Professional Documents
Culture Documents
وبعد أن بيّن الحق أنه خلق السماء والرض وخلق الكون كله وسخره للنسان جاء لنا بنعم من
آياته التي خلقها لنا ،والتي جعلها ال سبحانه وتعالى سببا لقوام الحياة؛ فالشمس هي التي تُنضج
لنا كل شيء في الوجود ،وتعطي لكل كائن الشعاع الخاص به ،كما أن الشمس تبخر المياه -كما
قلنا من قبل -لينزل الماء بعد ذلك عذبا فراتا ،يرتوي منه النسان وتشرب منه النعام ونروي به
الزرع.
والشمس هي الم لمجموعة من الكواكب التي تدور حولها ،فدورة الرض حول الشمس تمثل
السنة ،ودورة الرض حول نفسها تمثل اليوم .فيقول الحق سبحانه هنا:
س ضِيَآ ًء وَا ْل َقمَرَ نُورا } ولو نظرت إلى المعنى السطحي في الشمس والقمر
شمْ َ
ج َعلَ ال ّ
{ ُهوَ الّذِي َ
لقلت :إن الشمس تعطي نورا وكذلك القمر ،ولكن النظرة العمق تتطلب منك أن تفرّق بين
الثنين؛ فالشمس تعطي ضياء ،والقمر يعطي نورا .والفرق بين الضياء والنور يتمثل في أن
الضياء تصحبه الحرارة والدفء ،والنور إنارة حليمة ،ولذلك يسمى نور القمر النور الحليم؛ فل
تحتاج إلى الظل لتستظل من حرارته ،لكن الشمس تحتاج إلى مظلة لتقيك حرارتها.
إذن :فالنور هو ضوء ليس فيه حرارة ،والحرارة ل تنشأ إل حين يكون الضوء ذاتيّا من المضيء
مثل الشمس .أما القمر فضوؤه غير ذاتي ويكتسب ضوءه من أشعة الشمس حين تنعكس عليه،
فهو مثل المرآة حين تسلط عليها بعضا من الضوء فهي تعكسه.
شمْسَ
ج َعلَ ال ّ
إذن :القمر مضيء بغيره ،أما الشمس فهي تضيء بذاتها .لذلك قال الحق هناَ { :
ضِيَآ ًء وَا ْل َقمَرَ نُورا }.
وكلمة { ضِيَآءً } إما أن تعتبرها مفردا مثل صام صياما ،وقام قياما ،وضاء ضياءً .وإما أن
تعتبرها جمعا ،مثلها مثل حوض ـ جمعه :حياض ،ومثل روض ـ جمعه رياض ،وكذلك جمع
ضوء هو ضياء.
إذن كلمة { ضِيَآءً } تصلح أن تكون جمعا وتصلح أن تكون مفردا ،وحين يجيء اللفظ صالحا
للجمع وللفراد ،ل بد أن يكون له عند البليغ ملحظ؛ لنه يحتمل هذه المعاني كلها ،وقبل معرفتنا
أسرار ضوء الشمس وقبل تحليله ،كنا نقول :إنه ضوء ،لكن بعد أن حللنا ضوء الشمس ،وجدنا
أن ألوان الطيف سبعة منها ضوء أحمر ،وضوء أخضر ،وضوء أصفر ،وغيرها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فـ " ضياء " تعبر عن تعدد اللوان المخزونة في ضياء الشمس ،فإن قلت :ضياء جمع
ضوء ،فهذا بتحليل الضوء إلى عناصره كلها ،وإن قلت :ضياء مثل قيام ،ومثل صيام ،فهذا يصلح
في المعنى العام.
ولذلك كان القرآن ينزل بما تحتمله العقول المعاصرة لتزوله التي ل تعرف المعاني العلمية
للظواهر .ولو قال القرآن هذه الحقائق ،لقال واحد :إنني أرى الشمس حمراء لحظة الغروب،
وأراها صفراء لحظة الظهيرة ،وهو ل يعلم أن الحمرة وقت الغروب هي حمرة في الرؤية لطول
الشعة الحمراء ،وهي ل تظهر إلى حين الغروب حيث تكون الشمس في أبعد نقطة ،فل يصل
إلينا إل الضوء الحمر ،أما بقية الضواء فهي تشع في الكون ول تصل إلينا.
()1356 /
خلَقَ اللّهُ
وهكذا بينّ الحق اختلف الليل عن النهار مما يؤكد أنهما وجدا معا ،وعطف عليها { َومَا َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }؛ لنه سبحانه خلق الكون بما فيه من مقومات حياة من مأكل ومشرب
فِي ال ّ
وهواء ،وغير ذلك ،ثم سخّر الكون كله؛ لخدمة السيد وهو النسان.
ولو نظرتَ إلى مقومات الحياة لوجدت فيها احتياجات أساسية تتمثل في نفس هواء ،وشراب ماء،
وطعام؛ هذه أهم احتياجات النسان من مقومات الحياة .ويصبر النسان على المأكل أكثر مما
يصبر على المشرب ،ويصبر على المشرب أكثر مما يصبر على َنفَس الهواء ،بل ول يملك
النسان الصبر على َنفَس الهواء مقدار شهيق وزفير.
لذلك شاء الحق أن يملك قومٌ طعام غيرهم ،لن الجسم يمكنه أن يصبر على الطعام لمدة قد تصل
إلى الشهر ويعتمد في ذلك على إذابة الدهن المتراكم بداخله ،عكس ما اخترع البشر من آلت،
فالسيارة ل يمكن أن تسير لمتر واحد دون وقود ،أما الجسم فيتحمل لعل مَنْ يملك الطعام يخفف
من القيود ،أو لعل النسان الجائع يجد طريقه لينال ما يقتات به.
أما الماء فقد شاء الحق أن يقلل من احتكار البشر له؛ لن النسان أكثر احتياجا للماء من الطعام.
أما الهواء فسبحانه وتعالى لم يُملّك الهواء لحد؛ لن الهواء هو العنصر الساسي للحياة؛ ولذلك
اشتق منه لفظ النّفس ،و َنفْس ونَفَس.
ولو نظرتَ إلى الهواء في الوجود كله لوجدته عامل صيانة لكل الوجود من ثبات الرض ،إلى
ثبات المباني التي عليها ،إلى ثبات البراج ،إلى ثبات الجبال ،كل ذلك بفعل الهواء؛ لن تياراته
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التي تحيط بجوانب كل الشياء هي التي تثّبتها ،وإنْ تخلخل الهواء في أي ناحية حول تلك المباني
والجبال فهي تنهدم على الفور.
إذن :الهواء هو الذي يحفظ التوازن في الكون كله .ولذلك قلنا :إنك لو استعرضتَ ألفاظ القرآن
لوجدت أن الحق سبحانه حينما يتكلم عن تصريف الرياح ،فهو سبحانه يتكلم بدقّةِ خالقٍ ،بدقة إله
حكيمٍ ،فهو يرسل من الرياح ما فيه الرحمة ،مثل قوله الحق {:وَأَ ْرسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ[} ...الحجر:
.]22
ح صَ ْرصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة.]6 :
لكن إذا جاء بذكر ريح ففي ذلك العقاب ،مثل قوله {:بِرِي ٍ
ومثل قوله {:فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ مَا اسْ َتعْجَلْتُم
شيْءٍ بَِأمْرِ رَ ّبهَا فَ ْأصْبَحُو ْا لَ يُرَىا ِإلّ مَسَاكِ ُنهُمْ كَذَِلكَ َنجْزِي
عذَابٌ أَلِيمٌ * تُ َدمّرُ ُكلّ َ
بِهِ رِيحٌ فِيهَا َ
ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ }[الحقاف.]25 :
لن الرياح تأتي من كل ناحية ،فتوازن الكائنات ،أما الريح فهي تأتي من ناحية واحدة فتدهم ما
في طريقها.
وهنا يقول سبحانه:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ } أي :أنه جاء بالمخلوقات الخرى مجملة بعد أن جاء
خلَقَ اللّهُ فِي ال ّ
{ َومَا َ
بذكر الشمس والقمر كآيتين منفصلتين ،ثم ذكر السماوات والرض وما فيهما من آيات أخرى:
من رعد ،وبرق ،وسحاب ،ونجوم وعناصر في الكون ،كل ذلك مجمل في قولهَ { :ومَا خَلَقَ اللّهُ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }؛ لنه لو أراد أن يفصّل َل َذكَرَ كثيرا من اليات والنعم ،وهو القائل:
فِي ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النسجام ،فهبْ أن إنسانا ارتاح في حياته الدنيا ثم استقبل الخرة بشقاء وجحيم ،فما الذي استفاده
من ذلك؟
إذن :كل المسائل التي تنتهي إلى زوال ل يمكن أن تُعتبر نعمة دائمة؛ لن النعمة تعني أن تتنعم
بها تنعّما يعطيك يقينا أنها ل تفارقك وأنت ل تفارقها ،والدنيا في أطول أعمارها؛ إما أن تفوت
النعمةُ فيها النسان ،وإما أن يفوت هو النعمة.
والحق -سبحانه وتعالى -يبقى الذين يريدون أن يتقوا ال؛ ليصلوا إلى نعيم ل يفوت ول ُيفَات،
ويجب أن ينظروا في آيات الكون؛ لنهم حين ينظرون في آيات الكون بإمعان يكونون قد أفادو
فائدتين :الفائدة الولى أن يفيدوا مما خلق ال ،والفائدة الثانية أن يعتبروا بأن هذا الكون الذي خلقه
ال إنما جعله وسيلة و َمعْبرا إلى غيره ،فقد خلق فيه الخلق ليعيش بالسباب ،لكنه يريد أن يُسْلمه
بعد ذلك إلى حياة يعيش فيها بالمسبّب وهو ال .فالذين يتقون هم الذين يلتفتون ،والذين ل يتقون ل
يعتبرون بالنظر في الكون وتمر على النسان منهم الشياء فل يعتبرون بها ،كما قال الَ {:وكَأَيّن
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف.]105 :
مّن آيَةٍ فِي ال ّ
إذن :فهم ل يلتفتون إلى ما في آيات الحق من اليات الدالة على عظمة قدرة ال سبحانه؛ فهم
غير حريصين على أن َيقُوا أنفسهم عذاب الخرة.
ن لَ يَرْجُونَ ِلقَآءَنَا.{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :إِنّ الّذِي َ
()1357 /
والرجاء هو طلب شيء محبوب متوقع ،والتمنى طلب شيء محبوب إل أنه غير ممكن الحدوث،
ولكن تعلن بتمنّيك أنه أمر تحبه ،مثل من قال:أل ليتَ الشبابَ يعودُ يوما فأخبِ َرهُ بما َف َعلَ المَشِيبُهو
بهذا القول يبين أن الشباب أمر محبوب ومرغوب .لكن هل يتأتى هذا؟ طبعا ل .إذن :التمني هو
عقُودَ مَدْحٍ
ظمَها ُ
ت الكواكبَ تَدْنُو لي فَأْنْ ِ
طلب شيء محبوب ل يمكن أن يقع؛ ومثل قول الشاعر:لي َ
فما أرضَي لكُم كَِلمِيوهذا غير ممكن.
أما الرجاء فهو أن تطلب شيئا محبوبا من الممكن أن يقع.
ن لَ يَرْجُونَ ِلقَآءَنَا } ،فلماذا ل يرجون لقاء ال؟ لن الذي
وهنا يقول الحق سبحانه { :إِنّ الّذِي َ
يرجو لقاء ال هو من أعد نفسه لهذا اللقاء؛ ليستقبل ثواب ال ،لكن الذي لم يفعل أشياء تؤهله إلى
ثواب ال ،وعمل أشياء تؤهله إلى عقاب ال؛ فكيف له أن يرجو لقاء ال؟ إنه ل يرجو ذلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعلى سبيل المثال :إن الرجل الذي يستشهد ويقدم نفسه للشهادة ،ونفسه هي أعز شيء عنده ،إنما
يفعل ذلك لوثوقه بأن ما يستقبله بالستشهاد خير مما يتركه من الحياة.
إذن :فالذي يرجو لقاء ال هو الذي يُعدّ نفسه لهذا اللقاء؛ بأن يتقي ال في أوامره ،ويتقي ال في
نواهيه؛ ولذلك تمر على النسان أحداث شَتّى؛ وهي في مقاييس اليقين بين أمرين اثنين :حسنات
وسيئات ،وكل واحد يعلم أية حسنات قد فعل ،وأية سيئات قد اقترف ،ول يغشّ أحد نفسه ،فإذا ما
كان حيّا فقد يجعله المل يكذّب نفسه ،ول يرى إل ما فات من المغريات.
أما إذا جاء لحظة الغرغرة في الموت ،فهو يستعرض كل صفحته .فإن كانت حسنة استبشر
وجهه ،وإن كانت سيئة اكفهرّ وجهه ،ولذلك يقال " :فلن كانت خاتمته سيئة ،وفلن كانت خاتمته
متهللة " .وهذا كلم صحيح؛ لن الروح ساعة أن تُقبض فهي تترك الجسم على ما هو عليه ساعة
فراقها ،فإن كان ضاحكا ومستبشرا ،فقد رأى بعضا مما ينتظره من خير.
والنسان وقت الغرغرة ل يكذب على نفسه ،فهو ساعة يمرض بمرض فهو يأمل في العافية ،فإذا
أتى وقت انتهاء ُتعْ َرضُ عليه أعماله عَرْضا سريعا ،فإن كانت العمال حسنة تنفرج أساريره؛
لنه يستشرف ما سوف يلقاه من جزاء.
جدّا ومجتهدا ثم يقولون له :هناك من جاء لك بالنتيجة؛ فيجري عليه
وهذا مثل التلميذ حين يكون مُ ِ
جدّ؛ لم يجب ،ويخاف من لقاء مَنْ يحمل النتيجة.
مطمئنا .وإن كان غير مُ ِ
كذلك الذين يرجون لقاء ال؛ عملوا استعدادا لهذا اللقاء وينتظرون الجزاء من ال ،أما من لم
يعملوا فهم يخافون من لقاء ال ول يرجونه وسبب ذلك أنهم لم يعملوا للخرة { وَرَضُواْ بِالْحَياةِ
طمَأَنّواْ ِبهَا } وكأنهم قد اكتفوا بها ولم يرغبوا في الخرة.
الدّنْيَا وَا ْ
وقد سمى ال هذه الدار اسما كان يجب بمجرد أن نسمعه ننصرف عنها ،فقال } :بِا ْلحَياةِ الدّنْيَا
{ ول يوجد اسم أقل من ذلك ،والمقابل للحياة الدنيا هي الحياة العليا.
عمْر الدنيا ويقول :إنها تستمر عشرة مليين من السنين ،أو مائة مليون
والنسان قد يبحث في ُ
سنة ،وقد ل يلتفت إلى أن عمره هو موقوت في هذه الدنيا.
إذن :فالدنيا بالنسبة لك هي مقدار عمرك فيها ،ل مقدار عمرها الحقيقي إلى أن تقوم الساعة،
وماذا تستفيد منها وهي تطول لغيرك؟ إن عمر الدنيا بالنسبة للنسان هو مقدار ُمكْث النسان
فيها ،وهو مظنون وغير متيقن ،وقد يمت وهو في بطن أمه أو يموت وهو ابن شهر ،أو ابن سنة،
أو بعد أن يبلغ المائة .فالذي يرضي بغير المتيقن قصير النظر.
ن الخِ َرةِ َفمَا مَتَاعُ ا ْلحَيَاوةِ الدّنْيَا فِي
ولذلك انظر إلى القرآن وهو يقول {:أَ َرضِيتُمْ بِا ْلحَيَاوةِ الدّنْيَا مِ َ
الخِ َرةِ ِإلّ قَلِيلٌ }[التوبة.]38 :
عمْر الدنيا من بدء الخلق إلى أن تقوم الساعة ،فه إلى فناء ،وما دامت إلى فناء،
وحتى إن قسْت ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهي متاع قليل ،ومن يطمئن إلى هذا المتاع القليل فهو غافل؛ لذلك يُنهي الحق الية } :وَالّذِينَ هُمْ
عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ { عكس ما قال في الذين يعرفونَ قيمة العمل للخرة .حين يقول الحق {:ليَاتٍ
ّلقَوْمٍ يَ ّتقُونَ }[يونس.]6 :
والغفلة :هي ذهاب المعنى عن النفس ،فما دام المعنى موجودا في النفس ،فاليقظة توجد ،والغفلة
تذهب .إذن :الغفلة ذهاب المعنى عن النفس ،واليقظة هي استقرار المعنى في النفس.
ونحن نعرف أن المعلومات التي يستقبلها الذهن البشري إنما تلتقطها بؤرة الشعور ،مثلما تلتقط آلة
التصوير الفوتوغرافية أية صورة.
وإياك أن تظن أن النسان يعرف المعلومة من تكرارها مرتين مثلً أو أكثر؛ لن كل الذهان
تتفق في أنها تلتقط المعلومة من مرة واحدة ،ويتميز إنسان عن آخر في قدرته على أن يستقبل
المعلومة بذهن مستعد لها؛ لن بورة الشعور ل تلتقط إل معنى واحدا ،ثم يتزحزح المعنى إلى
حاشية الشعور؛ لتأتي المعلومة الثانية ،فإن استقبلت المعلومة وفي بؤرة شعورك معنى آخر؛ ل
تثبت المعلومة؛ لذلك تكرر القراءة مرة واثنتين وثلث مرات ،حتى تصادف المعلومة خُُلوّ بؤرة
الشعور.
ومثال هذا :الطالب حين يحاول حفظ قصيدة ،فلو كان ذهنه مستعدا لستقبال القصيدة فهو يحفظها
من مرة واحدة.
لستقبال القصيدة فهو يحفظها من مرة واحدة.
جلٍ مّن قَلْبَيْنِ
ج َعلَ اللّهُ لِرَ ُ
إذن :الذهن كآلة الغوتوغرافيا؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول {:مّا َ
ج ْوفِهِ[} ...الحزاب.]4 :
فِي َ
فإن كنت تريد أن تستقبل معلومة ما ،فكُن حريصا على أن تُفرّغ ذهنك ،من أي معلومة؛ لتأتي
المعلومة الجديدة ،فتصادف خلء لبؤرة الشعور؛ فتستقر فيها.
والمدرس الناجح هو الذي يلفت أذهان كل التلميذ لما يقول ،وما دامت الذهان قد التفتت إليه؛
فلن تمر كلمة دون أن يستوعبها التلميذ ،عكس المدرس غير الناجح الذي يؤدي عمله برتابة
وركاكة َتصْرف عنه التلميذ .ونجد المدرس الناجح ،وهو يُلفت انتباه تلميذه ويقطع الدرس؛
ليسأل أي واحد منهم عمّا قال؛ فيستمع إليه التلميذ من بعد ذلك بانتباه؛ لن كل واحد منهم يتوقع
أن يُسأل عن المعلومة التي قِيلتْ من قبل.
والتلميذ المجتهد هو الذي يقرأ الدرس بعقلية قادرة على مناقشة ما فيه من أساليب ومعلومات،
وهو يستصحب حضور الذهن أثناء القراءة ،أما التلميذ الفاشل فهو يقرأ دون يقظة أو انتباه.
مثال آخر :إن الفلح الذي ينام على حافة بئر الساقية ل يقع في بئرها؛ لنه ينام وهو مستصحب
لفكرة أنه إن تقلّب على جنبٍ ما فسوف يقع في البئر .وكذلك الخوة حين ينام اثنان منهم على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سرير واحد ،يقوم كل واحد منهما في الصباح وهو مستصحب أن هناك آخر بجانبه ،ولكن إذا نام
كل منهما في سرير منفصل ،فهو يستيقظ ليجد رأسه في ناحية وساقيه في ناحية أخرى ،وتسمى
هذه عملية الستصحاب واليقظة ،ويقال " فلن يقظ " ،وكلمة " يقظ " ضد " نائم "؛ لن اليقظان
يحتفظ بالوعي والنتباه.
إذن :فالغفلة هي ذهاب المعنى من النفس وانطماسه ،والذين يمرون باليات وهم غافلون عنها لن
ينتفعوا بشيء من هذه اليات ،ثم تأتي لهم محصلة غفلتهم في الخرة.
ويقول الحق سبحانه عنهمُ } :أوْلَـا ِئكَ مَ ْأوَاهُمُ.{ ...
()1358 /
وأنت تقول " :أويت إلى كذا " ،إذا كان هذا هو المكان الذي يعصمك من شيء ،وهنا يقول الحق:
{ مَ ْأوَا ُهمُ النّارُ } فإذا كان ذلك هو المأوى ،فل بد أن ما خارجها بالنسبة لهم أشد عذابا .وهم
يأوون إلى النار { ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ } أي :بسبب ما كانوا يعملون من ذنوب وسيئات.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ.} ...
()1359 /
عمِلُوا الصّالِحَاتِ َيهْدِيهِمْ رَ ّب ُهمْ بِإِيمَا ِنهِمْ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهِمُ الْأَ ْنهَارُ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ (
إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
)9
هنا يتحدث الحق سبحانه عن المقابل ،وهم الذين آمنوا ،ويعُلّمنا أنه سبحانهَ { :ي ْهدِيهِمْ رَ ّبهُمْ
بِإِيمَا ِنهِمْ }.
والهداية -كما قلنا من قبل -معناها الدللة على الخير ،بالمنهج الذي أرسله الحق سبحانه لنا،
وبه بيّن الحق السّ ُبلَ أمام المؤمن والكافر ،أما الذي يُقبل على ال بإيمان فيعطيه الحق سبحانه
وتعالى هداية أخرى؛ بأن يخفف أعباء الطاعة على نفسه ،ويزيده سبحانه هدى بالمعروف؛ لذلك
شعِينَ }[البقرة.]45 :
قال سبحانه {:وَاسْ َتعِينُواْ بِالصّبْ ِر وَالصّلوةِ وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى الْخَا ِ
وهكذا يتلقى المؤمن مشقات الطاعة بحب؛ فيهونّها الحق سبحانه عليه ويجعله يدرك لذة هذه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الطاعة؛ لتهون عليه مشقتها ،ويمده سبحانه أيضا بالمعونة.
يقول الحق سبحانه:
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ َي ْهدِيهِمْ رَ ّبهُمْ بِإِيمَا ِنهِمْ }.
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
وما داموا قد آمنوا؛ فسبحانه يُنزِل لهم الحكام التي تفيدهم في حياتهم وتنفعهم في آخرتهم ،أو أن
الهداية ل تكون في الدنيا بل في الخرة ،فما دامو قد آمنوا ،فهم قد أخذوا المنهج من ال سبحانه
وتعالى وعملوا العمال الصالحة ،يهديهم الحق سبحانه إلى طريق الجنة.
سعَىا نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَ ْيمَانِهِم} ...
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ يَ ْ
ولذلك يقول الحق سبحانهَ {:يوْمَ تَرَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
[الحديد.]12 :
سعَىا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَ ْيمَانِهِمْ[} ...التحريم.]8 :
ويقول سبحانه {:وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ نُورُهُمْ َي ْ
أي :أن نورهم يضيء أمامهم .أما المنافقون فيقولون للذين آمنوا {:انظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِن نّو ِركُمْ قِيلَ
جعُو ْا وَرَآ َء ُكمْ فَالْ َتمِسُواْ[} ...الحديد.]13 :
ارْ ِ
أي :أن هذا ليس وقتَ التماس النور ،فالوقت -للتماس النور -كان في الدنيا؛ باتباع المنهج
والقيام بالصالح من العمال.
إذن :فالحق سبحانه يهدي للمؤمنين نورا فوق نورهم في الخرة.
والية تحتمل الهداية في الدنيا ،وتحتمل الهداية في الخرة.
ويصف الحق سبحانه حال المؤمنين في الخرة فيقول { :تَجْرِي مِن َتحْ ِتهِ ُم الَ ْنهَارُ فِي جَنّاتِ
ال ّنعِيمِ } [يونس.]9 :
وقلنا :إن الجنة على حوافّ النهار؛ لن الخضرة أصلها من الماء .وكلما رأيتَ مجرى للماء ل
بد أن تجد خضرة ،والجنات ليست هي البيوت ،بدليل قول الحق سبحانهَ {:ومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي
جَنّاتِ عَدْنٍ[} ...التوبة.]72 :
ونجد الحق سبحانه يقول مرةَ {:تجْرِي تَحْ َتهَا الَ ْنهَارُ[} ...التوبة.]100 :
ويقول سبحانه في مواضع أخرىَ {:تجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ[} ...البقرة.]25 :
والحق سبحانه يعطينا صورا متعددة عن الماء الذي ل ينقطع ،فهي مياه ذاتية الوجود في الجنة ل
تنقطع أبدا.
عوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَا َنكَ الّل ُه ّم وَتَحِيّ ُتهُمْ.} ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :دَ ْ
()1360 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دعواهم :أي دعاؤهم.
وهل الخرة دار تكليف؛ حتى يواصلوا عبادة ال؟ ل ،ولكنها عبادة اللتذاذ ،وهم كُلّما رأوا شيئا
يقولون :لقد أكلنا ذلك من قبل ،ولكنهم يعرفون حين يأكلون ثمار الجنة أن ما في الرض كان
ل وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها[} ...البقرة:
يشبه تلك الثمار ،لكنه ليس مثلها {.قَالُواْ هَـاذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِن قَ ْب ُ
.]25
أو يقولون { :سُبْحَا َنكَ الّل ُهمّ } اعترافا بالنعمة ،وأنت حين ترى شيئا يعجبك تقول :سبحانك يا رب.
وبعد أن تأتي لك النعمة وتقول :سبحان ال ،وتُفاجَأ بأشياء لم تكن في الحسبان -من فرط
جمالها؛ فتقول :الحمد ل.
إذن :فأنت تستقبل النعمة " بسبحان ال " ،وينتهي من النعمة " بالحمد ل " .ولذلك يقول الحق
حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } والذي يجعل للحياة الدنيا معنى ،ويجعل لها
عوَاهُمْ أَنِ الْ َ
سبحانه { :وَآخِرُ دَ ْ
طعما ويجعل لها استقرارا ،أن يكون النسان في سلم ،ومعنى السلم :الطمئنان والرضا؛ فل
مُهيّجات ،ول مُعكّرات ،ول يأتي ذلك إل بعدم اصطدام في ملكات النفس؛ فيتحقق سلم النسان
مع نفسه ،وسلم النسان مع أهله ،وهذا هو المحيط الثاني ،وسلم النسان مع قومه ،وسلم
النسان مع العالم كله ،كل ذلك اسمه سلم ،ل مُنغّص ،ل من نفسه ،ول من أهله ،ول من قومه،
ول من العالم .وكلما اتسعت رقعة السلم زاد الحساس النسان بالطمئنان.
وحين يقول الحق سبحانه { :وَتَحِيّ ُت ُهمْ فِيهَا سَلَمٌ } ،فالسلم وارد في أشياء متعددة ،والحق سبحانه
علَى الَرَآ ِئكِ مُ ّتكِئُونَ
للٍ َ
جهُمْ فِي ظِ َ
ش ُغلٍ فَا ِكهُونَ * هُ ْم وَأَ ْزوَا ُ
صحَابَ الْجَنّةِ ال َيوْمَ فِي ُ
يقول {:إِنّ َأ ْ
لمٌ َقوْلً مّن ّربّ رّحِيمٍ }[يس.]58-55 :
* َلهُمْ فِيهَا فَا ِكهَ ٌة وََلهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَ َ
وهذا هو السلم الذي له معنى؛ فهو سلم من ال .ولم يقل سبحانه " :سلم يورثك اطمئنانا ونفسا
راضية " فقط ،بل هو سلم بالقول من ال ،وانظر أي سعادة حين يخاطبك الحق سبحانه وتعالى
مباشرة .وهناك فرق بين أن يشيع ال فيك السلم وبين أن يحييك كلمه بالسلم .وهذا هو السبب
لمٌ َقوْلً مّن ّربّ رّحِيمٍ }[يس.]58 :
في قوله {:سَ َ
وهذا سلم ال ،ثم من بعده هذه المنزلة يأتي سلم الملئكة:
{ وَالمَلَ ِئكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَ ْيهِمْ مّن ُكلّ بَابٍ * سَلَمٌ عَلَ ْيكُم[} ...الرعد.]24-23 :
لمٌ } نجد فيه كلمة السلم رمز الرضا والستقرار في
إذن :فقول الحق هنا { :وَ َتحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَ َ
الجنة؛ فالسلم هو أول الحاسيس التي تحبها في نفسك ،ولو كانت الناس كلها ضدك .لكنك ساعة
تستقر ،فأنت تسائل نفسك :ماذا فعلت ليكون البعضُ ضدي؟ وحين تجيب نفسك " :إنني لم أفعل
إل الخير "؛ فأنت تحس السلم في نفسك ،وإذا ما رحّب الخرون بما تفعل ،فالحياة تسير ،بل
ض ّد ول حقد ،وهذا ما قاله رسول ال صلى ال عليه وسلم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" يطلع عليكم الن رجل من أهل الجنة " فيدخل رجل عرفه القوم فلما انصرف؛ قام واحد من
الصحابة ،وذهب إلى الرجل؛ ليعلم ماذا يصنع ،وسأله :ماذا تفعل حتى يبشّرك الرسول صلى ال
عليه وسلم بالجنة؟ فوجد سلوك الرجل مستقيما ومتبعا للمنهج دون زيادة ،فسأله الصحابي :لماذا
-إذن -بشّرك رسول ال صلى ال عليه وسلم بالجنة؟
قال الرجل :وال إني لصلّي كما تصلّون ،وأصوم كما تصومون ،وأزكّى كما تزكون ،ولكني
أبيت وما في قلبي غلّ لحد.
هذا هو السلم النفسي ،وإذا ما وصل النسان إلى السلم مع النفس؛ فل تضيره الدنيا إن قامت،
وبعد ذلك يضمن أن يوجد سلمه مع ال تعالى ،ومن عنده سلم مع نفسه ،ومع بيئته ،ومع
مجتمعه؛ فهو ينال سلما من ال سبحانه .ويقول لنا القرآن عن الذين يعانون من مأزق في
سعِيدٌ }[هود.]105 :
ي وَ َ
شقِ ّ
الخرةَ {:يوْمَ يَ ْأتِ لَ َتكَلّمُ َنفْسٌ ِإلّ بِِإذْنِهِ َفمِ ْنهُمْ َ
هؤلء هم الذين شقوا في النار ،أما الذين سُعدوا ففي الجنة ،فماذا عن حال الذين ل هم شقوا ول
هم سعدوا -وهم أهل العراف؛ لن الموقف يوم القيامة ينقسم الناس فيه إلى ثلثة أقسام؛ فقد
خفّتْ َموَازِينُهُ *
شةٍ رّاضِيَةٍ * وََأمّا مَنْ َ
قال ال سبحانه {:فََأمّا مَن َثقَُلتْ َموَازِينُهُ * َف ُهوَ فِي عِي َ
فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ }[القارعة.]9-6 :
ولم يقل الحق سبحانه لنا أمر الذين تساوت الكفتان لهم أثناء الحساب؛ لنه سبحانه قال في حديث
قدسي:
" إن رحمتي غلبت غضبي ".
جدْنَا مَا وَعَدَنَا
ويبين لنا الحق سبحانه رحمته فيقول {:وَنَادَى َأصْحَابُ الْجَنّةِ َأصْحَابَ النّارِ أَن قَ ْد وَ َ
حقّا قَالُواْ َنعَمْ فَأَذّنَ ُمؤَذّنٌ بَيْ َنهُمْ أَن ّلعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّاِلمِينَ }
حقّا َف َهلْ وَجَدتّم مّا وَعَدَ رَ ّبكُمْ َ
رَبّنَا َ
[العراف.]44 :
ويأتي أمر رجال العراف فيقول سبحانه {:وَعَلَى الَعْرَافِ رِجَالٌ َيعْ ِرفُونَ كُلّ ِبسِيمَاهُمْ} ...
[العراف]46 :
لقد عرفوا المؤمنين بسيماهم ،وعرفوا الكفار بسيماهم ،وجليس البعض على العراف؛ ينتظرون
ط َمعُونَ }[العراف.]46 :
لمٌ عَلَ ْيكُمْ َلمْ يَ ْدخُلُوهَا وَهُمْ يَ ْ
وينظرون لهل الجنة قائلين {:سَ َ
صحَابَ الْجَنّةِ أَنْ َأفِيضُواْ
ثم يعطينا الحق سبحانه صورة ثانية فيقول {:وَنَادَىا َأصْحَابُ النّارِ َأ ْ
عَلَيْنَا مِنَ ا ْلمَآءِ َأوْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنّ اللّهَ حَ ّر َم ُهمَا عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[العراف.]50 :
أهل العراف -إذن -يسعدون بعطاء ال لهل الجنة ،ويطمعون أن يغفر ال -سبحانه وتعالى
-لهم.
ونحن في حياتنا نسمع المشرفين على المساجين أو المحكوم عليهم بالعدام يقولون :قبل أن يحكم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على المجرم بالعدام ينخفض وزنه ،ثم يزيد بعد الحكم؛ لن المر قد استقر .والذين يُشغلون بأن
يعرفوا مكانهم في الخرة ،أهو في الجنة أو في النار ،ل ينسون أن يقولوا للمؤمنين {.سَلَمٌ
عَلَ ْيكُمْ[} ...العراف.]46 :
ح ْمدُ للّهِ َربّ
عوَاهُمْ أَنِ الْ َ
ل ٌم وَآخِرُ دَ ْ
وهنا يقول الحق سبحانه عن أهل الجنة } :وَ َتحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَ َ
ا ْلعَاَلمِينَ { وقد تكون آخر دعواهم ،أي :آخر كلمة.
حمْد هو قمة
فالواحد منهم يقول :أنا حمدت ربنا على الشيء الفلني والشيء الفلني .وآخر َ
الحمد؛ لنهم حمدوا ال على النعمة في الدنيا التي تزول ،ويحمدونه في الخرة على النعمة التي
حمْد على النعمة التي ل تزول فهو قمة الحمد.
ن يوجد َ
ل تزول ،فلئِ ْ
جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِتعْجَاَلهُمْ.{ ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وََلوْ ُيعَ ّ
()1361 /
ضيَ إِلَ ْيهِمْ َأجَُلهُمْ فَنَذَرُ الّذِينَ لَا يَرْجُونَ ِلقَاءَنَا فِي
جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِتعْجَاَلهُمْ بِالْخَيْرِ َل ُق ِ
وََلوْ ُي َع ّ
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ ()11
ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رقابة الحق سبحانه التي تعلم كل شيء أزلً تكاد أن تقول لك :ل ،ليس خيرا .وانتظر الخير بعدم
استجابة دعائك؛ لنه القائل سبحانه {:وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُ ْم وَعَسَىا أَن تُحِبّواْ
شَيْئا وَ ُهوَ شَرّ ّلكُمْ[} ...البقرة.]216 :
إذن :فمعرفتك ليست نهائية في تقرير الخير والشر؛ لذلك َدعِ اللهَ العلى -وهو المأمون عليك
-أن يستجيب أو ل يستجيب لما تدعوه وأنت في ظنك أنه الخير ،فالمعرفة العليا هي التي تفرق
بين الخير والشر ،وفي المنع -أحيانا -عين العطاء؛ ولذلك يقول الحق {:وَيَ ْدعُ الِنْسَانُ بِالشّرّ
عجُولً }[السراء.]11 :
ن الِنْسَانُ َ
دُعَآ َءهُ بِالْخَيْ ِر َوكَا َ
وقد تلحّ في دعاء لو استجيب لك؛ لكان شرّا .وال سبحانه يعلم ما هو الخير لك ،وهو سبحانه
يجيب أحيانا بعض خلقه في أشياء كان النسان منهم يتمنى أن توجد ،ثم يكتشف النسان أنها لم
تكن خيرا ،وأحيانا يأتي لك بأشياء كنت تظن أنها شر لك ،فتجد فيها الخير .وهكذا يصحّح لك
الحق سبحانه بحكمته تصرفاتك الختيارية.
حقّ مِنْ عِن ِدكَ
وقد قال الكافرون لرسول ال صلى ال عليه وسلم {.الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال.]32 :
فََأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ ال ّ
ومن قالوا هذا القول هم :العاص بن وائل السهمي ،والوليد بن المغيرة ،والسود بن عبد المطلب
والسود بن عبد يهود ،وكانوا قد وصلوا إلى قمة الضطراب؛ فهم قد اضطربوا أولً حين اتهموه
بأنه ساحر ،ولم ينتبهوا إلى غباء ما يقولون؛ لنه إن كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم قدرة
السحر؛ فلماذا لم يسحرهم هم ليؤمنوا أيضا؟
واضطربوا مرة ثانية ،وحاولوا أن يقولوا :إن القرآن شعر ،أو له طبيعة الشعر والكلم المسجوع،
والقرآن ليس كذلك.
ولو أن جماعة غيرهم قالت مثل هذا القول لكان لهم عذرهم لنهم ليسوا أهل لغة ،أما هؤلء فهم
قوم أهل دُرْبة على الفصاحة والبلغة ،وكانوا يعقدون أسواق الشعر والخطابة ،ثم اضطربوا مرة
ثالثة ،وحاولوا الطعن في مكانه محمد صلى ال عليه وسلم وهم يُقروّن بعظمة القرآن؛ فقالوا{:
عظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
والحق سبحانه وتعالى حينما يتعرض لحادثة وقعت في زمن النبي صلى ال عليه وسلم مع
الكافرين؛ ل يقتصر في الحدث على ما وقع ،ولكنه يعالج قضية عامة كونية إلى أن تقوم الساعة،
ويجعل الحدث الحاصل في زمنه سببا فقط؛ ليعطي عموم الحكم في كل زمان وفي كل مكان .وإل
اقتصر المر على رسول ال صلى ال عليه وسلم .وقد جاء القرآن للناس كافة ،وجاء للزمان
عامة ،فل بد أن تكون القضية المعروضة -أيّ قضية -أمام رسول ال صلى ال عليه وسلم من
قوم عاصروه لها سبب خاص ،ولكن العبرة بعموم الموضوع ل بخصوص السبب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويعالج ال سبحانه وتعالى في هذه المسألة الشخصية من هؤلء الذين قالوا ذلك قضيةً كونيةً
ستظل إلى أن تقوم الساعة.
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ ال ّ
عوْا على أنفسهم {:إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ
فقد دَ َ
ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال.]32 :
كما قال قوم عاد لهود {:أَجِئْتَنَا لِ َنعْ ُبدَ اللّهَ وَحْ َد ُه وَنَذَرَ مَا كَانَ َيعْ ُبدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ
الصّا ِدقِينَ }[العراف.]70 :
إذن :هم قد دعوا بشرّ على أنفسهم.
ويعالج ال قضية الدعاء بالخير أو الدعاء بالشرّ ،لن النسان قد يضيق ذَرْعا بأمور تحيط بذاته
أو بالمحيط به؛ فإذا ضاق ذرعا بأمور تحيط به في ذاته من ألم كمرض -مثلً ،أو عاهة ل
يقوى على الصبر عليها ،أو ل يقوى على تحمّلها؛ فيقول " :يا رب ،أرحني يا رب " ،وهو هنا
يدعو على نفسه بالموت .فلو أن ال سبحانه وتعالى استجاب دعاءه َلقُضيت المسألة.
ولكن ال هو الحكيم العزيز ،ل يأتمر بأمر أحد من خلقه ،ول يعجل بعَجَلة العباد ،وكما يؤجل لك
استجابته لدعوة الخير منك ،فهو يؤجل أيضا إجابتك لدعوة الشرّ منك على نفسك؛ وفي ذلك رحمة
منه سبحانه.
وإذا كنت تقول :أنا أدعو بالخير ،وال سبحانه وتعالى ل يعطيني ،فخذ مقابلها :أنك تدعو بالشرّ
على نفسك ،ول يجيبك ال.
ثم أل يضيق الب أحيانا ذَرْعا بمن حوله ،فيقول :فليأخذني ال؛ لستريح من وجوهكم؟ َهبْ أن
ال سبحانه أجابه إلى هذه الدعوة ،فماذا يكون الموقف؟ وقد تجد من يقول :يا رب أصبني بالعمى
فل أراهم ،أو تدعو المرأة على نفسها أو على أولدها.
وأنتم تحبون أن يجيب ال تعالى دعاءكم ،فلو كان يجيبكم على دعاء الش ّر لنتهت حياتكم إلى
الفزع ،مثل هذه الم التي تدعو بالمتناقضات فتقول لولدها -مثلً " :ربنا يسقيني نارك " فتطلب
السّقيا بالنار ،رغم أن السّقيا للرّي ،والنار للحرارة.
إذن :قد يضيق النسان ذرعا بنفسه ،أو يضيق ذرعا بمن حوله؛ فيدعو على نفسه بالشرّ ،وحين
يدعو النسان فيجب عليه أن ينزّه الحق سبحانه تعالى عن أن ينفذ ما يدعو العبد به دون أن يمر
الدعاء على حكمته سبحانه وتعالى.
جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِت ْعجَاَلهُمْ بِا ْلخَيْرِ َل ُقضِيَ إِلَ ْيهِمْ أَجَُل ُهمْ { ،فكما قبلتم أن يؤجل ال
} وََلوْ ُيعَ ّ
تعالى لكم دعاء الشر على أنفسكم؛ فاقبلوا منه تأجيل دعائكم بالخير؛ لن الخير فيما تطلبون غير
الخير فيما يعلم ال؛ فهو العليم الخبير .وقد تطلب خيرا تعلمه ولكن ال يعلم فيه شرا؛ فمن
مصلحتك أل يجيبك .وكما تحترم عدم إجابته لك في الشر على نفسك ،أو على من تحب ،فاحترم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدم إجابته لك فيما تظنه خيرا لك ،أو لمن تحب؛ لن ال ل يعجل بعجله عباده؛ لنه سبحانه هو
جلٍ[} ...النبياء.]37 :
عَخلِقَ النْسَانُ مِنْ َ
الذي خلقهم ،وهو أعلم بهم ،فهو القائلُ {:
وهو سبحانه القائل {:سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَ َتسْ َتعْجِلُونِ }[النبياء.]37 :
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ
والحق سبحانه لو استجاب لهؤلء الذين دعوا {:الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ
حجَا َرةً[} ...النفال.]32 :
عَلَيْنَا ِ
لكانت نهايتهم بجنس ما دعوا به ،وقُضي عليهم ،ثم انتهوا بعد ذلك إلى عذاب الجحيم.
ولكن الحق سبحانه شاء لهم البقاء؛ ليؤمن من يختار اليمان ،أما من اختار الكفر؛ فعليه أن يتحمّل
تبعة الطغيان التي تتمثل في أن الواحد منهم ل يختار الكفر فقط ،بل يتجاوز الحد ،ويطلب ممن
آمن أن يرتد عن إيمانه ،وفي ذلك مجاوزة للحد؛ ولذلك فهم يعمهون في هذا الطغيان ،أي :تتكاثر
عليهم الظروف ،ويثبت -لهم ولمن بعدهم -عجز الكفر عن مواجهة قدرة الحق.
وفي الحياة أمثلة -ول المثل العلى -فهناك من يملك عدوه ،فيضربه؛ لكنه ل يقتله ،ثم يتكرر
من هذا الخصم الساءة ،فيضربه من جديد ،ثم تتكرر الساءة فيضربه ،وهو ل يقتله أبدا ليداوم
ي ل يقتل خصمه ،بل يؤلمه؛ فل يرفع الخصم رأسه.
على إذلله ،والقو ّ
والحق سبحانه يقول:
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ {.
} فَ َنذَرُ الّذِينَ لَ يَ ْرجُونَ ِلقَآءَنَا فِي ُ
أي :أن الحق سبحانه يترك أهل الباطل؛ لتتجمع عليهم سيئاتهم ،ويذوقون ويل خصومة السلم
فل يرفعون رءوسهم؛ لن أهل السلم يردّون لهم الساءة مضاعفة ،ولسوف ييأس أهل الباطل
من أنهم سينتصرون على الحق بأي شكل وبأي لون.
وهم مهما تحايلوا في أساليب النكاية في السلم ،تجد الحق سبحانه وتعالى ينصر المسلمين.
والمثل أمامنا من سيرته حين أمره الحق سبحانه بأنه يهاجر ،وكان الكفار يحاصرون بيته بشباب
من القبائل ،فخرج صلى ال عليه وسلم ولم يشعروا ،وقال صلى ال عليه وسلم " :شاهت الوجوه
".
وشاء سبحانه ذلك؛ ليعلموا أنهم لن يستطيعوا النتصار على محمد صلى ال عليه وسلم ،ل
بالمواجهة ،ول بتبييت المكر.
س الِنسَانَ.{ ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَِإذَا مَ ّ
()1362 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَنْ َلمْ يَدْعُنَا إِلَى
وَإِذَا مَسّ الْإِ ْنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنْ ِبهِ َأوْ قَاعِدًا َأوْ قَا ِئمًا فََلمّا كَ َ
ضُرّ مَسّهُ َكذَِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()12
يصور الحق سبحانه حال البشر؛ الذين لم يرتبطوا دائما بالله ،وبمنهج الله؛ هؤلء الذين
يتجهون إلى ال في لحظات الزمات ،ثم ينسون اليمان وتكاليفه من بعد ذلك .وحياتنا مليئة بهذا
الصنف من البشر.
وفي قريتنا -على سبيل المثال -كان الذي يشرف على رعاية صحة الناس حلّق الصحة ،إلى
أن تخرّج أحد أبناء القرية في كلية الطب ،فأخذ حلق الصحة يشيع عنه ما ل يليق ،وفي أحد
اليام لحظ الفلحون خروج حلق الصحة مبكرا وهو يحمل لِفافة كبيرة ،فأرادوا أن يعرفوا ما
بها ،واكتشفوا أن ابن حلق الصحة مريض وهو يريد أن يذهب به إلى الطبيب ،هو -إذن -ل
يخدع نفسه ،رغم محاولته خداع أهل القرية بالشائعات الكاذبة عن الطبيب.
وكذلك النسان مع منهج ال ،قد يخدع الخرين في لحظة اليسر ،لكنه ل ينسى ال لحظة العسر.
وساعة يأتيه الضر ،وحين تعزّ السباب عليه فهو ل يجد إل كلمة " يا رب " .وأنت تجدها من
أعتى الفُجّار ،ومن أقسى العُتاة ،تجد الواحد من هؤلء وهو يدعو ال ساعة الضرّ.
س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا ِلجَنبِهِ }.
وهذا ما يقوله الحق سبحانه هنا { :وَإِذَا مَ ّ
والمثل من حياة هؤلء الكافرين الذين دعوا على أنفسهم ،ولو كانوا يرغبون في إنهاء الحياة،
فلماذا يدعون ال وهم قد كفروا به؟ إنه كذب مفضوح ،والنسان حين يضيق بنفسه قد يدعوا على
نفسه بالضّر؛ مثلما قال المتنبيَ :كفَى ِبكَ داءً أن تَرَى الموتَ شَافيا وحَسْب المنايا أن يكُنّ أمَانِيَاأي:
يكفي أن يصل النسان إلى الدرجة التي يتمنى فيها الموت.
ونلحظ أن الحق سبحانه قد جاء بموقف النسان من الضر في أكثر من موضع ،فنجد آية تفرد
النسان بمعنى؛ وآية ثانية تفرده بمعنى آخر ،وآية ثالثة تصور وضع النسان بشكل آخر.
سيَ مَا كَانَ َيدْعُو
خوّلَهُ ِن ْعمَةً مّنْهُ َن ِ
ن ضُرّ دَعَا رَبّهُ مُنِيبا إِلَ ْيهِ ثُمّ ِإذَا َ
س الِنسَا َ
يقول سبحانه {:وَِإذَا مَ ّ
إِلَيْهِ مِن قَ ْبلُ[} ...الزمر.]8 :
س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا }.
ويقول الحق في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها { :وَإِذَا مَ ّ
سكُمُ الضّرّ فَإِلَ ْيهِ تَجْأَرُونَ *
ويقول سبحانه في موضع آخرَ {:ومَا ِبكُم مّن ّن ْعمَةٍ َفمِنَ اللّهِ ُثمّ إِذَا مَ ّ
شفَ الضّرّ عَ ْنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّ ْنكُم بِرَ ّبهِمْ ُيشْ ِركُونَ }[النحل.]54-53 :
ثُمّ ِإذَا كَ َ
إذن :فالحق سبحانه يأتي بها مفردةً مرّة ،ومرة يأتي بها جمعا .ومرة يأتي بها مفردة على ألوان
شتّى ،ومرة ثاني بها جمعا بألوان شتّى ،ومرة يذكرها في البر ،ومرة يذكرها في البحر {:وَإِذَا
ضلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ[} ...السراء ]67 :إذن :فاليات تستوعب حالت
سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ
مَ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النسان المختلفة؛ إذا ما أصابه ضرّ ،ولم يجد َمفْزعا له ل من ذاته ول من البيئة المحيطة به ،فل
يجد من يلجأ إليه إل ربه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عضُدا }[الكهف.]51 :
َ
والمضلون :هم الذين يقولون لكم افتراضات غير صحيحة عن تطور القرد حتى صار إنسانا ،وأن
الرض كانت قطعة من الشمس وانفصلت عنها؛ كل هذه افتراضات قالها من سمّاهم الحقّ
سبحانه } :ا ْل ُمضِلّينَ {.
ولو لم يقل ال تعالى هذه الية ،ثم جاء قوم ليقولوا :النسان كان في الصل قردا ،لقلنا :إن
القرآن لم يتعرض لذلك ،وكان من الممكن أن نصدقهم ،لكن ال سبحانه شاء لنا أن تكون لدينا
المناعة ضد هذا الضلل.
وعملية الخلق غيب عنا ،أخبرنا عنها من خلقنا سبحانه ،فلم يكن معه شاهدٌ رأي هذا المشهد؛
ليقول لنا .والخلق الذي به الحياة ينقضه الموتُ ،ولكن الموت مشهد نشهده ،وأي نقض لشيء -
كما عرفنا -إنما يأتي على عكس بنائه ،فإن بنينا عمارة من عشرين طابقا ،وأردنا أن نهدمها
لسبب أو لخر؛ فنحن نهدم الطابق العشرين أولً ،ثم نوالي الهدم بعد ذلك ،فما بُني أولً يهدم
أخيرا؛ لن َنقْض كل شيء يأتي على عكس بنائه.
وبما أن الموت َن ْقضٌ للحياة؛ فالروح إذا ما خرجت من الجسم ،وتُرك الجثمان بل دفن ،فالجثمان
يتصلّب ،ثم يصير جيفَةً ،ثم يتبخر منه الماء ،ويتحلل الجسد إلى العناصر الولى في التراب ،هذه
مراحل الموت.
وقد أخبرنا الحق عن كيفية الخلق ،فبيّن أنه سبحانه خلق النسان من التراب والماء فصار طينا،
ثم استوى الطين ،فصوّره الحق صورة النسان ونفخ فيه الروح ،وآخر مراحله في اليجاد هي
الروح؛ لذلك فخروج الروح هو أول مرحلة في الموت.
وال سبحانه وتعالى في هذه الية جاء بوضع النسان على الجنب وقائما وقاعدا ،ولم يأت
بالمشي؛ لن الماشي عنده قدرة فل ضرّ في ذاته ،إن أصابه ضرّ فمن غيره ،والض ّر مقابل النفع،
والنافع هو مَنْ يُبقِي الشيء على صلحه الممتع المريح ،في الذات أو في الخارج.
فساعة تكون ذاتك مستقيمة وملكاتها وأعضاؤها كلها سليمة؛ فليس عندك ضرّ ،لكن إذا حدث خلل
في أي عضو من العضاء؛ فالمتاعب تبدأ ،ولذلك يقال عن السلمة العامة :هي أل تشعر بأن لك
أعضاء؛ لنك حين تشعر أن لك عَيْنا -مثلً -فاعرف أنها تؤلمك ،وإذا شعرت بأذنك فاعرف
أنها تؤلمك .وأنت تطحن الطعام بضروسك وتأكل ول تدري بها .ويوم أن تدري بها فهذا المعنى
أن ألما قد بدأ.
وهكذا ل يشعر النسان بفقد السلمة إل إذا عرف وانتبه إلى أن له عضوا من أعضائه ،فيقول" :
آه يا عيني " ،و " آه يا أذني ".
ونقول :إن وجع العين مؤلم ألما مخصوصا ،وكذلك نقول :على أي عضو من العضاء ،أما من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل يشكو بأعضائه فهو ل يشعر بها؛ لنها تؤدي أعمالها على الوجه المناسب .والسلمة فيمن
حولك تتمثل في أن يحققوا لك المتعة والصفاء بدون كدر .وبذلك تظهر منفعتهم لك.
طغَىا * أَن رّآهُ
وكل إنسان له كبرياء ذاتي ،يبيّنها قول الحق سبحانه وتعالى {:كَلّ إِنّ الِنسَانَ لَيَ ْ
اسْ َتغْنَىا }
[العلق.]7-6 :
ول يذل النسان إل حين يعاني من آفة ما ،ول يأتي طغيانه إل عند استكمال النعمة في الخارج
والنعمة في الداخل ،وإن بدأت النعمة في النقباض عن النسان ،فكبرياؤه تتطاير .ومن كان
يستعرض قوته على الناس ،قد يرجو القيام من الوقود؛ ليخطو بضع خطوات فل يستطيع.
والنسان ل يستغني إل بما هو ذاتي فيه؛ ل بما هو موهوب له؛ لذلك فعليه أل يغتر؛ لن الواهب
العلى قد يقبض هبتَه ،فقد يأخذ منك العافية ،وكثيرا ما رأينا أصحّاء قد مرضوا ،ورأينا أغنياء
قد افتقروا ،وأصحاب جاه قد خرجوا من جاههم.
إذن :فل داعي للغرور؛ لن ال قد وهبك كل شيء ،وليس لك شيء ذاتيّ فيك أبدا؛ لذلك يجب أن
ينعدم الغرور ،فما دام كل ما فيك موهوبا من الواهب العلى سبحانه ،فالواهب قد يسلب ما
وهب ،وما إن تُسلب من النسان نعمة فهو ينتبه .فل داعي -إذن -لن يغتر أحد؛ حتى ل يسلم
نفسه رخيصة للضياع.
والمثال :قد تكون عاد ْيتَ طبيبا ،وهو الوحيد في المكان الذي تقطنه ،وقد يحاول البعض الصلح
بينك وبين هذا الطبيب ،فتتأبّى أنت ،ثم يأتي لك مرض؛ فتلجأ إليه؛ لن ال قد وهبه القدر السليم
من التشخيص بالعلم ،فل يجب -إذن -أن تغتر أو تتعالى على أحد.
لكن النسان هو النسان؛ لذلك يقول الحق سبحانه:
س الِنسَانَ الضّرّ[ { ...يونس.]12 :
} وَإِذَا مَ ّ
والكافر ما إن يمسّه الضرّ؛ حتى يقع في بئر الهوان .أما المؤمن فهو مع ربه دائما ،وإذا مسّه
الض ّر فهو يدعو ال تعالى دائما ول ينساه؛ لذلك يتلطف به سبحانه ،عكس الكافر الذي يدعو ال
ساعة الضرّ فقط .وأين كان ذلك الكافر ساعة أن دعاه ال سبحانه بالرسل إلى اليمان؟
ونسيان النسان أمر وارد في تكوينه الفطري الول؛ لن النسان حين يعيش في محيط ما .فهو
يحب النفع من خارجه ،وإذا امتنع عنه هذا النفع الخارجي ،فهو يأخذ النفع من ذاته؛ من تحرّك
أبعاضه وخدمتها لبعضها البعض .ثم ل يجد له مفزعا إل أن يؤمن بمن خلقه أولً .وانظر إلى
ضلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ[} ..السراء.]67 :
سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْبَحْرِ َ
التعبير القرآني {:وَإِذَا َم ّ
إذن :فمن َيعْبُد غيرَ ال -سبحانه وتعالى -يضل عنه معبوده ،ول يعرف كيف ينقذ من يعبده؛
لذلك يعود المشرك إلى ال ،ول يجد سواه سبحانه ،فهو الذي ينقذ النسان لحظة الخطر؛ لنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرب الخالق هو أرحم بصنعته ،وهذه الرحمة تنقذ النسان حتى لو كان كافرا ،وهذا كلم منطقي؛
لننا شهدنا بوحدانية ال تعالى في عالم الذر؛ حينما أخذ ال سبحانه علينا العهد الول ،وقال لنا{:
ستُ بِرَ ّبكُمْ[} ...العراف.]172 :
أَلَ ْ
قلنا {:بَلَىا[} ...العراف.]172 :
وهذا إيمان الفطرة قبل أن توجد الغفلة أو التقليد؛ لذلك حين تتفرق اللهة الباطلة من حول الكافر
فهو يرجع إلى نفسه ويدعو ال ،بل ويوسّط من يسأله أن يدعو له ال سبحانه.
وقد يدعو النسان من يواسيه لحظة المرض فل يجد ولدا من أبنائه ،أو قريبا من أقربائه ،ولكنه
فور أن يدعو ال تعالى؛ تلمسه رحمته سبحانه ،وقد تجد إنسانا حين يستجيب الحق سبحانه لدعائه
قد تركبه حماقة الغرور من جديد ،ويقول ما جاء به الحق على لسان قارون {:إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا
عِلْمٍ عِندِي[} ...القصص.]78 :
ويقول :كنت محتاطا وقد رتبت أموري ،ثم يأخذه الحق سبحانه وتعالى أخْذَ عزيز مقتدر.
فإذا مسكم الضر؛ فلن تجدوا من البيئات الخارجة عنكم ،ول من ذوات نفوسكم ،ما يغنيكم عن
خالقكم ،وفي لحظة الخطر ل تستطيعون الكذب على أنفسكم؛ فل تسألون حينئذ أحدا إل ال
سبحانه ،وتتذكرون في تلك اللحظة عهد الذّر الول ،وتعودون إليه سبحانه.
وهنا يقول الحق سبحانه } :وَإِذَا مَسّ الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما {.
شفْنَا عَ ْن ُه ضُ ّرهُ { يصوّر الضرّ وكأنه يغطي النسان ويلفّه ،فل منقذ له أبدا؛
وقوله الحق } :فََلمّا َك َ
لن الكشف هو رفع لغطاء يغطي كل النسان ،وهكذا يعطينا ال تعالى صورة لستيعاب الضرّ
للجسم كله؛ حتى وإن كان بأداة من أدوات الدراك مثل قوله سبحانه {:فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }[النحل.]112 :
وَالْ َ
فكأن الجوع والخوف قد لفّ القرية كلها ،فلم تعُد البطون وحدها هي الجائعة ،بل كل ما في
الجسام جائع وخائف.
شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ ِإلَىا ضُرّ مّسّهُ {.
وهنا يقول الحق سبحانه } :فََلمّا كَ َ
وكلمة } مَرّ { تفيد أن هنا وقفة ،فحين يقال :إن فلنا مرّ عليّ؛ مقابلها :وقف عندي.
ونفهم من قوله الحق :إن هذا الذي مسهّ الضرّ كان له وقفة عند ال سبحانه؛ حين لفّه الضرّ ولم
يجد معينا له غير ال تعالى ،أما قبل ذلك فقد كان يأخذ الخير من ال ول يتذكر اليمان به
سبحانه ،وبعد أن يذهب عنه الضرّ وينسى اليمان؛ } كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ { وكأنه قد
نسي تذلّله إلى ال ،فهو يمر من مرحلة الذلة والخضوع والدعاء إلى ال إلى مرحلة الستكبار،
فلم يقف عند من أنقذه من ضره ،وهذه هي الصفاقة.
ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الية بقوله } :كَذاِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { وهنا يأتي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قضية ثانية؛ فالحادثة حادثة خاصة وينقلها الحق سبحانه إلى عمومية تأتي في الكون كله؛
فالمسرفون قديما حصل لهم هذا ،والذي زَيّن لهم المرور إما أن يكون الشيطان ،وإما أن يكون
الحمل من الحق على صفات موجودة فيه ،فالحق سبحانه هو القائل {:فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَ ُهمُ
اللّهُ مَرَضا[} ...البقرة.]10 :
وقوله تعالى هنا:
شفْنَا عَنْهُ ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ َيدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ.
} فََلمّا كَ َ
()1363 /
فإياكم أن تسوّل لكم أنفسكم أن تظلوا على عداوتكم لمحمد صلى ال عليه وسلم؛ لنكم لن تنالوا
منه شيئا ،وسيتم ال نوره ،فلستم بدعا عن سابق الخلق.
و { ا ْلقُرُونَ } :جمع قرن ،والقرن من المقارنة ،وكل جماعة اقترنوا في شيء نسميهم " قرنا ".
وقد يكون القرن في الزمنية ،ولذلك حسبوا القرن مائة سنة ،والبشر الذين يجتمعون في مائة سنة
يسمونهم قرنا.
أو القرن جماعة يقترنون في شيء يجمعهم ،مهما طال بهم المد.
وقوله الحق { :وََلقَدْ َأهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِن قَبِْلكُمْ َلمّا ظََلمُو ْا وَجَآءَ ْت ُهمْ رُسُُلهُم بِالْبَيّنَاتِ َومَا كَانُواْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لِ ُي ْؤمِنُواْ } فهل لو أمهلهم ال -تعالى -كانوا سيؤمنون؟ ل ،فلله علمٌ أزليّ ،يعلم الشياء على
وفق ما تكون عليه اضطرارا أو اختيارا.
والمثل من حياتنا وأعرافنا -ول المثل العلى -نجد النسان حين يريد بناء بيت ،فالمر يختلف
حسب مقدرته؛ الفقير مثلً يطلب بناء حجرتين؛ فيخطط رجل البناء لبناء حجرتين ،وإذا كان
النسان متوسط الحال؛ فهو يتجه إلى مهندس يصمّم له بناء على قدر سعته ،وإن كان النسان
ثريا؛ فهو يستدعي المهندس الذي يبني له بيتا حسب إمكانات ورغبات هذا الثرى ،ويصمم
المهندس نموذجا للبناء قبل أن يبدأ فيه ،وتظهر فيه كل التفاصيل ،حتى ألوان النوافذ والبواب
والحجرات.
والعالم قبل أن يخلقه ال سبحانه وتعالى كانت هيئته مقدرة أزلً عنده سبحانه ،وهذا هو مطلق
القدرة من الحق تعالى ،ويأتي واقع الكون على وفق ما قدره الخالق سبحانه أزلً؛ حتى ولو كان
هناك اختيار للمخلوق الكافر ،فال سبحانه يعلمه.
وقد صحّ أن القلم جفّ حتى في المور الختيارية ،وسبحانه يعلم ما تجري به المور القهرية وما
يقضيه على خلقه بدون اختيار منهم ،أما في المور الختيارية فقد أعطى لخلقه الختيار .وقد علم
ما سوف يفعلونه غيبا؛ فصمم المسألة على وفق ما علم.
وإياك أن تظن أنه أراد بذلك أن يُلزمك ،ل ،فقد علم أنك ستختار .وهكذا علم الحق سبحانه من
سيظلم نفسه -أزلً -وسبق في علمه أن أهل القرون السابقة الذين أهلكهم ل يؤمنون.
{ وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِن قَبِْلكُمْ َلمّا ظََلمُواْ } والظلم معناه نقل الحق من صاحبه إلى غيره،
والحقوق الموهوبة من الخالق للبشر قد يظلمون فيها بعضهم البعض ،لكن أعلى درجات الظلم
حين يظلم أحدٌ حقّ الله العلى في أن يكون إلها واحدا ،وأن ينقل ذلك لغيره .تلك هي قمة الظلم؛
لذلك قال سبحانه {:إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان.]13 :
وهم قد ظلموا في قضية العقيدة الولى ،أو ظلموا في الحقوق بينهم وبين أنفسهم مصداقا لقوله
سهُمْ َيظِْلمُونَ }[يونس.]44 :
تعالى {:وَلَـاكِنّ النّاسَ أَنفُ َ
والواحد منهم ظالم ومظلوم في آن واحد؛ لن النسان ملكاته متعددة ،ومن هذه الملكات ملكة
اليمان الفطري ،وملكة النفع العاجل الذاتي.
فإذا تغلبت ملكة النفع العاجل؛ تخرج النفس اللوّامة؛ لتعيد المر إلى صوابه ،أما إن كانت نفس
تأمر بالسوء فهي تطلب تحقيق الشهوات فقط؛ لنها نفس أمّارة بالسوء .أما إن اطمأنت النفس إلى
حكم ال تعالى ورضيت به ونفذت ما قاله ال سبحانه ،فهي نفس مطمئنة .ومن يظلم نفسه فهو
الذي يتبع شهوات نفسه ،وهو قد أعطاها متعة عاجلة؛ ليستقبل بعد ذلك شقاءً آجلً؛ فيكون قد ظلم
نفسه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه لم يتركهم ،بل أرسل الرسل مُؤيّدين بالمعجزات؛ ليبصّروهم .لكن ال تعالى يعلم
أنهم ل يؤمنون؛ لذلك قالَ } :ومَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ { أي :أنه سبحانه لو تركهم أحياء فلن يؤمنوا ،فهو
الذي خلقهم وقد علم أزلً لن يختاروا اليمان.
والحق سبحانه هو العالم العلى الذي يعلم الشياء على وفق ما تكون عليه ،ل على وفق ما يقهر
خلقه عليه ،فلو كان علمه -سبحانه -على وفق ما َيقْهر الخلق عليه لكانت المسألة منتهية.
والمثال -ول المثل العلى -أنت في البيت وتريد أن تقوم وزوجتك برحلة ،فإن كان الولد
صغارا؛ فأنت تغلق عليهم الباب بعد أن تقول لهم :إن طعامكم في الثلجة؛ لحما وسمكا وجبنا
وزيتونا .وبعد أن تخرج أنت وزوجتك تقول لها :إن أبناءنا لن يأكلوا إل جبنا وزيتونا؛ لنهم
سوف يستسهلون هذا الطعام .ولو لم يكن في الثلجة إل الجبن ،لما قلت ذلك؛ لن هذا هو لون
الطعام القهري.
لكن ما دام في المر اختيار؛ فأنت تستشف من سابق سلوك البناء .وعندما ترجع تجد أبناءك قد
تصرفوا وفق ما حكمت به ،رغم أنك تركت لهم الختيار .ومثال هذا في القرآن قوله الحق {:تَ ّبتْ
سبَ * سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ َل َهبٍ }[المسد.]3-1 :
يَدَآ أَبِي َل َهبٍ وَ َتبّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُ ُه َومَا كَ َ
وفي هذا حكم من ال تعالى بان أبا لهب سيموت كافرا ،وهذا حكم ُمعْلَن ويُردّد في الصلة،
ونحفظه ،وأبو لهب هو عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكان كافرا مثل غيره من الكفار.
وقد آمن من الكفار الكثير .ألم يسلم عمر؟ ألم يسلم عكرمة بن أبي جهل؟ ألم يسلم عمرو بن
العاص؟ ألم يسلم خالد بن الوليد؟ فما المانع أن يسلم أبو لهب هو الخر؟ ل ،لم يسلم وعلم رسول
ال صلى ال عليه وسلم من ربه أن ذلك لن يكون منه .وما كان من الممكن أن يمكر أبو لهب
ويعلن إسلمه تكذيبا للقرآن؛ لن الحق علم أزلً سلوك أبي لهب.
} وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا ا ْلقُرُونَ مِن قَبِْلكُمْ َلمّا ظََلمُو ْا وَجَآءَ ْت ُهمْ رُسُُلهُم بِالْبَيّنَاتِ َومَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ كَذاِلكَ نَجْزِي
ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ {.
وقوله } :كَذاِلكَ { أي :مثل هذا الجزاء الذي كان للمم السابقة التي أهلكت في القرون الماضية
تجري ممن يحدّد كل شيء؛ لن القضايا في الكون واحدة .فالقضية اليمانية موجودة من أول ما
أرسلت الرسل إلى أن تنتهي الدنيا.
جعَلْنَاكُمْ خَلَ ِئفَ.{ ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :ثمّ َ
()1364 /
جعَلْنَاكُمْ خَلَا ِئفَ فِي الْأَ ْرضِ مِنْ َبعْ ِدهِمْ لِنَ ْنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ ()14
ثُمّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و { خَلَ ِئفَ } :جمع خليفة ،وهو من يَخْلُف غيره .والحق سبحانه وتعالى حينما وصف النسان
خلِيفَةً[} ...البقرة.]30 :
علٌ فِي الَ ْرضِ َ
أصدر أول بيان عن النسان قال للملئكة {:إِنّي جَا ِ
وال سبحانه وتعالى قادر ،وسميع ،وعليم ،وله من كل صفات الكمال المطلق ،وأنت قد تكون لك
قدرة وقد ُت َعدّى أثر قدرتك إلى غيرك ،ولكنك لن تستطيع أن تُعدّي قدرتك إلى سواك ،فإن كنت
ب ضعيفا قدرا على قوتك .بل كل الذي تستطيعه هو أن تهبه أثر قدرتك،
قويا؛ فلن تستطيع أن َت َه َ
فإن كان غير قادر على أن يحمل شيئا؛ فأنت قد تحمله عنه ،وإن كان غير قادر على المشي؛
فأنت تأخذ بيده ،لكنك ل تستطيع أن تهبه جزءا من قوتك الذاتية ،فيظل هو عاجزا ،وتظل أنت
قادرا -كما أنت.
هذا هو حال الخلق :تجد غنيا وآخر فقيرا ،ويُعطي الغني للفقير من غناه ،ويُعطي العالمُ للجاهل
بعضَ العلم ،لكنه ل يهبه مََلكَة العلم؛ ليعلم.
أما الحق العلى سبحانه فهو وحده القادر على أن يهب من قدرته المطلقة للخلق قدرة موهوبة
محدودة ،وقد أعطاهم سبحانه أثر القدرة العالية في الفلك التي صنعها ول دخل للنسان فيها؛
من شمس ،وقمر ،ونجوم ،ورياح ،ومطر.
وأعطى الحق سبحانه للنسان طاقة من قدرته في المور التي حوله؛ فأصبح قادرا على أن يفعل
بعض الفعال التي تتناسب مع هذه الطاقة الموهوبة .وبذلك عدّي له الحق سبحانه من قدرته؛
ليقدر على الفعل ،ومن غناه؛ ليعطي الفقير ،ومن علمه؛ ليعطي الجاهل ،ومن حلمه؛ ليحْلِم على
الذي يؤذيه.
إذن :فالخلق ل يعدّون صفاتهم إلى غيرهم ولكنهم يعدون آثار صفاتهم إلى غيرهم ،وتظل الصفة
هنا قوة ،والصفة هناك ضعفا .أما الواحد الحد فهو الذي يستطيع أن يهب من قدرته للعاجز
قدرة؛ فيفعل .فهل كل الكون هكذا؟
إن الكون قسمان :قسم وهبة ال سبحانه وتعالى للنسان بدون مجال له فيه .وقد أقامه الحق
بقدرته ،وهذا القسم من الكون مستقيم في أمره استقامة ل يتأتّى لها أي خَلَل ،مثل :نظام الفلك
والسماء ودوران الشمس والقمر والريح وغيرها ،ول تعاني من أي عطب أو خلل ،ول يتأتى لهذا
القسم فساد إل بتدخّل النسان.
وقسم آخر في الكون تركه الحق سبحانه للنسان؛ حتى يقيمه القوة الموهوبة له من ال.
وأنت ل تجد فسادا في كون ال تعالى إل وجدت فيه للنسان يدا ،أما المور التي ليس للنسان
حسْبَانٍ }[الرحمن.]5 :
شمْسُ وَالْ َقمَرُ بِ ُ
فيها يد فهي مستقيمة ،ولذلك يقول الحق سبحانه {:ال ّ
والمراصد تحدّد موقع الرض بين الشمس والقمر ،وموقع القمر بين الرض والشمس بدقة
تتناسب مع قوله الحقِ { :بحُسْبَانٍ }؛ لن النسان ليس له دخل في هذه المور.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفيما لنا فيه اختيار علينا أن نتدخل بمنهج ال تعالى؛ لتستقيم حركتنا مثل استقامة الحركة في
الكوان العليا التي ل دخل لنا فيها.
إذن :فالذي ُيفْسد الكوان هو تدخّل النسان -فيما يحيط به ،وفيما ينفعل له وينفعل به -على
ق الِنسَانَ *
حمَـانُ * عَلّمَ ا ْلقُرْآنَ * خََل َ
غير منهج ال؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى {:الرّ ْ
س وَا ْل َقمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن.]5-1 :
شمْ ُ
عَّلمَهُ البَيَانَ * ال ّ
أي :هذه الكوان مخلوقة بحساب ،وتستطيعون أن ُتقَدّروا أوقاتكم وحساباتكم على أساسها .ويقول
سمَآءَ َر َف َعهَا َو َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ *
جدَانِ * وَال ّ
س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ * وَالنّجْ ُم وَالشّجَرُ َيسْ ُ
شمْ ُ
سبحانه {:ال ّ
ط َولَ ُتخْسِرُواْ ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن.]9-5 :
سِط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ * وََأقِيمُواْ ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِ ْ
َألّ تَ ْ
وحتى تستقيم لكم المور الدنيا في حركتكم في الكون -كما استقامت لكم المور العليا؛ وازنوا
كل المور بالعدل؛ فل يختل لكم ميزان؛ لن الذي يُفسد الكون أنكم تتدخلون فيما أعطي لكم من
مواهب ال قدرة وعلما وحَركة على غير منهج ال .فادخلوا على أمور حياتكم بمنهج ال في "
افعل " و " ل تفعل "؛ ليستقيم لكم الكون الدنى كما استقام لكم الكون العلى.
جعَلْنَاكُمْ خَلَ ِئفَ فِي الَ ْرضِ { وقد خلف النسان ال تعالى في
وهنا يقول الحق سبحانه } :ثُمّ َ
الرض ،في أنه -مثلً -يحرث الرض ويسقيها؛ فيخرج له الزرع ،وحين يأخذ النسان أسباب
ال فهو ينال نتيجة الخذ بالسباب .ولكن آفة النسان بغروره ،حين تستجيب له الشياء ،فهو
يظن أنه قادر بذاته ،ل بأسباب ال.
والحق سبحانه وتعالى يُعطي بعطاء ربوبيته للمؤمن ،وللكافر؛ لنه سبحانه هو الذي استدعى
النسان إلى الوجود ،لكنه جلّ وعل ميّز المؤمن ،ل بعطاء السباب فقط ،ولكن بالمنهج ،والتكليف
المتمثل في " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " ،فإن أخذ العطاءين من ال يبقَ له حسن الجزاء في
الدنيا والخرة ،وإن أخذ العطاء الثاني في " افعل " و " ل تفعل " ،فهو يأخذ الخرة ،أما دنياه
فتظل متخلّفة.
ومن يُردْ أن يأخذ حُسْن الدنيا والخرة ،فليأخذ عطاء ربوبية ال تعالى بالخذ بالسباب ،وعطاء
اللوهية باتّباع المنهج.
إل أن آفة الخليفة في الرض أنه ل يرى بعض المور مستجيبة له؛ فيطغي ،ويظن أنه أصيل في
الكون ،ونقول له :ما دمت تظن أنك أصيل في الكون فحافظ على روحك ،وعلى قوتك ،وعلى
غناك ،وأنت لن تستطيع ذلك .فأنت إنْ تمردت على أوامر ال بالكفر -مثلً ،فلماذا ل تتمرد
على المرض أو الموت؟
إذن :أنت مقهور للعلى غصبا عنك ،ويجب أن تأخذ من المورالتي تنزل عليك بالقدار؛
لتلجمك ،وتقهرك ،إلى أن تأخذ المور التي لك فيها اختيار بمنهج ال سبحانه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولو ظن الخليفة في الرض أنه أًصيل في الكون ،فعليه أن يتعلّم مما يراه في الكون ،فأنت قد
توكّل محاميا في العقود والتصرفات؛ فيتصرف في المور كلها دون الرجوع إليك ول يعرض
عليك بيانا بما فعل ،فتقوم أنت بإلغاء التوكيل.
فيلتفت مثل هذا المحامي إلى أن كل تصرف له دون التوكيل قد صار غير مقبول .فماذا عن
توكيل ال للنسان بالخلفة؟ يقول الحق سبحانه:
جعَلْنَا ُكمْ خَلَ ِئفَ فِي الَرْضِ { فاذا كنتم قد خََلفْتُم من هلكوا ،فمن اللزم أن تأخذوا العظة
} ُثمّ َ
والعبرة في أن ال تعالى غالب على أمره ،ول ترهقوا الرسل ،بل تأخذوا المنهج ،أو على القل،
ل تعارضوهم إن لم تؤمنوا بالمنهج الذي جاءوا به من ال .واتركوهم يعلنون كلمة ال ،وليعيدوا
صياغة حركة المؤمنين برسالتهم في هذا الكون على وفق ما يريده ال سبحانه ،وأنتم أحرار في
أن تؤمنوا أو ل تؤمنواَ {.فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ[} ...الكهف.]29 :
والدليل على ذلك أن السلم حينما فتح كثيرا من البلد ترك لهم حرية اعتناق السلم أو البقاء
على أديانهم ،مع أنه قد دخل بلدهم بالدعوة أو الغلبة ،ولكنه لم يقهر أحدا على الدين ،وأخذ
المسلمون منهم الجزية مقابل حماية المسلمين لهم.
ولو كان السلم قد انتشر بالسيف لما أبقي أحدا على دينه ،ولكن السلم لم ُيكْره أحدا ،وحمى
حرية الختيار بالسيف .ولن الذين لم يؤمنوا بالسلم عاشوا في مجتمع تتكفّل الدولة السلمية
فيه بكل متطلبات حياتهم ،والمسلم يدفع زكاة لبيت المال ،فعلى من لم يؤمن -وينتفع بالخدمات
التي يقدمها المجتمع المسلم -أن يدفع الجزية مقابل تلك الخدمات.
وإذا اعتقد النسان أنه خليفة ،وظل متذكرا لذلك ،فهو يتذكر أن سطوة من استخلفه قادرة على أن
تمنع عنه هذه الخلفة.
إذن :فخذوا المر بالتسليم ،وساعدوا النبي صلى ال عليه وسلم على دعوته ،وآمنوا به أولً ،وإن
لم يؤمنوا به فاتركوه؛ ليعلن دعوته ،ول تعاندوه ،ول تصرفوا الناس عنه؛ لن الحق هو القائل{:
جعَلْنَاكُمْ خَلَ ِئفَ فِي الَ ْرضِ مِن َبعْدِهِم لِنَنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ }[يونس.]14 :
ثُمّ َ
وساعة تأتي لمر يعلله ال بكلمة{ لِ َيعْلَمَ[} ...المائدة.]94 :
أو } لِنَنظُرَ[ { ...يونس.]14 :
فاعلم أن ال عالم وعليم ،علم كل المور قبل أن توجد ،وعلم الشياء التي للناس فيها اختيار،
ط وَأَنزَلْنَا
سلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْ ِ
وهو القائلَ {:لقَدْ أَرْسَلْنَا رُ ُ
س وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ[} ...الحديد.]25 :
شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّا ِ
حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ
الْ َ
وقد علم الحق سبحانه أزلً كل شيء ،وإذا قال ال } :وَلِ َيعْلَمَ { فليس معنى ذلك أن هناك علما
جديدا لم يكن يعلمه سوف ينشأ له ،لكنه يعلم علم مشهد وإقرار منك؛ حتى ل يقول قائل :لماذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحاسبنا ال على ما عَلمَ أزلً؟ بل يأتي سبحانه بالختيار الذي يحدّد للعبد المعايير التي تتيح
للمؤمن أن يدخل الجنة ،وللعاصي أن يُحاسَب ويُجازَي.
وبذلك يعلم النسان أن الحق سبحانه شاء ذلك؛ ليعرف كل عبد عِلم الواقع ،ل عِلْم الحصول.
حجّة
إذن :فذكر كلمة } وَلِ َيعَْلمَ { وكلمة } لِنَنظُرَ { في القرآن معناها علم واقع ،وعلم مشهد ،وعلم ُ
على العبد؛ فل يستطيع أن ينكر ما حدث ،وقوله الحق {:وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ }
[الحديد.]25 :
هذه الية تبين لنا أدوات انتظام الحكم اللهي :رسل جاءوا بالبرهان والبينة ،وأنزل الحديد للقهر،
شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ }[الحديد.]25 :
حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ
قال الحق سبحانه {:وَأَنزَلْنَا الْ َ
وقرن ذلك بالرسل ،فقال } :وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ { والنصرة ل تكون إل بقوة ،والقوة تأتي
بالحديد الذي يظل حديدا إلى أن تقوم الساعة ،وهو المعدن ذو البأس ،والذي لن يخترعوا ما هو
أقوى منه ،وعلْم ال سبحانه هنا عِلْم وقوع منكم ،ل تستطيعون إنكاره؛ لنه سبحانه لو أخبر خبرا
دون واقع منكم؛ فقد تكذبون؛ لذلك قال سبحانه } :وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُر ُه وَرُسَُلهُ بِا ْلغَ ْيبِ { وفي هذا
لون من الحتياط الجميل.
وقوله } :وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ { كأن ال يطلب منكم أن تنصروه ،لكن إياكم أن تفهموا المعنى
أنه سبحانه ضعيف ،معاذ ال ،بل هو قوي وعزيز .فهو القائل {:قَاتِلُوهُمْ ُي َعذّ ْبهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ }
[التوبة.]14 :
بل يريد سبحانه أن يكون أعداء اليمان أذلء أمامكم؛ لنه سبحانه يقدر عليهم.
إذن :فقول الحق سبحانه } :وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ { إنما يعني :أن يكون علم ال بمن ينصر
منهجه أمرا غيبيّا؛ حتى ل يقول أحدٌ إن انتصار المنهج جاء صدفة ،بل يريد الحق سبحانه أن
يجعل ُنصْرة منهجه بالمؤمنين ،حتى ولو قَلّت عدّتُهم ،وقلّ عددهم.
جعَلْنَاكُمْ خَلَ ِئفَ فِي الَ ْرضِ مِن َب ْعدِهِم لِنَنظُرَ { [يونس.]14 :
إذن :قوله سبحانه وتعالى } :ثُمّ َ
أي :نظر واقع ،ل نظر علم.
ن لَ يَ ْرجُونَ {.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَِإذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِي َ
()1365 /
وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آَيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ لَا يَرْجُونَ ِلقَاءَنَا ا ْئتِ ِبقُرْآَنٍ غَيْرِ َهذَا َأوْ بَدّلْهُ ُقلْ مَا َيكُونُ
عذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ
عصَ ْيتُ رَبّي َ
لِي أَنْ أُبَدَّلهُ مِنْ تِ ْلقَاءِ َنفْسِي إِنْ أَتّبِعُ إِلّا مَا يُوحَى إَِليّ إِنّي َأخَافُ إِنْ َ
()15
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نحن نعرف أن اليات ثلثة أنواع :آيات كونية ،وهي العجائب التي في الكون ويسميها ال
سمّى
خلُق ،وقد َ
سبحانه آيات ،فالية هي عجيبة من العجائب ،سواء في الذكاء أو الجمال أو ال ُ
الحق سبحانه الظواهر الكونية آيات؛ فقال تعالى:
س وَا ْل َقمَرُ }[فصلت ]37 :وقال سبحانه:
شمْ ُ
ل وَال ّنهَا ُر وَال ّ
{ َومِنْ آيَا ِتهِ الّ ْي ُ
سكُمْ أَ ْزوَاجا }[الروم ]21 :وهذه من اليات الكونية.
{ َومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ خَلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
وهناك آيات هي الدليل على صدق الرسل ـ عليهم السلم ـ في البلغ عن ال ،وهي
المعجزات؛ لنها خالفت ناموس الكون المألوف للناس .فكل شيء له طبيعة ،فإذا خرج عن
طبيعته؛ فهذا يستدعى النتباه.
مثلما يحكي القرآن عن سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ أن أعداءه أخذوه ورموه في النار فنجّاه
الحق سبحانه من النار؛ فخرج منها سالما ،ولم يكن المقصود من ذلك أن ينجو إبراهيم من النار،
فلو كان المقصود أن ينجو إبراهيم عليه السلم من النار؛ لحدثت أمور أخرى ،كأل يمكّنهم الحق
ـ عزّ وجلّ ـ من أن يمسكوه ،لكنهم أمسكوا به وأشعلوا النار ورموه فيها ،ولو شاء ال تعالى
أن يطفئها لفعل ذلك بلقليل من المطر ،لكن ذلك لم يحدث؛ فقد تركهم ال في غيّهم ،ولنه واهب
النار للحراق قال سبحانه وتعالى لها:
علَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء ]69 :وهكذا تتجلّى أمامهم خيبتهم.
{ يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما َ
إذن :اليات تُطلَق على اليات الكونية ،وتطلق على اليات المعجزات ،وتطلق أيضا على آيات
القرآن ما دامت اليات القرآنية من ال والمعجزات من ال ،وخلق الكون من ال ،فهل هناك آية
تصادم آية؟ ل؛ لن الذي خلق الكون وأرسل الرسل بالمعجزات وأنزل القرآن هو إله واحد ،ولو
كان المر غير ذلك لحدث التصادم بين اليات ،والحق سبحانه هو القائل:
{ وََلوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ َل َوجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفا كَثِيرا }[النساء ]82 :وقوله تعالى:
{ وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ } [يونس ]15 :أي :آيات واضحة .ثم يقول الحق سبحانه { قَالَ
ن لَ يَ ْرجُونَ ِلقَآءَنَا } وعرفنا أن الرجاء طلب أمر محبوب ومن الممكن أن يكون واقعا ،مثلما
الّذِي َ
يرجو إنسان أن يدخل ابنه كلية الطب أو كلية الهندسة .ومقابل الرجاء شيء آخر محبوب ،لكن
النسان يعلم استحالته ،وهو التمنّي ،فالمحبوبات ـ إذن ـ قسمان :أمور مُتمنّاه وهي في المور
المستحيلة ،لكن النسان يعلن أنه يحبها ،والقسم الثاني أمور نحبها ،ومن الممكن أن تقع ،وتسمى
رجاء.
ن لَ يَرْجُونَ ِلقَآءَنَا } هم مَن ل يؤمنون ،ل بإلهٍ ،ول ببعثٍ؛ فقد قالوا:
{ الّذِي َ
ت وَنَحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَآ ِإلّ الدّهْرُ }[الجاثية ]24 :وقالوا:
{ مَا ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُو ُ
{ أَِإذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }[المؤمنون ]82 :وإذا كان النسان ل يؤمن بالبعث؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهو ل يؤمن بلقاء ال سبحانه؛ لن الذي يؤمن بالبعث يؤمن بلقاء ال ،ويُعدّ نفسه لهذا اللقاء
بالعبادة والعمل الصالح ،ولكن الكافرين الذين ل يؤمنون بالبعث سيُفاجَأون بالله الذي أنكروه،
وسوف تكون المفاجأة صعبة عليهم؛ ولذلك قال الحق سبحانه:
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا }[النور:
عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ
{ وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
]39
السراب :هو أن يمشي النسان في خلء الصحراء ،ويخيل إليه أن هناك ماءً أمامه ،وكلّما مشى
ظن أن الماء أمامه ،وما إن يصل إلى المكان يجد أن الماء قد تباعد .وهذه العملية لها علقة
بقضية انعكاس الضوء ،فالضوء ينعكس؛ ليصور الماء وهو ليس بماء:
جدَ اللّهَ عِن َدهُ }[النور ]39 :إنه يُفاجَأ بوجود ال سبحانه الذي لم
{ حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا وَوَ َ
يكن في باله ،فهو واحد من الذين ل يرجون لقاء ال ،وهو ممن جاء فيهم القول:
جدِيدٍ َبلْ هُم بَِلقَآءِ رَ ّبهِمْ كَافِرُونَ }[السجدة]10 :
{ َوقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي خَ ْلقٍ َ
رغم أن الكون الذي نراه يُحتّم قضية البعث؛ لننا نرى أن لكل شيء دورة ،فالوردة الجميلة
الممتلئة بالنضارة تذبل بعد أن تفقد مائيّتها ،ويضيع منها اللون ،ثم تصير ترابا .وأنت حين تشم
الوردة فهذا يعني أن ما فيها من عطر إنما يتبخر مع المياه التي تخرج منها بخارا ،ثم تذبل
وتتحلل بعد ذلك.
إذن :فللوردة دورة حياة .وأنت إن نظرت إلى أي عنصر من عناصر الحياة مثل المياه سوف تجد
أن الكمية الموجودة من الماء ساعة خلق ال السموات والرض هي بعينها؛ لم تَزِ ْد ولم تنقص.
وقد شرحنا ذلك من قبل .وكل شيء تنتفع به له دورة ،والدورة تُسلم لدورة أخرى ،وأنت مستفيد
بين هذه الدورات؛ هدما وبناءً.
والذين ل يرجون لقاء ال ،ول يؤمنون بالبعث ،ول بثواب أو عقاب ل يلتفتون إلى الكون الذي
يعيشون فيه؛ لن النظر في الكون وتأمّل أحواله يُوجِب عليهم أن يؤمنوا بأنها دورة من الممكن
أن تعود.
وسبحانه القائل:
{ َكمَا َبدَأْنَآ َأ ّولَ خَلْقٍ ّنعِي ُدهُ }[النبياء ]104 :وهؤلء الذين ل يرجون لقاء ال يأتي القرآن بما جاء
على ألسنتهم} :
ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ َأوْ بَدّ ْلهُ { [يونس]15 :
هم هنا يطلبون طلبين } :ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ { َ } ،أوْ بَدّلْهُ {.
أي :يطلبون غير القرآن .ولنلحظ أن المتكلم هو ال سبحانه؛ لذلك فل تفهم أن القولين متساويان.
} ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ َأوْ َبدّلْهُ { هما طلبان :الطلب الول :أنهم يطلبون قرآنا غير الذي نزل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والطلب الثاني :أنهم يريدون تبديل آية مكان آية ،وهم قد طلبوا حذف اليات التي تهزأ بالصنام،
وكذلك اليات التي تتوعدهم بسوء المصير.
ويأتي جواب من ال سبحانه على شق واحد مما طلبوه وهو المطلب الثاني ،ويقول سبحانهُ } :قلْ
مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي { ولم يرد الحق سبحانه على قولهم } :ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ
{.
وكان مقياس الجواب أن يقول " :ما يكون لي أن آتي بقرآن غير هذا أو أبدله "؛ لكنه اكتفى بالرد
على المطلب الثاني } َأوْ َبدّلْهُ {؛ لن التيان بقرآن يتطلب تغييرا للكل .ولكن التبديل هو المر
السهل .وقد نفى السهل؛ ليسلّموا أن طلب الصعب منفي بطبيعته.
وأمر الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلمُ } :قلْ مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُبَدَّلهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي {
أي :أن أمر التبديل وارد ،لكنه ليس من عند رسول ال صلى ال عليه وسلم .بل بأمر من ال
سبحانه وتعالى ،إنما أمر التيان بقرآن غير هذا ليس واردا.
إذن :فالتبديل وارد شرط أل يكون من الرسول صلى ال عليه وسلم ،ولذلك قال الحق سبحانه:
{ وَإِذَا بَدّلْنَآ آيَةً ّمكَانَ آيَ ٍة وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ }[النحل ]101 :وهو ما تذكره هذه اليةُ } :قلْ مَا
َيكُونُ لِي أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي { و } تِ ْلقَآءِ { من " لقاء "؛ فتقول " :لقيت فلنا " ،ويأتي
المصدر من جنس الفعل أو حروفه ،ويسمون " التلقاء " هنا :الجهة.
والحق سبحانه يقول في آية أخرى:
{ وََلمّا َتوَجّهَ تِ ْلقَآءَ مَدْيَنَ }[القصص.]22 :
و } تِ ْلقَآءَ مَدْيَنَ { أي :جهة مدين .و " التلقاء " قد تأتي بمعنى اللقاء؛ لنك حين تقول " :لقيته "
أي :أنا وفلن التقينا في مكان واحد ،وحين نتوجّه إلى مكان معيّن فنحن نُوجَد فيه .ويظن بعض
الناس أن كل لفظ يأتي لمعنيين يحمل تناقضا ،ونقول :ل ،ليس هناك تناقض ،بل انفكاك جهة،
مثلما قال الحق سبحانه:
سجِدِ ا ْلحَرَامِ }[البقرة]144 :
شطْرَ ا ْلمَ ْ
ج َهكَ َ
ل وَ ْ
{ َف َو ّ
والشطر معناه :الجهة؛ ومعناه أيضا :النصف ،فيقال " :أخذ فلن شطر ماله " ،أي :نصفه ،و "
اتجهت شطر كذا " ،أي :إلى جهة كذا.
وهذه معان غير متناقضة؛ فالنسان منا ساعة يقف في أي مكان؛ يصبح هذا المكان مركزا
لمرائيه ،وما حوله كله محيطا ينتهي بالفق.
ويختلف محيط كل إنسان حسب قوة بصره ،ومحيط الرؤية ينتهي حين يُخيّل لك أن السماء
انطبقت على الرض ،هذا هو الفق الذي يخصّك ،فإن كان بصرُك قويّا فأفقك يتّسع ،وإن كان
البصر ضعيفا يضيف الفق.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقال " :فلن ضَيّق الفق " أي :أن رؤيته محدودة ،وكل إنسان منا إذا وقف في مكان يصير
مركزا لما يحيطه من مَرَاء؛ ولذلك يوجد أكثر من مركز ،فالمقابل لك نصف الكون المرئي،
وخلفك نصف الكون المرئي الخر ،فإذا قيل :إن " الشطر " هو " النصف " ،فالشطر أيضا هو "
الجهة ".
وهنا يقول الحق سبحانهُ } :قلْ مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَى إَِليّ {.
أي :أنه صلى ال عليه وسلم ل يأتي بالقرآن من عند نفسه صلى ال عليه وسلم ،بل يُوحَى إليه.
عظِيمٍ { [يونس]15 :
عصَ ْيتُ رَبّي عَذَابَ َيوْمٍ َ
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله } :إِنّي أَخَافُ إِنْ َ
أي :أنه صلى ال عليه وسلم لو جاء بشيء من عنده ،ففي هذا معصية ل تعالى ،ونعلم أن رسول
ال صلى ال عليه وسلم لم يُعرف عنه أنه كان شاعرا ،ول كان كاتبا ،ول كان خطيبا .وبعد أن
نزل الوحي عليه من ال جاء القرآن في منتهى البلغة.
وقد نزل الوحي ورسول ال صلى ال عليه وسلم في الربعين من عمره ول توجد عبقرية يتأجّل
ظهورها إلى هذه المرحلة من العمر ،ول يمكن أن يكون النبي صلى ال عليه وسلم قد أجّل
عبقريته إلى هذه السّن؛ لنه لم يكن يضمن أن يمتد به العمر.
ويأتي لنا الحق سبحانه بالدليل القاطع على أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يتّبِع إل ما
يُوحَى إليه فيقول:
عظِيمٍ { [يونس]15 :
عذَابَ َيوْمٍ َ
عصَ ْيتُ رَبّي َ
} إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَى إَِليّ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ
ويأتي المر بالرّدّ من الحق سبحانه على الكافرين } :قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُمْ.{ ....
()1366 /
وهنا يبلّغ محمدٌ صلى ال عليه وسلم هؤلء الذين طلبوا تغيير القرآن أو تبديله :لقد عشت طوال
عمري معكم ،ولم تكن لي قوة بلغة أو قوة شعر ،أو قوة أدب .فمن له موهبة ل يكتمها إلى أن
يبلغ الربعين ،ورأيتم أنه صلى ال عليه وسلم لم يجلس إلى معلّم ،بل عندما اتهمتموه وقلتم:
{ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ }[النحل]103 :
وفضحكم الحق سبحانه بأن أنزل في القرآن قوله تعالى:
ي وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل]103 :
جمِ ّ
عَ{ لّسَانُ الّذِي ُيلْحِدُونَ إِلَ ْيهِ أَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولم يخرج النبي صلى ال عليه وسلم من شبه الجزيرة العربية ،ولم يقرأ مؤلّفَات أحد .فمن أين
جاء القرآن إذن؟
لقد جاء من ال سبحانه ،وعليكم أن تعقلوا ذلك ،ول داعي للتهام بأن القرآن من عند محمد؛
لنكم لم تجرّبوه خطيبا أو شاعرا ،بل كل ما جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم ،بعد أن
نزلت عليه الرسالة ،هو بلغ من عند ال.
وبطبيعة الحال ل يمكن أن يُنسَب الكمال إلى إنسان فينفيه ،فالعادة أن يسرق شاعر ـ مثلً ـ
قصيدة من شاعر آخر ،أو أن ينتحل كاتب مقالة من آخر .لكن رسول ال صلى ال عليه وسلم
يبلّغكم أن كمال القرآن ليس من عنده ،بل هو مجرد مبلّغ له ،وكان يجب أن يتعقّلوا تلك القضية
بمقدّماتها ونتائجها؛ فل يلقوا لفكارهم العنان؛ ليكذبوا ويعاندوا ،فالمر بسيط جدا.
يقول الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم:
عمُرا مّن قَبْلِهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ } [يونس:
{ قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَدْرَا ُكمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
]16
إذن :فالمقدمة التي يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقنع بها الكافرين أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم قد أرسله ال رسولً من أنفسهم ،فإن قلت:
سهِمْ }[آل عمران]164 :
{ ِإذْ َب َعثَ فِيهِمْ رَسُولً مّنْ أَ ْنفُ ِ
سهِمْ } أي :من
أي :أنه صلى ال عليه وسلم من جنس الناس ،ل من جنس الملئكة ،أو { مّنْ أَ ْنفُ ِ
سهِمْ } أي :من قبيلتهم التي يكذّب أصحابُها رسولَ ال
أمة العرب ،ل من أمة ال َعجَم ،أو { مّنْ أَ ْنفُ ِ
صلى ال عليه وسلم.
إذن :فحياته صلى ال عليه وسلم معروفة معلومة لكم ،لم َي ِغبْ عنكم فترة؛ لتقولوا ُب ِعثَ بعثةً؛
ليتعلّم علما من مكان آخر ،ولم يجلس إلى معلّم عندكم ول إلى معلّم خارجكم ،ولم يَ ْتلُ كتابا ،فإذا
كان المر كذلك ،فيجب أن تأخذوا من هذا مقدّمة وتقولوا :فمن أين جاءت له هذه الحكمة فجأة؟
أنتم تعلمون أن المواهب والعبقريات ل تنشأ في الربعينات ،ولكن مخايل العبقرية إنما ينشأ في
نهاية العقد الثاني وأوائل العقد الثالث ،فمن الذي آخّر العبقرية عند رسول ال صلى ال عليه وسلم
ليقول هذا القول البليغ الذي أعجزكم ،وأنتم أمّة البلغة وأمة الفصاحة المرتاضون عليها من قديم،
وعجزتم أمام ما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم؟
حلّ لكم اللغز وأوضح لكم :أن
كان يجب أن تقولوا :لم نعرف عنه أنه يعلم شيئا من هذا ،فإذا َ
القرآن ليس من عندي؛ كان يجب أن تصدقوه؛ لنه صلى ال عليه وسلم يعزوه إلى خالقه وربه
سبحانه.
والدليل على أنكم مضطربون في الحكم أنكم ساعة يقول لكم :القرآن بلغ عن ال ،تكذّبونه،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتقولون :ل ،بل هو من عندك ،فإذا فَترَ عنه الوحي م ّرةً قلتم :قله ربّه.
لماذا اقتنعتم بأن له ربّا َيصِلُه بالوحي ويهجره بل وحي؟
أنتم ـ إذن ـ أنكرتم حالة الوصل بالوحي ،واعترفتم بالله الخالق عندما غاب عنه الوحي ،وكان
يجب أن تنتبهوا وتعودوا إلى عقولكم؛ لتحكموا على هذه الشياء ،وقد ذكر الحق سبحانه ذلك
المر في كثير من آياته ،يقول سبحانه:
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْ َيمَ }[آل عمران]44 :
{ َومَا كُنتَ لَدَ ْيهِمْ إِذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
ويقول سبحانه:
لمْرَ }[القصص]44 :
{ َومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
ويقول سبحانه:
{ َومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ َمدْيَنَ }[القصص]45 :
ويقول سبحانه:
ب َولَ َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ إِذا لّرْتَابَ ا ْلمُبْطِلُونَ }[العنكبوت]48 :
{ َومَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَا ٍ
فمن أين جاءت تلك البلغة؟ كان يجب أن تأخذوا هذه المقدّمات؛ لتحكموا بأنه صادق في البلغ
عن ال؛ لذلك يُنهى الحق سبحانه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقولهَ } :أفَلَ َت ْعقِلُونَ {.
وحين ينبهك الحق سبحانه وتعالى إلى أن تستعمل عقلك ،فهذا دليل على الثقة في أنك إذا استعملت
عقلك؛ وصلت إلى القضية المرادة .وال سبحانه وتعالى مُنزّه عن خديعة عباده ،فمن يخدع
النسان هو من يحاول أن يصيب عقله بالغفلة ،لكن الذي ينّبه العقل هو من يعلم أن دليل الحقيقة
المناسبة لما يقول ،يمكن الوصول إليه بالعقل.
وقول الحق سبحانه في آخر اليةَ } :أفَلَ َت ْعقِلُونَ { يدلنا على أن القضية التي كذّبوا فيها رسول
ال صلى ال عليه وسلم نشأت من عدم استعمال عقولهم ،فلو أنهم استعملوا عقولهم في استخدام
المقدمات المُحسّة التي يؤمنون بها ويسلمون؛ لنتهوا إلى القضية اليمانية التي يقولها رسول ال
صلى ال عليه وسلم.
ولو أنهم فكّروا وقالوا :محمد نشأ بيننا ولم نعرف له قراءة ،ول تلوة كتاب ول جلوسا إلى معلّم،
ولم يَغبْ عنا فترة ليتعلّم ،وظل مدة طويلة إلى سِنّ الربعين ولم يرتض على قول ول على بلغة
ول على بيان؛ فمن أين جاءته هذه الدفعة القوية؟
كان يجب أن يسألوه هو عنها :من أين جاءتك هذه؟ وما دام قد قال لهم :إنها جاءته من عند ال،
فكان يجب أن يصدّقوه.
ومهمة العقل دائما مأخوذة من اشتقاقه " ،فالعقل " مأخوذ من " عقال " البعير.
وعقال البعير هو الحبل الذي يربط به ساقي الجمل؛ حتى ل ينهض ويقوم؛ لنوفّر له حركته فيما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نحب أن يتحرك فيه ،فبدلً من أن يسير هكذا بدون غرض ،وبدون قصد ،فنحن نربط ساقيه؛
ليرتاح ول يتحرك ،إلى أن نحتاجه في حركة.
إذن :فالعقل إنما جاء؛ ليحكم المََلكَات؛ لن كل مََلكَة لها نزوع إلى شيء ،فالعين لها مََلكَة أن ترى
كل شيء ،فيقول لها العقل :ل داعي أن تشاهدي ذلك؛ لنه منظر سيؤذيك ،والذن تحب أن تسمع
كل قول ،فيقول لها العقل :ل تسمعي إلى ذلك؛ حتى ل يضرك.
حكَمة " هي
حكْمة " ،مأخوذة من " ال َ
إذن :فالعقل هو الضابط على بقية الجوارح .وكذلك كلمة " ال ِ
في " اللّجام " الذي يوضع في فم الفرس؛ حتى ل يجمح ،وتظل حركته محسوبة؛ فل يتحرك إل
إلى التجاه الذي تريده.
إذن :شاء الحق سبحانه أن يميّز النسان بالعقل والحكمة؛ ليقيم الموازين لملكات النفس؛ فخذوا
المقدمات ال ُمحَسّة التي تؤمنون بها وتشهدونها وتسلمونها لرسول ال صلى ال عليه سلم لتستنبطوا
أنه جاء بكلمه من عند ال تعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :فمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا {
()1367 /
َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآَيَاتِهِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ ()17
وهنا يوضح القرآن على لسان الرسول صلى ال عليه وسلم :أأكذب على ال؟ إذا كنت لم أكذب
عليكم أنتم في أموري معكم وفي المور التي جرّبتموها ،أفأكذب على ال؟! إن الذي يكذب في
أول حياته من المعقول أن يكذب في الكِبَر ،وإذا لم أكذب علكيم أنتم ،فهل أكذب على ال؟
وإذَا لم أكن قد كذبت وأنا غير ناضج التفكير ،في طفولتي قبل أن أصل إلى الرجولة ،فأنا الن ل
أستطيع الكذب .فإذا كنتم أنتم تتهمونني بذلك ،فأنا ل أظلم نفسي وأتهمها بالكذب ،فتصبحون أنتم
المكذبين؛ لنكم كذبتموني في أن القرآن مبلغ عن ال ،ولو أنني قلت :إنه من عند نفسي لكان من
المنطق أن تُكذّبوا ذلك؛ لنه شرف يُدّعى .ولكن أرفعه إلى غيري؛ إلى من هو أعلى مني ومنكم.
وقوله الحقَ { :فمَنْ َأظْلَمُ } أي :ل أحد أظلم ممن افترى على ال سبحانه كذبا؛ لن الكاذب إنما
يكذب ليدلّس على من أمامه ،فهل يكذب أحد على من يعلم المور على حقيقتها؟ ل أحد بقادر
على ذلك .ومن يكذب على البشر المساوين له يظلمهم ،لكن الظلم منه هو من يكذب على ال
سبحانه.
والفتراء كذب متعمد ،فمن الجائز أن يقول النسان قضية يعتقدها ،لكنها ليست واقعا ،لكنه اعتقد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنها واقعة بإخبار من يثق به ،ثم تبين بعد ذلك أنها غير واقعة ،وهذا كذب صحيح ،لكنه غير
متعمد ،أما الفتراء فهو كذب متعمد.
ولذلك حينما قسم علماء اللغة الكلم الخبري؛ قسموه إلى :خبر وإنشاء ،والخبر يقال لقائله:
صدقت أو كذبت ،فإن كان الكلم يناسب الواقع فهو صدق ،وإن كان الكلم ل يناسب الواقع فهو
كذب.
وقوله الحق { :افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا َأوْ َك ّذبَ بِآيَا ِتهِ } يبين لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم:
إن قلتم إنني ادعيت أن الكلم من عن ال ،وهو ليس من عند ال .فهذا يعني أن الكلم كذب وهو
من عندي أنا ،فما موقف من يكَذب بآيات ال؟
إن الكذب من عندكم أنتم ،فإن كنتم تكذبونني وتدّعون أني أقول إن هذا من ال ،وهو ليس من
ال ،وتتمادون وتُكذّبون باليات وتقولون هي من عندك ،وهي ليست من عندي ،بل من عند ال؛
فالثم عليكم.
والكذب إما أن يأتي من ناحية القائل ،وإما من ناحية المستمع ،وأراد الرسول صلى ال عليه وسلم
عدالة التوزيع في أكثر من موقع ،مثلما يأتي القول الحق مبيّنا أدب النبوة:
للٍ مّبِينٍ }[سبأ ]24 :وليس هناك أدب في العرض أكثر من
{ وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَىا هُدًى َأوْ فِي ضَ َ
هذا ،فيبين أن قضيته صلى ال عليه وسلم وقضيتهم ل تلتقيان أبدا ،واحدة منهما صادقة والخرى
كاذبة ،ولكن من الذي يحدد القضية الصادقة من الكاذبة؟ إنه الحق سبحانه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلن يصل إل إلى ما تريد .ولو لم يكن المر كذلك لما عرضت المر عليه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ َيضُرّهُمْ {
()1368 /
وكلمة { وَ َيعْبُدُونَ } تقتضي وجود عابد؛ ووجود معبود؛ ووجود معنى للعبادة .والعابد أدنى حالً
من المعبود ،ومظهر العبادة والعبودية كله طاعة للمر والنصراف عن المنهي عنه.
هذا هو أصل العبادة ،ووسيلة القرب من ال.
وحتى تكون العبادة في محلها الصحيح ل بد أن يقر العابد أن المعبود أعلى مرتبة في الحكم على
الشياء ،أما إن كان المر بين متساويين فيسمونه التماسا.
إذن :فهناك آمر ومأمور ،فإن تساويا؛ فالمأمور يحتاج إلى إقناع ،وأما إن كان في المسألة حكم
سابق بأن المر أعلى من المأمور؛ كالستاذ بالنسبة للتلميذ ،أو الطبيب بالنسبة للمريض ،ففي هذا
الوضع يطيع المأمور المر لنه يفهم الموضوع الذي يأمر فيه.
وكذلك المؤمن؛ لن معنى اليمان أنه آمن بوجود إله قادر له كل صفات الكمال المطلق؛ فإذا
اعتقدت هذا؛ فالنسان ينفذ ما يأمر به ال؛ ليأخذ الرضاء والحب والثواب .وإن لم ينفذ؛ فسوف
ينال غضب المعبود وعقابه.
إذن :فأنت إن فعلت أمره واجتنبت نهيه؛ نلت الثواب منه ،وإن خالفت؛ تأخذ عقابا؛ لذلك ل بد أن
يكون أعلى منك قدرة ،ويكون قادرا على إنفاذ الثواب والعقاب ،والقادر هو ال جل عله.
أما الصنام التي كانوا يعبدونها ،فبأي شيء أمرتهم؟ إنها لم تأمر بشيء؛ لذلك ل يصلح أن تكون
لها عبادة؛ لن معنى العبادة يتطلب أمرا ونهيا ،ولم تأمر الصنام بشيء ولم تنه عن شيء ،بل
كان المشركون هم الذين يقترحون الوامر والنواهي ،وهو أمر ل يليق؛ لن المعبود هو الذي
عليه أن يحدد أوجه الوامر والنواهي.
إذن :فمن الحمق أن يعبد أحدٌ الصنم؛ لنها ل تضر من خالفها ،ول تنفع من عبدها ،فليس لها
أمر ول نهي.
ومن أوقفوا أنفسهم هذا الموقف نسوا أن في قدرة كل منهم أن ينفع الصنم وأن يضره ،فالواحد
منهم يستطيع أن يصنع الصنم ،وأن يصلحه إذا انكسر ،أو يستطيع أن يكسره بأن يلقيه على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرض .وفي هذه لحالة يكون العابد أقدر من المعبود على الضر وعلى النفع ،وهذا عين التخلف
العقلي.
ضتْ هذه المسألة على العقل؛ فسوف يرفضها
إذن :فمثل هذه العبادة لون من الحمق ،ولو عُ ِر َ
العقل السليم.
وعندما تجادلهم ،وتثبت لهم أن تلك الصنام ل تضر ول تنفع ،تجد من يكابر قائلً { :هَـاؤُلءِ
ش َفعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ } وهم بهذا القول يعترفون أن ال هو الذي ينفع ويضر ،ولكن أما كان يجب أن
ُ
يتخذوا شفيعا لهم عند ال ،وأن يكون الشفيع متمتعا بمكانة ومحبة عند من يشفع عنده؟
ثم ماذا يقولون في أن من تُقدم له شفاعة هو الذي ينهى عن اتخاذ الصنام آلهة وينهي عن
عبادتها؟
وهل هناك شفاعة دون إذن من المشفوع عنده؟ من أجل ذلك جاء المر من الحق سبحانه لرسوله
صلى ال عليه وسلم:
سمَاوَاتِ وَلَ فِي الَ ْرضِ } [يونس]18 :
{ ُقلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ ِبمَا لَ َيعَْلمُ فِي ال ّ
إذن :فمن أين جئتم بهذه القضية؛ قضية شفاعة الصنام لكم عند ال؟ إنها قضية ل وجود لها،
وسبحانه لم يبلغكم أن هناك أصناما تشفع ،وليس هذا واردا ،فقولكم هذا فيه كذب متعمد وافتراء.
فهو سبحانه الذي خلق السموات وخلق الرض ،ويعلم كل ما في الكون ،وقضية شفاعة الصنام
عنده ليست في علمه ،ول وجود لها ،بل هي قضية مفتراة ،مُدّعاة.
وقوله الحق هنا } :أَتُنَبّئُونَ اللّهَ { مثلها مثل قوله الحق:
{ ُقلْ أَ ُتعَّلمُونَ اللّهَ ِبدِي ِنكُمْ }[الحجرات]16 :
ويعني هذا القول بالرد على من قالوا ويقولون :إن المطلوب هو تشريعات تناسب العصر ،وكلما
فسد العصر طالبوا بتشريعات جديدة ،وما داموا هم الذين يشرّعون ،فكأنهم يرغبون في تعليم
خالقهم كيف يكون الدين ،وفي هذا اجتراء وجهل بقدرة وحكمة مَنْ خلق الكون ،فأحكمه بنظام.
عمّا
سمَاوَاتِ وَلَ فِي الَ ْرضِ سُبْحَانَهُ وَ َتعَالَىا َ
وقوله الحقُ } :قلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ ِبمَا لَ َيعْلَمُ فِي ال ّ
يُشْ ِركُونَ { فيه تنزيه له سبحانه ،فهو الخالق لكل شيء ،خالق الملك والملكوت ويعلم كل شيء،
وقضية شفاعة الصنام إنما هي قضية مفتراة ل وجود لها؛ لذلك فهي ليست في علم ال ،والحق
سبحانه مُنزّه أن توجد في ملكه قضية لها مدلول يقيني ول يعلمها ،ومُنزّه جل وعل عن أن يُشرَك
به؛ لن الشريك إنما يكون ليساعد من يشركه ،ونحن نرى على سبيل المثال صاحب مال يديره
في تجارة ما ،ولكن ماله ل ينهض بكل مسئوليات التجارة ،فيبحث عن شريك له.
وسبحانه وتعالى قوي وقادر ،ول يحتاج إلى أحد في ملكية الكون وإدارته ،ثم ماذا يفعل هؤلء
الشركاء المدّعون كذبا على ال؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الحق سبحانه يقول:
{ ُقلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َتغَوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء]42 :
وهذا القول الحكيم ينبه المشركين إلى أنه بافتراض جدلي أن لهؤلء الشركاء قوة وقدرة على
التصرف ،فهم لن يفعلوا أي شيء إل بابتغاء ذى العرش ،أي :بأمره سبحانه وتعالى .وهم حين
ظنوا خطأ أن لكل فلك من الفلك سيطرة على مجال في الوجود ،وأن النجوم لها سيطرة على
الوجود ،وأن كل برج من البراج له سيطرة على الوجود ،فل بد في النهاية من الستئذان من
مالك الملك والملكوت.
ومن خيبة من ظنوا مثل هذه الظنون ،ومعهم الفلسفة الذين أقروا بأن هناك أشياء في الكون ل
يمكن أن يخلقها إنسان ،أو أن يدّعى لنفسه صناعتها؛ لن الجنس البشري قد طرأ على هذه
المخلوقات ،فقد طرأ النسان على الشمس والقمر والنجوم والرض ،ول بد إذن أن تكون هناك
قوة أعلى من النسان هي التي خلقت هذه الكائنات.
كل هذه الكائنات تحتاج إلى مُوجِد ،ولم نجد معامل لصناعة الشمس أو القمر أو الرض أو وجدنا
من ادعى صناعتها أو خلقها.
ولكن الفلسفة الذين قبلوا وجود خالق للكون لم يصلوا إلى اسمه ول إلى منهجه ،وقوة الحق
سبحانه مطلقة ،ول يحتاج إلى شريك له ،وإذا أردنا أن نتأمل ولو جزءا بسيطا من أثر قوة ال
التي وهبها للنسان ،فلنتأمل صناعة المصباح الكهربي.
وكل منا يعلم أنه ل توجد بذرة نضعها في الرض ،فتنبت أشجارا من المصابيح ،بل استدعت
صناعة مصباح الكهرباء جهد العلماء الذين درسوا علما الطاقة ،و استنبطوا من المعادلت إمكان
تصور صناعة المصباح الكهربي ،وعملوا على تفريغ الهواء من الزجاجة التي يوضع فيها السلك
الذي يضيء داخل المصباح ،وهكذا وجدنا أن صناعة مصباح كهربي واحد تحتاج إلى جهد
علماء وعمل مصانع ،كل ذلك من أجل إنارة غرفة واحدة لفترة من الزمن .فما بالنا بالشمس التي
تضيء الكون كله ،وإذا كان أتفه الشياء يتطلب كمية هائلة من العلم والبحث والمكانات الفنية
والتطبيقية ،وتطوير للصناعات ،فما بالنا بالشمس التي تضيء نصف الكرة الرضية كل نصف
يوم ،ول أحد يقدر على إطفائها ،ول تحتاج إلى صيانة من البشر ،وإذا أردت أن تنسبها فلن تجد
إل ال سبحانه.
وأنت بما تبتكره وتصنعه ل يمكن أن يصرفك عن ال ،والذكي حقا هو من يجعل ابتكاراته
وصناعاته دليلً على صدق ال فيما أخبر.
وإذا كان الحق سبحانه قد خلق الشمس ـ ضمن ما خلق ـ وإذا أشرقت أطفأ الكل مصابيحهم؛
لنها هي المصباح الذي يهدي الجميع ،وإذا كان ذلك هو فعل مخلوق واحد ل ،فما بالنا بكل نعمة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من سائر مخلوقاته .ونور الشمس إنما يمثل الهداية الحسية التي تحمينا من أن نصطدم بالشياء
فل تحطمنا ول نحطمها ،فكذلك يضيء لنا الحق سبحانه المعاني والحقائق.
وإياك أن تقول :إن الفيلسوف الفلني جاء بنظرية كذا؛ فخذوا بها ،بل دع عقلك يعمل ويقيس ما
جاء بهذه النظرية على ضوء ما نزل في كتاب الحق سبحانه ،وإن دخلت النظرية مجال التطبيق،
وثبت أن لها تصديقا من الكتاب ،فقل :إن الحق سبحانه قد هدى فلنا إلى اكتشاف سر جديد من
أسرار القرآن؛ لن الحق يريد منا أن نتعقل الشياء وأن ندرسها دراسة دقيقة ،بحيث نأخذ
طموحات العقل؛ لتقربنا إلى ال ،ل لتبعدنا عنه ،والعياذ بال.
عمّا يُشْ ِركُونَ { فذلك لن الشركة تقتضي طلب
وإذا قال الحق سبحانه } :سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَىا َ
المعونة ،وطلب المعونة يكون إما من المساوي وإما من العلى ،ول يوجد مسا ٍو ل تعالى ،ول
أعلى من ال سبحانه وتعالى.
ح َدةً {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :ومَا كَانَ النّاسُ ِإلّ ُأمّ ًة وَا ِ
()1369 /
َومَا كَانَ النّاسُ إِلّا ُأمّةً وَاحِ َدةً فَاخْتََلفُوا وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَِلفُونَ (
)19
وقد جاءت آية في سورة البقرة متشابهة مع هذه الية وإن اختلف السلوب ،فقد قال الحق سبحانه
في سورة البقرة {:كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ }[البقرة ]213 :والذين يقرأون القرآن
بسطحية وعدم تعمق قد ل يلتفتون إلى اليات المشابهة لها في المعنى العام ،وهذه اليات توازن
بين المعاني فل تضارب بين آية وأخرى.
ولذلك نجد بين المفكرين العصريين من يقول :إن الناس كانوا كلهم كفارا ،ثم ارتقى العقل محاولً
اكتشاف أكثر الكائنات قوة؛ ليعبدوه ،فوجدوا أن الجبل هو الكائن العالي الصلب؛ فعبدوه .وأناس
آخرون قالوا :إن الشمس أقوى الكائنات فعبدوها ،وآخرون عبدوا القمر ،وعبد قوم غيرهم
النجوم ،واتخذ بعض آخر آلهة من الشجر ،وكل جماعة نظرت إلى جهة مختلفة تتلمس فيها القوة.
وهم يأخذون من هذا أن النسان قد اهتدى إلى ضرورة الدين بعقله ،ثم ظل هذا العقل في ارتقاء
إلى أن وصل إلى التوحيد.
ونرد على أصحاب هذا القول :أنتم بذلك تريدون أن تعزلوا الخلق عن خالقهم ،وكأن ال الذي
خلق الخلق وأمدهم بقوام حياتهم المادية قد ضَنّ عليهم بقوام حياتهم المعنوية ،وليس هذا من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المقبول أو المعقول ،فكيف يضمن لهم الحياة المادية ،ول يضمن لهذه المادية قيما تحرسها من
الشراسة وتحميها من الفساد والفساد؟
وقوله الحق:
ح ُكمَ بَيْنَ
حقّ لِيَ ْ
ن وَأَن َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
ن َومُنذِرِي َ
ح َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ
{ كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ
النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُواْ فِيهِ َومَا اخْتََلفَ فِيهِ ِإلّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِن َبعْدِ مَا جَآءَ ْت ُهمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيا بَيْ َنهُمْ َفهَدَى
اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ ِلمَا اخْتََلفُواْ فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[البقرة:
]213
لذلك َفهِمَ البعض أن الناس كانوا أمة واحدة في الكفر ،وحين جاء النبيون ،اختلف الناس؛ لن
منهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر ،ولكن لو أحسن الذين قالوا مثل هذا القول الستنباط
وحسن الفهم عن ال لوجدوا أن مقصود الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الن إنما هو :ما
كان الناس إل أمة واحدة فاختلفوا؛ فبعث ال النبيين؛ ليخرجوهم عن الخلف ويعيدوهم إلى التفاق
على عهد اليمان الول الذي شهدوا فيه بربوبية الحق سبحانه وتعالى؛ لن الصل في المسألة
هو اليمان ل الكفر.
ومن أخذ آية سورة البقرة كدليل على كفر الناس أولً ،نقول له :اقرأ الية بأكملها؛ لتجد قوله
ح ُكمَ
حقّ لِيَ ْ
ن وَأَن َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
ن َومُنذِرِي َ
الحق {:كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ
بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُواْ فِيهِ }[البقرة]213 :
وهكذا نرى أن الختلف الذي حدث بين الناس جاء في آية البقرة في المؤخرة ،بينما جاء
الختلف في هذه الية في المقدمة ،وهذا دليل على أن الناس كانوا أمة واحدة على اليمان ،فليس
هناك أناس أوْلَى من أناس عند الخالق سبحانه وتعالى ،ولم يكن عدل ال ليترك أناسا متخبطين
في أمورهم على الكفر ،ويرسل الرسل لناس آخرين بالهداية؛ فالناس بالنسبة ل سواء.
وما دام الحق سبحانه قد أوجد الخلق من البشر فل بد أن يُنزل لهم منهجا؛ ولذلك حين نقرأ قول
الحق سبحانه {:إِنّ َأ ّولَ بَ ْيتٍ ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا وَ ُهدًى لّ ْلعَاَلمِينَ }[آل عمران]96 :
نجد فيه الرد على من يقول إن إبراهيم عليه السلم هو أول من بنى الكعبة؛ لن الحق سبحانه
وتعالى لم يترك الخلق من آدم إلى إبراهيم دون بيت يحجون إليه ،ولكن الحق سبحانه وضع
البيت؛ ليحج إليه الناس من أول آدم إلى أن تقوم الساعة ،والذي وضع البيت ليس من الناس ،بل
شاء وضع البيت خالق الناس ،وما فعله سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ هو رفع القواعد من
البيت الحرام.
أي :أنه أقام ارتفاع البيت بعد أن عرف مكان البيت طولً وعرضا ،مصداقا لقول الحق سبحانه:
{ وَإِذْ َبوّأْنَا لِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ }[الحج]26 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا َيصْدُق قول الحق سبحانه بأن البيت قد وُجد للناس قبل آدم ،وهو الناس إلى أن تقوم
الساعة ،وهكذا نعلم أن الحق سبحانه خلق الخلق وأنزل لهم المنهج ،والصل في الناس هو
اليمان ،لكن الكفر هو الذي طرأ على البشر من بابين :باب الغفلة ،وباب تقليد الباء.
والدليل على ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلّم عن ميثاق الذر ،قال:
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ
خذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
{ وَإِذْ أَ َ
ل َوكُنّا
شهِدْنَآ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ
َ
ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }[العراف172 :ـ ]173
إذن :فالتعصّي عن الحكم اليماني مدخله بابان :الول باب الغفلة ،أي :أن تكون قد عملتَ شيئا،
ولم تجعله دائما في بؤرة شعورك؛ لن عقلك يستقبل المعلومات ،ويستوعبها من مرة واحدة ،إن
لم تكن مُش ّتتَ الفكر في أكثر من أمر ،فإن كنت صافي الفكر ومنتبها إلى المعلومة التي َتصُِلكَ؛
فإن عقلك يستوعبها من مرة واحدة ،ومن المهم أن يكون الذهن خاليا لحظة أن تستقبل المعلومة
الجديدة.
ولذلك نجد فارقا بين إنسان وإنسان آخر في حفظ المعلومات ،فواحد يستقبل المعلومة وذهنه خالٍ
من أي معلومة غيرها ،فتثبت في بؤرة الشعور ،بينما يضطر الخر إلى تكرار قراءة المعلومة
إلى أن يخلو ذهنه من غيرها؛ فتستقر المعلومة في بؤرة الشعور ،وحين تأتي معلومة أخرى،
فالمعلومة الولى تنتقل إلى حاشية الشعور إلى حين أن يستدعيها مرة أخرى.
وإذا أراد طالب ـ على سبيل المثال ـ أن يستوعب ما يقرأ من معلومات جديدة ،فعلية أن ينفض
عن ذهنه كل المشاغل الخرى؛ ليركّز فيما يدرس؛ لنه إن جلس إلى المذاكرة وباله مشغول بما
سوف يأكل في الغداء ،أو بما حدث بينه وبين أصدقائه ،أو بما سوف يرتدي من ملبس عند
الخروج من البيت ،أو بغير ذلك من المشاغل ،هنا سوف يُضطر الطالب أن يعيد قراءة الدرس
أكثر من مرة؛ حتى يصادف الدرسُ جزئية خالية من بؤرة الشعور؛ فتستقر فيها.
وقد نجد طالبا في صباح يوم المتحان وهو يسمع من زملئه أن المتحان قد يأتي في الجزء
الفلني من المقرر؛ فيفتح الكتاب المقرر على هذا الجزء ويقرأه مرة واحدة؛ فيستقر في بؤرة
الشعور ،ويدخل المتحان ،ليجد السؤال في الجزء الذي قرأه مرة واحدة قبل دخوله إلى اللجنة؛
فيجيب عن السؤال بدقة.
ولذلك فالتلميذ الذكي هو من يقوم بما يسمّيه علم النفس " عملية الستصحاب " ،أي :أن يقرأ
الدرس ثم يغلق الكتاب؛ ليسأل نفسه " :ما الجديد من المعلومات في تلك الصفحة؟ " ويحاول أن
يتذكر ذلك ،ويحاول أن يتعرف حتى على اللفاظ الجديدة التي في تلك الصفحة ،وما هي الفكار
حتْ له معلومات أو أفكارا خاطئة كانت موجودة لديه.
الجديدة التي صحّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا يستصحب الطالب معلومات بتركيز وانتباه.
وكذلك الستاذ المتميز هو من يشرح الدرس ثم يتوقف؛ ليسأل التلميذ؛ ليشير انتباههم؛ حتى ل
ينشغل أحدهم بما هو خارج الدرس ،والستاذ المتميز هو الذي يلقي درسه بما يستميل التلميذ،
كما تستميلهم القصة المروية ،وحتى ل تظل المعلومات الدراسية مجرد معلومات جافة.
وبهذا يستمر الذهن بل غفلة ،والغفلة تأتي إلى القضايا الدينية؛ لن في النسان شهوات تصادم
الوامر والنواهي؛ فيتناسى النسان بعض الوامر وبعض النواهي إلى أن يأتي الران الذي قال
عنه الحق سبحانه:
{ كَلّ َبلْ رَانَ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ مّا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[المطففين]14 :
ويبين النبي صلى ال عليه وسلم ذلك بالحديث الشريف " :نزلت المانة في جذر قلوب الرجال،
ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السّنّة " .ثم يحدثنا صلى ال عليه وسلم عن رفع
المانة فيقول " :ينام الرجل النومة فتقبض المانة من قلبه؛ فيظل أثرها مثل أثر الوكْت " أي :مثل
ن على القلب.
لسعة النار وهكذا تتوالى؛ حتى يأتي الرّا ُ
إذن :فالغفلة تتلصص على النفس النسانية ،وكلما غفل النسان في نقطة ،ثم يغفل عن أخرى
وهكذا .ولكن من ل يغفل فهو من يتذكر الحكم ،وبطبقه ،ويذوق حلوته .ومثال هذا :المسلم الذي
صلّ يظل مُرْهقا وفي ضيق.
يشرح ال تعالى قلبه للصلة ،فإن لم ُي ّ
ولذلك جاء في الحديث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :تُعرض الفتن على القلوب
كالحصير عودا عودا ،فأيّ قلب أشْرِبها نكت فيه نكتة سوداء ،وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة
بيضاء حتى تصير على قلبين :على أبيض مثل الصفا فل تضره فتنة ما دامت السموات
والرض ،والخر أسود مربادا كالكوز مُجَخّيا ل يعرف معروفا ول ينكر منكرا إل ما أشرب من
هواه ".
إذن :فالغفلة هي أول باب يدخل منه الشيطان؛ فيبعد النسان عن أحكام ال .وإذا ما غفل الب،
فالبناء يُقلّدون الباء ،فتأتيهم غفلة ذاتية .وهكذا يكون الغافل أسوة لمن بعده.
ولذلك قال الحق سبحانه عن البناء الذين يتعبون غفلة الباءَ {:بلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ }
[البقرة]170 :
وإلْف تقليد الباء قضية كاذبة؛ لننا سلسنا مسألة اليمان إلى آدم عليه السلم ،وهو الب الول
لكل البشر؛ لوجدنا أن آدم عليه السلم قد طبّق كل مطلوب ل ،فإن قلتَ } :بلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَيْهِ
آبَآءَنَآ { فهذا القول يحتم عليك أل تنحرف عن اليمان الفطري ،وإل كنت من الكاذبين غير
المدققين فيما دخل على اليمان الفطري من غفلة أو غفلت ،تبعها تقليد دون تمحيص.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه قد شاء أن تكون كل كلمة في القرآن لها معنى دقيق مقصود ،فالحق سبحانه يقول
جدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَىا آثَارِهِم مّقْتَدُونَ }[الزخرف:
على ألسنة الكافرين في القرآن {:إِنّا وَ َ
]23
ولم يقل " :مهتدون " بل قال " :مقتدون " ،والمقتدي من هؤلء هو من اتخذ أباه قدوة ،لكن
المهتدي هو مَنْ ظن أن أباه على حق.
إذن :فالمقتدي هو من ل يهتم بصدق إيمان أبيه ،بل يقلده فقط ،وتقليد الباء نوعان :تقليد على أنه
اقتداء مطلق ل صلة له بالهدى أو الضلل ،وتقليد على أنه هدى صحيح لشرع ال تعالى .وقد
ن قال :إن أول الرسل هو
حدث خلف حول آدم عليه السلم أهو رسول أم نبي فقط؟ فهناك مَ ْ
نوح عليه السلم ونقول :وهل من المعقول أن يترك ال الخلق السابقين على نوح عليه السلم
دون رسول؟
إن الحق سبحانه وهو القائل {:وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر]24 :
والذي أشكل على هؤلء المفسرين الذين قالوا :إن أول رسول هو نوح عليه السلم أنهم قد فكروا
تفكيرا سطحيا ،وفهموا أن الرسول يطرأ على المرسل إليهم ،وما دام لم يكن هناك بشر قبل آدم
فكيف يكون آدم مبعوثا برسالة ،ولمن تكون تلك الرسالة؟
ولم يفطن هؤلء المفسرون إلى أن آدم عليه السلم كان رسولً وأسوة إلى أبنائه ،فالحق سبحانه
علَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ }[البقرة]38 :
خ ْوفٌ َ
قد قال له {:فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُم مّنّي هُدًى َفمَن تَ ِبعَ هُدَايَ فَلَ َ
شقَىا }[طه]123 :
ضلّ َولَ يَ ْ
وسبحانه قد قال لدم عليه السلمَ {:فمَنِ اتّ َبعَ ُهدَايَ فَلَ َي ِ
وما دام الحق سبحانه قد ذكر الهدى ،فهذا ذكر للمنهج ،وهو الذي طبقه سلوكا يقلده فيه البناء.
علَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَادَمَ بِا ْلحَقّ إِذْ قَرّبَا
وغفل هؤلء المفسرون أيضا عن استقراء قوله الحق {:وَا ْتلُ َ
قُرْبَانا }[المائدة]27 :
وابْنَا آدم عليه السلم قد قدّمنا القربان إلى ال تعالى .إذن :فهما قد عرفا أن هناك إلها.
لقْتُلَ ّنكَ }[المائدة]27 :
وحين قال قابيل لخيهَ {:
بعد ما تقبل ال قربان أخيه ولم يتقبل منه .قال هابيل {:إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ }[المائدة]27 :
لقْتَُلكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ َربّ
ك َ
سطٍ يَ ِديَ إِلَ ْي َ
ثم في قول هابيل {:لَئِن بَسَطتَ إَِليّ يَ َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَا ِ
ا ْلعَاَلمِينَ }[المائدة]28 :
إذن :لو لم يكن آدم عليه السلم رسولً فمن بلّغ أبناءه بأن ال يثيب ويعاقب؟
والحق سبحانه يقول في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :وََلوْلَ كَِلمَةٌ سَ َب َقتْ مِن رّ ّبكَ
َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَِلفُونَ { وفي هذا إشارة إلى أن ال سبحانه ـ قبل رسالة محمد عليه
الصلة والسلم ـ كان يعاقب مَن يكذّب البلغ عنه وما جاء به السابقون من الرسل ،يقول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه:
سفْنَا بِهِ
{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَ ْرسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ الصّيْحَ ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ خَ َ
سهُمْ َيظِْلمُونَ }[العنكبوت]40 :
الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َم ُه ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
إل أمة محمد صلى ال عليه وسلم فقد قال ال تعالىَ {:ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ َومَا كَانَ
اللّهُ ُم َعذّ َبهُ ْم وَهُمْ َيسْ َت ْغفِرُونَ }[النفال]33 :
جلَ الجزاء والعقوبة عن أمة محمد صلى ال عليه وسلم إلى الخرة .وهذه
أي :أنه سبحانه قد أ ّ
الكلمة التي سبقت ،أنه سبحانه ل يؤاخذ أمة محمد صلى ال عليه وسلم بذنوبهم في الدنيا ،ولكنه
يؤخّر ذلك إلى يوم الجزاء .ويقضي سبحانه في ذلك اليوم بين من اتبعوا الرسول صلى ال عليه
وسلم ومن عاندوه ،وبطبيعة الحال يكون الحق سبحانه في جانب من أرسله ،ل من عاند رسول
ال صلى ال عليه وسلم.
ويقول سبحانه بعد ذلك } :وَ َيقُولُونَ َل ْولَ أُن ِزلَ عَلَ ْيهِ آ َيةٌ مّن رّبّهِ {
()1370 /
وَيَقُولُونَ َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَ ْيهِ آَ َيةٌ مِنْ رَبّهِ َف ُقلْ إِ ّنمَا ا ْلغَ ْيبُ لِلّهِ فَانْ َتظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ ()20
()1371 /
حمَةً مِنْ َبعْ ِد ضَرّاءَ مَسّ ْتهُمْ ِإذَا َلهُمْ َمكْرٌ فِي آَيَاتِنَا ُقلِ اللّهُ َأسْ َرعُ َمكْرًا إِنّ رُسُلَنَا
وَإِذَا َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ
َيكْتُبُونَ مَا َت ْمكُرُونَ ()21
والرسول صلى ال عليه وسلم حين ضاق ذرعا بالكافرين من صناديد قريش دعا عليهم أن يهديهم
الحق بسنين الجدب كالسنين التي أصابت مصر واستطاع سيدنا يوسف عليه السلم أن يدبر
أمرها ،فلسط الحق سبحانه على قريش الجدب والقحط ،ثم جاء لهم بالرحمة من بعد ذلك .وكان
من المفروض أن يرجعوا إلى ال ،وأن يؤمنوا برسالة رسوله صلى ال عليه وسلم ،بعد أن علموا
أن ما مسّهم من القحط ومن الجدب كان بسبب دعوة الرسول صلى ال عليه وسلم " :اللهم اجعلها
عليهم سنين كَسِ ِنيّ يوسف ".
وانتهت السنوات السبع وجاء لهم الرحمة ممثلة في المطر ،ولم يلتفتوا إلى ضرورة شكر ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واليمان برسوله صلى ال عليه وسلم ،ولكنهم ظلوا يبحثون عن أسباب المطر ،فمنهم من قال:
لقد جاء مطرنا نتيجة لِنوْءِ كذا ،ولن الرياح هبّت على مناطق كذا ،وفعلوا ذلك دون التفات
لنتهاء دعوة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،مثلهم مَثَل مَنْ جلس يبحث في أسباب النصر في
الحرب ،وجعلوا أسبابها مادية في العُدّة والعتاد ،ول أحد ينكر أهمية الستعداد للقتال وجدواه،
ولكن يبقى توفيق ال سبحانه وتعالى فوق كل اعتبار؛ لن المؤمنين بال الذين استعدوا للقتال
ودخلوا المعارك وجدوا المعجزات تتجلى بنصر ال؛ لن الحق سبحانه ينصر مَنْ ينصره.
أما الذين يحصرون أسباب النصر في الستعداد القتالي فقط ،فالمقاتلون الذين خاضوا الحرب بعد
التدريب الجاد ،يعلمون أن التدريب وحده ل يصنع روح المقاتل ،بل تصقل روحه رغبته في
القتال ونَيْل الشهادة ودخول الجنة.
إذن :فلمدد السماء مدخل ،ومَن رأى من المقاتلين آية مخالفة لنواميس الكون ،فليعلم علم اليقين أن
يد ال كانت فوق أيدي المؤمنين المقاتلين .ومن يدعي أن أي نصر هو نتيجة للحضارة ،يجد الرد
عليه من المقاتلين أنفسهم بأن الحضارة بل إيمان هي مجرد تقدم مادة هش ل يصنع نصرا،
والنصر ل يكون بالمادة وحدها ،وقد أمرنا ال بحسن الستعداد المادي ،ولكن النصر يكون
باليمان فوق المادة.
ولذلك نجد مَنْ خاضوا حربنا المنتصرة في العاشر من رمضان 1393هـ يعلمون أن مدد ال
كان معهم بعد أن أحسنوا الستعداد ،ول أحد من المقاتلين يصدق أن الستعداد المادي وحده يمكن
أن يكفي للنصر ،إنه ضرورة ،ولكن باليمان وحسن استخدام السلح يكون النصر؛ ولذلك ل
يصدق المقاتلون من ينسب النصر للمادة وحدها ،وينسحب عدم التصديق على كل ما يقوله من
ينكر دور اليمان في النتصار.
وهكذا نجد أن مَنْ يجرد النصر من قيمة اليمان إنما يخدم اليمان؛ لن إنكار اليمان يقلل من
قيمة الرأي المادى .وهكذا ينصر ال دينه حتى يثبته في قلوب جنده ،ويقلل من قيمة ومكانة مَنْ
ينكرون قيمة اليمان.
ومثال هذا في تاريخ السلم أن اليهود الذين كانوا يستفتحون على أهل المدينة من الوس
والخزرج بأن رسولً سوف يظهر ،وأنهم ـ أي :اليهود ـ سيتبعونه ،وسوف يقتلون العرب من
الوس والخزرج قَتْل عادٍ وإرم.
ولما جاء وقت ظهور محمد بن عبد ال صلى ال عليه وسلم بمكة ،أسرعت الوس والخزرج إلى
اليمان به ،وقالوا :إنه النبي الذي تهددنا به يهود ،فَلْنسبق إليه حتى ل يسبقونا.
هكذا كانت كلمة اليهود هي دافع الوس والخزرج إلى اليمان.
إذن :فال ينصر دينه بالفاجر ،رغم ظن الفاجر أنه يكيد للدين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك حين جاءت لهم الرحمة بعد القحط أرجفوا وظلوا يحللون سبب سقوط المطر بأسباب علمية
محدودة بالمادة ،ل باليمان الذي فوق المادة.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
حمَةً مّن َبعْ ِد ضَرّآءَ مَسّ ْتهُمْ إِذَا َل ُهمْ ّمكْرٌ فِي آيَاتِنَا ُقلِ اللّهُ أَسْ َرعُ َمكْرا إِنّ
} وَإِذَآ َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ
رُسُلَنَا َيكْتُبُونَ مَا َت ْمكُرُونَ { [يونس]21 :
والمكر :هو الكلم الملتوي الذي ل يريد أن يعترف برحمة ال ،والدعاء بأن نوء كذا هو السبب
في سقوط المطر ،وبرج كذا هو السبب في سقوط المطر.
وقوله الحقّ } :مكْرٌ فِي آيَاتِنَا { والمكر هو الكيد الخفي ،والمقصود به هنا محاولة اللتفاف؛
لتجريد العجائب من صنع ال لها ،وحتى العلم وقوانينه فهو هبة من ال ،والحق هو القادر على
أن يوقف السباب وأن يفعل ما يريد وأن يخرق القوانين ،فهو سبحانه رب القوانين ،فل تنسبوا
أي خبر إل له سبحانه؛ حتى ل نضل ضلل الفلسفة الذين قالوا بأن ال موجود ،وهو الذي خلق
الكون وخلق النواميس؛ لتحكم الكون بقوانين.
شذّ شيء عن تلك القوانين،
ونقول :لو خلق الحق سبحانه القوانين والنواميس وتركها تتحكم لما َ
فالمعجزات مع الرسل ـ على سبيل المثال ـ كانت خروجا عن القوانين .وأبقى ال في يده
التحكّم في القوانين ،صحيح أنه سبحانه قد أطلقها ،ولكنه ظل قيّوما عليها ،فيعطل القانون متى
شاء ويبرزه متى شاء ويُوجّه كيفما شاء.
والمكر كما نعلم مأخوذ من التفاف أغصان الشجرة كالضفيرة ،فل تتعرف على منبت ورقة
الشجر ومن أي غصن خرجت ،فقد اختلطت منابت الوراق؛ حتى صارت خفية عليك ،وأخذ من
ذلك الكيد الخفيّ ،وأنت قد تكيد لمساويك ،لكنك لن تقدر على أن تكيد لمن هو أعلى منك ،فإن
كنتم تمكرون فإن ال أسرع مكرا ،والحق سبحانه يقولُ } :قلِ اللّهُ َأسْ َرعُ َمكْرا { ،وهذه أسمها "
مشاكلة التعبير ".
أي :عليك أن تأخذ ذلك في مقابله في ذات الفاعل والفعل ،ولكن ل تأخذ من هذا القول اسما ل،
فإياك أن تقول :إن ال ـ سبحانه وتعالى ـ ماكر؛ لن المكر كيد خفيّ تفعله أنت مع مساويك،
ولكنك لن تستطيع ذلك مع من هو مُطّلع على كيدك ،ول تطّلع أنت على ما يشاء لك.
وانظر إلى أي جماعة تكيد لي أمر ،وستجد من بينهم من يبلغ عنهم السلطات ،وأجهزة المن،
فإذا كان كيد البشر للبشر مفضوحا بمن يشي منه بالخرين ،بل هناك من البشر غير الكائدين من
يستطيع بنظرته أن يستنبط ويستكشف من يكيدون له.
وهناك من الجهزة المعاصرة ما تستطيع تسجيل مكالمات الناس والتنصّت عليهم؛ وكل ذلك مكر
من البشر للبشر ،فما بالنا إن كاد ال لحد ،وليس هناك أحد مع ال ـ سبحانه وتعالى ـ ليبلغنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بكيده ،ول أحد يستطيع أن يتجسّس عليه؟!
مكر ال سبحانه ـ إذن ـ أقوى من أي مكرٍ بشري؛ لن مكر البشر قد يُهدَم من بعض الماكرين
أو من التجسس عليهم ،لكن إذا كاد ال لهم ،أيعلمون من كيده شيئا؟ طبعا ل يعملون.
وكلمة } َأسْ َرعُ َمكْرا { تلفتك إلى أن هناك اثنين يتنافسان في سباق ،وحين تقول :فلن أسرع من
فلن ،فمعنى ذلك :أن كلّ منهما يحاول الوصول إلى نفس الغاية ،لكن هناك واحدا أسرع من
الخر في الوصول إلى الغاية.
ومكركم البشري هو أمر حادث ،لكن ال ـ سبحانه ـ أزلي الوجود ،يعلم كل شيء قبل أن يقع،
ويرتّب كل أمر قبل أن يحدث؛ لذلك فهو السرع في الرد على مكركم ،إن مكرتم.
حمَةً مّن َب ْع ِد ضَرّآءَ مَسّ ْتهُمْ ِإذَا َلهُمْ ّمكْرٌ فِي آيَاتِنَا
وهناك يقول الحق سبحانه } :وَإِذَآ أَ َذقْنَا النّاسَ رَ ْ
{ و " إذا " الولى ظرف ،أما إذا الثانية فهي " إذا الفجائية " مثلما تقول :خرجت فإذا السد
بالباب.
وهم حين أنزل الحق لهم المطار رحمة منه ،فهم ل يهدأون ويستمتعون ويذوقون رحمة ال
تعالى بهم من الماء الذي جاءهم من بعد الجدب ،بل دبروا المكر فجأة ،فيأتي قول الحق
سبحانهُ } :قلِ اللّهُ أَسْ َرعُ َمكْرا إِنّ ُرسُلَنَا َيكْتُبُونَ مَا َت ْمكُرُونَ {.
وهكذا ترى أن ما يبطل كيد الماكرين من البشر ،يكون بإحدى تالك الوسائل :إما أن يكون بوشاية
من أحد الماكرين ،وإما أن يكون بقوة التخابر من الغير ،وإما أن يكون من رسل العليّ القدير وهم
الملئكة الذين يكتبون كل ما يفعله البشر ،فسبحانه القائل {:وَإِنّ عَلَ ْيكُمْ َلحَافِظِينَ * كِرَاما كَاتِبِينَ *
َيعَْلمُونَ مَا َت ْفعَلُونَ }[النفطار10 :ـ ]12
حسِيبا }[السراء.]14 :
سكَ الْ َي ْومَ عَلَ ْيكَ َ
واقرأ أيضا قول الحق سبحانه {:اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَىا بِ َنفْ ِ
وجاء الحق سبحانه بكل ما سبق؛ لنه سبحانه قد شاء أن يعطي لقريش فرصة التراجع في عنادها
للرسول صلى ال عليه وسلم ،هذا العناد الذي قالوا فيه :إنهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم ،وهذا
قول مغلوط؛ لن الباء في الصل كانوا مؤمنين ،ولكن جاءهم الضلل كأمر طارىء ،والصنام
التي عبدوها طارئة عليهم من الروم ،جاء بها إنسان ممن ساحوا في بلد الروم هو " عمرو بن
لحيّ " ،فإن رجعتُم إلى اليمان بعد عنادكم؛ فهذا هو الطريق المستقيم الذي كان عليه آباؤكم
بالفطرة والميثاق الول.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :هوَ الّذِي يُسَيّ ُر ُكمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ {
()1372 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ُهوَ الّذِي ُيسَيّ ُركُمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ حَتّى إِذَا كُنْتُمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ َوجَرَيْنَ ِبهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَ ٍة َوفَرِحُوا ِبهَا
عوُا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ
ن وَظَنّوا أَ ّنهُمْ أُحِيطَ ِبهِمْ دَ َ
صفٌ وَجَاءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِنْ ُكلّ َمكَا ٍ
جَاءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ
الدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَ ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ ()22
وهذه الية الكريمة جاءت مرحلة من مراحل إخبار ال سبحانه وتعالى عن المعاندين لدعوة
السلم ،التي بدأها الحق سبحانه بأنه قد رحمهم فأجّل لهم استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر،
حقّ مِنْ
عوْا به على أنفسهم من الشر في قولهم {:إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ
ولو أنه أجابهم إلى ما دَ َ
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال]32 :
حجَا َرةً مّنَ ال ّ
عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا ِ
لقضي أمرهم :فمن رحمة ال تعالى أنه لم ُيجِبْهم إلى دعائهم.
وإذا كان ال سبحانه قد أجّل استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر رحمة بهم ،فيجب أن يعرفوا أن
تأجيل استجابتهم بدعاء الخير رحمة بهم أيضا؛ لنهم قد يدعون بالشر وهم يظنون أنهم يدعون
بالخير ،وبعد ذلك دلّل على كذبهم في دعائهم على أنفسهم بالشر بأنهم إذا مسّهم ضرّ دعوا ال
تعالى مضطجعين وقاعدين وقائمين.
فلو كانوا يحبون الشر لنفسهم؛ لظلوا على ما هم فيه من البلء إلى أن يقضي ال تعالى فيهم
أمرا.
ثم عرض سبحانه قضية أخرى ،وهي أنه سبحانه إذا مسهم بضر؛ ليعتبروا ،جاء ال سبحانه
برحمته؛ لينقذهم من هذا الضر .فياليتهم شركوا نعمة ال تعالى في الرحمة من بعد الضر ،ولكنهم
مرّوا كأن لم يدعوا ال سبحانه إلى ضر مسّهم.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،يصور لنا الحق سبحانه وضعا آخر ،هو وضع
السير في البر والبحر ،فيقولُ { :هوَ الّذِي يُسَيّ ُركُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ } [يونس.]22 :
وكلمة { ُيسَيّ ُركُمْ } تدل على أن الذي يسّير هو ال ،ولكن في القرآن آيات تثبت أن السير يُنسب
إلى البشر حين يقولُ {:قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ }[النمل]69 :
ل وَسَارَ بَِأهْلِهِ }[القصص.]29 :
جَوحين يقول الحق سبحانه {:فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ
ي وَأَيّاما آمِنِينَ }[سبأ]18 :
وهو سبحانه يقول {:سِيرُواْ فِيهَا لَيَاِل َ
فكأن هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد نسبت التسيير إلى ال سبحانه ،وبعض اليات
الخرى نسبت التسيير إلى النفس النسانية ،ونقول لمن توهموا أن في ذلك تعارضا:
لو أنكم فطنتم إلى تعريف الفاعل عند النحاة وكيف يرفعونه؛ لعرفتم أن تحقق أي فعل إنما يعود
إلى مشيئة ال سبحانه ،فحين نقول " :نجح فلن " فهل هو الذي نجح ،أم أن الذي سمح له بالنجاح
غيره؟ إن الممتحن والمصحّح هما من سمحا له بالنجاح؛ تقديرا لجاباته التي تدل على بذَل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المجهود في الستذكار.
وكذلك نقول " :مات فلن " ،فهل فلن فعل الموت بنفسه؟ خصوصا ونحن نعرب " مات " كفعل
ماضٍ ،ونعرب كلمة (فلن) " فاعل " أو نقول :إن الموت قد وقع عليه واتّصف به؛ لن تعريف
الفاعل :هو الذي يفعل الفعل ،أو يتّصف به.
وإذا أردنا أن ننسب الشياء إلى مباشرتها السببية؛ قلنا " :سار النسان ".
وإذا أردنا أن نؤرّخ لسير النسان بالسباب ،وترحّلنا به إلى الماضي؛ لوجدنا أن الذي سيّره هو
ال تعالى.
وكل أسباب الوجود إنْ نظرتَ إليها مباشرة؛ وجدتها منسوبة إلى من هو فاعل لها؛ لكنك إذا
تتبّعتها أسبابا؛ وجدتّها تنتسب إلى ا ل سبحانه.
فمثلً :إذا سُئلت :مَنْ صنع الكرسي؟ تجيب :النجار .وإنْ سألت النجار :من أين أتيت بالخشب؟
سيجيبك :مِن التاجر .وسيقول لك التاجر أنه استورده من بلد الغابات ،وهكذا.
إذن :إذا أردت أن تسلسل كل حركة في الوجود؛ ل بد أن تنتهي إلى ال تعالى.
ل وَسَارَ بِأَ ْهلِهِ }[القصص]29:
جَوحين قال الحق سبحانه {:فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ
نفهم من ذلك أن موسى ـ عليه السلم ـ قد سُيّر بأهله؛ لن التسيير في كل مقوماته من ال
تعالى.
ك وَأَ ْبكَىا }[النجم]43 :
حَوالمثال الخر :نحن نقرأ في القرآن قوله الحق {:وَأَنّهُ ُهوَ َأضْ َ
فهو سبحانه الذي خلق الضحك ،وخلق البكاء.
فنجد من يقول :كيف يقول ال سبحانه إنه خلق الضحك والبكاء وهو الذي يقول في القرآن{:
ل وَلْيَ ْبكُواْ كَثِيرا }[التوبة]82 :
حكُواْ قَلِي ً
فَلْ َيضْ َ
ونقول :أنت إن نظرت إلى القائم بالضحك ،فهو النسان الذي ضحك ،وإن نظرت إلى من خلق
غريزة الضحك في النسان؛ تجده ال سبحانه.
وغريزة الضحك موجودة باتفاق شامل لكل أجناس الوجود ،وكذلك البكاء فل يوجد ضحك عربي،
وضحك انجليزي ،ول يوجد بكاء فرنسي ،أو بكاء روسي.
إذن :فال سبحانه وتعالى هو الذي خلق الضحك والبكاء.
ك وَأَ ْبكَىا }[النجم]43 :
حَوقد صدق قوله الحق {:وَأَنّهُ ُهوَ َأضْ َ
لكن الضاحك والباكي يقوم به الوصف .وكذلك قوله الحقَ {:ومَا َرمَ ْيتَ ِإذْ َرمَ ْيتَ وَلَـاكِنّ اللّهَ
َرمَىا }[النفال]17 :
فقد شاء الحق سبحانه أن يمكن رسوله صلى ال عليه وسلم بالبشرية أن يرمي الحصى ،ولكن
إيصال الحصى لكل فرد في الجيش المقابل له ،فتلك إرادة ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فقول الحق سبحانهُ } :هوَ الّذِي يُسَيّ ُر ُكمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ { .ل يتعارض مع أنهم هم الذين
يسيرون ،وأنت إذا علّلت السير في الرض أو في البحر؛ ستجد أن السير هو انتقال السائر من
مكان إلى مكان ،وهو يحدّد غاية السير بعقله ،والرض أو البحر الذي يسير في أي منهما بأقدامه
أو بالسيارة أو بالمركب ،هذا العقل خلقه ال تعالى ،والرض كذلك ،والبحر أيضا ،كلها مخلوقات
خلقها ال سبحانه وتعالى .وأنت حين تحرّك ساقيك؛ لتسير ،ل تعرف كيف بدأت السير ول كَمْ
عضلة تحركت في جسدك ،فالذي أخضع كل طاقات جسمك لمراد عقلك هو ال تعالى.
إذن :فكل أمر مرجعه إلى ال سبحانه.
وهنا ملحظ في السير في البر والبحر ،فكلهما مختلف ،فالنسان ساعة يسير في الرض على
اليابسة ،قد تنقطع به السبل ،ويمكنه أن يستصرخ أحدا من المارة ،أو ينتظر إلى أن يمر عليه
بعض المارة؛ ليعاونه.
أما المرور في البحر؛ فل توجد به سابلة أو سالكة كثيرة؛ حتى يمكن للنسان أن يستصرخهم.
إذن :فالمرور في البحر أدق من المرور في البر؛ ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى في هذه
ك وَجَرَيْنَ
الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول عن السير في البحر } :حَتّىا إِذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْل ِ
ف وَجَآ َءهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَانٍ َوظَنّواْ أَ ّنهُمْ ُأحِيطَ
ص ٌ
ِبهِم بِرِيحٍ طَيّبَ ٍة َوفَرِحُواْ ِبهَا جَآءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ
عوُاْ اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ لَئِنْ أَ ْنجَيْتَنَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ { [يونس]22 :
ِبهِمْ دَ َ
وهكذا ل نجد أن في الية نفسها حديثا عن السير في البر؛ لن الحق سبحانه ما دام قد تكلم عن
إزالة الخطر للمضطر في البحر ،فهذا يتضمن إزالته عمن يسير في البر من باب أولى .وإذا ما
جاء الدليل القوى ،فهو ل بد أن ينضوي فيه الدليل القل.
ومثال هذا قول الحق سبحانه:
{ َو َوصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَيْهِ إِحْسَانا }[الحقاف.]15 :
ضعَتْهُ
حمَلَ ْتهُ ُأمّهُ كُرْها َو َو َ
وجاءت كل الحيثيات بعد ذلك للم ،ولم يأت بأي حيثية للب ،فيقولَ {:
شهْرا }[الحقاف]15 :
حمْلُهُ َوفِصَالُهُ ثَلَثُونَ َ
كُرْها وَ َ
وشاء الحق سبحانه ذلك؛ لن حيثية الم مبنية على الضعف ،فيريد أن يرقق قلب ابنها عليها،
فالب رجل ،قد يقدر على الكدح في الدنيا ،كما أن فضل الب على الولد يدركه الولد ،لكن فضل
أمه عليه وهو في بطنها؛ ل يعيه ،وفي طفولته الولى ل يعي أيضا هذا الفضل.
ولكنه يعي من بعد ذلك أن والده يحضر له كل مستلزمات حياته ،من مأكل وملبس ،ويبقى دور
الم في نظر الطفل ماضيا خافتا.
إذن :فحيثية الم هي المطلوبة؛ لن تعبها في الحمل والرضاع لم يكن مُدْرَكا من الطفل.
وكذلك هنا في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،ترك الحق سبحانه حيثية البر وأبان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالتفصيل حيثية البحر:
} ُهوَ الّذِي يُسَيّ ُر ُكمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ حَتّىا إِذَا كُن ُتمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ { [يونس]22 :
وكلمة (الفلك) تأتي مرة مفردة ،وتأتي مرة جمعا ،والوزن واحد في الحالتين ومثال هذا أنه حين
أراد ال سبحانه أن ينجي نوحا عليه السلم ،وأن يغرق الكافرين به ،قال لسيدنا نوح {:وَاصْنَعِ
ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا }[هود.]37 :
إذن هي تطلق على المفرد ،وعلى الجمع ،ولها نظائر في اللغة في كلتا الحالتين ،فهي في الفراد
تكون مثلُ :قفْل ،وقُرْط .وعند الجمع تكون مثل :أسْد.
والحق سبحانه وتعالى يصف الريح هنا بأنها طيبة ،والقرآن الكريم طبيعة أسلوبه حين يتكلم عن
الريح بلفظ الفراد يكون المقصود بها هو العذاب ،مثل قوله الحق {:فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْ ِبلَ
شيْءٍ
عذَابٌ أَلِيمٌ * ُت َدمّرُ ُكلّ َ
َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ مَا اسْ َتعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا َ
بَِأمْرِ رَ ّبهَا }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالهواء المتجمّع في أشرعتها .وإذا كان التقدم في صناعة السفن قد تعدّى الشراع ،وانتقل إلى
البخار ،ثم الكهرباء ،فإن كلمة الحق سبحانه } :برِيحٍ طَيّ َبةٍ { تستوعب كل مراحل الرتقاء،
خصوصا وأن كلمة " الريح " قد وردت في القرآن الكريم بمعنى القوة أيا كانت :من هواء ،أو
ح ُكمْ }[النفال.]46 :
محرك يسير بأية طاقة .وسبحانه القائل {:وَلَ تَنَازَعُواْ فَ َتفْشَلُو ْا وَتَذْ َهبَ رِي ُ
وهكذا نفهم أن معنى الريح ينصرف إلى القوة .وأيضا كلمة " الريح " تنسجم مع كل تيسيرات
البحر.
وقوله الحق } :حَتّىا إِذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ َوجَرَيْنَ ِبهِم بِرِيحٍ طَيّبَ ٍة َوفَرِحُواْ ِبهَا { هذا القول الكريم
يضم ثلثة وقائع :الوجود في الفُلْك ،وجرى الفُلْك بريح طيبة ،ثم فرحهم بذلك؛ هذه ثلثة أشياء
جاءت في فعل الشرط ،ثم يأتي جواب الشرط وفيه ثلثة أشياء أيضا:
صفٌ { وثانيها } :وَجَآءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَانٍ { وثالثها } :وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ
أولها } :جَآءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ
أُحِيطَ ِبهِمْ {.
أما الريح العاصف :فهي المدمرة ،ويقال :فلن يعصف بكذا ،وفي القرآنَ {:ك َعصْفٍ مّ ْأكُولٍ }
[الفيل.]5 :
صفٌ { هي الريح المدمّرة والمغرِقة .وقوله الحق } :وَجَآءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَانٍ
إذن } :رِيحٌ عَا ِ
{.
فالموج يأتي من أسفل ،والريح تأتي من أعلى ،وترفع الريح الموج فيدخل الموج إلى المركب،
ونعلم أنهم يقيسون ارتفاع الموج كل يوم حسب قوة الريح :فحين تكون الريح خفيفة؛ يظهر سطح
مياه البحر مجعّدا ،وحين تكون الريح ساكنة؛ فأنت ل تجد صفحة المياه مجعدة ،بل مبسوطة ،وقد
جاءتهم الريح عاصفا فيزداد عنف الموج ،ويتحقق نتيجة لذلك الظن بأنهم قد أحيط بهم.
ومعنى الحاطة هو عدم وجود منفذ للفرار؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يتكلم عن الكافرين بقوله{:
واللّهُ مُحِيطٌ بِا ْلكَافِرِينَ }[البقرة.]19 :
أي :ليس هناك منفذ يفلتون منه.
ولحظة ظنهم أنه قد أحيط بهم؛ ل يسلمون أنفسهم لهذه الحالة؛ بدعوى العتزاز بأنفسهم غريزيا،
بل يتجهون إلى ال بالدعاء ،هذا الله الذي أنكروه ،لكنهم لحظة الخطر ل يكذب أحد على نفسه
أو يخدعها.
ولذلك نجد سيدنا جعفر الصادق يجيب على سائل سأله :أهناك دليل على وجود الصانع العلى؟
فيقول سيدنا جعفر :ما عملك؟ فيجيب السائل :تاجر أبحر في البحر .فسأله سيدنا جعفر :أوَلم
يحدث لك فيه حال؟ قال الرجل :بل حدث .فسأل سيدنا جعفر :ما هو؟ قال :حملت بضائعي في
سفينة ،فهبت الريح وعل الموج وغرقت السفينة وتعلقت بلوح من الخشب .قال سيدنا حعفر :الم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يخطر على بالك أن تفزع إلى شيء؟ قال الرجل :نعم .قال سيدنا جعفر :هذا الصانع العلى.
وكذلك لجأ هؤلء الذين كفروا بال إلى ال تعالى حين عصفت بهم الريح ،وعل عليهم الموج،
عوُاْ اللّهَ
وظنوا أنهم قد أحيط بهم ويقول الحق سبحانه وتعالى ـ وهم في مثل هذه الحالة } :دَ َ
عوْه بإخلص وأقروا بوحدانيته ،وألّ
مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ { وهذا يعني أنهم لم يدعوه فقط ،بل دَ َ
شريك له أبدا؛ لنهم يعلمون أن مثل هذا الشريك لن ينفعهم أبدا.
ثم يجيء الحق سبحانه بصيغة دعائهم } :لَئِنْ أَ ْنجَيْتَنَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ { فهل َو ّفوْا
بالعهد؟ ل؛ لن الحق سبحانه يقول بعد ذلك } :فََلمّآ أَنجَا ُهمْ إِذَا هُمْ يَ ْبغُونَ فِي الَ ْرضِ {
()1373 /
وبعد أن أنجاهم الحق سبحانه مباشرة تأتي " إذا " الفجائية لتوضح لنا أنهم لم ينتظروا إلى أن
يستردوا أنفاسهم ،أو تمر فترة زمنية بينهم وبين الدعاء ،وتحقق نتيجة الضراعة ،ل ،بل بغوا ـ
حقّ }.
على الفور ـ في الرض { فََلمّآ أَنجَاهُمْ ِإذَا ُهمْ يَ ْبغُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
والبغي :هو تجاوز الحدّ في الظلم وهو إفساد؛ لن النسان إذا ما أخرج أي شيء عن صلحه،
يقال " :بغى عليه " ،فإن حفرت طريقا مُمهّدا؛ فهذا إفساد ،وإنْ ألقيت بنفاية في بئر يشر منه
الناس؛ فهذا إفساد وبغي ،وأي شيء قائم على الصلح فتخرجه عن مهمته وتطرأ عليه بما يفسده؛
فهذا بغي.
والبغي :أعلى مراتب الظلم؛ لن الحق سبحانه هو القائل {:إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن َقوْمِ مُوسَىا فَ َبغَىا
عَلَ ْيهِمْ }[القصص.]76 :
ويعطينا رسول ال صلى ال عليه وسلم صورة البغي الممثّلة في العتداء بالفساد على المر
الصالح ،فيقول صلى ال عليه وسلم " :أسرع الخير ثوابا :البِرّ وصلة الرحم ،وأسرع الشر
عقوبة :البغي وقطيعة الرحم ".
والحق سبحانه ل يؤخر عقاب البغي وقطعية الرحم إلى الخرة ،بل يعاقب عليهما في الدنيا؛ حتى
يتوازن المجتمع؛ لنك رأيت ظالما يحيا في رضا ورخاء ثم يموت بخير ،فكل مَنْ يراه ويعلم
ظلمه ولم يجد له عقابا في الدنيا ،سوف يستشري في الظلم.
ولذلك تجد أن عقاب ال تعالى لمثل هذا الظالم في الدنيا وأن يُرِي الناس نهايته السيئة ،وحين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يرى الناس ذلك يتعظون؛ فل يظلمون ،وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع.
وإل فلو ترك ال سبحانه المر لجزاء الخرة؛ لشقي المجتمع بمن ل يؤمن بالخرة ويحترفون
البغي؛ ولذلك يرى الناس عذابهم في الدنيا ،ثم يكون لهم موقعهم من النار في الخرة.
ويقول صلى ال عليه وسلم محذرا " :ل تَبْغِ ،ول َتكُنْ باغيا ".
فالباغي إنما يصنع خللً في توازن المجتمع .والذي يبغي إنما يأخذ حق الغير ،ليستمتع بنتائج من
غير كدّه وعمله ،ويتحوّل إلى إنسان يحترف فرض التاوات على الناس ،ويكسل عن أي عمل
غير ذلك .وأنت ترى ذلك في أبسط المواقع والحياء ،حين يحترف بعض ممن يغترون بقوتهم
الجسدية ،وقد تحولوا إلى (فتوات) يستأجرهم البعض ليذاء الخرين ،والواحد من هؤلء إنما
احترف الكل من غير بذل جهد في عمل شريف.
والبغي ـ إذن ـ هو عمل مَنْ يفسد الناس حركة الحياة؛ لن من يقع عليهم ظلم البغي ،إنما
يزهدون في الكَدّ والعمل الشريف الطاهر .وإذا ما زهد الناس الكَدّ والعمل الشريف؛ تعطلت
حركة الحياة ،وتعطلت مصالح البشر ،بل إن مصالح الظالم نفسها تتعطل؛ ولذلك قال الحق
سبحانه { :إِذَا هُمْ يَ ْبغُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ } [يونس.]23 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمر الدنيا نفسها؛ لن الحق سبحانه قد يشاء أن يجعل عمر الدنيا عشرين مليونا من السنوات،
لكن عمرك فيها محدود.
فاربأوا على أنفسكم وافهموا أن متاع الدنيا قليل ،إن كان هذا المتاع نتيجة ظلمكم لنفسكم؛ لن
نتيجة هذا الظلم إنما تقع عليكم؛ لن مقتضى ما يعطيكم هذا الظلم من المتعة والنعمة هو أمر
محدود بحياتكم في الدنيا ،وحياتكم فيها محدودة ،ول يظن الواحد أن عمره هو عمر البشرية في
الدنيا ،ولكن ليقسْ كل واحد منكم عمره في الدنيا وهو محدود.
ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرىُ {:قلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ }[النساء.]77 :
سكُمْ { [يونس.]23 :
وهنا يؤكد الحق سبحانه } :إِ ّنمَا َبغْ ُيكُمْ عَلَىا أَنفُ ِ
وقد يتمثل جزاء البغي في أن يشاء الحق سبحانه أل يموت الظالم إل بعد أن يرى مظلومه في
خير مما أخذ منه؛ ولذلك أقول دائما :لو علم الظالم ما ادخره ال للمظلوم من الخير؛ لضنّ عليه
بالظلم.
وعلى فرض أن الظالم يتمتع بظلمه وهو من متاع الدنيا القليل ،نجد الحق سبحانه يقول } :ثُمّ إِلَينَا
ج ُعكُمْ { [يونس]23 :
مَرْ ِ
وحين نرجع إلى ال تعالى فل ظلم أبدا؛ لن أحدكم لن يظلم أو يُظلم فكل منكم سوف يَلْقى ما
ج ُعكُمْ فَنُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُن ُتمْ
ينبئه به ال سبحانه إنْ ثوابا أو عقابا؛ مصداقا لقوله الحق } :ثُمّ إِلَينَا مَرْ ِ
َت ْعمَلُونَ { [يونس.]23 :
وقد جاء الخبر عن نبأ الجزاء من قبل أن يقع؛ ليعلم الجميع أن لكل فعلٍ مقابلً من ثواب أو
عقاب ،كما أن في ذكر النبأ مقدّما تقريعا لمن يظلمون أنفسهم بالبغي.
سمَآءِ {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :إِ ّنمَا مَ َثلُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
()1374 /
س وَالْأَ ْنعَامُ
سمَاءِ فَاخْتَلَطَ ِبهِ نَبَاتُ الْأَ ْرضِ ِممّا يَ ْأ ُكلُ النّا ُ
إِ ّنمَا مَ َثلُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
خ َذتِ الْأَ ْرضُ زُخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ وَظَنّ أَهُْلهَا أَ ّن ُهمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَا أَتَاهَا َأمْرُنَا لَيْلًا َأوْ َنهَارًا
حَتّى إِذَا أَ َ
صلُ الْآَيَاتِ ِلقَوْمٍ يَ َتفَكّرُونَ ()24
حصِيدًا كَأَنْ َلمْ َتغْنَ بِالَْأمْسِ َكذَِلكَ ُنفَ ّ
جعَلْنَاهَا َ
فَ َ
والماء الذي ينزل من السماء ،هو الماء الصالح للري وللسقي؛ لن المياه الموجودة في الوجود،
هي مخازن للحياة ،وغالبا ما تكون مالحة ،كمياه البحار والمحيطات ،وشاء الحق سبحانه ذلك،
لحمايتها من العفن والفساد ،ثم تتم عملية تقطير المياه بأشعة الشمس التي تحوّل الماء إلى بخار،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويتجمع البخار كسحاب ،ثم يسقط ماء عَذْبا مقطرا صالحا للشرب والرّي.
ت الَ ْرضِ } [يونس]24 :
سمَآءِ فَاخْتَلَطَ ِبهِ نَبَا ُ
والحق سبحانه يقول هناَ { :كمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
والختلط :اجتماع شيئين أو أشياء على هيئة النفصال بحيث يمكن أن تعزل هذا عن ذاك ،فإن
خلطت بعضا من حبات الفول مع بعض من حبّات الترمس؛ فأنت تستطيع أن تفصل أيا منهما عن
الخر ،ولكن هناك لونا آخر من جمع الشياء على هيئة المزج ،مثلما تعصر ليمونة على ماء
محلّى بالسكر ،وهذا ينتج عنه ذوبان كل جزىء من الليمون والسكر في جزيئات الماء.
ت الَ ْرضِ } وقد يُفهم من ذلك
سمَآءِ فَاخْتَلَطَ ِبهِ نَبَا ُ
وهنا يقول الحق سبحانهَ { :كمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
أن الماء والنبات قد اختلطا معا ،لكن النبات ـ كما نعلم ـ ككائن حي مخلوق من الماء مصداقا
حيّ }[النبياء.]30 :
شيْءٍ َ
جعَلْنَا مِنَ ا ْلمَآءِ ُكلّ َ
لقول الحق سبحانه {:وَ َ
وهنا ل بد أن نلتفت إلى الفارق بين " باء " الخلط ،و " باء " السببية فالباء هنا في هذه الية هي
باء السببية ،وبذلك يكون المعنى :فاختلط بسببه نبات الرض .وأنت ترى بعد سقوط المطر على
الرض أن المياه تغطي الرض ،ثم تجد بعد ذلك بأيام أو أسابيع ،أن سطح الرض مغطى
بالزروع ،وكلها مختلطة متشابكة ،وكلما تشابكت الزروع مع بعضها فهذا دليل على أن الري
موجود والخصوبة في هذه الرض عالية ،وهذا نتيجة تفاعل الماء مع التربة.
أما إن كانت الرض غير خصبة ،فأنت تجد نَبْتة في منطقة من الرض ،وأخرى متباعدة عنها،
وهذا ما يطلق عليه أهل الريف المصري أثناء زراعة الذرة ـ على سبيل المثال " :الذرة تفلس "
أي :أن كل عود من أعواد الذرة يتباعد عن الخر نتيجة عدم خصوبة الرض.
إذن :فخصوبة الرض لها أساس هام في النبات والماء موجود لذابة عناصر الغذاء للنبات،
فتنتشر بها جذور النبات.
وإن سمحتْ لك الظروف بزيارة المراكز العلمية للزراعة في " طوكيو " أو " كاليفورنيا "؛
فلسوف ترى أنهم يزرعون النباتات على خيوط رفيعة؛ تُسقى بالماء الذي يحتوي على عناصر
الغذاء اللزمة للنبات؛ لنهم وجدوا أن أي نبات يأخذ من الرض المواد اللزمة لنباته بما ل
يتجاوز خمسة في المائة من وزنه ،ويأخذ من الهواء خمسة وتسعين في المائة من وزنه.
إذن :فالمطر النازل من السماء خلل الهواء هو الذي يذيب عناصر الرض؛ ليمتصها النبات.
والحق سبحانه وتعالى هنا أراد أن يضرب لنا المثل ،والمثل :هو قول شُبّه َمضْرِبُهُ ِب َموْلِدِه ،أي:
شيء نريد أن نمثله بشيء ،ول بد أن يكون الشيء الممثل به معلوما ،والشيءُ المأخوذ كمثلٍ هو
ل بمجهول ،وإنما نمثل مجهولً
الذي نريد أن نوضح صورته؛ ولذلك ل يصح أن نمثل مجهو ً
بمعلوم.
وتجد من يقول لك :أل تعرف فلنا؟ فتقول :ل أعرفه ،فيرد عليك صاحبك :إنه مثل فلن في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشكل .وهكذا ع ّر ْفتَ المجهول بمعلوم.
وبعض من الذين يحاولون العتراض على القرآن ،دخلوا من هذه الناحية ،وقالوا :إذا كان الشيء
مجهولً ونريد أن نعرّف به ،أل نعرّفه بمعلوم؟ فما بال ال ـ سبحانه وتعالى ـ يقول في شجرة
جحِيمِ * طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ }[الصافات64 :ـ
صلِ الْ َ
الزقوم {:إِ ّنهَا شَجَ َرةٌ َتخْرُجُ فِي َأ ْ
.]65
ما بال ال سبحانه يبين شجرة الزقوم ،وهي شجرة في النار ل نعرفها ،فيعرّفها للمؤمنين به بأن
طلعها يشبه رءوس الشياطين ،وبذلك يكون سبحانه قد مثّل مجهولً بمجهول .والذين قالوا ذلك
فاتهم أن الذي يتكلم هو ال تعالى .وقد أراد الحق سبحانه أن يُمثّل لنا شجرة الزقوم بشيء بشع
معلوم لنا ،والبشع المعلوم هو الشيطان.
وشاء الحق سبحانه أل يحدد البشاعة؛ حتى ل ينقضي التشبيه؛ لن الشيء قد يكون بشعا في
نظرك ،وغير بشع في نظر غيرك .ويريد ال سبحانه أن يبشع طلع شجرة الزقوم؛ فاختار الشيء
المتفق على بشاعته ،وهو رءوس الشياطين ،وليتصور كل إنسان صورة الشيطان ،بما ينفر منه
ويقبّحه ،وهكذا تتجلّى عظمة الحق سبحانه في أن جعل شكل الشيطان مبهما.
وأما المثل الذي نحن بصدده هنا وهو تشبيه الحياة الدنيا بأنها كالماء الذي أنزله الحق سبحانه من
السماء فاختلط به نبات الرض ،والحياة الدنيا نحن ندرك بعضها ،وكلّ منا يدرك فترة منها ،ولم
يدرك أولها ،وقد ل يدرك آخرها ،فجاء الحق سبحانه بمثل يراه كل واحد منا ،وهو الزرع الذي
ل معروف لنا جميعا ،وندركه
يرتوي بالمطر ،فأراد الحق سبحانه أن يجمع لنا صورة الدنيا في مث ٍ
جميعا؛ فندرك ما سبق ،وما يلحق ،فكل شيء يأخذ حظه في الزدهار ،والجمال ،ثم ينتهي ،كذلك
الدنيا.
يقول الحق سبحانه:
ت الَ ْرضِ ِممّا يَ ْأ ُكلُ النّاسُ وَالَ ْنعَامُ حَتّىا إِذَآ َأخَ َذتِ
سمَآءِ فَاخْتََلطَ بِهِ نَبَا ُ
} َكمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
حصِيدا
جعَلْنَاهَا َ
الَ ْرضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ َنهَارا فَ َ
لمْسِ { [يونس]24 :
كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ
والزخرف :هو الشيء الجميل المستميل للنفس وتُسرّ به حينما تراه ،وتتزين الدنيا باللوان
المتنوعة في تنسيق بديع ،ثم يصبح كل ذلك حصيدا وهذا ما نراه في حياتنا ،وهكذا جمع ال
سبحانه وتعالى مثل الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها بالصورة المرئية لكل إنسان ،حتى ليخدع
إنسان بزخرف الدنيا ول بزينتها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدَآ ِئقَ غُلْبا * َوفَا ِكهَ ًة وَأَبّا * مّتَاعا ّلكُمْ وَلَ ْنعَا ِمكُمْ * فَإِذَا
وَعِنَبا َوقَضْبا * وَزَيْتُونا وَنَخْلً * وَ َ
جَآ َءتِ الصّآخّةُ * َي ْومَ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ
َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }[عبس24 :ـ .]37
إذن :فالدنيا بكل جمالها الذي تراه إنما تذوي ،وما تراه من بديع ألوانها إنما يذبل ،ومهما ازدانت
الدنيا فهي إلى زوال ،فإياك أن تبغي؛ لن البغي فيه متاع الدنيا ،والدنيا كلها إلى زوال؛ كزوال
الروض التي ينزل عليها المطر؛ فتنبت الرض الزهار ،ثم يذوي كل ذلك.
وقد قال الحق سبحانه:
سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ * َولَ َيسْتَثْنُونَ * فَطَافَ
{ إِنّا بََلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ ِإذْ َأقْ َ
حتْ كَالصّرِيمِ }[القلم17 :ـ .]20
ك وَهُمْ نَآ ِئمُونَ * فََأصْ َب َ
عَلَ ْيهَا طَآ ِئفٌ مّن رّ ّب َ
إذن :فالدنيا بهذا الشكل وعلى هذا الحال.
خ َذتِ الَ ْرضُ زُخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ { [يونس.]24 :
وهنا يقول الحق سبحانه } :حَتّىا إِذَآ أَ َ
ل أو
والرض تتزين بأمر ربها ،والحق سبحانه ينسب الدراكات إلى ما ل نعرف أن له عق ً
ط َعمَآ
إرادة .ألم يقل الحق سبحانه في قصة العبد الصالح {:فَانطََلقَا حَتّىا إِذَآ أَتَيَآ أَ ْهلَ قَرْيَةٍ اسْتَ ْ
جدَا فِيهَا جِدَارا يُرِيدُ أَن يَن َقضّ }[الكهف.]77 :
أَهَْلهَا فَأَ َبوْاْ أَن ُيضَ ّيفُو ُهمَا َفوَ َ
فهل يملك الجدار إرادة أن ينقضّ؟ ولو حققنا المر جيدا؛ لوجدنا أن الحق سبحانه جعل لكل كائن
في الوجود حياة تناسبه ،وله إرادة تناسبه ،وله انفعال يناسبه .وقد ضرب الحق سبحانه لنا في
ذلك صورا شتّى ،فنجد أن الشيء الذي يع ّز على عقولنا أن تفهمه يبرز لنا ببيان من ال تعالى.
ومثال هذا :معرفة الهدهد في قصة سليمان عليه السلم بالتوحيد ،وكيف أخبر هذا الهدهد سيدنا
سليمان عليه السلم بحكاية مملكة سبأ حيث يسجد الناس هناك للشمس من دون ال ،فكأن الهدهد
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ
خبْءَ فِي ال ّ
سجُدُواْ للّهِ الّذِي ُيخْرِجُ ا ْل َ
قد علم مَنْ يستحق السجود له إذ قالَ {:ألّ يَ ْ
}[النمل.]25 :
ومن كان يظن أن الهدهد ،وهو طائر ،يكون على هذه البصيرة بالعقائد على أصفى ما تكون؟ لن
الحق سبحانه أراد أن يبيّن لنا أن هذا الطائر ل هوى له يفسد عقيدته ،وأن أهواءنا هي التي تفسد
العقائد ،ومَنْ أعطاه ال سبحانه البدائل هو الذي يفسد الختيار ما دام ل يحرس الختيار باليمان،
وأن يختار في ضوء منهج ال تعالى.
ونحن نرى أن ما دون النسان من طائر أو حيوان ل يفسد شيئا؛ لن غريزته تقوده ،فل نجد
حيوانا يأكل فوق طاقته ،لكننا نجد إنسانا يصيب نفسه بالتخمة ،ول نجد حمارا يقفز فوق قناة من
الماء ل يقدر عليها ،بل نراه وهو يتراجع عنها ،وكلنا نجد إنسانا يشمر عن ساعديه؛ ليقفز فوق
قناة مياه؛ فيقع فيها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فنحن بأهوائنا التي تسيطر على غرائزنا نوقع أنفسنا فيما يضرنا ،ما لم نحرس أنفسنا بمنهج
ال سبحانه وتعالى .ونجد في مثال الهدهد صفاءً عقديا في التوحيد كأصفى ما يكون المتصوّفة،
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ { لن الخبء هو
خبْءَ فِي ال ّ
سجُدُواْ للّهِ الّذِي ُيخْرِجُ الْ َ
ويأتي بما يهمه } َألّ يَ ْ
رزق الهدهد ،فهو ل يأكل من الشيء الظاهر على سطح الرض ،بل يضرب بمنقاره الرض؛
ليأتي لنفسه بما يطعمه.
طمَ ّنكُمْ
ويعطينا الحق سبحانه مثلً آخر بالنملة التي قالت {:ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُواْ مَسَاكِ َنكُ ْم لَ َيحْ ِ
شعُرُونَ }[النمل.]18 :
ن وَجُنُو ُد ُه وَ ُه ْم لَ يَ ْ
سُلَ ْيمَا ُ
وهذه دقة عدالة من هذه النملة ،فإنها لم تقل :إن سليمان وجنوده سيحطمون أخواتها من النمل
شعُرُونَ { لنكم ل تظهرون تحت أرجلهم.
ظلما لهم ،بل قالت } :وَهُ ْم لَ يَ ْ
إذن :كل كائن في الوجود له حياة تناسبه ،ولكن الفة أننا نريد أن نتصور الحياة في كل كائن،
كتصورها في الكائن العلى وهو النسان.
ول بد لنا أن نعلم أن النبات له حياة تناسبه ،والحيوان له حياة تناسبه ،والجماد له حياة تناسبه،
وكل شيء في الحياة له لون من الحياة المناسبة له.
حيّ عَن
وقد أوضحنا من قبل أن الحق سبحانه قد قال {:لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّنَ ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ
بَيّنَةٍ }[النفال.]42 :
والهلك مقابل للحياة ،والحياة مقابلة للموت ،والهلك يساوي الموت .والحق سبحانه يصور الحالة
جهَهُ }[القصص.]88 :
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ َو ْ
يوم القيامة فيقولُ {:كلّ َ
إذن :فالجماد هالك ،ولكنه يتمتع بلون من الحياة ل نعرفه ،وكذلك كل كائن له حياة تناسبه ،والفة
أن النسان يريد أن يعرّف الحياة التي في الجماد كالحياة في النسان.
ت وَظَنّ
خ َذتِ الَ ْرضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّ َن ْ
وانظر إلى دقة الداء القرآني في قوله الحق } :حَتّىا إِذَآ أَ َ
أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ َنهَارا { [يونس.]24 :
وقد جاء هذا القول من قبل أن يتقدم العلم ويثبت أن الرض تشبه الكرة ،وأنها تدور ،وأن كل ليل
يقابله نهار ،وكذلك جاء قول الحق سبحانهَ {:أفََأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَىا أَن يَأْتِ َيهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتا وَ ُهمْ نَآ ِئمُونَ *
َأوَ َأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَىا أَن يَأْتِ َيهُمْ بَ ْأسُنَا ضُحًى }[العراف97 :ـ .]98
إذن :فأمر ال سبحانه يتحقق حين يشاء ،وهو أمر واحد عند من يكونون في ضحى أو في ليل.
لمْسِ { [يونس.]24 :
حصِيدا كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ
جعَلْنَاهَا َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ف َ
أي :كأنها لم يكن لها وجود.
صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ { [يونس.]24 :
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله } :كَذاِلكَ ُن َف ّ
فإذا كانت الدنيا كلها مثل عملية الزرع في الرض الذي ينمو ويزدهر ويزدان ،ثم ينتهي ،أل
يجب أن ننتبه إلى أن كل زخرف إلى زوال؛ وعلينا أل نفتتن بزينة الدنيا ومتاعها في شيء ،وأن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نحرص على أل نبغي في الرض؛ لن البغي متاع الحياة الدنيا ،وهي إلى زوال.
ونجد القرآن يأتي بذكر التفصيل لليات ،ويتبع ذلك بأن هذا التفصيل لقوم " يتفكرون " ،أو "
يتذكرون " ،أو " يعقلون " ،أو " يتدبرون ".
وكل هذه عمليات تتناول المعلوم الواحد في مراحل متعددة ،فالتعقّل :هو أن تأتي بالمقدمات؛
لتستنبط ولترى إلى أي نتائج تصل .والتذكّر يعني :أل تنسى وأل تغفل عن المر الهام .والتفكّر:
هو أن ُتعْمل الفكر .والفارق بين الفكر والعقل هو أن العقل أداة التفكّر .والتدبّر :هو أل تنظر إلى
ظواهر الشياء ،بل إلى المعطيات الخفية في أي أمر.
والحق سبحانه يقولَ {:أفَلَ يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ }[النساء.]82 :
أي :اجعل بصيرتك تمحّص البدايات والنهايات؛ لتعرف أن المرجع والمصير إلى ال تعالى.
والعاقل هو مَنْ يعدّ نفسه للقاء ال سبحانه ،وقد يرهق نفسه في الدنيا الفانية؛ ليستريح في الخرة.
وإذا نظرنا إلى الدنيا والخرة من خلل معادلة تجارية ،سنجد أن الخرة ل بد وأن ترجح كفتها؛
لن عمر النسان في الدنيا مظنون ،ول يعرف فرد هل يحيا في الدنيا عاما أو عشرة أو سبعين
أو مائة عام.
ومهما طالت الدنيا مع كل الخَلْق فهي منتهية ،والنعيم فيها على قدر :إمكاناتك البشرية وعلى قدر
تصورك للنعيم ،أما الخرة فهي بل نهاية ،وأمر النسان فيها متيقّن ،والنعيم فيها على قدر
عطاءات ال تعالى ومراده سبحانه للنعيم .فإن قارنت هذا بذاك وقارنت الدنيا بالخرة لرجحتْ
كفّة الخرة.
لذلك يقول الحق سبحانه {:وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت.]64 :
وفي قوله سبحانهَ } :ل ِهيَ الْحَ َيوَانُ { .مبالغة في كونها حياة ل فناء فيها .فاتبع منهج ال سبحانه؛
ليأخذك هذا المنهج إلى دار السلم والسلمة من الفات .واضمن لنفسك الخروج من دار الفناء
والغيارَ ،وضَعْ يدك في يد من يدعوك إلى دار السلم.
لمِ {
ولذلك يقول الحق سبحانه } :وَاللّهُ يَدْعُواْ إِلَىا دَارِ السّ َ
()1375 /
وَاللّهُ َيدْعُو ِإلَى دَارِ السّلَا ِم وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ ()25
ودار السلم :هي الخرة التي تختلف عن دار الدنيا المليئة بالمتاعب ،هذه الدنيا التي تزهو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتتزخرف ،وتنتهي إلى حطيم؛ لذلك يدعو ال تعالى إلى دار أخرى ،هي دار السلم؛ لن من
المنغّصات على أهل الدنيا ،أن الواحد منهم قد يأخذ حظه جاها ،ومالً ،وصحة ،وعافية ،ولكن في
ظل أرق من أمرين :الول هو الخوف من أن يفوته هذا النعيم وهو حي ،والثاني أن يفوت هو
النعيم.
أما الخرة فالنسان يحيا فيها في نعيم مقيم؛ ولذلك يقول ال سبحانه { :وَاللّهُ َيدْعُواْ إِلَىا دَارِ
لمِ }.
السّ َ
وهذه الخرة لن يشاغب فيها أحدٌ الخر ،ولن تجد من يأكل عرق غيره مثلما يحدث في الدنيا،
وإذا كنا نعيش في الدنيا بأسباب ال ،فنحن في الخرة نعيش بال سبحانه وتعالى ،فكل ما يخطر
على بالك تجده.
فإذا كانت السباب تتنوع في الدنيا وتختلف قدرات الناس فيها مع أخذهم بالسباب ،فإنهم في
الخرة يعيشون مع عطاء ال سبحانه دون جهد أو أسباب؛ لن دار السلم هي دار ال تعالى،
فال تعالى هو السلم.
ول المثل العلى ،فأنت إذا دعاك ولي أمرك إلى داره ،فهو يُعدّ لدعوتك على قدره هو ،وبما
يناسب مقامه ،فما بالك حين يدعوك خالقك سبحانه وقد اتبعت منهجه .إنه سبحانه هو القائل:
للٍ عَلَى الَرَآ ِئكِ مُ ّتكِئُونَ * َل ُهمْ
ج ُهمْ فِي ظِ َ
ش ُغلٍ فَا ِكهُونَ * هُ ْم وَأَ ْزوَا ُ
{ إِنّ َأصْحَابَ الْجَنّةِ ال َيوْمَ فِي ُ
فِيهَا فَا ِكهَ ٌة وََلهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَلَمٌ َق ْولً مّن ّربّ رّحِيمٍ }[يس55 :ـ .]58
وهذا السلم ليس من البشر؛ لن من البشر من يعطيك السلم وهو ُيكِنّ لك غير السلم ،أو قد
يعطيك السلم وهو يريد بك السلم ،ولكنه من الغيار؛ فيتغير فل يقدر أن يعطيك هذا السلم،
لكن إذا ما جاء السلم من ال تعالى ،فهو سلم من رب ل يعجزه شيء ،ول يُعوزه شيء ،ول
علَ ْيكُم }[الرعد:
علَ ْيهِمْ مّن ُكلّ بَابٍ * سَلَمٌ َ
تلحقه أغيار؛ لذلك يقول سبحانه {:وَالمَلَ ِئكَةُ يَ ْدخُلُونَ َ
23ـ .]24
والملئكة حين يقولون ذلك إنما أخذوا سلمهم من باطن سلم ال تعالى ،وحتى أصحاب العراف
الذين لم يدخلوا الجنة ،ويرون أهل الجنة وأهل النار ،هؤلء يلقون السلم على أهل الجنة .وهكذا
يحيا أهل الجنة في سلم شامل ومحيط ومطمئن؛ لن الداعي هو ال سبحانه ،ول أحد يجبره على
أن ينقض سلمه.
ودعوة ال سبحانه هي منهجه الذي أرسل به الرسل؛ ليحكم به حركة الحياة حركة إيمانية،
يتعايش فيها الناس تعايشا على َوفْق منهج ال تعالى ،بما يجعل هذه الدنيا مثل الجنة ،ولكن الذي
يرهق الناس في الدنيا أن بعض الناس يعطلون جزئية أو جزئيات من منهج ال سبحانه.
()1376 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
ق وُجُو َههُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلّةٌ أُولَ ِئكَ َأ ْ
لِلّذِينَ أَحْسَنُوا ا ْلحُسْنَى وَزِيَا َد ٌة وَلَا يَرْ َه ُ
()26
()1377 /
()1378 /
جمِيعًا ثُمّ َنقُولُ لِلّذِينَ أَشْ َركُوا َمكَا َنكُمْ أَنْ ُت ْم وَشُ َركَا ُؤكُمْ فَزَيّلْنَا بَيْ َنهُ ْم َوقَالَ شُ َركَاؤُهُمْ مَا
وَ َيوْمَ نَحْشُ ُرهُمْ َ
كُنْتُمْ إِيّانَا َتعْ ُبدُونَ ()28
()1379 /
شهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِنْ كُنّا عَنْ عِبَادَ ِت ُكمْ َلغَافِلِينَ ()29
َفكَفَى بِاللّهِ َ
إذن :فالكائنات التي عُبِدتْ من دون ال تعالى تعلن رفضها لمسألة عبادتها ،فإذا كان الطير ـ
ممثلً في الهدهد ـ قد أعلن من قبل اندهاشه من أن بعضا من البشر قد عبد غير ال تعالى.
واستدل الهدهد ـ على قدرة الحق سبحانه ـ بما يخصّه هو من الرزق ،حيث يعلم أن الحق
سبحانه قد عَلِمَ الخبء في السموات والرض ،إذا كان الهدهد قد عرف ذلك فالستنكَار أمر
منطقي من غيره من المخلوقات ،سواء أكانت من الملئكة ،أو من عيسى عليه السلم ،أو من
الصنام و الشجار والكواكب.
ولذلك نجد الحق سبحانه يضرب المثال بسؤاله للملئكةَ {:أهَـاؤُلَءِ إِيّا ُكمْ كَانُواْ َيعْبُدُونَ }[سبأ:
.]40
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت وَلِيّنَا مِن دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُواْ َيعْبُدُونَ ا ْلجِنّ }[سبأ.]41 :
فيجيب الملئكةُ بقوله {:سُبْحَا َنكَ أَن َ
سوَر القرآن الكريم عرضا منثورا مكررا بما ل
والحق سبحانه وتعالى يعرض هذه المواقف في ُ
يدع للغفلة أن تصيب النسان ،فمثلً يقول الحق سبحانه:
جمِيعا يَا َمعْشَرَ الْجِنّ َقدِ اسْ َتكْثَرْتُمْ مّنَ الِنْسِ }[النعام.]128 :
{ وَ َيوْمَ ِيحْشُرُ ُهمْ َ
ويقول على ألسنة من اتخذوا الشياطين أولياء:
ن الِنْسِ رَبّنَا اسْ َتمْتَعَ َب ْعضُنَا بِ َب ْعضٍ وَبََلغْنَآ َأجَلَنَا الّذِي أَجّ ْلتَ لَنَا }[النعام:
{ َوقَالَ َأوْلِيَآؤُهُم مّ َ
.]128
وقولهم هذا يتضمن الحديث عن ذواتهم والحديث عن الجن.
ولسائل أن يسأل :وكيف يأخذ الجن كثيرا من النس؟
ونقول :إن الحق سبحانه قد خلق الجن على هيئة تختلف عن هيئة النس ،فجعل للجن خواصّا
تختلف عن خواص النس ،ومن هذه الخواص ما قال عنه الحق سبحانه {:إِنّهُ يَرَاكُمْ ُهوَ َوقَبِيلُهُ
ث لَ تَ َروْ َنهُمْ }[العراف.]27 :
مِنْ حَ ْي ُ
وأعطى الحق سبحانه للجن قوة أكثر مما أعطى للنس ،وأعطاهم القدرة على النفاذ من السواتر
الحديدية والجدران وغيرها ،وهذا أمر منطقي مع أصل تكوين الجن ،فالجن مخلوق من النار،
والنسان مخلوق من الطين .وهناك اختلف بين طبيعة كل من النار والطين ،فما يخرج من
الطين قارّ ،أي :ل يشع ،وما يخرج من النار له إشعاع وحرارة.
بمعنى :أنك لو كنت تجلس في حجرة ،وخلف ظهرك في الحجرة الخرى نار موقدة؛ فالساتر ـ
أيا كان ـ سوف يحمل لك بعضا من حرارة النار ،إل لو كان عازلً للحرارة.
أما لو كانت هناك تفاحة ـ وهي مخلوقة من الطين ـ موجودة في الحجرة الخرى ،فلن ينفذ
طعمها أو رائحتها إليك.
إذن :فالنار لها قانونها ،والطين له قانونه .وقانون المادة المخلوقة من الطين ل ينتقل إل إذا نَق ْلتَ
الجِرْم إلى المكان الذي توجد فيه.
ونلمح هذه المسألة التقنينية في قصة سيدنا سليمان عليه السلم حين علم أن ملكة سبأ تسير في
الطريق إليه لتعلن إسلمها ،وأراد سيدنا سليمان عليه السلم أن يأتي لها بعرشها من مكانه قبل أن
تصل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكان أول من تقدم لتنفيذ ما أراده سليمان عفريت من الجن ـ ل جِنّا عاديّا ،فمن الجن من هو
خائب قليل الذكاء ،ومنهم من هو ذكي ،فهم وأن كانوا من جنس واحد فهم متفاوتون أيضا ،وكان
عفريت الجن هو أول من تكلم ،وقال {:أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن مّقَا ِمكَ }[النمل.]39 :
ولكن مقام سليمان قد يستمر ساعة أو بضع ساعات ،والمتكلم هو عفريت من الجن الذي يعلم أن
له صفات أقوى من صفات النس .أما النس العادي ـ ممن كان حاضرا مجلس سليمان ـ فلم
يتكلم؛ لن المطلوب ليس في قدرته ،أما الذي تكلم من النس فهو مَنْ عنده علم من الكتاب،
فقال {:أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ }[النمل.]40 :
ولم يأخذ المر شيئا من الزمن؛ لذلك عبّر القرآن التعبير السريع بعد ذلك ،فقال {:فََلمّا رَآهُ ُمسْ َتقِرّا
ضلِ رَبّي }[النمل.]40 :
عِن َدهُ قَالَ هَـاذَا مِن َف ْ
إذن :فللجن قوة على أشياء ل يقوى عليها النس ،ولم يأخذ الجنّي خواصّه في الخفة والقدرة
ومهارة اختزال الزمن بذات تكوينه ،ولكن بإرادة المكوّن سبحانه؛ ولذلك شاء الحق أن يُذكّر الجن
أنهم قد أخذوا تلك الخصوصيات بمشيئته سبحانه ،والحق هو القادر على أن يجعل النس وهو
الدنى قدرة ،قادرا على تسخير الجن؛ ولذلك يحاول النس أن يأخذ من تسخير الجن قوة له
فيقوى على نظيره من النس.
ولكن الحق سبحانه أصدر الحكم على مَنْ يحاول ذلك بأن تسخير الجن يزيد رَهَقا.
واقرأوا قول الحق سبحانه:
ن وَلَـاكِنّ الشّيْاطِينَ َكفَرُواْ ُيعَّلمُونَ
ن َومَا َكفَرَ سُلَ ْيمَا ُ
{ وَاتّ َبعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَىا مُ ْلكِ سُلَ ْيمَا َ
النّاسَ السّحْ َر َومَآ أُنْ ِزلَ عَلَى ا ْلمََلكَيْنِ بِبَا ِبلَ هَارُوتَ َومَارُوتَ َومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ َأحَدٍ حَتّىا َيقُولَ إِ ّنمَا
نَحْنُ فِتْ َنةٌ فَلَ َت ْكفُرْ }[البقرة.]102 :
إذن :فتعليم الجن السحر للنس دليل على تفوق قدرات الجن وتميزها عن قدرات النس.
ولكن الملكين هاروت وماروت حينما عَّلمَا النسان السحر حذّراه اولً من أن يأخذ من ذلك
فرصة زائدة تطغيه على بني جنسه ويظلم بها ،إنما المر كله اختبار ،فإن تعلّمته فذلك لتقيَ نفسك
من الشر ل لتوقعه بغيرك ،ثم إنك ـ أيها النسان ـ من الغيار قد تضمن نفسك وقت التحمّل،
ولكن ماذا عن وقت الداء؟
مثلما يأتي لك إنسان ليُو ِدعَ عندك ألفا من الجنيهات كأمانة ،ولكن أتظل على المانة ،أم أنك قد
تنكر المال أصلً حين يطالبك به صاحبه ،أو قد تمر بك أزمة مالية فتتصرف بهذا المال؟
ن يقول لمودع هذا المال " :احفظْ عليك مالك ،لني من الغيار ".
ولذلك تجد الذكي هو مَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهُولً }[الحزاب]72 :
الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
والمانة هي ما يكون في ذمة المؤتمن ،ول حجة للمؤتمن عنده إل ذمته ،ول شهود عليه ،ول
يوجد إيصال بتلك المانة ،بل هي وديعة ل توثيق فيها؛ إل ذمة المؤتمن ،قد يقرّ بها ،وقد يُنكرها.
ق المؤتمن عند المؤتمَن خاضعٌ لخيار المؤتمَن؛ ولذلك وجدنا السماء والرض
وعلى ذلك فح ّ
خلَ أنفسنا في هذه التجربة ،افعل بنا ما شئت واجعلنّا
والجبال قالت :يا رب ل نريد أن نُد ِ
مقهورين ول اختيار لنا ،ول نريد تحمّل المانة.
حمْل المانة،
أما النسان فقد ميّزه ال بالعقل ،وقدرة الختيار بين البدائل؛ لذلك قَبلَ النسان َ
وحين جاء وقت الداء لم يجد نفسه أمينا على الَشياء مثلما ظَنّ في نفسه وقت التحمّل.
وكذلك الذين يتعلمون السحر ،يقول الواحد منهم لنفسه :سوف أتعلمه لدفع الضّرّ عن نفسي،
ونقول له :أنت ل تضمن نفسك؛ لنك من الغيار ،فقد بغضبك أو يثير أعصابك إنسان؛ فتستخدم
السحر فتصيب نفسك بالرّهق.
ن الِنْسِ }[النعام.]128 :
إذن :فحين قال ال سبحانه {:يَا َمعْشَرَ الْجِنّ َقدِ اسْ َتكْثَرْ ُتمْ مّ َ
أي :أخذتم من النس كثيرا بأن اعطيتموهم سلحا يحقق لهم فرصة وقوة على غيرهم من البشر.
وقد ذكر الحق ـ سبحانه وتعالى ـ لنا أن بعض البشر الذين استجابوا للجن قالوا {:اسْ َتمْتَعَ
َب ْعضُنَا بِ َب ْعضٍ }[النعام.]128 :
واستمتاع النس بالجن مصدره أن النس يأخذ قوة فوق قوة غيره من البشر ،واستمتاع الجن
بالنس مصدره أنه سوف يُعين هذا النسان على معصيته؛ تطبيقا ِلقَسَمِ إبليس اللعين {:قَالَ
ج َمعِينَ }[ص.]82 :
غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ
ولكن هذا الستمتاع في النهاية ل يعطي أمرا زائدا عن المقدور لكل جنس؛ ولذلك تجد أن كل مَنْ
يعمل بالسحر وتسخير الجن إنما يعاني؛ مصداقا لقول الحق سبحانه {:فَزَادُوهُمْ رَهَقا }[الجن.]6 :
وأنت تجد رزق الذي يقوم بالسحر أو تسخير الجن يأتي من يد مَنْ ل يعلم السحر ،ولو كان في
تعلّم ذلك ميزة فوق البشر؛ لجعل رزقه من مصدر آخر غير من ل يعلمون السحر أو تسخير
الجن.
وأنت حين ترى الواحد من هؤلء ،تجد على ملمحه غَبَ َرةً ،وفي ذريته آفة أو عيبا ،فمنهم مَنْ هو
أعور أو أكتع أو أعرج؛ لنه أراد أن يأخذ فرصة في الحياة أكثر من غيره من البشر؛ بواسطة
الجن ،وهذه الفرصة تزيده رهقا؛ ولذلك فليلزم كل إنسان أدبه وقدره الذي شاءه ال ـ سبحانه
وتعالى ـ له؛ فل يفكر في أخذ فرصة تزيد من رهقه.
ونحن نرى في البشر مَنْ يستخدم صاحب القوة الجسدية أو قدرة تصويب السلح؛ ليُرهِب غيره،
وقد ينجح في ذلك مرة أو أكثر ،ثم ينقلب هذا (الفتوّة) أو ذلك القاتل المأجور على مَنْ استأجره.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فل بد أن يحترم كل إنسان َقدَر ال ـ سبحانه وتعالى ـ في نفسه ،وألّ يأخذ فرصة من
جنس آخر؛ يظن أنها تزيده في دنياه شيئا ،لكنها في الواقع ستزيده تعبا وتزيده رهقا.
جلَنَا الّذِي
ض وَبََلغْنَآ أَ َ
ولذلك نجد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يقول عنهم {:رَبّنَا اسْ َتمْتَعَ َب ْعضُنَا بِ َب ْع ٍ
أَجّ ْلتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَ ْثوَاكُمْ }[النعام.]128 :
وهكذا نرى أن مصير الستمتاع بقوة الجن هو النار للنس الذي استخدم الجن ،وللجن الذي
أغوى النس.
ثم يعرض لنا الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قضية أخرى في هذه المسألة؛ فيقول سبحانه {:الَخِلّءُ
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف.]67 :
َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
والخلء :هم الجماعة التي يجمع أفرادها صحبة ومودّة ،ويتخلّل كل منهم حياة الخر .وأنت تجد
الناس صنفين:
أناسا اتخذوا الخُلّة في ال تعالى ،فيذهبون إلى المساجد ،ويستذكرون العلم ،ول يأكلون إل من
حلل ،ويقرأون القرآن ،وإن ه ّم واحد منهم بمعصية وجد من صديقه ما يردّه عن المعصية،
ويحجّون إلى بيت ال الحرام ،ويعتمرون ،وتدور حياتهم في إطار حديث المصطفى صلى ال
عليه وسلم " :رجلن تحابّا في ال اجتمعا عليه وتفرّقا عليه " وهذا لون من الخُلّة.
واللون الخر يضم أناسا يساعد بعضهم البعض على المعصية ،ويشربون الخمر ،ويلعبون
الميسر ،ويفعلون كل المعاصي ،فإذا جاء يوم القيامة يقابلون حكم ال تعالى {:لّ بَيْعٌ فِي ِه َولَ
خُلّةٌ }[البقرة.]254 :
فل خُلّة إل خُلّة اللقاء في ال تعالى ،فإذا التقى الخلء في ال تعالى فرحوا ببعضهم؛ لن كلّ
منهم حمى أخاه من معصية ،أما من كانوا يجتمعون في الدنيا على المعصية ،فكل منهم يلعن
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }
لخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
الخر ،ويصدق حكم ال سبحانه وتعالى {:ا َ
[الزخرف.]67 :
ولذلك نجد الحوار بين الذين استضعفوا والذين استكبروا ،ونجد الحق سبحانه وتعالى يأتي لنا بهذا
عذَابِ
ض َعفَاءُ لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا َف َهلْ أَنتُمْ ّمغْنُونَ عَنّا مِنْ َ
الحوار في القرآن {:فَقَالَ ال ّ
شيْءٍ }[إبراهيم.]21 :
اللّهِ مِن َ
سوَآءٌ عَلَيْنَآ َأجَزِعْنَآ أَ ْم صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مّحِيصٍ }[إبراهيم:
فيرد الخرونَ {:لوْ هَدَانَا اللّهُ َلهَدَيْنَا ُكمْ َ
.ٍ]21
وبعد ذلك يأتي اعتراف الشيطان الذي يقول عنه الحق سبحانه:
ق َووَعَدّتكُمْ فََأخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْي ُكمْ
حّلمْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُمْ وَعْدَ الْ َ
ضيَ ا َ
{ َوقَالَ الشّ ْيطَانُ َلمّا ُق ِ
خ ُك ْم َومَآ أَنتُمْ
سكُمْ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ
مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
خيّ }[إبراهيم.]22 :
ِب ُمصْرِ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا الحوار هو الذي يكشف لنا ما سوف يحدث يوم القيامة ،ونجد الحق سبحانه يقول:
{ َكمَ َثلِ الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِلِنسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّنكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ[} ...الحشر:
.]16
هذه كلها لقطات من مشاهد يوم القيامة ،جاءت في خواطرنا ونحن نتناول قول الحق سبحانه} :
شهِيدا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِن كُنّا عَنْ عِبَادَ ِتكُمْ َلغَافِلِينَ { [يونس.]29 :
َفكَفَىا بِاللّهِ َ
هكذا يعلن كل مَنْ عُبد من الملئكة أو الرسل أو الصنام ،وبذلك تتم فضيحة الذين عبدوهم من
دون ال سبحانه ويأخذون طريقهم إلى النار.
جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْبُدُونَ }[الصافات:
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول {:احْشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُو ْا وَأَ ْزوَا َ
.]22
ولننتبه هنا إلى أن الزواج متقدمون في الغواء والتوجيه إلى الشر ،قبل العداء؛ لن الزوج أو
الزوجة قد يكون هو الشيطان الملزم الذي يُهيّيء النحراف إلى ما يريد.
ونجد الحق سبحانه يقول بعد ذلكَ {:و ِقفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ }[الصافات.]24 :
ومثلها مثل قوله سبحانهَ } :مكَا َنكُمْ { نفهم من ذلك أنهم كانوا معا في الدنيا وهي دار الختبار،
وهم الن في دار جبرية القتدار؛ لذلك يقول الحق سبحانه:
ضهُمْ عَلَىا
{ َو ِقفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ * مَا َل ُك ْم لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ ُهمُ الْ َيوْمَ ُمسْتَسِْلمُونَ * وََأقْ َبلَ َب ْع ُ
َب ْعضٍ يَ َتسَآءَلُونَ * قَالُواْ إِ ّنكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْ َيمِينِ }[الصافات24 :ـ .]28
أي :كنتم تستعملون قوتكم؛ لتجعلونا نتبعكم ،فل يظنن ظانّ أنها قوة البطش فقط ،أو قوة التذليل،
بل المقصود بذلك أيّ قوة ،حتى وإن كانت قوة الغواء.
إذن :فالمواقف مفضوحة ،وهذا لون ومقدمة من ألوان العذاب؛ ليبين ال ـ سبحانه وتعالى ـ
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف.]67 :
لخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
صدقه في قوله {:ا َ
وشاء الحق سبحانه ذلك؛ ليبين لنا كيف يختار النسان خليله في الدنيا ،فل يختار الخليل الذي
يزيّن الخطأ والمعصية ،بل يختار الذي يعينه على الطاعة.
ويذكر الحق سبحانه موقفا من مواقف يوم القيامة فيقول سبحانه:
حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ
جعَ ْل ُهمَا تَ ْ
{ َوقَال الّذِينَ َكفَرُواْ رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ الْجِنّ وَالِنسِ َن ْ
سفَلِينَ }[فصلت.]29 :
الَ ْ
هكذا يكون حال الذين ضلّوا يوم القيامة ،يتبرأون ممن أوقفهم هذا الموقف بل يطلبون من أضلهم
ليقاع العذاب بهم بأنفسهم؛ لذلك يقول الحق سبحانه في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها} :
شهِيدا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ إِن كُنّا عَنْ عِبَادَ ِتكُمْ َلغَافِلِينَ { [يونس.]29 :
َفكَفَىا بِاللّهِ َ
هكذا يتبرّأ الملئكة والرسول الذي عُ ِبدَ ،وحتى الصنام ،من الذين عَ َبدُوهم في الدنيا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :هُنَاِلكَ تَبْلُواْ ُكلّ َنفْسٍ مّآ َأسَْلفَتْ {
()1380 /
وقول الحق سبحانه { :هُنَاِلكَ } يعني :في هذا الوقت ،أو في هذا المكان .والزمان والمكان هما
ظَ ْرفَا الحدث؛ لن كل فعل يلزم له زمان ومكان ،فإن كان الزمان هو الغالب ،فيأتي ظرف
الزمان ،وإذا كان المكان هو الغالب فيأتي ظرف المكان.
وجاءت { هُنَاِلكَ } أيضا في قصة سيدنا زكريا عليه السلم ،إذ يقول الحق سبحانه {:هُنَاِلكَ دَعَا
َزكَرِيّا رَبّهُ }[آل عمران.]38 :
أي :في ذلك الوقت الذي قالت فيه مريم ـ رضي ال عنها ـ قولةً أدّت بها قضية اعتقادية
إيمانية لكفيلها ،وهو سيدنا زكريا عليه السلم وهو الذي يأتي لها بالطعام ،وشاء لها الحق ـ
خلَ عَلَ ْيهَا َزكَرِيّا ا ْل ِمحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا
سبحانه وتعالى ـ أن تعلّمه هي .يقول سبحانه {:كُّلمَا دَ َ
رِزْقا }[آل عمران.]37 :
والرزق ما به انتفع ،وكان زكريا ـ عليه السلم ـ يكفلها بكل شيء تحتاجه ،لكنه فوجىء بوجود
رزق لم يَأت هو به؛ بدليل أنه قال {:أَنّىا َلكِ هَـاذَا }[آل عمران.]37 :
وهذه ملحظية ويقظة الكفيل حين يجد مكفوله يتمتع بما لم يأتِ به .وهذه هي قضية " من أين لك
هذا "؟ ،وهي قضية الكفيل العام للمجتمع حين يرى واحدا يتمتع بما ل تؤهله له حركته في الحياة،
وبذلك يُكشف مختلس النتفاع بما يخص الغير دون أن يَعرف كافله ،ولو أن كافله أصرّ على
معرفة من أين تأتي مصادر دخله؛ َلحَمى المجتمع من الفساد.
وانظر إلى جواب مريم عليها السلم على قول زكريا عليه السلم الذي ذكره رب العزة سبحانه{:
أَنّىا َلكِ هَـاذَا }[آل عمران.]37 :
قالت مريمُ {:هوَ مِنْ عِندِ اللّهِ }[آل عمران.]37 :
ثم تعلّل الجواب {:إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران.]37 :
جبُ سيدنا زكريا عليه
قالت ذلك ،لنه وجد عندها أشياء ل توجد في مثل هذا الوقت من السنة ،فع َ
السلم ـ إذن ـ كان من أمرين اثنين :شيء لم يأت هو به ،وشيء مخالف للفترة التي هو فيها،
كأنْ وجد عندها عنبا في زمن غير أوانه ،أو وجد برتقالً في غير أوانه ،وسؤاله كان دليل يقظة
حسَابٍ }[آل عمران:
الكفيل ،وإجابتها كانت قضية إيمانية عقدية{ إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]37
وما دام { مِنْ عِندِ اللّهِ } ـ سبحانه وتعالى ـ ما طرح حسابك أنت للشياء في ضوء هذه
القضية.
ولكن هل غفل سيدنا زكريا ـ عليه السلم ـ عن قضية اليمان بأن ال تعالى يرزق مَنْ يشاء
بغير حساب؟
فنقول :ل ،لم يغفل عنها ،ولكنها لم تكن في بؤرة شعوره حينئذ؛ فجاءت بها قولة السيدة مريم
لتذكر بهذه القضية ،وهنا تذكّر زكريا نفسه ،كرجل بلغ من الكبر عتيا ،وامرأته عاقر ،وما دام ال
سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب ،فليس من الضروري أن يكون شابا أو تكون زوجته صغيرة
لينجب ،فجاء الحق معبرا عن خاطر زكريا في قوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسَابٍ }[آل عمران.]37 :
ذكرتها {:إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه } :هُنَاِلكَ تَبْلُواْ ُكلّ َنفْسٍ مّآ
أَسَْل َفتْ { [يونس]30 :
أي :في ذلك الوقت تُختبر كل نفس ،وترى هل الجزاء طيب أم ل؟ فإن كانت قد عملت الشر؛
فستجد الجزاء شَرّا.
إذن :فالنسان وقت النتائج يختبر نفسه بما كان منه.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَ ُردّواْ إِلَى اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَقّ { [يونس]30 :
وكأنهم كانوا في الدنيا عند مولىً آخر غير الله الحقّ سبحانه ،والمولى غير الحق هو الشريك أو
الشركاء الذين اتخذهم بعض الناس مَواِليَ لهم ،وهنا في اليوم الخر يُردّون إلى الله الحق
والمولى الحق سبحانه.
وكلمة " رُدّوا إلى كذا " ل تدل على أنهم كانوا مع الضّدّ ،وجاءوا له ،بل تدل على أنهم كانوا معه
أولً ،ثم ذهبوا إلى الضّدّ ،ثم ُردّوا إليه ثانيا ،مثل قول الحق سبحانه عن موسى عليه السلم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعد أن كشف ـ سبحانه ـ المسألة وما سوف يحدث في الخرة ،وخوّفهم وبشّع لهم ما سوف
ينتظرهم من مصير إنْ ظلوا على الكفر؛ لعلّهم يرتدعون ،ويتذكرون ضرورة العودة إلى عبادة
الله الحق سبحانه ،ياتي الحق سبحانه وتعالى بما يعيد إليهم ُرشْدَ اليمان في نفوسهم ،فيقول} :
سمَآءِ وَالَ ْرضِ {
ُقلْ مَن يَرْ ُز ُقكُم مّنَ ال ّ
()1381 /
أي :أن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم :اسألهم هذا السؤال ،ول يسأل هذا
السؤال إل مَنْ يثق في أن المسئول لو أدار في ذهنه كل الجوبة ،فلن يجد جوابا غير ما عند
السائل.
ومثال ذلك من حياتنا ـ وال المثل العلى ـ إن جاء لك من يقول :أبي يهملني ،فتمسك به،
وتسأله :من جاء لك بهذه الملبس وذلك القلم ويُطعمك ويُعلّمك؟ سيقول لك :أبي.
وأنت ل تسأله هذا السؤال إل وأنت واثق أنه لو أدار كل الجوبة فلن يجد جوابا إل الذي تتوقعه
منه ،فليس عنده إجابة أخرى؛ لنك لون كنت تعرف أنه سوف يجيبك إجابة مختلفة لما سألته
فكأنك ارتضيت حكمه هو في المسألة.
والحق سبحانه وتعالى قال في بداية هذه الية الكريمةُ { :قلْ } كما أنزل عليه مثيلتها مما بُدىء
بقوله سبحانهُ { :قلْ } مثل قوله سبحانه:
حدٌ }[الصمد.]1 :
{ ُقلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
وهذا ما اقتضاه خطاب الحق سبحانه دائما للخَلْق ،ويختلف عن خطاب الخَلْق للخَلْق ،فحين تقول
لبنك " :اذهب إلى عمّك ،و ُقلْ له كذا " .فالبن يذهب إلى العمّ ويقول له منطوق رسالة الب،
دون أن يقول لهُ " :قلْ " ،أما خطاب الحق سبحانه للخلق ،فقد شاء سبحانه أن يبلّغنا به رسوله
ال صلى ال عليه وسلم كما نزل { ُقلْ } فالرسول صلى ال عليه وسلم أمين في البلغ عن ال
تعالى ،ل يترك كلمة واحدة من الوحي دون أن يبلّغها للبشر ،وما دام الحق سبحانه وتعالى هو
الذي أمره ،فهو يبلغ ما أمِرَ ،حتى ل يحرم آذان خلق ال تعالى من كل لفظ صدر عن ال
سبحانه.
وكذلك أمر الحق ـ سبحانه ـ هنا لرسوله صلى ال عليه وسلم بأن يقول { :مَن يَرْ ُز ُقكُم مّنَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ وَالَ ْرضِ } [يونس.]31 :
ال ّ
ونحن نعلم أن الرزق هو ما يُنتفع به ،والنتفاع الول مُقوّم حياة ،والثاني تَ َرفٌ أو كماليات حياة،
والرزق الذي هو أصل الحياة هو ماء ينزل من السماء ،ونبات يخرج من الرض.
وهكذا قال الحق سبحانه السؤال والجابة معروفة مقدّما ،فلم َي ُقلْ لرسوله صلى ال عليه وسلم" :
أجِب أنت " بل ترك لهم أن يجيبوا بأنفسهم.
سمْعَ والَ ْبصَارَ } [يونس.]31 :
وكذلك جاء الحق سبحانه بسؤال آخرَ { :أمّن َيمِْلكُ ال ّ
والسمع والبصر هما السيدان لمَلكَات الدراك؛ لن إدراك المعلومات له وسائل متعددة ،إنْ أردتَ
أنْ تُدرك رائحة؛ فبأنفك ،وإن أردتَ أنْ تدرك نعومة؛ فبلمسك وببشرتك ،وإنْ أردتَ أن تدرك
مذاق شيء فبلسانك ،وإنْ أردت أن تتكلم فبأجهزة الكلم وعمدتها اللسان ،وإنْ أردتَ أن تسمع
فبأذنك.
وكذلك تتجلّى لك المرائي بعينيك ،ثم تأتي إدراكات متعددة من الحواس؛ لتُكوّن أشياء نسميها
الخميرة ،توجد منها القضية العقلية الخيرة ،فالطفل أمام النار يجد منظرها جميلً جذابا ،لكن ما
إن يلمسها حتى تلسعه؛ فل يقرب منها أبدا من بعد ذلك؛ لنه اختبرها بحواسه فارتكزت لديه
القضية العقلية وهي أن هذه نار محرقة ،واستقر هذا لديه يقينا.
وهكذا تكون الدراكات الحسية إدراكات متعددة تصنع خميرة في النفس تتكون منها الدراكات
المعنوية.
إذن :فوسائل العلم للكائن الحي هي الحواس ،وهذه الحواس تعطي العقل معطيات تنغرز فيه
لتستقر من بعد ذلك في الوجدان؛ فتصبح عقائد.
عقَ ِديّ؛ ولذلك نسمّي الدين عقيدة.
إذن :فمراحل الدراك هي :إدراك حسيّ ،وتفكّر عقليّ ،فانتهاء َ
أي :أنك عقدت الشيء في يقينك بصورة ل تحلّه بعدها من جديد لتحلّله ،فهذا يُسمى عقيدة.
ولذلك حينما أراد ال ـ سبحانه وتعالى ـ أن يقصّ علينا مراحل الدراك في النفس النسانية؛
ليربي النسان معلوماته ،قال الحق سبحانه:
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ
سمْعَ وَالَ ْبصَا َر وَا َ
ج َعلَ َل ُكمُ الْ ّ
جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
{ وَاللّهُ أَخْ َر َ
شكُرُونَ }[النحل.]78 :
تَ ْ
لذلك يقال " :كما ولدته أمه " ،أي :لم ُي ْعطَ القدرة على استخدام حواسّه بعد ،ثم يجعل له الحق
سبحانه الحواس ،ويجعله قادرا على استخدامها.
ولم يذكر بقية الحواس ،بل جاء بالسيدين ،وهما السمع والبصر؛ لن آيات الكون تحتاج إلى
الرؤية ،وإبلغ الرسل يحتاج للسماع ،وهما أهم آلتين في البلغ ،فأنت ترى بالعين آيات الكون
ومعجزات الرسل ،وتسمع البلغ بمنهج ال سبحانه وتعالى من الرسل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد لفتنا المام علي بن أبي طالب ـ رضي ال عنه ـ إلى العجائب فقال " :اعجبوا لهذا
النسان ،ينظر بشحمٍ ،ويتكلم بَلحْمٍ ،ويسمع بعظمٍ ،ويتنفس من خَ ْرمٍ ".
فالصوت يطرق عظمة الذن ،ويرنّ على طبلتها ،ونرى بشحمة العين ،وننطق بلحمة اللسان.
وأضاف البعض " :ونش ْم بغضروف ،ونلمس بجلد ،ونفكر بعجين " .فالنسان يولد وكأن مخه
قطعة من العجين التي تعمل في استقبال المعلومات من الكون وتخزينها فيه ،وهي التي ستكون
ركيزة لتشكيل الفؤاد من بعد ذلك.
وجاء قول الحق سبحانه هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بوسيلتين من وسائل
الدراك ،وترك بقية الوسائل الثلث الخرى الظاهرة ،مع أن العلم الحديث حين تلكم عن وظائف
العضاء ،احتاط للمر وقرر أن هذه الحواس هي الحواس الخمس الظاهرة.
وهذا يعني أن هناك حواسّا أخرى غير هذه سيكشف عنها ،وهي حواس لم يكن القدماء يعرفونها،
مثل حاسة البَيْنَ بَيْنَ ،التي نفرق بها بين أنواع القمشة والوراق وغيرها ،وكثافة هذا النوع من
ذلك ،وهذه الحاسة توجد بين لمستين من إصبعين متقاربين.
وكذلك حاسة ال َعضَل التي تزن ثقل الشياء ،وتعرف حين تحمل ثقلً ما مدى الجهاد الذي يسببه
حمْل ثقلٍ آخر.
لك ،وهل يختلف عن إجهاد َ
وحين نظر العلماء في معاني اللفاظ قالوا " :النظائر حين تخالف فل بد من علّة للمخالفة "
فالسمع آلة إدراك ،والبصر آلة إدراك ،فلماذا قال الحق سبحانه في آلة الدراك " السمع " ،وقال
في اللة الثانية " البصار "؟ ،ولماذا جاء السمع بالفراد ،وجاء البصار بالجمع ،ولم يأتْ
بالثنين على وتيرة واحدة؟
فنقول :إن المتكلم هو ال تعالى ،وكل كلمة منه لها حكمة وموضوعة بميزان ،وأنت ،حين تسمع،
تسمع أي صوت قادم من أي مكان ،لكنك بالعين ترى من جهة واحدة ،فإنْ أردتَ أن ترى ما
على يمينك فأنت تتجه بعينيك إلى اليمين ،وإنْ أردت أن ترى ما خلفك ،فأنت تغيّر من وقفتك،
فالذن تسمع بدون عمل منك ،لكن البصر يحتاج إلى عمليات متعددة؛ لترى ما تريد.
وأيضا فالسمع ل اختيار لك فيه ،فأنت ل تستطيع أن تحجب أذنك عن سماع شيء ،أما البصار
فأنت تتحكم فيه بالحركة أو بإغلق العين.
وجاء الحق ـ سبحانه وتعالى ـ بالسمع أولً؛ لن الذن هي أول وسيلة إدراك تؤدي مهمتها في
النسان ،أما العين فل تبدأ في أداء مهمتها إل من بعد ثلثة أيام إلى عشرة أيام غالبا.
س ْم َع والَبْصَارَ { [يونس.]31 :
وهنا يقول الحق سبحانهَ } :أمّن َيمِْلكُ ال ّ
والحق سبحانه يملكها؛ لنه خالقها وهو القادر على أن يصونها ،وهو القادر سبحانه على أن
ُيعَطّلها ،وقد أعطانا الحق مثالً لهذا في القرآن فقال عن أصحاب الكهفَ {:فضَرَبْنَا عَلَىا آذَا ِنهِمْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدَدا }[الكهف]11 :
فِي ا ْل َكهْفِ سِنِينَ َ
َفعَطّل ال سبحانه أسماعهم بأن ضرب على آذانهم ،فذهبوا في نوم استمر ثلثة قرون من الزمن
وازدادوا تسعا.
كيف حدث هذا؟ ..إن أقصى ما ينامه النسان العادي هو يوم وليلة ،ولذلك عندما بعثهم ال
تساءلوا فيما بينهم {:قَالَ قَا ِئلٌ مّ ْنهُمْ كَم لَبِثْ ُتمْ قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ }[الكهف.]19 :
ولكن هيئتهم لم تكن تدل على هذا ،فإن شعورهم قد طالت جدّا ،بل إن لونها السود قد تبدل
وأصبحوا شيبا وكهولً ،ولذلك قال الحق سبحانهَ {:لوِ اطَّل ْعتَ عَلَ ْيهِمْ َلوَلّ ْيتَ مِ ْنهُمْ فِرَارا وََلمُلِ ْئتَ
مِ ْنهُمْ رُعْبا }[الكهف.]18 :
سمْعَ
ونلحظ هنا ملحظا يجب النتباه إليه ،ففي هذه الية الكريمة يقول الحق سبحانهَ } :أمّن َيمِْلكُ ال ّ
والَبْصَارَ { [يونس.]31 :
سمْعَ وَالَ ْبصَارَ }[السجدة.]9 :
ج َعلَ َل ُكمُ ال ّ
بينما يقول في آية أخرى في سورة السجدةَ {:و َ
جعْل " ،و " الملْك " ،فالخلق قد عرفنا أمره،
ول بد أن ننتبه إلى الفارق بين " الخَلْق " و " ال َ
جعْل " ،فهو توجيه ما
وملكية كل شيء ل ـ تعالى ـ أمر مُلْ ِزمٌ في العقيدة ،ومعروف ،أما " ال َ
خلق إلى مهمته.
فأنت تجعل الطين إبريقا ،والقماس جلبابا ،هذا على المستوى البشري ،أما الحق سبحانه وتعالى
فقد خلق المادة أولً ،ثم جعل من المادة سمعا وبصرا ،وزاد من بعد ذلك } َأمّن َيمِْلكُ { ،فمن
ج َعلَ هو ال تعالى ،ومن مََلكَ هو ال تعالى.
خَلَق هو ال تعالى ،ومن َ
وهو سبحانه ينبهنا إلى ذلك ،فالشياء النافعة لبن آدم يخلقها ال سبحانه ،ويجعلها ،ثم يُملّكها له.
أما ذات النسان وأبعاضه من سمع وبصر وغيرهما وإن كانت قد خُلقت في النسان ،وجُعلت له
للنتفاع بها ،ولكنها ستظل مِلْكا ل ،يبقيها على حالها ،او يخطفها أو يصيبها بآفة ،أو يعطلها.
إذن :فهي خُلقت ل ،وجُعلت من ال ،وتظل مملوكة ل ،ويُصيّرها كيف يشاء ،فدقات القلب
والحب والكراهية والمور الل إرادية التي تعمل لصالح النسان هي مملكة ال.
والحق سبحانه ـ على سبيل المثال ـ جعل لكلّ حيوان جلدا؛ ننتفع به وندبغه إل جلدين اثنين:
جلد النسان وجلد الخنزير ،وقد حُرّم استخدام جلد النسان؛ لكرامته عند خالقه ،وحُرّم استخدام
جلد الخنزير؛ لي ُدلّ على حرمته ونجاسته.
ل ومََلكَ ،ودليل ملكية الحق ـ سبحانه وتعالى
ج َع َ
وعلينا أن ننتبه إلى أن الحق سبحانه قد خََلقَ و َ
ـ أنه حَرّم الجنة على المُنتحِر؛ لنه ل يأخذ الحياة إل واهبُ الحياة ،فأنت أيها النسان لستَ مِ ْلكَ
نفسك .ول عذر لحد ما دام قد وصله هذا البلغ ،وعليه أن يستوعبه أما من ليستوعب؛ فيلقى
مصيره.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك فإنه سبحانه هو الذي رزق ،وهو ـ سبحانه ـ الذي يملك.
حيّ { [يونس.]31 :
ت وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومَن ُيخْرِجُ الْ َ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ
ونحن نعلم أن لكل كائن في الوجود حياة تناسبه ،بدليل قول الحق سبحانهُ {:كلّ َ
جهَهُ }[القصص.]88 :
وَ ْ
وما دام كل شيء سيأتي له وقت يهلك فيه ،فمعنى ذلك أن لكل شيء حياة ،إل أن حياتنا نحن في
ظاهر المر عبارة عن الحس والحركة ،والنسان يأكل الخضروات والخبز والفاكهة ،ومن هذه
المأكولت وغيرها يكوّن الجسمُ الحيوانات المنوية في الرجل ،والبويضات في المرأة ،ومنهما
يأتي النسان ،وكذلك يخرج الكتكوت من البيضة المخصّبة؛ لن البيضة غير المخصبة ل تُخرِج
كتكوتا؛ فهي بدون حياة؛ ولذلك ل يتكون منها جنين ،فهناك فرق بين قابلية الحياة ،وبين الحياة
نفسها.
وكذلك نواة التمرة ،إذا ما ألقيتْ دون أن توضع في الرض ،فلن تكون نخلة أبدا ،ولكن إذا ما
جتْ نخلة.
زُرعتْ في الرض ،ووجدت لها البيئة المناسبة؛ خر َ
لمْرَ { [يونس.]31 :
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومَن ُيدَبّ ُر ا َ
والتدبير هو عملية الدارة لي شيء؛ حتى يؤدي مهمته ،وبال من يُدير قلبك؟ ومن يدير حركة
أمعائك؟ لتستخلص من الطعام ما يفيدك ،ثم تخرج ما ل يفيدك.
إياك أن تقول :إنني أنا الذي أدير ذلك؟ ونقول :كنت طفلً في مرحلة الطفولة ،فهل كنت تدير
حركة قلبك أو أمعائك؟ ومَنْ الذي يدير حركة رئتيك؟ إن الذي يديرها هو خالقها؛ لذلك اطمئنوا
على حركة أجهزتكم التي ل دخل لكم فيها؛ لن الذي خلقها فيكم قيّوم ل تأخذه سنة ول نوم ،ول
يؤوده حفظ ذلك.
ويجيب مَنْ يسألهم الرسول صلى ال عليه وسلم على كل تلك السئلة ـ بأمر ال تعالى ـ الجابة
التي حددها ال سبحانه سلفا } َفسَ َيقُولُونَ اللّهُ { [يونس.]31 :
إذن :أما كان يجب أن نرهف الذان ،و ُن ْعمِل البصار؛ لنرى قدرة ال سبحانه الذي وهب لنا كل
تلك النعم من رزق ،وسمع ،وبصر ،وإحياء ،وإماتة ،وإحياء من ميت ،وتدبير المر كله؟
أما كان يجب أن نقول :يا مَنْ خََلقْتَنَا ماذا تنتظر مِنّا؛ لنعمّر الكون الذي أوجدتنا فيه؟ فكيف ـ إذن
ـ يتجه البعض بالعبَادة لغير ال تعالى؛ لشمسٍ أو قمرٍ ،أو ملئكة ،أو نبيّ ،أو صنمٍ؟ كيف ذلك
والعبادة معناها إطاعة العابد للمعبود فيما يأمر به؟ وهل هناك إله بغير منهج يأمر به عباده ،ومن
عبد الشمس هل كَلّفته بشيء؟ ..ل.
إذن :يتساوى عندها مَنْ عبدها ،ومَنْ لم يعبدها ،وفي هذا نقض للوهية كل معبود غير ال تعالى.
ولذلك يُنهي الحق سبحانه الية بقولهَ } :أفَلَ تَ ّتقُونَ { [يونس.]31 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فما دام ال سبحانه هو الذي خلق كل ذلك ،وأنزل منهجا ،فعليكم أن تجعلوا بينكم وبينه وقاية؛
تحميكم من صفات الجلل ،وتقرّبكم من آثار صفات الجمال وأن تسمعوا إلى البلغ من الرسل
عليهم السلم ،وإلى مطلوباته سبحانه.
وما دام كل إنسان سيجيب عن أسئلة هذه الية ،ويعترف أن الخالف سبحانه والمالك هو ال
تعالى ،فعلى النسان أن يقي نفسه النار.
والعجيب أن الجميع يجيب بأن ال سبحانه هو الذي خَلَق ،فالحق سبحانه يقول {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ
خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[الزخرف.]87 :
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[لقمان.]25 :
ويقول أيضا {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خََلقَ ال ّ
وما دام ال تعالى هو الذي خلق ،وزرق ،ودبّر المر ،فكيف تتركون عبادته وتتجهون لعبادة
غيره؟
حقّ {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :فذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمُ الْ َ
()1382 /
حقّ َفمَاذَا َب ْعدَ ا ْلحَقّ إِلّا الضّلَالُ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ ()32
فَذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّب ُكمُ الْ َ
وقد جاء قول الحق سبحانهَ { :فذَاِلكُمُ } إشاره منه إلى ما ذكره قَبْلً من الرزق ،وملكية السمع
والبصار ،وقدرة إخراج الحيّ من الميت ،وأخراج الميت من الحي ،وتدبير المر.
إذن :فقوله سبحانه { :فَذَاِل ُكمُ } إشارة إلى أشياء ونعم كثيرة ومتعددة أشار إليها بلفظ واحدٍ؛ لنها
كلها صادرة من إله واحد.
حقّ } [يونس.]32 :
{ َفذَاِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمُ الْ َ
ول يوجد في الكون حقّان ،بل يوجد حق واحد ،وما عداه هو الضلل؛ لذلك يقول الحق سبحانه{ :
للُ } [يونس.]32 :
حقّ ِإلّ الضّ َ
َفمَاذَا َبعْدَ الْ َ
إذن :أنتم إنْ وجّهتم المر بالربوبية ألى غيره؛ تكونون قد ضللتم الطريق ،فالضلل أن يكون لك
غاية تريد أن تصل إليها ،فتتجه إلى طريق ل يوصّل إليها .فإن صُرفتم من الله الحق فأنتم
تصلون إلى الضلل.
ولذلك يُنهي الحق سبحانه الية بما يبين أنه ل يوجد إل الحق أو الضلل ،فيقول سبحانه { :فَأَنّىا
ُتصْ َرفُونَ } [يونس.]32 :
ق واحد ثابت ل يتغيّر.
أي :أنكم إن انصرفتم عن الحق ـ سبحانه وتعالى ،فإلى الضلل ،والح ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومَنْ عبد الملئكة أو الكواكب أو النجوم؛ أو بعض رسل ال ـ عليهم السلم ـ أو صنما من
الصنام؛ فقد هوى إلى الضلل.
ح ّقتْ
وإن كنتم تريدون أن نجادلكم عقليا ،فَلْنقرأ معا قول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك { :كَذَِلكَ َ
كَِل َمتُ رَ ّبكَ }
()1383 /
قولهَ { :كذَِلكَ } إشارة إلى ما تقدم من رزق ال تعالى للبشر جميعا ،ومن مِلْك السمع والبصر،
ومن تدبير المر كله ،ومن إخراج الحيّ من الميت ،وإخراج الميت من الحي ،ذلك هو الله الحق
سبحانه ،وقد ثبت ذلك بسؤاله سبحانه وتعالى هذا السؤال الذي علم مُقدّما أل إجابة له إل
للُ }[يونس.]32 :
بالعتراف به إلها حقاَ {:فمَاذَا َبعْدَ ا ْلحَقّ ِإلّ الضّ َ
سقُواْ أَ ّنهُ ْم لَ ُي ْؤمِنُونَ }
حقّتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ فَ َ
ومثل هذه القضية تماما َقوْلُ الحق سبحانهَ { :
[يونس.]33 :
لنهم أساءوا الفهم في الوحدانية ،وفي العقيدة ،واستحقوا أن يُعذّبوا؛ لنهم صرفوا الحق إلى غير
صاحب الحق.
وقد كان هذا خطابا للموجودين في زمن النبي صلى ال عليه وسلم ،لكن بعضهم آمن بال تعالى؛
حلّ على مَنْ لم يؤمن.
ولذلك فالعذاب:إنما ي ُ
وهذا القول متحقق فيمَنْ سبق في علم ال سبحانه أنهم ل يؤمنون ،وكذلك ح ّقتْ كلمة ربك على
هؤلء الذين فسقوا ول ينتهون عن فسقهم وكفرهم ،وإصرارهم على النحراف بالعبودية لغير ال
العلى وال ّربّ الحق سبحانه وتعالى.
سوَآءٌ عَلَ ْيهِمْ
والدليل على العلم الزليّ ل سبحانه ما نقرأه في سورة البقرة {:إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َ
أَأَنذَرْ َت ُهمْ أَمْ َلمْ تُنْذِ ْرهُ ْم لَ ُي ْؤمِنُونَ }[البقرة.]6 :
ن يؤمن ومَنْ ل يؤمن ،ومَنْ يستمر و ُيصِرّ على كفره؛ هو الذي يَ ْلقَى
إذن :معلوم ل تعالى مَ ْ
العذاب ،بعلم ال تعالى فيه أنه لن يؤمن.
ثم يذكر الحق بعد ذلك ما يمكن أن يُجا َدلَ به الكافرون بمنطق أحوالهم ،ففي ذوات نفوس غير
المؤمنين بإله توجد نزعة فطرية لفعل الخير ،وتوجيه غيرهم إليه ،وهو موجود حتى في المم
غير المؤمنة ،فكل قوم يُوجّهون إلى الخير بحسب معتقداتهم ،فنجد بين الشعوب غير المؤمنة بإلهٍ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكماء وأطباء وعلماء ،وهؤلء يوجهون الناس إلى بعض الخير الذي يرونه.
ونجد الطفل الصغير يكتسب المعتقدات والعادات والتجاهات من والديه ،ومما يسمعه من
توجيهاتهم ،فنجده يبتعد عن النار مثلً أو الكهرباء؛ لنه ترسخت في ذهنه توجيهات ونصائح
غيره؛ بل إنه يتعلم كيف يتعامل مع هذه الشياء دون أن تصيبه بالضرر.
إذن :يوجد توجيه من الخلق إلى الخلق لجهات الخير ،أل نجد في الدول غير المؤمنة بإله مَنْ
يرشد الناس إلى الطرق التي يمكن أن يسيروا فيها باتجاهين ،والطرق التي عليهم أن يسيروا فيها
باتجاه واحد؟
أل يوجد مَنْ يدل الناس على المنحنيات الخطرة على الطرق ،وكذلك يوجّههم إلى ضرورة خفض
سرعة السيارات أمام مدارس الطفال؟
ن يفعل ذلك.
نعم ،يوجد في البلد غير المؤمنة مَ ْ
إذن :فالتفكير في الخير لصالح المم أمر طبيعي غريزي موجود في كل المجتمعات ،وإذ كان
التوجيه للخير يحدث من النسان المساوي للنسان ،أل يكون ال سبحانه هو الحق بالتوجيه إلى
الخير ،وهو سبحانه الذي خلق النسان ،وخلق له ما يقيم حياته على الرض ،ولذلك يقول الحق
سبحانهُ { :قلْ َهلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ }
()1384 /
خلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ ُقلِ اللّهُ يَبْدَأُ ا ْلخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ ()34
ُقلْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ يَ ْبدَأُ الْ َ
وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم أن يسألهمَ { :هلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ
ثُمّ ُيعِي ُدهُ } [يونس.]34 :
ومعنى أن ال يسأل القوم هذا السؤال أنه ل بد أن تكون الجابة كما أرادها هو سبحانه .وإنْ قال
قائل :وكيف يأمنهم على مثل هذا الجواب ،ألم يكن من الجائز أن ينسبوا هذا إلى غير ال؟
نقول :إن هذا السؤال :ل يُطرح إل وطارحه يعلم أن له إجابة واحدة ،فلن يجد المسئول إجابة إل
أن يقول :إن الذي يفعل ذلك هو ال سبحانه ول يمكن أن يقولوا :إن الصنم يفعل ذلك؛ لنهم
يعلمون أنهم هم الذين صنعوا الصنام ،ول قدرة لها على مثل هذا الفعل.
فالجابة معلومة سلفا :إن ال سبحانه وتعالى وحده هو القادر على ذلك ،وهذا يوضح أن الباطل
صوْلة؛ فأنت ساعة تنطق بكلمة الحق في أمر ما ،تجدها قد فعلت ِفعْلها
لجلج والحق أبلج ،وللحق َ
فيمن هو على الباطل ،ويأخذ وقتا طويلً إلى أن يجد كلما يرد به ما قلته ،بل يحدث له انبهار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واندهاش ،وتنقطع حجته.
ولذلك لم َيقُل الحق سبحانه هنا مثلما قال من قبل {:فَسَ َيقُولُونَ اللّهُ }[يونس.]31 :
بل قالُ { :قلِ اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ } [يونس.]34 :
وجاء بها الحق سبحانه هكذا؛ لنهم حينما سُئلوا هذا السؤال بهرهم الحق وغلب ألسنتهم
وخواطرهم؛ فلم يستطيعوا قول أي شيء.
ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ نجد وكيل النيابة يضيّق الخناق على المتهم بأسئلة متعددة إلى
أن يوجه له سؤالً ينبهر المتهم من فرط دقته وليس له إل إجابة واحدة تتأبى طباعة أل يجيب
عنه ،فيجيب المتهم معترفا.
والنسان ـ كما خلقه ال تعالى ـ صالح لن يؤمن ،وصالح لن يكفر ،فإرادته هنا تتدخل ،لكن
أبعاضه مؤمنة عابدة مسبحة ،فاللسان الذي قد ينطق الكفر ،هو في الحقيقة مؤمن مُسبّحٌ ،حامد،
شاكر ،لكن إرادة النسان التي شاءها ال ـ سبحانه ـ متميزة بالختيار قد تختار الكفر ـ والعياذ
بال ـ فينطق اللسان بالكفر.
وقد تأتمر اليد بأمر صاحبها؛ فتمتد لتسرق ،أو تسعى القدام ـ مثلً ـ إلى محل احتساء الخمر،
ولكن هل هذه الفاعلت راضية عن تلك الفعال؟
ل ،إنها غير راضية ،إنما هي خاضعة لرادة الفاعل.
وحين يسأل السؤال :من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ فاللسان بفطرية تكوينه المؤمنة يريد أن يتكلم؛ لكنه
ل يملك إرادة الكلم ،فيبين الحق سبحانه للنبي صلى ال عليه وسلم أن يجيب نيابة عن البعاض
المؤمنة ،فيقول سبحانهُ { :قلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ } [يونس ]34 :وهو بذلك يؤكد الصيغة،
ويكفي أن يقول محمد صلى ال عليه وسلم هذا القول مُبلّغا عن ربه ،وينال هذا القول شرف
العندية:
{ ُقلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ فَأَنّىا ُت ْؤ َفكُونَ } [يونس.]34 :
والفك :هو الكذب المتعمّد ،وهو الفتراء ،وهناك فارق بين الكذب غير المتعمد والكذب المتعمد،
فالكذب غير المتعمد هو من ينقل ما بلغه عن غيره حسبما فهم واعتقد ،وهو لون من ألوان الكذب
ل يصادف الحق ،ويتراجع عنه صاحبه إن عرف الحق.
أما الفتراء فهو الكذب المتعمد ،أي :أن يعلم النسان الحقيقة ويقلبها؛ ولذلك نجد العلماء قد وقفوا
هنا وقفة؛ فمنهم من قال :هناك صدق ،وهناك كذب ،لكن علماء آخرين قالوا :ل ،إن هناك واسطة
بين الصدق والكذب.
ومثال ذلك :أن يدخل ابنٌ على أبيه ،بعد أن سمع هذا البن من الناس أن هناك حريقا في بيت
فلن ،فيقول البن لوالده :هناك حريق في بيت فلن؛ فيذهب الب ليعاين المر ،فإن وجد حريقا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقول البن صدق ،وإن لم يكن هناك حريق فالخبر كاذب ،ولكن ناقل الخبر نقله حسبما سمع.
صدُق الخبر ويصدُق المخبر ،ومرة
إذن :فهناك فَرْق بين صدق الخبر وصدق المُخْبِر ،فمرة َي ْ
يصدُق الخبر ول يصدُق المخبِر ،ومرة يصدق المخبر ول يصدق الخبر.
فهُنا أربعة مواقف ،والذين قالوا إن هناك واسطة بين الصدق والكذب هم مَنْ قالوا :إن الصدق
يقتضي مطابقة بين الواقع والخبر .أما الكذب فهو أل يطابق الواقع الخبر.
لذلك يجب أن نفرّق بين صدق الخبر في ذاته ،وصدق المخبر ،بأنه يقول ما يعتقد .أما صدق
الخبر فهو أن يكون هو الواقع.
وقول الحق سبحانه } :فَأَنّىا ُت ْؤ َفكُونَ { أي :فكيف تقلبون الحقائق؛ لنكم تعرفون الواقع وتكذبونه
كذبا متعمدا؟
وكلنا نعلم قول الحق سبحانه {:وَا ْل ُمؤْ َت ِفكَةَ أَ ْهوَىا }[النجم.]53 :
والمؤتفكة :هي القرى التي كُفئت أعلها إلى أسفلها ،كذلك الكذّاب يقلب الحقيقة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :قلْ َهلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن َيهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ {
()1385 /
وهذا أمر للرسول صلى ال عليه وسلم بأن يسألهم سؤالً جديدا ،ل إجابة له إل ما يفرضه الواقع،
والواقع يؤكد أن الهداية ل تكون إل للحق؛ لن كل كائن مخلوق لغاية ،فل شيء يُخلق عبثا.
ونحن بقُدرتنا المحدودة نصنع (الميكرفون) و { التليفزيون) أو الثلجة أو السرير وغيرها ،كلّ
منها له غاية ،وكل له قوانين صيانته الخاصة به ،والذي يحدّد الغاية من هذا المصنوع أو ذاك هو
صانعه ،ويضع لها قوانين صيانتها؛ لتؤدّي غايتها ،فالغاية من أي شيء توجد قبل الشيء نفسه؛
ليوجد الشيء على مقتضى الغاية منه.
وآفة العالم الن أنهم يعلمون أن ال سبحانه خلق النسان ،ولكنهم يصنعون من عندهم قوانين
لصيانة النسان وحركة النسان ،وهذا غباء وغفلة من الذين يفعلون ذلك ،كان عليهم أن يتركوا
أمر صيانة النسان للقوانين التي وضعها خالق النسان سبحانه.
فالحق سبحانه وتعالى قد حدد الغاية من خَلْق النسان وحدّد قوانين صيانته ،والشر الموجود حاليا
بسبب الجهل بغاية النسان ،والعدول عن المنهج الذي يجب أن يسير عليه النسان ،فقال الحق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانهُ { :قلْ َهلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن َيهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ } [يونس.]35 :
أي :هل من هؤلء الشركاء مَنْ يهدي النسان إلى غايته؟ هل قالت الشمس ـ مثلً ـ غايتها؟
هل قالت الملئكة غايتها؟ هل قالت الشجار أو الحجار أو الرسل الذين عبدتموهم شيئا غير
مراد ال تعالى؟
إنهم آلهة ل يعرفون الغاية من العابد لهم ،ول يعرفون الطريق الموصل إلى تلك الغاية.
حقّ } [يونس.]35 :
ولذلك يأتي القول الفصلُ { :قلِ اللّهُ َيهْدِي ِللْ َ
فال هداك أيها النسان إلى الحق في كل حركة تتحركها بالمنهج الذي أنزله ال سبحانه مكتملً
على رسوله صلى ال عليه وسلم من بدء " ل إله إل ال " إلى إماطة الذى عن الطريق ،وهو
منهج مستوعب مستوفٍ لكل حركات النسان.
وجاءت الجابة من ال تعالى على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم؛ لنهم انبهروا بالسؤال
وتلجلجوا ولم يوجد عند أي منهم قدرة على المعارضة ،فالغاية من خلق النسان وغيره يوجزها
قول الحق سبحانهَ {:ومَا خََل ْقتُ الْجِنّ وَالِنسَ ِإلّ لِ َيعْبُدُونِ }[الذاريات.]56 :
والعبادة ليست أركان السلم فقط ،بل هي عمارة الكون كبنيان حيّ للسلم ،والذي حدد الغاية
هو الخالق سبحانه ،وهو سبحانه الذي يحدد طريق الوصول إليها.
ونحن حين نرغب في الوصول إلى مكان في الصحراء مثلً ،إنما نحدد أولً المكان ،ونختار
طريق الوصول ،فإن كان الطريق المستقيم مليئا بالعقبات والجبال ،فإنك ستضطر للنحراف عن
هذا الطريق وصولً إلى غايتك ،فهذا الطريق المعوج هو الطريق المستقيم؛ لنه الطريق الذي
يجنبنا العقبات.
ومثال ذلك :السيول التي تنزل على هضباب الحبشة ،فاختارت لنفسها المجرى السهل فكان نهر
النيل ،فل أحد قد حفر النيل مثلما حفرنا الرياحات أو قناة السويس ،بل نزل السيل واختار لنفسه
الطريق السهل فسار فيه بين التعاريج والرمال والصخور.
ولذلك أنت تجد كل ما ل دخل للبشر به قد يتعرج لينفذ ،أما ما صنعه البشر فل يستطيع ذلك.
وكل خلق ل بد له من غاية؛ لذلك نجد سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا السلم يقول {:الّذِي خََلقَنِي
َف ُهوَ َي ْهدِينِ }[الشعراء.]78 :
فمن خلق هو الذي يحدد الغاية؛ لن هذه الغاية توجد عنده أولً ليخلق ،وتتجلى الدقة في قول
القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلم ،فلم يقل :الذي خلقني يهديني ،بل قال } :الّذِي خََلقَنِي
َف ُهوَ َي ْهدِينِ { مما يدل على أن هذه القضية ستخالَف ،وبعد أن يخلق النسان سيقوم بعض الناس ـ
حماية لمصالحهم ـ بوضع طريق أخرى تخالف الغاية؛ فتوصل إلى الضلل.
أما الحق سبحانه فقد أنزل القرآن فيه الهداية الحقة ،فالذي خلق هو الذي يقنن ،ولذلك يذكر القرآن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سقِينِ }[الشعراء.]79 :
ط ِعمُنِي وَيَ ْ
على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلم {:وَالّذِي ُهوَ ُي ْ
وبهذا القول وصل سيدنا إبراهيم عليه السلم إلى أن الذي رزق الباء قدرة استنباط الرزق مطعما
ومشربا هو ال سبحانه.
وذكر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلم {:وَالّذِي ُيمِيتُنِي ُثمّ يُحْيِينِ }[الشعراء.]81 :
فالماتة والحياء هما من الحق سبحانه ،فل أحد يسأل عمن يملك الماتة والحياء ،أما عن شفاء
شفِينِ }[الشعراء.]80 :
المرض فقال {:وَإِذَا مَ ِرضْتُ َف ُهوَ يَ ْ
فأنت قد تذهب إلى الطبيب وتظن أنه هو الذي يشفيك؛ بل هو يعالج ،ولكن ال هو الذي يشفي.
وهكذا نعلم أن قول سيدنا إبراهيم عليه السلم {:الّذِي خََلقَنِي َفهُوَ َيهْدِينِ }[الشعراء.]78 :
هو كلم منطقي؛ لن خالق الشيء هو الذي يهدي إلى الغاية من الشيء؛ فالغاية أولً ،ثم الخلق،
ثم توضيح الطريق الموصل إلى تلك الغاية ،فإذا خولف في شيء من ذلك فل صلح لكون أبدا.
وتجد في القرآن على لسان سيدنا موسى عليه السلم {:قَالَ رَبّنَا الّذِي أَعْطَىا ُكلّ شَيءٍ خَ ْلقَهُ ثُمّ
هَدَىا }[طه.]50 :
فما دام الحق سبحانه قد خلق فهو يهدي إلى السبيل الموصل إلى الغاية ،ويقول القرآن أيضا{:
سوّىا * وَالّذِي َقدّرَ َفهَدَىا }[العلى1 :ـ .]3
ك الَعْلَىا * الّذِي خََلقَ فَ َ
سَبّحِ اسْمَ رَ ّب َ
وهكذا يتأكد لنا أنه ما دامت هناك غاية ،فل بد من وجود طريق يهدينا إليه من خََلقَنَا.
حقّ { [يونس:
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانهُ } :قلِ اللّهُ َيهْدِي لِلْ َ
]35لن سبحانه هو الذي خلق؛ ولذلك فمن المنطقي أن يأتي بعد ذلك التساؤلَ } :أ َفمَن َي ْهدِي إِلَى
حقّ َأحَقّ أَن يُتّبَعَ َأمّن لّ َيهِدّي ِإلّ أَن ُيهْدَىا { [يونس]35 :؟
الْ َ
وسبب وجود اللم في قولهَ } :يهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ { هو النظرة إلى الغاية ،وسبب وجود } :إِلَى ا ْلحَقّ
{ هو لفت النتباه إلى أن الوصول إلى الغاية يقتضي طريقا ،فأراد الحق سبحانه في آية واحدة أن
يجمع التعبيرين معا.
ونحن نعلم أن هذه الية قد نزلت في الذين اتخذوا ل شركاء ،فهم يعترفون بال تعالى ولكنهم
يشركون به غيره ،فال سبحانه وتعالى تفرّد باللوهية بربويته للخلق؛ لنه خلق من عَ َدمٍ،وزرق
من عُ ْدمٍ ،وخَلَق لنا وسائل العلم ودبّر لنا المر ،وأخرج الحي من الميت ،وأخرج الميت من
الحي ،وهدى للحق.
فإين ـ إذن ـ هؤلء الشركاء الذين اتخذتموهم مع ال تعالى؟ وهل صنع واحد منهم أو كُلّهم
مجتمعين شيئا واحدا من تلك الشياء؟
حقّ { [يونس]35 :
لذلك قال سبحانهَ } :هلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن َيهْدِي إِلَى الْ َ
إذن :فالذي يهدي هو الذي خَلَق ،وهؤلء الذين أشركوا اعترفوا بال خالقا بشهاداتهم حين قال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق سبحانه {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[الزخرف.]87 :
إذن :فالذين أشركوا قد ارتكبوا الثم العظيم ،وهؤلء الشركاء إما أن يكونوا من الملئكة ،أو من
النبياء والرسل الذين فُتن بهم بعض الناس ،وهناك من اتخذ وسائط أخرى مثل :الشمس والقَمر
والنجوم؛ وهذه أشياء عُلوية ،وبعض الناس اتخذوا وسائط سفلية كالشجار والحجار ،فهل أي
شيء من كل ذلك يهدي إلى الحق؟ وما منهج أي منهم إذن؟ وكيف بلّغوكم به؟
إن كل هؤلء يعلمون أن أيّا منهم ل يستطيع أن يَهدي ،بل هو ُي ْهدَى من ال سبحانه وتعالى ،فمن
أين قلتم إن الملئكة ستهديكم؟ أو من أين جاء الذين فُتنوا برسولهم واتخذوه إلها؟ ومن أ ين جاء
هذا الرسول بمنهجه؟
إن كل كائن ل يَهدي إل بعد أن يُهدى من ال أولً ،وإن كانت الشياء ـ المتخذة شركاء ـ ل
هداية لها ،ول منهج ،ول عقل ،ول تفكير ،كالشمس والقمر والنجوم في العلويات ،والشجار
والحجار في السفليات ،فماذا قالت هذه الشياء؟ إنها لم تقل شيئا.
وهكذا ل يستقيم أمر اتخاذهم شركاء مع ال ،حتى الملئكة ،فال هو الذي يختار منهم المََلكَ الذي
حقّ أَن يُتّبَعَ َأمّن لّ
يُبلّغ عن ال سبحانه ،وكذلك الرسل عليهم السلمَ } :أ َفمَن َيهْدِي إِلَى ا ْلحَقّ أَ َ
َيهِدّي ِإلّ أَن ُيهْدَىا { [يونس.]35 :
} لّ َيهِدّي { تقرأ هكذا ،وللغة فيها عملية تخفيف جَرْس لسلمة نطقها واستقامة اللغة العربية،
فنحن نعرف أن } َيهِدّي { يعنى :يهتدي ..أصلها يهتدي ..ويهتدي فيها هاء ساكنة وتاء ودال
وياء ..وفيها تقارب لمخارج الحروف ،وهذا التقارب يجعل المعنى غائما ،والنطق ثقيلً ،فتقوم
اللغة بعملية إبدال وإدغام ،وتخلّص من التقاء الساكنين فتصل إلى مسامعنا كما أنزلها ال تعالى
لسلمة النطق وجمال المعنى؛ لن القرآن أدّب اللغة بكلم السماء؛ لتكون خالدة اللفظ والمعنى.
فإذا كنتم على طريق هداية ،فالصل في الهداية هو ال تعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
}[يونس.]25 :
والمنهج هو الطريق الذي يوصل إلى دار السلم من آفة الغيار؛ لن الدنيا كلها أغيار ،فأنت قد
تكون قويا ثم تضعف أو صحيحا فيصيبك المرض ،أو غنيا فتفتقر ،أو مبصرا فيضيع منك
بصرك ،أو تكون صحيح الذن سمعيا فتصير أصم بعد ذلك.
إذن :فهي دنيا أغيار ،و َهبْ أن إنسانا أخذ من دنياه كل نصيبه عافية وأمنا وسلمةً وغنًى وكل
شيء؛ سنجده في قلق من جهتين :الجهة الولى أنه يخاف أن يفارقه كل هذا النعيم ،أو يخاف أن
يترك هو هذا النعيم ،هذا ما نراه في حياتنا.
إذن :فالدنيا بما فيها من أغيار ل أمان لها؛ لنفهم أن كل عطاءات المخلوق إنما هي هبة من
الخالق سبحانه وتعالى؛ لنها لو كانت من ذاتك لستطعت الحفاظ عليها ،ولكنها هِبَاتٌ من الحق
العلى سبحانه.
والمر الموهوب قد يصبح مسلوبا.
ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :ومَا يَتّبِعُ َأكْثَرُهُمْ ِإلّ ظَنّا {
()1386 /
وقول الحق سبحانهَ { :ومَا يَتّبِعُ َأكْثَرُ ُهمْ ِإلّ ظَنّا } [يونس ]36 :يفيد أن بعضهم كان يتبع يقينا؛ لن
مقابل الظن هو اليقين ،فالنسب التي تحدث بين الشياء تربط بين الموضوع والمحمول ،أو
المحكوم والمحكوم عليه ،وهي نسب ذكرناها من قبل ،ونذكّر بها ،فهناك شيء أنت تجزم به،
وشيء ل تجزم به .وما تجزم به وتُدلّل عليه هو علم يقين ،أما ما ل تستيطع التدليل عليه فليس
حدٌ }[الخلص.]1 :
علم يقين ،بل تقليد ،كأن يقول الطفلُ {:قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
وهذا حق ،لكن الطفل ل يستطيع أن يدلل عليه أو أن يقال شيء ومن يقوله جازم به ،وهو غير
واقع؛ فذلك هو الجهل.
والعلم هو القضية المجزوم بها ،وهي واقعة وعليها دليل ،على عكس الجهل الذي هو قضية
مجزوم بها وليس عليها دليل.
والظن هو تساوي نسبتين في اليجاب والسلب ،بحيث ل تستطيع أن تجزم بأي منهما؛ لنه إن
رجحت كفة كانت قضية مرجوحة ،والقضية المرجوحة هي شك أو ظن أو وهم .فالظن هو
ترجيح النسب على بعضها .والشك هو تساوي الكفتين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقول الحق سبحانهَ { :ومَا يَتّبِعُ َأكْثَرُ ُهمْ ِإلّ ظَنّا } [يونس ]36 :يبين لنا أن الذين كانوا يعارضون
رسول ال صلى ال عليه وسلم فعلوا ذلك إما عنادا ـ رغم علمهم بصدق ما يبلغ عنه ،وإما أنهم
يعاندون عن غير علم ،مصداقا لقول الحق سبحانهَ {:بلْ كَذّبُواْ ِبمَا لَمْ يُحِيطُواْ ِبعِ ْلمِهِ }[يونس.]39 :
وكان الواحد منهم إذا تمعّن في البلغ عن ال تعالى والدلة عليه ،يعلن اليمان ،لكن منهم من
تمعن في الدلة وظل على عناده ،والذين اتبعوا الظن إنما اتبعوا ما ل يغني من الحق شيئا.
لذلك يبيّن لهم الحق سبحانه أنه عليم بخفايا نفوسهم ،ويعلم إن كان إنكارهم لليمان نابعا من العناد
أو من العجز عن استيعاب قضية اليمان؛ لذلك يقول الحق سبحانه { :إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ ِبمَا َي ْفعَلُونَ }
[يونس.]36 :
إذن :فقد علم ال سبحانه أزلً أن بعضهم في خبايا نفوسهم يوقنون بقيمة اليمان ،لكنهم يجحدونها،
مصداقا لقول الحق سبحانه:
ك وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ َيجْحَدُونَ }
{ َقدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َن َ
[النعام.]33 :
إذن :فالحق سبحانه وتعالى عليم ،ول يخفى عليه أنهم كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ،وبعضهم لم
يفهم قيمة اليمان ،ومن علم منهم قيمة اليمان جحدها ،عنادا واستكبارا.
سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا }[النمل.]14 :
حدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
يقول الحق سبحانه {:وَجَ َ
وبعد ذلك يقول الحق سبحانهَ { :ومَا كَانَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ أَن ُيفْتَرَىا }
()1387 /
َومَا كَانَ هَذَا ا ْلقُرْآَنُ أَنْ ُيفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّ ِه وََلكِنْ َتصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَ ْفصِيلَ ا ْلكِتَابِ لَا رَ ْيبَ
فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()37
وحين تستمع للقرآن وما فيه من سر العداد والخبار بالمغيبات التي ل تخضع لمنطق الزمان،
ول لمنطق المكان ،فالفطرة السليمة توقن أن هذا القرآن ل يمكن أن يُفتَرى ،بل ل بد أن قائله
ومُنزّله عليم خبير؛ لن القرآن جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب السابقة.
أي :أن ما به دائما هو أمام الناس ،أو مواجه لهم ،وهو كتاب مصدّق للكتب السابقة من قبل
تحريفها كالتوراة والنجيل والزبور ،وهي الكتب التي سبقت القرآن نزولً ،ل واقعا ،فجاء القرآن
مصدّقا لها.
أي :هي تصدقه ،وهي يصدقها من قبل تحريفها ،وهي الكتب التي بشّرت بمحمد صلى ال عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسلم رسولً ،مثلما جاء في القرآن عن تصديق عيسى عليه السلم بمجيء محمد عليه الصلة
حمَدُ }[الصف.]6:
سمُهُ َأ ْ
والسلمَ {:ومُبَشّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن َب ْعدِي ا ْ
فلما جاء أحمد (محمد صلى ال عليه وسلم) ونزل عليه القرآن صدّق النجيل في قوله هذا ،وما
جاء في القرآن من عقائد أصيلة هي عقائد جاءت بها كل الكتب السماوية ،فالحق سبحانه يقول:
ل وَإسْحَاقَ
سمَاعِي َ
{ إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ ِإلَىا نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن َب ْع ِد ِه وََأوْحَيْنَآ إِلَىا إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
ن وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورا }[النساء.]163 :
ن وَسُلَ ْيمَا َ
ب وَيُونُسَ وَهَارُو َ
وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَاطِ وَعِيسَىا وَأَيّو َ
ويقول الحق سبحانه:
ك َومَا َوصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا
{ شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْي َ
ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ }[الشورى.]13 :
وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ
إذن :فهناك أصول جاءت بها كل الكتب السماوية ،وهناك كذلك أخبار أخبرت عن حدوثها الكتب
السماوية ،وأبلغنا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالقرآن وفيه تلك الخبار ،فمن أين جاء محمد
صلى ال عليه وسلم بتلك العقائد الصحيحة ،وتلك الخبار الموجودة في الكتب السابقة ،وهو صلى
ال عليه وسلم لم يكن من أهل الكتاب ،ول عَِلمَ منهم شيئا.
إذن :فعندما يقول محمد صلى ال عليه وسلم ما جاء ذكره في الكتب السابقة على القرآن ،فهذه
الكتب مصدقة لما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم؛ لن هذه الخبار قد وقعت ،وهذا تأكيد
لصدقه؛ لنه بشهادة أهل زمانه لم يجلس إلى معلّم ،ولم يقرأ كتابا ،وتاريخه وسيرته معروفة؛ لنه
من أنفسكم ،ولم ُيعْلَم عنه أنه قد زاول كلما بليغا ،أو خطب في قوم قبل الرسالة ،أو قال شعرا.
وبعد ذلك فوجىء هو ـ كما فوجئتم أنتم ،بمجيء هذا البيان الرائع ،فمن أين جاء به؟
أنتم تقولون إنه هو الذي جاء به ،لكنه صلى ال عليه وسلم ينسب الرفعة لصاحبها ،ويعلن أنه
صلى ال عليه وسلم مُبلّغ فقط ،فيقول ما أمره ال به أن يقوله {:قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْي ُكمْ
عمُرا مّن قَبْلِهِ َأفَلَ َتعْقِلُونَ }
وَلَ َأدْرَاكُمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
[يونس.]16 :
ي صلى ال عليه وسلم أن يسألهم :هل لحظوا على كلماته ـ من قبلُ
ويحضّ القرآن الكريم النب ّ
ـ البلغةَ والفصاحةَ أو الشعرَ؟!
ولننظر في " ماكُنّات " القرآن الكريم ،وهي اليات التي يقول فيها الحق سبحانهَ } :ومَا كُنتَ
{ مثل قوله سبحانه:
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْ َيمَ }[آل عمران:
ك َومَا كُنتَ لَدَ ْيهِمْ ِإذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
{ ذاِلكَ مِنْ أَنَبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَي َ
.]44
وهذا أمر ثابت في الخبار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمْ َر َومَا كنتَ مِنَ الشّا ِهدِينَ
وقول الحق سبحانهَ {:ومَا كُنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ ِإذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
}[القصص.]44 :
والوحي إلى موسى ـ عليه السلم ـ والمكان الذي نزل فيه ذلك الوحي أمر ثابت في الخبار.
وقول الحق سبحانه {:وََلكِنّآ أَنشَأْنَا قُرُونا فَتَطَا َولَ عَلَ ْيهِمُ ا ْل ُعمُ ُر َومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ َمدْيَنَ تَتْلُواْ
عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا وََلكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ }[القصص.]45 :
وكثير من هذه اليات تجعل محمدا صلى ال عليه وسلم وكأنه يسأل المعاصرين له :كيف أخبرت
بوقائع وأخبار لم أكن موجودا في زمانها أو مكانها؟
ل بد ـ إذن ـ أن ال الحق ـ سبحانه ـ هو الذي أخبرني بما وافق ما عندكم من أخبار.
وبعد ذلك جاء القرآن الكريم مصدقا لما بين يديه {:فَإِنّهُ نَزَّلهُ عَلَىا قَلْ ِبكَ بِإِذْنِ اللّهِ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ }[البقرة.]97 :
حجُزَ الماضي
أي :أنه الكتاب الذي يضم صدق كل حدث قادم؛ لن القرآن خرق حُجُب و ُ
والمستقبل.
ونحن نعلم أن الشياء الغيبية تحدث بسببين؛ الول :ان يتكلم عن شيء سبق الزمان الذي نزل
فيه ،فهو يتكلم في الماضي الذي لم يكن رسول ال صلى ال عليه وسلم من أهل الطلع والتعلم
ليعرفه ويعلمه.
وكذلك خرق القرآن الكريم حجب الحاضر الذي عاصر نزوله ،هذا الحاضر الذي قد يكون
محجوبا بالمكان.
وأضرب هذا المثال ـ ول المثل العلى ـ فقد يحدث حادث في السكندرية في نفس الوقت الذي
تكون أنت فيه موجودا بالقاهرة ،وأنت تعلم هذا الحدث؛ لنه محجوب عنك ببعد المكان ،وحاجز
المكان يتمثل ـ غالبا ـ في المور الحاضرة ،أما أمور المستقبل فهي محجوبة عنا بالزمان
والمكان معا.
وحين يخبرنا القرآن الكريم بحدث ماضٍ لم يشهده رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولم يتعلمه،
ولم يقرأ عنه؛ إذن :فالقرآن إنما يخرق أمامنا حجاب الزمن الماضي .وإذا أخبر القرآن بحدث
حاضر في غير مكان نزوله على سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فهذا خرق لحجاب
المكان مثل قول الحق سبحانه:
سهِمْ َل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ }[المجادلة.]8 :
{ وَ َيقُولُونَ فِي أَنفُ ِ
وحين سمع المنافقون والكفار هذا القول الكريم ،لم ينكروا أنهم قالوا في أنفسهم ما جاء به القرآن،
وهكذا خرق القرآن حاجز المكان في أنفسهم هم.
إذن :فأخبار الغيب في القرآن إما خَ ْرقٌ لزمان ماضٍ أو خرق لزمان الحال ،وإما خرق الزمان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومكان الستقبال.
ونحن نعلم أن القرآن كان ينزل والمسلمون ضعاف ،ل يستطيعون حماية أنفسهم ،ول أحد يجير
على أحد ،ويتجه النبي صلى ال عليه وسلم إلى الطائف ليعرض السلم على أهلها ،لعلّه يلتمس
لهم مجيرا من أهل الطائف؛ ولكنه صلى ال عليه وسلم ل يجد إل اليذاء والعراض ،ويوصي
بعضا من صحابته أن يهاجروا إلى الحبشة.
جمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر.]45 :
وفي ظل كل هذه الزمات ،ينزل قول القرآن {:سَ ُيهْزَمُ الْ َ
حتى إن عمر بن الخطاب ـ رضي ال عنه ـ يستاءل :أيّ جمع هذا الذي يهزم ،ونحن غير
قادرين على حماية أنفسنا؟ ثم تأتي غزوة بدر ويشهد عمر هزيمة وفرار مقاتلي قريش؛ فيرى
رأي العين صدق ما جاء به الوحي من قبل.
وهكذا تأكد الجميع أن القرآن الكريم غير مُفتريً ،فكيف يُتّهم رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه
افتراه؟
وإذا كان هذا القرآن مفترىً ،فلماذا ل تفترون مثله؟ وفيكم الشعراء والبلغاء والخطباء؟! ولم يقل
محمد صلى ال عليه وسلم أنه بليغ أو خطيب أو شاعر ،ولم يطلب القرآن الكريم منهم أن يأتوا
بواحد مثل محمد صلى ال عليه وسلم ،ل صلة له بالبلغة أو الفصاحة ،بل يطلب منهم أن يأتوا
بالفصحاء كلهم ،ويدعوهم أن يقولوا مثل آية واحدة من القرآن.
وإن قالوا :إن ما جاء به هو السحر ،وإن محمدا ساحر قد سحر العبيد والضعاف ،وأدخلهم في
السلم ،فلماذا لم يسحركم محمد؟
إن بقاءكم من غير سحر يدل على أن إطلقكم كلمة السحر على ما جاء به دعوى كاذبة.
ب لَ رَ ْيبَ فِيهِ مِن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ { [يونس.]37 :
ثم يقول الحق سبحانه } :وَ َت ْفصِيلَ ا ْلكِتَا ِ
فالقرآن قد جاء فيه تفصيل كل الحكام الصالحة إلى قيام الساعة ،أما الكتب السابقة على القرآن
فكان تضم الحكام المناسبة لزمانها ،ولمكنة نزولها.
وهو كتاب } لَ رَ ْيبَ فِيهِ { أي :ل شك فيه ،يكشف الكفار ،ويفضح أرتيابهم وكذبهمَ ،فهُمْ قد
عظِيمٍ }
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
اعترفوا بعظمة القرآن وقالواَ {:لوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
[الزخرف.]31 :
إذن :فهم قد عرفوا أن القرآن ل عيب فيه ،ول ريب ،حتى من الكافرين به.
ويـأتي الرد على قولهم بالفتراء ،في قول الحق سبحانه } :أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُواْ ِبسُو َرةٍ مّثِْلهِ
{
()1388 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ ()38
أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُوا ِبسُو َرةٍ مِثِْل ِه وَادْعُوا مَنِ اسْ َت َ
وقد سبق هذا المجيء بالتحدي أسبابُ عجزهم عن النجاح في التحدي؛ لن الية السابقة تقرر أن
الكتب السماوية السابقة ُتصَدّق نزول القرآن الكريم ،وبينها وبين القرآن تصديق متبادل.
فهم مهزومون فيه قبل أن ينزل.
ويقول الحق سبحانه وتعالىُ { :قلْ فَأْتُواْ ِبسُو َرةٍ مّثْلِهِ } [يونس.]38 :
وقد جاء التحدي مرة بالكتاب في قول الحق سبحانه:
ضهُمْ
ن لَ يَأْتُونَ ِبمِثِْل ِه وََلوْ كَانَ َب ْع ُ
س وَا ْلجِنّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ ِبمِ ْثلِ هَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
{ قُل لّئِنِ اجْ َت َم َعتِ الِنْ ُ
ظهِيرا }[السراء.]88 :
لِ َب ْعضٍ َ
سوَرٍ مّثِْلهِ ُمفْتَرَيَاتٍ }[هود.]13 :
ولم يستطيعوا ،فنزلت درجة التحدي؛ وطالبهم أن يأتواِ {:بعَشْرِ ُ
فلم يستطيعوا التيان بعشر سور ،فطالبهم أن يأتوا بسورة تقترب ـ ولو من بعيد ـ من أسلوب
القرآن ،فلم يستطيعوا{ فَأْتُواْ ِبسُو َرةٍ مّن مّثِْلهِ }[البقرة.]23 :
فكيف ـ إذن ـ من بعد كل ذلك يدّعون أن محمدا صلى ال عليه وسلم قد افترى القرآن ،وهو
صلى ال عليه وسلم لم تكن له صلة بالساليب البلغية أو الفصاحة؟!
لقد دعاكم أن تأتوا بكل الفصحاء والبلغاء ليفتروا ،ولو سورة من مثله ،ووضع شرطا فقال:
طعْ ُتمْ مّن دُونِ اللّهِ } [يونس.]38 :
{ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَ َ
لن ال سبحانه وتعالى هو القادر الوحيد على أن يُنزل قرآنا؛ لذلك دعاهم رسول ال صلى ال
عليه وسلم أن يدعوا الشركاء؛ وذلك حتى ل يقول الكفار وبعضهم من أهل اللجاجة :سندعوا ال؛
طعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ } [يونس.]38 :
ولذلك يأتي القرآن بالستنثاء { وَادْعُواْ مَنِ اسْ َت َ
وهم بطبيعة الحال غير صادقين في هذا التحدي.
وال ـ سبحانه وتعالى ـ حين يرسل رسولً إلى قوم؛ ليعلّمهم منهجه في حركة الحياة ،إنما يريد
سبحانه أن تؤدي حركة الحياة إلى الغاية المطلوبة من النسان الخليفة في الرض؛ ولذلك يأتي
الرسول من جنس المرسل إليهم؛ ليكون أسوة لهم؛ لن الرسول إن جاء مَلَكا لما صحّت السوة،
بل ل بد أن يكون بشرا.
والحق سبحانه ل يرسل أي رسول إل ومعه بينة ودليل صدق على أنه رسول يبلّغ عن ال تعالى.
والبينة ل بد أن تكون من جنس نبوغ القوم ،فل يأتي لهم بمعجزة في شيء لم يعرفوه ولم يألفوه؛
حتى ل يقولوا :لو تعلمنا هذا لجئنا بمثل ما جاء.
وقد جاء القرآن ليثبت عجزهم عما نبغوا فيه من صناعة الكلم؛ شعرا ونثرا وخطابة.
وكان القرآن هو معجزة رسول ال صلى ال عليه وسلم في قوم فصحاء يعقدون للشعر أسواقا،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويعلّقون الفائز من هذا الشعر على جدران الكعبة شهرة له وشهادة به.
إذن :فهم أصحاب دراية بصناعة الكلم ،وجاءت المعجزة مع الرسول صلى ال عليه وسلم من
جنس ما نبغوا فيه؛ لتتحداهم.
والتحدي يستدعي استجماع قوة الخصم؛ ليرد على هذا المتحدي ،فإذا عجز مع التحدي ،يصير
العجز ملزما.
وقد تحدى الحق سبحانه العرب جميعا بالقرآن كله {:قُل لّئِنِ اجْ َت َم َعتِ الِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ
ظهِيرا }[السراء.]88 :
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ
ن لَ يَأْتُونَ ِبمِثْلِ ِه وََلوْ كَانَ َب ْع ُ
ِبمِ ْثلِ هَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله ،فتدرّج القرآن معهم في التحدي فطلب منهم ما هو أقل من ذلك ،وهو
سوَرٍ مّثْلِهِ ُمفْتَرَيَاتٍ }[هود.]13 :
أن يأتوا بعشر سور مثله في قوله تعالىُ {:قلْ فَأْتُواْ ِبعَشْرِ ُ
ثم تحداهم بالتيان بمثل سورة من القرآن.
وعند التأمل نجد أن السلوب الذي جاء بطلب سورة كان على لونين :فمرة يقول } :بِسُو َرةٍ مّثْلِهِ {
[يونس.]38 :
ومرة يقول {:بِسُو َرةٍ مّن مّثْلِهِ }[البقرة.]23 :
وكل من اللونين بليغ في موضعه فـ } ِبسُو َرةٍ مّثِْلهِ { [يونس ]38 :تبين أن المثلية هنا محققة،
أي :مثل ما جاء من سورة القرآن .وقوله {:بِسُو َرةٍ مّن مّثْلِهِ }[البقرة.]23 :
أي :سورة من مثل محمد ـ صلى ال عليه وسلم ـ في أنه لم يجلس إلى معلّم ،ولم يقرأ ،ول
عُرف عنه أنه تكلم بالبلغة في أي فترة من مراحل حياته قبل الرسالة.
عمُرا مّن قَبِْلهِ
وقال الحق سبحانه {:قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَدْرَاكُمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[يونس.]16 :
إذن {:بِسُو َرةٍ مّن مّثْلِهِ }[البقرة.]23 :
أي :مثل محمد صلى ال عليه وسلم الذي لم يتعلم وكان أميا ،ولكن لماذا يأتي هذا اللون من
التحدي؟
لنهم قالوا عن القرآن:
لوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا َف ِهيَ ُتمْلَىا عَلَ ْيهِ ُبكْ َر ًة وََأصِيلً }[الفرقان.]5 :
{ َأسَاطِي ُر ا َ
بل واتهموه في قمة غفلتهم أنه يتعلم من رجل كان بمكة ،فيلفتهم القرآن إلى أن الرجل ـ الذي
قالوا إنه معلم للرسول صلى ال عليه وسلم ـ كان أعجميا غير عربي ،يقول الحق سبحانه{:
ي وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل.]103 :
ج ِم ّ
عَحدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ
لّسَانُ الّذِي يُلْ ِ
ويريد الحق سبحانه أن يصنفهم ،فيقول بعد ذلكَ } :بلْ كَذّبُواْ ِبمَا لَمْ ُيحِيطُواْ ِبعِ ْلمِهِ {
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1389 /
َبلْ كَذّبُوا ِبمَا لَمْ ُيحِيطُوا ِبعِ ْلمِهِ وََلمّا يَأْ ِت ِهمْ تَ ْأوِيلُهُ كَذَِلكَ َك ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الظّاِلمِينَ ()39
وهذا الصنف من الناس الذين { كَذّبُواْ ِبمَا لَمْ يُحِيطُواْ ِبعِ ْلمِهِ } [يونس ،]39 :وهم من أخذتهم
المفاجأة حين حُدّثوا بشيء ل يعرفونه ،والناس أعداء ما جهلوا؛ فكذبوا ما جاء به رسول ال
صلىال عليه وسلم من القرآن قبل أن يتبينوا جمال الداء فيه ،ونسق القيم العالية ،وإذا ما سنحت
لهم فرصة يتبينون فيها جمال الداء ،ودقة العجاز فهم يتجهون إلى اليمان.
ومثال ذلك :عمر بن الخطاب ـ رضي ال عنه ـ فقد كان كافرا ثم علم أن أخته وزوجها قد
أسلما؛ فذهب إليها في منزلها وضربها ،فأسال دمها ،وسيل الدم من أخت بضربة أخيها مثير
لعاطفة الحنان ،وهذا ما حدث مع عمر؛ فهدأت موجة عناده ،فاستقبل القرآن بروح ل عناد فيها؛
فذهب فآمن برسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكان من قبل ذلك ممن { :كَذّبُواْ ِبمَا َلمْ يُحِيطُواْ
ِبعِ ْلمِ ِه وََلمّا يَأْ ِتهِمْ تَ ْأوِيلُهُ } [يونس ]39 :أي :لم يعرفوا مراميه ،وبمجرد أن سمعوا عن رسالته
صلى ال عليه وسلم فجأة ،اتهموه بالكذب والعياذ بال.
ولذلك اقرأ قول الحق سبحانهَ {:ومِنْهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا إِذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ
أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا }[محمد.]16 :
وهذا يدل على أنهم لم يفهموا ما نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم من القرآن ،وتأتي
شفَآ ٌء وَالّذِينَ لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِمْ
الجابة من الحق سبحانه وتعالىُ {:قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ
عمًى }[فصلت.]44:
َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ
إذن :فالقرآن هدى لمن تتفتح قلوبهم لليمان ،أما القلوب المليئة بالبغض لقائله وللسلم؛ فهؤلء
ل يمكن أن يصح حكمهم.
وإن أراد أي منهم حكما صحيحا فليُخرجْ من قلبه ما يناقض ما يسمع ،ثم عليه أن يستقبل
المرين؛ ولسوف يدخل قلبه القوى حجة ،وهو السلم.
إذن :فمن امتل قلبه بعقيدة كاذبة؛ ل يمكن له أن يهتدي.
{ َبلْ كَذّبُواْ ِبمَا َلمْ يُحِيطُواْ ِبعِ ْلمِ ِه وََلمّا يَأْ ِتهِمْ تَ ْأوِيلُهُ } [يونس.]39 :
والتأويل هو ما يرجع الشيء إليه ،وهذا يوضح لنا أن هناك أقضية من القرآن لم يأت تفسيرها
بعد ،ستفسرها الحداث ،وقد يقول القرآن الكريم قضية غيبية ،ثم يأتي الزمن ليؤكد هذه القضية،
هنا نعرف أن تأويلها قد جاء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهؤلء القوم قد كَذّبوا من قبل أن يأتي لهم التأويل ،وكان عدم مجيء التأويل هو السبب في تأخر
بيان الحق في المسألة لتأخر زمنه.
وعلى سبيل المثال ،ها هو ذا عمار بن ياسر صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قامت
المعركة بين معاوية بن أبي سفيان والمام علي ـ رضي ال عنه ـ وَقاتَلَ عمّار في صف عليّ،
وقُتِل .هنا تنبه الصحابة إلى تأويل حديث من رسول ال صلى ال عليه وسلم حيث قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جاء هذا الخبر وانتظر المسلمون تأويله ،وقد جاء تأويله طبقا لما أخبر القرآن.
أو أن التأويل سيأتي في الخرة ،وما يؤول المر في التكذيب سيعلمونه من بعد ذلك.
حمَةً ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ * َهلْ
والحق سبحانه يقول {:وََلقَدْ جِئْنَاهُمْ ِبكِتَابٍ َفصّلْنَاهُ عَلَىا عِ ْلمٍ هُدًى وَ َر ْ
يَنظُرُونَ ِإلّ تَ ْأوِيلَهُ }[العراف52 :ـ .]53
هم ينتظرون ما يؤول إليه القرآن وما يؤولون إليه ،إن كان في الدنيا فنصر أهل القرآن ،وإن كان
في الخرة ،فهذا قول الحق سبحانه:
ش َفعُواْ
ش َفعَآءَ فَيَ ْ
حقّ َفهَل لّنَا مِن ُ
سلُ رَبّنَا بِالْ َ
{ َيوْمَ يَأْتِي تَ ْأوِيلُهُ َيقُولُ الّذِينَ َنسُوهُ مِن قَ ْبلُ قَدْ جَآ َءتْ ُر ُ
لَنَآ َأوْ نُرَدّ فَ َن ْع َملَ غَيْرَ الّذِي كُنّا َن ْعمَلُ }[العراف.]53 :
هذا هو التأويل الذي كذّبه البعض من قبل.
إذن :فالتأويل:إما أن يكون لمن بقي من الكفار فيرى ما أخبره به القرآن وقد جاء على وفق ما
ي ل يملك أن يتحكم في مصائر الشياء ،وتأتي على وفق ما قال.
أخبر به نب ّ
فكأن محمدا صلى ال عليه وسلم كان يجازف بأن يقول كلما ل يتحقق؛ فينصرف عنه الذين
آمنوا به ،ولكنه صلى ال عليه وسلم لم يقل إل ما هو واثق ومطمئن من وقوعه؛ لن الخبر به
جاء من لدن عليم خبير.
وإما أن التأويل ـ أيضا ـ يأتي في الخرة.
وهنا قال الحق سبحانهَ } :بلْ كَذّبُواْ ِبمَا لَمْ ُيحِيطُواْ ِبعِ ْلمِهِ وََلمّا يَأْ ِت ِهمْ تَ ْأوِيلُهُ { [يونس.]39 :
والحق سبحانه هنا يلفت رسوله صلى ال عليه وسلم إلى أن ما حدث معه قد حدث مع رسل من
قبله ،فقال سبحانه في نفس الية } :كَذَاِلكَ َك ّذبَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّاِلمِينَ
{ [يونس.]39 :
أي :انظر لموكب الرسل كلهم من بدء إرسال الرسل ،هل أرسل ال رسول ونصر الكافرين به
عليه؟ ..ل ،لقد كانت الغلبة دائما لرسل الحق عز وجل مصداقا لقوله سبحانه {:كَ َتبَ اللّ ُه لَغْلِبَنّ
أَنَ ْا وَرُسُلِي }[المجادلة.]21 :
وعرفنا ما حدث للظالمين ،فمنهم من أغرقه ال ،ومنهم من خسف به الرض ،ومنهم من أخذه
بالصيحة.
إذن :فالتأويل واضح في كل مواكب الرسل التي سبقت رسالة محمد صلى ال عليه وسلم ،وإذا
كان كل قوم من الظالمين قد نالوا ما يناسب رسالة رسولهم ،فسينال القوم الظالمين الكافرين
برسالة محمد صلى ال عليه وسلم ما يناسب عمومية رسالته صلى ال عليه وسلم.
وحين يقول الحق سبحانه } :فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الظّاِلمِينَ { [يونس ]39 :ل بد لنا أن نعرف
معنى الظلم ،إنه نقل الحق لغير صاحبه ،والحقوق تختلف في مكانتها ،فهناك حق أعلى ،وحق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أوسط،وحق أدنى.
فإذا جئت للحق الدنى في أن تنقل اللوهية لغير ال سبحانه وتعالى فهذا قمة الظلم ،والحق
عظِيمٌ }[لقمان.]13 :
سبحانه يقول {:إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ
لن في هذا نقل اللوهية من ال سبحانه إلى غيره ،ويا ليت غيره كان صاحب دعوة بينه وبين
ال تعالى ،ل ،فليس ذلك المنقول له اللوهية بصاحب دعوة ،بل تطوّع الظالم من نفسه بذلك،
واتخذ من دون ال شريكا ل ،وفي هذا تطوع بالظلم بغير مُدّع.
و َهبْ أن ال تعالى قال :ل إله إل أنا ،فإما أن القضية صحيحة ،وإما أنها غير ذلك ،فإن افترض
أحد ـ معاذ ال ـ عدم صحتها ،فالله الثاني كان يجب أن يعلن عن نفسه ،ول يترك غيره يسمع
له ويعلن عنه ،وإل كان إلها أصمّ غافلً ،ولكن أحدا لم يعلن ألوهيته غير ال سبحانه،؛ لذلك تثبت
اللوهية الواحدة للله الحق سبحانه وتعالى.
وقد بيّن لنا الحق سبحانه :ل إله إل أنا ،أنا الخالق ،أنا الرازق .ولم يصدر عن أحد آخر دعوى
بأنه صاحب تلك العمال ،إذن :فقد صَحّت الدعوى في أنه ل إله إل ال.
والدرجة التالية في الظلم هي الظلم في الحكام ،فإذا حكم أحد بحلّ الربا فهذا ظلم في قضية
كبيرة ،ولكن إن حكم قاض على مدين بأن يردّ الدّين فقط فهذا عدل؛ وكذلك القاضي الذي يظلم
في أحكامه إنما ينقل حقوق الناس إلى غيرهم.
إذن :فالظلم يأخذ درجات حسب الشيء الذي وقع فيه الظلم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :ومِنهُمْ مّن ُي ْؤمِنُ بِهِ َومِنْهُمْ مّن لّ ُي ْؤمِنُ {
()1390 /
سدِينَ ()40
َومِ ْنهُمْ مَنْ ُي ْؤمِنُ ِب ِه َومِ ْنهُمْ مَنْ لَا ُي ْؤمِنُ بِ ِه وَرَ ّبكَ أَعْلَمُ بِا ْلمُفْ ِ
والكلم هنا في الذين كذّبوا ،فكيف يقسّم ال المكذبين ـ وهم بتكذيبهم ل يؤمنون ـ إلى قسمين:
قسم يؤمن ،وقسم ل يؤمن؟
ونحن نعلم أن اليمان عمل قلوب ،ل عمل حواس ،فنحن ل نطّلع على القلوب ،والحق سبحانه
يعلم مَنْ مِنْ هؤلء المكذبين يخفي إيمانه في قلبه.
إذن :فمن هؤلء من يقول بالتكذيب بلسانه ويخفي اليمان في قلبه ،ومنهم من يوافق تكذيبه بلسانه
فراغُ قبله من اليمان ،ومن الذين قالوا :إن هذا القرآن افتراء إنما يؤمن بقلبه أن محمدا رسول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من ال ،وصادق في البلغ عن ال ،ولكن العناد والمكابرة والحقد يدفعونه إلى أن يعلن عدم
اليمان.
وكذلك منهم قسم آخر ل يؤمن ويعلن ذلك.
إذن :فالمقسم ليس هو اليمان الصادر عن القلب والمعبّر عنه باللسان ،ولكن المُقسّم هو إيمان
بالقلب غير مُعبّر عنه ،ولم يصل إلى مرتبة القرار باللسان.
والذي جعل إيمان بعضهم محصورا في القلب غير مُعبّر عنه باللسان هو الحقد والحسد والكراهية
وعدم القدرة على حكم النفس على مطلوب المنهج.
وبعض العرب حين أعلن لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يقولوا :ل إله إل ال؛ فيضمن
لهم السيادة على الدنيا كلها .ورفضوا أن يقولوا الكلمة؛ لنهم يعلمون أنها ليست كلمة تقال :بل
فهموا مضمون ومطلوب الكلمة ،وعرفوا أن " ل إله إل ال " تعني :المساواة بين البشر ،وهم
يكرهون ألّ تكون لهم السيادة والسيطرة في أقوامهم.
وهذا يدل أيضا على أن الحق سبحانه قد شاء أن يبدأ السلم في مكة ،حيث المة التي تعلن
رأيها واضحا؛ ولذلك نجد أن النفاق لم ينشأ إل في " المدينة " ،أما في مكة ،فهم قوم منسجمون
مع أنفسهم ،فهم حين أعلنوا الكفر لم يعانوا من تشتت المََلكَات ،لكن المنافقين في المدينة وغيرها
هم الذين كانوا يعانون من تشتت الملكات ،ومنهم من كان يلعب على الطرفين ،فيقول بلسانه ما
ليس في قلبه.
ولذلك يُعزّي الحق رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم ويُسَرّى عنه وبين له :إياك أن تحزن لنهم
يكذبونك؛ لنك محبوب عندهم وموقّر ،فيقول الحق سبحانهَ {:قدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ
فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َنكَ }[النعام.]33 :
أي :أنك يا محمد مُنزّه عن الكذب؟
حدُونَ }[النعام.]33 :
ويقول الحق سبحانه {:وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ َيجْ َ
أي :أنه سبحانه يحملها عن رسوله صلى ال عليه وسلم؛ لن الحق سبحانه يعلم أن رسوله أمين
عند قومه ،وهم في أثناء معركتهم معه ،نجد الواحد منهم يستأمنه على أشيائه النفيسة.
والذين آمنوا برسالته صلى ال عليه وسلم ولم يعلنوا إيمانهم ،والذين لم يؤمنوا ،هؤلء وأولئك
أمرهم موكول إلى ال تعالى؛ ليلقوا حسابهم عند الخالق سبحانه؛ لنه سبحانه العلم بمن كذّب
عنادا ،ومن كذّب إنكارا.
والحق سبحانه هو الذي يُعذّب ويُعاقِب ،وكل إنسان منهم سوف يأخذ على قَدْر منزلته من الفساد؛
سدِينَ { [يونس.]40 :
لذلك يُنهي الحق سبحانه الية بقوله } :وَرَ ّبكَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمفْ ِ
والمفسد كما نعلم هو الذي يأتي إلى الشيء الصالح فيصيبه بالعطب؛ لن العالَم مخلوقٌ قبل تدخّل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النسان ـ على هيئة صالحة ،وصنعة ال سبحانه وتعالى ـ لم يدخل فيها الفساد إل بفعل النسان
المختار ،وصنعة ال تؤدي مهمتها كما ينبغي لها.
وأنت أيها النسان إن أردت أن يستقيم لك كل أمر في الوجود ،فانظر إلى الكون العلى الذي ل
دخل لك فيه ،وستجد كل ما فيه مستقيما مصداقا لقول الحق سبحانه:
ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ * وََأقِيمُواْ ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِسْطِ وَلَ ُتخْسِرُواْ
سمَآءَ َر َف َعهَا وَ َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ * َألّ َت ْ
{ وَال ّ
ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن7 :ـ .]9
أي :أتقِنوا أداء مسئولية ما في أيديكم وأحسنوه كما أحسن ال سبحانه ما خلق لكم بعيدا عن
أياديكم ،والمطلوب من النسان ـ إذن ـ أن يترك الصالح على صلحه ،إن لم يستطع أن يزيده
صلحا؛ حتى ل يدخل في دائرة المفسدين.
عمَُلكُمْ {
عمَلِي وََلكُمْ َ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَإِن َكذّبُوكَ َفقُل لّي َ
()1391 /
وهذه آية تضع الطمئنان في قلب رسول ال صلى ال عليه وسلم فلم َيقُل ال سبحانه " :إذا
كذّبوك " بل قال { :إِن كَذّبُوكَ } [يونس ]41 :وشاء الحق سبحانه أن يأتي بالتكذيب في مقام
عمَُلكُمْ } [يونس]41 :
عمَلِي وََلكُمْ َ
الشك ،وأتبع ذلك بقوله للنبي صلى ال عليه وسلمَ { :فقُل لّي َ
حمِلكم على ما أعمل أنا ،إنما أريد لكم الخير في أن تعملوا الخير ،فإن
أي :أبِْلغْهم :أنا ل أريد أن أ ْ
لم تعملوا الخير؛ فهذا لن يؤثر في حصيلتي من عملي.
وبذلك يتضح لنا أن الرسول صلى ال عليه وسلم ل يُجازَى على عدد المؤمنين به ،بل بأداء
البلغ كما شاءه ال سبحانه.
وقد شاء الحق سبحانه أن ينقل محمد صلى ال عليه وسلم الخير إلى أمته ،فإن ظلوا على الشر؛
فهذا الشر لن يناله لن خير البلغ بالمنهج يعطيه صلى ال عليه وسلم خيرا ،لنه يطبّقه على
نفسه ،وشر الذين ل يتبعونه إنما يعود عليهم؛ لن الذين يتأبون على الستجابة لي داعٍ إنما
يظنون أن الداعي سوف يستفيد.
والبلغ عن ال ،إنما يطبقه الرسول صلى ال عليه وسلم منهجا وسلوكا ويُجازَى عليه.
عمَُلكُمْ } [يونس.]41 :
عمَلِي وََلكُمْ َ
فل يجوز الخلط في تلك المسائل { لّي َ
ل وَأَنَاْ بَرِيءٌ
ع َم ُ
ثم يقول الحق سبحانه على لسان رسول صلى ال عليه وسلم { :أَنتُمْ بَرِيئُونَ ِممّآ أَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ّممّا َت ْعمَلُونَ } [يونس.]41 :
وكلمة { بَرِيءٌ } تفيد أن هناك ذنبا ،وهذا القول الحق فيه مجاراة للخصوم ،وشاء الحق سبحانه
أن يُعلّم رسوله صلى ال عليه وسلم والمؤمنين أدب الحوار والمناقشة ،فيقول {:وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ
للٍ مّبِينٍ }[سبأ.]24 :
َلعَلَىا هُدًى َأوْ فِي ضَ َ
أي :أننا ـ الرسول ومعه المؤمنون ـ وأنتم أيها الكافرون إما على هدى ،أو في ضلل.
والرسول صلى ال عليه وسلم موقن أنه على هدى وأن الكافرين على الضلل ،ولكنه يجاريهم؛
عدالة منه صلى ال عليه وسلم ومجاراة لهم.
عمّآ أَجْ َرمْنَا }[سبأ.]25 :
كذلك يعلّمه ربه سبحانه أن يقول {:قُل لّ ُتسْأَلُونَ َ
أي :أنه يبين لهم :هَبُوا أنّي أجرمتُ فأنتم لن تُسألوا عن إجرامي ،ومن أدب الرسول صلى ال
عمّا َت ْعمَلُونَ }[سبأ.]25 :
عليه وسلم شاء له الحق سبحانه أن يقول {:وَلَ نُسَْألُ َ
ولم يقل " :ول نُسأل عما تُجرمون " .وكذلك شاء الحق سبحانه أن تأتي هنا في هذه الية التي
ع َملُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا َت ْعمَلُونَ } [يونس.]41 :
نحن بصدد خواطرنا عنها { :أَنتُمْ بَرِيئُونَ ِممّآ أَ ْ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :ومِ ْنهُمْ مّن َيسْ َت ِمعُونَ إِلَ ْيكَ }
()1392 /
وكلمة " مَنْ " تطلق وقد يراد بها المفرد ،وقد يراد بها المفردة ،وقد يراد بها المثنى ،وقد يراد بها
الجمع ،ومرة يطابق اللفظ فيقول سبحانهَ {:ومِ ْنهُمْ مّن َيسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ }[النعام.]25 :
ومرة يقصد المعنى فيقولَ { :ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َت ِمعُونَ } [يونس.]42 :
لن { مّن } صالحة للموقعين.
والسماع كما نعلم هو استقبال الذن للصوت ،فإن كان صوتا مُبْهما كأصوات الحيوانات أو
أصوات العواد ،فهذه الصوات ل تفيد إل ما تفيده النغمة في الجسم من هزة أو ارتجاج.
وإما أن يكون الصوت له معنى تواضُعيّ ،كاللغات المختلفة التي يتخاطب بها الناس في البلدان
المختلفة ،فإن تكلمتَ بالنجليزية في بلد يتكلم أهله بهذه اللغة فهموك وفهمت عنهم .هذا هو معنى
التواضع في اللغة ،أي :أن المتكلم والسامع على درجة .واحدة من التفاق على اللغة.
والنبي صلى ال عليه وسلم عربي يتحدث بلسان عربي مبين لقوم من العرب ،فما العائق عن
السمع إذن؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن العائق عن السمع نفض الذن لما يأتي من جهة الخصم ،والسماع ـ كما نعلم ـ هو استشراف
المخاطب إلى ما يفهم من المتكلم ،فإن لم يوجد عند المخاطب استشراف إلى أن يسمع ،فالكلم
يُقال ول يصل.
إذن :ل بد للسامع من حالة الستشراف إلى فهم ما يقوله المتكلم .وكما يقول المثل " :إذن من
طين وأخرى من عجين " .أو كما تقول المزحة أن واحدا مال على أذن صديق له وقال " :أريد
أن أقول لك سِرا " فاقترب الصديق مستشرفا سماع السر ،فقال الرجل " :أريد مائة جنيه كقرض
"؛ فقال الصديق " :كأني لم أسمع هذا السر ".
إذن :فالكلم ليس مجرد صوت يصل إلى الذن ،لكن ل بد من استشراف نفسي للتقلي .وهم ل
سمِعُ الصّمّ } [يونس ]42 :أي :كان
يملكون هذا الستشراف؛ لذلك قال الحق سبحانهَ { :أفَأَنتَ تُ ْ
سمعهم ل يسمع.
ومثال ذلك :أننا نجد المدرس الذي يشرح الدرس للتلميذ ،وبين التلميذ من يستشرف السمع؛
ولذلك يفهم الدرس ،أما الذي ل يستشرف فكأنه لم يسمع الدرس.
وهم قد فاتوا الصّمّ؛ لن الصم قد يفهم بالحركة او الشارة أو لغة العين ،ولكن هؤلء ل يسمعون
سمِعُ الصّ ّم وََلوْ كَانُو ْا لَ َي ْعقِلُونَ } [يونس.]42 :
ول يعقلون { َأفَأَنتَ تُ ْ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :ومِنهُمْ مّن يَنظُرُ إِلَ ْيكَ }
()1393 /
والرؤى أيضا تحتاج إلى استشراف ،وأن ُيقْبِل المرء على ما يريد أن يراه ،وأحيانا ل يكون
الرائي مستشرفا؛ لن قلبه غير متجه للرؤية.
وسئُل واحد :إنك تقول :من رأى فلنا الصالح َيهْده ال .فردّ عليه السامع متسائلً :كيف تقول
ذلك؟! فردّ القائل :لقد رأى أبو جهل خيرا من هذا ،ومع ذلك ظل كافرا .فردّ السامع :إن أبا جهل
لم يَرَ محمدا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولكنه رأى يتيم أبي طالب.
وهكذا شرح الرجل أن أبا جهل لم ينظر إلى محمد صلى ال عليه وسلم على أنه رسول؛ لنه لو
نظر إليه بهذا الدراك لتسللت إليه سكينة اليمان وهَيبة الخشوع وجلل الورع.
ونحن قد نلقى رجلً صالحا في بشرته أدْمة أو سواد ،وصلحه يضيء حوله ،وله أسْر من
التقوى ،وجاذبية الورع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولو أن أبا جهل رأى محمدا صلى ال عليه وسلم على أنه رسول لتغيّر أمره.
وها هو " " فضالة " يحكى عن لحظة أراد فيها أن يقتل رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو
يطوف بالبيت عام الفتح ،فلما اقترب منه؛ قال له رسول ال صلى ال عليه وسلم :ماذا كنت
تحدّث به نفسك؟ قال :ل شيء ،كنت أذكر ال .قال :فضحك النبي صلى ال عليه وسلم ،ثم قال:
استغفِر ال ،ثم وضع يده على صدر فضالة ".
وساعة سمع فضالة هذا ،ورأى محمدا صلى ال عليه وسلم وهو يقول ذلك القول ،قال :ما كان
ب إليّ في الرض كلها من وجهه.
ح ّ
أبغض إليّ من وجهه ،ولكني أقبلت عليه فما كان أ َ
هذا هو السماع ،وهذا هو البصر ،وكلهما ـ السمع والبصر ـ أكرم المتعلقات وأشرفها؛ لن
السمع هو وسيلة الستماع لبلغ ال عنه ،والنسان قبل أن يقرأ ل بد له من أن يكون قد سمع.
ي وََلوْ كَانُو ْا لَ يُ ْبصِرُونَ }
والمقصود هنا بالعمى في قول الحق سبحانهَ { :أفَأَ ْنتَ َتهْدِي ا ْل ُع ْم َ
[يونس ]43:هو عمى البصيرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :إِنّ اللّ َه لَ َيظْلِمُ النّاسَ شَيْئا }
()1394 /
كلمة " ال " هي اسم عََلمٍ على واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال التي عرفناها في أسماء
ال الحسنى التسعة والتسعين ،وإن كان ل تعالى كمالت ل تتناهى؛ لن السماء أو الصفات التي
يحملها التسعة والتسعون اسما ل تكفي كل كمالت ال سبحانه ،فكمالته سبحانه ل تتناهى.
ولذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم:
" أسألك بكل اسم سمّيت به نفسك ،أو علّمته أحدا من خَلْقك ،أو استأثرت به في علّم الغيب عندك
".
وإن سأل سائل :ولماذا يستأثر ال سبحانه ببعض من أسمائه في علم الغيب؟
أقول :حتى يجعل لنا ال سبحانه في الخرة مزيدا من الكمالت التي لم نكن نعرفها؛ ولذلك نجد
الحق سبحانه يفتح على رسوله صلى ال عليه وسلم " من محامده وحُسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه
على أحد قبله ".
وهذا بعض من فيض ل ينفد من آفاق اسم عَلَمٍ على واجب الوجود ،وصفات علم واجب الوجود،
والتسعة والتسعون اسما التي نعلمها هي اللزمة لحياتنا الدنيا ،ولكننا سنجد في الخرة صفات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كمال أخرى ،وكلمة " ال " هي الجامعة لكل هذه السماء ،ما عرفناها؛ وما لم نعرفها.
ف صفات متعددة ،يحتاج إلى قدرة،
والنسان منا حين يُقبل على عمل ،فهذا العمل يتطلب تكا ُت َ
وعلم ،وحكمة ،ولُطْف ،ورحمة ،وغير ذلك من الصفات ،فإن قلت :باسم القويّ؛ فأنت تحتاج إلى
القوة ،وإن قلت باسم القادر؛ فأنت تحتاج إلى القدرة ،وإن قلت :باسم الحليم؛ فأنت تحتاج إلى
الحِلْم ،وإن قلت :باسم الحكيم؛ فأنت تحتاج إلى الحكمة ،وإن قلت " :باسم ال " فهي تكفيك في كل
هذا وغيره أيضا؛ ولذلك يكون بدء العمال بـ " بسم ال " ،فإذا احتجت إلى قدرة وجدتها ،وإن
ط وجدته.
سٍاحتجت إلى غِ َنىً وجدته ،وإن احتجت إلى بَ ْ
وكل صفات الكمال أوجزها الحق سبحانه لنا في أن نقول " :بسم ال " .وحين تبدأ عملك باسم
ل لك موهوب من ال ،والشياء التي تنفعل لك ،إنما تنفعل باسم ال،
ح ْو ٍ
ال؛ فأنت ُتقِرّ بأن كل َ
وكل شيء إنما يسخر لك باسم ال ،وهو القائل:
عمَِلتْ أَ ْيدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُمْ
{ َأوََلمْ يَ َروْاْ أَنّا خََلقْنَا َلهُم ِممّا َ
َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس71 :ـ .ٍ]72
ولو لم يذلّل ال لنا النعام والشياء لتنفعل لنا ما استطعنا أن نملكها ،بدليل أن ال تعالى قد ترك
أشياء لم يذللها لنا حتى نتعلّم أننا ل نستطيع ذلك ،ل بعلْمنا ،ول بقُدْرتنا ،إنما الحق سبحانه هو
الذي يُذلّل.
فأنت ترى الطفل في الريف وهو يسحب الجمل ،ويأمره بالرقود؛ فيرقد ،ويأمره بالقيام؛ فيقوم.
أما إن رأينا ثعبانا فالكثير منا يجري ليهرب ،ول يواجهه إل من له دُرْبة على قتله .والبرغوث
الصغير الضئيل قد يأتي ليلدغك ليلً ،فل تعرف كيف تصطاده؛ لن ال لم يذلّله لك.
وكذلك الثمرة على الشجرة إذا قطفتها قبل نضجها تكون غير مستساغة ،أما إن قطفتها بعد
نضجها فأنت تستمتع بطعمها ،ثم تأخذ منها البذرة لتعيد زراعتها ،وتضمن بقاء النوع ،بل إن
الثمرة تسقط من على الشجرة حين تنضج وكأنها تنادي من يأكلها.
وكذلك النسان حين يبلغ ،أي :يصبح قادرا على أن ينجب غيره ،فيكلّفه ال بعد ذلك بالتكاليف
اليمانية؛ لنه لو كلّفه قبل ذلك ثم طرأتْ عليه مشاكل المراهقة؛ فقد ل يستطيع أن يتحمل
التكليف.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يخلق من عدم ،وأن يربّى حتى يكتمل النسان ،ثم حدّد التكليف من
لحظة البلوغ ،ووضع شرط اكتمال العقل والرشد ،وأل توجد آفة أو جنون.
ول أقوى من ال سبحانه يمكن أن يُكلّف لتفعل غير ما يريد ال؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يكتمل
للنسان الرشد ساعة التكليف ،أم المجنون فلم يكلفه ال سبحانه ،وكذلك يسقط التكليف عن ال ُمكْرَه؛
لن التكليف في مضمونه هو اختيار بين البدائل ،وهذه منتهى العدالة في التشريع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأنت حين تستقبل التكليف عليك أل تنظر إلى ما تأخذه منك العبادات ،لنها ل تأخذ من حريتك،
بل تحترم أنت حرية الخرين ،ويحترمون هم حريتك ،فإن حرّم عليك أن تسرق ،فهو سبحانه قد
حماك بأن حرّم على جميع الخلق أن يسرقوا منك.
إذن :فالقيد قد جاء لصالحك.
و َهبْ أنك أطلقت يدك في الناس ،فماذا تصنع لو أطلقوا هم أياديهم فيما تملك؟
وحين حرّم عليك التكليف أن تنظر إلى محارم غيرك ،فهو قد حرم على الغير أن ينظروا إلى
محارمك.
وحين أمرك أن تزكّي ،فهو قد أخذ منك؛ ليعطي الفقير من المال الذي استخلفك ال فيه.
فل تنظر إلى ما أخذ منك ،بل انظر إلى ما قد يعود عليك إن أصابك القدر بالفقر ،والشيء الذي
تستشعر أنه يؤخذ منك فال سبحانه يعطيك الثواب أضعافا كثيرة.
وبعد ذلك انظر إلى حركة الحياة ،وانظرْ إلى ما حَرّم ال تعالى عليك من أشياء ،وما حلّل لك
غير ذلك؛ فستجد المباح لك أكثر مما منعك عنه.
إذن :فالتكليف لصالحك.
ثم بعد كل ذلك :أيعود شيء مما تصنع من تكاليف عل الحق سبحانه؟ ل.
أيعطيه صفة غير موجودة؟
ل؛ لن الحق سبحانه قد خلقنا بكل صفات كماله ،وليس في عملنا ما يزيده شيئا.
إذن :فمن المصلحة أن تطبّق التكاليف لنها تعود عليك أنت بالخير.
وانظر ـ مثلً ـ إلى الفلح في الحقل ،إنه يحرث الرض ،وينقل السماد ،ويبذر ،ويروى
ويتعب ،وبعد ذلك يستريح في انتظار الثمار.
وأنت حين تنفّذ تكاليف الحق سبحانه فأنت تجد العائد ،وأنت ترى في حياتك أن الفلح الكسول
يصاب بحسرة يوم الحصاد ،فما بالنا بحساب الخرة.
والفلح الذي يأخذ من مخزنة إردبّا؛ ليزرعه ،وهو في هذه الحالة ل ينقص مخزنه؛ لنه سيعود
بعد فترة بخسمة عشر إردبّا.
وهكذا من ينفّذ التكاليف يعود عليه كل خير؛ ولذلك أقول :انظر في استقبالت منهج ال تعالى فيما
تعطيه ،ل فيما تأخذه.
وهكذا ترى أنه ل ظلم؛ لننا صنعة ال ،فهل رأيتم صانعا يفسد صنعته؟
إذن :فالصانع العلى ل يظلم صنعته ول يفسدها أبدا ،بل يُحسّنها ويعطيها الجمال والرونق؛ لذلك
سهُمْ َيظِْلمُونَ { [يونس.]44 :
يقول الحق سبحانه } :إِنّ اللّ َه لَ يَظِْلمُ النّاسَ شَيْئا وَلَـاكِنّ النّاسَ أَنفُ َ
جحْد الحق ،وهذا هو الظلم العلى ،ومن
أي :أن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ،ومن الظلم َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الظلم أن يعطى النسان نفسه شهوة عاجلة؛ ليذوق من بعد ذلك عذابا آجلً ،وهو بذلك يحرم نفسه
من النعيم المقيم ،وهو حين يظلم نفسه يكون قد افتقد القدرة على قياس عمره في الدنيا ،فالعمر
مهما طال قصير ،وما دام الشيء له نهاية فهو قصير.
والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب الناس ،فهو قد نصب لهم آيات باقية إلى أن تقوم الساعة،
خصّ كل رسول بآية ومعجزة ،وأنزل منهجا
وكلهم شركاء فيها ،وهي اليات الكونية ،وبعد ذلك َ
بـ " افعل " و " ل تفعل " ،وبيّن في آيات الكتاب ما المطلوب فعله ،وما المطلوب أن نمتنع عنه،
وترك لك بقية المور مباحة.
والمثال الذي أضربه دائما :هو التلميذ الذي يرسب آخر العام ،هذا التلميذ لم تظلمه المدرسة،
بدليل أن غيره قد نجح؛ لذلك ل يصح أن يقال :إن المدرسة أسقطت فلنا ،ولكن الصحيح أن
نقول :إن فلنا قد أسقط نفسه ،وأن زميله قد أنجح نفسه ،ودور المدرسة في ذلك هو إعلن
النتيجة.
ومن الظلم أيضا أن يستكثر الظالم نعمة عند المظلوم ،فيريد أن يأخذها منه ،ول يمكن أن يكون
الحق سبحانه وتعالى ظالما يستكثر ِنعَم عباده؛ لنه مُنزّه عن ذلك؛ فضلً عن أن خَلْقه ليس عندهم
ِنعَم يريدها هو ،فهو الذي أعطاها لهم؛ ولذلك ل يأتي منه سبحانه أي ظلم ،وإنْ جاء الظلم فهو
من النسان لنفسه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَ َيوْمَ َيحْشُرُ ُهمْ كَأَن لّمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ سَاعَةً {
()1395 /
فهذه الدنيا التي يتلهف عليها النسان ،ويأخذ حظه فيها ،وقد ينسى الخرة ،فإذا ما قامت القيامة
فأنت تشعر كأنك لم تمكث في الدنيا إل ساعة ،والساعة هي الساعة الجامعة التي تقوم فيها
القيامة ،ولكن الساعة في الدنيا هي جزء من الوقت ،ونحن نعلم أن اليوم مقسّم لربع وعشرين
ساعة ،وأيضا تُطلق الساعة على تلك اللة التي تُعلّق على الحائط أو يضعها النسان على يده،
وهي تشير إلى التوقيت.
والتوقيت ثابت ـ بمقدار الساعة والدقيقة والثانية ـ منذ آدم عليه السلم وإلى من سوف يأتون
بعدنا ،ولكن التوقيت يختلف من مكان إلى آخر ،فتشير الساعة في القاهرة ـ مثلً ـ إلى الثانية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظهرا ،وتكون في نيويورك السابعة صباحا ،وتشير في بلد آخر إلى الثالثة بعد منتصف الليل ،ول
تتوحد الساعة بالنسبة لكل الخلق إل يوم القيامة.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
عةُ ُيقْسِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ }[الروم.]55 :
{ وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ
وهم ـ إذن ـ يُفاجَأون أن دنياهم الطويلة والعريضة كلها م ّرتْ وكأنها مجرد ساعة ،وهكذا
يكتشفون ِقصَر ما عاشوا من وقت ،ول يقصتر المر على ذلك ،بل إنهم لم ينتفعوا بها أيضا فهي
مدة من الزمن لم تكن لها قيمة.
والحق سبحانه يقول:
سقُونَ }
لغٌ َفهَلْ ُيهَْلكُ ِإلّ ا ْل َقوْمُ ا ْلفَا ِ
عةً مّن ّنهَارٍ بَ َ
{ كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ سَا َ
[الحقاف.]35 :
أي :أن الدنيا تمر عليهم في لهو ولعب ومشاغل ،ولم يأخذوا الحياة بالجد اللئق بها؛ فضاعت
منهم وكأنها ساعة.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا:
{ وَ َيوْمَ َيحْشُرُ ُهمْ كَأَن لّمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ سَاعَةً مّنَ ال ّنهَارِ } [يونس.]45 :
ن كانوا يتعارفون على البر ،وقسم مَنْ كانوا يتعارفون
ويوم الحشر ينقسم الناس قسمين :قسم مَ ْ
على الثم ،فالذين تعارفوا في الحياة الدنيا على البر يفرحون ببعضهم البعض ،وأما الذين تعارفوا
ضهُمْ
في الحياة الدنيا علىالثم فهم يتنافرون بالعداء ،والحق سبحانه هو القائل {:الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف.]67 :
وكذلك قال في الذين تعارفوا على الثم:
{ ِإذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ }[البقرة.]166 :
هم سيتعارفون على بعضهم البعض ،ولكن هذه المعرفة ل تدوم ،بل تنقلب إلى نكران ،فالواحد
منهم ل يريد أن يرى مَنْ كان سببا في أن يؤول إلى هذا المصير ،وتعارفهم سيكون تعارف
تعنيف.
ويقول الحق سبحانه:
خسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِِلقَآءِ اللّهِ } [يونس.]45 :
{ َقدْ َ
وساعة تسمع كلمة " خسر " فاعرف أن المر يتعلق بتجارة ما ،والخسارة تعنى :أن يفقد النسان
المتاجر إما جزءا من رأس المال ،أو رأس المال كله.
ومراحل التجارة ـ كما نعرف ـ إما كسب يزيد رأس المال المتاجَر فيه ،وإما الّ يكسب التاجر
ول يخسر؛ لكنه يشعر بأن ثمن عمله ووقته في هذه التجارة قد ضاع ،وكل ذلك يحدث في
الصفقات.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونجد الحق سبحانه وتعالى يصف العملية اليمانية في الدنيا بقوله:
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َهلْ َأدُلّكمْ عَلَىا ِتجَا َرةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ
سكُمْ َذِلكُمْ خَيْرٌ ّلكُمْ إِن كُن ُتمْ َتعَْلمُونَ }[الصف10 :ـ .]11
وَتُجَا ِهدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَنفُ ِ
ويقول سبحانه:
ل َة وَأَنفَقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلَنِيَةً يَرْجُونَ ِتجَا َرةً لّن
{ إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ وََأقَامُواْ الصّ َ
تَبُورَ }[فاطر.]29 :
والتجارة تعتمد على أنك ل تُقبل على عقد صفقة إل إذا غلب على ظنك أن هذه الصفقة سوف
تأتي لك بأكثر مما دفعت فيها.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصفقات الخاسرة:
حتْ تّجَارَ ُتهُ ْم َومَا كَانُواْ ُمهْتَدِينَ }[البقرة.]16 :
{ ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُاْ الضّلَلَةَ بِا ْلهُدَىا َفمَا رَبِ َ
ويقول أيضا:
{ وَإِذَا رََأوْاْ تِجَا َرةً َأوْ َلهْوا ان َفضّواْ إِلَ ْيهَا وَتَ َركُوكَ قَآئِما }[الجمعة.]11 :
وشاء الحق سبحانه أن يجعل معنى التجارة واضحا ومعبّرا عن كثير من المواقف؛ لن التجارة
تمثّل جماع كل حركة الحياة؛ فهذا يتحرك في ميدان؛ لينفع نفسه ،وينفع غيره ،وغيره يعمل في
ميدان آخر؛ فينفع نفسه ،وينفع غيره.
وبهذا يتحقق نفع النسان من حركة نفسه وحركة غيره ،وهو يستفيد من حركة غيره أكثر مما
يستفيد من حركته هو ،ومن مصلحة أي إنسان أن يحسّن كل إنسان حركته؛ فيرتاح هو؛ لن ما
سوف يصل إليه من حركة الناس سيكون جيد التقان.
والتجارة تحمل أيضا الوساطة بين المنتج والمستهلك.
ولذلك حين أراد ال سبحانه أن نستجيب لذان الجمعة قال:
س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه َوذَرُواْ الْبَيْعَ َذِلكُمْ خَيْرٌ
ج ُمعَةِ فَا ْ
لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا نُو ِديَ لِلصّ َ
ّلكُمْ إِن كُن ُتمْ َتعَْلمُونَ }[الجمعة.]9 :
ولم يقل ال سبحانه :اتركوا الزراعة أو اتركوا الصناعة ،أو اتركوا التدريس ،بل اختار من كل
حركات الحياة حركة البيع؛ لن فيه تجارة ،والتجارة هي الجامعة لكل حركات الحياة.
والتاجر وسيط بين منتج ومستهلك وتقتضي التجارة شراءً وبيعا ،والشراء يدفع فيه التاجر ثمنا،
أما في البيع فهو يأخذ الثمن ،والغاية من كل شيء أن يتموّل النسان.
لذلك فالبيع أفضل عند التاجر من الشراء ،فأنت تشتري شيئا وأنت كاره له ،لحتياجك إليه،
ولكنك عند بيع البضاعة تشعر بالسعادة والشراق ،ولن الشراء فيه أخذ ،والبيع فيه عطاء،
والعطاء يرضي النفس دائما؛ لن ثمرة الصفقة تأتيك في لحظتها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شذّب النبات ،وتنتظر
وإن كنت مزارعا فأنت ُتعِدّ الرض ،وتحرثها ،وتبذر البذور ،وترويها ،وتُ َ
إلى أن ينضج الزرع ،وكذلك تقضي الكثير من الوقت في إتقان الصنعة إن كنت صانعا ،لكن
البيع في التجارة ياتي لك بالكسب سريعا ،فكأن ضَ ْربَ المثل في التجارة ،جاء من أصول التجارة
بالبيع ولم يأت بالشراء.
إذن :ل بد أن نعتبر أن دخولك في صفقة اليمان تجارة ،تأخذ منها أكثر من رأسمالك ،وتربح،
أما إن تركت بعضا من الدّين؛ فأنت تخسر بمقدار ما تركت ،بل وأضعاف ما تركت.
وأنت في أية صفقة قد تعوّض ما خسرت فيما بعد ،وإن استمرت الخسارة فإن أثرها ل يتجاوز
الدنيا ،ويمكن أن تربح بعدها ،وإذا لم تربح ،فسيضيع عليك تعبك فقط؛ ولن الدنيا محدودة
الزمن؛ فخسارتها محتملة ،أما الخسارة في الزمان غير الموقوت ـ الزمن الدائم ـ فهي خساة
كبيرة؛ لن الخرة ليس فيها أغيار كالدنيا ،وأنت في الخرة:إما في جنة ذات نعيم مقيم ،وفي هذا
ربح وكسب كبير ،وإما إلى نار ،وهذه هي الخسارة الحقيقة.
والخسران الحقيقي أن يكذّب النسان ،ل بنعيم ال فقط ،ولكن بلقاء ال أيضا.
يقول الحق سبحانه:
خسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِِلقَآءِ اللّهِ { [يونس.]45 :
} َقدْ َ
أي :أن ال سبحانه لم يكن في بالهم ،وهو حين تقوم الساعة يجدون ال ـ سبحانه وتعالى ـ
أمامهم.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
ظمْآنُ مَآءً }[النور.]39 :
عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ
{ وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
والسراب كما نعلم يراه السائر في الصحراء ،وهو عبارة عن انعكاس للضوء؛ فيظن أن أمامه
ماء ،ولكن إن سار إليه النسان لم يجده ماء ،وهكذا شبّه الحق سبحانه عمل الكافر بمن يسير في
صحراء شاسعة ،ويرى السراب؛ فيظنه ماءً ،لكنه سراب ،ما إن يصل إليه حتى ينطبق عليه قول
الحق سبحانه:
جدَ اللّهَ عِن َدهُ }[النور.]39 :
{ حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا وَوَ َ
أي :أنه يُفاجأ بوجود ال سبحانه وتعالى ،فيوفيه ال حسابه.
ولذلك فالذي يكفر بال ويعمل ما يفيد البشر ،فإنه يأخذ حسابه ممن عمل له ،ول يُحسب له ذلك
في الخرة ،وتجد الناس يُكرّمونه ،ويقيمون له التماثيل أو يمنحونه الجوائز وينطبق عليه قول
الرسول صلى ال عليه وسلم:
" فعلتَ ليقال ،وقد قيل ".
وهنا يقول الحق سبحانه عن الذين َكذّبوا بلقاء ال تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} َومَا كَانُواْ ُمهْتَدِينَ { [يونس.]45 :
أي :لم يكونوا سائرين على المنهج الذي وضعه لهم خالقهم سبحانه؛ هذا المنهج الذي يمثّل قانون
الصيانة لصنعة ال تعالى ،وقد خلق ال سبحانه النسان لمهمة ،وال سبحانه يصون النسان
بالمنهج من أجل أن يؤدي هذه المهمة.
والهداية هي الطريق الذي إن سار فيه النسان فهو يؤدي به إلى تحقيق المهمة المطلوبة منه؛ لن
الحق سبحانه قد جعله الخليفة في الرض.
ومن ل يؤمن برب المنهج سبحانه وتعالى ول يطبق المنهج فهو إلى الخسران المبين ،أي:
الخسران المحيط.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُهُمْ {
()1396 /
وقول الحق سبحانه { :وَِإمّا } مكونة من " إن " و " ما " مدغومتين ،وهنا يبين لنا الحق سبحانه
أنه يعد الذين كذبوا رسوله صلى ال عليه وسلم بالعذاب والهوان والعقاب والفضيحة.
أي :يا محمد ،إما أن ترى ما قلناه فيهم من خذلن وهوان ،وإما أن نتوفينّك قبل أن ترى هذا في
الدنيا ،ولكنك ستراه في الخرة حين تشاهدهم في الهوان البدي الذي يصيبهم في اليوم الخر.
وفي هذا تسرية لرسول ال صلى ال عليه وسلم.
وقول الحق سبحانه:
{ وَِإمّا نُرِيَ ّنكَ } [يونس ]46 :أي :أن نريك ما وعدناهم من الخذلن والهوان في هذه الحياة ،وإن
لم تره في الحياة الدنيا فلسوف ترى هوانهم في الخرة ،حيث المرجع إلى ال تعالى؛ لنه سبحانه
سيصيبهم في أنفسهم بأشياء فوق الهوان الذي يُرى في الناس؛ كحسرة في النفس ،وكبْت للسى
حين يرون نصر المؤمنين.
أما الذي يُرى فهو المر الظاهر ،أي :الخذلن ،والهزيمة ،والسى ،والقتل ،وأخْذ الموال ،وسَبْي
النساء والولد ،أو غير ذلك مما سوف تراه فيهم ـ بعد أن تفيض روحك إلى خالقها ـ فسوف
ترى فيهم ما وعدك ال به.
شهِيدٌ عَلَىا مَا َي ْفعَلُونَ } [يونس.]46 :
وأنت لن تحتاج إلى شهادة من أحد عليهم ،لنه سبحانهَ { :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شهِيدا }[النساء.]79 :
وكفاك ال سبحانه شهيداَ {:و َكفَىا بِاللّهِ َ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وَِل ُكلّ ُأمّةٍ رّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُوُلهُمْ }
()1397 /
والحق سبحانه ل يظلم أحدا ،ول يعذب قوما إل بعد أن يكفروا بالرسول الذي أرسله إليهم ،وهو
سبحانه القائل:
{ وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر.]24 :
وهو سبحانه القائل أيضا:
{ لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا ِبظُلْمٍ وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ }[النعام.]131 :
فل تجريم ول عقوبة إل بنص وببيان لتجريم هذا الفعل أو ذاك ،بإرسال الرسل؛ حتى ل يحتج
أحد بأنه لم يصل إليه شيء يحاسب بمقتضاه.
والحق سبحانه هنا يبيّن أن لكل أمة رسولً يتعهدها بأمور المنهج.
وقد خلق الحق سبحانه كل الخلق ،وكانوا موحّدين منذ ذرية آدم ـ عليه السلم ـ ثم اقتضت
الحداث أن يتباعدوا ،وانتشروا في الرض ،وصارت اللتقاءات بعيدة ،وكذلك المواصلت،
وتعددت الفات بتعدد البيئات.
ولكن إذا تقاربت اللتقاءات ،وصارت المواصلت سهلة ،فما يحدث في الشرق تراه في لحظتها
وأنت في الغرب ،فهذا يعني توحّد الفات أو تكاد تكون واحدة؛ لذلك كان ل بد من الرسول الخاتم
صلى ال عليه وسلم ،أما في الزمنة القديمة ،فقد كانت أزمنة انعزالية ،تحيا كل جماعة بعيدة عن
الخرى؛ ولذلك كان ل بد من رسول لكل جماعة؛ ليعالج داءات البيئة ،أمَا وقد التقت البيئات،
فالرسول الخاتم يعالج كل الداءات.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
ط وَ ُه ْم لَ يُظَْلمُونَ } [يونس.]47 :
ضيَ بَيْ َن ُهمْ بِا ْلقِسْ ِ
{ وَِل ُكلّ ُأمّةٍ رّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُوُلهُمْ ُق ِ
وقد حكى التاريخ لنا ذلك ،فكل رسول جاء آمن به البعض ،وكفر به البعض الخر ،والذين آمنوا
به انتصروا ،ومَنْ كفروا به هُ ِزمُوا.
أو أن الية عامة { وَِل ُكلّ ُأمّةٍ رّسُولٌ } أي :تُنادي كل أمة يوم القيامة باسم رسولها ،يا أمة محمد
صلى ال عليه وسلم ،ويا أمة موسى ،ويا أمة عيسى ...إلخ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه يقول:
شهِيدا * َي ْومَئِذٍ َيوَدّ الّذِينَ َكفَرُواْ
شهِي ٍد وَجِئْنَا ِبكَ عَلَىا هَـاؤُلءِ َ
{ َفكَ ْيفَ إِذَا جِئْنَا مِن ُكلّ ُأمّةٍ ِب َ
حدِيثا }[النساء41 :ـ .]42
ض َولَ َيكْ ُتمُونَ اللّهَ َ
سوّىا ِبهِ ُم الَ ْر ُ
عصَوُاْ الرّسُولَ َلوْ تُ َ
وَ َ
إذن :فالحق سبحانه هنا يبيّن أن لكل أمة رسولً جاءها بالبلغ عن ال ،وقد آمن به مَنْ آمن،
ن كفر ،وما دام اليمان قد حدث ـ وكذلك الكفر ـ فل بد من القضاء بن المؤمنين
وكفر به مَ ْ
والكافرين.
لذلك يقول الحق سبحانه:
ط وَهُ ْم لَ ُيظَْلمُونَ } [يونس.]47 :
سِضيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِ ْ
{ فَِإذَا جَآءَ رَسُوُلهُمْ ُق ِ
وما دام في المر قضاء ،فل بد أن المؤمن يَعتبر الكافر منازعا له ،وأن الكافر يَعتبر المؤمن
منازعا له ،ويصير المر قضية تتطلب الحكم؛ لذلك يقول الحق سبحانه:
ظَلمُونَ } [يونس.]47 :
ط وَهُ ْم لَ يُ ْ
سِضيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلقِ ْ
{ ُق ِ
أي :يُقضي بينهم بالعدل ،فالمؤمنون يتقصّى الحق سبحانه حسناتهم ويزيدها لهم ،أما الكافرون فل
توجد لهم حسنات؛ لنهم كفروا بال الحق؛ فيوردهم النار ،وهم قد أبلغهم رسول ال صلى ال
عليه وسلم أنه سيأتي يوم يُسألون فيه عن كل شيء ،فاستبعدوا ذلك وقالوا:
()1398 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ ()48
هذا النكار والتكذيب والستهزاء هو منطق المشركين والملحدين في كل زمان ومكان ،وفي
العصر القريب قاله الشيوعيون عندما قاموا بثورتهم الكاذبة ،وذبحوا الطبقة العليا في المجتمع
بدعوى رفع الظلم عن الفقراء.
وإذا ما كانوا قد آمنوا بضرورة الثواب والعقاب ،فمن الذي يحكم ذلك؟ هل الظالم يحكم على
ظالم ،فتكون النتيجة أن الظالم سيهلك بالظالم ،وقد حدث ،فأين الشيوعيون الن؟
لماذا لم يلتفتوا إلى أن لهذا الكون خالقا يعاقب من ظلموا من قبل ،أو من يظلمون من بعد؟
إنهم لم يلتفتوا؛ لنهم اتخذوا المادة إلها ،وقالوا :ل إله ،والحياة مادة ،فأين هم الن؟
وإن كنتم قد تملّكتم في المعاصرين لكم ،وادعيتم أنكم نشرتم العدل بينهم ،فماذا عن الذين سبقوا،
والذين لحقوا؟
هم ـ إذن ـ لم يلتفتوا إلى أن ال سبحانه وتعالى قد شاء أل يموت ظالم إل بعد أن ينتقم ال منه.
وهم لم يلتفتوا إلى أن وراء هذه الدار دارا أخرى يجُازَى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وكان المنطق يقتضي أن يؤمن هؤلء بأن لهذا الكون إلها عادلً ،ول بد أن يجيء اليوم الذي
يجازى فيه كل إنسان بما عمل ،ولكنهم سخروا مثل سخرية الذين كفروا من قبلهم ،وجاء خبرهم
في قول ال سبحانه على ألسنتهم { :وَ َيقُولُونَ مَتَىا هَـاذَا ا ْلوَعْدُ إِن كُن ُت ْم صَا ِدقِينَ } [يونس.]48 :
ولكن وعد ال حق ،ووعد ال قادم ،ومحمد صلى ال عليه وسلم رسول من ال ،يبلغ ما جاء من
عند ال تعالى ،فرسول ال صلى ال عليه وسلم ل يملك لنفسه شيئا.
ولذلك يقول القرآن بعد ذلك { :قُل لّ َأمِْلكُ لِ َنفْسِي ضَرّا َولَ َنفْعا }
()1399 /
عةً
جلٌ ِإذَا جَاءَ َأجَُلهُمْ فَلَا َيسْتَأْخِرُونَ سَا َ
ُقلْ لَا َأمِْلكُ لِ َنفْسِي ضَرّا وَلَا َن ْفعًا إِلّا مَا شَاءَ اللّهُ ِل ُكلّ ُأمّةٍ أَ َ
وَلَا يَسْ َتقْ ِدمُونَ ()49
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فهناك في المور الختيارية ضر ونفع.
ومثال ذلك :من ينتحر بأن يشنق نفسه ،فهو يأتي لنفسه بالضر ،وقد ينقذه أقاربه ،وذلك بمشيئة ال
سبحانه.
إذن :ففي المور الختيارية يملك النسان ـ بمشيئة ال ـ الضر أو النفع لنفسه ،وال سبحانه
يبين لنا أن لكل أمة أجلً ،فل تحددوا أنتم اجال المم؛ لن آجالهم ـ استئصالً ،أو عذابا ـ هي
من عند ال سبحانه وتعالى.
والعباد دائما يعجلون ،وال ل يعجل بعجلة العباد ،حتى تبلغ المور ما أراد سبحانه ،فال تعالى
مُنزّه أن يكون موظفا عند الخلق ،بل هو الخالق العلى سبحانه وتعالى.
وهو سبحانه القائل:
{ سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَ تَسْ َت ْعجِلُونِ }[النبياء.]37 :
وهو سبحانه القائل:
عجُولً }[السراء.]11 :
ن الِنْسَانُ َ
ع الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِالْخَيْ ِر َوكَا َ
{ وَيَ ْد ُ
خلْق ،وإذا جاء الجل فهو ل يتأخر عن ميعاده ،ول
إذن :فالحق سبحانه يؤخّر مراداته رحمة بال َ
يتقدم عن ميعاده.
لذلك يقول الحق سبحانه:
} ِإذَا جَآءَ َأجَُلهُمْ فَلَ يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَةً وَلَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ { [يونس.]49 :
وقوله سبحانهَ } :يسْ َتقْ ِدمُونَ { ليست من مدخلية جواب الشرط الذي جاء بعد } ِإذَا جَآءَ َأجَُلهُمْ
{ [يونس.]49 :
لن الجواب هو } :فَلَ َيسْتَأْخِرُونَ {.
فهم ل يستقدمون قبل أن يحين الجل.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ أَتَا ُكمْ عَذَاُبهُ بَيَاتا {
()1400 /
وهذا َردّ شافٍ على استعجالهم للعذاب ،فإن جاءكم العذاب فَلْنَرَ ماذا سيكون موقفكم.
وهُمْ باستعجالهم العذاب يبرهنون على غبائهم في السؤال عن وقوع العذاب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقول الحق سبحانه { :أَرَأَيْ ُتمْ } .أي :أخبروني عما سوف يحدث لكم.
وشاء الحق سبحانه أن يأتي أمر العذاب هنا مبهما من جهة الزمان فقال سبحانه:
{ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتا َأوْ َنهَارا } [يونس.]50 :
والبيات مقصود به الليل؛ لن الليل محل البيتوتة ،و النهار محل الظهور.
والزمن اليومي مقسوم لقسمين :ليل ،ونهار.
وشاء الحق سبحانه إبهام اليوم والوقت ،فإن جاء ليلً ،فالنسان في ذلك الوقت يكون غافلً نائما
في الغالب ،وإن جاء نهارا ،فالنسان في النهار مشغول بحركة الحياة.
والحق سبحانه يقول في موضع آخر:
{ َأفََأمِنَ َأ ْهلُ ا ْلقُرَىا أَن يَأْتِ َي ُهمْ بَأْسُنَا بَيَاتا وَ ُهمْ نَآ ِئمُونَ }[العراف.]97 :
ويقول سبحانه:
ضحًى وَ ُهمْ يَ ْلعَبُونَ }[العراف.]98 :
{ َأوَ َأمِنَ َأ ْهلُ ا ْلقُرَىا أَن يَأْتِ َي ُهمْ بَأْسُنَا ُ
ولو نظرت إلى الواقع لوجدت أن العذاب يأتي في الليل وفي النهار معا ،لن هناك بلدا يكون
الوقت فيها ليلً ،وفي ذات الوقت يكون الزمن نهارا في بلد أخرى.
وإذا جاء العذاب بغتة ،وحالوا إعلن اليمان ،فلن ينفعهم هذا اليمان؛ لن الحق سبحانه يقول
فيمن يتخذ هذا الموقف:
سدِينَ }[يونس.]91 :
ل َوكُنتَ مِنَ ا ْل ُمفْ ِ
عصَ ْيتَ قَ ْب ُ
ن َوقَدْ َ
{ آل َ
فإن جاءكم العذاب الن لما استقلتم منه؛ لنه لن ينفعكم إعلن اليمان ،ولن يقبل ال منكم ،وبذلك
يصيبكم عذاب في الدنيا ،بالضافة إلى عذاب الخرة ،وهذا الستعجال منكم للعذاب يضاعف لكم
العذاب مرتين ،في الدنيا ،ثم العذاب الممتد في الخرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :أَثُمّ ِإذَا مَا َوقَعَ آمَنْ ُتمْ بِهِ }
()1401 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[يونس.]90 :
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ { :ثمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظََلمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ }
()1402 /
ثُمّ قِيلَ لِلّذِينَ ظََلمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُ ْلدِ َهلْ تُجْ َزوْنَ إِلّا ِبمَا كُنْ ُتمْ َتكْسِبُونَ ()52
وهذا إخبار عن العذاب القادم لمن كفروا ويلقونه في اليوم الخر ،فهم بكفرهم قد ظلموا أنفسهم
في الدنيا ،وسيلقون العذاب في الخرة ،وهو { عَذَابَ ا ْلخُلْدِ } أي :عذاب ل ينتهي.
وينهي الحق سبحانه الية بقولهَ { :هلْ ُتجْ َزوْنَ ِإلّ ِبمَا كُن ُتمْ َتكْسِبُونَ }.
أي :أن الحق سبحانه لم يظلمهم ،فقد بلغهم برسالة اليمان عن طريق رسول ذي معجزة ،ومعه
منهج مفصّل مؤيّد ،وأمهلهم مدة طويلة ،ولم يستفيدوا منها؛ لنهم لم يؤمنوا.
إذن :فسيلقون عذاب الخلد ،وقد جاء سبحانه هنا بخبر عذاب الخلد؛ لن عذاب الدنيا موقوت ،فيه
خزي وهوان ،لكن محدوديته في الحياة يجعله عذابا قليلً بالقياس إلى عذاب الخرة المؤبد.
وجاء الحق سبحانه بأمر عذاب الخلد كأمر من كسبهم ،والكسب زيادة عن الصل ،فمن يتاجر
بعشر جنيهات ،قد يكسب خمسة جنيهات.
وهنا سؤال :هل الذي يرتكب معصية يكسب زيادة عن الصل؟
نعم؛ لن ال سبحانه حرّم عليه أمرا ،وحلله هو لنفسه ،فهو يأخذ زيادة في التحليل ،وينقص من
التحريم وهو يظن أنه قد كسب بمفهومه الوهمي الذي زين له مراد النفس المارة ،وهذا يعني أنه
ينظر إلى واقع اللذة في ذاتها ،ول ينظر إلى تبعات تلك اللذة ،وهو يظن أنه قد كسب ،رغم أنه
خاسر في حقيقة المر.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه { :وَيَسْتَنْبِئُو َنكَ َأحَقّ ُهوَ }
()1403 /
()1404 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضيَ بَيْ َن ُهمْ
ب َو ُق ِ
وََلوْ أَنّ ِل ُكلّ َنفْسٍ ظََل َمتْ مَا فِي الْأَ ْرضِ لَافْ َت َدتْ ِب ِه وَأَسَرّوا النّدَامَةَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَا َ
ط وَ ُهمْ لَا ُيظَْلمُونَ ()54
بِا ْلقِسْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والبلغة الحقّة تتجلّى في اليتين؛ لن القارىء لصَدْر كل آية منهما ،والفاهم للمَلَكه اللغوية
عجُز كل آية يناسب صدرها.
العربية أن َ
ومن يقرأ قول الحق سبحانه:
{ وَا ّتقُواْ َيوْما لّ تَجْزِي َنفْسٌ عَن ّنفْسٍ }[البقرة.]48 :
يرى أنه أمام نفسين :النفس الولى هي التي تقدّم الشفاعة ،والنفس الثانية هي المشفوع لها.
والشفاعة هنا ل تُقبل من النفس الولى الشافعة ،وكذلك ل يُقبل العدل.
وفي الية الثانية لتُقبل الشفاعة ول العدل من النفس المشفوع لها ،فهي تحاول أن تقدم العدل
أولً ،ثم حين ل ينفعها تأتي بالشفيع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الظالم.
هذا هو معنى } َو ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ { لنها تتطلب قضاء ،أي :عدم تحيز ،وتتطلب الفصل بين
خصومتين.
ويترتب على هذا القضاء حكم؛ لذلك يبين لنا الحق سبحانه أنهم ـ وإن كانوا كافرين به ـ إل أنه
إن وقع من أحدهم ظلم على الخر ،فالحق رب الجميع وخالق الجميع ،كما أعطاهم بقانون
الربوبية كل خير مثلما أعطى المؤمنين ،فهو سبحانه الذي أعطى الشمس ،والماء ،والهواء ،وكل
وسائل الرزق والقُوت لكل الناس ـ مؤمنهم ،وكافرهم ـ فإذا ما حدث ظلم بين متدينين بدين
واحد ،أو غير متدينين ،فل بد أن يقضي فيه الحق سبحانه بالفصل والحكم بالعدل.
ت وَالَرْضِ {
سمَاوَا ِ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :أَل إِنّ للّهِ مَا فِي ال ّ
()1405 /
و " أل " في اللغة يقال عنها " أداة تنبيه " وهي تنبه السامع أن المتكلم سيقول بعدها كلما في
غاية الهمية ،والمتكلم ـ كما نعلم ـ يملك زمام لسانه ،بحكم وضعه كمتكلم ،لكن السامع يكون
في وضع المُفاجَأ.
وقد يتكلم متكلم بما دار في ذهنه ليبرزه على لسانه للمخاطب ،ولكن المخاطب يفاجأ ،وإلى أن
ينتبه قد تفوته كلمة أو اثتنان مما يقوله المتكلم.
وال سبحانه وتعالى يريد ألّ يفوت السامع لقوله أي كلمة ،فأتى بأداة تنبيه تنبه إلى الخبر القادم
بعدها ،وهو قول الحق سبحانه:
ت وَالَرْضِ } [يونس.]55 :
سمَاوَا ِ
{ إِنّ للّهِ مَا فِي ال ّ
هكذا شاء الحق سبحانه أن تأتي أداة التنبيه سابقة للقضية الكلية ،وهي أنه سبحانه مالك كل شيء،
فهو الذي خلق الكون ،وخلق النسان الخليفة ،وسخّر الكون للنسان الخليفة ،وأمر السباب أن
تخضع لمسببات عمل العامل؛ فكل من يجتهد ويأتي بالسباب؛ فهي تعطيه ،سواء أكان مؤمنا أو
كافرا.
وإذا خدمت السبابُ النسانَ ،وكان هذا النسان غافلً عن ربه أو عن اليمان به ،ويظن أن
السباب قد دانت له بقوته ،ويفتن بتلك السباب ،ويقول مثلما قال قارون:
علْمٍ عِندِي }[القصص.]78 :
{ قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالذي نسي مسبّب السباب ،وارتبط بالسباب مباشرة ،فهو ينال العذاب ،إن لم يكن في الدنيا ففي
الخرة؛ فكأن الحق سبحانه ينبههم :تَنّبهوا أيها الجاهلون ،وافهموا هذه القضية الكبرى { :إِنّ للّهِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ } [يونس.]55 :
مَا فِي ال ّ
فإياك أيها النسان أن تغترّ بالسباب ،أو أنك بأسبابك أخذت غير ما يريده ال لك ،فهو سبحانه
الذي أعطاك وقدّر لك ،وكل السباب تتفاعل لك بعطاء وتقدير من ال عز وجل.
وفي أغيار الكون الدليل على ذلك ،ففكرك الذي تخطّط به قد تصيبه آفة الجنون ،والجوارح مثل
ي منها بمرض؛ فل تعرف كيف تتصرف.
اليد أو القدم أو اللسان أو العين أو الذن قد تُصاب أ ّ
وكل ما تأتي فيه الغيار؛ فهو ليس من ذاتك ،وكل ما تملكه موهوب لك من مسبّب السباب.
فإياك أن تنظر إلى السباب ،وتنسى المسبّب؛ لن ل ملك الشياء التي تحوزها والدوات التي
تحوز بها؛ بدليل أنه سبحانه حين يشاء يسلبها منك ،فتنبه أيها الغافل ،وإياك أن تظن أن السباب
هي الفاعلة ،بدليل أن ال سبحانه وتعالى يخلق السباب؛ ثم يشاء أل تأتي بنتائجها ،كمن يضع
بذور القطن ـ مثلً ـ ويحرث الرض ،ويرويها في مواعيدها ،ثم تأتي دودة القطن لتأكل
المحصول.
إذن :فمردّ كل مملوك إلى ال تعالى.
واعلمْ أن هناك مِلْكا ،وإن هناك مُلْكا ،والمِلْك هو ما تملكه؛ جلبابا؛ أو بيتا ،أو حمارا ،إلى غير
ذلك ،أما المُلْك فهو أن تملك من له مِلْك ،وتسيطر عليه ،فالقمة ـ إذن ـ في المُلْك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإنفاذ الوعد له عناصر :أولها الفاعل ،وثانيها المفعول ،وثالثها الزمان ،ورابعها المكان ،ثم
السبب.
والحدث يحتاج إلى قدرة ،فإن قلت " :آتيك غدا في المكان الفلني لكلمك في موضوع كذا " فماذا
تملك أنت من عناصر هذا الحدث؛ إنك ل تضمن حياتك إلى الغد ،ول يملك سامعك حياته ،وكذلك
المكان الذي تحدد فيه اللقاء قد يصيبه ما يدمّره ،والموضوع الذي تريد أن تتحدث فيه ،قد يأتي
لك خاطر أل تتحدث فيه من قبل أن يتم اللقاء.
و َهبْ أن كل العناصر اجتمعت ،فماذا تملك أنت أو غيرك من عناصر الوعد؟ ل شيء أبدا.
ولذلك يعلّم ال سبحانه خَلْقه الدب في إعطاء الوعود ،التي ل يملكونها ،فيقول سبحانه:
علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ }[الكهف23 :ـ .]24
{ َولَ َتقْولَنّ ِلشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ
وحين تقدّم المشيئة فإن حدث لك ما يمنع إنفاذ الوعد فلن تكون كذابا.
وهكذا يعلّمنا ربنا صيانة أخبارنا عن الكذب ،وجعلنا نتكلم في نطاق قُدراتنا ،وقُدراتنا ل يوجد
فيها عنصر من عناصر الحدث ،لكن إذا قال ال سبحانه ،ووعد ،فل رادّ لما وعد به سبحانه؛ لنه
منزّه عن أن ُيخْلف الميعاد؛ لن عناصر كل الحداث تخضع لمشيئته سبحانه ،ولَ تتأبّى عليه،
ووعده حق وثابت.
أما أنت فتتحكم فيك الغيار التي يُجريها الحق سبحانه عليك.
و َهبْ أنك أردت أن تبني بيتا ،وقلت للمهندس المواصفات الخاصة التي تريدها في هذا البيت،
لكن المهندس لمي يستطع أن يشتري من السواق بعضا من المواد التي حددتها أنت ،فأنت ـ إذن
ـ قد أردت ما ل يملك المهندس تصرّفا فيه.
لكن المر يختلف بالنسبة للخالق العلى سبحانه؛ فهو الذي يملك كل شيء ،وهو حين يَعد يصير
وَعْدُه محتّم النفاذ ،ولكن الكافرين ينكرون ذلك؛ ولذلك قال ال سبحانه:
} وَلَـاكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَ َيعَْلمُونَ { [يونس.]55 :
أي :أنهم ل يعلمون هذه الحقيقة ،فقد سبق أن قالوا:
{ مَتَىا هَـاذَا ا ْلوَعْدُ }[يونس.]48 :
أو أن } َأكْثَرَهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ { تعني :أن النسان يجب ألّ يضع نفسه في موعد دون أن يقدّم
المشيئة؛ لنه ل يملك من عناصر أي وعد إل ما يشاؤه ال تعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :هوَ يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ {
()1406 /
جعُونَ ()56
ُهوَ يُحْيِي وَ ُيمِيتُ وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حيّ؛ لنه مالك
ونحن نعلم أن حركة الحياة ،والمِلْك والمُلْك ،هي فروع من الحياء ،وهو سبحانه َ
الصل ،وهو القادر على أن يميت ،وكل ما يصدر عن الحياة يسلبه ال سبحانه بالموت فهو مالك
الشياء ،والسباب التي تُنتج الشياء ،ول يفوته شيء من وعد ول وعيد ،ونحن نحيا بمشيئته
سبحانه ،ونموت بمشيئته سبحانه ،فلن نفلت منه.
جعُونَ } فمن ل يعتبر بأمر الحياء؛ عليه أن يرتدع بخوف الرجعة.
لذلك قال سبحانه { :وَإِلَيْهِ تُ ْر َ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :ياأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآءَ ْت ُكمْ ّموْعِظَةٌ }
()1407 /
والخطاب هنا للناس جميعا؛ لن الحق سبحانه حين يخاطب المؤمنين بقوله تعالى:
{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ }[البقرة.]104 :
فهذا خطاب لمن آمن بالمنهج.
والحق سبحانه وتعالى يخاطب الناس كافّ ًة بأصول العقائد ،مثل قول الحق سبحانه:
{ ياأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُواْ رَ ّب ُكمُ }[النساء.]1 :
أما المؤمنون فسبحانه يكلّفهم بخطابه إليهم ،من مثل قول الحق سبحانه:
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ }[البقرة.]183 :
ومثل قول الحق:
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى }[البقرة.]178 :
أي :أن خطابه سبحانه للمؤمنين يكون دائما في الحكام التي يخطاب بها المؤمنين ،أما في أصول
العقائد واليمان العلى بالواجد الموجِد ،فهذا يكون خطابا للناس كافة.
والحق سبحانه يقول هنا:
{ ياأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآءَ ْتكُمْ ّموْعِظَةٌ } [يونس.]57 :
والية هنا تصوّر الموعظة وكأنها قد تجسّدت وصار لها مجيء ،رغم أن الموعظة هي كلمات،
وأراد ال تعالى بذلك أن يعطى للموعظة صورة الحركة التي تؤثّر وتحضّ على اليمان.
والموعظة هي الوصية بالخير والبعد عن الشر بَلفْظ ٍمؤثّر ،ويقال :فلن واعظ متميز ،أي :أن
كلمه مستميل وأسلوبه مؤثر وجميل ،والموعوظ دائما أضعف من الواعظ ،وتكون نفس الموعوظ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثقيلة ،فل تتقبل الموعظة بيسر إل ممن يجيد التأثير بجمال الكلمة وصدق الداء؛ لن الموعوظ قد
يقول في نفسه :لقد رأيتني في محل دونك وتريد أن ترفعني ،وأنت أعلى مني .فإذا قدّر الواعظ
هذ الظرف في الموعوظ فهو يستميل نفسه.
ولنتذكر الحكمة التي تقول " :النصح ثقيل ،فل تجعلوه جَ َدلً ،ول ترسلوه جَبَلً ،واستعيروا له
خفّةالبيان "؛ وذلك لتستميل أذن السامع إليك فتأتي له بالسلوب الجميلَ المقنع الممتع الذي يعجبه،
ِ
وتلمس في نفسه صميم ما ترغب أن يصل إليه.
والموعظة تختلف عن الوصية؛ لن الوصية عادة ل تتأتى إل في خلصة حكمة الشياء ،و َهبْ
أن إنسانا مريضا وله أولد ،وحضرته الوفاة ،فيقولم بكتابة َوصِيّته ،ويوصيهم بعيون المسائل.
والحق سبحانه يقول هنا:
{ َقدْ جَآءَ ْتكُمْ ّموْعِظَةٌ } [يونس.]57 :
والموعظة إما أن تسمعها أو تفرضها ،ولنها موعظة قادمة { مّن رّ ّب ُكمْ } فل بد من اللتفات
والنتباه ،وملحظة أن الحق سبحانه قد اختص الموعظة بأنها من الرب ،ل من الله؛ لن الله
يريدك عابدا ،لكن الرب هو المربّي والكفيل ،وإن كفرت به.
وهذه الموعظة قادمة من الرب ،أي :أنها من كمالت التربية ،ونحن نعلم أن متعلقات الربوبية
تتوزع مابين قسمين :القسم الول هو مقوّمات الحياة التي يعطيها الحق سبحانه من قُوت ورزق
ـ وهذه المقومات للمؤمن ،وللكافر ـ والقسم الخر هو مقومات القيم التي ترسم منهج حركة
الحياة ،وهذه للمؤمن فقط.
إذن :فالموعظة هي نوع من التربية جاءت من ربكم المأمون عليكم؛ لنه هو الذي خَلَق من عَدَم
وأمَدّ من عُدْم ،ولم يختص بنعمة الربوبية المؤمنين فقط ،بل شملت نعمته كل الخلق.
إذن :فالموعظة تجيء ممن يُعطي ول ينتظر منك شيئا ،فهو سبحانه مُنزّه عن الغرض؛ لنه لن
ينال شَيئا منك فأنت ل تقدر على شيء مع قدرته سبحانه.
والموعظة القادمة بالمنهج تخصّ العقلء الراشدين؛ لن حركة العاقل الراشد تمر على عقله أولً،
ويختار بين البدائل ،أما حركة المجنون فهي غير مرتّبة ول منسّقة ،ول تمر على عقله؛ لن عقله
مختل الدراك وفاقد للقدرة على الختيار بين البدائل.
ولكن لماذا يُفسِد العاقل الختيار بين البدائل؟
إن الذي يفسد حركة اختيار العاقل هو الهوى ،والهوى إنما ينشأ مما في النفس والقلب؛ ولذلك
يقول الحق سبحانه وتعالى في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
شفَآءٌ ّلمَا فِي الصّدُورِ { [يونس.]57 :
} َقدْ جَآءَ ْتكُمْ ّموْعِظَةٌ مّن رّ ّبكُ ْم وَ ِ
غلّ يؤثر في أحكامكم ،وحقد ،وحسد،
أي :أنه سبحانه قد أنزل عليكم ما يشفي صدوركم من ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومكر ،ويُنقّي باطن النسان؛ لن أي حركة من حركات النسان لها نبع وجداني ،ول بد أن يُشفى
النبع الوجداني؛ ليصحّ؛ حتى تخرج الحركات من الجوارج وهي نابعة من وجدان طاهر مُصفّى
وسليم؛ وبذلك تكون الحركات الصادرة من النسان سليمة.
ولذلك قال الحق سبحانه:
حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ { [يونس.]57 :
شفَآءٌ ّلمَا فِي الصّدُو ِر وَ ُهدًى وَرَ ْ
} وَ ِ
وجاءت كلمة " الشفاء " أولً ،لتبيّن أن الهداية الحقّة إلى الطريق المستقيم تقتضي أن ُتخْرِج ما في
قلبه من أهواء ،ثم تدلّه إلى المنهج المستقيم.
وإن سأل سائل عن الفارق بين الشفاء والرحمة؟ نجيب :إن الشفاء هو إخراج لما ُيمْرِض
الصدور ،أما الرحمة فهي اتْباع الهداية بما ل يأتي بالمرض مرة أخرى ،وأقرأ إن شئت قول
الحق سبحانه:
حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[السراء.]82 :
شفَآ ٌء وَ َر ْ
{ وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
وهكذا يتبيّن لنا أثر الموعظة :شفاء ،وهدى ،ورحمة ،إنها تعالج ليس ظواهر المرض فقط ،ولكن
تعالج جذور المرض.
إذن :فشفاء الصدور يجب أن يتم أولً؛ لذلك نجد الطبيب الماهر هو من ل ينظر إلى ظواهر
المرض فقط ليعالجها ،ولكنه يبحث عما خلف تلك الظواهر ،على عكس الطبيب غير المدرّب
العَجُول الذي يعالج الظاهر دون علج جذور المرض.
ومثال ذلك :طبيب المراض الجلدية غير الماهر حين يرى بثورا؛ فهو يعالجها بما يطمسها
ويزيلها مؤقّتا ،لكنها تعود بعد قليل ،أما الطبيب المدرّب الفاهم فهو يعالج السباب التي تُنتج
البثور ،ويزيلها بالعلج الفعّال؛ فيقضي على أسباب ظهورها.
وفي القرآن الكريم نجد قصة ابتلء سيدنا أيوب عليه السلم ،فقد قال له الحق سبحانه:
سلٌ بَا ِر ٌد وَشَرَابٌ }[ص.]42 :
{ ا ْر ُكضْ بِ ِرجِْلكَ هَـاذَا ُمغْتَ َ
أي :اضربْ برجلك ذلك المكان يخرجْ لك منه ماء بارد ،تغتسل منه؛ فيزيل العراض الظاهرة،
وتشرب منه ليعالج أصل الداء.
إذن :فالموعظة وكأنها تجسّدت ،فجاءت من ربكم ـ المأمون علكيم ـ شفاءً حتى تعالج المواجيد
التي تصدر عنها الفعال ،وتصبح مواجيد سليمة مستقيمة ،ل تحلّل فيها ،وهدى إلى الطريق
الموصّل إلى الغاية الحقّة ،ورحمة إن اتبعها النسان ل ُيصَابُ بأيّ داءٍ ،وهذه الموعظة تؤدي إلى
العمل المقبول عند ال سبحانه.
حتْ لك الربعة النابعة من الموعظة :الشفاء ،والهدى ،والرحمة والعمل الصالح،
ولكن إنْ ص ّ
ضلِ اللّهِ
فإيّاك أن تفرح بذلك؛ ففوق كل ذلك فضل ال عليك؛ ولذلك يقول الحق سبحانهُ } :قلْ ِبفَ ْ
حمَتِهِ {
وَبِرَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1408 /
ج َمعُونَ ()58
حمَ ِتهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُوا ُهوَ خَيْرٌ ِممّا يَ ْ
ضلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ
ُقلْ ِب َف ْ
وأنت وكل المؤمنين مهما عملوا في تطبيق منهج ال ،فكلّنا بعبادتنا لن نؤدي حَقّ النعم الموجودة
عندنا قبل أن ُنكَلّف ،وعلينا أن نتدبّر قول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لن يدخل أحدكم الجنة
ن يتغمّدني ال برحمته ".
بعمله " .قالوا :ول أنت يا رسول ال؟ قال " :ول أنا إل أ ْ
إذن :فإن افتخر إنسان بطاعته ل ،فهذه الطاعة تعود على العبد في دنياه ،وهو لن يؤدي بطاعته
حق كل النعم التي أسبغها ال عليه.
ومثال ذلك :إن العبد ل يُكلّف إل عند البلوغ ،أي :في سنّ الخامسة عشر تقريبا ،فإ نظر إلى النعم
التي أسبغها ال تعالى عليه حتى وصل إلى هذه السّنّ ،فهو لن يحصيها ،فما بالنا بالنعم التي
تغمرنا في كل العمر ،وحين يجازينا الحق في الخرة ،فهو ل يجازينا بالعدل ،بل يعاملنا بالفضل.
إذن :إياك أن تقول :أنا تصدّقتُ بكذا ،أو صلّيت كذا؛ حتى ل تورثك استجابتك لمنهج ال غرورا
ب معصية أورثتْ ُذلً وانكسارا ،خيرٌ من طاع ٍة أورثتْ
بعملك التعبّديّ ،وتذكّر القول المأثورُ " :ر ّ
عِزّا واستكبارا ".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ { :قلْ أَرَأَيْ ُتمْ مّآ أَن َزلَ اللّهُ َلكُمْ }
()1409 /
جعَلْ ُتمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ُقلْ آَللّهُ َأذِنَ َلكُمْ َأمْ عَلَى اللّهِ َتفْتَرُونَ
ُقلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ َلكُمْ مِنْ رِ ْزقٍ فَ َ
()59
إن تمتع النسان في الحياة بالمُلْك والمِلْك ،فكل ذلك يحتاج إلى استبقاء الحياة بالرزق الذي يهبُنَا
الحق سبحانه إيّاه ،وكذلك استبقاء النوع بالتزواج بين الذكر والنثى.
ولكن الرزق الذي يستبقي الحياة ل بُدّ أن يكون حللً؛ لذلك حدّد لنا الحق سبحانه وتعالى
المحرّمات فل تقربها ،وأنت عليك باللتزام بما حدّده ال ،فل تدخل أنت على ما حلّل ال لتح ّرمَه؛
لن الحق سبحانه حدّد لك من الطعام ما يستبقي حياتك ويعطيك وقودا لحركة الحياة ،فعاملْ نفسك
كما تعامل اللة التي تصنعها ،فأنت تعطي كل آلة الوقود المناسب لها لتؤدي مهمتها ،كذلك جعل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال سبحانه لك المواصفات التي تنفعك وتستفيد منها وتؤدي حركات الحياة بالطاقة التي يمدّك بها
ما حَلّله ال لك.
وكذلك حرّم ال عليك ما َيضُرّك.
وإياك أن تقول :ما دامت هذه الشياء تضرّني فلماذا خلقها ال؛ لن عليك أن تعرف أن هناك
فارقا بين رزق مباشر ،ورزق غير مباشر ،وكل ما في الكون هو رزق ،ولكنه ينقسم إلى رزق
مباشر تستفيد منه فورا ،وهناك رزق غير مباشر.
ومثال ذلك :النار ،فأنت ل تأكل النار ،لكنها تُنضِج لك الطعام.
إذن :فهناك شيء مخلوق لمهمة تساعد في إنتاج ما يفيدك.
والحق سبحانه قد حلّل لك ـ على سبيل المثال ـ لحم الضأن والماعز ،والبل والبقر وغيرها،
وحرّم عليك لحم الخنزير ،فل تسألْ :لماذا خلق ال الخنزيرَ؛ لنه خَلقه لمهمةٍ أخرى ،فهو يلملم
قاذورات الوجود ويأكلها ،فهذا رزق غير مباشر ،فاتركه للمهمة التي أراده ال لها.
وبعض الناس قد حرّم على نفسه أشياء حلّلها ال تعالى ،وهم بذلك يُضيّقون على أنفسهم ،ويظن
البعض أنه حين يحلّل ما حرّم ال أنه يوسّع على نفسه ،فيأمر الحق سبحانه رسول صلى ال عليه
وسلم أن يقول:
{ أَرَأَيْ ُتمْ مّآ أَن َزلَ اللّهُ َلكُمْ مّن رّ ْزقٍ } [يونس.]59 :
أي :أخبِروني ما أنزل ال لكم من رزق ،وهو كل ما تنتفعون به ،إما مباشرةً ،وإما بالوسائط،
فكيف تتدخلون بالتحليل والتحريم ،رغم أن الذي أنزل الرزق قد بيّن لكم الحلل والحرام؟!
وكلمة { أَن َزلَ } تفيد أن الرزق كله قادم من أعلى ،وكل ما ترونه حولكم هو رزق ،تنتفعون به
مباشرة ،أو بشكل غير مباشر ،فالمال الذي تُشترى به أغلب الرزاق ل يأكله النسان ،بل يشتري
به ما يأكله.
ن أعلى ،وما دام كل شيء قد وُجد بمشيئة مَنْ هو أعلى من
جدَ ،وخلق مِ ْ
وكلمة { أَن َزلَ } تعني :أوْ َ
كل الوجود ،فكل شيء لصالحك مباشرة أو بوسائط.
ول تأخذ كلمة { أَن َزلَ } من جهة العلوّ الحسية ،بل خُذها من جهة العلوّ المعنوية ،فالمطر ـ مثلً
ـ ينزل من أعلى حسيّا ،ويختلط بالرض فيأخذ النبات غذاءه منها ،والرزق بالمطر ومن الرض
مُقدّر ممّن خَلَق ،وهو العلى سبحانه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ايضا ،هذا الذي نستخرجه من الجبال ومن الرض.
إذن :فالمراد هنا بالنزال ،أي :اليجاد ممن هو أعلى منك لصالحك أيها النسان.
وما دام الحق سبحانه هو الذي أنزل الرزق ،وبيّن الحلل والحرام ،فلماذا تُدخِلون أنوفكم في
الحلل والحرام ،وتجعلون بعض الحلل حراما ،وبعض الحرام أو ُكلّ الحرام حللً؟ لماذا ل
جعْل لمن خَلَق وهو سبحانه أدْرى بمصلحتكم؟
تتركون ال َ
} ُقلْ ءَآللّهُ أَذِنَ َلكُمْ { [يونس.]59 :
ج ْعلِ الحلل حراما ،والحرام حللً؟ } أَمْ عَلَى اللّهِ
أي :هل أعطاكم ال سبحانه تفويضا في َ
َتفْتَرُونَ { [يونس ]59 :أي :على ال تتعمدون الكذب.
وقد جاء الحق سبحانه بالحلل والحرام ليبيّن لنا مدى قُبح السلوك في تحريم ما أحلّ ال ،وتحليل
ما حرّم ال.
ويشير الحق سبحانه ـ في إجمال هذه الية ،إلى آيات أخرى َفصّلت الحرام ،وسبق أن تناولناها
بخواطرنا ،مثل قوله تعالى:
ج َعلَ اللّهُ مِن َبحِي َر ٍة َولَ سَآئِبَ ٍة َولَ َوصِيلَ ٍة َولَ حَا ٍم وَلَـاكِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َيفْتَرُونَ عَلَىا اللّهِ
{ مَا َ
ب وََأكْثَرُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ }[المائدة.]103 :
ا ْلكَ ِذ َ
والبَحيرة ـ كما ذكرنا ـ هي الناقة التي أنجبتْ خمس بُطونٍ آخرها َذكَر ،وكانوا يشقّون أذنها،
ويعلنون أنها قامت بواجبها ويتركونها سائمة غير مملوكة ،ل يركبها أحد ،ول يحمل عليها أحد
خدّام اللهة التي كانوا يعبدونها،
حمْل ،ول يحلبها أحد ،ول يج ّز صوفها أحد ،ثم يذبحها ُ
أيّ ِ
ت مهمتها.
سمّوها " بَحيرة " ،لنهم كانوا يشقون آذانها علمةً على أنها أ ّد ْ
وَ
أما السائبة فهي غير المربوطة؛ لن الربط يفيد الملكية ،وكان الواحد منهم إذى شفي من مرض
أو أراد شيئا وَ َهبَ أن يجعل ناقةً لخدّام الصنام ،واسمها سائبة ،وهي أيضا ل تُركب ،ول تُحلب،
ول يُحمل عليها ،ول أحد يتعرّض لها.
والوصيلة :هي النثى تلدها الناقة في بطن واحدة مع ذكر ،فيقولونَ " :وصََلتْ أخاها "؛ فل
يذبحونه للصنام من أجل أخته.
} َولَ حَامٍ { والحام :هو الفَحْل الذي يحمي ظهر نفسه بإنجاب عشرة أبْطُن ،فل يركبه أحد بعد
ذلك ،ول يُحمَل عليه ،ويترك لخدّام الصنام.
هذه هي النعام المحلّلة التي حرّموها على أنفسهم ،بينما يأكلها خُدّام الصنام ،وفي ذكر عدم
تحريم تلك النعام رأفة بهم.
وهناك أيضا قول الحق سبحانه:
ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ
{ َثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ
ن َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ
أَرْحَا ُم الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ * َومِنَ الِ ْبلِ اثْنَيْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شهَدَآءَ إِ ْذ َوصّاكُمُ اللّهُ ِبهَـاذَا َفمَنْ َأظْلَمُ
حَرّمَ أَ ِم الُنْثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَ ْرحَا ُم الُنْثَيَيْنِ َأمْ كُنتُمْ ُ
ضلّ النّاسَ ِبغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ }
ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا لِ ُي ِ
()1410 /
وهذه الية توضح أن كل أمر بحساب ،فالذين يفترون على ال الكذب سيجدون حسابهم يوم
القيامة عسيرا ،فالحق سبحانه منزّه عن الغفلة ،ولو ظنوا أنه ل توجد آخرة ولن يوجد حساب ،فهم
يخطئون الظن.
ولو استحضروا ما أعدّه ال لهم من العذاب والنكال يوم القيامة لما فعلوا ذلك ،ولكنهم كالظّان بأن
ال ـ سبحانه وتعالى ـ غافل عن أفعالهم ،وكأنها أفعال ل حساب عليها ،ول كتابة لها ،ول
رقيب يحسبها:
ثم يقول الحق سبحانه:
شكُرُونَ } [يونس.]60 :
س وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ يَ ْ
{ إِنّ اللّهَ َلذُو َفضْلٍ عَلَى النّا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن ال سبحانه متفضّل على كل خَلْقه ـ وأنتم منهم ـ بأشياء كثيرة؛ فلم تحرمون أنفسكم من هذا
الفضل؟! ولو شكرتم ال تعالى على هذال التفضل لزاد من عطائكم ،لكنكم تنسون الشكر.
ن َومَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ }
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :ومَا َتكُونُ فِي شَأْ ٍ
()1411 /
والخطاب هنا لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،أي :ما تكون يا محمد في شأن .والشأن :هو
الحال العظيم المتيمز الذي يطرأ على المر.
ونحن في حياتنا اليومية نقول :ما شأنك اليوم أو ما حالك؟ وهنا يجيب السامع بالشيء الهام الذي
حدث له أو فعله ،ويتناسى التافة من المور.
ولذلك يصف ال تعالى نفسه فيقول:
{ ُكلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن.]29 :
أي :ل تظنوا أن ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ خلق النواميس والقوانين ،وقال لها :اعملي أنتِ ،ل
فهو سبحانه كل يوم في شأن.
جفّ؟ فقال " :أمور يبديها
ولذلك حين سئل أحد العلماء :ما شأن ربك الن؛ وقد صَحّ أن القلم قد َ
ول يبتديها ".
أي :أنه سبحانه قد رسم كل شيء ،وجعل له زمانا ليظهر ،فهو سبحانه قيّوم ،أي :مُبَالغ في القيام
على مصالحكم؛ ولذلك يطمئننا سبحانه ـ وقد جعل الليل لنومنا وراحتنا ـ بأنه سبحانه قيوم ل
تأخذه سِنَةٌ ول نوم ،وهو يراعينا.
فالحديث في الية التي نحن بصددها موجّه لرسول ال صلى ال عليه وسلم:
{ َومَا َتكُونُ فِي شَأْنٍ } [يونس.]61 :
وشأن رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي يهتم به ليس المأكل ول المشرب ،إنما المهم بالنسبة
له هو بلغ الرسالة بالمنهج بـ " افعل و " ل تفعل ".
ن َومَا تَ ْتلُواْ مِ ْنهُ مِن قُرْآنٍ } [يونس.]61 :
{ َومَا َتكُونُ فِي شَأْ ٍ
و " منه " هنا بمعنى اللم ،أي :ما تتلو له ،وتعني تأبيدا ليات القرآن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهناك في موضع آخر من القرآن يقول الحق سبحانه:
{ ّممّا خَطِيئَا ِتهِمْ أُغْ ِرقُواْ }[نوح]25 :
أي :أغرقوا لجْل خطيئاتهم.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نفهم ما تكون في شأن وما تتلو لجل هذا الشأن من
قرآن ،فالنبي صلى ال عليه وسلم في شأن هام هو الرسالة ،ويتلو من القرآن تأبيدا لهذا الشأن
وهو البلغ بالمنهج.
ويدخل في هذا الشأن ما فوّض رسول ال صلى ال عليه وسلم فيه حسب قول الحق سبحانه:
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ }[الحشر.]7 :
{ َومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
ومثال ذلك :تحديد كيفية الصلة وعدد ركعات كل صلة ،وكذلك ِنصَاب الزكاة ،وهذه أمور لم
يأت بها القرآن تفصيلً ،ولكن جاءت بها الحاديث النبوية.
إذن :فهناك تفويض من الحق للرسول صلى ال عليه وسلم ليكتمل البلغ بمنهج ال ،بنصوص
القرآن ،وبتفويض ال تعالى له أن يشرّع.
إذن :فكل شأن رسول ال صلى ال عليه وسلم إما بلغ عن ال بالنص القرآني , ،وإما تطبيق
فعليّ للنص القرآني بالحديث النبوي ،وبالسوة التي تركها لنا صلى ال عليه وسلم في سُنّته.
حجّة على الحُكم ـ أي حُكم ـ يأتي بها القرآن ،فإن كانت الحكام غير صادرة من ال
وال ُ
مباشرة ،فيكفي فيها أنها صدرت عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بتفويض من ال تعالى
ليشرّع.
وبذلك نردّ على المنافقين الذين إذا حُدّثوا بشيء من حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم :قالوا:
" بيننا وبينكم كتاب ال " وهدفهم أن يردّوا حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ ِفعْلً ،أو قولً
أو إقرارا.
جلّ شأنه:
ثم ينقل الحق سبحانه الخطاب من المفرد إلى الجماعة فيقول َ
شهُودا { [يونس.]61 :
ع َملٍ ِإلّ كُنّا عَلَ ْيكُمْ ُ
} َولَ َت ْعمَلُونَ مِنْ َ
وفي هذا انتقال للسامعين للقرآن ،والمبلّغ إليهم هذا المنهج ،فكل عمل إنما يشهده الحق سبحانه.
والعمل هو مجموع الحداث التي تصدر عن النسان ،فكل حدث يصدر من النسان ـ ولو بِنيّة
القلب ـ يسمّى عملً؛ لن عمل القلوب هو النية .ولكن إذا صدر الحدث من اللسان كان قولً،
وإذا صدر الحدث من بقية الجوارح كان فعلً.
وهكذا ينقسم العمل إلى قسيمن :قول ،وفعل.
وقد اخ ُتصّ حدث اللسان باسم القول؛ لن أصل مستندات التكليف كلهم قولية.
ثم يقول الحق سبحانه } :إِذْ ُتفِيضُونَ فِيهِ { أي :تسرعون إلى العمل بنشاط وحيوية وإقبال مما يدل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على حسن الستجابة للمنهج فور أن يبلّغه الرسول صلى ال عليه وسلم.
والقبال على العمل التكليفي بهذا الشوق ،وتلك اللهفة ،وحسن الستقبال ،وإخلص الداء ،كل
هذه المعاني يؤول إليها قول الحق سبحانه } :إِذْ ُتفِيضُونَ فِيهِ { كما يفيض ماء الناء إذا امتل
لينزل .أي :أن تقبلوا علىأعمال التكليف بسرعة وانصباب وانسكاب.
وقد قال الحق سبحانه {:فَإِذَآ َأ َفضْتُم مّنْ عَ َرفَاتٍ }[البقرة.]198 :
أي :شَرَعْتُم في الذهاب مسرعين؛ لنكم أدّيتم ُنسُكا أخذتم منه طاقة ،وتقبلون بها على ُنسُك ثانٍ.
إذن :فالحق سبحانه يشهد كل عمل منكم ،لكن ماذا عن النيّات وما يُبيّت فيها من خواطر.
ها هو الحق سبحانه يخبرنا أن كل شيء مهما صغر واختفى فهو معلوم ومحسوب.
يقول الحق سبحانه:
ك وَل َأكْبَرَ ِإلّ
صغَرَ مِن ذاِل َ
سمَآءِ وَلَ َأ ْ
ض وَلَ فِي ال ّ
} َومَا َيعْ ُزبُ عَن رّ ّبكَ مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الَ ْر ِ
فِي كِتَابٍ مّبِينٍ { [يونس.]61 :
أي :كل أمورك ،وأمور الخلق ،والمخلوقات كلها معلومة ل تعالى ،ومكتوبة في كتاب مبين
واضح ،فل أحد بقادر على أن يختلس حركة قلب ،أو يختلس حركة ضمير ،وكملة " يعزب "
تعني :يغيب ويختفي.
والحق سبحانه يخبرنا أنه ل يضيع عنده جزاء أي عمل أو نية مهما بلغ العمل أو النية أدنى
درجة من القِلّة.
ولم يوجد عند العرب ما يضرب به المثل على الوزن القليل إل الذّرّة ،وهي النملة الدقيقة
الصغيرة جِدّا ،ثم أطلقت الذرة على الهَبَاء الشائع في الجو ،ويمكنك أن ترى هذا الهَبَاء إن جلست
في حجرة مظلمة مغلقة ،ثم دخلها شعاع من ضوء ،هنا ترى هذا الضوء وهو يمر من الثقب
وكأنه سهم ،وترى مكوّنات هذا السهم من ذرات الهباء المتحركة الموجودة في الجو ،تلك الذرات
التي ل تراها وأنت في الضوء فقط أو في الظلم فقط ،ولكن التناقض بين الضوء والظلم
يُبرزها.
وأنت ل تدرك الشيء ول تحسه لمرين :إما لتناهيه في الصغر ،وإما لتناهيه في الكبر؛ فل تحيط
به ،وحين تقدم العلم التطبيقي اخترعوا ال َمجَاهر التي تُكبّر الشيء المتناهي في الصغر آلف ،أو
مليين المرات.
وأنت لو وضعت جلدك تحت عدسة المجهر فسترى فجوات وكأنها آبار لم تكن تراها أو تحسها
من قبل؛ لنها بلغت من الدقة والصّغر بحيث ل تستطيع عيناك أن تدركها ،فإن رأيتها بالمجهر
كَبُرَت فترى فجوات وتعاريج وعُُلوّا وانخفاظا ـ مهما كان الجلد الذي تراه تحت المجهر ناعما.
وكذلك أنت ل تقدر على إدراك الشيء الضخم ،وقد تفصل بينك وبين الشيء الكبير مسافة؛ فتراه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صغُرَ ،فأنت إذا رأيت ـ مثلً ـ رجلً طويلً على مسافة كبيرة،
أصغر من حجمه ،وكلما ابتعد َ
فأنت تراه وكأنه طفل صغير ،وكلما اقترتب منه زاد طوله في عينيك.
إذن :ل الضخامة ول البُعد ول القِلّة تمنع من علم الحق سبحانه لي شيء.
وقد خاطب الحق سبحانه العرب بأصغر ما عرفوه ،وهو الذرة ،أي :النملة الصغيرة.
وأنت إذا وطأتَ نملة في أرض رملية فهي ل تموت ،بل تدخل في فجوات الرمل ،وتجد لنفسها
طريقا إلى سطح الرض مرة أخرى.
قد بيّن الحق سبحانه هذه المسألة حين تحدّث عن سليمان ـ عليه السلم ـ في وادي النمل ،فقال
تعالى:
شعُرُونَ }[النمل:
ن وَجُنُو ُدهُ وَهُ ْم لَ يَ ْ
طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَا ُ
حِخلُواْ َمسَاكِ َنكُ ْم لَ يَ ْ
{ قَاَلتْ َنمْلَةٌ ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْ ُ
.]18
لنهم ل يرونهم؛ لحجمهم المتناهي في الصغر.
وهكذا يعطينا الحق سبحانه بيانا عن كل أمة في الحياة ،وأن من بينهم جنودا يحرسون بيقظة،
فالنملة قامت بإنذار قومها من سليمان وجنوده ،لنهم لن يروا النمل الصغير.
إذن :الذّرّ إما أن يكون النمل الصغير ،وإما أن يكون الذرّات الهبائية.
وأراد ال سبحانه أن يضرب لنا مثلً بإحاطة علمه في أنه ل يعزب عنه مثقال ذرة.
ويعزب ،أي :يغيب ،ويقال " :هذا البئر ماؤه عازب " ،أي قادم من عمق بعيد ،ويحتاج
استخراجه إلى دَ ْلوٍ وحبال طويلة.
ونسمّي الرجل الذي يبعد عن أهله " عَزَب ".
وقول الحق سبحانهَ } :ومَا َيعْ ُزبُ { .أي :ل يبعد ول يغيب عنه أصغر شيء ول أكبر شيء.
يقول سبحانه ذلك؛ ليطمئننا أن كل خاطرة من خواطر النسان إنما يشهدها ال ،و َيعَْلمُها ،وهو
المُجَازِي عليها.
وإن استطاع إنسان أن يُعمّي على قضاء الرض ،فلن يستطيع أن يُعمّي على قضاء السماء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل بالقل في
أن الذرة هي الجزء الذي ل يتجزّا؛ لنها أصغر ما يقع عليه البصر ،فضرب ال مث ً
زمن نزول القرآن.
ولما تقدم العلم بعد الحرب العالمية الولى واخترعت ألمانيا آلةً لتحطيم الذرة قيل عنها :إنها آلة
تحطيم الجوهر الفرد .أي :الشيء الذي ل ينقسم ،وهذه اللة مكونة من اسطوانتين مثل اسطوانتي
عصّارة القصب ،والمسافة بين السطوانتين ل تكاد تُرَى ،وحين حَطّمت ألمانيا ما قيل عنه "
َ
الجوهر الفرد " تحول إلى ما هو أقل منه ،وتفتّتت الذرّة.
وقد جعل الحق سبحانه المقياس في الصغر هو الذرة.
وحين اخترعت ألماينا تلك اللة توجَسّ المتصلون بالدين وخالوا أن يقال :إن الحق سبحانه لم
يذكر ما هو أقل من الذرة ،ولكنهم التفتوا إلى الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،فقرأوا قول
الحق سبحانه:
ك وَل َأكْبَرَ ِإلّ
صغَرَ مِن ذاِل َ
سمَآءِ وَلَ َأ ْ
ض وَلَ فِي ال ّ
} َومَا َيعْ ُزبُ عَن رّ ّبكَ مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الَ ْر ِ
فِي كِتَابٍ مّبِينٍ { [يونس.]61 :
و } َومَا َيعْ ُزبُ { أي :ل يبعد أو يغيب } عَن رّ ّبكَ { أي :عن عِلْمه } مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ { .أي :وزن
ذَرّة.
وقديما قلنا :إن البعض يقول :إن " من " قد تكون حرفا زائدا في اللغة ،كقولنا " :ما جاءني مِنْ
رجل " وتعرب كلمة " من " :حرف جر زائد ،و " رجل " :فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة التي
منع من ظهورها اشتعال المحلّ وهو " اللم " بحركة حرف الجر الزائد.
ولكن في كلم ال ل يوجد حرف زائد ،فـ " مِنْ " في قوله } :مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ { .أي :من بداية ما
يقال له " مثقال ".
ويقول الحق سبحانه في آية أخرى.
ب لَ َيعْ ُزبُ عَ ْنهُ مِ ْثقَالُ ذَ ّرةٍ
{ َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُو ْا لَ تَأْتِينَا السّاعَةُ ُقلْ بَلَىا وَرَبّي لَتَأْتِيَ ّنكُمْ عَاِلمِ ا ْلغَ ْي ِ
سمَاوَاتِ َولَ فِي الَ ْرضِ }[سبأ.]3 :
فِي ال ّ
وكلمة } وَرَبّي { ُمقْسَمٌ به ،وحرف " الواو " هو حرف الجر ،ولم يأت هنا بالشهادة ،وجاء
بالغيب ،ولم يأت بعلم الغيب في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها.
وعالم الشهادة ،تعني :أنه عَالِمٌ بكل ما يشهد ،ويظن البشر أنها غير مُحَاطٍ بها لعظمتها؛ أو لن
ال غيب فل يرى إل الغيب ،لكن الحق سبحانه يرى ويعلم الغيب والشهادة.
لقد قال الحق كلمة " مقال ذرة " ثلث مرات:
مرة حين قال سبحانهَ {:فمَن َي ْعمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ }[الزلزلة.]7 :
ومرة حين قال هنا:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ { [يونس.]61 :
} مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الَ ْرضِ َولَ فِي ال ّ
وجاء بـ " من " هنا ليبين أنه ل يغيب عن ال تعالى من بداية ما يقال له " مثقال ".
وقال الحق سبحانه في موضع آخر:
سمَاوَاتِ َولَ فِي الَرْضِ }[سبأ.]3 :
{ لَ َيعْ ُزبُ عَنْهُ مِ ْثقَالُ ذَ ّرةٍ فِي ال ّ
وجاء بالسموات أولً ،وجاء في الية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ بالرض أولً ،وهو
في اليتين يتكلم عن علمه للغيب ،فيأتي بمثقال الذرة ويقدّم السماء ويأتي بها مفردة ،ثم يأتي بما
هو أقل من الذرة ويقدّم الرض.
وهذا كله من إعجاز أساليب القرآن التي أراد البعض من المستشرقين أن يعترضوا عليها ،وكانت
جميع اعتراضاتهم نتيجة لعجزهم عن امتلك مَلَكة الداء البياني.
وإنْ عرضنا الرد على تساؤلتهم نجد أن الحق سبحانه قَدّم الرض في الية التي نحن بصدد
خواطرنا عنها؛ لنه سبحانه يتكلم عن أهل الرض:
شهُودا إِذْ ُتفِيضُونَ فِيهِ { [يونس.]61 :
ع َملٍ ِإلّ كُنّا عَلَ ْيكُمْ ُ
} َولَ َت ْعمَلُونَ مِنْ َ
وجاء أيضا بالسماء ،وهي السماء الدنيا التي يراها أهل الرض.
أما الية الخرى فهو سبحانه يقول:
ب لَ َيعْ ُزبُ عَ ْنهُ مِ ْثقَالُ ذَ ّرةٍ
{ َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُو ْا لَ تَأْتِينَا السّاعَةُ ُقلْ بَلَىا وَرَبّي لَتَأْتِيَ ّنكُمْ عَاِلمِ ا ْلغَ ْي ِ
سمَاوَاتِ َولَ فِي الَ ْرضِ }[سبأ.]3 :
فِي ال ّ
والكلم هنا عن الساعة ،وعلمها عند ال تعالى ،ولم تنزل من السموات إلى السماء الدنيا حتى
نقول للمكلّفين في الرض :قوموا ها هي الساعة.
ولذلك جاء الحديث هنا عن السموات أولً؛ لن علم الساعة عند ربّي ،ولن ينزل إل بمشيئته
سبحانه.
وهكذا جاء كل أسلوب ل بإجمال المعنى ،ولكن بدقة جزئياته ،فتكلم في الية التي نحن بصدد
خواطرنا عنها ،وآية سبأ عن العلم والذرّة ،والسماء والرض ،وكل آية جاءت الكلمات فيها بتقديم
أو تأخير يناسب مجالها.
ثم يقول الحق سبحانهِ } :إلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ { [يونس.]61 :
ي مكتوب في الكتاب المبين ،ونحن
ولنا أن نلتفت إلى أن الستثناء هنا ل ُيخْرِج ما قبله ،بل كل ش ْ
في الدنيا نجد النسان إن كان له دَين عند آخر فهو يحتفظ بالوثائق المكتوبة التي تُسجّل ما له وما
عليه .ولكن ،أيحتفظ الحق سبحانه بأعمالنا ونيّاتنا مكتبوة كحجة له ،أم حجة لنا؟
إنه سبحانه يعلم أزلً كل أعمالنا ،ولكنه يُسجّل لنا بالواقع تلك العمال والنيات؛ لنعلم عن أنفسنا
ماذا فعلنا؛ لتنقطع حجة من أساء إذا وقع به العقاب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :أَل إِنّ َأوْلِيَآءَ اللّهِ {
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1412 /
وجاءت هذه الية بعد كلمه الحق عن نفسه سبحانه بأنه عالم الغيب ،ول يخفى عليه شيء ،وشاء
ال سبحانه بذلك أن يعلّمنا أنه قد يفيض على بعض خلقه فيوضات المداد على قَدْر رياضات
المرتاضينَ ،فهَبْ أن ال قد امتن عليك بنفحة ،فإياك أن تقول إنها من عندك ،بل هي من عند
عالم الغيب سبحانه الذي ل يخفى عليه شيء في الرض ول في السماء.
ي ل ،بل لنقل " :إن فلنا ُمعَلّمُ غَ ْيبٍ "؛ لن
وعلى ذلك فل يقال :إن فلنا قد عَلِم غيبا لنه ول ّ
الغيب ما غاب عن الناس ،وما يغيب عنك ول يغيب عن غيرك فهو ليس غيبا مطلقا.
ومثال ذلك :الرجل الذي سُرق منه شيء ،هو ل يعرف أين يوجد الشيء الذي سُرق منه ،ولكنه
اللص يعرف ،وكذلك من ساعد اللص وأخفاه وأخفى له المسروقات ،كل هؤلء يعلمون ،وأيضا
الجن الذين كانوا في نفس مكان السرقة يعلمون ،وهذا ليس غيبا مطلقا.
وأيضا أسرار الكون التي كانت غيبا موقوتا ،مثل جاذبية الرض ،والسالب والموجب في
الكهرباء ،وتلقيح الرياح للسحاب لينزل الماء ،كل ذلك كان غيبا في زمن ما ،ثم شاء الحق
سبحانه فحدّد لكل أمرٍ منها ميعادَ كشفٍ ،فصارت أمورا مشهورة.
وقد شاء الحق سبحانه ذلك؛ ليعمل النسان ويجتهد ليكشف أسرار الكون.
ومن العجيب أن الباحث قد يعمل من أجل كشف معين ،فيصادف كشفا آخر؛ لن ال تعالى قد أذن
لذلك الكشف الذي كان غيبا أن يولد ،وإن لم يبحث عنه أهل الرض.
ومن اكتشف " البنسلين " رأى العفن الخضر حول بعض المواد العضوية فبحث عن أسرار ذلك،
واكتشف " البنسلين ".
و " أرشميدس " الذي اكتشف قانون الطفو ،واستفادت منه صناعات السفن والغواصات ،وكل ما
يسير في البحر ،وقد اكتشاف قانون الطفو صدفة.
شهَدا ،إما بمقدّمات يتابعها خَ ْلقُ ال بالبحث ،وإما أن تأتي صدفة
إذن :ففي الكون غيب قد يصير مَ ْ
في أثناء أي بحث عن شيء آخر.
ومثال ذلك :عصر البخار الذي بدأ من رجل رأى إناء ُم َغطّى يغلي فيه الماء ،فضل غطاء الناء
يرتفع ليُخرج بعضا من البخار ،وانتبه الرجل إلى أن البخار يمكن أن يتحول إلى طاقة تجرّ
العربات التي تسير على عَجَل ،وهكذا جاء عصر البخار.
إذن :فميلد بعض من أسرار الكون كان تنبيها من ال تعالى لحد عباده لكي يتأمل؛ ليكتشف سِرّا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من تلك السرار.
وأغلب أسرار الكون تم اكتشافها صدفة ،لنفهم أن عطاء ال بميلدها ـ دون مقدمات من الخَلْق
ـ أكثر مما ُوصِِل إليه بالعطاء من مقدمات الخلق.
ولذلك تجد التعبير الدائي في القرآن عن لونَي الغيب ،تعبيرا دقيقا لنفهم أن هناك غيبا عن الخلق
جميعا وليست له مقدمات ،ول يشاء ال سبحانه له ميلدا ،واستأثر ال بعلمه؛ فل يعلمه إل هو
سبحانه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَلَ ُهمْ يَحْزَنُونَ { [يونس.]62 :
} أَل إِنّ َأوْلِيَآءَ اللّ ِه لَ َ
ب منه ،وهو أول مَفزَع يفزع إليه إن جاءه أمر
نجد أن كلمة " وليّ " من وَلِيَهُ ،يليه ،أي :قري ٌ
يحتاج فيه إلى معاونة من غيره ،وإن احتاج إلى نصرة فهو ينصره ،وخيره يفيض على مَنْ
واله.
ن يقرب غنيّا،
ومَنْ يقْرُب عالما يأخذ بعضا من العلم ،ومَنْ يقرب قويّا يأخذ بعضا من القوة ،ومَ ْ
إن احتاج ،فالغني يعطيه ولو قَرْضاَ.
إذن :فالوَاليّ هو القريب الناصر ال ُمعِين المُوالِي.
وتطلق " الولي " مرةً ل سبحانه ،وقد قال القرآن:
{ فَاللّهُ ُهوَ ا ْلوَِليّ }[الشورى.]9 :
لنه سبحانه القريب من كل خَلْقه ،عكس الخَلْق الذين يقتربون من بعضهم أو يتباعدون حسب
خلْقٍ ل يبعده عن خَلقٍ ،ول يشغله
إمكاناتهم ،أما ال سبحانه وتعالى فهو الوليّ المُطلَق ،فقُربه مِنْ َ
شيء عن شيء ،فهو الوليّ الحقّ ،وهو سبحانه يقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فليست المسائل عند ال تعالى آلية أو ميكانيكية ،بل طلقة قُدرته سبحانه تقدّر كل موقف كما
قدّرتْ اختلف الخَلْق ،ولذلك قال سبحانه:
لفُ أَ ْلسِنَ ِتكُ ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ }[الروم.]22 :
ت وَالَ ْرضِ وَاخْتِ َ
سمَاوَا ِ
{ َومِنْ آيَا ِتهِ خَ ْلقُ ال ّ
فليس عند ال تعالى قالب يضع فيه الخلق ،بل سبحانه يخلق الطويل والقصير والسمين والرفيع
والشقر والزنجي ،وهذا بعضٌ من طلقة قدرته سبحانه ،وبرحمته سبحانه قرب من خَلْقه الذين
ج ُهمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ }[البقرة.]257 :
آمنوا أولً ،وقربه سبحانه منهمُ {:يخْرِ ُ
فمن يتبع المنهج يأخذ النور ،فإذا علم ال سبحانه عمله بمنهجه فهو سبحانه يُقرّبه قُرْبا أكثر
فيعطيه هبةً اصطفائية يراها الذين حوله وقد يقتدون به.
والحق سبحانه يريد من المؤمن الدب مع خَلْق ال ،فإذا علم سيئةً عن إنسان فعليه أن يسترها،
لن الحق سبحانه يحب السّتْر ويحب من يَستر.
وأنت قد تكره إنسانا تعلم عنه سيئةً ما ،وقد تكره كل حسنة من حسناته ،فيريد ال ألّ يحرمك من
حسنات مَنْ له سيئة فيسترها عنك لتأخذ بعضا من حسناته ،ويأمرك الحق ألّ تحتقر هذا المسيء؛
خصْلة خير واحدة ،فيكرمه ال سبحانه من أجلها أولً ،ثم يطيعه هذا العبد ثانيا.
لنه قد يتمتع ب َ
والحق سبحانه يقول في الحديث القدسي:
" يا ابن آدم أنا لك محبّ فبحقّي عليك كن لي مُحِبّا ".
ويقول ال سبحانه في حديث قدسي:
" أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه إذا ذكرني ،فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،وإنْ ذكرني
في مل ذكرته في مل خير منهم ".
وفي هذا القول يضع مسئولية القُرب من ال في يد الخَلْق ،ويضيف الحق سبحانه:
" وإن تقرّب إليّ شبرا تقرّبتُ إليه ذراعا ،وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا ،وإن أتاني يمشي
أتيته هرولة ".
ومن يريد أن يأتيه ال هرولة فليذهب إلى ال ماشيا.
إذن :فاليمان بال يسلّم المؤمن مفتاح القرب من ال.
ومن يكن من أصحاب الخُلُق الملتزمين بالمنهج يُقرّبْه ال منه أكثر وأكثر.
إذن :فمن الناس مَنْ يصل بطاعة ال إلى كرامة ال ،ويدق على باب الحق ،فينفتح له الباب ،ومن
ن يصل بكرامة ال أولً إلى طاعة ال ثانيا.
الناس مَ ْ
ول المثل العلى :أنت كواحد من البشر قد يدق بابك إنسانٌ يحتاج إلى لقمة أو صدقة فتعطيه،
وهناك إنسان آخر تحب أنت أن تعطيه ،وعندما تعطيه يطيعك من منطلق الحسان إليه ،فما بالنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بعطاء الحق لعباده؟
إذن :فمنهم مَنْ يصل بكرامة ال إلى طاعة ال ،ومنهم من يصل بطاعة ال إلى كرامة ال ،وحين
يصل النسان إلى القرب من ال ،ويقرب ال من العبد ،هنا يكون العبد في معية ال ،وتفيض عليه
هذه المعية كثيرا.
وقد قال أبو العلء المعري لمحبوبته:أنت الحبيبُ ولكني أعوذ ِبهِ من أن أكون حبيبا غير
محبوبِأي :أنه يستعيذ بال من أن يكون محبا لمن يرفض حبّه ،ولكن محبة ال تختلف عن محبة
البشر ،وسبحانه ل يعامل محبيه كذلك ،فأنت حين تحب ال يقرّبك أكثر وأكثر ،ويسمّي ذلك "
المصافاة " ،فإذا أفاض ال سبحانه على بعض خَلْقه هِباتٍ من الكرامات فعلى العباد الذين
اختصهم الحق سبحانه بذلك أن يُحسنوا الدب مع ال ،وأل يتبجّح واحد منهم متفاخرا بعطاء ال
سبحانه له.
فالمباهاة بالكرامات تضيعها ،ويسلبها الحق سبحانه من الذي يتبجّح بها ويتفاخر ويتباهى ،فمن
تظاهر بالكرامة ليس له كرامة.
إذن :فالحق سبحانه يريد أن يكون العبد دائما في معيّيته ،وهو سبحانه الذي بدأ وبيّن بالية
ي المؤمنين؛ ولذلك سيخرجهم من الظلمات إلى النور .فقال:
الواضحة أنه سبحانه ول ّ
ج ُهمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ }[البقرة.]257 :
{ اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ ُيخْرِ ُ
ونحن نعلم أنه سبحانه يأتي بالمحسّات ليبيّن المعنويات؛ لن إ ْلفَ النسان أولً بالمحسّات ،وهي
أقرب إلى تقريب المراد،فحين يضرب الحق سبحانه لنا المثل بالكفر واليمان ،يصف الكفر
بالظلمة ،واليمان بالنور ،إنما يريد الحق أن يجعل لك المراد واضحا موصولً بمفهومك.
وإذا كنا نتجنّب معاطب الظلمات الحسية ،أليس الجدر بها ـ أيضا ـ أن نتجنب معاطب
الظلمات المعنوية ،إن الظلمة الحسية تستر الشياء فل نرى الشياء ،وقد نرتطم بأضعف شيءٍ
فنحطّمه أو نصطدم بأقوى شيء فيحطمنا.
إذنَ :فحَجْب المرائي يسبّب الكوارث ،أما حين يأتي النور؛ فهو يبيّن ملمح الشياء فتسير على
هُدىً وأنت مطمئن.
و َهبْ أنك في مكان مظلم ويوجد شيء آخر في مكان منير ،فأنت في الظلمة ترى مَنْ يوجد في
النور ،وهذه مسألة لم يفطن لتفسيرها علماء ما قبل السلم ،حيث كانوا يظنون أن الرؤية إنما
تحدث من انتقال شعاع من عين الرائي إلى المرئيّ ،حتى جاء " الحسن بن الهيثم " العالم
السلمي واكتشف قوانين الضوء ،وكشف خطأ ما سبقه من نظريات ،وحدّد أن المرئي هو الذي
يصدر منه شعاع إلى الرائي ،وإذا ما كان المرئي في ظُلمةٍ فلن يراه أحد ،ولو كان هناك شعاع
يخرج من الرائي؛ لرأى النسان في الظلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :أول ولية من ال للمؤمنين أنه سبحانه يخرجهم من الظلمات إلى النور ،والظلمة المعنوية
أقوى من الظلمة الحسية ،وكذلك النور المعنوي أقوى من النور الحسّي ،فعالَمُ القيم قد يكون أقوى
من عالم الحس؛ لن الجبر في عالم الحسّ يمكن أن يحدث ،أما في عالم القيم فهو أمر شاق؛
ولذلك قال الشاعر:جراحاتُ السنانِ لها التئامُ ول يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُويقول الحق سبحانه في الية
التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَلَ ُهمْ يَحْزَنُونَ { [يونس.]62 :
} أَل إِنّ َأوْلِيَآءَ اللّ ِه لَ َ
و " أل " كما أوضحنا من قبل أداة تنبيه من المتكلَم للمخاطب حتى ل تفوته كلمة واحدة مما يجيء
في الخطاب.
خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ { [يونس .]62 :أي :ل خوف عليهم من غيرهم } َولَ هُمْ
وقوله سبحانه } :لَ َ
يَحْزَنُونَ { [يونس ]62 :أي :أن الحزن لن يأتي منهم ،والخوف يكون من توقع شيء ضار لم يقع
حتى الن ،ولكنه قد يحدث في المستقبل.
وفي حياتنا اليومية نجد الب يمسك بيد ابنه في الزحام خوفا عليه ،وقد ترى وليّا من أولياء ال
وقد أصيب ابنه في حادث أو مات البن ،تجد الوليّ في ثبات لنه يعلم حكمة ال في قضائه ،فل
تتطوع أنت بالخوف عليه.
إذن :فالخوف يأتي من المستقبل ،وهو أمر مرتقب ،أما الحزن فهو إحساس يحدث على شيء
فات.
والحق سبحانه يقول:
سوْاْ عَلَىا مَا فَا َتكُمْ }[الحديد.]23 :
{ ّلكَيْلَ تَ ْأ َ
والحزن على ما فات عبث؛ لن ما فات ل يعود.
وأولياء ال تعالى ل خوف عليهم؛ لنهم دائما بصدد معرفة حكمة ال ،ومَنْ ل يعرف حكمة ال
تعالى في الشياء قد يقول " :إن فلنا هذا مسكين "؛ لنك ل تعرف ماذا جرى له.
وأما الحزن فهو مشاعر قلبية يريد ال من المؤمن أن تمر على باله.
وقد قال صلى ال عليه وسلم حين افتقد ابنه " :وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " ولكنه حزن
الوَرَع الذي يتجلّى في قوله صلى ال عليه وسلم:
" إن العين تدمع ،والقلب يحزن ،ول نقول إل ما يرضي ربنا ".
وبين ال سبحانه لنا شروط الولية فيقول } :الّذِينَ آمَنُو ْا َوكَانُواْ يَ ّتقُونَ {
()1413 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واليمان هو المر العتقادي الول الذي يُبنى عليه كل عمل ،ويقتضي تنفيذ منهج ال ،المر في
المر ،والنهي في النهي ،والباحة في الباحة.
والتقوى ـ كما علمنا ـ هي اتقاء صفات الجلل في اله تعالى ،وأيضا اتقاء النار ،وزاد رسول
ال صلى ال عليه وسلم في صفات من تصدر عنه التقوى؛ لنها مراحل " ،فقال صلى ال عليه
وسلم يصف المتقين:
" هم قوم تحابّوا بروح ال على غير أرحام بينهم ،ول أموال يتعاطونها ،فوال إن وجوههم لنور،
وإنهم لَعلَى نور ".
وقد سئُل عمر ـ رضي ال عنه ـ عن المتقين فقال " :الواحد منهم يزيدك النظر إليه قُربا من
ال " .وكأنه ـ رضي ال عنه ـ يشرح لنا قول الحق سبحانه:
{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ }[الفتح.]29 :
وساعة ترى المتقي ل ُتسَ ّر وتفرح به ،ول تعرف مصدر هذا السرور إل حين يقال لك :إنه
ملتزم بتقوى ال ،وهذا السرور يلفتك إلى أن تقلده؛ لن رؤياه تذكّرك بالخشوع ،والخضوع،
سمْت ،وانبساط السارير.
والسكينة ،ورقّة ال ّ
والواحد من هؤلء ينظر إلى الكون ول يجد في هذا الكون أي خَلَل ،بل يرى كل شيء في
موضعه تماما ،ول يرى أي قُبح في الوجود ،وحتى حين يصادف القبح ،فهو يقول :إن هذا القبح
يبيّن لنا الحُسْن ،ولول وجود الباطل ومتاعبه لما عشق الناسُ الحقّ ،وهكذا يصير الباطل من
جنود الحق.
إن وجود الشرّ يدفع الناس إلى الخير؛ ولذلك يقال :كُنْ جميلً في دينك تَرَ الوجود جميلً؛ لنك
حين ترى الشياء وتقبل قدر ال فيها ،هنا يفيض ال عليك بهبات من الفيض العلى ،وكلما
تقرّبت إلى ال زاد اقتراب ال سبحانه منك ،ويفيض عليك من الحكمة وأسرار الخلق.
ومثال ذلك :العبد الصالح الذي آتاه ال من عنده رحمة وعلّمه من لدنه علما ،هذا العبد يعلّم
موسى عليه السلم ،فحين قارن بين خَرْق العبد الصالح لسفينة سليمة ،ولم يكن يعلم أن هناك
غصْبا؛ ولذلك ناقش موسى العبد الصالح ،وتساءل :كيف تخرق سفينة
حاكما ظالما يأخذ كل سفينة َ
سليمة؟ وهنا بيّن له العبد الصالح أن الملك ا لظالم حين يجد السفينة مخروقة فلن يأخذها ،وهي
سفينة يملكها مساكين.
وحين قَتل العبدُ الصالح غلما ،كان هذا الفعل في نظر موسى جريمة ،ولم يعلم سيدنا موسى ما
علمه العبد الصالح أن هذا الولد سوف يسيء إلى أهله ،وأمر ال العبد الصالح بقتله قبل البلوغ
حتى ل يفتن أهله ،وسوف يدخل هذا الولد الجنة ويصير من دعاميص الجنة.
ويقال :إن من يموت من قبل البلوغ ليس له مسكن محدّد في الجنة ،بل يذهب حيث يشاء؛ فهو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كالطفل الصغير الذي يدخل قصرا ،ول يطيق البقاء في مكان واحد ،بل يذهب هنا وهناك ،وقد
يذهب إلى حيث سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم أو أبو بكر الصديق ،أو عند أي صحابي جليل.
وأيضا حين دخل سيدنا موسى ـ عليه السلم ـ مع العبد الصالح إلى قرية واستطعما أهلها
فرفضوا أن يطعموهما ـ وطلب الطعام .هو أصدق ألوان السؤال ـ فأبى أهل القرية أن
يطعموهما ،وهذا دليل الخسّة واللؤم؛ فأقام العبد الصالح الجدار اليل للسقوط في تلك القرية.
ولم يكن سيدنا موسى ـ عليه السلم ـ قد علم ما علمه العبدُ الصالح من أن رجلً صالحا قد
مات وترك لولده كنزا تحت هذا الجدار ،وبناه بناية موقوتة بزمن بلوغ البناء لسن الرشد؛ فيقع
الجدار ليحد البناء ما ترك لهم والدهم من كنز ،ول يجرؤ أهل القرية اللئام على السطو عليه.
إذن :هذه هباتٌ من فيض الحق سبحانه على عباده الصالحين ،وهو سبحانه وتعالى يجعل مَثَل
هؤلء العباد كالصواري المنصوبة التي تهدي الناس ،أو كالفنار الذي يهدي السفن في الظلمة.
ويقول الحق سبحانهَ } :لهُمُ الْ ُبشْرَىا فِي ا ْلحَياةِ الدّنْيَا {
()1414 /
َلهُمُ الْ ُبشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الَْآخِ َرةِ لَا تَ ْبدِيلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ ()64
والبُشرى :من البِشْر والبشارة والتبشير ،وكلها مأخوذة من البشرة ،وهي الجلد؛ لن أي انفعال في
باطن النفس النسانية إنما ينضح على البشرة ،فإذا جئت للنسان بأمر سارّ تجد أثر هذا السرور
على أساريره ،وإن جئت للنسان بخبر سيّىء تجد الكدر وقد ظهر على بشرته ،فالبشرة هي أول
منفعل بالحداث السارة أو المؤلمة.
وحين يقال " :بشرى " فهذا يعني كلما إذا سمعه السامع يظهر على بشرته إشراق وسرور؛ لنه
كلم مبشّر بخير.
وحين " سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن البشرى ،قال " :إنها الرؤية الصالحة تُرى
للمؤمن أو يراها " ،وقال صلى ال عليه وسلم " :إنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ".
وقد أوحي للنبي صلى ال عليه وسلم بالرؤيا ستة أشهر ،وأوحي إليه في اليقظة ثلثة وعشرين
عاما ،فإذا نسبت الستة أشهر إلى الثلثة والعشرين عاما ،تجد أن الستة أشهر تمثل جزءا من ستة
وأربعين جزءا.
والرؤيا ليست هي الحُلْم؛ لن الرؤيا هي شيء لم يشغل عقلك نهارا ،وليس للشيطان فيه دخل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمثل العامي يقول " :الجوعان يحلم بسوق العيش " فإن كان ما يراه النسان في أثناء النوم له
علقة بأمر يشغله ،فهذا هو الحلم ،وليس للرؤيا ،وإن كان ما يراه النسان في أثناء النوم شيئا
يخالف منهج ال ،فهذه قذفة من الشيطان.
إذن :فهناك فارق بين الرؤيا والحلم ،وأضغاث الحلم.
البشرى ـ إذن ـ هي الرؤيا الصالحة ،أو هي المقدمات التي ُتشْعر خَلْق ال بهم فتتجه قلوب
الناس إلى هؤلء الولياء ،وقد تجد واحدا أَحبه ال تعالى في السماء " ،فيقول ال سبحانه وتعالى
لجبريل عليه السلم " :إني أحب فلنا فأحبّهُ .قال :فيحبه جبريل ،ثم ينادي جبريل في السماء
فيقول :إن ال يَحب فلنا فأحِبّوه ،فيحبه أهل السماء .قال :ثم يُوضع له القبول في الرض ".
سمْتا
وساعة تراه مكتوبا له القبول ،فالكل يُجمعون على أن في رؤيتهم لهذا المحبوب من السماء َ
طيبا ،وهذه هي البشرى.
أو أن البشرى تأتي لحظة أن يأتي مََلكُ الموت ،فيُلْقي عليه السلم ،ويشعر أن الموت مسألة
طبيعية ،مصداقا لقول الحق سبحانه:
{ الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ طَيّبِينَ َيقُولُونَ سَلمٌ عَلَ ْي ُكمُ ا ْدخُلُواْ الْجَنّةَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }[النحل.]32 :
أو ساعة يبيضّ الوجه حين يأخذ النسان من هؤلء كتابه بيمينه ،وهذه بشرى في الدنيا وفي
الخرة.
والحق سبحانه يقول {:إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُواْ تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلمَلَ ِئكَةُ َألّ تَخَافُو ْا َولَ
تَحْزَنُو ْا وَأَبْشِرُواْ بِا ْلجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ َأوْلِيَآ ُؤكُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َر ِة وََلكُمْ فِيهَا
سكُ ْم وََلكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ }
مَا تَشْ َتهِي أَنفُ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،و ِرجْلَهُ التي يمشي عليها ،وإن سألني لعطينّه ،ولئن
استعاذني لعيذنّه ،وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ،يكره الموت وأنا
أكره مساءته ".
وهكذا تختلف المقاييس بين عبد يحب ال تعالى ويؤدي فوق ما عليه ،وعبد آخر يقوم بالتكاليف
وحدها.
ويُنهي الحق سبحانه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله:
} لَ تَبْدِيلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ ذاِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ { [يونس.]64 :
وما دام الحق سبحانه قد قال } :لَ تَبْدِيلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ { فلن تجد أحدا قادرا على ذلك ،كما أن
الخلق مقهورون كلهم يوم القيامة؛ ومَنْ كان يبيح له ال تعالى أن يملك شيئا في الدنيا لم يعد مالكا
لشيء ،بدليل أن الكل سيسمع قول الحق سبحانه:
{ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
وما دام الحق سبحانه قد وعد ببشرى الدنيا وبشرى الخرة ،فل تبديل لما حكم به ال ،فل شيء
يتأبّى على حكم ال تعالى ،والوعد بالبُشريات في الدنيا وفي الخرة فوز عظيم مؤكد.
جمِيعا {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :ولَ يَحْزُنكَ َقوُْلهُمْ إِنّ ا ْلعِ ّزةَ للّهِ َ
()1415 /
تجيء هذه الية بعد أن بيّن ال سبحانه وتعالى اعتراضات الكفار ،وإيذاءهم لرسول ال صلى ال
عليه وسلم وتكذيبهم له وقولهم فيه ما قالوه ،وفيما قالوه ما أحزنه صلى ال عليه وسلم؛ لذلك طلب
منه الحق سبحانه ألّ ينفعل لما قالوه انفعال الحزين ،فقد قالوا :ساحر ،وكاذب ،ومُفْتَرٍ ،ومجنون،
وقد نفى عنه الحق سبحانه كل ما قالوه ،فلو كان محمد صلى عليه وسلم ساحرا فلماذا لم يسحرهم
هم أيضا ،وهل للمسحور إرادة مع الساحر؟!
إذنَ :ك ّذبَ قولَهم في أنه صلى ال عليه وسلم سحر عبيدَهم وأولدَهم.
وقالوا :مجنون ،ولم يكن في سلوكه صلى ال عليه وسلم أدنى أثر من جنون ،وفنّد أقوالهم هذه
بقوله سبحانه:
ك لَجْرا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ
سطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبمَجْنُونٍ * وَإِنّ َل َ
{ ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَ ْ
َلعَلَىا خُُلقٍ عَظِيمٍ }[القلم1 :ـ .]4
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالمجنون ل يكون على خُلُق عظيم أبدا.
وحين قالوا :إنه افترى القرآن ،تحداهم أن يأتوا بسورة من مثل ما قال ،وعجزوا عن ذلك رغم
أنهم مرتاضون للشعر والدب والبيان.
وقول الحق سبحانه:
{ َولَ يَحْزُنكَ َقوُْلهُمْ } [يونس ]65 :لن أقوالهم ل حصيلة لها من الوقوف أمام الدعوة؛ لن
جمِيعا } [يونس ]65 :والعزة هي القوة ،والغلبة ،ويقال :هذا الشيء عزيز ،أي :ل
{ ا ْلعِ ّزةَ للّهِ َ
يوجد مثله ،وهو سبحانه العزيز ال ُمطْلَق؛ لنه ل إله إل هو ل يُغلَب ول يُقهَر.
وتلحظ حين تقرأ هذه الية وجود حرف " الميم " فوق كلمة { َقوُْلهُمْ } وتعني :ضرورة الوقف
هنا.
ولسائل أن يقول:
كيف يلزم الوقف هنا مع أن القرآن الكريم مبنيّ على الوصل؛ وآخر حرف في كل سورة تجده
مُنوّنا ،وليس في القرآن ما يُلزم الوقف للقارىء؟
وأقول رَدّا على هذا التساؤل :إن العلماء حين لحظوا ضعف مَلَكة اللغة؛ جاءوا بهذا الوقف ليتفهم
القارىء ـ الذي ل علم له بالبيان العربي ـ كيف يقرأ هذه الية ،ف َهبْ أن واحدا ل يملك فطنة
جمِيعا } [يونس ]65 :إلى { َولَ يَحْزُنكَ َقوُْلهُمْ } [يونس.]65 :
الداء ،فينسب { إِنّ ا ْلعِ ّزةَ للّهِ َ
ويخطىء الفهم ،ويظن ـ معاذ ال ـ أن العزة ل هي أمر يُحزِن النبي صلى ال عليه وسلم؛
لذلك جاء العلماء بالوقف هنا لندقّق القراءة ونُحْسِن الفهم.
ولذلك علينا أن نقرأ { َولَ َيحْزُنكَ َقوُْلهُمْ } [يونس ]65 :ثم نتوقف قبل أن نتابع القراءة { إِنّ ا ْلعِ ّزةَ
جمِيعا } [يونس]65ِ :؛ وبهذا نفهم المعنى :يجب ألّ تحزن يا محمد؛ لن أقوالهم لن تغيّر في
للّهِ َ
مجرى حتمية انتصارك عليهم.
ويريد الحق سبحانه هنا أن يطمئن رسوله صلى ال عليه وسلم في أمر محدد ،هو أنه صلى ال
عليه وسلم مهمته هي البلغ فقط ،وليس عليه أن يُلزمهم باليمان برسالته والتسليم لمنهجه.
وبيّن له الحق سبحانه :أنهم إذا ما صدّوا بعد بلغك ،فل تحزن مما يقولون؛ فأقوالهم ل يقوم
عليها دليل ،ول تنهض لها حُجّة ،وقد جاء فيهم قول الحق سبحانه:
سهُمْ }[النمل.]14:
جحَدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
{ وَ َ
وأقوالهم لن تقف في سبيل دعوتك ،وسيُتمّ ال نوره ،ول يوجد أعز من ال سبحانه وتعالى ،ولن
يجير أحد على أحدا ،فهو سبحانه يُجير ول يُجار عليه.
حجّة ،وقد تكون عزة حلْف ،وقد تكون عزة
وإذا كانت العزة هي القهر والغلبة ،وقد تكون عزة ُ
حكمة ،وكل واحد من خلق ال سبحانه قد توجد له عزة مجالٍ ما أو محيط ما ،لكن العزة ل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه شاملة مطلقة في كل محيطٍ وفي كل مجال ،شاملة لكل شيء وأي شيء.
ولماذا لم يأت الحق سبحانه بأسلوب ال َقصْر في هذه الية؟
أي :أن تأتي الصفة للموصوف وتنفيها عما عداه؛ كأن نقول " :لزي ٍد مالٌ ليس لغيره " .وإذا قدمنا
الجار والمجرور ـ وهو المتعلّق ـ فنقول " :لفلنٍ كذا " ،وهذا يعني ان غير فلنٍ ليس له كذا.
وإنْ قلنا " :فلن له كذا " فيصح أن نقول " :ولفلنٍ كذا ،ولفلنٍ كذا ،ولفلنٍ كذا ".
أما إذا قلت " :لفلن كذا " فمعناها :امتناع أن يكون لغير فلن شيء من مثل ما قلت.
جمِيعا { [يونس ]65 :وجاء بالتأكيد ولم يأت لها بأسلوب
وهنا يقول الحق سبحانه } :إِنّ ا ْلعِ ّزةَ للّهِ َ
القصر الذي يعطي العزة ل سبحانه وينفيها عن غيره؛ لنه ل يوجد لهذه الية مناهض ،وهو
كلم ابتدائي يخبر به ال سبحانه خبرا كونيا بأن العزة ل جميعا.
وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول ذلك ـ وهو خالق الخلق ـ فلن تأتي قضية كونية تناقضها،
ولو وجدت ـ معاذ ال ـ قضية كونية تناقضها ،فالية لن تكون صادقة .وهذا لم ولن يحدث أبدا
مع آيات الحق سبحانه؛ لنه هو خالق الكون ،وهو مُنزل اليات؛ فل يمكن أن يحدث تناقض أبدا
بين الكون وكلم خالق الكون سبحانه وتعالى:
وقد حدث أن ادعى بعضهم العزة لنفسه وقالوا:
ن الَعَزّ مِ ْنهَا الَ َذلّ }[المنافقون.]8 :
جعْنَآ إِلَى ا ْلمَدِي َنةِ لَيُخْ ِرجَ ّ
{ لَئِن رّ َ
وكان مغزى قولهم هو ادعاء العزة لنفسهم ،وادعاء الذلة للمؤمنين.
إذن فالعزة قد ادّعيت ،وما دامت قد ادعيت فلماذا لم تأت بأسلوب القصر؟
نقول :ل ،لقد شاء الحق سبحانه أن يقول:
{ وَلِلّهِ ا ْلعِ ّز ُة وَلِرَسُولِ ِه وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[المنافقون.]8 :
فالعزة ل ل تتعداه ،ولكنه سبحانه شاء أن تكون عزة رسوله صلى ال عليه وسلم وعزة المؤمنين
من باطن عزة ال تعالى.
وقول الحق سبحانه هنا:
جمِيعا { أي :في كل ألوانها هي ل سبحانه وتعالى ،إن كانت عزة حكمه فهو
} إِنّ ا ْلعِ ّزةَ للّهِ َ
الحكيم ،وإنْ كانت عزة القبض على المور فهو العزيز ،وإن كانت عزة الحلْم فهو الحليم ،وإنْ
كانت عزة الغضب والنتقام فهو المنتقم الجبّار ،وكلّ ألوان العزة ل تعالى:
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ { [يونس.]65 :
} ُهوَ ال ّ
وما دامت العزة هي الغلبة والقهر ،فال سبحانه يسمع من يستحق أن يُقهر منه ،وما دام المر فيه
قول فهو يجيء بالسمع ،وإنْ كان فيه فعل ،فهو يأتي بصفة العليم ،فهو السميع لما يُقال والعليم بما
يُفعل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونحن نعلم أن المنهيّ عنه هنا هوَ } :ولَ َيحْزُنكَ َقوُْلهُمْ { [يونس.]65 :
سمِيعُ { أولً.
لذلك كان المناسب أن يقالُ } :هوَ ال ّ
ويريد الحق سبحانه أن يدلّل على هذه القضية دللة كونية في آيات ال تعالى في الكون ،وليس
في الوجود أو الكون مَنْ يقف أمامه سبحانه؛ لذلك ل بد أن نلحظ أن قانون " العزة ل جميعا "
محكوم بأن ل تعالى ما في السموات وما في الرض.
سمَاوَات {
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك } :أَل إِنّ للّهِ مَن فِي ال ّ
()1416 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيردّ البن قائلً:
صمُنِي مِنَ ا ْلمَآءِ }[هود.]43 :
{ سَآوِي إِلَىا جَ َبلٍ َي ْع ِ
وهذا كلم صحيح من ناحية أن الجبل يعلو مستواه عن مستوى المياه ،ولكن ابن نوح نسي أن ل
تعالى جنديا آخر هو الموج؛ فكان من المغرَقين.
صحيح أن ابن نوح فطن إلى أن السفينة سوف تستوي على " الجدوى " ،وأن من يركبها لن
يغرق ،وكذلك من يأوي إلى الجبل العالي ،لكنه لم يفطن إلى الموج الذي حال بينه وبين الجبل؛
فكان من المغرقين.
إذن :فكل كائن هو مؤتمر بأمر ال تعالى ،وما دامت العزة ل جميعا فمصداقها أن ل تعالى ما
في السموات وما في الرض ،وليس هناك كائن في الوجود يتأبّى على أن يكون جنديا من جنود
الحق سبحانه ،فيكون جنديا للهلك ،وجنديا للنجاة في نفس الوقت.
وقول الحق سبحانه هنا( :أل) نعلم من أن (أل) أداة تنبيه للسامع فل يؤخذ على غرّة ول تفوته
حكمة من حكم الكلم ،وينتبه إلى أن هناك خطابا عليه أن يجمع عقله كله ليحسن استقبال ما في
هذا الخطاب.
ويقول الحق سبحانه:
سمَاوَات َومَنْ فِي الَ ْرضِ } [يونس.]66 :
{ أَل إِنّ للّهِ مَن فِي ال ّ
ولقائل أن يقول :هناك كثير من الكائنات غير العاقلة ،وقوله هنا { مَن } مقصود به الكائنات
العاقلة؟
ولنا أن نتساءل للرّدّ على هذا القائل:
وهل هناك أي شيء في الوجود ل يفهم عن ال؟
طبعا ل ،وال سبحانه وتعالى هو القائل عن الرض:
{ َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ َأخْبَارَهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة4 :ـ .]5
إذن :فكل الكائنات في عُرف الستقبال عن ال سبحانه سواء بـ " مَنْ " أو بـ " ما " ،وكل من
في الوجود يفهم عن ال.
طوْعا َوكَرْها }
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َ
ونلحظ أن الحق سبحانه يأتي مرة بالقول {:وَلَهُ أَسَْلمَ مَن فِي ال ّ
[آل عمران.]83 :
سمَاوَات َومَنْ فِي الَ ْرضِ { [يونس.]66 :
ومرة يقول الحق سبحانه } :أَل إِنّ للّهِ مَن فِي ال ّ
كما جاء في هذه الية التي نحن بصددها الن.
شاء الحق سبحانه ذلك ،لن هناك جنسا في الوجود يوجد في السماء ويوجد في الرض ،وهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الملئكة المُدَبّرَات أمْرا ،هؤلء هم المقصودون بأن ل ما في السموات والرض.
ول سبحانه وتعالى أيضا جنس في السموات ل يوجد في الرض وهم الملئكة المهيمون العالين،
وليس لهم وجود على الرض ،كما أن ل تعالى جنودا في الرض ليس لهم وجود في السماء،
فإن ل حظنا الملئكة المدبرات أمرا ،نجد أن قول الحق سبحانه:
سمَاواتِ َومَا فِي الَ ْرضِ }[البقرة.]284 :
{ للّهِ ما فِي ال ّ
مناسب لها.
وإن ل حظنا أن ل ملئكة مهيمين في السماء ،وجنودا في الرض ل علقة لهم بالسماء يكون
مناسبا لذلك قول الحق سبحانه:
سمَاوَات َومَنْ فِي الَ ْرضِ { [يونس.]66 :
} أَل إِنّ للّهِ مَن فِي ال ّ
وما دام كل شيء في الكون مملوكا ل تعالى فل شيء يخرج عن مراده سبحانه ،فل يوجد مثلً
غار يدخله كائن فرارا من ال؛ لنه سبحانه قادر على أن يسد الغار ،وإن شاء ال سبحانه أن
يساعد من دخل الغار فهو تعالى يعمي بصر من يرقب الغار.
إذن :فلن يجير شيء على ال تعالى ،وستظل له صفة العزة ل يخدشها خادش من وجود ال في
الكون.
ثم يقول الحق سبحانه:
} َومَا يَتّبِعُ الّذِينَ َيدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُ َركَآءَ { [يونس.]66 :
ومعنى اتباعهم شركاء كأن هناك شركاء ،رغم أن الصل والحقيقة ألّ شركاء له سبحانه.
إذن :فهم يتبعون غير شيء؛ والدليل على ذلك موجود في طي القضية ،فهم يبعدونهم من دون ال
تعالى ،ومعنى العبادة أن يطاع أمر وينهى نهي ،وما يعبدونه من أشياء ل أوامر لها ول نواهي؛
فليس هناك منهج جاءوا به.
إذن :فل ألوهية لهم.
إذن :فالصل أل شركاء ل تعالى ،ولو كان له شركاء لنزلوا منهجا ولوجدوا أوامر ،وكان لهم
نواهٍ؛ لن الذي يقول " :اعبدني " إنما يحدد طريقة وأسلوب العبادة .وهاتوا واحدا من الذين
تتبعونهم وتدعون لهم يكون له منهج ،ولن يستطعيوا ذلك ،ولحق سبحانه هو القائل:
{ ُقلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َتغَوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء.]42 :
أي :أننا لو افترضنا أن هناك آلهة ولها مظهر قوة كالشمس التي تضيء والقمر الذي ينير،
والمطر الذي ينزل من السماء ،والملئكة التي تدبّر المر ،لو صدّقنا أن كل هؤلء آلهة ،فهم
سيبحثون عن الله الواحد الحد؛ ليأخذوا منه القوة التي ظننتم أنها لهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك يقول الحق سبحانه:
عمّا
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ سُبْحَانَ اللّهِ َ
ق وََلعَلَ َب ْع ُ
{ َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذا لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خََل َ
َيصِفُونَ }[المؤمنون.]91 :
إذ لو كان هذا المر صحيحا لكانت هناك وليات إليهة.
ولذلك قال الحق سبحانه:
{ أُولَـا ِئكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْ َتغُونَ إِلَىا رَ ّبهِمُ ا ْلوَسِيَلةَ }[السراء.]57 :
وهم قالوا إنهم يعبدون الملئكة ،وعليهم أن يعلموا أن الملئكة نفسها تعبد ال سبحانه وتعالى ،وما
دام ل يوجد شركاء ل لتتبعوهم؛ إذن :فأنتم تتبعون الظن.
لذلك جاء قول الحق سبحانه:
ن وَإِنْ هُمْ ِإلّ َيخْ ُرصُونَ { [يونس.]66 :
} إِن يَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّ ّ
ونحن نجد الذين أولعوا بأن يُوجِدوا في القرآن ظاهر تعارض ليشكّكوا فيه ،قالوا :إن هذه الية
مثال على ذلك؛ فيقولون :في بداية الية يقولَ } :ومَا يَتّبِعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُ َركَآءَ
{ [يونس.]66 :
فينفي أن المشركين يتبعون شركاء ل ،ثم يأتي في آخر الية فيقول إنهم يتّبعون الظن والخرص،
ففي أولها ينفي التباع ،وفي آخرها يثبته.
وهذا جهل ممن قال بهذا وادعى أن هناك تناقضا في الية ،فال سبحانه ينفي أن يكون ما يدعوه
هؤلء المشركون شركاء ل في ملكه ،فللّه من في السموات ومن في الرض ،ولكنه يثبت أنهم
يتّبعون الظن والخرص والتخمين.
ونقول :ما هو الظن؟ وما هو الخرص؟
إن الظن حكم بالراجح كما أوضحنا من قبل في النسب من أن هناك نسبة إنْ لم تكن موجودة فهي
مشكوك فيها ،أو نسبة راجحة ،أو أن نسبة تساوي فيها الشك مع الثبات ،فإنْ كان الشك مساويا
للثبات فهذا هو الشك .وإن رجحت ،فهذا هو الظن .أما المرجوح فنسميه وهما.
الظن ـ إذن حكم بالراجح .والخًَرْص :هو التخمين ،والقول بل قاعدة أو دليل.
والحق سبحانه يقول هنا:
ن وَإِنْ هُمْ ِإلّ َيخْ ُرصُونَ { [يونس.]66 :
} إِن يَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّ ّ
والقرآن حين يوجه خطابا فهو يأتي بالخطاب المستوعب لكل ممكن ،وهو سبحانه حكم عليهم هنا
أنهم يتّبعون الظن والخرص.
ونحن نعلم أن الكافرين قسمان :قسم ُيعْلم حقيقة الشيء ،ولكنه يغيّر الحقيقة إلى إفك وإلى خَرْص،
وقسم آخر ل يعرف حقيقة الشيء ،بل يستمع إلى من يعتقد أنه يعرف.
إذن :فهناك مُتّبِع ـ بكسر الباء ـ وهناك مُتّبًَع ـ بفتح الباء ـ المُتّبَع ـ بفتح الباء ـ يعلم أن ما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقوله هو كلم ملتوٍ ،يشوّه الحقيقة ويزينها ،أما المتّبع ـ بكسر الباء ـ فيظن أنه يتبع أناسا
عاقلين أمناء فأخذ كلمهم بتصديق.
إذن :فالمتبع (بكسر الباء) يكون الظن من ناحيته ،أما المتبع (فتح الباء) فيكون الخَرْصو الكذب
والفتراء من ناحيته؛ ولذلك يقول لنا الحق سبحانه:
ي وَإِنْ هُمْ ِإلّ َيظُنّونَ }[البقرة.]78 :
ن لَ َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ ِإلّ َأمَا ِن ّ
{ َومِ ْنهُمْ ُأمّيّو َ
هؤلء ـ إذن ـ يصدّقون ما يقال لهم؛ لنهم أميّون ،والكلم الذي يقال لهم راجح ،وهم لو فكروا
بعقولهم لما انتهوا إلى أنه كلم راجح.
أما الخرون فيقول فيهم الحق سبحانه:
{ َفوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً }[البقرة:
.]79
وهؤلء هم الذين يأتي منهم الخَرْص والفك وقول الزور والبهتان.
إذن :فالكفار إن كانوا من الميين فهم من أهل الظن ،وينطبق عليهم قول الحق سبحانه } :إِن
يَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّنّ { [يونس.]66 :
وإن كانوا من القادة والرؤساء فهؤلء هم من ينطبق عليهم قول الحق سبحانه } :وَإِنْ هُمْ ِإلّ
يَخْ ُرصُونَ { [يونس.]66 :
سكُنُواْ فِيهِ {
ج َعلَ َل ُكمُ الّ ْيلَ لِتَ ْ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :هوَ الّذِي َ
()1417 /
س َمعُونَ ()67
سكُنُوا فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ ْ
ج َعلَ َلكُمُ اللّ ْيلَ لِ َت ْ
ُهوَ الّذِي َ
وشاء الحق سبحانه بعد أن بيّن اليمان والمؤمنين ،وما يمكن أن يدّعيه الكافرون في نبيّ الرسالة،
وبعد أن بيّن المنهج ،ها هو سبحانه يأتي بالكلم عن آياته سبحانه في الكون تأييدا للمطلوب
بالمجود.
فالمطلوب أن نؤمن برسول يبلّغ منهجا عن ال؛ ليكون هذا المنهج نافعا لنا ،وإنْ أراد أحد دليلً
على ذلك فلينظر إلى اليات التي وجدت للنسان من قبل أن يُكلّف ،أهي في مصلحته أم غير
مصلحته؟
وما دامت اليات الموجودة في الكون ـ والمسخّرة للنسان ـ تفيد النسان في حياته ،فلماذا ل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يشكر من أعطاه كل تلك النعم ،وقد أعطى الحق ـ سبحانه وتعالى ـ النسان من قبل التكليف
الكثير من النعم ،وفور أن يصل إلى البلوغ يصير مكلّفا.
إذن :فال سبحانه لم يكلّف أحدا إل بعد أن غمره بالنعم النافعة له باعتقاد من العبد وصدق من
الواقع.
فإذا ما جاء لك التكليفَ ،فقِسْ ما طُلِب منك على ما وُجِد لك ،فإذا كنت تعتقد أن اليات الكونية
خذْ منها صدقا
التي سبقت التكليف نافعة لك قبل أن يطلب منك " افعل كذا " و " ل تفعل كذا "؛ فَ ُ
واقعا يؤيد صدق ما طُلِب منك تكليفا ،فكما نفعك في الولى ،فالحق سبحانه سينفعك باتباعك
التكليف ،واستقبلْ حركة الحياة على ضوء هذا التكليف؛ لتسعد.
ونحن نعلم أن الصل في النسان أن يرتاح أولً ليتحرك ،ثم يتعب ،ثم يرتاح؛ ولذلك نجد
التكاليف قد جاءت على نفس المنوال ،فقد أراحك الحق سبحانه إلى سن البلوغ وأخذت نعم ال
تعالى وتمتعت بها إلى سن البلوغ ،ارتحت اختيارا ،وارتحت في مراداتك ،ثم تجيء " افعل " و "
ل تفعل " لتلتزم بما ُيصْلِح لك كل أحوالك.
وإذا كان التكليف سيأخذ منك بعضا من الجهد ،فهناك فاصل زمني للراحة ،وأنت في حياتك تجد
وقتا للراحة ،ووقتا للحركة ،والراحة تجعلك تسعى بنشاط إلى الحركة ،والحركة تأخذ منك الجهد
الذي تحب أن ترتاح بعده.
إذن :فالحركة تحتاج للراحة ،والراحة تحتاج للحركة.
وجاء الحق سبحانه إلى الفترة الزمنية المسماة " اليوم " ،فبيّن لنا أنه كما قسّم الوجود النساني
إلى مرحلتين:
الولى :هي ما قبل البلوغ ول تكليف فيها.
والثانية :هي ما بعد البلوغ وفيها التكليف.
فقد قسّم ال سبحانه أيضا " اليوم " إلى وقت للراحة ووقت للحركة ،فقال ال تعالى { ُهوَ الّذِي
سكُنُواْ فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرا } [يونس.]67 :
ج َعلَ َلكُمُ الّ ْيلَ لِ َت ْ
َ
فكما خلق سبحانه لنا اليوم وفيه وقت للراحة ،ووقت للحركة ،كذلك شرع الحق سبحانه منهج
الدين؛ لتستقيم حركة الحياة؛ لن النسان ـ الخليفة في الرض ـ ل بد أن يتحرك ،ل بد أن
تكون حركته على مقتضى " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " ،وما لم يَرِدْ فيه " افعل " و " ل تفعل "
فهو مباح؛ إن شاء فعله ،وإن شاء لم يفعله.
()1418 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ إِنْ عِنْ َد ُكمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ
خذَ اللّهُ وَلَدًا سُ ْبحَانَهُ ُهوَ ا ْلغَنِيّ َلهُ مَا فِي ال ّ
قَالُوا اتّ َ
ِبهَذَا أَ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ ()68
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فردّ عليهم الحق سبحانه:
سمَ ٌة ضِيزَىا }[النجم21 :ـ .]22
{ أََل ُكمُ ال ّذكَ ُر وََل ُه الُنْثَىا * تِ ْلكَ إِذا ِق ْ
والكمال كله ل سبحانه فهو كمال ذاتي؛ ولذلك يأتي في وسط الية ويقول تعالى:
{ سُبْحَانَهُ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ } [يونس.]68 :
وسبحانه تعني :التنزيه ،وهو الغني أي :المستغني عن ُمعِين كما تستعينون أنتم بأبنائكم ،وهو دائم
الوجود؛ فل يحتاج إلى ابن مثل البشر ،وهم أحداث تبدأ وتنتهي؛ لذلك يحبون أن يكون لهم أبناء
كما يقول الشاعر:ابني يا أنا بعد ما أقَضي ويقال " :من ل ولد له ل ِذكْر له " ،كأن النسان لما
علم أنه يموت ل محالة أراد أن يستمر في الحياة في ولده.
ولذلك حين يأتي الولد للنسان يشعر النسان بالسرور والسعادة ،والجاهل هو من يحزن حين تلد
له زوجته بنتا؛ لن البنت لن تحمل السم لمن بعدها ،أما الولد والحفيد فيحملن اسم الجد ،فيشعر
الجد أنه ضمن ال ّذكْر في جيلين.
إذن :فاتخاذ الولد إما استعانة وإما اعتداد ،والحق سبحانه غنيّ عن الستعانة ،وغني عن العتداد؛
لنك تعتد بمن هو أقوى منك ،وليس هناك أقوى من ال تعالى ،وهو سبحانه ل يحتاج لمتداد؛
لنه هو الول وهو الخر ،وعلى ذلك ففكرة اتخاذ الولد بالنسبة ل تعالى ل تصح على أي لون
من ألوانها.
ولذلك يقول الحق سبحانه مرادفا لتلك الفكرة } :سُبْحَانَهُ { لنها تقطع كل احتمالت ما سبقها،
ويُتْبعِ ذلك بقولهُ } :هوَ ا ْلغَ ِنيّ { لنه غني عن اتخذا الولد ،وغني عن كل شيء ،وقوله } :سُبْحَا َنهُ
{ تنزيه له ،والتنزيه :ارتفاع بالمُنَزّه عن مشاركة شيءٍ له ـ في الذات أو الفعال.
وإذا ورد شيء هو ل وصفٌ ولخَلْقه وصفٌ ،فإياك أن تأخذ هذه الصفة مثل تلك الصفة.
فإن قابلت غنيا من البشر ،فالغني في البشر عَ َرضٌ ،أما غنى ال تعالى ففي ذاته سبحانه.
وأنت حي وال سبحانه حي ،ولكن أحياتك كحياته؟ ل؛ لن حياته سبحانه لم يسبقها عدم ،وحياتك
سبقها عدم ،وحياته سبحانه ل يلحقها عدم ،وأنت يلحق حياتك العدم.
ضيّ.
وال موجود وأنت موجود ،لكن وجوده سبحانه وجود ذاتيّ ،ووجودك وجود عَ َر ِ
وإذا قال الحق سبحانه:
إن له ـ سبحانه وتعالى ـ يدا{ َيدُ اللّهِ َفوْقَ أَيْدِي ِهمْ }[الفتح.]10 :
فل يمكن أن تكون يد ال سبحانه مثل يدك؛ لن ذاته سبحانه ليست كذاتك ،وصفاته سبحانه ليست
كصفاتك ،وهو سبحانه القادر العلى ،ول يمكن أن يكون مقدورا لحد.
ولذلك حين يتجلّى ال سبحانه لخلقه ،فسوف يتجلى بالصورة التي تختلف عن كل خيال العبد،
وهذه الصورة تختلف من عبد إلى آخر ،ولو كانت الصورة التي يتجلى بها ال سبحانه مقدورا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليها لكان معنى ذلك أن هناك ذهنا بشريا قد قدر على الحاطة بها .وما خطر ببالك فال سبحانه
بخلف ذلك؛ لن ما خطر بالبال مقدور عليه لنه خاطر ،وال سبحانه ل ينقلب أبدا إلى مقدور
عليه.
وأنت حين تأتي بمسألة في الحساب أو الهندسة ـ مثلً ،وتعطيها لتلميذ ويقوم بحلها ،فمعنى ذلك
أن عقله قد قدر عليها ،أما إن جئت لتلميذ في المرحلة العدادية ـ مثلً ـ بمسألة هندسية مقررة
على طلبة كلية الهندسة؛ فعقله لن يقدر عليها.
إذن :لو أن النسان قد أدرك شيئاً عن ال غير ما قاله ال ل نقلب الله إلى مقدور عليه ،والحق
سبحانه مُنَزّه عن ذلك؛ لنه القادر العلى الذي ل ينقلب أبدا إلى مقدور.
لذلك يعلّمنا الحق سبحانه أن نقول تنزيها ل تعالى كلمة } سُبْحَا َنهُ { ،وهو التنزيه الواجب عن
كل شيء يخطر ببال النسان عن ال تعالى ،وهذه السبحانية أو هذا التنزيه هو صفة ذاتية في ال
تعالى ،قبل أن يوجد شيء ،وبعد أن خَلَق الخَلْق ،فعلى كل المخلوقات تنزيهه ،وبدأ الخلق في
التسبيح.
والتسبيح فعل مستمر ل ينقطع ول ينقضي؛ لذلك تجد استدللت القرآن في السور التنزيهية تؤكد
ذلك ،فيقول الحق سبحانه:
حوْلَهُ }
ل ْقصَا الّذِي بَا َركْنَا َ
سجِ ِد ا َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ
{ سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَ ْب ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ
[السراء.]1 :
وإياك أن تظن أن محمدا صلى ال عليه وسلم قد سرى بقرار من نفسه ،بل الذي أسرى به هو
الحق سبحانه ،فل تظن أن المسافة يمكن أن تمنع مشيئة الحق المطلقة ،ول المكان ،ول الزمن؛
لن الفعل منسوب ل تعالى ،ول يمكن أن نقيس فعلً منسوبا ل تعالى بقياس الزمان أو المكان،
أو حسب قانون الحركة النسبية ،لن الحق سبحانه له طلقة القدرة ،وأنت بشر مجرد حادث
محدود الزمان والمكان.
وأنت إذا سِرْت من هنا إلى السكندرية ـ مثلً ـ على قدميك فستقطع المسافة في أسابيع ،وإن
امتطيت دابة فقد تأخذ في الوصول إلى السكندرية أياما ،وإن ركبت سيارة فسوف تقطع المسافة
في ساعتين ،وإن ركبت صاروخا ،فستصل خلل دقائق.
ل زمن الوصول ،وهذا موجز نظرية الحركة ،وإذا كان
أي :أنك كلما زادت قوة أداة الوصول َق ّ
الذي أسرى هو ال سبحانه ،وهو قوة القوى ،لذلك ل يمكن أن يقاس بالنسبة لمشيئة قوة أخرى،
أو أن يقاس المر ببُعد أو قُرْب المكان أو كيفية الزمان الذي تعرفه.
وإياك أن تفهم أن إسراء ال تعالى مثل إسرائك؛ لن الفعل إنما يأخذ قوته من الفاعل ،وما دام
الفاعل هو ال سبحانه فل أحد بقادر أن َيحُدّ أفعاله بزمن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد استهل الحق سبحانه سورة السراء بالسبحانية وآياتها الولى تتكلم في أدق شيء تكلم فيه
رسول ال صلى ال عليه وسلم عن ذاته بأنه قد أسْ ِريَ به ،وبذلك أثبت بحادث السراء حقيقة
المعراج ،وأن الناموس قد خُرِق له ،وحدّثنا عما نعلم لنصدّق حديثه عما ل نعلم ،وحتى نقيس ما
ل نعلم على ما نعلم ،فيتأكد لنا صدقه صلى ال عليه وسلم في حديثه عما ل نعلم.
كلمة " سبحانه " ـ إذن ـ هي للتنزيه ،وهي ل تعالى أزلً قبل أن يَخلق الخَلق ،فقد شهد سبحانه
لذاته أنه إله واحد ،ثم شهدت الملئكة ،ويتكرر التسبيح من كل المخلوقات التي أوجدها ال
سبحانه.
وأنت تجد سور القرآن الكريم التي جاء فيها التسبيح مؤكدة أنه سبحانه مُنزّه ،وله التسبيح من قبل
أن يخلق الخلق ،ثم خلق الخلق؛ ليسبّحوا ،ففي سورة الحديد يقول سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} إِنْ عِن َدكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِبهَـاذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ { [يونس.]68 :
و " إنْ " قد تأتي للنفي في مثل قول الحق سبحانه:
{ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ ِإلّ اللّئِي وََلدْ َنهُمْ }[المجادلة.]2 :
وفي قول الحق سبحانه هنا:
} إِنْ عِن َدكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِبهَـاذَآ { [يونس.]68 :
حجّة تدل على أن ال تعالى اتخذ ولدا.
أي :ليس عندكم ُ
ولذلك يُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
علَى اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ { [يونس]68 :
} أَتقُولُونَ َ
أي :أنكم ل تملكون إعلما من ال تعالى بذلك ،فل إعلم عن ال إل من ال ،وليس لحد أن ُيعْلِم
عن ربه ،فهو سبحانه من ُيعْلِم عن نفسه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :قلْ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ لَ ُيفْلِحُونَ {
()1419 /
ُقلْ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ لَا ُيفْلِحُونَ ()69
والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن اليمان وثمرته ونهايته ياتي بالفَلَح كنتيجة لذلك اليمان،
فهو سبحانه القائل:
{ َقدْ َأفْلَحَ مَن َزكّاهَا }[الشمس.]9 :
وهو سبحانه القائل:
{ َقدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }[المؤمنون.]1 :
ويقول أيضا:
{ ُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }[العراف.]157 :
وكلها من مادة " الفلح " وهي مأخوذة من المر الحسي المتصل بحياة الكائن الحي ،فمقومات
وجود الكائن الحيَ :نفَس ،وماء ،وطعام ،والتنفس يأتي من الهواء الذي يحيط بالرض ،والماء
ينزل من السماء أو يُستنبط مما تسرب في باطن الرض .والطعام يأتي من الرض ،وكل ما
أصله من الرض يُستخرج بالفلحة.
لذلك نقول :إن الفلَحة هي السبب الستبقائي للحياة ،فكما ُيفْلِح النسان الرض ،ويشقها ويبذر
فيها البذور ،ثم يرويها ،ثم تنضج وتخرج الثمرة ،ويقال :أفلح ،أي :أنتجت زراعته نتاجا طيبا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وشاء الحق سبحانه أن يمسّي الحصيلة اليمانية الطيبة بالفلح.
وبيّن لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن الدنيا مزرعة الخرة ،فإن كنت تريد ثمرة فابذل
الجهد.
وإياك والظن أن الدين حينما يأخذ منك شيئا في الدنيا أنه يُ ْنقِص ما عندك ،ل ،بل هو يُنمّي لك ما
عندك.
والمثل الذي أضربه دائما ـ ول المثل العلى ـ نجد الفَلّح حين يزرع فدانا بالقمح ،فهو يأخذ
من مخزنه إردبا؛ ليستخدمه كبذور في الرض ،ولو كانت امرأته حمقاء ل تعرف أصول
الزراعة ستقول له " :أنت أخذت من القمح ،وكيف تترك عيالك وأنت تنقصهم من قوتهم؟ "
ب القمح المُخَزّن؛ ليعود به بعد الحصاد عشرة أو خمسة عشر
هذه المرأة ل تعلم أنه أخذ إرد ّ
إردّبا من القمح.
كذلك مطلوب ال سبحانه في الدنيا قد يبدو وكأنه ينقصك أشياء ،لكنه يعطيك ثمار الخرة
ويزيدها.
إذن :فالفلح مادة مأخوذة من فلح الرض وشقها وزرعها لتأخذ الثمرة.
وكما أنك تأخذ حظك من الثمار على قدر حظك من التعب ومن العمل ،فذلك أمر الخرة وأمر
الدنيا.
ومثال ذلك :الفلح الذي يحرث الرض ،ويحمل للرض السماد على المطية ،ثم يستيقظ مبكرا
في مواعد الري ،تجد هذا الفلح في حالة من النشراح والفرح في يوم الحصاد ،وأمره يختلف
عمن يهمل الرض ويقضي الوقت على المقهى ،ويسهر الليل أمام التلفزيون ،ويأتي يوم الحصاد
ليحزن على محصوله الذي لم يحسن زراعته.
وقول الحق سبحانه:
{ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ لَ ُيفْلِحُونَ } [يونس.]69 :
أي :هؤلء الذي يقولون عن ال تعالى أو في ال تعالى بغير علم من ال ،هم الذين ل يفلحون.
وأوضحت من قبل أن كل ما يتعلق بال تعالى ل ُيعْلَم عنه إل عن طريق ال .لكن ما الذي
يحملهم على الفتراء؟
نعم ،إن كل حركة في الحياة ل بد أن يكون الدافع إليها نفعا ،وتختلف النظرة إلى النفع وما يترتب
عليه ،فالطالب الكسول المتسكع في الشوارع ،الرافض للتعلم ،نجده راسبا غير موفق في مستقبله،
أما التلميذ الحريص على علومه ،فهو من يحصل على المكانة اللئقة به في المجتمع ،والتلميذ
الول كان محدود الفق ولم ير امتداد النفع وضخامته ،بل قصر النفع على لذة عاجلة مُضحّيا
جلٍ.
بخيرٍ آ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والذي جعل هؤلء يفترون على ال الكذب هو انهيار الذات ،فكل ذات لها وجود ولها مكانة ،فإذا
انهارت المكانة ،أحس النسان أنه بل قيمة في مجتمعه.
والمثل الذي ضربته من قبل بحَلّق الصحة في القرية ،وكان يعالج الجميع ،ثم تَخرّجَ أحد شباب
القرية في كلية الطب وافتتح بها عيادة ،فإن كان حلق الصحة عاقلً ،فهو يذهب إلى الطبيب
ليعمل في عيادته ممرضا ،أو (تمرجيا) ،أما إن أخذته العزة بالثم ،فهو يعاند ويكابر ،ولكنه لن
يقدر على دفع علْم الطبيب.
وكذلك عصابة الكفر ورؤساء الضلل حينما يُفاجَآون ب َمقْدِم رسول من ال ،فهم يظنون أنه سوف
يأخذ السيادة لنفسه ،رغم أن أي رسول من رسل ال تعالى ـ عليه السلم ـ إنما يعطي السيادة
لصاحبها ،أل وهو الحق العلى سبحانه.
وحين يأخذ منهم السيادة التي كانت تضمن لهم المكانة الوجاهة والشأن والعظمة ،فهم يصابون
بالنهيار العصبي ،ويحاولون مقاومة الرسول دفاعا عن السلطة الزمنية.
ومثال ذلك :هو مَقْ ِدمُ النبي صلى ال عليه وسلم إلى المدينة ،وكان البعض يعمل على تنصيب عبد
ي ليكون مَلكا؛ ولذلك قاوم الرجل السلم ،وحين لم يستطع آمن نفاقا ،وظل على عدائه
ال بن أب ّ
للسلم ،رغم أنه لو أحسن السلم واقترب من رسول ال صلى ال عليه وسلم لنال أضعاف ما
كان يسأخذه لو صار ملكا.
وهكذا قادة الضلل وأئمة الكفر ،هم مشفقون على أنفسهم وخائفون على السلطة الزمنية؛ لن
الرسول حينما يجيء إنما يُسوّي بين الناس؛ لذلك يقفون ضد الدعوة حفاظا على السلطة الزمنية.
ج ُع ُهمْ {
ولذلك يقول الحق سبحانه عن سبب افترائهم الكذب } :مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا ُثمّ إِلَيْنَا مَرْ ِ
()1420 /
ج ُعهُمْ ُثمّ نُذِي ُقهُمُ ا ْل َعذَابَ الشّدِيدَ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ ()70
مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا ثُمّ إِلَيْنَا مَرْ ِ
ويعزّ ـ إذن ـ على قادة الكفر وأئمة الضلل أن يسلبهم الرياسة والسيادة داعٍ جديد إلى ال
سبحانه وتعالى ،ويخافون أن يأخذ الداعي الجديد ل المر منهم جميعا ،ل إلى ذاته ،ولكن إلى
مراد ربه.
ولو كان الداعي إلى ال تعالى يأخذ السلطة الزمنية لذاته؛ لقلنا :ذاتٌ أمام ذاتٍ ،ولكنه صلى ال
عليه وسلم أوضح أنه يعود ـ حتى فيما يخصه ـ إلى ال سبحانه وتعالى.
ويكشف لنا الحق سبحانه الكسب القليل الذي يدافعون عنه أنه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمْق تقدير المنفعة ،وكلمة "
{ مَتَاعٌ فِي الدّنْيَا } [يونس]70 :؛ لن كُلً منهم يحب أن يقنع نفسهِ ،ب ُ
الدنيا " ل بد أن منها حقيقة الشيء المنسوبة إليه.
والسماء ـ كما نعلم ـ هي سمات مسميات ،فحين تقول :إن فلنا طويل ،فأنت تعطيه سمة
الطول.
وحين تقول " :دنيا " فهي من الدّ ُنوّ " أو " الدناءة ".
وإن اعتبرت الدنو هو طريق موصل إلى القيمة ،فهذا أمر مقبول؛ لن الدرجة الولى في
الوصول إلى العلى هي الدنو ،وتلتزم بمنهج ال تعالى فتصعد عُلوّا وارتفاعا إلى الخرة.
إذن :فمن يصف الدنيا بالدناءة على إطلقها نقول له :ل ،بل هي دنيا بشرط أن تأخذها طريقا إلى
العلى ،ولكن من ل يتخذها كذلك فهو من يجعل مكانته هي الدنيئة ،أما من يتخذها طريقا إلى
العلو فهو الذي أفلح باتّباع منهج ال تعالى.
إذن :فالدنيا ليست من الدناءة؛ لن الدين ليس موضوعه الخرة ،بل موضوعه هو الدنيا ،ومنهج
الدين يلزمك بـ " افعل " و " ل تفعل " في الدنيا ،والخرة هي دار الجزاء ،والجزاء على الشيء
ليس عين موضوعة ،وأنت تستطيع أن تجعل الدنيا مفيدة لك إنْ جعلتها مزرعة للخرة.
وإياك أن تعمل على أساس أن الدنيا عمرها مليين السنين؛ لنه ل يعنيك كعائش في الدنيا إن
طال عمرها أم َقصُرَ ،بل يعنيك في الدنيا مقدار ُمكْثِك فيها ،وعمرك فيها مظنون ،بل وزمن الدنيا
كله مظنون ،وهناك من يموت وعمره ستة أشهر ،وهناك من يموت وعمره مائة سنة ،وكلّ يتمتع
بقدر ما يعيش ،ثم يرجع إلى ال سبحانه وتعالى.
وهؤلء الذين ضَلّوا وقالوا على ال سبحانه افتراء ،هؤلء لن يفلتوا من ال؛ لن مرجعهم إليه
سبحانه ككل خَلْقه ،وهؤلء ال ُمضِلّون لم يلتفتوا إلى عاقبة المر ،ول إلى من بيده عاقبة المر،ولم
يرتدعوا.
ولكن من نظر إلى عاقبة المر وأحسن في الدنيا فمرجعه إلى حسن الثواب والجنة ،ومن لم ينظر
إلى عاقبة المر وافترى على ال ـ سبحانه وتعالى ـ الكذب فالمآب والمآل إلى العذاب مصداقا
لقوله تعالى:
ج ُعهُمْ ثُمّ ُنذِي ُقهُمُ ا ْلعَذَابَ الشّدِيدَ ِبمَا كَانُواْ َي ْكفُرُونَ } [يونس.]70 :
{ ُثمّ إِلَيْنَا مَ ْر ِ
ودرجة العذاب تختلف باختلف المعذّب ،فإن كان المعذّب ضعيفا ،فتعذيبه يكون ضعيفا ،وإن كان
المعذّب متوسط القوة؛ فتعذيبه يكون متوسطا ،أما إن كان المعذّب هو قوة القوى فل بد أن يكون
عذابه شديدا ،وهو سبحانه الحق القائل:
خ َذهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود.]102 :
{ إِنّ أَ ْ
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مبدأ تنزيه اللوهية عن اتخاذ الولد ،فهو سبحانه الغنيّ الذي له ما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في السموات والرض ،وبيّن لنا سبحانه أننا يجب أن نأخذ المنهج من مصدر واحد وهو الرسل
المبلّغون عن ال تعالى ،شاء الحق سبحانه أن يكلمنا عن موكب الرسالت؛ لن الكلم حين يكون
كلما نظريا ليس له واقع يسنده ،فقد تنسحب النظرية عليه.
أما إن كان للكلم واقع في الكون يؤيد الكلم النظري ،فهذا دليل على صحة الكلم النظري؛
ولذلك فنحن حين نحب أن نضخّم مسألة من المسائل في داء اجتماعي ،نحاول أن نصنع منه
رواية ،أي :أمرا لم يحدث حقيقة ،ولكننا نتخيل أنه حقيقة؛ لنبيّن المر النظري في واقع متخيّل.
ويقص علينا الحق سبحانه في القرآن قصصا من الموكب الرسالي؛ ليبيّن للكفار :أنكم لن
تستطيعوا الوقوف أمام هذه الدعوة ،وأمامكم سِجل التاريخ وأحداث الرسل مع أممهم؛ المؤيدين
بالمؤمنين؛ والكفار المعاندين والمعارضين ،فإن كان قوم من السابقين قد انتصروا على رسولهم،
فللكفار الحق في أن يكون لهم أمل في النتصار على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
ول بد أن يكون هذا الكلم موجها إلى أناس لهم علم ببعض أحداث الموكب الرسالي .ولكن قد
يكون علم هذا قد بهت؛ لن الزمان قد طال عليه.
وهنا يقول الحق سبحانه } :وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ يا َقوْمِ {
()1421 /
وَا ْتلُ عَلَ ْي ِهمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَ ْي ُكمْ َمقَامِي وَتَ ْذكِيرِي بِآَيَاتِ اللّهِ َفعَلَى اللّهِ
ي وَلَا تُ ْنظِرُونِ ()71
غمّةً ثُمّ ا ْقضُوا إَِل ّ
ج ِمعُوا َأمْ َركُ ْم وَشُ َركَا َءكُمْ ثُمّ لَا َيكُنْ َأمْ ُركُمْ عَلَ ْي ُكمْ ُ
َت َوكّلْتُ فََأ ْ
ولقائل أن يقول :ولماذا جاء ال سبحانه هنا بخبر نوح ـ عليه السلم ـ ولم يأت بخبر آدم ـ
عليه السلم ـ أو أدريس ـ عليه السلم ـ و ُهمَا من الرسل السابقين على نوح عليه السلم؟
ومن هنا جاءت الشبهة في أن آدم لم يكن رسولً؛ لن البعض قد ظن أن الرسول يجب أن يحمل
رسالته إلى جماعة موجودة من البشر ،ولم يفطن هؤلء البعض إلى أن الرسول إنما يُرْسَل لنفسه
أولً.
وإذا كان آدم ـ عليه السلم ،أول الخلق فهو مُرسَل لنفسه ،ثم يبلّغ من سوف يأتي بعده من
أبنائه.
وقد أعطى ال سبحانه وتعالى التجربة لدم ـ عليه السلم ـ في الجنة ،فكان هناك أمر ،وكان
جكَ الْجَنّةَ َوكُلَ مِ ْنهَا رَغَدا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا َولَ َتقْرَبَا
سكُنْ أَ ْنتَ وَزَوْ ُ
هناك نهي هو{ َوقُلْنَا يَآءَادَمُ ا ْ
هَـا ِذهِ الشّجَ َرةَ }[البقرة.]35 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحَذّره من الشيطان ،ثم وقع آدم عليه السلم في إغواء الشيطان ،وأنزله ال تعالى إلى الرض
واجتباه ،وتاب عليه ،ومعه تجربته ،فإن خالف أمر ربه فسوف يقع عليه العقاب ،وحذره من اتباع
الشيطان حتى ل يخرج عن طاعة ال تعالى.
إذن :فقد أعطاه الحق سبحانه المنهج ،وأمره أن يباشر مهمته في الرض؛ في نفسه أولً ،ثم يبلغه
لمن بعده.
وكما علّمه الحق سبحانه السماء كلها ،علّم آدم السماء لبنائه فتكلموا :وكما نقل إليهم آدم
السماء نقل لهم المنهج ،وقد علمه الحق سبحانه السماء؛ ليعمر الدنيا ،وعلّمه المنهج؛ ليحسن
العمل في الدنيا؛ ليصل إلى حسن جزاء الخرة.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:
عصَىا ءَادَمُ رَبّهُ َف َغوَىا }[طه.]121 :
{ وَ َ
ويتبعها الحق سبحانه بقوله تعالى:
{ ُثمّ اجْتَبَاهُ }[طه.]122 :
ومعنى الجتباء :هو الصطفاء بالرسالة لنفسه أولً ،ثم لمن بعده بعد ذلك ،والحق سبحانه هو
القائل:
{ فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُم مّنّي ُهدًى }[البقرة.]38 :
والهدى :هو المنهج المنزّل على آدم عليه السلم ،والرسالة ليست إل بلغ منهج وهدى من ال
سبحانه للخلق.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو القائل:
{ َومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ َرسُولً }[السراء.]15 :
فالسابقون لنوح ـ عليه السلم ـ هم من أبلغهم آدم عليه السلم ،والدليل هو ما جاء من خبر
ابني آدم في قول الحق سبحانه:
حقّ ِإذْ قَرّبَا قُرْبَانا }[المائدة.]27 :
{ وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَا َدمَ بِالْ َ
وهما قد قدّما القربان إلى ال تعالى.
إذن :فخبر اللوهية موجود عند ابني آدم بدليل قول الحق سبحانه:
لقْتُلَ ّنكَ قَالَ إِ ّنمَا يَ َتقَبّلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ }
{ ِإذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَ ُتقُ ّبلَ مِن َأحَ ِد ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِنَ الخَرِ قَالَ َ
[المائدة.]27 :
إذن :فهم قد أقروا بوجود ال تعالى ،وأيضا عرفوا النهي،؛ لنه في إحدى اليتين قال:
لقْتَُلكَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
ك َ
{ لَئِن بَسَطتَ إَِليّ َي َدكَ لِ َتقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ َي ِديَ إِلَ ْي َ
[المائدة.]28 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فالذين جاءوا بعد آدم ـ عليه السلم ـ عرفوا الله الواحد ،وعلموا المنهج.
إذن :فالذين يقولون :إن آدم ـ عليه السلم ـ لم يكن رسولً ،نقول لهم :افهموا عن ال جيدا،
كان يجب أن تقولوا :هذه مسألة ل نفهم فيها ،وكان عليهم أن يسألوا أهل ال ّذكْر ليفهموا عنهم أن
آدم ـ عليه السلم ـ رسول ،وأن من أولده قابيل وهابيل ،وقد تكلما في التقوى.
أما لماذا جاء الحق سبحانه هنا بالحديث عن نوح ،عليه السلم ،فلنا أن نعلم أن آدم عليه السلم
هو النسان الول ،وأنه قد نقل لولده المنهج المُبلّغ له ،ودلّهم على ما ينفعهم ،ثم طال الزمن
وأنشأت الغفلة ،فجاء إدريس عليه السلم ،ثم تبعته الغفلة ،إلى أن جاء نوح عليه السلم.
وهنا يأتي لنا الحق سبحانه بخبر نوح ـ عليه السلم ـ في قوله:
} وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ { [يونس.]71 :
والنبأ :هو الخبر الهام الذي يلفت الذهن ،وهو المر الظاهر الواضح.
والحق سبحانه يقول:
عمّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْل َعظِيمِ * الّذِي ُهمْ فِيهِ ُمخْتَِلفُونَ }[النبأ1 :ـ .]3
{ َ
إذن :فالنبأ هو الخبر الهام المُ ْلفِت ،وقد جاء هنا خبر نوح ـ عليه السلم ـ الذي يُبلّغ قومه أي:
يخاطبهم ،وهو قد شهد لنفسه أنه رسول يبلّغ منهجا.
وكلمة " َقوْمِ " ل تطلق في اللغة إل على الرجال ،يوضح القرآن ذلك في قوله الحق سبحانه:
عسَىا أَن َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ
عسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ َ
سخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ َ
{ لَ يَ ْ
}[الحجرات.]11 :
إذن :فالقوم هم الرجال ،والمرأة إنما يُبنى أمرها على السر ،والحركة في الدنيا للرجل ،وقد
شرحنا ذلك في حديث الحق سبحانه لدم ـ عليه السلم ـ عن إبليس ،فقال تعالى:
شقَىا }[طه.]117 :
جكَ فَلَ يُخْ ِرجَ ّن ُكمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَ ْ
ع ُدوّ ّلكَ وَلِ َزوْ ِ
{ إِنّ هَـاذَا َ
شقَىا }[طه.]117 :
ولن الخطاب لدم فقد قال الحق سبحانه {:فَ َت ْ
ولم يقل :فتشقيا؛ مما يدل على أن المرأة ل شأن لها بالعمال التي خارج البيت والتي تتطلب
مشقة ،فالمرأة تقرّ في البيت؛ لتحتضن البناء ،وتُهيّىء السكن للرجل بما فيها من حنان وعاطفة
وقرار واستقرار .أما القيام والحركة فللرجل.
فالحق سبحانه يقول:
شقَىا }[طه.]117 :
{ فَلَ ُيخْرِجَ ّن ُكمَا مِنَ ا ْلجَنّةِ فَ َت ْ
إذن :فالكدح للرجل ومتطلبه القيام ل القعود.
ثم يقول الحق سبحانه على لسان نوح ـ عليه السلم.
} يا َقوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكُمْ ّمقَامِي { [يونس.]71 :
شعِر المخاطبين بأنه منهم وهم
وهنا يُحنّن نوح قومه بإضافات التحنن ،أي :جاء بالضافة التي تُ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منه ،وأنه ل يمكن أن يغشهم فهم أهله ،مثل قول النائب الذي يخطب في أهل دائرته النتخابية" :
أهلي وعشيرتي وناخبيّ " وكلها اسمها إضافة تحنن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أو أن } :كَبُرَ عَلَ ْي ُكمْ ّمقَامِي { [يونس.]71 :
تعني :أنه حمّلهم ما ل يطيقون؛ لن نوحا ـ عليه السلم ـ أراد أن يُخرجهم عما ألفوا من عبادة
الصنام ،فشقّ عليهم ذلك.
إذن :فمبدأ عبادة الله الواحد يصعب عليهم.
أو أن الصل في الواعظ أو المبلّغ أن يكون على مستوى القيام وهم قعود ،وكان سيدنا عيسى
عليه السلم يتكلم مع الحواريين وهو واقف ،والوقوف إشعار بأن مجهود الهدي يقع على سيدنا
عيسى ـ عليه السلم ـ بينما يقعد الحواريون ليستمعوا له في راحة.
إذن :فقول الحق سبحانه:
} إِن كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكُمْ ّمقَامِي { [يونس.]71 :
أي :إن صعب عليكم ما أدعوكم اليه.
ويصح أن نأخذها من ناحية طول الوعظ والتكرار في ألف سنة إل خمسين عاما ،أو أن مقامي
كبر عليكم ،بمعنى :أننا انقسمنا إلى قسمين؛ لن المنهج الذي أدعو إليه ل يعجبكم ،وكنت أحب أن
نكون قسما واحدا.
()1422 /
فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ َفمَا سَأَلْ ُت ُكمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا عَلَى اللّ ِه وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ()72
أي :إن توليتم عن دعوتي لعبادة الله الحق ،فأنا أدعوكم إلى مثيل لكم هو أنا ،بل أدعوكم إلى من
هو فوقي وفوقكم ،فأنا ل أريد أن أستولي على السلطة الزمنية منكم ،ول أبحث عن جاهٍ ،فالجاه
كله ل تعالى.
وال ل يحتاج إلى جاهٍ منكم لن جاهه سبحانه ذاتي فيه ،ولكن لنمنع جبروتكم وتجبّركم؛ لتعيشوا
على ضوء المنهج الحق؛ لتكون حياتكم صالحة ،وكل ذلك لمصلحتكم.
{ فَإِن َتوَلّيْ ُتمْ َفمَا سَأَلْ ُتكُمْ مّنْ أَجْرٍ } [يونس ]72 :فهل ُيمَالىء نوح ـ عليه السلم ـ أعداءه.
إن النسان ُيمَالىء العدو؛ لن يخاف أن يوقع به شرّا ،ونوح عليه السلم ل يخافهم؛ لنه يعتمد
على ال تعالى وحده ،بل هو يدلّهم على مواطن القوة فيهم ،وهو يعلم أن قوتهم محدودة ،وأن
شرهم مهما بلغ فهو غير نافذ ،وقد ل يكون منهم شر على الطلق ،فهل هناك نفعٌ سيعود على
نوح ـ عليه السلم ـ ويُمنَع عنه؟
ل؛ لنه يعلن أنه ل يأخذ أجرا على دعوته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هم ـ إذن ـ ل يقدرون على ضُرّه ،ول يقدرون على نفعه ،وهو ل يريد منهم نفعا؛ لن مركزه
بإيمانه بال الذي أرسله مركزٌ قويّ.
وهو ل يسألهم أجرا ،وكلمة " أجر " تعني :ثمن المنفعة ،والثمان تكون عادة في المعاوضات ،إما
أن تكون ثمنا للعيان والذوات ،وإما أن تكون ثمنا للمنفعة.
ومثال ذلك :أن إنسانا يرغب في شراء " شقة " في بيت فيذهب إلى رجل يملك بيتا ،ويطلب منه
أن يبيع له عددا من السهم بقيمة الشقة.
وهناك آخر يريد أن يستأجر شقة فيذهب إلى صاحب البيت؛ ليدفع له قيمة إيجار شقة في البيت،
اي :يدفع له قيمة النتفاع بالشقة ،والجر ل يُدفع إل لطلب منفعة مُلِحّة.
وكان على نوح ـ عليه السلم ـ أن يطلب منهم أجرا؛ لنه يهديهم إلى الحق ،هذا في أصول
التقييم للشياء؛ لنه يقدّم لهم نفعا أساسيا ،لكنه يعلن أنه ل يطلب أجرا وكأنه يقول :إن عملي كان
يجب أن يكون له أجر؛ لن منفعته تعود عليكم ،وكان من الواجب أن آخذ أجرا عليه.
ولكن نوحا ـ عليه السلم ـ تنازل عن الجر منهم؛ لنه أراد الجر العلى ،فلو أخذ منهم؛
فلسوف يأخذ على قدر إمكاناتهم ،ولكن الجر من ال تعالى هو على قدر إمكانيات ال سبحانه
وتعالى ،وفارق بين إمكانات المحدود العطاء وهو البشر ،ومن له قدرة عطاء ل نهاية لها وهو
ال سبحانه وتعالى.
وهنا يقول { :فَإِن َتوَلّيْ ُتمْ } [يونس.]72 :
فهذا التولّي والِعراض ل يضرّني ول ينفعني؛ لنكم ل تملكون لي ضُرّا ول تملكون لي نفعا؛
لني لن آخذ منكم أجرا.
ومن العجيب أن كل مواكب الرسل ـ عليهم السلم ـ حين يخاطبون أقوامهم يخاطبونهم بهذه
العبارة:
{ مَآ َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ }[ص.]86 :
إل في قصة سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ وقصة موسى عليه السلم ،فعن قصة سيدنا إبراهيم
يأتي قول الحق سبحانه:
ظلّ َلهَا عَاكِفِينَ
ل لَبِي ِه َو َق ْومِهِ مَا َتعْبُدُونَ * قَالُواْ َنعْبُدُ َأصْنَاما فَ َن َ
{ وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَا َ
س َمعُو َنكُمْ إِذْ َتدْعُونَ * َأوْ يَن َفعُو َنكُمْ َأوْ َيضُرّونَ * قَالُواْ َبلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا َكذَِلكَ َيفْعَلُونَ }
* قَالَ َهلْ يَ ْ
[الشعراء69 :ـ .]74
ولم يأت الحق سبحانه فيها بشيء عن عدم السؤال عن الجر.
وأيضا في قصة سيدنا موسى ـ عليه السلم ،قال الحق سبحانه:
سلْ إِلَىا هَارُونَ * وََلهُمْ
{ قَالَ َربّ إِنّي أَخَافُ أَن ُي َكذّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي َولَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عوْنَ َفقُول إِنّا
عََليّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن َيقْتُلُونِ * قَالَ كَلّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنّا َم َعكُمْ مّسْ َت ِمعُونَ * فَأْتِيَا فِرْ َ
سلْ َمعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }[الشعراء12 :ـ .]17
رَسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * أَنْ أَرْ ِ
وهنا أيضا ل نجد قولً لموسى ـ عليه السلم ـ في عدم السؤال عن الجر.
أما هنا في قصة نوح ـ عليه السلم ـ فنجد قول الحق سبحانه:
} فَإِن َتوَلّيْ ُتمْ َفمَا سَأَلْ ُتكُمْ مّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَى اللّ ِه وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ { [يونس:
.]72
وكذلك جاء نفس المعنى في قصة هود عليه السلم ،حيث يقول الحق سبحانه:
{ َكذّ َبتْ عَادٌ ا ْلمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُهمْ هُودٌ َألَ تَ ّتقُونَ * إِنّي َل ُكمْ رَسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ اللّهَ
وَأَطِيعُونِ * َومَآ أَسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء123 :ـ .]127
وجاء نفس المعنى أيضا في قوم ثمود ،إذ قال الحق سبحانه:
{ َكذّ َبتْ َثمُودُ ا ْلمُرْسَلِينَ * ِإذْ قَالَ َلهُمْ َأخُوهُ ْم صَالِحٌ أَل تَ ّتقُونَ * إِنّي َل ُكمْ رَسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ اللّهَ
وَأَطِيعُونِ * َومَآ أَسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء141 :ـ .]145
وكذلك جاء نفس القول على لسان لوط عليه السلم ،فيقول الحق سبحانه:
{ َكذّ َبتْ َقوْمُ لُوطٍ ا ْلمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُهمْ لُوطٌ أَل تَ ّتقُونَ * إِنّي َل ُكمْ رَسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ
اللّ َه وََأطِيعُونِ * َومَآ َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء160 :ـ
.]164
ونفس القول جاء على لسان شعيب عليه السلم في قول الحق سبحانه:
شعَ ْيبٌ َألَ تَ ّتقُونَ * إِنّي َل ُكمْ رَسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ
صحَابُ الَ ْيكَةِ ا ْلمُرْسَلِينَ * ِإذْ قَالَ َلهُمْ ُ
{ َك ّذبَ َأ ْ
اللّ َه وََأطِيعُونِ * َومَآ َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء176 :ـ
.]180
إذن :فغالبية الموكب الرسالي يأتي على ألسنتهم الكلم عن الجر:
{ َومَآ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ }[الشعراء.]164 :
فكأن الرسل عليهم السلم يقولون للبشر الذين ارسلوا إليهم :لو أنكم فطنتم إلى حقيقة المر لكان
من الواجب أن يكون لنا أجر على ما نقدمه لكم من منفعة ،لكنّا ل نريد منكم أنتم أجرا ،إنما
سنأخذ أجرنا من ربّ العالمين؛ لن المنفعة التي نقدمها لكم ل يستطيع بشر أن يقوّمها ،وإنما
القادر على تقييمها هو واضع المنهج ـ سبحانه ـ ومُنزِله على رسله.
وها هو القرآن الكريم يأتي على لسان رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم ،ويقول:
{ قُل لّ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ َأجْرا ِإلّ ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَىا }[الشورى.]23 :
أما لماذا لم تأت مسألة الجر على لسان سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ فنحن نعلم أن إبراهيم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه السلم أول ما دعا؛ دعا عمه ،وكان للعم حظ تربية إبراهيم ،وله على سيدنا إبراهيم حق
البوة.
وكذلك سيدنا موسى عليه السلم ،فقد دعا فرعون ،وفرعون هو الذي قام بتربية موسى ،وكانت
زوجة فرعون تريده قرة عين لها ولزوجها ،حتى إن فرعون فيما بعد قد ذكّره بذلك ،وقال:
عمُ ِركَ سِنِينَ }[الشعراء.]18 :
{ قَالَ أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا وَلَبِ ْثتَ فِينَا مِنْ ُ
أما هنا في دعوة سيدنا نوح ـ عليه السلم ـ فيأتي قول القرآن على لسان نوح بما يوضّح المر
لقوم نوح:
فإن توليتم فل حزن لي ،ول جزع؛ لنكم لن تصيبوني بضُرّ ،ولن تمنعوا عني منفعة؛ لنكم لم
تسألوني أن آتي لكم بالهدى لخذ أجري منكم ،ولكن الحق سبحانه هو الذي بعثني ،وهو الذي
حقّا وصدقا.
سيعطيني أجري ،وقد أمرني سبحانه أن أكون من المسلمين له َ
وفي حياتنا نجد أن صديقا يرسل إلى صديقه عاملً من عنده ليصلح شيئا ،فهو يأخذ الجر من
المرسل ،ل من المرسل إليه ،وهذا أمر منطقي وطبيعي.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :ف َكذّبُوهُ فَ َنجّيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ فِي ا ْلفُلْكِ {
()1423 /
جعَلْنَاهُمْ خَلَا ِئفَ وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ
َفكَذّبُوهُ فَنَجّيْنَا ُه َومَنْ َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ َو َ
عَاقِبَةُ ا ْلمُ ْنذَرِينَ ()73
وكأن المر الذي وقع من الحق سبحانه نتيجة عدائهم لليمان كان من الممكن أن يشمله؛ لنه ل
يقال :نجّيتُك من كذا إل إذا كان المر الذي نجيتك منه ،توشك أن تقع فيه ،وكان هذا بالفعل هو
الحال مع الطوفان ،فالحق سبحانه يقول:
سمَآءِ ِبمَاءٍ مّ ْن َهمِرٍ * َوفَجّرْنَا الَ ْرضَ عُيُونا }[القمر11 :ـ .]12
{ َففَتَحْنَآ أَ ْبوَابَ ال ّ
ومن المتوقع أن تشرب الرض ماء المطر ،لكن الذي حدث أن المطر انهمر من السماء والرض
أيضا تفجّرتْ بالماء؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
{ فَالْ َتقَى المَآءُ عَلَىا َأمْرٍ َقدْ قُدِرَ }[القمر.]12 :
أي :أن ذلك المر كان مقدّرا؛ حتى ل يقولن أحد :إن هذه المسألة ظاهرة طبيعية.
ل إنه أمر مُقدّر ،وقد كانت السفينة موجودة بصناعة من نوح عليه السلم؛ لن الحق سبحانه قد
أمره بذلك في قوله تعالى في سورة هود {:وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا }[هود.]37 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحق سبحانه في الية التي بعدها:
سخَرُ مِنكُمْ َكمَا
سخَرُواْ مِنّا فَإِنّا نَ ْ
سخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَ ْ
علَيْهِ مَلٌ مّن َق ْومِهِ َ
ك َوكُّلمَا مَرّ َ
{ وَ َيصْنَعُ ا ْلفُ ْل َ
سخَرُونَ }[هود.]38 :
تَ ْ
ويركب نوح ـ عليه السلم ـ السفينة ،ويركب معه من آمن بال تعالى ،وما حملوا معهم من
الطير والحيوان من ُكلّ نوع اثنين ذكرا وأنثى.
وقول الحق سبحانه:
{ فَ َنجّيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ } [يونس.]73 :
يوحي أن الذي صعد إلى السفينة هم العقلء من البشر ،فكيف نفهم مسألة صعود الحيوانات
والطيور إلى السفينة؟
نقول :إن الصل في وجود هذه الحيوانات وتلك الطيور أنها مُسخّرة لخدمة النسان ،وكان ل بد
أن توجد في السفينة؛ لنها ككائنات مسخّرة تسبّح ال ،وتعبد الحق سبحانه ،فكيف يكون علمها
فوق علم العقلء الذين كفرو بعضهم ،ثم أليس من الكائنات المسخّرة ذلك الغراب الذي علّم "
قابيل " كيف يواري سوأة أخيه؟! إنه طائر ،لكنه علم ما لم يعلمه النسان!
والحق سبحانه هو القائل:
سوْ َءةَ أَخِيهِ }[المائدة.]31 :
حثُ فِي الَ ْرضِ لِيُرِيَهُ كَ ْيفَ ُيوَارِي َ
{ فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا يَبْ َ
ثم يقول الحق سبحانه في الية التي نحن بصددها الن:
ف وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
جعَلْنَا ُهمْ خَلَ ِئ َ
ك وَ َ
{ َفكَذّبُوهُ فَ َنجّيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ فِي ا ْلفُ ْل ِ
عَاقِبَةُ ا ْلمُ ْنذَرِينَ } [يونس.]73 :
وكلمة " الفُلْك " من اللفاظ التي تطلق على المفرد ،وتطلق على الجماعة.
وقول الحق سبحانه { :فَنَجّيْنَاهُ } نعلم منه أن الفعل من ال تعالى ،وهو سبحانه حين يتحدث عن
أي فعل له ،فالكلم عن الفعل يأتي مثل قوله سبحانه:
{ إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر.]9 :
ولكنه حين يتحدث عن ذاته ،فهو يأتي بكلمة تؤكد الوحدانية وتكون بضمير الفراد مثل {:إِنّنِي أَنَا
اللّهُ }[طه.]14 :
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ فَ َنجّيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ } [يونس.]73 :
كلمة " أنجى " للتعددية ،وكلمة " َنجّى " تدل على أن هناك معالجة شديدة للنجاء ،وعلى أن الفعل
يتكرر.
وقول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلْنَاهُمْ خَلَ ِئفَ { [يونس.]73 :
} وَ َ
تعني :أن الخليفة هو من يجيء بعد سابق ،وكلمة " الخليفة " تأتي مرة للعلى ،مثل الحال هنا
حيث جعل الصالح خليفة للصالح ،فبعد أن أنجى ال سبحانه العناصر المؤمنة في السفينة ،أغرق
الباقين.
إذن :فالصالحون على ظهر السفينة أنجبوا الصالحين من بعدهم.
ومرة تأتي كلمة " الخليفة " للقل ،مثل قول الحق سبحانه:
ش َهوَاتِ }[مريم.]59 :
لةَ وَاتّ َبعُواْ ال ّ
{ َفخََلفَ مِن َبعْدِهِمْ خَ ْلفٌ َأضَاعُواْ الصّ َ
فهنا تكون كلمة الخليفة موحية بالمكانة القل ،وهناك معيار وضعه الحق سبحانه لتقييم الخليفة،
هو قول الحق سبحانه:
جعَلْنَا ُكمْ خَلَ ِئفَ فِي الَرْضِ مِن َبعْ ِدهِم لِنَنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ }[يونس.]14 :
{ ُثمّ َ
ولن النسان مخيّر بين اليمان والكفر ،فسوف يَ ْلقَى مكانته على ضوء ما يختار.
ويقول الحق سبحانه:
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَ َيسْتَخِْلفَ ّنهُمْ فِي الَ ْرضِ َكمَا اسْتَخَْلفَ الّذِينَ مِن
{ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِ ْنكُ ْم وَ َ
خ ْوفِهِمْ َأمْنا }[النور.]55 :
قَبِْلهِ ْم وَلَ ُي َمكّنَنّ َلهُمْ دِي َنهُمُ الّذِي ارْ َتضَىا َلهُ ْم وَلَيُبَدّلَ ّنهُمْ مّن َبعْدِ َ
إذن :فالخليفة إما أن يكون خليفة لصالحٍ ،وإما أن يكون صالحا يَخُْلفُ فاسدا.
وهنا يقول الحق سبحانه:
جعَلْنَاهُمْ خَلَ ِئفَ وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا { [يونس.]73 :
} وَ َ
واليات ـ كما قلنا من قبل ـ إما آيات العتبار التي تهدي إلى اليمان بالقوة الخالقة ،وهي آيات
الكون كلها ،فكل شيء في الكون يدّلكَ على أن هذا الكون مخلوق على هيئة ولغاية .بدليل أن
الشياء في هذا الكون تنتظم انتظاما حكيما.
خلٌ ،وما ليس ليدك فيه دخل؛ ستجد
وإذا أردت أن تعرف دقة هذا الخلق ،فانظر إلى ما ليدك فيه َد ْ
كل ما ليس ليدك فيه دخل على درجة هائلة من الستقامة ،والحق سبحانه يقول:
ك ال َقمَ َر وَلَ الّ ْيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس.]40 :
شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ
{ لَ ال ّ
أما ما ليدك فيه دخل ،فاختيارنا حين يتدخل فهو قد يفسد الشياء.
وهكذا رأينا أن اليات الكونية تلفت إلى وجود الخالق سبحانه وهي مناط الستدلل العقلي على
وجود الله ،أو أن اليات هي المور العجيبة التي جاءت علىأيدي الرسل ـ عليهم السلم ـ
لتقنع الناس بأنهم صادقون في البلغ عن ال سبحانه وتعالى.
ثم هناك آيات القرآن الكريم التي يقول فيها الحق سبحانه:
ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ }[آل عمران.]7 :
{ ُهوَ الّذِي أَن َزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّ ْ
وهي اليات التي تحمل المنهج.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين يقول الحق سبحانه:
} وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا { [يونس.]73 :
فهو يعلّمنا أنه أغرق من كذّبوا باليات الكونية ولم يلتفتوا إلى بديع صنعه سبحانه ،وحكمة تكوين
هذه اليات ،وترتيبها ورتابتها ،وهم أيضا كذّبوا اليات المعجزات ،وكذلك كذّبوا بآيات الحكام
التي جاءت بها رسلهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعيشون وقتها ،وهذا ما يلفتنا إلى فارق الداء ،فعيونك قد ترى أمرا ،وأنذك قد تسمع خبرا ،ولكن
من الجائز أن تخدعك حواسك ،أما الخبر القادم من ال تعالى ،وإن كان غائبا عنك الن وغير
مسموع لك فخذه على أنه أقوى من رؤية العين.
ولقائل أن يقول :لماذا لم يقل الحق " :ألم تعلم " وجاء بالقول:
{ أََلمْ تَرَ }[الفيل.]1 :
وأقول :ليدلنا ال سبحانه على أن العلم المأخوذ من ال تعالى عن أمر غيبي عليك أن تتلقاه
بالقبول أكثر من تلقيك لرأي العين.
إذن } :فَانْظُرْ { تعني :اعلمْ المر وكأنه مُجسّم أمامك؛ لنك مؤمن بال تعالى وكأنك تراه،
ومُبلّغك عن ال سبحانه هو رسول تؤمن برسالته ،وكل خبر قادم من ال تعالى ورسوله صلى ال
عليه سولم ل يمكن أن يتسرب إليه الشك ،ولكن الشك ل يمكن أن يتسرب إلى المخبر الصادق
أبدا.
ولقائل أن يقول :ولماذا لم يقل الحق " :فانظر كيف كان عاقبة الكافرين " بدلً من قول الحق
سبحانه:
} فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُنْذَرِينَ { [يونس.]73 :
وهنا نقول:
إن الحق سبحانه وتعالى قد بيّن أنه لم يعذّب قبل أن يُنْذِر ،فهو قد أنذر أولً ،ولم يأخذ القوم على
جهلهم.
" فانظر " ـ كما نعلم ـ هي خطاب لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،وخطاب رسول ال صلى
ال عليه وسلم يشمل أمته أيضا ،وجاء هذا الخبر تسلية لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإن
صادف من قومك يا محمد ما صادف قوم نوح ـ عليه السلم ـ فاعلمْ أن عاقبتهم ستكون كعاقبة
قوم نوح.
وفي هذا تحذير وتخويف للمناوئين لرسول ال صلى ال عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :ثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِ ُرسُلً إِلَىا َق ْو ِمهِمْ {
()1424 /
ثُمّ َبعَثْنَا مِنْ َب ْع ِدهِ رُسُلًا إِلَى َق ْو ِمهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا ِبمَا َكذّبُوا ِبهِ مِنْ قَ ْبلُ كَذَِلكَ
نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ ا ْل ُمعْتَدِينَ ()74
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة " بعث " هنا تستحق التأمل ،فالبعث إنما يكون لشيء كان موجودا ثم انتهى ،فيبعثه ال
تعالى.
وكلمة { َبعَثْنَا } هذه تلفتنا إلى الحق سبحانه أول ما خلق الخلق أعطى المنهج لدم عليه السلم،
وأبلغه آدم لبنائه ،وكل طمس أو تغيير من البشر للمنهج هو إماتة للمنهج.
وحين يرسل الحق سبحانه رسولً ،فهو ل ينشيء منهجا ،بل يبعث ما كان موجودا ،ليذكّر الفطرة
السليمة.
وهذا هو الفرق بين أثر كلمة " البعث " عن كلمة " الرسال " ،فكلمة البعث تشعرك بوجود
شيء ،ثم انتهاء الشيء ،ثم بعث ذلك الشيء من جديد ،ومثله مثل البعث في يوم القيامة ،فالبشر
كانوا يعيشون وسيظلون في تناسل وحياة وموت إلى يوم البعث ،ثم يموت كل الخلق ليبعثوا
للحساب.
ولم يكن من المعقول أن يخلق ال سبحانه البشر ،ويجعل لهم الخلفة في الرض ،ثم يتركهم دون
منهج؛ وما دامت الغفلة قد طرأت عليهم من بعد آدم ـ عليه السلم ـ جاء البعث للمنهج على
ألسنة الرسل المبلّغين عن ال تعالى.
وبعد نوح ـ عليه السلم ـ بعث الحق سبحانه رسلً ،وهنا يقول ال سبحانه وتعالى:
{ ُثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِ } [يونس.]74 :
أي :من بعد نوح ،فمسألة نوح ـ عليه السلم ـ هنا تعني مقدمة ال ّركْب الرسالي؛ لن نوحا عليه
السلم قد قالوا عنه إنه رسول عامّ للناس جميعا أيضا ،مثله مثل محمد صلى ال عليه وسلم ،وهو
لم يُبعث رسولً عامّا للناس جميعا ،بل كان صعوده إلى السفينة هو الذي جعله رسولً لكل الناس؛
لن سكان الرض أيامها كانوا قِلّة.
والحق سبحانه قد أخذ الكافرين بذنبهم وأنجى المؤمنين من الطوفان ،وكان الناس قسمين :مؤمنين،
وكافرين ،وقد صعد المؤمنون إلى السفينة ،وأغرق الحق سبحانه الكافرين.
وهكذا صار نوح ـ عليه السلم ـ رسولً عامّا بخصوصية من بقوا وهم المرسَل إليهم
بخصوصية الزمان والمكان.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ ُثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِ ُرسُلً إِلَىا َق ْو ِمهِمْ } [يونس.]74 :
ص ال تعالى كل أخبار الرسل عليه السلم؟ ل؛ لنه سبحانه وتعالى هو القائل:
فهل َق ّ
ك َومِ ْنهُمْ مّن لّمْ َن ْقصُصْ عَلَ ْيكَ }[غافر.]78 :
{ مِ ْنهُم مّن َقصَصْنَا عَلَ ْي َ
وجاء الحق عز وجل بقصص أولي العزم منهم ،مثلما قال سبحانه:
{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىا مِاْئَةِ أَ ْلفٍ َأوْ يَزِيدُونَ }[الصافات.]147 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فمن أرسله ال تعالى إلى من هم أقل من مائة ألف ،فقد ل يأتي ذكره ،ونحن نعلم أن الرسول إنما
كان يأتي للمة المنعزلة؛ لن العالم كان على طريقة النعزال ،فنحن مثلً منذ ألف عام لم نكن
نعلم بوجود قارة أمريكا ،بل ولم نعلم كل القارات والبلد إل بعد المسح الجوي في العصر
الحديث ،وقد توجد مناطق في العالم نعرفها كصورة ول نعرفها كواقع.
ونحن نعلم أن ذرية آدم ـ عليه السلم ـ كانت تعيش على الرض ،ثم انساحت في الرض؛
لن القوات التي كانت تكفي ذرية آدم على عهده ،لم تعد تكفي بعدما اتسعت الذرية ،فضاق
الرزق في رقعة الرض التي كانوا عليها ،وانساح بعضهم إلى بقية الرض.
والحق سبحانه هو القائل:
س َعةً }[النساء.]100 :
{ َومَن ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َيجِدْ فِي الَ ْرضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَ َ
وهكذا انتقل بعض من ذرية آدم ـ عليه السلم ـ إلى مواقع الغيث ،فالهجرة تكون إلى مواقع
المياه؛ لنها أصل الحياة.
ويلحظ مؤرّخو الحضارات أن بعض الحضارات نشأت على جوانب النهار و الوديان ،أما
البداوة فكانت تتفرق في الصحاري ،مثلهم مثل العرب ،وكانوا في الصل يسكنون عند سد
مأرب ،وبعد أن تهدم السد وأغرق الرض ،خاف الناس من الفيضان؛ لن العَ ُدوّين اللذين لم يقدر
عليهما البشر هما النار والماء.
وحين رأى الناس اندفاع الماء ذهبوا إلى الصحاري ،وحفروا البار التي أخذوا منها الماء على
قَدْر حاجتهم؛ لنهم عرفوا أنهم ليسوا في قوة المواجهة مع الماء.
وهكذا صارت النعزالت بين القبائل العربية ،مثلها كانت في بقية الرض؛ ولذلك اختلفت
الداءات باختلف المم؛ ولذلك بعث الحق سبحانه إلى كل أمة نذيرا ،وهو سبحانه القائل:
{ وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر.]24 :
وقصّ علينا ال سبحانه قصص بعضهم ،ولم يقصص قصص البعض الخر.
يقول الحق سبحانه:
ك َومَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْ ِتيَ بِآيَةٍ ِإلّ بِإِذْنِ
ك َومِ ْنهُمْ مّن لّمْ َن ْقصُصْ عَلَ ْي َ
{ مِ ْنهُم مّن َقصَصْنَا عَلَ ْي َ
اللّهِ }[غافر.]78 :
وهنا يقول الحق سبحانه:
} ُثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِ ُرسُلً إِلَىا َق ْو ِمهِمْ فَجَآءُو ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ { [يونس.]74 :
فهل هؤلء هم الرسل الذين لم يذكرهم ال؟
ل؛ لن الحق سبحانه أرسل بعد ذلك هودا إلى قوم عاد ،وصالحا إلى ثمود ،وشعيبا إلى مدين،
ولم يأت بذكر هؤلء هنا ،بل جاء بعد نوح ـ عليه السلم ـ بخبر موسى عليه السلم ،وكأنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شاء سبحانه هنا أن يأتي لنا بخبر عيون الرسالت.
وما دام الحق سبحانه قد أرسل رسلً إلى قوم ،فكل قوم كان لهم رسول ،وكل رسول بعثه ال
تعالى إلى قومه.
وكلمة " قوم " في الية جمع مضاف ،والرسل جمع ،ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا،
مثلما نقول :هَيّا اركبوا سياراتكم ،والخطاب لكم جميعا ،ويعني :أن يركب كل واحد منكم سيارته.
وجاء كل رسول إلى قومه بالبينات ،أي :باليات الواضحات الدالة على صدق بلغهم عن ال
تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الية:
} َفمَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ ِبمَا َكذّبُواْ بِهِ مِن قَ ْبلُ كَذَِلكَ َنطْبَعُ عَلَىا قُلوبِ ا ْل ُمعْتَدِينَ { [يونس.]74 :
أي :أن الناس جميعهم لو آمنوا لنقطع الموكب الرسالي ،فموكب إيمان كل البشر لم يستمر ،بل
جاءت الغفلة ،وطبع ال تعالى على قلوب المعتدين.
()1425 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عوْنَ َومَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْ َتكْبَرُوا َوكَانُوا َق ْومًا مُجْ ِرمِينَ ()75
ثُمّ َبعَثْنَا مِنْ َب ْعدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْ َ
وكل من موسى وهارون ـ عليهما السلم ـ رسول ،وقد أخذ البعث لهما مراحل ،والصل فيها
أن ال تعالى قال لموسى ـ عليه السلم:
{ وَأَنَا اخْتَرْ ُتكَ فَاسْ َتمِعْ ِلمَا يُوحَى }[طه.]13 :
وقال الحق سبحانه وتعالى لموسى ـ عليه السلم:
طغَىا }[طه.]43 :
عوْنَ إِنّهُ َ
{ اذْهَبَآ إِلَىا فِرْ َ
عضُدَه بأخيه ،فقال الحق سبحانه
ثم سأل موسى ـ عليه السلم ـ ربه سبحانه وتعالى أن يشدّ َ
وتعالى:
سؤَْلكَ يامُوسَىا }[طه.]36 :
{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ ُ
لن موسى ـ عليه السلم ـ أراد أن يفقه قوله ،وقد رجى موسى ربه سبحانه وتعالى بقوله:
عقْ َدةً مّن لّسَانِي * َيفْ َقهُواْ َقوْلِي }[طه27 :ـ .]28
{ وَاحُْللْ ُ
وبعد ذلك جاء تكليف هارون بالرسالة مع موسى عليه السلم.
طغَىا }[طه.]24 :
عوْنَ إِنّهُ َ
وقال الحق سبحانه {:اذْ َهبْ إِلَىا فِرْ َ
فالصل ـ إذن ـ كانت رسالة موسى ـ عليه السلم ـ ثم ضم ال سبحانه هارون إلى موسى
إجابة لسؤال موسى ،والدليل على ذلك أن اليات كلها المبعوثة في تلك الرسالة كانت بيد موسى،
وحين يكون موسى هو الرسول ،وينضم إليه هارون ،ل بد ـ إذن ـ أن يصبح هارون رسولً.
ولذلك نجد القرآن معبّرا عن هذا {:إِنّا رَسُولَ رَ ّبكَ }[طه.]47 :
أي :أنهما رسولن من ال.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
عوْنَ َفقُول إِنّا َرسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء.]16 :
{ فَأْتِيَا فِرْ َ
فهما الثنان مبعوثان في مهمة واحدة ،وليس لكل منهما رسالة منفصلة ،بل رسالتهما واحدة لم
تتعدد ،وإن تعدد المرسل فكانا موسى وهارون.
ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ حين يوفد ملك أو رئيس وفدا إلى ملك آخر ،فيقولون :نحن
رسل الملك فلن.
وفي رسالة موسى وهارون نجد المر البارز في إلقاء اليات كان لموسى .ولكن هارون له أيضا
أصالة رسالية؛ لذلك قال الحق سبحانه:
{ إِنّا رَسُولَ }[طه.]47 :
سمْجا رَذْل الخُلُق ،فإن تكلم هارون ليشد أزر أخيه ،فقد يقول
ذلك أن فرعون كان متعاليا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الفرعون :وما دخلك أنت؟
ولكن حين يدخل عليه الثنان ،ويعلنان أنهما رسولن ،فإن رد فرعون هارون ،فكأنه يرد موسى
أيضا.
أقول ذلك حتى نغلق الباب على من يريد أن يتورك القرآن متسائلً :ما معنى أن يقول القرآن مرة
" رسول " ومرة " رسول "؟
وفي هذا ردّ كافٍ على هؤلء المتورّكين.
ويقول الحق سبحانه هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
عوْنَ َومَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْ َتكْبَرُواْ } [يونس.]75 :
{ ُثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْدِ ِهمْ مّوسَىا وَهَارُونَ إِلَىا فِرْ َ
والمل :هم أشراف القوم ،ووجوهه وأعيانه والمقرّبون من صاحب السيادة العليا ،ويقال لهم " :مل
"؛ لنهم هم الذين يملون العيون ،أي :ل ترى العيون غيرهم.
وفرعون ـ كما نعلم ـ لم يصبح فرعونا إل بالمل؛ لنهم هم الذين نصّبوه عليهم ،وكان " هامان
" مثلً يدعم فكرة الفرعون ،وكان الكهنة يؤكدون أن الفرعون إله.
ولكل فرعون مل يصنعونه ،والمثل الشعبي في مصر يقول " :قالوا لفرعون من فَرْعَنك ،قال :لم
أجدا أحدا يردّني ".
أي :أنه لم يجد أحدا يقول له :تَعقّلْ .ولو وجد من يقول له ذلك لما تفرعن.
واليات التي بعث بها ال سبحانه إلى فرعون وملئه مع موسى وهارون من المعجزات الدالة على
صدق نبوة موسى وهارون ـ عليهما السلم ،وفيها ما يُ ْلفِت إلى صدق البلغ عن ال.
أو أن اليات هي المنهج الذي يثبت وجود الخالق العلى ،لكن فرعون وملوه استكبروا.
والستكبار :هو طلب الكبر ،مثلها مثل " استخرج " أي :طلب الخراج ،ومثل " استفهم " أي:
طلب الفهم .ومن يطلب الكبر إنما يفتعل ذلك؛ لنه يعلم أن مقوماته ل تعطيه هذا الكبر.
وينهي الحق سبحانه هذه الية بقوله:
} َوكَانُواْ َقوْما مّجْ ِرمِينَ { [يونس.]75 :
وشرّ الجرام ما يتعدى إلى النفس ،فقد يكون من المقبول أن يتعدى إجرام النسان إلى أعدائه ،أما
أن يتعدى الجرام إلى النفس فهذا أمر ل مندوحة له ،وإجرام فرعون وملئه أودى بهم إلى جهنم
خالدين مخلدين فيها ملعونين ،وفي عذاب عظيم ومهين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :فََلمّا جَآ َءهُمُ ا ْلحَقّ مِنْ عِندِنَا {
()1426 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنّ هَذَا َلسِحْرٌ مُبِينٌ ()76
فََلمّا جَاءَهُمُ الْ َ
وقد جاءهم الحق على لسان الرسل ـ عليهم السلم ـ وعلى كل إنسان أن يفهم أنه حين يستقبل
من الرسول رسالة الحق ،فليفهم أنها رسالة ليست ذاتية الفكر من الرسول ،بل قد أرسله بها ال
الخالق العلى سبحانه وتعالى.
ولذلك فالمتأبّى على الرسول ،ل يتأبّى على مساوٍ له؛ لن الرسول هو مُبلّغ عن ال تعالى ،وال
سبحانه هو الذي بعثه ،ويجب على النسان أن يعرف قدر البلغ القادم من ال الحق ،لنه سبحانه
هو الحق العلى ،وهو الذي خلق كل شيء بالحق :سماء مخلوقة بالحق ،وأرض مخلوقة بالحق،
وشمس تجري بالحق ،ومطر ينزل بالحق ،وكل شيء ثابت ومتحرك بقوانين أرادها الحق
سبحانه.
ولو سيطر النسان ـ دون منهج ـ على قوانين الكائنات لفسدها؛ لن الفساد إنما يتأتى مما
للنسان دخل فيه ،ويدخل إليه بدون منهج ال.
والفساد إنما يجيء من ناحية اختيار النسان للبدائل التي ل يخضع فيها لمنهج ال تعالى.
ولذلك إن أردتم أن تستقيم حياتكم استقامة الكائنات العليا التي ل دخل لكم فيها ،فامتثلوا لمنهج
الحق وميزانه؛ لنه سبحانه هو القائل:
ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ }[الرحمن7 :ـ .]8
سمَآءَ َر َف َعهَا وَ َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ * َألّ َت ْ
{ وَال ّ
أي :إن كنتم تريدون أن تعتدل أموركم ،وتنضبط انضباط الكائنات الخرى فالتكن إرادة الختيار
المخلوقة لكم خاضعة لمنهج ال تعالى ،وتسير في إطار هذا المنهج الرباني.
وحين نتأمل قول الحق سبحانه:
{ فََلمّا جَآءَ ُهمُ ا ْلحَقّ مِنْ عِندِنَا } [يونس.]76 :
نجد في هذا القول توجيها إلى أن الحق لم يأت من ذوات الرسل؛ فهذه الذوات ل دخل لها في
الموضوع ،وإياك أن تهاجم رسالة حق جاءتك من إنسان ل تحبه ،بل ناقش الحق في ذاته ،ول
تدخل في متاهة البحث عمّن جاء بهذا الحق ،وانظر إلى من كفروا بمحمد رسول ال صلى ال
عليه وسلمَ ،فهُمْ من قالوا:
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
{ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
وهم بذلك قد أدخلوا النازل عليه القرآن في الحكم ،مع أن العقل كان يقتضي أن ينظروا إلى
القرآن في ذاته ،وأن يأخذوا الحكمة من أي وعاء خرجت.
وعليك أنت أن تستفيد من هذا المر ،وخُذ الحكمة من أي قائل لها ،ول تنظر إلى من جاءت
الحكمة منه ،فإن كنت تكرهه فأنت ترفض أن تأخذ الحكمة منه ،وإن كانت تحبه أخذتها .ل ،إن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليك أن تأخذ الحكمة ما دامت قد جاءت بالحق؛ لنك إن لم تأخذها أضعت نفسك.
والحق هو الشيء الثابت ،وإن ظهر في بعض الحيان أن هناك من طمس الحق ،وأن الباطل
تغلّب عليه ،فهذا يعني ظهور المفاسد؛ فيصرخ الناس طالبين الحق.
وانتشار المفاسد هو الذي يجعل الناس تستدعي الحق ،وتتحمس له؛ لن الباطل حين َي َعضّ الناس،
تجدهم يتجهون إلى الحق ليتمسكوا به.
والحق سبحانه هو القائل:
سمَآءِ مَآءً َفسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ فِي النّارِ
{ أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
جفَآءً وََأمّا مَا
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ
ق وَالْبَا ِ
حّابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثُْلهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
لمْثَالَ }[الرعد.]17 :
يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا َ
والحق سبحانه هنا يضرب المثل النازل كسيل من السماء على الجبال ،فيأخذ كل وادٍ أسفل الجبال
على قدر احتماله ،ويرتوى الناس ،وترتوي الرض ،لكن السيل في أثناء نزوله على الجبال إنما
يحمل بعضا من الطمي ،والقش ،ويستقر الطمي في أرض الودية؛ لتستفيد منه ،أما القش
والقاذورات فتطفو على سطح الماء ،وتسمى تلك الشياء الطافية زَبَدا ،وساعة تضعها في النار،
فهي تصدر أصواتا تسمى (الطشطشة).
ومثال ذلك :حين نوقد النار؛ لنصهر الحديد ،نجد الخبث هو الذي يطفو ،ويبقى الحديد النقي في
القاع.
هذا الزبد الذي وجد فوق الماء ينزاح على الجوانب ،ومثال ذلك :ما نراه على شواطىء البحر
حين يقذف الموج بقاذورات على الشاطىء ،هذه القاذورات التي ألقتها البواخر ،فيلفظها البحر
بالموج ،وهذا الزبد يذهب جُفاءً ،أما ما ينفع الناس فيبقى في الرض؛ لذلك يقول الحق سبحانه:
طلَ }[الرعد.]17 :
ق وَالْبَا ِ
{ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا ْلحَ ّ
إذن :فال سبحانه يترك للباطل مجالً ،ولكن ل يسلم له الحق ،بل يترك الباطل؛ ليحفز غيرة الناس
على الحق ،فإن لم يغاروا على الحق غار هو عليه.
وهنا يقول ال سبحانه وتعالى:
سحْرٌ مّبِينٌ { [يونس.]76 :
} فََلمّا جَآءَ ُهمُ ا ْلحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنّ هَـاذَا لَ ِ
ولنهم كانوا مشهورين بالسحر؛ ظنوا أن اليات التي جاءت مع موسى ـ عليه السلم ـ هي
السحر المبين ،أي :السحر الظاهر الواضح.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :قَالَ مُوسَىا أَتقُولُونَ لِ ْلحَقّ َلمّا جَآ َء ُكمْ {
()1427 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سحْرٌ َهذَا وَلَا ُيفْلِحُ السّاحِرُونَ ()77
قَالَ مُوسَى أَ َتقُولُونَ لِ ْلحَقّ َلمّا جَا َء ُكمْ أَ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأراد الحق سبحانه لعصا موسى أن تكون آية معجزة من جنس ما نبغ فيه القوم.
فال سبحانه حين يرسل معجزةً إلى قوم؛ يجعلها من جنس ما نبغوا فيه؛ لتكون المعجزة تحديا في
المجال الذي لهم به خبرة ودربة ودراية؛ فأنت لن تتحدى رجلً ل علم له بالهندسة؛ ليبنى لك
عمارة ،ولكنك تتحدى مهندسا أن يبني لك هرما؛ لن العلوم المعاصرة لم تتوصل إلى بعض ما
اكتشفه القدماء ولم يسجلوه في أوراقهم ،أو لم يعثر على كشف يوضح كيف فرّغوا الهواء بين كل
حجر وآخر فتماسكت الحجارة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ما صنعوا؛ ولذلك خرّوا ساجدين ،وأعلنوا اليمان برب موسى وهارون.
هم ـ إذن ـ لم يعلنوا اليمان بموسى وهارون ،بل أعلنوا اليمان:
ن َومُوسَىا }[طه.]70 :
{ بِ َربّ هَارُو َ
لنهم عرفوا بالتجربة أن ما ألقاه موسى ليس سحرا ،بل هو مِنْ فعل خالق أعلى.
وكان ثبات موسى ـ عليه السلم ـ في تلك اللحظة نابعا من التدريب الذي تلقّاه من ربه ،فقد
سأله الحق سبحانه:
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي }[طه17 :ـ
{ َومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا * قَالَ ِهيَ َ
.]18
وقد أجمل موسى وفصّل في الرد على الحق سبحانه؛ إيناسا وإطالة للنس بال تعالى ،وحين رأى
أنه أطال اليناس أوجز وقال بأدب:
{ وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَىا }[طه.]18 :
إذن :فقد أدركته أولً شهوة النس بال تعالى ،وأدرك ثانيا أدب التخاطب مع ال تعالى ،ودرّبه
الحق سبحانه على مسألة العصا حين أمره أولً أن يلقيها ،فصارت أمامه حية تسعى ،ولو كانت
من جنس السحر لما أوجس منها خيفة ولرآها مجرد عصا.
إذن :فالفرق بين معجزة موسى وسحرة فرعون ،أن سحرة فرعون سحروا أعين الناس وخُيّل إلى
الناس من سحرهم أن عصيّهم وحبالهم تسعى ،لكن معجزة موسى ـ عليه السلم ـ في إلقاء
العصا ،عرفوا هم بالتجربة أن تلك العصا قد تغيرت حقيقتها.
والعصا ـ كما نعلم ـ أصلها فرع من شجرة ،وكان باستطاعة الحق سبحانه وتعالى أن يجعلها
تتحول إلى شجرة مثمرة ،لكنها كانت ستظل نباتا.
وشاء الحق سبحانه أن ينقلها إلى المرتبة العلى من النبات؛ وهي المرحلة الحيوانية ،فصارت
حية تلقف كل ما ألقاه السحرة.
جدْنَا {
عمّا وَ َ
ويقول الحق سحبانه بعد ذلك } :قَالُواْ َأجِئْتَنَا لِتَ ْلفِتَنَا َ
()1428 /
وهنا نجد سحرة فرعون ينسبون مجيء معجزة تحول العصا إلى حية ،ينسبونها لموسى ـ عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السلم ـ رغم أن موسى عليه السلم قد نسب مجيء المعجزة إلى ال تعالى.
وكان واجب المرسل إليه ـ فرعون وملئه ـ أن ينظر إلى ما جاء به الرسول ،ل إلى شخصية
الرسول.
يءَ بك " لكان معنى ذلك أن فرعون يعلن اليمان بأن هناك إلها
ولو قال فرعون لموسى " :ج ْ
أعلى ،ولكن فرعون لم يؤمن لحظتها؛ لذلك جاء قوله { :أَجِئْتَنَا } فنسب المجيء على لسان
فرعون لموسى عليه السلم.
ولماذا المجيء؟
يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه:
عمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [يونس.]78 :
{ َأجِئْتَنَا لِتَ ْلفِتَنَا َ
واللتفات هو تحويل الوجه عن شيء مواجه له ،وما دام النسان بصدد شيء؛ فكل نظره واتجاهه
يكون إليه ،وكان قوم فرعون على فساد وضلل ،وليس أمامهم إل ذلك الفساد وذلك الضلل.
وجاء موسى عليه السلم؛ ليصرف وجوههم عن ذلك الفساد والضلل ،فقالوا:
عمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [يونس.]78 :
{ َأجِئْتَنَا لِتَ ْلفِتَنَا َ
وهكذا يكشفون حقيقة موقفهم ،فقد كانوا يقلدون آباءهم ،والتقليد يريح المقلّد ،فل ُي ْعمِل عقله أو
فكره في شيء ليقتنع به ،ويبني عليه سلوكه.
والمثل العامي يصور هذا الموقف بعمق شديد حين يقول " :مثل الطرش في الزفة " أي :أن فاقد
السمع ل يسمع ما يقال من أي جمهرة ،بل يسير مع الناس حيث تسير؛ ول يعرف له اتجاها.
والمقلّد إنما يعطل فكره ،ول يختار بين البدائل ،ول يميز الصواب ليفعله ،ول يعرف الخطأ
فيتجنّبه.
وفرعون وملؤه كانوا على ضلل ،هو نفس ضلل الباء ،والضلل ل يكلف النسان تعب التفكير
ومشقة الختيار ،بل قد يحقق شهوات عاجلة.
أما تمييز الصواب من الخطأ واتباع منهج السماء ،فهو يحجب الشهوة ،ويلزم النسان بعدم
النفلت عكس الضلل الذي يطيل أمد الشهوة.
إذن :فالمقلد بين حالتين:
الحالة الولى :أنه ل ُي ْعمِل عقله ،بل يفعل مثل من سبقوه ،أو مثل من يحيا بينهم.
والحالة الثانية :أنه رأى أن ما يفعله الناس ل يلزمه بتكليف ،ولكن الرسول الذي يأتي إنما يلزمه
بمنهج ،فل يكسب ـ على سبيل المثال ـ إل من حلل ،ول يفعل منكرا ،ول يذم أحدا ،وهكذا
يقيد المنهج حركته ،لكن إن اتبع حركة آبائه الضالين ،فالحركة تتسع ناحية الشهوات.
ولذلك أقول دائما :إن مسألة التقليد هذه يجب أن تلفت إلى قانون التربية ،فالنشء ما دام لم يصل
إلى البلوغ فأنت تلحظ أنه بل ذاتية ويقلد الباء ،لكن فور أن تتكون له ذاتية يبدأ في التمرد ،وقد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول للباء :أنتم لكم تقاليد قديمة ل تصلح لهذا الزمان ،لكن إن تشرّب النشء القيم الدينية
الصحيحة؛ فسيمتثل لقانون الحق ،ويحجز نفسه عن الشهوات.
ونحن نجد أبناء السر التي ل تتبع منهج ال في تربية البناء وهم يعانون من أبنائهم حين يتسلط
عليهم أقران السوء ،فيتجهون إلى ما يوسع دائرة الشهوات من إدمان وغير ذلك من المفاسد.
لكن أبناء السر الملتزمة يراعون منهج ال تعالى؛ فل يقلدون آحدا من أهل السوء؛ لن ضمير
الواحد منهم قد عرف التمييز بين الخطأ والصواب.
ثم إن تقليد الباء قد يجعل البناء مجرد نسخ مكررة من آبائهم ،أما تدريب وتربية البناء على
إعمال العقل في كل المور ،فهذه هي التنشئة التي تتطور بها المجتمعات إلى الفضل إن اتبع
الباء منهج ال تعالى ،وتتكون ذاتية البن على ضوء منهج الحق سبحانه ،فل يتمرد البن متهجا
إلى الشر ،بل قد يتمرد إلى تطوير الصالح ليزيده صلحا.
التقليد ـ إذن ـ يحتاج إلى بحث دقيق؛ لن النسان الذي سوف تقلده ،لن يكن مسئولً عنك؛ لن
الحق سبحانه وتعالى هو القائل:
شوْاْ َيوْما لّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَ ِد ِه َولَ َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَن وَالِ ِدهِ
{ ياأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُواْ رَ ّب ُك ْم وَاخْ َ
شَيْئا }[لقمان.]33 :
إذن :فأمر البن يجب أن يكون نابعا من ذاته ،وكذلك أمر الب ،وعلى كل إنسان أن ُي ْعمِل عقله
بين البدائل.
ولذلك تجد القرآن الكريم يقول على ألسنة مَنْ قلّدوا الباء:
علَيْهِ آبَآءَنَآ }[البقرة.]170 :
{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَآ أَن َزلَ اللّهُ قَالُواْ َبلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا َ
ثم يرد عليهم الحق سبحانه:
{ َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُ ُه ْم لَ َيعْقِلُونَ شَيْئا َولَ َيهْتَدُونَ }[البقرة.]170 :
فإذا كانت المسألة مسألة تقليد ،فلماذا يتعلم البن؟ ولماذا ل ينام البناء على الرض ول يشترون
أسرّة؟ ولماذا ينجذبون إلى التطور في الشياء والدوات التي تسهّل الحياة؟
فالتقليد هو إلغاء العقل والفكر ،وفي إلغائهما إلغاء التطور والتقدم نحو الفضل.
إذن :فالقرآن يحثنا على أن نستخدم العقل؛ لنختار بين البدائل ،وإذا كان المنهج قد جاء من
السماء ،فَلْتهْتدِ بما جاء لك ممن هو فوقك ،وهذا الهتداء المختار هو السّمو نحو الحياة الفاضلة.
يقول الحق سبحانه:
جدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ }[المائدة:
{ وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْاْ إِلَىا مَآ أَن َزلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَ َ
,]104
أي :أنهم أعلنوا أنهم في غير حاجة للمنهج السماوي فَردّ عليهم القرآن:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ شَيْئا وَلَ َيهْتَدُونَ }[المائدة.]104 :
وهكذا نجد أن القرآن قد جاء بموقفين في آيتين مختلفتين عن المقلّدين:
الية الولى :هي التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى:
{ َبلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَ ْيهِ آبَآءَنَآ َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ شَيْئا َولَ َيهْ َتدُونَ }[البقرة.]170 :
والية الثانية :هي قول الحق سبحانه وتعالى:
جدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ شَيْئا َولَ َيهْ َتدُونَ }[المائدة.]104 :
{ حَسْبُنَا مَا وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك أعلنوا عدم اليمان ،وقالوا ما يُنهي به الحق سبحانه الية الكريمة الي نحن بصددها:
} َومَا نَحْنُ َل ُكمَا ِب ُمؤْمِنِينَ { [يونس.]78 :
أي :أن قوم فرعون والمل أقرّوا بما حرصوا عليه من مكاسب الدنيا والكبرياء فيها ،ورفضوا
اليمان بما جاء به موسى وهارون ـ عليهما السلم.
عوْنُ ائْتُونِي {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :وقَالَ فِرْ َ
()1429 /
وكان فرعون يعلم تقدّم السحرة في دولته ،ويكفي أنه شخصيا خَيّل للناس أنه إله ،وجاء أمره أن
يأتي أعوانه بالسحرة ،وفور أن قال المر جيء بالسحرة.
وأورد الحق سبحانه في الية التي بعد ذلك { .فََلمّا جَآءَ السّحَ َرةُ }
()1430 /
فََلمّا جَاءَ السّحَ َرةُ قَالَ َلهُمْ مُوسَى أَ ْلقُوا مَا أَنْ ُتمْ مُ ْلقُونَ ()80
وكأن المسافة بين نطق فرعون بالمر وبين تنفيذ المر هي أضيق مسافة وقتية ،وذلك حتى نفهم
أن أمر صاحب السلطان ل يحتمل من الناس التأجيل أو التباطؤ في التنفيذ.
والقرآن حينما يعالج أمرا من المور فهو يعطي صورة دقيقة للواقع ،ول يأتي بأشياء تفسد
الصورة.
يقول الحق سبحانه:
{ فََلمّا جَآءَ السّحَ َرةُ قَالَ َلهُمْ مّوسَىا أَ ْلقُواْ مَآ أَن ُتمْ مّ ْلقُونَ } [يونس.]80 :
وفي هذه الية تلخيص للموقف كله ،فحين علم السحرة أن فرعون يحتاجهم في ورطة تتعلق
بالحكم ،فهذه مسألة صعبة وقاسية ،وعليهم أن يسرعوا إليه.
ولم يأت الحق سبحانه هنا بالتفصيل الكامل لذلك الموقف؛ لن القصة تأتي بنقاطها المختلفة في
مواضع أخرى من القرآن ،وكل آية توضح النقطة التي تأتي بذكرها.
لذلك لم يقل الحق سبحانه هنا :إن أعوان فرعون نادوا في المدائن ليأتي السحرة ،مثلما جاء في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مواضع أخرى من القرآن.
ولم يقل لنا إن السحرة أرادوا أن يستفيدوا من هذه المسألة ،وقالوا للفرعون:
{ إِنّ لَنَا لَجْرا إِن كُنّا َنحْنُ ا ْلغَالِبِينَ }[العراف.]113 :
ووَضْع مثل هذا الشرط يوضح لنا طبيعة العلقات في ذلك المجتمع ،فطلبهم للجر ،يعني أن
عملهم مع الفرعون من قبل ذلك كان تسخيرا وبدون أجر ،ولما جاءتهم الفرصة ورأوا الفرعون
في ازمة؛ طالبوا بالجر.
ووعدهم فرعون بالجر ،وكذلك وعدهم أن يكونوا مقرّبين؛ لنهم لو انتصروا بالسحر على
معجزة موسى؛ ففي ذلك العمل محافظة وصيانة للمُلْك ،ول بد أن يصبحوا من البطانة المستفيدة،
ووعدهم الفرعون بذلك شحذا لهمتهم ليبادروا بإبطال معجزة موسى؛ ليستقر عرش الفرعون.
وشاء الحق سبحانه الجمال هنا في هذه الية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ وجاء ببقية
اللقطات في المواضع الخرى من القرآن.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ فََلمّا جَآءَ السّحَ َرةُ قَالَ َلهُمْ مّوسَىا أَ ْلقُواْ مَآ أَن ُتمْ مّ ْلقُونَ } [يونس.]80 :
وألقى السحرة عِصيّهم وحبالهم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك { :فََلمّآ أَ ْلقُواْ قَالَ مُوسَىا مَا جِئْ ُتمْ بِهِ السّحْرُ }
()1431 /
ونحن نعلم أن الحق سبحانه هنا شاء الجمال ،ولكنه بيّن بالتفصيل ما حدث ،في آية أخرى ،قال
فيها سبحانه عن السحرة:
ي وَِإمّآ أَن ّنكُونَ َنحْنُ ا ْلمُ ْلقِينَ }[العراف.]115 :
{ قَالُواْ يامُوسَىا ِإمّآ أَن تُ ْل ِق َ
ونحن نعلم أن المواجهة تقتضي من كل خصم أن يدخل بالرعب على خصمه؛ ليضعف معنوياته.
وهنا أوضح لهم موسى ـ عليه السلم ـ أن ما أتوا به هو سحر ومجرد تخييل.
وقد أعلم الحق سبحانه نبيه موسى ـ عليه السلم ـ أن عصاه ستصير حية حقيقية ،بينما ستكون
عصيهم وحبالهم مجرد تخييل للعيون.
وقال لهم موسى ـ عليه السلم ـ حكم ال تعالى في ذلك التخييل:
ع َملَ ا ْل ُمفْسِدِينَ } [يونس.]81 :
{ مَا جِئْتُمْ ِبهِ السّحْرُ إِنّ اللّهَ سَيُ ْبطِلُهُ إِنّ اللّ َه لَ ُيصْلِحُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا جاء القول الفصل الذي أنهى المر وأصدر الحكم فيما فعل فرعون ومََلؤُه والسحرة ،فكل
أعمالهم كانت تفسد في الرض ،ولول ذلك لما بعث ال سبحانه إليهم رسولً مؤيّدا بمعجزة من
صنف ما برعوا فيه ،فهم كانوا قد برعوا في السحر ،فأرسل إليهم الحق سبحانه معجزة حقيقية
ن " وهو
تلتهم ما صنعوا ،فإن كانوا قد برعوا في التخييل ،فال سبحانه خلق الكوان بكلمة " كُ ْ
سبحانه يخلق حقائق ل تخييلت.
حقّ ِبكَِلمَاتِهِ }
حقّ اللّهُ الْ َ
ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَيُ ِ
()1432 /
فالمسألة التي يشاؤها سبحانه تتحقق بكلمة " كن " فيكون الشيء.
وقوله سبحانه وتعالى:
{ إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ ِإذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس.]82 :
و " كن فيكون " عبارة طويلة بعض الشيء عند وقوع المطلوب ،ولكن ل توجد عبارة أقصر منها
عند البشر؛ لن الكاف والنون لهما زمن ،وما يشاؤه ال سبحانه ل يحتاج منه إلى زمن ،والمراد
من المر " كن " أن الشيء يوجد قبل كلمة " كن "؛ لن كل موجود إنما يتحقق ويبرز بإرادة ال
تعالى.
ويريد الحق سبحانه هنا أن يبيّن لنا أن الحق إنما يأتي على ألسنة الرسل ،ومعجزاتهم دليل على
رسالتهم؛ ليضع أنوف المجرمين في الرّغام ،وليريح العالم من إضللهم ومن مفاسدهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :فمَآ آمَنَ ِلمُوسَىا ِإلّ ذُرّيّةٌ مّن َق ْومِهِ }
()1433 /
وإذا كان السحرة ـ وهم عُدّة فرعون وعتاده لمواجهة موسى ـ أعلنوا اليمان ،فعاقبهم الفرعون
وقال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ آمَنتُمْ َلهُ قَ ْبلَ أَنْ ءَاذَنَ َلكُمْ }[طه.]71 :
فهذا يدل على أن فكرة اللوهية كانت ما تزال مسيطرة على عقله؛ ولذلك خاف الناس من إعلن
اليمان؛ ولذلك قال الحق سبحانه:
{ َفمَآ آمَنَ ِلمُوسَىا ِإلّ ذُرّيّةٌ } [يونس.]83 :
وكلمة " ذرية " تفيد الصغار الذين لم تلمسهم خميرة من الفساد الذي كان منتشرا ،كما أن الصغار
يتمتعون بطاقة من النقاء ،ويعيشون في خُُلوّ من المشاكل ،ولم يصلوا إلى مرتبة السيادة التي
يُحْ َرصُ عليها ،ومع ذلك فهم قد آمنوا:
ن َومَلَ ِئهِمْ } [يونس.]83 :
عوْ َ
خ ْوفٍ مّن فِرْ َ
{ عَلَىا َ
خ ْوفٍ } تفيد الستعلء ،مثل قولنا " :على الفرس " أو " على الكرسي " ويكون
وكلمة { عَلَىا َ
المستعلي في هذه الحالة متمكّنا من المستعلى عليه "؛ ومن يستعلي إنما يركب المستعلي ،ويحمل
المستعلي العبء.
ولكن من استعمالت " على " أنها تأتي بمعنى " مع ".
ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه:
طعَامَ عَلَىا حُبّهِ }[النسان.]8 :
ط ِعمُونَ ال ّ
{ وَيُ ْ
أي :يطعمون الطعام مع حبه.
وحين يأتي الحق سبحانه بحرف مقام حرف آخر فل بد من علة لذلك.
ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى:
خلِ }[طه.]71 :
لصَلّبَ ّنكُمْ فِي جُذُوعِ النّ ْ
لفٍ َو ُ
طعَنّ أَيْدِ َيكُ ْم وَأَ ْرجَُلكُمْ مّنْ خِ َ
ل َق ّ
{ فَ ُ
جاء الحق سبحانه بالحرف " في " بدلً من " على "؛ ليدل على أن عملية الصلب ستكون تصليبا
قويا ،بحيث تدخل أجزاء المصلوب في المصلوب فيه.
وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى:
طعَامَ عَلَىا حُبّهِ }[النسان.]8 :
ط ِعمُونَ ال ّ
{ وَيُ ْ
فكأنهم هم المستعلون على الحب؛ ليذهب بهم حيث يريدون.
وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى:
خ ْوفٍ } [يونس.]83 :
{ عَلَىا َ
أي :أنهم فوق الخوف يسير بهم إلى دهاليز توقّع اللم.
ن َومَلَ ِئهِمْ أَن َيفْتِ َنهُمْ } [يونس.]83 :
عوْ َ
خ ْوفٍ مّن فِرْ َ
وهم هنا آمنوا { :عَلَىا َ
والكلم هنا من الحق العلى سبحانه يبيّن لنا أن الخوف ليس من فرعون؛ لن فرعون إنما
يمارس التخويف بمن حوله ،فمثلهم مثل ُزوّار الفجر في أي دولة ل تقيم وزنا لكرامة النسان.
وفرعون في وضعه ومكانته ل يباشر التعذيب بنفسه ،بل يقوم به زبانيته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والشارة هنا تدل على الخوف من شيعة فرعون وملئهم.
وقال الحق سبحانه هناَ { :يفْتِ َنهُمْ } ،ولم يقل " :يفتنوهم "؛ ليدلنا على ملحظ أن الزبانية ل
يصنعون التعذيب لشهوة عندهم ،بل يمارسون التعذيب لشهوة عند الفرعون.
وهكذا جاء الضمير مرة جمعا ،ومرة مفردا ،ليكون كل لفظ في القرآن جاذبا لمعناه.
وحين أراد المفسرون أن يوضحوا معنى (ذرية) قالوا :إن المقصود بها امرأة فرعون (آسية)،
وخازن فرعون ،وامرأة الخازن ،وماشطة فرعون ،ومَنْ آمن مِنْ قوم موسى ـ عليه السلم ـ
وكتم إيمانه.
كل هؤلء منعتهم خشية عذاب فرعون من إعلن اليمان برسالة موسى؛ لن فرعون كان جَبّارا
في الرض ،مدّعيا لللوهية ،وإذا ما رأى فرعون إنسانا يخدش ادعاءه لللوهية؛ فل بد أن يبطش
به بطشة فاتكة.
لذلك كانوا على خوف من هذا البطش ،فقد سبق وأن ذبح فرعون ـ بواسطة زبانيته ـ أبناء بني
إسرائيل واستحيا نساؤهم ،وهم خافوا من هولء الزبانية الذي نفّذوا ما أراده فرعون.
ولذلك جاء الضمير مرة تعبيرا عن الجمع في قوله سبحانه وتعالى:
} َومَلَ ِئهِمْ { [يونس.]83 :
وجاء الضمير مفردا معبرا عن فرعون المر في قوله سبحانه وتعالى:
} أَن َيفْتِنَهُمْ { [يونس.]83 :
فهم خافوا أن يفتنهم فرعون بالتعذيب الذي يقوم به أعوانه.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل:
ض وَإِنّهُ َلمِنَ ا ْل ُمسْ ِرفِينَ { [يونس.]83 :
عوْنَ َلعَالٍ فِي الَ ْر ِ
} وَإِنّ فِرْ َ
والمسرف :هو الذي يتجاوز الحدود ،وهو قد تجاوز في إسرافه وادّعى اللوهية.
وقد قال الحق سبحانه ما جاء على لسان فرعون:
{ أَنَاْ رَ ّبكُ ُم الَعْلَىا }[النازعات.]24 :
وقال الحق سبحانه أيضا:
عوْنُ ياأَ ّيهَا الْملُ مَا عَِل ْمتُ َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي }[القصص.]38 :
{ َوقَالَ فِرْ َ
وعل فرعون في الرض علوّ طاغية من البشر على غيره من البشر المستضعفين.
وقال الحق سبحانه على لسان فرعون:
{ أَلَ ْيسَ لِي مُ ْلكُ ِمصْرَ وَهَـا ِذهِ الَ ْنهَارُ َتجْرِي مِن تَحْتِي }[الزخرف.]51 :
إذن :فقد كان فرعون مسرفا أشد السراف.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :وقَالَ مُوسَىا يا َقوْمِ {
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1434 /
َوقَالَ مُوسَى يَا َقوْمِ إِنْ كُنْ ُتمْ َآمَنْتُمْ بِاللّهِ َفعَلَيْهِ َت َوكّلُوا إِنْ كُنْ ُتمْ مُسِْلمِينَ ()84
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا نرى أن التوكل مطلوب اليمان ،وأن يُسلم النسان زمامه في كل أمر إلى مَنْ آمن به؛
ولذلك ل ينفع اليمان إل بالسلم ،فإن كنتم مسلمين مع إيمانكم فتوكلوا على ال تعالى.
لكن إن كنتم قد آمنتم فقط ولم تسلموا الزمام ل في التكاليف إلى ال في " افعل " و " ل تفعل " ،
فهذا التوكل ل يصلح.
وهكذا يتأكد لنا ما قلناه من قبل من أنك إذا رأيت أسلوبا فيه شرط تقدم ،وجاء جواب بعد الشرط،
ثم جاء شرط آخر ،فاعلم أن الشرط الخير هو المقدّم ،لنه شرط في الشرط الول ،وبالمثل هنا
فإن التوكل لن ينشأ إل بالسلم مع اليمان.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :فقَالُواْ عَلَىا اللّهِ َت َوكّلْنَا }
()1435 /
أي :أنهم استجابوا لدعوة موسى ـ عليه السلم ـ بمجرد قولهم { :عَلَىا اللّهِ َت َوكّلْنَا }.
حصْر المر ،وهنا قصر وحصر التوكل على
وإذا تقدم الجار على المجرور فمعنى ذلك َقصْر و َ
ال تعالى ،ول توكل على سواه.
ويأتي بعد ذلك دعاؤهم:
جعَلْنَا فِتْنَةً لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [يونس.]85 :
{ رَبّنَا لَ َت ْ
والفتنة :اختبار ،وهي ـ كما قلنا من قبل ـ ليست مذمومة في ذاتها ،بل المذموم أن تكون النتيجة
في غير صالح من يمر بالفتنة.
ويقال :فتنت الذهب ،أي :صهرت الذهب ،واستخلصته من كل الشوائب ،ونحن نعلم أن صُنّاع
الذهب يخلطونه بعناصر أخرى؛ ليكون متماسكا؛ لن الذهب غير المخلوط بعناصر أخرى ل
يتماسك.
والفتنة التي قالوا فيها:
جعَلْنَا فِتْنَةً لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [يونس.]85 :
{ رَبّنَا لَ َت ْ
هي فتنة الخوف من أن يرتد بعضهم عن اليمان لو انتصر عليهم فرعون وعذّبهم ،وكأنهم
يقولون :يا رب ل تسلّط علينا فرعون بعذاب شديد.
هذا إن كانوا مفتونين ،فماذا إن كانوا هم الفاتنين؟
إنهم في هذه الحالة لو لم يتبعوا الدين التتبع الحقيقي لما علم فرعون وآله أن هؤلء الذين أعلنوا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اليمان هم مسلمون بحق ،وهم لو انحرفوا عن الدين لقال عنهم آل فرعون :إنهم ليسوا أهل إيمان
حقيقي.
ونجد سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ وهو أبو النبياء وله قدره العظيم في النبوة ،يقول:
جعَلْنَا فِتْنَةً لّلّذِينَ َكفَرُواْ }[الممتحنة.]5 :
{ رَبّنَا لَ َت ْ
ودعوة إبراهيم عليه السلم تعلمنا ضرورة التمسك بتعاليم الدين؛ حتى ل ينظر أحد إلى المسلم أو
المؤمن ويقول :هذا هو من يعلن اليمان ويتصرف عكس تعاليم دينه.
ولذلك كان سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ يؤدي الوامر بأكثر مما يطلب منه ،ويقول فيه الحق
سبحانه:
{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }[البقرة.]124 :
أي :أنه كان يتم كل عمل بنية وإتقان؛ لنه أسوة ،فلم يقم بعمل إيماني بمظهر سطحي.
إذن :فإن كانوا هم المفتونين ،فهم يدفعون الفتنة عن أنفسهم ،وإن كانوا هم الفاتنين؛ فعليهم التمسك
بتعاليم الدين؛ حتى ل يتهمهم أحد بالتقصير في أمور دينهم ،فيزداد الكافرون كفرا وضللً.
وجاء قول الحق سبحانه:
جعَلْنَا فِتْنَةً لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [يونس.]85 :
{ رَبّنَا لَ َت ْ
ليدل على انشغالهم بأمر الدين ،فاتنين أو مفتونين.
حمَ ِتكَ مِنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ }
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وَ َنجّنَا بِرَ ْ
()1436 /
وهنا توضح الية الكريمة أنهم إن كانوا مشغولين بأمر الغير من الكافرين فهذا يعني أنهم طمعوا
في إيمان العدو؛ لعل هذا العدو يعود إلى رشد اليمان.
ورسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه ".
وهم أرادوا إيمان العدو رغم أنه ظالم.
حمْق العداوة أن يدعو النسان على عدوّه
وهكذا يعلّم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الخلق أنه من ُ
بالشر؛ لن الذي يتعبك من عدوك هو شرّه ،ومن صالحك أن تدعو له بالخير؛ لن هذا الخير
سيتعدى إليك.
وعلى المؤمن أن يدعو لعدوّه بالهداية ،لنه حين يهتدي؛ فلسوف يتعدّى لنفع إليك ،وهذه من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مميزات اليمان أن نفعه يتعدّى إلى الغَيْر.
وهم حين دعوا ألّ يجعلهم ال فتنةً للقوم الظالمين ،فإن ذلك يوضّح لنا أن الظلم درجاتٌ ،وأن
فرعون ومله كانوا في قمة الظلم؛ لن الحق سبحانه وتعالى هو القائل:
عظِيمٌ }[لقمان.]13 :
{ إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ
فقمة الظلم أن تأخذ حَقّ الغير وتعطيه لغير صاحب الحق .وفرعون وملؤه أشركوا بال ـ سبحانه
وتعالى ـ فظن فرعون أنه إله ،وصدّقه من حوله.
فقمة الظلم هو الشرك بال سبحانه ،ثم بعد ذلك يتنزل إلى الظلم في الكبائر ،ثم في الصغائر.
وقولهم في دعائهم للحق سبحانه:
حمَ ِتكَ مِنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ } [يونس.]86 :
{ وَنَجّنَا بِرَ ْ
أي :اجعلنا بنجوةٍ من هؤلء.
وكان الذي يخيف القدمين هو سيول المياه ،حين تتدفّق ،ول ينجو إل مَنْ كان في ربوةٍ عالية ـ
والنجوة هي المكان المرتفع ـ وهذا هو أصل كلمة " النجاة ".
وهنا يقول الحق سبحانه على لسانهم:
حمَ ِتكَ مِنَ ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ } [يونس.]86 :
{ وَنَجّنَا بِرَ ْ
والرحمة هي الوقاية من أن يجيء الداء.
والحق سبحانه يقول:
حمَةٌ }[السراء.]82 :
شفَآ ٌء وَ َر ْ
{ وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
والشفاء إذا وُجد الدّاء ،والرحمة هي ألّ يجيء الداء.
وأراد الحق سبحانه أن يكرم ـ بعد ذلك ـ موسى عليه السلم وقومه فقال سبحانه وتعالى:
{ وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا مُوسَىا وََأخِيهِ }
()1437 /
وأوضحنا من قبل أن موسى وهارون عليهما السلم رسولن برسالة واحدة ،وأن الوَحْي قد جاء
للثنين برسالة واحدة.
حمْل الرسالة النطق
فالحق سبحانه ساعة يختار نبيّا رسولً ،فإنما يختاره بتكوينٍ وفطرةٍ تؤهّله ل َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بمرادات ال تعالى.
وإذا كان الخَلْق قد صنعوا آلت ذاتية الحركة من مواد جامدة ل فكر لها ول رَويّة ،مثل الساعة
التي تُؤذّن ،أو المذياع يذيع في توقيت محدد ،إذا كان البشر قد صنعوا ذلك فما بالنا بال سبحانه
الخالق لكل الخلق والكون ومرسل الرسل؟
إنه سبحانه وتعالى يختار رسله بحيث يسمح تكوين الرسول أن يؤدي المهمة الموكولة إليه في أي
ظرف من الظروف.
وقول الحق سبحانه هنا:
{ وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا مُوسَىا وََأخِيهِ } [يونس.]87 :
يبيّن لنا أن الوحي شمل كلً من موسى وهارون عليهما السلم ،بحيث إذا جاء موقف من المواقف
يقتضي أن يتكلم فيه موسى ،فهارون أيضا يمكن أن يتكلم في نفس المر؛ لن الشحنة اليمانية
واحدة ،والمنهج واحد.
وقد حدث ذلك بعد أن أغرق فرعون وقومه ،وخل لهم الجو ،فجاء لهم المر أن يستقروا في
مصر ،وأن يكون لهم فيها بيوت.
ولكن لنا أن نسأل:
هل فرعون هذا هو شخص غرق وانتهى؟
ل ..إن فرعون ليس اسما لشخص ،بل هو تصنيف لوظيفة ،وكان لقب كل حاكم لمصر قديما هو
" فرعون "؛ لذلك ل داعي أن نشغل أنفسنا :هل هو تحتمس الول؟ أو رمسيس؟ أو ما إلى ذلك؟
فهب أن فرعون المعنيّ هنا قد غرق ،أل يعني ذلك مجيء فرعون جديد؟
نحن نعلم من التاريخ أن السر الحاكمة توالت ،وكانوا فراعنة ،وكان منهم من يضطهد المؤمنين،
ول بد أن يكون خليفة الفرعون أشد ضراوةً وأكثر شحنةً ضد هؤلء القوم.
وقول الحق سبحانه وتعالى في الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا مُوسَىا وََأخِيهِ أَن تَ َبوّءَا ِلقَ ْو ِم ُكمَا ِب ِمصْرَ بُيُوتا } [يونس.]87 :
نجد فيه كلمة " مصر " وهي إذا أطلقت يُفهم منها أنها " القليم ".
ونحن هنا في بلدنا جعلنا كلمة " مصر " علما على القليم الممتد من البحر المتوسط إلى حدود
السودان ،أي :وادي النيل.
ومرة أخرى جعلنا من " مصر " أسما لعاصمة وادي النيل.
ونحن نقول أيضا عن محطة القطارات في القاهرة " :محطة مصر ".
وقول الحق سبحانه هنا:
{ أَن تَ َبوّءَا ِل َقوْ ِم ُكمَا } [يونس.]87 :
نفهم منه أن التبؤُ هو اتخاذ مكان يعتبر مباءةً؛ أي :مرجعا يبوء النسان إليه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التبؤّ ـ إذن ـ هو التوطن في مكان ما ،والنسان إذا اتخذ مكانا كوطن له فهو يعود إليه إن ذهب
إلى أي بلد لفترة.
ويعتبر الخروج من الوطن مجرد رحلة تقتضي العودة ،وكذلك البيت بالنسبة للنسان؛ فالواحد منا
يطوف طوال النهار في الحقل أو المصنع أو المكتب ،وبعد ذلك يعود إلى البيت للبيتوتة.
والبيوت التي أوصى ال سبحانه وتعالى بإقامتها لقوم موسى وهارون ـ عليهما السلم ـ كان لها
شرط هو قول الحق سبحانه:
جعَلُواْ بُيُو َتكُمْ قِبَْلةً { [يونس.]87 :
} وَا ْ
والقِبلة هي المتجَه الذي نصلي إليه.
ومثال ذلك :المسجد ،وهو قبلة مَنْ هو خارجه ،وساعة ينادي المؤذن للصلة يكون المسجد هو
قبلتنا التي نذهب إليها ،وحين ندخل المسجد نتجه داخله إلى القلبة ،واتجاهنا إلى القبلة هو الذي
يتحكم في وضعنا الصفّي.
والمر هنا من الحق سبحانه:
لةَ { [يونس.]87 :
جعَلُواْ بُيُو َتكُمْ قِبَْل ًة وََأقِيمُواْ الصّ َ
} وَا ْ
فإقامة البيوت هنا مشروطة بأن يجعلوا بها قبلة لقامة الصلة بعيدا عن أعين الخصوم الذين
يضطهونهم ،شأنهم شأن المسلمين الوائل حينما كان السلم ـ في أوليته ـ ضعيفا بمكة ،وكان
المسلمون حين ذاك يصلون في قلب البيوت ،وهذا هو سر عدم الجهر بالصلة نهارا ،وعدم
الجهر يفيد في أل ينتبه الخصوم إلى مكان المصلين.
وأما الجهر بالصلة ليلً وفجرا ،فقد كان المقصود به أن يعلمهم كيفية قراءة القرآن.
وهنا يقول الحق سبحانه:
جعَلُواْ بُيُو َتكُمْ قِبَْلةً { [يونس.]87 :
} أَن تَ َبوّءَا ِل َقوْ ِم ُكمَا ِب ِمصْرَ بُيُوتا وَا ْ
وقد يكون المقصود بذلك أن تكون البيوت متقابلة.
وإلى يومنا هذا أن نظرت إلى ساحات اليهود في أي بلد من بلد الدنيا تجد أنهم يقطنون حيّا
واحدا ،ويرفضون أن يذوبوا في الحياء الخرى.
ففي كل بلد لهم حي يسكنون فيه ،ويسمى باسم " حي اليهود " .وكانت لهم في مصر " حارات "
كل منها تسمى باسم " حارة اليهود ".
وقد شاء الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ذلك وقال في كتابه العزيز:
سكَنَةُ }[البقرة.]61 :
{ َوضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ
وهم يحتمون بتواجهم معا ،فإن حدث أمر من المور يفزعهم؛ يصبح من السهل عليهم أن يلتقوا:
جعَلُواْ بُيُو َتكُمْ قِبَْلةً { [يونس.]87 :
أو } وَا ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن يكون تخطيط الماكن والشوارع التي تُبنى عليها البيوت في اتجاه القبلة.
وأي خطأ معماري مثل الذي يوجد في تربيعة بناء مسجد المام الحسين بالقاهرة ،هذا الخطأ
ل إلى
يوجب التجاه إلى اليمين قليلً مما يسبب بعض الرتباك للمصلين؛ لن النحراف قلي ً
اليمين في أثناء الصلة يقتضي أن يقصر كل صف خلف الصف الخر.
وحين نصلي في المسجد الحرام بمكة ،نجد بعضا من المصلين يريدون مساواة الصفوف ،وأن
تكون الصفوف مستقيمة ،فنجد من ينبه إلى أن الصف يعتدل بمقدار أطول أضلع الكعبة ،ثم
ينحي الصف.
وكذلك في الدوار العليا التي أقيمت بالمسجد الحرام نجد الصفوف منحنية متجهة إلى الكعبة.
ولذلك أقول دائما حين أصلي بالمسجد الحرام :إن معنى قول المام " :سووا صفوفكم " أي :اجعل
مناكبكم في مناكب بعضكم بعض ،أما خارج الكعبة فيكفي أن نتجه إلى الجهة التي فيها الكعبة،
ونحن خارج الكعبة ل نصلي لعين الكعبة ،ولكننا نصلي تجاه الكعبة؛ لننا لو كنا نصلي إلى عين
الكعبة لما زاد طول الصف في أي مسجد عن اثني عشر مترا وربع المتر ،وهو أطول أضلع
الكعبة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ { [يونس.]87 :
وفي هذا تنبيه وإشارة إلى أن موسى هو الصل في الرسالة؛ لذلك جاء له المر بأن يحمل
البشارة للمؤمنين.
ونلحظ هنا في هذه الية أن الحق سبحانه جاء بالتثنية في التبوء ،وجاء بالجمع في جعل البيوت،
ثم جاء بالمفرد في نهاية الية لينبهنا إلى أن موسى ـ عليه السلم ـ هو الصل في الرسالة إلى
بني إسرائيل.
والبشرى على العمال الصالحة تعني :التبشير بالجنة.
عوْنَ {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :وقَالَ مُوسَىا رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ
()1438 /
ن َومَلََأهُ زِينَ ًة وََأ ْموَالًا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّوا عَنْ سَبِيِلكَ
عوْ َ
َوقَالَ مُوسَى رَبّنَا إِ ّنكَ آَتَ ْيتَ فِرْ َ
طمِسْ عَلَى َأ ْموَاِلهِمْ وَاشْ ُددْ عَلَى قُلُو ِبهِمْ فَلَا ُي ْؤمِنُوا حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ الْأَلِيمَ ()88
رَبّنَا ا ْ
والزينة :هي المر الزائد عن ضروريات الحياة ومقوماتها الولى ،فاستبقاء الحياة يكون بالمأكل
لي غذاء يسدّ الجوع ،وبالمشرب الذي يروي العطش.
أما إن كان الطعام منوّعا فهذا من ترف الحياة ،ومن ترف الحياة الملبس التي ل تستر العورة
فقط ،بل بالزي الذي يتميز بجودة النسج والتصميم والتفصيل.
وكذلك من ترف الحياة المكان الذي ينام فيه النسان ،بحيث يتم تأثيثه بفاخر الرياش ،ولكن
الضرورة في النوم يكفي فيها مكان على الرض ،وأي فراش يقي من برودة الرض أو
حرارتها.
إذن :فالزائد عن الضرورات هو زينة الحياة ،والزينة تأتي من الموال ،والرصيد الصيل في
الموال هو الذهب ،ثم تأخذ الفضة المرتبة الثانية.
ومن مقومات القتصاد أن الذهب يعتبر قيمة الرصيد لغنى أية دولة ،مهما اكتشفوا من أحجار
أغلى من الذهب.
وهذه الحجار الكريمة ـ كالماس مثلً ـ إن كُسِرت أو خُدِشت تقل قيمتها ،لكن الذهب مهما
صهْرَه ،فتستخلَص ذهبا مُجمّعا.
تفتّت فأنت تعيد َ
وكان الفراعنة القدمون يحكمون مصر حتى منابع النيل ،وكانوا يسخّرون الناس في كل العمال،
وحتى استخراج الذهب سواء من المناجم أو من غربلة رمال بعض الجبال لستخلص الذهب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منها.
وأنت قد تستطيع استخلص الذهب من أماكن معينة ،ولكن الفرق دائما إنما يكون في القيمة
القتصادية لستخراج الذهب ،فحين يكون المنجم وفير العطاء ،فيه كثير من عروق الذهب ،هنا
يصبح استخراج الذهب مسألة مريحة اقتصاديا.
أما إن كانت التكلفة أعلى من القيمة القتصادية للذهب المستخرج ،فل أحد يستخرج هذا الذهب.
وأنت إن نظرت إلى زينة الفراعنة تجد قناع " توت عنخ آمون " آية في الجمال ،وكذلك كانت
قصورهم في قمة الرفاهية ،ويكفي أن ترى اللوان التي صنعت منها دهانات الحوائط في تلك
اليام؛ لتعرف دقة الصنعة ومدى الترف ،الذي هو أكثر بكثير من الضرورات.
وفي هذه الية الكريمة يقول الحق سبحانه:
لهُ زِي َن ًة وََأ ْموَالً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّواْ عَن سَبِيِلكَ
ن َومَ َ
عوْ َ
{ َوقَالَ مُوسَىا رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ
} [يونس.]88 :
وهم لم َيضِلّوا فقط بل أرادوا أن ُيضِلّوا غيرهم؛ لذلك تحملوا وِزْر ضللهم ،ووزر إضلل
غيرهم.
فهل أعطاهم ال سبحانه المال والزينة للضلل والضلل؟
ل ،فليس ذلك علة العطاء ،ولكن هناك لم العاقبة ،مثلما تعطي أنت إبنك عشرة جنيهات وتقول
له :افعل بها ما تريد ،وأرجو أن تتصرف فيها تصرفا يعود عليك بالخير .وقد ينزل هذا البن
ليشتري شيئا غير مفيد ول يشتري ـ مثلً ـ كتبا تفيده.
هنا أنت أعطيت هذا البن قوة شرائية لكنه لم يحسن التصرف فيها ،وغاية الختيار َهدَتْه إلى
اللعب .وهذا ما يسمى لم العاقبة ،ولم العاقبة ل يكون المقصود بها سبب الفعل ،ولكنها تأتي
لبيان عاقبة الفعل.
وحين أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجي موسى ـ عليه السلم ،في طفولته من القتل أوحى إلى
أم موسى ـ عليهما السلم ـ بقوله تعالى:
خ ْفتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َي ّم وَلَ َتخَافِي َولَ تَحْزَنِي }[القصص.]7 :
{ فَِإذَا ِ
ول توجد أم تُقبل على تنفيذ مثل هذا المر؛ لنه موت محقق؛ لن البن إن خُطف أو ُفقِد فهذا
كله موت مظنون ،أما إلقاؤه في الماء فليس فيه موت مظنون ،بل موت مؤكد ،إن لم يُنجّه ال
تعالى.
ولكن أم موسى ـ ليمانها بال ـ فعلت ما أوحى به ال ـ سبحانه وتعالى ـ لها؛ لن الوارد من
ال تعالى ل يجد في الفطرة منازعا له.
أما نزغات الشيطان فهي تجد ألف منازع لها في النفس ،وكذلك هواجس النفس.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك نفّذت أم موسى ما أوحى ال تعالى به إليها ،وإن كان مخالفا للعقل والمنطق.
وحين التقطه آل فرعون ،وقد كانوا يقتلون الطفال ،وألقى الحق سبحانه وتعالى محبة موسى في
قلوبهم ،قال:
علَ ْيكَ مَحَبّةً مّنّي }[طه.]39 :
{ وَأَ ْلقَ ْيتُ َ
فهم ساعة رؤيتهم لموسى ـ عليه السلم ـ وهو طفل ،أحبّوه فلم يقتلوه ،وهكذا نفذت مشيئة ال
تعالى ووعده لمه:
علُوهُ مِنَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ }[القصص.]7 :
ك وَجَا ِ
{ إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ
أي :أن لموسى ـ عليه السلم ـ مهمة مسبقة أرادها له الحق سبحانه.
ولذلك نجد أن هناك أوامر متتابعة جاء بها القرآن الكريم في مسألة إلقاء أم موسى لبنها ،فقال
الحق سبحانه:
حلِ }[طه:
{ ِإذْ َأوْحَيْنَآ ِإلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا * أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ
38ـ .]39
وكلها أوامر من الحق سبحانه ،فتراه زوجة فرعون فتقول لزوجها:
{ قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََلكَ }[القصص.]9 :
فهل كان فرعون يعلم أن هذا الطفل الذي التقطه سيكون عدوّا له؟
ل ،لقد التقطه وأعطاه حياة الترف؛ ليكون قُرّة عين له ،وهذه علة اللتقاط ،ولكن العاقبة انتهت
إلى أن يكون عدوّا؛ ولو كانت العلة هي العداوة لما التقطه فرعون أو لقتله لحظة اللتقاط.
ولذلك يترك الحق سبحانه وتعالى في كونه أشياء تكسر مكر البشر؛ فأخذه فرعون وربّاه ،وكانت
العاقبة غير ما كان يتوقع فرعون.
وقول الحق سبحانه هنا في الية التي نحن بصددها } :لِ ُيضِلّواْ { نفهم منه أن ـ سبحانه وتعالى ـ
لم ُي ْعطِهم المال ليضلوا ،ولكنهم هم الذين اختاروا الضلل.
وقد أعطى ال سبحانه وتعالى الكثير من الناس مالً وجاها وأرادوا به الخير ،وهكذا نرى اختيار
النسان ،إن له أن يضل أو يهتدي.
وقد قال موسى عليه السلم تنفيسا عن نفسه:
طمِسْ
لهُ زِينَةً وََأمْوَالً فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّواْ عَن سَبِيِلكَ رَبّنَا ا ْ
عوْنَ َومَ َ
} رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ
عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْ ُددْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ { [يونس.]88 :
ومعنى الطمس أي :إخفاء المعالم؛ مثل قول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى الطمس هنا :إخفاء معالم تلك الوجوه؛ فتكون قطعة واحدة بل جبهة أو حواجب أو عينين
أو أنف أو شفاه أو ذقن.
إذن :فالطمس هو إهلك الصورة التي بها الشيء .ودعوة موسى ـ عليه السلم ـ هنا:
طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِمْ { [يونس.]88 :
}ا ْ
أي :امسخها.
وقال بعض الرواة أنها مُسخت ،فمن كان يملك بعضا من سبائك الذهب وجدها حجارة ،ومن كان
يملك أحجارا كريمة كالماس وجدها زجاجا.
طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِمْ { [يونس.]88 :
أو أن } ا ْ
أي :أذهبهما؛ لن الموال كانت وسيلة إضلل.
وقوله عليه السلم بعد ذلك:
ب الَلِيمَ { [يونس.]88 :
شدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ
} وَا ْ
أي :أحْكمْ يا رب الربطة على تلك القلوب؛ فل يخرج ما فيها من كفر ،ول يَدخل ما هو خارجها
من اليمان؛ لن هؤلء قد افتروا افتراءً عظيما ،وأن تظل الربطة على قلوبهم؛ حتى يروا
العذاب الليم.
ولماذا دعا موسى ـ عليه السلم ـ على آل فرعون هذا الدعاء ،ولم يَ ْدعُ مثلما دعا سيدنا محمد
صلى ال عليه وسلم " :اللهم اهْ ِد قومي فإنهم ل يعلمون "
والجابة :ل بد أن الحق سبحانه وتعالى قد أطلعه على أن هؤلء قوم لن تفلح فيهم دعوة اليمان.
وكان خوف موسى ـ عليه السلم ـ ل من ضلل قوم فرعون ،ولكن من استمرار إضللهم
لغيرهم.
إذن :فقد دعا عليهم موسى ـ عليه السلم ـ بما جاء في هذه الية:
ب الَلِيمَ { [يونس:
طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ
} رَبّنَا ا ْ
.]88
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه:
{ فََلمْ َيكُ يَن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْاْ بَأْسَنَا }[غافر.]85 :
وهكذا يتبين لنا الفارق بين إيمان اللجاء والقصر وبين إيمان الختيار.
فحين يأتي الرسول داعيا إلى اليمان يصبح من حق السامع لدعوته أن يؤمن أو أن يكفر؛ لن ال
تعالى قد خلق النسان وله حق الختيار ،أما إيمان اللجاء والقصر فهو لينفع النسان.
ومثال ذلك :فرعون ،فساعة أن جاءه العذاب أعلن اليمان .فالحق سبحانه وتعالى يقول:
ل وَأَنَاْ مِنَ
{ حَتّىا إِذَآ أَدْ َر َكهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنّهُ ل إِلِـاهَ ِإلّ الّذِي آمَ َنتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِي َ
ا ْلمُسِْلمِينَ }[يونس.]90 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا كان موسى ـ عليه السلم ـ قد دعا على قوم فرعون ،فقد سبقه نوح عليه السلم في مثل
هذا الدعاء مما أورده القرآن في قوله:
علَى الَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارا * إِ ّنكَ إِن َتذَرْهُمْ ُيضِلّواْ عِبَا َدكَ وَلَ يَلِدُواْ ِإلّ فَاجِرا
ب لَ تَذَرْ َ
{ ّر ّ
َكفّارا }[نوح26 :ـ .]27
عوَ ُت ُكمَا فَاسْ َتقِيمَا {
واستجاب الحق سبحانه لدعوة موسى عليه السلم } .قَالَ َقدْ ُأجِي َبتْ دّ ْ
()1439 /
عوَ ُت ُكمَا فَاسْ َتقِيمَا وَلَا تَتّ ِبعَانّ سَبِيلَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ ()89
قَالَ َقدْ ُأجِي َبتْ دَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]63
إذن :فالدعاء إنما يكون فزعا إلى من يقدر على أمر ل تقدر عليه.
والموضوع الذي كان يشغل موسى وهارون عليهما السلم هو بقاء آل فرعون على ضللهم
وإصرارهم على إضلل غيرهم ،فل بد أن يدعو كل منهما نفس الدعاء ،ومثل هذا نجده في غير
الرسل ونسميه " التخاطر " ،أي :التقاء الخواطر في لحظة واحدة.
ومثال ذلك في التاريخ السلمي ،لحظة أن كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي ال عنه مشغولً
بالتفكير في جيش المسلمين المقاتل في إحدى المعارك ،وكان عمر في المدينة يخطب على المنبر،
فإذا به يقول فجأة " :يا سارية الجبل " وهي كلمة ل موضع لها في منطق الخطبة ،ولكن كان
فكره مشغولً بالقائد الذي يحارب ،وسمع القائد ـ وهو على البعد ،المر؛ فانحاز إلى الجبل.
ويقال في هذه المسألة :إن الخاطر قد شغل مع الخاطر ،مثلما تطلب أحدا في الهاتف فيرد عليك
الشخص الذي تريد الكلم معه قائلً :لقد كنت على وشك أن أتصل بك هاتفيّا ،وهذا يعني أن
الخاطرين قد انضبطا معا.
وإذا كان هذا ما يحدث في حياتنا العادية ،فما بالنا بما يحدث في المور الصفائية؛ وفي أرقى
درجاتها وهي النبوة؟
أو أن الذي دعا هو موسى وما كان هارون إل مؤمّنا ،والمؤمّن هو أحد الداعيين ،وما دام الحق
سبحانه قد قَبِل دعوة موسى عليه السلم ،فقد قَبِل أيضا دعوة المؤمّن معه.
ويظن بعض الناس أن إجابة الدعوة هي تحقيق المطلوب فور الدعاء ،ولكن الحقيقة أن إجابة
الدعوة هي موافقة على الطلب ،أما ميعاد إنجاز الطلب ،فقد يتأجل بعض الوقت ،مثلما حدث مع
دعوة موسى عليه السلم على فرعون وملئه ،فحين دعا موسى ،وأمّن هارون ،جاءت إجابة
عوَ ُتكُمَا { [يونس ]89 :بعد أربعين عاما ،ويحقق ال سبحانه الطمس على
الدعاءَ } :قدْ أُجِي َبتْ دّ ْ
المال.
فالسماء ليست موظفة عند من يدعو ،وتقبل أي دعاء ،ولكن قبول الدعوة يقتضي تحديد الميعاد
الذي تنفذ فيه.
وهذه أمور من مشيئة ال سبحانه؛ فالحق سبحانه وتعالى منزّه عن أن يكون منفّذا لدعاء ما ،ولكنه
هو الذي بيده مقاليد كل أمر ،فإذا ما أجيبت دعوة ما ،فهو سبحانه بمشيئته يضع تنفيذ الدعوة في
الميعاد الملئم؛ لنها لو أجيبت على الفور فقد تضر.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل:
عجُولً }[السراء.]11 :
ن الِنْسَانُ َ
ع الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِالْخَيْ ِر َوكَا َ
{ وَيَ ْد ُ
لذلك يحدد الحق سبحانه ميعاد تطبيق الدعوة في مجال التنفيذ والواقع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهو سبحانه وتعالى يقول:
{ سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَ تَسْ َت ْعجِلُونِ }[النبياء.]37 :
والنسان يعرف أنه قد يكون قد دعا بأشياء ،فحقق ال سبحانه الدعاء وكان شرّا ،وكم من شيء
يدعو به النسان ولم يحققه ال تعالى وكان عدم تحقيقه خيرا.
إذنك فالقدرة العليا رقيبة علينا ،وتعلم ما في صالحنا؛ لننا لسنا آلهة تأمر بتنفيذ الدعوات ،بل
فوقنا الحكيم العلى سبحانه:
ولذلك نقول في بيان قول الحق سبحانه:
جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِت ْعجَاَلهُمْ بِا ْلخَيْرِ َل ُقضِيَ إِلَ ْيهِمْ أَجَُل ُهمْ }[يونس.]11 :
{ وََلوْ ُيعَ ّ
لن النسان قد يدعو بالشر على نفسه ،أل تسمع أمّا تدعو على ابنها أو ابنتها رغم حبها لهما ،فلو
استجاب ال لدعائها على أولدها الذين تحبهم أليس في ذلك شر بالنسبة للم.
والولد قد يقول لمه مغاضبا :يا رب تحدث لي حادثة؛ حتى تستريحي مني .ف َهبْ أن ال استجاب
لهذا الدعاء ،أيرضي ذلك من دعا على نفسه أو يرضي أمه؟
طبعا ل؛ فإذا كان ال سبحانه قد أبطأ عليك بدعاء الشر فهذا خير لك ،فعليك أن تأخذ إبطاء ال
سبحانه عليك بدعاء الخير على أنه خير لك.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يقول لموسى وهارون عليهما السلم:
ن لَ َيعَْلمُونَ { [يونس.]89 :
عوَ ُتكُمَا فَاسْ َتقِيمَا َولَ تَتّ ِبعَآنّ سَبِيلَ الّذِي َ
} َقدْ أُجِي َبتْ دّ ْ
أي :ابقيا على الطريق السوي ،ول ُتدْخِل نفسيكما فيما ل علم لكما به .أليس الحق سبحانه هو
حكَمُ ا ْلحَا ِكمِينَ * قَالَ
ن وَعْ َدكَ ا ْلحَقّ وَأَنتَ َأ ْ
القائل {:وَنَادَى نُوحٌ رّبّهُ َفقَالَ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَ ْهلِي وَإِ ّ
ظكَ أَن َتكُونَ
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ فَلَ َتسْئَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ إِنّي أَعِ ُ
يانُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ
مِنَ الْجَاهِلِينَ }[هود45 :ـ .]46
أي :كُنْ مؤدّبا مع ربك حين تدعو وتنفّس عن نفسك ،و َدعْ لحكمة الحكيم الجابة أو عدمها ،وقد
تكون الجابة فورية أو مؤجّلة إلى حين أوانها ،وكلهما خير.
عوْنُ وَجُنُودُه {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :وجَاوَزْنَا بِبَنِي ِإسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْ َب َعهُمْ فِرْ َ
()1440 /
عوْنُ وَجُنُو ُدهُ َبغْيًا وَعَ ْدوًا حَتّى ِإذَا أَدْ َر َكهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ َآمَ ْنتُ
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْ َب َعهُمْ فِرْ َ
ل وَأَنَا مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ ()90
أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا الّذِي َآمَ َنتْ ِبهِ بَنُو إِسْرَائِي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قال الحق سبحانه:
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } [يونس ]90 :لن الجتياز لم يكن بأسباب بشرية ،بل بفعل
يخرج من أسباب البشر ،فلو أن موسى عليه السلم قد حفر نفقا تحت الماء ،أو لو كان قد ركب
سفنا هو وقومه لكان لهم مشاركة في اجتياز البحر ،لكن المجاوزة كانت بأسباب غير ملوحظة
بالنسبة للبشر ،فالحق سبحانه هو الذي أوحى لموسى:
{ أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ الْبَحْرَ }[الشعراء.]63 :
ومياه البحر كأية مياه أخرى تخضع لقانون السيولة ،والستطراق هو وسيلة السيولة ،وهي عكس
التجمد الذي يتسم بالتحيز.
والستطراق هو الذي قامت عليه أساليب نقل المياه من صهاريج المياه التي تكون في الغلب
أعلى من طول أي منزل ،ويتم ضخ المياه إليها؛ لتتوزع من بعد ذلك حسب نظرية الواني
المستطرقة على المنازل ،أما إذا كانت هناك بناية أعلى طولً من الصهريج ،هنا يقوم سكان
المبنى بتركيب مضخة لرفع المياه إلى الدوار العالية.
وإذا كان قانون البحر هو السيولة والستطراق ،فكيف يتم قطع هذا الستطراق؟
يقول الحق سبحانه:
طوْدِ ا ْل َعظِيمِ }[الشعراء.]63 :
{ فَانفَلَقَ َفكَانَ ُكلّ فِرْقٍ كَال ّ
فكيف تحول الماء إلى جبال يفصل بينها سراديب وطرق يسير فيها موسى عليه السلم وقومه؟
كيف يسير موسى وقومه مطمئنين؟
ل بد أنها معية ال سبحانه التي تحميه ،وهي تفسير لقول الحق سبحانه:
{ إِنّ َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء.]62 :
ورغم ذلك يتبعهم فرعون وجنوده لعله يدركهم ،وأراد سيدنا موسى ـ عليه السلم ـ بمجرد
نجاحه في العبور هو وقومه أن يضرب البحر بعصاه؛ ليعود إلى قانون السيولة ،ولو فعل ذلك لما
سمح لفرعون وجنوده أن يسيروا في الممرات التي بين المياه التي تحولت إلى جبال ،ولكن ال ـ
سبحانه وتعالى ـ يريد غير ذلك ،فقد أراد الحق سبحانه أن ينجي ويهلك بالشيء الواحد ،فأوحى
لموسى عليه لسلم:
{ وَاتْ ُركِ الْ َبحْرَ رَهْوا إِ ّنهُمْ جُندٌ ّمغْ َرقُونَ }[الدخان.]24 :
أي :اترك البحر على حاله؛ فينخدع فرعون وجنوده ،وما إن ينزل آخر جندي منهم إلى الممر
بين جبال الماء؛ سيعود البحر إلى حالة السيولة فيغرق فرعون وجنوده ،وينجو موسى وقومه.
ويقول الحق سبحانه:
ن وَجُنُو ُدهُ } [يونس.]90 :
عوْ ُ
{ فَأَتْ َب َعهُمْ فِرْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهل كان هذا التباع دليل إرادة الشر؟
أكان من الممكن أن تكون نية الفرعون أن يدعو موسى وقومه إلى العودة إلى مصر ليستقروا
فيها؟
ل ،لم تكن هذه نية الفرعون؛ لذلك قال الحق سبحانه عن هذا التباعَ { :بغْيا وَعَدْوا } [يونس:
.]90
أي :أنه اتباع رغبة في النتقام والذلل والعدوان.
ويصور القرآن الكريم لحظة غرق فرعون بقوله:
{ حَتّىا إِذَآ أَدْ َر َكهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ آمَنتُ } [يونس.]90 :
والدراك :قصد للمدرك أن يلحق بالشيء ،والغرق معنى ،فكيف يتحول المعنى إلى شيء يلحق
الفرعون؟
نعم ،فكأن الغرق جندي من الجنود ،وله عقل ينفعل؛ فيجري إلى الحداث:
ل وَأَنَاْ مِنَ
{ حَتّىا إِذَآ أَدْ َر َكهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنّهُ ل إِلِـاهَ ِإلّ الّذِي آمَ َنتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِي َ
ا ْلمُسِْلمِينَ } [يونس.]90 :
واليمان إذا أطلق فهو اليمان بالقوة العليا ،بدليل أن الحق سبحانه وتعالى قد قال:
ت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ َأسَْلمْنَا }[الحجرات.]14 :
{ قَاَل ِ
لن اليمان يتطلب انقياد القلب ،والسلم يقتضي اتباع أركان السلم ،فاليمان كما قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :قل آمنت بال ثم استقم " .وفي هذا القول ذكر محدد بأن اليمان إنما
يكون ل العلى.
لكن لو قلت ـ مثلً " :آمنت أنك رجل طيب " فهذا إيمان له متعلق ،أما إذا ُذكِر اليمان بإطلق
فهو ينصرف إلى اليمان بال تعالى؛ ولذلك قال ال سبحانه للعراب:
{ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسَْلمْنَا }[الحجرات.]14 :
وهنا يأتي القول على لسان فرعون:
ل وَأَنَاْ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ { [يونس.]90 :
} آمَنتُ أَنّهُ ل إِلِـاهَ ِإلّ الّذِي آمَ َنتْ ِبهِ بَنواْ إِسْرَائِي َ
والخلف هنا كان بين الفرعون كجهة كفر ،وبين موسى وهارون وقومهما كجهة إيمان ،وأعلن
فرعون إيمانه ،وقال أيضا:
} وَأَنَاْ مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ { [يونس.]90 :
عصَ ْيتَ قَ ْبلُ {
ن َوقَدْ َ
ولم يقبل ال ذلك منه بدليل قوله الحق سبحانه } :آل َ
()1441 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل َوكُ ْنتَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ ()91
عصَيْتَ قَ ْب ُ
ن َوقَدْ َ
آَلْآَ َ
وهذا يعني :أتقول إنك آمنت الن وإنك من المسلمين .إن قولك هذا مردود؛ لنه جاء في غير
وقته ،فهناك فرق بين إيمان الجْبار وإيمان الختيار ،أتقول الن آمنت وأنت قد عصيت من قبل،
وكنت تفسد في الرض.
وكان من الممكن أن يقبل ال سبحانه منه إيمانه وهو في نجوة بعيدة عن الشر الذي حاق به.
فالحق سبحانه ل يقبل إيمان أحد بلغت روحه الحلقوم ،فهذا إيمان إجبار ،ل إيمان اختيار.
ولو كان المطلوب إيمان الجبار لجبر الحق سبحانه الخلق كلهم على أن يؤمنوا ،ولما استطاع
أحد أن يكفر بال تعالى ،وأمامنا الكون كله خاضع لمره ال ـ سبحانه وتعالى ـ ول يتأبى فيه
أحد على ال تعالى.
وقدرة الحق ـ عز وجل ـ المطلقة قادرة على إجبار البشر على اليمان ،لكنها تثبت طلقة
القدرة ،ول تثبت المحبوبية للمعبود.
وهذه المحبوبية للمعبود ل تثبت إل إذا كان لك خيار في أن تؤمن أو ل تؤمن .وال سبحانه يريد
إيمان الختيار.
إذن :فالمردود من فرعون ليس القول ،ولكن زمن القول.
ويقال :إنها رُ ّدتْ ولم تُقبل ـ رغم أنه قالها ثلث مرات ـ لن قوم موسى في ذلك الوقت كانوا
قد دخلوا في مرحلة التجسيم لذات ال وادعوا ـ معاذ ال ـ أن ال ـ تعالى عما يقولون ـ جلس
على صخرة وأنزل ِرجْليه في حوض ماء ،وكان يلعب مع الحوت ..إلى آخر الخرافات التي
ابتدعها بنو إسرائيل.
وحين أعلن فرعون أنه آمن بالله الذي آمنت به بنو إسرائيل ،فهذا يعني أنه لم يؤمن بالله الحق
سبحانه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { .فَالْ َي ْومَ نُنَجّيكَ بِ َبدَ ِنكَ لِ َتكُونَ ِلمَنْ خَ ْل َفكَ }
()1442 /
فَالْ َيوْمَ نُنَجّيكَ بِ َبدَ ِنكَ لِ َتكُونَ ِلمَنْ خَ ْل َفكَ آَ َي ًة وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا َلغَافِلُونَ ()92
ونحن نعرف أن النسان مكوّن من بدن ،وهو الهيكل المادي المصوّر على تلك الصورة التي
نعرفها ،وهناك الروح التي في البدن ،وبها تكون الحركة والحياة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وساعة نقول " :بدن " ،فافهم أنها مجردة عن الروح ،مثلما نقول :جسد .وإذا أطلقت كلمة " جسد
" فمعناها الهيكل المادي المجرد من الروح.
والحق سبحانه هو القائل:
جسَدا }[ص.]34 :
{ وََلقَدْ فَتَنّا سُلَ ْيمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىا كُرْسِيّهِ َ
وكان سيدنا سليمان ـ عليه السلم ـ يستمتع بما آتاه ال سبحانه من الملك ما ل ينبغي لحد من
بعده ،وسخّر له الجن والرياح وعلّمه كل اللغات ،وكان صاحب الوامر والنواهي والهيمنة ،ثم
وجد نفسه قاعدا على كرسيه بل حراك وبل روح ،ويقدر عليه أي واحد من الرعية ،ثم أعاد ال
له روحه إلى جسده ،وهو ما يقوله الحق سبحانه:
{ ُثمّ أَنَابَ }[ص.]34 :
أي :أنه أفاق لنفسه ،فعلم أن كل ما يملكه هو أمر مُفاضٌ عليه ،ل أمر نابع من ذاته.
وهنا في الية الكريمة التي نحن بصددها الن يقول الحق سبحانه:
{ فَالْ َيوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَ ِنكَ لِ َتكُونَ ِلمَنْ خَ ْل َفكَ آيَةً } [يونس.]92 :
وبالِ ،لو لم يأمر الحق البحر بأن يلفظ جثمان فرعون ،أما كان من الجائز أن يقولوا :إنه إله،
وإنه سيرجع مرة أخرى؟
ولكن الحق سبحانه قد شاء أن يلفظ البحر جثمانه كما يلفظ جيفة أي حيوان غارق؛ حتى ل يكون
هناك شك في أن هذا الفرعون قد غرق ،وحتى ينظر من بقي من قومه إلى حقيقته ،فيعرفوا أنه
مجرد بشر ،ويصبح عبرة للجميع ،بعد أن كان جبارا مسرفا طاغية يقول لهم:
{ مَا عَِل ْمتُ َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي }[القصص.]38 :
وبعض من باحثي التاريخ يقول :إن فرعون المقصود هو " تحتمس " ،وإنهم حلّلوا بعضا من
حثمانه ،فوجدوا به آثار مياه مالحة.
ونحن نقول :إن فرعون ليس اسما لشخص ،بل هو توصيف لوظيفة ،ولعل أجساد الفراعين
المحنطه تقول لنا :إن علة حفظ البدان هي عبرة؛ وليتعظ كل إنسان ويرى كيف انهارت
الحضارات ،وكيف بقيت تلك البدان آية نعتبر بها.
وقد تعرض القرآن لمسألة الفرعون ،فقال الحق سبحانه:
لوْتَادِ }[الفجر.]10 :
عوْنَ ذِى ا َ
{ َوفِرْ َ
ويقول سبحانه في نفس السورة عن كل جبار مفسد:
{ إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ }[الفجر.]14 :
ونلحظ أن كلم الحق سبحانه عن فرعون في سورة الفجر كان كلما يضمّ إلى جانب حضارة
الفراعنة حضارات أخرى قديمة ،مثل حضارة عاد وحضارة ثمود.
وكذلك تكلم الحق سبحانه عن الفرعون في أثناء لقطات قصة موسى عليه السلم ،ولكن الكلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يختلف في قصة يوسف عليه السلم ،فل تأتي وظيفة الفرعون ،بل يحدثنا الحق سبحانه عن
وظائف أخرى ،هي وظية " عزيز مصر " ـ أي :رئيس وزرائها ـ ويحدثنا ال سبحانه عن ملك
مصر بقوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من اكتشف قانون " الطفو " وقاعدة " أرشميدس " الذي لحظ أنه كلما غطس شيءٌ في المياه،
ارتفع الماء بنفس حجم الشيء الغاطس فيه.
كل هؤلء اكتشفوا ـ ولم يخلقوا ـ أسرارا كانت موجودة في الكون ،وهم تميّزوا بالنتباه لها.
وكذلك العالم الذي اكتشف " البنسلين " قد لحظ أن أصيصا من المواد العضوية كانت تنزل منه
قطرات من الماء العفن ،ورأى الحشرات التي تقترب من هذا الماء تموت ،فأخذ عينة من هذا
العفن وأخذ يُجري عليها بعض التجارب في معمله إلى أن اكتشف " البنسلين ".
()1443 /
ق وَرَ َزقْنَاهُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ َفمَا اخْتََلفُوا حَتّى جَاءَ ُهمُ ا ْلعِلْمُ إِنّ رَ ّبكَ
وَلَقَدْ َبوّأْنَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ مُ َبوّأَ صِ ْد ٍ
َيقْضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ ()93
وكلمة " تبوأ " تعني إقامة مباءة أي :البيوت التي يكون فيها السكن الخاص ،وإذا أطلقت كلمة "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مبوأ " فهي تعني القليم أو الوطن.
والوطن أنت تتحرك فيه وكذلك غيرك ،أما البيت فهو للنسان وأسرته كسكن خاص.
أما الثري فقد يكون له جناح خاص في البيت ،وقد يخصص الثريّ في منزله جناحا لنفسه ،وآخر
لولده وثالثا لبنته.
أما غالبية الناس فكل أسرة تسكن في " شقة " قد تتكون من غرفة أو اثتنتين أوثلثة حسب
إمكانات السرة.
إذن :فيوجد فرق بين تبؤّء البيوت وتبوء المواطن ،فتبؤّء المواطن هو الوطن.
وسبق أن قال الحق سبحانه لموسى وهارون عليهما السلم:
{ أَن تَ َبوّءَا ِل َقوْ ِم ُكمَا ِب ِمصْرَ بُيُوتا }[يونس.]87 :
هذا في التبوء الخاص ،أما في التبوء العام فهو يحتاج إلى قدرة الحق تعالى ،وهو سبحانه يقول
هنا:
{ وََلقَدْ َبوّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُ َبوَّأ صِ ْدقٍ } [يونس.]93 :
والحق سبحانه أتاح لهم ذلك في زمن موسى ـ عليه السلم ـ وأتاح لهم السكن في مصر
والشام ،وهو سبحانه القائل:
حوْلَهُ }
ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ
سجِ ِد ا َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ
{ سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَ ْب ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ
[السراء.ٍ]1 :
وما دام الحق سبحانه قد بارك حول فل بد أن فيه خيرا كثرا ،ول بد أن تكون الرض التي حوله
مُبوّا صدق.
وكلمة " الصدق " تعني جماع الخير والبر؛ " ولذلك نجد الرسول صلى ال عليه وسلم حينما سئل:
أيكون المؤمن جبانا؟ قال " :نعم " وحين سئل :أيكون المؤمن بخيلً؟ قال " :نعم " .وحين سئل
أيكون المؤمن كذابا؟ قال " :ل ".
ولذلك فأنت تجد في السلم عقوبة على الزنا ،وعقوبة تقام على السارق ،أما الكذب فهو خصلة
ل يقربها المسلم؛ لن عليه أن يكون صادقا .وكل خصال الخير هي مُبوّأَ الصدق.
ولذلك نجد قول الحق سبحانه:
ج صِدْقٍ }[السراء.]80 :
ق وَأَخْ ِرجْنِي ُمخْرَ َ
ل صِ ْد ٍ
خَ{ َوقُل ّربّ أَ ْدخِلْنِي ُمدْ َ
وقول الحق سبحانه:
{ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُواْ أَنّ َلهُمْ قَ َد َم صِ ْدقٍ عِندَ رَ ّب ِهمْ }[يونس.]2 :
وقول الحق سبحانه:
جعَل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الخِرِينَ }[الشعراء.]84 :
{ وَا ْ
أي :اجعل لي ذكرى حسنة فل يقال فلن كان كاذبا ،وأما قدم الصدق فهي سوابق الخير التي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يسعى إليها؛ ولذلك كان الجزاء على الصدق هو ما يقول عنه الحق سبحانه:
{ فِي َم ْقعَ ِد صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ ّمقْتَدِرٍ }[القمر.]55 :
وهو مقعد عند مليك ل يبخل ،ول يجلس في رحابه إل من يحبه ،ول يضن بخيره على من هم
في رحابه.
ومقعد الصدق هو جزاء لمن استجاب له ربه فأدخله مدخل صدق ،وأخرجه مخرج صدق ،وجعل
له لسان صدق ،وقدم صدق.
وبعد أن بوّأ الحق سبحانه بني إسرائيل مُبوّا صدق ،في مصر والشام ،وبعد أن قال لهم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد قال في آخر سورة السراء:
سكُنُو ْا الَ ْرضَ فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا }[السراء:
{ َوقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْ
.]104
والمجيء بهم لفيفا إنما يعني أن يجمعهم في وطن قومي لتأتي لهم الضربة القاصمة التي ذكرها
الحق سبحانه في قوله:
سجِدَ َكمَا دَخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَلِيُتَبّرُواْ مَا عََلوْاْ
{ فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ لِ َيسُوءُو ْا وُجُو َهكُ ْم وَلِيَ ْدخُلُواْ ا ْلمَ ْ
تَتْبِيرا }[السراء.]7 :
لننا لن نستطيع أن نحاربهم في كل بلد من البلد التي قطّعهم ال فيها ،لكنهم حين يجتمعون في
مكان واحد ،إنما يسهل أن ينزل عليهم قضاء ال.
وحين ننظر إلى رحلتهم نجد أن " يثرب " كانت المكان الذي اتسع لهم بعد اضطهادات المجتمعات
التي دخلوا إليها ،وحين اجتمعوا في يثرب صار لهم الجاه؛ لنهم أهل علم ،وأهل اقتصاد ،وأهل
حرب.
وهم قد اجتمعوا في المدينة؛ لن المخلصين من أهل الكتاب أخبروهم أن هذه المدينة هي المهجر
لنبي ورسول يأتي من العرب في آخر الزمان؛ فمكثوا فيها انتظارا له ،وكانوا يقولون لكفار
قريش " :لقد أظل زمان يأتي فيه نبي نتبعه ،ونقتلكم فيه قَتل عاد وإرم ".
وكان من المفروض أن يؤمنوا برسالته صلى ال عليه وسلم ،لكنه إن أطل رسول ال صلى ال
عليه وسلم بنور رسالته حتى أنكروه خوفا على سلطتهم الزمنية.
وهو ما تقول عنه الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} َفمَا اخْتََلفُواْ حَتّىا جَآءَهُمُ ا ْلعِلْمُ { [يونس.]93 :
أي :أن علمهم بمجيء الرسول صلى ال عليه وسلم هو مصدر اختلفهم ،فمنهم من سمعوا
إشارات عنه صلى ال عليه وسلم وعرفوا علماته صلى ال عليه وسلم؛ فآمنوا به ،ومنهم من لم
يؤمن به.
وهم لم يختلفوا من قبل وكانوا متفقين ،وتوعّدوا المشركين من قريش .وما إن أهلّ الرسول صلى
ال عليه وسلم به " الوس " و " الخزرج " أنه رسول من ال تعالى قد ظهر بمكة ،فقالت الوس
و الخزرج :إنه النبي الذي توعّدتنا به يهود ،فهيا بنا لنذهب ونسبقهم إليه قبل أن يسبقونا ،فيقتلونا
به.
فكأن اليهود هم الذين تسببوا في هجرة النبي صلى ال عليه وسلم إلى المدينة؛ لن الوس
والخزرج سبقوهم إليه؛ وهذا لنعلم كيف ينصر ال تعالى دينه بأعدائه.
ولذلك نجد أنهم في اختلفهم " يأتي عبد ال بن سلم إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن اليهود قوم ُب ْهتٌ ،وإذا أنا آمنت بك يا رسول ال سيقولون فيّ ما يسيء إليّ؛ لذلك فقبل أن
أعلن إسلمي اسألهم عنّي.
وكان ابن سلم في ذلك يسلك سلوكا يتناسب مع كونه يهوديا ،ولما اجتمع معشر اليهود،سألهم
النبي صلى ال عليه وسلم وقال :ما تقولون في ابن سلم؟
قالوا :حَبْرُنا وشيخنا وهو الورع فينا ،وبعد أن أثنوا عليه ثناء عظيما ،قال ابن سلم :يا رسول
ال أشهد أن ل إله إل ال وأنك رسول ال.
وهنا بدأ اليهود يكيلون له السّباب ،فقال ابن سلم :ألم أ ُقلْ لك يا رسول ال إنهم قوم ُبهْت "
إذن :فمعنى قوله سبحانه:
} َفمَا اخْتََلفُواْ حَتّىا جَآءَهُمُ ا ْلعِلْمُ { [يونس.]93 :
أي :أن أناسا منهم بقوا على الباطل ،وأناسا منهم آمنوا بالرسول الحق صلى ال عليه وسلم.
وينهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله تعالى:
} إِنّ رَ ّبكَ َيقْضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ َيخْتَِلفُونَ { [يونس.]93 :
أي :أن ال سبحانه وتعالى سوف يقضي بن ما جاءوا في صف اليمان ،وبين مَنْ َب َقوْا على
اليهودية المتعصبة ضد اليمان.
ونحن نلحظ أن كلمة } بَيْ َن ُهمْ { توضح أن الضمير عام ،لهؤلء ولولئك.
ونقول :إن الحق سبحانه وتعالى يقضي يوم القيامة بين المؤمنين والكافرين ،ويقضي أيضا بين
الكفارين ،فمنهم من كان ظالما لكافر ،ومنه من كان مختلسا أو مرتشيا ،ومنهم من عمل على غير
مقتضى دينه؛ لذلك يقضي ال سبحانه بينهم.
والية تفيد العموم في القضاء ماضيا وحاضرا ومستقبلً بين كل مؤمن وكافر ،وبين كل تائب
وعاصٍ.
شكّ ّممّآ أَن َزلْنَآ إِلَ ْيكَ {
ويقو الحق سبحانه بعد ذلك } :فَإِن كُنتَ فِي َ
()1444 /
شكّ ِممّا أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ فَاسَْألِ الّذِينَ َيقْرَءُونَ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبِْلكَ َلقَدْ جَا َءكَ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكَ
فَإِنْ كُ ْنتَ فِي َ
فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ ()94
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أهله بالسيادة قال:
" وال لو وضعوا الشمس في يميني ،والقمر في يساري على أن أترك هذا المر حتى يُظهره ال،
أو أهلك فيه ،ما تركته ".
نقول :إن الحق سبحانه وتعالى يضمر خطاب المة في خطاب رسوله صلى ال عليه وسلم؛ لن
التباع حين يقرأون ويسمعون الخطاب وهو موجّه بهذا السلوب إلى الرسول صلى ال عليه
وسلم فهم لن يستنكفوا عن أيّ أمر يصدر إليهم.
ومثال ذلك :لو أن قائدا يصدر أمرا لثنين من مساعديه اللذين يقودان مجموعتين من المقاتلين،
فيقول القائد العلى لكل منهما :إياك أن تفعل كذا أو تصنع كذا .والقائد العلى بتعليماته ل يقصد
المساعدين له ،ولكنه يقصد كل مرءوسيهم من الجند.
وجاء المر هنا لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لتفهم أمته أن الرسول صلى ال عليه وسلم ما
كان ليتأبّى على أمر من أوامر ال ،بل هو صلى ال عليه وسلم ينفّذ كل ما يؤمر به بدقة؛ وذلك
من باب خطاب المة في شخصية رسولها صلى ال عليه وسلم.
وقول الحق سبحانه:
شكّ ّممّآ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ فَاسَْألِ الّذِينَ َيقْرَءُونَ ا ْلكِتَابَ مِن قَبِْلكَ } [يونس.]94 :
{ فَإِن كُنتَ فِي َ
هذا القول دليل على أن الذين عندهم علم بالكتاب من السابقين على رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،يعرفون الحقائق الواضحة عن رسالته صلى ال عليه وسلم.
وإن الذين يكابرون ويكفرون برسول ال صلى ال عليه وسلم ورسالته إنما يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم.
وقد قال عبد ال بن سلم " :لقد عرفت محمدا حين رأيته كمعرفتي لبني ،ومعرفتي لمحمد أشد ".
إذن :فالحق عندهم واضح مكتوبٌ في التوراة من بشارة به صلى ال عليه وسلم ،وهذا يثبت أنك
يا محمد صادق في دعوتك ،بشهادة هؤلء.
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله تعالى:
{ َلقَدْ جَآ َءكَ ا ْلحَقّ مِن رّ ّبكَ فَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ } [يونس.]94 :
والحق القادم من ال تعالى ثابت ل يتغير؛ لنه واقع ،والواقع ل يتعدد ،بل يأتي على صورة
واحدة.
أما الكذب فيأتي على صور متعددة.
ولذلك فمهمة المحقّق الدقيق أن يقلّب أوجه الشهادات التي تقال أمامه في النيابة أو القضاء؛ حتى
يأتي حكمه مصيبا ل مدخل فيه لتناقض ،ول يعتمد على تخيّل أو أكاذيب.
وقول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َلقَدْ جَآ َءكَ ا ْلحَقّ } [يونس.]94 :
إنما يدل على أن الذين قرأوا الكتاب قد عرفوا أنك رسول ال حقّا ،ومنهم من ترك معسكر
اليهودية ،وجاء إلى معسكر اليمان بك؛ لن الحق الذي جاء ل دخل للبشرية فيه ،بل جاء من
ربك:
{ فَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ } [يونس.]94 :
ومجيْ الخطاب بهذا الشكل ،هو كما قلت موجّه إلى المّة المؤمنة في شخص الرسول صلى ال
عليه وسلم.
والحق سحبانه يقول:
عمَُلكَ }[الزمر.]65 :
{ لَئِنْ أَشْ َر ْكتَ لَيَحْ َبطَنّ َ
هذا القول نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ومن غير المعقول أن يشرك النبي صلى ال
عليه وسلم ،وكل اليات التي تحمل معاني التوجيه في المور المنزّه عنها رسول ال صلى ال
عليه وسلم خاصّة بأمته.
وأيضا يقول الحق سبحانه:
{ َولَ َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَ َتكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[يونس.]95 :
والقول الحكيم ساعة يوجّه إلى الخير قد يأتي بمقابلة من الشر؛ لتتضح الشياء بالمقارنة.
ونحن في حياتنا اليومية نجد الب يقول لبنه :اجتهد في دروسك ،واستمع إلى مدرّسيك جيّدا حتى
تنجح ،فل تكن مثل فلن الذي رسب ،والوالد في هذه الحالة يأتي بالغراء الخيّر ،ويصاحبه
بمقابله ،وهو التحذير من الشر.
ضدّانِ لمّا استجمعا حَسُنَا
سوَ ّد ِ
شعْ ُر مثلُ الليلِ مُ ْ
ج ُه مثلُ الصّبحِ مُبْ َيضّ وال ّ
وقد قال الشاعر:فالوَ ْ
ظهِر حُس َنهُ الضّدّويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :ولَ َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُواْ {
والضّدّ يُ ْ
()1445 /
وَلَا َتكُونَنّ مِنَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِ اللّهِ فَ َتكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ()95
وآيات ال سبحانه كما نعرفها متعددة؛ إما آيات كونية وهي الصل في المعتقد الول بأن خالقها
هو الخالق العلى سبحانه ،وتُ ْلفِت هذه اليات إلى بديع صُنْعه سبحانه ،ودقة تكوين خلقه ،وشمول
قدرتِه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك يُقصد باليات؛ المعجزات المنزلة على الرسل ـ عليهم السلم ـ لتظهر صدق كل رسول
في البلغ عن ال تعالى.
وآيات القرآن الكريم التي تحمل منهج ال.
وهم كانوا يُكذّبون بكل اليات.
والخطاب في هذه الية هو خطاب للنبي صلى ال عليه وسلم ،وجاء معطوفا على ما في الية
السابقة ،حيث يقول الحق سبحانه:
شكّ ّممّآ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ }[يونس.]94 :
{ فَإِن كُنتَ فِي َ
وكل ما يريد من مثل هذا القول ل يصح أن نفهم منه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم من
الممكن أن يشك ،أو من المحتمل أن يكون من الذين كذّبوا بآيات ال ـ سبحانه وتعالى ـ ولكن
إيراد مثل هذا المر ،هو إيراد لدفع خواطر البشرية ،أيًا كانت تلك الخواطر ،فإذا وجدنا الخطاب
المراد به رسول ال صلى ال عليه وسلم في التنزيل ،فغاية المراد اعتدال موازين الفهم في أمّته
تعليما وتوجيها؛ لن المنهج مُنزّل عليه لتبليغه لمته فهو شهيد على المم.
وإذا كانت الية التي سبقت توضح :إن كنت في شك فاسأل ،فهو سبحانه يعطيه السؤال؛ ليستمع
منه إلى الجواب ،وليُسْمعه لكل المة؛ الجواب القائل :أنا ل أشك ول أسأل ،وحسبي ما أنزل ال
سبحانه عليّ.
ألم يَ ِردْ في القرآن الكريم أن الحق سبحانه وتعالى يقول للملئكة يوم القيامة بمحضر من عبدوا
الملئكة ،ويشير إلى هؤلء الذين عبدوا الملئكة ومخاطبا ملئكته.
{ َأهَـاؤُلَءِ إِيّا ُكمْ كَانُواْ َيعْ ُبدُونَ }[سبأ.]40 :
ونحن نعلم أن الملئكة:
{ لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَ ُه ْم وَ َيفْعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم.]6 :
والحق سبحانه يعلم مسبقا جواب الملئكة ،وهم يقولون:
ت وَلِيّنَا مِن دُو ِنهِمْ }[سبأ.]41 :
{ سُبْحَا َنكَ أَن َ
سمِع من في الحشر كلهم جواب الملئكة وهم يستنكرون أن يعبدهم
ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن ُي ْ
أحد من الخَلق ،فهؤلء الخلق إنما عبدوا الجن.
إذن :فالسؤال جاء؛ ليبين الرد عليه ،مثلما يرد عيسى عليه السلم حين يُعبد من بعض قومه،
ويسأله سبحانه عن ذلك:
خذُونِي وَُأ ّميَ ِإلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ }[المائدة.]116 :
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّ ِ
فيأتي الجواب:
حقّ }[المائدة.]116 :
{ سُبْحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَ ْيسَ لِي بِ َ
إذن :فالمراد أن يقول الرسول صلى ال عليه وسلم :أنا ل أشك ول أسأل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والشك ـ كما نعلم ـ معناه :تساوي كفة النفي وكفة الثبات ،فإن رجحت واحدة منهما فهذا ظن،
وتكون المرجوحة وَهْما وافتراء وكذبا.
وكلمة " الشك " مأخوذة من مسألة حسية ،فنحن نرى الصيادين وهم يصعون كل سمكة بعد
اصطيادها في خيط يسمى " المشكاك ".
()1446 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا القول يوضح لنا أن الحق سبحانه وتعالى قد علم عِلْما أزليّا بأنهم لن يُوجّهوا اختيارهم
لليمان.
فحكمه هنا ل ينفي عنهم مسئولية الختيار ،ولكنه علم ال الزلي بما سوف يفعلون ،ثم جاءوا إلى
الختيار فتحقق علم ال سبحانه وتعالى بهم من سلوكهم.
وحُكمْه سبحانه مبنيّ على الختيار ،وهو حكم تقديري.
ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ حين يأتي وزير الزراعة ،ويعلن أننا قدّرنا محصول القطن
هذا العام ،بحساب مساحة الراضي المنزرعة قطنا ،وبالمتوسط المتوقع لكل فدان ،وقد يصيب
الحكم ،وقد يخيب نتيجة العوامل والظروف الخرى المحيطة بزراعة القطن ،فمن المحتمل أن
يُصاب القطن بآفة من الفات ،مثل :دودة اللوزة ،أو دودة الورقة.
إذن :ففي المجال البشري قد يصيب التقدير وقد يخطىء؛ لن النسان يُقدّر بغير علم ُمطْلق ،بل
بعلم نسبي.
أما تقدير الحق سبحانه فهو تقدير أزلي ،وحين يُقدّر الحق سبحانه فل بد من وقوع ما قدّره.
ولذلك يجب أن نفرق بين قضاء حكم لزم قهري ليس للنسان فيه تصرف ،وبين قدر قد ُقدّر من
ال تعالى أن يفعله النسان باختياره ،وهذه هي عظمة علم الغيب.
ومثال ذلك :هو سلوك أبي لهب ،فقد نزل فيه قرآن يُتلَى:
سبَ }[المسد1 :ـ .]2
ب وَ َتبّ * مَآ أَغْنَىا عَ ْنهُ مَالُ ُه َومَا كَ َ
{ تَ ّبتْ َيدَآ أَبِي َل َه ٍ
وقد نزلت السورة وأبو لهب على قيد الحياة؛ لن الحق سبحانه قد علم أزلً أن خواطر أبي لهب
لن تدفعه إلى اليمان ،ولو أن أبا لهب امتلك ذرة من ذكاء لجاء لرسول ال صلى ال عليه وسلم
وقال :أنت قلت عنّي إنني سأصْلَى النار ،لكن ها أنذا أعلن أنني أشهد أل إله إل ال وأشهد أنك
رسول ال.
لكن ذلك الذكاء لم يكن يملكه أبو لهب ،فقد علم ال أزلً أن خواطره لن تدفعه إلى السلم ،مثلما
دفعت حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى ال عليه وسلم وعمر بن الخطاب ،وخالد بن الوليد،
وعمرو بن العاص .وكان إسلم هؤلء رغم وقوفهم ضد النبي صلى ال عليه وسلم أمرا واردا.
وقد يُقدّر البشر التقدير ،لكن هذا التقدير إنما يتم حسب المعلومات المتاحة لهم ،ول يملك إنسان
علما كونيّا أزليّا بتقديراته ،فعلمه محدود ،وقد يأتي المر على غير ما يُقدّر؛ لن النسان ل يملك
ما يقدر.
ول يقولنّ أحدٌ :إن ال يعاقب بعد أن قدّر مسبقا؛ لن تقدير الحق سبحانه نابع من علمه الزلي،
وهم كانوا يتمتعون بحق الختيار .وال سبحانه هو القائل:
{ وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا فََأمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَ ْت ُهمْ إِيمَانا وَهُمْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سهِمْ َومَاتُو ْا وَهُمْ كَافِرُونَ }
يَسْتَبْشِرُونَ * وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَ ْتهُمْ ِرجْسا إِلَىا ِرجْ ِ
[التوبة124 :ـ .]125
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وََلوْ جَآءَ ْتهُمْ ُكلّ آ َيةٍ حَتّىا يَ َروُاْ }
()1447 /
وََلوْ جَاءَ ْتهُمْ ُكلّ آَيَةٍ حَتّى يَ َروُا ا ْل َعذَابَ الْأَلِيمَ ()97
إذن :فمجيء اليات وتكرارها لن يفيدهم في التجاه إلى اليمان؛ لن الحق سبحانه يعلم أنهم
سيتوجهون باختيارهم إلى الكفر؛ فقد قالوا ـ من قبل ـ ما أورده الحق سبحانه في كتابه العزيز:
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِ َنبٍ
{ َوقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
ع ْمتَ عَلَيْنَا ِكسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ وَا ْلمَلئِكَةِ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ ُت ْ
سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا
قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن ُزخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ
ّنقْرَ ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ ِإلّ بَشَرا رّسُولً }[السراء90 :ـ .]93
وكأن الحق سبحانه يأمر رسوله أن يقول موضحا :لستُ أنا الذي يُنزل اليات ،بل اليات من عند
ال تعالى ،ثم يأتي القرآن بالسبب الذي لم تنزل به تلك اليات التي طلبوها ،فيقول سبحانه:
لوّلُونَ }[السراء.]59 :
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن كَ ّذبَ ِبهَا ا َ
{ َومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
إذن :فقد نزلت آيات كثيرة لمن سبق في المعاندة و المعارضة ،ويقابل قضية عرض اليمان عليه
بكفر يمل قلبه.
فإن كان هناك من يبحث عن اليمان فليدخل على بحث اليمان بدون مُعتقد سابق ،ولينظر إلى
المسألة ،وما يسمح به قلبه فليُدخله فيه؛ وبهذا الختيار القلبي غير المشروط بمعتقد سابق هو قمة
القبول.
وقد قال الحق سبحانه في اليات السابقة كلما في الوحدانية ،وكلما في اليات المعجزات،
وكلما في صدق النبوة ،وكلما عن القيامة ،وقصّ لنا سبحانه بعضا من قصص مواكب الرسل،
من نوح عليه السلم ،ثم فصّل قليلً في قصة موسى وهارون عليهما السلم ،ثم سيأتي من بعد
ذلك بقصة يونس عليه السلم.
ونحن نلحظ أن الحق سبحانه جاء بقصة نوح عليه السلم في إطناب ،ثم جاء بخبر عن رسل لم
َيقُلْ لنا عنهم شيئا ،ثم جاء بقصة موسى وهارون عليهما السلم ،ثم سيأتي من بعد ذلك بقصة
يونس عليه السلم ،فالسورة تضم ثلثا من الرسالت :رسالة نوح ،ورسالة موسى وهارون،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمّيت السورة باسمه.
ورسالة يونس :وهو الرسول الذي ُ
ولسائل أن يقول :ولماذا جاء بهؤلء الثلثة في هذه السورة؟
وأقول :لقد تعبنا كثيرا ،ومعنا كثير من المفسرين حتى نتلمّس الحكمة في ذلك ،ولماذا لم تأت في
السورة قصة هود ،وثمود،وشعيب ،وكان ل بد أن تكون هناك حكمة من ذلك.
هذه الحكمة فيما تجلى لنا أن الحق سبحانه وتعالى يعرض موكب الرسالة وموكب المعارضين
لكل رسول ،والنتيجة التي انتهى إليها أمر العداء ،وكذلك النتيجة التي انتهى إليها أمر الرسول
ومَنْ آمن به.
ونجد الذين ذكرهم ال سبحانه هنا قد أهلكوا إهلكا متحدا بنوع واحد في الجميع ،فإهلك قوم نوح
كان بالغرق ،وكذلك الهلك لقوم فرعون كان بالغرق ،وكذلك كانت قصة سيدنا يونس لها علقة
بالبحر ،فقد ابتلعه الحوت وجرى في البحر.
إذن فمَنْ ُذكِر هنا من الرسل كان له علقة بالماء ،أما بقية الموكب الرسالي فلم تكن لهم علقة
بالماء.
ونحن نعرف أن الماء به الحياة ،وبه الهلك؛ لن واهب الحياة يهب الحياة بالشيء ،ويُهلك
بالشيء نفسه .وكأن الحق سبحانه يبيّن لنا الحكمة :أنا أهلكتُ بالغرق هناك ،ونجّ ْيتُ من الغرق
هنا.
إذن :فطلقة القدرة اللهية هي المستولية على هذه السورة ،كما تظهر طلقة القدرة في مجالت
أخرى ،وبألوان أخرى.
وسُميّت هذه السورة باسم يونس؛ لن الحق سبحانه أرسله إلى أكثر من مائة ألف ،وهم المة
الوحيدة في هذا المجال التي استثناها الحق سبحانه من الهلك ،فقد أغرق قوم نوح ،وأغرق قوم
فرعون؛ فكلهما قد كذّب الرسل ،ولكن قوم يونس أول ما رأوا البأس آمنوا فأنجاهم ال سبحانه.
سمّيت السورة باسم من نجا؛ لنه عاد إلى الحق سبحانه قبل أن يعاين العذاب ،ولكنهم رأوا فقط
وُ
بشائر العذاب ،فنجّوا أنفسهم باليمان.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى } :فََل ْولَ كَا َنتْ قَرْ َيةٌ آمَ َنتْ فَ َن َفعَهَآ إِيمَا ُنهَا {
()1448 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا يبيّن لنا الحق سبحانه أن هناك كثيرا من القرى لم تؤمن إل وقت العذاب ،فلم ينفع أيّا منهم
هذا اليمان ،ولكن قوم يونس قبل أن تأتي بشائر العذاب والبأس أعلنوا اليمان َفقَبِل الحق سبحانه
إيمانهم؛ لنه سبحانه ل يظلم عباده.
ف بواكير
فمَنْ وصل إلى العذاب ،وأعلن اليمان من قلب العذاب ل يُقبَلُ منه ،ومن أحس واستش ّ
العذاب وآمن فالحق سبحانه وتعالى يقبله.
وكملة " لول " إذا سمعتها فمثلها مثل " لوما " ،وإذا دخلت " لول " على جملة اسمية فلها حكم
يختلف عن حكمها لو دخلت على جملة فعلية ،فحين تدخل على جملة اسمية مثل " :لول زيد
عندك لتيتك " تفيد أن امتناع المجيء هو بسبب وجود زيد ،لكنها إن دخلت على جملة فعلية
حثّ " مثل قول الحق سبحانه {:فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ
فيقال عنها " :أداة تحضيض و َ
لّيَ َتفَ ّقهُواْ فِي الدّينِ }[التوبة.]122 :
أي :أنه كان يجب أن ينفر من كل طائفة عدد ليتدارسوا أمور الدين.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا:
{ فََل ْولَ كَا َنتْ قَرْ َيةٌ آمَ َنتْ } [يونس.]98 :
أي :أنه لو أن هناك قرية آمنت قبل أن ينزل بها العذاب لنجيناها كما أنجينا قوم يونس ،أو كنا
نحب أن يحدث اليمان من قرية قبل أن يأتيها العذاب.
إذن :فقوم يونس هنا ُمسْتثنون؛ لنهم آمنوا قبل أن يأتيهم العذاب.
وهناك آية أخرى تتعلق بهذه القصة ،يقول فيها الحق سبحانه:
{ فََل ْولَ أَنّهُ كَانَ مِنَ ا ْل ُمسَبّحِينَ * لَلَ ِبثَ فِي َبطْنِهِ إِلَىا َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }[الصافات143 :ـ .]144
أي :أن الذي منع يونس عليه السلم أن يظل في بطن الحوت إلى يوم البعث هو التسبيح.
وهنا يبيّن الحق سبحانه الستثناء الذي حدث لقوم يونس حين يقول:
شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ الخِ ْزيِ فِي
{ فََل ْولَ كَا َنتْ قَرْ َيةٌ آمَ َنتْ فَ َن َفعَهَآ إِيمَا ُنهَا ِإلّ َقوْمَ يُونُسَ َلمّآ آمَنُواْ كَ َ
الْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ ِإلَىا حِينٍ } [يونس.]98 :
أي :أن اليمان نفع قرية قوم يونس قبل أن يقع بهم العذاب.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
شفْنَا عَ ْن ُهمْ عَذَابَ الخِ ْزيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ } [يونس.]98 :
{ َلمّآ آمَنُواْ كَ َ
ونحن نعلم أن كلمة " قرية " تعني :مكانا مُهيّأ ،أهله متوطنون فيه ،فإذا ما مَرّ عليهم زائر في أي
وقت وجد عندهم قرىً أي :وجبة طعام.
ونحن نجد من يقول عن الموطن كثير السكان كلمة " بلد " ،وهؤلء من يملكون طعاما دائما ،أما
من يكونون قلة قليلة في موطن ففي الغالب ليس عندهم من الطعام إل القليل الذي يكفيهم ويكفي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الزائر لمرة واحدة.
وتسمى مكة المكرمة " أم القرى "؛ لن كل القرى تزورها.
وقرية قوم يونس اسمها " نينوى " قد حكى عنها النبي صلى ال عليه وسلم في قصة الذهاب
للطائف ،وهي قرية العبد الصالح يونس بن مَتّى ،وهي في العراق ناحية الموصل ،ويونس هو
من قال عنه ال سبحانه:
{ وَذَا النّونِ إِذ ذّ َهبَ ُمغَاضِبا }[النبياء.]87 :
وكلمة " مغاضب " غير كلمة " غاضب " ،فالغاضب هو الذي يغضب دون أن يُغضبه أحد ،لكن
المغاضب هو من أغضبه غيره.
وكذلك كلمة " هجر " ،ومهاجر ،فالمهاجر هو من أجبره أناس على أن يهاجر ،لكن من هجر هو
من ذهب طواعية بعيدا.
والمغاضبة ـ إذن ـ تكون من جهتين ،وتسمى " مفاعلة ".
والحق سبحانه يقول:
{ وَذَا النّونِ إِذ ذّ َهبَ ُمغَاضِبا َفظَنّ أَن لّن ّنقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىا فِي الظُّلمَاتِ أَن لّ إِلَـاهَ ِإلّ أَنتَ
سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ }[النبياء.]87 :
سمّي سيدنا يونس عليه السلم بذى النون؛ لن اسمه اقترن بالحوت الذي ابتلعه.
وُ
وكلنا نعرف القصة ،حينما دعا قومه إلى اليمان وكفروا به في البداية؛ لن الرسول حين يجيء
إنما يجيء ليقوّم الحياة الفاسدة؛ فيضطهده من يعيشون على الفساد؛ لنهم يريدون الحتفاظ
بالجبروت الذي يسمح لهم بالسرقة والختلس وإرواء أهواء النفس ،فلما فعلوا ذلك مع سيدنا
يونس ـ عليه السلم ـ خرج مغاضبا ،أي :أنهم أغضبوه.
والمغاضبة ـ كما قلنا ـ من المفاعلة وتحتاج إلى عنصرين ،مثلما أوضحنا أن الهجرة أيضا
مفاعلة؛ لن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يهجر مكة ،بل ألجأه قومه إلى أن يهاجر ،فكان لهم
مدخل في الفعل.
وأبو الطيب المتنبي يقول في هذا المعنى:إذَا ترحّلت عن قومٍ وقد قَدروا ألّ تُغادِرهم فَالرّاحِلون
ُهمُأي :إن كنت تعيش مع قوم ،وأردت أن تفارقهم وقد قدروا أن تعيش معهم ،فالذي رحل حقيقة
هم هؤلء القوم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد خروج يونس مغاضبا:
علَيْهِ }[النبياء.]87 :
{ َفظَنّ أَن لّن ّنقْدِرَ َ
أي :أنه رجّح أن الحق سبحانه لن يُضيّق عليه الرض الواسعة ،وسيهيىء له مكانا آخر غير
مكان المائة اللف أو يزيدون الذين بعثه ال تعالى إليهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكان من المفروض أن يتحمل الذى الصادر منهم تجاهه ،لكن هذا الظن ـ والظن ترجيح حكم
حفِظ وتمل القلب باللم والتعب.
ـ يدلنا على أن معارضة دعوته كانت شديدة تُ ْ
وكان عليه أن يُوطّن نفسه على مواجهة مشقات الدعوة.
والقرية التي أرسِل إليها يونس عليه السلم هي قرية " :نينوى " ،وهي التي جاء ذكرها في أثناء
حوار بين النبي صلى ال عليه وسلم والغلم النصراني " عداس " الذي قابله صلى ال عليه وسلم
في طريق عودته من الطائف.
" وكان النبي صلى ال عليه وسلم قد ذهب إلى الطائف ليطلب من أهلها النصرة بعد أن آذاه قومه
في مكة فلم يجد النصير ،وجلس النبي صلى ال عليه وسلم قريبا من حائط بستان.
فلما رآه صاحبا البستان ـ عتبة وشيبة ابنا ربيعة ـ وما لقي من السفهاء؛ تحركت له رحمهما،
فدعوا غلما لهما نصرانيا ،يقال له عَدّاس ،فقال له :خُذْ ِقطْفا من هذا العنب ،فضعه في هذا
عدّاس ،ثم أقبل به حتى وضعه بين
الطبق ،ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ،فقل له يأكل منه ،ففعل َ
يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم ثم قال لهُ :كلْ ،فلما وضع رسول ال صلى ال عليه وسلم
فيه يده ،قال :باسم ال ،ثم أكل ،فنظر عداس في وجهه ،ثم قال :وال إن هذا الكلم ما يقوله أهل
هذه البلد ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ومنْ أهل أيّ البلد أنت يا عدّاس ،وما
دينك؟ " .قال :نصراني ،وأنا رجل من أهل نينوى؛ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من
قرية الرجل الصالح يونس بن مَتّى "؛ فقال له عداس :وما يدريك ما يونس بن متّى؟ فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي " ،فأكبّ عداس على رسول ال صلى ال
عليه وسلم يُقبّل رأسه ويديه وقدميه.
ولما سأل صاحبا البستان عدّاسا عن صنيعه هذا .قال لهما :لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إل نبي ".
ونحن نعلم أن العبد الصالح ـ يونس عليه السلم ـ قد تأثر وحزن وغضب من عدم استجابة
قومه لرسالته اليمانية ،إلى أن رأوا غَيْما يمل السماء وعواصف ،والقى ال تعالى في خواطرهم
أن هذه العواصف هي بداية عذاب ال لهم؛ َفهُرعوا إلى ذوي الرأي فيهم ،فاشاروا عليهم بأن هذه
هي بوادر العذاب ،وقالوا لهم :عليكم بإرضاء يونس؛ لن ال سبحانه وتعالى هو الذي أرسله،
فآمِنوا به ليكشف عنك ال ُغمّة.
وهُرع الناس إلى اليمان بالحي الذي ل يموت ،الحيّ حين ل حيّ ،والقيوم والمُحيي والمميت.
وذهب قوم يونس عليه السلم لسترضائه؛ وحين رضي عنهم بدأوا ينظرون في المظالم التي
ارتكبوها ،حتى إن الرجل منهم كان ينقض ويهدم جدار يته؛ لنه فيه حجرا قد اختلسه من جار
له.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكشف ال سبحانه وتعالى عنهم العذاب ،وهنا يقول سبحانه:
شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ الخِ ْزيِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ { [يونس.]98 :
} كَ َ
ومن لوازم قصة يونس عليه السلم ،ليست المغاضبة فقط ،بل قصته مع الحوت ،فقد كان عليه
السلم بعد مغاضبته لقومه قد ركب سفينة ،فلعبت بها المواج فاضطربت اضطرابا شديدا،
خفّ بهم السفينة؛ فاستمر اضطرابها،
وأشرفت على الغرق بركابها؛ فألقوا المتعة في البحر؛ لت ِ
فاقترعوا على أن يلقوا إلى البحر من تقع عليه القرعة ،فوقعت القرعة على نبي ال يونس عليه
السلم.
مثلما نركب مصعدا ،فنجد الضوء الحمر وقد أضاء إنذارا لنا بأن الحمولة زائدة ،وأن المصعد
لن يعمل فيخرج منه واحد أو أكثر حتى يتبقى العدد المسموح به ،وعادة يكون الخارج من أحسن
الموجودين خُلقا ،لنهم أرادوا تسهيل أعمال الخرين.
كذلك كان المر مع السفينة التي ركبها يونس عليه السلم ،كادت أن تغرق ،فاقترعوا ،وصار
على يونس أن ينزل إلى البحر.
والحق سبحانه يقول:
حضِينَ }[الصافات.]141 :
{ َفسَاهَمَ َفكَانَ مِنَ ا ْل ُمدْ َ
ونزل يونس عليه السلم إلى البحر فالتقمه الحوت وابتلعه.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن وجود سيدنا يونس عليه السلم في بطن الحوت:
{ فََل ْولَ أَنّهُ كَانَ مِنَ ا ْل ُمسَبّحِينَ * لَلَ ِبثَ فِي َبطْنِهِ إِلَىا َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }[الصافات143 :ـ .]144
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
شفْنَا عَ ْنهُمْ عَذَابَ الخِ ْزيِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا { [يونس.]98 :
} كَ َ
وعذاب الخزي في الحياة الدنيا يمكن أن تراه مُجسّدا فيمن افترى وتكبّر على الناس ،ثم يراه
شدّ.
الناس في هوان ومذلة ،هذا هو عذاب الخزي في الدنيا ،ول بد أن عذاب الخرة أخْزَى وأ َ
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
} َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ { [يونس.]98 :
جوْا من الهلك بالعذاب إلى أن انتهت آجالهم بالموت الطبيعي.
أي :أنهم َن َ
ك لمَنَ {
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك } :وََلوْ شَآءَ رَ ّب َ
()1449 /
جمِيعًا َأفَأَ ْنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّى َيكُونُوا ُمؤْمِنِينَ ()99
وََلوْ شَاءَ رَ ّبكَ لََآمَنَ مَنْ فِي الْأَ ْرضِ كُّلهُمْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه وتعالى يبيّن لنا أنه إن قامت معركة بين نبي مرسل ومعه المؤمنون به ،وبين من
كفروا به ،فل بد أن يُنزِل الحق سبحانه العذاب بمن كفروا.
وإياك أن تفهم أن الحق سبحانه إلى يحتاج عبادة الناس؛ لن ال عَزّ وجل قديم أزليّ بكل صفات
الكمال فيه قبل أن يخلق الخلق ،وبكماله خلق الخلق ،وقوته سبحانه وتعالى في ذاته ،وهو خالق
من قبل أن يخلق لخلق ،ورازق قبل أن يخلق الزرق والمرزوق ،والخلق من آثار صفات الكمال
فيه ،وهو الذي أوجد كل شيء من عدم.
ولذلك يُسمّون صفاته سبحانه وتعالى صفات الذات؛ لنها موجودة فيه من قبل أن يوجد متعلقها.
حيٍ " بعد أن وجد مَنْ
حيٍ ،فليس معنى ذلك أن ال تعالى موصوف بـ " مُ ْ
فحين تقول :حيّ ،ومُ ْ
يحييه ،ل ،إنه مُحيٍ ،وبهذه الصفة أحيا.
ول المثل العلى ،وهو سبحانه مُنزّه عن كل تشبيه :قد نرى المصوّر أو الرسام الذي صنع لوحة
جميلة ،هنا نرى أثر موهبة الرسم التي مارسها ،واللوحة ليست إل أثرا لهذه الموهبمة.
الحق سبحانه وتعالى ـ إذن ـ له كل صفات الكمال قبل أن يخلق الخلق ،وبصفات الكمال خَلَق
الخَلْق.
جدّ علىالحق سبحانه ،وهو سبحانه
ج ّد على ال تعالى ،فل شيء ي ِ
فإياك أن تفهم أن هناك أمرا قد َ
ل ينتفع من خلقه بل هو الذي ينفعهم.
ونحن نعلم أن اليمان مطلوب من النسان ،وهو الجنس الظاهر لنا ونحن منه ،ومطلوب من
جنس آخر أخبرنا عنه ال ـ تبارك وتعالى ـ وهو الجن.
وأما بقية الكون فمُسبّح مؤمن بال تعالى ،والكون عوالم ل حصر لها ،ولكلّ نظام ل يحيد عنه.
ولو أراد ال سبحانه وتعالى أن يُدخِل الثقلين ـ النس والجن ـ في نظام التسخير ما عَزّ عليه
ذلك؛ لكن هذا التسخير يثبت له القدرة ول يثبت له المحبوبية.
ولذلك ترك الحق سبحانه النسان مختارا ليؤمن أو ل يؤمن ،وهذا ما يثبت له المحبوبية إن جئته
مؤمنا ،وهذا يختلف عن إيمان القَسْر والقهر ،فاليمان المطلوب من النسان أو الجن هو إيمان
الختيار.
وأما إيمان القسر والقهر ،فكل ما في الكون من عوالم مؤمن بالحق سبحانه ،مُسبّح له.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
حهُمْ }[السراء.]44 :
ح ْم ِد ِه وَلَـاكِن لّ َت ْفقَهُونَ تَسْبِي َ
شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ
{ وَإِن مّن َ
وهذا ليس تسبيح دللة ورمز ،بل هو تسبيح حقيقي ،بدليل قوله سبحانه وتعالى {:وَلَـاكِن لّ
حهُمْ }[السراء.]44 :
َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ
فإن فقّهك ال تعالى في لغاتهم لعلمت تسبيح الكائنات ،بدليل أنه عَلّم سليمان عليه السلم منطق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الطير ،وسمع النملة تقول:
شعُرُونَ }
ن وَجُنُو ُد ُه وَ ُه ْم لَ يَ ْ
طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَا ُ
{ ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُواْ مَسَاكِ َنكُمْ لَ َيحْ ِ
[النمل.]18 :
والهدهد قال لسليمان عليه السلم ما رآه عن بلقيس ملكة سبأ:
عمَاَلهُمْ َفصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ
شمْسِ مِن دُونِ اللّ ِه وَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ
سجُدُونَ لِل ّ
{ وَجَدّتهَا َو َقوْ َمهَا يَ ْ
َفهُ ْم لَ َيهْتَدُونَ }[النمل.]24 :
إذن :فكل ما في الكون مُسبّح ل تعالى ،يسير على منهجه سبحانه ما عدا المختار من الثقلين:
ل منهما فيه عقلٌ ،وله مَيْزة الختيار بين البدائل.
النسان والجان؛ لن ك ً
ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن خلق للنسان الختيار حتى يذهب المؤمن إليه اختيارا ،ولو
شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجبر النسان على اليمان لَفعلَ.
أقول ذلك حتى ل يقولن أحد :ولماذا كل هذه المسائل من خَلْق وإرسال رُسل ،وتكذيب أناس ،ثم
إهلك المكذّبين؟
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى:
جمِيعا َأفَأَنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّىا َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ
ك لمَنَ مَن فِي الَ ْرضِ كُّلهُمْ َ
} وََلوْ شَآءَ رَ ّب َ
{ [يونس.]99 :
إذن :فالحق سبحانه خلق النسان وسخّر له كل الجناس ،ولم يجبره على اليمان ،بل يقول
سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم:
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }[الشعراء.]3 :
{ َلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم مُحبّا مخلصا لقومه وعشيرته ،وذاق حلوة اليمان ،وحزن
لنهم لم يؤمنوا ،فينبهه الحق سبحانه وتعالى أن عليه مهمة البلغ فقط ،فل يكلّف نفسه شَططا.
والحق سبحانه وتعالى شاء أن يجعل للنسان حقّ الختيار وسخّر له الكون ،ومن الناس من
يؤمن ،ومن الناس من يكفر ،بل ومن المؤمنين من يطيع مرة ،ويعصي أخرى ،وهذه هي مشيئة
ن وجد من يعارض فيها فهذا ما شاءه ال سبحانه وتعالى
الحق ليتوازن الكون ،فكل صفة خيّرة إ ْ
للنسان ،فل تحزن يا رسول ال؛ فالحق سبحانه وتعالى شاء ذلك.
وإنْ غضب واحد من أن الخرين لم يعترفوا بصفاته الطيبة نقول له :إن الحق سبحانه هو خالق
الكون وهو الرازق ،قد كفروا به وألحدوا ،وجعلوا له شركاء ،فتَخلّقوا بأخلق ال؟
ولذلك قال الحق سبحانه:
جمِيعا َأفَأَنتَ ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّىا َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ
ك لمَنَ مَن فِي الَ ْرضِ كُّلهُمْ َ
} وََلوْ شَآءَ رَ ّب َ
{ [يونس.]99 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنه سبحانه وتعالى يريد إيمان المحبة وإيمان الختيار.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَن ُت ْؤمِنَ ِإلّ بِإِذْنِ اللّهِ {
()1450 /
هكذا يُبيّن لنا الحق سبحانه أن أحدا ل يؤمن إل بإذن من ال تعالى؛ لن معنى أن تؤمن أن يكون
إيمانك إيمان فطرة نتيجة تفكّر في سماء ذات أبراج ،وأرض ذات فجَاج ،وبحار تَزْخر ،ورياح
َتصْفِر ،كل ذلك يدل على وجود الخالق سبحانه.
لكن أتَ َركَ ال سبحانه وتعالى الناس للفطرة؟
ل ،بل أرسل سبحانه لهم الرسل ليذكّروهم باليات الموجودة في الكون ،ولينتبه الغافل؛ لنه
سبحانه ل يريد أن يأخذ الناس على حين غفلة.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ أَن لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا بِظُ ْل ٍم وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ }[النعام.]131 :
لذلك ينبههم الحق سبحانه بأن هناك أشياء كان يجب أن تُذكر ،وكأن الحق سبحانه يُبيّن لنا :إياكم
أن تفهموا أن أحدا يخرج عن مُلكي إل بإرادتي ،فأنا بخلقي له مختارا سمحت له أن يكفر أو
يؤمن ،وسمحت له أن يطيع أو أن يعصي.
كل ذلك من أجل أن يثبت لي صفة المحبوبية.
لذلك فل أحد يؤمن إل بإذن ال سبحانه وتعالى ،ول أحد يكفر إل بإذنه سبحانه؛ لن مَنْ خلقه
مختارا عَِلمَ برضاء منه بما يكون من المخلوق ،فالكافر لم يكفر قهرا ،والمؤمن لم يؤمن قهرا من
ال سبحانه.
وساعةَ يأتي الرسول ليعرض قضية اليمان ،يتذكر النسان إيمان الفطرة ويقول :لقد جاء هذا
الرسول بهذا المنهج ليعدّل لي حياتي ،فل بد أن أ ْر ِهفَ له السمع.
وساعة ُيقْبِل العبد على ال تعالى ،فسبحانه يأذن له أن يدخل إلى حظيرة اليمانَ.
إن العبد مِنّا إذا ما ذهب للقاء عبد مثله له سيادة وجاه ،ويدرك العبد صاحب السيادة والجاه ـ
بفضل من ال ـ السبب الذي جاء من أجله العبد الخر؛ فيقول صاحب السيادة لمعاونيه :ل
ل ومن حقدٍ
تُ ْدخِلوه .وهو يقول ذلك؛ لن ال سبحانه أطلعه على ما في قلب العبد الخر من غ ّ
ومن نفاق.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما إذا دقّ بابه عبد آخر ،فتجده يأمر معاونيه أنْ يُدخلوه وأن يفسحوا له؛ لنه علم بما في قلبه من
صدْق اللقاء والمودة.
محبة ورغبة في ِ
إذا كان هذا يحدث بين العباد ،وهم كلهم أغيار ،فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى؟
وال سبحانه هو القائل في حديث قدسي " :من ذكرني في نفسه ذكرتُه في مل خير منه ".
ما بالنا بالعبد إذا دخل على اليمان بال غير مشحون بعقيدة عدا ال.
إذن :أقْ ِبلْ على ال سبحانه وعلى ذكر ال ،وأنت إنْ ذكرت ال في نفسك ،فال يذكرك فيه نفسه،
وإن ذكرته في مل ذكرك في مل خير منه ،فالمل الذي ستذكره فيه مل خَطّاءٌ ،وال سبحانه
سيذكرك في مل طاهر.
ويقول الحق سبحانه في ذات الحديث القدسي:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غير صحيح واستدلل خاطىء؛ لن الكراه في الدين إنما يكون ممنوعا في القضية العقدية
الولى.
ولكن مَنْ أعلن أنه مسلم ،وشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ،فهذا إعلن باللتزام بكل
أحكام السلم ،وهو محسوب على السلم ،فإنْ أخلْ بحكمٍ من أحكام السلم فل بد من محاسبته.
ول إكراه في الدين ،فيما يخصّ القضية العقدية الولى ،وأنت حُرّ في أن تدخل إلى السلم أو ل
تدخل ،فإنْ دخلت السلم فأنت ملتزم باحكام السلم؛ لنك آمنت به وصِ ْرتَ محسوبا عليه،
واحفظ حدود السلم ول تكسرها؛ لنك على سبيل المثال ـ ل قدر ال ـ إن سرقت؛ تٌقطع يدك،
وإنْ زنيت تُرجَم أو تُجلد ،وإنْ شربت الخمر تُجلد؛ لنك قبلتَ قواعد السلم وشريعته.
وإنْ رأى واحدٌ مسلما يسرق ،فل يقولن إن السلم يُسرّق،ولكن إن رآه يُعاقَب ،فهو يعرف أن
السلم يعاقب مَنْ يجرم.
إذن :فـ{ لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ }[البقرة.]256 :
تخص المنع عن الكراه على أصل الدين ،ولكن بعد أن تؤمن فأنت ملتزم بفرعيات الدين،
وتعاقب إنْ خرجتَ على الحدود.
والرسول صلى ال عليه وسلم يقول " :مَ َيلُ القائم على حدود ال ،والواقع فيها كمثل قوم استهموا
على سفينة ،فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها ،فكان الذين في أسفلها إذا اسْ َتقَوْا من الماء
ن فوقنا ،فإن يتركوهم وما
ن فوقهم فقالوا :لو أنّا خرقنا في نصيبنا خُرْقا ولم نُؤذِ مَ ْ
مرّوا على مَ ْ
أرادوا هلكوا جميعا ،وأن أخذوا على أيديهم نجوا ،ونجوا جميعا ".
إذن :فاللتزام بفروع الدين أمر واجب ممن دخل الدين دون إكراه ،وإنْ خدش حكما من الحكام
يُعاقب.
وهناك ما هو أشدّ من ذلك ،وهو حكم مَنْ ارتد عن السلم ،وهو القتل.
وقد يقول قائل :إن هذا المر يمثل الوحشية .فنقول له :إن من التزم بالدين ،إنما قد علم بداية أنه
إنْ آمن ثم ارتد ،فسوف يُقتَل؛ ولذلك فليس له أن يدخل إلى السلم إل بيقين اليمان.
وهذا الشرط للدين؛ ل على الدين .فل تدخل على الدين إل وأنت متيقّن أن أوامر الدين فوق
شهواتك ،واعلمْ أنك إنْ دخلتَ على الدين ثم تَخلّ ْيتَ عنه فسوف ُتقْتَل ،وفي هذا تصعيب لمر
دخول الدين ،فل يدخله أحد إل وهو واثق من يقينه اليماني ،وهذا أمر محسوب للدين ل ضد
الدين.
وهنا يقول الحق سبحانه:
ن لَ َي ْعقِلُونَ { [يونس.]100 :
ج َعلُ الرّجْسَ عَلَى الّذِي َ
} وَيَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والرجس :هو العذاب ،وهو الذنب ،ويجعله الحق سبحانه وتعالى على الذين ل يعقلون؛ لن قضية
ت على العقل بدون هَوىً؛ ل بُدّ أن ينتهي العقل إلى اليمان.
ح ْ
الدين إذا طُرِ َ
ولذلك تجد القمم الفكرية حين يدرسون الدين؛ فهم يتجهون إلى السلم؛ لنه هو الدين الذي يشفي
الغُلّة ،أما الذين أخذوا الدين كميراث عن الباء ،فهم يظلون على حالهم.
وبعض القمم الفكرية في العالم التي اتجهت إلى اعتناق السلم ،لم تتجه إليه بسبب رؤيتهم لسلوك
المسلمين؛ لن سلوك المنسوبين للسلم في زماننا قد ابتعد عن الدين.
ولذلك فقد اتجهت تلك القمم الفكرية للسلم إلى دراسة مبادىء السلم ،وفرّقوا بين مبادىء
الدين ،وبين المنتمين للدين ،وهذا إنصاف في البحث العقلي؛ لن الدين حين يُجرّم عملً ،فليس في
ذلك التجريم إذْنٌ من الدين بحدوث مثل هذا الفعل المجرم ،بدليل تقدير العقاب حسب خطورة
الجريمة.
فالحق سبحانه قد قال:
طعُواْ أَيْدِ َي ُهمَا }[المائدة.]38 :
ق وَالسّا ِر َقةُ فَاقْ َ
{ وَالسّا ِر ُ
إنه الذن باحتمال ارتكاب السرقة ،وكذلك المر بالنسبة للزنا ،وغير ذلك من الجرائم التي جعل
لها لحق سبحانه عقوبات تتناسب مع الضرر الواقع على النفس أو المجتمع من وقوعها ،فإذا
رأيت مسلما يسرق ،فتذكّر العقاب الذي أوقعه السلم على السارق ،وإنْ رأيتَ مسلما يزني،
فَتذكّر العقوبة التي حددها الحق سبحانه للزاني.
وهكذا الحال في جميع الجرائم.
وكبار المفكرين العالميين الذين يتجهون إلى السلم إنما يدرسون مبادىء الدين مفصولة عن
سلوك المسلمين المعاصرين ،الذين ابتعدوا عن مبادىء الدين الحنيف.
وها هو ذا " جينو " المفكر الفرنسي يقول " :الحمد ل الذي هداني للسلم قبل أن أعرف
المسلمين ،فلو كنتُ قد عرفتُ المسلمين قبل السلم لكان هناك احتمال لزلزلة في النفس تجعلني
أتردد في الدخول إلى هذا الدين الرفيع المقام ".
إذن :فإعمال العقل الراقي ل بد أن يؤدي إلى السلم لنه فطرة ال ،والسلم يُنمّيها ،ويرتقي
ط التكليف.
بها ،والعقل هو مَنَا ُ
والرجس والذنب والعذاب كله إنما يقع على الذين ل ُي ْعمِلون عقولهم ،وإعمال العقل المتعقل للقيم
ينفي الرجس؛ لنهم سيُقبلون على التدين بإذن ال تعالى لهم أن يدخلوا على اليمان به.
ط التكليف؟
وإذا سألني سائل :ما هو العقل؟ وما هو مَنَا ُ
عقَال البعير ،وهو ما ُيشَدّ على ُركْبته حتى ل ينهض ،ويظل
نجد أن كلمة " عقل " مأخوذة من ِ
ك العقال.
سكانا ،وحين يريد صاحبه أن يُنهضه فهو يف ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأهل الخليج يضعون على رؤوسهم غطاء للرأس (غُتْرة) ويثبتونه بنسيج مغزول على هيئة
حلقتين ،ويسمون هاتين الحلقتين " العقال "؛ لنه يمنع غطاء الرأس من أن يحركه الهواء ،أو
يُطيّره.
إذن :فالعقل أراده ال سبحانه لنا ليحجزنا عن النطلق والفوضى في تحقيق شهوات النفس؛ لنه
سبحانه قد خلق النفس البشرية ،ويعلم أنها تحب الشهوات العاجلة ،فأراد سبحانه للنسان أن يكبح
جماح تلك الشهوات بالعقل.
فحين يفكر النسان في تحقيق الشهوة العاجلة ،يجد عقله وهو يهمس له :إنك ستستمتع بالشهوة
العاجلة دقائق ،وأنت قد تأخذها من غيرك؛ من محارمه أو من ماله ،فهل تسمح لغيرك أن يأخذ
شهوته العاجلة منك؟
إذن :عليك أن تعلم أن العقل إنما أراده ال سبحانه لك ليعقلك عن الحركة التي فيها هَوى ،وتحقق
بها شهوة ليست لك ،ومغبّتها متعبة.
ويخطىء مَنْ يظن أن العقل يفتح الباب أمام النطلق الل مسئول باسم الحرية ،ونقول لمن يظن
مثل هذا الظن :إن العقل هو مَنَاطُ التكليف ،وهو الذي يوضّح لك آفاق المسئولية في كل سلوك.
ومن عدالة الحق سبحانه أنه لم يكلّف المجنون؛ لن حكم المجنون على الشياء والفعال هو حكم
غير طبيعي؛ لنه يفتقد آلة الختيار بين البدائل.
وكذلك لم يكلف ال سبحانه مَنْ لي ينضج بالبلوغ؛ لنه غير مُسْتوفٍ للمَلَكات ،ولم تستوِ لديه
القدرة على إنجاب مثيل له.
طعْمها مقبولً
وقد ضربنا من قبل المثل بالثمرة ،وقلنا :إنه ل يقال إن الثمرة نضجت وصار َ
مستساغا إل إذا أصبحت البذرة التي فيها قادرة على أن تنبت منها شجرة إن زرعناها في
الرض.
وأنت مثلً حين تقطع البطيخة ،وتجد لُبّها أبيض اللون فأنت ل تأكلها ،وتحرص على أن تأكل
البطيخة ذات البذر الذي صار أسود اللون؛ لنه دليل ُنضْج البطيخة ،وأنت حين تأخذ هذا اللبّ
وتزرعه ينتح لك بطيخا.
إذن :فاكتمال النسان بالبلوغ يتيج لعقله أن يَزِنَ السلوك قبل القدام عليه ،والتكليف إنما يكون
للعاقل البالغ غير المكرة بقوةٍ تقهره على أن يفعل ما ل يعقله.
أما قبل البلوغ فالتكليف ليس من ال ،بل من السرة ،لتدربه على الطاعة.
ورسول ال صلى ال عليه وسلم يقول لنا " :مروا أولدكم بالصلة لسبع سنين ،واضربوهم عليها
لعشر سنين ،وفرّقوا بينهم في المضاجع ".
وهنا نجد أن الذي يأمر هو الب وليس ال ،والذي يعاقب هو الب ،وليس ال ،وما إن يصل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
البن إلى مرحلة البلوغ يبدأ تكليفه من ال.
أما إذا جاء مَنْ ُيكْرِهه على أن يرتكب معصية بقوة تفوق قوته كأن يمسك (مسدسا) ويقول له :إن
لم تشرب الخمر أطلقتُ عليك النار ،فهنا يرفع عنه التكليف.
ورسول ال صلى ال عليه وسلم يقول في الحديث الشريف " :إن ال تجاوز عن أمتي :الخطأ،
والنسيان ،وما اسْتُكرِهوا عليه ".
فالعقل ـ إذن ـ هو مناط التكليف ،وعمله أن يختار بين البدائل في كل شيء ،ففي الطعام مثلً
ن يهوى وضع (الشطة) فوق الطعام؛ لنها تفتح شهيته للطعام ،وبعد أن يأكل نجده صارخا
نجد مَ ْ
من الحموضة ،ويطلب المهضّمات ،وقد ل تفلح معه ،بل وقد تُفسد له الغشاء المخاطي الموجود
على جدار المعدة لحمايتها ،فَ ُربّ أكْله منعتْ أكلت؛ ولذلك نجد عقله يقول له :احذر من هذا
اللون من المشهيات؛ لنه ضارّ بك.
وهكذا نجد العقل هو الذي يوضح للنسان نتائج كل فعل ،وهو الذي يدفع إلى التأني والجادة في
ت العقل للنسان ليستمرىء به الخطأ
العمل؛ ليكون ناتج العمل مفيدا لك ولغيرك باستمرار ،ولم يأ ِ
والخطايا.
وهكذا نجد أن العقل يدرك ويختار السلوك الملئم لكل موقف ،بل إن العقل يدعو النسان إلى
اليمان حتى في مرحلة ما قبل التكليف ،فحين يتأمل النسان بعقله هذا الكون ل بُدّ أن يقوده
التأمل إلى العتراف بجميل صنيع الخالق سبحانه وتعالى.
ت وَالَرْضِ {
سمَاوَا ِ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :قلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي ال ّ
()1451 /
وهنا يُحدّثنا الحق سبحانه عن عالم المُلْك الذي تراه ،ول يتكلم عن عالم الملكوت الذي يغيب
عنك ،وكأنك إن اقتنعت بعالم الملك ،وقلت :إن لهذا العالم خالقا إلها قادرا قويا ،وتؤمن به؛ هنا
تهبّ عليك نفحات الغيب؛ لتصل إلى عالم الملكوت؛ لنك اكتشفت في داخلك أمانتك مع نفسك،
وأعلنت إيمانك بالخالق سبحانه ،ورأيت جميل صُنْعه في السماء والكواكب ،وأعجْبتَ بدقة نظام
سَيْر تلك الكواكب.
وترى التوقيت الدقيق لظهور الشمس والقمر ومواعيد الخسوف الكلي أو الجزئي ،وتُبهر بدقة
المنظّم الخالق سبحانه وتعالى ،ولن تجد زحام مرور بين الكواكب يعطل القمر أو يعطل الرض،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولن يتوقف كوكب ما لنفاد وقوده ،بل كما قال ال سبحانه وتعالى:
ك ال َقمَ َر وَلَ الّ ْيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس.]40 :
شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ
{ لَ ال ّ
ونحن في حياتنا حين نرى دقة الصنعة بكثير فيما هو أقل من السماء والشمس والقمر ،فنحن
نكرّم الصانع ،وقد أكرمت البشرية مصمّم التلغراف ،ومصمم جهاز التليفزيون ،فما بالنا بخالق
الكون كله سبحانه.
ويكفي أن نعلم أن الشمس تبعد عنا مسافة ثماني دقائق ضوئية ،والثانية الضوئية تساوي ثلثمائة
ألف كيلوا متر ،وهي شمس واحدة تراها ،غير آلف الشموس الخرى في المجرّات الولى ،وكل
مجرّة فيها مليين من المجموعات الشمسية ،ويكفي أن تعلم أن الحق سبحانه قد أقسم بالشمس،
شعْرى:
وقال عن كوكب ال ّ
شعْرَىا }[النجم.]49 :
{ وَأَنّهُ ُهوَ َربّ ال ّ
لن كوكب الشعرى أكبر من الشمس.
وحين تتأمل السموات والرض تجد في الرض جبالً شامخة ،وتمر عليها ف ُتدْهش من دقة
التكوين ودقة التماسك ،وتجد في داخلها نفائس ومعادن بدرجات متفاوتة ،وقد تجد أسطع الجبال
مُكوّنة من مواد خصبة بشكل هشّ ،فإذا ما نزل عليها المطر ،فهو يصحبها معه إلى الرض؛
لنها تكون مجرد ذرات كذرات برادة الحديد ،وتتخلل الرض التي شقّقتها حرارة الشمس.
والمثل الواضح على ذلك هو ما كان يحمله النيل من غِرْيَن في أثناء الفيضان إلى الدلتا قبل بناء
السد العالي ،وكانت مياه النيل في أيام الفيضان تشبه مادة " الطحينة " من فرط امتزاجها بذرات
خصْب الذي نأخذ منه القوات.
الغِرْين ،وفي مثل هذا الغرين يوجد ال ِ
ولو أن الجبال كلها كانت هشّة التكوين ،لزالها المطر مرة واحدة ،وجعلها مجرد مسافة نصف
متر مضاف لسطح الرض ،ولختفى الخصب من الرض بعد سنوات ،لكن شاء الحق سبحانه
أن يجعل الجبال متماسكة ،وجعل سطحها فقط هو الهش لينزل المطر في كل عام مرة؛ ليحمل
الخصب إلى الرض.
ومَنْ يتأمل هندسة التكوين في القتيات يجد الجبال مخازن للقوت.
فالبشر يحتاجون إلى الحديد ليصنعوا منه ما يفيدهم ،سواء أكان آلت لحرث الرض ،أو أي
آلت أخرى تساعد في تجميل الحياة ،وتجد الحديد مخزونا في الجبال.
وكذلك نجد المواد الخرى مثل الفوسفات أو المنجنيز ،أو الرخام ،أو الفيروز أو الغازات.
إذن :فالمطمور في الجبال إما للقتيات ،أو وسيلة إلى القتيات ،أو وسيلة للتّرف فوق القتيات.
خصْب من الطبقة الهشّة على سطح الجبال وتبقى
وحين ينزل المطر فوق الجبال فهو يأخذ ال ِ
المواد الخرى كثروات للناس ،ففي إفريقيا مثلً توجد مناجم للفحم والماس ،وفي بلد أخرى تجد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عود الطيب ،وهو عبارة عن جذور أشجار.
وأنت لو شققت الرض كقطاع من محيط الرض إلى المركز تجد الرض الخصبة مع
الصحراء ،مع المياه ،مع الجبال ،متساوية في الخير مع القطاع المقابل للقطاع الول.
وقد تختلف نوعيات العطاء من موقع إلى آخر على الرض ،فأنت لو حسبت مثلً ما أعطاه
خصْب الجبال من يوم أن خلق ال ـ عز وجل ـ النيل في أرض وادي النيل في
المطر للنيل من ِ
إفريقيا ،وحسبت ما أعطاه النفط (البترول) ،في صحراء المارات مثلً ،ستجد أن عطاء النيل
يتساوى مع عطاء البترول ،رغم أن اكتشاف البترول قد تَمّ حديثا.
وكل قُوتٍ محسوب من مخازن القوت ،وكل قوت له زمن ،فهناك زمن للفحم ،وزمن للبترول،
كل ذلك بنظام هندسي أنشأه الحكيم العلى سبحانه.
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قالَ } :ي ْعقِلُونَ { في مجال النظر في السموات وفي الرض ،فهذه
دعوة لتأمل عجائب السموات والرض.
ومن تلك العجائب أن الجبال الشاهقة لها قمة ،ولها قاعدة ،مثلها مثل الهرم ،وتجد الوديان على
العكس من الجبال؛ لن الوادي يكون بين جبلين ،وتجد رأس الوادي في أسفله ،ورأس الجبل في
قمته.
وحين ينزل المطر فهو يمرّ برأس الجبل الضيق؛ ليصل إلى أسفل قاع الوادي الضيق ،وكلما نزل
المطر فهو يأخذ من سطح الجبل؛ ليمل مساحة الوادي المتسعة ،وكلما ازداد الخلق ،زاد ال
سبحانه رقعة القتيات.
ومثال ذلك تجده في الغِرْيَن القادم من منابع النيل؛ ليأتي إلى وادي النيل والدلتا ،وكانت هذه الدلتا
من قبل مجرد مستنقعات مالحة ،وشاء الحق سبحانه أن تتحول إلى أرض خصبة.
وحين نتأمل ذلك نرى أن كل شيء في الكون قد أوجده الحق سبحانه بحساب.
والذي يفسد الكون هو أننا ل نقوم بتكثير ما تكاثر ،بل ننتظر إلىأن تزدحم الرض بمن عليها ،ثم
نفكر في استصلح أراضٍ جديدة ،وكان يجب أن نفعل ذلك من قبل.
وكلما نزل المطر على الجبال فهي تتخلخل وتظهر ما فيها من معادن ،يكشفها النسان و ُيعْمِل
عقله في استخدامها.
حكْما تكليفيا مأمورا به ،يجد نور اليمان
والمؤمن حين يرى ذلك يزداد إيمانا ،وكلما طبّق المؤمن ُ
وهو يشرق في قلبه.
وليُجرّب أي مسلم هذه التجربة ،فليجرب أن يعيش أسبوعا في ضوء منهج ال سبحانه وتعالى ،ثم
يَزنْ نفسه ويُقيّمها ليعرف الفارق بين أول السبوع وآخر السبوع ،سيكتشف في هذا السبوع أنه
يصلي في مواقيت الصلة ،وسيجد أنه يعرق في عمله ليكسب حللً ،وسيجد أنه يصرف ماله في
حلل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
زنْ نفسك يقينيا في آخر السبوع ستجد أن نفسك قد شفّت شفافية رائعة؛ لتجد ضوء ونور اليمان
وهو يصنع انسجاما بينك وبين الكون كله في أبسط التفاصيل وأعقدها أيضا.
ومثال ذلك :إنك قد تجد الرجل من هؤلء الذين أسبغ عليهم تطبيقُ منهج ال الشفافيةَ تسأله
زوجته :ماذا نطبخ اليوم؟ فيقول لها :فَلْنقْضِ اليوم بما بقي من طعام أمس ،ثم ُيفَاجأ بقريب له
يزوره من الريف ،وقد جاءه ومعه الخير.
لقد وصل الرجل إلى درجة من الشفافية تجعله منسجما مع الكون كله ،فيصله رزق ال تعالى له
من أيّ مكان.
ل يعقوب عليه السلم:
وتجد الشفافية أيضا في أعقد المور ،ألم َيقُ ْ
سفَ }[يوسف.]94 :
جدُ رِيحَ يُو ُ
{ إِنّي لَ ِ
وكان إخوة يوسف ـ عليه السلم ـ ما زالوا على أبواب مصر خارجين منها للقاء أبيهم ،حاملين
قميصَ يوسف ،الذي أوصاهم يوسف بإلقائه على وجه أبيه ليرتد إليه بصره.
لقد جاءت ريح يوسف عليه السلم لبيه يعقوب؛ لن يعقوب عليه السلم قد عاش في انسجام مع
الكون ،ول توجد مُضارة بينه وبين الكون.
والمثال الحيّ لذلك هو فرح لكون لمجيء رسول ال صلى ال عليه وسلم ،يوم مولده ،لقد فرح
الكون بمقدم الرسول صلى ال عليه وسلم؛ لن الكون عابد مُسبّح ل سبحانه ،فحين يأتي مَنْ يدعو
ص ال تعالى ،فالكون كله يكرهه ويلعنه،
العباد إلى التوحيد ل بُدّ أن يفرح الكون ،أما مَنْ َي ْع ِ
ويتلعن الثنان.
وقد فرح الكون بمجيء الرسول الذي أراد ال سبحانه أن تنزل عليه الرسالة اللهية ليعتدل ميزان
النسان مع الكون.
وهنا يقول الحق سبحانه:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ { [يونس.]101 :
} ُقلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي ال ّ
والكون كله أمامهم ،فلماذا ل ينظرون؟ إنهم يبصُرون ول يستبصرون ،مثل الذي يسمع ول
يسمع؛ ولذلك يقول ال سبحانه وتعالى:
ت وَالنّذُرُ عَن َقوْ ٍم لّ ُي ْؤمِنُونَ { [يونس.]101 :
} َومَا ُتغْنِي اليَا ُ
إذن :فعدم إيمانهم أفقدهم البصيرة والتأمل.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالىَ } :ف َهلْ يَن َتظِرُونَ ِإلّ مِ ْثلَ أَيّامِ {
()1452 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َف َهلْ يَنْ َتظِرُونَ إِلّا مِ ْثلَ أَيّامِ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلهِمْ ُقلْ فَانْتَظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ ()102
وهؤلء الذين ل يؤمنون يظلون في طغيانهم يعمهون ،وكأنهم ينتظرون أن تتكرر معهم أحداث
الذين سبقوا ولم يؤمنوا ،لقد جاءهم الرسول ببيان ككل المكذّبين السابقين.
ونحن نعلم أن اليوم هو وحدة من وحدات الزمن ،وبعده السبوع ،وبعد السبوع نجد الشهر ،ثم
نجد السنة ،وكلما ارتقى النسان قسّم اليوم إلى ساعات ،وقسّم الساعات إلى دقائق ،وقسّم الدقائق
إلى ثوانٍ.
ولكما تقدمت الحداث في الزمن نجد المقاييس تزداد دقة ،واليوم ـ كما قلنا ـ جعله ال سبحانه
وتعالى وحدة من وحدات الزمن ،وهو مُكوّن من ليل ونهار.
ولكن قد يُذكر اليوم ويُراد به ما حدث فيه من أحداث مُ ْلفِتة ،مثلما نقول " :يوم ذى قَرَد " و " يوم
حنين " و " يوم أحُد ".
إذن :فقد يكون المقصود باليوم الحدث البارز الذي حدث فيه ،وحين ننظر في التاريخ ،ونجد كتابا
اسمه " تاريخ أيام العرب " ،فنجد " يوم ُبعَاث " و " يوم أوطاس " وكل يوم يمثل حربا.
إذن :فاليوم ظرف زمني ،ولكن قد يُقصَد به الحدث الذي كان في مثل هذا اليوم.
ومثال ذلك أنك قد تجد من أهل الزمن المعاصر مَنْ عاش في أزمنة سابقة فيتذكر اليام الخوالي
ويقول :كانت السعار قديما منخفضة ،وكان كل شيء مُتوفرا ،فيسمع مَنْ يرد عليه قائلً :لقد
كانت أياما ،أي :أنها أيام حدث الرخاء فيها.
إذن :فقد يُنسَب اليوم إلى الحدث الذي وقع فيه.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ َف َهلْ يَنتَظِرُونَ ِإلّ مِ ْثلَ أَيّامِ الّذِينَ خََلوْاْ } [يونس.]102 :
والذين خلوا منهم قوم نوح عليه السلم وقد أغرقهم ال سبحانه ،وقوم فرعون الذين أغرقهم ال
تعالى أيضا.
وال سبحانه هو القائل:
سفْنَا بِهِ
{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَ ْرسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ الصّيْحَ ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ خَ َ
سهُمْ َيظِْلمُونَ }[العنكبوت.]40 :
الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َم ُه ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
وهذه أيام حدثت فيها أحداث يعلمونها ،فهل هم ينتظرون أياما مثل هذه؟
بالطبع ما كان يصحّ لهم أن يستمرئوا الكفر ،حتى ل تتكرر معهم مآسٍ كالتي حدثت لمن سبقهم
إلى الكفر.
ونحن نجد في العامية المثل الفطري الذي ينطق بإيمان الفطرة ،فتسمع من يقول " :لك يوم يا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظالم " أي :أن اليوم الذي ينتقم فيه ال تعالى من الظالم يصبح يوما مشهورا؛ لن الظالم إنما
يفتري على خلق ال؛ لذلك يأتي له الحق سبحانه بحدث ضخم يصيبه فيه ال تعالى ويذيقه مجموع
ما ظلم الناسَ به.
وقول الحق سبحانه وتعالى:
{ ُقلْ فَانْتَظِرُواْ إِنّي َم َعكُمْ مّنَ ا ْلمُنْ َتظِرِينَ } [يونس.]102 :
وقوله هنا { :فَانْ َتظِرُواْ } فيه تهديد ،وقوله { :إِنّي َم َعكُمْ مّنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ } [يونس ]102 :فيه بشارة؛
لن الرسول صلى ال عليه وسلم سينتظر هذا اليوم ليرى عذابهم ،أما هو صلى ال عليه وسلم
فسوف يتحقق له النصر في هذا اليوم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ { :ثمّ نُ َنجّي ُرسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ }
()1453 /
والحق سبحانه قد أنجْى ـ مِنْ قَبْل ـ رُسله ومَنْ أمنوا بهم ،لتبقى معالم للحق والخير.
ومن ضمن معالم الخير والحق ل بد أن تظل معالم الشر ،لنه لول مجيء الشر بالحداث لتي
ت َعضّ لناس لما استشرف الناس إلى الخير.
ونحن نقول دائما :إن اللم الذي يصيب المريض هو جندي من جنود العافية؛ لنه ينبه النسان
إلى أن هناك خللً يجب أن يبحث له عن تشخيص عند الطبيب ،وأن يجد علجا له.
واللم يوجد في ساعات اليقظة والوعي،ولكنه يختفي في أثناء النوم ،وفي النوع َردْع ذاتيّ لللم.
وقول الحق سبحانه هنا:
حقّا عَلَيْنَا نُنجِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [يونس.]103 :
سلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ َكذَِلكَ َ
{ ُثمّ نُنَجّي رُ ُ
هذا القول يقرر البقاء لعناصر الخير في الدنيا.
وكلما زاد الناس في اللحاد زاد ال تعالى في المدد ،ففي أيّ بلد ُيفْترى فيها على اليمان ويُظلم
المؤمنون ،ويكثر الطغاة؛ تجد فيها بعض الناس منقطعين إلى ال تعالى ،لتفهّم حقيقة القيم ،وحين
تضيق الدنيا بالظلمة والطغاة تجدهم يذهبون إلى هؤلء المنقطعين ل ،ويسألونهم أن يدعوا لهم.
حقّا
وقد ألزم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ هنا نفسه بأن يُنجِي المؤمنين في قوله سبحانه { :كَذَِلكَ َ
عَلَيْنَا نُنجِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [يونس.]103 :
شكّ }
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلكُ { :قلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ إِن كُن ُتمْ فِي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1454 /
شكّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْ ُبدُ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وََلكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ
ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنْ كُنْ ُتمْ فِي َ
الّذِي يَ َت َوفّاكُ ْم وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ()104
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تخصيص ال تعالى وحده بالعبادة.
والفصل واضح بما يُحدّد قطع العلقات بين معسكر اليمان ومعسكر الشرك ،كما أورده الحق
سبحانه في قوله:
{ ُقلْ ياأَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ * لَ أَعْبُدُ مَا َتعْ ُبدُونَ * وَلَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َولَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ *
وَلَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َلكُمْ دِي ُنكُ ْم وَِليَ دِينِ }[الكافرون1 :ـ .]6
والذين يقولون :إن في سورة (الكافرون) تكرارا ل يلتفتون إلى أن هذا المر تأكيد لقطع
العلقات؛ ليستمر هذا القطع في كل الزمن ،فهو ليس قطعا مؤقّتا للعلقات.
وهذا أول قَطْع للعلقات في السلم ،بصورة حاسمة ليست فيها أية فرصة للتفاهم أو للمساومة،
ويظل كل معسكر على حاله.
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة النصر:
حمْدِ رَ ّبكَ
{ ِإذَا جَآءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ * وَرَأَ ْيتَ النّاسَ َيدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجا * فَسَبّحْ ِب َ
وَاسْ َت ْغفِ ْرهُ إِنّهُ كَانَ َتوّابا }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفا {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَأَنْ َأ ِق ْم وَ ْ
()1455 /
وما دام الخطاب مُوجّها لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فهو ككل خطاب مِنَ الحقّ سبحانه
لرسوله صلى ال عليه وسلم ،إنما ينطوي على المر لكل مؤمن.
وإذا ما عبد المؤمن ال سبحانه فهو يستقبل أحكامه؛ ولذلك يأتي المر هنا بأل يلتفت وجه النسان
المؤمن إلى غير ال تعالى،فيقول الحق سبحانه:
ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفا } [يونس.]105 :
{ وَأَنْ َأ ِق ْم وَ ْ
فل يلتفت في العبادة يمينا ول يسارا ،فما دام المؤمن يعبد ال ول يبعد غيره ،فليعلم المؤمن أن
هناك ـ أيضا ـ شِرْكا خفيا ،كأن يعبد النسان مَنْ هم أقوى أو أغنى منه ،وغير ذلك من
الشخاص التي يُفتن بها النسان.
ونحن عرفنا من قبل قول الحق سبحانه:
جهَ ُه ل وَ ُهوَ مُحْسِنٌ واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا }[النساء.]125 :
{ َومَنْ َأحْسَنُ دِينا ِممّنْ أَسْلَمَ وَ ْ
والحنف أصله ميل في الساق ،وتجد البعض من الناس حين يسيرون تظهر سيقانهم متباعدة،
وأقدامهم مُلْتفّة ،هذا اعوجاج في التكوين.
أما المقصود هنا بكلمة (حنيفا) أي :معوج عن الطريق المعوج ،أي :أنه يسير باستقامة.
ولكن :لماذا يأتي مثل هذا التعبير؟
لن الدين ل يجيء برسول جديد ومعجزة جديدة ،إل إذا كان الفساد قد عَمّ؛ فيأتي الدين؛ ليدعو
الناس إلى الميل عن هذا الفساد .وفي هذا اعتدال لسلوك الفراد والمجتمع.
ويحذرنا رسول ال صلى ال عليه وسلم من أن نقع في الشرك الخفي بعد اليمان بال تعالى.
ويأتي الكلم عن هذا الشرك الثاني في قول الحق سبحانه:
{ َولَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [يونس.]105 :
وهذا الشرك الثاني هو أقل مرحلة من شرك العبادة ،ولكن أن تجعل لنسان أو ليّ شيء مع ال
عملً.
فإن رأيت ـ مثلً ـ للطبيب أو للدواء عملًَ ،فقُل لنفسك :إن الطبيب هو مَنْ يصف الدواء
كمعالج ،ولكن ال سبحانه وتعالى هو الذي يشفي ،بدليل أن الطبيب قد يخطىء مرة ،ويأمر بدواء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تحدث منه مضاعفات ضارة للمريض.
وعلى المؤمن أل يُفتنَ في أيّ سبب من السباب.
ونذكر مثالً آخر لذلك ،وهو أن بلدا من البلد ذات الرقعة الزراعية المتسعة أعلنت في أحد
العوام أنها زرعت مساحة كبيرة من الراضي بالقمح بما يكفي كل سكان الكرة الرضية،
ونبتت السنابل وأينعتْ ،ثم جاءتها ريح عاصف أفسدت محصول القمح ،فاضطرت تلك الدولة أن
تستورد قمحها من دول أخرى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :ولَ تَ ْدعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ يَن َفعُكَ }
()1456 /
وَلَا تَ ْدعُ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَ ْن َف ُعكَ وَلَا َيضُ ّركَ فَإِنْ َفعَ ْلتَ فَإِ ّنكَ إِذًا مِنَ الظّاِلمِينَ ()106
والمشرك من هؤلء لحظة أنْ عبدَ الصنم ودعاه من دون ال تعالى ،فهل استجاب له؟ وحين عبده
هل قال الصنم له :افعل كذا ،ول تفعل كذا؟
إن الصنام التي اتخذها المشركون آلهة لم يكُنْ لها منهج ،ول أحد منها ينفع أو يضر ،وحين يجيْ
النفع ل يعرف الصنم كيف بمنعه ،وحين يجيء الضّر ل يقدر الصنم أن يدفعه.
إذن :فمَنْ يدعو من دون ال ـ سبحانه وتعالى ـ هو دعاء لمن ل ينفع ول يضر.
ومَنْ يفعل ذلك يكون من الظالمين؛ لن الظلم هو إعطاء حقّ لغير ذي حق ،سواء أكان في القمة،
أو في غير القمة.
شفَ لَهُ }
سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَ كَا ِ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وَإِن َي ْمسَ ْ
()1457 /
شفَ لَهُ إِلّا ُه َو وَإِنْ يُرِ ْدكَ ِبخَيْرٍ فَلَا رَادّ ِل َفضْلِهِ ُيصِيبُ ِبهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ
سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَا كَا ِ
وَإِنْ َيمْسَ ْ
عِبَا ِد ِه وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ ()107
هذا كلم الربوبية المستغنية عن الخلق ،فال سبحانه وتعالى خلق الناس ،ودعاهم إلى اليمان به،
وأن يحبوه؛ لنه يحبهم ،ويعطيهم ،ول يأخذ منهم؛ لنه في غِنىً عن كل خلقه.
شفَ لَهُ ِإلّ ُهوَ } [يونس:
سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَ كَا ِ
ويأتي الكلم عن الضّر هنا بالمسّ { ،وَإِن َيمْسَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]107
ونحن نعلم أن هناك " مسا " و " لمسا " و " إصابة ".
وقوله سبحانه هنا عن الضر يشير إلى مجرد المسّ ،أي :الضر البسيط ،ول َتقُلْ :إن الضر ما دام
صغيرا فالخلق يقدرون عليه ،فل أحد يقدر على الضر أو النفعَ ،قلّ الضر أم كَبُر ،وكَثُر النفع أو
َقلّ ،إل بإذن من ال تعالى.
والحق سبحانه وتعالى يذكر الضر هنا بالمسّ ،أي :أهو اللتصاقات ،ول يكشفه إل ال سبحانه
وتعالى.
جلّ وعل ـ أنه ذكر مع المس بالضر ،الكشفَ عنه ،وهذه هي الرحمة.
ومن عظمته ـ َ
ثم يأتي سبحانه بالمقابل ،وهو " الخير " ،وحين يتحدث عنه الحق سبحانه ،يؤكد أنه ل يرده.
ونحن نجد كلمة { ُيصَيبُ } في َوصْف مجيْ الخير للنسان ،فالحق سبحانه يصيب به من يشاء
مِنْ عباده.
ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الية بهذه النهاية الجميلة في قوله تعالى:
{ وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } [يونس.]107 :
وهكذا تتضح لنا صورة جلل الخير المتجلي على العباد ،ففي الشر جاء به مسّا ،ويكشفه ،وفي
الخير يصيب به العباد ،ول يمنعه.
وال تعالى هو الغفور الرحيم؛ لنه سبحانه لو عامل الناس ـ حتى المؤمنين منهم ـ بما يفعلون
لعاقبهم ،ولكنه سبحانه غفور ورحيم؛ لن رحمته سبقت غضبه؛ ولذلك نجده سبحانه في آيات
النعمة يقول:
حصُوهَآ }[النحل.]18 :
{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْعمَةَ اللّ ِه لَ ُت ْ
وجاء الحق سبحانه بالشكّ ،فقال { إِن } ولم يقل " :إذا تعدون نعمة ال "؛ لن أمر لن يحدث ،كما
أن القبال على ال َعدّ هو مظنّة أنه يمكن أن يحصي؛ فقد تُعدّ النقود ،وقد يَعدّ الناظر طلب
المدرسة ،لكن أحدا ل يستطيع أن يُعدّ أو يُحصى حبّات الرمال مثلً.
وقال الحق سبحانه وتعالى:
حصُوهَآ }[النحل.]18 :
{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْعمَةَ اللّ ِه لَ ُت ْ
شكّ في أن تعدوا نِعمة ال.
وهذا َ
ومن العجيب أن العدّ يقتضي التجمع ،والجمع لشياء كثيرة ،ولكنه سبحانه جاء هنا بكلمة مفردة
هي { ِن ْعمَةَ } ولم يقلِ " :نعَم " فكأن كل نعمة واحدة مطمور فيها ِن َعمٌ شتّى.
إذن :فلن نستطيع أن نعدّ ال ّنعَم المطمورة في نعمة واحدة.
عدّ النعم في آيتين:
وجاء الحق سبحانه بذكر َ
الية الولى تقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حصُوهَا إِنّ النْسَانَ َلظَلُومٌ َكفّارٌ }[إبراهيم.]34 :
{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ لَ ُت ْ
والية الثانية تقول:
حصُوهَآ إِنّ اللّهَ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }
{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْعمَةَ اللّ ِه لَ ُت ْ
[النحل.]18 :
عجُزَ كل منهما مختلف ،ففي الية الولى {:إِنّ النْسَانَ َلظَلُومٌ َكفّارٌ }
وصَدْر اليتين واحد ،ولكن َ
[إبراهيم.]34 :
وفي الية الثانية {:إِنّ اللّهَ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }[النحل.]18 :
لن النعمة لها مُ ْنعِم؛ ومُ ْنعَم عليه ،والمنعَم عليه ـ بذنوبه ـ ل يستحق النعمة؛ لنه ظلوم وكفار،
ولكن المنعم سبحانه وتعالى غفور ورحيم ،ففي آية جاء مَلْحظ المنعِم ،وفي آية أخرى جاء ملحظ
المنعَم عليه.
ومن ناحية المنعَم عليه نجده ظَلُوما كفّارا؛ لنه يأخذ النعمة ،ول يشكر ال عليها.
طعِم خيرك ،ومنع شكرك.
ألم َت ْقلُ السماء :يارب! ائذن لي أن أسقط كِسَفا على ابن آدم؛ فقد َ
طعِم خيرك ،ومنع شكرك.
وقالت الرض :ائذن لي أن أخسف بابن آدم؛ فقد َ
وقالت الجبال :ائذن لي أن أسقط على ابن آدم.
شكْرك.
طعِم خيرك ،ومنع ُ
وقال البحر :ائذن لي أن أغرق ابن آدم الذي َ
هذا هو الكون الغيور على ال تعالى يريد أن يعاقب النسان ،لكن ال سبحانه رب الجميع يقول" :
دعوني وعبادي ،لو خلقتموهم لرحمتموهم ،إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم ،وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم "
حقّ {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :قلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآ َءكُمُ الْ َ
()1458 /
ضلّ
ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ
ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ َقدْ جَا َءكُمُ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ُكمْ َفمَنِ اهْتَدَى فَإِ ّنمَا َيهْ َتدِي لِ َنفْسِ ِه َومَنْ َ
عَلَ ْيهَا َومَا أَنَا عَلَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ ()108
إذن :فالحق سبحانه لم يُقصّر مع الخلق ،فقد خلق لكم العقول ،وكان يكفي أن تفكّروا بها لتؤمنوا
من غير مجيء رسول ،وكان على هذه العقول أن تفكر في القويّ الذي خلق الكون كله ،بل هي
التي تسعى لتطلب أن يرسل لها القويّ رسولً بما يطلبه سبحانه من عباده ،فإذا ما جاء رسول
ليخبرهم أنه رسول من ال ويحمل البلغ منه ،كان يجب أن تستشرف آذانهم لما يقول.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :كان على العباد أن يهتدوا بعقولهم؛ ولذلك نجد أن الفلسفة حين بحثوا عن المعرفة ،قالوا:
إن هناك " فلسفة مادية " تحاول أن تتعرف على مادية الكون ،وهناك " فلسفة ميتافيزيقية " تبحث
عما وراء المادة.
َفمَنْ أعلمَ الفلسفة ـ إذن ـ أن هناك شيئا وراء المادة.
وكأن العقل مجرد ساعةً يرى ُنظُم الكون الدقيقة كان يجب أن يقول :إن وراء الكون الواضح
المُحَسّ قوة خفية.
ولم يذهب الفلسفة إلى البحث فيما وراء المادة ،إل لنهم أخذوا من المادة أن وراءها شيئا
مستورا.
والمستور الذي وراء المادة هو الذي يعلن عن نفسه ،فهو أمر ل نعرفه بالعقل.
وقديما ضربنا مثلً في ذلك ،وقلناَ :هبْ أننا جالسون في حجرة ،ودقّ جرس الباب ،فعلم كل مَنْ
في الحجرة أن طارقا بالباب ،ولم يختلف أحد منهم على تلك الحقيقة.
وهذا ما قاله الفلسفة حين أقرّوا بوجود قوة وراء المادة ،ولكنهم تجاوزوا مهمتهم ،وأرادوا أن
يُعرّفونا ماهية أو حقيقة هذه القوة ،ولم يلتفتوا إلى الحقيقة البديهية التي تؤكد أن هذه القوة ل يمكن
أن ُتعْرَف بالعقل؛ لننا ما ُدمْنا قد عرفنا أن بالباب طارقا يدق؛ فنحن ل نقول من هو ،ول نترك
المسألة للظن ،بل نتركه هو الذي يحدد لنا مَنْ هو ،وماذا يطلب؟ لن عليه هو أن يخبر عن نفسه.
اطلبوا منه أن يعلن عن اسمه وصفاته ،وهذه المسائل ل يمكن أن نعرفها بالعقل.
إذن :فخطأ الفلسفة أنهم لم يقفوا عند تعقّل أن هناك قوة من وراء المادة ،وأرادوا أن ينتقلوا من
التعقّل إلى التصور ،والتصورات ،ل تأتي بالعقل ،بل بالخبار.
وهنا يقول الحق سبحانه:
حقّ مِن رّ ّبكُمْ } [يونس.]108 :
{ ُقلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ قَدْ جَآ َءكُمُ الْ َ
والحق ـ كما نعلم ـ هو الشيء الثابت الذي ل يتغير أبدا ،وأن يأتي الحق من الرب الذي يتولى
عدْم ،ول يكلفنا بتكاليف اليمان إل بعد البلوغ ،وخلق
التربية بعد أن خلق من عدم وأمدّ من ُ
الكون كله ،وجعلنا خلفاء فيه.
وهو ـ إذن ـ مأمون علينا ،فإذا جاء الحق منه سبحانه وتعالى ،فلماذا ل نجعل المنهج من ضمن
التربية؟
لماذا أخذنا تربية المأكل والملبس وسيادة الجناس؟
كان يجب ـ إذن ـ أن نأخذ من المربّي ـ سبحانه وتعالى ـ المنهج الذي ندير به حركة الحياة؛
فل نفسدها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّ مِن رّ ّبكُمْ { [يونس.]108 :
} جَآ َءكُمُ الْ َ
فمعنى ذلك أنه ل عُذْر لحد أن يقول " :لم يُبلغْني أحدٌ بمراد ال " ،فقد ترك الحق سبحانه العقول
لتتعقل ،ل أن تتصور.
ل يقول :أنا رسول من ال،
وجاء التصوّر للبلغ عن ال تعالى ،حين أرسل الحق سبحانه رسو ً
وهو القوة التي خلقت الكون ،وكان علينا أن نقول للرسول بعد أن َتصْدُق معجزته :أهلً ،فأنت
مَنْ كنا نبحث عنهَ ،فقُل لنا :ماذا تريد القوة العليا أن تبلغنا به؟
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الية:
} َفمَنِ اهْتَدَىا فَإِ ّنمَا َيهْتَدِي لِ َنفْسِهِ { [يونس.]108 :
لن حصيلة هدايته ل تعود على مَنْ خلقه وهداه ،بل تعود عليه هو نفسه انسجاما مع الكون،
وإصلحا لذات النفس ،وراحة بال ،واطمئنانا ،وانتباها لتعمير الكون بما ل يفسد فيه ،وهذا الحال
عكس ما يعيشه مَنْ ضل عن الهداية.
ويقول الحق سبحانه عن هذا الصنف من الناس:
ضلّ عَلَ ْيهَا { [يونس.]108 :
ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ
} َومَن َ
ضلّ عنها.
ضلّ { تدل على أن النسان الذي يضل كانت به بداية هداية ،لكنه َ
وكلمة } َ
ويُنهي الحق سبحانه الية بقولهَ } :ومَآ أَنَاْ عَلَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ { [يونس.]108 :
وأنت ل توكّل إنسانا إل لن وقتك ل يسع ،وكذلك قدرتك وعلمك وحركتك ،وهنا يُبلغ الرسول
القوم :أنا ل أقدر أن أدفع عنكم الضلل ،أو أجبركم على الهداية؛ لني لست وكيلً عليكم ،بل
عليّ فقط مهمة البلغ عن ال سبحانه وتعالى ،وهذا البلغ إن استمعتم إليه بخلء القلب من
غيره ،تهتدوا.
وإذا اهتديتم؛ فالخير لكم؛ لن الجزاء سيكون خلودا في نعيم تأخذونه مقابل تطبيق المنهج الذي
ضيّق على شهوات النفس ،ولكنه يهدي حياة نعيم ل يفوته النسان ،ول تفوت النعم فيه النسان.
وإذا كان النسان مِنّا يقبل أن يتعب؛ ليتعلّم حرفة أو عملً أو صنعة أو مهنة؛ ليسكب النسان من
إتقان هذا العمل بقية عمره.
أليس على هذا النسان أن يُقبِل على العبادة التي تصلح باله ،وتسرع به إلى الغاية انسجاما مع
النفس ،ومع المجتمع ،وتقويما وتهذيبا لشهوات النفس ،وينال من بعد ذلك خلود النعيم في الخرة.
أما من يستكثر على نفسه الجدّ والجتهاد في تحصيل العلم ،أو تعلّم مهنة أو حرفة ،فهو يحيا في
ضيق وعدم ارتقاء ،فهو ل يبذل جهدا في التعلّم.
ونرى مَنْ يتعلم ويبذل الجهد ،وهو يرتقي في المستوى الجتماعي والقتصادي؛ ليصل إلى درجة
الدكتوراة ـ مثلً ـ أو التخصص الدقيق الذي يأتي له بِسعَة الرزق.
وكلما كانت الثمرة التي يريدها النسان أينع وأطول عمرا كانت الخدمة من أجلها أطول.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقارن بين خدمتك لدينك في الدنيا بما ينتظرك من نعيم الخرة؛ وسوف تجد المسافة بين عطاء
الدنيا وعطاء الخرة شاسعا ،ول مقارنة.
وقول الحق سبحانه:
ضلّ عَلَ ْيهَا { [يونس.]108 :
ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ
} َومَن َ
نجد فيه كلمة } عَلَ ْيهَا { وهي تفيد الستعلء على النفس ،أي :أنك بالضلل ـ والعياذ بال ـ
تستعلي على نفسك ،وتركب رأسك إلى الهاوية.
وفي المقابل تجد قول الحق سبحانه:
} َفمَنِ اهْتَدَىا فَإِ ّنمَا َيهْتَدِي لِ َنفْسِهِ { [يونس.]108 :
وتجد " اللم " هنا تفيد المِلْك؛ لذلك يقال " :فلن له " و " فلن عليه ".
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه في ختام سورة يونس } :وَاتّبِعْ مَا يُوحَىا إِلَ ْيكَ {
()1459 /
وإذا كان الحق سبحانه قد أورد على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم {:ياأَ ّيهَا النّاسُ َقدْ جَآ َءكُمُ
حقّ مِن رّ ّبكُمْ }[يونس.]108 :
الْ َ
فهذا يعني البلغ بمنهج ال ـ تعالى ـ النظري ،ول ُبدّ أن يثق الناس في المنهج ،بأن يكون
الرسول هو أول المنفذين للمنهج ،لنه ـ معاذ ال ـ لو غشّ الناس جميعا لما غشّ نفسه.
إذن :فبعد البلغ عن الحق سبحانه ،وتعريف الناس بأن الهداية ل يعود نفعها على الحق ،بل هي
للنسان ،فيملك نفسه؛ ويملك زمام حياته ،فيسير براحة البال في الدنيا إلى نعيم الخرة ،وأن
الضلل ل يعود إل باستعلء النسان على نفسه؛ ليركبها إلى موارد التهلكة.
والرسول صلى ال عليه وسلم ليس وكيلً عنكم ،يأتي لكم بالخير حين ل تعملون خيرا ،ول
يصرف عنكم الشر وأنتم تعملون ما يستوجب الشر.
ولذلك كان على رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يكون هو النموذج والسوة.
س َوةٌ حَسَ َنةٌ ّلمَن كَانَ يَرْجُواْ اللّ َه وَالْ َيوْمَ الخِ َر وَ َذكَرَ اللّهَ كَثِيرا }
{ ّلقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ
[الحزاب.]21 :
وهنا يقول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ وَاتّبِعْ مَا يُوحَىا إِلَ ْيكَ } [يونس.]109 :
أي :عليك أن تكون السوة ،وحين تتّبع ما يوُحَى إليك؛ ستجد عقبات ممن يعيشون على الفساد،
ول يرضيهم أن يوجد الصلح ،فَوطّن العزم على أن تتبع ما يوحى إليك ،وأن تصبر.
ومجيء المر بالصبر دليل على أن هناك عقبات كثيرة ،وعليك أن تصبر وتعطي النموذج
لغيرك ،والثقة في أنه لو لم يكن هناك خير في اتباع المنهج لما صبرت عليه؛ حتى يأتي حكم ال
حكُمَ اللّ ُه وَ ُهوَ خَيْرُ الْحَا ِكمِينَ } [يونس.]109 :
{ وَاصْبِرْ حَتّىا َي ْ
وليس هناك أعدل ول أحكم من ال سبحانه وتعالى.
وهذه السورة التي ُتخْتَم بهذه الية الكريمة ،تعرضت لقضية اليمان بال،ـ قمة في عقيدة لله
واحد يجب أن نأخذ البلغ منه سبحانه؛ لنه الرب الذي خلق من عَدَم ،وأمدّ من عُدْم ،ولم يكلّفنا
إل بعد مرور سنوات الطفولة وإلى البلوغ؛ حتى يتأكد أن المكلّف يستحق أن يُكلّف بعد أن انتفع
بخيرات الوجود كله ،وتثبّت من صدق الربوبية.
ومعنى الربوبية هو التربية ،وأن يتولى المربّي المربّى إلى أن يبلغ حَدّ الكمال المرجوّ منه.
وقد صدقتْ هذه القضية في الكون.
إذن :نستمع إلى الرب ـ سبحانه وتعالى ـ الذي خلق ،حين يُبّين لنا مهمتنا في الحياة بمنهج
تستقيم به حركة الحياة ،ويستقيم أمر النسان مع الغاية التي يعرفها قبل أن يخطو أي خطوة.
ومن المحال أن يخلق ال ـ سبحانه وتعالى ـ المخلوق ثم يُضيّعه ،بل ل بد أن يضع له قانون
صيانة نفسه؛ لن كل صنعة إنما يضع قانونها ويحدد الغاية لها مَنْ صنعها ،فإذا ما خالفنا ذلك
حلْنا وغيّرنا المور ،وأدخلنا العالم في متاهات ،وصار لكل امرىء غاية ،ولكل امرىء
نكون قد أ َ
منهج ،ولكل عقل فكر ،ولَصار الكون متضاربا؛ لن الهواء ستتضارب ،فتضعف قوة الفراد؛
لن الصراع بين النداد يُضعِف قوة الفرد عن معالجة المر الذي يجب أن يعالجه.
()1460 /
وتبدأ الية بحروف توقيفية مقطعة من الحروف التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم ،اي :أن
كل حرف من تلك الحروف يُنطَق بمفرده ،والحرف ـ كما نعلم ـ له اسم ،وله مسمى ،ونحن
حين نكتب أو نتكلم نكتب أو ننطق بمسمى الحرف ل باسمه ولكن بعض سور القرآن الكريم تبدأ
بحروف نقرأها باسم الحرف ،وما عداها يُنطق فيها بمسميات الحرف.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإن أردنا معرفة الفارق بينهما ،فنحن نقرأ في أول سورة البقرة ونقول " :ألف .لم .ميم " رغم
أنها مكتوبة {:الم }[البقرة.]1:
إذن :فنحن ننطقها بمسميات الحروف عكس قراءتنا لقول الحق سبحانه:
{ أََلمْ نَشْرَحْ َلكَ صَدْ َركَ }[الشرح.]1 :
ونحن ننطقها بأسماء الحروف ..لماذا؟
لن الرسول صلى ال عليه وسلم سمعها هكذا من جبريل عليه السلم ،والقرآن أصله سماع،
وأنت ل تقرأ قرآنا إل إذا سمعت قرآنا؛ لتعرف كيف تقرأ الحروف المقطعة بأسماء الحروف،
وتقرأ بقية اليات بمسميات الحروف.
وكنا قديما قبل أن نحفظ القرآن " نصحح " اللوح ،أي :أن يقرأ الفقيه أولً ليُعلمنا كيف نقرأ قبل
أن نحفظ.
والذي يُتعب الناس أنهم يريدون أن يقرأوا القرآن الكريم دون أن يجلسوا إلى فقيه أو دون أن
يستمعوا إلى قارىء للقرآن.
ونقول لهم :إن القرآن ليس كتابا عاديا نقرأه ،إن القرآن كتاب له خاصية مميزةَ ،فصُور الحروف
تختلف ،فمرة ننطق اسم الحرف ،ومرة نقرأ مسمى الحروف.
وقول الحق سبحانه { :الر } في أول سورة هود؛ يجعلنا نلحظ أنه من العجيب في فواتح السور ـ
التي بدأت بهذه الحروف ـ أن القرآن مبنيّ على الوصل دائما ،فأنت ل تأتي إلى آخر الية
وتقف ،ل ،بل كل القرآن َوصْل ،مثلما نقرأ قول ال سبحانه:
{ ُمدْهَآمّتَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * فِي ِهمَا عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ }[الرحمن64 :ـ .]66
وإن كان هناك فاصل بين كل آية وغيرها ،إل أن اليات كلها مبنية على الوصل.
وفي آخر سورة يونس يقول الحق سبحانه:
{ وَ ُهوَ خَيْرُ الْحَا ِكمِينَ }[يونس.]109 :
فلو لم تكن موصولة لنطقت الحرف الخير مبنيا على السكون ،ولكنك تقرأه منصوبا بالفتحة.
وهي موصولة بما بعدها (بسم ال الرحمن الرحيم).
ومن العجيب أن فواتح السور مع أنها مكونة من حروف مبنية على الوصل إل أننا نقرأ كل
حرف موقوفا ،فل نقول " :ألفٌ لمٌ مي ٌم " بل نقول " :ألفْ لمْ ميمْ ".
وكذلك نقرأ في أول سورة مريم " كافْ هاءْ ياءْ عينْ صادْ " ،ول نقرأ الحروف بتشكيلها
العرابي ،وهذا يدل على أن لها حكمة ل نعرفها.
وفي القرآن الكريم آيات بُدئت بحرف واحد مثل قول الحق سبحانه:
{ ص وَا ْلقُرْآنِ ذِي ال ّذكْرِ }[ص.]1 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقول الحق سبحانه:
{ ق وَا ْلقُرْآنِ ا ْلمَجِيدِ }[ق.]1 :
وقول الحق سبحانه:
سطُرُونَ }[القلم.]1 :
{ ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَ ْ
ونلحظ أن الحرف في هذه السور ليس آية ،ولكنك تقرأ قول الحق سبحانه {:حـم }[الشورى.]1 :
وهي آية ،وكذلك تقرأ قول الحق سبحانه:
{ عسق }[الشوى ]2 :كآية مع أنها حروف مقطعة ،وتقرأ قول الحق سبحانه:
{ كهيعص }[مريم ]1:كآية بمفردها.
وتقرأ قول الحق سبحانه {:طه }[طه ]1 :كآية بمفردها.
وكذلك تقرأ قول الحق {:يس }[يس ]1 :كآية بأكملها.
وتجد أيضا {:المص }[العراف ]1 :كآية.
و{ طسم }[ " الشعراء :والقصص " ]1 :كآية.
وتجد أيضا{ المر }[الرعد ]1 :ملتحمة بما بعدها في آية واحدة.
وتقرأ في أول سورة النمل {:طس }[النمل ]1 :ملتحمة بما بعدها في آية واحدة.
إذن :فالمسألة ل نسق لها ،ومعنى ذلك أن لكل موقف وكل حرف حِكمة ،والحكمة نجدها حين
نتأمل العالم المادي في الحياة ،فنفطن إلى عبر ال سبحانه وتعالى في آيات الكون المحسّة ،ويجد
الدليل على صدق ال تعلى فيما لم نعلم.
ومثال ذلك :حين ينزل النسان في فندق راق فهو يجد لكل غرفة مفتاحا ،وهذا المفتاح ل يفتح إل
باب غرفة واحدة ،ولكن في كل طابق من طوابق الفندق هناك مفتاح مع المسئول عن الطابق
يسمى " سيد المفاتيح " وهو يفتح كل غرف الطابق ،وقد صنعوا ذلك؛ حتى ل يفتح كل نزيل
غرفة الخر.
ومع التقدم العلمي جعلوا الن لكل غرة بطاقة الكترونية ،ما إن يُدخلها النسان من فتحة معينة من
باب الغرفة حتى ينفتح الباب ،وكل غرفة لها بطاقة معينة ،وأيضا يوجد مع مسئول الطابق في
الفندق بطاقة واحدة ،تفتح كل غرف الطابق.
وأنت حين تقرأ فواتح السور فافهم أن كل آية لها مفتاح ،وكل حرف في هذه الفواتح قد يشبه
المفتاح ،وإن لم يكن معك المفتاح ذو السنان التي تفتح باب الغرفة؛ فلن تنفتح لك السورة.
إذن :فكتاب ال له مفاتيح ،ونحن نقرأ حروفا مُقطّعة على أنها آية ،أو نقرأها كجزء من آية.
وتقول من قبل القراءة " :أعوذ بال من الشيطان الرجيم " لتخلص نفسك من الغيار المناقضة
لمنهج قائل القرآن ،ثم تضع البطاقة الخاصة مثل قول الحق سبحانه وتعالى {:الم }[البقرة.]1 :
فينفتح لك باب البقرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا نعرف أن هناك مفتاحا ،وأن هناك فاتحا وخذ فواتح السور على أنها مفاتيح ،وكل مفتاح له
شكل ونحت معين ،إن نقلته لسورة أخرى فهو ل يفتحها.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى } :الر { وهي مكونة من ثلثة حروف ،مثل } الم { ،وقد وردت
في خمس سور من القرآن الكريم هي :يونس ،وهود ،ويوسف ،وإبراهيم ،والحجر.
ولكن } الم { تقرأ كآية ،ولكنها هنا من مقدمة سورة " هود " جزء من آية رغم أنك تقرأها مثلها
مثل سورة يونس ،وسورة هود ،وسورة يوسف وسورة إبراهيم ،وتقرأها كآية.
وايضا } المص { هي أربعة حروف تقرأها آية في سورة العراف ،وهناك أربعة حروف في
أول سورة الرعد ،وتقرأها كجزء من آية في سورة العراف.
إذن :فليس هناك قانون لهذه الحروف التي في أوائل السور ،بل كل حرف له خصوصية لم
تتكشف كل أسرارها بعد ،لهذا ذهب بعض المفسرين إلى قولهم " ال أعلم بمراده ".
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
ح ِك َمتْ آيَاتُهُ { [هود.]1 :
} الر كِتَابٌ ُأ ْ
وال سبحانه يقول مرة عن القرآن أنه } :كِتَابٌ { ومرة يقول:
{ قُرْآنٍ }[يونس.]61 :
والقرآن يُقرأ ،والكتاب يُكتب ،وشاء الحق سبحانه ذلك؛ لي ُدلّك على أن الحافظ للقرآن مكانان:
ضلّ الصدر ،تذكر السطر.
صدور ،وسطور .فإن َ
ولذلك " حين أراد المسلمون الوائل جمع القرآن ،ومطابقة ما في الصدور على ما في السطور،
وضعوا أسسا لتلك العملية الدقيقة ،من أهمها ضرورة وجود شاهدين على كل آية ،ووقفوا عند
آخر آيتين في سورة التوبة ،ولم يجدوا إل شاهدا واحدا هو " خزيمة " ،وصدّقوا " خزيمة "
وكتبوا اليتين عنه؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان قد منحه وساما ،حين قال عنه " :من
شهد له خزيمة فهو حسبه ".
إذن :فإطلق صفة الكتاب على القرآن ،سببها أنه مكتوب ،وهو قرآن؛ لنه مقروء.
ولم تكن الكتابة في الزمنة القديمة مسألة سهلة ،فلم يكن يُكتب إل النفيس من العمال ،أو لن
القرآن كتاب؛ لنه في الصل مكتوب في اللوح المحفوظ.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى واصفا القرآن:
ح ِكمَتْ آيَاُتهُ { [هود.]1 :
} كِتَابٌ ُأ ْ
ومادة الحاء والكاف والميم تدل على أمر مُحسّ وهو إتقان البناء ،بحيث يمنع عنه الفساد؛ فل خلل
فيه ،ول تناقض ،ول تعراض ول انهيار.
ول بد من توازن هندسي لكل فتحة في البناء؛ حتى ل تكون الفتحات التي في البناء متوازية على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خط واحد ،فتحدث شروخ في الجدران أو انهيار البناء كله .هذا هو إحكام البناء في عالم
المحسّات.
وشاء الحق سبحانه أن يصف القرآن ،وهو الجامع لكل المنهج بأنه:
ح ِكمَتْ آيَاُتهُ { [هود.]1 :
} كِتَابٌ ُأ ْ
فخذوا من هذا الحكام ما يمنع فسادكم؛ لن القرآن جاء على هيئة تمنع الفساد فيه ،وعقد منع
الفساد يكون الصلح والصلح.
ولو نظرتَ إلى أن القرآن الكريم في اللوح المحفوظ ستجده قد نزل جملة واحدة ،من اللوح
المحفوظ إلى السماء الدنيا ،وجاء الوحي بعد ذلك حسب الحداث التي تتطلب الحكام ،وقد نثر
الحق سبحانه في القرآن أحكاما وفصولً ونجوما.
إذن :فالقرآن قد أحكِم أولً ،ثم ُفصّل.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
ح ِكمَتْ آيَاُتهُ ثُمّ ُفصّلَتْ { [هود.]1 :
} كِتَابٌ ُأ ْ
والفواصل الكبيرة في القرآن هي السور ،والفواصل الصغيرة هي اليات ،وأراد المسلمون أن
يشجعوا حفظ القرآن ،فقسموه إلى ثلثن جزءا ،وكل جزء قسموه إلى حزبين ،وكل حزب قسموه
إلى أربعة أرباع ،لكن التفصيل الذي جاء لنا من القرآن أنه سور ،وكل سورة هي مجموعة من
اليات.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فنزول القرآن منجمعا شاءه الحق ـ سبحانه ـ لتنتعش النفس النسانية وهي تعشق استقبال
القرآن.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
ث وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلً }[السراء.]106 :
علَىا ُمكْ ٍ
{ َوقُرْآنا فَ َرقْنَاهُ لِ َتقْرََأهُ عَلَى النّاسِ َ
وقد جاء في القرآن على لسان الكافرين:
جمْلَ ًة وَاحِ َدةً }[الفرقان.]32 :
{ َل ْولَ نُ ّزلَ عَلَيْهِ ا ْلقُرْآنُ ُ
فيكون الرد من الحق سبحانه:
ك وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلً }[الفرقان.]32 :
{ َكذَِلكَ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َد َ
ولو كان القرآن قد نزل مرة واحدة على رسول ال صلى ال عليه وسلم لما التفت الناس إلى كل
ما جاء فيه،ولكن شاء الحق سبحانه وتعالى أن ينزل القرآن مُنجّما على الرسول صلى ال عليه
وسلم ،ليكون في كل نجم تثبيت لرسول ال صلى ال عليه وسلم في المواقف المختلفة ،والرسول
صلى ال عليه وسلم وكذلك أمته من بعده في حاجة إلى تثبيتات متعددة حسب الحداث التي
تعترضهم ،ولذلك قال الحق سبحانه:
ك وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلً }[الفرقان.]32 :
{ َكذَِلكَ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َد َ
فساعة أن يسمع المؤمنون نجما من نجوم القرآن ،يكونون أقدر على استيعابه وحفظه وتطبيق
الحكام التي جاءت فيه.
ولم يُنزل الحق سبحانه آية واحدة ،بل أنزل آياتٍ ،بدليل أنهم إن جاءوا بحكم ما ،فهو سبحانه
وتعالى ينزل الحق في هذا الحكم وأكثر تفصيلً؛ ولذلك يقول سبحانه:
{ َولَ يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ ِإلّ جِئْنَاكَ بِا ْلحَقّ وَأَحْسَنَ َتفْسِيرا }[الفرقان.]33 :
ولو نزل القرآن جملة واحدة ،فكيف يعالج أسئلتهم التي جاءت في القرآنَ } :يسْأَلُو َنكَ عَنِ {.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضخامة تلك الساعة ،ودقة أدائها ،وحين صنع الفنيون في " سويسرا " ساعة دقيقة وصغيرة جدا
في حجمها ،زاد إعجاب الناس بدقة الصنعة.
وهكذا نجد أن القدرة تتجلى في صناعة الشيء الكبير في الحجم ،أو صناعة الشيء الدقيق جدا؛
فما بالنا بخالق الكون كله ،بأكبر ما فيه وأصغر ما فيه.
والحق سبحانه وتعالى يضرب المثل بالذبابة فيقول:
{ إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ َلهُ }[الحج.]73 :
فول اجتمع الخلق المشركون أو المتجبرون وسألوا أصنامهم أن يخلقوا لهم ذبابة ،أو حتى لو
حاولوا هم خَلْق ذبابة لما استطاعوا ،ول يقتصر المر على ذلك العجز فقط ،بل يتعداه إلى عجز
آخر:
ب وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج.]73 :
ض ُعفَ الطّاِل ُ
{ وَإِن َيسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْ ُه َ
فإن جاءت ذبابة على أي طعام ،وأخذت بعضا من الطعام ،فهل يستطيع أحد أن يستخلص من
الذبابة ما أخذته؟
ل ،كذلك نرى ضعف الثنين :الطالب والمطلوب.
وهنا يقول الحق سبحانه:
حكِيمٍ خَبِيرٍ { [هود.]1 :
ح ِك َمتْ آيَاتُهُ ُثمّ ُفصَّلتْ مِن لّدُنْ َ
} الر كِتَابٌ ُأ ْ
فالحكام ل يتناقض مع التفصيل؛ لن الحق سبحانه هو الذي أحكم ،وهو سبحانه الذي فصّل،
وهو سبحانه حكيم بما يناسب الحكام ،وهو سبحانه خبير بما يناسب التفصيل ،بطلقة غير
متناهية.
وهو سبحانه حكيم يخلق الشيء مُحْكما ل يتطرق إليه فساد ،وهو سبحانه خبير عنده علم بخفايا
المور.
ويقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى:
{ لّ تُدْ ِر ُك ُه الَ ْبصَارُ وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الَبْصَا َر وَ ُهوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ }[النعام.]103 :
فال سبحانه ل تدركه عين ،وعينه ـ سبحانه وتعالى ـ ل تغفل عن أدق شيء وأخفى نية.
إذن :فقول الحق سبحانه وتعالى:
حكِيمٍ خَبِيرٍ { [هود.]1 :
ح ِك َمتْ آيَاتُهُ ُثمّ ُفصَّلتْ مِن لّدُنْ َ
} الر كِتَابٌ ُأ ْ
يبيّن لنا أن القرآن كلم ال القدير الذي بُني على الحكام ،ونزل ُمحْكما جملة واحدة ،ثم جاءت
الحداث المناسبة لينزل من السماء الدنيا نجوما مفصلة تناسب كل حدث.
وأحكام الكتاب ثم تفصيله له غاية ،هي الغاية من المنهج كله ،ويبيّنها الحق سبحانه في الية
التاليةَ } :ألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ {
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1461 /
أَلّا َتعْبُدُوا إِلّا اللّهَ إِنّنِي َلكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ()2
إذن :فقد أحكمت آيات الكتاب وفصّلت لغاية هي :أل نعبد إل ال.
والعبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر ،وفيما نهى.
وهكذا نجد أن العبادة تقتضي وجود معبود له أمر وله نهي ،والمعبود الذي ل أمر له ول نهي ل
يستحق العبادة ،فهل مَنْ عَ َبدَ الصنم تلقّى من أمرا أو نهيا؟
وهل مَنْ عَ َبدَ الشمس تلقّى منها أمرا أو نهيا؟
إذن :فكلمة العبادة لكل ما هو غير ال هي عبادة باطلة؛ لن مثل تلك المعبودات ل أمر لها ول
نهي ،وفوق ذلك ل جزاء عندها على العمل الموافق لها أو المخالف لها.
والعبادة بدون منهج " افعل " و " ل تفعل " ل وجود لها ،وعبادة ل جزاء عليها ليست عبادة.
وهنا يجب أن نلحظ أن قول الحق سبحانه:
{ َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ } [هود.]2 :
غير قوله سبحانه:
{ اعْ ُبدُواْ اللّهَ }[المائدة.]72 :
ولو أن الرسل تأتي الناس وهم غير ملتفتين إلى قوة يعبدونها ويقدسونها لكان على الرسل أن
يقولوا للناس {:اعْبُدُواْ اللّهَ }[العراف.]59 :
ولكن هنا يقول الحق سبحانهَ { :ألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ } [هود.]2 :
فكأنه سبحانه يواجه قوما لهم عبادة متوجهة إلى غير من يستحق العبادة؛ فيريد سبحانه أولً أن
يُنهي هذه المسألة ،ثم يثبت العبادة ل.
إذن :فهنا نفي وإثبات ،مثل قولنا " :أشهد أل إله إل ال " ،هنا ننفي أولً أن هناك إلها غير ال،
ونثبت اللوهية ل سبحانه.
وأنت ل تشهد هذه الشهادة إل إذا وُجد قوم يشهدون أن هناك إلها غير ال تعالى ،ولو كانوا
يشهدون بألوهية الله الواحد الحد سبحانه؛ لكان الذهن خاليا من ضرورة أن نقول هذه الشهادة.
ولكن قول الحق سبحانه { َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ } [هود.]2 :
معناه النفي أولً للباطل ،وإذا ُنفِي الباطل ل بد أن يأتي إثبات الحق ،حتى يكون كل شيء قائما
على أساس سليم.
ولذلك يقال " :درء المفسدة مقدّم دائما على جلب المنفعة " فالبداية أل تعبد الصنام ،ثم وجّه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العبادة إلى ال سبحانه.
وما دامت العبادة هي طاعة المر ،وطاعة النهي ،فهي ـ إذن ـ تشمل كل ما ورد فيه أمر،
وكل ما ورد فيه نهي.
وإنْ نظرت إلى الوامر والنواهي لوجدتها تستوعب كل أقضية الحياة من قمة الشهادة بأن ل إله
إل ال ،إلى إماطة الذى عن الطريق.
وكل حركة تتطلبها الحياة لبقاء الصالح على صلحه أو زيادة الصالح ليكون أصلح ،فهذه عبادة.
إذن :فالسلم ل يعرف ما يقال عنه " أعمال دنيئة " ،و " أعمال شريفة " ولكنه يعرف أن هناك
عاملً دنيئا وعاملً شريفا.
وكل عامل يعمل عملً تتطلبه الحياة بقاء للصالح أو ترقية لصلحه وعدم الفساد ،فهذا عامل
شريف؛ وقيمة كل امرىء فيما يحسنه.
وهكذا نجد أن كلمة العبادة تستوعب كل أقضية الحياة؛ لن هناك أمرا بما يجب أن يكون ،وهناك
نهيا عما يجب أل يكون ،وما لم يرد فيه نهي لك الخيار في أن تفعله أو ل تفعله ،فإذا نظرت إلى
نسبة ما تؤمر به ،ونظرت ألى ما تُنهى عنه بالنسبة لعمال الحياة ،لوجدت أنها نسبة ل تتجاوز
خمسة في المائة من كل أعمال الحياة ،ولكنها الساس الذي تقوم عليه كل أوجه الحياة.
ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :بُني السلم على خمس :شهادة أن ل إله إل ال وأن
محمدا عبده ورسوله وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان ".
وأعداء السلم يحاولون أن يحددوا الدين في هذه الركان الخمسة ،ولكن هذه الركان هي
العمدة التي تقوم عليها عمارة السلم.
وأركان السلم هي إعلن استدامة الولء ل تعالى ،وكل أمر من أمور الحياة هو مطلوب للدين؛
لنه يصلح الحياة.
وهكذا نجد أن العلم بالدين ضرورة لكل إنسان على الرض ،أما العلوم ا لخرى فهي مطلوبة
لمن يتخصص فيها ويرتقي بها ليفيد الناس كلهم ،وكلما كان المتفوق من المسلمين كان ذلك
تدعيما لرفعة السلم.
إذن فالقاسم المشترك في الحياة هو العلم بالدين ،ولكن يجب أن نفهم هذه القضية على قدرها ،فل
يأتي إنسان ل يعرف صحيح الدين ليتكلم وال َعوْل ،والرد؛ لن المسلم قد تمر حياته كلها ول يحتاج
رأيا في قضية التوريث ،أو أن يتعرف على المستحقين للميراث وأنصبتهم ،وغير ذلك.
وإن تعرّض المسلم لقضية مثل هذه ،نقول له :أنت إذا تعرضت لقضية مثل هذه فاذهب إلى
المختصين بهذا العلم ،وهم أهل الفقه والفتوى ،لنك حين تتعرض لقضية صحية تذهب إلى
الطبيب ،وحين تتعرض إلى قضية هندسية تذهب إلى المهندس ،وإن تعرضت لعملية محاسبية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تذهب إلى المحاسب ،فإن تعرضت إى أي أمر ديني ،فأنت تسأل عنه أهل الذكر.
وأنت إذا نظرت إلى العبادة ،تجد أنها تتطلب كل حركة في الحياة ،وسبق أن ضربت لذلك مثلً
وقلتَ :هبْ أن إنسانا يصلي ،ول يفعل شيئا في الحياة غير الصلة ،فمن أين له أن يشتري ثوبا
يستر به عورته ما دام ل يعمل عملً أخر غير الصلة ،وهو إن أراد أن يشتري ثوبا ،فل بد له
من عمل يأخذ مقابله أجرا ،ويشتري الثوب من تاجر التجزئة ،الذي اشترى الثواب من تاجر
الجملة ،وتاجر الجملة اشتراها من المصنع ،في الدين؛ لن العلم بالدين يقتضي اللجوء إلى أهل
الذكر.
فإن قيل :الدين للجميع ،نقول :صدقت بمعنى التدين للجميع ،أما العلم بالدين فله الدراسة المتفقهة.
وأهل الذكر أيضا في العلوم الخرى يقضون السنوات لتنمية دراساتهم ،كما في الطب أو الهندسة
أو غيرهما ،وكذلك العمال المهنية تأخذ من الذي يتخصص فيها وقتا وتتطلب جهدا ،فما بالنا
بالذي يُصلح أسس إقامة الناس في الحياة ،وهو التفقه في الدين.
لذلك يقول الحق سبحانه:
جعُواْ إِلَ ْي ِهمْ َلعَّلهُمْ
ن وَلِيُنذِرُواْ َق ْو َمهُمْ ِإذَا َر َ
{ فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ لّيَ َت َف ّقهُواْ فِي الدّي ِ
حذَرُونَ }[التوبة.]122 :
يَ ْ
فنحن ل نطلب من كل مسلم ـ مثلً ـ أن يدرس المواريث ليعرف العَصبة وأصحاب الفروض،
وأولي الرحام ،والمصنع قام بتفصيل الثياب بعد أن نسجها مصنع آخر ،والمصنع الخر نسج
الثياب من غزل القطن أو الصوف .والقطن جاء من الزراعة ،والصوف جاء من جز شعر
الغنام.
وهكذا تجد أن مجرد الوقوف أمام خالقك لتصلي يقتضي أن تكون مستور العورة في صلتك ،هذا
الستر يتطلب منك أن تتفاعل مع الحياة بالعمل.
وانظر لنفسك واسألها :ما أفطرتَ اليوم؟
وأقلّ إجابة هي :أفطرت برغيف وقليل من الملح ،وستجد أنك اشتريت الرغيف من البقال ،وجاء
البقال بالرغيف من المخبز ،والمخبز جاء بالدقيق من المطحن ،والمطحن أنتج الدقيق بعد طحن
الغلل التي جاءت من الحقل .وكذلك تمت صناعة ألت الطحن في مصانع أخرى قد تكون
أجنبية.
وهكذا تمت صناعة الرغيف بسلسلة هائلة من العمليات ،فهناك الفلح الذي حرث ،وهناك مصمم
آلة الطحن الذي درس الهندسة ،وهناك عالم " الجيولوجيا " الذي درس طبقات الرض ليستخرج
الحديد الخام من باطنها ،وهناك مصنع الحديد الذي صهر الحديد الخام؛ ليستخلص منه الحديد
النقي الصالح للتصنيع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا تجد أن كل حركة في الحياة قد خدمت قضية دينك ،وخدمت وقوفك أمام خالقك لتصلي ،فل
تقل " :سأنقطع للعبادة " بمعنى أن تقصر حياتك على الصلة فقط ،لن كل حركة تصلح في الحياة
هي عبادة ،وإن أردت أل تعمل في الحياة ،فل تنتفع بحركة عامل في الحياة .وإذا لم تنتفع بحركة
أي عامل في الحياة ،فلن تقدر أن تصلي ،ولن تقدر أن يكون لك قوة لتصلي.
إذن فالعبادة هي كل حركة تتطلبها الحياة في ضوء " افعل " و " ل تفعل ".
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
} َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ إِنّنِي َلكُمْ مّنْهُ نَذِي ٌر وَبَشِيرٌ { [هود.]2 :
والنذير :هو من يُخبر بشرّ زمنه لم يجيء ،لتكون هناك فرصة لتلفي العمل الذي يُوقع في الشر،
والبشير هو من يبشّر بخير سيأتي إن سلك النسان الطريق إلى ذلك الخير.
إذن :النذار والبشارة هي أخبار تتعلق بأمر لم يجيء.
وفي النذار تخويف ونوع من التعليم ،وأنت حين تريد أن تجعل ابنك ُمجِدا في دراسته؛ تقول له:
إن لم تذاكر فسوف تكون كابن فلن الذي أصبح صعلوكا تافها في الحياة.
إذن :فأنت تنذر ابنك؛ ليتلفى من الن العمل الذي يؤدي به إلى الفشل الدراسي.
وكذلك يبشر النسان ابنه أو أي إنسان آخر بالخير الذي ينتظره حين يسلك الطريق القويم.
إذن :فالعبادة هي كل حركة من حركات الحياة ما دام النسان مُتّبعا ما جاء بالمنهج الحق في
ضوء " افعل " و " ل تفعل " ،وما لم يرد فيه " افعل " و " ل تفعل " فهو مباح.
وعلى النسان المسلم أن يُبصّر نفسه ،ومن حوله بأن تنفيذ أي فعل في ضوء " افعل " هو العمل
المباح ،وأن يمتنع عن أي فعل في ضوء " ل تفعل " ما دام الحق سبحانه وتعالى قد نهى عن مثل
هذا الفعل ،وعلى المسلم تحرّي الدقة في مدلول كل سلوك.
ونحن نعلم أن التكليفات اليمانية قد تكون شاقة على النفس ،ومن اللزم أن نبيّن للنسان أن
المشقة على النفس ستأتي له بخير كبير.
ومثال ذلك :حين نجد الفلح وهو يحمل السماد العضوي من حظيرة البهائم؛ ليضعه على ظهر
الحمار ويذهب به إلى الحقل؛ ليخلطه بالتربة ،وهو يعمل هذا العمل بما فيه من مشقة انتظارا ليوم
الحصاد.
ويبيّن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ هنا على لسان رسوله أن المر بعدم عبادة أي كائن غير ال،
هو أمر من ال سبحانه ،وأن الرسول صلى ال عليه وسلم هو نذير وبشير من ال.
وقول الحق سبحانه وتعالى:
} َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ { [هود.]2 :
فيه نفي لعبادة غير ال ،وإثبات لعبودية ال تعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا يتوافق ويتسق مع النذار والبشارة؛ لن عبادة غير ال تقتضي نذيرا ،وعبادة ال في السلم
تقتضي بشيرا.
ولن الحق سبحانه وتعالى هو خالق النسان ويعلم ضعف النسان ،ومعنى هذا الضعف أنه قد
يستولي عليه النفع العاجل ،فيُذهبه عن خير آجلٍ أطول منه ،فيقع في بعض من غفلت النفس.
لذلك بيّن الحق سبحانه أن من وقع في بعض غفلت النفس عليه أن يستغفر ال؛ لن ال سبحانه
وتعالى ل يبخل برحمته على أحدٍ من خلقه.
وإن طلب العبد المذنب مغفرة ال ،فسبحانه قد شرع التوبة ،وهي الرجوع عن المعصية إلى
طاعة ال تعالى.
ول يقع عبد في معصية إل لنه تأبّى على منهج ربه ،فإذا ما تاب واستغفر ،فهو يعود إلى منهج
ال سبحانه ،ويعمل على أل يقع في ذنب جديد.
وهنا يقول الحق سبحانه } :وَأَنِ اسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّبكُمْ ثُمّ تُوبُواْ إِلَ ْيهِ {
()1462 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا