناك ميثاق العقل الذي نظر به‬
‫النسان إلى الوجود واستطاع أن يخرج من تلك الرؤية بأن الوجود محكم ومنظم وواسع‪ ،‬ول بد‬
‫لهذا الوجود من واجد وهو ال‪ .‬وبعد ذلك ميثاق اليمان بال‪ ،‬فالرسول صلى ال عليه وسلم حينما‬
‫عرض منهج السلم آمن به بعض الناس‪ ،‬أي أخذ منهم عهدا على أن ينفذوا مطلوبات ال‪ ،‬ألم‬
‫يأخذ الرسول عهدا في العقبة حين قالوا له‪:‬‬
‫خذ لنفسك ولربّك ما أحببت‪.‬‬

‫فتكلم ‪ -‬رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فتل القرآن ودعا إلى ال ورغّب في السلم ثم قال‪" :‬‬
‫أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال‪:‬‬
‫نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أُزُرنا فبايعنا يا رسول ال فنحن أبناء الحرب وأهل‬
‫الحلقة (السلح) ورثناها كابرا عن كابر‪.‬‬
‫وحدث هذا ‪ -‬أيضا ‪ -‬عند بيعة الرضوان تخت الشجرة‪ .‬إذن فمعنى " واثقكم به " إما أن يكون‬
‫العهد العام اليماني في عالم الذر‪ ،‬وإما أن يكون العهد اليماني الذي جاء بواسطة الرسل‪.‬‬
‫طعْنَا { وحين يؤمن النسان يقول‪ :‬سمعت وأطعت‪،‬‬
‫س ِمعْنَا وََأ َ‬
‫} َومِيثَاقَهُ الّذِي وَا َثقَكُم ِبهِ إِذْ قُلْتُمْ َ‬
‫وهكذا تنتهي مسألة التعاقد‪ .‬ويتبع الحق ذلك بقوله‪ } :‬وَا ّتقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ {‪.‬‬
‫واتقوا أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلل من ال وقاية‪ ،‬فالمطلوب منا أن نلتحم بمنهج ال‬
‫إلتحاما كامل‪ ،‬وعلينا كذلك أن نجعل بيننا وبين صفات غضب ال وقاية‪ .‬وعرفنا أن قوله الحق‪" :‬‬
‫اتقوا ال " متساوٍ مع قوله‪ " :‬اتقوا النار " ‪ ،‬وقد يقول قائل‪ :‬وهل للنار أوامر ونواه؟‬
‫ونقول‪ :‬أحسن الفهم عن ربك واجعل بينك وبين غضب ال وقاية‪ ،‬فالنار جند من جنود ال‪.‬‬
‫وسبحانه يوضح‪ :‬اجعلوا بينكم وبين صفات الجلل وقاية؛ لن الحق له صفات جلل هي‬
‫الجبروت والنتقام والقهر‪ ،‬وللحق صفات جمال فهو الغفور الرحيم المغني‪ ،‬الحكيم إلى غير ذلك‬
‫من صفات الجمال‪ ،‬إذن فلنجعل بيننا وبين صفات الجلل وقاية تقينا من جنود صفات الجلل‬
‫ومنها النار‪.‬‬
‫وقلنا من قبل‪ :‬إن الرسول صلى ال عليه وسلم أبلغنا أنه في الليلة الخيرة من رمضان يتجلى‬
‫الجبار بالمغفرة‪ .‬والنظرة السطحية تتساءل‪ :‬ولماذا لم يقل‪ :‬يتجلى الغفار بالمغفرة؟ ذلك أن‬
‫(الجبار) صفة من صفات الجلل التي تقتضي معاقبة المذنب‪ ،‬والذنب متعلق بصفات الجلل ل‬
‫بصفات الجمال‪ ،‬إذن فالمنطق يقتضي أن يقف المذنب أمام شديد النتقام؛ لن المقام يناسب صفات‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الجلل‪ ،‬ولكن علينا أن نتذكر جيدا أن ال يرخي العِنان للمذنب لعله يتوب‪،‬وأن ال يفرح بتوبة‬
‫عبده وأن رحمته َتغْلب غضبه‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية‪ } :‬إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ { والتقوى ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬ل تنشأ من الفعال‬
‫المحسة المدركة فقط‪ ،‬بل تنشأ أيضا في الحوال الدخيلة المضمرة‪ .‬ومثال ذلك نية سيئة ونية‬
‫حسنة‪ .‬فالحقد‪ ،‬الحسد‪ ،‬التبييت‪ ،‬المكر‪ ،‬كل ذلك صفات سيئة؛ فإياكم أن تقولوا إن التقوى‬
‫للمدركات فقط؛ بل للمحسات أيضا‪ .‬وعمل القلوب له دخل في تقوى ال‪ .‬ومن بعد ذلك يقول‬
‫الحق‪ } :‬يَا أَ ّيهَآ الّذِينَ آمَنُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)669 /‬‬

‫عدِلُوا‬
‫ط وَلَا َيجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآَنُ َقوْمٍ عَلَى أَلّا َتعْدِلُوا ا ْ‬
‫شهَدَاءَ بِا ْلقِسْ ِ‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا كُونُوا َقوّامِينَ لِلّهِ ُ‬
‫ُهوَ َأقْ َربُ لِل ّتقْوَى وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ (‪)8‬‬

‫إنّ الحق ‪ -‬كما علمنا ‪ -‬حين ينادي المؤمنين بقوله‪ { :‬يَا أَ ّيهَآ الّذِينَ آمَنُواْ } إنه سبحانه لم يقتحم‬
‫على الناس تصرفاتهم الختيارية لمنهجه‪ ،‬بل يلزم ويأمر من آمن به ويوجب عليه؛ فيوضح‪ :‬يا‬
‫من آمنت بي إلها حكيما قادرا خذ منهجي‪ .‬ولكن الحق يقول‪ { :‬يا أيها الناس } حين يريد أن يلفت‬
‫كل الخلق إلى العتقاد بوجوده‪ ،‬أما من يؤمن به فهو يدخل في دائرة قوله الحق‪ { :‬يَا أَ ّيهَآ الّذِينَ‬
‫آمَنُواْ } وهذا النداء يقتضي بأن يسمع المؤمن التكليف ممن آمن بوجوده‪.‬‬
‫ونعلم أننا جميعا عبيد ال‪ ،‬لكن لسنا جميعا عباد ال‪ .‬وهناك فرق بين " عبيد " و " عباد "‪ .‬فالعبيد‬
‫هم المرغمون على القهر في أي لون من ألوان حياتهم‪ ،‬ول يستطيعون أن يدخلوا اختيارهم فيه‪.‬‬
‫قد نجد متمردا يقول‪ " :‬أنا ل أؤمن بإله " ولكن هل يستطيع أن يتمرد على ما يقضيه ال فيما‬
‫يجريه ال عليه قهرا؟ فإذا مرض وادعى أنه غير مريض فما الذي يحدث له؟ أيجرؤ واحد من‬
‫هؤلء المتمردين على أل يموت؟!! ل أحد يقدر على ذلك‪.‬‬
‫إذن فكل عبد مقهور ل‪ ،‬وكلنا عبيد ال يستدعينا وقتما يريد ويجري علينا ما يريد بما فوق‬
‫الختيارات‪ .‬أما " العباد " فهم الذين يأتون إلى ما فيه اختيار لهم ويقولون ل‪ :‬لقد نزعنا من أنفسنا‬
‫صفة الختيار هذه ورضينا بما تقوله لنا " افعل كذا " و " ل تفعل كذا "‪ .‬إذن فالعبيد مقهورون بما‬
‫يجريه عليهم الحق بما يريد‪ ،‬والعباد هم الذين يرضون ويكون اختيارهم وفق ما يحبه ال‬
‫ويرضاه؛ إنهم أسلموا الوجه ل‪ .‬فهم مقهورون بالختيار‪ ،‬أمّا العبيد فمقهورون بالجبار‪.‬‬
‫{ يَا أَ ّيهَآ الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ َقوّامِينَ للّهِ }‪ .‬و " قوام " صفة مبالغة والصل فيها قائم‪ ،‬فإن أكثر‬
‫القيام نطلق عليه " قوام "‪ .‬ومثال ذلك رجل ل يحترف النجارة وجاء بقطعة من الخشب وأراد أن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يسد بها ثقبا في باب بيته؛ هذا الرجل يقال له‪ " :‬ناجر " ول يقال له‪ " :‬نجار " ‪ ،‬ذلك أن تخصصه‬
‫في الحياة ليس في النجارة‪ .‬وكذلك الهاوي الذي يخرج بالسنارة إلى البحر؛ واصطاد سمكتين؛‬
‫يقال له‪ " :‬صائد " لكنه ليس صيادا؛ لن الصيد ليس حرفته‪.‬‬
‫إن الحق يطلب من كل مؤمن أل يكون قائما ل فقط‪ ،‬ولكن يطلب من كل مؤمن أن يكون قواما؛‬
‫أي مبالغ في القيام بأمر ال‪ .‬والقيام يقابله القعود‪ .‬وبعد القعود الضطجاع وهو وضع الجنب على‬
‫الرض ثم الستلقاء‪ ،‬وبعد ذلك ينام النسان‪ .‬ونحن أمام أكثر من مرحلة‪ :‬قائم وقاعد ومستلق‪،‬‬
‫ونائم‪.‬‬

‫والنائم ليس عليه تكليف‪ .‬والمستلقي هو المستريح على ظهره والحق يقول‪ {:‬فَا ْذكُرُواْ اللّهَ قِيَاما‬
‫َو ُقعُودا وَعَلَىا جُنُو ِبكُمْ }[النساء‪]103 :‬‬
‫أي اجعلوا ال دائما على بالكم؛ فالنسان يملك في حالته الطبيعية نشاطا يمكنه أن يقوم ويقعد؛ فإن‬
‫قيل‪ " :‬قال فلن بأمر القوم " أي أنه بذل كل جهد لدارة أمور الناس‪ ،‬والقيام في حركات الناس‬
‫أصعب شيء‪ .‬وسبحانه ل يريد منا أن نكون قائمين فقط؛ بل يريد أن نكون قوامين‪ .‬ومادمنا‬
‫قوامين فلن تخلو لحظة من قيامنا أن نكون ل؛ ل توجها‪ .‬ل نفعا؛ لن أية حركة من أي عبد ل‬
‫تفيد ال في شيء؛ فال خلق خلقه بمجموع صفات الكمال فيه‪ ،‬ولم ينشئ خلقه له صفة جمال أو‬
‫كمال جديدة‪ .‬وعندما يؤدي النسان أي عمل ل فهو يؤديه طاعة وتقربا ل‪ .‬وإذا أراد ال من‬
‫المؤمنين أن يكونوا قوامين ل‪ ،‬عندئذ تكون كل حركات المجتمع اليماني حركات ربانية متساندة‬
‫متصاعدة‪ .‬وإذا كانت حركات المجموع اليماني متساندة فسوف تكون النتيجة لهذه الحركة سعادة‬
‫البشرية؛ فالنسان إذا ما كان قواما فهو قوام لنفسه وللخرين‪.‬‬
‫والمراد أن نكون مداومين على قيامنا في كل أمر ل‪ .‬ول تعتقد أيها المؤمن أنك تعامل خلق ال‪،‬‬
‫إنما تعامل ال الذي شرع لك ليضمن لك ويضمن منك‪ ،‬فأنت إن طولبت بالمانة‪ ،‬فقد طولب كل‬
‫الناس بالمانة فيما هو خاص بك ل بغيرك‪ ،‬وحين ينهاك ال عن الخيانة فقد أمر الحق الناس‬
‫جميعا بالنتهاء عن الخيانة لك‪.‬‬
‫إذن إن نظرت إلى تكليفات ال لوجدتها لصالحك أنت فل يظنن ظان أن الدين إنما جاء ليقف أمام‬
‫نفسه هو‪ ،‬فالدين وقف أمام النفس لدى الناس جميعا‪ ،‬فحين يأمرك‪ :‬ألّ تمد يدك إلى مال غيرك‬
‫فأنت واحد من الناس‪ ،‬وفي هذا القول أمر موجه لكل الناس‪ :‬ل تمدوا أيديكم إلى مال فلن‬
‫لتسرقوه‪ .‬فانظر إلى أن الحق حين شرع عليك شرع لك‪ .‬ولذلك يجب أن يكون كل قيامك ل‬
‫سبحانه‪ .‬ولذلك يظهر الحق سبحانه وتعالى في بعض خلقه أشياء وأحداثا تُفهم الناس أن الذي‬
‫يعمل لخلق ال مسلوب النعيم‪ ،‬والذي يعمل ل يكون موصول النعيم؛ فنجد الواحد من الناس يقول‪:‬‬
‫" لقد صنعت لفلن كذا وكذا وكذا وأنكرني "‪ .‬نقول له‪ :‬أنت تستحق لنك صنعت له‪ ،‬ولكنك لو‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جدُ ُكلّ َنفْسٍ‬
‫صنعت ل لكفاك ال كل أمر‪ .‬ولذلك يقول الحق عن هؤلء الذين صنعوا ل‪َ {:‬يوْمَ تَ ِ‬
‫حضَرا }[آل عمران‪]30 :‬‬
‫عمَِلتْ مِنْ خَيْرٍ مّ ْ‬
‫مّا َ‬
‫إذن فالمؤمن يجب أن يوضح حركة قيامه وينميها‪ ،‬بمعنى أن يجعل كل حركته ل؛ فإن كانت كل‬
‫حركته ل‪ ،‬فال سبحانه ل يضيع أجر من أحسن عمل‪ .‬والخاسرون هم الذين يعملون للناس؛ لن‬
‫الناس ل يملكون لهم نفعا وربما تخلوا عنهم وربما أضمرت وحملت قلوبهم الضغن والحقد لمن‬
‫أحسن إليهم‪ ،‬وربما تحولوا إلى أعداء لهم‪ ،‬فالمصنوع له الجميل قد يعطيه ال بعضا من الجاه‪،‬‬
‫وحين يلقى صانع الجميل بعد ذلك قد تتخاذل نفسه وتذل‪ ،‬ونرى في بعض الحيان واحدا يجلس‬
‫بين الناس وقد أخذته العزة‪ ،‬ثم يدخل عليه إنسان كان له فضل عليه‪ ،‬وساعة يراه يكره وجوده في‬
‫مجلسه‪ ،‬ويتمنى أل يحدث هذا اللقاء؛ وإذا ما لقيه بعد ذلك في طريق فهو يشيح بوجهه؛ لن الذي‬
‫صنع الجميل يسبب حرجا له‪ ،‬ويجعل نفسه تتضعضع‪ ،‬وهو يريد أن يستكبر على الناس‪.‬‬

‫إذن فال يوضح‪ :‬اعملوا ل؛ لنه ل يضيع عنده شيء‪ .‬واعلموا أن ال رقيب عليكم ولن يضيع‬
‫عملٌ عنده‪.‬‬
‫وعندما سئل رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬عن الحسان قال‪ " :‬أن تعبد ال كأنك تراه فإن‬
‫لم تكن تراه فإنه يراك "‬
‫أتستطيع أنت أيها النسان أن تصنع في إنسان آخر ما يسوؤه أمامه؟‪ .‬أنت تسيء إلى ألخر من‬
‫وراء ظهره‪ .‬فلماذا إذن يُسيء الواحد منكم إلى ال بالعصيان‪ ،‬وهو الناظر إليكم جميعا؟‬
‫إذن حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن تحسن معاملة نفسك وغيرك فعليك أن تحتسب كل عمل‬
‫لك عند ال‪ .‬فقد سخر لنا الحق كل الوجود وأعطانا كل مقومات الحياة‪ ,‬ويوضح لكل واحد منا‪ :‬يا‬
‫عبدي اجعل كل قيامك ل؛ ول تكن قائما فقط ولكن كن قوّاما‪ ..‬بمعنى أنه مادامت فيك بقية من‬
‫العافية للعمل فاعمل‪ ،‬ول تعمل على قدر حاجتك فقط‪ ،‬ولكن اعمل على قدر طاقتك؛ لنك لو‬
‫عملت على قدر حاجتك فإن الذي ل يقدر على العمل لن يجد ما يعيش به‪.‬‬
‫إذن فاعمل على قدر طاقتك لتتسع حركتك للناس جميعا‪ .‬ويكون الفائض من عملك لغيرك‪ .‬وحين‬
‫شهَدَآءَ بِا ْلقِسْطِ { يعلمنا أل نضيع مجهودنا هباء‪ ،‬بل نوجه‬
‫يقول سبحانه‪ } :‬كُونُواْ َقوّامِينَ للّهِ ُ‬
‫المجهود للعمل ونقوم به لوجه ال‪ ،‬لنه سبحانه ل ينسى أبدا جزاء عبده‪ ،‬وهو الذي يرد كل‬
‫ل الِحْسَانُ {‪.‬‬
‫حسَانِ ِإ ّ‬
‫جميل‪ .‬إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يقول‪َ } :‬هلْ جَزَآ ُء الِ ْ‬
‫ويقول أيضا‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ }[التوبة‪]120 :‬‬
‫وحين يكون الواحد منا قوّاما ل يكون قد استغل حركة وجوده لخير خلق ال‪ ،‬وهذا العمل مطلوب‬
‫منك‪ .‬ول يكفي أن تكون حركتك محصورة في ذلك‪ ،‬بل يجب أن تمتد أيضا حركة حياتك لتكون‬
‫شاهدا بالعدل‪ .‬وكذلك توجه للعدل من تحدثه نفسه أن ينحرف‪ .‬وحين تكون قوّاما ل فهذا أمر‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسن‪ ،‬وعليك أن تحاول إقناع غيرك بأن يكون قيامه ل بأن تكون شاهدا بالقسط والعدل‪ .‬وحين‬
‫تكون شاهدا بالقسط والعدل ل يتمادى ظالم في ظلمه‪ .‬فالذي يجعل الظالم يشتد ويستشري ظلمه‬
‫ويتفاقم شره هو أنه يجد من يدلسون على العدالة ويسترون ويخفون العيوب ويخادعون الناس‪.‬‬

‫لكن لو وُجِد النسان الذي ينير الطريق أمام العدالة لما وجد ظلم‪ .‬لكن الظالم يحب من يدلس‬
‫عليه؛ فيقول لنفسه‪ :‬إن فلنا ارتكب جريمة مثل جريمتي ونال البراءة‪ .‬وتدليس الشهادة يقود إلى‬
‫خراب المجتمعات‪ .‬ولو أن المجتمع حينما يرى أن شهادة أفراده هي شهادة بالقسط وشهادة‬
‫بالعدل‪ ،‬فإن كل فرد في المجتمع إذا َهمّ بظلم يرتدع قبل أن يفعل الظلم‪ ،‬ولكان الظالم ينال عقابه‬
‫ويصير مثالً لرتداع غيره‪ .‬والمؤمن مطالب بالقيام ل بإصلح ذاته‪ ،‬ومطالب ثانيا أن يشهد‬
‫بالقسط والعدل لصلح غيره‪.‬‬
‫وكلمة " القسط " تأتي منها اشتقاقات كثيرة‪ ،‬وهي من اللفاظ التي قد تدل على العدل وقد تدل على‬
‫الجور‪ ،‬وهي من اللفاظ التي تستعمل في المر وفي نقيضه‪ .‬وهذا من محاسن اللغة‪ .‬ويتطلب ذلك‬
‫أن يمحص السامع الكلمة ويتعرف على معناها بما يتطلبه السياق‪.‬‬
‫" وقَسَطَ " معناها " عدل "‪ .‬والفعل المضارع لها هو يقسط‪ .‬والمصدر " قِسطا " ‪ ،‬ومرة يكون‬
‫المصدر " قُسوطا "‪ .‬والمصدر هو الذي قد يحول المعنى من العدل إلى الجور‪ .‬فالقِِسط بمعنى‬
‫سطُ قُسُوطا‪ .‬أي جار وظلم‪ .‬هنا نجد الفعل يأتي بالمعنى وضده؛ حتى يمتلك‬
‫العدل‪ .‬وقَسَطَ َيقْ ِ‬
‫السامع اليقظة والفطنة التي تجعله يعرف التمييز بين معنى العدل ومعنى الجور‪.‬‬
‫ع ْدلٍ يأتي من‬
‫وحين نقول " أقسط " فإنها بمعنى عدل‪ ،‬وهنا ننتبه إلى ما يلي‪ :‬أن هناك فرقا بين َ‬
‫أول المر وذلك هو القِسط‪ ،‬وهناك حكم ظالم يحتاج إلى حكمٍ آخر يزيل الظلم‪ .‬وذلك الذي‬
‫نستعمل له " أقسط " أي أزال الظلم‪ .‬فكأن جورا كان موجودا وأزاله الحكم‪ .‬فالقِسط ‪ -‬إذن ‪ -‬هو‬
‫جهَنّمَ حَطَبا }‬
‫سطُونَ َفكَانُواْ ِل َ‬
‫العدل البتدائي‪ .‬ولذلك نسمع قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وََأمّا ا ْلقَا ِ‬
‫[الجن‪]15 :‬‬
‫والقاسطون هنا هم الظالمون‪ ،‬فالقسط هنا من قسط يقسط قُسوطا‪.‬‬
‫شهَدَآءَ بِا ْلقِسْطِ { أي شهداء بالعدل‪.‬‬
‫وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق‪ُ } :‬‬
‫واللباقة في السامع هي التي توجه اللفظ إلى معناه المراد من خلل السياق‪ ،‬فالسامع للقرآن‬
‫ُيفْترض فيه الريحية اللغوية بحيث يستطيع أن يفرق بين الشيء والمشابه له من شيء آخر‪ .‬إذن‬
‫فهناك قسط وأقسط‪ ،‬قسط بمعنى عدل‪ ،‬وأقسط بمعنى أقام القسط بإزالة الجور‪ .‬والقسوط معناه‬
‫الجور‪.‬‬
‫حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ { و " المقسطين " هي جمع " مُقسط "؛ من‪ :‬أقسط أي أزال‬
‫والحق يقول‪ } :‬إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫الظلم والجور‪ ,‬إذن فالذي يرجح المعنى هنا سياق الكلمة ومصدرها‪ .‬وقد يراد بالكلمة المعنى‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المصدري‪ .‬والمعنى المصدري ل يختلف باختلف منطوقه‪ ،‬فيقال‪ " :‬رجل عدل " ويقال‪ " :‬امرأة‬
‫عدل "‪ .‬ويقال‪ " :‬رجلن عدل " ‪ ،‬ويقال‪ " :‬امرأتان عدل " ‪ ،‬و " رجال عدل " ‪ ،‬و " نساء عدل "‪.‬‬

‫إذن فإن أردنا بالكلمة المصدر فهي ل تتغير في المفرد والمثنى وجمع المذكر وجمع المؤنث‪.‬‬
‫سطَ }[النبياء‪]47 :‬‬
‫والقرآن الكريم يقول‪ {:‬وَنَضَعُ ا ْل َموَازِينَ ا ْلقِ ْ‬
‫سطَاسِ ا ْلمُسْ َتقِيمِ }[الشعراء‪]182 :‬‬
‫وهنا قول آخر‪ {:‬وَزِنُواْ بِا ْلقِ ْ‬
‫وفي الريف المصري نجد أن التاجر يصنع لنفسه الموازين من الحجار‪ ،‬فيعاير قطعة من الحجر‬
‫بوزن الكيلو جرام‪ ،‬ويعاير قطعا أخرى لجزاء الكيلو جرام؛ ومن كثرة الستعمال وملمسة‬
‫الحجر يعرف التاجر أن الحجر يتآكل‪ ،‬لذلك يعيد وزن الحجار التي يستعملها في الميزان كل‬
‫فترة متقاربة من الزمن‪ .‬ويقال‪ :‬إنه يعاير الوزان‪ .‬وسمي القسطاس؛ فالقسطاس هو الذي تعاير‬
‫به الموازين‪ ،‬فإذا صنع النسان شيئا للميزان مما يتآكل أو يتأثر باللمس فيجب عليه أن يعايره كل‬
‫فترة حتى ل يظلم أحدا ولو بمقدار اللمسة الواحدة‪ .‬ولذلك يقول الحق‪ } :‬ذَِلكُمْ َأقْسَطُ عِندَ اللّهِ { "‬
‫أقسط " هنا معناها " أعدل "‪ .‬فموازين ال غير موازين البشر‪ ،‬فموازين البشر قد يحدث فيها‬
‫اختلف‪ .‬ونرى بعض التجار ينقضون الميزان بأن يضعوا شيئا تحت كفة الميزان أو غير ذلك‬
‫سطُ‬
‫من الخدع‪ ،‬لكن الحق هو العادل الحق‪ .‬وهو صاحب الميزان العدل وهو القائل‪ } :‬ذَِلكُمْ َأقْ َ‬
‫عِندَ اللّهِ {‪.‬‬
‫جاءت هذه الية لن رسول ال صلى ال عليه وسلم أصدر حكما؛ وهو حكم صحيح وعادل‬
‫بقواعد البشر‪ ،‬فأوضح الحق له الحكم القسط‪ ،‬صحيح أن عدلك يا رسول ال ل يدخله هوى ول‬
‫يميل به غرض أو شهوة‪ .‬ولكن العدل عند ال أكثر دقة وله مطلق الدقة‪ .‬وقد قال الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم هذا الحكم بمنطق القسط البشري في أمر زيد بن حارثة وكان مولى لرسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كان عبدا لخديجة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬وهبته لرسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وبعد فترة علم أهل زيد بخبر اختطافه وبيعه كعبد وكيف آل إلى رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فجاء أهل زيد إلى رسول ال وطالبوا بابنهم‪ .‬ورفض زيد أن يعود معهم وأراد أن يبقى مع‬
‫رسول ال‪ ،‬وأراد رسول ال أن يكرم زيدا الذي فضله على أبيه وأهله مصداقا لقول ال‪ {:‬النّ ِبيّ‬
‫سهِمْ }[الحزاب‪]6 :‬‬
‫َأوْلَىا بِا ْل ُمؤْمِنِينَ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫لذلك كان ل بد للنبي صلى ال عليه وسلم أن يقدر زيد بن حارثة؛ فأعتقه ودعاه " زيد بن محمد "‬
‫ج َعلَ‬
‫تكريما له‪ ،‬على عادة العرب في تلك اليام‪ .‬لكن ال يريد أن يلغي مسألة التبنّي‪َ {:‬ومَا َ‬
‫أَدْعِيَآ َءكُمْ أَبْنَآ َء ُكمْ }[الحزاب‪]4 :‬‬
‫وأجرى ال الحداث ليصحح مسألة التبني لكل العرب‪ ،‬وكان بداية تطبيق ذلك على سيدنا رسول‬
‫سطُ عِندَ اللّهِ }‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وينزل القول الحق‪ {:‬ادْعُو ُه ْم لبَآ ِئهِمْ ُهوَ َأقْ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[الحزاب‪]5 :‬‬
‫لم ينف ال القسط عن محمد‪ ،‬ولكن القسط يأتي من عند ال‪ .‬ويطيب ال خاطر زيد بعد أن عاد‬
‫إليه اسمه الفعلي منسوبا لبيه ل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويكافئ ال زيدا بأن يجعل‬
‫اسمه هو السم الوحيد في السلم الذي يذكر في القرآن ويتعبد المؤمنون بتلوته إلى أن تقوم‬
‫الساعة‪ {:‬فََلمّا َقضَىا زَيْدٌ مّ ْنهَا وَطَرا }[الحزاب‪]37 :‬‬
‫لقد صار اسمه في القرآن يتلوه المسلمون إلى قيام الساعة‪ .‬وفي ذلك كل السلوى‪ .‬إذن فـ " }‬
‫سطُ عِندَ اللّهِ { جاءت في محلها‪ ،‬وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد طلب منا أن يكون قيامنا‬
‫َأقْ َ‬
‫مبالغا فيه؛ أي أل نترك فرصة لعمل الخير وأن نبالغ في الدقة في أداء العمل‪ ،‬وأن َنعْدل في‬
‫المجتمع بأن نكون شهداء بالقسط‪ .‬وبذلك يأخذ كل إنسان حقه فل يقدر قوي أن يظلم ضعيفا؛ لن‬
‫الضعيف سيجد أناسا يشهدون معه بالحق‪.‬‬
‫وإياكم أن تأخذوا الهوى في مقاييس العدل‪ .‬وهب أن المسألة تتعلق بعدوكم أو بخصومكم فالعدل‬
‫هنا أكثر أهمية وأكثر وجوبا‪.‬‬
‫} َولَ يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ عَلَى َألّ َتعْدِلُواْ {‪ .‬أي ل يحملنكم بغض قوم على أل تعدلوا فتعتدوا‬
‫عليهم‪ ،‬فمن له حق يجب أن يأخذه‪ .‬ونعرف القصة التي حدثت‪ ،‬عندما سرق مسلم درع مسلم آخر‬
‫وأراد السارق وأهله أن يلصقوا التهمة بيهودي وأن يبرئ نفسه‪ ،‬ولكن ال أنزل قرآنا‪ {:‬إِنّآ أَنْزَلْنَا‬
‫خصِيما }[النساء‪]105 :‬‬
‫حكُمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ َ‬
‫حقّ لِ َت ْ‬
‫إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫أي ل تكن يا محمد لصالح الخائنين مخاصما للبرآء‪ .‬وقوله الحق هنا‪ } :‬وَلَ يَجْ ِرمَ ّن ُكمْ شَنَآنُ َقوْمٍ‬
‫عَلَى َألّ َت ْعدِلُواْ { أي ل يحملنكم بغض قوم على أل تعدلوا‪ ،‬وإل سيكون البغض لصالح عدوكم‪،‬‬
‫وبغض المؤمن إذا حمله على اتباع هواه سيكون لصالح العدو؛ لن ال سيعاقب المؤمن لو أدخل‬
‫الهوى والبغض في إقامة الميزان العادل‪ .‬فتحكيم البغض والعِداء والهوى يكون لصالح الخصوم؛‬
‫لذلك ل يحملنكم أيها المؤمنون شنآن ‪ -‬أي بغض ‪ -‬قوم على أل تعدلوا‪.‬‬
‫ويضيف الحق‪ } :‬اعْدِلُواْ ُهوَ َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَىا { والعدالة حين تُطلب مع الخصم هي تقريع لذلك‬
‫الخصم لنه خالف اليمان‪ .‬ومن المؤكد أن الخصم يقول لنفسه‪ :‬إن عدالة هذا المسلم لم تمنعه من‬
‫أن يقول الحق ول بد أن عقيدته تجعل منه إنسانا قويا‪ ،‬وأن دينه الذي أمره بذلك هو نعم الدين‪.‬‬
‫إذن ساعة تحكم أيها المؤمن بالعدل لخصمك فأنت تقرعه لنه ليس مؤمنا‪ ،‬لكن لو رأى خصمك‬
‫أنك قد جُرت ولم تذهب إلى الحق‪ ،‬فأنت بذلك تشجعه على أن يبقى كافرا؛ لنه سيعرف أنك تتبع‬
‫الهوى‪ .‬أما إذا رآك وأنت تقف موقفا يرضي ال مع أنه خصم لك‪ ،‬فهو يستدل من ذلك على أن‬
‫العقيدة التي آمنت بها هي الحق‪ ،‬وأنك تقيم الحق حتى في أعدائك‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا يقرع الخصمُ العقدي نفسَه‪ ،‬وقد يلفته ذلك إلى اليمان‪.‬‬
‫عدِلُواْ ُهوَ َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَىا { أقرب إلى أي تقوى؟ أأقرب إلى تقوى المؤمن؟ أم أن الخصم يكون‬
‫}اْ‬
‫أقرب إلى التقوى حين يرى المؤمن مقيما للعدل والحق‪ ،‬فلعله يرتدع نفسه ويقول‪ :‬إن اليمان قد‬
‫جعل هذا المسلم يتغلب على البغض وحكم بالحق على الرغم من أنه يعلم أنني عدو له‪.‬‬
‫ولنا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلم السوة الحسنة‪ ،‬فقد جاءه رجل غريب يسأله طعاما أو‬
‫مبيتا‪ ،‬فسأله إبراهيم عن دينه‪ .‬فوجده كافرا‪ ،‬فلم يجب مسألته‪.‬وسار الرجل بعيدا‪ ،‬فأنزل ال‬
‫سبحانه على إبراهيم وحيا‪ :‬أنا قبلته كافرا بي ومع ذلك ما قبضت نعمتي عنه‪ .‬وسألك الرجل لقمة‬
‫أو مبيتَ ليلةٍ فلم تجبه‪ .‬وجرى سيدنا إبراهيم خلف الرجل واستوقفه‪ ،‬فسأل الرجل سيدنا إبراهيم؛‬
‫ما الذي حدث لتغير موقفك‪ ،‬فقال سيدنا إبراهيم‪ :‬إن ربي عاتبني في ذلك‪ .‬فقال الرجل‪ :‬نعم الرب‬
‫إله يعاتب أحبابه في أعدائه‪ ،‬وآمن الرجل‪.‬‬
‫وهذا يوضح لنا معنى } َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَىا { فقد صار الرجل الكافر أقرب للتقوى‪ .‬إذن‪ :‬فالمعنى‬
‫النفسي الذي يصيب خصمك أو من يغضبك أو من بينك وبينه شنآن‪ ،‬حين يراك آثرت الحق على‬
‫بغضك له‪ ،‬يجعله يلتفت إلى اليمان الذي جعل الحق يعلو الهوى ويغلبه ويقهره‪ ،‬ويصير أقرب‬
‫للتقوى‪ .‬وأيضاَ من يشهد بالقسط هو أقرب للتقوى‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية بقوله‪ } :‬وَا ّتقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ { فهو ‪ -‬سبحانه ‪ -‬الخبير بما‬
‫نعمل‪ .‬وإياك أيها المؤمن أن تصنع ذلك لشهرة أن يُقال عنك إنك رجل حكمت على نفسك‪ .‬ولكن‬
‫اعمل من أجل ال حتى وإن كان الموقف يستحق منك الفخر‪.‬‬
‫إن كثيرا من الناس يحكمون بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل‪ ،‬كيف؟ لنفرض أنه قد عُرضت‬
‫عليك قضية هي خصومة بين ابنك وابن جارك؛ الشجاعة الولى تفرض أن تحكم لبن جارك‬
‫وهو غير محق على ابنك‪ ،‬لكن الشجاعة القوى أن يكون الحق لبنك وتحكم له‪ ،‬أما إن حكمت‬
‫لبن جارك ‪ -‬وهو غير محق ‪ -‬في هذه الحالة تكون قد حكمت بالظلم لتشتهر بين الناس بالعدل!‬
‫يجب أن يكون الحق أعز عليك من ابنك وابن جارك‪ ،‬وإياكم أن تعملوا أعمالً ظاهرها عدل‬
‫وباطنها رياء؛ لننا نعلم أن لكل جارحة من الجوارح مجالً تؤدي فيه وظيفتها؛ فاللسان أداؤه‬
‫ووظيفته القول‪ ،‬والذن فعلها أن تسمع‪ ،‬والنف أداؤه أن يشم‪ ،‬ويجمع الجميع العمل‪ .‬فالعمل إما‬
‫ل وإما أن يكون فعل‪.‬‬
‫أن يكون قو ً‬
‫قال تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ * كَبُرَ َمقْتا عِندَ اللّهِ أَن َتقُولُواْ مَا لَ‬
‫َت ْفعَلُونَ }[الصف‪]3-2 :‬‬
‫إذن فالقول محله اللسان‪ ،‬والفعل محله بقية الجوارح‪ ،‬والثنان يجمعهما العمل‪.‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪ } :‬وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)670 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (‪)9‬‬
‫وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬

‫وعندما نتأمل كلمة " وعد " نجدها تأتي‪ ،‬وتأتي أيضا كلمة " أوعد " و " وعد " وكذلك أوعد إذا لم‬
‫تقترن بالموعود به‪ ،‬تكون وَعَد للخير‪ ،‬و " َأوْعَد " للشر‪ .‬ولكن لو حدث غير ذلك وجئت‬
‫بالموعود به‪ ،‬فالثنان متساويان‪ ،‬فيصح أن تقول " وعدته بالخير " ويصح أيضا أن تقول‪" :‬‬
‫وعدته بالشر "‪ .‬لكن إن لم تذكر المتعلق‪ ،‬فإن " وعد " تستعمل في الخير‪ .‬و " أوعد " تستعمل في‬
‫الشر‪ .‬والشاعر يقول‪:‬وإنّي إنْ أوعدته أو وعدته لُمخِْلفُ إِبعادي ومُنْجِزُ موعديوحين يقول‪ " :‬وعد‬
‫ال " فهذا وعد مطلق ل إخلل به؛ لن الذي يخل بالوعد هو النسان الذي تعتريه الغيار؛ فقد‬
‫يأتي ميعاد الوفاء بالوعد ويجد النسان نفسه في موقف العاجر أو موقف المتغير قلبيا‪ ،‬لكن ساعة‬
‫يكون ال هو الذي وعد فسبحانه الذي ل تداخله الغيار‪ ،‬بل هو الذي يُجري الغيار‪ ،‬لذلك يكون‬
‫وعده هو الوعد الخالص الذي ل توجد قوة أخرى تحول دون أن ينفذ ال وعده‪ .‬أما وعد البشر‬
‫فقد تأتي قوة أخرى تعطل الوعد‪.‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ َلهُم ّمغْفِ َرةٌ } سبحانه وتعالى يوضح أن مغفرته لكل‬
‫{ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫عباده ول يختص فقط الصالحين الورعين بل إنه يوجد حديثه إلى هؤلء الذين ارتكبوا المعاصي‬
‫فإن تابوا‪ ،‬فلهم مغفرة؛ لن ردء المفسدة مقدم على جلب المصلحة؛ فأنت قد تكون جالسا ويأتي‬
‫واحد جهة اليمين ليقدم لك تفاحة‪ ،‬وفي اللحظة نفسها التي تمتد يدك لتأخذ التفاحة تلتفت لتجد‬
‫إنسانا آخر يريد أن يصفعك‪ ،‬أي اتجاهات سلوكك تغلب؟‪ .‬ل بد أنك سترد على من يضربك أول‪.‬‬
‫ل بالمغفرة‪ .‬ونجده سبحانه وتعالى يأتي بأشياء تلفت القلب فهو يقول‪َ {:‬فمَن‬
‫والحق يزيل الذنوب أو ً‬
‫خلَ الْجَنّةَ فَقَدْ فَازَ }[آل عمران‪]185 :‬‬
‫زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ‬
‫فالخطوة الولى للفوز هي الزحزحة عن النار‪ ،‬والخطوة التالية بعد ذلك هي دخول الجنة‪.‬‬
‫فسبحانه يمنع المفسدة ويقدم دفعها ودرأها على جلب المنفعة؛ لذلك يقول الحق بداية‪َ { :‬لهُم‬
‫ّمغْفِ َرةٌ }‪ .‬والنسان منا ساعة تأتي له الخواطر يفكر في أشياء يطمح إليها‪ ،‬وهناك أشياء يخاف‬
‫منها‪ .‬وينشغل الذهن أولً بما يخاف منه‪ ،‬يخاف من المفسدة‪ ،‬يخاف من عدم تحقيق المال‪ .‬إذن‬
‫فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة‪.‬‬
‫عظِيمٌ }‪ .‬وكل أجر على عمل يأخذ عمره بقدر حيزه الزمني‪ ،‬فأجر النسان‬
‫{ َلهُم ّمغْفِ َر ٌة وَأَجْرٌ َ‬
‫على عمله في الدنيا يذهب ويزول؛ لن النسان نفسه يذهب إلى الموت‪ ،‬أما أجر الخرة فهو‬
‫الباقي أبدا‪ ،‬وهو أجر ل يفوت النسان ول يفوته النسان‪ ،‬ذلك هو الجر العظيم‪.‬‬
‫وحين يتكلم الحق عن معنى من المعاني يتعلق باليمان والعمل الصالح تكون النفس مستعدة؛ لن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هناك تأميل في الخير وترهيبا من الشر؛ لذلك يتبع الحق هذه الية بآية أخرى فيقول‪ { :‬وَالّذِينَ‬
‫َكفَرُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)671 /‬‬

‫جحِيمِ (‪)10‬‬
‫صحَابُ الْ َ‬
‫وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأ ْ‬

‫جحِيمِ } تتزلزل النفوس رهبة من تلك الصحبة التي نبرأ منها‪،‬‬


‫صحَابُ الْ َ‬
‫وحين نسمع قوله‪َ { :‬أ ْ‬
‫فالصحبة تدل على التلزم وتعني الرتباط معا‪ ،‬وأل يترك أحدهما الخر؛ كأن الجحيم ل تتركهم‪،‬‬
‫وهم ل يتركون الجحيم‪ ،‬بل تكون الجحيم نفسها في اشتياق لهم‪ .‬وللجحيم يوم القيامة عملن؛‬
‫العمل الول‪ :‬الصحبة التي ل يقدر الكافر على الفكاك منها‪ ،‬والثاني‪ :‬ل تترك الجحيم فرصة‬
‫ت وَ َتقُولُ َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق‪:‬‬
‫ل ِ‬
‫جهَنّمَ َهلِ امْتَ َ‬
‫للكافر ليفك منها‪ .‬ويقول الحق عن النار‪َ {:‬يوْمَ َنقُولُ ِل َ‬
‫‪]30‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬يَا أَ ّيهَآ الّذِينَ آمَنُواْ‪} ....‬‬

‫(‪)672 /‬‬

‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ َهمّ َقوْمٌ أَنْ يَ ْبسُطُوا إِلَ ْي ُكمْ أَيْدِ َي ُهمْ َف َكفّ أَ ْيدِ َيهُمْ عَ ْنكُمْ‬
‫وَاتّقُوا اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ (‪)11‬‬

‫والذكر ‪ -‬كما عرفنا ‪ -‬يعني استحضار الشيء إلى الذهن؛ لن الغفلة تطرأ على النسان وعليه‬
‫ال يستمر فيها‪ .‬وبعض أهل الشراق والشطح يتلعبون بالمواجيد النفسية فيقول واحد منهم‪ :‬يعلم‬
‫ال أني لست أذكره‪ .‬وحين يسمع النسان مثل هذا القول قد يوجه لصاحبه التأنيب والنقد العنيف‪،‬‬
‫لكن القائل يحلل المر التحليل العرفاني فيكمل بيت الشعر بالشطر الثاني‪ ":‬إذْ كيف أذكره إذْ لست‬
‫أنساه "‪ .‬وهنا ترتاح النفس‪ ،‬ويقول الحق هنا أيضا‪ِ { :‬ن ْع َمتَ اللّهِ } ولم يقل‪ " :‬نعم "؛ لن كل نعمة‬
‫على انفراد تستحق أن نشكر ال عليها؛ فكل نعمة مفردة في عظم وضخامة تستحق الشكر عليها‪،‬‬
‫أو أن نعمة ال هي كل فيضه على خلقه‪ ،‬فأفضل النعمة أنه ربنا‪ ،‬وسبحانه يقول‪ { :‬ا ْذكُرُواْ ِن ْع َمتَ‬
‫سطُواْ إِلَ ْيكُمْ أَ ْيدِ َيهُمْ َف َكفّ أَيْدِ َيهُمْ عَنكُمْ }‪ .‬ومادام قد جاء بـ " إذ " فالمراد‬
‫علَ ْيكُمْ إِذْ هَمّ َقوْمٌ أَن يَبْ ُ‬
‫اللّهِ َ‬
‫نعمة بخصوصها؛ لن " إذ " تعني " حين " فالحق يوضح‪ :‬اذكروا نعمة ال عليكم في ذلك الوقت‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذي حدثت فيه هذه المسألة؛ لنه جاء بزمن ويطلب أن نذكر نعمته في هذا الموقف‪ ،‬إنه يذكرنا‬
‫بالنعمة التي حدثت عندما همّ قوم ببسط أيديهم إليكم‪.‬‬
‫وهناك " قبض " لليد و " بسط " لليد‪ .‬والبسط المنظور أن ترى النعمة‪ .‬وفي الية تكون النعمة هي‬
‫كف أيدي الكافرين‪ ،‬ذلك أن أيديهم كانت ممدودة بالسوء والشر‪ .‬ولو وقفنا عند بسط اليد؛ لظننا‬
‫أنه سبحانه قد جعل من أسباب خلقه معبرا للنعم علينا أي أن نعم ال تعبر وتصل إلينا عن‬
‫طريقهم وبأيديهم‪ ،‬لكن هذا ليس مراد من النص الكريم؛ لننا حين نتابع قراءة الية‪ ،‬نعرف أن‬
‫كف أيديهم هو النعمة‪ ،‬فهؤلء القوم أرادوا أن يبسطوا أيديهم باليذاء‪ .‬ويقولون عن بذاءة اللسان‪:‬‬
‫" بسط لسانه " ويقولون أيضا‪ " :‬بسط يده باليذاء "‪.‬‬
‫ونعرف أن الحق جاء بـ " إليكم " أو " عنكم " وكلهما فيه ضمير يعود على المؤمنين مع النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فالمؤمنون ملتحمون بمنهج النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإذا همّ قوم أن‬
‫يبسطوا أيديهم إلى رسول ال‪ ،‬ففي ذلك إساءة للمؤمنين برسول ال؛ لن كل شيء يصيب رسول‬
‫ال‪ ،‬يصيب المؤمنين أيضا‪ .‬وكانت هناك واقعة حال في زمن مقطوع وسابق‪ ،‬فهل يعني الحق‬
‫سبحانه وتعالى بحادثة بني النضير‪ ،‬وكان بين رسول ال صلى ال عليه وسلم وبني النضير‬
‫معاهدة أل يعينوا عليه خصوم السلم وإذا حدث قتل من جهة المسلمين فعلى بني النضير‬
‫المعاونة في الدية‪ ،‬وكان النبي قد أرسل مسلما في سرية فقتل اثنين من المعاهدين خطأ‪ ،‬فطالبوا‬
‫بدية للقتيلين‪.‬‬

‫ولم يكن عند النبي؛ مالٌ فذهب إلى بني النضير كي يساعدوه بدية القتيلين‪ ،‬فقالوا له‪ " :‬مرحبا "‬
‫نطعمك ونسقيك وبعد ذلك نعطيك ما تريد‪ ،‬ثم سلطوا واحدا ليرمي الرسول بحجر‪ .‬فصعد الرجل‬
‫ليلقي على الرسول صخرة ورسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قاعد إلى جانب جدار من‬
‫بيوتهم فأخبر الحق رسوله فقام خارجا‪ ،‬ولم ينتظر شيئا‪.‬‬
‫} ِإذْ َهمّ َقوْمٌ أَن يَ ْبسُطُواْ إِلَ ْيكُمْ أَيْدِ َيهُمْ َف َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ عَنكُمْ { لقد أخبر الحق نبيه بما يبيتون قبل أن‬
‫يتمكنوا من الفعل‪ .‬و " الهمّ " هو حديث النفس‪ ،‬فإذا ما خرج إلى أول خطا النزوع فذلك هو‬
‫القصد‪ ،‬و " الهم " هو الشيء الذي يغلب على فكر النسان في نفسه ويكون مصحوبا بغم‪.‬‬
‫وفي اللغة الدارجة نسمع من يقول‪ " :‬أنا في هم وغم "؛ لن " الهم " هو المر الذي ل يبارح‬
‫النفس حديثا ويسبب الغم‪ .‬فالهم هو العدو الذي ل يقدر أن يقهره أحد؛ لنه يتسرب إلى القلب‪ ،‬أما‬
‫أي عدو آخر فالنسان قد يدفعه‪ ،‬ونعرف عن سيدنا المام علي ‪ -‬رضوان ال عليه وكرم ال‬
‫وجهه ‪ -‬أنه كان مشهورا بأنه المفتي؛ فهو يُستفتى في الشيء فيجيب عليه‪ ،‬لدرجة أن سيدنا عمر‬
‫نفسه يقول‪ " :‬قضية ول أبا حسن لها " أي أنها تكون قضية معضلة إذ لم يوجد أبو حسن لها‬
‫فيحلها‪ ،‬وكان سيدنا عمر يستعيذ من أن يوجد في مكان ل يوجد به سيدنا علي‪ .‬وعندما عرف‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الناس عنه ذلك تساءلوا‪ :‬من أين يأتي بهذا الكلم؟‪ .‬فجاءوا بلغز وانتظروا كيف يخرج منه‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬إن الكون متسع وفيه أشياء أقوى من كل الشياء‪ ،‬وقوى تتسلط على قوى‪ ،‬وحاولوا التفاق‬
‫على شيء اقوى من كل الشياء؛ فقال واحد‪ :‬الجبل هو أقوى الشياء‪ .‬وقال الخر‪ :‬لكنا نقطع منه‬
‫الحجار بالحديد‪ .‬وبينما هم يسلسلون هذه السلسلة جاء سيدنا علي فقالوا له‪ :‬يا أبا الحسن ما أشد‬
‫جنود ال؟‪.‬‬
‫فأجاب سيدنا علي ‪ -‬كرم ال وجهه ‪ -‬كأنه يقرأ من كتاب بدليل أنه عرف جنود ال وعرف‬
‫القوى وحصر عددهم‪ ،‬وقال سيدنا علي‪ :‬أشد جنود ال عشرة‪.‬‬
‫وكأنه انشغل بهذه المسألة من قبل‪ ،‬ودرسها‪.‬‬
‫قال‪ :‬الجبال الرواسي والحديد يقطع الجبال‪ ،‬والنار تذيب الحديد‪ ،‬والماء يطفئ النار‪ ،‬والسحاب‬
‫المسخر بين السماء والرض يحمل الماء‪ ،‬والريح يقطع السحاب‪ ،‬وابن آدم يغلب الريح يستتر‬
‫سكْر يغلب ابن آدم‪ ،‬والنوم يغلب السكر‪ ،‬والهم يغلب النوم‪،‬‬
‫بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته؛ وال ّ‬
‫فأشد جنود ال الهم‪ .‬ول يمكننا أن نمر على كلمة " الهم " في القرآن إل أن نستعرض مواقعها في‬
‫كتاب ال‪.‬‬

‫وأهم موقع من مواقعها تتعرض له من أسئلة الكثيرين في رسائلهم وفي لقاءاتنا معهم هو مسألة‬
‫يوسف عليه السلم حينما قال الحق سبحانه وتعالى بخصوص مراودة امرأة العزيز له‪ {:‬وََلقَدْ‬
‫َه ّمتْ بِ ِه وَهَمّ ِبهَا َلوْل أَن رّأَى بُ ْرهَانَ رَبّهِ }[يوسف‪]24 :‬‬
‫ولنحقق هذه المسألة‪ ،‬فالذين يستبعدون على سيدنا يوسف عليه السلم هذا المر‪ ،‬يستبعدون على‬
‫صاحب العصمة أن يُفكر في نفسه‪ ،‬وإن كان التفكير في النفس لم يبلغ العمل النزوعي فهو‬
‫محتمل‪ .‬بل قد يكون التفكير في الشيء ثم عدول النفس عنه أقوى من عدم التفكير فيه؛ لن شغل‬
‫النفس بهذا المر ثم الكف يعني مقاومة النفس مقاومة شديدة‪ .‬ولكنهم يُجِلّون ويعظمون ‪ -‬أيضا ‪-‬‬
‫سيدنا يوسف عن أن يكون قد مر بخاطره هذا المر فضلً على أن يوسف ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬لم‬
‫يكن قد أرسل إليه‪ ،‬أي أنه لم يكن رسول آنذاك‪.‬‬
‫الية تقول‪ {:‬وََلقَدْ َه ّمتْ بِ ِه وَ َهمّ ِبهَا }[يوسف‪]24 :‬‬
‫أي أن امرأة العزيز هي التي بدأت المراودة ليوسف عليه السلم فهل تم نزوع إلى العمل؟‪ .‬ل‪،‬‬
‫لن النزوع إلى العمل يقتضي أن يشارك فيه سيدنا يوسف‪ .‬إذن فـ " همت به " أي صارت تحب‬
‫أن تصنع العملية النزوعية وجاء المانع من سيدنا يوسف‪ .‬وبالنسبة للمُرَاوَدِ وهو سيدنا يوسف‪،‬‬
‫قال الحق‪ {:‬وَهَمّ ِبهَا َلوْل أَن رّأَى بُ ْرهَانَ رَبّهِ }[يوسف‪]24 :‬‬
‫ونصرب لذلك مثلً حتى نفهم هذا؛ إذ قال لك قائل‪ :‬أزورك لول وجود فلن عندك‪ ،‬هذا يعني أن‬
‫القائل لم يزرك‪ ،‬وبالقياس نجد أن يوسف عليه السلم رأى البرهان فلم يهم‪ .‬فمن أراد أن ينزه‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يوسف حتى عن حديث نفسه نقول‪ :‬المر بالنسبة لها أنها همت به‪ ،‬وحتى يتحقق الفعل كان ل بد‬
‫من قبول لهذا المر‪ ،‬وصار المتناع لكنّه ليس من جهتها بل جاء المتناع من جهته‪ .‬وهو قد همّ‬
‫بها لول أن رأى برهان ربه‪.‬‬
‫لماذا جاء الحق‪ :‬بأنه همّ بها لو أن رأى برهان ربه؟ جاء الحق بتلك الحكاية ليدلنا على احكمة في‬
‫امتناع يوسف عن موافقته على المراودة‪ ،‬فلم يكن ذلك عن وجود نقص طبعي جسدي فيه‪ ،‬ولول‬
‫برهان ربه لكان من الممكن أن يحدث بينهما كل شيء‪ .‬وأراد الحق أن يخبرنا أن رجولته كاملة‬
‫وفحولته غير ناقصة واستعداده الجنسي موجود تماما‪ ،‬والذي منعه من التيان لها هو برهان ربه‪،‬‬
‫إنه امتناع ديني‪ .‬ل امتناع طبيعي‪ .‬وبذلك يكون إشكال الفهم لمسألة الهم عند امرأة العزيز‬
‫ويوسف قد وضح تماما‪.‬‬
‫ونعود إلى الية التي نحن بصددها‪ } :‬إِذْ هَمّ َقوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَ ْي ُكمْ أَيْدِ َي ُهمْ َف َكفّ أَ ْيدِ َيهُمْ { وكلمة "‬
‫قوم " إذا سمعتها ففيها معنى القيام‪ ،‬والقيام هو أنشط حالت النسان‪ .‬وكما أوضحنا من قبل نجد‬
‫أن النسان إما أن يكون قائما وإما أن يكون قاعدا وإما مضطجعا وإما مستلقيا وإما نائما‪.‬‬

‫ونجد أن الراحات على مقدار هذه المسألة‪ ،‬فالقائم هو الذي يتعب أكثر من الخرين؛ لن ثقل‬
‫جسمه كله على قدميه الصغيرتين‪ ،‬وعندما يقعد فإن الثقل يتوزع على المقعدة‪ .‬وإذا اضطجع‬
‫فرقعة الحتمال تتسع‪ .‬ولذلك يطلقونها على الرجال فقط؛ لن من طبيعة الرجل أن يكون قواما‪،‬‬
‫ومن طبيعة المرأة أن تكون هادئة وديعة ساكنة مكنونة‪ .‬فالقوم هم الرجال‪ .‬ومقابل القوم هنا "‬
‫النساء "‪ .‬إذن فالنساء ليس من طبيعتهن القيام‪.‬‬
‫والشاعر يقول‪:‬وما أدري ولست إخال أدري أقوم آل حصن أم نساءوحين يقول الحق‪ِ } :‬إذْ َهمّ‬
‫سطُواْ إِلَ ْيكُمْ أَيْدِ َيهُمْ { فمعنى ذلك أنه لم يكن هناك نساء قد فكرن في أن يؤذين رسول ال‬
‫َقوْمٌ أَن يَبْ ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونجد هنا أيضا أن البسط مجال تساؤل‪ ،‬هل البسط يعني الذى أو الكرم؟‪.‬‬
‫والحق يقول‪ {:‬وََلوْ بَسَطَ اللّهُ الرّزْقَ ِلعِبَا ِدهِ لَ َب َغوْاْ فِي الَ ْرضِ }[الشورى‪]27 :‬‬
‫هذا (في مجال العطاء) أما في مجال الذى فالحق يقول على لسان ابن آدم لخيه‪ {:‬لَئِن بَسَطتَ‬
‫لقْتَُلكَ }[المائدة‪]28 :‬‬
‫ك َ‬
‫سطٍ يَ ِديَ إِلَ ْي َ‬
‫إَِليّ يَ َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَا ِ‬
‫واليدي لتطلق إل إذا أردنا حركة نزوعية تترجم معنى النفس سبق أَن م ّر على العقل من قبل‪،‬‬
‫فمد اليدي يقتضي التبييت بالفكر‪ ،‬وهكذا نعرف أن القوم قد بسطوا أيديهم إلى رسول ال‬
‫والمؤمنين‪.‬‬
‫وعندما ننظر في التاريخ المحمدي مع أعدائه‪ ،‬نجد الحق سبحانه وتعالى يقول‪ {:‬وَإِذْ َي ْمكُرُ ِبكَ‬
‫الّذِينَ َكفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ َأوْ َيقْتُلُوكَ َأوْ يُخْ ِرجُوكَ وَ َي ْمكُرُونَ وَ َي ْمكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال‪:‬‬
‫‪]30‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي أنهم قعدوا للتبييت‪ .‬ونحن ل نعرف ذلك التبييت إل إذا امتدت اليدي للعمل‪ ،‬فقد مكروا وبيتوا‬
‫للشر وأرادوا أن يثبتوا رسول ال أي أرادوا تحديد إقامته بحبسه أو تقييده أو إثخانه بالجراح حتى‬
‫يوهنوه ويعجزوه فل يستطيع النهوض والقيام أو يقتلوه أو يخرجوه من بلده‪ .‬بإثباته ومنعه فل‬
‫يبرح‪ ،‬أو يخرجوه من المكان كله أو يقتلوه‪ ،‬فماذا كان الموقف؟‬
‫لقد هموا أن يبسطوا إليه أيديهم‪ .‬وبسط اليد إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يؤذي المؤمنين‬
‫كلهم‪ ،‬لنه ل يستقيم أمر المؤمنين إل برسول ال‪ ،‬فلو بسط الكفار أيديهم إلى النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬لكان معنى ذلك بسط أيديهم على الكل‪ .‬ويأتي التاريخ المحمدي بأمور يبسط فيها الكافرون‬
‫أيديهم بالذى إلى رسول ال وإلى المؤمنين ويكف ال أيديهم ويمكر بهم أي يجازيهم على ذلك‬
‫بالعقاب‪.‬‬
‫والمكر ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬هو الشجر الملتف بعضه على بعضه الخر حيث ل نعرف أي ورقة تنمو‬
‫من أي جذع أو فرع‪ .‬والمكر في المعاني هو التبييت في خفاء‪ .‬وهو دليل ضعف ل دليل قوة‪.‬‬
‫فالقوياء يواجهون ول يبيتون؛ ولذلك يقال‪ :‬إن الذي يكيد لغيره إنما هو الضعيف؛ لن النسان‬
‫الواضح الصريح القادر على المواجهة هو القوي‪.‬‬

‫ونجد البعض يجعل ضعف النساء دافعا لهن على قوة المكر استنادا لقول الحق‪ {:‬إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ‬
‫ضعِيفا }[النساء‪]76 :‬‬
‫ن َ‬
‫كَا َ‬
‫وإلى قول الحق‪ {:‬إِنّ كَيْ َدكُنّ عَظِيمٌ }[يوسف‪]28 :‬‬
‫فل يكيد إل الضعيف‪ .‬ومن ل يقدر على المواجهة فهو يبيت‪ ،‬ولو كان قادرا على المواجهة لما‬
‫احتاج إلى ذلك‪ .‬وقد يمكر البشر ويبيتون بخفاء عن غيرهم‪ .‬لكنهم ل يقدرون على التبييت بخفاء‬
‫عن ال‪ ،‬لنه عليم بخفايا الصدور‪ .‬وأمر الحق في التبييت أقوى من أمر الخلق؛ لذلك نجد قوله‬
‫سبحانه‪ {:‬وَ َي ْمكُرُونَ وَ َيمْكُرُ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال‪]30 :‬‬
‫ولنلحظ أن تبييت ال خير‪ .‬وقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُعلم أعداء السلم أنه بعد هذا‬
‫التبييت لن تنالوا من رسولي‪ ،‬لن تنالوا منه بكل وسائلكم سواء أكانت تعذيبا لقومه أم تبييتا له‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أنهم بيتوا كثيرا إل أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج من بيته في مكة‬
‫إلى المدينة وهم نائمون‪ {:‬فَأغْشَيْنَاهُمْ َفهُ ْم لَ يُ ْبصِرُونَ }[يس‪]9 :‬‬
‫ونجد العجب في كف أيدي الكافرين عن رسول ال‪ .‬فكل أجناس الوجود قد اشتركت في عملية‬
‫كف أيدي الكافرين عن رسول ال صلى ال عليه وسلم سواء أكانت تلك الجناس جمادا أم نباتا أم‬
‫حيوانا أم إنسانا‪ ،‬نثر رسول ال التراب وهو جماد فأغشي به الكافرين‪ ،‬وصار التراب من جنود‬
‫ال‪.‬‬
‫وها هي ذي أسماء بنت أبي بكر تحمل الطعام لهم في الغار وهي ترعى الغنم‪ ،‬والغنام تجد‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحشائش فترعاها وتزيل الثر الذي أحدثه ركب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫لقد اشترك النبات في كف أيدي الكافرين عن رسول ال‪ ،‬وكذلك الغنام وهي من الحيوان‪ ،‬وكذلك‬
‫فرس سراقة التي ساخت وغاصت قوائمها في الرض‪ ،‬ثم الحمامة التي بنت عشها على الغار‪،‬‬
‫وكذلك العنكبوت الذي بنى بيته على الغار‪ ،‬ورضخت كل جنود ال لمر ال فشاركت في عملية‬
‫كف أيدي الكافرين عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫والعجب من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى قد كف أيدي الكافرين بالكافرين‪ ،‬فالرسول الذي جاء‬
‫ليهدي الخلق ويسير بهم إلى النور من الظلمات‪ ،‬نجد الذي يهديه في طريقه إلى المدينة هو أحد‬
‫الكفار‪ .‬وهكذا نرى أن هداية المعاني تستخدم هداية المادة‪ ،‬والرسول هو الحامل لهداية المعاني‬
‫يستخدم هداية المادة ممثلة في ذلك الكافر‪ .‬ونعرف أن من جنود السلم في دار الهجرة كان‬
‫اليهود ‪ -‬برغم أنوفهم ‪ -‬ألم يقولوا للوس والخزرج‪ :‬سيأتي من بينكم نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل‬
‫عاد وإرم؟ فلما سمع الوس والخزرج أن نبيا ظهر في مكة‪ ،‬قالوا‪ :‬هذا هو النبي الذي توعدتنا به‬
‫اليهود‪ ،‬فل يسبقنكم إليه‪ ،‬فسبقوا إليه وأسلموا وبايعوه‪ ،‬فقد ورد أن يهودا كانوا يستفتحون على‬
‫الوس والخزرج برسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قبل مبعثه‪ ،‬فلما بعثه ال من العرب كفروا‬
‫به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه‪.‬‬

‫فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة‪ :‬يا معشر يهود اتقوا ال‬
‫وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى ال عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه‬
‫مبعوث وتصفونه بصفته‪ ،‬فقال سلم بن مشكم أخو بني النضير‪ :‬ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو‬
‫بالذي كنا نذكر لكم‪.‬‬
‫ثم كانت المدينة دارا للهجرة‪.‬‬
‫هكذا نرى الباطل يخدم الحق‪ ،‬والكفر يخدم اليمان‪ ،‬فها هوذا عبدال بن أريقط ‪ -‬وكان كافرا ‪-‬‬
‫جعْل الذي رصدته قريش لمن‬
‫يضع نفسه كدليل للرسول وصاحبه أثناء الهجرة ول ينظر إلى ال ُ‬
‫يأتيها بمحمد‪ .‬هكذا نجد أن كف اليدي كانت له صور كثيرة‪.‬‬
‫وقد تعرض رسول ال صلى ال عليه وسلم لشياء ومواقف رآها الصحابة‪ ،‬ونشأت له خوارق‬
‫من الحق سبحانه وتعالى تؤيد صدقه‪ ،‬وشاهد تلك الخوارق بعض الصحابة ول نقول عنها‬
‫معجزات؛ لن معجزة السلم إلى قيام الساعة هي القرآن‪ .‬ولكن رسول ال لم تخل حياته من‬
‫بعض المعجزات الكونية مثل التي حدثت لغيره من الرسل‪ .‬وأرادها الحق ل للمسلمين عموما‬
‫ولكن شاهدها بعضهم كما شاهدها بعض الكفار؛ لن رسول ال كان في حاجة إلى أن يؤكد له ال‬
‫أنه رسول ال‪ .‬فها هوذا سيدنا جابر بن عبدال يقول‪:‬‬
‫" كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ‪ ،‬وكان لجابر الرض التي بطريق رومة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فجلست فخل عاما فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجذ منها شيئا‪ ،‬فجعلت استنظره إلى قابل‬
‫فيأبى فأخبر بذلك النبي صلى ال عليه وسلم فقال لصحابه‪ :‬امشوا نستنظر لجابر من اليهودي‪،‬‬
‫فجاءوني في نخلي فجعل النبي ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬يكلم اليهودي فيقول‪ :‬أبا القاسم ل‬
‫أُنظره‪ ،‬فلما رأى النبي صلى ال عليه وسلم قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى؛ فقمت فجئت‬
‫بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فأكل ثم قال‪ :‬أين عريشك يا جابر‪،‬‬
‫فأخبرته فقال‪ :‬افرش لي فيه ففرشته‪ ،‬فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها ثم قام‬
‫فكلم اليهودي فأبى عليه‪ ،‬فقام في الرطاب في النحل الثانية ثم قال‪ :‬يا جابر‪ ،‬جذ واقض؛ فوقف في‬
‫الجذاذ فجذذت منها ما قضيته وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي صلى ال عليه وسلم فبشرته‬
‫فقال‪ :‬أشهد أني رسول ال "‪.‬‬
‫مثال آخر‪ :‬كان الماء قليلً عند قوم من الصحابة فيغمس رسول ال يده في الماء ويشرب كل‬
‫الناس‪ .‬وهل يجرؤ أحد من الذين رأوا تلك المعجزة أن يجادل فيها؟ طبعا ل‪ ،‬لكن هل هذه‬
‫المعجزة لنا؟ إن وثقنا فيمن أخبر فلن نستكثر على ال أن يكثر الماء لرسوله محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ولكن نحن نعلم أن ال قد تكفل بحفظ القرآن ليكون هو المعجزة الباقية فقال تعالى‪ } :‬إِنّا‬
‫طلُ مِن بَيْنِ يَدَ ْي ِه َولَ مِنْ خَ ْلفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ‬
‫نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ { وقال‪ } :‬لّ يَأْتِيهِ الْبَا ِ‬
‫حمِيدٍ {‪.‬‬
‫حكِيمٍ َ‬
‫َ‬

‫وقد ثبت أن رسول ال جمع قليل من الزاد ودعا ما شاء ال أن يدعو وأطعم به جيشا‪ .‬والذي‬
‫عاش بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم له أن يصدق تلك المعجزات أو ل يصدقها‪ ،‬ولكن على‬
‫المؤمن الذي علم مقام ومكانة الرسول عند ربه‪ ،‬أن يصدق تلك الخوارق متى ثبت ذلك بطريق‬
‫يقيني قطعي‪ ،‬ولذلك ل ضرورة لقامة الجدل مع هؤلء الذين ينكرون المعجزات الكونية‪ .‬ونقول‬
‫لهم‪ :‬ليس أحدكم مسئول بهذه المعجزات‪ ،‬أنت مسئول بمعجزة القرآن فقط‪ .‬والخوارق التي وقعت‬
‫إما أن تكون بغرض تثبيت رسول ال مصداقا لقوله الحق‪ {:‬لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َدكَ }[الفرقان‪]32 :‬‬
‫وإما أن تكون لتثبيت أصحاب رسول ال؛ فقد كانت الهوال تمر عليهم وتزلزلهم‪ {:‬هُنَاِلكَ ابْتُِليَ‬
‫ن وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالً شَدِيدا }[الحزاب‪]11 :‬‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنُو َ‬
‫وكان ل بد أن ترسل السماء لهم أيات لتثبت أقدامهم في اليمان‪.‬‬
‫والخلصة أن كل الخوارق الكونية التي حدثت لرسول ال صلى ال عليه وسلم ليس المقصود بها‬
‫عامة المسلمين‪ ،‬ولكن المقصود بها من وقعت له أو وقعت أمامه‪ ،‬ونفض بذلك أي نزاع حول تلك‬
‫الخوارق؛ لن المعجزة الملزمة للجميع هي كتاب ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وقد همّ بالذى كثير من أعداء الرسول صلى ال عليه وسلم‪ .‬ألم ترد امرأة من اليهود أن تسمّه‬
‫وكف ال يديها؟ وحكاية بني النضير الذين أرادوا أن يلقوا عليه الحجر‪ ،‬فقام قبل أن يلقى مندوب‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بني النضير الحجر عليه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫" وها هوذا صفوان بن أمية له ثأر عند رسول ال من غزوة بدر يستأجر عمير ابن وهب‬
‫الجمحي ويقول له‪ :‬اذهب إلى المدينة واقتل محمدا وعليّ دينك‪ ،‬أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي‬
‫أواسيهم ما بقوا‪.‬‬
‫ويذهب عمير إلى المدينة ويدخل على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال له النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ " :‬ما جاء بك يا عمير؟ قال‪ :‬جئت لهذا السير الذي في أيديكم فأحسنوا إليه ‪ -‬وكان له‬
‫ابن أسير لدى المسلمين ‪ -‬قال‪ :‬فما بال السيف في عنقك؟ فقال‪ :‬قبحها ال من سيوف وهل أغنت‬
‫عنا شيئا؟ قال‪ :‬أصدقني ما الذي جئت له؟ قال‪ :‬ما جئت إل لذلك‪ .‬فقال له النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ :‬بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت لول‬
‫دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له‪،‬‬
‫وال حائل بينك وبيني فقال عمير‪ .‬أشهد أنك رسول ال‪ .‬قد كنا يا رسول ال نكذبك بما كنت تأتينا‬
‫به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي‪.‬‬
‫وهذا أمر لم يحضره إل أنا وصفوان‪ ،‬فوال إني لعلم ما آتاك به إل ال‪ ،‬فالحمد ل الذي هداني‬
‫للسلم "‪.‬‬

‫ومثال آخر‪ :‬ما رواه سيدنا جابر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬في غزوة ذات الرقاع‪ " .‬قال‪ :‬جاء رجل‬
‫يقال له غورث بن الحارث فقام على رأس رسول ال صلى ال عليه وسلم بالسيف فقال‪ :‬من‬
‫يمنعك مني؟ قال‪ :‬ال‪ .‬فسقط السيف من يده فأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم السيف وقال‪:‬‬
‫(ومن يمنعك مني)؟ فقال‪ :‬كن خير آخذ‪ .‬قال‪ :‬تشهد أن ل إله إل ال؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ولكن أعاهدك على‬
‫أل أقاتلك ول أكون مع قوم يقاتلونك‪ .‬فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال‪ :‬جئتكم من عند خير الناس‬
‫"‪.‬‬
‫وعندما سمع الرجل لول مرة أن ال هو الذي يمنع الرسول منه وقع السيف من يده‪ ،‬ذلك أن‬
‫ذرات الكفر في الرجل تزلزلت وعاد إلى إيمان الفطرة‪ ،‬وعندما أمسك النبي بالسيف وسأل‬
‫الرجل‪ :‬من يمنعك مني؟ لم يقل الرجل‪ " :‬هبل " أو " اللت " أو " العزى " فالرجل يعلم أن مسألة‬
‫الصنام كذب في كذب‪ ،‬ولو كان مؤمنا بآلهته لقال أحد أسمائها‪ .‬وعندما تزلزلت ذرات الكفر في‬
‫كيانه عاد إلى الفطرة الولى التي ل تكذب أبدا‪ .‬وإن كذب النسان على الناس جميعا ل يكذب‬
‫على نفسه‪ .‬وكلمة " ال " هي التي زلزلت كفر الرجل وأعادته إلى الحق‪.‬‬
‫وفي معركة بدر نجد أن سيدنا أبا بكر الصديق كان مع رسول ال صلى ال عليه وسلم بينما ابنه‬
‫عبد الرحمن كان مع الكفار‪ ،‬وبعد أن أسلم ابنه بفترة جلس الولد مع أبيه يتسامران‪ ،‬فقال البن‪:‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد رأيتك يوم أحد فصدفت عنك فقال أبو بكر‪ :‬لكني لو رأيتك ما صدفت عنك‪ .‬فقد رأى ابن أبي‬
‫بكر والده ولم يقتله‪ ،‬ولشك أن مقارنة نفسية باطنية فكرية قد حدثت بين معزة أبيه وبين مكانة‬
‫هبل أو تلك الحجارة‪ ،‬وعرف ابن أبي بكر أن والده أفضل بكثير من تلك الحجار‪ .‬ولكن أبا بكر‬
‫حينما يقول‪ :‬ولو كنت رأيتك لقتلتك‪ ،‬فالمقارنة النفسية هنا تكون بين اليمان بال وبين البن‪ ،‬ومن‬
‫المؤكد أن اليمان يغلب في نفس أبي بكر‪ .‬وكل من أبي بكر وابنه كان منطقيا مع نفسه‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ " :‬عن جابر بن عبدال أنه غزا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قبل نجد فلما‬
‫قفل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قفل معه فأدركتهم القائلة ‪ -‬شدة الحر في وسط النهار ‪-‬‬
‫في وادٍ كثير العضاة ‪ -‬شجر عظيم له شوك ‪ -‬فنزل رسول ال‪ ،‬وتفرق الناس في العضاة‬
‫سمُرَة فعلق بها سيفه‪ ،‬قال‬
‫يستظلون بالشجر ونزل رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬تحت َ‬
‫جابر‪ :‬فنمنا نومة فإذا رسول ال يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول ال ‪ -‬صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ -‬إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي‪ :‬من يمنعك‬
‫مني؟ فقلت له‪ :‬ال‪ .‬فها هوذا جالس ثم لم يعاقبه رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم‬
‫‪." -‬‬

‫ولماذا حدث ذلك؟ لن الفطرة المستلهمة بدون تدخل من أحد تنضح باليمان‪ .‬وها نحن أولء‬
‫نرى الصحابة في العهد الول حينما اضطهدوا في مكة وهاجروا هحرتهم الولى إلى الحبشة؛‬
‫هل ذهبوا إليها خبط عشواء؟ أو ذهبوا بتخطيط نبوي كريم؟ لقد درس النبي أولً الرض التي‬
‫تصلح لستقبالهم ويقبلهم فيها أهلها كمهاجرين‪ .‬ودرس النبي أوضاع الجزيرة العربية ووجد أن‬
‫قريشا تتمكن من كل قبيلة في الجزيرة العربية عندما يأتي موسم الحج؛ لذلك لن توجد القبيلة التي‬
‫تحمي المهاجرين فيقول لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا ل يظلم عنده أحد وهي أرض صدق‪ ،‬حتى يجعل ال‬
‫لكم فرجا مما أنتم فيه "‪.‬‬
‫وبالفعل ذهب المسلمون إلى الحبشة مهاجرين‪ .‬وحاولت قريش أن تسترد المسلمين من أرض‬
‫النجاشي‪ .‬وأرسلت قريش بعثة لستردادهم ورفض النجاشي‪ .‬وسمع النجاشي عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم وعلم أنه النبي الذي بشر به النجيل‪ .‬ولشك أن النجاشي قد أسلم لن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم صلى على النجاشي عندما مات‪ .‬وكان إسلم النجاشي مكافأة له من ال؛ لنه حمى‬
‫المؤمنين بال وبرسوله عنده‪ .‬وما أعظم المكافأة التي نالها النجاشي أن يموت على السلم وأن‬
‫يصلي عليه سيدنا رسول ال صلة الغائب‪.‬‬
‫إن كل هذا من كف أيدي الكافرين عن المؤمنين وعن رسول ال‪ ،‬ومن أجل أن يثبت الحق للجميع‬
‫أن المؤمنين على حق وأن ال لن يخذلهم‪ ،‬فل يخطر ببال المؤمنين أن عدوهم أقوى منهم؛ فال‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أقوى من خلقه‪َ } :‬ف َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ عَنكُمْ { وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين لنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يعد‬
‫المؤمنين ليكونوا حملة منهجه إلى الخلق‪ .‬ولذلك يجب أن يداوم المؤمنون على تكاليف اليمان‬
‫وتقوى ال ليكف ال أيدي الكافرين عنهم‪ ،‬فل يتغلب كافر على مؤمن في لحظة من اللحظات إل‬
‫إذا كان المؤمن قد تخلى عن شيء في منهج ال؛ لن الحق ل يقول قضية قرآنية ثم يترك القضايا‬
‫الكونية التي تحدث في الحياة لتنسخ هذه القضية القرآنية‪.‬‬

‫لقد قال‪ {:‬وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪]173 :‬‬


‫إذن فعندما ترى جندا من المسلمين قد انهزموا فلتعلم أنهم قد تخلوا عن منهج ال فتخلى ال عنهم‪،‬‬
‫بدليل أن بعضا من المسلمين ساعة لم ينفذوا ما أمر به رسول ال صلى ال عليه وسلم غلبهم‬
‫الكفار‪ ،‬فال ل يغير سنته من أجل أناس نُسبوا إليه ولم ينفذوا تعاليم منهجه‪ .‬والحق يقول‪ {:‬إِن‬
‫تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأقْدَا َمكُمْ }[محمد‪]7 :‬‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُمْ }[البقرة‪]152 :‬‬
‫إنك إن انتسبت إلى السلم فيجب أن تنتسب إلى السلم بحق‪ ،‬وإن رأيت المؤمنين قد دخلوا‬
‫معركة وانهزموا فلتبحث مصادر تخليهم عن منهج الحق‪ ،‬فسبحانه يقول‪َ {:‬وكَأَيّن مّن نّ ِبيّ قَا َتلَ‬
‫حبّ‬
‫ض ُعفُو ْا َومَا اسْ َتكَانُو ْا وَاللّهُ ُي ِ‬
‫َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ َفمَا وَهَنُواْ ِلمَآ َأصَا َبهُمْ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َومَا َ‬
‫غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي َأمْرِنَا وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا‬
‫الصّابِرِينَ * َومَا كَانَ َقوَْلهُمْ ِإلّ أَن قَالُواْ ربّنَا ا ْ‬
‫حبّ‬
‫حسْنَ َثوَابِ الخِ َر ِة وَاللّهُ ُي ِ‬
‫وا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ َثوَابَ الدّنْيَا وَ ُ‬
‫حسِنِينَ }[آل عمران‪]148-146 :‬‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫لقد أصاب المقاتلين مع النبي شيء‪ ،‬فلم يضعفوا ولكنهم صبروا وطلبوا من الحق أن يغفر لهم‬
‫ذنوبهم‪ ،‬لقد عرفوا مصادر ضعفهم واستعانوا بال على هذا الضعف‪ ،‬فماذا فعل ال لهم؟‪ .‬نصرهم‬
‫سبحانه بأن آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الخرة وال يحب المحسنين‪ .‬وكل ذلك السلوك‬
‫اليماني الذي يقي من الهزيمة وكيد العدو‪ ،‬هو من تقوى ال‪ ،‬حتى يظل المؤمنون في معية ال‪.‬‬
‫وعندما يكون المسلم في معية ال ل يجرؤ خلق من خلق ال أن ينال منه‪ .‬وننظر إلى الهجرة‬
‫كمثال لذلك؛ لنجد أن سيدنا أبا بكر كان حريصا على حماية النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬فعن أنس‬
‫بن مالك قال‪ " :‬لما كان ليلة الغار‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬يا رسول ال دعني فَل دخُل قبلك فإن كانت حيّة‬
‫أو شيء كانت لي قبْلك‪ .‬قال‪ :‬ادخل‪ :‬فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه فكلما رأى جُحرا جاء‬
‫بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع‪ ،‬قال‪ :‬فبقي جحر فوضع عقبه عليه ثم أدخل‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬فلما أصبح قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬فأين ثوبك يا‬
‫أبا بكر؟ " فأخبره بالذي صَنع فرفع النبي صلى ال عليه وسلم يده فقال‪ " :‬اللهم اجعل أبا بكر‬
‫معي في درجتي يوم القيامة " فأوحى ال تعالى إليه " إن ال قد استجاب لك "‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويرى أبو بكر الكفار وهم يمرون أمام الغار فيقول لرسول ال‪ " :‬لو أن أحدهم نظر تحت قدميه‬
‫لبصرنا‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ما ظنك يا أبا بكر باثنين ال ثالثهما "‪.‬‬

‫وفي ذلك رد كامل؛ لن الثنين في معية ال‪ ،‬ومادام المؤمن في معية من ل تدركه البصار فلن‬
‫تدركه البصار‪ ،‬كيف؟‪ .‬نحن ل نعرف كل أسرار ال ولكنه القادر العلى‪.‬‬
‫وفي حياة البشر نجد الطفل الصغير قد يخرج بمفرده فيصيبه غيره من الطفال بالضرر؛ ولكن‬
‫إذا خرج الطفل مع عائله‪ ،‬مع أبيه مثلً أو مع أخيه الكبر‪ ،‬فالطفال ل يقتربون منه؛ فما بالنا‬
‫ونحن جميعا عيال ال؛ وماذا يحدث عندما نتشبث بمعية ال؟‪ .‬إذن فتقوى ال هي التي تجعل‬
‫المؤمن في معية ربه طَوال الوقت‪ .‬ومن يُرِدِ المؤمن بسوء فإن جنود ال تحمي المؤمن‪ .‬ويذيل‬
‫الحق الية‪ } :‬وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ {‪ .‬وإياكم أن تقولوا‪ :‬إننا بل عَدَد أو عُدّة‪ .‬إنك مسئول‬
‫طعْ ُتمْ مّن ُق ّوةٍ َومِن رّبَاطِ‬
‫أن تعد ما تقدر عليه وتستطيعه وأترك الباقي ل‪ {:‬وَأَعِدّواْ َلهُمْ مّا اسْتَ َ‬
‫الْخَ ْيلِ }[النفال‪]60 :‬‬
‫ويقول التاريخ اليماني لنا إنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن ال‪ .‬وقد يقول قائل‪ :‬هذه‬
‫المسألة مادية تحتاج إلى عدد وعُدد‪ .‬ونرد‪ :‬إن الحق قد طالب بأن نعد ما نستطيعه ل فوق ما‬
‫نستطيعه‪ .‬وهو سبحانه عنده من الجند اللطيف الخفيّ الدقيق الذي ل يُرى‪ {:‬سَأُ ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ‬
‫عبَ }[النفال‪]12 :‬‬
‫َكفَرُواْ الرّ ْ‬
‫ومادام ال قد ألقى الرعب في قلوب العداء فالمسألة تنتهي ول تفلح عُدد أو عَدَد‪ .‬ويكون التوكل‬
‫على ال بعد أن يعد النسان ما يستطيعه وهو الستكمال ال َفعّال للنصر‪ ،‬ولنعلم أن التوكل غير‬
‫التواكل‪ .‬إن المتوكل على ال يقتضي أن يعلم النسان أن لكل جارحة في النسان مهمة إيمانية‪،‬‬
‫أن تطبق ما شرع ال؛ فالذن تسمع‪ ،‬فإن سمعت أمرا من الحق فأنت تنفذه‪ ،‬وإن سمعت الذين‬
‫يلحدون في آيات ال فأنت تعرض عنهم‪ .‬واللسان يتكلم‪ ،‬لذلك ل تقل به إل الكلمة الطيبة؛ فلكل‬
‫جارحة عمل‪ ،‬وعمل جارحة القلب هو اليقين والتوكل‪ ،‬ولنتذكر أن السعي للقدم‪ ،‬والعمل لليد‬
‫والتوكل للقلب‪ ،‬فل تنقل عمل القلب إلى القدم أو اليد؛ لن التوكل الحقيقي أن تعمل الجوارح‬
‫وتتوكل القلوب‪ ،‬وكم من عاملٍ بل توكل فتكون نتيجة عمله إحباطا‪.‬‬
‫إننا نجد الزارع الذي ل يتوكل على ال ينمو زرعه بشكل جيد ومتميز ثم تهب عليه عاصفة أو‬
‫يتغير الجو فيصيبه الهلك وتكون النتيجة الحباط‪ .‬واحذر إهمال السباب؛ أو أن تفتنك السباب؛‬
‫لنك إن أهملت السباب فأنت غير متوكل بل متواكل‪ .‬تنقل عمل القلب إلى الجوارح‪ .‬وإذا قال‬
‫لك واحد‪ :‬أنا ل أعمل بل أتوكل على ال‪ ،‬قل له‪ :‬هيا نر كيف يكون التوكل‪ .‬وأحضر له طبق‬
‫طعام يحبه‪ .‬وعندما يمد يده إلى الطعام‪ ،‬قل له‪ :‬اترك الطعام يقفز من الطبق إلى فمك‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويجعل الحق سبحانه وتعالى من قصص الرسل على رسول ال صلى ال عليه وسلم تثبيتا‬
‫لليمان وتربية للسوة وإنماء لها‪ ،‬حتى ل يضيق صدر الرسول صلى ال عليه وسلم بما يفعله‬
‫اليهود أو المشركون‪ ،‬فإن كان قد حدث معك ‪ -‬يا محمد ‪ -‬شيء من هذا النكار واليلم‪ ،‬فقد‬
‫حدث الكثير من تلك الحداث مع الرسل من قبلك‪ ،‬فيقول سبحانه‪ } :‬وََلقَدْ َأخَذَ اللّهُ‪{ ...‬‬

‫(‪)673 /‬‬

‫ل وَ َبعَثْنَا مِ ْنهُمُ اثْ َنيْ عَشَرَ َنقِيبًا َوقَالَ اللّهُ إِنّي َم َعكُمْ لَئِنْ َأ َقمْ ُتمُ الصّلَاةَ‬
‫خذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِي َ‬
‫وَلَقَدْ أَ َ‬
‫حسَنًا لَُأ َكفّرَنّ عَ ْن ُكمْ سَيّئَا ِتكُمْ‬
‫وَآَتَيْتُمُ ال ّزكَاةَ َو َآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْ ُتمُوهُ ْم وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ قَ ْرضًا َ‬
‫سوَاءَ السّبِيلِ (‪)12‬‬
‫ضلّ َ‬
‫وَلَأُدْخِلَ ّن ُكمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ َفمَنْ َكفَرَ َبعْدَ ذَِلكَ مِ ْنكُمْ َفقَ ْد َ‬

‫يُ َذكّر الحق هنا رسوله بالميثاق الذي أخذه من بني إسرائيل‪ .‬وقد يكون المقصود هو ميثاق الذر أو‬
‫خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ }[آل عمران‪]81 :‬‬
‫يكون المراد بالميثاق ما جاء في قوله تعالى‪ {:‬وَِإذْ أَ َ‬
‫خذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ }[البقرة‪]63 :‬‬
‫أو أن يكون المراد بالميثاق هو ما بينه بقوله سبحانه‪ُ {:‬‬
‫ويقول سبحانه‪ { :‬وَ َبعَثْنَا مِنهُمُ اثْ َنيْ عَشَرَ َنقِيبا } ولنر " التكتيك " الديني الذي أراده الحق‪ ،‬فهو ل‬
‫يجمع أجناس الخلق المختلفة على واحد من نوع منها؛ لن ذلك قد يعرض الدعوة لعصبية؛‬
‫فاختار سبحانه اثني عشر نقيبا على عدد السباط حتى ل يقولن سبط‪ :‬كيف ل يكون لي نقيب؟‪.‬‬
‫وحسم ال المر‪ ،‬ولم يجعله محلً للنزاع؛ فجعل لكل سبط نقيبا منهم‪ .‬والنقيب هو الذي يدير‬
‫حركتهم العقدية والدينية‪ .‬وساعة نسمع كلمة " نقيب " نعرف أنها من مادة " النون والقاف والباء "‬
‫‪ " ،‬والنقب " هو إحداث فجوة لها عمق في أي جسم صلب‪.‬‬
‫إن إختيار الحق لكلمة نقيب‪ ،‬يَدل على أن النقيب الصادق ينبغي أن يكون صاحب عينين في‬
‫منتهى اليقظة حتى يختار لكل فرد المهمة التي تناسبه ويركز على كل فرد بما يجعله يؤدي عمله‬
‫بما ينفع الحركة الكاملة‪ .‬وبذلك يكون كل فرد في البسط له عمله ومكانه المناسب‪ .‬ول يتأتى ذلك‬
‫إل بالتنقيب‪ ،‬أي معرفة حالة كل واحد وميوله فيضعه في المكان المناسب‪.‬‬
‫إذن فالنقيب هو المنقب الذي ل يكتفي بظواهر المور بل ينقبها ليعرف ظروف وأسباب كل‬
‫واحد‪ .‬واختار الحق من كل سبط نقيبا‪ ،‬ولم يجعل لسبط نقيبا من سبط آخر حتى يمنع السيطرة من‬
‫سبط على سبط‪ ،‬ويمنع أن يكون النقيب على جهالة بمن يريد حركتهم من السباط الخرين‪.‬‬
‫ونحن نسمع في حياتنا اليومية وصفا لنسان‪ :‬فلن له مناقب كثيرة‪ ،‬أي أن له فضائل يذكرها‬
‫الناس‪ ،‬كأنّ على صاحب الفضائل أل يتباهى بها بنفسه بل عليه أن يترك الناس لينقبوا عن‬
‫فضائله‪ ،‬ولذلك كانت كنوز الرض وكنوز الحضارات مدفونة ننقب عليها‪ ،‬أما ما يظهر على‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سطح الرض فتذروه الرياح وعواملُ التعرية ول يبقى منه شيء‪.‬‬
‫إذن فكلمة " نقيب " في كل مادتها تدور حول الدخول إلى العمق‪ ،‬لذلك تصف الرجل الفاضل‪:‬‬
‫فلن له مناقب أي أن نقبت وجدت له فضائل تذكر‪ ،‬وقد أعطاه ال موهبة الخير ول يتعالم بها‪،‬‬
‫بل يدع الناس هم الذين يحكمون ويذكرون هذه الصفات‪ .‬ومن نفس المادة " النقاب " أي أن تغطي‬
‫المرأة وجهها‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ { :‬إِنّي َم َعكُمْ } يعطيهم خصلة إيمانية‪ ،‬فل يظنن أحد أنه يواجه أعداء منهج ال بذاته‬
‫الخاصة بل بمعونة ال فل يضعف أحد أو يهن مادام مؤمنا‪ ،‬وكما قال الحق‪:‬‬

‫طعْتُمْ مّن ُق ّوةٍ }[النفال‪]60 :‬‬


‫{ وَأَعِدّواْ َل ُهمْ مّا اسْ َت َ‬
‫وبعد أن يعد المؤمنون ما استطاعوا فليتركوا الباقي على ال‪ .‬وجاء أيضا قوله‪َ } :‬وقَالَ اللّهُ إِنّي‬
‫َم َعكُمْ { أي أن كل نقيب على سبط ليس له مطلق التصرف‪ ،‬ولكن ال يوضح‪ " :‬أنا معكم وسأنظر‬
‫كيف يدير كل نقيب هذه المسائل " أي أنه سبحانه وتعالى مطلع على واقعكم‪ ،‬فليس معنى الولية‬
‫أن يكون للوالي مطلق التصرف في جماعته؛ ل؛ لن ال رقيب‪ .‬وقوله الحق‪ } :‬إِنّي َم َعكُمْ { تدل‬
‫على أن من ولي أمرا فل بد أن يتابعه ويراه‪.‬‬
‫ل َة وَآتَيْ ُتمُ ال ّزكَا َة وَآمَنتُمْ بِ ُرسُلِي وَعَزّرْ ُتمُوهُمْ وََأقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضا‬
‫وبعد ذلك قال‪ } :‬لَئِنْ َأ َقمْتُمُ الصّ َ‬
‫لكَفّرَنّ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِتكُمْ {‪ .‬و " لئن " تضم شرطا وقسما‪ ،‬كأن الحق يقول‪ :‬وعزتي لئن أقمتم‬
‫حسَنا ُ‬
‫َ‬
‫الصلة وفعلتم كذا وكذا ليكونن الجزاء أن أكفر عنكم السيئات‪ .‬ودلت " اللم " على القسم‪ ،‬ودلت "‬
‫إن " على الشرط فيه " إن " الشرطية‪.‬‬
‫والقسم ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬يحتاج إلى جواب‪ ،‬والشرط يحتاج إلى جواب أيضا‪ ،‬فالواحد منا يقول‬
‫للطالب‪ :‬إن تذاكر تنجح‪ .‬والواحد منا يقول‪ " :‬وال لفعلن كذا " ‪ ،‬و " ال " هي القسم‪ .‬و " لفعلن‬
‫" جواب القسم المؤكد باللم‪ .‬وحين يأتي القسم في جملة بمفرده فجوابه يأتي‪ ،‬وحين يأتي الشرط‬
‫بمفرده في جملة فجوابه يأتي أيضا‪ .‬ولكن ماذا عندما يأتي القسم مع الشرط؟ هل يأتي جوابان‪:‬‬
‫جواب للشرط وجواب للقسم؟‪ .‬عندما تجد هذه الحالة فانظر إلى المقدم منهما‪ ،‬هل هو القسم أو‬
‫الشرط؟؛ لن المقدم منهما هو الهم؛ فيأتي جوابه‪ ،‬ويغني عن جواب الثاني‪ .‬والمتقدم هنا هو‬
‫القسم‪ ،‬تماما مثل قولنا‪:‬‬
‫‪ -‬لئن قام زيد لقومن‪ ،‬وهنا يكون الجواب جواب القسم‪ ،‬أما إن قلنا‪ :‬إن قام زيد وال أُكرمْه‪،‬‬
‫فالجواب جواب الشرط؛ فقدم الشرط على القسم‪ .‬هذا إن لم يكن قد تقدم ما يحتاج إلى خبر‬
‫كالمبتدأ أو ما في حكمه‪ ،‬فإن جاء والخبر أي المحتاج إلى الخبر فالشرط هو الراجح‪ ،‬أي فالراجح‬
‫أن نأتي بجواب الشرط ونحذف جواب القسم؛ لن الشرط تأسيس والقسم توكيد‪ .‬وابن مالك في‬
‫اللفية يوضح هذه القاعدة‪:‬واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخّرت فهو مُلْتَ َزمْوإن تواليا‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حذَرْوالقسم قد تقدم في هذا الية‪ ،‬لذا نجد الجواب هنا‬
‫وقَبْلُ ذو خبر فالشرط َرجّحْ مطلقا بل َ‬
‫لكَفّرَنّ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِت ُكمْ {‪.‬‬
‫جواب القسم‪ ،‬وهو } ُ‬
‫لةَ { يوضح أن القامة تحتاج إلى أمرين؛ فروض تؤدى‪ ،‬وكل فرض‬
‫وقوله الحق‪َ } :‬أ َقمْ ُتمُ الصّ َ‬
‫فيها يأخذ حقه في القيام به‪ .‬وبعد ذلك } وَآتَيْتُمُ ال ّزكَاةَ { وفي كتب الفقه نضع الصلة‪ ،‬والزكاة في‬
‫باب العبادات‪ .‬وجاء التقسيم الفقهي لتسهيل إيضاح الواجبات‪ ،‬لكن كل مأمور به من ال عبادة؛‬
‫لن العبادة هي أن تطيع مَن تعبد في كل أمر به‪ ،‬وأن تجتنب ما نهى عنه‪ ،‬فكل أمر إلهي هو‬
‫عبادة‪.‬‬

‫س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّهِ‬


‫ج ُمعَةِ فَا ْ‬
‫لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ‬
‫وقلنا من قبل‪ :‬إن الحق سبحانه قال‪ِ {:‬إذَا نُو ِديَ لِلصّ َ‬
‫وَذَرُواْ الْبَيْعَ }[الجمعة‪]9 :‬‬
‫ضلِ اللّهِ }[الجمعة‪]10 :‬‬
‫ض وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ‬
‫لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْر ِ‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ‬
‫هنا نجد أمرا تعبديا أن نترك البيع إلى الصلة‪ ،‬وأمرا تعبديا ثانيا أن ننتشر في الرض ابتغاء‬
‫لفضل ال بعد انقضاء الصلة‪ ،‬وأي إخلل بالمرين‪ ،‬إخلل بأمر تعبدي؛ فأنت مأمور أن تتحرك‬
‫في الرض على قدر قوتك حرك ًة تكفيك وتفيض عن حاجتك ليعم هذا الفائض على غيرك‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ } :‬وَآمَن ُتمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْ ُتمُوهُمْ { أي أن ينعقد اليمان في القلب فل يطفو المر بعدذ‬
‫لك لمناقشته‪ ،‬وأن تعزروا الرسل‪ ،‬أي وقرتموهم ونصرتموهم‪ ،‬والعَزْر في اللغة معناه المنع‪،‬‬
‫ولكن المنع هنا مراد به أن يمنع الناس عن رسول ال من يريده بسوء؛ فإن أراد أحد من العداء‬
‫السوء برسول من ال فليمنع المؤمنون هذا العدو عن الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وأنت في حياتك إن كان لك حبيب أراده إنسان بسوء‪ ،‬وكنت ل تدركه لنه بعيد عنك فأنت تتمنى‬
‫أن تأخذ صاحبك وتحميه من أن يناله العدو‪ .‬لكن إن كان العدو أمامك فأنت تصده عن حبيبك‪.‬‬
‫فالعزر هو المنع‪ ،‬اي أن تمنعه من عدوه وتحول بينه وبينه‪ ،‬أو تمنع عدوه من أن يناله بشر‪.‬‬
‫والرسول بالنسبة للمؤمنين به تكون حياته أغلى من حياتهم‪ ،‬ففي أثناء المنع قد يصاب أحد‬
‫المؤمنين‪ ،‬وفي ذلك تعظيم للرسول ونصرة له وتوقير‪.‬‬
‫نقول ذلك حتى نرد على الذين يتصيدون ويقولون‪ :‬إن " عزرتموهم " معناها " نصرتموهم " ‪،‬‬
‫ومرة أخرى يقولون‪ :‬إن " عزرتموهم " معناها " منعتموهم "‪ .‬ونقول‪ :‬كل المعاني هنا ملتقية‪،‬‬
‫فالعزر هو الرد والمنع‪ ،‬إما بمنع العدو عن الرسول‪ ،‬وإمّا أن يمنع الناس الرسول من أن يناله‬
‫العدو‪ ،‬أو الثنان معا‪ ،‬ويجوز أيضا أن يكون معنى " عزرتموهم " هو نصرتموهم‪ .‬وكذلك يجوز‬
‫أن يكون معناها " وقرتموهم "؛ لن التعظيم والتوقير هما السبب في نصرة النسان للرسول‪.‬‬
‫حسَنا {‪ .‬ويدبر الحق لنا سياسة المال‪ ،‬سواء للواجد‬
‫وبعد ذلك يقول الحق‪ } :‬وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ قَرْضا َ‬
‫أو لغير القادر‪ ،‬فالواجد يوضح له الحق‪ :‬ل تجعل حركة حياتك على قدر حاجتك‪ ،‬بل اجعل حركة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حياتك على قدر طاقتك‪ ،‬وخذ منها ما يكفيك ويكفي مَن تعول‪ ،‬والباقي ُردّه على مَن لم يقدر‪ .‬ولو‬
‫جعل كل إنسان حركة حياته على قدر حاجته‪ ،‬فلن يجد من ل يقدر على الحركة ما يعيش به‪.‬‬
‫ولنذكر جيدا أن الحق سبحانه وتعالى قد قال‪:‬‬

‫شعُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ عَنِ الّل ْغوِ ّمعْ ِرضُونَ * وَالّذِينَ‬


‫{ َقدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلَ ِتهِمْ خَا ِ‬
‫هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون‪]4-1 :‬‬
‫وحين قال سبحانه‪ :‬والذين هم للزكاة فاعلون‪ ،‬ليس معناها مجرد أداء زكاة‪ ،‬بل تعني أن يتحركوا‬
‫في الحياة بغرض أن يتحقق لهم فائض يخرجون منه الزكاة‪ ،‬وإل فما الفارق بين المؤمن والكافر؟‬
‫الكافر يعمل ليقوت نفسه ويقوت من يعول وليس في باله ال‪ ،‬أما مزية المؤمن فهو يعمل ليقوت‬
‫نفسه‪ ،‬ويقوت من يعول ويبقى لديه فائض يعطيه للضعيف؛ فكأن إعطاء الضعيف كان في باله‬
‫ساعة الفعل‪ .‬وهذا هو المقصود بقوله الحق‪ {:‬وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون‪]4 :‬‬
‫أي أن كل فعل للمؤمن يُقصد منه أن يكفيه ويكفي أن يزكي منه‪ .‬وهناك حق آخر في المال غير‬
‫الزكاة؛ بأن يسد به ولي المر ما يحتاج إليه المجتمع اليماني بشرط أن يقيم ولي المر كل شرع‬
‫ال‪.‬‬
‫والزكاة هي إخراج المال على نحو مخصوص‪ ،‬أما الصدقة فهي غير محسوبة من الزكاة لكنها‬
‫فوق الزكاة‪ .‬وهناك القرض‪ ،‬وهو المال الذي تتعلق به النفس‪ ،‬لن النسان يقدمه لغيره شريطة‬
‫أن يرده‪ ،‬ولذلك قيل إن القرض أحسن من الصدقة‪ ،‬ذلك أن المقترض ل يقترض إل عن حاجة‪،‬‬
‫أما الذي تتصدق عليه فقد يكون غير محتاج‪ ،‬ويسأل دون حاجة‪ ،‬وأيضا لن نفس المتصدق‬
‫تخرج من الشيء المتصدق به ول تتعلق به‪ ،‬أما الذي يقدم القرض فنفسه متعلقة بالقرض وكلما‬
‫صبر عليه نال حسنة‪ ،‬وكلما قدم نَظِ َرةً إلى ميسرة فهذا له أجر كبير‪ ،‬هكذا يكون القرض أحسن‬
‫من الصدقة‪.‬‬
‫فالحق يريد أن تفيض حركة الحياة بالكثير‪ .‬وكيف يقول سبحانه‪ } :‬وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا‬
‫{ وهو الواهب لكل النعم وهو الولي لكل النعم؟ وكيف يهب الحق للنسان النعم‪ ،‬ثم يقول له‪:‬‬
‫أقرضني؟‬
‫هو سبحانه وتعالى يحترم حركة النسان وعرقه مادام قد ضرب في الرض وسعى فيها‪ ،‬فالمال‬
‫مال النسان‪ ،‬ولكن أخا النسان قد يحتاج إليه‪ ،‬ولذلك فليقرضه ويعتبر سبحانه هذا قرضا من‬
‫النسان ل‪ .‬ونحن نجد عائل السرة يقول لحد أبنائه‪ :‬بما أنك تدخر من مصروف يدك فأعط‬
‫أخاك ما يحتاج إليه واعتبر ذلك قرضا عندي‪ ،‬صحيح أن العائل هو الذي أعطى المال لكل من‬
‫يعول‪ ،‬فما بالنا بالذي أوجدنا جميعا‪ ،‬وهو الحق سبحانه وتعالى؟ لقد وهب كلً منا ثمرة عمله‬
‫واعتبر تلك الثمرة ملكا لصاحبها‪ .‬ويعتبر فوق ذلك إقراض المحتاج إقراضا له‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويصف الحق القرض بأنه حسن حتى ل يكون فيه مَنّ‪ ،‬أو منفعة تعود على المقرض وإل صار‬
‫في القرض ربا‪ .‬ولنا السوة الحسنة في أبي حنيفة عندما يجلس في ظل بيتِ صاحبٍ له‪.‬‬
‫واقترض صاحب هذا البيت من أبي حنيفة بعض المال‪ .‬وجاء اليوم التالي للقرض وجلس ابو‬
‫حنيفة بعيدا عن ظل البيت‪ ،‬فسأله صاحب البيت لماذا؟ أجاب أبو حنيفة‪ :‬خفت أن يكون ذلك لونا‬
‫من الربا‪.‬‬

‫فقال صاحب البيت‪ :‬لكنك كنت تقعد قبل أن تقرضني‪ .‬فقال أبو حنيفة‪ :‬كنت أقعد وأنت المتفضل‬
‫علي بظل بيتك فأخاف أن أقعد وأنا المتفضل عليك بالمال‪.‬‬
‫والقرض الحسن هو الذي ل يشوبه مَنّ أو اذًى أو منفعة؛ ولن القرض دَيْنٌ‪ ،‬وضع الحق‬
‫سمّى فَاكْتُبُوهُ }[البقرة‪]282 :‬‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫القواعد‪ِ {:‬إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا أَ َ‬
‫فالحق يحمي المقترض من نفسه؛ لنه إذا علم أن الدين مكتوب‪ ،‬يحاول جاهدا أن يتحرك في‬
‫الحياة ليسد هذا الدين‪ ،‬ويستفيد المجتمع من حركته أيضا‪.‬‬
‫وعندما يُكتب القرض فهذا أمرٌ دافع للسداد وَحّاثّ عليه‪ .‬لكن إن لم يكتب القرض فقد يأتي ظرف‬
‫من الظروف ويتناسى القرض؟ولو حدث ذلك من شخص فلن تمتد له يد من بعد ذلك بالمعاونة في‬
‫أي أزمة‪ ،‬فيريد الحق أن يديم السباب التي تتداول فيها الحركة‪ ،‬ولذلك يقال في المثلة العامية‪:‬‬
‫من يأخذ ويعطي يصير المال ماله‪ .‬ويكون مال الدنيا كلها معه‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪َ {:‬ولَ تَسَْأمُواْ‬
‫أَن َتكْتُبُوهُ }[البقرة‪]282 :‬‬
‫ضكُم‬
‫وفي ذلك حماية للنفس من الغيار‪ ،‬ولم يمنع الحق الريحية اليمانية فقال‪ {:‬فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ‬
‫َبعْضا فَلْ ُي َؤدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَهُ }[البقرة‪]283 :‬‬
‫وهكذا يحمي ال الحركة القتصادية‪ .‬ونجد رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو الرحيم‬
‫بالمؤمنين‪ ،‬وقد بلغه أن واحدا قد مات وعليه دين‪ ،‬فقال للصحابة‪ :‬صلوا على أخيكم‪ .‬لكنه لم‬
‫يصل على الميت‪ .‬وتساءل الناس لماذا لم يصل رسول ال على هذا الميت وما ذنبه؟ كأن رسول‬
‫ال أراد أن يعلم المؤمنين عن دين المدين فلم يمنع الصلة‪ ،‬ولكنه لم يصل عليه حفزا للناس و َدفْعا‬
‫لهم إلى أن يبرئوا ذمتهم بسداد وأداء ما عليهم من دين‪ .‬وقال‪:‬‬
‫" من أخذ أموال الناس يريد أداءها‪ ،‬أدى ال عنه‪ .‬ومن أخذها يريد إتلفها أتلفه ال "‪.‬‬
‫فمادام قد مات وهو مدين وليس عنده ما يسد الدين؛ فربما كان ل ينوي رد الدين‪ ،‬وأن نفسه قد‬
‫حدثته بأل يرد الدين‪.‬‬
‫وفي فلسفة هذا المر نفسيا نجد أن المقترض عندما يقترض شيئا كبيرا ل يستطيع أن يتجاهله أو‬
‫ينساه‪ ،‬ثم ل يمر بذهن الذي أقرض أن فلنا مدين‪ ،‬بل وقد تبلغ الحساسية بالذي قدم القرض أل‬
‫يمر على المقترض يريد أن يسدد القرض‪ .‬أما إن تحرك قلب الدائن على المدين‪ ،‬وجلس يفكر في‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قيمة الدين‪ ،‬فليُفهم أن عند الذي اقترض بعض ما يسدد به الدين‪ ،‬أي أن المدين عنده القدرة على‬
‫الوفاء بالدّيْن أو ببعضه‪ ،‬ذلك أن ال ل يُحرج من يَجِد ويجتهد في السعي لسداد دينه‪.‬‬
‫حسَنا {‪ .‬وقد يقول قائل‪ :‬كان السياق اللفظي يقتضي أن يقول‪ " :‬أقرضتم‬
‫} وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ قَرْضا َ‬
‫ال إقراضا "؛ لكن الحق جاء بالقرض الحسن؛ لن القراض هو العملية الحادثة بين الطالب‬
‫للقرض والذي يقرض‪.‬‬

‫وسبحانه يضع القرض الحسن في يده‪ ،‬ولنا أن نتصور ما في يد ال من قدرة على العطاء‪ .‬ومثل‬
‫ن الَ ْرضِ نَبَاتا }[نوح‪]17 :‬‬
‫ذلك قوله الحق‪ {:‬وَاللّهُ أَنبَ َتكُمْ مّ َ‬
‫و " أنبتكم " تعبر عن عملية النبات‪ ،‬والرض تخرج نباتا ل إنباتا‪ .‬فمرة يأتي ال بالفعل ويأتي‬
‫من بعد ذلك بالمصدر من الفعل؛ لنه يريد به السم‪ .‬و " أنبت " يدل على معنى وينشئ ال لكم‬
‫منها نباتا‪.‬‬
‫لكَفّرَنّ عَ ْنكُمْ سَيّئَا ِتكُمْ { وفي ذلك جواب‬
‫حسَنا ُ‬
‫وهكذا قال ال عن القرض‪ } :‬وََأقْ َرضْتُمُ اللّهَ قَرْضا َ‬
‫للقسم‪ ،‬ومن بعد ذلك يقول سبحانه‪ } :‬وَلُ ْدخِلَ ّنكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ { وقد تكلمنا من‬
‫سوَآءَ‬
‫ضلّ َ‬
‫قبل كثيرا عن الجنات‪ .‬ويذيل الحق الية الكريمة بقوله‪َ } :‬فمَن َكفَرَ َبعْدَ ذاِلكَ مِ ْنكُمْ َفقَ ْد َ‬
‫السّبِيلِ { ألم يكن الذي كفر من قبل ذلك قد ضل سواء السبيل؟ بلى‪ ،‬إنه قد ضل فعل‪ ،‬ولكن الذي‬
‫ضل بعد أن جاء ذكر تلك النعم والثواب فيها فالضلل أكثر‪ .‬وكلمة " سواء " نقرأها في القرآن‬
‫سوَآءً }[آل عمران‪]113 :‬‬
‫ونراها في الستعمالت اللغوية؛ كمثل قوله الحق‪ {:‬لَ ْيسُواْ َ‬
‫وسواء معناها وسط‪ ،‬ومتساوون‪ .‬والمعاني ملتقية؛ لنه عندما يكون هناك وسط فمعنى ذلك أن‬
‫هناك طرفين‪ .‬ومادام الشيء في الوسط فالطرفان متساويان‪ ،‬وعندما نقول‪ :‬وسط‪ ،‬فهذا يقتضي أن‬
‫نجعل المسافة بينه وبين كل طرف متساوية‪ ,.‬ولذلك يجب أن ننتبه إلى أن كثيرا من اللفاظ‬
‫تستعمل في شيء وفي شيء آخر‪ ،‬وهذا ما يسمى بالمشترك اللفظي‪ ..‬أي اللفظ واحد والمعنى‬
‫جوِ َهكُمْ شَطْ َرهُ }[البقرة‪]144 :‬‬
‫متعدد‪ ،‬مثال ذلك قوله الحق‪َ {:‬فوَلّو ْا وُ ُ‬
‫والشطر هو الجهة‪ .‬والشطر هو النصف‪ .‬النصف هو الجهة بمعنى أن توجه إنسان ما إلى الكعبة‬
‫يقتضي أن يكون النسان واقفا في نقطة هي مركز بالنسبة لدائرة الفق‪ .‬وهذه النقطة بالنسبة‬
‫لمحيط الفق تقطع كل قطر من أقطارها في المنتصف تماما‪ .‬إذن‪ .‬فعندما يقول‪ :‬الجهة‪ ،‬نقول‪:‬‬
‫صدقت‪ ،‬وعندما يقول النصف‪ .‬نقول‪ :‬صدقت‪.‬‬
‫سوَآءَ السّبِيلِ { والقرآن قد نزل على أمة تعيش في البادية وطرقها بين الجبال‪ ،‬وقد‬
‫ضلّ َ‬
‫} َفقَ ْد َ‬
‫يكون الطريق معبّدا من ناحية‪ ،‬وقد يكون الطريق بين هاويتين‪ .‬وقد يكون الطريق بين جبلين‪،‬‬
‫ومن يأخذ بالحوط فهو يمسي في الوسط‪ .‬ولذلك قال المام علي ‪ -‬كرم ال وجهه ‪ :-‬اليمين‬
‫والشمال مضلة وخير المور الوسط؛ لن النسان قد يتجه يمينا فيقع‪ .‬أو يتجه شمالً فيقع؛ أو تقع‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليه صخرة‪ .‬ونجد الوالد ينصح ابنه فيقول له‪ :‬امش ول تلتفت يمينا أو يسارا واتجه إلى‬
‫سوَآءِ‬
‫مقصدك‪ .‬ونجد الحق يصف الطريق الذي يمشي عليه المؤمن يوم القيامة‪ {:‬فَاطّلَعَ فَرَآهُ فِي َ‬
‫جحِيمِ }[الصافات‪]55 :‬‬
‫الْ َ‬
‫وسواء الجحيم هو نقطة المنتصف في النار؛ أي أنه ل يستطيع الذهاب يمينا أو شمالً‪ .‬ويقول‬
‫ضهِم مّيثَا َقهُمْ‪{ ...‬‬
‫الحق من بعد ذلك‪ } :‬فَ ِبمَا َن ْق ِ‬

‫(‪)674 /‬‬

‫حظّا ِممّا‬
‫ضعِ ِه وَنَسُوا َ‬
‫جعَلْنَا قُلُو َبهُمْ قَاسِيَةً ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَنْ َموَا ِ‬
‫ضهِمْ مِيثَا َقهُمْ َلعَنّاهُ ْم وَ َ‬
‫فَ ِبمَا َنقْ ِ‬
‫حبّ‬
‫صفَحْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫عفُ عَ ْنهُ ْم وَا ْ‬
‫ُذكّرُوا بِ ِه وَلَا تَزَالُ َتطّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِ ْنهُمْ إِلّا قَلِيلًا مِ ْنهُمْ فَا ْ‬
‫حسِنِينَ (‪)13‬‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫وساعة يقول الحق‪ " :‬ميثاقا " فالميثاق يتطلب الوفاء‪ .‬فهل وفوا بهذا الميثاق؟‪ .‬ل‪ ،‬لقد نقضوا‬
‫المواثيق فلعنهم ال‪ .‬واللعن هو الطرد والبعاد‪ ،‬والحق في ذلك يقول‪ { :‬فَ ِبمَا َن ْقضِهِم مّيثَا َقهُمْ‬
‫لَعنّاهُمْ } أي بسبب نقضهم الميثاق لعنهم ال‪ .‬لقد أثار وجود " ما " هنا بعض التفسيرات‪ ،‬فهناك‬
‫من العلماء من قال‪ :‬إنها زائدة‪ ،‬وهناك آخرون قالوا‪ :‬إنها " صلة "‪ .‬ولكن الزيادة تكون عند البشر‬
‫ل عند ال‪ .‬ول يمكن أن يكون بالقرآن شيء زائد؛ لن كل كلمة في القرآن جاءت لمقتضى حال‬
‫يحتم أن تكون في هذا الموضع‪ .‬فها هوذا الحق يخبرنا بما وصى به لقمان ابنه‪ {:‬وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ‬
‫لمُورِ }[لقمان‪]17 :‬‬
‫َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَ ْز ِم ا ُ‬
‫لمُورِ }[الشورى‪]43 :‬‬
‫غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْمِ ا ُ‬
‫وفي آية أخرى يقول سبحانه‪ {:‬وََلمَن صَبَ َر وَ َ‬
‫في الية الولى لم يورد " اللم " لتسبق " مِن " ‪ ،‬وفي الية الثانية أورد " اللم " لتسبق " مِن " ‪،‬‬
‫وليس ذلك من قبيل التفنن في العبارات‪ ،‬فقوله‪ { :‬وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ‬
‫لمُورِ } دعوة للصبر على مصيبة ليس للنسان غريم فيها‪ ،‬كالمرض‪ ،‬أو موت أحد القارب‪،‬‬
‫اُ‬
‫غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ‬
‫وهذه الدعوة للصبر تأتي هنا كعزاء وتسلية‪ ،‬أما قوله الحق‪ { :‬وََلمَن صَبَ َر وَ َ‬
‫لمُورِ } فالدعوة للصبر هنا مع الغفران تقتضي وجود غريم يسبب للنسان كارثة‪.‬‬
‫عَزْ ِم ا ُ‬
‫هنا يطلب ال من المؤمن أن يغفر لمن أصابه وأن يصبر‪ .‬ومادام هناك غريم؛ فالنفس تكون‬
‫متعلقة بالنتقام‪ ،‬وهذا موقف يحتاج إلى جرعة تأكيدية أكثر من الولى؛ فليس في الموقف الول‬
‫غريم واضح يُطلب منه النتقام‪ ،‬أما وجود غريم فهو يحرك في النفس شهوة النتقام‪ ،‬ولذلك‬
‫لمُورِ }‪ .‬ويقول سبحانه في موقع آخر‪ {:‬مَا‬
‫يؤكدها الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْز ِم ا ُ‬
‫جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ }[المائدة‪]19 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وعندما يقوم النحاة بإعراب " بشير " فهم يقولون‪ " :‬إنها فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخرة‬
‫منع من ظهورها حركة حرف الجر الزائد‪ .‬إنه التفاف طويل‪ ،‬ول يوجد حرف زائد‪ ،‬فالنسان‬
‫يقول‪ :‬ما عندي مال‪ .‬وهذا القائل قد يقصد أنه ل يملك إل القليل من المال ل يعتد به‪ .‬وعندما‬
‫يقول النسان " ما عندي من مال " فـ " من " هنا تعني أنه ل يملك أي مالٍ من بداية ما يقال له‬
‫مال‪ .‬ولذلك فـ " مِن " هنا ليست زائدة‪ ،‬ولكنها جاءت تعني لمعنى‪ .‬إذن " ما جاءنا من بشير "‬
‫أي لم يأت لنا بداية من يقال له بشير‪.‬‬
‫حمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ َلهُمْ }[آل عمران‪]159 :‬‬
‫وها هوذا قول الحق‪ {:‬فَ ِبمَا َر ْ‬
‫وقد يحسب البعض أن " ما " هنا حرف زائد‪ ،‬ولكنا نقول‪ :‬ما الصل في الشتقاق؟‪.‬‬

‫إن الصل الذي نشتق منه هو المصدر‪ .‬ومرة يأتي المصدر ويراد به الفعل‪ ،‬كقول القائل‪" :‬‬
‫ضربا زيدا " أي " اضرب زيدا "‪ .‬ومجيء المصدر هنا قول مقصود به الفعل‪ ،‬وكذلك قوله الحق‪:‬‬
‫ضهِم مّيثَا َقهُمْ لَعنّا ُهمْ {‪.‬‬
‫} فَ ِبمَا َن ْق ِ‬
‫مادام النقض مصدرا فمن الممكن أن يقوم مقام الفعل‪ .‬ومادام المصدر قد قام مقام الفعل فمن‬
‫ضهِم مّيثَا َقهُمْ لَعنّاهُمْ {‪ .‬إذن " ما " تدل هنا‬
‫الجائز أن يأتي فعل آخر‪ ،‬فيصبح معنى القول‪ } :‬فَ ِبمَا َن ْق ِ‬
‫على أن المصدر قد جاء نيابة عن فعل‪ .‬وبقيت " ما " لتدل على أن المصدر من الفعل المحذوف‪،‬‬
‫أو أن " ما " جاءت استفهامية للتعجيب‪ ..‬أي فبأي نقض من ألوان وصور نقضهم للعهد لعناهم؟‬
‫وذلك لكثرة ما نقضوا من العهود على صور وألوان شتى من النقض للعهد‪.‬‬
‫ضهِم مّيثَا َقهُمْ لَعنّا ُهمْ {‪ .‬والنقض هو ضد البرام؛ لن البرام هو إحكام‬
‫وقوله الحق‪ } :‬فَ ِبمَا َن ْق ِ‬
‫الحكم بالدلة‪ .‬والنقض هو حل عناصر القضية‪ ،‬كأن العهد الموثق الذي أخذه ال عليهم قد‬
‫نقضوه‪ .‬ونحن نسمي العقيدة اليمانية عقيدة‪ ،‬لماذا؟؛ لنها مأخوذة من عقد الشيء بحيث ل يطفو‬
‫ليناقش من جديد في الذهن‪ .‬كذلك الميثاق إنه عهد مثبت ومؤكد‪ .‬وعندما ينقضونه فهم يقومون‬
‫بحله‪ ،‬أي أنهم أخرجوا أنفسهم عن متطلبات ذلك العقد‪ .‬وجاء اللعن لنهم نقضوا الميثاق‪.‬‬
‫جعَلْنَا قُلُو َبهُمْ قَاسِيَةً { وهم عندما نقضوا المواثيق‪ ،‬طبع ال على قلوبهم؛ لنه لم يطبع على‬
‫} وَ َ‬
‫قلوبهم بداية؛ فقد كفروا أولً‪ ،‬وبعدذ لك تركهم ال في غيهم وضللهم وطبع على القلوب َفمَا فيها‬
‫من كفر ليخرج‪ ،‬والخارج عنها ل يدخل إليها‪ .‬و " قاسية " تعني صُلبة‪ .‬وفيها شدة‪ .‬والصلبة‬
‫مذمومة في القلوب وليست مذمومة في الدفاع عن الحق؛ لننا نقيس كل موجود على مهمته‪.‬‬
‫فعندما يكون كل موجود على مهمته يكون كل الكون جميلً‪ .‬مثال ذلك؛ نحن ل نقول عن‬
‫خطّاف ل بد له من العوج؛ لن ذلك العوج مناسب لمهمته‪ ،‬إذن‬
‫الخُطاف ذمّا فيه إنه أعوج‪ .‬فال ُ‬
‫فعوج الخطاف استقامة له‪ .‬وكذلك القسوة غير مذمومة شريطة أن تكون في محلها‪ ،‬أما إن جاءت‬
‫في غير محلها فهي مذمومة‪ .‬إن القلوب القاسية مذمومة؛ لن الحق يريد للقلوب أن تكون لينة‪{:‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثُمّ تَلِينُ جُلُودُ ُه ْم َوقُلُو ُبهُمْ إِلَىا ِذكْرِ اللّهِ }[الزمر‪]23 :‬‬
‫والقسوة مأخوذة من القَسيّ وهو الصلب الشديد‪ ،‬ونعرف أن الدنانير كانت تضرب من الذهب‬
‫والدراهم تضرب من الفضة‪ .‬وعندما يفحصها الصيرفي قد يُخرج واحدا منها ويقول‪ :‬هذا زيف‬
‫أو زائف لنه قد سمع رنينها‪ ،‬أهي صلبة في الواقع أم ل؟‪ .‬وعندما تكون صلبة يقال لها‪ :‬دراهم‬
‫قاسية‪.‬‬
‫إنّ الذهب لين‪ .‬والفضة لينة‪.‬‬

‫فعندما نقول‪ :‬إن هذا ذهب عيار أربعة وعشرين أي ذَ َهبٌ ليس به نسبة من المواد الخرى التي‬
‫تجعله قابلً للتشكيل؛ لنه عندما يكون ذهبا صافيا على إطلقه فلن يستطيع الصائغ أن يصوغ منه‬
‫الحلي؛ لذلك يخلطه الصائغ بمعدن صُلب‪ ،‬حتى يعطيه المعدن درجة الصلبة التي تتيح له تشكيل‬
‫الحلي منه‪ .‬وتختلف نسبة الصلبة من عيار إلى عيار في الذهب وكذلك الفضة‪ .‬والمصوغات‬
‫المصنوعة من عيار مرتفع من الذهب ليست عرضة للتداول‪ ،‬كالسبائك الذهبية‪.‬‬
‫وإذا ما دخل المعدن الصلب إلى الذهب أو الفضة جعلها قاسية؛ أي صلبة‪ .‬الصلبة ‪ -‬إذن ‪ -‬فيما‬
‫يناسبها محمودة‪ .‬وفيما ل يناسبها مذمومة كصلبة القلوب وقسوتها‪.‬‬
‫ضعِهِ { مثل ذلك نقلهم أمر ال الذي طلب منهم أن يقولوا‪" :‬‬
‫ويقول الحق‪ُ } :‬يحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَن ّموَا ِ‬
‫حظّا ّممّا ُذكِرُواْ بِهِ { وكانت وسائل النسخ في الكتب التي سبقت‬
‫حطة " فقالوا‪ " :‬حنطة " } وَنَسُواْ َ‬
‫القرآن هي نسيان حظّ مما ذكروا به‪ ،‬والنسيان قد يكون عدم قدرة على الستيعاب‪ ،‬لكنه أيضا‬
‫دليل على أن المنهج لم يكن على بالهم‪ .‬فلو كانت كتب المنهج على بالهم لظلوا على ذكر منه‪،‬‬
‫كما أنهم كتموا ما لم ينسوه‪ ،‬والذي لم ينسوه ولم يكتموه حرّفوه ولووا ألسنتهم به‪ .‬وياليت المر‬
‫اقتصر على ذلك‪ ،‬ولكنهم جاءوا بأشياء وأقاويل وقالوا إنها من عند ال وهي ليست من عند ال‪{:‬‬
‫َفوَيْلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَ ْيدِيهِمْ ُثمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ ِبهِ َثمَنا قَلِيلً َفوَ ْيلٌ ّل ُهمْ‬
‫ّممّا كَتَ َبتْ أَ ْيدِيهِ ْم َووَ ْيلٌ ّل ُهمْ ّممّا َيكْسِبُونَ }[البقرة‪]79 :‬‬
‫هي أربعة ألوان من التغيير‪ ،‬النسيان‪ ،‬والكتم‪ ،‬والتحريف‪ ،‬ودسّ أشياء على أنها من عند ال وهي‬
‫ليست من عند ال‪.‬‬
‫ولنا أن نتأمل جمال القول الحكيم‪ } :‬وَنَسُواْ حَظّا ّممّا ُذكِرُواْ بِهِ { فهم على قدر كبير من السوء‬
‫بدرجة أنستهم الشيء الذي يأتي لهم بالحظ الكبير‪ ،‬مثل نسيانهم البشارات بمحمد عليه الصلة‬
‫والسلم وكتمانها‪ ،‬ولو كانوا قد آمنوا بها‪ ،‬لكان حظهم كبيرا؛ ذلك أنهم نسوا أمرا كان يعطيهم‬
‫جزاء حسنا‪ ،‬إذن فقد جنوا على أنفسهم؛ لن السلم لن يستفيد لو كانوا مهتدين أو مؤمنين‬
‫والخسار عليهم هم‪ ،‬ولم يدعهم ال ويتركهم على نسيانهم ليكون لهم بذلك حجة‪ ،‬بل أراد أن‬
‫يذكرهم بما نسوه‪ .‬وكان مقتضى ذلك أن ينصفوا أنفسهم بأن يعودوا إلى اليمان؛ لن الحق‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذكرهم بما نسوا ليحققوا لنفسهم الحظ الجميل‪ .‬وقد يراد أنّهم تركوا ذلك عامدين معرضين عنه‬
‫ُمغْفِلين له عن قصد‪.‬‬
‫عفُ عَ ْن ُه ْم وَاصْفَحْ إِنّ‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪َ {:‬ولَ تَزَالُ َتطّلِعُ عَلَىا خَآئِنَةٍ مّ ْنهُمْ ِإلّ قَلِيلً مّ ْنهُمُ فَا ْ‬
‫حسِنِينَ }[المائدة‪]13 :‬‬
‫حبّ ا ْلمُ ْ‬
‫اللّهَ ُي ِ‬
‫أي أن خيانتهم لك يا رسول ال ولتباعك ولمنهج ال الحق في الرض ستتوالى‪ ،‬ولأدل على‬
‫ذلك مما حدث منهم ضد رسلهم أنفسهم مع أنهم من بني جلدتهم ومن عشيرتهم‪ ،‬إنهم من بني‬
‫إسرائيل مثلهم‪ ،‬فما بالك بنبي جاء من جنس آخر ليقتحم عليهم سلطتهم الزمنية؟‬
‫إذن فخيانتهم ل متصورة‪.‬‬

‫و " خائنة " بمعنى " خيانة " مثلها مثل " قائلة " وهي القيلولة أي المسافة الزمنية بعد الظهر‪،‬‬
‫وفعلها‪ :‬قال يقيل أي نام وسط النهار أو " خائنة " أي " نفس خائنة "‪ .‬أو " خائنة " مثل امرأة‬
‫خائنة " أو " خائنة " مبالغة كما نقول " راوٍ " و " راوية " ونحن نعني رجلً‪ ،‬أو نقول " جماعة‬
‫خائنة "‪.‬‬
‫إذن فالكلمة الواحدة هنا مستوعبة لكل مصادر الخيانة منهم‪ ،‬رجل أو امرأة أو جماعة أو كل‬
‫هؤلء‪ .‬والذي يتكلم هنا هو رب العالمين‪ ،‬ويتكلم للعرب وهم أهل فصاحة‪ ،‬إنه أداء لغوي عال‪.‬‬
‫ومن فرط دقة القرآن وصدقه يأتي الحق بقوله‪ِ } :‬إلّ قَلِيلً مّ ْنهُمُ { طبقا لقانون صيانة الحتمال‪.‬‬
‫فحين يخاطب ال رسوله صلى ال عليه وسلم ليبين له موقف اليهود منه‪ ،‬أل يُحتمل أن يُوجد قوم‬
‫من اليهود يغلبهم الفهم العميق فيفكروا في أن يؤمنوا بهذا الرسول‪ ،‬ويهدئوا من شراسة ظنهم به؟‬
‫وقد فكر بعضهم وأعلن السلم‪.‬‬
‫وهؤلء القوم عندما يسمعون أحكام ال على اليهود أجمعين‪ ،‬أل يقولون‪ :‬وما لنا ندخل في هذه‬
‫الزمرة؛ ونفكر في أن ننطق باليمان؟ فكأن قوله‪ِ } :‬إلّ قَلِيلً مّ ْنهُمُ { صان قانون الحتمال أن‬
‫يكون إنسان منهم فكر في اليمان‪ .‬ومن فكر في اليمان فسوف يجد قوله الحق‪ِ } :‬إلّ قَلِيلً مّ ْنهُمُ {‬
‫وسيرى هذا النسان في نفسه أن القرآن دليل نزل على نور‪ .‬وقد كان وأعلن قليل منهم إسلمه‪،‬‬
‫وماذا يكون موقفه صلى ال عليه وسلم بعد أن يخبره الحق‪ :‬بأنك ستتعرض مستقبل لخيانتهم؟ أل‬
‫يحرك ذلك نفسية رسول ال صلى ال عليه وسلم والمؤمنين عليهم‪ ،‬فإذا فعل اليهود خائنة فل بد‬
‫أن ينتقموا منهم‪ ،‬وتطبيقا للقاعدة الساسية في رد العدوان بأن من يعتدي عليك فاعتد عليه‪.‬‬
‫عفُ عَ ْن ُه ْم وَاصْفَحْ إِنّ‬
‫لم يشأ ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أن يترك الموقف لعواطف البشر مع البشر بل قال‪ } :‬فَا ْ‬
‫حسِنِينَ { والعفو هو كما نقول‪ :‬فلن عفّى على آثاري‪ ،‬أي أن آثارك تكون واضحة‬
‫حبّ ا ْلمُ ْ‬
‫اللّهَ ُي ِ‬
‫على الرض وتأتي الريح لتمسحها فتعفي على الثر‪ .‬والمر بالعفو أي امسح الثر لذنب فعلوه‪.‬‬
‫والخطيئة التي ارتكبوها عليك أن تعتبرها كأنها لم تحدث‪ ،‬ولكن أيظل أثرها باقيا عند رسول ال؟‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل‪ ،‬فالمر بالصفح يأتي وهناك فرق بين أن تمحو الخطيئة وتبقى أثرها في نفسك وتظل في حالة‬
‫من الغيظ والحقد‪.‬‬
‫والحق هنا يأمر بالعفو أي إزالة أثرها ويأمر بالصفح أي أن ُتخْرِجَ أثر الخطيئة من بالك؛ لن‬
‫النسان منا له مراحل؛ المرحلة الولى بعد أن يرتكب أحدهم ذنبا في حقه‪ ،‬فل يقابل العدوان‬
‫بمثله‪ ،‬وهذا هو العفو‪ ،‬والمرحلة الثانية‪ :‬أل يترك أثر هذا الذنب يعمل في قلبه بل يأتي الصفح‬
‫حتى ل ينشغل قلب المؤمن بشيء قد عفا عنه‪ ،‬والمرحلة الثالثة‪ :‬فرصة مفتوحة لمن يريد أن‬
‫يتمادى في مرتبة الحسان وترقي اليقين واليمان بأن يحسن النسانُ إلى من أساء إليه‪.‬‬

‫حبّ‬
‫س وَاللّهُ يُ ِ‬
‫ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ‬
‫ظمِينَ ا ْلغَيْ َ‬
‫وهذه المراحل الثلث يوضحها قوله الحق‪ {:‬وَا ْلكَا ِ‬
‫حسِنِينَ }[آل عمران‪]134 :‬‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫وعملية الحسان مع المسيء أو المعتدي‪ :‬أهي عملية منطقية مع النفس النسانية؟ قد تكون غير‬
‫منطقية مع النفس النسانية‪ ،‬ولكنك أيها النسان ل تشرع لنفسك‪ ،‬إنما الذي يشرع لك هو العلى‬
‫من النفس النسانية‪ .‬والخالق يقول لك‪ :‬لو علمت ما قدّمه لك من أساء إليك لحسنت إليه‪ .‬لنك‬
‫إن أسأت إلى خلق من خلق ال فالذي يثأر ويأخذ الحق لمن أسيء إليه هو رب هذا المخلوق‪.‬‬
‫ويأتي ال في صف الذي تحمل الساءة‪.‬‬
‫إذن فإساءة العدو لك جعلت ال في صفك وفي جانبك‪ ،‬أل يستحق ذلك المسيء أن نشكره؟ أل‬
‫تقول لنفسك القول المأثور‪ :‬أل تحسن إلى من جعل ال في جانبك‪ .‬إذن هذا هو التشريع‪ } :‬إِنّ اللّهَ‬
‫حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ { والحسان هنا خرج بالترقي اليماني عن مرحلة‪َ {:‬فمَنِ اعْ َتدَىا عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُواْ‬
‫يُ ِ‬
‫علَ ْيكُمْ }[البقرة‪]194 :‬‬
‫عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْتَدَىا َ‬
‫والحسان أن تفعل شيئا فوق ما افترضه ال‪ ،‬ولكن من جنس ما افترضه ال؛ والمحسن الذي‬
‫يدخل في مقام الحسان هو من يعبد ال كأنه يراه فإن لم يكن يراه فهو سبحانه وتعالى يرى كل‬
‫ت وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ‬
‫خلقه‪ .‬ونعرف قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬إِنّ ا ْلمُتّقِينَ فِي جَنّا ٍ‬
‫إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ ذَِلكَ ُمحْسِنِينَ }[الذاريات‪]16-15 :‬‬
‫جعُونَ }[الذاريات‪]17 :‬‬
‫ما الذي جاء بالحسان هنا؟ وتكون الجابة‪ {:‬كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َي ْه َ‬
‫وهل يكلف ال خلقه أل يهجعوا إل قليل من الليل؟ ل‪ .‬فقد كلف ال المسلم بالصلةن وأعلمه بأنه‬
‫حر بعد صلة العشاء‪ ،‬وله الحق أن ينام إلى الفجر‪ ،‬فإن سمع أذان الفجر فليقم إلى صلة الفجر‪.‬‬
‫لكن المحسن يريد الرتقاء بإيمانه فيزيد من صلواته في الليل‪ .‬ويضيف الحق مذكرا لنا بصفات‬
‫المحسنين‪ {:‬وَبِالَسْحَارِ هُمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ }[الذاريات‪]18 :‬‬
‫أكلف ال الخلق بأن يستغفروا بالسحار؟ ل‪ .‬بل إن الرسول يجيب على رجل سأله عن الفروض‬
‫الساسية المطلوبة منه‪ ،‬فذكر له أركان السلم ومن بينها الصلوات الخمس المكتوبة‪ ،‬فقال‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرجل‪ :‬وال ل أزيد على هذا ول أنقص فقال الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أفلح إن صدق "‪.‬‬
‫ل وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات‪:‬‬
‫حقّ لّلسّآ ِئ ِ‬
‫ويضيف الحق في استكمال صفات المحسنين‪َ {:‬وفِي َأ ْموَاِلهِمْ َ‬
‫‪]19‬‬
‫ونلحظ أن الحق هنا لم يقل‪ " :‬حق معلوم " إنما قال‪ } :‬حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ { فالحق المعلوم هو‬
‫الزكاة‪ ،‬أما المحسن فللسائل والمحروم في ماله حق غير معلوم‪ ،‬وذلك ليفسح سبحانه المجال‬
‫للطموحات اليمانية‪ ،‬فمن يزد في العطاء فله رصيد عند ال‪.‬‬

‫حسِنِينَ {؛ لن الحسان إليهم يهيج فيهم‬


‫حبّ ا ْلمُ ْ‬
‫صفَحْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫عفُ عَ ْنهُ ْم وَا ْ‬
‫والحق يقول‪ } :‬فَا ْ‬
‫غريزة العرفان بالجميل‪ ،‬فيستل ذلك الحسان الحقد من قلوبهم‪ ،‬ويفتحون آذانهم وقلوبهم لكلمة‬
‫حمِيمٌ }[فصلت‪]34 :‬‬
‫الحق‪ {:‬فَِإذَا الّذِي بَيْ َنكَ وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫لن العداوة ل تشتد إل إذا وُجد مُؤجج لها من عداوة في المقابل‪ .‬فعندما تعامل عدوك بالحسنى‬
‫س ّكتّ أنت عليه‪،‬‬
‫ول ترد على عدائه بالعدوان فكم من الزمن يصير عدوا لك؟ إنه اعتدى مرة و َ‬
‫واعتدى ثانية وسكت أنت عليه‪ .‬ل بد أنه يهدّئ من نفسه‪.‬‬
‫إذن فالعداوة ل تتأجج إل إذا قابلتها عداوة أخرى‪ .‬ولذلك نرى ما حدث في المعركة التي قامت‬
‫بين فرعون وسيدنا موسى عليه السلم حين أراد ال أن يجعل العداوة ل من جهة واحدة ولكن من‬
‫جهتين اثنتين لتكون معركة حامية؛ لن العداوة لو كانت من جهة واحدة لهذا الطرف المعتدي‪{:‬‬
‫ع ُدوّا وَحَزَنا }[القصص‪]8 :‬‬
‫عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ َ‬
‫فَالْ َتقَطَهُ آلُ فِرْ َ‬
‫فهل هم التقطوه ليكون عدوا؟ ل‪ .‬لقد التقطوه ليكون قرة عين‪ .‬ولكن قدر ال سبق‪ .‬كان المل في‬
‫أن يصير موسى قرة عين آل فرعون‪ ،‬ولكن ال أراد أن يقوموا بتربيته‪ ،‬ثم يصير من بعد ذلك‬
‫عدوا لهم‪ .‬وهكذا يتضح لنا أن تدبير السماء فوق تدبير الرض‪ .‬وموسى السامري مثلً ربته‬
‫السماء بواسطة جبريل‪ ،‬وولدته أمه منقطعا في الصحراء‪ ،‬فكان جبريل ينزل عليه بما يطعمه إلى‬
‫أن كبر‪ ،‬وموسى ابن عمران ذهب إلى فرعون ليربيه‪ ،‬لكن موسى السامري ‪ -‬الذي رباه جبريل‬
‫‪ -‬صار كافرا‪ ،‬وموسى بن عمران الذي رباه فرعون أصبح رسولً إلى بني إسرائيل‪ .‬وكل‬
‫القدرين أرادهما ال‪ ،‬ولذلك يقول الشاعر‪:‬إذا لم تصادف في بريق عناية فقد كذب الراجي وخاب‬
‫المؤملفموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسلكأن آل فرعون قد قاموا‬
‫بتربية موسى بن عمران ليكون عدوا لهم ل قرة عين‪ .‬والعداوة تكون من جهة موسى لفرعون‪،‬‬
‫خ ْذهُ عَ ُدوّ‬
‫حلِ يَأْ ُ‬
‫وتجيء العداوة من فرعون لموسى‪ ،‬فيقول الحق‪ {:‬فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْ َيمّ بِالسّا ِ‬
‫لّي وَعَ ُدوّ لّهُ }[طه‪]39 :‬‬
‫هكذا صارت العداوة من طرفين‪ .‬والحق سبحانه وتعالى أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم أن‬
‫يصفح عن الخيانات التي تحدث منهم‪ ،‬لعل الوعي اليماني يستيقظ فيهم‪ ،‬ويقولون‪ :‬لم يعاملنا بمثل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ما عاملناه به‪ ،‬ويعترفون به نبيا رحيما رءوفا كريما‪ ،‬ول يقفون في وجه دعوته‪ .‬لكن أيظل العفو‬
‫والصفح هما كل التعليمات الصادرة من الحق إلى نبيه محمد صلى ال عليه وسلم؟ ل‪ .‬فقد مر‬
‫المر اللهي بمرحليات متعددة؛ فالرسول يستقطب النفس النسانية بأن يستعبدها بالحسان‪ ،‬فإن لم‬
‫يستعبدها الحسان فل بد أن يشمر النبي عن الساعد ويفعل ما يأمره به ال‪ ،‬ولنقرأ قوله الحق‪:‬‬

‫س ِهمْ مّن َبعْدِ مَا تَبَيّنَ‬


‫{ وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ يَ ُردّو َنكُم مِنْ َبعْدِ إِيمَا ِن ُكمْ ُكفّارا حَسَدا مّنْ عِنْدِ أَ ْنفُ ِ‬
‫َلهُمُ ا ْلحَقّ فَاعْفُو ْا وَاصْفَحُواْ حَتّىا يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ }[لبقرة‪]109 :‬‬
‫إذن فهناك أمر خفي هو‪ {:‬حَتّىا يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ }[البقرة‪]109 :‬‬
‫وسبحانه قد أمر بأن يتركهم الرسول مع الصفح والعفو لمرحلة قادمة يأتي فيها المر بتأديبهم‪.‬‬
‫وهذه عملية إنسانية فطرية عرفها العربي الجاهلي وخَبَرها قبل أن يأتي السلم؛ فقد كان العربي‬
‫يحسن إلى عدوه مرة وثانية وثالثة‪ ،‬وعندما يجد أن الحسان لم يثمر ثمرته؛ يقاتل العدو‪ ،‬وكما‬
‫قال الشاعر‪:‬أناة فإن لم تغن قدم بعدها وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمهمن الحلم أن تستعمل الحزم‬
‫دونه إذا لم يسع بالحلم ما أنت عازمهوقال الشاعر‪:‬صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوانعسى‬
‫اليام أن يرجع ن قوما كالذي كانوافلما صَرّحَ الشر وأضحى وهو عريانمشينا مشية الليث غَدَا‬
‫والليث غضبانبضرب فيه تأييم وتفجيع وإرنانوطعن كفم الزق غَدَا والزق ملنوفي الشر نجاة حي‬
‫ن ل ينجيك إحسانوبعض الحلم عند الجهـ ل للذلة إذعانومثل ما جرى للنبي صلى ال عليه وسلم‬
‫مع اليهود‪ ،‬حدث مع النصارى واورد الحق سبحانه وتعالى هذا فقال‪َ } :‬ومِنَ الّذِينَ قَالُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)675 /‬‬

‫حظّا ِممّا ُذكّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْ َن ُهمُ ا ْلعَدَا َوةَ‬


‫َومِنَ الّذِينَ قَالُوا إِنّا َنصَارَى َأخَذْنَا مِيثَا َقهُمْ فَ َنسُوا َ‬
‫س ْوفَ يُنَبّ ُئهُمُ اللّهُ ِبمَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ (‪)14‬‬
‫وَالْ َب ْغضَاءَ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة وَ َ‬

‫لقد قالوا إنهم نصارى‪ .‬وأخذ الحق الميثاق منهم‪ ،‬إما ميثاق الذر وإما ميثاقهم لنبيهم عيسى ابن‬
‫مريم‪ ،‬فنسوا حظا مما ذكروا به وتركوا ما أمرهم به النجيل ونقضوا الميثاق‪ ،‬فتفرقوا في عداء‬
‫ملحوظ فِرَقا شتى‪ ،‬وجاء أمر ال كما وعد‪ { :‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ‪} ...‬‬

‫(‪)676 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خفُونَ مِنَ ا ْلكِتَابِ وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ‬
‫يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ قَدْ جَا َءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ كَثِيرًا ِممّا كُنْ ُتمْ تُ ْ‬
‫جَا َءكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ َوكِتَابٌ مُبِينٌ (‪)15‬‬

‫كأن الحق سبحانه وتعالى يعطيهم الفرصة والعذر حتى ل يقولن واحد منهم‪ :‬لم يبلغني عن‬
‫ل لمنهج‬
‫رسولي شيء‪ .‬وهناك فترة لم يأت فيها رسول‪ .‬وها هوذا رسول من ال يأتي حام ً‬
‫متكامل‪ .‬ومجيء الرسول يمنحهم ويعطيهم فرصة لتجديد ميثاق اليمان‪ .‬وهم قد أخفوا من كتبهم‬
‫بعض الحكام‪ .‬مثل الرجم والربا‪ ،‬وقال بعض من بني إسرائيل في الربا ما ذكره القرآن عنهم‪{:‬‬
‫لمّيّينَ سَبِيلٌ }[آل عمران‪]75 :‬‬
‫لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ا ُ‬
‫أي أنهم أقروا القراض بالربا لمن هم على غير دينهم‪ ،‬ولكن ل ربا في تعاملهم مع أبناء دينهم‪.‬‬
‫وأراد رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يلم الشمل وأن يجمع أيديهم مع يده؛ لنه نبي انتظروه‬
‫ولهم في كتبهم البشارة به‪ .‬وأن يقف الجمع المؤمن أمام موجة اللحاد في الرض حتى يسيطر‬
‫نظام السماء على حركة الرض؛ لذلك قال الحق‪ { :‬قَدْ جَآ َء ُكمْ مّنَ اللّهِ نُورٌْ }‪ .‬ومعنى ذلك ان‬
‫كتمانهم لبعض منهج ال قد صنع ظلمة في الكون‪ .‬ومادامت قد حدثت ظلمانية في الكون‪ ،‬وخاصة‬
‫ظلمانية القيم‪ ،‬إذن فالكون صار في حاجة إلى من ينير له الطريق‪ .‬ونعرف أن النور هو ما نتبين‬
‫به الشياء‪.‬‬
‫وحين يعرض الحق لنا قضية النور الحسي يريد أن يأخذ بيدنا من النور الحسي إلى النور‬
‫المعنوي؛ فالنور الحسي يبدد ظلم الطريق حتى ل نصطدم بالشياء أو نقع في هوة أو نكسر‬
‫شيئا‪ ،‬لكن عندما يحمل النسان نورا فهو يمشي على بينة من أمره‪ .‬والنور الحسي يمنع من‬
‫تصادم الحركات في المخلوقات‪ ،‬حتى ل تبدد الطاقة‪ ،‬فتبديد الطاقة يرهق الكون ول يتم إنجاز ما‪.‬‬
‫إن الشمس في أثناء النهار تضيء الكون‪ ،‬ثم يأتي القمر من بعد الشمس ليلقي بعضا من الضوء‪،‬‬
‫وكذلك النجوم بمواقعها تهدي الناس في ظلمات البر والبحر‪ .‬وجعل ال هذه الكائنات من أجل أل‬
‫تتصادم الحركة المادية للموجودات‪ ،‬فإذا كان ال قد صنع نورا ماديا حتى ل يصطدم مخلوق‬
‫بمخلوق‪ ،‬فهو القادر على أل يترك القيم والمعاني والموازين بدون نور‪ ،‬لذلك خلق الحق نور القيم‬
‫ليهدي النسان سواء السبيل‪ ،‬فإذا كان الكافر أو الملحد يتساوى مع المؤمن في الستفادة بالنور‬
‫المادي لحماية الحركة المادية في الرض‪ ،‬ولم نجد أحدا يقول‪ :‬أنا في غير حاجة للنتفاع بالنور‬
‫المادي‪ ،‬ونقول للكافرين والملحدة‪ :‬مادمتم قد انتفعتم بهذا النور فكان يجب أن تقولوا‪ :‬إن ل نورا‬
‫في القيم يجب أن نتبعه‪ .‬ويلخص المنهج هذا النور بـ " افعل ول تفعل "‪.‬‬
‫ت وَالَرْضِ }[النور‪]35 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫فالمنهج ‪ -‬إذن ‪ -‬نور من ال‪ .‬ولنقرأ‪ {:‬اللّهُ نُورُ ال ّ‬
‫إنه يأخذ بيدنا في الطريق بالنور المادي الذي يستفيد منه الكل‪ ،‬سواء من كان مؤمنا أو غير ذلك‪،‬‬
‫ويضرب سبحانه لنا مثل النور‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ }[النور‪]35 :‬‬
‫{ مَ َثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْ‬
‫والمشكاة هي الطاقة التي توجد في الجدار وهي غير النافذة‪ ،‬إنّها كوة في الجدار يوضع فيها‬
‫المصباح الزيتي أو " الكيروسيني " وتوجد في المباني البدائية قبل أن يخترع النسان المصابيح‬
‫الكهربية والثريات‪ .‬ول تتجاوز مساحة الكوة ثلثين سنتيمترا‪ ،‬وطولها أربعون سنتيمترا ول يزيد‬
‫عمقها على خمسة عشر سنتيمترا؛ أما الحجرة فمساحتها تزيد أحيانا على ثلثة أمتار في الطول‬
‫والعرض والرتفاع‪.‬‬
‫ويتحدث الحق عن الكوة فقط ول يتحدث عن الحجرة‪ .‬وأي مصباح في الكوة قادر على إنارة‬
‫الحجرة‪ .‬ولننتبه إلى أن هذا المصباح غير عادي‪ ،‬فهو مصباح في زجاجة‪ .‬ونعرف أن المصباح‬
‫الذي في زجاجة هو من الرتقاءات الفكرية للبشر‪ .‬فالمصابيح قديما كانت بدون زجاجة وكان‬
‫يخرج منها ألسنة من السّناج " الهباب " الذي يُسوّد ما حولها‪ ،‬فالسّناج أثر دخان السراج في‬
‫الحائط وغيره‪ .‬وقد ينطفئ المصباح لن الهواء يهب من كل ناحية‪ ،‬ثم وضع النسان حول شعلة‬
‫المصباح زجاجة تحمي النار وتركز النور وتعكس الشعة ويأخذ المصباح من الهواء من خلل‬
‫شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ ا ْل ِمصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ }[النور‪]35 :‬‬
‫الزجاجة على قدر احتياج الشتعال‪َ {.‬كمِ ْ‬
‫أي أن النور من هذا المصباح أشد قوة؛ لن الزجاجة تعكس أشعة المصباح وتنشر الضوء في كل‬
‫المكان‪ .‬والزجاجة التي يوجد فيها هذا المصباح ليست عادية‪ {:‬الزّجَاجَةُ كَأَ ّنهَا َك ْو َكبٌ دُ ّريّ }‬
‫[النور‪]35 :‬‬
‫والكوكب نفسه مضيء‪ ،‬وتكون الزجاجة كأنها هذا الكوكب الدري في ضيائه ولمعانه‪ .‬والمصباح‬
‫شجَ َرةٍ مّبَا َركَةٍ زَيْتُونَةٍ }[النور‪]35 :‬‬
‫يوقد من ماذا؟‪ {.‬يُوقَدُ مِن َ‬
‫وهذا ارتقاء في إضاءة المصباح من زيت شجرة زيتون‪ ،‬والشجرة غير عادية‪ {:‬لّ شَ ْرقِيّ ٍة َولَ‬
‫غَرْبِيّةٍ }[النور‪]35 :‬‬
‫فهي شجرة يتوافر لها أدق أنواع العتدال‪ {:‬نّورٌ عَلَىا نُورٍ }[النور‪]35 :‬‬
‫ذلك هو من قدرة ال في نور الكونيات المادية‪ ،‬ولذلك فليس من المعقول أن يترك القيم‬
‫والمعنويات بدون نور‪ .‬فكما اهتدى النسان في الماديات فينبغي أن يفطن إلى قدرة الحق في‬
‫هداية المعنويات‪ ،‬بدليل أن ال قال‪َ {:‬يهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن يَشَآءُ }[النور‪]35 :‬‬
‫يهدي ال بنور القيم والمنهج والمعاني من يريد‪ .‬وقد يهتدي الملحد بنور الشمس المادي إلى‬
‫الماديات ولكن بصره أعمى عن رؤية نور المنهج والقيم؛ لذلك يوضح سبحانه أن هناك نورا إلهيا‬
‫هو المنهج‪ .‬وضرب هذا المثل ليوضح المعاني الغيبية المعنوية بالمعاني الحسية‪ .‬ونحن على‬
‫مقاديرنا نستضيء‪ ،‬فالفقير أو البدائي يستضيء بمصباح غازي صغير‪ ،‬والذي في سعة من العيش‬
‫قد يشتري مولدا كهربيا‪ .‬وكل إنسان يستضيء بحسب قدرته‪ .‬ولكن عندما تشرق الشمس في‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الصباح ما الذي يحدث؟‪.‬‬
‫يطفئ النسان تلك المصابيح‪ ،‬فالشمس هي نور أهداه ال لكل بني النسان‪ ،‬ولكل الكون‪ .‬كذلك إذا‬
‫فكرنا بعقولنا فيما ينير حياتنا فكل منا يفكر بقدرة عقله‪.‬‬

‫ولكن إذا ما نزل من عند ال نور فهو يغني عن كل نور أخر‪ .‬وكما نفعل في الماديات نفعل في‬
‫لمْثَالَ لِلنّاسِ }[النور‪]35 :‬‬
‫المعنويات‪ {:‬نّورٌ عَلَىا نُورٍ َيهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن يَشَآ ُء وَ َيضْرِبُ اللّ ُه ا َ‬
‫والذي يدلنا على أن النور الثاني هو نور القيم الذي يكشف لنا بضوء " افعل ول تفعل " أن ال‬
‫سمُهُ }[النور‪]36 :‬‬
‫قال بعد ذلك‪ {:‬فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫ولوبحثت عن متعلق الجار والمجرور لم تجده إل في قوله‪( :‬في بيوت أذن ال أن ترفع) كأن‬
‫النور على النور يأتي من مطالع الهدى في مساجده‪ .‬فهي بيوت ال نقبل عليها ليفيض منها نور‬
‫سمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِا ْلغُ ُد ّو وَالصَالِ *‬
‫الحق على الخلق‪ {.‬فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُ ْر َف َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫ل لّ تُ ْلهِيهِمْ ِتجَا َر ٌة وَلَ بَيْعٌ عَن ِذكْرِ اللّهِ }[النور‪]37-36 :‬‬
‫رِجَا ٌ‬
‫وكلمة } لّ تُ ْلهِيهِمْ ِتجَا َرةٌ { ل تعني تحريم التجارة‪ ،‬فالنسان الصادق ل تلهيه التجارة عن ذكر‬
‫ال‪ .‬وليكن ال على بال المؤمن دائما‪ ،‬فعندما يكون النسان على ذكر ل فال يعطيه من مدده‪.‬‬
‫إذن يا أهل الكتاب قد جاءكم النور‪ ،‬وبين لكم الرسول كثيرا مما تختلفون فيه‪ .‬وتسامح عن كثير‬
‫من خطاياكم‪ ،‬ويريد أن يجري معكم تصفية شاملة‪ .‬فعليكم أن تلتفتوا وتنتبهوا و ُتعَدّلوا من موقفكم‬
‫من هذا الدين الجديد‪ .‬ولتبحثوا ماذا يريد ال بهذا المنهج‪ .‬وال قد ضرب المثل بالنور‪ ،‬وهذا النور‬
‫يهدي إلى " افعل ول تفعل "‪ .‬ومن الذي يقول لنا إن هذا النور قادم من ال؟ إنه الرسول‪ ،‬ومن‬
‫الذي يدلنا على أن الرسول صادق في البلغ عن ال؟ الذي يدل على صدقه هو قول ال‪ {:‬يَا أَ ّيهَا‬
‫النّاسُ َقدْ جَآ َءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّ ّب ُك ْم وَأَنْزَلْنَآ إِلَ ْيكُمْ نُورا مّبِينا }[النساء‪]174 :‬‬
‫فالذي جاء أول من ربكم هو البرهان على أن رسول ال صادق في البلغ عن ال‪ ،‬وليبلغنا أن‬
‫الكتاب قد جاء بالمنهج‪ .‬والقرآن يتميز بأنه البرهان على صدق النبي وهو المنهج النوراني؛ لن‬
‫البرهان هو الحجة على صدق الرسول في البلغ عن ال‪.‬‬
‫ونعرف البرهان في حياتنا التعليمية أثناء دراسة مادة الهندسة عندما نقابل تمرينا هندسيا فنأخذ‬
‫المعطيات وبعد ذلك ننظر إلى المطلوب إثباته‪ .‬ونعيد النظر في المعطيات لنأخذ منها قوة للبرهنة‬
‫على إثبات المطلوب‪ .‬وإن كانت المعطيات ل تعطي ذلك فإننا نتجه إلى خطوة أخرى هي العمل‬
‫على إثبات المطلوب‪ .‬وهذا الكون فيه معطيات‪ ،‬وهو كون محكم‪ ،‬ونلمس إحكامه فيما ل دخل‬
‫ك ال َقمَرَ َولَ الْلّ ْيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَارِ }[يس‪]40 :‬‬
‫شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ‬
‫لحركتنا فيه‪ {:‬لَ ال ّ‬
‫كون موزون بالسماء والرض وحركة الرياح وغير ذلك‪ ،‬وتلك المور التي ل دخل للنسان فيها‬
‫نجد القوانين فيها مستقيمة تمام الستقامة وكمالها‪ .‬فإن أراد النسان أن يأخذ المعطيات من الكون‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فليأخذ في اعتباره النظر إلى المور التي للنسان دخل فيها ولسوف يجدها تتعرض للفساد؛ لن‬
‫الهوى في البشر له مدخل على هذه الشياء‪.‬‬

‫سمَآءَ َر َف َعهَا‬
‫لكن الخالق العلى ل تطوله ول تتناوله أمور الهوى‪ .‬ولذلك يقول سبحانه‪ {:‬وَال ّ‬
‫َووَضَعَ ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن‪]7 :‬‬
‫فل السماء تنطبق على الرض‪ ،‬ول كوكب يزاحم كوكبا آخر‪ .‬ويبين لنا الحق كيفية السير بنظام‬
‫ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ }[الرحمن‪]8 :‬‬
‫الكون‪َ {:‬ألّ تَ ْ‬
‫فإن أردتم أن تكون حركتكم منتظمة فانظروا إلى ما ليديكم دخل فيه واصنعوه كصنع ال فيما‬
‫ط َولَ ُتخْسِرُواْ ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن‪]9 :‬‬
‫سِ‬‫ليس ليديكم مدخل فيه‪ {.‬وََأقِيمُواْ ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِ ْ‬
‫فإن كنتم معجبين باتزان الكون العلى فذلك لنه مصنوع بنظام دقيق‪ .‬وإذا كان الحق قد وضع لنا‬
‫نظاما دقيقا هو المنهج بـ " افعل كذا ول تفعل كذا " فذلك حتى ل تفسد حركتك الختيارية إن‬
‫اتبعت المنهج‪ ،‬وتصرفت في حياتك بمنهج ال ويكون الميزان معتدلً‪ .‬إذن فقد أعطانا الحق‬
‫معطيات عندما ينظر النسان فيها نظرا فطريا بدون هوى فإنها تأخذ بيده إلى اليمان‪ .‬وهذه‬
‫الكائنات الموزونة ل بد لها من خالق؛ لن النسان طرأ عليها ولم تأت هي من بعد خلق النسان‪.‬‬
‫ول أحد من البشر يدعي أنه صنع هذا الكون‪.‬‬
‫إذن ل بد من البحث عمن صنع هذا الكون الدقيق‪ ،‬والدعوى حين تسلم من الضعف‪ ،‬أتكون‬
‫صادقة أم غير صادقة؟ تكون صادقة تماما‪ .‬وال هو الذي قال إنه خلق السماء والرض والكون‪.‬‬
‫ولم يأت مدعٍ آخر يقول لنا‪ :‬إنه الذي خلق‪ .‬إذن يثبت المر ل إلى أن يوجد مدعٍ‪ .‬ومع توالي‬
‫الزمنة وتطاولها لم يدع ذلك أحد‪.‬‬
‫وكان ل بد أن تكون مهمة العقل البشري أن يفكر ويقدح الذهن ليتعرف على صانع هذا الكون‪،‬‬
‫وكان ل بد أن يتوجه بالشكر لمن جاء ليحل له هذا اللغز‪.‬‬
‫وقد جاءت الرسل لتحل هذا اللغز ولتدلنا على مطلوب عقلي فطري‪ ،‬ولو أننا سلسلنا الوجود‬
‫لوجدنا أن النسان هو سيد هذا الوجود؛ لن كل الكائنات تعمل وتجهد في خدمته‪ .‬وأجناس‬
‫الوجود كما نعرفها التي تخدم النسان هي الحيوان ويتميز عنه النسان بالعقل‪ ،‬وهناك جنس تحت‬
‫الحيوان هو النبات فيه النمو‪ ،‬وهناك جنس أدنى وهو الجماد‪ .‬وكل هذه الجناس مهمتها خدمة‬
‫النسان‪ .‬والجماد ليس هو الشيء الجامد‪ ،‬بل الهواء جماد والشمس جماد والتربة جماد‪ ،‬وكل ذلك‬
‫يمارس مهمته في الوجود لخدمة الجناس العلى منها ويستفيد النسان منها جميعا والحيوان‬
‫يستفيد من الجماد وكذلك النبات يستفيد من الجماد‪ ،‬والحيوان يستفيد من النبات والجماد‪،‬‬
‫والمحصلة النهائية لخدمة النسان‪.‬‬
‫أليس من اللئق والواجب ‪ -‬إذن ‪ -‬أن يسأل النسان نفسه من الذي وهبه هذه المكانة؟ فإذا جاء‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرسول ليحل هذا اللغز ويبلغنا أن الذي خلق الكون هو ال وهذه صفاته‪ ،‬ويبلغنا أن هذا المنهج‬
‫جاء من ال ويحمل معه معجزةً هي دليل صدقِ البلغِ عن ال‪ ،‬وهي معجزة ل يقدر عليها‬
‫البشر‪ ،‬ويتحدى الرسول البشر أن يأتوا بمثل معجزته‪.‬‬

‫إذن فل بد أن يؤمن كل البشر لو صَ َدقُوا الفهم وأخلصوا النية‪.‬‬


‫ما هو البرهان إذن؟ البرهان هو المعجزة الدالة على صدق الرسول في البلغ عن ال‪ .‬هذا البلغ‬
‫عن ال الذي بحث عنه العقل الفطري وآمن أنه ل بد أن يكون موجودا‪ ،‬لكنه لم يتعرف على أنه "‬
‫ال "‪ .‬إن الرسول هو الذي يبلغنا عن اسم الخالق‪ ،‬وهو الذي يقدم لنا المنهج‪.‬‬
‫إذن فمجيء الرسل أمر منطقي تحتمه الفطرة ويحتمه العقل‪ .‬ولذلك أنزل الحق النور العقدي‪،‬‬
‫أنزل ‪ -‬سبحانه ‪ -‬المنهج ليحمي المجتمع من الضطراب‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪ {:‬وََلوِ اتّبَعَ ا ْلحَقّ‬
‫سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ }[المؤمنون‪]71 :‬‬
‫س َدتِ ال ّ‬
‫أَ ْهوَآ َءهُمْ َلفَ َ‬
‫إذن فالدين جاء من ال ليتدخل في المور التي تختلف فيها الهواء‪ ،‬فحسم ال النزاع بين الهواء‬
‫بأن انفرد سبحانه أن يشرع لنا تشريعا تلتقي فيه أهواؤنا‪ ،‬ولذلك يقول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل‬
‫يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "‪.‬‬
‫أي أن تتحد الهواء تحت مظلة تشريع واحد؛ لن كل إنسان إن انفرد بهواه‪ ،‬ل بد أن نصطدم‪،‬‬
‫ول نزال نكرر ونقول‪ :‬إن خلفات البشر سواء أكانت على مستوى السرة أم الجماعة أم المة أم‬
‫العالم‪ ،‬جاءت من اختلف الهواء‪ ،‬ولكن الشياء التي ل دخل للهواء فيها فالعالم متفق فيها‬
‫تماما‪ ،‬بدليل أننا قلنا‪ :‬إن المعسكر الشرقي السابق والمعسكر الغربي الحالي اختلفا بسياستين‬
‫نظريتين‪ ،‬هذا يقول‪ " :‬شيوعية "؛ وهذا يقول‪ " :‬رأس مالية "‪.‬‬
‫إنه ل يوجد معمل مادي كي ندخل فيه الشيوعية أو الرأسمالية ونرى ما ينفعنا‪ .‬أنّها أهواء‪ ،‬لذلك‬
‫تصادما في أكثر من موقع‪ ،‬وانهزمت الشيوعية وبقيت آثارها تدل عليها‪ .‬لكن المور المادية‬
‫المعملية‪ .‬لم يختلفوا فيها‪ .‬ونقول الكلمة المشهورة‪ " :‬ل توجد كهرباء روسي ول كهرباء أمريكاني‬
‫"‪ " .‬ول توجد كيمياء روسي ول كيمياء أمريكاني "؛ فكل المور الخاضعة للتجربة والمعمل فيها‬
‫اتفاق‪ ،‬والخلف فقط فيما تختلف وتصطدم فيه الهواء‪.‬‬
‫فكأن ال ترك لنا ما في الرض لنتفاعل معه بعقولنا المخلوقة له‪ ،‬وطاقاتنا وجوارحنا المخلوقة‬
‫له‪ ،‬ويوضح‪ :‬إن التجرية المعملية المادية لن تفرقكم بل ستجتمعون عليها‪ .‬وسيحاول كل فريق‬
‫منكم أن يأخذ ما انتهى إليه الفريق الخر من التجارب المادية ولو تلصصها‪ ،‬ولو سرقها‪ ،‬أما‬
‫الذي يضركم ويضر مجتمعكم فهو الختلف في الهواء‪ .‬وليت المر اقتصر على التفاق في‬
‫الماديات والختلف في الهواء‪ ،‬ل‪ ،‬بل جعلوا مما اتفقوا عليه من التجارب المادية والختراعات‬
‫والبتكارات وسيلة قهرية لفرض النظرية التي خضعت لهوائهم‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فكأننا أفسدنا المسألة‪ ..‬أخذنا ما اتفقنا فيه لنفرض ما اختلفنا عليه‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى أعطانا كل هذه المسائل كي تستقيم الحياة‪ ،‬ول تستقيم الحياة إل إن كان‬
‫الحق سبحانه وتعالى هو الذي يحسم في مسائل الهوى‪ ،‬ولذلك حتى في الريف يقولون‪ " :‬من‬
‫يقطع إصبعه الشرع لن يسيل منه دم "؛ لن الذي يقول ذلك مؤمن‪ ،‬أي أن الحكم حين يأتي من‬
‫أعلى فل غضاضة في أن نكون محكومين بمن خلقنا وخلق لنا الكون‪ ،‬وتدخلت السماء في مسألة‬
‫الهواء بالمنهج‪ :‬افعل هذا ول تفعل هذا‪ ،‬لكن ما ليس فيه أهواء أوضح سبحانه‪ :‬أنتم ستتفقون فيها‬
‫غصبا عنكم‪ ،‬بل ستسرقونها من بعضكم‪ ،‬إذن فل خطر منها‪.‬‬
‫إن الخطر في أهوائكم‪ .‬ولذلك اذكروا‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم في أمهات المسائل التي‬
‫يترتب عليها حسن نظام المجتمع كما يريده ال كان ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬يتحمل هو التجربة‬
‫في نفسه‪ ،‬ول يجعل واحدا من المؤمنين به يتحمل التجربة‪ ،‬فمسألة التبني حين أراد ربنا أن ينهيها‬
‫حتى ل يدعي واحد آخر أنه ابنه وهو ليس أباه‪ ،‬أنهاها ال في رسوله صلى ال عليه وسلم‪ِ {:‬ل َكيْ‬
‫لَ َيكُونَ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَ ْزوَاجِ أَدْعِيَآ ِئ ِهمْ }[الحزاب‪]37 :‬‬
‫وفي مسألة الماديات والهواء يقول أنس بن مالك رضي ال عنه‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫مر بقوم يلقحون فقال‪ " :‬لو لم تفعلوا لصلح " قال‪ :‬فخرج شيصا‪ ،‬فمر عليهم فقال‪ " :‬ما لنخلكم "‬
‫قالوا‪ :‬قلت كذا وكذا قال‪ " :‬أنتم أعلم بأمر دنياكم " إنه ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬تركهم لتجربتهم‪.‬‬
‫السماء ‪ -‬إذن ‪ -‬ل تتدخل في المسائل التجريبية؛ لنه سبحانه وهب العقل ووهب المادة ووهب‬
‫التجربة‪ ،‬ورأينا رسول ال يتراجع عما اجتهد فيه بعد أن رأى غيره خيرا منه كي يثبت قضية‬
‫هامة هي أن المسائل المادية المعملية الخاضعة للتجربة ليس للدين شأن بها فل ندخلها في شئوننا‪،‬‬
‫فل نقول مثلً‪ :‬الرض ليست كروية‪ ،‬أو أن الرض ل تدور‪ .‬فما لهذا بهذا؛ لن الدين ليس له‬
‫شأن بها أبدا‪ ،‬وهذه مسائل خاضعة للتجربة وللمعمل وللبرهان وللنظرية‪ ،‬بل دخل الدين ليحمينا‬
‫من اختلف أهوائنا؛ فالمر الذي نختلف فيه يقول فيه‪ :‬افعل كذا ول تفعل كذا بحسم‪ ،‬والمر الذي‬
‫لم يتدخل فيه بـ " افعل ول تفعل " أوضح لك‪ :‬سواء فعلته أم لم تفعله ل يترتب عليه فساد في‬
‫الكون‪ ،‬وخذوا راحتكم فيما لم يرد فيه " افعل ول تفعل " ‪ ،‬وأريحوا أنفسكم واختلفوا فيه؛ لن‬
‫الخلف البشري مسألة في الفطرة والجبلّة والخلقة‪.‬‬
‫وهنا يقول‪ " :‬قد جاءكم من ال نور وكتاب مبين " و " النور " أهو الكتاب أم غيره؟‪.‬‬

‫وفي آية أخرى يقول‪ {:‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآ َءكُمْ بُ ْرهَانٌ مّن رّ ّبكُ ْم وَأَنْزَلْنَآ إِلَ ْي ُكمْ نُورا مّبِينا }[النساء‪:‬‬
‫‪]174‬‬
‫وهذا القول يدل على أن النور هنا هو " القرآن " وجمع بين أمرين؛ برهان‪ ..‬أي معجزة‪ ،‬ونور‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ينير لنا سبيلنا‪.‬‬
‫} فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِ ِه وَالنّورِ الّذِي أَنزَلْنَا { واليمان بال مسألة تطبيقية مرحلية‪ " .‬ال " هو قمة‬
‫اليمان و " رسوله " هو المبلغ عن ال؛ لنه جاء لنا بالنور‪ .‬إل أن أهل الشطح يقولون‪ :‬النور‬
‫مقصود به النبيّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونقول‪ :‬نحن ل نمانع أنه نور‪ ،‬وإن كان النص يحتمل أن‬
‫يكون عطف تفسير‪ ،‬وحتى ل ندخل في متاهة مع بعض من يقولون‪ :‬ل ليس الرسول نورا؛ لنه‬
‫مأخوذ من المادة وسنجد من يرد عليهم بحديث جابر‪ :‬ما أول ما خلق ال يا رسول ال؟ قال له‪:‬‬
‫نور نبيك يا جابر‪.‬‬
‫فعن جابر بن عبدال قال‪ :‬قلت يا رسول ال بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه ال‬
‫تعالى قبل الشياء‪ .‬قال‪ " :‬يا جابر إن ال خلق قبل الشياء نور نبيّك من نوره فجعل ذلك النور‬
‫يدور بالقدرة حيث شاء ال ولم يكن في ذلك الوقت لوح ول قلم ول جنّة ول نار ول مَلَك ول‬
‫سماء ول أرض ول شمس ول قمر ول جني ول إنسي "‪.‬‬
‫وحتى ل ندخل في مسألة غيبية ل تستوي الذهان في استقبالها ونفتن بعضنا‪ .‬ويقول فلن كذا‬
‫ويقول علن كذا‪ .‬هنا نقول‪ :‬من تجلى له أن يقنع بها أحدا كي ل ندخل في متاهة‪ ،‬وعندما‬
‫يتعرض أحد لحديث جابر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬نسأل‪ :‬أهو قال‪ :‬أول خلق ال نبيك يا جابر أم نور‬
‫نبيك يا جابر؟‪ .‬قال الحديث‪ :‬نور نبيك ولم يقل النبي نفسه الذي هو من لحم ودم‪ ،‬فمحمد صلى ال‬
‫عليه وسلم من آدم وآدم من تراب؛ لذلك ليس علينا أن نتناول المسائل التي ل يصل إليها إل أهل‬
‫الرياضيات المتفوقة‪ ،‬حتى ل تكون فتنة؛ لن من يقول لك‪ :‬أنت تقول‪ :‬النور هو رسول ال‪،‬‬
‫ونقول‪ :‬على العين والرأس‪،‬فرسول ال نور ولشك؛ لن النور يعني أل نصطدم‪ ،‬وجاء محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم بالمنهج كي ينير لنا الطريق‪ ،‬والقرآن منهج نظامي‪ ،‬والرسول منهج تطبيقي‪،‬‬
‫حسَنَةٌ }‬
‫س َوةٌ َ‬
‫فإن أخذت النور كي ل نصطدم‪ ،‬فالحق يقول‪ّ {:‬لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُ ْ‬
‫[الحزاب‪]21 :‬‬
‫إذن فسنأخذ بالمنهج النظري الذي هو القرآن‪ ،‬ونأخذ بالمنهج التطبيقي‪َ } .‬قدْ جَآ َءكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ‬
‫َوكِتَابٌ مّبِينٌ { و " مبين " أي محيط بكل أمر وكل شيء مصداقا لقوله الحق‪ {:‬مّا فَرّطْنَا فِي‬
‫شيْءٍ }‬
‫الكِتَابِ مِن َ‬

‫[النعام‪]38 :‬‬
‫أي مما تختلف فيه أهواؤكم‪ .‬وسُئل المام محمد عبده‪ ،‬وهو في باريس‪ :‬أنتم تقولون } مّا فَرّطْنَا‬
‫شيْءٍ { فكم رغيفا في أردب الدقيق؟‪ .‬فقال‪ :‬انتظروا‪ :‬واستدعى خبازا وسأله‪ :‬كم‬
‫فِي الكِتَابِ مِن َ‬
‫رغيفا في أردب القمح؟‪ .‬فقال له‪ :‬كذا رغيف‪ .‬فقالوا له‪ :‬أنت تقول إنه في الكتاب‪ .‬فقال لهم‪:‬‬
‫الكتاب هو الذي قال لي‪ {:‬فَاسْأَلُواْ َأ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ }[النحل‪]43 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيْءٍ { أي مما تختلف فيه الهواء أو تفسد فيه حركة الحياة‬
‫إن قوله‪ } :‬مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ‬
‫في الرض‪ .‬فربنا هو ‪ -‬سبحانه ‪ -‬جعل أناسا تتخصص في الموضوعات المختلفة‪.‬‬
‫} َقدْ جَآ َءكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ َوكِتَابٌ مّبِينٌ { يعني‪ :‬يا أهل الكتاب انتبهوا إلى أن هذه فرصتكم لنصفي‬
‫مسألة العقيدة في الرض وننهي الخلف الذي بين الدينين السابقين ونرجع إلى دين عام للناس‬
‫جميعا‪ ،‬ول تبقى في الرض هذه العصبية حتى تتساند الحركات النسانية ول تتعاند‪ ،‬ولذلك يقول‬
‫حمَآءُ بَيْ َنهُمْ }[الفتح‪]29 :‬‬
‫شدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ ُر َ‬
‫حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَ ِ‬
‫الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬مّ َ‬
‫انظر كيف يجمع السلم بين أمرين متناقضين‪ :‬فلم يجيء السلم كي يطبع النسان ليكون‬
‫شديدا؛ لن هناك مواقف شتى تتطلب الرحمة‪ ،‬ولم يطبعه على الرحمة المطلقة لن هناك مواقف‬
‫تتطلب الشدة‪ ،‬فلم يطبع النسان في قالب‪ ،‬ولكنه جعل المؤمن ينفعل للحدث‪.‬‬
‫ويقول الحق‪َ {:‬أذِلّةٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[المائدة‪]54 :‬‬
‫أي ل تقل إنّه طبع المؤمن على أن يكون ذليلً ول طبعه ليكون عزيزا‪ ،‬بل طبعه ليكيّف نفسه‬
‫التكييف الذي يتطلبه المقام‪ ،‬فيكون مرة ذليلً للمؤمن وعزيزا على الكافر‪ .‬وقال السلم لنا‪{:‬‬
‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّ ًة وَسَطا }[البقرة‪]143 :‬‬
‫َوكَذَِلكَ َ‬
‫أي ل بد أن تعرف الطرفين أولً‪ ،‬ثم تحدد‪ ،‬لن الوسط ل يعرف إل بتحديد الطرفين؛ فاليهودية‬
‫بالغت في المادية‪ ،‬والنصرانية بالغت في الروحانية والبرهانية‪ {:‬وَرَهْبَانِيّةً ابتَدَعُوهَا }[الحديد‪]27 :‬‬
‫وعندما سئل سيدنا عيسى عن مسألة ميراث قال‪ " :‬أنا لم أبعث مورثا "؛ لنه جاء ليجدد الشحنة‬
‫للطاقة الدينية‪ ،‬وبرغم الخلف العميق بين اليهودية والنصرانية جاء أهل الفكر عندهم ليضعوا‬
‫العهد القديم والعهد الجديد في كتاب واحد‪ ،‬ومع ذلك فقد جاء من اعتبر السلم خصما عنيفا‬
‫عليهم على رغم أن السلم ليس خصما إنما جاء ليمنح الناس حرية الختيار‪ ،‬وعندما ننظر إلى‬
‫المنهج المادي والمنهج الروحاني تجد أن اليهود أسرفوا في المادية وقالوا‪ {:‬لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا‬
‫جهْ َرةً }[البقرة‪]55 :‬‬
‫نَرَى اللّهَ َ‬
‫لقد أسرفوا في المادية لدرجة أن المسألة المتعلقة بقُوتِهم حينما كانوا في التيه وأنزل ربنا عليهم‬
‫المن والسلوى‪ ،‬و " المن " كما نعرف طعام مثل كرات بيضاء ينزل من السماء على شجر أو‬
‫حجر ينعقد ويجف جفاف الصمغ وهو حلو يؤكل وطعمه يقرب من عسل النحل‪ ،‬وجاء لهم‬
‫بالسلوى وهو طائر يشبه الدجاج وهو السّماني فقالوا‪:‬‬

‫طعَا ٍم وَاحِدٍ }[البقرة‪]61 :‬‬


‫علَىا َ‬
‫{ لَن ّنصْبِرَ َ‬
‫إننا نريد مما تخرجه الرض من بقلها‪ ،‬والذي دعاهم إلى غلوهم في المر المادي أنهم قالوا‪ :‬قد‬
‫ل يأتي المن‪ ،‬وقد لنستطيع صيد الطير‪ ،‬نحن نريد أن نضمن الطعام‪ .‬إذن فالغيبيات بعيدة عنهم‬
‫فهم قد أسرفوا في هذه المادية وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعدل هذا النظام المادي المتطرف‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فأنزل منهجية روحانية متمثلة في منهج عيسى عليه السلم‪ ،‬وشحنهم بمواجيد دينية ليس فيها حكم‬
‫مادي‪ ،‬كي تلتحم هذه بتلك ويصير المنهج مستقيما‪ ،‬لكن الخلف دب بينهم‪ ،‬فكان ول بد أن يأتي‬
‫دين جديد يجمع المادية المتعلقة الرزينة المتأنية‪ ،‬والروحانية المقسطة التي ل تفريط فيها ول‬
‫إفراط‪ ،‬إنها الروحانية المتلقاة من السماء دون ابتداع دين يأتي بالثنتين في صلب دين واحد‪ .‬فقال‬
‫حمَآءُ بَيْ َن ُهمْ تَرَاهُمْ ُركّعا سُجّدا يَبْ َتغُونَ‬
‫حمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ َمعَهُ َأشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ ُر َ‬
‫لنا‪ {:‬مّ َ‬
‫ضوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِه ِهمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ }[الفتح‪]29 :‬‬
‫َفضْلً مّنَ اللّ ِه وَ ِر ْ‬
‫وهذه كلها قيم تعبدية‪ .‬فيكون هؤلء ماديين وروحانيين في آن واحد‪ .‬ويتابع الحق‪ {:‬ذَِلكَ مَثَُل ُهمْ فِي‬
‫ال ّتوْرَاةِ }[الفتح‪]29 :‬‬
‫كأن ال ضرب في التوراة مثلً لمة محمد صلى ال عليه وسلم‪ :‬يا من أسرفتم في المادية سيأتي‬
‫رسول ليعدل ميزان العقائد والتشريع‪ ،‬فتكون أمته مخالفة لكم تماما‪ .‬فأنتم ماديون وقوم محمد ركع‬
‫سجد‪ ،‬يبتغون فضلً من ال ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود‪ .‬أي‪ :‬ما فقدتموه أنتم‬
‫شطَْأهُ فَآزَ َرهُ‬
‫في منهجكم سيوجد في أمة محمد‪ .‬ويقول الحق‪َ {:‬ومَثَُلهُمْ فِي الِنجِيلِ كَزَ ْرعٍ َأخْرَجَ َ‬
‫جبُ الزّرّاعَ لِ َيغِيظَ ِبهِمُ ا ْل ُكفّارَ }[الفتح‪]29 :‬‬
‫علَىا سُوقِهِ ُيعْ ِ‬
‫فَاسْ َتغْلَظَ فَاسْ َتوَىا َ‬
‫فمثلهم في التوراة ما فُقد عند اليهود؛ ومثلهم في النجيل ما فُقد عند النصارى‪ .‬إذن فدين محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم جمع بين القيم المادية والقيم الروحية فكان دينا وسطا بين الثنين‪ .‬فقال‪َ } :‬قدْ‬
‫جَآ َءكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ َوكِتَابٌ مّبِينٌ { أي انتهزوا الفرصة لتصححوا أخطاءكم ولتستأنفوا حياة صافية‬
‫تربطكم بالسماء رباطا يجمع بين دين قيمي يتطلب حركة الدنيا ويتطلب حركة الخرة‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬يهْدِي ِبهِ اللّهُ‪{ ...‬‬

‫(‪)677 /‬‬

‫جهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ بِِإذْنِ ِه وَ َيهْدِي ِهمْ إِلَى‬


‫ضوَانَهُ سُ ُبلَ السّلَا ِم وَيُخْ ِر ُ‬
‫َيهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّ َبعَ ِر ْ‬
‫صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (‪)16‬‬

‫ومادام ال هو الذي يهدي فسبحانه منزه عن الهواء المتعلقة بهم‪ ،‬وهكذا نضمن أن السلم ليس‬
‫له هوى‪ .‬لن آفة من يشرع أن يذكر نفسه أو ما يحب في ما يشرع‪ ،‬فالمشرع يُشترط فيه أل‬
‫ينتفع بما يشرع‪ ،‬ول يوجد هذا الوصف إل في ال لنه يشرع للجميع وهو فوق الجميع‪.‬‬
‫ضوَانَهُ } إنّ من اتبع رضوانه‬
‫{ َقدْ جَآ َءكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ َوكِتَابٌ مّبِينٌ‪َ ،‬يهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّ َبعَ ِر ْ‬
‫يهديه ال لسبل السلم‪ ،‬إذن ففيه رضوان متبع‪ ،‬وفيه سبل سلم كمكافأة‪ .‬وهل السلم طرق‬
‫وسبل؟‪ .‬نعم؛ لن هناك سلم نفس مع نفسها‪ ،‬وهناك سلم نفس مع أسرتها‪ ،‬هناك سلم نفس مع‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جماعتها‪ ،‬هناك سل نفس مع أمتها وهناك سلم نفس مع العالم‪ ،‬وسلم نفس مع الكون كله‪،‬‬
‫وهناك سلم نفس مع ال‪ ،‬كل هذا يجمع السلم‪ .‬إذن فسُبل السلم متعددة‪ ،‬والسلم مع ال بأن‬
‫تنزه ربك أيها العبد فل تعبد معه إلها آخر‪ ،‬ول تلصق به أحدا آخر‪ ..‬أي ل تشرك به شيئا‪ ،‬أو ل‬
‫تقل‪ :‬ليوجد إله‪.‬‬
‫ولذلك نجد السلم جاء بالوسط حتى في العقيدة؛ جاء بين ناس تقول‪ :‬ل يوجد إله‪ ،‬وهذا نفي؛‬
‫وناس تقول‪ :‬آلهة متعدة؛ الشّر له إله‪ ،‬والخير له إله‪ ،‬والظلمة لها إله‪ ،‬والنور له إله‪ ،‬والهواء له‬
‫إله‪ ،‬والرض لها إله!!‬
‫إن الذين قالوا باللهة المتعددة‪ :‬استندوا على الحس المادي ونسي كل منهم أن النسان مكون من‬
‫مادة وروح‪ ،‬وحين تخرج الروح يصبح الجثمان رمّة؛ ولم يسأل أحدهم‪ :‬نفسه ويقول‪ :‬أين روحك‬
‫التي تدير نفسك وجسمك كله هل تراها؟‪ ،‬وأين هي؟‪ .‬أهي في أنفك أم في أذنك أو في بطنك أين‬
‫هي؟‪ ،‬وما شكلها؟‪ .‬وما لونها؟‪ .‬وما طعمها؟‪ .‬أنت لم تدركها وهي موجودة‪ .‬إذن فمخلوق ل فيك‬
‫ل تدركه فهل في إمكانك أن تدرك خالقه؟‪ .‬إن هذا هو الضلل‪ .‬فلو أُدْرِك إِلهٌ لما صار إلها؛ لنك‬
‫إن أدركت شيئا قدرت على تحديده ببصرك‪ ،‬ومادام قد قدرت على تحديده يكون بصرك قد قدر‬
‫عليه‪ ،‬ول ينقلب القادر العلى مقدورا للدنى أبدا‪.‬‬
‫سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات‪]21 :‬‬
‫وحينما أراد ال أن يذلل على هذه الحكاية قال‪َ {:‬وفِي أَنفُ ِ‬
‫انظر في نفسك تجد روحك التي تدير جسدك ل تراها ول تسمعها ومع ذلك فهي موجودة فيك‪،‬‬
‫فإن تخلت عنك صرت رمة وجيفة‪ ،‬فمخلوق ل فيك ل تقدر أن تدركه‪ ،‬أبعد ذلك تريد أن تدرك‬
‫مَنْ خََلقَ؟ إن هذا كلم ليس له طعم! والتجاه الخر يقول بآلهة متعددة؛ لن هذاالكون واسع‪ ،‬وكل‬
‫شيء فيه يحتاج إلى إله بمفرده‪ ،‬فيأتي السلم بالمر الحق ويقول‪ :‬هناك إله واحد؛ لنه إن كان‬
‫هناك آلهة متعددة كما تقولون‪ ،‬فيكون هناك مثل‪.‬‬

‫إله للشمس وإله للسماء وإله للرض وإله للماء وإله للهواء‪ ،‬حينئذ يكون كل إله من هذه اللهة‬
‫عاجزا عن أن يدير ويقوم على أمر آخر غير ما هو إله وقائم عليه ولنشأ بينهم خلف وشقاق‬
‫ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ }[المؤمنون‪]91 :‬‬
‫يوضح ذلك قوله تعالى‪ {:‬لّ َذ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَقَ وََلعَلَ َب ْع ُ‬
‫فإله الشمس قد يفصلها عن الكون‪ ،‬وإله الماء قد يمنعه عن بقية الكائنات‪ ،‬ويحسم الحق المر‬
‫فيقول‪ُ {:‬قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء‪]42 :‬‬
‫ويقول سبحانه‪( :‬لو كان فيهما آلهة إل ال لفسدتا)‪.‬‬
‫إذن فالنواميس التي تراها أيضا محكومة بالله الواحد‪ ،‬ويأتي الرسول ليقول لك‪ :‬هناك إله واحد‪،‬‬
‫ويبلغنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬و " ل إله " نفت أنه ل آلهة أبدا‪ .‬وبعدها‬
‫قال‪ :‬إل ال‪ ،‬وهذه من مصلحة النسان حتى ل يكون ذليلً وخاضعا وعبدا لله الشمس أو لله‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الهواء أو لله الماء‪ .‬وقال الحق‪ {:‬ضَرَبَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُ َتشَاكِسُونَ وَرَجُلً سَلَما‬
‫جلٍ َهلْ َيسْ َتوِيَانِ مَثَلً }[الزمر‪]29 :‬‬
‫لّرَ ُ‬
‫فربنا يريد أن يريحنا من " الخيْلة " ‪ ،‬والوهم والضطراب والتردد‪ ..‬إنه إله واحد‪ ،‬وعندما يحكم‬
‫ال حكما فل أحد يناقضه‪ ،‬وسبحانه يهدينا بما يشرعه لنا؛ لنه سبحانه ليس له هوى فيما يشرع؛‬
‫لن معنى الهوى أن تجعل الحركة التي تريدها خادمة لك في شيء‪ ،‬وال ل يحتاج إلى أحد لنه‬
‫خلق الوجود مله قبل أن يخلق الخلق‪ ،‬وليس لحد ممن خلق ‪ -‬مهما أوتي من العلم ورجاجة‬
‫العقل أن تكون له قدرة أو أي دخل في عملية الخلق أو تنظيمه‪.‬‬
‫ضوَانَهُ { ‪ ،‬مادام قد اتبع رضوانه فيهديه إلى سبل السلم‪ ،‬إذن فإن هناك‬
‫} َي ْهدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ ِر ْ‬
‫هدايتين اثنتين‪ :‬يهدي به ال من اتبع رضوانه سبل السلم‪ ،‬وقال في آية أخرى‪ {:‬وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ‬
‫زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد‪]17 :‬‬
‫فإياك أن تظن أن التقوى لن تنال ثوابها وجزاءها إل في الخرة؛ لنه كلما فعلت أمرا وتلتفت‬
‫خفّت عن نفسك‪ ،‬فل ترتكب السيئة في غفلة من‬
‫وجدت آثاره في نفسك‪ ،‬تصلي تجد أمورك َ‬
‫الناس‪ ،‬قلبك ل يكون مشغولً بأي شيء‪ ،‬ويحيا المؤمن في سلم مع نفسه أبدا‪ .‬إذن فسبل السلم‬
‫متعددة‪ :‬سبل السلم مع ال‪ ،‬سبل السلم مع الكون كله‪ ،‬سبل السلم مع مجتمعه‪ ،‬سبل السلم مع‬
‫أسرته‪ ،‬سبل السلم مع نفسه‪.‬‬
‫ويقول الحق‪ {:‬وَأَنّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيما فَاتّ ِبعُو ُه َولَ تَتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِبكُمْ عَن سَبِيلِهِ }‬
‫[النعام‪]153 :‬‬
‫إذن فهناك سبل سلم وسبل ضلل‪.‬‬
‫ج ُهمْ مّنِ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ بِِإذْنِ ِه وَ َيهْدِيهِمْ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ‬
‫وفي هذه الية يقول الحق‪ } :‬وَيُخْرِ ُ‬
‫{ ‪ ،‬والظلمات هي محل الصطدام‪ ،‬وعندما يخرجهم من الظلمات إلى النور يرون الطريق‬
‫الصحيح الموصل إلى الخير‪ ،‬والطريق الموصل إلى غير الخير‪ .‬وبعدما يخرجون من الظلمات‬
‫إلى النور تكون حركاتهم متساندة وليست متعاندة‪ ،‬ول يوجد صدام ول شيء يورثهم بغضاء‬
‫وشحناء‪ ،‬أو المراد أنّه يهديهم إلى الصراط المستقيم وهو الجنة‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ّ } :‬لقَدْ َكفَرَ الّذِينَ‪{ ...‬‬

‫(‪)678 /‬‬

‫َلقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ُقلْ َفمَنْ َيمِْلكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ ُيهِْلكَ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا َيخْلُقُ مَا‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫جمِيعًا وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫ا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْ َي َم وَُأمّ ُه َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ (‪)17‬‬
‫يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقال سبحانه من قبل‪ {:‬فَأَغْرَيْنَا بَيْ َنهُمُ ا ْلعَدَا َوةَ }[المائدة‪]14 :‬‬
‫فمن اتبعوا اليعقوبية قالوا شيئا‪ ،‬والنصرانية قالت شيئا‪ ،‬والملكانية قالت شيئا ثالثا؛ فجاء بالقمة‪:‬‬
‫{ ّلقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَآلُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْ َيمَ }‪.‬‬
‫ويأتي قوله سبحانه‪ " :‬قل " ‪ ،‬ردا عليهم‪َ { :‬فمَن َيمِْلكُ مِنَ اللّهِ شَيْئا } أي من يمنع قدر ال أن ينزل‬
‫جمِيعا }‪.‬‬
‫بمن جعلتموه إلها { إِنْ أَرَادَ أَن ُيهِْلكَ ا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْ َي َم وَُأمّ ُه َومَن فِي الَ ْرضِ َ‬
‫لقد زعموا أن ال هو المسيح عيسى ابن مريم وفي هذا اجتراء على مقام اللوهية المنزهة عن‬
‫التشبيه وعن الحلول في أي شيء‪ .‬وفي هذا القول الكريم بلغ لهؤلء أن أحدا ل يستطيع أن يمنع‬
‫إهلك ال لعيسى وأمه وجميع من في الرض‪ .‬فهو الحق الملك الخالق للسموات والرض‪ .‬وما‬
‫بينهما يخلق ما يشاء كما يريد‪ .‬فإن كان قد خلق المسيح دون أب؛ فقد جاءنا البلغ من قبل بأنه‬
‫سبحانه خلق آدم بدون أب ول أم‪ ،‬وخلق حواء دون أم‪ ،‬جلت عظمته وقدرته ل يعجزه شيء‪ .‬إن‬
‫عيسى عليه السلم من البشر قابل للفناء ككل البشر‪.‬‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا َيخْلُقُ مَا َيشَآءُ } جاء الحق هنا بالسماء كنوع علوي‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫{ وَللّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫والرض كنوع سفلي‪ ،‬وقوله‪َ { :‬يخْلُقُ مَا َيشَآءُ } يرد على الشبهة بإيجاز دقيق‪َ { :‬يخْلُقُ مَا‬
‫يَشَآءُ }؛ لن الفتنة جاءت من ناحية أن عيسى عليه السلم مُيّز في طريقة خلقه بشيء لم يكن في‬
‫عامة الناس؛ فأوضح الحق‪ :‬ل تظنوا أن الخلق الذي أخلقه يشترط عليّ أن تكون هناك ذكورة‬
‫وأنوثة ولقاح‪ ،‬هذا في العرف العام الذي يفترض وجود ذكورة وأنوثة‪ ،‬وإل لكان يجب أن تكون‬
‫الفتنة قبل عيسى في آدم؛ لنه خلق من غير أب ول أم‪ .‬إذن فالذي يريد أن يفتتن بأنه من أم دون‬
‫أب‪ ،‬كان يجب أن يفتتن في آدم لنه ل أب ول أم‪ .‬ويوضح لهم‪ :‬ال يخلق ما يشاء فل يتحتم أو‬
‫يلزم أن يكون من زوجين أو من ذكر فقط أو من أنثى فقط‪.‬‬
‫إن ربنا سبحانه وتعالى له طلقة القدرة في أن يخلق ما يشاء‪ ،‬وقد أراد خلقه على القسمة العقلية‬
‫المنطقية الربعة‪ :‬إما أن يكون من أب وأم مثلنا جميعا‪ ،‬وإما أن يكون بعدمهما مثل آدم‪ ،‬وإما أن‬
‫يكون بالذكر دون النثى كحواء‪ ،‬وإما أن يكون بالنثى دون الذكر كعيسى عليه السلم‪ ،‬فأدار ال‬
‫الخلق على القواعد المنطقية الربعة كي ل تفهم أن ربنا يريد مواصفات خاصة كي يخلق بل هو‬
‫جبُ‬
‫يخلق ما يشاء‪ .‬والدليل على ذلك أن الزوجين يكونان موجودين مع بعضهما ومع ذلك ل يُنْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ يَخُْلقُ مَا يَشَآءُ َي َهبُ ِلمَن‬
‫منهما‪ ،‬فهل هناك اكتمال أكثر من هذا؟!{ لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫عقِيما }[الشورى‪:‬‬
‫ج َعلُ مَن َيشَآءُ َ‬
‫جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَ َي ْ‬
‫يَشَآءُ إِنَاثا وَ َيهَبُ ِلمَن َيشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ‬
‫‪]50-49‬‬
‫إذن فالمسألة أل يُفرض على ربنا عناصر تكوين‪ ،‬ل‪ ،‬بل هي إرادة ُم َكوّن ل عنصرية َمكَوّن‪ .‬إنه‬
‫{ َيخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ‪ ،‬ومشيئته مطلقة وقدرته عامة‪ .‬ولذلك ل بد أن يأتي القول‪ { :‬وَاللّهُ عَلَىا ُكلّ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‪.‬‬
‫َ‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ { :‬وقَاَلتِ الْ َيهُو ُد وَال ّنصَارَىا‪} ...‬‬

‫(‪)679 /‬‬

‫َوقَاَلتِ الْ َيهُو ُد وَال ّنصَارَى َنحْنُ أَبْنَاءُ اللّ ِه وَأَحِبّا ُؤهُ ُقلْ فَلِمَ ُي َعذّ ُبكُمْ بِذُنُو ِبكُمْ َبلْ أَنْ ُتمْ بَشَرٌ ِممّنْ خَلَقَ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ (‪)18‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫َي ْغفِرُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَا ُء وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬

‫وهل كل اليهود قالوا‪ :‬نحن أبناء ال؟ هل كل النصارى قالوا‪ :‬نحن أبناء ال؟ ل‪ .‬فبعض من‬
‫اليهود قال‪ :‬إن عزيرا ابن ال وبعض النصارى قالوا‪ :‬إن عيسى ابن ال‪ ،‬وجاء مسيلمة الكذاب‬
‫وادّعى النبوة‪ ،‬وكان كل أهل مسيلمة يقولون‪ :‬نحن النبياء‪ ،‬أي منا النبياء حتى أنصار سيدنا عبد‬
‫ال بن الزبير أبي خبيب‪ ،‬قال أنصاره‪ :‬نحن الخبيبيون أي نحن أتباع ابن الزبير الذي هو أبو‬
‫خبيب‪ ،‬فكانوا ينسبون لنفسهم ما لغيرهم‪ .‬فمعنى { َنحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ } يعني‪ :‬نحن أشياع العزير‪،‬‬
‫الذي هو ابن ال؛ ونحن أشياع عيسى الذي هو ابن ال‪ .‬هذه نأخذ لها دليلً من القرآن‪ ،‬نعرف‬
‫عوْنَ َيكْتُمُ إِيمَا َنهُ أَ َتقْتُلُونَ َرجُلً أَن َيقُولَ رَ ّبيَ‬
‫جلٌ ّم ْؤمِنٌ مّنْ آلِ فِرْ َ‬
‫قصة مؤمن آل فرعون‪َ {:‬وقَالَ َر ُ‬
‫اللّ ُه َوقَدْ جَآ َء ُكمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّ ّبكُ ْم وَإِن َيكُ كَاذِبا َفعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن َيكُ صَادِقا ُيصِ ْبكُمْ َب ْعضُ الّذِي‬
‫َيعِ ُدكُمْ إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي مَنْ ُهوَ ُمسْ ِرفٌ َكذّابٌ * ياقَومِ َلكُمُ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الَ ْرضِ }[غافر‪:‬‬
‫‪]29-28‬‬
‫والقوم جماعة‪ .‬بال أكان القوم كلهم ملوكا؟‪ .‬ل‪ ،‬فالذي كان ملكا هو فرعون فقط‪ .‬لكن مادام‬
‫فرعون هو الملك‪ ،‬فيكون كل الذين كانوا أتباعا وأنصارا له ومن شيعته ملوكا لنهم يعيشون في‬
‫جعََلكُمْ مّلُوكا } ‪ ،‬ولذلك عندما أرادوا أن يحددوا معنى‬
‫كنف ورعاية الملك‪ .‬وأيضا قال اليهود‪ { :‬وَ َ‬
‫" ملك " قالوا‪ :‬إن " الملك " هو الرجل الذي عنده دار واسعة وفيها ماء يجري‪ ،‬وواحد آخر قال‪" :‬‬
‫الملك " هو الذي يكون عنده حياة رتيبة وعنده من يخدمه ول ينشغل بخدمة نفسه في بيته‪ ،‬وفي‬
‫الخارج يخدم نفسه‪ .‬وقال آخر‪ :‬من عنده مال ل يحوجه للعمل الشاق‪ ،‬فهو ملك‪ ،‬ولذلك قال سيدنا‬
‫الشيخ عبد الجليل عيسى في هذه المسألة‪ :‬ل تستعجبوا ذلك فالميون ينطقون وبلسانهم يقولون‪:‬‬
‫هذا ملك زمانه‪ ،‬أي رجل مرتاح ل يعمل أعمال شاقة وعنده النقود يصرفها كما يريد‪ .‬إذن فأبناء‬
‫ال يعني ليس كلهم أبناءه‪ ،‬ولذلك قال ال لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬قل " ردا عليهم‪ { :‬فَلِمَ‬
‫ُيعَذّ ُبكُم ِبذُنُو ِبكُم َبلْ أَنتُمْ َبشَرٌ ِممّنْ خََلقَ } ‪ ،‬وستدخلون في مشيئة المغفرة‪.‬‬
‫{ َي ْغفِرُ ِلمَن يَشَآ ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَن َيشَآءُ } ‪ ،‬ولن تخرجوا عن المشيئة الغافرة أو المشيئة المعذبة‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ }‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫{ وَللّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫ويقول الحق تصفية للمسألة العقدية في الرض‪ { :‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ‪} ...‬‬

‫(‪)680 /‬‬

‫سلِ أَنْ َتقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا‬


‫يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ قَدْ جَا َءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ عَلَى فَتْ َرةٍ مِنَ الرّ ُ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ (‪)19‬‬
‫نَذِيرٍ َفقَدْ جَا َءكُمْ بَشِي ٌر وَنَذِي ٌر وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫ل وما‬
‫ورسولنا هو محمد صلى ال عليه وسلم ويبين لكم ‪ -‬يا أهل الكتاب ‪ -‬ما اختلفتم فيه أو ً‬
‫يجب أن تلتقوا عليه ثانيا‪ ،‬وما زاده السلم من منهج فإنّما جاء به ليناسب أقضية الحياة التي‬
‫يواجهها إلى أن تقوم الساعة‪ .‬وقد جاء رسول ال صلى ال عليه وسلم على فترة من الرسل‪،‬‬
‫ومعنى الفترة‪ :‬النقطاع‪ .‬وفترة من الرسل أي على زمن انقطعت فيه الرسالت‪ ،‬وهي الفترة التي‬
‫بينه صلى ال عليه وسلم وبين أخيه عيسى عليه السلم‪ ،‬وقام الناس بحسابها فقال بعضهم‪ :‬إنها‬
‫ستمائة سنة وقال البعض‪ :‬خمسمائة وستون سنة عاما‪ .‬ول يهمنا عدد السنين‪ ،‬إنما الذي يهمنا هو‬
‫وجود فترة انقطعت فيها الرسل‪ ،‬اللهم إل ما كان من قول الحق سبحانه‪ {:‬وَاضْ ِربْ َل ُهمْ مّثَلً‬
‫سلْنَآ إِلَ ْيهِمُ اثْنَيْنِ َفكَذّبُو ُهمَا َفعَزّزْنَا بِثَاِلثٍ َفقَالُواْ إِنّآ إِلَ ْي ُكمْ‬
‫ب القَرْيَةِ ِإذْ جَآءَهَا ا ْلمُرْسَلُونَ * ِإذْ أَرْ َ‬
‫َأصْحَا َ‬
‫شيْءٍ إِنْ أَنتُمْ ِإلّ َتكْذِبُونَ * قَالُواْ‬
‫حمَـانُ مِن َ‬
‫مّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ ِإلّ َبشَرٌ مّثْلُنَا َومَآ أَنَزلَ الرّ ْ‬
‫سلُونَ }[يس‪]16-13 :‬‬
‫رَبّنَا َيعْلَمُ إِنّآ إِلَ ْيكُمْ َلمُرْ َ‬
‫هؤلء المرسلون أهم مرسلون من قبل ال بين عيسى وبين محمد صلى ال عليه وسلم؟‪ .‬أم هم‬
‫مرسلون من قبل عيسى عليه السلم إلى أهل أنطاكية؟‪ .‬وقد كفر الناس أولً بهذين الرسولين‪،‬‬
‫فعززهم الحق بثالث‪.‬‬
‫شيْءٍ إِنْ أَن ُتمْ ِإلّ َتكْذِبُونَ }‬
‫حمَـانُ مِن َ‬
‫وقال الناس لهم‪ {:‬قَالُواْ مَآ أَن ُتمْ ِإلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا َومَآ أَنَزلَ الرّ ْ‬
‫[يس‪]15 :‬‬
‫وهنا قال الرسل‪ {:‬قَالُواْ رَبّنَا َيعَْلمُ إِنّآ إِلَ ْيكُمْ َلمُرْسَلُونَ }[يس‪]16 :‬‬
‫سلُونَ }؟‪ .‬إن الَخْبار دائما‬
‫فما الفرق بين { إِنّآ إِلَ ْيكُمْ َلمُرْسَلُونَ } وبين { رَبّنَا َيعْلَمُ إِنّآ إِلَ ْيكُمْ َلمُرْ َ‬
‫تُلقى من المتكلم للسامع لتعطيه خبرا‪ ،‬فإن كان السامع خالي الذهن من الخبر‪ ،‬أُلقي إليه الكلم‬
‫بدون تأكيد‪ .‬وأما إن كان عنده شبه إنكار‪ ،‬ألقى إليه الكلم بتأكيد على قدر إنكاره‪ .‬فإن زاد في‬
‫لجاج النكار يزيد له التأكيد‪ .‬فأصحاب القرية أرسل ال إليهم اثنين فكذبوهما‪ ،‬فعززهما بثالث‪،‬‬
‫وهذا تعزيز رسالي‪ ،‬فبعد أن كانا رسولين زادهما ال ثالثا‪ ،‬وقال الثلثة‪ {:‬إِنّآ إِلَ ْيكُمْ مّ ْرسَلُونَ }‬
‫[يس‪]14 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صحيح ثمة تأكيد هنا‪ .‬لن الجملة إسمية‪ ،‬وسبقتها " إنّ " المؤكذة؛ فلما كذبوهم وقالوا لهم‪ { :‬مَآ‬
‫شيْءٍ } وكان هذا لجاجا منهم من النكار فماذا يكون‬
‫حمَـانُ مِن َ‬
‫أَنتُمْ ِإلّ َبشَرٌ مّثْلُنَا َومَآ أَنَزلَ الرّ ْ‬
‫موقف الرسل؟ أيقولون‪ { :‬إِنّآ إِلَ ْيكُمْ مّرْسَلُونَ } كما قيل أولً؟‪ .‬ل‪ .‬إن النكار هنا ممعن في‬
‫اللجاجة والشدة‪ ،‬فيأتي الحق بتأكيد أقوى على ألسنة الرسل‪:‬‬
‫{ رَبّنَا َيعَْلمُ }‪.‬‬
‫وذلك القول في حكم القسم؛ هذا هو التأكيد الول‪ ،‬والتأكيد الثاني‪:‬‬
‫{ إِنّآ إِلَ ْيكُمْ َلمُرْسَلُونَ }‪.‬‬
‫وكما نعلم فـ " إن " هنا مؤكِدّة‪ ،‬واللم التي في أول قوله‪ " :‬لمرسلون " لزيادة التأكيد‪.‬‬

‫وحين تأتي كلمة تدور على معانٍ متعددة‪ ،‬فالمعنى الجامع هو المعنى الصلي‪ ،‬وكذلك كلمة " فترة‬
‫" ‪ ،‬فالفترة هي النقطاع‪ .‬فإن قلت مثلً‪ :‬ماء فاتر‪ ،‬أي ماء انقطعت برودته‪ ،‬فالماء مشروط فيه‬
‫البرودة حتى يروي العطش‪ .‬وعندما يقال‪ :‬ماء فاتر أي ماء فتر عن برودته‪ ،‬ولذلك يكون قولنا‪" :‬‬
‫ماء فاتر " أي ماء دافئ قليلً؛ أي ماء انقطعت عنه البرودة المرغبة فيه‪.‬‬
‫ويقال أيضا في وصف المرأة‪ :‬في جفنها فتور أي أنها تغض الطرف ول تحملق بعينيها باجتراء‪.‬‬
‫بل منخفضة النظرة‪ .‬إذن فالفترة هي النقطاع‪ .‬ولقد انقطعت مدة من الزمن وَخََلتْ من الوحي‬
‫ومن الرسل‪ .‬وكان مقتضى هذا أن يطول عهد الغفلة‪ ،‬ويطول عهد انطماس المنهج‪ ،‬ويعيش أهل‬
‫الخير في ظمأ وشوق لمجيء منهج جديد‪ ،‬فكان من الواجب ‪ -‬مادام قد جاء رسول ‪ -‬أن يرهف‬
‫الناس آذانهم لما جاء به‪ ،‬فيوضح الحق أنه أرسل رسولً جاء على فترة‪ ،‬فإن كنتم أهل خير فمن‬
‫الواجب أن تلتمسوا ما جاء به من منهج‪ ،‬وأن ترهفوا آذانكم إلى ما يجيء به الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم لسماع مهمته ورسالته‪.‬‬
‫وقد أرسل ال إليهم الرسول على فترة حتى يقطع عنهم الحجة والعذر فل يقولوا‪ } :‬مَا جَآءَنَا مِن‬
‫بَشِي ٍر َولَ نَذِيرٍ { فقد جاءهم ‪ -‬إذن ‪ -‬بشير وجاءهم نذير‪ .‬والبشير هو المعلم أو المخبر بخير‬
‫يأتي زمانه بعد الخبار‪ .‬ومادام القادم بشيرا فهو يشجع الناس على أن يرغبوا في منهج ال‬
‫ليأخذوا الخير‪ .‬ول بد من وجود فترة زمنية يمارس فيها الناس المنهج‪ ،‬ول بد أيضا أن توجد‬
‫فترة ليمارس من لم يأخذ المنهج كل ما هو خارج عن المنهج ليأتي لهم الشر‪.‬‬
‫مثال ذلك قول الستاذ‪ :‬بَشّرْ الذي يذاكر بأنه ينجح‪ .‬وعند ذلك يذاكر من الطلب من يرغب في‬
‫النجاح‪ ،‬أي لبد من وجود فترة حتى يحقق ما يوصله إلى ما يبشر به‪ .‬وكذلك النذارة ل بد لها‬
‫من فترة حتى يتجنب النسان ما يأتي بالشر‪.‬‬
‫سلِ أَن َتقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِي ٍر َولَ نَذِيرٍ َفقَدْ‬
‫} َقدْ جَآ َءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ عَلَىا فَتْ َرةٍ مّنَ الرّ ُ‬
‫جَا َءكُمْ بَشِي ٌر وَ َنذِيرٌ {‪ .‬ومجيء " أن تقولوا " إيضاح بأنه ل توجد فرصة للتعلل بقول " } مَا جَآءَنَا‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مِن بَشِي ٍر َولَ نَذِيرٍ {‪.‬‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ { وسبحانه وتعالى القدير أبدا‪.‬‬
‫ويقول الحق‪َ } :‬فقَدْ جَا َءكُمْ َبشِي ٌر وَنَذِي ٌر وَاللّهُ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫فقد جعل الخلق يطرأون على كون منظم بحكمة وبكل وسائل الخير والحياة على أحسن نظام قبل‬
‫أن يطرأ هؤلء الخلق على هذا الكون‪ ،‬فإذا ما طرأ الخلق على هذا الخير‪ ،‬أيتركهم الخالق بدون‬
‫هداية؟‪ .‬ل‪ .‬فسبحانه قد قدر على أن يُوجد خلقه كلهم‪ ،‬ويعطي لهم ما يحفظ لهم حياتهم ويحفظ لهم‬
‫نوعهم‪.‬‬
‫أل يعطي الحق الخلق إذن ما يحفظ لهم قيمهم؟‪.‬‬
‫إنه قادر على أن يعطي رزق القوت ورزق المبادئ والقيم وأن يوفي خلقه رزقهم في كل عطاء‪.‬‬
‫وإرسال الرسل من جملة عطاءات الحق لعلج القيم‪ .‬ثم يرجع ثانية إلى قوم موسى ولكنه في هذه‬
‫المرة يجعل المتكلم رسولهم‪ } :‬وَِإذْ قَالَ مُوسَىا ِل َق ْومِهِ‪{ ...‬‬

‫(‪)681 /‬‬

‫جعََلكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا‬


‫ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَا َء وَ َ‬
‫علَ ْيكُمْ إِذْ َ‬
‫وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ َ‬
‫حدًا مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)20‬‬
‫لَمْ ُي ْؤتِ أَ َ‬

‫وساعة تسمع " إذ " فاعلم أنها ظرفية تعني " حين " كأن الحق يقول‪ :‬اذكر حين قال موسى لقومه‬
‫اذكروا نعمة ال عليكم‪ .‬ويقول الحق لرسوله ذلك لن هذا اللون من الذكر يعين الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم على تحمل ما يتعرض له في أمر الدعوة والرسالة سواء من ملحدة أو من أهل‬
‫كتاب‪.‬‬
‫إن الحق حينما قال‪ { :‬وَإِذْ قَالَ مُوسَىا ِل َق ْومِهِ } أي اذكر يا محمد‪ ،‬أو أذكر يا من تتبع محمدا‪ ،‬أو‬
‫اذكر يا من تقرأ القرآن إذ قال موسى لقومه‪ :‬يا قوم اذكروا نعمة ال عليكم‪ .‬ول يقول موسى‬
‫لقومه‪ { :‬يَا َقوْمِ ا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ } إل إذا كان قد رأى منهم عملً ل يتناسب مع النعم التي‬
‫أنعم ال يها عليهم‪ ،‬وذلك ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬كما يقول الواحد منا لولد عاق‪ :‬اذكر ما فعله‬
‫والدك معك‪ .‬ول يقولن الواحد منا ذلك إل وقد بدرت من البن بوادر ل تتناسب مع مقدمات النعم‬
‫ومقدمات الفضل عليه‪ .‬فكأن قوم موسى قد أرهقوه وتحمل منهم الكثير؛ لدرجة أنه قال لهم على‬
‫سبيل الزجر ما قد يجعلهم يفيقون وينتبهون ويفطنون إلى ذكر نعمة ال عليهم‪ ،‬ومعنى ذكر النعمة‬
‫هو الستماع إلى منهج ال وتنفيذ أوامر الحق واجتناب النواهي‪.‬‬
‫{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىا ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ ا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ } وعرفنا أن " النعمة " يقصد بها الجنس‬
‫والمراد بها النعم كلها‪ ،‬أو كأن كل نعمة على انفرادها خليقة وجديرة أن تُذكر وتُشكر‪ ،‬والدليل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حصُوهَا } [إبراهيم‪]34 :‬‬
‫على أن النعمة يراد بها كل النعم أن ال قال‪ { :‬وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ تُ ْ‬
‫ومادام عدّ النعمة ل نستطيع معه أن نعرف إحصاءها؛ فهي نعم متعددة‪ .‬إذن فالمراد بالنعمة كل‬
‫النعم لنها اسم جنس‪.‬‬
‫{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىا ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ ا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ } وذكر النعمة يؤدي إلى شكر المنعم‬
‫ويؤدي أيضا إلى الستحياء من أن نعصي من أنعم‪ ،‬ويجعلنا نستحي أن نأخذ نعمته لتكون معينا‬
‫لنا على معصيته‪ { .‬ا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْي ُكمْ } وهي نعم كثيرة تمتعوا بها‪ ،‬ألم يفلق الحقُ لهم‬
‫البحرَ‪ {:‬اضْرِب ّب َعصَاكَ الْ َبحْرَ }[الشعراء‪]63 :‬‬
‫طوْدِ ا ْل َعظِيمِ }[الشعراء‪]63 :‬‬
‫وبعد أن ضرب الماء بالعصا‪ {:‬فَانفَلَقَ َفكَانَ ُكلّ فِرْقٍ كَال ّ‬
‫فقد صار الماء السائل جبالً‪ .‬وضرب لهم الحجر؛ بأمر ال فانفجرت منه المياه‪ {:‬اضْرِب ّب َعصَاكَ‬
‫عشْ َرةَ عَيْنا }[البقرة‪]60 :‬‬
‫حجَرَ فَانفَجَ َرتْ مِنْهُ اثْنَتَا َ‬
‫الْ َ‬
‫إنها عجائب كثيرة تتجلى فيها قدرة الخالق العظم‪ ،‬وتبين القدرة مجالت تصرفها‪ ،‬فقد ضرب‬
‫موسى البحر فصار كل فرق كالطود العظيم‪ ،‬وكأن الماء صار صخرا‪ .‬وضرب موسى الصخر‬
‫فتفجرت المياه‪ .‬إنها عجائب القدرة‪ .‬ألم يظللكم بالغمام؟ ألم ينزل عليكم في التيه المن والسلوى؟‬
‫وكل هذه النعم أل تستحق الذكر ل والشكر ل والستحياء من أن تعصوه أو أن ترهقوا الرسول‬
‫الذي جاء لهدايتكم؟‬
‫إن كل هذه النعم تستحق الشكر‪ ،‬والشكر ذكر‪.‬‬

‫جعََلكُمْ مّلُوكا { وكلما أدركتهم غفلة فإن الحق يرسل‬


‫ج َعلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآ َء وَ َ‬
‫علَ ْيكُمْ إِذْ َ‬
‫} ا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ َ‬
‫لهم نبيا كأسوة سلوكية‪ .‬ولم يغضب عليهم ولم يقل‪ :‬أرسلت لهم رسول واثنين وثلثة وأربعة‪ .‬ولم‬
‫يهتدوا‪ ،‬بل كلما عصوا ال واستعصت داءاتهم أرسل لهم رسول‪ ،‬مثلهم في ذلك كمثل المريض‬
‫الذي ل يضن عليه عائله بطبيب أو بطبيبين أو ثلثة أو أربعة‪ ،‬بل كلما لحظ عائله شيئا فإنه‬
‫يرسل له طبيبا‪ .‬وفي ذلك امتنان؛ لن ال أرسل إليهم كثيرا من الرسل‪ .‬وكان عليهم أن يعلموا أن‬
‫داءاتهم قد كثرت وصار مرضهم مستعصيا؛ لنه لو لم يكن المرض مستعصيا؛ لما كانوا في‬
‫حاجة إلى هذه الكثرة من الطباء والنبياء‪ ،‬ومع ذلك رحمهم ال وكلما زاد داؤهم أرسل لهم نبيا‪.‬‬
‫جعََل ُكمْ مّلُوكا { وليس معنى ذلك أنهم كلهم‬
‫ولم يكتف الحق بأن جعل فيهم أنبياء؛ بل قال‪ } :‬وَ َ‬
‫صاروا ملوكا؛ ولكن كان منهم الملوك‪ " .‬والملك " كلمة أخذت اصطلحا سياسيا‪ ،‬فكل إنسان مالك‬
‫ما في حوزته؛ مالك لثوبه‪ ،‬أو مالك اللقمة التي أكلها‪ ،‬أو مالك البيت الذي ينام فيه‪ ،‬لكن المَلِك هو‬
‫الذي يملك وَيمْلِك مَن مَلك‪.‬‬
‫إذن فكل واحد عنده القدرة أن يملك شيئا ويملك مَن مَلَك يكون مَلِكا‪ ،‬فرجل عنده رُعيان يقومون‬
‫برعي القطعان من الماشية التي يملكها‪ ،‬وعنده أناس يخدمون في المنزل وأناس يعملون في‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المزرعة‪ ،‬وعنده أكثر من سائق‪ ،‬وعنده أناس كثيرون يأتمرون بأمره ول يدخلون عليه إل بإذنه‬
‫ول يتكلف في لقائهم أي حرج أو مشقة‪ ،‬هذا الرجل ل بد أن يكون ملكا‪ .‬إذن فقد أعطاهم الحق‬
‫نعمة وفيرة‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يحدد الملكية الواسعة التي تحدد الفرد تحديدا إيمانيا فقال‪ " :‬من أصبح‬
‫منكم آمنا في سربه معافىً في جسده‪ ،‬عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها "‪.‬‬
‫ومادام قد حيزت له الدنيا بحذافيرها بهذه الشياء فهو ملك‪ .‬وقد أعطاهم هذه المسائل أي جعلهم‬
‫ملوكا‪ } .‬وَآتَاكُمْ مّا َلمْ ُي ْؤتِ أَحَدا مّن ا ْلعَاَلمِينَ { أي أنه سبحانه أعطاهم ما لم يعده لحد ِممّن‬
‫حولهم؛ ووالى عليهم ذلك العطاء‪ ،‬ألم يعط ‪ -‬سبحانه ‪ -‬نبي ال سيدنا سليمان وهو من بني‬
‫إسرائيل مُلْكا ل ينبغي لحد من بعده؟ تلك الواقعة لم يقلها موسى عليه السلم لنها حدثت من بعد‬
‫موسى بأحد عشر جيلً‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬يَا َقوْمِ ادْخُلُوا الَ ْرضَ‪{ ...‬‬

‫(‪)682 /‬‬

‫سةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َل ُك ْم وَلَا تَرْتَدّوا عَلَى أَدْبَا ِر ُكمْ فَتَ ْنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (‪)21‬‬
‫يَا َقوْمِ ادْخُلُوا الْأَ ْرضَ ا ْل ُمقَدّ َ‬

‫وهذا بلغ من موسى بما أوحى ال به إليه‪ ،‬ومتى حدث ذلك؟ نعرف أن صلة بني إسرائيل‬
‫بمصر كانت منذ أيام يوسف عليه السلم‪ ،‬وعندما جاء يوسف بأبيه وإخوته وعاشوا بمصر‬
‫وكونوا شيعة بني إسرائيل‪ ،‬ومكن ال ليوسف في الرض وعاشوا في تلك الفترة‪ .‬والعجيب أن‬
‫المس القرآني للحداث التاريخية فيه دقة متناهية‪ ،‬ولم نعرف نحن تلك الحداث إل بعد مجيء‬
‫الحملة الفرنسية إلى مصر‪ .‬فعندما جاءت تلك الحملة صحبت معها بعثة علمية‪ .‬وكانت تلك البعثة‬
‫تنقب عن المعلومات الثرية ليتعرفوا على سر حضارة المصريين‪ ،‬وسر تقدم العرب القديم‪ ،‬الذي‬
‫سبق أوربا بقرون‪ ،‬وأخذت منه أوربا العلوم والفنون‪ ،‬في حين صار هذا العالم العربي إلى غفلة‪.‬‬
‫إن العرب المسلمين هم الذين اخترعوا أشياء ذهل لها العالم الغربي‪ ،‬ويحكي لنا التاريخ عن هدية‬
‫من أحد ملوك العرب إلى شارلمان ملك فرنسا وكانت الساعة دقاقة‪ ،‬وظن الناس من أهل فرنسا‬
‫أن بهذه الساعة الدقاقة شيطانا‪ .‬وفكرة تلك الساعة أن العالم الذي صممها وضع فيها إناء من الماء‬
‫به ثقب صغير تنزل منه القطرة بثقلها على شيء يشبه عقرب الساعة‪ ،‬فتتحرك الساعة دقيقة‬
‫واحدة من الزمن‪ .‬وكانت الساعة تسير بنقطة الماء‪ .‬وكان ضبطها في منتهى الدقة‪ .‬وحين رآها‬
‫الناس في بلط شارلمان ملك فرنسا ظنوا أن بداخلها شياطين‪ .‬وهذا نموذج من نماذج كثيرة ل‬
‫سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ‬
‫ق َوفِي أَنفُ ِ‬
‫حصر لها ول عدد تدخل في نطاق قوله الحق‪ {:‬سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حقّ }[فصلت‪]53 :‬‬
‫َلهُمْ أَنّهُ الْ َ‬
‫وحينما جاء الفرنسيون إلى القاهرة كان معهم تلك البعثة العلمية ومعهم مطبعة‪ ،‬وعرض هؤلء‬
‫العلماء الفانوس السحري‪ ،‬وجعلوا الناس البسطاء يذهلون من تقدمهم العلمي‪ .‬واستترت تلك الحملة‬
‫بعروض أقرب إلى " الكروبات "‪ .‬وكان عمل العلماء هو البحث عن سر حضارة المصريين‬
‫والمسلمين؛ لنهم يعلمون أن الحضارة السلمية انتقلت إلى مصر بالضافة إلى حضارة‬
‫المصريين القدماء‪.‬‬
‫لقد كانوا يعرضون ألعابهم السحرية العلمية بدرب الجماميز‪ ،‬وذلك حتى ينبهر الناس بالحضارة‬
‫الفرنسية‪ .‬وكان علماؤهم في الوقت نفسه يكتشفون ما نقش على حجر رشيد‪ ،‬وهو الحجر الذي‬
‫اكتشفه ضابط فرنسي شاب اسمه شامبليون‪ ،‬وعلى هذا الحجر كتبت الكلمات الهيروغليفية‪.‬‬
‫واستطاع شامبليون أن يفصل أسماء العلم الهيروغليفية ومن خلل ذلك استطاع أن يصل‬
‫إلىأبجدية تلك اللغة‪ .‬وكأن ال أراد أن يسخر الكافرين بمنهج ال ليؤيدوا منهج ال‪.‬‬
‫إن في كل لغة شيئا اسمه " منطق العل َم " ومثال ذلك أن يوجد اسم رجل أو أمير أو إنسان‪ ،‬فهذا‬
‫السم مكون من حروف ل تتغير‪ ،‬مثال ذلك نأخذه من اللغة النجليزية؛ كان اسم رئيس وزراء‬
‫انجلترا في وقت من الوقات هو " تشرشل " هي كلمة إذا ترجمناها ترجمة حرفية لم تدل على‬
‫صاحبها ولم تعرفنا به لننا عندما نترجمها نكتفي بكتابة السم بالحروف العربية بدلً من‬
‫اللتينية‪.‬‬

‫إذن فالعْلَم ل يتغير نطقها‪.‬‬


‫وكشف شامبليون عن الحروف التي لم تتغير‪ .‬واهتدى إلى فك طلسم حروف اللغة الهيروغليفية؛‬
‫فعرف كيف يقرأ المكتوب على حجر رشيد‪ ،‬واستطاع أن يقدم لنا بدايات اكتشاف تاريخ مصر‬
‫القديمة‪ .‬واستطاع أن يقرأ اللغة المرسومة على ذلك الحجر‪.‬‬
‫ولنا أن نرى عظمة القرآن حينما تعرض للقدمين‪ ..‬تعرّض لعادٍ وتعرّض لثمود وتعرض‬
‫لفرعون‪ .‬تعرض لتلك الحضارات كلها في سورة الفجر‪ ،‬فقال سبحانه وتعالى‪ {:‬وَا ْلفَجْرِ * وَلَيالٍ‬
‫شفْعِ وَا ْلوَتْرِ * وَاللّ ْيلِ ِإذَا يَسْرِ * َهلْ فِي ذَِلكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ * َألَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ‬
‫عَشْرٍ * وَال ّ‬
‫ِبعَادٍ * إِ َرمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ }[الفجر‪]7-1 :‬‬
‫وإرم ذات العماد هي التي في الحقاف ‪ -‬في الجزيرة العربية ‪ -‬ولم نكتشفها بعد‪ ،‬ولم نعرف‬
‫عنها حتى الن شيئا‪ ،‬وهي التي يقول عنها الحق‪ {:‬الّتِي َلمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ }[الفجر‪]8 :‬‬
‫ثم يتكلم بعدها عن فرعون‪َ {:‬وفِرْعَوْنَ ذِى الَوْتَادِ }[الفجر‪]10 :‬‬
‫والهرام أقيمت بالفعل على أوتاد‪ ،‬وكذلك المسلت المصرية القديمة والمعابد‪ .‬وغيرها من‬
‫لدِ }[الفجر‪]8 :‬‬
‫العجائب التي بهرت الناس في مختلف العصور‪ {.‬الّتِي لَمْ ُيخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم جاء بحضارة ثمود‪ {.‬وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ }[الفجر‪]9 :‬‬
‫وقد رأينا هذه الحضارة التي كان الناس أثناءها ينحتون البيوت في الصخر‪ ،‬كما رأينا حضارة‬
‫مصر‪ .‬وحضارة عاد هي التي لم نرها حتى الن؛ ول بد أن تكون مطمورة تحت الرض‪.‬‬
‫ونعرف أن الهبة الرملية الواحدة عندما تهب في تلك المناطق تطمر القافلة كلها‪ ،‬فما بالنا بالقرون‬
‫الطويلة التي مرت وهبت فيها آلف العواصف الرملية‪ ،‬إذن ل بد أن ننقب كثيرا لنكتشف حضارة‬
‫عاد‪ .‬والحق تكلم عن موسى عليه السلم‪ ،‬تكلم _ أيضا ‪ -‬عن المعاصرين له وكان أحد هؤلء‬
‫طغَىا }‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫الفراعنة‪ ،‬فقال سبحانه لموسى ولخيه هارون عليهما السلم‪ {:‬اذْهَبَآ إِلَىا فِرْ َ‬
‫[طه‪]43 :‬‬
‫ويذهب موسى إلى فرعون حتى يخلص بني إسرائيل من ظلم فرعون‪ .‬ولماذا ظلمهم فرعون؟‬
‫نحن نعرف أن كل سياسة تعقب سياسة سابقة عليها تحاول أن تطمس السياسة الولى‪ ،‬وتعذب من‬
‫نصروا السياسة الولى‪ ،‬وتلك قضية واضحة في الكون‪ .‬وهذا ما يتضح لنا من سيرة سيدنا‬
‫يوسف الذي صار وزيرا للعزيز ودعا أباه وأمه وشيعته إلى مصر‪ ،‬ولن تأت سيرة فرعون في‬
‫سورة يوسف‪.‬‬
‫وعندما تكلم القرآن على رأس الدولة في أيام يوسف قال‪َ {:‬وقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي بِهِ }[يوسف‪]54 :‬‬
‫لم يقل الحق‪ " :‬فرعون " على الرغم من أنه قال قبل ذلك عنه إنه‪ " :‬فرعون " وأيام موسى ذكر‬
‫فرعون‪ ،‬لكن في أيام يوسف لم يأت بسيرة فرعون إنما جاء بسيرة مَلِك‪.‬‬

‫وعندما جاء اكتشاف حجر رشيد‪ ،‬ظهر لنا أن فترة وجود يوسف عليه السلم في مصر هي فترة‬
‫ملوك الرعاة أي الهكسوس الذين غَ َزوْا مصر وأخذوا ا ْلمُ ْلكَ من المصريين وحكموهم وصاروا‬
‫ملوكا‪ ،‬وسمي عصرهم بعصر الملوك‪.‬‬
‫وقال القرآن‪َ } :‬وقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي بِهِ {‪ .‬ولم يأت بذكر لفرعون‪ .‬وعندما استرد الفراعنة ملكهم‬
‫وطردوا الرعاة‪ ،‬استبد الفراعنة بمن كانوا يخدمون الملوك وهم بنو إسرائيل‪ .‬وهكذا تتأكد دقة‬
‫القرآن عندما ذكر فرعون لنه كان الحاكم أيام موسى‪ ،‬لكن في زمن يوسف سمي حاكم مصر‬
‫باسم الملك‪ .‬وتلك أمور لم نعرفها إل حديثا‪ .‬ولكن القرآن عرفنا ذلك‪ .‬وكانت تحتاج إلى استنباط‪.‬‬
‫ق َوفِي‬
‫وهي تدخل ضمن اليات التي ل حصر لها في قوله الحق‪ {:‬سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬
‫سهِمْ }[فصلت‪]53 :‬‬
‫أَنفُ ِ‬
‫خلُوا‬
‫فسبحانه وتعالى بعد أن أيد موسى باليات وأغرق فرعون‪ ،‬هنا قال لهم موسى‪ {:‬يَا َقوْمِ ادْ ُ‬
‫الَ ْرضَ ال ُمقَدّسَةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َل ُك ْم َولَ تَرْ َتدّوا عَلَىا أَدْبَا ِركُمْ فَتَ ْنقَلِبُوا خَاسِرِينَ }[المائدة‪]21 :‬‬
‫فقد انتهت المهمة بتخليص بني إسرائيل من فرعون‪ ،‬وخلصوا أهل مصر من فرعون‪ .‬وكانت‬
‫الدعوة لدخول الرض المقدسة‪ .‬وكلمة الرض إذا أطلقت صارت علما على الكرة الجامعة‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ووردت كلمة " الرض " في قصة بني إسرائيل في مواضع متعددة لمواقع متعددة‪.‬‬
‫سكُنُو ْا الَ ْرضَ }‬
‫فها هوذا قول ال في آخر سورة السراء‪َ {:‬وقُلْنَا مِن َب ْع ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫[السراء‪]104 :‬‬
‫فهل هناك سكن إل الرض؟ إن أحدا ل يقول‪ :‬اسكن كذا إل إذا حدد مكانا من الرض؛ لن‬
‫سكُنُو ْا الَ ْرضَ {؟ والشائع أن يقال‪ :‬اسكن‬
‫السكن بالقطع سيكون في الرض‪ ،‬فكيف يأتي القول‪ } :‬ا ْ‬
‫سكُنُواْ الَ ْرضَ‬
‫المكان الفلني من المدن‪ ،‬مثل‪ :‬المنصورة أو أريحا‪ ،‬أو القدس‪ .‬وقوله الحق‪ } :‬ا ْ‬
‫{ هو لفتة قرآنية‪ ،‬ومادام الحق لم يحدد من الرض مسكونا خاصا‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬ذوبوا في الرض‬
‫فليس لكم وطن‪ ،‬وانساحوا في الرض فليس لكم وطن‪ ،‬أي ل توطن لكم أبدا‪ ،‬وستسيحون في‬
‫طعْنَا ُهمْ فِي الَرْضِ ُأمَما }[العراف‪]168 :‬‬
‫الرض مقطعين‪ ،‬وقال سبحانه‪َ {:‬وقَ ّ‬
‫وحين يأتي القرآن بقضية قرآنية فلنبحث أايدتها القضايا الكونية أم عارضتها؟ القضية القرآنية هنا‬
‫هي تقطيع بني إسرائيل في الرض أمما‪ ،‬أي تفريقهم وتشتيتهم ولم يقل القرآن‪ " :‬أذبناهم " بل‬
‫قال‪ " :‬قطعناهم " وتفيد أنه جعل بينهم أوصالً ولكنهم مفرقون في البلد‪ .‬وعندما نراهم في أي بلد‬
‫نزلوا فيها نجد أن لهم حيا مخصوصا‪ ،‬ول يذوبون في المواطنين أبدا‪ ،‬ويكون لهم كل ما يخصهم‬
‫من حاجات يستلقون بها‪ ،‬فكأنهم شائعون في الرض وهم مقطعون في الرض ولكنهم أمم‪ ،‬فهناك‬
‫" حارات " وأماكن خاصة لليهود في كل بلد‪.‬‬
‫حدث ذلك من بعد موسى عليه السلم‪ ،‬لكن ماذا كان المر في أيام موسى؟ قال لهم الحق‪} :‬‬
‫ا ْدخُلُوا الَ ْرضَ ال ُمقَدّسَةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َل ُكمْ { أي بعد رحلتكم مع فرعون اذهبوا إلى الرض التي‬
‫كتبها ال لكم‪.‬‬

‫ونلحظ هنا أن كلمة " الرض المقدسة " فيها تحييز وتحديد للرض‪.‬‬
‫ولكن ما معنى " مقدسة "؟ المادة كلها تدل على الطهر والتطهير‪ .‬فـ " قَدّس " أي طهّر ونزّه‪،‬‬
‫ومقدسة يعني مطهرة‪ .‬واللفاظ حين تأتي تتوارد جميع المادة على معانٍ متلقية‪ .‬ففي الريف‬
‫المصري نجد ما نسميه " القَدَس " أو " القادوس " وهو الناء الذي يرفع به الماء من الساقية‪،‬‬
‫وكانوا يستعملونه للتطهير‪ ،‬فالقادوس في الريف المصري هو وعاء الماء النظيف‪ .‬وعندما يقال‪" :‬‬
‫مقدسة " أي مطهرة‪.‬‬
‫إن من أسماء الحق " القُدّوس " ‪ ،‬ويقال‪ " :‬قُدّس ال " أي نزه " ‪ ،‬فال ذات وليست كذات النسان‪،‬‬
‫وله سبحانه صفات منزهة أن تكون كصفاتك‪ ،‬وهو سبحانه له أفعال‪ ،‬ولكن قدسه وطهره منزهة‬
‫أن تكون كأفعالك‪ .‬فذات الحق واجبة الوجود وذات النسان ممكنة الوجود؛ لن ذات النسان طرأ‬
‫عليها عدم أول‪ ،‬ويطرأ عليها عدم ثانٍ‪ ،‬وهو سبحانه واجب الوجود لذاته‪ ،‬والنسان واجب لغيره‬
‫وهو قادر سبحانه أن ينهي وجود العبد‪ .‬ول حياة وللنسان حياة‪ ،‬لكن أحياتك أيها النسان كحياة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال؟ ل‪.‬‬
‫إن حياته سبحانه منزهة وذاته ليست كذاتك‪ ،‬وصفاته ليست كصفاتك‪ ،‬فأنت قادر قدرة محدودة‬
‫وله سبحانه طلقة القدرة‪ ،‬وهو سبحانه سميع والعبد سميع؛ لكن سمع البشر محدود وسمعه‬
‫سبحانه ل حدود له‪.‬‬
‫إذن فصفاته مقدسة‪ ،‬ولذلك فعندما تسمع أنه سبحانه سميع عليم فليس سمعه كسمعنا‪ ،‬وله فعل غير‬
‫فعلنا‪ .‬وعندما يقول الحق‪ :‬إنه فعل‪ ،‬ففعله منزه عن التشبيه بفعل البشر؛ لن البشر من خلق ال‪،‬‬
‫وفعل البشر معالجة‪ ،‬ويكون للفعل بداية ووسط ونهاية ويفرغ من الحداث على قدر الزمن‪.‬‬
‫ونحن نحمل الشياء في أزمان متعددة ويحتاج من يحمل الشياء إلى قوة‪ .‬ولكن فعل الحق‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ َومَا‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر َ‬
‫مختلف‪ ،‬إنه فعل بـ " كن " لذلك قال‪ {:‬وَلَقَدْ خََلقْنَا ال ّ‬
‫مَسّنَا مِن ّلغُوبٍ }[ق‪]38 :‬‬
‫أي أنه سبحانه وتعالى منزه عن التعب‪ ،‬فهو يقول‪ } :‬كُنْ فَ َيكُونُ { ولذلك قلنا في مسألة السراء‪:‬‬
‫إننا يجب أن ننسب الحدث إلى ال ل إلى محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حتى نعرف أن الذين‬
‫عارضوا رسول ال في مسألة السراء كانوا على خطأ فقد قالوا‪ :‬أنضرب لها أكباد البل شهرا‬
‫وتدعي أنك أتيتها في ليلة؟!‬
‫إن رسول ال لم يدع لنفسه هذا المر‪ ،‬لنه لم يقل‪ :‬سريت من مكة إلى بيت المقدس " حتى‬
‫تقولوا‪ :‬أنضرب لها أكباد البل شهرا وتدعي أنك أتيتها في ليلة "‪.‬‬
‫ي بي‪ .‬أي أنه صلى ال عليه وسلم ليس له فعل في‬
‫لكن الرسول صلى ال عليه وسلم قال‪ُ :‬أسْ ِر َ‬
‫الحدث‪.‬‬

‫والفعل إذن ل‪ .‬ومادام هو من فعل ال فهو ل يحتاج إلى زمن؛ لذلك كان يجب أن يفهموا على‬
‫أي شيء يعترضون‪ .‬ولكنا نعرف أن ال سبحانه وتعالى أراد لهم أن يفهموا على تلك الطريقة؛‬
‫لنه سيأتي أناس من المتحذلقين المعاصرين ويقولون‪ " :‬إن السراء كان بالروح " نقول لهم‪ :‬بال‬
‫لو قال محمد للعرب‪ :‬أنا سريت بروحي أكانوا يكذبونه؟ تماما مثلما يقول لنا قائل‪ " :‬أنا كنت في‬
‫نيويورك الليلة ورأيتها في المنام " فهل سيكذبه أحد؟ ل‪ .‬إذن لقد كذب العرب لنهم فهموا أنه‬
‫أُسْ ِريَ به بمعنى كامل‪ ..‬أي كان السراء بالجسد والروح معا‪ ،‬بدليل أنهم قارنوا فعلً بفعل‪ ،‬وحدثا‬
‫بحدث‪ ،‬ونقلة بنقلة‪ ،‬وقالوا قولهم السابق‪ .‬لقد جاءت هذه المسألة لتخدم السلم‪.‬‬
‫إذن فـ " قدوس " يعني مطهر ومنزه‪ .‬وساعة ترى شيئا مخالفا لقضية العقل اقرنه بفعل ال‪،‬ول‬
‫تقرنه بفعلك أنت أيها العبد؛ لن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل طردا أو عكسا‪ .‬فإن كان الفاعل‬
‫صاحب قدرة قوية‪ .‬فزمنه أقل‪ .‬مثال ذلك‪ :‬نقل أردب من القمح من مكان إلى مكان‪ ،‬فإن كان‬
‫الذي يحمل الردب طفلً فلن ينقل الردب إل قدحا بقدح؛ وإن كان رجل ناضجا سينقل الردب "‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كيلة بكيلة "‪ .‬وإن كان صاحب قوة كبيرة قد ينقل الردب كله مرة واحدة‪ .‬إذن فالزمن يتناسب مع‬
‫القوة تناسبا عكسيا‪ .‬فإن كثرت القوة قل الزمن‪ .‬وهات أي فعل بقدرة ال فلن يستغرق أي زمن‪.‬‬
‫إذن قدس ال في كل شيء‪ .‬والرض المقدسة هي المطهرة‪ ،‬وذلك بإرادة الحق سبحانه‪ ،‬تماما كما‬
‫أراد سبحانه أن تكون بقعة من الرض هي الحرم‪ ،‬ل يتم فيها العتداء على صيد أو نبات أو‬
‫جعَلْنَا حَرَما‬
‫اعتداء بعضكم على بعض‪ ،‬وهل ذلك كلم كوني أو كلم تشريعي؟{ َأوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا َ‬
‫آمِنا }[العنكبوت‪]67 :‬‬
‫لو كانت المسألة إرادة كونية‪ ،‬فكان ل بد أل يحدث خلل أبدا وأل يعتدي أحد على أحد‪ .‬وما الفرق‬
‫بين الكوني والتشريعي؟ إن الكوني يقع لنه ل معارض في المور القهرية‪ ،‬فالحق يريد أن يكون‬
‫عبدا طويل القامة‪ ،‬فتلك إرادة كونية تحدث ول دخل للعبد بها‪ .‬ولكن إن أراد الحق أن تكون‬
‫طائعا مصليا‪ ،‬فتلك إرادة تشريعية‪ .‬والرادة تكون تشريعية فيما إذا كان للمريد اختيار‪ ،‬يصح أن‬
‫يفعلها ويصح أل يفعلها؛ لكن الرادة الكونية هي فيما ل إرادة للنسان فيه وواقع على رغم أنف‬
‫النسان‪.‬‬
‫وال سبحانه وتعالى يريد الحرم آمنا‪ .‬وتلك إرادة تشريعية لنه حدث أن أهيج فيه أناس ولم‬
‫يأمنوا‪ .‬ولو كانت إرادة كونية لما حدثت أبدا‪ .‬لذلك فهي إرادة تشريعية‪ ،‬فإن أطعنا ربنا جعلنا‬
‫الحرم آمنا‪ ،‬وإن لم نطعه فالذي ل يطيع يهيج فيه الناس ويفزعهم ويخيفهم‪.‬‬

‫فمراد ال عز ومطلوبه شرعا " أن يكون الحرم آمنا "‪.‬‬


‫} ادْخُلُوا الَ ْرضَ ال ُمقَدّسَةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ { فهل هذه الرض المقدسة كتبها ال لهم كتابة كونية‬
‫أو كتابة تشريعية؟ إن كانت كتابة كونية لكان من اللزم أن يدخلوها ولكنه قال‪ {:‬فَإِ ّنهَا مُحَ ّرمَةٌ‬
‫عَلَ ْيهِمْ }[المائدة‪]26 :‬‬
‫إذن هي إرادة تشريعية وليست إرادة كونية‪ .‬فإن أطاعوا أمر ال وتشجعوا ودخلوا الرض‬
‫المقدسة فإنهم يأخذونها‪ ،‬وإن لم يطيعوه فهي محرمة عليهم‪ .‬إذن فل تناقض بين أن يقول سبحانه‪:‬‬
‫إنه كتبها لهم‪ ،‬ثم قوله من بعد ذلك‪ :‬إنها محرمة عليهم‪ ،‬لقد كتبها سبحانه كتابة تشريعية‪ .‬فإن‬
‫دخلوها بشجاعة ولم يخافوا ممن فيها واستبسلوا ووثقوا أن وراءهم إلها قويا سيساندهم؛ فإنهم‬
‫سةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ‬
‫سيدخلونها‪ ،‬أما إن لم يفعلوا ذلك فهي محرمة عليهم‪ {.‬يَا َقوْمِ ا ْدخُلُوا الَ ْرضَ ال ُمقَدّ َ‬
‫َلكُ ْم َولَ تَرْتَدّوا عَلَىا َأدْبَا ِركُمْ فَتَ ْنقَلِبُوا خَاسِرِينَ }[المائدة‪]21 :‬‬
‫سكُنُو ْا الَ ْرضَ }[السراء‪]104 :‬‬
‫وجاءت الرض هنا أكثر من مرة‪َ {:‬وقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫وعرفنا مراد ذلك القول‪ .‬ولدقة هنا أنه سبحانه جاء بأمر السكن في الرض لبني إسرائيل أي في‬
‫الرض عموما ومحكوم عليهم أن يكونوا قطعا ومشردين‪ {.‬فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا }‬
‫[السراء‪]104 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي أنه سبحانه يجمعهم من كل بلد ويجيء بعد ذلك وعد الخرة الذي جاء في أول سورة‬
‫عُلوّا كَبِيرا }‬
‫السراء‪َ {:‬وقَضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ لَ ُتفْسِدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْنِ وَلَ َتعْلُنّ ُ‬
‫[السراء‪]4 :‬‬
‫ل ْقصَى‬
‫سجِ ِد ا َ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ‬
‫لن الحق حينما قال‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَ ْب ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ‬
‫حوْلَهُ }[السراء‪]1 :‬‬
‫الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫أي أنه سبحانه وتعالى يدخل بهذه الية المسجد القصى في مقدسات السلم‪ .‬وأوضح الحق لهم‪:‬‬
‫يا أيها اليهود أنتم ستعيشون في مكان بعهد من رسولي‪ ،‬ولكنكم ستفسدون في المكان الذي‬
‫تعيشون فيه وسيتحملكم القوم مرة أو اثنيتن وبعد ذلك يسلط ال عبادا له يجوسون خلل دياركم‬
‫ويشردونكم من هذه البلد‪.‬‬
‫والحق يبلغنا‪ :‬نحن أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم ما سيحدث لهم مع السلم‪َ {:‬و َقضَيْنَآ إِلَىا بَنِي‬
‫ن وَلَ َتعْلُنّ عُُلوّا كَبِيرا * فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ أُول ُهمَا َبعَثْنَا‬
‫إِسْرَائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ لَ ُتفْسِدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْ ِ‬
‫ن وَعْدا ّم ْفعُولً }[السراء‪]5-4 :‬‬
‫للَ الدّيَا ِر َوكَا َ‬
‫شدِيدٍ َفجَاسُواْ خِ َ‬
‫عَلَ ْيكُمْ عِبَادا لّنَآ ُأوْلِي بَأْسٍ َ‬
‫وبعض الناس يقولون‪ :‬إن هذا كان أيام بختنصر؛ ونقول لهم‪ :‬افهموا قول الحق‪ } :‬فَإِذَا جَآ َء وَعْدُ‬
‫أُول ُهمَا { وكلمة " وعد " ل تأتي لشيء يسبق الكلم بل الشيء يأتي من بعد ذلك‪ .‬إذن فلم يكن‬
‫ذلك في زمان بختنصر‪ .‬فـ " إذا " الموجودة أولً هي ظرف لما يُستقبل من الزمان‪ ،‬أي بعد أن‬
‫جاء هذا الكلم‪ .‬ثم هل كان بختنصر يدخل ضمن عباد ال؟‪ .‬إن قوله الحق‪ } :‬عِبَادا لّنَآ { مقصود‬
‫به الجنود اليمانيون‪ ،‬وبختنصر هذا كان فارسيا مجوسيا‪.‬‬
‫وهذا القول الحكيم يشير إلى الفساد الول مع رسول ال بعد العهد الذي أعطاه رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬ثم أجلهم‪.‬‬

‫علَ ْيكُمْ عِبَادا لّنَآ ُأوْلِي بَ ْأسٍ‬


‫وهل هي تقتصر على هذه؟ يقول سبحانه‪ {:‬فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُول ُهمَا َبعَثْنَا َ‬
‫للَ الدّيَا ِر َوكَانَ وَعْدا ّمفْعُولً }[السراء‪]5 :‬‬
‫شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِ َ‬
‫ولنا أن نسأل‪ :‬وهل لم يفسد بنو إسرائيل في الرض إل مرتين؟‪ .‬ل‪ ،‬لول أنهم لم يفسدوا في‬
‫الرض سوى مرتين‪ ،‬لكان ذلك بالقياس إلى مافعلوه أمرا طيبا؛ فقد أفسدوا أكثر من ذلك بكثير‪.‬‬
‫ولبد أن يكون إفسادهم في الرض المقصودة هو الفساد الذي صنعوه بالرض التي كانت في‬
‫شدِيدٍ { فمادام يوجد " عباد‬
‫حضانة السلم‪ ،‬وسبحانه قد قال‪َ } :‬بعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادا لّنَآ ُأوْلِي بَأْسٍ َ‬
‫ال خالصوا اليمان وأعدوا العدة فل بد أن يتحقق وعد ال‪ ،‬لكن إذا ما تخلى الناس عن هذا‬
‫الوصف؛ فعلى الناس الذين يعانون من إفساد بني إسرائيل أن يتلقوا ما قاله ال‪ُ {:‬ثمّ رَ َددْنَا َلكُمُ‬
‫ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْيهِمْ }[السراء‪]6 :‬‬
‫فكأن الكّرّة ل ترد إل إذا كان القوم المؤمنون على غير مطلوب اليمان‪ .‬فإذا ما تساءل بعض‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المؤمنين‪ :‬ولماذا تجعل يا ال الكّرّة لبني إسرائيل؟‪ .‬تكون الجابة‪ :‬لنكم أيها الناس قد تخلفتم عن‬
‫مطلوب العبودية الخالصة ل‪ .‬ومادمنا قد تخلفنا عن مفهوم " عباد ال " فل بد أن تحدث لنا تلك‬
‫السلسلة الطويلة التي نعرفها من عدوان بني إسرائيل‪ .‬ونحن الن في مواجهة اليهود في مرحلة‬
‫قوله الحق‪ {:‬ثُمّ َردَدْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْيهِمْ }[السراء‪]6 :‬‬
‫فإذا كنا عبادا ل فلن يتمكنوا منا‪ .‬وال سبحانه وتعالى حينما يتكلم بقضية قرآنية فل بد أن تأتي‬
‫القضية الكونية مصدقة لها‪.‬‬
‫ولو استمر المر دون كرّة من اليهود علينا‪ ،‬بينما نحن قد ابتعدنا عن منهجنا وأصبح كل يتبع‬
‫هواه‪ ،‬لكانت القضية القرآنية غير ثابتة‪ .‬ولكن ل بد من أن تأتي أحداث الكون مطابقة للقضية‬
‫القرآنية‪ .‬ولذلك رأينا أن بعض العارفين الذين نعتقد قربهم من ال حينما جاء أحدهم خبر دخول‬
‫اليهود بيت المقدس سجد ل‪.‬‬
‫فقلنا‪ " :‬أتسجد ل على دخول اليهود بيت المقدس "‪ .‬فقال‪ :‬نعم‪ .‬صدق ربنا لنه قد قال‪ } :‬وَلِيَدْخُلُواْ‬
‫سجِدَ َكمَا َدخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّرةٍ { هكذا قال الحق‪ ،‬وهل يكون دخول لثاني مرة إل إذا كان هناك‬
‫ا ْلمَ ْ‬
‫خروج من أول مرة؟‪ .‬لقد حمد ذلك العارف بال ربنا لن قضايا القرآن تتأكد بالكونيات‪ ،‬فإذا ما‬
‫قال الحق‪َ {:‬ردَدْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ }[السراء‪]6 :‬‬
‫فليست المسألة أنهم لكونهم يهودا ل يعطيهم ال الكّ ّرةَ‪ .‬ولكن القضية هي أننا عندما نكون عبادا ل‬
‫حقيقة‪ ..‬اعتقادا وسلوكا‪ ..‬قول وعمل ننتصر عليهم‪ {.‬ثُمّ رَدَدْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْي ِه ْم وََأمْدَدْنَاكُم بَِأ ْموَالٍ‬
‫جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ َنفِيرا }[السراء‪]6 :‬‬
‫وَبَنِينَ وَ َ‬
‫وهم أغنياء لنهم يديرون معظم حركة المال في العالم المعاصر‪.‬‬

‫ولنهم جميعا في الجيش المدافع عن دولتهم‪ .‬وذلك معنى بنين وأكثر نفيرا‪ .‬النفير هو ما يستنفره‬
‫النسان لنجدته؛ لن قوة ذاته قاصرة عن الفعل‪ .‬واليهود ليسوا قوة ذاتية بمفرد دولتهم‪ ،‬ولكن‬
‫وراءهم أهم قوى في العالم المعاصر‪.‬‬
‫إذن فقوله الحق‪ {:‬وََأمْدَدْنَاكُم بَِأ ْموَالٍ }[السراء‪]6 :‬‬
‫قول صدق وحق‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ {:‬وَبَنِينَ }[السراء‪]6 :‬‬
‫قول صدق وحق‪.‬‬
‫جعَلْنَا ُكمْ َأكْثَرَ َنفِيرا }[السراء‪]6 :‬‬
‫وقوله الحق‪ {:‬وَ َ‬
‫قول صدق وحق‪.‬‬
‫سكُ ْم وَإِنْ َأسَأْتُمْ فََلهَا }[السراء‪:‬‬
‫حسَنْتُ ْم لَ ْنفُ ِ‬
‫ثم بعد ذلك يحسم ال قضيته ويقول لليهود‪ {:‬إِنْ َأحْسَنْ ُتمْ أَ ْ‬
‫‪]7‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهل تستمر الكرّة يا رب؟‪.‬‬
‫عدُ الخِ َرةِ لِيَسُوءُو ْا وُجُو َه ُكمْ }[السراء‪]7 :‬‬
‫ل‪ .‬فها هوذا الحق سبحانه يقول‪ {:‬فَإِذَا جَآ َء وَ ْ‬
‫كأن الحق يعطينا البشارة بأننا سننتصر؛ ويكون النتصار مرهونا بتنفيذ القاعدة التي شرعها ال‬
‫بأن نكون عبادا ل حقا‪ ،‬عندئذ سَ َي ِكلُ ال لنا تنفيذ وعده لليهود‪ {:‬لِيَسُوءُو ْا وُجُو َهكُمْ }[السراء‪]7 :‬‬
‫وأشرف ما في النسان هو الوجه‪ ،‬وعندما نكون عبادا ل سنسوء وجوههم‪ ،‬وفوق ذلك‪ {:‬وَلِيَدْخُلُواْ‬
‫سجِدَ َكمَا َدخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَلِيُتَبّرُواْ مَا عََلوْاْ تَتْبِيرا }[السراء‪]7 :‬‬
‫ا ْلمَ ْ‬
‫ولم يأت الحق بذكر المسجد من قبل‪ ،‬فها هوذا قوله الكريم‪َ {:‬و َقضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ‬
‫ن وَلَ َتعْلُنّ عُُلوّا كَبِيرا * فَإِذَا جَآ َء وَعْدُ أُول ُهمَا َبعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادا لّنَآ ُأوْلِي‬
‫لَ ُتفْسِدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْ ِ‬
‫ن وَعْدا ّم ْفعُولً }[السراء‪]5-4 :‬‬
‫للَ الدّيَا ِر َوكَا َ‬
‫شدِيدٍ َفجَاسُواْ خِ َ‬
‫بَأْسٍ َ‬
‫إذن فالحق هنا لم يأت بذكر المسجد في أول مرة‪ .‬فكيف يكون دخولنا المسجد إذن؟‪ .‬لقد دخلنا‬
‫المسجد القصى أول مرة في المتداد السلمي في عهد عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه‪.‬‬
‫والمسجد القصى أيام عمر بن الخطاب لم يكن في نطاق بني إسرائيل‪ ،‬ولكن كان في نطاق‬
‫الدولة الرومانية‪ ،‬فدخولنا المسجد أول مرة لم يكن نكاية فيهم‪ .‬ولكن الحق جاء بالمرة الثانية هنا‬
‫جدَ َكمَا َدخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّرةٍ }[السراء‪]7 :‬‬
‫والمسجد في نطاق سيطرة بني إسرائيل‪ {.‬وَلِيَ ْدخُلُواْ ا ْلمَسْ ِ‬
‫سنكون نحن إذن عبادا لَلّهِ ذوي البأس الشديد الذين سندخل المسجد القصى كما دخلناه أول مرة‪،‬‬
‫وجاء الحق سبحانه بالمسجد هنا؛ لن دخول المسجد أول مرة لم يكن إذللً لليهود‪ ،‬فقد كانت‬
‫السلطة السياسية في ذلك الزمن تتبع ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬الدولة الرومانية‪.‬‬
‫ويضيف الحق من بعد ذلك‪ {:‬وَلِيُتَبّرُواْ مَا عََلوْاْ تَتْبِيرا }[السراء‪]7 :‬‬
‫وحتى نتبر ما ُيعْلُونه ‪ -‬أي نجعله خرابا ‪ -‬لبد أن تمر مدة ليعلوا في البينان‪.‬‬
‫وعلينا أن نعد أنفسنا لتكون عبادا ل لنعيش وعد الخرة وقد جعلها ال وعدا تشريعيا‪ ،‬فإذا عدنا‬
‫عبادا ل فسندخل المسجد ونتبر ما علوا تتبيرا‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى في آيات سورة المائدة التي‬
‫نحن بصدد خواطرنا عنها يأتي بلقطة عن بلغه لسيدنا موسى بعد خروجه مع قومه من مصر‪،‬‬
‫سةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َلكُمْ وَلَ تَرْتَدّوا عَلَىا أَدْبَا ِركُمْ فَتَ ْنقَلِبُوا‬
‫خلُوا الَ ْرضَ ال ُمقَدّ َ‬
‫فقال‪ {:‬يَا َقوْمِ ادْ ُ‬
‫خَاسِرِينَ }[المائدة‪]21 :‬‬
‫وقلنا إن الكتابة هنا تشريعية وليست كونية‪ ،‬فلو كان المر كونيا لدخلوا الرض المقدسة بدون‬
‫عقبات وبدون صراع وبدون قتال‪.‬‬

‫والدليل على أن الكتابة تشريعية هو قوله الحق‪َ } :‬ولَ تَرْتَدّوا عَلَىا َأدْبَا ِركُمْ فَتَ ْنقَلِبُوا خَاسِرِينَ { أي‬
‫أنكم إن ارتددتم على أدباركم انقلبتم خاسرين‪ .‬فإن أطعتم ال ودخلتم الرض دون إدبار‪،‬‬
‫فستدخلون الرض‪ ،‬وإن لم تفعلوا فلن تدخلوها‪ .‬إذن ليست كتابة الرض هنا كونية‪ ،‬ولكنها‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تشريعية‪.‬‬
‫وقوله الحق‪َ } :‬ولَ تَرْتَدّوا عَلَىا َأدْبَا ِركُمْ { يشرح لنا طبيعة مواجهة الخصم؛ فالنسان حين يواجه‬
‫خصمه فهو يواجهه بوجهه‪ .‬فإن فرّ الخصم من أمامه فهو يولي أدباره‪ .‬والتولي على الدبار‬
‫يكون على لونين‪ :‬لون هو الدبار من أجل أن ينحرف النسان إلى جماعة وفئة لتشتد قوتهم‬
‫ويقووا على هزيمة العدو أو يصنع مكيدة؛ ليعيد مواجهة الخصم‪ ،‬ولون آخر وهو الفرار وذلك‬
‫مذموم‪ ،‬ومن المعاصي الموبقات المهلكات‪ .‬وفي ذلك يقول الحق سبحانه‪َ {:‬ومَن ُيوَّلهِمْ َي ْومَئِذٍ دُبُ َرهُ‬
‫ضبٍ مّنَ اللّهِ }[النفال‪]16 :‬‬
‫ِإلّ مُتَحَرّفا ّلقِتَالٍ َأوْ مُ َتحَيّزا إِلَىا فِئَةٍ َفقَدْ بَآءَ ِب َغ َ‬
‫فالرتداد على الدبار ليس مذموما إن كان من أجل حيلة أو صنع كمين للعدو‪ .‬وفي هذه الحالة ل‬
‫بأس أن يرتد النسان‪ ،‬أما خلف ذلك فهو مذموم‪ .‬وهل الرتداد على الدبار رجوع بالظهر إلى‬
‫الوراء مع الحتفاظ بالوجه في مواجهة الخصم؟‪ .‬أو هو التفات بالوجه ناحية الدبر وفرار من‬
‫العدو؟‪ .‬كل المرين يصح‪ .‬وقد جاء المر إلى بني إسرائيلَ بعدم الفِرار ليدخلوا الرض فماذا‬
‫كان موقفهم مادامت الكتابة لهذا المر تشريعية؟‪.‬‬

‫(‪)683 /‬‬

‫ن وَإِنّا لَنْ نَ ْدخَُلهَا حَتّى َيخْرُجُوا مِ ْنهَا فَإِنْ َيخْرُجُوا مِ ْنهَا فَإِنّا‬
‫قَالُوا يَا مُوسَى إِنّ فِيهَا َقوْمًا جَبّارِي َ‬
‫دَاخِلُونَ (‪)22‬‬

‫كيف إذن يعلنون هذا التمرد على امر الحق؟‪ .‬وكيف علموا أن فيها قوما جبارين؟‪ .‬ولنا أن ننتبه‬
‫عشَرَ َنقِيبا }[المائدة‪]12 :‬‬
‫إلى أن الحق قد قال من قبل‪ {:‬وَ َبعَثْنَا مِنهُمُ اثْ َنيْ َ‬
‫فقد ذهب النقباء أولً وتجسسوا ونقبوا وعرفوا قصة هذه الرض المقدسة‪ ،‬وأن فيها جماعة من‬
‫العمالقة الكنعانيين‪ .‬وساعة رأوا هؤلء القوم‪ ،‬قالوا لنفسهم‪ :‬هل سنستطيع أن نقاوم هؤلء الناس؟‬
‫إن ذلك أمر ل يصدق؛ لذلك لن ندخلها ما داموا فيها‪ .‬إذن فقد تخاذلوا وارتدوا على أدبارهم‪.‬‬
‫{ قَالُوا يَامُوسَىا إِنّ فِيهَا َقوْما جَبّارِينَ }‪.‬‬
‫وساعة أن تسمع كلمة " جَبّار " تجدها أمرا معنويا أُخذ من المحسات؛ فالجبارة هي النخلة التي ل‬
‫تطولها يد النسان إذا أراد أن يجني ثمارها‪ .‬وعندما تكون ثمار النخلة في متناول يد النسان حين‬
‫يجني ثمارها فهي دانية القطوف‪ ،‬أما التي ل تطولها يد النسان لحظة الجني للثمار فهي جَبّارة؛‬
‫لذلك أخذ هذا المعنى ليعبر عن الذي ل يقهر فسمي جبارا‪ ،‬وقد يكون الجبار مُكرِها ولكن على‬
‫الصلح‪ ،‬وفي بلدنا نطلق على من يصلح كسور العظام " المجبراتي "‪.‬‬
‫أي أنه يجبر العظام على أن تعود إلى مكانها الطبيعي‪ .‬وقد يتألم النسان من ذلك‪ ،‬ولكن في هذا‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إصلح لحياة النسان‪ .‬و " الجَبّار " اسم من أسماء ال؛ لنه سبحانه َي ْقهَر ول يُقهَر‪ .‬وقد يُكرهنا‬
‫سبحانه وتعالى حتى يصلحنا‪ .‬ويخنبرنا بالبتلءات حتى يمحصنا وتستوي حياتنا‪.‬‬
‫إذن فـ " الجبار " صفة كمال في الحق لنه يستعمل جبروته في الخير ويقهر الظالمين والمعاندين‬
‫والمكابرين‪ ،‬وذلك لمصلحة الخيار الطيبين‪ .‬وهو سبحانه وتعالى ل يُقهَر‪ .‬فعندما يكون في صف‬
‫جماعة فإن أحدا ل يغلبهم‪ ،‬أما الجبار كصفة في الخلق فعي مذمومة؛ لن التجبر هنا بدون أصالة‬
‫كالبناء الجوف‪ .‬فالمتجبر قد يصيبه قليل من الصداع فيرقد متوجعا‪.‬‬
‫إننا نرى أمثلة لذلك في حياتنا‪ ،‬نجد المتجبر يصاب بأزمة قلبية فيحمل على نقالة إلى المستشفى‪،‬‬
‫ونجد جبارا آخر يصاب بقليل من المغص‪ ،‬فيجري وهو ممسك ببطنه فيضحك عليه الطفال‪.‬‬
‫ويقولون له ما معناه‪ :‬العب بعيدا فلست جبارا ول فتوة ول أي شيء‪ .‬والجبار إن أراد أن يكون‬
‫كذلك فعليه أن يكون صاحب رصيد مستمر‪ ،‬فل تراه يوما غير جبار‪ .‬ول يكون التجبر صفة‬
‫ذاتية إل ل سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ويقول الحق‪ { :‬وَإِنّا لَن نّدْخَُلهَا حَتّىا يَخْ ُرجُواْ مِ ْنهَا } وساعة نسمع " لن " تسبق الفعل فلنعرف أنها‬
‫للنفي‪ .‬والنفي قد يأخذ زمنا طويلً‪ ،‬وقد يأخذ زمنا تأبيديا‪ .‬والفرق بين الدخول فقط والدخول‬
‫التأبيدي‪ ،‬أن الدخول الول له زمن ينهيه‪ ،‬والدخول الثاني ل زمن له لينهيه كدخول المؤمنين‬
‫الجنة‪.‬‬
‫وإذا عين الدخول بغاية كقولهم‪ { :‬وَإِنّا لَن نّدْخَُلهَا حَتّىا يَخْ ُرجُواْ مِ ْنهَا } أي أن النفي التأبيدي‬
‫مرتبط بغاية وهي خروج القوم الجبارين‪ .‬والتأبيد هنا إضافي لنهم قالوا‪ :‬إنهم لن يدخلوا الرض‬
‫في مدة وجود الجبارين‪.‬‬
‫{ فَإِن َيخْرُجُواْ مِ ْنهَا فَإِنّا دَاخِلُونَ } ونقول‪ :‬وهل المم التي تخطو إلى الشر وتمارسه يمتنع فيها‬
‫وجود عناصر الخير؟‪ .‬ل؛ لن الحق يبقي بعضا من عناصر الخير حتى ل ينطمس الخير‪ ،‬وهذا‬
‫ما يوضحه الحق في بني إسرائيل عندما قالوا لموسى هذا القول‪ ،‬فقد خالفهم رجلن منهم‪ { :‬قَالَ‬
‫رَجُلَنِ مِنَ الّذِينَ‪} ...‬‬

‫(‪)684 /‬‬

‫ن وَعَلَى‬
‫علَ ْي ِهمَا ادْخُلُوا عَلَ ْي ِهمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْ ُتمُوهُ فَإِ ّنكُمْ غَالِبُو َ‬
‫قَالَ َرجُلَانِ مِنَ الّذِينَ يَخَافُونَ أَ ْن َعمَ اللّهُ َ‬
‫اللّهِ فَ َت َوكّلُوا إِنْ كُنْتُمْ ُمؤْمِنِينَ (‪)23‬‬

‫وهما رجلن يخالفان النكوص عن أمر ال‪ ،‬بينما بنو إسرائيل ‪ -‬كمجموع ‪ -‬لم يفهموا عن ال‬
‫حق الفهم؛ لنهم لو نفذوا أمر ال لهم بالدخول إلى الرض المقدسة ولم ينكصوا لمكنهم ال من‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذلك‪ .‬لكن لم يفهم عن ال فيها إل رجلن‪ .‬وهما كالب‪ ،‬ويوشع بن نون‪ ،‬أحدهما من سبط يهوذا‬
‫والخر من سبط افرايم‪ ،‬وهما ابنا يوسف عليه السلم‪ ،‬فقد قال‪ :‬مادام ال قد كتب لكم الدخول‪،‬‬
‫فهو ل يطلب منا إل قليلً من الجهاد‪.‬‬
‫فحين يأمر ال النسان بعمل من العمال‪ ،‬فيكفيه أن يتوجه إلى العمل اتجاها والمعونة من ال‪.‬‬
‫وسبحانه يقول للعبد‪ " :‬أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني‪ .‬فإن ذكرني في نفسه ذكرته في‬
‫نفسي‪ ،‬وإن ذكرني في ملٍ‪ ،‬ذكرته في مل خير منهم‪ ،‬وإن تقرّب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعا‪،‬‬
‫وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا‪ ،‬وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "‪.‬‬
‫فإذا كان الشأن في المشي أن يتعب الذاهب والسائر‪ ،‬فال ل يرد أن يرهق بالمشي من يقصده‬
‫ويطلبه؛ لذلك يُهرول فضله ورحمته ‪ -‬سبحانه ‪ -‬إلى العبد‪ .‬فالرغبة الولى أن يكون العمل لك‬
‫أنت أيها العبد‪ .‬ومن عظائم فضل ال أنه فعل ونسب إليك‪ .‬وسبحانه يسعد بالعبد الساعي إليه‪.‬‬
‫وأضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬لنفترض أنك أردت أن تمسك سيفا‪ ،‬لماذا ل تحلل‬
‫المسألة؟‪ .‬السيف الذي تمسكه‪ ،‬صنعته من الحديد‪ ،‬والحديد استخرجته من الرض‪.‬‬
‫حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ َومَنَافِعُ لِلنّاسِ }[الحديد‪]25 :‬‬
‫والحق قال‪ {:‬وَأَنزَلْنَا الْ َ‬
‫إن الحق هو الذي أنزل الحديد‪ ،‬وهو الذي علمنا كيف نصقل الحديد ونشكله بالنار‪ {:‬وَعَّلمْنَاهُ‬
‫س ُكمْ }[النبياء‪]80 :‬‬
‫حصِ َنكُمْ مّن بَأْ ِ‬
‫صَ ْنعَةَ لَبُوسٍ ّلكُمْ لِ ُت ْ‬
‫وأنا أريد من علماء وظائف العضاء أن يحددوا لنا ساعة أن يمسك النسان بشيء وليكن السيف‪.‬‬
‫فبأي عضلة يمسك النسان السيف؟‪ .‬وكيف يأمرها النسان بذلك؟‪ .‬وكم عضلة وكم خلية عصبية‬
‫تحركت من أجل أداء هذا الفعل؟‪ .‬على الرغم من أن النسان بمجرد إرادته أن يمسك شيئا‪ .‬فهو‬
‫يمسك به‪ .‬والنسان إذا ما مشى خطوة واحدة‪ ،‬فبأي العضلت بدأ المشي‪.‬‬
‫إن النسان عندما يحرك ذراعا آليا في جهاز آلي؛ يصمم عشرات الوصلت والدوات والدورات‬
‫الكهربية من أجل تحريك ذراع آلي‪ ،‬فكم إذن من عضلت في النسان تتحرك بالسير لخطوة‬
‫واحدة؟ إن الكثير جدا من أجهزة النسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة‪ .‬إن الكثير جدا من أجهزة‬
‫النسان تتحرك لمجرد الرادة منه!!‪ .‬فإذا كانت إرادة النسان تفعل لمجرد أن يريد سواء أكانت‬
‫هذه الرادة هي المساك بالسيف أم حتى المشي لخطوة واحدة‪ ،‬أم حتى المساك بالقلم بين‬
‫الصابع للكتابة‪.‬‬

‫فليعلم النسان أن الرادة عطاء من ال والنسان ل يستطيع تحديد مواقع إرادته من جسده فما‬
‫بالنا بالحق حين يريد أمرا؟‬
‫ولنعد إلى الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الن‪ {:‬قَالَ َرجُلَنِ مِنَ الّذِينَ َيخَافُونَ أَ ْنعَمَ اللّهُ‬
‫عَلَ ْي ِهمَا ا ْدخُلُواْ عَلَ ْيهِمُ الْبَابَ فَإِذَا َدخَلْ ُتمُوهُ فَإِ ّنكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَ َت َوكّلُواْ إِن كُنتُم ّم ْؤمِنِينَ }[المائدة‪:‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪]23‬‬
‫لقد أنعم ال على هذين الرجلين بحسن الفهم عن ال‪ ،‬فقال لبني إسرائيل‪ :‬ساعدوا أنفسكم بدخول‬
‫هذه الرض وسينصركم ال‪ .‬ومثل الرجلين كمثل الم التي طلب منها ابنها أن تدعو له بالنجاح‪،‬‬
‫فقالت الم لبنها‪ :‬سأدعو لك ولكن عليك فقط أن تساعد الدعاء بالقبال على الستذكار‪ .‬وكأن‬
‫الخوف من مخالفة أمر ال نعمة على هذين الرجلين‪ ،‬وكأن الفهم عن ال لعباراته نعمة‪.‬‬
‫} ادْخُلُواْ عَلَ ْي ِهمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْ ُتمُوهُ فَإِ ّنكُمْ غَالِبُونَ { كأنهم بمجرد الدخول سيغلبون هؤلء العمالقة‪.‬‬
‫فلم يطلب منهم قتال هؤلء العمالقة‪ .‬بل ساعة يراهم القوم الجبارون يدخلون عليهم فجأة فسوف‬
‫يذهلهم الرعب‪.‬‬
‫وهم عندما نسجوا الساطير حول هذه القصة قالوا‪ :‬إن أحد هؤلء العمالقة واسمه عوج بن عناق‬
‫خرج إلى بستان خارج المدينة ليقطف بعض الثمار لرئيسه؛ فخطف اثنين من هؤلء الناس‬
‫وخبأهما في كمّه‪ ،‬وألقاهما أمام رئيسه وهو يقدم الفاكهة إليه وقال الرجل العملق لرئيسه‪ :‬هذان‬
‫من الجماعة التي تريد أن تدخل مدينتنا‪ .‬هذه هي المبالغة التي صنعها خوفهم من هؤلء العمالقة‪،‬‬
‫برغم أن رجلين منهما أحسنا الفهم عن اللّه بقولهما‪ } :‬ا ْدخُلُواْ عَلَ ْيهِمُ الْبَابَ {؛ لن هذا هو مراد‬
‫ال‪ ،‬وهو الذي يحقق لهم النصر‪.‬‬
‫وبعض المفسرين قالوا في شرح هذه الية‪ :‬إن الرجلين اللذين قال ذلك ليسا من بني إسرائيل؛ لن‬
‫هؤلء المفسرين فهموا القول الحكيم‪ } :‬قَالَ رَجُلَنِ مِنَ الّذِينَ َيخَافُونَ { قالوا هما رجلن من الذين‬
‫يخاف منهم بنو إسرائيل‪ ،‬وقال لبني إسرائيل‪ :‬ل يُخيفكم ول يُرهبكم عظم أجسام هؤلء فإن جنود‬
‫ال ستنصركم‪َ {:‬ومَا َيعَْلمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ }[المدثر‪]31 :‬‬
‫ويختتم الحق الية بهذا التذييل‪ } :‬وَعَلَى اللّهِ فَ َت َوكّلُواْ إِن كُنتُم ّم ْؤمِنِينَ { أي ل تتوقفوا عند حساب‬
‫العدد في مواجهة العدد‪ ،‬والعُدة في مواجهة العُدة‪ ،‬ولكن احسبوا المر إيمانيا لن اللّه معكم } إِن‬
‫تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُ ْركُمْ {‪.‬‬
‫وهو سبحانه القائل‪ {:‬وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪]173 :‬‬
‫وعلى المؤمن باللّه أن يضع هذا اليمان في كف قوته‪ .‬فإن كان هؤلء الناس من بني إسرائيل‬
‫المأمورين بدخول تلك الرض مؤمنين بحق فليتوكلوا على اللّه‪.‬‬
‫فماذا قال هؤلء القوم‪ } :‬قَالُواْ يَامُوسَى‪{ ...‬‬

‫(‪)685 /‬‬

‫عدُونَ (‪)24‬‬
‫ت وَرَ ّبكَ َفقَاتِلَا إِنّا هَاهُنَا قَا ِ‬
‫قَالُوا يَا مُوسَى إِنّا لَنْ نَ ْدخَُلهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْ َهبْ أَ ْن َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كأن خلصة قولهم لموسى عليه السلم‪ :‬ل ترهق نفسك معنا ووفّر عليك جهدك فنحن لن ندخل‬
‫هذه الرض‪ ،‬مادام هؤلء العمالقة فيها‪ .‬وإن كانت مصرّا على دخولنا هذه الرض فاذهب أنت‬
‫وربك فقاتل ونحن بانتظاركما هنا قاعدون‪ .‬هكذا بلغ بهم الخوف أن سخروا من موسى وربّ‬
‫موسى‪ .‬وهكذا وصل بهم الستهزاء إلى تلك الدرجة المُزرية‪ .‬ولم يكن ذلك بالمر الجديد عليهم‬
‫جهْ َرةً }[النساء‪]153 :‬‬
‫فقد قالوا من قبل‪ {:‬أَرِنَا اللّهَ َ‬
‫ومن قبل ذلك أيضا عبدوا العجل‪ .‬فماذا يقول موسى‪ { :‬قَالَ َربّ إِنّي ل‪} ...‬‬

‫(‪)686 /‬‬

‫سقِينَ (‪)25‬‬
‫قَالَ َربّ إِنّي لَا َأمِْلكُ ِإلّا َنفْسِي وََأخِي فَافْ ُرقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬

‫وكان هارون أخا لموسى عليه السلم ومُرسلً مثله؛ فكأن موسى عليه السلم قد أعلن عدم ثقته‬
‫في هؤلء القوم الذين أرسله اللّه إليهم؛ حتى ول يوشع بن نون ول كالب‪ ،‬وهما الرجلن اللذان‬
‫قال لبني إسرائيل‪ :‬إنه يكفي دخول الباب لتهزموا هؤلء الناس العمالقة‪ .‬لكن أكانت نفس أخيه‬
‫مملوكة له؟ أم أنه قال ما فحواه‪ :‬إني ل أملك إل نفسي وكذلك أخي ل يملك إل نفسه‪ ،‬أما بقية‬
‫القوم فقد سمعت منهم يارب أنهم لم يدخلوا هذه الرض مادام بها هؤلء العمالقة‪ .‬إذن فأنا وأخي‬
‫في طرف وبقية القوم في طرف آخر؛ لذلك افصل بيننا وبين هؤلء القوم الفاسقين‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى في هذا التعبير القرآني يأتي بهذه الكلمات على لسان سيدنا موسى والتي‬
‫تحتمل أن يرقّ لها قلب واحد من أتباع موسى عليه السلم فيقول لموسى‪ :‬إنني معك‪ .‬ولذلك جاء‬
‫سقِينَ }‪ .‬ومعنى الفاسقين ‪ -‬كما عرفنا ‪ -‬هم من خرجوا‬
‫قول موسى‪ { :‬فَافْ ُرقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬
‫عن اليمان‪ ،‬كما تفسق الرطبة؛ فالبلحة عندما ترطّب فإن قشرتها تتسع عن حجمها؛ فتخرج‬
‫الرطبة من قشرتها؛ ويقال فسقت الرطبة؛ فكأن اليمان كالجلد والجلد كالقشرة‪ .‬وهو كغلف يحيط‬
‫بالنسان‪ .‬وعندما يفسق النسان عن اليمان فهو يخرج عن قانون الصيانة‪ ،‬وكذلك كان فسق بني‬
‫إسرائيل؛ لذلك قال الحق‪ { :‬قَالَ فَإِ ّنهَا مُحَ ّرمَةٌ‪} ...‬‬

‫(‪)687 /‬‬

‫سقِينَ (‪)26‬‬
‫قَالَ فَإِ ّنهَا ُمحَ ّرمَةٌ عَلَ ْيهِمْ أَرْ َبعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَ ْرضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهل كان التحريم مدته أربعون عاما؟ أو أنه قال‪ " :‬إنها مُحرّمة عليهم " وانتهى المر لنهم تَأَبّوا‬
‫على أن يدخلوها؟‪ .‬ولذلك فكل الذين قالوا‪ " :‬لن ندخلها أبدا ماداموا فيها " لم يعش منهم أحد ليدخل‬
‫هذه الرض‪ .‬وبعد ذلك صدر الحكم التي‪ { :‬أَرْ َبعِينَ سَ َنةً يَتِيهُونَ فِي الَ ْرضِ } فهل هذا القول هو‬
‫استئناف للقول السابق فيكون ظرفا لـ " مُحرّمة "‪ .‬أو هو حكم منفصل؟‪.‬‬
‫تصح هذه‪ ،‬وتصح تلك‪ .‬والتيه هو كما نقول‪ :‬فلن تاه أي سار على غير هدى ول يعرف لنفسه‬
‫مدخلً ول مخرجا‪ ،‬والواحد عندما يدخل في مجال متشعب المسالك ومتعرج الطرقات‪ ،‬فهو ل‬
‫يعرف كيفية الخروج منه‪ ،‬هذا هو التيه‪ .‬ولكن كم فرسخا هي مساحة التيه؟‪ .‬حدّدها العلماء بستة‬
‫فراسخ [والفرسخ قدر ثلثة أميال]‪ .‬كيف يتيهون في تلك المساحة الضيقة من الرض؟‬
‫لقد أراد ال ذلك؛ لنهم ساعة يمشون ويرهقون فينامون ويأتي عليهم الصباح ليجدوا أنفسهم عند‬
‫النقطة التي بدأوا منها‪ ،‬وكانوا يضعون العلمات ليضاح الطريق‪ ،‬لكنهم كل صباح كانوا يجدون‬
‫العلمات قد انتقلت من مكانها‪ .‬وظلّوا على هذا الوضع وفي هذا التيه إلى المد والوقت الذي‬
‫حدده ال وهو أربعون سنة يتيهون في الرض‪ .‬وحين يؤدبّ ال عاصيا يحفظ له من القوت‬
‫والرزق ما يبقى به حياته ولو كان كافرا؛ لنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود‪ ،‬ولهذا لم‬
‫يضنّ عليهم في التيه بما لم يضنّ به على الكافرين به سبحانه‪.‬‬
‫إذن حفظ الحياة أمر ضروري‪ .‬وعنما يرتكب إنسانٌ مَا ذنبا كبيرا في حق المجتمع فإننا نضعه في‬
‫السجن‪ ،‬ولكننا نطعمه ونسقيه‪ ،‬وعندما يرتقي المجتمع النساني‪ ،‬فهو يوفّر للسّجين عملً يتناسب‬
‫مع مواهبه ويحبس عنه حُرية الحركة في المجتمع‪ ،‬والسجين المذنب يظل في السجن‪ ،‬ولكنه يأكل‬
‫ويشرب وينام ويعمل‪ ،‬فقط تختلف المسألة في النقطة المهمة في الحياة وهي أن يتحرك المتحرك‬
‫وفق حريته‪ ،‬فما بالنا بالحق العظم عندما سجنهم في التيه؟‪ .‬لقد أطعمهم ال وسقاهم وأنزل عليهم‬
‫المَنّ والسّلوى‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬إن ال قد أنزل عليهم المَنّ والسّلوى ليعيشوا كُسَالى وغّرقى في التَكبر والغرور‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬ل‪ .‬فذلك الجراء اللهي من ضمن حكمه البالغة أن يطيل عليهم الوقت‪ .‬فلو أنه سبحانه‬
‫وتعالى قد جعلهم يزرعون ويحرثون لنشغلوا بأمور الحياة اليومية‪ ،‬لكن الحق أراد أن يُطيل‬
‫عليهم الحساس بالزمن‪ .‬فالمسألة ليست طعاما وشرابا‪ .‬ولكن هناك كرامة فوق الطعام وفوق‬
‫الشراب‪.‬‬
‫إننا نرى ذلك عندما نسمع عن اعتقالت لبعض الفراد الذين أساءوا للمجتمع‪ .‬وتسمح لهم‬
‫ن هؤلء المعتقلين يشعرون بالضيق من تقييد‬
‫السلطات بالطعام الذي يأتيهم من منازلهم‪ .‬ولك ّ‬
‫الحركة‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن أراد الحق لهم عقابا صارما في فترة التيه‪ .‬ولذلك نجد بعضهم يحسب المسألة والزمن في‬
‫فترة التيه‪ ،‬فيقول الواحد منهم ما ذكره الحق‪َ {:‬ووَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلَثِينَ لَ ْيلَ ًة وَأَ ْت َممْنَاهَا ِبعَشْرٍ فَ َتمّ‬
‫مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْ َبعِينَ لَيْلَ ًة َوقَالَ مُوسَىا لَخِيهِ هَارُونَ اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي }[العراف‪]142 :‬‬
‫وبعد أن رحل موسى عن القوم عبدوا العجل الذي صنعه لهم موسى السامريّ‪ ،‬وعاد إليهم موسى‬
‫وعاتب أخاه هارون العتاب القاسي‪ ،‬وعاقبهم ربهم على كفرهم أربعين سنة‪ .‬كأن كل يوم من‬
‫عبادة العجل صار سنة من العقاب في التيه‪ .‬ولنه َربّ ورحيم لم يتركهم دون أن يحفظ لهم‬
‫حياتهم بالقوت‪ ،‬فكان القوت هو المَنّ والسّلوى‪ .‬هل كان موسى عليه السلم معهم في التيه أم ل؟‬
‫وهل مات معهم في التيه أم ل‪.‬؟ تلك أسئلة ل تهمنا الجابة عنها بالرغم من أن بعض العلماء قد‬
‫شغلوا أنفسهم بها؛ فتلك أمور ل تنفع ول تضر‪ .‬المهم أن بني إسرائيل لم يدخلوا أريحا إل على يد‬
‫يوشع بن نون بعد الربعين سنة‪ {:‬قَالَ َربّ إِنّي ل َأمِْلكُ ِإلّ َنفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ا ْلقَوْمِ‬
‫سقِينَ }‬
‫سقِينَ * قَالَ فَإِ ّنهَا ُمحَ ّرمَةٌ عَلَ ْيهِمْ أَرْ َبعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الَ ْرضِ فَلَ تَأْسَ عَلَى ا ْلقَوْمِ ا ْلفَا ِ‬
‫ا ْلفَا ِ‬
‫[المائدة‪]26-25 :‬‬
‫ولنا أن نقرأ هذا القول الحكيم كما يلي‪ } :‬قَالَ َربّ إِنّي ل َأمِْلكُ ِإلّ َنفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ‬
‫سقِينَ * قَالَ فَإِ ّنهَا مُحَ ّر َمةٌ عَلَ ْيهِمْ {‪ .‬وهذا الوقف يعطينا الفهم بأن الرض المقدسة صارت‬
‫ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬
‫مُحّرمة عليهم إلى البد‪ .‬وبعد ذلك يأتي أمر ال بعقابهم في التيه أربعين سنة‪ } :‬أَرْ َبعِينَ سَ َنةً‬
‫سقِينَ {‪ .‬أما لو قرأنا هذا القول الحكيم كما يلي‪ } :‬قَالَ‬
‫يَتِيهُونَ فِي الَ ْرضِ فَلَ تَأْسَ عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬
‫سقِينَ * قَالَ فَإِ ّنهَا ُمحَ ّرمَةٌ عَلَ ْيهِمْ‬
‫َربّ إِنّي ل َأمِْلكُ ِإلّ َنفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬
‫سقِينَ { فهذه القراءة تتيح لنا الفهم بأن مدة‬
‫أَرْ َبعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الَ ْرضِ فَلَ تَأْسَ عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬
‫العقوبة لهؤلء القوم الفاسقين أربعون سنة في التيه‪ .‬ودخلوا بعدها مدينة أريحا‪.‬‬
‫ويأمر الحق موسى ألّ يحزن على هؤلء القوم الفاسقين‪ ،‬ذلك أن موسى عليه السلم عندما دعا‬
‫ال بقوله‪ } :‬فَافْرُقْ بَيْنَنَا { انتابه قدرٌ من الضّيق من هذا الدّعاء وقال لنفسه‪ :‬لماذا لم أدعُ لهم‬
‫سقِينَ { أي فل‬
‫بالهداية بدلً من أن أدعو بالفراق؟‪ ،‬ولذلك قال له الحق‪ } :‬فَلَ تَأْسَ عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ‬
‫تحزن عليهم لنهم ّأوْلَى بالعذاب لفسقهم ومخالفاتهم‪.‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪ } :‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ‪{ ...‬‬

‫(‪)688 /‬‬

‫حدِ ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لََأقْتُلَ ّنكَ قَالَ‬
‫وَا ْتلُ عَلَ ْي ِهمْ نَبَأَ ابْ َنيْ َآدَمَ بِا ْلحَقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَانًا فَ ُتقُ ّبلَ مِنْ أَ َ‬
‫إِ ّنمَا يَ َتقَبّلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ (‪)27‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وساعة يتلو النسان ‪ -‬أي يقرأ ‪ -‬فهو يتكلم بترتيب ما رآه من صُور؛ ذلك أن النسان عندما‬
‫يرى أمرا أو حادثة فهو يرى المجموع مرة واحدة‪ ،‬أو يرى كل صورة مكّونة للحدث منفصلة عن‬
‫غيرها‪ .‬وعندما يتكلم النسان فهو يرتّب الكلمات‪ ،‬كلمة من بعد كلمة‪ ،‬وحرفا من بعد حرف؛ إذن‬
‫فالمتابعة والتلوة أمر خاص بالكلم‪ { .‬وَا ْتلُ عَلَ ْي ِهمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَادَمَ بِا ْلحَقّ } والنبأ هو الخبر المهم‪،‬‬
‫فنحن ل نطلق النبأ على مطلق الخبر‪ .‬ولكن النبأ هو الخبر اللفت للنظر‪ .‬مثال ذلك قوله الحق‪{:‬‬
‫عَمّ يَ َتسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ }[النبأ‪]2-1 :‬‬
‫إذن فكلمة " نبأ " هي الخبر المهم الشديد الذي وقع وأثر عظيم‪.‬‬
‫حقّ } وساعة نسمع قوله الحق‪ " :‬بالحق " فلنعلم أن ذلك أمر نزل‬
‫{ وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَا َدمَ بِالْ َ‬
‫حقّ نَ َزلَ }[السراء‪:‬‬
‫من الحق فل تغيير فيه ول تبديل‪ .‬ولذلك قال سبحانه‪ {:‬وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَا ُه وَبِالْ َ‬
‫‪]105‬‬
‫أي أن ما أُنزل من عند ال لم يلتبس بغيره من الكلم‪ ،‬وبالحق الجامع لكل أوامر الخير والنواهي‬
‫حقّ } فسبحانه يحكي قصة‬
‫عن الشّر نزل‪ .‬وعندما يقول سبحانه‪ { :‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَا َدمَ بِالْ َ‬
‫قرآنية تحكي واقعة كونية‪ .‬ومادام ال هو الذي يقصّ فهو سيأتي بها على النموذج الكامل من‬
‫حقّ }[آل‬
‫صصُ الْ َ‬
‫الصدق والفائدة‪ .‬ولذلك يسمّيه سبحانه " القصص الحق "‪ {:‬إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ ا ْلقَ َ‬
‫عمران‪]62 :‬‬
‫صصِ }[يوسف‪]3 :‬‬
‫حسَنَ ا ْل َق َ‬
‫ويُسمّيه سبحانه‪ {:‬نَحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ أَ ْ‬
‫حقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَ ُتقُبّلَ مِن َأحَدِ ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَبّلْ مِنَ‬
‫وسبحانه يقول‪ { :‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَا َدمَ بِالْ َ‬
‫الخَرِ } ونعرف أن آدم هو أول الخلق البشري‪ ،‬وأن ابني آدم هما هابيل وقابيل‪ ،‬كما قال‬
‫المفسرون‪ .‬وقد قرّب كل منهما قربانا‪ .‬والقُربان هو ما يتقرب به العبد إلى ال‪ ،‬و " قربان " على‬
‫غفَر غُفرانا "‪ .‬وهي صيغة مبالغة في الحدث‪ .‬وهل قدّم‬
‫وزن " فعلن "‪ .‬فيقال‪َ " :‬كفَر كُفرانا " و " َ‬
‫الثنان قربانا واحدا؛ أم أن كل منهما قدّم قربانا خاصّا به؟ مادام الحق قد قبل من واحد منهما ولم‬
‫يتقبّل من الخر فمعنى ذلك أن كلّ منهما قدّم قربانا منفصلً عن الخر؛ لن ال قبل قربان واحد‬
‫منهما ولم يتقبل قربان الخر‪.‬‬
‫و " القربان‪ :‬مصدر‪ .‬والمصادر في التثنية وفي الجمع وفي التذكير والتأنيث ل يتغير نطقها أو‬
‫كتابتها‪ .‬فنحن نصف الرجل بقولنا‪ " :‬رجل عدل " وكذلك " امرأة عدل " و " رجلن عدل " و "‬
‫امرأتان عدل " و " رجال عدل " و " نساء عدل "‪ .‬إذن فالمصدر يستوي فيه المفرد والمثنى‬
‫والجمع والمذكر والمؤنث‪.‬‬

‫ونعلم أن آدم هو أول الخلق الدمي‪ ،‬وجاءت له حواء؛ وذلك من أجل اكتمال زوجية التكاثر؛ لن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيْءٍ خََلقْنَا َز ْوجَيْنِ }[الذاريات‪]49 :‬‬
‫التكاثر ل يأتي إل من ذكر وأنثى‪َ {:‬ومِن ُكلّ َ‬
‫فكل موجود أراد له الحق التكاثر فهو يخلق منه زوجين‪ {.‬سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا‬
‫سهِمْ }[يس‪]36 :‬‬
‫ض َومِنْ أَنفُ ِ‬
‫تُن ِبتُ الَرْ ُ‬
‫ونرى ذلك حين نقوم بتلقيح النخلة من طلع ذكر النخل‪ .‬وهناك بعض الكائنات ل نعرف لها ذكرا‬
‫وأنثى؛ إما لن الذكر غير موجود تحت أعيننا‪ ،‬ولكن يوجد على بعد والريح هي التي تحمل‬
‫سمَآءِ مَاءً }[الحجر‪]22 :‬‬
‫حبوب التلقيح‪ {:‬وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫فتأتي الريح بحبوب التلقيح من أي مكان لتخصب النبات‪ ،‬وإما أن الذكورة والنوثة يوجدان معا‬
‫في شيء واحد أو حيز واحد‪ ،‬مثال ذلك عُود الذّرة؛ حيث نجد ذكروته وأنوثته في شيء واحد؛‬
‫فقمّة العود فيها الذكورة ويخرج من كل " كوز " ذرة قدرا من الخيوط الرفيعة التي نسمّيها "‬
‫الشّوشة "‪ .‬وهذه هي حبال النوثة‪ .‬وينقل الهواء طلع الذكورة من سنبلة الذرة إلى " الشوشة " ‪،‬‬
‫وكل شعرة تأخذ من حبوب اللقاح كفايتها لتنضج الحبوب‪ ،‬وعندما تلتصق أوراق كوز الذرة ول‬
‫تسمح بخروج الخيوط الرفيعة لحبال النوثة‪ ،‬ول تصلها حبوب اللقاح‪ ،‬فيخرج كوز الذرة بل‬
‫نضج وبل حبوب ذرة‪ .‬وعندما نمسك بكوز الذرة ونفتحه قد نجد بعضا من حبوبه ميتة وهي تلك‬
‫التي لم تصلها حبوب اللقاح؛ لنها لم تملك خيطا من الحبال الرفيعة لتلتقط به حبوب اللقاح‪ .‬وحبّة‬
‫الذّرة التي لم يخرج لها خيط رفيع للتقاط حبوب اللقاح ل تنضج‪ .‬إذن فكل شيء فيه الذكورة‬
‫والنوثة‪ {.‬سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا }[يس‪]36 :‬‬
‫وكذلك قوله‪ :‬وَأَنّهُ خَلَقَ ال ّز ْوجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا {‪.‬‬
‫وكل ما يقال له شيء ل بد له من ذكر وأنثى‪ ،‬حتى المطر ل بد أن يلقح فلو لم يتم تلقيح المطر‬
‫بالذرات لما نزل المطر‪ ،‬وحتى الحصى فيه ذرات موجبة وذرات سالبة‪ .‬وعندما اخترعنا‬
‫شيْءٍ خََلقْنَا َزوْجَيْنِ‬
‫الكهرباء واكتشفنا الموجب والسالب ارتحنا‪ .‬إذن فعندما يقول الحق‪َ {:‬ومِن ُكلّ َ‬
‫َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ }[الذاريات‪]49 :‬‬
‫سهِ ْم َو ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }‬
‫ض َومِنْ أَنفُ ِ‬
‫ت الَ ْر ُ‬
‫وقوله سبحانه‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِب ُ‬
‫[يس‪]36 :‬‬
‫وهذا أول علم للعرب‪ ،‬فلم يكونوا من قبل القرآن أمّة علم‪.‬‬
‫وقد أوصل القرآن كل العلم للعرب حتى فاقوا غيرهم‪ ،‬عندما أحذوا بأسباب ال‪ ،‬لكن عندما‬
‫تراخوا وواصل غيرهم الخذ بالسباب تقدمت الكتشافات‪ ،‬وهذه الكتشافات نجدها مطمورة في‬
‫سهِ ْم َو ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس‪:‬‬
‫ض َومِنْ أَنفُ ِ‬
‫ت الَ ْر ُ‬
‫القرآن‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِب ُ‬
‫‪]36‬‬
‫إذن فكل ما يج ّد ويحدث ويكتشف من شيء فيه موجب وسالب أي ذكورة وأنوثة؛ يدخل في‬
‫نطاق‪َ {:‬و ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس‪]36 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والنسان سيد الوجود ل بد له من زوجين ذكر وأنثى للتكاثر ل لليجاد‪ ،‬أما اليجاد فهو ل‬
‫سبحانه وتعالى الذي أوجد كل شيء مَِن ل شيء‪.‬‬

‫وعندما جاء آدم وحواء وبدأ اللقاح والتكاثر أخذ عدد سكان الرض في النمو‪ .‬ولو أننا رجعنا‬
‫بالنسال في العالم كله رجعة متأخرة نجد العدد يقل إلى أن يصل إلى آدم وحواء‪ .‬مثال ذلك لو‬
‫عدنا إلى الوراء مائة عام لوجدنا تعداد مصر ل يتجاوز خمسة مليين نسمة على الكثر‪ ،‬ولو‬
‫عدنا إلى الوراء قرونا أكثر فإن التعداد يقل‪ ،‬إلى أن نصل إلى الخلق الول الذي خلقه ال وهو‬
‫آدم وخلق له حواء‪ .‬فالنسان بمفرده ل يأتي بنسل‪.‬‬
‫إذن عندما نجري عملية الحصاء النسالي في العالم ونرجع بها إلى الوراء‪ ،‬نعود إلى الخلق‬
‫الول‪ .‬وكذلك كل شيء متكاثر سواء أكان حيوانا أم نباتا‪ .‬وعندما نسير بالحصاء إلى المام‬
‫س واحدةٍ وخلق‬
‫سنجد العداد تتزايد‪ ،‬وتكون القفزة كبيرة‪ .‬وعندما يبلغنا الحق أنه خلقنا من نف ٍ‬
‫منها زوجها وبثّ منهُما رجالً كثيرا ونساء‪ ،‬فإن عِلم الحصاء إنما يؤكد ذلك‪ .‬والتكاثر إنا يأتي‬
‫بالتزاوج‪ .‬والتزاوج جاء من آدم وحواء‪ .‬وأراد الحق أن يرزق آدم بتوائم ليتزوج كل توأم بالتوأم‬
‫المخالف له في النوع من الحمل المختلف‪ .‬أي يتزوج الذكر من النثى التي لم تولد معه في بطن‬
‫واحدة‪.‬‬
‫وجاء ربّنا لنا بهذه القصة كي يبين لنا أصل التكاثر بيانا رمزيا‪ .‬أوضح سبحانه‪ :‬أن التباعد‬
‫الزوجي كان موجودا‪ ،‬ولكنه التباعد الضافي‪ ،‬صحيح سيكون هذا الولد أخا للبنت هذه‪ ،‬وهذه‬
‫البنت أخته؛ لكن حين تكون مولودة مع هذا‪ ،‬وتأتي بطن ثانٍ فيها ذكر وأنثى‪ ،‬فسيكون فيها بُعد‬
‫إضافي‪ ،‬فتتزوج البنت لهذا البطن بالذكر في البطن الثاني‪ .‬والذكر للبطن الثاني للبنت في البطن‬
‫الخر‪ ،‬وهذا هو البُعد الضافي الذي كان مُتاحا في ذلك الوقت؛ لن العالم كان ل يزال في بداية‬
‫طفولته الواهية‪.‬‬
‫ونلحظ مثل هذا المر في الريف‪ ،‬حين يقول فلح آخر‪ " :‬الذرة بتاعك خايب " ‪ ،‬يقول الفلح‬
‫الثاني‪ :‬إني آخذ من الرض التي أخذت منها الذرة وأعطيها تقاوى منها‪ ،‬فأنا قد زرعت فدانا من‬
‫ذرة‪ ،‬وأحجز كيلتين أو ثلثا أستخدمها تقاوى لزرعها‪ ،‬فتخرج الذرة ضعيفة‪ ،‬فيقول الفلح‬
‫الناضج‪ :‬يا شيخ هات من ذرة جارك‪ .‬فيكون ذرة جاري فيه شيء من البُعد‪ .‬وبعد ذلك تصير‬
‫النوعية واحدة‪ ،‬فيقول الفلح الناضج‪ :‬هات من بلد أخرى‪ .‬وبعد ذلك من بلد ثالثة‪ ،‬ولذلك‬
‫فالتهجين والتكاثر كيف نشأ؟ من أين نأتي بالتقاوى؟ كلما جئنا بها من الخارج يكون الناتج قويا‪.‬‬
‫كذلك التزاوج ليكون في هذه الزوجية مواهب‪ ،‬ولذلك فطن العربي قديما لها‪ ،‬ومن العجيب أن هذا‬
‫العربي البدوي الذي لم يشتغل بثقافة ولم نعرف له تعليما ول علما‪ ،‬يهتدي إلى مثل هذه الحقيقة‬
‫اهتداءً يجعلها قضية عامة فطرية‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل بالفتوة‪ ،‬فيقول عنه‪:‬فتى لم تلده بنتُ ع ٍم فيضوي وقد يضوي سليل‬
‫ويريد أن يمدح رج ً‬
‫القاربكيف اهتدى هذا الشاعر لهذه؟! وبعد ذلك يقول‪:‬تجاوزت بنت العّمِ وهي حبيبة إليّ مخافة أن‬
‫يضوي على سليلهاأي هو يحبها‪ ،‬لكنه تجتوزها‪ ،‬حتى ل يضوي سليلها‪.‬‬
‫ولذلك يقول الشاعر في هذه القضية‪:‬أنصح من كان بعيد الهم تزويج أولد بنات العمفليس ينجو‬
‫من ضوى وسقم الشاعر العربي الذي ليس في أمة مثقفة ول تعرف التهجين ول تعرف هذه‬
‫الشياء‪ ،‬انتبه إلى هذه المسألة‪ ،‬كيف؟ إما أن يكون قد اهتدى إليها في واقع الكون فوجد أن زواج‬
‫ل ضعيفا‪ ،‬وإما أن يكون ذلك من رواسب الديانات السابقة القديمة والعظات‬
‫القريبات يُنشئ م ً‬
‫الولى التي ظل النسان محتفظا بها‪ ،‬فإذا أراد ال أن يبدأ تكاثر فل بد أن يتزوج أخ بأخته‪ ،‬ولكن‬
‫سبحانه يريد أن نتباعد‪ ،‬نعم أخ وأخت لكن نتباعد فنأخذ البطن المختلف‪ ،‬ولذلك حينما جاءوا‬
‫سفْر التكوين " تكلم‪ ،‬ونحن نأخذ من "‬
‫لينسبوا قصة ابني آدم قابيل وهابيل‪ ،‬صحيح اختلفوا‪ .‬مثل " ِ‬
‫سفر التكوين " لن التغيير فيه ل يهمهم‪ .‬فقد كان التغيير في المسائل التي تهمهم‪ ،‬كمسألة نبوّة‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إنما المسائل الخرى ل تهم‪ ،‬ومع ذلك ففيها أيضا الكثير‪.‬‬
‫إنهم يقولون‪ :‬إن هابيل هو أول قتيل في النسانية وقتله " قابيل " وبعض القصص تقول‪ :‬لم يكن‬
‫يعرف كيف يُميته أو يقتله‪ ،‬فالشيطان مَثّل له بأنه جاء بطير ووضع رأسه على حجر ثم أخذ‬
‫حجرا آخر فضرب به رأسه حتى قتله‪ ،‬فعلّمه كيف يقتل‪ ،‬مثلما سيأتي الغراب ويعلّمه كيف يدفن‪،‬‬
‫حثُ‬
‫أما مسألة كيف يقتل هذه لم تأت عندنا‪ ،‬إنما كيف يدفن فقد جاءت عندنا‪ {.‬فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا يَبْ َ‬
‫سوْ َءةَ َأخِيهِ }[المائدة‪]31 :‬‬
‫فِي الَ ْرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ ُيوَارِي َ‬
‫فهذا هو أول من توفّى وقتل‪ ،‬لكن كيف تقولون‪ :‬إنه لم يكن يعرف القتل حتى جاءه الشيطان‬
‫وعلّمه كيف يقتل أخاه؟ نقول‪ :‬أنتم لم تنتبهوا‪ .‬فالحق قال‪ } :‬لَئِن بَسَطتَ إَِليّ َي َدكَ‪{ ...‬‬

‫(‪)689 /‬‬

‫طتَ إَِليّ يَ َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَ ِديَ إِلَ ْيكَ لَِأقْتَُلكَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)28‬‬
‫س ْ‬
‫لَئِنْ بَ َ‬

‫فقابيل ‪-‬إذن‪ -‬فاهم للقتل‪ ،‬فل تقل إنه تعلم القتل‪ ،‬صحيح مسألة الدفن هذه جديدة‪ ،‬والقصة جاءت‬
‫لتثبت لنا كيف بدأ التكاثر‪ ،‬ليجمع ال فيه بين الزوجين البُعد الضافي؛ لن البُعد غير الضافي‬
‫غير مُمكن في هذا الوقت فتكون هذه بالنسبة لهذا أجنبية‪ ،‬وهذا بالنسبة لهذه أجنبي إلى أن يتوسع‬
‫المر‪ ،‬وبعد ذلك يُعاد التشريع بأن الخت من أي بطن محرّمة على أخيها تحريما أبديّا‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫نتوسع في المر وننقله إلى المحرمات الخريات من النسب والرضاع فل بد أن لهذه القصة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أصل‪ .‬هم قالوا نقرب قربانا‪ ..‬لماذا؟ " إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الخر "‪.‬‬
‫لماذا يريدان أن يُقرّبا قُربانا؟ قالوا‪ :‬إن أخت قابيل التي كانت في بطن معه كانت حلوة وجميلة‪،‬‬
‫وأخت هابيل لم تكن جميلة‪ ،‬فطبقا لقواعد التباعُد في الزوجية كان على هابيل أن يأخذ أخت‬
‫قابيل‪ ،‬وقابيل يأخذ أخت هابيل‪َ ،‬فحَسد قابيل أخاه وقال‪ :‬كيف يأخذ الحلوة‪ ،‬أنا أولى بأختي هذه‪.‬‬
‫وكان سيدنا آدم مازال قريب العهد بالوحي‪ ،‬فقال‪ :‬قربوا قربانا وانظروا‪ .‬لنه يعلم جيدا أن‬
‫القربان سيكون في صف التباعد‪ { .‬إِذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَ ُتقُبّلَ مِن َأحَدِ ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَبّلْ مِنَ الخَرِ }‪.‬‬
‫وبعض المفسرين يقول‪ :‬وال نحن لم نعرف طريقة التقبّل هذه‪ .‬نقول له‪ :‬فلنبحث عن " قُربان "‬
‫في القرأن‪ .‬ننظر ما هو القُربان؟ قد وردت هذه الكلمة في القرآن في أكثر من موضع‪ .‬قال‪{:‬‬
‫ع ِهدَ إِلَيْنَا َألّ ُن ْؤمِنَ لِرَسُولٍ حَتّىا يَأْتِيَنَا ِبقُرْبَانٍ تَ ْأكُلُهُ النّارُ }[آل عمران‪]183 :‬‬
‫الّذِينَ قَالُواْ إِنّ اللّهَ َ‬
‫ت وَبِالّذِي قُلْ ُتمْ }[ " آل عمران‪:‬‬
‫سلٌ مّن قَبْلِي بِالْبَيّنَا ِ‬
‫والحق يقول لهم ردّا عليهم‪ُ {:‬قلْ َقدْ جَآ َءكُمْ ُر ُ‬
‫‪]183‬‬
‫{ وَبِالّذِي قُلْ ُتمْ } ما هو؟ إنه القُربان الذي تأكله النار‪ .‬إذن كان القُربان معروفا والحتكام إلى‬
‫قربان وتأكله النار علمة التقبّل من السماء ويكون صاحبه هو المُقرّب‪ ،‬والقُربان في مسألة هابيل‬
‫وقابيل لكي يعرف كل منهما من يتزوج الحلوة ومن يتزوج الخرى‪ ،‬وتقبل ال قربان هابيل‪ .‬لكن‬
‫حدِ ِهمَا‬
‫حسَده‪ ،‬وهذا أول تأب على مُرادات الحق في تكليفه‪ { .‬فَتُقُ ّبلَ مِن أَ َ‬
‫أرضِي المهزوم؟ ل‪ ،‬بل َ‬
‫ن الخَرِ }‪ .‬وقالت لنا القصص‪ :‬إن هابيل كان صاحب ضرع أي ماشية وبذلك يكون‬
‫وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِ َ‬
‫عنده زبْد ولبن وجبن‪ ،‬وحيوانات للحم‪ ،‬والثاني صاحب زرع وقالوا‪ :‬إن قابيل قدّم شِرار زرعه‪،‬‬
‫لقْتُلَنّكَ } وسبحانه‬
‫ن الخَرِ }‪ { .‬قَالَ َ‬
‫وهابيل قدّم خيار ماشيته‪ { .‬فَ ُتقُ ّبلَ مِن أَحَ ِد ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِ َ‬
‫حدِ ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِنَ الخَرِ }‪.‬‬
‫قال‪َ { :‬أحَدِ ِهمَا } ولم يقل قابيل أو هابيل‪ { ،‬إِذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَتُقُ ّبلَ مِن أَ َ‬
‫لقْتُلَ ّنكَ } من الذي قال؟ الذي قال هو من لم يتقبل قربانه؛ لنه لم يحقق مُراده‬
‫فقوله‪ { :‬قَالَ َ‬
‫وغرضه‪.‬‬

‫لقْتُلَ ّنكَ قَالَ إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ {‪ .‬وهل هذا الرّد مُناسب لقوله‪ " :‬لقتلنك "؟ نعم؛ لن‬
‫ل َ‬
‫} قَا َ‬
‫" لقتلنك " بسبب أن قربانك قُبِل وقرباني لم يُقبَل‪ .‬قال‪ :‬فما دخلي أنا بهذه العملية؟ الدخل في‬
‫العملية للقابل للقربان‪ ،‬فأنا ليس لي دخل فيها‪ ،‬وربّنا لم يتقبله لن ال ل يتقبل إل من المتقين‪.‬‬
‫وهو يعلم أنك لست بمتقٍ؛ فلن يتقبل منك لنك تأبيت عن حكاية الزواج بابنة البطن المخالف‪،‬‬
‫وهذا أول تمرّد على منهج ال وعلى أمره لذلك قال هابيل‪ :‬ل تلُمني فأنا ل دخل لي في القربان‬
‫المتقبل؛ لن هذا من عند ال‪ .‬وال لم يظلمك؛ لن ربنا يتقبل من المتقين‪ .‬وأنت لست بمتقٍ؛ لنك‬
‫لم تَ ْرضَ بالحكم الول في أن تبتعد البطون } إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ {‪ {.‬لَئِن بَسَطتَ إَِليّ َي َدكَ‬
‫لقْتَُلكَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[المائدة‪]28 :‬‬
‫ك َ‬
‫لِ َتقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ َي ِديَ إِلَ ْي َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكلمة " البسط " ضد " القبض " ‪ ،‬وهناك‪ " :‬بسط له " ‪ ،‬و " بسط إليه "‪.‬‬
‫وتجد " بسط له كأن البسط لصالح المبسوط له‪ {.‬وََلوْ َبسَطَ اللّهُ الرّ ْزقَ ِلعِبَا ِدهِ }[الشورى‪]27 :‬‬
‫ولم يقل‪ " :‬إلى عباده " بل قال‪ " :‬لعباده " ‪ ،‬إذن فالبسط لصالح المبسوط له ولذلك ل يكون بإلى‬
‫سطُواْ إِلَ ْيكُمْ أَ ْيدِ َيهُمْ }‬
‫إلّ في الشر‪ ،‬وشرحنا من قبل هذه المسألة وفي قوله الحق‪ِ {:‬إذْ هَمّ َقوْمٌ أَن يَبْ ُ‬
‫[المائدة‪]11 :‬‬
‫إذن فالذي يبسط لك يعطيك نفعا والذي يبسط إليك يكون النفع له هو‪.‬‬
‫لقْتَُلكَ {‪ .‬وبيّنت " لتقتلني " مدلول " إليّ "‪.‬‬
‫ك َ‬
‫} لَئِن بَسَطتَ إَِليّ َي َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ َي ِديَ إِلَ ْي َ‬
‫والعلة ل عجز عن مقابلة قوّتك بقوة‪ ،‬ل‪ ،‬وإنما لنني أخاف ال‪ ،‬فليس في هذا تقصير في الدفاع‬
‫عن نفسي لنني أريد أن أُحَنّنِك تَحنينا يرجعك إلى صَوابك‪ .‬وساعة يأتي واحد يريد أن يقتل‬
‫واحدا يقول له‪ :‬وال لن أقاتلك لنني أخاف ربنا‪.‬‬
‫إذن فبيّن له أن خَوفه من ال مسألة مُستقرة في الذهن حتى ولو كانت ضد استبقاء الحياة‪ ،‬وقد‬
‫يعرفها في نفسه لن أخاه كان يستطيع أن يقدّم دفاعا قويا‪ ،‬لقد ر ّد المر إلى الحقّ العلى‪ .‬فل‬
‫تقل كان هابيل سَلبيّا ل‪ .‬إنه صعّد المر إلى القوى‬
‫ويقول الحق‪ } :‬إِنّي أُرِيدُ‪{ ...‬‬

‫(‪)690 /‬‬

‫صحَابِ النّا ِر وَذَِلكَ جَزَاءُ الظّاِلمِينَ (‪)29‬‬


‫إِنّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِ ْثمِي وَإِ ْث ِمكَ فَ َتكُونَ مِنْ َأ ْ‬

‫و " تبوء " أي ترجع من صفقة قتلى بأن تحمل إثم تلك الفعلة وتنال عقوبتها و " إثمك " وكذلك‬
‫الثم الذي كان من أجله أنك أردت أن تقتلني؛ لنك تأبيت على المنهج‪ ،‬حين لم يتقبل ربنا‬
‫قربانك‪ .‬فقد أثمت في عدم قبولك التباعُد المطلوب في الزوجية‪ .‬إذن فأنت عندك إثمان‪ :‬الثم‬
‫الول‪ :‬وهو رفضك وعدم قبولك حكم ال ومنهجه وهو الذي من أجله لم يَقبل ال قربانك‪ ،‬والثم‬
‫الثاني‪ :‬هو قتلي وأنا ل دخل لي في هذه المسألة؛ لن الظالم ل بد أن يأخذ جزاءه‪.‬‬
‫إن هابيل يقول‪ { :‬إِنّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِ ْثمِي وَإِ ْث ِمكَ } لم يتمن أن يكون أخوه عاصيا‪ .‬بل قال‪ :‬إن‬
‫كان يعصي بهذه يبوء بإثمي ويأخذ جزاءه؛ فيكون قد تمنى وأراد له أن يعود إلى العقاب ويناله إن‬
‫فعل وهو ل يريده أن يفعل‪.‬‬
‫{ إِنّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِ ْثمِي وَإِ ْث ِمكَ فَ َتكُونَ مِنْ َأصْحَابِ النّا ِر َوذَِلكَ جَزَآءُ الظّاِلمِينَ } وجزاء‬
‫الظالمين تربية عاجلة للوقوف أمام سُعارات الظلم من الظالمين؛ لن الحق لو تركها للخرة‬
‫لستشرى الظُلم‪ ،‬والذي ل يؤمن بالخرة يصبح مُحترفا للظُلم‪ ،‬ولذلك قلنا من قبل‪ :‬إن الحق‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سبحانه وتعالى ضرب لنا ذلك المثل في سورة " الكهف " حينما ذكر لنا قصة ذي القرنين‪ :‬الذي‬
‫آتاه ال من كل شيء سببا فأتبع سببا‪ ،‬وبعد ذلك بين لنا مُهمة من أوتي السباب واتبع السباب‪،‬‬
‫وجعل قضيته في الرض لعمارة الكون وصلحه‪ ،‬وتأمين المجتمع‪ .‬ماذا قال‪ {:‬حَتّىا ِإذَا بَلَغَ‬
‫حمِئَةٍ }[الكهف‪]86 :‬‬
‫س وَجَ َدهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ‬
‫شمْ ِ‬
‫َمغْ ِربَ ال ّ‬
‫هذا في رأي العين‪ ،‬فحين تكون راكبا البحر‪ .‬ترى الشمس تغرب في الماء‪ ،‬هي ل تغرب في‬
‫حمِئَةٍ‬
‫شمْسِ وَجَدَهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ‬
‫الماء؛ لن الماء هو نهاية امتداد أُفقك‪ {.‬حَتّىا ِإذَا بَلَغَ َمغْ ِربَ ال ّ‬
‫خذَ فِيهِمْ حُسْنا }[الكهف‪]86 :‬‬
‫َووَجَدَ عِندَهَا َقوْما قُلْنَا ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّآ أَن ُتعَ ّذبَ وَِإمّآ أَن تَتّ ِ‬
‫س ْوفَ ُنعَذّبُهُ }[الكهف‪]87 :‬‬
‫إذن فقد خيره‪ :‬إمأ ان تعمل هذا وإما أن تعمل ذاك‪ {.‬قَالَ َأمّا مَن ظََلمَ فَ َ‬
‫ذلك هو القانون الذي يجب أن يسير في المجتمع‪ .‬جتى ل أترك لمن ل يؤمن بإله ول يؤمن بآخرة‬
‫عذَابا دُونَ ذَِلكَ }[الطور‪]47 :‬‬
‫أن يستشري في الظلم‪ .‬فَلْيأخذ عقابه في الدنيا‪ {.‬وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ َ‬
‫أي قبل الخرة لهم عذاب‪ .‬ولذلك حين يرى الناس مصرع الظالم‪ ،‬أو ترى الخيبة التي حدثت لهم‬
‫فهم يأخذون من ذلك العظة‪ ،‬وجيلنا نحن عاصر ظالمين كثيرين نكل بعضهم ببعض؛ ولو ُمكّن‬
‫المظلومون منهم ما فعلوا بهم ما فعله بعضهم ببعض‪ ،‬وأراد الحق أن يجري عذابهم أمامنا لتتضح‬
‫س ْوفَ ُنعَذّبُهُ }[الكهف‪]87 :‬‬
‫المسألة‪ {.‬قَالَ َأمّا مَن ظََلمَ فَ َ‬
‫ول ينتهي أمره بذلك‪ ،‬وبعد ذلك يُردّ لمن؟ يُردّ ل‪ُ {:‬ثمّ يُرَدّ ِإلَىا رَبّهِ فَ ُيعَذّ ُبهُ عَذَابا ّنكْرا }[الكهف‪:‬‬
‫‪]87‬‬
‫يعني عذاب الدنيا؛ إن عذابها سيكون محتمل لنه عذاب منوط بقدرة العاجزين‪ ،‬إنما العذاب في‬
‫حسْنَىا وَسَ َنقُولُ لَهُ مِنْ‬
‫ع ِملَ صَالِحا فَلَهُ جَزَآءً الْ ُ‬
‫ن وَ َ‬
‫الخرة فهو بقوة القادر العلى‪ {:‬وََأمّا مَنْ آمَ َ‬
‫َأمْرِنَا يُسْرا }[الكهف‪]88 :‬‬
‫تلك هي مهمة ال القوي المتين‪ :‬إنّ الذي يظلم يضربه على يده‪ ،‬والذي يحسن عمله يعطيه‬
‫الحوافز‪.‬‬
‫عتْ لَهُ َنفْسُهُ‪} ...‬‬
‫طوّ َ‬
‫والحق يقول هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪ { :‬فَ َ‬

‫(‪)691 /‬‬

‫عتْ لَهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ َأخِيهِ َفقَتَلَهُ فََأصْبَحَ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ (‪)30‬‬
‫طوّ َ‬
‫فَ َ‬

‫ول يقال‪ :‬طوعت الشيء إل إذا كان الشيء متأبيا على الفعل‪ ،‬فل تقل‪ :‬أنا طوّعت الماء‪ ،‬وإنما‬
‫عتْ لَهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ َأخِيهِ } فهل نفسه هي التي ستقتل وهي نفسه‬
‫طوّ َ‬
‫تقول‪ :‬طوّعت الحديد‪ ،‬وقوله‪ { :‬فَ َ‬
‫التي طوّعَت؟‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولننتبه هنا أن النسان فيه ملَكتان اثنتان؛ ملكة فطرية تُحبّ الحق وتُحبّ الهير‪ ،‬وَمَلكَة أهوائية‬
‫خاضعة للهوى‪ ،‬فالملكتان تتصارعان‪.‬‬
‫عتْ َلهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ أَخِيهِ } كأن النفس الشريرة الهوائية تغلبت على الخيّرة‪ ،‬فكأن هناك‬
‫طوّ َ‬
‫{ َف َ‬
‫تجاذبا وتصارعا وتدافعا؛ لن النسان ل يحب الظلم إن وقع عليه‪ .‬لكن ساعة يتصور أنه هو‬
‫الذي يظلم غيره فقد يقبل على ذلك‪.‬‬
‫عتْ َلهُ َنفْسُهُ } إنه ل يزال فيه بقيّة من آثار النّبوة؛ لنه قريب من آدم‪ ،‬ولتزال المسألة‬
‫طوّ َ‬
‫{ َف َ‬
‫تتأرجح معه‪ ،‬والشر من الخيار ينحدر‪ ،‬والشر في الشرار يصعد‪ .‬فقد تأتي لرجل طيب وتثير‬
‫أعصابه فيقول‪ :‬إن رأيته لضربنه رصاصة أو أصفعه صفعتين‪ ،‬أو أوبّخه‪ ،‬والشرّير يقول‪ :‬وال‬
‫إن قابلته أبصق في وجهه‪ ،‬أو أضربه صفعتين‪ ،‬أو أضربه رصاصة‪ .‬إذن فالشر عند الشرّير‬
‫يتصاعد‪ ،‬ويجد العملية ل تكفي للغضب عنده فيصعدها‪ .‬إنما نفس الخير تُنفّس عن غضبها وبعد‬
‫حبّ‬
‫ف وَأَخُوهُ أَ َ‬
‫س ُ‬
‫ذلك ينزل عنها بكلمة‪ ،‬ولذلك نلحظ في سورة سيدنا " يوسف "‪ِ {:‬إذْ قَالُواْ لَيُو ُ‬
‫عصْ َبةٌ }[يوسف‪]8 :‬‬
‫إِلَىا أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ ُ‬
‫والعجيب أنهم جاءوا بالتعليل الذي ضدّهم؛ كي يعرفك أن الهوى والغضب والحسد والحقد تقلب‬
‫عصْ َبةٌ } هذه تدل على أنهم أقوياء‪ .‬وهي التي جعلت أباه يعقوب يعطف على‬
‫الموازين‪ { ،‬وَنَحْنُ ُ‬
‫حبّ إِلَىا أَبِينَا مِنّا } نعم؛ لنه صغير‪ ،‬وسألوا العربي‪:‬‬
‫سفُ وَأَخُوهُ أَ َ‬
‫الضمير‪ .‬أنتم تقولون‪ { :‬لَيُو ُ‬
‫مالك تُحب الولد الصغير‪ ،‬قال‪ :‬لن أيامه أقصر اليام معي‪ ،‬البكر مكث معي طويلً‪ ،‬فأنا أعوض‬
‫عصْبَةٌ } هذه ضدهم‪،‬‬
‫للصغير اليام التي فاتته ببعض الحب وأعطيه بعض الحنان‪ ،‬قولهم‪َ { :‬نحْنُ ُ‬
‫حجّة التي ضده ويظن أنها معه!‬
‫مما يدل على أن الرجل ساعة تختلط عليه موازين القيم‪ ،‬يأتي بال ُ‬
‫وبعد ذلك يقولون‪ {:‬إِنّ أَبَانَا َلفِي ضَلَلٍ مّبِينٍ }[يوسف‪]8 :‬‬
‫سفَ }[يوسف‪]9 :‬‬
‫واتفقوا‪ .‬فبدأوا بقولهم‪ {:‬اقْتُلُواْ يُو ُ‬
‫وقالوا‪َ {:‬أوِ اطْ َرحُوهُ أَرْضا }[يوسف‪]9 :‬‬
‫ولنهم أسباط وأولد يعقوب تنازلوا عن القتل والطرح في الرض وقال قائل منهم‪ {:‬لَ َتقْتُلُواْ‬
‫طهُ َب ْعضُ السّيّا َرةِ }[يوسف‪]10 :‬‬
‫جبّ يَلْ َتقِ ْ‬
‫سفَ وَأَ ْلقُوهُ فِي غَيَا َبةِ الْ ُ‬
‫يُو ُ‬
‫وهل يرتب أحد النجاة لمن يكرهه؟‬
‫سفَ } هذه شدة الغضب‪ .‬أو { اطْ َرحُوهُ‬
‫كأن النفس مازال فيها خير‪ ،‬فأول قالوا‪ { :‬اقْتُلُواْ يُو ُ‬
‫أَرْضا } يطرحونه أرضا فقد يأكله حيوان مفترس‪ ،‬فقال واحد‪ :‬نلقيه في غيابة الجب ويلتقطه‬
‫بعض السيارة‪ ،‬إذن فالخيار تتنازل‪.‬‬
‫عتْ َلهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ أَخِيهِ َفقَتَلَهُ فََأصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }‪ .‬ونعرف الخسران قضية التجارة؛ أن‬
‫طوّ َ‬
‫{ َف َ‬
‫هناك مكسبا وهناك خسارة‪ ،‬و " مكسب " أي جاء رأس المال بزيادة عليه‪ ،‬و " الخسارة " أي أن‬
‫رأس المال قد قلّ‪ ،‬فلماذا قتل أخاه وكان أخوه الوحيد وكان يأنس به في الدنيا؟ إن هذا حدث من‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكاية البنت‪ .‬فقد أراد أن يأخذ أخته الحلوة ويترك الخرى‪ ،‬ولما قدّما القربان ولم يقبل منه‬
‫تصاعد الخلف وقتل أخاه‪ ،‬إذن َففَقد رأس المال‪ ،‬بينما كان يريد أن يكسب { فََأصْبَحَ مِنَ‬
‫الْخَاسِرِينَ }‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا‪} ...‬‬

‫(‪)692 /‬‬

‫عجَ ْزتُ أَنْ َأكُونَ‬


‫سوَْأةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَ َ‬
‫حثُ فِي الْأَ ْرضِ لِيُرِ َيهُ كَ ْيفَ ُيوَارِي َ‬
‫فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابًا يَ ْب َ‬
‫سوَْأةَ َأخِي فََأصْبَحَ مِنَ النّا ِدمِينَ (‪)31‬‬
‫مِ ْثلَ هَذَا ا ْلغُرَابِ فَُأوَا ِريَ َ‬

‫ونعرف السوءة وهي ما تَتَكرّهه النفس‪ .‬وهي من " ساء‪ ،‬يسوء‪ ،‬سوءا " أي يتكره‪ ،‬وسمينا "‬
‫سوْءَة؛ لنها تتكره‪.‬‬
‫العَورة " َ‬
‫حثُ فِي الَ ْرضِ }‪ .‬هل بعث ال حتى يُرِي قابيل كيف يواري سوءة هابيل‪،‬‬
‫{ فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا يَبْ َ‬
‫أم أن الغراب هو الذي سيقول له؟ كل المرين متساوٍ؛ لن ربنا هو الذي بعث‪ ،‬فإن كنت ستنظر‬
‫للوسيلة القريبة فيكون الغُراب‪ ،‬وإن كنت ستنظر لوسيلة الباعث يكون هو ال؛ فالمسألة كلها‬
‫واصلة ل‪ ،‬وأنت حين تنسب السباب تجدها كلها من ال‪.‬‬
‫{ قَالَ يَاوَيْلَتَا }‪ .‬ساعة تسمع كلمة " يا ويلتي " يكون لها معنيان في الستعمال‪ :‬المعنى الول‬
‫للويل‪ :‬هو الهلك‪ ،‬وإن أردنا المبالغة في الهلك نأتي بتاء التأنيث ونقول‪ :‬ويلة‪ ،‬ولذلك عندما‬
‫نحب أن نبالغ في وصف عالم نقول‪ :‬فلن عالم وفلن علّم وفلن عَلّمة‪ ،‬وتأتي التاء هنا لتؤكد‬
‫المعنى‪ ،‬إذن فالويل‪ :‬الهلك‪ ،‬و " ويلة " تعني أيضا الهلك‪ ،‬وماذا تعني " يا ويلتي "؟‬
‫إننا نعرف أن النداء يكون بـ " يا " فكيف نُنادي الويل والهلك؟ وهل يُنادي غير العاقل؟ نعم‪،‬‬
‫يُنادي؛ لنه مادام " الويل " و " الويلة "‪ :‬الهلك‪ .‬كأنك تقول‪ :‬أنا لم أعد أطيق ما أنا فيه من الهم‬
‫والغم‪ ،‬ول يُخلصني فيه إل الهلك‪ ،‬يا هلكي تعال فهذا وقتك! إذن فقوله‪ " :‬يا ويلتي " يعني يا‬
‫هلك تعال‪ ،‬والمتنبي فطن لهذه المسألة وقال‪:‬كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن‬
‫يكنّ أمانيافأي داء هذا الذي تقول فيه‪ :‬يارب أرحني بالموت!! إذن فالذي يراه من ينادي الهلك‬
‫هو أكثر من الموت‪ .‬المعنى الول‪ :‬أنك تنادي الهلك أن يحضر؛ ولذلك يقول الحق‪َ {:‬ووُضِعَ‬
‫صغِي َرةً َولَ‬
‫ش ِفقِينَ ِممّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَالِ هَـاذَا ا ْلكِتَابِ لَ ُيغَادِرُ َ‬
‫ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ مُ ْ‬
‫حصَاهَا }[الكهف‪]49 :‬‬
‫كَبِي َرةً ِإلّ أَ ْ‬
‫إنهم يتمنّون الموت؛ وكذلك قال قابيل " يا ويلتي "‪.‬‬
‫وهل تأتيه الويلة عندما يطلبها؟ ل‪ ،‬فقد انتهت المسألة وصار قاتلً لخيه‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمعنى الثاني‪ :‬أن تأتي " يا ويلتنا " بمعنى التعجب من أمر ل تعطيه السباب‪ ،‬وهناك فرق بين‬
‫عطاء السباب وبين عطاء المُسبّب‪ .‬فلو ظل عطاء السباب هو المُتحكّم في نواميس الكون‪ ،‬لكان‬
‫معنى هذا أن الحق سبحانه قد زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة‪ ،‬وكأنه خلق السباب والنواميس‬
‫وتركها تتحكم ونقول‪ :‬ل‪ .‬فبطلقة القدرة خلقت السباب‪ ،‬وهي تأتي لتثبيت ذاتية القدرة‬
‫وقيّوميّتها‪ ،‬فيقول الحق حينما يشاء‪ :‬توقفي يا أسباب‪.‬‬
‫إذن فهناك أسباب وهناك مُسبّب‪ .‬والمر العجيب ل تعطيه السباب‪ .‬وحين ل يعطى السبب‬
‫يتعجب النسان‪ ،‬ولذلك يَ ُر ّد المر إلى الصل الذي ل يتعجب منه‪.‬‬

‫وها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلم عندما جاءه الضيوف وقدم لهم الطعام ورأى أيديهم ل تصل‬
‫إليه نكرهَم ونفر منهم ولم يأنس إليهم وأوجس منهم خِيفة‪ .‬ويقول الحق عن هذا الموقف‪ {:‬فََأوْجَسَ‬
‫ج َههَا َوقَاَلتْ‬
‫ص ّكتْ َو ْ‬
‫علَيمٍ * فََأقْبََلتِ امْرَأَتُهُ فِي صَ ّرةٍ َف َ‬
‫خفْ وَبَشّرُوهُ ِبغُلَمٍ َ‬
‫مِ ْنهُمْ خِيفَةً قَالُو ْا لَ َت َ‬
‫عقِيمٌ }[الذاريات‪]29-28 :‬‬
‫عَجُوزٌ َ‬
‫ق َومِن وَرَآءِ ِإسْحَاقَ‬
‫ح َكتْ فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَا َ‬
‫وقال الحق أيضا في هذا الموقف‪ {:‬وَامْرَأَتُهُ قَآ ِئمَةٌ َفضَ ِ‬
‫َي ْعقُوبَ }[هود‪]71 :‬‬
‫شيْءٌ‬
‫عجُو ٌز وَهَـاذَا َبعْلِي شَيْخا إِنّ هَـاذَا لَ َ‬
‫وهنا قالت امرأة سيدنا إبراهيم‪ {:‬يَاوَيْلَتَىا أَأَلِدُ وَأَنَاْ َ‬
‫عَجِيبٌ }[هود‪]72 :‬‬
‫أي أن السباب ل تعطى‪ ،‬ورُدّت إلى المُسبّب‪( .‬أتعجبين من أمر ال)؟ كان لك أن تتعجبي من‬
‫السباب لنها تعطلت‪ ،‬أما حين تصل السباب إلى ال‪ ،‬فل عجب‪.‬‬
‫وقال سيدنا زكريا عليه السلم مثل قولها؛ فحين رأى السيدة مريم وهو الذي كَفلها‪ ،‬وكان يجيء‬
‫لها بمطلوبات مقومات حياتها‪ ،‬وفُوجئ بأن عندها رزقا من طعامٍ وفاكهة‪ .‬فسألها‪ {:‬يامَرْيَمُ أَنّىا‬
‫َلكِ هَـاذَا }[آل عمران‪]37 :‬‬
‫كيف يقول لها ذلك؟ ل بد أنه رأى شيئا عندها لم يأتِ هُو به‪ ،‬وهنا ردّت عجبه لتنبهه بالحقيقة‬
‫الخالدة‪ُ {:‬هوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران‪]37 :‬‬
‫وبشاء الحق أن تقولها سيدتنا مريم وهي صغيرة السن‪ ،‬وكأنها تقول ذلك كتمهيد؛ لنها ‪ -‬كما قلنا‬
‫سابقا ‪ -‬ستتعرض لمسألة ل يمكن أن يحلها إل المُسبّب‪ ،‬فسوف تلدِ بدون رُجولة‪ ،‬وهي مسألة‬
‫عجيبة‪ ،‬لذلك كان ل بد أن تفهم هي وأن تنطق‪ُ {:‬هوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ‬
‫حسَابٍ }[آل عمران‪]37 :‬‬
‫ِ‬
‫وكأن الحق ينبئها ضمنا بأن عليها أن تتذكّر أنها هي التي قالت هذه الكلمة؛ لن المستقبل سوف‬
‫يأتي بك بأحداث تحتاج إلى تذكُر هذا القول‪ .‬وهي التي تُذكِرّ سيدنا زكريا عليه السلم بهذه‬
‫الحقيقية‪ .‬ولنر ِدقّة إشارة القرآن إلى الموقع الذي ذكرت له مريم فيه تلك الحقيقة‪ {:‬هُنَاِلكَ دَعَا‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َزكَرِيّا رَبّهُ }[آل عمران‪]38 :‬‬
‫كأن ساعة سمع هذه المسألة قرّر أن يدعو ال بأمنيته في المحراب نفسه‪ .‬وهل كان سيدنا زكريا‬
‫ل يعرف تلك الحقيقة؟ كان يعرفها‪ ،‬ولكن هناك فرق بين حكم يكون في حاشية الشعور‪ ،‬وبين‬
‫حكم يكون في بؤرة الشعور‪.‬‬
‫حسَابٍ { جعل القضية تنتقل‬
‫وقول مريم لزكريا‪ُ } :‬هوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ‬
‫من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور‪ {.‬هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ }[آل عمران‪]38 :‬‬
‫لماذا لم يدعُ ربّه من البداية؟‪ .‬كان سيدنا زكريا سائرا مع السباب ورتابة السباب قد تذهل‬
‫حسَابٍ { أراد أن يدخل من‬
‫وتُشغل عن المُسبّب‪ ،‬وعندما سمع من مريم‪ } :‬يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ‬
‫هذا الباب‪ ،‬فدعا ربه؛ وبشّره الحق بأنه سيأتي له بذريّة‪ ،‬وتعجّب زكريا مرّة أخرى من هذا المر‬
‫شارحا حالته‪:‬‬

‫{ َوقَدْ َبَلغَنِي ا ْلكِبَ ُر وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ }[آل عمران‪]40 :‬‬


‫ومادمت يا زكريا قد دعوت ال أن يهبك الذّرّية وقفزت قضية رزق ال لمن يشاء من حاشية‬
‫شعورك إلى بؤرة شعورك‪ .‬فقد جاء أمر ال‪ {:‬كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ }[مريم‪]9 :‬‬
‫إذن فل بحث في السباب والمسببات‪ .‬فهي إرادة ال‪ .‬ويوضح الحق حيثيّات } إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن‬
‫ل وَلَمْ َتكُ‬
‫ن َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْب ُ‬
‫عَليّ هَيّ ٌ‬
‫يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ { ويأتيك بالولد؛ فيقول سبحانه‪ُ {:‬هوَ َ‬
‫شَيْئا }[مريم‪]9 :‬‬
‫وكل هذه مقدمات من مريم ومن سيدنا زكريا الكفيل لها؛ ذلك أن سيدنا زكريا سوف يكون‬
‫عنصرا شاهدا عندما يأتيها الولد من غير أب وتلد‪ ،‬وهو كفيل لها‪ ،‬وهو الذي سيتعرض لهذا‬
‫المر‪.‬‬
‫ولماذا كل هذا التمهيد؟؛ لن خرق السباب وخرق النواميس وخرق السُنن إنما حدث في أمور‬
‫أخرى غير العِرْض‪ ،‬لكن عند مريم سيكون ذلك في العِرض وهو أقدس شيء بالنسبة للمرأة‪،‬‬
‫لذلك لبد من كل هذه التمهيدات‪ .‬إذن‪ ،‬هو أمر عجيب لكنه ليس بعجيب على ال‪.‬‬
‫وها هوذا قابيل يقول‪ } :‬يَاوَيْلَتَا أَعَجَ ْزتُ أَنْ َأكُونَ مِ ْثلَ هَـاذَا ا ْلغُرَابِ { كأن عملية الغراب‬
‫أظهرت لقابيل أنه لم يعرف شيئا يفعله الطائر الذي أمامه‪ ،‬فها هي ذي مسألة يفعلها غراب ول‬
‫تفعلها أنت يا قابيل‪ ،‬لقد امتلكت قدرة لتقتل بها أخاك‪ ،‬لكنك عاجز أن تفعل مثل هذا الغراب‪.‬‬
‫فقابيل ل يقولها ‪ -‬إذن ‪ -‬إل بعد أن م ّر بمعنى نفسيّ شديد قاسٍ على وجدانه‪.‬‬
‫لقد قدر على أخيه وقتله وهو لم يعرف كيف يواريه‪ ،‬بينما عرف الغراب كيف يواري جثة غراب‬
‫آخر‪ .‬وهكذا أصبح قابيل من النادمين } فََأصْبَحَ مِنَ النّا ِدمِينَ {‪.‬‬
‫إن علينا أن ننتبه إلى الفارق بين " َندِمٍ " و " َندَمٍ "‪ .‬وعلى سبيل المثال‪ :‬هناك إنسان قد جرؤ على‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدود ال وشرب الخمر بالنقود التي كان عليه أن يشتري بها طعام السرة‪ .‬وعندما عاد إلى‬
‫منزله ووجد أهله في انتظار الطعام‪ ،‬ندم لنه شرب الخمر‪ ،‬فهل كان ندم الرجل على أنه عصى‬
‫ال‪ ،‬أو ندم لنه لم يشتر الطعام لهله؟‪ .‬لقد ندم على عدم شراء الطعام وذلك ندم مرفوض‪ ،‬ليس‬
‫من التوبة‪.‬‬
‫وقد يكون هذا الشارب للخمر قد ارتدى أفخر ثيابه وخرج فشرب الخمر ووقع على الرض‪ ،‬وهنا‬
‫ندم لن شُرب الخمر أوصله إلى هذا الحال؛ فهل ندم لنه عصى ربه؟‪ .‬أو ندم لنه صار هُزْأة‬
‫بين الناس؟‪ .‬وكذلك كان ندم قابيل‪ ،‬لقد ندم على خيبته؛ لنه لم يعرف ما عرفه الغراب‪.‬‬
‫جلِ ذاِلكَ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬مِنْ َأ ْ‬

‫(‪)693 /‬‬

‫جلِ ذَِلكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي ِإسْرَائِيلَ أَنّهُ مَنْ قَ َتلَ َنفْسًا ِبغَيْرِ َنفْسٍ َأوْ فَسَادٍ فِي الْأَ ْرضِ َفكَأَ ّنمَا قَ َتلَ‬
‫مِنْ أَ ْ‬
‫جمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَ ْتهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيّنَاتِ ُثمّ إِنّ كَثِيرًا مِ ْنهُمْ‬
‫جمِيعًا َومَنْ َأحْيَاهَا َفكَأَ ّنمَا َأحْيَا النّاسَ َ‬
‫النّاسَ َ‬
‫َبعْدَ ذَِلكَ فِي الْأَ ْرضِ َل ُمسْ ِرفُونَ (‪)32‬‬

‫نجد الحق قال‪ :‬إنه قد كتب على بني إسرائيل ما جاء بهذه الية من قانون واضح؛ لن معنى كلمة‬
‫" من أجل " هو " بسبب "؛ و " ًأجْل " مِن أَجَل شرا عليهم يَ ْأجُلُه‪ ،‬أي جنى جناية؛ أي من جريرة‬
‫ذلك‪.‬‬
‫أو من هذه الجناية شرعنا هذا التشريع‪ { :‬مَن قَ َتلَ َنفْسا ِبغَيْرِ َنفْسٍ َأوْ فَسَادٍ فِي الَ ْرضِ َفكَأَ ّنمَا قَ َتلَ‬
‫جمِيعا }‪ .‬إذن فساعة تسمع " من أجل " فاعرف أنها تعني " بسبب ذلك " أو " بوقوع ذلك "‬
‫النّاسَ َ‬
‫أو " بجريرة ذلك " أو " بهذه الجناية كان ذلك "‪.‬‬
‫ولكن هل هذا الكَتْب خاص ببني إسرائيل؟‪ .‬بعض العلماء قال‪ :‬إن ابني آدم ليس ابني آدم مباشرة؛‬
‫ولكنهما من ذُرّية آدم وهما من بني إسرائيل‪ .‬ونَردّ‪ :‬من هو إسرائيل أولً الذي نُسب إليه أبناء‬
‫إسرائيل؟‪ .‬إنه يعقوب بن إسحاق؛ بن إبراهيم‪ ،‬وإبراهيم يصل إلى نوح بأحد عشر أبا ويصل نوح‬
‫إلى شيث‪ ،‬وبعد ذلك إلى آدم؛ فهل كانت كل هذه السلسلة ل تعرف كيف تدفن الميت إلى أن جاء‬
‫بنو إسرائيل؟‬
‫طبعا ل؛ ومادام الحق أوضح أنه سبحانه قد بعث غُرابا يبحث في الرض ليُرِيَه كيف يُواري‬
‫سوْءَة أخيه‪ ،‬فهذا دليل على أن هابيل هو أول إنسان َتمّ دفنه‪ ،‬ومن غير المقبول ‪ -‬إذن ‪ -‬أن‬
‫َ‬
‫نقول‪ :‬إن النسان لم يعرف كيف يواري جثمان الميّت إلى أن وصلت البشرّية إلى زمن بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬وأنهم هم الذين علموا البشرية ذلك!‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولماذا جاء الحق هنا ببني إسرائيل؟‪ .‬سبب ذك أن بني إسرائيل اجترأوا ل على قتل النفس فقط بل‬
‫اجترأوا على قتل النفس الهادية‪ ،‬وهي النفس التي تحمل رسالة النّبوة‪ ،‬ولذلك كان التخصيص‪ ،‬فقد‬
‫قتلوا أنبيائهم الذين حملوا لهم المنهج التطبيقي؛ لن النبياء يأتون كنماذج تطبيقية للمناهج حتى‬
‫يلفِتوا الناس إلى حقيقة تطبيق منهج ال‪ .‬النبياء ‪ -‬إذن ‪ -‬ل يأتون بشرع جديد‪،‬ولكنهم يسيرون‬
‫على شرع من قبلهم‪ .‬فلماذا قتل بنو إسرائيل بعضا من النبياء؟ لقد تولّدت لدى بني إسرائيل‬
‫حفيظة ضد هؤلء النبياء‪.‬‬
‫ونعلم أن النسان الخيّر حين يصنع الخير ويراه الشرّير الذي ل يقدر على صناعة الخير فتتولد‬
‫في نفس الشرّير حفيظة وحقد وغضب على فاعل الخير‪ .‬ففاعل الخير كلما فعل خيرا إنما يلدغ‬
‫الشرّير‪ ،‬ولذلك يحاول الشرّير أن يُزيح فاعل الخير من أمامه‪ .‬وكان النبياء هم القدوة السلوكية‪،‬‬
‫وقد قال الحق عن بني إسرائيل‪ {:‬فَلِمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَ ْبلُ }[البقرة‪]91 :‬‬
‫وجاء الحق هنا بـ " من قبل " هذه لحكمة؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان في عداءٍ مع‬
‫اليهود‪ ،‬وقد تَهبّ عليهم الخواطر الشرّيرة فيحاولون قتل النّبي‪.‬‬

‫وقد حاولوا ذلك‪ .‬مثلما أرادوا أن يلقوا عليه حجرا‪ ،‬ودسّوا له السّم‪ ،‬ولذلك قال ال‪ " :‬من قبل " أي‬
‫إن قدرتكم على قتل النبياء كانت في الماضي؛ أما مع محمد المصطفى فلن تُمكّنُوا منه‪.‬‬
‫جلِ ذاِلكَ كَتَبْنَا عَلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَ َتلَ َنفْسا ِبغَيْرِ َنفْسٍ َأوْ َفسَادٍ فِي‬
‫ويقول سبحانه‪ } :‬مِنْ َأ ْ‬
‫جمِيعا {‪ .‬وهذا توضيح لرادة الحق في تأسيس الوحدة اليمانية ليجعل‬
‫الَ ْرضِ َفكَأَ ّنمَا قَ َتلَ النّاسَ َ‬
‫من المجتمع اليماني رابطة يوضحها قول رسول ال فيما رواه أبو موسى الشعري عنه‪:‬‬
‫" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا "‬
‫وإياك أن تنظر إلى مجترئ على غيرك‪ ،‬بالباطل‪ ،‬وتقف مكتوف اليدين؛ لن الوحدة اليمانية‬
‫تجعل المؤمنين جميعا كالجسد الواحد‪ ،‬إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر العضاء بالسّهر‬
‫والحُمى‪ .‬فإن قَتل إنسان إنسانا آخر ووقف المجتمع اليماني موقف العاجز‪ .‬فهذا إفسادٌ في‬
‫الرض‪ ،‬ولذلك يجب أن يقابل المجتمع مثل هذا الفعل ل على أساس أنه قتل نفسا واحدة‪ ،‬بل كأنه‬
‫قتلٌ للناس جميعا ما لم يكن قتل النفس لقصاص أو إفساد في الرض‪.‬‬
‫جمِيعا‬
‫ويكمل الحق سبحانه الشق الثاني من تلك القضية اليمانية‪َ } :‬ومَنْ أَحْيَاهَا َفكَأَ ّنمَا أَحْيَا النّاسَ َ‬
‫{ ‪ ،‬وهذه هي الوحدة اليمانية‪ ،‬فمن يعتدي على نفس واحدة بريئة‪ ،‬كمن يعتدي على كل الناس‪،‬‬
‫والذي يسعف إنسانا في مهلكه كأنه أنقذ الناس جميعا‪.‬‬
‫وفي التوقيع التكليفي يكون التطبيق العملي لتلك القاعدة‪ ،‬فالذي يقتل بريئا عليه لعنة ال وغضبه‬
‫ويعذبه ال‪ ،‬وكأنه قتل الناس أجمعين‪ ،‬وإن نظرنا إليها من ناحية الجزاء فالجزاء واحد‪.‬‬
‫جمِيعا {‪ .‬وسبحانه وتعالى يريد أل يستقبل المجتمع اليماني‬
‫} َومَنْ َأحْيَاهَا َفكَأَ ّنمَا أَحْيَا النّاسَ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مجترئا بباطل على حق إل أن يقف كل المجتمع أمامه‪ ،‬فل يقف المعتدَى عليه بمفرده؛ لن الذي‬
‫يُجرّئ أصحاب الشرّ هو أن يقول بعض الناس كلمة " وأنا مَالِي "‪.‬‬
‫و " النا مالية " هي التي تُجرّئ أصحاب الشرور‪ ،‬ولذلك اقرأوا قصة الثيران الثلثة‪ :‬الثور‬
‫السود والثور الحمر والثور البيض‪ ،‬فقد احتال أسد على الثورين الحمر والسود‪ ،‬فسمحا له‬
‫بأكل الثور البيض‪ .‬واحتال على الثور السود فسمح الثور السود للسد بأكل الثور الحمر؛‬
‫وجاء الدور على الثور السود؛ فقال للسد‪:‬‬
‫‪ُ -‬أكِلتُ يوم ُأ ِكلَ الثور البيض‪ .‬كأن الثور التفت إلى أن " أنا ماليته " جعلته ينال مصرعه‪ .‬لكن‬
‫لو كان الثيران الثلثة اجتمعوا على السد لقتلوه‪.‬‬
‫وهاهوذا الحديث النبوي الشريف الذي يمثل القائم على حدود ال والواقع فيها‪:‬‬
‫عن النعمان بن بشير رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬مثل القائم في حدود‬
‫ال والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها وكان الذين‬
‫في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ‬
‫جوْا ونجوا جميعا "‬
‫من فوقنا‪ .‬فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم ن َ‬

‫كذلك مثل القائم على حدود ال ومثل الواقع فيها‪ ،‬فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول لنا‪ :‬ل تنظر‬
‫إلى أن نفسا قتلت نفسا بغير حق‪ ،‬ولكن انظر إليها كأن القاتل قتل الناس جميعا؛ لن الناس جميعا‬
‫متساوون في حق الحياة‪ .‬ومادام القاتل قد اجترأ على واحد فمن الممكن أن يَجترئ على الباقين‪.‬‬
‫سوَة لغيره‪ ،‬ومادام قد اسْتَن مثل هذه السّنة‪ ،‬سنجد كل من يغضب من آخر‬
‫أو أن يكون فعله أُ ْ‬
‫يقتله‪ ،‬وتظل السلسلة من القتلة والقتلى تتوالى‪.‬‬
‫والحديث النبوي يقول‪:‬‬
‫" من سن في السلم سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من‬
‫أجورهم شيء‪ ،‬ومن سن في السلم سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من‬
‫غير أن ينقص من أوزارهم شيء "‪.‬‬
‫إنه الحتياط والدقة والقيد‪ } :‬مَن قَ َتلَ َنفْسا ِبغَيْرِ َنفْسٍ َأوْ فَسَادٍ فِي الَ ْرضِ {‪ .‬فكأن من قتل نفسا‬
‫بنفس أو بفساد في الرض‪ ،‬ل يقال عليه‪ :‬إنه قتل الناس جميعا‪ ،‬بل أحيا الناس جميعا؛ لن‬
‫التجريم لي فعل يعني مجيء النص الموضح أن هذا الفعل جريمة‪ ،‬وبعد ذلك نضع لهذه الجريمة‬
‫ل وتقول له‪ :‬أنا أؤاخذك به وأُعاقبك عليه بغير أن‬
‫عقوبة‪ .‬ول يمكن أن تأتي لواحد ارتكب فع ً‬
‫يوجَد نص بتجريم هذا الفعل‪.‬‬
‫وهناك توجد قاعدة شرعية قانونية تقول‪ " :‬ل تجريم إلّ بنص ول عُقوبة إلّ بتجريم "‪ .‬أي أننا‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نُرتّب العقوبة على الجريمة‪ ،‬أو ساعة يُجرّم فعل يُذكر بجانب التجريم العقوبة‪ ،‬فعل القصد هو‬
‫عقاب مُرتكب الجُرم‪ .‬ل إنما القصد هو تفظيع العقاب حتى يراه كل إنسان قبل أن يرتكب‬
‫الجريمة‪ ،‬والهدف هو منع الجريمة‪ ،‬ولذلك تجد الحكمة البشرية القائلة‪ " :‬القتل أنفى للقتل " ‪،‬‬
‫وبطبيعة الحال ل يمكن أن ترقى تلك الحكمة إلى قول الحق‪ {:‬وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي‬
‫الَلْبَابِ }[البقرة‪]179 :‬‬
‫لننا يمكن أن نتساءل‪ :‬أيّ قتل أنفى للقتل؟‪ .‬وسنجد أن المقصود بالحكمة ليس القتل البتدائي‬
‫ولكن قتل القتصاص‪ .‬وهكذا نجد السلوب البشري قد فاتته اللمحة الفعّالة في منع القتل الموجودة‬
‫جمِيعا َومَنْ َأحْيَاهَا‬
‫في قوله الحق‪ } :‬مَن قَ َتلَ َنفْسا ِبغَيْرِ َنفْسٍ َأوْ فَسَادٍ فِي الَ ْرضِ َفكَأَ ّنمَا قَ َتلَ النّاسَ َ‬
‫جمِيعا {‪ .‬وكلمة " أحياها " لها أكثر من معنى‪ .‬وبالتحديد لها معنيان‪ :‬المعنى‬
‫َفكَأَ ّنمَا أَحْيَا النّاسَ َ‬
‫الول‪ :‬أنه أبقى فيها الروح التي تحرك المادة‪ ،‬والمعنى الثاني‪ :‬إحياء الروح اليمانية‪ ،‬مصداقا‬
‫لقول الحق‪:‬‬

‫{ اسْتَجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ }[النفال‪]24 :‬‬


‫ولنا أن نلتفت إلى أن الحق وضع الفساد في الرض مُستحقا لعقوبة القتل‪ .‬والفساد هو إخراج‬
‫الصالح عن صلحيته‪ ،‬والمطلوب منا إيمانيا أن المر الصالح في ذاته علينا أن نُبقبه صالحا‪ ،‬فإن‬
‫استطعنا أن نزيده صلحا فلنفعل وإن لم نستطع فلنتركه على صلحه‪.‬‬
‫ولماذا جاء الحق بعقابٍ للفساد في الرض؟‪ .‬مدلول الرض‪ :‬أنها المنطقة التي استخلف الحق فيها‬
‫البشر‪ ،‬وساعة يقول الحق‪َ } :‬أوْ فَسَادٍ فِي الَ ْرضِ { فمعنى ذلك أن كل فساد عائد على كل‬
‫مظروف في الرض‪ .‬وأول مظروف في الرض أو السيد لها هو النسان‪ .‬وعندما نفسد في‬
‫النسان‪ ،‬فهذا معناه قتل النسان‪.‬‬
‫إذن ل بد أن يكون الفساد في أشياء أخرى‪ :‬هي الكوان أو الجناس الخرى؛ الحيوانات‬
‫والنباتات والجمادات‪ .‬والفساد في هذه الكائنات بكون بإخراجها عن مستحوزها ملكيةً‪ ،‬كأن تسطو‬
‫جماعة على بضاعة إنسان آخر‪ ،‬أو أن يأخذ واحد ثمار زرع لحد‪ ،‬أو أن يأخذ بعضا من إنتاج‬
‫منجم منجنيز أو حديد أو خلفه‪.‬‬
‫إن الفساد نوعان‪ :‬فساد في الرض وهو متعلف بالمظروف في الرض‪ ،‬والمظروف في الرض‬
‫سيد وهو النسان‪ ،‬والفساد فيه قتله أو أن تُسبب له اختللً في أمنه النفسي كالقلق والضطراب‬
‫والخوف‪ .‬ونلحظ أن الحق سبحانه قد امْتَنّ على قريش بأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف‪.‬‬
‫إذن فمن الفساد تفزيع الناس وترويعهم وهو قسمان‪ :‬قسم ُتفَزّع فيه مَن لك عنده ثأر أو بينك وبينه‬
‫ضغينة أو بُغض‪ ،‬أو أن ُتفَزّع قوما ل علقة بينك وبينهم ولم يصنعوا معك شيئا‪ .‬فمن يعتدي على‬
‫إنسان بينه وبينه مشكله أو عداوة أو بغضاء‪ ،‬ل نُسمّيه خارجا على الشريعة؛ بأخذ حقه‪ ،‬ولكنه ل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يستوفي في حقه بيده بل ل بد من حاكم يقوم بذلك كي ينضبط المر ويستقيم‪ ،‬إنه يخرج على‬
‫الشريعة فقط في حالة العُدوان‪.‬‬
‫أما الذي يذهب للعتداء على الناس ولم يكن بينه وبينهم عداء؛ فهذه هي الحرابة‪ .‬كأن يخرج‬
‫ليقطع الطريق على الناس ويخيف كل من يلقاه ويُسبّب له القلق والرّعب والخوف عللى نفسه‬
‫وماله‪ ،‬والمال قد يكون من جنس الحيوان أو جنس النبات أو جنس الجماد‪ .‬وذلك ما يسميه الشرع‬
‫حرابة وستأتي لها آية مخصوصة‪.‬‬
‫إذن‪ .‬فالفساد في الرض معناه إخراج صالح عن صلحه مظروف في الرض‪ ،‬والمظروف في‬
‫الرض سيده النسان‪ ،‬والفساد فيه إما بقتله أو إهاجته وإشاعة الرّعب فيه‪ ،‬وإما بشيء مملوك له‬
‫من الشياء التي دونه في الجنسية مثل الزروع أو النباتات أو الحيوانات‪ .‬فكأن الفساد في الرض‬
‫‪ -‬أيضا ‪ -‬يؤهل لقتل النفس‪:‬‬
‫جمِيعا {‪.‬‬
‫} مَن قَ َتلَ َنفْسا ِبغَيْرِ َنفْسٍ َأوْ فَسَادٍ فِي الَ ْرضِ َفكَأَ ّنمَا قَ َتلَ النّاسَ َ‬

‫أي أن القتل بغير إفساد في الرض؛ هو القتل الذي يستحق العقاب‪ .‬أما القتل بإفساد في الرض‬
‫فذلك أمر آخر؛ لن هناك فارقا بين أن يُقتل قِصاصا أو أن يقتل حدّا من المُشرّع؛ وحتى عفو‬
‫صاحب الدم عن القاتل في الحرابة وقطع الطريق ل يشفع في ذلك ول يسقط الحد عن الذي فعل‬
‫ذلك؛ لنها جريمة ضد المجتمع كله‪.‬‬
‫ويتابع سبحانه‪ } :‬وَلَقَدْ جَآءَ ْت ُهمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَاتِ ُثمّ إِنّ كَثِيرا مّ ْنهُمْ َب ْعدَ ذاِلكَ فِي الَ ْرضِ َلمُسْ ِرفُونَ‬
‫{ والمُسرف هو المُتجاوز للحَد‪ ،‬وهو من ل يأخذ قدر تكوينه وموقعه في الوجود‪ ،‬بل يحاول أن‬
‫يخرج عن قدر إمكاناته في الوجود‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬رجل حاول أن يسطو على حق غيره في الوجود؛ متخطيا منزلة العتدال فل يأخذ‬
‫حقه فقط‪ .‬مثل قطاع الطريق أو النهابين يأخذون عرق غيرهم وتعودوا أن يعيشوا كذلك وبراحة‪.‬‬
‫والمصيبة ل تكون في قاطع الطريق وحده‪ ،‬ولكن تتعداه إلى المجتمع‪ .‬فيقال‪ :‬إن فلنا يجلس في‬
‫منزله براحة وتكفيه ساعة بالليل ليسرق الناس‪.‬‬
‫إن المر ل يقف عند حدود ذلك النسان إنما يتعدّاه إلى غيره‪ .‬ويحيا من يملك مالً في رُعب‪،‬‬
‫وعندما يُفجَع في زائد ماله‪ ،‬يفقد الرغبة في أن يتحرك في الحياة حركة زائدة تُنتج فائضا لنه ل‬
‫يشعر بالمن والمان‪ .‬وعندئذ يفقد العاجز عن الحركة في المجتمع السند والعون من الذي كان‬
‫يتحرك حركةً أوسع‪ .‬إذن من رحمة ال أنه فتح أمام البشر أبواب المال في التملّك‪ ،‬مادام السعي‬
‫إلى ذلك يتم بطرق مشروعة‪.‬‬
‫ونضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ :-‬الرجل المُرابي الذي يُقرض مُحتاجا مائة جنيه‪ ،‬كيف‬
‫يطلب المرابي زيادة ِممّن ل يجد شيئا يقيم به حياته؟ إنه بذلك يكون قد أعطى مَن وجد أزيد مما‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أخذ منه مع فقره وعجْزه‪ .‬إن ذلك هو السراف عينه‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬إِ ّنمَا جَزَآءُ الّذِينَ‪{ ...‬‬

‫(‪)694 /‬‬

‫س َعوْنَ فِي الْأَ ْرضِ َفسَادًا أَنْ ُيقَتّلُوا َأوْ ُيصَلّبُوا َأوْ ُتقَطّعَ‬
‫إِ ّنمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وَيَ ْ‬
‫أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُُلهُمْ مِنْ خِلَافٍ َأوْ يُ ْنفَوْا مِنَ الْأَ ْرضِ ذَِلكَ َلهُمْ خِ ْزيٌ فِي الدّنْيَا وََلهُمْ فِي الَْآخِ َرةِ عَذَابٌ‬
‫عَظِيمٌ (‪)33‬‬

‫أول شيء في الحرب هو الستيلء؛ فمعنى أن يحارب قوم قوما غيرهم أي يرغبون في الستيلء‬
‫على خيرات أو ممتلكات الطرف الخر‪ .‬فكيف يحارب قومٌ اللّهَ وهو غيب؟‪ .‬وأول حرب للّه هي‬
‫محاولة الستيلء على سلطانه‪ ،‬وهو تشريعه‪ .‬فإن حاولت أيها النسان أن تشرع أنت على غير‬
‫منهج ال فأنت تريد أن تستولي على حق ال في التشريع‪ .‬وهذه أول حرب ل‪.‬‬
‫والذين يحاربون ال أَهُمُ الذين يريدون أن يستولوا على ملك ال؟ ل؛ لن يد ال في مُلكه أزل‪،‬‬
‫وستبقى أبدًا وسبحانه لن يسلّمه لحد من عباده‪ .‬فعلى ماذا ‪ -‬إذن ‪ -‬يريدون الستيلء؟‪ .‬إنهم‬
‫يريدون تزييف تشريعات ال‪ ،‬بينما سبحانه هو المُشرّع وحده‪ .‬والتشريع ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬هو قانون‬
‫صيانة للصّنعة‪ .‬إذن لماذا ل نترك خالق النسان ليضع القواعد التي تصون البشر؛ لذلك فأول‬
‫افتيات يفعله الناس أنهم يُشرّعون لنفسهم؛ لن قانون صيانة النسان يضعه خالق النسان‪ ،‬فإذا‬
‫ما جاء شخص وأراد أن يضع للنسان ‪ -‬الذي هو منه ‪ -‬قانون صيانة نقول له‪ :‬إنك تستولي‬
‫على حق ال‪.‬‬
‫وكيف يحاربون الرسول؟‪.‬‬
‫نعرف أن الرسول صلى ال عليه وسلم له وضعان؛ فال غيب؛ لكن الرسول كان مشهدا من‬
‫مشاهدنا في يوم من اليام‪ ،‬وقد حورب بالسيف‪ ،‬وعندما انتقل الرسول إلى الرفيق العلى‬
‫أصبحت حربه كحرب ال‪ ،‬فنأخذ سلطته في التشريع‪ ،‬وهي السلطة الثانية ونقول لها‪ :‬نحن‬
‫سنشرع لنفسنا ول ضرورة لهذا الرسول‪ ،‬أو أن يقول نظام ما‪ :‬سنأخذ من كلم ال فقط وذلك ما‬
‫ينتشر في بعض البلدان‪ .‬ونقول لكل واحد من هؤلء‪ :‬أتؤدي الصلة؟‪ .‬فيقول‪ :‬نعم‪ .‬نسأله‪ :‬كم‬
‫ركعة صليت المغرب؟‪ .‬فيجيب ثلث ركعات‪ .‬نسأله‪ :‬من أين أتيت بذلك؟‪ .‬ومن أين عرفت أن‬
‫صلة المغرب ثلث ركعات وهي لم تذكر في القرآن الكريم؟‪ .‬هنا سيصمت‪.‬‬
‫ونسأله‪ :‬كيف تخرج الزكاة وبأي حساب تحسبها؟ فيقول‪ :‬اخرج الزكاة بقدر اثنين ونصف بالمائة‬
‫في النقدين والتجارة مثل‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نقول له‪ :‬كيف ‪ -‬إذن ‪ -‬عرفت ذلك؟‪ .‬وأيضا كيف عرفت الحج؟‪ .‬إذن فللرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم مهمة‪ ،‬وحرب النبي تكون في ترك قول أو فعل أو تقرير له عليه الصلة والسلم‪.‬‬
‫ومثال ذلك هؤلء الذين يقولون‪ :‬إن أحاديث رسول ال كثيرة‪ .‬ونقول لهم‪ :‬كانت مدة رسالة‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثة وعشرين عاما وكل كلمه حديث‪ ،‬فكل كلمة خرجت من‬
‫فمه حديث شريف‪ ،‬ولو كنا سنحسب الكلم فقط لكان مجلدات ل يمكن حصرها‪ ،‬وكل كلم سمعهُ‬
‫وأَقرّه من غيره حديث‪ ،‬وكل فعل فعله غيره أمامه وأقرّه ولم يعترض عليه حديث‪ ،‬فكم تكون‬
‫أحاديث رسول ال صلى ال عليه وسلم؟‪.‬‬

‫وكيف يستكثر بعض الناس قدرا من الحاديث التي وصلتنا بعد قدر هائل من التنقية البالغة؟؛‬
‫لنهم قالوا‪ :‬لن نبعد عن رسول ال ما قاله خير من أن ندخل على رسول ال ما لم يفعله‪ .‬إنهم‬
‫يدعون أن هذا حفظ للسلم ولكن فاتهم أن ال حافظ دينه‪ ،‬وأن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد‬
‫وضع القواعد لغربلة الحاديث فقال‪:‬‬
‫" من كذب على مُتعمدا فليتبوّأ مقعده من النار "‪.‬‬
‫وها هوذا البخاري ينقل عن المعاصرين لرسول ال صلى ال عليه وسلم والذين قابلوه‪ ،‬وسيدنا‬
‫مُسلم يعتبر المعاصرة كافية لنّها مظنّة المقابلة وتحري كل منهما الدقة الفائقة‪ .‬وأي شخص كان‬
‫به خدشة سلوكية ل يؤخذ بقوله‪ ،‬ولذلك عندما حاول البعض أن ينال من الحاديث وقال أحدهم‪" :‬‬
‫أنا يكفيني أو أقول ل إله إل ال " ‪ ،‬تساءلت‪ :‬كيف ل يذكر أن محمدا رسول ال؟ وكيف يمكن أن‬
‫يؤدي الذان للصلة؟ وكيف يؤدي الصلة " وكيف يمكن أن يفهم قول الحق‪َ {:‬ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ‬
‫خذُوهُ }[الحشر‪]7 :‬‬
‫فَ ُ‬
‫وهذا تفويض من ال في أن يكون لمحمد صلى ال عليه وسلم تشريع‪.‬‬
‫وكذلك الجتراءات على الئمة‪ ،‬هم يجترئون أولً على النبي ثم يزحفون على الدين كله‪ .‬وجاء‬
‫س َعوْنَ فِي الَ ْرضِ فَسَادا { أي‬
‫فيهم قول الحق‪ } :‬إِ ّنمَا جَزَآءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَ ُه وَيَ ْ‬
‫يخرجون الصالح بذاته عن صلحه ليكون فاسدا‪ .‬الجزاء أن ُيقَتّلوا أو ُيصَلّبُوا‪ ،‬وهذا التفعيل في‬
‫قوله‪ } :‬أَن ُيقَتّلُواْ َأوْ ُيصَلّبُواْ { جاء للشدة والتقوية؛ حتى يقف منهم المجتمع اليماني العام موقف‬
‫القائم على هذا المر‪ ،‬والسلطة الشرعية قامت عن الجميع في هذا المر‪ ،‬كما يقال‪ :‬إن النائب‬
‫العام نائب عن الشعب في أن يرفع الدعوى‪ ،‬حتى ل ينتشر التقتيل بين الناس‪ ،‬دون أن يفهموا‬
‫حكمة كل أمر‪.‬‬
‫ن الَ ْرضِ {‪ .‬وهل " أو " هنا‬
‫} أَن ُيقَتّلُواْ َأوْ ُيصَلّبُواْ َأوْ ُتقَطّعَ أَ ْيدِيهِ ْم وَأَرْجُُلهُم مّنْ خِلفٍ َأوْ يُنفَوْاْ مِ َ‬
‫تخييرية‪ ،‬أو أنّ هنا ‪ -‬كما يقال ‪ " -‬لف ونشر "؟ واللف هو الطي‪ .‬والنشر هو أن تبسط الشيء‬
‫وتفرقه‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فما اللف‪ ،‬وما النشر ‪ -‬إذن ‪-‬؟ مثل ذلك ما يقوله الشاعر‪:‬قلبي وجفني واللسان وخالقي‪ ..‬لقد ذُكر‬
‫مُتَعدّد ولكن الحكام غير مذكورة‪ ،‬هذا هو اللف؛ فجمع المبتداءت دون أن يذكر لكل واحد منها‬
‫ض وباكٍ شاكرٌ‬
‫خبره؛ ثم جاء بالحكام على وفق المحكوم عليه‪ .‬فأكمل بيت الشعر بقوله‪:‬را ٍ‬
‫ض وباكٍ شاك ٌر وغفورُوالحق يقول‪{:‬‬
‫وغفور ولنقرأ البيت كاملً‪:‬قلبي وجفني واللسان وخالقي را ٍ‬
‫سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ }[القصص‪]73 :‬‬
‫ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ الْلّ ْي َ‬
‫حمَتِهِ َ‬
‫َومِن رّ ْ‬
‫سكُنُواْ فِيهِ { راجع إلى الليل‪ ،‬وقوله‪ } :‬وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ { راجع إلى النهار‪ .‬وهنا جاء‬
‫فقوله‪ } :‬لِتَ ْ‬
‫باللف‪ .‬ثم جاء بالنشر‪.‬‬
‫والفساد ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬له صُور متعددة‪ ،‬فالفساد في النسان قد يعني قتله‪.‬‬

‫أو قتله وأخذ ماله‪ .‬أو الستيلء على ماله دون قتله‪ .‬أو إثارة الرعب في نفس النسان دون أخذ‬
‫ماله أو قتله‪ .‬فكأن كلمة الفساد طوي فيها ألوان الفساد‪ ،‬نفس القتل‪ ،‬أو نفس تقتل مع مال يُسلب‬
‫ويؤخذ‪ ،‬أو مال يُؤخذ دون نفس تقتل‪ ،‬أو تخويف وتفزيع‪.‬‬
‫ويقول الحق‪َ } :‬أوْ يُن َفوْاْ مِنَ الَرْضِ { ‪ ،‬والنفي معناه الطرد والبعاد‪ ،‬والطرد ل يتأتى إل لثابت‬
‫مُستقر‪ ،‬والبعاد ل يتأتى إل لمُتمكن‪ .‬إذن‪ ،‬فقبل أن يُنفى ل بد أن يكون له ثبًوت وتمكّن في‬
‫موضع ما‪ ،‬وهو ما نسميه اصطلحا السكن‪ ،‬أو الوطن‪ ،‬أو المكان الذي يقيم به النسان لنه ثابت‬
‫فيه‪ .‬ومعنى ثابت فيه‪ .‬أي له حركة في دائرته‪ ،‬إل أنه يأوي إلى مكانٍ مُستقر ثابت‪ ،‬ولذلك سُمي‬
‫سكنا؛ أي يسكن فيه من بعد تحركه في مجالته المختلفة‪ .‬ومعنى النفي على هذا هو إخراجه من‬
‫مسكنه ومن وطنه الذي اتخذه موطنا له وكان مجالً للفساد فيه‪ .‬ولكن إلى أي مكان نُخرج إليه‬
‫هذا الذي نحكم عليه بالنفي؟ قد يقول قائل‪ :‬أنت إن أخرجته من مكان أفسد فيه وذهبت به إلى‬
‫مكان آخر فقد تشيع فساده!‬
‫ل؛ لن النفي ل يتيح له ذلك الفساد‪ ،‬ذلك أن التوطن الول يجعل له إلفا بجغرافية المكان‪ ،‬إلفا‬
‫بمن يخيفهم؛ فهو يعرف سلوك جيرانه ويعرف كيف يخيف فلنا وكيف يغتصب بضاعة آخر‬
‫وهكذا‪ .‬ولكنه إن خرج إلى مكان غير مستوطن فيه فسوف يحتاج إلى وقت طويل حتى يتعرف‬
‫إلى جغرافية المكان ومواقع الناس فيه‪ ،‬ومواطن الضعف فيهم‪ .‬وعلى ذلك يكون النفي هو منعٌ‬
‫لفساد الفاسد‪.‬‬
‫ن الَ ْرضِ { نعرف أن كلمة " الرض " لها مدلول ونسمي‬
‫وحين يقول سبحانه‪َ } :‬أوْ يُنفَوْاْ مِ َ‬
‫الرض الن‪ :‬الكرة الرضية‪ .‬وكانوا قديما يفهمونها على أنها اليابسة وما فيها من مياه‪ ،‬وبعد أن‬
‫جوّ الرض منها صار جو الرض جزءا من الرض‪ .‬ولذلك قلنا في المقدسات‬
‫عرفنا أن َ‬
‫المكانية‪ :‬إن كل جو يأخذ التقديس من مكانه؛ فجو الكعبة كعبة؛ بدليل أن الذي يصلي في الدور‬
‫الثالث من الحرم؛ ويتجه إلى الكعبة‪ .‬يصلي متجها إلى جو الكعبة‪ .‬ومن يستقل طائرة ويرغب في‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إقامة الصلة يتجه إلى جو الكعبة‪ ،‬وعندما ازدحم الحجيج وصار المسعى ل يتسع لكل الحجيج‬
‫أقاموا دورا ثانيا حتى يسعى الناس فيه‪ .‬إذن فالمسعى ليس هو المكان المحدد فقط‪ ،‬ولكن جوه‬
‫أيضا له قدسية؛ فإن بنينا كذا طابقا فهي تصلح أيضا كمسعى‪.‬‬
‫إذن فجو الرض ينطبق عليه ما ينطبق على الرض‪ .‬ولذلك كانوا يُحرمون ‪ -‬قبل أن يوجد‬
‫حوّم في جو الحرم طيار غير مسلم؛ لن الطيار غير المسلم مُحرم عليه‬
‫طيارون مسلمون ‪ -‬أن ُي َ‬
‫أن يدخل الكعبة والحرم‪.‬‬

‫جوّ الكعبة‪.‬‬
‫ومادام هناك إنسان ممنوع من دخول الكعبة فهو أيضا ممنوع من الطيران في َ‬
‫جوّ من الرض‪ ،‬ونعرف أن الغلف الجوي يدور‬
‫جوّ المكان يأخذ قُدسية المكان أو حكمه؛ فال َ‬
‫أن َ‬
‫مع الرض‪ .‬ومن هذا نعرف العطاءات القرآنية من القائل لكلمه وهو سبحانه الخالق لكونه‪.‬‬
‫ومادام القائل للقرآن هو الخالق للكون‪ ،‬إذن ل يوجد تضارب بين حقيقة كونية وحقيقة قرآنية‪.‬‬
‫وإنما يوجد التضارب من أحد أمرين‪ :‬إما أن نعتبر المر الذي ل يزال في طور النظرية حقيقة‬
‫في حين أنها لم تصبح حقيقة بعد؛ وإما أن نفهم أن هذا حقيقة قرآنية‪ ،‬على الرغم من أنه ليس‬
‫كذلك‪ ،‬فإذا كان المر هو حقيقة كونية بحق وحقيقة قرآنية بحق‪ ،‬فل تضارب على الطلق‪.‬‬
‫ودليل ذلك على سبيل المثال قول الحق سبحانه‪ {:‬وَ َيعْلَمُ مَا فِي الَرْحَامِ }[لقمان‪]34 :‬‬
‫ويأتي العلم الحديث بالبحث والتحليل‪ ،‬ويقول بعض السطحيين‪:‬‬
‫ل‪ ،‬إن العلم يعرف ما في الرّحم من ذكر أو أنثى‪ .‬ونقول‪ :‬نحن ل نناقش ذلك؛ لنها حقيقة كونية‬
‫وهي ل تتصادم مع الفهم الصحيح للحقيقة القرآنية؛ لكننا نسأل‪ :‬متى يعرف العلماء ذلك؟ هم ل‬
‫يعرفون هذا المر إل بعد مُضي مُدة زمنية‪ ،‬ولكن الحق يعلمه قبل مرور أية مدة زمنية‪ .‬ثم مَن‬
‫قال‪ :‬إن الحق يقصد بـ } وَ َيعْلَمُ مَا فِي الَرْحَامِ { ذكرا أو أنثى فحسب؟ وهل لمدلولها وجه واحد؟‬
‫ل‪ ،‬بل له وجوه متعددة فلن يعرف أحد أن ما في الرحم سيكون من بعد إنسانا طويلً أو قصيرا؛‬
‫ذكيا أو غبيّا؛ شقيّا أو سعيدا؛ طويل العمر أو قصير العمر؛ حليما أو غضوبا‪ .‬فلماذا نحصر " ما "‬
‫في مسألة الذكر والنثى فقط؟‬
‫إنه هو سبحانه يعلم المستقبل أزلً قبل أن يعلم أي عالم وقبل أن يحصل العالم على أية عينة‪ .‬ثم‬
‫هل تذهب كل حامل إلى الطبيب ليفحص معمليا ما الذي تحمله في بطنها؟ طبعا ل‪ ،‬ونحن ل نعلم‬
‫ماذا في بطنها ولكن الخالق العظم يعلم‪ .‬ثم هل تذهب كل النساء الحوامل في العالم لطبيب‬
‫واحد؟ بالطبع ل‪ ،‬ولكن الخالق العظم يعلم ما في كل الرحام‪.‬‬
‫إذن فالحقيقة القرآنية لم تصطدم بأية حقيقة كونية‪ ،‬لكن الصدام يحدث عندما نفهم فهما خطأ أن‬
‫الحقيقة القرآنية في قوله الحق‪ } :‬وَ َيعْلَمُ مَا فِي الَرْحَا ِم { مقصود به العلم بالذكر والنثى فقط‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ ،‬يقول الحق‪ {:‬وَالَرْضَ مَ َددْنَاهَا }[الحجر‪]19 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويُخطئ البعض الفهم عن ال فيظن أن المقصود بذلك أن الرض بساط أمام النسان‪ .‬وقد ثبتت‬
‫للبشر حقيقة كونية هي ان الرض كروية بالدلة خلل رحلة ماجلن ثم بالقواعد الخاصة بوضع‬
‫العمدة؛ وظهور أعالي الشياء قبل أسافلها وغير ذلك‪ ،‬ثم صارت في عصرنا مُشاهدة من‬
‫القمار الصناعية‪ .‬إذن هذه الحقيقة الكونية ل كلم فيها‪ ،‬وكان الخطأ هو فهم مدلول الحقيقة‬
‫القرآنية والفهم الصواب في مدلول الحقيقة القرآنية الخاصة بقوله تعالى‪ } :‬وَالَ ْرضَ مَ َددْنَاهَا {؛إننا‬
‫كلما وقفنا في مكان نجد أرضا‪ ،‬أي أن الرض ل نهاية لها وليس لها حافة‪.‬‬

‫إذن فسبحانه قد مَد الرض أمام النسان بحيث إذا سار النسان في أي اتجاه؛ يجد أرضا‪ .‬ول‬
‫يتأتى ذلك إل إذا كانت الرض كروية‪ .‬لهذا كان الخطأ في فهم مدلول الحقيقة القرآنية؛ لن‬
‫التضارب إنما ينشأ من فهم أنها حقيقة كونية وهي ليست كذلك‪ ،‬أو من فهم أنها حقيقة كونية وهي‬
‫ليست كذلك‪ ،‬أو من فهم أنها حقيقة قرآنية على نحو خاطئ‪ ،‬إنهما ل تتعارضان‪ ،‬فالقائل هو‬
‫الخالق عينه‪ .‬ولهذا عرفنا متأخرا أن الجو من الرض وأن الغلف الجوي يدور مع الرض‪،‬‬
‫وكنا نقول‪ :‬سرنا على الرض لكنه سبحانه قال وهو العليم‪ {:‬سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ }[النعام‪]11 :‬‬
‫وهو سبحانه علم أزلً أن الجو جزء من الرض‪ .‬فمهما سار النسان على اليابسة ففوقه الغلف‬
‫الجوي‪ .‬إذن فالنسان إنما يمشي في الرض وليس على الرض‪ .‬أما إن سار النسان فوق‬
‫الغلف الجوي فهو يسير فوق الرض‪.‬‬
‫ن الَ ْرضِ { وقد عرفنا أن النفي هو الطرد والبعاد‪ ،‬فأي‬
‫ونعود إلى قوله الحق‪َ } :‬أوْ يُن َفوْاْ مِ َ‬
‫أرض ينفون منها وإلى أي أرض؟ ول يكون الطرد إل لمستقر ول البعاد إل لثابت‪ .‬وحتى في‬
‫اللغة نعرف ما يسمى النفي والثبات‪ .‬وكل ذلك مأخوذ من شيء حِسي؛ فعندما نأخذ الماء من‬
‫البئر نُنزل إلى قاع البئر دلوا‪ ،‬وكل دلو ينزل إلى البئر له " رِشاء " وهو الحبل الذي نُنزل‬
‫بواسطته الدلو‪.‬‬
‫إننا ساعة نُخرج الدلو من البئر‪ ،‬يكون قد أخذ من الماء على قدر سعته وحجمه‪ .‬فهل لدينا حركة‬
‫ثابتة نستطيع بها المحافظة على استطراق الماء إلى تمام حافة الدلو؟ طبعا هذا أمر غير ممكن؛‬
‫بل نجد قليل من الماء يتساقط من حوافي الدلو‪ ،‬وهذا الماء المتساقط يُسمى " ال ّنفِي "؛ لننا ل‬
‫نستطيع استخراج الدلو وهو ملن لخره بحركة ثابتة مستقرة بحيث تحافظ على استطراق الماء‪.‬‬
‫إن الماء ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬له استطراق دقيق إلى الدرجة التي جعلت البشر يصنعون منه ميزانا‬
‫للستواء‪ .‬ومن " ال َنفْي " تؤخذ معان كثيرة‪ ،‬فهناك " النفاية " وهي الشيء الزائد‪ .‬إذن كيف يكون‬
‫النفي من الرض؟ وهل نأخذ الرض بمفهومها العام أو بمعناها الخاص؟ أي الرض التي حدث‬
‫فيها قطع الطريق؟‬
‫إن أخذناها بالمعنى الخاص فالنفي يكون لي أرض أخرى‪ .‬وإن أخذنا الرض بالمعنى العام‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فكيف يكون النفي؟ ونرى أن الحق سبحانه قد قال في موضع آخر من القرآن‪َ {:‬وقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ‬
‫سكُنُو ْا الَ ْرضَ }[السراء‪]104 :‬‬
‫لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫هم بل جدال يسكنون في الرض‪.‬‬

‫وجاء هذا القول لمعنى مقصود ونعرف أننا ل نذكر السكن إل ويكون المقصود تحييز مكان في‬
‫الرض‪ ،‬كأن يقول قائل‪ " :‬اسكن ميت غمر " أو " اسكن الدقهلية " أو " اسكن طنطا " ‪ ،‬وهذا‬
‫تحديد لموقع من الرض للستقرار‪ ،‬والمعنى المقصود إذن أن الحق يبلغنا أنه سيقطعهم في‬
‫طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ‬
‫الرض تقطيعا بحيث ل يستقرون في مكان أبدا‪ .‬وذلك مصداقا لقول ال‪َ {:‬وقَ ّ‬
‫ُأمَما }[العراف‪]168 :‬‬
‫فليس لهم وطن خاص‪ .‬وتمت ًبعْثَرَتُهم في كل الرض‪ ،‬وهذا هو الواقع الذي حدث في الكون‪.‬‬
‫َأوُجِدَ لبني إسرائيل استقرار في أي وطن؟‪ .‬ل‪ .‬وحتى الوطن الذي أقاموه بسبب وعد بلفور لم‬
‫يترك الحق أمره‪ .‬بل أعطى وعده للمؤمنين بأن يدخلوا المسجد إذا ما أحسنوا العمل لسترداده‪.‬‬
‫ومازال اليهود بطبيعتهم شتاتا في أنحاء الرض‪ .‬ولهم في كل وطن حيّ خاص بهم‪ .‬وتحتفظ كل‬
‫سكُنُواْ‬
‫جماعة منهم في أي بلد بذاتيتهم ول يذوبون في غيرهم‪َ {:‬وقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫الَ ْرضَ فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا }[السراء‪]104 :‬‬
‫لمّة المؤمنة حين يقوّيها‬
‫وحين يأتي بهن الحق في الجولة الخرة سيأتون لفيفا أي مجتمعين؛ لن ا ُ‬
‫ال لتضرب على هؤلء القوم ضربة ل بد أن يكونوا مُجتمعين‪ .‬وكأن ال قد أراد أن يكون هذا "‬
‫الوطن القومي " حتى يتجمعوا فيه وبعد ذلك يرسل الضربة عليهم لنه جاء بهم لفيفا؛ لذلك ل‬
‫نحزن لنه قد صار لهم وطن‪ ،‬فقد جاء بهم لفيفا‪.‬‬
‫ونعود إلى الية التي نحن بصددها‪ .‬كيف يكون النفي من الرض؟ حين يرد ال تَحييز مكان فهو‬
‫يقول على سبيل المثال‪ {:‬ا ْدخُلُوا الَ ْرضَ المُقَدّسَةَ }[المائدة‪]21 :‬‬
‫ضكُمْ }[العراف‪]110 :‬‬
‫جكُمْ مّنْ أَ ْر ِ‬
‫إذن فقد نفى غيرها‪ .‬وهو يقول أيضا‪ {:‬يُرِيدُ أَن يُخْ ِر َ‬
‫وكان المقصود بها مصر‪.‬‬
‫فإذا أخذنا الرض بالمعنى العام فحكمها حُكم " اسكنوا الرض "‪ .‬والنفي هو صورة من صور‬
‫العقوبات للفساد‪ ،‬والفساد في الرض ينقسم إلى أربعة أقسام؛ قتل‪ ،‬قتل وأخذ مال‪ ،‬أخذ مال‬
‫فقط‪ ،‬ترويع‪ .‬وقد زاد رسول ال صلّى ال عليه وسلم شيئا وفعله في سيرته‪ ،‬فقد جاء بنا بأمر‬
‫جديد في أمر الفساد‪ .‬وكان على العلماء أن ينتبهوا له‪ ،‬فأول نفي حصل في السلم كان نفي‬
‫حكَم بن أبي العاص من المدينة إلى الطائف؛ لن الحكم ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬كان يُقلّد‬
‫رسول ال ال َ‬
‫مِشّيَة النبيّ باستهزاء‪ ،‬وكان النبي صلّى ال عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤا كأنما يَتَحدّر من‬
‫حكَمَ يقلد‬
‫صَ َببٍ‪ .‬فقد كانت مشية النبي مشية خاصة‪ .‬وعلم رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ال َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مِشيته في استهزاء والتفت النبي ‪ -‬ذات مرة ‪ -‬فجأة‪ ،‬فوجد الحكم يقلده في مِشيته فنفاه من المدينة‬
‫إلى الطائف‪ ،‬وظل الحكم في الطائف طوال حياة رسول ال صلّى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫حكَم إلى أبي بكر‪ ،‬فقال‪:‬‬


‫فلما جاءت خلفة أبي بكر الصديق‪ ،‬ذهب أهل ال َ‬
‫‪ -‬ما كنت لحلّ عقدة عقدها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وذهبوا إلى عمر بن الخطاب فلم‬
‫ل فقال‪ :‬لقد أخذت كلمة من‬
‫يوافق‪ .‬وعندما جاءت خلفة عثمان وكان رضي ال عنه حَييا وخجو ً‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم تحمل شبهة الفراج عنه‪ .‬ويفرج عنه عثمان بن عفان رضي ال‬
‫عنه‪.‬‬
‫حكَم في الطائف كان يربي بعض شُويهات وبعض غُنيمات وكان يرعاها عند‬
‫وأثناء حياة ال َ‬
‫جبيلت الطائف‪ .‬وكان لهذه المسألة آثار من بعد ذلك‪ .‬فأنتم تعلمون أن معاوية رضي ال عنه‬
‫حكَم‪.‬‬
‫أنجب يزيد الذي تولّى الخلفة من بعده‪ .‬وانتقلت الخلفة بعد يزيد لل مروان بن ال َ‬
‫وكان خالد بن يزيد الذي ترك الخلفة لمروان عالما كبيرا في الكيمياء وله أخ اسمه عبد ال‪،‬‬
‫وكان لعبد ال جياد يتسابق بها‪ .‬وكان لولد من أولد عبد الملك بن مروان جياد أيضا‪ ،‬وجرت‬
‫جياد عبد ال مع جياد ابن عبد الملك في مضمار سباق‪ ،‬فلما جاءت خيل عبد ال لتسبق‪ ..‬حدث‬
‫خلف بين عبد ال وابن عبد الملك؛ فنهر ابن عبد الملك عبد ال‪ ،‬فذهب عبد ال واشتكى لخيه‬
‫خالد‪ .‬وهنا ذهب خالد لعبد الملك بن مروان‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬لقد حدث من ابنك لخي كذا وكذا‪ .‬وكان عبد الملك فصيحا في العرب وما جربوا عليه لحنا‬
‫أبدا‪ .‬وربّى أولده على أل يلحنوا في اللغة‪ .‬وكان له ولد اسمه الوليد غير قادر على استيعاب‬
‫النطق الصحيح للغة دون لحن‪.‬‬
‫فلما دخل خالد إلى عبد الملك أراد أن يجد فيه شيئا يعيبه به‪ ،‬قال عبد الملك لخالد‪ :‬أتكلمني في‬
‫عبد ال وقد دخل عليّ آنفا فلم يخل لسانه من اللحن؟‬
‫وقال خالد ‪ -‬معرضا بالوليد ‪ :-‬وال يا عبد الملك لقد أعجبتني فصاحة الوليد‪ .‬فقال عبد الملك‪:‬‬
‫إن يكن الوليد يلحن فإن أخاه سليمان ل يلحن‪ .‬فقال خالد‪ :‬وإن كان عبد ال يلحن فإن أخاه خالدا‬
‫ل يلحن‪.‬‬
‫فقال عبد الملك‪ :‬اسكت يا هذا فلست في العيرٍ ول في النفير‪.‬‬
‫وأظن أن قصة العير والنفير معروفة‪ .‬فالعير هي التي كانت مع أبي سفيان وعليها البضائع من‬
‫الشام وتعرض لها رسول ال صلى ال عليه وسلم ثم نجا بها أبو سفبان‪ .‬والنفير هم الجماعة التي‬
‫استنفزها أبو سفيان من مكة لنه خاف من المسلمين وكانت زعامتهم لعتبة‪ .‬فالعير كانت زعامته‬
‫لبي سفيان والنفير كانت زعامته لعتبة بن ربيعة‪ ،‬وكان عتبة هو جدّ خالد لمه‪ ،‬وأبو سفيان هو‬
‫جدّه لبيه‪ .‬فقال خالد‪ :‬ومن أولى بالعير وبالنفير مني‪ ،‬جدّي أبو سفيان صاحب العير‪ ،‬وجدي عُتّبة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صاحب النفير‪ ،‬ولكن لو قلت غنيمات وشويهات وجبيلت وذكرت الطائف ورحم ال عثمان لكان‬
‫أولى‪.‬‬

‫وأسكته‪.‬‬
‫حكَم " يُعتبر‬
‫إذن‪ .‬فالنفي كان أول عقاب أنزله الرسول صلّى ال عليه وسلم‪ ،‬فهل ما فعله " ال َ‬
‫فسادا؟‪ .‬ونقول‪ :‬إن كل فساد غنما يترتب على الفساد الذي يمس رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫حكَم يستهزئ بمِشية رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وكان ال َ‬
‫وقد يقول مُشرّع ما‪ :‬إن السجن يقوم مقام النفي ونقول‪ :‬ل‪ ،‬إن السجن الن فيه الكثير من‬
‫الرفاهية‪ .‬فقد كان السجن قديما أكثر قسوة‪ .‬والهدف من السجن البعاد لتخفيف شرور المُفسِد وإن‬
‫كان ل يبعده عن مستقره ووطنه‪ .‬وذلك أمر متروك للحاكم يفعله كيف يشاء وخاصة إذا لم يكن‬
‫هناك أرض إسلمية متعددة‪ .‬بحيث يستطيع أن ينفيه من أرض إلى أرض أخرى‪.‬‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ { وهذا القول‬
‫ويتبع الحق هذا بقوله‪ } :‬ذاِلكَ َلهُمْ خِ ْزيٌ فِي الدّنْيَا وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ َ‬
‫لحق لعقاب محدد للمفسدين في الرض المحاربين ل ورسوله وهو‪ } :‬أَن ُيقَتّلُواْ َأوْ ُيصَلّبُواْ َأوْ‬
‫ن الَ ْرضِ {‪ .‬وهذه العقوبات خزي لهم‪.‬‬
‫ُتقَطّعَ أَ ْيدِيهِ ْم وَأَرْجُُلهُم مّنْ خِلفٍ َأوْ يُن َفوْاْ مِ َ‬
‫إن كلمة " خزي " ترد في اللغة بمعنيين؛ مرة بمعنى الفضيحة‪ " ،‬خَ ِزيَ‪َ ،‬يخْزِي‪ ،‬خِزيا " ‪ ،‬أي‬
‫انفضح‪ ،‬ومرة ثانية هي " خَزِي‪ ،‬يَخْزَي‪ ،‬خَزاية وَخَزّي " بمعنى استحى‪ .‬والمعنيان يلتقيان‪ ،‬فمادام‬
‫قد افتضح أمر عب ٍد فهو يستحي مما فعل‪ .‬وتلك الفعال خزي‪ ،‬كالذي قطع طريقا على أناس‬
‫آمنين‪ ،‬ونقول لمثل صاحب هذا الفعل‪ :‬إن قوّتك ليست ذاتية بل قوّة اختلسية؛ فلو كانت ُقوّتك‬
‫ذاتية لستطعت أن تتأبّى لحظة أن يأخذوك ليقتلوك أو يصلبوك أو يقطعوا يدك ورجلك‪ .‬فقد‬
‫اجترأت على العُزّل الذين ليست لهم استطاعة الدفاع عن أنفسهم‪ ،‬وفي هذا خزي لك‪ .‬خصوصا‬
‫وأنت ترى من كانوا يخافونك وأنت تنال العقاب‪ .‬وخزيك الن هو مقدمة لعذاب آخر في الخرة‪،‬‬
‫فسوف تنال عذابا عظيما‪.‬‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ {‪ .‬وكل جزاء في الدنيا إنما يأتي على‬
‫} ذاِلكَ َلهُمْ خِ ْزيٌ فِي الدّنْيَا وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ َ‬
‫قدر طاقات البشر في العقاب‪ ،‬ولكن ماذا إذا وكُّلوُا إلى طاقة الطاقات؟‪ .‬ها هي ذي عدالة الحق‬
‫تتجلّى فهو سبحانه وتعالى يفسح المجال للمُسرفين على أنفسهم؛ أولً بالتوبة؛ لن ال الرّحيم‬
‫بعباده لو أخذ كل إنسان بجريرة فعلها أو عاقب كل صاحب ذنب بذنبه لستشرى في الرض‬
‫فساد كل من ارتكب ذنبا لنه يئس من رحمة ال فتشتد ضرواته وقسوته‪ .‬وسبحانه فتح باب التوبة‬
‫حكْم‪ ،‬أما إن تاب‬
‫لكل من الذين فعلوا ذلك استيقظ ضميره‪ ،‬فإن تاب قبل أن تقدروا عليه فهناك ُ‬
‫بعد أن يقدر عليه المجتمع فل توبة له‪.‬‬
‫ويقول الحق‪ِ } :‬إلّ الّذِينَ تَابُواْ‪{ ...‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)695 /‬‬

‫غفُورٌ َرحِيمٌ (‪)34‬‬


‫إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتقْدِرُوا عَلَ ْيهِمْ فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬

‫ومادام النسان قد تاب وقام بتسليم نفسه دون أن يقدر عليه المجتمع فقبول التوبة حَقّ له‪ ،‬ويجب‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ } في نطاق ما جعله ال لنفسه‪ ،‬أما ما جعله ال لولياء المُعتدى‬
‫أن نأخذ { أَنّ اللّهَ َ‬
‫عليهم فل بد من العقاب للمعتدي إن طلبه أصحابه‪.‬‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }‪ .‬والقرآن يجعل من‬
‫{ ِإلّ الّذِينَ تَابُواْ مِن قَ ْبلِ أَن َتقْدِرُواْ عَلَ ْيهِمْ فَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َ‬
‫المنهج اليماني عجينة واحدة‪ .‬لذلك يُقسّم المسائل إلى فصول كالتقنيات البشرية التي تُبوّب؛ لذلك‬
‫نجد القرآن يعامل القضية وكأنها فُرص استيقاظ للنفس؛ لذلك يأخذ النفس إلى أمرٍ توجيهي‬
‫بالطاعة‪.‬‬
‫وضربنا من قبل المثل حينما تكلم القرآن عن مسائل السرة في سورة البقرة‪ {:‬وَإِن طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِن‬
‫عقْ َدةُ‬
‫ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِنصْفُ مَا فَ َرضْتُمْ ِإلّ أَن َي ْعفُونَ َأوْ َي ْع ُفوَاْ الّذِي بِ َي ِدهِ ُ‬
‫قَ ْبلِ أَن َتمَسّوهُ ّ‬
‫سوُاْ ا ْل َفضْلَ بَيْ َنكُمْ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }[البقرة‪]237 :‬‬
‫ح وَأَن َت ْعفُواْ َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَىا َولَ تَن َ‬
‫ال ّنكَا ِ‬
‫سطَىا َوقُومُواْ للّهِ قَانِتِينَ‬
‫ومن بعد ذلك يأتي إلى أمر الصلة‪ {:‬حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَاتِ والصّلَةِ ا ْلوُ ْ‬
‫خفْتُمْ فَرِجَالً َأوْ ُركْبَانا فَإِذَآ َأمِنتُمْ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ َكمَا عَّل َمكُم مّا َلمْ َتكُونُواْ َتعَْلمُونَ }[البقرة‪:‬‬
‫* فَإنْ ِ‬
‫‪]239 - 238‬‬
‫وضع ال ‪ -‬إذن ‪ -‬الصلة بين أمرين من أمور السرة‪ ،‬حيث قال من بعد أمره بالحفاظ على‬
‫حوْلِ‬
‫جهِمْ مّتَاعا إِلَى ا ْل َ‬
‫الصلة حتى أثناء القتال‪ {:‬وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا َوصِيّ ًة لَزْوَا ِ‬
‫غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَ َرجْنَ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ }[البقرة‪]240 :‬‬
‫وجاء بأمر الحفاظ على الصلة بين المشكلت السرية‪ ،‬وذلك ليجعل الدين لبنة واحدة‪ ،‬وأيضا‬
‫لن النفس المشحونة بالبغضاء وزِحام أمور الزواج والوصيّة والطلق؛ هذه النفس عندما تقوم‬
‫إلى الصلة ل فهي تهدأ‪ .‬ولنا في رسول ال صلّى ال عليه وسلم أُسوةٌ حسنة‪ .‬فقد كان إذا حَزَبَه‬
‫أمرٌ واشتد عليه قام إلى الصلة‪.‬‬
‫إذن فالحق سبحانه وتعالى ل يأتي بأمور الدين كأبواب منفصلة‪ ،‬باب الصلة‪ ،‬وآخر للصوم‪،‬‬
‫وثالث للزكاة‪ ،‬ل‪ .‬بل يمزج كل ذلك في عجينة واحدة‪ .‬ولذلك فعندما أنزل بالمفسدين المحاربين ل‬
‫عقاب التقتيل والتصليب والتقطيع والنفي‪ .‬كان ذلك لتربية مهابة الرّعب في النفس البشرية‪.‬‬
‫وساعة يستيقظ الرّعب في النفس البشرية يقول الحق‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)696 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَابْ َتغُوا إِلَيْهِ ا ْلوَسِيلَ َة وَجَا ِهدُوا فِي سَبِيلِهِ َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ (‪)35‬‬

‫جوّ صارمٍ وحديث في عقوبات إلى تقوى ال‪ .‬والتقوى ‪ -‬كما نعرف ‪ -‬أن يجعل‬
‫لقد أخرجنا من َ‬
‫النسان بينه وبين ما يؤذيه وقاية‪.‬‬
‫وعرفنا أن الحق سبحانه الذي يقول { ا ّتقُواْ اللّهَ } هو بعينه الذي يقول " اتقوا النار " ‪ ،‬وعرفنا‬
‫كيف نفهم تقوى ال‪ .‬بأن نجعل بيننا وبين ال وقاية‪ .‬وإن قال قائل‪:‬‬
‫إن الحق سبحانه يطلب منا أن نلتحم بمنهجه وأن نكون دائما في معيّته‪ .‬فلنجعل الوقاية بيننا وبين‬
‫عقابه‪ .‬ومن عقابه النار‪.‬‬
‫إذن فقوله الحق‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّهَ } أي أن نتقي صفات الجلل‪ ،‬والنار من خلق ال‬
‫وجنده‪ .‬وقوله سبحانه‪ { :‬وَابْ َتغُواْ إِلَيهِ ا ْلوَسِيَلةَ } أي نبحث عن ال ُوصْلة التي تُوصّلنا إلى طاعته‬
‫ورضوانه وإلى محبّته‪ .‬وها هناك وسيلة إل ما شرّعه ال سبحانه وتعالى؟ وهل يتقرّب إنسان إلى‬
‫أي كائن إل بما يعلم أنه يُحبّه؟‪.‬‬
‫وعلى المستوى البشري نحن نجد من يتساءل‪ :‬ماذا يُحب فلن؟‪ .‬فيقال له‪ :‬فلن يُحب ربطات‬
‫العنق؛ فيُهديه عددا من ربطات العُنق‪ .‬ويقال أيضا‪ :‬فلن يحب المسبحة الجيدة‪ ،‬فيحضر له‬
‫مسبحة رائعة‪ .‬إذن كل إنسان يتقرّب إلى أي كائن بما يُحب‪ ،‬فما بالنا بالتقرب إلى ال؟‪ .‬وما يُحبه‬
‫سبحانه أوضحه لنا في حديثه القدسي‪:‬‬
‫ي مما افترضته عليه‪،‬‬
‫ب إل ّ‬
‫" من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب‪ ،‬وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أَح ّ‬
‫وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره‬
‫الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها‪ ،‬وإن سألني لعطينه ولئن استعاذني‬
‫لعيذنه "‬
‫فالحق سبحانه وتعالى يفسح الطريق أمام العبد‪ ،‬فيقول سبحانه في الحديث القدسي‪:‬‬
‫" ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل "‬
‫أي أن العبد يتقرب إلى ال بالمور التي لم يلزمه الحق بها ولكنها من جنس ما افترضه سبحانه‪،‬‬
‫فل ابتكار في العبادات‪ .‬إذن فابتغاء الوسيلة من ال هي طاعته والقيام على المنهج في " افعل " و‬
‫" لتفعل "‪.‬‬
‫والوسيلة عندنا أيضا هي منزلة من منازل الجنة‪ .‬والرسول صلّى ال عليه وسلم طلب منا أن‬
‫نسأل ال له الوسيلة فقال‪:‬‬
‫ي صلة صلى ال عليه‬
‫" إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عل ّ‬
‫بها عشرا ثم سلوا ال لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة ل تنبغي إل لعبدٍ من عباد ال وأرجو أن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أكون أنا هو فمن سأل ال لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة "‬
‫ول نريد أن ندخل هنا في مجال التوسل بالنبي أو الولياء؛ لنها مسألة ل يصح أن تكون مثار‬
‫خلف من أحد‪.‬‬

‫فبعضهم يحكم بكفر هؤلء‪.‬‬


‫ونقول لمن يكفر المتوسلين بالنبي أو الولي‪ :‬هذّبوا هذا القول قليلً؛ إنّ حدوث مثل هذا القول هو‬
‫نتيجة عدم الفهم‪ ،‬فالذي يتوسل إلى النبي أو الولي هو يعتقد أن له منزلة عند ال‪ .‬وهل يعتقد أحد‬
‫أن الوليّ يجامله ليعطيه ما ليس له عند ال؟‪ .‬طبعا ل‪ .‬وهناك من قال‪ :‬إن الوسيلة بالحياء‬
‫مُمكنة‪ ،‬وأن الوسيلة بالموات ممنوعة‪ .‬ونقول له‪ :‬أنت تضيق أمرا مُتسعا؛ لن حياة الحي ل‬
‫مدخل لها بالتوسل‪ ،‬فإن جاء التوسل بحضرته صلّى ال عليه وسلم إلى ال‪ ،‬فإنك قد جعلت‬
‫التوسل بحبك لمن علمت أنه أقرب منك إلى ال؛ فحُبك له هو الذي يشفع‪ .‬وإياك أن تظن أنه‬
‫سيأتي لك بما ل تستحق‪.‬‬
‫والجماعة التي تقول‪ :‬ل يصح أن نتوسل بالنبي؛ لن النبي انتقل إلى الرفيق العلى‪ ،‬نقول لهم‪:‬‬
‫ل وانتبهوا إلى ما قال سيدنا عُمر ‪ -‬رضوان ال عليه ‪-‬؛ قال‪ :‬كنا في عهد رسول ال‬
‫انتظروا قلي ً‬
‫إذا امتنع المطر نتوسل برسول ال ونستسقي به‪ .‬ولما انتقل رسول ال صلّى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫توسل بعمه العباس‪ .‬وقالوا‪ :‬لو كان التوسل برسول ال جائزا بعد انتقاله لما عدل عمر بن‬
‫الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬عن التوسل بالنبي بعد انتقاله‪ ،‬وذهب إلى التوسل بعم النبي‪ .‬ونسأل‪:‬‬
‫أقال عمر " كنا نتوسّل بنبيك والن نتوسّل إليك بالعباس؟ أم قال‪ :‬والن نتوسل إليك بعم نبيك "؟‪.‬‬
‫ولذلك فالذين يمنعون ذلك يوسعون الشقة على أنفسهم؛ لن التوسّل ل يكون بالنبي فقط ولكن‬
‫التوسل أيضا بمن يمت بصلة إلى النبي صلّى ال عليه وسلم‪ .‬فساعة يتوسل واحد إلى غيره يعني‬
‫أنه يعتقد أن الذي توسل به ل يقدر على شيء‪ ،‬إنني أتوسل به إلى الغير لني أعرف أنه ل‬
‫يستطيع أن ينفذ لي مطلوبي‪ .‬إذن فلنبعد مسألة الشرك بال عن هذا المجال‪ ،‬ونقول‪ :‬نحن نتوسل‬
‫به إلى غيره لننا نعلم أن المتوسل إليه هو القادر وأن المتوسل به عاجز‪ .‬وهذا هو منتهى اليقين‬
‫ومنتهى اليمان‪.‬‬
‫ولكن المتوسّل به قد ينتفع وقد ل ينتفع‪ ،‬وعندما توسّل سيدنا عمر بالعباس عَمّ النبي كان يفعل‬
‫ذلك من أجل المطر‪ .‬والمطر في هذه الحالة ل ينتفع به رسول ال لذلك جاء بواحدٍ من آل البيت‬
‫وكأنه قال‪ " :‬يا ربّ عمّ نبيك عطشان فمن أجله نريد المطر "‪.‬‬
‫إذن فتوسّل عمر بن الخطاب بعم النبي دليل ضد الذين يمنعون التوسل بالنبي بعد النتقال إلى‬
‫الرفيق العلى‪ .‬وحتى نخرج من الخلف‪ .‬نقول‪ :‬إن العمل الصالح المتمثل في " افعل كذا " و " ل‬
‫تفعل كذا " هو الوسيلة الخالصة‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبذلك نخلص من الخلف ول ندخل في متاهات‪.‬‬
‫} يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّ َه وَابْ َتغُواْ إِلَيهِ ا ْلوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيِلهِ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ { ولنر اليثار‬
‫اليماني الذي يريد الحق أن يُربّيه في النفس المؤمنة بتقوى ال التي تتمثل في البتعاد عن‬
‫مَحارِمه‪ ،‬وابتغاء الوسيلة إلى ال في اتباع أوامرِه‪.‬‬
‫إن الدّين لم يأ ِتكَ من أَجل نفسك فحسب‪ ،‬ولكن إيمانك لن يصبح كاملً إل أن تُحب لخيك ما تحبه‬
‫لنفسك‪ ،‬فإن كنت قد أحببت لنفسك أن تكون على المنهج فاحرص جيدا على أن يكون ذلك‬
‫لخوانك أيضا‪ .‬وإخوانك المؤمنون ليسوا هم فقط الذين يعيشون معك‪ ،‬ولكن هم المقدر لهم أن‬
‫يوجدوا من بعد ذلك‪ .‬ولذلك عليك أن تجاهد في سبيل ال لتعلو كلمة ال‪ .‬وهكذا تتّسع ال ِهمّةُ‬
‫اليمانية‪ ،‬فل تنحصر في النفس أو المعاصرين للنسان المؤمن‪ .‬ولذلك يضع لنا الحق الطريق‬
‫المستقيم ويوضحه ويبيّنه لنا‪.‬‬
‫وكانت بداية الطريق أن المؤمن بال حينما وثق بان ل نعيما وجزاءً في الخرة هو خير مما‬
‫يعيشه قدّم دمه واستشهد؛ لذلك قال صحابي جليل‪ :‬أليس بيني وبين الجنة إل أن أدخل هذه‬
‫المعركة فإما أن أقتلهم وإما أن يقتلوني‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬نعم‪.‬‬
‫وألقى الصحابي تمرات كان يأكلها ودخل المعركة‪.‬‬
‫ل بد إذن أنه قد عرف أن الحياة التي تنتظره خير من الحياة التي يعيشها؛ ومع ذلك لم يضع ال‬
‫الجهاد كوسيلة في أول المر‪ ،‬بل طل يأمرهم بالنتظار والصبر حتى يُرَ ّبيَ من يحملون الدعوة‪.‬‬
‫فلن يجعلها سبحانه عملية انتحارية‪.‬‬
‫وبعد ذلك نرى أثناء رحلة الدعوة للسلم أن صحابيا يحزن لنه في أثناء القتال قد أفلت منه‬
‫عمرو بن العاص‪ ،‬وأن خالد بن الوليد قد هرب‪ .‬وتثبت اليام أن البشر ل يعرفون أن علم ال قد‬
‫ادّخر خالدا وأنجاه من سيف ذلك الصحابي من أجل أن ينصر السلم بخالد‪ .‬وكذلك عمرو بن‬
‫العاص قد ادّخره ال إلى نصرٍ آخر للسلم‪.‬‬
‫ن للمؤمن أن يظل المنهج الذي آمن به موصولً إلى أن تقوم‬
‫إذن فالجهاد في سبيل ال ضما ٌ‬
‫الساعة‪ ،‬وذلك ل يتأَتّى إل بإشاعة المنهج في العالم كله‪ .‬والنفس المؤمنة إذا وقفت نفسها على أن‬
‫تجاهد في سبيل ال كان عندها شيء من اليثار اليماني‪ .‬وتعرف أنها أخذت خير اليمان وتُحب‬
‫أن توصّله إلى غيرها‪ ،‬ول تقبل أن تأخذ خير اليمان وتحرم منه المعاصرين لها في غير ديار‬
‫السلم‪ ،‬وتحرص على أن يكون العالم كله مؤمنا‪ ،‬وإذا نظرنا إلى هذه المسألة نجدها تمثل الفهم‬
‫العميق لمعنى الحياة‪ ،‬فالناس إذا كانوا أخيارا استفاد النسان من خيرهم كله‪ ،‬وإذا كانوا أشرارا‬
‫يناله من شرّهم شيء‪.‬‬
‫إذن فمن مصلحة الخيّر أن يشيع خيره في الناس؛ لنه إن أشاع خيره فهو يتوقع أن ينتفع بجدوى‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا الخير وأن يعود عليه خيره؛ لن الناس تأمن جانب الرجل الطيب ول ينالهم منه شر‪.‬‬

‫لنه يحب أن يكون كل الناس طيبين وعلى ميزان اليمان؛ لنهم إن كانوا على ميزان اليمان‬
‫فالطيب يستفيد من خيرهم‪ .‬أما إن بقي الناس على شرّهم وبقي النسان الطيب على خيره‪ ،‬فسيظل‬
‫خير الطيب مبذولً لهم ويظل شرّهم مبذولً للطيب‪.‬‬
‫إذن من حكمة اليمان أن " يعدّي " النسان الخير للغير‪ .‬وإن دعوة المؤمن إلى سبيل ال‪ ،‬ومن‬
‫أجل انتشار منهج ال ل بد من العداد لذلك قبل اللقاء في ساحات المعارك؛ فقبل اللقاء مع‬
‫الخصم في ساحة المعركة ل بد من حُسْنِ العداد‪ .‬وعندما يعدّ المؤمن نفسه يجد أن حركة الحياة‬
‫كلها تكون معه؛ لن الدعوة إلى ال تقتضي سُلوكا طيبا‪ ،‬والسُلوك الطيب ينتشر بين البشر‪ ،‬وهنا‬
‫يقوى معسكر اليمان‪ ،‬فيرتقي سلوكا وعملً‪ ،‬وعندما يقوى معسكر اليمان يمكنه أن يستخرج‬
‫كنوز الرض ويحمي أرض اليمان بالتقدم الصناعي والعلمي والعسكري‪ .‬والحق يقول‪ {:‬وَأَنزَلْنَا‬
‫شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ }[الحديد‪]25 :‬‬
‫حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ‬
‫الْ َ‬
‫سبحانه أنزل القرآن وأنزل الحديد‪ ،‬ويتبع ذلك‪ {:‬وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُر ُه وَرُسَُلهُ بِا ْلغَ ْيبِ }[الحديد‪:‬‬
‫‪]25‬‬
‫وجاء معنى البأس من أجل ذلك‪ ،‬وهذا هو السبب الثاني الذي أوصانا به الحق‪:‬‬
‫إياكم أن تأخذوا منهج ال فقط الذي ينحصر في " افعل ول تفعل " ولكن خذوا منهج ال بما يحمي‬
‫منهج ال وهو التقدم العلمي باستخراج كنوز الرض وتصنيعها كالحديد مثلً‪ ،‬فسبحانه كما أنزل‬
‫القرآن يحمل المنهج‪ ،‬فقد أنزل الحديد وعلى النسان مهمة استنباط الحديد والمواد الخام التي‬
‫سهّل لنا صناعة الجهزة العلمية ونقيم المصانع التي تنتج لنا من الحديد فولذا‪ ،‬ونحوّل الفولذ‬
‫تُ َ‬
‫إلى دروع‪ ،‬ونصنع أدق الجهزة التي ُتهّيئ للمقاتل فُرصة النصر‪ .‬وكذلك َندّخر المواد الغذائية‬
‫لتكفي في أيام الحرب‪.‬‬
‫إذن حركة الحياة كلها جهاد‪ ،‬وإياك أن تقصر فكرة الجهاد عندك على ساحة المعركة‪ ،‬ولكن أعدّ‬
‫نفسك للمعركة؛ أنك إن أعددت نفسك جيّدا وعلم خصمك أنك أعددت له‪ ،‬ربما امتنع عن أن‬
‫يحاربك‪ .‬والذي يمنع العالم الن من معركة ساخنة تدمره هو الخوف من قِبَل الكتل المتوازنة لن‬
‫كل دولة تُعدّ نفسها للحرب‪ .‬ولو أن قوة واحدة في الكون لهدمت الدنيا‪.‬‬
‫وقول الحق‪ } :‬وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيِلهِ { نأخذه على أنه جهاد في سبيل منهج ال؛ وندرس هذا المنهج‬
‫ونفهمه وبعد ذلك نجاهد فيه باللسان وبالسّنان‪ ،‬ونجاهد فيه بالكتاب ونجاهد فيه بالكتيبة‪.‬‬
‫إذن فقوله الحق‪ } :‬وَجَا ِهدُواْ فِي سَبِيلِهِ { يصنع أمة إيمانية مُتحضرة‪ ،‬حتى ل تترك الفرصة للكافر‬
‫بال ليأخذ أسباب ال وأسراره في الكون‪ .‬فمن يعبد الله الواحد أولى بسرّ ال في الوجود‪ ،‬ولو‬
‫فرضنا أنه لن تقوم حرب‪ ،‬لكننا نملك المصانع التي تنتج‪ ،‬وعندنا الزراعة التي تكفي حاجات‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الناس‪ ،‬عندئذ سنحقق الكفاية‪ .‬وما ل تستعمله في الحرب سيعود على السلم‪ .‬ويجب أن تفهموا أن‬
‫كل اختراعات الحياة التقدمية تنشأ أولً لقصد الحرب‪ ،‬وبعد ذلك تهدأ النفوس وتأخذ البشرية هذه‬
‫النجازات لصالح السلم‪.‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)697 /‬‬

‫عذَابِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَا‬


‫جمِيعًا َومِثْلَهُ َمعَهُ لِ َيفْتَدُوا بِهِ مِنْ َ‬
‫إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْ أَنّ َلهُمْ مَا فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ (‪)36‬‬
‫ُتقُبّلَ مِ ْنهُ ْم وََلهُمْ َ‬

‫الحق سبحانه تحدث من قبل عن العقوبات والقصاص والتقتيل والتقطيع‪ ،‬ثم ينقلنا من هذا الجو‬
‫إلى أن نتقي ال ونبتغي إليه الوسيلة ونجاهد في سبيله حتى نفلح‪ ،‬وكان ل بد أن يأتي لنا الحق‬
‫بالمقابل‪ ،‬فالعقاب الذي جاء من قبل كقصاص وقتل هو عقاب دنيوي‪ .‬ولكن ما سيأتي في الخرة‬
‫عذَابِ َيوْمِ‬
‫جمِيعا َومِثْلَهُ َمعَهُ لِ َيفْتَدُواْ بِهِ مِنْ َ‬
‫أدهى وأمرّ‪ {.‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َلوْ أَنّ َلهُمْ مّا فِي الَ ْرضِ َ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ }[المائدة‪]36 :‬‬
‫ا ْلقِيَامَةِ مَا ُتقُبّلَ مِ ْنهُ ْم وََلهُمْ َ‬
‫ولنا أن نتصور الجماعة الكافرة التي تتكبر في الدنيا ويعتلون ويرتفعون بالجبروت‪ ،‬فماذا عن‬
‫موقفهم يوم القيامة؟‪ .‬لقد اقمتم الجبروت بقوّتكم على غيركم‪ ،‬وها هي ذي ال ُقوّة تضيع وتفلت‪ .‬لقد‬
‫كانت القوة تعيش معكم في الدنيا بالسباب الممنوحة من ال لكم‪ .‬ولم تَضنّ عليكم سُننْ ال أن‬
‫ترتقوا‪ ،‬وسبحانه قد خلق السُنَن ومن يبحث في أسباب ال‪ ،‬ينلْ نتيجة ما بذل من جهد‪ ،‬لكن ها‬
‫هوذا يوم القيامة‪ ،‬وها أنتم أولء تعرفون أن السباب ليست ذاتية‪ .‬وأن قوّتكم لم تكن إل عطاءٌ‬
‫من ال‪ .‬ها أنتم أولء أمام المشهد الحيّ‪ ،‬فلو أن ما في الدنيا جميعا معكم وحتى ولو كان ضعف‬
‫ما في الدنيا وتريدون أن تقدّموه فِدْيَةً لكم من عذاب جهنم فال ل يتقبله‪ ،‬وتلك ِقمّة الخِزْي‪ ،‬ولن‬
‫يستطيعوا تخليص أنفسهم من عذاب جهنم‪.‬‬
‫جدّ‪.‬‬
‫وهذا المشهد يجعل النفس تستشعر أن المسألة ليست لعبا ول هزلً‪ ،‬ولكن هي جِدّ في منتهى ال ِ‬
‫وعلى النسان أن يقدّر العقوبة قبل أن يستلذّ بالجريمة‪ .‬والذي يجعل النس تستَشري في السراف‬
‫على أنفسهم‪ ،‬أن الواحد منهم يعزل الجريمة عن عقوبة الجريمة‪ .‬ولو قارن النسان قبل أن‬
‫يسرف على نفسه العقوبة بالجريمة لما ارتكبها‪ .‬وكذلك الذي يكسل عن الطاعة؛ لو يقارن الطاعة‬
‫بجزائها لسرع إليها‪.‬‬
‫وأضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬نفترض أن إنسانا في صحراء نظر إلى أعلى الجيل‬
‫ورأى شجرة تفاح‪ ،‬واسْتَ َدلّ على التفاح بأن رأى تُفاحة عَطبة واقعة على الرض‪ ،‬وقال الرجل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لنفسه‪ :‬هأنذا أرى مصارع الناس؛ فهذا يصعد إلى الجبل فيقع من على حافته‪ .‬وذلك تهاجمه‬
‫الذئاب‪ .‬وثالث يتوه عن الطريق‪ .‬كل ذلك على أمل أن في الشجرة ثمارا‪ .‬ول بد لي من أن أختار‬
‫الطريق السليم إلى الثمار‪ .‬والطريق إلى ثمار الدنيا الطاعة لمنهج ال‪ ،‬وهو الطريق إلى ثمار‬
‫الخرة‪.‬‬
‫وأيضا‪ :‬الطالب المجتهد الذي يتغلب على النعاس ويتوضأ ويًصلّي ويخرج إلى مدرسته في برد‬
‫الشتاء ليحصل الدروس‪ .‬ويعود إلى المنزل لتقدّم له أمه الطعام‪ ،‬ولكنه مشغول بالدرس‪ .‬إن هذا‬
‫الشاب يستحضر نتيجة هذا الجُهد؛ لذلك فكل تعب في سبيل التعلّم صار سهلً عليه‪ ،‬ولو أهمل‬
‫ونام ولم يقم مبكرا إلى المدرسة‪ ،‬وإن استيقظ وخرج من المنزل ليتسكع في الطرقات مع أمثاله؛‬
‫صعْلَكة‪.‬‬
‫يكون في مثل هذه الحالة غير مُقدّر للنتيجة التي تقوده إليها ال ّ‬

‫والعيب في البشر أنهم يعزلون العمل عن نتيجته‪ ،‬ويفصلون بين الجريمة وعقوبته‪ ،‬والطاعة عن‬
‫ثوابها‪ .‬إنّنا لو وضعنا النتيجة مقابل العمل لما ارتكب أحد معصية ول أهمل أحد في طاعة‪.‬‬
‫ولنا أن نتصور مشهد الجبارين في الدنيا وهم في نار الخرة‪ ،‬عم بطشوا في الدنيا ونهبوا‪،‬‬
‫ولنفترض أن الواحد منهم قد امتلك كل ما في الدنيا ‪ -‬على الرغم من أنّ هذا مستحيل ‪ -‬وفوق‬
‫ذلك أخذ مثل ما في الدنيا معه ويريد أن يقدمه افتداء لنفسه من عذاب جهنم فيرفضه الحق منه }‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ { وتلك هي قمة الخزي التي يجب أن يبتعد عنها النسان‪.‬‬
‫مَا ُتقُبّلَ مِ ْنهُ ْم وََلهُمْ َ‬
‫وبعد ذلك يقول الحق‪ } :‬يُرِيدُونَ أَن يَخْ ُرجُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)698 /‬‬

‫عذَابٌ ُمقِيمٌ (‪)37‬‬


‫يُرِيدُونَ أَنْ َيخْرُجُوا مِنَ النّا ِر َومَا ُهمْ بِخَا ِرجِينَ مِ ْنهَا وََلهُمْ َ‬

‫وكلما مَسّهم لفحُ النار يريدون أن يخرجوا منها‪ ،‬لكن كيف تأتي لهم إرادة الخروج من النار‪ .‬ل بد‬
‫‪ -‬إذن ‪ -‬أن لحظة لفحها عليهم وتقبلهم هنا وهناك تدفعهم ألسنة اللهب إلى القرب من الخارج‬
‫فيظنون أن العذاب قد انتهى‪ .‬ألم يقل الحق سبحانه من أجل أن يضع أمامنا التجسيد الكامل لبشاعة‬
‫الجحيم‪ {:‬وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ }[الكهف‪]29 :‬‬
‫هذا القول يُوحى أولً بأن رحمةً ما ستصل إليهم‪ ،‬ولكن ما يأتي بعد هذا القول يرسم الهول الكامل‬
‫شوِي الْوجُوهَ }[الكهف‪]29 :‬‬
‫ويجسده‪ُ {:‬يغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ‬
‫وهذه قمة الهول‪ .‬وهناك فرق بين البتداء المُطمع والنتهاء المُوئِس‪.‬‬
‫مثال ذلك السجين العطشان الذي يطلب كوب ماء‪ .‬ويستطيع السجّأن أن يقول له‪ :‬ل‪ .‬ليس هناك‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ماء‪ .‬أما إذا أراد السجان تعذيبه بأكثر من ذلك فهو يقول له‪ :‬سآتي لك بالماء ويحضر له كوبا من‬
‫ماء زلل‪ ،‬ويمد السجين يده لكوب الماء‪ ،‬لكن السجان يسكب كوب الماء أرضا‪ .‬هذا هو البتداء‬
‫المُطْمع والنتهاء المُوئِس‪ .‬وكذلك رغبتهم في الخروج من النار؛ فل إرادة لَهم في الخروج إل إذا‬
‫كانت هناك مظنة أن يخرجوا نتيجة تقليب ألسنة اللهب لهم‪ ،‬ولذلك يقول الحق أيضا عن هؤلء‪{:‬‬
‫فَبَشّرْهُم }[آل عمران‪]21 :‬‬
‫وتثير البُشرى في النفس المل في العفو‪ ،‬فيفرحون ولكن تكون النتيجة هي‪ِ {:‬بعَذَابٍ أَلِيمٍ }[آل‬
‫عمران‪]21 :‬‬
‫وهكذا يريد لهم الحق صدمة اللم الموئس بعد الرجاء المطمع‪ {.‬يُرِيدُونَ أَن يَخْ ُرجُواْ مِنَ النّا ِر َومَا‬
‫هُم بِخَا ِرجِينَ مِ ْنهَا وََلهُمْ عَذَابٌ ّمقِيمٌ }[المائدة‪]37 :‬‬
‫ق وَالسّا ِر َقةُ‪} ...‬‬
‫وبعد ذلك ينقلنا الحق إلى قوله سبحانه‪ { :‬وَالسّا ِر ُ‬

‫(‪)699 /‬‬

‫حكِيمٌ (‪)38‬‬
‫طعُوا أَ ْيدِ َي ُهمَا جَزَاءً ِبمَا كَسَبَا َنكَالًا مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫وَالسّارِقُ وَالسّا ِرقَةُ فَاقْ َ‬

‫جاء الحق من قبل بعقاب قطاع الطريق والمفسدين في الرض‪ ،‬وهنا يأتي بقضية أخرى يريد أن‬
‫يصون بها ثمرة حركة المؤمن في مجتمعه؛ لن اليمان يحب من المؤمن أن يتحرك‪ ،‬وحتى‬
‫يتحرك النسان ل بد أن يضمن النسان ثمرة حركته‪ .‬أما إن تحرك النسان وجاءت الثمرة ثم‬
‫جاء من يأخذها فل بد أن يزهذ المتحرك في الحركة‪ ،‬وحين يزهد النسان في الحركة يتوقف تقدم‬
‫الوجود؛ لذلك من حظنا أن تستمر حركة الحياة‪ ،‬ول تستمر حركة الحياة إل إذا أمن النسان على‬
‫حركته‪ ،‬وأن تكون حركته فيما شرع ال‪.‬‬
‫وحين يتحرك النسان فيما شرع ال ويكسب من حلل؛ فليس لحد دخل؛ لن حركة هذا النسان‬
‫تفيد المجتمع سواء أكان ذلك في باله أم لم يكن‪.‬‬
‫وقلنا من قبل‪ :‬إن الرجل الذي يملك مالً يكتنزه يجد الحق يأمره بأن يستثمر هذا المال؛ لنه‬
‫سبحانه أمر بفتح أبواب الخير لمن يجد المال‪ ،‬فيدفع بخاطر بناء عمارة شاهقة في قلب صاحب‬
‫المال‪ ،‬فيقول الرجل لنفسه‪ :‬إن المال عندي مكتنز فلبني لنفسي عمارة‪ ،‬ويزين له الحق هذا‬
‫المر‪ .‬ويفكر الرجل في أن يبني عمارة من عشرة طوابق وفي كل طابق أربع شقق‪ ،‬وليكن‬
‫إيجار كل شقة مائة جنيه‪ .‬وهو حصيلة شهرية ل بأس بها‪.‬‬
‫لقد حسب الرجل المسألة وهو ل يدري أن ال سبحانه وتعالى يقذف في باله الخواطر‪ ،‬فيُسرع‬
‫ليشتري قطعة الرض‪ .‬وبعد ذلك يأتي بمن يُصمّم بنيان العمارة ومن يقوم بالبناء‪ ،‬وتخرج النقود‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المكتنزة‪ .‬وهكذا نرى أن الثرى قبل أن ينتفع بعمارته كان غيره قد انتفع بماله حتى أكثر طبقات‬
‫المجتمع فقرا‪ .‬ويحدث كل ذلك بمجرد الخاطر‪ .‬ولكل إنسان خواطره‪ ،‬فالبخيل له من يسرف في‬
‫ماله‪ ،‬والكريم له من يكتنز من ماله‪ .‬وإياك أن تظن أن هناك حركة في الوجود خارجة عن إرادة‬
‫ك وََأصْلَحُواْ }[آل عمران‪]89 :‬‬
‫ال‪ .‬فالحق يقول‪ِ {:‬إلّ الّذِينَ تَابُواْ مِن َبعْدِ ذاِل َ‬
‫وهم يفعلون ذلك لن الذنوب تطاردهم‪ ،‬فيعوضون ذلك بإصلح أعمالهم‪ .‬ولذلك نجد أن الخير‬
‫إنما يأتي من المسرفين على أنفسهم فيريدون إصلح أمورهم وليس هناك من يستطيع أن يأخذ‬
‫شيئا من وراء ال‪ {.‬إِنّ ا ْلحَسَنَاتِ يُ ْذهِبْنَ السّـيّئَاتِ }[هود‪]114 :‬‬
‫كأن الحق سبحانه وتعالى بمجرد الخواطر يدفع الناس إلى ما يريد‪ .‬نعم‪ .‬فهو غيب قيّوم؛ ولذلك‬
‫يكون تدبيره في الكون غيبا‪ .‬وفي قرانا يخصّصون يوما للسّوق ونرى ساحته في اليوم المُخصص‬
‫ونتأملها فنتعجب من إبداع مُحرّك الكون؛ ففي الصباح يسير رجال إلى السوق ومعهم عصيّهم ول‬
‫يحملون شيئا‪ .‬وهؤلء ذاهبون لشراء ما يحتاجون إليه‪ ،‬وآخرون يسوقون أمامهم العجول أو‬
‫الحمير‪ ،‬وهؤلء يذهبون لبيع بضائعهم‪ .‬ونرى نساء تحمل كل واحدة منهُن صنفا من الخضار‬
‫فنعرف أنهن يذهبن للبيع في السوق‪.‬‬

‫ونرى أخريات يحملن سِللً فارغة‪ ،‬ونعرف أن كلً منهن ذاهبة للشراء‪ .‬وفي آخر النهار نرى‬
‫المسألة معكوسة‪ ،‬من كان يحمل في الصباح شيئا حمله غيره‪ ،‬فمن الذي هيّج الخواطر ليذهب من‬
‫يرغب في البيع إلى السوق ليبيع؟‬
‫من الذي حرّك الشاري للشراء؟ هو الحق سبحانه يحقق للرّاغب في البيع أن يوجد المشتري‪،‬‬
‫ويحقق للراغب في الشراء أن يوجد البائع‪ .‬إنه ترتيب الحيّ القيّوم‪ .‬ونسمع من يقول‪ :‬لقد أنزلنا‬
‫في السوق اليوم عشرين طنا من الطماطم وأربعين طنا من الكوسة‪ .‬وغيرها من الطنان‪ .‬ونجد‬
‫آخر النهار أن كل شيء قد بيع‪ .‬إنها خواطر ال المتوازنة في الناس والتي توازن المجتمع‪.‬‬
‫إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المُتحرّك‪ .‬ويُريد أيضا ألّ يقتات النسان أو يتمتّع‬
‫بغير مجهود؛ لن من يسرق إنما يأخذ مجهود غيره‪ .‬وهذا الفعل يُ َزهّ ُد الغير في العمل‪.‬‬
‫إن في السلم قاعدة هي‪ :‬عندما تكثر البطالة يقال لك ل تتصدق على الناس بنقود من ملكك‪،‬‬
‫ولكن افتح أي مشروع ولو لم تكن في حاجة إليه كأن تحفز بئرا وتردمها بعد ذلك وأعط الجير‬
‫أجره حتى ل يتعوّد النسان على الكسل‪ ،‬بل يجب تعويده على العمل‪ ،‬ومن ل يقدر على العمل‬
‫فل بد له من ضمان‪ .‬فضمان النسان لقوته يكون من عمله أولً‪ ،‬فإن لم يكن قادرا على العمل‪،‬‬
‫فضمانه من أسرته وقرابته‪ ،‬فإن لم توجد له أسرة أو قرابة‪ ،‬فأهل محلّته مسئولون عنه‪ ،‬وإن لم‬
‫يستطع أهل القرية أو المحلّة أن يوفّروا له ذلك‪ ،‬فبيت المال عليه أن يتكفّل بالفقراء‪.‬‬
‫إذن فالرضية اليمانية تَحثّنا على أن نضمن للنسان العمل‪ ،‬أو نعوله ونقوم بما يحتاج إليه إن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كان عاجزا‪ .‬ولكن الفة أن بعضا من الناس يحبّون عملً بذاته‪ ،‬فهذا يرغب في التوظّف في‬
‫وظيفة ل عمل فيها‪ ،‬ونقول له‪:‬‬
‫في العالم المعاصر أزمة عمالة زائدة فتعلّم أي مهارة؛ فما ضنت الحياة أبدا على طالب قوت من‬
‫عمل‪.‬‬
‫سوَة حين أقام أول مزادٍ في السلم‪ .‬عندما جاء له‬
‫ولنا في رسول ال صلّى ال عليه وسلم الُ ْ‬
‫رجلٌ من النصار يسأله‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫" أما في بيتك شيء‪ .‬قال الرجل‪ :‬بلى‪ ،‬حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه‪ ،‬و َقعْبٌ ‪ -‬أي قدح ‪-‬‬
‫نشرب فيه من الماء‪ .‬قال‪ :‬إيتني بهما‪ .‬فأتاه بهما‪ .‬فأخذهما رسول ال صلّى ال عليه وسلم بيده‬
‫وقال‪ :‬من يشتري هذين؟ قال رجل‪ :‬أنا آخذهما بدرهم‪ .‬قال‪ :‬من يزيد على درهم؟ ‪ -‬مرتين أو‬
‫ثلثا ‪ -‬ثال رجل‪ :‬أنا آخذهما بدرهمين‪ .‬فأعطاهما إياه‪ ،‬وأخذ الدرهمين وأعطاهما للنصاري‬
‫وقال‪ :‬اشتر بأحدهما طعاما فنبذه ‪ -‬أي أَ ْلقِهِ ‪ -‬إلى أهلك‪ ،‬واشتر بالخر قَدُوما فائتني به "‬

‫إذن أشار النبي صلّى ال عليه وسلم على الرجل وأمره بأن يحضر الحِلْس الذي ينام عليه والقدح‬
‫الذي يشرب فيه‪ ،‬حتى يعرف الرجل أنه تَاجَر في شيء يملكه‪ ،‬ل في عطاء من أحد‪ .‬وجاء‬
‫الرجل إلى حضرة النبي عليه الصلة والسلم ووجد أن النبي قد سوّى له يدا لقدوم وقال للرجل‪:‬‬
‫" اذهب فاحتطب وبعْ‪ ،‬ول أرينّك خمسة عشر يوما "‬
‫ل لمر النبي صلّى ال عليه وسلم وجاء بعد خمسة عشر يوما‬
‫وذهب الرجل يحتطب ويبيع امتثا ً‬
‫وقد أصاب عشرة دراهم‪ ،‬فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما‪.‬‬
‫فقال النبي صلّى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة "‬
‫هذه هي التربية‪.‬‬
‫إذن فالغرض الساسي أن يحمي السلم أفراد المجحتمع‪ ،‬فالذي ل يجد قُوتَه نساعده بالرأي‬
‫وبالعلم والقدرة والقوة‪ .‬والخير أن نعلّمهم أن يعملوا لنفسهم‪ .‬ولذلك جاء الحق لنا بقصة ذي‬
‫القرنين المليئة بالعِبَر‪ {:‬حَتّىا ِإذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْنِ وَجَدَ مِن دُو ِن ِهمَا َقوْما لّ َيكَادُونَ َيفْ َقهُونَ َق ْولً }‬
‫[الكهف‪]93:‬‬
‫ج َومَأْجُوجَ ُمفْسِدُونَ فِي‬
‫أي أنه ل توجد صلة للتفاهم‪ .‬ولكنهم قالوا‪ {:‬قَالُواْ ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُو َ‬
‫سدّا }[الكهف‪]94 :‬‬
‫ج َعلَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنهُمْ َ‬
‫ج َعلُ َلكَ خَرْجا عَلَىا أَن تَ ْ‬
‫الَ ْرضِ َف َهلْ نَ ْ‬
‫وها هو ذو القرنين يعلن أنه في غير حاجة إليهم‪ ،‬ولكن يكلفهم بعمل حتى يحقق لهم مُرادهم‪{:‬‬
‫جعَلَهُ نَارا قَالَ آتُونِي ُأفْ ِرغْ‬
‫ل انفُخُواْ حَتّىا إِذَا َ‬
‫حدِيدِ حَتّىا إِذَا سَاوَىا بَيْنَ الصّ َدفَيْنِ قَا َ‬
‫آتُونِي زُبَرَ الْ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عَلَيْهِ ِقطْرا }[الكهف‪]96 :‬‬
‫ومن العجيب أن القرآن عندما يحكي أمرا فهو ل يحكيه إل لهدف‪ ،‬هم طلبوا من ذي القرنين أن‬
‫سدّ قد تحدث‬
‫يبني سدّا‪ ،‬لكنه اقترح أن يجعل لهم رَدما‪ ،‬ما الفرق؟ لقد تبين من العلم الحديث أن ال َ‬
‫له هزّة من أي جانب فينهدم كله‪ ،‬أما ال ّردْم فإن حدثت له هزّة يزددْ تماسكا‪ .‬ولم يعمل ذو القرنين‬
‫لهم‪ ،‬ولكن علّمهم كيف يصنعون الرّدْم‪ ،‬وذلك حتى ل يعيشوا مع الحساس بالعجز‪ .‬وهكذا يُعلّمنا‬
‫القرآن أن النسان ل بد له من عمل‪ .‬لكن ماذا إن سَرَق؟‪.‬‬
‫أولً ما هي السّرقة؟ إنها أَخ ُذ مالٍ مقوّم خفية‪ .‬فإن لم يكن الخذ خفية فهو اغتصاب‪ ،‬ومرة أخرى‬
‫يكون خطفا‪ ،‬ومرة رابعة يكون اختلسا‪.‬‬
‫ل صغير وخطف‬
‫فالَخْذُ له أنواع مُتعددة؛ فالتاجر الذي يقف في دكانه ليبيع أي شيء‪ ،‬وجاء طف ٌ‬
‫قطعةً من الحلوى وجرى ول يستطيع التاجر أن يطول الطفل أو أن يقدر على المساك به‪ ،‬هذا‬
‫خطْف‪ .‬أما الذي يغتصب فهو الذي قهر صاحب الشيء على أن يتركه له‪ .‬أما الختلس فهو أن‬
‫َ‬
‫يكون هناك إنسان أمين على مال فيأخذ منه‪ ،‬أما السرقة فهي أخذ لمال مقوّم خفية وأن يكون في‬
‫حرز مثله؛ أي يكون في مكان ل يمكن لغير المالك أن يدخله أو يتصرف فيه إل بإذنه‪.‬‬

‫أما الذي يترك بابه مفتوحا أو يترك بضاعته في الشارع فهو المُقصّر‪ ،‬فكما يأمرنا الشرع بأل‬
‫يسرق أحد أحدا‪ ،‬كذلك يأمر بعد الهمال‪ ،‬بل لبد للنسان أن يعقل أشياءه ويتوكّل‪ .‬وسبحانه هو‬
‫المُشرّع العَدْل الذي يُقيم اليقظة علىالجانبين‪ .‬حدّد الشّرع السرقة بما قيمته ربع دينار‪ .‬وربع‬
‫الدينار في ذلك الزمن كان كفي لن يأكل إنسان هو وعياله ويزيد‪ ،‬بل إن الدرهم كان يكفي أن‬
‫يقيم أود أسرة في ذلك الوقت‪.‬‬
‫وكيف نقوّم ربع الدينار في زماننا؟‪ .‬لن كان ل يكفي لمعيشة‪ ،‬فيجب أن ترفع النصاب إلى ما‬
‫يُعيش‪ ،‬ومادام الدينار كان في ذلك الزمان ذهبا؛ فربع الدينار ترتفع قيمته‪ .‬وقديما كان الجنيه‬
‫الذهب يساوي سبعة وتسعين قرشا ونصف القرش‪ .‬أما الجنيه الذهب حاليا فهو يساوي أكثر من‬
‫مائتين وسبعين جنيها‪ ،‬وقد يكون هناك إنسان يسرق لنه محتاج أو جائع‪ ،‬ولذلك وضع الشرع له‬
‫قدرا ل يتجاوزه المحتاج لحفظ حياته وحياة من يعول هو الدرهم‪ .‬وسرقة الدرهم ل حد فيها كما‬
‫ل إثم فيها‪ ،‬وذلك إذا استنفذ كل الطرق المشروعة في الحصول على القوت‪ ،‬ونعرف أن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم أعطى الدرهم للرجل وقال‪:‬‬
‫" اشتر طعاما لك ولسرتك "‬
‫وكان الدرهم ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬يكفي في ذلك الزمن‪ .‬والدرهم جزء من اثني عشر جزءا من الدينار‪،‬‬
‫فربع الدينار ثلثة دراهم‪ ،‬والدرهم يساوي في زمننا هذا أكثر من عشرين جنيها‪.‬‬
‫حدّ السّرقة في عام الرّمادة؛ ونقول لهم‪ :‬ل‪ ،‬لم يسقط‬
‫والسطحيون يقولون‪ :‬إن سيدنا عمر ألغى َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمر بن الخطاب الحد‪ ،‬فالحد باقٍ ولكنه لم يدخل الحادثة التي حصلت فيما يوجب الحد‪ .‬والحادثة‬
‫التي حدثت في عام الرمادة أو عام الجوع هي وجود الشبهة‪ .‬وبفطنته كأول أمير للمؤمنين‪ ،‬لم‬
‫يدخل الحوادث فيما يوجب الحد‪ .‬وفي مسألة عبدالرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة‪ .‬عندما سرق‬
‫غلمانه‪ ،‬فماذا حدث؟ قال الغلمان لعمر‪ :‬كنا جوعى ولم يكن ابن أبي بلتعة يعطينا الطعام‪ .‬ودرأ‬
‫حدّ بالشّبهة‪.‬‬
‫سيدنا عمر ال َ‬
‫إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المتحرك وثمرة حركة المتحرك‪ ،.‬لكن بعض‬
‫السطحيين في الفهم يقولون مثل ما قال المعرّي‪:‬يد بخمس مئين عسجد وُدِ َيتْ ما بالها قطعت في‬
‫ربع دينارتناقضْ ما لنا إل السكوت له وأن نعوذ بمولنا من الناروهنا ردّ عليه العالِم المؤمن‬
‫فقال‪:‬‬
‫أنت تعترض لننا نعطي ديِة اليَد خمسمائة دينار‪ ،‬وعندما يسرق إنسان‪ .‬نقطع يد السارق لنها‬
‫أخذت ربع دينار‪.‬‬
‫وقال العالم المؤمن‪:‬عِز المانة أغلها وأرخصها ذُل الخيانة فافهم حكمة الباريونلحظ أن‬
‫التشريعات الجنائية وتشريعات العقوبات ليست تشريعات بشرية‪ ،‬لكنها تشريعات في منتهى الدقة‪.‬‬

‫بال لو أن مُقنّنا يقنن للسارق أو السارقة‪ ،‬و ُيقَنّن للزاني والزانية ماذا يكون الموقف؟‬
‫طعُواْ أَيْدِ َي ُهمَا جَزَآءً ِبمَا َكسَبَا‬
‫ق وَالسّا ِرقَةُ فَاقْ َ‬
‫إن الذي يتكلم هو رب العالمين‪ ،‬فقال هنا‪ } :‬وَالسّا ِر ُ‬
‫حكِيمٌ {‪ .‬والسرقة عادة ما تكون رغبة في الحاجة وهي غالبا ما تكون‬
‫َنكَالً مّنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫من عمل الرجل‪ .‬أما في الزاني والزانية‪ ،‬فلو أن الرجل لم ُيهّيج ويستثر بجمال امرأة لما فكر في‬
‫الزّنا‪ .‬إذن فهي صاحبة البداية‪ .‬وينص سبحَانه على العقوبة وجاء بالحكمة‪ .‬وعندما يُشرع‬
‫شيْءٌ فَاتّبَاعٌ‬
‫عفِيَ َلهُ مِنْ أَخِيهِ َ‬
‫للقصاص وهي الحالة التي يغلي فيها دم أقارب القتيل‪ ،‬فيقول‪َ {:‬فمَنْ ُ‬
‫ف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ }[البقرة‪]178 :‬‬
‫بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫ولنر الحَنانَ الموجود في كلمة " أخيه "‪ .‬ول نجد تقنينا يدخل التحنين بين سطوره‪ ،‬إل تقنين الرّب‬
‫الذي خلق النسان وهو أعلم به‪.‬‬
‫طعُواْ أَيْدِ َي ُهمَا {‪ .‬هذا ما انتهى إليه حَد السّرقة في تشريعات السماء‪ ،‬وحتى‬
‫ق وَالسّا ِر َقةُ فَاقْ َ‬
‫} وَالسّا ِر ُ‬
‫في زمن سيدنا موسى كان السّارق يُستَرَق بسرقته؛ أي يتحوّل الحُرّ إلى عَبد نتيجة سرقته‪ .‬ولذلك‬
‫حلِ َأخِيهِ }‬
‫سقَايَةَ فِي رَ ْ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫جهَازِهِمْ َ‬
‫جهّ َزهُمْ ِب َ‬
‫نلحظ ونحن نقرأ سورة سيدنا يوسف‪ {:‬فََلمّا َ‬
‫[يوسف‪]70 :‬‬
‫و " السقاية " هي الناء الذي كان يشرب فيه الملك‪ ،‬وكان اسمها " صواع الملك " وأخذوها ليكيلوا‬
‫بها‪ .‬وبعد أن جعل السقاية في رحل أخيه‪ ،‬ماذا حدث؟{ ُثمّ أَذّنَ ُمؤَذّنٌ أَيّ ُتهَا ا ْلعِيرُ إِ ّنكُمْ َلسَا ِرقُونَ *‬
‫ح ْملُ َبعِي ٍر وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ }‬
‫صوَاعَ ا ْلمَِلكِ وَِلمَن جَآءَ ِبهِ ِ‬
‫قَالُواْ وََأقْبَلُواْ عَلَ ْي ِهمْ مّاذَا َت ْفقِدُونَ * قَالُواْ َنفْقِ ُد ُ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[يوسف‪]72-70 :‬‬
‫وهنا قال إخوة يوسف بأنهم لم يأتوا ليفسدوا في الرض‪ ،‬لذلك ترك لهم يوسف السلوب في‬
‫تحديد الجزاء‪ ،‬ولم يحاكمهم بشرع الملك‪ {:‬قَالُواْ جَزَآ ُؤهُ مَن ُوجِدَ فِي رَحِْلهِ َف ُهوَ جَزَا ُؤهُ كَذاِلكَ‬
‫نَجْزِي الظّاِلمِينَ }[يوسف‪]75 :‬‬
‫لقد جعلهم يعترفون‪ ،‬ويحاكمهم حسب شريعتهم لن شرع الملك أن من يسرق شيئا عليه أن يغرم‬
‫ضعفي ما أخذ‪.‬‬
‫سفَ }[يوسف‪]76 :‬‬
‫وهذا ما يوضح معنى قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬كَذاِلكَ ِكدْنَا لِيُو ُ‬
‫أي أنها حياة ليستبقي يوسف أخاه معه‪ .‬ولو استعمل قانون مصر في ذلك الزمن لما أخذ أخاه‬
‫معه‪ .‬وهذا كيد لصالح يوسف؛ لن " اللم " تفيد الملكية أو النفعية‪ .‬وأضاف إخوة يوسف قائلين‪{:‬‬
‫سفُ فِي َنفْسِهِ }[يوسف‪]77 :‬‬
‫قَالُواْ إِن يَسْ ِرقْ َفقَدْ سَ َرقَ أَخٌ لّهُ مِن قَ ْبلُ فََأسَرّهَا يُو ُ‬
‫ولماذا قالوا ذلك؟ أصل هذه المسألة أن يوسف كان يحيا عند عمته‪ .‬وعندما كبر وأرادوا أن‬
‫يأخذوه أرادات العمة أن تستبقيه فدست في متاعه تمثالً‪ .‬أو منطقة كانت لها من أبيها إسحاق‬
‫وادعت أنها فقدت ذلك؛ ففتشوا الولد فعثروا معه على الشيء الذي ادعت عمته سرقته فاستبقته‬
‫بشرع بني إسرائيل‪ .‬وكان جزاء السرقة في الشريعة هو السترقاق‪ .‬ونُسِخ هذا الشرع وجاءت‬
‫آية حد السرقة تأكيدا للنسخ‪.‬‬

‫طعُواْ أَ ْيدِ َي ُهمَا جَزَآءً ِبمَا‬


‫ق وَالسّا ِرقَةُ فَا ْق َ‬
‫وإن لم يكن قد نُسخ فهذه الية هي بداية للنسخ‪ } .‬وَالسّا ِر ُ‬
‫حكِيمٌ {‪.‬‬
‫كَسَبَا َنكَالً مّنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫والسّنة هي التي تبين لنا كيفية القطع‪ ،‬وكان القطع لليد اليمنى؛ لنها عادة التي تباشر مثل ذلك‬
‫العمل‪ .‬وفي إحدى رحلتي إلى أمريكا‪ ،‬حدثني أخ مسلم ضمن جماعة تحضر إحدى محاضراتي‬
‫وقال‪ :‬إن التّ َيمّن يجب أن يكون في كل شيء‪ ،‬فلماذا يأكل البعض بيده اليسرى؟‬
‫قلت‪ :‬إن هذه مسألة تكوينية بدليل أن بعض الناس أجهزتها تختلف‪ ،‬فليست المسألة ميكانيكية‪.‬‬
‫وأضفت‪ :‬إن من خيبة بعض الختراعات البشرية أنها ل تخطئ كالحاسب اللي‪ .‬ولو كان ينتقي‬
‫ويختار لمكن أن يخطئ‪ ،‬أما العقل فهو يعرف النتقاء‪ .‬وقلن‪ :‬إنني أطلب من السائل أن يقف‪.‬‬
‫فلما وقف طلبت منه أن يتقدم جهتي فلما تقدم جهتي مَد رجله اليمنى‪ ،‬فقلت تعليقا على هذا‪ " :‬إنه‬
‫تكوين خلقي "‪ .‬ولذلك فالذي عنده ولد تتأبى عليه يمينه فإياك أن تُرغِمه على ذلك لن مثل هذه‬
‫العملية أرادها الخالق لتَشُذّ في الخبق‪ ،‬ولتظهر قدرة الخالق‪.‬‬
‫فل داعي لقهر البن الذي تتأبَى عليه يَمينه؛ لن العلماء قالوا إن مراكز السيطرة ليست في اليد‬
‫ولكن في المخ‪ .‬وقد أوجد الحق تلك المور في الكون حتى نفهم أن خالق الكون لم يخلق الكون‬
‫وتركه بسننه‪ ،‬ل‪ .‬أنه يخرق السنن كلما أراد‪ .‬لكن لو تأبى إنسان على استعمال اليد اليمنى في‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الكل مثل وهو قادر على ذلك فإنه يكون مخالفا لسنة رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬
‫ومجافيا للفطرة‪.‬‬
‫طعُواْ أَ ْيدِ َي ُهمَا جَزَآءً ِبمَا كَسَبَا َنكَالً { وإذا سمعنا كلمة " كسب " فهي تعني الخذ لكثر من‬
‫} فَا ْق َ‬
‫رأس المال‪ .‬والسارق يكسب السيئة لنه أخذ ما فوق الضرورة‪ .‬والنكال‪ :‬العقاب أو هو العبرة‬
‫المانعة من وقوع الجرم سواءً لمن ارتكب الجريمة وكذلك لمن يراها‪ .‬والحق يقول عن بعض‬
‫ش َهدْ عَذَا َب ُهمَا طَآ ِئفَةٌ مّنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النور‪]2 :‬‬
‫المور‪ {:‬وَلْيَ ْ‬
‫وضرورة العلن عن تنفيذ عقوبة الفعل المؤَثّم من أجل العتبار والعظة‪ ،‬فالتشريع ليس من بشر‬
‫لبشر‪ ،‬إنما تشريع خالق لمخلوق‪ .‬والخالق هو الذي صنع الصنعة فل تتعالم على خالق الصنعة‪.‬‬
‫والشريعة ل تقرر مثل هذا العقاب رغبة في قطع اليدي‪ ،‬بل تريد أن تمنع قطع اليادي‪.‬‬
‫وإن ظل التشريع على الورق دون تطبيق فلن يرتدع أحد‪ .‬والذين قالوا " قطع اليدي فعل وحشي‬
‫" ‪ ،‬نقول لهم‪ :‬إن يدا واحدة قطعت في السعودية فامتنعت كل سرقة‪ .‬وإذا كان القتل أنفى للقتل؛‬
‫فالقطع أنفى للقطع‪ ،‬أما عن مسألة التشويه التي يطنطنون بها فحادثة سيارة واحدة تشوه عددا من‬
‫الناس وكذلك حادثة انفجار لنبوبة " بوتوجاز " تفعل أكثر من ذلك‪.‬‬

‫فل تنظروا إلى القصاص مفصول عن السرقة إن انتشرت في المجتمع‪ .‬وإبطاء القائمين على‬
‫المر للجراءات التي يترتب عليها العقوبات ينسي المجتمع بشاعة الجريمة الولى‪ ،‬وعندما يحين‬
‫وقت محاكمة المُجرم تكون الرحمة موجودة‪.‬‬
‫لكن إن ُوقّ َع العقاب سَاعَة الجُرم تنته المسألة‪ .‬وساعة يسمع اللصوص أننا سنقطع يد السارق‪،‬‬
‫سيفكر كل منهم قبل أن يسرق ول يرتكب الجُرم؛ لن المُراد من الجزاء العبرة والعِظة ومقصد‬
‫من مقاصد التربية وتذكرة للنسان بمطلوبات ال عنده إن أخذته الغفلة في سياسة الحياة فالجزاء‬
‫هنا نكال أي عقابا و " نكول " وهو الرجوع عن فعل الذنب أي العبرة المانعة من وقوع الجُرم‪.‬‬
‫فكأن الجزاء كان المقصود منه أن يرى النسان من قطعت يده فيمتنع عن التفكير في مثل ما آلت‬
‫إليه هذه الحالة‪.‬‬
‫أو أن يحافظ الذي قُطعت يده على ما تبقى من جوارحه الباقية؛ لنه قد قُطِعت يمينه وإن عاد‬
‫قُطِعت يساره‪ ،‬فإن عاد قُطِعت رجله اليمنى ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ويكون النكال لمنع‬
‫الرجوع للجريمة‪ ،‬وهو إما رجوع ممن رأى العقوبة تقع على السارق أو الرجوع من السارق‬
‫نفسه إن رأى أي جارحة من جوارحه قد نقصت‪ .‬فيحرص أن تظل الجوارح الباقية له‪ .‬ويعامل‬
‫الحق خلقه بسُنة كونية هي‪ :‬أن من يأخذ غير حقّه ُيحَرم من حَقه‪ .‬ومثال ذلك قوم من بني‬
‫إسرائيل قال ال حكما فيهم‪ :‬لقد استحللتم ما حرمته عليكم فل جزاء لكم إل أن أضيق عليكم‬
‫وأحرم عليكم ما أحللت لكم‪ .‬فقال‪ {:‬فَبِظُ ْلمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُمْ }[النساء‪:‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪]160‬‬
‫إذن ليس في قدرة أحد أن يضحك على ال أو أن يخدع ال أو أن يأخذ ما ليس حقا له‪ .‬فإن‬
‫أسرف النسان في تعاطي أشياء حرمها ال عليه فسيأتي وقت يحرمه ال فيه من أشياء حللها له‬
‫كالذي أسرف في شُرب الخمر أو في تناول المواد المخدّرة التي تغيب عن الوعي‪ ،‬يبتليه الحق‬
‫بما يجعله محروما من مُتع أخرى كانت حلل‪ .‬وإن أسرف النسان مثل في تناول الحلوى‪ .‬فإن‬
‫المرض يأتيه‪ ،‬ويحرم ال عليه أشياء كثيرة‪.‬‬
‫ولو قاس المسرف على نفسه ما أحله لنفسه بما حرمه ال عليه لوجد الصفقة بالنسبة له خاسرة‪.‬‬
‫فالذي أسرف بغير حق في أن يأكل مال احد‪ ،‬يرى ماله وهو يضيع أمام عينيه‪ .‬ولنا في ذلك‬
‫المثل‪ .‬كان السادة في الريف ‪ -‬قديما ‪ -‬يقومون بتنقية الدقيق إلى درجة عالية حتى يصبح في‬
‫لمَة " وكانوا يأكلون منه‬
‫تمام النقاء من " الردة "‪ .‬ويسمون هذا النوع من الدقيق " الدقيق العَ َ‬
‫ويتركون البقية من الدقيق مختلطا بالردة ليأكله الخدم أو الفقراء‪ ،‬فتأتي فترة يُحرم الطباء عليهم‬
‫هذا الدقيق البيض‪ ،‬ول يجد الواحد منهم طعاما إل الدقيق " السّن " الذي كان يرفضه قديما فعلينا‬
‫‪ -‬إذن ‪ -‬أن ننظر إليها كقضية سائدة في الكون كله‪ ،‬ولنجعل قول ال أمامنا‪:‬‬

‫{ فَ ِبظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْي ِهمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُمْ }[النساء‪]160 :‬‬
‫فأنت إن أخذت كسب يد واحدة يحرمك الحق من يدٍ ل من كسب‪ .‬فإن زدت حرمك ال من‬
‫جارحة أخرى‪ ،‬وهكذا‪ .‬وتلك سُنّة كونية تعدل نظام الكون بالنسبة للناس‪ ،‬وخصوصا من‬
‫يستبطئون جزاء الخرة‪ ،‬ومن ُيغْريهم و َيغُرهم ويطمعهم حِلْم ال عليهم‪.‬‬
‫وأنت إذا ما نظرت وصنعت لنفسك رُقعة جغرافية في البيئة التي تعيش فيها في أسرتك‪ ،‬أو حيك‪،‬‬
‫أو بلدك أو أمتك‪ ،‬فأنت تجد قوما قد حرموا بأنفسهم من غير أن يحرم عليهم أحد‪ ،‬فتجد واحدا‬
‫مصابا ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬بالبولينا‪ :‬ول يقدر أن يأكل قطعة من اللحم‪ ،‬أو آخر مصابا بمرض‬
‫السكر؛ وتراه غير قادر على أن يأكل قطعة من الحلوى‪ ،‬أو ملعقة من العسل‪ .‬لن أحدا لن‬
‫يستطيع أن يأخذ شيئا بدون علم ال‪ .‬وصنع ال ذلك لنه عزيز ل يُغلَب‪ .‬فإياك أن تظن أن‬
‫بإمكانك أخذ شيء من وراء شرع ال أو تظن انك خدعت شَرع ال‪ ،‬فهو سبحانه عزيز ل يُغلَب‬
‫أبدا‪ .‬ونرى في حياتنا الذين يأخذون أموالً بغير حق رشوة أو سرقةً أو اختلسا‪ ،‬نرى مصارف‬
‫هذه الشياء أو الرشاوي أو الموال قد ذهبت وأنفقت في مهالك ومصائب؛ إننا نجدها قد أخذت ما‬
‫أخذوه من حرام‪ ،‬ومالت وجارت على ما كسبوه من حلل‪ .‬وأريد من المسرفين على أنفسهم أن‬
‫يضعوا لنفسهم كشف حساب‪ ،‬فيكتبوا في ناحية القرش الذي كسبوه من حرام‪ ،‬ويكتبوا في ناحية‬
‫أخرى كل قرش كسبوه من حلل‪ .‬وليشاهد كل مسرف على نفسه في أكل حقوق الناس المصائب‬
‫التي سيبتليه ال بها‪ ،‬ولسوف يجد أنه قد صرف لمواجهة المصائب كل الحرام وبعضا من‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحلل‪ .‬ولذلك قال الثر الصالح‪ " :‬من أصاب مال من نهاوش أذهبه ال في نهابر "‪.‬‬
‫وكنت أعرف اثنين من الناس‪ ،‬ولكل واحد منهما ولد في التعليم‪ .‬وكنت أجد أحدهما يعطي ولده‬
‫خمسة قروش‪ .‬فيقول البن لبيه‪ :‬معي مصروف المس "‪ .‬وكان الخر يعطي ولده عشرة قروش‬
‫فيقول البن له‪ " :‬إنها ل تكفي شيئا "‪ .‬وشاء الحق أن يجمعنا نحن الثلثة في مكتب وزارة الري‬
‫بالزقازيق‪ ،‬فلما جئنا لنخرج إذا برئيس كتاب تلك المصلحة يأتي بظرف أصفر كبير به أشياء‬
‫كثيرة ويناوله لواحد منهما‪ ،‬فسألته‪ :‬ما هذا؟ فقال‪ :‬بعض من الورق البيض وبعض من ورق‬
‫النشاف وعدد من القلم حتى يكتب الولد واجبهم المدرسي‪ .‬فقلت له‪ :‬هذا سر خيبة أولدك‬
‫الدراسية وإسرافهم والدروس الخصوصية التي تدفع فيها فوق ما تطيق وسر قول ابنك لك‪ :‬إن‬
‫القروش العشرة ل تكفي شيئا‪.‬‬

‫أما الشخص الخر فابنه يقول له‪ :‬ل أريد مصروف يد اليوم لن معي خمسة قروش هي‬
‫مصروف أمس ول أريد أن آخذ دروسا خصوصية لني أحب العتماد على نفسي‪.‬‬
‫وسبحانه الحق القيوم ل تأخذه سنة ول نوم‪ .‬ويقول لنا بلغا‪:‬‬
‫قال أبو الجلد‪ " :‬أوحى ال تعالى إلى نبي من النبياء‪ :‬قل لقومك‪ :‬ما بالكم تسترون الذنوب من‬
‫خلقي وتظهرونها لي؟ إن كنتم ترون أني ل أراكم فأنتم مشركون بي‪ ،‬وإن كنتم ترون أني أراكم‬
‫قَلِمَ تجعلونني أهون الناظرين إليكم "‪.‬‬
‫إذن قوله الحق‪ } :‬جَزَآءً ِبمَا كَسَبَا َنكَالً مّنَ اللّهِ { واضح تماما‪ ،‬ويردف الحق قوله هذا‪ } :‬وَاللّهُ‬
‫حكِيمٌ {‪ .‬وسبحانه عزيز ل يغلبه أحد‪ ،‬حتى الذي يسرق‪ ،‬إنما يسرق الرزق المكتوب له؛‬
‫عَزِيزٌ َ‬
‫لن العلماء اتفقوا على أن الشيء المسروق رزق أيضا لنه يُنتفَع به‪ .‬ووال لو صبر لجاءه‬
‫وطرق عليه بابه‪ .‬فإياكم أن تحتالوا على قدر ال؛ لنه حكيم في تقديره‪.‬‬
‫وكلمة " حكيم " لها في حياتنا قصة‪ ،‬كنا ونحن في مقتبل حياتنا التعليمية نحب الدب والشعر‬
‫والشعراء‪ ،‬وبعد أن قرأنا للمعري وجدنا عنده بعضا من الشعر يؤول إلى اللحاد‪ ،‬فزهدنا فيه‬
‫وخصوصا عندما قرأنا قوله في قصيدته‪:‬تحطمنا اليام حتى كأننا زجاج ولكن ل يعاد لنا‬
‫سبكوأخذنا من ذلك القول أنّه ينكر البعث؛ فقلنا‪ :‬يغنينا ال عنه‪ .‬ولكن صديقنا الشيخ فهمي‬
‫عبداللطيف ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬رأى المعري في الرؤيا وكان مولعا بالمعري‪ ،‬فجاء إلى ذات صباح‬
‫ونحن في الزقازيق وقال لي‪ :‬يا شيخ لقد رأيت المعري الليلة في الرؤيا وهو غاضب منك أنت‬
‫لنك جفوته‪ .‬فقلت‪ :‬أنا جفوته لكذا وكذا وأنت تعلم السبب في ذلك‪ .‬وقال الشيخ فهمي عبداللطيف‪:‬‬
‫هذا ما حصل‪.‬‬
‫وقلت لنفسي‪ :‬يجب أن أعيد حسابي مع المعري‪ ،‬وجئنا بدواوينه " سقط الزند " و " لزوم ما ل‬
‫يلزم "‪ .‬ووجدنا أن للرجل عُذرا في أن يعتب علينا؛ لن آفة الناس الذين يسجلون خواطر أصحاب‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الفكر أنهم ل ينظرون إلى تأريخ مقولتهم‪ ،‬وقد قال المعري قوله الذي أنكره عليه وقت أن كان‬
‫شابا مفتونا بفكره وعندما نضج قال عكسه‪ .‬وكثير من المفكرين يمرون بذلك‪ ،‬مثل طه حسين‬
‫والعقاد‪ ،‬بدأ كل منهما الحياة بكلم قد يؤول إلى اللحاد ولكنهما كتبا بعد النضج ما يحمل عطر‬
‫اليمان الصحيح؛ لذلك ل يصح لمن يحكم عليهم أن يأخذهم بأوليات خواطرهم التي بدأوها بالشّك‬
‫حتى يصلوا إلى اليقين‪ .‬وجلست أبحث في المعري الذي قال‪:‬تحطمنا اليام حتى كأننا زجاج ولكن‬
‫ل يعاد لنا سبكفوجدته هو نفسه الذي قال بعد أن ذهبت عنه المراهقة الفكرية‪:‬‬

‫زعم المنجم والطبيب كلهما ل تحشر الجساد قلت إليكماإن صح قولكما فلست بخاسر أو صح‬
‫قولي فالخسار عليكماكأنه عاد إلى حظيرة اليمان‪:‬‬
‫طعَت في ربع ديناروقال بعد‬
‫وكذلك قال المعري‪:‬يد بخمس مئين عسجد وُدِ َيتْ ما بالها قُ ِ‬
‫ذلك‪:‬تناقض مالنا إل السكوت له وأن نعوذ بمولنا من الناروقلت للشيخ فهمي عبداللطيف‪ :‬للمعري‬
‫حق في العتاب وسأحاول أن أعاود قراءة شعره‪ ،‬والبيات التي أرى فيها خروجا سأعد لها قليل‪.‬‬
‫وعندما جئت إلى ذلك البيت‪ .‬قلت‪ :‬لو أنه قال ‪ -‬وأنا أستأذنه ‪:-‬لحكمةٍ ما لنا إل الرضاء بها وأن‬
‫نعوذ بمولنا من النارفَلكل شيء حكمة‪ .‬وحين نرى طبيبا يمسك طفل قلبه ل يتحمل المُرِقد ‪ -‬أي‬
‫البنج ‪ -‬أثناء إجراء عملية جراحية‪ ،‬فهل يظن ظان أن الطبيب ينتقم من هذا الطفل؟ طبعا ل‪ ،‬إذن‬
‫فلكل شيء حكمة‪ ،‬ويجب أن ننظر إلى الشيء وأن نربطه بحكمته‪ .‬وال عزيز أي ل يغلبه أحد‬
‫ول يحتال عليه أحد‪ .‬وهو حكيم فيما يضع من عقوبات للجرائم؛ لنه يزن المجتمع نفسه بميزان‬
‫العدالة‪ .‬ومن بعد ذلك يفتح الحق سبحانه باب التوبة رحمة لمن يتوب ورحمة للمجتمع؛ لذلك يقول‬
‫الحق‪َ } :‬فمَن تَابَ مِن َب ْعدِ‪{ ...‬‬

‫(‪)700 /‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪)39‬‬


‫َفمَنْ تَابَ مِنْ َب ْعدِ ظُ ْل ِم ِه وََأصْلَحَ فَإِنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬

‫والسارق ظالم؛ لنه أخذ حق غيره‪ ،‬فإن تاب أي ندم على الفعل وعزم على أل يعود شريطة أل‬
‫تكون التوبة بالكلم فقط‪ ،‬بل يصلح ما أفسده‪ ،‬هنا تُقبَل التوبة‪ .‬ولكن كيف يفعل ذلك؟‬
‫إذا كان الشيء المسروق في حوزته فعليه أن يرده إلى صاحبه‪ .‬وإن كان قد تصرف فيه فعليه أن‬
‫يأتي لصاحب الشيء ويستحله ويقول له‪ :‬كنت في غفلة نفسي وفي زهوة الشيطان مني ففعلت كذا‬
‫وكذا‪ .‬وأعتقد أن أي إنسان سرق من إنسان آخر وبعد فترة اعترف له وطلب العفو منه فأنا أقسم‬
‫بال أنه سيعفو عنه راضيا‪ .‬وبذلك يستحل الشيء الذي أخذه‪ .‬لكن ماذا إن كان السارق ل يعرف‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صاحب الشيء المسروق‪ .‬كلص " التوبيسات "؟‬
‫إن كان قد سرق محفظة نقود من شخص ووجد العنوان يستطيع أن يرد الشيء المسروق بحوالة‬
‫بريدية من مجهول تحمل قيمة المبلغ المسروق ويطلب فيها السماح عن السرقة‪ .‬وإن لم يعرف‬
‫من سرقة فعليه أن يقول‪ :‬ال أعلم بصاحب هذا المبلغ وأنا سأتصدق به في سبيل ال وأقول‪ :‬يا‬
‫رب ثوابه لصاحبه‪.‬‬
‫إذن فوجوه الصلح كثيرة‪ .‬وإن كان يخجل من رد الشيء المسروق فليقل‪ُ :‬فضُوح الدنيا أهون‬
‫من ُفضُوح الخرة‪ .‬وفي القرآن تأتي آيات كثيرة عن التوبة‪ {:‬ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ }[التوبة‪:‬‬
‫‪]118‬‬
‫كأن توبة ال مكتوبة أول؛ ثم يتوب العبد من بعد ذلك‪ .‬وسبحانه يقول‪ {:‬وَإِنّي َلغَفّارٌ ّلمَن تَابَ }‬
‫[طه‪]82 :‬‬
‫وللتوبة ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬ثلث مراحل‪ .‬فالحق حين شرع التوبة كان ذلك إذنا بها‪ .‬وبعد ذلك يتوب‬
‫العبد‪ ،‬فيتوب ال عليه ويمحو عنه الذنب ويكون الغفران بقبول ال للتوبة‪ .‬ولذلك يقول الحق‪:‬‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }‪.‬‬
‫{ فَإِنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫صفَةُ الرحمة كل في مطلقها َتكُون ل وحده‪ ،‬وهي توبة للجاني ورحمة للمجني‬
‫َوصِفَ ُة المغفرة و ِ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ } توضح لنا أنه سبحانه له طلقة القدرة في أن يغفر وأن‬
‫عليه‪ .‬وكلمة { إِنّ اللّهَ َ‬
‫يرحم‪ .‬فإياك أن تقول‪ :‬إن فلنا ل يستحق المغفرة والرحمة؛ لنه سبحانه مالك السماء والرض‪،‬‬
‫وهو الذي أعطى للبشر ما يستحقون بالحق الذي أوجبه على نفسه‪ ،‬وله طلقة القدرة في الكون؛‬
‫ولذلك يقول الحق من بعد ذلك‪ { :‬أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ‪} ...‬‬

‫(‪)701 /‬‬

‫شيْءٍ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَا ُء وَ َي ْغفِرُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫قَدِيرٌ (‪)40‬‬

‫ويستخدم الحق سبحانه من أساليب البيان ما يخرجنا عن الغفلة‪ ،‬فلم يقل‪ " :‬ال له ملك السماوات‬
‫والرض " ‪ ،‬ولو كان قد قال ذلك لكان المر خَبَرا من المتكلم وهو ال‪ ،‬ولكنه يريد أن يكون‬
‫الخبر من المُخَاطَب إقرارا من العبد‪ .‬ول يخرج الخَبَر مَخرج الستفهام إل وقائل الخبر واثِقٌ من‬
‫أن جواب الستفهام في صالحه؛ والمثال على هذا هو أن يأتيك إنسان ويقول‪ " :‬انت تهملني "‪.‬‬
‫فتقول‪ :‬أنا أحسنت إليك‪.‬‬
‫حسِن إليك؟ وبذلك تستفهم منه‪ ،‬والستفهام‬
‫ولكن إن أردت أن تستخرج الخَبَر منه فأنت تقول‪ :‬ألم أُ ْ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يريد جوابا‪ .‬فكأن المسئول حين يجيب عليه أن يدير ذهنه في كل مجال ول يجد إل أن يقول‪ :‬نعم‬
‫أنت أحسنت إليّ‪ .‬ولو جاء ذلك من المتكلم لكانت دعوى‪ ،‬لكن إن جاءت من المُخاطَب فهي‬
‫ك صَدْ َركَ }[الشرح‪]1 :‬‬
‫إقرار‪ ،‬ومثال ذلك قول الحق‪ {:‬أَلَمْ نَشْرَحْ َل َ‬
‫إنه خَبرٌ من المتكلم والقرار من المتلقي‪ .‬وقد يقول قائل ولماذا لم يقل الحق‪ " :‬أشرحنا لك‬
‫صدرك "؟ كان من الممكن ذلك‪ ،‬ولكن الحق لم يقلها حتى ل يكون في السؤال إيحاء بجواب‬
‫الثبات بل جاءت بالنفي‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ ُيعَ ّذبُ مَن يَشَآ ُء وَ َيغْفِرُ ِلمَن يَشَآءُ‬
‫وفي قوله الحق‪ {:‬أَلَمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ }[المائدة‪]40 :‬‬
‫وَاللّهُ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫نجد منطوق الية ليس دعوى من الحق‪ ،‬ولكنه استفهام للخلق ليديروا الجواب على هذا‪ ،‬فل يجدوا‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }‪ .‬وهذا أسلوب لثبات الحجة والقرار من‬
‫جوابا إل أن يقولوا‪ { :‬للّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ } ‪ ،‬وقد يقول إنسان‪ :‬إن‬
‫العباد‪ ،‬ل إخبارا من الحق‪ { :‬أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫هناك أجزاء من الرض ملكا للبشر‪ .‬ونقول‪ :‬صحيح أن في الرض أجزاء هي ملك للبشر‪ ،‬ولكن‬
‫هناك فرق بين أن يملك إنسان ما ل يقدر على الحتفاظ به‪ ..‬كملك البيت والرض‪ ،‬إنه مِلْك ‪-‬‬
‫بكسر الميم ‪ -‬لمالك‪ .‬وهناك " مُلْك " ‪ -‬بضم الميم ‪ِ -‬لمَِلكٍ هو ال‪ .‬وفي الدنيا نجد أن لكل إنسان‬
‫ملكية ما‪ .‬ولكن المَلِك في الرض يملك القرار في أملك شعبه‪ ،‬وهذا في دنيا السلوب‪ ،‬أما في‬
‫الخرة فالسباب كلها تمتنع‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َي ْومَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْلقَهّارِ }[غافر‪]16 :‬‬
‫فل أحد له مُلكٌ يوم القيامة‪.‬‬
‫ت وَالَ ْرضِ ُيعَ ّذبُ مَن َيشَآ ُء وَ َي ْغفِرُ ِلمَن َيشَآءُ } والقارئ بإمعان‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫للقرآن يجد فيه عبارات تجمع بين أمرين أحدهما يتقدم‪ ،‬والخر يتأخر‪ .‬ويأتي المر في أحيان‬
‫أخرى بالعكس‪ .‬ولكن هذا القول هو الوحيد في القرآن الذي يأتي على هذا النسق‪ ،‬فكل ما جاء في‬
‫القرآن يكون الغفران مقدّما على العذاب؛ لن الحق سبحانه قال في الحديث القدسي‪:‬‬

‫" إن رَحمتي سبقت غَضبي "‬


‫فلماذا جاء العذاب في هذه الية مقدما على الغُفران‪ُ } :‬يعَ ّذبُ مَن يَشَآ ُء وَ َيغْفِرُ ِلمَن يَشَآءُ { هل‬
‫السبب هو التّفنّن في الساليب؟ ل؛ لن جمهرة اليات تأتي بالغفران أولً‪ ،‬ثم بالوعيد بالعذاب لمن‬
‫يشاء سبحانه‪ .‬ولننظر إلى السّياق‪ .‬جاء الحديث أولً عن السارق والسارقة‪ ،‬وبعد ذلك عمّن تاب‪.‬‬
‫فالسرقة إذن تقتضي التعذيب‪ ،‬والتوبة تقتضي المغفرة‪ ،‬إذن فالترتيب هنا منطقي‪.‬‬
‫ونلحظ أن هذا القول قد جاء بعد آية السرقة وبعد آية العلم بأن له مُ ْلكَ السماوات والرض‪.‬‬
‫ولذلك كان ل بد من تذييل يخدم الثنين معا‪ .‬ليؤكد سيطرة القدرة‪ .‬وحين يريد الحق أن يرحم‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫واحدا‪ .‬فليس في قدرة المرحوم أن يقول‪ " :‬ل أريد الرحمة "‪ .‬وحين يعذب واحدا لن يقول المعذّب‬
‫‪ -‬بفتح الذال ‪ " :-‬ل داعي للعذاب "‪ .‬فسيطرة القدرة تؤكد أنه ل قدرة لحد على رَدّ العذاب أو‬
‫الرحمة‪ .‬إذن فالية قد جاءت لتخدم أغراضا مُتعددة‪ .‬فإن حسبناها في ميزان الحداث فللحق كل‬
‫القدرة‪ .‬وإن حسبناها في ميزان الزمن‪ ،‬فكيف يكون المر؟‪.‬‬
‫نعرف أن التعذيب للسّرقة قسمان‪ ..‬تعذيب بإقامة الحَدّ‪ ،‬وفي الخرة تكون المغفرة‪ .‬إذن فالكلم‬
‫منطقي مُتّسق‪.‬‬
‫إنني أقول دائما‪ :‬إياكم أن تُخدَعوا بأن الكافر يكفر‪ ،‬والعاصي يعصى دون أن ينال عقابه؛ لن من‬
‫تعوّد أن يتأبَى على منهج ال‪ ،‬فيكفر أو يعصي ل بد له من عقاب‪ .‬لقد تمرّدَ على المنهج‪ ،‬ولكنه‬
‫ل يجرؤ على التَمرّد على ال‪.‬‬
‫إن النسان قد يتمرد على المنهج فل يؤمن أو ل يقيم الصلة‪ ،‬لكن ل قدرة لنسان أن يتمرد على‬
‫ال‪ ،‬لنه ل أحد يقدر على أن يقف في مواجهة الموت‪ ،‬وهو بعضٌ من قُدْرةِ ال‪ .‬وسبحانه وتعالى‬
‫يحكم ما يريد‪ .‬وقد أراد أن يوجِد للنسان اختيارا في أشياء‪ ،‬وأن يقهر النسان على أشياء‪ ،‬فيا‬
‫من مرّنت نفسك على التمرّد على منهج ال عليك أن تحاول أن تتمرّد على صاحب المنهج وهو‬
‫ال‪ .‬ولن تستطيع ل في شكلك ول لونك ول صحتك ول ميعاد موتك‪ .‬وليفتح كل مُتَمرّد أذنيه‪،‬‬
‫وليعرف أنه لن يقدر على أن يَتمرّد على صاحب المنهج وهو ال‪ .‬إذن صدق قول ال‪ } :‬وَاللّهُ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ {‪.‬‬
‫عَلَىا ُكلّ َ‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪ } :‬ياأَ ّيهَا الرّسُولُ‪{ ...‬‬

‫(‪)702 /‬‬

‫يَا أَ ّيهَا الرّسُولُ لَا َيحْزُ ْنكَ الّذِينَ ُيسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوا َآمَنّا بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وََلمْ ُت ْؤمِنْ قُلُو ُبهُمْ‬
‫ضعِهِ‬
‫سمّاعُونَ ِل َقوْمٍ َآخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ مِنْ َبعْدِ َموَا ِ‬
‫سمّاعُونَ لِ ْلكَ ِذبِ َ‬
‫َومِنَ الّذِينَ هَادُوا َ‬
‫حذَرُوا َومَنْ يُ ِردِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ َتمِْلكَ َلهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا‬
‫َيقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا َفخُذُو ُه وَإِنْ لَمْ ُتؤْ َت ْوهُ فَا ْ‬
‫عظِيمٌ (‪)41‬‬
‫عذَابٌ َ‬
‫طهّرَ قُلُو َبهُمْ َلهُمْ فِي الدّنْيَا خِ ْزيٌ وََلهُمْ فِي الْآَخِ َرةِ َ‬
‫أُولَ ِئكَ الّذِينَ َلمْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يُ َ‬

‫نأتي في النّداء بحرف القبال وهو " يا " وندخله على " المُنادى " أي أنك تطلب إقباله‪ .‬فهل نطلب‬
‫إقباله لمجرد القبال أو لشيء آخر؟ مثال ذلك قول الحق‪ُ {:‬قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ عَلَ ْي ُكمْ }‬
‫[النعام‪]151 :‬‬
‫إذن النّداء هنا لتلوة التكليف عليهم‪ .‬وحين يُنادي الحق سبحانه وتعالى أشرف من ناداهم وهم‬
‫رُسُله‪ ،‬ونجد أنه نادى كل الرّسل بمُشخّصاتِهم العََلمِيّة‪( .‬يا آدم)‪ ،‬والمُشَخّص العَلمَي هو السم‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهو ل يعطي وصفا إل تشخيص الذات بدون صفاتها‪.‬‬
‫وكذلك نادى الحق إبراهيم عليه السلم‪ {:‬ياإِبْرَاهِيمُ * قَ ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ }[الصافات‪]105-104 :‬‬
‫لمٍ }[هود‪]48 :‬‬
‫وكذلك نادى الحق نوحا‪ {:‬يانُوحُ اهْ ِبطْ بِسَ َ‬
‫وكذلك نادى الحق موسى عليه السلم‪ {:‬يامُوسَىا إِنّي أَنَا اللّهُ }[القصص‪]30 :‬‬
‫وكذلك نادى الحق عيسى ابن مريم عليه السلم‪ {:‬ياعِيسَى ابْنَ مَرْ َيمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ }[المائدة‪:‬‬
‫‪]116‬‬
‫كُل الرّسُل ناداهم الحق بال ُمشَخّص العَلَمي الذي ل يعطي إل التشخيص‪ ،‬ولكن رسول ال صلّى‬
‫ال عليه وسلم خاتم الرّسُل ما ناداه ال باسمه أبدا‪ ،‬إنما ناداه ال بالوصف الزائد عن ُمشَخّصات‬
‫الذات فيقول‪ { :‬ياأَ ّيهَا الرّسُولُ } ‪ ،‬ويقول‪ { :‬يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ }‪.‬‬
‫حقّا إنّ الجميع رُسُل‪ ،‬ولكنه سبحانه يريد أن يبلغنا أن محمدا صلّى ال عليه وسلم هو الرسول‬
‫الذي جاء ناسخا ومؤمنا بال ُكلّ‪ ،‬هو الذي يستحق النّداء بالوصف الزائد عن مُشَخّصات الذات‪:‬‬
‫{ ياأَ ّيهَا الرّسُولُ }‪ .‬وهو الرسول الذي تقوم عليه الساعة‪ .‬ولذلك نجد خطاب الحق لرسوله دائما‪:‬‬
‫{ ياأَ ّيهَا الرّسُولُ } أو‪ { :‬يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ } ‪ ،‬وهذا نوع من التكريم‪.‬‬
‫ل لَ َيحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ }‪ .‬أي ل تحزن يا رسول‬
‫والحق يقول هنا‪ { :‬ياأَ ّيهَا الرّسُو ُ‬
‫ال من الذين يسارعون في الكفر‪ .‬وحين يخاطب الحق رسوله في أل يحزن‪ ،‬علينا أن نعرف‬
‫على ماذا يكون الحزن؟ سبحانه يوضح لرسوله‪ :‬إياك أن تحزن لني معك فلن ينالك شر‬
‫خصومك ول يمكن أن أختارك رسولً وأخْذُلَك‪ ،‬إنهم لن ينالوا منك شيئا‪.‬‬
‫وقد يكون حزن النبي صلى ال عليه وسلم حزنا من لون آخر‪ ،‬اسمه الحزن المُ َتسَامِي الذي قال‬
‫حدِيثِ َأسَفا }[الكهف‪]6 :‬‬
‫علَىا آثَارِ ِهمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا الْ َ‬
‫سكَ َ‬
‫فيه الحق‪ {:‬فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫لن الحق لو شاء أن يجعلهم مؤمنين لما جعل لديهم القدرة على الكفر‪ {.‬إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ‬
‫ضعِينَ }[الشعراء‪]4 :‬‬
‫سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ‬
‫ال ّ‬
‫وهل ال يريد أعناقا؟ ل‪ .‬بل يريد قلوبا؛ لن سيطرة القُدرة بإمكانها أن تفعل ما تريد‪ ،‬بدليل أن‬
‫السماء والرض والجبال وكل الكائنات أتت للخالق طائعة‪ .‬فل يمكن أن يتأبّى الكون على خالقه‪.‬‬
‫والقدرة أفادت القهر وأفادت السيطرة والعزة والغلبة في سائر الكون‪ ،‬ولكن ال أحَب أن يأتي‬
‫عبده ‪ -‬وهو السيد ‪ -‬لليمان مختارا؛ لن اليمان الول هو إيمان القهر والقدرة‪ ،‬ولكن اليمان‬
‫الثاني هو إيمان المحبة‪.‬‬

‫وقد ضربنا من قبل المثل على ذلك ولنوضحه‪ :‬هب أن عندك خادمين ربطت أحدهما في سلسلة‬
‫ل يهرب‪ ،‬وعندما تريده تجذب السلسلة فيأتي‪ ،‬إنه يأتي لسيطرة قُدرتك عليه‬
‫لنك إن تركته قلي ً‬
‫والقهر منك‪ ،‬أما الخادم الخر فأنت تتركه حُرّا ويأتيك من فور النداء‪ .‬فأيهما أحب إليك؟ ل شك‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنك تحب الذي يجيء عن حُب ل عن قهر‪ .‬وكل أجناس الكون مُسخّرة بالقدرة‪ ،‬وشاء الحق أن‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَا ْلجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن‬
‫علَى ال ّ‬
‫لمَانَةَ َ‬
‫يجعل النسان مُختارا لذلك قال‪ {:‬إِنّا عَ َرضْنَا ا َ‬
‫حمََلهَا الِنْسَانُ }[الحزاب‪]72 :‬‬
‫ش َفقْنَ مِ ْنهَا وَ َ‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫يَ ْ‬
‫إذن فقد رفضت كل الجناس حمل المانة‪ .‬خوفا وإشفاقا من أنها قد ل تستطيع القيام بذلك‪.‬‬
‫والحق يقول لرسوله‪ } :‬لَ يَحْزُنكَ { فأمّا إذا كان الحزن بسبب الخوف على المنهج منهم‪ ،‬فالحق‬
‫ينصره ولن يمكنهم منه‪ .‬وأما إن كان الخوف عليهم فل؛ لنه سبحانه خلق النسان مختارا غير‬
‫مقهور على القيام بتعاليم المنهج‪ ،‬وسبحانه يُحب أن يعرف من يأتيه حُبا وكرامة‪.‬‬
‫ويقول الحق لرسوله محمد صلّى ال عليه وسلم‪ } :‬لَ َيحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ا ْلكُفْرِ {‪.‬‬
‫وهذه رُبوبية التعبير‪ ،‬فنحن نعلم أن السرعة تكون إلى الشيء‪ ،‬ل في الشيء كما قال الحق‪{:‬‬
‫وَسَارِعُواْ إِلَىا َمغْفِ َرةٍ }[آل عمران‪]133 :‬‬
‫ولكن هنا نجده يقول‪ُ } :‬يسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ {‪ .‬ولو قال الحق‪ " :‬يسارعون إلى الكفر " لكان قد‬
‫ثبت لهم إيمان وبعد ذلك يذهبون إلى الكُفر‪ ،‬ل‪ .‬الحق يريد أن يوضح لنا‪ :‬أنهم يسارعون في‬
‫دائرة الكفر‪ .‬ويعلمنا أنهم في البداية في الكفر‪ ،‬ويسارعون إلى كفر أشد‪ .‬ونعرف أن " في " في‬
‫القرآن نستطيع أن نضع من أجلها المجلدات‪ .‬فقد قلنا من قبل قال ال تعالى‪ } :‬سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ‬
‫{‪.‬‬
‫ولم يقل سبحانه سيروا على الرض‪.‬‬
‫س َفهَآءَ َأ ْموَاَلكُمُ }[النساء‪]5 :‬‬
‫والحق سبحانه‪ :‬وتعالى يقول‪ {:‬وَلَ ُتؤْتُواْ ال ّ‬
‫وهي ليست أموال المخاطبين‪ ،‬ولكنها في الصل أموال السفهاء‪ .‬ولكن سبحانه يبلغنا أن السّفهاء‬
‫ي والقيّن على المال ويأمره أن يعتبر المال ماله‬
‫صّ‬‫غير مأمونين على المال‪ ،‬ولذلك يأتي الحق بالو َ‬
‫حتى يحافظ عليه‪ .‬ويأمره بأل يخزن المال ليأكل منه السّفيه؛ لن المال إن أكل منه السّفيه ودفع‬
‫ج َعلَ اللّهُ َل ُكمْ قِيَاما }‬
‫سفَهَآءَ َأ ْموَاَلكُمُ الّتِي َ‬
‫له الزكاة‪ ،‬قد ينضب وَينْفذ‪ .‬لذلك قال الحق‪َ {:‬ولَ ُتؤْتُواْ ال ّ‬
‫[النساء‪]5 :‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪ {:‬وَارْ ُزقُوهُمْ فِيهَا }[النساء‪]5 :‬‬
‫لم يقل ارزقوهم منها‪ ،‬ذلك أنه سبحانه شاء أن يعلمنا أن الرزق مطمور في رأس المال ويجب أن‬
‫يتحرك رأس المال في الحياة حتى ل ينقص بالنفقة‪ ،‬وحتى ل تستهلكه الزكاة‪ ،‬وحتى يبلغ السّفيه‬
‫رُشده ويجد المال قد نما‪ .‬هذه بعض من معطيات " في "‪ .‬وهنا آية الصّلب‪َ {:‬ولُصَلّبَ ّنكُمْ فِي‬
‫خلِ }[طه‪]71 :‬‬
‫جذُوعِ النّ ْ‬
‫ُ‬
‫خلِ { ونقول‪ :‬إن الذين قالوا ذلك‬
‫بعض المفسرين يقولون في هذه الية‪ } :‬لُصَلّبَ ّنكُمْ فِي جُذُوعِ النّ ْ‬
‫لم يُفسّروا هذه الية وكان يجب أن يقولوا في تفسير ذلك‪:‬‬
‫لصلبنكم على جذوع النخل تصليبا قويا يدخل المصلوب في المصلوب فيه‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومثال ذلك لو جئنا بعدو ثقاب وربطناه على الصبع بخيط رفيع وأوثقنا الربط‪ ،‬فعود الثقاب‬
‫جذُوعِ‬
‫لصَلّبَ ّنكُمْ فِي ُ‬
‫يغوص في الصبع حتى يصير وكأنه داخل الصبع‪ .‬وعندما يقول الحق‪ُ } :‬‬
‫خلُ‬
‫خلِ { فيجب أل نفهم هذا القول إل على أساس أنه تصليب على جذوع النخل تصليبا قويا يُ ْد ِ‬
‫النّ ْ‬
‫المصلوب في المصلوب فيه‪ .‬وتلك هي العِلّة في وجود " في " وعدم وجود " على "‪.‬‬
‫والحق يقول هنا‪ } :‬لَ َيحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ا ْلكُفْرِ { فكأن المسارعة إما أن تكون بـ " إلى "‬
‫وإما أن تكون بـ " في "‪ .‬فإن كانت بـ " إلى " فهي انتقال إلى شيء لم يكن فيه ساعة بدْء‬
‫السرعة‪ ،‬وإن كانت بـ " في " فهي انتقال إلى عمق الشيء الذي كان فيه قبل أن يبدأ المسارعة‪.‬‬
‫} لَ َيحْزُنكَ الّذِينَ ُيسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُواْ آمَنّا بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَلَمْ ُت ْؤمِن قُلُو ُبهُمْ { فاليمان‬
‫ت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُواْ‬
‫محلّه القلب‪ ،‬والسلم محلّه الجوارح؛ ولذلك قال سبحانه‪ {:‬قَاَل ِ‬
‫وَلَـاكِن قُولُواْ أَسَْلمْنَا }[الحجرات‪]14 :‬‬
‫إنهم يسارعون إلى الصف الول في الصلة وهذا إسلم‪ ،‬أما اليمان فمحلّه القلب‪ .‬إذن فالذين‬
‫قالوا بأفواههم آمنا‪ ،‬لهم أن يعرفوا أن منطقة اليمان ليست الفواه ولكنها القلوب‪ .‬وهم قالوها‬
‫بأفواههم وما مرّت على قلوبهم‪ .‬وماداموا قد قالوا بأفواههم آمنا وما مرّت على قلوبهم فهؤلء هم‬
‫المنافقون‪ ،‬ومعنى ذلك أنهم في كل يوم ستظهر منهم أشياء تُدخِلهم في الكفر؛ لنهم من البداية قد‬
‫أبطنوا الكفر‪ ،‬وبعد ذلك يسارعون في مجال الكفر‪.‬‬
‫} مِنَ الّذِينَ قَالُواْ آمَنّا بَِأ ْفوَا ِه ِه ْم وَلَمْ ُت ْؤمِن قُلُو ُبهُ ْم َومِنَ الّذِينَ هَادُواْ { هم إذن صنفان اثنان يسارعان‬
‫سمّاعُونَ‬
‫في الكفر؛ المنافقون الذين قالوا بأفواههم آمنا‪ ،‬والذين هادوا‪ .‬ويصفهم الحق بقوله‪َ } :‬‬
‫لِ ْلكَ ِذبِ { وساعة تسمع مادة " السين والميم والعين " فهذا يعني أن الذن قد استقبلت صوتا من‬
‫ُمصَوّت‪ ،‬هذا المُصوّت إما أن يكون مُتكلما بالكلم الحقّ فيجذ من الذن اليمانية استماعا‬
‫بإنصات؛ ثم يتعدى الستماع إلى القبول؛ فيقول المؤمن‪ :‬أنا استمعت إلى فلن‪ ،‬ل يقصد أنه سمع‬
‫منه فقط ولكن يقصد أنه سمع وقبل منه ما قال‪.‬‬
‫إننا نعلم أن كثيرا من الورعين يسمعون كذبا‪ ،‬لكن الفيصل هو قبول الكذب أو رفضه‪ .‬وليس‬
‫المهم أن يكون النسان سامعا فقط‪ ،‬ولكن أن يصدق ما يسمع‪ .‬ونرى في الحياة اليومية إنسانا‬
‫يريد أن يصلح شيئا من أثاث منزله فيأتي بالدوات اللزمة لذلك‪ ،‬ويقال هنا عن هذا الرجل‪" :‬‬
‫نجر فهو ناجر " ول يقال له‪ " :‬نجّار "؛ لن النجار هو من تكون حرفته النّجارة‪.‬‬

‫إذن كلمة‪ :‬سامع للكذب ل تؤدي المعنى‪ ،‬ولكن " سمّاع " تؤدي المعنى‪ ،‬أي أن صناعته هي‬
‫سمّاعُونَ ِلقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ { أي أِلفُوا أن يقبلوا‬
‫سمّاعُونَ لِ ْل َك ِذبِ َ‬
‫التسمّع‪ ،‬وعندما يقول الحق‪َ } :‬‬
‫الكذب‪ .‬وكيف يكون مزاج من يقبل الكذب؟‪ .‬ل بد أن يكون مزاجا مريضا بالفطرة‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وما معنى الكذب هنا ومن هم السمّاعون؟ إما أن يكون المقصود بهم الحبار والرهبان الذين قالوا‬
‫لتباعهم كلما غير ذي سندٍ من واقع من أجل الحفاظ على مراكزهم‪ .‬وإما أن يكونوا سماعين‬
‫للكذب ل لصالحهم هم‪ ،‬ولكن لصالح قوم آخرين‪ .‬كأنهم يقومون بالتجسس‪ .‬والتجسس ‪ -‬كما نعلم‬
‫‪ -‬يكون بالعين أو بالذن‪ .‬وتقدمت هذه الوسائل في زماننا حتى صار التجسس بالصوت‬
‫والصورة‪ .‬وكأن الحق يريد أن يبلغنا أنهم سماعون للكذب‪ ،‬أي أنهم يسمعون لحساب قوم آخرين‪.‬‬
‫والقوم الخرون الذي يسمعون لهم هم القوم الذين أصابهم الكبر والغرور واستكبروا أن يحضروا‬
‫مجلس رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وهم في الوقت نفسه ل يطيقون النتظار ويريدون معرفة‬
‫ماذا يقول رسول ال‪ ،‬لذلك يرسلون الجواسيس إلى مجلس النبي صلى ال عليه وسلم لينقلوا لهم‪.‬‬
‫أولئك السماعون للكذب هم سماعون لحساب قوم آخرين لم يأتوا إلى مجلس رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم تكبّرا‪ .‬وهؤلء المتكبرون هم كبار اليهود‪ ،‬وهم ل يذهبون إلى مجلس رسول ال حتى‬
‫ل يضعف مركزهم أمام أتباعهم‪ .‬وعندما يُنقَل إليهم الكلم يحاولون تصويره على الغرض الذي‬
‫يريدون‪ ،‬ولذلك يقول عنهم الحق‪ُ } :‬يحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ مِن َب ْعدِ َموَاضِعِهِ {‪ .‬أي أنهم يُحرّفون الكلم‬
‫بعد أن استقر في مَواضعه ويستخرجونه منها فيهملونه ويزيلونه عن مواضعه بعد ان وضعه ال‬
‫ضعِهِ }‬
‫فيها وذلك بتغيير أحكام ال‪ ،‬وقال الحق فيها أيضا من قبل ذلك‪ُ {:‬يحَ ّرفُونَ ا ْلكَِلمَ عَن ّموَا ِ‬
‫[المائدة‪]13 :‬‬
‫سمّاعُونَ ِل َقوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ُيحَ ّرفُونَ‬
‫سمّاعُونَ لِ ْلكَ ِذبِ َ‬
‫أي أنهم حَ ّرفُوا الكلم قبل أن يستقر‪َ } .‬‬
‫خذُوهُ { وهم الذين يقولون لتباعهم من جواسيس‬
‫ا ْلكَلِمَ مِن َب ْعدِ َموَاضِعِهِ َيقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـاذَا فَ ُ‬
‫خذُوهُ وَإِن لّمْ ُتؤْ َت ْوهُ فَاحْذَرُواْ {‪ .‬فكأنهم أقبلوا‬
‫الستماع إلى مجلس رسول ال‪ } :‬إِنْ أُوتِيتُمْ هَـاذَا فَ ُ‬
‫على النبي بهذا‪ ،‬فإن أخذوا من رسول ال معنى يستطيعون تحريفه فعلوا‪ .‬وإن لم يجدوا ما‬
‫يحرفونه فعليهم الحذر‪.‬‬
‫ومن دراسة تاريخ القوانين الوضعية نعرف معنى السلطة الزمنية‪ .‬فالقوانين التي تواضع عليها‬
‫بشر ليحكموا بها نظام الحياة تأخرت في الظهور إلى الواقع عن نظام الكهنة‪ ،‬فقد كان الكهنة‬
‫يَدّعُون أن لهم صلة بالسماء ولذلك كان الحكم لهم‪ ،‬أي أن التقنين في الصل هو حكم السماء‬
‫والذي جعل الناس تتجه إلى وضع قوانين خاصة بهم أنهم جربوا الكهنة فوجدوهم يحكمون في‬
‫حكْما آخر‪.‬‬
‫حكْما‪ .‬وفي القضية المشابهة يحكمون ُ‬
‫قضية ما ُ‬

‫لقد كان كلم الكهنة مقبول عندما ادعوا لنفسهم النتساب إلى أحكام السماء‪ .‬لكن عندما تضاربت‬
‫أحكامهم خرج الناس على أحكام الكهنة ورفضوها لنفسهم قوانين أخرى‪.‬‬
‫والحكاية التاريخية توضح لنا ذلك‪ :‬فقد زَنَى أحد أتباع ملك في العصر القديم وحاولوا أن يقيموا‬
‫عليه الحد الموجود بالتوراة‪ .‬لكن الملك قال للكهنة ل أريد أن يُرجَم هذا الرجل وابحثوا عن حكم‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫آخر‪.‬‬
‫سوّد وجْهه بالحُمم وهو الفحم ‪-‬‬
‫حمّم وجه الزّاني ‪ -‬أي نُ َ‬
‫ورضخ الكهنة لمر الملك وقالوا‪ :‬نُ َ‬
‫ونجعله يركب حمارا ووجه إلى الخلف ونطوف به بين الناس بدلً من الرّجم‪ .‬وهكذا أعطت‬
‫السلطة الزمنية السياسية المر للسلطة الزمنية الدينية ليُغيّروا في القوانين‪ .‬فلما جاء رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم إلى المدينة حاولوا أن يستغلوا وجوده في استصدار أحكام فيها هوادة ولين‪.‬‬
‫وعرضوا عليه بعضا من القضايا من أجل ذلك‪ ،‬فإن جاء الحكم بالتخفيف قبلوه‪ ،‬وإن كان الحكم‬
‫مُشدّدا لم يقبلوه‪ .‬وتكررت مسألة الزّنا‪ .‬وحاولوا الحصول على حكم مخفف من سيدنا رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وجاء رسول ال بالحكم الذي نزل من السماء وهو الرّجم‪ .‬ولكنهم قالوا للرّجم ل‪ .‬يكفي أن نجلده‬
‫أربعين جلدة وأن نُسَود وجهه وأن نجعله يركب حمارا ووجهه للخلف ويُطاف به‪ .‬وهنا سأل‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫أليس عندكم رجل صالح له علم بالكتاب؟ وهنا صمتوا‪ .‬وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬هل‬
‫تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن " فدك " يقال له‪ " :‬ابن صوريا "‪ .‬فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬هو أعلم يهود‬
‫على وجه الرض‪ .‬فأمر الرسول بإحضاره ليرى الحُكم النازل في الزّنا بالتوراة‪ ،‬وجاء الرجل‬
‫وناشده رسول ال بالذي ل إله إل هو وبحق من أرسل موسى‪ ،‬وبحق من أنزَل التوراة على‬
‫موسى‪ ،‬وبحق من فلق البحر‪ ،‬وبحق من أغرق فرعون‪ ،‬وبحق من ظللهم بالغمام‪ .‬وأراد صلى‬
‫ال عليه وسلم أن يُزلزل فيه كل باطل وأن يشحنه بالطاعة حتى ينطق الحق‪ ،‬فقال ابن صوريا‪:‬‬
‫سبّ اليهود الرجل الصالح‪.‬‬
‫نعم نجد الرّجم للزّنا‪ .‬وهنا َ‬
‫لقد أرادوا أن يحصلوا على حُكم مُخفف من رسول ال ليُنقذوا الزاني صاحب المقام العالي‪،‬‬
‫وكذلك الزانية ذات الحسب والنسب؛ لذلك قال الحق على لسانهم‪ } :‬إِنْ أُوتِيتُمْ هَـاذَا {‪ .‬أي‬
‫التخفيف المراد فخذوه‪ ،‬وإن وجدتم العقاب القاسي فاحذروه ول تقبلوه‪.‬‬
‫إذن فهم لم يذهبوا إلى الرسول صلى ال عليه وسلم ابتغاء الحق ولكنهم يبتغون التخفيف‪ .‬فإن‬
‫حكَم‪ ،‬ومن العجيب أنهم أعداء لمحمد وكافرون به‪.‬‬
‫وافق الحكم هواهم قالوا‪ :‬إن محمدا هو الذي َ‬
‫وبرغم ذلك يُحكّمونه‪.‬‬
‫هذه الواقعة يرويها المام مسلم رضي ال عنه وهي‪ " :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أتى‬
‫يهودي ويهودية قد زنيا فانطلق رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى جاء يهود فقال‪ :‬ما تجدون‬
‫في التوراة على مَنْ زنى؟ قالوا‪ :‬نسوّد وجوههما ونحمّمهما ونحملهما ونخالف بين وجوههما‪،‬‬
‫ويُطاف بهما‪ ،‬قال‪( :‬فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) قال‪ :‬فجاءوا بها‪ ،‬فقرأوها‪ ،‬حتى إذا‬
‫مرّ بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها‪ ،‬فقال له‬
‫عبد ال بن سلم وهو مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬مُ ْرهُ فليرفع يده‪ ،‬فرفع يده فاذا تحتها‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫آية الرجم‪ ،‬فأمر بهما رسول ال صلى ال عليه وسلم فرُجما‪ ،‬قال عبد ال بن عمر‪ :‬كنت فيمن‬
‫رجمهما فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه "‪.‬‬

‫إنهم يريدون الحُكم السهل الهين اللين‪ .‬وقال البعض‪ :‬إن سبب نزول هذه الية هي قصة القَوَد‪.‬‬
‫والقود هو القصاص‪.‬‬
‫وقصة القود في إيجاز هي ‪ -‬كما رواها المام أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عباس رضي‬
‫ال عنه ‪ -‬أن طائفتين من اليهود هما بنو النضير وبنو قريظة كانتا قد تحاربتا في الجاهلية‪،‬‬
‫فقهرت بنو النّضير بني قريظة‪ ،‬فكانت النّضير وهي العزيزة إذا قتلت أحدا من بني قُريظة وهي‬
‫الذّليلة لم ُيقِيدوهم أي لم يعطوهم القاتل ليقتلوه بقتيلهم‪ .‬إنما يعطونهم الديّة‪ .‬وكانت قُريظة إذا قَتَلت‬
‫أحدا من بني النّضير لم يرضُوا منهم إل بالقود‪ .‬فلما قدم النبي صلى ال عليه وسلم المدينة‬
‫حكَم بالتّسوية بينهم‪ ،‬فسَاءَهم ذلك ولم يقبلوا‪ .‬وأي قصة منها هي‬
‫تحاكموا إليه في هذا المر ف َ‬
‫مؤكّدة للمعنى‪.‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪َ } :‬ومَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن َتمِْلكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئا { والفتنة هي التعذيب‬
‫بالنار‪ ،‬وسبحانه يقول‪َ {:‬يوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ ُيفْتَنُونَ }[الذاريات‪]13 :‬‬
‫والفتنة أيضا هي البتلء والختبار‪ ،‬ويقال‪ " :‬فتنت الذهب " أي وضعت الذهب في بوتقة وحوّلته‬
‫بالحرارة العالية من جسم صُلب إلى سائل حتى تستخلصه من المواد العالقة الشائبة التي فيه‬
‫ليصير نقيا‪ .‬والفتنة في ذاتها ليست مذمومة‪ .‬ولكن المذموم منها هو النتيجة التي تصل إليها؛‬
‫اينجح النسان فيها أم يرسُب؛ لن الختبارات التي يمر بها النسان كلها هي فتنة‪ ،‬والذي ينجح‬
‫تكون الفتنة بالنسبة إليه طيبة‪ .‬والذي يرسُب ويفشل فالفتنة بالنسبة إليه سيئة‪ .‬وعندما يريد ال فتنة‬
‫بشر أي يرد اختبارهم‪ :‬أيأتون طوعا واختيارا أم ل؟‬
‫ومادام الحق سبحانه وتعالى أعطى للنسان قدرة الختيار حتى يُثبت صفة المحبوبية فسبحانه‬
‫أراد ذلك‪ ،‬ول أحد بقادر أن يجعل النسان مقهورا‪ .‬وقد أراده ال مُختارا وأن يبتلى وأن يختبر‪.‬‬
‫أينجح أم يرسُب‪ ،‬أيكون مُؤمنا أم كافرا‪:‬‬
‫} َومَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَ َتهُ فَلَن َتمِْلكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئا {‪ .‬وجعل سبحانه ذلك قانونا لخلقه بمنتهى‬
‫سخّر‪ ،‬وجانب آخر مُخيّر‪.‬‬
‫الوضوح‪ ،‬وهناك جانب في النسان مُ َ‬

‫} َومَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَ َتهُ فَلَن َتمِْلكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئا {‪ .‬أي أن أحدا ل يجرؤ أن يغير نواميس الكون‬
‫ولن يغير ال نواميس الكون من أجل أي أحد؛ لن النواميس ل بد أن تسير كما أرادها ال حتى‬
‫على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد عرفنا ما حدث في ُأحُد؛ عندما تخاذل الرّماة ولم يستمعوا إلى نصيحة القائد العلى سيدنا‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم؛ أَغَيّر ال سُنّته من أجل وجود حبيبه معهم؟ ل‪ ،‬وانهزموا على رغم‬
‫وجود رسول ال معهم؛ لن ال أراد للسّنة الكونية أن تسير كما هي من أجل إصلح المر‪ .‬فلو‬
‫فُرِض أنهم انتصروا من أجل خاطر النبي‪ ،‬ماذا يكون الموقف في أوامره صلى ال عليه وسلم‬
‫فيما بعد؟ كان من الممكن أن يقول شخص منهم‪ " :‬خالفناه وانتصرنا "‪ .‬إذن ل بد لسُنّة ال أن‬
‫طهّرَ قُلُو َبهُمْ َلهُمْ‬
‫تُ َنفّذ‪َ {.‬ومَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن َتمِْلكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئا ُأوْلَـائِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن ُي َ‬
‫عظِيمٌ }[المائدة‪]41 :‬‬
‫فِي الدّنْيَا خِ ْزيٌ وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ عَذَابٌ َ‬
‫لماذا لم يرد ال أن يُطهّر قلوبهم؟ لنهم منافقون‪ .‬وفي قلب المنافق مرض‪ .‬وعندما تأتي أحداث‬
‫ينتفع بها المسلمون فالمنافق يزداد حِقدا ومَرضا لنّ قلبه مُمتلئ بالغل‪ ،‬ول يريد ال تطهير قلب‬
‫إنسان إل أن يقبل على ال ولذلك قال تعالى‪ {:‬وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة‪]264 :‬‬
‫وقال سبحانه‪ {:‬وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }[آل عمران‪]86 :‬‬
‫فهل عدم هداية ال لهم نشأت أولً‪ ،‬ثم نشأ الكُفر‪ ،‬أو نشأ الكُفر منهم فجاء عدم الهداية؟ نعلم أن‬
‫عدم الهداية مرتبة على أنه ظالم أو كافر‪ ،‬وقلنا من قبل‪ :‬إن هناك إرادة كونية وإرادة شرعية‪.‬‬
‫والرادة الكونية هي ما يحدث في كون ال‪ .‬ول شيء قد حدث في كون ال غصبا عن ال‪.‬‬
‫والختيار خلقه ال في النسان ليصير النسان مُخيرا بين الكُفر واليمان‪ .‬ومادام الحق قد خلق‬
‫النسان مُختارا لهذا أو لذلك إذن فهو سبحانه مُريد َكوْنِيّا ما يصدر عن النسان اختيارا كفرا أو‬
‫هدايةً‪ .‬لكن َأمُريد هو سبحانه ذلك شرعا؟ ل‪.‬‬
‫إن الشرع أمر سماوي إما أن يُنفّذه العبد وإما أن يعصيه‪ .‬ونعرف أن هناك أشياء مُرادة كونيا‬
‫وأشياء مُرادة شرعيا‪ .‬والمُراد الكوني هو الذي يكون‪ :‬أما النسان فقد خلقه ال وله الختيار‪،‬‬
‫فالذي يسرق ل يسرق غصبا عن ال ولكن ما أعطاه له ال من اختيار ومن طاقة‪ ،‬إما أن يوجهها‬
‫إلى الخير وإما إلى الشر‪.‬‬
‫ونحن حين ننظر إلى الساعة التي نضعها حول المعصم وقد صنعها الصانع صالحة لن يديرها‬
‫النسان على توقيت أي بلد‪ ،‬فهل هذا يتم غصبا عن الصانع؟ ل‪ .‬وكذلك جهاز " التليفزيون "؛ إن‬
‫أذعنا فيه برامج دينية فهو صالح للهدف‪ ،‬وإن أذعنا فيه حفلة راقصة فهو صالح لذلك أيضا‪.‬‬

‫والذي صنع التليفزيون جعله صالحا لهذا ولذاك‪ ،‬المهم هو توجيه الطاقة وكذلك النسان‪ .‬والرادة‬
‫الكونية هي كل ما يكون في ملك ال‪ ،‬والرادة الشرعية هي كل ما يكون في شرع ال " افعل ول‬
‫تفعل "‪ .‬ومادام هناك أم ٌر كوني شرعي فالكون قد أوجده ال لخدمة المؤمن والكافر والعاصي‪،‬‬
‫لكن المر الشرعي جعله ال للمؤمن‪.‬‬
‫إذن فإيمان المؤمن أراده ال كونا؛ لنه سبحانه قد وضع اليمان منهجا‪ ،‬وأراد ال إيمان المؤمن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شرعا‪ .‬وكفر الكافر لم يتم غصبا عن ال‪ .‬ولكن النسان بخ ْلقِه مختارا‪ .‬صار كُفره أمرا كونيا‪،‬‬
‫ولكنه غير مُراد شرعا‪ ,‬فكفر الكافر مُراد كونا غير مُراد شرعا‪ .‬وإيمان الكافر غير مُراد كونا‬
‫وكفر المؤمن غير مُراد كونا‪ .‬وبهذا نكون أمام أربعة أقسام في المُراد كونا وشرعا‪ .‬وهذه هي‬
‫القسمة العقلية‪.‬‬
‫إذن من يُرِد ال فتنته كونا فل راد لرادة ال؛ فإذا لم يطع الشرع‪ ،‬فذلك لنه مخلوق صالح‬
‫للطاعة وصالح للمعصية‪.‬‬
‫وأضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬الوالد يعطي لبنه جنيها ويقول له‪ :‬أنت حُر في هذا‬
‫المبلغ فإن اشتريت مصحفا أو كتاب دين أو شيئا تأكله أنت وإخوتك فسأكافئك وأستأمنك على‬
‫أشياء كثيرة‪ .‬أما إن اشتريت ورق اللعب المُسمّى " كوتشينة " فسأغضب منك‪.‬‬
‫وحين يذهب الولد ليشتري ورق اللعب المُسمّى " كوتشينة " ‪ ،‬هل اشترى ذلك غصبا عن أبيه؟‬
‫ل‪ .‬لكن الولد يصبح غير محبوب من أبيه‪ .‬هذا هو الفارق بين المُراد كونا والمُراد شرعا‪ .‬وبين‬
‫المُراد كونا ل شرعا‪ .‬والمُراد شرعا ل كونا‪.‬‬
‫طهّرَ قُلُو َبهُمْ { كان ذلك كونا؛ لنه سبحانه خلقهم قابلين للتطهير‬
‫} ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ لَمْ يُ ِردِ اللّهُ أَن يُ َ‬
‫وقابلين لغيره‪ ،‬فإن فعلوا أي شيء فهم لن يفعلوه غَصبا عن ال؛ لذلك يذيل الحق الية‪َ } :‬لهُمْ فِي‬
‫عظِيمٌ { فكأن معنى ذلك أن في قلوبهم أشياء ضد الطهارة‪،‬‬
‫ي وََلهُمْ فِي الخِ َرةِ عَذَابٌ َ‬
‫الدّنْيَا خِ ْز ٌ‬
‫ولهم في الدنيا خزي‪ .‬والخزي يطلق على الفضيحة ويطلق على الستحياء‪ ،‬والمعنيان يلتقيان‪.‬‬
‫وهنا في مجال هذه الية‪ :‬أي خزي وأي فتنة؟ إنهما فئتنا؛ المنافقون واليهود‪ .‬وكان المنافقون كلما‬
‫فعلوا شيئا ينفضح‪ .‬وعندما يبيّتون أي شيء فإن ال يخبر رسوله بما يبيّتون‪ {.‬وََلوْ نَشَآ ُء لَرَيْنَاكَهُمْ‬
‫فََلعَ َرفْ َتهُم بِسِيمَا ُه ْم وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ فِي لَحْنِ ا ْل َق ْولِ }[محمد‪]30 :‬‬
‫وكذلك الذين هادوا‪ :‬يأتيهم الخزي أي الفتضاح‪ ،‬أي أن يصيروا إلى المُسترذل بعد أن كانوا في‬
‫المُستحسن‪ .‬والرسول صلى ال عليه وسلم دخل المدينة واليهود سادة هذه البقعة؛ سادتها علما‬
‫لنهم أهل كتاب‪ ،‬أما الوس والخزرج فأُميون ل يعرفون شيئا‪ .‬وكان اقتصاد المدينة في أيدي‬
‫اليهود‪ ،‬من مال وصنعة وزراعة‪ .‬وعنجهية الجاه‪ .‬وعندما يأتي الرسول صلى ال عليه وسلم إلى‬
‫المدينة يجدهم السادة‪ ،‬ثم ينفضح أمرهم وكذبهم‪ ،‬ويتم إجلؤهم‪،‬وتُسبى نساؤهم ويُقتل بعضهم‪.‬‬
‫وعندما يدبرون كيدا لرسول ال‪ ،‬يفضحهم ال‪ ،‬وكل ذلك خزي‪ ،‬وليس الخزي هو الجزاء الوحيد‬
‫لهم‪ ،‬بل يلقون في الخرة عذابا أليما‪.‬‬
‫سمّاعُونَ لِ ْل َك ِذبِ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪َ } :‬‬

‫(‪)703 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ َأوْ أَعْ ِرضْ عَ ْن ُه ْم وَإِنْ ُتعْ ِرضْ عَ ْن ُهمْ فَلَنْ‬
‫حتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَا ْ‬
‫سمّاعُونَ لِ ْلكَ ِذبِ َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬
‫َ‬
‫حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ (‪)42‬‬
‫حكُمْ بَيْ َن ُهمْ بِا ْلقِسْطِ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫ح َك ْمتَ فَا ْ‬
‫َيضُرّوكَ شَيْئًا وَإِنْ َ‬

‫وفي اللغة ألفاظ مفردة‪ ،‬مثال‪ " :‬سجنجل " وتفتح القاموس فتجد معناها " البلور " ‪ ،‬وكذلك الصفا‬
‫والمروة؛ وعندما تبحث في القاموس عن كلمة " مروة " تعرف أن معنى اللفظ بعيد عن النسبة‪،‬‬
‫فأول عمل للغة أن تعرف معنى اللفاظ بعيدا عن نسبتها‪ .‬ومهمة القاموس أن يشرح لك معنى‬
‫اللفظ بعيدا عن النسبة دون إثبات أو نفي‪ ،‬مثال ذلك " الجو " معناها هو ما يحيط بك من هواء أو‬
‫غير ذلك‪ ،‬لكن القاموس ل يشرح هل الجو مُكفهر أو صافٍ أو باردٌ‪.‬‬
‫وإن تقدمنا مرحلة أخرى وأخذنا اللفظ لنصنع له نسبته‪ ،‬كأن نقول‪ " :‬الجو صحو " ‪ ،‬هنا ننتقل من‬
‫جوّ " ‪ ،‬إلى أننا نسبنا الصحو إليه‪ .‬والكلم المفيد يأتي في النِسب‪ .‬ول تأتي‬
‫فهم معنى كلمة " َ‬
‫النِسب إل بعد معرفة معاني اللفاظ‪ .‬والنِسب تعني أن ننسب شيئا إلى شيء‪ ،‬كأن نقول‪ " :‬محمد‬
‫مجتهد " هنا نسبنا لمحمد الجتهاد‪ ،‬وذلك بعد أن عرفنا معنى كلمة " محمد " بمفردها‪ ،‬ومعنى "‬
‫مجتهد " بمفردها‪.‬‬
‫إذن الكلم المفيد يتأتى في النسب‪ .‬وقد تكون الفادة بضميمة كلمة إلى ما سبقها‪ ،‬فعندما يسألك‬
‫إنسان‪ " :‬من عندك "؟ فتقول‪ " :‬محمد "؛ هذا القول أفاد؛ لنه انضم إلى كلمة أخرى فصار‬
‫المعنى‪ " :‬محمد عندي "‪.‬‬
‫إذن هناك نسب‪ ،‬والنسب هي أن تنسب حكما إلى شيء إما إيجابا ‪ ,‬وإما نفيا‪.‬‬
‫والنسبة تنقسم إلى قسمين؛ نسبة واقعة‪ ،‬ونسبة غير واقعة‪ .‬وإن كانت النسبة واقعة فهل تعتقدها؟‬
‫وهل تستطيع أن تقيم عليها دليلً؟ إن كانت النسبة الواقعة ومقام عليها الدليل تكون علما‪ .‬وإن‬
‫كانت نسبة وواقعة وأنت تعتقدها ول تستطيع أن تدلل عليها‪ ،‬فهذا تقليد‪ ،‬مثل الطفل الذي يقلد أباه‬
‫فيقول‪ " :‬ال أَحد " ‪ ،‬والطفل في هذه الحالة ل يستطيع أن يقيم على هذه النسبة دليلً‪.‬‬
‫إن العلم أعلى مراتب النسب لنه نسبة معتقدة وواقعة وعليها دليل‪ .‬أما إذا كانت نسبة معتقدة‬
‫وغير واقعة‪ ،‬فهذا هو الجهل؛ لن الجاهل هو الذي يعرف الشيء على غير وجهه الصحيح‪ .‬أما‬
‫المي فهو الذي ل يعرف شيئا ونجد صعوبة في الشرح للجاهل‪ ،‬مثال ذلك الذي يقول الرض‬
‫مبسوطة ويدافع عنها‪ ،‬إنه يقول نسبة يعتقدها‪ ،‬ولكنها غير الواقع لنها كروية‪.‬‬
‫والجهل ‪ -‬إذن ‪ -‬أن تعرف نسبة تعتقدها وهي غير واقعة‪ .‬ول يرهق الدنيا غير الجاهل‪ ،‬ل‬
‫المي؛ لن المي له عقل فارغ يكفي أن تقول له الحقيقة فيصدقها‪ ،‬أما الجاهل فيحتاج إلى أن‬
‫نخلع من أفكاره الفكر الخاطئ ونضع له الفكر الصحيح‪.‬‬

‫أما إن كانت النسبة غير واقعة‪ .‬فالنفي فيها يساوي الثبات‪ ،‬وهذا هو الشك‪ .‬وإن كانت هناك نسبة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫راجحة فهو الظن‪ .‬والنسبة المرجوحة هي الوهم‪ .‬إذن هناك عدد من النسب‪ :‬نسبة علم‪ ،‬نسبة‬
‫تقليد‪ ،‬نسبة جهل‪ ،‬نسبة شك‪ ،‬نسبة ظن‪ ،‬نسبة وهم‪ .‬وعلى ذلك يكون الكذب نسبة غير واقعة‪ ،‬فإن‬
‫كنت تعتقدها فأنت من الجاهلين‪.‬‬
‫سمّاعُونَ لِ ْلكَ ِذبِ {‪ .‬فالنسبة هنا غير مطابقة للواقع‪.‬‬
‫ويقابل الكذب الصدق‪ ،‬وعندما يقول الحق‪َ } :‬‬
‫ويقتنص الملبّسون بعض النسب التي تأتي في بعض من أسلوب القرآن ويقولون‪ :‬في القرآن كلم‬
‫شهَدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ‬
‫لو مَحّصناه لوجدناه غير دقيق‪ .‬مثال ذلك‪ِ {:‬إذَا جَآ َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُواْ نَ ْ‬
‫َيعْلَمُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُهُ }[المنافقون‪]1 :‬‬
‫شهَدُ إِنّ‬
‫كلم المنافقين هنا قد طابق كلم ال‪ ،‬ولكن لماذا يقول الحق من بعد ذلك‪ {:‬وَاللّهُ َي ْ‬
‫ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ }[المنافقون‪]1 :‬‬
‫شهَدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّهِ‬
‫النسبة واحدة‪ ،‬لكن ال يكذب المنافقين‪ .‬وإن فطنا إلى قول ال حكاية عنهم‪ {:‬نَ ْ‬
‫}[المنافقون‪]1 :‬‬
‫أي أن ال يُكذّب شهادتهم‪ ،‬لن محمدا رسول ال بالفعل‪ ،‬ولكنهم كاذبون لنهم ل يعتقدون ذلك‪،‬‬
‫فالشهادة هي ما يوافق اللسان ما في القلب‪.‬‬
‫حتِ { أي أن عملهم الستماع للكذب‪ ،‬وأكل السّحت‬
‫سمّاعُونَ ِل ْلكَ ِذبِ َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬
‫إذن قوله الحق‪َ } :‬‬
‫وكأنهم يرهقون إن أكلوا حللً‪ ،‬وأكّال صيغة للمبالغة؛ وتكون إما في الحدث‪ ،‬وإما في تكرار‬
‫أنواع الحدث‪ .‬فيقال‪ " :‬فلن أكال " ‪ ،‬و " فلن أكول " وهو النسان الذي يأكل بشراهة أو يأكل‬
‫كثيرا‪ ،‬والمبالغة ‪ -‬إذن ‪ -‬إما أن تكون في الحدث وإما في تكرير الحدث‪.‬‬
‫حتِ { ومادة " سَحت " تعني " استأصل ومحا " ‪ ،‬ولكنها تزيد أنها استأصلته‬
‫} َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬
‫استئصالً لم يبق له أثرا وتعدى الستئصال إلى ظرفه‪ .‬مثال ذلك عند ظهور بقعة من زيت أو‬
‫طعام على ثوب‪ ،‬نستطيع استئصال البقعة‪ ،‬ونستطيع المبالغة في استصالها إلى أن تنحت من‬
‫الثوب‪ .‬والسّحت استئصال مبالغ فيه لدرجة الجوْر على الصل قليلً‪ .‬أي يستأصل الذي جاء‬
‫ومعه بعض من الصل أيضا؛ لذلك جاء المفسرون إلى هذا المعنى في شرح الرّبا لن ال يصفه‬
‫حقُ اللّهُ الْرّبَا }[البقرة‪]276 :‬‬
‫بالقول‪َ {:‬يمْ َ‬
‫والربا في مفهومنا أنه زيادة‪ ،‬ولكن الحق أوضح لنا أنه ليس بزيادة؛ لنه يَدْخل ويستأصل ويأكل‬
‫ويكحت أصل المال‪ .‬وظاهر الرّبا وباطنه محق واستئصال‪.‬‬
‫أما الزكاة فظاهرها نقص‪ ،‬ولكنها نماء‪ ،‬وبذلك نرى اختلف مقاييس الخلق عن مقاييس الحق‪.‬‬
‫والمثل الواضح‪ :‬أن النفس تلتفت دائما إلى رزق اليجاب‪ ،‬ول تلتفت إلى رزق السلب‪ .‬فرجل‬
‫راتبه خمسمائة جنيه‪ ،‬وآخر راتبه مائة جنيه‪ ،‬صاحب الراتب البالغ الخمسمائة فتح ال عليه أبوابا‬
‫سدّ الحق عنه أبوابا ل تأخذ منه كل راتبه بل‬
‫تحتاج إلى ألفٍ من الجنيهات‪ ،‬والذي يأخذ مائة جنيه َ‬
‫يتبقى له عشرة جنيهات‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هناك ‪ -‬إذن ‪ -‬رزق إيجاب يزيد الدخل‪ ،‬ورزق سلب أن يسلب الحق عنك المصارف في‬
‫المصائب والمهالك ويبارك لك فيما أعطاك‪.‬‬
‫والسّحْت هو كل شيء تأخذه من غير طريق الحلل؛ كالرشوة أو الربا أو السرقة أو الختلس أو‬
‫الخطف‪ .‬وكل أنواع المقامرة والمراهنة‪ ،‬كل ذلك اسمه سُحْت‪.‬‬
‫حتِ { وهذا القول دليل على أن أُذَ َنهُم اعتادت سماع الكذب ويقبلون‬
‫سمّاعُونَ لِ ْل َك ِذبِ َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬
‫} َ‬
‫عليه‪ .‬وعندما نقول نحن في الصلة‪ " :‬سمع ال لمن حمده " ‪ ،‬أي أننا ندعو ال أن يقبل الحمد‪.‬‬
‫وهم سماعون للكذب أي يقبلون الكذب‪ .‬والسماع جارحة‪ ،‬والكل بناء ما به الجارحة لنه مقوم‬
‫لها‪ .‬مثلما يأكل لينمو‪ ،‬وإن كان ناضجا يحفظ له الطاقة والقدرة‪.‬‬
‫فالنّمو ‪ -‬إذن ‪ -‬معناه أن يدخل جوفه أكثر مما يخرج منه‪ .‬وبعد فترة يدخل إلى جسمه على قدر‬
‫ما يخرج منه‪ ،‬ثم الشيخوخة نجد فيها أن ما يخرج أكثر مما يدخل‪ .‬وماداموا سماعين للكذب‬
‫أكّالين للسّحت‪ ،‬فهم في بوارٍ دائم‪ ،‬لن أكل السّحْت حيثية من حيثيات الستماع المصدّق للكذب؛‬
‫لنهم قد بنوا ذرات أجسادهم من حرام‪ ،‬فكيف ترفض آذانهم الكذب؟ بل آذانهم تستدعي الكذب‪،‬‬
‫وألسنتهم تحترفه‪ .‬وعيونهم تستدعي المحارم‪ ،‬وأيديهم تستدعي السرقة‪ ،‬إنها البعاض التي بناها‬
‫أصحابها من حرام‪.‬‬
‫ولم يقل عنهم‪ " :‬سامعون " ‪ ،‬بل قال‪ " :‬سماعون " أي جعلوا صناعتهم أن يتسمعوا‪ ،‬وهم‬
‫الجواسيس‪ ،‬وإل فإذا كان المر غير ذلك لكان كل من سمع كذبا ُيعَد من هؤلء‪ .‬والقول مقصود‬
‫به من جعل السماع صنعة له‪ ،‬ول يجعل إنسان السماع صنعة له إل إذا كان عينا لغيره‪ ،‬والعين‬
‫للغير يتلصص على أمانة المجالس‪ ،‬ولكل مجلس أمانة‪ .‬فإذا ما حضر إنسان مجلسا فليس له أن‬
‫ينقل ما في ذلك المجلس إلى غيره إل أن يكون ذلك هو صناعته‪ ،‬وتلك هي مهمته‪.‬‬
‫حتِ { وهنا قضيتان‪ .‬فعل السماع للكذب سببه أكل السّحت‪ ،‬أم أكل‬
‫سمّاعُونَ لِ ْل َك ِذبِ َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬
‫} َ‬
‫السّحت سببه السماع للكذب؟‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى حينما خلق النسان من طينة الرض وصوره على شكل آدم نفخ فيه من‬
‫روحه‪ ،‬وحين صوره من طينة الرض جعل كل مقومات حركة حياته من طبيعة طينة الرض‪،‬‬
‫حلّ‪ ،‬اعتدلت الذرات في نفسه على الهيئة التي خلقها ال‪ .‬وإن تدخل‬
‫فإذا ما أخذ النسان شيئا من ِ‬
‫فيها بحرام جعل في الذرات اختلل تكوينيا‪ .‬وهذا الختلل التكويني هو الذي جعل آكل الحرام‬
‫سماعا للكذب‪ .‬ولو لم يكن فيه ذلك الختلل التكويني الذي صنعه بنفسه لما سمع الكذب أبدا‪.‬‬
‫أو أنه عندما أكل السّحْت صار سماعا للكذب‪ .‬أو سمع كذبا فصار أكّالً للسّحْت‪ .‬ولنلحظ أن‬
‫سمّاعُونَ لِ ْلكَ ِذبِ َأكّالُونَ‬
‫الحق لم يقل‪ " :‬آكل للسّحْت " ‪ ،‬ولم يقل‪ " :‬سامع للكذب "؛ ولكنه قال‪َ } :‬‬
‫حتِ { أي أنهم تعودوا سماع الكذب وتعودوا أكل السّحت‪ ،‬فالواحد منهم أخذ حراما من أول‬
‫لِلسّ ْ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المر‪ ،‬وعندما صار أكال وسمّاعًا للكذب في آن واحد‪ ،‬اختلت ذرّات تكوينه‪ ،‬ولم يعد في أعماقه‬
‫نور ليرفض الكذب‪.‬‬

‫بل أقبل عليه‪ ،‬ويغريه الكذب ثانية بأن يأكل السّحْت‪ ،‬والمر دائر بين سماع كذب وأكل سحت‪.‬‬
‫وقضية الكذب هي قضية صراع الباطل مع الحق‪ .‬ومادام الكذب غير مطابق لوازع كوني أو‬
‫ل في الكون‪ .‬وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا‬
‫لواقع منهجي تكليفي فهذا يصنع خل ً‬
‫سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِ َيةٌ‬
‫المثل في ذلك جاء بالمثل في أمرٍ حسي حتى نراه جميعا‪ {:‬أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫ِبقَدَرِهَا }[الرعد‪]17 :‬‬
‫أي أن كل وادٍ تحمّل على قدر طاقته‪ .‬ومن بعد ذلك يقول الحق‪ {:‬فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا }‬
‫[الرعد‪]17 :‬‬
‫فقبل أن ينزل السيل من على الجبال إلى الوديان‪ ،‬يأخذ كل الشياء التي تصادفه على الجبل من‬
‫آثار الرياح‪ ،‬ومن أوراق النبات‪ ،‬فينزله إلى الوادي‪ ،‬وتلك هي الشياء التي تصنع الزّبَد ونقول‬
‫سمَآءِ مَآءً َفسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا‬
‫عنه في لغتنا العامية‪ " :‬الرّغاوي "‪ {.‬أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫رّابِيا }[الرعد‪]17 :‬‬
‫و " رابيا " أي غائما وعاليا وطافيا فوق المياه‪ ،‬لماذا؟ لنه مادام زبدا ففيه فقاقيع هواء تجعل‬
‫حجمه أكبر من وزنه‪ .‬وتصبح كثافته أقل من المياه؛ لذلك يطفو فوقها‪ .‬وماذا يكون الموقف بعد‬
‫ذلك؟{ فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثُْلهُ }‬
‫[الرعد‪]17 :‬‬
‫ومن العجيب أنه سبحانه جعل المثلين في الماء والمضاد له وهو النار‪ ،‬فالماء يأتي بزبد وغثاء‬
‫يطفو على المياه‪ ،‬وكذلك النار حين ندخل فيها المعادن‪ .‬ومن رأى الحداد ينفخ في كيره على‬
‫قطعة من الحديد يرى الخبث‪ ،‬والمواد الغريبة الممتزجة بالحديد والتي تنفصل أثناء الصهر عن‬
‫الحديد ليصير صافيا‪ .‬إذن فهناك زبد في الحديد تخرجه النار عند صهره‪ ،‬وزبد يطفو فوق الماء‪{.‬‬
‫طلَ }‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫حّ‬‫َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ‬
‫[الرعد‪]17 :‬‬
‫ولهذا نرى الباطل وقد أتى عليه زمن ليطفو فوق السطح‪ ،‬ويخرج الخَبَث طافيا على أصيل‬
‫جفَآءً‬
‫الحديد‪ .‬لكن أيظل الباطل كذلك؟ يُطمئِنُنا الحق أنه يحمي الحق فيقول‪ {:‬فََأمّا الزّبَدُ فَ َيذْ َهبُ ُ‬
‫وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ }[الرعد‪]17 :‬‬
‫وحين نرى الباطل وقد طفا على السطح نفاجأ بعد وقت من الزمن أن الزبد ينتهي صافيا‪ .‬فإذا‬
‫رأينا الباطل مرة يعلو‪ ،‬فلنعلم أنه ل بقاء لهذا العُلو؛ لن ما ينفع الناس يمكث في الرض‪.‬‬
‫ولماذا ل يُعلن الحق عن نفسه من البداية؟ أراد ال ذلك ليجعل الباطل من جنود الحق‪ ،‬ولو لم‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َيعَض الباطل الناس ويُتعبهم أيتجهون إلى الحق؟ ل؛ لذلك كان ل بد أن يأتي إليهم الباطل الناس‬
‫ويُتعبهم ليبحثوا عن الحق‪.‬‬

‫وهكذا نرى الباطل كجندي من جنود الحق‪ .‬وضربنا المثل من قبل وعرفنا أن اللم عند المريض‬
‫من جنود العافية‪ ،‬فلول ذلك اللم لستشرى الداء دون أن يشعر المريض‪ ،‬فكأن اللم يلفته إلى‬
‫موضع الداء ويدفعه للبحث عن وسائل الشفاء‪ .‬وبذلك يتعرف على حلوة العافية‪.‬‬
‫إذن فالباطل من جنود الحق واللم من جنود الشفاء؛ لن أمور الحياة لو سارت على وتيرة واحدة‬
‫لما عرف النسان أوجه الحياة‪ ،‬فلو لم يأتِ اللم إلى المريض لكله المرض‪ .‬فإذا كان اللم من‬
‫جنود الشفاء‪ ،‬فالكفر أيضا من جنود اليمان؛ لننا عندما نرى الكُفر ونشهد آثار الكُفر فسادا في‬
‫المجتمع‪ ،‬نتساءل‪ :‬ما الذي يخلّصنا من ذلك؟ ونعرف أن الذي يخلصنا من الفساد هو اليمان‪.‬‬
‫وأُكرّر دائما‪ :‬كلمة الكُفر بذاتها هي الدليل الول على اليمان؛ لن الكُفر هو السّتْر‪ ،‬ومادام الكفر‬
‫هو السّتر‪ ،‬والكافر يستر اليمان‪ ،‬وظهور الكفر على السطح دليل وجود اليمان في الصل‪.‬‬
‫حتِ { فل بد بعد هذا التشخيص أن يرسم‬
‫سمّاعُونَ ِل ْلكَ ِذبِ َأكّالُونَ لِلسّ ْ‬
‫ومادام الحق قد قال‪َ } :‬‬
‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ َأوْ أَعْ ِرضْ عَ ْن ُه ْم وَإِن ُتعْ ِرضْ عَ ْن ُهمْ فَلَن‬
‫لرسوله أسلوب التعامل معهم‪ } :‬فَإِن جَآءُوكَ فَا ْ‬
‫َيضُرّوكَ شَيْئا {‪ .‬فأنت يا رسول ال بالخيار بين أن تحكم بينهم في القضية التي جاءوا من أجلها‬
‫أو تعرض عنهم‪ ،‬فليس عليك تجاههم إلزام ما؛ لنهم السماعون للكذب الكّالون للسّحْت‪ .‬وهم‬
‫حينما يأتونك يا رسول ال طلبا لحكم إنما يفعلون ذلك ل رغبة في معرفة الحق ول هم يلتمسون‬
‫العدل‪ .‬بل جاءوك مظنة تيسير امر الباطل وأكل السّحت لنفوسهم‪ .‬وقد طلبوا الحكم في قضية‬
‫الزّنا وعندهم في التوراة كان الرّجم عقابا للزنا‪.‬‬
‫لقد ذهبوا لرسول ال لنهم أرادوا أن يستروا حكم الزّنا في التوراة‪ ،‬والكتفاء بالجلد وتسويد وجه‬
‫الزاني وركوبه حمارا في الوضع العكسي بحيث يكون وجهه في اتجاه الذيل وقفاه في اتجاه رأس‬
‫الحمار‪ ،‬وأن يطوفوا بالزاني وهو على هذه الهيئة حول البلدة‪ .‬ولما لم يسمعوا ذلك الحكم من‬
‫الرسول ابتعدوا عنه‪ .‬إذن هم يطلبون التخفيف لنهم كانوا سماعين للكذب واكّالين للسّحت‪ .‬ولن‬
‫الذي سيطبق عليه الحد رجل له جاه وله مكانة وهم يريدون التقرب إليه بتخفيف العقاب عنه‪.‬‬
‫وهل هناك تعارض بين قول الحق في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وبين قول الحق‪{:‬‬
‫حكُم بَيْ َنهُم ِبمَآ أَن َزلَ اللّهُ }[المائدة‪]48 :‬‬
‫فَا ْ‬
‫حكُم بَيْ َنهُم ِبمَآ أَن َزلَ اللّهُ { إلزاما‪ .‬ونقول‪:‬‬
‫ل تعارض‪ .‬والبعض يقول‪ :‬إن في قوله الحق‪ } :‬فَا ْ‬
‫المعنى الواضح هو أنك يا رسول ال‪ ،‬إن رجحت جانب أن تحكم وتقضي بينهم فاحكم بما أنزل‬
‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ َأوْ أَعْ ِرضْ عَ ْن ُهمْ‬
‫ال‪ ،‬ولننظر إلى الداء القرآني لن المتكلم إله وحكيم‪ } :‬فَإِن جَآءُوكَ فَا ْ‬
‫{‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونلحظ أن المر هنا جاء بطريقة تؤكد أن العراض ممكن؛ لنهم أرادوا أن يحكم لهم رسول ال‬
‫على هواهم‪ ،‬وطمأنه ال بأنه سيحميه من شرهم إن أعرض عنهم‪ ،‬وكأن الحق يقول لرسوله‪:‬‬
‫إياك أن تفكر حين تعرض عنهم أنهم سينالونك بالشر لنك لم تحقق لهم التيسير الذي ابتغوه عندك‬
‫} وَإِن ُتعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ فَلَن َيضُرّوكَ شَيْئا { وإياك أن تجعل الضرر منهم مُرجّحا للحكم؛ فأنت‬
‫بالخيار؛ إما أن تحكم وإما أن تعرض‪ .‬ول تخش من شرهم لن الذي أرسلك يحميك‪.‬‬
‫سطِينَ { والحكم في هذه الية يأتي كالقوس في‬
‫حبّ ا ْلمُقْ ِ‬
‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِسْطِ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫ح َك ْمتَ فَا ْ‬
‫} وَإِنْ َ‬
‫البداية وفي النهاية‪ ،‬والحكم بينهم يكون بالقسط؛ أي بالعدل‪ .‬والعدل ليس كما يراه الهوى ولكن‬
‫حسب ما أنزل ال‪ .‬أي أن ال يحب الذين يزيلون الجوْر‪ .‬ومادام الحكم بالعدل يأتي ليزيل الجور‪،‬‬
‫فكأنه كان من قبل جوْرٌ مُقنن؛ إذن فـ " أقْسَط " أي أزال جورا مقننا وأعاد توازن الميزان ليعود‬
‫النسجام بين النسان والكون‪ .‬والكون كله يسير بميزان؛ الرض تدور والشمس تؤدي مهمتها‪،‬‬
‫ول كوكب يصطدم بكوكب آخر‪َ {:‬و ُكلّ فِي فََلكٍ يَسْ َبحُونَ }[يس‪]40 :‬‬
‫فإن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الختيارية‪ ،‬فانظروا إلى المور الجبارية التي حولكم‪ ،‬فإن كانت‬
‫بنظام وميزان واعتدلت المور‪ ،‬اعدلوا ‪ -‬إذن ‪ -‬في إدارة شئونكم حتى تنسجموا كما انسجم‬
‫سمَآءَ‬
‫جدَانِ * وَال ّ‬
‫ج ُم وَالشّجَرُ يَسْ ُ‬
‫س وَا ْل َقمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنّ ْ‬
‫شمْ ُ‬
‫الكون‪ ،‬ولذلك نقرأ قوله تعالى‪ {:‬ال ّ‬
‫ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ }[الرحمن‪]8-5 :‬‬
‫َر َف َعهَا َو َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ * َألّ َت ْ‬
‫أمامكم الموازين العليا في الكون‪ ،‬ول تستطيعون إفسادها لنها تسير بنظام ل دخل لكم به؛ لذلك‬
‫عليكم أن تتعلموا منها وأن تديروا أمور حياتكم بميزان حتى تستقيم أموركم الختيارية‪َ {.‬ألّ‬
‫ط َولَ ُتخْسِرُواْ ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن‪]9-8 :‬‬
‫ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ * وََأقِيمُواْ ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِسْ ِ‬
‫تَ ْ‬
‫فإن رأيت حولك كونا غير مُضطرب‪ ،‬وغير مُتصادم‪ ،‬ويؤدي حركته دون تعارض أو تصادم‪،‬‬
‫فافهم أنه قائم على ميزان الحق‪ ،‬ووضع سبحانه لك ميزانا في المور الختيارية‪ ،‬والمرجحات‬
‫الختيارية هي أحكام التكليف من ال‪ ،‬فإن أردت أن تستقيم لك المور الختيارية فسر بها على‬
‫الميزان الذي وضعه ال‪.‬‬
‫ح ّكمُو َنكَ‪{ ...‬‬
‫ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله‪َ } :‬وكَ ْيفَ ُي َ‬

‫(‪)704 /‬‬

‫ك َومَا أُولَ ِئكَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)43‬‬


‫حكْمُ اللّهِ ُثمّ يَ َتوَّلوْنَ مِنْ َب ْعدِ ذَِل َ‬
‫ك وَعِنْدَ ُهمُ ال ّتوْرَاةُ فِيهَا ُ‬
‫ح ّكمُو َن َ‬
‫َوكَيْفَ يُ َ‬

‫يوضح سبحانه‪ :‬كيف يأتون طلبا للحكم منك وعندهم التوراة‪ ،‬وهم لم يؤمنوا بك يا محمد رسولً‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكَما؟ ل بد أن في ذلك مصلحة مناقضة لما في التوراة‪،‬‬
‫من ال‪ ،‬فكيف يرضاك من لم يؤمن بك َ‬
‫ولو لم تكن تلك المصلحة مناقضة لنفذوا الحكم الذي عندهم‪ ،‬وهم إنما جاءوا إليك يا رسول ال‬
‫طمعا في أن تعطي شيئا من التسهيل وظنوا ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬أنك قد توفر لهم أكل السّحت وسماع‬
‫الكذب‪.‬‬
‫ح ّكمُو َنكَ وَعِنْ َدهُمُ ال ّتوْرَاةُ } وهي مسألة عجيبة يجب أن يُفظن إليها؛ لن عندهم التوراة‬
‫{ َوكَ ْيفَ يُ َ‬
‫فيها حكم ال‪ ،‬فلو حكموك في أمر ليس في التوراة لكان المر مقبولً‪ ،‬لكن أن يحكموك في أمر‬
‫له حكم في التوراة‪ ،‬وبعد ذلك يطلعك ال عليه لتكشفه فتقول يا رسول ال‪ :‬هاتوا ابن صوريا‬
‫ليأتي بحكم التوراة‪ .‬ويعترف ابن صوريا بوجود حكم الرّجم في التوراة‪ .‬إذن هم رغبوا في‬
‫الحتيال‪ ،‬وأراد ال أن يثبت لرسوله صلى ال عليه وسلم لونا في العلم عن هؤلء المارقين‬
‫على أحكام ال‪ ،‬هم يعلمون أن الرسول ُأمّي‪ ،‬لم يقرأ ولم يكتب‪ ،‬فمن الذي أخبره بالحكم الموجود‬
‫بالتوراة؟‬
‫إذن أخبره من أرسله‪ ،‬وإذا كانوا قد أرادوا البحث عن حكم مُخفّف فالحق أراد ذلك ليكون سَببا‬
‫حكْمُ اللّهِ ثُمّ يَ َتوَّلوْنَ مِن َبعْدِ ذاِلكَ‬
‫ح ّكمُو َنكَ وَعِنْدَهُمُ ال ّتوْرَاةُ فِيهَا ُ‬
‫من أسباب الخزي لهم‪َ {.‬وكَ ْيفَ يُ َ‬
‫َومَآ ُأوْلَـا ِئكَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[المائدة‪]43 :‬‬
‫وهذا دليل على أن الرسول عندما حكم بغير مطلوب تيسيرهم‪ .‬أعرضوا عن الحكم‪ .‬ولو كانوا‬
‫طالبين للحكم بادئ ذي بدء لقبلوا الحكم بالرجم كما قاله لهم رسول ال‪ ،‬لكنهم غير مؤمنين حتى‬
‫بتوراتهم‪.‬‬
‫ويقول سبحانه من بعد ذلك‪ { :‬إِنّآ أَن َزلْنَا ال ّتوْرَاةَ‪} ...‬‬

‫(‪)705 /‬‬

‫سَلمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَالرّبّانِيّونَ وَالَْأحْبَارُ‬


‫حكُمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَ ْ‬
‫إِنّا أَنْزَلْنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا ُهدًى وَنُورٌ َي ْ‬
‫ن وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي َثمَنًا‬
‫شوْ ِ‬
‫شوُا النّاسَ وَاخْ َ‬
‫ش َهدَاءَ فَلَا َتخْ َ‬
‫حفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّ ِه َوكَانُوا عَلَ ْيهِ ُ‬
‫ِبمَا اسْ ُت ْ‬
‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ (‪)44‬‬
‫قَلِيلًا َومَنْ لَمْ َي ْ‬

‫الهدى هو الطريق أو الدرب المُوصّل للغاية‪ .‬وتأتي على الطريق أحقاب الليل والنهار‪ ،‬فالطريق‬
‫مُظلم ليلً‪ ،‬وقد تعترض السائر فيه عقبات‪ ،‬أو قد ل يمشي السائر في سواء السبيل أي وسط‬
‫الطريق‪ ،‬فيقع في حفرة أو يصطدم بحجر‪.‬‬
‫ويوضح الحق هنا‪ :‬لقد صنعت لكم الدرب وأَنرته لكم حتى ل تصطدموا بشيء أو تأتي لكم‬
‫عقبات‪ ،‬وتمثّل ذلك في المنهج الذي جاء به موكب الرّسل كلهم‪ .‬وقديما كان العالم مفككا‪ ،‬متناثر‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الجماعات‪ ،‬فل توجد مواصلت‪ ،‬وتعيش كل جماعة في انعزال وشبه استقلل‪ ،‬فإن حصلت‬
‫داءات في بقعة ما تظل محصورة في هذه البقعة‪ ،‬ويأتي رسول ليعالج هذه الداءات‪ ،‬فهذا يعالج‬
‫أمر عبادة الصنام‪ ،‬وذلك يعالج مسألة الكيل والميزان‪ ،‬وثالث يعالج المور المنظمة للحياة‬
‫الزوجية عند اليهود‪.‬‬
‫هذه الداءات كانت متعددة بتعدد الجهات‪ ،‬وعندما أراد الحق سبحانه أن يبصر الناس بأسرار كونه‬
‫ليستنبطوا منها ما يقرب المسافات ويمنع المشقات لتلتقي المم‪ .‬وعندما تلتقي المم ل يوجد فصل‬
‫بين الداءات‪ ،‬فالداء الواحد يحصل في الشرق لينتقل إلى الغرب‪ .‬وكأن الداءات تتحد في العالم‬
‫أيضا‪.‬‬
‫إذن ل بد أن يجيء الرسول الجامع ليعالج الداءات كلها‪ ،‬فيأتي صلّى ال عليه وسلم الجامع‬
‫المانع‪ ،‬فإذا ما قال الحق‪ :‬إنه أنزل التوراة فيها هدى ونور‪ ،‬فالنجيل أيضا فيه هدى ونور‪ ،‬وكل‬
‫هدى ونور في أي كتاب إنما هو للداءات الموجودة في البيئة المنعزلة‪ .‬مثال ذلك أن سيدنا إبراهيم‬
‫كان موجودا‪ ،‬ومعه في الزمن نفسه سيدنا لوط‪ .‬وها هوذا سيدنا موسى كان موجودا‪ .‬وكذلك‬
‫سيدنا شعيب‪ ،‬إذن كانت الرّسل تتعاصر في بعض الحيان لن كل منهم يعالج داء معينا‪ .‬وهكذا‬
‫كانت الرسالت تأتي محدودة الزمان ومحدودة المكان‪.‬‬
‫أما محمد صلى ال عليه وسلم فقد بعثه ال للناس كافة بكل أجناسهم وتقوم على منهجه الساعة؛‬
‫لذلك لم تعد الرض في حاجة إلى رسول آخر‪ ،‬وصار من المنطقي أن يكون هو الرسول الخاتم‪.‬‬
‫ح ُكمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسَْلمُواْ } لماذا إذن يأتي الحق بإسلم‬
‫{ إِنّآ أَنزَلْنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَ ْ‬
‫النبياء هنا؟ جاء سبحانه بأمر إسلم النبياء تشريفا للسلم لنه جوهر منهج كل نبي‪.‬‬
‫إننا نجد الشعراء يتفننون في هذا المعنى‪:‬ما إن مدحت محمدا بمقالتي لكن مدحت مقالتي‬
‫بمحمدٍوالشاعر الخر يقول‪:‬قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كل لعمري ولكن منه شيبانفالقبيلة‬
‫بالنسبة لبي الصقر هي التي تنتسب إليه وليس هو الذي ينتسب إليها‪.‬‬
‫ف كما عل برسول ال عدنانإذن فالنبيون عندما يصفهم‬
‫ويردف قائل‪:‬وكم أبٍ قد عل بابن ذُرَا شر ٍ‬
‫الحق بأنهم أسلموا‪ ،‬إنما يريد الحق أن يشرف السلم بأن النبيين أسلموا قيادهم وزمامهم إلى ال‬
‫لنهم وجدوه الخير لهم‪.‬‬

‫وإسلم النبيين هو السلم بمعناه الكامل‪ ،‬أي هو النصياع لوامر ال‪ ،‬فكلما فكر نبي منهم في أن‬
‫هناك شرا سيأتي له بسبب دعوته‪ ،‬أو أن يضطهده أحد‪ ،‬أو يحلو لحدٍ أن يسيء إليه فهو يسلم‬
‫أمره ل؛ لن الرسول منهم إنما يقول كلمة الحق ول يبالي بما يحدث بعدها‪.‬‬
‫حكُمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسَْلمُواْ لِلّذِينَ هَادُواْ { وهم يحكمون بالتوراة بين الذين هادوا‪ ،‬أي من‬
‫} َي ْ‬
‫يهود‪ ،‬وكذلك يحكم بها الربانيون والحبار‪ .‬والرباني منسوب للرب‪ ،‬اي أن كل تصرفاته منسوبة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إلى ال‪ .‬والحبار هم العلماء حملة أوعية العلم‪ ،‬لكن هل ينفذونه أو ل ينفذونه فهذا شيء آخر‪.‬‬
‫صحيح أن كل عالم وعاءُ علم‪ ،‬لكن قد ينتفع هو بعلمه‪ ،‬وقد ل ينتفع‪ ،‬لكنه ينقل علمه إلى من‬
‫ينتفع به‪ .‬ولذلك يقول أحد العلماء‪:‬فخذ بعلمي ولتركن إلى عملي وأجْنِ الثمار وخلّ العود للنارفل‬
‫تقل‪ :‬إن هذا العالم يقول لنا كذا وكذا‪ ،‬ونراه في تصرفاته عكس ما يقول‪ :‬لن عليك أن تأخذ ثمرة‬
‫العلم‪ ،‬واترك العود للنار‪ .‬ولكن على العالم أن يكون أول من يمتثل ويطبق ما يقوله حتى ل يعذب‬
‫ول يدخل تحت قوله تعالى‪ } :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ * كَبُرَ َمقْتا عِندَ اللّهِ أَن‬
‫َتقُولُواْ مَا لَ َتفْعَلُونَ {‪.‬‬
‫حفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ { وعرفنا أن التوراة فيها نور وهدى ويحكم‬
‫ن وَالَحْبَارُ ِبمَا اسْ ُت ْ‬
‫} وَالرّبّانِيّو َ‬
‫بها النبيون والربانيون والحبار بالوسيلة التي طلب ال منهم أن يحفظوها‪ ،‬وبما طلبه رسولهم‬
‫منهم أن يحفظوا هذه التوراة‪ .‬وقال الحق‪ " :‬استحفظوا " ولم يقل‪ " :‬حفظوا " ليبين لنا الفارق بين‬
‫كل كتاب سابق للقرآن وبين القرآن؛ لننا عرفنا أن كل رسول قد جاء بمعجزة تدل على أنه‬
‫صادق البلغ عن ال‪.‬‬
‫ولكل الرسل من السابقين على رسول ال معجزة منفصلة عن المنهج‪ ،‬مثال ذلك سيدنا موسى‬
‫فمعجزته العصا وفلق البحر‪ ،‬أما منهجهه فهو التوراة‪ .‬وسيدنا عيسى معجزته إبراء الكمه‬
‫والبرص‪ ،‬والمنهج الذي جاء به هو النجيل‪ .‬أما سيدنا رسول ال فمعجزته هي عين منهجه‪،‬‬
‫وهي القرآن‪ .‬وكان المر الموجود بالنسبة لكل رسولٍ مرتبطا بزمانه وجماعته ومحتاجا إلى‬
‫معجزة مناسبة ومنهج مناسب‪ ،‬لكن الرسول الذي أرسله ال إلى الناس جميعا وخاتما للنبياء ل بد‬
‫أن تظل معجزته عين منهجهه بحيث يستطيع أي مسلم أن يقول حتى قيام الساعة‪ :‬محمد رسول‬
‫ال وهذه معجزته وهي عين منهجهه‪.‬‬
‫وسيظل القرآن معجزة ظاهرة إلى أن تقوم الساعة؛ لن ال أرادها مختلفة عن بقية المناهج‬
‫والمعجزات‪ .‬فالمعجزات السابقة كانت كعود الثقاب الذي يشعل مرةً واحدة؛ فمن رآه لحظة‬
‫الشتعال فالمر بالنسبة إليه واضح‪ ،‬أما من لم يره فهو لن يصدق تلك المعجزة إل ان يخبره من‬
‫يصدقه‪.‬‬

‫وقد استحفظ ال الربانيين والحبار بالتوراة‪ ،‬أي طلب منهم أن يحفظوها‪ ،‬وكان هذا أمرا تكليفيا‪،‬‬
‫والمر التكليفي عُرضة لن يُطاع وعُرضة لن يُعصى‪ .‬واستحفظهم ال التوراة والنجيل‪ {:‬فَنَسُواْ‬
‫حظّا ّممّا ُذكِرُواْ بِهِ }[المائدة‪]14 :‬‬
‫َ‬
‫وصار أمر المنهج منسيا‪ .‬وليس على بالهم كثيرا؛ لن المر إذا توارد على البال واستقر دائما في‬
‫بؤرة الشعور يظل في الذهن‪ ،‬لكن النسيان يأتي عندما يكون المر بعيدا عن البال‪.‬‬
‫والحق طلب منهم أن يحفظوا المنهج‪ ،‬ولكنهم ‪ -‬ما عدا النبيين ‪ -‬لم ينفذوا‪ ،‬وكل أمر تكليفي يدخل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في دائرة الختيار‪ ،‬ولذلك نجد أن الحبار والربانيين قد نسوا‪ ،‬وما لم ينسوه كتموه‪ .‬وأول مرحلة‬
‫من مراحل عدم الحفظ أنهم نسوا‪،‬والمرحلة الثانية هي كتمان ما لم ينسوه‪ ،‬والثالثة هي‪ :‬ما لم‬
‫يكتموه حرّفوه ولووا به ألسنتهم‪ .‬وياليتهم اقتصروا على هذه المراحل فقط‪ ،‬ولكنهم جاءوا بأشياء‬
‫وقالوا‪ :‬هي من عند ال وهي ليست من عند ال‪َ {:‬فوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَ ْيدِيهِمْ ُثمّ َيقُولُونَ‬
‫هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ }[البقرة‪]79 :‬‬
‫إذن فالحفظ منهم لم يتم؛ لذلك لم يدع ال القرآن للحفظ بطريق التكليف؛ لنه سبحانه اختبر البشر‬
‫من قبل‪ ،‬ولنه أراد القرآن معجزة باقية؛ لذلك لم يكل ال سبحانه أمر حفظه إلى الخلق‪ ،‬ولكنه‬
‫تكفل ‪ -‬سبحانه ‪ -‬بأمر حفظ القرآن‪ {:‬إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْرَ وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ }[الحجر‪]9 :‬‬
‫ومصداق هذا النص‪ ،‬أن بعضا من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في هجر منهج السلم ومنهج‬
‫القرآن إل أنك تجد عجبا‪ ،‬فبمقدار بُعدهم عن منهج السلم تطبيقا يحافظون على القرآن تحقيقا‪،‬‬
‫فيكتبون القرآن بكل ألوان الكتابة وبكافة الحجام‪ ،‬فهناك حجم ذهبي ترتديه النساء في صدورهن‪،‬‬
‫وحجم يوضع في اليد‪ ،‬وبعد ذلك نجد الكفرة أنفسهم يخترعون طريقة لكتابة القرآن في صفحة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫إذن فال يُسخر لحفظ القرآن حتى من لم يكن مسلما‪ .‬وتلك خواطر من ال‪ .‬ونحن نرى كل يوم‬
‫من يبتعدون بسلوكهم عن المنهج لكنهم يرصدون المال لحفظ القرآن‪ .‬ونجد القرآن محققا بألف‬
‫وسيلة حفظ‪ :‬الرجل يضع في سيارته مصحفا‪ ،‬وفي حجرة نومه مصحفا‪ ،‬وقد تكون المرأة سافرة‬
‫وصدرها مكشوف ولكنها تعلق مصحفا ذهبيا‪ .‬وهذا يثبت لنا أن حفظ القرآن ليس أمرا تكليفيا‪ .‬بل‬
‫هو إرادة ال‪.‬‬
‫فلو كان المر تكليفيا لكان نسيان القرآن واردا؛ لن المسلمين ابتعدوا في بعض أمورهم عنه‬
‫كمنهج‪ ،‬ويناسب ذلك أن ينفصلوا عنه حفظا‪ .‬ولكن المر صار بالعكس‪ .‬فعلى الرغم من بُعد‬
‫المسلمين عن المنهج‪ ،‬ولكن حفظ القرآن ل يقل أبدا‪ ،‬ومن العجيب أن الكثيرين من المسرفين على‬
‫أنفسهم‪ ،‬إن سمع واحد منهم أنّ شيئا يمس المصحف‪ ،‬يقيم الدنيا ويقعدها‪ ،‬فالمسألة ليست مسألته‪،‬‬
‫ولكنها مسألة الحافظ جل شأنه‪ .‬وإن حدث أي تحريف يسير في القرآن من أعداء السلم‪ ،‬نجد‬
‫أمة السلم تقف وقفة رجل واحد‪.‬‬

‫ولقد أراد بعض المدلسين أن يدسوا على القرآن ما ليس فيه وجاءوا إلى آية في سورة الفتح‬
‫حمَآءُ بَيْ َنهُمْ }[الفتح‪]29 :‬‬
‫حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ رُ َ‬
‫وهي‪ {:‬مّ َ‬
‫وقالوا‪ " :‬محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم " وكأنهم يرغبون في زيادة التكريم لرسول ال‪،‬‬
‫فلما عرف المسلمون ذلك قامت ضجة وأحرقوا تلك المصاحف‪ .‬ومنع المسلمون التحريف مهما‬
‫كان باب الدخول إليه‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شوْنِ { والخشية‪ :‬خوف متوَهّم ممن تظن أنه قادر على الضر‪ ،‬ول أحد‬
‫شوُاْ النّاسَ وَاخْ َ‬
‫} فَلَ َتخْ َ‬
‫غير ال قادر على النفع والضر؛ لذلك ل يصح أن يخاف النسانُ مِن سواه‪ ،‬أما أن تظن أن‬
‫السلطان أو القريب منه قادر على الضر‪ ،‬فهذا أمر غير صحيح‪ ،‬وليخشَ كل إنسان الحق سبحانه‬
‫وهو جل وعل نصحنا أن تكون الخشية منه دون سواه‪.‬‬
‫وإن غيّر أحد أحكام المنهج من أجل السلطان أو أقارب السلطان أو أصدقاء السلطان فذلك عين‬
‫الفساد‪ .‬والفات والشرور تأتي من ذلك‪ .‬بل قد ل يدري السلطان شيئا عن ذلك‪ ،‬وقد يتدخل قريب‬
‫للسلطان ‪ -‬دون علم السلطان ‪ -‬ليطلب من العلماء تغيير بعض من المنهج ول يستسلم له إل‬
‫الضعاف منهم‪ ،‬وقد فطن سيدنا عمر رضي ال عنه إلى هذا المر فقال‪ :‬إن الفساد قد ل يأتي من‬
‫السلطان‪ ،‬ولكن من الذين حول السلطان‪.‬‬
‫والخشية هنا تكون من غير ال‪ ،‬ولذلك كان سيدنا عمر يجمع أقاربه والملتفين حوله ويقول لهم‪:‬‬
‫لقد اعتزمت أن أصدر كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء من هذا جعلت نكالً‬
‫للمسلمين‪.‬‬
‫هذا هو أسلوب من أداء أن يخدم ويحكم ول يحمل أوزارا‪ ،‬ونرى صور الفساد غنما جاءت نتيجة‬
‫شوْنِ {‪.‬‬
‫س وَاخْ َ‬
‫شوُاْ النّا َ‬
‫مخالفة القاعدة الحكيمة‪ } :‬فَلَ تَخْ َ‬
‫ويتابع الحق من بعد ذلك‪ } :‬وَلَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي َثمَنا قَلِيلً { وثمن آيات ال مهما بولغ في تقييمها‬
‫فلن يتجاوز نفعه هذه الدنيا؛ لن الدنيا ‪ -‬كما قلنا سابقا ‪ -‬ل تقاس بعمرها الحقيقي أي إلى أن‬
‫يُفني ال البشر‪ ،‬وإنما دنيا كل حيّ تقاس بعمره فيها‪.‬‬
‫فهب أن الحياة طالت لمليين السنين فما نفع الفرد المحدود العمر بهذه المليين من السنين؟ إذن‬
‫فدنيا كل إنسان هي مقدار عمره في الحياة‪ .‬وعمر الفرد في الدنيا له حد محدود غير معروف‬
‫لحد غير ال‪ ،‬فلكل أجل كتاب‪ .‬ولذلك تجد واحدا يعيش متوسط العمار وهو سبعون عاما‪.‬‬
‫ويختلف العمر من إنسان لخر‪ ،‬وقد يموت آخر عند الستين وثالث يموت في الربعين ورابع‬
‫يموت في المائة‪ ،‬وخامس يموت وهو طفل رضيع‪.‬‬
‫إذن فدنيا الفرد قد تكون لحظة‪ .‬ومادامت مسألة العمر ل يحكمها زمن ول يحكمها سبب فهي ‪-‬‬
‫إذن ‪ -‬بإرادة الحق غيب‪.‬‬

‫وأقضية الموت في الوجود جعلها ال شائعة في كل زمن ولم يجعلها الحق بعد الميلد‪ .‬بمعنى أن‬
‫يولد النسان ليموت من بعد ذلك‪ ،‬ل‪ ،‬فقد يموت الكائن البشري وهو جنين في بطن أمه؛ فهذا‬
‫حمل يسقط من بعد ساعة‪ ،‬وذاك حمل يسقط من بعد شهر أو شهور‪ ،‬وجعل الحق لنا ذلك لنأخذ‬
‫من المر الغيبي وهو الجنين في البطن مراحلَ تكوينه‪ .‬إنه يعطينا شكل الجنين بعد نصف ساعة‬
‫من التكوين‪ ،‬ويعطينا شكل الجنين من بعد ساعة‪ .‬وكل الزمنة في الحياة والموت موجودة‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وعندما نحلل تلك الشكال نجد أمامنا كل أطوار الجنين‪ ،‬وكل أطوار الحياة ليكون ذلك واضحا‬
‫جليا حتى ل يحسب أحد لنفسه عمرا في هذه الدنيا‪.‬‬
‫ومادام الثمن الذي يأخذه المرتشون ليغيّروا آيات ال وأحكامه سينفعهم في هذه الدنيا‪ ،‬وأعمارهم‬
‫في هذه الدنيا محدودة‪ ،‬كان عليهم أن يتذكروا أن حياتهم زمنيا قليلة بالنسبة لعمر الدنيا‪ .‬وحتى‬
‫يقوم النسان بعملية اقتصادية ل بد أن يتعرّف إلى أن عمره محدود بقدر سنوات مجهولة بالنسبة‬
‫له في هذه الحياة‪ ،‬وهو عمر محدود مهما طال‪ .‬وإن قارنها النسان بالحياة في العالم الخر‬
‫فسيجد أن عمره الدنيوي منهي‪ ،‬فإن قايضه بعمر غير منهي هو عمره في الخرة‪ ،‬فذلك هو الفوز‬
‫العظيم؛ لن وجود النسان في الدنيا مظنون‪ ،‬ووجود النسان بالنسبة للخرة متيقن‪ .‬ونعيم الفرد‬
‫في الدنيا هو على قدر إمكاناته ولو في السلب‪ .‬ونعيم النسان في الخرة ينسب إلى طلقة قدرة‬
‫ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫إذن فأي صفقة تكون هي الرابحة؟ محدود مقابل غير محدود‪ ،‬ومظنون مقابل متيقن‪ ،‬ونعيم على‬
‫قدر مكنة وسلطان الفرد ولو بالسلب مقابل نعيم على قدر طلقة قدرة الحق‪ ،‬أي صفقة هي‬
‫الرابحة؟ إذن فصفقة الدنيا قليلة بالنسبة لما وعد ال به المتقين‪ .‬ومن بعد ذلك يقول الحق‪َ } :‬ومَن‬
‫حكُم ِبمَآ أَن َزلَ اللّهُ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ {‪.‬‬
‫لّمْ َي ْ‬
‫ماذا يعني الحكم بما أنزل ال؟‪.‬‬
‫نعلم أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل قضية مخالفة في الكون حكما‪ ،‬فإذا أردت أيها النسان أن‬
‫تحكم في أمرٍ فعليك أن تبحث عن جوهره بسلسلة تاريخ هذا المر‪ .‬ونجد أن قمة كل المور هي‬
‫العقيدة‪ ،‬وهو وجود الواحب العلى وهو ال‪ ،‬فإن حكمت بأنه غير موجود فذلك هو الكفر‪.‬؟ وإن‬
‫آمن النسان بال ثم جاء إلى أحكام ال التي أنزلها وقال‪ :‬ل ليس من المعقول أن يكون الحكم هو‬
‫هكذا‪ .‬فهذا لون من رد الحكم على ال وهو لون من الكفر‪.‬‬
‫أما إن آمن النسان بالحكم وقال‪ :‬إنني أصدق حكم ال‪ ،‬ولكن ل أقدر على نفسي فهل هذا كفر؟ أم‬
‫هذا ظلم؟‪ .‬إنه ليس كفرا‪ ،‬ويكون ظلما إن كان حكما بين اثنين‪ .‬وهو فسق إن كان بين النسان‬
‫وبين نفسه؛ لنه يفسق عن الحكم كما تفسق الرطبة عن قشرتها‪.‬‬

‫فالفاسق هو من له إطار من التكليفات ويخرج عن هذا الطار كالرطبة التي خرجت من قشرتها‪.‬‬
‫ومادامت الرطبة قد خرجت من قشرتها فهي عرضة للتلوث‪.‬‬
‫حكُم ِبمَآ أَن َزلَ اللّهُ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ }[المائدة‪]44 :‬‬
‫إذن فإن سمعت قول ال‪َ {:‬ومَن لّمْ َي ْ‬
‫حكُم ِبمَآ أن َزلَ اللّهُ فَُأوْلَـائِكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ }[المائدة‪]45 :‬‬
‫وعندما تسمع‪َ {:‬ومَن لّمْ َي ْ‬
‫سقُونَ }[المائدة‪]47 :‬‬
‫حكُم ِبمَآ أَن َزلَ اللّهُ فَُأوْلَـائِكَ ُهمُ ا ْلفَا ِ‬
‫وعندما نسمع‪َ {:‬ومَن لّمْ َي ْ‬
‫فتذكر أحكام ال وحاول أن تقدر على نفسك‪ .‬وقيل‪ :‬إن ذلك لليهود؛ لن الحق قال‪ {:‬إِنّآ أَن َزلْنَا‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }[المائدة‪]44 :‬‬
‫وقيل‪ :‬إن الثانية جاءت للنصارى الذين لم يحكموا بالنجيل‪.‬‬
‫ولنا أن نقول ردا على مثل هذه القوال‪ :‬امن الممكن أن يكون ذلك للديان السابقة على السلم‬
‫وليس موجودا بالسلم؟ ذلك أمر ل يقبله العقل أو المنطق‪ ،‬فهي آيات نزلت في مناط الحكم‬
‫عامة‪ .‬فإن حكم إنسان في قضية القمّة وهي العقيدة بغير الحق‪ ،‬فذلك هو الكفر‪ .‬وإن ردّ النسان‬
‫الحكم على منشئه ‪ -‬وهو الحق العلى ‪ -‬فهذا لون من الكفر‪ .‬وإن آمن النسان بالقضية وهو‬
‫مؤمن بالله فغلبته نفسه فهذا هو الفسق‪ .‬وإن حكم إنسان بين اثنين وحاد ومال عن حكم ال فهذا‬
‫هو الظلم‪.‬‬
‫إذن فـ " كافرون " و " ظالمون " و " فاسقون " تقول لنا‪ :‬إن اللفاظ اختلفت باختلف المحكوم‬
‫به‪ .‬فل يقولن أحد‪ :‬إن تلك آية نزلت لتلك الفئة‪ ،‬وتلك الية نزلت لفئة أخرى‪ ،‬وثالثة نزلت لفئة‬
‫ثالثة‪ ،‬ولكنها أحكام عامة لمناط التكليف عامة‪ .‬والحق قال في بداية كل حكم " ومَن " ومَن كما‬
‫نعلم كلمة عامة‪ .‬والدليل على ذلك أن من يحكم بغير ما أنزل ال إنما هو يشتري بآيات ال ثمنا‬
‫قليلً ورد الحكم على ال‪ .‬وقال الحق في الية اللحقة‪َ {:‬وكَتَبْنَا عَلَ ْيهِمْ فِيهَآ أَنّ ال ّنفْسَ بِال ّنفْسِ }‬
‫[المائدة‪]45 :‬‬
‫إنها أحكام تتعلق بجرائم‪ ،‬وعقوبات على جرائم‪ ،‬وهنا يكون الحكم بغير ما أنزل ال ظلما‪ .‬إذن‬
‫فالمر يختلف حسب المحكوم عليه‪.‬‬
‫وحينما تعرضنا لقضية الخلق الول وهو خلق آدم‪ ،‬وطلب ال من الملئكة المكلفين بتدبير أمور‬
‫الخلق في الرض أن يسجدوا لدم‪ .‬وقلنا إن هذا السجود هو رمزية لن يكونوا في خدمة آدم؛‬
‫لن كل مظهر من مظاهر القوة في الكون ل نرى الملك الذي يديره‪ ،‬فكل قوة لها ملك معين‪،‬‬
‫ولن ذلك المر من الغيب فنحن ل نراه‪ ،‬إنها ملئكة مدبرات أمر‪ .‬وحين يبلغهم الحق أن‬
‫الطارش علىالكون وهو آدم‪ ،‬وأنهم في خدمته‪ ،‬ومن أجل ذلك أمرهم بالسجود لدم‪ .‬ولذلك نجد‬
‫أن بعضا من الملئكة الذين ليسوا من المدبرات أمرا لم يشملهم المر‪ .‬ويكلم الحق إبليس عندما‬
‫رفض السجود قال سبحانه‪:‬‬

‫{ َأسْ َتكْبَ ْرتَ َأمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص‪]75 :‬‬


‫إن " العالين " هم الذين يسبحون الليل والنهار ل يفترون ول يدرون ول يعلمون بأمر آدم‪ ،‬فقد‬
‫سأل الحق إبليس‪ :‬أانت مستكبر عن السجود أم أنت من العالين الذين لم يشملهم أمر السجود؟‬
‫وقلنا إن إبليس لم يكن من الملئكة‪ ،‬لنه بنص القرآن‪ِ {:‬إلّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ا ْلجِنّ َففَسَقَ عَنْ َأمْرِ‬
‫رَبّهِ }[الكهف‪]50 :‬‬
‫ولذلك ل يصح أن يكون " إبليس " محل خلف أهو من الملئكة أم ل! فهو ليس من الملئكة‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفي القرآن نص صريح يثبت جنسية إبليس‪ .‬وهو من الجن‪ .‬وكان من المختارين‪ ،‬له أن يطيع أو‬
‫أن يعصي‪ .‬لن الجن داخلون في قانون الختيار‪ .‬فإن ألزم الجنّي نفسه بمنهج ال إلزاما يتساوى‬
‫به مع الملئكة وجب عليه أن يقوم بذلك‪ .‬ولكنه لم يفعل‪ .‬وكان من الواجب أن يطيع إبليس المر‪.‬‬
‫ومادام الحق هو الذي أمر بالسجود‪ ،‬فالدنى وهو إبليس كان عليه أن يسجد؛ لن المراتب‬
‫محفوظة كما نعلم‪ ،‬فرئيس الجمهورية عندما يدخل على الوزراء فهم يطيعون أمره‪ ،‬وإن كان‬
‫يجلس مع الوزراء بعض وكلء الوزارات فهم يطيعون أوامره؛ ذلك أنهم يدخلون في المر من‬
‫باب أولى‪ .‬ولو كان إبليس أعلى من الملئكة لكان أولى له أن يستجيب لمر الخالق العلى ول‬
‫يعصى ويتأبى‪ ،‬أما وإنّه كان أقل من الملئكة فكان ل بد من باب أولى ‪ -‬أن ينصاع لمر ال‪.‬‬
‫خَلقْتَهُ مِن طِينٍ }‬
‫لكن إبليس علل أمر عدم السجود‪ ،‬فقال‪ {:‬أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خََلقْتَنِي مِن نّا ٍر وَ َ‬
‫[العراف‪]12 :‬‬
‫سجُدُ ِلمَنْ خََل ْقتَ طِينا }[السراء‪]61 :‬‬
‫وفي آية أخرى قال سبحانه‪ {:‬أَأَ ْ‬
‫وحين يتأبّى كائن على الحكم‪ ،‬أيتأبّى على الحكم الصم‪ ،‬أي على الحكم من حيث هو حكم دون‬
‫النظر إلى الحاكم‪ ،‬أم على مَن حكم بالحكم وهو العلى سبحانه؟‪ .‬تأبى إبليس على من حكم‬
‫بالحكم‪ ،‬ولذلك طرده الحق من الجنة وصار ملعونا‪ .‬لكن آدم عصى ربه وقرب من الشجرة التي‬
‫نهاه ال عنها‪ .‬ومن رحمة ال تعالى أنه جعل في التكليفات مقدمات تنطبق على حالة المكلف‬
‫نفسه‪ ،‬فلم يقل الحق لدم‪ :‬ل تأكل من الشجرة‪ .‬ولكنه قال‪َ {:‬ولَ َتقْرَبَا هَـا ِذهِ الشّجَ َرةَ }[البقرة‪:‬‬
‫‪]35‬‬
‫لن الحق علم أن آدم إنسان‪ ،‬والنسان من الغيار‪ ،‬وهو عندما يرى الشجرة بثمارها قد ل يقدر‬
‫على نفسه‪ ،‬ولذلك كان من الفضل أل يقرب من هذه الشجرة‪ .‬وسبحانه يريد أن يحمي النسان؛‬
‫لن التكليفات التشريعية ل يرفعها الحق‪ ،‬ول يُعفى المكلف من القيام بها إل في المر الذي ليس‬
‫للنسان فيه اختيار‪ ،‬ولذلك أراد الحق أن يحمي النسان من القتراب من تلك الشجرة حتى ل‬
‫تغريه وجاء الحق بمثل هذا المر في الخمر فلم يقل‪ :‬ل تشربوا الخمر‪ .‬ولكنه قال‪:‬‬

‫ع َملِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ }[المائدة‪]90 :‬‬


‫ب وَالَ ْزلَمُ رِجْسٌ مّنْ َ‬
‫خمْ ُر وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَا ُ‬
‫{ إِ ّنمَا الْ َ‬
‫لن النسان لو جلس في مجلس خمر ورأى السّكارى قد سعدوا وضحكوا فقد تراوده نفسه على‬
‫شرب الخمر‪ .‬إذن فالمر بالجتناب هنا أبلغ من " ل تشربوه "‪ .‬ونجد أن تكليفات الحق إنما تاتي‬
‫للعمل النزوعي‪ ،‬ومعنى العمل النزوعي أن يتحرك النسان للعمل‪ .‬أما بالنسبة للدراكات فمن‬
‫الجائز أن يدرك النسان المر‪ .‬ويترك الحق لنا حرية حب من نشاء وكراهية من نشاء‪ .‬ولكن‬
‫هذا الحب ل يصح أن يصدر عنه عمل نزوعي فنجامله بالباطل‪ .‬وكذلك الكراهية فليس هناك أمر‬
‫بالكراهية‪ ،‬ولكن إن كره إنسان إنسانا فل يصح أن يظلمه‪ .‬فالمنهيّ عنه هو الظلم‪ ،‬ولذلك قال‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحق‪َ {:‬ولَ يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ عَلَى َألّ َتعْدِلُواْ }[المائدة‪]8 :‬‬
‫أي ل يحملنكم بغض قوم أل تعدلوا‪ .‬إذن فالحق لم يحرم البغض لنه مسألة عاطفية‪ .‬ولكن‬
‫التحريم ينحصر على القدام على عمل يخل بميزان العدل مع من تكره‪ .‬ويجب أن يؤمن النسان‬
‫إيمانا جازما بأن من ظلمه بمعصية‪ ،‬فل يجازيه النسان إل بطاعة ال‪ .‬وآدم أكل من الشجرة‪،‬‬
‫فهو ‪ -‬إذن ‪ -‬قد تجاوز مسألة القتراب إلى مسألة الكل من الشجرة؛ لنه لو قرب منها لكان‬
‫مخالفا‪ ،‬فما بالنا وهو قد أكل منها أيضا؟ إذن فقد أوغل آدم في المعصية‪ ،‬لكنه قال‪( :‬ظلمنا‬
‫أنفسنا)‪.‬‬
‫وهذا اعتراف واضح بأن حكمك يا ال هو الحكم الحق‪ ،‬لكني لم أقدر على نفسي يا ربي‪ .‬إذن فهو‬
‫لم يَ ُردّ الحكم على ال‪ ،‬ولكنه اعترف بأنه لم يقدر على تنفيذ الحكم‪ ،‬لذلك أعطاه ال كلمات ليقولها‬
‫فيتوب عليه‪ .‬وسبحانه هو الذي علم آدم كيف تكون التوبة‪ .‬فآدم ‪ -‬إذن ‪ -‬ليس كإبليس الذي رد‬
‫الحكم على ال؛ لن آدم قال‪ :‬أنا لم أقدر على نفسي‪.‬‬
‫إذن فمن لم يحكم بما أنزل ال رادّا للحكم على ال ومخطّئا ل ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فهو كافر‪ .‬وإن كان‬
‫حكما بين اثنين وحكم بغير ما أنزل ال فهو ظالم‪ .‬أما إن كان حكما علىالنفس ولم يقدر عليه‬
‫النسان فهذا فسق‪ .‬وكل وصف جاء حسب حكمه‪ .‬ول داعي ‪ -‬إذن ‪ -‬للجدل ول للخلف ول‬
‫ادعاء أن هناك قولً يقصد به اليهود‪ ،‬وآخر ورد في النصرانية‪ ،‬ول يصح أن يزين النسان‬
‫الباطل لحد‪ ،‬لن ورود الحكم بما أنزل ال في السلم أمر جازم يوجب اللتزام به‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪َ } :‬وكَتَبْنَا عَلَ ْيهِمْ فِيهَآ‪{ ...‬‬

‫(‪)706 /‬‬

‫ن وَالسّنّ بِالسّنّ‬
‫ن وَالْأَ ْنفَ بِالْأَ ْنفِ وَالُْأذُنَ بِالْأُذُ ِ‬
‫س وَا ْلعَيْنَ بِا ْلعَيْ ِ‬
‫َوكَتَبْنَا عَلَ ْي ِهمْ فِيهَا أَنّ ال ّنفْسَ بِال ّنفْ ِ‬
‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ (‬
‫صدّقَ ِبهِ َف ُهوَ َكفّا َرةٌ لَ ُه َومَنْ لَمْ يَ ْ‬
‫وَالْجُرُوحَ ِقصَاصٌ َفمَنْ َت َ‬
‫‪)45‬‬

‫لقد كتب الحق على اليهود في التوراة التي وصفها من قبل بأنها هدى ونور‪ ،‬كتب وأوجب عليهم‬
‫أن النفس بالنفس‪ ،‬وعلينا أن نأخذ كل أمر وما يناسبه من الحدث‪ .‬أي أن النفس تُقتل بالنفس‪.‬‬
‫ولكن عندما يقول الحق‪ { :‬وَا ْلعَيْنَ بِا ْلعَيْنِ } ‪ ،‬فهل يعني ذلك أن تقتل العين؟ ل‪ .‬ولكن العين نقلع‬
‫مقابل عين‪ .‬وكذلك { وَالَ ْنفَ بِالَنْفِ }‪ .‬أي النف المجدوعة‪ ،‬مقابل جدع أنف أخرى‪ .‬وكذلك‬
‫قوله الحق‪ { :‬وَالُذُنَ بِالُذُنِ } أي إصابة اذن بالصمم مقابل إصابة أذن بالصمم‪ .‬إذن فلكل ما‬
‫يقابله‪ .‬فهناك النفس تقتل بالنفس وهناك العين تفقأ بالعين‪ ،‬وكذلك المر في جدع النف‪ ،‬وصلم‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذن‪.‬‬
‫إن تعبيرات اللغة واسعة تعطي لكل وصف ما يناسبه‪ .‬فالنسان مثلً قد يكون جائعا‪ .‬ولكن إلى‬
‫ماذا؟ إن كان جائعا لطعام فهو جوعان‪ .‬وإن أراد خصوصية أكل ويشتهيه كاللحم فل يقال له‪:‬‬
‫جوعان‪ ،‬ولكن يقال " قَرِم "‪ .‬وإن كان يشتهي اللبن يقال له‪ " :‬عَيْمان " ‪ ،‬وإن كان في حاجة للماء‬
‫يقال له‪ " :‬عطشان "‪ .‬وإن كان جائعا للجنس فهو " شَبِق "‪.‬‬
‫وذلك يكشف لنا أن النسانية تحتاج إلى أمور متعددة‪ ،‬وكل أمر له اسم‪ .‬وكل شيء له تعبير‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ :‬يقال‪ :‬فلن جلس‪ ،‬أي قعد‪ .‬وهذا في المعنى العام‪ .‬ولكن الجلوس يكون عن‬
‫اضطْجاعٍ‪ .‬أما قعد‪ ،‬فهي عن قيام‪ ،‬أي كان قائما وقعد‪ .‬ولذلك قال الحق‪ { :‬قِيَاما َو ُقعُودا }‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ :‬يقال‪ " :‬نظر " و " رمق " و " لمح "؛ وكل كلمة لها موقفها؛ فالنظر يكون بجميع‬
‫عينيه‪ .‬و " َرمِق " أي لحظ لحظا خفيفا‪ .‬و " َلمَح " أي اختلس النظر إليه‪ .‬وكذلك قوله الحق‬
‫معناه‪ :‬أننا كتبنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفسن والعين مفقوءة بالعين‪ ،‬والنف مجدوعة‬
‫بالنف‪ ،‬والذن مصلومة بالذن‪ ،‬والسن مخلوعة بالسن‪ .‬وبعد ذلك يقول الحق عن الجروح‪:‬‬
‫{ وَا ْلجُرُوحَ ِقصَاصٌ } لن الجرح قد يكون في أي مكان‪ .‬والقصاص يكون بمثله ومساويا للشيء‪،‬‬
‫وهو مأخوذ من قص الثر؛ أي السير تبعا لما سارت عليه القدم السابقة دون انحراف‪ .‬ولما كان‬
‫القصاص هو أمر مطلوب فيه المماثلة فذلك أمر صعب‪ ،‬صحيح أن الحق قال‪َ {:‬فمَنِ اعْتَدَىا‬
‫علَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْتَدَىا عَلَ ْي ُكمْ }[البقرة‪]194 :‬‬
‫عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُواْ َ‬
‫لكن القصاص أمر صعب‪ ،‬فالصفعة من يد جائع متهافتة بعكس الصفعة التي تأتي من يدٍ صاحبُها‬
‫في منتهى النشاط والقوة‪ .‬فكيف يكون القصاص مناسبا لقوة الذي فعل الفعل؟‬
‫إذن ل يصح أن يدخل النسان في متاهة‪ .‬ويمكنه أن يتصدق بالقصاص فل يأخذه‪ .‬ونحن نعلم‬
‫حكاية " تاجر البندقية " ذلك المرابي اليهودي الذي أقرض نقودا مقابل رطل من لحم صاحب‬
‫القرض‪ ،‬وكتب الثنان لتعاقد وجاءا بالشهود ولم يستطع الرجل أن يُسدّد المال في الميعاد ولكن‬
‫القاضي أنار ال بصيرته‪.‬‬

‫فقال‪ :‬خذ الرطل من لحم الرجل ولكن إن أنقصت أوقية فسنأخذها منك أو إن زدت أوقية‬
‫فسنأخذها منك‪ .‬فقال المرابي‪ :‬ل أريد‪.‬‬
‫صدّقَ ِبهِ َف ُهوَ‬
‫وقد قنن الحق للجريمة‪ ،‬ولم يغلق سبحانه باب الطموحات اليمانية‪ ،‬فقال‪َ } :‬فمَن َت َ‬
‫َكفّارَةٌ لّهُْ {‪ .‬ومعنى " تصدق " أنه دفع وأعطى شيئا غير مستحق‪ ،‬ول واجب عليه أي تبرع به‬
‫ابتغاء وجه ال‪ .‬إن الذي يتعب البشر في تقنيناتهم أنهم يطلبون إجراءات التقاضي‪ ،‬فساعة تقع‬
‫جريمة يستمر التحقيق فيها بواسطة القضاء لكثر من عام فتنبهت بشاعة الجريمة في النفس‬
‫البشرية‪ .‬ومن الواجب كذلك أن يكون المر لولي القصاص؛ لنك إن مكنته أرضيت نفسه بأول‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شفاء‪ .‬وساعة يُعطي النسان ذلك الحكم فقد يزهد فيه؛ لن المر حين يكون في يده ويقدر على‬
‫القصاص فمن المحتمل أن يعفو‪.‬‬
‫وسيظل المتصدّق عليه طيلة حياته يدين بحياته أو بجارحة من جوارحه لصاحب القصاص‪ .‬وبدلً‬
‫من إيعازات الثأرات تنشأ المودة‪ .‬وحين يشرع المشرع العلى يوضح لنا‪ :‬ل تحكم بأنك دائما‬
‫معتدى عليك‪ ،‬بل تصور مرة أنك معتد‪ ،‬أل تحب في مثل هذه الحالة أن يتصدق عليك صاحب‬
‫القصاص؟ فإذا أرادت الحكومات لن تنهي الثأرات فلهم في التشريع العلى الحكم الواضح‪.‬‬
‫وفي صعيد مصر‪ ،‬ساعة يُقتل إنسان نجد الذي عليه الثأر يأخذ كفته ويذهب إلى العائلة الطالبة‬
‫للثأر‪ ،‬ولحظة يدخل عليهم حاملً كفنه بيديه‪ ،‬تشفي النفوس من طلب الثأر‪ .‬ويحيا‪ ،‬وصاحب الثأر‬
‫متفضل عليه بالعيش } َفمَن َتصَدّقَ بِهِ َف ُهوَ َكفّا َرةٌ لّهُ { تكون الصدقة هنا من ولي القصاص‪.‬‬
‫والفعل " تصدق " يحتاج إلى اثنين هما‪ " :‬متصدّق " و " متصدّق عليه "‪ .‬وسبحانه الحق يكفر عن‬
‫المتصدق من الذنوب بقدر ما تسامح فيه لخيه‪ ،‬وهنا يحنن ال الخلق بعضهم على بعض؛ لذلك‬
‫تأتي المسألة هنا من ناحية صاحب القصاص لترغبه في التصدق‪.‬‬
‫حكُم ِبمَآ أن َزلَ اللّهُ فَُأوْلَـائِكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ { وعرفنا من قبل‬
‫وينهي الحق الية بقوله‪َ } :‬ومَن لّمْ َي ْ‬
‫ضرورة الحكم بما أنزل ال‪ .‬وبعد ذلك يقول الحق سبحانه‪َ } :‬و َقفّيْنَا عَلَىا آثَارِهِم‪{ ...‬‬

‫(‪)707 /‬‬

‫َوقَفّيْنَا عَلَى آَثَارِ ِهمْ ِبعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ مِنَ ال ّتوْرَا ِة وَآَتَيْنَاهُ الْإِ ْنجِيلَ فِيهِ ُهدًى وَنُورٌ‬
‫َومُصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ال ّتوْرَاةِ وَهُدًى َو َموْعِظَةً لِ ْلمُ ّتقِينَ (‪)46‬‬

‫وقفينا أي اتبعنا‪ ،‬فعيسى جاء من بعد موسى‪ ،‬فعندما يمشي رجل خلف رجل نجد أن قفا الول‬
‫يكون في وجه الثاني‪ .‬وعندما يقول الحق‪َ { :‬و َقفّيْنَا عَلَىا آثَارِهِم ِبعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ‬
‫يَدَيْهِ } أي مصدقا لموسى الذي جاء بالتوراة‪ { .‬وَآتَيْنَا ُه الِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ }‪ .‬وعرفنا أن "‬
‫الهدى والنور " يناسبان البيئة التي نزلت إليها تلك الهداية وذلك النور‪.‬‬
‫إن هناك مقولت اسمها " المقولت الضافية " ‪ ،‬كأن يقول إنسان في قرية لبنه‪ :‬أشعل الضوء‪.‬‬
‫ويشعل الولد المصباح الكيروسيني؛ أما إذا قال إنسان في مدينة لبنه‪ :‬أضيء النور‪ ،‬فالبن‬
‫يضغط على الزر ليضيء المصباح الكهربائي‪ .‬وهذه الضافات قد تجعل اللفظ يحمل معنيين‪.‬‬
‫ومثال آخر أكثر وضوحا‪ :‬يسكن النسان في منزل ما‪ ،‬ويعرف أن السقف عال بالنسبة له‪ ،‬ولكنه‬
‫أرض بالنسبة لصحاب الدور الثاني‪ ،‬إنه علو وسفل وهذا هو المعنى الضافي‪ .‬وكذلك عندما‬
‫نقول‪ :‬فلن ابن فلنن فهذا ل يمنع أن هذا البن يكون أبا بالنسبة لبنه‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن { ُهدًى وَنُورٌ } هي معان إضافية‪ .‬وكل " هدى ونور " يناسب البيئة التي نزل يفيها‪ .‬فالبيئة‬
‫المادية الولى كانت في حاجة إلى تقنين؛ لذلك جاءت التوراة‪ ،‬ومن بعد ذلك صارت هذه البيئة‬
‫المادية في حاجة إلى طاقة روحية؛ لذلك جاء النجيل بكل الروحانيات‪ ،‬وعندما سئل عيسى ابن‬
‫مريم عليه السلم في قضية الميراث قال‪ :‬أنا لم أرسل مورثا‪ ،‬فهو يعلم أنه جاء بشحنة روحية‬
‫فيها مواجيد ومواعظ‪.‬‬
‫حكُمْ َأ ْهلُ الِ ْنجِيلِ‪} ...‬‬
‫ويتابع الحق من بعد ذلك‪ { :‬وَلْيَ ْ‬

‫(‪)708 /‬‬

‫سقُونَ (‪)47‬‬
‫حكُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ‬
‫حكُمْ َأ ْهلُ الْإِنْجِيلِ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ فِي ِه َومَنْ لَمْ َي ْ‬
‫وَلْيَ ْ‬

‫والحق أنزل في النجيل أن الحكام تؤخذ من التوراة‪ .‬أي أن النجيل تضمن إلى جانب روحانياته‬
‫أسس الحكام الموجودة في التوراة‪ .‬ولذلك أوضح الحق‪ :‬من لم يحكم بما أنزل ال فهو فاسق‬
‫مادام قد خرج على الطاعة‪ .‬فإن خرج أحد على الطاعة في أمر اللوهية والربوبية فهو كافر‪.‬‬
‫ومن خرج على الحكام بالنسبة للحكم بين الناس فهو ظالم‪ .‬إذن فالمسألة كلها متداخلة‪ ،‬فالشرك‬
‫ظلم عظيم أيضا‪.‬‬
‫وبعد أن تكلم الحق عن التوراة والنجيل‪ ،‬جاء بما نزل إلى النبي الخاتم‪ { :‬وَأَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ‪...‬‬
‫}‬

‫(‪)709 /‬‬

‫ح ُكمْ بَيْ َنهُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ‬


‫ب َو ُمهَ ْيمِنًا عَلَ ْيهِ فَا ْ‬
‫حقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫جعََلكُمْ ُأمّةً‬
‫ع ًة َومِ ْنهَاجًا وََلوْ شَاءَ اللّهُ َل َ‬
‫جعَلْنَا مِ ْنكُمْ شِرْ َ‬
‫عمّا جَا َءكَ مِنَ ا ْلحَقّ ِل ُكلّ َ‬
‫وَلَا تَتّبِعْ أَ ْهوَا َءهُمْ َ‬
‫جمِيعًا فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ فِيهِ‬
‫ج ُعكُمْ َ‬
‫وَاحِ َد ًة وََلكِنْ لِيَبُْل َوكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَ ِبقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْ ِ‬
‫تَخْتَِلفُونَ (‪)48‬‬

‫وساعة نسمع كلمة " أنزلنا " نعرف أن هناك تشريعا جاء من أعلى‪ .‬وهناك من يريد أن يلبس‬
‫الناس أهواءه‪ ،‬فيقول‪ :‬إن السلم دين تقدمي‪ ،‬أو يقول‪ :‬السلم دين رجعي‪ ،‬وكلهما يحاول أن‬
‫يلبس السلم بما ليس فيه‪ ،‬ونقول‪ :‬ل تقولوا ذلك ولكن قولوا السلم فوقي؛ أنه جاء من ال‪ ،‬فإن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كان للتقدمية مزايا فهو تقدمي‪ ،‬وإن كان للرجعية مزايا فهو رجعي‪ ،‬وإن كان لليمين مزايا فهو‬
‫يميني وإن كان لليسار مزايا فالسلم يساري؛ فقد جاء السلم بالستطراق الجتماعي والتقدم‬
‫العلمي الصيل؛ لن مفهوم التقدم هو أن يرتقي النسان بنفيه ارتقاءً متقدما يجعل الناس متكافئين‪.‬‬
‫إن السلم ليس تقدميا فقط بالنسبة للحياة الدنيا ولكن بالنسبة لحياة أخرى خالدة فوق هذه الحياة‪.‬‬
‫إن الذين يناقشون تلك الفكار ل يحسنون فهم أفكارهم سواء أكانت تقدمية أم رجعية أم يمينية أم‬
‫يسارية‪ .‬ونرى أن المناهج المعاصرة التي تسبب كل هذا الصراع في الدنيا من شرق وغرب‬
‫هي‪ :‬الرأسمالية والشيوعية والشتراكية والوجودية وغيرها‪.‬‬
‫وعندما ننظر ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬إلى القائمين على أمر الثورة الشيوعية عام ‪ ،1917‬نجد‬
‫قولهم‪ :‬إنهم مازالوا في بداية الطريق إلى الشيوعية‪ ،‬ولكنه اختيار الطريق الشتراكي‪.‬‬
‫كان يجب أن يتجهوا إلى ما نادوا به‪ ،‬ولكن ها نحن أولء نرى أنهم كلما تقدموا في الزمن‬
‫تراجعوا عن أفكارهم الولى‪ .‬حتى انقلبوا على أنفسهم‪ .‬وذلك دليل على أن المنهج الذي اتخذوه‬
‫لنفسهم غير صحيح‪.‬‬
‫والمنهج الرأسمالي أظل كما هو؟ ل؛ لن الحداث قد اضطرت الرأسمالية أن تعطي العمال حقوقا‬
‫وبذلك لم تبق لرأس المال شراسته‪ .‬كما سارت الشيوعية إلى معظم أساليب الرأسمالية‪.‬‬
‫والرأسمالية سارت إلى بعض من أساليب الشتراكية وهما ‪ -‬إذن ‪ -‬يريدان أن يلتقيا‪ .‬ولكن‬
‫السلم أوجد هذا اللقاء من البداية‪ ،‬فاحترم رأس المال‪ ،‬واحترم العمل‪ .‬وكل إنسان لزم حدوده‪.‬‬
‫وضمن وجود واستمرار حركة الحياة‪ .‬ولذلك نجد أن الرأسمالية تقول‪ :‬يجب أن توفر الحوافز‬
‫للعمل‪ .‬ولم تصل الشيوعية أيضا إلى مداها‪ ،‬بل قامت لهدار حقوق الناس‪ ،‬ثم ماذا عن الذين لم‬
‫تمتد إليهم يد الشيوعية ‪ -‬قبل أن توجد ‪ -‬وكان فيهم من يستغل الناس؟‬
‫كان العقل يحتم أن تؤمن الشيوعية بان هناك آخرة يعاقب فيها من استغلوا الناس من قبل‪ ،‬ومن‬
‫مصلحتهم إذن أن توجد آخرة‪ .‬وكان من اللزم أن يكونوا متدينين‪ .‬وكذلك الرأسمالية التي ل‬
‫تعترف إل بالربح المادي‪ ،‬امتلت مجتمعاتها بالضحايا الذين فقدوا المعنويات‪ .‬وقول الحق‪" :‬‬
‫أنزلنا " يعتبر أن هناك منهجا نزل من أعلى‪ .‬وحين نأخذ معطيات البيان القرآني‪ ،‬نجده سبحانه‬
‫يبلغنا تعاليمه‪ُ { :‬قلْ َتعَاَلوْاْ }‪ .‬أي ارتفعوا إلى مستوى السماء ول تهبطوا إلى حضيض الرض‪.‬‬

‫حقّ { ونرى أن آيات القرآن تتآزر وتخدم كل منها‬


‫ولذلك قال الحق‪ } :‬وَأَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫الخرى‪ .‬ونزول الكتاب بالحق يحتاج إلى صدق دليل أنه ينزل من ال حقا‪ ،‬وأن تأتي كل قوانين‬
‫الحق في حركة الحياة بالنسجام ل بالتنافر‪ ،‬وهناك آية تشرح كلمة " الحق "‪ {:‬وَبِا ْلحَقّ أَنْزَلْنَاهُ‬
‫وَبِالْحَقّ نَ َزلَ }[السراء‪]105 :‬‬
‫حقّ نَ َزلَ { أي نزل بالمنهج من عند ال‬
‫أي أنه نزل من عند ال وليس من صناعة بشر‪ } .‬وَبِالْ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذي يقيم منطق الحق في كل نفس وكل مكان‪ ،‬ويَضمن كل حق يقيم حركة الحياة‪.‬‬
‫وهنا أجملت الية‪ ،‬فقالت‪ } :‬وَأَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَابِ { أي أن‬
‫القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة‪ .‬وما الفارق بين كلمة " الكتاب " الولى التي جاءت في‬
‫صدر الية‪ ،‬وكلمة " الكتاب " الثانية؟‬
‫إننا نعلم أن هناك " ال " للجنس‪ ،‬و " ال " للعهد‪ ،‬فيقال " لقيت رجل فأكرمت الرجل " ‪ ،‬أي‬
‫الرجل المعهود الذي قابلته‪ .‬فكلمة الكتاب الولى اللم فيها للعهد أي الكتاب المعهود المعروف‬
‫وهو القرآن‪ ،‬وكلمة الكتاب الثانية يراد بها الجنس أي الكتب المنزلة على النبياء قبله‪ ،‬فالقرآن‬
‫مهيمنٌ رقيبٌ عليها؛ لنها قد دخلها التحريف والتزييف‪.‬‬
‫كلمة " الحق " ‪ -‬إذن ‪ -‬تعني أن كتاب ال الخاتم لكتبه المنزلة وهو القرآن قد نزل بالحق الثابت‬
‫في كل قضايا الكون ومطلوب حركة النسان‪ .‬ونزل بالحق بحيث لم يصبه تحريف ول تغيير‪.‬‬
‫إذن فالحق هو في مضمونه وفي ثبوت نزوله‪ .‬وقد نزل القرآن بعد كتب أنزلها ال متناسبة مع‬
‫الزمنة التي نزلت فيها؛ لنه سبحانه خلق الخلق لمهمة أن يشهدوا أن ل إله إل ال‪ ،‬وأن يعمروا‬
‫هذا الكون بما أمدّهم به من عقل يفكر‪ ،‬وطاقات تنفّذ‪ ،‬ومادة في الكون تنفعل‪ ،‬فإن أرادوا أصل‬
‫الحياة مجردا عن أي ترقٍ أو إسعاد فلهم في مقومات الرض ما يعطيهم‪ ،‬وإن أرادوا أن يرتقوا‬
‫بأنفسهم فعليهم أن يُعملوا العقل الذي وهبه ال ليخدم الطاقات التي خلقها ال في المادة التي خلقها‬
‫ال‪ ،‬وحينئذ يأخذون أسرار ال من الوجود‪.‬‬
‫إن أسرار ال في الوجود كثيرة‪ ،‬وتفعل لنا وإن لم نعرف نحن السر‪ .‬فنجد الجاذبية التي تمسك‬
‫الفلك تفعل لنا‪ ،‬وإن لم نكن قد اكتشفنا الجاذبية إل أخيرا‪ .‬والكهرباء السارية في الكون سلبا‬
‫وإيجابا تعمل لنا وإن لم نعرف ما تنطوي عليه من سرّ‬
‫إن الحق سبحانه حين يريد ميلد سر في الكون سبحانه يمد الخلق بأسباب بروز هذا‬
‫السر‪.‬واعلموا أن كل سر من أسرار الكون المسخر للنسان له ميلد كميلد النسان نفسه‪ ،‬إما أن‬
‫يصادف ‪ -‬هذا الميلد ‪ -‬عمل العقل في مقدمات تنتهي إليه‪ ،‬وحينئذ يأتي الميلد مع مقدمات‬
‫استعملها البشر فوصلوا إلى النتيجة‪ ،‬تماما مثل التمرين الهندسي الذي يقوم الطالب بحله بعد أن‬
‫يعطيه الستاذ بعضا من المعطيات‪ ،‬ويستخدمها التلميذ كمقدمات ليستنبط ما يريد المدرس أن‬
‫يستنبطه من مطلوب الثبات‪.‬‬

‫فإن صادف أن العقل بحث في الشيء معمليا وتجريبيا وصل ميلد السر مع البحث‪ .‬وإن جاء‬
‫ميلد السر في الكون‪ ،‬ولم يشغل النسان نفسه ببحث مقدمات توصل إليه‪ ،‬وأراد ال ذلك الميلد‬
‫للسر فماذا يكون الموقف؟‬
‫أيمنع ال ميلد السر لننا لم نعمل؟‪ .‬ل‪ .‬بل يخرج سبحانه السر إلى الوجود كما نسمع دائما عن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مصادفة ميلد شيء على يد باحث كان يبحث في شيء آخر‪ ،‬فنقول‪ :‬إن هذا السر خرج إلى‬
‫الوجود مصادفة‪.‬‬
‫وإذا نظرت إلى البتكارات والختراعات وأمهات المسائل التي اكتشفت لوجدتها من النصف‬
‫الثاني‪ ،‬ونجد المفكر أو العالم وقد غرق في بحث ما‪ ،‬ثم يعطيه ال سرا من أسرار الكون لم يكن‬
‫يبحث عنه‪ ،‬فيقال عن الكتشاف الجديد‪ :‬إنه جاء مصادفة‪ ،‬وحينما جعل ال لكل سر ميلدا‪ ،‬فهو‬
‫قد أعطى خلقه حياة من واسع فضله‪ ،‬وأعطاه قدرة من فيض قدرته وأعطاه علما من عنده }‬
‫ح ْكمَةَ َفقَدْ أُو ِتيَ خَيْرا كَثِيرا‬
‫وَعَّلمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْما { ‪ ،‬ووهبه حكمة يُؤتى بها خيرا } َومَن ُي ْؤتَ الْ ِ‬
‫{‪ .‬وهو سبحانه وتعالى يريد من خلقه أن يتفاعلوا مع الكون ليبرزوا الشياء‪ ،‬وإذا كان سبحانه‬
‫يريد منا أن ننفعل هذا النفعال فل بد أن يضع المنهج الذي صون طاقاتنا وفكرنا مما يبددهما‪.‬‬
‫والذي يبدد أفكار الناس وطاقاتهم هو تصارع الهواء‪ ،‬فالهوى يصادم الهوى‪ ،‬والفكرة قد تصادم‬
‫فكرة‪ ،‬وأهواء الناس مختلفة؛ لذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن لنا اتفاق الهواء حتى‬
‫نصدر في كل حركاتنا عن هوى واحد؛ وهو ما أنزله الخالق العلى الذي ل تغيره تلك الهواء‪.‬‬
‫أما ما ل تختلف فيه الهواء فتركنا لكي نبحث فيه؛ لننا سنتفق فيه قهرا عنا‪ .‬ولذلك نقول دائما‪:‬‬
‫ل توجد اختلفات في الفكار المعملية التجريبية المادية‪ ،‬فما وجدنا كهرباء روسية‪ ،‬وكهرباء‬
‫أمريكية لن المعمل ل يجامل‪ .‬والمادة الصماء ل تحابي‪ .‬والنتيجة المعملية تخرج بوضوحها‬
‫واحدة‪.‬‬
‫إننا نرى اتفاق العلماء شرقا وغربا في معطيات المادة التجريبية وتحاول كل بلد أن يسرق من‬
‫البلد الخر ما انتهى إليه من نتائج لتدخلها على حضارتها‪ ،‬بينما يختلف المر في الهواء‬
‫البشرية‪ ،‬فكل بلد يحاول أن يبعد هوى الخر عن حدوده؛ لن الهواء ل تلتقي أبدا‪ ،‬والحق قد‬
‫وضع حركة الحياة لتنفعل بـ " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " مما تختلف فيه الهواء ليضمن‬
‫سمَاوَاتُ‬
‫س َدتِ ال ّ‬
‫حقّ أَ ْهوَآ َءهُمْ َلفَ َ‬
‫اتحادنا وعدم تعاند الطاقات فينا‪ .‬بل تتساند معا‪ {.‬وََلوِ اتّبَعَ الْ َ‬
‫ض َومَن فِيهِنّ }‬
‫وَالَرْ ُ‬

‫[المؤمنون‪]71 :‬‬
‫إذن فمنهج ال في كونه إنما جاء لينظم حركة النسان فيما تختلف فيه الهواء‪ .‬أما الحركة فيما ل‬
‫تختلف فيه الهواء فقد تركها سبحانه حرة طليقة‪ :‬لن البشر يتفقون فيها قهرا عنهم‪ ،‬لن المادة ل‬
‫تجامل والمعمل ل يحابي‪.‬‬
‫ولذلك قلنا‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم حين بعثه ال نبيا خاتما أعطى بـ " افعل ول تفعل‬
‫"‪ .‬أما بالنسبة للمر المادي المعملي فقد جعل أمره في ذات النبي صلى ال عليه وسلم‪ " .‬فعندما‬
‫قَدِمَ النبي صلى ال عليه وسلم المدينة كان أهلها يأبرون النخل؛ أي يلقّحونه ليثمر‪ .‬فمر النبي‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صلى ال عليه وسلم بقو ٍم يلقحون فقال‪ " :‬لو لم تفعلوا لصلح "‪.‬‬
‫فلم يأْبُروا النخل‪ ،‬فخرج شيصا؛ أي ُبسْرا رديئا‪ ،‬وخاب النخل‪ .‬ومرّ بهم رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم فقال‪ :‬ما لنخلكم؟ قالوا‪ :‬قلت كذا وكذا‪ .‬فقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن كان ينفعهم ذلك‬
‫فليصنعوه‪ ،‬فإني إنما ظننت ظنا فل تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن ال شيئا فخذوا به فإني‬
‫لن أكذب على ال عز وجل "‪.‬‬
‫وفي رواية أنه صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫" إنما أنا بشر‪ ،‬إذا أمرتكم بشيءٍ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر "‬
‫ثم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ليعلنها قضية كونية مادية تجريبية معملية‪ " :‬أنتم أعلم بأمر‬
‫دنياكم "‬
‫أي أنه صلى ال عليه وسلم ترك للمة إدارة شئونها التجريبية‪ ،‬ولم يكن ذلك القول تركا للحبل‬
‫على الغارب في شئون المنهج‪ ،‬فقد وضع رسول ال صلى ال عليه وسلم الفيصل فيما تتدخل فيه‬
‫السماء‪ ،‬وفيما تتركه السماء للبشر‪ ،‬وأعمار الناس ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬تختلف‪ ،‬فنحن نقول للنسان‬
‫طفولة‪ ،‬وله فتوة‪ ،‬وشباب‪ ،‬وله اكتمال رجولة ونضج؛ لذلك يعطي الحق من الحكام ما يناسب‬
‫هذا المجتمع؛ يعطي أولً الحتياج المادي للطفولة‪ ،‬وعند عصر الفتوة يعطيه المسائل الدراكية‪،‬‬
‫وعندما يصل إلى الرشد يعطيه زمام الحركة في الكون على ضوء المنهج‪ ،‬فكانت رسالة السلم‬
‫على ميعاد مع رشد الزمان‪ ،‬فََأمِن الحق سبحانه أتباع محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن يقفوا ليحموا‬
‫حركة النسان من أهواء البشر‪ .‬وكانت الرسل تأتي من عند ال بالبلغ للمجتمعات البشرية‬
‫السابقة علىالسلم‪ .‬وكانت السماء هي التي تؤدب‪ .‬ولكن عندما اكتمل رشد النسانية‪ ،‬رأينا‬
‫الرسول يبلغ‪ ،‬ويوكّله ال في أن يؤدب من يخرج على منهج ال في حركة الحياة‪ ،‬لنه صلى ال‬
‫عليه وسلم أصبح مأمونا على ذلك‪.‬‬
‫وإذا نظرت إلى الكون قديما لوجدته كونا انعزاليا‪ ،‬فكل جماعة في مكان ل تعلم شيئا عن الجماعة‬
‫الخرى‪ ،‬وكل جماعة لها نظامها وحركتها وعيشها وداءاتها‪.‬‬

‫والسلم جاء على اجتماع للبشر جميعا‪ .‬فقد علم ال أزلً أن السلم سيجيء على ميعاد مع إلغاء‬
‫فوارق الزمن والمسافات‪ ،‬وأن الداء يصبح في الشرق فل يبيت إل وهو في الغرب‪ ،‬وكذلك ما‬
‫يحدث في الغرب ل يبيت إل وهو في الشرق‪.‬‬
‫إذن فقد اتحدت الداءات ول بد أن يكون الدواء واحدا فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم جامعا‬
‫للزمان وجامعا للمكان ومانعا أن يجيء رسول آخر بعده‪ ،‬وأن العالم قد وصل إلى قمة نضجه‪.‬‬
‫فإذا ما جاء النسان ليعلم منهج ال بـ " افعل " ول " تفعل " ‪ ،‬وجد أن المنهج محروس بالمنهج‪،‬‬
‫بمعنى أن الكتب السابقة على القرآن فيها " افعل " و " لتفعل " ‪ ،‬والقرآن أيضا فيه " افعل " و "‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل تفعل " لكن المنهج السابق على القرآن كان مطلوبا من المنزل إليهم أن يحافظوا عليه‪ ،‬ومادام‬
‫قد طلب الحق منهم ذلك فكان من الواجب أن يتمثلوا لطاعته لكنهم تركوا المنهج‪ .‬فكل منهج‬
‫عرضة لن يطاع وعرضة لن يعصى‪ ،‬ولم يحفظوا الكتب وحدث فيها التحريف بمراحله‬
‫حظّا ّممّا ُذكِرُواْ‬
‫المختلفة والتي سبق أن ذكرناها وهي النسيان وهو متمثل في قوله الحق‪ {:‬وَنَسُواْ َ‬
‫بِهِ }[المائدة‪]13 :‬‬
‫ت وَا ْلهُدَىا مِن‬
‫وما لم ينسوه كتموا بعضه‪ ،‬فقال الحق فيهم‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَا ِ‬
‫َبعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي ا ْلكِتَابِ أُولَـا ِئكَ يَلعَ ُنهُمُ اللّهُ }[البقرة‪]159 :‬‬
‫وما لم يكتموه حرفوه ولووا ألسنتهم به وقال الحق‪ {:‬وَإِنّ مِ ْنهُمْ َلفَرِيقا يَ ْلوُونَ أَلْسِنَ َتهُمْ بِا ْلكِتَابِ }[آل‬
‫عمران‪]78 :‬‬
‫ولم يقتصروا على ذلك بل وضعوا من عندهم أشياء وقالوا إنها من عند ال‪ .‬وكان أمر حفظ كتب‬
‫حفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ }[المائدة‪]44 :‬‬
‫المنهج السابقة موكولً لهم وبذلك قال الحق عنهم‪ِ {:‬بمَا اسْتُ ْ‬
‫أي أن الحق طلب منهم أن يحافظوا على المنهج‪ ،‬وكان يجب أن يطيعوه ولكن أغلبهم آثر‬
‫العصيان‪ .‬فلما عصى البشر المنهج‪ ،‬لم يأمن ال البشر من بعد ذلك على أن يستحفظهم على‬
‫القرآن‪ ،‬وكأنه قال‪ :‬لقد جُرّبْتم فلم تحافظوا على المنهج‪ ،‬ولن القرآن منهج خاتم لن يأتي له تعديل‬
‫من بعد ذلك فسأتولى أنا أمر حفظه‪ {:‬إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ }[الحجر‪]9 :‬‬
‫ومادام الحق هو الذي يحفظ المنهج فالقرآن مهيمن على كل الكتب؛ لنه سبحانه وتعالى قد ضمن‬
‫عدم التحريف فيه‪ .‬إذن فالكتاب المهيمن هو القرآن‪ ،‬ومادام القرآن هو المهيمن فهو حقيقة ما‬
‫يسمى بالكتاب‪.‬‬
‫ودليل العهد هو قول الحق‪ } :‬وَأَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ { أما قوله‪ُ } :‬مصَدّقا ّلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَابِ‬
‫{ فالمقصود به الزبور والتوراة والنجيل وصحف إبراهيم وموسى‪ ،‬ثم جاء القرآن مهيمنا على‬
‫كل هذه الكتب‪.‬‬
‫وساعة نجد وصفا وصف به غير ال وسمى به ال نفسه فما الموقف؟ نعرف أن ل صفات بلغت‬
‫في تخصصها به مقامها العلى بال‪ ،‬مثل قولنا‪ " :‬ال سميع " والنسان يسمع‪ ،‬و " ال غني "‬
‫ويقال‪ " :‬فلن غني "؛ فإذا سمي الحق باسم وجد في الخلق‪ ،‬فليس من المتصور أن يكون هذا‬
‫شيْءٌ {‪.‬‬
‫صفة مشتركة بين العبد والرب‪ ،‬ولكننا نأخذ ذلك في ضوء‪ } :‬لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬

‫إن أي اسم من هذه الصفات على إطلقه ل ينصرف إل ل‪ ،‬فإن قلت‪ " :‬الغني " على إطلقه فهو‬
‫اسم ل‪ ،‬وإن قلت‪ " :‬الرحيم " على إطلقه فهو اسم ل‪ .‬فإذا أطلق اللفظ من أسماء ال على اطلقه‬
‫فهو ل‪ ،‬واسم " المهيمن " يطلق هنا على القرآن وهو اسم من أسماء ال‪ .‬ومن معنى " مهيمن "‬
‫أنه مسيطر‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومن أمثلة الحياة أننا نرى صاحب مصنع يطلق يد مدير في شئون العمل‪ ،‬وهذا يعني أنه مؤمن‬
‫ومسيطر وأمين‪ ،‬ول بد أن متنبه‪ ،‬أي رقيب‪ ،‬وهو شهيد‪ ،‬إذن فالذين فسروا كلمة " مهيمن " على‬
‫أنه مؤمن قول صحيح‪.‬‬
‫والذين فسروا كلمة‪ " :‬مهيمن " على أنه " مؤتمن " قول صحيح‪ .‬والذين فسروا كلمة‪ " :‬مهيمن "‬
‫بأنه " رقيب " قول صحيح‪ .‬والذين فسروا كلمة‪ " :‬مهيمن " بأنه " شهيد " قول صحيح‪ .‬والذين‬
‫فسروا كلمة‪ " :‬مهيمن " بأنه قائم على كل أمر قول صحيح‪ .‬وإذا رأيت الختلفات في تفسير اسم‬
‫واحد من أسمائه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فلتعلم أن الحق بصدق عليه كل ذلك‪ ،‬وباللزم ل يكون " رقيبا " إل‬
‫إذا كان " شهيدا " ‪ ،‬ول يكون شهيدا إل إذا كان قائما على المر‪ ،‬ول يكون كل ذلك إل إذا كان‬
‫مؤمنا ومؤتمنا‪.‬‬
‫إذن فـ " مهيمن " هو قيم وشاهد ورقيب‪ .‬ومادام القرآن قد جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب‬
‫فعلى أي مجال يهيمن؟ نحن نعرف مدلول الكتاب بأنه نزل من عند ال‪ ،‬فإن بقي الكتاب الذي من‬
‫عند ال كما هو فالقرآن مصدق لما به‪ ،‬أما إن لعبت في ذلك المنهج أهواء البشر فالقرآن مهيمن‬
‫حكُم بَيْ َنهُم ِبمَآ أَن َزلَ اللّهُ {‪ .‬و " احكم " مأخوذة من‬
‫لنه يصحح المنهج وينقيه من أهواء البشر‪ } .‬فَا ْ‬
‫حكَمة " هي قطعة الحديد التي توضع في فم الحصان ونربطها باللجام؛ حتى‬
‫مادة " حكم " ‪ ،‬و " ال َ‬
‫نتحكم في الحصان‪ .‬والحكمة هي ال تدع المحكوم يفلت من إرادة الحاكم‪.‬‬
‫حكُم بَيْ َنهُم ِبمَآ أَن َزلَ اللّهُ { فهل يحدث ذلك أيضا مع غير المؤمنين؟ نعم‪.‬‬
‫وحين يقول الحق‪ } :‬فَا ْ‬
‫فإذا ما جاء إليك يا رسول ال أناس غير مؤمنين وطلبوا أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل ال‪.‬‬
‫ولذلك قال الحق‪:‬‬

‫ح ُكمْ بَيْ َنهُمْ َأوْ أَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ }[المائدة‪]42 :‬‬


‫{ فَإِن جَآءُوكَ فَا ْ‬
‫لكن لماذا جاءوا لرسول ال صلى ال عليه وسلم برغم عدم إيمانهم به؟‬
‫جاءوا إلى الرسول ليحكم بينهم؛ لنهم ألفوا أن يبيحوا ما حرم ال بشهوات الدنيا وأخذوا لنفسهم‬
‫سلطة زمنية‪ ،‬وماداموا قد أخذوا لنفسهم سلطة زمنية أنستهم حكم ال‪ .‬وأرادوا ‪ -‬على سبيل‬
‫المثال ‪ -‬أن يخرجوا على حكم الرجم وتخفيفه‪ ،‬ولذلك ذهبوا إلى النبي‪ ،‬فإن حكم هو بالتخفيف‬
‫أخذوا بالحكم المخفف‪ ،‬وإذا لم يحكم بالتخفيف فهم لن يأخذوا الحكم‪ ،‬هم ذهبوا إليه صلى ال عليه‬
‫وسلم بقصد التيسير وقالوا له‪ :‬أنت تعلم أن لنا سلطانا وأن لنا نفوذا ونحن نريد أن تحكم لنا لنك‬
‫عندما تحكم لنا سنؤمن بك وبعد ذلك تأتي إليك باقي جماعتنا ليؤمنوا بك ويتبعوك‪.‬‬
‫حكُم بَيْ َنهُم ِبمَآ أَن َزلَ اللّ ُه َولَ‬
‫لقد رفض رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك تطبيقا لقول الحق‪ } :‬فَا ْ‬
‫تَتّبِعْ أَ ْهوَآءَ ُهمْ { فإذا كان عندهم كتاب التوراة مصونا من التحريف‪ ،‬فالرسول يشير عليهم بالحكم‬
‫الموجود في التوراة‪ ،‬ولذلك عندما استدعى صلى ال عليه وسلم أعلم علمائهم بالتوراة حاول‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بعضهم أن يضع يده على السطور التي بها الحكم؛ فالحكم بما أنزل ال يكون من التوراة إن لم‬
‫حكُم بَيْ َنهُم‬
‫يبدل‪ ،‬أما إذا كان الحكم قد بدله الناس فالحكم من القرآن؛ لن القرآن هو المهيمن‪ } .‬فَا ْ‬
‫ِبمَآ أَن َزلَ اللّ ُه َولَ تَتّبِعْ َأ ْهوَآءَ ُهمْ { لنهم بهذه الهواء يريدون أن ييسروا على أنفسهم ليستبقوا‬
‫لنفسهم السلطة الزمنية‪ ،‬ووصفهم الحق‪ {:‬اشْتَ َروْاْ بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنا قَلِيلً }[التوبة‪]9 :‬‬
‫هم ‪ -‬إذن ‪ -‬يريدون أن يستبدلوا بآيات ال مصلحتهم في الحكم‪ .‬ويقول الحق‪َ } :‬ولَ تَتّبِعْ‬
‫ع ًة َومِ ْنهَاجا { ‪ ،‬وإن افترضنا أن بعضا من‬
‫جعَلْنَا مِنكُمْ شِرْ َ‬
‫عمّا جَآ َءكَ مِنَ ا ْلحَقّ ِل ُكلّ َ‬
‫أَ ْهوَآ َءهُمْ َ‬
‫التوراة لم يحرف‪ ،‬وبه حكم أراد السلم أن يبدله‪ ،‬فأي أمر يتبع؟ إن التباع هنا يكون للقرآن لنه‬
‫هو المهيمن‪ ،‬فسبحانه أراد بالقرآن أن يصحح ويعدل ويغير‪.‬‬
‫إن مناهج الديان في العقائد ثابتة ل تغيير فيهان وأما ما يتصل بالحكام التي تحكم أفعال النسان‬
‫فال سبحانه وتعالى ينزل حكما لقوم يلئمهم ثم ينزل حكما آخر يلئم قوما آخرين‪ .‬ولذلك نجد أن‬
‫حلّ َلكُم َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ عَلَ ْي ُكمْ }[آل عمران‪]50 :‬‬
‫سيدنا عيسى قال‪َ {:‬ولُ ِ‬
‫أي أن هناك أشياء كانت محرمة في دين اليهود‪ .‬وجاء عيسى عليه السلم ليحلل بعضا من هذه‬
‫المحرمات‪ ،‬وكان التحريم مناسبا بني إسرائيل في بعض المور‪ ،‬وجاء المسيح عيسى ابن مريم‬
‫ليحلل لهم بعضا من المحرمات‪ ،‬وكان تحريم بعض المور لبني إسرائيل بهدف التأديب‪ {:‬فَ ِبظُلْمٍ‬
‫مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُمْ }[النساء‪]160 :‬‬
‫إذن فقد يكون تحريم الشيء بسبب الضرر الناشئ منه‪ ،‬أو بهدف التأديب؛ لن النسان أحل لنفسه‬
‫ما حرمه ال عليه‪.‬‬

‫ع ًة َومِ ْنهَاجا { والشرعة هي الطريق في الماء‪ .‬والمنهج هو الطريق في‬


‫جعَلْنَا مِنكُمْ شِرْ َ‬
‫} ِل ُكلّ َ‬
‫اليابسة‪ .‬ومقومات حياة النسان هي من الماء ومن الغذاء الذي يخرج من الرض فكذلك جعل‬
‫الحق سبحانه وتعالى في القيم هذين الثنين‪ ،‬الشرعة والمنهاج‪ ،‬ومادام سبحانه قد جعل لكل منا‬
‫شرعة ومنهاجا‪ ،‬فلماذا قال في موضع آخر من القرآن‪ {:‬شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا ِبهِ نُوحا }‬
‫[الشورى‪]13 :‬‬
‫معنى هذا القول هو التفاق في أصول العقائد التي ل تختلف أبدا باختلف الزمان‪ .‬ففي بدء‬
‫السلم نجد أنه جاء ليؤصل العقيدة أولً بل هوادة‪ ،‬فنادى بوحدانية ال‪ ،‬وعدم الشرك به‪،‬‬
‫وصفات الكمال المطلق فيه‪ ،‬وعدم تعدد اللهة‪ .‬أما بقية الحكام الفعلية فقد جعلها مراحل‪ .‬وكان‬
‫يخفف قليلً فقليلً‪ .‬إذن فالمراحل إنما جاءت في الحكام الفعلية‪ ،‬أما العقائد فقد جاءت كما هي‬
‫وبحسم ل هوادة فيه‪.‬‬
‫إذن فقوله الحق‪ } :‬شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا {‪ .‬هذا القول مقصود به العقائد‪ .‬ومادام‬
‫قد شرع لنا في الدين ما وصى به نوحا‪ ،‬فهذا توصية بأفعال تتعلق أيضا بزمن نوح‪ ،‬وسبحانه‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذي وضع لنا المنهاج الذي نسير عليه في زماننا‪ .‬إذن فالمران متساويان‪ .‬والمهم هو وحدة‬
‫المصدر المشرّع‪.‬‬
‫جعََلكُمْ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً {‪ .‬فلو شاء لجعل " افعل " ول " تفعل " واحدة في‬
‫ويقول الحق‪ } :‬وََلوْ شَآءَ اللّهُ َل َ‬
‫كل المناهج‪ ،‬ولكن ذلك لم يكن متناسبا مع اختلف الزمان والقوام النعزالية قبل السلم‬
‫جعََلكُمْ‬
‫بداءاتها المختلفة؛ لذلك كان من المنطقي أن تأتي الحكام مناسبة للداءات‪ {.‬وََلوْ شَآءَ اللّهُ َل َ‬
‫جمِيعا }[المائدة‪]48 :‬‬
‫ج ُعكُمْ َ‬
‫ح َد ًة وَلَـاكِن لّيَبُْل َوكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَ ِبقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىا ال مَرْ ِ‬
‫ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫وسبحانه وتعالى لو شاء لجعلنا أمة واحدة في " افعل " و " ل تفعل " ولكنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬لم يرد‬
‫ذلك حتى ل يألف الناس العبادة وتصير كالعادة عندهم‪ ،‬فحينما يألف الناس أداء العبادات‪ ،‬فهم‬
‫بذلك يحرمون لذة التكليف واليمان‪ ،‬فكان ل بد أن يأتي التشريع مناسبا لكل زمان‪ .‬وذلك ليفرق‬
‫بين قوم وقوم ففي الصوم ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬نجد أن الحق يسمح لنا بالطعام والشراب‬
‫والجنس في الفترة ما بين الفطار والسحور؛ فالحق يأتي إلى الشيء الرتيب ويأتي فيه أمر ال‬
‫بالمتناع عنه لفترة زمنية معينة‪ .‬ول يقرب المؤمن هذه المحرمات في زمان معين‪ ،‬ول يقرب‬
‫غيرها في أي زمان ومكان‪ .‬مثل شرب الخمر‪ ،‬أو أكل لحم الخنزير‪ .‬والمؤمن ل يقرب هذه‬
‫الشياء بطبيعة اختياره‪ .‬ويأتيه الصوم ليعلمه ويدربه على النصياع للتكليف فيحرمه الحق من‬
‫الطعام طول نهار شهر رمضان وكذلك الشراب والجنس‪.‬‬
‫المسألة ‪ -‬إذن ‪ -‬ليست رتابة أبدا‪ .‬بل هي ابتلء واختبار البشر } وَلَـاكِن لّيَبُْل َوكُمْ فِي مَآ آتَاكُم‬
‫{ والبتلء ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬ليس أمرا مذموما في ذاته‪ ،‬هو مذموم باعتبار ما تؤول إليه نهايته‪،‬‬
‫ومادام سبحانه يبتلينا فيما آتانا فيجب أن نكون حكماء وأن نتسابق إلى الخير‪:‬‬

‫جمِيعا فَيُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ }[المائدة‪]48 :‬‬


‫ج ُعكُمْ َ‬
‫{ فَاسْتَ ِبقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىا ال مَرْ ِ‬
‫والتسابق إلى الخيرات إنما يكون بهدف النجاح في البتلء‪ ،‬والنجاح يعطينا أكثر مما ننال بعدم‬
‫النصياع‪ .‬إذن فالبتلء في مصلحتنا يعطي الناجحين فيه نجاحا أخلد‪ ،‬وقصارى ما يزينه‬
‫الشيطان للناس أو ما تتخيله نفوس الناس‪ ،‬أن تمر الشهوة العابرة وتنقضي في الدنيا العابرة‪ .‬وبعد‬
‫ذلك يأتي العذاب المقيم‪ .‬وعندما نوازن هذا المر كصفقة نجدها خاسرة‪ ،‬لكن إن نجحنا في ابتلء‬
‫جمِيعا فَيُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُن ُتمْ فِيهِ‬
‫ج ُع ُكمْ َ‬
‫ال لنا فذلك هو الفوز العظيم‪ } :‬فَاسْتَ ِبقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىا ال مَرْ ِ‬
‫تَخْتَِلفُونَ {‪.‬‬
‫أي تسابقوا في الوصول إلى الخيرات‪ ،‬لن الخير إنما يقاس بعائده‪ ،‬فإياكم أن تفهموا أن ال‬
‫حَرَمكم شهوات الدنيا لنه يريد حرمانكم‪ ،‬ولكنه حرمكم بعضا من شهوات الدنيا لنها مفسدة‪.‬‬
‫وكان التحريم لزمن محدود ليعطيكم نعيم ومتع الخرة المُصلحة في زمن غير محدود‪ ،‬وهذا هو‬
‫كل الخير‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جمِيعا { والكل يرجع إلى ال سواء الملتزم أو المنحرف‪ ،‬وأمام الحق نرى‬
‫ج ُعكُمْ َ‬
‫} إِلَىا ال مَرْ ِ‬
‫القول الفصل‪ } :‬فَيُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ {‪ .‬ومادام هناك اختلف فل بد أن يوجد من أخذ‬
‫جانب الخير ومن أخذ جانب الشر‪ ،‬ولو أن ال قال لنا‪ " :‬ستأخذون الخير " وسكت عن الشر لكان‬
‫حكُم‪{ ...‬‬
‫ذلك كافيا‪ ،‬لكنه يعطينا الصورة الكاملة‪ .‬ويتبع ذلك قول الحق‪ } :‬وَأَنِ ا ْ‬

‫(‪)710 /‬‬

‫حكُمْ بَيْ َنهُمْ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّ ُه وَلَا تَتّبِعْ أَ ْهوَا َءهُ ْم وَاحْذَرْ ُهمْ أَنْ َيفْتِنُوكَ عَنْ َب ْعضِ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ إِلَ ْيكَ‬
‫وَأَنِ ا ْ‬
‫سقُونَ (‪)49‬‬
‫فَإِنْ َتوَّلوْا فَاعَْلمْ أَ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ ُيصِي َبهُمْ بِ َب ْعضِ ذُنُو ِبهِ ْم وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ َلفَا ِ‬

‫وقد يقول قائل‪ :‬إن ال سبحانه وتعالى قال من قبل‪ {:‬وَأَنزَلْنَآ ِإلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ‬
‫يَدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَابِ َو ُمهَ ْيمِنا عَلَيْهِ }[المائدة‪]48 :‬‬
‫وتكون الجابة‪ :‬أن الحق بيّن إن القرآن قد نزل مهيمنا‪ ،‬وعلى الرسول أن يباشر مهمة التنفيذ؛‬
‫حكُم بَيْ َنهُمْ ِبمَآ أَن َزلَ اللّهُ } بلغا للرسول وإيضاحا‪ :‬أنا أنزلت إليك‬
‫لذلك يأتي هنا قوله‪ { :‬وَأَنِ ا ْ‬
‫الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمنا فاحكم‪ ،‬فإذا جاءك قوم بشيء مخالف لما‬
‫نزل من القرآن‪ ،‬فاحكم بينهم بالقرآن‪ .‬والذي زاد في هذه الية هو قوله الحق‪ { :‬وَاحْذَ ْرهُمْ أَن‬
‫َيفْتِنُوكَ } والحذر هو احتياط النسان واحترازه ِممّن يريد أن يوقع به ضررا في أمر ذي نفع‪،‬‬
‫والذي يرغب الضر قد يزين لنفسه ولغيره الذر كأنه الخير‪ ،‬على الرغم من أن ما في باطنه هو‬
‫كل الشر‪.‬‬
‫إذن فالحذر هو ضرورة النتباه لمن يريد بالنسان شرا حتى ل يدخل عليه ضُرّا في صورة نفع‪،‬‬
‫كأن يأتي خصم ويقول لك‪ :‬سأضع لك كذا وافعل من أجلك كذا وكذا‪ .‬يجب عليك هنا أن تقول له‪:‬‬
‫ل‪.‬‬
‫والحذر ‪ -‬إذن ‪ -‬يقتضي عقلً مركبا‪ ،‬ولذلك كانوا يعرفون الحذر من الغراب‪ .‬فها هوذا الغراب‬
‫يعلم ابنه في قصة شعبية فيقول الغراب لبنه‪:‬‬
‫احذر النسان؛ لن النسان عندما ينحني ليلتقط شيئا من الرض فهو يلتقط قطعة من الطوب‬
‫ليرميك بها‪ .‬وهنا يقول الغراب الصغير لوالده‪ :‬وماذا أفعل لو كان هذا النسان يخبئ قطعة‬
‫الطوب في جيبه؟ إنها قصة توحي بأن الغراب حذر بفطرته‪.‬‬
‫ونرى مثل ذلك في مظاهر الشياء كالمرابي الذي يزين للناس أن يضعوا أموالهم عنده ويعطيهم‬
‫فائدة تبلغ عشرين بالمائة‪ ،‬هذه صورة شيء ينفع ولكنها ضارة بالفعل؛ لنها تزيد المال ظاهرا‬
‫حقُ اللّهُ الْرّبَا }‪.‬‬
‫ولكن ينطبق عليها قول ال‪َ { :‬يمْ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذا أمر ضار يزينه الخصم وكأنه أمر نافع‪ .‬والحق يطلب من رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ج َههُ ال‬
‫أن يكون حذرا‪ ،‬فماذا يكون المطلوب من التباع؟‪ .‬إنه الحذر نفسه؛ لن أفضل البشر وَ ّ‬
‫إلى الحذر‪ { :‬وَاحْذَرْ ُهمْ أَن َيفْتِنُوكَ } لن الصورة التي دخلوا بها هي صورة تزين الخداع‪ ،‬فقد‬
‫قالوا‪ :‬نحن جئناك لتحكم لنا‪ ،‬فإن حكمت لصالحنا فلسوف نتبعك‪ ،‬وهذا أمر يبدو في صورة شيء‬
‫نافع‪ .‬وجاء القول الحق ليحسم هذه المسألة‪ { :‬وَاحْذَ ْرهُمْ أَن َيفْتِنُوكَ عَن َب ْعضِ مَآ أَن َزلَ اللّهُ إِلَ ْيكَ }‬
‫وهنا يحذر ال ورسوله من الفتنة عن بعض ما أنزله إليه سبحانه‪.‬‬
‫ويتابع الحق‪ { :‬فَإِن َتوَّلوْاْ فَاعَْلمْ أَ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن ُيصِي َبهُم بِ َب ْعضِ ذُنُو ِبهِ ْم وَإِنّ كَثِيرا مّنَ النّاسِ‬
‫سقُونَ } وهم إن تولوا‪ ،‬فاعلم أن ال يحميك أن تنزلق إلى شبهة باطل‪ .‬فهم قد اختاروا أن‬
‫َلفَا ِ‬
‫يوغلوا في الكفر‪ ،‬وفي البتعاد عن منهج ال‪ ،‬وسيصيبهم ببعض عذابه مقابل ذنوبهم‪ ،‬وسبحانه ل‬
‫يصيبهم ظلما‪ ،‬بل يصيبهم ببعض الذنوب التي ارتكبوها‪.‬‬

‫وهو أعلم بهم‪ ،‬لنه العلم بالناس جميعا‪.‬‬


‫سقُونَ { أي خارجون عن طاعة كتبهم ورسلهم؛‬
‫ويختم الحق الية بقول‪ } :‬وَإِنّ كَثِيرا مّنَ النّاسِ َلفَا ِ‬
‫لن طاعة الكتب السابقة على القرآن تنص على ضرورة اليمان بالرسول النبي المين صلى ال‬
‫لمّيّ الّذِي َيجِدُونَهُ َمكْتُوبا عِن َدهُمْ فِي‬
‫ياُ‬
‫عليه وسلم‪ .‬ويقول الحق‪ {:‬الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِب ّ‬
‫علَ ْيهِمُ ا ْلخَبَآ ِئثَ‬
‫ت وَيُحَرّمُ َ‬
‫حلّ َلهُمُ الطّيّبَا ِ‬
‫ال ّتوْرَا ِة وَالِنْجِيلِ يَ ْأمُرُهُم بِا ْل َمعْرُوفِ وَيَ ْنهَاهُمْ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَيُ ِ‬
‫للَ الّتِي كَا َنتْ عَلَ ْي ِهمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ بِ ِه وَعَزّرُوهُ وَ َنصَرُوهُ وَاتّ َبعُواْ النّورَ‬
‫وَ َيضَعُ عَ ْنهُمْ ِإصْرَهُمْ وَالَغْ َ‬
‫الّذِي أُن ِزلَ َمعَهُ ُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }[العراف‪]157 :‬‬
‫إذن فطريق الفلح كان مكتوبا في التوراة والنجيل‪ ،‬وكان المر باتباع محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم النبي المي موجودا في الكتب السابقة على القرآن‪ ،‬وكانت البشارة بمحمد رسول من عند‬
‫ال يأمر بكل الخير وينهى عن كل الشر ويحل للناس كافة الشياء التي ُتحْسِن الفطرة النسانية‬
‫استقبالها‪ ،‬ويحرم عليهم أن يزيفوا ويغيروا المنهج الذي جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وأل يستسلموا للعناد‪ ،‬فقد جاء محمد صلى ال عليه وسلم ليزيل عنهم عبء تزييف المنهج‪ .‬فمن‬
‫اتبع نور رسول ال صلى ال عليه وسلم أحس بالنجاة والفوز‪ .‬ومن لم يتبع هذا النور فهو الخارج‬
‫عن طاعة كتاب السماء‪ .‬ومحاولة إنكار رسالة رسول ال محكوم عليها بالفشل‪ ،‬فالعارفون‬
‫بالتوراة والنجيل يعرفون وصف رسول ال صلى ال عليه وسلم من هذه الكتب‪ {.‬الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ‬
‫ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ }[البقرة‪]146 :‬‬
‫حّ‬‫ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَا َءهُ ْم وَإِنّ فَرِيقا مّ ْنهُمْ لَ َيكْ ُتمُونَ الْ َ‬
‫ونعلم جميعا ما فعله عبدال بن سلم عندما جاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ليعلن‬
‫إسلمه‪ .‬قال عبدال بن سلم‪:‬‬
‫‪ -‬لنا أشد معرفة برسول ال صلى ال عليه وسلم منّي بابني‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فقال عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه‪ -:‬وكيف ذلك يا ابن سلم؟‪.‬‬
‫قال عبدال بن سلم‪ :‬لني أشهد أن محمدا رسول ال حقا ويقينا وأنا ل أشهد بذلك على ابني لني‬
‫ل أدري‪ ،‬أحداث النساء‪ .‬فقال عمر بن الخطاب‪:‬‬
‫‪ -‬وفقك ال يا ابن سلم‪.‬‬
‫ولكن بعض علماء بني إسرائيل وأحبارهم كتموا البشارة برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد‬
‫كانوا يرجون الرئاسة والطمع في الهدايا التي كان يقدمها الناس إليهم‪ .‬لذلك عمدوا إلى صفة‬
‫رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم وكتموها‪ .‬وماداموا قد فعلوا ذلك فلنعلم أن ال يريد أن‬
‫يصيبهم ببعض ذنوبهم‪.‬‬
‫ونلحظ أن الحق حين أجرى على لسان رسوله خطابا إلى اليهود‪ .‬ولم يأت على لسانه صلى ال‬
‫عليه وسلم اتهام شامل لليهود‪ ،‬بل اتهام لبعضهم فقط‪ ،‬وإن كان هذا البعض كثيرا‪ ،‬فلنعلم أن ذلك‬
‫هو أسلوب صيانة الحتمال؛ لن بعضهم يدير أمر اليمان بقلبه‪.‬‬

‫صحيح أن كثيرا منهم فاسقون‪ ،‬ولكن القليل منهم غير ذلك‪ .‬فها هوذا أبو هريرة رضي ال عنه‬
‫ينقل لنا ما حدث‪ " :‬زنى رجل من اليهود بامرأة وقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه‬
‫نبي مبعوث للتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججناها عند ال وقلنا فتيا نبي من‬
‫أنبيائك‪ .‬فأتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو جالس في المسجد مع أصحابه فقالوا‪ :‬يا أبا‬
‫القاسم ما ترى في امرأة ورجل زنيا؟‪ .‬فلم يكلمهم حتى ذهب إلى ِمدْراسهم‪.‬‬
‫وهناك طلب رسول ال صلى ال عليه وسلم من شاب رفض أن يتكلم بالكلم غير الصدق الذي‬
‫يتكلمه قومه‪ .‬وقال الشاب‪ :‬إنا نجد في التوراة الرجم‪ .‬وحكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بالرجم "‪.‬‬
‫حمّما مجلودا‪ ،‬فدعاهم‬
‫" عن البراء بن عازب قال‪ :‬مُرّ على النبي صلى ال عليه وسلم بيهودي مُ َ‬
‫فقال‪ :‬هكذا تجدون الزاني في كتابكم؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فدعا رجل من علمائهم فقال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ :‬أنشدك بال الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل‪ ،‬ولول أنك نشدتني بهذا لم أخبرك‪ ،‬نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا‬
‫الشريف تركناه‪ ،‬وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدّ‪ ،‬فقلنا‪ :‬تعاَلوْا فلنجتمع على شيء نقيمه على‬
‫الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬
‫ل لَ‬
‫وسلم‪( :‬اللهم إني أول من أحيا أمرك إِذْ َأمَاتُوه)‪ ،‬فأمر به فرُجم فأنزل ال‪ } :‬ياأَ ّيهَا الرّسُو ُ‬
‫خذُوهُ { َيقُولون ائتوا محمدا فإن‬
‫يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ا ْل ُكفْرِ { إلى قوله‪ } :‬إِنْ أُوتِيتُمْ هَـاذَا فَ ُ‬
‫أمركم بالتحميم والجلد فخذوه‪ ،‬وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا "‪.‬‬
‫إذن فالكثير منهم فاسقون‪ ،‬والقليل منهم غير فاسق لنهم يديرون فكرة اليمان برسول ال صلى‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال عليه وسلم‪ .‬فلو أن التهام كان شاملً للكل بأنهم فاسقون؛ لما أحس الذين يفكرون في أن‬
‫يؤمنوا بمحمد صلى ال عليه وسلم وبالنور الذي جاء به‪ .‬وعندما قال الحق‪ } :‬وَإِنّ كَثِيرا مّنَ‬
‫سقُونَ { يعني أن الذين يديرون في رؤوسهم فكرة اليمان برسول ال سيجدون النور‬
‫النّاسِ َلفَا ِ‬
‫واضحا في كلماته‪.‬‬
‫ونتساءل‪ :‬لماذا أرادوا أن يلووا أحكام ال ليحققوا لنفسهم سلطة زمنية وثمنا تافها من تلك الشياء‬
‫التي يتقاضونها‪ ،‬لماذا يفعلون ذلك؟‬
‫حكْمَ ا ْلجَاهِلِيّةِ‪{ ...‬‬
‫ها هوذا قول الحق سبحانه‪َ } :‬أ َف ُ‬

‫(‪)711 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like