You are on page 1of 255

‫تفسير الشعراوي‬

‫حسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ‬


‫ن وَالْ ِ‬
‫عدَدَ السّنِي َ‬
‫س ضِيَا ًء وَا ْل َقمَرَ نُورًا َوقَدّ َرهُ مَنَا ِزلَ لِ َتعَْلمُوا َ‬
‫شمْ َ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫ُهوَ الّذِي َ‬
‫حقّ ُي َفصّلُ الْآَيَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ (‪)5‬‬
‫ذَِلكَ إِلّا بِالْ َ‬

‫وبعد أن بيّن الحق أنه خلق السماء والرض وخلق الكون كله وسخره للنسان جاء لنا بنعم من‬
‫آياته التي خلقها لنا‪ ،‬والتي جعلها ال سبحانه وتعالى سببا لقوام الحياة؛ فالشمس هي التي تُنضج‬
‫لنا كل شيء في الوجود‪ ،‬وتعطي لكل كائن الشعاع الخاص به‪ ،‬كما أن الشمس تبخر المياه ‪ -‬كما‬
‫قلنا من قبل ‪ -‬لينزل الماء بعد ذلك عذبا فراتا‪ ،‬يرتوي منه النسان وتشرب منه النعام ونروي به‬
‫الزرع‪.‬‬
‫والشمس هي الم لمجموعة من الكواكب التي تدور حولها‪ ،‬فدورة الرض حول الشمس تمثل‬
‫السنة‪ ،‬ودورة الرض حول نفسها تمثل اليوم‪ .‬فيقول الحق سبحانه هنا‪:‬‬
‫س ضِيَآ ًء وَا ْل َقمَرَ نُورا } ولو نظرت إلى المعنى السطحي في الشمس والقمر‬
‫شمْ َ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫{ ُهوَ الّذِي َ‬
‫لقلت‪ :‬إن الشمس تعطي نورا وكذلك القمر‪ ،‬ولكن النظرة العمق تتطلب منك أن تفرّق بين‬
‫الثنين؛ فالشمس تعطي ضياء‪ ،‬والقمر يعطي نورا‪ .‬والفرق بين الضياء والنور يتمثل في أن‬
‫الضياء تصحبه الحرارة والدفء‪ ،‬والنور إنارة حليمة‪ ،‬ولذلك يسمى نور القمر النور الحليم؛ فل‬
‫تحتاج إلى الظل لتستظل من حرارته‪ ،‬لكن الشمس تحتاج إلى مظلة لتقيك حرارتها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالنور هو ضوء ليس فيه حرارة‪ ،‬والحرارة ل تنشأ إل حين يكون الضوء ذاتيّا من المضيء‬
‫مثل الشمس‪ .‬أما القمر فضوؤه غير ذاتي ويكتسب ضوءه من أشعة الشمس حين تنعكس عليه‪،‬‬
‫فهو مثل المرآة حين تسلط عليها بعضا من الضوء فهي تعكسه‪.‬‬
‫شمْسَ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫إذن‪ :‬القمر مضيء بغيره‪ ،‬أما الشمس فهي تضيء بذاتها‪ .‬لذلك قال الحق هنا‪َ { :‬‬
‫ضِيَآ ًء وَا ْل َقمَرَ نُورا }‪.‬‬
‫وكلمة { ضِيَآءً } إما أن تعتبرها مفردا مثل صام صياما‪ ،‬وقام قياما‪ ،‬وضاء ضياءً‪ .‬وإما أن‬
‫تعتبرها جمعا‪ ،‬مثلها مثل حوض ـ جمعه‪ :‬حياض‪ ،‬ومثل روض ـ جمعه رياض‪ ،‬وكذلك جمع‬
‫ضوء هو ضياء‪.‬‬
‫إذن كلمة { ضِيَآءً } تصلح أن تكون جمعا وتصلح أن تكون مفردا‪ ،‬وحين يجيء اللفظ صالحا‬
‫للجمع وللفراد‪ ،‬ل بد أن يكون له عند البليغ ملحظ؛ لنه يحتمل هذه المعاني كلها‪ ،‬وقبل معرفتنا‬
‫أسرار ضوء الشمس وقبل تحليله‪ ،‬كنا نقول‪ :‬إنه ضوء‪ ،‬لكن بعد أن حللنا ضوء الشمس‪ ،‬وجدنا‬
‫أن ألوان الطيف سبعة منها ضوء أحمر‪ ،‬وضوء أخضر‪ ،‬وضوء أصفر‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فـ " ضياء " تعبر عن تعدد اللوان المخزونة في ضياء الشمس‪ ،‬فإن قلت‪ :‬ضياء جمع‬
‫ضوء‪ ،‬فهذا بتحليل الضوء إلى عناصره كلها‪ ،‬وإن قلت‪ :‬ضياء مثل قيام‪ ،‬ومثل صيام‪ ،‬فهذا يصلح‬
‫في المعنى العام‪.‬‬
‫ولذلك كان القرآن ينزل بما تحتمله العقول المعاصرة لتزوله التي ل تعرف المعاني العلمية‬
‫للظواهر‪ .‬ولو قال القرآن هذه الحقائق‪ ،‬لقال واحد‪ :‬إنني أرى الشمس حمراء لحظة الغروب‪،‬‬
‫وأراها صفراء لحظة الظهيرة‪ ،‬وهو ل يعلم أن الحمرة وقت الغروب هي حمرة في الرؤية لطول‬
‫الشعة الحمراء‪ ،‬وهي ل تظهر إلى حين الغروب حيث تكون الشمس في أبعد نقطة‪ ،‬فل يصل‬
‫إلينا إل الضوء الحمر‪ ،‬أما بقية الضواء فهي تشع في الكون ول تصل إلينا‪.‬‬

‫(‪)1356 /‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ يَ ّتقُونَ (‪)6‬‬


‫ل وَال ّنهَا ِر َومَا خََلقَ اللّهُ فِي ال ّ‬
‫إِنّ فِي اخْتِلَافِ اللّ ْي ِ‬

‫خلَقَ اللّهُ‬
‫وهكذا بينّ الحق اختلف الليل عن النهار مما يؤكد أنهما وجدا معا‪ ،‬وعطف عليها { َومَا َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }؛ لنه سبحانه خلق الكون بما فيه من مقومات حياة من مأكل ومشرب‬
‫فِي ال ّ‬
‫وهواء‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬ثم سخّر الكون كله؛ لخدمة السيد وهو النسان‪.‬‬
‫ولو نظرتَ إلى مقومات الحياة لوجدت فيها احتياجات أساسية تتمثل في نفس هواء‪ ،‬وشراب ماء‪،‬‬
‫وطعام؛ هذه أهم احتياجات النسان من مقومات الحياة‪ .‬ويصبر النسان على المأكل أكثر مما‬
‫يصبر على المشرب‪ ،‬ويصبر على المشرب أكثر مما يصبر على َنفَس الهواء‪ ،‬بل ول يملك‬
‫النسان الصبر على َنفَس الهواء مقدار شهيق وزفير‪.‬‬
‫لذلك شاء الحق أن يملك قومٌ طعام غيرهم‪ ،‬لن الجسم يمكنه أن يصبر على الطعام لمدة قد تصل‬
‫إلى الشهر ويعتمد في ذلك على إذابة الدهن المتراكم بداخله‪ ،‬عكس ما اخترع البشر من آلت‪،‬‬
‫فالسيارة ل يمكن أن تسير لمتر واحد دون وقود‪ ،‬أما الجسم فيتحمل لعل مَنْ يملك الطعام يخفف‬
‫من القيود‪ ،‬أو لعل النسان الجائع يجد طريقه لينال ما يقتات به‪.‬‬
‫أما الماء فقد شاء الحق أن يقلل من احتكار البشر له؛ لن النسان أكثر احتياجا للماء من الطعام‪.‬‬
‫أما الهواء فسبحانه وتعالى لم يُملّك الهواء لحد؛ لن الهواء هو العنصر الساسي للحياة؛ ولذلك‬
‫اشتق منه لفظ النّفس‪ ،‬و َنفْس ونَفَس‪.‬‬
‫ولو نظرتَ إلى الهواء في الوجود كله لوجدته عامل صيانة لكل الوجود من ثبات الرض‪ ،‬إلى‬
‫ثبات المباني التي عليها‪ ،‬إلى ثبات البراج‪ ،‬إلى ثبات الجبال‪ ،‬كل ذلك بفعل الهواء؛ لن تياراته‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التي تحيط بجوانب كل الشياء هي التي تثّبتها‪ ،‬وإنْ تخلخل الهواء في أي ناحية حول تلك المباني‬
‫والجبال فهي تنهدم على الفور‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الهواء هو الذي يحفظ التوازن في الكون كله‪ .‬ولذلك قلنا‪ :‬إنك لو استعرضتَ ألفاظ القرآن‬
‫لوجدت أن الحق سبحانه حينما يتكلم عن تصريف الرياح‪ ،‬فهو سبحانه يتكلم بدقّةِ خالقٍ‪ ،‬بدقة إله‬
‫حكيمٍ‪ ،‬فهو يرسل من الرياح ما فيه الرحمة‪ ،‬مثل قوله الحق‪ {:‬وَأَ ْرسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ‪[} ...‬الحجر‪:‬‬
‫‪.]22‬‬
‫ح صَ ْرصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة‪.]6 :‬‬
‫لكن إذا جاء بذكر ريح ففي ذلك العقاب‪ ،‬مثل قوله‪ {:‬بِرِي ٍ‬
‫ومثل قوله‪ {:‬فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ مَا اسْ َتعْجَلْتُم‬
‫شيْءٍ بَِأمْرِ رَ ّبهَا فَ ْأصْبَحُو ْا لَ يُرَىا ِإلّ مَسَاكِ ُنهُمْ كَذَِلكَ َنجْزِي‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ * تُ َدمّرُ ُكلّ َ‬
‫بِهِ رِيحٌ فِيهَا َ‬
‫ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ }[الحقاف‪.]25 :‬‬
‫لن الرياح تأتي من كل ناحية‪ ،‬فتوازن الكائنات‪ ،‬أما الريح فهي تأتي من ناحية واحدة فتدهم ما‬
‫في طريقها‪.‬‬
‫وهنا يقول سبحانه‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ } أي‪ :‬أنه جاء بالمخلوقات الخرى مجملة بعد أن جاء‬
‫خلَقَ اللّهُ فِي ال ّ‬
‫{ َومَا َ‬
‫بذكر الشمس والقمر كآيتين منفصلتين‪ ،‬ثم ذكر السماوات والرض وما فيهما من آيات أخرى‪:‬‬
‫من رعد‪ ،‬وبرق‪ ،‬وسحاب‪ ،‬ونجوم وعناصر في الكون‪ ،‬كل ذلك مجمل في قوله‪َ { :‬ومَا خَلَقَ اللّهُ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }؛ لنه لو أراد أن يفصّل َل َذكَرَ كثيرا من اليات والنعم‪ ،‬وهو القائل‪:‬‬
‫فِي ال ّ‬

‫حصُوهَا‪[} ...‬إبراهيم‪.]34 :‬‬


‫{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ لَ ُت ْ‬
‫والقرآن ليس كتابا لبسط المسائل كلها‪ ،‬بل هو كتاب منهج‪ ،‬ومن العجيب أنه جاء بـ " إن " وهي‬
‫حصُوهَا }؛ لن أحدا مهما أوتي من العلم ليس‬
‫التي تفيد الشك في قوله‪ {:‬وَإِن َت ُعدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ ُت ْ‬
‫بقادر أن يُحصي نعمَ ال في الكون؛ ولن القبال على العَدّ فرض إمكان الحصر‪ ،‬ول يوجد إمكان‬
‫لذلك الحصر؛ لذلك لم يأت بـ " إذا " ‪ ،‬بل جاء بـ " إنْ " وهي في مقام الشك‪.‬‬
‫والعجب من هذا أنك تجد أن العَ ّد يقتضي التكرار‪ ،‬ولم يقل ال سبحانه‪ :‬وإن تعدوا نعم ال‪ ،‬بل‬
‫جاء بـ " نعمة " واحدة‪ ،‬وإذا استقصيتَ ما في النعمة لوجدتَ فيها آلف النعم التي ل تُحصَى‪.‬‬
‫ويُنهي الحق الية بقوله‪ } :‬ليَاتٍ ّل َقوْمٍ يَ ّتقُونَ { ‪ ،‬واليات تطلق ثلث إطلقات‪ :‬الطلق الول‬
‫آيات القرآن‪ ،‬والطلق الثاني على المعجزة الدالة على صدق الرسول‪ ،‬والطلق الثالث للية‬
‫أنها تحمل عجيبة من عجائب الكون الواضحة في الوجود الدالة على عظمة ال سبحانه‪.‬‬
‫وهذه اليات خلقها ال لتُلْفت إلى ُم َكوّن هذه اليات‪ ،‬واللفتة إلى مُكوّن هذه اليات ضرورة لينشأ‬
‫النسان في انسجام مع الكون الذي أنشيء من أجله‪ ،‬بحيث ل يأتي له بعد ذلك ما ينغّص هذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النسجام‪ ،‬فهبْ أن إنسانا ارتاح في حياته الدنيا ثم استقبل الخرة بشقاء وجحيم‪ ،‬فما الذي استفاده‬
‫من ذلك؟‬
‫إذن‪ :‬كل المسائل التي تنتهي إلى زوال ل يمكن أن تُعتبر نعمة دائمة؛ لن النعمة تعني أن تتنعم‬
‫بها تنعّما يعطيك يقينا أنها ل تفارقك وأنت ل تفارقها‪ ،‬والدنيا في أطول أعمارها؛ إما أن تفوت‬
‫النعمةُ فيها النسان‪ ،‬وإما أن يفوت هو النعمة‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يبقى الذين يريدون أن يتقوا ال؛ ليصلوا إلى نعيم ل يفوت ول ُيفَات‪،‬‬
‫ويجب أن ينظروا في آيات الكون؛ لنهم حين ينظرون في آيات الكون بإمعان يكونون قد أفادو‬
‫فائدتين‪ :‬الفائدة الولى أن يفيدوا مما خلق ال‪ ،‬والفائدة الثانية أن يعتبروا بأن هذا الكون الذي خلقه‬
‫ال إنما جعله وسيلة و َمعْبرا إلى غيره‪ ،‬فقد خلق فيه الخلق ليعيش بالسباب‪ ،‬لكنه يريد أن يُسْلمه‬
‫بعد ذلك إلى حياة يعيش فيها بالمسبّب وهو ال‪ .‬فالذين يتقون هم الذين يلتفتون‪ ،‬والذين ل يتقون ل‬
‫يعتبرون بالنظر في الكون وتمر على النسان منهم الشياء فل يعتبرون بها‪ ،‬كما قال ال‪َ {:‬وكَأَيّن‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪.]105 :‬‬
‫مّن آيَةٍ فِي ال ّ‬
‫إذن‪ :‬فهم ل يلتفتون إلى ما في آيات الحق من اليات الدالة على عظمة قدرة ال سبحانه؛ فهم‬
‫غير حريصين على أن َيقُوا أنفسهم عذاب الخرة‪.‬‬
‫ن لَ يَرْجُونَ ِلقَآءَنَا‪.{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬إِنّ الّذِي َ‬

‫(‪)1357 /‬‬

‫طمَأَنّوا ِبهَا وَالّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (‪)7‬‬


‫إِنّ الّذِينَ لَا يَرْجُونَ ِلقَاءَنَا وَ َرضُوا بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا وَا ْ‬

‫والرجاء هو طلب شيء محبوب متوقع‪ ،‬والتمنى طلب شيء محبوب إل أنه غير ممكن الحدوث‪،‬‬
‫ولكن تعلن بتمنّيك أنه أمر تحبه‪ ،‬مثل من قال‪:‬أل ليتَ الشبابَ يعودُ يوما فأخبِ َرهُ بما َف َعلَ المَشِيبُهو‬
‫بهذا القول يبين أن الشباب أمر محبوب ومرغوب‪ .‬لكن هل يتأتى هذا؟ طبعا ل‪ .‬إذن‪ :‬التمني هو‬
‫عقُودَ مَدْحٍ‬
‫ظمَها ُ‬
‫ت الكواكبَ تَدْنُو لي فَأْنْ ِ‬
‫طلب شيء محبوب ل يمكن أن يقع؛ ومثل قول الشاعر‪:‬لي َ‬
‫فما أرضَي لكُم كَِلمِيوهذا غير ممكن‪.‬‬
‫أما الرجاء فهو أن تطلب شيئا محبوبا من الممكن أن يقع‪.‬‬
‫ن لَ يَرْجُونَ ِلقَآءَنَا } ‪ ،‬فلماذا ل يرجون لقاء ال؟ لن الذي‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِنّ الّذِي َ‬
‫يرجو لقاء ال هو من أعد نفسه لهذا اللقاء؛ ليستقبل ثواب ال‪ ،‬لكن الذي لم يفعل أشياء تؤهله إلى‬
‫ثواب ال‪ ،‬وعمل أشياء تؤهله إلى عقاب ال؛ فكيف له أن يرجو لقاء ال؟ إنه ل يرجو ذلك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وعلى سبيل المثال‪ :‬إن الرجل الذي يستشهد ويقدم نفسه للشهادة‪ ،‬ونفسه هي أعز شيء عنده‪ ،‬إنما‬
‫يفعل ذلك لوثوقه بأن ما يستقبله بالستشهاد خير مما يتركه من الحياة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالذي يرجو لقاء ال هو الذي يُعدّ نفسه لهذا اللقاء؛ بأن يتقي ال في أوامره‪ ،‬ويتقي ال في‬
‫نواهيه؛ ولذلك تمر على النسان أحداث شَتّى؛ وهي في مقاييس اليقين بين أمرين اثنين‪ :‬حسنات‬
‫وسيئات‪ ،‬وكل واحد يعلم أية حسنات قد فعل‪ ،‬وأية سيئات قد اقترف‪ ،‬ول يغشّ أحد نفسه‪ ،‬فإذا ما‬
‫كان حيّا فقد يجعله المل يكذّب نفسه‪ ،‬ول يرى إل ما فات من المغريات‪.‬‬
‫أما إذا جاء لحظة الغرغرة في الموت‪ ،‬فهو يستعرض كل صفحته‪ .‬فإن كانت حسنة استبشر‬
‫وجهه‪ ،‬وإن كانت سيئة اكفهرّ وجهه‪ ،‬ولذلك يقال‪ " :‬فلن كانت خاتمته سيئة‪ ،‬وفلن كانت خاتمته‬
‫متهللة "‪ .‬وهذا كلم صحيح؛ لن الروح ساعة أن تُقبض فهي تترك الجسم على ما هو عليه ساعة‬
‫فراقها‪ ،‬فإن كان ضاحكا ومستبشرا‪ ،‬فقد رأى بعضا مما ينتظره من خير‪.‬‬
‫والنسان وقت الغرغرة ل يكذب على نفسه‪ ،‬فهو ساعة يمرض بمرض فهو يأمل في العافية‪ ،‬فإذا‬
‫أتى وقت انتهاء ُتعْ َرضُ عليه أعماله عَرْضا سريعا‪ ،‬فإن كانت العمال حسنة تنفرج أساريره؛‬
‫لنه يستشرف ما سوف يلقاه من جزاء‪.‬‬
‫جدّا ومجتهدا ثم يقولون له‪ :‬هناك من جاء لك بالنتيجة؛ فيجري عليه‬
‫وهذا مثل التلميذ حين يكون مُ ِ‬
‫جدّ؛ لم يجب‪ ،‬ويخاف من لقاء مَنْ يحمل النتيجة‪.‬‬
‫مطمئنا‪ .‬وإن كان غير مُ ِ‬
‫كذلك الذين يرجون لقاء ال؛ عملوا استعدادا لهذا اللقاء وينتظرون الجزاء من ال‪ ،‬أما من لم‬
‫يعملوا فهم يخافون من لقاء ال ول يرجونه وسبب ذلك أنهم لم يعملوا للخرة { وَرَضُواْ بِالْحَياةِ‬
‫طمَأَنّواْ ِبهَا } وكأنهم قد اكتفوا بها ولم يرغبوا في الخرة‪.‬‬
‫الدّنْيَا وَا ْ‬

‫وقد سمى ال هذه الدار اسما كان يجب بمجرد أن نسمعه ننصرف عنها‪ ،‬فقال‪ } :‬بِا ْلحَياةِ الدّنْيَا‬
‫{ ول يوجد اسم أقل من ذلك‪ ،‬والمقابل للحياة الدنيا هي الحياة العليا‪.‬‬
‫عمْر الدنيا ويقول‪ :‬إنها تستمر عشرة مليين من السنين‪ ،‬أو مائة مليون‬
‫والنسان قد يبحث في ُ‬
‫سنة‪ ،‬وقد ل يلتفت إلى أن عمره هو موقوت في هذه الدنيا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالدنيا بالنسبة لك هي مقدار عمرك فيها‪ ،‬ل مقدار عمرها الحقيقي إلى أن تقوم الساعة‪،‬‬
‫وماذا تستفيد منها وهي تطول لغيرك؟ إن عمر الدنيا بالنسبة للنسان هو مقدار ُمكْث النسان‬
‫فيها‪ ،‬وهو مظنون وغير متيقن‪ ،‬وقد يمت وهو في بطن أمه أو يموت وهو ابن شهر‪ ،‬أو ابن سنة‪،‬‬
‫أو بعد أن يبلغ المائة‪ .‬فالذي يرضي بغير المتيقن قصير النظر‪.‬‬
‫ن الخِ َرةِ َفمَا مَتَاعُ ا ْلحَيَاوةِ الدّنْيَا فِي‬
‫ولذلك انظر إلى القرآن وهو يقول‪ {:‬أَ َرضِيتُمْ بِا ْلحَيَاوةِ الدّنْيَا مِ َ‬
‫الخِ َرةِ ِإلّ قَلِيلٌ }[التوبة‪.]38 :‬‬
‫عمْر الدنيا من بدء الخلق إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬فه إلى فناء‪ ،‬وما دامت إلى فناء‪،‬‬
‫وحتى إن قسْت ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهي متاع قليل‪ ،‬ومن يطمئن إلى هذا المتاع القليل فهو غافل؛ لذلك يُنهي الحق الية‪ } :‬وَالّذِينَ هُمْ‬
‫عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ { عكس ما قال في الذين يعرفونَ قيمة العمل للخرة‪ .‬حين يقول الحق‪ {:‬ليَاتٍ‬
‫ّلقَوْمٍ يَ ّتقُونَ }[يونس‪.]6 :‬‬
‫والغفلة‪ :‬هي ذهاب المعنى عن النفس‪ ،‬فما دام المعنى موجودا في النفس‪ ،‬فاليقظة توجد‪ ،‬والغفلة‬
‫تذهب‪ .‬إذن‪ :‬الغفلة ذهاب المعنى عن النفس‪ ،‬واليقظة هي استقرار المعنى في النفس‪.‬‬
‫ونحن نعرف أن المعلومات التي يستقبلها الذهن البشري إنما تلتقطها بؤرة الشعور‪ ،‬مثلما تلتقط آلة‬
‫التصوير الفوتوغرافية أية صورة‪.‬‬
‫وإياك أن تظن أن النسان يعرف المعلومة من تكرارها مرتين مثلً أو أكثر؛ لن كل الذهان‬
‫تتفق في أنها تلتقط المعلومة من مرة واحدة‪ ،‬ويتميز إنسان عن آخر في قدرته على أن يستقبل‬
‫المعلومة بذهن مستعد لها؛ لن بورة الشعور ل تلتقط إل معنى واحدا‪ ،‬ثم يتزحزح المعنى إلى‬
‫حاشية الشعور؛ لتأتي المعلومة الثانية‪ ،‬فإن استقبلت المعلومة وفي بؤرة شعورك معنى آخر؛ ل‬
‫تثبت المعلومة؛ لذلك تكرر القراءة مرة واثنتين وثلث مرات‪ ،‬حتى تصادف المعلومة خُُلوّ بؤرة‬
‫الشعور‪.‬‬
‫ومثال هذا‪ :‬الطالب حين يحاول حفظ قصيدة‪ ،‬فلو كان ذهنه مستعدا لستقبال القصيدة فهو يحفظها‬
‫من مرة واحدة‪.‬‬
‫لستقبال القصيدة فهو يحفظها من مرة واحدة‪.‬‬
‫جلٍ مّن قَلْبَيْنِ‬
‫ج َعلَ اللّهُ لِرَ ُ‬
‫إذن‪ :‬الذهن كآلة الغوتوغرافيا؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول‪ {:‬مّا َ‬
‫ج ْوفِهِ‪[} ...‬الحزاب‪.]4 :‬‬
‫فِي َ‬
‫فإن كنت تريد أن تستقبل معلومة ما‪ ،‬فكُن حريصا على أن تُفرّغ ذهنك‪ ،‬من أي معلومة؛ لتأتي‬
‫المعلومة الجديدة‪ ،‬فتصادف خلء لبؤرة الشعور؛ فتستقر فيها‪.‬‬

‫والمدرس الناجح هو الذي يلفت أذهان كل التلميذ لما يقول‪ ،‬وما دامت الذهان قد التفتت إليه؛‬
‫فلن تمر كلمة دون أن يستوعبها التلميذ‪ ،‬عكس المدرس غير الناجح الذي يؤدي عمله برتابة‬
‫وركاكة َتصْرف عنه التلميذ‪ .‬ونجد المدرس الناجح‪ ،‬وهو يُلفت انتباه تلميذه ويقطع الدرس؛‬
‫ليسأل أي واحد منهم عمّا قال؛ فيستمع إليه التلميذ من بعد ذلك بانتباه؛ لن كل واحد منهم يتوقع‬
‫أن يُسأل عن المعلومة التي قِيلتْ من قبل‪.‬‬
‫والتلميذ المجتهد هو الذي يقرأ الدرس بعقلية قادرة على مناقشة ما فيه من أساليب ومعلومات‪،‬‬
‫وهو يستصحب حضور الذهن أثناء القراءة‪ ،‬أما التلميذ الفاشل فهو يقرأ دون يقظة أو انتباه‪.‬‬
‫مثال آخر‪ :‬إن الفلح الذي ينام على حافة بئر الساقية ل يقع في بئرها؛ لنه ينام وهو مستصحب‬
‫لفكرة أنه إن تقلّب على جنبٍ ما فسوف يقع في البئر‪ .‬وكذلك الخوة حين ينام اثنان منهم على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سرير واحد‪ ،‬يقوم كل واحد منهما في الصباح وهو مستصحب أن هناك آخر بجانبه‪ ،‬ولكن إذا نام‬
‫كل منهما في سرير منفصل‪ ،‬فهو يستيقظ ليجد رأسه في ناحية وساقيه في ناحية أخرى‪ ،‬وتسمى‬
‫هذه عملية الستصحاب واليقظة‪ ،‬ويقال " فلن يقظ " ‪ ،‬وكلمة " يقظ " ضد " نائم "؛ لن اليقظان‬
‫يحتفظ بالوعي والنتباه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالغفلة هي ذهاب المعنى من النفس وانطماسه‪ ،‬والذين يمرون باليات وهم غافلون عنها لن‬
‫ينتفعوا بشيء من هذه اليات‪ ،‬ثم تأتي لهم محصلة غفلتهم في الخرة‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه عنهم‪ُ } :‬أوْلَـا ِئكَ مَ ْأوَاهُمُ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1358 /‬‬

‫أُولَ ِئكَ مَ ْأوَاهُمُ النّارُ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ (‪)8‬‬

‫وأنت تقول‪ " :‬أويت إلى كذا " ‪ ،‬إذا كان هذا هو المكان الذي يعصمك من شيء‪ ،‬وهنا يقول الحق‪:‬‬
‫{ مَ ْأوَا ُهمُ النّارُ } فإذا كان ذلك هو المأوى‪ ،‬فل بد أن ما خارجها بالنسبة لهم أشد عذابا‪ .‬وهم‬
‫يأوون إلى النار { ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ } أي‪ :‬بسبب ما كانوا يعملون من ذنوب وسيئات‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ‪.} ...‬‬

‫(‪)1359 /‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ َيهْدِيهِمْ رَ ّب ُهمْ بِإِيمَا ِنهِمْ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهِمُ الْأَ ْنهَارُ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ (‬
‫إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬
‫‪)9‬‬

‫هنا يتحدث الحق سبحانه عن المقابل‪ ،‬وهم الذين آمنوا‪ ،‬ويعُلّمنا أنه سبحانه‪َ { :‬ي ْهدِيهِمْ رَ ّبهُمْ‬
‫بِإِيمَا ِنهِمْ }‪.‬‬
‫والهداية ‪ -‬كما قلنا من قبل ‪ -‬معناها الدللة على الخير‪ ،‬بالمنهج الذي أرسله الحق سبحانه لنا‪،‬‬
‫وبه بيّن الحق السّ ُبلَ أمام المؤمن والكافر‪ ،‬أما الذي يُقبل على ال بإيمان فيعطيه الحق سبحانه‬
‫وتعالى هداية أخرى؛ بأن يخفف أعباء الطاعة على نفسه‪ ،‬ويزيده سبحانه هدى بالمعروف؛ لذلك‬
‫شعِينَ }[البقرة‪.]45 :‬‬
‫قال سبحانه‪ {:‬وَاسْ َتعِينُواْ بِالصّبْ ِر وَالصّلوةِ وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى الْخَا ِ‬
‫وهكذا يتلقى المؤمن مشقات الطاعة بحب؛ فيهونّها الحق سبحانه عليه ويجعله يدرك لذة هذه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الطاعة؛ لتهون عليه مشقتها‪ ،‬ويمده سبحانه أيضا بالمعونة‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ َي ْهدِيهِمْ رَ ّبهُمْ بِإِيمَا ِنهِمْ }‪.‬‬
‫{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ‬
‫وما داموا قد آمنوا؛ فسبحانه يُنزِل لهم الحكام التي تفيدهم في حياتهم وتنفعهم في آخرتهم‪ ،‬أو أن‬
‫الهداية ل تكون في الدنيا بل في الخرة‪ ،‬فما دامو قد آمنوا‪ ،‬فهم قد أخذوا المنهج من ال سبحانه‬
‫وتعالى وعملوا العمال الصالحة‪ ،‬يهديهم الحق سبحانه إلى طريق الجنة‪.‬‬
‫سعَىا نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَ ْيمَانِهِم‪} ...‬‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ يَ ْ‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪َ {:‬يوْمَ تَرَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫[الحديد‪.]12 :‬‬
‫سعَىا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَ ْيمَانِهِمْ‪[} ...‬التحريم‪.]8 :‬‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ نُورُهُمْ َي ْ‬
‫أي‪ :‬أن نورهم يضيء أمامهم‪ .‬أما المنافقون فيقولون للذين آمنوا‪ {:‬انظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِن نّو ِركُمْ قِيلَ‬
‫جعُو ْا وَرَآ َء ُكمْ فَالْ َتمِسُواْ‪[} ...‬الحديد‪.]13 :‬‬
‫ارْ ِ‬
‫أي‪ :‬أن هذا ليس وقتَ التماس النور‪ ،‬فالوقت ‪ -‬للتماس النور ‪ -‬كان في الدنيا؛ باتباع المنهج‬
‫والقيام بالصالح من العمال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه يهدي للمؤمنين نورا فوق نورهم في الخرة‪.‬‬
‫والية تحتمل الهداية في الدنيا‪ ،‬وتحتمل الهداية في الخرة‪.‬‬
‫ويصف الحق سبحانه حال المؤمنين في الخرة فيقول‪ { :‬تَجْرِي مِن َتحْ ِتهِ ُم الَ ْنهَارُ فِي جَنّاتِ‬
‫ال ّنعِيمِ } [يونس‪.]9 :‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن الجنة على حوافّ النهار؛ لن الخضرة أصلها من الماء‪ .‬وكلما رأيتَ مجرى للماء ل‬
‫بد أن تجد خضرة‪ ،‬والجنات ليست هي البيوت‪ ،‬بدليل قول الحق سبحانه‪َ {:‬ومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي‬
‫جَنّاتِ عَدْنٍ‪[} ...‬التوبة‪.]72 :‬‬
‫ونجد الحق سبحانه يقول مرة‪َ {:‬تجْرِي تَحْ َتهَا الَ ْنهَارُ‪[} ...‬التوبة‪.]100 :‬‬
‫ويقول سبحانه في مواضع أخرى‪َ {:‬تجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ‪[} ...‬البقرة‪.]25 :‬‬
‫والحق سبحانه يعطينا صورا متعددة عن الماء الذي ل ينقطع‪ ،‬فهي مياه ذاتية الوجود في الجنة ل‬
‫تنقطع أبدا‪.‬‬
‫عوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَا َنكَ الّل ُه ّم وَتَحِيّ ُتهُمْ‪.} ...‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬دَ ْ‬

‫(‪)1360 /‬‬

‫ح ْمدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)10‬‬


‫عوَاهُمْ أَنِ الْ َ‬
‫عوَا ُهمْ فِيهَا سُبْحَا َنكَ الّلهُ ّم وَتَحِيّ ُت ُهمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَ ْ‬
‫دَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫دعواهم‪ :‬أي دعاؤهم‪.‬‬
‫وهل الخرة دار تكليف؛ حتى يواصلوا عبادة ال؟ ل‪ ،‬ولكنها عبادة اللتذاذ‪ ،‬وهم كُلّما رأوا شيئا‬
‫يقولون‪ :‬لقد أكلنا ذلك من قبل‪ ،‬ولكنهم يعرفون حين يأكلون ثمار الجنة أن ما في الرض كان‬
‫ل وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها‪[} ...‬البقرة‪:‬‬
‫يشبه تلك الثمار‪ ،‬لكنه ليس مثلها‪ {.‬قَالُواْ هَـاذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِن قَ ْب ُ‬
‫‪.]25‬‬
‫أو يقولون‪ { :‬سُبْحَا َنكَ الّل ُهمّ } اعترافا بالنعمة‪ ،‬وأنت حين ترى شيئا يعجبك تقول‪ :‬سبحانك يا رب‪.‬‬
‫وبعد أن تأتي لك النعمة وتقول‪ :‬سبحان ال‪ ،‬وتُفاجَأ بأشياء لم تكن في الحسبان ‪ -‬من فرط‬
‫جمالها؛ فتقول‪ :‬الحمد ل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فأنت تستقبل النعمة " بسبحان ال " ‪ ،‬وينتهي من النعمة " بالحمد ل "‪ .‬ولذلك يقول الحق‬
‫حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } والذي يجعل للحياة الدنيا معنى‪ ،‬ويجعل لها‬
‫عوَاهُمْ أَنِ الْ َ‬
‫سبحانه‪ { :‬وَآخِرُ دَ ْ‬
‫طعما ويجعل لها استقرارا‪ ،‬أن يكون النسان في سلم‪ ،‬ومعنى السلم‪ :‬الطمئنان والرضا؛ فل‬
‫مُهيّجات‪ ،‬ول مُعكّرات‪ ،‬ول يأتي ذلك إل بعدم اصطدام في ملكات النفس؛ فيتحقق سلم النسان‬
‫مع نفسه‪ ،‬وسلم النسان مع أهله‪ ،‬وهذا هو المحيط الثاني‪ ،‬وسلم النسان مع قومه‪ ،‬وسلم‬
‫النسان مع العالم كله‪ ،‬كل ذلك اسمه سلم‪ ،‬ل مُنغّص‪ ،‬ل من نفسه‪ ،‬ول من أهله‪ ،‬ول من قومه‪،‬‬
‫ول من العالم‪ .‬وكلما اتسعت رقعة السلم زاد الحساس النسان بالطمئنان‪.‬‬
‫وحين يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَتَحِيّ ُت ُهمْ فِيهَا سَلَمٌ } ‪ ،‬فالسلم وارد في أشياء متعددة‪ ،‬والحق سبحانه‬
‫علَى الَرَآ ِئكِ مُ ّتكِئُونَ‬
‫للٍ َ‬
‫جهُمْ فِي ظِ َ‬
‫ش ُغلٍ فَا ِكهُونَ * هُ ْم وَأَ ْزوَا ُ‬
‫صحَابَ الْجَنّةِ ال َيوْمَ فِي ُ‬
‫يقول‪ {:‬إِنّ َأ ْ‬
‫لمٌ َقوْلً مّن ّربّ رّحِيمٍ }[يس‪.]58-55 :‬‬
‫* َلهُمْ فِيهَا فَا ِكهَ ٌة وََلهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَ َ‬
‫وهذا هو السلم الذي له معنى؛ فهو سلم من ال‪ .‬ولم يقل سبحانه‪ " :‬سلم يورثك اطمئنانا ونفسا‬
‫راضية " فقط‪ ،‬بل هو سلم بالقول من ال‪ ،‬وانظر أي سعادة حين يخاطبك الحق سبحانه وتعالى‬
‫مباشرة‪ .‬وهناك فرق بين أن يشيع ال فيك السلم وبين أن يحييك كلمه بالسلم‪ .‬وهذا هو السبب‬
‫لمٌ َقوْلً مّن ّربّ رّحِيمٍ }[يس‪.]58 :‬‬
‫في قوله‪ {:‬سَ َ‬
‫وهذا سلم ال‪ ،‬ثم من بعده هذه المنزلة يأتي سلم الملئكة‪:‬‬
‫{ وَالمَلَ ِئكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَ ْيهِمْ مّن ُكلّ بَابٍ * سَلَمٌ عَلَ ْيكُم‪[} ...‬الرعد‪.]24-23 :‬‬
‫لمٌ } نجد فيه كلمة السلم رمز الرضا والستقرار في‬
‫إذن‪ :‬فقول الحق هنا‪ { :‬وَ َتحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَ َ‬
‫الجنة؛ فالسلم هو أول الحاسيس التي تحبها في نفسك‪ ،‬ولو كانت الناس كلها ضدك‪ .‬لكنك ساعة‬
‫تستقر‪ ،‬فأنت تسائل نفسك‪ :‬ماذا فعلت ليكون البعضُ ضدي؟ وحين تجيب نفسك‪ " :‬إنني لم أفعل‬
‫إل الخير "؛ فأنت تحس السلم في نفسك‪ ،‬وإذا ما رحّب الخرون بما تفعل‪ ،‬فالحياة تسير‪ ،‬بل‬
‫ض ّد ول حقد‪ ،‬وهذا ما قاله رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫" يطلع عليكم الن رجل من أهل الجنة " فيدخل رجل عرفه القوم فلما انصرف؛ قام واحد من‬
‫الصحابة‪ ،‬وذهب إلى الرجل؛ ليعلم ماذا يصنع‪ ،‬وسأله‪ :‬ماذا تفعل حتى يبشّرك الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم بالجنة؟ فوجد سلوك الرجل مستقيما ومتبعا للمنهج دون زيادة‪ ،‬فسأله الصحابي‪ :‬لماذا‬
‫‪ -‬إذن ‪ -‬بشّرك رسول ال صلى ال عليه وسلم بالجنة؟‬
‫قال الرجل‪ :‬وال إني لصلّي كما تصلّون‪ ،‬وأصوم كما تصومون‪ ،‬وأزكّى كما تزكون‪ ،‬ولكني‬
‫أبيت وما في قلبي غلّ لحد‪.‬‬

‫هذا هو السلم النفسي‪ ،‬وإذا ما وصل النسان إلى السلم مع النفس؛ فل تضيره الدنيا إن قامت‪،‬‬
‫وبعد ذلك يضمن أن يوجد سلمه مع ال تعالى‪ ،‬ومن عنده سلم مع نفسه‪ ،‬ومع بيئته‪ ،‬ومع‬
‫مجتمعه؛ فهو ينال سلما من ال سبحانه‪ .‬ويقول لنا القرآن عن الذين يعانون من مأزق في‬
‫سعِيدٌ }[هود‪.]105 :‬‬
‫ي وَ َ‬
‫شقِ ّ‬
‫الخرة‪َ {:‬يوْمَ يَ ْأتِ لَ َتكَلّمُ َنفْسٌ ِإلّ بِِإذْنِهِ َفمِ ْنهُمْ َ‬
‫هؤلء هم الذين شقوا في النار‪ ،‬أما الذين سُعدوا ففي الجنة‪ ،‬فماذا عن حال الذين ل هم شقوا ول‬
‫هم سعدوا ‪ -‬وهم أهل العراف؛ لن الموقف يوم القيامة ينقسم الناس فيه إلى ثلثة أقسام؛ فقد‬
‫خفّتْ َموَازِينُهُ *‬
‫شةٍ رّاضِيَةٍ * وََأمّا مَنْ َ‬
‫قال ال سبحانه‪ {:‬فََأمّا مَن َثقَُلتْ َموَازِينُهُ * َف ُهوَ فِي عِي َ‬
‫فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ }[القارعة‪.]9-6 :‬‬
‫ولم يقل الحق سبحانه لنا أمر الذين تساوت الكفتان لهم أثناء الحساب؛ لنه سبحانه قال في حديث‬
‫قدسي‪:‬‬
‫" إن رحمتي غلبت غضبي "‪.‬‬
‫جدْنَا مَا وَعَدَنَا‬
‫ويبين لنا الحق سبحانه رحمته فيقول‪ {:‬وَنَادَى َأصْحَابُ الْجَنّةِ َأصْحَابَ النّارِ أَن قَ ْد وَ َ‬
‫حقّا قَالُواْ َنعَمْ فَأَذّنَ ُمؤَذّنٌ بَيْ َنهُمْ أَن ّلعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّاِلمِينَ }‬
‫حقّا َف َهلْ وَجَدتّم مّا وَعَدَ رَ ّبكُمْ َ‬
‫رَبّنَا َ‬
‫[العراف‪.]44 :‬‬
‫ويأتي أمر رجال العراف فيقول سبحانه‪ {:‬وَعَلَى الَعْرَافِ رِجَالٌ َيعْ ِرفُونَ كُلّ ِبسِيمَاهُمْ‪} ...‬‬
‫[العراف‪]46 :‬‬
‫لقد عرفوا المؤمنين بسيماهم‪ ،‬وعرفوا الكفار بسيماهم‪ ،‬وجليس البعض على العراف؛ ينتظرون‬
‫ط َمعُونَ }[العراف‪.]46 :‬‬
‫لمٌ عَلَ ْيكُمْ َلمْ يَ ْدخُلُوهَا وَهُمْ يَ ْ‬
‫وينظرون لهل الجنة قائلين‪ {:‬سَ َ‬
‫صحَابَ الْجَنّةِ أَنْ َأفِيضُواْ‬
‫ثم يعطينا الحق سبحانه صورة ثانية فيقول‪ {:‬وَنَادَىا َأصْحَابُ النّارِ َأ ْ‬
‫عَلَيْنَا مِنَ ا ْلمَآءِ َأوْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنّ اللّهَ حَ ّر َم ُهمَا عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[العراف‪.]50 :‬‬
‫أهل العراف ‪ -‬إذن ‪ -‬يسعدون بعطاء ال لهل الجنة‪ ،‬ويطمعون أن يغفر ال ‪ -‬سبحانه وتعالى‬
‫‪ -‬لهم‪.‬‬
‫ونحن في حياتنا نسمع المشرفين على المساجين أو المحكوم عليهم بالعدام يقولون‪ :‬قبل أن يحكم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على المجرم بالعدام ينخفض وزنه‪ ،‬ثم يزيد بعد الحكم؛ لن المر قد استقر‪ .‬والذين يُشغلون بأن‬
‫يعرفوا مكانهم في الخرة‪ ،‬أهو في الجنة أو في النار‪ ،‬ل ينسون أن يقولوا للمؤمنين‪ {.‬سَلَمٌ‬
‫عَلَ ْيكُمْ‪[} ...‬العراف‪.]46 :‬‬
‫ح ْمدُ للّهِ َربّ‬
‫عوَاهُمْ أَنِ الْ َ‬
‫ل ٌم وَآخِرُ دَ ْ‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه عن أهل الجنة‪ } :‬وَ َتحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَ َ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ { وقد تكون آخر دعواهم‪ ،‬أي‪ :‬آخر كلمة‪.‬‬
‫حمْد هو قمة‬
‫فالواحد منهم يقول‪ :‬أنا حمدت ربنا على الشيء الفلني والشيء الفلني‪ .‬وآخر َ‬
‫الحمد؛ لنهم حمدوا ال على النعمة في الدنيا التي تزول‪ ،‬ويحمدونه في الخرة على النعمة التي‬
‫حمْد على النعمة التي ل تزول فهو قمة الحمد‪.‬‬
‫ن يوجد َ‬
‫ل تزول‪ ،‬فلئِ ْ‬
‫جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِتعْجَاَلهُمْ‪.{ ...‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وََلوْ ُيعَ ّ‬

‫(‪)1361 /‬‬

‫ضيَ إِلَ ْيهِمْ َأجَُلهُمْ فَنَذَرُ الّذِينَ لَا يَرْجُونَ ِلقَاءَنَا فِي‬
‫جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِتعْجَاَلهُمْ بِالْخَيْرِ َل ُق ِ‬
‫وََلوْ ُي َع ّ‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ (‪)11‬‬
‫ُ‬

‫شغُل الناس الشاغل في الدعاء ل تعالى‪ ،‬وقد ل يُجاب‬


‫وهذه الية تتناول قضية عقدية قد تكون ُ‬
‫دعاؤهم مع كثرة الدعاء‪ ،‬ويُحزنهم على أنفسهم ويقول الواحد منهم‪ :‬لماذا ل يقبل ال دعائي؟ أو‬
‫يقع بعضهم في اليأس‪.‬‬
‫ونقول لكل إنسان من هذا الفريق‪ :‬ل‪ ،‬أنت تدعو‪ ،‬مرة تدعو بالشر ومرة تدعو بالخير‪ ،‬فلو أن ال‬
‫سبحانه وتعالى قد أجابك في جميع الدعاء‪ ،‬فسوف يجيب دعاءك في الشر ودعاءك في الخير‪ ،‬ولو‬
‫أن ال سبحانه وتعالى عجّل لك دعاء الشر‪ ،‬كما تحب أن يُعجّل لك دعاء الخير‪َ ،‬ل ُقضِي إليك أجلك‬
‫وانتهت المسألة‪ ،‬وهناك من قالوا‪ {:‬الّل ُهمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً‬
‫سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال‪.]32 :‬‬
‫مّنَ ال ّ‬
‫ولو استجاب الحق لمثل هذا الدعاء‪ ،‬لكان وبالً على مَنْ دعوا ذلك الدعاء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمن مصلحتك حين تدعو على نفسك أو تدعو بأي وبال أل يجيبك ال تعالى‪ ،‬وافهم أن ل‬
‫تعالى حكمة في الجابة؛ لنه سبحانه وتعالى مُنزّه عن أن يكون موظفا عند الخلق‪ ،‬ومَن يدعُهُ‬
‫بشيء يجبه عليه‪ ،‬بل ل بد من مشيئته سبحانه في تقرير لون الجابة؛ لنه لو كان المر عكس‬
‫ذلك لنتقلت اللوهية للعبد‪.‬‬
‫لقد صان الحق سبحانه عباده بوضع رقابة على الدعاء؛ وأنت تعتقد أن دعاءك بالخير‪ ،‬ولكن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رقابة الحق سبحانه التي تعلم كل شيء أزلً تكاد أن تقول لك‪ :‬ل‪ ،‬ليس خيرا‪ .‬وانتظر الخير بعدم‬
‫استجابة دعائك؛ لنه القائل سبحانه‪ {:‬وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُ ْم وَعَسَىا أَن تُحِبّواْ‬
‫شَيْئا وَ ُهوَ شَرّ ّلكُمْ‪[} ...‬البقرة‪.]216 :‬‬
‫إذن‪ :‬فمعرفتك ليست نهائية في تقرير الخير والشر؛ لذلك َدعِ اللهَ العلى ‪ -‬وهو المأمون عليك‬
‫‪ -‬أن يستجيب أو ل يستجيب لما تدعوه وأنت في ظنك أنه الخير‪ ،‬فالمعرفة العليا هي التي تفرق‬
‫بين الخير والشر‪ ،‬وفي المنع ‪ -‬أحيانا ‪ -‬عين العطاء؛ ولذلك يقول الحق‪ {:‬وَيَ ْدعُ الِنْسَانُ بِالشّرّ‬
‫عجُولً }[السراء‪.]11 :‬‬
‫ن الِنْسَانُ َ‬
‫دُعَآ َءهُ بِالْخَيْ ِر َوكَا َ‬
‫وقد تلحّ في دعاء لو استجيب لك؛ لكان شرّا‪ .‬وال سبحانه يعلم ما هو الخير لك‪ ،‬وهو سبحانه‬
‫يجيب أحيانا بعض خلقه في أشياء كان النسان منهم يتمنى أن توجد‪ ،‬ثم يكتشف النسان أنها لم‬
‫تكن خيرا‪ ،‬وأحيانا يأتي لك بأشياء كنت تظن أنها شر لك‪ ،‬فتجد فيها الخير‪ .‬وهكذا يصحّح لك‬
‫الحق سبحانه بحكمته تصرفاتك الختيارية‪.‬‬
‫حقّ مِنْ عِن ِدكَ‬
‫وقد قال الكافرون لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ {.‬الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ‬
‫سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال‪.]32 :‬‬
‫فََأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ ال ّ‬
‫ومن قالوا هذا القول هم‪ :‬العاص بن وائل السهمي‪ ،‬والوليد بن المغيرة‪ ،‬والسود بن عبد المطلب‬
‫والسود بن عبد يهود‪ ،‬وكانوا قد وصلوا إلى قمة الضطراب؛ فهم قد اضطربوا أولً حين اتهموه‬
‫بأنه ساحر‪ ،‬ولم ينتبهوا إلى غباء ما يقولون؛ لنه إن كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم قدرة‬
‫السحر؛ فلماذا لم يسحرهم هم ليؤمنوا أيضا؟‬
‫واضطربوا مرة ثانية‪ ،‬وحاولوا أن يقولوا‪ :‬إن القرآن شعر‪ ،‬أو له طبيعة الشعر والكلم المسجوع‪،‬‬
‫والقرآن ليس كذلك‪.‬‬

‫ولو أن جماعة غيرهم قالت مثل هذا القول لكان لهم عذرهم لنهم ليسوا أهل لغة‪ ،‬أما هؤلء فهم‬
‫قوم أهل دُرْبة على الفصاحة والبلغة‪ ،‬وكانوا يعقدون أسواق الشعر والخطابة‪ ،‬ثم اضطربوا مرة‬
‫ثالثة‪ ،‬وحاولوا الطعن في مكانه محمد صلى ال عليه وسلم وهم يُقروّن بعظمة القرآن؛ فقالوا‪{:‬‬
‫عظِيمٍ }[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ‬
‫َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ‬
‫والحق سبحانه وتعالى حينما يتعرض لحادثة وقعت في زمن النبي صلى ال عليه وسلم مع‬
‫الكافرين؛ ل يقتصر في الحدث على ما وقع‪ ،‬ولكنه يعالج قضية عامة كونية إلى أن تقوم الساعة‪،‬‬
‫ويجعل الحدث الحاصل في زمنه سببا فقط؛ ليعطي عموم الحكم في كل زمان وفي كل مكان‪ .‬وإل‬
‫اقتصر المر على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقد جاء القرآن للناس كافة‪ ،‬وجاء للزمان‬
‫عامة‪ ،‬فل بد أن تكون القضية المعروضة ‪ -‬أيّ قضية ‪ -‬أمام رسول ال صلى ال عليه وسلم من‬
‫قوم عاصروه لها سبب خاص‪ ،‬ولكن العبرة بعموم الموضوع ل بخصوص السبب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويعالج ال سبحانه وتعالى في هذه المسألة الشخصية من هؤلء الذين قالوا ذلك قضيةً كونيةً‬
‫ستظل إلى أن تقوم الساعة‪.‬‬
‫سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا‬
‫حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ ال ّ‬
‫عوْا على أنفسهم‪ {:‬إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ‬
‫فقد دَ َ‬
‫ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال‪.]32 :‬‬
‫كما قال قوم عاد لهود‪ {:‬أَجِئْتَنَا لِ َنعْ ُبدَ اللّهَ وَحْ َد ُه وَنَذَرَ مَا كَانَ َيعْ ُبدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ‬
‫الصّا ِدقِينَ }[العراف‪.]70 :‬‬
‫إذن‪ :‬هم قد دعوا بشرّ على أنفسهم‪.‬‬
‫ويعالج ال قضية الدعاء بالخير أو الدعاء بالشرّ‪ ،‬لن النسان قد يضيق ذَرْعا بأمور تحيط بذاته‬
‫أو بالمحيط به؛ فإذا ضاق ذرعا بأمور تحيط به في ذاته من ألم كمرض ‪ -‬مثلً‪ ،‬أو عاهة ل‬
‫يقوى على الصبر عليها‪ ،‬أو ل يقوى على تحمّلها؛ فيقول‪ " :‬يا رب‪ ،‬أرحني يا رب " ‪ ،‬وهو هنا‬
‫يدعو على نفسه بالموت‪ .‬فلو أن ال سبحانه وتعالى استجاب دعاءه َلقُضيت المسألة‪.‬‬
‫ولكن ال هو الحكيم العزيز‪ ،‬ل يأتمر بأمر أحد من خلقه‪ ،‬ول يعجل بعَجَلة العباد‪ ،‬وكما يؤجل لك‬
‫استجابته لدعوة الخير منك‪ ،‬فهو يؤجل أيضا إجابتك لدعوة الشرّ منك على نفسك؛ وفي ذلك رحمة‬
‫منه سبحانه‪.‬‬
‫وإذا كنت تقول‪ :‬أنا أدعو بالخير‪ ،‬وال سبحانه وتعالى ل يعطيني‪ ،‬فخذ مقابلها‪ :‬أنك تدعو بالشرّ‬
‫على نفسك‪ ،‬ول يجيبك ال‪.‬‬

‫ثم أل يضيق الب أحيانا ذَرْعا بمن حوله‪ ،‬فيقول‪ :‬فليأخذني ال؛ لستريح من وجوهكم؟ َهبْ أن‬
‫ال سبحانه أجابه إلى هذه الدعوة‪ ،‬فماذا يكون الموقف؟ وقد تجد من يقول‪ :‬يا رب أصبني بالعمى‬
‫فل أراهم‪ ،‬أو تدعو المرأة على نفسها أو على أولدها‪.‬‬
‫وأنتم تحبون أن يجيب ال تعالى دعاءكم‪ ،‬فلو كان يجيبكم على دعاء الش ّر لنتهت حياتكم إلى‬
‫الفزع‪ ،‬مثل هذه الم التي تدعو بالمتناقضات فتقول لولدها ‪ -‬مثلً‪ " :‬ربنا يسقيني نارك " فتطلب‬
‫السّقيا بالنار‪ ،‬رغم أن السّقيا للرّي‪ ،‬والنار للحرارة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬قد يضيق النسان ذرعا بنفسه‪ ،‬أو يضيق ذرعا بمن حوله؛ فيدعو على نفسه بالشرّ‪ ،‬وحين‬
‫يدعو النسان فيجب عليه أن ينزّه الحق سبحانه تعالى عن أن ينفذ ما يدعو العبد به دون أن يمر‬
‫الدعاء على حكمته سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِت ْعجَاَلهُمْ بِا ْلخَيْرِ َل ُقضِيَ إِلَ ْيهِمْ أَجَُل ُهمْ { ‪ ،‬فكما قبلتم أن يؤجل ال‬
‫} وََلوْ ُيعَ ّ‬
‫تعالى لكم دعاء الشر على أنفسكم؛ فاقبلوا منه تأجيل دعائكم بالخير؛ لن الخير فيما تطلبون غير‬
‫الخير فيما يعلم ال؛ فهو العليم الخبير‪ .‬وقد تطلب خيرا تعلمه ولكن ال يعلم فيه شرا؛ فمن‬
‫مصلحتك أل يجيبك‪ .‬وكما تحترم عدم إجابته لك في الشر على نفسك‪ ،‬أو على من تحب‪ ،‬فاحترم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عدم إجابته لك فيما تظنه خيرا لك‪ ،‬أو لمن تحب؛ لن ال ل يعجل بعجله عباده؛ لنه سبحانه هو‬
‫جلٍ‪[} ...‬النبياء‪.]37 :‬‬
‫عَ‬‫خلِقَ النْسَانُ مِنْ َ‬
‫الذي خلقهم‪ ،‬وهو أعلم بهم‪ ،‬فهو القائل‪ُ {:‬‬
‫وهو سبحانه القائل‪ {:‬سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَ َتسْ َتعْجِلُونِ }[النبياء‪.]37 :‬‬
‫حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ‬
‫والحق سبحانه لو استجاب لهؤلء الذين دعوا‪ {:‬الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ‬
‫حجَا َرةً‪[} ...‬النفال‪.]32 :‬‬
‫عَلَيْنَا ِ‬
‫لكانت نهايتهم بجنس ما دعوا به‪ ،‬وقُضي عليهم‪ ،‬ثم انتهوا بعد ذلك إلى عذاب الجحيم‪.‬‬
‫ولكن الحق سبحانه شاء لهم البقاء؛ ليؤمن من يختار اليمان‪ ،‬أما من اختار الكفر؛ فعليه أن يتحمّل‬
‫تبعة الطغيان التي تتمثل في أن الواحد منهم ل يختار الكفر فقط‪ ،‬بل يتجاوز الحد‪ ،‬ويطلب ممن‬
‫آمن أن يرتد عن إيمانه‪ ،‬وفي ذلك مجاوزة للحد؛ ولذلك فهم يعمهون في هذا الطغيان‪ ،‬أي‪ :‬تتكاثر‬
‫عليهم الظروف‪ ،‬ويثبت ‪ -‬لهم ولمن بعدهم ‪ -‬عجز الكفر عن مواجهة قدرة الحق‪.‬‬
‫وفي الحياة أمثلة ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬فهناك من يملك عدوه‪ ،‬فيضربه؛ لكنه ل يقتله‪ ،‬ثم يتكرر‬
‫من هذا الخصم الساءة‪ ،‬فيضربه من جديد‪ ،‬ثم تتكرر الساءة فيضربه‪ ،‬وهو ل يقتله أبدا ليداوم‬
‫ي ل يقتل خصمه‪ ،‬بل يؤلمه؛ فل يرفع الخصم رأسه‪.‬‬
‫على إذلله‪ ،‬والقو ّ‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ {‪.‬‬
‫} فَ َنذَرُ الّذِينَ لَ يَ ْرجُونَ ِلقَآءَنَا فِي ُ‬
‫أي‪ :‬أن الحق سبحانه يترك أهل الباطل؛ لتتجمع عليهم سيئاتهم‪ ،‬ويذوقون ويل خصومة السلم‬
‫فل يرفعون رءوسهم؛ لن أهل السلم يردّون لهم الساءة مضاعفة‪ ،‬ولسوف ييأس أهل الباطل‬
‫من أنهم سينتصرون على الحق بأي شكل وبأي لون‪.‬‬

‫وهم مهما تحايلوا في أساليب النكاية في السلم‪ ،‬تجد الحق سبحانه وتعالى ينصر المسلمين‪.‬‬
‫والمثل أمامنا من سيرته حين أمره الحق سبحانه بأنه يهاجر‪ ،‬وكان الكفار يحاصرون بيته بشباب‬
‫من القبائل‪ ،‬فخرج صلى ال عليه وسلم ولم يشعروا‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬شاهت الوجوه‬
‫"‪.‬‬
‫وشاء سبحانه ذلك؛ ليعلموا أنهم لن يستطيعوا النتصار على محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ل‬
‫بالمواجهة‪ ،‬ول بتبييت المكر‪.‬‬
‫س الِنسَانَ‪.{ ...‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وَِإذَا مَ ّ‬

‫(‪)1362 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَنْ َلمْ يَدْعُنَا إِلَى‬
‫وَإِذَا مَسّ الْإِ ْنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنْ ِبهِ َأوْ قَاعِدًا َأوْ قَا ِئمًا فََلمّا كَ َ‬
‫ضُرّ مَسّهُ َكذَِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)12‬‬

‫يصور الحق سبحانه حال البشر؛ الذين لم يرتبطوا دائما بالله‪ ،‬وبمنهج الله؛ هؤلء الذين‬
‫يتجهون إلى ال في لحظات الزمات‪ ،‬ثم ينسون اليمان وتكاليفه من بعد ذلك‪ .‬وحياتنا مليئة بهذا‬
‫الصنف من البشر‪.‬‬
‫وفي قريتنا ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬كان الذي يشرف على رعاية صحة الناس حلّق الصحة‪ ،‬إلى‬
‫أن تخرّج أحد أبناء القرية في كلية الطب‪ ،‬فأخذ حلق الصحة يشيع عنه ما ل يليق‪ ،‬وفي أحد‬
‫اليام لحظ الفلحون خروج حلق الصحة مبكرا وهو يحمل لِفافة كبيرة‪ ،‬فأرادوا أن يعرفوا ما‬
‫بها‪ ،‬واكتشفوا أن ابن حلق الصحة مريض وهو يريد أن يذهب به إلى الطبيب‪ ،‬هو ‪ -‬إذن ‪ -‬ل‬
‫يخدع نفسه‪ ،‬رغم محاولته خداع أهل القرية بالشائعات الكاذبة عن الطبيب‪.‬‬
‫وكذلك النسان مع منهج ال‪ ،‬قد يخدع الخرين في لحظة اليسر‪ ،‬لكنه ل ينسى ال لحظة العسر‪.‬‬
‫وساعة يأتيه الضر‪ ،‬وحين تعزّ السباب عليه فهو ل يجد إل كلمة " يا رب "‪ .‬وأنت تجدها من‬
‫أعتى الفُجّار‪ ،‬ومن أقسى العُتاة‪ ،‬تجد الواحد من هؤلء وهو يدعو ال ساعة الضرّ‪.‬‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا ِلجَنبِهِ }‪.‬‬
‫وهذا ما يقوله الحق سبحانه هنا‪ { :‬وَإِذَا مَ ّ‬
‫والمثل من حياة هؤلء الكافرين الذين دعوا على أنفسهم‪ ،‬ولو كانوا يرغبون في إنهاء الحياة‪،‬‬
‫فلماذا يدعون ال وهم قد كفروا به؟ إنه كذب مفضوح‪ ،‬والنسان حين يضيق بنفسه قد يدعوا على‬
‫نفسه بالضّر؛ مثلما قال المتنبي‪َ :‬كفَى ِبكَ داءً أن تَرَى الموتَ شَافيا وحَسْب المنايا أن يكُنّ أمَانِيَاأي‪:‬‬
‫يكفي أن يصل النسان إلى الدرجة التي يتمنى فيها الموت‪.‬‬
‫ونلحظ أن الحق سبحانه قد جاء بموقف النسان من الضر في أكثر من موضع‪ ،‬فنجد آية تفرد‬
‫النسان بمعنى؛ وآية ثانية تفرده بمعنى آخر‪ ،‬وآية ثالثة تصور وضع النسان بشكل آخر‪.‬‬
‫سيَ مَا كَانَ َيدْعُو‬
‫خوّلَهُ ِن ْعمَةً مّنْهُ َن ِ‬
‫ن ضُرّ دَعَا رَبّهُ مُنِيبا إِلَ ْيهِ ثُمّ ِإذَا َ‬
‫س الِنسَا َ‬
‫يقول سبحانه‪ {:‬وَِإذَا مَ ّ‬
‫إِلَيْهِ مِن قَ ْبلُ‪[} ...‬الزمر‪.]8 :‬‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا }‪.‬‬
‫ويقول الحق في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪ { :‬وَإِذَا مَ ّ‬
‫سكُمُ الضّرّ فَإِلَ ْيهِ تَجْأَرُونَ *‬
‫ويقول سبحانه في موضع آخر‪َ {:‬ومَا ِبكُم مّن ّن ْعمَةٍ َفمِنَ اللّهِ ُثمّ إِذَا مَ ّ‬
‫شفَ الضّرّ عَ ْنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّ ْنكُم بِرَ ّبهِمْ ُيشْ ِركُونَ }[النحل‪.]54-53 :‬‬
‫ثُمّ ِإذَا كَ َ‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه يأتي بها مفردةً مرّة‪ ،‬ومرة يأتي بها جمعا‪ .‬ومرة يأتي بها مفردة على ألوان‬
‫شتّى‪ ،‬ومرة ثاني بها جمعا بألوان شتّى‪ ،‬ومرة يذكرها في البر‪ ،‬ومرة يذكرها في البحر‪ {:‬وَإِذَا‬
‫ضلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ‪[} ...‬السراء‪ ]67 :‬إذن‪ :‬فاليات تستوعب حالت‬
‫سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ‬
‫مَ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النسان المختلفة؛ إذا ما أصابه ضرّ‪ ،‬ولم يجد َمفْزعا له ل من ذاته ول من البيئة المحيطة به‪ ،‬فل‬
‫يجد من يلجأ إليه إل ربه‪.‬‬

‫ومن السف أن هذا النسان يكون كافرا بال‪.‬‬


‫والية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تعطينا صورا متعددة؛ فالحق سبحانه يقول‪ } :‬دَعَانَا ِلجَنبِهِ {‬
‫أي‪ :‬وهو مضطجع‪َ } ،‬أوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما {‪ .‬وهكذا تتناول الية النسان في تصرفاته في الكون‪.‬‬
‫والية متمشية مع أطوار تكوين النسان؛ فالطفل الصغير ل يستطيع أن يتقلّب‪ ،‬بل يقلّبه أهله؛‬
‫ل فهو يتقلب بمفرده ثم تأتي حركة القوة الثانية؛ فيقعد الطفل‪ ،‬ثم يقف‬
‫لينام على جنبه‪ ،‬يكبر قلي ً‬
‫دون أن يمشي‪ ،‬ثم يمشي من بعد ذلك‪.‬‬
‫والية هنا تعطينا التصوير الدقيق لثلث حالت‪ } :‬دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما { ‪ ،‬ولم تَأت‬
‫حركة المشي؛ لن المتحرك للمشي ل يقعده الضر‪ ،‬لكن من يمر بالمراحل الخرى قائما أو قاعدا‬
‫أو راقدا على الجنب‪ ،‬فقد يناله الضر‪.‬‬
‫وتلك هي مراحل النقض لمظاهر الحياة‪ ،‬فالنسان يعيش الطفولة‪ ،‬ثم فُتوّة الشباب‪ ،‬ثم يأتيه‬
‫الضعف والشيب‪ ،‬فل يستطيع أن يمشي بقوة الشاب‪ ،‬وإن كان يستطيع الوقوف‪ ،‬ثم تدخل عليه‬
‫الشيخوخة؛ فيقعد‪ ،‬ول يستطيع أن يقف‪ ،‬ثم تتقدم به الشيخوخة؛ فل يمشي‪ ،‬ول يقف‪ ،‬ول يقعد‪،‬‬
‫ويظل راقدا على جنبه‪ ،‬وقد يقلّبه أهله‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نقض كل شيء إنما يأتي على عكس بنائه؛ فكما بنيت مراحل النسان هكذا جنبا‪ ،‬فقعودا‬
‫فقياما‪ ،‬فسعيا وحركة‪ ،‬فهي تنتهي بالعكس؛ لن النقض دائما على عكس البناء‪.‬‬
‫ومن هذا خرجنا بالستدلل على صدق ال في إخباره لخلقه بكيفية الخلق؛ لننا لم نشاهد عملية‬
‫سهِ ْم َومَا كُنتُ‬
‫ت وَالَ ْرضِ َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شهَدّت ُهمْ خَ ْلقَ ال ّ‬
‫الخلق‪ ،‬مصداقا لقوله سبحانه‪ {:‬مّآ أَ ْ‬
‫عضُدا }[الكهف‪.]51 :‬‬
‫مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫ولن الحق لم يُشْهدْ أحدا على كيفية خَلْق السماء والرض وخلق النسان‪ ،‬فنحن ل نأخذ معلومات‬
‫عن كيفية الخلق بعيدا عن القرآن؛ لذلك ل نصدق الفتراضات القائلة بأن الرض كانت قطعة من‬
‫الشمس وانفصلت عنها ثم انخفضت درجة حرارتها؛ فكل هذه افتراضات لم تثبت صحتها‪ ،‬والحق‬
‫سهِمْ‪[} ...‬الكهف‪.]51 :‬‬
‫ض َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫ت وَالَرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شهَدّت ُهمْ خَ ْلقَ ال ّ‬
‫سبحانه قد قال‪ {:‬مّآ أَ ْ‬
‫وهذا القول يدل على أن العقل البشري ل يمكن أن يصل إلى معرفة كيفية خلق السماوات‬
‫حدّثْتُمْ كيف خُلقتم بصورة تختلف‬
‫والرض‪ ،‬وخلق النسان‪ ،‬وهو معزول عن منهج السماء‪ .‬فإن ُ‬
‫عما جاء في القرآن فقولوا‪ :‬كذبتم‪ ،‬وإن حُدّثتم كيف خُلقت السماوات والرض بغير ما جاء في‬
‫كتاب ال؛ فقولوا‪ :‬كذبتم؛ لن ال هو الذي خلق السماوات والرض والنسان وحده‪ ،‬ول أحد‬
‫معه‪ ،‬وما شهد أحد من هؤلء مشهدا ليخبركم به‪ .‬ويقول الحق سبحانه‪َ {:‬ومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عضُدا }[الكهف‪.]51 :‬‬
‫َ‬
‫والمضلون‪ :‬هم الذين يقولون لكم افتراضات غير صحيحة عن تطور القرد حتى صار إنسانا‪ ،‬وأن‬
‫الرض كانت قطعة من الشمس وانفصلت عنها؛ كل هذه افتراضات قالها من سمّاهم الحقّ‬
‫سبحانه‪ } :‬ا ْل ُمضِلّينَ {‪.‬‬

‫ولو لم يقل ال تعالى هذه الية‪ ،‬ثم جاء قوم ليقولوا‪ :‬النسان كان في الصل قردا‪ ،‬لقلنا‪ :‬إن‬
‫القرآن لم يتعرض لذلك‪ ،‬وكان من الممكن أن نصدقهم‪ ،‬لكن ال سبحانه شاء لنا أن تكون لدينا‬
‫المناعة ضد هذا الضلل‪.‬‬
‫وعملية الخلق غيب عنا‪ ،‬أخبرنا عنها من خلقنا سبحانه‪ ،‬فلم يكن معه شاهدٌ رأي هذا المشهد؛‬
‫ليقول لنا‪ .‬والخلق الذي به الحياة ينقضه الموتُ‪ ،‬ولكن الموت مشهد نشهده‪ ،‬وأي نقض لشيء ‪-‬‬
‫كما عرفنا ‪ -‬إنما يأتي على عكس بنائه‪ ،‬فإن بنينا عمارة من عشرين طابقا‪ ،‬وأردنا أن نهدمها‬
‫لسبب أو لخر؛ فنحن نهدم الطابق العشرين أولً‪ ،‬ثم نوالي الهدم بعد ذلك‪ ،‬فما بُني أولً يهدم‬
‫أخيرا؛ لن َنقْض كل شيء يأتي على عكس بنائه‪.‬‬
‫وبما أن الموت َن ْقضٌ للحياة؛ فالروح إذا ما خرجت من الجسم‪ ،‬وتُرك الجثمان بل دفن‪ ،‬فالجثمان‬
‫يتصلّب‪ ،‬ثم يصير جيفَةً‪ ،‬ثم يتبخر منه الماء‪ ،‬ويتحلل الجسد إلى العناصر الولى في التراب‪ ،‬هذه‬
‫مراحل الموت‪.‬‬
‫وقد أخبرنا الحق عن كيفية الخلق‪ ،‬فبيّن أنه سبحانه خلق النسان من التراب والماء فصار طينا‪،‬‬
‫ثم استوى الطين‪ ،‬فصوّره الحق صورة النسان ونفخ فيه الروح‪ ،‬وآخر مراحله في اليجاد هي‬
‫الروح؛ لذلك فخروج الروح هو أول مرحلة في الموت‪.‬‬
‫وال سبحانه وتعالى في هذه الية جاء بوضع النسان على الجنب وقائما وقاعدا‪ ،‬ولم يأت‬
‫بالمشي؛ لن الماشي عنده قدرة فل ضرّ في ذاته‪ ،‬إن أصابه ضرّ فمن غيره‪ ،‬والض ّر مقابل النفع‪،‬‬
‫والنافع هو مَنْ يُبقِي الشيء على صلحه الممتع المريح‪ ،‬في الذات أو في الخارج‪.‬‬
‫فساعة تكون ذاتك مستقيمة وملكاتها وأعضاؤها كلها سليمة؛ فليس عندك ضرّ‪ ،‬لكن إذا حدث خلل‬
‫في أي عضو من العضاء؛ فالمتاعب تبدأ‪ ،‬ولذلك يقال عن السلمة العامة‪ :‬هي أل تشعر بأن لك‬
‫أعضاء؛ لنك حين تشعر أن لك عَيْنا ‪ -‬مثلً ‪ -‬فاعرف أنها تؤلمك‪ ،‬وإذا شعرت بأذنك فاعرف‬
‫أنها تؤلمك‪ .‬وأنت تطحن الطعام بضروسك وتأكل ول تدري بها‪ .‬ويوم أن تدري بها فهذا المعنى‬
‫أن ألما قد بدأ‪.‬‬
‫وهكذا ل يشعر النسان بفقد السلمة إل إذا عرف وانتبه إلى أن له عضوا من أعضائه‪ ،‬فيقول‪" :‬‬
‫آه يا عيني " ‪ ،‬و " آه يا أذني "‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن وجع العين مؤلم ألما مخصوصا‪ ،‬وكذلك نقول‪ :‬على أي عضو من العضاء‪ ،‬أما من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل يشكو بأعضائه فهو ل يشعر بها؛ لنها تؤدي أعمالها على الوجه المناسب‪ .‬والسلمة فيمن‬
‫حولك تتمثل في أن يحققوا لك المتعة والصفاء بدون كدر‪ .‬وبذلك تظهر منفعتهم لك‪.‬‬
‫طغَىا * أَن رّآهُ‬
‫وكل إنسان له كبرياء ذاتي‪ ،‬يبيّنها قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬كَلّ إِنّ الِنسَانَ لَيَ ْ‬
‫اسْ َتغْنَىا }‬

‫[العلق‪.]7-6 :‬‬
‫ول يذل النسان إل حين يعاني من آفة ما‪ ،‬ول يأتي طغيانه إل عند استكمال النعمة في الخارج‬
‫والنعمة في الداخل‪ ،‬وإن بدأت النعمة في النقباض عن النسان‪ ،‬فكبرياؤه تتطاير‪ .‬ومن كان‬
‫يستعرض قوته على الناس‪ ،‬قد يرجو القيام من الوقود؛ ليخطو بضع خطوات فل يستطيع‪.‬‬
‫والنسان ل يستغني إل بما هو ذاتي فيه؛ ل بما هو موهوب له؛ لذلك فعليه أل يغتر؛ لن الواهب‬
‫العلى قد يقبض هبتَه‪ ،‬فقد يأخذ منك العافية‪ ،‬وكثيرا ما رأينا أصحّاء قد مرضوا‪ ،‬ورأينا أغنياء‬
‫قد افتقروا‪ ،‬وأصحاب جاه قد خرجوا من جاههم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فل داعي للغرور؛ لن ال قد وهبك كل شيء‪ ،‬وليس لك شيء ذاتيّ فيك أبدا؛ لذلك يجب أن‬
‫ينعدم الغرور‪ ،‬فما دام كل ما فيك موهوبا من الواهب العلى سبحانه‪ ،‬فالواهب قد يسلب ما‬
‫وهب‪ ،‬وما إن تُسلب من النسان نعمة فهو ينتبه‪ .‬فل داعي ‪ -‬إذن ‪ -‬لن يغتر أحد؛ حتى ل يسلم‬
‫نفسه رخيصة للضياع‪.‬‬
‫والمثال‪ :‬قد تكون عاد ْيتَ طبيبا‪ ،‬وهو الوحيد في المكان الذي تقطنه‪ ،‬وقد يحاول البعض الصلح‬
‫بينك وبين هذا الطبيب‪ ،‬فتتأبّى أنت‪ ،‬ثم يأتي لك مرض؛ فتلجأ إليه؛ لن ال قد وهبه القدر السليم‬
‫من التشخيص بالعلم‪ ،‬فل يجب ‪ -‬إذن ‪ -‬أن تغتر أو تتعالى على أحد‪.‬‬
‫لكن النسان هو النسان؛ لذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ‪[ { ...‬يونس‪.]12 :‬‬
‫} وَإِذَا مَ ّ‬
‫والكافر ما إن يمسّه الضرّ؛ حتى يقع في بئر الهوان‪ .‬أما المؤمن فهو مع ربه دائما‪ ،‬وإذا مسّه‬
‫الض ّر فهو يدعو ال تعالى دائما ول ينساه؛ لذلك يتلطف به سبحانه‪ ،‬عكس الكافر الذي يدعو ال‬
‫ساعة الضرّ فقط‪ .‬وأين كان ذلك الكافر ساعة أن دعاه ال سبحانه بالرسل إلى اليمان؟‬
‫ونسيان النسان أمر وارد في تكوينه الفطري الول؛ لن النسان حين يعيش في محيط ما‪ .‬فهو‬
‫يحب النفع من خارجه‪ ،‬وإذا امتنع عنه هذا النفع الخارجي‪ ،‬فهو يأخذ النفع من ذاته؛ من تحرّك‬
‫أبعاضه وخدمتها لبعضها البعض‪ .‬ثم ل يجد له مفزعا إل أن يؤمن بمن خلقه أولً‪ .‬وانظر إلى‬
‫ضلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ‪[} ..‬السراء‪.]67 :‬‬
‫سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْبَحْرِ َ‬
‫التعبير القرآني‪ {:‬وَإِذَا َم ّ‬
‫إذن‪ :‬فمن َيعْبُد غيرَ ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يضل عنه معبوده‪ ،‬ول يعرف كيف ينقذ من يعبده؛‬
‫لذلك يعود المشرك إلى ال‪ ،‬ول يجد سواه سبحانه‪ ،‬فهو الذي ينقذ النسان لحظة الخطر؛ لنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرب الخالق هو أرحم بصنعته‪ ،‬وهذه الرحمة تنقذ النسان حتى لو كان كافرا‪ ،‬وهذا كلم منطقي؛‬
‫لننا شهدنا بوحدانية ال تعالى في عالم الذر؛ حينما أخذ ال سبحانه علينا العهد الول‪ ،‬وقال لنا‪{:‬‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ‪[} ...‬العراف‪.]172 :‬‬
‫أَلَ ْ‬
‫قلنا‪ {:‬بَلَىا‪[} ...‬العراف‪.]172 :‬‬
‫وهذا إيمان الفطرة قبل أن توجد الغفلة أو التقليد؛ لذلك حين تتفرق اللهة الباطلة من حول الكافر‬
‫فهو يرجع إلى نفسه ويدعو ال‪ ،‬بل ويوسّط من يسأله أن يدعو له ال سبحانه‪.‬‬

‫وقد يدعو النسان من يواسيه لحظة المرض فل يجد ولدا من أبنائه‪ ،‬أو قريبا من أقربائه‪ ،‬ولكنه‬
‫فور أن يدعو ال تعالى؛ تلمسه رحمته سبحانه‪ ،‬وقد تجد إنسانا حين يستجيب الحق سبحانه لدعائه‬
‫قد تركبه حماقة الغرور من جديد‪ ،‬ويقول ما جاء به الحق على لسان قارون‪ {:‬إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا‬
‫عِلْمٍ عِندِي‪[} ...‬القصص‪.]78 :‬‬
‫ويقول‪ :‬كنت محتاطا وقد رتبت أموري‪ ،‬ثم يأخذه الحق سبحانه وتعالى أخْذَ عزيز مقتدر‪.‬‬
‫فإذا مسكم الضر؛ فلن تجدوا من البيئات الخارجة عنكم‪ ،‬ول من ذوات نفوسكم‪ ،‬ما يغنيكم عن‬
‫خالقكم‪ ،‬وفي لحظة الخطر ل تستطيعون الكذب على أنفسكم؛ فل تسألون حينئذ أحدا إل ال‬
‫سبحانه‪ ،‬وتتذكرون في تلك اللحظة عهد الذّر الول‪ ،‬وتعودون إليه سبحانه‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَإِذَا مَسّ الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما {‪.‬‬
‫شفْنَا عَ ْن ُه ضُ ّرهُ { يصوّر الضرّ وكأنه يغطي النسان ويلفّه‪ ،‬فل منقذ له أبدا؛‬
‫وقوله الحق‪ } :‬فََلمّا َك َ‬
‫لن الكشف هو رفع لغطاء يغطي كل النسان‪ ،‬وهكذا يعطينا ال تعالى صورة لستيعاب الضرّ‬
‫للجسم كله؛ حتى وإن كان بأداة من أدوات الدراك مثل قوله سبحانه‪ {:‬فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ‬
‫خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }[النحل‪.]112 :‬‬
‫وَالْ َ‬
‫فكأن الجوع والخوف قد لفّ القرية كلها‪ ،‬فلم تعُد البطون وحدها هي الجائعة‪ ،‬بل كل ما في‬
‫الجسام جائع وخائف‪.‬‬
‫شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ ِإلَىا ضُرّ مّسّهُ {‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬فََلمّا كَ َ‬
‫وكلمة } مَرّ { تفيد أن هنا وقفة‪ ،‬فحين يقال‪ :‬إن فلنا مرّ عليّ؛ مقابلها‪ :‬وقف عندي‪.‬‬
‫ونفهم من قوله الحق‪ :‬إن هذا الذي مسهّ الضرّ كان له وقفة عند ال سبحانه؛ حين لفّه الضرّ ولم‬
‫يجد معينا له غير ال تعالى‪ ،‬أما قبل ذلك فقد كان يأخذ الخير من ال ول يتذكر اليمان به‬
‫سبحانه‪ ،‬وبعد أن يذهب عنه الضرّ وينسى اليمان؛ } كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ { وكأنه قد‬
‫نسي تذلّله إلى ال‪ ،‬فهو يمر من مرحلة الذلة والخضوع والدعاء إلى ال إلى مرحلة الستكبار‪،‬‬
‫فلم يقف عند من أنقذه من ضره‪ ،‬وهذه هي الصفاقة‪.‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الية بقوله‪ } :‬كَذاِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { وهنا يأتي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قضية ثانية؛ فالحادثة حادثة خاصة وينقلها الحق سبحانه إلى عمومية تأتي في الكون كله؛‬
‫فالمسرفون قديما حصل لهم هذا‪ ،‬والذي زَيّن لهم المرور إما أن يكون الشيطان‪ ،‬وإما أن يكون‬
‫الحمل من الحق على صفات موجودة فيه‪ ،‬فالحق سبحانه هو القائل‪ {:‬فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَ ُهمُ‬
‫اللّهُ مَرَضا‪[} ...‬البقرة‪.]10 :‬‬
‫وقوله تعالى هنا‪:‬‬
‫شفْنَا عَنْهُ ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ َيدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ‪.‬‬
‫} فََلمّا كَ َ‬

‫‪[ { ..‬يونس‪.]12 :‬‬


‫وهذا ما حدث للمسرفين سابقا‪ ،‬وما سوف يحدث من المسرفين لحقا‪ .‬والنسان له عمل مكوّن‬
‫من القول والفعل‪ ،‬والعمل هو كل حادثة متفرعة عن جوارح النسان‪ ،‬وإن كان القول مقابله‬
‫الفعل؛ فالثنان عمل‪.‬‬
‫وبعد أن يعرض الحق سبحانه هذه القضية في عمومها‪ ،‬وفي خصوصها‪ ،‬وفي انسحابها على‬
‫الكون كله‪ ،‬يبيّن لنا ضرورة النتباه للكافرين برسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويحذر‬
‫الكافرين‪ :‬أأسلمنا رسولً إلى خصومه أم نصرنا كل رسول جاء على خصومه؟ إن السوابق تدل‬
‫على أن كّلً أخذناه بذنبه‪ ،‬فاحذروا أن تكونوا كذلك‪.‬‬
‫ويقول سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وََلقَدْ أَهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِن قَبِْلكُمْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1363 /‬‬

‫ت َومَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا كَذَِلكَ َنجْزِي‬


‫ظَلمُوا وَجَاءَ ْتهُمْ ُرسُُلهُمْ بِالْبَيّنَا ِ‬
‫وَلَقَدْ أَهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِنْ قَبِْل ُكمْ َلمّا َ‬
‫ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ (‪)13‬‬

‫فإياكم أن تسوّل لكم أنفسكم أن تظلوا على عداوتكم لمحمد صلى ال عليه وسلم؛ لنكم لن تنالوا‬
‫منه شيئا‪ ،‬وسيتم ال نوره‪ ،‬فلستم بدعا عن سابق الخلق‪.‬‬
‫و { ا ْلقُرُونَ }‪ :‬جمع قرن‪ ،‬والقرن من المقارنة‪ ،‬وكل جماعة اقترنوا في شيء نسميهم " قرنا "‪.‬‬
‫وقد يكون القرن في الزمنية‪ ،‬ولذلك حسبوا القرن مائة سنة‪ ،‬والبشر الذين يجتمعون في مائة سنة‬
‫يسمونهم قرنا‪.‬‬
‫أو القرن جماعة يقترنون في شيء يجمعهم‪ ،‬مهما طال بهم المد‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ { :‬وََلقَدْ َأهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِن قَبِْلكُمْ َلمّا ظََلمُو ْا وَجَآءَ ْت ُهمْ رُسُُلهُم بِالْبَيّنَاتِ َومَا كَانُواْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لِ ُي ْؤمِنُواْ } فهل لو أمهلهم ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬كانوا سيؤمنون؟ ل‪ ،‬فلله علمٌ أزليّ‪ ،‬يعلم الشياء على‬
‫وفق ما تكون عليه اضطرارا أو اختيارا‪.‬‬
‫والمثل من حياتنا وأعرافنا ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬نجد النسان حين يريد بناء بيت‪ ،‬فالمر يختلف‬
‫حسب مقدرته؛ الفقير مثلً يطلب بناء حجرتين؛ فيخطط رجل البناء لبناء حجرتين‪ ،‬وإذا كان‬
‫النسان متوسط الحال؛ فهو يتجه إلى مهندس يصمّم له بناء على قدر سعته‪ ،‬وإن كان النسان‬
‫ثريا؛ فهو يستدعي المهندس الذي يبني له بيتا حسب إمكانات ورغبات هذا الثرى‪ ،‬ويصمم‬
‫المهندس نموذجا للبناء قبل أن يبدأ فيه‪ ،‬وتظهر فيه كل التفاصيل‪ ،‬حتى ألوان النوافذ والبواب‬
‫والحجرات‪.‬‬
‫والعالم قبل أن يخلقه ال سبحانه وتعالى كانت هيئته مقدرة أزلً عنده سبحانه‪ ،‬وهذا هو مطلق‬
‫القدرة من الحق تعالى‪ ،‬ويأتي واقع الكون على وفق ما قدره الخالق سبحانه أزلً؛ حتى ولو كان‬
‫هناك اختيار للمخلوق الكافر‪ ،‬فال سبحانه يعلمه‪.‬‬
‫وقد صحّ أن القلم جفّ حتى في المور الختيارية‪ ،‬وسبحانه يعلم ما تجري به المور القهرية وما‬
‫يقضيه على خلقه بدون اختيار منهم‪ ،‬أما في المور الختيارية فقد أعطى لخلقه الختيار‪ .‬وقد علم‬
‫ما سوف يفعلونه غيبا؛ فصمم المسألة على وفق ما علم‪.‬‬
‫وإياك أن تظن أنه أراد بذلك أن يُلزمك‪ ،‬ل‪ ،‬فقد علم أنك ستختار‪ .‬وهكذا علم الحق سبحانه من‬
‫سيظلم نفسه ‪ -‬أزلً ‪ -‬وسبق في علمه أن أهل القرون السابقة الذين أهلكهم ل يؤمنون‪.‬‬
‫{ وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِن قَبِْلكُمْ َلمّا ظََلمُواْ } والظلم معناه نقل الحق من صاحبه إلى غيره‪،‬‬
‫والحقوق الموهوبة من الخالق للبشر قد يظلمون فيها بعضهم البعض‪ ،‬لكن أعلى درجات الظلم‬
‫حين يظلم أحدٌ حقّ الله العلى في أن يكون إلها واحدا‪ ،‬وأن ينقل ذلك لغيره‪ .‬تلك هي قمة الظلم؛‬
‫لذلك قال سبحانه‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان‪.]13 :‬‬
‫وهم قد ظلموا في قضية العقيدة الولى‪ ،‬أو ظلموا في الحقوق بينهم وبين أنفسهم مصداقا لقوله‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ }[يونس‪.]44 :‬‬
‫تعالى‪ {:‬وَلَـاكِنّ النّاسَ أَنفُ َ‬
‫والواحد منهم ظالم ومظلوم في آن واحد؛ لن النسان ملكاته متعددة‪ ،‬ومن هذه الملكات ملكة‬
‫اليمان الفطري‪ ،‬وملكة النفع العاجل الذاتي‪.‬‬

‫فإذا تغلبت ملكة النفع العاجل؛ تخرج النفس اللوّامة؛ لتعيد المر إلى صوابه‪ ،‬أما إن كانت نفس‬
‫تأمر بالسوء فهي تطلب تحقيق الشهوات فقط؛ لنها نفس أمّارة بالسوء‪ .‬أما إن اطمأنت النفس إلى‬
‫حكم ال تعالى ورضيت به ونفذت ما قاله ال سبحانه‪ ،‬فهي نفس مطمئنة‪ .‬ومن يظلم نفسه فهو‬
‫الذي يتبع شهوات نفسه‪ ،‬وهو قد أعطاها متعة عاجلة؛ ليستقبل بعد ذلك شقاءً آجلً؛ فيكون قد ظلم‬
‫نفسه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق سبحانه لم يتركهم‪ ،‬بل أرسل الرسل مُؤيّدين بالمعجزات؛ ليبصّروهم‪ .‬لكن ال تعالى يعلم‬
‫أنهم ل يؤمنون؛ لذلك قال‪َ } :‬ومَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ { أي‪ :‬أنه سبحانه لو تركهم أحياء فلن يؤمنوا‪ ،‬فهو‬
‫الذي خلقهم وقد علم أزلً لن يختاروا اليمان‪.‬‬
‫والحق سبحانه هو العالم العلى الذي يعلم الشياء على وفق ما تكون عليه‪ ،‬ل على وفق ما يقهر‬
‫خلقه عليه‪ ،‬فلو كان علمه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬على وفق ما َيقْهر الخلق عليه لكانت المسألة منتهية‪.‬‬
‫والمثال ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬أنت في البيت وتريد أن تقوم وزوجتك برحلة‪ ،‬فإن كان الولد‬
‫صغارا؛ فأنت تغلق عليهم الباب بعد أن تقول لهم‪ :‬إن طعامكم في الثلجة؛ لحما وسمكا وجبنا‬
‫وزيتونا‪ .‬وبعد أن تخرج أنت وزوجتك تقول لها‪ :‬إن أبناءنا لن يأكلوا إل جبنا وزيتونا؛ لنهم‬
‫سوف يستسهلون هذا الطعام‪ .‬ولو لم يكن في الثلجة إل الجبن‪ ،‬لما قلت ذلك؛ لن هذا هو لون‬
‫الطعام القهري‪.‬‬
‫لكن ما دام في المر اختيار؛ فأنت تستشف من سابق سلوك البناء‪ .‬وعندما ترجع تجد أبناءك قد‬
‫تصرفوا وفق ما حكمت به‪ ،‬رغم أنك تركت لهم الختيار‪ .‬ومثال هذا في القرآن قوله الحق‪ {:‬تَ ّبتْ‬
‫سبَ * سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ َل َهبٍ }[المسد‪.]3-1 :‬‬
‫يَدَآ أَبِي َل َهبٍ وَ َتبّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُ ُه َومَا كَ َ‬
‫وفي هذا حكم من ال تعالى بان أبا لهب سيموت كافرا‪ ،‬وهذا حكم ُمعْلَن ويُردّد في الصلة‪،‬‬
‫ونحفظه‪ ،‬وأبو لهب هو عم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان كافرا مثل غيره من الكفار‪.‬‬
‫وقد آمن من الكفار الكثير‪ .‬ألم يسلم عمر؟ ألم يسلم عكرمة بن أبي جهل؟ ألم يسلم عمرو بن‬
‫العاص؟ ألم يسلم خالد بن الوليد؟ فما المانع أن يسلم أبو لهب هو الخر؟ ل‪ ،‬لم يسلم وعلم رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم من ربه أن ذلك لن يكون منه‪ .‬وما كان من الممكن أن يمكر أبو لهب‬
‫ويعلن إسلمه تكذيبا للقرآن؛ لن الحق علم أزلً سلوك أبي لهب‪.‬‬
‫} وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِن قَبِْلكُمْ َلمّا ظََلمُو ْا وَجَآءَ ْت ُهمْ رُسُُلهُم بِالْبَيّنَاتِ َومَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ كَذاِلكَ نَجْزِي‬
‫ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ {‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬كَذاِلكَ { أي‪ :‬مثل هذا الجزاء الذي كان للمم السابقة التي أهلكت في القرون الماضية‬
‫تجري ممن يحدّد كل شيء؛ لن القضايا في الكون واحدة‪ .‬فالقضية اليمانية موجودة من أول ما‬
‫أرسلت الرسل إلى أن تنتهي الدنيا‪.‬‬
‫جعَلْنَاكُمْ خَلَ ِئفَ‪.{ ...‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬ثمّ َ‬

‫(‪)1364 /‬‬

‫جعَلْنَاكُمْ خَلَا ِئفَ فِي الْأَ ْرضِ مِنْ َبعْ ِدهِمْ لِنَ ْنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ (‪)14‬‬
‫ثُمّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫و { خَلَ ِئفَ }‪ :‬جمع خليفة‪ ،‬وهو من يَخْلُف غيره‪ .‬والحق سبحانه وتعالى حينما وصف النسان‬
‫خلِيفَةً‪[} ...‬البقرة‪.]30 :‬‬
‫علٌ فِي الَ ْرضِ َ‬
‫أصدر أول بيان عن النسان قال للملئكة‪ {:‬إِنّي جَا ِ‬
‫وال سبحانه وتعالى قادر‪ ،‬وسميع‪ ،‬وعليم‪ ،‬وله من كل صفات الكمال المطلق‪ ،‬وأنت قد تكون لك‬
‫قدرة وقد ُت َعدّى أثر قدرتك إلى غيرك‪ ،‬ولكنك لن تستطيع أن تُعدّي قدرتك إلى سواك‪ ،‬فإن كنت‬
‫ب ضعيفا قدرا على قوتك‪ .‬بل كل الذي تستطيعه هو أن تهبه أثر قدرتك‪،‬‬
‫قويا؛ فلن تستطيع أن َت َه َ‬
‫فإن كان غير قادر على أن يحمل شيئا؛ فأنت قد تحمله عنه‪ ،‬وإن كان غير قادر على المشي؛‬
‫فأنت تأخذ بيده‪ ،‬لكنك ل تستطيع أن تهبه جزءا من قوتك الذاتية‪ ،‬فيظل هو عاجزا‪ ،‬وتظل أنت‬
‫قادرا ‪ -‬كما أنت‪.‬‬
‫هذا هو حال الخلق‪ :‬تجد غنيا وآخر فقيرا‪ ،‬ويُعطي الغني للفقير من غناه‪ ،‬ويُعطي العالمُ للجاهل‬
‫بعضَ العلم‪ ،‬لكنه ل يهبه مََلكَة العلم؛ ليعلم‪.‬‬
‫أما الحق العلى سبحانه فهو وحده القادر على أن يهب من قدرته المطلقة للخلق قدرة موهوبة‬
‫محدودة‪ ،‬وقد أعطاهم سبحانه أثر القدرة العالية في الفلك التي صنعها ول دخل للنسان فيها؛‬
‫من شمس‪ ،‬وقمر‪ ،‬ونجوم‪ ،‬ورياح‪ ،‬ومطر‪.‬‬
‫وأعطى الحق سبحانه للنسان طاقة من قدرته في المور التي حوله؛ فأصبح قادرا على أن يفعل‬
‫بعض الفعال التي تتناسب مع هذه الطاقة الموهوبة‪ .‬وبذلك عدّي له الحق سبحانه من قدرته؛‬
‫ليقدر على الفعل‪ ،‬ومن غناه؛ ليعطي الفقير‪ ،‬ومن علمه؛ ليعطي الجاهل‪ ،‬ومن حلمه؛ ليحْلِم على‬
‫الذي يؤذيه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالخلق ل يعدّون صفاتهم إلى غيرهم ولكنهم يعدون آثار صفاتهم إلى غيرهم‪ ،‬وتظل الصفة‬
‫هنا قوة‪ ،‬والصفة هناك ضعفا‪ .‬أما الواحد الحد فهو الذي يستطيع أن يهب من قدرته للعاجز‬
‫قدرة؛ فيفعل‪ .‬فهل كل الكون هكذا؟‬
‫إن الكون قسمان‪ :‬قسم وهبة ال سبحانه وتعالى للنسان بدون مجال له فيه‪ .‬وقد أقامه الحق‬
‫بقدرته‪ ،‬وهذا القسم من الكون مستقيم في أمره استقامة ل يتأتّى لها أي خَلَل‪ ،‬مثل‪ :‬نظام الفلك‬
‫والسماء ودوران الشمس والقمر والريح وغيرها‪ ،‬ول تعاني من أي عطب أو خلل‪ ،‬ول يتأتى لهذا‬
‫القسم فساد إل بتدخّل النسان‪.‬‬
‫وقسم آخر في الكون تركه الحق سبحانه للنسان؛ حتى يقيمه القوة الموهوبة له من ال‪.‬‬
‫وأنت ل تجد فسادا في كون ال تعالى إل وجدت فيه للنسان يدا‪ ،‬أما المور التي ليس للنسان‬
‫حسْبَانٍ }[الرحمن‪.]5 :‬‬
‫شمْسُ وَالْ َقمَرُ بِ ُ‬
‫فيها يد فهي مستقيمة‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه‪ {:‬ال ّ‬
‫والمراصد تحدّد موقع الرض بين الشمس والقمر‪ ،‬وموقع القمر بين الرض والشمس بدقة‬
‫تتناسب مع قوله الحق‪ِ { :‬بحُسْبَانٍ }؛ لن النسان ليس له دخل في هذه المور‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفيما لنا فيه اختيار علينا أن نتدخل بمنهج ال تعالى؛ لتستقيم حركتنا مثل استقامة الحركة في‬
‫الكوان العليا التي ل دخل لنا فيها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالذي ُيفْسد الكوان هو تدخّل النسان ‪ -‬فيما يحيط به‪ ،‬وفيما ينفعل له وينفعل به ‪ -‬على‬
‫ق الِنسَانَ *‬
‫حمَـانُ * عَلّمَ ا ْلقُرْآنَ * خََل َ‬
‫غير منهج ال؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬الرّ ْ‬
‫س وَا ْل َقمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن‪.]5-1 :‬‬
‫شمْ ُ‬
‫عَّلمَهُ البَيَانَ * ال ّ‬
‫أي‪ :‬هذه الكوان مخلوقة بحساب‪ ،‬وتستطيعون أن ُتقَدّروا أوقاتكم وحساباتكم على أساسها‪ .‬ويقول‬
‫سمَآءَ َر َف َعهَا َو َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ *‬
‫جدَانِ * وَال ّ‬
‫س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ * وَالنّجْ ُم وَالشّجَرُ َيسْ ُ‬
‫شمْ ُ‬
‫سبحانه‪ {:‬ال ّ‬
‫ط َولَ ُتخْسِرُواْ ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن‪.]9-5 :‬‬
‫سِ‬‫ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ * وََأقِيمُواْ ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِ ْ‬
‫َألّ تَ ْ‬
‫وحتى تستقيم لكم المور الدنيا في حركتكم في الكون ‪ -‬كما استقامت لكم المور العليا؛ وازنوا‬
‫كل المور بالعدل؛ فل يختل لكم ميزان؛ لن الذي يُفسد الكون أنكم تتدخلون فيما أعطي لكم من‬
‫مواهب ال قدرة وعلما وحَركة على غير منهج ال‪ .‬فادخلوا على أمور حياتكم بمنهج ال في "‬
‫افعل " و " ل تفعل "؛ ليستقيم لكم الكون الدنى كما استقام لكم الكون العلى‪.‬‬
‫جعَلْنَاكُمْ خَلَ ِئفَ فِي الَ ْرضِ { وقد خلف النسان ال تعالى في‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬ثُمّ َ‬
‫الرض‪ ،‬في أنه ‪ -‬مثلً ‪ -‬يحرث الرض ويسقيها؛ فيخرج له الزرع‪ ،‬وحين يأخذ النسان أسباب‬
‫ال فهو ينال نتيجة الخذ بالسباب‪ .‬ولكن آفة النسان بغروره‪ ،‬حين تستجيب له الشياء‪ ،‬فهو‬
‫يظن أنه قادر بذاته‪ ،‬ل بأسباب ال‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يُعطي بعطاء ربوبيته للمؤمن‪ ،‬وللكافر؛ لنه سبحانه هو الذي استدعى‬
‫النسان إلى الوجود‪ ،‬لكنه جلّ وعل ميّز المؤمن‪ ،‬ل بعطاء السباب فقط‪ ،‬ولكن بالمنهج‪ ،‬والتكليف‬
‫المتمثل في " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " ‪ ،‬فإن أخذ العطاءين من ال يبقَ له حسن الجزاء في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬وإن أخذ العطاء الثاني في " افعل " و " ل تفعل " ‪ ،‬فهو يأخذ الخرة‪ ،‬أما دنياه‬
‫فتظل متخلّفة‪.‬‬
‫ومن يُردْ أن يأخذ حُسْن الدنيا والخرة‪ ،‬فليأخذ عطاء ربوبية ال تعالى بالخذ بالسباب‪ ،‬وعطاء‬
‫اللوهية باتّباع المنهج‪.‬‬
‫إل أن آفة الخليفة في الرض أنه ل يرى بعض المور مستجيبة له؛ فيطغي‪ ،‬ويظن أنه أصيل في‬
‫الكون‪ ،‬ونقول له‪ :‬ما دمت تظن أنك أصيل في الكون فحافظ على روحك‪ ،‬وعلى قوتك‪ ،‬وعلى‬
‫غناك‪ ،‬وأنت لن تستطيع ذلك‪ .‬فأنت إنْ تمردت على أوامر ال بالكفر ‪ -‬مثلً‪ ،‬فلماذا ل تتمرد‬
‫على المرض أو الموت؟‬
‫إذن‪ :‬أنت مقهور للعلى غصبا عنك‪ ،‬ويجب أن تأخذ من المورالتي تنزل عليك بالقدار؛‬
‫لتلجمك‪ ،‬وتقهرك‪ ،‬إلى أن تأخذ المور التي لك فيها اختيار بمنهج ال سبحانه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولو ظن الخليفة في الرض أنه أًصيل في الكون‪ ،‬فعليه أن يتعلّم مما يراه في الكون‪ ،‬فأنت قد‬
‫توكّل محاميا في العقود والتصرفات؛ فيتصرف في المور كلها دون الرجوع إليك ول يعرض‬
‫عليك بيانا بما فعل‪ ،‬فتقوم أنت بإلغاء التوكيل‪.‬‬

‫فيلتفت مثل هذا المحامي إلى أن كل تصرف له دون التوكيل قد صار غير مقبول‪ .‬فماذا عن‬
‫توكيل ال للنسان بالخلفة؟ يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جعَلْنَا ُكمْ خَلَ ِئفَ فِي الَرْضِ { فاذا كنتم قد خََلفْتُم من هلكوا‪ ،‬فمن اللزم أن تأخذوا العظة‬
‫} ُثمّ َ‬
‫والعبرة في أن ال تعالى غالب على أمره‪ ،‬ول ترهقوا الرسل‪ ،‬بل تأخذوا المنهج‪ ،‬أو على القل‪،‬‬
‫ل تعارضوهم إن لم تؤمنوا بالمنهج الذي جاءوا به من ال‪ .‬واتركوهم يعلنون كلمة ال‪ ،‬وليعيدوا‬
‫صياغة حركة المؤمنين برسالتهم في هذا الكون على وفق ما يريده ال سبحانه‪ ،‬وأنتم أحرار في‬
‫أن تؤمنوا أو ل تؤمنوا‪َ {.‬فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ‪[} ...‬الكهف‪.]29 :‬‬
‫والدليل على ذلك أن السلم حينما فتح كثيرا من البلد ترك لهم حرية اعتناق السلم أو البقاء‬
‫على أديانهم‪ ،‬مع أنه قد دخل بلدهم بالدعوة أو الغلبة‪ ،‬ولكنه لم يقهر أحدا على الدين‪ ،‬وأخذ‬
‫المسلمون منهم الجزية مقابل حماية المسلمين لهم‪.‬‬
‫ولو كان السلم قد انتشر بالسيف لما أبقي أحدا على دينه‪ ،‬ولكن السلم لم ُيكْره أحدا‪ ،‬وحمى‬
‫حرية الختيار بالسيف‪ .‬ولن الذين لم يؤمنوا بالسلم عاشوا في مجتمع تتكفّل الدولة السلمية‬
‫فيه بكل متطلبات حياتهم‪ ،‬والمسلم يدفع زكاة لبيت المال‪ ،‬فعلى من لم يؤمن ‪ -‬وينتفع بالخدمات‬
‫التي يقدمها المجتمع المسلم ‪ -‬أن يدفع الجزية مقابل تلك الخدمات‪.‬‬
‫وإذا اعتقد النسان أنه خليفة‪ ،‬وظل متذكرا لذلك‪ ،‬فهو يتذكر أن سطوة من استخلفه قادرة على أن‬
‫تمنع عنه هذه الخلفة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فخذوا المر بالتسليم‪ ،‬وساعدوا النبي صلى ال عليه وسلم على دعوته‪ ،‬وآمنوا به أولً‪ ،‬وإن‬
‫لم يؤمنوا به فاتركوه؛ ليعلن دعوته‪ ،‬ول تعاندوه‪ ،‬ول تصرفوا الناس عنه؛ لن الحق هو القائل‪{:‬‬
‫جعَلْنَاكُمْ خَلَ ِئفَ فِي الَ ْرضِ مِن َبعْدِهِم لِنَنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ }[يونس‪.]14 :‬‬
‫ثُمّ َ‬
‫وساعة تأتي لمر يعلله ال بكلمة{ لِ َيعْلَمَ‪[} ...‬المائدة‪.]94 :‬‬
‫أو } لِنَنظُرَ‪[ { ...‬يونس‪.]14 :‬‬
‫فاعلم أن ال عالم وعليم‪ ،‬علم كل المور قبل أن توجد‪ ،‬وعلم الشياء التي للناس فيها اختيار‪،‬‬
‫ط وَأَنزَلْنَا‬
‫سلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْ ِ‬
‫وهو القائل‪َ {:‬لقَدْ أَرْسَلْنَا رُ ُ‬
‫س وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ‪[} ...‬الحديد‪.]25 :‬‬
‫شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّا ِ‬
‫حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ‬
‫الْ َ‬
‫وقد علم الحق سبحانه أزلً كل شيء‪ ،‬وإذا قال ال‪ } :‬وَلِ َيعْلَمَ { فليس معنى ذلك أن هناك علما‬
‫جديدا لم يكن يعلمه سوف ينشأ له‪ ،‬لكنه يعلم علم مشهد وإقرار منك؛ حتى ل يقول قائل‪ :‬لماذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يحاسبنا ال على ما عَلمَ أزلً؟ بل يأتي سبحانه بالختيار الذي يحدّد للعبد المعايير التي تتيح‬
‫للمؤمن أن يدخل الجنة‪ ،‬وللعاصي أن يُحاسَب ويُجازَي‪.‬‬

‫وبذلك يعلم النسان أن الحق سبحانه شاء ذلك؛ ليعرف كل عبد عِلم الواقع‪ ،‬ل عِلْم الحصول‪.‬‬
‫حجّة‬
‫إذن‪ :‬فذكر كلمة } وَلِ َيعَْلمَ { وكلمة } لِنَنظُرَ { في القرآن معناها علم واقع‪ ،‬وعلم مشهد‪ ،‬وعلم ُ‬
‫على العبد؛ فل يستطيع أن ينكر ما حدث‪ ،‬وقوله الحق‪ {:‬وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ }‬
‫[الحديد‪.]25 :‬‬
‫هذه الية تبين لنا أدوات انتظام الحكم اللهي‪ :‬رسل جاءوا بالبرهان والبينة‪ ،‬وأنزل الحديد للقهر‪،‬‬
‫شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ }[الحديد‪.]25 :‬‬
‫حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ‬
‫قال الحق سبحانه‪ {:‬وَأَنزَلْنَا الْ َ‬
‫وقرن ذلك بالرسل‪ ،‬فقال‪ } :‬وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ { والنصرة ل تكون إل بقوة‪ ،‬والقوة تأتي‬
‫بالحديد الذي يظل حديدا إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬وهو المعدن ذو البأس‪ ،‬والذي لن يخترعوا ما هو‬
‫أقوى منه‪ ،‬وعلْم ال سبحانه هنا عِلْم وقوع منكم‪ ،‬ل تستطيعون إنكاره؛ لنه سبحانه لو أخبر خبرا‬
‫دون واقع منكم؛ فقد تكذبون؛ لذلك قال سبحانه‪ } :‬وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُر ُه وَرُسَُلهُ بِا ْلغَ ْيبِ { وفي هذا‬
‫لون من الحتياط الجميل‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ { كأن ال يطلب منكم أن تنصروه‪ ،‬لكن إياكم أن تفهموا المعنى‬
‫أنه سبحانه ضعيف‪ ،‬معاذ ال‪ ،‬بل هو قوي وعزيز‪ .‬فهو القائل‪ {:‬قَاتِلُوهُمْ ُي َعذّ ْبهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ }‬
‫[التوبة‪.]14 :‬‬
‫بل يريد سبحانه أن يكون أعداء اليمان أذلء أمامكم؛ لنه سبحانه يقدر عليهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقول الحق سبحانه‪ } :‬وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ { إنما يعني‪ :‬أن يكون علم ال بمن ينصر‬
‫منهجه أمرا غيبيّا؛ حتى ل يقول أحدٌ إن انتصار المنهج جاء صدفة‪ ،‬بل يريد الحق سبحانه أن‬
‫يجعل ُنصْرة منهجه بالمؤمنين‪ ،‬حتى ولو قَلّت عدّتُهم‪ ،‬وقلّ عددهم‪.‬‬
‫جعَلْنَاكُمْ خَلَ ِئفَ فِي الَ ْرضِ مِن َب ْعدِهِم لِنَنظُرَ { [يونس‪.]14 :‬‬
‫إذن‪ :‬قوله سبحانه وتعالى‪ } :‬ثُمّ َ‬
‫أي‪ :‬نظر واقع‪ ،‬ل نظر علم‪.‬‬
‫ن لَ يَ ْرجُونَ {‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وَِإذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِي َ‬

‫(‪)1365 /‬‬

‫وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آَيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ لَا يَرْجُونَ ِلقَاءَنَا ا ْئتِ ِبقُرْآَنٍ غَيْرِ َهذَا َأوْ بَدّلْهُ ُقلْ مَا َيكُونُ‬
‫عذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ‬
‫عصَ ْيتُ رَبّي َ‬
‫لِي أَنْ أُبَدَّلهُ مِنْ تِ ْلقَاءِ َنفْسِي إِنْ أَتّبِعُ إِلّا مَا يُوحَى إَِليّ إِنّي َأخَافُ إِنْ َ‬
‫(‪)15‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نحن نعرف أن اليات ثلثة أنواع‪ :‬آيات كونية‪ ،‬وهي العجائب التي في الكون ويسميها ال‬
‫سمّى‬
‫خلُق‪ ،‬وقد َ‬
‫سبحانه آيات‪ ،‬فالية هي عجيبة من العجائب‪ ،‬سواء في الذكاء أو الجمال أو ال ُ‬
‫الحق سبحانه الظواهر الكونية آيات؛ فقال تعالى‪:‬‬
‫س وَا ْل َقمَرُ }[فصلت‪ ]37 :‬وقال سبحانه‪:‬‬
‫شمْ ُ‬
‫ل وَال ّنهَا ُر وَال ّ‬
‫{ َومِنْ آيَا ِتهِ الّ ْي ُ‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجا }[الروم‪ ]21 :‬وهذه من اليات الكونية‪.‬‬
‫{ َومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ خَلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬
‫وهناك آيات هي الدليل على صدق الرسل ـ عليهم السلم ـ في البلغ عن ال‪ ،‬وهي‬
‫المعجزات؛ لنها خالفت ناموس الكون المألوف للناس‪ .‬فكل شيء له طبيعة‪ ،‬فإذا خرج عن‬
‫طبيعته؛ فهذا يستدعى النتباه‪.‬‬
‫مثلما يحكي القرآن عن سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ أن أعداءه أخذوه ورموه في النار فنجّاه‬
‫الحق سبحانه من النار؛ فخرج منها سالما‪ ،‬ولم يكن المقصود من ذلك أن ينجو إبراهيم من النار‪،‬‬
‫فلو كان المقصود أن ينجو إبراهيم عليه السلم من النار؛ لحدثت أمور أخرى‪ ،‬كأل يمكّنهم الحق‬
‫ـ عزّ وجلّ ـ من أن يمسكوه‪ ،‬لكنهم أمسكوا به وأشعلوا النار ورموه فيها‪ ،‬ولو شاء ال تعالى‬
‫أن يطفئها لفعل ذلك بلقليل من المطر‪ ،‬لكن ذلك لم يحدث؛ فقد تركهم ال في غيّهم‪ ،‬ولنه واهب‬
‫النار للحراق قال سبحانه وتعالى لها‪:‬‬
‫علَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء‪ ]69 :‬وهكذا تتجلّى أمامهم خيبتهم‪.‬‬
‫{ يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما َ‬
‫إذن‪ :‬اليات تُطلَق على اليات الكونية‪ ،‬وتطلق على اليات المعجزات‪ ،‬وتطلق أيضا على آيات‬
‫القرآن ما دامت اليات القرآنية من ال والمعجزات من ال‪ ،‬وخلق الكون من ال‪ ،‬فهل هناك آية‬
‫تصادم آية؟ ل؛ لن الذي خلق الكون وأرسل الرسل بالمعجزات وأنزل القرآن هو إله واحد‪ ،‬ولو‬
‫كان المر غير ذلك لحدث التصادم بين اليات‪ ،‬والحق سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫{ وََلوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ َل َوجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفا كَثِيرا }[النساء‪ ]82 :‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ } [يونس‪ ]15 :‬أي‪ :‬آيات واضحة‪ .‬ثم يقول الحق سبحانه { قَالَ‬
‫ن لَ يَ ْرجُونَ ِلقَآءَنَا } وعرفنا أن الرجاء طلب أمر محبوب ومن الممكن أن يكون واقعا‪ ،‬مثلما‬
‫الّذِي َ‬
‫يرجو إنسان أن يدخل ابنه كلية الطب أو كلية الهندسة‪ .‬ومقابل الرجاء شيء آخر محبوب‪ ،‬لكن‬
‫النسان يعلم استحالته‪ ،‬وهو التمنّي‪ ،‬فالمحبوبات ـ إذن ـ قسمان‪ :‬أمور مُتمنّاه وهي في المور‬
‫المستحيلة‪ ،‬لكن النسان يعلن أنه يحبها‪ ،‬والقسم الثاني أمور نحبها‪ ،‬ومن الممكن أن تقع‪ ،‬وتسمى‬
‫رجاء‪.‬‬
‫ن لَ يَرْجُونَ ِلقَآءَنَا } هم مَن ل يؤمنون‪ ،‬ل بإلهٍ‪ ،‬ول ببعثٍ؛ فقد قالوا‪:‬‬
‫{ الّذِي َ‬
‫ت وَنَحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَآ ِإلّ الدّهْرُ }[الجاثية‪ ]24 :‬وقالوا‪:‬‬
‫{ مَا ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُو ُ‬
‫{ أَِإذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }[المؤمنون‪ ]82 :‬وإذا كان النسان ل يؤمن بالبعث؛‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهو ل يؤمن بلقاء ال سبحانه؛ لن الذي يؤمن بالبعث يؤمن بلقاء ال‪ ،‬ويُعدّ نفسه لهذا اللقاء‬
‫بالعبادة والعمل الصالح‪ ،‬ولكن الكافرين الذين ل يؤمنون بالبعث سيُفاجَأون بالله الذي أنكروه‪،‬‬
‫وسوف تكون المفاجأة صعبة عليهم؛ ولذلك قال الحق سبحانه‪:‬‬

‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا }[النور‪:‬‬
‫عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ‬
‫{ وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫‪]39‬‬
‫السراب‪ :‬هو أن يمشي النسان في خلء الصحراء‪ ،‬ويخيل إليه أن هناك ماءً أمامه‪ ،‬وكلّما مشى‬
‫ظن أن الماء أمامه‪ ،‬وما إن يصل إلى المكان يجد أن الماء قد تباعد‪ .‬وهذه العملية لها علقة‬
‫بقضية انعكاس الضوء‪ ،‬فالضوء ينعكس؛ ليصور الماء وهو ليس بماء‪:‬‬
‫جدَ اللّهَ عِن َدهُ }[النور‪ ]39 :‬إنه يُفاجَأ بوجود ال سبحانه الذي لم‬
‫{ حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا وَوَ َ‬
‫يكن في باله‪ ،‬فهو واحد من الذين ل يرجون لقاء ال‪ ،‬وهو ممن جاء فيهم القول‪:‬‬
‫جدِيدٍ َبلْ هُم بَِلقَآءِ رَ ّبهِمْ كَافِرُونَ }[السجدة‪]10 :‬‬
‫{ َوقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي خَ ْلقٍ َ‬
‫رغم أن الكون الذي نراه يُحتّم قضية البعث؛ لننا نرى أن لكل شيء دورة‪ ،‬فالوردة الجميلة‬
‫الممتلئة بالنضارة تذبل بعد أن تفقد مائيّتها‪ ،‬ويضيع منها اللون‪ ،‬ثم تصير ترابا‪ .‬وأنت حين تشم‬
‫الوردة فهذا يعني أن ما فيها من عطر إنما يتبخر مع المياه التي تخرج منها بخارا‪ ،‬ثم تذبل‬
‫وتتحلل بعد ذلك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فللوردة دورة حياة‪ .‬وأنت إن نظرت إلى أي عنصر من عناصر الحياة مثل المياه سوف تجد‬
‫أن الكمية الموجودة من الماء ساعة خلق ال السموات والرض هي بعينها؛ لم تَزِ ْد ولم تنقص‪.‬‬
‫وقد شرحنا ذلك من قبل‪ .‬وكل شيء تنتفع به له دورة‪ ،‬والدورة تُسلم لدورة أخرى‪ ،‬وأنت مستفيد‬
‫بين هذه الدورات؛ هدما وبناءً‪.‬‬
‫والذين ل يرجون لقاء ال‪ ،‬ول يؤمنون بالبعث‪ ،‬ول بثواب أو عقاب ل يلتفتون إلى الكون الذي‬
‫يعيشون فيه؛ لن النظر في الكون وتأمّل أحواله يُوجِب عليهم أن يؤمنوا بأنها دورة من الممكن‬
‫أن تعود‪.‬‬
‫وسبحانه القائل‪:‬‬
‫{ َكمَا َبدَأْنَآ َأ ّولَ خَلْقٍ ّنعِي ُدهُ }[النبياء‪ ]104 :‬وهؤلء الذين ل يرجون لقاء ال يأتي القرآن بما جاء‬
‫على ألسنتهم‪} :‬‬
‫ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ َأوْ بَدّ ْلهُ { [يونس‪]15 :‬‬
‫هم هنا يطلبون طلبين‪ } :‬ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ { ‪َ } ،‬أوْ بَدّلْهُ {‪.‬‬
‫أي‪ :‬يطلبون غير القرآن‪ .‬ولنلحظ أن المتكلم هو ال سبحانه؛ لذلك فل تفهم أن القولين متساويان‪.‬‬
‫} ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ َأوْ َبدّلْهُ { هما طلبان‪ :‬الطلب الول‪ :‬أنهم يطلبون قرآنا غير الذي نزل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والطلب الثاني‪ :‬أنهم يريدون تبديل آية مكان آية‪ ،‬وهم قد طلبوا حذف اليات التي تهزأ بالصنام‪،‬‬
‫وكذلك اليات التي تتوعدهم بسوء المصير‪.‬‬
‫ويأتي جواب من ال سبحانه على شق واحد مما طلبوه وهو المطلب الثاني‪ ،‬ويقول سبحانه‪ُ } :‬قلْ‬
‫مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي { ولم يرد الحق سبحانه على قولهم‪ } :‬ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ‬
‫{‪.‬‬

‫وكان مقياس الجواب أن يقول‪ " :‬ما يكون لي أن آتي بقرآن غير هذا أو أبدله "؛ لكنه اكتفى بالرد‬
‫على المطلب الثاني } َأوْ َبدّلْهُ {؛ لن التيان بقرآن يتطلب تغييرا للكل‪ .‬ولكن التبديل هو المر‬
‫السهل‪ .‬وقد نفى السهل؛ ليسلّموا أن طلب الصعب منفي بطبيعته‪.‬‬
‫وأمر الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ُ } :‬قلْ مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُبَدَّلهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي {‬
‫أي‪ :‬أن أمر التبديل وارد‪ ،‬لكنه ليس من عند رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬بل بأمر من ال‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬إنما أمر التيان بقرآن غير هذا ليس واردا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالتبديل وارد شرط أل يكون من الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولذلك قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ وَإِذَا بَدّلْنَآ آيَةً ّمكَانَ آيَ ٍة وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ }[النحل‪ ]101 :‬وهو ما تذكره هذه الية‪ُ } :‬قلْ مَا‬
‫َيكُونُ لِي أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي { و } تِ ْلقَآءِ { من " لقاء "؛ فتقول‪ " :‬لقيت فلنا " ‪ ،‬ويأتي‬
‫المصدر من جنس الفعل أو حروفه‪ ،‬ويسمون " التلقاء " هنا‪ :‬الجهة‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول في آية أخرى‪:‬‬
‫{ وََلمّا َتوَجّهَ تِ ْلقَآءَ مَدْيَنَ }[القصص‪.]22 :‬‬
‫و } تِ ْلقَآءَ مَدْيَنَ { أي‪ :‬جهة مدين‪ .‬و " التلقاء " قد تأتي بمعنى اللقاء؛ لنك حين تقول‪ " :‬لقيته "‬
‫أي‪ :‬أنا وفلن التقينا في مكان واحد‪ ،‬وحين نتوجّه إلى مكان معيّن فنحن نُوجَد فيه‪ .‬ويظن بعض‬
‫الناس أن كل لفظ يأتي لمعنيين يحمل تناقضا‪ ،‬ونقول‪ :‬ل‪ ،‬ليس هناك تناقض‪ ،‬بل انفكاك جهة‪،‬‬
‫مثلما قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ }[البقرة‪]144 :‬‬
‫شطْرَ ا ْلمَ ْ‬
‫ج َهكَ َ‬
‫ل وَ ْ‬
‫{ َف َو ّ‬
‫والشطر معناه‪ :‬الجهة؛ ومعناه أيضا‪ :‬النصف‪ ،‬فيقال‪ " :‬أخذ فلن شطر ماله " ‪ ،‬أي‪ :‬نصفه‪ ،‬و "‬
‫اتجهت شطر كذا " ‪ ،‬أي‪ :‬إلى جهة كذا‪.‬‬
‫وهذه معان غير متناقضة؛ فالنسان منا ساعة يقف في أي مكان؛ يصبح هذا المكان مركزا‬
‫لمرائيه‪ ،‬وما حوله كله محيطا ينتهي بالفق‪.‬‬
‫ويختلف محيط كل إنسان حسب قوة بصره‪ ،‬ومحيط الرؤية ينتهي حين يُخيّل لك أن السماء‬
‫انطبقت على الرض‪ ،‬هذا هو الفق الذي يخصّك‪ ،‬فإن كان بصرُك قويّا فأفقك يتّسع‪ ،‬وإن كان‬
‫البصر ضعيفا يضيف الفق‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويقال‪ " :‬فلن ضَيّق الفق " أي‪ :‬أن رؤيته محدودة‪ ،‬وكل إنسان منا إذا وقف في مكان يصير‬
‫مركزا لما يحيطه من مَرَاء؛ ولذلك يوجد أكثر من مركز‪ ،‬فالمقابل لك نصف الكون المرئي‪،‬‬
‫وخلفك نصف الكون المرئي الخر‪ ،‬فإذا قيل‪ :‬إن " الشطر " هو " النصف " ‪ ،‬فالشطر أيضا هو "‬
‫الجهة "‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬قلْ مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَى إَِليّ {‪.‬‬

‫أي‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم ل يأتي بالقرآن من عند نفسه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل يُوحَى إليه‪.‬‬
‫عظِيمٍ { [يونس‪]15 :‬‬
‫عصَ ْيتُ رَبّي عَذَابَ َيوْمٍ َ‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪ } :‬إِنّي أَخَافُ إِنْ َ‬
‫أي‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم لو جاء بشيء من عنده‪ ،‬ففي هذا معصية ل تعالى‪ ،‬ونعلم أن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم لم يُعرف عنه أنه كان شاعرا‪ ،‬ول كان كاتبا‪ ،‬ول كان خطيبا‪ .‬وبعد أن‬
‫نزل الوحي عليه من ال جاء القرآن في منتهى البلغة‪.‬‬
‫وقد نزل الوحي ورسول ال صلى ال عليه وسلم في الربعين من عمره ول توجد عبقرية يتأجّل‬
‫ظهورها إلى هذه المرحلة من العمر‪ ،‬ول يمكن أن يكون النبي صلى ال عليه وسلم قد أجّل‬
‫عبقريته إلى هذه السّن؛ لنه لم يكن يضمن أن يمتد به العمر‪.‬‬
‫ويأتي لنا الحق سبحانه بالدليل القاطع على أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يتّبِع إل ما‬
‫يُوحَى إليه فيقول‪:‬‬
‫عظِيمٍ { [يونس‪]15 :‬‬
‫عذَابَ َيوْمٍ َ‬
‫عصَ ْيتُ رَبّي َ‬
‫} إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَى إَِليّ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ‬
‫ويأتي المر بالرّدّ من الحق سبحانه على الكافرين‪ } :‬قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُمْ‪.{ ....‬‬

‫(‪)1366 /‬‬

‫عمُرًا مِنْ قَبِْلهِ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ (‪)16‬‬


‫ُقلْ َلوْ شَاءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْي ُك ْم وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ‬

‫وهنا يبلّغ محمدٌ صلى ال عليه وسلم هؤلء الذين طلبوا تغيير القرآن أو تبديله‪ :‬لقد عشت طوال‬
‫عمري معكم‪ ،‬ولم تكن لي قوة بلغة أو قوة شعر‪ ،‬أو قوة أدب‪ .‬فمن له موهبة ل يكتمها إلى أن‬
‫يبلغ الربعين‪ ،‬ورأيتم أنه صلى ال عليه وسلم لم يجلس إلى معلّم‪ ،‬بل عندما اتهمتموه وقلتم‪:‬‬
‫{ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ }[النحل‪]103 :‬‬
‫وفضحكم الحق سبحانه بأن أنزل في القرآن قوله تعالى‪:‬‬
‫ي وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل‪]103 :‬‬
‫جمِ ّ‬
‫عَ‬‫{ لّسَانُ الّذِي ُيلْحِدُونَ إِلَ ْيهِ أَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولم يخرج النبي صلى ال عليه وسلم من شبه الجزيرة العربية‪ ،‬ولم يقرأ مؤلّفَات أحد‪ .‬فمن أين‬
‫جاء القرآن إذن؟‬
‫لقد جاء من ال سبحانه‪ ،‬وعليكم أن تعقلوا ذلك‪ ،‬ول داعي للتهام بأن القرآن من عند محمد؛‬
‫لنكم لم تجرّبوه خطيبا أو شاعرا‪ ،‬بل كل ما جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بعد أن‬
‫نزلت عليه الرسالة‪ ،‬هو بلغ من عند ال‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال ل يمكن أن يُنسَب الكمال إلى إنسان فينفيه‪ ،‬فالعادة أن يسرق شاعر ـ مثلً ـ‬
‫قصيدة من شاعر آخر‪ ،‬أو أن ينتحل كاتب مقالة من آخر‪ .‬لكن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يبلّغكم أن كمال القرآن ليس من عنده‪ ،‬بل هو مجرد مبلّغ له‪ ،‬وكان يجب أن يتعقّلوا تلك القضية‬
‫بمقدّماتها ونتائجها؛ فل يلقوا لفكارهم العنان؛ ليكذبوا ويعاندوا‪ ،‬فالمر بسيط جدا‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫عمُرا مّن قَبْلِهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ } [يونس‪:‬‬
‫{ قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَدْرَا ُكمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ‬
‫‪]16‬‬
‫إذن‪ :‬فالمقدمة التي يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقنع بها الكافرين أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قد أرسله ال رسولً من أنفسهم‪ ،‬فإن قلت‪:‬‬
‫سهِمْ }[آل عمران‪]164 :‬‬
‫{ ِإذْ َب َعثَ فِيهِمْ رَسُولً مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫سهِمْ } أي‪ :‬من‬
‫أي‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم من جنس الناس‪ ،‬ل من جنس الملئكة‪ ،‬أو { مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫سهِمْ } أي‪ :‬من قبيلتهم التي يكذّب أصحابُها رسولَ ال‬
‫أمة العرب‪ ،‬ل من أمة ال َعجَم‪ ،‬أو { مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فحياته صلى ال عليه وسلم معروفة معلومة لكم‪ ،‬لم َي ِغبْ عنكم فترة؛ لتقولوا ُب ِعثَ بعثةً؛‬
‫ليتعلّم علما من مكان آخر‪ ،‬ولم يجلس إلى معلّم عندكم ول إلى معلّم خارجكم‪ ،‬ولم يَ ْتلُ كتابا‪ ،‬فإذا‬
‫كان المر كذلك‪ ،‬فيجب أن تأخذوا من هذا مقدّمة وتقولوا‪ :‬فمن أين جاءت له هذه الحكمة فجأة؟‬
‫أنتم تعلمون أن المواهب والعبقريات ل تنشأ في الربعينات‪ ،‬ولكن مخايل العبقرية إنما ينشأ في‬
‫نهاية العقد الثاني وأوائل العقد الثالث‪ ،‬فمن الذي آخّر العبقرية عند رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ليقول هذا القول البليغ الذي أعجزكم‪ ،‬وأنتم أمّة البلغة وأمة الفصاحة المرتاضون عليها من قديم‪،‬‬
‫وعجزتم أمام ما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم؟‬
‫حلّ لكم اللغز وأوضح لكم‪ :‬أن‬
‫كان يجب أن تقولوا‪ :‬لم نعرف عنه أنه يعلم شيئا من هذا‪ ،‬فإذا َ‬
‫القرآن ليس من عندي؛ كان يجب أن تصدقوه؛ لنه صلى ال عليه وسلم يعزوه إلى خالقه وربه‬
‫سبحانه‪.‬‬

‫والدليل على أنكم مضطربون في الحكم أنكم ساعة يقول لكم‪ :‬القرآن بلغ عن ال‪ ،‬تكذّبونه‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتقولون‪ :‬ل‪ ،‬بل هو من عندك‪ ،‬فإذا فَترَ عنه الوحي م ّرةً قلتم‪ :‬قله ربّه‪.‬‬
‫لماذا اقتنعتم بأن له ربّا َيصِلُه بالوحي ويهجره بل وحي؟‬
‫أنتم ـ إذن ـ أنكرتم حالة الوصل بالوحي‪ ،‬واعترفتم بالله الخالق عندما غاب عنه الوحي‪ ،‬وكان‬
‫يجب أن تنتبهوا وتعودوا إلى عقولكم؛ لتحكموا على هذه الشياء‪ ،‬وقد ذكر الحق سبحانه ذلك‬
‫المر في كثير من آياته‪ ،‬يقول سبحانه‪:‬‬
‫ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْ َيمَ }[آل عمران‪]44 :‬‬
‫{ َومَا كُنتَ لَدَ ْيهِمْ إِذْ يُ ْلقُون َأقْ َ‬
‫ويقول سبحانه‪:‬‬
‫لمْرَ }[القصص‪]44 :‬‬
‫{ َومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ‬
‫ويقول سبحانه‪:‬‬
‫{ َومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ َمدْيَنَ }[القصص‪]45 :‬‬
‫ويقول سبحانه‪:‬‬
‫ب َولَ َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ إِذا لّرْتَابَ ا ْلمُبْطِلُونَ }[العنكبوت‪]48 :‬‬
‫{ َومَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَا ٍ‬
‫فمن أين جاءت تلك البلغة؟ كان يجب أن تأخذوا هذه المقدّمات؛ لتحكموا بأنه صادق في البلغ‬
‫عن ال؛ لذلك يُنهى الحق سبحانه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله‪َ } :‬أفَلَ َت ْعقِلُونَ {‪.‬‬
‫وحين ينبهك الحق سبحانه وتعالى إلى أن تستعمل عقلك‪ ،‬فهذا دليل على الثقة في أنك إذا استعملت‬
‫عقلك؛ وصلت إلى القضية المرادة‪ .‬وال سبحانه وتعالى مُنزّه عن خديعة عباده‪ ،‬فمن يخدع‬
‫النسان هو من يحاول أن يصيب عقله بالغفلة‪ ،‬لكن الذي ينّبه العقل هو من يعلم أن دليل الحقيقة‬
‫المناسبة لما يقول‪ ،‬يمكن الوصول إليه بالعقل‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه في آخر الية‪َ } :‬أفَلَ َت ْعقِلُونَ { يدلنا على أن القضية التي كذّبوا فيها رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم نشأت من عدم استعمال عقولهم‪ ،‬فلو أنهم استعملوا عقولهم في استخدام‬
‫المقدمات المُحسّة التي يؤمنون بها ويسلمون؛ لنتهوا إلى القضية اليمانية التي يقولها رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ولو أنهم فكّروا وقالوا‪ :‬محمد نشأ بيننا ولم نعرف له قراءة‪ ،‬ول تلوة كتاب ول جلوسا إلى معلّم‪،‬‬
‫ولم يَغبْ عنا فترة ليتعلّم‪ ،‬وظل مدة طويلة إلى سِنّ الربعين ولم يرتض على قول ول على بلغة‬
‫ول على بيان؛ فمن أين جاءته هذه الدفعة القوية؟‬
‫كان يجب أن يسألوه هو عنها‪ :‬من أين جاءتك هذه؟ وما دام قد قال لهم‪ :‬إنها جاءته من عند ال‪،‬‬
‫فكان يجب أن يصدّقوه‪.‬‬
‫ومهمة العقل دائما مأخوذة من اشتقاقه‪ " ،‬فالعقل " مأخوذ من " عقال " البعير‪.‬‬

‫وعقال البعير هو الحبل الذي يربط به ساقي الجمل؛ حتى ل ينهض ويقوم؛ لنوفّر له حركته فيما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نحب أن يتحرك فيه‪ ،‬فبدلً من أن يسير هكذا بدون غرض‪ ،‬وبدون قصد‪ ،‬فنحن نربط ساقيه؛‬
‫ليرتاح ول يتحرك‪ ،‬إلى أن نحتاجه في حركة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالعقل إنما جاء؛ ليحكم المََلكَات؛ لن كل مََلكَة لها نزوع إلى شيء‪ ،‬فالعين لها مََلكَة أن ترى‬
‫كل شيء‪ ،‬فيقول لها العقل‪ :‬ل داعي أن تشاهدي ذلك؛ لنه منظر سيؤذيك‪ ،‬والذن تحب أن تسمع‬
‫كل قول‪ ،‬فيقول لها العقل‪ :‬ل تسمعي إلى ذلك؛ حتى ل يضرك‪.‬‬
‫حكَمة " هي‬
‫حكْمة " ‪ ،‬مأخوذة من " ال َ‬
‫إذن‪ :‬فالعقل هو الضابط على بقية الجوارح‪ .‬وكذلك كلمة " ال ِ‬
‫في " اللّجام " الذي يوضع في فم الفرس؛ حتى ل يجمح‪ ،‬وتظل حركته محسوبة؛ فل يتحرك إل‬
‫إلى التجاه الذي تريده‪.‬‬
‫إذن‪ :‬شاء الحق سبحانه أن يميّز النسان بالعقل والحكمة؛ ليقيم الموازين لملكات النفس؛ فخذوا‬
‫المقدمات ال ُمحَسّة التي تؤمنون بها وتشهدونها وتسلمونها لرسول ال صلى ال عليه سلم لتستنبطوا‬
‫أنه جاء بكلمه من عند ال تعالى‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬فمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا {‬

‫(‪)1367 /‬‬

‫َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآَيَاتِهِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ (‪)17‬‬

‫وهنا يوضح القرآن على لسان الرسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬أأكذب على ال؟ إذا كنت لم أكذب‬
‫عليكم أنتم في أموري معكم وفي المور التي جرّبتموها‪ ،‬أفأكذب على ال؟! إن الذي يكذب في‬
‫أول حياته من المعقول أن يكذب في الكِبَر‪ ،‬وإذا لم أكذب علكيم أنتم‪ ،‬فهل أكذب على ال؟‬
‫وإذَا لم أكن قد كذبت وأنا غير ناضج التفكير‪ ،‬في طفولتي قبل أن أصل إلى الرجولة‪ ،‬فأنا الن ل‬
‫أستطيع الكذب‪ .‬فإذا كنتم أنتم تتهمونني بذلك‪ ،‬فأنا ل أظلم نفسي وأتهمها بالكذب‪ ،‬فتصبحون أنتم‬
‫المكذبين؛ لنكم كذبتموني في أن القرآن مبلغ عن ال‪ ،‬ولو أنني قلت‪ :‬إنه من عند نفسي لكان من‬
‫المنطق أن تُكذّبوا ذلك؛ لنه شرف يُدّعى‪ .‬ولكن أرفعه إلى غيري؛ إلى من هو أعلى مني ومنكم‪.‬‬
‫وقوله الحق‪َ { :‬فمَنْ َأظْلَمُ } أي‪ :‬ل أحد أظلم ممن افترى على ال سبحانه كذبا؛ لن الكاذب إنما‬
‫يكذب ليدلّس على من أمامه‪ ،‬فهل يكذب أحد على من يعلم المور على حقيقتها؟ ل أحد بقادر‬
‫على ذلك‪ .‬ومن يكذب على البشر المساوين له يظلمهم‪ ،‬لكن الظلم منه هو من يكذب على ال‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫والفتراء كذب متعمد‪ ،‬فمن الجائز أن يقول النسان قضية يعتقدها‪ ،‬لكنها ليست واقعا‪ ،‬لكنه اعتقد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنها واقعة بإخبار من يثق به‪ ،‬ثم تبين بعد ذلك أنها غير واقعة‪ ،‬وهذا كذب صحيح‪ ،‬لكنه غير‬
‫متعمد‪ ،‬أما الفتراء فهو كذب متعمد‪.‬‬
‫ولذلك حينما قسم علماء اللغة الكلم الخبري؛ قسموه إلى‪ :‬خبر وإنشاء‪ ،‬والخبر يقال لقائله‪:‬‬
‫صدقت أو كذبت‪ ،‬فإن كان الكلم يناسب الواقع فهو صدق‪ ،‬وإن كان الكلم ل يناسب الواقع فهو‬
‫كذب‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ { :‬افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا َأوْ َك ّذبَ بِآيَا ِتهِ } يبين لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫إن قلتم إنني ادعيت أن الكلم من عن ال‪ ،‬وهو ليس من عند ال‪ .‬فهذا يعني أن الكلم كذب وهو‬
‫من عندي أنا‪ ،‬فما موقف من يكَذب بآيات ال؟‬
‫إن الكذب من عندكم أنتم‪ ،‬فإن كنتم تكذبونني وتدّعون أني أقول إن هذا من ال‪ ،‬وهو ليس من‬
‫ال‪ ،‬وتتمادون وتُكذّبون باليات وتقولون هي من عندك‪ ،‬وهي ليست من عندي‪ ،‬بل من عند ال؛‬
‫فالثم عليكم‪.‬‬
‫والكذب إما أن يأتي من ناحية القائل‪ ،‬وإما من ناحية المستمع‪ ،‬وأراد الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫عدالة التوزيع في أكثر من موقع‪ ،‬مثلما يأتي القول الحق مبيّنا أدب النبوة‪:‬‬
‫للٍ مّبِينٍ }[سبأ‪ ]24 :‬وليس هناك أدب في العرض أكثر من‬
‫{ وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَىا هُدًى َأوْ فِي ضَ َ‬
‫هذا‪ ،‬فيبين أن قضيته صلى ال عليه وسلم وقضيتهم ل تلتقيان أبدا‪ ،‬واحدة منهما صادقة والخرى‬
‫كاذبة‪ ،‬ولكن من الذي يحدد القضية الصادقة من الكاذبة؟ إنه الحق سبحانه‪.‬‬

‫للٍ مّبِينٍ { وفي ذلك‬


‫وتجده سبحانه يقول على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم‪َ } :‬أوْ فِي ضَ َ‬
‫طلب لن يعرضوا المر على عقولهم؛ ليعرفوا أي القضيتين هي الهدى‪ ،‬وأيهما هي الضلل‪.‬‬
‫وفي ذلك ارتقاء للمجادلة بالتي هي أحسن من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ }[سبأ‪]25 :‬‬
‫عمّآ َأجْ َرمْنَا وَلَ نُسَْألُ َ‬
‫{ قُل لّ تُسْأَلُونَ َ‬
‫أي‪ :‬كل واحدة سيُسأل عن عمله‪ ،‬فجريمتك لن أسأل أنا عنها‪ ،‬وجريمتي ل تُسأل أنت عنها‪.‬‬
‫ونسب الجرام لجهته ولم يقل‪ " :‬قل ل تُسألون عما أجرمنا ول نُسأل عما تجرمون " وشاء ذلك‬
‫ليرتقي في الجدل‪ ،‬فاختار السلوب الذي يُهذّب‪ ،‬ل ليهيّج الخصم؛ فيعاند‪ ،‬وهذا من الحكمة؛ حتى‬
‫ل يقول للخصم ما يسبب توتره وعناده فيستمر الجدل بل طائل‪.‬‬
‫ظلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا { فإذا كان الظلم من جهتي؛‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪َ } :‬فمَنْ أَ ْ‬
‫فسوف يحاسبني ال عليه‪ ،‬وإن كان من جهتكم؛ فاعلموا قول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ ُه لَ ُيفْلِحُ‬
‫ا ْلمُجْ ِرمُونَ { ولم يحدد من المجرم‪ ،‬وترك الحكم للسامع‪.‬‬
‫كما تقول لنسان له معك خلف‪ :‬سأعرض عليك القضية واحكم أنت‪ ،‬وساعة تفوضه في الحكم؛‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فلن يصل إل إلى ما تريد‪ .‬ولو لم يكن المر كذلك لما عرضت المر عليه‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك‪ } :‬وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ َيضُرّهُمْ {‬

‫(‪)1368 /‬‬

‫شفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ ُقلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ‬


‫وَ َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيضُرّهُ ْم وَلَا يَ ْن َف ُعهُ ْم وَ َيقُولُونَ َهؤُلَاءِ ُ‬
‫عمّا ُيشْ ِركُونَ (‪)18‬‬
‫ت وَلَا فِي الْأَ ْرضِ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ِبمَا لَا َيعْلَمُ فِي ال ّ‬

‫وكلمة { وَ َيعْبُدُونَ } تقتضي وجود عابد؛ ووجود معبود؛ ووجود معنى للعبادة‪ .‬والعابد أدنى حالً‬
‫من المعبود‪ ،‬ومظهر العبادة والعبودية كله طاعة للمر والنصراف عن المنهي عنه‪.‬‬
‫هذا هو أصل العبادة‪ ،‬ووسيلة القرب من ال‪.‬‬
‫وحتى تكون العبادة في محلها الصحيح ل بد أن يقر العابد أن المعبود أعلى مرتبة في الحكم على‬
‫الشياء‪ ،‬أما إن كان المر بين متساويين فيسمونه التماسا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهناك آمر ومأمور‪ ،‬فإن تساويا؛ فالمأمور يحتاج إلى إقناع‪ ،‬وأما إن كان في المسألة حكم‬
‫سابق بأن المر أعلى من المأمور؛ كالستاذ بالنسبة للتلميذ‪ ،‬أو الطبيب بالنسبة للمريض‪ ،‬ففي هذا‬
‫الوضع يطيع المأمور المر لنه يفهم الموضوع الذي يأمر فيه‪.‬‬
‫وكذلك المؤمن؛ لن معنى اليمان أنه آمن بوجود إله قادر له كل صفات الكمال المطلق؛ فإذا‬
‫اعتقدت هذا؛ فالنسان ينفذ ما يأمر به ال؛ ليأخذ الرضاء والحب والثواب‪ .‬وإن لم ينفذ؛ فسوف‬
‫ينال غضب المعبود وعقابه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فأنت إن فعلت أمره واجتنبت نهيه؛ نلت الثواب منه‪ ،‬وإن خالفت؛ تأخذ عقابا؛ لذلك ل بد أن‬
‫يكون أعلى منك قدرة‪ ،‬ويكون قادرا على إنفاذ الثواب والعقاب‪ ،‬والقادر هو ال جل عله‪.‬‬
‫أما الصنام التي كانوا يعبدونها‪ ،‬فبأي شيء أمرتهم؟ إنها لم تأمر بشيء؛ لذلك ل يصلح أن تكون‬
‫لها عبادة؛ لن معنى العبادة يتطلب أمرا ونهيا‪ ،‬ولم تأمر الصنام بشيء ولم تنه عن شيء‪ ،‬بل‬
‫كان المشركون هم الذين يقترحون الوامر والنواهي‪ ،‬وهو أمر ل يليق؛ لن المعبود هو الذي‬
‫عليه أن يحدد أوجه الوامر والنواهي‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمن الحمق أن يعبد أحدٌ الصنم؛ لنها ل تضر من خالفها‪ ،‬ول تنفع من عبدها‪ ،‬فليس لها‬
‫أمر ول نهي‪.‬‬
‫ومن أوقفوا أنفسهم هذا الموقف نسوا أن في قدرة كل منهم أن ينفع الصنم وأن يضره‪ ،‬فالواحد‬
‫منهم يستطيع أن يصنع الصنم‪ ،‬وأن يصلحه إذا انكسر‪ ،‬أو يستطيع أن يكسره بأن يلقيه على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرض‪ .‬وفي هذه لحالة يكون العابد أقدر من المعبود على الضر وعلى النفع‪ ،‬وهذا عين التخلف‬
‫العقلي‪.‬‬
‫ضتْ هذه المسألة على العقل؛ فسوف يرفضها‬
‫إذن‪ :‬فمثل هذه العبادة لون من الحمق‪ ،‬ولو عُ ِر َ‬
‫العقل السليم‪.‬‬
‫وعندما تجادلهم‪ ،‬وتثبت لهم أن تلك الصنام ل تضر ول تنفع‪ ،‬تجد من يكابر قائلً‪ { :‬هَـاؤُلءِ‬
‫ش َفعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ } وهم بهذا القول يعترفون أن ال هو الذي ينفع ويضر‪ ،‬ولكن أما كان يجب أن‬
‫ُ‬
‫يتخذوا شفيعا لهم عند ال‪ ،‬وأن يكون الشفيع متمتعا بمكانة ومحبة عند من يشفع عنده؟‬
‫ثم ماذا يقولون في أن من تُقدم له شفاعة هو الذي ينهى عن اتخاذ الصنام آلهة وينهي عن‬
‫عبادتها؟‬
‫وهل هناك شفاعة دون إذن من المشفوع عنده؟ من أجل ذلك جاء المر من الحق سبحانه لرسوله‬
‫صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَلَ فِي الَ ْرضِ } [يونس‪]18 :‬‬
‫{ ُقلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ ِبمَا لَ َيعَْلمُ فِي ال ّ‬
‫إذن‪ :‬فمن أين جئتم بهذه القضية؛ قضية شفاعة الصنام لكم عند ال؟ إنها قضية ل وجود لها‪،‬‬
‫وسبحانه لم يبلغكم أن هناك أصناما تشفع‪ ،‬وليس هذا واردا‪ ،‬فقولكم هذا فيه كذب متعمد وافتراء‪.‬‬

‫فهو سبحانه الذي خلق السموات وخلق الرض‪ ،‬ويعلم كل ما في الكون‪ ،‬وقضية شفاعة الصنام‬
‫عنده ليست في علمه‪ ،‬ول وجود لها‪ ،‬بل هي قضية مفتراة‪ ،‬مُدّعاة‪.‬‬
‫وقوله الحق هنا‪ } :‬أَتُنَبّئُونَ اللّهَ { مثلها مثل قوله الحق‪:‬‬
‫{ ُقلْ أَ ُتعَّلمُونَ اللّهَ ِبدِي ِنكُمْ }[الحجرات‪]16 :‬‬
‫ويعني هذا القول بالرد على من قالوا ويقولون‪ :‬إن المطلوب هو تشريعات تناسب العصر‪ ،‬وكلما‬
‫فسد العصر طالبوا بتشريعات جديدة‪ ،‬وما داموا هم الذين يشرّعون‪ ،‬فكأنهم يرغبون في تعليم‬
‫خالقهم كيف يكون الدين‪ ،‬وفي هذا اجتراء وجهل بقدرة وحكمة مَنْ خلق الكون‪ ،‬فأحكمه بنظام‪.‬‬
‫عمّا‬
‫سمَاوَاتِ وَلَ فِي الَ ْرضِ سُبْحَانَهُ وَ َتعَالَىا َ‬
‫وقوله الحق‪ُ } :‬قلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ ِبمَا لَ َيعْلَمُ فِي ال ّ‬
‫يُشْ ِركُونَ { فيه تنزيه له سبحانه‪ ،‬فهو الخالق لكل شيء‪ ،‬خالق الملك والملكوت ويعلم كل شيء‪،‬‬
‫وقضية شفاعة الصنام إنما هي قضية مفتراة ل وجود لها؛ لذلك فهي ليست في علم ال‪ ،‬والحق‬
‫سبحانه مُنزّه أن توجد في ملكه قضية لها مدلول يقيني ول يعلمها‪ ،‬ومُنزّه جل وعل عن أن يُشرَك‬
‫به؛ لن الشريك إنما يكون ليساعد من يشركه‪ ،‬ونحن نرى على سبيل المثال صاحب مال يديره‬
‫في تجارة ما‪ ،‬ولكن ماله ل ينهض بكل مسئوليات التجارة‪ ،‬فيبحث عن شريك له‪.‬‬
‫وسبحانه وتعالى قوي وقادر‪ ،‬ول يحتاج إلى أحد في ملكية الكون وإدارته‪ ،‬ثم ماذا يفعل هؤلء‬
‫الشركاء المدّعون كذبا على ال؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن الحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫{ ُقلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َتغَوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء‪]42 :‬‬
‫وهذا القول الحكيم ينبه المشركين إلى أنه بافتراض جدلي أن لهؤلء الشركاء قوة وقدرة على‬
‫التصرف‪ ،‬فهم لن يفعلوا أي شيء إل بابتغاء ذى العرش‪ ،‬أي‪ :‬بأمره سبحانه وتعالى‪ .‬وهم حين‬
‫ظنوا خطأ أن لكل فلك من الفلك سيطرة على مجال في الوجود‪ ،‬وأن النجوم لها سيطرة على‬
‫الوجود‪ ،‬وأن كل برج من البراج له سيطرة على الوجود‪ ،‬فل بد في النهاية من الستئذان من‬
‫مالك الملك والملكوت‪.‬‬
‫ومن خيبة من ظنوا مثل هذه الظنون‪ ،‬ومعهم الفلسفة الذين أقروا بأن هناك أشياء في الكون ل‬
‫يمكن أن يخلقها إنسان‪ ،‬أو أن يدّعى لنفسه صناعتها؛ لن الجنس البشري قد طرأ على هذه‬
‫المخلوقات‪ ،‬فقد طرأ النسان على الشمس والقمر والنجوم والرض‪ ،‬ول بد إذن أن تكون هناك‬
‫قوة أعلى من النسان هي التي خلقت هذه الكائنات‪.‬‬

‫كل هذه الكائنات تحتاج إلى مُوجِد‪ ،‬ولم نجد معامل لصناعة الشمس أو القمر أو الرض أو وجدنا‬
‫من ادعى صناعتها أو خلقها‪.‬‬
‫ولكن الفلسفة الذين قبلوا وجود خالق للكون لم يصلوا إلى اسمه ول إلى منهجه‪ ،‬وقوة الحق‬
‫سبحانه مطلقة‪ ،‬ول يحتاج إلى شريك له‪ ،‬وإذا أردنا أن نتأمل ولو جزءا بسيطا من أثر قوة ال‬
‫التي وهبها للنسان‪ ،‬فلنتأمل صناعة المصباح الكهربي‪.‬‬
‫وكل منا يعلم أنه ل توجد بذرة نضعها في الرض‪ ،‬فتنبت أشجارا من المصابيح‪ ،‬بل استدعت‬
‫صناعة مصباح الكهرباء جهد العلماء الذين درسوا علما الطاقة‪ ،‬و استنبطوا من المعادلت إمكان‬
‫تصور صناعة المصباح الكهربي‪ ،‬وعملوا على تفريغ الهواء من الزجاجة التي يوضع فيها السلك‬
‫الذي يضيء داخل المصباح‪ ،‬وهكذا وجدنا أن صناعة مصباح كهربي واحد تحتاج إلى جهد‬
‫علماء وعمل مصانع‪ ،‬كل ذلك من أجل إنارة غرفة واحدة لفترة من الزمن‪ .‬فما بالنا بالشمس التي‬
‫تضيء الكون كله‪ ،‬وإذا كان أتفه الشياء يتطلب كمية هائلة من العلم والبحث والمكانات الفنية‬
‫والتطبيقية‪ ،‬وتطوير للصناعات‪ ،‬فما بالنا بالشمس التي تضيء نصف الكرة الرضية كل نصف‬
‫يوم‪ ،‬ول أحد يقدر على إطفائها‪ ،‬ول تحتاج إلى صيانة من البشر‪ ،‬وإذا أردت أن تنسبها فلن تجد‬
‫إل ال سبحانه‪.‬‬
‫وأنت بما تبتكره وتصنعه ل يمكن أن يصرفك عن ال‪ ،‬والذكي حقا هو من يجعل ابتكاراته‬
‫وصناعاته دليلً على صدق ال فيما أخبر‪.‬‬
‫وإذا كان الحق سبحانه قد خلق الشمس ـ ضمن ما خلق ـ وإذا أشرقت أطفأ الكل مصابيحهم؛‬
‫لنها هي المصباح الذي يهدي الجميع‪ ،‬وإذا كان ذلك هو فعل مخلوق واحد ل‪ ،‬فما بالنا بكل نعمة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من سائر مخلوقاته‪ .‬ونور الشمس إنما يمثل الهداية الحسية التي تحمينا من أن نصطدم بالشياء‬
‫فل تحطمنا ول نحطمها‪ ،‬فكذلك يضيء لنا الحق سبحانه المعاني والحقائق‪.‬‬
‫وإياك أن تقول‪ :‬إن الفيلسوف الفلني جاء بنظرية كذا؛ فخذوا بها‪ ،‬بل دع عقلك يعمل ويقيس ما‬
‫جاء بهذه النظرية على ضوء ما نزل في كتاب الحق سبحانه‪ ،‬وإن دخلت النظرية مجال التطبيق‪،‬‬
‫وثبت أن لها تصديقا من الكتاب‪ ،‬فقل‪ :‬إن الحق سبحانه قد هدى فلنا إلى اكتشاف سر جديد من‬
‫أسرار القرآن؛ لن الحق يريد منا أن نتعقل الشياء وأن ندرسها دراسة دقيقة‪ ،‬بحيث نأخذ‬
‫طموحات العقل؛ لتقربنا إلى ال‪ ،‬ل لتبعدنا عنه‪ ،‬والعياذ بال‪.‬‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ { فذلك لن الشركة تقتضي طلب‬
‫وإذا قال الحق سبحانه‪ } :‬سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَىا َ‬
‫المعونة‪ ،‬وطلب المعونة يكون إما من المساوي وإما من العلى‪ ،‬ول يوجد مسا ٍو ل تعالى‪ ،‬ول‬
‫أعلى من ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ح َدةً {‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬ومَا كَانَ النّاسُ ِإلّ ُأمّ ًة وَا ِ‬

‫(‪)1369 /‬‬

‫َومَا كَانَ النّاسُ إِلّا ُأمّةً وَاحِ َدةً فَاخْتََلفُوا وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَِلفُونَ (‬
‫‪)19‬‬

‫وقد جاءت آية في سورة البقرة متشابهة مع هذه الية وإن اختلف السلوب‪ ،‬فقد قال الحق سبحانه‬
‫في سورة البقرة‪ {:‬كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ }[البقرة‪ ]213 :‬والذين يقرأون القرآن‬
‫بسطحية وعدم تعمق قد ل يلتفتون إلى اليات المشابهة لها في المعنى العام‪ ،‬وهذه اليات توازن‬
‫بين المعاني فل تضارب بين آية وأخرى‪.‬‬
‫ولذلك نجد بين المفكرين العصريين من يقول‪ :‬إن الناس كانوا كلهم كفارا‪ ،‬ثم ارتقى العقل محاولً‬
‫اكتشاف أكثر الكائنات قوة؛ ليعبدوه‪ ،‬فوجدوا أن الجبل هو الكائن العالي الصلب؛ فعبدوه‪ .‬وأناس‬
‫آخرون قالوا‪ :‬إن الشمس أقوى الكائنات فعبدوها‪ ،‬وآخرون عبدوا القمر‪ ،‬وعبد قوم غيرهم‬
‫النجوم‪ ،‬واتخذ بعض آخر آلهة من الشجر‪ ،‬وكل جماعة نظرت إلى جهة مختلفة تتلمس فيها القوة‪.‬‬
‫وهم يأخذون من هذا أن النسان قد اهتدى إلى ضرورة الدين بعقله‪ ،‬ثم ظل هذا العقل في ارتقاء‬
‫إلى أن وصل إلى التوحيد‪.‬‬
‫ونرد على أصحاب هذا القول‪ :‬أنتم بذلك تريدون أن تعزلوا الخلق عن خالقهم‪ ،‬وكأن ال الذي‬
‫خلق الخلق وأمدهم بقوام حياتهم المادية قد ضَنّ عليهم بقوام حياتهم المعنوية‪ ،‬وليس هذا من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المقبول أو المعقول‪ ،‬فكيف يضمن لهم الحياة المادية‪ ،‬ول يضمن لهذه المادية قيما تحرسها من‬
‫الشراسة وتحميها من الفساد والفساد؟‬
‫وقوله الحق‪:‬‬
‫ح ُكمَ بَيْنَ‬
‫حقّ لِيَ ْ‬
‫ن وَأَن َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫ن َومُنذِرِي َ‬
‫ح َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ‬
‫{ كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُواْ فِيهِ َومَا اخْتََلفَ فِيهِ ِإلّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِن َبعْدِ مَا جَآءَ ْت ُهمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيا بَيْ َنهُمْ َفهَدَى‬
‫اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ ِلمَا اخْتََلفُواْ فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[البقرة‪:‬‬
‫‪]213‬‬
‫لذلك َفهِمَ البعض أن الناس كانوا أمة واحدة في الكفر‪ ،‬وحين جاء النبيون‪ ،‬اختلف الناس؛ لن‬
‫منهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر‪ ،‬ولكن لو أحسن الذين قالوا مثل هذا القول الستنباط‬
‫وحسن الفهم عن ال لوجدوا أن مقصود الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الن إنما هو‪ :‬ما‬
‫كان الناس إل أمة واحدة فاختلفوا؛ فبعث ال النبيين؛ ليخرجوهم عن الخلف ويعيدوهم إلى التفاق‬
‫على عهد اليمان الول الذي شهدوا فيه بربوبية الحق سبحانه وتعالى؛ لن الصل في المسألة‬
‫هو اليمان ل الكفر‪.‬‬
‫ومن أخذ آية سورة البقرة كدليل على كفر الناس أولً‪ ،‬نقول له‪ :‬اقرأ الية بأكملها؛ لتجد قوله‬
‫ح ُكمَ‬
‫حقّ لِيَ ْ‬
‫ن وَأَن َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫ن َومُنذِرِي َ‬
‫الحق‪ {:‬كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ‬
‫بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُواْ فِيهِ }[البقرة‪]213 :‬‬
‫وهكذا نرى أن الختلف الذي حدث بين الناس جاء في آية البقرة في المؤخرة‪ ،‬بينما جاء‬
‫الختلف في هذه الية في المقدمة‪ ،‬وهذا دليل على أن الناس كانوا أمة واحدة على اليمان‪ ،‬فليس‬
‫هناك أناس أوْلَى من أناس عند الخالق سبحانه وتعالى‪ ،‬ولم يكن عدل ال ليترك أناسا متخبطين‬
‫في أمورهم على الكفر‪ ،‬ويرسل الرسل لناس آخرين بالهداية؛ فالناس بالنسبة ل سواء‪.‬‬

‫وما دام الحق سبحانه قد أوجد الخلق من البشر فل بد أن يُنزل لهم منهجا؛ ولذلك حين نقرأ قول‬
‫الحق سبحانه‪ {:‬إِنّ َأ ّولَ بَ ْيتٍ ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا وَ ُهدًى لّ ْلعَاَلمِينَ }[آل عمران‪]96 :‬‬
‫نجد فيه الرد على من يقول إن إبراهيم عليه السلم هو أول من بنى الكعبة؛ لن الحق سبحانه‬
‫وتعالى لم يترك الخلق من آدم إلى إبراهيم دون بيت يحجون إليه‪ ،‬ولكن الحق سبحانه وضع‬
‫البيت؛ ليحج إليه الناس من أول آدم إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬والذي وضع البيت ليس من الناس‪ ،‬بل‬
‫شاء وضع البيت خالق الناس‪ ،‬وما فعله سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ هو رفع القواعد من‬
‫البيت الحرام‪.‬‬
‫أي‪ :‬أنه أقام ارتفاع البيت بعد أن عرف مكان البيت طولً وعرضا‪ ،‬مصداقا لقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ وَإِذْ َبوّأْنَا لِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ }[الحج‪]26 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا َيصْدُق قول الحق سبحانه بأن البيت قد وُجد للناس قبل آدم‪ ،‬وهو الناس إلى أن تقوم‬
‫الساعة‪ ،‬وهكذا نعلم أن الحق سبحانه خلق الخلق وأنزل لهم المنهج‪ ،‬والصل في الناس هو‬
‫اليمان‪ ،‬لكن الكفر هو الذي طرأ على البشر من بابين‪ :‬باب الغفلة‪ ،‬وباب تقليد الباء‪.‬‬
‫والدليل على ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلّم عن ميثاق الذر‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا‬
‫سهِمْ أََل ْ‬
‫شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ‬
‫خذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ‬
‫{ وَإِذْ أَ َ‬
‫ل َوكُنّا‬
‫شهِدْنَآ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ‬
‫َ‬
‫ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }[العراف‪172 :‬ـ ‪]173‬‬
‫إذن‪ :‬فالتعصّي عن الحكم اليماني مدخله بابان‪ :‬الول باب الغفلة‪ ،‬أي‪ :‬أن تكون قد عملتَ شيئا‪،‬‬
‫ولم تجعله دائما في بؤرة شعورك؛ لن عقلك يستقبل المعلومات‪ ،‬ويستوعبها من مرة واحدة‪ ،‬إن‬
‫لم تكن مُش ّتتَ الفكر في أكثر من أمر‪ ،‬فإن كنت صافي الفكر ومنتبها إلى المعلومة التي َتصُِلكَ؛‬
‫فإن عقلك يستوعبها من مرة واحدة‪ ،‬ومن المهم أن يكون الذهن خاليا لحظة أن تستقبل المعلومة‬
‫الجديدة‪.‬‬
‫ولذلك نجد فارقا بين إنسان وإنسان آخر في حفظ المعلومات‪ ،‬فواحد يستقبل المعلومة وذهنه خالٍ‬
‫من أي معلومة غيرها‪ ،‬فتثبت في بؤرة الشعور‪ ،‬بينما يضطر الخر إلى تكرار قراءة المعلومة‬
‫إلى أن يخلو ذهنه من غيرها؛ فتستقر المعلومة في بؤرة الشعور‪ ،‬وحين تأتي معلومة أخرى‪،‬‬
‫فالمعلومة الولى تنتقل إلى حاشية الشعور إلى حين أن يستدعيها مرة أخرى‪.‬‬
‫وإذا أراد طالب ـ على سبيل المثال ـ أن يستوعب ما يقرأ من معلومات جديدة‪ ،‬فعلية أن ينفض‬
‫عن ذهنه كل المشاغل الخرى؛ ليركّز فيما يدرس؛ لنه إن جلس إلى المذاكرة وباله مشغول بما‬
‫سوف يأكل في الغداء‪ ،‬أو بما حدث بينه وبين أصدقائه‪ ،‬أو بما سوف يرتدي من ملبس عند‬
‫الخروج من البيت‪ ،‬أو بغير ذلك من المشاغل‪ ،‬هنا سوف يُضطر الطالب أن يعيد قراءة الدرس‬
‫أكثر من مرة؛ حتى يصادف الدرسُ جزئية خالية من بؤرة الشعور؛ فتستقر فيها‪.‬‬

‫وقد نجد طالبا في صباح يوم المتحان وهو يسمع من زملئه أن المتحان قد يأتي في الجزء‬
‫الفلني من المقرر؛ فيفتح الكتاب المقرر على هذا الجزء ويقرأه مرة واحدة؛ فيستقر في بؤرة‬
‫الشعور‪ ،‬ويدخل المتحان‪ ،‬ليجد السؤال في الجزء الذي قرأه مرة واحدة قبل دخوله إلى اللجنة؛‬
‫فيجيب عن السؤال بدقة‪.‬‬
‫ولذلك فالتلميذ الذكي هو من يقوم بما يسمّيه علم النفس " عملية الستصحاب " ‪ ،‬أي‪ :‬أن يقرأ‬
‫الدرس ثم يغلق الكتاب؛ ليسأل نفسه‪ " :‬ما الجديد من المعلومات في تلك الصفحة؟ " ويحاول أن‬
‫يتذكر ذلك‪ ،‬ويحاول أن يتعرف حتى على اللفاظ الجديدة التي في تلك الصفحة‪ ،‬وما هي الفكار‬
‫حتْ له معلومات أو أفكارا خاطئة كانت موجودة لديه‪.‬‬
‫الجديدة التي صحّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا يستصحب الطالب معلومات بتركيز وانتباه‪.‬‬
‫وكذلك الستاذ المتميز هو من يشرح الدرس ثم يتوقف؛ ليسأل التلميذ؛ ليشير انتباههم؛ حتى ل‬
‫ينشغل أحدهم بما هو خارج الدرس‪ ،‬والستاذ المتميز هو الذي يلقي درسه بما يستميل التلميذ‪،‬‬
‫كما تستميلهم القصة المروية‪ ،‬وحتى ل تظل المعلومات الدراسية مجرد معلومات جافة‪.‬‬
‫وبهذا يستمر الذهن بل غفلة‪ ،‬والغفلة تأتي إلى القضايا الدينية؛ لن في النسان شهوات تصادم‬
‫الوامر والنواهي؛ فيتناسى النسان بعض الوامر وبعض النواهي إلى أن يأتي الران الذي قال‬
‫عنه الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ كَلّ َبلْ رَانَ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ مّا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[المطففين‪]14 :‬‬
‫ويبين النبي صلى ال عليه وسلم ذلك بالحديث الشريف‪ " :‬نزلت المانة في جذر قلوب الرجال‪،‬‬
‫ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السّنّة "‪ .‬ثم يحدثنا صلى ال عليه وسلم عن رفع‬
‫المانة فيقول‪ " :‬ينام الرجل النومة فتقبض المانة من قلبه؛ فيظل أثرها مثل أثر الوكْت " أي‪ :‬مثل‬
‫ن على القلب‪.‬‬
‫لسعة النار وهكذا تتوالى؛ حتى يأتي الرّا ُ‬
‫إذن‪ :‬فالغفلة تتلصص على النفس النسانية‪ ،‬وكلما غفل النسان في نقطة‪ ،‬ثم يغفل عن أخرى‬
‫وهكذا‪ .‬ولكن من ل يغفل فهو من يتذكر الحكم‪ ،‬وبطبقه‪ ،‬ويذوق حلوته‪ .‬ومثال هذا‪ :‬المسلم الذي‬
‫صلّ يظل مُرْهقا وفي ضيق‪.‬‬
‫يشرح ال تعالى قلبه للصلة‪ ،‬فإن لم ُي ّ‬
‫ولذلك جاء في الحديث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬تُعرض الفتن على القلوب‬
‫كالحصير عودا عودا‪ ،‬فأيّ قلب أشْرِبها نكت فيه نكتة سوداء‪ ،‬وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة‬
‫بيضاء حتى تصير على قلبين‪ :‬على أبيض مثل الصفا فل تضره فتنة ما دامت السموات‬
‫والرض‪ ،‬والخر أسود مربادا كالكوز مُجَخّيا ل يعرف معروفا ول ينكر منكرا إل ما أشرب من‬
‫هواه "‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فالغفلة هي أول باب يدخل منه الشيطان؛ فيبعد النسان عن أحكام ال‪ .‬وإذا ما غفل الب‪،‬‬
‫فالبناء يُقلّدون الباء‪ ،‬فتأتيهم غفلة ذاتية‪ .‬وهكذا يكون الغافل أسوة لمن بعده‪.‬‬
‫ولذلك قال الحق سبحانه عن البناء الذين يتعبون غفلة الباء‪َ {:‬بلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ }‬
‫[البقرة‪]170 :‬‬
‫وإلْف تقليد الباء قضية كاذبة؛ لننا سلسنا مسألة اليمان إلى آدم عليه السلم‪ ،‬وهو الب الول‬
‫لكل البشر؛ لوجدنا أن آدم عليه السلم قد طبّق كل مطلوب ل‪ ،‬فإن قلت‪َ } :‬بلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَيْهِ‬
‫آبَآءَنَآ { فهذا القول يحتم عليك أل تنحرف عن اليمان الفطري‪ ،‬وإل كنت من الكاذبين غير‬
‫المدققين فيما دخل على اليمان الفطري من غفلة أو غفلت‪ ،‬تبعها تقليد دون تمحيص‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق سبحانه قد شاء أن تكون كل كلمة في القرآن لها معنى دقيق مقصود‪ ،‬فالحق سبحانه يقول‬
‫جدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَىا آثَارِهِم مّقْتَدُونَ }[الزخرف‪:‬‬
‫على ألسنة الكافرين في القرآن‪ {:‬إِنّا وَ َ‬
‫‪]23‬‬
‫ولم يقل‪ " :‬مهتدون " بل قال‪ " :‬مقتدون " ‪ ،‬والمقتدي من هؤلء هو من اتخذ أباه قدوة‪ ،‬لكن‬
‫المهتدي هو مَنْ ظن أن أباه على حق‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمقتدي هو من ل يهتم بصدق إيمان أبيه‪ ،‬بل يقلده فقط‪ ،‬وتقليد الباء نوعان‪ :‬تقليد على أنه‬
‫اقتداء مطلق ل صلة له بالهدى أو الضلل‪ ،‬وتقليد على أنه هدى صحيح لشرع ال تعالى‪ .‬وقد‬
‫ن قال‪ :‬إن أول الرسل هو‬
‫حدث خلف حول آدم عليه السلم أهو رسول أم نبي فقط؟ فهناك مَ ْ‬
‫نوح عليه السلم ونقول‪ :‬وهل من المعقول أن يترك ال الخلق السابقين على نوح عليه السلم‬
‫دون رسول؟‬
‫إن الحق سبحانه وهو القائل‪ {:‬وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر‪]24 :‬‬
‫والذي أشكل على هؤلء المفسرين الذين قالوا‪ :‬إن أول رسول هو نوح عليه السلم أنهم قد فكروا‬
‫تفكيرا سطحيا‪ ،‬وفهموا أن الرسول يطرأ على المرسل إليهم‪ ،‬وما دام لم يكن هناك بشر قبل آدم‬
‫فكيف يكون آدم مبعوثا برسالة‪ ،‬ولمن تكون تلك الرسالة؟‬
‫ولم يفطن هؤلء المفسرون إلى أن آدم عليه السلم كان رسولً وأسوة إلى أبنائه‪ ،‬فالحق سبحانه‬
‫علَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ }[البقرة‪]38 :‬‬
‫خ ْوفٌ َ‬
‫قد قال له‪ {:‬فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُم مّنّي هُدًى َفمَن تَ ِبعَ هُدَايَ فَلَ َ‬
‫شقَىا }[طه‪]123 :‬‬
‫ضلّ َولَ يَ ْ‬
‫وسبحانه قد قال لدم عليه السلم‪َ {:‬فمَنِ اتّ َبعَ ُهدَايَ فَلَ َي ِ‬
‫وما دام الحق سبحانه قد ذكر الهدى‪ ،‬فهذا ذكر للمنهج‪ ،‬وهو الذي طبقه سلوكا يقلده فيه البناء‪.‬‬

‫علَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَادَمَ بِا ْلحَقّ إِذْ قَرّبَا‬
‫وغفل هؤلء المفسرون أيضا عن استقراء قوله الحق‪ {:‬وَا ْتلُ َ‬
‫قُرْبَانا }[المائدة‪]27 :‬‬
‫وابْنَا آدم عليه السلم قد قدّمنا القربان إلى ال تعالى‪ .‬إذن‪ :‬فهما قد عرفا أن هناك إلها‪.‬‬
‫لقْتُلَ ّنكَ }[المائدة‪]27 :‬‬
‫وحين قال قابيل لخيه‪َ {:‬‬
‫بعد ما تقبل ال قربان أخيه ولم يتقبل منه‪ .‬قال هابيل‪ {:‬إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ }[المائدة‪]27 :‬‬
‫لقْتَُلكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ َربّ‬
‫ك َ‬
‫سطٍ يَ ِديَ إِلَ ْي َ‬
‫ثم في قول هابيل‪ {:‬لَئِن بَسَطتَ إَِليّ يَ َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَا ِ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ }[المائدة‪]28 :‬‬
‫إذن‪ :‬لو لم يكن آدم عليه السلم رسولً فمن بلّغ أبناءه بأن ال يثيب ويعاقب؟‬
‫والحق سبحانه يقول في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪ } :‬وََلوْلَ كَِلمَةٌ سَ َب َقتْ مِن رّ ّبكَ‬
‫َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَِلفُونَ { وفي هذا إشارة إلى أن ال سبحانه ـ قبل رسالة محمد عليه‬
‫الصلة والسلم ـ كان يعاقب مَن يكذّب البلغ عنه وما جاء به السابقون من الرسل‪ ،‬يقول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سبحانه‪:‬‬
‫سفْنَا بِهِ‬
‫{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَ ْرسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ الصّيْحَ ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ خَ َ‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ }[العنكبوت‪]40 :‬‬
‫الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َم ُه ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬
‫إل أمة محمد صلى ال عليه وسلم فقد قال ال تعالى‪َ {:‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ َومَا كَانَ‬
‫اللّهُ ُم َعذّ َبهُ ْم وَهُمْ َيسْ َت ْغفِرُونَ }[النفال‪]33 :‬‬
‫جلَ الجزاء والعقوبة عن أمة محمد صلى ال عليه وسلم إلى الخرة‪ .‬وهذه‬
‫أي‪ :‬أنه سبحانه قد أ ّ‬
‫الكلمة التي سبقت‪ ،‬أنه سبحانه ل يؤاخذ أمة محمد صلى ال عليه وسلم بذنوبهم في الدنيا‪ ،‬ولكنه‬
‫يؤخّر ذلك إلى يوم الجزاء‪ .‬ويقضي سبحانه في ذلك اليوم بين من اتبعوا الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم ومن عاندوه‪ ،‬وبطبيعة الحال يكون الحق سبحانه في جانب من أرسله‪ ،‬ل من عاند رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ويقول سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وَ َيقُولُونَ َل ْولَ أُن ِزلَ عَلَ ْيهِ آ َيةٌ مّن رّبّهِ {‬

‫(‪)1370 /‬‬

‫وَيَقُولُونَ َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَ ْيهِ آَ َيةٌ مِنْ رَبّهِ َف ُقلْ إِ ّنمَا ا ْلغَ ْيبُ لِلّهِ فَانْ َتظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ (‪)20‬‬

‫(‪)1371 /‬‬

‫حمَةً مِنْ َبعْ ِد ضَرّاءَ مَسّ ْتهُمْ ِإذَا َلهُمْ َمكْرٌ فِي آَيَاتِنَا ُقلِ اللّهُ َأسْ َرعُ َمكْرًا إِنّ رُسُلَنَا‬
‫وَإِذَا َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ‬
‫َيكْتُبُونَ مَا َت ْمكُرُونَ (‪)21‬‬

‫والرسول صلى ال عليه وسلم حين ضاق ذرعا بالكافرين من صناديد قريش دعا عليهم أن يهديهم‬
‫الحق بسنين الجدب كالسنين التي أصابت مصر واستطاع سيدنا يوسف عليه السلم أن يدبر‬
‫أمرها‪ ،‬فلسط الحق سبحانه على قريش الجدب والقحط‪ ،‬ثم جاء لهم بالرحمة من بعد ذلك‪ .‬وكان‬
‫من المفروض أن يرجعوا إلى ال‪ ،‬وأن يؤمنوا برسالة رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بعد أن علموا‬
‫أن ما مسّهم من القحط ومن الجدب كان بسبب دعوة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬اللهم اجعلها‬
‫عليهم سنين كَسِ ِنيّ يوسف "‪.‬‬
‫وانتهت السنوات السبع وجاء لهم الرحمة ممثلة في المطر‪ ،‬ولم يلتفتوا إلى ضرورة شكر ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫واليمان برسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكنهم ظلوا يبحثون عن أسباب المطر‪ ،‬فمنهم من قال‪:‬‬
‫لقد جاء مطرنا نتيجة لِنوْءِ كذا‪ ،‬ولن الرياح هبّت على مناطق كذا‪ ،‬وفعلوا ذلك دون التفات‬
‫لنتهاء دعوة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مثلهم مَثَل مَنْ جلس يبحث في أسباب النصر في‬
‫الحرب‪ ،‬وجعلوا أسبابها مادية في العُدّة والعتاد‪ ،‬ول أحد ينكر أهمية الستعداد للقتال وجدواه‪،‬‬
‫ولكن يبقى توفيق ال سبحانه وتعالى فوق كل اعتبار؛ لن المؤمنين بال الذين استعدوا للقتال‬
‫ودخلوا المعارك وجدوا المعجزات تتجلى بنصر ال؛ لن الحق سبحانه ينصر مَنْ ينصره‪.‬‬
‫أما الذين يحصرون أسباب النصر في الستعداد القتالي فقط‪ ،‬فالمقاتلون الذين خاضوا الحرب بعد‬
‫التدريب الجاد‪ ،‬يعلمون أن التدريب وحده ل يصنع روح المقاتل‪ ،‬بل تصقل روحه رغبته في‬
‫القتال ونَيْل الشهادة ودخول الجنة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فلمدد السماء مدخل‪ ،‬ومَن رأى من المقاتلين آية مخالفة لنواميس الكون‪ ،‬فليعلم علم اليقين أن‬
‫يد ال كانت فوق أيدي المؤمنين المقاتلين‪ .‬ومن يدعي أن أي نصر هو نتيجة للحضارة‪ ،‬يجد الرد‬
‫عليه من المقاتلين أنفسهم بأن الحضارة بل إيمان هي مجرد تقدم مادة هش ل يصنع نصرا‪،‬‬
‫والنصر ل يكون بالمادة وحدها‪ ،‬وقد أمرنا ال بحسن الستعداد المادي‪ ،‬ولكن النصر يكون‬
‫باليمان فوق المادة‪.‬‬
‫ولذلك نجد مَنْ خاضوا حربنا المنتصرة في العاشر من رمضان ‪1393‬هـ يعلمون أن مدد ال‬
‫كان معهم بعد أن أحسنوا الستعداد‪ ،‬ول أحد من المقاتلين يصدق أن الستعداد المادي وحده يمكن‬
‫أن يكفي للنصر‪ ،‬إنه ضرورة‪ ،‬ولكن باليمان وحسن استخدام السلح يكون النصر؛ ولذلك ل‬
‫يصدق المقاتلون من ينسب النصر للمادة وحدها‪ ،‬وينسحب عدم التصديق على كل ما يقوله من‬
‫ينكر دور اليمان في النتصار‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن مَنْ يجرد النصر من قيمة اليمان إنما يخدم اليمان؛ لن إنكار اليمان يقلل من‬
‫قيمة الرأي المادى‪ .‬وهكذا ينصر ال دينه حتى يثبته في قلوب جنده‪ ،‬ويقلل من قيمة ومكانة مَنْ‬
‫ينكرون قيمة اليمان‪.‬‬

‫ومثال هذا في تاريخ السلم أن اليهود الذين كانوا يستفتحون على أهل المدينة من الوس‬
‫والخزرج بأن رسولً سوف يظهر‪ ،‬وأنهم ـ أي‪ :‬اليهود ـ سيتبعونه‪ ،‬وسوف يقتلون العرب من‬
‫الوس والخزرج قَتْل عادٍ وإرم‪.‬‬
‫ولما جاء وقت ظهور محمد بن عبد ال صلى ال عليه وسلم بمكة‪ ،‬أسرعت الوس والخزرج إلى‬
‫اليمان به‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه النبي الذي تهددنا به يهود‪ ،‬فَلْنسبق إليه حتى ل يسبقونا‪.‬‬
‫هكذا كانت كلمة اليهود هي دافع الوس والخزرج إلى اليمان‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فال ينصر دينه بالفاجر‪ ،‬رغم ظن الفاجر أنه يكيد للدين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكذلك حين جاءت لهم الرحمة بعد القحط أرجفوا وظلوا يحللون سبب سقوط المطر بأسباب علمية‬
‫محدودة بالمادة‪ ،‬ل باليمان الذي فوق المادة‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪:‬‬
‫حمَةً مّن َبعْ ِد ضَرّآءَ مَسّ ْتهُمْ إِذَا َل ُهمْ ّمكْرٌ فِي آيَاتِنَا ُقلِ اللّهُ أَسْ َرعُ َمكْرا إِنّ‬
‫} وَإِذَآ َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ‬
‫رُسُلَنَا َيكْتُبُونَ مَا َت ْمكُرُونَ { [يونس‪]21 :‬‬
‫والمكر‪ :‬هو الكلم الملتوي الذي ل يريد أن يعترف برحمة ال‪ ،‬والدعاء بأن نوء كذا هو السبب‬
‫في سقوط المطر‪ ،‬وبرج كذا هو السبب في سقوط المطر‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ّ } :‬مكْرٌ فِي آيَاتِنَا { والمكر هو الكيد الخفي‪ ،‬والمقصود به هنا محاولة اللتفاف؛‬
‫لتجريد العجائب من صنع ال لها‪ ،‬وحتى العلم وقوانينه فهو هبة من ال‪ ،‬والحق هو القادر على‬
‫أن يوقف السباب وأن يفعل ما يريد وأن يخرق القوانين‪ ،‬فهو سبحانه رب القوانين‪ ،‬فل تنسبوا‬
‫أي خبر إل له سبحانه؛ حتى ل نضل ضلل الفلسفة الذين قالوا بأن ال موجود‪ ،‬وهو الذي خلق‬
‫الكون وخلق النواميس؛ لتحكم الكون بقوانين‪.‬‬
‫شذّ شيء عن تلك القوانين‪،‬‬
‫ونقول‪ :‬لو خلق الحق سبحانه القوانين والنواميس وتركها تتحكم لما َ‬
‫فالمعجزات مع الرسل ـ على سبيل المثال ـ كانت خروجا عن القوانين‪ .‬وأبقى ال في يده‬
‫التحكّم في القوانين‪ ،‬صحيح أنه سبحانه قد أطلقها‪ ،‬ولكنه ظل قيّوما عليها‪ ،‬فيعطل القانون متى‬
‫شاء ويبرزه متى شاء ويُوجّه كيفما شاء‪.‬‬
‫والمكر كما نعلم مأخوذ من التفاف أغصان الشجرة كالضفيرة‪ ،‬فل تتعرف على منبت ورقة‬
‫الشجر ومن أي غصن خرجت‪ ،‬فقد اختلطت منابت الوراق؛ حتى صارت خفية عليك‪ ،‬وأخذ من‬
‫ذلك الكيد الخفيّ‪ ،‬وأنت قد تكيد لمساويك‪ ،‬لكنك لن تقدر على أن تكيد لمن هو أعلى منك‪ ،‬فإن‬
‫كنتم تمكرون فإن ال أسرع مكرا‪ ،‬والحق سبحانه يقول‪ُ } :‬قلِ اللّهُ َأسْ َرعُ َمكْرا { ‪ ،‬وهذه أسمها "‬
‫مشاكلة التعبير "‪.‬‬
‫أي‪ :‬عليك أن تأخذ ذلك في مقابله في ذات الفاعل والفعل‪ ،‬ولكن ل تأخذ من هذا القول اسما ل‪،‬‬
‫فإياك أن تقول‪ :‬إن ال ـ سبحانه وتعالى ـ ماكر؛ لن المكر كيد خفيّ تفعله أنت مع مساويك‪،‬‬
‫ولكنك لن تستطيع ذلك مع من هو مُطّلع على كيدك‪ ،‬ول تطّلع أنت على ما يشاء لك‪.‬‬

‫وانظر إلى أي جماعة تكيد لي أمر‪ ،‬وستجد من بينهم من يبلغ عنهم السلطات‪ ،‬وأجهزة المن‪،‬‬
‫فإذا كان كيد البشر للبشر مفضوحا بمن يشي منه بالخرين‪ ،‬بل هناك من البشر غير الكائدين من‬
‫يستطيع بنظرته أن يستنبط ويستكشف من يكيدون له‪.‬‬
‫وهناك من الجهزة المعاصرة ما تستطيع تسجيل مكالمات الناس والتنصّت عليهم؛ وكل ذلك مكر‬
‫من البشر للبشر‪ ،‬فما بالنا إن كاد ال لحد‪ ،‬وليس هناك أحد مع ال ـ سبحانه وتعالى ـ ليبلغنا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بكيده‪ ،‬ول أحد يستطيع أن يتجسّس عليه؟!‬
‫مكر ال سبحانه ـ إذن ـ أقوى من أي مكرٍ بشري؛ لن مكر البشر قد يُهدَم من بعض الماكرين‬
‫أو من التجسس عليهم‪ ،‬لكن إذا كاد ال لهم‪ ،‬أيعلمون من كيده شيئا؟ طبعا ل يعملون‪.‬‬
‫وكلمة } َأسْ َرعُ َمكْرا { تلفتك إلى أن هناك اثنين يتنافسان في سباق‪ ،‬وحين تقول‪ :‬فلن أسرع من‬
‫فلن‪ ،‬فمعنى ذلك‪ :‬أن كلّ منهما يحاول الوصول إلى نفس الغاية‪ ،‬لكن هناك واحدا أسرع من‬
‫الخر في الوصول إلى الغاية‪.‬‬
‫ومكركم البشري هو أمر حادث‪ ،‬لكن ال ـ سبحانه ـ أزلي الوجود‪ ،‬يعلم كل شيء قبل أن يقع‪،‬‬
‫ويرتّب كل أمر قبل أن يحدث؛ لذلك فهو السرع في الرد على مكركم‪ ،‬إن مكرتم‪.‬‬
‫حمَةً مّن َب ْع ِد ضَرّآءَ مَسّ ْتهُمْ ِإذَا َلهُمْ ّمكْرٌ فِي آيَاتِنَا‬
‫وهناك يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَإِذَآ أَ َذقْنَا النّاسَ رَ ْ‬
‫{ و " إذا " الولى ظرف‪ ،‬أما إذا الثانية فهي " إذا الفجائية " مثلما تقول‪ :‬خرجت فإذا السد‬
‫بالباب‪.‬‬
‫وهم حين أنزل الحق لهم المطار رحمة منه‪ ،‬فهم ل يهدأون ويستمتعون ويذوقون رحمة ال‬
‫تعالى بهم من الماء الذي جاءهم من بعد الجدب‪ ،‬بل دبروا المكر فجأة‪ ،‬فيأتي قول الحق‬
‫سبحانه‪ُ } :‬قلِ اللّهُ أَسْ َرعُ َمكْرا إِنّ ُرسُلَنَا َيكْتُبُونَ مَا َت ْمكُرُونَ {‪.‬‬
‫وهكذا ترى أن ما يبطل كيد الماكرين من البشر‪ ،‬يكون بإحدى تالك الوسائل‪ :‬إما أن يكون بوشاية‬
‫من أحد الماكرين‪ ،‬وإما أن يكون بقوة التخابر من الغير‪ ،‬وإما أن يكون من رسل العليّ القدير وهم‬
‫الملئكة الذين يكتبون كل ما يفعله البشر‪ ،‬فسبحانه القائل‪ {:‬وَإِنّ عَلَ ْيكُمْ َلحَافِظِينَ * كِرَاما كَاتِبِينَ *‬
‫َيعَْلمُونَ مَا َت ْفعَلُونَ }[النفطار‪10 :‬ـ ‪]12‬‬
‫حسِيبا }[السراء‪.]14 :‬‬
‫سكَ الْ َي ْومَ عَلَ ْيكَ َ‬
‫واقرأ أيضا قول الحق سبحانه‪ {:‬اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَىا بِ َنفْ ِ‬
‫وجاء الحق سبحانه بكل ما سبق؛ لنه سبحانه قد شاء أن يعطي لقريش فرصة التراجع في عنادها‬
‫للرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬هذا العناد الذي قالوا فيه‪ :‬إنهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم‪ ،‬وهذا‬
‫قول مغلوط؛ لن الباء في الصل كانوا مؤمنين‪ ،‬ولكن جاءهم الضلل كأمر طارىء‪ ،‬والصنام‬
‫التي عبدوها طارئة عليهم من الروم‪ ،‬جاء بها إنسان ممن ساحوا في بلد الروم هو " عمرو بن‬
‫لحيّ " ‪ ،‬فإن رجعتُم إلى اليمان بعد عنادكم؛ فهذا هو الطريق المستقيم الذي كان عليه آباؤكم‬
‫بالفطرة والميثاق الول‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬هوَ الّذِي يُسَيّ ُر ُكمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ {‬

‫(‪)1372 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ُهوَ الّذِي ُيسَيّ ُركُمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ حَتّى إِذَا كُنْتُمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ َوجَرَيْنَ ِبهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَ ٍة َوفَرِحُوا ِبهَا‬
‫عوُا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ‬
‫ن وَظَنّوا أَ ّنهُمْ أُحِيطَ ِبهِمْ دَ َ‬
‫صفٌ وَجَاءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِنْ ُكلّ َمكَا ٍ‬
‫جَاءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ‬
‫الدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَ ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ (‪)22‬‬

‫وهذه الية الكريمة جاءت مرحلة من مراحل إخبار ال سبحانه وتعالى عن المعاندين لدعوة‬
‫السلم‪ ،‬التي بدأها الحق سبحانه بأنه قد رحمهم فأجّل لهم استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر‪،‬‬
‫حقّ مِنْ‬
‫عوْا به على أنفسهم من الشر في قولهم‪ {:‬إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ‬
‫ولو أنه أجابهم إلى ما دَ َ‬
‫سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال‪]32 :‬‬
‫حجَا َرةً مّنَ ال ّ‬
‫عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا ِ‬
‫لقضي أمرهم‪ :‬فمن رحمة ال تعالى أنه لم ُيجِبْهم إلى دعائهم‪.‬‬
‫وإذا كان ال سبحانه قد أجّل استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر رحمة بهم‪ ،‬فيجب أن يعرفوا أن‬
‫تأجيل استجابتهم بدعاء الخير رحمة بهم أيضا؛ لنهم قد يدعون بالشر وهم يظنون أنهم يدعون‬
‫بالخير‪ ،‬وبعد ذلك دلّل على كذبهم في دعائهم على أنفسهم بالشر بأنهم إذا مسّهم ضرّ دعوا ال‬
‫تعالى مضطجعين وقاعدين وقائمين‪.‬‬
‫فلو كانوا يحبون الشر لنفسهم؛ لظلوا على ما هم فيه من البلء إلى أن يقضي ال تعالى فيهم‬
‫أمرا‪.‬‬
‫ثم عرض سبحانه قضية أخرى‪ ،‬وهي أنه سبحانه إذا مسهم بضر؛ ليعتبروا‪ ،‬جاء ال سبحانه‬
‫برحمته؛ لينقذهم من هذا الضر‪ .‬فياليتهم شركوا نعمة ال تعالى في الرحمة من بعد الضر‪ ،‬ولكنهم‬
‫مرّوا كأن لم يدعوا ال سبحانه إلى ضر مسّهم‪.‬‬
‫وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪ ،‬يصور لنا الحق سبحانه وضعا آخر‪ ،‬هو وضع‬
‫السير في البر والبحر‪ ،‬فيقول‪ُ { :‬هوَ الّذِي يُسَيّ ُركُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ } [يونس‪.]22 :‬‬
‫وكلمة { ُيسَيّ ُركُمْ } تدل على أن الذي يسّير هو ال‪ ،‬ولكن في القرآن آيات تثبت أن السير يُنسب‬
‫إلى البشر حين يقول‪ُ {:‬قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ }[النمل‪]69 :‬‬
‫ل وَسَارَ بَِأهْلِهِ }[القصص‪.]29 :‬‬
‫جَ‬‫وحين يقول الحق سبحانه‪ {:‬فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ‬
‫ي وَأَيّاما آمِنِينَ }[سبأ‪]18 :‬‬
‫وهو سبحانه يقول‪ {:‬سِيرُواْ فِيهَا لَيَاِل َ‬
‫فكأن هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد نسبت التسيير إلى ال سبحانه‪ ،‬وبعض اليات‬
‫الخرى نسبت التسيير إلى النفس النسانية‪ ،‬ونقول لمن توهموا أن في ذلك تعارضا‪:‬‬
‫لو أنكم فطنتم إلى تعريف الفاعل عند النحاة وكيف يرفعونه؛ لعرفتم أن تحقق أي فعل إنما يعود‬
‫إلى مشيئة ال سبحانه‪ ،‬فحين نقول‪ " :‬نجح فلن " فهل هو الذي نجح‪ ،‬أم أن الذي سمح له بالنجاح‬
‫غيره؟ إن الممتحن والمصحّح هما من سمحا له بالنجاح؛ تقديرا لجاباته التي تدل على بذَل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المجهود في الستذكار‪.‬‬
‫وكذلك نقول‪ " :‬مات فلن " ‪ ،‬فهل فلن فعل الموت بنفسه؟ خصوصا ونحن نعرب " مات " كفعل‬
‫ماضٍ‪ ،‬ونعرب كلمة (فلن) " فاعل " أو نقول‪ :‬إن الموت قد وقع عليه واتّصف به؛ لن تعريف‬
‫الفاعل‪ :‬هو الذي يفعل الفعل‪ ،‬أو يتّصف به‪.‬‬

‫وإذا أردنا أن ننسب الشياء إلى مباشرتها السببية؛ قلنا‪ " :‬سار النسان "‪.‬‬
‫وإذا أردنا أن نؤرّخ لسير النسان بالسباب‪ ،‬وترحّلنا به إلى الماضي؛ لوجدنا أن الذي سيّره هو‬
‫ال تعالى‪.‬‬
‫وكل أسباب الوجود إنْ نظرتَ إليها مباشرة؛ وجدتها منسوبة إلى من هو فاعل لها؛ لكنك إذا‬
‫تتبّعتها أسبابا؛ وجدتّها تنتسب إلى ا ل سبحانه‪.‬‬
‫فمثلً‪ :‬إذا سُئلت‪ :‬مَنْ صنع الكرسي؟ تجيب‪ :‬النجار‪ .‬وإنْ سألت النجار‪ :‬من أين أتيت بالخشب؟‬
‫سيجيبك‪ :‬مِن التاجر‪ .‬وسيقول لك التاجر أنه استورده من بلد الغابات‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إذا أردت أن تسلسل كل حركة في الوجود؛ ل بد أن تنتهي إلى ال تعالى‪.‬‬
‫ل وَسَارَ بِأَ ْهلِهِ }[القصص‪]29:‬‬
‫جَ‬‫وحين قال الحق سبحانه‪ {:‬فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ‬
‫نفهم من ذلك أن موسى ـ عليه السلم ـ قد سُيّر بأهله؛ لن التسيير في كل مقوماته من ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ك وَأَ ْبكَىا }[النجم‪]43 :‬‬
‫حَ‬‫والمثال الخر‪ :‬نحن نقرأ في القرآن قوله الحق‪ {:‬وَأَنّهُ ُهوَ َأضْ َ‬
‫فهو سبحانه الذي خلق الضحك‪ ،‬وخلق البكاء‪.‬‬
‫فنجد من يقول‪ :‬كيف يقول ال سبحانه إنه خلق الضحك والبكاء وهو الذي يقول في القرآن‪{:‬‬
‫ل وَلْيَ ْبكُواْ كَثِيرا }[التوبة‪]82 :‬‬
‫حكُواْ قَلِي ً‬
‫فَلْ َيضْ َ‬
‫ونقول‪ :‬أنت إن نظرت إلى القائم بالضحك‪ ،‬فهو النسان الذي ضحك‪ ،‬وإن نظرت إلى من خلق‬
‫غريزة الضحك في النسان؛ تجده ال سبحانه‪.‬‬
‫وغريزة الضحك موجودة باتفاق شامل لكل أجناس الوجود‪ ،‬وكذلك البكاء فل يوجد ضحك عربي‪،‬‬
‫وضحك انجليزي‪ ،‬ول يوجد بكاء فرنسي‪ ،‬أو بكاء روسي‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فال سبحانه وتعالى هو الذي خلق الضحك والبكاء‪.‬‬
‫ك وَأَ ْبكَىا }[النجم‪]43 :‬‬
‫حَ‬‫وقد صدق قوله الحق‪ {:‬وَأَنّهُ ُهوَ َأضْ َ‬
‫لكن الضاحك والباكي يقوم به الوصف‪ .‬وكذلك قوله الحق‪َ {:‬ومَا َرمَ ْيتَ ِإذْ َرمَ ْيتَ وَلَـاكِنّ اللّهَ‬
‫َرمَىا }[النفال‪]17 :‬‬
‫فقد شاء الحق سبحانه أن يمكن رسوله صلى ال عليه وسلم بالبشرية أن يرمي الحصى‪ ،‬ولكن‬
‫إيصال الحصى لكل فرد في الجيش المقابل له‪ ،‬فتلك إرادة ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فقول الحق سبحانه‪ُ } :‬هوَ الّذِي يُسَيّ ُر ُكمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ {‪ .‬ل يتعارض مع أنهم هم الذين‬
‫يسيرون‪ ،‬وأنت إذا علّلت السير في الرض أو في البحر؛ ستجد أن السير هو انتقال السائر من‬
‫مكان إلى مكان‪ ،‬وهو يحدّد غاية السير بعقله‪ ،‬والرض أو البحر الذي يسير في أي منهما بأقدامه‬
‫أو بالسيارة أو بالمركب‪ ،‬هذا العقل خلقه ال تعالى‪ ،‬والرض كذلك‪ ،‬والبحر أيضا‪ ،‬كلها مخلوقات‬
‫خلقها ال سبحانه وتعالى‪ .‬وأنت حين تحرّك ساقيك؛ لتسير‪ ،‬ل تعرف كيف بدأت السير ول كَمْ‬
‫عضلة تحركت في جسدك‪ ،‬فالذي أخضع كل طاقات جسمك لمراد عقلك هو ال تعالى‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكل أمر مرجعه إلى ال سبحانه‪.‬‬
‫وهنا ملحظ في السير في البر والبحر‪ ،‬فكلهما مختلف‪ ،‬فالنسان ساعة يسير في الرض على‬
‫اليابسة‪ ،‬قد تنقطع به السبل‪ ،‬ويمكنه أن يستصرخ أحدا من المارة‪ ،‬أو ينتظر إلى أن يمر عليه‬
‫بعض المارة؛ ليعاونه‪.‬‬

‫أما المرور في البحر؛ فل توجد به سابلة أو سالكة كثيرة؛ حتى يمكن للنسان أن يستصرخهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمرور في البحر أدق من المرور في البر؛ ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى في هذه‬
‫ك وَجَرَيْنَ‬
‫الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول عن السير في البحر‪ } :‬حَتّىا إِذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْل ِ‬
‫ف وَجَآ َءهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَانٍ َوظَنّواْ أَ ّنهُمْ ُأحِيطَ‬
‫ص ٌ‬
‫ِبهِم بِرِيحٍ طَيّبَ ٍة َوفَرِحُواْ ِبهَا جَآءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ‬
‫عوُاْ اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ لَئِنْ أَ ْنجَيْتَنَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ { [يونس‪]22 :‬‬
‫ِبهِمْ دَ َ‬
‫وهكذا ل نجد أن في الية نفسها حديثا عن السير في البر؛ لن الحق سبحانه ما دام قد تكلم عن‬
‫إزالة الخطر للمضطر في البحر‪ ،‬فهذا يتضمن إزالته عمن يسير في البر من باب أولى‪ .‬وإذا ما‬
‫جاء الدليل القوى‪ ،‬فهو ل بد أن ينضوي فيه الدليل القل‪.‬‬
‫ومثال هذا قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َو َوصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَيْهِ إِحْسَانا }[الحقاف‪.]15 :‬‬
‫ضعَتْهُ‬
‫حمَلَ ْتهُ ُأمّهُ كُرْها َو َو َ‬
‫وجاءت كل الحيثيات بعد ذلك للم‪ ،‬ولم يأت بأي حيثية للب‪ ،‬فيقول‪َ {:‬‬
‫شهْرا }[الحقاف‪]15 :‬‬
‫حمْلُهُ َوفِصَالُهُ ثَلَثُونَ َ‬
‫كُرْها وَ َ‬
‫وشاء الحق سبحانه ذلك؛ لن حيثية الم مبنية على الضعف‪ ،‬فيريد أن يرقق قلب ابنها عليها‪،‬‬
‫فالب رجل‪ ،‬قد يقدر على الكدح في الدنيا‪ ،‬كما أن فضل الب على الولد يدركه الولد‪ ،‬لكن فضل‬
‫أمه عليه وهو في بطنها؛ ل يعيه‪ ،‬وفي طفولته الولى ل يعي أيضا هذا الفضل‪.‬‬
‫ولكنه يعي من بعد ذلك أن والده يحضر له كل مستلزمات حياته‪ ،‬من مأكل وملبس‪ ،‬ويبقى دور‬
‫الم في نظر الطفل ماضيا خافتا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فحيثية الم هي المطلوبة؛ لن تعبها في الحمل والرضاع لم يكن مُدْرَكا من الطفل‪.‬‬
‫وكذلك هنا في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪ ،‬ترك الحق سبحانه حيثية البر وأبان‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالتفصيل حيثية البحر‪:‬‬
‫} ُهوَ الّذِي يُسَيّ ُر ُكمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ حَتّىا إِذَا كُن ُتمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ { [يونس‪]22 :‬‬
‫وكلمة (الفلك) تأتي مرة مفردة‪ ،‬وتأتي مرة جمعا‪ ،‬والوزن واحد في الحالتين ومثال هذا أنه حين‬
‫أراد ال سبحانه أن ينجي نوحا عليه السلم‪ ،‬وأن يغرق الكافرين به‪ ،‬قال لسيدنا نوح‪ {:‬وَاصْنَعِ‬
‫ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا }[هود‪.]37 :‬‬
‫إذن هي تطلق على المفرد‪ ،‬وعلى الجمع‪ ،‬ولها نظائر في اللغة في كلتا الحالتين‪ ،‬فهي في الفراد‬
‫تكون مثل‪ُ :‬قفْل‪ ،‬وقُرْط‪ .‬وعند الجمع تكون مثل‪ :‬أسْد‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يصف الريح هنا بأنها طيبة‪ ،‬والقرآن الكريم طبيعة أسلوبه حين يتكلم عن‬
‫الريح بلفظ الفراد يكون المقصود بها هو العذاب‪ ،‬مثل قوله الحق‪ {:‬فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْ ِبلَ‬
‫شيْءٍ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ * ُت َدمّرُ ُكلّ َ‬
‫َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ مَا اسْ َتعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا َ‬
‫بَِأمْرِ رَ ّبهَا }‬

‫[الحقاف‪24 :‬ـ ‪.]25‬‬


‫وإن تكلم عنها بلفظ الجمع فهي للرحمة‪ ،‬وسبحانه القائل‪:‬‬
‫{ وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ }[الحجر‪.]22 :‬‬
‫ويقول سبحانه أيضا‪:‬‬
‫سقْنَاهُ لِبَلَدٍ مّ ّيتٍ فَأَنْزَلْنَا‬
‫حمَتِهِ حَتّىا إِذَآ َأقَّلتْ سَحَابا ِثقَالً ُ‬
‫سلُ الرّيَاحَ بُشْرا بَيْنَ يَ َديْ َر ْ‬
‫{ وَ ُهوَ الّذِي يُرْ ِ‬
‫بِهِ ا ْلمَآءَ فَأَخْ َرجْنَا بِهِ مِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ }[العراف‪.]57 :‬‬
‫والرياح هنا جاءت في صيغة الجمع‪ ،‬وعلّة وجود ريح الشر‪ ،‬ورياح للخير‪ ،‬يمكنك أن تستشفها‬
‫من النظر إلى الوجود كله؛ هذا النظر يوضح لك أن الهواء له مراحل‪ ،‬فهواء الرّخَاء هو الذي‬
‫يمر خفيفا‪ ،‬مثل النسيم العليل‪ ،‬وأحيانا يتوقف الهواء فل تمر نسمة واحدة‪ ،‬ولكننا نتنفس الهواء‬
‫الساكن الساخن أثناء حرارة الجو‪ ،‬ثم يشتد الهواء أحيانا؛ فيصير رياحا قوية بعض الشيء‪ ،‬ثم‬
‫يتحول إلى أعاصير‪.‬‬
‫والهواء ـ كما نعلم ـ هو المقوّم الساسي لكل كائن حي‪ ،‬ولكل كائن ثابت غير حي‪ ،‬فإذا كان‬
‫الهواء هو المقوم الساسي للنفس النسانية‪ ،‬فالعمارات الضخمة ـ مثل ناطحات السحاب ـ ل‬
‫تثبت بمكانها إل نتيجة توازن تيارات الهواء حولها‪ ،‬وإن حدث تفريغ للهواء تجاه جانب من‬
‫جوانبها؛ فالعمارة تنهار‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالذي يحقق التوازن في الكون كله هو الهواء‪.‬‬
‫ولذلك نجد القرآن الكريم قد فصّل أمر الرياح وأوضح مهمتها‪ ،‬وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬حَتّىا‬
‫إِذَا كُن ُتمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ وَجَرَيْنَ ِبهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ { وكأنه سبحانه يتكلم هنا عن السفن الشراعية التي تسير‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالهواء المتجمّع في أشرعتها‪ .‬وإذا كان التقدم في صناعة السفن قد تعدّى الشراع‪ ،‬وانتقل إلى‬
‫البخار‪ ،‬ثم الكهرباء‪ ،‬فإن كلمة الحق سبحانه‪ } :‬برِيحٍ طَيّ َبةٍ { تستوعب كل مراحل الرتقاء‪،‬‬
‫خصوصا وأن كلمة " الريح " قد وردت في القرآن الكريم بمعنى القوة أيا كانت‪ :‬من هواء‪ ،‬أو‬
‫ح ُكمْ }[النفال‪.]46 :‬‬
‫محرك يسير بأية طاقة‪ .‬وسبحانه القائل‪ {:‬وَلَ تَنَازَعُواْ فَ َتفْشَلُو ْا وَتَذْ َهبَ رِي ُ‬
‫وهكذا نفهم أن معنى الريح ينصرف إلى القوة‪ .‬وأيضا كلمة " الريح " تنسجم مع كل تيسيرات‬
‫البحر‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ } :‬حَتّىا إِذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ َوجَرَيْنَ ِبهِم بِرِيحٍ طَيّبَ ٍة َوفَرِحُواْ ِبهَا { هذا القول الكريم‬
‫يضم ثلثة وقائع‪ :‬الوجود في الفُلْك‪ ،‬وجرى الفُلْك بريح طيبة‪ ،‬ثم فرحهم بذلك؛ هذه ثلثة أشياء‬
‫جاءت في فعل الشرط‪ ،‬ثم يأتي جواب الشرط وفيه ثلثة أشياء أيضا‪:‬‬
‫صفٌ { وثانيها‪ } :‬وَجَآءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَانٍ { وثالثها‪ } :‬وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ‬
‫أولها‪ } :‬جَآءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ‬
‫أُحِيطَ ِبهِمْ {‪.‬‬
‫أما الريح العاصف‪ :‬فهي المدمرة‪ ،‬ويقال‪ :‬فلن يعصف بكذا‪ ،‬وفي القرآن‪َ {:‬ك َعصْفٍ مّ ْأكُولٍ }‬
‫[الفيل‪.]5 :‬‬
‫صفٌ { هي الريح المدمّرة والمغرِقة‪ .‬وقوله الحق‪ } :‬وَجَآءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَانٍ‬
‫إذن‪ } :‬رِيحٌ عَا ِ‬
‫{‪.‬‬
‫فالموج يأتي من أسفل‪ ،‬والريح تأتي من أعلى‪ ،‬وترفع الريح الموج فيدخل الموج إلى المركب‪،‬‬
‫ونعلم أنهم يقيسون ارتفاع الموج كل يوم حسب قوة الريح‪ :‬فحين تكون الريح خفيفة؛ يظهر سطح‬
‫مياه البحر مجعّدا‪ ،‬وحين تكون الريح ساكنة؛ فأنت ل تجد صفحة المياه مجعدة‪ ،‬بل مبسوطة‪ ،‬وقد‬
‫جاءتهم الريح عاصفا فيزداد عنف الموج‪ ،‬ويتحقق نتيجة لذلك الظن بأنهم قد أحيط بهم‪.‬‬

‫ومعنى الحاطة هو عدم وجود منفذ للفرار؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يتكلم عن الكافرين بقوله‪{:‬‬
‫واللّهُ مُحِيطٌ بِا ْلكَافِرِينَ }[البقرة‪.]19 :‬‬
‫أي‪ :‬ليس هناك منفذ يفلتون منه‪.‬‬
‫ولحظة ظنهم أنه قد أحيط بهم؛ ل يسلمون أنفسهم لهذه الحالة؛ بدعوى العتزاز بأنفسهم غريزيا‪،‬‬
‫بل يتجهون إلى ال بالدعاء‪ ،‬هذا الله الذي أنكروه‪ ،‬لكنهم لحظة الخطر ل يكذب أحد على نفسه‬
‫أو يخدعها‪.‬‬
‫ولذلك نجد سيدنا جعفر الصادق يجيب على سائل سأله‪ :‬أهناك دليل على وجود الصانع العلى؟‬
‫فيقول سيدنا جعفر‪ :‬ما عملك؟ فيجيب السائل‪ :‬تاجر أبحر في البحر‪ .‬فسأله سيدنا جعفر‪ :‬أوَلم‬
‫يحدث لك فيه حال؟ قال الرجل‪ :‬بل حدث‪ .‬فسأل سيدنا جعفر‪ :‬ما هو؟ قال‪ :‬حملت بضائعي في‬
‫سفينة‪ ،‬فهبت الريح وعل الموج وغرقت السفينة وتعلقت بلوح من الخشب‪ .‬قال سيدنا حعفر‪ :‬الم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يخطر على بالك أن تفزع إلى شيء؟ قال الرجل‪ :‬نعم‪ .‬قال سيدنا جعفر‪ :‬هذا الصانع العلى‪.‬‬
‫وكذلك لجأ هؤلء الذين كفروا بال إلى ال تعالى حين عصفت بهم الريح‪ ،‬وعل عليهم الموج‪،‬‬
‫عوُاْ اللّهَ‬
‫وظنوا أنهم قد أحيط بهم ويقول الحق سبحانه وتعالى ـ وهم في مثل هذه الحالة‪ } :‬دَ َ‬
‫عوْه بإخلص وأقروا بوحدانيته‪ ،‬وألّ‬
‫مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ { وهذا يعني أنهم لم يدعوه فقط‪ ،‬بل دَ َ‬
‫شريك له أبدا؛ لنهم يعلمون أن مثل هذا الشريك لن ينفعهم أبدا‪.‬‬
‫ثم يجيء الحق سبحانه بصيغة دعائهم‪ } :‬لَئِنْ أَ ْنجَيْتَنَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ { فهل َو ّفوْا‬
‫بالعهد؟ ل؛ لن الحق سبحانه يقول بعد ذلك‪ } :‬فََلمّآ أَنجَا ُهمْ إِذَا هُمْ يَ ْبغُونَ فِي الَ ْرضِ {‬

‫(‪)1373 /‬‬

‫س ُكمْ مَتَاعَ ا ْلحَيَاةِ‬


‫فََلمّا أَنْجَاهُمْ ِإذَا ُهمْ يَ ْبغُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِ ّنمَا َبغْ ُيكُمْ عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫ج ُعكُمْ فَنُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ (‪)23‬‬
‫الدّنْيَا ُثمّ إِلَيْنَا مَ ْر ِ‬

‫وبعد أن أنجاهم الحق سبحانه مباشرة تأتي " إذا " الفجائية لتوضح لنا أنهم لم ينتظروا إلى أن‬
‫يستردوا أنفاسهم‪ ،‬أو تمر فترة زمنية بينهم وبين الدعاء‪ ،‬وتحقق نتيجة الضراعة‪ ،‬ل‪ ،‬بل بغوا ـ‬
‫حقّ }‪.‬‬
‫على الفور ـ في الرض { فََلمّآ أَنجَاهُمْ ِإذَا ُهمْ يَ ْبغُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ‬
‫والبغي‪ :‬هو تجاوز الحدّ في الظلم وهو إفساد؛ لن النسان إذا ما أخرج أي شيء عن صلحه‪،‬‬
‫يقال‪ " :‬بغى عليه " ‪ ،‬فإن حفرت طريقا مُمهّدا؛ فهذا إفساد‪ ،‬وإنْ ألقيت بنفاية في بئر يشر منه‬
‫الناس؛ فهذا إفساد وبغي‪ ،‬وأي شيء قائم على الصلح فتخرجه عن مهمته وتطرأ عليه بما يفسده؛‬
‫فهذا بغي‪.‬‬
‫والبغي‪ :‬أعلى مراتب الظلم؛ لن الحق سبحانه هو القائل‪ {:‬إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن َقوْمِ مُوسَىا فَ َبغَىا‬
‫عَلَ ْيهِمْ }[القصص‪.]76 :‬‬
‫ويعطينا رسول ال صلى ال عليه وسلم صورة البغي الممثّلة في العتداء بالفساد على المر‬
‫الصالح‪ ،‬فيقول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أسرع الخير ثوابا‪ :‬البِرّ وصلة الرحم‪ ،‬وأسرع الشر‬
‫عقوبة‪ :‬البغي وقطيعة الرحم "‪.‬‬
‫والحق سبحانه ل يؤخر عقاب البغي وقطعية الرحم إلى الخرة‪ ،‬بل يعاقب عليهما في الدنيا؛ حتى‬
‫يتوازن المجتمع؛ لنك رأيت ظالما يحيا في رضا ورخاء ثم يموت بخير‪ ،‬فكل مَنْ يراه ويعلم‬
‫ظلمه ولم يجد له عقابا في الدنيا‪ ،‬سوف يستشري في الظلم‪.‬‬
‫ولذلك تجد أن عقاب ال تعالى لمثل هذا الظالم في الدنيا وأن يُرِي الناس نهايته السيئة‪ ،‬وحين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يرى الناس ذلك يتعظون؛ فل يظلمون‪ ،‬وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع‪.‬‬
‫وإل فلو ترك ال سبحانه المر لجزاء الخرة؛ لشقي المجتمع بمن ل يؤمن بالخرة ويحترفون‬
‫البغي؛ ولذلك يرى الناس عذابهم في الدنيا‪ ،‬ثم يكون لهم موقعهم من النار في الخرة‪.‬‬
‫ويقول صلى ال عليه وسلم محذرا‪ " :‬ل تَبْغِ‪ ،‬ول َتكُنْ باغيا "‪.‬‬
‫فالباغي إنما يصنع خللً في توازن المجتمع‪ .‬والذي يبغي إنما يأخذ حق الغير‪ ،‬ليستمتع بنتائج من‬
‫غير كدّه وعمله‪ ،‬ويتحوّل إلى إنسان يحترف فرض التاوات على الناس‪ ،‬ويكسل عن أي عمل‬
‫غير ذلك‪ .‬وأنت ترى ذلك في أبسط المواقع والحياء‪ ،‬حين يحترف بعض ممن يغترون بقوتهم‬
‫الجسدية‪ ،‬وقد تحولوا إلى (فتوات) يستأجرهم البعض ليذاء الخرين‪ ،‬والواحد من هؤلء إنما‬
‫احترف الكل من غير بذل جهد في عمل شريف‪.‬‬
‫والبغي ـ إذن ـ هو عمل مَنْ يفسد الناس حركة الحياة؛ لن من يقع عليهم ظلم البغي‪ ،‬إنما‬
‫يزهدون في الكَدّ والعمل الشريف الطاهر‪ .‬وإذا ما زهد الناس الكَدّ والعمل الشريف؛ تعطلت‬
‫حركة الحياة‪ ،‬وتعطلت مصالح البشر‪ ،‬بل إن مصالح الظالم نفسها تتعطل؛ ولذلك قال الحق‬
‫سبحانه‪ { :‬إِذَا هُمْ يَ ْبغُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ } [يونس‪.]23 :‬‬

‫ولقائل أن يسأل‪ :‬وهل هناك َبغْي بحق؟‬


‫أقول‪ :‬نعم؛ لن البغي اعتداء على الصالح بإفساد‪ .‬وأنت ساعة ترى إنسانا يفسد الشيء الصالح‪،‬‬
‫فتسأله‪ :‬لماذا تفعل ذلك؛ وقد يجيبك بأن غرضه هو الصلح‪ ،‬ويُعدّد لك أسبابا لهذا البغي‪ ،‬فهذا‬
‫بغي بحق‪ ،‬أما إن كان بغيا دون سبب شرعي فهذا هو البغي‪ ،‬بل قمته‪.‬‬
‫ومثال البغي بحق‪ ،‬أقول‪ :‬ألم يَسْتول النبي صلى ال عليه وسلم على أرض " بني قريظة " ‪،‬‬
‫وأحرق زرعهم وقطع الشجار في أَراضيهم‪ ،‬وهدم دورهم؟ أليس في ذلك اعتداء على الصالح؟‬
‫لقد فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك؛ لنه ردّ على عدوان أقسى من ذلك‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن هناك بغيا بحق‪ ،‬وبغيا بغير حق‪ .‬ولذلك يسمى ال جزاء السيئة سيئة مثلها‪ ،‬ويقول‬
‫سبحانه‪َ {:‬فمَنِ اعْ َتدَىا عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُواْ عَلَيْهِ }[البقرة‪.]194 :‬‬
‫ويسميه الحق سبحانه " اعتداء " رغم أنه ليس اعتداء‪ ،‬بل ردّ العتداء‪.‬‬
‫ويطلقها الحق سبحانه وتعالى قضية تظل إلى البد بعد ما تقدم‪ ،‬فيقول‪ } :‬ياأَ ّيهَا النّاسُ إِ ّنمَا َبغْ ُيكُمْ‬
‫سكُمْ مّتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا { [يونس‪.]23 :‬‬
‫عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫وهنا يبين ال سبحانه وتعالى وكأنه يخاطب الباغي‪ :‬يا مَنْ تريد أن تأخذ حق غيرك‪ ،‬اعلم أن‬
‫قصارى ما يعطيك أخذ هذا الحق هو بعض من متاع الدنيا‪ ،‬ثم تجازى من بعد ذلك بنار أبدية‪.‬‬
‫وأنت إن قارنت زمن المتعة المغتصبة الناتجة عن البغي بزمن العقاب عليها؛ لوجدت أن المتعة‬
‫رخيصة هينة بالنسبة إلى العقاب الذي سوف تناله عليها ول تأخذ عمرك في الدنيا قياسا على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمر الدنيا نفسها؛ لن الحق سبحانه قد يشاء أن يجعل عمر الدنيا عشرين مليونا من السنوات‪،‬‬
‫لكن عمرك فيها محدود‪.‬‬
‫فاربأوا على أنفسكم وافهموا أن متاع الدنيا قليل‪ ،‬إن كان هذا المتاع نتيجة ظلمكم لنفسكم؛ لن‬
‫نتيجة هذا الظلم إنما تقع عليكم؛ لن مقتضى ما يعطيكم هذا الظلم من المتعة والنعمة هو أمر‬
‫محدود بحياتكم في الدنيا‪ ،‬وحياتكم فيها محدودة‪ ،‬ول يظن الواحد أن عمره هو عمر البشرية في‬
‫الدنيا‪ ،‬ولكن ليقسْ كل واحد منكم عمره في الدنيا وهو محدود‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى‪ُ {:‬قلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ }[النساء‪.]77 :‬‬
‫سكُمْ { [يونس‪.]23 :‬‬
‫وهنا يؤكد الحق سبحانه‪ } :‬إِ ّنمَا َبغْ ُيكُمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫وقد يتمثل جزاء البغي في أن يشاء الحق سبحانه أل يموت الظالم إل بعد أن يرى مظلومه في‬
‫خير مما أخذ منه؛ ولذلك أقول دائما‪ :‬لو علم الظالم ما ادخره ال للمظلوم من الخير؛ لضنّ عليه‬
‫بالظلم‪.‬‬
‫وعلى فرض أن الظالم يتمتع بظلمه وهو من متاع الدنيا القليل‪ ،‬نجد الحق سبحانه يقول‪ } :‬ثُمّ إِلَينَا‬
‫ج ُعكُمْ { [يونس‪]23 :‬‬
‫مَرْ ِ‬
‫وحين نرجع إلى ال تعالى فل ظلم أبدا؛ لن أحدكم لن يظلم أو يُظلم فكل منكم سوف يَلْقى ما‬
‫ج ُعكُمْ فَنُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُن ُتمْ‬
‫ينبئه به ال سبحانه إنْ ثوابا أو عقابا؛ مصداقا لقوله الحق‪ } :‬ثُمّ إِلَينَا مَرْ ِ‬
‫َت ْعمَلُونَ { [يونس‪.]23 :‬‬
‫وقد جاء الخبر عن نبأ الجزاء من قبل أن يقع؛ ليعلم الجميع أن لكل فعلٍ مقابلً من ثواب أو‬
‫عقاب‪ ،‬كما أن في ذكر النبأ مقدّما تقريعا لمن يظلمون أنفسهم بالبغي‪.‬‬
‫سمَآءِ {‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬إِ ّنمَا مَ َثلُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬

‫(‪)1374 /‬‬

‫س وَالْأَ ْنعَامُ‬
‫سمَاءِ فَاخْتَلَطَ ِبهِ نَبَاتُ الْأَ ْرضِ ِممّا يَ ْأ ُكلُ النّا ُ‬
‫إِ ّنمَا مَ َثلُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫خ َذتِ الْأَ ْرضُ زُخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ وَظَنّ أَهُْلهَا أَ ّن ُهمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَا أَتَاهَا َأمْرُنَا لَيْلًا َأوْ َنهَارًا‬
‫حَتّى إِذَا أَ َ‬
‫صلُ الْآَيَاتِ ِلقَوْمٍ يَ َتفَكّرُونَ (‪)24‬‬
‫حصِيدًا كَأَنْ َلمْ َتغْنَ بِالَْأمْسِ َكذَِلكَ ُنفَ ّ‬
‫جعَلْنَاهَا َ‬
‫فَ َ‬

‫والماء الذي ينزل من السماء‪ ،‬هو الماء الصالح للري وللسقي؛ لن المياه الموجودة في الوجود‪،‬‬
‫هي مخازن للحياة‪ ،‬وغالبا ما تكون مالحة‪ ،‬كمياه البحار والمحيطات‪ ،‬وشاء الحق سبحانه ذلك‪،‬‬
‫لحمايتها من العفن والفساد‪ ،‬ثم تتم عملية تقطير المياه بأشعة الشمس التي تحوّل الماء إلى بخار‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويتجمع البخار كسحاب‪ ،‬ثم يسقط ماء عَذْبا مقطرا صالحا للشرب والرّي‪.‬‬
‫ت الَ ْرضِ } [يونس‪]24 :‬‬
‫سمَآءِ فَاخْتَلَطَ ِبهِ نَبَا ُ‬
‫والحق سبحانه يقول هنا‪َ { :‬كمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫والختلط‪ :‬اجتماع شيئين أو أشياء على هيئة النفصال بحيث يمكن أن تعزل هذا عن ذاك‪ ،‬فإن‬
‫خلطت بعضا من حبات الفول مع بعض من حبّات الترمس؛ فأنت تستطيع أن تفصل أيا منهما عن‬
‫الخر‪ ،‬ولكن هناك لونا آخر من جمع الشياء على هيئة المزج‪ ،‬مثلما تعصر ليمونة على ماء‬
‫محلّى بالسكر‪ ،‬وهذا ينتج عنه ذوبان كل جزىء من الليمون والسكر في جزيئات الماء‪.‬‬
‫ت الَ ْرضِ } وقد يُفهم من ذلك‬
‫سمَآءِ فَاخْتَلَطَ ِبهِ نَبَا ُ‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪َ { :‬كمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫أن الماء والنبات قد اختلطا معا‪ ،‬لكن النبات ـ كما نعلم ـ ككائن حي مخلوق من الماء مصداقا‬
‫حيّ }[النبياء‪.]30 :‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫جعَلْنَا مِنَ ا ْلمَآءِ ُكلّ َ‬
‫لقول الحق سبحانه‪ {:‬وَ َ‬
‫وهنا ل بد أن نلتفت إلى الفارق بين " باء " الخلط‪ ،‬و " باء " السببية فالباء هنا في هذه الية هي‬
‫باء السببية‪ ،‬وبذلك يكون المعنى‪ :‬فاختلط بسببه نبات الرض‪ .‬وأنت ترى بعد سقوط المطر على‬
‫الرض أن المياه تغطي الرض‪ ،‬ثم تجد بعد ذلك بأيام أو أسابيع‪ ،‬أن سطح الرض مغطى‬
‫بالزروع‪ ،‬وكلها مختلطة متشابكة‪ ،‬وكلما تشابكت الزروع مع بعضها فهذا دليل على أن الري‬
‫موجود والخصوبة في هذه الرض عالية‪ ،‬وهذا نتيجة تفاعل الماء مع التربة‪.‬‬
‫أما إن كانت الرض غير خصبة‪ ،‬فأنت تجد نَبْتة في منطقة من الرض‪ ،‬وأخرى متباعدة عنها‪،‬‬
‫وهذا ما يطلق عليه أهل الريف المصري أثناء زراعة الذرة ـ على سبيل المثال‪ " :‬الذرة تفلس "‬
‫أي‪ :‬أن كل عود من أعواد الذرة يتباعد عن الخر نتيجة عدم خصوبة الرض‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فخصوبة الرض لها أساس هام في النبات والماء موجود لذابة عناصر الغذاء للنبات‪،‬‬
‫فتنتشر بها جذور النبات‪.‬‬
‫وإن سمحتْ لك الظروف بزيارة المراكز العلمية للزراعة في " طوكيو " أو " كاليفورنيا "؛‬
‫فلسوف ترى أنهم يزرعون النباتات على خيوط رفيعة؛ تُسقى بالماء الذي يحتوي على عناصر‬
‫الغذاء اللزمة للنبات؛ لنهم وجدوا أن أي نبات يأخذ من الرض المواد اللزمة لنباته بما ل‬
‫يتجاوز خمسة في المائة من وزنه‪ ،‬ويأخذ من الهواء خمسة وتسعين في المائة من وزنه‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فالمطر النازل من السماء خلل الهواء هو الذي يذيب عناصر الرض؛ ليمتصها النبات‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى هنا أراد أن يضرب لنا المثل‪ ،‬والمثل‪ :‬هو قول شُبّه َمضْرِبُهُ ِب َموْلِدِه‪ ،‬أي‪:‬‬
‫شيء نريد أن نمثله بشيء‪ ،‬ول بد أن يكون الشيء الممثل به معلوما‪ ،‬والشيءُ المأخوذ كمثلٍ هو‬
‫ل بمجهول‪ ،‬وإنما نمثل مجهولً‬
‫الذي نريد أن نوضح صورته؛ ولذلك ل يصح أن نمثل مجهو ً‬
‫بمعلوم‪.‬‬
‫وتجد من يقول لك‪ :‬أل تعرف فلنا؟ فتقول‪ :‬ل أعرفه‪ ،‬فيرد عليك صاحبك‪ :‬إنه مثل فلن في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الشكل‪ .‬وهكذا ع ّر ْفتَ المجهول بمعلوم‪.‬‬
‫وبعض من الذين يحاولون العتراض على القرآن‪ ،‬دخلوا من هذه الناحية‪ ،‬وقالوا‪ :‬إذا كان الشيء‬
‫مجهولً ونريد أن نعرّف به‪ ،‬أل نعرّفه بمعلوم؟ فما بال ال ـ سبحانه وتعالى ـ يقول في شجرة‬
‫جحِيمِ * طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ }[الصافات‪64 :‬ـ‬
‫صلِ الْ َ‬
‫الزقوم‪ {:‬إِ ّنهَا شَجَ َرةٌ َتخْرُجُ فِي َأ ْ‬
‫‪.]65‬‬
‫ما بال ال سبحانه يبين شجرة الزقوم‪ ،‬وهي شجرة في النار ل نعرفها‪ ،‬فيعرّفها للمؤمنين به بأن‬
‫طلعها يشبه رءوس الشياطين‪ ،‬وبذلك يكون سبحانه قد مثّل مجهولً بمجهول‪ .‬والذين قالوا ذلك‬
‫فاتهم أن الذي يتكلم هو ال تعالى‪ .‬وقد أراد الحق سبحانه أن يُمثّل لنا شجرة الزقوم بشيء بشع‬
‫معلوم لنا‪ ،‬والبشع المعلوم هو الشيطان‪.‬‬
‫وشاء الحق سبحانه أل يحدد البشاعة؛ حتى ل ينقضي التشبيه؛ لن الشيء قد يكون بشعا في‬
‫نظرك‪ ،‬وغير بشع في نظر غيرك‪ .‬ويريد ال سبحانه أن يبشع طلع شجرة الزقوم؛ فاختار الشيء‬
‫المتفق على بشاعته‪ ،‬وهو رءوس الشياطين‪ ،‬وليتصور كل إنسان صورة الشيطان‪ ،‬بما ينفر منه‬
‫ويقبّحه‪ ،‬وهكذا تتجلّى عظمة الحق سبحانه في أن جعل شكل الشيطان مبهما‪.‬‬
‫وأما المثل الذي نحن بصدده هنا وهو تشبيه الحياة الدنيا بأنها كالماء الذي أنزله الحق سبحانه من‬
‫السماء فاختلط به نبات الرض‪ ،‬والحياة الدنيا نحن ندرك بعضها‪ ،‬وكلّ منا يدرك فترة منها‪ ،‬ولم‬
‫يدرك أولها‪ ،‬وقد ل يدرك آخرها‪ ،‬فجاء الحق سبحانه بمثل يراه كل واحد منا‪ ،‬وهو الزرع الذي‬
‫ل معروف لنا جميعا‪ ،‬وندركه‬
‫يرتوي بالمطر‪ ،‬فأراد الحق سبحانه أن يجمع لنا صورة الدنيا في مث ٍ‬
‫جميعا؛ فندرك ما سبق‪ ،‬وما يلحق‪ ،‬فكل شيء يأخذ حظه في الزدهار‪ ،‬والجمال‪ ،‬ثم ينتهي‪ ،‬كذلك‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ت الَ ْرضِ ِممّا يَ ْأ ُكلُ النّاسُ وَالَ ْنعَامُ حَتّىا إِذَآ َأخَ َذتِ‬
‫سمَآءِ فَاخْتََلطَ بِهِ نَبَا ُ‬
‫} َكمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫حصِيدا‬
‫جعَلْنَاهَا َ‬
‫الَ ْرضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ َنهَارا فَ َ‬
‫لمْسِ { [يونس‪]24 :‬‬
‫كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ‬
‫والزخرف‪ :‬هو الشيء الجميل المستميل للنفس وتُسرّ به حينما تراه‪ ،‬وتتزين الدنيا باللوان‬
‫المتنوعة في تنسيق بديع‪ ،‬ثم يصبح كل ذلك حصيدا وهذا ما نراه في حياتنا‪ ،‬وهكذا جمع ال‬
‫سبحانه وتعالى مثل الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها بالصورة المرئية لكل إنسان‪ ،‬حتى ليخدع‬
‫إنسان بزخرف الدنيا ول بزينتها‪.‬‬

‫والحق سبحانه هو القائل‪:‬‬


‫شقّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّا *‬
‫شقَقْنَا الَ ْرضَ َ‬
‫طعَامِهِ * أَنّا صَبَبْنَا ا ْلمَآ َء صَبّا * ثُمّ َ‬
‫{ فَلْيَنظُ ِر الِنسَانُ إِلَىا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدَآ ِئقَ غُلْبا * َوفَا ِكهَ ًة وَأَبّا * مّتَاعا ّلكُمْ وَلَ ْنعَا ِمكُمْ * فَإِذَا‬
‫وَعِنَبا َوقَضْبا * وَزَيْتُونا وَنَخْلً * وَ َ‬
‫جَآ َءتِ الصّآخّةُ * َي ْومَ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ‬
‫َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }[عبس‪24 :‬ـ ‪.]37‬‬
‫إذن‪ :‬فالدنيا بكل جمالها الذي تراه إنما تذوي‪ ،‬وما تراه من بديع ألوانها إنما يذبل‪ ،‬ومهما ازدانت‬
‫الدنيا فهي إلى زوال‪ ،‬فإياك أن تبغي؛ لن البغي فيه متاع الدنيا‪ ،‬والدنيا كلها إلى زوال؛ كزوال‬
‫الروض التي ينزل عليها المطر؛ فتنبت الرض الزهار‪ ،‬ثم يذوي كل ذلك‪.‬‬
‫وقد قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ * َولَ َيسْتَثْنُونَ * فَطَافَ‬
‫{ إِنّا بََلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ ِإذْ َأقْ َ‬
‫حتْ كَالصّرِيمِ }[القلم‪17 :‬ـ ‪.]20‬‬
‫ك وَهُمْ نَآ ِئمُونَ * فََأصْ َب َ‬
‫عَلَ ْيهَا طَآ ِئفٌ مّن رّ ّب َ‬
‫إذن‪ :‬فالدنيا بهذا الشكل وعلى هذا الحال‪.‬‬
‫خ َذتِ الَ ْرضُ زُخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ { [يونس‪.]24 :‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬حَتّىا إِذَآ أَ َ‬
‫ل أو‬
‫والرض تتزين بأمر ربها‪ ،‬والحق سبحانه ينسب الدراكات إلى ما ل نعرف أن له عق ً‬
‫ط َعمَآ‬
‫إرادة‪ .‬ألم يقل الحق سبحانه في قصة العبد الصالح‪ {:‬فَانطََلقَا حَتّىا إِذَآ أَتَيَآ أَ ْهلَ قَرْيَةٍ اسْتَ ْ‬
‫جدَا فِيهَا جِدَارا يُرِيدُ أَن يَن َقضّ }[الكهف‪.]77 :‬‬
‫أَهَْلهَا فَأَ َبوْاْ أَن ُيضَ ّيفُو ُهمَا َفوَ َ‬
‫فهل يملك الجدار إرادة أن ينقضّ؟ ولو حققنا المر جيدا؛ لوجدنا أن الحق سبحانه جعل لكل كائن‬
‫في الوجود حياة تناسبه‪ ،‬وله إرادة تناسبه‪ ،‬وله انفعال يناسبه‪ .‬وقد ضرب الحق سبحانه لنا في‬
‫ذلك صورا شتّى‪ ،‬فنجد أن الشيء الذي يع ّز على عقولنا أن تفهمه يبرز لنا ببيان من ال تعالى‪.‬‬
‫ومثال هذا‪ :‬معرفة الهدهد في قصة سليمان عليه السلم بالتوحيد‪ ،‬وكيف أخبر هذا الهدهد سيدنا‬
‫سليمان عليه السلم بحكاية مملكة سبأ حيث يسجد الناس هناك للشمس من دون ال‪ ،‬فكأن الهدهد‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‬
‫خبْءَ فِي ال ّ‬
‫سجُدُواْ للّهِ الّذِي ُيخْرِجُ ا ْل َ‬
‫قد علم مَنْ يستحق السجود له إذ قال‪َ {:‬ألّ يَ ْ‬
‫}[النمل‪.]25 :‬‬
‫ومن كان يظن أن الهدهد‪ ،‬وهو طائر‪ ،‬يكون على هذه البصيرة بالعقائد على أصفى ما تكون؟ لن‬
‫الحق سبحانه أراد أن يبيّن لنا أن هذا الطائر ل هوى له يفسد عقيدته‪ ،‬وأن أهواءنا هي التي تفسد‬
‫العقائد‪ ،‬ومَنْ أعطاه ال سبحانه البدائل هو الذي يفسد الختيار ما دام ل يحرس الختيار باليمان‪،‬‬
‫وأن يختار في ضوء منهج ال تعالى‪.‬‬
‫ونحن نرى أن ما دون النسان من طائر أو حيوان ل يفسد شيئا؛ لن غريزته تقوده‪ ،‬فل نجد‬
‫حيوانا يأكل فوق طاقته‪ ،‬لكننا نجد إنسانا يصيب نفسه بالتخمة‪ ،‬ول نجد حمارا يقفز فوق قناة من‬
‫الماء ل يقدر عليها‪ ،‬بل نراه وهو يتراجع عنها‪ ،‬وكلنا نجد إنسانا يشمر عن ساعديه؛ ليقفز فوق‬
‫قناة مياه؛ فيقع فيها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فنحن بأهوائنا التي تسيطر على غرائزنا نوقع أنفسنا فيما يضرنا‪ ،‬ما لم نحرس أنفسنا بمنهج‬
‫ال سبحانه وتعالى‪ .‬ونجد في مثال الهدهد صفاءً عقديا في التوحيد كأصفى ما يكون المتصوّفة‪،‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ { لن الخبء هو‬
‫خبْءَ فِي ال ّ‬
‫سجُدُواْ للّهِ الّذِي ُيخْرِجُ الْ َ‬
‫ويأتي بما يهمه } َألّ يَ ْ‬
‫رزق الهدهد‪ ،‬فهو ل يأكل من الشيء الظاهر على سطح الرض‪ ،‬بل يضرب بمنقاره الرض؛‬
‫ليأتي لنفسه بما يطعمه‪.‬‬
‫طمَ ّنكُمْ‬
‫ويعطينا الحق سبحانه مثلً آخر بالنملة التي قالت‪ {:‬ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُواْ مَسَاكِ َنكُ ْم لَ َيحْ ِ‬
‫شعُرُونَ }[النمل‪.]18 :‬‬
‫ن وَجُنُو ُد ُه وَ ُه ْم لَ يَ ْ‬
‫سُلَ ْيمَا ُ‬
‫وهذه دقة عدالة من هذه النملة‪ ،‬فإنها لم تقل‪ :‬إن سليمان وجنوده سيحطمون أخواتها من النمل‬
‫شعُرُونَ { لنكم ل تظهرون تحت أرجلهم‪.‬‬
‫ظلما لهم‪ ،‬بل قالت‪ } :‬وَهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫إذن‪ :‬كل كائن في الوجود له حياة تناسبه‪ ،‬ولكن الفة أننا نريد أن نتصور الحياة في كل كائن‪،‬‬
‫كتصورها في الكائن العلى وهو النسان‪.‬‬
‫ول بد لنا أن نعلم أن النبات له حياة تناسبه‪ ،‬والحيوان له حياة تناسبه‪ ،‬والجماد له حياة تناسبه‪،‬‬
‫وكل شيء في الحياة له لون من الحياة المناسبة له‪.‬‬
‫حيّ عَن‬
‫وقد أوضحنا من قبل أن الحق سبحانه قد قال‪ {:‬لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّنَ ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ‬
‫بَيّنَةٍ }[النفال‪.]42 :‬‬
‫والهلك مقابل للحياة‪ ،‬والحياة مقابلة للموت‪ ،‬والهلك يساوي الموت‪ .‬والحق سبحانه يصور الحالة‬
‫جهَهُ }[القصص‪.]88 :‬‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ َو ْ‬
‫يوم القيامة فيقول‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫إذن‪ :‬فالجماد هالك‪ ،‬ولكنه يتمتع بلون من الحياة ل نعرفه‪ ،‬وكذلك كل كائن له حياة تناسبه‪ ،‬والفة‬
‫أن النسان يريد أن يعرّف الحياة التي في الجماد كالحياة في النسان‪.‬‬
‫ت وَظَنّ‬
‫خ َذتِ الَ ْرضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّ َن ْ‬
‫وانظر إلى دقة الداء القرآني في قوله الحق‪ } :‬حَتّىا إِذَآ أَ َ‬
‫أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ َنهَارا { [يونس‪.]24 :‬‬
‫وقد جاء هذا القول من قبل أن يتقدم العلم ويثبت أن الرض تشبه الكرة‪ ،‬وأنها تدور‪ ،‬وأن كل ليل‬
‫يقابله نهار‪ ،‬وكذلك جاء قول الحق سبحانه‪َ {:‬أفََأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَىا أَن يَأْتِ َيهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتا وَ ُهمْ نَآ ِئمُونَ *‬
‫َأوَ َأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَىا أَن يَأْتِ َيهُمْ بَ ْأسُنَا ضُحًى }[العراف‪97 :‬ـ ‪.]98‬‬
‫إذن‪ :‬فأمر ال سبحانه يتحقق حين يشاء‪ ،‬وهو أمر واحد عند من يكونون في ضحى أو في ليل‪.‬‬
‫لمْسِ { [يونس‪.]24 :‬‬
‫حصِيدا كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ‬
‫جعَلْنَاهَا َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ف َ‬
‫أي‪ :‬كأنها لم يكن لها وجود‪.‬‬
‫صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ { [يونس‪.]24 :‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪ } :‬كَذاِلكَ ُن َف ّ‬
‫فإذا كانت الدنيا كلها مثل عملية الزرع في الرض الذي ينمو ويزدهر ويزدان‪ ،‬ثم ينتهي‪ ،‬أل‬
‫يجب أن ننتبه إلى أن كل زخرف إلى زوال؛ وعلينا أل نفتتن بزينة الدنيا ومتاعها في شيء‪ ،‬وأن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نحرص على أل نبغي في الرض؛ لن البغي متاع الحياة الدنيا‪ ،‬وهي إلى زوال‪.‬‬

‫ونجد القرآن يأتي بذكر التفصيل لليات‪ ،‬ويتبع ذلك بأن هذا التفصيل لقوم " يتفكرون " ‪ ،‬أو "‬
‫يتذكرون " ‪ ،‬أو " يعقلون " ‪ ،‬أو " يتدبرون "‪.‬‬
‫وكل هذه عمليات تتناول المعلوم الواحد في مراحل متعددة‪ ،‬فالتعقّل‪ :‬هو أن تأتي بالمقدمات؛‬
‫لتستنبط ولترى إلى أي نتائج تصل‪ .‬والتذكّر يعني‪ :‬أل تنسى وأل تغفل عن المر الهام‪ .‬والتفكّر‪:‬‬
‫هو أن ُتعْمل الفكر‪ .‬والفارق بين الفكر والعقل هو أن العقل أداة التفكّر‪ .‬والتدبّر‪ :‬هو أل تنظر إلى‬
‫ظواهر الشياء‪ ،‬بل إلى المعطيات الخفية في أي أمر‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪َ {:‬أفَلَ يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ }[النساء‪.]82 :‬‬
‫أي‪ :‬اجعل بصيرتك تمحّص البدايات والنهايات؛ لتعرف أن المرجع والمصير إلى ال تعالى‪.‬‬
‫والعاقل هو مَنْ يعدّ نفسه للقاء ال سبحانه‪ ،‬وقد يرهق نفسه في الدنيا الفانية؛ ليستريح في الخرة‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إلى الدنيا والخرة من خلل معادلة تجارية‪ ،‬سنجد أن الخرة ل بد وأن ترجح كفتها؛‬
‫لن عمر النسان في الدنيا مظنون‪ ،‬ول يعرف فرد هل يحيا في الدنيا عاما أو عشرة أو سبعين‬
‫أو مائة عام‪.‬‬
‫ومهما طالت الدنيا مع كل الخَلْق فهي منتهية‪ ،‬والنعيم فيها على قدر‪ :‬إمكاناتك البشرية وعلى قدر‬
‫تصورك للنعيم‪ ،‬أما الخرة فهي بل نهاية‪ ،‬وأمر النسان فيها متيقّن‪ ،‬والنعيم فيها على قدر‬
‫عطاءات ال تعالى ومراده سبحانه للنعيم‪ .‬فإن قارنت هذا بذاك وقارنت الدنيا بالخرة لرجحتْ‬
‫كفّة الخرة‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه‪ {:‬وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت‪.]64 :‬‬
‫وفي قوله سبحانه‪َ } :‬ل ِهيَ الْحَ َيوَانُ {‪ .‬مبالغة في كونها حياة ل فناء فيها‪ .‬فاتبع منهج ال سبحانه؛‬
‫ليأخذك هذا المنهج إلى دار السلم والسلمة من الفات‪ .‬واضمن لنفسك الخروج من دار الفناء‬
‫والغيار‪َ ،‬وضَعْ يدك في يد من يدعوك إلى دار السلم‪.‬‬
‫لمِ {‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَاللّهُ يَدْعُواْ إِلَىا دَارِ السّ َ‬

‫(‪)1375 /‬‬

‫وَاللّهُ َيدْعُو ِإلَى دَارِ السّلَا ِم وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (‪)25‬‬

‫ودار السلم‪ :‬هي الخرة التي تختلف عن دار الدنيا المليئة بالمتاعب‪ ،‬هذه الدنيا التي تزهو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتتزخرف‪ ،‬وتنتهي إلى حطيم؛ لذلك يدعو ال تعالى إلى دار أخرى‪ ،‬هي دار السلم؛ لن من‬
‫المنغّصات على أهل الدنيا‪ ،‬أن الواحد منهم قد يأخذ حظه جاها‪ ،‬ومالً‪ ،‬وصحة‪ ،‬وعافية‪ ،‬ولكن في‬
‫ظل أرق من أمرين‪ :‬الول هو الخوف من أن يفوته هذا النعيم وهو حي‪ ،‬والثاني أن يفوت هو‬
‫النعيم‪.‬‬
‫أما الخرة فالنسان يحيا فيها في نعيم مقيم؛ ولذلك يقول ال سبحانه‪ { :‬وَاللّهُ َيدْعُواْ إِلَىا دَارِ‬
‫لمِ }‪.‬‬
‫السّ َ‬
‫وهذه الخرة لن يشاغب فيها أحدٌ الخر‪ ،‬ولن تجد من يأكل عرق غيره مثلما يحدث في الدنيا‪،‬‬
‫وإذا كنا نعيش في الدنيا بأسباب ال‪ ،‬فنحن في الخرة نعيش بال سبحانه وتعالى‪ ،‬فكل ما يخطر‬
‫على بالك تجده‪.‬‬
‫فإذا كانت السباب تتنوع في الدنيا وتختلف قدرات الناس فيها مع أخذهم بالسباب‪ ،‬فإنهم في‬
‫الخرة يعيشون مع عطاء ال سبحانه دون جهد أو أسباب؛ لن دار السلم هي دار ال تعالى‪،‬‬
‫فال تعالى هو السلم‪.‬‬
‫ول المثل العلى‪ ،‬فأنت إذا دعاك ولي أمرك إلى داره‪ ،‬فهو يُعدّ لدعوتك على قدره هو‪ ،‬وبما‬
‫يناسب مقامه‪ ،‬فما بالك حين يدعوك خالقك سبحانه وقد اتبعت منهجه‪ .‬إنه سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫للٍ عَلَى الَرَآ ِئكِ مُ ّتكِئُونَ * َل ُهمْ‬
‫ج ُهمْ فِي ظِ َ‬
‫ش ُغلٍ فَا ِكهُونَ * هُ ْم وَأَ ْزوَا ُ‬
‫{ إِنّ َأصْحَابَ الْجَنّةِ ال َيوْمَ فِي ُ‬
‫فِيهَا فَا ِكهَ ٌة وََلهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَلَمٌ َق ْولً مّن ّربّ رّحِيمٍ }[يس‪55 :‬ـ ‪.]58‬‬
‫وهذا السلم ليس من البشر؛ لن من البشر من يعطيك السلم وهو ُيكِنّ لك غير السلم‪ ،‬أو قد‬
‫يعطيك السلم وهو يريد بك السلم‪ ،‬ولكنه من الغيار؛ فيتغير فل يقدر أن يعطيك هذا السلم‪،‬‬
‫لكن إذا ما جاء السلم من ال تعالى‪ ،‬فهو سلم من رب ل يعجزه شيء‪ ،‬ول يُعوزه شيء‪ ،‬ول‬
‫علَ ْيكُم }[الرعد‪:‬‬
‫علَ ْيهِمْ مّن ُكلّ بَابٍ * سَلَمٌ َ‬
‫تلحقه أغيار؛ لذلك يقول سبحانه‪ {:‬وَالمَلَ ِئكَةُ يَ ْدخُلُونَ َ‬
‫‪23‬ـ ‪.]24‬‬
‫والملئكة حين يقولون ذلك إنما أخذوا سلمهم من باطن سلم ال تعالى‪ ،‬وحتى أصحاب العراف‬
‫الذين لم يدخلوا الجنة‪ ،‬ويرون أهل الجنة وأهل النار‪ ،‬هؤلء يلقون السلم على أهل الجنة‪ .‬وهكذا‬
‫يحيا أهل الجنة في سلم شامل ومحيط ومطمئن؛ لن الداعي هو ال سبحانه‪ ،‬ول أحد يجبره على‬
‫أن ينقض سلمه‪.‬‬
‫ودعوة ال سبحانه هي منهجه الذي أرسل به الرسل؛ ليحكم به حركة الحياة حركة إيمانية‪،‬‬
‫يتعايش فيها الناس تعايشا على َوفْق منهج ال تعالى‪ ،‬بما يجعل هذه الدنيا مثل الجنة‪ ،‬ولكن الذي‬
‫يرهق الناس في الدنيا أن بعض الناس يعطلون جزئية أو جزئيات من منهج ال سبحانه‪.‬‬

‫(‪)1376 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‬
‫ق وُجُو َههُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلّةٌ أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫لِلّذِينَ أَحْسَنُوا ا ْلحُسْنَى وَزِيَا َد ٌة وَلَا يَرْ َه ُ‬
‫(‪)26‬‬

‫(‪)1377 /‬‬

‫صمٍ كَأَ ّنمَا أُغْشِ َيتْ‬


‫وَالّذِينَ كَسَبُوا السّيّئَاتِ جَزَاءُ سَيّئَةٍ ِبمِثِْلهَا وَتَرْ َه ُقهُمْ ذِلّةٌ مَا َل ُهمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عَا ِ‬
‫طعًا مِنَ اللّ ْيلِ مُظِْلمًا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (‪)27‬‬
‫وُجُو ُههُمْ ِق َ‬

‫(‪)1378 /‬‬

‫جمِيعًا ثُمّ َنقُولُ لِلّذِينَ أَشْ َركُوا َمكَا َنكُمْ أَنْ ُت ْم وَشُ َركَا ُؤكُمْ فَزَيّلْنَا بَيْ َنهُ ْم َوقَالَ شُ َركَاؤُهُمْ مَا‬
‫وَ َيوْمَ نَحْشُ ُرهُمْ َ‬
‫كُنْتُمْ إِيّانَا َتعْ ُبدُونَ (‪)28‬‬

‫(‪)1379 /‬‬

‫شهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِنْ كُنّا عَنْ عِبَادَ ِت ُكمْ َلغَافِلِينَ (‪)29‬‬
‫َفكَفَى بِاللّهِ َ‬

‫إذن‪ :‬فالكائنات التي عُبِدتْ من دون ال تعالى تعلن رفضها لمسألة عبادتها‪ ،‬فإذا كان الطير ـ‬
‫ممثلً في الهدهد ـ قد أعلن من قبل اندهاشه من أن بعضا من البشر قد عبد غير ال تعالى‪.‬‬
‫واستدل الهدهد ـ على قدرة الحق سبحانه ـ بما يخصّه هو من الرزق‪ ،‬حيث يعلم أن الحق‬
‫سبحانه قد عَلِمَ الخبء في السموات والرض‪ ،‬إذا كان الهدهد قد عرف ذلك فالستنكَار أمر‬
‫منطقي من غيره من المخلوقات‪ ،‬سواء أكانت من الملئكة‪ ،‬أو من عيسى عليه السلم‪ ،‬أو من‬
‫الصنام و الشجار والكواكب‪.‬‬
‫ولذلك نجد الحق سبحانه يضرب المثال بسؤاله للملئكة‪َ {:‬أهَـاؤُلَءِ إِيّا ُكمْ كَانُواْ َيعْبُدُونَ }[سبأ‪:‬‬
‫‪.]40‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ت وَلِيّنَا مِن دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُواْ َيعْبُدُونَ ا ْلجِنّ }[سبأ‪.]41 :‬‬
‫فيجيب الملئكةُ بقوله‪ {:‬سُبْحَا َنكَ أَن َ‬
‫سوَر القرآن الكريم عرضا منثورا مكررا بما ل‬
‫والحق سبحانه وتعالى يعرض هذه المواقف في ُ‬
‫يدع للغفلة أن تصيب النسان‪ ،‬فمثلً يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جمِيعا يَا َمعْشَرَ الْجِنّ َقدِ اسْ َتكْثَرْتُمْ مّنَ الِنْسِ }[النعام‪.]128 :‬‬
‫{ وَ َيوْمَ ِيحْشُرُ ُهمْ َ‬
‫ويقول على ألسنة من اتخذوا الشياطين أولياء‪:‬‬
‫ن الِنْسِ رَبّنَا اسْ َتمْتَعَ َب ْعضُنَا بِ َب ْعضٍ وَبََلغْنَآ َأجَلَنَا الّذِي أَجّ ْلتَ لَنَا }[النعام‪:‬‬
‫{ َوقَالَ َأوْلِيَآؤُهُم مّ َ‬
‫‪.]128‬‬
‫وقولهم هذا يتضمن الحديث عن ذواتهم والحديث عن الجن‪.‬‬
‫ولسائل أن يسأل‪ :‬وكيف يأخذ الجن كثيرا من النس؟‬
‫ونقول‪ :‬إن الحق سبحانه قد خلق الجن على هيئة تختلف عن هيئة النس‪ ،‬فجعل للجن خواصّا‬
‫تختلف عن خواص النس‪ ،‬ومن هذه الخواص ما قال عنه الحق سبحانه‪ {:‬إِنّهُ يَرَاكُمْ ُهوَ َوقَبِيلُهُ‬
‫ث لَ تَ َروْ َنهُمْ }[العراف‪.]27 :‬‬
‫مِنْ حَ ْي ُ‬
‫وأعطى الحق سبحانه للجن قوة أكثر مما أعطى للنس‪ ،‬وأعطاهم القدرة على النفاذ من السواتر‬
‫الحديدية والجدران وغيرها‪ ،‬وهذا أمر منطقي مع أصل تكوين الجن‪ ،‬فالجن مخلوق من النار‪،‬‬
‫والنسان مخلوق من الطين‪ .‬وهناك اختلف بين طبيعة كل من النار والطين‪ ،‬فما يخرج من‬
‫الطين قارّ‪ ،‬أي‪ :‬ل يشع‪ ،‬وما يخرج من النار له إشعاع وحرارة‪.‬‬
‫بمعنى‪ :‬أنك لو كنت تجلس في حجرة‪ ،‬وخلف ظهرك في الحجرة الخرى نار موقدة؛ فالساتر ـ‬
‫أيا كان ـ سوف يحمل لك بعضا من حرارة النار‪ ،‬إل لو كان عازلً للحرارة‪.‬‬
‫أما لو كانت هناك تفاحة ـ وهي مخلوقة من الطين ـ موجودة في الحجرة الخرى‪ ،‬فلن ينفذ‬
‫طعمها أو رائحتها إليك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالنار لها قانونها‪ ،‬والطين له قانونه‪ .‬وقانون المادة المخلوقة من الطين ل ينتقل إل إذا نَق ْلتَ‬
‫الجِرْم إلى المكان الذي توجد فيه‪.‬‬
‫ونلمح هذه المسألة التقنينية في قصة سيدنا سليمان عليه السلم حين علم أن ملكة سبأ تسير في‬
‫الطريق إليه لتعلن إسلمها‪ ،‬وأراد سيدنا سليمان عليه السلم أن يأتي لها بعرشها من مكانه قبل أن‬
‫تصل‪.‬‬

‫شهَا قَ ْبلَ أَن يَأْتُونِي مُسِْلمِينَ }[النمل‪]38 :‬؟‬


‫فقال لمن هو في مجلسه‪ {:‬أَ ّي ُكمْ يَأْتِينِي ِبعَرْ ِ‬
‫وهذا يدل علىأنه كان في مجلسه أجناس مختلفة‪ ،‬ولكل جنس منهم قدرات مختلفة عن قدرات‬
‫الجنس الخر‪ ،‬ونقل العرش من اليمن إلى مكان سيدنا سليمان عليه السلم يحتاج إلى زمن وإلى‬
‫قوة‪ ،‬فلو أنهم كانوا متساوين في قدرتهم ما قال‪ {:‬أَ ّيكُمْ يَأْتِينِي }[النمل‪.]38 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فكان أول من تقدم لتنفيذ ما أراده سليمان عفريت من الجن ـ ل جِنّا عاديّا‪ ،‬فمن الجن من هو‬
‫خائب قليل الذكاء‪ ،‬ومنهم من هو ذكي‪ ،‬فهم وأن كانوا من جنس واحد فهم متفاوتون أيضا‪ ،‬وكان‬
‫عفريت الجن هو أول من تكلم‪ ،‬وقال‪ {:‬أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن مّقَا ِمكَ }[النمل‪.]39 :‬‬
‫ولكن مقام سليمان قد يستمر ساعة أو بضع ساعات‪ ،‬والمتكلم هو عفريت من الجن الذي يعلم أن‬
‫له صفات أقوى من صفات النس‪ .‬أما النس العادي ـ ممن كان حاضرا مجلس سليمان ـ فلم‬
‫يتكلم؛ لن المطلوب ليس في قدرته‪ ،‬أما الذي تكلم من النس فهو مَنْ عنده علم من الكتاب‪،‬‬
‫فقال‪ {:‬أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ }[النمل‪.]40 :‬‬
‫ولم يأخذ المر شيئا من الزمن؛ لذلك عبّر القرآن التعبير السريع بعد ذلك‪ ،‬فقال‪ {:‬فََلمّا رَآهُ ُمسْ َتقِرّا‬
‫ضلِ رَبّي }[النمل‪.]40 :‬‬
‫عِن َدهُ قَالَ هَـاذَا مِن َف ْ‬
‫إذن‪ :‬فللجن قوة على أشياء ل يقوى عليها النس‪ ،‬ولم يأخذ الجنّي خواصّه في الخفة والقدرة‬
‫ومهارة اختزال الزمن بذات تكوينه‪ ،‬ولكن بإرادة المكوّن سبحانه؛ ولذلك شاء الحق أن يُذكّر الجن‬
‫أنهم قد أخذوا تلك الخصوصيات بمشيئته سبحانه‪ ،‬والحق هو القادر على أن يجعل النس وهو‬
‫الدنى قدرة‪ ،‬قادرا على تسخير الجن؛ ولذلك يحاول النس أن يأخذ من تسخير الجن قوة له‬
‫فيقوى على نظيره من النس‪.‬‬
‫ولكن الحق سبحانه أصدر الحكم على مَنْ يحاول ذلك بأن تسخير الجن يزيد رَهَقا‪.‬‬
‫واقرأوا قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ن وَلَـاكِنّ الشّيْاطِينَ َكفَرُواْ ُيعَّلمُونَ‬
‫ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫{ وَاتّ َبعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَىا مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ‬
‫النّاسَ السّحْ َر َومَآ أُنْ ِزلَ عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُوتَ َومَارُوتَ َومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ َأحَدٍ حَتّىا َيقُولَ إِ ّنمَا‬
‫نَحْنُ فِتْ َنةٌ فَلَ َت ْكفُرْ }[البقرة‪.]102 :‬‬
‫إذن‪ :‬فتعليم الجن السحر للنس دليل على تفوق قدرات الجن وتميزها عن قدرات النس‪.‬‬
‫ولكن الملكين هاروت وماروت حينما عَّلمَا النسان السحر حذّراه اولً من أن يأخذ من ذلك‬
‫فرصة زائدة تطغيه على بني جنسه ويظلم بها‪ ،‬إنما المر كله اختبار‪ ،‬فإن تعلّمته فذلك لتقيَ نفسك‬
‫من الشر ل لتوقعه بغيرك‪ ،‬ثم إنك ـ أيها النسان ـ من الغيار قد تضمن نفسك وقت التحمّل‪،‬‬
‫ولكن ماذا عن وقت الداء؟‬
‫مثلما يأتي لك إنسان ليُو ِدعَ عندك ألفا من الجنيهات كأمانة‪ ،‬ولكن أتظل على المانة‪ ،‬أم أنك قد‬
‫تنكر المال أصلً حين يطالبك به صاحبه‪ ،‬أو قد تمر بك أزمة مالية فتتصرف بهذا المال؟‬
‫ن يقول لمودع هذا المال‪ " :‬احفظْ عليك مالك‪ ،‬لني من الغيار "‪.‬‬
‫ولذلك تجد الذكي هو مَ ْ‬

‫وتلك هي القضية اليمانية الصيلة في الكون كله؛ لن الحق سبحانه هو القائل‪:‬‬


‫حمََلهَا‬
‫ش َفقْنَ مِ ْنهَا َو َ‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَا ْلجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَ ْ‬
‫علَى ال ّ‬
‫لمَانَةَ َ‬
‫{ إِنّا عَ َرضْنَا ا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جهُولً }[الحزاب‪]72 :‬‬
‫الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ‬
‫والمانة هي ما يكون في ذمة المؤتمن‪ ،‬ول حجة للمؤتمن عنده إل ذمته‪ ،‬ول شهود عليه‪ ،‬ول‬
‫يوجد إيصال بتلك المانة‪ ،‬بل هي وديعة ل توثيق فيها؛ إل ذمة المؤتمن‪ ،‬قد يقرّ بها‪ ،‬وقد يُنكرها‪.‬‬
‫ق المؤتمن عند المؤتمَن خاضعٌ لخيار المؤتمَن؛ ولذلك وجدنا السماء والرض‬
‫وعلى ذلك فح ّ‬
‫خلَ أنفسنا في هذه التجربة‪ ،‬افعل بنا ما شئت واجعلنّا‬
‫والجبال قالت‪ :‬يا رب ل نريد أن نُد ِ‬
‫مقهورين ول اختيار لنا‪ ،‬ول نريد تحمّل المانة‪.‬‬
‫حمْل المانة‪،‬‬
‫أما النسان فقد ميّزه ال بالعقل‪ ،‬وقدرة الختيار بين البدائل؛ لذلك قَبلَ النسان َ‬
‫وحين جاء وقت الداء لم يجد نفسه أمينا على الَشياء مثلما ظَنّ في نفسه وقت التحمّل‪.‬‬
‫وكذلك الذين يتعلمون السحر‪ ،‬يقول الواحد منهم لنفسه‪ :‬سوف أتعلمه لدفع الضّرّ عن نفسي‪،‬‬
‫ونقول له‪ :‬أنت ل تضمن نفسك؛ لنك من الغيار‪ ،‬فقد بغضبك أو يثير أعصابك إنسان؛ فتستخدم‬
‫السحر فتصيب نفسك بالرّهق‪.‬‬
‫ن الِنْسِ }[النعام‪.]128 :‬‬
‫إذن‪ :‬فحين قال ال سبحانه‪ {:‬يَا َمعْشَرَ الْجِنّ َقدِ اسْ َتكْثَرْ ُتمْ مّ َ‬
‫أي‪ :‬أخذتم من النس كثيرا بأن اعطيتموهم سلحا يحقق لهم فرصة وقوة على غيرهم من البشر‪.‬‬
‫وقد ذكر الحق ـ سبحانه وتعالى ـ لنا أن بعض البشر الذين استجابوا للجن قالوا‪ {:‬اسْ َتمْتَعَ‬
‫َب ْعضُنَا بِ َب ْعضٍ }[النعام‪.]128 :‬‬
‫واستمتاع النس بالجن مصدره أن النس يأخذ قوة فوق قوة غيره من البشر‪ ،‬واستمتاع الجن‬
‫بالنس مصدره أنه سوف يُعين هذا النسان على معصيته؛ تطبيقا ِلقَسَمِ إبليس اللعين‪ {:‬قَالَ‬
‫ج َمعِينَ }[ص‪.]82 :‬‬
‫غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ‬
‫ولكن هذا الستمتاع في النهاية ل يعطي أمرا زائدا عن المقدور لكل جنس؛ ولذلك تجد أن كل مَنْ‬
‫يعمل بالسحر وتسخير الجن إنما يعاني؛ مصداقا لقول الحق سبحانه‪ {:‬فَزَادُوهُمْ رَهَقا }[الجن‪.]6 :‬‬
‫وأنت تجد رزق الذي يقوم بالسحر أو تسخير الجن يأتي من يد مَنْ ل يعلم السحر‪ ،‬ولو كان في‬
‫تعلّم ذلك ميزة فوق البشر؛ لجعل رزقه من مصدر آخر غير من ل يعلمون السحر أو تسخير‬
‫الجن‪.‬‬
‫وأنت حين ترى الواحد من هؤلء‪ ،‬تجد على ملمحه غَبَ َرةً‪ ،‬وفي ذريته آفة أو عيبا‪ ،‬فمنهم مَنْ هو‬
‫أعور أو أكتع أو أعرج؛ لنه أراد أن يأخذ فرصة في الحياة أكثر من غيره من البشر؛ بواسطة‬
‫الجن‪ ،‬وهذه الفرصة تزيده رهقا؛ ولذلك فليلزم كل إنسان أدبه وقدره الذي شاءه ال ـ سبحانه‬
‫وتعالى ـ له؛ فل يفكر في أخذ فرصة تزيد من رهقه‪.‬‬

‫ونحن نرى في البشر مَنْ يستخدم صاحب القوة الجسدية أو قدرة تصويب السلح؛ ليُرهِب غيره‪،‬‬
‫وقد ينجح في ذلك مرة أو أكثر‪ ،‬ثم ينقلب هذا (الفتوّة) أو ذلك القاتل المأجور على مَنْ استأجره‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فل بد أن يحترم كل إنسان َقدَر ال ـ سبحانه وتعالى ـ في نفسه‪ ،‬وألّ يأخذ فرصة من‬
‫جنس آخر؛ يظن أنها تزيده في دنياه شيئا‪ ،‬لكنها في الواقع ستزيده تعبا وتزيده رهقا‪.‬‬
‫جلَنَا الّذِي‬
‫ض وَبََلغْنَآ أَ َ‬
‫ولذلك نجد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يقول عنهم‪ {:‬رَبّنَا اسْ َتمْتَعَ َب ْعضُنَا بِ َب ْع ٍ‬
‫أَجّ ْلتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَ ْثوَاكُمْ }[النعام‪.]128 :‬‬
‫وهكذا نرى أن مصير الستمتاع بقوة الجن هو النار للنس الذي استخدم الجن‪ ،‬وللجن الذي‬
‫أغوى النس‪.‬‬
‫ثم يعرض لنا الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قضية أخرى في هذه المسألة؛ فيقول سبحانه‪ {:‬الَخِلّءُ‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف‪.]67 :‬‬
‫َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ‬
‫والخلء‪ :‬هم الجماعة التي يجمع أفرادها صحبة ومودّة‪ ،‬ويتخلّل كل منهم حياة الخر‪ .‬وأنت تجد‬
‫الناس صنفين‪:‬‬
‫أناسا اتخذوا الخُلّة في ال تعالى‪ ،‬فيذهبون إلى المساجد‪ ،‬ويستذكرون العلم‪ ،‬ول يأكلون إل من‬
‫حلل‪ ،‬ويقرأون القرآن‪ ،‬وإن ه ّم واحد منهم بمعصية وجد من صديقه ما يردّه عن المعصية‪،‬‬
‫ويحجّون إلى بيت ال الحرام‪ ،‬ويعتمرون‪ ،‬وتدور حياتهم في إطار حديث المصطفى صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ " :‬رجلن تحابّا في ال اجتمعا عليه وتفرّقا عليه " وهذا لون من الخُلّة‪.‬‬
‫واللون الخر يضم أناسا يساعد بعضهم البعض على المعصية‪ ،‬ويشربون الخمر‪ ،‬ويلعبون‬
‫الميسر‪ ،‬ويفعلون كل المعاصي‪ ،‬فإذا جاء يوم القيامة يقابلون حكم ال تعالى‪ {:‬لّ بَيْعٌ فِي ِه َولَ‬
‫خُلّةٌ }[البقرة‪.]254 :‬‬
‫فل خُلّة إل خُلّة اللقاء في ال تعالى‪ ،‬فإذا التقى الخلء في ال تعالى فرحوا ببعضهم؛ لن كلّ‬
‫منهم حمى أخاه من معصية‪ ،‬أما من كانوا يجتمعون في الدنيا على المعصية‪ ،‬فكل منهم يلعن‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫لخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ‬
‫الخر‪ ،‬ويصدق حكم ال سبحانه وتعالى‪ {:‬ا َ‬
‫[الزخرف‪.]67 :‬‬
‫ولذلك نجد الحوار بين الذين استضعفوا والذين استكبروا‪ ،‬ونجد الحق سبحانه وتعالى يأتي لنا بهذا‬
‫عذَابِ‬
‫ض َعفَاءُ لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا َف َهلْ أَنتُمْ ّمغْنُونَ عَنّا مِنْ َ‬
‫الحوار في القرآن‪ {:‬فَقَالَ ال ّ‬
‫شيْءٍ }[إبراهيم‪.]21 :‬‬
‫اللّهِ مِن َ‬
‫سوَآءٌ عَلَيْنَآ َأجَزِعْنَآ أَ ْم صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مّحِيصٍ }[إبراهيم‪:‬‬
‫فيرد الخرون‪َ {:‬لوْ هَدَانَا اللّهُ َلهَدَيْنَا ُكمْ َ‬
‫‪.ٍ]21‬‬
‫وبعد ذلك يأتي اعتراف الشيطان الذي يقول عنه الحق سبحانه‪:‬‬
‫ق َووَعَدّتكُمْ فََأخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْي ُكمْ‬
‫حّ‬‫لمْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُمْ وَعْدَ الْ َ‬
‫ضيَ ا َ‬
‫{ َوقَالَ الشّ ْيطَانُ َلمّا ُق ِ‬
‫خ ُك ْم َومَآ أَنتُمْ‬
‫سكُمْ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ‬
‫مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ‬
‫خيّ }[إبراهيم‪.]22 :‬‬
‫ِب ُمصْرِ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذا الحوار هو الذي يكشف لنا ما سوف يحدث يوم القيامة‪ ،‬ونجد الحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫{ َكمَ َثلِ الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِلِنسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّنكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ‪[} ...‬الحشر‪:‬‬
‫‪.]16‬‬
‫هذه كلها لقطات من مشاهد يوم القيامة‪ ،‬جاءت في خواطرنا ونحن نتناول قول الحق سبحانه‪} :‬‬
‫شهِيدا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِن كُنّا عَنْ عِبَادَ ِتكُمْ َلغَافِلِينَ { [يونس‪.]29 :‬‬
‫َفكَفَىا بِاللّهِ َ‬
‫هكذا يعلن كل مَنْ عُبد من الملئكة أو الرسل أو الصنام‪ ،‬وبذلك تتم فضيحة الذين عبدوهم من‬
‫دون ال سبحانه ويأخذون طريقهم إلى النار‪.‬‬
‫جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْبُدُونَ }[الصافات‪:‬‬
‫ولذلك نجد الحق سبحانه يقول‪ {:‬احْشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُو ْا وَأَ ْزوَا َ‬
‫‪.]22‬‬
‫ولننتبه هنا إلى أن الزواج متقدمون في الغواء والتوجيه إلى الشر‪ ،‬قبل العداء؛ لن الزوج أو‬
‫الزوجة قد يكون هو الشيطان الملزم الذي يُهيّيء النحراف إلى ما يريد‪.‬‬
‫ونجد الحق سبحانه يقول بعد ذلك‪َ {:‬و ِقفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ }[الصافات‪.]24 :‬‬
‫ومثلها مثل قوله سبحانه‪َ } :‬مكَا َنكُمْ { نفهم من ذلك أنهم كانوا معا في الدنيا وهي دار الختبار‪،‬‬
‫وهم الن في دار جبرية القتدار؛ لذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ضهُمْ عَلَىا‬
‫{ َو ِقفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ * مَا َل ُك ْم لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ ُهمُ الْ َيوْمَ ُمسْتَسِْلمُونَ * وََأقْ َبلَ َب ْع ُ‬
‫َب ْعضٍ يَ َتسَآءَلُونَ * قَالُواْ إِ ّنكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْ َيمِينِ }[الصافات‪24 :‬ـ ‪.]28‬‬
‫أي‪ :‬كنتم تستعملون قوتكم؛ لتجعلونا نتبعكم‪ ،‬فل يظنن ظانّ أنها قوة البطش فقط‪ ،‬أو قوة التذليل‪،‬‬
‫بل المقصود بذلك أيّ قوة‪ ،‬حتى وإن كانت قوة الغواء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمواقف مفضوحة‪ ،‬وهذا لون ومقدمة من ألوان العذاب؛ ليبين ال ـ سبحانه وتعالى ـ‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف‪.]67 :‬‬
‫لخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ‬
‫صدقه في قوله‪ {:‬ا َ‬
‫وشاء الحق سبحانه ذلك؛ ليبين لنا كيف يختار النسان خليله في الدنيا‪ ،‬فل يختار الخليل الذي‬
‫يزيّن الخطأ والمعصية‪ ،‬بل يختار الذي يعينه على الطاعة‪.‬‬
‫ويذكر الحق سبحانه موقفا من مواقف يوم القيامة فيقول سبحانه‪:‬‬
‫حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ‬
‫جعَ ْل ُهمَا تَ ْ‬
‫{ َوقَال الّذِينَ َكفَرُواْ رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ الْجِنّ وَالِنسِ َن ْ‬
‫سفَلِينَ }[فصلت‪.]29 :‬‬
‫الَ ْ‬
‫هكذا يكون حال الذين ضلّوا يوم القيامة‪ ،‬يتبرأون ممن أوقفهم هذا الموقف بل يطلبون من أضلهم‬
‫ليقاع العذاب بهم بأنفسهم؛ لذلك يقول الحق سبحانه في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪} :‬‬
‫شهِيدا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِن كُنّا عَنْ عِبَادَ ِتكُمْ َلغَافِلِينَ { [يونس‪.]29 :‬‬
‫َفكَفَىا بِاللّهِ َ‬
‫هكذا يتبرّأ الملئكة والرسول الذي عُ ِبدَ‪ ،‬وحتى الصنام‪ ،‬من الذين عَ َبدُوهم في الدنيا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬هُنَاِلكَ تَبْلُواْ ُكلّ َنفْسٍ مّآ َأسَْلفَتْ {‬

‫(‪)1380 /‬‬

‫ق َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ (‪)30‬‬


‫حّ‬‫هُنَاِلكَ تَبْلُو ُكلّ َنفْسٍ مَا أَسَْل َفتْ وَرُدّوا إِلَى اللّهِ َموْلَاهُمُ الْ َ‬

‫وقول الحق سبحانه‪ { :‬هُنَاِلكَ } يعني‪ :‬في هذا الوقت‪ ،‬أو في هذا المكان‪ .‬والزمان والمكان هما‬
‫ظَ ْرفَا الحدث؛ لن كل فعل يلزم له زمان ومكان‪ ،‬فإن كان الزمان هو الغالب‪ ،‬فيأتي ظرف‬
‫الزمان‪ ،‬وإذا كان المكان هو الغالب فيأتي ظرف المكان‪.‬‬
‫وجاءت { هُنَاِلكَ } أيضا في قصة سيدنا زكريا عليه السلم‪ ،‬إذ يقول الحق سبحانه‪ {:‬هُنَاِلكَ دَعَا‬
‫َزكَرِيّا رَبّهُ }[آل عمران‪.]38 :‬‬
‫أي‪ :‬في ذلك الوقت الذي قالت فيه مريم ـ رضي ال عنها ـ قولةً أدّت بها قضية اعتقادية‬
‫إيمانية لكفيلها‪ ،‬وهو سيدنا زكريا عليه السلم وهو الذي يأتي لها بالطعام‪ ،‬وشاء لها الحق ـ‬
‫خلَ عَلَ ْيهَا َزكَرِيّا ا ْل ِمحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا‬
‫سبحانه وتعالى ـ أن تعلّمه هي‪ .‬يقول سبحانه‪ {:‬كُّلمَا دَ َ‬
‫رِزْقا }[آل عمران‪.]37 :‬‬
‫والرزق ما به انتفع‪ ،‬وكان زكريا ـ عليه السلم ـ يكفلها بكل شيء تحتاجه‪ ،‬لكنه فوجىء بوجود‬
‫رزق لم يَأت هو به؛ بدليل أنه قال‪ {:‬أَنّىا َلكِ هَـاذَا }[آل عمران‪.]37 :‬‬
‫وهذه ملحظية ويقظة الكفيل حين يجد مكفوله يتمتع بما لم يأتِ به‪ .‬وهذه هي قضية " من أين لك‬
‫هذا "؟‪ ،‬وهي قضية الكفيل العام للمجتمع حين يرى واحدا يتمتع بما ل تؤهله له حركته في الحياة‪،‬‬
‫وبذلك يُكشف مختلس النتفاع بما يخص الغير دون أن يَعرف كافله‪ ،‬ولو أن كافله أصرّ على‬
‫معرفة من أين تأتي مصادر دخله؛ َلحَمى المجتمع من الفساد‪.‬‬
‫وانظر إلى جواب مريم عليها السلم على قول زكريا عليه السلم الذي ذكره رب العزة سبحانه‪{:‬‬
‫أَنّىا َلكِ هَـاذَا }[آل عمران‪.]37 :‬‬
‫قالت مريم‪ُ {:‬هوَ مِنْ عِندِ اللّهِ }[آل عمران‪.]37 :‬‬
‫ثم تعلّل الجواب‪ {:‬إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران‪.]37 :‬‬
‫جبُ سيدنا زكريا عليه‬
‫قالت ذلك‪ ،‬لنه وجد عندها أشياء ل توجد في مثل هذا الوقت من السنة‪ ،‬فع َ‬
‫السلم ـ إذن ـ كان من أمرين اثنين‪ :‬شيء لم يأت هو به‪ ،‬وشيء مخالف للفترة التي هو فيها‪،‬‬
‫كأنْ وجد عندها عنبا في زمن غير أوانه‪ ،‬أو وجد برتقالً في غير أوانه‪ ،‬وسؤاله كان دليل يقظة‬
‫حسَابٍ }[آل عمران‪:‬‬
‫الكفيل‪ ،‬وإجابتها كانت قضية إيمانية عقدية{ إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]37‬‬
‫وما دام { مِنْ عِندِ اللّهِ } ـ سبحانه وتعالى ـ ما طرح حسابك أنت للشياء في ضوء هذه‬
‫القضية‪.‬‬
‫ولكن هل غفل سيدنا زكريا ـ عليه السلم ـ عن قضية اليمان بأن ال تعالى يرزق مَنْ يشاء‬
‫بغير حساب؟‬
‫فنقول‪ :‬ل‪ ،‬لم يغفل عنها‪ ،‬ولكنها لم تكن في بؤرة شعوره حينئذ؛ فجاءت بها قولة السيدة مريم‬
‫لتذكر بهذه القضية‪ ،‬وهنا تذكّر زكريا نفسه‪ ،‬كرجل بلغ من الكبر عتيا‪ ،‬وامرأته عاقر‪ ،‬وما دام ال‬
‫سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب‪ ،‬فليس من الضروري أن يكون شابا أو تكون زوجته صغيرة‬
‫لينجب‪ ،‬فجاء الحق معبرا عن خاطر زكريا في قوله‪:‬‬

‫{ هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ }[آل عمران‪.]38 :‬‬


‫أي‪ :‬في هذا الوقت أو ذلك المكان‪ ،‬أو في الثنين معا زمانا ومكانا‪ ،‬وهنا جاءته الجابة من ربه‬
‫ل وَلَمْ َتكُ شَيْئا }[مريم‪.]9 :‬‬
‫خَلقْتُكَ مِن قَ ْب ُ‬
‫ن َوقَدْ َ‬
‫سبحانه وتعالى‪ {:‬قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ هَيّ ٌ‬
‫وقد جاء الحق سبحانه بهذه القضية ليمنع أيّ ظانّ من أن يسيء الظن بعفة مريم عليها السلم؛‬
‫حسَابٍ }[آل عمران‪.]37 :‬‬
‫لنها في موقف اللجوء فأنطقها الحق بقوله‪ {:‬يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ‬
‫وما دام الرزق بغير حساب وفي غير وقته وغير مكانه وبل سبب وبغير علم كافلها‪ ،‬فعند ذلك‬
‫تحقق اللجوء إلى ال بالقبول الحسن الذي دعت به امرأة عمران‪:‬‬
‫حسَنا‬
‫ن وَأَنبَ َتهَا نَبَاتا َ‬
‫حسَ ٍ‬
‫ك وَذُرّيّ َتهَا مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ * فَ َتقَبَّلهَا رَ ّبهَا ِبقَبُولٍ َ‬
‫{ وِإِنّي أُعِي ُذهَا ِب َ‬
‫َوكَفَّلهَا َزكَرِيّا }[آل عمران‪36 :‬ـ ‪.]37‬‬
‫ويطبقها زكريا عليه السلم على نفسه‪ ،‬ثم تتعرض هي لها‪ ،‬حين يبشّرها الحق سبحانه بغلم‬
‫اسمه المسيح عيسى ابن مريم ـ عليهما السلم‪.‬‬
‫فهي ستلد من غير أن يمسسها ذكر‪ ،‬وهي تعلم أن السباب جارية في أنه ل يوجد تناسل إل‬
‫بوجود ذكر وأنثى‪ ،‬وشاء الحق سبحانه أن يقدّر لها أن تلد دون هذه العملية‪ ،‬فجاء سبحانه بتلك‬
‫المقدمة على لسانها{ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران‪.]37 :‬‬
‫سسْنِي َبشَرٌ }[آل عمران‪.]47 :‬‬
‫وحين تساءلت‪َ {:‬ربّ أَنّىا َيكُونُ لِي وََل ٌد وَلَمْ َيمْ َ‬
‫سمُهُ‬
‫جاءتها الجابة بأن اسمه المسيح عيسى ابن مريم‪ ،‬يقول سبحانه‪ {:‬إِنّ اللّهَ يُبَشّ ُركِ ِبكَِلمَةٍ مّنْهُ ا ْ‬
‫ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ }[آل عمران‪.]45 :‬‬
‫فبيقظتها اليمانية فطنت إلى أن هذا الطفل سينسب إلى أمه؛ فعرفت أن أباه ملغي؛ وأدركت أن‬
‫هذا الولد لن يأتي نتيجة زواج ولو فيما بعد‪ ،‬وبذلك كان عليها أن تعود إلى القضية اليمانية التي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسَابٍ }[آل عمران‪.]37 :‬‬
‫ذكرتها‪ {:‬إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ‬
‫وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه‪ } :‬هُنَاِلكَ تَبْلُواْ ُكلّ َنفْسٍ مّآ‬
‫أَسَْل َفتْ { [يونس‪]30 :‬‬
‫أي‪ :‬في ذلك الوقت تُختبر كل نفس‪ ،‬وترى هل الجزاء طيب أم ل؟ فإن كانت قد عملت الشر؛‬
‫فستجد الجزاء شَرّا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالنسان وقت النتائج يختبر نفسه بما كان منه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَ ُردّواْ إِلَى اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَقّ { [يونس‪]30 :‬‬
‫وكأنهم كانوا في الدنيا عند مولىً آخر غير الله الحقّ سبحانه‪ ،‬والمولى غير الحق هو الشريك أو‬
‫الشركاء الذين اتخذهم بعض الناس مَواِليَ لهم‪ ،‬وهنا في اليوم الخر يُردّون إلى الله الحق‬
‫والمولى الحق سبحانه‪.‬‬
‫وكلمة " رُدّوا إلى كذا " ل تدل على أنهم كانوا مع الضّدّ‪ ،‬وجاءوا له‪ ،‬بل تدل على أنهم كانوا معه‬
‫أولً‪ ،‬ثم ذهبوا إلى الضّدّ‪ ،‬ثم ُردّوا إليه ثانيا‪ ،‬مثل قول الحق سبحانه عن موسى عليه السلم‪:‬‬

‫{ فَ َردَدْنَاهُ إِلَىا ُأمّهِ }[القصص‪.]13 :‬‬


‫فدلّت علىأنه كان مع أمه‪ ،‬ثم فارقها‪ ،‬ثم رُدّ إليها‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه هنا‪ } :‬وَرُدّواْ ِإلَى اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَقّ { [يونس‪]30 :‬‬
‫أي‪ :‬أنهم كانوا مع ال أولً‪ ،‬ثم أخذهم الشركاء‪ ،‬وفي هذا اليوم الخر يرجعون لربهم سبحانه‪.‬‬
‫والنسان يكون مع ربّه أولً بالفطرة التكوينية المؤمنة‪ ،‬ثم يتجه به أبواه إلى المجوسية أو أيّ‬
‫ديانة أخرى تحمل الشرك بال تعالى‪ ،‬وهم في ظل تلك الديانات المشركة‪ ،‬كانوا عند مولىً وسيّدٍ‬
‫وآمرٍ ومش ّرعٍ‪ ،‬لكنه َموْلىً غير حق؛ لن الحق هو الثابت الذي ل تدركه الغيار‪.‬‬
‫} هُنَاِلكَ تَبْلُواْ ُكلّ َنفْسٍ مّآ َأسَْلفَتْ { [يونس‪.]30 :‬‬
‫أي‪ :‬عرفت كل نفس ما فعلت‪ ،‬ويُعرف كل إنسان بفضيحته في جزئيات ذاته‪ ،‬وكذلك الفضيحة‬
‫العامة لكل إنسان أشرك بال سبحانه‪.‬‬
‫ضلّ عَ ْنهُمْ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ { [يونس‪.]30 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬و َ‬
‫أي‪ :‬أن اللهة التي عبدوها ل تتعرف إلى أمكنتهم ومواقعهم‪ ،‬وأنهم في خطر؛ فتأخذ بأيديهم؛ لن‬
‫هذه اللهة ل علم لها بهم‪ ،‬ولو أن هذه اللهة التي كانوا يعبدونها من دون ال ـ سبحانه ـ على‬
‫شيء من الحق؛ ووجودوهم في مأزق؛ لكان يجب أن يدافعوا عنهم‪ ،‬لكنهم لم يعرفوا أماكنهم }‬
‫َوضَلّ عَ ْنهُمْ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ { [يونس‪.]30 :‬‬
‫أي‪ :‬ماكنوا يكذبونه كذبا متعمدا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبعد أن كشف ـ سبحانه ـ المسألة وما سوف يحدث في الخرة‪ ،‬وخوّفهم وبشّع لهم ما سوف‬
‫ينتظرهم من مصير إنْ ظلوا على الكفر؛ لعلّهم يرتدعون‪ ،‬ويتذكرون ضرورة العودة إلى عبادة‬
‫الله الحق سبحانه‪ ،‬ياتي الحق سبحانه وتعالى بما يعيد إليهم ُرشْدَ اليمان في نفوسهم‪ ،‬فيقول‪} :‬‬
‫سمَآءِ وَالَ ْرضِ {‬
‫ُقلْ مَن يَرْ ُز ُقكُم مّنَ ال ّ‬

‫(‪)1381 /‬‬

‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ‬


‫س ْم َع وَالْأَ ْبصَارَ َومَنْ ُيخْرِجُ الْ َ‬
‫سمَاءِ وَالْأَ ْرضِ َأمْ مَنْ َيمِْلكُ ال ّ‬
‫ُقلْ مَنْ يَرْ ُز ُق ُكمْ مِنَ ال ّ‬
‫حيّ َومَنْ يُدَبّرُ الَْأمْرَ فَسَ َيقُولُونَ اللّهُ َفقُلْ َأفَلَا تَ ّتقُونَ (‪)31‬‬
‫وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ‬

‫أي‪ :‬أن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬اسألهم هذا السؤال‪ ،‬ول يسأل هذا‬
‫السؤال إل مَنْ يثق في أن المسئول لو أدار في ذهنه كل الجوبة‪ ،‬فلن يجد جوابا غير ما عند‬
‫السائل‪.‬‬
‫ومثال ذلك من حياتنا ـ وال المثل العلى ـ إن جاء لك من يقول‪ :‬أبي يهملني‪ ،‬فتمسك به‪،‬‬
‫وتسأله‪ :‬من جاء لك بهذه الملبس وذلك القلم ويُطعمك ويُعلّمك؟ سيقول لك‪ :‬أبي‪.‬‬
‫وأنت ل تسأله هذا السؤال إل وأنت واثق أنه لو أدار كل الجوبة فلن يجد جوابا إل الذي تتوقعه‬
‫منه‪ ،‬فليس عنده إجابة أخرى؛ لنك لون كنت تعرف أنه سوف يجيبك إجابة مختلفة لما سألته‬
‫فكأنك ارتضيت حكمه هو في المسألة‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى قال في بداية هذه الية الكريمة‪ُ { :‬قلْ } كما أنزل عليه مثيلتها مما بُدىء‬
‫بقوله سبحانه‪ُ { :‬قلْ } مثل قوله سبحانه‪:‬‬
‫حدٌ }[الصمد‪.]1 :‬‬
‫{ ُقلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫وهذا ما اقتضاه خطاب الحق سبحانه دائما للخَلْق‪ ،‬ويختلف عن خطاب الخَلْق للخَلْق‪ ،‬فحين تقول‬
‫لبنك‪ " :‬اذهب إلى عمّك‪ ،‬و ُقلْ له كذا "‪ .‬فالبن يذهب إلى العمّ ويقول له منطوق رسالة الب‪،‬‬
‫دون أن يقول له‪ُ " :‬قلْ " ‪ ،‬أما خطاب الحق سبحانه للخلق‪ ،‬فقد شاء سبحانه أن يبلّغنا به رسوله‬
‫ال صلى ال عليه وسلم كما نزل { ُقلْ } فالرسول صلى ال عليه وسلم أمين في البلغ عن ال‬
‫تعالى‪ ،‬ل يترك كلمة واحدة من الوحي دون أن يبلّغها للبشر‪ ،‬وما دام الحق سبحانه وتعالى هو‬
‫الذي أمره‪ ،‬فهو يبلغ ما أمِرَ‪ ،‬حتى ل يحرم آذان خلق ال تعالى من كل لفظ صدر عن ال‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫وكذلك أمر الحق ـ سبحانه ـ هنا لرسوله صلى ال عليه وسلم بأن يقول‪ { :‬مَن يَرْ ُز ُقكُم مّنَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآءِ وَالَ ْرضِ } [يونس‪.]31 :‬‬
‫ال ّ‬
‫ونحن نعلم أن الرزق هو ما يُنتفع به‪ ،‬والنتفاع الول مُقوّم حياة‪ ،‬والثاني تَ َرفٌ أو كماليات حياة‪،‬‬
‫والرزق الذي هو أصل الحياة هو ماء ينزل من السماء‪ ،‬ونبات يخرج من الرض‪.‬‬
‫وهكذا قال الحق سبحانه السؤال والجابة معروفة مقدّما‪ ،‬فلم َي ُقلْ لرسوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬‬
‫أجِب أنت " بل ترك لهم أن يجيبوا بأنفسهم‪.‬‬
‫سمْعَ والَ ْبصَارَ } [يونس‪.]31 :‬‬
‫وكذلك جاء الحق سبحانه بسؤال آخر‪َ { :‬أمّن َيمِْلكُ ال ّ‬
‫والسمع والبصر هما السيدان لمَلكَات الدراك؛ لن إدراك المعلومات له وسائل متعددة‪ ،‬إنْ أردتَ‬
‫أنْ تُدرك رائحة؛ فبأنفك‪ ،‬وإن أردتَ أنْ تدرك نعومة؛ فبلمسك وببشرتك‪ ،‬وإنْ أردتَ أن تدرك‬
‫مذاق شيء فبلسانك‪ ،‬وإنْ أردت أن تتكلم فبأجهزة الكلم وعمدتها اللسان‪ ،‬وإنْ أردتَ أن تسمع‬
‫فبأذنك‪.‬‬
‫وكذلك تتجلّى لك المرائي بعينيك‪ ،‬ثم تأتي إدراكات متعددة من الحواس؛ لتُكوّن أشياء نسميها‬
‫الخميرة‪ ،‬توجد منها القضية العقلية الخيرة‪ ،‬فالطفل أمام النار يجد منظرها جميلً جذابا‪ ،‬لكن ما‬
‫إن يلمسها حتى تلسعه؛ فل يقرب منها أبدا من بعد ذلك؛ لنه اختبرها بحواسه فارتكزت لديه‬
‫القضية العقلية وهي أن هذه نار محرقة‪ ،‬واستقر هذا لديه يقينا‪.‬‬

‫وهكذا تكون الدراكات الحسية إدراكات متعددة تصنع خميرة في النفس تتكون منها الدراكات‬
‫المعنوية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فوسائل العلم للكائن الحي هي الحواس‪ ،‬وهذه الحواس تعطي العقل معطيات تنغرز فيه‬
‫لتستقر من بعد ذلك في الوجدان؛ فتصبح عقائد‪.‬‬
‫عقَ ِديّ؛ ولذلك نسمّي الدين عقيدة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمراحل الدراك هي‪ :‬إدراك حسيّ‪ ،‬وتفكّر عقليّ‪ ،‬فانتهاء َ‬
‫أي‪ :‬أنك عقدت الشيء في يقينك بصورة ل تحلّه بعدها من جديد لتحلّله‪ ،‬فهذا يُسمى عقيدة‪.‬‬
‫ولذلك حينما أراد ال ـ سبحانه وتعالى ـ أن يقصّ علينا مراحل الدراك في النفس النسانية؛‬
‫ليربي النسان معلوماته‪ ،‬قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ‬
‫سمْعَ وَالَ ْبصَا َر وَا َ‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ الْ ّ‬
‫جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ‬
‫{ وَاللّهُ أَخْ َر َ‬
‫شكُرُونَ }[النحل‪.]78 :‬‬
‫تَ ْ‬
‫لذلك يقال‪ " :‬كما ولدته أمه " ‪ ،‬أي‪ :‬لم ُي ْعطَ القدرة على استخدام حواسّه بعد‪ ،‬ثم يجعل له الحق‬
‫سبحانه الحواس‪ ،‬ويجعله قادرا على استخدامها‪.‬‬
‫ولم يذكر بقية الحواس‪ ،‬بل جاء بالسيدين‪ ،‬وهما السمع والبصر؛ لن آيات الكون تحتاج إلى‬
‫الرؤية‪ ،‬وإبلغ الرسل يحتاج للسماع‪ ،‬وهما أهم آلتين في البلغ‪ ،‬فأنت ترى بالعين آيات الكون‬
‫ومعجزات الرسل‪ ،‬وتسمع البلغ بمنهج ال سبحانه وتعالى من الرسل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد لفتنا المام علي بن أبي طالب ـ رضي ال عنه ـ إلى العجائب فقال‪ " :‬اعجبوا لهذا‬
‫النسان‪ ،‬ينظر بشحمٍ‪ ،‬ويتكلم بَلحْمٍ‪ ،‬ويسمع بعظمٍ‪ ،‬ويتنفس من خَ ْرمٍ "‪.‬‬
‫فالصوت يطرق عظمة الذن‪ ،‬ويرنّ على طبلتها‪ ،‬ونرى بشحمة العين‪ ،‬وننطق بلحمة اللسان‪.‬‬
‫وأضاف البعض‪ " :‬ونش ْم بغضروف‪ ،‬ونلمس بجلد‪ ،‬ونفكر بعجين "‪ .‬فالنسان يولد وكأن مخه‬
‫قطعة من العجين التي تعمل في استقبال المعلومات من الكون وتخزينها فيه‪ ،‬وهي التي ستكون‬
‫ركيزة لتشكيل الفؤاد من بعد ذلك‪.‬‬
‫وجاء قول الحق سبحانه هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بوسيلتين من وسائل‬
‫الدراك‪ ،‬وترك بقية الوسائل الثلث الخرى الظاهرة‪ ،‬مع أن العلم الحديث حين تلكم عن وظائف‬
‫العضاء‪ ،‬احتاط للمر وقرر أن هذه الحواس هي الحواس الخمس الظاهرة‪.‬‬
‫وهذا يعني أن هناك حواسّا أخرى غير هذه سيكشف عنها‪ ،‬وهي حواس لم يكن القدماء يعرفونها‪،‬‬
‫مثل حاسة البَيْنَ بَيْنَ‪ ،‬التي نفرق بها بين أنواع القمشة والوراق وغيرها‪ ،‬وكثافة هذا النوع من‬
‫ذلك‪ ،‬وهذه الحاسة توجد بين لمستين من إصبعين متقاربين‪.‬‬
‫وكذلك حاسة ال َعضَل التي تزن ثقل الشياء‪ ،‬وتعرف حين تحمل ثقلً ما مدى الجهاد الذي يسببه‬
‫حمْل ثقلٍ آخر‪.‬‬
‫لك‪ ،‬وهل يختلف عن إجهاد َ‬

‫وحين نظر العلماء في معاني اللفاظ قالوا‪ " :‬النظائر حين تخالف فل بد من علّة للمخالفة "‬
‫فالسمع آلة إدراك‪ ،‬والبصر آلة إدراك‪ ،‬فلماذا قال الحق سبحانه في آلة الدراك " السمع " ‪ ،‬وقال‬
‫في اللة الثانية " البصار "؟‪ ،‬ولماذا جاء السمع بالفراد‪ ،‬وجاء البصار بالجمع‪ ،‬ولم يأتْ‬
‫بالثنين على وتيرة واحدة؟‬
‫فنقول‪ :‬إن المتكلم هو ال تعالى‪ ،‬وكل كلمة منه لها حكمة وموضوعة بميزان‪ ،‬وأنت‪ ،‬حين تسمع‪،‬‬
‫تسمع أي صوت قادم من أي مكان‪ ،‬لكنك بالعين ترى من جهة واحدة‪ ،‬فإنْ أردتَ أن ترى ما‬
‫على يمينك فأنت تتجه بعينيك إلى اليمين‪ ،‬وإنْ أردت أن ترى ما خلفك‪ ،‬فأنت تغيّر من وقفتك‪،‬‬
‫فالذن تسمع بدون عمل منك‪ ،‬لكن البصر يحتاج إلى عمليات متعددة؛ لترى ما تريد‪.‬‬
‫وأيضا فالسمع ل اختيار لك فيه‪ ،‬فأنت ل تستطيع أن تحجب أذنك عن سماع شيء‪ ،‬أما البصار‬
‫فأنت تتحكم فيه بالحركة أو بإغلق العين‪.‬‬
‫وجاء الحق ـ سبحانه وتعالى ـ بالسمع أولً؛ لن الذن هي أول وسيلة إدراك تؤدي مهمتها في‬
‫النسان‪ ،‬أما العين فل تبدأ في أداء مهمتها إل من بعد ثلثة أيام إلى عشرة أيام غالبا‪.‬‬
‫س ْم َع والَبْصَارَ { [يونس‪.]31 :‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪َ } :‬أمّن َيمِْلكُ ال ّ‬
‫والحق سبحانه يملكها؛ لنه خالقها وهو القادر على أن يصونها‪ ،‬وهو القادر سبحانه على أن‬
‫ُيعَطّلها‪ ،‬وقد أعطانا الحق مثالً لهذا في القرآن فقال عن أصحاب الكهف‪َ {:‬فضَرَبْنَا عَلَىا آذَا ِنهِمْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عدَدا }[الكهف‪]11 :‬‬
‫فِي ا ْل َكهْفِ سِنِينَ َ‬
‫َفعَطّل ال سبحانه أسماعهم بأن ضرب على آذانهم‪ ،‬فذهبوا في نوم استمر ثلثة قرون من الزمن‬
‫وازدادوا تسعا‪.‬‬
‫كيف حدث هذا؟‪ ..‬إن أقصى ما ينامه النسان العادي هو يوم وليلة‪ ،‬ولذلك عندما بعثهم ال‬
‫تساءلوا فيما بينهم‪ {:‬قَالَ قَا ِئلٌ مّ ْنهُمْ كَم لَبِثْ ُتمْ قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ }[الكهف‪.]19 :‬‬
‫ولكن هيئتهم لم تكن تدل على هذا‪ ،‬فإن شعورهم قد طالت جدّا‪ ،‬بل إن لونها السود قد تبدل‬
‫وأصبحوا شيبا وكهولً‪ ،‬ولذلك قال الحق سبحانه‪َ {:‬لوِ اطَّل ْعتَ عَلَ ْيهِمْ َلوَلّ ْيتَ مِ ْنهُمْ فِرَارا وََلمُلِ ْئتَ‬
‫مِ ْنهُمْ رُعْبا }[الكهف‪.]18 :‬‬
‫سمْعَ‬
‫ونلحظ هنا ملحظا يجب النتباه إليه‪ ،‬ففي هذه الية الكريمة يقول الحق سبحانه‪َ } :‬أمّن َيمِْلكُ ال ّ‬
‫والَبْصَارَ { [يونس‪.]31 :‬‬
‫سمْعَ وَالَ ْبصَارَ }[السجدة‪.]9 :‬‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ ال ّ‬
‫بينما يقول في آية أخرى في سورة السجدة‪َ {:‬و َ‬
‫جعْل " ‪ ،‬و " الملْك " ‪ ،‬فالخلق قد عرفنا أمره‪،‬‬
‫ول بد أن ننتبه إلى الفارق بين " الخَلْق " و " ال َ‬
‫جعْل " ‪ ،‬فهو توجيه ما‬
‫وملكية كل شيء ل ـ تعالى ـ أمر مُلْ ِزمٌ في العقيدة‪ ،‬ومعروف‪ ،‬أما " ال َ‬
‫خلق إلى مهمته‪.‬‬
‫فأنت تجعل الطين إبريقا‪ ،‬والقماس جلبابا‪ ،‬هذا على المستوى البشري‪ ،‬أما الحق سبحانه وتعالى‬
‫فقد خلق المادة أولً‪ ،‬ثم جعل من المادة سمعا وبصرا‪ ،‬وزاد من بعد ذلك } َأمّن َيمِْلكُ { ‪ ،‬فمن‬
‫ج َعلَ هو ال تعالى‪ ،‬ومن مََلكَ هو ال تعالى‪.‬‬
‫خَلَق هو ال تعالى‪ ،‬ومن َ‬

‫وهو سبحانه ينبهنا إلى ذلك‪ ،‬فالشياء النافعة لبن آدم يخلقها ال سبحانه‪ ،‬ويجعلها‪ ،‬ثم يُملّكها له‪.‬‬
‫أما ذات النسان وأبعاضه من سمع وبصر وغيرهما وإن كانت قد خُلقت في النسان‪ ،‬وجُعلت له‬
‫للنتفاع بها‪ ،‬ولكنها ستظل مِلْكا ل‪ ،‬يبقيها على حالها‪ ،‬او يخطفها أو يصيبها بآفة‪ ،‬أو يعطلها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهي خُلقت ل‪ ،‬وجُعلت من ال‪ ،‬وتظل مملوكة ل‪ ،‬ويُصيّرها كيف يشاء‪ ،‬فدقات القلب‬
‫والحب والكراهية والمور الل إرادية التي تعمل لصالح النسان هي مملكة ال‪.‬‬
‫والحق سبحانه ـ على سبيل المثال ـ جعل لكلّ حيوان جلدا؛ ننتفع به وندبغه إل جلدين اثنين‪:‬‬
‫جلد النسان وجلد الخنزير‪ ،‬وقد حُرّم استخدام جلد النسان؛ لكرامته عند خالقه‪ ،‬وحُرّم استخدام‬
‫جلد الخنزير؛ لي ُدلّ على حرمته ونجاسته‪.‬‬
‫ل ومََلكَ‪ ،‬ودليل ملكية الحق ـ سبحانه وتعالى‬
‫ج َع َ‬
‫وعلينا أن ننتبه إلى أن الحق سبحانه قد خََلقَ و َ‬
‫ـ أنه حَرّم الجنة على المُنتحِر؛ لنه ل يأخذ الحياة إل واهبُ الحياة‪ ،‬فأنت أيها النسان لستَ مِ ْلكَ‬
‫نفسك‪ .‬ول عذر لحد ما دام قد وصله هذا البلغ‪ ،‬وعليه أن يستوعبه أما من ليستوعب؛ فيلقى‬
‫مصيره‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك فإنه سبحانه هو الذي رزق‪ ،‬وهو ـ سبحانه ـ الذي يملك‪.‬‬
‫حيّ { [يونس‪.]31 :‬‬
‫ت وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومَن ُيخْرِجُ الْ َ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ‬
‫ونحن نعلم أن لكل كائن في الوجود حياة تناسبه‪ ،‬بدليل قول الحق سبحانه‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫جهَهُ }[القصص‪.]88 :‬‬
‫وَ ْ‬
‫وما دام كل شيء سيأتي له وقت يهلك فيه‪ ،‬فمعنى ذلك أن لكل شيء حياة‪ ،‬إل أن حياتنا نحن في‬
‫ظاهر المر عبارة عن الحس والحركة‪ ،‬والنسان يأكل الخضروات والخبز والفاكهة‪ ،‬ومن هذه‬
‫المأكولت وغيرها يكوّن الجسمُ الحيوانات المنوية في الرجل‪ ،‬والبويضات في المرأة‪ ،‬ومنهما‬
‫يأتي النسان‪ ،‬وكذلك يخرج الكتكوت من البيضة المخصّبة؛ لن البيضة غير المخصبة ل تُخرِج‬
‫كتكوتا؛ فهي بدون حياة؛ ولذلك ل يتكون منها جنين‪ ،‬فهناك فرق بين قابلية الحياة‪ ،‬وبين الحياة‬
‫نفسها‪.‬‬
‫وكذلك نواة التمرة‪ ،‬إذا ما ألقيتْ دون أن توضع في الرض‪ ،‬فلن تكون نخلة أبدا‪ ،‬ولكن إذا ما‬
‫جتْ نخلة‪.‬‬
‫زُرعتْ في الرض‪ ،‬ووجدت لها البيئة المناسبة؛ خر َ‬
‫لمْرَ { [يونس‪.]31 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومَن ُيدَبّ ُر ا َ‬
‫والتدبير هو عملية الدارة لي شيء؛ حتى يؤدي مهمته‪ ،‬وبال من يُدير قلبك؟ ومن يدير حركة‬
‫أمعائك؟ لتستخلص من الطعام ما يفيدك‪ ،‬ثم تخرج ما ل يفيدك‪.‬‬
‫إياك أن تقول‪ :‬إنني أنا الذي أدير ذلك؟ ونقول‪ :‬كنت طفلً في مرحلة الطفولة‪ ،‬فهل كنت تدير‬
‫حركة قلبك أو أمعائك؟ ومَنْ الذي يدير حركة رئتيك؟ إن الذي يديرها هو خالقها؛ لذلك اطمئنوا‬
‫على حركة أجهزتكم التي ل دخل لكم فيها؛ لن الذي خلقها فيكم قيّوم ل تأخذه سنة ول نوم‪ ،‬ول‬
‫يؤوده حفظ ذلك‪.‬‬

‫ويجيب مَنْ يسألهم الرسول صلى ال عليه وسلم على كل تلك السئلة ـ بأمر ال تعالى ـ الجابة‬
‫التي حددها ال سبحانه سلفا } َفسَ َيقُولُونَ اللّهُ { [يونس‪.]31 :‬‬
‫إذن‪ :‬أما كان يجب أن نرهف الذان‪ ،‬و ُن ْعمِل البصار؛ لنرى قدرة ال سبحانه الذي وهب لنا كل‬
‫تلك النعم من رزق‪ ،‬وسمع‪ ،‬وبصر‪ ،‬وإحياء ‪ ،‬وإماتة‪ ،‬وإحياء من ميت‪ ،‬وتدبير المر كله؟‬
‫أما كان يجب أن نقول‪ :‬يا مَنْ خََلقْتَنَا ماذا تنتظر مِنّا؛ لنعمّر الكون الذي أوجدتنا فيه؟ فكيف ـ إذن‬
‫ـ يتجه البعض بالعبَادة لغير ال تعالى؛ لشمسٍ أو قمرٍ‪ ،‬أو ملئكة‪ ،‬أو نبيّ‪ ،‬أو صنمٍ؟ كيف ذلك‬
‫والعبادة معناها إطاعة العابد للمعبود فيما يأمر به؟ وهل هناك إله بغير منهج يأمر به عباده‪ ،‬ومن‬
‫عبد الشمس هل كَلّفته بشيء؟‪ ..‬ل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬يتساوى عندها مَنْ عبدها‪ ،‬ومَنْ لم يعبدها‪ ،‬وفي هذا نقض للوهية كل معبود غير ال تعالى‪.‬‬
‫ولذلك يُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪َ } :‬أفَلَ تَ ّتقُونَ { [يونس‪.]31 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فما دام ال سبحانه هو الذي خلق كل ذلك‪ ،‬وأنزل منهجا‪ ،‬فعليكم أن تجعلوا بينكم وبينه وقاية؛‬
‫تحميكم من صفات الجلل‪ ،‬وتقرّبكم من آثار صفات الجمال وأن تسمعوا إلى البلغ من الرسل‬
‫عليهم السلم‪ ،‬وإلى مطلوباته سبحانه‪.‬‬
‫وما دام كل إنسان سيجيب عن أسئلة هذه الية‪ ،‬ويعترف أن الخالف سبحانه والمالك هو ال‬
‫تعالى‪ ،‬فعلى النسان أن يقي نفسه النار‪.‬‬
‫والعجيب أن الجميع يجيب بأن ال سبحانه هو الذي خَلَق‪ ،‬فالحق سبحانه يقول‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ‬
‫خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[الزخرف‪.]87 :‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[لقمان‪.]25 :‬‬
‫ويقول أيضا‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خََلقَ ال ّ‬
‫وما دام ال تعالى هو الذي خلق‪ ،‬وزرق‪ ،‬ودبّر المر‪ ،‬فكيف تتركون عبادته وتتجهون لعبادة‬
‫غيره؟‬
‫حقّ {‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬فذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمُ الْ َ‬

‫(‪)1382 /‬‬

‫حقّ َفمَاذَا َب ْعدَ ا ْلحَقّ إِلّا الضّلَالُ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ (‪)32‬‬
‫فَذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّب ُكمُ الْ َ‬

‫وقد جاء قول الحق سبحانه‪َ { :‬فذَاِلكُمُ } إشاره منه إلى ما ذكره قَبْلً من الرزق‪ ،‬وملكية السمع‬
‫والبصار‪ ،‬وقدرة إخراج الحيّ من الميت‪ ،‬وأخراج الميت من الحي‪ ،‬وتدبير المر‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقوله سبحانه‪ { :‬فَذَاِل ُكمُ } إشارة إلى أشياء ونعم كثيرة ومتعددة أشار إليها بلفظ واحدٍ؛ لنها‬
‫كلها صادرة من إله واحد‪.‬‬
‫حقّ } [يونس‪.]32 :‬‬
‫{ َفذَاِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمُ الْ َ‬
‫ول يوجد في الكون حقّان‪ ،‬بل يوجد حق واحد‪ ،‬وما عداه هو الضلل؛ لذلك يقول الحق سبحانه‪{ :‬‬
‫للُ } [يونس‪.]32 :‬‬
‫حقّ ِإلّ الضّ َ‬
‫َفمَاذَا َبعْدَ الْ َ‬
‫إذن‪ :‬أنتم إنْ وجّهتم المر بالربوبية ألى غيره؛ تكونون قد ضللتم الطريق‪ ،‬فالضلل أن يكون لك‬
‫غاية تريد أن تصل إليها‪ ،‬فتتجه إلى طريق ل يوصّل إليها‪ .‬فإن صُرفتم من الله الحق فأنتم‬
‫تصلون إلى الضلل‪.‬‬
‫ولذلك يُنهي الحق سبحانه الية بما يبين أنه ل يوجد إل الحق أو الضلل‪ ،‬فيقول سبحانه‪ { :‬فَأَنّىا‬
‫ُتصْ َرفُونَ } [يونس‪.]32 :‬‬
‫ق واحد ثابت ل يتغيّر‪.‬‬
‫أي‪ :‬أنكم إن انصرفتم عن الحق ـ سبحانه وتعالى ‪ ،‬فإلى الضلل‪ ،‬والح ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومَنْ عبد الملئكة أو الكواكب أو النجوم؛ أو بعض رسل ال ـ عليهم السلم ـ أو صنما من‬
‫الصنام؛ فقد هوى إلى الضلل‪.‬‬
‫ح ّقتْ‬
‫وإن كنتم تريدون أن نجادلكم عقليا‪ ،‬فَلْنقرأ معا قول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك‪ { :‬كَذَِلكَ َ‬
‫كَِل َمتُ رَ ّبكَ }‬

‫(‪)1383 /‬‬

‫سقُوا أَ ّن ُهمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ (‪)33‬‬


‫حقّتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ فَ َ‬
‫كَذَِلكَ َ‬

‫قوله‪َ { :‬كذَِلكَ } إشارة إلى ما تقدم من رزق ال تعالى للبشر جميعا‪ ،‬ومن مِلْك السمع والبصر‪،‬‬
‫ومن تدبير المر كله‪ ،‬ومن إخراج الحيّ من الميت‪ ،‬وإخراج الميت من الحي‪ ،‬ذلك هو الله الحق‬
‫سبحانه‪ ،‬وقد ثبت ذلك بسؤاله سبحانه وتعالى هذا السؤال الذي علم مُقدّما أل إجابة له إل‬
‫للُ }[يونس‪.]32 :‬‬
‫بالعتراف به إلها حقا‪َ {:‬فمَاذَا َبعْدَ ا ْلحَقّ ِإلّ الضّ َ‬
‫سقُواْ أَ ّنهُ ْم لَ ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫حقّتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ فَ َ‬
‫ومثل هذه القضية تماما َقوْلُ الحق سبحانه‪َ { :‬‬
‫[يونس‪.]33 :‬‬
‫لنهم أساءوا الفهم في الوحدانية‪ ،‬وفي العقيدة‪ ،‬واستحقوا أن يُعذّبوا؛ لنهم صرفوا الحق إلى غير‬
‫صاحب الحق‪.‬‬
‫وقد كان هذا خطابا للموجودين في زمن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لكن بعضهم آمن بال تعالى؛‬
‫حلّ على مَنْ لم يؤمن‪.‬‬
‫ولذلك فالعذاب‪:‬إنما ي ُ‬
‫وهذا القول متحقق فيمَنْ سبق في علم ال سبحانه أنهم ل يؤمنون‪ ،‬وكذلك ح ّقتْ كلمة ربك على‬
‫هؤلء الذين فسقوا ول ينتهون عن فسقهم وكفرهم‪ ،‬وإصرارهم على النحراف بالعبودية لغير ال‬
‫العلى وال ّربّ الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫سوَآءٌ عَلَ ْيهِمْ‬
‫والدليل على العلم الزليّ ل سبحانه ما نقرأه في سورة البقرة‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َ‬
‫أَأَنذَرْ َت ُهمْ أَمْ َلمْ تُنْذِ ْرهُ ْم لَ ُي ْؤمِنُونَ }[البقرة‪.]6 :‬‬
‫ن يؤمن ومَنْ ل يؤمن‪ ،‬ومَنْ يستمر و ُيصِرّ على كفره؛ هو الذي يَ ْلقَى‬
‫إذن‪ :‬معلوم ل تعالى مَ ْ‬
‫العذاب‪ ،‬بعلم ال تعالى فيه أنه لن يؤمن‪.‬‬
‫ثم يذكر الحق بعد ذلك ما يمكن أن يُجا َدلَ به الكافرون بمنطق أحوالهم‪ ،‬ففي ذوات نفوس غير‬
‫المؤمنين بإله توجد نزعة فطرية لفعل الخير‪ ،‬وتوجيه غيرهم إليه‪ ،‬وهو موجود حتى في المم‬
‫غير المؤمنة‪ ،‬فكل قوم يُوجّهون إلى الخير بحسب معتقداتهم‪ ،‬فنجد بين الشعوب غير المؤمنة بإلهٍ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكماء وأطباء وعلماء‪ ،‬وهؤلء يوجهون الناس إلى بعض الخير الذي يرونه‪.‬‬
‫ونجد الطفل الصغير يكتسب المعتقدات والعادات والتجاهات من والديه‪ ،‬ومما يسمعه من‬
‫توجيهاتهم‪ ،‬فنجده يبتعد عن النار مثلً أو الكهرباء؛ لنه ترسخت في ذهنه توجيهات ونصائح‬
‫غيره؛ بل إنه يتعلم كيف يتعامل مع هذه الشياء دون أن تصيبه بالضرر‪.‬‬
‫إذن‪ :‬يوجد توجيه من الخلق إلى الخلق لجهات الخير‪ ،‬أل نجد في الدول غير المؤمنة بإله مَنْ‬
‫يرشد الناس إلى الطرق التي يمكن أن يسيروا فيها باتجاهين‪ ،‬والطرق التي عليهم أن يسيروا فيها‬
‫باتجاه واحد؟‬
‫أل يوجد مَنْ يدل الناس على المنحنيات الخطرة على الطرق‪ ،‬وكذلك يوجّههم إلى ضرورة خفض‬
‫سرعة السيارات أمام مدارس الطفال؟‬
‫ن يفعل ذلك‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬يوجد في البلد غير المؤمنة مَ ْ‬
‫إذن‪ :‬فالتفكير في الخير لصالح المم أمر طبيعي غريزي موجود في كل المجتمعات‪ ،‬وإذ كان‬
‫التوجيه للخير يحدث من النسان المساوي للنسان‪ ،‬أل يكون ال سبحانه هو الحق بالتوجيه إلى‬
‫الخير‪ ،‬وهو سبحانه الذي خلق النسان‪ ،‬وخلق له ما يقيم حياته على الرض‪ ،‬ولذلك يقول الحق‬
‫سبحانه‪ُ { :‬قلْ َهلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ }‬

‫(‪)1384 /‬‬

‫خلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ ُقلِ اللّهُ يَبْدَأُ ا ْلخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ (‪)34‬‬
‫ُقلْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ يَ ْبدَأُ الْ َ‬

‫وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم أن يسألهم‪َ { :‬هلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ‬
‫ثُمّ ُيعِي ُدهُ } [يونس‪.]34 :‬‬
‫ومعنى أن ال يسأل القوم هذا السؤال أنه ل بد أن تكون الجابة كما أرادها هو سبحانه‪ .‬وإنْ قال‬
‫قائل‪ :‬وكيف يأمنهم على مثل هذا الجواب‪ ،‬ألم يكن من الجائز أن ينسبوا هذا إلى غير ال؟‬
‫نقول‪ :‬إن هذا السؤال‪ :‬ل يُطرح إل وطارحه يعلم أن له إجابة واحدة‪ ،‬فلن يجد المسئول إجابة إل‬
‫أن يقول‪ :‬إن الذي يفعل ذلك هو ال سبحانه ول يمكن أن يقولوا‪ :‬إن الصنم يفعل ذلك؛ لنهم‬
‫يعلمون أنهم هم الذين صنعوا الصنام‪ ،‬ول قدرة لها على مثل هذا الفعل‪.‬‬
‫فالجابة معلومة سلفا‪ :‬إن ال سبحانه وتعالى وحده هو القادر على ذلك‪ ،‬وهذا يوضح أن الباطل‬
‫صوْلة؛ فأنت ساعة تنطق بكلمة الحق في أمر ما‪ ،‬تجدها قد فعلت ِفعْلها‬
‫لجلج والحق أبلج‪ ،‬وللحق َ‬
‫فيمن هو على الباطل‪ ،‬ويأخذ وقتا طويلً إلى أن يجد كلما يرد به ما قلته‪ ،‬بل يحدث له انبهار‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫واندهاش‪ ،‬وتنقطع حجته‪.‬‬
‫ولذلك لم َيقُل الحق سبحانه هنا مثلما قال من قبل‪ {:‬فَسَ َيقُولُونَ اللّهُ }[يونس‪.]31 :‬‬
‫بل قال‪ُ { :‬قلِ اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ } [يونس‪.]34 :‬‬
‫وجاء بها الحق سبحانه هكذا؛ لنهم حينما سُئلوا هذا السؤال بهرهم الحق وغلب ألسنتهم‬
‫وخواطرهم؛ فلم يستطيعوا قول أي شيء‪.‬‬
‫ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ نجد وكيل النيابة يضيّق الخناق على المتهم بأسئلة متعددة إلى‬
‫أن يوجه له سؤالً ينبهر المتهم من فرط دقته وليس له إل إجابة واحدة تتأبى طباعة أل يجيب‬
‫عنه‪ ،‬فيجيب المتهم معترفا‪.‬‬
‫والنسان ـ كما خلقه ال تعالى ـ صالح لن يؤمن‪ ،‬وصالح لن يكفر‪ ،‬فإرادته هنا تتدخل‪ ،‬لكن‬
‫أبعاضه مؤمنة عابدة مسبحة‪ ،‬فاللسان الذي قد ينطق الكفر‪ ،‬هو في الحقيقة مؤمن مُسبّحٌ‪ ،‬حامد‪،‬‬
‫شاكر‪ ،‬لكن إرادة النسان التي شاءها ال ـ سبحانه ـ متميزة بالختيار قد تختار الكفر ـ والعياذ‬
‫بال ـ فينطق اللسان بالكفر‪.‬‬
‫وقد تأتمر اليد بأمر صاحبها؛ فتمتد لتسرق‪ ،‬أو تسعى القدام ـ مثلً ـ إلى محل احتساء الخمر‪،‬‬
‫ولكن هل هذه الفاعلت راضية عن تلك الفعال؟‬
‫ل‪ ،‬إنها غير راضية‪ ،‬إنما هي خاضعة لرادة الفاعل‪.‬‬
‫وحين يسأل السؤال‪ :‬من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ فاللسان بفطرية تكوينه المؤمنة يريد أن يتكلم؛ لكنه‬
‫ل يملك إرادة الكلم‪ ،‬فيبين الحق سبحانه للنبي صلى ال عليه وسلم أن يجيب نيابة عن البعاض‬
‫المؤمنة‪ ،‬فيقول سبحانه‪ُ { :‬قلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ } [يونس‪ ]34 :‬وهو بذلك يؤكد الصيغة‪،‬‬
‫ويكفي أن يقول محمد صلى ال عليه وسلم هذا القول مُبلّغا عن ربه‪ ،‬وينال هذا القول شرف‬
‫العندية‪:‬‬
‫{ ُقلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ فَأَنّىا ُت ْؤ َفكُونَ } [يونس‪.]34 :‬‬

‫والفك‪ :‬هو الكذب المتعمّد‪ ،‬وهو الفتراء‪ ،‬وهناك فارق بين الكذب غير المتعمد والكذب المتعمد‪،‬‬
‫فالكذب غير المتعمد هو من ينقل ما بلغه عن غيره حسبما فهم واعتقد‪ ،‬وهو لون من ألوان الكذب‬
‫ل يصادف الحق‪ ،‬ويتراجع عنه صاحبه إن عرف الحق‪.‬‬
‫أما الفتراء فهو الكذب المتعمد‪ ،‬أي‪ :‬أن يعلم النسان الحقيقة ويقلبها؛ ولذلك نجد العلماء قد وقفوا‬
‫هنا وقفة؛ فمنهم من قال‪ :‬هناك صدق‪ ،‬وهناك كذب‪ ،‬لكن علماء آخرين قالوا‪ :‬ل‪ ،‬إن هناك واسطة‬
‫بين الصدق والكذب‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬أن يدخل ابنٌ على أبيه‪ ،‬بعد أن سمع هذا البن من الناس أن هناك حريقا في بيت‬
‫فلن‪ ،‬فيقول البن لوالده‪ :‬هناك حريق في بيت فلن؛ فيذهب الب ليعاين المر‪ ،‬فإن وجد حريقا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فقول البن صدق‪ ،‬وإن لم يكن هناك حريق فالخبر كاذب‪ ،‬ولكن ناقل الخبر نقله حسبما سمع‪.‬‬
‫صدُق الخبر ويصدُق المخبر‪ ،‬ومرة‬
‫إذن‪ :‬فهناك فَرْق بين صدق الخبر وصدق المُخْبِر‪ ،‬فمرة َي ْ‬
‫يصدُق الخبر ول يصدُق المخبِر‪ ،‬ومرة يصدق المخبر ول يصدق الخبر‪.‬‬
‫فهُنا أربعة مواقف‪ ،‬والذين قالوا إن هناك واسطة بين الصدق والكذب هم مَنْ قالوا‪ :‬إن الصدق‬
‫يقتضي مطابقة بين الواقع والخبر‪ .‬أما الكذب فهو أل يطابق الواقع الخبر‪.‬‬
‫لذلك يجب أن نفرّق بين صدق الخبر في ذاته‪ ،‬وصدق المخبر‪ ،‬بأنه يقول ما يعتقد‪ .‬أما صدق‬
‫الخبر فهو أن يكون هو الواقع‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪ } :‬فَأَنّىا ُت ْؤ َفكُونَ { أي‪ :‬فكيف تقلبون الحقائق؛ لنكم تعرفون الواقع وتكذبونه‬
‫كذبا متعمدا؟‬
‫وكلنا نعلم قول الحق سبحانه‪ {:‬وَا ْل ُمؤْ َت ِفكَةَ أَ ْهوَىا }[النجم‪.]53 :‬‬
‫والمؤتفكة‪ :‬هي القرى التي كُفئت أعلها إلى أسفلها‪ ،‬كذلك الكذّاب يقلب الحقيقة‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬قلْ َهلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن َيهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ {‬

‫(‪)1385 /‬‬

‫حقّ َأ َفمَنْ َيهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ َأحَقّ أَنْ يُتّبَعَ َأمْ‬


‫ُقلْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ َيهْدِي ِإلَى ا ْلحَقّ ُقلِ اللّهُ َيهْدِي ِللْ َ‬
‫ح ُكمُونَ (‪)35‬‬
‫مَنْ لَا َيهِدّي إِلّا أَنْ ُيهْدَى َفمَا َلكُمْ كَ ْيفَ َت ْ‬

‫وهذا أمر للرسول صلى ال عليه وسلم بأن يسألهم سؤالً جديدا‪ ،‬ل إجابة له إل ما يفرضه الواقع‪،‬‬
‫والواقع يؤكد أن الهداية ل تكون إل للحق؛ لن كل كائن مخلوق لغاية‪ ،‬فل شيء يُخلق عبثا‪.‬‬
‫ونحن بقُدرتنا المحدودة نصنع (الميكرفون) و { التليفزيون) أو الثلجة أو السرير وغيرها‪ ،‬كلّ‬
‫منها له غاية‪ ،‬وكل له قوانين صيانته الخاصة به‪ ،‬والذي يحدّد الغاية من هذا المصنوع أو ذاك هو‬
‫صانعه‪ ،‬ويضع لها قوانين صيانتها؛ لتؤدّي غايتها‪ ،‬فالغاية من أي شيء توجد قبل الشيء نفسه؛‬
‫ليوجد الشيء على مقتضى الغاية منه‪.‬‬
‫وآفة العالم الن أنهم يعلمون أن ال سبحانه خلق النسان‪ ،‬ولكنهم يصنعون من عندهم قوانين‬
‫لصيانة النسان وحركة النسان‪ ،‬وهذا غباء وغفلة من الذين يفعلون ذلك‪ ،‬كان عليهم أن يتركوا‬
‫أمر صيانة النسان للقوانين التي وضعها خالق النسان سبحانه‪.‬‬
‫فالحق سبحانه وتعالى قد حدد الغاية من خَلْق النسان وحدّد قوانين صيانته‪ ،‬والشر الموجود حاليا‬
‫بسبب الجهل بغاية النسان‪ ،‬والعدول عن المنهج الذي يجب أن يسير عليه النسان‪ ،‬فقال الحق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سبحانه‪ُ { :‬قلْ َهلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن َيهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ } [يونس‪.]35 :‬‬
‫أي‪ :‬هل من هؤلء الشركاء مَنْ يهدي النسان إلى غايته؟ هل قالت الشمس ـ مثلً ـ غايتها؟‬
‫هل قالت الملئكة غايتها؟ هل قالت الشجار أو الحجار أو الرسل الذين عبدتموهم شيئا غير‬
‫مراد ال تعالى؟‬
‫إنهم آلهة ل يعرفون الغاية من العابد لهم‪ ،‬ول يعرفون الطريق الموصل إلى تلك الغاية‪.‬‬
‫حقّ } [يونس‪.]35 :‬‬
‫ولذلك يأتي القول الفصل‪ُ { :‬قلِ اللّهُ َيهْدِي ِللْ َ‬
‫فال هداك أيها النسان إلى الحق في كل حركة تتحركها بالمنهج الذي أنزله ال سبحانه مكتملً‬
‫على رسوله صلى ال عليه وسلم من بدء " ل إله إل ال " إلى إماطة الذى عن الطريق‪ ،‬وهو‬
‫منهج مستوعب مستوفٍ لكل حركات النسان‪.‬‬
‫وجاءت الجابة من ال تعالى على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم؛ لنهم انبهروا بالسؤال‬
‫وتلجلجوا ولم يوجد عند أي منهم قدرة على المعارضة‪ ،‬فالغاية من خلق النسان وغيره يوجزها‬
‫قول الحق سبحانه‪َ {:‬ومَا خََل ْقتُ الْجِنّ وَالِنسَ ِإلّ لِ َيعْبُدُونِ }[الذاريات‪.]56 :‬‬
‫والعبادة ليست أركان السلم فقط‪ ،‬بل هي عمارة الكون كبنيان حيّ للسلم‪ ،‬والذي حدد الغاية‬
‫هو الخالق سبحانه‪ ،‬وهو سبحانه الذي يحدد طريق الوصول إليها‪.‬‬
‫ونحن حين نرغب في الوصول إلى مكان في الصحراء مثلً‪ ،‬إنما نحدد أولً المكان‪ ،‬ونختار‬
‫طريق الوصول‪ ،‬فإن كان الطريق المستقيم مليئا بالعقبات والجبال‪ ،‬فإنك ستضطر للنحراف عن‬
‫هذا الطريق وصولً إلى غايتك‪ ،‬فهذا الطريق المعوج هو الطريق المستقيم؛ لنه الطريق الذي‬
‫يجنبنا العقبات‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬السيول التي تنزل على هضباب الحبشة‪ ،‬فاختارت لنفسها المجرى السهل فكان نهر‬
‫النيل‪ ،‬فل أحد قد حفر النيل مثلما حفرنا الرياحات أو قناة السويس‪ ،‬بل نزل السيل واختار لنفسه‬
‫الطريق السهل فسار فيه بين التعاريج والرمال والصخور‪.‬‬

‫ولذلك أنت تجد كل ما ل دخل للبشر به قد يتعرج لينفذ‪ ،‬أما ما صنعه البشر فل يستطيع ذلك‪.‬‬
‫وكل خلق ل بد له من غاية؛ لذلك نجد سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا السلم يقول‪ {:‬الّذِي خََلقَنِي‬
‫َف ُهوَ َي ْهدِينِ }[الشعراء‪.]78 :‬‬
‫فمن خلق هو الذي يحدد الغاية؛ لن هذه الغاية توجد عنده أولً ليخلق‪ ،‬وتتجلى الدقة في قول‬
‫القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلم‪ ،‬فلم يقل‪ :‬الذي خلقني يهديني‪ ،‬بل قال‪ } :‬الّذِي خََلقَنِي‬
‫َف ُهوَ َي ْهدِينِ { مما يدل على أن هذه القضية ستخالَف‪ ،‬وبعد أن يخلق النسان سيقوم بعض الناس ـ‬
‫حماية لمصالحهم ـ بوضع طريق أخرى تخالف الغاية؛ فتوصل إلى الضلل‪.‬‬
‫أما الحق سبحانه فقد أنزل القرآن فيه الهداية الحقة‪ ،‬فالذي خلق هو الذي يقنن‪ ،‬ولذلك يذكر القرآن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سقِينِ }[الشعراء‪.]79 :‬‬
‫ط ِعمُنِي وَيَ ْ‬
‫على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلم‪ {:‬وَالّذِي ُهوَ ُي ْ‬
‫وبهذا القول وصل سيدنا إبراهيم عليه السلم إلى أن الذي رزق الباء قدرة استنباط الرزق مطعما‬
‫ومشربا هو ال سبحانه‪.‬‬
‫وذكر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلم‪ {:‬وَالّذِي ُيمِيتُنِي ُثمّ يُحْيِينِ }[الشعراء‪.]81 :‬‬
‫فالماتة والحياء هما من الحق سبحانه‪ ،‬فل أحد يسأل عمن يملك الماتة والحياء‪ ،‬أما عن شفاء‬
‫شفِينِ }[الشعراء‪.]80 :‬‬
‫المرض فقال‪ {:‬وَإِذَا مَ ِرضْتُ َف ُهوَ يَ ْ‬
‫فأنت قد تذهب إلى الطبيب وتظن أنه هو الذي يشفيك؛ بل هو يعالج‪ ،‬ولكن ال هو الذي يشفي‪.‬‬
‫وهكذا نعلم أن قول سيدنا إبراهيم عليه السلم‪ {:‬الّذِي خََلقَنِي َفهُوَ َيهْدِينِ }[الشعراء‪.]78 :‬‬
‫هو كلم منطقي؛ لن خالق الشيء هو الذي يهدي إلى الغاية من الشيء؛ فالغاية أولً‪ ،‬ثم الخلق‪،‬‬
‫ثم توضيح الطريق الموصل إلى تلك الغاية‪ ،‬فإذا خولف في شيء من ذلك فل صلح لكون أبدا‪.‬‬
‫وتجد في القرآن على لسان سيدنا موسى عليه السلم‪ {:‬قَالَ رَبّنَا الّذِي أَعْطَىا ُكلّ شَيءٍ خَ ْلقَهُ ثُمّ‬
‫هَدَىا }[طه‪.]50 :‬‬
‫فما دام الحق سبحانه قد خلق فهو يهدي إلى السبيل الموصل إلى الغاية‪ ،‬ويقول القرآن أيضا‪{:‬‬
‫سوّىا * وَالّذِي َقدّرَ َفهَدَىا }[العلى‪1 :‬ـ ‪.]3‬‬
‫ك الَعْلَىا * الّذِي خََلقَ فَ َ‬
‫سَبّحِ اسْمَ رَ ّب َ‬
‫وهكذا يتأكد لنا أنه ما دامت هناك غاية‪ ،‬فل بد من وجود طريق يهدينا إليه من خََلقَنَا‪.‬‬
‫حقّ { [يونس‪:‬‬
‫وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬قلِ اللّهُ َيهْدِي لِلْ َ‬
‫‪ ]35‬لن سبحانه هو الذي خلق؛ ولذلك فمن المنطقي أن يأتي بعد ذلك التساؤل‪َ } :‬أ َفمَن َي ْهدِي إِلَى‬
‫حقّ َأحَقّ أَن يُتّبَعَ َأمّن لّ َيهِدّي ِإلّ أَن ُيهْدَىا { [يونس‪]35 :‬؟‬
‫الْ َ‬
‫وسبب وجود اللم في قوله‪َ } :‬يهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ { هو النظرة إلى الغاية‪ ،‬وسبب وجود‪ } :‬إِلَى ا ْلحَقّ‬
‫{ هو لفت النتباه إلى أن الوصول إلى الغاية يقتضي طريقا‪ ،‬فأراد الحق سبحانه في آية واحدة أن‬
‫يجمع التعبيرين معا‪.‬‬

‫ونحن نعلم أن هذه الية قد نزلت في الذين اتخذوا ل شركاء‪ ،‬فهم يعترفون بال تعالى ولكنهم‬
‫يشركون به غيره‪ ،‬فال سبحانه وتعالى تفرّد باللوهية بربويته للخلق؛ لنه خلق من عَ َدمٍ‪،‬وزرق‬
‫من عُ ْدمٍ‪ ،‬وخَلَق لنا وسائل العلم ودبّر لنا المر‪ ،‬وأخرج الحي من الميت‪ ،‬وأخرج الميت من‬
‫الحي‪ ،‬وهدى للحق‪.‬‬
‫فإين ـ إذن ـ هؤلء الشركاء الذين اتخذتموهم مع ال تعالى؟ وهل صنع واحد منهم أو كُلّهم‬
‫مجتمعين شيئا واحدا من تلك الشياء؟‬
‫حقّ { [يونس‪]35 :‬‬
‫لذلك قال سبحانه‪َ } :‬هلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن َيهْدِي إِلَى الْ َ‬
‫إذن‪ :‬فالذي يهدي هو الذي خَلَق‪ ،‬وهؤلء الذين أشركوا اعترفوا بال خالقا بشهاداتهم حين قال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحق سبحانه‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[الزخرف‪.]87 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالذين أشركوا قد ارتكبوا الثم العظيم‪ ،‬وهؤلء الشركاء إما أن يكونوا من الملئكة‪ ،‬أو من‬
‫النبياء والرسل الذين فُتن بهم بعض الناس‪ ،‬وهناك من اتخذ وسائط أخرى مثل‪ :‬الشمس والقَمر‬
‫والنجوم؛ وهذه أشياء عُلوية‪ ،‬وبعض الناس اتخذوا وسائط سفلية كالشجار والحجار‪ ،‬فهل أي‬
‫شيء من كل ذلك يهدي إلى الحق؟ وما منهج أي منهم إذن؟ وكيف بلّغوكم به؟‬
‫إن كل هؤلء يعلمون أن أيّا منهم ل يستطيع أن يَهدي‪ ،‬بل هو ُي ْهدَى من ال سبحانه وتعالى‪ ،‬فمن‬
‫أين قلتم إن الملئكة ستهديكم؟ أو من أين جاء الذين فُتنوا برسولهم واتخذوه إلها؟ ومن أ ين جاء‬
‫هذا الرسول بمنهجه؟‬
‫إن كل كائن ل يَهدي إل بعد أن يُهدى من ال أولً‪ ،‬وإن كانت الشياء ـ المتخذة شركاء ـ ل‬
‫هداية لها‪ ،‬ول منهج‪ ،‬ول عقل‪ ،‬ول تفكير‪ ،‬كالشمس والقمر والنجوم في العلويات‪ ،‬والشجار‬
‫والحجار في السفليات‪ ،‬فماذا قالت هذه الشياء؟ إنها لم تقل شيئا‪.‬‬
‫وهكذا ل يستقيم أمر اتخاذهم شركاء مع ال‪ ،‬حتى الملئكة‪ ،‬فال هو الذي يختار منهم المََلكَ الذي‬
‫حقّ أَن يُتّبَعَ َأمّن لّ‬
‫يُبلّغ عن ال سبحانه‪ ،‬وكذلك الرسل عليهم السلم‪َ } :‬أ َفمَن َيهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ أَ َ‬
‫َيهِدّي ِإلّ أَن ُيهْدَىا { [يونس‪.]35 :‬‬
‫} لّ َيهِدّي { تقرأ هكذا‪ ،‬وللغة فيها عملية تخفيف جَرْس لسلمة نطقها واستقامة اللغة العربية‪،‬‬
‫فنحن نعرف أن } َيهِدّي { يعنى‪ :‬يهتدي‪ ..‬أصلها يهتدي‪ ..‬ويهتدي فيها هاء ساكنة وتاء ودال‬
‫وياء‪ ..‬وفيها تقارب لمخارج الحروف‪ ،‬وهذا التقارب يجعل المعنى غائما‪ ،‬والنطق ثقيلً‪ ،‬فتقوم‬
‫اللغة بعملية إبدال وإدغام‪ ،‬وتخلّص من التقاء الساكنين فتصل إلى مسامعنا كما أنزلها ال تعالى‬
‫لسلمة النطق وجمال المعنى؛ لن القرآن أدّب اللغة بكلم السماء؛ لتكون خالدة اللفظ والمعنى‪.‬‬
‫فإذا كنتم على طريق هداية‪ ،‬فالصل في الهداية هو ال تعالى‪.‬‬

‫ح ُكمُونَ { [يونس‪.]35 :‬‬


‫ويُنهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله‪َ } :‬فمَا َل ُكمْ كَ ْيفَ َت ْ‬
‫أي‪ :‬ماذا أصاب عقولكم لتحكموا هذا الحكم؛ فتشركوا بال ما ل منهج له‪ ،‬أو له منهج ولكنه‬
‫موصول بال تعالى جاء ليبلغه لهم؟‬
‫وساعة تسمع } كَ ْيفَ { فهي للستفسار عن عملية عجيبة ما كان ـ في عُرْف العاقل ـ أن‬
‫تحدث‪ .‬كأن تقول‪ " :‬كيف ضربت أباك؟ " أو " كيف سببت أمك؟ " ‪ ،‬وهذا كله من المور التي‬
‫تأباها الفطرة ويأباه الطبع والدين‪.‬‬
‫ح ُكمُونَ { كأنه أمر عجيب ما كان يصح أن يحدث؛ لن الحق‬
‫وقوله سبحانه‪َ } :‬فمَا َل ُكمْ كَ ْيفَ َت ْ‬
‫سبحانه وحده هو الله‪ ،‬والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغيّر غاية وطريقا‪ .‬وال سبحانه وحده‬
‫هو الذي حدد لنا الغاية والطريق الموصل إليها‪ ،‬وهو سبحانه القائل‪ {:‬وَاللّهُ َيدْعُواْ إِلَىا دَارِ السّلَمِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫}[يونس‪.]25 :‬‬
‫والمنهج هو الطريق الذي يوصل إلى دار السلم من آفة الغيار؛ لن الدنيا كلها أغيار‪ ،‬فأنت قد‬
‫تكون قويا ثم تضعف أو صحيحا فيصيبك المرض‪ ،‬أو غنيا فتفتقر‪ ،‬أو مبصرا فيضيع منك‬
‫بصرك‪ ،‬أو تكون صحيح الذن سمعيا فتصير أصم بعد ذلك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهي دنيا أغيار‪ ،‬و َهبْ أن إنسانا أخذ من دنياه كل نصيبه عافية وأمنا وسلمةً وغنًى وكل‬
‫شيء؛ سنجده في قلق من جهتين‪ :‬الجهة الولى أنه يخاف أن يفارقه كل هذا النعيم‪ ،‬أو يخاف أن‬
‫يترك هو هذا النعيم‪ ،‬هذا ما نراه في حياتنا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالدنيا بما فيها من أغيار ل أمان لها؛ لنفهم أن كل عطاءات المخلوق إنما هي هبة من‬
‫الخالق سبحانه وتعالى؛ لنها لو كانت من ذاتك لستطعت الحفاظ عليها‪ ،‬ولكنها هِبَاتٌ من الحق‬
‫العلى سبحانه‪.‬‬
‫والمر الموهوب قد يصبح مسلوبا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬ومَا يَتّبِعُ َأكْثَرُهُمْ ِإلّ ظَنّا {‬

‫(‪)1386 /‬‬

‫حقّ شَيْئًا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ (‪)36‬‬


‫َومَا يَتّ ِبعُ َأكْثَرُهُمْ إِلّا ظَنّا إِنّ الظّنّ لَا ُيغْنِي مِنَ الْ َ‬

‫وقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومَا يَتّبِعُ َأكْثَرُ ُهمْ ِإلّ ظَنّا } [يونس‪ ]36 :‬يفيد أن بعضهم كان يتبع يقينا؛ لن‬
‫مقابل الظن هو اليقين‪ ،‬فالنسب التي تحدث بين الشياء تربط بين الموضوع والمحمول‪ ،‬أو‬
‫المحكوم والمحكوم عليه‪ ،‬وهي نسب ذكرناها من قبل‪ ،‬ونذكّر بها‪ ،‬فهناك شيء أنت تجزم به‪،‬‬
‫وشيء ل تجزم به‪ .‬وما تجزم به وتُدلّل عليه هو علم يقين‪ ،‬أما ما ل تستيطع التدليل عليه فليس‬
‫حدٌ }[الخلص‪.]1 :‬‬
‫علم يقين‪ ،‬بل تقليد‪ ،‬كأن يقول الطفل‪ُ {:‬قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫وهذا حق‪ ،‬لكن الطفل ل يستطيع أن يدلل عليه أو أن يقال شيء ومن يقوله جازم به‪ ،‬وهو غير‬
‫واقع؛ فذلك هو الجهل‪.‬‬
‫والعلم هو القضية المجزوم بها‪ ،‬وهي واقعة وعليها دليل‪ ،‬على عكس الجهل الذي هو قضية‬
‫مجزوم بها وليس عليها دليل‪.‬‬
‫والظن هو تساوي نسبتين في اليجاب والسلب‪ ،‬بحيث ل تستطيع أن تجزم بأي منهما؛ لنه إن‬
‫رجحت كفة كانت قضية مرجوحة‪ ،‬والقضية المرجوحة هي شك أو ظن أو وهم‪ .‬فالظن هو‬
‫ترجيح النسب على بعضها‪ .‬والشك هو تساوي الكفتين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومَا يَتّبِعُ َأكْثَرُ ُهمْ ِإلّ ظَنّا } [يونس‪ ]36 :‬يبين لنا أن الذين كانوا يعارضون‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فعلوا ذلك إما عنادا ـ رغم علمهم بصدق ما يبلغ عنه‪ ،‬وإما أنهم‬
‫يعاندون عن غير علم‪ ،‬مصداقا لقول الحق سبحانه‪َ {:‬بلْ كَذّبُواْ ِبمَا لَمْ يُحِيطُواْ ِبعِ ْلمِهِ }[يونس‪.]39 :‬‬
‫وكان الواحد منهم إذا تمعّن في البلغ عن ال تعالى والدلة عليه‪ ،‬يعلن اليمان‪ ،‬لكن منهم من‬
‫تمعن في الدلة وظل على عناده‪ ،‬والذين اتبعوا الظن إنما اتبعوا ما ل يغني من الحق شيئا‪.‬‬
‫لذلك يبيّن لهم الحق سبحانه أنه عليم بخفايا نفوسهم‪ ،‬ويعلم إن كان إنكارهم لليمان نابعا من العناد‬
‫أو من العجز عن استيعاب قضية اليمان؛ لذلك يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ }‬
‫[يونس‪.]36 :‬‬
‫إذن‪ :‬فقد علم ال سبحانه أزلً أن بعضهم في خبايا نفوسهم يوقنون بقيمة اليمان‪ ،‬لكنهم يجحدونها‪،‬‬
‫مصداقا لقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ك وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ َيجْحَدُونَ }‬
‫{ َقدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َن َ‬
‫[النعام‪.]33 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه وتعالى عليم‪ ،‬ول يخفى عليه أنهم كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه‪ ،‬وبعضهم لم‬
‫يفهم قيمة اليمان‪ ،‬ومن علم منهم قيمة اليمان جحدها‪ ،‬عنادا واستكبارا‪.‬‬
‫سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا }[النمل‪.]14 :‬‬
‫حدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ‬
‫يقول الحق سبحانه‪ {:‬وَجَ َ‬
‫وبعد ذلك يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومَا كَانَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ أَن ُيفْتَرَىا }‬

‫(‪)1387 /‬‬

‫َومَا كَانَ هَذَا ا ْلقُرْآَنُ أَنْ ُيفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّ ِه وََلكِنْ َتصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَ ْفصِيلَ ا ْلكِتَابِ لَا رَ ْيبَ‬
‫فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)37‬‬

‫وحين تستمع للقرآن وما فيه من سر العداد والخبار بالمغيبات التي ل تخضع لمنطق الزمان‪،‬‬
‫ول لمنطق المكان‪ ،‬فالفطرة السليمة توقن أن هذا القرآن ل يمكن أن يُفتَرى‪ ،‬بل ل بد أن قائله‬
‫ومُنزّله عليم خبير؛ لن القرآن جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب السابقة‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن ما به دائما هو أمام الناس‪ ،‬أو مواجه لهم‪ ،‬وهو كتاب مصدّق للكتب السابقة من قبل‬
‫تحريفها كالتوراة والنجيل والزبور‪ ،‬وهي الكتب التي سبقت القرآن نزولً‪ ،‬ل واقعا‪ ،‬فجاء القرآن‬
‫مصدّقا لها‪.‬‬
‫أي‪ :‬هي تصدقه‪ ،‬وهي يصدقها من قبل تحريفها‪ ،‬وهي الكتب التي بشّرت بمحمد صلى ال عليه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسلم رسولً‪ ،‬مثلما جاء في القرآن عن تصديق عيسى عليه السلم بمجيء محمد عليه الصلة‬
‫حمَدُ }[الصف‪.]6:‬‬
‫سمُهُ َأ ْ‬
‫والسلم‪َ {:‬ومُبَشّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن َب ْعدِي ا ْ‬
‫فلما جاء أحمد (محمد صلى ال عليه وسلم) ونزل عليه القرآن صدّق النجيل في قوله هذا‪ ،‬وما‬
‫جاء في القرآن من عقائد أصيلة هي عقائد جاءت بها كل الكتب السماوية‪ ،‬فالحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫ل وَإسْحَاقَ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫{ إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ ِإلَىا نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن َب ْع ِد ِه وََأوْحَيْنَآ إِلَىا إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫ن وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورا }[النساء‪.]163 :‬‬
‫ن وَسُلَ ْيمَا َ‬
‫ب وَيُونُسَ وَهَارُو َ‬
‫وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَاطِ وَعِيسَىا وَأَيّو َ‬
‫ويقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ك َومَا َوصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا‬
‫{ شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْي َ‬
‫ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ }[الشورى‪.]13 :‬‬
‫وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ‬
‫إذن‪ :‬فهناك أصول جاءت بها كل الكتب السماوية‪ ،‬وهناك كذلك أخبار أخبرت عن حدوثها الكتب‬
‫السماوية‪ ،‬وأبلغنا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالقرآن وفيه تلك الخبار‪ ،‬فمن أين جاء محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم بتلك العقائد الصحيحة‪ ،‬وتلك الخبار الموجودة في الكتب السابقة‪ ،‬وهو صلى‬
‫ال عليه وسلم لم يكن من أهل الكتاب‪ ،‬ول عَِلمَ منهم شيئا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فعندما يقول محمد صلى ال عليه وسلم ما جاء ذكره في الكتب السابقة على القرآن‪ ،‬فهذه‬
‫الكتب مصدقة لما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم؛ لن هذه الخبار قد وقعت‪ ،‬وهذا تأكيد‬
‫لصدقه؛ لنه بشهادة أهل زمانه لم يجلس إلى معلّم‪ ،‬ولم يقرأ كتابا‪ ،‬وتاريخه وسيرته معروفة؛ لنه‬
‫من أنفسكم‪ ،‬ولم ُيعْلَم عنه أنه قد زاول كلما بليغا‪ ،‬أو خطب في قوم قبل الرسالة‪ ،‬أو قال شعرا‪.‬‬
‫وبعد ذلك فوجىء هو ـ كما فوجئتم أنتم ‪ ،‬بمجيء هذا البيان الرائع‪ ،‬فمن أين جاء به؟‬
‫أنتم تقولون إنه هو الذي جاء به‪ ،‬لكنه صلى ال عليه وسلم ينسب الرفعة لصاحبها‪ ،‬ويعلن أنه‬
‫صلى ال عليه وسلم مُبلّغ فقط‪ ،‬فيقول ما أمره ال به أن يقوله‪ {:‬قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْي ُكمْ‬
‫عمُرا مّن قَبْلِهِ َأفَلَ َتعْقِلُونَ }‬
‫وَلَ َأدْرَاكُمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ‬

‫[يونس‪.]16 :‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أن يسألهم‪ :‬هل لحظوا على كلماته ـ من قبلُ‬
‫ويحضّ القرآن الكريم النب ّ‬
‫ـ البلغةَ والفصاحةَ أو الشعرَ؟!‬
‫ولننظر في " ماكُنّات " القرآن الكريم‪ ،‬وهي اليات التي يقول فيها الحق سبحانه‪َ } :‬ومَا كُنتَ‬
‫{ مثل قوله سبحانه‪:‬‬
‫ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْ َيمَ }[آل عمران‪:‬‬
‫ك َومَا كُنتَ لَدَ ْيهِمْ ِإذْ يُ ْلقُون َأقْ َ‬
‫{ ذاِلكَ مِنْ أَنَبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَي َ‬
‫‪.]44‬‬
‫وهذا أمر ثابت في الخبار‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لمْ َر َومَا كنتَ مِنَ الشّا ِهدِينَ‬
‫وقول الحق سبحانه‪َ {:‬ومَا كُنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ ِإذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ‬
‫}[القصص‪.]44 :‬‬
‫والوحي إلى موسى ـ عليه السلم ـ والمكان الذي نزل فيه ذلك الوحي أمر ثابت في الخبار‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪ {:‬وََلكِنّآ أَنشَأْنَا قُرُونا فَتَطَا َولَ عَلَ ْيهِمُ ا ْل ُعمُ ُر َومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ َمدْيَنَ تَتْلُواْ‬
‫عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا وََلكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ }[القصص‪.]45 :‬‬
‫وكثير من هذه اليات تجعل محمدا صلى ال عليه وسلم وكأنه يسأل المعاصرين له‪ :‬كيف أخبرت‬
‫بوقائع وأخبار لم أكن موجودا في زمانها أو مكانها؟‬
‫ل بد ـ إذن ـ أن ال الحق ـ سبحانه ـ هو الذي أخبرني بما وافق ما عندكم من أخبار‪.‬‬
‫وبعد ذلك جاء القرآن الكريم مصدقا لما بين يديه‪ {:‬فَإِنّهُ نَزَّلهُ عَلَىا قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ‬
‫يَدَيْهِ }[البقرة‪.]97 :‬‬
‫حجُزَ الماضي‬
‫أي‪ :‬أنه الكتاب الذي يضم صدق كل حدث قادم؛ لن القرآن خرق حُجُب و ُ‬
‫والمستقبل‪.‬‬
‫ونحن نعلم أن الشياء الغيبية تحدث بسببين؛ الول‪ :‬ان يتكلم عن شيء سبق الزمان الذي نزل‬
‫فيه‪ ،‬فهو يتكلم في الماضي الذي لم يكن رسول ال صلى ال عليه وسلم من أهل الطلع والتعلم‬
‫ليعرفه ويعلمه‪.‬‬
‫وكذلك خرق القرآن الكريم حجب الحاضر الذي عاصر نزوله‪ ،‬هذا الحاضر الذي قد يكون‬
‫محجوبا بالمكان‪.‬‬
‫وأضرب هذا المثال ـ ول المثل العلى ـ فقد يحدث حادث في السكندرية في نفس الوقت الذي‬
‫تكون أنت فيه موجودا بالقاهرة‪ ،‬وأنت تعلم هذا الحدث؛ لنه محجوب عنك ببعد المكان‪ ،‬وحاجز‬
‫المكان يتمثل ـ غالبا ـ في المور الحاضرة‪ ،‬أما أمور المستقبل فهي محجوبة عنا بالزمان‬
‫والمكان معا‪.‬‬
‫وحين يخبرنا القرآن الكريم بحدث ماضٍ لم يشهده رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولم يتعلمه‪،‬‬
‫ولم يقرأ عنه؛ إذن‪ :‬فالقرآن إنما يخرق أمامنا حجاب الزمن الماضي‪ .‬وإذا أخبر القرآن بحدث‬
‫حاضر في غير مكان نزوله على سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهذا خرق لحجاب‬
‫المكان مثل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫سهِمْ َل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ }[المجادلة‪.]8 :‬‬
‫{ وَ َيقُولُونَ فِي أَنفُ ِ‬
‫وحين سمع المنافقون والكفار هذا القول الكريم‪ ،‬لم ينكروا أنهم قالوا في أنفسهم ما جاء به القرآن‪،‬‬
‫وهكذا خرق القرآن حاجز المكان في أنفسهم هم‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فأخبار الغيب في القرآن إما خَ ْرقٌ لزمان ماضٍ أو خرق لزمان الحال‪ ،‬وإما خرق الزمان‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومكان الستقبال‪.‬‬
‫ونحن نعلم أن القرآن كان ينزل والمسلمون ضعاف‪ ،‬ل يستطيعون حماية أنفسهم‪ ،‬ول أحد يجير‬
‫على أحد‪ ،‬ويتجه النبي صلى ال عليه وسلم إلى الطائف ليعرض السلم على أهلها‪ ،‬لعلّه يلتمس‬
‫لهم مجيرا من أهل الطائف؛ ولكنه صلى ال عليه وسلم ل يجد إل اليذاء والعراض‪ ،‬ويوصي‬
‫بعضا من صحابته أن يهاجروا إلى الحبشة‪.‬‬
‫جمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪.]45 :‬‬
‫وفي ظل كل هذه الزمات‪ ،‬ينزل قول القرآن‪ {:‬سَ ُيهْزَمُ الْ َ‬
‫حتى إن عمر بن الخطاب ـ رضي ال عنه ـ يستاءل‪ :‬أيّ جمع هذا الذي يهزم‪ ،‬ونحن غير‬
‫قادرين على حماية أنفسنا؟ ثم تأتي غزوة بدر ويشهد عمر هزيمة وفرار مقاتلي قريش؛ فيرى‬
‫رأي العين صدق ما جاء به الوحي من قبل‪.‬‬
‫وهكذا تأكد الجميع أن القرآن الكريم غير مُفتريً‪ ،‬فكيف يُتّهم رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫افتراه؟‬
‫وإذا كان هذا القرآن مفترىً‪ ،‬فلماذا ل تفترون مثله؟ وفيكم الشعراء والبلغاء والخطباء؟! ولم يقل‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم أنه بليغ أو خطيب أو شاعر‪ ،‬ولم يطلب القرآن الكريم منهم أن يأتوا‬
‫بواحد مثل محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ل صلة له بالبلغة أو الفصاحة‪ ،‬بل يطلب منهم أن يأتوا‬
‫بالفصحاء كلهم‪ ،‬ويدعوهم أن يقولوا مثل آية واحدة من القرآن‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬إن ما جاء به هو السحر‪ ،‬وإن محمدا ساحر قد سحر العبيد والضعاف‪ ،‬وأدخلهم في‬
‫السلم‪ ،‬فلماذا لم يسحركم محمد؟‬
‫إن بقاءكم من غير سحر يدل على أن إطلقكم كلمة السحر على ما جاء به دعوى كاذبة‪.‬‬
‫ب لَ رَ ْيبَ فِيهِ مِن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ { [يونس‪.]37 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَ َت ْفصِيلَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫فالقرآن قد جاء فيه تفصيل كل الحكام الصالحة إلى قيام الساعة‪ ،‬أما الكتب السابقة على القرآن‬
‫فكان تضم الحكام المناسبة لزمانها‪ ،‬ولمكنة نزولها‪.‬‬
‫وهو كتاب } لَ رَ ْيبَ فِيهِ { أي‪ :‬ل شك فيه‪ ،‬يكشف الكفار‪ ،‬ويفضح أرتيابهم وكذبهم‪َ ،‬فهُمْ قد‬
‫عظِيمٍ }‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ‬
‫اعترفوا بعظمة القرآن وقالوا‪َ {:‬لوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ‬
‫[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫إذن‪ :‬فهم قد عرفوا أن القرآن ل عيب فيه‪ ،‬ول ريب‪ ،‬حتى من الكافرين به‪.‬‬
‫ويـأتي الرد على قولهم بالفتراء‪ ،‬في قول الحق سبحانه‪ } :‬أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُواْ ِبسُو َرةٍ مّثِْلهِ‬
‫{‬

‫(‪)1388 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ (‪)38‬‬
‫أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا ِبسُو َرةٍ مِثِْل ِه وَادْعُوا مَنِ اسْ َت َ‬

‫وقد سبق هذا المجيء بالتحدي أسبابُ عجزهم عن النجاح في التحدي؛ لن الية السابقة تقرر أن‬
‫الكتب السماوية السابقة ُتصَدّق نزول القرآن الكريم‪ ،‬وبينها وبين القرآن تصديق متبادل‪.‬‬
‫فهم مهزومون فيه قبل أن ينزل‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى‪ُ { :‬قلْ فَأْتُواْ ِبسُو َرةٍ مّثْلِهِ } [يونس‪.]38 :‬‬
‫وقد جاء التحدي مرة بالكتاب في قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ضهُمْ‬
‫ن لَ يَأْتُونَ ِبمِثِْل ِه وََلوْ كَانَ َب ْع ُ‬
‫س وَا ْلجِنّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ ِبمِ ْثلِ هَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫{ قُل لّئِنِ اجْ َت َم َعتِ الِنْ ُ‬
‫ظهِيرا }[السراء‪.]88 :‬‬
‫لِ َب ْعضٍ َ‬
‫سوَرٍ مّثِْلهِ ُمفْتَرَيَاتٍ }[هود‪.]13 :‬‬
‫ولم يستطيعوا‪ ،‬فنزلت درجة التحدي؛ وطالبهم أن يأتوا‪ِ {:‬بعَشْرِ ُ‬
‫فلم يستطيعوا التيان بعشر سور‪ ،‬فطالبهم أن يأتوا بسورة تقترب ـ ولو من بعيد ـ من أسلوب‬
‫القرآن‪ ،‬فلم يستطيعوا{ فَأْتُواْ ِبسُو َرةٍ مّن مّثِْلهِ }[البقرة‪.]23 :‬‬
‫فكيف ـ إذن ـ من بعد كل ذلك يدّعون أن محمدا صلى ال عليه وسلم قد افترى القرآن‪ ،‬وهو‬
‫صلى ال عليه وسلم لم تكن له صلة بالساليب البلغية أو الفصاحة؟!‬
‫لقد دعاكم أن تأتوا بكل الفصحاء والبلغاء ليفتروا‪ ،‬ولو سورة من مثله‪ ،‬ووضع شرطا فقال‪:‬‬
‫طعْ ُتمْ مّن دُونِ اللّهِ } [يونس‪.]38 :‬‬
‫{ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَ َ‬
‫لن ال سبحانه وتعالى هو القادر الوحيد على أن يُنزل قرآنا؛ لذلك دعاهم رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أن يدعوا الشركاء؛ وذلك حتى ل يقول الكفار وبعضهم من أهل اللجاجة‪ :‬سندعوا ال؛‬
‫طعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ } [يونس‪.]38 :‬‬
‫ولذلك يأتي القرآن بالستنثاء { وَادْعُواْ مَنِ اسْ َت َ‬
‫وهم بطبيعة الحال غير صادقين في هذا التحدي‪.‬‬
‫وال ـ سبحانه وتعالى ـ حين يرسل رسولً إلى قوم؛ ليعلّمهم منهجه في حركة الحياة‪ ،‬إنما يريد‬
‫سبحانه أن تؤدي حركة الحياة إلى الغاية المطلوبة من النسان الخليفة في الرض؛ ولذلك يأتي‬
‫الرسول من جنس المرسل إليهم؛ ليكون أسوة لهم؛ لن الرسول إن جاء مَلَكا لما صحّت السوة‪،‬‬
‫بل ل بد أن يكون بشرا‪.‬‬
‫والحق سبحانه ل يرسل أي رسول إل ومعه بينة ودليل صدق على أنه رسول يبلّغ عن ال تعالى‪.‬‬
‫والبينة ل بد أن تكون من جنس نبوغ القوم‪ ،‬فل يأتي لهم بمعجزة في شيء لم يعرفوه ولم يألفوه؛‬
‫حتى ل يقولوا‪ :‬لو تعلمنا هذا لجئنا بمثل ما جاء‪.‬‬
‫وقد جاء القرآن ليثبت عجزهم عما نبغوا فيه من صناعة الكلم؛ شعرا ونثرا وخطابة‪.‬‬
‫وكان القرآن هو معجزة رسول ال صلى ال عليه وسلم في قوم فصحاء يعقدون للشعر أسواقا‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويعلّقون الفائز من هذا الشعر على جدران الكعبة شهرة له وشهادة به‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهم أصحاب دراية بصناعة الكلم‪ ،‬وجاءت المعجزة مع الرسول صلى ال عليه وسلم من‬
‫جنس ما نبغوا فيه؛ لتتحداهم‪.‬‬

‫والتحدي يستدعي استجماع قوة الخصم؛ ليرد على هذا المتحدي‪ ،‬فإذا عجز مع التحدي‪ ،‬يصير‬
‫العجز ملزما‪.‬‬
‫وقد تحدى الحق سبحانه العرب جميعا بالقرآن كله‪ {:‬قُل لّئِنِ اجْ َت َم َعتِ الِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ‬
‫ظهِيرا }[السراء‪.]88 :‬‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ‬
‫ن لَ يَأْتُونَ ِبمِثْلِ ِه وََلوْ كَانَ َب ْع ُ‬
‫ِبمِ ْثلِ هَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله‪ ،‬فتدرّج القرآن معهم في التحدي فطلب منهم ما هو أقل من ذلك‪ ،‬وهو‬
‫سوَرٍ مّثْلِهِ ُمفْتَرَيَاتٍ }[هود‪.]13 :‬‬
‫أن يأتوا بعشر سور مثله في قوله تعالى‪ُ {:‬قلْ فَأْتُواْ ِبعَشْرِ ُ‬
‫ثم تحداهم بالتيان بمثل سورة من القرآن‪.‬‬
‫وعند التأمل نجد أن السلوب الذي جاء بطلب سورة كان على لونين‪ :‬فمرة يقول‪ } :‬بِسُو َرةٍ مّثْلِهِ {‬
‫[يونس‪.]38 :‬‬
‫ومرة يقول‪ {:‬بِسُو َرةٍ مّن مّثْلِهِ }[البقرة‪.]23 :‬‬
‫وكل من اللونين بليغ في موضعه فـ } ِبسُو َرةٍ مّثِْلهِ { [يونس‪ ]38 :‬تبين أن المثلية هنا محققة‪،‬‬
‫أي‪ :‬مثل ما جاء من سورة القرآن‪ .‬وقوله‪ {:‬بِسُو َرةٍ مّن مّثْلِهِ }[البقرة‪.]23 :‬‬
‫أي‪ :‬سورة من مثل محمد ـ صلى ال عليه وسلم ـ في أنه لم يجلس إلى معلّم‪ ،‬ولم يقرأ‪ ،‬ول‬
‫عُرف عنه أنه تكلم بالبلغة في أي فترة من مراحل حياته قبل الرسالة‪.‬‬
‫عمُرا مّن قَبِْلهِ‬
‫وقال الحق سبحانه‪ {:‬قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَدْرَاكُمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ‬
‫َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[يونس‪.]16 :‬‬
‫إذن‪ {:‬بِسُو َرةٍ مّن مّثْلِهِ }[البقرة‪.]23 :‬‬
‫أي‪ :‬مثل محمد صلى ال عليه وسلم الذي لم يتعلم وكان أميا‪ ،‬ولكن لماذا يأتي هذا اللون من‬
‫التحدي؟‬
‫لنهم قالوا عن القرآن‪:‬‬
‫لوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا َف ِهيَ ُتمْلَىا عَلَ ْيهِ ُبكْ َر ًة وََأصِيلً }[الفرقان‪.]5 :‬‬
‫{ َأسَاطِي ُر ا َ‬
‫بل واتهموه في قمة غفلتهم أنه يتعلم من رجل كان بمكة‪ ،‬فيلفتهم القرآن إلى أن الرجل ـ الذي‬
‫قالوا إنه معلم للرسول صلى ال عليه وسلم ـ كان أعجميا غير عربي‪ ،‬يقول الحق سبحانه‪{:‬‬
‫ي وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل‪.]103 :‬‬
‫ج ِم ّ‬
‫عَ‬‫حدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ‬
‫لّسَانُ الّذِي يُلْ ِ‬
‫ويريد الحق سبحانه أن يصنفهم‪ ،‬فيقول بعد ذلك‪َ } :‬بلْ كَذّبُواْ ِبمَا لَمْ ُيحِيطُواْ ِبعِ ْلمِهِ {‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1389 /‬‬

‫َبلْ كَذّبُوا ِبمَا لَمْ ُيحِيطُوا ِبعِ ْلمِهِ وََلمّا يَأْ ِت ِهمْ تَ ْأوِيلُهُ كَذَِلكَ َك ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ‬
‫الظّاِلمِينَ (‪)39‬‬

‫وهذا الصنف من الناس الذين { كَذّبُواْ ِبمَا لَمْ يُحِيطُواْ ِبعِ ْلمِهِ } [يونس‪ ،]39 :‬وهم من أخذتهم‬
‫المفاجأة حين حُدّثوا بشيء ل يعرفونه‪ ،‬والناس أعداء ما جهلوا؛ فكذبوا ما جاء به رسول ال‬
‫صلىال عليه وسلم من القرآن قبل أن يتبينوا جمال الداء فيه‪ ،‬ونسق القيم العالية‪ ،‬وإذا ما سنحت‬
‫لهم فرصة يتبينون فيها جمال الداء‪ ،‬ودقة العجاز فهم يتجهون إلى اليمان‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬عمر بن الخطاب ـ رضي ال عنه ـ فقد كان كافرا ثم علم أن أخته وزوجها قد‬
‫أسلما؛ فذهب إليها في منزلها وضربها‪ ،‬فأسال دمها‪ ،‬وسيل الدم من أخت بضربة أخيها مثير‬
‫لعاطفة الحنان‪ ،‬وهذا ما حدث مع عمر؛ فهدأت موجة عناده‪ ،‬فاستقبل القرآن بروح ل عناد فيها؛‬
‫فذهب فآمن برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان من قبل ذلك ممن‪ { :‬كَذّبُواْ ِبمَا َلمْ يُحِيطُواْ‬
‫ِبعِ ْلمِ ِه وََلمّا يَأْ ِتهِمْ تَ ْأوِيلُهُ } [يونس‪ ]39 :‬أي‪ :‬لم يعرفوا مراميه‪ ،‬وبمجرد أن سمعوا عن رسالته‬
‫صلى ال عليه وسلم فجأة‪ ،‬اتهموه بالكذب والعياذ بال‪.‬‬
‫ولذلك اقرأ قول الحق سبحانه‪َ {:‬ومِنْهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا إِذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ‬
‫أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا }[محمد‪.]16 :‬‬
‫وهذا يدل على أنهم لم يفهموا ما نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم من القرآن‪ ،‬وتأتي‬
‫شفَآ ٌء وَالّذِينَ لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِمْ‬
‫الجابة من الحق سبحانه وتعالى‪ُ {:‬قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ‬
‫عمًى }[فصلت‪.]44:‬‬
‫َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ‬
‫إذن‪ :‬فالقرآن هدى لمن تتفتح قلوبهم لليمان‪ ،‬أما القلوب المليئة بالبغض لقائله وللسلم؛ فهؤلء‬
‫ل يمكن أن يصح حكمهم‪.‬‬
‫وإن أراد أي منهم حكما صحيحا فليُخرجْ من قلبه ما يناقض ما يسمع‪ ،‬ثم عليه أن يستقبل‬
‫المرين؛ ولسوف يدخل قلبه القوى حجة‪ ،‬وهو السلم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمن امتل قلبه بعقيدة كاذبة؛ ل يمكن له أن يهتدي‪.‬‬
‫{ َبلْ كَذّبُواْ ِبمَا َلمْ يُحِيطُواْ ِبعِ ْلمِ ِه وََلمّا يَأْ ِتهِمْ تَ ْأوِيلُهُ } [يونس‪.]39 :‬‬
‫والتأويل هو ما يرجع الشيء إليه‪ ،‬وهذا يوضح لنا أن هناك أقضية من القرآن لم يأت تفسيرها‬
‫بعد‪ ،‬ستفسرها الحداث‪ ،‬وقد يقول القرآن الكريم قضية غيبية‪ ،‬ثم يأتي الزمن ليؤكد هذه القضية‪،‬‬
‫هنا نعرف أن تأويلها قد جاء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهؤلء القوم قد كَذّبوا من قبل أن يأتي لهم التأويل‪ ،‬وكان عدم مجيء التأويل هو السبب في تأخر‬
‫بيان الحق في المسألة لتأخر زمنه‪.‬‬
‫وعلى سبيل المثال‪ ،‬ها هو ذا عمار بن ياسر صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قامت‬
‫المعركة بين معاوية بن أبي سفيان والمام علي ـ رضي ال عنه ـ وَقاتَلَ عمّار في صف عليّ‪،‬‬
‫وقُتِل‪ .‬هنا تنبه الصحابة إلى تأويل حديث من رسول ال صلى ال عليه وسلم حيث قال‪:‬‬

‫" ويح عمار‪ ..‬تقتله الفئة الباغية "‪.‬‬


‫وهكذا جاء تأويل حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم عندما تحقق في الواقع‪ ،‬وكان هذا سببا‬
‫في انصراف بعض الصحابة عن جيش معاوية‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََلمّا يَأْ ِتهِمْ تَ ْأوِيلُهُ { [يونس‪,]39 :‬‬
‫أي‪ :‬أن التأويل لم يظهر لهم بعد‪.‬‬
‫ومن أدوات النفي‪ " :‬لم " مثل قولنا‪ " :‬لم يَجيءْ فلن " ‪ ،‬ونقول أيضا‪ " :‬لما يجيء فلن " ‪،‬‬
‫والنفي في الولى جزم غير متصل بالحاضر‪ ،‬كأنه لم يأت بالمس‪.‬‬
‫أما النفي بـ " لما " فيعني أن المجيء مُنْتف إلى ساعة الكلم‪ ،‬أي‪ :‬الحاضر‪ ،‬وقد يأتي من بعد‬
‫ذلك؛ لن " لما " تفيد النفي‪ ،‬وتفيد توقّع الثبات‪.‬‬
‫ت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ َأسَْلمْنَا }[الحجرات‪.]14 :‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪ {:‬قَاَل ِ‬
‫وهؤلء القوم من العراب قالوا‪ } :‬آمَنّا { رغم أنهم راءوا المسلمين وقلدوهم زيفا ونفاقا‪ ،‬ولم يكن‬
‫ل الِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ }‬
‫خِ‬‫اليمان قد دخل قلوبهم بعد‪ ،‬وحين سمعوا قول الحق سبحانه‪ {:‬وََلمّا َيدْ ُ‬
‫[الحجرات‪.]14 :‬‬
‫قالوا‪ :‬الحمد ل؛ لن معنى ذلك أن اليمان سوف يدخل قلوبهم‪.‬‬
‫حسِبْتُمْ أَن َتدْخُلُواْ الْجَنّةَ وََلمّا َيعَْلمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَ َيعْلَمَ‬
‫وكذلك قول الحق سبحانه‪َ {:‬أمْ َ‬
‫الصّابِرِينَ }[آل عمران‪.]142 :‬‬
‫فحين سمعوا ذلك قالوا‪ :‬إذن‪ :‬وثقنا أنه سيأتي علم ال سبحانه بنا كمجاهدين وصابرين‪.‬‬
‫وهكذا نعرف أن } َلمّا { تعني أن المنفي بها متوقع الحدوث‪ .‬والتأويل كما نعلم هو مرجع الشيء‪.‬‬
‫وقد جاء في القرآن الكثير من الخبار لم تكن وقت ذكرها بالقرآن متوقعة‪ ،‬أو مظنة أن توجد‪.‬‬
‫عمّن يقدر على‬
‫وحين وُجدت ول دخل لبشر في وجودها‪ ،‬فهذا يعني أن قائل هذا الكلم قد أخذه َ‬
‫أن يوجد‪ ،‬مثلما جاء في خبر انتصار الروم على الفرس رغم هزيمة الروم‪.‬‬
‫قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫لمْرُ مِن‬
‫{ غُلِ َبتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى الَ ْرضِ وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِب ِهمْ سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ سِنِينَ لِلّ ِه ا َ‬
‫قَ ْبلُ َومِن َبعْدُ وَيَ ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * بِ َنصْرِ اللّهِ }[الروم‪2 :‬ـ ‪.]5‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جاء هذا الخبر وانتظر المسلمون تأويله‪ ،‬وقد جاء تأويله طبقا لما أخبر القرآن‪.‬‬
‫أو أن التأويل سيأتي في الخرة‪ ،‬وما يؤول المر في التكذيب سيعلمونه من بعد ذلك‪.‬‬
‫حمَةً ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ * َهلْ‬
‫والحق سبحانه يقول‪ {:‬وََلقَدْ جِئْنَاهُمْ ِبكِتَابٍ َفصّلْنَاهُ عَلَىا عِ ْلمٍ هُدًى وَ َر ْ‬
‫يَنظُرُونَ ِإلّ تَ ْأوِيلَهُ }[العراف‪52 :‬ـ ‪.]53‬‬
‫هم ينتظرون ما يؤول إليه القرآن وما يؤولون إليه‪ ،‬إن كان في الدنيا فنصر أهل القرآن‪ ،‬وإن كان‬
‫في الخرة‪ ،‬فهذا قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ش َفعُواْ‬
‫ش َفعَآءَ فَيَ ْ‬
‫حقّ َفهَل لّنَا مِن ُ‬
‫سلُ رَبّنَا بِالْ َ‬
‫{ َيوْمَ يَأْتِي تَ ْأوِيلُهُ َيقُولُ الّذِينَ َنسُوهُ مِن قَ ْبلُ قَدْ جَآ َءتْ ُر ُ‬
‫لَنَآ َأوْ نُرَدّ فَ َن ْع َملَ غَيْرَ الّذِي كُنّا َن ْعمَلُ }[العراف‪.]53 :‬‬
‫هذا هو التأويل الذي كذّبه البعض من قبل‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فالتأويل‪:‬إما أن يكون لمن بقي من الكفار فيرى ما أخبره به القرآن وقد جاء على وفق ما‬
‫ي ل يملك أن يتحكم في مصائر الشياء‪ ،‬وتأتي على وفق ما قال‪.‬‬
‫أخبر به نب ّ‬
‫فكأن محمدا صلى ال عليه وسلم كان يجازف بأن يقول كلما ل يتحقق؛ فينصرف عنه الذين‬
‫آمنوا به‪ ،‬ولكنه صلى ال عليه وسلم لم يقل إل ما هو واثق ومطمئن من وقوعه؛ لن الخبر به‬
‫جاء من لدن عليم خبير‪.‬‬
‫وإما أن التأويل ـ أيضا ـ يأتي في الخرة‪.‬‬
‫وهنا قال الحق سبحانه‪َ } :‬بلْ كَذّبُواْ ِبمَا لَمْ ُيحِيطُواْ ِبعِ ْلمِهِ وََلمّا يَأْ ِت ِهمْ تَ ْأوِيلُهُ { [يونس‪.]39 :‬‬
‫والحق سبحانه هنا يلفت رسوله صلى ال عليه وسلم إلى أن ما حدث معه قد حدث مع رسل من‬
‫قبله‪ ،‬فقال سبحانه في نفس الية‪ } :‬كَذَاِلكَ َك ّذبَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّاِلمِينَ‬
‫{ [يونس‪.]39 :‬‬
‫أي‪ :‬انظر لموكب الرسل كلهم من بدء إرسال الرسل‪ ،‬هل أرسل ال رسول ونصر الكافرين به‬
‫عليه؟‪ ..‬ل‪ ،‬لقد كانت الغلبة دائما لرسل الحق عز وجل مصداقا لقوله سبحانه‪ {:‬كَ َتبَ اللّ ُه لَغْلِبَنّ‬
‫أَنَ ْا وَرُسُلِي }[المجادلة‪.]21 :‬‬
‫وعرفنا ما حدث للظالمين‪ ،‬فمنهم من أغرقه ال‪ ،‬ومنهم من خسف به الرض‪ ،‬ومنهم من أخذه‬
‫بالصيحة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالتأويل واضح في كل مواكب الرسل التي سبقت رسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإذا‬
‫كان كل قوم من الظالمين قد نالوا ما يناسب رسالة رسولهم‪ ،‬فسينال القوم الظالمين الكافرين‬
‫برسالة محمد صلى ال عليه وسلم ما يناسب عمومية رسالته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وحين يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الظّاِلمِينَ { [يونس‪ ]39 :‬ل بد لنا أن نعرف‬
‫معنى الظلم‪ ،‬إنه نقل الحق لغير صاحبه‪ ،‬والحقوق تختلف في مكانتها‪ ،‬فهناك حق أعلى‪ ،‬وحق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أوسط‪،‬وحق أدنى‪.‬‬
‫فإذا جئت للحق الدنى في أن تنقل اللوهية لغير ال سبحانه وتعالى فهذا قمة الظلم‪ ،‬والحق‬
‫عظِيمٌ }[لقمان‪.]13 :‬‬
‫سبحانه يقول‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ‬
‫لن في هذا نقل اللوهية من ال سبحانه إلى غيره‪ ،‬ويا ليت غيره كان صاحب دعوة بينه وبين‬
‫ال تعالى‪ ،‬ل‪ ،‬فليس ذلك المنقول له اللوهية بصاحب دعوة‪ ،‬بل تطوّع الظالم من نفسه بذلك‪،‬‬
‫واتخذ من دون ال شريكا ل‪ ،‬وفي هذا تطوع بالظلم بغير مُدّع‪.‬‬
‫و َهبْ أن ال تعالى قال‪ :‬ل إله إل أنا‪ ،‬فإما أن القضية صحيحة‪ ،‬وإما أنها غير ذلك‪ ،‬فإن افترض‬
‫أحد ـ معاذ ال ـ عدم صحتها‪ ،‬فالله الثاني كان يجب أن يعلن عن نفسه‪ ،‬ول يترك غيره يسمع‬
‫له ويعلن عنه‪ ،‬وإل كان إلها أصمّ غافلً‪ ،‬ولكن أحدا لم يعلن ألوهيته غير ال سبحانه‪،‬؛ لذلك تثبت‬
‫اللوهية الواحدة للله الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫وقد بيّن لنا الحق سبحانه‪ :‬ل إله إل أنا‪ ،‬أنا الخالق‪ ،‬أنا الرازق‪ .‬ولم يصدر عن أحد آخر دعوى‬
‫بأنه صاحب تلك العمال‪ ،‬إذن‪ :‬فقد صَحّت الدعوى في أنه ل إله إل ال‪.‬‬
‫والدرجة التالية في الظلم هي الظلم في الحكام‪ ،‬فإذا حكم أحد بحلّ الربا فهذا ظلم في قضية‬
‫كبيرة‪ ،‬ولكن إن حكم قاض على مدين بأن يردّ الدّين فقط فهذا عدل؛ وكذلك القاضي الذي يظلم‬
‫في أحكامه إنما ينقل حقوق الناس إلى غيرهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالظلم يأخذ درجات حسب الشيء الذي وقع فيه الظلم‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬ومِنهُمْ مّن ُي ْؤمِنُ بِهِ َومِنْهُمْ مّن لّ ُي ْؤمِنُ {‬

‫(‪)1390 /‬‬

‫سدِينَ (‪)40‬‬
‫َومِ ْنهُمْ مَنْ ُي ْؤمِنُ ِب ِه َومِ ْنهُمْ مَنْ لَا ُي ْؤمِنُ بِ ِه وَرَ ّبكَ أَعْلَمُ بِا ْلمُفْ ِ‬

‫والكلم هنا في الذين كذّبوا‪ ،‬فكيف يقسّم ال المكذبين ـ وهم بتكذيبهم ل يؤمنون ـ إلى قسمين‪:‬‬
‫قسم يؤمن‪ ،‬وقسم ل يؤمن؟‬
‫ونحن نعلم أن اليمان عمل قلوب‪ ،‬ل عمل حواس‪ ،‬فنحن ل نطّلع على القلوب‪ ،‬والحق سبحانه‬
‫يعلم مَنْ مِنْ هؤلء المكذبين يخفي إيمانه في قلبه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمن هؤلء من يقول بالتكذيب بلسانه ويخفي اليمان في قلبه‪ ،‬ومنهم من يوافق تكذيبه بلسانه‬
‫فراغُ قبله من اليمان‪ ،‬ومن الذين قالوا‪ :‬إن هذا القرآن افتراء إنما يؤمن بقلبه أن محمدا رسول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من ال‪ ،‬وصادق في البلغ عن ال‪ ،‬ولكن العناد والمكابرة والحقد يدفعونه إلى أن يعلن عدم‬
‫اليمان‪.‬‬
‫وكذلك منهم قسم آخر ل يؤمن ويعلن ذلك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمقسم ليس هو اليمان الصادر عن القلب والمعبّر عنه باللسان‪ ،‬ولكن المُقسّم هو إيمان‬
‫بالقلب غير مُعبّر عنه‪ ،‬ولم يصل إلى مرتبة القرار باللسان‪.‬‬
‫والذي جعل إيمان بعضهم محصورا في القلب غير مُعبّر عنه باللسان هو الحقد والحسد والكراهية‬
‫وعدم القدرة على حكم النفس على مطلوب المنهج‪.‬‬
‫وبعض العرب حين أعلن لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يقولوا‪ :‬ل إله إل ال؛ فيضمن‬
‫لهم السيادة على الدنيا كلها‪ .‬ورفضوا أن يقولوا الكلمة؛ لنهم يعلمون أنها ليست كلمة تقال‪ :‬بل‬
‫فهموا مضمون ومطلوب الكلمة‪ ،‬وعرفوا أن " ل إله إل ال " تعني‪ :‬المساواة بين البشر‪ ،‬وهم‬
‫يكرهون ألّ تكون لهم السيادة والسيطرة في أقوامهم‪.‬‬
‫وهذا يدل أيضا على أن الحق سبحانه قد شاء أن يبدأ السلم في مكة‪ ،‬حيث المة التي تعلن‬
‫رأيها واضحا؛ ولذلك نجد أن النفاق لم ينشأ إل في " المدينة " ‪ ،‬أما في مكة‪ ،‬فهم قوم منسجمون‬
‫مع أنفسهم‪ ،‬فهم حين أعلنوا الكفر لم يعانوا من تشتت المََلكَات‪ ،‬لكن المنافقين في المدينة وغيرها‬
‫هم الذين كانوا يعانون من تشتت الملكات‪ ،‬ومنهم من كان يلعب على الطرفين‪ ،‬فيقول بلسانه ما‬
‫ليس في قلبه‪.‬‬
‫ولذلك يُعزّي الحق رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم ويُسَرّى عنه وبين له‪ :‬إياك أن تحزن لنهم‬
‫يكذبونك؛ لنك محبوب عندهم وموقّر‪ ،‬فيقول الحق سبحانه‪َ {:‬قدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ‬
‫فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َنكَ }[النعام‪.]33 :‬‬
‫أي‪ :‬أنك يا محمد مُنزّه عن الكذب؟‬
‫حدُونَ }[النعام‪.]33 :‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ {:‬وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ َيجْ َ‬
‫أي‪ :‬أنه سبحانه يحملها عن رسوله صلى ال عليه وسلم؛ لن الحق سبحانه يعلم أن رسوله أمين‬
‫عند قومه‪ ،‬وهم في أثناء معركتهم معه‪ ،‬نجد الواحد منهم يستأمنه على أشيائه النفيسة‪.‬‬
‫والذين آمنوا برسالته صلى ال عليه وسلم ولم يعلنوا إيمانهم‪ ،‬والذين لم يؤمنوا‪ ،‬هؤلء وأولئك‬
‫أمرهم موكول إلى ال تعالى؛ ليلقوا حسابهم عند الخالق سبحانه؛ لنه سبحانه العلم بمن كذّب‬
‫عنادا‪ ،‬ومن كذّب إنكارا‪.‬‬

‫والحق سبحانه هو الذي يُعذّب ويُعاقِب‪ ،‬وكل إنسان منهم سوف يأخذ على قَدْر منزلته من الفساد؛‬
‫سدِينَ { [يونس‪.]40 :‬‬
‫لذلك يُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪ } :‬وَرَ ّبكَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمفْ ِ‬
‫والمفسد كما نعلم هو الذي يأتي إلى الشيء الصالح فيصيبه بالعطب؛ لن العالَم مخلوقٌ قبل تدخّل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النسان ـ على هيئة صالحة‪ ،‬وصنعة ال سبحانه وتعالى ـ لم يدخل فيها الفساد إل بفعل النسان‬
‫المختار‪ ،‬وصنعة ال تؤدي مهمتها كما ينبغي لها‪.‬‬
‫وأنت أيها النسان إن أردت أن يستقيم لك كل أمر في الوجود‪ ،‬فانظر إلى الكون العلى الذي ل‬
‫دخل لك فيه‪ ،‬وستجد كل ما فيه مستقيما مصداقا لقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ * وََأقِيمُواْ ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِسْطِ وَلَ ُتخْسِرُواْ‬
‫سمَآءَ َر َف َعهَا وَ َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ * َألّ َت ْ‬
‫{ وَال ّ‬
‫ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن‪7 :‬ـ ‪.]9‬‬
‫أي‪ :‬أتقِنوا أداء مسئولية ما في أيديكم وأحسنوه كما أحسن ال سبحانه ما خلق لكم بعيدا عن‬
‫أياديكم‪ ،‬والمطلوب من النسان ـ إذن ـ أن يترك الصالح على صلحه‪ ،‬إن لم يستطع أن يزيده‬
‫صلحا؛ حتى ل يدخل في دائرة المفسدين‪.‬‬
‫عمَُلكُمْ {‬
‫عمَلِي وََلكُمْ َ‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وَإِن َكذّبُوكَ َفقُل لّي َ‬

‫(‪)1391 /‬‬

‫ل وَأَنَا بَرِيءٌ ِممّا َت ْعمَلُونَ (‪)41‬‬


‫ع َم ُ‬
‫عمَُل ُكمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ ِممّا أَ ْ‬
‫عمَلِي وََلكُمْ َ‬
‫وَإِنْ كَذّبُوكَ فَ ُقلْ لِي َ‬

‫وهذه آية تضع الطمئنان في قلب رسول ال صلى ال عليه وسلم فلم َيقُل ال سبحانه‪ " :‬إذا‬
‫كذّبوك " بل قال‪ { :‬إِن كَذّبُوكَ } [يونس‪ ]41 :‬وشاء الحق سبحانه أن يأتي بالتكذيب في مقام‬
‫عمَُلكُمْ } [يونس‪]41 :‬‬
‫عمَلِي وََلكُمْ َ‬
‫الشك‪ ،‬وأتبع ذلك بقوله للنبي صلى ال عليه وسلم‪َ { :‬فقُل لّي َ‬
‫حمِلكم على ما أعمل أنا‪ ،‬إنما أريد لكم الخير في أن تعملوا الخير‪ ،‬فإن‬
‫أي‪ :‬أبِْلغْهم‪ :‬أنا ل أريد أن أ ْ‬
‫لم تعملوا الخير؛ فهذا لن يؤثر في حصيلتي من عملي‪.‬‬
‫وبذلك يتضح لنا أن الرسول صلى ال عليه وسلم ل يُجازَى على عدد المؤمنين به‪ ،‬بل بأداء‬
‫البلغ كما شاءه ال سبحانه‪.‬‬
‫وقد شاء الحق سبحانه أن ينقل محمد صلى ال عليه وسلم الخير إلى أمته‪ ،‬فإن ظلوا على الشر؛‬
‫فهذا الشر لن يناله لن خير البلغ بالمنهج يعطيه صلى ال عليه وسلم خيرا‪ ،‬لنه يطبّقه على‬
‫نفسه‪ ،‬وشر الذين ل يتبعونه إنما يعود عليهم؛ لن الذين يتأبون على الستجابة لي داعٍ إنما‬
‫يظنون أن الداعي سوف يستفيد‪.‬‬
‫والبلغ عن ال‪ ،‬إنما يطبقه الرسول صلى ال عليه وسلم منهجا وسلوكا ويُجازَى عليه‪.‬‬
‫عمَُلكُمْ } [يونس‪.]41 :‬‬
‫عمَلِي وََلكُمْ َ‬
‫فل يجوز الخلط في تلك المسائل { لّي َ‬
‫ل وَأَنَاْ بَرِيءٌ‬
‫ع َم ُ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه على لسان رسول صلى ال عليه وسلم‪ { :‬أَنتُمْ بَرِيئُونَ ِممّآ أَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ّممّا َت ْعمَلُونَ } [يونس‪.]41 :‬‬
‫وكلمة { بَرِيءٌ } تفيد أن هناك ذنبا‪ ،‬وهذا القول الحق فيه مجاراة للخصوم‪ ،‬وشاء الحق سبحانه‬
‫أن يُعلّم رسوله صلى ال عليه وسلم والمؤمنين أدب الحوار والمناقشة‪ ،‬فيقول‪ {:‬وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ‬
‫للٍ مّبِينٍ }[سبأ‪.]24 :‬‬
‫َلعَلَىا هُدًى َأوْ فِي ضَ َ‬
‫أي‪ :‬أننا ـ الرسول ومعه المؤمنون ـ وأنتم أيها الكافرون إما على هدى‪ ،‬أو في ضلل‪.‬‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم موقن أنه على هدى وأن الكافرين على الضلل‪ ،‬ولكنه يجاريهم؛‬
‫عدالة منه صلى ال عليه وسلم ومجاراة لهم‪.‬‬
‫عمّآ أَجْ َرمْنَا }[سبأ‪.]25 :‬‬
‫كذلك يعلّمه ربه سبحانه أن يقول‪ {:‬قُل لّ ُتسْأَلُونَ َ‬
‫أي‪ :‬أنه يبين لهم‪ :‬هَبُوا أنّي أجرمتُ فأنتم لن تُسألوا عن إجرامي‪ ،‬ومن أدب الرسول صلى ال‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ }[سبأ‪.]25 :‬‬
‫عليه وسلم شاء له الحق سبحانه أن يقول‪ {:‬وَلَ نُسَْألُ َ‬
‫ولم يقل‪ " :‬ول نُسأل عما تُجرمون "‪ .‬وكذلك شاء الحق سبحانه أن تأتي هنا في هذه الية التي‬
‫ع َملُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا َت ْعمَلُونَ } [يونس‪.]41 :‬‬
‫نحن بصدد خواطرنا عنها‪ { :‬أَنتُمْ بَرِيئُونَ ِممّآ أَ ْ‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ { :‬ومِ ْنهُمْ مّن َيسْ َت ِمعُونَ إِلَ ْيكَ }‬

‫(‪)1392 /‬‬

‫سمِعُ الصّمّ وَلَوْ كَانُوا لَا َي ْعقِلُونَ (‪)42‬‬


‫َومِ ْنهُمْ مَنْ يَسْ َت ِمعُونَ إِلَ ْيكَ َأفَأَ ْنتَ ُت ْ‬

‫وكلمة " مَنْ " تطلق وقد يراد بها المفرد‪ ،‬وقد يراد بها المفردة‪ ،‬وقد يراد بها المثنى‪ ،‬وقد يراد بها‬
‫الجمع‪ ،‬ومرة يطابق اللفظ فيقول سبحانه‪َ {:‬ومِ ْنهُمْ مّن َيسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ }[النعام‪.]25 :‬‬
‫ومرة يقصد المعنى فيقول‪َ { :‬ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َت ِمعُونَ } [يونس‪.]42 :‬‬
‫لن { مّن } صالحة للموقعين‪.‬‬
‫والسماع كما نعلم هو استقبال الذن للصوت‪ ،‬فإن كان صوتا مُبْهما كأصوات الحيوانات أو‬
‫أصوات العواد‪ ،‬فهذه الصوات ل تفيد إل ما تفيده النغمة في الجسم من هزة أو ارتجاج‪.‬‬
‫وإما أن يكون الصوت له معنى تواضُعيّ‪ ،‬كاللغات المختلفة التي يتخاطب بها الناس في البلدان‬
‫المختلفة‪ ،‬فإن تكلمتَ بالنجليزية في بلد يتكلم أهله بهذه اللغة فهموك وفهمت عنهم‪ .‬هذا هو معنى‬
‫التواضع في اللغة‪ ،‬أي‪ :‬أن المتكلم والسامع على درجة‪ .‬واحدة من التفاق على اللغة‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم عربي يتحدث بلسان عربي مبين لقوم من العرب‪ ،‬فما العائق عن‬
‫السمع إذن؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن العائق عن السمع نفض الذن لما يأتي من جهة الخصم‪ ،‬والسماع ـ كما نعلم ـ هو استشراف‬
‫المخاطب إلى ما يفهم من المتكلم‪ ،‬فإن لم يوجد عند المخاطب استشراف إلى أن يسمع‪ ،‬فالكلم‬
‫يُقال ول يصل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل بد للسامع من حالة الستشراف إلى فهم ما يقوله المتكلم‪ .‬وكما يقول المثل‪ " :‬إذن من‬
‫طين وأخرى من عجين "‪ .‬أو كما تقول المزحة أن واحدا مال على أذن صديق له وقال‪ " :‬أريد‬
‫أن أقول لك سِرا " فاقترب الصديق مستشرفا سماع السر‪ ،‬فقال الرجل‪ " :‬أريد مائة جنيه كقرض‬
‫"؛ فقال الصديق‪ " :‬كأني لم أسمع هذا السر "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالكلم ليس مجرد صوت يصل إلى الذن‪ ،‬لكن ل بد من استشراف نفسي للتقلي‪ .‬وهم ل‬
‫سمِعُ الصّمّ } [يونس‪ ]42 :‬أي‪ :‬كان‬
‫يملكون هذا الستشراف؛ لذلك قال الحق سبحانه‪َ { :‬أفَأَنتَ تُ ْ‬
‫سمعهم ل يسمع‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬أننا نجد المدرس الذي يشرح الدرس للتلميذ‪ ،‬وبين التلميذ من يستشرف السمع؛‬
‫ولذلك يفهم الدرس‪ ،‬أما الذي ل يستشرف فكأنه لم يسمع الدرس‪.‬‬
‫وهم قد فاتوا الصّمّ؛ لن الصم قد يفهم بالحركة او الشارة أو لغة العين‪ ،‬ولكن هؤلء ل يسمعون‬
‫سمِعُ الصّ ّم وََلوْ كَانُو ْا لَ َي ْعقِلُونَ } [يونس‪.]42 :‬‬
‫ول يعقلون { َأفَأَنتَ تُ ْ‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ { :‬ومِنهُمْ مّن يَنظُرُ إِلَ ْيكَ }‬

‫(‪)1393 /‬‬

‫ي وََلوْ كَانُوا لَا يُ ْبصِرُونَ (‪)43‬‬


‫َومِ ْنهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَ ْيكَ َأفَأَ ْنتَ َت ْهدِي ا ْل ُعمْ َ‬

‫والرؤى أيضا تحتاج إلى استشراف‪ ،‬وأن ُيقْبِل المرء على ما يريد أن يراه‪ ،‬وأحيانا ل يكون‬
‫الرائي مستشرفا؛ لن قلبه غير متجه للرؤية‪.‬‬
‫وسئُل واحد‪ :‬إنك تقول‪ :‬من رأى فلنا الصالح َيهْده ال‪ .‬فردّ عليه السامع متسائلً‪ :‬كيف تقول‬
‫ذلك؟! فردّ القائل‪ :‬لقد رأى أبو جهل خيرا من هذا‪ ،‬ومع ذلك ظل كافرا‪ .‬فردّ السامع‪ :‬إن أبا جهل‬
‫لم يَرَ محمدا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكنه رأى يتيم أبي طالب‪.‬‬
‫وهكذا شرح الرجل أن أبا جهل لم ينظر إلى محمد صلى ال عليه وسلم على أنه رسول؛ لنه لو‬
‫نظر إليه بهذا الدراك لتسللت إليه سكينة اليمان وهَيبة الخشوع وجلل الورع‪.‬‬
‫ونحن قد نلقى رجلً صالحا في بشرته أدْمة أو سواد‪ ،‬وصلحه يضيء حوله‪ ،‬وله أسْر من‬
‫التقوى‪ ،‬وجاذبية الورع‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولو أن أبا جهل رأى محمدا صلى ال عليه وسلم على أنه رسول لتغيّر أمره‪.‬‬
‫وها هو " " فضالة " يحكى عن لحظة أراد فيها أن يقتل رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو‬
‫يطوف بالبيت عام الفتح‪ ،‬فلما اقترب منه؛ قال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ماذا كنت‬
‫تحدّث به نفسك؟ قال‪ :‬ل شيء‪ ،‬كنت أذكر ال‪ .‬قال‪ :‬فضحك النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫استغفِر ال‪ ،‬ثم وضع يده على صدر فضالة "‪.‬‬
‫وساعة سمع فضالة هذا‪ ،‬ورأى محمدا صلى ال عليه وسلم وهو يقول ذلك القول‪ ،‬قال‪ :‬ما كان‬
‫ب إليّ في الرض كلها من وجهه‪.‬‬
‫ح ّ‬
‫أبغض إليّ من وجهه‪ ،‬ولكني أقبلت عليه فما كان أ َ‬
‫هذا هو السماع‪ ،‬وهذا هو البصر‪ ،‬وكلهما ـ السمع والبصر ـ أكرم المتعلقات وأشرفها؛ لن‬
‫السمع هو وسيلة الستماع لبلغ ال عنه‪ ،‬والنسان قبل أن يقرأ ل بد له من أن يكون قد سمع‪.‬‬
‫ي وََلوْ كَانُو ْا لَ يُ ْبصِرُونَ }‬
‫والمقصود هنا بالعمى في قول الحق سبحانه‪َ { :‬أفَأَ ْنتَ َتهْدِي ا ْل ُع ْم َ‬
‫[يونس‪ ]43:‬هو عمى البصيرة‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬إِنّ اللّ َه لَ َيظْلِمُ النّاسَ شَيْئا }‬

‫(‪)1394 /‬‬

‫س ُهمْ يَظِْلمُونَ (‪)44‬‬


‫ظلِمُ النّاسَ شَيْئًا وََلكِنّ النّاسَ أَ ْنفُ َ‬
‫إِنّ اللّهَ لَا يَ ْ‬

‫كلمة " ال " هي اسم عََلمٍ على واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال التي عرفناها في أسماء‬
‫ال الحسنى التسعة والتسعين‪ ،‬وإن كان ل تعالى كمالت ل تتناهى؛ لن السماء أو الصفات التي‬
‫يحملها التسعة والتسعون اسما ل تكفي كل كمالت ال سبحانه‪ ،‬فكمالته سبحانه ل تتناهى‪.‬‬
‫ولذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" أسألك بكل اسم سمّيت به نفسك‪ ،‬أو علّمته أحدا من خَلْقك‪ ،‬أو استأثرت به في علّم الغيب عندك‬
‫"‪.‬‬
‫وإن سأل سائل‪ :‬ولماذا يستأثر ال سبحانه ببعض من أسمائه في علم الغيب؟‬
‫أقول‪ :‬حتى يجعل لنا ال سبحانه في الخرة مزيدا من الكمالت التي لم نكن نعرفها؛ ولذلك نجد‬
‫الحق سبحانه يفتح على رسوله صلى ال عليه وسلم " من محامده وحُسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه‬
‫على أحد قبله "‪.‬‬
‫وهذا بعض من فيض ل ينفد من آفاق اسم عَلَمٍ على واجب الوجود‪ ،‬وصفات علم واجب الوجود‪،‬‬
‫والتسعة والتسعون اسما التي نعلمها هي اللزمة لحياتنا الدنيا‪ ،‬ولكننا سنجد في الخرة صفات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كمال أخرى‪ ،‬وكلمة " ال " هي الجامعة لكل هذه السماء‪ ،‬ما عرفناها؛ وما لم نعرفها‪.‬‬
‫ف صفات متعددة‪ ،‬يحتاج إلى قدرة‪،‬‬
‫والنسان منا حين يُقبل على عمل‪ ،‬فهذا العمل يتطلب تكا ُت َ‬
‫وعلم‪ ،‬وحكمة‪ ،‬ولُطْف‪ ،‬ورحمة‪ ،‬وغير ذلك من الصفات‪ ،‬فإن قلت‪ :‬باسم القويّ؛ فأنت تحتاج إلى‬
‫القوة‪ ،‬وإن قلت باسم القادر؛ فأنت تحتاج إلى القدرة‪ ،‬وإن قلت‪ :‬باسم الحليم؛ فأنت تحتاج إلى‬
‫الحِلْم‪ ،‬وإن قلت‪ :‬باسم الحكيم؛ فأنت تحتاج إلى الحكمة‪ ،‬وإن قلت‪ " :‬باسم ال " فهي تكفيك في كل‬
‫هذا وغيره أيضا؛ ولذلك يكون بدء العمال بـ " بسم ال " ‪ ،‬فإذا احتجت إلى قدرة وجدتها‪ ،‬وإن‬
‫ط وجدته‪.‬‬
‫سٍ‬‫احتجت إلى غِ َنىً وجدته‪ ،‬وإن احتجت إلى بَ ْ‬
‫وكل صفات الكمال أوجزها الحق سبحانه لنا في أن نقول‪ " :‬بسم ال "‪ .‬وحين تبدأ عملك باسم‬
‫ل لك موهوب من ال‪ ،‬والشياء التي تنفعل لك‪ ،‬إنما تنفعل باسم ال‪،‬‬
‫ح ْو ٍ‬
‫ال؛ فأنت ُتقِرّ بأن كل َ‬
‫وكل شيء إنما يسخر لك باسم ال‪ ،‬وهو القائل‪:‬‬
‫عمَِلتْ أَ ْيدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُمْ‬
‫{ َأوََلمْ يَ َروْاْ أَنّا خََلقْنَا َلهُم ِممّا َ‬
‫َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس‪71 :‬ـ ‪.ٍ]72‬‬
‫ولو لم يذلّل ال لنا النعام والشياء لتنفعل لنا ما استطعنا أن نملكها‪ ،‬بدليل أن ال تعالى قد ترك‬
‫أشياء لم يذللها لنا حتى نتعلّم أننا ل نستطيع ذلك‪ ،‬ل بعلْمنا‪ ،‬ول بقُدْرتنا‪ ،‬إنما الحق سبحانه هو‬
‫الذي يُذلّل‪.‬‬
‫فأنت ترى الطفل في الريف وهو يسحب الجمل‪ ،‬ويأمره بالرقود؛ فيرقد‪ ،‬ويأمره بالقيام؛ فيقوم‪.‬‬

‫أما إن رأينا ثعبانا فالكثير منا يجري ليهرب‪ ،‬ول يواجهه إل من له دُرْبة على قتله‪ .‬والبرغوث‬
‫الصغير الضئيل قد يأتي ليلدغك ليلً‪ ،‬فل تعرف كيف تصطاده؛ لن ال لم يذلّله لك‪.‬‬
‫وكذلك الثمرة على الشجرة إذا قطفتها قبل نضجها تكون غير مستساغة‪ ،‬أما إن قطفتها بعد‬
‫نضجها فأنت تستمتع بطعمها‪ ،‬ثم تأخذ منها البذرة لتعيد زراعتها‪ ،‬وتضمن بقاء النوع‪ ،‬بل إن‬
‫الثمرة تسقط من على الشجرة حين تنضج وكأنها تنادي من يأكلها‪.‬‬
‫وكذلك النسان حين يبلغ‪ ،‬أي‪ :‬يصبح قادرا على أن ينجب غيره‪ ،‬فيكلّفه ال بعد ذلك بالتكاليف‬
‫اليمانية؛ لنه لو كلّفه قبل ذلك ثم طرأتْ عليه مشاكل المراهقة؛ فقد ل يستطيع أن يتحمل‬
‫التكليف‪.‬‬
‫ولذلك شاء الحق سبحانه أن يخلق من عدم‪ ،‬وأن يربّى حتى يكتمل النسان‪ ،‬ثم حدّد التكليف من‬
‫لحظة البلوغ‪ ،‬ووضع شرط اكتمال العقل والرشد‪ ،‬وأل توجد آفة أو جنون‪.‬‬
‫ول أقوى من ال سبحانه يمكن أن يُكلّف لتفعل غير ما يريد ال؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يكتمل‬
‫للنسان الرشد ساعة التكليف‪ ،‬أم المجنون فلم يكلفه ال سبحانه‪ ،‬وكذلك يسقط التكليف عن ال ُمكْرَه؛‬
‫لن التكليف في مضمونه هو اختيار بين البدائل‪ ،‬وهذه منتهى العدالة في التشريع‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأنت حين تستقبل التكليف عليك أل تنظر إلى ما تأخذه منك العبادات‪ ،‬لنها ل تأخذ من حريتك‪،‬‬
‫بل تحترم أنت حرية الخرين‪ ،‬ويحترمون هم حريتك‪ ،‬فإن حرّم عليك أن تسرق‪ ،‬فهو سبحانه قد‬
‫حماك بأن حرّم على جميع الخلق أن يسرقوا منك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالقيد قد جاء لصالحك‪.‬‬
‫و َهبْ أنك أطلقت يدك في الناس‪ ،‬فماذا تصنع لو أطلقوا هم أياديهم فيما تملك؟‬
‫وحين حرّم عليك التكليف أن تنظر إلى محارم غيرك‪ ،‬فهو قد حرم على الغير أن ينظروا إلى‬
‫محارمك‪.‬‬
‫وحين أمرك أن تزكّي‪ ،‬فهو قد أخذ منك؛ ليعطي الفقير من المال الذي استخلفك ال فيه‪.‬‬
‫فل تنظر إلى ما أخذ منك‪ ،‬بل انظر إلى ما قد يعود عليك إن أصابك القدر بالفقر‪ ،‬والشيء الذي‬
‫تستشعر أنه يؤخذ منك فال سبحانه يعطيك الثواب أضعافا كثيرة‪.‬‬
‫وبعد ذلك انظر إلى حركة الحياة‪ ،‬وانظرْ إلى ما حَرّم ال تعالى عليك من أشياء‪ ،‬وما حلّل لك‬
‫غير ذلك؛ فستجد المباح لك أكثر مما منعك عنه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالتكليف لصالحك‪.‬‬
‫ثم بعد كل ذلك‪ :‬أيعود شيء مما تصنع من تكاليف عل الحق سبحانه؟ ل‪.‬‬
‫أيعطيه صفة غير موجودة؟‬
‫ل؛ لن الحق سبحانه قد خلقنا بكل صفات كماله‪ ،‬وليس في عملنا ما يزيده شيئا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمن المصلحة أن تطبّق التكاليف لنها تعود عليك أنت بالخير‪.‬‬
‫وانظر ـ مثلً ـ إلى الفلح في الحقل‪ ،‬إنه يحرث الرض‪ ،‬وينقل السماد‪ ،‬ويبذر‪ ،‬ويروى‬
‫ويتعب‪ ،‬وبعد ذلك يستريح في انتظار الثمار‪.‬‬

‫وأنت حين تنفّذ تكاليف الحق سبحانه فأنت تجد العائد‪ ،‬وأنت ترى في حياتك أن الفلح الكسول‬
‫يصاب بحسرة يوم الحصاد‪ ،‬فما بالنا بحساب الخرة‪.‬‬
‫والفلح الذي يأخذ من مخزنة إردبّا؛ ليزرعه‪ ،‬وهو في هذه الحالة ل ينقص مخزنه؛ لنه سيعود‬
‫بعد فترة بخسمة عشر إردبّا‪.‬‬
‫وهكذا من ينفّذ التكاليف يعود عليه كل خير؛ ولذلك أقول‪ :‬انظر في استقبالت منهج ال تعالى فيما‬
‫تعطيه‪ ،‬ل فيما تأخذه‪.‬‬
‫وهكذا ترى أنه ل ظلم؛ لننا صنعة ال‪ ،‬فهل رأيتم صانعا يفسد صنعته؟‬
‫إذن‪ :‬فالصانع العلى ل يظلم صنعته ول يفسدها أبدا‪ ،‬بل يُحسّنها ويعطيها الجمال والرونق؛ لذلك‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ { [يونس‪.]44 :‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ اللّ َه لَ يَظِْلمُ النّاسَ شَيْئا وَلَـاكِنّ النّاسَ أَنفُ َ‬
‫جحْد الحق‪ ،‬وهذا هو الظلم العلى‪ ،‬ومن‬
‫أي‪ :‬أن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم‪ ،‬ومن الظلم َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الظلم أن يعطى النسان نفسه شهوة عاجلة؛ ليذوق من بعد ذلك عذابا آجلً‪ ،‬وهو بذلك يحرم نفسه‬
‫من النعيم المقيم‪ ،‬وهو حين يظلم نفسه يكون قد افتقد القدرة على قياس عمره في الدنيا‪ ،‬فالعمر‬
‫مهما طال قصير‪ ،‬وما دام الشيء له نهاية فهو قصير‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب الناس‪ ،‬فهو قد نصب لهم آيات باقية إلى أن تقوم الساعة‪،‬‬
‫خصّ كل رسول بآية ومعجزة‪ ،‬وأنزل منهجا‬
‫وكلهم شركاء فيها‪ ،‬وهي اليات الكونية‪ ،‬وبعد ذلك َ‬
‫بـ " افعل " و " ل تفعل " ‪ ،‬وبيّن في آيات الكتاب ما المطلوب فعله‪ ،‬وما المطلوب أن نمتنع عنه‪،‬‬
‫وترك لك بقية المور مباحة‪.‬‬
‫والمثال الذي أضربه دائما‪ :‬هو التلميذ الذي يرسب آخر العام‪ ،‬هذا التلميذ لم تظلمه المدرسة‪،‬‬
‫بدليل أن غيره قد نجح؛ لذلك ل يصح أن يقال‪ :‬إن المدرسة أسقطت فلنا‪ ،‬ولكن الصحيح أن‬
‫نقول‪ :‬إن فلنا قد أسقط نفسه‪ ،‬وأن زميله قد أنجح نفسه‪ ،‬ودور المدرسة في ذلك هو إعلن‬
‫النتيجة‪.‬‬
‫ومن الظلم أيضا أن يستكثر الظالم نعمة عند المظلوم‪ ،‬فيريد أن يأخذها منه‪ ،‬ول يمكن أن يكون‬
‫الحق سبحانه وتعالى ظالما يستكثر ِنعَم عباده؛ لنه مُنزّه عن ذلك؛ فضلً عن أن خَلْقه ليس عندهم‬
‫ِنعَم يريدها هو‪ ،‬فهو الذي أعطاها لهم؛ ولذلك ل يأتي منه سبحانه أي ظلم‪ ،‬وإنْ جاء الظلم فهو‬
‫من النسان لنفسه‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وَ َيوْمَ َيحْشُرُ ُهمْ كَأَن لّمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ سَاعَةً {‬

‫(‪)1395 /‬‬

‫خسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِِلقَاءِ اللّهِ َومَا‬


‫وَ َيوْمَ يَحْشُ ُرهُمْ كَأَنْ َلمْ يَلْبَثُوا إِلّا سَاعَةً مِنَ ال ّنهَارِ يَ َتعَا َرفُونَ بَيْ َنهُمْ َقدْ َ‬
‫كَانُوا ُمهْ َتدِينَ (‪)45‬‬

‫فهذه الدنيا التي يتلهف عليها النسان‪ ،‬ويأخذ حظه فيها‪ ،‬وقد ينسى الخرة‪ ،‬فإذا ما قامت القيامة‬
‫فأنت تشعر كأنك لم تمكث في الدنيا إل ساعة‪ ،‬والساعة هي الساعة الجامعة التي تقوم فيها‬
‫القيامة‪ ،‬ولكن الساعة في الدنيا هي جزء من الوقت‪ ،‬ونحن نعلم أن اليوم مقسّم لربع وعشرين‬
‫ساعة‪ ،‬وأيضا تُطلق الساعة على تلك اللة التي تُعلّق على الحائط أو يضعها النسان على يده‪،‬‬
‫وهي تشير إلى التوقيت‪.‬‬
‫والتوقيت ثابت ـ بمقدار الساعة والدقيقة والثانية ـ منذ آدم عليه السلم وإلى من سوف يأتون‬
‫بعدنا‪ ،‬ولكن التوقيت يختلف من مكان إلى آخر‪ ،‬فتشير الساعة في القاهرة ـ مثلً ـ إلى الثانية‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ظهرا‪ ،‬وتكون في نيويورك السابعة صباحا‪ ،‬وتشير في بلد آخر إلى الثالثة بعد منتصف الليل‪ ،‬ول‬
‫تتوحد الساعة بالنسبة لكل الخلق إل يوم القيامة‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫عةُ ُيقْسِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ }[الروم‪.]55 :‬‬
‫{ وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ‬
‫وهم ـ إذن ـ يُفاجَأون أن دنياهم الطويلة والعريضة كلها م ّرتْ وكأنها مجرد ساعة‪ ،‬وهكذا‬
‫يكتشفون ِقصَر ما عاشوا من وقت‪ ،‬ول يقصتر المر على ذلك‪ ،‬بل إنهم لم ينتفعوا بها أيضا فهي‬
‫مدة من الزمن لم تكن لها قيمة‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫سقُونَ }‬
‫لغٌ َفهَلْ ُيهَْلكُ ِإلّ ا ْل َقوْمُ ا ْلفَا ِ‬
‫عةً مّن ّنهَارٍ بَ َ‬
‫{ كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ سَا َ‬
‫[الحقاف‪.]35 :‬‬
‫أي‪ :‬أن الدنيا تمر عليهم في لهو ولعب ومشاغل‪ ،‬ولم يأخذوا الحياة بالجد اللئق بها؛ فضاعت‬
‫منهم وكأنها ساعة‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه هنا‪:‬‬
‫{ وَ َيوْمَ َيحْشُرُ ُهمْ كَأَن لّمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ سَاعَةً مّنَ ال ّنهَارِ } [يونس‪.]45 :‬‬
‫ن كانوا يتعارفون على البر‪ ،‬وقسم مَنْ كانوا يتعارفون‬
‫ويوم الحشر ينقسم الناس قسمين‪ :‬قسم مَ ْ‬
‫على الثم‪ ،‬فالذين تعارفوا في الحياة الدنيا على البر يفرحون ببعضهم البعض‪ ،‬وأما الذين تعارفوا‬
‫ضهُمْ‬
‫في الحياة الدنيا علىالثم فهم يتنافرون بالعداء‪ ،‬والحق سبحانه هو القائل‪ {:‬الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ‬
‫لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف‪.]67 :‬‬
‫وكذلك قال في الذين تعارفوا على الثم‪:‬‬
‫{ ِإذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ }[البقرة‪.]166 :‬‬
‫هم سيتعارفون على بعضهم البعض‪ ،‬ولكن هذه المعرفة ل تدوم‪ ،‬بل تنقلب إلى نكران‪ ،‬فالواحد‬
‫منهم ل يريد أن يرى مَنْ كان سببا في أن يؤول إلى هذا المصير‪ ،‬وتعارفهم سيكون تعارف‬
‫تعنيف‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫خسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِِلقَآءِ اللّهِ } [يونس‪.]45 :‬‬
‫{ َقدْ َ‬
‫وساعة تسمع كلمة " خسر " فاعرف أن المر يتعلق بتجارة ما‪ ،‬والخسارة تعنى‪ :‬أن يفقد النسان‬
‫المتاجر إما جزءا من رأس المال‪ ،‬أو رأس المال كله‪.‬‬
‫ومراحل التجارة ـ كما نعرف ـ إما كسب يزيد رأس المال المتاجَر فيه‪ ،‬وإما الّ يكسب التاجر‬
‫ول يخسر؛ لكنه يشعر بأن ثمن عمله ووقته في هذه التجارة قد ضاع‪ ،‬وكل ذلك يحدث في‬
‫الصفقات‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونجد الحق سبحانه وتعالى يصف العملية اليمانية في الدنيا بقوله‪:‬‬
‫{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َهلْ َأدُلّكمْ عَلَىا ِتجَا َرةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ‬
‫سكُمْ َذِلكُمْ خَيْرٌ ّلكُمْ إِن كُن ُتمْ َتعَْلمُونَ }[الصف‪10 :‬ـ ‪.]11‬‬
‫وَتُجَا ِهدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَنفُ ِ‬
‫ويقول سبحانه‪:‬‬
‫ل َة وَأَنفَقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلَنِيَةً يَرْجُونَ ِتجَا َرةً لّن‬
‫{ إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ وََأقَامُواْ الصّ َ‬
‫تَبُورَ }[فاطر‪.]29 :‬‬
‫والتجارة تعتمد على أنك ل تُقبل على عقد صفقة إل إذا غلب على ظنك أن هذه الصفقة سوف‬
‫تأتي لك بأكثر مما دفعت فيها‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصفقات الخاسرة‪:‬‬
‫حتْ تّجَارَ ُتهُ ْم َومَا كَانُواْ ُمهْتَدِينَ }[البقرة‪.]16 :‬‬
‫{ ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُاْ الضّلَلَةَ بِا ْلهُدَىا َفمَا رَبِ َ‬
‫ويقول أيضا‪:‬‬
‫{ وَإِذَا رََأوْاْ تِجَا َرةً َأوْ َلهْوا ان َفضّواْ إِلَ ْيهَا وَتَ َركُوكَ قَآئِما }[الجمعة‪.]11 :‬‬
‫وشاء الحق سبحانه أن يجعل معنى التجارة واضحا ومعبّرا عن كثير من المواقف؛ لن التجارة‬
‫تمثّل جماع كل حركة الحياة؛ فهذا يتحرك في ميدان؛ لينفع نفسه‪ ،‬وينفع غيره‪ ،‬وغيره يعمل في‬
‫ميدان آخر؛ فينفع نفسه‪ ،‬وينفع غيره‪.‬‬
‫وبهذا يتحقق نفع النسان من حركة نفسه وحركة غيره‪ ،‬وهو يستفيد من حركة غيره أكثر مما‬
‫يستفيد من حركته هو‪ ،‬ومن مصلحة أي إنسان أن يحسّن كل إنسان حركته؛ فيرتاح هو؛ لن ما‬
‫سوف يصل إليه من حركة الناس سيكون جيد التقان‪.‬‬
‫والتجارة تحمل أيضا الوساطة بين المنتج والمستهلك‪.‬‬
‫ولذلك حين أراد ال سبحانه أن نستجيب لذان الجمعة قال‪:‬‬
‫س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه َوذَرُواْ الْبَيْعَ َذِلكُمْ خَيْرٌ‬
‫ج ُمعَةِ فَا ْ‬
‫لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ‬
‫{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا نُو ِديَ لِلصّ َ‬
‫ّلكُمْ إِن كُن ُتمْ َتعَْلمُونَ }[الجمعة‪.]9 :‬‬
‫ولم يقل ال سبحانه‪ :‬اتركوا الزراعة أو اتركوا الصناعة‪ ،‬أو اتركوا التدريس‪ ،‬بل اختار من كل‬
‫حركات الحياة حركة البيع؛ لن فيه تجارة‪ ،‬والتجارة هي الجامعة لكل حركات الحياة‪.‬‬
‫والتاجر وسيط بين منتج ومستهلك وتقتضي التجارة شراءً وبيعا‪ ،‬والشراء يدفع فيه التاجر ثمنا‪،‬‬
‫أما في البيع فهو يأخذ الثمن‪ ،‬والغاية من كل شيء أن يتموّل النسان‪.‬‬
‫لذلك فالبيع أفضل عند التاجر من الشراء‪ ،‬فأنت تشتري شيئا وأنت كاره له‪ ،‬لحتياجك إليه‪،‬‬
‫ولكنك عند بيع البضاعة تشعر بالسعادة والشراق‪ ،‬ولن الشراء فيه أخذ‪ ،‬والبيع فيه عطاء‪،‬‬
‫والعطاء يرضي النفس دائما؛ لن ثمرة الصفقة تأتيك في لحظتها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شذّب النبات‪ ،‬وتنتظر‬
‫وإن كنت مزارعا فأنت ُتعِدّ الرض ‪ ،‬وتحرثها‪ ،‬وتبذر البذور‪ ،‬وترويها‪ ،‬وتُ َ‬
‫إلى أن ينضج الزرع‪ ،‬وكذلك تقضي الكثير من الوقت في إتقان الصنعة إن كنت صانعا‪ ،‬لكن‬
‫البيع في التجارة ياتي لك بالكسب سريعا‪ ،‬فكأن ضَ ْربَ المثل في التجارة‪ ،‬جاء من أصول التجارة‬
‫بالبيع ولم يأت بالشراء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل بد أن نعتبر أن دخولك في صفقة اليمان تجارة‪ ،‬تأخذ منها أكثر من رأسمالك‪ ،‬وتربح‪،‬‬
‫أما إن تركت بعضا من الدّين؛ فأنت تخسر بمقدار ما تركت‪ ،‬بل وأضعاف ما تركت‪.‬‬

‫وأنت في أية صفقة قد تعوّض ما خسرت فيما بعد‪ ،‬وإن استمرت الخسارة فإن أثرها ل يتجاوز‬
‫الدنيا‪ ،‬ويمكن أن تربح بعدها‪ ،‬وإذا لم تربح‪ ،‬فسيضيع عليك تعبك فقط؛ ولن الدنيا محدودة‬
‫الزمن؛ فخسارتها محتملة‪ ،‬أما الخسارة في الزمان غير الموقوت ـ الزمن الدائم ـ فهي خساة‬
‫كبيرة؛ لن الخرة ليس فيها أغيار كالدنيا‪ ،‬وأنت في الخرة‪:‬إما في جنة ذات نعيم مقيم‪ ،‬وفي هذا‬
‫ربح وكسب كبير‪ ،‬وإما إلى نار‪ ،‬وهذه هي الخسارة الحقيقة‪.‬‬
‫والخسران الحقيقي أن يكذّب النسان‪ ،‬ل بنعيم ال فقط‪ ،‬ولكن بلقاء ال أيضا‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫خسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِِلقَآءِ اللّهِ { [يونس‪.]45 :‬‬
‫} َقدْ َ‬
‫أي‪ :‬أن ال سبحانه لم يكن في بالهم‪ ،‬وهو حين تقوم الساعة يجدون ال ـ سبحانه وتعالى ـ‬
‫أمامهم‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ظمْآنُ مَآءً }[النور‪.]39 :‬‬
‫عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ‬
‫{ وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫والسراب كما نعلم يراه السائر في الصحراء‪ ،‬وهو عبارة عن انعكاس للضوء؛ فيظن أن أمامه‬
‫ماء‪ ،‬ولكن إن سار إليه النسان لم يجده ماء‪ ،‬وهكذا شبّه الحق سبحانه عمل الكافر بمن يسير في‬
‫صحراء شاسعة‪ ،‬ويرى السراب؛ فيظنه ماءً‪ ،‬لكنه سراب‪ ،‬ما إن يصل إليه حتى ينطبق عليه قول‬
‫الحق سبحانه‪:‬‬
‫جدَ اللّهَ عِن َدهُ }[النور‪.]39 :‬‬
‫{ حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا وَوَ َ‬
‫أي‪ :‬أنه يُفاجأ بوجود ال سبحانه وتعالى‪ ،‬فيوفيه ال حسابه‪.‬‬
‫ولذلك فالذي يكفر بال ويعمل ما يفيد البشر‪ ،‬فإنه يأخذ حسابه ممن عمل له‪ ،‬ول يُحسب له ذلك‬
‫في الخرة‪ ،‬وتجد الناس يُكرّمونه‪ ،‬ويقيمون له التماثيل أو يمنحونه الجوائز وينطبق عليه قول‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" فعلتَ ليقال‪ ،‬وقد قيل "‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه عن الذين َكذّبوا بلقاء ال تعالى‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫} َومَا كَانُواْ ُمهْتَدِينَ { [يونس‪.]45 :‬‬
‫أي‪ :‬لم يكونوا سائرين على المنهج الذي وضعه لهم خالقهم سبحانه؛ هذا المنهج الذي يمثّل قانون‬
‫الصيانة لصنعة ال تعالى‪ ،‬وقد خلق ال سبحانه النسان لمهمة‪ ،‬وال سبحانه يصون النسان‬
‫بالمنهج من أجل أن يؤدي هذه المهمة‪.‬‬
‫والهداية هي الطريق الذي إن سار فيه النسان فهو يؤدي به إلى تحقيق المهمة المطلوبة منه؛ لن‬
‫الحق سبحانه قد جعله الخليفة في الرض‪.‬‬
‫ومن ل يؤمن برب المنهج سبحانه وتعالى ول يطبق المنهج فهو إلى الخسران المبين‪ ،‬أي‪:‬‬
‫الخسران المحيط‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُهُمْ {‬

‫(‪)1396 /‬‬

‫شهِيدٌ عَلَى مَا َي ْفعَلُونَ (‪)46‬‬


‫ج ُعهُمْ ُثمّ اللّهُ َ‬
‫وَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا مَرْ ِ‬

‫وقول الحق سبحانه‪ { :‬وَِإمّا } مكونة من " إن " و " ما " مدغومتين‪ ،‬وهنا يبين لنا الحق سبحانه‬
‫أنه يعد الذين كذبوا رسوله صلى ال عليه وسلم بالعذاب والهوان والعقاب والفضيحة‪.‬‬
‫أي‪ :‬يا محمد‪ ،‬إما أن ترى ما قلناه فيهم من خذلن وهوان‪ ،‬وإما أن نتوفينّك قبل أن ترى هذا في‬
‫الدنيا‪ ،‬ولكنك ستراه في الخرة حين تشاهدهم في الهوان البدي الذي يصيبهم في اليوم الخر‪.‬‬
‫وفي هذا تسرية لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ وَِإمّا نُرِيَ ّنكَ } [يونس‪ ]46 :‬أي‪ :‬أن نريك ما وعدناهم من الخذلن والهوان في هذه الحياة‪ ،‬وإن‬
‫لم تره في الحياة الدنيا فلسوف ترى هوانهم في الخرة‪ ،‬حيث المرجع إلى ال تعالى؛ لنه سبحانه‬
‫سيصيبهم في أنفسهم بأشياء فوق الهوان الذي يُرى في الناس؛ كحسرة في النفس‪ ،‬وكبْت للسى‬
‫حين يرون نصر المؤمنين‪.‬‬
‫أما الذي يُرى فهو المر الظاهر‪ ،‬أي‪ :‬الخذلن‪ ،‬والهزيمة‪ ،‬والسى‪ ،‬والقتل‪ ،‬وأخْذ الموال‪ ،‬وسَبْي‬
‫النساء والولد‪ ،‬أو غير ذلك مما سوف تراه فيهم ـ بعد أن تفيض روحك إلى خالقها ـ فسوف‬
‫ترى فيهم ما وعدك ال به‪.‬‬
‫شهِيدٌ عَلَىا مَا َي ْفعَلُونَ } [يونس‪.]46 :‬‬
‫وأنت لن تحتاج إلى شهادة من أحد عليهم‪ ،‬لنه سبحانه‪َ { :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شهِيدا }[النساء‪.]79 :‬‬
‫وكفاك ال سبحانه شهيدا‪َ {:‬و َكفَىا بِاللّهِ َ‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬وَِل ُكلّ ُأمّةٍ رّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُوُلهُمْ }‬

‫(‪)1397 /‬‬

‫ط وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ (‪)47‬‬


‫سِ‬‫ضيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِ ْ‬
‫وَِلكُلّ ُأمّةٍ رَسُولٌ فَِإذَا جَاءَ رَسُوُلهُمْ ُق ِ‬

‫والحق سبحانه ل يظلم أحدا‪ ،‬ول يعذب قوما إل بعد أن يكفروا بالرسول الذي أرسله إليهم‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه القائل‪:‬‬
‫{ وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر‪.]24 :‬‬
‫وهو سبحانه القائل أيضا‪:‬‬
‫{ لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا ِبظُلْمٍ وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ }[النعام‪.]131 :‬‬
‫فل تجريم ول عقوبة إل بنص وببيان لتجريم هذا الفعل أو ذاك‪ ،‬بإرسال الرسل؛ حتى ل يحتج‬
‫أحد بأنه لم يصل إليه شيء يحاسب بمقتضاه‪.‬‬
‫والحق سبحانه هنا يبيّن أن لكل أمة رسولً يتعهدها بأمور المنهج‪.‬‬
‫وقد خلق الحق سبحانه كل الخلق‪ ،‬وكانوا موحّدين منذ ذرية آدم ـ عليه السلم ـ ثم اقتضت‬
‫الحداث أن يتباعدوا‪ ،‬وانتشروا في الرض‪ ،‬وصارت اللتقاءات بعيدة‪ ،‬وكذلك المواصلت‪،‬‬
‫وتعددت الفات بتعدد البيئات‪.‬‬
‫ولكن إذا تقاربت اللتقاءات‪ ،‬وصارت المواصلت سهلة‪ ،‬فما يحدث في الشرق تراه في لحظتها‬
‫وأنت في الغرب‪ ،‬فهذا يعني توحّد الفات أو تكاد تكون واحدة؛ لذلك كان ل بد من الرسول الخاتم‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أما في الزمنة القديمة‪ ،‬فقد كانت أزمنة انعزالية‪ ،‬تحيا كل جماعة بعيدة عن‬
‫الخرى؛ ولذلك كان ل بد من رسول لكل جماعة؛ ليعالج داءات البيئة‪ ،‬أمَا وقد التقت البيئات‪،‬‬
‫فالرسول الخاتم يعالج كل الداءات‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ط وَ ُه ْم لَ يُظَْلمُونَ } [يونس‪.]47 :‬‬
‫ضيَ بَيْ َن ُهمْ بِا ْلقِسْ ِ‬
‫{ وَِل ُكلّ ُأمّةٍ رّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُوُلهُمْ ُق ِ‬
‫وقد حكى التاريخ لنا ذلك‪ ،‬فكل رسول جاء آمن به البعض‪ ،‬وكفر به البعض الخر‪ ،‬والذين آمنوا‬
‫به انتصروا‪ ،‬ومَنْ كفروا به هُ ِزمُوا‪.‬‬
‫أو أن الية عامة { وَِل ُكلّ ُأمّةٍ رّسُولٌ } أي‪ :‬تُنادي كل أمة يوم القيامة باسم رسولها‪ ،‬يا أمة محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويا أمة موسى‪ ،‬ويا أمة عيسى‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫شهِيدا * َي ْومَئِذٍ َيوَدّ الّذِينَ َكفَرُواْ‬
‫شهِي ٍد وَجِئْنَا ِبكَ عَلَىا هَـاؤُلءِ َ‬
‫{ َفكَ ْيفَ إِذَا جِئْنَا مِن ُكلّ ُأمّةٍ ِب َ‬
‫حدِيثا }[النساء‪41 :‬ـ ‪.]42‬‬
‫ض َولَ َيكْ ُتمُونَ اللّهَ َ‬
‫سوّىا ِبهِ ُم الَ ْر ُ‬
‫عصَوُاْ الرّسُولَ َلوْ تُ َ‬
‫وَ َ‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه هنا يبيّن أن لكل أمة رسولً جاءها بالبلغ عن ال‪ ،‬وقد آمن به مَنْ آمن‪،‬‬
‫ن كفر‪ ،‬وما دام اليمان قد حدث ـ وكذلك الكفر ـ فل بد من القضاء بن المؤمنين‬
‫وكفر به مَ ْ‬
‫والكافرين‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ط وَهُ ْم لَ ُيظَْلمُونَ } [يونس‪.]47 :‬‬
‫سِ‬‫ضيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِ ْ‬
‫{ فَِإذَا جَآءَ رَسُوُلهُمْ ُق ِ‬
‫وما دام في المر قضاء‪ ،‬فل بد أن المؤمن يَعتبر الكافر منازعا له‪ ،‬وأن الكافر يَعتبر المؤمن‬
‫منازعا له‪ ،‬ويصير المر قضية تتطلب الحكم؛ لذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ظَلمُونَ } [يونس‪.]47 :‬‬
‫ط وَهُ ْم لَ يُ ْ‬
‫سِ‬‫ضيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِ ْ‬
‫{ ُق ِ‬
‫أي‪ :‬يُقضي بينهم بالعدل‪ ،‬فالمؤمنون يتقصّى الحق سبحانه حسناتهم ويزيدها لهم‪ ،‬أما الكافرون فل‬
‫توجد لهم حسنات؛ لنهم كفروا بال الحق؛ فيوردهم النار‪ ،‬وهم قد أبلغهم رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه سيأتي يوم يُسألون فيه عن كل شيء‪ ،‬فاستبعدوا ذلك وقالوا‪:‬‬

‫لوّلُونَ }[الصافات‪16 :‬ـ ‪.]17‬‬


‫{ أَِإذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ * َأوَ آبَآؤُنَا ا َ‬
‫لقد تعجبوا من البعث وأنكروه‪ ،‬لكنهم يجدونه حتما وصدقا‪.‬‬
‫لوّلِ }[ق‪:‬‬
‫قاَ‬
‫ويشاء الحق سبحانه أن يُدخل عليهم هذه المسألة دخولً إيمانيا‪ ،‬فيقول‪َ {:‬أ َفعَيِينَا بِالْخَ ْل ِ‬
‫‪.]15‬‬
‫فأنتم إذا متّم وتحلّلتم في التراب‪ ،‬أيعجز ال سبحانه أن يخلقكم من جديد؟ ل؛ إنه سبحانه القائل‪:‬‬
‫حفِيظٌ }[ق‪.]4 :‬‬
‫{ َقدْ عَِلمْنَا مَا تَن ُقصُ الَ ْرضُ مِ ْنهُ ْم وَعِندَنَا كِتَابٌ َ‬
‫أي‪ :‬أنه سبحانه يأمر العناصر الخاصة بكل إنسان أن تتجمّع كلها‪ ،‬وليس هذا بعسير على ال الذي‬
‫خلقهم أولً‪.‬‬
‫وهم كَذّبوا واستنكروا واستهزأوا بمجيء يوم القيامة والبعث‪ ،‬وبلغ استهزاؤهم أن استعجلوا هذا‬
‫اليوم‪ ،‬وهذا دليل جهلهم‪ ،‬وكان على الواحد منهم أن يفر من هول ذلك اليوم‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك على ألسنتهم‪ } :‬وَيَقُولُونَ مَتَىا هَـاذَا ا ْلوَعْدُ {‬

‫(‪)1398 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (‪)48‬‬

‫هذا النكار والتكذيب والستهزاء هو منطق المشركين والملحدين في كل زمان ومكان‪ ،‬وفي‬
‫العصر القريب قاله الشيوعيون عندما قاموا بثورتهم الكاذبة‪ ،‬وذبحوا الطبقة العليا في المجتمع‬
‫بدعوى رفع الظلم عن الفقراء‪.‬‬
‫وإذا ما كانوا قد آمنوا بضرورة الثواب والعقاب‪ ،‬فمن الذي يحكم ذلك؟ هل الظالم يحكم على‬
‫ظالم‪ ،‬فتكون النتيجة أن الظالم سيهلك بالظالم‪ ،‬وقد حدث‪ ،‬فأين الشيوعيون الن؟‬
‫لماذا لم يلتفتوا إلى أن لهذا الكون خالقا يعاقب من ظلموا من قبل‪ ،‬أو من يظلمون من بعد؟‬
‫إنهم لم يلتفتوا؛ لنهم اتخذوا المادة إلها‪ ،‬وقالوا‪ :‬ل إله‪ ،‬والحياة مادة‪ ،‬فأين هم الن؟‬
‫وإن كنتم قد تملّكتم في المعاصرين لكم‪ ،‬وادعيتم أنكم نشرتم العدل بينهم‪ ،‬فماذا عن الذين سبقوا‪،‬‬
‫والذين لحقوا؟‬
‫هم ـ إذن ـ لم يلتفتوا إلى أن ال سبحانه وتعالى قد شاء أل يموت ظالم إل بعد أن ينتقم ال منه‪.‬‬
‫وهم لم يلتفتوا إلى أن وراء هذه الدار دارا أخرى يجُازَى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته‪.‬‬
‫وكان المنطق يقتضي أن يؤمن هؤلء بأن لهذا الكون إلها عادلً‪ ،‬ول بد أن يجيء اليوم الذي‬
‫يجازى فيه كل إنسان بما عمل‪ ،‬ولكنهم سخروا مثل سخرية الذين كفروا من قبلهم‪ ،‬وجاء خبرهم‬
‫في قول ال سبحانه على ألسنتهم‪ { :‬وَ َيقُولُونَ مَتَىا هَـاذَا ا ْلوَعْدُ إِن كُن ُت ْم صَا ِدقِينَ } [يونس‪.]48 :‬‬
‫ولكن وعد ال حق‪ ،‬ووعد ال قادم‪ ،‬ومحمد صلى ال عليه وسلم رسول من ال‪ ،‬يبلغ ما جاء من‬
‫عند ال تعالى‪ ،‬فرسول ال صلى ال عليه وسلم ل يملك لنفسه شيئا‪.‬‬
‫ولذلك يقول القرآن بعد ذلك‪ { :‬قُل لّ َأمِْلكُ لِ َنفْسِي ضَرّا َولَ َنفْعا }‬

‫(‪)1399 /‬‬

‫عةً‬
‫جلٌ ِإذَا جَاءَ َأجَُلهُمْ فَلَا َيسْتَأْخِرُونَ سَا َ‬
‫ُقلْ لَا َأمِْلكُ لِ َنفْسِي ضَرّا وَلَا َن ْفعًا إِلّا مَا شَاءَ اللّهُ ِل ُكلّ ُأمّةٍ أَ َ‬
‫وَلَا يَسْ َتقْ ِدمُونَ (‪)49‬‬

‫طوْل‪ ،‬ويعلن ما أمره الحق سبحانه أن‬


‫حوْل و َ‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم يبرّىء نفسه من كل َ‬
‫يعلنه‪ ،‬فهو صلى ال عليه وسلم ل يملك لنفسه نفعا ول ضرّا؛ لن النفع أو الضر بيد خالقه‬
‫سبحانه‪ ،‬وهو سبحانه وتعالى خالقكم‪ ،‬وكل أمر هو بمشيئته سبحانه‪.‬‬
‫وهذه الية جاءت ردّا على سؤالهم الذي أورده الحق سبحانه في الية السابقة‪ {:‬وَ َيقُولُونَ مَتَىا‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هَـاذَا ا ْلوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَا ِدقِينَ }[يونس‪.]48 :‬‬
‫لقد تساءلوا بسخرية عن هذا الوعد بالعذاب‪ ،‬وكأنهم استبطأوا نزول العذاب تهكّما‪ ،‬وهذا يدل على‬
‫أن قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ط وَ ُه ْم لَ يُظَْلمُونَ }[يونس‪.]47 :‬‬
‫ضيَ بَيْ َن ُهمْ بِا ْلقِسْ ِ‬
‫{ وَِل ُكلّ ُأمّةٍ رّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُوُلهُمْ ُق ِ‬
‫ن كفروا برسول ال صلى ال عليه‬
‫هذه الية لم تنزل ليوم القيامة‪ ،‬بل نزلت لتوضح موقف مَ ْ‬
‫وسلم والذين قالوا بعد ذلك‪:‬‬
‫{ مَتَىا هَـاذَا ا ْلوَعْدُ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ }[يونس‪.]48 :‬‬
‫وهذا يعني أنهم قالوا هذا القول قبل أن تقوم القيامة‪ ،‬والية التي توضح أن لكل أمة رسولً تؤيدها‬
‫آيات كثيرة‪ ،‬مثل قوله سبحانه‪:‬‬
‫{ َومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ َرسُولً }[السراء‪.]15 :‬‬
‫وكذلك قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا ِبظُلْمٍ وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ }[النعام‪.]131 :‬‬
‫وكذلك قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ وََلوْ أَنّآ أَ ْهَلكْنَاهُمْ ِبعَذَابٍ مّن قَبِْلهِ َلقَالُواْ رَبّنَا َلوْل أَ ْرسَ ْلتَ إِلَيْنَا رَسُولً }[طه‪.]134 :‬‬
‫وكل ذلك يؤيد أن الرسول المرسل إلى المة هو الرسول الذي جاء بمنهج ال تعالى‪ ،‬فآمن به‬
‫قوم‪ ،‬وكذّب به آخرون‪ ،‬وقضى ال بين المؤمنين والكافرين بأن خذل الكافرين ونصر المؤمنين‪.‬‬
‫وإن استبطأ الكافرون الخذلن فلسوف يرونه؛ ولذلك أمر الحق سبحانه رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪:‬‬
‫{ قُل لّ َأمِْلكُ لِ َنفْسِي ضَرّا َولَ َنفْعا } [يونس‪.]49 :‬‬
‫أي‪ :‬أنكم إن كنتم تسألون محمدا صلى ال عليه وسلم عن الضر والنفع‪ ،‬فهو صلى ال عليه وسلم‬
‫مبلّغ عن ال تعالى‪ ،‬ول يملك لنفسه ضَرّا ول نفعا‪ ،‬فضلً عن أن يملك لهم هم ضَرّا أو نفعا‪،‬‬
‫وكل هذا المر بيد ال تعالى‪ ،‬ولكل أمة أجلٌ ينزل بالذين كفروا فيها بالعذاب‪ ،‬ويقع فيها القول‬
‫الفصل‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جلٌ } [يونس‪.]49 :‬‬
‫{ ِإلّ مَا شَآءَ اللّهُ ِل ُكلّ ُأمّةٍ أَ َ‬
‫يفيدُ أن مشيئة ال هي الفاصلة‪ ،‬ويدل على أن النبي والناس ل يملكون لنفسم الضر أو النفع؛ لن‬
‫النسان خُلِق على هيئة القَسْر في أمور‪ ،‬وعلى هيئة الختيار في أمور أخرى‪ ،‬والختيار هو في‬
‫المور التكليفية مصداقا لقوله سبحانه‪َ {:‬فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف‪.]29 :‬‬
‫وأنت حُرّ في أن تطيع أو أن تعصي‪ ،‬وكل ذلك داخل في نطاق اختيارك‪ ،‬وإن صنع النسان‬
‫طاعة‪ ،‬فهو يصنع لنفسه نفعا‪ ،‬وإن صنع معصية‪ ،‬صنع لنفسه ضَرّا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فهناك في المور الختيارية ضر ونفع‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬من ينتحر بأن يشنق نفسه‪ ،‬فهو يأتي لنفسه بالضر‪ ،‬وقد ينقذه أقاربه‪ ،‬وذلك بمشيئة ال‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ففي المور الختيارية يملك النسان ـ بمشيئة ال ـ الضر أو النفع لنفسه‪ ،‬وال سبحانه‬
‫يبين لنا أن لكل أمة أجلً‪ ،‬فل تحددوا أنتم اجال المم؛ لن آجالهم ـ استئصالً‪ ،‬أو عذابا ـ هي‬
‫من عند ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫والعباد دائما يعجلون‪ ،‬وال ل يعجل بعجلة العباد‪ ،‬حتى تبلغ المور ما أراد سبحانه‪ ،‬فال تعالى‬
‫مُنزّه أن يكون موظفا عند الخلق‪ ،‬بل هو الخالق العلى سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وهو سبحانه القائل‪:‬‬
‫{ سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَ تَسْ َت ْعجِلُونِ }[النبياء‪.]37 :‬‬
‫وهو سبحانه القائل‪:‬‬
‫عجُولً }[السراء‪.]11 :‬‬
‫ن الِنْسَانُ َ‬
‫ع الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِالْخَيْ ِر َوكَا َ‬
‫{ وَيَ ْد ُ‬
‫خلْق‪ ،‬وإذا جاء الجل فهو ل يتأخر عن ميعاده‪ ،‬ول‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه يؤخّر مراداته رحمة بال َ‬
‫يتقدم عن ميعاده‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} ِإذَا جَآءَ َأجَُلهُمْ فَلَ يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَةً وَلَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ { [يونس‪.]49 :‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ } :‬يسْ َتقْ ِدمُونَ { ليست من مدخلية جواب الشرط الذي جاء بعد } ِإذَا جَآءَ َأجَُلهُمْ‬
‫{ [يونس‪.]49 :‬‬
‫لن الجواب هو‪ } :‬فَلَ َيسْتَأْخِرُونَ {‪.‬‬
‫فهم ل يستقدمون قبل أن يحين الجل‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ أَتَا ُكمْ عَذَاُبهُ بَيَاتا {‬

‫(‪)1400 /‬‬

‫جلُ مِنْهُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ (‪)50‬‬


‫ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَاُبهُ بَيَاتًا َأوْ َنهَارًا مَاذَا يَسْ َتعْ ِ‬

‫وهذا َردّ شافٍ على استعجالهم للعذاب‪ ،‬فإن جاءكم العذاب فَلْنَرَ ماذا سيكون موقفكم‪.‬‬
‫وهُمْ باستعجالهم العذاب يبرهنون على غبائهم في السؤال عن وقوع العذاب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقول الحق سبحانه‪ { :‬أَرَأَيْ ُتمْ }‪ .‬أي‪ :‬أخبروني عما سوف يحدث لكم‪.‬‬
‫وشاء الحق سبحانه أن يأتي أمر العذاب هنا مبهما من جهة الزمان فقال سبحانه‪:‬‬
‫{ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتا َأوْ َنهَارا } [يونس‪.]50 :‬‬
‫والبيات مقصود به الليل؛ لن الليل محل البيتوتة‪ ،‬و النهار محل الظهور‪.‬‬
‫والزمن اليومي مقسوم لقسمين‪ :‬ليل‪ ،‬ونهار‪.‬‬
‫وشاء الحق سبحانه إبهام اليوم والوقت‪ ،‬فإن جاء ليلً‪ ،‬فالنسان في ذلك الوقت يكون غافلً نائما‬
‫في الغالب‪ ،‬وإن جاء نهارا‪ ،‬فالنسان في النهار مشغول بحركة الحياة‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول في موضع آخر‪:‬‬
‫{ َأفََأمِنَ َأ ْهلُ ا ْلقُرَىا أَن يَأْتِ َي ُهمْ بَأْسُنَا بَيَاتا وَ ُهمْ نَآ ِئمُونَ }[العراف‪.]97 :‬‬
‫ويقول سبحانه‪:‬‬
‫ضحًى وَ ُهمْ يَ ْلعَبُونَ }[العراف‪.]98 :‬‬
‫{ َأوَ َأمِنَ َأ ْهلُ ا ْلقُرَىا أَن يَأْتِ َي ُهمْ بَأْسُنَا ُ‬
‫ولو نظرت إلى الواقع لوجدت أن العذاب يأتي في الليل وفي النهار معا‪ ،‬لن هناك بلدا يكون‬
‫الوقت فيها ليلً‪ ،‬وفي ذات الوقت يكون الزمن نهارا في بلد أخرى‪.‬‬
‫وإذا جاء العذاب بغتة‪ ،‬وحالوا إعلن اليمان‪ ،‬فلن ينفعهم هذا اليمان؛ لن الحق سبحانه يقول‬
‫فيمن يتخذ هذا الموقف‪:‬‬
‫سدِينَ }[يونس‪.]91 :‬‬
‫ل َوكُنتَ مِنَ ا ْل ُمفْ ِ‬
‫عصَ ْيتَ قَ ْب ُ‬
‫ن َوقَدْ َ‬
‫{ آل َ‬
‫فإن جاءكم العذاب الن لما استقلتم منه؛ لنه لن ينفعكم إعلن اليمان‪ ،‬ولن يقبل ال منكم‪ ،‬وبذلك‬
‫يصيبكم عذاب في الدنيا‪ ،‬بالضافة إلى عذاب الخرة‪ ،‬وهذا الستعجال منكم للعذاب يضاعف لكم‬
‫العذاب مرتين‪ ،‬في الدنيا‪ ،‬ثم العذاب الممتد في الخرة‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬أَثُمّ ِإذَا مَا َوقَعَ آمَنْ ُتمْ بِهِ }‬

‫(‪)1401 /‬‬

‫ن َوقَدْ كُنْ ُتمْ بِهِ َتسْ َتعْجِلُونَ (‪)51‬‬


‫أَثُمّ ِإذَا مَا َوقَعَ َآمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَ َ‬

‫أي‪ :‬إذا ما وقع العذاب فهل ستؤمنون؟‬


‫إن إعلن إيمانكم في هذا الوقت لن يفيدكم‪ ،‬وسيكون عذابكم بل مقابل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاستعجالكم للعذاب لن يفيدكم على أي وضع؛ لن اليمان لحظة وقوع العذاب ل يفيد‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬فرعون حين جاءه الغرق{ قَالَ آمَنتُ أَنّهُ ل إِلِـاهَ ِإلّ الّذِي آمَ َنتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[يونس‪.]90 :‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ { :‬ثمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظََلمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ }‬

‫(‪)1402 /‬‬

‫ثُمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظََلمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُ ْلدِ َهلْ تُجْ َزوْنَ إِلّا ِبمَا كُنْ ُتمْ َتكْسِبُونَ (‪)52‬‬

‫وهذا إخبار عن العذاب القادم لمن كفروا ويلقونه في اليوم الخر‪ ،‬فهم بكفرهم قد ظلموا أنفسهم‬
‫في الدنيا‪ ،‬وسيلقون العذاب في الخرة‪ ،‬وهو { عَذَابَ ا ْلخُلْدِ } أي‪ :‬عذاب ل ينتهي‪.‬‬
‫وينهي الحق سبحانه الية بقوله‪َ { :‬هلْ ُتجْ َزوْنَ ِإلّ ِبمَا كُن ُتمْ َتكْسِبُونَ }‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن الحق سبحانه لم يظلمهم‪ ،‬فقد بلغهم برسالة اليمان عن طريق رسول ذي معجزة‪ ،‬ومعه‬
‫منهج مفصّل مؤيّد‪ ،‬وأمهلهم مدة طويلة‪ ،‬ولم يستفيدوا منها؛ لنهم لم يؤمنوا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فسيلقون عذاب الخلد‪ ،‬وقد جاء سبحانه هنا بخبر عذاب الخلد؛ لن عذاب الدنيا موقوت‪ ،‬فيه‬
‫خزي وهوان‪ ،‬لكن محدوديته في الحياة يجعله عذابا قليلً بالقياس إلى عذاب الخرة المؤبد‪.‬‬
‫وجاء الحق سبحانه بأمر عذاب الخلد كأمر من كسبهم‪ ،‬والكسب زيادة عن الصل‪ ،‬فمن يتاجر‬
‫بعشر جنيهات‪ ،‬قد يكسب خمسة جنيهات‪.‬‬
‫وهنا سؤال‪ :‬هل الذي يرتكب معصية يكسب زيادة عن الصل؟‬
‫نعم؛ لن ال سبحانه حرّم عليه أمرا‪ ،‬وحلله هو لنفسه‪ ،‬فهو يأخذ زيادة في التحليل‪ ،‬وينقص من‬
‫التحريم وهو يظن أنه قد كسب بمفهومه الوهمي الذي زين له مراد النفس المارة‪ ،‬وهذا يعني أنه‬
‫ينظر إلى واقع اللذة في ذاتها‪ ،‬ول ينظر إلى تبعات تلك اللذة‪ ،‬وهو يظن أنه قد كسب‪ ،‬رغم أنه‬
‫خاسر في حقيقة المر‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَيَسْتَنْبِئُو َنكَ َأحَقّ ُهوَ }‬

‫(‪)1403 /‬‬

‫ق َومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ (‪)53‬‬


‫حّ‬‫وَيَسْتَنْبِئُو َنكَ َأحَقّ ُهوَ ُقلْ إِي وَرَبّي إِنّهُ لَ َ‬

‫(‪)1404 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضيَ بَيْ َن ُهمْ‬
‫ب َو ُق ِ‬
‫وََلوْ أَنّ ِل ُكلّ َنفْسٍ ظََل َمتْ مَا فِي الْأَ ْرضِ لَافْ َت َدتْ ِب ِه وَأَسَرّوا النّدَامَةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَا َ‬
‫ط وَ ُهمْ لَا ُيظَْلمُونَ (‪)54‬‬
‫بِا ْلقِسْ ِ‬

‫وساعة ياتي العذاب فالنسان يرغب في الفرار منه‪ ،‬ولو بالفتداء‪.‬‬


‫وانظر كيف يحاول النسان أن يتخلص من كل ما يملك افتداء لنفسه‪ ،‬حتى ولو كان يملك كل ما‬
‫في السموات وما في الرض‪.‬‬
‫ولكن هل يتأتى لحد ـ غير ال سبحانه ـ أن يملك السموات والرض؟‬
‫طبعا ل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالشر ل يتأتّى‪ .‬و َهبْ أنه تأتّى‪ ،‬فلن يصلح الفتداء بملك ما في السموات وما في الرض؛‬
‫لن النسان الظالم في الدنيا قد أخذ حق الغير‪ ،‬وهذا الغير قد كسب بطريق مشروع ما أخذه‬
‫الظالم منه‪ ،‬والظالم إنما يأخذ ثمرة عمل غيره‪ ،‬ولو صحّ ذلك لتحوّل البعض إلى مغتصبِين لحقوق‬
‫الغير‪ ،‬ولخذوا عرق وكدح غيرهم‪ ،‬ولتعطلت حركة الحياة‪.‬‬
‫ولذلك إن لم يردع ال ـ سبحانه وتعالى ـ الظالم في الدنيا قبل الخرة لستشرى الظلم‪ ،‬وإذا‬
‫استشرى الظلم في مجتمع‪ ،‬فالبطالة تنتشر فيه‪ ،‬ويحاول كل إنسان أن يأخذ من دم وعرق غيره‪،‬‬
‫وبهذا يختلّ ميزان العدل وتفسد حركة الحياة كلها‪.‬‬
‫و َهبْ أن الظالم أخذ مُلْك الدنيا كلها‪ ،‬وأراد أن يفتدى به نفسه ساعة يأتي العذاب‪ ،‬ويفاجأ بأن‬
‫كسبه من حرام ل ُيقْبَل فداءً‪ ،‬أليس هذا هو الخسران الكبير؟ وهذه ظاهرة موجودة في دنيا الناس‪.‬‬
‫و َهبْ أن واحدا ارتشى أو اختلس أو سرق‪ ،‬ويفاجئه القانون ليمسكه من تلبيبه فيقول‪ :‬خذوا ما‬
‫عندي واتركوني‪ .‬ولن يقبل القائمون على القانون ذلك‪ .‬وإن كان مثل هذا التنازل يحدث في‬
‫(الجمارك) فنرى من يتنازل عن البضائع المهربة مقابل الفراج عنه‪ ،‬هذا ما يحدث في الدنيا‪،‬‬
‫لكنه لن يحدث في الخرة‪.‬‬
‫وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ل َولَ هُمْ‬
‫خذُ مِ ْنهَا عَ ْد ٌ‬
‫شفَاعَةٌ وَلَ ُيؤْ َ‬
‫{ وَا ّتقُواْ َيوْما لّ تَجْزِي َنفْسٌ عَن ّنفْسٍ شَيْئا وَلَ ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ‬
‫يُ ْنصَرُونَ }[البقرة‪.]48 :‬‬
‫وقال الحق سبحانه في آية أخرى‪:‬‬
‫شفَاعَةٌ وَلَ ُهمْ يُنصَرُونَ‬
‫ع ْدلٌ وَلَ تَن َف ُعهَا َ‬
‫{ وَا ّتقُواْ َيوْما لّ تَجْزِي َنفْسٌ عَن ّنفْسٍ شَيْئا وَلَ ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ‬
‫}[البقرة‪.]123 :‬‬
‫وقال بعض المشككين أن اليتين متشابهتان‪ ،‬ولم يلتفتوا إلى أن كل آية تختلف عن الخرى في‬
‫التقديم للعدل‪ ،‬والتأخير للشفاعة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والبلغة الحقّة تتجلّى في اليتين؛ لن القارىء لصَدْر كل آية منهما‪ ،‬والفاهم للمَلَكه اللغوية‬
‫عجُز كل آية يناسب صدرها‪.‬‬
‫العربية أن َ‬
‫ومن يقرأ قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ وَا ّتقُواْ َيوْما لّ تَجْزِي َنفْسٌ عَن ّنفْسٍ }[البقرة‪.]48 :‬‬
‫يرى أنه أمام نفسين‪ :‬النفس الولى هي التي تقدّم الشفاعة‪ ،‬والنفس الثانية هي المشفوع لها‪.‬‬
‫والشفاعة هنا ل تُقبل من النفس الولى الشافعة‪ ،‬وكذلك ل يُقبل العدل‪.‬‬
‫وفي الية الثانية لتُقبل الشفاعة ول العدل من النفس المشفوع لها‪ ،‬فهي تحاول أن تقدم العدل‬
‫أولً‪ ،‬ثم حين ل ينفعها تأتي بالشفيع‪.‬‬

‫وهكذا جاء التقديم والتأخير في اليتين مناسبا للموقف في كل منهما‪.‬‬


‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫لفْتَ َدتْ بِهِ { [يونس‪.]54 :‬‬
‫} وََلوْ أَنّ ِل ُكلّ َنفْسٍ ظََل َمتْ مَا فِي الَ ْرضِ َ‬
‫وفي هذا القول تعذّرِ ملْك النفس الواحدة لكل ما في الرض‪ ،‬ولو افترضنا أن هذه النفس ملكته‬
‫فلن تستطيع الفتداء به؛ وتكون النتيجة هي ما يقوله الحق سبحانه‪:‬‬
‫} وَأَسَرّواْ النّدَامَةَ َلمّا رََأوُاْ ا ْلعَذَابَ { [يونس‪.]54 :‬‬
‫أي‪ :‬أخفوا الحسرة التي تأتي إلى النفس‪ ،‬وليس لها ظاهر من انزعاج لفظي أو حركي‪.‬‬
‫إن كلّ منهم يكتم َهمّه في قبله؛ لنه ساعة يرى العذاب ينبهر ويُصعَق ويُبهَت من هول العذاب‪،‬‬
‫فتجمد دماؤه‪ ،‬ول يستطيع حتى أن يصرخ‪ ،‬وهو بذلك إنما يكبت ألمه في نفسه؛ لن هول الموقف‬
‫يجمّد كل دم في عروقهم‪ ،‬ويخرس ألسنتهم‪ ،‬ول يستطيع أن ينطق؛ لنه يعجز عن التعبير الحركي‬
‫من الصراخ أو اللم‪.‬‬
‫ونحن نعلم أن التعبير الحركي لون من التنفيس البدني‪ ،‬وحين ل يستطيعه النسان‪ ،‬فهو يتألم‬
‫أكثر‪.‬‬
‫هم ـ إذن ـ يُسرّون الندامة حين يرون العذاب المفزع المفجع‪ ،‬والكلم هنا عن الظالمين‪ ،‬وهم‬
‫ط وَهُمْ لَ ُيظَْلمُونَ { [يونس‪:‬‬
‫على الرغم من ظلمهم‪ ،‬فالحق سبحانه يقول‪َ } :‬و ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِسْ ِ‬
‫‪.]54‬‬
‫وهؤلء رغم كفرهم واستحقاقهم للعذاب يلقون العدل من ال‪َ ،‬فهَبْ أن كافرا بال بمنأى عن الدين‬
‫ظلم كافرا آخر‪ ،‬أيقف ال سبحانه من هذه المسألة موقفا محايدا‪.‬‬
‫ل؛ لن حق خَلْق ال سبحانه ـ الكافر المظلوم ـ يقتضى أن يقتص ال سبحانه له من أخيه‬
‫الكافر الظالم؛ لن الظالم الكافر‪ ،‬إنما ظلم مخلوقا ل‪ ،‬حتى وإن كان هذا المظلوم كافرا‪.‬‬
‫ولذلك يقضي ال بينهم بالحق‪ ،‬أي‪ :‬يخفّف عن المظلوم بعضا من العذاب بقدر ما يثقله على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الظالم‪.‬‬
‫هذا هو معنى } َو ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ { لنها تتطلب قضاء‪ ،‬أي‪ :‬عدم تحيز‪ ،‬وتتطلب الفصل بين‬
‫خصومتين‪.‬‬
‫ويترتب على هذا القضاء حكم؛ لذلك يبين لنا الحق سبحانه أنهم ـ وإن كانوا كافرين به ـ إل أنه‬
‫إن وقع من أحدهم ظلم على الخر‪ ،‬فالحق رب الجميع وخالق الجميع‪ ،‬كما أعطاهم بقانون‬
‫الربوبية كل خير مثلما أعطى المؤمنين‪ ،‬فهو سبحانه الذي أعطى الشمس‪ ،‬والماء‪ ،‬والهواء‪ ،‬وكل‬
‫وسائل الرزق والقُوت لكل الناس ـ مؤمنهم‪ ،‬وكافرهم ـ فإذا ما حدث ظلم بين متدينين بدين‬
‫واحد‪ ،‬أو غير متدينين‪ ،‬فل بد أن يقضي فيه الحق سبحانه بالفصل والحكم بالعدل‪.‬‬
‫ت وَالَرْضِ {‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬أَل إِنّ للّهِ مَا فِي ال ّ‬

‫(‪)1405 /‬‬

‫ق وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا َيعَْلمُونَ (‪)55‬‬


‫حّ‬‫ن وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ أَلَا إِ ّ‬
‫أَلَا إِنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬

‫و " أل " في اللغة يقال عنها " أداة تنبيه " وهي تنبه السامع أن المتكلم سيقول بعدها كلما في‬
‫غاية الهمية‪ ،‬والمتكلم ـ كما نعلم ـ يملك زمام لسانه‪ ،‬بحكم وضعه كمتكلم‪ ،‬لكن السامع يكون‬
‫في وضع المُفاجَأ‪.‬‬
‫وقد يتكلم متكلم بما دار في ذهنه ليبرزه على لسانه للمخاطب‪ ،‬ولكن المخاطب يفاجأ‪ ،‬وإلى أن‬
‫ينتبه قد تفوته كلمة أو اثتنان مما يقوله المتكلم‪.‬‬
‫وال سبحانه وتعالى يريد ألّ يفوت السامع لقوله أي كلمة‪ ،‬فأتى بأداة تنبيه تنبه إلى الخبر القادم‬
‫بعدها‪ ،‬وهو قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ت وَالَرْضِ } [يونس‪.]55 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ إِنّ للّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫هكذا شاء الحق سبحانه أن تأتي أداة التنبيه سابقة للقضية الكلية‪ ،‬وهي أنه سبحانه مالك كل شيء‪،‬‬
‫فهو الذي خلق الكون‪ ،‬وخلق النسان الخليفة‪ ،‬وسخّر الكون للنسان الخليفة‪ ،‬وأمر السباب أن‬
‫تخضع لمسببات عمل العامل؛ فكل من يجتهد ويأتي بالسباب؛ فهي تعطيه‪ ،‬سواء أكان مؤمنا أو‬
‫كافرا‪.‬‬
‫وإذا خدمت السبابُ النسانَ‪ ،‬وكان هذا النسان غافلً عن ربه أو عن اليمان به‪ ،‬ويظن أن‬
‫السباب قد دانت له بقوته‪ ،‬ويفتن بتلك السباب‪ ،‬ويقول مثلما قال قارون‪:‬‬
‫علْمٍ عِندِي }[القصص‪.]78 :‬‬
‫{ قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالذي نسي مسبّب السباب‪ ،‬وارتبط بالسباب مباشرة‪ ،‬فهو ينال العذاب‪ ،‬إن لم يكن في الدنيا ففي‬
‫الخرة؛ فكأن الحق سبحانه ينبههم‪ :‬تَنّبهوا أيها الجاهلون‪ ،‬وافهموا هذه القضية الكبرى‪ { :‬إِنّ للّهِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ } [يونس‪.]55 :‬‬
‫مَا فِي ال ّ‬
‫فإياك أيها النسان أن تغترّ بالسباب‪ ،‬أو أنك بأسبابك أخذت غير ما يريده ال لك‪ ،‬فهو سبحانه‬
‫الذي أعطاك وقدّر لك‪ ،‬وكل السباب تتفاعل لك بعطاء وتقدير من ال عز وجل‪.‬‬
‫وفي أغيار الكون الدليل على ذلك‪ ،‬ففكرك الذي تخطّط به قد تصيبه آفة الجنون‪ ،‬والجوارح مثل‬
‫ي منها بمرض؛ فل تعرف كيف تتصرف‪.‬‬
‫اليد أو القدم أو اللسان أو العين أو الذن قد تُصاب أ ّ‬
‫وكل ما تأتي فيه الغيار؛ فهو ليس من ذاتك‪ ،‬وكل ما تملكه موهوب لك من مسبّب السباب‪.‬‬
‫فإياك أن تنظر إلى السباب‪ ،‬وتنسى المسبّب؛ لن ل ملك الشياء التي تحوزها والدوات التي‬
‫تحوز بها؛ بدليل أنه سبحانه حين يشاء يسلبها منك‪ ،‬فتنبه أيها الغافل‪ ،‬وإياك أن تظن أن السباب‬
‫هي الفاعلة‪ ،‬بدليل أن ال سبحانه وتعالى يخلق السباب؛ ثم يشاء أل تأتي بنتائجها‪ ،‬كمن يضع‬
‫بذور القطن ـ مثلً ـ ويحرث الرض‪ ،‬ويرويها في مواعيدها‪ ،‬ثم تأتي دودة القطن لتأكل‬
‫المحصول‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمردّ كل مملوك إلى ال تعالى‪.‬‬
‫واعلمْ أن هناك مِلْكا‪ ،‬وإن هناك مُلْكا‪ ،‬والمِلْك هو ما تملكه؛ جلبابا؛ أو بيتا‪ ،‬أو حمارا‪ ،‬إلى غير‬
‫ذلك‪ ،‬أما المُلْك فهو أن تملك من له مِلْك‪ ،‬وتسيطر عليه‪ ،‬فالقمة ـ إذن ـ في المُلْك‪.‬‬

‫وانظر إلى قول الحق سبحانه‪:‬‬


‫{ ُقلِ الّل ُهمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن َتشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ َتشَآءُ }[آل عمران‪.]26 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالمُلك في الدنيا كله ل سبحانه‪.‬‬
‫وكلمة " أل " جاءت في أول الية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ لتنبّه الغافل عن الحق؛‬
‫لن السباب استجابت له وأعطته النتائج‪ ،‬فاغترّ بها‪ ،‬فيجعل ال سبحانه السباب تختلف في‬
‫بعض الشياء؛ ليظل النسان مربوطا بالمسبّب‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه في نفس الية‪:‬‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ { [يونس‪.]55 :‬‬
‫} َألَ إِ ّ‬
‫والوعد إن كان في خير فهو بشارة بخير يقع‪ ،‬وإن كان بِشَرّ فهو إنذار بشرّ يقع؛ ويغلب عليه‬
‫كلمة " الوعيد "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ففي غالب المر تأتي كلمة " وعد " للثنين‪ :‬الخير والشر‪ ،‬أما كلمة " وعيد " فل تأتي إل‬
‫في الشر‪.‬‬
‫والوعد‪ :‬هو إخبارٌ بشي سيحدث من الذي يملك أن ُيحْدِث الشيء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإنفاذ الوعد له عناصر‪ :‬أولها الفاعل‪ ،‬وثانيها المفعول‪ ،‬وثالثها الزمان‪ ،‬ورابعها المكان‪ ،‬ثم‬
‫السبب‪.‬‬
‫والحدث يحتاج إلى قدرة‪ ،‬فإن قلت‪ " :‬آتيك غدا في المكان الفلني لكلمك في موضوع كذا " فماذا‬
‫تملك أنت من عناصر هذا الحدث؛ إنك ل تضمن حياتك إلى الغد‪ ،‬ول يملك سامعك حياته‪ ،‬وكذلك‬
‫المكان الذي تحدد فيه اللقاء قد يصيبه ما يدمّره‪ ،‬والموضوع الذي تريد أن تتحدث فيه‪ ،‬قد يأتي‬
‫لك خاطر أل تتحدث فيه من قبل أن يتم اللقاء‪.‬‬
‫و َهبْ أن كل العناصر اجتمعت‪ ،‬فماذا تملك أنت أو غيرك من عناصر الوعد؟ ل شيء أبدا‪.‬‬
‫ولذلك يعلّم ال سبحانه خَلْقه الدب في إعطاء الوعود‪ ،‬التي ل يملكونها‪ ،‬فيقول سبحانه‪:‬‬
‫علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ }[الكهف‪23 :‬ـ ‪.]24‬‬
‫{ َولَ َتقْولَنّ ِلشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ‬
‫وحين تقدّم المشيئة فإن حدث لك ما يمنع إنفاذ الوعد فلن تكون كذابا‪.‬‬
‫وهكذا يعلّمنا ربنا صيانة أخبارنا عن الكذب‪ ،‬وجعلنا نتكلم في نطاق قُدراتنا‪ ،‬وقُدراتنا ل يوجد‬
‫فيها عنصر من عناصر الحدث‪ ،‬لكن إذا قال ال سبحانه‪ ،‬ووعد‪ ،‬فل رادّ لما وعد به سبحانه؛ لنه‬
‫منزّه عن أن ُيخْلف الميعاد؛ لن عناصر كل الحداث تخضع لمشيئته سبحانه‪ ،‬ولَ تتأبّى عليه‪،‬‬
‫ووعده حق وثابت‪.‬‬
‫أما أنت فتتحكم فيك الغيار التي يُجريها الحق سبحانه عليك‪.‬‬
‫و َهبْ أنك أردت أن تبني بيتا‪ ،‬وقلت للمهندس المواصفات الخاصة التي تريدها في هذا البيت‪،‬‬
‫لكن المهندس لمي يستطع أن يشتري من السواق بعضا من المواد التي حددتها أنت‪ ،‬فأنت ـ إذن‬
‫ـ قد أردت ما ل يملك المهندس تصرّفا فيه‪.‬‬
‫لكن المر يختلف بالنسبة للخالق العلى سبحانه؛ فهو الذي يملك كل شيء‪ ،‬وهو حين يَعد يصير‬
‫وَعْدُه محتّم النفاذ‪ ،‬ولكن الكافرين ينكرون ذلك؛ ولذلك قال ال سبحانه‪:‬‬
‫} وَلَـاكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَ َيعَْلمُونَ { [يونس‪.]55 :‬‬
‫أي‪ :‬أنهم ل يعلمون هذه الحقيقة‪ ،‬فقد سبق أن قالوا‪:‬‬
‫{ مَتَىا هَـاذَا ا ْلوَعْدُ }[يونس‪.]48 :‬‬
‫أو أن } َأكْثَرَهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ { تعني‪ :‬أن النسان يجب ألّ يضع نفسه في موعد دون أن يقدّم‬
‫المشيئة؛ لنه ل يملك من عناصر أي وعد إل ما يشاؤه ال تعالى‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬هوَ يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ {‬

‫(‪)1406 /‬‬

‫جعُونَ (‪)56‬‬
‫ُهوَ يُحْيِي وَ ُيمِيتُ وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حيّ؛ لنه مالك‬
‫ونحن نعلم أن حركة الحياة‪ ،‬والمِلْك والمُلْك‪ ،‬هي فروع من الحياء‪ ،‬وهو سبحانه َ‬
‫الصل‪ ،‬وهو القادر على أن يميت‪ ،‬وكل ما يصدر عن الحياة يسلبه ال سبحانه بالموت فهو مالك‬
‫الشياء‪ ،‬والسباب التي تُنتج الشياء‪ ،‬ول يفوته شيء من وعد ول وعيد‪ ،‬ونحن نحيا بمشيئته‬
‫سبحانه‪ ،‬ونموت بمشيئته سبحانه‪ ،‬فلن نفلت منه‪.‬‬
‫جعُونَ } فمن ل يعتبر بأمر الحياء؛ عليه أن يرتدع بخوف الرجعة‪.‬‬
‫لذلك قال سبحانه‪ { :‬وَإِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬ياأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآءَ ْت ُكمْ ّموْعِظَةٌ }‬

‫(‪)1407 /‬‬

‫حمَةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)57‬‬


‫شفَاءٌ ِلمَا فِي الصّدُو ِر وَهُدًى وَ َر ْ‬
‫ظةٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَ ِ‬
‫يَا أَ ّيهَا النّاسُ َقدْ جَاءَ ْتكُمْ َموْعِ َ‬

‫والخطاب هنا للناس جميعا؛ لن الحق سبحانه حين يخاطب المؤمنين بقوله تعالى‪:‬‬
‫{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ }[البقرة‪.]104 :‬‬
‫فهذا خطاب لمن آمن بالمنهج‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يخاطب الناس كافّ ًة بأصول العقائد‪ ،‬مثل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ ياأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُواْ رَ ّب ُكمُ }[النساء‪.]1 :‬‬
‫أما المؤمنون فسبحانه يكلّفهم بخطابه إليهم‪ ،‬من مثل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ }[البقرة‪.]183 :‬‬
‫ومثل قول الحق‪:‬‬
‫{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى }[البقرة‪.]178 :‬‬
‫أي‪ :‬أن خطابه سبحانه للمؤمنين يكون دائما في الحكام التي يخطاب بها المؤمنين‪ ،‬أما في أصول‬
‫العقائد واليمان العلى بالواجد الموجِد‪ ،‬فهذا يكون خطابا للناس كافة‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول هنا‪:‬‬
‫{ ياأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآءَ ْتكُمْ ّموْعِظَةٌ } [يونس‪.]57 :‬‬
‫والية هنا تصوّر الموعظة وكأنها قد تجسّدت وصار لها مجيء‪ ،‬رغم أن الموعظة هي كلمات‪،‬‬
‫وأراد ال تعالى بذلك أن يعطى للموعظة صورة الحركة التي تؤثّر وتحضّ على اليمان‪.‬‬
‫والموعظة هي الوصية بالخير والبعد عن الشر بَلفْظ ٍمؤثّر‪ ،‬ويقال‪ :‬فلن واعظ متميز‪ ،‬أي‪ :‬أن‬
‫كلمه مستميل وأسلوبه مؤثر وجميل‪ ،‬والموعوظ دائما أضعف من الواعظ‪ ،‬وتكون نفس الموعوظ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثقيلة‪ ،‬فل تتقبل الموعظة بيسر إل ممن يجيد التأثير بجمال الكلمة وصدق الداء؛ لن الموعوظ قد‬
‫يقول في نفسه‪ :‬لقد رأيتني في محل دونك وتريد أن ترفعني‪ ،‬وأنت أعلى مني‪ .‬فإذا قدّر الواعظ‬
‫هذ الظرف في الموعوظ فهو يستميل نفسه‪.‬‬
‫ولنتذكر الحكمة التي تقول‪ " :‬النصح ثقيل‪ ،‬فل تجعلوه جَ َدلً‪ ،‬ول ترسلوه جَبَلً‪ ،‬واستعيروا له‬
‫خفّةالبيان "؛ وذلك لتستميل أذن السامع إليك فتأتي له بالسلوب الجميلَ المقنع الممتع الذي يعجبه‪،‬‬
‫ِ‬
‫وتلمس في نفسه صميم ما ترغب أن يصل إليه‪.‬‬
‫والموعظة تختلف عن الوصية؛ لن الوصية عادة ل تتأتى إل في خلصة حكمة الشياء‪ ،‬و َهبْ‬
‫أن إنسانا مريضا وله أولد‪ ،‬وحضرته الوفاة‪ ،‬فيقولم بكتابة َوصِيّته‪ ،‬ويوصيهم بعيون المسائل‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول هنا‪:‬‬
‫{ َقدْ جَآءَ ْتكُمْ ّموْعِظَةٌ } [يونس‪.]57 :‬‬
‫والموعظة إما أن تسمعها أو تفرضها‪ ،‬ولنها موعظة قادمة { مّن رّ ّب ُكمْ } فل بد من اللتفات‬
‫والنتباه‪ ،‬وملحظة أن الحق سبحانه قد اختص الموعظة بأنها من الرب‪ ،‬ل من الله؛ لن الله‬
‫يريدك عابدا‪ ،‬لكن الرب هو المربّي والكفيل‪ ،‬وإن كفرت به‪.‬‬
‫وهذه الموعظة قادمة من الرب‪ ،‬أي‪ :‬أنها من كمالت التربية‪ ،‬ونحن نعلم أن متعلقات الربوبية‬
‫تتوزع مابين قسمين‪ :‬القسم الول هو مقوّمات الحياة التي يعطيها الحق سبحانه من قُوت ورزق‬
‫ـ وهذه المقومات للمؤمن‪ ،‬وللكافر ـ والقسم الخر هو مقومات القيم التي ترسم منهج حركة‬
‫الحياة‪ ،‬وهذه للمؤمن فقط‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالموعظة هي نوع من التربية جاءت من ربكم المأمون عليكم؛ لنه هو الذي خَلَق من عَدَم‬
‫وأمَدّ من عُدْم‪ ،‬ولم يختص بنعمة الربوبية المؤمنين فقط‪ ،‬بل شملت نعمته كل الخلق‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فالموعظة تجيء ممن يُعطي ول ينتظر منك شيئا‪ ،‬فهو سبحانه مُنزّه عن الغرض؛ لنه لن‬
‫ينال شَيئا منك فأنت ل تقدر على شيء مع قدرته سبحانه‪.‬‬
‫والموعظة القادمة بالمنهج تخصّ العقلء الراشدين؛ لن حركة العاقل الراشد تمر على عقله أولً‪،‬‬
‫ويختار بين البدائل‪ ،‬أما حركة المجنون فهي غير مرتّبة ول منسّقة‪ ،‬ول تمر على عقله؛ لن عقله‬
‫مختل الدراك وفاقد للقدرة على الختيار بين البدائل‪.‬‬
‫ولكن لماذا يُفسِد العاقل الختيار بين البدائل؟‬
‫إن الذي يفسد حركة اختيار العاقل هو الهوى‪ ،‬والهوى إنما ينشأ مما في النفس والقلب؛ ولذلك‬
‫يقول الحق سبحانه وتعالى في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪:‬‬
‫شفَآءٌ ّلمَا فِي الصّدُورِ { [يونس‪.]57 :‬‬
‫} َقدْ جَآءَ ْتكُمْ ّموْعِظَةٌ مّن رّ ّبكُ ْم وَ ِ‬
‫غلّ يؤثر في أحكامكم‪ ،‬وحقد‪ ،‬وحسد‪،‬‬
‫أي‪ :‬أنه سبحانه قد أنزل عليكم ما يشفي صدوركم من ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومكر‪ ،‬ويُنقّي باطن النسان؛ لن أي حركة من حركات النسان لها نبع وجداني‪ ،‬ول بد أن يُشفى‬
‫النبع الوجداني؛ ليصحّ؛ حتى تخرج الحركات من الجوارج وهي نابعة من وجدان طاهر مُصفّى‬
‫وسليم؛ وبذلك تكون الحركات الصادرة من النسان سليمة‪.‬‬
‫ولذلك قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ { [يونس‪.]57 :‬‬
‫شفَآءٌ ّلمَا فِي الصّدُو ِر وَ ُهدًى وَرَ ْ‬
‫} وَ ِ‬
‫وجاءت كلمة " الشفاء " أولً‪ ،‬لتبيّن أن الهداية الحقّة إلى الطريق المستقيم تقتضي أن ُتخْرِج ما في‬
‫قلبه من أهواء‪ ،‬ثم تدلّه إلى المنهج المستقيم‪.‬‬
‫وإن سأل سائل عن الفارق بين الشفاء والرحمة؟ نجيب‪ :‬إن الشفاء هو إخراج لما ُيمْرِض‬
‫الصدور‪ ،‬أما الرحمة فهي اتْباع الهداية بما ل يأتي بالمرض مرة أخرى‪ ،‬وأقرأ إن شئت قول‬
‫الحق سبحانه‪:‬‬
‫حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[السراء‪.]82 :‬‬
‫شفَآ ٌء وَ َر ْ‬
‫{ وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫وهكذا يتبيّن لنا أثر الموعظة‪ :‬شفاء‪ ،‬وهدى‪ ،‬ورحمة‪ ،‬إنها تعالج ليس ظواهر المرض فقط‪ ،‬ولكن‬
‫تعالج جذور المرض‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فشفاء الصدور يجب أن يتم أولً؛ لذلك نجد الطبيب الماهر هو من ل ينظر إلى ظواهر‬
‫المرض فقط ليعالجها‪ ،‬ولكنه يبحث عما خلف تلك الظواهر‪ ،‬على عكس الطبيب غير المدرّب‬
‫العَجُول الذي يعالج الظاهر دون علج جذور المرض‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬طبيب المراض الجلدية غير الماهر حين يرى بثورا؛ فهو يعالجها بما يطمسها‬
‫ويزيلها مؤقّتا‪ ،‬لكنها تعود بعد قليل‪ ،‬أما الطبيب المدرّب الفاهم فهو يعالج السباب التي تُنتج‬
‫البثور‪ ،‬ويزيلها بالعلج الفعّال؛ فيقضي على أسباب ظهورها‪.‬‬
‫وفي القرآن الكريم نجد قصة ابتلء سيدنا أيوب عليه السلم‪ ،‬فقد قال له الحق سبحانه‪:‬‬
‫سلٌ بَا ِر ٌد وَشَرَابٌ }[ص‪.]42 :‬‬
‫{ ا ْر ُكضْ بِ ِرجِْلكَ هَـاذَا ُمغْتَ َ‬
‫أي‪ :‬اضربْ برجلك ذلك المكان يخرجْ لك منه ماء بارد‪ ،‬تغتسل منه؛ فيزيل العراض الظاهرة‪،‬‬
‫وتشرب منه ليعالج أصل الداء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالموعظة وكأنها تجسّدت‪ ،‬فجاءت من ربكم ـ المأمون علكيم ـ شفاءً حتى تعالج المواجيد‬
‫التي تصدر عنها الفعال‪ ،‬وتصبح مواجيد سليمة مستقيمة‪ ،‬ل تحلّل فيها‪ ،‬وهدى إلى الطريق‬
‫الموصّل إلى الغاية الحقّة‪ ،‬ورحمة إن اتبعها النسان ل ُيصَابُ بأيّ داءٍ‪ ،‬وهذه الموعظة تؤدي إلى‬
‫العمل المقبول عند ال سبحانه‪.‬‬
‫حتْ لك الربعة النابعة من الموعظة‪ :‬الشفاء‪ ،‬والهدى‪ ،‬والرحمة والعمل الصالح‪،‬‬
‫ولكن إنْ ص ّ‬
‫ضلِ اللّهِ‬
‫فإيّاك أن تفرح بذلك؛ ففوق كل ذلك فضل ال عليك؛ ولذلك يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬قلْ ِبفَ ْ‬
‫حمَتِهِ {‬
‫وَبِرَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1408 /‬‬

‫ج َمعُونَ (‪)58‬‬
‫حمَ ِتهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُوا ُهوَ خَيْرٌ ِممّا يَ ْ‬
‫ضلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ‬
‫ُقلْ ِب َف ْ‬

‫وأنت وكل المؤمنين مهما عملوا في تطبيق منهج ال‪ ،‬فكلّنا بعبادتنا لن نؤدي حَقّ النعم الموجودة‬
‫عندنا قبل أن ُنكَلّف‪ ،‬وعلينا أن نتدبّر قول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬لن يدخل أحدكم الجنة‬
‫ن يتغمّدني ال برحمته "‪.‬‬
‫بعمله "‪ .‬قالوا‪ :‬ول أنت يا رسول ال؟ قال‪ " :‬ول أنا إل أ ْ‬
‫إذن‪ :‬فإن افتخر إنسان بطاعته ل‪ ،‬فهذه الطاعة تعود على العبد في دنياه‪ ،‬وهو لن يؤدي بطاعته‬
‫حق كل النعم التي أسبغها ال عليه‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬إن العبد ل يُكلّف إل عند البلوغ‪ ،‬أي‪ :‬في سنّ الخامسة عشر تقريبا‪ ،‬فإ نظر إلى النعم‬
‫التي أسبغها ال تعالى عليه حتى وصل إلى هذه السّنّ‪ ،‬فهو لن يحصيها‪ ،‬فما بالنا بالنعم التي‬
‫تغمرنا في كل العمر‪ ،‬وحين يجازينا الحق في الخرة‪ ،‬فهو ل يجازينا بالعدل‪ ،‬بل يعاملنا بالفضل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إياك أن تقول‪ :‬أنا تصدّقتُ بكذا‪ ،‬أو صلّيت كذا؛ حتى ل تورثك استجابتك لمنهج ال غرورا‬
‫ب معصية أورثتْ ُذلً وانكسارا‪ ،‬خيرٌ من طاع ٍة أورثتْ‬
‫بعملك التعبّديّ‪ ،‬وتذكّر القول المأثور‪ُ " :‬ر ّ‬
‫عِزّا واستكبارا "‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ { :‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ مّآ أَن َزلَ اللّهُ َلكُمْ }‬

‫(‪)1409 /‬‬

‫جعَلْ ُتمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ُقلْ آَللّهُ َأذِنَ َلكُمْ َأمْ عَلَى اللّهِ َتفْتَرُونَ‬
‫ُقلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ َلكُمْ مِنْ رِ ْزقٍ فَ َ‬
‫(‪)59‬‬

‫إن تمتع النسان في الحياة بالمُلْك والمِلْك‪ ،‬فكل ذلك يحتاج إلى استبقاء الحياة بالرزق الذي يهبُنَا‬
‫الحق سبحانه إيّاه‪ ،‬وكذلك استبقاء النوع بالتزواج بين الذكر والنثى‪.‬‬
‫ولكن الرزق الذي يستبقي الحياة ل بُدّ أن يكون حللً؛ لذلك حدّد لنا الحق سبحانه وتعالى‬
‫المحرّمات فل تقربها‪ ،‬وأنت عليك باللتزام بما حدّده ال‪ ،‬فل تدخل أنت على ما حلّل ال لتح ّرمَه؛‬
‫لن الحق سبحانه حدّد لك من الطعام ما يستبقي حياتك ويعطيك وقودا لحركة الحياة‪ ،‬فعاملْ نفسك‬
‫كما تعامل اللة التي تصنعها‪ ،‬فأنت تعطي كل آلة الوقود المناسب لها لتؤدي مهمتها‪ ،‬كذلك جعل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال سبحانه لك المواصفات التي تنفعك وتستفيد منها وتؤدي حركات الحياة بالطاقة التي يمدّك بها‬
‫ما حَلّله ال لك‪.‬‬
‫وكذلك حرّم ال عليك ما َيضُرّك‪.‬‬
‫وإياك أن تقول‪ :‬ما دامت هذه الشياء تضرّني فلماذا خلقها ال؛ لن عليك أن تعرف أن هناك‬
‫فارقا بين رزق مباشر‪ ،‬ورزق غير مباشر‪ ،‬وكل ما في الكون هو رزق‪ ،‬ولكنه ينقسم إلى رزق‬
‫مباشر تستفيد منه فورا‪ ،‬وهناك رزق غير مباشر‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬النار‪ ،‬فأنت ل تأكل النار‪ ،‬لكنها تُنضِج لك الطعام‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهناك شيء مخلوق لمهمة تساعد في إنتاج ما يفيدك‪.‬‬
‫والحق سبحانه قد حلّل لك ـ على سبيل المثال ـ لحم الضأن والماعز‪ ،‬والبل والبقر وغيرها‪،‬‬
‫وحرّم عليك لحم الخنزير‪ ،‬فل تسألْ‪ :‬لماذا خلق ال الخنزيرَ؛ لنه خَلقه لمهمةٍ أخرى‪ ،‬فهو يلملم‬
‫قاذورات الوجود ويأكلها‪ ،‬فهذا رزق غير مباشر‪ ،‬فاتركه للمهمة التي أراده ال لها‪.‬‬
‫وبعض الناس قد حرّم على نفسه أشياء حلّلها ال تعالى‪ ،‬وهم بذلك يُضيّقون على أنفسهم‪ ،‬ويظن‬
‫البعض أنه حين يحلّل ما حرّم ال أنه يوسّع على نفسه‪ ،‬فيأمر الحق سبحانه رسول صلى ال عليه‬
‫وسلم أن يقول‪:‬‬
‫{ أَرَأَيْ ُتمْ مّآ أَن َزلَ اللّهُ َلكُمْ مّن رّ ْزقٍ } [يونس‪.]59 :‬‬
‫أي‪ :‬أخبِروني ما أنزل ال لكم من رزق‪ ،‬وهو كل ما تنتفعون به‪ ،‬إما مباشرةً‪ ،‬وإما بالوسائط‪،‬‬
‫فكيف تتدخلون بالتحليل والتحريم‪ ،‬رغم أن الذي أنزل الرزق قد بيّن لكم الحلل والحرام؟!‬
‫وكلمة { أَن َزلَ } تفيد أن الرزق كله قادم من أعلى‪ ،‬وكل ما ترونه حولكم هو رزق‪ ،‬تنتفعون به‬
‫مباشرة‪ ،‬أو بشكل غير مباشر‪ ،‬فالمال الذي تُشترى به أغلب الرزاق ل يأكله النسان‪ ،‬بل يشتري‬
‫به ما يأكله‪.‬‬
‫ن أعلى‪ ،‬وما دام كل شيء قد وُجد بمشيئة مَنْ هو أعلى من‬
‫جدَ‪ ،‬وخلق مِ ْ‬
‫وكلمة { أَن َزلَ } تعني‪ :‬أوْ َ‬
‫كل الوجود‪ ،‬فكل شيء لصالحك مباشرة أو بوسائط‪.‬‬
‫ول تأخذ كلمة { أَن َزلَ } من جهة العلوّ الحسية‪ ،‬بل خُذها من جهة العلوّ المعنوية‪ ،‬فالمطر ـ مثلً‬
‫ـ ينزل من أعلى حسيّا‪ ،‬ويختلط بالرض فيأخذ النبات غذاءه منها‪ ،‬والرزق بالمطر ومن الرض‬
‫مُقدّر ممّن خَلَق‪ ،‬وهو العلى سبحانه‪.‬‬

‫وقد قال الحق سبحانه‪:‬‬


‫ط وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ‬
‫سلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْ ِ‬
‫{ َلقَدْ أَرْسَلْنَا رُ ُ‬
‫شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ }[الحديد‪.]25 :‬‬
‫بَأْسٌ َ‬
‫نعم‪ ،‬فقد أنزل الحق سبحانه منهجه على الرسل عليهم السلم لتصلح حياة الناس‪ ،‬وأنزل الحديد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ايضا‪ ،‬هذا الذي نستخرجه من الجبال ومن الرض‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمراد هنا بالنزال‪ ،‬أي‪ :‬اليجاد ممن هو أعلى منك لصالحك أيها النسان‪.‬‬
‫وما دام الحق سبحانه هو الذي أنزل الرزق‪ ،‬وبيّن الحلل والحرام‪ ،‬فلماذا تُدخِلون أنوفكم في‬
‫الحلل والحرام‪ ،‬وتجعلون بعض الحلل حراما‪ ،‬وبعض الحرام أو ُكلّ الحرام حللً؟ لماذا ل‬
‫جعْل لمن خَلَق وهو سبحانه أدْرى بمصلحتكم؟‬
‫تتركون ال َ‬
‫} ُقلْ ءَآللّهُ أَذِنَ َلكُمْ { [يونس‪.]59 :‬‬
‫ج ْعلِ الحلل حراما‪ ،‬والحرام حللً؟ } أَمْ عَلَى اللّهِ‬
‫أي‪ :‬هل أعطاكم ال سبحانه تفويضا في َ‬
‫َتفْتَرُونَ { [يونس‪ ]59 :‬أي‪ :‬على ال تتعمدون الكذب‪.‬‬
‫وقد جاء الحق سبحانه بالحلل والحرام ليبيّن لنا مدى قُبح السلوك في تحريم ما أحلّ ال‪ ،‬وتحليل‬
‫ما حرّم ال‪.‬‬
‫ويشير الحق سبحانه ـ في إجمال هذه الية ‪ ،‬إلى آيات أخرى َفصّلت الحرام‪ ،‬وسبق أن تناولناها‬
‫بخواطرنا‪ ،‬مثل قوله تعالى‪:‬‬
‫ج َعلَ اللّهُ مِن َبحِي َر ٍة َولَ سَآئِبَ ٍة َولَ َوصِيلَ ٍة َولَ حَا ٍم وَلَـاكِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َيفْتَرُونَ عَلَىا اللّهِ‬
‫{ مَا َ‬
‫ب وََأكْثَرُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ }[المائدة‪.]103 :‬‬
‫ا ْلكَ ِذ َ‬
‫والبَحيرة ـ كما ذكرنا ـ هي الناقة التي أنجبتْ خمس بُطونٍ آخرها َذكَر‪ ،‬وكانوا يشقّون أذنها‪،‬‬
‫ويعلنون أنها قامت بواجبها ويتركونها سائمة غير مملوكة‪ ،‬ل يركبها أحد‪ ،‬ول يحمل عليها أحد‬
‫خدّام اللهة التي كانوا يعبدونها‪،‬‬
‫حمْل‪ ،‬ول يحلبها أحد‪ ،‬ول يج ّز صوفها أحد‪ ،‬ثم يذبحها ُ‬
‫أيّ ِ‬
‫ت مهمتها‪.‬‬
‫سمّوها " بَحيرة " ‪ ،‬لنهم كانوا يشقون آذانها علمةً على أنها أ ّد ْ‬
‫وَ‬
‫أما السائبة فهي غير المربوطة؛ لن الربط يفيد الملكية‪ ،‬وكان الواحد منهم إذى شفي من مرض‬
‫أو أراد شيئا وَ َهبَ أن يجعل ناقةً لخدّام الصنام‪ ،‬واسمها سائبة‪ ،‬وهي أيضا ل تُركب‪ ،‬ول تُحلب‪،‬‬
‫ول يُحمل عليها‪ ،‬ول أحد يتعرّض لها‪.‬‬
‫والوصيلة‪ :‬هي النثى تلدها الناقة في بطن واحدة مع ذكر‪ ،‬فيقولون‪َ " :‬وصََلتْ أخاها "؛ فل‬
‫يذبحونه للصنام من أجل أخته‪.‬‬
‫} َولَ حَامٍ { والحام‪ :‬هو الفَحْل الذي يحمي ظهر نفسه بإنجاب عشرة أبْطُن‪ ،‬فل يركبه أحد بعد‬
‫ذلك‪ ،‬ول يُحمَل عليه‪ ،‬ويترك لخدّام الصنام‪.‬‬
‫هذه هي النعام المحلّلة التي حرّموها على أنفسهم‪ ،‬بينما يأكلها خُدّام الصنام‪ ،‬وفي ذكر عدم‬
‫تحريم تلك النعام رأفة بهم‪.‬‬
‫وهناك أيضا قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ‬
‫{ َثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ‬
‫ن َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ‬
‫أَرْحَا ُم الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ * َومِنَ الِ ْبلِ اثْنَيْ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شهَدَآءَ إِ ْذ َوصّاكُمُ اللّهُ ِبهَـاذَا َفمَنْ َأظْلَمُ‬
‫حَرّمَ أَ ِم الُنْثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَ ْرحَا ُم الُنْثَيَيْنِ َأمْ كُنتُمْ ُ‬
‫ضلّ النّاسَ ِبغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ }‬
‫ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا لِ ُي ِ‬

‫[النعام‪143 :‬ـ ‪.]144‬‬


‫إذن‪ :‬فقد حَرّموا بعضا مما أحلّ ال لهم‪ ،‬وقالوا ما أورده القرآن‪:‬‬
‫ع ِم ِه ْم وَهَـاذَا ِلشُ َركَآئِنَا َفمَا‬
‫ث وَالَ ْنعَامِ َنصِيبا َفقَالُواْ هَـاذَا للّهِ بِزَ ْ‬
‫جعَلُواْ للّهِ ِممّا ذَرَأَ مِنَ الْحَ ْر ِ‬
‫{ وَ َ‬
‫ح ُكمُونَ }[النعام‪:‬‬
‫صلُ ِإلَىا شُ َركَآ ِئهِمْ سَآءَ مَا يَ ْ‬
‫صلُ إِلَىا اللّ ِه َومَا كَانَ للّهِ َف ُهوَ َي ِ‬
‫كَانَ لِشُ َركَآ ِئهِمْ فَلَ َي ِ‬
‫‪.]136‬‬
‫وأجمل الحق سبحانه كل ذلك في قوله الحق‪:‬‬
‫للً ُقلْ ءَآللّهُ أَذِنَ َلكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ‬
‫جعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَاما َوحَ َ‬
‫} ُقلْ أَرَأَيْ ُتمْ مّآ أَن َزلَ اللّهُ َلكُمْ مّن رّزْقٍ فَ َ‬
‫َتفْتَرُونَ { [يونس‪.]59 :‬‬
‫وهكذا تدخّلوا في تحريم بعض الحلل وحلّلوا بعضا من الحرام‪ ،‬وفي هذا تعدّ ما كان يجب أن‬
‫يقترفوه؛ لن الحق سبحانه هو خالقهم‪ ،‬وهو خالق أرزاقهم‪ ،‬وفي هذا كذب متعمّد على ال‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬ومَا ظَنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ {‬

‫(‪)1410 /‬‬

‫س وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا‬


‫َومَا ظَنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ َلذُو َفضْلٍ عَلَى النّا ِ‬
‫شكُرُونَ (‪)60‬‬
‫يَ ْ‬

‫وهذه الية توضح أن كل أمر بحساب‪ ،‬فالذين يفترون على ال الكذب سيجدون حسابهم يوم‬
‫القيامة عسيرا‪ ،‬فالحق سبحانه منزّه عن الغفلة‪ ،‬ولو ظنوا أنه ل توجد آخرة ولن يوجد حساب‪ ،‬فهم‬
‫يخطئون الظن‪.‬‬
‫ولو استحضروا ما أعدّه ال لهم من العذاب والنكال يوم القيامة لما فعلوا ذلك‪ ،‬ولكنهم كالظّان بأن‬
‫ال ـ سبحانه وتعالى ـ غافل عن أفعالهم‪ ،‬وكأنها أفعال ل حساب عليها‪ ،‬ول كتابة لها‪ ،‬ول‬
‫رقيب يحسبها‪:‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫شكُرُونَ } [يونس‪.]60 :‬‬
‫س وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ يَ ْ‬
‫{ إِنّ اللّهَ َلذُو َفضْلٍ عَلَى النّا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن ال سبحانه متفضّل على كل خَلْقه ـ وأنتم منهم ـ بأشياء كثيرة؛ فلم تحرمون أنفسكم من هذا‬
‫الفضل؟! ولو شكرتم ال تعالى على هذال التفضل لزاد من عطائكم‪ ،‬لكنكم تنسون الشكر‪.‬‬
‫ن َومَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ }‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ { :‬ومَا َتكُونُ فِي شَأْ ٍ‬

‫(‪)1411 /‬‬

‫شهُودًا ِإذْ ُتفِيضُونَ‬


‫ع َملٍ إِلّا كُنّا عَلَ ْيكُمْ ُ‬
‫ن َومَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا َت ْعمَلُونَ مِنْ َ‬
‫َومَا َتكُونُ فِي شَأْ ٍ‬
‫ك وَلَا َأكْبَرَ إِلّا‬
‫صغَرَ مِنْ ذَِل َ‬
‫سمَا ِء وَلَا َأ ْ‬
‫ض وَلَا فِي ال ّ‬
‫فِي ِه َومَا َيعْ ُزبُ عَنْ رَ ّبكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (‪)61‬‬

‫والخطاب هنا لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أي‪ :‬ما تكون يا محمد في شأن‪ .‬والشأن‪ :‬هو‬
‫الحال العظيم المتيمز الذي يطرأ على المر‪.‬‬
‫ونحن في حياتنا اليومية نقول‪ :‬ما شأنك اليوم أو ما حالك؟ وهنا يجيب السامع بالشيء الهام الذي‬
‫حدث له أو فعله‪ ،‬ويتناسى التافة من المور‪.‬‬
‫ولذلك يصف ال تعالى نفسه فيقول‪:‬‬
‫{ ُكلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن‪.]29 :‬‬
‫أي‪ :‬ل تظنوا أن ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ خلق النواميس والقوانين‪ ،‬وقال لها‪ :‬اعملي أنتِ‪ ،‬ل‬
‫فهو سبحانه كل يوم في شأن‪.‬‬
‫جفّ؟ فقال‪ " :‬أمور يبديها‬
‫ولذلك حين سئل أحد العلماء‪ :‬ما شأن ربك الن؛ وقد صَحّ أن القلم قد َ‬
‫ول يبتديها "‪.‬‬
‫أي‪ :‬أنه سبحانه قد رسم كل شيء‪ ،‬وجعل له زمانا ليظهر‪ ،‬فهو سبحانه قيّوم‪ ،‬أي‪ :‬مُبَالغ في القيام‬
‫على مصالحكم؛ ولذلك يطمئننا سبحانه ـ وقد جعل الليل لنومنا وراحتنا ـ بأنه سبحانه قيوم ل‬
‫تأخذه سِنَةٌ ول نوم‪ ،‬وهو يراعينا‪.‬‬
‫فالحديث في الية التي نحن بصددها موجّه لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫{ َومَا َتكُونُ فِي شَأْنٍ } [يونس‪.]61 :‬‬
‫وشأن رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي يهتم به ليس المأكل ول المشرب‪ ،‬إنما المهم بالنسبة‬
‫له هو بلغ الرسالة بالمنهج بـ " افعل و " ل تفعل "‪.‬‬
‫ن َومَا تَ ْتلُواْ مِ ْنهُ مِن قُرْآنٍ } [يونس‪.]61 :‬‬
‫{ َومَا َتكُونُ فِي شَأْ ٍ‬
‫و " منه " هنا بمعنى اللم‪ ،‬أي‪ :‬ما تتلو له‪ ،‬وتعني تأبيدا ليات القرآن‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهناك في موضع آخر من القرآن يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ ّممّا خَطِيئَا ِتهِمْ أُغْ ِرقُواْ }[نوح‪]25 :‬‬
‫أي‪ :‬أغرقوا لجْل خطيئاتهم‪.‬‬
‫وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نفهم ما تكون في شأن وما تتلو لجل هذا الشأن من‬
‫قرآن‪ ،‬فالنبي صلى ال عليه وسلم في شأن هام هو الرسالة‪ ،‬ويتلو من القرآن تأبيدا لهذا الشأن‬
‫وهو البلغ بالمنهج‪.‬‬
‫ويدخل في هذا الشأن ما فوّض رسول ال صلى ال عليه وسلم فيه حسب قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ }[الحشر‪.]7 :‬‬
‫{ َومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ‬
‫ومثال ذلك‪ :‬تحديد كيفية الصلة وعدد ركعات كل صلة‪ ،‬وكذلك ِنصَاب الزكاة‪ ،‬وهذه أمور لم‬
‫يأت بها القرآن تفصيلً‪ ،‬ولكن جاءت بها الحاديث النبوية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهناك تفويض من الحق للرسول صلى ال عليه وسلم ليكتمل البلغ بمنهج ال‪ ،‬بنصوص‬
‫القرآن‪ ،‬وبتفويض ال تعالى له أن يشرّع‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكل شأن رسول ال صلى ال عليه وسلم إما بلغ عن ال بالنص القرآني‪ , ،‬وإما تطبيق‬
‫فعليّ للنص القرآني بالحديث النبوي‪ ،‬وبالسوة التي تركها لنا صلى ال عليه وسلم في سُنّته‪.‬‬

‫حجّة على الحُكم ـ أي حُكم ـ يأتي بها القرآن‪ ،‬فإن كانت الحكام غير صادرة من ال‬
‫وال ُ‬
‫مباشرة‪ ،‬فيكفي فيها أنها صدرت عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بتفويض من ال تعالى‬
‫ليشرّع‪.‬‬
‫وبذلك نردّ على المنافقين الذين إذا حُدّثوا بشيء من حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬قالوا‪:‬‬
‫" بيننا وبينكم كتاب ال " وهدفهم أن يردّوا حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ ِفعْلً‪ ،‬أو قولً‬
‫أو إقرارا‪.‬‬
‫جلّ شأنه‪:‬‬
‫ثم ينقل الحق سبحانه الخطاب من المفرد إلى الجماعة فيقول َ‬
‫شهُودا { [يونس‪.]61 :‬‬
‫ع َملٍ ِإلّ كُنّا عَلَ ْيكُمْ ُ‬
‫} َولَ َت ْعمَلُونَ مِنْ َ‬
‫وفي هذا انتقال للسامعين للقرآن‪ ،‬والمبلّغ إليهم هذا المنهج‪ ،‬فكل عمل إنما يشهده الحق سبحانه‪.‬‬
‫والعمل هو مجموع الحداث التي تصدر عن النسان‪ ،‬فكل حدث يصدر من النسان ـ ولو بِنيّة‬
‫القلب ـ يسمّى عملً؛ لن عمل القلوب هو النية‪ .‬ولكن إذا صدر الحدث من اللسان كان قولً‪،‬‬
‫وإذا صدر الحدث من بقية الجوارح كان فعلً‪.‬‬
‫وهكذا ينقسم العمل إلى قسيمن‪ :‬قول‪ ،‬وفعل‪.‬‬
‫وقد اخ ُتصّ حدث اللسان باسم القول؛ لن أصل مستندات التكليف كلهم قولية‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِذْ ُتفِيضُونَ فِيهِ { أي‪ :‬تسرعون إلى العمل بنشاط وحيوية وإقبال مما يدل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على حسن الستجابة للمنهج فور أن يبلّغه الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫والقبال على العمل التكليفي بهذا الشوق‪ ،‬وتلك اللهفة‪ ،‬وحسن الستقبال‪ ،‬وإخلص الداء‪ ،‬كل‬
‫هذه المعاني يؤول إليها قول الحق سبحانه‪ } :‬إِذْ ُتفِيضُونَ فِيهِ { كما يفيض ماء الناء إذا امتل‬
‫لينزل‪ .‬أي‪ :‬أن تقبلوا علىأعمال التكليف بسرعة وانصباب وانسكاب‪.‬‬
‫وقد قال الحق سبحانه‪ {:‬فَإِذَآ َأ َفضْتُم مّنْ عَ َرفَاتٍ }[البقرة‪.]198 :‬‬
‫أي‪ :‬شَرَعْتُم في الذهاب مسرعين؛ لنكم أدّيتم ُنسُكا أخذتم منه طاقة‪ ،‬وتقبلون بها على ُنسُك ثانٍ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه يشهد كل عمل منكم‪ ،‬لكن ماذا عن النيّات وما يُبيّت فيها من خواطر‪.‬‬
‫ها هو الحق سبحانه يخبرنا أن كل شيء مهما صغر واختفى فهو معلوم ومحسوب‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ك وَل َأكْبَرَ ِإلّ‬
‫صغَرَ مِن ذاِل َ‬
‫سمَآءِ وَلَ َأ ْ‬
‫ض وَلَ فِي ال ّ‬
‫} َومَا َيعْ ُزبُ عَن رّ ّبكَ مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الَ ْر ِ‬
‫فِي كِتَابٍ مّبِينٍ { [يونس‪.]61 :‬‬
‫أي‪ :‬كل أمورك‪ ،‬وأمور الخلق‪ ،‬والمخلوقات كلها معلومة ل تعالى‪ ،‬ومكتوبة في كتاب مبين‬
‫واضح‪ ،‬فل أحد بقادر على أن يختلس حركة قلب‪ ،‬أو يختلس حركة ضمير‪ ،‬وكملة " يعزب "‬
‫تعني‪ :‬يغيب ويختفي‪.‬‬
‫والحق سبحانه يخبرنا أنه ل يضيع عنده جزاء أي عمل أو نية مهما بلغ العمل أو النية أدنى‬
‫درجة من القِلّة‪.‬‬
‫ولم يوجد عند العرب ما يضرب به المثل على الوزن القليل إل الذّرّة‪ ،‬وهي النملة الدقيقة‬
‫الصغيرة جِدّا‪ ،‬ثم أطلقت الذرة على الهَبَاء الشائع في الجو‪ ،‬ويمكنك أن ترى هذا الهَبَاء إن جلست‬
‫في حجرة مظلمة مغلقة‪ ،‬ثم دخلها شعاع من ضوء‪ ،‬هنا ترى هذا الضوء وهو يمر من الثقب‬
‫وكأنه سهم‪ ،‬وترى مكوّنات هذا السهم من ذرات الهباء المتحركة الموجودة في الجو‪ ،‬تلك الذرات‬
‫التي ل تراها وأنت في الضوء فقط أو في الظلم فقط‪ ،‬ولكن التناقض بين الضوء والظلم‬
‫يُبرزها‪.‬‬

‫وأنت ل تدرك الشيء ول تحسه لمرين‪ :‬إما لتناهيه في الصغر‪ ،‬وإما لتناهيه في الكبر؛ فل تحيط‬
‫به‪ ،‬وحين تقدم العلم التطبيقي اخترعوا ال َمجَاهر التي تُكبّر الشيء المتناهي في الصغر آلف‪ ،‬أو‬
‫مليين المرات‪.‬‬
‫وأنت لو وضعت جلدك تحت عدسة المجهر فسترى فجوات وكأنها آبار لم تكن تراها أو تحسها‬
‫من قبل؛ لنها بلغت من الدقة والصّغر بحيث ل تستطيع عيناك أن تدركها‪ ،‬فإن رأيتها بالمجهر‬
‫كَبُرَت فترى فجوات وتعاريج وعُُلوّا وانخفاظا ـ مهما كان الجلد الذي تراه تحت المجهر ناعما‪.‬‬
‫وكذلك أنت ل تقدر على إدراك الشيء الضخم‪ ،‬وقد تفصل بينك وبين الشيء الكبير مسافة؛ فتراه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صغُرَ‪ ،‬فأنت إذا رأيت ـ مثلً ـ رجلً طويلً على مسافة كبيرة‪،‬‬
‫أصغر من حجمه‪ ،‬وكلما ابتعد َ‬
‫فأنت تراه وكأنه طفل صغير‪ ،‬وكلما اقترتب منه زاد طوله في عينيك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل الضخامة ول البُعد ول القِلّة تمنع من علم الحق سبحانه لي شيء‪.‬‬
‫وقد خاطب الحق سبحانه العرب بأصغر ما عرفوه‪ ،‬وهو الذرة‪ ،‬أي‪ :‬النملة الصغيرة‪.‬‬
‫وأنت إذا وطأتَ نملة في أرض رملية فهي ل تموت‪ ،‬بل تدخل في فجوات الرمل‪ ،‬وتجد لنفسها‬
‫طريقا إلى سطح الرض مرة أخرى‪.‬‬
‫قد بيّن الحق سبحانه هذه المسألة حين تحدّث عن سليمان ـ عليه السلم ـ في وادي النمل‪ ،‬فقال‬
‫تعالى‪:‬‬
‫شعُرُونَ }[النمل‪:‬‬
‫ن وَجُنُو ُدهُ وَهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫حِ‬‫خلُواْ َمسَاكِ َنكُ ْم لَ يَ ْ‬
‫{ قَاَلتْ َنمْلَةٌ ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْ ُ‬
‫‪.]18‬‬
‫لنهم ل يرونهم؛ لحجمهم المتناهي في الصغر‪.‬‬
‫وهكذا يعطينا الحق سبحانه بيانا عن كل أمة في الحياة‪ ،‬وأن من بينهم جنودا يحرسون بيقظة‪،‬‬
‫فالنملة قامت بإنذار قومها من سليمان وجنوده‪ ،‬لنهم لن يروا النمل الصغير‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الذّرّ إما أن يكون النمل الصغير‪ ،‬وإما أن يكون الذرّات الهبائية‪.‬‬
‫وأراد ال سبحانه أن يضرب لنا مثلً بإحاطة علمه في أنه ل يعزب عنه مثقال ذرة‪.‬‬
‫ويعزب‪ ،‬أي‪ :‬يغيب‪ ،‬ويقال‪ " :‬هذا البئر ماؤه عازب " ‪ ،‬أي قادم من عمق بعيد‪ ،‬ويحتاج‬
‫استخراجه إلى دَ ْلوٍ وحبال طويلة‪.‬‬
‫ونسمّي الرجل الذي يبعد عن أهله " عَزَب "‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومَا َيعْ ُزبُ {‪ .‬أي‪ :‬ل يبعد ول يغيب عنه أصغر شيء ول أكبر شيء‪.‬‬
‫يقول سبحانه ذلك؛ ليطمئننا أن كل خاطرة من خواطر النسان إنما يشهدها ال‪ ،‬و َيعَْلمُها‪ ،‬وهو‬
‫المُجَازِي عليها‪.‬‬
‫وإن استطاع إنسان أن يُعمّي على قضاء الرض‪ ،‬فلن يستطيع أن يُعمّي على قضاء السماء‪.‬‬

‫ومسألة الذرّة والصغر يقول عنها الحق سبحانه‪:‬‬


‫{ َفمَن َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـ َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة‪7 :‬ـ ‪.]8‬‬
‫هذا للمتساوِي في الثقل والوزن‪ ،‬أما إن كان أصغر من الذرة‪ ،‬فقد ذكره الحق سبحانه هنا في‬
‫الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فقال‪:‬‬
‫ك وَل َأكْبَرَ { [يونس‪.]61 :‬‬
‫صغَرَ مِن ذاِل َ‬
‫} َولَ َأ ْ‬
‫وعلى زمن نزول القرآن الكريم لم يكن أحد يعرف أن هناك ما هو أصغر من الذرة‪ ،‬وكنا جميعا‬
‫حتى ما قبل الحرب العالمية الولى ل نعلم أن هناك شيئا أصغر من الذرة‪ ،‬وكان العلماء يعتقدون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل بالقل في‬
‫أن الذرة هي الجزء الذي ل يتجزّا؛ لنها أصغر ما يقع عليه البصر‪ ،‬فضرب ال مث ً‬
‫زمن نزول القرآن‪.‬‬
‫ولما تقدم العلم بعد الحرب العالمية الولى واخترعت ألمانيا آلةً لتحطيم الذرة قيل عنها‪ :‬إنها آلة‬
‫تحطيم الجوهر الفرد‪ .‬أي‪ :‬الشيء الذي ل ينقسم‪ ،‬وهذه اللة مكونة من اسطوانتين مثل اسطوانتي‬
‫عصّارة القصب‪ ،‬والمسافة بين السطوانتين ل تكاد تُرَى‪ ،‬وحين حَطّمت ألمانيا ما قيل عنه "‬
‫َ‬
‫الجوهر الفرد " تحول إلى ما هو أقل منه‪ ،‬وتفتّتت الذرّة‪.‬‬
‫وقد جعل الحق سبحانه المقياس في الصغر هو الذرة‪.‬‬
‫وحين اخترعت ألماينا تلك اللة توجَسّ المتصلون بالدين وخالوا أن يقال‪ :‬إن الحق سبحانه لم‬
‫يذكر ما هو أقل من الذرة‪ ،‬ولكنهم التفتوا إلى الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪ ،‬فقرأوا قول‬
‫الحق سبحانه‪:‬‬
‫ك وَل َأكْبَرَ ِإلّ‬
‫صغَرَ مِن ذاِل َ‬
‫سمَآءِ وَلَ َأ ْ‬
‫ض وَلَ فِي ال ّ‬
‫} َومَا َيعْ ُزبُ عَن رّ ّبكَ مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الَ ْر ِ‬
‫فِي كِتَابٍ مّبِينٍ { [يونس‪.]61 :‬‬
‫و } َومَا َيعْ ُزبُ { أي‪ :‬ل يبعد أو يغيب } عَن رّ ّبكَ { أي‪ :‬عن عِلْمه } مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ {‪ .‬أي‪ :‬وزن‬
‫ذَرّة‪.‬‬
‫وقديما قلنا‪ :‬إن البعض يقول‪ :‬إن " من " قد تكون حرفا زائدا في اللغة‪ ،‬كقولنا‪ " :‬ما جاءني مِنْ‬
‫رجل " وتعرب كلمة " من "‪ :‬حرف جر زائد‪ ،‬و " رجل "‪ :‬فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة التي‬
‫منع من ظهورها اشتعال المحلّ وهو " اللم " بحركة حرف الجر الزائد‪.‬‬
‫ولكن في كلم ال ل يوجد حرف زائد‪ ،‬فـ " مِنْ " في قوله‪ } :‬مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ {‪ .‬أي‪ :‬من بداية ما‬
‫يقال له " مثقال "‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه في آية أخرى‪.‬‬
‫ب لَ َيعْ ُزبُ عَ ْنهُ مِ ْثقَالُ ذَ ّرةٍ‬
‫{ َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُو ْا لَ تَأْتِينَا السّاعَةُ ُقلْ بَلَىا وَرَبّي لَتَأْتِيَ ّنكُمْ عَاِلمِ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫سمَاوَاتِ َولَ فِي الَ ْرضِ }[سبأ‪.]3 :‬‬
‫فِي ال ّ‬
‫وكلمة } وَرَبّي { ُمقْسَمٌ به‪ ،‬وحرف " الواو " هو حرف الجر‪ ،‬ولم يأت هنا بالشهادة‪ ،‬وجاء‬
‫بالغيب‪ ،‬ولم يأت بعلم الغيب في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪.‬‬
‫وعالم الشهادة‪ ،‬تعني‪ :‬أنه عَالِمٌ بكل ما يشهد‪ ،‬ويظن البشر أنها غير مُحَاطٍ بها لعظمتها؛ أو لن‬
‫ال غيب فل يرى إل الغيب‪ ،‬لكن الحق سبحانه يرى ويعلم الغيب والشهادة‪.‬‬

‫لقد قال الحق كلمة " مقال ذرة " ثلث مرات‪:‬‬
‫مرة حين قال سبحانه‪َ {:‬فمَن َي ْعمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ }[الزلزلة‪.]7 :‬‬
‫ومرة حين قال هنا‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآءِ { [يونس‪.]61 :‬‬
‫} مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الَ ْرضِ َولَ فِي ال ّ‬
‫وجاء بـ " من " هنا ليبين أنه ل يغيب عن ال تعالى من بداية ما يقال له " مثقال "‪.‬‬
‫وقال الحق سبحانه في موضع آخر‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ َولَ فِي الَرْضِ }[سبأ‪.]3 :‬‬
‫{ لَ َيعْ ُزبُ عَنْهُ مِ ْثقَالُ ذَ ّرةٍ فِي ال ّ‬
‫وجاء بالسموات أولً‪ ،‬وجاء في الية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ بالرض أولً‪ ،‬وهو‬
‫في اليتين يتكلم عن علمه للغيب‪ ،‬فيأتي بمثقال الذرة ويقدّم السماء ويأتي بها مفردة‪ ،‬ثم يأتي بما‬
‫هو أقل من الذرة ويقدّم الرض‪.‬‬
‫وهذا كله من إعجاز أساليب القرآن التي أراد البعض من المستشرقين أن يعترضوا عليها‪ ،‬وكانت‬
‫جميع اعتراضاتهم نتيجة لعجزهم عن امتلك مَلَكة الداء البياني‪.‬‬
‫وإنْ عرضنا الرد على تساؤلتهم نجد أن الحق سبحانه قَدّم الرض في الية التي نحن بصدد‬
‫خواطرنا عنها؛ لنه سبحانه يتكلم عن أهل الرض‪:‬‬
‫شهُودا إِذْ ُتفِيضُونَ فِيهِ { [يونس‪.]61 :‬‬
‫ع َملٍ ِإلّ كُنّا عَلَ ْيكُمْ ُ‬
‫} َولَ َت ْعمَلُونَ مِنْ َ‬
‫وجاء أيضا بالسماء‪ ،‬وهي السماء الدنيا التي يراها أهل الرض‪.‬‬
‫أما الية الخرى فهو سبحانه يقول‪:‬‬
‫ب لَ َيعْ ُزبُ عَ ْنهُ مِ ْثقَالُ ذَ ّرةٍ‬
‫{ َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُو ْا لَ تَأْتِينَا السّاعَةُ ُقلْ بَلَىا وَرَبّي لَتَأْتِيَ ّنكُمْ عَاِلمِ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫سمَاوَاتِ َولَ فِي الَ ْرضِ }[سبأ‪.]3 :‬‬
‫فِي ال ّ‬
‫والكلم هنا عن الساعة‪ ،‬وعلمها عند ال تعالى‪ ،‬ولم تنزل من السموات إلى السماء الدنيا حتى‬
‫نقول للمكلّفين في الرض‪ :‬قوموا ها هي الساعة‪.‬‬
‫ولذلك جاء الحديث هنا عن السموات أولً؛ لن علم الساعة عند ربّي‪ ،‬ولن ينزل إل بمشيئته‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫وهكذا جاء كل أسلوب ل بإجمال المعنى‪ ،‬ولكن بدقة جزئياته‪ ،‬فتكلم في الية التي نحن بصدد‬
‫خواطرنا عنها‪ ،‬وآية سبأ عن العلم والذرّة‪ ،‬والسماء والرض‪ ،‬وكل آية جاءت الكلمات فيها بتقديم‬
‫أو تأخير يناسب مجالها‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ِ } :‬إلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ { [يونس‪.]61 :‬‬
‫ي مكتوب في الكتاب المبين‪ ،‬ونحن‬
‫ولنا أن نلتفت إلى أن الستثناء هنا ل ُيخْرِج ما قبله‪ ،‬بل كل ش ْ‬
‫في الدنيا نجد النسان إن كان له دَين عند آخر فهو يحتفظ بالوثائق المكتوبة التي تُسجّل ما له وما‬
‫عليه‪ .‬ولكن‪ ،‬أيحتفظ الحق سبحانه بأعمالنا ونيّاتنا مكتبوة كحجة له‪ ،‬أم حجة لنا؟‬
‫إنه سبحانه يعلم أزلً كل أعمالنا‪ ،‬ولكنه يُسجّل لنا بالواقع تلك العمال والنيات؛ لنعلم عن أنفسنا‬
‫ماذا فعلنا؛ لتنقطع حجة من أساء إذا وقع به العقاب‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬أَل إِنّ َأوْلِيَآءَ اللّهِ {‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1412 /‬‬

‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ (‪)62‬‬


‫أَلَا إِنّ َأوْلِيَاءَ اللّهِ لَا َ‬

‫وجاءت هذه الية بعد كلمه الحق عن نفسه سبحانه بأنه عالم الغيب‪ ،‬ول يخفى عليه شيء‪ ،‬وشاء‬
‫ال سبحانه بذلك أن يعلّمنا أنه قد يفيض على بعض خلقه فيوضات المداد على قَدْر رياضات‬
‫المرتاضين‪َ ،‬فهَبْ أن ال قد امتن عليك بنفحة‪ ،‬فإياك أن تقول إنها من عندك‪ ،‬بل هي من عند‬
‫عالم الغيب سبحانه الذي ل يخفى عليه شيء في الرض ول في السماء‪.‬‬
‫ي ل‪ ،‬بل لنقل‪ " :‬إن فلنا ُمعَلّمُ غَ ْيبٍ "؛ لن‬
‫وعلى ذلك فل يقال‪ :‬إن فلنا قد عَلِم غيبا لنه ول ّ‬
‫الغيب ما غاب عن الناس‪ ،‬وما يغيب عنك ول يغيب عن غيرك فهو ليس غيبا مطلقا‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬الرجل الذي سُرق منه شيء‪ ،‬هو ل يعرف أين يوجد الشيء الذي سُرق منه‪ ،‬ولكنه‬
‫اللص يعرف‪ ،‬وكذلك من ساعد اللص وأخفاه وأخفى له المسروقات‪ ،‬كل هؤلء يعلمون‪ ،‬وأيضا‬
‫الجن الذين كانوا في نفس مكان السرقة يعلمون‪ ،‬وهذا ليس غيبا مطلقا‪.‬‬
‫وأيضا أسرار الكون التي كانت غيبا موقوتا‪ ،‬مثل جاذبية الرض‪ ،‬والسالب والموجب في‬
‫الكهرباء‪ ،‬وتلقيح الرياح للسحاب لينزل الماء‪ ،‬كل ذلك كان غيبا في زمن ما‪ ،‬ثم شاء الحق‬
‫سبحانه فحدّد لكل أمرٍ منها ميعادَ كشفٍ‪ ،‬فصارت أمورا مشهورة‪.‬‬
‫وقد شاء الحق سبحانه ذلك؛ ليعمل النسان ويجتهد ليكشف أسرار الكون‪.‬‬
‫ومن العجيب أن الباحث قد يعمل من أجل كشف معين‪ ،‬فيصادف كشفا آخر؛ لن ال تعالى قد أذن‬
‫لذلك الكشف الذي كان غيبا أن يولد‪ ،‬وإن لم يبحث عنه أهل الرض‪.‬‬
‫ومن اكتشف " البنسلين " رأى العفن الخضر حول بعض المواد العضوية فبحث عن أسرار ذلك‪،‬‬
‫واكتشف " البنسلين "‪.‬‬
‫و " أرشميدس " الذي اكتشف قانون الطفو‪ ،‬واستفادت منه صناعات السفن والغواصات‪ ،‬وكل ما‬
‫يسير في البحر‪ ،‬وقد اكتشاف قانون الطفو صدفة‪.‬‬
‫شهَدا‪ ،‬إما بمقدّمات يتابعها خَ ْلقُ ال بالبحث‪ ،‬وإما أن تأتي صدفة‬
‫إذن‪ :‬ففي الكون غيب قد يصير مَ ْ‬
‫في أثناء أي بحث عن شيء آخر‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬عصر البخار الذي بدأ من رجل رأى إناء ُم َغطّى يغلي فيه الماء‪ ،‬فضل غطاء الناء‬
‫يرتفع ليُخرج بعضا من البخار‪ ،‬وانتبه الرجل إلى أن البخار يمكن أن يتحول إلى طاقة تجرّ‬
‫العربات التي تسير على عَجَل‪ ،‬وهكذا جاء عصر البخار‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فميلد بعض من أسرار الكون كان تنبيها من ال تعالى لحد عباده لكي يتأمل؛ ليكتشف سِرّا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من تلك السرار‪.‬‬
‫وأغلب أسرار الكون تم اكتشافها صدفة‪ ،‬لنفهم أن عطاء ال بميلدها ـ دون مقدمات من الخَلْق‬
‫ـ أكثر مما ُوصِِل إليه بالعطاء من مقدمات الخلق‪.‬‬
‫ولذلك تجد التعبير الدائي في القرآن عن لونَي الغيب‪ ،‬تعبيرا دقيقا لنفهم أن هناك غيبا عن الخلق‬
‫جميعا وليست له مقدمات‪ ،‬ول يشاء ال سبحانه له ميلدا‪ ،‬واستأثر ال بعلمه؛ فل يعلمه إل هو‬
‫سبحانه‪.‬‬

‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬


‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ }[البقرة‪.]255 :‬‬
‫{ َيعَْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم َومَا خَ ْل َفهُ ْم َولَ ُيحِيطُونَ ِب َ‬
‫هذا هو الغيب الذي يكشفه ال سبحانه لهم‪ ،‬إما بالمقدمات‪ ،‬أو بالصدفة‪ ،‬وقد نسب المشيئة له‬
‫سبحانه‪ ،‬والحاطة من البشر‪ ،‬وهذا هو غيب البتكارات‪.‬‬
‫أما الغيب الخر الذي ل يعلمه أحد إل هو سبحانه ول ُيجَليّه إل الرسول صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فيقول الحق عنه‪:‬‬
‫ظهِرُ عَلَىا غَيْ ِبهِ أَحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ }[الجن‪26 :‬ـ ‪.]27‬‬
‫{ عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه يفيض من غيبه الذاتي على بعض خَلْقه‪ ،‬والقرآن الكريم فيه الكثير من الغيب‪،‬‬
‫وأفاضة ال تعالى على رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتحققت الحداث كما جاءت في القرآن‪.‬‬
‫والحق سبحانه يهب بعضا من خلقه بعضا من فيوضاته‪ ،‬وقد أعطى ال سبحانه رسوله صلى ال‬
‫عليه وسلم بعضا من الهِبَات وحدّد من يعطيه بعضا من الغيب‪:‬‬
‫{ ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ }[الجن‪.]27 :‬‬
‫وهي ليست للحصر؛ لن الرسول صلى ال عليه وسلم أسوة‪ ،‬وقال فيه الحق سبحانه‪:‬‬
‫س َوةٌ حَسَ َنةٌ ّلمَن كَانَ يَرْجُواْ اللّ َه وَالْ َيوْمَ الخِ َر وَ َذكَرَ اللّهَ كَثِيرا }‬
‫{ ّلقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ‬
‫[الحزاب‪.]21 :‬‬
‫ومن يعمل بعمل الرسول صلى ال عليه وسلم ويقتدي به؛ يهبه ال تعالى هِبةً يراها الناس‬
‫فيعرفون أن مَنْ يتّبع الرسول صلى ال عليه وسلم كقدوة يعطيه ال سبحانه الهبات النوارنية‪،‬‬
‫ولكن هذه الهِبَة ليست وظيفة‪ ،‬وليست ( ُدكَانا) للغيب‪ ،‬بل هي مِنْ عطاءات ال تعالى‪.‬‬
‫وانظر إلى دقة القرآن حين يقول‪:‬‬
‫ب لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُهوَ }[النعام‪.]59 :‬‬
‫{ وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫ط مفتاح الغيب لحد‪ ،‬والوليّ من أولياء ال إنما يأخذ الهبة منه سبحانه‪ ،‬لكن‬
‫أي‪ :‬أنه سبحانه لم ُي ْع ِ‬
‫مفتاح الغيب هو عند ال وحده‪.‬‬
‫وعندما نتأمل قول الحق سبحانه‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَلَ ُهمْ يَحْزَنُونَ { [يونس‪.]62 :‬‬
‫} أَل إِنّ َأوْلِيَآءَ اللّ ِه لَ َ‬
‫ب منه‪ ،‬وهو أول مَفزَع يفزع إليه إن جاءه أمر‬
‫نجد أن كلمة " وليّ " من وَلِيَهُ‪ ،‬يليه‪ ،‬أي‪ :‬قري ٌ‬
‫يحتاج فيه إلى معاونة من غيره‪ ،‬وإن احتاج إلى نصرة فهو ينصره‪ ،‬وخيره يفيض على مَنْ‬
‫واله‪.‬‬
‫ن يقرب غنيّا‪،‬‬
‫ومَنْ يقْرُب عالما يأخذ بعضا من العلم‪ ،‬ومَنْ يقرب قويّا يأخذ بعضا من القوة‪ ،‬ومَ ْ‬
‫إن احتاج‪ ،‬فالغني يعطيه ولو قَرْضاَ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالوَاليّ هو القريب الناصر ال ُمعِين المُوالِي‪.‬‬
‫وتطلق " الولي " مرةً ل سبحانه‪ ،‬وقد قال القرآن‪:‬‬
‫{ فَاللّهُ ُهوَ ا ْلوَِليّ }[الشورى‪.]9 :‬‬
‫لنه سبحانه القريب من كل خَلْقه‪ ،‬عكس الخَلْق الذين يقتربون من بعضهم أو يتباعدون حسب‬
‫خلْقٍ ل يبعده عن خَلقٍ‪ ،‬ول يشغله‬
‫إمكاناتهم‪ ،‬أما ال سبحانه وتعالى فهو الوليّ المُطلَق‪ ،‬فقُربه مِنْ َ‬
‫شيء عن شيء‪ ،‬فهو الوليّ الحقّ‪ ،‬وهو سبحانه يقول‪:‬‬

‫{ هُنَاِلكَ ا ْل َولَيَةُ لِلّهِ ا ْلحَقّ }[الكهف‪.]44 :‬‬


‫فمن يحتاج إلى الولية الحقّة فَليلجأ إلى ال‪ ،‬وهو سبحانه يُفيض على الوفياء لمنهجه من الولية‪.‬‬
‫ونجد التعبير القرآني الدقيق‪:‬‬
‫{ اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ }[البقرة‪.]257 :‬‬
‫فهو سبحانه يقرب من عباده المؤمنين‪ ،‬والمؤمنون يقربون من ال تعالى في قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} أَل إِنّ َأوْلِيَآءَ اللّهِ { [يونس‪.]62 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالولية المطلقة ل‪ ،‬وإنْ قُيّدت بشيء مضافٍ ومضافٍ إليه‪ ،‬فهي مرة تكون من المؤمنين‬
‫ل‪ ،‬ومرة تكون من ال للمؤمنين‪.‬‬
‫خصْلة من خير‪،‬‬
‫والحق سبحانه ل تحكمه قوانين؛ فبطَلقة قُدرته سبحانه إذا رأى في إنسانٍ ما َ‬
‫فيكرمه أولً‪ ،‬فيصير هذا العبد طائعا من بعد ذلك‪.‬‬
‫خصْلة‬
‫وتسمع من يقول‪ :‬إن فلنا قد خُطف من المعصية أي‪ :‬أنه كان عاصيا‪ ،‬ثم أحب ال تعالى َ‬
‫خيرٍ فيه‪ ،‬فهداه‪.‬‬
‫خفّه بالماء من البئر ليروي ظمأ‬
‫ومثال ذلك‪ :‬الرجل الذي سقى كلبا‪ ،‬بل احتال ليسقيه بأن مل ُ‬
‫الكلب؛ فغفر ال ـ سبحانه وتعالى ـ له سيئاته‪.‬‬
‫هذا الرجل لم يكن ليروي الكلب نفاقا للكلب‪ ،‬ولكن لن الرجل شعر بالعطف على كائن ذي كبد‬
‫رطبة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فليست المسائل عند ال تعالى آلية أو ميكانيكية‪ ،‬بل طلقة قُدرته سبحانه تقدّر كل موقف كما‬
‫قدّرتْ اختلف الخَلْق‪ ،‬ولذلك قال سبحانه‪:‬‬
‫لفُ أَ ْلسِنَ ِتكُ ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ }[الروم‪.]22 :‬‬
‫ت وَالَ ْرضِ وَاخْتِ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ َومِنْ آيَا ِتهِ خَ ْلقُ ال ّ‬
‫فليس عند ال تعالى قالب يضع فيه الخلق‪ ،‬بل سبحانه يخلق الطويل والقصير والسمين والرفيع‬
‫والشقر والزنجي‪ ،‬وهذا بعضٌ من طلقة قدرته سبحانه‪ ،‬وبرحمته سبحانه قرب من خَلْقه الذين‬
‫ج ُهمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ }[البقرة‪.]257 :‬‬
‫آمنوا أولً‪ ،‬وقربه سبحانه منهم‪ُ {:‬يخْرِ ُ‬
‫فمن يتبع المنهج يأخذ النور‪ ،‬فإذا علم ال سبحانه عمله بمنهجه فهو سبحانه يُقرّبه قُرْبا أكثر‬
‫فيعطيه هبةً اصطفائية يراها الذين حوله وقد يقتدون به‪.‬‬
‫والحق سبحانه يريد من المؤمن الدب مع خَلْق ال‪ ،‬فإذا علم سيئةً عن إنسان فعليه أن يسترها‪،‬‬
‫لن الحق سبحانه يحب السّتْر ويحب من يَستر‪.‬‬
‫وأنت قد تكره إنسانا تعلم عنه سيئةً ما‪ ،‬وقد تكره كل حسنة من حسناته‪ ،‬فيريد ال ألّ يحرمك من‬
‫حسنات مَنْ له سيئة فيسترها عنك لتأخذ بعضا من حسناته‪ ،‬ويأمرك الحق ألّ تحتقر هذا المسيء؛‬
‫خصْلة خير واحدة‪ ،‬فيكرمه ال سبحانه من أجلها أولً‪ ،‬ثم يطيعه هذا العبد ثانيا‪.‬‬
‫لنه قد يتمتع ب َ‬
‫والحق سبحانه يقول في الحديث القدسي‪:‬‬
‫" يا ابن آدم أنا لك محبّ فبحقّي عليك كن لي مُحِبّا "‪.‬‬
‫ويقول ال سبحانه في حديث قدسي‪:‬‬
‫" أنا عند ظن عبدي بي‪ ،‬وأنا معه إذا ذكرني‪ ،‬فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‪ ،‬وإنْ ذكرني‬
‫في مل ذكرته في مل خير منهم "‪.‬‬

‫وفي هذا القول يضع مسئولية القُرب من ال في يد الخَلْق‪ ،‬ويضيف الحق سبحانه‪:‬‬
‫" وإن تقرّب إليّ شبرا تقرّبتُ إليه ذراعا‪ ،‬وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا‪ ،‬وإن أتاني يمشي‬
‫أتيته هرولة "‪.‬‬
‫ومن يريد أن يأتيه ال هرولة فليذهب إلى ال ماشيا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاليمان بال يسلّم المؤمن مفتاح القرب من ال‪.‬‬
‫ومن يكن من أصحاب الخُلُق الملتزمين بالمنهج يُقرّبْه ال منه أكثر وأكثر‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمن الناس مَنْ يصل بطاعة ال إلى كرامة ال‪ ،‬ويدق على باب الحق‪ ،‬فينفتح له الباب‪ ،‬ومن‬
‫ن يصل بكرامة ال أولً إلى طاعة ال ثانيا‪.‬‬
‫الناس مَ ْ‬
‫ول المثل العلى‪ :‬أنت كواحد من البشر قد يدق بابك إنسانٌ يحتاج إلى لقمة أو صدقة فتعطيه‪،‬‬
‫وهناك إنسان آخر تحب أنت أن تعطيه‪ ،‬وعندما تعطيه يطيعك من منطلق الحسان إليه‪ ،‬فما بالنا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بعطاء الحق لعباده؟‬
‫إذن‪ :‬فمنهم مَنْ يصل بكرامة ال إلى طاعة ال‪ ،‬ومنهم من يصل بطاعة ال إلى كرامة ال‪ ،‬وحين‬
‫يصل النسان إلى القرب من ال‪ ،‬ويقرب ال من العبد‪ ،‬هنا يكون العبد في معية ال‪ ،‬وتفيض عليه‬
‫هذه المعية كثيرا‪.‬‬
‫وقد قال أبو العلء المعري لمحبوبته‪:‬أنت الحبيبُ ولكني أعوذ ِبهِ من أن أكون حبيبا غير‬
‫محبوبِأي‪ :‬أنه يستعيذ بال من أن يكون محبا لمن يرفض حبّه‪ ،‬ولكن محبة ال تختلف عن محبة‬
‫البشر‪ ،‬وسبحانه ل يعامل محبيه كذلك‪ ،‬فأنت حين تحب ال يقرّبك أكثر وأكثر‪ ،‬ويسمّي ذلك "‬
‫المصافاة " ‪ ،‬فإذا أفاض ال سبحانه على بعض خَلْقه هِباتٍ من الكرامات فعلى العباد الذين‬
‫اختصهم الحق سبحانه بذلك أن يُحسنوا الدب مع ال‪ ،‬وأل يتبجّح واحد منهم متفاخرا بعطاء ال‬
‫سبحانه له‪.‬‬
‫فالمباهاة بالكرامات تضيعها‪ ،‬ويسلبها الحق سبحانه من الذي يتبجّح بها ويتفاخر ويتباهى‪ ،‬فمن‬
‫تظاهر بالكرامة ليس له كرامة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه يريد أن يكون العبد دائما في معيّيته‪ ،‬وهو سبحانه الذي بدأ وبيّن بالية‬
‫ي المؤمنين؛ ولذلك سيخرجهم من الظلمات إلى النور‪ .‬فقال‪:‬‬
‫الواضحة أنه سبحانه ول ّ‬
‫ج ُهمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ }[البقرة‪.]257 :‬‬
‫{ اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ ُيخْرِ ُ‬
‫ونحن نعلم أنه سبحانه يأتي بالمحسّات ليبيّن المعنويات؛ لن إ ْلفَ النسان أولً بالمحسّات‪ ،‬وهي‬
‫أقرب إلى تقريب المراد‪،‬فحين يضرب الحق سبحانه لنا المثل بالكفر واليمان‪ ،‬يصف الكفر‬
‫بالظلمة‪ ،‬واليمان بالنور‪ ،‬إنما يريد الحق أن يجعل لك المراد واضحا موصولً بمفهومك‪.‬‬
‫وإذا كنا نتجنّب معاطب الظلمات الحسية‪ ،‬أليس الجدر بها ـ أيضا ـ أن نتجنب معاطب‬
‫الظلمات المعنوية‪ ،‬إن الظلمة الحسية تستر الشياء فل نرى الشياء‪ ،‬وقد نرتطم بأضعف شيءٍ‬
‫فنحطّمه أو نصطدم بأقوى شيء فيحطمنا‪.‬‬
‫إذن‪َ :‬فحَجْب المرائي يسبّب الكوارث‪ ،‬أما حين يأتي النور؛ فهو يبيّن ملمح الشياء فتسير على‬
‫هُدىً وأنت مطمئن‪.‬‬

‫و َهبْ أنك في مكان مظلم ويوجد شيء آخر في مكان منير‪ ،‬فأنت في الظلمة ترى مَنْ يوجد في‬
‫النور‪ ،‬وهذه مسألة لم يفطن لتفسيرها علماء ما قبل السلم‪ ،‬حيث كانوا يظنون أن الرؤية إنما‬
‫تحدث من انتقال شعاع من عين الرائي إلى المرئيّ‪ ،‬حتى جاء " الحسن بن الهيثم " العالم‬
‫السلمي واكتشف قوانين الضوء‪ ،‬وكشف خطأ ما سبقه من نظريات‪ ،‬وحدّد أن المرئي هو الذي‬
‫يصدر منه شعاع إلى الرائي‪ ،‬وإذا ما كان المرئي في ظُلمةٍ فلن يراه أحد‪ ،‬ولو كان هناك شعاع‬
‫يخرج من الرائي؛ لرأى النسان في الظلم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬أول ولية من ال للمؤمنين أنه سبحانه يخرجهم من الظلمات إلى النور‪ ،‬والظلمة المعنوية‬
‫أقوى من الظلمة الحسية‪ ،‬وكذلك النور المعنوي أقوى من النور الحسّي‪ ،‬فعالَمُ القيم قد يكون أقوى‬
‫من عالم الحس؛ لن الجبر في عالم الحسّ يمكن أن يحدث‪ ،‬أما في عالم القيم فهو أمر شاق؛‬
‫ولذلك قال الشاعر‪:‬جراحاتُ السنانِ لها التئامُ ول يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُويقول الحق سبحانه في الية‬
‫التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪:‬‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَلَ ُهمْ يَحْزَنُونَ { [يونس‪.]62 :‬‬
‫} أَل إِنّ َأوْلِيَآءَ اللّ ِه لَ َ‬
‫و " أل " كما أوضحنا من قبل أداة تنبيه من المتكلَم للمخاطب حتى ل تفوته كلمة واحدة مما يجيء‬
‫في الخطاب‪.‬‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ { [يونس‪ .]62 :‬أي‪ :‬ل خوف عليهم من غيرهم } َولَ هُمْ‬
‫وقوله سبحانه‪ } :‬لَ َ‬
‫يَحْزَنُونَ { [يونس‪ ]62 :‬أي‪ :‬أن الحزن لن يأتي منهم‪ ،‬والخوف يكون من توقع شيء ضار لم يقع‬
‫حتى الن‪ ،‬ولكنه قد يحدث في المستقبل‪.‬‬
‫وفي حياتنا اليومية نجد الب يمسك بيد ابنه في الزحام خوفا عليه‪ ،‬وقد ترى وليّا من أولياء ال‬
‫وقد أصيب ابنه في حادث أو مات البن‪ ،‬تجد الوليّ في ثبات لنه يعلم حكمة ال في قضائه‪ ،‬فل‬
‫تتطوع أنت بالخوف عليه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالخوف يأتي من المستقبل‪ ،‬وهو أمر مرتقب‪ ،‬أما الحزن فهو إحساس يحدث على شيء‬
‫فات‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫سوْاْ عَلَىا مَا فَا َتكُمْ }[الحديد‪.]23 :‬‬
‫{ ّلكَيْلَ تَ ْأ َ‬
‫والحزن على ما فات عبث؛ لن ما فات ل يعود‪.‬‬
‫وأولياء ال تعالى ل خوف عليهم؛ لنهم دائما بصدد معرفة حكمة ال‪ ،‬ومَنْ ل يعرف حكمة ال‬
‫تعالى في الشياء قد يقول‪ " :‬إن فلنا هذا مسكين "؛ لنك ل تعرف ماذا جرى له‪.‬‬
‫وأما الحزن فهو مشاعر قلبية يريد ال من المؤمن أن تمر على باله‪.‬‬
‫وقد قال صلى ال عليه وسلم حين افتقد ابنه‪ " :‬وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " ولكنه حزن‬
‫الوَرَع الذي يتجلّى في قوله صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" إن العين تدمع‪ ،‬والقلب يحزن‪ ،‬ول نقول إل ما يرضي ربنا "‪.‬‬
‫وبين ال سبحانه لنا شروط الولية فيقول‪ } :‬الّذِينَ آمَنُو ْا َوكَانُواْ يَ ّتقُونَ {‬

‫(‪)1413 /‬‬

‫الّذِينَ َآمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ (‪)63‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫واليمان هو المر العتقادي الول الذي يُبنى عليه كل عمل‪ ،‬ويقتضي تنفيذ منهج ال‪ ،‬المر في‬
‫المر‪ ،‬والنهي في النهي‪ ،‬والباحة في الباحة‪.‬‬
‫والتقوى ـ كما علمنا ـ هي اتقاء صفات الجلل في اله تعالى‪ ،‬وأيضا اتقاء النار‪ ،‬وزاد رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم في صفات من تصدر عنه التقوى؛ لنها مراحل‪ " ،‬فقال صلى ال عليه‬
‫وسلم يصف المتقين‪:‬‬
‫" هم قوم تحابّوا بروح ال على غير أرحام بينهم‪ ،‬ول أموال يتعاطونها‪ ،‬فوال إن وجوههم لنور‪،‬‬
‫وإنهم لَعلَى نور "‪.‬‬
‫وقد سئُل عمر ـ رضي ال عنه ـ عن المتقين فقال‪ " :‬الواحد منهم يزيدك النظر إليه قُربا من‬
‫ال "‪ .‬وكأنه ـ رضي ال عنه ـ يشرح لنا قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ }[الفتح‪.]29 :‬‬
‫وساعة ترى المتقي ل ُتسَ ّر وتفرح به‪ ،‬ول تعرف مصدر هذا السرور إل حين يقال لك‪ :‬إنه‬
‫ملتزم بتقوى ال‪ ،‬وهذا السرور يلفتك إلى أن تقلده؛ لن رؤياه تذكّرك بالخشوع‪ ،‬والخضوع‪،‬‬
‫سمْت‪ ،‬وانبساط السارير‪.‬‬
‫والسكينة‪ ،‬ورقّة ال ّ‬
‫والواحد من هؤلء ينظر إلى الكون ول يجد في هذا الكون أي خَلَل‪ ،‬بل يرى كل شيء في‬
‫موضعه تماما‪ ،‬ول يرى أي قُبح في الوجود‪ ،‬وحتى حين يصادف القبح‪ ،‬فهو يقول‪ :‬إن هذا القبح‬
‫يبيّن لنا الحُسْن‪ ،‬ولول وجود الباطل ومتاعبه لما عشق الناسُ الحقّ‪ ،‬وهكذا يصير الباطل من‬
‫جنود الحق‪.‬‬
‫إن وجود الشرّ يدفع الناس إلى الخير؛ ولذلك يقال‪ :‬كُنْ جميلً في دينك تَرَ الوجود جميلً؛ لنك‬
‫حين ترى الشياء وتقبل قدر ال فيها‪ ،‬هنا يفيض ال عليك بهبات من الفيض العلى‪ ،‬وكلما‬
‫تقرّبت إلى ال زاد اقتراب ال سبحانه منك‪ ،‬ويفيض عليك من الحكمة وأسرار الخلق‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬العبد الصالح الذي آتاه ال من عنده رحمة وعلّمه من لدنه علما‪ ،‬هذا العبد يعلّم‬
‫موسى عليه السلم‪ ،‬فحين قارن بين خَرْق العبد الصالح لسفينة سليمة‪ ،‬ولم يكن يعلم أن هناك‬
‫غصْبا؛ ولذلك ناقش موسى العبد الصالح‪ ،‬وتساءل‪ :‬كيف تخرق سفينة‬
‫حاكما ظالما يأخذ كل سفينة َ‬
‫سليمة؟ وهنا بيّن له العبد الصالح أن الملك ا لظالم حين يجد السفينة مخروقة فلن يأخذها‪ ،‬وهي‬
‫سفينة يملكها مساكين‪.‬‬
‫وحين قَتل العبدُ الصالح غلما‪ ،‬كان هذا الفعل في نظر موسى جريمة‪ ،‬ولم يعلم سيدنا موسى ما‬
‫علمه العبد الصالح أن هذا الولد سوف يسيء إلى أهله‪ ،‬وأمر ال العبد الصالح بقتله قبل البلوغ‬
‫حتى ل يفتن أهله‪ ،‬وسوف يدخل هذا الولد الجنة ويصير من دعاميص الجنة‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إن من يموت من قبل البلوغ ليس له مسكن محدّد في الجنة‪ ،‬بل يذهب حيث يشاء؛ فهو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كالطفل الصغير الذي يدخل قصرا‪ ،‬ول يطيق البقاء في مكان واحد‪ ،‬بل يذهب هنا وهناك‪ ،‬وقد‬
‫يذهب إلى حيث سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم أو أبو بكر الصديق‪ ،‬أو عند أي صحابي جليل‪.‬‬

‫وأيضا حين دخل سيدنا موسى ـ عليه السلم ـ مع العبد الصالح إلى قرية واستطعما أهلها‬
‫فرفضوا أن يطعموهما ـ وطلب الطعام‪ .‬هو أصدق ألوان السؤال ـ فأبى أهل القرية أن‬
‫يطعموهما‪ ،‬وهذا دليل الخسّة واللؤم؛ فأقام العبد الصالح الجدار اليل للسقوط في تلك القرية‪.‬‬
‫ولم يكن سيدنا موسى ـ عليه السلم ـ قد علم ما علمه العبدُ الصالح من أن رجلً صالحا قد‬
‫مات وترك لولده كنزا تحت هذا الجدار‪ ،‬وبناه بناية موقوتة بزمن بلوغ البناء لسن الرشد؛ فيقع‬
‫الجدار ليحد البناء ما ترك لهم والدهم من كنز‪ ،‬ول يجرؤ أهل القرية اللئام على السطو عليه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هذه هباتٌ من فيض الحق سبحانه على عباده الصالحين‪ ،‬وهو سبحانه وتعالى يجعل مَثَل‬
‫هؤلء العباد كالصواري المنصوبة التي تهدي الناس‪ ،‬أو كالفنار الذي يهدي السفن في الظلمة‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪َ } :‬لهُمُ الْ ُبشْرَىا فِي ا ْلحَياةِ الدّنْيَا {‬

‫(‪)1414 /‬‬

‫َلهُمُ الْ ُبشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الَْآخِ َرةِ لَا تَ ْبدِيلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ (‪)64‬‬

‫والبُشرى‪ :‬من البِشْر والبشارة والتبشير‪ ،‬وكلها مأخوذة من البشرة‪ ،‬وهي الجلد؛ لن أي انفعال في‬
‫باطن النفس النسانية إنما ينضح على البشرة‪ ،‬فإذا جئت للنسان بأمر سارّ تجد أثر هذا السرور‬
‫على أساريره‪ ،‬وإن جئت للنسان بخبر سيّىء تجد الكدر وقد ظهر على بشرته‪ ،‬فالبشرة هي أول‬
‫منفعل بالحداث السارة أو المؤلمة‪.‬‬
‫وحين يقال‪ " :‬بشرى " فهذا يعني كلما إذا سمعه السامع يظهر على بشرته إشراق وسرور؛ لنه‬
‫كلم مبشّر بخير‪.‬‬
‫وحين " سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن البشرى‪ ،‬قال‪ " :‬إنها الرؤية الصالحة تُرى‬
‫للمؤمن أو يراها " ‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة "‪.‬‬
‫وقد أوحي للنبي صلى ال عليه وسلم بالرؤيا ستة أشهر‪ ،‬وأوحي إليه في اليقظة ثلثة وعشرين‬
‫عاما‪ ،‬فإذا نسبت الستة أشهر إلى الثلثة والعشرين عاما‪ ،‬تجد أن الستة أشهر تمثل جزءا من ستة‬
‫وأربعين جزءا‪.‬‬
‫والرؤيا ليست هي الحُلْم؛ لن الرؤيا هي شيء لم يشغل عقلك نهارا‪ ،‬وليس للشيطان فيه دخل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمثل العامي يقول‪ " :‬الجوعان يحلم بسوق العيش " فإن كان ما يراه النسان في أثناء النوم له‬
‫علقة بأمر يشغله‪ ،‬فهذا هو الحلم‪ ،‬وليس للرؤيا‪ ،‬وإن كان ما يراه النسان في أثناء النوم شيئا‬
‫يخالف منهج ال‪ ،‬فهذه قذفة من الشيطان‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهناك فارق بين الرؤيا والحلم‪ ،‬وأضغاث الحلم‪.‬‬
‫البشرى ـ إذن ـ هي الرؤيا الصالحة‪ ،‬أو هي المقدمات التي ُتشْعر خَلْق ال بهم فتتجه قلوب‬
‫الناس إلى هؤلء الولياء‪ ،‬وقد تجد واحدا أَحبه ال تعالى في السماء‪ " ،‬فيقول ال سبحانه وتعالى‬
‫لجبريل عليه السلم‪ " :‬إني أحب فلنا فأحبّهُ‪ .‬قال‪ :‬فيحبه جبريل‪ ،‬ثم ينادي جبريل في السماء‬
‫فيقول‪ :‬إن ال يَحب فلنا فأحِبّوه‪ ،‬فيحبه أهل السماء‪ .‬قال‪ :‬ثم يُوضع له القبول في الرض "‪.‬‬
‫سمْتا‬
‫وساعة تراه مكتوبا له القبول‪ ،‬فالكل يُجمعون على أن في رؤيتهم لهذا المحبوب من السماء َ‬
‫طيبا‪ ،‬وهذه هي البشرى‪.‬‬
‫أو أن البشرى تأتي لحظة أن يأتي مََلكُ الموت‪ ،‬فيُلْقي عليه السلم‪ ،‬ويشعر أن الموت مسألة‬
‫طبيعية‪ ،‬مصداقا لقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ طَيّبِينَ َيقُولُونَ سَلمٌ عَلَ ْي ُكمُ ا ْدخُلُواْ الْجَنّةَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }[النحل‪.]32 :‬‬
‫أو ساعة يبيضّ الوجه حين يأخذ النسان من هؤلء كتابه بيمينه‪ ،‬وهذه بشرى في الدنيا وفي‬
‫الخرة‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪ {:‬إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُواْ تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلمَلَ ِئكَةُ َألّ تَخَافُو ْا َولَ‬
‫تَحْزَنُو ْا وَأَبْشِرُواْ بِا ْلجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ َأوْلِيَآ ُؤكُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َر ِة وََلكُمْ فِيهَا‬
‫سكُ ْم وََلكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ }‬
‫مَا تَشْ َتهِي أَنفُ ُ‬

‫[فصلت‪30 :‬ـ ‪.]31‬‬


‫إذن‪ :‬فهؤلء الولياء يتلقون من فيوضات ال عليهم بواسطة الملئكة ويتميزون عن غيرهم؛ لن‬
‫الواحد منهم قد يفرض على نفسه نوافل فوق الفروض؛ لن الفروض هي أقل القليل من التكاليف‪.‬‬
‫وقد يرى واحد منهم أن القيام بالفروض ل تناسب مع حبه ل تعالى؛ فيزيد من جنسها على ما‬
‫فرض ال‪ ،‬ويصلّي ـ بدلً من خمسة فروض ـ عشرة أخرى نوافل‪ ،‬أو يصوم مع رمضان‬
‫شهرا أو اثنين‪ ،‬أو يصوم يومي الثني والخميس من كل أسبوع‪.‬‬
‫وهذا دليل على أنه وجد أن الفروض قليلة بالنسبة لدرجة حبه ل تعالى‪ ،‬وأن ال تعالى يستحق‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬وهذا معناه أن مثل هذا العبد قد دخل في مقام الود مع ال تعالى‪ ،‬وهنا يفيض ال‬
‫سبحانه وتعالى عليه بما يشاء‪ ،‬وينال من رضوان ال ما جاء في الحديث القدسي‪:‬‬
‫ي مما افترضته عليه‪،‬‬
‫" من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب‪ ،‬وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إل ّ‬
‫وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬و ِرجْلَهُ التي يمشي عليها‪ ،‬وإن سألني لعطينّه‪ ،‬ولئن‬
‫استعاذني لعيذنّه‪ ،‬وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن‪ ،‬يكره الموت وأنا‬
‫أكره مساءته "‪.‬‬
‫وهكذا تختلف المقاييس بين عبد يحب ال تعالى ويؤدي فوق ما عليه‪ ،‬وعبد آخر يقوم بالتكاليف‬
‫وحدها‪.‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله‪:‬‬
‫} لَ تَبْدِيلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ ذاِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ { [يونس‪.]64 :‬‬
‫وما دام الحق سبحانه قد قال‪ } :‬لَ تَبْدِيلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ { فلن تجد أحدا قادرا على ذلك‪ ،‬كما أن‬
‫الخلق مقهورون كلهم يوم القيامة؛ ومَنْ كان يبيح له ال تعالى أن يملك شيئا في الدنيا لم يعد مالكا‬
‫لشيء‪ ،‬بدليل أن الكل سيسمع قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر‪.]16 :‬‬
‫وما دام الحق سبحانه قد وعد ببشرى الدنيا وبشرى الخرة‪ ،‬فل تبديل لما حكم به ال‪ ،‬فل شيء‬
‫يتأبّى على حكم ال تعالى‪ ،‬والوعد بالبُشريات في الدنيا وفي الخرة فوز عظيم مؤكد‪.‬‬
‫جمِيعا {‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬ولَ يَحْزُنكَ َقوُْلهُمْ إِنّ ا ْلعِ ّزةَ للّهِ َ‬

‫(‪)1415 /‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ (‪)65‬‬


‫جمِيعًا ُهوَ ال ّ‬
‫وَلَا يَحْزُ ْنكَ َقوُْلهُمْ إِنّ ا ْلعِ ّزةَ لِلّهِ َ‬

‫تجيء هذه الية بعد أن بيّن ال سبحانه وتعالى اعتراضات الكفار‪ ،‬وإيذاءهم لرسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم وتكذيبهم له وقولهم فيه ما قالوه‪ ،‬وفيما قالوه ما أحزنه صلى ال عليه وسلم؛ لذلك طلب‬
‫منه الحق سبحانه ألّ ينفعل لما قالوه انفعال الحزين‪ ،‬فقد قالوا‪ :‬ساحر‪ ،‬وكاذب‪ ،‬ومُفْتَرٍ‪ ،‬ومجنون‪،‬‬
‫وقد نفى عنه الحق سبحانه كل ما قالوه‪ ،‬فلو كان محمد صلى عليه وسلم ساحرا فلماذا لم يسحرهم‬
‫هم أيضا‪ ،‬وهل للمسحور إرادة مع الساحر؟!‬
‫إذن‪َ :‬ك ّذبَ قولَهم في أنه صلى ال عليه وسلم سحر عبيدَهم وأولدَهم‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬مجنون‪ ،‬ولم يكن في سلوكه صلى ال عليه وسلم أدنى أثر من جنون‪ ،‬وفنّد أقوالهم هذه‬
‫بقوله سبحانه‪:‬‬
‫ك لَجْرا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ‬
‫سطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبمَجْنُونٍ * وَإِنّ َل َ‬
‫{ ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَ ْ‬
‫َلعَلَىا خُُلقٍ عَظِيمٍ }[القلم‪1 :‬ـ ‪.]4‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالمجنون ل يكون على خُلُق عظيم أبدا‪.‬‬
‫وحين قالوا‪ :‬إنه افترى القرآن‪ ،‬تحداهم أن يأتوا بسورة من مثل ما قال‪ ،‬وعجزوا عن ذلك رغم‬
‫أنهم مرتاضون للشعر والدب والبيان‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َولَ يَحْزُنكَ َقوُْلهُمْ } [يونس‪ ]65 :‬لن أقوالهم ل حصيلة لها من الوقوف أمام الدعوة؛ لن‬
‫جمِيعا } [يونس‪ ]65 :‬والعزة هي القوة‪ ،‬والغلبة‪ ،‬ويقال‪ :‬هذا الشيء عزيز‪ ،‬أي‪ :‬ل‬
‫{ ا ْلعِ ّزةَ للّهِ َ‬
‫يوجد مثله‪ ،‬وهو سبحانه العزيز ال ُمطْلَق؛ لنه ل إله إل هو ل يُغلَب ول يُقهَر‪.‬‬
‫وتلحظ حين تقرأ هذه الية وجود حرف " الميم " فوق كلمة { َقوُْلهُمْ } وتعني‪ :‬ضرورة الوقف‬
‫هنا‪.‬‬
‫ولسائل أن يقول‪:‬‬
‫كيف يلزم الوقف هنا مع أن القرآن الكريم مبنيّ على الوصل؛ وآخر حرف في كل سورة تجده‬
‫مُنوّنا‪ ،‬وليس في القرآن ما يُلزم الوقف للقارىء؟‬
‫وأقول رَدّا على هذا التساؤل‪ :‬إن العلماء حين لحظوا ضعف مَلَكة اللغة؛ جاءوا بهذا الوقف ليتفهم‬
‫القارىء ـ الذي ل علم له بالبيان العربي ـ كيف يقرأ هذه الية‪ ،‬ف َهبْ أن واحدا ل يملك فطنة‬
‫جمِيعا } [يونس‪ ]65 :‬إلى { َولَ يَحْزُنكَ َقوُْلهُمْ } [يونس‪.]65 :‬‬
‫الداء‪ ،‬فينسب { إِنّ ا ْلعِ ّزةَ للّهِ َ‬
‫ويخطىء الفهم‪ ،‬ويظن ـ معاذ ال ـ أن العزة ل هي أمر يُحزِن النبي صلى ال عليه وسلم؛‬
‫لذلك جاء العلماء بالوقف هنا لندقّق القراءة ونُحْسِن الفهم‪.‬‬
‫ولذلك علينا أن نقرأ { َولَ َيحْزُنكَ َقوُْلهُمْ } [يونس‪ ]65 :‬ثم نتوقف قبل أن نتابع القراءة { إِنّ ا ْلعِ ّزةَ‬
‫جمِيعا } [يونس‪]65ِ :‬؛ وبهذا نفهم المعنى‪ :‬يجب ألّ تحزن يا محمد؛ لن أقوالهم لن تغيّر في‬
‫للّهِ َ‬
‫مجرى حتمية انتصارك عليهم‪.‬‬
‫ويريد الحق سبحانه هنا أن يطمئن رسوله صلى ال عليه وسلم في أمر محدد‪ ،‬هو أنه صلى ال‬
‫عليه وسلم مهمته هي البلغ فقط‪ ،‬وليس عليه أن يُلزمهم باليمان برسالته والتسليم لمنهجه‪.‬‬

‫وبيّن له الحق سبحانه‪ :‬أنهم إذا ما صدّوا بعد بلغك‪ ،‬فل تحزن مما يقولون؛ فأقوالهم ل يقوم‬
‫عليها دليل‪ ،‬ول تنهض لها حُجّة‪ ،‬وقد جاء فيهم قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫سهُمْ }[النمل‪.]14:‬‬
‫جحَدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ‬
‫{ وَ َ‬
‫وأقوالهم لن تقف في سبيل دعوتك‪ ،‬وسيُتمّ ال نوره‪ ،‬ول يوجد أعز من ال سبحانه وتعالى‪ ،‬ولن‬
‫يجير أحد على أحدا‪ ،‬فهو سبحانه يُجير ول يُجار عليه‪.‬‬
‫حجّة‪ ،‬وقد تكون عزة حلْف‪ ،‬وقد تكون عزة‬
‫وإذا كانت العزة هي القهر والغلبة‪ ،‬وقد تكون عزة ُ‬
‫حكمة‪ ،‬وكل واحد من خلق ال سبحانه قد توجد له عزة مجالٍ ما أو محيط ما‪ ،‬لكن العزة ل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سبحانه شاملة مطلقة في كل محيطٍ وفي كل مجال‪ ،‬شاملة لكل شيء وأي شيء‪.‬‬
‫ولماذا لم يأت الحق سبحانه بأسلوب ال َقصْر في هذه الية؟‬
‫أي‪ :‬أن تأتي الصفة للموصوف وتنفيها عما عداه؛ كأن نقول‪ " :‬لزي ٍد مالٌ ليس لغيره "‪ .‬وإذا قدمنا‬
‫الجار والمجرور ـ وهو المتعلّق ـ فنقول‪ " :‬لفلنٍ كذا " ‪ ،‬وهذا يعني ان غير فلنٍ ليس له كذا‪.‬‬
‫وإنْ قلنا‪ " :‬فلن له كذا " فيصح أن نقول‪ " :‬ولفلنٍ كذا‪ ،‬ولفلنٍ كذا‪ ،‬ولفلنٍ كذا "‪.‬‬
‫أما إذا قلت‪ " :‬لفلن كذا " فمعناها‪ :‬امتناع أن يكون لغير فلن شيء من مثل ما قلت‪.‬‬
‫جمِيعا { [يونس‪ ]65 :‬وجاء بالتأكيد ولم يأت لها بأسلوب‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ ا ْلعِ ّزةَ للّهِ َ‬
‫القصر الذي يعطي العزة ل سبحانه وينفيها عن غيره؛ لنه ل يوجد لهذه الية مناهض‪ ،‬وهو‬
‫كلم ابتدائي يخبر به ال سبحانه خبرا كونيا بأن العزة ل جميعا‪.‬‬
‫وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول ذلك ـ وهو خالق الخلق ـ فلن تأتي قضية كونية تناقضها‪،‬‬
‫ولو وجدت ـ معاذ ال ـ قضية كونية تناقضها‪ ،‬فالية لن تكون صادقة‪ .‬وهذا لم ولن يحدث أبدا‬
‫مع آيات الحق سبحانه؛ لنه هو خالق الكون‪ ،‬وهو مُنزل اليات؛ فل يمكن أن يحدث تناقض أبدا‬
‫بين الكون وكلم خالق الكون سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫وقد حدث أن ادعى بعضهم العزة لنفسه وقالوا‪:‬‬
‫ن الَعَزّ مِ ْنهَا الَ َذلّ }[المنافقون‪.]8 :‬‬
‫جعْنَآ إِلَى ا ْلمَدِي َنةِ لَيُخْ ِرجَ ّ‬
‫{ لَئِن رّ َ‬
‫وكان مغزى قولهم هو ادعاء العزة لنفسهم‪ ،‬وادعاء الذلة للمؤمنين‪.‬‬
‫إذن فالعزة قد ادّعيت‪ ،‬وما دامت قد ادعيت فلماذا لم تأت بأسلوب القصر؟‬
‫نقول‪ :‬ل‪ ،‬لقد شاء الحق سبحانه أن يقول‪:‬‬
‫{ وَلِلّهِ ا ْلعِ ّز ُة وَلِرَسُولِ ِه وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[المنافقون‪.]8 :‬‬
‫فالعزة ل ل تتعداه‪ ،‬ولكنه سبحانه شاء أن تكون عزة رسوله صلى ال عليه وسلم وعزة المؤمنين‬
‫من باطن عزة ال تعالى‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه هنا‪:‬‬
‫جمِيعا { أي‪ :‬في كل ألوانها هي ل سبحانه وتعالى‪ ،‬إن كانت عزة حكمه فهو‬
‫} إِنّ ا ْلعِ ّزةَ للّهِ َ‬
‫الحكيم‪ ،‬وإنْ كانت عزة القبض على المور فهو العزيز‪ ،‬وإن كانت عزة الحلْم فهو الحليم‪ ،‬وإنْ‬
‫كانت عزة الغضب والنتقام فهو المنتقم الجبّار‪ ،‬وكلّ ألوان العزة ل تعالى‪:‬‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ { [يونس‪.]65 :‬‬
‫} ُهوَ ال ّ‬

‫وما دامت العزة هي الغلبة والقهر‪ ،‬فال سبحانه يسمع من يستحق أن يُقهر منه‪ ،‬وما دام المر فيه‬
‫قول فهو يجيء بالسمع‪ ،‬وإنْ كان فيه فعل‪ ،‬فهو يأتي بصفة العليم‪ ،‬فهو السميع لما يُقال والعليم بما‬
‫يُفعل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونحن نعلم أن المنهيّ عنه هنا هو‪َ } :‬ولَ َيحْزُنكَ َقوُْلهُمْ { [يونس‪.]65 :‬‬
‫سمِيعُ { أولً‪.‬‬
‫لذلك كان المناسب أن يقال‪ُ } :‬هوَ ال ّ‬
‫ويريد الحق سبحانه أن يدلّل على هذه القضية دللة كونية في آيات ال تعالى في الكون‪ ،‬وليس‬
‫في الوجود أو الكون مَنْ يقف أمامه سبحانه؛ لذلك ل بد أن نلحظ أن قانون " العزة ل جميعا "‬
‫محكوم بأن ل تعالى ما في السموات وما في الرض‪.‬‬
‫سمَاوَات {‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬أَل إِنّ للّهِ مَن فِي ال ّ‬

‫(‪)1416 /‬‬

‫ض َومَا يَتّبِعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ‬


‫سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫أَلَا إِنّ لِلّهِ مَنْ فِي ال ّ‬
‫يَتّ ِبعُونَ ِإلّا الظّنّ وَإِنْ هُمْ إِلّا يَخْ ُرصُونَ (‪)66‬‬

‫فالحق سبحانه ـ إذن ـ لن يَخرج كائنٌ مَنْ كان عن ملكه‪.‬‬


‫سمَاواتِ‬
‫وساعة تجد الحق سبحانه يبيّن الشيء وضده‪ ،‬فهو يأتي بالقانون والطار{ للّهِ ما فِي ال ّ‬
‫َومَا فِي الَ ْرضِ }[البقرة‪.]284 :‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬حين تبع قوم فرعون موسى ـ عليه السلم ـ وقومه‪ ،‬قال أصحاب موسى‪ {:‬إِنّا‬
‫َلمُدْ َركُونَ }[ الشعراء‪.]61 :‬‬
‫قالوا ذلك؛ لنهم رأوا البحر أمامهم‪ ،‬فشاء الحق سبحانه أن يبيّن لهم أن البحر لن يعوق مشيئته‬
‫سبحانه‪ ،‬ولم ينفلت البحر من قوة ال تعالى؛ لن ل ما في السموات وما في الرض‪ ،‬والبحر‬
‫منها؛ لذلك انفلق البحر‪ ،‬فكان فِرْقٍ كالطود العظيم‪.‬‬
‫فل شيء يخرج عن مُلكه سبحانه تعالى؛ ولذلك يأتي الحق سبحانه بالنقيض‪ ،‬فبعد أن جعل الحق‬
‫سبحانه لهم مسلكا في البحر‪ ،‬وكل فرْق كالطود العظيم‪ ،‬ويظل البحر مفلوقا فيدخل قوم فرعون‬
‫فيه‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول لموسى عليه السلم‪ {:‬وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ رَهْوا إِ ّن ُهمْ جُندٌ ّمغْ َرقُونَ }[الدخان‪.]24 :‬‬
‫فيأمر الحق سبحانه البحر أن يعود كما كان؛ فيغرق قوم فرعون بعد أن أنجى ال ـ سبحانه‬
‫وتعالى ـ موسى ـ عليه السلم ـ ومن معه‪ ،‬فأهلك وأنجى بالشيء الواحد؛ لنه سبحانه له ما‬
‫في السموات وما في الرض‪ ،‬وليبيّن الحق سبحانه لنا أنه ل شيء في كون ال تعالى يقوم مقام‬
‫عزته سبحانه أبدا‪.‬‬
‫وهناك مثال آخر‪ :‬حين يقول نوح ـ عليه السلم ـ لبنه‪ {:‬يابُ َنيّ ا ْر َكبَ ّمعَنَا }[هود‪.]42 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فيردّ البن قائلً‪:‬‬
‫صمُنِي مِنَ ا ْلمَآءِ }[هود‪.]43 :‬‬
‫{ سَآوِي إِلَىا جَ َبلٍ َي ْع ِ‬
‫وهذا كلم صحيح من ناحية أن الجبل يعلو مستواه عن مستوى المياه‪ ،‬ولكن ابن نوح نسي أن ل‬
‫تعالى جنديا آخر هو الموج؛ فكان من المغرَقين‪.‬‬
‫صحيح أن ابن نوح فطن إلى أن السفينة سوف تستوي على " الجدوى " ‪ ،‬وأن من يركبها لن‬
‫يغرق‪ ،‬وكذلك من يأوي إلى الجبل العالي‪ ،‬لكنه لم يفطن إلى الموج الذي حال بينه وبين الجبل؛‬
‫فكان من المغرقين‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكل كائن هو مؤتمر بأمر ال تعالى‪ ،‬وما دامت العزة ل جميعا فمصداقها أن ل تعالى ما‬
‫في السموات وما في الرض‪ ،‬وليس هناك كائن في الوجود يتأبّى على أن يكون جنديا من جنود‬
‫الحق سبحانه‪ ،‬فيكون جنديا للهلك‪ ،‬وجنديا للنجاة في نفس الوقت‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه هنا‪( :‬أل) نعلم من أن (أل) أداة تنبيه للسامع فل يؤخذ على غرّة ول تفوته‬
‫حكمة من حكم الكلم‪ ،‬وينتبه إلى أن هناك خطابا عليه أن يجمع عقله كله ليحسن استقبال ما في‬
‫هذا الخطاب‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫سمَاوَات َومَنْ فِي الَ ْرضِ } [يونس‪.]66 :‬‬
‫{ أَل إِنّ للّهِ مَن فِي ال ّ‬
‫ولقائل أن يقول‪ :‬هناك كثير من الكائنات غير العاقلة‪ ،‬وقوله هنا { مَن } مقصود به الكائنات‬
‫العاقلة؟‬
‫ولنا أن نتساءل للرّدّ على هذا القائل‪:‬‬
‫وهل هناك أي شيء في الوجود ل يفهم عن ال؟‬
‫طبعا ل‪ ،‬وال سبحانه وتعالى هو القائل عن الرض‪:‬‬

‫{ َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ َأخْبَارَهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة‪4 :‬ـ ‪.]5‬‬
‫إذن‪ :‬فكل الكائنات في عُرف الستقبال عن ال سبحانه سواء بـ " مَنْ " أو بـ " ما " ‪ ،‬وكل من‬
‫في الوجود يفهم عن ال‪.‬‬
‫طوْعا َوكَرْها }‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َ‬
‫ونلحظ أن الحق سبحانه يأتي مرة بالقول‪ {:‬وَلَهُ أَسَْلمَ مَن فِي ال ّ‬
‫[آل عمران‪.]83 :‬‬
‫سمَاوَات َومَنْ فِي الَ ْرضِ { [يونس‪.]66 :‬‬
‫ومرة يقول الحق سبحانه‪ } :‬أَل إِنّ للّهِ مَن فِي ال ّ‬
‫كما جاء في هذه الية التي نحن بصددها الن‪.‬‬
‫شاء الحق سبحانه ذلك‪ ،‬لن هناك جنسا في الوجود يوجد في السماء ويوجد في الرض‪ ،‬وهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الملئكة المُدَبّرَات أمْرا‪ ،‬هؤلء هم المقصودون بأن ل ما في السموات والرض‪.‬‬
‫ول سبحانه وتعالى أيضا جنس في السموات ل يوجد في الرض وهم الملئكة المهيمون العالين‪،‬‬
‫وليس لهم وجود على الرض‪ ،‬كما أن ل تعالى جنودا في الرض ليس لهم وجود في السماء‪،‬‬
‫فإن ل حظنا الملئكة المدبرات أمرا‪ ،‬نجد أن قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫سمَاواتِ َومَا فِي الَ ْرضِ }[البقرة‪.]284 :‬‬
‫{ للّهِ ما فِي ال ّ‬
‫مناسب لها‪.‬‬
‫وإن ل حظنا أن ل ملئكة مهيمين في السماء‪ ،‬وجنودا في الرض ل علقة لهم بالسماء يكون‬
‫مناسبا لذلك قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫سمَاوَات َومَنْ فِي الَ ْرضِ { [يونس‪.]66 :‬‬
‫} أَل إِنّ للّهِ مَن فِي ال ّ‬
‫وما دام كل شيء في الكون مملوكا ل تعالى فل شيء يخرج عن مراده سبحانه‪ ،‬فل يوجد مثلً‬
‫غار يدخله كائن فرارا من ال؛ لنه سبحانه قادر على أن يسد الغار‪ ،‬وإن شاء ال سبحانه أن‬
‫يساعد من دخل الغار فهو تعالى يعمي بصر من يرقب الغار‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فلن يجير شيء على ال تعالى‪ ،‬وستظل له صفة العزة ل يخدشها خادش من وجود ال في‬
‫الكون‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} َومَا يَتّبِعُ الّذِينَ َيدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُ َركَآءَ { [يونس‪.]66 :‬‬
‫ومعنى اتباعهم شركاء كأن هناك شركاء‪ ،‬رغم أن الصل والحقيقة ألّ شركاء له سبحانه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهم يتبعون غير شيء؛ والدليل على ذلك موجود في طي القضية‪ ،‬فهم يبعدونهم من دون ال‬
‫تعالى‪ ،‬ومعنى العبادة أن يطاع أمر وينهى نهي‪ ،‬وما يعبدونه من أشياء ل أوامر لها ول نواهي؛‬
‫فليس هناك منهج جاءوا به‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فل ألوهية لهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالصل أل شركاء ل تعالى‪ ،‬ولو كان له شركاء لنزلوا منهجا ولوجدوا أوامر‪ ،‬وكان لهم‬
‫نواهٍ؛ لن الذي يقول‪ " :‬اعبدني " إنما يحدد طريقة وأسلوب العبادة‪ .‬وهاتوا واحدا من الذين‬
‫تتبعونهم وتدعون لهم يكون له منهج‪ ،‬ولن يستطعيوا ذلك‪ ،‬ولحق سبحانه هو القائل‪:‬‬

‫{ ُقلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َتغَوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء‪.]42 :‬‬
‫أي‪ :‬أننا لو افترضنا أن هناك آلهة ولها مظهر قوة كالشمس التي تضيء والقمر الذي ينير‪،‬‬
‫والمطر الذي ينزل من السماء‪ ،‬والملئكة التي تدبّر المر‪ ،‬لو صدّقنا أن كل هؤلء آلهة‪ ،‬فهم‬
‫سيبحثون عن الله الواحد الحد؛ ليأخذوا منه القوة التي ظننتم أنها لهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫عمّا‬
‫ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ سُبْحَانَ اللّهِ َ‬
‫ق وََلعَلَ َب ْع ُ‬
‫{ َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذا لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خََل َ‬
‫َيصِفُونَ }[المؤمنون‪.]91 :‬‬
‫إذ لو كان هذا المر صحيحا لكانت هناك وليات إليهة‪.‬‬
‫ولذلك قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ أُولَـا ِئكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْ َتغُونَ إِلَىا رَ ّبهِمُ ا ْلوَسِيَلةَ }[السراء‪.]57 :‬‬
‫وهم قالوا إنهم يعبدون الملئكة‪ ،‬وعليهم أن يعلموا أن الملئكة نفسها تعبد ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وما‬
‫دام ل يوجد شركاء ل لتتبعوهم؛ إذن‪ :‬فأنتم تتبعون الظن‪.‬‬
‫لذلك جاء قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ن وَإِنْ هُمْ ِإلّ َيخْ ُرصُونَ { [يونس‪.]66 :‬‬
‫} إِن يَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّ ّ‬
‫ونحن نجد الذين أولعوا بأن يُوجِدوا في القرآن ظاهر تعارض ليشكّكوا فيه‪ ،‬قالوا‪ :‬إن هذه الية‬
‫مثال على ذلك؛ فيقولون‪ :‬في بداية الية يقول‪َ } :‬ومَا يَتّبِعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُ َركَآءَ‬
‫{ [يونس‪.]66 :‬‬
‫فينفي أن المشركين يتبعون شركاء ل‪ ،‬ثم يأتي في آخر الية فيقول إنهم يتّبعون الظن والخرص‪،‬‬
‫ففي أولها ينفي التباع‪ ،‬وفي آخرها يثبته‪.‬‬
‫وهذا جهل ممن قال بهذا وادعى أن هناك تناقضا في الية‪ ،‬فال سبحانه ينفي أن يكون ما يدعوه‬
‫هؤلء المشركون شركاء ل في ملكه‪ ،‬فللّه من في السموات ومن في الرض‪ ،‬ولكنه يثبت أنهم‬
‫يتّبعون الظن والخرص والتخمين‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬ما هو الظن؟ وما هو الخرص؟‬
‫إن الظن حكم بالراجح كما أوضحنا من قبل في النسب من أن هناك نسبة إنْ لم تكن موجودة فهي‬
‫مشكوك فيها‪ ،‬أو نسبة راجحة‪ ،‬أو أن نسبة تساوي فيها الشك مع الثبات‪ ،‬فإنْ كان الشك مساويا‬
‫للثبات فهذا هو الشك‪ .‬وإن رجحت‪ ،‬فهذا هو الظن‪ .‬أما المرجوح فنسميه وهما‪.‬‬
‫الظن ـ إذن حكم بالراجح‪ .‬والخًَرْص‪ :‬هو التخمين‪ ،‬والقول بل قاعدة أو دليل‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول هنا‪:‬‬
‫ن وَإِنْ هُمْ ِإلّ َيخْ ُرصُونَ { [يونس‪.]66 :‬‬
‫} إِن يَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّ ّ‬
‫والقرآن حين يوجه خطابا فهو يأتي بالخطاب المستوعب لكل ممكن‪ ،‬وهو سبحانه حكم عليهم هنا‬
‫أنهم يتّبعون الظن والخرص‪.‬‬
‫ونحن نعلم أن الكافرين قسمان‪ :‬قسم ُيعْلم حقيقة الشيء‪ ،‬ولكنه يغيّر الحقيقة إلى إفك وإلى خَرْص‪،‬‬
‫وقسم آخر ل يعرف حقيقة الشيء‪ ،‬بل يستمع إلى من يعتقد أنه يعرف‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهناك مُتّبِع ـ بكسر الباء ـ وهناك مُتّبًَع ـ بفتح الباء ـ المُتّبَع ـ بفتح الباء ـ يعلم أن ما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يقوله هو كلم ملتوٍ‪ ،‬يشوّه الحقيقة ويزينها‪ ،‬أما المتّبع ـ بكسر الباء ـ فيظن أنه يتبع أناسا‬
‫عاقلين أمناء فأخذ كلمهم بتصديق‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فالمتبع (بكسر الباء) يكون الظن من ناحيته‪ ،‬أما المتبع (فتح الباء) فيكون الخَرْصو الكذب‬
‫والفتراء من ناحيته؛ ولذلك يقول لنا الحق سبحانه‪:‬‬
‫ي وَإِنْ هُمْ ِإلّ َيظُنّونَ }[البقرة‪.]78 :‬‬
‫ن لَ َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ ِإلّ َأمَا ِن ّ‬
‫{ َومِ ْنهُمْ ُأمّيّو َ‬
‫هؤلء ـ إذن ـ يصدّقون ما يقال لهم؛ لنهم أميّون‪ ،‬والكلم الذي يقال لهم راجح‪ ،‬وهم لو فكروا‬
‫بعقولهم لما انتهوا إلى أنه كلم راجح‪.‬‬
‫أما الخرون فيقول فيهم الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َفوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً }[البقرة‪:‬‬
‫‪.]79‬‬
‫وهؤلء هم الذين يأتي منهم الخَرْص والفك وقول الزور والبهتان‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالكفار إن كانوا من الميين فهم من أهل الظن‪ ،‬وينطبق عليهم قول الحق سبحانه‪ } :‬إِن‬
‫يَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّنّ { [يونس‪.]66 :‬‬
‫وإن كانوا من القادة والرؤساء فهؤلء هم من ينطبق عليهم قول الحق سبحانه‪ } :‬وَإِنْ هُمْ ِإلّ‬
‫يَخْ ُرصُونَ { [يونس‪.]66 :‬‬
‫سكُنُواْ فِيهِ {‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ الّ ْيلَ لِتَ ْ‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬هوَ الّذِي َ‬

‫(‪)1417 /‬‬

‫س َمعُونَ (‪)67‬‬
‫سكُنُوا فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ ْ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ اللّ ْيلَ لِ َت ْ‬
‫ُهوَ الّذِي َ‬

‫وشاء الحق سبحانه بعد أن بيّن اليمان والمؤمنين‪ ،‬وما يمكن أن يدّعيه الكافرون في نبيّ الرسالة‪،‬‬
‫وبعد أن بيّن المنهج‪ ،‬ها هو سبحانه يأتي بالكلم عن آياته سبحانه في الكون تأييدا للمطلوب‬
‫بالمجود‪.‬‬
‫فالمطلوب أن نؤمن برسول يبلّغ منهجا عن ال؛ ليكون هذا المنهج نافعا لنا‪ ،‬وإنْ أراد أحد دليلً‬
‫على ذلك فلينظر إلى اليات التي وجدت للنسان من قبل أن يُكلّف‪ ،‬أهي في مصلحته أم غير‬
‫مصلحته؟‬
‫وما دامت اليات الموجودة في الكون ـ والمسخّرة للنسان ـ تفيد النسان في حياته‪ ،‬فلماذا ل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يشكر من أعطاه كل تلك النعم‪ ،‬وقد أعطى الحق ـ سبحانه وتعالى ـ النسان من قبل التكليف‬
‫الكثير من النعم‪ ،‬وفور أن يصل إلى البلوغ يصير مكلّفا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فال سبحانه لم يكلّف أحدا إل بعد أن غمره بالنعم النافعة له باعتقاد من العبد وصدق من‬
‫الواقع‪.‬‬
‫فإذا ما جاء لك التكليف‪َ ،‬فقِسْ ما طُلِب منك على ما وُجِد لك‪ ،‬فإذا كنت تعتقد أن اليات الكونية‬
‫خذْ منها صدقا‬
‫التي سبقت التكليف نافعة لك قبل أن يطلب منك " افعل كذا " و " ل تفعل كذا "؛ فَ ُ‬
‫واقعا يؤيد صدق ما طُلِب منك تكليفا‪ ،‬فكما نفعك في الولى‪ ،‬فالحق سبحانه سينفعك باتباعك‬
‫التكليف‪ ،‬واستقبلْ حركة الحياة على ضوء هذا التكليف؛ لتسعد‪.‬‬
‫ونحن نعلم أن الصل في النسان أن يرتاح أولً ليتحرك‪ ،‬ثم يتعب‪ ،‬ثم يرتاح؛ ولذلك نجد‬
‫التكاليف قد جاءت على نفس المنوال‪ ،‬فقد أراحك الحق سبحانه إلى سن البلوغ وأخذت نعم ال‬
‫تعالى وتمتعت بها إلى سن البلوغ‪ ،‬ارتحت اختيارا‪ ،‬وارتحت في مراداتك‪ ،‬ثم تجيء " افعل " و "‬
‫ل تفعل " لتلتزم بما ُيصْلِح لك كل أحوالك‪.‬‬
‫وإذا كان التكليف سيأخذ منك بعضا من الجهد‪ ،‬فهناك فاصل زمني للراحة‪ ،‬وأنت في حياتك تجد‬
‫وقتا للراحة‪ ،‬ووقتا للحركة‪ ،‬والراحة تجعلك تسعى بنشاط إلى الحركة‪ ،‬والحركة تأخذ منك الجهد‬
‫الذي تحب أن ترتاح بعده‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحركة تحتاج للراحة‪ ،‬والراحة تحتاج للحركة‪.‬‬
‫وجاء الحق سبحانه إلى الفترة الزمنية المسماة " اليوم " ‪ ،‬فبيّن لنا أنه كما قسّم الوجود النساني‬
‫إلى مرحلتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬هي ما قبل البلوغ ول تكليف فيها‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬هي ما بعد البلوغ وفيها التكليف‪.‬‬
‫فقد قسّم ال سبحانه أيضا " اليوم " إلى وقت للراحة ووقت للحركة‪ ،‬فقال ال تعالى { ُهوَ الّذِي‬
‫سكُنُواْ فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرا } [يونس‪.]67 :‬‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الّ ْيلَ لِ َت ْ‬
‫َ‬
‫فكما خلق سبحانه لنا اليوم وفيه وقت للراحة‪ ،‬ووقت للحركة‪ ،‬كذلك شرع الحق سبحانه منهج‬
‫الدين؛ لتستقيم حركة الحياة؛ لن النسان ـ الخليفة في الرض ـ ل بد أن يتحرك‪ ،‬ل بد أن‬
‫تكون حركته على مقتضى " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " ‪ ،‬وما لم يَرِدْ فيه " افعل " و " ل تفعل "‬
‫فهو مباح؛ إن شاء فعله‪ ،‬وإن شاء لم يفعله‪.‬‬

‫(‪)1418 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ إِنْ عِنْ َد ُكمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ‬
‫خذَ اللّهُ وَلَدًا سُ ْبحَانَهُ ُهوَ ا ْلغَنِيّ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫قَالُوا اتّ َ‬
‫ِبهَذَا أَ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ (‪)68‬‬

‫ونفس نص الية الكريمة يكذّبهم فيما يدّعونه‪.‬‬


‫ومثال ذلك‪ :‬أنك حين تقول‪ " :‬اتخذ فلن بيتا " أي‪ :‬أن فلنا له ذاتية سابقة على اتخاذه للبيت‪،‬‬
‫وبها اتخذ البيت‪ ،‬فإذا قيل‪ { :‬اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدا } [يونس‪.]68 :‬‬
‫فهذا اعتراف منهم بكمال ال تعالى وذاتيته قبل أن يتخذ الولد‪.‬‬
‫وهم قد اختلفوا في أمر هذا الولد‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬إن الملئكة هن بنات ال وكذّبهم الحق سبحانه‬
‫في ذلك‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬عزير ابن ال وهم اليهود وقد كذّبهم ال سبحانه في ذلك‪ ،‬وطائفة من‬
‫المسيحيين قالوا‪ :‬إن المسيح ابن ال‪ ،‬وكذّبهم الحق سبحانه في ذلك‪.‬‬
‫ثم ما الداعي أن يتخذ ال الولد؟‬
‫هل استنفد قوته حتى يساعده الولد؟!‬
‫وهل يمكن أن يضعف سبحانه ـ معاذ ال ـ فيمتد بقوة الولد أو يعتمد عليه؟!‬
‫مثلما يقال حين يواجه شيخٌ شابّا‪ ،‬ويعتدي الشاب على الشيخ‪ ،‬فيقال للشاب‪ :‬احذر؛ إن لهذا الشيخ‬
‫ولدا أقوى منك؛ فيرتدع الشاب‪ ،‬أو أن يقول الشيخ للشاب‪ :‬إن أبنائي يفوقونك في القوة‪ ،‬وفي هذا‬
‫اعتداد بالولد‪.‬‬
‫ويريد الحق سبحانه أن يغفل كل هذه الدعاوي ولتكون حركة الحياة متماسكة متلزمة‪ ،‬ل‬
‫متعارضة ول متناقضة؛ لذلك ينبغي أن يكون المحرّك إلها واحدا تصدر منه كل الوامر‪ ،‬فل‬
‫تعارض في تلك الوامر؛ لن الوامر إن صدرت عن متعدد فحركة الحياة تتصادم بما يبدد‬
‫الطاقة ويفسد الصالح‪.‬‬
‫ولذلك ل بد أن يكون المر صادرا من آمر واحد يُسْلّم له كل أمر‪ ،‬وهذا الله منزّه عن كل ما‬
‫تعرفه من الغيار‪ ،‬فله تنزيه في ذاته؛ فل ذات تشبه ذاته‪ ،‬ومنزّه في صفاته؛ فل صفة تشبه‬
‫صفته‪ ،‬ومنزّه في أفعاله؛ فل فعل يشبه فعله‪.‬‬
‫وحتى نضمن هذه المسألة ل بد أن يكون الله واحدا‪ ،‬ولكن بعضا من القوم جعلوا ل شركاء‪،‬‬
‫ومن لم يجعل له شريكا‪ ،‬توهّم أن له ابنا وولدا‪.‬‬
‫ونقول لهم‪:‬‬
‫خذَ اللّهُ وَلَدا } [يونس‪ ]68 :‬ترد عليكم؛ لن معنى اتخاذ الولد أن اللوهية ُوجِدَت‬
‫إن كلمتكم‪ { :‬اتّ َ‬
‫أولً مستقلة‪ ،‬وبهذا اللوهية اتخذ الولد‪.‬‬
‫ومن المشركين من قال‪ :‬إن الملئكة بنات ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فردّ عليهم الحق سبحانه‪:‬‬
‫سمَ ٌة ضِيزَىا }[النجم‪21 :‬ـ ‪.]22‬‬
‫{ أََل ُكمُ ال ّذكَ ُر وََل ُه الُنْثَىا * تِ ْلكَ إِذا ِق ْ‬
‫والكمال كله ل سبحانه فهو كمال ذاتي؛ ولذلك يأتي في وسط الية ويقول تعالى‪:‬‬
‫{ سُبْحَانَهُ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ } [يونس‪.]68 :‬‬
‫وسبحانه تعني‪ :‬التنزيه‪ ،‬وهو الغني أي‪ :‬المستغني عن ُمعِين كما تستعينون أنتم بأبنائكم‪ ،‬وهو دائم‬
‫الوجود؛ فل يحتاج إلى ابن مثل البشر‪ ،‬وهم أحداث تبدأ وتنتهي؛ لذلك يحبون أن يكون لهم أبناء‬
‫كما يقول الشاعر‪:‬ابني يا أنا بعد ما أقَضي ويقال‪ " :‬من ل ولد له ل ِذكْر له " ‪ ،‬كأن النسان لما‬
‫علم أنه يموت ل محالة أراد أن يستمر في الحياة في ولده‪.‬‬

‫ولذلك حين يأتي الولد للنسان يشعر النسان بالسرور والسعادة‪ ،‬والجاهل هو من يحزن حين تلد‬
‫له زوجته بنتا؛ لن البنت لن تحمل السم لمن بعدها‪ ،‬أما الولد والحفيد فيحملن اسم الجد‪ ،‬فيشعر‬
‫الجد أنه ضمن ال ّذكْر في جيلين‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاتخاذ الولد إما استعانة وإما اعتداد‪ ،‬والحق سبحانه غنيّ عن الستعانة‪ ،‬وغني عن العتداد؛‬
‫لنك تعتد بمن هو أقوى منك‪ ،‬وليس هناك أقوى من ال تعالى‪ ،‬وهو سبحانه ل يحتاج لمتداد؛‬
‫لنه هو الول وهو الخر‪ ،‬وعلى ذلك ففكرة اتخاذ الولد بالنسبة ل تعالى ل تصح على أي لون‬
‫من ألوانها‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه مرادفا لتلك الفكرة‪ } :‬سُبْحَانَهُ { لنها تقطع كل احتمالت ما سبقها‪،‬‬
‫ويُتْبعِ ذلك بقوله‪ُ } :‬هوَ ا ْلغَ ِنيّ { لنه غني عن اتخذا الولد‪ ،‬وغني عن كل شيء‪ ،‬وقوله‪ } :‬سُبْحَا َنهُ‬
‫{ تنزيه له‪ ،‬والتنزيه‪ :‬ارتفاع بالمُنَزّه عن مشاركة شيءٍ له ـ في الذات أو الفعال‪.‬‬
‫وإذا ورد شيء هو ل وصفٌ ولخَلْقه وصفٌ‪ ،‬فإياك أن تأخذ هذه الصفة مثل تلك الصفة‪.‬‬
‫فإن قابلت غنيا من البشر‪ ،‬فالغني في البشر عَ َرضٌ‪ ،‬أما غنى ال تعالى ففي ذاته سبحانه‪.‬‬
‫وأنت حي وال سبحانه حي‪ ،‬ولكن أحياتك كحياته؟ ل؛ لن حياته سبحانه لم يسبقها عدم‪ ،‬وحياتك‬
‫سبقها عدم‪ ،‬وحياته سبحانه ل يلحقها عدم‪ ،‬وأنت يلحق حياتك العدم‪.‬‬
‫ضيّ‪.‬‬
‫وال موجود وأنت موجود‪ ،‬لكن وجوده سبحانه وجود ذاتيّ‪ ،‬ووجودك وجود عَ َر ِ‬
‫وإذا قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫إن له ـ سبحانه وتعالى ـ يدا{ َيدُ اللّهِ َفوْقَ أَيْدِي ِهمْ }[الفتح‪.]10 :‬‬
‫فل يمكن أن تكون يد ال سبحانه مثل يدك؛ لن ذاته سبحانه ليست كذاتك‪ ،‬وصفاته سبحانه ليست‬
‫كصفاتك‪ ،‬وهو سبحانه القادر العلى‪ ،‬ول يمكن أن يكون مقدورا لحد‪.‬‬
‫ولذلك حين يتجلّى ال سبحانه لخلقه‪ ،‬فسوف يتجلى بالصورة التي تختلف عن كل خيال العبد‪،‬‬
‫وهذه الصورة تختلف من عبد إلى آخر‪ ،‬ولو كانت الصورة التي يتجلى بها ال سبحانه مقدورا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليها لكان معنى ذلك أن هناك ذهنا بشريا قد قدر على الحاطة بها‪ .‬وما خطر ببالك فال سبحانه‬
‫بخلف ذلك؛ لن ما خطر بالبال مقدور عليه لنه خاطر‪ ،‬وال سبحانه ل ينقلب أبدا إلى مقدور‬
‫عليه‪.‬‬
‫وأنت حين تأتي بمسألة في الحساب أو الهندسة ـ مثلً ‪ ،‬وتعطيها لتلميذ ويقوم بحلها‪ ،‬فمعنى ذلك‬
‫أن عقله قد قدر عليها‪ ،‬أما إن جئت لتلميذ في المرحلة العدادية ـ مثلً ـ بمسألة هندسية مقررة‬
‫على طلبة كلية الهندسة؛ فعقله لن يقدر عليها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لو أن النسان قد أدرك شيئاً عن ال غير ما قاله ال ل نقلب الله إلى مقدور عليه‪ ،‬والحق‬
‫سبحانه مُنَزّه عن ذلك؛ لنه القادر العلى الذي ل ينقلب أبدا إلى مقدور‪.‬‬

‫لذلك يعلّمنا الحق سبحانه أن نقول تنزيها ل تعالى كلمة } سُبْحَا َنهُ { ‪ ،‬وهو التنزيه الواجب عن‬
‫كل شيء يخطر ببال النسان عن ال تعالى‪ ،‬وهذه السبحانية أو هذا التنزيه هو صفة ذاتية في ال‬
‫تعالى‪ ،‬قبل أن يوجد شيء‪ ،‬وبعد أن خَلَق الخَلْق‪ ،‬فعلى كل المخلوقات تنزيهه‪ ،‬وبدأ الخلق في‬
‫التسبيح‪.‬‬
‫والتسبيح فعل مستمر ل ينقطع ول ينقضي؛ لذلك تجد استدللت القرآن في السور التنزيهية تؤكد‬
‫ذلك‪ ،‬فيقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫حوْلَهُ }‬
‫ل ْقصَا الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫سجِ ِد ا َ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ‬
‫{ سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَ ْب ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ‬
‫[السراء‪.]1 :‬‬
‫وإياك أن تظن أن محمدا صلى ال عليه وسلم قد سرى بقرار من نفسه‪ ،‬بل الذي أسرى به هو‬
‫الحق سبحانه‪ ،‬فل تظن أن المسافة يمكن أن تمنع مشيئة الحق المطلقة‪ ،‬ول المكان‪ ،‬ول الزمن؛‬
‫لن الفعل منسوب ل تعالى‪ ،‬ول يمكن أن نقيس فعلً منسوبا ل تعالى بقياس الزمان أو المكان‪،‬‬
‫أو حسب قانون الحركة النسبية‪ ،‬لن الحق سبحانه له طلقة القدرة‪ ،‬وأنت بشر مجرد حادث‬
‫محدود الزمان والمكان‪.‬‬
‫وأنت إذا سِرْت من هنا إلى السكندرية ـ مثلً ـ على قدميك فستقطع المسافة في أسابيع‪ ،‬وإن‬
‫امتطيت دابة فقد تأخذ في الوصول إلى السكندرية أياما‪ ،‬وإن ركبت سيارة فسوف تقطع المسافة‬
‫في ساعتين‪ ،‬وإن ركبت صاروخا‪ ،‬فستصل خلل دقائق‪.‬‬
‫ل زمن الوصول‪ ،‬وهذا موجز نظرية الحركة‪ ،‬وإذا كان‬
‫أي‪ :‬أنك كلما زادت قوة أداة الوصول َق ّ‬
‫الذي أسرى هو ال سبحانه‪ ،‬وهو قوة القوى‪ ،‬لذلك ل يمكن أن يقاس بالنسبة لمشيئة قوة أخرى‪،‬‬
‫أو أن يقاس المر ببُعد أو قُرْب المكان أو كيفية الزمان الذي تعرفه‪.‬‬
‫وإياك أن تفهم أن إسراء ال تعالى مثل إسرائك؛ لن الفعل إنما يأخذ قوته من الفاعل‪ ،‬وما دام‬
‫الفاعل هو ال سبحانه فل أحد بقادر أن َيحُدّ أفعاله بزمن‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد استهل الحق سبحانه سورة السراء بالسبحانية وآياتها الولى تتكلم في أدق شيء تكلم فيه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم عن ذاته بأنه قد أسْ ِريَ به‪ ،‬وبذلك أثبت بحادث السراء حقيقة‬
‫المعراج‪ ،‬وأن الناموس قد خُرِق له‪ ،‬وحدّثنا عما نعلم لنصدّق حديثه عما ل نعلم‪ ،‬وحتى نقيس ما‬
‫ل نعلم على ما نعلم‪ ،‬فيتأكد لنا صدقه صلى ال عليه وسلم في حديثه عما ل نعلم‪.‬‬
‫كلمة " سبحانه " ـ إذن ـ هي للتنزيه‪ ،‬وهي ل تعالى أزلً قبل أن يَخلق الخَلق‪ ،‬فقد شهد سبحانه‬
‫لذاته أنه إله واحد‪ ،‬ثم شهدت الملئكة‪ ،‬ويتكرر التسبيح من كل المخلوقات التي أوجدها ال‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫وأنت تجد سور القرآن الكريم التي جاء فيها التسبيح مؤكدة أنه سبحانه مُنزّه‪ ،‬وله التسبيح من قبل‬
‫أن يخلق الخلق‪ ،‬ثم خلق الخلق؛ ليسبّحوا‪ ،‬ففي سورة الحديد يقول سبحانه‪:‬‬

‫ت وَالَ ْرضِ }[الحديد‪.]1 :‬‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫{ سَبّحَ للّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫ويقول سبحانه في سورة الحشر‪:‬‬
‫ت َومَا فِي الَ ْرضِ }[الحشر‪.]1 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫فهل سبّح كل من في السموات ومن في الرض مرة واحدة وانتهى المر؟ ل؛ لن ال سبحانه‬
‫يقول‪:‬‬
‫ت َومَا فِي الَ ْرضِ ا ْلمَِلكِ ا ْلقُدّوسِ }[الجمعة‪.]1 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ُيسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫ويقول سبحانه في سورة التغابن‪:‬‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫حمْ ُد وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫ت َومَا فِي الَ ْرضِ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ وَلَهُ ا ْل َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ُيسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫[التغابن‪.]1 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالسبحانية ل أزلً‪ ،‬وسبّح ويسبّح الخَلْق وكل الوجود بعد أن خلقه ال سبحانه‪ ،‬سموات‬
‫وأرض وما فيهما ومن فيهما‪ ،‬وما بقى إل أنت أيها النسان فسبّحْ باسم ربك العلى‪.‬‬
‫وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} قَالُواْ اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدا سُبْحَا َنهُ { [يونس‪.]68 :‬‬
‫وعلة التسبيح والتنزيه عن أن يكون له ولد تأتي في قوله تعالى‪ُ } :‬هوَ ا ْلغَ ِنيّ {؛ لن اتخاذ الولد‬
‫إنما يكون عن حاجة‪ ،‬إما استعانة‪ ،‬وإما اعتمادا‪ ،‬وإما اعتدادا‪ ،‬وإما امتدادا‪ ،‬وكل هذه أمور باطلة‬
‫بالنسبة له سبحانه‪ ،‬وهو الحق العلى‪ ،‬وهو سبحانه القائل في آية أخرى‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ ُكلّ لّهُ قَانِتُونَ }[البقرة‪.]116 :‬‬
‫خذَ اللّ ُه وَلَدا سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي ال ّ‬
‫{ َوقَالُواْ اتّ َ‬
‫والقنوت معناه‪ :‬القرار بالعبودية ل تعالى والخضوع له وإطاعته‪.‬‬
‫ويقول سبحانه في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫} إِنْ عِن َدكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِبهَـاذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ { [يونس‪.]68 :‬‬
‫و " إنْ " قد تأتي للنفي في مثل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ ِإلّ اللّئِي وََلدْ َنهُمْ }[المجادلة‪.]2 :‬‬
‫وفي قول الحق سبحانه هنا‪:‬‬
‫} إِنْ عِن َدكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِبهَـاذَآ { [يونس‪.]68 :‬‬
‫حجّة تدل على أن ال تعالى اتخذ ولدا‪.‬‬
‫أي‪ :‬ليس عندكم ُ‬
‫ولذلك يُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪:‬‬
‫علَى اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ { [يونس‪]68 :‬‬
‫} أَتقُولُونَ َ‬
‫أي‪ :‬أنكم ل تملكون إعلما من ال تعالى بذلك‪ ،‬فل إعلم عن ال إل من ال‪ ،‬وليس لحد أن ُيعْلِم‬
‫عن ربه‪ ،‬فهو سبحانه من ُيعْلِم عن نفسه‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬قلْ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ لَ ُيفْلِحُونَ {‬

‫(‪)1419 /‬‬

‫ُقلْ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ لَا ُيفْلِحُونَ (‪)69‬‬

‫والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن اليمان وثمرته ونهايته ياتي بالفَلَح كنتيجة لذلك اليمان‪،‬‬
‫فهو سبحانه القائل‪:‬‬
‫{ َقدْ َأفْلَحَ مَن َزكّاهَا }[الشمس‪.]9 :‬‬
‫وهو سبحانه القائل‪:‬‬
‫{ َقدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }[المؤمنون‪.]1 :‬‬
‫ويقول أيضا‪:‬‬
‫{ ُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }[العراف‪.]157 :‬‬
‫وكلها من مادة " الفلح " وهي مأخوذة من المر الحسي المتصل بحياة الكائن الحي‪ ،‬فمقومات‬
‫وجود الكائن الحي‪َ :‬نفَس‪ ،‬وماء‪ ،‬وطعام‪ ،‬والتنفس يأتي من الهواء الذي يحيط بالرض‪ ،‬والماء‬
‫ينزل من السماء أو يُستنبط مما تسرب في باطن الرض‪ .‬والطعام يأتي من الرض‪ ،‬وكل ما‬
‫أصله من الرض يُستخرج بالفلحة‪.‬‬
‫لذلك نقول‪ :‬إن الفلَحة هي السبب الستبقائي للحياة‪ ،‬فكما ُيفْلِح النسان الرض‪ ،‬ويشقها ويبذر‬
‫فيها البذور‪ ،‬ثم يرويها‪ ،‬ثم تنضج وتخرج الثمرة‪ ،‬ويقال‪ :‬أفلح‪ ،‬أي‪ :‬أنتجت زراعته نتاجا طيبا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وشاء الحق سبحانه أن يمسّي الحصيلة اليمانية الطيبة بالفلح‪.‬‬
‫وبيّن لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن الدنيا مزرعة الخرة‪ ،‬فإن كنت تريد ثمرة فابذل‬
‫الجهد‪.‬‬
‫وإياك والظن أن الدين حينما يأخذ منك شيئا في الدنيا أنه يُ ْنقِص ما عندك‪ ،‬ل‪ ،‬بل هو يُنمّي لك ما‬
‫عندك‪.‬‬
‫والمثل الذي أضربه دائما ـ ول المثل العلى ـ نجد الفَلّح حين يزرع فدانا بالقمح‪ ،‬فهو يأخذ‬
‫من مخزنه إردبا؛ ليستخدمه كبذور في الرض‪ ،‬ولو كانت امرأته حمقاء ل تعرف أصول‬
‫الزراعة ستقول له‪ " :‬أنت أخذت من القمح‪ ،‬وكيف تترك عيالك وأنت تنقصهم من قوتهم؟ "‬
‫ب القمح المُخَزّن؛ ليعود به بعد الحصاد عشرة أو خمسة عشر‬
‫هذه المرأة ل تعلم أنه أخذ إرد ّ‬
‫إردّبا من القمح‪.‬‬
‫كذلك مطلوب ال سبحانه في الدنيا قد يبدو وكأنه ينقصك أشياء‪ ،‬لكنه يعطيك ثمار الخرة‬
‫ويزيدها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالفلح مادة مأخوذة من فلح الرض وشقها وزرعها لتأخذ الثمرة‪.‬‬
‫وكما أنك تأخذ حظك من الثمار على قدر حظك من التعب ومن العمل‪ ،‬فذلك أمر الخرة وأمر‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬الفلح الذي يحرث الرض‪ ،‬ويحمل للرض السماد على المطية‪ ،‬ثم يستيقظ مبكرا‬
‫في مواعد الري‪ ،‬تجد هذا الفلح في حالة من النشراح والفرح في يوم الحصاد‪ ،‬وأمره يختلف‬
‫عمن يهمل الرض ويقضي الوقت على المقهى‪ ،‬ويسهر الليل أمام التلفزيون‪ ،‬ويأتي يوم الحصاد‬
‫ليحزن على محصوله الذي لم يحسن زراعته‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ لَ ُيفْلِحُونَ } [يونس‪.]69 :‬‬
‫أي‪ :‬هؤلء الذي يقولون عن ال تعالى أو في ال تعالى بغير علم من ال‪ ،‬هم الذين ل يفلحون‪.‬‬
‫وأوضحت من قبل أن كل ما يتعلق بال تعالى ل ُيعْلَم عنه إل عن طريق ال‪ .‬لكن ما الذي‬
‫يحملهم على الفتراء؟‬
‫نعم‪ ،‬إن كل حركة في الحياة ل بد أن يكون الدافع إليها نفعا‪ ،‬وتختلف النظرة إلى النفع وما يترتب‬
‫عليه‪ ،‬فالطالب الكسول المتسكع في الشوارع‪ ،‬الرافض للتعلم‪ ،‬نجده راسبا غير موفق في مستقبله‪،‬‬
‫أما التلميذ الحريص على علومه‪ ،‬فهو من يحصل على المكانة اللئقة به في المجتمع‪ ،‬والتلميذ‬
‫الول كان محدود الفق ولم ير امتداد النفع وضخامته‪ ،‬بل قصر النفع على لذة عاجلة مُضحّيا‬
‫جلٍ‪.‬‬
‫بخيرٍ آ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والذي جعل هؤلء يفترون على ال الكذب هو انهيار الذات‪ ،‬فكل ذات لها وجود ولها مكانة‪ ،‬فإذا‬
‫انهارت المكانة‪ ،‬أحس النسان أنه بل قيمة في مجتمعه‪.‬‬
‫والمثل الذي ضربته من قبل بحَلّق الصحة في القرية‪ ،‬وكان يعالج الجميع‪ ،‬ثم تَخرّجَ أحد شباب‬
‫القرية في كلية الطب وافتتح بها عيادة‪ ،‬فإن كان حلق الصحة عاقلً‪ ،‬فهو يذهب إلى الطبيب‬
‫ليعمل في عيادته ممرضا‪ ،‬أو (تمرجيا)‪ ،‬أما إن أخذته العزة بالثم‪ ،‬فهو يعاند ويكابر‪ ،‬ولكنه لن‬
‫يقدر على دفع علْم الطبيب‪.‬‬
‫وكذلك عصابة الكفر ورؤساء الضلل حينما يُفاجَآون ب َمقْدِم رسول من ال‪ ،‬فهم يظنون أنه سوف‬
‫يأخذ السيادة لنفسه‪ ،‬رغم أن أي رسول من رسل ال تعالى ـ عليه السلم ـ إنما يعطي السيادة‬
‫لصاحبها‪ ،‬أل وهو الحق العلى سبحانه‪.‬‬
‫وحين يأخذ منهم السيادة التي كانت تضمن لهم المكانة الوجاهة والشأن والعظمة‪ ،‬فهم يصابون‬
‫بالنهيار العصبي‪ ،‬ويحاولون مقاومة الرسول دفاعا عن السلطة الزمنية‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬هو مَقْ ِدمُ النبي صلى ال عليه وسلم إلى المدينة‪ ،‬وكان البعض يعمل على تنصيب عبد‬
‫ي ليكون مَلكا؛ ولذلك قاوم الرجل السلم‪ ،‬وحين لم يستطع آمن نفاقا‪ ،‬وظل على عدائه‬
‫ال بن أب ّ‬
‫للسلم‪ ،‬رغم أنه لو أحسن السلم واقترب من رسول ال صلى ال عليه وسلم لنال أضعاف ما‬
‫كان يسأخذه لو صار ملكا‪.‬‬
‫وهكذا قادة الضلل وأئمة الكفر‪ ،‬هم مشفقون على أنفسهم وخائفون على السلطة الزمنية؛ لن‬
‫الرسول حينما يجيء إنما يُسوّي بين الناس؛ لذلك يقفون ضد الدعوة حفاظا على السلطة الزمنية‪.‬‬
‫ج ُع ُهمْ {‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه عن سبب افترائهم الكذب‪ } :‬مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا ُثمّ إِلَيْنَا مَرْ ِ‬

‫(‪)1420 /‬‬

‫ج ُعهُمْ ُثمّ نُذِي ُقهُمُ ا ْل َعذَابَ الشّدِيدَ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ (‪)70‬‬
‫مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا ثُمّ إِلَيْنَا مَرْ ِ‬

‫ويعزّ ـ إذن ـ على قادة الكفر وأئمة الضلل أن يسلبهم الرياسة والسيادة داعٍ جديد إلى ال‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬ويخافون أن يأخذ الداعي الجديد ل المر منهم جميعا‪ ،‬ل إلى ذاته‪ ،‬ولكن إلى‬
‫مراد ربه‪.‬‬
‫ولو كان الداعي إلى ال تعالى يأخذ السلطة الزمنية لذاته؛ لقلنا‪ :‬ذاتٌ أمام ذاتٍ‪ ،‬ولكنه صلى ال‬
‫عليه وسلم أوضح أنه يعود ـ حتى فيما يخصه ـ إلى ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ويكشف لنا الحق سبحانه الكسب القليل الذي يدافعون عنه أنه‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمْق تقدير المنفعة‪ ،‬وكلمة "‬
‫{ مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا } [يونس‪]70 :‬؛ لن كُلً منهم يحب أن يقنع نفسه‪ِ ،‬ب ُ‬
‫الدنيا " ل بد أن منها حقيقة الشيء المنسوبة إليه‪.‬‬
‫والسماء ـ كما نعلم ـ هي سمات مسميات‪ ،‬فحين تقول‪ :‬إن فلنا طويل‪ ،‬فأنت تعطيه سمة‬
‫الطول‪.‬‬
‫وحين تقول‪ " :‬دنيا " فهي من الدّ ُنوّ " أو " الدناءة "‪.‬‬
‫وإن اعتبرت الدنو هو طريق موصل إلى القيمة‪ ،‬فهذا أمر مقبول؛ لن الدرجة الولى في‬
‫الوصول إلى العلى هي الدنو‪ ،‬وتلتزم بمنهج ال تعالى فتصعد عُلوّا وارتفاعا إلى الخرة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمن يصف الدنيا بالدناءة على إطلقها نقول له‪ :‬ل‪ ،‬بل هي دنيا بشرط أن تأخذها طريقا إلى‬
‫العلى‪ ،‬ولكن من ل يتخذها كذلك فهو من يجعل مكانته هي الدنيئة‪ ،‬أما من يتخذها طريقا إلى‬
‫العلو فهو الذي أفلح باتّباع منهج ال تعالى‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالدنيا ليست من الدناءة؛ لن الدين ليس موضوعه الخرة‪ ،‬بل موضوعه هو الدنيا‪ ،‬ومنهج‬
‫الدين يلزمك بـ " افعل " و " ل تفعل " في الدنيا‪ ،‬والخرة هي دار الجزاء‪ ،‬والجزاء على الشيء‬
‫ليس عين موضوعة‪ ،‬وأنت تستطيع أن تجعل الدنيا مفيدة لك إنْ جعلتها مزرعة للخرة‪.‬‬
‫وإياك أن تعمل على أساس أن الدنيا عمرها مليين السنين؛ لنه ل يعنيك كعائش في الدنيا إن‬
‫طال عمرها أم َقصُرَ‪ ،‬بل يعنيك في الدنيا مقدار ُمكْثِك فيها‪ ،‬وعمرك فيها مظنون‪ ،‬بل وزمن الدنيا‬
‫كله مظنون‪ ،‬وهناك من يموت وعمره ستة أشهر‪ ،‬وهناك من يموت وعمره مائة سنة‪ ،‬وكلّ يتمتع‬
‫بقدر ما يعيش‪ ،‬ثم يرجع إلى ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وهؤلء الذين ضَلّوا وقالوا على ال سبحانه افتراء‪ ،‬هؤلء لن يفلتوا من ال؛ لن مرجعهم إليه‬
‫سبحانه ككل خَلْقه‪ ،‬وهؤلء ال ُمضِلّون لم يلتفتوا إلى عاقبة المر‪ ،‬ول إلى من بيده عاقبة المر‪،‬ولم‬
‫يرتدعوا‪.‬‬
‫ولكن من نظر إلى عاقبة المر وأحسن في الدنيا فمرجعه إلى حسن الثواب والجنة‪ ،‬ومن لم ينظر‬
‫إلى عاقبة المر وافترى على ال ـ سبحانه وتعالى ـ الكذب فالمآب والمآل إلى العذاب مصداقا‬
‫لقوله تعالى‪:‬‬
‫ج ُعهُمْ ثُمّ ُنذِي ُقهُمُ ا ْلعَذَابَ الشّدِيدَ ِبمَا كَانُواْ َي ْكفُرُونَ } [يونس‪.]70 :‬‬
‫{ ُثمّ إِلَيْنَا مَ ْر ِ‬

‫ودرجة العذاب تختلف باختلف المعذّب‪ ،‬فإن كان المعذّب ضعيفا‪ ،‬فتعذيبه يكون ضعيفا‪ ،‬وإن كان‬
‫المعذّب متوسط القوة؛ فتعذيبه يكون متوسطا‪ ،‬أما إن كان المعذّب هو قوة القوى فل بد أن يكون‬
‫عذابه شديدا‪ ،‬وهو سبحانه الحق القائل‪:‬‬
‫خ َذهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود‪.]102 :‬‬
‫{ إِنّ أَ ْ‬
‫وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مبدأ تنزيه اللوهية عن اتخاذ الولد‪ ،‬فهو سبحانه الغنيّ الذي له ما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في السموات والرض‪ ،‬وبيّن لنا سبحانه أننا يجب أن نأخذ المنهج من مصدر واحد وهو الرسل‬
‫المبلّغون عن ال تعالى‪ ،‬شاء الحق سبحانه أن يكلمنا عن موكب الرسالت؛ لن الكلم حين يكون‬
‫كلما نظريا ليس له واقع يسنده‪ ،‬فقد تنسحب النظرية عليه‪.‬‬
‫أما إن كان للكلم واقع في الكون يؤيد الكلم النظري‪ ،‬فهذا دليل على صحة الكلم النظري؛‬
‫ولذلك فنحن حين نحب أن نضخّم مسألة من المسائل في داء اجتماعي‪ ،‬نحاول أن نصنع منه‬
‫رواية‪ ،‬أي‪ :‬أمرا لم يحدث حقيقة‪ ،‬ولكننا نتخيل أنه حقيقة؛ لنبيّن المر النظري في واقع متخيّل‪.‬‬
‫ويقص علينا الحق سبحانه في القرآن قصصا من الموكب الرسالي؛ ليبيّن للكفار‪ :‬أنكم لن‬
‫تستطيعوا الوقوف أمام هذه الدعوة‪ ،‬وأمامكم سِجل التاريخ وأحداث الرسل مع أممهم؛ المؤيدين‬
‫بالمؤمنين؛ والكفار المعاندين والمعارضين‪ ،‬فإن كان قوم من السابقين قد انتصروا على رسولهم‪،‬‬
‫فللكفار الحق في أن يكون لهم أمل في النتصار على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ول بد أن يكون هذا الكلم موجها إلى أناس لهم علم ببعض أحداث الموكب الرسالي‪ .‬ولكن قد‬
‫يكون علم هذا قد بهت؛ لن الزمان قد طال عليه‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ يا َقوْمِ {‬

‫(‪)1421 /‬‬

‫وَا ْتلُ عَلَ ْي ِهمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَ ْي ُكمْ َمقَامِي وَتَ ْذكِيرِي بِآَيَاتِ اللّهِ َفعَلَى اللّهِ‬
‫ي وَلَا تُ ْنظِرُونِ (‪)71‬‬
‫غمّةً ثُمّ ا ْقضُوا إَِل ّ‬
‫ج ِمعُوا َأمْ َركُ ْم وَشُ َركَا َءكُمْ ثُمّ لَا َيكُنْ َأمْ ُركُمْ عَلَ ْي ُكمْ ُ‬
‫َت َوكّلْتُ فََأ ْ‬

‫ولقائل أن يقول‪ :‬ولماذا جاء ال سبحانه هنا بخبر نوح ـ عليه السلم ـ ولم يأت بخبر آدم ـ‬
‫عليه السلم ـ أو أدريس ـ عليه السلم ـ و ُهمَا من الرسل السابقين على نوح عليه السلم؟‬
‫ومن هنا جاءت الشبهة في أن آدم لم يكن رسولً؛ لن البعض قد ظن أن الرسول يجب أن يحمل‬
‫رسالته إلى جماعة موجودة من البشر‪ ،‬ولم يفطن هؤلء البعض إلى أن الرسول إنما يُرْسَل لنفسه‬
‫أولً‪.‬‬
‫وإذا كان آدم ـ عليه السلم ‪ ،‬أول الخلق فهو مُرسَل لنفسه‪ ،‬ثم يبلّغ من سوف يأتي بعده من‬
‫أبنائه‪.‬‬
‫وقد أعطى ال سبحانه وتعالى التجربة لدم ـ عليه السلم ـ في الجنة‪ ،‬فكان هناك أمر‪ ،‬وكان‬
‫جكَ الْجَنّةَ َوكُلَ مِ ْنهَا رَغَدا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا َولَ َتقْرَبَا‬
‫سكُنْ أَ ْنتَ وَزَوْ ُ‬
‫هناك نهي هو{ َوقُلْنَا يَآءَادَمُ ا ْ‬
‫هَـا ِذهِ الشّجَ َرةَ }[البقرة‪.]35 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحَذّره من الشيطان‪ ،‬ثم وقع آدم عليه السلم في إغواء الشيطان‪ ،‬وأنزله ال تعالى إلى الرض‬
‫واجتباه‪ ،‬وتاب عليه‪ ،‬ومعه تجربته‪ ،‬فإن خالف أمر ربه فسوف يقع عليه العقاب‪ ،‬وحذره من اتباع‬
‫الشيطان حتى ل يخرج عن طاعة ال تعالى‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقد أعطاه الحق سبحانه المنهج‪ ،‬وأمره أن يباشر مهمته في الرض؛ في نفسه أولً‪ ،‬ثم يبلغه‬
‫لمن بعده‪.‬‬
‫وكما علّمه الحق سبحانه السماء كلها‪ ،‬علّم آدم السماء لبنائه فتكلموا‪ :‬وكما نقل إليهم آدم‬
‫السماء نقل لهم المنهج‪ ،‬وقد علمه الحق سبحانه السماء؛ ليعمر الدنيا‪ ،‬وعلّمه المنهج؛ ليحسن‬
‫العمل في الدنيا؛ ليصل إلى حسن جزاء الخرة‪.‬‬
‫واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫عصَىا ءَادَمُ رَبّهُ َف َغوَىا }[طه‪.]121 :‬‬
‫{ وَ َ‬
‫ويتبعها الحق سبحانه بقوله تعالى‪:‬‬
‫{ ُثمّ اجْتَبَاهُ }[طه‪.]122 :‬‬
‫ومعنى الجتباء‪ :‬هو الصطفاء بالرسالة لنفسه أولً‪ ،‬ثم لمن بعده بعد ذلك‪ ،‬والحق سبحانه هو‬
‫القائل‪:‬‬
‫{ فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُم مّنّي ُهدًى }[البقرة‪.]38 :‬‬
‫والهدى‪ :‬هو المنهج المنزّل على آدم عليه السلم‪ ،‬والرسالة ليست إل بلغ منهج وهدى من ال‬
‫سبحانه للخلق‪.‬‬
‫وإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو القائل‪:‬‬
‫{ َومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ َرسُولً }[السراء‪.]15 :‬‬
‫فالسابقون لنوح ـ عليه السلم ـ هم من أبلغهم آدم عليه السلم‪ ،‬والدليل هو ما جاء من خبر‬
‫ابني آدم في قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫حقّ ِإذْ قَرّبَا قُرْبَانا }[المائدة‪.]27 :‬‬
‫{ وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَا َدمَ بِالْ َ‬
‫وهما قد قدّما القربان إلى ال تعالى‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فخبر اللوهية موجود عند ابني آدم بدليل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫لقْتُلَ ّنكَ قَالَ إِ ّنمَا يَ َتقَبّلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫{ ِإذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَ ُتقُ ّبلَ مِن َأحَ ِد ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِنَ الخَرِ قَالَ َ‬
‫[المائدة‪.]27 :‬‬
‫إذن‪ :‬فهم قد أقروا بوجود ال تعالى‪ ،‬وأيضا عرفوا النهي‪،‬؛ لنه في إحدى اليتين قال‪:‬‬
‫لقْتَُلكَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫ك َ‬
‫{ لَئِن بَسَطتَ إَِليّ َي َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ َي ِديَ إِلَ ْي َ‬

‫[المائدة‪.]28 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فالذين جاءوا بعد آدم ـ عليه السلم ـ عرفوا الله الواحد‪ ،‬وعلموا المنهج‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالذين يقولون‪ :‬إن آدم ـ عليه السلم ـ لم يكن رسولً‪ ،‬نقول لهم‪ :‬افهموا عن ال جيدا‪،‬‬
‫كان يجب أن تقولوا‪ :‬هذه مسألة ل نفهم فيها‪ ،‬وكان عليهم أن يسألوا أهل ال ّذكْر ليفهموا عنهم أن‬
‫آدم ـ عليه السلم ـ رسول‪ ،‬وأن من أولده قابيل وهابيل‪ ،‬وقد تكلما في التقوى‪.‬‬
‫أما لماذا جاء الحق سبحانه هنا بالحديث عن نوح‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬فلنا أن نعلم أن آدم عليه السلم‬
‫هو النسان الول‪ ،‬وأنه قد نقل لولده المنهج المُبلّغ له‪ ،‬ودلّهم على ما ينفعهم‪ ،‬ثم طال الزمن‬
‫وأنشأت الغفلة‪ ،‬فجاء إدريس عليه السلم‪ ،‬ثم تبعته الغفلة‪ ،‬إلى أن جاء نوح عليه السلم‪.‬‬
‫وهنا يأتي لنا الحق سبحانه بخبر نوح ـ عليه السلم ـ في قوله‪:‬‬
‫} وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ { [يونس‪.]71 :‬‬
‫والنبأ‪ :‬هو الخبر الهام الذي يلفت الذهن‪ ،‬وهو المر الظاهر الواضح‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫عمّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْل َعظِيمِ * الّذِي ُهمْ فِيهِ ُمخْتَِلفُونَ }[النبأ‪1 :‬ـ ‪.]3‬‬
‫{ َ‬
‫إذن‪ :‬فالنبأ هو الخبر الهام المُ ْلفِت‪ ،‬وقد جاء هنا خبر نوح ـ عليه السلم ـ الذي يُبلّغ قومه أي‪:‬‬
‫يخاطبهم‪ ،‬وهو قد شهد لنفسه أنه رسول يبلّغ منهجا‪.‬‬
‫وكلمة " َقوْمِ " ل تطلق في اللغة إل على الرجال‪ ،‬يوضح القرآن ذلك في قوله الحق سبحانه‪:‬‬
‫عسَىا أَن َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ‬
‫عسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ َ‬
‫سخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ َ‬
‫{ لَ يَ ْ‬
‫}[الحجرات‪.]11 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالقوم هم الرجال‪ ،‬والمرأة إنما يُبنى أمرها على السر‪ ،‬والحركة في الدنيا للرجل‪ ،‬وقد‬
‫شرحنا ذلك في حديث الحق سبحانه لدم ـ عليه السلم ـ عن إبليس‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫شقَىا }[طه‪.]117 :‬‬
‫جكَ فَلَ يُخْ ِرجَ ّن ُكمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَ ْ‬
‫ع ُدوّ ّلكَ وَلِ َزوْ ِ‬
‫{ إِنّ هَـاذَا َ‬
‫شقَىا }[طه‪.]117 :‬‬
‫ولن الخطاب لدم فقد قال الحق سبحانه‪ {:‬فَ َت ْ‬
‫ولم يقل‪ :‬فتشقيا؛ مما يدل على أن المرأة ل شأن لها بالعمال التي خارج البيت والتي تتطلب‬
‫مشقة‪ ،‬فالمرأة تقرّ في البيت؛ لتحتضن البناء‪ ،‬وتُهيّىء السكن للرجل بما فيها من حنان وعاطفة‬
‫وقرار واستقرار‪ .‬أما القيام والحركة فللرجل‪.‬‬
‫فالحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫شقَىا }[طه‪.]117 :‬‬
‫{ فَلَ ُيخْرِجَ ّن ُكمَا مِنَ ا ْلجَنّةِ فَ َت ْ‬
‫إذن‪ :‬فالكدح للرجل ومتطلبه القيام ل القعود‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه على لسان نوح ـ عليه السلم‪.‬‬
‫} يا َقوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكُمْ ّمقَامِي { [يونس‪.]71 :‬‬
‫شعِر المخاطبين بأنه منهم وهم‬
‫وهنا يُحنّن نوح قومه بإضافات التحنن‪ ،‬أي‪ :‬جاء بالضافة التي تُ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫منه‪ ،‬وأنه ل يمكن أن يغشهم فهم أهله‪ ،‬مثل قول النائب الذي يخطب في أهل دائرته النتخابية‪" :‬‬
‫أهلي وعشيرتي وناخبيّ " وكلها اسمها إضافة تحنن‪.‬‬

‫وكذلك مثل قول لقمان لبنه‪:‬‬


‫ي لَ تُشْ ِركْ بِاللّهِ إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان‪.]13 :‬‬
‫{ يابُ َن ّ‬
‫وقوله‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ َأوْ فِي الَ ْرضِ يَ ْأتِ‬
‫{ يابُ َنيّ إِ ّنهَآ إِن َتكُ مِ ْثقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْ َدلٍ فَ َتكُنْ فِي صَخْ َرةٍ َأوْ فِي ال ّ‬
‫ِبهَا اللّهُ إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }[لقمان‪.]16 :‬‬
‫لةَ }[لقمان‪.]17 :‬‬
‫وقوله‪ {:‬يابُ َنيّ َأقِمِ الصّ َ‬
‫وهذا إضافات التحنن وفيها إيناس للسامع أن يقرب ويستجيب للحق‪.‬‬
‫} يا َقوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكُمْ ّمقَامِي { [يونس‪.]71 :‬‬
‫و " الكاف والياء والراء " تأتي لمعنيين‪:‬‬
‫الول‪ :‬كبر السن‪ ،‬وهي‪ :‬كبر يكبر‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬العظمة والتعظيم‪ ،‬إل أن التعظيم يأتي ليبيّن أنه أمر صعب على النفس‪ ،‬مثل قول الحق‬
‫سبحانه‪:‬‬
‫{ كَبُ َرتْ كَِلمَةً َتخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ إِن َيقُولُونَ ِإلّ َكذِبا }[الكهف‪.]5 :‬‬
‫أي‪ :‬أن هذه الكلمة التي خرجت من أقوالهم أمر صعب وشاق‪ ،‬وهي قولهم‪:‬‬
‫{ قَالُواْ اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدا }[الكهف‪.]4 :‬‬
‫وهذه الكلمة إنما تعظم على المؤمن‪ ،‬وهي مسألة صعبة ل يمكن قبولها فل يوجد مؤمن قادر على‬
‫أن يقبل ادعاء خلق من خلق ال تعالى أن له سبحانه ولدا‪.‬‬
‫ومرة تكون العظمة من جهة أخرى‪ ،‬مثل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ كَبُرَ عَلَى ا ْلمُشْ ِركِينَ مَا َتدْعُوهُمْ ِإلَيْهِ }[الشورى‪.]13 :‬‬
‫شقّ عليهم ما تدعوهم إليه من أن الله هو‬
‫أي‪ :‬عَظُم على المشركين‪ ،‬وصَعب على أنفسهم‪ ،‬و َ‬
‫واحد أحد‪ ،‬ول سلطان إل له سبحانه‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬إن كانت الكلمة مناقضة لليمان فهي تكبر عند المؤمنين‪ ،‬وإن كانت الكلمة تدعو الكافرين‬
‫إلى اليمان فهي تشق عليهم‪.‬‬
‫وهنا يأتي على لسان سيدنا نوح عليه السلم‪:‬‬
‫} إِن كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكُمْ ّمقَامِي { [يونس‪.]71 :‬‬
‫ونحن نعلم أن سيدنا نوحا ـ عليه السلم ـ مكث في قومه ألف سنة إل خمسين عاما‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن حياته طالت كثيرا بين قومه‪ ،‬كما أن تقريعه للكافرين جعله ثقيلً عليهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أو أن‪ } :‬كَبُرَ عَلَ ْي ُكمْ ّمقَامِي { [يونس‪.]71 :‬‬
‫تعني‪ :‬أنه حمّلهم ما ل يطيقون؛ لن نوحا ـ عليه السلم ـ أراد أن يُخرجهم عما ألفوا من عبادة‬
‫الصنام‪ ،‬فشقّ عليهم ذلك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمبدأ عبادة الله الواحد يصعب عليهم‪.‬‬
‫أو أن الصل في الواعظ أو المبلّغ أن يكون على مستوى القيام وهم قعود‪ ،‬وكان سيدنا عيسى‬
‫عليه السلم يتكلم مع الحواريين وهو واقف‪ ،‬والوقوف إشعار بأن مجهود الهدي يقع على سيدنا‬
‫عيسى ـ عليه السلم ـ بينما يقعد الحواريون ليستمعوا له في راحة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} إِن كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكُمْ ّمقَامِي { [يونس‪.]71 :‬‬
‫أي‪ :‬إن صعب عليكم ما أدعوكم اليه‪.‬‬
‫ويصح أن نأخذها من ناحية طول الوعظ والتكرار في ألف سنة إل خمسين عاما‪ ،‬أو أن مقامي‬
‫كبر عليكم‪ ،‬بمعنى‪ :‬أننا انقسمنا إلى قسمين؛ لن المنهج الذي أدعو إليه ل يعجبكم‪ ،‬وكنت أحب أن‬
‫نكون قسما واحدا‪.‬‬

‫(‪)1422 /‬‬

‫فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ َفمَا سَأَلْ ُت ُكمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا عَلَى اللّ ِه وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ (‪)72‬‬

‫أي‪ :‬إن توليتم عن دعوتي لعبادة الله الحق‪ ،‬فأنا أدعوكم إلى مثيل لكم هو أنا‪ ،‬بل أدعوكم إلى من‬
‫هو فوقي وفوقكم‪ ،‬فأنا ل أريد أن أستولي على السلطة الزمنية منكم‪ ،‬ول أبحث عن جاهٍ‪ ،‬فالجاه‬
‫كله ل تعالى‪.‬‬
‫وال ل يحتاج إلى جاهٍ منكم لن جاهه سبحانه ذاتي فيه‪ ،‬ولكن لنمنع جبروتكم وتجبّركم؛ لتعيشوا‬
‫على ضوء المنهج الحق؛ لتكون حياتكم صالحة‪ ،‬وكل ذلك لمصلحتكم‪.‬‬
‫{ فَإِن َتوَلّيْ ُتمْ َفمَا سَأَلْ ُتكُمْ مّنْ أَجْرٍ } [يونس‪ ]72 :‬فهل ُيمَالىء نوح ـ عليه السلم ـ أعداءه‪.‬‬
‫إن النسان ُيمَالىء العدو؛ لن يخاف أن يوقع به شرّا‪ ،‬ونوح عليه السلم ل يخافهم؛ لنه يعتمد‬
‫على ال تعالى وحده‪ ،‬بل هو يدلّهم على مواطن القوة فيهم‪ ،‬وهو يعلم أن قوتهم محدودة‪ ،‬وأن‬
‫شرهم مهما بلغ فهو غير نافذ‪ ،‬وقد ل يكون منهم شر على الطلق‪ ،‬فهل هناك نفعٌ سيعود على‬
‫نوح ـ عليه السلم ـ ويُمنَع عنه؟‬
‫ل؛ لنه يعلن أنه ل يأخذ أجرا على دعوته‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هم ـ إذن ـ ل يقدرون على ضُرّه‪ ،‬ول يقدرون على نفعه‪ ،‬وهو ل يريد منهم نفعا؛ لن مركزه‬
‫بإيمانه بال الذي أرسله مركزٌ قويّ‪.‬‬
‫وهو ل يسألهم أجرا‪ ،‬وكلمة " أجر " تعني‪ :‬ثمن المنفعة‪ ،‬والثمان تكون عادة في المعاوضات‪ ،‬إما‬
‫أن تكون ثمنا للعيان والذوات‪ ،‬وإما أن تكون ثمنا للمنفعة‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬أن إنسانا يرغب في شراء " شقة " في بيت فيذهب إلى رجل يملك بيتا‪ ،‬ويطلب منه‬
‫أن يبيع له عددا من السهم بقيمة الشقة‪.‬‬
‫وهناك آخر يريد أن يستأجر شقة فيذهب إلى صاحب البيت؛ ليدفع له قيمة إيجار شقة في البيت‪،‬‬
‫اي‪ :‬يدفع له قيمة النتفاع بالشقة‪ ،‬والجر ل يُدفع إل لطلب منفعة مُلِحّة‪.‬‬
‫وكان على نوح ـ عليه السلم ـ أن يطلب منهم أجرا؛ لنه يهديهم إلى الحق‪ ،‬هذا في أصول‬
‫التقييم للشياء؛ لنه يقدّم لهم نفعا أساسيا‪ ،‬لكنه يعلن أنه ل يطلب أجرا وكأنه يقول‪ :‬إن عملي كان‬
‫يجب أن يكون له أجر؛ لن منفعته تعود عليكم‪ ،‬وكان من الواجب أن آخذ أجرا عليه‪.‬‬
‫ولكن نوحا ـ عليه السلم ـ تنازل عن الجر منهم؛ لنه أراد الجر العلى‪ ،‬فلو أخذ منهم؛‬
‫فلسوف يأخذ على قدر إمكاناتهم‪ ،‬ولكن الجر من ال تعالى هو على قدر إمكانيات ال سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وفارق بين إمكانات المحدود العطاء وهو البشر‪ ،‬ومن له قدرة عطاء ل نهاية لها وهو‬
‫ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وهنا يقول‪ { :‬فَإِن َتوَلّيْ ُتمْ } [يونس‪.]72 :‬‬
‫فهذا التولّي والِعراض ل يضرّني ول ينفعني؛ لنكم ل تملكون لي ضُرّا ول تملكون لي نفعا؛‬
‫لني لن آخذ منكم أجرا‪.‬‬

‫ومن العجيب أن كل مواكب الرسل ـ عليهم السلم ـ حين يخاطبون أقوامهم يخاطبونهم بهذه‬
‫العبارة‪:‬‬
‫{ مَآ َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ }[ص‪.]86 :‬‬
‫إل في قصة سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ وقصة موسى عليه السلم‪ ،‬فعن قصة سيدنا إبراهيم‬
‫يأتي قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ظلّ َلهَا عَاكِفِينَ‬
‫ل لَبِي ِه َو َق ْومِهِ مَا َتعْبُدُونَ * قَالُواْ َنعْبُدُ َأصْنَاما فَ َن َ‬
‫{ وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَا َ‬
‫س َمعُو َنكُمْ إِذْ َتدْعُونَ * َأوْ يَن َفعُو َنكُمْ َأوْ َيضُرّونَ * قَالُواْ َبلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا َكذَِلكَ َيفْعَلُونَ }‬
‫* قَالَ َهلْ يَ ْ‬
‫[الشعراء‪69 :‬ـ ‪.]74‬‬
‫ولم يأت الحق سبحانه فيها بشيء عن عدم السؤال عن الجر‪.‬‬
‫وأيضا في قصة سيدنا موسى ـ عليه السلم‪ ،‬قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫سلْ إِلَىا هَارُونَ * وََلهُمْ‬
‫{ قَالَ َربّ إِنّي أَخَافُ أَن ُي َكذّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي َولَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عوْنَ َفقُول إِنّا‬
‫عََليّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن َيقْتُلُونِ * قَالَ كَلّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنّا َم َعكُمْ مّسْ َت ِمعُونَ * فَأْتِيَا فِرْ َ‬
‫سلْ َمعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }[الشعراء‪12 :‬ـ ‪.]17‬‬
‫رَسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * أَنْ أَرْ ِ‬
‫وهنا أيضا ل نجد قولً لموسى ـ عليه السلم ـ في عدم السؤال عن الجر‪.‬‬
‫أما هنا في قصة نوح ـ عليه السلم ـ فنجد قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} فَإِن َتوَلّيْ ُتمْ َفمَا سَأَلْ ُتكُمْ مّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَى اللّ ِه وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ { [يونس‪:‬‬
‫‪.]72‬‬
‫وكذلك جاء نفس المعنى في قصة هود عليه السلم‪ ،‬حيث يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َكذّ َبتْ عَادٌ ا ْلمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُهمْ هُودٌ َألَ تَ ّتقُونَ * إِنّي َل ُكمْ رَسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ اللّهَ‬
‫وَأَطِيعُونِ * َومَآ أَسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء‪123 :‬ـ ‪.]127‬‬
‫وجاء نفس المعنى أيضا في قوم ثمود‪ ،‬إذ قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َكذّ َبتْ َثمُودُ ا ْلمُرْسَلِينَ * ِإذْ قَالَ َلهُمْ َأخُوهُ ْم صَالِحٌ أَل تَ ّتقُونَ * إِنّي َل ُكمْ رَسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ اللّهَ‬
‫وَأَطِيعُونِ * َومَآ أَسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء‪141 :‬ـ ‪.]145‬‬
‫وكذلك جاء نفس القول على لسان لوط عليه السلم‪ ،‬فيقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َكذّ َبتْ َقوْمُ لُوطٍ ا ْلمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُهمْ لُوطٌ أَل تَ ّتقُونَ * إِنّي َل ُكمْ رَسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ‬
‫اللّ َه وََأطِيعُونِ * َومَآ َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء‪160 :‬ـ‬
‫‪.]164‬‬
‫ونفس القول جاء على لسان شعيب عليه السلم في قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫شعَ ْيبٌ َألَ تَ ّتقُونَ * إِنّي َل ُكمْ رَسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ‬
‫صحَابُ الَ ْيكَةِ ا ْلمُرْسَلِينَ * ِإذْ قَالَ َلهُمْ ُ‬
‫{ َك ّذبَ َأ ْ‬
‫اللّ َه وََأطِيعُونِ * َومَآ َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء‪176 :‬ـ‬
‫‪.]180‬‬
‫إذن‪ :‬فغالبية الموكب الرسالي يأتي على ألسنتهم الكلم عن الجر‪:‬‬
‫{ َومَآ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ }[الشعراء‪.]164 :‬‬
‫فكأن الرسل عليهم السلم يقولون للبشر الذين ارسلوا إليهم‪ :‬لو أنكم فطنتم إلى حقيقة المر لكان‬
‫من الواجب أن يكون لنا أجر على ما نقدمه لكم من منفعة‪ ،‬لكنّا ل نريد منكم أنتم أجرا‪ ،‬إنما‬
‫سنأخذ أجرنا من ربّ العالمين؛ لن المنفعة التي نقدمها لكم ل يستطيع بشر أن يقوّمها‪ ،‬وإنما‬
‫القادر على تقييمها هو واضع المنهج ـ سبحانه ـ ومُنزِله على رسله‪.‬‬

‫وها هو القرآن الكريم يأتي على لسان رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫{ قُل لّ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ َأجْرا ِإلّ ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَىا }[الشورى‪.]23 :‬‬
‫أما لماذا لم تأت مسألة الجر على لسان سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ فنحن نعلم أن إبراهيم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليه السلم أول ما دعا؛ دعا عمه‪ ،‬وكان للعم حظ تربية إبراهيم‪ ،‬وله على سيدنا إبراهيم حق‬
‫البوة‪.‬‬
‫وكذلك سيدنا موسى عليه السلم‪ ،‬فقد دعا فرعون‪ ،‬وفرعون هو الذي قام بتربية موسى‪ ،‬وكانت‬
‫زوجة فرعون تريده قرة عين لها ولزوجها‪ ،‬حتى إن فرعون فيما بعد قد ذكّره بذلك‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫عمُ ِركَ سِنِينَ }[الشعراء‪.]18 :‬‬
‫{ قَالَ أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا وَلَبِ ْثتَ فِينَا مِنْ ُ‬
‫أما هنا في دعوة سيدنا نوح ـ عليه السلم ـ فيأتي قول القرآن على لسان نوح بما يوضّح المر‬
‫لقوم نوح‪:‬‬
‫فإن توليتم فل حزن لي‪ ،‬ول جزع؛ لنكم لن تصيبوني بضُرّ‪ ،‬ولن تمنعوا عني منفعة؛ لنكم لم‬
‫تسألوني أن آتي لكم بالهدى لخذ أجري منكم‪ ،‬ولكن الحق سبحانه هو الذي بعثني‪ ،‬وهو الذي‬
‫حقّا وصدقا‪.‬‬
‫سيعطيني أجري‪ ،‬وقد أمرني سبحانه أن أكون من المسلمين له َ‬
‫وفي حياتنا نجد أن صديقا يرسل إلى صديقه عاملً من عنده ليصلح شيئا‪ ،‬فهو يأخذ الجر من‬
‫المرسل‪ ،‬ل من المرسل إليه‪ ،‬وهذا أمر منطقي وطبيعي‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬ف َكذّبُوهُ فَ َنجّيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ فِي ا ْلفُلْكِ {‬

‫(‪)1423 /‬‬

‫جعَلْنَاهُمْ خَلَا ِئفَ وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ‬
‫َفكَذّبُوهُ فَنَجّيْنَا ُه َومَنْ َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ َو َ‬
‫عَاقِبَةُ ا ْلمُ ْنذَرِينَ (‪)73‬‬

‫وكأن المر الذي وقع من الحق سبحانه نتيجة عدائهم لليمان كان من الممكن أن يشمله؛ لنه ل‬
‫يقال‪ :‬نجّيتُك من كذا إل إذا كان المر الذي نجيتك منه‪ ،‬توشك أن تقع فيه‪ ،‬وكان هذا بالفعل هو‬
‫الحال مع الطوفان‪ ،‬فالحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫سمَآءِ ِبمَاءٍ مّ ْن َهمِرٍ * َوفَجّرْنَا الَ ْرضَ عُيُونا }[القمر‪11 :‬ـ ‪.]12‬‬
‫{ َففَتَحْنَآ أَ ْبوَابَ ال ّ‬
‫ومن المتوقع أن تشرب الرض ماء المطر‪ ،‬لكن الذي حدث أن المطر انهمر من السماء والرض‬
‫أيضا تفجّرتْ بالماء؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول‪:‬‬
‫{ فَالْ َتقَى المَآءُ عَلَىا َأمْرٍ َقدْ قُدِرَ }[القمر‪.]12 :‬‬
‫أي‪ :‬أن ذلك المر كان مقدّرا؛ حتى ل يقولن أحد‪ :‬إن هذه المسألة ظاهرة طبيعية‪.‬‬
‫ل إنه أمر مُقدّر‪ ،‬وقد كانت السفينة موجودة بصناعة من نوح عليه السلم؛ لن الحق سبحانه قد‬
‫أمره بذلك في قوله تعالى في سورة هود‪ {:‬وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا }[هود‪.]37 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويقول الحق سبحانه في الية التي بعدها‪:‬‬
‫سخَرُ مِنكُمْ َكمَا‬
‫سخَرُواْ مِنّا فَإِنّا نَ ْ‬
‫سخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَ ْ‬
‫علَيْهِ مَلٌ مّن َق ْومِهِ َ‬
‫ك َوكُّلمَا مَرّ َ‬
‫{ وَ َيصْنَعُ ا ْلفُ ْل َ‬
‫سخَرُونَ }[هود‪.]38 :‬‬
‫تَ ْ‬
‫ويركب نوح ـ عليه السلم ـ السفينة‪ ،‬ويركب معه من آمن بال تعالى‪ ،‬وما حملوا معهم من‬
‫الطير والحيوان من ُكلّ نوع اثنين ذكرا وأنثى‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ فَ َنجّيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ } [يونس‪.]73 :‬‬
‫يوحي أن الذي صعد إلى السفينة هم العقلء من البشر‪ ،‬فكيف نفهم مسألة صعود الحيوانات‬
‫والطيور إلى السفينة؟‬
‫نقول‪ :‬إن الصل في وجود هذه الحيوانات وتلك الطيور أنها مُسخّرة لخدمة النسان‪ ،‬وكان ل بد‬
‫أن توجد في السفينة؛ لنها ككائنات مسخّرة تسبّح ال‪ ،‬وتعبد الحق سبحانه‪ ،‬فكيف يكون علمها‬
‫فوق علم العقلء الذين كفرو بعضهم‪ ،‬ثم أليس من الكائنات المسخّرة ذلك الغراب الذي علّم "‬
‫قابيل " كيف يواري سوأة أخيه؟! إنه طائر‪ ،‬لكنه علم ما لم يعلمه النسان!‬
‫والحق سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫سوْ َءةَ أَخِيهِ }[المائدة‪.]31 :‬‬
‫حثُ فِي الَ ْرضِ لِيُرِيَهُ كَ ْيفَ ُيوَارِي َ‬
‫{ فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا يَبْ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه في الية التي نحن بصددها الن‪:‬‬
‫ف وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ‬
‫جعَلْنَا ُهمْ خَلَ ِئ َ‬
‫ك وَ َ‬
‫{ َفكَذّبُوهُ فَ َنجّيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ فِي ا ْلفُ ْل ِ‬
‫عَاقِبَةُ ا ْلمُ ْنذَرِينَ } [يونس‪.]73 :‬‬
‫وكلمة " الفُلْك " من اللفاظ التي تطلق على المفرد‪ ،‬وتطلق على الجماعة‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪ { :‬فَنَجّيْنَاهُ } نعلم منه أن الفعل من ال تعالى‪ ،‬وهو سبحانه حين يتحدث عن‬
‫أي فعل له‪ ،‬فالكلم عن الفعل يأتي مثل قوله سبحانه‪:‬‬
‫{ إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر‪.]9 :‬‬
‫ولكنه حين يتحدث عن ذاته‪ ،‬فهو يأتي بكلمة تؤكد الوحدانية وتكون بضمير الفراد مثل‪ {:‬إِنّنِي أَنَا‬
‫اللّهُ }[طه‪.]14 :‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ فَ َنجّيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ } [يونس‪.]73 :‬‬

‫كلمة " أنجى " للتعددية‪ ،‬وكلمة " َنجّى " تدل على أن هناك معالجة شديدة للنجاء‪ ،‬وعلى أن الفعل‬
‫يتكرر‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَلْنَاهُمْ خَلَ ِئفَ { [يونس‪.]73 :‬‬
‫} وَ َ‬
‫تعني‪ :‬أن الخليفة هو من يجيء بعد سابق‪ ،‬وكلمة " الخليفة " تأتي مرة للعلى‪ ،‬مثل الحال هنا‬
‫حيث جعل الصالح خليفة للصالح‪ ،‬فبعد أن أنجى ال سبحانه العناصر المؤمنة في السفينة‪ ،‬أغرق‬
‫الباقين‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالصالحون على ظهر السفينة أنجبوا الصالحين من بعدهم‪.‬‬
‫ومرة تأتي كلمة " الخليفة " للقل‪ ،‬مثل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ش َهوَاتِ }[مريم‪.]59 :‬‬
‫لةَ وَاتّ َبعُواْ ال ّ‬
‫{ َفخََلفَ مِن َبعْدِهِمْ خَ ْلفٌ َأضَاعُواْ الصّ َ‬
‫فهنا تكون كلمة الخليفة موحية بالمكانة القل‪ ،‬وهناك معيار وضعه الحق سبحانه لتقييم الخليفة‪،‬‬
‫هو قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جعَلْنَا ُكمْ خَلَ ِئفَ فِي الَرْضِ مِن َبعْ ِدهِم لِنَنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ }[يونس‪.]14 :‬‬
‫{ ُثمّ َ‬
‫ولن النسان مخيّر بين اليمان والكفر‪ ،‬فسوف يَ ْلقَى مكانته على ضوء ما يختار‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَ َيسْتَخِْلفَ ّنهُمْ فِي الَ ْرضِ َكمَا اسْتَخَْلفَ الّذِينَ مِن‬
‫{ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِ ْنكُ ْم وَ َ‬
‫خ ْوفِهِمْ َأمْنا }[النور‪.]55 :‬‬
‫قَبِْلهِ ْم وَلَ ُي َمكّنَنّ َلهُمْ دِي َنهُمُ الّذِي ارْ َتضَىا َلهُ ْم وَلَيُبَدّلَ ّنهُمْ مّن َبعْدِ َ‬
‫إذن‪ :‬فالخليفة إما أن يكون خليفة لصالحٍ‪ ،‬وإما أن يكون صالحا يَخُْلفُ فاسدا‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جعَلْنَاهُمْ خَلَ ِئفَ وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا { [يونس‪.]73 :‬‬
‫} وَ َ‬
‫واليات ـ كما قلنا من قبل ـ إما آيات العتبار التي تهدي إلى اليمان بالقوة الخالقة‪ ،‬وهي آيات‬
‫الكون كلها‪ ،‬فكل شيء في الكون يدّلكَ على أن هذا الكون مخلوق على هيئة ولغاية‪ .‬بدليل أن‬
‫الشياء في هذا الكون تنتظم انتظاما حكيما‪.‬‬
‫خلٌ‪ ،‬وما ليس ليدك فيه دخل؛ ستجد‬
‫وإذا أردت أن تعرف دقة هذا الخلق‪ ،‬فانظر إلى ما ليدك فيه َد ْ‬
‫كل ما ليس ليدك فيه دخل على درجة هائلة من الستقامة‪ ،‬والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫ك ال َقمَ َر وَلَ الّ ْيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس‪.]40 :‬‬
‫شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ‬
‫{ لَ ال ّ‬
‫أما ما ليدك فيه دخل‪ ،‬فاختيارنا حين يتدخل فهو قد يفسد الشياء‪.‬‬
‫وهكذا رأينا أن اليات الكونية تلفت إلى وجود الخالق سبحانه وهي مناط الستدلل العقلي على‬
‫وجود الله‪ ،‬أو أن اليات هي المور العجيبة التي جاءت علىأيدي الرسل ـ عليهم السلم ـ‬
‫لتقنع الناس بأنهم صادقون في البلغ عن ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ثم هناك آيات القرآن الكريم التي يقول فيها الحق سبحانه‪:‬‬
‫ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ }[آل عمران‪.]7 :‬‬
‫{ ُهوَ الّذِي أَن َزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّ ْ‬
‫وهي اليات التي تحمل المنهج‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحين يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا { [يونس‪.]73 :‬‬
‫فهو يعلّمنا أنه أغرق من كذّبوا باليات الكونية ولم يلتفتوا إلى بديع صنعه سبحانه‪ ،‬وحكمة تكوين‬
‫هذه اليات‪ ،‬وترتيبها ورتابتها‪ ،‬وهم أيضا كذّبوا اليات المعجزات‪ ،‬وكذلك كذّبوا بآيات الحكام‬
‫التي جاءت بها رسلهم‪.‬‬

‫وينهي الحق سبحانه وتعالى هذه الية بقوله‪:‬‬


‫} فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُنْذَرِينَ { [يونس‪.]73 :‬‬
‫والخطاب هنا لكل من يتأتّى منه النظر‪ ،‬وأوّلُهم سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو أول‬
‫مُخاطَب بالقرآن‪.‬‬
‫وأنت حين تقول‪ " :‬انظر "؛ فأنت تُ ْلفِت إلى أمر حسّي‪ ،‬إن وجّهت نظرك نحوه جاء الشعاع من‬
‫المنظور إليه‪ ،‬ليرسم أبعاد الشيء؛ فتراه‪.‬‬
‫والكلم هنا عن أمور غائبة‪ ،‬فهي أحداث حسية وقعت مرة واحدة ثم صارت خبرا‪ ،‬فإن أخبرك‬
‫بها مخبر فيكون تصديقك بها على مقدار الثقة فيه‪.‬‬
‫فمن رأى عصا موسى ـ عليه السلم ـ وهي تلقف الحبال التي ألقاها السحرة؛ آمن بها‪ ،‬مثلما‬
‫آمن من شاهد النار عاجزة عن إحراق إبراهيم عليه السلم‪ ،‬ومن رأى عيسى عليه السلم وهو‬
‫يُشفي ال ْكمَ َه والبْرص ويُحيي الموتى بإذن ال تعالى‪ ،‬فقد آمن بما رأى‪ ،‬أما من لم ير تلك‬
‫المعجزات فإيمانه يتوقف على قدر توثيقه لمن أخبر‪ ،‬فإن كان المخبر بذلك هو ال سبحانه وفي‬
‫القرآن الكريم فإيماننا بتلك المعجزات هو أمر حتمي؛ لننا آمنا بصدق المبلّغ عن ال تعالى‪.‬‬
‫ونحن نفهم أن الرسالت السابقة على رسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كانت رسالت موقوتة‬
‫زمانا ومكانا‪ ،‬لكن السلم جاء لينتظم الناس الموجّه إليهم منذ أن أرسل ال رسوله محمدا صلى‬
‫ال عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة‪.‬‬
‫لذلك جاء القرآن آيات باقيات إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬وهذا هو السبب في أن القرآن قد جاء معجزة‬
‫عقلية دائمة يستطيع كل من يدعو إلى منهج رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يقول‪ :‬محمد‬
‫رسول من عند ال تعالى‪ ،‬وتلك هي معجزته‪.‬‬
‫وساعة يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَا ْنظُرْ { فمثلها مثل قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى ال‬
‫عليه وسلم‪:‬‬
‫صحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل‪.]1 :‬‬
‫{ أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأ ْ‬
‫وحادثة الفيل قد حدثت في العام الذي ولد فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبطبيعة الحال‬
‫فسيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم لم ير حادثة الفيل‪ ،‬ولكن الذين رأوها هم الذين كانوا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يعيشون وقتها‪ ،‬وهذا ما يلفتنا إلى فارق الداء‪ ،‬فعيونك قد ترى أمرا‪ ،‬وأنذك قد تسمع خبرا‪ ،‬ولكن‬
‫من الجائز أن تخدعك حواسك‪ ،‬أما الخبر القادم من ال تعالى‪ ،‬وإن كان غائبا عنك الن وغير‬
‫مسموع لك فخذه على أنه أقوى من رؤية العين‪.‬‬
‫ولقائل أن يقول‪ :‬لماذا لم يقل الحق‪ " :‬ألم تعلم " وجاء بالقول‪:‬‬
‫{ أََلمْ تَرَ }[الفيل‪.]1 :‬‬
‫وأقول‪ :‬ليدلنا ال سبحانه على أن العلم المأخوذ من ال تعالى عن أمر غيبي عليك أن تتلقاه‬
‫بالقبول أكثر من تلقيك لرأي العين‪.‬‬
‫إذن‪ } :‬فَانْظُرْ { تعني‪ :‬اعلمْ المر وكأنه مُجسّم أمامك؛ لنك مؤمن بال تعالى وكأنك تراه‪،‬‬
‫ومُبلّغك عن ال سبحانه هو رسول تؤمن برسالته‪ ،‬وكل خبر قادم من ال تعالى ورسوله صلى ال‬
‫عليه سولم ل يمكن أن يتسرب إليه الشك‪ ،‬ولكن الشك ل يمكن أن يتسرب إلى المخبر الصادق‬
‫أبدا‪.‬‬

‫ولقائل أن يقول‪ :‬ولماذا لم يقل الحق‪ " :‬فانظر كيف كان عاقبة الكافرين " بدلً من قول الحق‬
‫سبحانه‪:‬‬
‫} فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُنْذَرِينَ { [يونس‪.]73 :‬‬
‫وهنا نقول‪:‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى قد بيّن أنه لم يعذّب قبل أن يُنْذِر‪ ،‬فهو قد أنذر أولً‪ ،‬ولم يأخذ القوم على‬
‫جهلهم‪.‬‬
‫" فانظر " ـ كما نعلم ـ هي خطاب لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وخطاب رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم يشمل أمته أيضا‪ ،‬وجاء هذا الخبر تسلية لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن‬
‫صادف من قومك يا محمد ما صادف قوم نوح ـ عليه السلم ـ فاعلمْ أن عاقبتهم ستكون كعاقبة‬
‫قوم نوح‪.‬‬
‫وفي هذا تحذير وتخويف للمناوئين لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬ثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِ ُرسُلً إِلَىا َق ْو ِمهِمْ {‬

‫(‪)1424 /‬‬

‫ثُمّ َبعَثْنَا مِنْ َب ْع ِدهِ رُسُلًا إِلَى َق ْو ِمهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا ِبمَا َكذّبُوا ِبهِ مِنْ قَ ْبلُ كَذَِلكَ‬
‫نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ ا ْل ُمعْتَدِينَ (‪)74‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكلمة " بعث " هنا تستحق التأمل‪ ،‬فالبعث إنما يكون لشيء كان موجودا ثم انتهى‪ ،‬فيبعثه ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وكلمة { َبعَثْنَا } هذه تلفتنا إلى الحق سبحانه أول ما خلق الخلق أعطى المنهج لدم عليه السلم‪،‬‬
‫وأبلغه آدم لبنائه‪ ،‬وكل طمس أو تغيير من البشر للمنهج هو إماتة للمنهج‪.‬‬
‫وحين يرسل الحق سبحانه رسولً‪ ،‬فهو ل ينشيء منهجا‪ ،‬بل يبعث ما كان موجودا‪ ،‬ليذكّر الفطرة‬
‫السليمة‪.‬‬
‫وهذا هو الفرق بين أثر كلمة " البعث " عن كلمة " الرسال " ‪ ،‬فكلمة البعث تشعرك بوجود‬
‫شيء‪ ،‬ثم انتهاء الشيء‪ ،‬ثم بعث ذلك الشيء من جديد‪ ،‬ومثله مثل البعث في يوم القيامة‪ ،‬فالبشر‬
‫كانوا يعيشون وسيظلون في تناسل وحياة وموت إلى يوم البعث‪ ،‬ثم يموت كل الخلق ليبعثوا‬
‫للحساب‪.‬‬
‫ولم يكن من المعقول أن يخلق ال سبحانه البشر‪ ،‬ويجعل لهم الخلفة في الرض‪ ،‬ثم يتركهم دون‬
‫منهج؛ وما دامت الغفلة قد طرأت عليهم من بعد آدم ـ عليه السلم ـ جاء البعث للمنهج على‬
‫ألسنة الرسل المبلّغين عن ال تعالى‪.‬‬
‫وبعد نوح ـ عليه السلم ـ بعث الحق سبحانه رسلً‪ ،‬وهنا يقول ال سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{ ُثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِ } [يونس‪.]74 :‬‬
‫أي‪ :‬من بعد نوح‪ ،‬فمسألة نوح ـ عليه السلم ـ هنا تعني مقدمة ال ّركْب الرسالي؛ لن نوحا عليه‬
‫السلم قد قالوا عنه إنه رسول عامّ للناس جميعا أيضا‪ ،‬مثله مثل محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو‬
‫لم يُبعث رسولً عامّا للناس جميعا‪ ،‬بل كان صعوده إلى السفينة هو الذي جعله رسولً لكل الناس؛‬
‫لن سكان الرض أيامها كانوا قِلّة‪.‬‬
‫والحق سبحانه قد أخذ الكافرين بذنبهم وأنجى المؤمنين من الطوفان‪ ،‬وكان الناس قسمين‪ :‬مؤمنين‪،‬‬
‫وكافرين‪ ،‬وقد صعد المؤمنون إلى السفينة‪ ،‬وأغرق الحق سبحانه الكافرين‪.‬‬
‫وهكذا صار نوح ـ عليه السلم ـ رسولً عامّا بخصوصية من بقوا وهم المرسَل إليهم‬
‫بخصوصية الزمان والمكان‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ ُثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِ ُرسُلً إِلَىا َق ْو ِمهِمْ } [يونس‪.]74 :‬‬
‫ص ال تعالى كل أخبار الرسل عليه السلم؟ ل؛ لنه سبحانه وتعالى هو القائل‪:‬‬
‫فهل َق ّ‬
‫ك َومِ ْنهُمْ مّن لّمْ َن ْقصُصْ عَلَ ْيكَ }[غافر‪.]78 :‬‬
‫{ مِ ْنهُم مّن َقصَصْنَا عَلَ ْي َ‬
‫وجاء الحق عز وجل بقصص أولي العزم منهم‪ ،‬مثلما قال سبحانه‪:‬‬
‫{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىا مِاْئَةِ أَ ْلفٍ َأوْ يَزِيدُونَ }[الصافات‪.]147 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فمن أرسله ال تعالى إلى من هم أقل من مائة ألف‪ ،‬فقد ل يأتي ذكره‪ ،‬ونحن نعلم أن الرسول إنما‬
‫كان يأتي للمة المنعزلة؛ لن العالم كان على طريقة النعزال‪ ،‬فنحن مثلً منذ ألف عام لم نكن‬
‫نعلم بوجود قارة أمريكا‪ ،‬بل ولم نعلم كل القارات والبلد إل بعد المسح الجوي في العصر‬
‫الحديث‪ ،‬وقد توجد مناطق في العالم نعرفها كصورة ول نعرفها كواقع‪.‬‬

‫ونحن نعلم أن ذرية آدم ـ عليه السلم ـ كانت تعيش على الرض‪ ،‬ثم انساحت في الرض؛‬
‫لن القوات التي كانت تكفي ذرية آدم على عهده‪ ،‬لم تعد تكفي بعدما اتسعت الذرية‪ ،‬فضاق‬
‫الرزق في رقعة الرض التي كانوا عليها‪ ،‬وانساح بعضهم إلى بقية الرض‪.‬‬
‫والحق سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫س َعةً }[النساء‪.]100 :‬‬
‫{ َومَن ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َيجِدْ فِي الَ ْرضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَ َ‬
‫وهكذا انتقل بعض من ذرية آدم ـ عليه السلم ـ إلى مواقع الغيث‪ ،‬فالهجرة تكون إلى مواقع‬
‫المياه؛ لنها أصل الحياة‪.‬‬
‫ويلحظ مؤرّخو الحضارات أن بعض الحضارات نشأت على جوانب النهار و الوديان‪ ،‬أما‬
‫البداوة فكانت تتفرق في الصحاري‪ ،‬مثلهم مثل العرب‪ ،‬وكانوا في الصل يسكنون عند سد‬
‫مأرب‪ ،‬وبعد أن تهدم السد وأغرق الرض‪ ،‬خاف الناس من الفيضان؛ لن العَ ُدوّين اللذين لم يقدر‬
‫عليهما البشر هما النار والماء‪.‬‬
‫وحين رأى الناس اندفاع الماء ذهبوا إلى الصحاري‪ ،‬وحفروا البار التي أخذوا منها الماء على‬
‫قَدْر حاجتهم؛ لنهم عرفوا أنهم ليسوا في قوة المواجهة مع الماء‪.‬‬
‫وهكذا صارت النعزالت بين القبائل العربية‪ ،‬مثلها كانت في بقية الرض؛ ولذلك اختلفت‬
‫الداءات باختلف المم؛ ولذلك بعث الحق سبحانه إلى كل أمة نذيرا‪ ،‬وهو سبحانه القائل‪:‬‬
‫{ وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر‪.]24 :‬‬
‫وقصّ علينا ال سبحانه قصص بعضهم‪ ،‬ولم يقصص قصص البعض الخر‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ك َومَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْ ِتيَ بِآيَةٍ ِإلّ بِإِذْنِ‬
‫ك َومِ ْنهُمْ مّن لّمْ َن ْقصُصْ عَلَ ْي َ‬
‫{ مِ ْنهُم مّن َقصَصْنَا عَلَ ْي َ‬
‫اللّهِ }[غافر‪.]78 :‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} ُثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِ ُرسُلً إِلَىا َق ْو ِمهِمْ فَجَآءُو ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ { [يونس‪.]74 :‬‬
‫فهل هؤلء هم الرسل الذين لم يذكرهم ال؟‬
‫ل؛ لن الحق سبحانه أرسل بعد ذلك هودا إلى قوم عاد‪ ،‬وصالحا إلى ثمود‪ ،‬وشعيبا إلى مدين‪،‬‬
‫ولم يأت بذكر هؤلء هنا‪ ،‬بل جاء بعد نوح ـ عليه السلم ـ بخبر موسى عليه السلم‪ ،‬وكأنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شاء سبحانه هنا أن يأتي لنا بخبر عيون الرسالت‪.‬‬
‫وما دام الحق سبحانه قد أرسل رسلً إلى قوم‪ ،‬فكل قوم كان لهم رسول‪ ،‬وكل رسول بعثه ال‬
‫تعالى إلى قومه‪.‬‬
‫وكلمة " قوم " في الية جمع مضاف‪ ،‬والرسل جمع‪ ،‬ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا‪،‬‬
‫مثلما نقول‪ :‬هَيّا اركبوا سياراتكم‪ ،‬والخطاب لكم جميعا‪ ،‬ويعني‪ :‬أن يركب كل واحد منكم سيارته‪.‬‬
‫وجاء كل رسول إلى قومه بالبينات‪ ،‬أي‪ :‬باليات الواضحات الدالة على صدق بلغهم عن ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه في نفس الية‪:‬‬
‫} َفمَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ ِبمَا َكذّبُواْ بِهِ مِن قَ ْبلُ كَذَِلكَ َنطْبَعُ عَلَىا قُلوبِ ا ْل ُمعْتَدِينَ { [يونس‪.]74 :‬‬
‫أي‪ :‬أن الناس جميعهم لو آمنوا لنقطع الموكب الرسالي‪ ،‬فموكب إيمان كل البشر لم يستمر‪ ،‬بل‬
‫جاءت الغفلة‪ ،‬وطبع ال تعالى على قلوب المعتدين‪.‬‬

‫والطبع ـ كما نعلم ـ هو الختم‪.‬‬


‫ومعنى ذلك أن القلب المختوم ل يُخرج ما بداخله‪ ،‬ول يُدخل إليه ما هو خارجه؛ فما دام البعض‬
‫قد عشق الكفر فقد طبع ال سبحانه على هذه القلوب ألّ يدخلها إيمان‪ ،‬ول يخرج منها الكفر‪،‬‬
‫والطبع هنا منسوب ل تعالى‪.‬‬
‫وبعض الذين يتلمّسون ثغرات في منهج ال تعالى يقولون‪ :‬إن سبب كفرهم هو أن ال هو الذي‬
‫طبع على قلوبهم‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬التفتوا إلى أنه سبحانه بيّن أنه قد طبع الى قلوب المعتدين‪ ،‬فالعتداء قد وقع منهم أولً‪،‬‬
‫ومعنى العتداء أنهم لم ينظروا في آيات ال تعالى‪ ،‬وكفروا بما نزل إليهم من منهج‪ ،‬فهم أصحاب‬
‫السبب في الطبع على القلوب بالعتداء والعراض‪.‬‬
‫وجاء الطبع لتصميمهم على ماعشقوه وألفوه‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى هو القائل في الحديث‬
‫القدسي‪:‬‬
‫" أنا أغنى الشركاء عن الشرك "‪.‬‬
‫ول المثل العلى‪ ،‬فأنت تقول لمن َيسْدِر في غَيّه‪ :‬ما دمت تعشق ذلك المر فاشبع به‪.‬‬
‫ومَثَل هؤلء الذين طبع ال سبحانه وتعالى على قلوبهم‪ ،‬مثل الذين كذّبوا من قبل وكانوا معتدين‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬ثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِمْ مّوسَىا وَهَارُونَ {‬

‫(‪)1425 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عوْنَ َومَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْ َتكْبَرُوا َوكَانُوا َق ْومًا مُجْ ِرمِينَ (‪)75‬‬
‫ثُمّ َبعَثْنَا مِنْ َب ْعدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْ َ‬

‫وكل من موسى وهارون ـ عليهما السلم ـ رسول‪ ،‬وقد أخذ البعث لهما مراحل‪ ،‬والصل فيها‬
‫أن ال تعالى قال لموسى ـ عليه السلم‪:‬‬
‫{ وَأَنَا اخْتَرْ ُتكَ فَاسْ َتمِعْ ِلمَا يُوحَى }[طه‪.]13 :‬‬
‫وقال الحق سبحانه وتعالى لموسى ـ عليه السلم‪:‬‬
‫طغَىا }[طه‪.]43 :‬‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫{ اذْهَبَآ إِلَىا فِرْ َ‬
‫عضُدَه بأخيه‪ ،‬فقال الحق سبحانه‬
‫ثم سأل موسى ـ عليه السلم ـ ربه سبحانه وتعالى أن يشدّ َ‬
‫وتعالى‪:‬‬
‫سؤَْلكَ يامُوسَىا }[طه‪.]36 :‬‬
‫{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ ُ‬
‫لن موسى ـ عليه السلم ـ أراد أن يفقه قوله‪ ،‬وقد رجى موسى ربه سبحانه وتعالى بقوله‪:‬‬
‫عقْ َدةً مّن لّسَانِي * َيفْ َقهُواْ َقوْلِي }[طه‪27 :‬ـ ‪.]28‬‬
‫{ وَاحُْللْ ُ‬
‫وبعد ذلك جاء تكليف هارون بالرسالة مع موسى عليه السلم‪.‬‬
‫طغَىا }[طه‪.]24 :‬‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫وقال الحق سبحانه‪ {:‬اذْ َهبْ إِلَىا فِرْ َ‬
‫فالصل ـ إذن ـ كانت رسالة موسى ـ عليه السلم ـ ثم ضم ال سبحانه هارون إلى موسى‬
‫إجابة لسؤال موسى‪ ،‬والدليل على ذلك أن اليات كلها المبعوثة في تلك الرسالة كانت بيد موسى‪،‬‬
‫وحين يكون موسى هو الرسول‪ ،‬وينضم إليه هارون‪ ،‬ل بد ـ إذن ـ أن يصبح هارون رسولً‪.‬‬
‫ولذلك نجد القرآن معبّرا عن هذا‪ {:‬إِنّا رَسُولَ رَ ّبكَ }[طه‪.]47 :‬‬
‫أي‪ :‬أنهما رسولن من ال‪.‬‬
‫وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫عوْنَ َفقُول إِنّا َرسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء‪.]16 :‬‬
‫{ فَأْتِيَا فِرْ َ‬
‫فهما الثنان مبعوثان في مهمة واحدة‪ ،‬وليس لكل منهما رسالة منفصلة‪ ،‬بل رسالتهما واحدة لم‬
‫تتعدد‪ ،‬وإن تعدد المرسل فكانا موسى وهارون‪.‬‬
‫ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ حين يوفد ملك أو رئيس وفدا إلى ملك آخر‪ ،‬فيقولون‪ :‬نحن‬
‫رسل الملك فلن‪.‬‬
‫وفي رسالة موسى وهارون نجد المر البارز في إلقاء اليات كان لموسى‪ .‬ولكن هارون له أيضا‬
‫أصالة رسالية؛ لذلك قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ إِنّا رَسُولَ }[طه‪.]47 :‬‬
‫سمْجا رَذْل الخُلُق‪ ،‬فإن تكلم هارون ليشد أزر أخيه‪ ،‬فقد يقول‬
‫ذلك أن فرعون كان متعاليا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الفرعون‪ :‬وما دخلك أنت؟‬
‫ولكن حين يدخل عليه الثنان‪ ،‬ويعلنان أنهما رسولن‪ ،‬فإن رد فرعون هارون‪ ،‬فكأنه يرد موسى‬
‫أيضا‪.‬‬
‫أقول ذلك حتى نغلق الباب على من يريد أن يتورك القرآن متسائلً‪ :‬ما معنى أن يقول القرآن مرة‬
‫" رسول " ومرة " رسول "؟‬
‫وفي هذا ردّ كافٍ على هؤلء المتورّكين‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪:‬‬
‫عوْنَ َومَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْ َتكْبَرُواْ } [يونس‪.]75 :‬‬
‫{ ُثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْدِ ِهمْ مّوسَىا وَهَارُونَ إِلَىا فِرْ َ‬
‫والمل‪ :‬هم أشراف القوم‪ ،‬ووجوهه وأعيانه والمقرّبون من صاحب السيادة العليا‪ ،‬ويقال لهم‪ " :‬مل‬
‫"؛ لنهم هم الذين يملون العيون‪ ،‬أي‪ :‬ل ترى العيون غيرهم‪.‬‬
‫وفرعون ـ كما نعلم ـ لم يصبح فرعونا إل بالمل؛ لنهم هم الذين نصّبوه عليهم‪ ،‬وكان " هامان‬
‫" مثلً يدعم فكرة الفرعون‪ ،‬وكان الكهنة يؤكدون أن الفرعون إله‪.‬‬

‫ولكل فرعون مل يصنعونه‪ ،‬والمثل الشعبي في مصر يقول‪ " :‬قالوا لفرعون من فَرْعَنك‪ ،‬قال‪ :‬لم‬
‫أجدا أحدا يردّني "‪.‬‬
‫أي‪ :‬أنه لم يجد أحدا يقول له‪ :‬تَعقّلْ‪ .‬ولو وجد من يقول له ذلك لما تفرعن‪.‬‬
‫واليات التي بعث بها ال سبحانه إلى فرعون وملئه مع موسى وهارون من المعجزات الدالة على‬
‫صدق نبوة موسى وهارون ـ عليهما السلم‪ ،‬وفيها ما يُ ْلفِت إلى صدق البلغ عن ال‪.‬‬
‫أو أن اليات هي المنهج الذي يثبت وجود الخالق العلى‪ ،‬لكن فرعون وملوه استكبروا‪.‬‬
‫والستكبار‪ :‬هو طلب الكبر‪ ،‬مثلها مثل " استخرج " أي‪ :‬طلب الخراج‪ ،‬ومثل " استفهم " أي‪:‬‬
‫طلب الفهم‪ .‬ومن يطلب الكبر إنما يفتعل ذلك؛ لنه يعلم أن مقوماته ل تعطيه هذا الكبر‪.‬‬
‫وينهي الحق سبحانه هذه الية بقوله‪:‬‬
‫} َوكَانُواْ َقوْما مّجْ ِرمِينَ { [يونس‪.]75 :‬‬
‫وشرّ الجرام ما يتعدى إلى النفس‪ ،‬فقد يكون من المقبول أن يتعدى إجرام النسان إلى أعدائه‪ ،‬أما‬
‫أن يتعدى الجرام إلى النفس فهذا أمر ل مندوحة له‪ ،‬وإجرام فرعون وملئه أودى بهم إلى جهنم‬
‫خالدين مخلدين فيها ملعونين‪ ،‬وفي عذاب عظيم ومهين‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬فََلمّا جَآ َءهُمُ ا ْلحَقّ مِنْ عِندِنَا {‬

‫(‪)1426 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حقّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنّ هَذَا َلسِحْرٌ مُبِينٌ (‪)76‬‬
‫فََلمّا جَاءَهُمُ الْ َ‬

‫وقد جاءهم الحق على لسان الرسل ـ عليهم السلم ـ وعلى كل إنسان أن يفهم أنه حين يستقبل‬
‫من الرسول رسالة الحق‪ ،‬فليفهم أنها رسالة ليست ذاتية الفكر من الرسول‪ ،‬بل قد أرسله بها ال‬
‫الخالق العلى سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ولذلك فالمتأبّى على الرسول‪ ،‬ل يتأبّى على مساوٍ له؛ لن الرسول هو مُبلّغ عن ال تعالى‪ ،‬وال‬
‫سبحانه هو الذي بعثه‪ ،‬ويجب على النسان أن يعرف قدر البلغ القادم من ال الحق‪ ،‬لنه سبحانه‬
‫هو الحق العلى‪ ،‬وهو الذي خلق كل شيء بالحق‪ :‬سماء مخلوقة بالحق‪ ،‬وأرض مخلوقة بالحق‪،‬‬
‫وشمس تجري بالحق‪ ،‬ومطر ينزل بالحق‪ ،‬وكل شيء ثابت ومتحرك بقوانين أرادها الحق‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫ولو سيطر النسان ـ دون منهج ـ على قوانين الكائنات لفسدها؛ لن الفساد إنما يتأتى مما‬
‫للنسان دخل فيه‪ ،‬ويدخل إليه بدون منهج ال‪.‬‬
‫والفساد إنما يجيء من ناحية اختيار النسان للبدائل التي ل يخضع فيها لمنهج ال تعالى‪.‬‬
‫ولذلك إن أردتم أن تستقيم حياتكم استقامة الكائنات العليا التي ل دخل لكم فيها‪ ،‬فامتثلوا لمنهج‬
‫الحق وميزانه؛ لنه سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ }[الرحمن‪7 :‬ـ ‪.]8‬‬
‫سمَآءَ َر َف َعهَا وَ َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ * َألّ َت ْ‬
‫{ وَال ّ‬
‫أي‪ :‬إن كنتم تريدون أن تعتدل أموركم‪ ،‬وتنضبط انضباط الكائنات الخرى فالتكن إرادة الختيار‬
‫المخلوقة لكم خاضعة لمنهج ال تعالى‪ ،‬وتسير في إطار هذا المنهج الرباني‪.‬‬
‫وحين نتأمل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ فََلمّا جَآءَ ُهمُ ا ْلحَقّ مِنْ عِندِنَا } [يونس‪.]76 :‬‬
‫نجد في هذا القول توجيها إلى أن الحق لم يأت من ذوات الرسل؛ فهذه الذوات ل دخل لها في‬
‫الموضوع‪ ،‬وإياك أن تهاجم رسالة حق جاءتك من إنسان ل تحبه‪ ،‬بل ناقش الحق في ذاته‪ ،‬ول‬
‫تدخل في متاهة البحث عمّن جاء بهذا الحق‪ ،‬وانظر إلى من كفروا بمحمد رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪َ ،‬فهُمْ من قالوا‪:‬‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫{ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ‬
‫وهم بذلك قد أدخلوا النازل عليه القرآن في الحكم‪ ،‬مع أن العقل كان يقتضي أن ينظروا إلى‬
‫القرآن في ذاته‪ ،‬وأن يأخذوا الحكمة من أي وعاء خرجت‪.‬‬
‫وعليك أنت أن تستفيد من هذا المر‪ ،‬وخُذ الحكمة من أي قائل لها‪ ،‬ول تنظر إلى من جاءت‬
‫الحكمة منه‪ ،‬فإن كنت تكرهه فأنت ترفض أن تأخذ الحكمة منه‪ ،‬وإن كانت تحبه أخذتها‪ .‬ل‪ ،‬إن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليك أن تأخذ الحكمة ما دامت قد جاءت بالحق؛ لنك إن لم تأخذها أضعت نفسك‪.‬‬
‫والحق هو الشيء الثابت‪ ،‬وإن ظهر في بعض الحيان أن هناك من طمس الحق‪ ،‬وأن الباطل‬
‫تغلّب عليه‪ ،‬فهذا يعني ظهور المفاسد؛ فيصرخ الناس طالبين الحق‪.‬‬

‫وانتشار المفاسد هو الذي يجعل الناس تستدعي الحق‪ ،‬وتتحمس له؛ لن الباطل حين َي َعضّ الناس‪،‬‬
‫تجدهم يتجهون إلى الحق ليتمسكوا به‪.‬‬
‫والحق سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫سمَآءِ مَآءً َفسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ فِي النّارِ‬
‫{ أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫جفَآءً وََأمّا مَا‬
‫طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫حّ‬‫ابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثُْلهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ‬
‫لمْثَالَ }[الرعد‪.]17 :‬‬
‫يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا َ‬
‫والحق سبحانه هنا يضرب المثل النازل كسيل من السماء على الجبال‪ ،‬فيأخذ كل وادٍ أسفل الجبال‬
‫على قدر احتماله‪ ،‬ويرتوى الناس‪ ،‬وترتوي الرض‪ ،‬لكن السيل في أثناء نزوله على الجبال إنما‬
‫يحمل بعضا من الطمي‪ ،‬والقش‪ ،‬ويستقر الطمي في أرض الودية؛ لتستفيد منه‪ ،‬أما القش‬
‫والقاذورات فتطفو على سطح الماء‪ ،‬وتسمى تلك الشياء الطافية زَبَدا‪ ،‬وساعة تضعها في النار‪،‬‬
‫فهي تصدر أصواتا تسمى (الطشطشة)‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬حين نوقد النار؛ لنصهر الحديد‪ ،‬نجد الخبث هو الذي يطفو‪ ،‬ويبقى الحديد النقي في‬
‫القاع‪.‬‬
‫هذا الزبد الذي وجد فوق الماء ينزاح على الجوانب‪ ،‬ومثال ذلك‪ :‬ما نراه على شواطىء البحر‬
‫حين يقذف الموج بقاذورات على الشاطىء‪ ،‬هذه القاذورات التي ألقتها البواخر‪ ،‬فيلفظها البحر‬
‫بالموج‪ ،‬وهذا الزبد يذهب جُفاءً‪ ،‬أما ما ينفع الناس فيبقى في الرض؛ لذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫طلَ }[الرعد‪.]17 :‬‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫{ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا ْلحَ ّ‬
‫إذن‪ :‬فال سبحانه يترك للباطل مجالً‪ ،‬ولكن ل يسلم له الحق‪ ،‬بل يترك الباطل؛ ليحفز غيرة الناس‬
‫على الحق‪ ،‬فإن لم يغاروا على الحق غار هو عليه‪.‬‬
‫وهنا يقول ال سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫سحْرٌ مّبِينٌ { [يونس‪.]76 :‬‬
‫} فََلمّا جَآءَ ُهمُ ا ْلحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنّ هَـاذَا لَ ِ‬
‫ولنهم كانوا مشهورين بالسحر؛ ظنوا أن اليات التي جاءت مع موسى ـ عليه السلم ـ هي‬
‫السحر المبين‪ ،‬أي‪ :‬السحر الظاهر الواضح‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬قَالَ مُوسَىا أَتقُولُونَ لِ ْلحَقّ َلمّا جَآ َء ُكمْ {‬

‫(‪)1427 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سحْرٌ َهذَا وَلَا ُيفْلِحُ السّاحِرُونَ (‪)77‬‬
‫قَالَ مُوسَى أَ َتقُولُونَ لِ ْلحَقّ َلمّا جَا َء ُكمْ أَ ِ‬

‫وفي هذه الية ما يوضح رد سيدنا موسى عليه السلم‪:‬‬


‫حقّ َلمّا جَآ َءكُمْ َأسِحْرٌ هَـاذَا } [يونس‪.]77 :‬‬
‫{ أَتقُولُونَ لِلْ َ‬
‫والذين يتوركون على القرآن يقولون‪ :‬كيف يأتي القرآن ليؤكد أنهم قالوا إن هذا لسحر مبين‪ ،‬ثم‬
‫يأتي في الية التي بعدها ليقول إنهم قالوا متسائلين‪ :‬أسحرٌ هذا؟‬
‫سحْرٌ هَـاذَا } من كلماتهم‪ ،‬ولكن هذا هو قول‬
‫و َفهِم هؤلء الذين يتوركون على القرآن أن كلمة { أَ ِ‬
‫موسى عليه السلم‪ ،‬وكأن موسى عليه السلم قد تساءل؛ ليعيدوا النظر في حكمهم‪ :‬هل ما جاء به‬
‫سحر؟ وهذا استفهام استنكاري‪ ،‬وأريد به أن يؤكد أن هذا ليس بسحر‪ ،‬ولكن جاء بصيغة التساؤل؛‬
‫لنه واثق أن الجابة المينة ستقول‪ :‬إن ما جاء به ليس سحرا‪.‬‬
‫ولو جاء كلم موسى ـ عليه السلم ـ كمجرد خَبَر لكان يحتمل الصدق‪ ،‬ويحتمل الكذب‪ ،‬لكنه‬
‫جاء بصيغة الستفسار؛ لن المكذّب له سيجيب بلجلجة‪.‬‬
‫ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ أنت حين تذهب لشراء قماش‪ ،‬فيقول لك البائع‪ :‬إنه صوف‬
‫خالص ونقي‪ ،‬فتمسك بعود كبريت وتشعل النار في خيط من القماش‪ ،‬فإن احترق الصوف كما‬
‫يحترق البلستيك أو القماش الصناعي‪ ،‬فأنت تقول للبائع‪ :‬وهل هذا صوف نقي يا رجل؟ وهنا لن‬
‫يجيب البائع إل بالموافقة‪ ،‬أو بصمت العاجز عن حجب الحقيقة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أنت إن طرحت المر بستفهام إنكاري فهذا أبلغ من أن تقوله كخبر مجرد؛ لن السامع لك ل‬
‫بد أن يجيب‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى عليه السلم‪:‬‬
‫حقّ َلمّا جَآ َءكُمْ } [يونس‪.]77 :‬‬
‫{ أَتقُولُونَ لِلْ َ‬
‫يفيد ضرورة النظر إلى الحق مجردا عمّن جاء به‪.‬‬
‫ولذلك لم يقل موسى عليه السلم‪ :‬أتقولون للحق لما جئناكم به‪ :‬إنه سحر مبين؟‬
‫إن القول الحكيم الوارد في الية الكريمة هو تأكيد على ضرورة النظر إلى الحق مجردا عمّن‬
‫جاء به‪.‬‬
‫وينهي الحق سبحانه هذه الية بقوله‪:‬‬
‫{ َأسِحْرٌ هَـاذَا َولَ ُيفْلِحُ السّاحِرُونَ } [يونس‪.]77 :‬‬
‫إذن‪ :‬فسيدنا موسى ـ عليه السلم ـ قد أصدر الحكم بأن السحر ل ينفع‪ ،‬ولكن اليات التي جاء‬
‫بها من الحق سبحانه قد أفلحت‪ ،‬فقد ابتلعت عصاه ـ التي صارت حية ـ كل ما ألقوه من‬
‫حبالهم؛ وكل ما صنعوه من سحر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأراد الحق سبحانه لعصا موسى أن تكون آية معجزة من جنس ما نبغ فيه القوم‪.‬‬
‫فال سبحانه حين يرسل معجزةً إلى قوم؛ يجعلها من جنس ما نبغوا فيه؛ لتكون المعجزة تحديا في‬
‫المجال الذي لهم به خبرة ودربة ودراية؛ فأنت لن تتحدى رجلً ل علم له بالهندسة؛ ليبنى لك‬
‫عمارة‪ ،‬ولكنك تتحدى مهندسا أن يبني لك هرما؛ لن العلوم المعاصرة لم تتوصل إلى بعض ما‬
‫اكتشفه القدماء ولم يسجلوه في أوراقهم‪ ،‬أو لم يعثر على كشف يوضح كيف فرّغوا الهواء بين كل‬
‫حجر وآخر فتماسكت الحجارة‪.‬‬

‫وقول الحق سبحانه وتعالى هنا‪:‬‬


‫} َولَ ُيفْلِحُ السّاحِرُونَ { [يونس‪.]77 :‬‬
‫يبين لنا أن الفلح مأخوذ من العملية الحسية التي يقوم بها الفلح من جهد في حرث الرض‬
‫ووضع البذور‪ ،‬وري الرض وانتظار الثمرة بعد بذل كل ذلك الجهد‪.‬‬
‫والفلح أيضا مأخوذ من فلح الحديد‪ ،‬أي‪ :‬شق الحديد‪ ،‬ككتل أو كقطع‪ ،‬ول يصلح إل إذا أخذ‬
‫الحديد الشكل المناسب للستعمال‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} َولَ ُيفْلِحُ السّاحِرُونَ { [يونس‪.]77 :‬‬
‫هو َل ْفتٌ لنا أن السحر نوع من التخييل‪ ،‬وليس حقيقةً واقعةً‪.‬‬
‫ولذلك قال الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن‪.‬‬
‫{ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النّاسِ }[العراف‪.]116 :‬‬
‫وقال الحق سبحانه أيضا‪:‬‬
‫سعَىا }[طه‪.]66 :‬‬
‫سحْرِهِمْ أَ ّنهَا َت ْ‬
‫عصِ ّيهُمْ يُخَ ّيلُ إِلَ ْيهِ مِن ِ‬
‫{ فَِإذَا حِبَاُل ُه ْم وَ ِ‬
‫إذن فالسحر هو تخييل فقط وليس تغييرا للحقيقة‪.‬‬
‫ولن معجزة موسى ـ عليه السلم ـ تحدّت كل القدرات؛ لذلك أعلن فرعون التعبئة العامة بين‬
‫كل من له علقة بالسحر‪ ،‬الذي هم متفوقون فيه‪ ،‬أو حتى من لهم شبهة معرفة بالسحر‪.‬‬
‫ولن السحر مجرد تخييل‪ ،‬وجدنا السحرة حين اجتمعوا وألقوا حبالهم وعصيهم‪ ،‬ثم ألقى موسى‬
‫عصاه‪ ،‬فإذا بعصاه قد تحولت إلى حية تلقف ما صنعوا‪ ،‬وهنا ماذا فعل السحرة؟‬
‫يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة طه‪:‬‬
‫{ فَأُ ْل ِقيَ السّحَ َرةُ سُجّدا قَالُواْ آمَنّا بِ َربّ هَارُونَ َومُوسَىا }[طه‪.]70 :‬‬
‫لن الساحر يرى ما يفعله على حقيقته‪ ،‬وهم خيّلوا لعين الناس‪ ،‬لكنهم يرون حبالهم مجرد حبال‬
‫أو عصيهم مجرد عصى‪.‬‬
‫أما عصا موسى ـ عليه السلم ـ فلم تكن تخييلً‪ ،‬بل وجدها السحرة حية حقيقية‪ ،‬ولقفت بالفعل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ما صنعوا؛ ولذلك خرّوا ساجدين‪ ،‬وأعلنوا اليمان برب موسى وهارون‪.‬‬
‫هم ـ إذن ـ لم يعلنوا اليمان بموسى وهارون‪ ،‬بل أعلنوا اليمان‪:‬‬
‫ن َومُوسَىا }[طه‪.]70 :‬‬
‫{ بِ َربّ هَارُو َ‬
‫لنهم عرفوا بالتجربة أن ما ألقاه موسى ليس سحرا‪ ،‬بل هو مِنْ فعل خالق أعلى‪.‬‬
‫وكان ثبات موسى ـ عليه السلم ـ في تلك اللحظة نابعا من التدريب الذي تلقّاه من ربه‪ ،‬فقد‬
‫سأله الحق سبحانه‪:‬‬
‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي }[طه‪17 :‬ـ‬
‫{ َومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا * قَالَ ِهيَ َ‬
‫‪.]18‬‬
‫وقد أجمل موسى وفصّل في الرد على الحق سبحانه؛ إيناسا وإطالة للنس بال تعالى‪ ،‬وحين رأى‬
‫أنه أطال اليناس أوجز وقال بأدب‪:‬‬
‫{ وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَىا }[طه‪.]18 :‬‬
‫إذن‪ :‬فقد أدركته أولً شهوة النس بال تعالى‪ ،‬وأدرك ثانيا أدب التخاطب مع ال تعالى‪ ،‬ودرّبه‬
‫الحق سبحانه على مسألة العصا حين أمره أولً أن يلقيها‪ ،‬فصارت أمامه حية تسعى‪ ،‬ولو كانت‬
‫من جنس السحر لما أوجس منها خيفة ولرآها مجرد عصا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالفرق بين معجزة موسى وسحرة فرعون‪ ،‬أن سحرة فرعون سحروا أعين الناس وخُيّل إلى‬
‫الناس من سحرهم أن عصيّهم وحبالهم تسعى‪ ،‬لكن معجزة موسى ـ عليه السلم ـ في إلقاء‬
‫العصا‪ ،‬عرفوا هم بالتجربة أن تلك العصا قد تغيرت حقيقتها‪.‬‬
‫والعصا ـ كما نعلم ـ أصلها فرع من شجرة‪ ،‬وكان باستطاعة الحق سبحانه وتعالى أن يجعلها‬
‫تتحول إلى شجرة مثمرة‪ ،‬لكنها كانت ستظل نباتا‪.‬‬
‫وشاء الحق سبحانه أن ينقلها إلى المرتبة العلى من النبات؛ وهي المرحلة الحيوانية‪ ،‬فصارت‬
‫حية تلقف كل ما ألقاه السحرة‪.‬‬
‫جدْنَا {‬
‫عمّا وَ َ‬
‫ويقول الحق سحبانه بعد ذلك‪ } :‬قَالُواْ َأجِئْتَنَا لِتَ ْلفِتَنَا َ‬

‫(‪)1428 /‬‬

‫ض َومَا نَحْنُ َل ُكمَا ِب ُم ْؤمِنِينَ‬


‫جدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَ َتكُونَ َل ُكمَا ا ْلكِبْرِيَاءُ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫عمّا وَ َ‬
‫قَالُوا أَجِئْتَنَا لِ َت ْلفِتَنَا َ‬
‫(‪)78‬‬

‫وهنا نجد سحرة فرعون ينسبون مجيء معجزة تحول العصا إلى حية‪ ،‬ينسبونها لموسى ـ عليه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السلم ـ رغم أن موسى عليه السلم قد نسب مجيء المعجزة إلى ال تعالى‪.‬‬
‫وكان واجب المرسل إليه ـ فرعون وملئه ـ أن ينظر إلى ما جاء به الرسول‪ ،‬ل إلى شخصية‬
‫الرسول‪.‬‬
‫يءَ بك " لكان معنى ذلك أن فرعون يعلن اليمان بأن هناك إلها‬
‫ولو قال فرعون لموسى‪ " :‬ج ْ‬
‫أعلى‪ ،‬ولكن فرعون لم يؤمن لحظتها؛ لذلك جاء قوله‪ { :‬أَجِئْتَنَا } فنسب المجيء على لسان‬
‫فرعون لموسى عليه السلم‪.‬‬
‫ولماذا المجيء؟‬
‫يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه‪:‬‬
‫عمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [يونس‪.]78 :‬‬
‫{ َأجِئْتَنَا لِتَ ْلفِتَنَا َ‬
‫واللتفات هو تحويل الوجه عن شيء مواجه له‪ ،‬وما دام النسان بصدد شيء؛ فكل نظره واتجاهه‬
‫يكون إليه‪ ،‬وكان قوم فرعون على فساد وضلل‪ ،‬وليس أمامهم إل ذلك الفساد وذلك الضلل‪.‬‬
‫وجاء موسى عليه السلم؛ ليصرف وجوههم عن ذلك الفساد والضلل‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫عمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [يونس‪.]78 :‬‬
‫{ َأجِئْتَنَا لِتَ ْلفِتَنَا َ‬
‫وهكذا يكشفون حقيقة موقفهم‪ ،‬فقد كانوا يقلدون آباءهم‪ ،‬والتقليد يريح المقلّد‪ ،‬فل ُي ْعمِل عقله أو‬
‫فكره في شيء ليقتنع به‪ ،‬ويبني عليه سلوكه‪.‬‬
‫والمثل العامي يصور هذا الموقف بعمق شديد حين يقول‪ " :‬مثل الطرش في الزفة " أي‪ :‬أن فاقد‬
‫السمع ل يسمع ما يقال من أي جمهرة‪ ،‬بل يسير مع الناس حيث تسير؛ ول يعرف له اتجاها‪.‬‬
‫والمقلّد إنما يعطل فكره‪ ،‬ول يختار بين البدائل‪ ،‬ول يميز الصواب ليفعله‪ ،‬ول يعرف الخطأ‬
‫فيتجنّبه‪.‬‬
‫وفرعون وملؤه كانوا على ضلل‪ ،‬هو نفس ضلل الباء‪ ،‬والضلل ل يكلف النسان تعب التفكير‬
‫ومشقة الختيار‪ ،‬بل قد يحقق شهوات عاجلة‪.‬‬
‫أما تمييز الصواب من الخطأ واتباع منهج السماء‪ ،‬فهو يحجب الشهوة‪ ،‬ويلزم النسان بعدم‬
‫النفلت عكس الضلل الذي يطيل أمد الشهوة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمقلد بين حالتين‪:‬‬
‫الحالة الولى‪ :‬أنه ل ُي ْعمِل عقله‪ ،‬بل يفعل مثل من سبقوه‪ ،‬أو مثل من يحيا بينهم‪.‬‬
‫والحالة الثانية‪ :‬أنه رأى أن ما يفعله الناس ل يلزمه بتكليف‪ ،‬ولكن الرسول الذي يأتي إنما يلزمه‬
‫بمنهج‪ ،‬فل يكسب ـ على سبيل المثال ـ إل من حلل‪ ،‬ول يفعل منكرا‪ ،‬ول يذم أحدا‪ ،‬وهكذا‬
‫يقيد المنهج حركته‪ ،‬لكن إن اتبع حركة آبائه الضالين‪ ،‬فالحركة تتسع ناحية الشهوات‪.‬‬
‫ولذلك أقول دائما‪ :‬إن مسألة التقليد هذه يجب أن تلفت إلى قانون التربية‪ ،‬فالنشء ما دام لم يصل‬
‫إلى البلوغ فأنت تلحظ أنه بل ذاتية ويقلد الباء‪ ،‬لكن فور أن تتكون له ذاتية يبدأ في التمرد‪ ،‬وقد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يقول للباء‪ :‬أنتم لكم تقاليد قديمة ل تصلح لهذا الزمان‪ ،‬لكن إن تشرّب النشء القيم الدينية‬
‫الصحيحة؛ فسيمتثل لقانون الحق‪ ،‬ويحجز نفسه عن الشهوات‪.‬‬

‫ونحن نجد أبناء السر التي ل تتبع منهج ال في تربية البناء وهم يعانون من أبنائهم حين يتسلط‬
‫عليهم أقران السوء‪ ،‬فيتجهون إلى ما يوسع دائرة الشهوات من إدمان وغير ذلك من المفاسد‪.‬‬
‫لكن أبناء السر الملتزمة يراعون منهج ال تعالى؛ فل يقلدون آحدا من أهل السوء؛ لن ضمير‬
‫الواحد منهم قد عرف التمييز بين الخطأ والصواب‪.‬‬
‫ثم إن تقليد الباء قد يجعل البناء مجرد نسخ مكررة من آبائهم‪ ،‬أما تدريب وتربية البناء على‬
‫إعمال العقل في كل المور‪ ،‬فهذه هي التنشئة التي تتطور بها المجتمعات إلى الفضل إن اتبع‬
‫الباء منهج ال تعالى‪ ،‬وتتكون ذاتية البن على ضوء منهج الحق سبحانه‪ ،‬فل يتمرد البن متهجا‬
‫إلى الشر‪ ،‬بل قد يتمرد إلى تطوير الصالح ليزيده صلحا‪.‬‬
‫التقليد ـ إذن ـ يحتاج إلى بحث دقيق؛ لن النسان الذي سوف تقلده‪ ،‬لن يكن مسئولً عنك؛ لن‬
‫الحق سبحانه وتعالى هو القائل‪:‬‬
‫شوْاْ َيوْما لّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَ ِد ِه َولَ َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَن وَالِ ِدهِ‬
‫{ ياأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُواْ رَ ّب ُك ْم وَاخْ َ‬
‫شَيْئا }[لقمان‪.]33 :‬‬
‫إذن‪ :‬فأمر البن يجب أن يكون نابعا من ذاته‪ ،‬وكذلك أمر الب‪ ،‬وعلى كل إنسان أن ُي ْعمِل عقله‬
‫بين البدائل‪.‬‬
‫ولذلك تجد القرآن الكريم يقول على ألسنة مَنْ قلّدوا الباء‪:‬‬
‫علَيْهِ آبَآءَنَآ }[البقرة‪.]170 :‬‬
‫{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَآ أَن َزلَ اللّهُ قَالُواْ َبلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا َ‬
‫ثم يرد عليهم الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُ ُه ْم لَ َيعْقِلُونَ شَيْئا َولَ َيهْتَدُونَ }[البقرة‪.]170 :‬‬
‫فإذا كانت المسألة مسألة تقليد‪ ،‬فلماذا يتعلم البن؟ ولماذا ل ينام البناء على الرض ول يشترون‬
‫أسرّة؟ ولماذا ينجذبون إلى التطور في الشياء والدوات التي تسهّل الحياة؟‬
‫فالتقليد هو إلغاء العقل والفكر‪ ،‬وفي إلغائهما إلغاء التطور والتقدم نحو الفضل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالقرآن يحثنا على أن نستخدم العقل؛ لنختار بين البدائل‪ ،‬وإذا كان المنهج قد جاء من‬
‫السماء‪ ،‬فَلْتهْتدِ بما جاء لك ممن هو فوقك‪ ،‬وهذا الهتداء المختار هو السّمو نحو الحياة الفاضلة‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ }[المائدة‪:‬‬
‫{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْاْ إِلَىا مَآ أَن َزلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَ َ‬
‫‪,]104‬‬
‫أي‪ :‬أنهم أعلنوا أنهم في غير حاجة للمنهج السماوي فَردّ عليهم القرآن‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ شَيْئا وَلَ َيهْتَدُونَ }[المائدة‪.]104 :‬‬
‫وهكذا نجد أن القرآن قد جاء بموقفين في آيتين مختلفتين عن المقلّدين‪:‬‬
‫الية الولى‪ :‬هي التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{ َبلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَ ْيهِ آبَآءَنَآ َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ شَيْئا َولَ َيهْ َتدُونَ }[البقرة‪.]170 :‬‬
‫والية الثانية‪ :‬هي قول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫جدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ شَيْئا َولَ َيهْ َتدُونَ }[المائدة‪.]104 :‬‬
‫{ حَسْبُنَا مَا وَ َ‬

‫وهم في هذه الية أعلنوا الكتفاء بما كان عليه آباؤهم‪.‬‬


‫وهناك فارق بين اليتين‪ ،‬فالعاقل غير من ل يعلم؛ لن العاقل قادر على الستنباط‪ ،‬ولكن من ل‬
‫يعلم فهو يأخذ من استنباط غيره‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالذين اكتفوا بما عند آبائهم‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫جدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ }[المائدة‪.]104 :‬‬
‫{ حَسْبُنَا مَا وَ َ‬
‫هؤلء هم الذين غالوا في العتزاز بما كان عند آبائهم؛ لذلك جاء في آبائهم القول بأنهم ل‬
‫يعلمون‪.‬‬
‫أي‪ :‬ليس لهم فكر ول علم على الطلق‪ ،‬بل يعيشون في ظلمات من الجهل‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه‪:‬‬
‫عمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَ َتكُونَ َل ُكمَا ا ْلكِبْرِيَآءُ فِي الَ ْرضِ { [يونس‪.]78 :‬‬
‫} قَالُواْ َأجِئْتَنَا لِتَ ْلفِتَنَا َ‬
‫أي‪ :‬هل جئت لتصرفنا‪ ،‬وتحوّل وجوهنا أو وجهتنا أو طريقنا وتأخذنا عن وجهة آبائنا الذين‬
‫نقلدهم؛ لتأخذ أنت وأخوك الكبرياء في الرض؟‬
‫وهكذا يتضح أنهم يعتقدون أن الكبرياء الذي لهم في الرض قد تحقق لهم بتقليدهم آباءهم‪ ،‬وهم‬
‫يحبون الحفاظ عليه‪ ،‬والمر هنا يشمل نقطتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬هي تَ ْركُ ما وجدوا عليه الباء‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬هي الكبرياء والعظمة في الرض‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬حين يقول مقاتل لخر‪ " :‬ارْمِ سيفك " وهي تختلف عن قوله‪ " :‬هات سيفك " ‪ ،‬فَ َر ْميُ‬
‫السيف تجريد من القوة‪ ،‬لكن أخذ السيف يعني إضافة سيف آخر إلى ما يملكه المقاتل الذي أمر‬
‫بذلك‪.‬‬
‫وهم هنا وجدوا في دعوة موسى عليه السلم مصيبة مركبة‪.‬‬
‫الولى‪ :‬هي ترك عقيدة الباء‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬هي سلب الكبرياء‪ ،‬أي‪ :‬السلطة الزمنية والجاه والسيادة والعظمة والئتمار‪ ،‬والمصالح‬
‫المقضية‪ ،‬فكل واحد من بطانة الفرعون يأخذ حظه حسب اقترابه من الفرعون‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولذلك أعلنوا عدم اليمان‪ ،‬وقالوا ما يُنهي به الحق سبحانه الية الكريمة الي نحن بصددها‪:‬‬
‫} َومَا نَحْنُ َل ُكمَا ِب ُمؤْمِنِينَ { [يونس‪.]78 :‬‬
‫أي‪ :‬أن قوم فرعون والمل أقرّوا بما حرصوا عليه من مكاسب الدنيا والكبرياء فيها‪ ،‬ورفضوا‬
‫اليمان بما جاء به موسى وهارون ـ عليهما السلم‪.‬‬
‫عوْنُ ائْتُونِي {‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬وقَالَ فِرْ َ‬

‫(‪)1429 /‬‬

‫عوْنُ ائْتُونِي ِب ُكلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (‪)79‬‬


‫َوقَالَ فِرْ َ‬

‫وكان فرعون يعلم تقدّم السحرة في دولته‪ ،‬ويكفي أنه شخصيا خَيّل للناس أنه إله‪ ،‬وجاء أمره أن‬
‫يأتي أعوانه بالسحرة‪ ،‬وفور أن قال المر جيء بالسحرة‪.‬‬
‫وأورد الحق سبحانه في الية التي بعد ذلك‪ { .‬فََلمّا جَآءَ السّحَ َرةُ }‬

‫(‪)1430 /‬‬

‫فََلمّا جَاءَ السّحَ َرةُ قَالَ َلهُمْ مُوسَى أَ ْلقُوا مَا أَنْ ُتمْ مُ ْلقُونَ (‪)80‬‬

‫وكأن المسافة بين نطق فرعون بالمر وبين تنفيذ المر هي أضيق مسافة وقتية‪ ،‬وذلك حتى نفهم‬
‫أن أمر صاحب السلطان ل يحتمل من الناس التأجيل أو التباطؤ في التنفيذ‪.‬‬
‫والقرآن حينما يعالج أمرا من المور فهو يعطي صورة دقيقة للواقع‪ ،‬ول يأتي بأشياء تفسد‬
‫الصورة‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ فََلمّا جَآءَ السّحَ َرةُ قَالَ َلهُمْ مّوسَىا أَ ْلقُواْ مَآ أَن ُتمْ مّ ْلقُونَ } [يونس‪.]80 :‬‬
‫وفي هذه الية تلخيص للموقف كله‪ ،‬فحين علم السحرة أن فرعون يحتاجهم في ورطة تتعلق‬
‫بالحكم‪ ،‬فهذه مسألة صعبة وقاسية‪ ،‬وعليهم أن يسرعوا إليه‪.‬‬
‫ولم يأت الحق سبحانه هنا بالتفصيل الكامل لذلك الموقف؛ لن القصة تأتي بنقاطها المختلفة في‬
‫مواضع أخرى من القرآن‪ ،‬وكل آية توضح النقطة التي تأتي بذكرها‪.‬‬
‫لذلك لم يقل الحق سبحانه هنا‪ :‬إن أعوان فرعون نادوا في المدائن ليأتي السحرة‪ ،‬مثلما جاء في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مواضع أخرى من القرآن‪.‬‬
‫ولم يقل لنا إن السحرة أرادوا أن يستفيدوا من هذه المسألة‪ ،‬وقالوا للفرعون‪:‬‬
‫{ إِنّ لَنَا لَجْرا إِن كُنّا َنحْنُ ا ْلغَالِبِينَ }[العراف‪.]113 :‬‬
‫ووَضْع مثل هذا الشرط يوضح لنا طبيعة العلقات في ذلك المجتمع‪ ،‬فطلبهم للجر‪ ،‬يعني أن‬
‫عملهم مع الفرعون من قبل ذلك كان تسخيرا وبدون أجر‪ ،‬ولما جاءتهم الفرصة ورأوا الفرعون‬
‫في ازمة؛ طالبوا بالجر‪.‬‬
‫ووعدهم فرعون بالجر‪ ،‬وكذلك وعدهم أن يكونوا مقرّبين؛ لنهم لو انتصروا بالسحر على‬
‫معجزة موسى؛ ففي ذلك العمل محافظة وصيانة للمُلْك‪ ،‬ول بد أن يصبحوا من البطانة المستفيدة‪،‬‬
‫ووعدهم الفرعون بذلك شحذا لهمتهم ليبادروا بإبطال معجزة موسى؛ ليستقر عرش الفرعون‪.‬‬
‫وشاء الحق سبحانه الجمال هنا في هذه الية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ وجاء ببقية‬
‫اللقطات في المواضع الخرى من القرآن‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ فََلمّا جَآءَ السّحَ َرةُ قَالَ َلهُمْ مّوسَىا أَ ْلقُواْ مَآ أَن ُتمْ مّ ْلقُونَ } [يونس‪.]80 :‬‬
‫وألقى السحرة عِصيّهم وحبالهم‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك‪ { :‬فََلمّآ أَ ْلقُواْ قَالَ مُوسَىا مَا جِئْ ُتمْ بِهِ السّحْرُ }‬

‫(‪)1431 /‬‬

‫ع َملَ ا ْل ُمفْسِدِينَ (‪)81‬‬


‫فََلمّا أَ ْل َقوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْ ُتمْ بِهِ السّحْرُ إِنّ اللّهَ سَيُبْطُِلهُ إِنّ اللّهَ لَا ُيصْلِحُ َ‬

‫ونحن نعلم أن الحق سبحانه هنا شاء الجمال‪ ،‬ولكنه بيّن بالتفصيل ما حدث‪ ،‬في آية أخرى‪ ،‬قال‬
‫فيها سبحانه عن السحرة‪:‬‬
‫ي وَِإمّآ أَن ّنكُونَ َنحْنُ ا ْلمُ ْلقِينَ }[العراف‪.]115 :‬‬
‫{ قَالُواْ يامُوسَىا ِإمّآ أَن تُ ْل ِق َ‬
‫ونحن نعلم أن المواجهة تقتضي من كل خصم أن يدخل بالرعب على خصمه؛ ليضعف معنوياته‪.‬‬
‫وهنا أوضح لهم موسى ـ عليه السلم ـ أن ما أتوا به هو سحر ومجرد تخييل‪.‬‬
‫وقد أعلم الحق سبحانه نبيه موسى ـ عليه السلم ـ أن عصاه ستصير حية حقيقية‪ ،‬بينما ستكون‬
‫عصيهم وحبالهم مجرد تخييل للعيون‪.‬‬
‫وقال لهم موسى ـ عليه السلم ـ حكم ال تعالى في ذلك التخييل‪:‬‬
‫ع َملَ ا ْل ُمفْسِدِينَ } [يونس‪.]81 :‬‬
‫{ مَا جِئْتُمْ ِبهِ السّحْرُ إِنّ اللّهَ سَيُ ْبطِلُهُ إِنّ اللّ َه لَ ُيصْلِحُ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا جاء القول الفصل الذي أنهى المر وأصدر الحكم فيما فعل فرعون ومََلؤُه والسحرة‪ ،‬فكل‬
‫أعمالهم كانت تفسد في الرض‪ ،‬ولول ذلك لما بعث ال سبحانه إليهم رسولً مؤيّدا بمعجزة من‬
‫صنف ما برعوا فيه‪ ،‬فهم كانوا قد برعوا في السحر‪ ،‬فأرسل إليهم الحق سبحانه معجزة حقيقية‬
‫ن " وهو‬
‫تلتهم ما صنعوا‪ ،‬فإن كانوا قد برعوا في التخييل‪ ،‬فال سبحانه خلق الكوان بكلمة " كُ ْ‬
‫سبحانه يخلق حقائق ل تخييلت‪.‬‬
‫حقّ ِبكَِلمَاتِهِ }‬
‫حقّ اللّهُ الْ َ‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد ذلك‪ { :‬وَيُ ِ‬

‫(‪)1432 /‬‬

‫وَيُحِقّ اللّهُ ا ْلحَقّ ِبكَِلمَاتِ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُجْ ِرمُونَ (‪)82‬‬

‫فالمسألة التي يشاؤها سبحانه تتحقق بكلمة " كن " فيكون الشيء‪.‬‬
‫وقوله سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{ إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ ِإذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪.]82 :‬‬
‫و " كن فيكون " عبارة طويلة بعض الشيء عند وقوع المطلوب‪ ،‬ولكن ل توجد عبارة أقصر منها‬
‫عند البشر؛ لن الكاف والنون لهما زمن‪ ،‬وما يشاؤه ال سبحانه ل يحتاج منه إلى زمن‪ ،‬والمراد‬
‫من المر " كن " أن الشيء يوجد قبل كلمة " كن "؛ لن كل موجود إنما يتحقق ويبرز بإرادة ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ويريد الحق سبحانه هنا أن يبيّن لنا أن الحق إنما يأتي على ألسنة الرسل‪ ،‬ومعجزاتهم دليل على‬
‫رسالتهم؛ ليضع أنوف المجرمين في الرّغام‪ ،‬وليريح العالم من إضللهم ومن مفاسدهم‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ { :‬فمَآ آمَنَ ِلمُوسَىا ِإلّ ذُرّيّةٌ مّن َق ْومِهِ }‬

‫(‪)1433 /‬‬

‫عوْنَ َلعَالٍ فِي‬


‫عوْنَ َومَلَ ِئهِمْ أَنْ َيفْتِنَهُمْ وَإِنّ فِرْ َ‬
‫خ ْوفٍ مِنْ فِرْ َ‬
‫َفمَا َآمَنَ ِلمُوسَى إِلّا ذُرّيّةٌ مِنْ َق ْومِهِ عَلَى َ‬
‫ض وَإِنّهُ َلمِنَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ (‪)83‬‬
‫الْأَ ْر ِ‬

‫وإذا كان السحرة ـ وهم عُدّة فرعون وعتاده لمواجهة موسى ـ أعلنوا اليمان‪ ،‬فعاقبهم الفرعون‬
‫وقال‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ آمَنتُمْ َلهُ قَ ْبلَ أَنْ ءَاذَنَ َلكُمْ }[طه‪.]71 :‬‬
‫فهذا يدل على أن فكرة اللوهية كانت ما تزال مسيطرة على عقله؛ ولذلك خاف الناس من إعلن‬
‫اليمان؛ ولذلك قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َفمَآ آمَنَ ِلمُوسَىا ِإلّ ذُرّيّةٌ } [يونس‪.]83 :‬‬
‫وكلمة " ذرية " تفيد الصغار الذين لم تلمسهم خميرة من الفساد الذي كان منتشرا‪ ،‬كما أن الصغار‬
‫يتمتعون بطاقة من النقاء‪ ،‬ويعيشون في خُُلوّ من المشاكل‪ ،‬ولم يصلوا إلى مرتبة السيادة التي‬
‫يُحْ َرصُ عليها‪ ،‬ومع ذلك فهم قد آمنوا‪:‬‬
‫ن َومَلَ ِئهِمْ } [يونس‪.]83 :‬‬
‫عوْ َ‬
‫خ ْوفٍ مّن فِرْ َ‬
‫{ عَلَىا َ‬
‫خ ْوفٍ } تفيد الستعلء‪ ،‬مثل قولنا‪ " :‬على الفرس " أو " على الكرسي " ويكون‬
‫وكلمة { عَلَىا َ‬
‫المستعلي في هذه الحالة متمكّنا من المستعلى عليه "؛ ومن يستعلي إنما يركب المستعلي‪ ،‬ويحمل‬
‫المستعلي العبء‪.‬‬
‫ولكن من استعمالت " على " أنها تأتي بمعنى " مع "‪.‬‬
‫ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫طعَامَ عَلَىا حُبّهِ }[النسان‪.]8 :‬‬
‫ط ِعمُونَ ال ّ‬
‫{ وَيُ ْ‬
‫أي‪ :‬يطعمون الطعام مع حبه‪.‬‬
‫وحين يأتي الحق سبحانه بحرف مقام حرف آخر فل بد من علة لذلك‪.‬‬
‫ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫خلِ }[طه‪.]71 :‬‬
‫لصَلّبَ ّنكُمْ فِي جُذُوعِ النّ ْ‬
‫لفٍ َو ُ‬
‫طعَنّ أَيْدِ َيكُ ْم وَأَ ْرجَُلكُمْ مّنْ خِ َ‬
‫ل َق ّ‬
‫{ فَ ُ‬
‫جاء الحق سبحانه بالحرف " في " بدلً من " على "؛ ليدل على أن عملية الصلب ستكون تصليبا‬
‫قويا‪ ،‬بحيث تدخل أجزاء المصلوب في المصلوب فيه‪.‬‬
‫وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫طعَامَ عَلَىا حُبّهِ }[النسان‪.]8 :‬‬
‫ط ِعمُونَ ال ّ‬
‫{ وَيُ ْ‬
‫فكأنهم هم المستعلون على الحب؛ ليذهب بهم حيث يريدون‪.‬‬
‫وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫خ ْوفٍ } [يونس‪.]83 :‬‬
‫{ عَلَىا َ‬
‫أي‪ :‬أنهم فوق الخوف يسير بهم إلى دهاليز توقّع اللم‪.‬‬
‫ن َومَلَ ِئهِمْ أَن َيفْتِ َنهُمْ } [يونس‪.]83 :‬‬
‫عوْ َ‬
‫خ ْوفٍ مّن فِرْ َ‬
‫وهم هنا آمنوا‪ { :‬عَلَىا َ‬
‫والكلم هنا من الحق العلى سبحانه يبيّن لنا أن الخوف ليس من فرعون؛ لن فرعون إنما‬
‫يمارس التخويف بمن حوله‪ ،‬فمثلهم مثل ُزوّار الفجر في أي دولة ل تقيم وزنا لكرامة النسان‪.‬‬
‫وفرعون في وضعه ومكانته ل يباشر التعذيب بنفسه‪ ،‬بل يقوم به زبانيته‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والشارة هنا تدل على الخوف من شيعة فرعون وملئهم‪.‬‬
‫وقال الحق سبحانه هنا‪َ { :‬يفْتِ َنهُمْ } ‪ ،‬ولم يقل‪ " :‬يفتنوهم "؛ ليدلنا على ملحظ أن الزبانية ل‬
‫يصنعون التعذيب لشهوة عندهم‪ ،‬بل يمارسون التعذيب لشهوة عند الفرعون‪.‬‬
‫وهكذا جاء الضمير مرة جمعا‪ ،‬ومرة مفردا‪ ،‬ليكون كل لفظ في القرآن جاذبا لمعناه‪.‬‬
‫وحين أراد المفسرون أن يوضحوا معنى (ذرية) قالوا‪ :‬إن المقصود بها امرأة فرعون (آسية)‪،‬‬
‫وخازن فرعون‪ ،‬وامرأة الخازن‪ ،‬وماشطة فرعون‪ ،‬ومَنْ آمن مِنْ قوم موسى ـ عليه السلم ـ‬
‫وكتم إيمانه‪.‬‬

‫كل هؤلء منعتهم خشية عذاب فرعون من إعلن اليمان برسالة موسى؛ لن فرعون كان جَبّارا‬
‫في الرض‪ ،‬مدّعيا لللوهية‪ ،‬وإذا ما رأى فرعون إنسانا يخدش ادعاءه لللوهية؛ فل بد أن يبطش‬
‫به بطشة فاتكة‪.‬‬
‫لذلك كانوا على خوف من هذا البطش‪ ،‬فقد سبق وأن ذبح فرعون ـ بواسطة زبانيته ـ أبناء بني‬
‫إسرائيل واستحيا نساؤهم‪ ،‬وهم خافوا من هولء الزبانية الذي نفّذوا ما أراده فرعون‪.‬‬
‫ولذلك جاء الضمير مرة تعبيرا عن الجمع في قوله سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫} َومَلَ ِئهِمْ { [يونس‪.]83 :‬‬
‫وجاء الضمير مفردا معبرا عن فرعون المر في قوله سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫} أَن َيفْتِنَهُمْ { [يونس‪.]83 :‬‬
‫فهم خافوا أن يفتنهم فرعون بالتعذيب الذي يقوم به أعوانه‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى هو القائل‪:‬‬
‫ض وَإِنّهُ َلمِنَ ا ْل ُمسْ ِرفِينَ { [يونس‪.]83 :‬‬
‫عوْنَ َلعَالٍ فِي الَ ْر ِ‬
‫} وَإِنّ فِرْ َ‬
‫والمسرف‪ :‬هو الذي يتجاوز الحدود‪ ،‬وهو قد تجاوز في إسرافه وادّعى اللوهية‪.‬‬
‫وقد قال الحق سبحانه ما جاء على لسان فرعون‪:‬‬
‫{ أَنَاْ رَ ّبكُ ُم الَعْلَىا }[النازعات‪.]24 :‬‬
‫وقال الحق سبحانه أيضا‪:‬‬
‫عوْنُ ياأَ ّيهَا الْملُ مَا عَِل ْمتُ َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي }[القصص‪.]38 :‬‬
‫{ َوقَالَ فِرْ َ‬
‫وعل فرعون في الرض علوّ طاغية من البشر على غيره من البشر المستضعفين‪.‬‬
‫وقال الحق سبحانه على لسان فرعون‪:‬‬
‫{ أَلَ ْيسَ لِي مُ ْلكُ ِمصْرَ وَهَـا ِذهِ الَ ْنهَارُ َتجْرِي مِن تَحْتِي }[الزخرف‪.]51 :‬‬
‫إذن‪ :‬فقد كان فرعون مسرفا أشد السراف‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬وقَالَ مُوسَىا يا َقوْمِ {‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1434 /‬‬

‫َوقَالَ مُوسَى يَا َقوْمِ إِنْ كُنْ ُتمْ َآمَنْتُمْ بِاللّهِ َفعَلَيْهِ َت َوكّلُوا إِنْ كُنْ ُتمْ مُسِْلمِينَ (‪)84‬‬

‫وهنا شرطان‪ ،‬في قوله تعالى‪:‬‬


‫{ إِن كُنتُمْ آمَن ُتمْ بِاللّهِ } [يونس‪.]84 :‬‬
‫وجاء جواب هذا الشرط في قوله سبحانه‪:‬‬
‫{ َفعَلَيْهِ َت َوكّلُواْ } [يونس‪.]84 :‬‬
‫ثم جاء بشرط آخر هو‪ { :‬إِن كُنتُم مّسِْلمِينَ } [يونس‪.]84 :‬‬
‫وهكذا جاء الشرط الول وجوابه‪ ،‬ثم جاء شرط آخر‪ ،‬وهذا الشرط الخر هو الشرط الول وهو‬
‫السلم ل؛ لن اليمان بال يقتضي السلم وأن يكونوا مسلمين‪.‬‬
‫ومثال ذلك في حياتنا‪ :‬حين يريد ناظر إحدى المدارس أن يعاقب تلميذا خالف أوامر المدرسة‬
‫ونظمها‪ ،‬ويستعطف التليمذ الناظر‪ ،‬فيرد الناظر على هذا الستعطاف بقوله‪ " :‬إن جئت يوم السبت‬
‫القادم قَبِلتك في المدرسة إن كان معك وليّ أمرك؛ ومجيء ولي المر هنا مرتبط بالموعد الذي‬
‫حدده الناظر لعودة التلميذ لصفوف الدراسة‪ ،‬وهكذا نجد أن الشرط الخر مرتبط بالشرط الول‪.‬‬
‫وهنا يتجلّى ذلك في قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ إِن كُنتُمْ آمَن ُتمْ بِاللّهِ َفعَلَ ْيهِ َت َوكّلُواْ إِن كُنتُم مّسِْلمِينَ } [يونس‪.]84 :‬‬
‫واليمان ـ كما نعلم ـ عملية وجدانية قلبية‪ ،‬والسلم عملية ظاهرية‪ ،‬فمرة ينفذ الفرد تعاليم‬
‫السلم‪ ،‬وقد ينفك مرة أخرى من تنفيذ التعاليم رغم إيمانه بال‪ ،‬ومرة تجد واحدا ينفذ تعاليم‬
‫السلم نفاقا من غير رصيد من إيمان‪.‬‬
‫ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول‪:‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ }[البقرة‪.]25 :‬‬
‫{ الّذِين آمَنُو ْا وَ َ‬
‫ونجده سبحانه يبيّن هذا المر بتحديد قاطع في قوله تعالى‪:‬‬
‫ت الَعْرَابُ آمَنّا }[الحجرات‪.]14 :‬‬
‫{ قَاَل ِ‬
‫واليمان عملية قلبية؛ لذلك يأتي المر اللهي‪:‬‬
‫ل الِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ }[الحجرات‪.]14 :‬‬
‫خِ‬‫{ قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ َأسَْلمْنَا وََلمّا يَدْ ُ‬
‫أي‪ :‬أنكم تؤدون فروض السلم الظاهرية‪ ،‬لكن اليمان لم يدخل قلوبكم بعد‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ إِن كُنتُمْ آمَن ُتمْ بِاللّهِ َفعَلَ ْيهِ َت َوكّلُواْ } [يونس‪.]84 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا نرى أن التوكل مطلوب اليمان‪ ،‬وأن يُسلم النسان زمامه في كل أمر إلى مَنْ آمن به؛‬
‫ولذلك ل ينفع اليمان إل بالسلم‪ ،‬فإن كنتم مسلمين مع إيمانكم فتوكلوا على ال تعالى‪.‬‬
‫لكن إن كنتم قد آمنتم فقط ولم تسلموا الزمام ل في التكاليف إلى ال في " افعل " و " ل تفعل " ‪،‬‬
‫فهذا التوكل ل يصلح‪.‬‬
‫وهكذا يتأكد لنا ما قلناه من قبل من أنك إذا رأيت أسلوبا فيه شرط تقدم‪ ،‬وجاء جواب بعد الشرط‪،‬‬
‫ثم جاء شرط آخر‪ ،‬فاعلم أن الشرط الخير هو المقدّم‪ ،‬لنه شرط في الشرط الول‪ ،‬وبالمثل هنا‬
‫فإن التوكل لن ينشأ إل بالسلم مع اليمان‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ { :‬فقَالُواْ عَلَىا اللّهِ َت َوكّلْنَا }‬

‫(‪)1435 /‬‬

‫جعَلْنَا فِتْ َنةً لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ (‪)85‬‬


‫َفقَالُوا عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا رَبّنَا لَا تَ ْ‬

‫أي‪ :‬أنهم استجابوا لدعوة موسى ـ عليه السلم ـ بمجرد قولهم‪ { :‬عَلَىا اللّهِ َت َوكّلْنَا }‪.‬‬
‫حصْر المر‪ ،‬وهنا قصر وحصر التوكل على‬
‫وإذا تقدم الجار على المجرور فمعنى ذلك َقصْر و َ‬
‫ال تعالى‪ ،‬ول توكل على سواه‪.‬‬
‫ويأتي بعد ذلك دعاؤهم‪:‬‬
‫جعَلْنَا فِتْنَةً لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [يونس‪.]85 :‬‬
‫{ رَبّنَا لَ َت ْ‬
‫والفتنة‪ :‬اختبار‪ ،‬وهي ـ كما قلنا من قبل ـ ليست مذمومة في ذاتها‪ ،‬بل المذموم أن تكون النتيجة‬
‫في غير صالح من يمر بالفتنة‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬فتنت الذهب‪ ،‬أي‪ :‬صهرت الذهب‪ ،‬واستخلصته من كل الشوائب‪ ،‬ونحن نعلم أن صُنّاع‬
‫الذهب يخلطونه بعناصر أخرى؛ ليكون متماسكا؛ لن الذهب غير المخلوط بعناصر أخرى ل‬
‫يتماسك‪.‬‬
‫والفتنة التي قالوا فيها‪:‬‬
‫جعَلْنَا فِتْنَةً لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [يونس‪.]85 :‬‬
‫{ رَبّنَا لَ َت ْ‬
‫هي فتنة الخوف من أن يرتد بعضهم عن اليمان لو انتصر عليهم فرعون وعذّبهم‪ ،‬وكأنهم‬
‫يقولون‪ :‬يا رب ل تسلّط علينا فرعون بعذاب شديد‪.‬‬
‫هذا إن كانوا مفتونين‪ ،‬فماذا إن كانوا هم الفاتنين؟‬
‫إنهم في هذه الحالة لو لم يتبعوا الدين التتبع الحقيقي لما علم فرعون وآله أن هؤلء الذين أعلنوا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اليمان هم مسلمون بحق‪ ،‬وهم لو انحرفوا عن الدين لقال عنهم آل فرعون‪ :‬إنهم ليسوا أهل إيمان‬
‫حقيقي‪.‬‬
‫ونجد سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ وهو أبو النبياء وله قدره العظيم في النبوة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫جعَلْنَا فِتْنَةً لّلّذِينَ َكفَرُواْ }[الممتحنة‪.]5 :‬‬
‫{ رَبّنَا لَ َت ْ‬
‫ودعوة إبراهيم عليه السلم تعلمنا ضرورة التمسك بتعاليم الدين؛ حتى ل ينظر أحد إلى المسلم أو‬
‫المؤمن ويقول‪ :‬هذا هو من يعلن اليمان ويتصرف عكس تعاليم دينه‪.‬‬
‫ولذلك كان سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ يؤدي الوامر بأكثر مما يطلب منه‪ ،‬ويقول فيه الحق‬
‫سبحانه‪:‬‬
‫{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }[البقرة‪.]124 :‬‬
‫أي‪ :‬أنه كان يتم كل عمل بنية وإتقان؛ لنه أسوة‪ ،‬فلم يقم بعمل إيماني بمظهر سطحي‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فإن كانوا هم المفتونين‪ ،‬فهم يدفعون الفتنة عن أنفسهم‪ ،‬وإن كانوا هم الفاتنين؛ فعليهم التمسك‬
‫بتعاليم الدين؛ حتى ل يتهمهم أحد بالتقصير في أمور دينهم‪ ،‬فيزداد الكافرون كفرا وضللً‪.‬‬
‫وجاء قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جعَلْنَا فِتْنَةً لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [يونس‪.]85 :‬‬
‫{ رَبّنَا لَ َت ْ‬
‫ليدل على انشغالهم بأمر الدين‪ ،‬فاتنين أو مفتونين‪.‬‬
‫حمَ ِتكَ مِنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬وَ َنجّنَا بِرَ ْ‬

‫(‪)1436 /‬‬

‫حمَ ِتكَ مِنَ ا ْلقَوْمِ ا ْلكَافِرِينَ (‪)86‬‬


‫وَنَجّنَا بِ َر ْ‬

‫وهنا توضح الية الكريمة أنهم إن كانوا مشغولين بأمر الغير من الكافرين فهذا يعني أنهم طمعوا‬
‫في إيمان العدو؛ لعل هذا العدو يعود إلى رشد اليمان‪.‬‬
‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه "‪.‬‬
‫وهم أرادوا إيمان العدو رغم أنه ظالم‪.‬‬
‫حمْق العداوة أن يدعو النسان على عدوّه‬
‫وهكذا يعلّم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الخلق أنه من ُ‬
‫بالشر؛ لن الذي يتعبك من عدوك هو شرّه‪ ،‬ومن صالحك أن تدعو له بالخير؛ لن هذا الخير‬
‫سيتعدى إليك‪.‬‬
‫وعلى المؤمن أن يدعو لعدوّه بالهداية‪ ،‬لنه حين يهتدي؛ فلسوف يتعدّى لنفع إليك‪ ،‬وهذه من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مميزات اليمان أن نفعه يتعدّى إلى الغَيْر‪.‬‬
‫وهم حين دعوا ألّ يجعلهم ال فتنةً للقوم الظالمين‪ ،‬فإن ذلك يوضّح لنا أن الظلم درجاتٌ‪ ،‬وأن‬
‫فرعون ومله كانوا في قمة الظلم؛ لن الحق سبحانه وتعالى هو القائل‪:‬‬
‫عظِيمٌ }[لقمان‪.]13 :‬‬
‫{ إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ‬
‫فقمة الظلم أن تأخذ حَقّ الغير وتعطيه لغير صاحب الحق‪ .‬وفرعون وملؤه أشركوا بال ـ سبحانه‬
‫وتعالى ـ فظن فرعون أنه إله‪ ،‬وصدّقه من حوله‪.‬‬
‫فقمة الظلم هو الشرك بال سبحانه‪ ،‬ثم بعد ذلك يتنزل إلى الظلم في الكبائر‪ ،‬ثم في الصغائر‪.‬‬
‫وقولهم في دعائهم للحق سبحانه‪:‬‬
‫حمَ ِتكَ مِنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ } [يونس‪.]86 :‬‬
‫{ وَنَجّنَا بِرَ ْ‬
‫أي‪ :‬اجعلنا بنجوةٍ من هؤلء‪.‬‬
‫وكان الذي يخيف القدمين هو سيول المياه‪ ،‬حين تتدفّق‪ ،‬ول ينجو إل مَنْ كان في ربوةٍ عالية ـ‬
‫والنجوة هي المكان المرتفع ـ وهذا هو أصل كلمة " النجاة "‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه على لسانهم‪:‬‬
‫حمَ ِتكَ مِنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ } [يونس‪.]86 :‬‬
‫{ وَنَجّنَا بِرَ ْ‬
‫والرحمة هي الوقاية من أن يجيء الداء‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫حمَةٌ }[السراء‪.]82 :‬‬
‫شفَآ ٌء وَ َر ْ‬
‫{ وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫والشفاء إذا وُجد الدّاء‪ ،‬والرحمة هي ألّ يجيء الداء‪.‬‬
‫وأراد الحق سبحانه أن يكرم ـ بعد ذلك ـ موسى عليه السلم وقومه فقال سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{ وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا مُوسَىا وََأخِيهِ }‬

‫(‪)1437 /‬‬

‫جعَلُوا بُيُو َتكُمْ قِبَْل ًة وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَبَشّرِ‬


‫وََأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وََأخِيهِ أَنْ تَ َبوّآَ ِلقَ ْو ِم ُكمَا ِب ِمصْرَ بُيُوتًا وَا ْ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)87‬‬

‫وأوضحنا من قبل أن موسى وهارون عليهما السلم رسولن برسالة واحدة‪ ،‬وأن الوَحْي قد جاء‬
‫للثنين برسالة واحدة‪.‬‬
‫حمْل الرسالة النطق‬
‫فالحق سبحانه ساعة يختار نبيّا رسولً‪ ،‬فإنما يختاره بتكوينٍ وفطرةٍ تؤهّله ل َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بمرادات ال تعالى‪.‬‬
‫وإذا كان الخَلْق قد صنعوا آلت ذاتية الحركة من مواد جامدة ل فكر لها ول رَويّة‪ ،‬مثل الساعة‬
‫التي تُؤذّن‪ ،‬أو المذياع يذيع في توقيت محدد‪ ،‬إذا كان البشر قد صنعوا ذلك فما بالنا بال سبحانه‬
‫الخالق لكل الخلق والكون ومرسل الرسل؟‬
‫إنه سبحانه وتعالى يختار رسله بحيث يسمح تكوين الرسول أن يؤدي المهمة الموكولة إليه في أي‬
‫ظرف من الظروف‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه هنا‪:‬‬
‫{ وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا مُوسَىا وََأخِيهِ } [يونس‪.]87 :‬‬
‫يبيّن لنا أن الوحي شمل كلً من موسى وهارون عليهما السلم‪ ،‬بحيث إذا جاء موقف من المواقف‬
‫يقتضي أن يتكلم فيه موسى‪ ،‬فهارون أيضا يمكن أن يتكلم في نفس المر؛ لن الشحنة اليمانية‬
‫واحدة‪ ،‬والمنهج واحد‪.‬‬
‫وقد حدث ذلك بعد أن أغرق فرعون وقومه‪ ،‬وخل لهم الجو‪ ،‬فجاء لهم المر أن يستقروا في‬
‫مصر‪ ،‬وأن يكون لهم فيها بيوت‪.‬‬
‫ولكن لنا أن نسأل‪:‬‬
‫هل فرعون هذا هو شخص غرق وانتهى؟‬
‫ل‪ ..‬إن فرعون ليس اسما لشخص‪ ،‬بل هو تصنيف لوظيفة‪ ،‬وكان لقب كل حاكم لمصر قديما هو‬
‫" فرعون "؛ لذلك ل داعي أن نشغل أنفسنا‪ :‬هل هو تحتمس الول؟ أو رمسيس؟ أو ما إلى ذلك؟‬
‫فهب أن فرعون المعنيّ هنا قد غرق‪ ،‬أل يعني ذلك مجيء فرعون جديد؟‬
‫نحن نعلم من التاريخ أن السر الحاكمة توالت‪ ،‬وكانوا فراعنة‪ ،‬وكان منهم من يضطهد المؤمنين‪،‬‬
‫ول بد أن يكون خليفة الفرعون أشد ضراوةً وأكثر شحنةً ضد هؤلء القوم‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه وتعالى في الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪:‬‬
‫{ وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا مُوسَىا وََأخِيهِ أَن تَ َبوّءَا ِلقَ ْو ِم ُكمَا ِب ِمصْرَ بُيُوتا } [يونس‪.]87 :‬‬
‫نجد فيه كلمة " مصر " وهي إذا أطلقت يُفهم منها أنها " القليم "‪.‬‬
‫ونحن هنا في بلدنا جعلنا كلمة " مصر " علما على القليم الممتد من البحر المتوسط إلى حدود‬
‫السودان‪ ،‬أي‪ :‬وادي النيل‪.‬‬
‫ومرة أخرى جعلنا من " مصر " أسما لعاصمة وادي النيل‪.‬‬
‫ونحن نقول أيضا عن محطة القطارات في القاهرة‪ " :‬محطة مصر "‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه هنا‪:‬‬
‫{ أَن تَ َبوّءَا ِل َقوْ ِم ُكمَا } [يونس‪.]87 :‬‬
‫نفهم منه أن التبؤُ هو اتخاذ مكان يعتبر مباءةً؛ أي‪ :‬مرجعا يبوء النسان إليه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التبؤّ ـ إذن ـ هو التوطن في مكان ما‪ ،‬والنسان إذا اتخذ مكانا كوطن له فهو يعود إليه إن ذهب‬
‫إلى أي بلد لفترة‪.‬‬

‫ويعتبر الخروج من الوطن مجرد رحلة تقتضي العودة‪ ،‬وكذلك البيت بالنسبة للنسان؛ فالواحد منا‬
‫يطوف طوال النهار في الحقل أو المصنع أو المكتب‪ ،‬وبعد ذلك يعود إلى البيت للبيتوتة‪.‬‬
‫والبيوت التي أوصى ال سبحانه وتعالى بإقامتها لقوم موسى وهارون ـ عليهما السلم ـ كان لها‬
‫شرط هو قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جعَلُواْ بُيُو َتكُمْ قِبَْلةً { [يونس‪.]87 :‬‬
‫} وَا ْ‬
‫والقِبلة هي المتجَه الذي نصلي إليه‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬المسجد‪ ،‬وهو قبلة مَنْ هو خارجه‪ ،‬وساعة ينادي المؤذن للصلة يكون المسجد هو‬
‫قبلتنا التي نذهب إليها‪ ،‬وحين ندخل المسجد نتجه داخله إلى القلبة‪ ،‬واتجاهنا إلى القبلة هو الذي‬
‫يتحكم في وضعنا الصفّي‪.‬‬
‫والمر هنا من الحق سبحانه‪:‬‬
‫لةَ { [يونس‪.]87 :‬‬
‫جعَلُواْ بُيُو َتكُمْ قِبَْل ًة وََأقِيمُواْ الصّ َ‬
‫} وَا ْ‬
‫فإقامة البيوت هنا مشروطة بأن يجعلوا بها قبلة لقامة الصلة بعيدا عن أعين الخصوم الذين‬
‫يضطهونهم‪ ،‬شأنهم شأن المسلمين الوائل حينما كان السلم ـ في أوليته ـ ضعيفا بمكة‪ ،‬وكان‬
‫المسلمون حين ذاك يصلون في قلب البيوت‪ ،‬وهذا هو سر عدم الجهر بالصلة نهارا‪ ،‬وعدم‬
‫الجهر يفيد في أل ينتبه الخصوم إلى مكان المصلين‪.‬‬
‫وأما الجهر بالصلة ليلً وفجرا‪ ،‬فقد كان المقصود به أن يعلمهم كيفية قراءة القرآن‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جعَلُواْ بُيُو َتكُمْ قِبَْلةً { [يونس‪.]87 :‬‬
‫} أَن تَ َبوّءَا ِل َقوْ ِم ُكمَا ِب ِمصْرَ بُيُوتا وَا ْ‬
‫وقد يكون المقصود بذلك أن تكون البيوت متقابلة‪.‬‬
‫وإلى يومنا هذا أن نظرت إلى ساحات اليهود في أي بلد من بلد الدنيا تجد أنهم يقطنون حيّا‬
‫واحدا‪ ،‬ويرفضون أن يذوبوا في الحياء الخرى‪.‬‬
‫ففي كل بلد لهم حي يسكنون فيه‪ ،‬ويسمى باسم " حي اليهود "‪ .‬وكانت لهم في مصر " حارات "‬
‫كل منها تسمى باسم " حارة اليهود "‪.‬‬
‫وقد شاء الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ذلك وقال في كتابه العزيز‪:‬‬
‫سكَنَةُ }[البقرة‪.]61 :‬‬
‫{ َوضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ‬
‫وهم يحتمون بتواجهم معا‪ ،‬فإن حدث أمر من المور يفزعهم؛ يصبح من السهل عليهم أن يلتقوا‪:‬‬
‫جعَلُواْ بُيُو َتكُمْ قِبَْلةً { [يونس‪.]87 :‬‬
‫أو } وَا ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي‪ :‬أن يكون تخطيط الماكن والشوارع التي تُبنى عليها البيوت في اتجاه القبلة‪.‬‬
‫وأي خطأ معماري مثل الذي يوجد في تربيعة بناء مسجد المام الحسين بالقاهرة‪ ،‬هذا الخطأ‬
‫ل إلى‬
‫يوجب التجاه إلى اليمين قليلً مما يسبب بعض الرتباك للمصلين؛ لن النحراف قلي ً‬
‫اليمين في أثناء الصلة يقتضي أن يقصر كل صف خلف الصف الخر‪.‬‬
‫وحين نصلي في المسجد الحرام بمكة‪ ،‬نجد بعضا من المصلين يريدون مساواة الصفوف‪ ،‬وأن‬
‫تكون الصفوف مستقيمة‪ ،‬فنجد من ينبه إلى أن الصف يعتدل بمقدار أطول أضلع الكعبة‪ ،‬ثم‬
‫ينحي الصف‪.‬‬
‫وكذلك في الدوار العليا التي أقيمت بالمسجد الحرام نجد الصفوف منحنية متجهة إلى الكعبة‪.‬‬
‫ولذلك أقول دائما حين أصلي بالمسجد الحرام‪ :‬إن معنى قول المام‪ " :‬سووا صفوفكم " أي‪ :‬اجعل‬
‫مناكبكم في مناكب بعضكم بعض‪ ،‬أما خارج الكعبة فيكفي أن نتجه إلى الجهة التي فيها الكعبة‪،‬‬
‫ونحن خارج الكعبة ل نصلي لعين الكعبة‪ ،‬ولكننا نصلي تجاه الكعبة؛ لننا لو كنا نصلي إلى عين‬
‫الكعبة لما زاد طول الصف في أي مسجد عن اثني عشر مترا وربع المتر‪ ،‬وهو أطول أضلع‬
‫الكعبة‪.‬‬

‫وقول الحق سبحانه هنا‪:‬‬


‫جعَلُواْ بُيُو َتكُمْ قِبَْلةً { [يونس‪.]87 :‬‬
‫} وَا ْ‬
‫أي‪ :‬خططوا في إقامة البيوت أن تكون على القبلة‪ ،‬وبعض الناس يحاولون ذلك‪ ،‬لكن تخطيط‬
‫الشوارع والحياء ل يساعد على ذلك‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫لةَ { [يونس‪.]87 :‬‬
‫} وََأقِيمُواْ الصّ َ‬
‫وهذا المر نفهم منه أن الصلة فيها استدامة الولء ل تعالى‪ ،‬فنحن نشهد أل إله إل ال مرة‬
‫واحدة في العمر‪ ،‬ونُزكّي ـ إن كان عندنا مال ـ مرة واحدة في السنة‪ ،‬ونصوم ـ إن لم نكن‬
‫مرضى ـ شهرا واحدا هو شهر رمضان‪ ،‬ونحج ـ إن استطعنا ـ مرة واحدة في العمر‪.‬‬
‫ويبقى ركن الصلة‪ ،‬وهو يتكرر كل يوم خمس مرات‪ ،‬وإن شاء النسان فَلْيُزِد‪ ،‬وكأن الحق‬
‫سبحانه وتعالى هنا ينبه إلى عماد الدين وهي الصلة‪.‬‬
‫ولكن مَن الذي اختار المكان في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؟ هل هو موسى وأخوه‬
‫هارون؟ أم أن الخطاب لكل القوم‪.‬‬
‫نلحظ هنا أن المر بالتبوّء هو لموسى وهارون ـ عليهما السلم ـ أما المر بالجعل فهو مطلوب‬
‫من موسى وهارون والتباع؛ لذلك جاء الجعل هنا بصيغة الجمع‪.‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫} وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ { [يونس‪.]87 :‬‬
‫وفي هذا تنبيه وإشارة إلى أن موسى هو الصل في الرسالة؛ لذلك جاء له المر بأن يحمل‬
‫البشارة للمؤمنين‪.‬‬
‫ونلحظ هنا في هذه الية أن الحق سبحانه جاء بالتثنية في التبوء‪ ،‬وجاء بالجمع في جعل البيوت‪،‬‬
‫ثم جاء بالمفرد في نهاية الية لينبهنا إلى أن موسى ـ عليه السلم ـ هو الصل في الرسالة إلى‬
‫بني إسرائيل‪.‬‬
‫والبشرى على العمال الصالحة تعني‪ :‬التبشير بالجنة‪.‬‬
‫عوْنَ {‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬وقَالَ مُوسَىا رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ‬

‫(‪)1438 /‬‬

‫ن َومَلََأهُ زِينَ ًة وََأ ْموَالًا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّوا عَنْ سَبِيِلكَ‬
‫عوْ َ‬
‫َوقَالَ مُوسَى رَبّنَا إِ ّنكَ آَتَ ْيتَ فِرْ َ‬
‫طمِسْ عَلَى َأ ْموَاِلهِمْ وَاشْ ُددْ عَلَى قُلُو ِبهِمْ فَلَا ُي ْؤمِنُوا حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ الْأَلِيمَ (‪)88‬‬
‫رَبّنَا ا ْ‬

‫والزينة‪ :‬هي المر الزائد عن ضروريات الحياة ومقوماتها الولى‪ ،‬فاستبقاء الحياة يكون بالمأكل‬
‫لي غذاء يسدّ الجوع‪ ،‬وبالمشرب الذي يروي العطش‪.‬‬
‫أما إن كان الطعام منوّعا فهذا من ترف الحياة‪ ،‬ومن ترف الحياة الملبس التي ل تستر العورة‬
‫فقط‪ ،‬بل بالزي الذي يتميز بجودة النسج والتصميم والتفصيل‪.‬‬
‫وكذلك من ترف الحياة المكان الذي ينام فيه النسان‪ ،‬بحيث يتم تأثيثه بفاخر الرياش‪ ،‬ولكن‬
‫الضرورة في النوم يكفي فيها مكان على الرض‪ ،‬وأي فراش يقي من برودة الرض أو‬
‫حرارتها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالزائد عن الضرورات هو زينة الحياة‪ ،‬والزينة تأتي من الموال‪ ،‬والرصيد الصيل في‬
‫الموال هو الذهب‪ ،‬ثم تأخذ الفضة المرتبة الثانية‪.‬‬
‫ومن مقومات القتصاد أن الذهب يعتبر قيمة الرصيد لغنى أية دولة‪ ،‬مهما اكتشفوا من أحجار‬
‫أغلى من الذهب‪.‬‬
‫وهذه الحجار الكريمة ـ كالماس مثلً ـ إن كُسِرت أو خُدِشت تقل قيمتها‪ ،‬لكن الذهب مهما‬
‫صهْرَه‪ ،‬فتستخلَص ذهبا مُجمّعا‪.‬‬
‫تفتّت فأنت تعيد َ‬
‫وكان الفراعنة القدمون يحكمون مصر حتى منابع النيل‪ ،‬وكانوا يسخّرون الناس في كل العمال‪،‬‬
‫وحتى استخراج الذهب سواء من المناجم أو من غربلة رمال بعض الجبال لستخلص الذهب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫منها‪.‬‬
‫وأنت قد تستطيع استخلص الذهب من أماكن معينة‪ ،‬ولكن الفرق دائما إنما يكون في القيمة‬
‫القتصادية لستخراج الذهب‪ ،‬فحين يكون المنجم وفير العطاء‪ ،‬فيه كثير من عروق الذهب‪ ،‬هنا‬
‫يصبح استخراج الذهب مسألة مريحة اقتصاديا‪.‬‬
‫أما إن كانت التكلفة أعلى من القيمة القتصادية للذهب المستخرج‪ ،‬فل أحد يستخرج هذا الذهب‪.‬‬
‫وأنت إن نظرت إلى زينة الفراعنة تجد قناع " توت عنخ آمون " آية في الجمال‪ ،‬وكذلك كانت‬
‫قصورهم في قمة الرفاهية‪ ،‬ويكفي أن ترى اللوان التي صنعت منها دهانات الحوائط في تلك‬
‫اليام؛ لتعرف دقة الصنعة ومدى الترف‪ ،‬الذي هو أكثر بكثير من الضرورات‪.‬‬
‫وفي هذه الية الكريمة يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫لهُ زِي َن ًة وََأ ْموَالً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّواْ عَن سَبِيِلكَ‬
‫ن َومَ َ‬
‫عوْ َ‬
‫{ َوقَالَ مُوسَىا رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ‬
‫} [يونس‪.]88 :‬‬
‫وهم لم َيضِلّوا فقط بل أرادوا أن ُيضِلّوا غيرهم؛ لذلك تحملوا وِزْر ضللهم‪ ،‬ووزر إضلل‬
‫غيرهم‪.‬‬
‫فهل أعطاهم ال سبحانه المال والزينة للضلل والضلل؟‬
‫ل‪ ،‬فليس ذلك علة العطاء‪ ،‬ولكن هناك لم العاقبة‪ ،‬مثلما تعطي أنت إبنك عشرة جنيهات وتقول‬
‫له‪ :‬افعل بها ما تريد‪ ،‬وأرجو أن تتصرف فيها تصرفا يعود عليك بالخير‪ .‬وقد ينزل هذا البن‬
‫ليشتري شيئا غير مفيد ول يشتري ـ مثلً ـ كتبا تفيده‪.‬‬
‫هنا أنت أعطيت هذا البن قوة شرائية لكنه لم يحسن التصرف فيها‪ ،‬وغاية الختيار َهدَتْه إلى‬
‫اللعب‪ .‬وهذا ما يسمى لم العاقبة‪ ،‬ولم العاقبة ل يكون المقصود بها سبب الفعل‪ ،‬ولكنها تأتي‬
‫لبيان عاقبة الفعل‪.‬‬

‫وحين أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجي موسى ـ عليه السلم‪ ،‬في طفولته من القتل أوحى إلى‬
‫أم موسى ـ عليهما السلم ـ بقوله تعالى‪:‬‬
‫خ ْفتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َي ّم وَلَ َتخَافِي َولَ تَحْزَنِي }[القصص‪.]7 :‬‬
‫{ فَِإذَا ِ‬
‫ول توجد أم تُقبل على تنفيذ مثل هذا المر؛ لنه موت محقق؛ لن البن إن خُطف أو ُفقِد فهذا‬
‫كله موت مظنون‪ ،‬أما إلقاؤه في الماء فليس فيه موت مظنون‪ ،‬بل موت مؤكد‪ ،‬إن لم يُنجّه ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ولكن أم موسى ـ ليمانها بال ـ فعلت ما أوحى به ال ـ سبحانه وتعالى ـ لها؛ لن الوارد من‬
‫ال تعالى ل يجد في الفطرة منازعا له‪.‬‬
‫أما نزغات الشيطان فهي تجد ألف منازع لها في النفس‪ ،‬وكذلك هواجس النفس‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولذلك نفّذت أم موسى ما أوحى ال تعالى به إليها‪ ،‬وإن كان مخالفا للعقل والمنطق‪.‬‬
‫وحين التقطه آل فرعون‪ ،‬وقد كانوا يقتلون الطفال‪ ،‬وألقى الحق سبحانه وتعالى محبة موسى في‬
‫قلوبهم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫علَ ْيكَ مَحَبّةً مّنّي }[طه‪.]39 :‬‬
‫{ وَأَ ْلقَ ْيتُ َ‬
‫فهم ساعة رؤيتهم لموسى ـ عليه السلم ـ وهو طفل‪ ،‬أحبّوه فلم يقتلوه‪ ،‬وهكذا نفذت مشيئة ال‬
‫تعالى ووعده لمه‪:‬‬
‫علُوهُ مِنَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ }[القصص‪.]7 :‬‬
‫ك وَجَا ِ‬
‫{ إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ‬
‫أي‪ :‬أن لموسى ـ عليه السلم ـ مهمة مسبقة أرادها له الحق سبحانه‪.‬‬
‫ولذلك نجد أن هناك أوامر متتابعة جاء بها القرآن الكريم في مسألة إلقاء أم موسى لبنها‪ ،‬فقال‬
‫الحق سبحانه‪:‬‬
‫حلِ }[طه‪:‬‬
‫{ ِإذْ َأوْحَيْنَآ ِإلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا * أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ‬
‫‪38‬ـ ‪.]39‬‬
‫وكلها أوامر من الحق سبحانه‪ ،‬فتراه زوجة فرعون فتقول لزوجها‪:‬‬
‫{ قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََلكَ }[القصص‪.]9 :‬‬
‫فهل كان فرعون يعلم أن هذا الطفل الذي التقطه سيكون عدوّا له؟‬
‫ل‪ ،‬لقد التقطه وأعطاه حياة الترف؛ ليكون قُرّة عين له‪ ،‬وهذه علة اللتقاط‪ ،‬ولكن العاقبة انتهت‬
‫إلى أن يكون عدوّا؛ ولو كانت العلة هي العداوة لما التقطه فرعون أو لقتله لحظة اللتقاط‪.‬‬
‫ولذلك يترك الحق سبحانه وتعالى في كونه أشياء تكسر مكر البشر؛ فأخذه فرعون وربّاه‪ ،‬وكانت‬
‫العاقبة غير ما كان يتوقع فرعون‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه هنا في الية التي نحن بصددها‪ } :‬لِ ُيضِلّواْ { نفهم منه أن ـ سبحانه وتعالى ـ‬
‫لم ُي ْعطِهم المال ليضلوا‪ ،‬ولكنهم هم الذين اختاروا الضلل‪.‬‬
‫وقد أعطى ال سبحانه وتعالى الكثير من الناس مالً وجاها وأرادوا به الخير‪ ،‬وهكذا نرى اختيار‬
‫النسان‪ ،‬إن له أن يضل أو يهتدي‪.‬‬
‫وقد قال موسى عليه السلم تنفيسا عن نفسه‪:‬‬
‫طمِسْ‬
‫لهُ زِينَةً وََأمْوَالً فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّواْ عَن سَبِيِلكَ رَبّنَا ا ْ‬
‫عوْنَ َومَ َ‬
‫} رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ‬
‫عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْ ُددْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ { [يونس‪.]88 :‬‬
‫ومعنى الطمس أي‪ :‬إخفاء المعالم؛ مثل قول الحق سبحانه‪:‬‬

‫س وُجُوها فَنَ ُردّهَا عَلَىا َأدْبَارِهَآ }[النساء‪.]47 :‬‬


‫طمِ َ‬
‫{ مّن قَ ْبلِ أَن نّ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومعنى الطمس هنا‪ :‬إخفاء معالم تلك الوجوه؛ فتكون قطعة واحدة بل جبهة أو حواجب أو عينين‬
‫أو أنف أو شفاه أو ذقن‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالطمس هو إهلك الصورة التي بها الشيء‪ .‬ودعوة موسى ـ عليه السلم ـ هنا‪:‬‬
‫طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِمْ { [يونس‪.]88 :‬‬
‫}ا ْ‬
‫أي‪ :‬امسخها‪.‬‬
‫وقال بعض الرواة أنها مُسخت‪ ،‬فمن كان يملك بعضا من سبائك الذهب وجدها حجارة‪ ،‬ومن كان‬
‫يملك أحجارا كريمة كالماس وجدها زجاجا‪.‬‬
‫طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِمْ { [يونس‪.]88 :‬‬
‫أو أن } ا ْ‬
‫أي‪ :‬أذهبهما؛ لن الموال كانت وسيلة إضلل‪.‬‬
‫وقوله عليه السلم بعد ذلك‪:‬‬
‫ب الَلِيمَ { [يونس‪.]88 :‬‬
‫شدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ‬
‫} وَا ْ‬
‫أي‪ :‬أحْكمْ يا رب الربطة على تلك القلوب؛ فل يخرج ما فيها من كفر‪ ،‬ول يَدخل ما هو خارجها‬
‫من اليمان؛ لن هؤلء قد افتروا افتراءً عظيما‪ ،‬وأن تظل الربطة على قلوبهم؛ حتى يروا‬
‫العذاب الليم‪.‬‬
‫ولماذا دعا موسى ـ عليه السلم ـ على آل فرعون هذا الدعاء‪ ،‬ولم يَ ْدعُ مثلما دعا سيدنا محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ " :‬اللهم اهْ ِد قومي فإنهم ل يعلمون "‬
‫والجابة‪ :‬ل بد أن الحق سبحانه وتعالى قد أطلعه على أن هؤلء قوم لن تفلح فيهم دعوة اليمان‪.‬‬
‫وكان خوف موسى ـ عليه السلم ـ ل من ضلل قوم فرعون‪ ،‬ولكن من استمرار إضللهم‬
‫لغيرهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقد دعا عليهم موسى ـ عليه السلم ـ بما جاء في هذه الية‪:‬‬
‫ب الَلِيمَ { [يونس‪:‬‬
‫طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ‬
‫} رَبّنَا ا ْ‬
‫‪.]88‬‬
‫وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ فََلمْ َيكُ يَن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْاْ بَأْسَنَا }[غافر‪.]85 :‬‬
‫وهكذا يتبين لنا الفارق بين إيمان اللجاء والقصر وبين إيمان الختيار‪.‬‬
‫فحين يأتي الرسول داعيا إلى اليمان يصبح من حق السامع لدعوته أن يؤمن أو أن يكفر؛ لن ال‬
‫تعالى قد خلق النسان وله حق الختيار‪ ،‬أما إيمان اللجاء والقصر فهو لينفع النسان‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬فرعون‪ ،‬فساعة أن جاءه العذاب أعلن اليمان‪ .‬فالحق سبحانه وتعالى يقول‪:‬‬
‫ل وَأَنَاْ مِنَ‬
‫{ حَتّىا إِذَآ أَدْ َر َكهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنّهُ ل إِلِـاهَ ِإلّ الّذِي آمَ َنتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِي َ‬
‫ا ْلمُسِْلمِينَ }[يونس‪.]90 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإذا كان موسى ـ عليه السلم ـ قد دعا على قوم فرعون‪ ،‬فقد سبقه نوح عليه السلم في مثل‬
‫هذا الدعاء مما أورده القرآن في قوله‪:‬‬
‫علَى الَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارا * إِ ّنكَ إِن َتذَرْهُمْ ُيضِلّواْ عِبَا َدكَ وَلَ يَلِدُواْ ِإلّ فَاجِرا‬
‫ب لَ تَذَرْ َ‬
‫{ ّر ّ‬
‫َكفّارا }[نوح‪26 :‬ـ ‪.]27‬‬
‫عوَ ُت ُكمَا فَاسْ َتقِيمَا {‬
‫واستجاب الحق سبحانه لدعوة موسى عليه السلم‪ } .‬قَالَ َقدْ ُأجِي َبتْ دّ ْ‬

‫(‪)1439 /‬‬

‫عوَ ُت ُكمَا فَاسْ َتقِيمَا وَلَا تَتّ ِبعَانّ سَبِيلَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ (‪)89‬‬
‫قَالَ َقدْ ُأجِي َبتْ دَ ْ‬

‫عوَ ُت ُكمَا } [يونس‪:‬‬


‫ويلحظ أن الذي دعا هو موسى عليه السلم‪ ،‬ولكن قوله سبحانه‪ { :‬قَدْ ُأجِي َبتْ دّ ْ‬
‫‪ ]89‬يدل على أن هارون ـ عليه السلم ‪ ،‬قد دعا مع موسى‪.‬‬
‫وقد قلنا من قبل‪ :‬إننا إن نظرنا إلى الصالة في الرسالة لوجدنا موسى ـ عليه السلم ـ هو‬
‫الصيل فيها‪ ،‬وجاء هارون ليشد عضده‪ ،‬وإن نظرنا إلى طبيعة الثنين فكل منهما رسول‪،‬‬
‫والثنان لهما رسالة واحدة‪.‬‬
‫وما دام الحق سبحانه قد ارسل الثنين لمهمة واحدة‪ ،‬فإن انفعل واحد منهما لشيء فل بد أن ينفعل‬
‫الخر لنفس الشيء؛ لذلك فل يوجد ما يمنع أن هارون ساعة سمع أخاه داعيا بمثل هذا الدعاء‪ ،‬قد‬
‫دعا هو أيضا بالدعاء نفسه‪ ،‬أو أنه ـ أي‪ :‬هارون ـ قد دعا بهذا الدعاء سِرّا‪.‬‬
‫والدعاء معناه‪ :‬أنك تفزع إلى من يقدر على تحقيق ما ل تقدر عليه‪ ،‬فأنت ل تدعو إل في أمر‬
‫عَ ّزتْ عليك أسبابه؛ فتقول‪ :‬إن لي ربّا أومن به‪ ،‬وهو يقدر على السباب لنه خالق السباب‪،‬‬
‫وقادر على أن يعطى بل أسباب‪ ،‬والمؤمن الحق يستقبل الحداث‪ ،‬ل بأسبابه‪ ،‬ولكن بقدرة مَنْ آمن‬
‫به‪ ،‬وهو المسّبب العلى سبحانه‪.‬‬
‫ولذلك تجد موسى عليه السلم ومعه قومه حين وصلوا إلى شاطىء البحر‪ ،‬وكان من خلفهم قوم‬
‫فرعون يطاردونهم‪ ،‬فقال قوم موسى‪:‬‬
‫{ إِنّا َلمُدْ َركُونَ }[الشعراء‪.]61 :‬‬
‫فَرَدّ موسى عليه السلم‪:‬‬
‫{ كَلّ إِنّ َم ِعيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء‪.]62 :‬‬
‫أي‪ :‬ل ترتّبوا المر بترتيب البشر؛ لن معي رب البشر‪ ،‬فجاءه النقاذ‪:‬‬
‫طوْدِ ا ْلعَظِيمِ }[الشعراء‪:‬‬
‫{ فََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ الْ َبحْرَ فَانفَلَقَ َفكَانَ ُكلّ فِرْقٍ كَال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]63‬‬
‫إذن‪ :‬فالدعاء إنما يكون فزعا إلى من يقدر على أمر ل تقدر عليه‪.‬‬
‫والموضوع الذي كان يشغل موسى وهارون عليهما السلم هو بقاء آل فرعون على ضللهم‬
‫وإصرارهم على إضلل غيرهم‪ ،‬فل بد أن يدعو كل منهما نفس الدعاء‪ ،‬ومثل هذا نجده في غير‬
‫الرسل ونسميه " التخاطر " ‪ ،‬أي‪ :‬التقاء الخواطر في لحظة واحدة‪.‬‬
‫ومثال ذلك في التاريخ السلمي‪ ،‬لحظة أن كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي ال عنه مشغولً‬
‫بالتفكير في جيش المسلمين المقاتل في إحدى المعارك‪ ،‬وكان عمر في المدينة يخطب على المنبر‪،‬‬
‫فإذا به يقول فجأة‪ " :‬يا سارية الجبل " وهي كلمة ل موضع لها في منطق الخطبة‪ ،‬ولكن كان‬
‫فكره مشغولً بالقائد الذي يحارب‪ ،‬وسمع القائد ـ وهو على البعد ‪ ،‬المر؛ فانحاز إلى الجبل‪.‬‬
‫ويقال في هذه المسألة‪ :‬إن الخاطر قد شغل مع الخاطر‪ ،‬مثلما تطلب أحدا في الهاتف فيرد عليك‬
‫الشخص الذي تريد الكلم معه قائلً‪ :‬لقد كنت على وشك أن أتصل بك هاتفيّا‪ ،‬وهذا يعني أن‬
‫الخاطرين قد انضبطا معا‪.‬‬

‫وإذا كان هذا ما يحدث في حياتنا العادية‪ ،‬فما بالنا بما يحدث في المور الصفائية؛ وفي أرقى‬
‫درجاتها وهي النبوة؟‬
‫أو أن الذي دعا هو موسى وما كان هارون إل مؤمّنا‪ ،‬والمؤمّن هو أحد الداعيين‪ ،‬وما دام الحق‬
‫سبحانه قد قَبِل دعوة موسى عليه السلم‪ ،‬فقد قَبِل أيضا دعوة المؤمّن معه‪.‬‬
‫ويظن بعض الناس أن إجابة الدعوة هي تحقيق المطلوب فور الدعاء‪ ،‬ولكن الحقيقة أن إجابة‬
‫الدعوة هي موافقة على الطلب‪ ،‬أما ميعاد إنجاز الطلب‪ ،‬فقد يتأجل بعض الوقت‪ ،‬مثلما حدث مع‬
‫دعوة موسى عليه السلم على فرعون وملئه‪ ،‬فحين دعا موسى‪ ،‬وأمّن هارون‪ ،‬جاءت إجابة‬
‫عوَ ُتكُمَا { [يونس‪ ]89 :‬بعد أربعين عاما‪ ،‬ويحقق ال سبحانه الطمس على‬
‫الدعاء‪َ } :‬قدْ أُجِي َبتْ دّ ْ‬
‫المال‪.‬‬
‫فالسماء ليست موظفة عند من يدعو‪ ،‬وتقبل أي دعاء‪ ،‬ولكن قبول الدعوة يقتضي تحديد الميعاد‬
‫الذي تنفذ فيه‪.‬‬
‫وهذه أمور من مشيئة ال سبحانه؛ فالحق سبحانه وتعالى منزّه عن أن يكون منفّذا لدعاء ما‪ ،‬ولكنه‬
‫هو الذي بيده مقاليد كل أمر‪ ،‬فإذا ما أجيبت دعوة ما‪ ،‬فهو سبحانه بمشيئته يضع تنفيذ الدعوة في‬
‫الميعاد الملئم؛ لنها لو أجيبت على الفور فقد تضر‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى هو القائل‪:‬‬
‫عجُولً }[السراء‪.]11 :‬‬
‫ن الِنْسَانُ َ‬
‫ع الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِالْخَيْ ِر َوكَا َ‬
‫{ وَيَ ْد ُ‬
‫لذلك يحدد الحق سبحانه ميعاد تطبيق الدعوة في مجال التنفيذ والواقع‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهو سبحانه وتعالى يقول‪:‬‬
‫{ سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَ تَسْ َت ْعجِلُونِ }[النبياء‪.]37 :‬‬
‫والنسان يعرف أنه قد يكون قد دعا بأشياء‪ ،‬فحقق ال سبحانه الدعاء وكان شرّا‪ ،‬وكم من شيء‬
‫يدعو به النسان ولم يحققه ال تعالى وكان عدم تحقيقه خيرا‪.‬‬
‫إذنك فالقدرة العليا رقيبة علينا‪ ،‬وتعلم ما في صالحنا؛ لننا لسنا آلهة تأمر بتنفيذ الدعوات‪ ،‬بل‬
‫فوقنا الحكيم العلى سبحانه‪:‬‬
‫ولذلك نقول في بيان قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِت ْعجَاَلهُمْ بِا ْلخَيْرِ َل ُقضِيَ إِلَ ْيهِمْ أَجَُل ُهمْ }[يونس‪.]11 :‬‬
‫{ وََلوْ ُيعَ ّ‬
‫لن النسان قد يدعو بالشر على نفسه‪ ،‬أل تسمع أمّا تدعو على ابنها أو ابنتها رغم حبها لهما‪ ،‬فلو‬
‫استجاب ال لدعائها على أولدها الذين تحبهم أليس في ذلك شر بالنسبة للم‪.‬‬
‫والولد قد يقول لمه مغاضبا‪ :‬يا رب تحدث لي حادثة؛ حتى تستريحي مني‪ .‬ف َهبْ أن ال استجاب‬
‫لهذا الدعاء‪ ،‬أيرضي ذلك من دعا على نفسه أو يرضي أمه؟‬
‫طبعا ل؛ فإذا كان ال سبحانه قد أبطأ عليك بدعاء الشر فهذا خير لك‪ ،‬فعليك أن تأخذ إبطاء ال‬
‫سبحانه عليك بدعاء الخير على أنه خير لك‪.‬‬
‫ولذلك شاء الحق سبحانه أن يقول لموسى وهارون عليهما السلم‪:‬‬
‫ن لَ َيعَْلمُونَ { [يونس‪.]89 :‬‬
‫عوَ ُتكُمَا فَاسْ َتقِيمَا َولَ تَتّ ِبعَآنّ سَبِيلَ الّذِي َ‬
‫} َقدْ أُجِي َبتْ دّ ْ‬
‫أي‪ :‬ابقيا على الطريق السوي‪ ،‬ول ُتدْخِل نفسيكما فيما ل علم لكما به‪ .‬أليس الحق سبحانه هو‬
‫حكَمُ ا ْلحَا ِكمِينَ * قَالَ‬
‫ن وَعْ َدكَ ا ْلحَقّ وَأَنتَ َأ ْ‬
‫القائل‪ {:‬وَنَادَى نُوحٌ رّبّهُ َفقَالَ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَ ْهلِي وَإِ ّ‬
‫ظكَ أَن َتكُونَ‬
‫ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ فَلَ َتسْئَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ إِنّي أَعِ ُ‬
‫يانُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ‬
‫مِنَ الْجَاهِلِينَ }[هود‪45 :‬ـ ‪.]46‬‬
‫أي‪ :‬كُنْ مؤدّبا مع ربك حين تدعو وتنفّس عن نفسك‪ ،‬و َدعْ لحكمة الحكيم الجابة أو عدمها‪ ،‬وقد‬
‫تكون الجابة فورية أو مؤجّلة إلى حين أوانها‪ ،‬وكلهما خير‪.‬‬
‫عوْنُ وَجُنُودُه {‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬وجَاوَزْنَا بِبَنِي ِإسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْ َب َعهُمْ فِرْ َ‬

‫(‪)1440 /‬‬

‫عوْنُ وَجُنُو ُدهُ َبغْيًا وَعَ ْدوًا حَتّى ِإذَا أَدْ َر َكهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ َآمَ ْنتُ‬
‫وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْ َب َعهُمْ فِرْ َ‬
‫ل وَأَنَا مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ (‪)90‬‬
‫أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا الّذِي َآمَ َنتْ ِبهِ بَنُو إِسْرَائِي َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } [يونس‪ ]90 :‬لن الجتياز لم يكن بأسباب بشرية‪ ،‬بل بفعل‬
‫يخرج من أسباب البشر‪ ،‬فلو أن موسى عليه السلم قد حفر نفقا تحت الماء‪ ،‬أو لو كان قد ركب‬
‫سفنا هو وقومه لكان لهم مشاركة في اجتياز البحر‪ ،‬لكن المجاوزة كانت بأسباب غير ملوحظة‬
‫بالنسبة للبشر‪ ،‬فالحق سبحانه هو الذي أوحى لموسى‪:‬‬
‫{ أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ الْبَحْرَ }[الشعراء‪.]63 :‬‬
‫ومياه البحر كأية مياه أخرى تخضع لقانون السيولة‪ ،‬والستطراق هو وسيلة السيولة‪ ،‬وهي عكس‬
‫التجمد الذي يتسم بالتحيز‪.‬‬
‫والستطراق هو الذي قامت عليه أساليب نقل المياه من صهاريج المياه التي تكون في الغلب‬
‫أعلى من طول أي منزل‪ ،‬ويتم ضخ المياه إليها؛ لتتوزع من بعد ذلك حسب نظرية الواني‬
‫المستطرقة على المنازل‪ ،‬أما إذا كانت هناك بناية أعلى طولً من الصهريج‪ ،‬هنا يقوم سكان‬
‫المبنى بتركيب مضخة لرفع المياه إلى الدوار العالية‪.‬‬
‫وإذا كان قانون البحر هو السيولة والستطراق‪ ،‬فكيف يتم قطع هذا الستطراق؟‬
‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫طوْدِ ا ْل َعظِيمِ }[الشعراء‪.]63 :‬‬
‫{ فَانفَلَقَ َفكَانَ ُكلّ فِرْقٍ كَال ّ‬
‫فكيف تحول الماء إلى جبال يفصل بينها سراديب وطرق يسير فيها موسى عليه السلم وقومه؟‬
‫كيف يسير موسى وقومه مطمئنين؟‬
‫ل بد أنها معية ال سبحانه التي تحميه‪ ،‬وهي تفسير لقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ إِنّ َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء‪.]62 :‬‬
‫ورغم ذلك يتبعهم فرعون وجنوده لعله يدركهم‪ ،‬وأراد سيدنا موسى ـ عليه السلم ـ بمجرد‬
‫نجاحه في العبور هو وقومه أن يضرب البحر بعصاه؛ ليعود إلى قانون السيولة‪ ،‬ولو فعل ذلك لما‬
‫سمح لفرعون وجنوده أن يسيروا في الممرات التي بين المياه التي تحولت إلى جبال‪ ،‬ولكن ال ـ‬
‫سبحانه وتعالى ـ يريد غير ذلك‪ ،‬فقد أراد الحق سبحانه أن ينجي ويهلك بالشيء الواحد‪ ،‬فأوحى‬
‫لموسى عليه لسلم‪:‬‬
‫{ وَاتْ ُركِ الْ َبحْرَ رَهْوا إِ ّنهُمْ جُندٌ ّمغْ َرقُونَ }[الدخان‪.]24 :‬‬
‫أي‪ :‬اترك البحر على حاله؛ فينخدع فرعون وجنوده‪ ،‬وما إن ينزل آخر جندي منهم إلى الممر‬
‫بين جبال الماء؛ سيعود البحر إلى حالة السيولة فيغرق فرعون وجنوده‪ ،‬وينجو موسى وقومه‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ن وَجُنُو ُدهُ } [يونس‪.]90 :‬‬
‫عوْ ُ‬
‫{ فَأَتْ َب َعهُمْ فِرْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهل كان هذا التباع دليل إرادة الشر؟‬
‫أكان من الممكن أن تكون نية الفرعون أن يدعو موسى وقومه إلى العودة إلى مصر ليستقروا‬
‫فيها؟‬
‫ل‪ ،‬لم تكن هذه نية الفرعون؛ لذلك قال الحق سبحانه عن هذا التباع‪َ { :‬بغْيا وَعَدْوا } [يونس‪:‬‬
‫‪.]90‬‬
‫أي‪ :‬أنه اتباع رغبة في النتقام والذلل والعدوان‪.‬‬
‫ويصور القرآن الكريم لحظة غرق فرعون بقوله‪:‬‬
‫{ حَتّىا إِذَآ أَدْ َر َكهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ آمَنتُ } [يونس‪.]90 :‬‬
‫والدراك‪ :‬قصد للمدرك أن يلحق بالشيء‪ ،‬والغرق معنى‪ ،‬فكيف يتحول المعنى إلى شيء يلحق‬
‫الفرعون؟‬
‫نعم‪ ،‬فكأن الغرق جندي من الجنود‪ ،‬وله عقل ينفعل؛ فيجري إلى الحداث‪:‬‬
‫ل وَأَنَاْ مِنَ‬
‫{ حَتّىا إِذَآ أَدْ َر َكهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنّهُ ل إِلِـاهَ ِإلّ الّذِي آمَ َنتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِي َ‬
‫ا ْلمُسِْلمِينَ } [يونس‪.]90 :‬‬

‫واليمان إذا أطلق فهو اليمان بالقوة العليا‪ ،‬بدليل أن الحق سبحانه وتعالى قد قال‪:‬‬
‫ت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ َأسَْلمْنَا }[الحجرات‪.]14 :‬‬
‫{ قَاَل ِ‬
‫لن اليمان يتطلب انقياد القلب‪ ،‬والسلم يقتضي اتباع أركان السلم‪ ،‬فاليمان كما قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬قل آمنت بال ثم استقم "‪ .‬وفي هذا القول ذكر محدد بأن اليمان إنما‬
‫يكون ل العلى‪.‬‬
‫لكن لو قلت ـ مثلً‪ " :‬آمنت أنك رجل طيب " فهذا إيمان له متعلق‪ ،‬أما إذا ُذكِر اليمان بإطلق‬
‫فهو ينصرف إلى اليمان بال تعالى؛ ولذلك قال ال سبحانه للعراب‪:‬‬
‫{ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسَْلمْنَا }[الحجرات‪.]14 :‬‬
‫وهنا يأتي القول على لسان فرعون‪:‬‬
‫ل وَأَنَاْ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ { [يونس‪.]90 :‬‬
‫} آمَنتُ أَنّهُ ل إِلِـاهَ ِإلّ الّذِي آمَ َنتْ ِبهِ بَنواْ إِسْرَائِي َ‬
‫والخلف هنا كان بين الفرعون كجهة كفر‪ ،‬وبين موسى وهارون وقومهما كجهة إيمان‪ ،‬وأعلن‬
‫فرعون إيمانه‪ ،‬وقال أيضا‪:‬‬
‫} وَأَنَاْ مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ { [يونس‪.]90 :‬‬
‫عصَ ْيتَ قَ ْبلُ {‬
‫ن َوقَدْ َ‬
‫ولم يقبل ال ذلك منه بدليل قوله الحق سبحانه‪ } :‬آل َ‬

‫(‪)1441 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل َوكُ ْنتَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ (‪)91‬‬
‫عصَيْتَ قَ ْب ُ‬
‫ن َوقَدْ َ‬
‫آَلْآَ َ‬

‫وهذا يعني‪ :‬أتقول إنك آمنت الن وإنك من المسلمين‪ .‬إن قولك هذا مردود؛ لنه جاء في غير‬
‫وقته‪ ،‬فهناك فرق بين إيمان الجْبار وإيمان الختيار‪ ،‬أتقول الن آمنت وأنت قد عصيت من قبل‪،‬‬
‫وكنت تفسد في الرض‪.‬‬
‫وكان من الممكن أن يقبل ال سبحانه منه إيمانه وهو في نجوة بعيدة عن الشر الذي حاق به‪.‬‬
‫فالحق سبحانه ل يقبل إيمان أحد بلغت روحه الحلقوم‪ ،‬فهذا إيمان إجبار‪ ،‬ل إيمان اختيار‪.‬‬
‫ولو كان المطلوب إيمان الجبار لجبر الحق سبحانه الخلق كلهم على أن يؤمنوا‪ ،‬ولما استطاع‬
‫أحد أن يكفر بال تعالى‪ ،‬وأمامنا الكون كله خاضع لمره ال ـ سبحانه وتعالى ـ ول يتأبى فيه‬
‫أحد على ال تعالى‪.‬‬
‫وقدرة الحق ـ عز وجل ـ المطلقة قادرة على إجبار البشر على اليمان‪ ،‬لكنها تثبت طلقة‬
‫القدرة‪ ،‬ول تثبت المحبوبية للمعبود‪.‬‬
‫وهذه المحبوبية للمعبود ل تثبت إل إذا كان لك خيار في أن تؤمن أو ل تؤمن‪ .‬وال سبحانه يريد‬
‫إيمان الختيار‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمردود من فرعون ليس القول‪ ،‬ولكن زمن القول‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إنها رُ ّدتْ ولم تُقبل ـ رغم أنه قالها ثلث مرات ـ لن قوم موسى في ذلك الوقت كانوا‬
‫قد دخلوا في مرحلة التجسيم لذات ال وادعوا ـ معاذ ال ـ أن ال ـ تعالى عما يقولون ـ جلس‬
‫على صخرة وأنزل ِرجْليه في حوض ماء‪ ،‬وكان يلعب مع الحوت‪ ..‬إلى آخر الخرافات التي‬
‫ابتدعها بنو إسرائيل‪.‬‬
‫وحين أعلن فرعون أنه آمن بالله الذي آمنت به بنو إسرائيل‪ ،‬فهذا يعني أنه لم يؤمن بالله الحق‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { .‬فَالْ َي ْومَ نُنَجّيكَ بِ َبدَ ِنكَ لِ َتكُونَ ِلمَنْ خَ ْل َفكَ }‬

‫(‪)1442 /‬‬

‫فَالْ َيوْمَ نُنَجّيكَ بِ َبدَ ِنكَ لِ َتكُونَ ِلمَنْ خَ ْل َفكَ آَ َي ًة وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا َلغَافِلُونَ (‪)92‬‬

‫ونحن نعرف أن النسان مكوّن من بدن‪ ،‬وهو الهيكل المادي المصوّر على تلك الصورة التي‬
‫نعرفها‪ ،‬وهناك الروح التي في البدن‪ ،‬وبها تكون الحركة والحياة‪.‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وساعة نقول‪ " :‬بدن " ‪ ،‬فافهم أنها مجردة عن الروح‪ ،‬مثلما نقول‪ :‬جسد‪ .‬وإذا أطلقت كلمة " جسد‬
‫" فمعناها الهيكل المادي المجرد من الروح‪.‬‬
‫والحق سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫جسَدا }[ص‪.]34 :‬‬
‫{ وََلقَدْ فَتَنّا سُلَ ْيمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىا كُرْسِيّهِ َ‬
‫وكان سيدنا سليمان ـ عليه السلم ـ يستمتع بما آتاه ال سبحانه من الملك ما ل ينبغي لحد من‬
‫بعده‪ ،‬وسخّر له الجن والرياح وعلّمه كل اللغات‪ ،‬وكان صاحب الوامر والنواهي والهيمنة‪ ،‬ثم‬
‫وجد نفسه قاعدا على كرسيه بل حراك وبل روح‪ ،‬ويقدر عليه أي واحد من الرعية‪ ،‬ثم أعاد ال‬
‫له روحه إلى جسده‪ ،‬وهو ما يقوله الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ ُثمّ أَنَابَ }[ص‪.]34 :‬‬
‫أي‪ :‬أنه أفاق لنفسه‪ ،‬فعلم أن كل ما يملكه هو أمر مُفاضٌ عليه‪ ،‬ل أمر نابع من ذاته‪.‬‬
‫وهنا في الية الكريمة التي نحن بصددها الن يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ فَالْ َيوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَ ِنكَ لِ َتكُونَ ِلمَنْ خَ ْل َفكَ آيَةً } [يونس‪.]92 :‬‬
‫وبالِ‪ ،‬لو لم يأمر الحق البحر بأن يلفظ جثمان فرعون‪ ،‬أما كان من الجائز أن يقولوا‪ :‬إنه إله‪،‬‬
‫وإنه سيرجع مرة أخرى؟‬
‫ولكن الحق سبحانه قد شاء أن يلفظ البحر جثمانه كما يلفظ جيفة أي حيوان غارق؛ حتى ل يكون‬
‫هناك شك في أن هذا الفرعون قد غرق‪ ،‬وحتى ينظر من بقي من قومه إلى حقيقته‪ ،‬فيعرفوا أنه‬
‫مجرد بشر‪ ،‬ويصبح عبرة للجميع‪ ،‬بعد أن كان جبارا مسرفا طاغية يقول لهم‪:‬‬
‫{ مَا عَِل ْمتُ َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي }[القصص‪.]38 :‬‬
‫وبعض من باحثي التاريخ يقول‪ :‬إن فرعون المقصود هو " تحتمس " ‪ ،‬وإنهم حلّلوا بعضا من‬
‫حثمانه‪ ،‬فوجدوا به آثار مياه مالحة‪.‬‬
‫ونحن نقول‪ :‬إن فرعون ليس اسما لشخص‪ ،‬بل هو توصيف لوظيفة‪ ،‬ولعل أجساد الفراعين‬
‫المحنطه تقول لنا‪ :‬إن علة حفظ البدان هي عبرة؛ وليتعظ كل إنسان ويرى كيف انهارت‬
‫الحضارات‪ ،‬وكيف بقيت تلك البدان آية نعتبر بها‪.‬‬
‫وقد تعرض القرآن لمسألة الفرعون‪ ،‬فقال الحق سبحانه‪:‬‬
‫لوْتَادِ }[الفجر‪.]10 :‬‬
‫عوْنَ ذِى ا َ‬
‫{ َوفِرْ َ‬
‫ويقول سبحانه في نفس السورة عن كل جبار مفسد‪:‬‬
‫{ إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ }[الفجر‪.]14 :‬‬
‫ونلحظ أن كلم الحق سبحانه عن فرعون في سورة الفجر كان كلما يضمّ إلى جانب حضارة‬
‫الفراعنة حضارات أخرى قديمة‪ ،‬مثل حضارة عاد وحضارة ثمود‪.‬‬
‫وكذلك تكلم الحق سبحانه عن الفرعون في أثناء لقطات قصة موسى عليه السلم‪ ،‬ولكن الكلم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يختلف في قصة يوسف عليه السلم‪ ،‬فل تأتي وظيفة الفرعون‪ ،‬بل يحدثنا الحق سبحانه عن‬
‫وظائف أخرى‪ ،‬هي وظية " عزيز مصر " ـ أي‪ :‬رئيس وزرائها ـ ويحدثنا ال سبحانه عن ملك‬
‫مصر بقوله‪:‬‬

‫{ َوقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي ِبهِ }[يوسف‪.]50 :‬‬


‫ولم ُيكْتَشَف الفارق بين وظيفة " الفرعون " ووظيفة " الملك " في التاريخ المصري إل بعد أن‬
‫جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر وفك " شامبليون " رموز اللغة الهيروغليفيه من خلل نقوش‬
‫حجر " رشيد " ‪ ،‬فعرفنا أن حكام مصر القديمة كانوا يسمون " الفراعنة " إل في فترة كانت فيها‬
‫مصر تحت حكم " ملوك الرعاة " أو " الهكسوس " الذين أغاروا على مصر‪ ،‬وحكموها حكما‬
‫ملكيا وقضوا على حكم الفراعنة‪ ،‬ثم عاد الفراعنة إلى حكم مصر بعد أن خلصوها من سيطرة "‬
‫الهكسوس "‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن إشارة القرآن في قصة يوسف ـ عليه السلم ـ كانت إلى الملك‪ ،‬ولم يأت فيها‬
‫بذكر فرعون‪ ،‬وهذا دليل على أن القرآن قد سبق بعلمه أي اكتشاف‪ ،‬وكلما جاء اكتشاف جديد أو‬
‫ابتكار حقيقي‪ ،‬نجده يؤيد كتاب ال‪.‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله‪:‬‬
‫} وَإِنّ كَثِيرا مّنَ النّاسِ عَنْ آيَاتِنَا َلغَافِلُونَ { [يونس‪.]92 :‬‬
‫وهذا القول يوضح أن هناك من يغفل عن اليات‪ ،‬وهناك من ل يغفل عنها‪ ،‬وينظر إلى تلك‬
‫اليات ويتأملها ويتدبرها‪ ،‬ويتساءل عن جدوى كل شيء‪ ،‬فيصل إلى ابتكارات واختراعات ينتفع‬
‫بها النسان‪ ،‬أّذِن بميلدها عند البحث عنها؛ لتستبين عظمة ال في خلقه‪.‬‬
‫وحين ينظر النسان في تلك البتكارات سيجدها وليدة أفكار مَنْ نظروا بإمعان‪ ،‬وامتلكوا قدرة‬
‫الستنباط‪ ،‬ولو لم يغفل الناس عن النظر في آيات الكون‪ ،‬والسموات والرض‪ ،‬لزادت البتكارات‬
‫والختراعات‪ ،‬والحق سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪.]105 :‬‬
‫{ َوكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي ال ّ‬
‫وحين ننظر إلى مكتشف قانون الجاذبية " نيوتن " الذي رأى ثمرة تفاح تسقط من شجرتها‪ ،‬نجد‬
‫أن هناك عشرات اللف أوالمليين من البشر شاهدوا من قبله مشهد سقوط ثمرة من على شجرة‪،‬‬
‫ولكن نيوتن وحده هو الذي تفكر وتدبر ما يحدث أمامه إلى أن أهتدى إلى اكتشاف قانون‬
‫الجاذبية‪.‬‬
‫وجاء من بعد نيوتن من بنى سفن القضاء التي تستفيد من هذا القانون وغيره‪.‬‬
‫صمّم الغواصات‪ ،‬والبواخر العملقة التي تشبه المدن العائمة‪ ،‬هؤلء اعتمدوا على‬
‫وكذلك نجد من َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من اكتشف قانون " الطفو " وقاعدة " أرشميدس " الذي لحظ أنه كلما غطس شيءٌ في المياه‪،‬‬
‫ارتفع الماء بنفس حجم الشيء الغاطس فيه‪.‬‬
‫كل هؤلء اكتشفوا ـ ولم يخلقوا ـ أسرارا كانت موجودة في الكون‪ ،‬وهم تميّزوا بالنتباه لها‪.‬‬
‫وكذلك العالم الذي اكتشف " البنسلين " قد لحظ أن أصيصا من المواد العضوية كانت تنزل منه‬
‫قطرات من الماء العفن‪ ،‬ورأى الحشرات التي تقترب من هذا الماء تموت‪ ،‬فأخذ عينة من هذا‬
‫العفن وأخذ يُجري عليها بعض التجارب في معمله إلى أن اكتشف " البنسلين "‪.‬‬

‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬


‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪.]105 :‬‬
‫{ َوكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي ال ّ‬
‫فكأنهم لو لم يعرضوا لستنبطوا من آيات الكون الشيء الكثير‪.‬‬
‫وكذلك القصص التي تأتي في القرآن‪ ،‬إنما جاءت ليعتبر الناس ويتأملوا‪ ،‬فحين يرسل ال رسولً‬
‫مؤيّدا بمعجزة منه ل يقدر عليها البشر؛ فعلى الناس أن يسلّموا ويقولوا‪ " :‬آمنا " ‪ ،‬ل أن يظلوا في‬
‫حالة إعادة للتجارب السابقة؛ لن ارتقاءات البشر في المور المادية قد تواصلت؛ لن كل جيل‬
‫من العلماء يأخذ نتائج العلم التي توصل إليها مَنْ سبقوه‪ ،‬فلماذا ل يحدث هذا في المور العقدية؟‬
‫ولو أن الناس بدأوا من حيث انتهى غيرهم؛ لوجدنا الكل مؤمنا بال تعالى‪ ،‬ولخذ كل مولود المر‬
‫من حيث انتهى أبوه‪ ،‬ولَوصَل خير آدم إلى كل من وُلِدَ بعد ذلك‪ ،‬لكن آفة البشر أن النسان يريد‬
‫أن يجرب بنفسه‪.‬‬
‫ونحن نجد ذلك في أمور ضارة مثل‪ :‬الخمر‪ ،‬نجدها ضارة لكل من يقرب منها‪ ،‬فإذا حرّمها الدين‬
‫وجدنا من يتساءل‪ :‬لماذا تُحرّم؟‬
‫وكذلك التدخين؛ نجد من يجربه رغم أن التجارب السابقة أثبتت أضراره البالغة‪ ،‬ولو أخذ كل‬
‫إنسان تجارب السابقين عليه؛ فهو يصل عمره بعمر الخرين‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وََلقَدْ َبوّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُ َبوَّأ صِ ْدقٍ {‬

‫(‪)1443 /‬‬

‫ق وَرَ َزقْنَاهُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ َفمَا اخْتََلفُوا حَتّى جَاءَ ُهمُ ا ْلعِلْمُ إِنّ رَ ّبكَ‬
‫وَلَقَدْ َبوّأْنَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ مُ َبوّأَ صِ ْد ٍ‬
‫َيقْضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ (‪)93‬‬

‫وكلمة " تبوأ " تعني إقامة مباءة أي‪ :‬البيوت التي يكون فيها السكن الخاص‪ ،‬وإذا أطلقت كلمة "‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مبوأ " فهي تعني القليم أو الوطن‪.‬‬
‫والوطن أنت تتحرك فيه وكذلك غيرك‪ ،‬أما البيت فهو للنسان وأسرته كسكن خاص‪.‬‬
‫أما الثري فقد يكون له جناح خاص في البيت‪ ،‬وقد يخصص الثريّ في منزله جناحا لنفسه‪ ،‬وآخر‬
‫لولده وثالثا لبنته‪.‬‬
‫أما غالبية الناس فكل أسرة تسكن في " شقة " قد تتكون من غرفة أو اثتنتين أوثلثة حسب‬
‫إمكانات السرة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فيوجد فرق بين تبؤّء البيوت وتبوء المواطن‪ ،‬فتبؤّء المواطن هو الوطن‪.‬‬
‫وسبق أن قال الحق سبحانه لموسى وهارون عليهما السلم‪:‬‬
‫{ أَن تَ َبوّءَا ِل َقوْ ِم ُكمَا ِب ِمصْرَ بُيُوتا }[يونس‪.]87 :‬‬
‫هذا في التبوء الخاص‪ ،‬أما في التبوء العام فهو يحتاج إلى قدرة الحق تعالى‪ ،‬وهو سبحانه يقول‬
‫هنا‪:‬‬
‫{ وََلقَدْ َبوّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُ َبوَّأ صِ ْدقٍ } [يونس‪.]93 :‬‬
‫والحق سبحانه أتاح لهم ذلك في زمن موسى ـ عليه السلم ـ وأتاح لهم السكن في مصر‬
‫والشام‪ ،‬وهو سبحانه القائل‪:‬‬
‫حوْلَهُ }‬
‫ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫سجِ ِد ا َ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ‬
‫{ سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَ ْب ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ‬
‫[السراء‪.ٍ]1 :‬‬
‫وما دام الحق سبحانه قد بارك حول فل بد أن فيه خيرا كثرا‪ ،‬ول بد أن تكون الرض التي حوله‬
‫مُبوّا صدق‪.‬‬
‫وكلمة " الصدق " تعني جماع الخير والبر؛ " ولذلك نجد الرسول صلى ال عليه وسلم حينما سئل‪:‬‬
‫أيكون المؤمن جبانا؟ قال‪ " :‬نعم " وحين سئل‪ :‬أيكون المؤمن بخيلً؟ قال‪ " :‬نعم "‪ .‬وحين سئل‬
‫أيكون المؤمن كذابا؟ قال‪ " :‬ل "‪.‬‬
‫ولذلك فأنت تجد في السلم عقوبة على الزنا‪ ،‬وعقوبة تقام على السارق‪ ،‬أما الكذب فهو خصلة‬
‫ل يقربها المسلم؛ لن عليه أن يكون صادقا‪ .‬وكل خصال الخير هي مُبوّأَ الصدق‪.‬‬
‫ولذلك نجد قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ج صِدْقٍ }[السراء‪.]80 :‬‬
‫ق وَأَخْ ِرجْنِي ُمخْرَ َ‬
‫ل صِ ْد ٍ‬
‫خَ‬‫{ َوقُل ّربّ أَ ْدخِلْنِي ُمدْ َ‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُواْ أَنّ َلهُمْ قَ َد َم صِ ْدقٍ عِندَ رَ ّب ِهمْ }[يونس‪.]2 :‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جعَل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الخِرِينَ }[الشعراء‪.]84 :‬‬
‫{ وَا ْ‬
‫أي‪ :‬اجعل لي ذكرى حسنة فل يقال فلن كان كاذبا‪ ،‬وأما قدم الصدق فهي سوابق الخير التي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يسعى إليها؛ ولذلك كان الجزاء على الصدق هو ما يقول عنه الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ فِي َم ْقعَ ِد صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ ّمقْتَدِرٍ }[القمر‪.]55 :‬‬
‫وهو مقعد عند مليك ل يبخل‪ ،‬ول يجلس في رحابه إل من يحبه‪ ،‬ول يضن بخيره على من هم‬
‫في رحابه‪.‬‬
‫ومقعد الصدق هو جزاء لمن استجاب له ربه فأدخله مدخل صدق‪ ،‬وأخرجه مخرج صدق‪ ،‬وجعل‬
‫له لسان صدق‪ ،‬وقدم صدق‪.‬‬
‫وبعد أن بوّأ الحق سبحانه بني إسرائيل مُبوّا صدق‪ ،‬في مصر والشام‪ ،‬وبعد أن قال لهم‪:‬‬

‫{ اهْبِطُواْ ِمصْرا فَإِنّ َلكُمْ مّا سَأَلْتُمْ }[البقرة‪.]61 :‬‬


‫أي‪ :‬أن الحق سبحانه حقق قوله‪:‬‬
‫} وَرَ َزقْنَا ُهمْ مّنَ الطّيّبَاتِ { [يونس‪.]93 :‬‬
‫وأنجاهم من فرعون‪ ،‬وكان من المفترض أن تستقيم أمورهم‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} َفمَا اخْتََلفُواْ حَتّىا جَآءَهُمُ ا ْلعِلْمُ { [يونس‪.]93 :‬‬
‫والمقصود بذلك هو معرفتهم بعلمات الرسول الخاتم محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومنهم من‬
‫ترقب مجيء النبي صلى ال عليه وسلم ليؤمن به‪ ،‬ومنهم من تمادى في الطغيان؛ لذلك قطّعهم ال‬
‫ـ سبحانه ـ في الرض أمما‪.‬‬
‫وحين ننظر إلى دقة التعبير القرآني نجده يحدد مسألة التقطيع هذه‪ ،‬فهم في كل أمة يمثلون قطعة‪،‬‬
‫أي‪ :‬أنه سبحانه لم ُيذِبْهم في الشعوب‪ .‬بل لهم في كل بلد ذهبوا إليه مكانٌ خاصّ بهم‪ ،‬ول يذَوبون‬
‫في غيرهم‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫سكُنُو ْا الَ ْرضَ }[السراء‪.]104 :‬‬
‫{ َوقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫وقد يقول أحد السطحيين‪ :‬وهل هناك سكن في غير الرض؟‬
‫ونقول‪ :‬لنا أن نلحظ أن الحق سبحانه لم يحدد لهم في أية بقعة من الرض يسكنون‪ ،‬فكأن الحق‬
‫سبحانه قد بيّن ما أصدره من حكم عليهم بالتقطيع في الرض أمما؛ فهو سبحانه القائل‪:‬‬
‫طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما }[العراف‪.]168 :‬‬
‫{ َوقَ ّ‬
‫وإذا كنا نراهم في أيامنا هذه وقد صار لهم وطن‪ ،‬فاعلم أن الحق سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫ن وَلَ َتعْلُنّ عُُلوّا كَبِيرا }[السراء‪:‬‬
‫{ َو َقضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ لَ ُتفْسِدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْ ِ‬
‫‪.]4‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد قال في آخر سورة السراء‪:‬‬
‫سكُنُو ْا الَ ْرضَ فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا }[السراء‪:‬‬
‫{ َوقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫‪.]104‬‬
‫والمجيء بهم لفيفا إنما يعني أن يجمعهم في وطن قومي لتأتي لهم الضربة القاصمة التي ذكرها‬
‫الحق سبحانه في قوله‪:‬‬
‫سجِدَ َكمَا دَخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَلِيُتَبّرُواْ مَا عََلوْاْ‬
‫{ فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ لِ َيسُوءُو ْا وُجُو َهكُ ْم وَلِيَ ْدخُلُواْ ا ْلمَ ْ‬
‫تَتْبِيرا }[السراء‪.]7 :‬‬
‫لننا لن نستطيع أن نحاربهم في كل بلد من البلد التي قطّعهم ال فيها‪ ،‬لكنهم حين يجتمعون في‬
‫مكان واحد‪ ،‬إنما يسهل أن ينزل عليهم قضاء ال‪.‬‬
‫وحين ننظر إلى رحلتهم نجد أن " يثرب " كانت المكان الذي اتسع لهم بعد اضطهادات المجتمعات‬
‫التي دخلوا إليها‪ ،‬وحين اجتمعوا في يثرب صار لهم الجاه؛ لنهم أهل علم‪ ،‬وأهل اقتصاد‪ ،‬وأهل‬
‫حرب‪.‬‬
‫وهم قد اجتمعوا في المدينة؛ لن المخلصين من أهل الكتاب أخبروهم أن هذه المدينة هي المهجر‬
‫لنبي ورسول يأتي من العرب في آخر الزمان؛ فمكثوا فيها انتظارا له‪ ،‬وكانوا يقولون لكفار‬
‫قريش‪ " :‬لقد أظل زمان يأتي فيه نبي نتبعه‪ ،‬ونقتلكم فيه قَتل عاد وإرم "‪.‬‬
‫وكان من المفروض أن يؤمنوا برسالته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لكنه إن أطل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم بنور رسالته حتى أنكروه خوفا على سلطتهم الزمنية‪.‬‬

‫وهو ما تقول عنه الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪:‬‬
‫} َفمَا اخْتََلفُواْ حَتّىا جَآءَهُمُ ا ْلعِلْمُ { [يونس‪.]93 :‬‬
‫أي‪ :‬أن علمهم بمجيء الرسول صلى ال عليه وسلم هو مصدر اختلفهم‪ ،‬فمنهم من سمعوا‬
‫إشارات عنه صلى ال عليه وسلم وعرفوا علماته صلى ال عليه وسلم؛ فآمنوا به‪ ،‬ومنهم من لم‬
‫يؤمن به‪.‬‬
‫وهم لم يختلفوا من قبل وكانوا متفقين‪ ،‬وتوعّدوا المشركين من قريش‪ .‬وما إن أهلّ الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم به " الوس " و " الخزرج " أنه رسول من ال تعالى قد ظهر بمكة‪ ،‬فقالت الوس‬
‫و الخزرج‪ :‬إنه النبي الذي توعّدتنا به يهود‪ ،‬فهيا بنا لنذهب ونسبقهم إليه قبل أن يسبقونا‪ ،‬فيقتلونا‬
‫به‪.‬‬
‫فكأن اليهود هم الذين تسببوا في هجرة النبي صلى ال عليه وسلم إلى المدينة؛ لن الوس‬
‫والخزرج سبقوهم إليه؛ وهذا لنعلم كيف ينصر ال تعالى دينه بأعدائه‪.‬‬
‫ولذلك نجد أنهم في اختلفهم " يأتي عبد ال بن سلم إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن اليهود قوم ُب ْهتٌ‪ ،‬وإذا أنا آمنت بك يا رسول ال سيقولون فيّ ما يسيء إليّ؛ لذلك فقبل أن‬
‫أعلن إسلمي اسألهم عنّي‪.‬‬
‫وكان ابن سلم في ذلك يسلك سلوكا يتناسب مع كونه يهوديا‪ ،‬ولما اجتمع معشر اليهود‪،‬سألهم‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم وقال‪ :‬ما تقولون في ابن سلم؟‬
‫قالوا‪ :‬حَبْرُنا وشيخنا وهو الورع فينا‪ ،‬وبعد أن أثنوا عليه ثناء عظيما‪ ،‬قال ابن سلم‪ :‬يا رسول‬
‫ال أشهد أن ل إله إل ال وأنك رسول ال‪.‬‬
‫وهنا بدأ اليهود يكيلون له السّباب‪ ،‬فقال ابن سلم‪ :‬ألم أ ُقلْ لك يا رسول ال إنهم قوم ُبهْت "‬
‫إذن‪ :‬فمعنى قوله سبحانه‪:‬‬
‫} َفمَا اخْتََلفُواْ حَتّىا جَآءَهُمُ ا ْلعِلْمُ { [يونس‪.]93 :‬‬
‫أي‪ :‬أن أناسا منهم بقوا على الباطل‪ ،‬وأناسا منهم آمنوا بالرسول الحق صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وينهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله تعالى‪:‬‬
‫} إِنّ رَ ّبكَ َيقْضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ َيخْتَِلفُونَ { [يونس‪.]93 :‬‬
‫أي‪ :‬أن ال سبحانه وتعالى سوف يقضي بن ما جاءوا في صف اليمان‪ ،‬وبين مَنْ َب َقوْا على‬
‫اليهودية المتعصبة ضد اليمان‪.‬‬
‫ونحن نلحظ أن كلمة } بَيْ َن ُهمْ { توضح أن الضمير عام‪ ،‬لهؤلء ولولئك‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن الحق سبحانه وتعالى يقضي يوم القيامة بين المؤمنين والكافرين‪ ،‬ويقضي أيضا بين‬
‫الكفارين‪ ،‬فمنهم من كان ظالما لكافر‪ ،‬ومنه من كان مختلسا أو مرتشيا‪ ،‬ومنهم من عمل على غير‬
‫مقتضى دينه؛ لذلك يقضي ال سبحانه بينهم‪.‬‬
‫والية تفيد العموم في القضاء ماضيا وحاضرا ومستقبلً بين كل مؤمن وكافر‪ ،‬وبين كل تائب‬
‫وعاصٍ‪.‬‬
‫شكّ ّممّآ أَن َزلْنَآ إِلَ ْيكَ {‬
‫ويقو الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬فَإِن كُنتَ فِي َ‬

‫(‪)1444 /‬‬

‫شكّ ِممّا أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ فَاسَْألِ الّذِينَ َيقْرَءُونَ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكَ َلقَدْ جَا َءكَ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ‬
‫فَإِنْ كُ ْنتَ فِي َ‬
‫فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ (‪)94‬‬

‫والخطاب هنا لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬


‫ونحن نعلم أن الرسول صلى ال عليه وسلم قد قال من البداية إنه ل يشك في رسالته‪ ،‬وحين وعده‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أهله بالسيادة قال‪:‬‬
‫" وال لو وضعوا الشمس في يميني‪ ،‬والقمر في يساري على أن أترك هذا المر حتى يُظهره ال‪،‬‬
‫أو أهلك فيه‪ ،‬ما تركته "‪.‬‬
‫نقول‪ :‬إن الحق سبحانه وتعالى يضمر خطاب المة في خطاب رسوله صلى ال عليه وسلم؛ لن‬
‫التباع حين يقرأون ويسمعون الخطاب وهو موجّه بهذا السلوب إلى الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم فهم لن يستنكفوا عن أيّ أمر يصدر إليهم‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬لو أن قائدا يصدر أمرا لثنين من مساعديه اللذين يقودان مجموعتين من المقاتلين‪،‬‬
‫فيقول القائد العلى لكل منهما‪ :‬إياك أن تفعل كذا أو تصنع كذا‪ .‬والقائد العلى بتعليماته ل يقصد‬
‫المساعدين له‪ ،‬ولكنه يقصد كل مرءوسيهم من الجند‪.‬‬
‫وجاء المر هنا لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لتفهم أمته أن الرسول صلى ال عليه وسلم ما‬
‫كان ليتأبّى على أمر من أوامر ال‪ ،‬بل هو صلى ال عليه وسلم ينفّذ كل ما يؤمر به بدقة؛ وذلك‬
‫من باب خطاب المة في شخصية رسولها صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫شكّ ّممّآ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ فَاسَْألِ الّذِينَ َيقْرَءُونَ ا ْلكِتَابَ مِن قَبِْلكَ } [يونس‪.]94 :‬‬
‫{ فَإِن كُنتَ فِي َ‬
‫هذا القول دليل على أن الذين عندهم علم بالكتاب من السابقين على رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬يعرفون الحقائق الواضحة عن رسالته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وإن الذين يكابرون ويكفرون برسول ال صلى ال عليه وسلم ورسالته إنما يعرفونه كما يعرفون‬
‫أبناءهم‪.‬‬
‫وقد قال عبد ال بن سلم‪ " :‬لقد عرفت محمدا حين رأيته كمعرفتي لبني‪ ،‬ومعرفتي لمحمد أشد "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق عندهم واضح مكتوبٌ في التوراة من بشارة به صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهذا يثبت أنك‬
‫يا محمد صادق في دعوتك‪ ،‬بشهادة هؤلء‪.‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله تعالى‪:‬‬

‫{ َلقَدْ جَآ َءكَ ا ْلحَقّ مِن رّ ّبكَ فَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ } [يونس‪.]94 :‬‬
‫والحق القادم من ال تعالى ثابت ل يتغير؛ لنه واقع‪ ،‬والواقع ل يتعدد‪ ،‬بل يأتي على صورة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫أما الكذب فيأتي على صور متعددة‪.‬‬
‫ولذلك فمهمة المحقّق الدقيق أن يقلّب أوجه الشهادات التي تقال أمامه في النيابة أو القضاء؛ حتى‬
‫يأتي حكمه مصيبا ل مدخل فيه لتناقض‪ ،‬ول يعتمد على تخيّل أو أكاذيب‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ َلقَدْ جَآ َءكَ ا ْلحَقّ } [يونس‪.]94 :‬‬
‫إنما يدل على أن الذين قرأوا الكتاب قد عرفوا أنك رسول ال حقّا‪ ،‬ومنهم من ترك معسكر‬
‫اليهودية‪ ،‬وجاء إلى معسكر اليمان بك؛ لن الحق الذي جاء ل دخل للبشرية فيه‪ ،‬بل جاء من‬
‫ربك‪:‬‬
‫{ فَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ } [يونس‪.]94 :‬‬

‫ومجيْ الخطاب بهذا الشكل‪ ،‬هو كما قلت موجّه إلى المّة المؤمنة في شخص الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫والحق سحبانه يقول‪:‬‬
‫عمَُلكَ }[الزمر‪.]65 :‬‬
‫{ لَئِنْ أَشْ َر ْكتَ لَيَحْ َبطَنّ َ‬
‫هذا القول نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن غير المعقول أن يشرك النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وكل اليات التي تحمل معاني التوجيه في المور المنزّه عنها رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم خاصّة بأمته‪.‬‬
‫وأيضا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َولَ َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَ َتكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[يونس‪.]95 :‬‬
‫والقول الحكيم ساعة يوجّه إلى الخير قد يأتي بمقابلة من الشر؛ لتتضح الشياء بالمقارنة‪.‬‬
‫ونحن في حياتنا اليومية نجد الب يقول لبنه‪ :‬اجتهد في دروسك‪ ،‬واستمع إلى مدرّسيك جيّدا حتى‬
‫تنجح‪ ،‬فل تكن مثل فلن الذي رسب‪ ،‬والوالد في هذه الحالة يأتي بالغراء الخيّر‪ ،‬ويصاحبه‬
‫بمقابله‪ ،‬وهو التحذير من الشر‪.‬‬
‫ضدّانِ لمّا استجمعا حَسُنَا‬
‫سوَ ّد ِ‬
‫شعْ ُر مثلُ الليلِ مُ ْ‬
‫ج ُه مثلُ الصّبحِ مُبْ َيضّ وال ّ‬
‫وقد قال الشاعر‪:‬فالوَ ْ‬
‫ظهِر حُس َنهُ الضّدّويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬ولَ َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُواْ {‬
‫والضّدّ يُ ْ‬

‫(‪)1445 /‬‬

‫وَلَا َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِ اللّهِ فَ َتكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (‪)95‬‬

‫وآيات ال سبحانه كما نعرفها متعددة؛ إما آيات كونية وهي الصل في المعتقد الول بأن خالقها‬
‫هو الخالق العلى سبحانه‪ ،‬وتُ ْلفِت هذه اليات إلى بديع صُنْعه سبحانه‪ ،‬ودقة تكوين خلقه‪ ،‬وشمول‬
‫قدرتِه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكذلك يُقصد باليات؛ المعجزات المنزلة على الرسل ـ عليهم السلم ـ لتظهر صدق كل رسول‬
‫في البلغ عن ال تعالى‪.‬‬
‫وآيات القرآن الكريم التي تحمل منهج ال‪.‬‬
‫وهم كانوا يُكذّبون بكل اليات‪.‬‬
‫والخطاب في هذه الية هو خطاب للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وجاء معطوفا على ما في الية‬
‫السابقة‪ ،‬حيث يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫شكّ ّممّآ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ }[يونس‪.]94 :‬‬
‫{ فَإِن كُنتَ فِي َ‬
‫وكل ما يريد من مثل هذا القول ل يصح أن نفهم منه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم من‬
‫الممكن أن يشك‪ ،‬أو من المحتمل أن يكون من الذين كذّبوا بآيات ال ـ سبحانه وتعالى ـ ولكن‬
‫إيراد مثل هذا المر‪ ،‬هو إيراد لدفع خواطر البشرية‪ ،‬أيًا كانت تلك الخواطر‪ ،‬فإذا وجدنا الخطاب‬
‫المراد به رسول ال صلى ال عليه وسلم في التنزيل‪ ،‬فغاية المراد اعتدال موازين الفهم في أمّته‬
‫تعليما وتوجيها؛ لن المنهج مُنزّل عليه لتبليغه لمته فهو شهيد على المم‪.‬‬
‫وإذا كانت الية التي سبقت توضح‪ :‬إن كنت في شك فاسأل‪ ،‬فهو سبحانه يعطيه السؤال؛ ليستمع‬
‫منه إلى الجواب‪ ،‬وليُسْمعه لكل المة؛ الجواب القائل‪ :‬أنا ل أشك ول أسأل‪ ،‬وحسبي ما أنزل ال‬
‫سبحانه عليّ‪.‬‬
‫ألم يَ ِردْ في القرآن الكريم أن الحق سبحانه وتعالى يقول للملئكة يوم القيامة بمحضر من عبدوا‬
‫الملئكة‪ ،‬ويشير إلى هؤلء الذين عبدوا الملئكة ومخاطبا ملئكته‪.‬‬
‫{ َأهَـاؤُلَءِ إِيّا ُكمْ كَانُواْ َيعْ ُبدُونَ }[سبأ‪.]40 :‬‬
‫ونحن نعلم أن الملئكة‪:‬‬
‫{ لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَ ُه ْم وَ َيفْعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم‪.]6 :‬‬
‫والحق سبحانه يعلم مسبقا جواب الملئكة‪ ،‬وهم يقولون‪:‬‬
‫ت وَلِيّنَا مِن دُو ِنهِمْ }[سبأ‪.]41 :‬‬
‫{ سُبْحَا َنكَ أَن َ‬
‫سمِع من في الحشر كلهم جواب الملئكة وهم يستنكرون أن يعبدهم‬
‫ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن ُي ْ‬
‫أحد من الخَلق‪ ،‬فهؤلء الخلق إنما عبدوا الجن‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالسؤال جاء؛ ليبين الرد عليه‪ ،‬مثلما يرد عيسى عليه السلم حين يُعبد من بعض قومه‪،‬‬
‫ويسأله سبحانه عن ذلك‪:‬‬
‫خذُونِي وَُأ ّميَ ِإلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ }[المائدة‪.]116 :‬‬
‫{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّ ِ‬
‫فيأتي الجواب‪:‬‬
‫حقّ }[المائدة‪.]116 :‬‬
‫{ سُبْحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَ ْيسَ لِي بِ َ‬
‫إذن‪ :‬فالمراد أن يقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنا ل أشك ول أسأل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والشك ـ كما نعلم ـ معناه‪ :‬تساوي كفة النفي وكفة الثبات‪ ،‬فإن رجحت واحدة منهما فهذا ظن‪،‬‬
‫وتكون المرجوحة وَهْما وافتراء وكذبا‪.‬‬
‫وكلمة " الشك " مأخوذة من مسألة حسية‪ ،‬فنحن نرى الصيادين وهم يصعون كل سمكة بعد‬
‫اصطيادها في خيط يسمى " المشكاك "‪.‬‬

‫وكذلك نرى من يقوم بـ (لضْم) العقود‪ ،‬وهو يشك الحبة في الخيط‪.‬‬


‫من هذا نأخذ أن الشك معناه‪ :‬ضَمّ شيء إلى شيء‪ ،‬ومنه الشكائك‪ ،‬وهي البيوت المنتظمة بجانب‬
‫بعضها البعض‪.‬‬
‫ومنه " شاك السلح " أي‪ :‬الذي ضَمّ نفسه إلى الدرع‪.‬‬
‫فالشك هو ضم شيء إلى شيء‪ ،‬وفي النسب تضم النفي والثبات معا؛ لنك غير قادر على أن‬
‫ترجّح أحدهما‪.‬‬
‫وكل خطاب في الشك يأتي على هذا اللون‪.‬‬
‫والية التي نحن بصددها تقول‪:‬‬
‫} َولَ َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَ َتكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ { [يونس‪.]95 :‬‬
‫ونحن نعلم أن الرسول صلى ال عليه وسلم هو نفسه آية من اليات‪ ،‬وهكذا نرى أن الخطاب‬
‫مُوجّه لمته‪ ،‬فمن المستحيل أن يكون الرسول صلى ال عليه وسلم من المكذّبين ليات ال ـ‬
‫سبحانه وتعالى ـ لن التكذيب بآيات ال تعالى يعني‪ :‬إخراج الصدق إلى الكذب‪ ،‬وإخراج الواقع‬
‫إلى غير الواقع‪.‬‬
‫والذين كذبوا باليات إما أنهم ل يؤمنون بإله‪ ،‬أو يؤمنون بإله ول يؤمنون برسول‪ ،‬أو يؤمنون‬
‫بإله ويؤمنون برسول ول يؤمنون بما أنزِل على الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫والذي يؤيد هذا وجود آية في آخر السورة يقول فيها الحق سبحانه‪:‬‬
‫شكّ مّن دِينِي فَلَ أَعْبُدُ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ }[يونس‪.]104 :‬‬
‫{ ُقلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي َ‬
‫فكأن الخطاب المقصود منه المة‪.‬‬
‫ح ّقتْ {‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬إِنّ الّذِينَ َ‬

‫(‪)1446 /‬‬

‫ح ّقتْ عَلَ ْيهِمْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ لَا ُي ْؤمِنُونَ (‪)96‬‬


‫إِنّ الّذِينَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذا القول يوضح لنا أن الحق سبحانه وتعالى قد علم عِلْما أزليّا بأنهم لن يُوجّهوا اختيارهم‬
‫لليمان‪.‬‬
‫فحكمه هنا ل ينفي عنهم مسئولية الختيار‪ ،‬ولكنه علم ال الزلي بما سوف يفعلون‪ ،‬ثم جاءوا إلى‬
‫الختيار فتحقق علم ال سبحانه وتعالى بهم من سلوكهم‪.‬‬
‫وحُكمْه سبحانه مبنيّ على الختيار‪ ،‬وهو حكم تقديري‪.‬‬
‫ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ حين يأتي وزير الزراعة‪ ،‬ويعلن أننا قدّرنا محصول القطن‬
‫هذا العام‪ ،‬بحساب مساحة الراضي المنزرعة قطنا‪ ،‬وبالمتوسط المتوقع لكل فدان‪ ،‬وقد يصيب‬
‫الحكم‪ ،‬وقد يخيب نتيجة العوامل والظروف الخرى المحيطة بزراعة القطن‪ ،‬فمن المحتمل أن‬
‫يُصاب القطن بآفة من الفات‪ ،‬مثل‪ :‬دودة اللوزة‪ ،‬أو دودة الورقة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ففي المجال البشري قد يصيب التقدير وقد يخطىء؛ لن النسان يُقدّر بغير علم ُمطْلق‪ ،‬بل‬
‫بعلم نسبي‪.‬‬
‫أما تقدير الحق سبحانه فهو تقدير أزلي‪ ،‬وحين يُقدّر الحق سبحانه فل بد من وقوع ما قدّره‪.‬‬
‫ولذلك يجب أن نفرق بين قضاء حكم لزم قهري ليس للنسان فيه تصرف‪ ،‬وبين قدر قد ُقدّر من‬
‫ال تعالى أن يفعله النسان باختياره‪ ،‬وهذه هي عظمة علم الغيب‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬هو سلوك أبي لهب‪ ،‬فقد نزل فيه قرآن يُتلَى‪:‬‬
‫سبَ }[المسد‪1 :‬ـ ‪.]2‬‬
‫ب وَ َتبّ * مَآ أَغْنَىا عَ ْنهُ مَالُ ُه َومَا كَ َ‬
‫{ تَ ّبتْ َيدَآ أَبِي َل َه ٍ‬
‫وقد نزلت السورة وأبو لهب على قيد الحياة؛ لن الحق سبحانه قد علم أزلً أن خواطر أبي لهب‬
‫لن تدفعه إلى اليمان‪ ،‬ولو أن أبا لهب امتلك ذرة من ذكاء لجاء لرسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وقال‪ :‬أنت قلت عنّي إنني سأصْلَى النار‪ ،‬لكن ها أنذا أعلن أنني أشهد أل إله إل ال وأشهد أنك‬
‫رسول ال‪.‬‬
‫لكن ذلك الذكاء لم يكن يملكه أبو لهب‪ ،‬فقد علم ال أزلً أن خواطره لن تدفعه إلى السلم‪ ،‬مثلما‬
‫دفعت حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى ال عليه وسلم وعمر بن الخطاب‪ ،‬وخالد بن الوليد‪،‬‬
‫وعمرو بن العاص‪ .‬وكان إسلم هؤلء رغم وقوفهم ضد النبي صلى ال عليه وسلم أمرا واردا‪.‬‬
‫وقد يُقدّر البشر التقدير‪ ،‬لكن هذا التقدير إنما يتم حسب المعلومات المتاحة لهم‪ ،‬ول يملك إنسان‬
‫علما كونيّا أزليّا بتقديراته‪ ،‬فعلمه محدود‪ ،‬وقد يأتي المر على غير ما يُقدّر؛ لن النسان ل يملك‬
‫ما يقدر‪.‬‬
‫ول يقولنّ أحدٌ‪ :‬إن ال يعاقب بعد أن قدّر مسبقا؛ لن تقدير الحق سبحانه نابع من علمه الزلي‪،‬‬
‫وهم كانوا يتمتعون بحق الختيار‪ .‬وال سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫{ وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا فََأمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَ ْت ُهمْ إِيمَانا وَهُمْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سهِمْ َومَاتُو ْا وَهُمْ كَافِرُونَ }‬
‫يَسْتَبْشِرُونَ * وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَ ْتهُمْ ِرجْسا إِلَىا ِرجْ ِ‬
‫[التوبة‪124 :‬ـ ‪.]125‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬وََلوْ جَآءَ ْتهُمْ ُكلّ آ َيةٍ حَتّىا يَ َروُاْ }‬

‫(‪)1447 /‬‬

‫وََلوْ جَاءَ ْتهُمْ ُكلّ آَيَةٍ حَتّى يَ َروُا ا ْل َعذَابَ الْأَلِيمَ (‪)97‬‬

‫إذن‪ :‬فمجيء اليات وتكرارها لن يفيدهم في التجاه إلى اليمان؛ لن الحق سبحانه يعلم أنهم‬
‫سيتوجهون باختيارهم إلى الكفر؛ فقد قالوا ـ من قبل ـ ما أورده الحق سبحانه في كتابه العزيز‪:‬‬
‫ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِ َنبٍ‬
‫{ َوقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا ِكسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ وَا ْلمَلئِكَةِ‬
‫سمَآءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ ُت ْ‬
‫سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا‬
‫قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن ُزخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ‬
‫ّنقْرَ ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ ِإلّ بَشَرا رّسُولً }[السراء‪90 :‬ـ ‪.]93‬‬
‫وكأن الحق سبحانه يأمر رسوله أن يقول موضحا‪ :‬لستُ أنا الذي يُنزل اليات‪ ،‬بل اليات من عند‬
‫ال تعالى‪ ،‬ثم يأتي القرآن بالسبب الذي لم تنزل به تلك اليات التي طلبوها‪ ،‬فيقول سبحانه‪:‬‬
‫لوّلُونَ }[السراء‪.]59 :‬‬
‫سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن كَ ّذبَ ِبهَا ا َ‬
‫{ َومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ‬
‫إذن‪ :‬فقد نزلت آيات كثيرة لمن سبق في المعاندة و المعارضة‪ ،‬ويقابل قضية عرض اليمان عليه‬
‫بكفر يمل قلبه‪.‬‬
‫فإن كان هناك من يبحث عن اليمان فليدخل على بحث اليمان بدون مُعتقد سابق‪ ،‬ولينظر إلى‬
‫المسألة‪ ،‬وما يسمح به قلبه فليُدخله فيه؛ وبهذا الختيار القلبي غير المشروط بمعتقد سابق هو قمة‬
‫القبول‪.‬‬
‫وقد قال الحق سبحانه في اليات السابقة كلما في الوحدانية‪ ،‬وكلما في اليات المعجزات‪،‬‬
‫وكلما في صدق النبوة‪ ،‬وكلما عن القيامة‪ ،‬وقصّ لنا سبحانه بعضا من قصص مواكب الرسل‪،‬‬
‫من نوح عليه السلم‪ ،‬ثم فصّل قليلً في قصة موسى وهارون عليهما السلم‪ ،‬ثم سيأتي من بعد‬
‫ذلك بقصة يونس عليه السلم‪.‬‬
‫ونحن نلحظ أن الحق سبحانه جاء بقصة نوح عليه السلم في إطناب‪ ،‬ثم جاء بخبر عن رسل لم‬
‫َيقُلْ لنا عنهم شيئا‪ ،‬ثم جاء بقصة موسى وهارون عليهما السلم‪ ،‬ثم سيأتي من بعد ذلك بقصة‬
‫يونس عليه السلم‪ ،‬فالسورة تضم ثلثا من الرسالت‪ :‬رسالة نوح‪ ،‬ورسالة موسى وهارون‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمّيت السورة باسمه‪.‬‬
‫ورسالة يونس‪ :‬وهو الرسول الذي ُ‬
‫ولسائل أن يقول‪ :‬ولماذا جاء بهؤلء الثلثة في هذه السورة؟‬
‫وأقول‪ :‬لقد تعبنا كثيرا‪ ،‬ومعنا كثير من المفسرين حتى نتلمّس الحكمة في ذلك‪ ،‬ولماذا لم تأت في‬
‫السورة قصة هود‪ ،‬وثمود‪،‬وشعيب‪ ،‬وكان ل بد أن تكون هناك حكمة من ذلك‪.‬‬
‫هذه الحكمة فيما تجلى لنا أن الحق سبحانه وتعالى يعرض موكب الرسالة وموكب المعارضين‬
‫لكل رسول‪ ،‬والنتيجة التي انتهى إليها أمر العداء‪ ،‬وكذلك النتيجة التي انتهى إليها أمر الرسول‬
‫ومَنْ آمن به‪.‬‬
‫ونجد الذين ذكرهم ال سبحانه هنا قد أهلكوا إهلكا متحدا بنوع واحد في الجميع‪ ،‬فإهلك قوم نوح‬
‫كان بالغرق‪ ،‬وكذلك الهلك لقوم فرعون كان بالغرق‪ ،‬وكذلك كانت قصة سيدنا يونس لها علقة‬
‫بالبحر‪ ،‬فقد ابتلعه الحوت وجرى في البحر‪.‬‬

‫إذن فمَنْ ُذكِر هنا من الرسل كان له علقة بالماء‪ ،‬أما بقية الموكب الرسالي فلم تكن لهم علقة‬
‫بالماء‪.‬‬
‫ونحن نعرف أن الماء به الحياة‪ ،‬وبه الهلك؛ لن واهب الحياة يهب الحياة بالشيء‪ ،‬ويُهلك‬
‫بالشيء نفسه‪ .‬وكأن الحق سبحانه يبيّن لنا الحكمة‪ :‬أنا أهلكتُ بالغرق هناك‪ ،‬ونجّ ْيتُ من الغرق‬
‫هنا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فطلقة القدرة اللهية هي المستولية على هذه السورة‪ ،‬كما تظهر طلقة القدرة في مجالت‬
‫أخرى‪ ،‬وبألوان أخرى‪.‬‬
‫وسُميّت هذه السورة باسم يونس؛ لن الحق سبحانه أرسله إلى أكثر من مائة ألف‪ ،‬وهم المة‬
‫الوحيدة في هذا المجال التي استثناها الحق سبحانه من الهلك‪ ،‬فقد أغرق قوم نوح‪ ،‬وأغرق قوم‬
‫فرعون؛ فكلهما قد كذّب الرسل‪ ،‬ولكن قوم يونس أول ما رأوا البأس آمنوا فأنجاهم ال سبحانه‪.‬‬
‫سمّيت السورة باسم من نجا؛ لنه عاد إلى الحق سبحانه قبل أن يعاين العذاب‪ ،‬ولكنهم رأوا فقط‬
‫وُ‬
‫بشائر العذاب‪ ،‬فنجّوا أنفسهم باليمان‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬فََل ْولَ كَا َنتْ قَرْ َيةٌ آمَ َنتْ فَ َن َفعَهَآ إِيمَا ُنهَا {‬

‫(‪)1448 /‬‬

‫شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ ا ْلخِ ْزيِ فِي الْحَيَاةِ‬


‫فََلوْلَا كَا َنتْ قَرْ َيةٌ َآمَ َنتْ فَ َن َفعَهَا إِيمَا ُنهَا إِلّا َقوْمَ يُونُسَ َلمّا َآمَنُوا كَ َ‬
‫الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (‪)98‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا يبيّن لنا الحق سبحانه أن هناك كثيرا من القرى لم تؤمن إل وقت العذاب‪ ،‬فلم ينفع أيّا منهم‬
‫هذا اليمان‪ ،‬ولكن قوم يونس قبل أن تأتي بشائر العذاب والبأس أعلنوا اليمان َفقَبِل الحق سبحانه‬
‫إيمانهم؛ لنه سبحانه ل يظلم عباده‪.‬‬
‫ف بواكير‬
‫فمَنْ وصل إلى العذاب‪ ،‬وأعلن اليمان من قلب العذاب ل يُقبَلُ منه‪ ،‬ومن أحس واستش ّ‬
‫العذاب وآمن فالحق سبحانه وتعالى يقبله‪.‬‬
‫وكملة " لول " إذا سمعتها فمثلها مثل " لوما " ‪ ،‬وإذا دخلت " لول " على جملة اسمية فلها حكم‬
‫يختلف عن حكمها لو دخلت على جملة فعلية‪ ،‬فحين تدخل على جملة اسمية مثل‪ " :‬لول زيد‬
‫عندك لتيتك " تفيد أن امتناع المجيء هو بسبب وجود زيد‪ ،‬لكنها إن دخلت على جملة فعلية‬
‫حثّ " مثل قول الحق سبحانه‪ {:‬فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ‬
‫فيقال عنها‪ " :‬أداة تحضيض و َ‬
‫لّيَ َتفَ ّقهُواْ فِي الدّينِ }[التوبة‪.]122 :‬‬
‫أي‪ :‬أنه كان يجب أن ينفر من كل طائفة عدد ليتدارسوا أمور الدين‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول هنا‪:‬‬
‫{ فََل ْولَ كَا َنتْ قَرْ َيةٌ آمَ َنتْ } [يونس‪.]98 :‬‬
‫أي‪ :‬أنه لو أن هناك قرية آمنت قبل أن ينزل بها العذاب لنجيناها كما أنجينا قوم يونس‪ ،‬أو كنا‬
‫نحب أن يحدث اليمان من قرية قبل أن يأتيها العذاب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقوم يونس هنا ُمسْتثنون؛ لنهم آمنوا قبل أن يأتيهم العذاب‪.‬‬
‫وهناك آية أخرى تتعلق بهذه القصة‪ ،‬يقول فيها الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ فََل ْولَ أَنّهُ كَانَ مِنَ ا ْل ُمسَبّحِينَ * لَلَ ِبثَ فِي َبطْنِهِ إِلَىا َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }[الصافات‪143 :‬ـ ‪.]144‬‬
‫أي‪ :‬أن الذي منع يونس عليه السلم أن يظل في بطن الحوت إلى يوم البعث هو التسبيح‪.‬‬
‫وهنا يبيّن الحق سبحانه الستثناء الذي حدث لقوم يونس حين يقول‪:‬‬
‫شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ الخِ ْزيِ فِي‬
‫{ فََل ْولَ كَا َنتْ قَرْ َيةٌ آمَ َنتْ فَ َن َفعَهَآ إِيمَا ُنهَا ِإلّ َقوْمَ يُونُسَ َلمّآ آمَنُواْ كَ َ‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ ِإلَىا حِينٍ } [يونس‪.]98 :‬‬
‫أي‪ :‬أن اليمان نفع قرية قوم يونس قبل أن يقع بهم العذاب‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫شفْنَا عَ ْن ُهمْ عَذَابَ الخِ ْزيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ } [يونس‪.]98 :‬‬
‫{ َلمّآ آمَنُواْ كَ َ‬
‫ونحن نعلم أن كلمة " قرية " تعني‪ :‬مكانا مُهيّأ‪ ،‬أهله متوطنون فيه‪ ،‬فإذا ما مَرّ عليهم زائر في أي‬
‫وقت وجد عندهم قرىً أي‪ :‬وجبة طعام‪.‬‬
‫ونحن نجد من يقول عن الموطن كثير السكان كلمة " بلد " ‪ ،‬وهؤلء من يملكون طعاما دائما‪ ،‬أما‬
‫من يكونون قلة قليلة في موطن ففي الغالب ليس عندهم من الطعام إل القليل الذي يكفيهم ويكفي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الزائر لمرة واحدة‪.‬‬
‫وتسمى مكة المكرمة " أم القرى "؛ لن كل القرى تزورها‪.‬‬

‫وقرية قوم يونس اسمها " نينوى " قد حكى عنها النبي صلى ال عليه وسلم في قصة الذهاب‬
‫للطائف‪ ،‬وهي قرية العبد الصالح يونس بن مَتّى‪ ،‬وهي في العراق ناحية الموصل‪ ،‬ويونس هو‬
‫من قال عنه ال سبحانه‪:‬‬
‫{ وَذَا النّونِ إِذ ذّ َهبَ ُمغَاضِبا }[النبياء‪.]87 :‬‬
‫وكلمة " مغاضب " غير كلمة " غاضب " ‪ ،‬فالغاضب هو الذي يغضب دون أن يُغضبه أحد‪ ،‬لكن‬
‫المغاضب هو من أغضبه غيره‪.‬‬
‫وكذلك كلمة " هجر " ‪ ،‬ومهاجر‪ ،‬فالمهاجر هو من أجبره أناس على أن يهاجر‪ ،‬لكن من هجر هو‬
‫من ذهب طواعية بعيدا‪.‬‬
‫والمغاضبة ـ إذن ـ تكون من جهتين‪ ،‬وتسمى " مفاعلة "‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫{ وَذَا النّونِ إِذ ذّ َهبَ ُمغَاضِبا َفظَنّ أَن لّن ّنقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىا فِي الظُّلمَاتِ أَن لّ إِلَـاهَ ِإلّ أَنتَ‬
‫سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ }[النبياء‪.]87 :‬‬
‫سمّي سيدنا يونس عليه السلم بذى النون؛ لن اسمه اقترن بالحوت الذي ابتلعه‪.‬‬
‫وُ‬
‫وكلنا نعرف القصة‪ ،‬حينما دعا قومه إلى اليمان وكفروا به في البداية؛ لن الرسول حين يجيء‬
‫إنما يجيء ليقوّم الحياة الفاسدة؛ فيضطهده من يعيشون على الفساد؛ لنهم يريدون الحتفاظ‬
‫بالجبروت الذي يسمح لهم بالسرقة والختلس وإرواء أهواء النفس‪ ،‬فلما فعلوا ذلك مع سيدنا‬
‫يونس ـ عليه السلم ـ خرج مغاضبا‪ ،‬أي‪ :‬أنهم أغضبوه‪.‬‬
‫والمغاضبة ـ كما قلنا ـ من المفاعلة وتحتاج إلى عنصرين‪ ،‬مثلما أوضحنا أن الهجرة أيضا‬
‫مفاعلة؛ لن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يهجر مكة‪ ،‬بل ألجأه قومه إلى أن يهاجر‪ ،‬فكان لهم‬
‫مدخل في الفعل‪.‬‬
‫وأبو الطيب المتنبي يقول في هذا المعنى‪:‬إذَا ترحّلت عن قومٍ وقد قَدروا ألّ تُغادِرهم فَالرّاحِلون‬
‫ُهمُأي‪ :‬إن كنت تعيش مع قوم‪ ،‬وأردت أن تفارقهم وقد قدروا أن تعيش معهم‪ ،‬فالذي رحل حقيقة‬
‫هم هؤلء القوم‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد خروج يونس مغاضبا‪:‬‬
‫علَيْهِ }[النبياء‪.]87 :‬‬
‫{ َفظَنّ أَن لّن ّنقْدِرَ َ‬
‫أي‪ :‬أنه رجّح أن الحق سبحانه لن يُضيّق عليه الرض الواسعة‪ ،‬وسيهيىء له مكانا آخر غير‬
‫مكان المائة اللف أو يزيدون الذين بعثه ال تعالى إليهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكان من المفروض أن يتحمل الذى الصادر منهم تجاهه‪ ،‬لكن هذا الظن ـ والظن ترجيح حكم‬
‫حفِظ وتمل القلب باللم والتعب‪.‬‬
‫ـ يدلنا على أن معارضة دعوته كانت شديدة تُ ْ‬
‫وكان عليه أن يُوطّن نفسه على مواجهة مشقات الدعوة‪.‬‬
‫والقرية التي أرسِل إليها يونس عليه السلم هي قرية‪ " :‬نينوى " ‪،‬وهي التي جاء ذكرها في أثناء‬
‫حوار بين النبي صلى ال عليه وسلم والغلم النصراني " عداس " الذي قابله صلى ال عليه وسلم‬
‫في طريق عودته من الطائف‪.‬‬
‫" وكان النبي صلى ال عليه وسلم قد ذهب إلى الطائف ليطلب من أهلها النصرة بعد أن آذاه قومه‬
‫في مكة فلم يجد النصير‪ ،‬وجلس النبي صلى ال عليه وسلم قريبا من حائط بستان‪.‬‬
‫فلما رآه صاحبا البستان ـ عتبة وشيبة ابنا ربيعة ـ وما لقي من السفهاء؛ تحركت له رحمهما‪،‬‬
‫فدعوا غلما لهما نصرانيا‪ ،‬يقال له عَدّاس‪ ،‬فقال له‪ :‬خُذْ ِقطْفا من هذا العنب‪ ،‬فضعه في هذا‬
‫عدّاس‪ ،‬ثم أقبل به حتى وضعه بين‬
‫الطبق‪ ،‬ثم اذهب به إلى ذلك الرجل‪ ،‬فقل له يأكل منه‪ ،‬ففعل َ‬
‫يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم ثم قال له‪ُ :‬كلْ‪ ،‬فلما وضع رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫فيه يده‪ ،‬قال‪ :‬باسم ال‪ ،‬ثم أكل‪ ،‬فنظر عداس في وجهه‪ ،‬ثم قال‪ :‬وال إن هذا الكلم ما يقوله أهل‬
‫هذه البلد‪ ،‬فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ومنْ أهل أيّ البلد أنت يا عدّاس‪ ،‬وما‬
‫دينك؟ "‪ .‬قال‪ :‬نصراني‪ ،‬وأنا رجل من أهل نينوى؛ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬من‬
‫قرية الرجل الصالح يونس بن مَتّى "؛ فقال له عداس‪ :‬وما يدريك ما يونس بن متّى؟ فقال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي " ‪ ،‬فأكبّ عداس على رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم يُقبّل رأسه ويديه وقدميه‪.‬‬
‫ولما سأل صاحبا البستان عدّاسا عن صنيعه هذا‪ .‬قال لهما‪ :‬لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إل نبي "‪.‬‬

‫ونحن نعلم أن العبد الصالح ـ يونس عليه السلم ـ قد تأثر وحزن وغضب من عدم استجابة‬
‫قومه لرسالته اليمانية‪ ،‬إلى أن رأوا غَيْما يمل السماء وعواصف‪ ،‬والقى ال تعالى في خواطرهم‬
‫أن هذه العواصف هي بداية عذاب ال لهم؛ َفهُرعوا إلى ذوي الرأي فيهم‪ ،‬فاشاروا عليهم بأن هذه‬
‫هي بوادر العذاب‪ ،‬وقالوا لهم‪ :‬عليكم بإرضاء يونس؛ لن ال سبحانه وتعالى هو الذي أرسله‪،‬‬
‫فآمِنوا به ليكشف عنك ال ُغمّة‪.‬‬
‫وهُرع الناس إلى اليمان بالحي الذي ل يموت‪ ،‬الحيّ حين ل حيّ‪ ،‬والقيوم والمُحيي والمميت‪.‬‬
‫وذهب قوم يونس عليه السلم لسترضائه؛ وحين رضي عنهم بدأوا ينظرون في المظالم التي‬
‫ارتكبوها‪ ،‬حتى إن الرجل منهم كان ينقض ويهدم جدار يته؛ لنه فيه حجرا قد اختلسه من جار‬
‫له‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكشف ال سبحانه وتعالى عنهم العذاب‪ ،‬وهنا يقول سبحانه‪:‬‬
‫شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ الخِ ْزيِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ { [يونس‪.]98 :‬‬
‫} كَ َ‬
‫ومن لوازم قصة يونس عليه السلم‪ ،‬ليست المغاضبة فقط‪ ،‬بل قصته مع الحوت‪ ،‬فقد كان عليه‬
‫السلم بعد مغاضبته لقومه قد ركب سفينة‪ ،‬فلعبت بها المواج فاضطربت اضطرابا شديدا‪،‬‬
‫خفّ بهم السفينة؛ فاستمر اضطرابها‪،‬‬
‫وأشرفت على الغرق بركابها؛ فألقوا المتعة في البحر؛ لت ِ‬
‫فاقترعوا على أن يلقوا إلى البحر من تقع عليه القرعة‪ ،‬فوقعت القرعة على نبي ال يونس عليه‬
‫السلم‪.‬‬

‫مثلما نركب مصعدا‪ ،‬فنجد الضوء الحمر وقد أضاء إنذارا لنا بأن الحمولة زائدة‪ ،‬وأن المصعد‬
‫لن يعمل فيخرج منه واحد أو أكثر حتى يتبقى العدد المسموح به‪ ،‬وعادة يكون الخارج من أحسن‬
‫الموجودين خُلقا‪ ،‬لنهم أرادوا تسهيل أعمال الخرين‪.‬‬
‫كذلك كان المر مع السفينة التي ركبها يونس عليه السلم‪ ،‬كادت أن تغرق‪ ،‬فاقترعوا‪ ،‬وصار‬
‫على يونس أن ينزل إلى البحر‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫حضِينَ }[الصافات‪.]141 :‬‬
‫{ َفسَاهَمَ َفكَانَ مِنَ ا ْل ُمدْ َ‬
‫ونزل يونس عليه السلم إلى البحر فالتقمه الحوت وابتلعه‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى عن وجود سيدنا يونس عليه السلم في بطن الحوت‪:‬‬
‫{ فََل ْولَ أَنّهُ كَانَ مِنَ ا ْل ُمسَبّحِينَ * لَلَ ِبثَ فِي َبطْنِهِ إِلَىا َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }[الصافات‪143 :‬ـ ‪.]144‬‬
‫وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ الخِ ْزيِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا { [يونس‪.]98 :‬‬
‫} كَ َ‬
‫وعذاب الخزي في الحياة الدنيا يمكن أن تراه مُجسّدا فيمن افترى وتكبّر على الناس‪ ،‬ثم يراه‬
‫شدّ‪.‬‬
‫الناس في هوان ومذلة‪ ،‬هذا هو عذاب الخزي في الدنيا‪ ،‬ول بد أن عذاب الخرة أخْزَى وأ َ‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪:‬‬
‫} َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ { [يونس‪.]98 :‬‬
‫جوْا من الهلك بالعذاب إلى أن انتهت آجالهم بالموت الطبيعي‪.‬‬
‫أي‪ :‬أنهم َن َ‬
‫ك لمَنَ {‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك‪ } :‬وََلوْ شَآءَ رَ ّب َ‬

‫(‪)1449 /‬‬

‫جمِيعًا َأفَأَ ْنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّى َيكُونُوا ُمؤْمِنِينَ (‪)99‬‬
‫وََلوْ شَاءَ رَ ّبكَ لََآمَنَ مَنْ فِي الْأَ ْرضِ كُّلهُمْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق سبحانه وتعالى يبيّن لنا أنه إن قامت معركة بين نبي مرسل ومعه المؤمنون به‪ ،‬وبين من‬
‫كفروا به‪ ،‬فل بد أن يُنزِل الحق سبحانه العذاب بمن كفروا‪.‬‬
‫وإياك أن تفهم أن الحق سبحانه إلى يحتاج عبادة الناس؛ لن ال عَزّ وجل قديم أزليّ بكل صفات‬
‫الكمال فيه قبل أن يخلق الخلق‪ ،‬وبكماله خلق الخلق‪ ،‬وقوته سبحانه وتعالى في ذاته‪ ،‬وهو خالق‬
‫من قبل أن يخلق لخلق‪ ،‬ورازق قبل أن يخلق الزرق والمرزوق‪ ،‬والخلق من آثار صفات الكمال‬
‫فيه‪ ،‬وهو الذي أوجد كل شيء من عدم‪.‬‬
‫ولذلك يُسمّون صفاته سبحانه وتعالى صفات الذات؛ لنها موجودة فيه من قبل أن يوجد متعلقها‪.‬‬
‫حيٍ " بعد أن وجد مَنْ‬
‫حيٍ‪ ،‬فليس معنى ذلك أن ال تعالى موصوف بـ " مُ ْ‬
‫فحين تقول‪ :‬حيّ‪ ،‬ومُ ْ‬
‫يحييه‪ ،‬ل‪ ،‬إنه مُحيٍ‪ ،‬وبهذه الصفة أحيا‪.‬‬
‫ول المثل العلى‪ ،‬وهو سبحانه مُنزّه عن كل تشبيه‪ :‬قد نرى المصوّر أو الرسام الذي صنع لوحة‬
‫جميلة‪ ،‬هنا نرى أثر موهبة الرسم التي مارسها‪ ،‬واللوحة ليست إل أثرا لهذه الموهبمة‪.‬‬
‫الحق سبحانه وتعالى ـ إذن ـ له كل صفات الكمال قبل أن يخلق الخلق‪ ،‬وبصفات الكمال خَلَق‬
‫الخَلْق‪.‬‬
‫جدّ علىالحق سبحانه‪ ،‬وهو سبحانه‬
‫ج ّد على ال تعالى‪ ،‬فل شيء ي ِ‬
‫فإياك أن تفهم أن هناك أمرا قد َ‬
‫ل ينتفع من خلقه بل هو الذي ينفعهم‪.‬‬
‫ونحن نعلم أن اليمان مطلوب من النسان‪ ،‬وهو الجنس الظاهر لنا ونحن منه‪ ،‬ومطلوب من‬
‫جنس آخر أخبرنا عنه ال ـ تبارك وتعالى ـ وهو الجن‪.‬‬
‫وأما بقية الكون فمُسبّح مؤمن بال تعالى‪ ،‬والكون عوالم ل حصر لها‪ ،‬ولكلّ نظام ل يحيد عنه‪.‬‬
‫ولو أراد ال سبحانه وتعالى أن يُدخِل الثقلين ـ النس والجن ـ في نظام التسخير ما عَزّ عليه‬
‫ذلك؛ لكن هذا التسخير يثبت له القدرة ول يثبت له المحبوبية‪.‬‬
‫ولذلك ترك الحق سبحانه النسان مختارا ليؤمن أو ل يؤمن‪ ،‬وهذا ما يثبت له المحبوبية إن جئته‬
‫مؤمنا‪ ،‬وهذا يختلف عن إيمان القَسْر والقهر‪ ،‬فاليمان المطلوب من النسان أو الجن هو إيمان‬
‫الختيار‪.‬‬
‫وأما إيمان القسر والقهر‪ ،‬فكل ما في الكون من عوالم مؤمن بالحق سبحانه‪ ،‬مُسبّح له‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪:‬‬
‫حهُمْ }[السراء‪.]44 :‬‬
‫ح ْم ِد ِه وَلَـاكِن لّ َت ْفقَهُونَ تَسْبِي َ‬
‫شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ‬
‫{ وَإِن مّن َ‬
‫وهذا ليس تسبيح دللة ورمز‪ ،‬بل هو تسبيح حقيقي‪ ،‬بدليل قوله سبحانه وتعالى‪ {:‬وَلَـاكِن لّ‬
‫حهُمْ }[السراء‪.]44 :‬‬
‫َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ‬
‫فإن فقّهك ال تعالى في لغاتهم لعلمت تسبيح الكائنات‪ ،‬بدليل أنه عَلّم سليمان عليه السلم منطق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الطير‪ ،‬وسمع النملة تقول‪:‬‬
‫شعُرُونَ }‬
‫ن وَجُنُو ُد ُه وَ ُه ْم لَ يَ ْ‬
‫طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫{ ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُواْ مَسَاكِ َنكُمْ لَ َيحْ ِ‬

‫[النمل‪.]18 :‬‬
‫والهدهد قال لسليمان عليه السلم ما رآه عن بلقيس ملكة سبأ‪:‬‬
‫عمَاَلهُمْ َفصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ‬
‫شمْسِ مِن دُونِ اللّ ِه وَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ‬
‫سجُدُونَ لِل ّ‬
‫{ وَجَدّتهَا َو َقوْ َمهَا يَ ْ‬
‫َفهُ ْم لَ َيهْتَدُونَ }[النمل‪.]24 :‬‬
‫إذن‪ :‬فكل ما في الكون مُسبّح ل تعالى‪ ،‬يسير على منهجه سبحانه ما عدا المختار من الثقلين‪:‬‬
‫ل منهما فيه عقلٌ‪ ،‬وله مَيْزة الختيار بين البدائل‪.‬‬
‫النسان والجان؛ لن ك ً‬
‫ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن خلق للنسان الختيار حتى يذهب المؤمن إليه اختيارا‪ ،‬ولو‬
‫شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجبر النسان على اليمان لَفعلَ‪.‬‬
‫أقول ذلك حتى ل يقولن أحد‪ :‬ولماذا كل هذه المسائل من خَلْق وإرسال رُسل‪ ،‬وتكذيب أناس‪ ،‬ثم‬
‫إهلك المكذّبين؟‬
‫ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫جمِيعا َأفَأَنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّىا َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ‬
‫ك لمَنَ مَن فِي الَ ْرضِ كُّلهُمْ َ‬
‫} وََلوْ شَآءَ رَ ّب َ‬
‫{ [يونس‪.]99 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه خلق النسان وسخّر له كل الجناس‪ ،‬ولم يجبره على اليمان‪ ،‬بل يقول‬
‫سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }[الشعراء‪.]3 :‬‬
‫{ َلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم مُحبّا مخلصا لقومه وعشيرته‪ ،‬وذاق حلوة اليمان‪ ،‬وحزن‬
‫لنهم لم يؤمنوا‪ ،‬فينبهه الحق سبحانه وتعالى أن عليه مهمة البلغ فقط‪ ،‬فل يكلّف نفسه شَططا‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى شاء أن يجعل للنسان حقّ الختيار وسخّر له الكون‪ ،‬ومن الناس من‬
‫يؤمن‪ ،‬ومن الناس من يكفر‪ ،‬بل ومن المؤمنين من يطيع مرة‪ ،‬ويعصي أخرى‪ ،‬وهذه هي مشيئة‬
‫ن وجد من يعارض فيها فهذا ما شاءه ال سبحانه وتعالى‬
‫الحق ليتوازن الكون‪ ،‬فكل صفة خيّرة إ ْ‬
‫للنسان‪ ،‬فل تحزن يا رسول ال؛ فالحق سبحانه وتعالى شاء ذلك‪.‬‬
‫وإنْ غضب واحد من أن الخرين لم يعترفوا بصفاته الطيبة نقول له‪ :‬إن الحق سبحانه هو خالق‬
‫الكون وهو الرازق‪ ،‬قد كفروا به وألحدوا‪ ،‬وجعلوا له شركاء‪ ،‬فتَخلّقوا بأخلق ال؟‬
‫ولذلك قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫جمِيعا َأفَأَنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّىا َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ‬
‫ك لمَنَ مَن فِي الَ ْرضِ كُّلهُمْ َ‬
‫} وََلوْ شَآءَ رَ ّب َ‬
‫{ [يونس‪.]99 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنه سبحانه وتعالى يريد إيمان المحبة وإيمان الختيار‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَن ُت ْؤمِنَ ِإلّ بِإِذْنِ اللّهِ {‬

‫(‪)1450 /‬‬

‫جسَ عَلَى الّذِينَ لَا َيعْقِلُونَ (‪)100‬‬


‫ج َعلُ الرّ ْ‬
‫َومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ ُت ْؤمِنَ إِلّا بِإِذْنِ اللّ ِه وَيَ ْ‬

‫هكذا يُبيّن لنا الحق سبحانه أن أحدا ل يؤمن إل بإذن من ال تعالى؛ لن معنى أن تؤمن أن يكون‬
‫إيمانك إيمان فطرة نتيجة تفكّر في سماء ذات أبراج‪ ،‬وأرض ذات فجَاج‪ ،‬وبحار تَزْخر‪ ،‬ورياح‬
‫َتصْفِر‪ ،‬كل ذلك يدل على وجود الخالق سبحانه‪.‬‬
‫لكن أتَ َركَ ال سبحانه وتعالى الناس للفطرة؟‬
‫ل‪ ،‬بل أرسل سبحانه لهم الرسل ليذكّروهم باليات الموجودة في الكون‪ ،‬ولينتبه الغافل؛ لنه‬
‫سبحانه ل يريد أن يأخذ الناس على حين غفلة‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ أَن لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا بِظُ ْل ٍم وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ }[النعام‪.]131 :‬‬
‫لذلك ينبههم الحق سبحانه بأن هناك أشياء كان يجب أن تُذكر‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يُبيّن لنا‪ :‬إياكم‬
‫أن تفهموا أن أحدا يخرج عن مُلكي إل بإرادتي‪ ،‬فأنا بخلقي له مختارا سمحت له أن يكفر أو‬
‫يؤمن‪ ،‬وسمحت له أن يطيع أو أن يعصي‪.‬‬
‫كل ذلك من أجل أن يثبت لي صفة المحبوبية‪.‬‬
‫لذلك فل أحد يؤمن إل بإذن ال سبحانه وتعالى‪ ،‬ول أحد يكفر إل بإذنه سبحانه؛ لن مَنْ خلقه‬
‫مختارا عَِلمَ برضاء منه بما يكون من المخلوق‪ ،‬فالكافر لم يكفر قهرا‪ ،‬والمؤمن لم يؤمن قهرا من‬
‫ال سبحانه‪.‬‬
‫وساعةَ يأتي الرسول ليعرض قضية اليمان‪ ،‬يتذكر النسان إيمان الفطرة ويقول‪ :‬لقد جاء هذا‬
‫الرسول بهذا المنهج ليعدّل لي حياتي‪ ،‬فل بد أن أ ْر ِهفَ له السمع‪.‬‬
‫وساعة ُيقْبِل العبد على ال تعالى‪ ،‬فسبحانه يأذن له أن يدخل إلى حظيرة اليمانَ‪.‬‬
‫إن العبد مِنّا إذا ما ذهب للقاء عبد مثله له سيادة وجاه‪ ،‬ويدرك العبد صاحب السيادة والجاه ـ‬
‫بفضل من ال ـ السبب الذي جاء من أجله العبد الخر؛ فيقول صاحب السيادة لمعاونيه‪ :‬ل‬
‫ل ومن حقدٍ‬
‫تُ ْدخِلوه‪ .‬وهو يقول ذلك؛ لن ال سبحانه أطلعه على ما في قلب العبد الخر من غ ّ‬
‫ومن نفاق‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أما إذا دقّ بابه عبد آخر‪ ،‬فتجده يأمر معاونيه أنْ يُدخلوه وأن يفسحوا له؛ لنه علم بما في قلبه من‬
‫صدْق اللقاء والمودة‪.‬‬
‫محبة ورغبة في ِ‬
‫إذا كان هذا يحدث بين العباد‪ ،‬وهم كلهم أغيار‪ ،‬فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى؟‬
‫وال سبحانه هو القائل في حديث قدسي‪ " :‬من ذكرني في نفسه ذكرتُه في مل خير منه "‪.‬‬
‫ما بالنا بالعبد إذا دخل على اليمان بال غير مشحون بعقيدة عدا ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أقْ ِبلْ على ال سبحانه وعلى ذكر ال‪ ،‬وأنت إنْ ذكرت ال في نفسك‪ ،‬فال يذكرك فيه نفسه‪،‬‬
‫وإن ذكرته في مل ذكرك في مل خير منه‪ ،‬فالمل الذي ستذكره فيه مل خَطّاءٌ‪ ،‬وال سبحانه‬
‫سيذكرك في مل طاهر‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه في ذات الحديث القدسي‪:‬‬

‫" إنْ تقرّب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا "‪.‬‬


‫والذراع أطول من الشّبر‪.‬‬
‫ويقول‪ " :‬وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "‪.‬‬
‫فالمشي قد يُتعب العبد‪ ،‬لذلك يُسرع إليه الحق عز وجل‪ ،‬وهو سبحانه بكل ربوبيته ما إنْ يعلمْ أن‬
‫عبدا قد صفا قلبه من خصومة ال تعالى في شيء‪ ،‬حتى يفتح أمامه أبواب محبته سبحانه‪ ،‬فيحبّب‬
‫فيه خلقه‪ ،‬ويجعل له مدخل صدق في كل أمر ومخرج صدق من كل ضيق‪ ،‬وهو الحق القائل‪:‬‬
‫{ وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَ ُهمْ هُدًى وَآتَاهُمْ َت ْقوَاهُمْ }[محمد‪.]17 :‬‬
‫ونلحظ أن الحق سبحانه يؤكد في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها أنه لو شاء لمن مَنْ في‬
‫الرض جميعا؛ ليبيّن لنا أنه حتى إبليس الذي دخل في جدالٍ مع ال‪ ،‬لو شاء الحق سبحانه لمن‬
‫إبليس‪.‬‬
‫حكِ َم المرَ حول كل خَلْقه ومخلوقاته‪ ،‬فل يشذ منهم أحد‪.‬‬
‫وجاء الحق سبحانه بهذا التأكيد؛ لِ ُي ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه في نفس الية‪:‬‬
‫{ َأفَأَنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّىا َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }[يونس‪.]99 :‬‬
‫أراد الحق سبحانه أن يُنبّه رسوله صلى ال عليه وسلم وكل المؤمنين أنه‪:‬‬
‫{ لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ }[البقرة‪.]256 :‬‬
‫لن مطلوبات الدين ليست هي المطلوبات الظاهرة فقط التي تقع عليها العين‪ ،‬فهناك مطلوبات‬
‫أخرى مستترة‪َ ،‬ف َهبْ إنك أكرهت قالبا أتستطيع أن تُكرِه قلبا؟‬
‫والحق سبحانه وتعالى يريد قلوبا ل قوالب‪.‬‬
‫وهكذا ل يصلح الكراه في قضية الدين‪ ،‬ولكن على النسان ألّ يسحب الكراه إلى غير موضعه‬
‫أو مجاله؛ لنك قد تجد مسلما ل يصلّي فينهره صديقه‪ ،‬فيردّ‪ :‬ل إكراه في الدين‪ .‬وهذا استخدام‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غير صحيح واستدلل خاطىء؛ لن الكراه في الدين إنما يكون ممنوعا في القضية العقدية‬
‫الولى‪.‬‬
‫ولكن مَنْ أعلن أنه مسلم‪ ،‬وشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال‪ ،‬فهذا إعلن باللتزام بكل‬
‫أحكام السلم‪ ،‬وهو محسوب على السلم‪ ،‬فإنْ أخلْ بحكمٍ من أحكام السلم فل بد من محاسبته‪.‬‬
‫ول إكراه في الدين‪ ،‬فيما يخصّ القضية العقدية الولى‪ ،‬وأنت حُرّ في أن تدخل إلى السلم أو ل‬
‫تدخل‪ ،‬فإنْ دخلت السلم فأنت ملتزم باحكام السلم؛ لنك آمنت به وصِ ْرتَ محسوبا عليه‪،‬‬
‫واحفظ حدود السلم ول تكسرها؛ لنك على سبيل المثال ـ ل قدر ال ـ إن سرقت؛ تٌقطع يدك‪،‬‬
‫وإنْ زنيت تُرجَم أو تُجلد‪ ،‬وإنْ شربت الخمر تُجلد؛ لنك قبلتَ قواعد السلم وشريعته‪.‬‬
‫وإنْ رأى واحدٌ مسلما يسرق‪ ،‬فل يقولن إن السلم يُسرّق‪،‬ولكن إن رآه يُعاقَب‪ ،‬فهو يعرف أن‬
‫السلم يعاقب مَنْ يجرم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فـ{ لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ }[البقرة‪.]256 :‬‬
‫تخص المنع عن الكراه على أصل الدين‪ ،‬ولكن بعد أن تؤمن فأنت ملتزم بفرعيات الدين‪،‬‬
‫وتعاقب إنْ خرجتَ على الحدود‪.‬‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬مَ َيلُ القائم على حدود ال‪ ،‬والواقع فيها كمثل قوم استهموا‬
‫على سفينة‪ ،‬فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها‪ ،‬فكان الذين في أسفلها إذا اسْ َتقَوْا من الماء‬
‫ن فوقنا‪ ،‬فإن يتركوهم وما‬
‫ن فوقهم فقالوا‪ :‬لو أنّا خرقنا في نصيبنا خُرْقا ولم نُؤذِ مَ ْ‬
‫مرّوا على مَ ْ‬
‫أرادوا هلكوا جميعا‪ ،‬وأن أخذوا على أيديهم نجوا‪ ،‬ونجوا جميعا "‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فاللتزام بفروع الدين أمر واجب ممن دخل الدين دون إكراه‪ ،‬وإنْ خدش حكما من الحكام‬
‫يُعاقب‪.‬‬
‫وهناك ما هو أشدّ من ذلك‪ ،‬وهو حكم مَنْ ارتد عن السلم‪ ،‬وهو القتل‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬إن هذا المر يمثل الوحشية‪ .‬فنقول له‪ :‬إن من التزم بالدين‪ ،‬إنما قد علم بداية أنه‬
‫إنْ آمن ثم ارتد‪ ،‬فسوف يُقتَل؛ ولذلك فليس له أن يدخل إلى السلم إل بيقين اليمان‪.‬‬
‫وهذا الشرط للدين؛ ل على الدين‪ .‬فل تدخل على الدين إل وأنت متيقّن أن أوامر الدين فوق‬
‫شهواتك‪ ،‬واعلمْ أنك إنْ دخلتَ على الدين ثم تَخلّ ْيتَ عنه فسوف ُتقْتَل‪ ،‬وفي هذا تصعيب لمر‬
‫دخول الدين‪ ،‬فل يدخله أحد إل وهو واثق من يقينه اليماني‪ ،‬وهذا أمر محسوب للدين ل ضد‬
‫الدين‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ن لَ َي ْعقِلُونَ { [يونس‪.]100 :‬‬
‫ج َعلُ الرّجْسَ عَلَى الّذِي َ‬
‫} وَيَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والرجس‪ :‬هو العذاب‪ ،‬وهو الذنب‪ ،‬ويجعله الحق سبحانه وتعالى على الذين ل يعقلون؛ لن قضية‬
‫ت على العقل بدون هَوىً؛ ل بُدّ أن ينتهي العقل إلى اليمان‪.‬‬
‫ح ْ‬
‫الدين إذا طُرِ َ‬
‫ولذلك تجد القمم الفكرية حين يدرسون الدين؛ فهم يتجهون إلى السلم؛ لنه هو الدين الذي يشفي‬
‫الغُلّة‪ ،‬أما الذين أخذوا الدين كميراث عن الباء‪ ،‬فهم يظلون على حالهم‪.‬‬
‫وبعض القمم الفكرية في العالم التي اتجهت إلى اعتناق السلم‪ ،‬لم تتجه إليه بسبب رؤيتهم لسلوك‬
‫المسلمين؛ لن سلوك المنسوبين للسلم في زماننا قد ابتعد عن الدين‪.‬‬
‫ولذلك فقد اتجهت تلك القمم الفكرية للسلم إلى دراسة مبادىء السلم‪ ،‬وفرّقوا بين مبادىء‬
‫الدين‪ ،‬وبين المنتمين للدين‪ ،‬وهذا إنصاف في البحث العقلي؛ لن الدين حين يُجرّم عملً‪ ،‬فليس في‬
‫ذلك التجريم إذْنٌ من الدين بحدوث مثل هذا الفعل المجرم‪ ،‬بدليل تقدير العقاب حسب خطورة‬
‫الجريمة‪.‬‬
‫فالحق سبحانه قد قال‪:‬‬
‫طعُواْ أَيْدِ َي ُهمَا }[المائدة‪.]38 :‬‬
‫ق وَالسّا ِر َقةُ فَاقْ َ‬
‫{ وَالسّا ِر ُ‬
‫إنه الذن باحتمال ارتكاب السرقة‪ ،‬وكذلك المر بالنسبة للزنا‪ ،‬وغير ذلك من الجرائم التي جعل‬
‫لها لحق سبحانه عقوبات تتناسب مع الضرر الواقع على النفس أو المجتمع من وقوعها‪ ،‬فإذا‬
‫رأيت مسلما يسرق‪ ،‬فتذكّر العقاب الذي أوقعه السلم على السارق‪ ،‬وإنْ رأيتَ مسلما يزني‪،‬‬
‫فَتذكّر العقوبة التي حددها الحق سبحانه للزاني‪.‬‬
‫وهكذا الحال في جميع الجرائم‪.‬‬
‫وكبار المفكرين العالميين الذين يتجهون إلى السلم إنما يدرسون مبادىء الدين مفصولة عن‬
‫سلوك المسلمين المعاصرين‪ ،‬الذين ابتعدوا عن مبادىء الدين الحنيف‪.‬‬

‫وها هو ذا " جينو " المفكر الفرنسي يقول‪ " :‬الحمد ل الذي هداني للسلم قبل أن أعرف‬
‫المسلمين‪ ،‬فلو كنتُ قد عرفتُ المسلمين قبل السلم لكان هناك احتمال لزلزلة في النفس تجعلني‬
‫أتردد في الدخول إلى هذا الدين الرفيع المقام "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فإعمال العقل الراقي ل بد أن يؤدي إلى السلم لنه فطرة ال‪ ،‬والسلم يُنمّيها‪ ،‬ويرتقي‬
‫ط التكليف‪.‬‬
‫بها‪ ،‬والعقل هو مَنَا ُ‬
‫والرجس والذنب والعذاب كله إنما يقع على الذين ل ُي ْعمِلون عقولهم‪ ،‬وإعمال العقل المتعقل للقيم‬
‫ينفي الرجس؛ لنهم سيُقبلون على التدين بإذن ال تعالى لهم أن يدخلوا على اليمان به‪.‬‬
‫ط التكليف؟‬
‫وإذا سألني سائل‪ :‬ما هو العقل؟ وما هو مَنَا ُ‬
‫عقَال البعير‪ ،‬وهو ما ُيشَدّ على ُركْبته حتى ل ينهض‪ ،‬ويظل‬
‫نجد أن كلمة " عقل " مأخوذة من ِ‬
‫ك العقال‪.‬‬
‫سكانا‪ ،‬وحين يريد صاحبه أن يُنهضه فهو يف ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأهل الخليج يضعون على رؤوسهم غطاء للرأس (غُتْرة) ويثبتونه بنسيج مغزول على هيئة‬
‫حلقتين‪ ،‬ويسمون هاتين الحلقتين " العقال "؛ لنه يمنع غطاء الرأس من أن يحركه الهواء‪ ،‬أو‬
‫يُطيّره‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالعقل أراده ال سبحانه لنا ليحجزنا عن النطلق والفوضى في تحقيق شهوات النفس؛ لنه‬
‫سبحانه قد خلق النفس البشرية‪ ،‬ويعلم أنها تحب الشهوات العاجلة‪ ،‬فأراد سبحانه للنسان أن يكبح‬
‫جماح تلك الشهوات بالعقل‪.‬‬
‫فحين يفكر النسان في تحقيق الشهوة العاجلة‪ ،‬يجد عقله وهو يهمس له‪ :‬إنك ستستمتع بالشهوة‬
‫العاجلة دقائق‪ ،‬وأنت قد تأخذها من غيرك؛ من محارمه أو من ماله‪ ،‬فهل تسمح لغيرك أن يأخذ‬
‫شهوته العاجلة منك؟‬
‫إذن‪ :‬عليك أن تعلم أن العقل إنما أراده ال سبحانه لك ليعقلك عن الحركة التي فيها هَوى‪ ،‬وتحقق‬
‫بها شهوة ليست لك‪ ،‬ومغبّتها متعبة‪.‬‬
‫ويخطىء مَنْ يظن أن العقل يفتح الباب أمام النطلق الل مسئول باسم الحرية‪ ،‬ونقول لمن يظن‬
‫مثل هذا الظن‪ :‬إن العقل هو مَنَاطُ التكليف‪ ،‬وهو الذي يوضّح لك آفاق المسئولية في كل سلوك‪.‬‬
‫ومن عدالة الحق سبحانه أنه لم يكلّف المجنون؛ لن حكم المجنون على الشياء والفعال هو حكم‬
‫غير طبيعي؛ لنه يفتقد آلة الختيار بين البدائل‪.‬‬
‫وكذلك لم يكلف ال سبحانه مَنْ لي ينضج بالبلوغ؛ لنه غير مُسْتوفٍ للمَلَكات‪ ،‬ولم تستوِ لديه‬
‫القدرة على إنجاب مثيل له‪.‬‬
‫طعْمها مقبولً‬
‫وقد ضربنا من قبل المثل بالثمرة‪ ،‬وقلنا‪ :‬إنه ل يقال إن الثمرة نضجت وصار َ‬
‫مستساغا إل إذا أصبحت البذرة التي فيها قادرة على أن تنبت منها شجرة إن زرعناها في‬
‫الرض‪.‬‬
‫وأنت مثلً حين تقطع البطيخة‪ ،‬وتجد لُبّها أبيض اللون فأنت ل تأكلها‪ ،‬وتحرص على أن تأكل‬
‫البطيخة ذات البذر الذي صار أسود اللون؛ لنه دليل ُنضْج البطيخة‪ ،‬وأنت حين تأخذ هذا اللبّ‬
‫وتزرعه ينتح لك بطيخا‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فاكتمال النسان بالبلوغ يتيج لعقله أن يَزِنَ السلوك قبل القدام عليه‪ ،‬والتكليف إنما يكون‬
‫للعاقل البالغ غير المكرة بقوةٍ تقهره على أن يفعل ما ل يعقله‪.‬‬
‫أما قبل البلوغ فالتكليف ليس من ال‪ ،‬بل من السرة‪ ،‬لتدربه على الطاعة‪.‬‬
‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم يقول لنا‪ " :‬مروا أولدكم بالصلة لسبع سنين‪ ،‬واضربوهم عليها‬
‫لعشر سنين‪ ،‬وفرّقوا بينهم في المضاجع "‪.‬‬
‫وهنا نجد أن الذي يأمر هو الب وليس ال‪ ،‬والذي يعاقب هو الب‪ ،‬وليس ال‪ ،‬وما إن يصل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫البن إلى مرحلة البلوغ يبدأ تكليفه من ال‪.‬‬
‫أما إذا جاء مَنْ ُيكْرِهه على أن يرتكب معصية بقوة تفوق قوته كأن يمسك (مسدسا) ويقول له‪ :‬إن‬
‫لم تشرب الخمر أطلقتُ عليك النار‪ ،‬فهنا يرفع عنه التكليف‪.‬‬
‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم يقول في الحديث الشريف‪ " :‬إن ال تجاوز عن أمتي‪ :‬الخطأ‪،‬‬
‫والنسيان‪ ،‬وما اسْتُكرِهوا عليه "‪.‬‬
‫فالعقل ـ إذن ـ هو مناط التكليف‪ ،‬وعمله أن يختار بين البدائل في كل شيء‪ ،‬ففي الطعام مثلً‬
‫ن يهوى وضع (الشطة) فوق الطعام؛ لنها تفتح شهيته للطعام‪ ،‬وبعد أن يأكل نجده صارخا‬
‫نجد مَ ْ‬
‫من الحموضة‪ ،‬ويطلب المهضّمات‪ ،‬وقد ل تفلح معه‪ ،‬بل وقد تُفسد له الغشاء المخاطي الموجود‬
‫على جدار المعدة لحمايتها‪ ،‬فَ ُربّ أكْله منعتْ أكلت؛ ولذلك نجد عقله يقول له‪ :‬احذر من هذا‬
‫اللون من المشهيات؛ لنه ضارّ بك‪.‬‬
‫وهكذا نجد العقل هو الذي يوضح للنسان نتائج كل فعل‪ ،‬وهو الذي يدفع إلى التأني والجادة في‬
‫ت العقل للنسان ليستمرىء به الخطأ‬
‫العمل؛ ليكون ناتج العمل مفيدا لك ولغيرك باستمرار‪ ،‬ولم يأ ِ‬
‫والخطايا‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن العقل يدرك ويختار السلوك الملئم لكل موقف‪ ،‬بل إن العقل يدعو النسان إلى‬
‫اليمان حتى في مرحلة ما قبل التكليف‪ ،‬فحين يتأمل النسان بعقله هذا الكون ل بُدّ أن يقوده‬
‫التأمل إلى العتراف بجميل صنيع الخالق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ت وَالَرْضِ {‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬قلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي ال ّ‬

‫(‪)1451 /‬‬

‫ت وَالنّذُرُ عَنْ َقوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ (‪)101‬‬


‫ض َومَا ُتغْنِي الْآَيَا ُ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ُقلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي ال ّ‬

‫وهنا يُحدّثنا الحق سبحانه عن عالم المُلْك الذي تراه‪ ،‬ول يتكلم عن عالم الملكوت الذي يغيب‬
‫عنك‪ ،‬وكأنك إن اقتنعت بعالم الملك‪ ،‬وقلت‪ :‬إن لهذا العالم خالقا إلها قادرا قويا‪ ،‬وتؤمن به؛ هنا‬
‫تهبّ عليك نفحات الغيب؛ لتصل إلى عالم الملكوت؛ لنك اكتشفت في داخلك أمانتك مع نفسك‪،‬‬
‫وأعلنت إيمانك بالخالق سبحانه‪ ،‬ورأيت جميل صُنْعه في السماء والكواكب‪ ،‬وأعجْبتَ بدقة نظام‬
‫سَيْر تلك الكواكب‪.‬‬
‫وترى التوقيت الدقيق لظهور الشمس والقمر ومواعيد الخسوف الكلي أو الجزئي‪ ،‬وتُبهر بدقة‬
‫المنظّم الخالق سبحانه وتعالى‪ ،‬ولن تجد زحام مرور بين الكواكب يعطل القمر أو يعطل الرض‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولن يتوقف كوكب ما لنفاد وقوده‪ ،‬بل كما قال ال سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ك ال َقمَ َر وَلَ الّ ْيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس‪.]40 :‬‬
‫شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ‬
‫{ لَ ال ّ‬
‫ونحن في حياتنا حين نرى دقة الصنعة بكثير فيما هو أقل من السماء والشمس والقمر‪ ،‬فنحن‬
‫نكرّم الصانع‪ ،‬وقد أكرمت البشرية مصمّم التلغراف‪ ،‬ومصمم جهاز التليفزيون‪ ،‬فما بالنا بخالق‬
‫الكون كله سبحانه‪.‬‬
‫ويكفي أن نعلم أن الشمس تبعد عنا مسافة ثماني دقائق ضوئية‪ ،‬والثانية الضوئية تساوي ثلثمائة‬
‫ألف كيلوا متر‪ ،‬وهي شمس واحدة تراها‪ ،‬غير آلف الشموس الخرى في المجرّات الولى‪ ،‬وكل‬
‫مجرّة فيها مليين من المجموعات الشمسية‪ ،‬ويكفي أن تعلم أن الحق سبحانه قد أقسم بالشمس‪،‬‬
‫شعْرى‪:‬‬
‫وقال عن كوكب ال ّ‬
‫شعْرَىا }[النجم‪.]49 :‬‬
‫{ وَأَنّهُ ُهوَ َربّ ال ّ‬
‫لن كوكب الشعرى أكبر من الشمس‪.‬‬
‫وحين تتأمل السموات والرض تجد في الرض جبالً شامخة‪ ،‬وتمر عليها ف ُتدْهش من دقة‬
‫التكوين ودقة التماسك‪ ،‬وتجد في داخلها نفائس ومعادن بدرجات متفاوتة‪ ،‬وقد تجد أسطع الجبال‬
‫مُكوّنة من مواد خصبة بشكل هشّ‪ ،‬فإذا ما نزل عليها المطر‪ ،‬فهو يصحبها معه إلى الرض؛‬
‫لنها تكون مجرد ذرات كذرات برادة الحديد‪ ،‬وتتخلل الرض التي شقّقتها حرارة الشمس‪.‬‬
‫والمثل الواضح على ذلك هو ما كان يحمله النيل من غِرْيَن في أثناء الفيضان إلى الدلتا قبل بناء‬
‫السد العالي‪ ،‬وكانت مياه النيل في أيام الفيضان تشبه مادة " الطحينة " من فرط امتزاجها بذرات‬
‫خصْب الذي نأخذ منه القوات‪.‬‬
‫الغِرْين‪ ،‬وفي مثل هذا الغرين يوجد ال ِ‬
‫ولو أن الجبال كلها كانت هشّة التكوين‪ ،‬لزالها المطر مرة واحدة‪ ،‬وجعلها مجرد مسافة نصف‬
‫متر مضاف لسطح الرض‪ ،‬ولختفى الخصب من الرض بعد سنوات‪ ،‬لكن شاء الحق سبحانه‬
‫أن يجعل الجبال متماسكة‪ ،‬وجعل سطحها فقط هو الهش لينزل المطر في كل عام مرة؛ ليحمل‬
‫الخصب إلى الرض‪.‬‬
‫ومَنْ يتأمل هندسة التكوين في القتيات يجد الجبال مخازن للقوت‪.‬‬
‫فالبشر يحتاجون إلى الحديد ليصنعوا منه ما يفيدهم‪ ،‬سواء أكان آلت لحرث الرض‪ ،‬أو أي‬
‫آلت أخرى تساعد في تجميل الحياة‪ ،‬وتجد الحديد مخزونا في الجبال‪.‬‬

‫وكذلك نجد المواد الخرى مثل الفوسفات أو المنجنيز‪ ،‬أو الرخام‪ ،‬أو الفيروز أو الغازات‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمطمور في الجبال إما للقتيات‪ ،‬أو وسيلة إلى القتيات‪ ،‬أو وسيلة للتّرف فوق القتيات‪.‬‬
‫خصْب من الطبقة الهشّة على سطح الجبال وتبقى‬
‫وحين ينزل المطر فوق الجبال فهو يأخذ ال ِ‬
‫المواد الخرى كثروات للناس‪ ،‬ففي إفريقيا مثلً توجد مناجم للفحم والماس‪ ،‬وفي بلد أخرى تجد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عود الطيب‪ ،‬وهو عبارة عن جذور أشجار‪.‬‬
‫وأنت لو شققت الرض كقطاع من محيط الرض إلى المركز تجد الرض الخصبة مع‬
‫الصحراء‪ ،‬مع المياه‪ ،‬مع الجبال‪ ،‬متساوية في الخير مع القطاع المقابل للقطاع الول‪.‬‬
‫وقد تختلف نوعيات العطاء من موقع إلى آخر على الرض‪ ،‬فأنت لو حسبت مثلً ما أعطاه‬
‫خصْب الجبال من يوم أن خلق ال ـ عز وجل ـ النيل في أرض وادي النيل في‬
‫المطر للنيل من ِ‬
‫إفريقيا‪ ،‬وحسبت ما أعطاه النفط (البترول)‪ ،‬في صحراء المارات مثلً‪ ،‬ستجد أن عطاء النيل‬
‫يتساوى مع عطاء البترول‪ ،‬رغم أن اكتشاف البترول قد تَمّ حديثا‪.‬‬
‫وكل قُوتٍ محسوب من مخازن القوت‪ ،‬وكل قوت له زمن‪ ،‬فهناك زمن للفحم‪ ،‬وزمن للبترول‪،‬‬
‫كل ذلك بنظام هندسي أنشأه الحكيم العلى سبحانه‪.‬‬
‫وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال‪َ } :‬ي ْعقِلُونَ { في مجال النظر في السموات وفي الرض‪ ،‬فهذه‬
‫دعوة لتأمل عجائب السموات والرض‪.‬‬
‫ومن تلك العجائب أن الجبال الشاهقة لها قمة‪ ،‬ولها قاعدة‪ ،‬مثلها مثل الهرم‪ ،‬وتجد الوديان على‬
‫العكس من الجبال؛ لن الوادي يكون بين جبلين‪ ،‬وتجد رأس الوادي في أسفله‪ ،‬ورأس الجبل في‬
‫قمته‪.‬‬
‫وحين ينزل المطر فهو يمرّ برأس الجبل الضيق؛ ليصل إلى أسفل قاع الوادي الضيق‪ ،‬وكلما نزل‬
‫المطر فهو يأخذ من سطح الجبل؛ ليمل مساحة الوادي المتسعة‪ ،‬وكلما ازداد الخلق‪ ،‬زاد ال‬
‫سبحانه رقعة القتيات‪.‬‬
‫ومثال ذلك تجده في الغِرْيَن القادم من منابع النيل؛ ليأتي إلى وادي النيل والدلتا‪ ،‬وكانت هذه الدلتا‬
‫من قبل مجرد مستنقعات مالحة‪ ،‬وشاء الحق سبحانه أن تتحول إلى أرض خصبة‪.‬‬
‫وحين نتأمل ذلك نرى أن كل شيء في الكون قد أوجده الحق سبحانه بحساب‪.‬‬
‫والذي يفسد الكون هو أننا ل نقوم بتكثير ما تكاثر‪ ،‬بل ننتظر إلىأن تزدحم الرض بمن عليها‪ ،‬ثم‬
‫نفكر في استصلح أراضٍ جديدة‪ ،‬وكان يجب أن نفعل ذلك من قبل‪.‬‬
‫وكلما نزل المطر على الجبال فهي تتخلخل وتظهر ما فيها من معادن‪ ،‬يكشفها النسان و ُيعْمِل‬
‫عقله في استخدامها‪.‬‬
‫حكْما تكليفيا مأمورا به‪ ،‬يجد نور اليمان‬
‫والمؤمن حين يرى ذلك يزداد إيمانا‪ ،‬وكلما طبّق المؤمن ُ‬
‫وهو يشرق في قلبه‪.‬‬
‫وليُجرّب أي مسلم هذه التجربة‪ ،‬فليجرب أن يعيش أسبوعا في ضوء منهج ال سبحانه وتعالى‪ ،‬ثم‬
‫يَزنْ نفسه ويُقيّمها ليعرف الفارق بين أول السبوع وآخر السبوع‪ ،‬سيكتشف في هذا السبوع أنه‬
‫يصلي في مواقيت الصلة‪ ،‬وسيجد أنه يعرق في عمله ليكسب حللً‪ ،‬وسيجد أنه يصرف ماله في‬
‫حلل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫زنْ نفسك يقينيا في آخر السبوع ستجد أن نفسك قد شفّت شفافية رائعة؛ لتجد ضوء ونور اليمان‬
‫وهو يصنع انسجاما بينك وبين الكون كله في أبسط التفاصيل وأعقدها أيضا‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬إنك قد تجد الرجل من هؤلء الذين أسبغ عليهم تطبيقُ منهج ال الشفافيةَ تسأله‬
‫زوجته‪ :‬ماذا نطبخ اليوم؟ فيقول لها‪ :‬فَلْنقْضِ اليوم بما بقي من طعام أمس‪ ،‬ثم ُيفَاجأ بقريب له‬
‫يزوره من الريف‪ ،‬وقد جاءه ومعه الخير‪.‬‬
‫لقد وصل الرجل إلى درجة من الشفافية تجعله منسجما مع الكون كله‪ ،‬فيصله رزق ال تعالى له‬
‫من أيّ مكان‪.‬‬
‫ل يعقوب عليه السلم‪:‬‬
‫وتجد الشفافية أيضا في أعقد المور‪ ،‬ألم َيقُ ْ‬
‫سفَ }[يوسف‪.]94 :‬‬
‫جدُ رِيحَ يُو ُ‬
‫{ إِنّي لَ ِ‬
‫وكان إخوة يوسف ـ عليه السلم ـ ما زالوا على أبواب مصر خارجين منها للقاء أبيهم‪ ،‬حاملين‬
‫قميصَ يوسف‪ ،‬الذي أوصاهم يوسف بإلقائه على وجه أبيه ليرتد إليه بصره‪.‬‬
‫لقد جاءت ريح يوسف عليه السلم لبيه يعقوب؛ لن يعقوب عليه السلم قد عاش في انسجام مع‬
‫الكون‪ ،‬ول توجد مُضارة بينه وبين الكون‪.‬‬
‫والمثال الحيّ لذلك هو فرح لكون لمجيء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يوم مولده‪ ،‬لقد فرح‬
‫الكون بمقدم الرسول صلى ال عليه وسلم؛ لن الكون عابد مُسبّح ل سبحانه‪ ،‬فحين يأتي مَنْ يدعو‬
‫ص ال تعالى‪ ،‬فالكون كله يكرهه ويلعنه‪،‬‬
‫العباد إلى التوحيد ل بُدّ أن يفرح الكون‪ ،‬أما مَنْ َي ْع ِ‬
‫ويتلعن الثنان‪.‬‬
‫وقد فرح الكون بمجيء الرسول الذي أراد ال سبحانه أن تنزل عليه الرسالة اللهية ليعتدل ميزان‬
‫النسان مع الكون‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ { [يونس‪.]101 :‬‬
‫} ُقلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي ال ّ‬
‫والكون كله أمامهم‪ ،‬فلماذا ل ينظرون؟ إنهم يبصُرون ول يستبصرون‪ ،‬مثل الذي يسمع ول‬
‫يسمع؛ ولذلك يقول ال سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ت وَالنّذُرُ عَن َقوْ ٍم لّ ُي ْؤمِنُونَ { [يونس‪.]101 :‬‬
‫} َومَا ُتغْنِي اليَا ُ‬
‫إذن‪ :‬فعدم إيمانهم أفقدهم البصيرة والتأمل‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪َ } :‬ف َهلْ يَن َتظِرُونَ ِإلّ مِ ْثلَ أَيّامِ {‬

‫(‪)1452 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َف َهلْ يَنْ َتظِرُونَ إِلّا مِ ْثلَ أَيّامِ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلهِمْ ُقلْ فَانْتَظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ (‪)102‬‬

‫وهؤلء الذين ل يؤمنون يظلون في طغيانهم يعمهون‪ ،‬وكأنهم ينتظرون أن تتكرر معهم أحداث‬
‫الذين سبقوا ولم يؤمنوا‪ ،‬لقد جاءهم الرسول ببيان ككل المكذّبين السابقين‪.‬‬
‫ونحن نعلم أن اليوم هو وحدة من وحدات الزمن‪ ،‬وبعده السبوع‪ ،‬وبعد السبوع نجد الشهر‪ ،‬ثم‬
‫نجد السنة‪ ،‬وكلما ارتقى النسان قسّم اليوم إلى ساعات‪ ،‬وقسّم الساعات إلى دقائق‪ ،‬وقسّم الدقائق‬
‫إلى ثوانٍ‪.‬‬
‫ولكما تقدمت الحداث في الزمن نجد المقاييس تزداد دقة‪ ،‬واليوم ـ كما قلنا ـ جعله ال سبحانه‬
‫وتعالى وحدة من وحدات الزمن‪ ،‬وهو مُكوّن من ليل ونهار‪.‬‬
‫ولكن قد يُذكر اليوم ويُراد به ما حدث فيه من أحداث مُ ْلفِتة‪ ،‬مثلما نقول‪ " :‬يوم ذى قَرَد " و " يوم‬
‫حنين " و " يوم أحُد "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقد يكون المقصود باليوم الحدث البارز الذي حدث فيه‪ ،‬وحين ننظر في التاريخ‪ ،‬ونجد كتابا‬
‫اسمه " تاريخ أيام العرب " ‪ ،‬فنجد " يوم ُبعَاث " و " يوم أوطاس " وكل يوم يمثل حربا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاليوم ظرف زمني‪ ،‬ولكن قد يُقصَد به الحدث الذي كان في مثل هذا اليوم‪.‬‬
‫ومثال ذلك أنك قد تجد من أهل الزمن المعاصر مَنْ عاش في أزمنة سابقة فيتذكر اليام الخوالي‬
‫ويقول‪ :‬كانت السعار قديما منخفضة‪ ،‬وكان كل شيء مُتوفرا‪ ،‬فيسمع مَنْ يرد عليه قائلً‪ :‬لقد‬
‫كانت أياما‪ ،‬أي‪ :‬أنها أيام حدث الرخاء فيها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقد يُنسَب اليوم إلى الحدث الذي وقع فيه‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َف َهلْ يَنتَظِرُونَ ِإلّ مِ ْثلَ أَيّامِ الّذِينَ خََلوْاْ } [يونس‪.]102 :‬‬
‫والذين خلوا منهم قوم نوح عليه السلم وقد أغرقهم ال سبحانه‪ ،‬وقوم فرعون الذين أغرقهم ال‬
‫تعالى أيضا‪.‬‬
‫وال سبحانه هو القائل‪:‬‬
‫سفْنَا بِهِ‬
‫{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَ ْرسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ الصّيْحَ ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ خَ َ‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ }[العنكبوت‪.]40 :‬‬
‫الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َم ُه ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬
‫وهذه أيام حدثت فيها أحداث يعلمونها‪ ،‬فهل هم ينتظرون أياما مثل هذه؟‬
‫بالطبع ما كان يصحّ لهم أن يستمرئوا الكفر‪ ،‬حتى ل تتكرر معهم مآسٍ كالتي حدثت لمن سبقهم‬
‫إلى الكفر‪.‬‬
‫ونحن نجد في العامية المثل الفطري الذي ينطق بإيمان الفطرة‪ ،‬فتسمع من يقول‪ " :‬لك يوم يا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ظالم " أي‪ :‬أن اليوم الذي ينتقم فيه ال تعالى من الظالم يصبح يوما مشهورا؛ لن الظالم إنما‬
‫يفتري على خلق ال؛ لذلك يأتي له الحق سبحانه بحدث ضخم يصيبه فيه ال تعالى ويذيقه مجموع‬
‫ما ظلم الناسَ به‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫{ ُقلْ فَانْتَظِرُواْ إِنّي َم َعكُمْ مّنَ ا ْلمُنْ َتظِرِينَ } [يونس‪.]102 :‬‬
‫وقوله هنا‪ { :‬فَانْ َتظِرُواْ } فيه تهديد‪ ،‬وقوله‪ { :‬إِنّي َم َعكُمْ مّنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ } [يونس‪ ]102 :‬فيه بشارة؛‬
‫لن الرسول صلى ال عليه وسلم سينتظر هذا اليوم ليرى عذابهم‪ ،‬أما هو صلى ال عليه وسلم‬
‫فسوف يتحقق له النصر في هذا اليوم‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ { :‬ثمّ نُ َنجّي ُرسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ }‬

‫(‪)1453 /‬‬

‫حقّا عَلَيْنَا نُنْجِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)103‬‬


‫ثُمّ نُ َنجّي رُسُلَنَا وَالّذِينَ َآمَنُوا كَذَِلكَ َ‬

‫والحق سبحانه قد أنجْى ـ مِنْ قَبْل ـ رُسله ومَنْ أمنوا بهم‪ ،‬لتبقى معالم للحق والخير‪.‬‬
‫ومن ضمن معالم الخير والحق ل بد أن تظل معالم الشر‪ ،‬لنه لول مجيء الشر بالحداث لتي‬
‫ت َعضّ لناس لما استشرف الناس إلى الخير‪.‬‬
‫ونحن نقول دائما‪ :‬إن اللم الذي يصيب المريض هو جندي من جنود العافية؛ لنه ينبه النسان‬
‫إلى أن هناك خللً يجب أن يبحث له عن تشخيص عند الطبيب‪ ،‬وأن يجد علجا له‪.‬‬
‫واللم يوجد في ساعات اليقظة والوعي‪،‬ولكنه يختفي في أثناء النوم‪ ،‬وفي النوع َردْع ذاتيّ لللم‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه هنا‪:‬‬
‫حقّا عَلَيْنَا نُنجِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [يونس‪.]103 :‬‬
‫سلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ َكذَِلكَ َ‬
‫{ ُثمّ نُنَجّي رُ ُ‬
‫هذا القول يقرر البقاء لعناصر الخير في الدنيا‪.‬‬
‫وكلما زاد الناس في اللحاد زاد ال تعالى في المدد‪ ،‬ففي أيّ بلد ُيفْترى فيها على اليمان ويُظلم‬
‫المؤمنون‪ ،‬ويكثر الطغاة؛ تجد فيها بعض الناس منقطعين إلى ال تعالى‪ ،‬لتفهّم حقيقة القيم‪ ،‬وحين‬
‫تضيق الدنيا بالظلمة والطغاة تجدهم يذهبون إلى هؤلء المنقطعين ل‪ ،‬ويسألونهم أن يدعوا لهم‪.‬‬
‫حقّا‬
‫وقد ألزم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ هنا نفسه بأن يُنجِي المؤمنين في قوله سبحانه‪ { :‬كَذَِلكَ َ‬
‫عَلَيْنَا نُنجِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [يونس‪.]103 :‬‬
‫شكّ }‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك‪ُ { :‬قلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ إِن كُن ُتمْ فِي َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1454 /‬‬

‫شكّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْ ُبدُ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وََلكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ‬
‫ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنْ كُنْ ُتمْ فِي َ‬
‫الّذِي يَ َت َوفّاكُ ْم وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)104‬‬

‫ك معناه‪ :‬وضَعْ أمرين في ِكفّتين متساويتين‪.‬‬


‫شّ‬‫وال ّ‬
‫وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم بأن يعرض على الكافرين قضية الدين‪ ،‬وأن‬
‫يضعوها في كفة‪ ،‬ويضعوا في الكفة المقابلة ما يؤمنون به‪.‬‬
‫ويترك لهم الحكم في هذا المر‪.‬‬
‫هم ـ إذن ـ في شك‪ :‬هل هذا الدين صحيح أم فاسد؟‬
‫وعَرْض الرسول صلى ال عليه وسلم لمر الدين للحكم عليه‪ ،‬يعني‪ :‬أن أمر الدين ملحوظ أيضا‬
‫عند أيّ كافر‪ ،‬وهو ينتبه أحيانا إلى قيمة الدين‪.‬‬
‫فإن كنتم في شكّ من الدين الذي أن ِزلَ على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهل ينتصر الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم ومَنْ معه عليهم‪ ،‬أم تكون لهم الغلبة؟‬
‫وحين يعرض الرسول صلى ال عليه وسلم أمر الدين عليهم‪ ،‬ويترك لهم الحكم‪ ،‬فهذه ثقة منه‬
‫صلى ال عليه وسلم بأن قضايا دينه إنْ نظر إليها النسان ليحكم فيها‪ ،‬فل بد أن يلتجىء النسان‬
‫إلى اليمان‪.‬‬
‫ويحسم الحق سبحانه وتعالى أمر قضية الشرك به‪ ،‬ويستمر أمره إلى الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم أن يقول‪:‬‬
‫{ فَلَ أَعْ ُبدُ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّ ِه وَلَـاكِنْ أَعْ ُبدُ اللّهَ } [يونس‪.]104 :‬‬
‫أي‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم ل يمكن أن يعبد الشركاء وأن يعبد ال؛ لنه لن يعبد إل ال‬
‫{ وَلَـاكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ } [يونس‪.]104 :‬‬
‫ثم جاء سبحانه بالدليل الذي ل مراء فيه‪ ،‬الدليل القوي‪ ،‬وهو أن الحق سبحانه وتعالى وحده هو‬
‫المستحق للعبادة؛ لنه { الّذِي يَ َت َوفّاكُمْ } ‪ ،‬ول يوجد مَنْ يقدر أو يتأبى على َقدَر ال سبحانه حين‬
‫يُميته‪.‬‬
‫وهنا قضيتان‪:‬‬
‫الولى‪ :‬قضية العبادة في قوله سبحانه‪ { :‬فَلَ أَعْ ُبدُ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـاكِنْ أَعْ ُبدُ اللّهَ‬
‫الّذِي يَ َت َوفّاكُمْ } [يونس‪.]104 :‬‬
‫وكان ل ُبدّ أن يأتي أمر المسألتين معا‪ :‬مسألة عدم عبادة الرسول لمن هم من دون ال‪ ،‬ومسألة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تخصيص ال تعالى وحده بالعبادة‪.‬‬
‫والفصل واضح بما يُحدّد قطع العلقات بين معسكر اليمان ومعسكر الشرك‪ ،‬كما أورده الحق‬
‫سبحانه في قوله‪:‬‬
‫{ ُقلْ ياأَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ * لَ أَعْبُدُ مَا َتعْ ُبدُونَ * وَلَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َولَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ *‬
‫وَلَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َلكُمْ دِي ُنكُ ْم وَِليَ دِينِ }[الكافرون‪1 :‬ـ ‪.]6‬‬
‫والذين يقولون‪ :‬إن في سورة (الكافرون) تكرارا ل يلتفتون إلى أن هذا المر تأكيد لقطع‬
‫العلقات؛ ليستمر هذا القطع في كل الزمن‪ ،‬فهو ليس قطعا مؤقّتا للعلقات‪.‬‬
‫وهذا أول قَطْع للعلقات في السلم‪ ،‬بصورة حاسمة ليست فيها أية فرصة للتفاهم أو للمساومة‪،‬‬
‫ويظل كل معسكر على حاله‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة النصر‪:‬‬
‫حمْدِ رَ ّبكَ‬
‫{ ِإذَا جَآءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ * وَرَأَ ْيتَ النّاسَ َيدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجا * فَسَبّحْ ِب َ‬
‫وَاسْ َت ْغفِ ْرهُ إِنّهُ كَانَ َتوّابا }‬

‫[النصر‪1 :‬ـ ‪.]3‬‬


‫هنا يتأكد المر‪ ،‬فبعد أن قطع الرسول صلى ال عليه وسلم العلقات مع معسكر الشرك‪ ،‬جاء‬
‫نصر ال سبحانه وتعالى وفَتْحه‪َ ،‬فهُرِع الناس من معسكر الشرك إلى معسكر اليمان‪.‬‬
‫هم ـ إذن ـ الذين جاءوا إلى اليمان‪ ..‬هذه هي القضية الولى‪:‬‬
‫} فَلَ أَعْ ُبدُ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّ ِه وَلَـاكِنْ أَعْ ُبدُ اللّهَ { [يونس‪.]104 :‬‬
‫وهم كانوا يعبدون الصنام المصنوعة من الحجارة‪.‬‬
‫وأنت إذا نظرتَ إلى الجناس في الوجود‪ ،‬فأكرمها هو النسان الذي سخّر له الحق سبحانه بقية‬
‫الجناس لتكون في خدمته‪.‬‬
‫والجنس القل من النسان هو الحيوان‪.‬‬
‫ثم يأتي الجنس القل مرتبةً من النسان و الحيوان‪ ،‬وهو النبات‪.‬‬
‫ثم يأتي الجماد كأدنى الجناس مرتبةً‪ ،‬وهم قد اتخذوا من أدنى الجناس آلهة‪ ،‬وهذه هي قمة‬
‫الخيبة‪.‬‬
‫وتأتي القضية الثانية في قول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫} وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { [يونس‪ ]104 :‬فإذا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد‬
‫رفض العبادة لمن ُهمْ دون ال سبحانه‪ ،‬فمعنى ذلك أنه لن يعبد سوى ال تعالى‪.‬‬
‫وليس هذا موقفا سلبيا‪ ،‬بل هو قمة اليجاب؛ لن العبادة تقتضي استقبال منهج ال بأن يطيع‬
‫أوامره‪ ،‬ويجتنب نواهيه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفا {‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وَأَنْ َأ ِق ْم وَ ْ‬

‫(‪)1455 /‬‬

‫ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفًا وَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ (‪)105‬‬


‫وَأَنْ َأقِ ْم وَ ْ‬

‫وما دام الخطاب مُوجّها لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهو ككل خطاب مِنَ الحقّ سبحانه‬
‫لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إنما ينطوي على المر لكل مؤمن‪.‬‬
‫وإذا ما عبد المؤمن ال سبحانه فهو يستقبل أحكامه؛ ولذلك يأتي المر هنا بأل يلتفت وجه النسان‬
‫المؤمن إلى غير ال تعالى‪،‬فيقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفا } [يونس‪.]105 :‬‬
‫{ وَأَنْ َأ ِق ْم وَ ْ‬
‫فل يلتفت في العبادة يمينا ول يسارا‪ ،‬فما دام المؤمن يعبد ال ول يبعد غيره‪ ،‬فليعلم المؤمن أن‬
‫هناك ـ أيضا ـ شِرْكا خفيا‪ ،‬كأن يعبد النسان مَنْ هم أقوى أو أغنى منه‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫الشخاص التي يُفتن بها النسان‪.‬‬
‫ونحن عرفنا من قبل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جهَ ُه ل وَ ُهوَ مُحْسِنٌ واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا }[النساء‪.]125 :‬‬
‫{ َومَنْ َأحْسَنُ دِينا ِممّنْ أَسْلَمَ وَ ْ‬
‫والحنف أصله ميل في الساق‪ ،‬وتجد البعض من الناس حين يسيرون تظهر سيقانهم متباعدة‪،‬‬
‫وأقدامهم مُلْتفّة‪ ،‬هذا اعوجاج في التكوين‪.‬‬
‫أما المقصود هنا بكلمة (حنيفا) أي‪ :‬معوج عن الطريق المعوج‪ ،‬أي‪ :‬أنه يسير باستقامة‪.‬‬
‫ولكن‪ :‬لماذا يأتي مثل هذا التعبير؟‬
‫لن الدين ل يجيء برسول جديد ومعجزة جديدة‪ ،‬إل إذا كان الفساد قد عَمّ؛ فيأتي الدين؛ ليدعو‬
‫الناس إلى الميل عن هذا الفساد‪ .‬وفي هذا اعتدال لسلوك الفراد والمجتمع‪.‬‬
‫ويحذرنا رسول ال صلى ال عليه وسلم من أن نقع في الشرك الخفي بعد اليمان بال تعالى‪.‬‬
‫ويأتي الكلم عن هذا الشرك الثاني في قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َولَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [يونس‪.]105 :‬‬
‫وهذا الشرك الثاني هو أقل مرحلة من شرك العبادة‪ ،‬ولكن أن تجعل لنسان أو ليّ شيء مع ال‬
‫عملً‪.‬‬
‫فإن رأيت ـ مثلً ـ للطبيب أو للدواء عملً‪َ ،‬فقُل لنفسك‪ :‬إن الطبيب هو مَنْ يصف الدواء‬
‫كمعالج‪ ،‬ولكن ال سبحانه وتعالى هو الذي يشفي‪ ،‬بدليل أن الطبيب قد يخطىء مرة‪ ،‬ويأمر بدواء‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تحدث منه مضاعفات ضارة للمريض‪.‬‬
‫وعلى المؤمن أل يُفتنَ في أيّ سبب من السباب‪.‬‬
‫ونذكر مثالً آخر لذلك‪ ،‬وهو أن بلدا من البلد ذات الرقعة الزراعية المتسعة أعلنت في أحد‬
‫العوام أنها زرعت مساحة كبيرة من الراضي بالقمح بما يكفي كل سكان الكرة الرضية‪،‬‬
‫ونبتت السنابل وأينعتْ‪ ،‬ثم جاءتها ريح عاصف أفسدت محصول القمح‪ ،‬فاضطرت تلك الدولة أن‬
‫تستورد قمحها من دول أخرى‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪َ { :‬ولَ تَ ْدعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ يَن َفعُكَ }‬

‫(‪)1456 /‬‬

‫وَلَا تَ ْدعُ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَ ْن َف ُعكَ وَلَا َيضُ ّركَ فَإِنْ َفعَ ْلتَ فَإِ ّنكَ إِذًا مِنَ الظّاِلمِينَ (‪)106‬‬

‫والمشرك من هؤلء لحظة أنْ عبدَ الصنم ودعاه من دون ال تعالى‪ ،‬فهل استجاب له؟ وحين عبده‬
‫هل قال الصنم له‪ :‬افعل كذا‪ ،‬ول تفعل كذا؟‬
‫إن الصنام التي اتخذها المشركون آلهة لم يكُنْ لها منهج‪ ،‬ول أحد منها ينفع أو يضر‪ ،‬وحين يجيْ‬
‫النفع ل يعرف الصنم كيف بمنعه‪ ،‬وحين يجيء الضّر ل يقدر الصنم أن يدفعه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمَنْ يدعو من دون ال ـ سبحانه وتعالى ـ هو دعاء لمن ل ينفع ول يضر‪.‬‬
‫ومَنْ يفعل ذلك يكون من الظالمين؛ لن الظلم هو إعطاء حقّ لغير ذي حق‪ ،‬سواء أكان في القمة‪،‬‬
‫أو في غير القمة‪.‬‬
‫شفَ لَهُ }‬
‫سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَ كَا ِ‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬وَإِن َي ْمسَ ْ‬

‫(‪)1457 /‬‬

‫شفَ لَهُ إِلّا ُه َو وَإِنْ يُرِ ْدكَ ِبخَيْرٍ فَلَا رَادّ ِل َفضْلِهِ ُيصِيبُ ِبهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ‬
‫سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَا كَا ِ‬
‫وَإِنْ َيمْسَ ْ‬
‫عِبَا ِد ِه وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ (‪)107‬‬

‫هذا كلم الربوبية المستغنية عن الخلق‪ ،‬فال سبحانه وتعالى خلق الناس‪ ،‬ودعاهم إلى اليمان به‪،‬‬
‫وأن يحبوه؛ لنه يحبهم‪ ،‬ويعطيهم‪ ،‬ول يأخذ منهم؛ لنه في غِنىً عن كل خلقه‪.‬‬
‫شفَ لَهُ ِإلّ ُهوَ } [يونس‪:‬‬
‫سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَ كَا ِ‬
‫ويأتي الكلم عن الضّر هنا بالمسّ‪ { ،‬وَإِن َيمْسَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]107‬‬
‫ونحن نعلم أن هناك " مسا " و " لمسا " و " إصابة "‪.‬‬
‫وقوله سبحانه هنا عن الضر يشير إلى مجرد المسّ‪ ،‬أي‪ :‬الضر البسيط‪ ،‬ول َتقُلْ‪ :‬إن الضر ما دام‬
‫صغيرا فالخلق يقدرون عليه‪ ،‬فل أحد يقدر على الضر أو النفع‪َ ،‬قلّ الضر أم كَبُر‪ ،‬وكَثُر النفع أو‬
‫َقلّ‪ ،‬إل بإذن من ال تعالى‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يذكر الضر هنا بالمسّ‪ ،‬أي‪ :‬أهو اللتصاقات‪ ،‬ول يكشفه إل ال سبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫جلّ وعل ـ أنه ذكر مع المس بالضر‪ ،‬الكشفَ عنه‪ ،‬وهذه هي الرحمة‪.‬‬
‫ومن عظمته ـ َ‬
‫ثم يأتي سبحانه بالمقابل‪ ،‬وهو " الخير " ‪ ،‬وحين يتحدث عنه الحق سبحانه‪ ،‬يؤكد أنه ل يرده‪.‬‬
‫ونحن نجد كلمة { ُيصَيبُ } في َوصْف مجيْ الخير للنسان‪ ،‬فالحق سبحانه يصيب به من يشاء‬
‫مِنْ عباده‪.‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الية بهذه النهاية الجميلة في قوله تعالى‪:‬‬
‫{ وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } [يونس‪.]107 :‬‬
‫وهكذا تتضح لنا صورة جلل الخير المتجلي على العباد‪ ،‬ففي الشر جاء به مسّا‪ ،‬ويكشفه‪ ،‬وفي‬
‫الخير يصيب به العباد‪ ،‬ول يمنعه‪.‬‬
‫وال تعالى هو الغفور الرحيم؛ لنه سبحانه لو عامل الناس ـ حتى المؤمنين منهم ـ بما يفعلون‬
‫لعاقبهم‪ ،‬ولكنه سبحانه غفور ورحيم؛ لن رحمته سبقت غضبه؛ ولذلك نجده سبحانه في آيات‬
‫النعمة يقول‪:‬‬
‫حصُوهَآ }[النحل‪.]18 :‬‬
‫{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْعمَةَ اللّ ِه لَ ُت ْ‬
‫وجاء الحق سبحانه بالشكّ‪ ،‬فقال { إِن } ولم يقل‪ " :‬إذا تعدون نعمة ال "؛ لن أمر لن يحدث‪ ،‬كما‬
‫أن القبال على ال َعدّ هو مظنّة أنه يمكن أن يحصي؛ فقد تُعدّ النقود‪ ،‬وقد يَعدّ الناظر طلب‬
‫المدرسة‪ ،‬لكن أحدا ل يستطيع أن يُعدّ أو يُحصى حبّات الرمال مثلً‪.‬‬
‫وقال الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫حصُوهَآ }[النحل‪.]18 :‬‬
‫{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْعمَةَ اللّ ِه لَ ُت ْ‬
‫شكّ في أن تعدوا نِعمة ال‪.‬‬
‫وهذا َ‬
‫ومن العجيب أن العدّ يقتضي التجمع‪ ،‬والجمع لشياء كثيرة‪ ،‬ولكنه سبحانه جاء هنا بكلمة مفردة‬
‫هي { ِن ْعمَةَ } ولم يقل‪ِ " :‬نعَم " فكأن كل نعمة واحدة مطمور فيها ِن َعمٌ شتّى‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فلن نستطيع أن نعدّ ال ّنعَم المطمورة في نعمة واحدة‪.‬‬
‫عدّ النعم في آيتين‪:‬‬
‫وجاء الحق سبحانه بذكر َ‬
‫الية الولى تقول‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حصُوهَا إِنّ النْسَانَ َلظَلُومٌ َكفّارٌ }[إبراهيم‪.]34 :‬‬
‫{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ لَ ُت ْ‬
‫والية الثانية تقول‪:‬‬
‫حصُوهَآ إِنّ اللّهَ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }‬
‫{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْعمَةَ اللّ ِه لَ ُت ْ‬

‫[النحل‪.]18 :‬‬
‫عجُزَ كل منهما مختلف‪ ،‬ففي الية الولى‪ {:‬إِنّ النْسَانَ َلظَلُومٌ َكفّارٌ }‬
‫وصَدْر اليتين واحد‪ ،‬ولكن َ‬
‫[إبراهيم‪.]34 :‬‬
‫وفي الية الثانية‪ {:‬إِنّ اللّهَ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }[النحل‪.]18 :‬‬
‫لن النعمة لها مُ ْنعِم؛ ومُ ْنعَم عليه‪ ،‬والمنعَم عليه ـ بذنوبه ـ ل يستحق النعمة؛ لنه ظلوم وكفار‪،‬‬
‫ولكن المنعم سبحانه وتعالى غفور ورحيم‪ ،‬ففي آية جاء مَلْحظ المنعِم‪ ،‬وفي آية أخرى جاء ملحظ‬
‫المنعَم عليه‪.‬‬
‫ومن ناحية المنعَم عليه نجده ظَلُوما كفّارا؛ لنه يأخذ النعمة‪ ،‬ول يشكر ال عليها‪.‬‬
‫طعِم خيرك‪ ،‬ومنع شكرك‪.‬‬
‫ألم َت ْقلُ السماء‪ :‬يارب! ائذن لي أن أسقط كِسَفا على ابن آدم؛ فقد َ‬
‫طعِم خيرك‪ ،‬ومنع شكرك‪.‬‬
‫وقالت الرض‪ :‬ائذن لي أن أخسف بابن آدم؛ فقد َ‬
‫وقالت الجبال‪ :‬ائذن لي أن أسقط على ابن آدم‪.‬‬
‫شكْرك‪.‬‬
‫طعِم خيرك‪ ،‬ومنع ُ‬
‫وقال البحر‪ :‬ائذن لي أن أغرق ابن آدم الذي َ‬
‫هذا هو الكون الغيور على ال تعالى يريد أن يعاقب النسان‪ ،‬لكن ال سبحانه رب الجميع يقول‪" :‬‬
‫دعوني وعبادي‪ ،‬لو خلقتموهم لرحمتموهم‪ ،‬إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم‪ ،‬وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم "‬
‫حقّ {‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ُ } :‬قلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآ َءكُمُ الْ َ‬

‫(‪)1458 /‬‬

‫ضلّ‬
‫ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ‬
‫ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ َقدْ جَا َءكُمُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ُكمْ َفمَنِ اهْتَدَى فَإِ ّنمَا َيهْ َتدِي لِ َنفْسِ ِه َومَنْ َ‬
‫عَلَ ْيهَا َومَا أَنَا عَلَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ (‪)108‬‬

‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه لم يُقصّر مع الخلق‪ ،‬فقد خلق لكم العقول‪ ،‬وكان يكفي أن تفكّروا بها لتؤمنوا‬
‫من غير مجيء رسول‪ ،‬وكان على هذه العقول أن تفكر في القويّ الذي خلق الكون كله‪ ،‬بل هي‬
‫التي تسعى لتطلب أن يرسل لها القويّ رسولً بما يطلبه سبحانه من عباده‪ ،‬فإذا ما جاء رسول‬
‫ليخبرهم أنه رسول من ال ويحمل البلغ منه‪ ،‬كان يجب أن تستشرف آذانهم لما يقول‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬كان على العباد أن يهتدوا بعقولهم؛ ولذلك نجد أن الفلسفة حين بحثوا عن المعرفة‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫إن هناك " فلسفة مادية " تحاول أن تتعرف على مادية الكون‪ ،‬وهناك " فلسفة ميتافيزيقية " تبحث‬
‫عما وراء المادة‪.‬‬
‫َفمَنْ أعلمَ الفلسفة ـ إذن ـ أن هناك شيئا وراء المادة‪.‬‬
‫وكأن العقل مجرد ساعةً يرى ُنظُم الكون الدقيقة كان يجب أن يقول‪ :‬إن وراء الكون الواضح‬
‫المُحَسّ قوة خفية‪.‬‬
‫ولم يذهب الفلسفة إلى البحث فيما وراء المادة‪ ،‬إل لنهم أخذوا من المادة أن وراءها شيئا‬
‫مستورا‪.‬‬
‫والمستور الذي وراء المادة هو الذي يعلن عن نفسه‪ ،‬فهو أمر ل نعرفه بالعقل‪.‬‬
‫وقديما ضربنا مثلً في ذلك‪ ،‬وقلنا‪َ :‬هبْ أننا جالسون في حجرة‪ ،‬ودقّ جرس الباب‪ ،‬فعلم كل مَنْ‬
‫في الحجرة أن طارقا بالباب‪ ،‬ولم يختلف أحد منهم على تلك الحقيقة‪.‬‬
‫وهذا ما قاله الفلسفة حين أقرّوا بوجود قوة وراء المادة‪ ،‬ولكنهم تجاوزوا مهمتهم‪ ،‬وأرادوا أن‬
‫يُعرّفونا ماهية أو حقيقة هذه القوة‪ ،‬ولم يلتفتوا إلى الحقيقة البديهية التي تؤكد أن هذه القوة ل يمكن‬
‫أن ُتعْرَف بالعقل؛ لننا ما ُدمْنا قد عرفنا أن بالباب طارقا يدق؛ فنحن ل نقول من هو‪ ،‬ول نترك‬
‫المسألة للظن‪ ،‬بل نتركه هو الذي يحدد لنا مَنْ هو‪ ،‬وماذا يطلب؟ لن عليه هو أن يخبر عن نفسه‪.‬‬
‫اطلبوا منه أن يعلن عن اسمه وصفاته‪ ،‬وهذه المسائل ل يمكن أن نعرفها بالعقل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فخطأ الفلسفة أنهم لم يقفوا عند تعقّل أن هناك قوة من وراء المادة‪ ،‬وأرادوا أن ينتقلوا من‬
‫التعقّل إلى التصور‪ ،‬والتصورات‪ ،‬ل تأتي بالعقل‪ ،‬بل بالخبار‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫حقّ مِن رّ ّبكُمْ } [يونس‪.]108 :‬‬
‫{ ُقلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآ َءكُمُ الْ َ‬
‫والحق ـ كما نعلم ـ هو الشيء الثابت الذي ل يتغير أبدا‪ ،‬وأن يأتي الحق من الرب الذي يتولى‬
‫عدْم‪ ،‬ول يكلفنا بتكاليف اليمان إل بعد البلوغ‪ ،‬وخلق‬
‫التربية بعد أن خلق من عدم وأمدّ من ُ‬
‫الكون كله‪ ،‬وجعلنا خلفاء فيه‪.‬‬
‫وهو ـ إذن ـ مأمون علينا‪ ،‬فإذا جاء الحق منه سبحانه وتعالى‪ ،‬فلماذا ل نجعل المنهج من ضمن‬
‫التربية؟‬
‫لماذا أخذنا تربية المأكل والملبس وسيادة الجناس؟‬
‫كان يجب ـ إذن ـ أن نأخذ من المربّي ـ سبحانه وتعالى ـ المنهج الذي ندير به حركة الحياة؛‬
‫فل نفسدها‪.‬‬

‫وحين يقول الحق سبحانه‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حقّ مِن رّ ّبكُمْ { [يونس‪.]108 :‬‬
‫} جَآ َءكُمُ الْ َ‬
‫فمعنى ذلك أنه ل عُذْر لحد أن يقول‪ " :‬لم يُبلغْني أحدٌ بمراد ال " ‪ ،‬فقد ترك الحق سبحانه العقول‬
‫لتتعقل‪ ،‬ل أن تتصور‪.‬‬
‫ل يقول‪ :‬أنا رسول من ال‪،‬‬
‫وجاء التصوّر للبلغ عن ال تعالى‪ ،‬حين أرسل الحق سبحانه رسو ً‬
‫وهو القوة التي خلقت الكون‪ ،‬وكان علينا أن نقول للرسول بعد أن َتصْدُق معجزته‪ :‬أهلً‪ ،‬فأنت‬
‫مَنْ كنا نبحث عنه‪َ ،‬فقُل لنا‪ :‬ماذا تريد القوة العليا أن تبلغنا به؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه في نفس الية‪:‬‬
‫} َفمَنِ اهْتَدَىا فَإِ ّنمَا َيهْتَدِي لِ َنفْسِهِ { [يونس‪.]108 :‬‬
‫لن حصيلة هدايته ل تعود على مَنْ خلقه وهداه‪ ،‬بل تعود عليه هو نفسه انسجاما مع الكون‪،‬‬
‫وإصلحا لذات النفس‪ ،‬وراحة بال‪ ،‬واطمئنانا‪ ،‬وانتباها لتعمير الكون بما ل يفسد فيه‪ ،‬وهذا الحال‬
‫عكس ما يعيشه مَنْ ضل عن الهداية‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه عن هذا الصنف من الناس‪:‬‬
‫ضلّ عَلَ ْيهَا { [يونس‪.]108 :‬‬
‫ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ‬
‫} َومَن َ‬
‫ضلّ عنها‪.‬‬
‫ضلّ { تدل على أن النسان الذي يضل كانت به بداية هداية‪ ،‬لكنه َ‬
‫وكلمة } َ‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪َ } :‬ومَآ أَنَاْ عَلَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ { [يونس‪.]108 :‬‬
‫وأنت ل توكّل إنسانا إل لن وقتك ل يسع‪ ،‬وكذلك قدرتك وعلمك وحركتك‪ ،‬وهنا يُبلغ الرسول‬
‫القوم‪ :‬أنا ل أقدر أن أدفع عنكم الضلل‪ ،‬أو أجبركم على الهداية؛ لني لست وكيلً عليكم‪ ،‬بل‬
‫عليّ فقط مهمة البلغ عن ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا البلغ إن استمعتم إليه بخلء القلب من‬
‫غيره‪ ،‬تهتدوا‪.‬‬
‫وإذا اهتديتم؛ فالخير لكم؛ لن الجزاء سيكون خلودا في نعيم تأخذونه مقابل تطبيق المنهج الذي‬
‫ضيّق على شهوات النفس‪ ،‬ولكنه يهدي حياة نعيم ل يفوته النسان‪ ،‬ول تفوت النعم فيه النسان‪.‬‬
‫وإذا كان النسان مِنّا يقبل أن يتعب؛ ليتعلّم حرفة أو عملً أو صنعة أو مهنة؛ ليسكب النسان من‬
‫إتقان هذا العمل بقية عمره‪.‬‬
‫أليس على هذا النسان أن يُقبِل على العبادة التي تصلح باله‪ ،‬وتسرع به إلى الغاية انسجاما مع‬
‫النفس‪ ،‬ومع المجتمع‪ ،‬وتقويما وتهذيبا لشهوات النفس‪ ،‬وينال من بعد ذلك خلود النعيم في الخرة‪.‬‬
‫أما من يستكثر على نفسه الجدّ والجتهاد في تحصيل العلم‪ ،‬أو تعلّم مهنة أو حرفة‪ ،‬فهو يحيا في‬
‫ضيق وعدم ارتقاء‪ ،‬فهو ل يبذل جهدا في التعلّم‪.‬‬
‫ونرى مَنْ يتعلم ويبذل الجهد‪ ،‬وهو يرتقي في المستوى الجتماعي والقتصادي؛ ليصل إلى درجة‬
‫الدكتوراة ـ مثلً ـ أو التخصص الدقيق الذي يأتي له بِسعَة الرزق‪.‬‬
‫وكلما كانت الثمرة التي يريدها النسان أينع وأطول عمرا كانت الخدمة من أجلها أطول‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقارن بين خدمتك لدينك في الدنيا بما ينتظرك من نعيم الخرة؛ وسوف تجد المسافة بين عطاء‬
‫الدنيا وعطاء الخرة شاسعا‪ ،‬ول مقارنة‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫ضلّ عَلَ ْيهَا { [يونس‪.]108 :‬‬
‫ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ‬
‫} َومَن َ‬
‫نجد فيه كلمة } عَلَ ْيهَا { وهي تفيد الستعلء على النفس‪ ،‬أي‪ :‬أنك بالضلل ـ والعياذ بال ـ‬
‫تستعلي على نفسك‪ ،‬وتركب رأسك إلى الهاوية‪.‬‬
‫وفي المقابل تجد قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} َفمَنِ اهْتَدَىا فَإِ ّنمَا َيهْتَدِي لِ َنفْسِهِ { [يونس‪.]108 :‬‬
‫وتجد " اللم " هنا تفيد المِلْك؛ لذلك يقال‪ " :‬فلن له " و " فلن عليه "‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول الحق سبحانه في ختام سورة يونس‪ } :‬وَاتّبِعْ مَا يُوحَىا إِلَ ْيكَ {‬

‫(‪)1459 /‬‬

‫ح ُكمَ اللّهُ وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ (‪)109‬‬


‫ك وَاصْبِرْ حَتّى يَ ْ‬
‫وَاتّبِعْ مَا يُوحَى إِلَ ْي َ‬

‫وإذا كان الحق سبحانه قد أورد على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم‪ {:‬ياأَ ّيهَا النّاسُ َقدْ جَآ َءكُمُ‬
‫حقّ مِن رّ ّبكُمْ }[يونس‪.]108 :‬‬
‫الْ َ‬
‫فهذا يعني البلغ بمنهج ال ـ تعالى ـ النظري‪ ،‬ول ُبدّ أن يثق الناس في المنهج‪ ،‬بأن يكون‬
‫الرسول هو أول المنفذين للمنهج‪ ،‬لنه ـ معاذ ال ـ لو غشّ الناس جميعا لما غشّ نفسه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فبعد البلغ عن الحق سبحانه‪ ،‬وتعريف الناس بأن الهداية ل يعود نفعها على الحق‪ ،‬بل هي‬
‫للنسان‪ ،‬فيملك نفسه؛ ويملك زمام حياته‪ ،‬فيسير براحة البال في الدنيا إلى نعيم الخرة‪ ،‬وأن‬
‫الضلل ل يعود إل باستعلء النسان على نفسه؛ ليركبها إلى موارد التهلكة‪.‬‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم ليس وكيلً عنكم‪ ،‬يأتي لكم بالخير حين ل تعملون خيرا‪ ،‬ول‬
‫يصرف عنكم الشر وأنتم تعملون ما يستوجب الشر‪.‬‬
‫ولذلك كان على رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يكون هو النموذج والسوة‪.‬‬
‫س َوةٌ حَسَ َنةٌ ّلمَن كَانَ يَرْجُواْ اللّ َه وَالْ َيوْمَ الخِ َر وَ َذكَرَ اللّهَ كَثِيرا }‬
‫{ ّلقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ‬
‫[الحزاب‪.]21 :‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ وَاتّبِعْ مَا يُوحَىا إِلَ ْيكَ } [يونس‪.]109 :‬‬
‫أي‪ :‬عليك أن تكون السوة‪ ،‬وحين تتّبع ما يوُحَى إليك؛ ستجد عقبات ممن يعيشون على الفساد‪،‬‬
‫ول يرضيهم أن يوجد الصلح‪ ،‬فَوطّن العزم على أن تتبع ما يوحى إليك‪ ،‬وأن تصبر‪.‬‬
‫ومجيء المر بالصبر دليل على أن هناك عقبات كثيرة‪ ،‬وعليك أن تصبر وتعطي النموذج‬
‫لغيرك‪ ،‬والثقة في أنه لو لم يكن هناك خير في اتباع المنهج لما صبرت عليه؛ حتى يأتي حكم ال‬
‫حكُمَ اللّ ُه وَ ُهوَ خَيْرُ الْحَا ِكمِينَ } [يونس‪.]109 :‬‬
‫{ وَاصْبِرْ حَتّىا َي ْ‬
‫وليس هناك أعدل ول أحكم من ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وهذه السورة التي ُتخْتَم بهذه الية الكريمة‪ ،‬تعرضت لقضية اليمان بال‪،‬ـ قمة في عقيدة لله‬
‫واحد يجب أن نأخذ البلغ منه سبحانه؛ لنه الرب الذي خلق من عَدَم‪ ،‬وأمدّ من عُدْم‪ ،‬ولم يكلّفنا‬
‫إل بعد مرور سنوات الطفولة وإلى البلوغ؛ حتى يتأكد أن المكلّف يستحق أن يُكلّف بعد أن انتفع‬
‫بخيرات الوجود كله‪ ،‬وتثبّت من صدق الربوبية‪.‬‬
‫ومعنى الربوبية هو التربية‪ ،‬وأن يتولى المربّي المربّى إلى أن يبلغ حَدّ الكمال المرجوّ منه‪.‬‬
‫وقد صدقتْ هذه القضية في الكون‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نستمع إلى الرب ـ سبحانه وتعالى ـ الذي خلق‪ ،‬حين يُبّين لنا مهمتنا في الحياة بمنهج‬
‫تستقيم به حركة الحياة‪ ،‬ويستقيم أمر النسان مع الغاية التي يعرفها قبل أن يخطو أي خطوة‪.‬‬
‫ومن المحال أن يخلق ال ـ سبحانه وتعالى ـ المخلوق ثم يُضيّعه‪ ،‬بل ل بد أن يضع له قانون‬
‫صيانة نفسه؛ لن كل صنعة إنما يضع قانونها ويحدد الغاية لها مَنْ صنعها‪ ،‬فإذا ما خالفنا ذلك‬
‫حلْنا وغيّرنا المور‪ ،‬وأدخلنا العالم في متاهات‪ ،‬وصار لكل امرىء غاية‪ ،‬ولكل امرىء‬
‫نكون قد أ َ‬
‫منهج‪ ،‬ولكل عقل فكر‪ ،‬ولَصار الكون متضاربا؛ لن الهواء ستتضارب‪ ،‬فتضعف قوة الفراد؛‬
‫لن الصراع بين النداد يُضعِف قوة الفرد عن معالجة المر الذي يجب أن يعالجه‪.‬‬

‫(‪)1460 /‬‬

‫حكِيمٍ خَبِيرٍ (‪)1‬‬


‫ح ِك َمتْ آَيَاُتهُ ثُمّ ُفصَّلتْ مِنْ لَدُنْ َ‬
‫الر كِتَابٌ أُ ْ‬

‫وتبدأ الية بحروف توقيفية مقطعة من الحروف التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم‪ ،‬اي‪ :‬أن‬
‫كل حرف من تلك الحروف يُنطَق بمفرده‪ ،‬والحرف ـ كما نعلم ـ له اسم‪ ،‬وله مسمى‪ ،‬ونحن‬
‫حين نكتب أو نتكلم نكتب أو ننطق بمسمى الحرف ل باسمه ولكن بعض سور القرآن الكريم تبدأ‬
‫بحروف نقرأها باسم الحرف‪ ،‬وما عداها يُنطق فيها بمسميات الحرف‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإن أردنا معرفة الفارق بينهما‪ ،‬فنحن نقرأ في أول سورة البقرة ونقول‪ " :‬ألف‪ .‬لم‪ .‬ميم " رغم‬
‫أنها مكتوبة‪ {:‬الم }[البقرة‪.]1:‬‬
‫إذن‪ :‬فنحن ننطقها بمسميات الحروف عكس قراءتنا لقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ أََلمْ نَشْرَحْ َلكَ صَدْ َركَ }[الشرح‪.]1 :‬‬
‫ونحن ننطقها بأسماء الحروف‪ ..‬لماذا؟‬
‫لن الرسول صلى ال عليه وسلم سمعها هكذا من جبريل عليه السلم‪ ،‬والقرآن أصله سماع‪،‬‬
‫وأنت ل تقرأ قرآنا إل إذا سمعت قرآنا؛ لتعرف كيف تقرأ الحروف المقطعة بأسماء الحروف‪،‬‬
‫وتقرأ بقية اليات بمسميات الحروف‪.‬‬
‫وكنا قديما قبل أن نحفظ القرآن " نصحح " اللوح‪ ،‬أي‪ :‬أن يقرأ الفقيه أولً ليُعلمنا كيف نقرأ قبل‬
‫أن نحفظ‪.‬‬
‫والذي يُتعب الناس أنهم يريدون أن يقرأوا القرآن الكريم دون أن يجلسوا إلى فقيه أو دون أن‬
‫يستمعوا إلى قارىء للقرآن‪.‬‬
‫ونقول لهم‪ :‬إن القرآن ليس كتابا عاديا نقرأه‪ ،‬إن القرآن كتاب له خاصية مميزة‪َ ،‬فصُور الحروف‬
‫تختلف‪ ،‬فمرة ننطق اسم الحرف‪ ،‬ومرة نقرأ مسمى الحروف‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪ { :‬الر } في أول سورة هود؛ يجعلنا نلحظ أنه من العجيب في فواتح السور ـ‬
‫التي بدأت بهذه الحروف ـ أن القرآن مبنيّ على الوصل دائما‪ ،‬فأنت ل تأتي إلى آخر الية‬
‫وتقف‪ ،‬ل‪ ،‬بل كل القرآن َوصْل‪ ،‬مثلما نقرأ قول ال سبحانه‪:‬‬
‫{ ُمدْهَآمّتَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * فِي ِهمَا عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ }[الرحمن‪64 :‬ـ ‪.]66‬‬
‫وإن كان هناك فاصل بين كل آية وغيرها‪ ،‬إل أن اليات كلها مبنية على الوصل‪.‬‬
‫وفي آخر سورة يونس يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ وَ ُهوَ خَيْرُ الْحَا ِكمِينَ }[يونس‪.]109 :‬‬
‫فلو لم تكن موصولة لنطقت الحرف الخير مبنيا على السكون‪ ،‬ولكنك تقرأه منصوبا بالفتحة‪.‬‬
‫وهي موصولة بما بعدها (بسم ال الرحمن الرحيم)‪.‬‬
‫ومن العجيب أن فواتح السور مع أنها مكونة من حروف مبنية على الوصل إل أننا نقرأ كل‬
‫حرف موقوفا‪ ،‬فل نقول‪ " :‬ألفٌ لمٌ مي ٌم " بل نقول‪ " :‬ألفْ لمْ ميمْ "‪.‬‬
‫وكذلك نقرأ في أول سورة مريم " كافْ هاءْ ياءْ عينْ صادْ " ‪ ،‬ول نقرأ الحروف بتشكيلها‬
‫العرابي‪ ،‬وهذا يدل على أن لها حكمة ل نعرفها‪.‬‬
‫وفي القرآن الكريم آيات بُدئت بحرف واحد مثل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ ص وَا ْلقُرْآنِ ذِي ال ّذكْرِ }[ص‪.]1 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ ق وَا ْلقُرْآنِ ا ْلمَجِيدِ }[ق‪.]1 :‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫سطُرُونَ }[القلم‪.]1 :‬‬
‫{ ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَ ْ‬
‫ونلحظ أن الحرف في هذه السور ليس آية‪ ،‬ولكنك تقرأ قول الحق سبحانه‪ {:‬حـم }[الشورى‪.]1 :‬‬
‫وهي آية‪ ،‬وكذلك تقرأ قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ عسق }[الشوى‪ ]2 :‬كآية مع أنها حروف مقطعة‪ ،‬وتقرأ قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ كهيعص }[مريم‪ ]1:‬كآية بمفردها‪.‬‬
‫وتقرأ قول الحق سبحانه‪ {:‬طه }[طه‪ ]1 :‬كآية بمفردها‪.‬‬
‫وكذلك تقرأ قول الحق‪ {:‬يس }[يس‪ ]1 :‬كآية بأكملها‪.‬‬
‫وتجد أيضا‪ {:‬المص }[العراف‪ ]1 :‬كآية‪.‬‬
‫و{ طسم }[ " الشعراء‪ :‬والقصص "‪ ]1 :‬كآية‪.‬‬
‫وتجد أيضا{ المر }[الرعد‪ ]1 :‬ملتحمة بما بعدها في آية واحدة‪.‬‬
‫وتقرأ في أول سورة النمل‪ {:‬طس }[النمل‪ ]1 :‬ملتحمة بما بعدها في آية واحدة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمسألة ل نسق لها‪ ،‬ومعنى ذلك أن لكل موقف وكل حرف حِكمة‪ ،‬والحكمة نجدها حين‬
‫نتأمل العالم المادي في الحياة‪ ،‬فنفطن إلى عبر ال سبحانه وتعالى في آيات الكون المحسّة‪ ،‬ويجد‬
‫الدليل على صدق ال تعلى فيما لم نعلم‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬حين ينزل النسان في فندق راق فهو يجد لكل غرفة مفتاحا‪ ،‬وهذا المفتاح ل يفتح إل‬
‫باب غرفة واحدة‪ ،‬ولكن في كل طابق من طوابق الفندق هناك مفتاح مع المسئول عن الطابق‬
‫يسمى " سيد المفاتيح " وهو يفتح كل غرف الطابق‪ ،‬وقد صنعوا ذلك؛ حتى ل يفتح كل نزيل‬
‫غرفة الخر‪.‬‬
‫ومع التقدم العلمي جعلوا الن لكل غرة بطاقة الكترونية‪ ،‬ما إن يُدخلها النسان من فتحة معينة من‬
‫باب الغرفة حتى ينفتح الباب‪ ،‬وكل غرفة لها بطاقة معينة‪ ،‬وأيضا يوجد مع مسئول الطابق في‬
‫الفندق بطاقة واحدة‪ ،‬تفتح كل غرف الطابق‪.‬‬
‫وأنت حين تقرأ فواتح السور فافهم أن كل آية لها مفتاح‪ ،‬وكل حرف في هذه الفواتح قد يشبه‬
‫المفتاح‪ ،‬وإن لم يكن معك المفتاح ذو السنان التي تفتح باب الغرفة؛ فلن تنفتح لك السورة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكتاب ال له مفاتيح‪ ،‬ونحن نقرأ حروفا مُقطّعة على أنها آية‪ ،‬أو نقرأها كجزء من آية‪.‬‬
‫وتقول من قبل القراءة‪ " :‬أعوذ بال من الشيطان الرجيم " لتخلص نفسك من الغيار المناقضة‬
‫لمنهج قائل القرآن‪ ،‬ثم تضع البطاقة الخاصة مثل قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬الم }[البقرة‪.]1 :‬‬
‫فينفتح لك باب البقرة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا نعرف أن هناك مفتاحا‪ ،‬وأن هناك فاتحا وخذ فواتح السور على أنها مفاتيح‪ ،‬وكل مفتاح له‬
‫شكل ونحت معين‪ ،‬إن نقلته لسورة أخرى فهو ل يفتحها‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬الر { وهي مكونة من ثلثة حروف‪ ،‬مثل } الم { ‪ ،‬وقد وردت‬
‫في خمس سور من القرآن الكريم هي‪ :‬يونس‪ ،‬وهود‪ ،‬ويوسف‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬والحجر‪.‬‬
‫ولكن } الم { تقرأ كآية‪ ،‬ولكنها هنا من مقدمة سورة " هود " جزء من آية رغم أنك تقرأها مثلها‬
‫مثل سورة يونس‪ ،‬وسورة هود‪ ،‬وسورة يوسف وسورة إبراهيم‪ ،‬وتقرأها كآية‪.‬‬

‫وايضا } المص { هي أربعة حروف تقرأها آية في سورة العراف‪ ،‬وهناك أربعة حروف في‬
‫أول سورة الرعد‪ ،‬وتقرأها كجزء من آية في سورة العراف‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فليس هناك قانون لهذه الحروف التي في أوائل السور‪ ،‬بل كل حرف له خصوصية لم‬
‫تتكشف كل أسرارها بعد‪ ،‬لهذا ذهب بعض المفسرين إلى قولهم " ال أعلم بمراده "‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ح ِك َمتْ آيَاتُهُ { [هود‪.]1 :‬‬
‫} الر كِتَابٌ ُأ ْ‬
‫وال سبحانه يقول مرة عن القرآن أنه‪ } :‬كِتَابٌ { ومرة يقول‪:‬‬
‫{ قُرْآنٍ }[يونس‪.]61 :‬‬
‫والقرآن يُقرأ‪ ،‬والكتاب يُكتب‪ ،‬وشاء الحق سبحانه ذلك؛ لي ُدلّك على أن الحافظ للقرآن مكانان‪:‬‬
‫ضلّ الصدر‪ ،‬تذكر السطر‪.‬‬
‫صدور‪ ،‬وسطور‪ .‬فإن َ‬
‫ولذلك " حين أراد المسلمون الوائل جمع القرآن‪ ،‬ومطابقة ما في الصدور على ما في السطور‪،‬‬
‫وضعوا أسسا لتلك العملية الدقيقة‪ ،‬من أهمها ضرورة وجود شاهدين على كل آية‪ ،‬ووقفوا عند‬
‫آخر آيتين في سورة التوبة‪ ،‬ولم يجدوا إل شاهدا واحدا هو " خزيمة " ‪ ،‬وصدّقوا " خزيمة "‬
‫وكتبوا اليتين عنه؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان قد منحه وساما‪ ،‬حين قال عنه‪ " :‬من‬
‫شهد له خزيمة فهو حسبه "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فإطلق صفة الكتاب على القرآن‪ ،‬سببها أنه مكتوب‪ ،‬وهو قرآن؛ لنه مقروء‪.‬‬
‫ولم تكن الكتابة في الزمنة القديمة مسألة سهلة‪ ،‬فلم يكن يُكتب إل النفيس من العمال‪ ،‬أو لن‬
‫القرآن كتاب؛ لنه في الصل مكتوب في اللوح المحفوظ‪.‬‬
‫وحين يقول الحق سبحانه وتعالى واصفا القرآن‪:‬‬
‫ح ِكمَتْ آيَاُتهُ { [هود‪.]1 :‬‬
‫} كِتَابٌ ُأ ْ‬
‫ومادة الحاء والكاف والميم تدل على أمر مُحسّ وهو إتقان البناء‪ ،‬بحيث يمنع عنه الفساد؛ فل خلل‬
‫فيه‪ ،‬ول تناقض‪ ،‬ول تعراض ول انهيار‪.‬‬
‫ول بد من توازن هندسي لكل فتحة في البناء؛ حتى ل تكون الفتحات التي في البناء متوازية على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خط واحد‪ ،‬فتحدث شروخ في الجدران أو انهيار البناء كله‪ .‬هذا هو إحكام البناء في عالم‬
‫المحسّات‪.‬‬
‫وشاء الحق سبحانه أن يصف القرآن‪ ،‬وهو الجامع لكل المنهج بأنه‪:‬‬
‫ح ِكمَتْ آيَاُتهُ { [هود‪.]1 :‬‬
‫} كِتَابٌ ُأ ْ‬
‫فخذوا من هذا الحكام ما يمنع فسادكم؛ لن القرآن جاء على هيئة تمنع الفساد فيه‪ ،‬وعقد منع‬
‫الفساد يكون الصلح والصلح‪.‬‬
‫ولو نظرتَ إلى أن القرآن الكريم في اللوح المحفوظ ستجده قد نزل جملة واحدة‪ ،‬من اللوح‬
‫المحفوظ إلى السماء الدنيا‪ ،‬وجاء الوحي بعد ذلك حسب الحداث التي تتطلب الحكام‪ ،‬وقد نثر‬
‫الحق سبحانه في القرآن أحكاما وفصولً ونجوما‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالقرآن قد أحكِم أولً‪ ،‬ثم ُفصّل‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ح ِكمَتْ آيَاُتهُ ثُمّ ُفصّلَتْ { [هود‪.]1 :‬‬
‫} كِتَابٌ ُأ ْ‬
‫والفواصل الكبيرة في القرآن هي السور‪ ،‬والفواصل الصغيرة هي اليات‪ ،‬وأراد المسلمون أن‬
‫يشجعوا حفظ القرآن‪ ،‬فقسموه إلى ثلثن جزءا‪ ،‬وكل جزء قسموه إلى حزبين‪ ،‬وكل حزب قسموه‬
‫إلى أربعة أرباع‪ ،‬لكن التفصيل الذي جاء لنا من القرآن أنه سور‪ ،‬وكل سورة هي مجموعة من‬
‫اليات‪.‬‬

‫حكِ َم و ُفصّل؛ لنه نزل منهجا جامعا من ال سبحانه وتعالى‪.‬‬


‫وقد يكون المعنى أن القرآن قد أ ْ‬
‫وحين تنظر إليه تجده مُنّوعا‪ ،‬فمرة يتكلم في العقيدة وقمتها‪،‬ومرة يتكلم في النبوة وموكبها‬
‫الرسالي‪ ،‬والمعجزات‪ ،‬ومرة يتكلم في الحكام‪ ،‬ومرة يتكلم في القصص‪ ،‬والخلقيات‪،‬‬
‫والكونيات‪.‬ومرة يتكلم في علم الفرائض‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهو مفصل في اللفظ أو في المعنى‪ ،‬وهو يتناول معاني كثيرة‪ ،‬وكل معنى تتطلبه العقيدة‪،‬‬
‫قمة في الشهادة بأن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال‪ ،‬ويتناول الجزئيات حتى أدق التفاصيل‪.‬‬
‫أو أحكم نزولً؛ لنه قد نزول مرة واحدة إلى السماء الدنيا‪ ،‬ثم ُفصّل حسب الحَوادث‪ ،‬وهذا أدْعَى‬
‫إلى أن تتعلق النفس بكل نجم من نجوم القرآن حين ينزل وقت طلبه‪.‬‬
‫وأنت حين ُتعِد لنفسك صيدلية صغيرة في البيت‪ ،‬قد تأتي فيها بكل الدوية‪ ،‬لكن إن أصابك‬
‫صداع‪ ،‬فقد تفتش عن أقراص " السبرين " فل تجدها‪ .‬أما إذا أرسلت إلى الصيدلية الكبيرة‪،‬‬
‫فسوف تجد " السبرين " حين تحتاجه‪.‬‬
‫وكذلك حين تكون ظمآن‪ ،‬قد تفتح ثلجة بيتك فل تجد زجاجة الماء رغم أنها أمامك‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫لهفة العطش‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فنزول القرآن منجمعا شاءه الحق ـ سبحانه ـ لتنتعش النفس النسانية وهي تعشق استقبال‬
‫القرآن‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ث وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلً }[السراء‪.]106 :‬‬
‫علَىا ُمكْ ٍ‬
‫{ َوقُرْآنا فَ َرقْنَاهُ لِ َتقْرََأهُ عَلَى النّاسِ َ‬
‫وقد جاء في القرآن على لسان الكافرين‪:‬‬
‫جمْلَ ًة وَاحِ َدةً }[الفرقان‪.]32 :‬‬
‫{ َل ْولَ نُ ّزلَ عَلَيْهِ ا ْلقُرْآنُ ُ‬
‫فيكون الرد من الحق سبحانه‪:‬‬
‫ك وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلً }[الفرقان‪.]32 :‬‬
‫{ َكذَِلكَ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َد َ‬
‫ولو كان القرآن قد نزل مرة واحدة على رسول ال صلى ال عليه وسلم لما التفت الناس إلى كل‬
‫ما جاء فيه‪،‬ولكن شاء الحق سبحانه وتعالى أن ينزل القرآن مُنجّما على الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ليكون في كل نجم تثبيت لرسول ال صلى ال عليه وسلم في المواقف المختلفة‪ ،‬والرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم وكذلك أمته من بعده في حاجة إلى تثبيتات متعددة حسب الحداث التي‬
‫تعترضهم‪ ،‬ولذلك قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫ك وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلً }[الفرقان‪.]32 :‬‬
‫{ َكذَِلكَ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َد َ‬
‫فساعة أن يسمع المؤمنون نجما من نجوم القرآن‪ ،‬يكونون أقدر على استيعابه وحفظه وتطبيق‬
‫الحكام التي جاءت فيه‪.‬‬
‫ولم يُنزل الحق سبحانه آية واحدة‪ ،‬بل أنزل آياتٍ‪ ،‬بدليل أنهم إن جاءوا بحكم ما‪ ،‬فهو سبحانه‬
‫وتعالى ينزل الحق في هذا الحكم وأكثر تفصيلً؛ ولذلك يقول سبحانه‪:‬‬
‫{ َولَ يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ ِإلّ جِئْنَاكَ بِا ْلحَقّ وَأَحْسَنَ َتفْسِيرا }[الفرقان‪.]33 :‬‬
‫ولو نزل القرآن جملة واحدة‪ ،‬فكيف يعالج أسئلتهم التي جاءت في القرآن‪َ } :‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ {‪.‬‬

‫ويضرب ال مثلً بالبعوضة‪ ،‬فيتساءلون ساخرين‪ :‬كيف يضرب ال مثلً بالبعوضة‪.‬‬


‫فينزل قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا }[البقرة‪.]26 :‬‬
‫ولو كانوا عقلء لتساءلوا‪ :‬كيف ركّب الحق سبحانه في هذا الكائن الضئيل ـ البعوضة ـ كل‬
‫أجزاء الكائن الحي؛ من محلّ الغذاء إلى قدرة الهضم‪ ،‬إلى محل التنفس‪ ،‬إلى محل الدم‪ ،‬إلى محل‬
‫العصاب‪.‬‬
‫وكان يجب أن يأخذوا من هذا الخلق دلئل العظمة؛ لن عظمة الصنعة تكون في أمرين‪ :‬إما‬
‫ضخامة الشيء المصنوع‪ ،‬وإما أن يكون الشيء المصنوع تحت إدراك الحس‪.‬‬
‫ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ أن الفنيين حين صنعوا ساعة " بج بن " التفت الناس إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضخامة تلك الساعة‪ ،‬ودقة أدائها‪ ،‬وحين صنع الفنيون في " سويسرا " ساعة دقيقة وصغيرة جدا‬
‫في حجمها‪ ،‬زاد إعجاب الناس بدقة الصنعة‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن القدرة تتجلى في صناعة الشيء الكبير في الحجم‪ ،‬أو صناعة الشيء الدقيق جدا؛‬
‫فما بالنا بخالق الكون كله‪ ،‬بأكبر ما فيه وأصغر ما فيه‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يضرب المثل بالذبابة فيقول‪:‬‬
‫{ إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ َلهُ }[الحج‪.]73 :‬‬
‫فول اجتمع الخلق المشركون أو المتجبرون وسألوا أصنامهم أن يخلقوا لهم ذبابة‪ ،‬أو حتى لو‬
‫حاولوا هم خَلْق ذبابة لما استطاعوا‪ ،‬ول يقتصر المر على ذلك العجز فقط‪ ،‬بل يتعداه إلى عجز‬
‫آخر‪:‬‬
‫ب وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج‪.]73 :‬‬
‫ض ُعفَ الطّاِل ُ‬
‫{ وَإِن َيسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْ ُه َ‬
‫فإن جاءت ذبابة على أي طعام‪ ،‬وأخذت بعضا من الطعام‪ ،‬فهل يستطيع أحد أن يستخلص من‬
‫الذبابة ما أخذته؟‬
‫ل‪ ،‬كذلك نرى ضعف الثنين‪ :‬الطالب والمطلوب‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫حكِيمٍ خَبِيرٍ { [هود‪.]1 :‬‬
‫ح ِك َمتْ آيَاتُهُ ُثمّ ُفصَّلتْ مِن لّدُنْ َ‬
‫} الر كِتَابٌ ُأ ْ‬
‫فالحكام ل يتناقض مع التفصيل؛ لن الحق سبحانه هو الذي أحكم‪ ،‬وهو سبحانه الذي فصّل‪،‬‬
‫وهو سبحانه حكيم بما يناسب الحكام‪ ،‬وهو سبحانه خبير بما يناسب التفصيل‪ ،‬بطلقة غير‬
‫متناهية‪.‬‬
‫وهو سبحانه حكيم يخلق الشيء مُحْكما ل يتطرق إليه فساد‪ ،‬وهو سبحانه خبير عنده علم بخفايا‬
‫المور‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى‪:‬‬
‫{ لّ تُدْ ِر ُك ُه الَ ْبصَارُ وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الَبْصَا َر وَ ُهوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ }[النعام‪.]103 :‬‬
‫فال سبحانه ل تدركه عين‪ ،‬وعينه ـ سبحانه وتعالى ـ ل تغفل عن أدق شيء وأخفى نية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫حكِيمٍ خَبِيرٍ { [هود‪.]1 :‬‬
‫ح ِك َمتْ آيَاتُهُ ُثمّ ُفصَّلتْ مِن لّدُنْ َ‬
‫} الر كِتَابٌ ُأ ْ‬
‫يبيّن لنا أن القرآن كلم ال القدير الذي بُني على الحكام‪ ،‬ونزل ُمحْكما جملة واحدة‪ ،‬ثم جاءت‬
‫الحداث المناسبة لينزل من السماء الدنيا نجوما مفصلة تناسب كل حدث‪.‬‬
‫وأحكام الكتاب ثم تفصيله له غاية‪ ،‬هي الغاية من المنهج كله‪ ،‬ويبيّنها الحق سبحانه في الية‬
‫التالية‪َ } :‬ألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ {‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1461 /‬‬

‫أَلّا َتعْبُدُوا إِلّا اللّهَ إِنّنِي َلكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (‪)2‬‬

‫إذن‪ :‬فقد أحكمت آيات الكتاب وفصّلت لغاية هي‪ :‬أل نعبد إل ال‪.‬‬
‫والعبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر‪ ،‬وفيما نهى‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن العبادة تقتضي وجود معبود له أمر وله نهي‪ ،‬والمعبود الذي ل أمر له ول نهي ل‬
‫يستحق العبادة‪ ،‬فهل مَنْ عَ َبدَ الصنم تلقّى من أمرا أو نهيا؟‬
‫وهل مَنْ عَ َبدَ الشمس تلقّى منها أمرا أو نهيا؟‬
‫إذن‪ :‬فكلمة العبادة لكل ما هو غير ال هي عبادة باطلة؛ لن مثل تلك المعبودات ل أمر لها ول‬
‫نهي‪ ،‬وفوق ذلك ل جزاء عندها على العمل الموافق لها أو المخالف لها‪.‬‬
‫والعبادة بدون منهج " افعل " و " ل تفعل " ل وجود لها‪ ،‬وعبادة ل جزاء عليها ليست عبادة‪.‬‬
‫وهنا يجب أن نلحظ أن قول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ } [هود‪.]2 :‬‬
‫غير قوله سبحانه‪:‬‬
‫{ اعْ ُبدُواْ اللّهَ }[المائدة‪.]72 :‬‬
‫ولو أن الرسل تأتي الناس وهم غير ملتفتين إلى قوة يعبدونها ويقدسونها لكان على الرسل أن‬
‫يقولوا للناس‪ {:‬اعْبُدُواْ اللّهَ }[العراف‪.]59 :‬‬
‫ولكن هنا يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ } [هود‪.]2 :‬‬
‫فكأنه سبحانه يواجه قوما لهم عبادة متوجهة إلى غير من يستحق العبادة؛ فيريد سبحانه أولً أن‬
‫يُنهي هذه المسألة‪ ،‬ثم يثبت العبادة ل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهنا نفي وإثبات‪ ،‬مثل قولنا‪ " :‬أشهد أل إله إل ال " ‪ ،‬هنا ننفي أولً أن هناك إلها غير ال‪،‬‬
‫ونثبت اللوهية ل سبحانه‪.‬‬
‫وأنت ل تشهد هذه الشهادة إل إذا وُجد قوم يشهدون أن هناك إلها غير ال تعالى‪ ،‬ولو كانوا‬
‫يشهدون بألوهية الله الواحد الحد سبحانه؛ لكان الذهن خاليا من ضرورة أن نقول هذه الشهادة‪.‬‬
‫ولكن قول الحق سبحانه { َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ } [هود‪.]2 :‬‬
‫معناه النفي أولً للباطل‪ ،‬وإذا ُنفِي الباطل ل بد أن يأتي إثبات الحق‪ ،‬حتى يكون كل شيء قائما‬
‫على أساس سليم‪.‬‬
‫ولذلك يقال‪ " :‬درء المفسدة مقدّم دائما على جلب المنفعة " فالبداية أل تعبد الصنام‪ ،‬ثم وجّه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العبادة إلى ال سبحانه‪.‬‬
‫وما دامت العبادة هي طاعة المر‪ ،‬وطاعة النهي‪ ،‬فهي ـ إذن ـ تشمل كل ما ورد فيه أمر‪،‬‬
‫وكل ما ورد فيه نهي‪.‬‬
‫وإنْ نظرت إلى الوامر والنواهي لوجدتها تستوعب كل أقضية الحياة من قمة الشهادة بأن ل إله‬
‫إل ال‪ ،‬إلى إماطة الذى عن الطريق‪.‬‬
‫وكل حركة تتطلبها الحياة لبقاء الصالح على صلحه أو زيادة الصالح ليكون أصلح‪ ،‬فهذه عبادة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالسلم ل يعرف ما يقال عنه " أعمال دنيئة " ‪ ،‬و " أعمال شريفة " ولكنه يعرف أن هناك‬
‫عاملً دنيئا وعاملً شريفا‪.‬‬

‫وكل عامل يعمل عملً تتطلبه الحياة بقاء للصالح أو ترقية لصلحه وعدم الفساد‪ ،‬فهذا عامل‬
‫شريف؛ وقيمة كل امرىء فيما يحسنه‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن كلمة العبادة تستوعب كل أقضية الحياة؛ لن هناك أمرا بما يجب أن يكون‪ ،‬وهناك‬
‫نهيا عما يجب أل يكون‪ ،‬وما لم يرد فيه نهي لك الخيار في أن تفعله أو ل تفعله‪ ،‬فإذا نظرت إلى‬
‫نسبة ما تؤمر به‪ ،‬ونظرت ألى ما تُنهى عنه بالنسبة لعمال الحياة‪ ،‬لوجدت أنها نسبة ل تتجاوز‬
‫خمسة في المائة من كل أعمال الحياة‪ ،‬ولكنها الساس الذي تقوم عليه كل أوجه الحياة‪.‬‬
‫ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬بُني السلم على خمس‪ :‬شهادة أن ل إله إل ال وأن‬
‫محمدا عبده ورسوله وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان "‪.‬‬
‫وأعداء السلم يحاولون أن يحددوا الدين في هذه الركان الخمسة‪ ،‬ولكن هذه الركان هي‬
‫العمدة التي تقوم عليها عمارة السلم‪.‬‬
‫وأركان السلم هي إعلن استدامة الولء ل تعالى‪ ،‬وكل أمر من أمور الحياة هو مطلوب للدين؛‬
‫لنه يصلح الحياة‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن العلم بالدين ضرورة لكل إنسان على الرض‪ ،‬أما العلوم ا لخرى فهي مطلوبة‬
‫لمن يتخصص فيها ويرتقي بها ليفيد الناس كلهم‪ ،‬وكلما كان المتفوق من المسلمين كان ذلك‬
‫تدعيما لرفعة السلم‪.‬‬
‫إذن فالقاسم المشترك في الحياة هو العلم بالدين‪ ،‬ولكن يجب أن نفهم هذه القضية على قدرها‪ ،‬فل‬
‫يأتي إنسان ل يعرف صحيح الدين ليتكلم وال َعوْل‪ ،‬والرد؛ لن المسلم قد تمر حياته كلها ول يحتاج‬
‫رأيا في قضية التوريث‪ ،‬أو أن يتعرف على المستحقين للميراث وأنصبتهم‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫وإن تعرّض المسلم لقضية مثل هذه‪ ،‬نقول له‪ :‬أنت إذا تعرضت لقضية مثل هذه فاذهب إلى‬
‫المختصين بهذا العلم‪ ،‬وهم أهل الفقه والفتوى‪ ،‬لنك حين تتعرض لقضية صحية تذهب إلى‬
‫الطبيب‪ ،‬وحين تتعرض إلى قضية هندسية تذهب إلى المهندس‪ ،‬وإن تعرضت لعملية محاسبية‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تذهب إلى المحاسب‪ ،‬فإن تعرضت إى أي أمر ديني‪ ،‬فأنت تسأل عنه أهل الذكر‪.‬‬
‫وأنت إذا نظرت إلى العبادة‪ ،‬تجد أنها تتطلب كل حركة في الحياة‪ ،‬وسبق أن ضربت لذلك مثلً‬
‫وقلت‪َ :‬هبْ أن إنسانا يصلي‪ ،‬ول يفعل شيئا في الحياة غير الصلة‪ ،‬فمن أين له أن يشتري ثوبا‬
‫يستر به عورته ما دام ل يعمل عملً أخر غير الصلة‪ ،‬وهو إن أراد أن يشتري ثوبا‪ ،‬فل بد له‬
‫من عمل يأخذ مقابله أجرا‪ ،‬ويشتري الثوب من تاجر التجزئة‪ ،‬الذي اشترى الثواب من تاجر‬
‫الجملة‪ ،‬وتاجر الجملة اشتراها من المصنع‪ ،‬في الدين؛ لن العلم بالدين يقتضي اللجوء إلى أهل‬
‫الذكر‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬الدين للجميع‪ ،‬نقول‪ :‬صدقت بمعنى التدين للجميع‪ ،‬أما العلم بالدين فله الدراسة المتفقهة‪.‬‬

‫وأهل الذكر أيضا في العلوم الخرى يقضون السنوات لتنمية دراساتهم‪ ،‬كما في الطب أو الهندسة‬
‫أو غيرهما‪ ،‬وكذلك العمال المهنية تأخذ من الذي يتخصص فيها وقتا وتتطلب جهدا‪ ،‬فما بالنا‬
‫بالذي يُصلح أسس إقامة الناس في الحياة‪ ،‬وهو التفقه في الدين‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫جعُواْ إِلَ ْي ِهمْ َلعَّلهُمْ‬
‫ن وَلِيُنذِرُواْ َق ْو َمهُمْ ِإذَا َر َ‬
‫{ فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ لّيَ َت َف ّقهُواْ فِي الدّي ِ‬
‫حذَرُونَ }[التوبة‪.]122 :‬‬
‫يَ ْ‬
‫فنحن ل نطلب من كل مسلم ـ مثلً ـ أن يدرس المواريث ليعرف العَصبة وأصحاب الفروض‪،‬‬
‫وأولي الرحام‪ ،‬والمصنع قام بتفصيل الثياب بعد أن نسجها مصنع آخر‪ ،‬والمصنع الخر نسج‬
‫الثياب من غزل القطن أو الصوف‪ .‬والقطن جاء من الزراعة‪ ،‬والصوف جاء من جز شعر‬
‫الغنام‪.‬‬
‫وهكذا تجد أن مجرد الوقوف أمام خالقك لتصلي يقتضي أن تكون مستور العورة في صلتك‪ ،‬هذا‬
‫الستر يتطلب منك أن تتفاعل مع الحياة بالعمل‪.‬‬
‫وانظر لنفسك واسألها‪ :‬ما أفطرتَ اليوم؟‬
‫وأقلّ إجابة هي‪ :‬أفطرت برغيف وقليل من الملح‪ ،‬وستجد أنك اشتريت الرغيف من البقال‪ ،‬وجاء‬
‫البقال بالرغيف من المخبز‪ ،‬والمخبز جاء بالدقيق من المطحن‪ ،‬والمطحن أنتج الدقيق بعد طحن‬
‫الغلل التي جاءت من الحقل‪ .‬وكذلك تمت صناعة ألت الطحن في مصانع أخرى قد تكون‬
‫أجنبية‪.‬‬
‫وهكذا تمت صناعة الرغيف بسلسلة هائلة من العمليات‪ ،‬فهناك الفلح الذي حرث‪ ،‬وهناك مصمم‬
‫آلة الطحن الذي درس الهندسة‪ ،‬وهناك عالم " الجيولوجيا " الذي درس طبقات الرض ليستخرج‬
‫الحديد الخام من باطنها‪ ،‬وهناك مصنع الحديد الذي صهر الحديد الخام؛ ليستخلص منه الحديد‬
‫النقي الصالح للتصنيع‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا تجد أن كل حركة في الحياة قد خدمت قضية دينك‪ ،‬وخدمت وقوفك أمام خالقك لتصلي‪ ،‬فل‬
‫تقل‪ " :‬سأنقطع للعبادة " بمعنى أن تقصر حياتك على الصلة فقط‪ ،‬لن كل حركة تصلح في الحياة‬
‫هي عبادة‪ ،‬وإن أردت أل تعمل في الحياة‪ ،‬فل تنتفع بحركة عامل في الحياة‪ .‬وإذا لم تنتفع بحركة‬
‫أي عامل في الحياة‪ ،‬فلن تقدر أن تصلي‪ ،‬ولن تقدر أن يكون لك قوة لتصلي‪.‬‬
‫إذن فالعبادة هي كل حركة تتطلبها الحياة في ضوء " افعل " و " ل تفعل "‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫} َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ إِنّنِي َلكُمْ مّنْهُ نَذِي ٌر وَبَشِيرٌ { [هود‪.]2 :‬‬
‫والنذير‪ :‬هو من يُخبر بشرّ زمنه لم يجيء‪ ،‬لتكون هناك فرصة لتلفي العمل الذي يُوقع في الشر‪،‬‬
‫والبشير هو من يبشّر بخير سيأتي إن سلك النسان الطريق إلى ذلك الخير‪.‬‬
‫إذن‪ :‬النذار والبشارة هي أخبار تتعلق بأمر لم يجيء‪.‬‬
‫وفي النذار تخويف ونوع من التعليم‪ ،‬وأنت حين تريد أن تجعل ابنك ُمجِدا في دراسته؛ تقول له‪:‬‬
‫إن لم تذاكر فسوف تكون كابن فلن الذي أصبح صعلوكا تافها في الحياة‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فأنت تنذر ابنك؛ ليتلفى من الن العمل الذي يؤدي به إلى الفشل الدراسي‪.‬‬
‫وكذلك يبشر النسان ابنه أو أي إنسان آخر بالخير الذي ينتظره حين يسلك الطريق القويم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالعبادة هي كل حركة من حركات الحياة ما دام النسان مُتّبعا ما جاء بالمنهج الحق في‬
‫ضوء " افعل " و " ل تفعل " ‪ ،‬وما لم يرد فيه " افعل " و " ل تفعل " فهو مباح‪.‬‬
‫وعلى النسان المسلم أن يُبصّر نفسه‪ ،‬ومن حوله بأن تنفيذ أي فعل في ضوء " افعل " هو العمل‬
‫المباح‪ ،‬وأن يمتنع عن أي فعل في ضوء " ل تفعل " ما دام الحق سبحانه وتعالى قد نهى عن مثل‬
‫هذا الفعل‪ ،‬وعلى المسلم تحرّي الدقة في مدلول كل سلوك‪.‬‬
‫ونحن نعلم أن التكليفات اليمانية قد تكون شاقة على النفس‪ ،‬ومن اللزم أن نبيّن للنسان أن‬
‫المشقة على النفس ستأتي له بخير كبير‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬حين نجد الفلح وهو يحمل السماد العضوي من حظيرة البهائم؛ ليضعه على ظهر‬
‫الحمار ويذهب به إلى الحقل؛ ليخلطه بالتربة‪ ،‬وهو يعمل هذا العمل بما فيه من مشقة انتظارا ليوم‬
‫الحصاد‪.‬‬
‫ويبيّن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ هنا على لسان رسوله أن المر بعدم عبادة أي كائن غير ال‪،‬‬
‫هو أمر من ال سبحانه‪ ،‬وأن الرسول صلى ال عليه وسلم هو نذير وبشير من ال‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫} َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ { [هود‪.]2 :‬‬
‫فيه نفي لعبادة غير ال‪ ،‬وإثبات لعبودية ال تعالى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذا يتوافق ويتسق مع النذار والبشارة؛ لن عبادة غير ال تقتضي نذيرا‪ ،‬وعبادة ال في السلم‬
‫تقتضي بشيرا‪.‬‬
‫ولن الحق سبحانه وتعالى هو خالق النسان ويعلم ضعف النسان‪ ،‬ومعنى هذا الضعف أنه قد‬
‫يستولي عليه النفع العاجل‪ ،‬فيُذهبه عن خير آجلٍ أطول منه‪ ،‬فيقع في بعض من غفلت النفس‪.‬‬
‫لذلك بيّن الحق سبحانه أن من وقع في بعض غفلت النفس عليه أن يستغفر ال؛ لن ال سبحانه‬
‫وتعالى ل يبخل برحمته على أحدٍ من خلقه‪.‬‬
‫وإن طلب العبد المذنب مغفرة ال‪ ،‬فسبحانه قد شرع التوبة‪ ،‬وهي الرجوع عن المعصية إلى‬
‫طاعة ال تعالى‪.‬‬
‫ول يقع عبد في معصية إل لنه تأبّى على منهج ربه‪ ،‬فإذا ما تاب واستغفر‪ ،‬فهو يعود إلى منهج‬
‫ال سبحانه‪ ،‬ويعمل على أل يقع في ذنب جديد‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَأَنِ اسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّبكُمْ ثُمّ تُوبُواْ إِلَ ْيهِ {‬

‫(‪)1462 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like