Professional Documents
Culture Documents
س َمعُونَ ()23
َومِنْ آَيَاتِهِ مَنَا ُمكُمْ بِاللّ ْيلِ وَال ّنهَا ِر وَابْ ِتغَا ُؤكُمْ مِنْ َفضْلِهِ إِنّ فِي َذِلكَ لَآَيَاتٍ ِلقَوْمٍ َي ْ
كذلك من اليات العجيبة الدالة على قدرة ال { مَنَا ُمكُم[ } ..الروم ]23 :فحتى الن لم يكشف
علماء وظائف العضاء والتشريح عن سِرّ النوم ،ولم يعرفوا -رغم ما قاموا به من تجارب -
ما هو النوم .لكن هو ظاهرة موجودة وغالبة ل يقاومها أحد مهما أُوتِي من القوة ،ومهما حاول
السهر دون أنْ ينام ،ل بُدّ أن يغلبه النوم فينام ،ولو على الحصى والقتاد ،ينام وهو واقف وهو
يحمل شيئا ل ُبدّ أنْ ينام على أية حالة.
وفلسفة النوم ،ل أن نعرف كيف ننام ،إنما أن نعرف لماذا ننام؟ قالوا :لن النسان مُكوّن من
طاقات وأجهزة لكل منها مهمة ،فالعين للرؤية ،والذن للسمع ..الخ ،فساعة تُجهد أجهزة الجسم
تصل بك إلى مرحلة ليستْ قادرة عندها على العمل ،فتحتاج أنت -بدون شعورك وبأمر غريزي
-إلى أن يرتاح كأنها تقول لك كفى لم َتعُد صالحا للعمل ول للحركة فنم.
ومن عجيب أمر النوم أنه ل يأتي بالستدعاء؛ لنك قد تستدعي النوم بشتى الطرق فل يطاوعك
ول تنام ،فإنْ جاءك هو غلبك على أيّ حال كنتَ ،ورغم الضوضاء والصوات المزعجة تنام.
لذلك يقول الرجل العربي :النوم طيف إنْ طلبتَه أعْنَتك ،وإنْ طلبك أراحك.
شيْءٍ ِإلّ
ولهل المعرفة نظرة ومعنى كوني جميل في النوم ،يقولون في قوله تعالى {:وَإِن مّن َ
حمْ ِدهِ[} ...السراء ]44 :فكل ما في الوجود يُسبّح حتى أبعاض الكافر وأعضاؤه مُسبحة،
يُسَبّحُ ِب َ
ن تنفكّ عن هذه الرادة
إنما إرادته هي الكافرة ،وتظل هذه البعاض خاضعة لرادة صاحبها إلى أ ْ
يوم القيامة ،فتشهد عليه بما كان منه ،وبما أجبرها عليه من معصية ال.
وسبق أنْ مثّلْنَا لذلك بقائد الكتيبة حين يطيعه جنوده ولو في الخطأ؛ لن طاعته واجبة إلى أنْ
يعودوا إلى القائد العلى فيتظلمون عنده ،ويخبرونه بما كان من قائدهم.
وذكرنا أن أحد قواد الحرب العالمية أراد أنْ يستخدم خدعة يتفوق بها على عدوه ،رغم أنها
خطّته وانتصر على عدوه كرّموه على اجتهاده ،لكن لم
تخالف قانون الحرب عندهم ،فلما أفلحتْ ْ
ن يعاقبوه على مخالفته للقوانين العسكرية ،وإنْ كان عقابا صُوريا لتظل للقانون مهابته.
َيفُتهم أ ْ
شهَدُ عَلَ ْيهِمْ أَلْسِنَ ُتهُمْ
كذلك أبعاض الكافر تخضع له في الدنيا ،وتشهد عليه يوم القيامةَ {:يوْمَ َت ْ
وَأَيْدِيهِ ْم وَأَ ْرجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النور.]24 :
مع أن هذه الجوارح هي التي نطقتْ بكلمة الكفر ،وهي التي سرقتْ ..الخ؛ لن ال أخضعها
شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ
لرادة صاحبها ،أما يوم القيامة فل إرادةَ له على جوارحهَ {:وقَالُواْ لِجُلُو ِدهِمْ ِلمَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ[} ...فصلت ]21 :لذلك يُطمئننا الحق سبحانه بقولهّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ
طقَنَا اللّهُ الّذِي أَنطَقَ ُكلّ َ
أَن َ
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
فإذا ما نام الكافر ارتاحتْ منه أبعاضه وجوارحه ،ارتاحتْ من مرادات الشر عنده؛ لذلك يُحدّثنا
إخواننا الذين يحجّون بيت ال يقولون :هناك النوم فيه بركة ،ويكفيني أقلّ وقت لرتاح ،لماذا؟ لن
فكرك في الحج مشغول بطاعة ال ،ووقتك كله للعبادة ،فجوارحك في راحة واطمئنان لم ترهقها
المعصية؛ لذلك يكفيها أقل وقت من النوم لترتاح.
وفي ضوء هذا الفهم نفهم قول النبي صلى ال عليه وسلم " :تنام عيني ول ينام قلبي " لنه صلى
ال عليه وسلم حياته كلها للطاعة ،فجوارحه مستريحة ،فيكفيه من النوم مجرد الغفاءة.
وفي العامية يقول أهل الريف :نوم الظالم عبادة ،لماذا؟ لنه مدة نومه ل يأمر جوارحه بشرّ ،ول
يُرغمها على معصية فتستريح منه أبعاضه ،ويستريح الناس والدنيا من شره ،وأيّ عبادة أعظم
من هذه؟
ونلحظ في هذه الية } َومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالّيلِ وَال ّنهَا ِر وَابْ ِتغَآ ُؤكُمْ مّن َفضْلِهِ[ { ...الروم]23 :
ج َعلَ َلكُمُ الّيلَ
حمَتِهِ َ
فجعل الليل والنهار محلً للنوم ،ولبتغاء الرزق ،وفي آية أخرىَ {:ومِن رّ ْ
سكُنُواْ فِيهِ
سكُنُواْ فِيهِ }[القصص ]73 :فجمعهما معا ،ثم ذكر تفصيل ذلك على الترتيب{ لِ َت ْ
وَال ّنهَارَ لِتَ ْ
}[القصص ]73 :أي :في الليل{ وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ }[القصص ]73 :أي :في النهار.
وهذا أسلوب يُعرف في اللغة باللفّ والنشر ،وهو أنْ تذكر عدة أشياء محكوما عليها ،ثم تذكر
بعدها الحكمَ عليها جملة ،وتتركه لذكاء السامع لِيُرجِع كل حكم إلى المحكوم عليه المناسب.
ض وبَاكٍ شَاكِر وغَفُورفجمع المحكوم عليه
جفْنِي واللسَان وخَالِقي رَا ٍ
ومن ذلك قول الشاعر:قَلْبي و َ
جمْع الحكم يُسمى َنشْرا.
جمْع المحكوم عليه يسمى َلفّا ،و َ
في ناحية ،ثم الحكم في ناحية ،ف َ
وهاتان اليتان من اليات التي وقف أمامها العلماء ،ول نستطيع أنْ نخرج منهما بحكم إل بالجمع
بين اليات ،ل أن نفهم كل آية على حدة ،فنلحظ هنا في الية التي معنا } َومِنْ آيَا ِتهِ مَنَا ُمكُم بِالّيلِ
وَال ّنهَارِ وَابْ ِتغَآ ُؤكُمْ مّن َفضْلِهِ[ { ....الروم ]23 :أن ال تعالى جعل كلً من الليل والنهار محلً
للنوم ،ومحلً للسعي.
سكُنُواْ فِيهِ }[القصص ]73 :ثم قال{
ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ
ج َعلَ َل ُكمُ الّي َ
حمَتِهِ َ
وفي الية الخرىَ {:ومِن رّ ْ
وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ }[القصص ]73 :ولم يقل (فيه) ويجب هنا أنْ نتنبه ،فهذه آية كونية أن يكون
الليل للنوم والسكون والراحة ،والنهار للعمل وللحركة ،فل مانع أن نعمل بالليل أيضا ،فبعض
العمال ل تكون إل بليل ،كالحراس ورجال المن والعسس والخبازين في المخابز وغيرهم،
وسكن هؤلء يكون بالنهار ،وبهذا الفهم تتكامل اليات في الموضوع الواحد.
سعْي إليه يكون
إذن :فقوله تعالى } :وَابْ ِتغَآ ُؤكُمْ مّن َفضْلِهِ[ { ...الروم ]23 :يعني :طلب الرزق وال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في النهار ويكون في الليل ،لكن جمهرة الناس يبتغونه بالنهار ويسكنون بالليل ،والقلة على عكس
ذلك.
ن قلتَ :هذا عندنا حيث يتساوى الليل والنهار ،فما بالك بالبلد التي يستمر ليلها مثلً ثلثة
فإ ْ
أشهر ،ونهارها كذلك ،نريد أن نفسر الية على هذا الساس ،هل يعملون ثلثة أشهر وينامون
ثلثة أشهر؟ أم يجعلون من أشهر الليل ونهارا ،ومن أشهر النهار أيضا ليلً ونهارا؟ ل مانع من
ذلك؛ لن النسان ل يخلو من ليل للراحة ،ونهار للعمل أو العكس ،فكل من الليل والنهار ظرف
للعمل أو للراحة.
لذلك ،فالحق -تبارك وتعالى -يمتنّ علينا بتعاقُب الليل والنهار ،فيقول سبحانهُ {:قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِن
س َمعُونَ }
ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ الْلّ ْيلَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِي ُكمْ ِبضِيَآءٍ َأفَلَ َت ْ
َ
ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ
[القصص ]71 :وذيّل الية بأفل تسمعون{ ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِن َ
سكُنُونَ فِيهِ أَفلَ تُ ْبصِرُونَ }[القصص.]72 :
ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَ ْيلٍ تَ ْ
قالوا :لن النهار محلّ الرؤية والبصر ،أما الليل فل بصرَ فيه ،فيناسبه السمع ،والذن هي
الوسيلة التي تؤدي مهمتها في الليل عندما ل تتوفر الرؤية.
شكُورا }
ج َعلَ الّيلَ وَال ّنهَارَ خِ ْلفَةً ّلمَنْ أَرَادَ أَن َي ّذكّرَ َأوْ أَرَادَ ُ
وفي موضع آخر {:وَ ُهوَ الّذِي َ
[الفرقان ]62 :فالليل يخلُف النهار ،والنهار يخلُف الليل ،هذا في الزمن العادي الذي نعيشه ،أما
في بدْء الخَلْق فأيهما كان أولً ،ثم خلفه الخر؟
ن قلت :إن الليل جاء أولً ،فالنهار بعده خِلْفة له ،لكن الليل في هذه الحالة ل يكون خِلفة لشيء،
فإ ْ
حلّ هذا اللغز؟
ل منهما خِلْفة للخر ،إذن :فما َ
والنص السابق يوضح أن ك ً
مفتاح هذه المسألة يكمن في كروية الرض ،ولو أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أخبر في
بداية البعثة بهذه الحقيقة لما صدّقوه ،كيف ونحن نرى مَنْ ينكر هذه الحقيقة حتى الن.
والحق -سبحانه وتعالى -ل يترك قضية كونية كهذه دون أنْ يمسّها ولو بُلطْف وخِفة ،حتى إذا
ارتقت العقول تنبهتْ إليها ،فلو أن الرض مسطوحة وخلقَ ال تعالى الشمس في مواجهة الرض
ن نقول :إن النهار جاء أولً ،ثم عندما تغيب الشمس يأتي الليل ،أما إنْ كانت البداية
لستطعنا أ ْ
خلْق الرض غير مواجهة للشمس ،فالليل في هذه الحالة أولً ،ثم يعقبه النهار ،هذا على اعتبار
أن الرض مسطوحة.
وما دام أن الخالق -عز وجل -أخبر أن الليل والنهار كل منهما خِلْفة للخر ،فل بُدّ أنه سبحانه
خلق الرض على هيئة بحيث يوجد الليل ويوجد النهار معا ،فإذا ما دارت دورة الكون خلف كل
منهما الخر ،ول يتأتّى ذلك إل إذا كانت الرض مُكوّرة ،فما واجه الشمس منها صار نهارا ،وما
لم يواجه الشمس صار ليلً.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ك ال َقمَرَ وَلَ الّيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ
شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ
لذلك يقول سبحانه في آية أخرى {:لَ ال ّ
فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس.]40 :
فالحق سبحانه ينفي هنا أنْ يسبقَ الليلُ النهارَ ،فلماذا؟
قالوا :يعتقدون أن الليلَ سابقُ النهارَ ،ألَ تراهم يلتمسون أول رمضان بليله ل بنهاره؟ وما داموا
يعتقدون أن الليل سابق النهار ،فالمقابل عندهم أن النهار ل يسبق الليل ،هذه قضية أقرّها الحق
سبحانه؛ لذلك لم يعدل فيها شيئا إنما نفى الولى{ وَلَ الّيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَارِ[} ...يس.]40 :
إذن :نفى ما كانوا يعتقدونه{ وَلَ الّيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَارِ[} ...يس ]40 :وصدّق على ما كانوا يعتقدونه
من أن النهار ل يسبق الليل .فنشأ عن هذه المسألة :ل الليل سابق النهار ،ول النهار سابق الليل،
وهذا ل يتأتّى إل إذا وُجدوا في وقت واحد ،فما واجه الشمسَ كان نهارا ،وما لم يواجه الشمس
كان ليلً.
طمَعا.{ ...
خوْفا وَ َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ َ
()3357 /
سمَاءِ مَاءً فَ ُيحْيِي بِهِ الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْتِهَا إِنّ فِي
ط َمعًا وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ
خ ْوفًا وَ َ
َومِنْ آَيَاتِهِ يُرِي ُكمُ الْبَرْقَ َ
ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ ()24
نلحظ في تذييل اليات مرة يقول سبحانهّ {:ل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }[الروم ]21 :ومرة{ لّ ْلعَاَلمِينَ }[الروم:
س َمعُونَ }[الروم ]23 :أو { ّلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ } [الروم ]24 :فتختلف الدوات الباحثة
]22ومرة{ ّل َقوْمٍ يَ ْ
في اليات.
والبعض يظن أن العقل آلة يُعملها في كل شيء ،فالعقل هو الذي يُصدّق أو ل يُصدّق ،والحقيقة
أنك تستعمل العقل في مسألة الدين مرة واحدة تُغنيك عن استعماله بعد ذلك ،فأنت تستعمل العقل
في أنْ تؤمن أو ل تؤمن ،فإنْ هداك العقل إلى أن الكون له إله قادر حكيم خالق ل إله إل هو
ووثقتَ بهذه القضية ،فإنها ل تطرأ على تفكيرك مرة أخرى ،ول يبحثها العقل بعد ذلك ،ثم إنك
في القضايا الفرعية تسير فيها على َوفْق قضية اليمان الولى فل تحتاج فيها للعقل.
لذلك العقلء يقولون :العقل كالمطية توصلك إلى حضرة السلطان ،لكن ل تدخل معك عليه،
وهكذا العقل أوصلك إلى اليمان ثم انتهى دوره ،فإذا ما سمعتَ قال ال فأنت اثق من صِدْق القول
دون أنْ تُعمل فيه العقل.
وحين يقول سبحانه :يعقلون يتفكرون يعلمون ،حين يدعوك للتدبّر والعِظَة إنما ينبه فيك أدوات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المعارضة لتتأكد ،والعقل هنا مهمته النظر في البدائل وفي المقدمات والنتائج.
كما لو ذهبتَ مثلً لتاجر القماش فيعرض عليك بضاعته :فهذا صوف أصلي ،وهذا فطن خالص،
ول يكتفي بذلك إنما يُريك جودة بضاعته ،فيأخذ (فتلة) من الصوف ،و (فتلة) من القطن ،ويشعل
النار في كل منهما لترى بنفسك ،فالصوف ل ترعى فيه النار على خلف القطن.
إذن :هو الذي يُنبّه فيك وسائل النقد ،ول يفعل ذلك إل وهو واثق من جودة بضاعته ،أما الخر
الذي ل يثق في جودة بضاعته فإنه يلجأ إل ألعيب وحيل يغري بها المشتري ليغُرّه.
كذلك الخالق -عز وجل -يُنبّهنا إلى البحث والتأمل في آياته فيقول :تفكّروا تدبّروا ،تعقّلوا،
كونوا علماء واعين لما يدور حولكم ،وهذا دليل على أننا لو بحثنا هذه اليات لتوصّلْنا إلى
مطلوبه سبحانه ،وهو اليمان.
والبرق :ظاهرة من ظواهر فصل الشتاء ،حيث نسمع صوتا مُدوّيا نسميه الرعد ،بعد أن نرى
ضوءا شديدا يلمع في الجو نسميه (برق) ،وهو عامل من عوامل كهربة الجو التي توصّل إليها
العلم الحديث ،لكن قبل ذلك كان الناس عندما يروْن البرق ل يفهمون منه إل أحد أمرين :إما أنْ
يأتي بصاعقة تحرقهم ،أو ينزل عليهم المطر ،فيخافون من الصاعقة ويرجون المطر.
سمَآءِ مَآءً[ } ...الروم ]24 :ليظل العبد دائما
طمَعا وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ
خوْفا َو َ
{ َومِنْ آيَا ِتهِ يُرِيكُمُ الْبَ ْرقَ َ
مع ربه بين الخوف والرجاء.
لكن أ ُكلّ الناس يرجون المطر؟ َهبْ أنك مسافر أو مقيم في بادية ليس لك كِنّ تكِنّ فيه ،ول مأوى
يأويك من المطر ،فهذا ل يرجو المطر ول ينتظره ،لذلك من رحمته تعالى أن يغلب انفعال الطمع
في الماء الذي به تحيا الرض بالنبات.
سمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الَ ْرضَ َبعْدَ َموْتِهَا[ { ...الروم ]24 :وكلمة السماء لها
} وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ
مدلولن :مدلولٌ غالب ،وهي السماوات السبع ،ومدلول لُغوي ،وهي كل ما علّك فأظلّك ،وهذا
سمَآءِ مَآءً[ { ...الروم ]24 :لن المطر إنما ينزل من
هو المعنى المراد هنا } وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ
السحاب ،فالسماء هنا تعني :كل ما علك فأظلّك.
ولو تأملتَ الماء الذي ينزل من السماء لوجدتّه من سحاب متراكم{ َألَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُ ْزجِي سَحَابا ثُمّ
جعَلُهُ ُركَاما فَتَرَى ا ْلوَ ْدقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ[} ...النور.]43 :
ُيؤَّلفُ بَيْ َنهُ ثُمّ َي ْ
وسبق أنْ تحدّثنا عن كيفية تكوّن السّحُب ،وأنها نتيجة لبخر الماء ،لذلك من حكمته تعالى أنْ جعل
ثلثة أرباع الرض ماءً والربع يابسة ،ذلك لتتسع رقعة َبخْر الماء ،فكأن الثلثة الرباع جعلت
لخدمة الرّبْع ،وليكفي ماء المطر سكان اليابسة.
وبيّنا أهمية اتساع مسطح الماء في عملية البخر ،بأنك حين تترك مثلً كوبا من الماء على
المنضدة لمدة طويلة يظل كما هو ،ولو َنقُص منه الماء لكان قليلً ،أمّا لو سكبتَ ماء الكوب على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أرض الغرفة مثلً فإنه يجفّ في عدة دقائق لماذا؟ لن مسطح الماء اتسع فكَثُر الماء المتبخّر.
ومثّلْنا لتكوّن السّحُب بعملية التقطير التي نُجريها في الصيدليات لنحصل منها على الماء النقي
المعقم ،وهذه تقوم على نظرية استقبال بخار الماء من الماء المغلي ،ثم تمريره على سطح بارد
فيتكثف البخار مُكوّنا الماء الصافي ،إذن :فأنت حينما تستقبل ماء المطر إنما تستقبل ماءً مقطرا
في غاية الصفاء والنقاء ،دون أن تشعر أنت بهذه العملية ،ودون أن نُكلّفك فيها شيئا.
وتأمل هذه الهندسة الكونية العجيبة التي ينشأ عنها المطر ،فحرارة الشمس على سطح الرض
تُبخّر الماء بالحرارة ،وفي طبقات الجو العليا تنخفض الحرارة فيحدث تكثّف للماء ويتكوّن
السحاب ،ومن العجيب أننا كلما ارتفعنا 30مترا عن الرض تقل الحرارة درجة ،مع أننا نقترب
من الشمس؛ ذلك لن الشمس ل تُسخّن الجو ،إنما تُسخّن سطح الرض ،وهو بدوره يعطي
الحرارة للجو؛ لذلك كلما َبعُدنا عن الرض قّلتْ درجة الحرارة.
ومن حكمة ال أنْ جعل ماء الرض الذي يتبخر منه الماء العَذْب جعله مالحا؛ لن ملوحته تحفظه
أنْ يأسن ،أو يعطن ،أو تتغير رائحته ،تحفظه أن تنمو به الطفيليات الضارة ،وليظلّ على
صلحه؛ لنه مخزن للماء العذب الذي يروي بعذوبته الرض.
سمَآ ُء وَالَرْضُ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومِنْ آيَاتِهِ أَن َتقُومَ ال ّ
()3358 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ول شيئا منها خرج عن مساره.
وصدق ال تعالى{ ُكلّ فِي فََلكٍ يَسْ َبحُونَ }[النبياء ]33 :فلكل منها سرعة ،ولكل منها مداره
الخاص ونظام بحسبان؛ ذلك لنها تقوم بأمر ال وقدرته تعالى فهي منضبطة تؤدي مهمتها دون
خلل ،ودون تخلّف.
فمعنى { َتقُومَ[ } ...الروم ]25 :يعني :تظل قائمة على حالها دون فساد ،وهو فعل مضارع دالّ
على استمرار .وحين تتأمل :قبل أن يخترع النسان المجاهر والميكروسكوبات لم نكن نرى من
المجموعة الشمسية غير الشمس ،فلما اخترعوا المجهر رأينا الكواكب الخرى التي تدور حولها.
والعجيب أنها ل تدور في دوائر متساوية ،إنما في شكل إهليلي ،يتسع من ناحية ،ويضيق من
ناحية ،وهذه الكواكب لها دورة حول الشمس ،ودورة أخرى حول نفسها .فالرض مثلً لها مدار
حول الشمس ينشأ عنه الفصول الربعة ،ولها دورة حول نفسها ينشأ عنها الليل والنهار ،وكل هذه
الحركة المركبة تتم بنظام دقيق محكم منضبط غاية النضباط.
وهذه الكواكب تتفاوت في قُرْبها أو ُبعْدها عن الشمس ،فأقربها من الشمس عطارد ،ثم الزهرة ،ثم
الرض ،ثم المشتري ،ثم المريخ ،ثم زحل ،ثم أورانوس ،ثم نبتون ،ثم أبعدها عن الشمس بلوتو.
ولكل منها مداره الخاص حول الشمس وتسمى (عام) ،ودورة حول نفسه تسمى (يوم).
وعجيب أن يوم الزهرة ،وهو ثاني كوكب من الشمس يُقدّر بـ 44يوما من أيام الرض ،في
حين أن العام بالنسبة لها يُقدّر بـ 25يوما من أيام الرض ،فالعام أقل من اليوم ،كيف؟ قالوا:
لن هذه دورة مستقلة ،وهذه دورة مستقلة ،فهي سريعة في دورانها حول الشمس ،وبطيئة في
دورانها حول نفسها.
ولو علمتَ أن في الفضاء وفي كون ال الواسع مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية في (سكة
التبّانة) ،وهذا كله في المجرة التي نعرفها -لو علمت ذلك لتبيّن لك عظَم هذا الكون الذي ل
نعرف عنه إل القليل؛ لذلك حين تقرأ:
سعُونَ }[الذاريات ]47 :فاعلم أنها مسألة ل نهاية لها ول حدودَ في
سمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَي ْي ٍد وَإِنّا َلمُو ِ
{ وَال ّ
علمنا وفي عقولنا ،لكن لها نهاية عند ال.
ول أدلّ على انضباط حركة هذه الكونيات من انضباط موعد الكسوف أو الخسوف الذي يحسبه
العلماء فيأتي منضبطا تماما ،وهم يبنون حساباتهم على حركة الكواكب ودورانها؛ لذلك نقول لمن
يكابر حتى الن ويقول بعدم دوران الرض :عليك أن تعترف إذن أن هؤلء الذين يتنبأون
بالكسوف والخسوف يعلمون الغيب .فالقرب -إذن -أن نقول :إنها ل الذي خلقها على هذه
الهيئة من النضباط والدقة ،فاجعلها ل بدل أنْ تجعلها للعلماء.
ع َوةً مّنَ
ن الَ ْرضِ[ { ...الروم ]25 :معنى } دَعَاكُمْ دَ ْ
ع َوةً مّ َ
ثم يقول سبحانهُ } :ثمّ إِذَا دَعَاكُمْ دَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل صَيْحَةً
الَ ْرضِ[ { ...الروم ]25 :المراد النفخة الثانية ،فالولى التي يقول ال عنها {:إِن كَا َنتْ ِإ ّ
جمِيعٌ
ح ًة وَاحِ َدةً فَِإذَا ُهمْ َ
ل صَيْ َ
وَاحِ َدةً فَِإذَا ُهمْ خَا ِمدُونَ }[يس ]29 :والثانية يقول فيها {:إِن كَا َنتْ ِإ ّ
حضَرُونَ }[يس.]53 :
لّدَيْنَا ُم ْ
فالولى للموت الكلي ،والثانية للبعث الكلي ،ولو نظرت إلى هاتين النفختين وما جعل ال فيهما
من أسرار تلتقي بما في الحياة الدنيا من أسرار لوجدتَ عجبا.
فكل لحظة من لحظات الزمن يحدث فيها ميلد ،ويحدث فيها موت ،فنحن مختلفون في مواليدنا
وفي آجالنا ،أما في الخرة فالمر على التفاق ،فالذين اختلفوا في المواليد سيتفقون في البعث{ إِن
حضَرُونَ }[يس.]53 :
جمِيعٌ لّدَيْنَا مُ ْ
ح َدةً فَإِذَا هُمْ َ
ح ًة وَا ِ
ل صَيْ َ
كَا َنتْ ِإ ّ
ح ًة وَاحِ َدةً فَإِذَا ُهمْ خَا ِمدُونَ }[يس:
ل صَيْ َ
والذين اختلفوا في الموت سيتفقون في الخمود {:إِن كَا َنتْ ِإ ّ
]29فالميلد يقابله البعث ،والموت يقابله الخمود .إذن :اختلف هذه يعالج اتفاق هذه ،واتفاق هذه
ج ْمعِ[} ...التغابن.]9 :
ج َم ُعكُمْ لِ َيوْمِ الْ َ
يعالج اختلف هذه؛ لذلك يقولَ {:يوْمَ يَ ْ
والنفخة الثانية يؤديها إسرافيل بأمر ال؛ لن الحق -سبحانه وتعالى -يزاول أشياء بذاته ،ول
نعلم منها إل أنه سبحانه وتعالى خلق النسان وسّواه بيده ،كما قال سبحانه {:ياإِبْلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَن
خلْقه في
سجُدَ ِلمَا خََلقْتُ بِ َي َديّ[} ...ص ]75 :أما غير ذلك فهو سبحانه يزاول الشياء بواسطة َ
تَ ْ
كل مسائل الكونيات.
تأمل مثلً {:اللّهُ يَ َت َوفّى الَنفُسَ حِينَ َموْتِـهَا[} ...الزمر ]42 :فالمتوفّي هنا ال عز وجل ،وفي
موضع آخرُ {:قلْ يَ َت َوفّاكُم مَّلكُ ا ْل َموْتِ الّذِي ُوكّلَ ِبكُمْ[} ...السجدة ]11 :فنقلها إلى ملَك الموت،
وفي موضع آخرَ {:ت َوفّتْهُ ُرسُلُنَا[} ...النعام ]61 :فنقلها إلى رسل الموت من الملئكة ،وهم جنود
لملَك الموت.
وبيان ذلك أنه سبحانه نسب الموت لنفسه أولً؛ لنه صاحب المر العلى فيه ،فيأمر به ملَك
الموت ،وملَك الموت بدوره يأمر جنوده ،إذن :فمردّها إلى ال.
ثم يقول سبحانهِ } :إذَآ أَن ُتمْ تَخْ ُرجُونَ { [الروم ]25 :أي :حين يسمع الموتى هذه الصيحة يهبّون
جميعا أحياء ،فإذا هنا الفجائية الدالة على الفجأة ،وهذا هو الفارق بين ميلد الدنيا وميلد الخرة،
ميلد الدنيا لم يكُنْ فجأة ،بل على مهل ،فالمرأة قبل أنْ تلد نشاهد حملها عدة أشهر ،وتعاني هي
آلم الحمل عدة أشهر ،فل فجأة إذن.
()3359 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نعرف أن (مَنْ) للعاقل ،ولنا أن نسأل :لماذا خصّ العاقل مع أن لك ما في الكون خاضع ل طائع
مُسبّح يدخل في دائرة القنوت ل؟ قالوا :لن التمرد ل يأتي إل من ناحية العقل؛ لذلك بدأ ال به،
أما الجماد الذي ل عقلَ له ،فأمره يسير حيث ل يتأبّى منه شيء على ال ،ل الجماد ول الحيوان
ول النبات.
تأمل مثلً الحمار تُحمّله القاذورات فيحمل ،فإذا رقّيْته وجعلته مطية للركوب ل يعترض ،ل
عصى في الولى ،ول عصى في الخرى؛ لنه مُذلّل لك بتذليل ال ،ما ذلّلته لك بعقلك ول
عمَِلتْ أَ ْيدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا
بقوتك{ َأوََلمْ يَ َروْاْ أَنّا خََلقْنَا َلهُم ِممّا َ
َركُو ُبهُمْ َومِنْهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس.]72-71 :
وضربنا لذلك مثلً بالجمل لما ذلّله ال لك استطاع الغلم الصغير أنْ يقوده ويُنيخه ويركبه
صغَره؛ لن ال لم يُذلّله لك.
ويحمله ،أما الثعبان الصغير فيُخيفك رغم ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ } ...الروم ]26 :فمن في السماوات نعم
ونقف هنا عند قوله تعالى { مَن فِي ال ّ
هم قانتون ل أي :خاضعون له سبحانه ،مطيعون لرادته لنهم ملئكة مُكرّمون{ لّ َي ْعصُونَ اللّهَ
مَآ َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم.]6 :
ل وَال ّنهَا َر لَ َيفْتُرُونَ }[النبياء.]20 :
{ ُيسَبّحُونَ الّي َ
فما بال أهل الرض ،وفيهم ملحدة وكفار ليسوا قانتين ،فكيف إذن نفهم { ُكلّ لّهُ قَانِتُونَ } [الروم:
.]26
قالوا :لنهم لما تمرّدوا على ال وكفروا به ،أو تمرّدوا على حكمه فعصَوْه لم يتمردوا بذواتهم،
إنما بما خلق ال فيهم من اختيار ،ولو أرادهم سبحانه مقهورين ما ش ّذ واحد منهم عن مراد ربه،
وال عز وجل ل يريد أنْ يحكم النسان بقهر القدرة ،إنما يريد لعبده أنْ يأتيه طواعية مختارا،
فإمكانه أن يكفر ومع ذلك آمن ،وبإمكانه أن يعصي ومع ذلك أطاع.
فلو أرادهم ال مؤمنين ما وجدوا إلى الكفر سبيلً ،ولعصمهم كما عصم النبياء ،ربك يريدك
غوِيَ ّنهُمْ
مؤمنا عن محبة وإخلص ل عن قهر وغلبة؛ لذلك قال إبليس في جداله {:فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ
ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص.]83-82 :
أَ ْ
فل قدرة له على عباد ال المخلصين ،الذين اختارهم ال لنفسه ،ول سلطانَ له عليهم ،فإبليس إذن
ليس في معركة مع ربه ،إنما في معركة مع النسان .وفي موضع آخر قال تعالى {:إِنّ عِبَادِي
لَيْسَ َلكَ عَلَ ْي ِهمْ سُ ْلطَانٌ[} ...الحجر.]42 :
ولما عشق هؤلء المتمرّدون على ال التمرد ،وأحبوه زادهم ال منه وأعانهم عليه؛ لنه سبحانه ل
تنفعه طاعة الطائعين ،ول تضره معصية العاصين ،فختم على قلوبهم فل يدخلها إيمان ،ول
يخرج منها كفر ،وهو سبحانه الغني عن خَلْقه؛ لذلك لما خلق الجنة خلقها لتتسع للناس جميعا إنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن كفروا ،وترك لنا سبحانه الختيار:
آمنوا ،ولما خلق النار خلقها لتتسع للناس جميعا إ ْ
{ َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف.]29 :
وكأن الحق سبحانه يقول لنا :أنتم أحرار ،فأنا مستعد للجزاء على أيّ حال تسعكم جنتي ،إنْ آمنتم
جميعا ،ول تضيق بكم النار إنْ كفرتم جميعا.
ونقول لمن تمرّد على ال :ينبغي أن تكون منطقيا مع نفسك ،وأن تظل متمردا على ال في كل
شيء ما دمت قد ألفتَ التمرد ،فإنْ جاءك المرض تتأبى عليه ،وإنْ جاءك الموت ترفضه ،فإذا لم
تستطع فأنت مقهور ل خاضع له } ُكلّ لّهُ قَانِتُونَ { [الروم ]26 :خاضعون ،إما عن اختيار ،وإما
عن قهر في كل أمر ل اختيار لك فيه ،إذن :فأنت قانت رغما عنك ،وقنوتك مع تمرّدك أبلغ في
الشهادة ل.
إذن :فالمؤمن خاضع ل في منطقة الختيار ،وهي اليمان والتكاليف ،وخاضع ل فيما ل اختيار
له فيه كالقضاء والمور الضطرارية ،فهو يستقبلها عن رضا ،أما الكافر فهو خاضع ل ل
يستطيع الفكاك عن قضائه ول عن قدره رغما عنه في المور التي ل اختيارَ له فيها ،لكنه
يستقبلها بالسّخْط وعدم الرضا ،فهو كافر بال كاره لقضائه.
فنقول لمن تمرد على ال فكفر به ،أو تمرّد على أحكامه فعصاها :ما لكم ل تتمردون على ال
فيما يقضيه عليكم من أمور اضطرارية؟ هذا دليل على أنكم اتخذتم الختيار في غير محلّه؛ لن
الذي يختار ينبغي أنْ يأخذ الختيار في كل شيء ،لكن أنْ تختار في شيء ول تختار في شيء
آخر ،فهذا ل يجوز.
()3360 /
ض وَ ُهوَ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدأُ الْخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ا ْلمَ َثلُ الْأَعْلَى فِي ال ّ
حكِيمُ ()27
ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
كثيرا ما يُحدّثنا القرآن الكريم عن هذه المسألة ويُذكّرنا بالبدء والعادة ،لماذا؟ يهتم القرآن بهذه
ن كانوا يؤمنون بأنهم يرجعون إلى ال
المسألة ويؤكد عليها لنها كانت الساس في دعوته؛ لنهم إ ْ
لخافوا من عقابه؛ لذلك يؤكد لهم في مواضع كثيرة حتمية العادة وأنها حَقّ.
قوله تعالى { :وَ ُهوَ الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ[ } ...الروم ]27 :استُهلّت الية بقوله تعالى (وَ ُهوَ)
وفي آية أخرى{ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ[} ...الروم ]11 :فكأن ( ُهوَ) مدلولها (ال) وهو كما نعلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضمير غيبة ،والحق سبحانه غَيْب عن النظار ،ومن عظمته سبحانه أنه غيب ،فلو كان ُمدْركا
ن يكون إلها ،وكيف نطمع في إدراكه سبحانه ونحن ل نستطيع أن ندرك بعض
مُحسّا ما استحق أ ْ
مخلوقاته؟
فالمعاني التي خلقها ال لتسوس حركة الحياة :كلمة الحق ،العدل ،الحق الذي يقف القضاء كله
ليؤيده ويُعلنه ،والعدل الذي يحكم موازين الحياة؛ ليوازن بين الشهوات وبين الحقائق ،هذه المعاني
ل تُدرَك بالحواس ،فهل رأيتم العدل؟ هل سمعتم العدل؟ هل شممتم العدل؟ ...الخ.
إذن :فالمعاني العالية ل يمكن أنْ تُدرك لنها أرفع من الدراك؛ لن بها يكون الدراك ،أيكون
المخلوق للحق أسمى من أنْ يُدرك ،ويكون الحق سبحانه موضعا للدراك.
فإذا سمعت ( ُهوَ) فاعلم أنها ل تنصرف إل إلى الله الواحد الذي من عظمته أنه ل يُدرَك{ لّ
ك الَ ْبصَارَ[} ...النعام.]103 :
تُدْ ِركُ ُه الَ ْبصَا ُر وَ ُهوَ يُدْ ِر ُ
حدٌ }[الخلص ]1 :فترى أن (ال) لفظ الجللة ،وهو
لذلك نقرأ في سورة الخلص{ ُقلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
عَلَم على واجب الوجود يأتي بعد ( ُهوَ) فكأن ( ُهوَ) أدلّ على وجود الحق سبحانه من لفظ الجللة
(ال) ،فكأنه ل يصح حين يُطلَق ضمير الغيبة ( ُهوَ) على شيء إل ال؛ لنه ل شيء في الكون إل
ال.
وقوله تعالى هنا { وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَلْقَ[ } ...الروم ]27 :بالفعل المضارع الدالّ على
الستمرارية ،مع أنه سبحانه بدأ الخَلْق بالفعل{ َكمَا بَدََأ ُكمْ َتعُودُونَ }[العراف ]29 :فإنْ ذكرت
الولى فقد بدأ الخَلْق ،وإن ذكرت الستمرارية في اليجاد فهو يبدأ دائما ،وفي كل وقت ترى في
خَلْق ال شيئا جديدا ،فالخَلْق لم يأتِ مرة واحدة ،ثم توقف ،بل بدأ ثم استمر.
ونلحظ أن القرآن يذكر هذه المسألة مرة بالماضي (بَدَأ) ومرة بالمضارع (يَبْدأ)؛ لن الخالق
شيْءٍ خََلقَ ُه وَبَدَأَ
خلْق آدم عليه السلم النسان الول {:الّذِي أَحْسَنَ ُكلّ َ
سبحانه بدأ الخلق فعلً ب َ
ق الِنْسَانِ مِن طِينٍ }[السجدة ]7 :ول يزال سبحانه بقيوميته خالقا ،يبدأ كل يوم وكل لحظة خَلْقا
خَ ْل َ
جديدا نشاهده في النسان ،وفي الحيوان ،وفي النبات ..الخ.
وبالخَلْق المتجدّد للنسان ،حيث يُولَد كل لحظة مولود جديد نردّ على الذين يقولون بتناسخ
الرواح -يعني :أن الروح تخرج من جسد فتحلّ في جسد آخر -وهذا يعني أن تكون المواليد
على قدر الوَفيَات ،ويعني أن يظل العالم على تعداد واحد دون زيادة ،ونحن نرى الن مدى
الكثافة السكانية التي يشكو العالم منها الن ،وهذه تكفي لهدم هذه النظرية.
والحق سبحانه يُحذّرنا أن نأخذ قصة بَدْء الخلق من غير الخالق سبحانه ،فمن الناس مضلون
سمَاوَاتِ
شهَدّتهُمْ خَلْقَ ال ّ
سيضلونكم في هذه المسألة ،فل تُصغْون إليهم؛ لن ال يقول {:مّآ َأ ْ
عضُدا }[الكهف.]51 :
سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
ض َولَ خَلْقَ أَ ْنفُ ِ
وَالَرْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن يقول بأن النسان أصله قرد متطور إلى إنسان ،والردّ على هذه
وقد رأينا من هؤلء المضلين مَ ْ
الضللت يسير ،فإذا كان القرد تطور إلى إنسان ،فلماذا لم تتطور باقي القرود؟ ولماذا لم يتطور
النسان منذ أنْ خُلِق آدم وحتى الن إلى شيء آخر؟ وكيف نصدق هذه الضللت ،وربنا سبحانه
شيْءٍ خََلقْنَا َزوْجَيْنِ َلعَّل ُكمْ تَ َذكّرُونَ }[الذاريات.]49 :
يقولَ {:ومِن ُكلّ َ
سهِمْ َومِمّا لَ َيعَْلمُونَ }
ت الَ ْرضُ َومِنْ أَنفُ ِ
ويقول سبحانه {:سُ ْبحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِب ُ
[يس ]36 :فإياك أنْ تقول :إن شيئا تطور عن شيء ،فكل جنس قائم بذاته منذ خلقه ال.
إذن :احذروا مثل هذه القوال ،ول تأخذوا قصة َبدْء الخَلْق إل من ال وحده.
كلمة } ُيعِي ُدهُ[ { ...الروم ]27 :أي :إلى الخَلْق فهي بمعنى يخلقه ،فالمعنى :يبدأ الخلق ثم يميته ثم
يُعيده ،البعض يظن أن يعيده يعني يبعثه في الخرة ،لكن ال تعالى يقول {:اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ
جعُونَ }[الروم ]11 :فيعيده غير تُرجعون ،ترجعون أي :في القيامة.
ثُمّ إِلَ ْيهِ تُرْ َ
حسْب فهمكم أنتم للشياء ،وإل فال تعالى ل
وقوله } وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ[ { ...الروم ]27 :أي :على َ
يقال في حقه هذا سهل وهذا أسهل ،ول هيّن وأهون؛ لنه سبحانه ل يزاول الشياء كما نزاولها
نحن ،ول يعالج الفعال ،إنما يفعل سبحانه بكُنْ فيكون.
ومن ذلك قوله تعالى لزكريا عليه السلم لما تعجب أن يكون له ولد ،وقد بلغ من الكِبَر عتيا
وامرأته عاقرُ {:هوَ عََليّ هَيّنٌ[} ...مريم ]9 :ذلك لن طلقَة القدرة ل تقف عند أسبابكم .وكذلك
قال لمريم {:كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ هَيّنٌ[} ...مريم.]21 :
ن كانت
فالمر عجيب في نظر مريم ،أن تأتي بولد بدون زوج؛ لكنه ليس عجيبا في قدرة ال ،فإ ْ
العادة أنْ يأتي الولد بالسباب فال سبحانه هو خالق السباب ،يفعل ما يشاء بدونها.
وسبق أن تحدثنا عن طلقة قدرة ال في قصة إبراهيم عليه السلم حينما أراد القوم أنْ يحرقوه،
فلو كانت المسألة مسألة نجاة إبراهيم من النار ما مكّنهم ال من المساك به ،أو :حتى إنْ أمسكوه
وألقَوْه في النار كان بالمكان أنْ يُنزِل ال على النار مطرا فتنطفيء.
حجَاج ،ويبطل كفرهم ،فهاهم قد ظفروا به
لكن الحق سبحانه يريد أن يسدّ على الكافرين منافذ ال ِ
وألقَوْه في َقعْر النار ،وهي على حال الشتعال والحراق ،لكنهم غفلوا عن شيء هام ،هو أن ال
تعالى ربّ هذه النار وخالقها وخالق قوة الحراق فيها ،وهو وحده القادر على أنْ يسلبها هذه
الخاصية ،فيلقى فيها نبيه إبراهيم دون أن يحترق.
وهنا تكِمن العظمة وتظهر الحجة{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء.]69 :
ونلحظ فصاحة الداء في } وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَلْقَ[ { ...الروم ]27 :فهو أسلوب َقصْر ،حيث قدّم
المتعلق الذي حقّه أن يكون مؤخرا ،كما في{ إِيّاكَ َنعْ ُبدُ[} ...الفاتحة ]5 :فقدّم المفعول ،ومن حق
المفعول أن يُؤخّر عن الفعل والفاعل ،وقدّمه هنا ،لنقصر العبادة على ال وحده دون سواه ،وحتى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل نعطف على ال تعالى شيئا ،فلو قلت نعبدك لجاز أن تقول :ونعبد غيرك ،كذلك هنا } وَ ُهوَ
الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْخَ ْلقَ[ { ...الروم ]27 :أفادت تخصيص الخلق ل وحده دون أن نعطف عليه أحدا.
وقوله تعالى } وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ[ { ...الروم ]27 :الحقيقة ليس في المور بالنسبة ل تعالى هَيّن
وأهون ،إنما في عُرْفنا نحن ،وليُقرّب لنا الحق سبحانه َفهْم المسائل ،وإل فالحق سبحانه ل يعالج
ن فيكون.
المور ول يزاولها كما نعالجها نحن ،وإنما يفعل سبحانه بكُ ْ
لذلك لما نتأمل َقوْل مريم عليها السلم لما بشّرتها الملئكة بالمسيح قالتَ {:ربّ أَنّىا َيكُونُ لِي وَلَدٌ
سسْنِي َبشَرٌ[} ...آل عمران ]47 :فكيف فهمتْ مريم هذه المسألة ،ومَنْ أخبرها بأن الولد
وَلَمْ َيمْ َ
سيكون دون أن يمسّها بشر؟
سمُهُ ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
لقد فهمت مريم هذا من قول الملئكة{ إِنّ اللّهَ يُبَشّ ُركِ ِبكَِلمَةٍ مّنْهُ ا ْ
مَرْيَمَ[} ...آل عمران .]45 :فلو كان له أبٌ لذكرته الملئكة ،وما داموا قد نسبوه إلى أمه فل أب
له.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ { ...الروم ]27 :له المثل العلى
ثم يقول سبحانه } :وَلَهُ ا ْلمَ َثلُ الَعْلَىا فِي ال ّ
خذْها في
يعني :أن ال تعالى ل مثيل له ،فإنْ شابهه سبحانه شيء من خَلْقه في صفة من الصفات ف ُ
شيْءٌ[} ...الشورى ]11 :فلك وجود ل تعالى
إطار التقريب للمعنى ،وفي إطار{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
حيّ ،لكن حياتك ليست كحياته عز وجل..
حيّ وال َ
وجود ،لكن وجودك ليس كوجود ال ،أنت َ
وهكذا.
ل وأعلى ،فهي أفعل تفضيل بمعنى :الذي ل
ل الَعْلَىا[ { ...الروم ]27 :نقول :عا ٍ
وقوله } ا ْلمَ َث ُ
شيْءٌ[} ...الشورى ]1 :فينفي أن يوجد شبيه
يُشابه ول يُضاهي؛ لذلك يقول سبحانه{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
لمثل ال ل شبيه ل؛ لن الكاف هنا بمعنى :مثل .فكأنك قلت :ليس مِثْل مِثْله شيء.
وطريقة العرب في الداء في مسألة المشابهة يقولون :زيد مثل السد في الشجاعة ،فأنت تريد أن
تعطيني صورة لشجاعة زيد ،فذكرت أوضح شيء لهذه الصفة وهو السد ،فهو مُشبّه به.
إذن :فالسد أقوى من زيد في هذه الصفة ،وإل لما جعلتَ المشبّه به توضيحا لما ل تعلم.
ن وُجد مِثْل ل ل يوجد مثل لهذا المثْل،
شيْءٌ[} ....الشورى ]1 :تعني :إ ْ
فحين تقول {:لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
فنفيتَ المثل من باب َأوْلَى؛ لن الضعف وهو المثل المشبه أضعف من المشبه به ،فإذا كان المثل
أضعف من الممثّل ول يوجد مثل للضعف ،فكيف يوجد مثل للقوى؟
وانظر إلى جمال الحق سبحانه حين يُجلّي للخَلْق مثَلً في دنياهم ،ويجعل من ذاته -سبحانه
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ مَ َثلُ
وتعالى -المماثلة ،يقول تعالى ليُقرّب لفهامنا كيفية نوره {:اللّهُ نُورُ ال ّ
جةُ كَأَ ّنهَا َكوْ َكبٌ دُ ّريّ يُوقَدُ مِن شَجَ َرةٍ
شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ ا ْل ِمصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزّجَا َ
نُو ِرهِ َكمِ ْ
سهُ نَارٌ نّورٌ عَلَىا نُورٍ َيهْدِي
مّبَا َركَةٍ زَيْتُونَ ٍة لّ شَ ْرقِيّةٍ وَلَ غَرْبِيّةٍ َيكَادُ زَيْ ُتهَا ُيضِي ُء وََلوْ َلمْ َتمْسَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن َيشَآءُ[} ...النور.]35 :
فال -سبحانه وتعالى -يضرب المثَل لنوره بالمشكاة ،السطحيون يظنون أن المشكاة هي
شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ[} ...النور ]35 :والمشكاة تجويف في الحائط ،مثل
المصباح ،لكن ال يقول{ َكمِ ْ
الطاقة غير نافذة ،فإنْ كانت نافذة نسميها شباكا ،وكانوا في الماضي يضعون المصباح في هذه
الفجوة ليضيء الحجرة ،والفجوة هذه أو المشكاة تجمع الضوء وتُقوّيه؛ لذلك يكون الضوء فيها
أقوى من ضوء الحجرة ،أو :أن المصباح يستوعب المشكاة أكثر من استيعابه للحجرة كلها.
وبتأمل هذا المعنى نرى أن الحق سبحانه ل يضرب لنا مثَلً لنوره إنما لتنويره ،فتنوير ال تعالى
مِثْل المشكاة التي فيها المصباح ،والمصباح يدلّ على الرقي في وسائل الضاءة ،فدونه مثلً
الشعلة ،وهو فتيل يُوقَد في الهواء ويكون له دخان أسود ،أما المصباح فله زجاجة تحجز عنه
الهواء إل بقدر ما يكفي لحتراق الفتيل ،فيأتي الضوء منه صافيا.
ثم هو فضلً عن ذلك في زجاجة ليست عادية ،إنما{ كَأَ ّنهَا َك ْو َكبٌ دُ ّريّ[} ...النور ]35 :أي :مثل
الدرة التي تضيء بذاتها ،هذا المصباح يُوقَد من شجرة زيتونة معتدلة المزاج{ لّ شَ ْرقِيّ ٍة َولَ
غَرْبِيّةٍ[} ...النور ]35 :فتصوّر هذا المصباح في مكان ضيق ل في الحجرة كلها ،إنما في المشكاة
كيف يكون ضوؤه؟
كذلك تنوير ال -سبحانه وتعالى -للسماوات والرض على سعتهما ،فنوره تعالى يستوعبهما ،ل
يترك منهما مكانا مظلما كالطاقة بالنسبة لهذا المصباح الذي وصفنا.
ولهذا المثل قصة شهيرة في الدب العربي ،فقد فطن إليها أبو تمام في مدحه أحد الخلفاء ،وحين
أراد أنْ يجمع له مَلَكات العرب ومواهبهم من الجود والشجاعة والحِلْم والذكاء ،قال مادحا:إ ْقدَامُ
سمَاحَةِ حَات ٍم وفي حِلْم أحْنفَ في ذَكاءِ إيَاسِوقد اشتهر عمرو بن معدي كرب بالشجاعة
عمْروٍ في َ
َ
والقدام ،واشتهر حاتم الطائي بالكرم ،وأحنف بن قيس بالحلم حتى قيل " أحلم العرب " فل
حلْمه ،حتى أن جماعة قصدوا أنْ يخرجوه عن حِلْمه ،فتكون
يُغضِبه شيء أبدا ،ول يُخرجه عن ِ
سابقة لهم فتبعوه في الطريق ،وأخذوا يهزءُون به وهو يضحك ،حتى قارب من الحي ،فنظر إلى
هؤلء الفتية وقال :أيها الفتية ،لقد قربنا من الحيّ ،فإنْ كان في جوفكم استهزاء بي فافرغوا منه؛
لنهم لو ظفروا بكم لقتلوكم.
أما إياس بن معاوية فكان َمضْرب المثَل في الذكاء ،وهكذا جمع أبو تمام لممدوحه خلصة ما
تعرفه العرب من مواهب .وهنا قام له واحد من خصومه وقال :أتُشبّه الخليفة بأجلف العرب،
فمَنْ يكون هؤلء إذا ما قُورِنوا بأمير المؤمنين؟
ن لوْ رآهُ كانَ أصْغر
وهذا العتراض مأخوذ من قول الشاعر:وشَبّهه المدّاحُ في البَأْسِ والنّدَى بمَ ْ
خَادمِ َففِي جيشه خَمسُونَ ألفا كَعنت ٍر وَأ ْمضَى وفي خُدّامهِ ألفُ حاتمِفلما قيل لبي تمام :كيف تشبه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخليفة بأجلف العرب أحجم هنيهة ثم رفع رأسه ،وقال:لَ تُنكِروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثَلً
شكَاةِ والنّبراسِومع دقّة الستشهاد
شَرُودا في النّدَى والبَاسفال قد ضَربَ القلّ لِنُورِه مَثَلً من الم ْ
وطرافته إل أن خصومه اتهموه بأن ذلك ليس ارتجالً لوقته ،إنما هو مُعدّ لهذا الموقف سلفا،
وبعض الدارسين للدب يقول بذلك وقاله لنا مدرس الدب ،لكن يُروَى أنهم لما أخذوا الورقة التي
مع أبي تمام لم يجدوا فيها هذه البيات ،ثم على فرض أن الرجل أعدّها قبل هذا الموقف فإنها
تُحسَب له ل عليه ،وتضيف إليه ذكاءً آخر؛ لنه استدرك على ما يمكن أنْ يُقال فاستعد له.
وكما أن الحق سبحانه وتعالى له المثَل العلى في الرض ،فل مثيلَ له ،كذلك له المثل العلى
في السماء فل مثيلَ له ،مع أن ما في السماء غيب ،وهم الملئكة من صفاتهم كذا وكذا ،فلله المثَل
العلى في السماوات.
حكِيمُ { [الروم ]27 :أي :أنه سبحانه وتعالى بذاته عزيز ل
ثم يقول سبحانه } :وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
يُغلب ،ومع عزته سبحانه حكيم ل يظلم.
سكُمْ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :ضَ َربَ َلكُمْ مّثَلً مّنْ أَنفُ ِ
()3361 /
سوَاءٌ
سكُمْ َهلْ َل ُكمْ مِنْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُن ُكمْ مِنْ شُ َركَاءَ فِي مَا رَ َزقْنَاكُمْ فَأَنْ ُتمْ فِيهِ َ
ضَ َربَ َل ُكمْ مَثَلًا مِنْ أَ ْنفُ ِ
صلُ الْآَيَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ ()28
سكُمْ كَذَِلكَ ُن َف ّ
تَخَافُو َنهُمْ َكخِيفَتِكُمْ أَ ْنفُ َ
ضَرْب المثل أسلوب من أساليب القرآن للبيان والتوضيح وتقريب المسائل إلى الفهام ،ففي
موضع آخر يقول سبحانه {:إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ..البقرة:
.]26
س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُواْ لَهُ[} ...الحج ]73 :فهذا كثير من كتاب ال،
وقال سبحانه {:ياأَ ّيهَا النّا ُ
والمثَل يُضرب ليُجلّي حقيقة .والضّرْب هنا ل يعني إحداث أثر ضار بالمضروب ،إنما إحداث أثر
نافع إيجابي كما في قوله تعالى {:وَآخَرُونَ َيضْرِبُونَ فِي الَ ْرضِ[} ...المزمل.]20 :
وقولنا في مسألة سكّ العملة :ضُ ِربَ في كذا ،فكأن الضرب يُحدث في المضروب أثرا باقيا ،ففي
الرض بإثارة دفائنها واستخراج كنوزها ،وفي العملة بتَ ْركِ أثر بارز ل تمحوه اليدي في حركة
سكّ العملة ،ويجعل الفكرة
ل يوضح الشيء الغامض توضيحا بيّنا كما تُ َ
التداول ،وكأن ضَرْب الم َث َ
في الذهن قائمة واضحة المعالم .وللضرب عناصر ثلثة :الضارب ،والمضروب ،والمضروب
به.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعْبة السهام ،والسهام،
ويُروى في مجال المثال أن رجلً خرج للصيد معه آلته :الكنانة وهي ُ
والقوس ،فلما رأى ظبيا أخذ يُعدّ كنانته وقَوْسه للرمي لكن لم يمهله الظبي وفَرّ هاربا ،فقال له
آخر وقد رأى ما كان منه :قبل الرّماء تُمل الكنائن ،فصارت مثلً وإن قيل في مناسبة بعينها إل
ي موضع كما هو وبنفس ألفاظه دون أن نُغيّر فيه
أنه يُضرَب في كل مناسبة مشابهة ،ويقال في أ ّ
شيئا.
فمثلً ،حين ترى التلميذ المهمل يذاكر قبيل المتحان ،وحين ترى مَنْ يُقدِم على أمر دون أنْ يُعدّ
عدّته لك أنْ تقول :قبل الرّماء تُمل الكنائن .إذن :هذه العبارة صار لها مدلولها الواضح،
له ُ
ختْ في الذّهْن حتى صارتْ مثَلً يُضرب.
وترسّ َ
ن كنتَ ريحا فقد لقيتَ إعصارا.
وتقول لمن تسلّط عليك وادّعى أنه أقْوى منك :إ ْ
والحق سبحانه يضرب لنا المثل للتوضيح ولتقريب المعاني للفهام؛ لذلك يقول سبحانه {:إِنّ اللّهَ
لَ َيسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ...البقرة ]26 :يقف هنا بعض المتمحكين الذين
ن يضرب مثلً
يحبون أنْ يستدركوا على كلم ال ،يقولون :ما دام ال تعالى ل يستحي أ ْ
بالبعوضة فما فوقها من باب َأوْلى ،فلماذا يقول{ َفمَا َف ْو َقهَا[} ...البقرة.]26 :
وهذا يدل على عدم فهمهم للمعنى المراد ل عز وجل ،فالمعنى :فما فوقها أي :في الغرابة وفي
القلة والصّغر ،ل ما فوقها في الكِبَر.
ومن المثلة التي ضربها ال لنا ليوضح لنا قضية التوحيد قوله تعالى {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ
ح ْمدُ للّهِ َبلْ َأكْثَ ُرهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }[الزمر:
جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً الْ َ
شُ َركَآءُ مُ َتشَاكِسُونَ وَرَجُلً سَلَما لّ َر ُ
]29
فالذي يتخذ مع ال إلها آخر كالذي يخدم سيدين وليتهما متفقان ،إنما متشاكسان مختلفا ،فإنْ
أرضى أحدهما أسخط الخر ،فهو متعب بينهما ،فهل يستوي هذا العبد وعبد آخر يخدم سيدا
واحدا؟ كذلك في عبادة ال وحده ل شريك له.
فبالمثال اتضحت القضية ،ورسختْ في الذها؛ لذلك يقول سبحانه :أنا ل أستحي أنْ أضرب
المثال؛ لنني أريد أن أوضح لعبادي الحقائق ،وأُبيّن لهم المعاني.
سكُمْ[ { ...الروم.]28 :
} ضَ َربَ َلكُمْ مّثَلً مّنْ أَنفُ ِ
في هذه الية وبهذا المثَل يؤكد الحق -سبحانه وتعالى -في قمة تربية العقيدة اليمانية ،يؤكد
على واحدية ال وعلى أحديته ،فالواحدية شيء والحدية شيء آخر :الواحدية أنه سبحانه واحد ل
فرد آخر معه ،لكن هذا الفرد الواحد قد يكون في ذاته مُركّبا من أجزاء ،فوصف نفسه سبحانه
بأنه أحدٌ أي :ليس مُركّبا من أجزاء .أكّد ال هذه الحقيقة في قرآنه بالحجج وبالبراهين ،وضرب
لها المثل .وهنا يضرب لنا مثلً من أنفسنا ليؤكد على هذه الوحدانية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُمْ[ { ...الروم ]28 :يعني :ليس بعيدا عنكم ،وأقرب شيء للنسان نفسه،
وقوله تعالى } :مّنْ أَنفُ ِ
إذن :فأوضح مثَل لما غاب عنك أنْ يكون من نفسك ،ومن ذلك قوله تعالىَ {:لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ
سكُمْ[} ...التوبة ]128 :أي :من جنسكم تعرفون نشأته ،وتعرفون خُلُقه وسيرته.
أَنفُ ِ
لكن ،ما المثَل المراد؟
سوَآءٌ َتخَافُونَهُمْ كَخِيفَ ِتكُمْ
المثلَ } :هلْ ّلكُمْ مّن مّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مّن شُ َركَآءَ فِي مَا رَ َزقْنَاكُمْ فَأَن ُتمْ فِيهِ َ
سكُمْ[ { ...الروم.]28 :
أَنفُ َ
يقول سبحانه :أريد أنْ أضرب لكم مثلً على أن الله الواحد يجب عقلً ألّ تشركوا به أشياء
أخرى ،والمثل أنّي أرزقكم ،ومن رزقي لكم َموَال وعبيد ،فهل جئتم للرزق الذي رزقكم ال
وللعبيد وقلتم لهم :أنتم شركاء لنا في أموالنا تتصرفون فيها كما نتصرف نحن ،ثم جعلتم لهم
مطلق الحرية والتصرف ،ليكونوا أحرارا أمثالكم تخافونهم في أنْ تتصرفوا دونهم في شيء
كخيفتكم أنفسكم؟ هل فعلتم ذلك؟ بل هل تقبلونه على أنفسكم؟ إذن :لماذا تقبلونه في حق ال تعالى
وترضَوْن أنْ يشاركه عبيده في مكله؟
إنكم لم تقبلوا ذلك مع مواليكم وهم بشر أمثالكم ملكتموهم بشرع ال فائتمروا بأمركم .هذا معنى }
سكُمْ[ { ...الروم ]28 :أي :من البشر ،فهم مثلكم في الدمية ،وملكيتكم لهم ليست مُطْلقة،
مّنْ أَنفُ ِ
فأنتم تملكون رقابهم ،وتملكون حركة حياتهم ،لكن ل تملكون مثلً قتلهم ،ول تملكون منعهم من
فضاء الحاجة ،ل تملكون قلوبهم وإرادتهم ،ثم هو مُلْك قد يفوتك ،كأن تبيعه أو تعتقه أو حتى
بالموت .ومع ذلك ما اتخذتموهم شركاء ،فعَيْب أنْ تجعلوا ل ما تستنكفون منه لنفسكم.
ونلحظ هنا أن ال تعالى لم يناقشهم في مسألة الشركاء بأسلوب الخبر منه سبحانه ،إنما اختار
أسلوب الستفهام وهو أبلغ في تقرير الحقيقةَ } :هلْ ّلكُمْ مّن مّا مََلكَتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مّن شُ َركَآءَ فِي مَا
رَ َزقْنَاكُمْ[ { ...الروم.]28 :
وأنت ل تعدل عن الخبر إلى الستفهام عنه إل وأنت تعلم وتثق بأن الجابة ستكون في صالحك،
فمثلً حين ينكر شخصٌ جميلَك فتقول مُخبرا :فعلتُ معك كذا وكذا ،والخبر يحتمل الصدق
ويحتمل الكذب ،وقد ينكر فيقول :ل لم تفعل معي شيئا.
أما حين تقول مستفهما :ألم أفعل فعل كذا وكذا؟ فإنك تُلجئه إلى واقع ل يملك إنكاره ،ول يستطيع
أنْ يفرّ منه ،ول يملك إل أنْ يعترف لك بجميلك ول أقلّ من أنْ يسكت ،والسكوت يعني أن الواقع
كما قلت.
لذلك يستفهم الحق سبحانه وهو أعلم بخَلْقه } َهلْ ّلكُمْ مّن مّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مّن شُ َركَآءَ[ { ...الروم:
]28ل بدّ أنْ يقولوا :ل ليس لنا شركاء في أموالنا ،إذن :لماذا جعلتم ل شركاء؟
وقوله تعالى } :فِي مَا رَ َزقْنَا ُكمْ[ { ...الروم ]28 :سبق أنْ تحدثنا في مسألة الرزق وقلنا :إن ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تعالى هو الرازق ،ومع ذلك احترم ملكية خَلْقه ،واحترم سعيهم :لنه سبحانه واهب هذا الملك،
ول يعود سبحانه في هبته لخَلْقه؛ لذلك لما أراد أنْ يُحنن قلوب خَلْقه على خَلْقه قال {:مّن ذَا الّذِي
حسَنا[} ...البقرة ]245 :فاعتبر صدقتك على أخيك الفقير قرضا يردّه إليك
ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا َ
ُمضَاعفا.
والرزق ل يقتصر على المال -كما يظن البعض -إنما رزقك كلّ ما انتفعتَ به فهو رزق ينبغي
عليك أن تفيض منه على مَنْ يحتاجه ،وأن تُعدّيه إلى مَنْ يفتقده ،فالقويّ رزقه القوة يُعدّيها
للضعيف ،والعالم رزقه العلم يُعدّيه للجاهل ،والحليم رزقه حلْم يُعدّيه للغضوب وهكذا ،وإل فالمال
أهون ألوان الرزق؛ لن الفقير الذي ل يملك مالً ولم يتصدق أحد عليه قصارى ما يحدث له أن
يجوع ويُباح له في هذه الحالة أنْ يسأل الناس ،وما رأينا أحدا مات جوعا.
لكن ينبغي على الفقير إنْ ألجأتْه الحاجة للسؤال أنْ يسأل بتلطّف ولين ،فإنْ كان جائعا ل يسأل
جوْعته ،وسائل الطعام ل
سدّ َ
الناس مالً إنما لقمة عيش وقطعة جبن أو ما تيسّر من الطعام لي ُ
ن يأكل ،أما
يكذبه أحد لنه ل سأل إل عن جوع ،حتى لو سألك وهو شبعان فأعطيتَه ما استطاع أ ْ
سائل المال فقد نظن فيه الطمع وقصد الدخار .إذن :أفضح سؤال سؤال القوت.
ط َعمَآ أَهَْلهَا
لذلك في قصة الخضر وموسى عليهما السلم {:فَانطََلقَا حَتّىا إِذَآ أَتَيَآ َأ ْهلَ قَرْ َيةٍ اسْ َت ْ
ن يوصفوا بألَم
فَأَ َبوْاْ أَن ُيضَ ّيفُو ُهمَا[} ..الكهف ]77 :فلما منعوهم حتى لقمة العيش استحقّوا أ ْ
الناسِ ،وقد أباح الشرع للجائع أن يسأل الطعام من اللئيم فإن منعه فللجائع أن يأخذه ولو بالقوة،
وإذا رفع أمره إلى القاضي أيّده القاضي ،لذلك يقولون فيه :طالب قُوتٍ ما تعدّى.
والحق سبحانه تكفّل لك برزقك ،إنما جعل للرزق أسبابا وكل ما عليك أنْ تأخذ بهذه السباب ثم ل
سعْي هو مصدر الرزق ،فالسعي سبب،
تشغل بالك هما في موضوعه ،وإيالك أن تظن أن ال ّ
والرزق من ال ،وما عليك إل أنْ تتحرى السباب ،فإنْ أبطأ رزقك فأرحْ نفسك؛ لنك ل تعرف
عنوانه ،أمّا هو فيعرف عنوانك وسوف يَأتيك يطرق عليك الباب.
والذي يُتعب الناس أنْ يظل الواحد منهم مهموما لمر الرزق مُفكّرا فيه ،ولو علم أن الذي خلقه
واستدعاه للوجود قد تكفّل برزقه لستراح ،فإنْ أخطأت أسباب الرزق في ناحية اطمئن فسوف
يأتيك من ناحية أخرى.
ونذكر هنا قصة عروة بن أذينة وكان صديقا لهشام بن عبد الملك بالمدينة قبل أنْ يتولى هشامٌ
الخلفة ،فلما أصبح هشام أميرا للمؤمنين انتقل إلى دمشق بالشام ،أما عروة فقد أصابته فاقة ،فلما
ضاق به الحال تذكّر صداقته القديمة لهشام ،وما كان بينهما من وُدّ ،فقصده في دمشق علّه يُفرّج
ضائقته.
جاء عروة إلى دمشق واستأذن على الخليفة فأذن له ،فدخل وعرض على صاحبه حاجته وكله
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أمل في أنْ ينصفه ويجبر خاطره ،لكن هشاما لم يكن مُوفّقا في الردّ على صديقه حيث قال :أتيتَ
من المدينة تسألني حاجتك وأنت القائل:لَقد عَل ْمتِ ومَا الِسْرافُ مِنْ خُلُقي أنّ الذي هُو رِزْقي
سوفَ يَأْتِينيفقال عروة بعد أن كسر صديقه بخاطره :جزاك ال عني خيرا يا أمير المؤمنين ،لقد
نبّهتَ مني غافلً ،وذكّرتَ مني ناسيا ،ثم استدار وخرج.
وعندها أدار هشام المر في نفسه وتذكّر ما كان لعروة من وُدّ وصداقة ،وشعر بأنه أساء إليه
فأنّبه ضميره ،فاستدعى صاحب الخزانة ،وأمر لعروة بعطية كبيرة ،وأرسل بها مَنْ يلحق به.
لكن كلما وصل الرسول إلى (محطة) وجد عروة قد فارقها حتى وصل إلى المدينة ،ودقّ على
عروة بابه ،وكان الرسول لَبِقا ،فلما فتح عروة الباب قال :ما بكم؟ قال :رسل هشام ،وتلك صِلَة
حمْلها ،فأرسلنا
هشام لك لم يَ ْرضَ أنْ تحملها أنت خوفا عليك من قُطاع الطريق ،أو تحمل مؤونة َ
بها إليك.
فقال عروة :جزى ال أمير المؤمنين خيرا ،قولوا له لقد ذكرت البيت الول ،ولو ذكرت الثاني
لرحتَ واسترحتَ ،لقد قلت:لَقد عَل ْمتِ ومَا الِسْرافُ مِنْ خُلُقي أنّ الذي هُو رِزْقي سوفَ
يَأْتِينيأَسْعى إِليْهِ فَ ْيعْييني تطلبّه وَلوْ َق َع ْدتُ أتَاني ل يُعنّينَيثم يقول سبحانه بعد هذا المثلَ } :كذَِلكَ
صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ { [الروم ]28 :أي :نُبيّنها إل إليها ،ومعنى } َي ْعقِلُونَ { [الروم ]28 :من
ُنفَ ّ
سمّي عقلً؛ لنه يعقل صاحبه ويقيده عما ل يليق.
العقل ،و ُ
والبعض يظن أن العقل إنما جُعل لترتع به في خواطرك ،إنما هو جاء ليقيد هذه الخواطر،
ويضبط السلوك ،يقول لك :اعقل خواطرك وادرسها ل تنطلق فيها على هواك تفعل ما تحب ،بل
تفعل ما يصح وتقول ما ينبغي .إذن :ما قصّرنا في البيان ول في التوضيح.
ويتجلّى دور العقل المجرد وموافقته حتى للوحي في سيرة الفاروق عمر رضي ال عنه ،وفي
وجود رسول ال ،وهو ينزل عليه الوحي يأتي عمر ويشير على رسول ال بأمور ،فينزل الوحي
موافقا لرأي عمر ،وكأن الحق -تبارك وتعالى -يلفت أنظارنا إلى أن العقل الفطري إذا فكّر في
أمر بعيدا عن الهوى ل بُدّ أنْ يصل إلى الصواب وأنْ يوافق حقائق الدين ،أمّا إنْ تدخّل الهوى
فسد الفكر.
صلُ اليَاتِ ِلقَوْمٍ َيعْقِلُونَ { [الروم ]28 :العقل وسيلة من وسائل الدراك في
وقوله تعالى } كَذَِلكَ ُن َف ّ
س ْمعَ
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
النسان؛ لن ال تعالى قال {:وَاللّهُ أَخْ َر َ
شكُرُونَ }[النحل.]78 :
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ تَ ْ
وَالَبْصَا َر وَا َ
لكن ،كيف تُربّى المور العقلية في الناس؟ تُربّى عن طريق الحواس والدراك ،فالعين ترى،
والذن تسمع ،واللسان يتذوق ،واليد تلمس ،والنف يشمّ ،إلى آخر الحواس التي توصلنا إليها
كحاسة البين ،وحاسة العضل وغيرها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك احتاط العلماء في تسمية الحواس فقالوا " الحواس الخمس الظاهرة " ليدعوا المجال مفتوحا
لحواس أخرى ،فهذه الوسائل تدرك المعلومات وتنقلها إلى العقل ليراجعها وينتهي فيها إلى قضايا
يجعلها دستورا لحياته ،فأنت تأكل مثلً العسل فتدرك حلوته ،وتأكل الجبن فتدرك ملوحته،
فتتكون لديك قضية عقلية أن هذا حلو ،وهذا مالح ..إلخ.
وحين تستقر هذه القضايا في القلب تصير عقيدة ل تخرج للتفكير مرة أخرى ،ول تمر على العقل
بعد ذلك ،فقد انعقد عليها الفؤاد ،وترسختْ في الذهن.
و َدوْر العقل أن يعقل هذه القضايا ،وأنْ يختار بين البدائل ،والمر الذي ل بديلَ له ل عملَ للعقل
فيه ،فلو أنك مثلً ستذهب إلى مكان ليس له إل طريق واحد فل مجال للتكفير فيه ،لكن إنْ كان
ن يفاضل بينها ويختار النسب منها فيسلكه.
لهذا المكان أكثر من طريق فللعقل أ ْ
وما دام العقل هو الذي يختار فهو الميزان الذي تَزِن به الشياء ،وتحكم به القضايا؛ لذلك ل بُدّ له
ن يكون سليما لتأتي نتائجه كذلك سليمة وموضوعية ،ومعلوم أن الميزان يختلف باختلف
أْ
الموزون وأهميته.
س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ }
شمْ ُ
والحق سبحانه يعطينا مثالً لدقة الميزان في الشمس والقمر ،فيقول{ ال ّ
[الرحمن ]5 :أي :بحساب دقيق ،ولول الدقة فيهما ما أخذناهما ميزانا للوقت ،فبالشمس نعرف
الليل والنهار ،وبالقمر نعرف الشهور.
صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ { [الروم ]28 :يعني :أننا عملنا ما علينا من
فحين يقول سبحانه } كَ َذِلكَ ُنفَ ّ
التفصيل والبيان ،وتوضيح الحجج والبراهين ،ولكن أنتم الذين ل تعقلون.
ن ل عقل له من
ولما كان العقل هو آلة الختيار بين البدائل وآلة التمييز أعفى الحق سبحانه مَ ْ
التكاليف ،أعفى الطفل الصغير الذي لم يبلغ؛ لن عقله لم ينضج بعد ،ولن حواسّه لم تكتمل.
وتتجلى حكمة الشارع في قول النبي صلى ال عليه وسلم " مروا أولدكم بالصلة لسبع،
واضربوهم عليها لعشر " فجعل من ضمن تكليف الباء أنْ يُكلّفوا هم البناء في هذه السنّ ،لتكون
لهم دُرْبة على طاعة المر والنهي في وقت ليس عليهم تكليف مباشر من ال تعالى.
فإذا كبر الصغير يستقبل تكليفي كما استقبل تكليفك أولً ،وربّك ما افتات عليك في هذه المسألة،
ن قصّر ،فأنت الذي تُكلّف ،وأنت الذي
فأعطاك حق التكليف بالصلة ،وأعطاك حق أنْ تعاقبه إ ْ
تعاقب.
وأعفى المجنون لن آلة الختيار عنده غير سليمة وغير صالحة ،وقلنا :إن علمة النضج في
النسان أن يصير قادرا على إنجاب مثله ،ومثّلْنا لذلك بالثمرة التي ل تحلو إل بعد نضجها ،بحيث
إذا أكلت زرعتَ بذرتها ،فأنبتت ثمرة جديدة ،وهكذا يحدث بقاء النوع وتستمر الدورة.
فربك ل يريد أن تأكل أكلة واحدة ،ثم تُحرم أو يُحرم مَنْ يأتي بعدك ،إنما يريد أنْ تأكل ويأكل كل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مَنْ يأتي بعدك ،فل تأخذ الثمرةُ حلوتها إل بعد ُنضْج بذرتها ،وصلحيتها للنبات.
وقوله تعالىِ } :لقَوْمٍ َيعْقِلُونَ { [الروم ]28 :يدل على أن الذين يتخذون مع ال شركاء غير
عاقلين ،وإل فما معنى عبادة الصنام أو الشجار أو الشمس أو القمر؟ وقد قالوا بألسنتهم {:مَا
َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى[} ...الزمر.]3 :
فما هي العبادة؟ العبادة طاعة العابد لمر المعبود و َنهْيه ،إذن :بماذا أمرَ ْتكُم هذه اللهة؟ وعَمّ
نه ْتكُم؟ ما المنهج الذي وضعتْه لكم؟ ماذا أعدتْ لمن أطاعها من النعيم؟ وماذا أعدتْ لمن عصاها
من العذاب؟ ل شيء إل أنها آلهة بدون تكاليف ،وما أيسرَ أنْ يعبد النسانُ إلها ل تكاليف له ،ل
يُقيدك فيما تحب من شهوات ،ول يُحمّلك مشقة العبادة ،وهنا يتضح عدم العقل.
وأيضا عدم العقل في ماذا؟ ال خلقك في كون فيه أجناس ،والجناس تحكمها سلسلة الرتقاء،
فجنس أعلى من جنس ،والجنس العلى في خدمة الجنس القل.
ولو استقرأتَ أجناس الوجود تجد أن معك أيها النسان جنسا آخر يشاركك الحسّ والحركة ،لكن
ليس له عقل واختيار بين البدائل؛ لنه محكوم بالغريزة منضبط بها ،وهذا هو الحيوان الذي ل
ينفكّ عن الغريزة أبدا.
وسبق أنْ ضربنا مثلً لذلك بالغريزة الجنسية عند النسان وعند الحيوان ،وأن ال تعالى إنما
حفْظ النوع ،فالحيوان المحكوم بالغريزة يؤدي هذه المهمة للتكاثر ويقف بها عند
جعلها لتكاثر و ِ
ن تمكّنه من نفسها بعد ذلك ،وهو أيضا يشمّ رائحة النثى،
حدّها ،فإذا لقّح الذكر النثى يستحيل أ ْ
فإنْ كانت حاملً ينصرف عنها.
أما النسان فغير ذلك؛ لن له شهوة تتحكم فيه ،فالمرأة تتحمل مشقة الحمل وألم الولدة ،ثم تربية
حفْظ النوع في النسان بشهوة هي أعنف شهوات
المولود إلى أنْ يكبر ،ولول أن ال تعالى ربط ِ
النفس ما أقدمتْ المرأة على الحمل مرة أخرى.
وما قُلْناه في غريزة الجنس نقوله في الطعام والشراب ،الحيوان محكوم فيها بالغريزة المطلقة التي
خلَ للهوى فيها ،فإذا شبع ل يأكل مهما حاولتَ معه ،بل ونرى الحمار الذي نقول عنه إنه
ل دَ ْ
حمار ل يأكل عودا واحدا بعد شِبَعه ،ويمر على النعناع الخضر مثلً أو على الملوخية فل
يأكلها ،ويذهب إلى الحشائش اليابسة ،فهو يعرف طعامه بالغريزة التي جعلها ال فيه.
أما النسان فيأكل حتى التّخْمة ،ثم ل ينسى بعد ذلك الحلو والبارد والمهضم ..الخ ذلك؛ لنه أسير
لشهوة بطنه ،حتى إن من الناس مَنْ يغضب؛ لنه شبع فهو يريد ألّ يفارق المائدة.
وقد حدثنا رجال حديقة الحيوان بعد زلزال 1992أنهم شاهدوا هياجا في الحيوانات المحبوسة في
القفاص قبل حدوث الزلزال ،كان أولها الوطواط ،ثم الزرافة ،ثم التمساح ،ثم القرود ،ثم الحمير،
وكأنهم يريدون تحطيم القفاص والخروج منها ،بعدها حدث الزلزال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك ما شاهده أهل أغادير بالدار البيضاء قبل الزلزال الذي وقع بها ،حيث شاهدوا الحمير تفك
قيودها ،وتفرّ هاربة إلى الخلء ،وبعدها وقع الزلزال .إذن :لدى هذه الحيوانات استشعار بالزلزال
قبل أن يقع.
وقد أعطانا الحق -سبحانه وتعالى -مثالً لهذه الغريزة في قصة الغراب الذي علّم النسان كيف
حثُ فِي الَ ْرضِ لِيُرِيَهُ كَ ْيفَ
يُواري الميت ،فقال تعالى في قصة وَلَ َديْ آدم {:فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا يَ ْب َ
سوْ َءةَ أَخِيهِ[} ...المائدة.]31 :
ُيوَارِي َ
عقْل هؤلء الذين جعلوا ل شركاء ،فأجناس الوجود:
نعود إلى حديثنا عن أجناس الكون لبيان عدم َ
النسان ،ثم الحيوان ،ثم النبات ،ففيه حياة ونمو ،ثم الجماد أقل الموجودات درجة ،وهو خادم
للنبات وللحيوان وللنسان ،فكل جنس من هذه يخدم الجنس العلى منه.
فماذا فعل الكفار حينما عبدوا الصنام؟ جعلوا الجماد الذي هو أدنى المخلوقات أرقاها وأعظمها،
ل عقلً من هؤلء؟
جعلوه إلها ُيعْبد ،وهل هناك أق ّ
لذلك يقول الحق سبحانهَ } :بلِ اتّ َبعَ الّذِينَ.{ ...
()3362 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما حين تتعدد الهواء فَلَك محبوب ،ولي محبوب آخر ،فإنها ل شكّ تتعارض وتتعاند ،وال تعالى
يريد من المجتمع اليماني أن تتساند كل أهوائه ،وأن تتعاضد ل تتعارض ،وأن تتضافر ل
تتضارب؛ لن تضارب الهواء يُبدّد حركة الحياة ويضيع ثمرتها.
أمّا إنْ كان هواي هو هواك ،وهو هوى ليس بشريا ،إنما هوى رسمه لنا الخالق -عز وجل -
ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك:
فسوف نتفق فيه ،وتثمر حركة حياتنا من خلله{ َألَ َيعَْلمُ مَنْ خََل َ
.]14
وسبق أنْ قُلْنا :إن صاحب الصّنْعة في الدنيا يجعل معها كتالوجا يُبيّن طريقة صيانتها ،والحق -
سبحانه وتعالى -هو الذي خلقك ،وهو الذي يُحدّد لك هواك ،وأول فشل في الكون أن الناس
المخلوقين ل يريدون أنْ يضعوا للبشر قانون صيانتهم من عند أنفسهم.
ونقول :هذا ل يصح؛ لن الذي يُقنّن ويضع للناس ما يصونهم ينبغي أن تتوفر فيه شروط :أولها:
أن يكون على علم محيط ل يستدرك عليه ،وأنت أيها النسان عِلْمك محدود كثيرا ما تستدرك أنت
عليه بعد حين ،ويتبين لك عدم مناسبته وعدم صلحيته.
بل وتبين أنت بنفسك فساد رأيك فترجع عنه إلى غيره ،كما يجب على مَنْ يشرّع للناس الهوى
الوحد أن يكونوا جميعا بالنسبة له سواء ،وأل ينتفع هو بما يشرّع ،وإل لو كانت له منفعة فإنه
سوف يميل إلى ما ينفعه ،فل يكون موضوعيا كما رأينا في الشيوعية وفي الرأسمالية وغيرها من
المذاهب البشرية.
والحق -سبحانه وتعالى -هو وحده الذي ل يُستْدرك عليه؛ لن علمه محيط بكل شيء ل تخْفى
خلْق جميعا الذين يشرع لهم أمامه سواء ،وكلهم عباده ،ل يحابي منهم أحدا ،ول
عليه خافية ،وال َ
يميز أحدا على أحد ،وليس له سبحانه من خَلْقه صاحبة ول ولد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا الكلم وما عقلوه.
} َبلِ اتّبَعَ الّذِينَ ظََلمُواْ أَ ْهوَآ َءهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ[ { ...الروم ]29 :ظلموا لنهم عزلوا الهوى الواحد،
ت وتضاربت ،فلم يصلوا منها إلى نتيجة.
ونَحّوه جانبا ،وأخذوا أهواءً شتى تعارض ْ
وما ظلموا بالشرك إل أنفسهم ،وال تعالى يقول {:إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان ]13 :ظلموا
أنفسهم حينما أعطوها شهوة عاجلة ولذة فانية ،وغفلوا عن عاقبة ذلك ،فهم إما كارهون لنفسهم،
أو يحبونها حبا أحمق ،وهذه آفة الهوى حينما يسبق العقل ويتحكم فيه.
وقوله تعالىِ } :بغَيْرِ عِلْمٍ[ { ...الروم ]29 :أولً :ما هو العلم؟ في الكون قضايا نجزم بها ،فإنْ
كان ما نجزم به مطابقا للواقع ونستطيع أن ندلل عليه -كما نُعلّم مثلً الولد الصغير :ال أحد،
فإن استطاع أن يدلل عليها فهي عِلْم ،وإنْ لم يستطع فهي تقليد.
وكمن يقول مثلً :الرض كروية وهي فعلً كذلك ،أما مَنْ يكابر حتى الن ويقول ليست كروية،
والواقع أنها كروية ،فهذا جهل.
إذن :نقول ليس الجهل ألّ تعلم ،إنما الجهل أنْ تععلم قضية على خلف الواقع؛ لذلك نُفرّق بين
الجاهل والمي :المي خالي الذّهْن ليست لديه قضية من أساسه ،فإنْ أخبرته بقضية أخذها منك
دون عناد ،ودون مكابرة أمّا الجاهل فعنده قضية خاطئة معاندة ،فيحتاج منك أولً لنْ تُخرِج
القضية الفاسدة لتُلِقي إليه بالقضية الصحيحة.
فإنْ كانت القضية ل تصل إلى مرتبة أنْ نجزم بها ،فتنظر :إنْ تساوي الثبات فيها مع النفي فهي
الشك ،إذن :فالشكّ قضية غير مجزوم بها يستوي فيها الثبات والنفي ،فإنْ غلّ ْبتَ جانب الثبات
ورجّحته فهو ظن ،أما إنْ غلّبت جانب النفي فهو وهم.
فعندنا -إذن -من أنواع القضايا :علم ،وجهل وتقليد ،وظن ،ووَهْم.
فالحق سبحانه يريد الهوى الذي تخدمه حركة حياتنا هوى عن علم وعن قضية مجزوم بها،
مطابقة للواقع ،وعليها دليل ،لكن ما دام هؤلء قد اتبعوا أهواءهم المتفرقة ،وأخذوها بدون
ضلّ اللّهُ...
أصولها من العلم ،فسوف أكمل لهم ما أرادوا وأعينهم على ما أحبّوا } َفمَن َيهْدِي مَنْ َأ َ
سقْنا لهم الدلة والبراهين.
{ [الروم ]29 :فقد ألغواْ عقولهم وعطّلوها وعشقوا الكفر بعد ما ُ
إذن :لم يَبْقَ إل أنْ أعينكم على ما تعتقدون ،وأنْ أساعدكم عليه ،فأختم على قلوبكم ،فل يدخلها
إيمان ول يفارقها كفر ،لنني رب أعين عبدي على ما يريد .وهكذا يُضل ال هؤلء ،بمعنى:
شقَوه ،كما قال سبحانه {:خَتَمَ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ
يعينهم على ما هم عليه من الضلل بعد أنْ عَ ِ
غشَا َوةٌ وََلهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }[البقرة.]7 :
س ْم ِعهِ ْم وَعَلَىا أَ ْبصَارِهِمْ ِ
وَعَلَىا َ
لذلك نحذر الذين يصابون بمصيبة ،ثم ل يَسْلُون ،ول ينسون ،ويلزمون الحزن ،نحذرهم ونقول
لهم :ل تدعوا باب الحزن مفتوحا ،وأغلقوه بمسامير الرضا ،وإل تتابعتْ عليكم الحزان؛ لن ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تعالى رب يُعين عبده على ما يحب ،حتى الساخط على قدره تعالى.
ضلّ اللّهُ[ { ...الروم ]29 :يعني :مَنْ ينقذه؟ ومَنْ يضع له قانون
فالمعنى } َفمَن َيهْدِي مَنْ َأ َ
صيانته إنْ تخلّى عنه ربه وتركه يفعل ما بدا له؟ ل أحد .وأنت إذا نصحتَ صاحبك وكررتَ له
النصْح فلم يُطعْك تتخلى عنه ،بل إن أحد الحكماء يقول :انصح صاحبك من الصبح إلى الظهر،
ومن الظهر إلى العصر ،فإنْ لم يطاوعك ضلّله -أو أكمل له بقية النهار غِشّا.
وسبق أن تحدثنا عن الطريقة الصحيحة في بحث القضايا لتصل إلى الحكم الصائب فيها ،فل
تدخل إلى العلم بهوى سابق ،بل أخرج كل ما في قلبك يؤيد هذه القضية أو يعارضها ،ثم ابحث
القضية بموضوعية ،فما تقتنع به الموازين العقلية وتُرجّحه أدخله إلى قلبك.
ل وفي القلب مَيْل للشيوعية مثلً ،فننتهي إلى
والذي يُتعب الناس الن أن نناقش قضية السلم مث ً
نتيجة غير سليمة.
ثم يقول سبحانهَ } :ومَا َلهُمْ مّن نّاصِرِينَ { [الروم ]29 :يعني :يا ليت لهم مَنْ ينقذهم إنْ أضلّهم
ال فختم على قلوبهم ،فل يدخلها إيمان ،ول يخرج منها كفر ،فليس لهم من ال نصير ينصرهم،
ول مجير يجيرهم من ال ،وهو سبحانه يجير ول ُيجَار عليه.
ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفا فِطْ َرتَ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :فََأ ِق ْم وَ ْ
()3363 /
الخطاب هنا للنبي صلى ال عليه وسلم :يا محمد ،ما دام المر كذلك ،وما داموا قد اتبعوا
أهواءهم وضلوا ،وأصروا على ضللهم ،فدَعْك منهم ول تتأثر بإعراضهم.
سكَ
خعٌ ّنفْ َ
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }[الشعراء ]3 :وقال له {:فََلعَّلكَ بَا ِ
كما قال له ربهَ {:لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
حدِيثِ أَسَفا }[الكهف.]6 :
عَلَىا آثَارِ ِهمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا الْ َ
فما عليك يا محمد إل البلغ ،واتركهم لي ،وإياك أن يؤثر فيك عنادهم ،أو يحزنك أن يأتمروا
بك ،أو يكيدوا لك ،فقد سبق القول مني أنهم لن ينتصروا عليك ،بل ستنتصر عليهم.
وهذه قضية قرآنية أقولها ،وتُسجّل عليّ {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ
ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173-171 :
{ وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ[} ...الحج.]40 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُ ْركُمْ[} ...محمد.]7 :
هذه قضية قرآنية مُسلّم بها ومفروغ منها ،وهي على ألسنتنا وفي قلوبنا ،فإنْ جاء واقعنا مخالفا
لهذه القضية ،فقد سبق أنْ أكدها واقع المم السابقة ،وسيحدث معك مثل ذلك؛ لذلك يُطمئن الحق
جعُونَ }[غافر:
نبيه صلى ال عليه وسلم {:فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُهُمْ َأوْ نَ َت َوفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا يُ ْر َ
.]77
عكَ من هؤلء الضالين ،وتفرّغ لمهمتك في
ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفا[ } ...الروم ]30 :أي :د ْ
فهنا { فََأقِمْ وَ ْ
الدعوة إلى ال ،وإياك أنْ يشغلوك عن دعوتك.
ومعنى إقامة الوجه للدين يعني :اجعل وجهْتك لربك وحده ،ول تلتفت عنه يمينا ول شمالً ،وذكر
الوجه خاصة وهو يعني الذات كلها؛ لن الوجه سِمة القبال.
جهَهُ[} ...القصص ]88 :يعني :ذاته تعالى.
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
ومنه قوله سبحانهُ {:كلّ َ
ومعنى { حَنِيفا[ } ...الروم ]30 :هذه الكلمة من الكلمات التي أثارت تذبذبا عند الذين يحاولون أنْ
يستدركوا على كلم ال؛ لن معنى الحنيف :مائل الساقين فترى في رِجلْه انحناء للداخل ،يقال:
في قدمه حنف أي ميل ،فالمعنى :فأقم وجهك للدين مائلً ،نعم هكذا المعنى ،لكن مائلً عن أيّ
شيء؟
ل ُبدّ أن تفهم المعنى هنا ،حتى ل تتهم أسلوب القرآن ،فإن الرسول صلى ال عليه وسلم جاء
ليصلح مجتمعا فاسدا منحرفا يدين بالشرك والوثنية ،فالمعنى :مائلً عن هذا الفساد ،ومائلً عن
هذا الشرك ،وهذه الوثنية التي جئت لهدمها والقضاء عليها ،ومعنى :مال عن الباطل .يعني :ذهب
إلى الحق.
و (َأقِمْ) هنا بمعنى :أقيموا ،لن خطاب الرسول خطاب لمته ،بدليل أنه سبحانه سيقول في الية
بعدها {:مُنِيبِينَ إِلَيْهِ[} ...الروم ]31 :ولو كان المر له وحده لَقالَ منيبا إليه ،ومثال ذلك أيضا قوله
تعالى {:ياأ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ َفطَّلقُوهُنّ ِل ِعدّ ِتهِنّ[} ...الطلق.]1 :
فالخطاب للمة كلها في شخص رسول ال؛ لنه صلى ال عليه وسلم هو المبلّغ ،والمبلّغ هو الذي
يتلقى المر ،ويقتنع به أولً ليستطيع أنْ يُبلّغه؛ لذلك قال الحق سبحانه وتعالىّ {:لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي
س َوةٌ حَسَ َنةٌ} ...
رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ
[الحزاب.]21 :
وقال } حَنِيفا[ { ...الروم ]30 :لن الرسل ل تأتي إل على فساد شمل الناس جميعا؛ لن الحق
سبحانه كما خلق في الجسم مناعة مادية خلق فيه مناعة قيمية ،فالنسان تُحدّثه نفسه بشهوة وتغلبه
عليها ،فيقع فيها ،لكن ساعة ينتهي منها يندم عليها ويُؤنّبه ضميره ،فيبكي على ما كان منه ،وربما
يكره من أعانه على المعصية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه هي النفس اللوامة ،وهي علمة وجود الخير في النسان ،وهذه هي المناعة الذاتية التي
تصدر من الذات.
وفَرْق بين مَنْ تنزل عليه المعصية وتعترض طريقه ،ومَنْ يُرتّب لها ويسعى إليها ،وهذا بيّن في
جهَاَلةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ[} ...النساء:
قوله تعالى {:إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ بِ َ
.]17
فَرْق بين مَنْ يذهب إلى باريس لطلب العلم ،فتعترض طريقه إحدى الفتيات ،ومَنْ يذهب إلى
باريس لنه سمع عما فيها من إغراء ،فهذا وقع في المعصية رغما عنه ،ودون ترتيب لها ،وهذا
قصدها وسعى إليها ،الول غالبا ما يُؤنّب نفسه وتتحرك بداخله النفس اللوامة والمناعة الذاتية ،أما
الخر فقد أِل َفتْ نفسه المعصية واستشرتْ فيها ،فل بُدّ أن تكون له مناعة ،ليست من ذاته ،بل من
المجتمع المحيط به ،على المجتمع أن يمنعه ،وأن يضرب على يديه.
والمناعة في المجتمع ل تعني أن يكون مجتمعا مثاليا ل يعرف المعصية ،بل تحدث منه
المعاصي ،لكنها مُفرّقة على أهواء الناس ،فهذا يميل إلى السرقة ،وهذا يميل إلى النظر إلى
المحرمات ،وهذا يحب كذا ..إلخ.
إذن :ففي الناس مواطن القوة ،ومواطن ضعف ،وعلى القوي في شيء أن يمنع الضعيف فيه ،وأنْ
عمِلُواْ
ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
يزجره ويُقومّه؛ لذلك يقول تعالى {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر.]3-1 :
ق وَ َتوَا َ
ت وَ َتوَاصَوْاْ بِا ْلحَ ّ
الصّالِحَا ِ
عمّ الفساد وطَمّ كما قال تعالى عن اليهود {:كَانُو ْا لَ يَتَنَا َهوْنَ عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ[} ...المائدة:
فإذا َ
]79وفقد المجتمع أيضا مناعته .فل بُدّ أنْ تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة ،لينقذ
هؤلء.
علَ ْيهَا[ { ...الروم ]30 :فنحن نرى البشر يتخذون
ثم يقول تعالىِ } :فطْ َرتَ اللّهِ الّتِي َفطَرَ النّاسَ َ
الطعوم والمصال للتحصين من المراض ،كذلك الحق سبحانه -وله المثل العلى -جعل هذا
المصل التطعيمي في كل نفس بشرية ،حتى في التكوين المادي.
أل ترى قوله تعالى في تكوين النسان {:ياأَ ّيهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَ ْيبٍ مّنَ الْ َب ْعثِ فَإِنّا خََلقْنَاكُمْ مّن
خّلقَةٍ[} ...الحج.]5 :
ضغَةٍ مّخَّلقَ ٍة وَغَيْرِ مُ َ
طفَةٍ ثُمّ مِنْ عََلقَةٍ ُثمّ مِن ّم ْ
تُرَابٍ ثُمّ مِن نّ ْ
فالمخلّقة هي التي تكوّن العضاء ،وغير المُخلّقة هي الرصيد المختزن في الجسم ،وبه يعوّض
أيّ خلل في العضاء المخلّقة ،فهي التي تمده بما يصلحه ،كذلك في القيم جاء دين ال فطرت ال
التي فطر الناس عليها ،فإذا تدخلتْ الهواء وحدثتْ الغفلة جاءتْ المناعة ،إما من ذات النفس،
وإما من المجتمع ،وإما برسول ومنهج جديد.
وقد كرّم ال أمة محمد بأن يكون رسولُها خاتَم الرسل ،فهذه بُشْرى لنا بأن الخير باقٍ فينا ،ول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يزال في يوم القيامة ،ولن يفسد مجتمع المسلمين أبدا بحيث يفقد كله هذه المناعة ،فإذا فسدتْ فيه
طائفة وجدت أخرى تُقوّمها ،وهذا واضح في قول النبي صلى ال عليه وسلم.
" ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ،ل يضرهم من خذلهم ،حتى يأتي أمر ال وهم
كذلك ".
وقال صلى ال عليه وسلم " :الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة ".
عمّ الفساد هذه المة لقتضى المر شيئا آخر.
وإل لو َ
وحين نقرأ الية نجد أن كلمة } ِفطْ َرتَ[ { ...الروم ]30 :منصوبة ،ولم يتقدم عليها ما ينصبها،
فلماذا ُنصِ َبتْ؟ السلوب هنا يريد أن يلفتك لسبب النصب ،وللفعل المحذوف هنا ،لتبحث عنه
بنفسك ،فكأنه قال :فأقم وجهك للدين حنيفا والزم فطرت ال التي فطر الناس عليها.
لذلك يسمي علماء النحو هذا السلوب أسلوب الغراء ،وهو أن أغريك بأمر محبوب وأحثّك على
ِفعْله ،كذلك الحق سبحانه يغري رسوله صلى ال عليه وسلم بأنْ يُقيم وجهه نحو الدين الخالص،
وأنْ يلزم فطرت ال ،وأل يلتفت إلى هؤلء المفسدين ،أو المعوّقين له.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[} ...يوسف ]101 :يعني:
والفطرة :يعني الخلقة كما قال سبحانه {:فَاطِرَ ال ّ
ن وَالِنسَ ِإلّ لِ َيعْبُدُونِ }[الذاريات.]56 :
خالقهما ،والفطرة المرادة هنا قوله تعالىَ {:ومَا خََل ْقتُ ا ْلجِ ّ
فالزم هذه الفطرة ،واعلم أنك مخلوق للعبادة.
أو :أن فطرت ال تعني :الطبيعة التي أودعها ال في تكوينك منذ خلق الُ آدم ،وخلق منه ذريته،
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا[} ...العراف.]172 :
وأشهدهم على أنفسهم{ أَلَ ْ
وسبق أنْ بيّنا كيف أن في كل منا ذرة حية من أبينا آدم باقية في كل واحد منا ،فالنسان ل ينشأ
إل من الميكروب الذكري الحي الذي يُخصّب البويضة ،وحين تسلسل هذه العملية ل ُبدّ أن تصل
بها إلى آدم عليه السلم.
وهذه الذرة الباقية في كل منا هي التي شهدتْ العهد الول الذي أخذه ال علينا ،وإل فالكفار في
الجاهلية الذين جاء رسول ال لهدايتهم ،كيف اعترفوا ل تعالى بالخلق {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ[} ...الزمر.]38 :
ال ّ
من أين عرفوا هذه الحقيقة؟ ُنقِلت إليهم من هذا العهد الول ،فمنذ هذا العهد لم يجرؤ أحد من خَلْق
ال أنْ يدّعي هذا الخَلْق لنفسه ،فظلت هذه القضية سليمة في الذهان مع ما حدث من فساد في
معتقدات البشر.
وتظل هذه القضية قائمة بالبقية الباقية من هذا العهد الول ،حتى عند الكفار والملحدة ،فحين
تكتنفهم الحداث وتضيق بهم أسبابهم ،تراهم يقولون وبل شعور :يا رب ،ل يدْعون صنما ول
شجرا ،ول يذهبون إلى آلهتهم التي اصطنعوها ،فهم يعلمون أنها كذب في كذب ،ونصب في
نصب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والن ل يخدعون أنفسهم ول يكذبون عليها ،الن وفي وقت الشدة وحلول الكرب ليس إل ال
يلجئون إليه ،ليس إل الحق والفطرة السليمة التي فطر ال الناس عليها.
وما دام ال قد فطرنا على هذه الفطرة ،فل تبديل لما أراده سبحانه } :ذَِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ[ { ...الروم:
س لَ َيعَْلمُونَ { [الروم ]30 :أي :ل يعلمون العلم على
]30أي :الدين الحق } وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
حقيقته والتي بيّناها أنها الجزم بقضية مطابقة للواقع ،ويمكن إقامة الدليل عليها.
ثم يقول الحق سبحانه } :مُنِيبِينَ إِلَيْ ِه وَا ّتقُوهُ.{ ...
()3364 /
مُنِيبِينَ إِلَيْ ِه وَا ّتقُوهُ وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَلَا َتكُونُوا مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ ()31
أناب :يعني رجع وقطع صلته بغير الحق { إِلَيْهِ[ } ...الروم ]31 :إلى ال ،فل علقة له بالخَلْق
في مسألة العقائد ،فجعل كل علقته بال.
ومنه يسمون الناب؛ لنه يقطع الشياء ،ويقولون :ناب إلى الرشد,،وثاب إلى رشده ،كلها بمعنى:
رجع ،وما دام هناك رجوع فهناك أصل يُرجع إليه ،وهو أصل الفطرة.
وقوله تعالى { وَا ّتقُوهُ[ } ...الروم ]31 :لنه ل يجوز أنْ تنيب إلى ال ،وأن ترجع إليه ،وأن
تجعله في بالك ثم تنصرف عن منهجه الذي شرّعه لينظم حركة حياتك ،فالنابة وحدها واليمان
بال ل يكفيان؛ بل ل ُبدّ من تطبيق المنهج بتقوى ال ،لذلك كثيرا ما يجمع القرآن بين اليمان
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ[} ...الشعراء.]227 :
والعمل الصالحِ {:إلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
لن فائدة اليمان وثمرته بعد أن تؤمن بالله الحق ،وأن منهجه هو الصدق ،وفيه نفعك وسلمتك
في حركة حياتك ،وأنه الذي يُوصلّك إلى سعادة الدارين ،ول معنى لهذا كله إل بالعمل والتطبيق.
{ وَا ّتقُوهُ[ } ...الروم ]31 :أي :اتقوا غضبه ،واجعلوا بينكم وبين غضب ال وقاية ،وهذه الوقاية
تتحقق باتباع المنهج في افعل ول تفعل .وسبق أن تكلمنا في معنى التقوى وكلنا :إنها تحمل
معنيين يظن البعض أنهما متضاربان حين نقول :اتقوا ال .واتقوا النار .لكن المعنى واحد في
النهاية؛ لن معنى اتق ال :اجعل بينك وبين عذاب ال وغضبه وقاية ،وهذا نفسه معنى :اتق
النار .يعني :ابتعد عن اسبابها حتى ل تمسّك.
لةَ[ } ...الروم ]31 :أقيموا الصلة أدّوها على الوجه الكمل ،وأدّوها
وقوله تعالى { :وََأقِيمُواْ الصّ َ
على ما أُحبّ منكم في أدائها ،فساعة أناديك :ال أكبر يجب أن تقبل عليّ ،وأنت حين تُلبّي النداء
ل تأتي لتعينني على شيء ،ول أنتفع بك في شيء ،إنما تنتفع أنت بهذا اللقاء ،وتستمد مني العون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والقوة ،وتأخذ شحنة إيمان ويقين من ربك.
وقلنا :ما تصورك للة تُعرَض على صانعها كل يوم خمس مرات أيبقى بها عَطَب؟ لذلك يُعلّمنا
نبينا صلى ال عليه وسلم أنه إذا حزبنا أمر أن نهرع إلى الصلة ،وكذلك كان يفعل صلى ال
عليه وسلم إذا عزّ عليه شيء ،أو ضاقت به السباب ،وإل فما معنى اليمان بال إنْ لم تلجأ إليه.
وما دام ربك غيبا ،فهو سبحانه يُصلحك بالغيب أيضا ،ومن حيث ل تدري؛ لذلك أمرنا ربنا بإقامة
الصلة ،وجعلها عماد الدين والركْن الذي ل يسقط عنك بحال ،فالزكاة والحج مثلً يسقطان عن
الفقير وعن غير القادر ،والصوم يسقط عن المريض أو المسافر ،في حين مرضه أو سفره ،ثم
يقضيه بعد انقضاء سبب الفطار.
أما الصلة فهي الركْن الدائم ،ليس مرة واحدة في العمر ،ول مرة واحدة في العام ،إنما خمس
مرات في اليوم والليلة ،فبها يكون إعلن الولء ل تعالى إعلنا دائما ،وهذا إنْ دلّ فإنما يدل على
عظمة النسان ومكانته عند ربه وخالقه.
وسبق أن قلنا :إنك إنْ أردتَ مقابلة أحد المسئولين أو أصحاب المنزلة كم تعاني ليُؤذَن لك ،ول ُبدّ
أن يُحدّد لك الموعد والمكان ،بل وموضوع المقابلة وما ستقوله فيها ،ثم لصاحب المقابلة أنْ
يُنهيها متى يشاء.
إذن :ل تملك من عناصر هذا اللقاء شيئا؟ أما في لقائك بربك -عز وجل -فالمر على خلف
ذلك ،فربّك هو الذي يطلبك ويناديك لتُقبل عليه ،ل مرة واحدة بل خمس مرات كل يوم ،ويسمح
لك أنْ تناجيه بما تحب ،وتطلب منه ما تريد.
ن تعتكف في بيت
ولك أن تنهي أنت المقابلة بقولك :السلم عليكم ،فإنْ أحببتَ أن تطيل اللقاء ،أو أ ْ
ربك فإنه سبحانه ل يملّ حتى تملّوا ،فهذه -إذن -ليست عبودية ،بل عزّ وسيادة.
سبُ َنفْسِي عِزّا بأنّي عَبْدٌ يح َتفِي بي بلَ مَواعِيدَ رَ ّب ُهوَ
حْوما أجملَ ما قاله الشاعر في هذا المعنىَ :
في ُقدْسِهِ العَزّ ولكِنْ أنَا َألْقى متَى وأيْنَ ُأحِبّولن للصلة هذه المنزلة بين أركان السلم لم
ضتْ مباشرة من ال تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم ،حين
تُفرض بالوحي كباقي الركان ،إنما فُر َ
استدعاه ربه للقائه في السماء في رحلة المعراج.
وسبق أنْ مثّلنا لذلك -ول تعالى المثل العلى -برئيس العمل الذي يُلقي أوامره بالتليفون ،أو
بتأشيره على ورقة ،فإنْ تعرّض لمر هام استدعى الموظف المختص إلى مكتبه ،وأعطاه المر
ضتْ على سيدنا رسول ال بالتكليف المباشر.
مباشرة لهميته ،كذلك كانت الصلة ،وكذلك فُ ِر َ
ثم يقول سبحانهَ } :ولَ َتكُونُواْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { [الروم ]31 :وهنا وقفة :فكيف بعد النابة إلى ال
والتقوى ،وبعد المر بإقامة الصلة يقول } َولَ َتكُونُواْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { [الروم]31 :؟ وأين الشرك
ممّنْ يُؤدّي التعاليم على هذا الوجه؟ قالوا :الشرك المنهيّ عنه هنا ليس الشراك مع ال إلها آخر،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنما أشركوا مع ال نية أخرى ،فالشراك هنا بمعنى الرياء ،والنظر إلى الناس ل إلى ال.
لذلك يقولون :العمل من أجل الناس رياء ،وترْك العمل من أجل الناس شرك ،فالذي يصلي أو
يبني ل مسجدا للشهرة ،وليحمده الناس فهو مُراءٍ ،وهو خائب خاسر؛ لن الناس انتفعوا بعمله ولم
يُحصّل هو من عمله شيئا.
خ ْوفَ أن يُتّهم بالرياء،
أما مَنْ يترك العمل خوفا من الوقوع في الرياء ،فيمتنع عن الزكاة مثلًَ ،
فهو والعياذ بال مشرك ،لن الناس ينتفعون بالعمل حتى وإنْ كان رياءً ،لكن إنِ امتنعتَ عن
العمل فل ينتفع الناس منك بشيء.
فالمعنى } :وَلَ َتكُونُواْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { [الروم ]31 :أي :الشرك الخفي وهو الرياء؛ لذلك رأينا
سيدنا رسول ال وهو السوة للمة اليمانية يدعو ربه ويقول
" اللهم إنّي أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك ".
ن يفعل
فالعمل اليماني ما كان ل خالصا ،وعلى َقدْر الخلص يكون الجزاء ،فمن الناس مَ ْ
الصلح فيوافق شيئا في نفسه ،كأن يساعده على استقامة الحياة أو على التوفير في النفقات أو
غير ذلك؛ فيستمر عليه ،ل ل إنما لمصلحته هو.
طمَأَنّ ِب ِه وَإِنْ
وفي هؤلء يقول تعالىَ {:ومِنَ النّاسِ مَن َيعْبُدُ اللّهَ عَلَىا حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ
جهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا وَالَخِ َرةَ ذاِلكَ ُهوَ ا ْلخُسْرَانُ ا ْلمُبِينُ }[الحج.]11 :
َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ا ْنقَلَبَ عَلَىا وَ ْ
وكالتاجر الذي يلتزم الصدق في تجارته ،ل حبا في الصدق ذاته ،إنما طمعا في الشهرة والصّيت
وكَسْب المزيد من الزبائن ،ومثل هؤلء ينالون من الدنيا على قَدْر سعيهم لها ،ول يحرمهم الُ
ثمرةَ مجهوداتهم ،كما قال سبحانه {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ َلهُ فِي حَرْثِهِ َومَن كَانَ يُرِيدُ
حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى.]20 :
فما أشبه الناس في نياتهم من العمال بركْب يقصدون وجهة واحدة ،لكن لكل منهم غاية يسعى
إليها ،فهذا يسعى للطعام أو أكلة شهية ،وهذا يسعى لمرأة جميلة ،وهذا يسعى لدرْس علم ينتفع
به ،وآخر يسعى لرؤية مَنْ يحب ،وقد عبّر الشاعر عن هذا المعنى بقولهَ :قصَ ْدتُ بالر ْكبِ مَنْ
ن أؤملُهُ عَيْني تَرَا ُه َووُجَْدَاني
لقِي مَ ْ
خذُوا ما حَظكم فِيهِلكِنْ دَعُوني ُأ َ
أَهْوى وقُ ْلتُ َلهُم هَيّا كُلوا و ُ
يُنَاجِيهِكذلك الحق -تبارك وتعالى -يريد من عبده أنْ يقصده لذَاته ،ل خوفا من ناره ،ول طمعا
في جنته ،وفَرْق بين أن تنعم بنعمة ال ،وأن تنعم بالنظر إلى ال ،فأنت في الجنة تأكل ،ل عن
جوع ول عن حاجة ،إنما لمجرد التنعّم.
حسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتا َبلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَ ّب ِهمْ
لذلك يقول سبحانه عن الشهداءَ {:ولَ تَ ْ
يُرْ َزقُونَ }[آل عمران ]169 :فتكفيهم هذه العندية ،وأنْ ينظروا إلى ال سبحانه وتعالى.
ن كنتَ
ن كنتَ تعلم أنّي أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها ،وإ ْ
لذلك تقول رابعة العدوية :اللهم إ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تعلم أني أعبدك خوفا من نارك فأدخِلني فيها ،لكني أعبدك لنك أحقّ أنْ تُعبدَ.
ول شكّ أن القليل من الناس يخلصون النية ل ،وأن الغالبية يعملون العمل كما اتفق على أية نية،
ل وَهُمْ
ل تعنيهم هذه المسألة ،ول يهتمون بها ،كما قال سبحانهَ {:ومَا ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُهُمْ بِاللّهِ ِإ ّ
مّشْ ِركُونَ }[يوسف.]106 :
()3365 /
مِنَ الّذِينَ فَ ّرقُوا دِي َنهُ ْم َوكَانُوا شِ َيعًا ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا لَدَ ْي ِهمْ فَرِحُونَ ()32
فرّقوا دينهم كالركْب الذين اختلفتْ وجهاتهم ونياتهم { َوكَانُواْ شِيَعا[ } ...الروم ]32 :جمع شيعة،
وهم الجماعة المتعاونة على أمر من المور ،خيرا كان أو شرا ،خيرا مثل قوله تعالى {:وَإِنّ مِن
شِيعَتِ ِه لِبْرَاهِيمَ }[الصافات.]83 :
ج َعلَ َأهَْلهَا شِيَعا[} ...القصص.]4 :
عوْنَ عَلَ فِي الَ ْرضِ وَ َ
أو شرا مثل {:إِنّ فِرْ َ
حتِ أَ ْرجُِلكُمْ َأوْ
عذَابا مّن َف ْو ِقكُمْ َأوْ مِن تَ ْ
وفي آية أخرىُ {:قلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ عَلَىا أَن يَ ْب َعثَ عَلَ ْيكُمْ َ
ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ[} ...النعام.]65 :
سكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ َب ْع َ
يَلْبِ َ
وقوله تعالىُ { :كلّ حِ ْزبٍ ِبمَا لَدَ ْيهِمْ فَرِحُونَ } [الروم ]32 :لما لهم من سلطة زمنية ،ولما لهم من
مكانة يخافون أنْ تهتز كالسلطة الزمنية التي منعتْ يهود المدينة من اليمان برسول ال ،مع أنهم
كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويعرفون زمانه ،وكانوا يقيمون بالمدينة ينتظرون ظهوره،
وكل ذلك عندهم في التوراة ،حتى إنهم كانوا يصطدمون بعبدة الصنام ،فيقولون لهم .لقد أطلّ
زمن نبي يظهر آخر الزمان سنتبعه ،ونقتلكم به قتْل عاد وإرم.
{ فََلمّا جَآءَ ُهمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ بِهِ[} ...البقرة.]89 :
لماذا؟ حفاظا على سلطتهم الزمنية ،وقد كانوا أهل علم وغِنيً ومكانة ،فلما بُعث محمد صلى ال
عليه وسلم ألغى هذه السلطة ،فل كلم بعد كلمه صلى ال عليه وسلم ،أما مَنْ ثبت منهم على
دينه الحق ،وعمل بما في التوراة فقد آمن بمحمد كعبد ال بن سلم وغيره من أحبار اليهود.
فالسلطة الزمنية هي التي حالتْ بين الناس وبين الحق الذي يؤمنون به ،وهذه السلطة الزمنية هي
التي نراها الن في هذه الفِرَق والحزاب التي يدّعي كل منها أنها على الحق وما سواها على
الباطل.
ض َومَن فِيهِنّ[} ...المؤمنون.]71 :
ت وَالَرْ ُ
سمَاوَا ُ
حقّ أَ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
يقول تعالى {:وََلوِ اتّ َبعَ الْ َ
فكل منهم يناطح الخرين ليعلي مذهبه ،ويظهر هو على الساحة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بعد ذلك يُبيّن لنا الحق سبحانه أن الذين يكفرون بال ،أو يتمردون على منهج ال يظلون هكذا
أسْرى هذه السلطة الزمنية ،فإذا أصابتهم هزة أو بلء ل تقوى أسبابهم على دفعه لم يجدوا ملجأ
س ضُرّ.} ...
إل ال ،فقال سبحانه { :وَإِذَا مَسّ النّا َ
()3366 /
الضر :هو الشيء الذي نتضرر منه ،ول تستطيبه النفس ،فإنْ أصابهم الضر وأسبابهم ل تفي
عوْاْ رَ ّب ُهمْ مّنِيبِينَ إِلَيْهِ[ } ...الروم ]33 :أي :رجعوا إليه سبحانه ،والن علموا
بالخلص منه { دَ َ
أن لهم ربا يلجئون إليه ،وهذا يُذكّرنا بما قاله العرب عندما فتر الوحي عن رسول ال ،فسرّهم
ذلك ،وقالوا :إن رب محمد قله .سبحان ال الن عرفتم أن لمحمد ربا.
وقلنا :إن ساعة الضيق والمحنة ل َيكْذب النسان نفسه ول يخدعها ،وسبق أنْ ذكرنا قصة حلق
الصحة الذي كان يحلّ محلّ الطبيب الن ،فلما أنشئت كليات للطب وخرّجت أطباء ،وذهب أحدهم
إلى قرية الحلق ،فأخذ الحلق يهاجمه ويدّعي أنه حديث ل خبرةَ له ،فلما مرض ابنه وأحسّ
خفْية في ظلم الليل ،وذهب به إلى الطبيب ،لماذا؟ لنه لن يغشّ نفسه في هذه
بالخطر أخذه ُ
اللحظة.
حمَةً ِإذَا فَرِيقٌ مّ ْنهُمْ بِرَ ّبهِمْ يُشْ ِركُونَ } [الروم ]33 :أي :يعودون إلى ما كانوا
{ ُثمّ إِذَآ أَذَا َقهُمْ مّنْهُ َر ْ
عليه من الشرك بال.
س الِنسَانَ
وحين نتأمل هذه المسألة نجد أن القرآن عرضها مرة بصيغة الفراد ،فقال {:وَِإذَا مَ ّ
ضُرّ دَعَا رَبّهُ مُنِيبا[} ....الزمر.]8 :
شفْنَا عَنْهُ ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ
س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ
وقال {:وَِإذَا مَ ّ
يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ[} ...يونس.]12 :
لكن الكلم عن النسان المفرد ل يكفي لثبات الظاهرة؛ لن النسان الواحد يمكن أن يستذل أمام
ربه ،ويعود إليه بعد أنْ تجرّأ على معصيته ،يكون ذلك بينه وبين نفسه ،فل يفضح نفسه أمام
الناس ،فأراد سبحانه أنْ يثبت هذه المسألة عند الناس جميعا؛ ليفضح بعضهم بعضا ،فذكر هنا
عوْاْ رَ ّبهُمْ مّنِيبِينَ إِلَ ْيهِ[ } ...الروم.]33 :
س ضُرّ دَ َ
{ وَإِذَا مَسّ النّا َ
عوُاْ اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ فََلمّا َنجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ
وفي آية أخرى {:فَإِذَا َركِبُواْ فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُشْ ِركُونَ }[العنكبوت.]65 :
فجاء بصيغة الجمع ليفضح الكافرين بعضهم أمام بعض ،وقد يكون في هؤلء الداعين مَنْ كان
يُؤلّبهم على ال ،ويصرفهم عن اليمان به ،وها هو الن يدعو ويتضرع ،وحين يُفتضح أمرهم
يكون ذلك أَدْعى لستقامتهم وأدعى ألّ يتكبر أحد على أحد.
لذلك قلنا في ميزات الصلة أنها تُسوّي بين الناس ،فيجلس الرجل العادي بجوار مَنْ لم يكُن ُي ْؤمَل
أنْ يجلس بجواره ،ويجده خاضعا معه مطاوعا للمام ..الخ ففي الصلة ،الجميع سواء ،والجميع
منتفع بهذه المساواة ،آخذ منها عبرة ،فل يتكبر بعدها أحد على أحد.
ونقف هنا عند { مَسّ[ } ...الروم ]33 :وهو اللمس الخفيف ،فالمعنى مسّهم اليسير من الضر،
ومع ذلك ضاقتْ أسبابهم عن دفعه ،وضَجّوا يطلبون ال َغوْث.
وكلمة { َأذَا َقهُمْ[ } ...الروم ]33 :الذوق حاسة من حواس النسان يُحِسّ بها الطعام عند مروره
على منطقة معينة في اللسان ،فإذا ما تجاوز الطعامُ هذه المنطقةَ ل يشعر النسان بطعمه.
إذن :فَلذّة الطعام مقصورة على هذه المنطقة في الفم ،والتذوق أقوى انفعالت النفس في استقبال
المذاق؛ لذلك يقولون في المثال (اللي يفوت من اللسان بقي نتان).
وتأمل ،كيف استعمل الحق سبحانه الذاقةَ في مجال العذاب حبن ضرب لنا هذا المثلَ {:وضَ َربَ
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَرَتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فََأذَا َقهَا اللّهُ
اللّهُ مَثَلً قَرْ َيةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ
خوْفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }[النحل.]112 :
لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
فذكر الذاقة مع أن اللباسَ يستوعب الجسم كله ،وكذلك الجوع والخوف ،فكل منهما إحساس
يستولي على النسان كله ،ومع ذلك قال{ فََأذَا َقهَا[} ...النحل ]112 :لن الذاقة أقوى أنواع
الدراك.
وكلمة } مّنْهُ[ { ...الروم ]33 :أي :من ال تعالى ،يعني بل أسباب ،أو } أَذَا َقهُمْ مّنْهُ[ { ...الروم:
]33أي :بدّل الضر برحمة ،وخلّصهم من الضّرّ برحمة ،كما أن الذاقة وإنْ دّلتْ على النفعال
الشديد للمستقبل ،فإنها أيضا تدلّ على التناول الخفيف بُلطْف ،كما تقولُ :ذ ْقتُ الطعام .أو تقول:
وال ما ُذ ْقتُ لفلن طعاما يعني :ما أكلتُ عنده من باب أَو َأوْلى.
لذلك الحق سبحانه وتعالى عبر عن الرحمة هنا بالذاقة؛ لن رحمة الدنيا ل تستوعب كل رحمة
جلّها في الخرة.
ال ،فالقليل منها في الدنيا ،و ُ
ونلحظ في قوله تعالى } :إِذَا فَرِيقٌ مّ ْنهُمْ بِرَ ّبهِمْ يُشْ ِركُونَ { [الروم ،]33 :أما في الية الخرى{:
عوُاْ اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ فََلمّا َنجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ ُيشْ ِركُونَ }[العنكبوت:
فَإِذَا َركِبُواْ فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ
.]65
فلماذا قال في الولى } ِإذَا فَرِيقٌ مّ ْنهُمْ[ { ...الروم ]33 :وفي الخرى {:إِذَا هُمْ يُشْ ِركُونَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[العنكبوت ]65 :فلم يستثْنِ منهم أحدا؟
قالوا :لن الية الولى تتكلم عن الذين دَعَوا ال في البَرّ ،والناس في البر عادة ما يكونون
مختلفين ،فيهم الصالح والطالح ،والمطيع والعاصي ،فهم مختلفون في َر ّد الفعل ،فالمؤمنون لما
عَينوا النجاة ورحمة ال قالوا :الحمد ال الذي نجانا ،أما المشركون فعادوا إلى ُكفْرهم وعنادهم.
أما الية الخرى فتتكلم عن الذين دَعَوا ال في البحر ،وعادة ما نرى الذين يركبون البحر على
شاكلة واحدة ،وهم ل يركبونه كوسيلة للسفر ،إنما للترف ،كما نرى البعض يتخذ لنفسه يختا مثلً
أو عوّامة يجمع فيها أتباعه ومَنْ هم على شاكلته ،ول ُبدّ أنهم يجتمعون على شيء يحبونه ،فهم
على مذهب واحد ،وطريقة واحدة ،وسلوك واحد.
إذن :ما دام هؤلء كانوا في البحر فل بُدّ أنهم كانوا مجرمين عتاة ،وكانوا سواسية في الشرك
وفي التخلّي عن ال ،بمجرد أنْ أمِنوا الخطر ،لذلك استخدم السلوب هنا } ِإذَا[ { ...الروم]33 :
الفجائية واستخدمه في آية أخرى{ ِإذَا ُهمْ يُشْ ِركُونَ }[العنكبوت ]65 :فبعد أنْ أنجاهم ال أسرعوا
العودة إلى ما كانوا عليه من الشرك.
ففي هذه الية الحق سبحانه يُبيّن لنا حقيقة النسان ،ومدى حرصه على جَلْب الخير لنفسه ،فإنْ
كان الخير الذي أعدّه ال له يُبطره ويُطغيه كما قال سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3367 /
يتبادر إلى الذهن أن اللم في { لِ َي ْكفُرُواْ[ } ...الروم ]34 :لم التعليل ،أو لم السببية التي يكون ما
بعدها سببا لما قبلها ،كما تقول :ذاكر لتنجح ،وكذلك في الشرط والجواب :إنْ تذاكر تنجح ِفعِلّة
المذاكرة النجاح.
فهل يستقيم المعنى هنا على هذا الفهم؟ وهل نجاهم ال وأذاقهم الرحمة ليكفروا به؟
نقول :ليس الشرط سببا في مجيء الجواب كما يفهم السطحيون في اللغة ،بل الجواب هو السبب
في الشرط ،لكنهم لم يُفرّقوا بين سبب دافع وسبب واقع ،فالتلميذ يذاكر لن النجاح ورد بباله،
وتراءتْ له آثاره الطيبة أولً فدفعتْه للمذاكرة.
إذن :فالجواب سبب في الشرط أي :سبب دافع إليه ،فإذا أردتَ أن يكون واقعا فقدّم الشرط ليجيء
الجواب.
وكما تقول :ركبتُ السيارة لذهب إلى السكندرية ،فركوب السيارة ليس سبب ذهابك للسكندرية،
ت بالفعل .إذن :نقول :الشرط سبب
لنك أر ْدتَ أولً الذهاب فركبتَ السيارة ،فلما ركبتها وصل َ
للجواب دافعا يدفع إليه ،والجواب سبب للشرط واقعا.
فهنا نجّاهم ال من الكرب ،وأذاقهم رحمته ل ليكفروا به ،إنما ليُبيّن لهم أنه ل مفزعَ لهم إل إليه،
فيتمسكون به سبحانه ،فيؤمن منهم الكافر ،ويزداد مؤمنهم إيمانا ،لكن جاء ر ّد الفعل منهم على
خلف ذلك ،لقد كفروا بال؛ لذلك يسمون هذه اللم لم العاقبة أي :أن كفرهم عاقبة النجاة
والرحمة.
ومثال ذلك -ول المثل العلى -لو ضممتَ طفلً مسكينا إلى حضانتك وربّيته أحسن تربية،
ب وكَبِر تنكّر لك ،واعتدى عليك ،فقلت للناس :ربّيته ليعتدي عليّ ،والمعنى :ربّيته
فلما ش ّ
ليحترمني ويحبني ،لكن جاءت النتيجة والعاقبة خلف ذلك ،وهذا يدل على فساد التقدير عند
الفاعل الذي ربّي ،وعلى ُلؤْم وفساد طبع الذي رُبّي.
فالسلوب هنا { لِ َي ْكفُرُواْ[ } ...الروم ]34 :يحمل معنى التقريع؛ لن ما بعد لم العاقبة ليس هو
العلة الحقيقية لما قبلها ،إنما العلة الحقيقية لما قبلها هو المقابل لما بعد اللم :أذاقهم الرحمة،
ن كفروا.
ونجاهم ليؤمنوا ،أو ليزدادوا إيمانا ،فما كان منهم إل أ ْ
عوْنَ لِ َيكُونَ
ولهذه المسألة نظائر كثيرة في القرآن ،كقوله تعالى في قصة موسى {:فَالْ َتقَطَهُ آلُ فِرْ َ
ع ُدوّا وَحَزَنا[} ...القصص.]8 :
َلهُمْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعلوم أنهم التقطوه ليكون لهم قُرّة عين ،ولو كانوا يعلمون هذه العاقبة لغرقوه أو قتلوه كما
قتلوا غيره من أطفال بني إسرائيل ،وكما يقولون في المثال (بيربي خنّاقه).
فهذا دليل على غفلة الملتقِط ،وعلى غبائه أيضا ،فكيف وهو يُقتّل الولد في هذا الوقت بالذات ل
يشكّ في ولد جاء في تابوت مُلْقىً في البحر؟ أليس في هذا دللة على أن أهله يريدون نجاته من
القتل؟ لكن كما قال سبحانه {:وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيحُولُ بَيْنَ ا ْلمَ ْر ِء َوقَلْبِهِ[} ...النفال.]24 :
فأنت تُقتّل في الطفال لرؤيا أخبرك بها العرافون ،فسيأتي مَنْ تخاف منه إلى بابك ،وستأخذه
وتُربّيه في حضنك ،وسيكون زوال مُلْكك على يديه ،فل تظن أنك تمكر على ال.
والقصة تدل على خيبة فرعون وخيبة العرافين ،فإذا كنتَ قد ص ّد ْقتَ العرافين فيما أخبروك به فما
جدوى قَتْل الطفال ،وأنت لن تدرك مَنْ سيكون زوال مُلْكك على يديه ولن تتمكن منه؟ فلماذا
تحتاط إذن؟
لذلك يجب أن يكون تفكير البشر في إطار أن فوق البشر ربا ،والرب يكلف العدو بعدو له ليقضي
خفْية بحيث ل يسشعر به الممكور به.
عليه ،وهو سبحانه خير الماكرين ،والمكْر الحق أن يكون ُ
وقد وصل بنا الحال في القرن العشرين أن نقول :الصراحة مكْر القرن العشرين .يعني :مَنْ أراد
ن يمكر فليقُل الحق وليكُنْ صريحا؛ لننا أصبحنا في زمن قّلتْ فيه الصراحة وقول الحق ،لدرجة
أْ
أنك حين تُحدّث الناس بالحق يشكّون فيك ،ويستبعدون أن يكون قولك هو الحق ،كالذي قال
لجماعة يطلبونه ليقتلوه :أنا سأذهب إلى المكان الفلني في الوقت الفلني فقالوا :إنه يُضلّلنا ويمكر
بنا رغم أنه صادق فيما أخبرهم به.
وبعد أنْ تربّى موسى -عليه السلم -في بيت فرعون ،ثم كلّفه ربه بالرسالة ،وذهب إلى
عمُ ِركَ سِنِينَ }[الشعراء.]18 :
فرعون يدعوه إلى ال قال له {:أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ ُ
نعم ربّيتني وليدا ،لكن الذي ربّاني وربّاك هو الذي بعثني إليك ،فأنا أبرّ المربي العلى قبل أنْ
ن تقول :ربّ ْيتُ
أبرّ بك ،وفي هذا إشارة إلى أن عناية ال هي الصل في تربية مَنْ تحب ،فإياك أ ْ
ولدي حتى صار كذا وكذا ،بل عليك بالَخْذ بأسباب التربية ،وتترك المربّي العلى هو الذي يُربّي
على الحقيقة.
وهذا المعنى فطن إليه الشاعر ،فقال:إذَا لَمْ ُتصَا ِدفْ في بَنِيكَ عنَايةً َفقَدْ ك َذبَ الرّاجي وخَابَ
المؤملُ َفمُوسَى الذي ربّاه جِبْريلُ كَاف ٌر ومُوسى الذي ربّاهُ فِرْعَونُ مُرسَلثم يقول سبحانه } :فَ َتمَ ّتعُواْ
س ْوفَ َتعَْلمُونَ { [الروم ]34 :لنه كفر ليتمتع بكفره في الدنيا؛ لن لليمان مطلوبات صعبة تشقّ
فَ َ
على النفس ،فيأمرك بالشيء الثقيل على نفسك ،وينهاك عن الشيء المحبب إليها ،أما الصنام التي
عبدوها من دون ال وغيرها من اللهة فل مطلوبَ لها ول منهج.
لكنه متاع الحياة الدنيا ومتاع الدنيا قليل؛ لن الدنيا بالنسبة لك مدة بقائك فيها فل ت ُقلْ إنها ممتدة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من آدم إلى قيام الساعة ،فهذا العمر الطويل ل يعنيك في شيء ،الذي يعنيك عمرك أنت.
ومهما كان عمر النسان في الدنيا فهو قصير وتمتّعه بها قليل ،ثم إن هذا العمر القصير مظنون
غير مُتيقن ،فربما داهمك الموت في أيّ لحظة ،ومَنْ مات قامت قيامته.
لذلك أبهم الحق -سبحانه وتعالى -الموت ،ونثر أزمانه في الخَلْق :فهذا يموت قبل أن يولد،
وهذا يموت طفلً ،وهذا يموت شابا.
.الخ وإبهام الموت سببا وموعدا ومكانا هو عَيْن البيان؛ لنه أصبح شاخصا أمام كل مِنّا ينتظره
في أيّ لحظة ،فيستعد له.
ونلحظ هنا أن السلوب القرآني عطف فعل المر } فَ َتمَ ّتعُواْ[ { ..الروم ]34 :على الفعل المضارع
} لِ َي ْكفُرُواْ[ { ...الروم ،]34 :وفي موضع آخر قال سبحانه {:لِ َيكْفُرُواْ ِبمَآ آتَيْنَاهُ ْم وَلِيَ َتمَ ّتعُواْ} ...
[العنكبوت ]66 :فجعل التمتّع ليس خاضعا لفعل المر ،إنما للعلة :ليكفروا وليتمتعوا.
س ْوفَ َتعَْلمُونَ { [الروم ]34 :جاءت بعد }
لذلك اختلفوا حول هذه اللم .أهي للمر أم للتعليل } ،فَ َ
فَ َتمَ ّتعُواْ[ { ...الروم ]34 :وهذه جاءتْ معطوفة على{ لِ َي ْكفُرُواْ[} ...العنكبوت ]66 :فكأنه قال:
اكفروا وتمتعوا ،لكن ستعلمون عاقبة ذلك.
والذي جعلهم يقولون عن اللم هنا لم التعليل أنها مكسورة ،أما لم المر فساكنة ،فلما رأوا اللم
مكسورة قالوا لم التعليل ،أما الذي فهم المعنى منهم فقال :ما دام السياق عطف فعل المر فتمتعوا
على المضارع المتصل باللم ،فاللم للمر أيضا ،لنه عطف عليها فعل المر ،وهو هنا للتهديد.
لكن ،لماذا كُسِ َرتْ والقاعدة أنها ساكنة؟ قال أحد النحاة :لم المر ساكنة ،ويجوز أنْ ُتكْسَر،
واستشهد بهذه الية{ لِ َيكْفُرُواْ ِبمَآ آتَيْنَا ُه ْم وَلِيَ َتمَ ّتعُواْ[} ...العنكبوت.]66 :
ونقول لمن يقول :إنها لم التعليل :إذا سمعت لم التعليل فاعلم أنها تعني لم العاقبة؛ لن الكفر
والتمتّع لم يكُنْ سببا في إذاقة الرحمة.
ويا مَنْ تقول لم المر سيقولون لك :لماذا ُكسِرت؟ وفي القرآن شواهد كثيرة تدل على أنها قد
ل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن ُكلّ فَجّ
ل وَعَلَىا ُك ّ
تُكسر ،واقرأ قوله تعالى {:وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَا ً
شهَدُواْ مَنَافِعَ[} ...الحج ]28 :فاللم هنا مكسورة لنها لم التعليل.
عَميِقٍ * لّ َي ْ
سكّ َنتْ
ط ّوفُواْ بِالْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ }[الحج ]29 :فاللم ُ
ثم قال بعدها {:ثُمّ لْ َيقْضُواْ َتفَ َثهُ ْم وَلْيُوفُواْ نُذُورَ ُه ْم وَلْيَ ّ
لنها لم المر.
سعَ ِتهِ[} ...الطلق ]7 :فجاءتْ لم المر
سعَةٍ مّن َ
جمِعت اللمان {:لِيُنفِقْ ذُو َ
وفي آيةٍ أخرى ُ
مكسورة؛ لنها في أول الجملة ،ول يُبتدأ في اللغة بساكن ،فحُرّكت بالكسر للتخلص من السكون،
ثم يقول سبحانهَ {:ومَن قُدِرَ عَلَ ْيهِ رِ ْزقُهُ فَلْيُنفِقْ ِممّآ آتَاهُ اللّهُ[} ...الطلق ]7 :فجاءت لم المر
ساكنة؛ لنها واقعة في وسط الكلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك يجب أن يتنبه إلى هذه المسألة كُتّاب المصحف ،وأن يعلموا أن كلم ال غالب ،فقد فات
أصحاب رسم المصحف أنه مبنيّ من أوله إلى آخره على الوصل ،حتى في آخر آيات سورة
سوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ بسم ال الرّحْمانِ
الناس وأول الفاتحة نقول } الّذِى ُيوَ ْ
الرّحِيـم.{ ...
سعَتِهِ} ...
سعَةٍ مّن َ
فآخِرُ القرآن موصول بأوله ،حتى ل ينتهي أبدا .وعليه فل ترسم{ لِيُنفِقْ ذُو َ
[الطلق ]7 :بالكسر ،إنما بالسكون ،لنها موصولة بما قبلها.
س ْوفَ َتعَْلمُونَ { [الروم ]34 :تدلّ على التراخي واستيعاب كل المستقبل ،سواء أكان
وكلمة } فَ َ
قريبا أم بعيدا ،فهي احتياط لمن سيموت بعد الخطاب مباشرة ،أو سيموت بعده بوقت طويل.
علَ ْيهِمْ سُ ْلطَانا.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :أَمْ أَنزَلْنَا َ
()3368 /
أَمْ أَنْ َزلْنَا عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانًا َف ُهوَ يَ َتكَلّمُ ِبمَا كَانُوا بِهِ يُشْ ِركُونَ ()35
كلمة (أم) ل تأتي بداية؛ لنها أداة تفيد التخيير بين أمريْن ،كما تقول :أجاء زيد أم عمرو؟ فل بُدّ
أن تأتي بين متقابلين ،والتقدير :أهُمُ اتبعوا أهواءهم ،أم عندهم كتاب أُنزِل إليهم فهو حجة لهم على
حجّة لهم فلم يَبْقَ إل الختيار الخر أنهم اتبعوا
الشرك؟ وحيث إنهم لم ينزل عليهم كتاب يكون ُ
أهواءهم.
والفعل { أَنزَلْنَا[ } ...الروم ]35 :النزال يقتضي عُُلوّ المنزّل منه ،وأن المن ّزلَ عليه َأدْنى،
فالنزال من عُلُو الربوبية إلى ُذلّ العبودية .ونحن لم نَرَ النزال ،إنما الذي تلقّى القرآن أول مرة
وباشر الوحي هو الذي رآه وأخبرنا به.
والصل في النزال أن يكون من ال تعالى ،وحين ينزل ال علينا إنما ليعطينا سبحانه شيئا من
هذا العُلْو ،سواء أكان العُلُو معنويا؛ لن ال سبحانه ليس له مكان ،أم عُلْوا حِسّيا كما في{ وَأَنزَلْنَا
شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ[} ...الحديد.]25 :
حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ
الْ َ
والسلطان :من التسلّط ،وهي تدلّ على القوة ،سواء أكانت قوة الحجة والبرهان ،فمَنْ أقعنك
بالحجة والبرهان فهو قويّ عليك ،أو قوة قهر وإجبار كمَنْ يُرغِمك على فعل شيء وأنت كاره،
ض ومقتنع.
أما سلطان الحجة فتفعل وأنت را ٍ
وإذا استقرأنا كلمة سلطان نجد أن ال تعالى عرضها لنا في موقف إبليس في الخرة ،حين يتبرأ
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ
من الذين اتبعوهَ {:ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُمْ[} ...إبراهيم.]22 :
أَنفُ َ
أي :لم يكُنْ لي عليكم سلطان حجة وإقناع أستحوذ به على قلوبكم ،ولم يكُنْ لي عليكم سلطان
قهر ،فأقهر به قوالبكم ،والحقيقة أنكم كنتم (على تشويرة) مجرد أنْ دعوتكُم جئتم مُسرعين،
وأطعتُم مختارين.
وهذا المعنى يُفسّر لنا شيئا في القرآن خاض الناس فيه طويلً -عن خُبْث نية أو عن صدق نية
جدَ[} ...ص ]75 :ومرة أخرى {:مَا مَ َن َعكَ َألّ
-هذا في قوله تعالى مرة لبليس{ مَا مَ َن َعكَ أَن تَسْ ُ
سجُدَ[} ...العراف.]12 :
تَ ْ
فالولى تدل على سُلْطان القهر ،كأنك كنتَ تريد أنْ تسجد فجاء مَنْ منعك قهرا عن السجود،
ض ومقتنع بعدم السجود.
والخرى تدل على سلطان الحجة والقناع ،فلم تسجد وأنت را ٍ
وقوله تعالىَ { :ف ُهوَ يَ َتكَلّمُ ِبمَا كَانُواْ بِهِ يُشْ ِركُونَ } [الروم ]35 :أي :ينطق بما كانوا به يشركون،
يقول :اعملوا كذا وكذا ،فجاء هذا على َوفْق هواهم.
حمَةً.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :وَِإذَآ َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ
()3369 /
حمَةً فَرِحُوا ِبهَا وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ ِبمَا َق ّد َمتْ أَ ْيدِيهِمْ ِإذَا ُهمْ َيقْنَطُونَ ()36
وَإِذَا َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ
جميل أنْ يفرح الناس ،وأنْ يستبشروا برحمة ال ،لكن ما لهم إذا أصابتهم سيئة بما قدّمتْ أيديهم
يقنطون؟ فمُجري الرحمة هو مُجري السيئة ،لكنهم فرحوا في الولى لنها نافعة في نظرهم،
ن يعلموا أن هذه وتلك من ال،
وقنطوا في الخرى؛ لنها غير نافعة في نظرهم ،وكان عليهم أ ْ
وأن له سبحانه حكمةً في الرحمة وحكمةً في المصيبة أيضا.
إذن :أنتم نظرتم إلى شيء وغفلتم عن شيء ،نظرتُم إلى ما وُجِد من الرحمة وما وُجِد من
ن أوجد المصيبة ،ولو ربطتم وجود الرحمة أو
المصيبة ،ولم تنظروا إلى مَنْ أوجد الرحمةَ ،ومَ ْ
المصيبة بمَنْ فعلها لَعلمتُم أنه حكيم في هذه وفي تلك ،فآفة الناس أنْ يفصلوا بين القدار ومُقدّرها.
إذن :ينبغي ألّ تنظروا إلى ذات الواقع ،إنما إلى مَنْ أوقع هذا الواقع.
ن قال
فلو دخل عليك ولدك يبكي؛ لن شخصا ضربه ،فأول شيء تبادر به :مَنْ فعل بك هذا؟ فإ ْ
لك :فلن تقول :نعم إنه يكرهنا ويريد إيذاءنا ..الخ فإنْ قال لك :عمى ضربني فإنك تقول :ل بُدّ
أنك فعلتَ شيئا أغضبه ،أو أخطأتَ في شيء فعاقبك عليه.
إذن :لم تنظر إلى الواقع في ذاته ،إنما ربطت بينه وبين مَنْ أوقعه ،فإنْ كان من العدو فل ُبدّ أنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يريد شرا ،وإنْ كان من الحبيب فل ُبدّ أنه يريد بك خيرا.
ن أوجده ،فإنْ كان الذي أوجد الواقع َربّ فيجب أنْ نتأمل
وهكذا ينبغي أن نربط بين الموجود ومَ ْ
الحكمة ،ولن نتحدث عن الرحمة ،لن النفع ظاهر فيها للجميع ،لكن تعال نسأل عن المصيبة التي
تُحزِن الناس ،فيقنطوا وييأسوا بسببها.
ونقول :لو نظرتَ إلى مَنْ أنزلها بك لرتاح بالك ،واطمأنتْ نفسك ،فالمصيبة تعني الشيء الذي
يصيبك ،خيرا كان أم شراَ ،ألَ ترى قوله تعالى {:مّآ َأصَا َبكَ مِنْ حَسَنَةٍ َفمِنَ اللّ ِه َومَآ َأصَا َبكَ مِن
سكَ[} ...النساء.]79 :
سَيّئَةٍ َفمِن ّنفْ ِ
فالمصيبة ل تُذَمّ في ذاتها ،إنما بالنتيجة منها ،وكلمة أصاب في الحسنة وفي السيئة تدلّ على أن
سهمها أُطلِق عليك ،وعمرها مقدار وصولها إليك ،فهي ل ُبدّ صائبتك ،لن تتخلّف عنك أبدا ،ولن
تُخطئك؛ لن الذي أطلقها إله ورب حكيم ،فإنْ كانت حسنة فسوف تأتيك فل تُتعِب نفسك ،ول
ن تقول :أحتاط لها لدفعها عن نفسي؛ لنه ل
تُزاحِم الناس عليها ،وإنْ كانت مصيبة فإياك أ ْ
مهربَ لك منها.
ثم لماذا تقنط وتيأس إنْ أصابتْك مصيبة؟ لماذا ل تنتظر وتتأمل ،لعل لها حكمة ،ولعل من ورائها
خيرا ل تعلمه الن ،وربما كانت ضائقة سوف يكون لها فرج قريب.
ألم تقرأ {:وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُ ْم وَعَسَىا أَن ُتحِبّواْ شَيْئا وَ ُهوَ شَرّ ّلكُمْ} ...
[البقرة.]216 :
أتذكرون حادث عمارة الموت وقد طردوا منها البواب وأسرته ،وجعلوا منها قضية في المحكمة،
وبعد أن انهارتْ العمارة ،وتبيّن للبواب وأسرته أن ما ظنوه شرا ومصيبة كان هو عَيْن الخير.
إذن :ل تقنط من ضُرّ أصابك ،واعلم أن الذي أجراه عليك ربك ،وأن له حكمة فانتظر حتى
تنكشف لك ،ول يقنط إل مَنْ ليس له ربّ يلجأ إليه.
خلٌ فيها؟ أم ليس لك دَخْل؟ إنْ كان لك
ثم تعالَ نناقشك في المصيبة التي قَنَط من أجلها :ألكَ دَ ْ
َدخْل فيها كالتلميذ الذي أهمل دروسه فرسب في المتحان ،فعليك أن تستقبل هذه المصيبة
بالرّضا ،فالرسوب يُعدّل لك خطأك ،ويلفتك إلى ما كان منك من إهمال حتى تتدارك المر
وتجتهد.
خلَ لك فيها ،كالذي ذاكر واجتهد ،ومع ذلك لم يُوفّق لمرض ألمّ به ليلة
فإنْ كانت المصيبة ل دَ ْ
ن تفصل المصيبة عن مُجريها وفاعلها ،بل تأمّل ما
المتحان ،أو لعارض عرض له ،نقول :إياك أ ْ
يعقُبها من الخير ،ول تفصل المصيبة عن مُجريها عليك ول تقنط.
وابحث عن حكمة ربك من إنزال هذه المصيبة بك ،كالم التي تقول لبنها :يا بُني أنت دائما
متفوق والناس تحسدك على تفوقك ،فلعل رسوبك يصرف عنك حسدهم ،ويُنجيك من أعينهم،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيكفوا عنك.
وحينما يأتي أبوه يقول له :يا بني َهوّن عليك ،فلعلّك إنْ نجحت هذا العام لم تحصل على المجموع
الذي تريده ،وهذه فرصة لتتقوى وتحصل على مجموع أعلى .إذن :لن تُعدم من وراء المصيبة
نفعا ،لن ربك قيوم ،ل يريد لك إل الخير.
لذلك حين تستقريء الحداث تجد أناسا فُضحوا وُأخِذوا بما لم يفعلوا ،وذهبوا ضحية شاهد زور،
أو قاضٍ حكم عن هوى ..الخ لكن لن ربك قيوم ل يغفل يُعوّض هذا المظلوم ويقول له :لقد
أصبح لك نقطة عندي في حسابك ،فأنت اتّه ْمتَ ظلما ،فلك عندي إذا ارتكبتَ جريمة أَنْ أنجيك
عمّ ْيتَ على العدالة ،وشهدتَ زورا ،أو :أخذت ما ليس لك ،أو
منها فل تُعاقَب بها ،وأنت يا من َ
أفلتّ من العقاب فسوف أُوقِعك في جريمة لم تفعلها.
إذن :القنوط عند المصيبة ل محلّ له ،ولو ربطتَ المصيبة بمجريها لعلمتَ أنه حكيم ،ول بُدّ أنْ
تكون له حكمة قد تغيب عنك الن ،لكن إذا أدرتَ المسألة في نفسك ،فسوف تصل إلى هذه
الحكمة.
وحين ننظر إلى أسلوب الية نجد فيه مفارقات عديدة ،ففي الكلم عن الرحمة قال } وَِإذَآ َأ َذقْنَا
حمَةً فَرِحُواْ ِبهَا[ { ...الروم ]36 :فاستخدم أداة الشرط (إذا).
النّاسَ َر ْ
أما في المصيبة فقال } وَإِن ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ ِبمَا َق ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ ِإذَا ُهمْ َيقْنَطُونَ { [الروم ]36 :فاستخدم
أداة الشرط (إنْ) ،فلماذا عدلَ عن رتابة السلوب من إذا إلى إن؟
قالوا :حين تقارن بين النعَم وبين المصائب التي تنزل بالنسان في دنياه تجد أن النعم كثيرة
والمصائب قليلة ،فنعم ال متوالية عليك في كل وقت ل تُع ّد ول تحصى ،أمّا المصائب فربما ُتعَدّ
على الصابع.
لذلك استخدم مع النعمَ (إذا) الدالة على التحقيق ،ومع المصيبة استخدم (إنْ) الدالة على الشك،
ومن ذلك قوله تعالىِ {:إذَا جَآءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ }[النصر ]1 :فاستعمل إذا لنها تدلّ على التحقيق
وتُرجّح حدوث النصر ،وقال سبحانه {:وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ اسْ َتجَا َركَ فَأَجِ ْرهُ[} ...التوبة.]6 :
كما نلحظ في أسلوب الية أنها لم تذكر السبب في إذاقة الرحمة ،إنما ذكرت سبب المصيبة } ِبمَا
قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ[ { ...الروم ]36 :ليدلّ على عدله تعالى في إنزال المصيبة ،وتفضّله في إذاقة
الرحمة؛ لن الرحمة من ال والنعَم فضل من ال.
لكن في المصيبة قال } ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيهِمْ[ { ...الروم ]36 :فذكر العِلّة حتى ل يظن أحد أن ال
تعالى يُجري المصيبة على عبده ظلما ،بل بما ق ّد َمتْ يداه ،فالمسألة محكومة بالعدل اللهي.
خصْمان لتحكم بينهما تقول :أحكم بينكما بالعدل ،أم
وبين الفضل والعدل بوْن شاسع ،فلو جاءك َ
بأفضل من العدل؟ يقول :وهل هناك أفضل من العدل؟ إذن :نريد العدل ،لكن تنبّه لن العدل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعطيك حقك ،والفضل يُتِركك حقك.
فكأن الحق سبحانه يقول لنا :إياكم أنْ تظنوا أنكم ناجون بأعمالكم ،ل إنما بالتفضل عليكمُ {:قلْ
ج َمعُونَ }[يونس.]58 :
حمَتِهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا يَ ْ
ضلِ اللّهِ وَبِرَ ْ
ِبفَ ْ
يعني :مهما جمعتُم من الطاعات فلن تكفيكم ،ول نجاةَ لكم إل برحمة من ال وفضل.
فالحق -تبارك وتعالى -يريد منا أن نعرف أن رحمة ال وسعتْ كل شيء ،وأنه مع ما أنعم به
عليكم من ِنعَم ل ُت َع ّد ول تُحصي ل يُعاقبكم إل بشيء اقترفتموه يستحق العقاب؛ ذلك لنه َربّ
رحيم حكيم.
وما دام المر كذلك فانظر إلى آثار رحمة ربك في الكون ،وتأمل هذه النعَم ،وقفْ عند ِدقّة
حصُوهَا[} ...إبراهيم.]34 :
السلوب في قوله سبحانه {:وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ تُ ْ
فالعَ ّد يقتضي الكثرة و{ ِن ْع َمتَ[} ...إبراهيم ] :مفرد ،فكيف نعدّ يا رب؟ قالوا :نعم هي نعمة
واحدة ،لكن في طياتها ِنعَم فلو فتشتها لوجدتَ عناصر الخيرية فيها ل ُتعَد ول تُحصىَ.
لذلك لما تعرضتْ اليات ِل َعدّ ِنعَم ال استخدمتْ (إنْ) الدالة على الشكّ؛ لنها ل تقع تحت الحصر
ول ال َعدّ ،لكن على فرض إنْ حاولت عدّها فلن تُحصيها ،والن ومع تقدّم العلوم وتخصّص كليات
بكاملها لدراسة علم الحصاء ،وخرجوا علينا بإحصاءات لمور ولشياء كثيرة في حياتنا ،لكن لم
يتعرض أحد لنْ يُحصي نعمة ال ،لماذا؟
لن القبال على الحصاء ل يكون إل مع مظنّة أنْ تُعدّ وتستوعب ما تحصيه ،فإنْ كان خارج
نطاق استيعابك فلن تتعرض لحصائه كما لم يتع ّرضْ أحد مثلً ِلعَدّ الرمال في الصحراء؛ لذلك
يُشكككم ال في أنْ تعدّوها{ وَإِن َتعُدّواْ[} ...إبراهيم ]34 :فهو أمر مُستبعد ،ولن يكون.
()3370 /
سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَيَقْدِرُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ ()37
َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ يَبْ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عُسْرٍ وجَاهلٍ جاهلٍ قَدْ باتَ في يُسْرتحيّر الناسُ في هَذا فقُ ْلتُ لهم هَذا الذي أوجبَ اليمان
بالقدرِفالعالم ل يسير بحركة ميكانيكية ثابتة ،إنما بقيومية الخالق سبحانه عليه ،فانظر إلى البسط
لمن بسط ال له ،والقبض لمن قبض ال عنه ،ول تعزل الفعل عن فاعله سبحانه ،وتأمل أن ال
تعالى واحد ،وأن عباده عنده سواء ،ومع ذلك يُوسّع على أحدهم ويُضيّق على الخر.
إذن :ل بُدّ أن في هذه حكمة ،وفي تلك حكمة أخرى ،ولو تتبعتَ عواقب السعة هنا والتضييق
هناك لتراءتْ لك الحكمة.
أل ترى صاحب سعة ورزق ونعم كثيرة ،ومع ذلك لم يستطع تربية أولده؛ لن مظاهر الترف
جرفتهم إلى النحراف ،ففشلوا في حياتهم العملية ،وفي المقابل نرى الفقير الذي يعيش على
سطُ الرّ ْزقَ ِلمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} ....
الكفاف يتفوق أولده ،ويأخذون أعلى المراتب؟ إذن { :يَبْ ُ
[الروم ]37 :وفق حكمة يعلمها سبحانه وتعالى.
وسبق أن ذكرنا أن في ألمانيا مدرستين فلسفيتين في اللحاد ،إحداهما لواحد اسمه (جيبل)،
والخرى لـ (بختر) أحدهما :ينكر أن يكون للعالم إله ،يقول :لو كان للعالم إله حكيم ما خلق
العمى والعرج والعور ..الخ فالحكمة في الخَلْق تقتضي المساواة ،فأخذ من الشذوذ في الخَلْق
دليلً على إلحاده.
أما الخر فقال :ليس للكون إله ،إنما يسير سَيْرا ميكانيكيا رتيبا ،ولو كان فيه إله لكان يخلق الخَلْق
على صور مختلفة ،وتكون له إرادة مطلقة عن الميكانيكا ،فأخذ ثبات النظام دليلً على إلحاده
ليناقض مذهب سابقه.
إذن :المسألة عندهم رغبة في اللحاد بأيّ شكل ،وعلى أية صورة ،واستخدام منهج ُمعْوج يخدم
القضية التي يسعون إلى إثباتها.
ونقول في الرد على الول الذي اتخذ من الشذوذ في الكون دليلً على عدم وجود إله حكيم:
الشذوذ الذي ذكرتَ شذوذ في الفراد الذين يُعوض بعضهم عن بعض ،فواحد أعمى ،وآخر أعور
يقابلهم مليين المبصرين ،فوجود هذه النسبة الضئيلة ل تفسد القاعدة العامة في الخَلْق ،ول تؤثر
على حركة البشر في الكون فالصحيح يعوض غير الصحيح.
أما النظام الثابت الذي يريده الثاني فعليه أن ينظر إلى المل العلى ،وفي الكون العلى من شمس
وقمر ونجوم.
.الخ فسيرى فيه نظاما ثابتا ل يتغير ،لن الشذوذ في هذه المخلوقات يفسد الكون كله؛ لذلك خلقه
ال على هيئة الثبات وعدم الشذوذ.
إذن :في النظام العام للكون نجد الثبات ،وفي الفراد الذين يغني الواحد منهم عن الخر نجد
الشذوذ والختلف ،فالثبات يثبت حكمة القدرة ،والشذوذ يثبت طلقة القدرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيا مَنْ تريد ثبات النظام دليلً على اليمان ،فالثبات موجود ،ويا مَنْ تريد شذوذ النظام دليلً على
اليمان ،فالشذوذ موجود ،فما عليككما إل أن تتفقا وأن ينفتح كل منكما على الخر لتصل إلى
الصواب.
ومسألة الرزق لها فلسفة في السلم ،فالحق سبحانه أخبرنا بأنه الرزّاق ،فمرة يرزق بالسباب،
ومرة يرزق بل أسباب ،لكن إياك أنْ تغتر بالسباب ،فقد تقدم السباب وتسعى ثم ل يأتيك منها
سعْيك كالفلح الذي يأخذ بالسباب حتى يقارب الزرع على الستواء فتأتيه جائحة
رزق ،ويخيب َ
فتهلكه ،فاحذر أن تغتر بالسباب ،وانظر إلى المسبّب سبحانه.
وقلنا :ينبغي أنْ تتحرى إلى الرزق أسبابه ول تشغلنّ بعدها بالك بأمره ،فقد تكفل به خالقك الذي
استدعاك للوجود ،وقد عبّر الشاعر عن هذا المعنى بقولهَ :تحَرّ إلى الرزْقِ أَسْبابَهُ ولَ تشغلنْ بعدَهَا
بَالَكافَإنّك تجهلُ عنوانه ورِ ْز ُقكَ يعرِفُ عُنْوانَكاثم يقول سبحانه } :إِنّ فِي َذِلكَ ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ {
[الروم ]37 :قال (ِل َقوْمٍ يُؤمِنُونَ) لن مسألة الرزق هذه تحتاج إلى إيمان بحكمة الرازق سبحانه
في العطاء وفي المنع.
ونلحظ على أسلوب الية قوله تعالى في البسطِ } :لمَن يَشَآءُ[ { ..الروم ]37 :وفي التضييق }
وَيَقْدِرُ[ { ...الروم ]37 :ولم ي ُقلْ لمن يشاء؛ لن البسط في نظرنا شيء محبوب نفرح له ونتمناه
فقال } ِلمَن يَشَآءُ[ { ...الروم ]37 :لنطمئن نحن إلى أننا سندخل في هؤلء الذين سيُبْسط لهم في
الرزق ،أما في التقتير فلم يقُلْ (لمنْ) ليظل مبهما يستبعده كلّ مِنّا عن نفسه
حقّهُ.{ ...
ثم يقول رب العزة سبحانه } :فَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَىا َ
()3371 /
ن وَابْنَ السّبِيلِ ذَِلكَ خَيْرٌ لِلّذِينَ يُرِيدُونَ َوجْهَ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ
سكِي َ
حقّ ُه وَا ْلمِ ْ
فََآتِ ذَا ا ْلقُرْبَى َ
()38
حينما نتأمل النسق القرآني هنا نجد أن ال تعالى ذكر أولً البسْطَ في الرزق ،ثم التقتير فيه ،ثم
حقّ ذي القُرْبى والمسكين وابن السبيل ،وكأنه يلفت أنظارنا أن هذه الحقوق
أكّد بعده مباشرة على َ
ل تقتصر على مَنْ بسط له الرزق ،إنما هي على الجميع حتى مَنْ كان في خصاصه ،وضُيّق
عليه رزقه ،فل ينسي هؤلء.
ن وَجْهَ اللّ ِه وَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلمُفْلِحُونَ }
لذلك يذيل الحق سبحانه الية بقوله { :ذَِلكَ خَيْرٌ لّلّذِينَ يُرِيدُو َ
[الروم ]38 :والجميع :مَنْ بُسِط له ،ومَنْ قُتِر عليه يريدون وجه ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن وَا ْلعَامِلِينَ عَلَ ْيهَا وَا ْل ُمؤَّلفَةِ قُلُو ُبهُمْ
وبمقارنة هذه الية بآية الزكاة {:إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ لِ ْل ُفقَرَآ ِء وَا ْلمَسَاكِي ِ
حكِيمٌ }[التوبة:
علِيمٌ َ
ب وَا ْلغَا ِرمِينَ َوفِي سَبِيلِ اللّ ِه وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللّ ِه وَاللّهُ َ
َوفِي ال ّرقَا ِ
.]60
فلم تذكر ذا القربى الذي ذكر هنا ،وكأن الية تشير لنا إلى أمر ينبغي أن نلتفت إليه ،وهو أن
القريب عيب أن نعطيه من مال الزكاة ،وهذه آفة وقع فيها كثير من الغنياء وحتى المتدينين
منهم ،فكثيرا ما يسألون :لي ابن عم ،أو لي قريب أأعطيه شيئا من زكاة مالي؟
ت أقول للسائل :وال ،لو علم ابن عمك أنك تعطيه من مال الزكاة ما قبله منك؛ لن للقريب
وكن ُ
حقا ،سواء أكنتَ غنيا تملك نصاب الزكاة ،أو لم تصل إلى حد ال ّنصَاب.
حقّ حتى
إذن :ل تربط هؤلء الثلثة -القريب والمسكين وابن السبيل -بمسألة الزكاة ،فلهم َ
ن ضُيّقْ عليه رزقه.
على الفقير الذي ل يملك نصابا ،وعلى مَ ْ
ومع هذا الحق الذي قرره الشرع للقريب نجد كثيرين يأكلون حقوق القارب ،ويحتالون لحرمانهم
منها ،فمثلً بعض الناس ل ينجب ذكورا ،فيكتب أملكه للبنات ليحرم عمهم أو أبناء عمومتهم من
الميراث ،مع أن البنت لها نصف التركة ،وإنْ كُنّ أكثر من واحدة فلهُنّ الثلثان ،ويُوزّع الثلث على
العم أو ابن العم؛ ذلك لن البنات في هذه الحالة ليس لهن َذكَر عصبة ،فيجعلها الشرع في العم أو
ابن العم.
والشارع الحكيم يوازن بين الطراف ،فيأخذ منك ويعطيك ،فلماذا في حالة موت الوالد عن هؤلء
البنات ،وليس لهُنّ ميراث َيعُدْن على العم أو ابن العم بالنفقة ويقاضونه في المحاكم ،فلماذا
نحرمهم حقوقهم ونطالب نحن بحقوقنا ،فهذا نوع من التغفيل.
لماذا ل نعطي العم أو ابن العم وهو الذي سيحمي البنات ويسهر على راحتهن ،ويقف بجوارهن
حال شدتهن؟
إيّاك -إذن -أنْ تُدخِل القارب في الزكاة ،أو تربط مساعدتهم بالقدرة؛ لن لهم عليك حقا حال
رخائك وحال شدتك.
ويكفي أن الحق سبحانه خصّهم بقوله { ذَا ا ْلقُرْبَىا[ } ...الروم ]38 :ولم ي ُقلْ :ذا المسكنة ،أو ذا
السبيل ،وكلمة (ذو) بمعنى صاحب ،تدل على المصاحبة الدائمة والملزمة ،فل نقول :فلن ذو
علم لمن علم قضية أو قضيتين ،إنما لمن اتصف بالعلم الوسع وتمكّن منه ،كذلك ل نقول فلن ذو
خلق إل إذا كان الخُلُق صفة ملزمة له ل تنفك عنه.
ومن ذلك نقول :ذو القربى يعني ملصقا لك ل ينفك عنك ،فيجب أنْ تراعي حقّه عليك ،فتجعل له
نصيبا ،حتى إنْ لم تكُنْ تملك نصابا ،وكذلك للمسكين وابن السبيل؛ لن ال ذكرهم معا في غير
بند الزكاة ،فدلّ ذلك على أن لهم حقا غير الزكاة الواجبة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونلحظ أن القرآن رتّبهم حسب الهمية والحاجة ،فأولهم القريب لقرابته الثابتة منك ،ثم المسكين
وهو متوطن معروف لك ،ثم ابن السبيل العابر الذي تراه يوما ول تراه بعد ذلك ،فهو حسب
موضعه من الحال.
والمسكين قد يتغير حاله ،ويتيسر له الرزق فيُوسّع ال عليه ،وابن السبيل يعود إلى بلده ،فالوصف
الثابت لذي القربى؛ لذلك وصفه ال تعالى بما يدل على الثبات.
حقّهُ[ { ...الروم ]38 :فالحق ملزم له وهو َأوْلَى به ،لذلك لم َيقُل مثلً :وآت ذا القربى
ثم قال } َ
حقه ،والمسكين ،وابن السبيل حقوقهم.
وقد مثّلوا لذلك بقولهم :قال المير :يدخل عليّ فلن ،وفلن ،وفلن ،فالذن بالدخول للول يتبعه
في ذلك االباقون.
إذن :لهؤلء الثلثة خصوصية ،فقد أمرك ال أنْ تعطيهم من لحمك ،وألّ تربطهم بالزكاة ول
ببسط الرزق ،أما باقي السبعة المستحقون للزكاة فلم يُلزمك نحوهم بشيء غير الزكاة المفروضة.
ولما حدث نقاش بين العلماء حول المراد بالمسكين والفقير ،أيهما أحوج من الخر؟ قالوا:
سفِينَةُ
المسكين مَنْ له مال ،ولكن ل يكفيه ،واستشهد أبو حنيفة على هذا المعنى بقوله تعالىَ {:أمّا ال ّ
َفكَا َنتْ ِل َمسَاكِينَ َي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ[} ...الكهف ]79 :فأثبت لهم ملكية وسماهم مساكين .أما الفقير
فهو الذي ل شيء له ،وعلى هذا فالفقير أحوج من المسكين ،فيدخل في هذه الية من باب َأوْلَى.
وقوله تعالى } :ذَِلكَ[ { ...الروم ]38 :أي :اليفاء لهؤلء } خَيْرٌ[ { ...الروم ]38 :كلمة خير
تُطلَق في اللغة ،ويُراد بها أحد معنيين :مرة نقول خير ويقابلها شر كما في قوله تعالىَ {:فمَن
َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة ،]8-7 :ومرة نقول :خير
س وابْنُ الَخْير
ونقصد الخْير كالحسن أي :أفعل تفضيل ،كما جاء في قول الشاعر:زَيْدٌ خِيَارُ النّا ِ
لكن الشائع أن تُستعمل خير في أفعل التفضيل كقول النبي صلى ال عليه وسلم " :المؤمن القوي
خير وأحبّ إلى ال من المؤمن الضعيف ،وفي ُكلّ خير " فخَيْر الولى بمعنى أخير .لكن لمن؟
جهَ اللّ ِه وَُأوْلَـائِكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ { [الروم ]38 :أي :في الوفاء بحقّ ذي القربى
ن وَ ْ
} لّلّذِينَ يُرِيدُو َ
والمسكين وابن السبيل ،يريد بذلك وجه ال ،ل يريد رياءً ول سمعة؛ لن الذي يفعل خيرا يأخذ
أجره ِممّن فعل من أجله ،فمَنْ عمل ل مخلصا فأجره على ال ،ومَنْ عمل للناس رياءً وسمعةَ
فليأخذ أجره منهم.
ظمْآنُ مَآءً
عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ
وهؤلء الذين وصفهم ال تعالى بقوله {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
حسَابِ }[النور ]39 :أي:
حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ يَجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ
فوجيء بوجود إله لم يكُنْ في باله ولم يعمل من أجله.
ن وَجْهَ اللّهِ[ { ...الروم ]38 :أي :يقصدون بعملهم وجه ال ،سواء رآه الناس ،أو
فمعنى } يُرِيدُو َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أخفى عمله ،حتى ل تعلم شماله ما صنعتْ يمينه؛ لن المر قائم على النية ،فقد تعطي أمام الناس
سوْا بك ،أو لت ُكفّ عنك ألسنتهم وقدحهم في حقك.
ونيتك أنْ يتأ ّ
وحين تعطي علنية بنية خالصة ل فإنها صدقة مخصّبة للعطاء ،مخصّبة للجر؛ لنك ستكون
ن عمل بها
أُسْوة لغيرك فيعطي ،ويكون لك من الجر مثله؛ لن مَنْ سَنّ حسنة فله أجرها وأجر مَ ْ
إلى يوم القيامة.
والقرآن عرض علينا هذه القضية في قوله تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تُ ْبطِلُواْ صَ َدقَا ِتكُم بِا ْلمَنّ
س َولَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ[} ...البقرة.]264 :
وَالَذَىا كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النّا ِ
صفْوَانٍ عَلَ ْيهِ تُرَابٌ فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َركَهُ صَلْدا لّ َيقْدِرُونَ
ل َ
ثم يعطينا مثلً توضيحياَ {:فمَثَلُهُ َكمَ َث ِ
شيْءٍ ّممّا كَسَبُو ْا وَاللّهُ لَ َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة.]264 :
عَلَىا َ
فمثَل المرائي كهذا الحجر الناعم الملس حين يصيبه المطر ،وعليه طبقة من التراب يزيحها
المطر ،ويبقى هو صَلْدا ناعما ل يحتفظ بشيء ،ول ينبت عليه شيء.
سعْيه ،وتعدّى
سعْي المرائي ،وأنه مغفل ،سعى واجتهد فانتفع الناس ب َ
وهذا المثَل يُجسّد لنا خيبة َ
خيره إلى غيره ،وخرج هو خالي الوفاض من الخير ومن الثواب.
سهِمْ
ثم يذكر الحق سبحانه المقابلَ {:ومَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَتَثْبِيتا مّنْ أَ ْنفُ ِ
ل وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ
طّض ْعفَيْنِ فَإِن لّمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ َف َ
َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ
}[البقرة.]265 :
خصْبة حين ينزل عليها المطر ،فيأتي نباتها مضاعفا مباركا
فالصدقة ابتغاء وجه ال كالرض ال ِ
فيه ،فإنْ لم يكُمْ مطر كفاها الطّل لتنبت وتُؤتي ثمارها ،ولو قال :كمثل جنة لكانت كافية لكنها{
جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ[} ...البقرة ]265 :يعني :على مكان مرتفع ليدلّ على خصوبتها ،فكلما كانت الرض
مرتفعة زادتْ خصوبتها ،وخَلتْ من المياه الجوفية التي تؤثر على النبات.
وهذه الجنة تُرْوى بالمطر يأتيها من أعلى ،فيغسل الوراق والغصون ،فتزيد نضارتها وجودتها،
والوراق هي رئة النبات.
وال تعالى يترك لثار الذات في الناس تذكرةً وعبرة ،فواحد يفعل الخير بآخر ليشتريه به ،أو
ليُخضع عنقه بهذا الجميل ،فتكون النتيجة الطبيعية أنْ ينكر الخر جميله ،بل ويكرهه ويحقد عليه،
وهذا جزاء وفاقٌ لمن عمل العمل لغير وجه ال.
وهو معنى قولهم :اتّقِ شر مَنْ أحسنتَ إليه ،لماذا؟ لنه حين يراك يتذكر ما لك من يَد عليه ،وما
لك من فضل ،فيخزي ويشعر بالذلة؛ لن وجودك يدكّ كبرياءه؛ لذلك يكره وجودك ،ويكره أنْ
يراك.
فالحق سبحانه يقول :احذروا أنْ تُبطلوا المعروف بالرياء ،أو بالغراض الدنية؛ لن معروفك هذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سيُنَكر ،وسينقلب ما قدمتَ ،من خير شرا عليك .إذن :عليكم بالنظر في أعمالكم إلى وجه ال ل
إلى غيره ،فإنْ حدث وأنكر جميلك فجزاؤك محفوظ عند ال ،وكأن ربك -عز وجل -يغار
عليك ،ويريد أنْ يحفظ لك الجميل ويدخره عنده.
وهذا المعنى عبّر عنه الشاعر بقوله:أقُولُ لصْحاب المرٌوءَاتِ َقوْلةً تُريح ُهمُ إنْ أحسَنُوا
ع المعْروفَ مهما
خضّعا فَإِنْ أدْركُوها خّلفُوكَ وهَ ْروَلُوافَل تَد ِ
وتفضّلُوايَسيرُ ذوو الحَاجَاتِ خَ ْل َفكَ ُ
تنكّروا فَإِنّ ثوابَ ال أربى وأجْزَلُوسبق أنْ ذكرتُ قصة الرجل الذي قابلنا في الطريق ونحن في
الجزائر ،فأشار لنا لنوصله في طريقنا ،فتوقف صاحب السيارة وفتح له الباب ،لكنه قبل أنْ يركب
قال (على كام)؟ يعني :ثمن توصيله .فقال صاحب السيارة :ل .فقال الرجل (غَلّتها يا شيخ).
لذلك يقول بعض العارفين :إن الذين يريدون بأعمالهم وجه ال هم الذين ُيغْلون أعمالهم ،أي:
يرفعون قيمتها ،ويضاعفون ثوابها.
ن وَابْنَ السّبِيلِ[ { ...الروم ]38 :بعد قوله {:وَيَقْدِرُ...
سكِي َ
حقّ ُه وَا ْلمِ ْ
وقوله تعالى } :فَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَىا َ
}[الروم ]37 :يدل في ظاهره على أنه يأخذ منك مع أنك مُ ِقلّ ،وهذا يدخل في إطار قوله تعالى{:
خصَاصَةٌ[} ...الحشر.]9 :
سهِ ْم وََلوْ كَانَ ِبهِمْ َ
وَ ُيؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُ ِ
وقلنا :إن الشارع حكيم ،فإذا ألزمك وأخذ منك فإنما ذلك ليعطيك إنْ احتجت ،وكأنه يقول لك:
اطمئن فقد أمّ ْنتُ لك حياتك ،إن أصابك الفقر ،أو كنت في يوم من اليام مسكنا أو ابن سبيل ،فكما
فعلتَ سيُفعل بك.
وهذه المسألة واضحة في كفالة اليتيم ،فلو أن المجتمع اليماني عوّضه عن أبيه عملً بقول النبي
ن مات
ن كلّ أب على أولده إ ْ
صلى ال عليه وسلم " :أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " لطمأ ّ
وتركهم؛ لنهم في مجتمع يُعوضهم عن أبيهم بآباء كثيرين.
والنسان إنْ كان آمنا مُنعّما ،فإنما يُنغّص هذه النعمة أنها عُرْضة لنْ تزول ،فيريد ال أنْ يُؤمّن
لعبده الحياة الكريمة في امتداده من بعده ،وهذا هو التأمين الحق الذي أرسله ال قضية تأمينية في
الكون ،ليست في شركات التأمين ،إنما في يده سبحانه حيث قال {:وَلْ َيخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ
سدِيدا }[النساء ]9 :فإذا اتقوا ال وقالوا
ضعَافا خَافُواْ عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُواّ اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َقوْلً َ
خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّ ًة ِ
القول السديد ،فإن يتيمهم يصادف أناسا يكفلونه ،ويخافون عليه ،ويتوّلوْن أمره.
وسبق أنْ تع ّرضْنا في سورة الكهف لقصة الجدار الذي تبرع الخضر -عليه السلم -ببنائه مع
أنه في قرية أهلها لئام منعوهم حتى الطعام .وقلنا :إن سؤال الطعام هو أصدق سؤال ،ول يُ َردّ
لمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي
سائله ،ومع ذلك بناه الخضر ،وقال في بيان أمر الجدار {:وََأمّا ا ْلجِدَارُ َفكَانَ ِلغُ َ
ا ْلمَدِينَةِ َوكَانَ َتحْتَهُ كَنزٌ ّل ُهمَا َوكَانَ أَبُو ُهمَا صَالِحا[} ...الكهف.]82 :
فصلح البويْن ينفع الغلمين ،فيُسخّر ال لهما مَنْ يبني لهما الجدار ،ويحافظ لهما على كنزهما
حتى يكبرا ،ويستطيعا حمايته من هؤلء اللئام الذين إذا علموا بأمره نهبوه من هذْين الصغيريْن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن الفارق بين الهدية والصدقة ،فيقولَ } :ومَآ آتَيْ ُتمْ مّن رّبا لّيَرْ ُبوَ فِي
َأ ْموَالِ.{ ...
()3372 /
جهَ اللّهِ
ن وَ ْ
َومَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَلَا يَرْبُو عِ ْندَ اللّ ِه َومَا آَتَيْتُمْ مِنْ َزكَاةٍ تُرِيدُو َ
ض ِعفُونَ ()39
فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُم ْ
الحق -سبحانه وتعالى -يعرف أن خَلْقه يفعلون الخير ،ويطلبون الجر عليه ،لكن هذا الطلب
إذا خل من الرياء ،لكن الحق سبحانه يريد أن يرتفع بالصدقة أو بالزكاة إلى مستوى عَالٍ ،فيأخذ
صاحبها الثمن من يد ال سبحانه مضاعفا ،وطلب الزيادات يكون في النية.
فالمؤمن مثلً يعلم أنه إذا حُ ّييَ بتحية فعليه أنْ يردّها بخير منها ،فقد يأتي فقير ويقدم لحد
الغنياء هدية على قدر استطاعته ،وفي نيته أنْ يردّها الغني بما يناسب غِنَاه ،إذن :فهو حين
أعطى يطمع في الزيادة ،وإن كانت غير مشروطة ،ويجوز أنْ يردّ الغنيّ على الهدية بأفضل
منها ،ويجوز ألّ يردّها أصلً.
فقوله تعالىَ { :ومَآ آتَيْتُمْ مّن رّبا[ } ...الروم ]39 :أي :الزيادة بأيّ ألوانها عما تعطي ،وهذه
الزيادة غير مشروطة في عقد ،والزيادة تكون في المال ،أو بأيّ وسيلة أخرى فيها نفع؛ لنهم
قالوا في تعريف الربا :كل قرض جَ ّر نفعا فهو ربا.
حتى أن المام أبا حنيفة كان يجلس في ظل لجاره ،فلما طلب منه جاره مالً وأقرضه رآه الجار
ل يجلس في ظل الجدار كما كان يجلس ،فسأله عن ذلك فقال :كنت أجلس في ظل جدارك وأعلم
أنه تفضّل منك ،أما الن فأخاف أنْ أجلس فيه حتى ل تظن أن هذه الجلسة للمال الذي أخذتَه
مني.
ت نفعا ،أو مالً ،أو غير مال ،سواء أكانت
فالمعنى :وما آتيتم من ربا تبغون به الزيادة سواء أكان ْ
مشروطة أو غير مشروطة .قالوا :فما حكم الهدايا إنْ رُ ّدتْ بأحسن منها؟ وما ذنبي أنا المعطي
ل تكون في نيتك الزيادة ،وأل تكون هديتك مشروطة ،إنما
في ذلك؟ قالوا :ل شيء فيها بشرط أ ّ
تكون تحببا وتوددا ومعروفا بين الناس ،إنما ل تأخذ عليها ثوابا من ال.
وقوله { لّيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ[ } ...الروم ]39 :في هنا للظرفية ،فالمال ظرف ،وما تضعه فيه
ينقص منه ،ويزيد ما عندك { فَلَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ[ } ...الروم ]39 :يربو عندك أنت بالزيادة التي
تأخذها ممّنْ حيّيْته ،أمّا عند ال فل يربو.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هكذا قال ابن عباس ،وإن كان بعض العلماء قال :هي مطلق في الربا الصل ،وهذه مسألة كان
يجب أنْ يُشرّع لها ،لكن رأى ابن عباس أن آية الربا معروفة ،وهذه للربا في زيادات التحية
والمجاملت بين الناس.
ن وَجْهَ اللّهِ فَُأوْلَـا ِئكَ[ } ...الروم ]39 :أي :الذين
ثم يقول سبحانهَ { :ومَآ آتَيْ ُتمْ مّن َزكَاةٍ تُرِيدُو َ
يؤتون الزكاة ويريدون بها وجه ال { هُمُ ا ْل ُمضْ ِعفُونَ } [الروم ]39 :ليست من الضعاف ،إنما من
حسَنا
الضعاف ،فالزكاة أضعاف الفتح كما في قوله تعالى {:مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا َ
فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ[} ...الحديد ]11 :أما الربا فإضعاف بالكسر.
وهذه المسألة وقف عندها بعض المستشرقين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلم ال ،قالوا :في
عفَهُ
القرآن آيات تصادم الحديث النبوي ،فالقرآن يقول {:مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَا ِ
لَهُ[} ...الحديد .]11 :إذن :القرض الحسن يضاعف به ال الثواب ،وعندكم أن الحسنة بعشر
أمثالها ،وقال النبي صلى ال عليه وسلم " :مكتوب على باب الجنة :الحسنة بعشر أمثالها،
والقرض بثمانية عشر " فلو أن القرض الحسن يضاعف الحسنة بعشر أمثالها ،فهو بعشرين ل
بثمانية عشر.
فقلنا له :لو تصد ْقتَ بدولر مثلً فقد عملتَ حسنة ُتضَاعف لك إلى عشر ،لكن أردّ إليك دولرك
الذي تص ّد ْقتَ به؟ ل ،إذن حقيقة المر أنك أخذتَ تسعة تضاعف إلى ثمانية عشر.
قالوا :فلماذا زاد ثواب القرض؟ نقول :لن المتصدّق حين يتصدق ينقطع أمله فيما قدّم ،لكن
المقرض ل يزال مُعلّق البال في القرض ينتظر ردّه ،فكلما صبر عليه أخذ أجرا ،ثم إن المقترض
ل يقترض إل عن حاجة ،أما المتصدّق عليه فقد يقبل الصدقة وهو غير محتاج إليها ،وربما كان
ممّنْ يكنزون المال.
إذن :فالحق سبحانه يريد أنْ يُنمي القرض لماذا؟ قالوا :لن ال يريد أن تسير حركة الحياة ،وأنْ
تتكامل ،وأنت تعتز بمالك وتخاف عليه وتريد له النماء ،وسوف تجد هذا كله في القرض ،فاجعله
قرضا ،فهو الباب الذي فتحه ال لك للزيادة وللثواب.
ثم إن ال تعالى احترم ملكيتك لمالك ،وحرص على حمايته لك ،فقال {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا
سمّى فَاكْتُبُوهُ[} ...البقرة.]282 :
جلٍ مّ َ
تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ِإلَىا أَ َ
فال يحفظ عليك مالك لتهدأ بالً من ناحيته ،ومع ذلك يترك مجالً لريحية المعطي ومروءته{ فَإِنْ
ضكُم َبعْضا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ[} ...البقرة.]283 :
َأمِنَ َب ْع ُ
وبهذه الفلسفة اليمانية يدور المال وتسير به حركة الحياة ،بحيث يضمن لصاحب المال ماله ،لنه
حبّ له حريص عليه ،ويضمن لمن ل مالَ له أنْ يتحرك من مال الغير ،فإذا كانت هناك أمانة
مُ ِ
أداء ،فكل صاحب أمانة عليه أنْ يؤدّيها لمستحقها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإن اختلت هذه الموازين ،وماطل الفقي ُر الغنيّ ،وضنّ عليه أنْ يردّ إليه حقه ،فقد فسد حال
المجتمع وانهارت فيه هذه القيم ،وساعتها ل نلوم القادر على العطاء إنْ أمسك ماله عن المحتاجين
للقرض ولِمَ ل؟ والناس يأكلون الحقوق ،وبذلك تتوقف حركة الحياة ويتراجع المجتمع عن مسايرة
حركة التقدم.
فإذا كان الربا غير المشروط ،وهو الربا في الهدايا والمجاملت والتحية بين الناس جعله ال
للمودّات وللمروءات بين الناس ،ل يثيب عليه ول يعاقب ،وقال عنه } فَلَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ...
{ [الروم.]39 :
أما الربا المشروط فقد وقف معه وقفة حازمة ،وشرع له عقابا وجعل هذا العقاب من جنس ما
حقُ اللّهُ الْرّبَا} ...
يضادّ غرض الذي رَابَى ،فأنت ترابي لتزيد من مالك ،فيقابلك ال بالنقصان{ َيمْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيء آخرَ ،هبْ أن رجلً لديه مثلً ألف جنيه ورجل ل عند له ،صاحب اللف يستطيع أن
يديرها ،وأن يعيش منها ،أما الخر الذي ل يملك شيئا فيقترض ليعيش مثل صاحبه ،فإنْ قلت له:
اللف قرضا بمائة جنيه ،فمن أين يوفر هذه المائة؟
إنْ أخذها من عائد المال يخسر ،وإنْ أخذها من السلعة بأنْ يُقلل من الجودة أو من العناصر الفعالة
في السلعة ،أو في التغليف ،جاءت السلعة أقلّ من مثيلتها وبارت .إذن :ل بد أن يتحملها
المستهلك ،وهذا إضرار به ،وهو ليس طرفا في العقد ،إذن :العقد باطل.
وحين نقول :إن السلم صالح لكل زمان ومكان يجب أن نفهم هذه القضية جيدا ،وإياك أن تقول:
إن السلم ل يصلح في زمان كذا ،أو في مكان كذا.
س َعهَا} ...
ل وُ ْ
والن نسمع البعض ينصرف عن منهج السلم ويقول لك{ لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ
[البقرة ]286 :أي :ليس في وُسْعه الن تنفيذ شرع ال .لكن نقول له :مَن الذي يحدد الوُسْع؟ أنت
أم المشرّع سبحانه؟
ما دام ال تعالى قد كلّف ،فاعلم أن التكليف في وُسْعك ،فخذ الوُسْع من التكليف ،ل أن تُقدّر أنت
الوسع وتنسى ما كلّفك ال به.
لذلك ترى أن ال تعالى إذا ضاق الوُسْع يُخفّف عنك دون أنْ تطلب أنت التخفيف ،كما في صلة
وصوم المريض والمسافر ..الخ وكما في التيمم إنْ تعذّر استعمال الماء.
فل معنى لن نقول :إن تعاليم الدين ل تناسب العصر ،إذن :اجعل العصر هو المشرّع ،وانصرف
عن تشريع السماء إلى ما يحتمله العصر.
لذلك قلنا :إن الحق سبحانه حينما يلقي تكاليفه يقولُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ[} ...النعام ]151 :فمعنى تعالوا:
ارتفعوا عن مستوى أهواء البشر ،واعلوا إلى تكاليف ال ،فإنْ هبطت بالتكاليف إلى مستواك،
وقُلْت ظروف العصر تحتم عليّ كذا وكذا فقد أخضعتَ منطق السماء لمنطق الرض ،وما جاء
منطق السماء إل ليعلو بك.
فإنْ نظرنا إلى مواقف العلماء من مسألة الربا ،فمنهم مَنْ يُحلّل ،ومنهم مَنْ يُحرّم وهم الكثرة،
و َهبْ أنهم متساوون مَنْ يحرم ومَنْ يحلل ،فما حكم ال فيما تساوتْ فيه الجتهادات؟
النبي صلى ال عليه وسلم أوضح لنا هذه القضية في قوله " :الحلل بيّن ،والحرام بيّن ،وبينهما
أمور مشتبهات ،فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضه ،ومن وقع في الشبهات وقع في
الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه’،أل وإن لكل ملك حِمىً ،أل وإن حمى ال
محارمه ".
ن فعل الشبهات أم :فمَنْ ترك الشبهات؟ إذن :مَنْ وقع في الشبهات لم
فهل قال رسول ال :فمَ ْ
يستبريء ،ل لدينه ول لِعرْضه ،وهل يرضى أحد أنْ يُوصَف هذا الوصف؟ وعجيب أن نسمع مَنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول :وما علقة العِرْض بهذه المسألة؟ نقول :وال حتى غير المؤمن بدين يستنكف أن يقال عنه
أنه مُرابٍ ،عِرْضه ل يقبلها فضلً عن دينه.
لذلك؛ فالمكارون الذين يريدون أن يُغلوها ،ويريدون أن يعيشوا على دماء الناس ل يدرون أن
النفعية هي القانون الذي يحكم ال به خَلْقه ،فيجعل لهم الحسنة بعشر أمثالها ،لذلك يقول اليهود:
كيف تُحرّمون الربا وال يعاملكم به؟
نعم ،الحق -سبحانه وتعالى -يعاملنا بالربا ،ويعطينا بالزيادة؛ لن هذه الزيادة ل تُنقِص مما
عنده سبحانه ،أمّا الزيادة من الناس ومن المحتاجين فإنها ترهقهم وتزيدهم فقرا وحاجة.
عكَ من هذا كله ،وتأمل في المحيط الذي تعيش فيه ،ففي كل بلد أناس يحبون الربا ويتعاملون
ثم دَ ْ
حقُ
ب وثروته كاملة؟ ل ،لن ال تعالى لم يكن ليقول{ َيمْ َ
به ،أرأيتم مرابيا مات بخير؟ أمات مرا ٍ
اللّهُ الْرّبَا[} ...البقرة ]276 :ثم يترك مرابيا ينمو ماله ،ويسلم له إلى أنْ يموت ،فإن اغتنى لحين،
فإنما غِنَاه كيد فيه ،ومبالغة في إيذائه ،كما جاء في الثر " إذا غضب ال على إنسان رزقه من
الحرام ،فإن اشتد غضبه عليه بارك له فيه ".
()3373 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ
اللّهُ الّذِي خََلقَكُمْ ثُمّ رَ َز َقكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ َي ْف َعلُ مِنْ ذَِلكُمْ مِنْ َ
عمّا ُيشْ ِركُونَ ()40
سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ
سبق أنْ قلنا :إن قضية الخَلْق مُسلّم بها؛ لنها قضية لم يدّعها أحد لنفسه مع كثرة المتبجحين
بالكفر واللحاد؛ لذلك لما ادّعاها النمروذ الذي حاجّ إبراهيم في ربه فقال :أنا أحيي وأميت ،فعلم
إبراهيم عليه السلم أنه يريد اللجاج والسفسطة التي ل طائل منها ،وإل فكيف يكون المر بقتل
واحد إماتة ،والمر بترك الخر والعفو عنه إحياء؟
ثم ما بال الذين خُلِقوا قبلك وميلدهم قبل ميلدك؟ إذن :أنت لم تخلق ولم تُحي أحدا ،وسبق أنْ
بيّنا الفرق بين القتل والموت مع أنهما يشتركان في إنهاء الحياة وإزهاق الروح ،لكن الموت يكون
بإزهاق الروح أولً ،يتبعه َنقْض البنية وتحطم الجسم.
أما القتل فينقض البنية أولً َنقْضا يترتب عليه إزهاق الروح فالروح ل تقيم إل في بنية سليمة،
ومثّلنا لذلك بلمبة الكهرباء حين تحرق فينطفيء نورها ،فهل يعني ذلك أن التيار انقطع عنها؟ ل
بل هو موجود لكنه يحتاج لبنية سليمة بدليل أننا إذا استبدلنا اللمبة تضيء.
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ
والحق -سبحانه وتعالى -يبين لنا هذا الفرق في قوله سبحانهَ {:ومَا مُ َ
عقَا ِبكُمْ[} ...آل عمران ]144 :إذن :فالنمروذ ل
سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ
مِن قَبْلِهِ الرّ ُ
يحيي ،بل يُبقِي على الحياة ،ول يُميت بل يقتل ويُزهِق الروح.
وكان بمقدور إبراهيم عليه السلم أنْ يردّ عليه هذه الحجة ،وأنْ يكشف تزييفه ،لكنه أراد أن يأخذه
شمْسِ مِنَ ا ْل َمشْرِقِ
إلى ميدان آخر ل يستطيع التلفيق فيه ول التمحّك ،فقال له {:فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْرِبِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ[} ...البقرة.]258 :
كذلك مسألة الرزق فهي مُسلّمة ل لم يدّعِها أحد { :خََل َقكُمْ ثُمّ رَ َز َقكُمْ[ } ...الروم.]40 :
بدليل أن ال تعالى جعل بعض المناطق جدباء ،يجوع فيها القادر والعاجز ،ويجوع فيها ذو المال
وغير ذو المال ،ولو كان هناك رازق غير ال فَلْ ْيحُي هذه المناطق الجدباء.
وقوله تعالى { :ثُمّ ُيمِي ُتكُمْ ثُمّ ُيحْيِيكُمْ[ } ..الروم ]40 :ولم يقل :يقتلكم { َهلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن َي ْف َعلُ
شيْءٍ[ } ...الروم ]40 :أي :اسألهم هذا السؤال ،ودَعْهم يجيبون هم عليه :أتستطيع
مِن ذَاِل ُكمْ مّن َ
ن تفعل شيئا من الخَلْق أو الرزق أو الحياء أو الماتة؟
الصنام التي تشركونها مع ال أ ْ
أفي قدرتها شيء من ذلك وأنتم الذين تصنعونها وتنحتون حجارتها بأيديكم ،وتُصوّرونها كما
تشاؤون ،فإذا ه ّبتْ عاصفة أطاحت بها وربما كسرت ذراع أحد الصنام فتجتمعون لقامتها
وإصلحها؟ فأين عقولكم؟ وما هذه الخيبة التي أصابتكم؟
لذلك يقول سبحانه عنهم {:وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّ ِه لَ يَخُْلقُونَ شَيْئا وَ ُهمْ يُخَْلقُونَ }[النحل]20 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول سبحانه {:إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَهُ[} ...الحج ]73 :بل
وأكثر من ذلك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمّا يُشْ ِركُونَ { [الروم]40 :
فالتعليق في هذا المر العجيب ل يكون إل بقولنا } :سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَىا َ
أي :تنزيها له عن الشركة ،وإذا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أخبرنا أن ال تعالى قال:
ل إله إل أنا ،ولم َيقُمْ لهذه القضية منازع ،ولم يدّعها أحد لنفسه.
إذن :فهي مُسلّمٌ بها ،وإل فإنْ كان هناك إله آخر فأين هو؟ ولماذا لم يدافع عن حقه في اللوهية؟
إن كان ل يدري فهو غافل ،وإنْ كان يدري ولم يعارض فهو جبان ،وفي كلتا الحالتين ل يصلح
أن يكون إلها.
لذلك ربنا حكمها بقضية واحدة ،فقالُ {:قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ إِلَىا ذِي
ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء.]42 :
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَرّ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانهَ } :
()3374 /
جعُونَ ()41
عمِلُوا َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ ِبمَا كَسَ َبتْ أَ ْيدِي النّاسِ لِ ُيذِي َقهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ
َ
ظهر :بان ووضح .والظهور :أن يُبين شيء موجود بالفعل لكنّا ل نراه ،وما دام الحق سبحانه
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ[ } ...الروم ]41 :فل ُبدّ أن الفساد كان موجودا ،لكن أصحاب الفساد عمّوه
قالَ { :
وجَنّوه إلى أن فقس وفرخ في المجتمع.
والفساد ل يظهر إنما يظهر أثره ،أتذكرون الزلزال الذي حدث والذي كشف الفساد والغش
والتدليس بين المقاول والمهندس ،وكانت المباني قائمة والفساد مستترا إما لغفلتنا عنه ،أو لتواطئنا
معه ،أو لعدم اهتمامنا بالشياء إلى أن ط ّمتْ المسائل ،ففضح ال الرض بالزلزال ،ليكشف ما
عندنا من فساد.
فإذا ازداد الغش ،وانتشر وفَاقَ الحتمال ل بُدّ أن يُظهره ال للناس ،فلم َيعُدْ أحد قادرا على أن
يقف في وجه الفساد ،أو يمنعه؛ لذلك يتدخّل الحق سبحانه ،ويفضح أهل الفساد ويذيقهم آثار ما
عملت أيديهم.
وتأتي ظهر بمعنى " الغلبة " كما في قوله تعالى {:فَأَيّدْنَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَىا عَ ُدوّ ِهمْ فََأصْبَحُواْ
ظَاهِرِينَ }[الصف ]14 :أي غالبين .وفي سورة التحريم {:وَإِن َتظَاهَرَا عَلَ ْيهِ[} ..التحريم.]4 :
ظهَرُوهُ َومَا اسْتَطَاعُواْ َلهُ َنقْبا }[الكهف.]97 :
وبمعنى " العلو " في قوله تعالىَ {:فمَا اسْطَاعُواْ أَن يَ ْ
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ[ } ...الروم ]41 :أي :غلب الصلح وعل عليه ،والكون خلقه ال تعالى
فالمعنى { َ
على هيئة الصلح ،وأعدّه لستقبال النسان إعدادا رائعا ،وللتأكد من صدْق هذه المسألة انظر في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الكون وأجناسه وأفلكه وأجوائه ،فلن ترى فسادا إل فيما تتناوله يد النسان.
أما ما ل تتناوله يد النسان ،فل ترى فيه خللً؛ لن ال خلقه منسجمَ الجناس منسجمَ التكوين {:لَ
ك ال َقمَرَ َولَ الّيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ يَسْ َبحُونَ }[يس.]40 :
شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ
ال ّ
فهل خلقنا الحق سبحانه وخلق اختيارنا لنفسد في الكون؟
ل ،إنما هو ابتلء الختيار حين ينزل عليك المنهج ويجعله قانونا لحركتك بافعل ول تفعل ،وما لم
أقُل فيه (افعل) أو (ل تفعل) فأنت حر فيه ،فل يحدث من الفعل أو من عدمه ضرر في الكون،
أمّا أنا فقد قلت افعل في الذي يحصل منه ضرر بعدم فعله ،وقلت ل تفعل في الذي يحصل ضرر
من فعله.
فالفساد يأتي حين تُدخِل يدك في شيء وأنت تطرح قانون ال في افعل ول تفعل ،أما الصلح
فموجود وفيه مناعة يكافح بها الفساد ،فإنْ عل تيار الفساد وظهر على الصلح وغلبه بان للناس.
وعندها يُنبّهنا الحق سبحانه بالحداث تطرقنا وتقول لنا :انظروا إلى مَنْ خالف منهج ال ماذا
حدث له؛ لذلك في أعقاب الحداث نزداد عشقا ل ،وحبا لطاعته ،وترى الناس (تمشي على
العجين متلخبطه) ،لكن سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه من الهمال والغفلة ،على حَ ّد قول
ت ونلهُو حِين تَذ َهبُ مُدبرا ِتكَروْعَةِ ثُلّ ٍة لمغَارِ ذِ ْئبٍ فَلما غابَ عادتْ
الشاعر:تُروّعنا الجناَئِزُ ُمقْبِل ٍ
راتعاتِ
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ[ { ...الروم ]41 :أي :غلب على قانون الصلح الذي أقام ال عليه
فالحق يقولَ } :
حقّ
نظام هذا الكون ،الذي لو نالتْه يد النسان لَفسد هو الخر ،كما قال سبحانه {:وََلوِ اتّبَعَ الْ َ
سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ[} ....المؤمنون.]71 :
س َدتِ ال ّ
أَ ْهوَآ َءهُمْ َلفَ َ
فظواهر الكون أشياء وقضايا لكل العامة ،ومن الحكمة إلّ تنالها يد النسان؛ لن ال تعالى يريد
للكون البقاء ،ولم ي ْأتِ أوان انتهائه ،لذلك الحق سبحانه يجعل فينا مناعة تجعلنا نقبل الفساد إلى
حين ،إلى أن يصل إلى درجة التشبّع ،فتتفجر الوضاع.
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَرّ[ { ...الروم ]41 :نتيجة لدعوته صلى ال عليه وسلم؛ لن كلمة
فقولهَ } :
(ظهر) تدل على أن شيئا وقع ،فكأنه يقول لنا :إنْ كررتم الفساد والغفلة تكرّر ظهور الفساد ،فهو
يعطينا مُلخصا لما حدث بالفعل من عداوتهم لرسول ال ،ومقاطعته وعزله وإغراء السفهاء منهم
للتحرش به ،ثم عداوة أصحابه وإجبارهم على الهجرة إلى الحبشة حتى ل يستقر لهم قرار بمكة.
شدُد وطأتك على ُمضَر ،واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف "
لذلك دعا عليهم رسول ال " :اللهم ا ْ
جدْب والقحط ،حتى ُروِي أنهم كانوا يذهبون للبحر لصيد السمك ،فيبتعد عنهم ول
فأصابهم ال َ
يستقيم لهم فيعودون كما أتوا.
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ[ { ...الروم.]41 :
وهذا معنى } َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يوضح الحق سبحانه سبب هذا الفسادِ } :بمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي النّاسِ[ { ...الروم ]41 :فتلحظ هنا أن
الحق سبانه لما يذكرالرحمة ل يذكر عِلّتها ،لكن يذكر عِلّة الفساد؛ لن الرحمة من ال سبحانه
أولً وأخيرا تفضّل ،أما الخذ والعذاب فبَعدله تعالى؛ لذلك يُبّين لك أنك فعلت كذا ،وتستحق كذا،
فالعلّة واضحة.
هناك قضية أخرى أحب أن أوضحها لكم ،وهي أن الحق سبحانه يعامل خَلْقه معاملته في الجزاء،
فال يقول {:مَن جَآءَ بِا ْلحَسَنَةِ فََلهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا[} ...النعام.]160 :
إذن :فالحسنة الواحدة تستر عشر سيئات ،وكذلك في جسم النسان ،فيقول بعض علماء وظائف
العضاء والتشريح :إن الكلية بها مليون خلية يعمل منها العُشْر بالتبادل ،فمجموعة تعمل ،والباقي
يرتاح وهكذا .فانظر كم ترتاح الخلية حتى يأتي عليها الدور في العمل.
فكأن ربنا -سبحانه وتعالى -خلق لها العشر يقوم مقام المليون؛ لذلك قالوا لو أن في أحد
الدواوين عشرة موظفين ،منهم واحد واحد محسن ،يستر إساءة الباقين ،وكثيرا ما تلحظ هذه
الظاهرة في دواوين الحكومة ،فترى غالبية الموظفين منشغلين :هذا يقرأ الجرائد ،وهذا يشرب
الشاي ،وآخر لم ي ْأتِ أصلً.
ل غارقا في العمل ،يقصده الجميع ،ويتحمل هو تقصير
وخلف كومة من الملفات تجد موظفا نحي ً
ظهَرَ
الخرين ،ويؤدي عنهم ،وبه تسير دفّة المور ،لكن إنْ فقدنا هذا أيضا ،فل بُدّ أن تأتي } َ
ا ْلفَسَادُ[ { ...الروم ]41 :إذن :إن رأيت الفساد فاعلم أنه نتيجة إهمال وغفلة فاقت كل الحدود.
وما دام الحق سبحانه قالِ } :بمَا َكسَ َبتْ أَ ْيدِي النّاسِ[ { ...الروم ]41 :فل بُدّ أن الفساد جاء من
ناحيتهم ،وبال هل اشتكينا أزمة في الهواء مثلً؟ لكن نشتكي تلوث الهواء بما كسبتْ أيدي الناس،
أمّا حين نذهب إلى الخلء حيث ل يوجد النسان ،نجد الهواء نقيا كما خلقه ال.
الحق سبحانه تكفّل لنا بالغذاء فقالَ {:وقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا[} ...فصلت ]10 :لكنا نشتكي أزمة طعام،
لماذا؟ لن الطعام يحتاج إلى عمل ،ونحن تكاسلنا ،وأسأنا التصرّف في الكون ،إما بالكسل
ن الواجد على غير
والخمول عن استخراج خيرات الرض وأقواتها ،وإما بالنانية حيث يض ّ
الواجد.
وقد قرأنا مثلً أن أمريكا تسكب اللبن في البحر ،وتعدم الكثير من المحصولت ،وفي العالم أُناس
يموتون جوعا ،إذن :هذه أنانية ،أما التكاسل فقد حدث منا في الماضي.
وانظر الن إلى صحرائنا التي كانت جرداء قاحلة ،كيف اخضرت الن ،وصارت مصدرا
للخيرات لما اهتممنا بها ويسّرنا ملكيتها للناس ،فإنْ ض ّنتْ الرض في منقطة ما فقد جعل ال لنا
خلْق ال
سعة في غيرها ،فالخالق سبحانه لم يجعل الرض لجنس ول لوطن ،إنما جعلها مشاعا ل َ
جميعا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س َعةً فَ ُتهَاجِرُواْ فِيهَا[} ...النساء.]97 :
واقرأ قوله تعالى {:أَلَمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ
ولذلك قلت في هيئة المم :إن في القرآن آية واحدة ،لو أخذ العالم بها لضمنت له الرخاء
ضعَهَا لِلَنَامِ }[الرحمن ]10 :فالرض كل
ض َو َ
والستقرار والمان ،إنها قوله تعالى {:وَالَ ْر َ
الرض للنام كل النام ،لكن الواقع خلف ذلك ،فقد وضعوا للرض حدودا ،وأقاموا عليها
الحواجز والسوار ،فإنْ أردتَ التنقّل من قطر إلى آخر تجشّمت في سبيل ذلك كثيرا من المشاق
في إجراءات وتأشيرات ..إلخ.
وكانت نتيجة ذلك أن يوجد في الكون رجال ازدحموا بل أرض ،وفي موضع آخر أرض بل
رجال ،ولو حدث التكامل بين هذه وتلك لستقامت المور.
إذن :الذين وضعوا الحدود والحواجز في أرض ال أخذوها لنفسهم ،فلم َت ُعدْ أرض ال الواسعة
التي تستقبل خَلْق ال من أي مكان آخر ،إنما جعلوها أرضهم ،وأخضعوها لقوانينهم هم ،وتعجب
حين تتأمل حدود الدول على الخريطة ،فهي متداخلة ،فترى جزءا من هذه الدولة يدخل في نطاق
دولة أخرى ،على شكل مثلث مثلً ،أو تمتد أرض دولة في دولة أخرى على شكل لسان أو
مناطق متعرجة ،فماذ ُدمْتم قد وضعتم بينكم حدودا ،فلماذا ل تجعلونها مستقيمة؟
وكأن واضعي هذه الحدود أرادوها بُؤرا للخلف بين الدول ،ول يخلو هذا التقسيم من الهوى
ض َعهَا
والعصبيات القبلية والجنسية والقومية والدينية ،لكن لو أخذنا بقول ربنا {:وَالَ ْرضَ َو َ
لِلَنَامِ }[الرحمن ]10 :لما عانينا كل هذه المعاناة.
وقوله تعالى } :كَسَ َبتْ[ { ...الروم ]41 :عندنا :كسب واكتسب ،الغالب أن تكون كسب للحسنة،
واكتسب للسيئة؛ لن الحسنة تأتي من المؤمن طبيعة بدون تكلّف أو افتعال ،فدلّ عليها بالفعل
المجرد (كسب).
أما السيئة ،فعلى خلف الطبيعة ،فتحتاج منك إلى تكلّف وافتعال ،فدلّ عليها بالفعل المزيد الدال
على الفتعال (اكتسب).
َألَ ترى أنك في بيتك تنظر إلى زوجتك وبناتك كما تشاء ،أما الجنبية فإنك تختلس النظرات إليها
وتحتال لذلك؟ فكل حركاتك مفتعلة ،لماذا؟ لنك تفعل شيئا محرما وممنوعا ،أما الخير فتصنعه
تلقائيا وطبيعيا بل تكلّف.
كما أن الحسنة ل تحتاج منك إلى مجهود ،أمّا السيئة فتحتاج إلى أنْ تٌجنّد لها كل قواك ،وأن
تحتاط ،كالذي يسرق مثلً ،فيحتاج إلى مجهود ،وإلى محاربة لجوارحه؛ لنها على الحقيقة تأبى
ما يفعل.
صحَابُ
خطِيـئَتُهُ فَُأوْلَـ ِئكَ َأ ْ
طتْ بِهِ َ
سبَ سَيّئَ ًة وََأحَا َ
ومع ذلك نلحظ قوله تعالى {:بَلَىا مَن كَ َ
النّارِ[} ...البقرة.]81 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فجعل السيئة كَسْبا ل اكتسابا .قالوا :لن السيئة هنا صارت عادة عنده ،وسهلت عليه حتى صارت
أمرا طبيعيا يفعله ول يبالي كالذي يفعل الحسنة ،وهذا النوع والعياذ بال أحب السيئة وعشقها،
حتى أصبح يتباهى بها ول يسترها ويتبجح بفعلها.
وهذا نسميه (فاقد) ،فقد أصبح الشر والفساد حرفة له ،فل يتأثر به ،ول يخجل منه كالذي يقبل
الرّشْوة ،ويفرح لستقبالها ،فإن سألته قال لك :وماذا فيها؟ أنا ل أسرق الناس.
عمِلُواْ[ { ...الروم ]41 :الذاقة هنا عقوبة ،لكنها عقوبة
وقوله تعالى } :لِيُذِي َقهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ
الصلح كما تعاقب ولدك وتضر به حرصا عليه ،وسبق أن قلنا :إنه ل ينبغي أن نفصل الحدث
عن فاعله ،فقد يعتدي ولد على ولدك ،فيجرحه فتذهب به للطبيب ،فيجرحه جرحا أبلغ ،لكن هذا
جرح المعتدي ،وهذا جرح المداوي.
وحين يُذيق ال النسانَ بعض ما قدّمت يداه يوقظه من غفلته ،ويُنبّه فيه الفطرة اليمانية ،فيحتاط
للمر ول يهمل ول يقصر ،وتظل عنده هذه اليقظة اليمانية بمقدار وَعْيه اليماني ،فواحد يظلّ
يقظا شهرا ،ثم يعود إلى ما كان عليه ،وآخر يظل سنة ،وآخر يظل عمره كله ل تنتابه غفلة.
وقد أذاق الُ أهلَ مكة عاقبة كفرهم حتى جاعوا ولم يجدوا ما يأكلونه إل َدمَ البل المخلوط
بوبرها ،وهو العِ ْلهِز.
جعُونَ { [الروم ]41 :لن الكلم هنا في الدنيا ،وهي ليستْ دار جزاء ،فالحق
وقولهَ } :لعَّلهُمْ يَ ْر ِ
يُذيقهم بعض أعمالهم ليلتفتوا إليه سبحانه ،ويتوبوا ويعودوا إلى حظيرة اليمان؛ لنهم عبيدة ،وهو
سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها.
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ[ { ...الروم ]41 :أي :على عهد رسول ال صلى ال
والحق سبحانه ساعة يقول } َ
عليه وسلم ليُبيّن لنا أن الرسل إنما جاءوا لنقاذ البشرية من هذا الفساد ،لكن ما دام المر عُلّل
فالمر يدور مع العلة وجودا وعدما ،فكلما ظهر الفساد حّلتْ العقوبة ،فخذوها في الكون آية من
آيات ال إلى قيام الساعة.
فظهر الفساد قديما{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ الصّيْحَةُ
سهُمْ
سفْنَا بِهِ الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َمهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
َومِ ْنهُمْ مّنْ خَ َ
يَظِْلمُونَ }
[العنكبوت]40 :
لكن هذا الخْذ كان قبل سيدنا رسول ال في المم السابقة ،وكان هلك استئصال؛ لن الرسل
السابقين لم يُكلّفوا بالمحاربة لجل نَشْر دعوتهم ،فما عليهم إل نشر الدين وتبليغه ،مع التأييد
بالمعجزات ،فإنْ تأبّى عليهم أقوامهم تولّى الحق سبحانه عقابهم ،أما أمة محمد صلى ال عليه
وسلم فقد أكرمهم ال بألّ يعاقبها بعذاب الستئصالَ {.ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِ ْم َومَا كَانَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللّهُ ُم َعذّ َبهُ ْم وَهُمْ َيسْ َت ْغفِرُونَ }[النفال.]33 :
ثم سيظهر الفساد حديثا وسيحدث العقاب .إذن :ليست المة السلمية بِدَعا في هذه المسألة.
ثم يقول الحق سبحانهُ } :قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ.{ ....
()3375 /
ُقلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَ ْبلُ كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ مُشْ ِركِينَ ()42
السير :النتقال من حيز مكاني إلى حيز آخر ،وسبق أنْ قلنا :إن النظرة السطحية في ظاهر المر
أن السير يكون على الرض ل فيها؛ لننا نسكن على الرض ل فيها ،لكن الحق سبحانه يُبصرنا
بقولهُ { :قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ[ } ...الروم ]42 :أن الرض ليست هي اليابسة والماء على سطح
الكرة الرضية ،أما الرض فتشمل غلفها الجوي لذلك يدور معها وهو إكسير الحياة فيها؛ فل
حياة لها إل به.
إذن :فهواء الرض من الرض ،وهو أهم القوات للحياء عليها ،فحين يقول تعالىَ {:وقَدّرَ فِيهَآ
َأ ْقوَا َتهَا[} ...فصلت ]10 :فالهواء داخل فيها ،لذلك قال { ُقلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ[ } ...الروم.]42 :
وقلنا :لو أنك استقرأتَ أجناس الوجود لوجدت أنك الجنس العلى في الكون ،وكل الجناس تحتك
تخدمك ،فأنت تنتفع بالحيوان وبالنبات وبالجماد ،فأدنى الجناس في الكون وهو الجماد له مهمة
يؤديها.
فأنت أيها النسان الذي كرّمك ال على كل أجناس الوجود إذا لم تبحث لك عن مهمة تؤديها في
الحياة ،ودور تقوم به ،فأنت أقل منزلةً من أدنى الجناس وهو الجماد ،إذا لم تبحث بعقلك عن
شيء ترتبط به يناسب سيادتك على مَنْ دونك ،فأنت أتفه من الحجر؛ لن الحجر له مهمة يؤديها،
وأنت ل مهمةَ لك.
لكن هذا الجنس الدنى إنْ أراد سبحانه أعطاه عزة فوق السيد المخدوم وهو النسان ،ففي فَرْض
الحج يُسَنّ لك أن تُقبّل هذا الحجر ،وتسعى جاهدا لكي تُقبّله ،وتأمل النسان -وهو سيد هذا
الوجود -وهو يحاول أنْ يُقبّل الحجر ،ويغضب إنْ لم يتمكن من ذلك.
وتأمل الردّ من دولة الحجار على مَنْ عبدها من دون ال:عَبَدُونَا ونَحْنُ أعبَدُ ل منَ القائمين
جهْلً كما َقدْ تج ّنوْه علَى ابْن مريم
صمْتنَا عَليْنَا دَليلً فَغدوْنَا َلهُم وقُودَ النا ِرقَدْ تجنّوا َ
بالسْحارِ َتخِذُوا َ
والحَوارِيَللمغَالِي جَزَاؤه والمغَالَي فيهِ تُنجِيهِ رَحْمةُ الغفّارِثم يقول سبحانه { :فَا ْنظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَ ْبلُ[ } ...الروم ]42 :فالسير في الرض يكون إما للسياحة والتأمل في آيات ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في كونه ،لذلك يستخدم فيها الفاء { فَا ْنظُرُواْ[ } ...الروم ]42 :أو يسير في الرض لطلب الرزق.
وفي آية أخرىُ {:قلْ سِيرُواْ فِي الَرْضِ ُثمّ انْظُرُواْ[} ...النعام ]11 :والمعنى :سيروا في الرض
للستثمار ،وطلب القوت ،وقضاء المصالح ،لكن ل يفوتكم النظر والتأمل في آيات ال وفي
مخلوقاته لتأخذوا منها العبرة والعظة.
ومعنى { :كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَ ْبلُ[ } ...الروم ]42 :أي الذين ظهر الفساد بينهم ،فأذاقهم ال
اللم بما كسبتْ أيديهم ،فهذه ليست عندك وحدك ،إنما حدثتْ في المم السابقة ،كما قال سبحانه{:
وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ّمصْبِحِينَ }[الصافات.]137 :
فهناك مدائن صالح والحقاف وعاد وثمود والفراعنة ..إلخ انظر ما حلّ بهم بعد الحضارة
والنضارة ،بعد ما توصلوا إليه من علم التحنيط الذي لم يعرف العلم أسراره حتى الن ،ويضعون
مع جثث الموتى حبوب القمح أو الشعير ،فتظل على حالها ،بحيث إذا زُرِعت بعد آلف السنين
تنبت.
إنها قدرة علمية فائقة ،ومع ذلك ما استطاعت هذه الحضارة أن تحمي نفسها من الندثار ،وإذا
لوْتَادِ }[الفجر ]10 :فقد قال عن إرم{
عوْنَ ذِى ا َ
كان القرآن قد قال عن الحضارة الفرعونية{ َوفِرْ َ
لدِ }[الفجر.]8 :
الّتِي لَمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي الْبِ َ
فأيّ حضارة هذه؟ وأين هي الن؟ طمرتها رمال الحقاف ،ودفنتها تحت أطباق الثرى ،ول تعجب
ت عاصفة واحدة ،فإنها تغطي قافلة كاملة بجمالها ورجالها تحت
من ذلك ،ففي هذه المنطقة إنْ ه ّب ْ
حفْرا.
الرض ،فما بالك بالعواصف منذ قرون طوال؛ لذلك نجد كل الثار يتم التنقيب عنها َ
إذن :فالحضارات مع عظمها لم تستطع أنْ تحمي نفسها من الزوال ،وهذا دليل على وجود قوة
أعلى منها تزيلها وتقضي عليها.
وقوله تعالى } :كَانَ َأكْثَرُهُمْ مّشْ ِركِينَ { [الروم ]42 :أي :أن القليل منهم لم يكُنْ مشركا ،قالوا :هذه
القِلّة هم الصبيان والمجانين ،ومن ليس له إرادة حرة ،وإن أخذت هذه القلة مع الكثرة المشركة،
فإن ال إنما أراد بهم خيرا؛ لن مثواهم إلى الجنة بغير حساب.
لذلك لما تكلمنا عن موسى والعبد الصالح في سورة الكهف :لما قتل الخضر الغلم تعجّب موسى،
ففي المرة الولى خرق السفينة واعتدى على ملْك ،أما في هذه المرة فقد أزهق روحا؛ لذلك قال
في الولى{ َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا ِإمْرا }[الكهف ]71 :أي :عجيبا ،أما في الثانية فقالّ {:لقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا
ّنكْرا }[الكهف.]74 :
ثم بيّن الخضر الحكمة من قتل الغلم فقال :إن له أبوين صالحين ،وفي علم ال تعالى أنه سيفسد
عليهما دينهما؛ لن الفتنة تأتي النسان غالبا من الزوجة أو من الولد ،كما قال سبحانه {:إِنّ مِنْ
ع ُدوّا ّلكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[} ...التغابن ]14 :لماذا؟ لنهما يحملنك على ما ل تطيق،
جكُ ْم وََأ ْولَ ِدكُمْ َ
أَ ْزوَا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويضطرانك ربما للسرقة أو للرشوة لتوفر لهما ما يلزمهما ،ولن الفساد يأتي من ناحيتهما قال
ل وَلَدا }[الجن ]3 :يعني :طمئنوا عبادي ،فل أحد يؤثر على إرادتي.
سبحانه {:مَا اتّخَذَ صَاحِبَ ًة َو َ
إذن :فالخضر صنع الجميل بالوالدين ،حيث أنقذهما من هذا البن ،وصنع أيضا جميلً بالغلم
ن التكليف ،وجعل مصيره إلى الجنة ،وربما لو تركه لكان كافرا بال عاقا
حيث قتله قبل سِ ّ
لوالديه ،وهذا كله إنما جرى بأمر ال وحكمهَ } :ومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي[ { ...الكهف.]82 :
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ
وكأن الحق -تبارك وتعالى -يقول لنبيه في هذه المسألة بداية من{ َ
ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي النّاسِ[} ...الروم ]41 :ثم إنزال العقاب بهم جزاء ما عملتْ أيديهم وأجبتُك في
دعوتك عليهم.
كل ذلك إنما يعني أنني أقوّي مركزك ،ولن أتخلى عنك ،وما دام المر كذلك فإياك أن يُؤثّر فيك
مكرهم أو تركن إلى أحد منهم ممّنْ قالوا لك :تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ،لكن يقول الحق
ج َهكَ لِلدّينَ ا ْلقِيّمِ.{ ...
سبحانه } :فََأقِ ْم وَ ْ
()3376 /
ج َهكَ لِلدّينِ ا ْلقَيّمِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا مَ َردّ لَهُ مِنَ اللّهِ َي ْومَئِذٍ َيصّدّعُونَ ()43
فََأقِ ْم وَ ْ
ج َهكَ لِلدّينَ ا ْلقِيّمِ[ } ...الروم ]43 :يعني اطمئن يا محمد ،وتفرغ لعبادة ال
قوله تعالى { :فََأقِ ْم َو ْ
لنني وعدتُك بالنصر ،وأجبتُك حين قُلْت " :اللهم اشْ ُددْ وطأتك على ُمضَر ،واجعلها عليهم سنين
جعُونَ }[غافر ]77 :يعني:
كسنيّ يوسف " { .فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُرْ َ
مَنْ لم تَنَ ْل ُه عقوبة الدنيا نالته عقوبة الخرة.
ج َهكَ[ } ...الروم ]43 :لن الوجه محلّ التكريم ،وسيد الكائن النساني ،وموضع
وقال { :فََأقِ ْم وَ ْ
العزة فيه ،بدليل أن السجود والضراعة ل تعالى تكون بوضع هذا الوجه على الرض؛ لذلك حين
ترسل شخصا برسالة أو تُكلّفه أمرا يقضيه ب ِرجْله ،أو بيده ،أو بلسانه ،أو بأيّ جارحة من
جوارحه تقول له :أرجو أنْ تُبيّض وجهي؛ لن الوجه هو السيد.
ج َههُ[} ...القصص ]88 :لنك ل تعرف سمة الناس
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ وَ ْ
ومن ذلك قوله تعالىُ {:كلّ َ
إل بوجوههم ،ومَنْ أراد أنْ يتنكر أو يُخفي شخصيته يستر مجرد عينيه ،فما بالك إنْ ستر كل
وجهه ،وأنت ل تعرف الشخص من قفاه ،ول من كتفه ،ول من رجله ،إنما تعرفه بوجهه،
ويقولون :فلن وجيه القوم ،أو له وجاهته في القوم ،كلها من ناحية الوجه.
وما دام قد خصّ الوجه ،وهو أشرف شيء فيك ،ف ُكلّ الجوارح مقصودة من باب َأوْلَى فهي تابعة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للوجه ،فالمعنى :أقِم يدك فيما أمرك ال أن تفعل ورجلك فيما أمرك ال أنْ تسعى ،وقلبك فيما
أمرك ال أن تشغل به ،وعينك فيما أمرك ال أن تنظر فيه ..الخ.
يعني :انتهز فرصة حياتك { مِن قَ ْبلِ أَن يَأْ ِتيَ َيوْمٌ[ } ...الروم ]43 :هو يوم القيامة { لّ مَ َردّ لَهُ
مِنَ اللّهِ[ } ...الروم ]43 :المعنى :أن ال حين يأتي به ل يستطيع أحد أنْ يسترده من ال ،أو
يأخذه من يده ،أو يمنعه أنْ يأتي به ،أو أنه سبحانه إذا قضي المر ل يعود ول يرجع فيه.
فكلمة { مِنَ اللّهِ[ } ...الروم ]43 :تعطينا المعنيين ،كما في قوله تعالى {:لَهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ َيدَيْهِ
حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ[} ..الرعد ]11 :فكيف تحفظه المعقّبات من أمر ال؟ قالوا :كونهم
َومِنْ خَ ْلفِهِ يَ ْ
مُعقّبات للحفظ أمر صادر من ال أصلً ،وبناءً على أمره تعالى بالحفظ.
وقولهَ { :ي ْومَئِذٍ[ } ...الروم ]43 :يعني :في اليوم الذي ل مردّ له من ال { َيصّدّعُونَ } [الروم:
]43أي :هؤلء الذين تكاتفوا على حربك وعلى عداوتك وإيذائك ،وتعصّبوا ضدك { َيصّدّعُونَ }
[الروم ]43 :أي :ينشقّون بعضهم على بعض ،ويتفرقون ،وقد وردت هذه المسألة في آيات كثيرة.
والتفريق إما إيمان وكفر أي :أشقياء وسعداء ،وإما أن يكون التفريق في القوم الذين عاندوا
واتبعوا أتباعهم على الشرك ،فيتبرأ كل منهم من الخر ،كما قال سبحانه {:إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ
مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ[} ...البقرة.]166 :
ثم قال الحق ليبين لنا ذلك التفريق في الخرة بعلّته ،وعِلّته ما حدث في الدنيا ،فال تعالى ل يظلم
أحدا ،فقال بعد ذلك { :مَن كَفَرَ َفعَلَيْهِ ُكفْ ُر ُه َومَنْ.} ...
()3377 /
ن كفر فعليه
ما دامت القيامة أمرا ل مردّ له من ال ،فلننتبه للعواقب ،ولنحسب لها حسابا ،فمَ ْ
كفره ،عليه ل له ،وهذه قضية تقتضي أن نقول في مقابلها :ومَنْ آمن فله إيمانه.
بعد أن بيّن الدلئل الواضحة على واحديته في الكون ،وأحديته في ذاته سبحانه ،وبيّن الدلة
ل وتفصيلً بعد ذلك قال :سأقول لكم أنكم
الكونية ب ُكلّ صورها برهانا وحجةً ،وضرب أمثا ً
أصبحتم مختارين أي :خلقتُ فيكم الختيار في التكليف حتى ل أقهر أحدا على اليمان بي.
وخَلْق الختيار في التكليف بعد القهر في غير التكليف يدلّ على أن ال تعالى ل يريد من عباده
قوالب تأتمر بأمر القهر ،ولكنه يريد أنْ يجذب الناس بمحبوبيتهم للواحد الحد.
وإل فكان من الممكن أن يخلقهم جميعا مهتدين ،وأنْ يخلقهم على هيئة ل تتمكّن من الكفر ،وتسير
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى الطاعة مرغمة ،كما قال سبحانه حكاية عن السماء والرض {:أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت]11 :
وذلك يُفسّر لنا أمانة خَلْق الختيار في الناس.
لمَانَةَ عَلَى
والحق -سبحانه وتعالى -حينما تكلم عن هذه المسألة بوضوح قال {:إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
شفَقْنَ مِ ْنهَا[} ...الحزاب ]72 :والباء هنا ليس
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
ال ّ
إباء تكبّر على مراد ال ،إنما وضعوا أنفسهم في الموضع الطبيعي ،فقالوا :ل لحمل المانة؛ لننا
ل نأمن أنفسنا ول نضمنها عند الداء.
والنسان كذلك ابن أغيار ،فقد يحمل المانة ،ويضمن أداءها في وقت التحمل ،لكنه ل يضمن
ن يقبل المانة ،ويرحب بها عند التحمل ،ثم تطرأ عليه
نفسه عند الداء ،وسبق أن مثّلْنا لذلك بمَ ْ
من أحداث الحياة ما يضطره لنْ يمدّ يده إلى هذه المانة وإنْ كان في نيته الداء ،لكن يأتي وقته
فل يستطيع ،وآخر يُقدّر هذه المسئولية ويرفض تحمل المانة ،وهذا هو العاقل الذي يُقدّر
الظروف وتغيّر الحوال.
ن كتبتَ وشهد عليها فإنها لم َت ُعدْ أمانة ،فالمانة إذن مردّها لختيار
ومعلوم أن المانة ل تُوثّق ،فإ ْ
المؤتمن إنْ شاء أقرّ بها ،وإنْ شاء أنكرها.
شفَقْنَ مِ ْنهَا} ..
حمِلْ َنهَا وََأ ْ
فالحق سبحانه قال حكاية عن السماوات والرض والجبال{ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
[الحزاب ]72 :لنهم يُقدّرون مسئوليتها ،أما النسان فقد تعرّض لحملها وقال :عندي عقل أفكر
به ،وأختار بين البدائل ،وسوف أؤدي ،فضمن وقت التحمل ،لكنهن ل يضمن وقت الداء ،فظلم
نفسه وجهل حقائق المور.
جهُولً }[الحزاب ]72 :ظلوما لنفسه ،جهولً بما يمكن أنْ يطرأ
حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
{ وَ َ
عليه من الغيار.
وما دام النسان ابن أغيار ،فإنه ل يثبت على حال؛ لذلك قلنا :إذا صعد النسان الجبل إلى قمته
وهو ابن أغيار فليس أمامه إل أنْ ينزل ،والعقلء يخافون أنْ تتم لهم النعمة؛ لنه ليس بعد التمام
إل النقصان ،كما قال الشاعر:
إِذَا َتمّ شيء بَدا َن ْقصُه تر ّقبْ َزوَالً إذَا قِيلَ َتمّفإذا قلت :لماذا خلق ال الختيار في النسان ولم
يخلقه في الجناس التي تخدمه من جماد ونبات وحيوان؟ نقول :كُنْ دقيقا ،وافهم أنها أيضا خُيّرت
شفَقْنَ} ...
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
بقوله تعالى {:إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
[الحزاب.]72 :
إذن :هذه الجناس أيضا خُيّرت ،لكنها اختارت اختيارا واحدا يكفيها كل الختيارات ،فقالت :نريد
ن نكون مقهورين لكل ما تريد.
يا رب أ ْ
ولما كنا مختارين أعطانا ال تعالى هذه القضية } :مَن كَفَرَ َفعَلَيْهِ ُكفْ ُرهُ[ { ...الروم ]44 :وكلمة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
(عَلَيْه) تفيد الدّيْن والوِزْر ،و (له) تفيد النفع ،فإذا جئنا بالمقابل بقول :ومَنْ آمن فله إيمانه ،كما
ن الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ }[النفطار.]14-13 :
في {:إِ ّ
سهِمْ
ل صَالِحا فَلَنفُ ِ
ع ِم َ
عدَل إلى مسألة أخرىَ } :ومَنْ َ
لكن القرآن لم يَأْت بهذا المقابل ،إنما َ
َي ْمهَدُونَ { [الروم ]44 :فلماذا؟ قالوا :لن فائدة اليمان أن تعتقد بوجود إله قادر واحد هو ال
فتؤمن به ،فإذا ما أمرك تطيع ،فعِلّة اليمان التكليف؛ لذلك حين تبحث أيّ تكليف إياك أنْ تنظر
إلى عِلّته فتقول :كلفني بكذا لكذا ،فعِلّة التكليف وحكمته عنده تعالى.
فإذا قلنا مثلً :حكمة الصيام أنْ يشعر الغنيّ ويذوق ألم الجزع فيعطف على الفقير ،فهل يعني هذا
ن تقول :أصوم؛ لن ال
أن الفقير المعدَم ل يصوم؟ إذن :ليست هذه حكمة الصيام ،والصوب أ ْ
أراد مني أن أصوم ،وحكمة الصيام عنده هو.
ومثّلنا لذلك ول تعالى المثل العلى :أنت حين تشكو مرضا أو ألما تسأل عن الطبيب الماهر
والمتخصص حتى تنتهي إليه ،وعندها تنتهي مهمة عقلك ،فتضع نفسك بين يديه يفحصك
ويُشخّص مرضك ،ويكتب لك الدواء ،فل تعارضه في شيء ،ول تسأله لماذا كتب هذا الدواء.
فإذا سألك زائر مثلً :لماذا تأخذ هذا الدواء؟ ل تقول :لن من خصائصه كذا ،ومن تفاعلته كذا،
إنما تقول :لن الطبيب وصفه لي ،مع أن الطبيب بشر قد يخطيء ،وقد يكتب لك دواءً ،أو يعطيك
حقنة ترديك ،ومع ذلك تُسلّم له بما يراه مناسبا لك ،فإذا كنت ل تناقش الطبيب وهو خطأ ،فكيف
تناقش ال فيما فرضه عليك وتطلب علّة لكل شيء؟
ول يناقش في عِلَل الشياء إل المساوي ،فل يناقش الطبيبَ إلى طبيبٌ مثله ،كذلك يجب أنْ نُسلّم
ل تعالى بعلل الشياء وحكمتها إلى أنْ يوجد ُمسَاوٍ له سبحانه يمكن أنْ يناقشه.
علّة اليمان -ل اليمان في ذاته -إنما ما يترتب عليه من طاعة أوامر
والحق سبحانه يُبيّن لنا ِ
هذا الله ،وعلى طاعة هذه الوامر الوامر يترتب صلح الكون ،بدليل أن ال يطلب من
ن يعارضها ويمنعهم من نشرها.
المؤمنين أنْ ينشروا الدعوة ،وأن يُبلّغوها ،وأن يحاربوا مَ ْ
ن تركوك وشأنك فدَعْهم ،بدليل أن البلد
فما شُهر السيف في السلم إل لحماية بلغ الدعوة ،فإ ْ
التي فتحها السلم ظل بها أصحاب ديانات أخرى على دياناتهم ،وهذا دليل على أن السلم لم
يُرغِم أحدا على اعتناقه.
ل منهج
ظّلكن ما دام السلم قد فتح البلد فل بُدّ أنْ تكون له الغَلَبة ،وأنْ يسير الجميع معه في ِ
ال ،فيكون للكافرِ ولغير ذي الدين ما لصاحب الدين.
فكأن الحق سبحانه يريد لقوانينه أنْ تحكم آمنت به أو لم تؤمن؛ لن صلح الكون ل يكون إل
بهذه القوانين.
إذن :فأنت حُرّ ،تؤمن أو ل تؤمن ،لكن مطلوب ممّنْ آمن أنْ يحمي الدعوة في البلغ ،ثم يترك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن أبى نقول له :لك ما لنا ،وعليك ما علينا.
الناس أحرارا ،مَنْ آمن فبها ونعمت ،ومَ ْ
إذن :فأصل اليمان لصلح الخلفة ،ول يهتم ال سبحانه بأنك تؤمن أو ل تؤمن ،ما دام منهج
الخلفة قائما ،وهذا المنهج يعود نفعه على المؤمن وعلى الكافر ،فإذا كان اليمان يُربّي النسان
على ألّ يفعل إل خيرا وصلحا ،فالكافر ل بُدّ وأن يستفيد من هذا الصلح .وهل قال الشرع
للمؤمن :ل تسرق من المؤمن؟ ل إنما أيضا ل تسرق من الكافر ..الخ ،فالكل أمام منهج ال
سواء.
وفي القرآن آية ينبغي أنْ نتنبه لها ،ونعرف غير المؤمنين بها ،ليعلموا أن اليمان إنما يحمي
حكُمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ
مصلحة الناس جميعا ،إنها قوله تعالى {:إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِ َت ْ
خصِيما * وَاسْ َت ْغفِرِ اللّهَ[} ...النساء ]106-105 :يعني :إنْ خطر لك أن
اللّ ُه َولَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ َ
خوّانا أَثِيما }[النساء ]107 :ولو
حبّ مَن كَانَ َ
تكون لصالح الخائن ،استغفر ال من هذا{ إِنّ اللّهَ لَ ُي ِ
كان مؤمنا به.
ولهذه الية قصة مشهورة هي قصة اليهودي زيد بن السمين ،وقد جاءت طعمة بن أبيريق -
وكان مؤمنا -وقال :يا زيد خُذْ هذه الدرع أمانة عندك فقبله زيد ،وإذا بالدرع مسروق قد سرقه
ابن أبيريق من قتادة بن النعمان ووضعه في جوال من الدقيق ،فكان على الدرع آثار الدقيق ،فلما
بحث ابن النعمان عن دِرْعه دَلّه أثر الدقيق على بيت ابن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته.
ثم جاءوا به إلى النبي صلى ال عليه وسلم ليحكم في أمره ،فقصّ عليه ما كان من أمر ابن
أبيريق ،وأنه وضعه عنده على سبيل المانة.
حقّهم ،وأخذ النبي
وعندها عَزّ على المسلمين أن يسرق واحد منهم ،وأن يأخذها اليهود ذِلّة في َ
صلى ال عليه وسلم يدير المر في رأسه ،فإنْ حكم على المسلم أخذها اليهود حجة ،وإنْ حكم
حكُمَ بَيْنَ
للمسلم كانت عيبا وسُبّة في الدين ،فأسعفه ربه بهذه الية {:إِنّآ أَنْزَلْنَا ِإلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِتَ ْ
خصِيما }[النساء ]105 :فقال :بين الناس ل بين المؤمنين
النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّ ُه َولَ َتكُنْ لّلْخَآئِنِينَ َ
فحسب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يوم القيامة ".
لنك إنْ عاديتَه واضطهدته أو هددتْه في حياته ،أو في عِرْضه ،أو في ماله لصارتْ حجة له في
ل يؤمن ،وله أنْ يقول :إذا كان هذا هو حال المؤمنين ،فما الميزة في السلم حتى أعتنقه؟ بل
أّ
من مصلحتي أنْ أبتعد عنه ،لكن إنْ عاملتَه بالحق وبالخير والحسنى لعطفته إلى السلم ،وجعلته
يُؤنّب نفسه ألّ يكون مسلما.
لذلك سبق أنْ قُلْنا :إن سيدنا إبراهيم -على نبينا وعليه أفضل الصلة والسلم -جاءه رجل
فاشتمّ منه أنه غير مسلم ،فلما سأله قال :أنا مجوسي فردّ الباب في وجهه ،فانصرف الرجل ،وإذا
بإبراهيم -عليه السلم -يتلقى الوحي من ال :يا إبراهيم لم تقبل أنْ تُضيّفه لنه على غير دينك،
وأنا قبلته طوال عمره في مُلْكي وهو كافر بي.
فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به واسترضاه ،فقال الرجل :وماذا جرى لقد طردتني
ونهرتني منذ قليل؟ فقال :إن ربي عاتبني في أمرك ،فقال الرجل :إنّ ربا يعاتب أنبياءه بشأن
إعدائه لحقيق أن يُعبد .ل إله إل ال ،إبراهيم رسول ال.
إذن :نفهم من هذا أن العمل الصالح هو مطلوب اليمان ،وإذا آمنتَ بإله لتأخذ الحكم منه وأنت
ن تؤمن أو ل تؤمن المهم قاعدة الصلح في الكون وفي
مطمئن أنه إله حق ،فل يهم بعد ذلك أ ْ
ع ِملَ صَالِحا
حركة الحياة؛ لذلك لم يقل ومَنْ آمن فله إيمانه ،كأن المراد باليمان العمل } َومَنْ َ
سهِمْ َي ْمهَدُونَ { [الروم ]44 :لنه ل يعمل صالحا إل إذا كان مؤمنا.
فَلَنفُ ِ
ع ِملَ صَالِحا...
ونلحظ هنا أن الية تتحدث عن صيغة المفرد } :مَن َكفَرَ َفعَلَيْهِ ُكفْ ُرهُ َومَنْ َ
سهِمْ َي ْمهَدُونَ { [الروم ]44 :ولم ي ُقلْ :فهو يمهد
{ [الروم ]44 :ثم يتحول إلى صيغة الجمع } فَلَنفُ ِ
لنفسه ،فلماذا؟
قالوا :لن الذي يعمل الصالح ل يعمله لذاته ،إنما له ولذريته من بعده ،كما جاء في قوله سبحانه{:
حقْنَا ِب ِهمْ ذُرّيّ َت ُهمْ[} ...الطور ]21 :إذن :ساعةَ تكلم عن
وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُتهُم بِإِيمَانٍ أَ ْل َ
اليمان جاء بالمفرد ،وساعةَ تكلم عن الجزاء جاء بصيغة الجمع.
كما أن العمل الصالح يأتي من ذات النسان ،ويستقبله هو من غيره ،وكلمة (مَنْ) هنا تصلح
للمفرد وللمثنى وللجمع بنوعية ،وتحل محلّ جميع السماء الموصولة تقول :من جاءك فأكرمه،
ومَنْ جاءتك فأكرمها ،ومَنْ جاءاك فأكرمهما ،ومَنْ جاءوك فأكرمهم.
.الخ .كذلك في هذه الية استعمل مَنْ للدللة على المفرد ،وعلى الجمع.
س ُكمْ[} ...النور ]61 :وهل يُسلّم النسان على
سّلمُواْ عَلَىا أَنفُ ِ
وتأمّل قوله تعالى {:فَِإذَا َدخَلْتُمْ بُيُوتا فَ َ
نفسه؟ قالوا :نعم لن المؤمنين شيء واحد ،إذا سّل ْمتَ على أحدهم فكأنك سلّمت على الجميع،
وأيضا إذا قُلْت لصاحبك السلم عليكم يردّ عليك :وعليكم السلم ،فكأنك سّل ْمتَ على نفسك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى } َي ْمهَدُونَ { [الروم ]44 :مأخوذة من المهْد ،وهو فراش الطفل ،والطفل ل ُيمَهده ول
يُسوّيه ويُهيّئه ،ول بُدّ له من صدر حنون يُسوّي له مهده ،ويفرشه ويُعده ،فكأن الذي يعمل الصالح
في الدنيا يُمهّد لنفسه فراشا في الخرة ،كما يحكي أبو منصور بن حازم عن أبي عبد ال بن
الحسين يقول :العمل الصالح يسبق صاحبه إلى الجنة ليمهد له فراشه ،كما يمهد الخادم لحدكم
فراشه.
لذلك سبق أن قلنا :إن الذين يؤثرون على أنفسهم يؤثرون من الفانية ليُدّخر لهم في الباقية ،و "
سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما أُهديت له الشاة ،وعاد ليسأل أم المؤمنين عائشة عنها
فقال لها " :ماذا صنعت بالشاة؟ " فقالت :ذهبتْ كلّها إل كتفها ،يعني :تص ّد َقتْ بها إل كتفها ،فقال
سيدنا رسول ال " :بل ،بقيت كلها إل كتفها ".
ستَ فأبليتَ ،أو أكلتَ
وفي حديث آخر " :يا بْن آدم ،تقول :مالي مالي ،وهل لك من مالك إل ما لب ْ
ت فأبقيت ".
فأفنيتَ ،أو تص ّد ْق َ
والمام علي رضي ال عنه يسأله أحدهم :أنا من أهل الدنيا ،أم من أهل الخرة؟ فقال المام:
الجواب عندك أنت ،فقال :كيف؟ قالَ :هبْ أنه دخل عليك شخص بهدية ،وآخر يطلب منك صدقة
فليّهما تبشّ؟ إنْ كنت تبش لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا وأن كنت تبشّ لطالب الصدقة
فأنت من أهل الخرة.
ذلك لن النسان يحب ما يعمر له محبوبه ،فإنْ كان من أهل الدنيا يحب ما يعمرها له ،وإنْ كان
من أهل الخرة يحب مَنْ يعمر له آخرته.
ثم يعلل الحق سبحانه لماذا يمهدون لنفسهم } :لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُواْ.{ ...
()3378 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والقرآن يُنبّهنا إلى هذه المسألة يقول :إياكم أنْ ُتغَشّوا بمن يعمل العمال للدنياَ {:وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا
جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان.]23 :
ع َملٍ َف َ
عمِلُواْ مِنْ َ
َ
وجاء في الحديث " :فعلتَ ليُقال وقد قيل " نعم بنيت مسجدا ،لكن كتبت عليه :بناه فلن ،وشرّف
الفتتاح فلن ..الخ فماذا تنتظر بعد ذلك ،إن ربك يريد العمل الخالص لوجهه تعالى ،كما جاء في
الحديث " ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما فعلت يمينه ".
فقوله تعالى { :لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُواْ[ } ...الروم ]45 :يدل على أن العمل الصالح إنْ كان صالحا
بحقّ يفيد صاحبه في الدنيا ،لكن ل يفيده في الخرة إل أن يكون صادرا عن إيمان بال ،ثم يربط
اليمان بالعمل الصالح حيث ل يغني أحدهما عن الخر.
وقوله تعالى { :مِن َفضْلِهِ[ } ...الروم ]45 :أي :تفضّلً من ال ،حتى ل ينخدع أحد بعمله ،ويظن
أنه نجا به ،وهذه المسألة موضع نقاش بين العلماء يقولون :مرة يقول القرآن { مِن َفضْلِهِ} ...
[الروم ]45 :ومرة يقول {:ا ْدخُلُواْ الْجَنّةَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }[النحل ]32 :أي :أنها حق لكم بما قدّمتم
من عمل ،فهل الجنة حق للمؤمنين أم فضل من ال؟
ونقول :العمل الذي يطلبه ال تكليفا من المؤمنين به يعود على مَنْ؟ يعود على النسان ،ول
يستفيد ال منه بشيء؛ لن له تعالى صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق.
لذلك قال في الحديث القدسي " :يا عبادي ،لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى
قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكي قدر جناح بعوضة ،ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم
وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلْكي قدر جناح بعوضة ،ولو أن
أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد ،فسألني ُكلّ مسألته فأعطيتها له ما نقص
جوَاد ماجد واجد ،عطائي
ذلك مما عندي إل كمغرز إبرة إذا غمسه أحدكم في بحر ،ذلك أنّي َ
كلم ،وعذابي كلم ،إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له :كُنْ فيكون ".
ويقول سبحانه {:مَا عِن َد ُكمْ يَنفَ ُد َومَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} ...
[النحل.]96 :
إذن :فالعمال التكليفية لخير النسان نفسه ،وإنْ كانت في الظاهر تقييدا لحريته ،فهو مثلً يريد
أنْ يسرق ليزيد ماله ،فنأخذ على يديه ،ونمنعه ونقول له :تنبّه أننا منعناك من السرقة وأنت واحد،
ومنعنا الناس جميعا أنْ يسرقوا منك ،فأنت إذن المستفيد من منهج ال ،فل تنظر إلى ما أخذه منك
التكليف ،ولكن انظر إلى ما أعطاك هذا التكليف من الغير.
وما دام التكليف كله في مصلحتك ولخيرك أنت ،فإنْ أثابك ال عليه بعد ذلك فهو فضل من ال
ن تفوقت سأعطيك كذا وكذا مع أنه المستفيد من التفوق ،فتكون
عليك ،كما تقول لولدك مثلً؛ إ ْ
الجائزة بعد ذلك فضلً.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن يتقن عمله ،وأن يجتهد فيه؛ لذلك يعطيه مكافأة عليه مع
كذلك الحق تبارك وتعالى يحب عبده أ ْ
أننا المستفيدون منه.
حقّ[} ...النور ]25 :فجعله حقا عليه سبحانه ،كما قال{:
ويقول سبحانهَ {:ي ْومَئِذٍ ُي َوفّيهِمُ اللّهُ دِي َن ُهمُ الْ َ
حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنينَ }[الروم.]47 :
َوكَانَ َ
ولو بحثنا كلمة " حق " فلسفيا لوجدنا أن كل حق لك يقابله واجب على غيرك ،فل يكون حقا لك
إل إذا كان واجبا على غيرك ،فحقّك هنا واجب إذن على ال تعالى ،لكن الواجب يقتضي مُوجبا
فمَنْ أوجب على ال؟ ل أحد؛ لنه سبحانه أوجبه على نفسه.
إذن :فالحق الذي جعله لك تفضّلً منه سبحانه ،والحق في أنه جعل لك حقا ،كالذي ليس له حق
في الميراث ،فيتفضل عليه واحد في التركة ويجعل له وصية يكتبها له ،فتصير حقا واجبا ،له أن
يطالب الورثة به شرعا؛ لن المورّث تفضّل وجعله حقا له.
حبّ ا ْلكَافِرِينَ { [الروم ]45 :نلحظ في الية أنها تتحدث عن جزاء
ثم يقول سبحانه } :إِنّ ُه لَ ُي ِ
ن يلفت نظر عبده الكافر إلى
المؤمنين ،فما مناسبة ِذكْر الكافرين هنا؟ قالوا :لن ال تعالى يريد أ ْ
اليمان ومزاياه ،كأنه يقول له :تعال إلى اليمان لتنال هذا الجزاء.
ومثال ذلك -ول المثَل العلى -رجل عنده ثلثة أولد وَعَدهم بهدية لكل مَنْ ينجح في دراسته،
فجاء آخر العام ونجح اثنان ،وأخذ كل منهما هديته ،وتألم الوالد للثالث الذي أخفق وتمنى لو كان
مثل أخويْه.
خلْق جميعا مؤمنين لينالوا جزاء
وكذلك الحق سبحانه ل يحب الكافرين؛ لنه يحب أن يكون ال َ
اليمان؛ لن الجميع عباده ،وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها ،وهم خِلْقته وصَنْعته ،وهل
رأيتم صانعا حطم صنعته وكسرها ،إذن :فال تعالى حريص على عباده حتى الكافر منهم.
طعِم
وجاء في الحديث القدسي " :قالت السماء :يا رب ائذن لي أن أسقط كِسَفا على ابن آدم ،فقد َ
خيرك ،ومنع شكرك ،وقالت الرض :يا رب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع
شكرك ،وقالت الجبال :يا رب ائذن لي أن أخرّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ،وقالت
طعِم خيرك ومنع شكرك .فماذا قال الرب الخالق
البحار :يا رب ائذن لي أن أُغرق ابن آدم ،فقط َ
للجميع؟ قال " :دعوني ومن خلقتُ ،لو خلقتموهم لرحمتموهم ،إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم ،وإنْ لم
يتوبوا فأنا طبيبهم ".
لذلك يفرح ال تعالى بتوبة عبده حين يعود إليه بعد إعراض ،ويضرب لنا سيدنا رسول ال مثلً
لتوضيح هذه المسألة فيقول " :ل أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره ،وقد أضله
في فلة ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حبّ لهم
فال ل يحب الكافرين لنهم لم يكونوا أهلً لتناول هذا الفضل ،وما ذاك إل لنه سبحانه ُم ِ
حريص على أن ينالهم خيره وعطاؤه.
سلَ الرّيَاحَ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومِنْ آيَاتِهِ أَن يُ ْر ِ
()3379 /
حمَتِ ِه وَلِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ بَِأمْ ِر ِه وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضِْلهِ
ت وَلِيُذِي َقكُمْ مِنْ َر ْ
سلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَا ٍ
َومِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْ ِ
شكُرُونَ ()46
وََلعَّلكُمْ تَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الماء ويصبر عليه النسان إلى عشرة أيام .ثم الطعام ويصبر عليه إلى شهر.
لذلك من حكمة الخالق سبحانه ألّ يُملّك الهواء لحد ،ولو ملكه أحد وغضب عليك لمتّ قبل أنْ
يرضى عنك ،أما الماء فقليل أنْ يُملكه للناس ،أما الطعام فكثيرا ما يملك؛ لن النسان يصبر عليه
فترة طويلة تُمكّنه أن يكتسبه ،ويحتال عليه ،أو لعل مالكَ الطعام يرقّ قلبه ويعطيك.
لذلك نسمع من عبارات التهديد :وال لكتم أنفاسه ،كأن هذه العملية هي أقسى ما يمكن ِفعْله؛ لنك
ن منعتَ عنهَ الهواء فهي نهايته ،وهي أسرع وسائل
قد تمنع عنه الماء أو الطعام ول يموت ،لكن إ ْ
البادة للنسان وأيسرها وأقلّها أثرا ،فل يترتب عليها دم ول جروح مجرد منديل مبلل بالماء.
إذن :الهواء مُقوّم هام حياة وإماتة.
وقلنا :إذا حُبِس الهواء أو سكن ل يتجدد فيه الكسوجين فيتضايق النسان؛ لن أنفاسه تكتم ،أما
إذا حدثت في المكان رائحة كريهة فترى الجميع يضج :افتحوا النوافذ ،لماذا؟ ليتجدد الهواء.
إذن :إرسال الرياح في ذاتها نعمة ،فإذا كان فيها برودة وشعرت بطراوتها فهي تُبشّرك بالمطر؛
لذلك كان العربي يعرف المطر قبل وقوعه ويُقدّر مسافة السحابة التي ستمطره ،إذن :فالتبشير
بالمطر نعمة أخرى.
حمَتِهِ...
وهاتان النعمتان إرسال الرياح وإنزال المطر ،ل دخلَ للنسان فيهما } وَلِيُذِي َقكُمْ مّن رّ ْ
{ [الروم ]46 :أي :بالمطر أما في آية الفلك } وَلِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ بَِأمْ ِرهِ[ { ...الروم ]46 :فنسب
الجريان إلى الفُلْك لن للنسان يدا فيها وعملً ،فهو صانعها ومُسيّرها بأمر ال } وَلِتَبْ َتغُواْ مِن
شكُرُونَ { [الروم ]46 :أي :تسيرون في البحر للصيد وطلب الرزق ،أو حتى
َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ
للنزهة والسياحة.
إذن :الية التي ل دخلَ للنسان فيها تُنسَب إلى ال وحده ،وإنْ كان للنسان فيها عمل نسبها إليه،
كما في قوله تعالىَ {:أفَرَأَيْ ُتمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخُْلقُونَهُ أَم نَحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ * َنحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْوتَ
َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ * عَلَىا أَن نّ َب ّدلَ َأمْثَاَلكُ ْم وَنُنشِ َئكُمْ فِي مَا لَ َتعَْلمُونَ }[الواقعة.]61-58 :
فأعطانا نعمة الحياة ،ثم ذكر ما ينقضها ،حتى ل نستقبل الحياة بغرور ،ولما كانت آية الحياة وآية
الموت ل دخلَ للنسان فيها اكتفى بهذا الستفهام{ أَأَن ُتمْ تَخُْلقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَاِلقُونَ }[الواقعة]59 :
ول أحدَ يستطيع أنْ يقول أنا خلقتُ.
أما في آية الحَرْث ،فنسب الحرث إلى النسان؛ لن عمله كثير في هذه الية ،حيث يحرث ويبذر
جعَلْنَاهُ حُطَاما[} ...الواقعة ]65 :وأكدَ
ويروي ..إلخ لذلك قال في َنقْض هذه النعمة{ َلوْ نَشَآءُ لَ َ
الفعل باللم حتى ل تغترّ بعملك في الزرع.
أما في الماء ،فلم يذكر هذا التوكيد؛ لن الماء نعمة ل يدَ للنسان فيها؛ لذلك قال في نقضها{ َلوْ
جعَلْنَاهُ ُأجَاجا[} ...الواقعة ]70 :بدون توكيد.
نَشَآءُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكُرُونَ { [الروم ]46 :وهذه النعمة هي كنز النعم كلها وعقالها ،فإنْ
النعمة الخامسة } :وََلعَّلكُمْ تَ ْ
شكَرْتُ ْم لَزِيدَ ّنكُمْ[} ...إبراهيم.]7 :
شكرتَ ل نعمة عليك زادك منها {:وَإِذْ تَأَذّنَ رَ ّبكُمْ لَئِن َ
وبعد ذلك يُسلّي الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم } :وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ رُسُلً إِلَىا
َق ْومِهِمْ.{ ...
()3380 /
حقّا عَلَيْنَا
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ ُرسُلًا إِلَى َق ْومِهِمْ فَجَاءُو ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ فَانْ َتقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْ َرمُوا َوكَانَ َ
َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ()47
ن كنتَ تعبت في الدعوة ،ولقيت من صناديد قريش عنتا وعنادا وإيذا ًء ومكرا
يعني :يا محمد ،إ ْ
وتبييتا ،فنحن مع ذلك نصرناك ،وخُذْ لك أسوة في إخوانك من الرسل السابقين ،فقد تعرّضوا لمثل
ما تعرضتَ له ،فهل أسلمنا رسولنا لعدائه؟ إذن :اطمئن ،فلن ينال هؤلء منك شيئا.
ومعنى { َفجَآءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ[ } ...الروم ]47 :أي :اليات الواضحات التي تثبت صدقهم في البلغ
عن ال ،ومع ذلك لم يؤمنوا وكذّبوا { فَان َت َقمْنَا مِنَ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ[ } ...الروم ]47 :وهنا إيجاز
لمر يُفهم من السياق ،فلم يقُل القرآن أنهم كذبوا ،إنما جاء بعاقبة التكذيب { فَان َت َقمْنَا[ } ...الروم:
.]47
وهذا اليجاز واضح في قصة هدهد سليمان ،في قوله تعالى {:ا ْذهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا فَأَ ْلقِهْ إِلَ ْيهِمْ ُثمّ
جعُونَ }[النمل ]28 :وحذف ما بين العبارتين من أحداث تُفهَم من السياق،
َت َولّ عَ ْنهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْ ِ
وهذا مظهر من مظاهر بلغة القرآن الكريم.
وتكذيب المم السابقة لليات التي جاءتهم على أيدي الرسل دليل على أنهم أهل فساد ،ويريدون
أن ينتفعوا بهذا الفساد ،فشيء طبيعي أنْ يعاندوا الرسل الذين جاءوا للقضاء على هذا الفساد ،وأنْ
يضطهدوهم ،فيغار ال تعالى على رسله { فَان َتقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْ َرمُواْ[ } ...الروم.]47 :
حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنينَ } [الروم ]47 :وما كان ال تعالى ليرسل
ثم يقرر هذه القضيةَ { :وكَانَ َ
رسولً ،ثم يُسلِمه لعدائه ،أو يتخلى عنه؛ لذلك قال سبحانه في موضع آخر {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا
ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َل ُهمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173-171 :
وسبق أنْ قُلْنا :ل ينبغي أن تبحث في هذه الجندية :أصادق هذا الجندي في الدفاع عن السلم أم
غير صادق؟ إنما انظر في النتائج ،إنْ كانت له الغلبة فاعلم أن طاقة اليمان فيه كانت مخلصة،
وإنْ كانت الخرى فعليه هو أن يراجع نفسه ويبحث عن معنى النهزام الذي كان ضد السلم في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نفسه ،لنه لو كان من جٌنْد ال بحق لتحقق فيه{ وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات ]173 :ول
يُغلب جند ال إل حين تنحلّ عنهم صفة من صفات الجندية.
وتأمل مثلً ما حدث في غزوة أحد ،حيث انهزم المسلمون -وإنْ كانت كلمة الهزيمة هنا ليست
ن في
على سبيل التحقيق لن المعركة كانت سجالً ،وقد انتصروا في أولها ،لكن النهاية لم تكُ ْ
صالحهم؛ لن الرماة خالفوا أمر رسول ال ،والهزيمة بعد هذه المخالفة أمر طبيعي.
وهل كان يسرّك أيها المسلم أنْ ينتصر المسلمون بعد مخالفتهم أمر رسولهم؟ وال لو انتصروا مع
مخالفتهم لمر رسولهم لهانَ كل أمر لرسول ال بعدها ،ولقالوا :لقد خالفنا أمره وانتصرنا .إذا
صدْق
فمعنى ذلك أن المسلمين لم ينهزموا ،إنما انهزمت النهزامية فيهم ،وانتصر السلم ب ِ
مبادئه.
عجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُتكُمْ[} ...التوبة ]25 :حتى أن
كذلك في يوم حنين الذي يقول ال فيه{ وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَ ْ
الصّديق نفسه يقول :لن نُغلَب اليوم عن قلة ،فبدأت المسألة بالهزيمة ،لكن المر كما تقول
(صعبوا على ربنا) فأنزل السكينة عليهم ،وشاء سبحانه أن يسامحهم في هذه الزلّة مراعاة لخاطر
أبي بكر.
حقّ على ال،
علَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنينَ } [الروم ]47 :نعم ،نصر المؤمنين َ
حقّا َ
فقوله تعالى { َوكَانَ َ
أوجبه سبحانه على نفسه ،فهو تفضّل منه سبحانه ،كما يتفضل الموصِي بماله على الموصى له.
سلُ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :اللّهُ الّذِي يُرْ ِ
()3381 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تنمو الحبة المتصلة بها ،أما الخرى التي ل يصلها اللقاح فتموت.
ل محصولً من التي تليها ،لماذا؟
ولذلك نلحظ أن العيدان التي في مهبّ الريح أو ناحية بحري أق ّ
لن الرياح تحمل حبّات لقاحها إلى العيدان الخرى التي تليها ،فيزداد محصولها.
فإذا كانت بعض النباتات نعرف فيها الذكر من النثى كالنخيل ،والجميز مثلً ،فأين الذكر والنثى
في القمح ،أو في الجوافة ،أو في الموز.
صغُرت فيها أهداب دقيقة مثل القطيفة
ولما درسوا حبوب اللقاح هذه وجدوا أن كل حبة مهما َ
تتناثر مع الرياح ،ويحملها الهواء إلى أماكن بعيدة؛ لذلك ترى الجبال والصحراء تخضرّ بعد
نزول المطر ،فمَنْ بذر فيها هذه البذور؟ إنها الرياح اللواقح بقدرة الخالق عز وجل.
ظهْ ِرهِ[} ...الشورى]33 :
سكِنِ الرّيحَ فَ َيظْلَلْنَ َروَاكِدَ عَلَىا َ
ولنا َوقْفة عند قوله تعالى {:إِن َيشَأْ يُ ْ
أي :السفن التي تسير بقوة الرياح تظل راكدة على صفحة الماء ل يحركها شيء ،فإنْ قُلْت :كيف
نفهم هذا المعنى الن مع تقدم العلم الذي سيّر السفن بقوة البخار والديزل أو الكهرباء ،واستغنى
عن الرياح؟
ونقول :الرياح من معانيها الهواء ،وهي أيضا تعني القوة مطلقا ،كما في قوله تعالىَ {:ولَ
ي وضع،
حكُمْ[} ...النفال ]46 :أي :قوتكم ،فالريح تعني القوة على أ ّ
تَنَازَعُواْ فَ َتفْشَلُواْ وَتَ ْذ َهبَ رِي ُ
سواء أسارتْ بالرياح أو باللة ،فهو سبحانه قادر على أنْ يُسكنها.
لذلك تجد أن الرياح بمعنى القوة لها قوة آنية ،وقوة آتية ،آنية يعني الن ،وآتية تأتي فيما بعد،
وكذلك كل إنسان وكل شيء في الكون له َنفَس وريح وكيماوية خاصة به تميزه عن غيره وهذه
مهمة كلب البوليس التي تشم رائحة المتهمين والمجرمين في قضايا المخدرات مثلً ،فالشخص له
رائحة الن وهو موجود ،وله رائحة تظلّ في المكان حتى بعد أنْ يفارقه.
لذلك يُعلّمنا القرآن أن الريح هو أثبت الثار في النسان ،واقرأ في ذلك قوله تعالى عن يوسف
جهِ أَبِي يَ ْأتِ َبصِيرا[} ...يوسف:
ويعقوب عليهما السلم {:اذْهَبُواْ ِب َقمِيصِي هَـاذَا فَأَ ْلقُوهُ عَلَىا وَ ْ
.]93
وكان يوسف في مصر ،ويعقوب في أرض فلسطين ،فلما فصلت العير بقميص يوسف ،وخرج
من نطاق المباني التي ربما حجزتْ الرياح ،قال يعقوب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غتَ
وقلنا :إن الشياء الثابتة اكتسبتْ الثبات من وجود الهواء في ُكلّ نواحيها وجهاتها ،ولو فرّ ْ
الهواء من ناحية من نواحي إحدى العمارات لنهارتْ في الحال ،كذلك الريح إنْ جاءت مفردة
فهي مدمرة ،وفيها العطب كما في قوله تعالىَ {:وفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِمُ الرّيحَ ا ْل َعقِيمَ }[الذاريات:
.]41
وقال {:بِرِيحٍ صَ ْرصَرٍ عَاتِ َيةٍ }[الحاقة.]6 :
سلُ الرّيَاحَ[ { ...الروم ]48 :فإرسال الرياح في ذاته نعمة } فَتُثِيرُ
فقوله تعالى } :اللّهُ الّذِي يُرْ ِ
سحَابا[ { ...الروم ]48 :إثارة السحاب أي :تهيجه وتحركه ،وهذه نعمة أخرى.
َ
والسحاب عبارة عن الماء المتبخّر من الرض ،وتجمّع بعضه على بعض في طبقات الجو ،وماء
المطر ماء مُقطر بقدرة ال ،كما نُجِري نحن عملية التقطير في المعامل مثلً ،فيأتينا المطر بالماء
العَذْب النقي الزلل الذي قطرته لنا عناية الخالق سبحانه دون أنْ ندري.
وإذا كان تقطير كوب واحد يحتاج إلى كل هذه العمليات ،وكل هذه التكلفة ،فما بالك بماء المطر؟
وسبق أنْ قُلْنا :إن من حكمة الخالق سبحانه أنْ جعل ثلثة أرباع اليابسة ماء لتتسع رقعة البَخْر
ل بكوب الماء حين تتركه على المنضدة مثلً ،وحين
ليكفي الربع الباقي ،وضربنا لتوضيح ذلك مث ً
تسكبه في أرض الغرفة ،ففي الحالة الولى يظل الماء فترة طويلة؛ لن ال َبخْر قليل ،أما في
الخرى فإنه سرعان ما يتبخر.
سمَآءِ كَ ْيفَ َيشَآءُ[ { ...الروم ]48 :وانظر إلى طلقة المشيئة،
سطُهُ فِي ال ّ
ثم يقول سبحانه } :فَيَبْ ُ
فالمطر يصرفه ال كيف يشاء إلى الماكن التي تحتاج إلى مطر ،ومن العجيب أن ال تعالى حين
يريد أن يرزق إنسانا ربما يرزقه من سحاب ل يمر على بلده ،وانظر مثلً إلى النيل ،من أين
يأتي ماؤه؟ وأين سقط المطر الذي يروي أرض النيل من أوله إلى آخره؟
جعَلُهُ كِسَفا[ { ...الروم ]48 :كسفا :جمع كِسْفة ،وهي القطعة } فَتَرَى ا ْلوَدْقَ...
ومعنى } وَ َي ْ
{ [الروم ]48 :المطر } َيخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ[ { ...الروم ]48 :أي :من بين هذه السحب.
} فَِإذَآ َأصَابَ بِهِ مَن َيشَآءُ مِنْ عِبَا ِدهِ إِذَا هُمْ َيسْتَبْشِرُونَ { [الروم ]48 :والصابة قد تكون مباشرة،
فيهطل المطر عليهم مباشرة ،وقد تكون غير مباشرة بأنْ تكون الرض منحدرة ،فينزل المطر في
خصْب والنماء ،كما كان النيل في الماضي يحمل
مكان ويسقي مكانا آخر ،بل ويحمل إليه ال ِ
الطمي من الحبشة إلى السودان ومصر.
وكان هذا الطمي يستمر مع الماء طوال مجرى النيل وإلى دمياط ،فلماذا لم يترسب طول هذه
المسافات؟
لم يترسب بسبب قوة دفع الماء وشدة انحداره ،بحيث ل يستقر هذا الطمي ول يترسب.
وقولهِ } :إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ { [الروم ]48 :لن الرياح حين تمر عليهم تُبشّرهم بالمطر ،وحين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خصْب والخير ،كما قال تعالى {:وَتَرَى الَ ْرضَ هَامِ َدةً فَإِذَآ
ينزل المطر يُبشّرهم بالزرع والنماء وال ِ
ت وَرَ َبتْ وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ }[الحج.]5 :
أَنزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّز ْ
وأذكر وأنا صغير وبلدنا على النيل ،والنيل من أمامها متسع ،وبه عدة جزر يزرعها الناس،
فأذكر أننا كنا نزرع الذرة ،وجاء الفيضان فأغرقه وهو ما يزال أخضر لم ينضج َبعْد ،وكان
الناس يذهبون إليه ويجمعونه بالقوارب ،ورأيت النساء تزغرد والفرحة على الوجوه ،فكنت أسأل
أبي رحمه ال :النيل أغرق الزرع .فلماذا تزغرد النساء؟
فكان والدي يضحك ويقول :تزغرد النساء لن النيل أغرق الزرع ،وهذا هو مصدر الخير،
عهْدٍ
وسبب خصوبة الرض ،فلما كبرتُ وقرأت قصيدة أحمد شوقي رحمه ال في النيل:مِنْ أيّ َ
ق وبأيّ َكفّ في المدائن تُغدِقالماءُ تُرسِلُه فيصبح عَسْجدا والرض تُغرقُها فيحيَا
في القُرَى تتدفّ ُ
المغرَقلما قرأتُ هذه القصيدة عرفت لماذا كانت النساء تزغرد حين يُغرق النيلُ الزرعَ.
والستبشار لنزول المطر يأتي على حسب الحوال ،فإن جاء بعد يأس وقحط وجفاف كانت
الفرحة أكبر ،والستبشار أبلغ حيث يأتي المطر مفاجئا } إِذَا ُهمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ { [الروم ]48 :أما إنْ
جاء المطر في الحوال العادية فإن الستبشار به يكون أقلّ.
ثم يقول سبحانه } :وَإِن كَانُواْ مِن قَ ْبلِ.{ ...
()3382 /
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَ ْي ِهمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمُبِْلسِينَ ()49
معنى { َلمُبْلِسِينَ } [الروم ]49 :آيسين من نزول المطر ،فإنْ جاءهم المطر بعد هذا اليأس كانت
فرحتهم به مزودجة ومضاعفة.
وللعلماء وقفة حول هذه الية؛ لنها كررتْ كلمة من قبل ،وبالتأمل نجد المعنى :من قبل أنْ ينزل
عليهم ،وإنْ كانوا من قبل هذا القبل يائسين ،فهنا إذن قبلن.
ول ُبدّ أن نفهم أن هناك إرسالً للرياح التي تبشر بالمطر ،وهناك إنزال المطر ،فلما ينزل المطر
يكون هناك قبلية له هي الرسال ،فقبل الرسال كان عندهم يأس ،وبعد الرسال قالوا ربما ل
تمطر.
إذن :هنا كم قبل؟ قبل النزال وقبل الرسال .فالمعنى :فهُمْ من قبله -أي من قبل أن ينزل المطر
-من قبل هذا عندهم يأس.
()3383 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَةِ اللّهِ كَ ْيفَ يُحْيِي الْأَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَا إِنّ ذَِلكَ َلمُحْيِي ا ْل َموْتَى وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ
فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَ ْ
شيْءٍ قَدِيرٌ ()50
َ
فإذا مات النسان يبْلَى هذا الجسد ،ويتحلل إل عظمة الذنب ،فتبقى ل تتحلل ول تأكلها الرض
لتكون هي البذرة التي تنبت النسان بقدرة ال يوم القيامة؛ لذلك جاء في حديث إحياء الموتى يوم
القيامة؛ " فينبتون كما ينبت البقل ".
ففي هذه العظمة الصغيرة كل صفات النسان وخصائصه ،ومنها يعود كما كان قبل الموت ،كما
صغَرها إل أنها تحمل كل خصائص هذا النبات كلها ،إذن:
نرى حبة السمسم مثلً ،فهي رغم ِ
صغَر الحجم دليل على القدرة ،فإذا ما وضعت هذه الحبة الصغيرة في البيئة المناسبة تأخذ الغذاء
ِ
من التربة ومن الهواء وتنمو وتكبر ،وهذا النمو وهذا الكبر ل يعطي شخصية جديدة إنما
الشخصية ثابتة ،إنما يعطي تكبيرا لها فحسب.
لذلك لما شرّحوا الرنب وجدوه صورة طبق الصل من تشريح النسان ،بمعنى أن فيه كل
جوارح النسان وكل أجهزته ،حتى البعوضة في حجمها الضئيل فيها كل الجهزة ،لكن أين
جهازها الهضمي وجهازها الدموي وجهازها العصبي والسمبتاوي والبولي ..الخ ،فدقّة هذه
المخلوقات دليل على القدرة.
وفي حضارتنا الحالية نجد أن من علمات التقدم العلمي أنْ نُصغّر الكبير إلى أقصى درجة
ممكنة ،وانظر مثلً إلى الراديو أول ما اخترعوه كان في حجم النورج ،أما الن فهو في حجم
علبة الكبريت.
إذن :فالعظمة أن تضع كل الجهزة في هذا الحجم الصغير ،أو تجعلها كبيرة فوق العادة وفوق
القدرة ،كما في ساعة " بج بن " مثلً.
صغَر ،بحيث ل يُدرك بالعين
لذلك نرى الخالق سبحانه خلق الشيء الدقيق المتناهي في ال ّ
المجردة ،ومع ذلك يحتوي على كل خصائص الشيء الكبير ،وخلق من المخلوقات الضخم الذي
ل تستطيع أن تحدّه.
إذن :حينما ينمو الشيء ل يزداد خصائص جديدة ،إنما تكبُر عنده نفس الخصائص ونفس
المشخّصات الصلية فيه.
وسبق أنْ قُلْنا :لو أن إنسانا يزن مثلً مائة كيلو أصابه مرض والعياذ بال أفقده نصف وزنه،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نقول :أين ذهب هذا النقص؟ ذهب إلى فضلت نزلتْ منه؛ لن النسان ينمو حينما يكون الداخل
ح ّد معين ل يزيد ول
إليه من الغذاء أكثر من الخارج منه من الفضلت ،فإنْ تساوى يقف عند َ
ينقص.
فإذا سخر ال لهذا المريض طبيبا يداويه ،فإنه يستعيد عافيته إلى أنْ يعود إلى وزنه الطبيعي مائة
كيلو كما كان ،فهل عاد إليه ما فقده في نقص الوزن ،أم عاد إليه مثله من عناصر الغذاء
والتكوين؟ عاد إليه مثل الذي فقده.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ قَدِيرٌ { [الروم.]50 :
َ
يريد ال أن يبين أن النسان كنود ،وأنه خُلِق جزوعا ،إنْ مسّه الشر يجزع ،وإنْ مسه الخير يمنع،
فلما كان يائسا من الهواء يهبّ عليه أرسل ال إليه الرياح ،وبعد أنْ كان يائسا من قطرة الماء
أنزل ال عليه المطر مدرارا ،فهل أخذ في باله هذا العطاء ،بحيث إذا أصابه يأس من شيء طلب
فرجه من ال ،وأزاح اليأس عن نفسه وقال :إن لي ربا ألجأ إليه ،ول ينبغي لي أن أقنط وهو
موجود؟
فالذي فرج عليك من يأس الرياح ومن يأس المطر قادر أنْ يُفرّج عنك كل كَرْب؛ لذلك ينبغي أن
يكون شعار كل مؤمن :ل ك ْربَ وأنت ربّ ،ما دام لك ربّ فل تهتم ول تيأس ،فليستْ مع ال
ل يكون لك ربّ تلجأ إليه.
مشكلة المشكلة أ ّ
وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر المؤمن له َربّ يلجأ إليه إنْ ع ّزتْ عليه السباب ،أما الكافر
فما أشقاه ،فإنْ ضاقت به السباب ل يحد صدرا حنونا يحتويه ،فيلجأ في كثير من الحوال إلى
النتحار.
لذلك كان سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا حَزَبه أمر يقوم إلى الصلة ،وكان يقول" :
ارحنا بها يا بلل " ففي الصلة تختلي بربك وخالقك ،وتعرض عليه حاجتك ،وتستمد منه العون
والقوة.
كذلك يُعلّمنا هذا الدرس نبي ال موسى -عليه السلم -فحينما خرج ببني إسرائيل وأدركه
فرعون وقومه ،فوجدوا أنفسهم محاصرين ،البحر من أمامهم والعدو من خلفهم ،قالوا لموسى } إِنّا
َلمُدْ َركُونَ { [الشعراء ]61 :وهذا منطق البشر وواقع الشياء ،لكن كان لموسى منطق آخر ينطلق
فيه من وجود َربّ قادر يلجأ إليه في وقت الشدة فيفرجها عنه.
فقال موسى بملء فيه (كل) قالها على سبيل اليقين َقوْلة الواثق من أن ربه لن يتخلى عنه ،لم يقُلْها
برصيد من عنده ،إنما برصيد إيمانه في ال{ إِنّ َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء ]62 :وهذا هو
ال َمفْزَع لكل مؤمن.
ن وكّلت رب
لِ َم ل ،وأنت إنْ كانت لديك قضية ترتاح إنْ وكّلْتَ فيها محاميا يدافعَ عنك ،فما بالك إ ْ
الرض والسماء ،فكان هو سبحانه المحامي والقاضي والشاهد والمنفّذ للحكم؟
وأنت ترى القاضي في الدنيا يحكم ببينة قد يُدلّس فيها ويحكم ،ويحكم بإقرار ل يستطيع أنْ يتنزعه
من صاحبه ،أو بشهادة الشهود ،وقد يكونون شهودَ زور ،ثم هو بعد ذلك ل يملك تنفيذ حكمه،
فهناك سلطة قضائية تحكم وسلطة تنفيذية تنفذ ،حتى السلطة التنفيذية يستطيع المجرم أن يفلت
منها.
أما في محكمة العدل اللهي ،فقاضيها هو الحق -سبحانه وتعالى -فل يحتاج إلى بينة أو إقرار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أو شهود ،ول يستطيع أحد أنْ يُدلّس عليه سبحانه ،أو أنْ ُيفِلت من حكمة؛ لذلك قال تعالى عن
نفسه {:وَ ُهوَ خَيْرُ الْحَا ِكمِينَ }[العراف.]87 :
ثم يقول الحق سبحانه } :وَلَئِنْ أَ ْرسَلْنَا رِيحا.{ ...
()3384 /
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرََأ ْوهُ ُمصْفَرّا َلظَلّوا مِنْ َبعْ ِدهِ َي ْكفُرُونَ ()51
لك أن تلحظ الفرق بين أسلوب هذه الية { وَلَئِنْ أَ ْرسَلْنَا رِيحا[ } ...الروم ]51 :والية السابقة{
سلُ الرّيَاحَ[} ...الروم ]48 :فيرسل :مضارع دالّ على الستمرار ،والرياح كما قلنا
اللّهُ الّذِي يُرْ ِ
ل تُستعمل إل في الخير ،فكأن إرسال الرياح أمر متوافر ،وكثيرا ما يحدث فضلً من ال وتكرّما.
أما هنا ،وفي الحديث عن الريح ،وسبق أن قُلْنا :إنها ل تستعمل إل في الشر ،فلم ي ُقلْ يرسل ،بل
اختار (إن) الدالة على الشك ،والفعل الماضي الدال على النتهاء لماذا؟ لن ريح الشر نادرا ما
سمُوم تأتي مرة في السنة ،كذلك الريح
تحدث ،ونادرا ما يُسلّطها ال على عباده ،فمثلً ريح ال ّ
العقيم جاءتْ في الماضي مرة واحدة ،كذلك الريح الصرصر العاتية.
إذن :فهي قليلة نادرة ،ومع ذلك إنْ أصابتهم يجزعون وييأسون ،وهذا ل ينبغي منهم ،أليست لهم
سابقة في عدم اليأس حين يئسوا من إرسال الرياح ،فأرسلها ال عليهم ومن إنزال المطر فأنزله
ال لهم ،فلماذا القنوط والرب موجود؟
صفَرّا[ } ...الروم:
ومعنى { فَرََأ ْوهُ[ } ...الروم ]51 :أي :رأوا الزرع الذي كان أخضر نضرا { ُم ْ
]51أي :متغيرا ذابلً { لّظَلّواْ مِن َبعْ ِدهِ َي ْكفُرُونَ } [الروم ]51 :يكفرون باليأس الذي يعزل الحق
سبحانه عن الحداث ،مع أن لهم سابقة ،وقد يئسوا وفرّج ال عليهم.
ذلك لن النسان ل صبرَ له على البلء ،فإنْ أصابه سرعان ما يجزع ،ولو قال أنا لي رب أفزع
ح ولهانَ عليه المر.
إليه فيرفع عني البلء ،وأن له حكمة سأعرفها لسترا َ
ولك أنْ تسأل :لماذا قال القرآن { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا[ } ...الروم ]51 :ولم ي ُقلْ وإن؟ قالوا :هذه اللم
الزائدة يُسمّونها اللم واو القسم واللم مُوطّئة له ،وللحق سبحانه أن يقسم بما يشاء على ما يشاء،
وكل قسم يحتاج إلى جواب ،تقول :وال لضربنّك.
كذلك الشرط في (إن) يحتاج إلى جواب للشرط ،والحق سبحانه هنا مزج بين القسمَ والشرط في
جملة واحدة ،فإنْ قلت فالجواب هنا للقسمَ أم للشرط؟
ن يوجد جوابان في جملة واحدة ،فيأتي السياق بجواب واحد نستغني به
قالوا :فطنة العرب تأبى أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عن الجواب الخر ،والجواب يكون لما تقدّم ،فإنْ تقدم القسَم فالجواب للقسم ،وإنْ تقدّم الشرط
فالجواب للشرط .وهنا { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحا[ } ...الروم ]51 :قدم القسم؛ لن التقدير :وال لئن
أرسلنا ريحا..
ل فعل مَاضٍ ناقص مثل بات يعني في
وكلمة { لّظَلّواْ[ } ...الروم ]51 :مأخوذة من الظل وظ ّ
البيتوتة ،وأضحى يعني :استمر في وقت الضحى ،وأمسى في وقت المساء ،كذلك ظلّ أي :استمر
ظلّ يعني :طوال النهار ،إذن :نأخذ الزمن من المشتق منه.
في الوقت الذي فيه ِ
س ِمعُ ا ْل َموْتَىا.} ...
ك لَ تُ ْ
ثم يقول الحق سبحانه { :فَإِ ّن َ
()3385 /
يريد الحق سبحانه أن يُسلّي رسوله صلى ال عليه وسلم حتى ل يألم لما يلقيه من قومه ،يقول
له :يا محمد ل تُتعب نفسك؛ لن هؤلء ل يؤمنوا ،وما عليك إل البلغ ،فل تيأس لعراض
هؤلء ،ول تتراجع عن تبليغ دعوتك والجهاد في سبيلها والجهر بها؛ لنني أرسلتك لمهمة ،ولن
أتخلى عنك ،وما كان ال ليرسل رسولً ثم يخذله أو يُسْلمه.
سكَ عَلَىا آثَا ِرهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ أَسَفا }[الكهف:
وقد قال تعالى لنبيه {:فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
سمَآءِ آيَةً
ن يكفروا {:إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْي ِهمْ مّنَ ال ّ
]6ولو أردتُ لجعلتُهم مؤمنين قَسرا ل يملكون أ ْ
ضعِينَ }[الشعراء.]4 :
فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ
إنما أريد أنْ يأتوني طواعية عن محبة ،ل عن قهر؛ لنني ل أريد قوالبَ تخضع ،إنما قلوبا
تخشع ،ويستطيع أيّ بشر بجبروته أنْ يجعلَ الناس تخضع له أو تسجد ،لكنه ل يستطيع مهما
خضِع قلوبهم ،أو يحملهم على حُبّه.
أُوتِي من قوة أنْ ُت ْ
سمِعُ ا ْل َموْتَىا[ } ...الروم ]52 :فجعلهم في حكم الموات ،وهم
وهنا يقول تعالى لنبيه { :فَإِ ّنكَ لَ ُت ْ
أحياء يُرْزَقون ،لماذا؟ لن الذي ل ينفعل لما يسمع ول يتأثر به ،هو والميت سواء.
أو نقول :إن للنسان حياتين :حياة الروح التي يستوي فيها المؤمن والكافر ،والطائع والعاصي،
وحياة المنهج والقيم ،وهذه للمؤمن خاصة ،والتي يقول ال فيها {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُفواْ اسْ َتجِيبُواْ للّهِ
وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ[} ...النفال.]24 :
فهو سبحانه يخاطبهم هذا الخطاب وهم أحياء ،لكن المراد هنا حياة المنهج والقيم ،وهي الحياة
التي تُورِثك نعيما دائما باقيا ل يزول ،خالدا ل تتركه ول يتركك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك يقول سبحانه عن هذه الحياة {:وَإِنّ الدّا َر الخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت:
.]64
لذلك سمّى ال المنهج الذي أنزله على رسوله روحاَ {:وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا} ...
[الشورى ]52 :لن المنهج يعطيك حياة باقية ل تنزوي ول تزول.
لمِينُ }[الشعراء ]193 :فالمنهج روح من ال،
حاَ
وسمّى الملَك الذي نزل به روحا {:نَ َزلَ بِهِ الرّو ُ
نزل به روح من الملئكة هو جبريل عليه السلم على قلب سيدنا رسول ال ليحمله رسول
مصطفى فيبثّه في الناس جميعا ،فَيح َيوْن الحياة الخرة.
فالكفار بهذا المعنى يح َيوْن حياة روح القالب التي يستوي فيها جميع البشر ،لكن هم أموات بالنسبة
للروح الثانية ،روح القيم والمنهج.
لذلك ،إذا كان عندنا شخص شقي أو بلطجي يفسد في المجتمع أكثر مما يصلح نقول له :أنت
وجودك مثل عدمه ،لماذا؟ لن الحياة إذا لم تُستغل في النافع الدائم ،فل معنى لها.
وهنا يقول تعالى لنبيه :ل تحزن ،ول تذهب نفسك على هؤلء القوم الحسرات ،فهم موتى لم
يقبلوا روح المنهج وروح القيم ،وما داموا لم تدخلهم هذه الروح ،فل أملَ في إصلحهم ،ولن
يستجيبوا لك ،فالستجابة تأتي من أصغى سمعه ،وأعمل عقله في الكون من حوله ليصل إلى
حقيقة الحياة ولغز الوجود.
وسبق أنْ قُلْنا :إنك إذا سقطتْ بك طائرة مثلً في صحراء ،وانقطعت عن الناس ،فل أنيس ول
شيء من حولك ،ثم فجأة رأيتَ أمامك مائدة عليها أطايب الطعام والشراب ،فطبيعي قبل أنْ تمتد
يدك إليها ل بُدّ أنْ تسأل نفسك :مَنْ أتى بها؟
كذلك أنت أيها النسان طرأتَ على كون ُمعَدّ لستقبالك ،مليء بكل هذا الخير ،بال ألَ يستدعي
هذا أنْ تسأل مَنْ أعد لي هذا الكون؟
ثم لم يدّع أحد هذا الكون لنفسه ،ثم جاءك رسول من عند ال يخبرك بحقائق الكون ،ويحل لك
لغز الحياة والوجود ،لكن هؤلء القوم لما جاءهم رسول ال أ َبوْا أن يستمعوا إليه ،ولم يقبلوا
الروح الذي جاءهم به.
والحق سبحانه يعرض لنا هذه المسألة في آية أخرىَ {:ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َت ِمعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَرَجُواْ
مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا[} ...محمد ]16 :وهذا يعني أن روح المنهج لم
تباشر قلوبهم.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْ ٌر وَ ُهوَ عَلَ ْيهِمْ
شفَآءٌ وَالّذِي َ
ويردّ الحق عليهمُ {:قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ ُهدًى وَ ِ
عمًى ُأوْلَـا ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِن ّمكَانٍ َبعِيدٍ }[فصلت.]44 :
َ
فالقرآن واحد ،لكن المستقبل للقرآن مختلف ،فواحد يسمعه بأذن مُرْهفة وقلب واعٍ فيستفيد ،ويصل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل اللغز في الكون وفي الخَلْق؛ لنه استجاب للروح الجديدة التي أرسلها ال له ،وآخر
حّإلى َ
أعرض.
وهؤلء الذين أعرضوا عن القرآن إنما يخافون على مكانتهم وسيادتهم ،فهم أهل فساد وطغيان،
ويعلمون أن هذا المنهج جاء ليقيد حرياتهم ،ويقضي على فسادهم وطغيانهم؛ لذلك رفضوه.
لذلك تجد أن الذين تص ّدوْا لدعوات الرسل وعارضوهم هم السادة والكبراءَ ،ألَ تقرأ قول الحق
طعْنَا سَادَتَنَا َوكُبَرَآءَنَا فََأضَلّونَا السّبِيلْ }[الحزاب.]67 :
سبحانه عن مقالتهم {:إِنّآ أَ َ
عدْ ،وآخر ينصرف عنه ل
إذن :ل تتعجب من أنّ القرآن يسمعه إنسان فيقول مُستلذا به :ال ،أ ِ
يدري ما يقول ،والمنصرف عن القرآن نوعان :إما ينصرف عنه تكبّرا يعني :وعي القرآن وفهمه
لكن تكبّر على النصياع لوامره ،وآخر سمعه لكن لم يفهمه؛ لن ال ختم على قلبه.
ومهمة الداعي أنْ يتعهد المدعو ،وألّ ييأس لعدم استجابته ،وعليه بتكرار الدعوة له ،لعله يصادف
عنده فترة صفاء وفطرة ،وخلو نفس ،فتثمر فيه الدعوة ويستجيب.
وإل فقد رأينا من أهل الجاهلية مَنْ أسلم بعد فترة طويلة من عمر الدعوة أمثال :خالد بن الوليد،
وعمرو بن العاص ،وعكرمة ،وغيرهم.
ونعلم كم كان عمر بن الخطاب كارها للسلم معاديا لهله ،وقصة ضَرْبه لخته بعد أنْ أسلمتْ
قصة مشهورة لنها كانت سبب إسلمه ،فلما ضربها وشجّها حتى سال الدم منها رقّ قلبه لخته،
فلما قرأت عليه القرآن صادف منه قلبه صافيا ،وفطرة نقية نفضت عنه عصبية الجاهلية الكاذبة
فانفعل لليات وباشرتْ بشاشتها قلبه فأسلم.
لذلك أمر الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم أنْ يجهر بالدعوة ،وأنْ يصدع بما يُؤمر ،لعلّ
السامع تصادفه فترة تنبه لفطرته ،كما حدث مع عمر.
سمِعُ ا ْل َموْتَىا[ { ...الروم ]52 :نجد أن التقدير:
وحين نلحظ الفاء في بداية هذه الية } فَإِ ّنكَ لَ ُت ْ
فل تحزن ،ول يهولنك إعراضهم؛ لنك ما قص ْرتَ في البلغ ،إنما التقصير من المستقبل؛ لنهم
لم يقبلوا الروح السامية التي جاءتهم ،بل نفروا من السماع ،وتناهوا عنه ،كما حكى القرآن عنهم{:
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ }[فصلت.]26 :
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُو ْا لَ تَ ْ
و َنهْى بعضهم بعضا عن سماع القرآن دليل على أنهم يعلمون أن مَنْ يسمع القرآن بأذن واعية ل
بُدّ أنْ يؤمن به وأنْ يقتنع.
ثم يقول سبحانه {:صُمّ ُب ْكمٌ[} ...البقرة.]18 :
وقد علمنا من وظائف العضاء أن البكَم يأتي نتيجة الصمم؛ لن اللسان يحكي ما سمعته الذن،
فإذا كانت الذن صماء فل ُبدّ أن يكون اللسان أبكمَ ،ليس لديه شيء يحكيه.
لذلك نجد الطفل العربي مثلً حين ينشأ في بيئة إنجليزية يتكلم النجليزية لنه سمعها وتعلمها ،بل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نجد صاحب اللغة نفسه تُعرض عليه الكلمات الغربية من لغته فل يعرفها لماذا؟ لنه لم يسمعها،
فحين يقول العربي عن العجوز :إنها الحَيْزبون والدّردبيس ..الخ تقول :ما هذا الكلم ،مع أنه
عربي لكن لم تسمعه أذنك.
والذن هي أداة اللتقاط الولى لبلغ الرسالة ،وما دام ال تعالى قد حكم عليهم بأنهم في حكم
الموات ،فالحساس لديهم ممتنع ،فالذن ل تسمع آيات القرآن ،والعين ل ترى آيات الكون ول
تتأملها.
لذلك قال تعالى عنهم {:فَإِ ّنهَا لَ َت ْعمَى الَبْصَا ُر وَلَـاكِن َت ْعمَىا ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ }[الحج:
.]46
وكلمة أعمى نقولها للمبصر صحيح العينين حينما يخطيء في شيء ،فتقول له :أنت أعمى؟ لماذا،
لنه وإنْ كان صحيح العينين ،إل أنه لم يستعملها في مهمتهما ،فهو والعمى سواء.
وهؤلء القوم وصفهم ال بأنهم أولً في حكم الموات ،ثم هم مصابون بالصمم ،فل يسمعون
عمْى ل يروْنَ آيات العجاز في الكون ،وليتهم صُمّ فحسب،
البلغ ،وتكتمل الصورة بأنهم ُ
فالصم يمكن أن تتفاهم معه بالشارة فينتفع بعينيه إنْ كان مقبلً عليك ،لكن ما الحال إذا كان
مدبرا ،كما قال تعالى } :إِذَا وَّلوْاْ ُمدْبِرِينَ { [الروم ]52 :يعني :أعط ْوكَ ظهورهم ،إذن :لم َيعُدْ لهم
ل في مثل
منفذ للتلقي ول للدراك ،فهم صُم ُبكْم ،وبالدبار تعطلت أيضا حاسة البصر ،فل أم َ
هؤلء ،ول سبيل إلى هدايتهم.
()3386 /
والدللة على الطريق والهداية إليه ل تتأتّى مع العمى ،خصوصا إذا أص ّر العمى على عماه،
حقّه) يعني :يأنف أنْ يستعين بالمبصر ،ولو
ونقول لمن يكابر في العمى (فلن ل يعطي العمى َ
استعان بالناس من حوله لوجدهم خدما له ولصار هو مُبصرا ببصرهم.
سمِعُ[ } ...الروم ]53 :أي :ما تُسمِع { ِإلّ مَن ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َف ُهمْ مّسِْلمُونَ }
وقوله سبحانه { :إِن تُ ْ
[الروم ]53 :وهؤلء هم أصفياء القلوب والفطرة ،الذين يلتفتون إلى كون ال ،يتأملون أسراره وما
فيه من وجوه العجاز والقدرة ،فيستدلون بالخَلْق على الخالق ،وبالكون على المكوّن سبحانه ،وِلمَ
ل ،ونحن نعرف مَنِ اخترع أبسط الشياء في حياتنا ونُؤرّخ له ،ونُخلّد ذكراه ،ألسنا نعرف
أديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي ،وال الذي خلق الشمس َل ُه َو أوْلَى بالمعرفة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا جاءك رسول من عند ال يخبرك بوجوده تعالى ،ويحل لك لغز هذا الوجود الذي تحتار فيه،
ن يقولوا للناس في
فعليك أنْ تُصدّقه ،وأن تؤمن بما جاءك به؛ لذلك الحق سبحانه يُعلّم الرسل أ ْ
أعقاب البلغ{ َومَآ أَسَْأُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ[} ...الشعراء.]109 :
وفي هذا إشارة إلى أن العمل الذي يُؤدّيه الرسل لقوامهم عمل يستحقون عليه أجرا بحكم العقل،
لكنهم يترفعون عن أجوركم؛ لن عملهم غالٍ ل يُقدّره إل مَنْ أرسلهم ،وهو وحده القادر على أنْ
يُوفّيهم أجورهم.
ومعنى { ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا[ } ...الروم ]53 :يعني :ينظر فيها ويتأملها ،ويقف على ما في الكون من
عجائب الخَلْق الدالة على قدرة الخالق ،فإذا ما جاءه رسول من عند ال أقبل عليه وآمن به؛ لذلك
قال بعدهاَ { :فهُمْ مّسِْلمُونَ } [الروم.]53 :
ثم يقول الحق سبحانه { :اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ مّن.} ...
()3387 /
الحق -تبارك وتعالى -بعد أنْ عرض علينا بعض الدلة في الكون من حولنا يقول لنا :ولماذا
نذهب بعيدا إذا لم ت ْكفِ اليات في الكون من حولك ،فانظر في آيات نفسك ،كما قال سبحانه{:
سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات ]21 :وجمع بين النوعين في قوله سبحانه {:سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
َوفِي أَنفُ ِ
سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ ا ْلحَقّ[} ...فصلت.]53 :
فِي الفَاقِ َوفِي أَنفُ ِ
ض ْعفٍ[ } ...الروم ،]54 :فإنْ قال النسان
فهنا يقول :تأمل في نفسك أنت { :اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ مّن َ
المكلف الن :أنا لم أشاهد مرحلة الضعف التي خُِل ْقتُ منها.
نقول :نعم لم تشاهدها في نفسك ،فلم تكُنْ لك ساعتها مشاهدة ،لكن شاهدتها في غيرك ،شاهدتها
في الماء المهين الذي يتكوّن منه الجنين ،وفي الم الحامل ،وفي المرأة حين تضع وليدها صغيرا
ن تقطع ،ومع ذلك رُبي بعناية ال حتى صار
ضعيفا ،ليس له قَدَم تسعى ،ول يَدٌ تبطش ،ول سِ ّ
إلى مرحلة القوة التي أنت فيها الن.
إذن :فدليل الضعف مشهود لكل إنسان ،ل في ذاته ،لكن في غيره ،وفي مشاهداته كل يوم ،وكل
منا شاهد مئات الطفال في مراحل النمو المختلفة ،فالطفل يُولَد ل حولَ له ول قوة ،ثم يأخذ في
ن تكتمل أجهزته ويبلغ مرحلة الرشْد
النمو والكَِبَر فيستطيع الجلوس ،ثم الحَبْو ،ثم المشي ،إلى أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والفتوة.
وعندها يُكلّفه الحق -سبحانه وتعالى -وينبغي أنْ نكلفه نحن أيضا ،وأنْ نستغل فترة الشباب هذه
في العمل المثمر ،فنحن نرى الثمرة الناضجة إذا لم يقطفها صاحبها تسقط هي بين يديه ،وكأنها
تريد أنْ تؤدي مهمتها التي خلقها ال من أجلها.
لذلك ،فإن آفتنا نحن ومن أسباب تأخّر مجتمعاتنا أننا نطيل عمر طفولة أبنائنا ،فنعامل الشاب حتى
سِنّ الخامسة والعشرين على أنه طفل ،ينبغي علينا أن نلبي كل رغباته ل ينقصنا إل أنْ نرضعه.
آفتنا أن لدينا حنانا (مرق) ل معنى له ،أما في خارج بلدنا ،فمبجرد أن يبلغ الشاب رُشَدْه لم َيعُدْ
له حق على أبيه ،بل ينتقل الحق لبيه عليه ،ويتحمل هو المسئولية.
والحق سبحانه يُعلّمنا في تربية البناء أنْ نُعوّدهم تحمّل المسئولية في هذه السّنّ {:وَِإذَا بَلَغَ
طفَالُ مِنكُمُ الْحُُلمَ فَلْيَسْتَ ْأذِنُواْ َكمَا اسْتَأْذَنَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ[} ...النور.]59 :
الَ ْ
فانظر أنت أيها النسان الذي جعلتَ كل الجناس القوى منك في خدمتك ،انظر في نفسك وما
فيها من آيات وما بين جنبيك من مظاهر قدرة ال ،فقد نشأتَ ضعيفا ل تقدر على شيء يخدمك
غيرك.
ومن حكمته تعالى في الطفل ألّ تظهر أسنانه طوال فترة الرضاعة حتى ل يؤذي أمه ،ثم تخرج
له أسنان مؤقتة يسمونها السنان اللبنية؛ لنه ما يزال صغيرا ل يستطيع تنظيفها ،فيجعلها ال
ت في
مؤقتة إلى أن يكبر ويتمكّن من تنظيفها ،فتسقط ويخرج مكانها السنان الدائمة ،ولو تأمل َ
نفسك لوجدتَ ما ل يُحصى من اليات.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظمُ مِنّي[} ...مريم ]4 :يعني :وصلتُ إلى مرحلة الحرض
فمعنى قول سيدنا زكريا {:إِنّي وَهَنَ ا ْلعَ ْ
ل معها في قوة ،ويؤكد هذا المعنى بقوله{ وَاشْ َت َعلَ الرّ ْأسُ شَيْبا[} ...مريم.]4 :
التي ل أم َ
وقلنا :إن بياض الشعر ليس لونا ،إنما البياض انعدام اللون؛ لذلك فاللون البيض ليس من ألوان
الطيف ،ومع الشيخوخة تضعف أجهزة النسان ،وتضعف الغدد المسئولة عن لون الشعر عن
إفراز اللون السود ،فيظهر الشعر بل لون.
ونلحظ أن أغلب ما يشيب الناس يشيبون مما يُعرف بـ " السوالف " من هنا ومن هنا ،لماذا؟
صتْ أثناء الحلق ينفتح هذا النبوب ،وتدخله
قالوا :لن الشعرة عبارة عن أنبوب دقيق ،فإذا ُق ّ
بعض المواد الكيمياوية مثل الصابون والكولونيا ،فتؤثر على الحويصلت الملوّنة وتقضي عليها؛
لذلك نلحظ هذه الظاهرة كثيرا في المترفين خاصة؛ لذلك تجد بعض الشباب يظهر عندهم الشيب
في هذه المناطق من الرأس.
ظمُ مِنّي[} ...مريم]4 :
وقد رتب سيدنا زكريا مظاهر الضعف بحسب الهمية ،فقال أولً{ وَهَنَ ا ْلعَ ْ
ثم{ وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبا[} ...مريم ]4 :ومع كِبَر سيدنا زكريا وضعفه ،ومع أن امرأته كانت
عاقرا إل أن ال تعالى استجاب له في طلبه للولد الذي يرث عنه النبوة ،فبشّره بولد وسمّاه يحيى،
وكأن الحق -تبارك وتعالى -يقول لنا :إياكم ،أل أستطيع أنْ أخلق مع الشيب والكبر والضعف؟
لذلك قال بعدهاَ } :يخْلُقُ مَا َيشَآءُ[ { ...الروم.]54 :
ن َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْبلُ وََلمْ َتكُ
وقال في شأن زكريا عليه السلم {:قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ هَيّ ٌ
شَيْئا }
[مريم.]9 :
وقوله تعالى } :وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ { [الروم ]54 :أي :أن هذا الخَلْق ناشيء عن علم{ َألَ َيعَْلمُ مَنْ
ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك ]14 :لكن العلم وحده ل يكفي ،فقد تكون عالما لكنك غير قادر
خََل َ
على تنفيذ ما تعلم ،كمهندس الكهرباء ،لديه علم واسع عنها ،لكنه ل يستطيع تنفيذ شبكة أو معمل
كهرباء ،فيذهب إلى أحد الممولين ليعينه على التنفيذ؛ لذلك وصف الحق سبحانه نفسه بالعلم
والقدرة.
إذن :هذا هو الدليل النفسي على الموجد الحق الفاعل المختار الذي يفعل الشياء بعلم وقدرة ،ول
يكلفه العمل شيئا ول يستغرق وقتا؛ لنه سبحانه يقول للشيء :كن فيكون ،ول تتعجب أن ربك
ن فيكون؛ لنك أيها المخلوق الضعيف تفعل هذا مع أعضائك وجوارحك.
يقول للشيء كُ ْ
وإلّ ف ُقلْ لي :ماذا تفعل إنْ أردتَ أنْ تقوم مثلً أو تحمل شيئا مجرد أن تريد الحركة تجد
أعضاءك طوع إرادتك ،ودون أنْ تدري بما يحدث بداخلك من انفعالت وحركات ،وإنْ قُلت فأنا
كبير وأستطيع أداء هذه الحركات كما أريد ،فما بالك بالطفل الصغير؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسبق أن ضربنا مثلً لتوضيح هذه المسألة بالبلدوزر ،فلكل حركة منه ذراع خاص بها يُحرّكه
السائق ،وأزرار يضرب عليها ،وربما احتاج السائق لكثر من أداة التحريك هذه اللة حركة
واحدة.
أما أنت فمجرد أن تريد تحريك العضو تجده يتحرك معك كما تريد دون أن تعرف العضلت
والعصاب التي شاركت في حركته ،فإذا كنتَ أنت على هذه الصورة ،أتعجب من أن ال تعالى
يقول للشيء كن فيكون؟
ثم يقول الحق سبحانه } :وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ.{ ...
()3388 /
بعد أنْ عرض الحق -سبحانه وتعالى -الدليل ليهتدي به مَنْ يشاء ،ومَنْ لم يهتَد يُلوّح له بهذا
عةُ ُيقْسِمُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ[ } ...الروم ]55 :معنى كلمة { َتقُومُ السّاعَةُ} ...
التهديد { :وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ
[الروم ]55 :تدل على أنها موجودة ،لكن نائمة تنتظر الذن لها ،فتقوم تنتظر أنْ نقول لها :كُنْ
فتكون.
فالقيام هنا له دللته؛ لن الساعة أمر ل يتأتّى به القيام ،إنما يقيمها الحق سبحانه ،فقوله
{ َتقُومُ[ } ...الروم ]55 :كأنها منضبطة كما تضبط المنبه مثلً ،ولها وقت تنتظره ،وهي من تلقاء
نفسها إنْ جاء وقتُها قامتْ.
وحين تتأمل كلمة { َتقُومُ[ } ...الروم ]55 :تجد أن القيام آخر مرحلة للنسان ليؤدي مهمته،
فيقابلها ما قبلها ،فقبل القيام القعود ،ثم الضطجاع ،ثم النوم ،فمعنى قيام الساعة يعني :أنها جاءت
لتؤدي مهمتها أدا ًء كاملً.
سمّ َيتْ الساعة؛ لنها دالة على الوقت الذي يأذن ال فيه بإنهاء العالم ،وإنْ كانت الساعة عندنا
وُ
كوحدة الحساب الزمن نقول :صباحا أو مسا ًء َوفْق حساب الحكومة أو الهالي ،توقيت كذا أو
كذا.
هذه اللة التي في أيدينا بما تضبطه لنا من وقت أمرها هيّن ،ليست مشكلة أنْ تُقدّم أو تُؤخّر عدة
ثوانٍ أو عدة دقائق ،تعمل (أتوماتيكيا) أو بالحجارة ،صُنِعتْ في سويسرا ،أو في الصين ،هذه
الساعة ل تهم ،المهم الساعة الخرى ،الساعة التي ل ساعة بعدها ،واعلم أنها منضبطةٌ سبحانه،
وما عليك إل أنْ تضبط نفسك عليها ،وتعمل لها ألف حساب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عةٍ[ } ...الروم ]55 :فإنْ كذبوا في الدنيا،
وعجيب أنْ يقسم الكفار يوم القيامة { مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَا َ
فهل يَكذْبون أيضا في الخرة؟ قالوا :بل يقولون ذلك على ظنهم ،وإل فالكلم منهم في هذا الوقت
ليس اختياريا ،فقد مضى وقت الختيار ،ولم َيعُدْ الن قادرا على الكذب.
لذلك سيقول الحق سبحانه في آخر الية { :كَذَِلكَ كَانُواْ ُي ْؤ َفكُونَ } [الروم ]55 :فقد كانوا يقلبون
الحقائق في الدنيا ،أما في الخرة فلن يقلبوا الحقائق ،إنما يقولون على حَسْب نظرهم.
والمجرمون :المجرم هو الذي خرج عن المطلوب منه بذنب يخالفه ،فنقول :فلن أجرم ،والقانون
يُسمّى الفعل جريمة.
ومعنى { مَا لَبِثُواْ[ } ...الروم ]55 :اللبث :المكْث طويلً أي في الدنيا ،أو :ما لبثوا في قبورهم
بعد الموت إلى قيام الساعة ،أو :ما لبثوا بعد النفخة التي تميت إلى النفخة التي تُحيي.
فهذه فترات ثلث للبثهم في القبور ،أطولها للذين ماتوا منذ آدم عليه السلم ،ثم أوسطهم الذين
جاءوا بعد ذلك أمثالنا ،ثم أقلّهم لُبْثا وهم الذين يموتون بين النفختين ،وفي كل هذه الفترات يوجد
كفار ،وعلى عهد آدم كان هناك كفار ،وعلى مَ ّر العصور بعده يُوجَد كفار ،حتى بين النفختين
يوجد كفار ،إذن :فكلمة لبثوا هنا على عمومها :أطول ،وطويل ،وقصيرة ،وأقصر.
وهؤلء يقولون يوم القيامة " ما لبثنا غير ساعة " مع أن الخرة ل كذب فيها ،لكنهم يقولون ذلك
على حسب ظنهم؛ لن الغائب عن الزمن ل يدري به ،والزمن ظرف لوقت الحداث ،كما أن
المكان ظرف لمكانها ،فالنائم مثلً ل يشعر بالزمن؛ لن الزمن يُحسب بتوالي الحداث فيه ،فإذا
كنتَ ل تشعر بالحدث فبالتالي ل تشعر بالوقت ،سواء أكان بنوم كأهل الكهف ،أو بموت كالذي
أماته ال مائة عام ثم بعثه.
ولما قاموا من النوم أو الموت لم يُوقّتوا إل على عادة الناس في النوم ،فقالوا {:لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ
َيوْمٍ[} ...الكهف]19 :؛ لنه في هذه الحالة ل يدري بالزمن ،إنما يدري بالزمن الذي يتتبع
الحداث ،وما دام النسان في هذه الحالة ل يدرك الزمن ،فهو صادق فيما يخبر به على ظنه.
لذلك يقول تعالى في آية أخرى {:قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الَ ْرضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ
َيوْمٍ فَسْ َئلِ ا ْلعَآدّينَ }[المؤمنون ]113-112 :أي :اسأل الذين يعدّون الزمن ويحصونه علينا،
والمقصود والملئكة ،فهم الذين يعرفون الحداث ،ويسجلونها من خَلْق آدم عليه السلم وإلى
الن ،وإلى قيام الساعة.
فل يسأل عن عدد إل مَنْ عدّ بالفعل ،أو مَنْ يمكن أنْ يعُدّ ،أما الشيء الذي ل يكون مظنة العدّ
والحصاء فل ُيعَدّ ،وهل عَدّ أحد في الدنيا رمال الصحراء مثلً؟ لذلك نسمع في الفكاهات :أن
واحدا سأل الخر :تعرف في السماء كم نجم؟ قال :تسعة آلف مليون وخمسمائة ألف وثلثة
وتسعون نجما ،فقال الول :أنت كذاب ،فقال الخر :اطلع عِدّهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل الكفار الزمن فيُقسمون يوم تقوم الساعة ما لبثوا غير ساعة؟ وفي موضع آخر
لكن ،لماذا يستق ّ
يقول عنهم {:كَأَ ّن ُهمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا لَمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ عَشِيّةً َأ ْو ضُحَاهَا }[النازعات.]46 :
قالوا :لن الزمن يختلف بحسْب أحوال الناس فيه ،فواحد يتمنى لو طال به الزمن ،وآخر يتمنى لو
قصر ،فالوقت الذي يجمعك ومَنْ تحب يمضي سريعا وتتمنى لو طال ،على خلف الوقت الذي
تقضيه على مَضض مع مَنْ تكره ،فيمر بطيئا متثاقلً.
على حدّ قول الشاعر:حَادِثَاتُ السّرورِ تُوزَنُ وَزْنا والبَلَيَا ُتكَالُ بالقُفزانويقول آخر:وَدّع الصّبر
خطَى إذْ ش ّي َعكْإلى
عكْ َيقْرعُ السّنّ على أنْ لم يكُنْ زَادَ في تِ ْلكَ ال ُ
محبّ ودّعكَ ذائعٌ مِن سِ ّرهِ مَا اسْتوْد َ
ل معكْففي أوقات السرور ،الزمن قصير،
طلْ بعدكَ لَيْلى فل َكمْ ِبتّ أشكُو ِقصَر الل ْي ِ
ن يقولَ:إنْ يَ ُ
أْ
وفي أوقات الغَمّ الزمن طويل ثقيل ،ألم تسمع للذي يقول -لما جمع الليل شمله بمَنْ يحب:يَا لَ ْيلُ
طلْ يا َنوْمُ ُزلْ يَا صُبْحُ ِقفْ ل تطُْلعٍكذلك الذي ينتظر سرورا يستبطيء الزمن ،ويود لو مرّ
ُ
سريعا ليعاين السرور الذي ينتظره ،أما الذي يتوقع شرا أو ينتظره فيودّ لو طالَ الزمن ليبعده عن
الشر الذي يخافه.
لذلك نجد المؤمنين يودّون لو قصر الزمن؛ لنهم واثقون من الخير الذي ينتظرهم والنعيم الذي
وُعدوا به ،أما المجرمون فعلى خلف ذلك ،يودّون لو طال الزمن ليبعَدهم عما ينتظرهم من
العذاب؛ لذلك يقولون ما لبثنا في الدنيا إل قليلً ويا ليتها طالتْ بنا .إما لنهم ل يدرون بالزمن
ويقولون حَسْب ظنهم ،أو لنهم يريدون شيئا يُبعد عنهم العذاب.
إذن :أقسموا ما لبثوا غير ساعة ،إما على سبيل الظن ،أو لن الغافل عن الحداث ل يدري
بالزمن ،ول يستطيع أنْ يُحِصيه ،كالعُزير الذي أماته ال مائة عام ثم بعثه{ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ
َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ[} ...البقرة ]259 :فأخبره ربه أنه لبث مائة عام{ قَالَ بَل لّبِ ْثتَ مِ َئةَ عَامٍ} ...
[البقرة.]259 :
والذي ل شكّ فيه أن ال تعالى صادق فيما أخبر به ،وكذلك العزير كان صادقا في حكمه على
طعَا ِمكَ
الزمن؛ لذلك أقام الحق -سبحانه وتعالى -الدليل على صِدْق القولين فقال {:فَانْظُرْ إِلَىا َ
وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَ َتسَنّهْ[} ...البقرة ]259 :والطعام ل يتغير في يوم أو بعض يوم ،فقام الطعام والشراب
دليلً على صِدْق الرجل.
س وَا ْنظُرْ إِلَى العِظَامِ كَ ْيفَ نُ ْنشِزُهَا ثُمّ
جعََلكَ آ َيةً لِلنّا ِ
ك وَلِنَ ْ
حمَا ِر َ
ثم قال سبحانه{ وَانْظُرْ إِلَىا ِ
َنكْسُوهَا َلحْما[} ...البقرة.]259 :
فقامت العظام البالية دليلً على صِدْقه تعالى في المائة عام .ول تقل :كيف نجمع بين صدق
حقّ
القولين؟ لن الذي أجرى هذه المسألة رب ،هو سبحانه القابض الباسط ،يقبض الزمن في َ
قوم ،ويبسطه في حَقّ آخرين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه الية } وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ[ { ...الروم ]55 :جاءت بعد إعذار ال للكافرين برسله ،ومعنى
إعذارهم أي :إسقاط عذرهم في أنه سبحانه لم يُبيّن لهم أدلة اليمان في قمته بإله واحد ،وأدلة
اليمان بالرسول بواسطة المعجزات حتى يؤمنوا بآيات الحكام في :افعل ،ول تفعل.
فاليات كما قلنا ثلث :آيات تثبت قمة العقيدة ،وهو اليمان بوجود الله القادر الحكيم ،وآيات
تثبت صِدْق البلغ عن ال بواسطة رسله ،وهذه هي المعجزات ،وآيات تحمل الحكام.
والحق سبحانه ل يطلب من المؤمنين به أنْ يؤمنوا بأحكامه في :افعل ول تفعل إل إذا اقتنعوا أولً
بالرسول المبلّغ عن ال بواسطة المعجزة ،ول يمكن أنْ يؤمنوا بالرسول المبلّغ عن ال إل إذا ثبتَ
عندهم وجود ال ،ووجود ال ثابت في آيات الكون.
لذلك دائما ما يعرض علينا الحق سبحانه آياته في الكون ،لكن يعرضها متفرقة ،فلم يصبّها علينا
صَبّا ،إنما يأتي بالية ثم يُردِفها بما حدث منهم من التكذيب والنكران ،فيأتي بالية ونتيجتها منهم،
ل يؤمنوا.
ذلك ليكرر العذار لهم في أنه لم َيعُدْ لهم عُذْر في أ ّ
حمَتِهِ
ت وَلِيُذِي َقكُمْ مّن رّ ْ
سلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَا ٍ
فنلحظ هذا التكرار في قوله سبحانهَ {:ومِنْ آيَاتِهِ أَن يُ ْر ِ
شكُرُونَ }[الروم.]46 :
وَلِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ بَِأمْ ِرهِ وَلِتَبْ َتغُواْ مِن َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ َت ْ
ثم يذكر أن هذه اليات لم تُجْد معهم {:وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ رُسُلً إِلَىا َق ْو ِمهِمْ َفجَآءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ
حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنينَ }[الروم.]47 :
فَان َتقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْ َرمُو ْا َوكَانَ َ
جعَلُهُ
سمَآءِ كَ ْيفَ يَشَآ ُء وَيَ ْ
طهُ فِي ال ّ
سحَابا فَيَبْسُ ُ
سلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ َ
ثم يسوق آية أخرى {:اللّهُ الّذِي يُرْ ِ
كِسَفا فَتَرَى ا ْلوَدْقَ َيخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ فَإِذَآ َأصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَا ِدهِ إِذَا ُهمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ * وَإِن
ي الَ ْرضَ
حِح َمتِ اللّهِ كَ ْيفَ يُ ْ
كَانُواْ مِن قَ ْبلِ أَن يُنَ ّزلَ عَلَ ْي ِهمْ مّن قَبْلِهِ َلمُبِْلسِينَ * فَانظُرْ إِلَىا آثَارِ َر ْ
شيْءٍ قَدِيرٌ }[الروم.]50-48 :
حيِ ا ْل َموْتَىا وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ
َبعْدَ َموْ ِتهَآ إِنّ ذَِلكَ َل ُم ْ
صفَرّا لّظَلّواْ مِن َبعْ ِدهِ
ثم يذكر سبحانه ما كان منهم بعد كلّ هذه اليات {:وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحا فَرََأ ْوهُ ُم ْ
َي ْكفُرُونَ }[الروم.]51 :
وهكذا يذكر الحق سبحانه الية ،ويُتبعها بما حدث منهم من نكران ،ويكررها حتى ل تبقى لهم
عةٍ...
حجة للكفر ،ثم تأتي هذه الية } :وَيَوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ ُيقْسِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَا َ
{ [الروم ]55 :لتقول لهم :إنْ كنتم قد كذّبتم بكل هذه اليات ،فستأتيكم آية ل تستطيعون تكذيبها
هي القيامة.
وعجيب أنْ يُقسِموا بال في الخرة ما لبثوا غير ساعة ،وقد كفروا به سبحانه في الدنيا.
وفي الية جناس تام بين كلمة الساعة الولى ،والساعة الثانية ،فاللفظ واحد لكن المعنى مختلف }
عةٍ...
وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ[ { ...الروم ]55 :أي :القيامة } ُيقْسِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَا َ
{ [الروم ]55 :أي :من الوقت ،ومن ذلك قول الشاعر:رَح ْلتُ عَنِ الديارِ لكُمْ أَسِي ُر وقَلْبي فِي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
محبِتكُمْ أَسِيرُأي :مأسور.
ولي أنا وزميلي الدكتور محمد عبد المنعم خفاجة -أطال ال بقاءه -قصة مع الجناس ،ففي
إحدى حصص البلغة ،قال الستاذ :ل يوجد في القرآن جناس تام إل في هذه الية بين ساعة
وساعة ،لكن يوجد فيه جناس ناقص ،فرفع الدكتور محمد أصبعه وقال :يا أستاذ أنا ل أحب أنْ
يُقال :في القرآن شيء ناقص.
فضحك الشيخ منه وقال له :إذن ماذا نقول؟ وقد قسم أهل البلغة الجناس إلى تام وناقص :الول
تتفق فيه الكلمتان في عدد الحروف وترتيبها وشكلها ،فإن اختلف من ذلك شيء فالجناس بينهما
ناقص ،كما في قوله تعالى {:و ْيلٌ ّل ُكلّ ُهمَ َزةٍ ّلمَ َزةٍ }[الهمزة ]1 :فبين هُمزة ولمزة جناس ناقص؛
لنهما اختلفا في الحرف الول.
ي وقال :ما رأيك فيما يقول صاحبك؟ فقلت :نسميه جناس كُل ،وجناس
أذكر أن الشيخ أشار إل ّ
بعض ،يعني :تتفق الكلمتان في كل الحروف أو في بعضها ،وبذلك ل نقول في القرآن :جناس
ناقص.
عةٍ[ { ...الروم ]55 :أي :الساعة الزمنية التي نعرفها ،والزمن له
فقولهم } مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَا َ
مقاييس :ثانية ،ودقيقة ،وساعة ،ويوم ،وأسبوع ،وشهر ،وسنة ،وقرن ،ودهر ،وهم يقصدون
الساعة الزمنية المعروفة لنا.
سعَة
إذن :فهم يُقلّلون مدة ُمكْثهم في الدنيا أو في القبور لما فاجأتهم القيامة ،وقد أخبرناهم وهم في َ
الدنيا أن متاع الدنيا قليل ،وأنها قصيرة وإلى زوال ،فلم يُصدّقوا والن يقولون :إنها كانت مجرد
ساعة ،ولم يقولوا حتى شهر أو سنة ،فكيف تستقل ما سبق أن استكثرته ،وظننتَ أنك خالد فيه
حتى قلتَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التي جاءوا بها من قِبلَ ربهم.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِ ْلمَ.{ ...
()3389 /
َوقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْ َم وَالْإِيمَانَ َلقَدْ لَبِثْ ُتمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَى َيوْمِ الْ َب ْعثِ َفهَذَا َيوْمُ الْ َب ْعثِ وََلكِ ّنكُمْ كُنْ ُتمْ
لَا َتعَْلمُونَ ()56
قال هنا { ا ْلعِلْ َم وَالِيمَانَ[ } ...الروم ]56 :فهل العِلم ينافي اليمان؟ ل ،لكن هناك فَرْق بينهما،
فالعلم كسب ،واليمان أنت تؤمن بال وإنْ لم تَرَه .إذن :شيء أنت تراه وتعلمه ،وشيء يخبرك به
غيرك بأنه رآه ،فآمنتَ بصدقه فص ّدقْتَه ،فهناك تصديق للعلم وتصديق لليمان؛ لذلك دائما ُيقَال:
اليمان للغيبية عنك ،أما حين َيقْوى إيمانك ،ويَقْوى يقينك يصير الغيب كالمشاهَد بالنسبة لك.
وقد أوضحنا هذه المسألة في الكلم عن قوله تعالى في خطابه لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم{:
أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل.]1 :
فقال :ألم تَرَ مع أن النبي صلى ال عليه وسلم وُلِد عام الفيل ،ولم يتسَنّ له رؤية هذه الحادثة،
قالوا :لن إخبار ال له أصدق من رؤيته بعينه.
فقوله { :أُوتُواْ ا ْلعِلْ َم وَالِيمَانَ[ } ...الروم ]56 :لن العلم تأخذه أنت بالستنباط والدلة ...الخ ،أو
تأخذه ممن يخبرك وتُصدّقه فيما أخبر " ،لذلك النبي صلى ال عليه وسلم لما سأل الصحابي" :
كيف أصبحتَ "؟ قال :أصبحتُ مؤمنا حقا ،قال " :لكلّ حقّ حقيقة ،فما حقيقة إيمانك "؟
يعني :ما مدلول هذه الكلمة التي قلتها؟
فقال الصحابي :عزفتْ نفسي عن الدنيا ،فاستوى عندي ذهبها ،ومدرها ،وكأني أنظر إلى أهل
الجنة في الجنة يُنعّمون ،وإلى أهل النار في النار يُعذّبون -يريد أن يقول لرسول ال :لقد
ت وكأني أرى ما أخبرتنا به -فقال له رسول ال " :عرفتَ فالزم ".
أصبح ُ
لكن ،مَن هم الذين أوتوا العلم؟ هم الملئكة الذين عاصروا كل شيء ،لنهم ل يموتون ،أو النبياء
لن الذي أرسلهم أخبره ،أو المؤمنون لنهم صدّقوا الرسول فيما أخبر به.
وقال { أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ[ } ...الروم ]56 :ولم يقل :علموا ،كأن العلم ليس كَسْبا ،إنما إيتاء من عَالِم
منك يعطيك .فإنْ قُلتَ :أليس للعلماء دور في الستدلل والنَظر في الدلة؟ نقول :نعم ،لكن مَنْ
نصب لهم هذه الدلة؟ إذن :فالعلم عطاء من ال.
ثم يقول سبحانهَ { :لقَدْ لَبِثْ ُتمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَىا َيوْمِ الْ َب ْعثِ َفهَـاذَا َيوْمُ الْ َب ْعثِ[ } ...الروم]56 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعني :مسألة مرسومة ومنضبطة في اللوح المحفوظ إلى يوم البعث { َفهَـاذَا َيوْمُ الْ َب ْعثِ} ...
[الروم ]56 :الذي كنتم تكذبون به ،أما الن فل بُدّ أنْ تُصدّقوا فقد جاءكم شيء ل تقدرون على
تكذيبه؛ لنه أصبح واقعا ومن مصلحتكم أنْ يقبل عذركم ،لكن لن يقبل منكم ،ولن نسمع لكم كلما
لننا قدمنا العذار سابقا.
وقوله تعالى { :وَلَـاكِنّكُمْ كُنت ْم لَ َتعَْلمُونَ } [الروم ]56 :في أول الية قال { :أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ} ...
[الروم ]56 :فنسب العلم إلى ال ،أما هنا فنسبه إليهم؛ لن ال تعالى نصب لهم الدلة فلم يأخذوا
منها شيئا ،ونصب لهم الحجج والبراهين واليات فغفلوا عنها ،إذن :لم يأخذوا من الدلئل والحجج
ما يُوصّلهم إلى العلم.
ل ينفَعُ الّذِينَ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :فَ َي ْومَئِ ٍذ ّ
()3390 /
فَ َي ْومَئِذٍ لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ ظََلمُوا َمعْذِرَ ُتهُ ْم وَلَا هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ ()57
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن كنتَ حريصا على
ليصفي نفسه منه ،كأن يمر عليك صديق فل يسلم عليك فتغضب منه ،فإ ْ
مودته تقابله وتقول :وال أنا في نفسي شيء منك ،لنك مررتَ فلم تسلم عليّ يوم كذا ،فيقول لك:
ت مشغولً بكذا وكذا ولم أَرَك ،فيزيل هذا العذر ما في نفسك من صاحبك.
وال كن ُ
ونقول :عتب فلن على فلن فأعتبه أي :أزال عتابه؛ لذلك يقولون :ويبقى الود ما بقي العتاب،
حبّ َيصْلُح بالعِتَاب ويصْ ُدقُوالهمزة في أعتب تسمى
ويقول الشاعرَ:أمّا العِتَابُ فبالحِبّة َأخْلَق وال ُ
همزة الزالة ،ومنها قول الشاعر:أُرِيدُ سُلوّكم -أي بعقلي -والقَ ْلبُ يأْبَى وأعْتِبكُم ومِلءُ ال َنفْسِ
عَتْبىومنه ما جاء في مناجاة النبي صلى ال عليه وسلم لربه يوم الطائف بعد أن لَقي منهم ما
ب إلى مَنْ َتكِلني ،إلى بعيد يتجهمني ،أم إلى عدو
َلقِي ،حتى لجأ إلى حائط ،وأخذ يناجي ربه " :ر ّ
ن يقول:
ملّكته أمري؟ إنْ لم يكنْ بك عليّ غضب فل أُبالي ،ولكن عافيتك هي أوسع لي ..إلى أ ْ
لك العُتْبى حتى ترضى ".
ن كنت غضبتَ لشيء بدر مني ،فأنا أريد أن أزيل عتباك عليّ.
يعني :يا رب إ ْ
()3391 /
ل وَلَئِنْ جِئْ َتهُمْ بِآَيَةٍ لَ َيقُولَنّ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا ا ْلقُرْآَنِ مِنْ ُكلّ مَ َث ٍ
مُبْطِلُونَ ()58
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه الية تعني أننا لم نترك معذرة لحد ممن كفروا برسلهم؛ لننا جئنا لهم بأمثال متعددة وألوان
شتى من الدلة المشاهدة ليستدلوا بها على غير المشاهد ليأخذوا من مرائيهم ومن حواسهم دليلً
على ما غاب عنهم.
فحين يريد سبحانه أن يقنعهم بأن يؤمنوا بإله واحد ل شريك له يضرب لهم هذا الم َثلَ من واقع
جلٍ َهلْ َيسْ َتوِيَانِ مَثَلً} ...
ن وَرَجُلً سَلَما لّرَ ُ
حياتهم {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُتَشَاكِسُو َ
[الزمر.]29 :
هل يستوي عبد لسيد واحد مع عبد لعدة أسياد يتجاذبونه ،إنْ أرضي واحد أسخط الخرين؟
ثم يُقرّب المسألة بم َثلٍ من النفس ،وليس شيء أقرب إلى النسان من نفسه ،فيقول الحق سبحانه
س ُكمْ َهلْ ّلكُمْ مّن مّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مّن شُ َركَآءَ فِي مَا رَ َزقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ
وتعالى {:ضَ َربَ َلكُمْ مّثَلً مّنْ أَنفُ ِ
صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ }[الروم.]28 :
سكُمْ كَذَِلكَ ُن َف ّ
سوَآءٌ َتخَافُونَهُمْ كَخِيفَ ِتكُمْ أَنفُ َ
فِيهِ َ
والمعنى :إذا كنتم ل تقبلون أنْ يشارككم مواليكم فيما رزقكم ال ،فتكونون في هذا الرزق سواء،
فكيف تقبلون الشركة في حق ال تعالى؟
وحين يريد الحق سبحانه أنْ يبطل شرْكهم وعبادتهم لللهة يضرب لهم هذا المثل{ إِنّ الّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن َيخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَ ُه وَإِن يَسْلُ ْب ُهمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ
ضعُفَ الطّاِلبُ وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج.]73 :
َ
والمَثَل يعني أنْ تُشبّه شيئا بشيء ،وتلحق خفيا بجلى ،لتوضحه وليستقر في ِذهْن السامع ،كأن
سمّى هذا :مثْل أو مَثَل ،نقول :فلن مثْل فلن.
تشبه شخصا غير معروف بشخص معروف ،ويُ َ
أما المثل فقول من حكيم شاع على اللسنة ،وتناقله الناس كلما جاءت مناسبته ،وسبق أنْ مثّلنا
لذلك بالملك الذي أرسل امرأة تخطب له أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني ،وكان اسمها
(عصام) ،فلما عادت من المهمة بادرها بقوله :ما وراءكِ يا عصام؟ فصارت مثلً يُقال في مثل
هذه المناسبة مع أنه قيل في حادثة مخصوصة.
والمثل يقال كما هو ،ل نغير فيه شيئا ،فنقول :ما وراءك يا عصام للمذكر وللمؤنث ،وللمفرد
وللمثنى وللجمع.
ومن ذلك نُشبّه الكريم بحاتم ،والشجاع بعنترة ..الخ لن حاتما الطائي صار مضربَ المثل في
الكرم ،وعنترة في الشجاعة .وفي المثال نقول لمن يواجه بمَنْ هو أقوى منه :إنْ كنت ريحا فقد
لقيتَ إعصارا ،ونقول لمن لم ُي ِعدّ للمر عُدّته :قبل الرماء تُمل الكنائن.
حفِظ وتناقلته
إذن :المثل قول شبه مضربه الن بمورده ،سابقا لن المورد كان قويا وموجزا لذلك ُ
اللسنة.
والقرآن يسير على أسلوب العرب وطريقتهم في التعبير وتوضيح المعنى بالمثال حتى يضرب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المثل بالبعوضة ،والبعض يأنف أنْ يضرب القرآن بجلله وعظمته مثلً بالبعوضة ،وهو ل يعلم
أن ال يقول {:إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا} ...
[البقرة.]26 :
وليس معنىَ {:فمَا َف ْو َقهَا[} ...البقرة ]26 :أي :في الكِبَر كما يظن البعض ،فيقولون :لماذا يقول فما
صغَر وفيما تستنكرونه من الضآلة ،كالكائنات
فوقها وهو من باب َأوْلى ،لكن المراد ما فوقها في ال ّ
الدقيقة والفيروسات...الخ.
لكن ،لماذا يضرب ال المثال للناس؟ قالوا :لن النسان له حواسّ متعددة ،فهو يرى ويسمع
ويشم ويتذوق ويلمس ..الخ ،ولو تأملتَ كل هذه الحواس لوجدتَ أن ألصق شيء بالحس أنْ
يضرب؛ لذلك حين تريد أنْ تُوقِظ شخصا من النوم فقد ل يسمع نداءك فتذهب إليه وتهزّه كأنك
تضربه فيقوم.
إذن :فالضرب هو الثر الذي ل يتخلف مدلوله أبدا ،ومن ذلك قوله تعالى {:وَآخَرُونَ َيضْرِبُونَ
فِي الَ ْرضِ يَبْ َتغُونَ مِن َفضْلِ اللّهِ[} ...المزمل ]20 :أي :يُؤثرون فيها تأثيرا واضحا كالحرث
مثلً ،وهو أشبه ما يكون بالضرب.
والضرب ل يكون ضربا يؤدي مهمة وله أثر إل إذا كان بحيث يُؤلم المضروب ،ول يُوجع
الضارب ،وإل فقد تضرب شيئا بقوة فتؤلمك يدك ،فكأنك ضربتَ نفسك .وهذا المعنى َفطِن إليه
ك تعنف لَ بالقَد ْروَيَا
سَالشاعر ،فقال للذين ل يؤمنون بقدر ال:أيَا هَازئا من صُنُوف القَدَرِ بنف ِ
ضَارِبا صَخْرةً بِالعصَا ضربتَ ال َعصَا َأمْ ضر ْبتَ الحجَرْفالحق سبحانه يضرب المثل ليُشعركم به،
س اللم من الضرب ،فإذا لم يحسّ النسان بضرب المثل فهو كالذي ل يحسّ
وتُحسون به حِ ّ
بالضرب الحقيقي المادي ،وهذا والعياذ بال عديم الحساس أو مشلول الحسّ.
فالمعنى } :وَلَقَ ْد ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ مِن ُكلّ مَ َثلٍ[ { ...الروم ]58 :يعني :أتيناهم
بأمثال ودلئل ل يمكن لحد إل أنْ يستقبلها كما يستقبل الضرب؛ لن الضرب آخر مرحلة من
مراحل الدراك.
سمَاوَاتِ
وسبق أنْ قلنا :إن الحق سبحانه ضرب المثل لنفسه سبحانه في قوله {:اللّهُ نُورُ ال ّ
شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ ا ْل ِمصْبَاحُ[} ...النور.]35 :
وَالَرْضِ مَ َثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْ
والمثل هنا ليس لنوره تعالى كما يظن البعض ،إنما مَ َثلٌ لتنويره للكون الواسع ،وهو سبحانه
يُنوّرك حِسّيا بالشمس وبالقمر وبالنجوم ،ويُنوّرك معنويا بالمنهج وبالقيم.
ففائدة النور الحسي أن يزيل الظلمة ،وأنْ تسير على هُدى وعلى بصيرة فتسلم خطاك واتجاهك
ل تضر الضعف منك،
من أنْ تحطم ما هو أقلّ منك أو يحطمك ما هو أقوى منك ،والمحصلة أ ّ
وألّ يضرك القوى منك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كذلك النور المعنوي ،وهو نور القيم والمنهج يمنعك أنْ تضرّ غيرك ،ويمنع غيرك أنْ يضرّك،
وكما ينجيك النور الحسي من المعاطب الحسية كذلك ينجيك نور القيم من المعاطب المعنوية.
لذلك يقول سبحانه بعد أن ضرب لنا هذا المثل {:نّورٌ عَلَىا نُورٍ َيهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن يَشَآءُ
شيْءٍ عَلَ ِيمٌ }[النور.]35 :
لمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
وَ َيضْرِبُ اللّ ُه ا َ
سمَاحةِ حَاتمٍ في حِلْم
وسبق أنْ ذكرنا ما كان من مدح أبي تمام لحد الخلفاء:إقْدامُ عَمروٍ في َ
حسّاده على مكانته من الخليفة :أتشبه الخليفة بأجلف العرب؟
أحْ َنفَ في َذكَاءِ إيَاسِفقال أحد ُ
فأطرق هنيهة ،ثم أكمل على نفس الوزن والقافية:
لَ تُنكِروا ضرْبي لَهُ مَنْ دُونَه مثَلً شَرُودا في النّدَى والبَاسِفالُ َق ْد ضربَ القلّ لِنُورهِ مَثَلً من
شكَاةِ والنبراسِالعجب من هذا أنهم أخذوا الورقة التي معه ،فلم يجدوا فيها هذين البيتين ،وهذا
الم ْ
يعني أنه ارتجلهما لتوّه ،وقد قلت :وال لو وجدوا هذه البيات مُعدة معه لما قلّل ذلك من شأنه ،بل
فيه دللة على ذكائه واحتياطه لمره وتوقعه لما قد يقوله الحساد والحاقدون عليه.
لكن لم تُجد هذه المثال ولم ينتفعوا بها ،وليت المر ينتهي عند هذا الحد بل } :وَلَئِن جِئْ َت ُهمْ
بِآيَةٍ[ { ...الروم ]58 :أي :جديدة } لّ َيقُولَنّ الّذِينَ َكفَرُواْ إِنْ أَن ُتمْ ِإلّ مُبْطِلُونَ { [الروم]58 :
فيتهمون الرسل في بلغهم عن ال بأنهم أهل باطل وكذب.
والحق سبحانه يحتجّ على الناس في أنه لم يُجبهم إلى اليات التي اقترحوها؛ لن السوابق مع
المم التي كذّبت الرسل تؤيد ذلك ،فقد كانوا يطلبون اليات ،فيجيبهم ال إلى ما طلبوا ،فما
يزدادون إل تكذيبا.
لوّلُونَ[} ...السراء.]59 :
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن َك ّذبَ ِبهَا ا َ
لذلك يقول سبحانهَ {:ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
فالمر ل يتعدى كونهم يريدون إطالة الجراءات وامتداد الوقت في جدل ل يجدي ،ثم إن في
إجابتهم إلى ما طلبوا رغم تكذيبهم باليات السابقة احتراما لعدم إيمانهم ،ودليلً على أن اليات
السابقة كانت غير كافية ،بدليل أنه جاءهم بآية أخرى ،إذن :فعدم مجيء اليات يعني أن اليات
السابقة كانت كافية لليمان لكنهم لم يؤمنوا؛ لذلك لن نجيبهم في طلب آيات أخرى جديدة.
وهذه القضية واضحة في جدل إبراهيم -عليه السلم -مع النمروذ في قوله تعالى {:أََلمْ تَرَ إِلَى
الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِـي وَ ُيمِيتُ[} ...البقرة:
.]258
خصْمه يميل إلى الجدل والسفسطة ،وأنه يريد إطالة مد
وعندها شعر إبراهيم عليه السلم بأن َ
خصْمه ل يميت
الجدل ،ويريد تضييع الوقت في أخذ وردّ؛ لذلك أضرب عن هذه الحجة -مع أن َ
ول يحيى على الحقيقة -وألجأه إلى حجة أخرى ل يستطيع منها فكاكا ،ول يجد معها سبيلً
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْرِبِ[} ...البقرة ]258 :فماذا
للمراوغة فقال {:فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول هذا المعاند؟{ فَ ُب ِهتَ الّذِي كَفَ َر وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ }[البقرة.]258 :
كذلك كان فرعون يلجأ إلى هذا السلوب في حواره مع موسى وهارون عليهما السلم ،ففي كل
موقف كان يقولَ {:فمَن رّ ّب ُكمَا يامُوسَىا }[طه ]49 :إنه الجدل العقيم ،يلجأ إليه مَنْ أفلس ،فلم يجد
حجة يستند إليها.
ونلحظ في أسلوب الية صيغة الفراد في } وَلَئِن جِئْ َت ُهمْ بِآيَةٍ[ { ...الروم ]58 :ثم تنتقل إلى صيغة
الجمع في } إِنْ أَن ُتمْ ِإلّ مُبْطِلُونَ { [الروم ]58 :فلم يقولوا لرسولهم مثلً :أنت مبطل ،فلماذا؟ قالوا:
لن الرسول حين يُكذّبه قومه فيقولون :أنت مبطل ،فلعل من أتباعه المؤمنين به مَنْ يدافع عنه
ويشهد بصدقه ،فجاءت صيغة الجمع لتفيد الشمول ،فكأنهم يقولون :أنت مبطل وكل مَنْ (يتشدد
لك).
أو يكون المعنى } إِنْ أَنتُمْ[ { ...الروم ]58 :يعني :كل الرسل } مُبْطِلُونَ { [الروم ]58 :أي:
كاذبون تختلفون من عند أنفسكم وتقولون :هو من عند ال .وعجيب من هؤلء أن يؤمنوا بال
ويُكذّبوا رسله ،ككفار مكة الذين شمتوا في رسول ال حين فتر عنه الوحي فقالوا " :إن رب محمد
قله ".
وهم ل يدرون أو الوحي كان يجهد رسول ال ،وكان يشقّ عليه في بداية المر ،حتى جاء زوجه
خديجة يقول :زملوني زملوني ،دثروني دثروني ،وكان جبينه يتفصد عرقا ،وكان صلى ال عليه
وسلم يقول عن الملَك " :وضمني حتى بلغ مني الجهد ".
وما ذاك إل للتقاء الملكية بالبشرية؛ لذلك كان جبريل عليه السلم يتمثل لسيدنا رسول ال في
صورة بشر ،ليس عليه غبار السفر ول يعرفه أحد ،كما جاء لرسول ال وهو في مجلس الصحابة
يسأله عن اليمان والسلم والحسان.
إذن :مسألة فتور الوحي وانقطاعه مدة عن رسول ال أراد ال به أن يستريح رسول ال من مشقة
الوحي حتى يزول عنه اللم والعناء وعندها يشتاق للوحي من جديد ،ويهون عليه فيتحمله ويصير
شوْق النسان إلى الشيء يجعله يتحمل المشاقّ في سبيله ،ويُهوّن
له دُرْبه على تلقيه من الملك ،ف َ
عليه الصعاب ،كالذي يسير إلى محبوبه فل يبالي حتى لو سار على الشوك ،أو اعترضته
المخاوف والخطار.
والوحي لقاء بشري بملكي ،فإما أنْ ينتقل الرسول إلى مرتبة الملَك ،أو ينتقل الملك إلى مرتبة
البشر ،وهذا التقارب لم يحدث في بداية نزول الوحي فأجهد رسول ال واحتاج إلى هذه الراحة
بانقطاع الوحي.
ظهْ َركَ }[الشرح ]3-2 :أي :جعلناه
ك وِزْ َركَ * الّذِي أَنقَضَ َ
لذلك يقول سبحانهَ {:و َوضَعْنَا عَن َ
عكَ رَ ّبكَ
سجَىا * مَا وَدّ َ
خفيفا ل يجهدك ،ويقول سبحانه في الرد عليهم {:وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َومَا قَلَىا }[الضحى.]3-1 :
ن يقولوا " :إن رب محمد قله " فيعترفون برب محمد ساعة الشدة والضيق الذي نزل
فعجيب أ ْ
به ،فأشمتهم فيه حتى قالوا :إن رب محمد جفاه ،فلما وصله ربه بالوحي ودعاهم إلى اليمان
كفروا وكذّبوا.
()3392 /
قوله سبحانه { :كَذَِلكَ[ } ...الروم .]59 :أي :كتكذيبهم لكل آية تأتيهم بها { كَ َذِلكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىا
ن لَ َيعَْلمُونَ } [الروم .]59 :أي ختمها وأغلقها.
قُلُوبِ الّذِي َ
ن قلتَ :فمن المصلحة أنْ تظل قلوبهم مفتوحة لعلها تستقبل شيئا من الهداية والنور .نقول :الخَتْم
فإ ْ
على قلوب هؤلء ل يكون إل بعد استنفاد كل وسائل الدعوة ،فلم يستجيبوا فل أملَ في هدايتهم
ول جدوى من سماعهم.
والحق -سبحانه وتعالى -ربّ يعين عبده على ما يحب ويلبي له رغبته ،حتى وإنْ كانت الكفر،
وهؤلء أرادوا الكفر وأحبوه ،فأعانهم ال على ما أرادوا ،وختم على قلوبهم حتى ل يدخلها إيمان،
ول يفارقها كفر.
لذلك سبق أنْ حذّرنا أصحاب المصائب ،أو الذين يفقدون عزيزا ،حذرناهم أنْ يستديموا الحزن،
ن يوافقكم ال على هواكم في محبة الحزن وعِشْقه ،فتتوالى عليكم الحزان
وأنْ يألفوه مخافة أ ْ
وتتتابع المصائب ،إياكم ان تدعوا باب الحزن مواربا ،بل أغلقوه بمسمار الرضا ،فالحزن إنْ ظلّ
بك فلن يدعَ لك حبيبا.
وكذلك نقول :إن شُغل عنك شخص فل تُذكّره بنفسك ،بل أَعِنْهُ على هجرك ،وساعده بألّ تذكره.
فإذا قلتَ :إذا كان الحق سبحانه قد وصفهم بأنهم ل يعلمون ،فلماذا يختم على قلوبهم ،ولماذا
يحاسبهم؟ نقول :لن عدم العلم نتيجة تقصيرهم ،فالحق سبحانه أقام لهم الدلة واليات الكونية
الدالة على وجوده تعالى ،فلم ينظروا في هذه اليات ولم يستدلوا بالدلة على وجود الخالق القادر
سبحانه ،وضرورة البلغ من ال ،إذن :فعدم علمهم نتيجة غفلتهم وتقصيرهم.
صمّوا آذانهم عنها؟
لكن ،ماذا بعد أنْ كذّبوا الرسل وأنكروا اليات ،أتتوقف مسيرة الدعوة ،لنهم َ
لقد خلق ال الكون ونثر فيه اليات التي تدل على وجود الله الواحد الحد ،وجعل فيه المعجزات
صدْق الرسُل في البلغ عن ال ،والحق سبحانه ل ينتفع بهذه اليات؛ لن مُ ْلكِه تعالى
التي تثبت ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل يزيد بطاعتنا ،ول ينقص بمعاصينا ،فالمسألة تعود إلينا نحن أولً وآخرا ،إذن :فالحسم في هذه
عكَ من هؤلء المكذّبين يا محمد ،وات ُبتْ على ما أنت عليه.
المسألة :دَ ْ
حقّ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ
()3393 /
اصبر على كرههم ،واصبر على لَدَدهم وعنادهم ،واصبر على إيذائهم لك ولمن يؤمن بك ،اصبر
حقّ[ } ...الروم .]60 :وقد وعد ال رسله
ن وَعْدَ اللّهِ َ
على هذا كله؛ لن العاقبة في صالحك { إِ ّ
بالنصرة والغَلَبة ،ووَعْد ال حق ،فتأكد أن النصر آتٍ.
لكن ما دام النصر آتيا ،فلماذا هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين؟ ولماذا كل هذه المشقة والعناء
في سبيل الدعوة؟ قالوا :لن ال تعالى يريد أن يُمحّص أتباع محمد ،وأن يُدرّبهم على مسئولية
حمل أمانة الدعوة وشعلة النور من بعد رسول ال ،ل إلى اهل الجزيرة العربية وحدها ،إنما إلى
الكون كله.
فل بُدّ أنْ يكونوا من أهل الثبات على المبدأ الذين ل تزعزعهم الشدائد ،والدليل على ذلك أنهم
يُؤ ّذوْن ويُضطهدون فيصبرون ،وهذه أهم صفة فيمن يُعدّ لتحمّل المانة.
لذلك نقول :إذا رأيتَ منهجا أو مبدأ يغدق على أصحابه أولً ،فاعلم أنه مبدأ باطل؛ لن المبدأ
الحق يضحي أهله من أجله بأنفسهم وبأموالهم ،يعطونه قبل أنْ يأخذوا منه ،لماذا؟ لن صاحب
المبدأ الباطل لن يجد مَنْ يناصره على باطله إل إذا أغراهم بالمال أولً واشترى ذممهم ،وإل فماذا
يلجئه إلى مبدأ باطل ،ويحمله على اتباعه؟ إذن :ل بد أن يقبض الثمن أولً.
أما المبدأ الحق فيعلم صاحبه أن الثمن مُؤجّل للخرة ،فهو ممنّى بأشياء فوق هذه الدنيا يؤمن بها
ويعمل من أجلها ،فتهون عليه نفسه ،ويهون عليه ماله في سبيل هذا المبدأ.
وفي رحلة الدعوة ،رأينا الكثيرين يتساقطون بالردة عندما َتحْدثُ لرسول ال آية أو هزة تهزّ
الناس ،وكأن الشدة غربال يميز هؤلء وهؤلء ،حتى ل يبقى تحت راية ل إله إل ال إل الصناديد
القوياء القادرون على حمل هذا اللواء إلى العالم كله.
فال يقول لنبيه :اصبر على تكذيبهم وعلى إنكارهم وعلى ائتمارهم عليك ،فنحن مُؤيدوك ،ولن
نتخلى عنك ،وقد وضح لك هذا التأييد حين جاهروك فانتصرت على جهرهم وبيّتوا لك في الخفاء
فانتصرتَ على تبييتهم ،واستعانوا حتى بالجن ليفسدوا عليك أمرك ،ففضح ال تدبيرهم ونجاك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منهم.
إذن :فاطمئن ،فنحن لهم بالمرصاد ،ولن نُسْلِمك أبدا ،بل وسوف نريك فيهم ما يستحقون من
العقاب في الدنيا ،وتراه بعينك ،أو في الخرة بعد موتك {:فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِ ُدهُمْ َأوْ
جعُونَ }[غافر.]77 :
نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُ ْر َ
ومن هذا العقاب الذي نزل بهم في الدنيا ورآه سيدنا رسول ال ما حاق بهم يوم بدر من قَتْل
وأسْر وتشريد ،وقلنا :إن عمر رضي ال عنه وما أدراك ما عمر ،فقد كان القرآن ينزل على َوفْق
رأيه ،ومع ذلك لما نزلت:
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر ]45 :تعجب وقال :أيّ جمع هذا الذي سيُهزم ،ونحن
{ سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ
عاجزون حتى حماية أنفسنا ،فلما كانت بدر ،ورأى ما رأى قال :صدق ال{ سَ ُيهْ َزمُ ا ْل َ
الدّبُرَ }[القمر]45 :
حقّ[ { ...الروم ]60 :الوعد :هو البشارة بخير لم يأت زمنه الن،
ن وَعْدَ اللّهِ َ
وقوله تعالى } :إِ ّ
وفَرْق بين الوعد بالخير من إنسان ،والوعد من ال تعالى ،فوَعْدكَ قد يختلف لنك ابن أغيار ،ول
تملك كل عناصر الوفاء بالوعد ،وربما جاء وقت الوفاء فلم تقدر عليه أو تتغير نفسك من ناحيته
فتبخل عليه ،أو تراه ل يستحق...إلخ.
إذن :الغيار التي تنتابك أو تنتابه أو تنتاب قيمة ما تؤديه من الخير موجودة ،وقد تحول بينك
وبين الوفاء بما وعدتَ.
علٌ ذاِلكَ
شيْءٍ إِنّي فَا ِ
لذلك يعلمنا الحق سبحانه أنْ نحتاط لهذا المر ،فيقول سبحانهَ {:ولَ َتقْولَنّ لِ َ
غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ[} ...الكهف ]24-23 :فاربط ِفعْلك بمشيئة ال التي تُيسّر لك الفعل ،ول
ينبغي أنْ تجزم بشيء أنتَ ل تملك شيئا من أسبابه.
قلناَ :هبْ أنك قلتَ :سألقاك غدا في المكان الفلني ،وسأعطيك كذا وكذا ،فأنت قلتَ هذه المقولة
عشْتُما لغد
ووعدتَ هذا الوعد وأنت ل تضمن أن تعيش لغد ،ول تضمن أنْ يعيش صاحبك ،وإنْ ِ
فقد يتغير رأيك ،أو يصيبك شيء يعوقك عن الوفاء ،إذَن :فقولك إنْ شاء ال يحميك أنْ تُوصف
بالكذب في حالة عدم الوفاء؛ لنك وعدتَ ولم يشأ ال ،فل دخلَ لك في المر.
فالوعد الحق يأتي ممّنْ؟ مِنَ الذي يملك ُكلّ أسباب الوفاء ،ول يمنعه عنه مانع.
ن لَ يُوقِنُونَ { [الروم ]60 :خف الشيء :لم َيعُدْ له ِثقَل،
خفّ ّنكَ الّذِي َ
وقوله تعالى } :وَلَ يَسْ َت ِ
واستخفّ غيره :طلب منه أنْ يكون خفيفا ،فمثلً حين تقسو على شخص يأتي آخر فيقول لك:
ب واقفا.
خف عنه .واستخفّه مثل استفزّه يعني :حرّكة وذبذبة من ثباته ،فإنْ كان قاعدا مثلً َه ّ
لذلك نقول في مثل هذه المواقف (خليك ثقيل ..فلن بيستفزك يعني :يريد أنْ يُخرجك عن حلمك
ف انهض ،ومنه قوله تعالى{ وَاسْ َتفْزِزْ مَنِ
وثباتك ..متبقاش خفيف..إلخ) ونقول للولد (فز) يعني ِق ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ك وَرَجِِلكَ[} ...السراء]64 :
ك وَأَجِْلبْ عَلَ ْيهِم بِخَيِْل َ
ط ْعتَ مِ ْنهُمْ ِبصَوْ ِت َ
اسْ َت َ
إذن :فالمعنى استخفه :حمله على الخفة وأن يتحول عن الثبات الذي هو عليه.
فالمعنى :إياك يا محمد أنْ يستقزّك القوم ،أو يُخرجوك عن ثباتك ،فتتصادم معهم ،لكن ظلّ على
حقّ .والحق سبحانه ساعة يُرخِى
ثباتك في دعوتك ول تقلق؛ لن ال وعدك بالنصرة ووَعْد ال َ
العنان لمن كفر به إنما يريد أنْ يُخرِج كل ما عندهم حتى ل يبقى لهم عذر ،ثم يقابلهم ببعض ما
عنده مما يستحقون في الدنيا ،والباقي سيرونه في الخرة.
وال يقول {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ
}
[الصافات.]173-171 :
ومن سيرة المام علي -رضي ال عنه وكرّم ال وجهه -علمنا أنه ابتُلي بجماعتين :الخوارج
الذين يُكفّرونه ،والشيعة الذين يُؤلهونه ويصلون به إلى درجة النبوة ،حتى صدق فيه قول رسول
ال " :هلك فيك اثنان :مُحب غالٍ ،ومبغض قَالٍ ".
ويروى أنه -رضي ال عنه -كان يصلي يوما الفجر بالناس ،فلما قرأ( :ول الضالين) اقترب
عمَُلكَ
ك وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبِْلكَ لَئِنْ أَشْ َر ْكتَ لَيَحْ َبطَنّ َ
حيَ إِلَ ْي َ
منه أحد الخوارج وقرأ {:وََلقَدْ ُأوْ ِ
وَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ }[الزمر ]65 :يريد أن يقول له :أنت كافر ولن يقبل منك عملك.
ق َولَ
حّوسرعان ما فطن علي لما أراده الرجل ،فقرأ بعدها مباشرة } :فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ
ن لَ يُوقِنُونَ { [الروم .]60 :يعني :لن تُخرِجني عن ثباتي وحِلْمي ولن تستفزني.
خفّنّكَ الّذِي َ
يَسْ َت ِ
والعظمة في هذا الموقف أنْ يرد عليه لتوّه بالقول الشافي من كتاب ال دون سابق إعداد أو
ترتيب ،وِل َم ل ،وهو علي بن أبي طالب الذي أُوتِي باعا طويلً في البلغة والفصاحة والحجة.
ن لَ يُوقِنُونَ { [الروم ]60 :من اليقين ،وهو اليمان الثابت الذي ل يتزعزع،
ومعنى } :الّذِي َ
فيصير عقيدة في القلب ل تطفو إلى العقل لتناقش من جديد.
()3394 /
الم ()1
{ الـم }
ن فصّلنا القول في الحروف المقطعّة في بدايات السور ،وذكرنا كل ما يمكن أن يقوله بشر،
سبق أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعد هذا كله نقول :وال أعلم بمراده؛ لننا مهما أوتينا من العلم فلن نصل إلى غاية هذه
الحروف ،وسيظل فيها من المعاني ما نعجز نحن عن الوصول إليه.
ن كانت غير معلومة المعنى؟ نقول :نحن نناقشكم
ن قلتَ :فما فائدة هذه الحروف المقطعة إ ْ
فإ ْ
بالعقل وبالمنطق ،فالقرآن نزل بأسلوب عربي ،وتحدى العرب وهم أهل الفصاحة والبلغة
والبيان وأصحاب التعبير الجميل والداء الرائع ،ونزل في قريش التي جمعتْ في لغتها كل لغات
ن يقول
القبائل العربية ،وقد خرج منها صناديد كذبوا محمدا ،وكفروا بدعوته ،فهل سمعنا منهم مَ ْ
مثلً :ما معنى (الم) أو (حم).
وال لو كان فيها مطعن ما تركوه ،إذن :فهذا دليل على أنهم فهموا هذه الحروف ،وعرفوا أن لها
معنى أبسطها أن نقول :هي من حروف التنبيه التي كان يستخدمها العرب في كلمهم ،فهي مثل
(إل) في قول الشاعر:ألَ هُبّي بِصحْنك فَاصْبِحينا ولَ تُبْقِ خُمور الَنْدرينَافأل أداة للتنبيه ،وتأتي
أهمية التنبيه في أول الكلم من أن المتكلم يملك زمام منطقه فيرتبه ويُعده ،ويدير المسائل بنسب
ذهنية في ذِهْنه ،لكن السامع قد يكون غافلً ،فيُفاجأ بالكلم دون استعداد ،فيفوته منه شيء ،فتأتي
حروف التنبيه لتُخرِجه من غفلته ،وتسترعي انتباهه ،فل يفوته من كلمك شيء ،إذن :أبسط ما
يقال في هذه الحروف أنها للتنبيه على طريقة العرب في كلمهم.
وسبق أنْ بيّنا أن القرآن مبني كله على الوصل في آياته وسوره ،بل في آخره وأوله نقول( :من
الجنة والناس بسم ال الرحمن الرحيم الحمد ل رب العالمين) وكذلك في اليات والسور .وكأن
ال تعالى يريد منك ألّ تفصل آية من القرآن عن التي بعدها؛ لذلك يقولون عن قارئ القرآن :هو
الحالّ المرتحل ،فهو حالّ في آية أو سورة ،مرتحل إلى التي تليها.
سمَة عامة في القرآن كله ل يستثنى من ذلك إل الحروف المقطعة في بدايات
إذن :الوصْل ِ
السور ،فهي قائمة على القطع ،فل نقول هنا ألفٌ لمٌ ميمٌ ،لكن نقول ألفْ لمْ ميمْ ،فلماذا اختلفت
هذه الحروف عن السمة العامة للقرآن كله؟
قالوا :ليدلّك على أن اللف أو اللم أو الميم ،لكل منها معناه المستقل ،وليست مجرد حروف
كغيرها من حروف القرآن؛ لذلك خالفتْ نسق القرآن في الوصل؛ لن لها معنىً مستقلً تؤديه.
ويفسر هذا قول النبي صلى ال عليه وسلم " :مَنْ قرأ حرفا من كتاب ال فله به حسنة ،والحسنة
بعشر أمثالها ،ل أقول الم حرف ،ولكن ألف حرف ،ولم حرف ،وميم حرف ".
ثم يقول الحق سبحانهِ { :ت ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ.} ...
()3395 /
حكِيمِ ()2
تِ ْلكَ آَيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْل َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تلك :اسم إشارة للمؤنت مثل ذلك المذكر ،وهي عبارة عن التاء للشارة ،واللم لل ُبعْد ،سواء أكان
في المكان أو في المكانة والمنزلة ،ثم الكاف للخطاب ،وتأتي بحسب المخاطب مذكرا أو مؤنثا،
مفردا أو مثنىً أو جمعا.
فتقول في خطاب المفرد المذكر :تلك .وللمفردة المؤنثة :تلك .وللمثنى تلكما..إلخ ،ومن ذلك قول
امرأة العزيز في شأن يوسف عليه السلم {:فَذاِلكُنّ الّذِي ُلمْتُنّنِي فِيهِ[} ....يوسف.]32 :
فذا اسم اشارة ليوسف ،واللم للبعد وكُنّ ضمير لمخاطبة جمع المؤنث ويقول تعالى في خطاب
موسى {:فَذَا ِنكَ بُرْهَانَانِ مِن رّ ّبكَ[} ...القصص ]32 :أي اليد والعصا ،فذانِ اسم إشارة للمثنى،
والكاف للخطاب.
والشارة هنا { ِت ْلكَ آيَاتُ[ } ...لقمان ]2 :لمؤنث وهي اليات ،والمخاطب سيدنا رسول ال صلى
ال عليه وسلم وأمته تبع له ،والقرآن الكريم مرة يشير إلى اليات ،ومرة يشير إلى الكتاب نفسه،
فيقول :الكتاب أو الفرقان ،أو القرآن ولكل منها معنى.
فالكتاب دلّ على أنه يُكتب وتحويه السطور ،والقرآن دلّ على أنه يُقرأ وتحويه الصدور ،أما
الفرقان فهذه هي المهمة التي يقوم بها :أنْ يفرق بين الحق والباطل.
حكِيمِ } [لقمان ]2 :فوصفه بالحكمة ،أما في أول البقرة فقال {:ذَِلكَ
وهنا قال { :تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْل َ
ا ْلكِتَابُ لَ رَ ْيبَ فِيهِ هُدًى[} ...البقرة ]2 :فلم يُوصَف بالحكمة ،إنما نفى عنه أن يكون فيه ريب.
أي :شك.
صدْق الرسول في البلغ عن ال ،وصَدْق الملك الذي
وكلمة{ لَ رَ ْيبَ فِيهِ[} ...البقرة ]2 :تؤكد لنا ِ
حمله من اللوح المحفوظ إلى رسول ال ،وقد مدحه ال بقوله{ ذِي ُق ّوةٍ عِندَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ }
[التكوير.]20 :
خذْنَا مِنْهُ
لقَاوِيلِ * لَ َ
ضاَ
وقال عن سيدنا رسول ال في شأن تبليغ القرآن{ وََلوْ َت َقوّلَ عَلَيْنَا َب ْع َ
طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ }[الحاقة.]46-44 :
بِالْ َيمِينِ * ثُمّ َلقَ َ
إذن :فالقرآن كما نزل من عند ال ،لم يُغيّر فيه حرف واحد ،وسيظل كذلك محفوظا بحفظ ال له
ن تقوم الساعة ،وسنظل نقرأ{ لَ رَ ْيبَ فِيهِ[} ...البقرة.]2 :
إلى أ ْ
ويقرؤها مَنْ بعدنا إلى قيام الساعة ،فقد حكم الحق سبحانه بأنه ل ريْب في هذا القرآن منذ نزل
إلى قيام الساعة ،فإنْ شككونا في شيء من كتاب ربنا فعلينا أن نقرأ {:ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ لَ رَ ْيبَ فِيهِ
هُدًى لّ ْلمُتّقِينَ }[البقرة.]2 :
فهذه قضية حكم ال بها ،وهي ممتدة وباقية ما بقيتْ الدنيا ،كما سبق أنْ قُلْنا ذلك في قوله تعالى{:
سهِمْ[} ...فصلت .]53 :فالية تستوعب المستقبل كله ،مستقبل مَنْ
ق َوفِي أَنفُ ِ
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
عاصر نزول القرآن ،ومستقبل مَنْ يأتي بعد إلى قيام الساعة ،بل مستقبل مَنْ تقوم الساعة عليه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالقرآن لم ينزله ال ليُفرغ كل أسراره وكل معجزاته في قَرْن واحد ،ول في أمة واحدة ،ثم
يستقبل القرون والمم الخرى دون عطاء ،ال يريد للقرآن أنْ يظل جديدا تأخذ منه كل المم
وكل العصور ،وتقف على أسراره ومعجزاته وآياته في الكون.
حكِيمِ { [لقمان ]2 :الكتاب ل يُوصَف بالحكمة إنما يُوصَف بالحكمة مَنْ يعلم،
ومعنى } ا ْلكِتَابِ ا ْل َ
فالمعنى :الكتاب الحكيم أي :الموصوف بالحكمة ،أو الحكيم قائله ،أو الحكيم مُنزِله .ومعنى حكيم:
هو الذي يضع الشيء في موضعه ،ول يضعَ الشيء في موضعه إل ال؛ لنه هو الذي يعلم
صِدْق الشيء في موضعه.
أما نحن فنهتدى إلى موضع الشيء ،ثم يتبين لنا خطؤه في موضعه ،ونضطر إلى تغييره أو
تعديله ككثير من المخترعات التي ظننا أنها تخدم البشرية قد رأينا مضارها ،واكتويْنا بنارها فيما
بعد.
فكل آية ذكرت ناحية من نواحي كمال القرآن وجهة من جهات عظمته ،إذن :فهي لقطات مختلفة
لشيء واحد متعدد الملكات في الكمال ،وكذلك تجد تعدد الكمالت في الية بعدهاُ } :هدًى
حمَةً.{ ...
وَرَ ْ
()3396 /
حسِنِينَ ()3
حمَةً لِ ْلمُ ْ
هُدًى وَ َر ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنما اجعل بيك وبين صفات الجلل ومتعلقاتها من ال وقاية ،اتق صفات المنتقم الجبار
القهار..إلخ؛ لنك لستَ مطيقا لهذه الصفات ،ول شكّ أن النار جندي من جند ال ،ومتعلق من
متعلقات صفات الجلل إذن :فالمعني واحد.
والبعض يأخذون بالظاهر فيقولون :كيف نتقي ال ،والتقوى أن تبعد شيئا ضارا عنك؟ نقول :نعم
ل يكونوا
ن يتقوا ال بأ ّ
أنت تبعد عنك الكفر ،وهذا هو عين التقوى ،والمتقون هم الذين يحبون أ ْ
كافرين به ،وما دام النسان اتقى الكفر فهو مُحسِن ومؤمن ،فالقرآن مرة يأتي باللزم ،ومرة
بالملزوم ،ليؤدي كل منهما معنى جديدا
لذلك لما سُئِل سيدنا رسول ال عن الحسان -في حديث جبريل -قال " :أنْ تعبد ال كأنك تراه،
فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك ".
حسِنِينَ } [لقمان ]3 :نرى
حمَةً لّ ْلمُ ْ
فحين نوازن بين صدر سورة البقرة ،وبين هذه الية { هُدًى وَ َر ْ
أن القرآن ل يقوم على التكرار ،إنما هي لقطات إعجازية كل منها يؤدي معنى ،وإنْ ظن البعض
في النظرة السطحية أنه تكرار ،لكن هو في حقيقة المر عطاء جديد لو تأملته.
فهنا وصف الكتاب بأنه حكيم ،وأنه هدى ورحمة :والهدى هو الدللة على الخير بأقصر طريق،
وقد نزل القرآن لهداية قوم قد ضلوا ،فلما هداهم إلى الصواب وأراهم النور أراد أنْ يحفظ لهم
ل يعودوا
حمَةً } [لقمان ]3 :يعني :من رحمة ال بهم أ ّ
هذه الهداية ،وألّ يخرجوا عنها فقال { وَرَ ْ
إلى الضلل مرة أخرى.
ح َمةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ َولَ يَزِيدُ الظّاِلمِينَ َإلّ
شفَآ ٌء وَرَ ْ
كما في قوله سبحانه {:وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
خسَارا }[السراء .]82 :فالمعنى :شفاء لمن كان مريضا ،ورحمة بألّ يمرض أبدا بعد ذلك.
َ
لةَ وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَاةَ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّ َ
()3397 /
الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلَا َة وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَهُمْ بِالْآَخِ َرةِ ُهمْ يُوقِنُونَ ()4
جاءت هذه الية كوصف للمحسنين ،فهل هذه هي كل صفاتهم ،أنهم يقيمون الصلة ويؤتون
الزكاة ،وبالخرة هم يوقنون؟ قالوا :ل لكن هذه الصفات هي العُمد الساسية ،والحق سبحانه يريد
من خَلْقه سواسية في العبودية ،وهذه السواسية ل تتأتى إل إذا تساوى الجميع.
وفي الصلة بالذات تتجلى هذه المساواة ،وفيها يظهر عِزّ الربوبية وذل العبودية ،وفيها منتهى
الخضوع ل عز وجل ،ثم هي تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّهُ
أما الفرائض الخرى فل تأخذ هذه الصورة ،فالزكاة مثلً تجب مرة واحدة في العام{ وَآتُواْ َ
حصَا ِدهِ }[النعام ]141 :وتجب على القادر فقط دون غيره ،كذلك الصوم والحج ،فكأن
َيوْمَ َ
الصلة هي عمدة العبادات كلها ،ولشرفها ومنزلتها جعلها ال لزمة للعبد ول تسقط عنه بحال
إبدا؛ لذلك شُرعت صلة المريض والمسافر والخائف ...الخ.
وفي الصلة استطراق للعبودية في الخَلْق جميعا ،حيث نخلع أقدارنا حين نخلع نعالنا على باب
المسجد ،ففي الصف الواحد ،الرئيس والمرءوس ،والكبير والصغير ،والرفيع والوضيع -نقصد
الوضيع في نظر الناس ،وربما ل يكون وضيعا عند ربه -فالجميع هنا سواء ،ثم حين نرى
الكبار والرؤساء والسادة معنا في الصفوف خاضعين ل أذلء تزول بيننا الفوارق ،ويدكّ في
نفوسهم الكبرياء ،فل يتعالى أحد في مجتمع المسلمين على أحد.
ولمنزلة الصلة وأهميتها رأينا كيف أنها الفريضة الوحيدة التي فرضها ال علينا بالمباشرة ،أما
ضتْ بواسطة الوحي ،وسبق أنْ ضربنا مثلً لذلك برئيس العمل حينما يأتيه
باقي التكاليف فقد فُ ِر َ
أمر هام ،فل يأمر به بمكاتبة أو بالتليفون ،إنما يستدعي الموظف المختص إلى مكتبه ،ويلقي إليه
المر مباشرة.
وكذلك رسول ال استدعاه ربه إلى السماء ،وأخذ حظا بالقُرْب من ال تعالى ،وال سبحانه يعلم
حب الرسول لمته وحرصه عليهم ،وعلى أنْ ينالوا هم أيضا هذا القرب من حضرته تعالى،
فأجابه ربه ،وجعل الصلة حضورا للعبد في حضرته تعالى ،وقربا كقرب رسول ال في رحلة
المعراج.
س ْوفَ ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَىا }[الضحى]5 :
لذلك خاطبه ربه بقوله {:وَلَ َ
فقال سيدنا رسول ال " :إذن ،ل أرضى وواحد من أمتي في النار ".
وكما تُحدِث الصلة استطراق عبودية ُتحِدث الزكاةُ في المجتمع استطراقا اقتصاديا ،فيعيش
الجميع الغني والفقير عيشة كريمة مُيسّرة ،فل يشبع واحد حتى التخمة ،والخر يموت جوعا .وما
بالك بمجتمع ل يتعالى فيه الكبير على الصغير ول يبخل فيه الغني على الفقير؟ إذن :في الصلة
والزكاة ما يكفل سعادة المجتمع كله.
وقد فرض ال الزكاة للفقراء؛ لن ال سبحانه حين يستدعي عبد إلى كونه ل ُبدّ أنْ يضمن له
مُقومات الحياة ،ولم ل وأنت إذا دع ْوتَ شخصا إلى بيتك ل بُدّ أنْ تكرمه ،وأنْ ُتعِد له على القل
ضروريات ما يلزمه فضلً عن الكرام والحفاوة ورفاهية المأكل والمشرب.
.الخ.
فال سبحانه استدعى عباده إلى الوجود مؤمنهم وكافرهم ،وعليه سبحانه أنْ يوفر لهم القوت ،بل
كل مقومات حياتهم ،كذلك يضمن للعاجز غير القادر قوته ،لذلك يفرض الزكاة حقا معلوما للسائل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت والولى صلة.
والمحروم ،فهي صِل ٌ
ولهذه المسألة قصة في الدب العربي ،فيُرْوى أن ابن مدبر وكنيته أبو الحسن ،كان الشعراء
يقصدونه للنيل من عطاياه ،يقولون :إن الّها تفتح اللّها ،أي :أن العطايا تفتح الفواه بالمدح والثناء.
لكن ،كان ابن المدبر إذا مدحه شاعر بشعر لم يعجبه يأمر رجاله أنْ يأخذوه إلى المسجد ول
يتركوه حتى يصلي ل مائة ركعة ،وبذلك خافه الشعراء وتحاشوْا الذهاب إليه إل أبو عبدال
الحسين بن عبدالسلم البشري ،ذهب إليه وقال :عندي شعر أحب أنْ أنشده لك.
فقال :أتدري ما الشرط؟ قال :نعم ،قالُ :قلْ ما عندك ،فقال:أَرَدْنَ فِي أَبي حَسَنٍ َمدِيحا َكمَا بالمْدحِ
ن كفّيْهِ دجلَةُ
تُنْتَجَعُ ال ُولَةيعني :يذهب الشعراء إليهم لينالوا من خيراتهمَ .فقْلْنا أكْرَمُ الثّقلَيْنِ طُرّا ومِ ْ
لةُفقُ ْلتُ لهم ومَا ُتغَني صَلَتِي عِيَالي إنما الشْأنُ
جوَائِ ُزهُ عليهِنّ الصّ َ
والفُراتُوقالوا يَقبل المدحاةَ لكنْ َ
ال ّزكَا ُةفَيأمُر لي بِكسْر الصّادِ منها فَتُصبح ليِ الصّلت هِي الصّلةُفلما تجرّأ عليه أحدهم وسأله:
لماذا تعاقب مَنْ لم يعجبك شعره بصلة مائة ركعة؟ فقال :لنه إما مسيء وإما محسن ،فإنْ كان
مسيئا فهي كفارة لساءته في شعره ،وإنْ كان محسنا فهي كفارة لكذبه فيّ.
ثم يقول سبحانه في وصفهم } :وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ { [لقمان ]4 :لن اليمان باليوم الخر
ن نعمل بمنهج ال في (افعل كذا) و (ل تفعل كذا) ،ونحن على يقين من أننا لن نفلت من
يقتضي أ ْ
ال ولن نهرب من عقابه في الخرة ،وأننا مُحَاسبون على أعمالنا ،فلم نُخلق عبثا ،ولن نُتْرك
جعُونَ }[المؤمنون.]115 :
سدى ،كما قال سبحانهَ {:أفَحَسِبْ ُتمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَ ّنكُمْ إِلَيْنَا لَ تُ ْر َ
ونلحظ هما في السلوب تكرار ضمير الغيبة (هم) فقال } :وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ { [لقمان]4 :
وهذا يدلّنا على أن اليمان بالخرة أمر مؤكد ل شكّ فيه ،ومع أن الناس يؤمنون بهذا اليوم،
ويؤمنون أنهم محاسبون ،وأن ال لم يكلفهم عبثا -مع هذا -يؤكد الحق سبحانه على أمر
الخرة؛ لنها مسألة بعيدة في نظر الناس ،وربما غفلوا عنها ل ُبعْدها عنهم ،ولم ل وهم يغفلون
حتى عن الموت الذي يرونه أمامهم كل يوم ،ولكن عادة النسان أن يستعبده في حق نفسه.
لذلك يقول الحسن البصري :ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت.
أما الكفار فينكرون هذا اليوم ،ول يؤمنون به؛ لذلك أكد ال عليه.
ولما " سأل النبي صلى ال عليه وسلم حذيفة رضي ال عنه " :كيف أصبحت يا حذيفة؟ " قال:
أصبحت مؤمنا حقا ،فقال " :لكلّ حقّ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال :عزفتْ نفسي عن الدنيا
فاستوى عندي ذهبها ومدرها ،وكأني أنظر إلى أهل الجنة يُنعّمون ،وإلى أهل النار في النار
يُعذّبون " فقال صلى ال عليه وسلم " :عرفتَ فالزم " ".
وقوله } يُوقِنُونَ { [لقمان ]4 :من اليقين ،وهو اليمان الراسخ الذي ل يتزعزع ،ول يطرأ عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكّ فيطفو إلى العقل ليناقش من جديد وسبق أنْ قُلْنا :إن المعلومة تتدرج على ثلث مراحل :علم
اليقين ،وعين اليقين ،وحق اليقين.
علم اليقين إذا أخبرك به مَنْ تثق به ،فإذا رأيتَ ما أخبرك به فهو عين اليقين ،فإذا باشرتَ ذلك
بنفسك فهو حَقّ اليقين.
وضربنا لذلك مثلً إذا قلت لك :إن البيت الحرام في مكة وصفَته كذا وكذا ،وقد حدثت فيه
توسعات كذا وكذا ،فهذه المعلومات بالنسبة لك علم يقين ،فإذا رأيتَ الحرم فهي عَيْن يقين ،فإذا
يسّر ال لك الحج أو العمرة فباشرْتَه بنفسك ،فهو حَقّ اليقين.
والحق سبحانه وتعالى عالج هذه المراتب في سورتين {:أَ ْلهَاكُمُ ال ّتكّاثُرُ * حَتّىا زُرْتُمُ ا ْل َمقَابِرَ *
س ْوفَ َتعَْلمُونَ * كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ عِلْمَ الْ َيقِينِ * لَتَ َروُنّ ا ْلجَحِيمَ * ثُمّ
س ْوفَ َتعَْلمُونَ * ُثمّ كَلّ َ
كَلّ َ
لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ * ثُمّ لَُتسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ }[التكاثر.]8-1 :
وذلك حين يمرون على الصراط ويروْنَ النار بأعينهم رأي العين.
أما حق اليقين بالنسبة للنار ،فقد جاء في قوله تعالى {:فََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ * فَ َروْحٌ وَرَيْحَانٌ
صحَابِ الْ َيمِينِ * فَسَلَمٌ ّلكَ مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ * وََأمّآ إِن كَانَ
وَجَ ّنتُ َنعِيمٍ * وََأمّآ إِن كَانَ مِنْ َأ ْ
حقّ الْ َيقِينِ * فَسَبّحْ
حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ َ
مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُ ُزلٌ مّنْ َ
بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ }[الواقعة.]96-88 :
لكن ،هل القرآن نزل هُدى للمتقين ،وهدى للمحسنين فحسب؟ قلنا :إن الهداية تأتي بمعنيين :هداية
دللة وإرشاد ،وهداية توفيق ومعونة ،فإن كانت هداية دللة فقد دلّ ال المؤمن والكافر بدليل قوله
تعالى{ وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى ا ْلهُدَىا }[فصلت]17 :
ن رفضها
فالحق سبحانه دلّ الجميع لنهم عباده ،فمنهم من قَبِل الدللة واقتنع بها فآمن ،ومنهم مَ ْ
فكفر ،أما الذي قَبِل دلَلة ال وآمن به فيزيده ال هداية أخرى ،هي المعونة علىَ اليمان ،ف ُيحّببه
إليه حتى يعشقه ،ثم يعينه عليه ،كما قال سبحانه{ وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }
[محمد.]17 :
ثم يقول الحق سبحانهُ } :أوْلَـائِكَ عَلَىا ُهدًى مّن رّ ّبهِمْ.{ ...
()3398 /
أُولَ ِئكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَ ّبهِ ْم وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ ()5
وصف الحق سبحانه قرآنه بأنه هدى ،أما هنا فيقولُ { :أوْلَـا ِئكَ عَلَىا ُهدًى } [لقمان ]5 :والمتكلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن نتأمل المعنى ،ربنا عز وجل يريد أنْ يقول لنا نعم القرآن هُدى،
هو ال -عز وجل -فل ُبدّ أ ْ
لكن إياك أنْ تظن أنك حين تتبع هذا الهدى تنفعه بشيء ،إنما المنتفع بالهداية أنت ،فحين تكون
على الهدى يدلّك ويسير بك إلى الخير ،فالهدى كأنه مطية يُوصّلك إلى الخير والصلح ،فأنت
مُسْتعلٍ على الهدى إنْ قَبِلْتَه ،وإنْ كان هو ُمسْتَعليا عليك تشريعا.
ثم هو هدى ممّنْ؟ { هُدًى مّن رّ ّبهِمْ } [لقمان ]5 :ممن ل يستدرك عليه ،فإنْ دلّك دلّك بحق ،و َهبْ
أن البشر اهتدوْا إلى شيء فيه خير ،لكن بعد فترة يعارضون هم أنفسهم هذا الطريق ،ويكتشفون
له مضا ّر ومثالب ،ويستدركون عليه ،وربما يعدلون عنه إلى غيره ،وكم هي القوانين البشرية
عدّلت؟
التي أُلغيت أو ُ
إذن :الهداية والدللة الحقة ل تكون إل ل ،والقانون الذي ينبغي أن يحكمنا ونطمئن إليه ل يكون
إل ل ،لماذا؟ لن البشر ربما ينتفعون من قوانينهم ،وقد تتحكم فيهم الهواء أو يميلون لشخص
على حساب الخر ،أما الحق -سبحانه وتعالى -فهو وحده سبحانه الذي ل ينتفع بشبء مما
شرع لعباده ،ول يحابي أحدا على حساب أحد ،والعباد كلهم عباده وعنده سواء.
لذلك يطمئننا الحق سبحانه على تشريعه وعدالته سبحانه ،فيقول{ مَا اتّخَ َذ صَاحِبَ ًة َولَ وَلَدا }[الجن:
]3يعني :اطمئنوا ،فربكم ليس له صاحبة تؤثر عليه ،ول ولد يظلم الناس فيحابيه ،فأنتم جميعا
عنده سواسية.
ثم هناك فَرْق بين هُدى من ال ،وهدى من الرب ،فالرب هو الذي ربّاك ،هو الذي أوجدك من
عَدم ،وأمدك من عُدْم ،وأعطاك قبل أنْ تعرف السؤال ،وتركك تربع في كونه وتتمتع بنعمه.
لذلك يُعلمك ربك :إياك أنْ تسألني عن رزق غدٍ؛ لنني رزقْتُك قبل أنْ تعرف أن تسأل ،ثم لم
أطالبك بعبادة غدٍ ،إذن :ليكُنْ العبد مؤدبا مع ربه عزوجل.
وهكذا نتبين أن الربوبية عطاء ،أما اللوهية فتكليف.
ثم يخبر الحق سبحانه عنهم بخبر آخر { وَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } [لقمان ]5 :فالفلح نتيجة الهدى
الذي ساروا عليه واتبعوه ،كما قال تعالى {:قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }[المؤمنون.]1 :
سقْى..الخ ،فاستعارها أسلوب القرآن للعمل
الفلح أصله من فلحة الرض بالحرث والبَذْر وال ّ
الصالح ،ووجه الشبه بين المرين واضح ،فالفلح يلقى الحبة فيضاعفها له ربه سبعمائة حبة،
كذلك العمل الصالح ُيضَاعَف لصاحبه ،فالحسنة عند ال بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف{ وَاللّهُ
عفُ ِلمَن َيشَآءُ }[البقرة]261 :
ُيضَا ِ
واقرأ في كتاب ال هذا المثل {:مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ
عفُ ِلمَن َيشَآ ُء وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة.]261 :
سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبُلَةٍ مّائَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَا ِ
وتأمل الستدلل هنا :إذا كانت الرض وهي مخلوقة ل تعطي كل هذا العطاء ،فكيف يكون
عطاء مَنْ خلقها؟ إذن :فهم لشكّ مفلحون أي :فائزون بالثمرة الطيبة التي تفوق ما بذلوه من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مشقة ،كما يزرع الفلح الرض فتعطيه أضعاف ما ُوضِح فيها.
ضلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ ِبغَيْرِ.} ...
حدِيثِ لِ ُي ِ
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي َل ْهوَ الْ َ
()3399 /
بعد أن ذكر الحق سبحانه الكتاب وآياته ،وأن فيه هدى ورحمة لمن اتبعه وفلحا لمن سار على
هديه يبين لنا أن هناك نوعا آخر من الناس ينتفعون بالضلل ويستفيدون منه ،وإل ما راجتْ
ل وألوانا.
سوقه ،ولما انتشر بين الناس أشكا ً
لذلك نرى للضلل فئة مخصوصة حظهم أن يستمر وأن ينتشر
لتظل مكاسبهم ،ولتظل لهم سيادتهم على الخَلْق وعبوديتهم لهم واستنزاف خيراتهم.
ن وُجِد قانون يعيد توازن الصلح للمجتمع ل يقف في وجهه إل هؤلء يحاربونه
وطبيعي إ ْ
ويحاربون أهله ويتهمونهم ويُشككون في نواياهم ،بل ويواجهونهم بالسخرية والستهزاء مرة
وبالتعدي مرة أخرى.
شعْب أبي طالب،
وربما قطعوا عليهم سبل الحياة ،كما عزلوا رسول ال صلى ال عليه وسلم في ِ
ثم يُكرهون أهل الحق على الهجرة والخروج من أموالهم وأهلهم إلى الحبشة مرة ،وإلى المدينة
مرة أخرى ،لماذا؟ لن حياتهم تقوم على هذا الضلل فل ُبدّ أنْ يحافظوا عليه.
والحق سبحانه يبين لنا أن هؤلء الذين يحاربون الحق ويقفون في وجه الدعوة إلى اليمان
يعرفون تماما أنهم لو تركوا الناس يسمعون منهج ال وداعي الخير ل بُدّ أنْ يميلوا إليه؛ لذلك
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآنِ وَا ْلغَوْاْ
يَحُولُون بين آذان الناس ومنطق الحق ،فهم الذين قالوا للناس {:لَ تَ ْ
فِيهِ[} ...فصلت]26 :
وما ذلك إل أنهم واثقون من لغة القرآن وجمال أسلوبه ،واستمالته للقلوب بحلو بيانه ،فلو سمعتْه
الذن العربية ل ُبدّ وأنْ تتأثر به ،وتقف على وجوه إعجازه ،وتنتهي إلى اليمان.
فإذا ما أفلتَ منهم أحد ،وانصرف إلى سماع الحق أت ْو ُه بصوارف أخرى وأصوات تصرفه عن
الحق إلى الباطل.
وقوله { َومِنَ النّاسِ } [لقمان ]6 :من هنا للتبعيض أي :الناس المستفيدون من الضلل ،والذين
يسؤوهم أنْ يأتم الناس جميعا بمنطق واحد ،وهدف واحد؛ وهدى واحد لن هذه الوحدة تقضي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على تميزهم وجبروتهم وظلمهم في الرض؛ لذلك يبذلون قصارى جهدهم في الضلل { َومِنَ
ضلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ[ } ...لقمان]6 :
النّاسِ مَن َيشْتَرِي َل ْهوَ ا ْلحَدِيثِ لِ ُي ِ
قوله تعالى { :يَشْتَرِي } [لقمان ]6 :من الشراء الذي يقابله البيع ،والشراء أنْ تدفع ثمنا وتأخذ في
مقابله مُثمنا ،وهذا بعدما وُجِد النقد ،لكن قبل وجود النقد كان الناس يتعاملون بالمقايضة والتبادل
سلعة بسلعة ،وفي هذه الحالة فكل سلعة مباعة وكل سلعة مشتراة ،وكل منهما بائع ومُشْتر.
خسٍ دَرَاهِمَ َمعْدُو َد ٍة َوكَانُواْ فِيهِ
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلم {:وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ بَ ْ
مِنَ الزّا ِهدِينَ }[يوسف.]20 :
والمعنى :شروه أي :باعوه.
ومن ذلك أيضا قوله تعالىَ {:ومِنَ النّاسِ مَن َيشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ[} ...البقرة.]207 :
أي :يبيعها ،إذن :الفعل (شَرَى) يأتي بمعنى البيع ،وبمعنى الشراء.
أما إذا جاء الفعل بصيغة (اشترى) فإنه يدل على الشراء الذي يُدفع له ثمن ،ومن ذلك قوله
شعِينَ للّ ِه لَ
تعالى {:وَإِنّ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلمَن ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َومَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيكُ ْم َومَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيهِمْ خَا ِ
يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنا قَلِيلً[} ...آل عمران]199 :
سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ الّجَنّةَ }[التوبة]111 :
وقوله تعالى {:إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ
وعادة تدخل الباء على المتروك تقول :اشِتريتُ كذا بكذا
وحين نتأمل قوله تعالىَ } :ومِنَ النّاسِ مَن َيشْتَرِي َل ْهوَ ا ْلحَدِيثِ[ { ...لقمان ]6 :نجد أن هذه عملية
تحتاج إلى طلب للشيء المشترَى ،ثم إلى ثمن يُدفع فيه ،وليت الشراء لشيء مفيد إنما } َل ْهوَ
حدِيثِ { [لقمان ]6 :وهذه سلعة خسيسة.
الْ َ
إذن :هؤلء الذين يريدون أنْ يصدوا عن سبيل ال تحملوا مشقة الطلب ،وتحملوا غُرْم الثمن ،ثم
ُوصِفوا بالخيبة لنهم رَضوا بسلعة خسيسة ،والدهى من ذلك والمرّ منَه أن يضعوا هذا في
مقابل الحق الذي جاءهم من عند ال على يد رسوله بل تعب وبل مشقة وبل ثمن ،جاءهم فضلً
من عند ال وتكرما {:قُل لّ أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ َأجْرا ِإلّ ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَىا }[الشورى]23 :
فأيّ حمق هذا الذي يوصفون به؟
وكلمة اللهو :ذكر القرآن اللهو وذكر اللعب في عدة آيات ،قدّمت اللعب على اللهو في قوله
تعالىَ {:ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ِعبٌ وََل ْه ٌو وَلَلدّا ُر الخِ َرةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[النعام]32 :
وفي قوله تعالى {:اعَْلمُواْ أَ ّنمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََل ْهوٌ }[الحديد]20 :
وقدمت اللهو في قوله تعالىَ {:ومَا هَـا ِذهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ْهوٌ وََل ِعبٌ }[العنكبوت]64 :
فقدمت اليات اللعب في آيتين؛ لن اللعب أن تصنع حركة غير مقصودة لمصلحة ،كما يلعب
سمّيت لعبا؛ لن الطفل يلعب قبل
الطفال ،يعني :حركة ل هدفَ لها ،ونقول عنها (لعب عيال) و ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنْ يُكلّف بشيء ،فلم يشغل باللعب عن غيره من المهمات.
لكن إذا انتقل إلى مرحلة التكليف ،فإن اللعب يشغله عن شيء طُلب منه ،ويُسمّى في هذه الحالة
لهوا ،ومنه قوله تعالى {:وَإِذَا رََأوْاْ ِتجَا َرةً َأوْ َلهْوا ان َفضّواْ إِلَ ْيهَا وَتَ َركُوكَ قَآئِما }[الجمعة]11 :
إذن :فاللهو هو الشيء الذي ل مصلحة فيه ،ويشغلك عن مطلوب منك.
فآية سورة العنكبوت التي قدمت اللهو على اللعب تعني أن أمور الشتغال بغير الدين قد بلغت
مبلغا ،وأن الفساد قد طمّ واستشرى النشغال بغير المطلوب عن المطلوب ،فهذه أبلغ في المعنى
من تقديم اللعب؛ لن اللعب لم يُلهه عن شيء.
لكن ،ما اللهو الذي اشتروه ليصرفوا الناس به عن الحق وعن دعوة السلم؟ إنهم لما سمعوا
القرآن فيه قصصا عن عاد وثمود ،وعن مدين وفرعون..الخ ،فأرادوا أنْ يشغلوا الناس بمثل هذه
القصص.
وقد ذهب واحد منهم وهو النضر بن الحارث إلى بلد فارس وجاءهم من هناك بقصص مسلية
حمْيَر ،اشتراها وجاء بها ،وجعل له مجلسا يجتمع الناس فيه
عن رستم وعن الكاسرة وعن ملوك ِ
ليقصّها عليهم ،ويصرفهم بسماعها عن سماع منطق الحق في رسول ال.
وآخر يقول :بل جاء أحدهم بمغنية تغنيهم أغاني ماجنة متكسرة.
ن في
ومعنىَ } :ل ْهوَ ا ْلحَدِيثِ { [لقمان ]6 :قال العلماء :هو كل ما يُلهي عن مطلوب ل ،وإنْ لم يكُ ْ
ذاته في غير مطلوب ال َلهْوا ،وعليه فالعمل الذي يُلهي صاحبه من صناعة أو زراعة..الخ ُيعَدّ
من اللهو إنْ شغله مثلً عن الصلة ،أو عن أداء واجب ل تعالى.
ومن التصرفات ما ُيعَ ّد لهوا ،وإنْ لم يشغلك عن شيء كالغناء ،وللعلماء فيه كلم كثير خاصة بعد
أنْ صاحبته الموسيقى وآلت الطرب والحركات الخليعة الماجنة ،ولفقهائنا القدامى رأيهم في هذا
الموضوع ،لكن العلماء المحدثين والذين يريدون أنْ يُجيزوا هذه المسألة يأخذون من كلم القدماء
زاوية ويُطبّقونها على غير كلمهم.
نعم ،أباح علماؤنا الُنْس بالغناء في الفراح وفي العياد اعتمادا على " قول النبي صلى ال عليه
وسلم لبي بكر الصديق الذي رأى جاريتين تغنيان في بيت رسول ال فنهرهما ،وقال :أمزمار
الشيطان في بيت رسول ال ،فقال صلى ال عليه وسلم " :دعهما ،فإننا في يوم عيد " ".
وكذلك أباحوا الناشيد التي تقال لتلهب حماس الجنود في الحرب ،أو التي ينشدها العمال ليطربوا
بها أنفسهم وينشغلوا بها عن متاعب العمل ،أو المرأة التي تهدهد ولدها لينام.
ومن ذلك حداء البل لتسرع في سيرها ،وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم لنجشة " :رفقا
بالقوارير " فشبّه النساء في لُطفهن ورقّتهن بالقوارير ،فإذا ما أسرعتْ بهن البل هُزّت بهن
الهوادج ،وهذا يشقّ على النساء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :ل مانع من كل نصّ له غرض نبيل ،أما إنْ أهاج الغرائز فهو حرام -والكلم هنا عن
مجرد النص -لن الخالق سبحانه يعلم طبيعة الغرائز في البشر؛ لذلك نسميها غريزة؛ لن لها
ي مؤثرات خارجية ،ولها طاقة ل بُدّ أنْ تتحرك ،فإنْ أثرْتَها أنت
عملً وتفاعلً في نفسك بدون أ ّ
عقْباه.
ثارتْ ونزعتْ إلى ما ل تُحمدَ ُ
وسبق أن أوضحنا أن مراتب الشعور ثلث :يدرك بحواسه ،ثم وجدان يتكوّن في النفس نتيجة
للدراك ،ثم النزوع والعمل الذي يترجم هذا الوجدان.
ومن رحمة ال بنا أن الشرع ل يتدخل في هذه المسألة إل في مرحلة النزوع ،فيقول لكِ :قفْ ل
تمدّ يدك إلى ما ليس لك :ومثّلنا لهذه المسألة بالوردة تراها في البستان ،ويُعجبك منظرها،
وتجذبك رائحتها فتعشقها وهذا لك ،فإن مد ْدتَ يدك لتقطفها يقول لك الشارع ِقفْ ليس من حقك.
إذن :فالشارع الحكيم ل يتدخّل في مرحلة الدراك ،ول في المواجيد إل في مسألة واحدة ل يمكن
الفصل فيها بين الدراك والوجدان والنزوع ،لنها جميعها شيء واحد ،إنها عملية نظر الرجل
إلى المرأة التي ل تحل له ،لماذا هذه المسألة بالذات؟
حدّ العجاب بالمنظر ،إنما يُرثك هذا العجاب انفعالً خاصا في نفسك،
قالوا :لنها ل تقف عند َ
ويُورثك تشكلً خاصا ل يهدأ ،إل بأن تنزع ،فرحمة بك يا عبدي أنا سأتدخل في هذا المر بالذات
من أوله ،وأمنعك من مجرد الدراك ،لنك إنْ أدركتَ وجدتَ ،وإنْ وجدتَ نزعتَ إلى ما تجد
فأثمت في أعراض الناس أو كبت في نفسك ،فأضررتَ بها ،وربك يريد أنْ يُبرئك من الثم ومن
ن تغضّوا أبصاركم.
الضرار بالنفس ،فالسلم لكم أ ْ
إذن :ل تقُل الغناء لكن ُقلْ النص نفسه :إنْ حثّ على فضيلة فهو حلل ،وإنْ أهاج الغرائز فهو
حرام وباطل ،كالذي يُشبّب بالمرأة ويذكر مفاتنها ،فهذا حرام حتى في غير الغناء ،فإذا ما أضفتَ
إليه الموسيقى واللحان والتكسر والميوعة ازدادت حرمته وتضاعف إثمه.
أما ما نراه الن وما نسمعه مما يُسمّونه غناء ،وما يصاحبه من حركات ورقصات وخلعات
ك في حرمته.
وموسيقى صاخبة ،فل ش ّ
فكل ما يُخرج النسان عن وقاره ورزانته وكل ما يجرح المشاعر المهذبة فهو حرام ،ثم إن الغناء
صوت فإنْ خرج عن الصوت إلى أداء آخر مُهيّج ،تستعمل فيه اليدي والرجل والعينان
والوسط ..الخ فهذا كله باطل ومحرم.
ول ينبغي للمؤمن الذي يملك زمام نفسه أن يقول :إنهم يفرضون ذلك علينا ،فالمؤمن له بصيرة
يهتدي بها ،ويُميز بين الغثّ والسمين ،والحق والباطل ،فكُنْ أنت حكما على ما ترى وما تسمع،
بل ما يرى وما يسمع أهلك وأولدك ،وبيدك أنت الزمام إنْ شئتَ سمعتَ ،وإنْ شئتَ أغلقتَ
الجهاز ،فل حجة لك لن أحدا ل يستطيع أنْ يجبرك على سماع أو رؤية ما تكره.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ففي رمضان مثلً ،وهو شهر للعبادة نصوم يومه ،ونقوم ليله ،وينبغي أن نكرمه ،ونحتفظ فيه
بالوقار والروحانية ،ومع ذلك يخرجون علينا بألوان اللهو الذي يتنافى والصيام ،فإنْ سألتهم قالوا:
الناس مختلفو المزجة ،وواجبنا أن نوفر لهم أمزجتهم ،لكن للمؤمن ولية على نفسه وهو يملك
زمامها ،فل داعي أن تتهم أحدا ما دام المر في يدك ،وعليك أن تنفذ الولية التي ولك ال ،فإنْ
فعلتَ ففي يدك خمسة وتسعون بالمائة من حركة الحياة ،ولغيرك الخمسة الباقية.
ثم إن ما يحلّ من الغناء مشروط بوقت ل يكون سمة عامة ول عادة مُلِحّة على النسان يجعلها
ديدنه؛ لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم " :روّحوا القَلوب ساعة بعد ساعة ".
وهؤلء المغنون والمغنيات الذين يُدخِلون في الغناء ما ليس منه من الحركات والرقصات ل
يدرون أنهم يَثيرون الغرائز ،ويستعدون على الشباب غير القادر على الزواج ،ويلبهون مشاعر
الناس ويثيرون الغيرة.
.الخ
إذن :القضية واضحة ل تحتاج منا إلى فلسفة حول حكم الغناء أو الموسيقى ،فكل ما يثير الغرائز،
سمْت العتدال والوقار فهو باطل وحرام ،سواء أكان نصا بل لحن ،أو لحنا بدون
ويُخرجك عن َ
أداء ،أو أداء مصحوبا بما ل دخلَ له بالغناء.
لكن ،لماذا يكلفون أنفسهم ويشترون لهو الحديث؟
ضلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ { [لقمان ]6 :وفرْق بين مَنْ يشتري اللهو
العلة كما قال الحق سبحانه } :لِ ُي ِ
ل ويُضل غيره؛ لذلك فعليه
ضّلنفسه يتسلى به ،ويقصر ضلله على نفسه وبين مَنْ يقصد أن َي ِ
تبعة الضّللَيْن :ضللة في نفسه ،وإضلله لغيره.
حدِيثِ { [لقمان ]6 :ل يقتصر على الغناء والكلم ،إنما يشمل الفعل أيضا ،وربما
وقولهَ } :ل ْهوَ الْ َ
كان الفعل أغلب.
وقوله تعالىِ } :بغَيْرِ عِلْمٍ { [لقمان ]6 :يدل على عدم معرفتهم حتى بأصول التجارة في البيع
والشراء ،فالتاجر الحق هو الذي يشتري السلعة ،بحيث يكون نفعها أكثر من ثمنها ،أما هؤلء
حتْ تّجَارَ ُتهُمْ }[البقرة]16 :
فيشترون الضلل؛ لذلك يقول الحق عنهمَ {:فمَا رَبِ َ
والسبيل :هو الطريق الموصل إلى الخير من أقصر طريق ،وهو الصراط المستقيم الذي قال ال
تعالى عنه{ اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[الفاتحة ]6 :لذلك نقول في علم الهندسة :المستقيم هو أقصر
بُعد بين نقطتين.
خذَهَا هُزُوا { [لقمان ]6 :أي :السبيل؛ لن السبيلِ تُذكّر وتؤنث ،تُذكّرِ باعتبار
وقوله } :وَيَتّ ِ
الطريق ،كقوله تعالى {:وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً }[العراف]146 :
وتُؤنّث على اعتبار الشّرْعة ،كقوله تعالىُ {:قلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىا اللّهِ عَلَىا َبصِي َرةٍ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[يوسف]108 :
هؤلء الذين يشترون الضلل لضلل الناس ل يكتفون بذلك ،إنما يسخرون من أهل الصلح،
ويهزأون من أصحاب الطريق المستقيم والنهج القويم ،ويُسفّهون رأيهم وأفعالهم.
ثم يذكر الحق سبحانه عاقبة هذا كلهُ } :أوْلَـا ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ ّمهِينٌ { [لقمان ]6 :أولئك :أي الذين
عذَابٌ ّمهِينٌ { [لقمان ]6 :ووصْف العذاب هنا
سبق الحديث عنهم ،وهم أهل الضلل } َلهُمْ َ
بالمهانة دليل على أن من العذاب ما ليس مُهينا ،بل ربما كان تكريما لمن وقع عليه كالرجل الذي
يضرب ولده ليُعلّمه ويُربّيه ،فهو يضربه ل ليعذبه ويؤلمه ويهينه ،إنما لكي ل يعود إلى الخطأ
ح ّد قول الشاعرَ :فقَسَا لِيزْدجِرُوا ومَنْ َيكُ حَازِما فَلْيقسُ أحْيَانا على مَنْ
مرة أخرى .على َ
سمّي عذابا
يَرْحَمإذن :فمن العذاب ما هو تذكير وتطهير أو ترضية وتكريم لمستقبل ،وإنما ُ
تجاوزا ،فهو في هذه الحالة ل ُيعَدّ عذابا.
وفي هذا المعنى قال الزمخشري رضي ال عنه :الملك يكون عنده الخادم ،فيفعل ما ل يُرضي
سيده ،فيأمر صاحب الشرطة أنْ يأخذه ويعذبه جزاء ما فعل ،فيأخذه الشرطي ويُعذّبه بقدر ل
يتعداه ،لنه يعلم أنه سيعود مرة أخرى إلى خدمة السيد ،فالعذاب في هذه الحالة يكون بقدر ما
فعل الخادم ليس مهنيا له .لكن إنْ قال له :خُذْ هذا الخادم وا ْقصِه عن الخدمة أو افصله ،يعني:
ليست له عودة فل شكّ أن العذاب سيكون مهنيا وأليما.
فالعذاب إنْ سمّيناه عذابا يكون إكراما لمن تحب وتريد أن تطهره ،أما العذاب المهين فهو لمن ل
أمل في عودته ،والهانة تقتضي البدية والخلود.
س َم ْعهَا كَأَنّ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى } :وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِ آيَاتُنَا وَلّىا مُسْ َتكْبِرا كَأَن لّمْ يَ ْ
()3400 /
س َم ْعهَا كَأَنّ فِي ُأذُنَيْ ِه َوقْرًا فَبَشّ ْرهُ ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ ()7
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلّى مُسْ َتكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَ ْ
قوله تعالى { :وَإِذَا تُ ْتلَىا عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلّىا ُمسْ َتكْبِرا[ } ...لقمان ]7 :بعد قولهَ {:ومِنَ النّاسِ مَن
ضلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ }[لقمان ]6 :يدلنا على حرص النبي صلى ال عليه وسلم
حدِيثِ لِ ُي ِ
يَشْتَرِي َل ْهوَ الْ َ
على تبليغ أمر دعوته ،حتى لمن يعلم عنه أنه ضَلّ في نفسه ،بل ويريد أنْ يُضل غيره.
ومعنى { وَلّىا } [لقمان ]7 :يعني :أعرض وأعطانا (عرض أكتافه) كما نقول :وتولى وهو
مستكبر { وَلّىا مُسْ َتكْبِرا } [لقمان ]7 :أي :تكبّر على ما ُيدْعى إليه ،أنت دُعيت إلى حق
فاستكبرت ،ولو كنت مستكبرا في ذاتك لما لجأت إلى باطل لتشتريه ،إذن :فكيف تستكبر عن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قبول الحق وأنت محتاج حتى إلى الباطل؟
ولماذا تتكبّر وليس عندك مُقوّمات الكِبْر؟ ومعلوم أنك تستكبر عن قبول الشيء إنْ كان عندك
مثله ،فكيف وأنت ل تملك ل مثله ول أقل منه؟
إذن :فاستكبارك في غير محله ،والمستكبر دائما إنسان في غفلة عن ال؛ لنه نظر إلى نفسه
بالنسبة للناس -وربما كان لديه من المقومات ما يستكبر به على الناس -لكنه غفل عن ال ،ولو
استحضر جلل ربه وكبرياءه سبحانه لستحى أنْ يتكبّر ،فالكبرياء صفة العظمة وصفة الجلل
التي ل تنبغي إل ل تعالى ،فكبرياؤه سبحانه شرف لنا وحماية تمنعنا أن نكون عبيدا لغيره
سبحانه.
لذلك نسمع في المثال العامية (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) فإنْ كان لي كبير خافني الناس
واحتميتُ به ،كذلك المؤمن يحتمي بكبرياء ربه؛ لن كبرياء ال على الجميع والكل أمامه
سواسية ،ل أحد يستطيع أن يرفع رأسه أمام الحق سبحانه.
إذن :فكبرياؤه تعالى لصالحنا نحن.
صمَم
وهذا المستكبر استكبر عن سماع اليات { كَأَنّ فِي أُذُنَ ْي ِه َوقْرا } [لقمان ]7 :أيِ :ثقَل و َ
{ فَ َبشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ } [لقمان ]7 :ونحن نعلم أن البشارة ل تكون إل في الخير ،فهي الخبار بأمر
سارّ لم يأْت زمنه ،كما تبشر ولدك بالنجاح قبل أنْ تظهر النتيجة.
أما البشارة بالعذاب فعلى سبيل التهكّم بهم والسخرية منهم ،كما تتهكم من التلميذ المهمل فتقول له:
أبشرك رسبت هذا العام .واستخدام البُشرى في العذاب كأنك تنقله فجأة من النبساط إلى
النقباض ،وفي هذا إيلم للنفس قبل أن تُقاسي ألم العذاب ،فالتلميذ الذي تقول له :أُبشّرك يستبشر
الخير بالبشرى ،ويظن أنه نجح لكن ُيفَاجأ بالحقيقة التي تؤلمه.
والشاعر يُصوّر لنا هذه الصدمة الشعورية بقوله:كَما أبر َقتْ َيوْما عِطَاشَا غَمامَةٌ فَلمّا رأوْهَا
ش َعتْ وتجلّتِويقول آخر:فَأصْبحتُ من ليلى الغَدا َة كقَا ِبضٍ علَى الماء خَانتْه فُروجُ الصَابِعلذلك
أقْ َ
يقولون :ليس أشرّ على النفس من البتداء المطمع يأتي بعده النتهاء الموئس ،وسبق أن مثلنا لذلك
بالسجين الذي بلغ به العطش منتهاه ،ورجا السجان ،إلى أنْ جاء له بكوب من الماء ،ففرح
واستبشر ،وظن أن سبحانه رجل طيب أصيل فلما رفع الكوب إلى فيه ضربه السجان من يده
فأراقه على الرض.
ول شكّ أن هذا آلم وأشدّ على نفس السجين ،ولو رفض السجان أنْ يأتي له بالماء من البداية لكان
أخفّ ألما .وهذا الفعل يسمونه " يأس بعد إطماع " فقد ابتدأ معه بداية مُطمِعة ،وانتهى به إلى
نهاية موئسة ،نعوذ بال من القبض بعد البسط.
ثم يذكر الحق سبحانه عقوبة الضلل عن سبيل ال والتولّي والستكبار } فَبَشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ [لقمان ]7 :فعذابهم مرة (مهين) ومرة (أليم).
عمِلُواْ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
()3401 /
وهؤلء الذين آمنوا وعملوا الصالحات في مقابل الذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل ال،
حسْنا،
سمَة من سمات السلوب القرآني؛ لن ذكر الشيء مع مقابله يُوضّح المعنى ويعطيه ُ
وهذه ِ
كما في قوله تعالى {:إِنّ الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ }[النفطار]14-13 :
فالجمع بين المتقابلت يُفرح المؤمن بالنعيم ،ثم يفرحه بأنْ يجد أعداءه من الكفار الذين غاظوه
واضطهدوه وعذّبوه يجدهم في النار.
وقلنا :إن الحق -سبحانه وتعالى -حينما يتكلم عن اليمان يردفه بالعمل الصالح { إِنّ الّذِينَ
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } [لقمان ]8 :لن اليمان أن تعلم قضايا غيبية فتُصدّق بها ،لكن ما قيمة
آمَنُو ْا وَ َ
هذا اليمان إذا لم تنفذ مطلوبه؟
عمِلُواْ
ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
وكذلك في سورة العصر {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
الصّالِحَاتِ[} ...العصر ]3-1 :ففائدة اليمان العمل بمقتضاه ،وإل فما جدوى أن تؤمن بأشياء
ت باليمان ككلمة
ن اكتفي َ
كثيرة ،لكن ل تُوظف ما تؤمن به ،ول تترجمه إلى عمل وواقع؛ لذلك إ ْ
تقال دون عمل ،فقد جعلت اليمانَ حجة عليك ل حجةً لك.
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } [لقمان ]8 :أي :الصالح ،والحق سبحانه خلق الكون على هيئة
ومعنى { وَ َ
الصلح ،فالشيء الصالح عليك أنْ تزيد من صلحه ،فإنْ لم تقدر فل أقلّ من أنْ تدعَ الصالح
على صلحه فل تفسده.
ثم يذكر سبحانه جزاء اليمان والعمل الصالح { َلهُمْ جَنّاتُ ال ّنعِيمِ } [لقمان ]8 :فهي جنات ل جنة
واحدة ،ثم هي جنات النعيم أي :المقيم الذي ل تفوته ول يفوتك.
حقّا.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللّهِ َ
()3402 /
حكِيمُ ()9
حقّا وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
خَاِلدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللّهِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل وأضلّ ،ومع ذلك فال
حين نتأمل هذه اليات نلمس رحمة ال بعباده حتى الكافر منهم الذي ض ّ
رحيم به حتى في تناول عذابهم ،أل ترى أن ال تعالى قال في عذابهم أنه مهين ،وأنه أليم ،لكن لم
يذكر معه خلودا كما ذكر هنا الخلود لنعيم الجنات ،كما أن العذاب جاء بصيغة المفرد ،أما الجنة
حقّا } [لقمان]9 :
فجاءت بصيغة الجمع ،ثم أخبر عنها أنها { وَعْدَ اللّهِ َ
والوعد يستخدم دائما ِلعَدةٍ بخير يأتيك ،وقلنا :إن العبد يِعد وقد ل يفي بوعده؛ لنه ل يملك كل
مُقوّمات الوفاء ،أما الوعد إنْ كان من ال فهو محقق لنه سبحانه يملك كل أسباب الوفاء ،ول
يمنعه أحد عن تحقيق ما أراد؛ لنه سبحانه يملك كل أسباب الوفاء ،ول يمنعه أحد عن تحقيق ما
أراد؛ لنه سبحانه ليس له شريك ،كالرجل الذي أراد أنْ يذم آخر فقال له :الدليل على أن ال ليس
له شريك أنه خلقك ،فلو كان له شريك لقال له :ل داعي لنْ تخلق هذا.
لذلك يعلمنا الحق -سبحانه وتعالى -أنْ نردف وَعْدنا بقولنا :إن شاء ال حتى نكون منصفين
لنفسنا من الناس ،ول نُتهم بالكذب إذا لم َنفِ ،وعندها لي أن أقول :أردت ولكن ال لم يُرِد،
فجعلت المسألة في ساحة ربك عز وجل.
وبهذه المشيئة رحم ال الناس من ألسنة الناس ،فإذا كلفتني بشيء فلم أقضه لك فاعلم أن له قدرا
عند ال لم يأتِ وقته بعد ،واعلم أن المر ل ُيقْضي في الرض حتى ُيقْضي في السماء ،فل
تغضب ول تتحامل على الناس ،فالمور ليست بإرادة الناس ،وإنما بإرادة ال.
لذلك حين تتوسط لخيك في قضاء مصلحة و ُتقْضي على يديك ،المؤمن الحق الذي يؤمن بقدر ال
ن يقضيها فأكرمني أن أتكلم فيها وقت
يتأدب مع ال فيقولُ :قضِ ْيتْ معي ل بي ،يعني :شاء ال أ ْ
مشيئته تعالى ،كذلك يقول الطبيب المؤمن :جاء الشفاء عندي ل بي.
ولو فهم الناس معنى قدر ال لستراحوا ،فحين ترى المج ّد العامل ُيقْصي ويُبعد ،وحين ترى
الخامل والمنافق يُقرّب ويعتلي أرفع المناصب فل تغضب ،وإذا لم تحترمه لذاته فاحترم قدر ال
فيه.
فالمسائل ل تجري في َكوْن ال بحركة (ميكانيكية) ،إنما بقدر ال الذي يرفع مَنْ يشاء ويضع مَنْ
يشاء ،وله سبحانه الحكمة البالغة في هذه وتلك ،وإل لقلنا كما يقول الفلسفة :إن ال تعالى خلق
القضايا الكونية ثم تركها للناس يُسيّرونها.
والحق سبحانه ما ترك هذه القضايا ،بدليل قوله تعالى {:يَخُْلقُ مَا يَشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َيهَبُ
عقِيما }
ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ
ِلمَن يَشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ
[الشورى.]50-49 :
فبعد هذه الية ل يقل أحد :إن فلنا ل ينجب أو فلنه ل تنجب؛ لن هذه مرادات عليا ل تعالى،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولو أن العقيم احترم قَدَر ال في العقم لجعل ال كل مَنْ يراهم من الولد أولده ،وما دام ال
ل لحد في
خَتعالى قال{ َي َهبُ }[الشورى ]49 :فالمسألة في كل حالتها هبة من ال تعالى ل دَ ْ
الذكورة أو النوثة أو العقم .فلماذا -إذن -قبلتَ هبة ال في الذكور ،ولم تقبل هبة ال في العقم؟
وسبق أن تحدثنا عن وَأْد البنات قبل السلم؛ لن البنت كانت ل تركب الخيل ،ول تدافع عن
قومها ،ول تحمل السلح ..إلخ ،فلما جاء السلم حرم ذلك وكرّم المرأة ،وأعلى من شأنها ،لكن
ما زالت المفاضلة قائمة بين الولد والبنت.
والن احتدم صراع مفتعل بين أنصار الرجل وأنصار المرأة ،والسلم بريء من هذا الصراع؛
لن الرجل والمرأة في السلم متكاملن ل متضادان ،وعجيب أنْ نرى من النساء مَنْ تتعصب
ضد الرجال وهي ُتجَنّ إنْ لم تنجب الولد ،وهذه شهادة منهن بأفضليته.
وكأن الحق -تبارك وتعالى -يعلمنا أن مَنْ يحترم قدره في إنجاب البنات يقول ال له :لقد
احترمتَ قدري فسوف أعطيك على قدرْي ،فيعطيه ال البنين ،أو يُيسّر لبناته أزواجا يكونون أبرّ
به من أولده وأطوع.
ثم َألَ ترى أن ال تعالى قدم البنات ،في الهبة ،فقالَ {:ي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ ال ّذكُورَ
جهُهُ
ل وَ ْ
ظّحدُ ُهمْ بِالُنْثَىا َ
}[الشورى ]49 :لماذا؟ لنه سبحانه يعلم محبة الناس للذكور {:وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ
سوَدّا وَ ُهوَ كَظِيمٌ * يَ َتوَارَىا مِنَ ا ْل َقوْمِ مِن سُوءِ مَا ُبشّرَ بِهِ }[النحل.]59-58 :
مُ ْ
حكِيمُ { [لقمان ]9 :العزيز الذي ل يغلب ،ول يستشير أحدا فيما
وقوله تعالى } :وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
حكِيمُ { [لقمان ]9 :أي :حين يعِد ،وحين يفي بالوعد.
يفعل } الْ َ
عمَدٍ.{ ...
سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ
ثم تنتقل اليات إلى دليل من أدلة اليمان الفطري بوجود الله } :خََلقَ ال ّ
()3403 /
أولً :ذكر الحق سبحانه آية كونية لم يدّعها أحد لنفسه من الكفار أو من الملحدة ،وهي آية
موجودة ومُشَاهدة ،وبعد أن قال سبحانه أنا خالق السماء والرض لم يعارضه أحد ،ولم ي ْأتِ مَنْ
يعارضه فيقول :بل أنا خالق السماء والرض.
وسبق أنْ قلنا :إن القضية تسلم لصاحبها ومدعيها إذا لم َيقُمْ لها معارض ،فإن كانت هذه القضية
صحيحة ،والحق سبحانه هو الخالق فقد انتهتْ المسألة ،وإذا كان هناك خالق غيره سبحانه فأين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هو؟ هل درى أن واحدا آخر أخذ منه الخَلْق ،ولماذا لم يعارض ويدافع عن حقّه؟ أو أنه لم َيدْرِ
بشيء فهو إله (نائم على ودنه) ،وفي كل الحالين ل يصلح أن يكون إلها يُعبد.
ش ِهدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }[آل عمران ،]18 :فهذه شهادة الذات للذات ،ولم
لذلك قال تعالىَ {:
حتْ لصاحبها إلى أنْ يوجد معارض.
يعارضها معارض فصَ ّ
وسبق أن مثّلنا لذلك -ول المثل العلى -بجماعة جلسوا في مجلس فلما انفضّ مجلسهم وجد
صاحب البيت حافظة نقود ل يعرف صاحبها ،فاتصل بمن كانوا في مجلسه ،وسألهم عنها فلم يقُلْ
واحد منهم أنها له ،إلى أن طرق الباب أحدهم وقال :وال لقد نسيت حافظة نقودي هنا ،فل شكّ
إذن أنها له وهو صاحبها حيث لم يدّعها واحد آخر منهم.
والحق سبحانه يقول في إثبات هذه القضيةُ {:قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ إِلَىا ذِي
ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء ]42 :أي :لذهبوا يبحون عمّنْ أخذ منهم الخَلْق والناس ،وأخذ منهم
اللوهية.
ض َولَ
ت وَالَرْ ِ
سمَاوَا ِ
شهَدّتهُمْ خَ ْلقَ ال ّ
فإنْ قالوا نحن آلهة لكن فوقنا إله أكبر يردّ الحق عليهم {:مّآ أَ ْ
عضُدا }[الكهف]51 :
سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ
عمَدٍ تَ َروْ َنهَا } [لقمان ]10 :حين تدور في أنحاء الكرة الرضية من شمالها
وقوله تعالىِ { :بغَيْرِ َ
إلى جنوبها ،ومن شرقها إلى غربها تجد السماء تظلّك ،ومع سعة السماء ل تجد لها عمدا ترفعها،
وكلمة { تَ َروْ َنهَا } [لقمان ]10 :تحمل معنيين :إما هي فعلً بغير عمد ،أو لها عمد لكن ل نراها
ع َمدٍ تَ َروْ َنهَا } [لقمان ]10 :يعني :ل نرى لها عمدا ،لكن الحقيقة أن لها عمدا ل ترونها
{ ِبغَيْرِ َ
بإحساسكم ومقاييسكم.
ن قلت ،فما هذه العمد التي ل نراها؟ البعض يقول :هي الجاذبية ،وهذا القول مجانب للصواب،
فإ ْ
سمَآءَ أَن َتقَعَ
سكُ ال ّ
والحق سبحانه يكفينا مؤنة البحث في هذه المسألة ،فيقول سبحانه ... {:وَ ُيمْ ِ
عَلَى الَرْضِ ِإلّ بِإِذْ ِنهِ }[الحج]65 :
ن نقول إنها ممسوكة بقدرة ال ،ولكي ل نحار في كيفية ذلك يُقرّب ال لنا هذه
إذن :ل نملك إل أ ْ
المسألة بمثال مُشاهد لنا ،فالطير يمسكه ال في جو السماء:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهي بشكل واحد ،ل ترى فيها من فطور.
وحين تكلم الحق سبحانه عن الرض والسماء قال :إنها سبع سماوات ،ولم ي ُقلْ سبع أراضين ،بل{
َومِنَ الَ ْرضِ مِثَْلهُنّ }[الطلق ]12 :فدلّ على أن الرض سبع كالسماء ،وإنْ كانت السماء كل ما
أظلّك ،فالرض كل ما أقلّك ،لكن أين هذه الرَضين السبع؟
لقد أخبرنا القرآن الكريم أن السماوات سبع ،وأخبرنا النبي صلى ال عليه وسلم أنه م ّر بها في
مرحلة المعراج فقال في الولى كذا وكذا ،وفي الثانية كذا وكذا ،وما دامتْ السماء كل ما أظلك،
والرض كل ما أقلك فالخَلْق في السماء الولى مثلً سماؤهم السماء الثانية ،وأرضهم سماؤنا
الولى ،وهكذا وهكذا.
سيَ { [لقمان ]10 :أي :الجبال الراسية الثابتة المتصلة
ثم يقول سبحانه } :وَأَ ْلقَىا فِي الَ ْرضِ َروَا ِ
ل وثيقا بحيث ل تتخلخل منها ،والعلة في خَلْق الجبال الرواسي على الرض } أَن
بالرض اتصا ً
َتمِيدَ ِبكُمْ { [لقمان ]10 :أي :تميل وتضطرب بكم ،ولو أن الرض مخلوقة على هيئة الثبات لما
احتاجت إلى ما يثبتها.
خلِقت الجبال إل لتثبيتها وضبط حركتها ،فدّلت هذه الية على صِدْق
إذن :فالرض متحركة ،وما ُ
النظرية القائلة بدوران الرض ،كذلك في قوله تعالى {:وَتَرَى الْجِبَالَ َتحْسَ ُبهَا جَامِ َد ًة وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ
السّحَابِ }[النمل]88 :
إذن :فللجبال حركة مرتبطة بحركة الرض ،فإنْ قُ ْلتَ :ولماذا ل نراها؟ نقول :لن وحدة المكان
تجعلك ل تدرك هذه الحركة ،فالمتحد في مكان ل تختلف مرائي الشياء بالنسبة له.
حىً تدور بنا ،فهل نشعر بدورانه
صمّم على هيئة َر َ
فلو تصوّرنا أن هذا المسجد الذي يجمعنا ُ
ونحن ندور بدورانه؟ ل نشعر ،لماذا؟ لن مواقعنا من بعض ثابتة ل تتغير ،كذلك موقعنا من
المكان؛ لذلك ل نشعر بالحركة لكن نشعر بالحركة حين نقيس متحركا بثابت ،فلو فتحنا الباب مثلً
أو الشباك ورأينا ما هو خارج المسجد ،عندها نشعر أننا نتحرك.
إذن :ل يمكن لمَنْ على الرض أن يشعر بحركتها؛ لنه يتحرك معها ،وما دامت الجبال أوتادا في
الرض وهي -أي الجبال -تمر مرّ السحاب فل بُدّ أن الرض كذلك تمر وتتحرك بنفس
الحركة ،وحركة الجبال ليست ذاتية ،إنما هي تابعة لحركة الرض ،والحق سبحانه شبّه حركة
الجبال بحركة السحاب ،والسحاب حركته غير ذاتية ،إنما هي تابعة لحركة الرياح.
ثم يذكر الحق سبحانه علة أخرى لخَلْق الجبال } :وَ َبثّ فِيهَا مِن ُكلّ دَآبّةٍ { [لقمان ]10 :وسبق أنْ
أوضحنا أن الجبال تمثل مخازن للقوت الذي به قوام الحياة للنسان وللحيوان والذي ينشأ من
ت بعوامل التعرية ،ثم يحملها ماء المطر إلى الوديان
الزرع ،وبيّنا أن الطبقة الخارجية للجبال تتفت ْ
فتزيد من خصوبة الرض بمقدار كل عام ،ومن الجبال أيضا يتكون الماء في النهار او في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مسارب الرض فنخرجه حين الحاجة إليه.
ومن حكمته تعالى أنْ جعل الجبال راسية ثابتة ،وجعلها صلدة وإل لو كانت هشّة لذابتها المطار
وفتتها في عدة سنوات ،ثم حرمت الرض من الخصوبة التي تستمدها من الجبال؛ لذلك يقول ال
خصْبة التي
تعالىَ {:ومَا نُنَزُّلهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }[الحجر ]21 :فمع زيادة السكان تزداد المساحة ال ِ
يُكوّنها الغِرْين الذي يتفتت من الجبال عاما بعد عام.
جعَلُونَ َلهُ أَندَادا
ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَ َت ْ
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالىُ {:قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َتكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَ َ
سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا[} ...فصلت-9 :
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
]10
خصْب الذي
فالجبال جعلها ال راسية حتى ل تضطرب بنا الرض ،وجعلها صلبة لنها مخزن ال ِ
ُيمِدّنا بالزرع الذي به ِقوَام حياتنا.
ومن رحمة ال بالنسان أنْ جعل فيه ذاتية استبقاء الحياة ،فإن مُنِع عنه الطعام أو الشراب تغذّى
من المخزون في جسمه؛ فيأخذ أولً من الدهن ،ثم من اللحم ،ثم من العظم؛ لذلك قلنا :إن العظم
هو آخر مخازن القوت في جسم النسان ،وفي ضوء ذلك نفهم قول سيدنا زكريا {:إِنّي وَهَنَ
ظمُ مِنّي }[مريم]4 :
ا ْلعَ ْ
يعني :قد بلغتُ آخر مرحلة من مراحل استبقاء الحياة.
فكان من رحمة ال بالخَلْق أنْ جعل حتى شَرَه النسان للطعام والشراب رحمة به ،حيث يتحول
الزائد عن طاقته وحاجته إلى مخزون في جسمه ،فإذا انقطعتْ به السّبُل أو تعذّر عليه الطعام
والشراب استمد مما في جسمه.
كذلك من رحمة ال بالنسان أنْ جعله يصبر على الطعام إلى شهر ،ويصبر على الماء من ثلثة
أيام إلى عشرة بحسب ما في جسمه من مخزون الطعام والشراب ،اما الهواء فل يصبر عليه إل
بمقدار شهيق وزفير؛ لذلك تتجلى رحمته تعالى وحكمته في خَلْقه بألّ يُملّك الهواء لحد ،فلو مَلكه
عدوك لمتّ قبل أن يرضى عنك.
وقوله } :وَ َبثّ فِيهَا مِن ُكلّ دَآبّةٍ { [لقمان ]10 :بث أي :نشر ،والدابة :كل ما له دبيب على
ب على الرض ،وكل ما يمشي على الرض له دبيب نسمعه في
الرض ،والدبيب بحسب ما يد ّ
الحيوان الضخم مثلً ،لكن ل نسمعه في النملة مثلً ،فهي أيضا لها دبيب بدليل قولنا :فلن يسمع
دبّة النملة ،إذن :لها دبيب على الرض ،لكن أذن مَنْ التي تستطيع أنْ تسمعه؟
وقوله تعالى } :مِن ُكلّ دَآبّةٍ { [لقمان ]10 :كل تعني سورا كليا يضم كل ما له حركة ودبيب على
الرض ،يعني :كل ما يقال له دابة بداية من النملة أو الفيروسات الن إلى أكبر حيوان على
الرض.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله (من) تتدرج من الصغير إلى الكبير فتدلّ على الشمول.
ومن هذه الدواب ما أحله ال ومنها ما حرمه؛ لذلك يقول البعض :ما دام ال حرّم هذه الحيوانات،
خلْقها؟ وهل كل شيء مخلوق يُؤكل؟
فما الضرورة في َ
ل ،ليس كل مخلوق من الحيوانات يؤكل؛ لن له مهمة أخرى يؤديها.
ولو تأملت ما حُرّم عليك لوجدته يخدمك في ناحية أخرى ،فمنه ما يمد الحيوانات التي تأكلها،
ل ل نرى فيه إل أنه مخلوق ضار،
ومنه ما فيه خاصية تحتاج إليها في غير الكل ،فالثعبان مث ً
سمّه الن ،ونجعله َمصْلً نافعا؟ ألسنا ننتفع بجلوده؟ الخ ،فإذا كنا ل نأكله فنحن
لكن ألم نحتَجْ إلى ُ
نستفيد من وجوده في نواحٍ أخرى.
كذلك الخنزير مثلً :البعض يقول :ما دام ال تعالى حرمه ،فلماذا خلقه؟ سبحان ال ،هل خلق ال
كل شيء لتأكله أنت؟ ليس بالضرورة أنْ تأكل كل شيء ،لن ال جعل لك طعامك الذي يناسبك،
أتأكل مثلً البترول؟ كيف ونحن نرى حتى السيارات والقطارات والطائرات لكل منها وقوده
ل ل تعمل بالسولر..الخ ،فربك أعطاك قُوتَك كما
المناسب له ،فالسيارة التي تعمل بالبنزين مث ً
أعطى لغيرك من المخلوقات أقواتها.
لذلك؛ إذا نظرت في غابة لم تمتد إليها يد النسان تجد فيها جميع الحيوانات والطيور والدواب
والحشرات ..الخ دون أنْ تجد فيها رائحة كريهة أو منظرا مُنْفرا ،لماذا؟
لن الحيوانات يحدث بينها وبين بعضها توازن بيئي ،فالضعيف منها والمريض طعام للقوي،
والخارج من حيوان طعام لحيوان آخر ..وهكذا ،فهي محكومة بالغريزة ل بالعقل والختيار.
خلَ للنسان فيه يسير على أدقّ نظام فل تجد فيه فسادا أبدا إل إذا طالتْه يد البشر،
وكل شيء ل دَ ْ
ولك أنْ تذهب إلى إحدى الحدائق أو المنتزهات في شم النسيم مثلً لترى ما تتركه يد النسان في
الطبيعة.
لكن ،لماذا ُوصِف النسان بهذا الوصف؟ ولماذا قُرِن وجوده بالفساد؟ نقول :لَنه يتناول الشياء
بغير قانون خالقها ،ولو تناول الشياء بقانون الخالق عز وجل ما أحدث في الطبيعة هذا الفساد.
وسبق أنْ بيّنا أن النسان ل قدرةَ له على شيء من مخلوقات ال إل إذا ذلّلها ال له ويسّرها
لخدمته ،بدليل أن الولد الصغير يركب الفيل ويسحب الجمل ويُنيخه ويحمله الثقال في حين ل
قدر َة لحدنا على ثعبان صغير ،أو حتى برغوث ،لماذا؟ لن ال تعالى ذّللَ لنا هذا ،ولم يُذلّل لنا
هذا.
سمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ { [لقمان ]10 :من السماء:
ثم يقول تعالى } :وَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ
أي من جهة العلو ومن ناحية السماء ،وإل فالمطر ل ينزل من السماء ،إنما من الغمام } فَأَنْبَتْنَا
فِيهَا[ { ..لقمان ]10 :أي :في الرض } :مِن ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ { [لقمان ]10 :زوج أي :نوع من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النبات ،فهي كلمة تدل على مفرد ،لكن معه مثله ،والبعض يظن أنها تعني اثنين وهذا خطأ؛ لذلك
نقول عن الرجل زوج ،وعن المرأة زوج رغم أنه مفرد ،لكن قُرِن بغيره.
شيْءٍ خََلقْنَا َز ْوجَيْنِ[} ..الذاريات ]49 :فَسمّي الذكر (زوج)
وقال تعالى عن التكاثرَ {:ومِن ُكلّ َ
وسمّي النثى (زوج).
ومثلها كلمة (توأم) فهي تدل على مفرد ،لكن مفرد لم يُولَد وحده إنما معه غيره ،والبعض يقول
(توأم) ويقصد الثنين ،إنما الصواب أن نقول هما توأمان.
ووصف الحق سبحانه الزوج أي النوع من النبات بأنه } كَرِيمٍ { [لقمان ]10 :لنه يعطيك بكرم
وسخاء ،فالحبة تعطيك سبعمائة حبة ،وهذا عطاء المخلوق ل ،فما بالك بعطاء الخالق عز وجل؟
ثم يقول الحق سبحانه } :هَـاذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِن.{ ...
()3404 /
هَذَا خَ ْلقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خََلقَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ َبلِ الظّاِلمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ()11
والكلم هنا مُوجّه للمكابرين وللمعاندين الجاحدين ليات ال { :هَـاذَا } [لقمان ]11 :أي :ما سبق
ِذكْره لكم من خَلْق السماوات بغير عمد ،ومن خَلَق الجبال الرواسي والدواب وإنزال المطر
وإحياء النبات..الخ.
هذا كله { خَ ْلقُ اللّهِ[ } ...لقمان ]11 :فلم يدّعهِ أحد لنفسه ،وليس ل فيه شريك { فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ
الّذيِنَ مِن دُونه[ } ..لقمان ]11 :أي :الذين اتخذتموهم شركاء مع ال ،ماذا خلقوا؟
وليس لهذا السؤال إجابة عندهم ،حيث ل واقع له يستدلون به ،ول حتى بالمكابرة؛ لن الحق أبلج
ل على أن يقول آلهتنا خلقت
والباطل لجلج ،لذلك لم نسمع لهم صوتا ولم يجرؤ واحد منهم مث ً
الجبال مثلً أو الشمس أو القمر ،فلم يستطيعوا الردّ رغم كفرهم وعنادهم.
والحق سبحانه في الرد عليهم يبين لهم أن المسألة ل تقف عند عدم قدرتهم على الخَلْق ،إنما ل
سهِ ْم َومَا كُنتُ
ض َولَ خَلْقَ أَ ْنفُ ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
شهَدّتهُمْ خَ ْلقَ ال ّ
يعرفون كيف خُلُقوا هم أنفسهم {:مّآ َأ ْ
عضُدا }[الكهف]51 :
عضُدا }[الكهف ]11 :وفي قول ال{ َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
دليل على صِدْق القرآن ومظهر من مظاهر إعجازه ،فقد أخبرنا الحق سبحانه أنه سيُوجد مُضلون
يضلون الناس في مسألة الخَلْق ،ويصرفونهم عن الحق بكلم باطل.
ن يقول :إن الرض قطعة من الشمس انفصلتْ
وفعلً صدق ال وسمعنا من هؤلء المضلين مَ ْ
ن يقول إن النسان في أصله قرد..الخ ،ولول هذه القاويل وغيرها ما صدقت
عنها ،وسمعنا مَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه الية ،ولجاء أعداء السلم يقولون لنا :أين المضلون الذين أخبر عنهم القرآن؟
فكأن كل كلم يناقض { هَـاذَا خَ ْلقُ اللّهِ[ } ..لقمان ]11 :هو كلم ُمضِل ،وكأن هؤلء المضلين
عضُدا }[الكهف]51 :
-في غفلة منهم ودون قصد -يؤيدون كلم ال{ َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
ونجد هذه المسألة أيضا في سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،حيث يطلع علينا من حين لخر
مَنْ ينكر سنة رسول ال ويقول :بيننا وبينكم كتاب ال ،فما كان فيه من حلل حللناه ،وما كان فيه
من حرام حرمناه.
وعندها نقول :سبحان ال ،كأن ال تعالى أقامكم دليلً على صِدْق رسوله ،فقد أخبر الرسول
حقّ سنته ،حيث قال " :يوشك رجل يتكئ على أريكته ،يُحدّث بالحديث
عنكم ،وعما تقولونه في َ
عني فيقول :بيننا وبينكم كتاب ال ،فما وجدنا فيه من حلل حللناه ،وما وجدنا فيه من حرام
حرمناه ".
ومعنى { :هَـاذَا خَلْقُ اللّهِ } [لقمان ]11 :أي :مخلوقاته { فَأَرُونِي مَاذَا خََلقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ} ..
[لقمان ]11 :ولن نطلب منك خَلْقا كخَلْق السماء والرض والجبال ،ول إنزال المطر وإحياء
الرض بالنبات ،بل اختلقوا أقلّ شيء في الموجودات التي ترونْها ،وليس هناك أقل من الذباب{:
إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن َيخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَهُ[} ..الحج ]73 :بل وأبلغ من ذلك{
ض ُعفَ الطّاِلبُ وَا ْل َمطْلُوبُ }[الحج]73 :
وَإِن يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْ ُه َ
للٍ مّبِينٍ } [لقمان ]11 :أي :ضلل
ثم يختم الحق سبحانه الية بقولهَ { :بلِ الظّاِلمُونَ فِي ضَ َ
محيط بهم من كل اتجاه ،والضلل المبين المحيط ل تُرْجى معه هداية ،فلن يهتدي هؤلء ،وما
عليك إل أنْ تصبر على دعوتك يا محمد حتى يُبدلك ال خيرا من هؤلء ،ويكونون لك جنودا
يؤمنون بك ،وينصرون دعوتك .وقد كان.
شكُرْ.} ...
ح ْكمَةَ أَنِ ا ْ
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلقَدْ آتَيْنَا ُل ْقمَانَ الْ ِ
()3405 /
حمِيدٌ (
شكُرُ لِ َنفْسِهِ َومَنْ َكفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ
شكُرْ فَإِ ّنمَا يَ ْ
شكُرْ لِلّ ِه َومَنْ يَ ْ
ح ْكمَةَ أَنِ ا ْ
وَلَقَدْ آَتَيْنَا ُل ْقمَانَ الْ ِ
)12
الحق سبحانه آتانا قبل أنْ يخلقنا ،وآتانا بعد أن خلقنا بالمنهج ثم وَالَى إلينا بمواكب الرسالت التي
تحمل إلى كل بيئة المنهج الذي يناسبها ،وقبل أن يخرج آدم عليه السلم لتحمّل عبء هذه الخلفة
أعطى ال له تجربة ،هذه التجربة مفادها أن يحافظ على منهج ربه في (افعل) و (ل تفعل) وأن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحذر كيد الشيطان.
وقد مرّ آدم بهذه التجربة البيانية قبل أن يجتبيه ال للنبوة وكثيرون يظنون أن عصيان آدم جاء
بعد أن كُلّف بالنبوة فيقولون :كيف يعصي آدم ربه ،وهو نبي والنبي معصوم؟
ونقول :نعم ،عصى آدم ربه ،لكن قبل النبوة ،وهو ما يزال بشرا عاديا؛ لذلك قال سبحانه في
حقه {:وَعَصَىا ءَادَمُ رَبّهُ َف َغوَىا * ُثمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىا }[طه]122-121 :
ن قلتَ :فما الداعي للعصيان يصدر من آدم ،وهو يُعد للنبوة؟
إذن :جاء الجتباء بعد المعصية ،فإ ْ
قالوا :لنه أبو البشر ،والبشر قسمان :بشر معصومون ،وهم النبياء ،وبشر ليست لهم عصمة
وهم عامة الناس غير النبياء ،ول بُ ّد لدم أنْ يمثل النوعين لنه أبو الجميع ،فمثّل البشر عامة
حين وقع في المعصية ،ومثّل النبياء حين اجتباه ربه وتاب عليه ،فجمع بذلك بين الملحظين.
هنا يقول سبحانه { :وََلقَدْ آتَيْنَا[ } ..لقمان ]12 :واليتاء يُطلَق على الوحي مع الفارق بينهما ،فإنْ
أطلق الوحي فإنه ينصرف إلى الوحي للرسول بمنهج من ال ،ويُعرَف الوحي عامة بأنه إعلم
بخفاء.
ومن ذلك قوله تعالى في الوحي للملئكةِ {:إذْ يُوحِي رَ ّبكَ إِلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ
آمَنُواْ[} ...النفال]12 :
ضعِيهِ[} ..القصص]7 :
ويُوحِي للبشر ،قال تعالى {:وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتا[} ...النحل]68 :
ويوحى للحيوان{ وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ
ومن ذلك أيضا يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من شياطين النس أو الجن {:وَإِنّ الشّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُمْ[} ...النعام]121 :
حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي
كذلك يوحي ال إلى أهل الخير من أتباع الرسل {:وَِإذْ َأوْحَ ْيتُ إِلَى الْ َ
وَبِرَسُولِي[} ...المائدة]111 :
هذا في المعنى اللغوي للوحي وهو :إعلم بخفاء ،فإنْ قصدت الوحي الشرعي الصطلحي :فهو
إعلم من ال لرسوله بمنهجه .وهذا التعريف يُخرِج كل النواع السابقة.
ل وَحْيا َأوْ مِن وَرَآءِ
والحق سبحانه عبّر عن اليتاء العام بقولهَ {:ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ
حيَ بِِإذْنِهِ مَا يَشَآءُ[} ..الشورى]51 :
سلَ رَسُولً فَيُو ِ
حجَابٍ َأوْ يُ ْر ِ
ِ
واليتاء يُقصد به اللهام ،ويكون حين تتوفر للنسان آلة استقبال سليمة صالحة لستقبال اللهام
والخاطر من الحق سبحانه وتعالى ،وآلة الستقبال ل تصلح للستقبال عن ال تعالى إل إذا كانت
على مواصفات الخالق سبحانه صانعها ومبدعها ،كما يلتقط (الراديو أو التليفزيون) الرسال ،فإنِ
انقطع عنك الرسال فاعلم أن جهاز استقبالك به عطب ،أما الرسال فموجود ل ينقطع ،ول تعالى
المثل العلى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن ص َفتْ آلة استقباله ،وصلحت للتلقي عن ال،
وله سبحانه إرسال دائم إلى عباده ،ل يلتقطه إل مَ ْ
وهذه اللة ل تصلح إل إذا كانت على المنهج في افعل ول تفعل ،ل تصلح إذا تكونت من الحرام
وتغ ّذتْ به؛ لن الحرام يفسد كيماوية الفطرة التي خلقها ال في عباده يوم أن أخذ عليهم العهد{:
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا} ..
سهِمْ أَلَ ْ
شهَ َدهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ
وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ُ
[العراف]172 :
فهذه الذرية لو ظلتْ على حالها من الصفاء يوم كانت في ظهر آدم ويوم أخذ ال عليها العهد ،ولو
التزمت منهج ربها في (افعل) و (ل تفعل) لكانت أهلً للهام ال؛ لن آلة استقبالها عن ال سليمة.
خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َي ّم َولَ َتخَافِي وَلَ
ضعِيهِ فَإِذَا ِ
وتأمل في وحي ال إلى أم موسى {:أَنْ أَ ْر ِ
تَحْزَنِي[} ..القصص]7 :
ن تفكر
فأيّ آلة استقبال هذه التي استقبلتْ هذا المر ونفذته دون أنْ تناقشه ،واطمأنتْ إليه قبل أ ْ
فيه؟ وكيف تقتنع الم أن الموت المحقق يُنجي وليدها من موت مظنون؟
لذلك نقول :إذا صادف اللهام آلة استقبال سليمة فإنه ل يوجد في النفس ما يصادره ،ول ما يبحث
عن دليل ،فقامت أم موسى ونفذت المر كما أُلقي إليها ،هذا هو اليتاء.
حمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَّلمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْما }
ومنه أيضا قوله تعالىَ {:فوَجَدَا عَبْدا مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ َر ْ
[الكهف ]65 :والعبد الصالح لم يكن نبيا ،ومع ذلك آتاه ال بدون واسطة ،فكان هو مُعلّما للنبي،
وما ذلك إل لنه عبد ل على منهج موسى ،وأخلص ل تعالى فآتاه ال من عنده.
جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا[} ..النفال ]29 :وقال
واقرأ قول ال تعالى {:يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ يَ ْ
سبحانه {:وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ هُدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد]17 :
إذن :كلّ ما علينا لنأخذ إلهامات الحق سبحانه أنْ نحتفظ بصفاء البنية التي خلقها ال لتظل
بمواصفات خالقها ،ثم نسير بها على منهجه تعالى في افعل ول تفعل ،وكان سيدنا لقمان من هذا
النوع الصافي الطاهر النقي ،الذي لم يخالط جسمه حرام ،والذي ل يغفل عن منهج ربه؛ لذلك آتاه
ح ْكمَةَ[ { ..لقمان]12 :
ال الحكمة ،وقال فيه } :وََلقَدْ آتَيْنَا ُل ْقمَانَ ا ْل ِ
وقد اختلف العلماء فيه :أهو نبي أم غير نبي ،والغالب أنه غير نبي؛ لن القائلين بنبوته ليس لهم
س كما
سند صحيح ،والجمهور اجتمعوا على أنه رجل صالح مرهف الحس ،دقيق الدراك ،والح ّ
قلنا هو الصل الول في المعلومات ،وكان لقمان ل يمر على الشياء إل بهذا الحسّ المرهف
والدراك الدقيق العميق ،فتتكون لديه مُدْركات ومواجيد دقيقة تختمر في نفسه ،فتتجمع لديه
مجموعة من الفضائل والقيم التي تسوس حركة حياته ،فيسعد بها في نفسه ،بل ويسعد غيره من
حوله بما يملك من المنطق المناسب والتعبير الحسن ،كذلك كان لقمان.
وللعلماء أبحاث حول شخصية لقمان وجنسيته ،فمنهم مَنْ ذهب إلى أنه كان أسود اللون غليظ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشفتين كأهل جنوب إفريقيا ،لكنه مع ذلك أبيض القلب نقي السريرة ،تخرج من بين شفتيه
حكَم الرقيقة والمعاني الدقيقة.
الغليظتين ال ِ
وصدق رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قالوا " :إن ال ل ينظر إلى أجسادكم ول إلى
صوركم ،ولكن ينظر إلى قلوبكم ".
لذلك حين ترى مَنْ هو أقل منك في مال ،أو صحة ،أو جاه ،أو منظر فل تغتر بذلك ،وانظر
وتأمل ما تميزّ به عليك؛ لن الخالق سبحانه -كما قلنا -وزّع فضله بين عباده بالتساوي ،بحيث
يكون مجموع كل إنسان يساوي مجموع الخر ،ول تفاضلَ بين المجموعات إل بالتقوى " :ل
فضل لعربي على أعجمي إل بالتقوى والعمل الصالح ".
فالذين يحلو لهم أنْ يقسموا المهن مثلً إلى مهن شريفة وأخرى حقيرة نقول :ليست هناك مهنة
حقيرة ما دام المجتمع في حاجة إليها ول تستقيم حركة الحياة إل بها ،فكيف تحقرها؟ وكيف تحقر
ل أو
أهلها؟ وال لو قعد الوزراء في بيوتهم أسبوعا ما حدث شيء ،لكن لو تعطل عمال النظافة مث ً
الصرف الصحي ليوم واحد لحدثتْ مشكلة ،ولصبحت الدنيا (خرارة).
وكيف نحقر هذه المهن ونحقر أصحابها ،وهم يرضوْنَ باليسير ،ويتحملون ما ل يطيقه غيرهم،
كيف نحقرهم ،وال تعالى يقول {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ يَسْخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ عَسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا
مّ ْنهُمْ[} ...الحجرات]11 :
فإن قلت :ما دام ليس نبيا ،فكيف يؤتيه ال؟ نقول :بالمدد واللهام الذي قال ال فيه {:إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ
جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا }[النفال ]29 :فمَنْ يحافظ على مواصفات التكوين بمنطق ال يأخذ من ال
يَ ْ
مباشرة.
كما لو طلب منك ولدك مبلغا من المال يتاجر به في السوق ،فتعطيه مبلغا يسيرا تُجرّبه به ،فإنْ
أفلح وربحت تجارته يطمئن قلبك فتزيده أضعاف ما أخذ في المرة الولى ،كذلك النسان إن
أحسن صحبته لربه داوم ال عليه فضله ووالى إليه فيضه.
لذلك يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز :ما قصر بنا في علم ما نجهل إل عدم عملنا بما علمنا -
يعني :لو كنا أهلً للزيادة لزادنا ،لو كنا مأمونين على ما علمنا فوظّفناه في حركة حياتنا لجاءتنا
فيوضات إشراقية وعطاءات من ربنا ممتدة ل تنتهي ،أما إنْ أخذنا العلم فألقيناه جانبا ولم نعمل
به ،فما الداعي للزيادة ،وأنت لم تستفِدْ بما عندك؟
وكما تكلم العلماء في شخصية لقمان وجنسيته تكلموا في حكمته ،فسأله أحدهم وقد تبسّط معه في
الحديث :ألم تكُنْ عبدا تخدم فلنا؟ قال :بلى ،قال :فَ ِبمَ أوتيت الحكمة؟ قال :باحترامي قدر ربي،
وأدائي المانة فيما وليت من عَمل ،وصدق الحديث ،وعدم تعرّضي لما ل يعنيني.
وهذه الصفات كافية لنْ تكون منهجا لكل مؤمن ،ولنْ ينطق صاحبها بالحكمة ،وال لو كانت فيه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صفة الصدق في الحديث لكانت كافية.
لذلك وصل لقمان إلى هذه المرتبة وهو العبد السود ،فآتاه ال الحكمة مباشرة ،وهو ليس نبيا ول
سمّيت إحدى سور القرآن باسمه ،وهذا يدلك على أن النسان إذا اعتدل مع ال وأخلص
رسولً ،و ُ
في طاعته فإن ال يعطيه من فيضه الواسع ،فيكون له ِذكْر في مصافّ الرسل والنبياء.
ويُ ْروَى من حكمة لقمان أن سيده أمره أن يذبح له شاة ثم يأتيه بأطيب ُمضْغتين فيها ،فذبح الشاة
وجاءه بالقلب واللسان ،وفي اليوم التالي قال له :اذبح لي شاة وأتني بأخبث مُضغتين فيها ،فجاءه
ت بهما بالمس على أنهما أطيب مضغتين في الشاة؟ قال :بلى
أيضا بالقلب واللسان فسأله :ألم تَ ْأ ِ
فليس شيء أطيب منهما إذا طَابَا ،ول شيء أخبث منهما إذا خَبُثَا.
وبعد لقمان جاء سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يُعلّمنا هذا الدرس فيقول ..." :أل أن في
الجسد مضغة إذا صَلُحت صلح الجسد كله ،وإذا فسدتْ فسد الجسد كله ،أل وهي القلب ".
ويقول صلى ال عليه وسلم في حديث آخر " :من حفظ ما بين لحييه وما بين ِرجْليه دخل الجنة ".
ويُروى أن لقمان كان يفتي الناس ،وكانوا يثقون بكلمه ،وكان ذلك قبل داود عليه السلم ،فلما
ف لقمان عن الفُتْيا ،فلما سألوه :لماذا امتنعتَ عن الفُتْيا؟ فقال -وهذه أيضا من
جاء داود ك ّ
ل أكتفي إذا كُفيت؟
حكمته :أ َ
يعني :لماذا أتمسّك بها وقد بعث ال لي مَنْ حملها عني ،وهو يعلم تماما أنه مجرد عبد صالح
(أي :أنه أخذ الحكمة من منازلهم كما يقال) ،أما داود فرسول من عند ال ،ومن الحكمة أنْ يُفسِح
له هذا المجال ،ويترك له ساحة الفُتْيا في القوم لعله يأتي بأفضلَ مما عند لقمان؛ لذلك تركها له
عن رضا وطيب خاطر.
والبعض يقول :إن ال خيّره بين أن يكون نبيا أو حكيما ،فقال :أما وقد خيّرتني يا رب ،فأنا أختار
الراحة ـ وأترك البتلء ،أما إنْ أردْتها يا رب عزمة فأنا سأقبلها سمعا وطاعة؛ لني أعلم أنك
لن تخذلني.
والحق سبحانه يُنطق لقمان بأشياء من الحكمة يسبق بها النبوة؛ ليبين لنا أن النسان من الممكن أن
ن فيكون ".
يكون ربانيا ،كما جاء في الحديث القدسي " :عبدي ،أطعني تكُنْ ربانيا ،تقول للشيء كُ ْ
ذلك لن فضل ال ليس له حدود ،وليس عليه حرج ،وبابه تعالى مفتوح ،المهم أن تكون أهلً لنْ
ن تكون في معية ربك دائما.
تلِجَ هذا الباب ،وأ ْ
سفْرة ،ثم عاد فلقيه تابعه ،فقال له :مَا حال أبي؟ فقال:
ومما يُ ْروَى من حكمة لقمان أنه غاب في َ
مات ،فقال لقمان :الن مل ْكتُ أمري ،ثم سأل :فما حال زوجتي؟ فقال :ماتت ،فقال :جدّدتُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فراشي ،ثم سأل عن أخته ،فقال :ماتت ،فقال :ستَر ال عِرْضي ،ثم سأل عن أخيه ،فقال :مات،
فقال :انقصم ظهري.
وهذا الكلم ل يصدر إل عن حكمة ،فكثيرا ما يفرح البن -خاصة العاق -بموت أبيه؛ لنه
سيترك له المال يتمتع به ،أما لقمان فيقول عندما علم بموت أبيه :الن مل ْكتَ أمري؛ لنه في حياة
أبيه كان له أمر ،لكن أمره ليس في يده إنما في يد أبيه ،فلما مات أبوه صار أمره بيده.
وهذه الحكمة توضح لنا قول النبي صلى ال عليه وسلم " :أنت وما ملكت يداك لبيك " كأنه من
العيب أن تقول في حياة أبيك :أنا أملك كذا وكذا .أما الن فقد تجاوز البناء كل هذه القيم ،ونسمع
البن يقول لبيه :اكتب لي كذا وكذا.
أما قوله " :جددت فراشي " فهي كلمة لها معنى كبير :أنا ل أُدخِل الجديدة على فراش القديمة
حتى ل أجرح مشاعرها ،أو أنني ل أتزوج إل بعد وفاة زوجتي الولى؛ ذلك لن الغيرة طبع في
النساء.
وكانت أم المؤمنين عائشة تغار حتى من ذكر السيدة خديجة ،فقد " دخلت فاطمة بنت محمد صلى
ال عليه وسلم على أبيها ُمغْضبة فقال صلى ال عليهم وسلم " :ما أغضبك يا أم أبيها " فقالت:
وال إن عائشة قالت لي :إن رسول ال تزوج أمك ثيبا ،ولم يتزوج ِبكْرا غيري ،فقال لها رسول
ال " :إذا أعادت عليك هذا القول -وانظر هنا إلى أدب النبوة في الردّ وفي سرعة الخاطر -
فقولي لها :ولكن أمي تزوجتْ رسول ال وهو بكر ،وتزوجيته أنت وهو ثيّب " هذا كلم النبوة،
ومن بعدها لم ُتعِدْها عائشة مرة أخرى.
وقد يقول قائل :وكيف تغار عائشة ،وهي أم المؤمنين وزوج رسول ال؟ قالوا :هذه الغيرة لها
معنى ،فقد عقد رسول ال عليها وهي بنت السادسة ،ودخل بها وهي بنت التاسعة ،وقد جاوز
صلى ال عليه وسلم الخمسين من عمره ،ومع فارق السن بينهما رضيتْ عائشة برسول ال؛ لنها
صغَر سنها ،فلم تنظر إليه على أنه
رأتْ فيه من مزايا نوره ما جعلها َتغَار عليه رغم كِبَر سنّه و ِ
رجل عجوز يكبرها ،بل رَأتْ فيه ما يفوق ويعلو على مجرد الشباب.
إذن :فمعنى " :جددت فراشي " أنني أراعي مشاعر الزوجة الجديدة ،فل ُأدِخلها على فراش
القديمة فأصدمها به ،وأُلِهب مشاعر الغيرة عندها ،حتى من التي ماتت ،وأنا أريد أن تكون صافية
التكوين لذاتي ،راضية عن كل تصرفاتي ،أريد أن أمنع كل شبهة تقلق كونها سكنا لي ،وأنا سَكن
لها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الهدف من ركوب الخيل مختلف ،فمرة أركبه للنزهة ،ومرة أركبه لدرك به صَيْدا ،ومرة للكّر
وللفرّ في المعركة ،ف ُكلّ هدف من هذه له حركة ،وينبغي أنْ أتحكم في حصاني ليؤدي لي ما
أريده منه.
إذن :فالحكمة تعني في معناها العام َوضَع الشيء في موضعه ،وهي مجموعة من مَلَكات الفضائل
تصدر عنها الشياء التي تضع كل أمر في محله لكن بيُسْر وبل مشقة ول تعب ،كالشيخ الذي ظل
يدرس في الزهر مثلً عشرين أو ثلثين سنة تذهب إليه ،وتستفتيه في أمر من المور ،فيجيبك
بيُسْر وسهولة ،وبدون تفكير أو إعداد ،لماذا؟ لن الفُتْيا أصبحت مَلكَه عنده ل تحتاج منه إلى
مجهود ول مشقة.
ومن الحكمة أنْ يخلق ال لك أشياءً ،ويهديك لنْ تستنبط منها أشياءً أخرى.
وساعة تسمع من ال تعالى } :وََلقَدْ[ { ..لقمان ]12 :فاعلم أن هنا قَسَما فالواو واو القسم ،والمقسَم
عليه مُؤكّد باللم ومُؤكّد بقد التي تفيد التحقيق.
قوله سبحانه } :آتَيْنَا[ { ..لقمان ]12 :الحق -سبحانه وتعالى -في إتيانه للشياء يعني تعدّي ما
قدره لمن قدره من خير ظاهر ومن خير مستور .وقبل أنْ يخلق ال النسان خلق له ،فجاء
النسان الول (آدم عليه السلم) وطرأ على كون فيه كل مُقوّمات حياته من هواء وماء وأرض
وسماء وطعام وشراب..الخ.
خلَ للمنتفع به فيه ،وهذا أول اليتاء ،بل قبل ذلك ،وفي الزل
وكل ذلك مُسخّر له تسخيرا ل َد ْ
قبل أن يخلق النسان خلق له مُقوّمات مادته ومُقوّمات قيمه وروحه -أي :أوجدها.
لننا نعلم أن كل صانع قبل أن يُقدِم على صَنْعة ل ُبدّ أن يُحدّد الغاية ،ويضع الهدف منها أولً ،ل
أنْ يصنع الشيء ثم ينظر فيه :ليّ شيء يصلح هذا الشيء ،كذلك ل بُدّ أنْ يسبق الصنعةَ منهجُ
صيانتها.
فالحق سبحانه قبل أنْ يخلق النسان وضع له مُقوّماته المادية والمعنوية ،والمنهج الذي يُصلِحه
حمَـانُ *
وحدّد الهدف من وجوده؛ لذلك يُنبّهنا الحق سبحانه إلى هذه المسألة في قوله تعالى {:الرّ ْ
ق الِنسَانَ }[الرحمن ]3-1 :فقبل أنْ يخلق ال النسانَ وضع المنهج الذي به
عَلّمَ ا ْلقُرْآنَ * خََل َ
صيانته ،وهو القرآن الكريم.
إذن :فمعنى اليتاء أنْ يعدي ال ما قدره من خير ظاهر أو خير مستور لمن قدره ،والخير يكون
على نوعين :خير يقيم المادة ،وخير يقيم القيم الروحية ،المادة تقوم بالهواء وبالطعام
وبالشراب..الخ ،والقيم تقوم بالوحي وبالمنهج الذي حمله الرسل بافعل ول تفعل.
ح ْكمَةَ..
ص لقمان بالذات ،فقال } وَلَقَدْ آتَيْنَا ُل ْقمَانَ الْ ِ
خ ّ
وال تعالى آتى كثيرا من خلقه ،فلماذا َ
{ [لقمان]12 :؟ قالوا :لن ال تعالى حين يأمر الرسل بأمر ليُبلّغوه ُيعِد الرسل لهذا المر ،وكأن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن يقول لنا ،إن الفَطرة السليمة تهتدي إلى ال ،وإلى المطلوب من ال بدون
الحق سبحانه يريد أ ْ
وحي ،وبدون إعداد.
ومن ذلك ما ُروِي عن سيدنا عمر -رضي ال عنه -من أنه كان يُحدّث سيدنا رسول ال
بالمر ،ويقترح عليه فيأتي الوحي موافقا لرأيه ،فكيف يتسنى لعمر أن يقترح على رسول ال وفي
وجوده ،وهو المشرع الثاني بعد القرآن؟
نقول :لن ال تعالى يريد أنْ يثبت لنا أن الفطرة السليمة إذا صَفتْ ل تستطيع أنْ تهتدي إلى
الشياء ،وتصل إلى الحق قبل أنْ ينزل الوحي به.
إذن :فاليتاء من ال ل يأتي عبثا ،فاليتاء الول كان لدم عليه السلم ،وآدم شاء ال أنْ يجعله
خليفة له في الرض ،ول يعني هذا أنه أول المخلوقات في الرض ،والحق سبحانه لم َي ُقلْ إنني
سمُومِ }[الحجر:
أول ما خلقتُ خلقتُ آدم ،وبدليل قوله تعالى {:وَالْجَآنّ خََلقْنَاهُ مِن قَ ْبلُ مِن نّارِ ال ّ
.]27
جدِيدٍ * َومَا ذاِلكَ
ومسألة الخلْق هذه هيّنة على ال ،بدليل قوله تعالى {:إِن يَشَأْ ُيذْهِ ْبكُ ْم وَيَ ْأتِ بِخَ ْلقٍ َ
عَلَى اللّهِ ِبعَزِيزٍ }[إبراهيم ]20-19 :فالمسألة ليست نادرة حدثت مرة واحدة ،ولن تحدث بعد ذلك.
وللعلماء كلم طويل في عوالم أخرى غير عالمنا كعالم الحن ،وعالم البنّ ،وعالم الجن وغيرها
مما ل يعمله إل ال ،لكن إنْ حدّثك المضللون الذين يريدون أنْ يستدركوا على الدين ويقولون :إن
الحفريات أثبتت وجود مخلوقات قبل آدم ،فكيف تقولون :إن آدم أول مخلوق؟
ونقول لهؤلء :لم يقُلْ أحد :إن آدم أول مخلوق على الرض ،إنما هو أول هذا الجنس البشري
الذي نسميه " إنسان " لكن سبقته أجناس أخرى ،وشاء ال أنْ يجعل آدم خليفة في الرض ،ثم
علٌ فِي الَ ْرضِ خَلِيفَةً[} ..البقرة]30 :
أخبر الملئكة{ إِنّي جَا ِ
وال حين يخبر الملئكة هذا الخبر ل يستشيرهم ،إنما ليبين لهم أمرا واقعا ،وخصّ الملئكة بهذا
علٌ فِي
الخبار؛ لنه سيكون لهم دور مع هذا الخليفة الجديد .إذن :فالذين قال ال لهم {:إِنّي جَا ِ
الَ ْرضِ خَلِيفَةً[} ..البقرة ]30 :ليسوا كل الملئكة ،إنما الذين لهم دور ومهمة مع هذا المخلوق ،أما
باقي الملئكة فل يدرون بآدم ،ول يعرفون عنه شيئا ،وليس في بالهم إل ال.
والقرآن الكريم يشير لنا إلى هذه المسألة إشارةً دقيقة في قوله تعالى مخاطبا إبليس لما رفض
السجود لدم {:أَسْ َتكْبَ ْرتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص ]75 :والعالون هم الملئكة الذين لم يشملهم
المر بالسجود.
وقلنا :إن ال تعالى كرّم آدم حين خلقه تعالى ،وباشر خَلْقه بيده سبحانه ،ولم يخلقه كباقي
سجُدَ ِلمَا خََل ْقتُ
المخلوقات (بكُنْ)؛ لذلك جاء في حيثية النقد على إبليس {:قَالَ ياإِ ْبلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَن تَ ْ
بِيَ َديّ[} ..ص]75 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :مباشرة الخَلْق باليد دليل على العناية بالمخلوق؛ لن اليد هي اللة الفاعلة لكثر الشياء،
وحتى الن نفخر بعمل اليد فنقول (هذا الشيء يدويّ) يعني :لم تصنعه آلة صماء ،إنما يد مفكر
يتقن الصنعة.
وفي مسألة خَلْق آدم -عليه السلم -يحلو للبعض أن يقول :هو الذي أخرجنا من الجنة ،فهل
قال ال تعالى قبل أن يصدر أول بيان عن آدم أنني خلقُته للجنة ،ثم عصى آدم ربه وتسبب في أنْ
نخرج منها؟
علٌ فِي الَ ْرضِ خَلِيفَةً[} ..البقرة ]30 :فهو -إذن -مخلوق
لم ي ُقلْ ذلك ،إنما قال {:إِنّي جَا ِ
للرض ،وما الجنة التي دخلها إل جنة التجربة ل جنة الخلد ،والبعض يظن أن كلمة الجنة إذا
أُطل َقتْ تعني جنة الخرة ،وهذا خطأ بدليل قول ال تعالى {:إِنّا بََلوْنَا ُهمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ الْجَنّةِ إِذْ
سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْ ِبحِينَ }[القلم]17 :
َأقْ َ
جعَلْنَا لَحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ[} ..الكهف]32 :
وقوله تعالى {:وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلً رّجُلَيْنِ َ
فالجنة في اللغة هي المكان المليء بالشجار الكثيفة التي تستر مَنْ يسير فيها ،كما تستره أيضا
عن البيئة الخارجية؛ لنها تكفيه بما فيها عن الحتياج إلى غيرها ،فبها كل مُقوّمات الحياة ،ومن
ذلك الجنة التي دخلها آدم؛ لن ال تعالى أراد أنْ يصنع لدم تدريبا على مهمة الخلفة ،ولم ل
ن يقوم بها ،حتى لعب الكرة.
ونحن نُدرّب كل صاحب مهمة على مهمته قبل أ ْ
وحين نأخذ المتدرب لندربه على أداء مهمته ل بُدّ أن نوفر له كل مُقوّمات حياته ،ونتكفل له بكل
ما يعينه على أداء مهمته ،فنقدم له إقامة كاملة من طعام وشراب ومسكن..إلخ وكذلك فعل ال
جكَ الْجَنّ َة َوكُلَ مِ ْنهَا رَغَدا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَلَ َتقْرَبَا هَـا ِذهِ
ت وَ َزوْ ُ
سكُنْ أَ ْن َ
تعالى لدم فقال له{ يَآءَادَمُ ا ْ
الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ الْظّاِلمِينَ }[البقرة]35 :
وحين نقارن بين ما أباحه ال لدم وما حظره عليه نجد أنه تعالى أباح له ُكلّ ما في الجنة ولم
يحرم عليه إل هذه الشجرة التي أوضحها وبيّنها له .كما نلحظ قوله تعالى {:لَ َتقْرَبَا[} ..البقرة:
]35ولم ي ُقلْ :ل تأكل؛ لن القرب من الشيء قد يُغرِي بمزاولته ،فاحتطْ أنت لنفسك بعدم القرب
منه.
وهذا التدريب لدم فيه إشارة رمزية لكل تكليف من ال لخَلْقه في (افعل) و (ل تفعل).
ثم يذكّر الحق سبحانه آدم بالمقدمة العدائية التي حدثتْ بينه وبين إبليس ،وينصحه بأنْ يحذر هذا
العدو؛ لنه أبى أنْ يسجد له لما أمره ال بالسجود استكبارا وعُتوا.
وال حين يأمر بالسجود لدم إنما يريد السجود للمر والنصياع له ،ل السجود لدم في ذاته؛
لذلك نجد المر من ال تعالى يختلف باختلف المأمورين ،فمرة ينهي عن شيء ويأمر بمثله ليرى
مدى انضباطك للمر وللنهي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ففي الحج مثلً ،يأمرك أنْ تُقبّل حجرا ،وأنْ ترمي حجرا آخر وترجمه ،وهذا حجر وذاك حجر،
إذن :فالحجرية غير منظورة ،لكن المنظور فيه إلى المر أو النهي.
وبصرف النظر عن المصلحة أو الحكمة من المر أو النهي ،فمثلً حينما يتعذر الماء يشرع التيمم
ن يقول :الوضوء للنظافة ،فما النظافة في التيمم ،وهو يُلوّث الجسم؟
ل من الوضوء ،فيأتي مَ ْ
بد ً
ونقول :فَرْق بين النظافة والتطهير ،والمراد من التيمم التطهير بشيء هو أصل في مادتك
وتكوينك ،فالمسألة انضباط في طاعة المر بأن تفعل شيئا تجعله مقدمة لصلتك ،كأنك ل تُقبل
على الصلة إل بتهيئة ،وأيضا لن الصلة بها قِوامَ روحك وحياتك ،وحياتك في الصل ومادتك
من الماء الذي تستخدمه في الوضوء والتراب الذي تستخدمه التيمم.
إذن :لهاتين المادتين رمزية يجب أن تُلحظ في الدخول على ال في الصلة ،ول يليق بالمؤمن أنْ
يُفلسف أمور العبادات ويبحث عن عِلّتها والحكمة أو المصلحة من أدائها ،إنما يكفي أن يقول :عِلّة
ن يفعل ،وعلة هذا الحكم أن ال أمر به ألّ يُفعل.
هذا المر أن ال أمر به أ ْ
ف أوْلَى
خ ّ
لذلك ورد عن المام علي رضي ال عنه أنه قال :لو كانت المسألة بالعقل لكان أسفل ال ُ
بالمسح من أعله ،إذن :المسألة طاعة والتزام للمر وللنهي؛ لذلك من غير المناسب أن نقول :إن
من حكمة الصوم :أنْ يَشعر الغني بألم الجوع ،فيعطف على الفقير؛ لنني سأقول لك إذن :لماذا
يصوم الفقير؟
ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلً وما زْلنا نكرره .قلنا :إن أعز شيء على المرء صحته ،فإنْ
أصابته علة ،فأول ما يُعمِل عقله يبحث عن الطبيب المتخصص في مرضه فيذهب إليه ،ثم يسلم
له نفسه ليفحصه ،ثم يكتب له الدواء فيأخذه ويتناوله دون أنْ يسأل عن عِلّته ،أو لماذا وصفه
الطبيب ،لماذا؟
لن الطبيب مؤتمن بعد أنْ تعلّم ودرس وتخصّص ،فأنت ل تسأله ول تناقشه :لماذا كتب لك هذا
الدواء ،وهو مع ذلك إنسان وعُرْضة للخطأ وللسهو وللنسيان ،ومع ذلك ل يناقش .إذن :علة تناول
الدواء أن الطبيب وصفه لي ،وعلة كل أمر عند المر به.
والمر في العبادات هو الحق -سبحانه وتعالى -فل يليق بالمؤمن بعد أن آمن بال وبحكمته
وقدرته أنْ يبحث ليعلم الحكمة من كل أمر يأتيه من ربه عز وجل.
نعود إلى آدم -عليه السلم -وأن الجنة التي دخلها كانت للتدريب والتجربة ولم تكُنْ جنة الخلد،
تدرّب فيها آدم على :كل (افعل) وعلى :ل تقرب (ل تفعل) واحذر الشيطان فإنه عدو لك ،وسوف
ن يكونَ عاصيا وحده ،يريد أنْ يجرّك معه إلى حمأة
يوسوس لك ،ويغويك؛ لنه ل يريد أ ْ
المعصية.
وظل آدم وزوجته يأكلن كما قال تعالى من الجنة رغدا حيث شاءا ،دون أنْ يقربا هذه الشجرة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التي بيّنها ال لهما إلى أنْ وسوس لهما الشيطان وأغراهما بالكل منها ،مع أن ال تعالى حذّرهما،
وأعطاهما حقنة مناعة ضد الشيطان ووسوسته ،ومع ذلك حدثتْ من آدم الغفلة.
وهذه الغفلة ال يُنبّه بها ذرية آدم من بعده :أن الشيطان لن يدعكم ،وسوف يدخل عليكم بألعيبه
وحيله ،كما دخل على أبيكم آدم ،فكونوا منه على حذر ،وابحثوا بعقولكم ما يلقيه إليكم من
وساوس بال.
ماذا قال إبليس لدم حين أغواه بالكل من الشجرة؟ قال {:مَا َنهَا ُكمَا رَ ّب ُكمَا عَنْ هَـا ِذهِ الشّجَ َرةِ ِإلّ
أَن َتكُونَا مََلكَيْنِ َأوْ َتكُونَا مِنَ ا ْلخَالِدِينَ }[العراف]20 :
أليس من المنطق أن نقول :ولماذا لم تأكل أنت منها يا إبليس فتصير مَلَكا ،وتصير من الخالدين،
ول تتمحك فتقول {:فَأَنظِرْنِي إِلَىا َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }[الحجر ]36 :إذن :كان على آدم أنْ ينتبه إلى
مكايد الشيطان وألعيبه.
ثم يُنبّهنا -سبحانه وتعالى -من خلل هذه القصة إلى أن الشيطان سيأتينا في مقام الطاعة ،فلو
أن آدم وزوجه ذهبا إلى هذه ذهبا إلى هذه الشجرة وأكل منها ما وسوس لهما ،فهذا دليل على
أنهما احتاطا للمر ،فلم يقربا من الشجرة تنفيذا لمر ال؛ لذلك تدخّل الشيطان.
إذن :نقول إن الشيطان ل يتدخل إلّ في مجال الطاعة ،أما المعصية فصاحبها كفاه مؤنة
الوسوسة ،الشيطان يذهب إلى المسجد ل يذهب إلى الخمارة؛ لن الذي يذهب إلى الخمارة صار
شيطانا في ذاته ،فما حاجته لبليس؟
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف ]16 :أي :في
ل ْقعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ
لذلك يقول تعالى حكاية عن إبليسَ {:
مواضع الخير وطرق الصلح والهداية لبطل أعمالهم ،وأفسد عليهم أمرهم ،ونحن نلحظ ذلك في
صلتنا مثلً ،فقد تنسى شيئا ،وتحاول أن تتذكره فل تستطيع ،وفجأة وأنت تصلى تتذكره.
فلو أننا أخذنا (الروشتة) من خالقنا عز وجل وبمجرد أنْ ينزغنا الشيطان نقول :أعوذ بال من
الشيطان الرجيم لتنبّه الشيطان ،وعلم أننا لسنا في غفلة ،وأننا نكشف ألعيبه ،ونعرف حيله
سمِيعٌ عَلِيمٌ }
وصدق ال العظيم حين قال {:وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ
[العراف]200 :
وقد وصف ال الشيطان بأنه خنّاس ،يعني :إذا ُذكِر ال خنس وتضاءل ،فإنْ جاءك هذا الخاطر
ن كنتَ تقرأ القرآن ُ -قلْ بجرأة وقوة :أعوذ بال من الشيطان الرجيم؛ ليعلم
الشيطاني -حتى وإ ْ
أن ألعيبه ل تخفي عليك فينصرف عنك ،أما أن تخضع له فإنه يعطيك فقط طرف الخيط ،ويفتح
لك بابا يشغلك به ،ثم يتركك أنت (تكُرّ) هذا الخيط من نفسك ،ويذهب هو (يستغفل) واحدا غيرك.
والشيطان رغم عِلْمه ،إل أن فيه تغفيلً بدليل أنه أعلن عن خطته ،وأظهر لنا مكايده قبل أنْ يكيدنا
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف ]16 :وقال{ لتِيَ ّنهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ َومِنْ
ل ْقعُدَنّ َلهُمْ صِرَا َ
بها ،فقالَ {:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شمَآئِِلهِمْ[} ..العراف ،]17 :فالذي يدبر المكايد ويتآمر على غيره ل
خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ أَ ْيمَا ِنهِ ْم وَعَن َ
يعلن عن مكايده مُقدما ،ونحن أيضا كان علينا أنْ نحذر هذه المكايد خاصة ،وقد أعلن عدونا
عنها.
ولك أنْ تلحظ في خطة إبليس أنه يأتيك من جهاتك الربع ،ومعلوم أن الجهات ست ،فلماذا لم يذكر
فوقنا وتحتنا؟ قالوا :لن هاتين الجهتين محلّ نظر إلى ال عز وجل ،فالعبد ينظر إلى عِزّ الربوبية
في عليائه و ُذلّ العبودية إذا اتجه في سجوده إلى أسفل.
إذن :فأنت في معية ربك في هاتين الجهتين ،والشيطان ل ينال منك إل وأنت بعيد عن معية ربك.
ومثّلْنا لذلك ،ول المثل العلى؛ قلنا :إن الغلم إذا كان يسير في يد أبيه وفي صحبته ،ل يجرؤ
أحد من أمثاله على العتداء عليه ،إنما إنْ سار وحده فهو عُرْضة لليذاء.
ج َمعِينَ * ِإلّ
غوِيَنّهُمْ أَ ْ
وهذا دليل على علم إبليس وعلى ذكائه ،ونلحظ هذا أيضا في قوله {:لُ ْ
عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص ]83-82 :كأنه يقول لربه :أنا ل أقترب من عبادك الذين هم في
حضانتك ،وفي معيتك.
والتغفيل الكبر في إبليس أنه مع علمه بمقام ربه يتمرد على أمره ،حين يأمره بالسجود فل
يسجد.
إذن :نبّه ال تعالى آدم وحذره من كيْد إبليس ،وكان عليه أنْ يحذر وألّ تدخل عليه حيلة الكل من
الشجرة إل أنه في غفلة منه عن أمر ربه أكل من الشجرة ،فلما خالف المر اختلفتْ طبيعته،
سوْءة ،وكانت المرة الولى التي يشعر فيها آدم بعورته عند خروج الغائط.
وب َدتْ له ولزوجه ال ّ
لكن ،ما الفرق بين فتحة دخول الطعام (الفم) وفتحة خروجه؟ ولماذا أصبحت هذه عورة ،وهذه
غير عورة؟
قالوا :لن آدم حال طاعته لمر ربه في الكل من ثمار الجنة كان يأكل بطهي ربه ،وهو طهي
بحكمة وبقدر معلوم ،يكفي مقومات الحياة ول يزيد عنها ،لذلك لم يَبْق في بطن آدم فضلت ،ولم
توجد عنده غازات أو أرياح ،فلم يشعر في هذه الحالة بحاجة إلى التغوط ،فكانت الفتحتان
متساويتين ،هذه فتحة ،وهذه فتحة.
فلما خالف آدم ربه وذاق الشجرة اختلفتْ الغذية في بطنه ،وحدث لها تفاعلت ،ونتج عنها
فضلت وأرياح ،ولما أحسّ بها آدم نفر منها وأصابه الخجل ،وشعر أنها عورة ينبغي أنْ تُستر،
فالطبع السليم ل بُدّ أنْ ينفر منها؛ لذلك أخذ يزيل هذا الذى عن نفسه ،ويستره بأوراق الشجر،
ومنذ ذلك الحين لم يستطع آدم أن يسدّ هذه الفتحة ،ولن تُسدّ.
إذن :الحق سبحانه جعل الدّرْبة لدم في الجنة هذه ،وهيّأ له فيها طعامه ،ونهاه عن نوع بعينه،
فأمره ونهاه وعلّمه وحذّره ،فلما وقع في المخالفة وأغواه الشيطان ،ولم يعمل بنصيحة ربه أخرجه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى الرض بهذه التجربة ،لتكون رمزا له ولذريته من بعده :إنْ سِ ْرتَ على منهجي و ِوفْق
أوامري في (فعل) و (ل تفعل) فلن تجد عورة في الكون كله ،ونحن نرى ذلك فعلً في حركة
حياتنا في الكون ،فل نرى عورة في المجتمع ول خللً إل إذا خُوِل َفتْ أوامر ال.
هذا هو التيان الول ،بعد ذلك قدّر ال غفلة البشر ،فأرسل إليهم الرسل بالمنهج ،فكان إتيان آخر،
كما قال تعالى {:وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورا }[النساء ]163 :وقال في عيسى عليه السلم {:وَآتَيْنَا ُه الِنجِيلَ
}[الحديد]27 :
وهذا اليتاء من ال يتم في خفاء؛ لذلك يُسمونه وحيا ،وهو من الغيبيات ،فال تعالى ل يمدّ يده
فيعطي النبي أو الرسول شيئا حسّيا ،ومن هنا ارتبط اليمان بالغيبيات دون المحسّات ،فأنا ل أقول
جمْع من الخوة..الخ .إذن :ل بُدّ أنْ
مثلً :آمنتُ بأنني قاعد في مسجد الشيخ سليمان وأمامي َ
يكون اليمان بأمر غيبي.
الحق -سبحانه وتعالى -يُؤتِى على توالي العصور أنبياءه معجزات ،ويؤتيهم منهجا يسوس
حركة الحياة ،ول يقتصر إيتاء ال على الرسل ،إنما يؤتى غير الرسل ،ويؤتى الحيوان..الخ.
شكُرْ للّهِ[ { ..لقمان ]12 :هذه هي
ثم يعطينا الحق سبحانه نموذجا للحكمة التي آتاها لقمان } :أَنِ ا ْ
الحكمة الولى في الوجود؛ لنك إنْ شكرتَ ال على ما قدّم لك قبل أنْ توجد ،وعلى ما أعطاك
قبل تسأل ،وعلى ما هدى جوارحك لتؤدي مهمتها حتى وأنت نائم ،كأنه تعالى يقول لعباده :ناموا
أنتم فربكم ل تأخذه سنة ول نوم.
فإن شكرك ل يهدم أول لبنة من لبنات الغترار ،فالذي يفسد خلفة النسان في الرض أنْ يغترّ
ل في الكون ،والشكر ل تعالى
بما أعطاه ال وبما وهبه ،وينسى أنه خليفة ،ويعتبر نفسه أصي ً
يكون على ما قدّم لك من نعم.
سمْعَ
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
ومن ذلك قوله تعالى {:وَاللّهُ أَخْ َر َ
شكُرُونَ }[النحل ]78 :أي :تشكر ال على ما سبق ،فقد وُلدتَ ل تعلم
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ تَ ْ
وَالَبْصَا َر وَا َ
شيئا ،ثم تكونت عندك آلت الدراك والعلم ،فعلمتَ وملت قلبك بالمعاني الجميلة؛ لذلك تشكر ال
جعْل هذه اللت لك ،عِلّته أنْ تشكر أي :على ما مضى.
عليها ،ف َ
ثم هناك شكر آخر ،ل على ما فات ،لكن شكر هو في ذاته نعمة جديدة ،وتأمل في ذلك قول ال
تعالى:
حمَتِهِ وَلِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ بَِأمْ ِرهِ وَلِتَبْ َتغُواْ مِن
ت وَلِيُذِي َقكُمْ مّن رّ ْ
سلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَا ٍ
{ َومِنْ آيَا ِتهِ أَن يُرْ ِ
شكُرُونَ }[الروم]46 :
َفضْلِهِ[} ..الروم ]46 :هذه كلها ِنعَم يعطف عليها بقوله {:وََلعَّلكُمْ تَ ْ
فعطف الشكر على النعم السابقة يعني أنه في ذاته نعمة ،وإل لقال كما في الية السابقة{ َلعَّلكُمْ
شكُرُونَ }[النحل]78 :
تَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكَرْتُمْ لَزِيدَ ّنكُمْ[} ..إبراهيم ]7 :فهذا شكر
والشكر بهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى {:لَئِن َ
لما سبق ،وهذا شكر لما هو آتٍ.
شكُرْ للّهِ[ { ..لقمان ]12 :مُوجه إلى ال تعالى ،فكيف إذا توجه
والشكر في قوله تعالى } :أَنِ ا ْ
الشكر في أسباب تناوله إلى غير ال ،كأنْ تشكر صاحبك الذي قدم لك معروفا مثلً؟ قالوا :لو
تأملتَ شكر غير ال ممن قدّم لك معروفا يستوجب الشكر لوجدته يؤول إلى شكر ال في النهاية.
لذلك قالوا :ل تشكر ال إل حين تشكر مَنْ ساق لك الجميل على يديه ،يعني :جعله سببا في قضاء
حاجتك ،ثم إن الذي قدّم لك جميلً ،ما قدّمه لك وما آثرك على نفسه إل لن ال أمره بذلك ،ودعاه
إليه .وأثابه على فعله ،فإذا سلسلتَ الشكر لنتهى إلى شكر ال تعالى.
حمِيدٌ { [لقمان]12 :
س ِه َومَن َكفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ
شكُرُ لِ َنفْ ِ
شكُرْ فَإِ ّنمَا يَ ْ
ثم يقول سبحانهَ } :ومَن يَ ْ
علمنا أن الشكر ل هو أول الحكمة ،فلماذا؟ لن مَنْ يشكر تعود إليه ثمرة شكره.
وإياك أن تظن أن من مقومات قيومية ربك أنْ تشكره ،فشكْرك وعدمه سواء بالنسبة ل تعالى،
كيف وقد وسِع سبحانه الكافر الذي كفر به ،ولم يقطع عنه نعمه؛ ذلك لنه سبحانه غني عن
حمِيدٌ { [لقمان ]12 :لنه سبحانه يعرف أنه رب ،حتى للكافر
خَلْقه } َومَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ
الجاحد.
شكُرْ[ { ..لقمان ]12 :أما
ونلحظ في السلوب هنا عظمة وروعة ،ففي الشكر قال سبحانه } َومَن يَ ْ
ن يكفر ،وفَرْق بين السلوبين ،والكلم
في الكفر فقالَ } :ومَن َكفَرَ[ { ..لقمان ]12 :ولم يقل :ومَ ْ
شكُرْ[ { ...لقمان ]12 :الدال على الحال
هنا كلم ربّ ،ففي الشكر جاء بالفعل المضارع } َي ْ
والستقبال ،فالشكر متجدد ودائم على خلف الكفر.
وكأنه -سبحانه وتعالى -ل يريد من عبده الدوام على كفره ،فلعله يتوب ويرجع إلى ساحة
اليمان ،فجاء بالفعل الماضي } كَفَر[ { ..لقمان ]12 :أي :في الماضي فحسب ،وقد ل يعود في
المستقبل ،وهذا مظهر من مظاهر العجاز البياني في القرآن الكريم.
حمِيدٌ { [لقمان ]12 :من صيغ المبالغة على وزن " فعيل " وتأتي مرة بمعنى " فاعل "
ومعنى } َ
حمِيدٌ { [لقمان ]12 :أي:
مثل رحيم ،ومرة بمعنى " مفعول " مثل قتيل أي :مقتول ،والمعنى هنا } َ
محمود وجاءت هذه الصفة بعد } غَ ِنيّ { [لقمان ]12 :لن الكافر لو كان يعلم أن ال لم يقطع عنه
نعمه رغم كفره به لحمد هذا الله الذي حلم عليه ،ولم يعامله بالمثل.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَِإذْ قَالَ ُلقْمَانُ.{ ...
()3406 /
وَإِذْ قَالَ ُل ْقمَانُ لِابْ ِن ِه وَ ُهوَ َيعِظُهُ يَا بُ َنيّ لَا تُشْ ِركْ بِاللّهِ إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ ()13
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن لبْنِ ِه وَ ُهوَ
يعطينا الحق سبحانه طرفا من حكَم لقمان التي رواها القرآن الكريم { :وَِإذْ قَالَ ُلقْمَا ُ
َيعِظُهُ[ } ..لقمان ]13 :قوله { :وَإِذْ[ } ..لقمان ]13 :أي :اذكر يا محمد حين قال لقمان لبنه،
وتوجيه حكمة لقمان ونصيحته لبنه يدلّنا على صدق ما رُويَ عنه أنه كان يفتي الناس ويعظهم
قبل سيدنا داود عليه السلم ،فلما جاء داود أمسك لقمان وقال :أل أكتفى وقد ُكفِيت ،ثم وجه
نصائحه لمن يحب وهو ولده.
ولذلك ،فالمام أبو حنيفة -رضوان ال عليه -عندما شكاه القاضي ابن أبي ليلى إلى الخليفة أنه
يفند شكاواه وأحكامه ،فأرسل إليه الخليفة بأنْ يترك الفتوى ،وبينما هو في بيته إذ جاءته ابنته
وقالت له :يا أبي حدث لي كذا وكذا -تريد أن تستفتيه -فماذا قال لها وهي ابنته؟ قال :سِلَى
أخاك حمادا ،فإن أمير المؤمنين نهاني عن الفُتْيا.
وفَرْق بين أنْ يتكلم النسان مع عامة الخَلْق ،وبين أنْ يتكلم مع ولده ،فالبن هو النسان الوحيد
ل وأحسن حالً منه ،ويتمنى أن يُعوّض ما فاته في
في الوجود الذي يودّ أبوه أن يكون البن أفض َ
نفسه في ولده ويتدارك فيه ما فاته من خير.
علِمت من قبل مخافة أنْ تُنْسى،
ظهُ[ } ..لقمان ]13 :الوعظ :هو التذكير بمعلومة ُ
ومعنى { وَ ُهوَ َيعِ ُ
فالوعظ ل يكون بمعلومة جديدة ،إنما يُنبه غفلتك إلى شيء موجود عندك ،لكن غفلت عنه ،فهناك
فَرْق بين عالم يُعلم ،وواعظ يعظ ،والوعظ للبن يعني أنه كان على علم أيضا بالمسائل ،وكان
دور الوالد أنْ يعظه ويُذكّره.
ن لبْنِهِ[ } ..لقمان]13 :
ونلحظ في أسلوب الية أن ال تعالى لما أخبر عنه قال { وَإِذْ قَالَ ُل ْقمَا ُ
ولما تكلم لقمان عن ابنه قال { يابُ َنيّ[ } ..لقمان ]13 :ولم يقل يا ابني ،فصغّره تصغير التلطف
والترقيق ،وليوحي له :إنك ل تزال في حاجة إلى نصائحي ،وإياك أنْ تظن أنك كَبِرت وتزوجت
فاستغنيتَ عني.
وأول عِظَة من الوالد للولد { لَ ُتشْ ِركْ بِاللّهِ[ } ..لقمان ]13 :وهذه قمة العقائد؛ لذلك بدأ بها؛ لنه
يريد أنْ يُصحّح له مفهومه في الوجود ،ويلفت نظره إلى أن الشياء التي نعم بها آباؤك وأجدادك
ل تزال تعطي في الكون ،ومن العجيب أنها باقية ،وهي تعطِي في حين يموت المعطَى المستفيد
بها.
وتأمل منذ خلق ال الكون كم جيل من البشر انتفع بالشمس؟ ومع ذلك انذثروا جميعا ،وما زالت
الشمس باقية ،كذلك القمر والهواء والجبال..الخ .فكيف وأنت سيد هذا الكون يكون خادمك أطول
عمرا منك؟
إذن :على العاقل أن يتأمل ،وعلى النسان الذي كرّمه ال على سائر المخلوقات أن يقول :ل ُبدّ
أن لي عمرا أطول من عمر هذه المخلوقات التي تخدمني ،وهذا ل يتأتى إل حين تصل عمرك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الدنيا بعمرك في الخرة ،وهذا يستدعي أن تؤمن بال وألّ تشرك به شيئا ،فهو وحده سبحانه
الذي خلق لك هذا كله ،وأعدّه لخدمتك قبل أن توجد:
واقرأ:
{ هَـاذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خََلقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ[} ..لقمان]11 :
فكيف تدعي أن ل شركاء في الخَلْق ،وهم أنفسهم لم يدّعوا أنهم آلهة ،أو أنهم خلقوا شيئا في كون
ال؟ كيف وأنت تسير في الصحراء ،فترى الحجر يعجبك فتأخذه وتُسوّيه وتجعله إلها ولو ه ّبتْ
الريح لطاحتْ به؟
ثم ما المنهج الذي جاءتكم به هذه اللهة ِبمَ أمرتكم وعَمّ نهتكم؟ ماذا أعدت من نعيم لمن عبدها،
وماذا أعدّت من عذاب لمن كفر بها؟ إذن :فهذه آلهة بل تكليف ،والعبادة في حقيقتها أنْ يطيع
العابد أمر معبوده ،إذن :هي آلهة باطلة ل يخفى بطلنها على العاقل.
عظِيمٌ { [لقمان ]13 :نعم الشرك ظلم؛ لن الظلم يعنيَ :نقْل
لذلك يقول لقمان } :إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ
حق الغير إلى الغير ،وقمة الظلم ومنتهاه أن تأخذ حق ال ،وتعطيه لغير ال ،أل ترى أن الصحابة
ن وَهُمْ
لمْ ُ
ضجّوا لما نزل قوله تعالى {:الّذِينَ آمَنُو ْا وَلَمْ يَلْ ِبسُواْ إِيمَا َنهُمْ بِظُ ْلمٍ ُأوْلَـا ِئكَ َلهُ ُم ا َ
ّمهْتَدُونَ }[النعام]82 :
وقالوا :يا رسول ال ،ومَنْ منا لم يخالط إيمانه ظلم؟ فهدّأ رسول ال من َروْعهم وطمأنهم أن
عظِيمٌ { [لقمان]13 :
المراد بالظلم هنا ظلم القمة أي :الشرك بال } إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :و َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ.{ ...
()3407 /
أهذه وصية من وصايا لقمان لبنه ،أم هي كلم جديد من ال تعالى جاء في سياق كلم لقمان؟
قالوا :هو من كلم الحق تبارك وتعالى ،بدليل قوله تعالى بعد ذلك {:وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن ُتشْ ِركَ
ط ْع ُهمَا[} ...لقمان]15 :
علْمٌ فَلَ ُت ِ
بِي مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ ِ
ومن التكريم للقمان أن ال تعالى ساق هذه الوصية بعد وصيته لبنه ،فجاءت وكأنها حكاية عنه.
ومعنى { َو َوصّيْنَا[ } ..لقمان ]14 :يعني :علّمنا ووعظنا ،وهما يدلن على معلومات تبتدئ بعلمنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويذكر بها في وعظنا ،ويُوفى بها حين جمعنا كل الخير في كلمة واحدة؛ لذلك فالنبي صلى ال
عليه وسلم عندما خطب الناس في حجة الوداع ذكر أمهات الفضائل ،لماذا؟ لنه آخر كلمه إليهم،
والموقف ل يناسب أنْ يذكر فيه تفاصيل الدين كله ،فاكتفى بذكر أسسه وقواعده ،كالرجل منّا حين
تحضره الوفاة يجمع أولده ،ويوصيهم ،فيختار المور الهامة والخلصة في أضيق نطاق.
ال تعالى يقولَ { :و َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَاِلدَيْهِ[ } ...لقمان ]14 :والوصية بالوالدين بالذات أخذتْ
علَىا وَهْنٍ
حمَلَتْهُ ُأمّ ُه وَهْنا َ
رقعة واسعة في كتاب ال ،في هذه الية ذكر علة الوصية ،فقالَ { :
َو ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[ } ...لقمان]14 :
خذْنَا مِيثَاقَ بَنِي ِإسْرَائِيلَ لَ
وفي خمس آيات أخرى وردتْ كلمة (إحسانا) ،في قوله تعالى {:وَِإذْ أَ َ
َتعْبُدُونَ ِإلّ اللّ َه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِحْسَانا[} ...البقرة]83 :
وفي سورة النساء {:وَاعْ ُبدُواْ اللّ َه َولَ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا[} ...النساء]36 :
علَ ْيكُمْ َألّ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا} ...
وفي النعامُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ َ
[النعام]151 :
وفي السراءَ {:و َقضَىا رَ ّبكَ َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ إِيّا ُه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِحْسَانا[} ...السراء]23 :
حمُْل ُه َو ِفصَالُهُ
ضعَتْهُ كُرْها وَ َ
حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْها وَ َو َ
وفي الحقافَ {:ووَصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ ِإحْسَانا َ
شهْرا[} ...الحقاف]15 :
ثَلَثُونَ َ
وفي آية واحدة وردت كلمة (حسنا) في سورة العنكبوتَ {:و َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ حُسْنا} ...
[العنكبوت]8 :
وفي آية واحدة أيضا جاءت الوصية بالوالدين دون ذكر لهاتين الكلمتين( :حُسْنا وإحسانا) هي
الية التي نحن بصدد الحديث عنها.
لكن ،ما الفرق بين (إحسانا) و (حُسنا)؟ الفرق أن الحسان مصدر أحسن ،وأحسن حدث ،تقول:
أحسن فلن إحسانا .أما حُسنا فمن الحسن وهو المصدر الصيل لهذه المادة كما تقول :فلن
عدْل أي :في ذاته ،ل
عادل ،فوصفته بالعدل ،فإنْ أردتَ أنْ تبالغ في هذا الوصف تقول :فلن َ
مجرد َوصْف له.
إذن :فحُسْنا آكد في الوصف من إحسانا ،فلماذا جاءت في هذه الية بالذات {:وَ َوصّيْنَا الِنْسَانَ
ِبوَالِدَيْهِ حُسْنا[} ...العنكبوت ]8 :قالوا :لن هذه الية تتعرض لمسألة صعبة تمسّ قمة العقيدة،
فسوف يطلب الوالدان من البن أنْ يشرك بال.
حسَانا) إنما
ن نوصي البن بالحُسْن في ذاته ،وفي أسمى توكيداته فلم ي ُقلْ هنا (إ ْ
لذلك احتاج المر أ ْ
قال (حُسْنا) حتى ل يظن أن دعوتهما إياه إلى الشرك مبرر لهانتهما ،أو التخلي عنهما؛ لذلك
يُعلّمنا ربنا:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ط ْع ُهمَا َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا }[لقمان]15 :
{ فَلَ ُت ِ
حمَلَتْهُ ُأمّهُ وَهْنا عَلَىا وَهْنٍ
وإنْ كانت الوصية هنا بالوالدين أل أن حيثيات الوصية خاصة بالم } َ
َو ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ { [لقمان ]14 :فلم يذكر شيئا عن دور الب ،لماذا؟ قالوا :لن الكلم هنا كلم
رب ،وما عليك إل أنْ تُعمِل فيه فكرك وقلبك لتصل إلى دقائقه.
ال تعالى يُذكّرنا هنا بدور الم خاصة ،لنها تصنع لك وأنت صغير ل تدرك صُنْعها ،فهو مستور
عنك ل تعرفه ،أما الفعال الب وصنعه لك فجاء حال كِبَرك وإدراكك للمور من حولك ،فالبن
يعرف ما قدّم أبوه من أجله.
فكأن أفعال الب وُجِدت حين تم تكوين العمر العقلي الواعي ،ففهم البن ما فعل أبوه ،وكثيرا ما
سمع البن :أبوك ذهب إلى كذا ،أبوك أحضر لك كذا ،وهذا المر عندما يأتي أبوك..الخ ،فدوْر
حمَلَتْهُ ُأمّ ُه وَهْنا
الب ظاهر على خلف دور الم؛ لذلك ذكره الحق -تبارك وتعالى -هنا } َ
عَلَىا وَهْنٍ { [لقمان]14 :
ن يقول :أليس البن نتيجة التقاء الب والم ،فهما فيه سواء؟ ونقول :بلى ،لكن مشقة الم
ويأتي مَ ْ
فيه أوضح أثناء الحمل وعند الولدة ،ولول أن ال تعالى ربط النسل بالشهوة لَزهدَ الناس فيه لما
تتحمله الم من مشاق ،ولما يتحمله الب من تبعات الولد.
ونعرف قصة المرأة التي ذهبت تقاضي زوجها لنه يريد يأخذ ولدها منها ،فقالت للقاضي وقد قال
خفّا ووضعه شهوة ،وحملتُه وهنا على وهن،
لها :أليس الولد ولدكما معا؟ قالت :بلى ،ولكنه حمله ِ
فحكم لها.
ومعنى } :وَهْنا عَلَىا وَهْنٍ[ { ..لقمان ]14 :أي :ضعفا على ضعف ،والمرأة بذاتها ضعيفة،
فاجتمع لها ضعفها الذاتي مع ضعف بسبب الجنين الذي يتغذى منها ،ويكبر في أحشائها يوما بعد
يوم؛ لذلك قلنا :إن من حكمة ال تعالى في خَلْق الرحم أنْ جعله قابلً للتمدد والتساع ليحتوي
الجنين في مراحل الحمل المختلفة إلى أنْ يزيد الجنين زيادةً ل يتحملها اتساع الرحم فينفجر إيذانا
بولدة إنسان جديد وخَلْق آخر كما قال تعالىُ {:ثمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ ا ْلخَاِلقِينَ }
[المؤمنون]14 :
فالجنين كان خَلْقا تابعا لمه في غذائه وفي تنفسه وحركته ،لكن حينما جاء أمر ال وأذن بميلده
أنشأه خَلْقا آخر له مُقوّمات حياة مستقلة غير متصل بأمه.
ويقولون في هذه العملية (القرن طش) كما تنفجر البالونة إذا نُفخت لدرجة أكثر مما تتحمل ،ومن
العجيب أن الرحم يتسع بقدرة ال لعدة توائم كما نرى ونسمع.
ومن عظمة الخالق سبحانه في مسألة الرزق أن رزق الجنين يأتيه منفصل عن رزق أمه ،فلكل
حمْل ينقطع عنها الدم الذي كان ينزل
منها رزق ل يأخذه الخر ،ومعلوم أن المرأة حين يُقدّر لها َ
بصفة دورية حال فراغ الرحم من الحمل ،هذا الدم هو الذي جعله ال غذاءً للجنين الجديد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما إذا لم يُقدّر لها حمل فإنّ جسمها يطرد هذا الدم ويتخلص منه ول يستفيد به ،لماذا؟ لنه ليس
غذاءها ،وكأن الخالق -عز وجل -يُنبّهنا أن لكل منا رزقه الذي ل يتعدّاه إلى غيره.
وأيضا من حكمته تعالى في َوضْع الجنين في بطن أمه عند الولدة أنْ ينزل برأسه ،وهذا هو
الوضع الطبيعي لولدة طفل سليم؛ لن أول ضروريات الحياة للطفل ساعةَ ينفصل عن أمه أنْ
يتنفس ،فإذا نزل برأسه -وهذا الوضع يحاول أطباء الولدة التأكد منه -استطاع التنفس حتى
وإنْ تعسر نزول باقي جسمه ،أمّا إنْ نزل الطفل بعكس هذا الوضع فإنه يختنق ويموت قبل أنْ يتم
نزوله.
ثم يقول سبحانهَ } :و ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[ { ..لقمان ]14 :الفصال :أي النفصال عن الم في مسألة
الرضاعة ،ومنه :يسمون ولد الناقة الذي استغنى عن لبنها :الفصيل أي الذي ُفصِل عن أمه،
ن يأكل ،وأن يعيش دون مساعدتها ،وحتى عملية فصال الولد عن أمه فيها
وأصبح قادرا على أ ْ
مشقة وألم للم.
أما العملية الجنسية التي أثمرتْ الولد فكانت شركة بينهما ،وبذلك ل بُدّ أن نعترف أن للم الدور
الكبر وعليها العبء الكبر في مسألة الولد؛ لذلك كان لها الحظ الفر في وصية النبي صلى
ال عليه وسلم للصحابي الذي سأله :مَنْ أحق الناس بحُسْن صحابتي يا رسول ال؟ فقال صلى ال
ل منهما على قدر ما قدّم.
عليه وسلم :أمك ،ثم أمك ،ثم أمك ،ثم أبوك ،فأعطى ك ً
ضعْنَ َأ ْولَدَهُنّ
ومسألة الفصال هذه شُرحت في آيات أخرى ،ففي سورة البقرة {:وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَن يُ ِتمّ ال ّرضَاعَةَ[} ...البقرة ]233 :وهذه تؤكد } َو ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ
َ
{ [لقمان]14 :
شهْرا[} ...الحقاف]15 :
حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ
وفي آية أخرى تجمع الحمل والرضاعة معا {:وَ َ
وبخصم العامين من الثلثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر ،وهي أقلّ مدة للحمل.
وهذه المسألة اعتمد عليها المام علي -رضي ال عنه -حينما رأى عمر رضي ال عنه يريد
أن يُقيم الحد على امرأة ولدتْ لستة أشهر؛ لنه يعتقد أن مدة الحمل تسعة أشهر ،فقال لعمر :يا
حمْلُهُ
أمير المؤمنين ،ال يقول غير ذلك ،فقال :وماذا يقول ال؟ فذكر عليّ اليتين السابقتين {:وَ َ
شهْرا[} ...الحقاف]15 :
َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ
شكُرْ لِي وَِلوَالِدَ ْيكَ إَِليّ ا ْل َمصِيرُ { [لقمان]14 :
والخرىَ } :و ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ا ْ
ثم بيّن له عليّ أن أقلّ مدة للحمل بناءً على هاتين اليتين ستة أشهر ،فقال عمر :بئس المقام
بأرض ليس فيها أبو الحسن.
شكُرْ لِي وَِلوَالِدَ ْيكَ إَِليّ ا ْل َمصِيرُ { [لقمان ]14 :فال تعالى هو المستحق للشكر
وقوله تعالى } :أَنِ ا ْ
أولً؛ لنه سبحانه هو الذي أنشأ من عدم ،وأمدّ من عُدْم ،ثم الوالدان لنهما السبب في اليجاد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإنشاء الولد.
فكأن الحق سبحانه مسبّب أعلى؛ لنه خلق من ل شيء ،والوالدان سبب من أسباب ال في
الوجود ،إذن :ل تُحسِن شكر ال الخالق الول والمسبّب العلى حتى تُحسِن شكر الوالدين ،وهما
السبب الثاني في وجودك.
شكُرْ لِي وَِلوَالِدَ ْيكَ إَِليّ ا ْل َمصِيرُ { [لقمان ]14 :أي :على اليجاد ،لكن في
فقوله سبحانه } :أَنِ ا ْ
صغِيرا }[السراء ]24 :وهذه لليجاد وللتربية
ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ
موضع آخرَ {:وقُل ّربّ ا ْر َ
وللرعاية ،فكما أن هناك أبوةً لليجاد هناك أبوة للتربية ،فكثيرا ما نجد الطفل يريبه غير أبيه
ن يكون لهؤلء نصيب من الشكر ومن الولء والبرّ ما دام أن ال تعالى
وغير أمه ،ول ُبدّ أ ْ
صغِيرا }[السراء]24 :
ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ
ذكرهم في العلة{ َوقُل ّربّ ارْ َ
والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما ،فإذا لم يكُنْ للب الحقيقي وجود ،فالبوة لمن ربّى ،وله
نفس حقوق الب من حيث الشكْر والبر والمودة ،بل ينبغي أن يكون حقّه مضاعفا؛ لن في الب
الحقيقي عطف البُضع على البُضع ،وفي الب المربّي عطف الدين على الدين ،وهذه مسألة أخرى
غير مجرد البوة.
لكن ،هل شكر ال أولً دُرْبة على أنْ تشكر الوالدين ،وهما السبب المباشر في وجودك؟ أم أن
شكْر ال يستلزم
شكرَ الوالدين دربةٌ على أن تشكر ال الذي خلقك وأوجدك؟ نقول :هما معا ،ف ُ
شكْر ال.
شكْر الوالدين ،وشكر الوالدين ينتهي إلى ُ
وقوله } :إَِليّ ا ْل َمصِيرُ { [لقمان ]14 :أي :المرجع ،والمعنى :أنني أوصيك بأهم شيء فاحذر أنْ
تخالف وصيتي؛ لنني أقدر على أنْ أعاقب مَنْ خالف.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَإِن جَا َهدَاكَ عَلَىا أَن.{ ...
()3408 /
يؤكد الحق سبحانه على أمر الوالدين ،وكأنه سبحانه استدرك غير مُستدَرك ،فليس لحد أنْ
يستدرك على ال ،وكأن واحدا كان يناقش رسول ال صلى ال عليه وسلم في أمر الوالدين وما
نزل في شأنهما ،فسأل :كيف لو أمراني بالكفر ،أأكفر طاعة لهما؟ لذلك جاء الحكم من ال في هذه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المسألة.
حسْنا وَإِن جَا َهدَاكَ لِتُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ فَلَ
وفي آية العنكبوت {:وَ َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ ُ
ج ُعكُمْ فَأُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ }[العنكبوت]8 :
ط ْع ُهمَآ إَِليّ مَرْ ِ
تُ ِ
فذكر فيها (حُسنْا) ولم يقل فيها { َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا } [لقمان ]15 :فكأن كلمة الحُسْن،
حسْن أغنتْ عن المصاحبة بالمعروف.
وهي الوصف الجامع لكلّ مدلولت ال ُ
ومعنى { جَا َهدَاكَ[ } ..لقمان ]15 :نقول :جاهد وجهد ،جهد أي في نفسه ،أما جهاد ففيها مفاعلة
مع الغير ،نقول :جاهد فلن فلنا مثل قاتل ،فهي تدل على المشاركة في الفعل ،كما لو قلت:
شارك عمرو زيدا ،فكل منهما فاعل ،وكل منهما مفعول ،لكن تغلب الفاعلية في واحد ،والمفعولية
في الخر.
فمعنى { وَإِن جَا َهدَاكَ[ } ..لقمان ]15 :ل تعني مجرد كلمة عَ َرضَا فيها عليك أن تشرك بال ،إنما
حدث منهما مجهود ومحاولت لجذبك إلى مجاراتها في الشرك بال ،فإن حدث منهما ذلك
ط ْع ُهمَا[ } ..لقمان]15 :
فنصيحتي لك { فَلَ ُت ِ
ثم إياك أنْ تتخذ من كفرهما ودعوتهما لك إلى الكفر سببا في اللدد معهما ،أو قطع الرحم ،فحتى
مع الكفر يكون لهما حق عليك { َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا[ } ..لقمان ]15 :ثم إنهما كفرا بي
أنا ،وأنا الذي أوصيك بهما معروفا.
وقوله تعالى { :وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إَِليّ[ } ..لقمان ]15 :أي :لن تكون وحدك ،إنما سبقك أُنَاسٌ
ج ُعكُمْ[ } ..لقمان ]15 :أي :مأواكم جميعا.
قبلك تابوا وأنابوا فكُنْ معهم { ثُمّ إَِليّ مَ ْر ِ
قالوا :إن هذه الية نزلت في سعد بن أبي وقاص ،الذي قال فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم" :
خالي سعد ،فليُرني امرؤ خاله " ولما أسلم سعد غضبت أمه -وكانت شديدة الحب له فكادت تُجَنّ
وحلفتْ ل تأكل ول تشرب ول تغتسل ،وأنْ تتعرّى في حَرّ الشمس حتى يرجع دينه ،فلما علم
سعد بذلك قال :دعوها وال لو عضّها الجوع لكلتْ ،ولو عضّها العطش لشربتْ ،ولو أذاها القمل
لغتسلتْ ،أما أنا فلن أحيد عن الدين الذي أنا عليه ،فنزل { :وَإِن جَا َهدَاكَ[ } ..لقمان]15 :
ن يكفر معه كابن أو غيره ،ثم يرى وصية ال
ولو أن الذي يكفر بال ويريد لغير من المؤمنين أ ْ
به رغم كفره لعلم إن ال تعالى رب رحيم ل يستحق منه هذا الجحود.
وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي الذي قالت فيه الرض:
" رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم ،فقد طعم خيرك ومنع شكرك وقالت السماء :رب ائذن لي أن
أسقط كسَفا على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ،وقالت البحار :يا رب ائذن لي أن أُغرق
ابن آدم فقد طعم خيرك ،ومنع شكرك..الخ ،فقال الحق تبارك وتعالى :لو خلقتموهم لرحمتموهم ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذلك لنهم عباد ال وصَنْعته ،وهل رأيتم صاحب صنعة يُحطّم صنعته ،وجاء في الحديث النبوي:
" ال أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره ،وقد أضله في أرض فلة ".
إذن :ف ِنعْمَ الرب هو.
سمْت المؤمنين،
سمْته غير َ
ويُروى أن سيدنا إبراهيم -عليه السلم -جاءه ضيف ،فرأى أن َ
فسأله عن دينه فقال :إنه من عُبّاد النار ،فردّ إبراهيم الباب في وجهه ،فانصرف الرجل ،فعاتب
ال نبيه إبراهيم في شأن هذا الرجل فقال :يا إبراهيم ،تريد أن تصرفه عن دينه لضيافة ليلة ،وقد
سعْتُه طوال عمره ،وهو كافر بي؟
وَ ِ
فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به ،وأخبره بما كان من عتاب ال له ،فقال الرجلِ :نعْم
الرب ربّ يعاتب أحبابه في أعدائه ،ثم شهد ألّ إله إل ال.
فلو أن الكافر الذي يريد الكفر لغيره يعرف أن ال يوصي به وهو كافر ،ويُرقّق له القلوب لَعاد
إلى ساحة اليمان بال؛ لذلك كثيرا ما نقابل أصحاب ديانات أخرى يعشقون السلم فيختارونه،
ن في دينك الجديد أبرّ بهم من دينك القديم ،ليعلموا
فيغضب عليهم أهلهم فنقول للواحد منهم :كُ ْ
محاسن دينك ،فضاعف لهم البر ،وضاعف لهم المعروف ،لعل ذلك يُرقّق قلوبهم ويعطفهم نحو
دينك.
وتأمل عظمة السلوب في } َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا[ { ..لقمان ]15 :فلم يقل مثلً أعطهم
معروفا ،إنما جعل المعروف مصاحبة تقتضي متابعتهما وتفقّد شأنهما ،بحيث يعرف البن حاجة
أبويْه ،ويعطيهما قبل أنْ يسأل ،فل يلجئهما إلى ُذلّ السؤال ،وهذا في ذاته إحسان آخر.
كالرجل الذي طرق بابه صديق له ،فلما فتح له الباب أسرّ له الصديق بشيء فدخل الرجل وأعطى
صديقه ما طلب ،ثم دخل بيته يبكي فسألته زوجته :لم تبكي وقد وصلْته؟ فقال :أبكي لنني لم أتفقد
حاله فأعطيه قبل أن يذّل نفسه بالسؤال.
ج ُعكُمْ فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُن ُتمْ
والحق -تبارك وتعالى -حين يقول بعد الوصية بالوالدين } :إَِليّ مَ ْر ِ
َت ْعمَلُونَ { [لقمان ]15 :إنما لينبهنا أن البرّ بالوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لم يُنسى لك ذلك ،إنما
سيُكتب لك ،وسيكون في ميزانك؛ لنك أطعتَ تكليفي وأمري ،وأدّ ْيتَ ،فلك الجزاء لنك عملتَ
عملً إيمانيا ل ُبدّ أن تُثاب عليه.
()3409 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ يابُ َنيّ[ } ..لقمان ]16 :نداء أيضا للتطلف والترقيق { إِ ّنهَآ إِن َتكُ مِ ْثقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَ ْر َدلٍ} ..
[لقمان ]16 :يريد لقمان أن يدل ولده على صفة من صفات الحق سبحانه ،هي صفة العلم المطلق
الذي ل تخفى عليه خافية ،وكأنه يقول له :إياك أن تظن أن ما يخفى على الناس يخفى على ال
ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك]14 :
تعالى{ َألَ َيعْلَمُ مَنْ خَلَ َ
وكما ان ال تعالى ل يخفى عليه مثقال حبة من خردل ،حتى إن كانت في باطن صخرة ،أو في
السماوات ،أو في الرض ،كذلك ل تخفى عليه حسنة ول سيئة مهما َد ّقتْ ،ومهما حاول صاحبها
إخفاءها.
جهْرَ
وقلنا :إن المستشرقين وقفوا عند مسألة علم ال الخفي بخفايا خَلْقه ،وعند قوله تعالىَ {:يعْلَمُ ا ْل َ
ل وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ }[النبياء ]110 :يقولون :ال يمتنّ بعلم ما نكْتُم ،فكيف يمتنّ بعلم
مِنَ ا ْل َقوْ ِ
الجهر ،وهو معلوم للجميع؟
ل وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ }[النبياء ]110 :ل
جهْرَ مِنَ ا ْل َقوْ ِ
ونقول :الحق سبحانه في قوله {:إِنّهُ َيعْلَمُ ا ْل َ
جهْر الجماعة في وقت واحد ،ومثّلْنا لذلك بمظاهرة
يخاطب فردا ،إنما يخاطب جماعة ،فهو يعلم َ
مثلً ،فيها اللف من البشر يهتفون بأصوات مختلفة وشعارات شتى ،منها ما يعاقب عليه
القانون ،فهل تستطيع مع اختلط الصوات وتداخلها أن تُميّز بينها ،وتُرجع كل كلمة إلى
صاحبها؟
إنك ل تستطيع ،مع أن هذا جهر يسمعه الجميع ،أما الحق -تبارك وتعالى -فيعلم كل كلمة،
ويعلم مَنْ نطق بها ويردّ كل لفظ إلى صاحبه .إذن :من حقه تعالى أن يمتنّ بعلم الجهر ،بل إن
عِلْم الجهر أعظم من علْم السرّ وأبلغ.
وقوله تعالى{ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَ ْر َدلٍ[} ..لقمان ]16 :أي :وزن حبة الخردل ،وكانت أصغر شيء
وقتها ،فجعلوها وحدة قياس للقلة ،وليس لك الن أن تقول :وهل حبة الخردل أصغر شيء في
صغَر على قدر معرفة الناس بالشياء عند نزوله ،أما من حيث
الوجود؟ فالقرآن ذكرها مثالً لل ّ
التحقيق فقد ذكر القرآن الذرة والقلّ منها.
لذلك لما اخترعوا في ألمانيا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد (أي الجزء الذي ل يتجزأ)،
واستطاعوا تفتيت الذرة ،ظنوا أن في هذه العملية مأخذا على القرآن ،فقد ذكر القرآن الذرة،
وجعلها مقياسا دينيا في قوله تعالىَ {:فمَن َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ
ل منها ،ومعلوم أن الجزء أصغر من كله.
شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة ]8-7 :لكن لم يذكر الق ّ
ونقول :قرأتم شيئا وغابت عنكم أشياء ،ولو كان لديكم إلمام بكلم ال لعلمتم أن فيه احتياطا لما
توصلتم إليه ،ولما ستتوصلون إليه فيما بعد ،واقرأوا إن شئتم قول ال تعالى عن الذرةَ {:ولَ
ك وَل َأكْبَرَ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }
صغَرَ مِن ذاِل َ
َأ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[يونس]61 :
بل نقول :إن الحتياط هنا احتياط مركب ،فلم يقل صغير إنما قال (أصغر) وهذا يدل على وجود
رصيد في كلم ال لكل مُفتّت من الذرة.
سمَاوَاتِ َأوْ فِي الَ ْرضِ يَ ْأتِ ِبهَا اللّهُ[ { ..لقمان } ]16 :فِي
وقوله } :فَ َتكُنْ فِي صَخْ َرةٍ َأوْ فِي ال ّ
سمَاوَاتِ َأوْ فِي
صَخْ َرةٍ[ { ..لقمان ]16 :أي :على حبكة الوجود ،وفي أضيق مكان } َأوْ فِي ال ّ
الَ ْرضِ[ { ..لقمان ]16 :يعني :في المتسع الذي ل حدود له ،فل في الضيق المحكم ،ول في
المتسع يخفى على ال شيء } يَ ْأتِ ِبهَا اللّهُ[ { ..لقمان ]16 :واستصحب حيثيات التيان بها
بوصفين ل تعالى } :إِنّ اللّهَ َلطِيفٌ خَبِيرٌ { [لقمان]16 :
وجمع بين هاتين الصفتين؛ لنك قد تكون خبيرا بالشيء عالما بمكانه ،لكنك ل تستطيع الوصول
إليه ،كأنْ يكون في مكان ضيق ل تنفذ إليه يدك ،وعندها تستعين بآلة دقيقة كالملقاط مثلً ،فالخبرة
موجودة ،لكن ينقصك اللطف في الدخول.
صغُرت الشياء ود ّقتْ يصل إليها ،فهو إذن عليم خبير
والحق -سبحانه وتعالى -لطيف ،فمهما َ
بكل شيء مهما صغر ،قادر على التيان به مهما دقّ؛ لنه لطيف ل يمنعه مانع ،فصفة اللطف
هذه للتغلغل في الشياء.
ق وَلطُف كان أعنف حتى في المخلوقات الضارة ،وسبق أن أوضحنا
ونحن نعلم أن الشيء كلما د ّ
هذه المسألة بمَنْ بنى بيتا في الخلء ،وأراد أنْ يؤمّن نوافذه من الحيوانات والحشرات الضارة،
فوضع على النوافذ شبكة من الحديد تمنع اللصوص والحيوانات الكبيرة ،ثم تذكّر الفئران والثعابين
قضيّق الحديد ،ثم تذكّر الذباب والناموس فاحتاج إلى شيء أضيق وأدقّ ،إذن :كلما كان عدوك
لطيفا دقيقا كان أعنف ،واحتاج إلى احتياط أكثر.
فقوله تعالى } إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [لقمان ]16:يعني :ل يعوزه علم بالمكان ،ول سهولة ويُسْر
في الوصول إلى الشياء.
كانت هذه بعض وصايا لقمان ومواعظه لولده ،ولم يأمره حتى الن بشيء من التكاليف ،إنما
حرص أنْ يُنبه :أنك قد آمنت بال وبلغَك منهجه واستمعت إليه ،فأطع ذلك المنهج في افعل ول
تفعل ،لكن قبل أنْ تباشر منهج ربك في سلوكك اعلم أنك تتعامل مع إله قيوم ،ل تأخذه سنة ول
نوم ،ول يغيب عنه شيء ،فادخل على المنهج بهذا العتقاد.
وإياك أنْ تتغلّب عليك شبهة أنك ل ترى ال ،فإنك إنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك ،واعلم أن عملك
محسوب عليك ،وإنْ كان في صخرة صماء ضيقة ،أو في سماء ،أو في أرض شاسعة.
ويؤكد هذه المسألة قوله تعالى في الحديث القدسي " :يا عبادي :إنْ كنتم تعتقدون أني ل أراكم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالخلل في إيمانكم ،وإنْ كنتم تعتقدون أنّي أراكم ،فَِلمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟ ".
لةَ.{ ...
بعد ذلك يدخل لقمان في وعظه لولده مجال التكليف ،فيقول له } :يابُ َنيّ َأ ِقمِ الصّ َ
()3410 /
يَا بُ َنيّ َأقِمِ الصّلَا َة وَ ْأمُرْ بِا ْل َمعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ
الُْأمُورِ ()17
هذه مسائل أربع بدأها لقمان بإقامة الصلة ،والصلة هي الركن الول بعد أنْ تشهد أل إله إل
ال ،وأن محمدا رسول ال ،وعلمنا أن الصلة لهميتها فُرِضت بالمباشرة ،ولهميتها جُعلِت
ملزمة للمؤمن ل تسقط عنه بحال ،أما بقية الركان فقد تسقط عنك لسبب أو لخر ،كالصوم
والزكاة والحج ،فإذا سقطت عنك هذه الركان لم يَبْق معك إل الشهادتان والصلة؛ لذلك جعلها
النبي صلى ال عليه وسلم عماد الدين.
لةَ[ } ..لقمان ]17 :لنها استدامة إعلن الولء ل تعالى
ولذلك بدأ بها لقمان { :يابُ َنيّ َأقِمِ الصّ َ
خمس مرات في اليوم والليلة ،فحين يناديك ربك (ال أكبر) فل ينبغي أن تنشغل بمخلوق عن نداء
الخالق ،وإل فما موقف الب مثلً حين ينادي ولده فل يجيبه؟ فاحذر إذا ناداك ربك أل تجيب.
ثم تأمل النداء للصلة الذي اهتدتْ إليه الفطرة البشرية السليمة ،وأقرّه سيدنا رسول ال :ال أكبر
ال أكبر ،يعني أكبر من كل ما يشغلك عنه ،فإياك أن تعتذر بالعمل في زراعة أو صناعة أو
تجارة عن إقامة الصلة.
وقد ناقشتُ أحد أطباء الجراحة في هذه المسألة ،فقال :كيف أترك عملية جراحية من أجل
الصلة؟ فقلت له :بال لو اضطررتَ لقضاء الحاجة تذهب أم ل؟ فضحك وقال :أذهب ،فقلت:
فالصلة أوْلَى ،ول تعتقد أن ال تعالى يكلّف العبد تكليفا ،ثم يضنّ عليه باتساع الزمن له ،بدليل
أنه تعالى يراعي وقت العبد ومصالحه وإمكاناته ،ففي السفر مثلً يشرع لك الجمع والقصر.
فبإمكانك أنْ تُوفّق صلتك حسب وقتك المتاح لك ،إما بجمع التقديم أو التأخير ،وكم يتسع وقتك
جمْع تأخير
ويخلو من مشغولية العبادة إذا جمعتَ الظهر والعصر جمْعَ تقديم ،والمغرب والعشاء َ
في آخر وقت العشاء؟ أو حين تجمع الظهر والعصر جمعَ تأخير ،فتصليهما قبل المغرب ،ثم
تصلي المغرب والعشاء جمع تقديم؟
سعَة ،ول حجةَ لحد في تَرْك الصلة بالذات ،أما الذين يقولون في مثل هذه
إذن :المسألة فيها ِ
س َعهَا[} ...البقرة ]286 :وأن هذا ليس في وُسْعي ..فنقول لهم :ل
المور{ لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإلّ وُ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ينبغي أنْ تجعل وُسْعك هو الحكم ،إنما التكليف هو الحكم في الوُسْع ،وما دام ربك -عز وجل -
سعْك وكلّفك على قدره بدليل ما شرعه لك من ُرخَص إذا خرجتْ
قد كلّفك فقد علم سبحانه وُ ْ
العبادة عن الوُسْع.
لةَ[ } ..لقمان ]17 :لن الصلة أول اكتمال في الجماع لمنهج ال ،وبها يكتمل
وقال { َأقِمِ الصّ َ
إيمان النسان في ذاته ،وسبق أن قلنا :إن هناك فرقا بين أركان السلم وأركان المسلم ،أركان
السلم هي الخمس المعروفة ،أمّا أركان المسلم فهي الملزمة له التي ل تسقط عنه بحال ،وهي
الشهادتان والصلة ،وإنْ كان على المسلم أنْ يؤمن بها جميعا ،لكن في العمل قد تسقط عنه عدا
الصلة والشهادتين.
ثم يبين لقمان لولده :أن اليمان ل يقف عند حدّ الستجابة لهذين الركنين الساسيين ،إنما من
ف وَانْهَ عَنِ
اليمان ومن كمال اليمان أنْ تحب لخيك ما تحب لنفسك ،فيقول له } :وَ ْأمُرْ بِا ْل َمعْرُو ِ
ا ْلمُ ْنكَرِ[ { ..لقمان ]17 :فانشغل بعد كمالك بإقامة الصلة ،بأنْ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر،
فبالصلة َكمُ ْلتَ في ذاتك ،وبالمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنقل الكمال إلى الغير ،وفي ذلك
كمال اليمان.
وأنت حين تأمر بالمعروف ،وحين تنهي عن المنكر ل تظن أنك تتصدّق على الخرين ،إنما
ل يعود نفعه عليك ،فبه تجد سعة الراحة في اليمان ،وتجد الطمأنينة والراحة الذاتية؛
تؤدي عم ً
لنك أد ْيتَ التكاليف في حين قصرّ غيرك وتخاذل.
ول شك أن في التزام غيرك وفي سيره على منهج ال راحة لك أنت أيضا ،وإل فالمجتمع كله
يَشْقى بهذه الفئة القليلة الخارجة عن منهج ال.
ومن إعزاز العلم أنك ل تنتفع به النتفاع الكامل إل إذا عدّيْته للغير ،فإنْ كتمته انتفع الخرون
بخيرك ،وشقيتَ أنت بشرّهم .إذن :ل تنتفع بخير غيرك إل حين تؤدي هذه الفريضة ،فتأمر
غيرك بالمعروف ،وتنهاه عن المنكر ،وتحب لهم ما تحب لنفسك ،وبذلك تنال الحظين ،حظك عند
ال لنك أد ْيتَ ،وحظك عند الناس لنك في مجتمع متكامل اليمان ينفعك ول يضرك.
ولك هذا أن تلحظ أن هذه الية لم تقرن إقامة الصلة بإيتاء الزكاة كعادة اليات ،فغالبا ما نقرأ{:
ل َة وَآتُواْ ال ّزكَاةَ[} ...البقرة]43 :
وََأقِيمُواْ الصّ َ
وحين نستقرئ كلمة الزكاة في القرآن الكريم نجد أنها وردت اثنتين وثلثين مرة ،اثنتان منها
ليستا في معنى زكاة المال المعروفة النماء العام إنما بمعنى التطهر ،وذلك في قوله تعالى في
قصة الخضر وموسى عليه السلمَ {:أقَتَ ْلتَ َنفْسا َزكِيّةً ِبغَيْرِ َنفْسٍ[} ...الكهف]74 :
ثم قوله تعالى {:فَأَ َردْنَآ أَن يُ ْبدَِل ُهمَا رَ ّب ُهمَا خَيْرا مّنْهُ َزكَـا ًة وََأقْ َربَ رُحْما }[الكهف]81 :
والمعنى :طهرناهم حينما رفعنا عنهم بابا من أبواب الفتنة في دين ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والموضع الخر في قوله تعالىَ {:وحَنَانا مّن لّدُنّا وَ َزكَا ًة َوكَانَ َتقِيّا }[مريم ]13 :فالمعنى :وهبنا
لمريم شيئا نُزكيها به؛ ذلك لن الزكاة أول ما تتعدى تتعدّى من واجد لمعدم ،ومريم لم تتزوج
فهي ُمعْدَمة في هذه الناحية؛ لذلك وهبها ال النماء الخاص من ناحية أخرى حين نفخ فيها الروح
من عنده تعالى.
وفي موضع واحد ،جاءت الزكاة بمعنى زكاة المال ،لكن غير مقرونة بالصلة ،وذلك في قوله
تعالىَ {:ومَآ آتَيْتُمْ مّن رّبا لّيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَلَ يَرْبُو عِندَ اللّ ِه َومَآ آتَيْ ُتمْ مّن َزكَاةٍ تُرِيدُونَ
ضعِفُونَ }[الروم]39 :
وَجْهَ اللّهِ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُم ْ
لةَ وَ ْأمُرْ بِا ْل َمعْرُوفِ[ { ..لقمان ]17 :ولم يقل:
وفي هذه الية قال لقمان لولده } :يابُ َنيّ َأقِمِ الصّ َ
وآتِ الزكاة ،فلماذا؟
ينبغي أن نشير إلى أن القرآن جمع بين الصلة والزكاة؛ لن الصلة فيها تضحية بالوقت ،والوقت
زمن العمل ،والعمل وسيلة الكسب والمال ،إذن؛ ساعة تصلي فقد ضح ْيتَ بالوقت الذي هو أصل
المال ،فكأن في الصلة تصدقت بمائة في المائة من المال المكتسب في هذا الوقت ،أمّا في الزكاة
فأنت تتصدّق بال ُعشْر ،أو نصف العشر ،أو رُبْع العشر ،ويبقى لك معظم كسبك ،فالواقع أن الزكاة
في الصلة أكبر وأبلغ من الزكاة نفسها.
إذن :لما كانت الزكاة في كل منهما ،قرن القرآن بينهما إل في هذا الموضع ،ولما تتأمله تجده من
دقائق السلوب القرآني ،فالقرآن يحكي هذه الوصايا عن لقمان لولده ،ولنا فيه ملحظان:
الول :أن ال تعالى لم يكلّف العبد إل بعد سِنّ البلوغ إل في الصلة ،وجعل هذا التكليف مُوجها
إلى الوالد أو ولي المر ،فأنابه أن يكلف ولده بالصلة ،وأن يعاقبه إنْ أهمل في أدائها ،ذلك ليربي
ن التكليف ،وقد ألفَها الولد وتعوّد عليها ،فهي عبادة
عند ولده الدّرْبة على الصلة ،بحيث يأتي سِ ّ
تحتاج في البداية إلى مران وأخذ وردّ ،وهذا أنسب للسنّ المبكرة.
والوالد يُكلف ولده على اعتبار أنه الموجد الثاني له ،والسبب المباشر في وجوده ،وكأن ال تعالى
يقول :أنا الموجد لكم جميعا وقد وكّلتُك في أنْ تكلّف ولدك؛ لن معروفك ظاهر عنده ،وأياديك
عليه كثيرة ،فأنت القائم بمصالحه المُلَبّي لرغباته ،فإنْ أمرته قَبِل منك واطاعك ،فهي طاعة
بثمنها.
وطالما وكلتك في التكليف فطبيعي أنْ أُوكّلك في العقوبة ،فإنْ حدث تقصير في هذه المسألة
فالمخالفة منك ،ل من الولد؛ لنني لم أُكلّفه إنما كّلفْتُك أنت.
لذلك بدأ لقمان أوامره لولده بإقامة الصلة ،لنه مُكلّف بهذا المر ،فولده ما يزال صغيرا بدليل
قوله } يابُ َنيّ[ { ..لقمان ]17 :فالتكليف هنا من الوالد ،فإنْ كان الولد بالغا حال هذا المر فالمعنى:
لحظ التكليف من ال بإقامة الصلة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما الزكاة ،وهي تكليف من ال أيضا فلم يذكرها هنا -وهذه من حكمة لقمان ودقّة تعبيره ،وقد
حكاها لنا القرآن الكريم لنأخذ منها مبادئ نعيش بها.
ثانيا :إنْ كلّفه بالزكاة فقال :أقم الصلة وآتِ الزكاة فقد أثبت لولده ملكية ،ومعروف أن الولد ل
ملكيةَ له في وجود والده ،بدليل قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :أنت ومالك لبيك " وذكرنا
أن لقمان لما علم بموت أبيه قال :إذن ملكتُ أمري فأمره ليس مِلْكا له في حياة أبيه؛ لذلك لم يأمر
ولده بالزكاة ،فالزكاة في ذمته هو ،ل في ذمة ولده.
ج َولَ عَلَى الَعْرَجِ
عمَىا حَرَ ٌ
علَى الَ ْ
وتتأكد لدينا هذه المسألة حين نقرأ قول ال تعالى {:لّيْسَ َ
سكُمْ أَن تَ ْأكُلُواْ مِن بُيُو ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ آبَآ ِئكُمْ َأوْ بُيُوتِ
ج َولَ عَلَىا أَنفُ ِ
ج َولَ عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَ ٌ
حَرَ ٌ
خوَاِل ُكمْ
عمّا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ أَ ْ
عمَا ِمكُمْ َأوْ بُيُوتِ َ
خوَا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ أَ ْ
خوَا ِنكُمْ َأوْ بُيُوتِ أَ َ
ُأ ّمهَا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ ِإ ْ
َأوْ بُيُوتِ خَالَ ِتكُمْ َأوْ مَا مََلكْتُمْ ّمفَاتِحهُ َأ ْو صَدِي ِقكُمْ }
[النور]61 :
فال تعالى رفع عنّا الحرج أنْ نأكل من هذه البيوت ،ونلحظ أن الية ذكرتْ القارب عدا البناء،
وكان الترتيب المنطقي أن يقول بعد أمهاتكم :أو بيوت أبنائكم ،فلماذا لم يذكر هنا بيوت البناء؟
قالوا :لنها داخلة في قوله :بيوتكم ،فبيت البن هو بيت الب ،والولد وما ملكتْ يداه مِ ْلكٌ لبيه.
حمْل النفس على التجلّد
ثم يقول لقمان لولده } :وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ[ { ..لقمان ]17 :الصبرَ :
ن الحداث على نفسك بالجزع ،فأنت أمام الحداث تحتاج إلى قوة مضاعفة،
للحداث ،حتى ل تعي َ
فكيف تُضعِف نفسك أمامها؟
والمصيبة تقع إما لك فيها غريم ،أو ليس لك فيها غريم ،فالذي يسقط مثلً ،فتنكسر ساقه ،أو الذي
يفاجئه المرض..الخ هذه أقدار ساقها ال إليك بل سبب فل غريم لك فيها؛ لذلك يجعلها في
ميزامك:إما أنْ يعلي بها درجاتك ،وإما أنْ يُكفّر بها سيئاتك؛ لذلك كان الكفار بفرحون إذا أصاب
المسلمين مصيبة ،كما فرحوا يوم أُحُد ،وقد ردّ ال عليهم وبيّن غباءهم ،وقال سبحانه {:قُل لّن
ُيصِيبَنَآ ِإلّ مَا كَ َتبَ اللّهُ لَنَا[} ...التوبة]51 :وتأمل الجار والمجرور (لنا) ولم يقُلْ كتب علينا ،إذن:
فالمعصية في حساب (له) ل (عليه) فلماذا تفرحون في المصيبة تقع بالمسلمين؟
وأوصى بالصبر بعد المر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لن الذي يتعرض لهذين المرين ل ُبدّ
ن تعرضتْ لليذاء فاصبر؛ لن
أن يصيبه سوء من جراء أمره بالمعروف أو َنهْيه عن المنكر ،فإ ْ
هذا الصبر يعطيك جزاءً واسعا.
وتغيير المنكر له مراحل وضحها النبي صلى ال عليه وسلم في قوله " :مَنْ رأى منكم منكرا
فليُغيّره بيده ،فإنْ لم يستطع فبلسانه ،فإنْ لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اليمان ".
فال أمرك أنْ تُغيّر المنكر ،لكن جعل لك تقدير المسألة ومدى إمكانك فيها ،فالدين يريدك مُصلحا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن تلقى بنفسك إلى التهلكة ،فلك أنْ تُغيّر المنكر بيدكَ فتضرب وتمنع إذا كان لك
لكن ل يريد أ ْ
ولية على صاحب المنكر ،كأن يكون ولدك أو أخاك ..إلخ.
فلك أن تضربه مثلً إنْ رأيتَ سيجارة في فمه ،أو أنْ تكسر له كأس الخمر إنْ شربها أو تمزق له
مثلً ورق " الكوتشينة " ،فإنْ لم تكُنْ لك هذه الستطاعة فيكفي أنْ تُغيّر بلسانك إنْ كانت لديك
الكلمة الطيبة التي تداوي دون أن تجرح الخرين ،ودون أنْ يؤدي النصح إلى فتنة ،فيكون
ضرره أكثر من نفعه.
ن في استطاعتك هذه أيضا ،فليكُنْ تغيير المنكر بالقلب ،فإنْ رأيتَ منكرا ل تملك إل أنّ
فإنْ لم يكُ ْ
تقول :اللهم إنّ هذا منكر ل يرضيك لكن أ ُيعَ ّد عمل القلب تغييرا للمنكر وأنت مطالب بأنْ تُغيّره
بيدك يعني :إلى ضده؟ وهل هذه الكلمة تغير من الواقع شيئا؟
قالوا :ل يحدث التغيير بالقلب إل إذا كان القالب تابعا للقلب ،فالقلب يشهد أنّ هذا منكر ل يُرضي
ال ،والقالب يساند حتى ل تكون منافقا ،فأنت أنكرتَ عليه الفعل ،ول استطاعة لك على أنْ
تمنعه ،ول أن تنصحه ،فل أقلّ من أنْ تعزله عن حياتك وتقاطعه ،وإلّ فكيف تُغيّر بقلبك إنْ
أنكرتَ عليه فعله وأبقيتَ على وُدّه ومعاملته؟
إذن :ل يكون التغيير بالقلب إل إذا أحسّ صاحب المنكر أنه في عزلة ،فل تهنئه في فرح ،ول
ن كنتَ صاحب تجارة ،فل تَ ِبعْ له ول تشتر منه.
تعزيه في حزن ،وإ ْ
.الخ.
وما استشرى الباطل وتَبجح أهل الفساد وأهل المنكر إل لن الناس يحترمونهم ويعاملونهم على
هذه الحال ،بل ربما زاد احترام الناس لهم خوفا من باطلهم ومن ظلمهم.
فالتغيير بالقلب ليس كلمة تقال إنما فعل وموقف ،وقد علّمنا ربنا -تبارك وتعالى -هذه القضية
س ِمعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ ُي ْكفَرُ ِبهَا وَيُسْ َتهْزَأُ ِبهَا فَلَ
في قوله سبحانهَ {:وقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي ا ْلكِتَابِ أَنْ إِذَا َ
َت ْقعُدُواْ َم َعهُمْ حَتّىا يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ إِ ّن ُكمْ إِذا مّثُْلهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلكَافِرِينَ فِي
جمِيعا }[النساء]140 :
جهَنّمَ َ
َ
ويقول سبحانه في آية أخرى {:وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ حَتّىا
يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْ ِر ِه وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ الشّيْطَانُ فَلَ َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَىا مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[النعام:
]68
والنبي صلى ال عليه وسلم في قصة الثلثة الذين خُلّفوا بغير عذر في غزوة تبوك ،يُعلّمنا كيف
نعزل أصحاب المنكر ،ل بأن نعزلهم في زنزانة كما نفعل الن ،إنما بأن نعزل المجتمع عنهم،
ليس المجتمع العام فحسب ،بل عن المجتمع الخاص ،وعن أقرب الناس إليه.
وقد تخلف عن هذه الغزوة عدة رجال اعتذروا لرسول ال فقَبِل علنيتهم وترك سرائرهم ل ،لكن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هؤلء الثلثة لم يجدوا لنفسهم عذرا ،ورأوا أنهم ل يستطعيون أنْ يكذبوا على رسول ال ،ولم
يحبسهم الرسول ،إنما حبس المجتمع عنهم حتى القارب ،فكان الواحد منهم يمشي و (يتمحك) في
الناس ليكلمه أحد منهم ،فل يكلمه أحد ،وكعب بن مالك يتسوّر على ابن عمه الحديقة ،ويقول له:
تعلم أني أحب ال ورسوله فل يجيبه ،ويصلي بجوار الرسول يلتمس أنْ ينظر إليه ،فل ينظر
إليه.
ولما نجحت هذه المقاطعة على هذا المستوى أعلها الشرع وتسلسل بها إلى الخصوصيات في
ل يقربها زوجها إلى أن يحكم ال في
ل منهن أ ّ
البيت ،فعزل هؤلء الثلثة عن زوجاتهم ،فأمر ك ً
أمرهم ،حتى أن واحدة من هؤلء جاءت لرسول ال وقالت :يا رسول ال ،إن زوجي رجل كهدبة
ل يقربها.
الثوب (يعني :ليست له رغبة في أمر النساء) فأذن لها رسول ال في أن تخدمه على أ ّ
ظل هؤلء الثلثة ثلثين يوما في هذا المتحان العام وعشرة أيام في المتحان الخاص ،ونجح
المجتمع العام ،ونجح المجتمع الخاص ،وهكذا علّمنا الشرع كيف نعزل أصحاب المنكر وأهل
الجريمة ،فعزل المجتمع عنهم أبلغ من عزلهم عن المجتمع ،لذلك كان َوقْع هذه العزلة قاسيا على
هؤلء.
فهذا كعب بن مالك يحكي قصته ويقول :لقد ضاقت بي الرض على سعتها ،والحق يقول في
سهُ ْم َوظَنّواْ أَن لّ
وصف حالهم {:حَتّىا إِذَا ضَا َقتْ عَلَ ْيهِ ُم الَ ْرضُ ِبمَا َرحُ َبتْ َوضَا َقتْ عَلَ ْيهِمْ أَنفُ ُ
مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ ِإلّ إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[التوبة]118 :
فلما استوى المجتمع العام والمجتمع الخاص على منهج ال فرّج ال عن هؤلء الثلثة ،ونزل قوله
تعالى {:ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[التوبة]118 :
فأسرع أحدهم يبشر كعبا بهذه البشرى فطار كعب فرحا بها ،وقال :فوال ما ملكتُ أنْ أخلع عليه
ثيابي كلها ،ثم أستعير ثيابا أذهب بها إلى رسول ال.
إذن :ينبغي أن نعزل المجتمع كله عن أصحاب المنكر ،ل أن نعزلهم هم في السجون ،لكن مَنْ
يضمن لنا استقامة المجتمع في تنفيذ هذه العزلة كما نفذها المجتمع المسلم على عهد رسول ال؟
نعود إلى ما كنا نتحدث عنه من أن المصيبة إذا كانت قدرا من ال ليس لك فيها غريم ،فإن
الصبر عليها هيّن ،فالمر بينك وبين ربك ،أما إنْ كان لك في المصيبة غريم كأن يعتدي عليك
أحد فيحرق زرعك أو يقتل ولدك ،فهذه تحتاج إلى صبر أشد ،فكلما رأيتَ غريمك هاجتْ نفسك
وغلى الدم في عروقك ،فيحتاج إلى طاقة أكبر ليحمل نفسه على الصبر.
لمُورِ }[الشورى]43 :
غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْز ِم ا ُ
لذلك يقول سبحانه في هذه المسألة {:وََلمَن صَبَ َر وَ َ
فأكّدها باللم؛ لنها تحتاج إلى طاقة أكبر من الصبر وضبط النفس حتى ل تتعدى كلما رأيت
الغريم ،وهذا من المواضع التي وقف عندها المستشرقون يلتمسون فيها مأخذا على كلم ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمُورِ { [لقمان ]17 :وقوله {:إِنّ َذِلكَ َلمِنْ
يقولون :ما الفرق بين قول القرآن } إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَ ْز ِم ا ُ
لمُورِ }[الشورى]43 :
عَزْ ِم ا ُ
ثم أيهما أبلغ من الخرى ،فإنْ كانت الولى بليغة فالخرى غير بليغة.
ونقول في الرد عليهم :كل من اليتين بليغة في سياقها ،فالتي ُأكّدت باللم جاءت في المصيبة التي
لك فيها غريم وتحتاج إلى صبر أكبر ،أما الخرى ففي المصيبة التي ليس لك فيها غريم ،فهي
بينك وبين ربك ،والصبر عليها هيّن يسير.
لذلك ،فالحق سبحانه يعالج هذه المسألة ليُصفّي النفس ويمنع ثورتها ،فيقول {:وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ
مّثُْلهَا }[الشورى ]40 :لتقف النفس عند حدّ الرد بالمثل ،ثم يُرقّى المسألة ،ويفتح بابا للعفو:
عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ[} ...الشورى ]40 :وقال في موضع آخر {:وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ
{ َفمَنْ َ
ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِ ِه وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }[النحل]126 :
فحين يبيح لك ربك أنْ تأخذ بحقك تهدأ نفسك ،وربما تتنازل عن هذا الحق بعد أن أصبح في يدك؛
لذلك كثيرا ما نرى -خاصة في صعيد مصر حيث توجد عادة الخذ بالثأر -القاتل يأخذ كفنه
على يديه ،ويدخل به على ولي الدم ،ويُسلّم نفسه إليه ،وعندها ل يملك ولي الدم إل أن يعفو.
حتى في مسألة القتل والقصاص يجعل الحق سبحانه مجالً لترقية النفس البشرية وأريحيتها ،بل
شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ وَأَدَآءٌ ِإلَيْهِ
ع ِفيَ َلهُ مِنْ َأخِيهِ َ
ويُسمّي الطرفين إخوة في قوله تعالىَ {:فمَنْ ُ
حسَانٍ[} ...البقرة]178 :
بِإِ ْ
ففي هذا الجو وفي أثناء ما تسيل الدماء يُحدّثنا ربنا عن العفو والحسان والخوة ،ومعلوم أن
هناك فَرْقا بين أن تأخذ الحق ،وبين أنْ تنفذ أخذ الحق بيدك.
فال تعالى خالق النفس البشرية ويعلم ما جُبَلتْ عليه من الغرائز وما ُتكِنّه من العواطف ،وما
يستقر فيها من القيم والمبادئ ،لكنه -سبحانه وتعالى -ل يبني الحكم على ارتفاع المناهج في
النسان ،إنما على ضوء هذه الطبيعة التي خلقه عليها ،فليس الخَلْق كلهم على درجة من الورع
تدعوهم إلى العفو والصفح؛ لذلك أعطاك حقّ الرد بالمثل على مَن اعتدى عليك{ وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ
سَيّئَةٌ مّثُْلهَا[} ...الشورى ]40 :وقال {:وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ[} ...النحل]126 :
ومع ذلك حين تتأمل هذه اليات تجد أن تنفيذها من الصعوبة بمكان ،فمَنْ لديه القدرة والمقاييس
الدقيقة التي تُوقِفه عند حدّ المثلية التي أمر ال بها؟
وسبق أنْ بيّنا :أنه إذا اعتدى عليك شخص وضربك مثلً ،أتستطيع أنْ تضربه مثل ضربته ل
عفَا وََأصْلَحَ فََأجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ
تزيد عليها ،لنك إنْ زدتَ ص ْرتَ ظالما ،واقرأ بقية اليةَ {:فمَنْ َ
حبّ الظّاِلمِينَ }[الشورى]40 :
لَ ُي ِ
وسبق أنْ ذكرنا قصة المرابي اليهودي الذي اتفق مع مدينه على أنْ يقطع من جسمه رطلً ،إذا لم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُؤدّ في الموعد المحدد ،وفعلً جاء موعد السداد ،ولم يَف المدين ،فرفع اليهودي أمره إلى القاضي
حقٌ في أن
وأخبره بشرطه -وكان القاضي مُوفّقا قد نوّر ال بصيرته ،فقال لليهودي :نعم لك َ
تُنفذ ما اتفقنا عليه ،وسأعطيك السكين على أنْ تأخذ من المدين رطلً من لحمه في ضربة واحدة،
بشرط إذا زدتَ عنها أو نقصتَ أخذناه من لحمك.
وعندها انصرف اليهودي؛ لن المثلية ل يمكن أن تتحقق ،فكأن ال تعالى بهذا الشرط -شرط
المثلية في الردّ -يلفت انتباهك إلى أن العفو أوْلَى بك وأصلح.
إذن :يُحدّثنا الحق -تبارك وتعالى -عن العفو وعن الحسان في المصيبة التي لك فيها غريم،
ويبين لنا أنك إذا أخذتَ حقك الذي قرره لك فقد أرحتَ نفسك ،لكن حرمتها الجر الذي تكفّل ال
لك به إنْ أنت عفوتَ.
وكأن الحق -تبارك وتعالى -يريد أنْ يولد من أسباب البغضاء أسبابا للولء ،فالذي كان من
حقك أنْ تقتله ثم عفوتَ عنه أصبحت حياته مِلْكا لك ،فهل يفكر لك في سوء بعدها؟
حمِيمٌ }[فصلت:
لذلك يُعلّمنا ربنا {:ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَِإذَا الّذِي بَيْ َنكَ وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
]34
ن يقول :وال أنا دفعتُ بالتي هي أحسن مع خصمي ،فلم أجده وليا حميما
وأذكر أنني جاءني مَ ْ
كما قال ال تعالى ،فقلت له :عليك أن تراجع نفسك؛ لنك ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن ،لكن
خصْمك وليا حميما ،إنما
الواقع غير ذلك ،ولو دفعتَ بالتي هي أحسن لَصدق ال معك ،ورأيت َ
أنت تريد أنْ تُجرّب مع ال والتجربة مع ال شكّ.
ن نبقى على يقين التوكل ساريا دون أنْ نفكر كيف يحدث،
والنبي صلى ال عليه وسلم يُعلّمنا أ ْ
وقصة الصحابية أم مالك شاهدَة على ذلك ،فقد كان عندها غنم تحلب لبنها ،فتصنع مما زاد عن
حاجتها وحاجة أولدها زبدا ،وكانت تهدي منه إلى رسول ال في عكة عندها ،فكان أهل بيت
رسول يُفرغون هذه العكة في آنيتهم ،ثم يعيدونها إليها وهكذا.
حتى قالت أم مالك :وال ما أصبتُ إداما إل من هذه العكة ،وكانت كلما احتاجت الدام أفرغتْ
العكة ،فوجدت بها الدام حتى بعد أن أفرغها أهل بيت الرسول ،لكن خُيّل لها في يوم من اليام
أنها أسرفت في استعمال هذه العكة ،وظنت أن ما بها من إدام قد نفد ،فأخذتها وعصرتها ،فلم تجد
فيها شيئا ،فظنت أن رسول ال غاضب منها ،فذهبت إليه وقصّتْ عليه هذه المسألة ،فقال لها
صلى ال عليه وسلم " " :أعَصريتها يا أم مالك؟ " فقالت :نعم يا رسول ال ،فأخبرها أن التجربة
مع ال شكّ وأنها لو لم تعصرها ولم تظن هذا الظن لبقيتْ ال ُعكّة على حالها " ،وكما تعودت
منها.
وتلحظ أن كلمة (أصابك) والمصيبة تدل على أنها واقعة بك ولن تنجو منها؛ لنها قدر أرسل إليك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالفعل ،وسيصيبك ل محالة ،والمسألة مسألة وقت إلى أنْ يصلك هذا السهم الذي ُأطِلق عليك،
سمّيت المصيبة بهذا السم إل لنها صائبتك ل
ن تقول :لو أني فعلت كذا لكان كذا ،فما ُ
فإياك أ ْ
تستطيع أنْ تف ّر منها .كما يقولون عن الموت :تأكد أنك ستموت ،وعمرك بمقدار أنْ يصلك سهم
الموت.
لمُورِ { [لقمان ]17 :نقول :فلن له عزم ،ونسمع القرآن يقول {:فَِإذَا عَ َز ْمتَ
وكلمة } مِنْ عَ ْز ِم ا ُ
فَ َت َوكّلْ عَلَى اللّهِ[} ...آل عمران ]159 :العزم :الفرض المقطوع به ،والذي ل مناص عنه ،ومنه
ما جاء في قول لقمان لما خيّره ربه بين أن يكون رسولً أو حكيما ،فاختار الراحة وترك
البتلء ،لكنه قال :يارب إنْ كانت عزمة منك فسمعا وطاعة ،يعني :أمرا مفروضا ينبغي ألّ نحيد
عنه.
والعزم يعني شحن كل طاقات النفس للفعل والقطع به ،فالصلة على الميت مثلً ل تُسمّى عزيمة؛
لنها فرض كفاية إنْ فعلها البعض سقطتْ عن الباقين ،على خلف الصلة التامة في السفر مثلً
ل بقول
حيث يعتبرها المام أبو حنيفة عزيمة ل رخصة ،فإن أتممت الصلة في السفر أسأْت ،عم ً
النبي صلى ال عليه وسلم " :إن ال يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه ".
والمعنى :ل ترد يد ال المبسوطة لك بالتيسير في الصلة أثناء السفر.
ضتْ في الصل مثنى
ثم يعتمد في هذا الرأي على دليل آخر من علم الصول هو أن الصلة فُر َ
مثنى ،ثم أقرت في السفر وزيدت في الحضر .إذن :فصلة السفر مع الصل ،فلو أتممتَ الصلة
في السفر أس ْأتَ.
خ ّدكَ لِلنّاسِ.{ ...
صعّرْ َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ولَ ُت َ
()3411 /
صعَر ،وهو في الصل داء يصيب البعير يجعله يميل برقبته ،ويشبه به
معنى :تصعر من ال ّ
النسان المتكبر الذي يميل بخدّه ،ويُعرض عن الناس تكبّرا ،ونسمع في العامية يقولون للمتكبر
(فلن ماشي لوي رقبته).
صعّرْ خَ ّدكَ لِلنّاسِ[ } ..لقمان ]18 :واختيار هذا التشبيه بالذات كأن الحق
فقول ال تعالىَ { :ولَ ُت َ
سبحانه يُنبّهنا أن التكبّر وتصعير الخدّ داء ،فهذا داء جسدي ،وهذا داء خلقي .وقد تنبه الشاعر إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صعَريعني :إذا لم يستطع أبناء الزمان
هذا المعنى فقال:فَ َدعْ ُكلّ طَاغِيةٍ للزّمانِ فإنّ الزمانَ يُقيم ال ّ
تقويم صعر المتكبر ،فدعْه للزمان فهو جدير بتقويمه ،وكثيرا ما نرى نماذج لناس تكبروا
وتجبروا ،وهم الن ل يستطيع الواحد منهم قياما أو قعودا ،بل ل يستطيع أنْ يذب الطير عن
وجهه.
والنسان عادة ل يتكبر إل إذا شعر في نفسه بميزة عن الخرين ،بدليل أنه إذا رأى مَنْ هو أعلى
منه انكسر وتواضع وقوّم من صَعره ،ومثّلنا لذلك بـ (فتوة) الحارة الذي يجلس على القهوة مثلً
واضعا قدما على قدم ،غير مُبَال بأحد ،فإذا دخل عليه (فتوة) آخر أقوى منه تلقائيا يعتدل في
جلسته.
وهذه المسألة تفسر لنا الحكمة التي تقول (اتق شر من أحسنت إليه) لماذا؟ لن الذي أحسنتَ إليه
مرتْ به فترة كان ضعيفا محتاجا وأنت قوي فأحسنتَ إليه ،وق ّد ْمتَ له المعروف الذي قوّم حياته
فأصبح لك يَدٌ عليه ،وكلما رآك ذكّرته بفترة ضعفه ،ثم إن اليام ُدوَل تدور بين الخَلْق ،والضعيف
يصبح قويا ويحب أنْ يُعلي نفسه بين معارفه ،لكنه ل بُدّ أن يتواضع حينما يرى مَنْ أحسن إليه،
وكأن وجود مَنْ أحسن إليه هو العقبة أمام عُُلوّه وكبريائه؛ لذلك قبل( :اتق شر من أحسنت إليه).
ثم أن الذي يتكبر ينبغي أنْ يتكبّر بشيء ذاتي فيه ل بشيء موهوب له ،وإذا رأيتَ في نفسك ميزة
عن الخرين فانظر فيما تميزوا وهم به عليك ،وساعة تنظر إلى الخَلْق والخالق تجد كل مخلوق
ل جميلً.
لذلك تروى قصة الجارية التي كانت تداعب سيدتها ،وهي تزينها وتدعو لها بفارس الحلم ابن
الحلل ،فقالت سيدتها :لكني مشفقة عليك؛ لنك سوداء لم ينظر أحد إليك ،فقالت الجارية :يا
حسْنك ل يظهر لعين الناس إل إذا رأوا قُبْحي -فالذي تراه أنت قبيحا هو
سيدتي ،اذكري أن ُ
في ذاته جميل ،لنه يبدي جمال ال تعالى في طلقة القدرة -ثم قالت :يا هذه ،ل تغضبي ال
بشيءٍ من هذا ،أتعيبين النقش ،أم تعيبين النقاش؟ ولو أدركت ما فيّ من أمانة التناول لك في كل
ما أكلف به وعدم أمانتك فيما يكلفك به أبوك لعلمت في أي شيء أنا جميلة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الخر.
وسبق أن ذكرنا أن رجلً قال للقمان :لقد عرفناك عبدا أسود غليظ الشفاه ،تخدم فلنا وترعى
الغنم ،فقال لقمان :نعم ،لكني أحمل قلبا أبيض ،ويخرج من بين شفتيّ الغليظتين الكلم العذب
الرقيق.
ويكفي لقمان فخرا أن ال تعالى ذكر كلمه ،وحكاه في قرآنه وجعله خالدا يُتْلى ويُتعبّد به،
ويحفظه ال بحفظه لقرآنه.
خ ّدكَ لِلنّاسِ[ { ..لقمان ]18 :فكلمة للناس هنا لها مدخل،
صعّرْ َ
ولنا مَلْحظ في قوله تعالى } َولَ ُت َ
وكأن ال تعالى يقول لمن يُصعّر خده؛ ل تَ ْدعُ الناس إلى العصيان والتمرد على أقدار ال بتكبّرك
ل اليمان الذي يتمرد على ال ويعترض
عليهم وإظهار مزاياك وسَتْر مزاياهم ،فقد تصادف قلي َ
صعَر و (كييف)
على قدره فيه حينما يراك متكبرا متعاليا وهو حقير متواضع ،فإنْ كنت محترف َ
ل وتفعل ما يحلو لك مما يُشْبع عندك
تكبّر ،فليكُنْ ذلك بينك وبين نفسك ،كأن تقف أمام المرآة مث ً
هذا الداء.
فكأن كلمة } لِلنّاسِ[ { ..لقمان ]18 :تعني :أن ال تعالى يريد أنْ يمنع رؤية الناس لك على هذا
الحال؛ لنك قد تفتن الضعاف في دينهم وفي رضاهم عن ربهم.
ثم يقول لقمانَ } :ولَ َتمْشِ فِي الَ ْرضِ مَرَحا[ { ..لقمان ]18 :المرح هو الختيال والتبختر ،فر ّبكَ
ل يمنعك أنْ تمشي في الرض ،لكن يمنعك أنْ تمشي مِشيْة المتعالي على الناس ،المختال بنفسه،
وال تعالى يأمرنا {:فَا ْمشُواْ فِي مَنَاكِ ِبهَا َوكُلُواْ مِن رّ ْز ِق ِه وَإِلَيْهِ النّشُورُ }[الملك]15 :
فالمشي في الرض مطلوب ،لكن بهيئة خاصة تمشي مَشْيا سويا معتدلً ،فعمر -رضي ال عنه
-رأى رجلً يسير متماوتا فنهره ،وقال :ما هذا التماوت يا هذا ،وقد وهبك ال عافية ،دَعْها
لشيخوختك.
ورأى رجلً يمشي مشية الشطار -يعنيُ :قطّاع الطرق -فنهاه عن القفز أو الجري والسراع
في المشي.
إذن :المطلوب في المشي هيئة العتدال ،لذلك سيأتي في قول لقمان {:وَا ْقصِدْ فِي مَشْ ِيكَ} ...
[لقمان ]19 :يعني :ل تمشِ مشية المتهالك المتماوت ،ول تقفز قفز أهل الشر وقُطّاع الطريق.
حبّ ُكلّ مُخْتَالٍ َفخُورٍ { [لقمان ]18 :المختال :هو الذي وجد له مزية عند الناس،
} إِنّ اللّ َه لَ ُي ِ
والفخور الذي يجد مزية في نفسه ،وال تعالى ل يحب هذا ول ذاك؛ لنه سبحانه يريد أنْ يحكم
الناس بمبدأ المساواة ليعلم الناس أنه تعالى ربّ الجميع ،وهو سبحانه المتكبّر وحده في الكون،
وإذا كان الكبرياء ل وحده فهذا يحمينا أنْ يتكبّر علينا غيره ،على حدّ قول الناظم:
والسّجُود الذي َتجْتويه من أُلُوفِ السّجُودِ فيه َنجَاةُفسجودنا جميعا للله الحق يحمينا أن نسجد لكل
طاغية ولكل متكبر ومتجبر ،فكأن كبرياء الحق -تبارك وتعالى -في صالح العباد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول الحق سبحانه على لسان لقمان عليه السلم } :وَا ْقصِدْ فِي مَشْ ِيكَ.{ ...
()3412 /
حمِيرِ ()19
ص ْوتُ الْ َ
صوَاتِ َل َ
صوْ ِتكَ إِنّ أَ ْنكَرَ الَْأ ْ
ن َ
غضُضْ مِ ْ
وَا ْقصِدْ فِي َمشْ ِيكَ وَا ْ
القصد :هو القبال على الحدث ،إقبالً ل نقيضَ فيه لطرفين ،يعني :توسطا واعتدالً ،هذا في
صوْ ِتكَ[ } ..لقمان ]19 :أي :اخفضه وحَسْبك من الداء ما بلغ الذن.
ضضْ مِن َ
غ ُ
المشي { وَا ْ
لكن ،لماذا جمع السياق القرآني بين المشي والصوت؟ قالوا :لن للنسان مطلوبات في الحياة،
هذه المطلوبات يصل إليها ،إما بالمشي -فأنا ل أمشي إلى مكان إل إذا كان لي فيه مصلحة
وغرض -وإما بالصوت فإذا لم أستطع المشي إليه ناديته بصوتي.
إذن :إما تذهب إلى مطلوبك ،أو أنْ تستدعيه إليك .والقصد أي التوسط في المر مطلوب في كل
شيء؛ لن كل شيء له طرفان ل بُدّ أن يكون في أحدهما مبالغة ،وفي الخرة تقصير؛ لذلك
قالوا :كل طرفي قصد المور ذميم.
حمِيرِ }
ص ْوتُ ا ْل َ
لصْوَاتِ َل َ
ثم يقول سبحانه مُشبّها الصوت المرتفع بصوت الحمار { :إِنّ أَنكَ َر ا َ
[لقمان ]19 :والبعض يفهم هذه الية فهما يظلم فيه الحمير ،وعادة ما يتهم البشرُ الحميرَ بالغباء
وبالذلة ،لذلك يقول الشاعر:ولَ يُقيم علَى ضيَمْ يُرَادُ به إلّ الذلّنِ عَيْرُ الحيّ والوَتِدُهذا على
الخسفْ مربوطٌ برمته وذَا ُيشَدّ فَلَ يَرْثِى لَهُ أَحَدونعيب على الشاعر أن يصف عِيرَ الحي -
والمراد الحمار -بالذلة ،ويقرنه في هذه الصفة بالوتد الذي صار مضرب المثل في الذلة حتى
قالوا (أذلّ من وتد) لنك تدقّ عليه باللة الثقيلة حتى ينفلق نصفين ،فل يعترض عليك ،ول يتبرم
ول يغيثه أحد ،فالحمار مُسخّر ،وليس ذليلً ،بل هو مذلّل لك من ال سبحانه.
ولو تأملنا طبيعة الحمير لوجدنا كم هي مظلومة مع البشر ،فالحمار تجعله لحمل السباخ
والقاذورات ،وتتركه ينام في الوحل فل يعترض عليك ،وتريده دابة للركوب فتنظفه وتضع عليه
السّرْج ،وفي فمه اللجام ،فيسرع بك إلى حيث تريد دون تذمر أو اعتراض.
وقالوا في الحكمة من علو صوت الحمار حين ينهق :أن الحمار قصير غير مرتفع كالجمل مثلً،
وإذا خرج لطلب المرعى ربما ستره تلّ أو شجرة فل يهتدي إليه صاحبه إل إذا نهق ،فكأن صوته
آلة من آلت البادية الطبيعية ولزمة من لوازمه الضرورية التي تناسب طبيعته.
حمِيرِ } [لقمان ]19 :فنهيق
صوْتُ ا ْل َ
لصْوَاتِ َل َ
لذلك يجب أن نفهم قول ال تعالى { :إِنّ أَنكَ َر ا َ
الحمار ليس مُنكَرا من الحمار ،إنما المنكر أن يشبه صوت النسان صوت الحمار ،فكأن نهيق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحمار كمال فيه ،وصوتك الذي يشبهه مُنكَر مذموم فيك ،وإل فما ذنب الحمار؟
حمْلً فإنه (ينعّر) إذا ثقل عليه ،أما
ل وهو أضخم وأقوى من الحمار إذا حمّلته ِ
إنك تلحظ الجمل مث ً
الحمار فتُحمّله فوق طاقته فيحمل دون أنْ يتكلم أو يبدي اعتراضا ،الحمار بحكم ما جعل ال فيه
من الغريزة ينظر مثلً إلى (القناة) فإنْ كانت في طاقته قفز ،وإنْ كانت فوق طاقته امتنع مهما
أجبرته على عبورها.
أما النسان فيدعوه غروره بنفسه أنْ يتحمّل ماَل يطيق .ويُقال :إن الحمار إذا نهق فإنه يرى
شيطانا ،وعلمنا بالتجربة أن الحيوانات ومنها الحمير تشعر بالزلزال قبل وقوعه ،وأنها تقطّع
قيودها وتفرّ إلى الخلء ،وقد لوحظ هذا في زلزال أغادير بالمغرب ،ولحظناه في زلزال عام
1992م عندما هاجت الحيوانات في حديقة الحيوان قبيل الزلزال.
ثم إن الحمار إنْ سار بك في طريق مهما كان طويلً فإنه يعود بك من نفس الطريق دون أنْ
تُوجّهه أنت ،ويذهب إليه مرة أخرى دون أنْ يتعدّاه ،لكن المتحاملين على الحمير يقولون :ومع
ذلك هو حمار لنه ل يتصرف ،إنما يضع الخطوة على الخطوة ،ونحن نقول :بل يُمدح الحمار
حتى وإنْ لم يتصرف؛ لنه محكوم بالغريزة.
ح ِملُ
حمَارِ َي ْ
حمِلُوهَا َكمَ َثلِ الْ ِ
حمّلُواْ ال ّتوْرَاةَ ُثمّ َلمْ يَ ْ
كذلك الحال في قول ال تعالى {:مَ َثلُ الّذِينَ ُ
سفَارا[} ...الجمعة]5 :
أَ ْ
فمتى نثبت الفعل وننفيه في آن واحد؟ المعنى :حملوها أي :عرفوها وحفظوها في كتبهم وفي
حمَارِ
صدورهم ،ولم يحملوها أي :لم يؤدوا حق حملها ولم يعملوا بها ،مثَلهم في ذلك{ َكمَ َثلِ الْ ِ
سفَارا[} ...الجمعة ]5 :فهل ُيعَدّ هذا ذَما للحمار؟ ل ،لن الحمار مهمته الحمل فحسب ،إنما
ح ِملُ أَ ْ
يَ ْ
يُ َذمّ منهم أَنْ يحملوا كتاب ال ول يعملوا به ،فالحمار مهمته أنْ يحمل ،وأنت مهمتك أنْ تفقه ما
حملت وأنْ تؤديه.
فالعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلة وفي التعبد يُعلّمنا الحق
ك َولَ ُتخَا ِفتْ ِبهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذاِلكَ سَبِيلً }[السراء ]110 :أما ما تسمعه
جهَرْ ِبصَلَ ِت َ
سبحانهَ {:ولَ تَ ْ
من (الجعر) في مكبرات الصوت والنّواح طوال الليل فل ينالنا منه إل سخط المريض وسخط
صاحب العمل وغيرهم ،ولقد تعمدنا عمل إحصاء فوجدنا أن الذين يأتون إلى المسجد هم هم لم
يزيدوا شيئا بـ (الميكروفونات).
كذلك الذين يعرفون أصواتهم بقراءة القرآن في المساجد فيشغلون الناس ،وينبغي أن نترك كل
ن يصلي ،وهذا يريد أن يُسبّح أو يستغفر،
إنسان يتقرب إلى ال بما يخفّ على نفسه :هذا يريد أ ْ
وهذا يريد أنْ يقرأ في كتاب ال ،فلماذا تحمل الناس على تطوعك أنت؟
ن عرضتْ لنا اليات طرفا من حكمة لقمان ووصاياه لولده تنقلنا إلى معنى كوني جديد} :
بعد أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أَلَمْ تَ َروْاْ أَنّ اللّهَ.{ ...
()3413 /
التسخير :هو النقياد للخالق العلى بمهمة يؤديها بل اختيار في التنقّل منها ،كما سخر ال الشمس
والقمر..إلخ ،فعلى الرغم من أن كثيرا من الناس منصرفون عن ال وعن منهج ال لم تتأبّ
الشمس في يوم من اليام أنْ تشرق عليهم ،ول امتنع عنهم الهواء ،ول ض ّنتْ عليهم الرض
بخيراتها ول السماء بمائها ،لماذا؟ لنها مُسخّرة ل اختيار لها.
ول نفهم من ذلك أن ال سخّر هذه المخلوقات رغما عنها ،فهذا فهم سطحي لهذه المسألة ،حيث
يرى البعض أن النسان فقط هو الذي خُيّر ،إنما الحقيقة أن الكون كله خُيّر ،وهذا واضح في قول
شفَقْنَ مِ ْنهَا
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
ت وَالَرْ ِ
سمَاوَا ِ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
ال تعالى {:إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
جهُولً }[الحزاب]72 :
حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
وَ َ
إذن :فالجميع خُيّر ،خُيّرت السماوات والرض والجبال فاختارت أن تكون مُسخّرة ل إرادة لها،
ل يفكر به ويقارن بين البدائل.
وخُيّر النسان فاختار أنْ يكون مختارا؛ لن له عق ً
ومعنى التسخير أنك ل تستطيع أن تخضع ما ينفعك من الشياء في الكون بعقلك ول بإرادتك ول
بالمنهج ،والدليل على ذلك أنك إذا صِ ْدتَ طيرا وحبسته في قفص ومنعته من أنْ يطير في السماء
وتريد أن تعرف :أهو مُسخّر لك أم غير مسخر وحبسه حلل أم حرام؟ فافتح له باب القفص ،فإنْ
ظلّ في صحبتك فهو مُسخّر لك ،راضٍ عن بقائه معك باللقمة التي يأكلها أو المكان الذي أعدد َتهُ
له ،وإنّ خرج وترك صحبتك فاعلم أنه غير مُسخّر لك ،ول يحقّ لك أن تستأنسه رغما عنه.
لذلك سيدنا عمر -رضي ال عنه -لما مَرّ بغلم صغير يلعب بعصفور أراد أنْ يُعلّمه درسا
وهو ما يزال (عجينة) طيّعة ،فأقنعه أنْ يبيعه العصفور ،فلما اشتراه عمر وصار في حوزته
أطلقه ،فقال الغلم :فو ال ما َقصَ ْرتُ بعدها حيوانا على النس به.
وسبق أنْ تكلمنا عن مسألة التسخير ،وكيف أن ال سخر الجمل الضخم بحيث يسوقه الصبي
الصغير ولم يُسخّر لك مثلً البرغوث فلو لم يُذلّل ال لك هذه المخلوقات ويجعلها في خدمتك ما
استطعت أنت تسخيرها بقوتك.
وقوله تعالى { :وَأَسْبَغَ عَلَ ْي ُكمْ ِن َعمَهُ ظَاهِ َر ًة وَبَاطِنَةً[ } ..لقمان ]20 :أسبغ :أتمّ وأكمل ،ومنها قوله
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ع َملْ سَا ِبغَاتٍ[} ...سبأ ]11 :أي :دروعا ساترة محكمة تقي لبسها من
تعالى عن سيدنا داود {:أَنِ ا ْ
ضربات السيوف وطعنات الرماح ،والدروع تُجعل على العضاء الهامة من الجسم كالقلب
والرئتين ،وقد علّم ال تعالى داود أن يصنع الدروع على هيئة الضلوع ،ليست ملساء ،إنما فيها
نتوءات تتحطم عليها قوة الضربة ،ول تتزحلق فتصيب مكانا آخر.
و ُروِي أن لقمان رأى دواد -عليه السلم -يعجن الحديد بين يديه فتعجب ،لكنه لم يبادر بالسؤال
عما يرى وأمهله إلى أن انتهى من صنعته للدرع ،فأخذه ولبسه وقالِ :نعْمَ لَبُوس الحرب أنت،
حكْ ٌم وقليل فاعله فظلت حكمة تتردد إلى آخر الزمان.
فقال لقمان :الصمت ُ
فمعنى أسبغ علينا النعمة :أتمها إتماما يستوعب كل حركة حياتكم ،ويمدكم دائما بمقوّمات هذه
الحياة بحيث ل ينقصكم شيء ،ل في استبقاء الحياة ،ول في استبقاء النوع؛ لن الذي خلق سبحانه
يعلم كل ما يحتاجه المخلوق.
أما إذا رأيتَ قصورا في ناحية ،فالقصور من ناحية الخَلْق في أنهم لم يستنبطوا من معطيات
الكون ،أو استنبطوا خيرات الكون ،لكن بخلوا بها وضنّوا على غيرهم ،وهذه هي آفة العالم في
العصر الحديث ،حيث تجد قوما قعدوا وتكاسلوا عن البحث وعن الستنباط ،وآخرين جدّوا ،لكنهم
بخلوا بثمرات جدهم ،وربما فاضتْ عندهم الخيرات حتى أل َقوْها في البحر ،وأتلفوها في الوقت
الذي يموت فيه آخرون جوعا وفقرا.
إذن :فآفة العالم ليس في أنه ل يجد ،إنما في أنه ل يحسن استغلل ما يجد من خيرات ،ومن
مُقوّمات ل تعالى في كونه .فقوله تعالى } :وََأسْبَغَ عَلَ ْيكُمْ ِن َعمَهُ ظَاهِ َر ًة وَبَاطِنَةً[ { ..لقمان]20 :
هذه حقيقة ل ينكرها أحد ،فهل تنكرون أنه خلقكم ،وخلق لكم من أنفسكم أزواجا منها تتناسلون؟
هل تنكرون أنه خلق السماوات بما فيها من الكواكب والمجرّات ،وخلق الليل فيه منامكم ،والنهار
وفيه سعيكم على معايشكم؟ ثم في أنفسكم وما خلقه فيكم من الحواس الظاهرة وغير الظاهرة،
وجعل لكل منها مجالً ومهمة تؤديها دون أنْ تشعر أنت بما أودعه ال في جسمك من اليات
والمعجزات ،وكل يوم يطلع علينا العلم بجديد من ِنعَم ال علينا في أنفسنا وفي الكون من حولنا.
فمعنى } ظَاهِ َرةً[ { ..لقمان ]20 :أي :التي ظهرتْ لنا } :وَبَاطِنَةً[ { ..لقمان ]20 :لم نصل إليها
بعد ،ومن ِنعَم ال علينا ما ندركه ،ومنها ما ل ندركه.
تأمل في نفسك مثلً الكليتين وكيف يعمل بداخلك وتصفي الدم من البولينا ،فتنقيه وأنت ل تشعر
بها ،وأول ما فكر العلماء في عمل بديل لها حال فشلها صمموا جهازا يمل حجرة كبيرة ،كانت
نصف هذا المسجد من المعدات لتعمل عمل الكليتين ،ثم تبين لهم أن الكُلْية عبارة عن مليون خلية
ل يعمل منها إل مائة بالتناوب.
وقالوا :إن الفشل الكُلَوي عبارة عن عدم تنبه المائة خلية المناط بها العمل في الوقت المناسب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت مهمتها وتوقفت دون أنْ تنبه المائة الخرى ،ومن هندسة الجسم البشري
يعني المائة الولى أ ّد ْ
أن خلق ال للنسان كليتين ،حتى إذا تعطلت إحداهما قامت الخرى بدورها.
أما النعم الباطنة فمنه ما يُكتشف في مستقبل اليام من آيات و ِنعَم ،فمنذ عدة سنوات أو عدة قرون
لم نكُنْ نعرف شيئا عن الكهرباء مثلً ،ول عن السيارات وآلت النقل وعصر العجلة والبخار.
.إلخ.
كلها ِنعَم ظاهرة لنا الن ،وكانت مستورة قبل ذلك أظهرها النشاط العلمي والبحث والستنباط من
معطيات الكون ،وحين تحسب ما أظهره العلم من ِنعَم ال تجده حوالي %3ونسبة %97عرفها
النسان بالصدفة.
وقلنا :إن أسرار ال ونعمه في كونه ل تتناهى ،وليس لحد أن يقول :إن ما وضعه ال في
الرض من آيات وأسرار أدى مهمته؛ لنه باقٍ ببقاء الحياة الدنيا ،ول يتوقف إل إذا تحقّق قوله
ت وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً
ت الَ ْرضُ زُخْ ُر َفهَا وَازّيّ َن ْ
تعالى {:حَتّىا ِإذَآ َأخَ َذ ِ
لمْسِ[} ...يونس]24 :
حصِيدا كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ
جعَلْنَاهَا َ
َأوْ َنهَارا فَ َ
وفي الخرة سنرى من آيات ال ومن عجائب مخلوقاته شيئا آخر ،وكأن الحق تعالى يقول لنا :لقد
رأيتُم آياتي في الدنيا واستوعبتموها ،فتعالوا لُريكم اليات الكبرى التي أعددتها لكم في الخرة.
ففي الخرة سأنشئكم نشأة أخرى ،بحيث تأكلون ول تتغوّطون ول تتألمون ،وتمر عليكم العوام
ول تشيبون ،ول تمرضون ،ول تموتون ،لقد كنتم في الدنيا تعيشون بأسبابي ،أما في الخرة فأنتم
معي مع المسبّب سبحانه ،فل حاجة لكم للسباب ،ل لشمس ول لقمر ول..إلخ.
ن يقولوا اكتشفنا ل اخترعنا؛ لن آيات ال و ِنعَمه مطمورة في كونه
لذلك نقول :من أدب العلماء أ ْ
تحتاج لمن يُنقّب عنها ويستنتجها مما جعله ال في كونه من معطيات ومقدمات.
وسبق أنْ قلنا :إن كل سرّ من أسرار ال في كونه له ميلد كميلد النسان ،فإذا حان وقته أظهره
ال ،إما ببحث العلماء وإل جاء مصادفة تكرّما من ال تعالى على خَلْقه الذين َقصُرَت جهودهم
عن الوصول إلى أسراره تعالى في كونه.
ن نؤمن بالغيب الذي أخبرنا ال به ،فما ُدمْنا قد رأينا ِنعَمه التي كانت
وفي هذا إشارة مقدمة ل ْ
ن نؤمنَ بما يخبرنا به من الغيب ،وأنْ نأخذَ من المُشاهَد دليلً
مطمورة في كونه فينبغي علينا أ ْ
على ما غاب.
شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ[} ...البقرة:
واقرأ في هذه المسألة قول ال تعالىَ {:ولَ يُحِيطُونَ بِ َ
ن يوجد هذا الغيب ،وأن يظهر للناس بعد أنْ كان مطمورا ،فإنْ صادف
]255أي :شاء سبحانه أ ْ
بحثا جاء مع البحث ،وإنْ لم يصادف جاء مصادفة وبل أسباب ،بدليل أنه نسب إحاطة العلم لهم.
أما الغيب الذي ليس له مُقدّمات توصل إليه ،ول يطلع عليه إل ال فهو المعنيّ بقوله تعالى {:عَاِلمُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ[} ...الجن]27-26 :
ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ
وقال سبحانه } :ظَاهِ َر ًة وَبَاطِنَةً[ { ..لقمان ]20 :لن الظاهرة تلفتنا إلى اليمان بال واجب الوجود
العلى ،والباطنة يدخرها ال لمن يأتي بعد ،ثم يدخر ادخارا آخر ،بحيث ل يظهر إل حين نكون
مع ال في جنة ال.
وقد حاول العلماء أن يُعدّدوا النعم واليات الظاهرة والباطنة ،فالظاهرة ما يعطيه لنا في الدنيا
عدّته من سلح
ظاهرا ،والباطنة ما أخبرنا ال بها ،فمثلً حين تريد الجهاد في سبيل ال ُت ِعدّ لذلك ُ
وجنود..إلخ وتأخذ بالسباب ،فيؤيدك ال بجنود من عنده لم ت َروْها ،كما قال سبحانه {:إِذْ يُوحِي
رَ ّبكَ إِلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ[} ...النفال]12 :
والرسول صلى ال عليه وسلم يخبرنا ببعض هذه النعم الباطنة ،فيقول " :للمؤمن ثلثة هي له
وليست له -يعني ليست من عمله -أما الولى :أن المؤمنين يصلون عليه ،وأما الثانية فجعل ال
له ثلث ماله يوصي به -يعني :ل يتركه للورثة إنما يتصرف هو فيه ،وكان المنطق أن تستفيد
بما لك وأنت حيّ ،فإذا ما انتهيت فليس لك منه شيء وينتقل إلى الورثة يوزعه ال تعالى بينهم
بالميراث الذي شرعه ،فمن النعم أن يباح لك التصرف في ثلث ما لك توصي به لتُكفّر به عن
سيئاتك وتُطَهر به ذنوبك -أما الثالثة :أن ال تعالى ستر مساويك عن خَلْقه ،ولو فضحك بها
لنبذك أهلك وأحبابك وأقرباؤك ".
إن من أعظم النعم علينا أن يحجب ال الغيب عن خَلْق ال ،ولو خيّرتَ أيّ إنسان :أتحب أن
تعرف غَيْب الناس ويعرفوا غيبك؟ فل شكّ في أنه لن يرضى بذلك أبدا.
والنبي صلى ال عليه وسلم يوضح هذه المسألة في قوله " :لو تكاشفتم ما تدافنتم " يعني :لو ظهر
المستور من غيب النسان ،واطلع الناس على ما في قلبه لتركوه إنْ مات ل يدفنونه ،ولقالوا دَعُوه
للكلب تأكله ،جزاءً له على ما فعل.
لكن لما ستر ال غيوب الناس وجدنا حتى عدو النسان يُسرع بحمله ودفنه ،كما قال القائل :محا
الموت أسباب العداوة بيننا .لكن من غباء النسان أن ينبشَ عن عيوب الخرين ،وأنْ يتتبعَ
عوراتهم ،فهل ترضى أنْ يعاملك الناس بالمثل ،فيتتبعون عوراتك ،ويبحثون عن عيوبك؟
ثم إن سيئة واحدة يعرفها الناس عنك كفيلة بأن تُزهّدهم في كل حسناتك ،وال تعالى يريد أنْ ينتفع
الناس بعضهم ببعض ليثرى حركة الحياة.
ثم يقول تعالىَ } :ومِنَ النّاسِ مَن يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِلْ ٍم َولَ ُهدًى وَلَ كِتَابٍ مّنِيرٍ { [لقمان]20 :
المجادلة :الحوار في أمر ،لكل طرف فيه جنود ،وكل منهم ل يؤمن برأي الخر ،والجدل ل
يكون إل في سبيل الوصول إلى الحقيقة ،ويسمونه الجدل الحتمي ،وهذا يكون موضوعيا ل لَددَ
فيه ،ويعتمد على العلم والهدى والكتاب المنير ،وفيه نقابل الرأي بالرأي ليثمر الجدال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن ذلك قوله تعالىَ {:ولَ ُتجَادِلُواْ َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ[} ...العنكبوت ]46 :أما
الجدل الذي يريد فيه كل طرف أنْ يُعلي رأيه ولو بالباطل فهو مماراة وسفسطة ل توصل إلى
شيء.
والجدل مأخوذ من الجَدْل أي الفَتْل ،والشيء حين يُفتل على مثله يقويه ،كذلك الرأي في الجدل
يُقوّي الرأي الخر ،فإذا ما انتهيا إلى الصواب تكاتفا على إظهاره وتقويته ،فالجدل المراد به
تقوية الحق وإظهاره.
فإنْ كان الجدل غير ذلك فهو مماراة يحرص فيها كل طرف على أن يعلي رأيه ولو بالباطل.
والحق سبحانه يبين لنا أن من الناس من أِلفَ الجدل في ال على غير علم ول هُدىً ول كتاب
منير ،فيقولون مثلً في جدالهم :أللكون إله موجود؟ وإنْ كان موجودا ،أهو واحد أم متعدد؟ وإنْ
كان موجودا أيعلم الجزئيات أم الكليات؟ أيزاول مُلْكه كل وقت؟ أم أنه خلق القوانين ،ثم تركها
تعمل في الكون وتُسيّره؟ كأن ال تعالى زاول سلطانه في الملْك مرة واحدة.
ومعلوم أن ال تعالى قيّوم أي :قائم على أمر الخلَقْ كله في كل وقت ،والدليل على ذلك هذه
صدْق الرسل في البلغ عن ال ،كما عرفنا في قصة
المعجزات التي خرقتْ النواميس لتدلّ على ِ
إحراق إبراهيم -عليه السلم -فلو أن المسألة إنجاء إبراهيم من النار لما مكّنهم ال منه ،أو
مكَنهم منه ومن إلقائه في النار ،ثم أرسل على النار سحابة تُطفِئها.
لكن أراد سبحانه أن يشعلوا النار ،وأنْ يُلقوا بإبراهيم فيها ،ومع ذلك يخرج منها سالما ليروْا
بأعينهم هذه المعجزة الخارقة لقانون النار ليكبتهم ال ،ول يعطيهم الفرصة ليخدعوا الناس ،ولو
أفلتَ إبراهيم من قبضتهم لوجودا هذه الفرصة ولقالوا :لو أمسكنا به لفعلنا به كذا وكذا.
ومعنى } ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ[ { ..لقمان ]20 :العلم أن تعرف قضية وتجزم بها ،وهي واقعة وتستطيع أنْ
تُدلّل عليها ،فإنْ كانت القضية التي تؤمن بها غير واقعة ،فهذا هو الجهل ،فالجاهل ل يوضع في
مقابل العالم؛ لن الجاهل لديه علم بقضية لكنها باطلة ،وهذا يتعبك في القناع؛ لنه ليس خالي
الذهن ،فيحتاج أولً لنْ تُخرج من ذهنْه القضية الباطلة وتُحلِ محلها القضية الصحيحة ،أما الُميّ
فهو خالي الذّهن من أي قضيةَ.
فإنْ كانت القضية التي تجزم بها واقعة لكن ل تستطيع أنْ تُدلّل عليها ،كالولد الصغير الذي علمناه
أن (ال أحد) واستقرتْ في ذهنه هذه المسألة؛ لن أباه أو معلمه لقّنه هذه القضية حتى أصبحتْ
ن لقنّها له إلى أنْ يكبر ،ويستطيع هو أن يُدلّل عليها.
عقيدة عنده ،فالذي يُدلّل عليها مَ ْ
والعلم أنواع ،منها وأولها :العلم البدهي الذي نصل إليه بالبديهة دون بحث ،فمثلً حين نرى
النسان يتنفس نعلم أنه حيّ بالبديهة ،ونعلم أن الواحد نصف الثنين ،وأن السماء فوقنا ،والرض
تحتنا ..الخ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا نظرتَ إلى معلومات الرض كلها تجد أن أم هذه المعلومات البديهة .فعلم الهندسة مثلً يقوم
على نظريات تستخدم الولى منها مقدمة لثبات الثانية ،والثانية مقدمة لثبات الثالثة وهكذا.
فحين تعيد تسلسل النظريات الهندسية فإنك ل بُدّ عائد إلى النظرية الولى وهي بديهة تقول :إذا
التقى مستقيم بآخر نتج عن هذا اللتقاء زاويتان قائمتان.
إذن :فأعقد النظريات ل بُدّ أن تعود إلى أمر بدهي منثور في كون ال ،المهم مَنْ يلتفت إليه ،وقد
ت وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا
سمَاوَا ِ
قال الحق سبحانه وتعالىَ {:وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي ال ّ
ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف]105 :
فقوله تعالىَ } :ومِنَ النّاسِ مَن يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ[ { ...لقمان ]20 :أي :وجودا وصفاتا } ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ
وَلَ ُهدًى َولَ كِتَابٍ مّنِيرٍ { [لقمان ]20 :يعني :أن الجدل يصحّ إنْ كان بعلم وهدى وكتاب منير،
فإنْ كان بغير ذلك فل ُي َعدّ جدلً إنما مراء ل طائلَ من ورائه.
ضلّ في الصحراء ،فلما رأى على
ومعنى الهدى :أي الستدلل بشيء على آخر ،كالعربي الذي َ
الرمال َبعْرا وأثرا لقدام استأنس بها ،وعلم أنه على طريق مطروق ول بُدّ أن يمرّ به أحد ،فلما
عرضتْ له قضية اليمان استدل عليها بما رأى فقال:
البعرة تدل على البعير ،والقدم تدل على المسير ،سماء ذات أبراج ،وأرض ذات فجاج ،نجوم
تزهر ،وبحار تزخرَ..ألَ يدل ذلك على اللطيف الخبير.
فالنسان حين ينظر في الكون وفي آياته ل بُدّ أنْ يصل من خللها إلى الخالق عز وجل ،فما كان
لها أنْ تتأتى وحدها ،ثم إنه لم يدّعها أحدٌ لنفسه ممّنْ ينكرون وجود ال ،وقلنا :إن أتفه الشياء
التي نراها ل يمكن ان توجد هكذا بدون صانع ،فمثلً الكوب الذي نشرب فيه ،هل رأينا مثلً
شجرة تطرح لنا أكوابا؟
إذن :ل بُدّ أن لها صانعا فكر في الحاجة إليها ،فصنعها بعد أنْ كان النسان يشرب الماء عبا ،أو
نزحا بالكفن وما توصلنا إلى هذا الكوب الرقيق النظيف إل بعد بحث العلماء في عناصر الوجود،
صهْره تحت درجة
أيها يمكن أنْ يعطيني هذه الزجاجة الشفافة ،فوجدوا أنها تُصنَع من الرمل بعد َ
حرارة عالية ،فهذا الكوب الذي يمكن أنْ نستغني عنه أخذ منا خبرة وقدرة وعلما..إلخ.
فما بالك بالشمس التي تنير الكون كله منذ خلق ال هذا الكون دون أنْ تكلّ أو تملّ أو تتخلف يوما
واحدا ،وهي ل تحتاج إلى صيانة ول إلى قطعة غيار ،أليست جديرة بأن نسأل عمّنْ خلقها
وأبدعها على هذه الصورة ،خاصة وانها فوق قدرتنا ول تنالها إمكاناتنا.
هذه هي اليات التي نأخذها بالدلة ،لكن هذه الدلة ل تُوصّلنا إل إلى أن لهذا الكون بآياته العجيبة
ن هو ،وما اسمه ،إذن :ل بُدّ من بلغ عن
خالقا مبدعا ،لكن العقل ل يصل بي إلى هذا الخالق :مَ ْ
ال على يد رسول يبلغنا مَنْ هذا الخالق وما اسمه وما مطلوباته ،وماذا أعدّ لمن أطاعه ،وماذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أعدّ لمن عصاه.
وفَرْق بين التعقّل والتصوّر ،والذي أتعب الفلسفة أنهم خلطوا بينهما ،فالتعقل أن أنظر في آيات
الكون ،وأرى أن لها موجدا ،أمّا التصور فبأنْ أتصور هذا الموجِد :شكله ،اسمه ،صفاته..إلخ
وهذه ل تتأتى بالعقل ،إنما بالرسول الذي يأتي من قِبَل الله الموجد.
وسبق أن ضربنا مثلً -ول تعالى المثل العلى -قلنا :لو أننا نجلس في مكان مغلق ،وطرق
الباب طارق ،فكلنا يتفق على أن طارقا بالباب ل خلف في هذه ،لكن نختلف في تصوّره ،فواحد
يتصور انه رجل ،وآخر يقول :طفل ،وآخر يتصوّره امرأة ،وواحد يتصوره بشيرا ،وآخر
يتصوره نذيرا..إلخ.
إذن :اتفقنا في التعقّل ،واختلفنا في التصور ،ولكي تعرف مَن الطارق فعلينا أن نقول :من
الطارق؟ ليعلن هو عن نفسه ويخبرنا مَنْ هو؟ ولماذا جاء؟ ويُنهي لنا في هذا الخلف.
كذلك الحق -تبارك وتعالى -هو الذي يخبرنا عن نفسه ،لكن كيف يتم ذلك؟ من خلل رسول
من البشر يستطيع أنْ يتجلى ال عليه بالخطاب ،بأن يكون مُعدّا لتلقّي هذا الخطاب ،ل أنْ يخاطب
كل الناس.
وقد مثّلْنا لذلك أيضا (بلمبة) الكهرباء الصغيرة أو (الراديو) الذي ل يتحمل التيار المباشر ،يل
يحتاج إلى (ترانس) أو منظم يعطيه الكهرباء على َقدْره وإل حُرق ،فحتى في الماديات ل بد من
قوي يستقبل ليعطي الضعيف.
والحق سبحانه يُعد من خَلْقه مَنْ يتلقى عنه ،ويُبلّغ الناس ،فيكلم ال الملئكة ،والملئكة تكلم الرسل
ل وَحْيا[} ...الشورى]51 :
من البشر؛ لذلك يقول سبحانهَ {:ومَا كَانَ لِ َبشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ
وإل لو كلّم ال جميع البشر ،فما الحاجة للرسل؟ لذلك لما سُئِل المام علي رضي ال عنه:
أعرفتَ ربك بمحمد ،أم عرفتَ محمدا بربك؟ فقال :لو عرفتُ ربي بمحمد لكان محمد أوثقَ عندي
من ربي ،ولو عرفتُ محمدا بربي ،فما الحاجة إذن للرسل ،لكن عرفتُ ربي بربي ،وجاء محمد،
فبلّغني مراد ربي منى .إذن :ل ُبدّ من هذه الواسطة.
ل يوضح هذه المسألة في قوله تعالى عن سيدنا موسى {:قَالَ
والحق سبحانه يعطينا في القرآن مثا ً
َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ[} ..العراف ]143 :فبماذا أجابه ربه؟{ قَالَ لَن تَرَانِي[} ...العراف]143 :
ولم يقل سبحانه :أنا ل أُرىَ ،والمعنى :لو أعدد ُتكَ العدادَ المناسب لهذه الرؤية لرأيتَ بدليل أننا
س ُنعَدّ في الخرة على هيئة نرى فيها ال عز وجلُ {:وجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ }
[القيامة]23-22 :
حجُوبُونَ }
وفي المقابل يقول عن الكفار الذين سيُحرمون هذه الرؤية{ كَلّ إِ ّنهُمْ عَن رّ ّبهِمْ َي ْومَئِذٍ ّلمَ ْ
[المطففين]15 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم لما تجلى الحق سبحانه للجبل ،وهو الجنس القوى من موسى ماد ًة وصلبة أندكّ الجبل ،ونظر
موسى إلى الجبل المتجلّي عليه فخ ّر صَعقا ،فما بالك لو نظر إلى المتجلّي سبحانه؟
إذن :الحق سبحانه حينما يريد أنْ يخاطب أحدا من خَلْقه ،أو يتجلى عليه ُيعِدّه لذلك ،ويُربّيه على
عينه ،كما قال عن موسى
{ وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه ]39 :وقال في موضع آخر {:وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي }[طه ]41 :ثم يقوم
هذا المربي الذي رباه ال بتربية الخَلْق.
وقد ربى محمد صلى ال عليه وسلم أمته في ثلث وعشرين سنة ،ولو أن ال تعالى خاطب كل
إنسان بالمنهج لستغرقتْ تربية الناس وقتا طويلً؛ لذلك يصطفي ال الرسل ،ويعطيهم من
الخصائص ما يُمكّنهم من تربية المم بعد أنْ ربّاهم ال ،واصطنعهم على عينه.
إذن :كان ول بُدّ من إرسال الرسل للبلغ عن ال :مَنْ هو ،ما اسمه ،ما صفاته؟ ما مطلوباته؟
ن تقول
ماذا أعدّ لمن اطاعه؟ وماذا أعد لمن عصاه..إلخ .لذلك فأول دليل على بطلن الشرك أ ْ
للذي يشرك الشمس أو القمر أو الصنام مع ال في العبادة :وماذا قالت لك هذه الشياء؟ ما
مطلوباتها؟ ما مرادها منك؟ وإل ،فلماذا تعبدها والعبادة في أوضح معانيها :طاعة العابد لمر
المعبود ونهيه؟
فإنْ قُ ْلتَ :إذن لماذا قَبَِلتْ عقول هؤلء القوم أنْ يعبدوا هذه الشياء؟ نقول :لن التديّنَ طبيعة في
النفس البشرية ومركوز في الفطرة التي فطر ال الناس عليها ،وسبق أنْ أوضحنا أن كلً منا فيه
ذرة حية من أبيه -عليه السلم -لم يطرأ عليها الفناء ،وإل لما وُجِد النسان ،وهذه الذرة في
ستُ
كل منا هي التي شهدتْ الفطرة ،وشهدتْ الخلقَ ،وشهدتْ العهد الذي أخذه ال علينا جميعا{ أَلَ ْ
بِرَ ّبكُمْ[} ...العراف]172 :
فإنْ حافظتَ على إشراقية هذه الذرة فيك ،ولم تُعرّضها لما يطمس نورها -ول يكون ذلك إل
ن فعلتَ ذلك أنار ال وجهك
بالسير على منهج خالقك وبناء لبنات جسمه مما أحل ال -إ ْ
وبصيرتك.
لذلك جاء في الحديث أن العبد يشكو :يقول " دعوتُ فلم يُستجب لي ،لكن أنّى يستجاب له،
ومطعمه من حرام ،ومشربه من حرام ،وملبسه من حرام؟ " كيف وقد طمس الذرة النورانية فيه،
شقَىا * َومَنْ
ل َولَ يَ ْ
وغفل عن قانون صيانتها؟ واقرأ قوله تعالىَ {:فمَنِ اتّ َبعَ هُدَايَ فَلَ َيضِ ّ
عمَىا }[طه]124-123 :
حشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ أَ ْ
أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ َلهُ َمعِيشَ ًة ضَنكا وَنَ ْ
فالمعيشة الضنك والعياذ بال تأتي حين تنطمس النورانية اليمانية ،وحين ل تحافظ على إشراقية
هذه الذرة التي شهدتْ خَلْق ال ،وشهدتْ له بالربوبية ،ولو حافظت عليها لظّلتْ كل التعاليم
واضحة أمامك ،وما غفلت عن منهج ربك هذه الغفلة التي ج ّرتْ عليك المعيشة الضنك ،واقرأ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا[} ...النفال ]29 :أي :نورا
قول ال تعالى {:يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ يَ ْ
يهديكم وتُفرّقون به بين الحق والباطل.
والحق سبحانه يوضح لنا ما يطمس الفطرة اليمانية ،وهما أمران :الغفلة والتي قال ال عنها {:أَن
َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[العراف ]172 :والقدوة التي قال ال عنها {:إِ ّنمَآ
ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ} ...
أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ
[العراف]173 :
فالذي يطمس الفطرة اليمانية الغفلة عن المنهج ،هذه الغفلة تُوجِد جيلً ل يتمسك بمنهج الحق،
وبذلك تكون العقبة في الجيل الول الغفلة ،لكن في الجيال اللحقة الغفلة والقدوة السيئة ،وهكذا
كلما تنقضي الجيال تزداد الغفلة ،وتزداد القدوة السيئة؛ لذلك يوالي الحق سبحانه إرسال الرسل
ليزيح عن الخَلْق هذه الغفلة ،وليوجد لهم من جديد قدوةً حسنة ،ليقارنوا بين منهج الحق ومنهج
الخَلْق.
فمَنْ أراد أنء يجادل في ال فليجادل بعلم وبهدى وبكتاب منير مُن ّزلٍ من عند ال ،و َوصْف الكتاب
بأنه منير يدلّنا على أن الكتاب المنسوب إلى ال تعالى لبُدّ أن يكون منيرا؛ لكنه قد يفقد هذا النور
بما يطرأ عليه من تحريف وتبديل ونسيان وكتمان..إلخ.
وقد أوضح ال تعالى هذه المراحل في قوله تعالى {:فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ[} ...النعام]44:
ثمَ {:يكْ ُتمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَا ْل ُهدَىا[} ..البقرة]159 :
وإن كان النسان يُعذَر في النسيان ،فل يُعذَر في الكتمان ،ثم الذي نجا من النسيان ومن الكتمان
ضعِهِ[} ..المائدة ]13 :ولَيْتهم اقتصروا على ذلك ،إنما
وقع في التحريف{ ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَن ّموَا ِ
اختلفوا من عند أنفسهم كلما ،ثم نسبوه إلى الَ {:فوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ
هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ[} ...البقرة ]79 :فأنواع الطمس هذه أربعة ظهرت كلها في اليهود.
إذن :فالكتب التي بأيديهم ل تصلح للجدل في ال؛ لنها تفقد العلم والحجة والهدى ،ول ُتعَدّ من
الكتاب المنير المشرق الذي يخلو من التضبيبات والفجوات ،فجوات النسيان والكتمان ،والتحريف
والختلق.
فمَنْ يريد أنْ يجادل في ال فليجادل بناء على علم بدهىّ أو هدى استدللي ،أو كتاب منير.
والكتب المنزلّة كثيرة ،منها صحف إبراهيم وموسى ،ومنها زُبُر الولين ،والزبور نزل على
سيدنا داود ،والتوراة على موسى ،والنجيل على عيسى -عليهم جميعا السلم -وهذه كلها كتب
من عند ال ،لكن هل طرأ عليها حالة عدم النارة؟
نقول :نعم ،لنها انطمست بشهوات البشر فيها وبأهوائهم التي شوّهتها وأخرجتها عن الشراقية
والنورانية التي كانت لها ،وهذا نتيجة السلطة الزمنية وهي أقسى شيء في تغيير المناهج.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه السلطة الزمنية هي التي منعتْ اليهود أن يؤمنوا برسول ال ،وهم يعلمون بعثته في بلد
العرب ،ويعلمون موعده وأوصافه ،وأنه صلى ال عليه وسلم خاتم الرسل؛ لذلك يقول القرآن
عنهمَ {:يعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآءَ ُهمُ[} ...النعام]20 :
ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ }[البقرة ]146 :لذلك ،سيدنا عبدال بن
حّويقول عنهم {:وَإِنّ فَرِيقا مّ ْنهُمْ لَ َيكْ ُتمُونَ الْ َ
سلم يقول عن سيدنا رسول ال :وال لقد عرفتُه حين رأيته كمعرفتي لبني ،ومعرفتي لمحمد
أشد.
ويحكي القرآن عن أهل الكتاب أنهم كانوا يستفتحون برسول ال على الكفار فيقولون لهم :لقد أظل
زمان نبي جديد نسبقكم إليه ،ونقتلكم به قتل عاد وإرم{ َوكَانُواْ مِن قَ ْبلُ َيسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ
فََلمّا جَآءَهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }
[البقرة]89 :
لماذا؟ لنهم يعلمون أنه سيسلبهم المكانة التي كانت لهم ،والريادة التي أخذوها في العلم والقتصاد
والحرب..إلخ ،لقد كانوا ُيعِدّون واحدا منهم ليُنصّبوه ملكا عليهم في المدينة ليلة هاجر إليها رسول
ال ،فلما دخلها رسول ال لم ًتعُد لحد مكانة الريادة بعد رسول ال ،فرفض هذا الملك الجديد.
إذن :فكل الكتب السماوية لحقها التحريف والتغيير ،فلم يضمن لها الحق سبحانه الصيانات التي
تحميها كما حمى القرآن ،وما ذاك إل ليظهر شرف النبي الخاتم ،فالكتب السابقة للقرآن جاءت
كتبَ أحكام ،ولم تكن معجزة في ذاتها ،فالرسل السابقون كانت لهم معجزات منفصلة عن الكتب
وعن المنهج ،فموسى عليه السلم معجزته :العصا واليد..إلخ وكتابه ومنهجه التوراة ،وعيسى
عليه السلم معجزته أنْ يُبرئ الكمه والبرص ويحيى الموتى بإذن ال وكتابه ومنهجه النجيل.
أما محمد صلى ال عليه وسلم فمعجزته وكتابه ومنهجه هو القرآن ،فهو منهج ومعجزة ستصاحب
الزمان إلى أنْ تقوم الساعة؛ لن رسالته هي الرسالة الخاتمة ،فل ُبدّ أن يكون كتابه ومعجزته
كذلك فنقول :هذا محمد وهذه معجزته.
أما الرسالت السابقة فكانت المعجزة وقتية لمن رآها وعاصرها ولول أن ال أخبرنا بها ما عرفنا
عنها شيئا ،وما صدّقنا بها ،وسبق أنْ شبّهناها بعود الكبريت الذي يشعل مرة واحدة رآه مَنْ رآه،
ثم يصبح خبرا؛ لذلك ل نستطيع أن نقول مثلً :هذا موسى عليه السلم وهذه معجزته؛ لننا لم نَرَ
هذه المعجزة.
ولما كانت الكتب السابقة كتبا تحمل المنهج ،وليست معجزة في ذاتها ترك ال تعالى حفظها لهلها
الذين آمنوا بها ،وهذا أمر تكليفي عُرْضة لنْ يُطاع ،ولنْ يُعصَى ،فكان منهم أنْ عصوا هذا
المر فحدث تضبيب في هذه الكتب.
سَلمُواْ لِلّذِينَ هَادُواْ
حكُمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَ ْ
يقول تعالى {:إِنّآ أَنزَلْنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا ُهدًى وَنُورٌ َي ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ[} ...المائدة]44 :
وَالرّبّانِيّونَ وَالَحْبَارُ ِبمَا اسْتُ ْ
حفْظه،
وساعة تسمع الهمزة والسين والتاء ،فاعلم أنها للطلب :استحفظتُك كذا يعني :طلبتُ منك ِ
مثل :استفهمتُ يعني طلبت الفهم ،واستخرجت ،واستوضحت..إلخ.
فلما جُرّب الخَلْق في حفظ كلم الخالق فلم يؤدوا ،ولم يحفظوا ،تكفّل ال سبحانه بذاته بحفظ
القرآن ،وقال {:إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر]9 :
لذلك ظلّ القرآن كما نزل لم تَنَلْه يد التحريف أو الزيادة أو النقصان ،وصدق ال تعالى حين قال
ب لَ رَ ْيبَ فِيهِ[} ...البقرة ]2 :ل الن ،ول بعد ،ول إلى قيام الساعة،
في أول سوره{ ذَِلكَ ا ْلكِتَا ُ
حتى أن أعداء القرآن أنفسهم قالوا :ل يوجد كتاب مُوثّق في التاريخ إل القرآن.
حفْظ القرآن أن الذي يحفظ شيئا يحفظه ليكون حجة له ،ل حجة عليه ،كما
والعجيب في مسألة ِ
حفْظ القرآن،
تحفظ أنت الكمبيالة التي لك على خصمك ،أما الحق -سبحانه وتعالى -فقد ضمن ِ
والقرآن ينبئ بأشياء ستوجد فيما بعد ،والحق سبحانه ل يحفظ هذا ويُسجّله على نفسه ،إل إذا
حفْظ الحق سبحانه للقرآن دليل على أنه ل
صدْق وتحقّق ما أخبر به وإل لما حفظه ،إذن :ف ِ
ضمن ِ
يطرأ شيء في الكون أبدا يناقض كلم ال في القرآن:
{ وََلوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ َل َوجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفا كَثِيرا }[النساء]82 :
وسبق أنْ قُلنا :إن القرآن حكم في أشياء مستقبلية للخلق فيها اختيار ،فيأتي اختيار الخَلْق وفق ما
حكم ،مع أنهم كافرون بالقرآن ،مكذبون له ،ومع ذلك لم يحدث منهم إل ما أخبر ال به ،وكان
ن يمتنعوا ،لكن هيهات فل يتم في كون ال إل ما أراد.
بإمكانهم أ ْ
لكن ،ماذا نفعل فيمَنْ يجادل في ال بغير علم ول هُدىً ول كتاب منير؟ نلفته إلى العلم ،وإلى
الهدى ،وإلى الكتاب المنير.
ندعوهم إلى النظر في اليات الكونية ،وفي البدهيات التي تثبت وجود الخالق عز وجل ،ندعوهم
إلى الهدى ،والستدلل وإلى النظر في المعجزة التي جاء بها رسول ال ،ألم يخبر وهو في شدة
الحصارالذي ضربه عليه وعلى آله كفار مكة حتى اضطروهم إلى أكل الميتة وأوراق
الشجر..إلخ.
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر ]45 :حتى أن
إلم يُخبر القرآن في هذه الثناء بقوله تعالى {:سَ ُيهْزَمُ الْ َ
سيدنا عمر ليتعجب :أيّ جمع هذا؟ ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ فلما جاء يوم بدر ورأى
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر.]45 :
بعينه ما حاق بالكفار قال :صدق ال{ سَ ُيهْزَمُ الْ َ
سمُهُ عَلَى ا ْلخُرْطُومِ }[القلم ]16 :وفعلً ،لم يعرفوا الوليد
ألم يقل القرآن عن الوليد بن المغيرة{ سَنَ ِ
يوم بدر بين القتلى إل بضربة على خرطومه .ألم يُشِرْ رسول ال قبل المعركة إلى مصارع
القوم ،فيقول وهو يشير إلى مكان بعينه :هذا مصرع فلن ،وهذا مصرع فلن ،ثم تأتي المعركة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويُقتل هؤلء في نفس الماكن التي أشار إليها سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم.
والحق سبحانه أعطانا في القرآن أشياء تدل على أنه كتاب يُنوّر لنا الماضي ،ويُنوّر لنا الحاضر
والمستقبل .وسبق أنْ قُلْنا :إن الغيب دونه حجب الزمان ،أو حجب المكان ،فما سبقك من أحداث
يحجبها عنك حجاب الزمان الماضي ،وما سيحدث في المستقبل يحجبه عنك حجاب الزمان
المستقبل ،أما الحاضر الذي تعيشه فيحجبه عنك المكان ،بل وقد تكون في نفس المكان وتجلس
معي ،لكنك ل تعرف ما في صدري مثلً.
ل في غزوة مؤتة لما
وكل هذه الحجب خرقها الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم ،فمث ً
بعث النبي صلى ال عليه وسلم جيشه إليها ،وبقي هو في المدينة قال :حين وزّع القيادة :يحمل
الراية فلن ،فإذا قُتِل يحملها فلن ،فإذا قُتِل يحملها فلن وسمّى هؤلء الثلثة ،ثم قال :فإذا قُتِل
الثالث فاختاروا من بينكم مَنْ يحملها.
وجلس النبي صلى ال عليه وسلم بين أصحابه في المدينة ،وأخذ يصف لهم المعركة وصفا
تفصيليا ،فلما عاد الجيش من مؤتة وجدوا واقع المعركة وفق ما أخبر به النبي صلى ال عليه
وسلم وهو في المدينة.
وقد نبهتنا هذه المسألة إلى السر في تسمية مؤتة (غزوة) وكانوا ل يقولون غزوة إل للتي شهدها
رسول ال بنفسه ،أما التي ل يخرج فيها فتسمّى (سرية) فلما أخبر صلى ال عليه وسلم بما يدور
في المعركة مع بُعد المسافات اعتبرها المسلمون غزوة.
بل وأبلغ من ذلك ،فالحق سبحانه كسف لرسوله صلى ال عليه وسلم ما يدور في نفوس قومه{:
سهِمْ َلوْلَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ[} ...المجادلة]8 :
وَيَقُولُونَ فِي أَنفُ ِ
ت الماضي والحاضر والمستقبل.
هذه كلها من آيات النارة في القرآن التي استوعب ْ
ثم يقول الحق سبحانه } :وَِإذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُواْ.{ ...
()3414 /
كلمة { مَآ أَن َزلَ اللّهُ[ } ..لقمان ]21 :عامة تشمل كل الكتب المنزّلة ،وأقرب شيء في معناها أن
نقول :اتبعوا ما أنزل ال على رسلكم الذين آمنتم بهم ،ولو فعلتم ذلك لَسلّمتم بصدق رسول ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأقررتم برسالته.
أو :يكون المعنى { اتّ ِبعُواْ مَآ أَن َزلَ اللّهُ[ } ..لقمان ]21 :أي :تصحيحا للوضاع ،واعرضوه على
عقولكم وتأملوه.
جدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا[ } ..لقمان:
لكن يأتي ردهمَ ( :بلْ) وبل تفيد إضرابهم عما أنزل ال { نَتّبِعُ مَا وَ َ
]21وفي آية أخرى{ قَالُواْ َبلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَ ْيهِ آبَآءَنَآ[} ...البقرة]170 :
فما الفرق بين (وجدنا) و (ألفينا) وهما بمعنى واحد؟ قالوا :لن أعمار المخاطبين مختلفة في
صُحْبة آبائهم والتأثر بهم ،فبعضهم عاش مع آبائه يُقلّدهم فترة قصيرة ،وبعضهم عاصر الباء
فترة طويلة حتى أَلف ما هم عليه وعشقه؛ لذلك قال القرآن مرة (َألْفيْنَا) ومرة (وَجَدَنْا).
والختلف الثاني نلحظه في اختلف تذييل اليتين ،فمرة يقولَ {:أوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ شَيْئا
وَلَ َيهْتَدُونَ }[البقرة ]170 :ومرة أخرى يقولَ {:أوََلوْ كَانَ آبَاؤُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ شَيْئا وَلَ َيهْتَدُونَ }
[المائدة]104 :
فما الفرق بين :يعقلون ويعلمون؟
الذي يعقل هو الذي يستطيع بعقله أنْ يستنبط الشياء ،فإذا لم يكن لديه العقل الستنباطي عرف
المسألة ممّنْ يستنبطها ،وعليه فالعلم أوسع دائرة من العقل؛ لن العقل يعلم ما عقله ،أما العلم
فيعلم ما عقله هو ما عقله غيره ،فقوله ( َيعَْلمُونَ) تشمل أيضا ( َي ْعقِلوُن).
إذن :إذا نُفي العقل ل يُنفي العلم؛ لن غيرك يستنبط لك فالرجل الريفي البسيط يستطيع أن يدير
التلفزيون مثلً ويستفيد به ويتجول بين قنواته ،وهو ل يعرف شيئا عن طبيعة عمل هذا الجهاز
الذي بين يديه ،إنما تعلّمه من الذي يعلمه ،فالنسان يعلم ما يعقله بذاته ،ويعلم ما يعقله غيره،
ويؤديه إليه؛ لذلك ف َنفْي العلم دليل على الجهل المطبق الذي ل أملَ معه في إصلح الحال.
جدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا[ } ..لقمان ،]21 :وفي
ونلحظ أيضا أن القرآن يقول هنا { :قَالُواْ َبلْ نَتّبِعُ مَا وَ َ
علَيْهِ آبَاءَنَآ[} ...المائدة ]104 :فقولهم :نتبع ما وجدنا
حسْبُنَا مَا وَجَدْنَا َ
موضع آخر يقول {:قَالُواْ َ
عليه آباءنا فيه دللة على إمكانية اتباعهم الحق ،فالنكار هنا بسيط ،أما الذين قالوا{ حَسْبُنَا} ...
[المائدة ]104 :يعني :يكفينا ول نريد غيره ،فهو دللة على شدة النكار؛ لذلك في الولى نفى
عنهم العقل ،أما في الخرى فنفى عنهم العلم ،ف َعجُز اليات يأتي مناسبا لصدرها.
سعِيرِ } [لقمان:
وهنا يقول تعالى في تذييل هذه الية { َأوََلوْ كَانَ الشّ ْيطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىا عَذَابِ ال ّ
]21لن آباءهم ما ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من عبادة الصنام والكفر بال إل بوسوسة الشيطان،
فالشيطان قَدْر مشترك بينهم وبين آبائهم.
وهذا يدلنا على أن منافذ الغواء مرة تأتي من النفس ،ومرة تأتي من الشيطان ،وبهما يُطمس نور
اليمان ونور المنهج في نفس المؤمن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسبق أنْ بينّا أنك تستطيع أن تفرق بين المعصية التي تأتيك من قِبَل الشيطان ،والتي تأتيك من
قِبَل نفسك ،فالشيطان يريدك عاصيا على أيّ وجه من الوجوه ،فإذا تأب ْيتَ عليه في ناحية نقلك إلى
ناحية أخرى.
أما النفس فتريد معصية بعينها تقف عندها ل تتحول عنها ،فالنفس تميل إلى شيء بعينه ،ويصعب
ن تتوبَ منه ،ولكل نفس نقطة ضعف أو شهوة تفضلها؛ لذلك بعض الناس لديهم كما قلنا
عليها أ ْ
(طفاشات) للنفوس؛ لنهم بالممارسة والتجربة يعرفون نقطة الضعف في النسان ويصلون إليه
من خللها ،فهذا مدخله كذا ،وهذا مدخله كذا.
لكن نرى الكثيرين ممن يقعون في المعصية يُلْقون بالتبعة على الشيطان ،فيقول الواحد منهم :لقد
أغواني الشيطان ،ول يتهم نفسه ،وهذا يكذّبه الحديث النبوي في رمضان:
صفّدت الشياطين ".
" إذا جاء رمضان فُتِحت أبواب الجنة ،وغُلّقت أبواب النار ،و ُ
فلو أن المعاصي كلها من قِبَل الشيطان ما رأينا معصية في رمضان ،ول ارتكبت فيه جريمة ،أما
وتقع فيه المعاصي وتُرتكب الجرائم ،فل بُدّ أن لها سببا آخر غير الشيطان؛ لن الشياطين مُصفّدة
فيه مقيدة.
جهَهُ.{ ...
سلِ ْم وَ ْ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومَن يُ ْ
()3415 /
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى وَإِلَى اللّهِ عَاقِبَةُ الُْأمُورِ ()22
جهَهُ إِلَى اللّهِ وَ ُهوَ ُمحْسِنٌ َفقَدِ اسْ َتمْ َ
َومَنْ ُيسْلِ ْم َو ْ
يعني :مَنْ أراد أن يُخلّص نفسه من الجدل بغير علم ،وبغير هدى ،وبغير كتاب منير ،فعليه أنْ
ج َمعِينَ }[ص]82 :
غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
يُسلم وجهه إلى ال؛ لن ال تعالى قال في آية أخرى {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ
ثم استثنى منهم{ ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[الحجر]40 :
وقال سبحانه {:إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانٌ[} ...السراء]65 :
جهَهُ إِلَى اللّهِ[ } ..لقمان ]22 :أخلص وجهه في عبادته ل وحده ،وبذلك يكون في
ومعنى { ُيسْلِ ْم َو ْ
معية ال ،ومَنْ كان في معية ربه فل يجرؤ الشيطان على غوايته ،ول يُضيع وقته معه ،إنما
ينصرف عنه إلى غافل يستطيع الدخول إليه ،فالذي ينجيك من الشيطان أن تُسلم وجهك ل.
وقد ضربنا لذلك مثلً بالولد الصغير حينما يسير في صحبة أبيه فل يجرؤ أحد من الصبيان أن
ن انفلتَ من يد
يعتدي عليه ،أما إنْ سار بمفرده فهو عُرْضة لذلك ،ل َيسْلم منه بحال ،كذلك العبد إ ِ
ال ومعيته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهَهُ للّهِ[} ...البقرة ]112 :وهنا قال
وهذا المعنى ورد أيضا في قوله سبحانه {:بَلَىا مَنْ أَسَْل َم وَ ْ
{ إِلَى اللّهِ[ } ...لقمان ]22 :فما الفرق بين حرفي الجر :إلى ،اللم؟
استعمال (إلى) تدل على أن ال تعالى هو الغاية ،والغاية ل بُدّ لها من طريق للهداية يُوصّل إليها.
أمّا (اللم) فتعني ال َوصْل ل مباشرة دون قطع طريق ،وهذا الوصول المباشر ل يكون إل بدرجة
عالية من الخلص ل.
ج َههُ إِلَى اللّهِ[ } ..لقمان ]22 :يعني :أنك على الطريق الموصّل إلى
فقوله تعالىَ { :ومَن ُيسْلِ ْم وَ ْ
ال تعالى ،وأنك تؤدي ما افترضته عليك.
ومن إسلم الوجه ل َقوْل ملكة سبأ {:وَأَسَْل ْمتُ َمعَ سُلَ ْيمَانَ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[النمل ]44 :الكلم
هنا كلم ملكة ،فلم تقل :أسلمتُ لسليمان ،لكن مع سليمان ل ،فل غضاضة إذن.
وإسلم الوجه ل ،أو إخلص العمل ل تعالى عملية دقيقة تحتاج من العبد إلى قدر كبير من
المجاهدة؛ لن النفس ل تخلو من هفوة ،وكثيرا ما يبدأ النسان العمل مخلصا ل ،لكن سرعان ما
تتدخل النفس بما لها من حب الصّيت والسمعة ،فيخالط العملَ شيء من الرياء ولو كان يسيرا.
لذلك؛ فإن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يتحمل عنا هذه المسألة ويطمئن المسلم على
عمله ،فيقول في دعائه " :اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك ،فخالطني فيه ما ليس
لك ".
والنبي صلى ال عليه وسلم ليس مظنة ذلك ،لكن الحق سبحانه علّمه أن يتحمل عن أمته كما
تحمّل ال عنه في قوله تعالىَ {:قدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َنكَ[} ...النعام:
]33أي :أنك أسمى عندهم من أن تكون كاذبا {.وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ َيجْحَدُونَ }[النعام:
]33
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا.
وقوله تعالىَ { :فقَدِ اسْ َتمْ َ
[ { .لقمان ]22 :كلمة استمسك تدلّ على القوة في الفعل والتشبّث بالشيء؛ كما نقول (تبّت فيه)،
وهي تعني :طلب أنْ يمسك؛ لذلك لم َيقُل مسكَ إنما (استمسك).
وأول مظاهر الستمساك أنك ل تطمئن إلى ضعف نفسك ،فيكون تمسك بالعروة الوثقى أشدّ ،كما
ن تهاونت في الستمساك به
لو أنك ستنزل من مكان عالٍ على حبل مثلً فتتشبت به بشدة؛ لنك إ ْ
سقطت ،وهذا دليل على ثقتك بضعف نفسك ،وأنه ل ينُجيك من الهلك ،ول واقي لك إل أنْ
تستمسك بهذا الحبل.
كذلك الذي يُسِلْم وجهه ل ويُمسِك بالعروة الوثقى ،فليس له إل هذه مُنْجية وواقية.
وكلمة } بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا[ { ..لقمان ]22 :العروة :هي اليد التي نمسك بها الكوز أو الكوب أو
البريق ،وهي التي تفرق بين الكوب والكأس ،فالكأس ل عروة لها ،إل إذا شُرب فيها الشراب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الساخن ،فيجعلون لها يدا.
ومعنى } ا ْلوُثْقَىا[ { ..لقمان ]22 :أي :المحكمة ،وهي تأنيث أوثق ،نقول :هذا أوثق ،وهذه وُثْقى،
صغْرى ،وهي تعني الشيء المرتبط ارتباطا وثيقا بأصله ،فإنْ كان دَلْوا فهي وُثْقى
مثل أصغر و ُ
بالدلو ،وإنْ كان كوبا فهي وُثْقى بالكوب ،فهي الموثقة التي ل تنقطع ،ول تنفصل عن أصلها.
والعُرْوة تختلف باختلف الموثّق ،فإنْ صنع العروة صانع غاشّ ،جاءت ضعيفة هشّة ،بمجرد أنْ
تمسك بها وتنخلع في يدك ،وهذا ما نسميه " الغش التجاري " وهو احتيال لتكون السلعة رخيصة
يقبل عليها المشتري ،ثم يكون المعوّض في ارتفاع قطع الغيار ،كما نرى في السيارات مثلً،
فترى السيارة رخيصة وتنظر إلى ثمن قطع الغيار تجده مرتفعا.
إذن :إرادة عدم التوثيق لها مقصد عند المنتفع ،فإذا كان الموثّق هو ال تعالى فليس أوثق من
عُرْوته.
جمِيعا َولَ َتفَ ّرقُواْ[} ...آل عمران]103 :
وفي موضع آخر يقول الحق عنها{ وَاعْ َتصِمُواْ بِحَ ْبلِ اللّهِ َ
فالعروة الوُثْقى هي حبل ال المتين الذي يجمعنا فل نتفرق؛ لذلك في الصطلح نسمي الفتحة في
الثوب والتي يدخل فيها الزرار (عروة) لماذا؟ لنها هي التي تجمع الثوب ،فل يتفرق.
ل ان ِفصَامَ َلهَا[} ..البقرة]256 :
ف العروة الوثقى بقوله سبحانهَ {:
وفي آية أخرى وص َ
لمُورِ { [لقمان ]22 :أي :مرجعها ،فل نظن أن ال تعالى
ثم يقول سبحانه } :وَإِلَىا اللّهِ عَاقِبَ ُة ا َ
جعُونَ }
حسِبْتُمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَ ّنكُمْ إِلَيْنَا لَ تُ ْر َ
سدًىَ {:أفَ َ
خلقنا عبثا ،أو أنه سبحانه يتركنا ُ
[المؤمنون .]115 :ولو تركنا ال تعالى بل حساب لكان المنحرف الذي أعطى لنفسه شهواتها في
الدنيا أوفر حظا من المستقيم ،وما كان ال تعالى ليغشّ عبده الذي آمن به ،وسار على منهجه ،أو
يسلمه للظلمة والمنحرفين.
وإذا كانت ل تعالى عاقبة المور أي :في الخرة ،فإنه سبحانه يترك لنا شيئا من ذلك في الدنيا
نصنعه بذواتنا لتستقيم بنا مسيرة الحياة وتثمر حركتها ،ومن ذلك مثلً ما نجريه من المتحانات
للطلب آخر العام لنميز المجدّ من الخامل ،وإل تساوى الجميع ولم يذاكر أحد ،ولم يتفوق أحد؛
لذلك ل بُدّ من مبدأ الثواب والعقاب لتستقيم حركة الحياة ،فإذا كنا نُجري هذا المبدأ في دنيانا،
فلماذا نستنكره في الخرة؟
فهل يليق بهذا العالمَ الذي خلقه ال على هذه الدقة؛ وكوّنه بهذه الحكمة أن يتركه هكذا هَملً
يستشري فيه الفساد ،ويرتع فيه المفسدون ،ثم ل يُحاسبون؟ إن كانت هذه هي العاقبة ،فيا خسارة
كل مؤمن ،وكل مستقيم في الدنيا.
ج ُعهُمْ فَنُنَبّ ُئهُم.{ ...
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومَن َكفَرَ فَلَ يَحْزُنكَ ُكفْ ُرهُ إِلَيْنَا مَرْ ِ
()3416 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمِلُوا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ()23
ج ُعهُمْ فَنُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ
َومَنْ َكفَرَ فَلَا َيحْزُ ْنكَ كُفْ ُرهُ إِلَيْنَا مَ ْر ِ
بعد أن بيّن الحق سبحانه أن إليه مرجع كل شيء ونهاية المور كلها ،أراد أن يُسلّى رسوله صلى
ال عليه وسلم فقالَ { :ومَن َكفَرَ[ } ..لقمان ]23 :أي :بعدما قلناه من الجدل بالعلم وبالهدى
وبالكتاب المنير ،وبعدما بيناه من ضرورة إسلم الوجه ل ،مَنْ يكفر بعد ذلك { فَلَ َيحْزُنكَ ُكفْ ُرهُ..
} [لقمان]23 :
وهذا القول من ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم يدل على أن ال علم أن رسوله يحب أن
تكون أمته كلها مؤمنة ،وأنه يحزن لكفر من كفر منهم ويؤلمه ذلك ،وقد كرر القرآن هذا المعنى
سكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ
في عدة مواضع ،منها قوله تعالى {:فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُمؤْمِنِينَ }[الشعراء]3 :
أَسَفا }[الكهف ]6 :ويقولَ {:لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ن يقول لرسوله :أنا أرسلتُك للبلغ فحسب ،فإذا بّلغْت فل عليك بعد ذلك ،وكثيراُ
فال تعالى يريد أ ْ
ما تجد في القرآن عتابا لرسول ال في هه المسألة ،وهو عتاب لصالحه ل عليه ،كما تعاتب ولدك
الذي أجهد نفسه في المذاكرة خوفا عليه.
عمَىا * َومَا
ومن ذلك قوله تعالى معاتبا نبيه صلى ال عليه وسلم {:عَبَسَ وَتَوَلّىا * أَن جَآ َء ُه الَ ْ
يُدْرِيكَ َلعَلّهُ يَ ّزكّىا }[عبس]3-1 :
والعتاب هنا لن رسول ال صلى ال عليه وسلم ترك الرجل المؤمن الذي جاءه يستفهم عن أمور
دينه ،وذهب يدعو الكفار والمكّذبين به ،فكأنه اختار الصعب الشاق وترك السهل اليسير ،إذن:
فالعتاب هنا عتاب لصالح الرسول ل ضده ،كما يظن البعض في فهمهم لهذه اليات.
حلّ اللّهُ َلكَ[} ...التحريم ]1 :فال يعاتب
كذلك المر في قوله تعالى {:ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ لِمَ ُتحَرّمُ مَآ َأ َ
رسوله لنه ضيّق على نفسه ،فحرّم عليها ما أحله ال لها.
ج ُعهُمْ[ } ..لقمان ]23 :يعني :إذا لم تَرَ فيهم عاقبة كفرهم ،وما ينزل
ثم يقول سبحانه { :إِلَيْنَا مَ ْر ِ
بهم في الدنيا ،فسوف يرجعون إلينا ونحاسبهم في الخرة ،كما قال سبحانه في موضع آخر{:
فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ[} ...غافر ]77 :أي :ترى بعينك ما ينزل بهم من العقاب{ َأوْ
جعُونَ }[غافر]77 :
نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُ ْر َ
ج ُعهُمْ[ } ..لقمان ]23 :هذه هي الغاية النهائية ،وهذه ل تمنع أن نُريَك فيهم أشياء
إذن { :إِلَيْنَا مَ ْر ِ
تُظهر عزتك وانتصارك عليهم ،وانكسارهم وذِلّتهم أمامك ،وهذا ما حدث يوم الفتح يوم أنْ دخل
النبي مكة منصرا ومتواضعا يطأطئ رأسه بأدب وتواضع؛ لنه يعلم أن النصر من ال ،وكأنه
صلى ال عليه وسلم يقول لهل مكة :لقد كنتم تريدون الملْك لتتكبروا به ،وأنا أريده لتواضع به،
وهذا هو الفرق بين عزّة المؤمن وعِزّة الكافر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك لما تمكن رسول ال من رقابهم -بعد أنْ فعلوا به ما فعلوا -جمعهم وقال قولته المشهورة:
" يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ " قالوا :خيرا ،أخ كريم ،وابن أخ كريم ،قال " :اذهبوا
فأنتم الطلقاء ".
ولك أنْ تلحظ تحوّل السلوب من صيغة الفراد في } َومَن َكفَرَ فَلَ َيحْزُنكَ[ { ..لقمان ]23 :إلى
ج ُعهُمْ[ { ..لقمان ]23 :ولم يقل :إليّ مرجعه؛ لن مَنْ في اللغة تقوم
صيغة الجمع في } إِلَيْنَا مَ ْر ِ
مقام السماء الموصولة كلها ،فإنْ أردتَ لفظها فأفردها ،وإن أردتَ معناها فاجمعه.
عمِلُواْ[ { ..لقمان ]23 :لننا نُسجّله عليهم ونحصيه ،كما قال سبحانه{:
وقوله تعالى } :فَنُنَبّ ُئهُم ِبمَا َ
حصَاهُ اللّ ُه وَنَسُوهُ[} ...المجادلة } ]6 :إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ { [لقمان ]23 :أي :بنات
أَ ْ
الصدر ومكنوناته يعلمها ال ،حتى قبل أنْ تُترجم إلى نزوع سلوكي عملي أو َقوْلي ،فال يعلم ما
يختلج في صدورهم من حقد أو غلّ أو حسد أو تآمر.
و{ عَلِيمٌ[} ...آل عمران ]119 :صيغة مبالغة من العلم ،وفَرْق بين عالم وعليم :عالم :ذاتٌ ثبت
لها العلم ،أما عليم فذات عِلْمها ذاتي؛ لذلك يقول تعالىَ {:و َفوْقَ ُكلّ ذِي عِ ْلمٍ عَلِيمٌ }[يوسف]76 :
ثم يقول الحق سبحانهُ } :نمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلً ثُمّ.{ ...
()3417 /
ُنمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلًا ثُمّ َنضْطَرّ ُهمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ()24
الحق سبحانه يُبيّن لكل مؤمن ألّ يغتر بحال الكفار حين يراهم في حال رَغَد من العيش ،وسعة
وعافية وتمكّن؛ لن ذلك كله متاع قليل ،والحق سبحانه يريد من أتباع النبياء أنْ يدخلوا الدين
على أنه تضحية ل مغنم.
وسبق أن أوضحنا أنك تستطيع أن تُفرّق بين مبدأ الحق ومبدأ الباطل بشيء واحد ،هو استهلل
الثنين ،فالداخل في مبدأ الحق مستعد لنْ يُضحّي ،والداخل في مبدأ الباطل ينتظر أنْ يأخذ
المقابل؛ لذلك ضحّى المسلمون الوائل في سبيل دينهم بالنفس والموال ،وتركوا بلدهم وأبناءهم
لماذا؟ لنهم مُكلّفون بأداء مهمة إنسانية عالمية ،ل يحملها إل مَنْ كان مستعدا للعطاء ،أما
أصحاب الدعوات الباطلة كالشيوعية وغيرها فل بُدّ أنْ يأخذوا أولً.
لذلك روُي أن صحابيا حين سمع من رسول ال صلى ال عليه وسلم البشرى بالجنة ،وأنه ليس
بينه وبينها إل أنْ يحارب فيُقتل ألقى تمرات كانت في يده ،ولم ينتظر حتى يمضغها ،وأسرع إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المعركة مُبتغيا الشهادة وطامعا فيما عند ال ،وقد سُمع منهم في ساحة القتال أنْ ينادي أحدهم:
هُبّي يا رياح الجنة ،وآخر يقول :إني لجد ريح الجنة دون أحد.
ضطَرّهُمْ ِإلَىا عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان ]24 :هذا التمتّع بزينه الحياة
فقوله تعالىُ { :نمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلً ثُمّ َن ْ
الدنيا ما هو إل استدراج لهم ل تكريم ،وقلنا :إنك ل تلقى بعدوك من على الحصيرة مثلً ،إنما
تعليه وترفعه ليكون أَخْذه أليما وشديدا ،كذلك الحق سبحانه يُمتّعهم ،لكن لفترة محدودة لتكون
حسرتهم أعظم إذا ما أخذهم من هذا النعيم.
شيْءٍ حَتّىا
واقرأ في هذا المعنى قول ال تعالى {:فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ مّبْلِسُونَ }[النعام ]44 :أي :يائسون.
وكلمة الفتح ل تؤدي نفعا إل إذا جاءت معرفة (الفتح) وقلنا :هناك فرق بين فتح لك وفتح عليك،
حمْلً فوق رأسك.
فتح لك أي :لصالحك ،أمّا فتح عليك أي :أعطاك الدنيا لتكون ِ
إذن :فإذا رأيت لهم هذا الفتح فل تغترّ به ،واعلم انهم َنسُوا ما ُذكّروا به .وقد ورد في الثر أن
ال تعالى إذا غضب من المرء رزقه من الحرام ،فإذا اشتد غضبه عليه بارك له فيه.
خذُ
سعَة ورَغَد عيش وعُلو مكان ،حتى إذا أخذه ال آلمه الخذ واشتد عليه ،فأ ْ
ذلك ليظل في َ
الكافر وهو في َأوْج قوته وجبروته يدل على قوة الَخْذ وقدرته ،أما الضعيف فل مزيّة في َأخْذه،
كالذي يريد أنْ يحطم الرقم القياسي مثلً ،فإنه يعمد إلى أعلى الرقام فيحطمها ليثبت جدارته.
ومن ذلك أيضا نرى أن القرآن لما أراد التحدي ببلغته وفصاحته تحدّى العرب ،وهم أهل
الفصاحة والبلغة وفن الداء البياني ،ول معنى لنْ يتحدى عَيّيا ل يقدر على الكلم.
ضطَرّهُمْ[ } ..لقمان ]24 :نلجئهم أي :نُضيّق عليهم الخناق ،بحيث ل يجدون إل العذابَ
ومعنى { َن ْ
الغليظ ،أو :أن فترة الحساب وما قبل العذاب أشدّ من العذاب نفسه ،كما جاء في الحديث من " أن
ف ولو إلى النار ".
س النصرا َ
الشمس تدنو من الرؤوس ،حتى ليتمنى النا ُ
سمْك ،فالمعنى أنه عذاب كبير
ووصف العذاب هنا بأنه { غَلِيظٍ } [لقمان ]24 :والغِلظ يعني ال ّ
يصعب قلقلة النفس منه ،فلو كان رقيقا لربما أمكن الفلت منه.
ثم يعود السياق إليهم { :وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ.} ...
()3418 /
هذا إفحام لهم ،حيث شهدوا بأنفسهم أن ال تعالى هو خالق السماوات والرض ،وتعجب بعد ذلك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لنهم ينصرفون عن عبادة الخالق سبحانه إلى عبادة مَنْ ل يخلق ول يرى ول يسمع.
حمْدُ لِلّهِ} ..
لذلك بعد هذه الشهادة منهم ،وبعد أنْ قالوا (ال) يُتبعها الحق سبحانه بقول { ُقلِ الْ َ
[لقمان ]25 :أي :الحمد ل؛ لنهم أقروا على أنفسهم ،ونحن في معاملتنا نفعل مثل هذا ،فحين
يعترف لك خَصمْك تقول :الحمد ل.
خصْم بما تريد تقول :الحمد ل،
وهذه الكلمة تُقال تعليقا على أشياء كثيرة ،فحين يعترف لك ال َ
وحين يُخلّصك ال من أذى أحد الشرار تقول :الحمد ل أي :الذي نجانا من فساد هذا المفسد.
فلو بلغنا خبر موت أحد الشقياء أو قُطّاع الطرق نقول :الحمد ل أي :الذي خلصنا من شرّه،
حمْدُ للّهِ َربّ
طعَ دَابِرُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ ظََلمُواْ وَالْ َ
وأراح منه البلد والعباد ،ومن ذلك قول ال تعالى {:فَقُ ِ
ا ْلعَاَلمِينَْ }[النعام]45 :
كذلك تقال حينما يُنصَف المظلوم ،وتُردّ إليه مظلمته ،أو تظهر براءته ،كما سنقول -إنْ شاء ال
شكُورٌ }[فاطر {]34 :وَسِيقَ الّذِينَ
حمْدُ للّهِ الّذِي أَذْ َهبَ عَنّا ا ْلحَزَنَ إِنّ رَبّنَا َلغَفُورٌ َ
-في الخرة {:ا ْل َ
لمٌ عَلَ ْيكُـمْ طِبْتُمْ
حتْ أَ ْبوَا ُبهَا َوقَالَ َلهُمْ خَزَنَ ُتهَا سَ َ
ا ّتقَوْاْ رَ ّبهُمْ إِلَى الّجَنّةِ ُزمَرا حَتّىا ِإذَا جَآءُوهَا َوفُتِ َ
فَا ْدخُلُوهَا خَاِلدِينَ * َوقَـالُواْ الْحَـمْدُ للّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَعْ َد ُه وََأوْرَثَنَا الَ ْرضَ نَتَ َبوّأُ مِنَ ا ْلجَنّةِ حَ ْيثُ
نَشَآءُ فَ ِنعْمَ أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ }[الزمر]74-73 :
فالحمد ل تُقال أيضا عند خلوصك إلى غاية تُخرِجك مما كنتَ فيه من الضيق ،ومن الهَمّ ،ومن
الحزن ،وتقال حين ندخل الجنة ،وننعم بنعيمها ونعلم صِدْق ال تعالى فيما أخبرنا به من نعيمها.
حمْد على نِعمه ،وهناك الحمد العلى :ألم تقرأ الحديث القدسي " :إن ال يتجلى على خَلْقه
هذا كله َ
المؤمنين في الجنة فيقول :يا عبادي ،أل أزيدكم؟ فيقولون :وكيف تزيدنا وقد أعطيْتنا مَا ل عين
حلّ عليكم رضواني ،فل أسخط عليكم
رأتْ ،ول أذن سمعتْ ،ول خطر على قلب بشر؟ قال :أُ ِ
بعدها أبدا " فماذا بعد هذا الرضوان؟
ضيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلحَقّ
حمْدِ رَ ّبهِمْ َوقُ ِ
ح ْولِ ا ْلعَرْشِ يُسَبّحُونَ ِب َ
يقول تعالى {:وَتَرَى ا ْلمَلَ ِئكَةَ حَآفّينَ مِنْ َ
حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الزمر]75 :
َوقِيلَ ا ْل َ
هذا هو الحمد العلى ،فقد كنت في الحمد مع النعمة ،وأنت الن في الحمد مع المنعم سبحانه.
ثم يقول سبحانهَ { :بلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ } [لقمان ]25 :وهم أهل الغفلة عن ال ،أو { لَ َيعَْلمُونَ }
ن كانوا يعلمون العلم من كتاب غير منير ،أو :يعلمون
[لقمان ]25 :أي :العلم الحقيقي ،النافع ،وإ ْ
العلم الذي يُحقّق لهم شهواتهم.
سمَاوَاتِ.} ...
ثم ينتقل السياق إلى آيات كونية فيقول سبحانه { :لِلّهِ مَا فِي ال ّ
()3419 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمِيدُ ()26
ت وَالْأَ ْرضِ إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ الْ َ
سمَاوَا ِ
لِلّهِ مَا فِي ال ّ
بعد أن سجّل ال تعالى عليهم اعترافهم وشهادتهم بأنه سبحانه خالق السماوات والرض ،أراد
سبحانه أنْ يُبيّن لنا أن السماوات والرض ظرف لما فيهما ،وفيهما أشياء كثيرة ،منها ما نعرفه،
ومنها ما ل نعرفه ،والمظروف دائما أغلى من المظروف فيه ،فما في (المحفظة) من نقود عادة
أغلى من المحفظة ذاتها ،وما في الخزانة من جواهر وأموال أو أوراق هامة أنفَسُ من الخزانة
وأهمّ.
لذلك قلنا :إياك أنْ تجعل كتاب ال حافظة لشيء هام عندك؛ لنه أغلى من أيّ شيء فينبغي أنْ
نحفظه ،ل أنْ نحفظ فيه.
وكأن في الية إشارة إلى أنهم كما اقرّوا ل تعالى بخَلْق السماوات والرض ينبغي أنْ يُقروا كذلك
بأن له سبحانه ما فيهما ،وهذه مسألة عقلية يهتدي إليها كل ذي فكر سليم ،فما دامت السماوات
والرض ل ،فله ما فيهما ،و َهبْ أن لك قطعة أرض تمتلكها ،ثم عثرتَ فيها على شيء ثمين ،إنه
في هذه الحالة يكون مِلكك شرعا وعقلً.
وينبغي للعاقل أنْ يتأمل هذه المسألة :ل تعالى ما في السماوات وما في الرض ،ومن هذه
الشياء النسان الذي كرّمه ال ،وجعله سيدا لجميع المخلوقات وأعلى منها ،بدليل أنها مُسخّرة
لخدمته :الحيوان والنبات والجماد ،فهل يصح أن يكون الخادم أعظم من سيده أو أطول عمرا منه؟
فعلى العاقل أن يتأمل هذه المسألة ،وأن يستعرض أجناس الكون ويتساءل :أيكون الجماد الذي
يخدمني أطول عمرا مني؟
إذن :ل بد أن لي حياة أخرى تكون أطول من حياة الشمس والقمر وسائر الجمادات التي تخدمني،
وهذا ل يكون إل في الخرة حيث تنكدر الشمس ،وتتلشى كل هذه المخلوقات ويبقى النسان.
إذن :أنت محتاج لما في الرض ولما في السماء من مخلوقات ال ،وبه وحده سبحانه قوامها مع
أنه سبحانه غنيّ عنها ل يستفيد منها بشيء ،فال سبحانه خلق ما هو غنيّ عنه؛ لذلك يقول { :إِنّ
حمِيدُ } [لقمان ]26 :لنه سبحانه بصفات الكمال خلق ،فلم يزِدْه الخلق صفة كمال
اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ ا ْل َ
ن يوجد من يعزه.
حيٍ قبل أنْ يوجد مَنْ يُحييهُ ،معِزّ قبل أ ْ
لم تكُنْ له ،فهو ُم ْ
وقلنا :إنك ل تقول فلن شاعر لنك رأيته يقول قصيده؛ بل لنه شاعر قبل أن يقولها ،ولول أنه
شاعر ما قال.
فمعنى { إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ[ } ...لقمان ]26 :أي :الغني المطلق؛ لن له سبحانه كل هذه الملْك في
السماوات والرض ،بل جاء في الحديث القدسي أن السماء والرض بالنسبة لملْك ال تعالى
كحلقة ألقاها مُ ْلقٍ في فلة ،فل تظن أن مُلْك ال هو مجرد هذه المخلوقات التي نعلمها ،رغم ما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
توصّل إليه العلم من الهندسة وحساب المسافات الضوئية.
فال سبحانه هو الغنيّ الغِنَي المطلق؛ لنه خلق هذا الخَلْق وهو غني عنه ،ثم أعطاه لعبيده وجعله
حمِيدُ { [لقمان:
في خدمتهم ،فكان من الواجب لهذا الخالق أن يكون محمودا } إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ الْ َ
]26وحميد فعيل بمعنى محمود ،وهو أيضا حامد كما جاء في قوله تعالى {:فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }
[البقرة ]158 :لكن ،شاكر لمن؟
قالوا :إذا كان العبد يشكر ربه ،وقد علّمه ال :أن الذي يحيّيك بتحية ينبغي عليك أنْ تُحيّيَه بأحسن
شكْرك لربك .أي:
شكْر لك على ُ
منها ،فربّك يعاملك هذه المعاملة ،فإنْ شكرْ َتهُ يزدك ،فهذه الزيادة ُ
مكافأة لك.
ثم يقول الحق سبحانه } :وََلوْ أَ ّنمَا فِي الَ ْرضِ مِن شَجَ َرةٍ.{ ...
()3420 /
شجَ َرةٍ َأقْلَا ٌم وَالْبَحْرُ َيمُ ّدهُ مِنْ َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَبْحُرٍ مَا َنفِ َدتْ كَِلمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ
وََلوْ أَ ّنمَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ َ
حكِيمٌ ()27
عَزِيزٌ َ
شجَ َرةٍ[ } ..لقمان ]27 :مِنْ :هنا تفيد العموم أي :من بداية ما يُقال له شجرة،
قوله تعالى { مِن َ
ن تقول :ما عندي مال ،وما عندي من مال ،فالولى ل تمنع أن يكون عندك القليل من
وفرق بين أ ْ
ال الذي ل يُعتدّ به ،أمّا (من مال) فقد نفيت جنس المال قليله وكثيره .وتقول :ما في الدار أحد.
وربما يكون فيها طفل مثلً أو امرأة ،أمّا لو ق ْلتَ :ما في الدار من أحد ،فهذا يعني خُلوها من كل
ما يقال له أحد.
والشجرة :هي النبات الذي له ساق ،وقد تشابكتْ أغصانها ،ومن ذلك قوله تعالى {:فِيمَا شَجَرَ
بَيْ َنهُمْ[} ...النساء]65 :
أما النبات الذي ليس له ساق فهو العُشْب أو النجم الذي ينتشر على سطح الرض ،خاصة بعد
سقوط المطار ،وهذا ل تُؤخذ منه القلم ،إنما من الشجرة ذات الغصون والفروع.
س وَا ْلقَمَرُ ِبحُسْبَانٍ *
شمْ ُ
وقد ذكر القرآن الكريم هذين النوعين في كلم معجز ،فقال سبحانه {:ال ّ
حسْبَانٍ }[الرحمن ]5 :أي :حساب
جدَانِ }[الرحمن ]6-5 :فالشمس والقمر{ بِ ُ
وَالنّجْمُ وَالشّجَرُ َيسْ ُ
سجُدَانِ }[الرحمن ]6 :أي :في خضوع ل
ج ُم وَالشّجَرُ يَ ْ
دقيق محكم؛ لن بهما حساب الزمن {،وَالنّ ْ
تعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة النجم هنا يصح أنْ تُضاف إلى الشمس والقمر ،ويصح أنْ تضاف للشجر ،فهو لفظ يستخدم
في معنى ،ويؤدي معنى آخر بضميمة ضميره.
جمَ في سَيْرِى إليكُمُ ويرعَاهُ مِنَ البَيْدا جَوادِيفهو
وقد تنبه الشاعر إلى هذه المسألة ،فقال:أُرَاعِي الن ْ
ينظر إلى نجم السماء ليهتدي به في سيره ،ويرعى جواده َنجْم الرض ،ومن ذلك أيضا كلمة
العين ،فتأتي بمعنى الذهب والفضة ،وبمعنى الجاسوس ،وبمعنى عين الماء ،وبمعنى العين
المبصرة.
ومعنى { :وَالْ َبحْرُ َيمُ ّدهُ مِن َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَ ْبحُرٍ[ } ..لقمان ]27 :أي :يُعينه ويساعده إنْ نفذ ماؤه .ولك
هنا أن تسأل :لماذا جعل المداد للماء ،ولم يجعله للشجر؟ قالوا :لن القلم الواحد يكتب بحبر كثير
حصْر له ،فالحبر مظنة النتهاء ،كما أن الشجر ينمو ويتجدد ،أما ماء البحر فثابت ل يزيد.
ل َ
واقرأ أيضا في هذه المسألة {:قُل ّلوْ كَانَ الْ َبحْرُ مِدَادا ّلكَِلمَاتِ رَبّي لَ َنفِدَ الْبَحْرُ قَ ْبلَ أَن تَنفَدَ كَِلمَاتُ
رَبّي وََلوْ جِئْنَا ِبمِثْلِهِ مَدَدا }[الكهف]109 :
والعدد سبعة هنا { سَ ْب َعةُ أَبْحُرٍ[ } ..لقمان ]27 :ل يُراد به العدد ،إنما يراد به الكثرة كما في قوله
سمَاوَاتٍ[} ...الطلق ]12 :فهذه مجرتنا الشمسية ،فما بالك بالسموات في المجرات
تعالى {:سَبْعَ َ
الخرى ،وقد علمنا أن السماء هي كل ما علك فأظلك.
إذن :يرد العدد سبعة على سبيل الكثرة ،والعرب كانوا يعتبرون هذا العدد نهاية للعدد؛ لن العدد
معناه الرقام التي تبين المعدود ،فهناك فرق بين العدد والمعدود ،ولما تبينّا هذا الفرق استطعنا أنْ
نرد على المستشرقين في مسألة تعدد الزوجان ،فالعدد يعني 5 ،4 ،3 ،2 ،1أما المعدود ،فما
يميز هذه العداد.
والرسول صلى ال عليه وسلم حينما أراد أن يُنهي التعدد المطلق للزوجات لما أنزل ال عليه أن
يأمر الناس أن مَنْ معه أكثر من أربع زوجات أنْ يُمسك أربعا منهن ويفارق الباقيات.
وكان عند رسول ال في هذا الوقت تسع زوجات لم يشملهُنّ هذا الحكم ،فقالوا :لماذا استثنى ال
محمدا من هذا الحكم؟ وكيف يكون عنده تسع ،وعند امته أربع؟ ولم يفطنوا إلى مسألة العدد
والمعدود :هل استثنى ال تعالى رسوله في العدد ،أم في المعدود؟
حلّ َلكَ النّسَآءُ مِن َبعْ ُد َولَ
نقول :استثناه في المعدود؛ لنه تعالى خاطب نبيه في آية أخرى {:لّ يَ ِ
ج وََلوْ أَعْجَ َبكَ حُسْ ُنهُنّ[} ...الحزاب ]52 :ففرض على رسول ال أنْ
أَن تَبَ ّدلَ ِبهِنّ مِنْ أَ ْزوَا ٍ
يقتصر على هؤلء ،ل يزيد عليهن ،ول يتزوج بعدهن حتى لو مُتْنَ جميعا.
إذن :لم يستثنه في العدد ،وإل لكان من حقّه إذا ماتت واحدة من زوجاته أنْ يتزوج بأخرى ،وإنْ
مُتْن جميعا يأتي بغيرهن.
ولك أن تقول :ولماذا جعل ال الستثناء في المعدود ل في العدد؟ قالوا :لن زوجات غير النبي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلى ال عليه وسلم إذا طلّقها زوجها لها أن تتزوج بغيره ،لكن زوجات النبي صلى ال عليه
وسلم أمهات للمؤمنين ومحرمات عليهم ،فإنْ طلّق رسول ال إحدى زوجاته بقيت بل زواج.
لذلك ُأمِر رسول ال أنْ يمسك زوجاته التسع ،شريطة ألّ يزيد عليهن ،في حين يُباح لغيره أن
ل يبقى معه أكثر من أربع ،وعليه ،فهذا الحكم ضيّق على رسول
يتزوج بأكثر من تسع ،بشرط أ ّ
ال في هذه المسألة في حين وسّع على أمته.
ن معظم زوجات النبي كُنّ كبيرات في السّن ،وبعضهن كُنّ ل إرْبة لهن في مسألة الرجل،
ونعلم أ ّ
لكنهن يحرصن على شرف النتساب لرسول ال ،وعلى شرف َكوْنهن أمهات المؤمنين؛ لذلك
كانت الواحدة منهن تتنازل عن قَسمْها في البيتوتة لضرتها مكتفية بهذا الشرف.
إذن :التفريق بين العدد والمعدود خلّصنا من إفك المستشرقين ،ومن تحاملهم على رسول ال
واتهامهم له بتعدد الزوجات ،وأنه صلى ال عليه وسلم وسّع على نفسه وضيّق على أمته.
ومسألة العدد والمعدود هذه مسألة واسعة حيّرت حتى الدارسين للنحو ،فل إشكال في العدد واحد
والعدد اثنان؛ لننا نقول في المفرد المذكر :واحد والمؤنث :واحدة .وللمثنى المذكر :اثنان،
وللمؤنث :اثنتان .فالعدد يوافق المعدود تذكيرا وتأنيثا ،لكن الخلف يبدأ من العدد ثلثة ،حيث
يذكّر العدد مع المعدود المؤنث ،ويُؤنّث مع المعدود المذكّر ،فمن أين جاء هذا الختلف؟
قالوا :لحظ أن التذكير هو الصل؛ ولذلك احتاج التأنيث إلى علمة ،أما المذكّر وهو الصل فل
يحتاج إلى علمة ،تقول :قلم .وتقول :دواة .فاحتاجت إلى علمة للتأنيث فهي الفرع والمذكر هو
الصل.
وتعالَ إلى العداد من ثلثة إلى عشرة ،تقول :ثلثة ،أربعة ،خمسة ،ستة...إلخ فالعدد نفسه مبنيّ
على التاء ،وليست هي تاء التأنيث ،لنها أعداد مجردة بل معدود ،فإذا أردنا تأنيث هذا العدد وبه
تاء ل نضيف إليه تاءً أخرى ،إنما نحذف التاء فيكون الحذف هو علمة التأنيث ويبقى العدد مع
المذكر على الصل بالتاء.
فما حكاية العدد سبعة بالذات؟ قالوا :إن العدد واحد هو الصل في العداد؛ لن العدّ ينشأ من ضم
واحد إلى آخر ،فواحد هو الخامة التي تتكون منها العداد فتضم واحدا إلى واحد وتقول :اثنان
وتضم إلى الثنين واحدا ،فيصير العدد ثلثة..وهكذا.
ومعلوم أن أقلّ الجمع ثلثة ،والعدد إما شفع وإما وتر ،الشفع هو الذي يقبل القسمة على الثنين،
شفْ ِع وَا ْلوَتْرِ }[الفجر ]3 :فبدأ بالشفع
والوتر ل يقبل القسمة على الثنين ،وال تعالى يقول {:وَال ّ
وأوله الثنان ثم الثلثة ،وهي أول الوتر ،أما الواحد فقد تركناه لنه كما قلنا الخامة التي يتكون
منها جميع العداد.
شفْ ِع وَا ْلوَتْرِ }[الفجر ]3 :فالثنان أول الشفع ،والثلثة أول الوتر،
وما دام ال تعالى قال {:وَال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأربعة ثاني الشفع ،وخمسة ثاني الوتر ،وستة ثالث الشفع ،وسبعة ثالث الوتر.
وقلنا :إن الجمع أقلّه ثلثة ،فاعتبرت العرب العدد سبعة أقصى الجمع وترا وزوجا ،وانتهت عند
هذا العدد ،فإذا أرادوا العدّ أكثر من ذلك أتوْا بواو يسمونها واو الثمانية ،وقد سار القرآن الكريم
في أحكام العدد هذه على ما سارت عليه العرب.
حتْ
جهَنّمَ ُزمَرا حَتّىا إِذَا جَآءُوهَا فُ ِت َ
واقرأ إنْ شئت هذه اليات {:وَسِيقَ الّذِينَ كَـفَرُواْ إِلَىا َ
أَ ْبوَا ُبهَا[} ...الزمر]71 :
حتْ
أما في الجنة فيقول سبحانه {:وَسِيقَ الّذِينَ ا ّتقَوْاْ رَ ّبهُمْ إِلَى الّجَنّةِ ُزمَرا حَتّىا ِإذَا جَآءُوهَا َوفُتِ َ
أَ ْبوَا ُبهَا[} ...الزمر]73 :
فما الفرق بين اليتين؟ ولماذا جاءت الواو في الثانية ،ولم ُتذْكر في الولى؟
حتْ[} ...الزمر ]71 :في الولى جواب شرط ،وهذا الجواب كانوا يُكذّبونه
قالوا :لن{ فُتِ َ
حتْ أَ ْبوَا ُبهَا} ...
وينكرونه .والشرط تأسيس{ حَتّىا إِذَا جَآءُوهَا[} ...الزمر ]71 :ماذا حدث؟{ فُتِ َ
[الزمر ]71 :إنما هل كان المؤمنون المتقون الذين يذهبون إلى الجنة يُكذّبون بهذا اليوم؟
حتْ[} ...الزمر ]71 :هنا ل تكون جوابا؛ لنهم يعلمون يقينا أنها ستفتح ،أما الجواب
إذن فـ {:فُتِ َ
لمٌ عَلَ ْيكُـمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * َوقَـالُواْ ا ْلحَـمْدُ للّهِ الّذِي
فسيأتي فيَ {:وقَالَ َلهُمْ خَزَنَ ُتهَا سَ َ
صَ َدقَنَا وَعْ َد ُه وََأوْرَثَنَا الَ ْرضَ نَتَ َبوّأُ مِنَ ا ْلجَنّةِ حَ ْيثُ نَشَآءُ فَ ِنعْمَ أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ }[الزمر]74-73 :
ولما كانت أبواب النار سبعة لم يذكر الواو ،أما في الجنة فذكر الواو ،لن أبوابها ثمانية.
عسَىا رَبّهُ إِن طَّل َقكُنّ أَن يُبْدَِلهُ أَ ْزوَاجا خَيْرا
كذلك اقرأ قول ال تعالى ولحظ متى تستخدم الواوَ {:
ت وَأَ ْبكَارا }[التحريم]5 :
مّنكُنّ مُسِْلمَاتٍ ّم ْؤمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَا ِبدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَا ٍ
تجد الواو قبل الثمانية ،ذلك لن العرب تعتبر السبعة منتهى العدد بما فيه من زوج وفرد.
وقوله تعالى } :وَالْبَحْرُ َيمُ ّدهُ[ { ..لقمان ]27 :أي :يُجعل مِدادا لكلمات ال } مّا َنفِ َدتْ كَِلمَاتُ اللّهِ.
[ { .لقمان ]27 :كلمات ال هي السبب في إيجاد المقدورات العجيبة؛ لن ال تعالى يقول {:إِ ّنمَآ
َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ َلهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس ]82 :فكل مراد من شيء سببه كن.
وهنا عجيبة ينبغي أنْ نتأملها :فال تعالى يقول للشيء وهو لم ُيخْلق بعد (كن) ،كأن كل الشياء
موجودة في الزل ومكتوبة ،تنتظر هذا المر (كن) ،فتبرز إلى الوجود ،كما يقول أهل المعرفة:
أمور يبديها ول يبتديها.
إذن } :كَِلمَاتُ اللّهِ[ { ..لقمان ]27 :هي كن وكل مرادات ال في كونه ،ما علمنا منه وما سنعلم،
وما لم نعلم إل حين تقوم الساعة.
ألم َي ُقلْ في العجيب من أمر عيسى عليه السلم{ َوكَِلمَتُهُ أَ ْلقَاهَا إِلَىا مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ[} ...النساء:
]171والمعنى أنه لم يُخلق بالطريق الطبيعي في خَلْق البشر من أب وأم ،إنما خَلِق بهذه الكلمة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
(كن) .لماذا؟
لن ال تعالى يريد أنْ يثبت لنفسه طلقة القدرة في اليجادات وأنه سبحانه يخلق كما يشاء ،فمرة
يخلق بل أب وبل أم ،كما خلق آدم عليه السلم ،ومرة يخلق بأم دون أب كما خلق عيسى عليه
السلم ،ومرة يخلق بأب وأم ،ويخلق بأب دون أم كما خلق حواء.
إذن :القسمة العقلية موجودة بكل وجوهها.
ن تكوّن مثلً قطرة الماء ،فعليك أن
إذن :مع طلقة القدرة ل اعتبارَ للسباب ،فأنت إنْ أردتَ أ ْ
تأتي بالكسوجين واليدروجين بطريقة معينة ليخرج لك الماء وإل فل ،أما الخالق -عز وجل -
فيخلق بالشياء وبدون شيء ،لن الشياء بالنسبة ل تعالى ليست فاعلة بذاتها ،وإنما هي فاعلة
بمراد ال فيها.
حكِيمٌ { [لقمان ]27 :والعزيز هو الذي يَغلب و َيقْهر ول يُقهر،
ثم يقول سبحانه } :إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
ول يستدرك أحد على فعله حتى لو كان مخالفا لعقله هو ،وتأمل معنى العزة ،وكيف وردت في
هذا الموقف من قوله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلم {.وَإِذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ َأأَنتَ قُلتَ
لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأمّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُ ْبحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي ِبحَقّ إِن
سكَ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة:
كُنتُ قُلُْتهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعَْلمُ مَا فِي َنفْسِي َولَ أَعْلَمُ مَا فِي َنفْ ِ
حكِيمُ }[المائدة:
ك وَإِن َت ْغفِرْ َل ُهمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
]116إلى أن يقول {:إِن ُت َعذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُد َ
]118
والمنطق العقلي يقتضي أن نقول في عرف البشر :فإنك أنت الغفور الرحيم ،فالمقام مقام مغفرة،
لكن عيسى عليه السلم يأتي بها ،ل من ناحية الغفران والرحمة ،وإنما من ناحية طلقة القدرة
حكِيمُ }[المائدة ]118 :والمعنى :لو قال
والعزة التي ل يستدرك عليها أحد {.فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
الناس لماذا غفرتَ لهم مع أنهم قالوا كذا وكذا؟ فالجابة أنني أنا العزيز الذي أغلب ول أُغلب،
ول يستدرك أحد على حكمي ،إذن :ذيّل الية بالعزة لعزة ال تعالى في خَلْقه.
ثم يقول الحق سبحانه } :مّا خَ ْل ُقكُ ْم َولَ.{ ...
()3421 /
الحق سبحانه وتعالى يؤكد دائما على قضية البعث والقيامة ،ويريد سبحانه أنْ ينصب للناس في
حركة حياتهم موازين الجزاء؛ لن كل عمل ل توجد فيه موازين للجزاء يعتبر عملً باطلً ،ول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن كان معصوما او مُسخّرا ،فالمعصوم قائم دائما
يمكن أنْ يستغنى عن الجزاء ثوابا وعقابا إل مَ ْ
ن يفعل أو ل يفعل.
على ِفعْل الخير ،والمسخّر ل خيارَ له في أ ْ
إذن :إذا لم يتوفر مبدأ الجزاء ثوابا وعقابا في غير هذين ل بُدّ أنْ يوجد فساد ،إذا لم يُثب المختار
على الفعل ،ويعاقب على الترك اضطربت حركة الحياة ،حتى في المجتمعات التي ل تؤمن بإله
وضعت لنفسها هذا القنون ،قانون الثواب والعقاب.
والحق -سبحانه وتعالى -يعطينا مثالً لهذا المبدأ في قوله تعالى من قصة ذي القرنين {:إِنّا َمكّنّا
شيْءٍ سَبَبا * فَأَتْ َبعَ سَبَبا }[الكهف]85-84 :
لَهُ فِي الَ ْرضِ وَآتَيْنَاهُ مِن ُكلّ َ
أراد الحق سبحانه أن يبين أن الرجل الممكّن في الرض له مهمة ،هذه المهمة هي شكر ال على
شمْسِ[} ...الكهف:
التمكين ول يكون إل بإقامة ميزان العدالة في الكون{ حَتّىا إِذَا بََلغَ َمغْ ِربَ ال ّ
]86أي :في رأي العين ،وإل فهي ل تغرب أبدا ،إنما تغرب عن جماعة في مكان ،وتشرق على
حمِ َئ ٍة َووَجَدَ عِندَهَا َقوْما قُلْنَا ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّآ أَن
جماعة في مكان آخرَ {.وجَدَهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ
خذَ فِيهِمْ حُسْنا }[الكهف]86 :
ب وَِإمّآ أَن تَتّ ِ
ُتعَ ّذ َ
ول يُفوّض إنسان في أنْ يُعذّب أو يتخذ الحسنى إل إذا كانت لديه مقاييس وميزان العدالة ،وقد قال
شيْءٍ سَبَبا }[الكهف ]84 :أي :نعمة وميزانا لتوزيع هذه النعمة ،فلم
ال عنه {:وَآتَيْنَاهُ مِن ُكلّ َ
تقتصر نعمة ال عليه في أنه صاحب سلطان وجبروت ،إنما عنده المقوّمات الحياتية ،وعنده
ميزان العدالة الذي يضبط استطراق ال ّنعَم في الكون كله.
ن يفعل أو ل يفعل أراد أنْ يبين منهجه في أنه لم يأخذ الختيار وسيلة لتثبيت
فالذي خُيّر في أ ْ
س ْوفَ ُنعَذّبُهُ ثُمّ يُ َردّ إِلَىا رَبّهِ فَ ُي َعذّبُهُ عَذَابا ّنكْرا }
ظلَمَ فَ َ
الهواء؛ لذلك قال بعدها {:قَالَ َأمّا مَن َ
ل صَالِحا فََلهُ جَزَآءً ا ْلحُسْنَىا وَسَ َنقُولُ َلهُ مِنْ
عمِ َ
[الكهف ]87 :هذا هو العقاب{ وََأمّا مَنْ آمَنَ وَ َ
َأمْرِنَا يُسْرا }[الكهف ]88 :أي :بعد أنْ ينال ثوابه ،نعطيه فوق ذلك حوافز تشجعه ،ونقيم له حفلة
تكريم لنغري غيره بأن يسلك مسلكه.
إذن :فقضية الثواب والعقاب أمر لزم ،وإذا كان هذا في المور الحياتية الجزئية ،فهو َأوْلى في
أمور الدين والقيم التي تسيطر على كل موازين الحياة ،ل بُ ّد من وقت للثواب وللعقاب ،وإل
استشرى الظلم واغتال الناس ،وقضى عليهم وأخذ منهم كل مُتع الحياة ،فانتفع بذلك المفسد،
وخاب كل مَن التزم بدين ال وقيم منهجه.
لذلك تجد الحق -تبارك وتعالى -يؤكد دائماًَ على مسألة البعث والقيامة والحساب ،وترى أعداء
الدين يحاولون أنْ يُشككوا في هذه القضية ،وأنْ يُزحزحوا الناس عن اليمان بها بطرق شتى.
فالفلسفة لهم في ذلك دور ،وللملحدة دور ،ولهل الكتاب دور؛ لذلك تجد التوراة مثلً تكاد تخلو
من إشارة عن اليوم الخر ،وهذا أمر غريب ل يمكن تصوره في كتاب ودين سماوي ومنهج
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حياة.
وما ذلك إل لن أهل التوراة أرادوا أنْ يُزحزحوا الناس عن أمور عدة ليثبتوا لنفسهم سلطة
زمنية مادية ،حتى إنهم طمعوا في أنْ يرتقوا بهذه السلطة حتى يصلوا إلى ال تعالى ،كما حكى
جهْ َرةً[} ...البقرة]55 :
القرآن عنهم {:وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىا لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا نَرَى اللّهَ َ
ولما أنزل ال عليهم المنّ ،وهو مادة حُلْوة كطعم القشدة جعلها تتساقط عليهم ،وأنزل عليهم
السلوى ،وهي طيور مثل السمان تنزل عليهم جاهزة مُعدّة للتناول رفضوا عطية ال لهم ،وطعامه
طعَامٍ
الذي أُعدّ من أجلهم ،وقالوا :بل نريد طعاما نصنعه بأيدينا ،وقالوا {:لَن ّنصْبِرَ عَلَىا َ
وَاحِدٍ[} ...البقرة ،]61 :فقال لهم {:اهْ ِبطُواْ ِمصْرا فَإِنّ َلكُمْ مّا سَأَلْتُمْ[} ...البقرة]61:
وما دام المر بالنسبة لهؤلء ماديا فل ُبدّ أنْ يزحزح نفسه عن الخرة وعن القيامة والحساب،
لذلك راحوا يُشكّكون فيها ،أما الفلسفة فقالوا :حين يبعث ال إنسانا بعد الموت وقد تحللتْ
أعضاؤه وصارت ترابا ،ثم غرست في هذا المكان شجرة فتغذتْ من هذا التراب ،وأكل إنسان
آخر من ثمارها وانتقلتْ إليه بعض خليا وجزيئات الول ،فإذا كان هناك بعث أتُبعت هذه
الجزئيات مع الول أم مع الخر؟ فإنْ كانت مع الول فهي نقص في الخر والعكس .هذه هي
شبهة الفلسفة.
وقد تخبّط الفلسفة هذا التخبّط؛ لنهم لم يفطنوا إلى شيء في الوجود يعطي قيما للغيبيات ،وقد
أوضحنا هذه المسألة فقلنا لهم :لو أن إنسانا يزن مائة كيلو مثلً أصيب بمرض أفقده أربعين كيلو
من وزنه ،فماذا يعني هذا النقص بالنسبة للشخص نفسه؟
هذه المسألة يتحكم فيها أمران :الغذاء والخراج ،ففي فترة النمو يكون الداخل للجسم أكثر من
الخارج ،أما في فترة الشيخوخة مثلً فالخارج أكثر ،فإنْ توازن المران كانت حالة من الثبات ل
يزيد فيها الشخص ول ينقص ،وهي فترة الثبات.
فالشخص الذي نقص من وزنه أربعون كيلو ،ثم شفاه ال وعادت إليه عافيته حتى زاد وزنه وعاد
إلى حالته الطبيعية ،فهل تغيّر الشخص حال نقصان وزنه؟ وهل تغيّر حال عودته إلى طبيعته؟ أم
ظلت الشخصية والذاتية هي هي؟
إذن :المسألة في تكوين الجسم ليست ذرات وجزئيات ،إنما هي شخصية معنوية خاصة وإنْ
تكوّنت من جزيئات المادة وهي الستة عشر عنصرا التي تكوّن جسم النسان ،والتي تبدأ
بالكسوجين وتنتهي بالمنجنيز ،وهي نفس العناصر المكوّنة لتربة الرض التي نأكل منها ،وهذه
العناصر بنسب تختلف من شخص لخر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :حين يبعث ال النسان بعد الموت يبعث هذه الشخصية المعنوية بهذه الجزاء المعروفة،
فيأتي الشخص هو هو.
ومن القضايا التي أثاروها في مسألة البعث وللتباسات التي يحاولونها يقولون :ال تعالى يخلق
النسان في مدة تسعة أشهر ،أو ستة أشهر ،يمر خللها بعدة مراحل :نطفة ،ثم علقة ،ثم مضغة،
ثم عظاما ،ثم يكسو هذه العظام لحما ،هذا للنسان الواحد ،فكم تستغرق إعادة خَلْق البشر من لَدُن
آدم عليه السلم حتى قيام الساعة؟
ونقول :لقد ذكرتم كيفية خَلْق سللة النسان والتي تستغرق تسعة أو ستة أشهر ،لكن لم تذكروا
خَلْق الصل ،وهو آدم عليه السلم ،وقد خلقه ال على هيئته وصورته التي كان عليها ،فلم يكُنْ
صغيرا وكبر ،إنما خُلِق كبيرا مستويا كاملً ،ثم ُنفِخت فيه الروح.
ثم إن عناصر الفعل هي :الفعل ،والفاعل ،والمنفعل ،يُضاف إليها الزمن الذي سيتم فيه الفعل ،فأنا
أريد أنْ أنقل هذه (الحملة) من هنا إلى هناك فنقلنا فعل ،وأنا الفاعل ،والجملة هي المنفعل ثم
الزمن الذي يستغرقه الحدث ،والزمن يعني توزيع جزئيات الحدث على جزيئات الزمن فإذا أردت
أن تخيط ثوبا بطريقة يدوية فإنه يأخذ منك وقتا طويلً ،فإن خِطّه بالماكينة أخذ وقتا أقلّ بكثير.
إذن :فزمن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل ،وتذكرون أنه في الماضي كانت الشوارع تضاء
بمصابيح الزيت ،وكان لكل منطقة عامل يصعد إلى سلم إلى كل فانوس ليشعله ،أما الن فتستطيع
أن تنير مدينة بأكملها بضغط زر واحد .إذن :كلما زادتْ القوة قلّ الزمن.
فتعال إذن إلى مسألة البعث والعادة بعد الموت :أهي بقوتك أنت لتحسبها بما يناسب قوتك
وقدرتك؟ إنها بقوة ال عز وجل ،وال ل يعالج المور كما نفعل ول يزاولها ،إنما يفعل سبحانه
بكُنْ .إذن :فالفعل بالنسبة ل تعالى ل يحتاج إلى زمن تُوزّع فيه جزئيات الفعل على جزئيات
الزمن.
ولمَ تستبعد هذا في حقّ ال تعالى ،وقد أعطاك ربك طرفا منه رغم قدرتك المحدودة؟ ألستَ تجلس
في مثل هذا المجلس فترانا جميعا مرة واحدة في نظرة واحدة ،كذلك تسمع الجميع دفعة واحدة؟
ألستَ تقوم بمجرد أن تريد أنْ تقوم ،وتنفعل جوارحك لك بمجرد أنْ يخطر الفعل على بالك؟
أتفكر أنت في العضلت التي تحركتْ والشارات التي تمتْ بداخلك لتقوم من مجلسك؟
وقد سبق أنْ أوضحنا هذه المسألة حين قارنّا حركة النسان في سلستها وطواعية الجوارح لمراد
صاحبها بحركة الحفار مثلً ،فهو ل يؤدي حركة إل بالضغط على زر خاص بها.
فإذا كنت أنت أيها العبد تنفعل لك جوارحك وأعضاؤك بمرادك في الشياء ،فهل تستبعد في حق
ن يفعل بكلمة كُنْ؟ كيف وأنت ذاتك تفعل بدون أنْ تقولها؟ مجرد الرادة منك تفعل ما تريد.
ال أ ْ
ن أقولها؟ نقول :نعم أنت تفعل
ن قلتَ :كيف يفعل الحق سبحانه بكلمة كُنْ ،وأنا أفعل بدون أ ْ
فإ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن الولى حين قال ال لها كوني
بدون كُنْ؛ لن الشياء ليست منفعلة لك أنت ،إنما هي مُسخّرة بكُ ْ
مُسخّرة لرادته ،إذن :أنا أفعل بدون كُنْ؛ لنها ليست في مقدوري أنا ،فكأن كُنْ الولى من ال
تعالى هي كُنْ لنا جميعا.
وبهذا الفهم استطعنا تفسير حادثة السراء والمعراج ،واستطعنا الرد على منكريها ،فال يقول{:
لقْصَى[} ...السراء]1 :
سجِدِ ا َ
سُ ْبحَانَ الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ
فلما سمع الكفار بالحادثة أنكروها وقالوا :كيف ونحن نضرب إليها أكباد البل شهرا؟ نعم أنتم
تضربون إليها أكباد البل شهرا؛ لن فعلكم يحتاج إلى زمن ومزاولة نوزع فيها جزئيات الفعل
على جزئيات الزمن ،أمّا محمد فلم ي ُقلْ سريتُ ،فيكون في الفعل كأحدكم إنما قال :أُسرِي بي.
إذن :فهو محمول على قدرة أخرى ،فالفعل ل يُنسب إليه إنما إلى حامله إلى ال ،وقلنا :كلما
ت القوة قلّ الزمن ،فإذا كانت القوة قوة الحق -تبارك وتعالى -فل زمن؛ لذلك يقول سبحانه
زاد ْ
في مسألة الخلق والعادة } :مّا خَ ْل ُقكُ ْم َولَ َبعْ ُثكُمْ ِإلّ كَ َنفْسٍ وَاحِ َدةٍ[ { ..لقمان]28 :
فالمر يسير على ال؛ لن خَلْق النفس الواحدة وخَلْق جميع النفس يتم بكُنْ ،فالمسألة ل تحتاج
إلى تسعة أو ستة أشهر.
وضربنا مثلً لتوضيح هذه المسألة بصناعة الزبادي مثلً ،فأنت تأتي باللبن وتضع عليه المادة
المعروفة وتتركه في درجة حرارة معينة فيتحول تلقائيا إلى الزبادي الذي تريده ،فهل جلستَ أمام
كل علبة تُحوّلها بنفسك ،أم أنك عملت العملية المعروفة في هذه الصناعة ،ثم تركت هذه المواد
تتفاعل بذاتها؟
كذلك شاء ال تعالى أنْ يوجد النسان جنينا في بطن أمه ،وأن تجري عليه أمور النمو بطبيعتها،
حلّ لنا المام علي كرم ال وجهه هذه
إذن :خَلْق النسان ل يقاس بالنسبة ل تعالى بالزمن ،وقد َ
القضية حينما سُئِل :كيف يحاسب ال الناس جميعا من َلدُن آدم عليه السلم إلى قيام الساعة في
وقت واحد؟
فقال :يحاسبهم جميعا في وقت واحد ،كما أنه يرزقهم جميعا في وقت واحد؛ لنه سبحانه ل يشغله
شأن عن شأن.
سمِيعٌ َبصِيرٌ { [لقمان ]28 :سميع بصير
ثم يذيل الحق سبحانه هذه الية بقوله تعالى } :إِنّ اللّهَ َ
صيغة مبالغة من السمع والبصر ،وقلنا :إنك وأنت العبد المخلوق تستطيع أن ترى هذا الجمع مرة
واحدة في نظرة واحدة ،وكذلك تسمعه ،فما بالك بسمَ ْع ال تعالى وبصره؟
ثم يقول الحق سبحانه } :أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ.{ ...
()3422 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س وَا ْل َقمَرَ ُكلّ َيجْرِي إِلَى
شمْ َ
ل وَسَخّرَ ال ّ
أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْي ِ
سمّى وَأَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ ()29
جلٍ مُ َ
أَ َ
هذه آيات كونية واضحة مرئية للجميع :للمؤمن وللكافر ،للطائع وللعاصي ،فالحق سبحانه يوزع
لنا الوقت بين ليل ونهار ،لكنه ليس توزيعا متساويا (ميكانيكيا) ،بحيث يكون كل منهما أربعا
وعشرين ساعة ثابتة على التقدير الجبري كما يقولون؛ لذلك نرى اليوم ينقص مثلً عن الربع
وعشرين ساعة عدة دقائق تُضاف إلى زمن الليل أو العكس.
لذلك قالوا من أيام بطليموس :السنة 365يوما وخمس ساعات ،وخمس وخمسون دقيقة ،واثنتا
عشرة ثانية بالدقة .بعدها انتهوا إلى أنّ السنة 365يوما وربع يوم عن طريق الجبر ،فكل ثلث
سنين نجبر الرابعة ،ويقولون :سنة بسيطة ،وسنة كبيسة أي :طويلة ،فالتي تقبل القسمة على أربعة
سنة كبيسة ،لذلك نجد شهر فبراير في هذه السنة 29يوما ،ذلك لنعوض اليوم.
وكلمة يوم تعني الليل والنهار ،لكن القسمة بينهما ليست متساوية ،فالحق -تبارك وتعالى -
بصنعته الحكيمة أراد أنْ يُوزع الحرارة والبرودة على كل مناطق المعمورة ،ويعطي لكل منطقة
ما تحتاجه لتنبت أرضها ،وتعطينا نحن مقومات حياتنا ،بدليل أن من النباتات ما ل ينمو إل في
الصيف ،ومنها ما ل ينمو إل في الشتاء ،كذلك في العتدال الربيعي والعتدال الخريفي.
لذلك ،عرفنا أخيرا أن الخالق سبحانه جعل لمحور الرض ميلً بمقدار 23.5درجة عن مستوى
مدارها فهي إذن غير مستوية ،ففي فصل الشتاء يكون القسم الكبير منها مواجها لليل ،والخر
مواجها للنهار ،فتجد ليل الشتاء أطول من ليل الصيف وأبرد منه ،ويبلغ ليل الشتاء أقصى ما
يمكن من الطول وهو 12ساعة فهي شهر كيهك ،حتى أن الفلحين يقولون في كيهك (كياك
صباحك مساك قوم من نومك حضر عشاك).
ومقابل ذلك في فصل الصيف ،فكأن ميل محور الرض سرّ من أسرار هندسة هذا الكون ،ففي
الحادي والعشرين من حزيران (يونيو) يبدأ النقلب الصيفي ،وفي الثالث والعشرين من كانون
الول (ديسمبر) يبدأ النقلب الشتوي ،ثم العتدال الربيعي في الحادي والعشرين من آذار
(مارس) ،والعتدال الخريفي في الثاني والعشرين من أيلول (سبتمبر) .وفي الستواء الربيعي
والستواء الخريفي تجد أن الليل مساو للنهار ،وجوّهما معتدل ل حر ول برد.
فقول ال تعالى { :أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ الْلّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي الْلّ ْيلِ[ } ..لقمان]29 :
يعني :ل تظن أن الليل والنهار قسمة متساوية؛ لن ال تعالى بحكمته يُدخل جزءا من الليل في
النهار ،أو جزءا من النهار في الليل ،فيزيد في أحدهما ،وينقص من الخر لحكمة أرادها سبحانه
وتعالى لصالح النسان ،وإمدادا له بمقوّمات حياته ،لتعلم أن ما يطرأ على الليل أو النهار من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تغيير الشياء لها مناط في الحكمة اللهية العليا.
وحين نُقسّم اليوم إلى ليل ونهار -وهي قسمة كما قلنا ليست رتيبة ول متساوية -فإن لليل مهمة
جعَلْنَا ال ّنهَارَ َمعَاشا }[النبأ:
جعَلْنَا الّيلَ لِبَاسا *وَ َ
في الحياة وللنهار مهمة ،كما بيّن لنا سبحانه {:وَ َ
]11-10
معنى اللباس أن تسكن فيه وتكِنّ وتستر نفسك؛ لذلك عرفنا فيما بعد أن الضوء أثناء النوم أمر
غي َر صحي ،وفهمنا قول رسول ال " :أطفئوا المصابيح إذا رقدتم ".
سجَىا }[الضحى:
والحق سبحانه يوضح لنا هذه المسألة في قوله تعالى {:وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ
]2-1ويقول {:وَالْلّ ْيلِ إِذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ إِذَا تَجَلّىا }[الليل ]2-1 :ليبين لك أن لكل منهما مهمة
في حركة حياتك ،فالنهار للحركة ،والليل للسكون ،وعليك أل تخلط بين هاتين المهمتين دون داع،
وقد استثنينا من هذه القاعدة مَنْ تحتم عليهم طبيعة عملهم أنْ يعملوا بالليل ويرتاحوا بالنهار.
والخالق عز وجل في حركة الليل والنهار أسرارا وعجائب ينبغي أن نتنبه إليها بمعطيات العلم،
ومن حكمة الخالق سبحانه أنْ جعل لكل سر في الكون ميلدا يولد فيه ،ونثر أسرار كونه على
خَلْقه ولم يُظهرها لجيل واحد ،وإل لو كشف القرآن كل أسراره للمة المية التي عاصرتْ نزوله
لنصرفتْ عن الدعوة الجديدة بتكذيب هذه القضايا التي لم تصدقها العقول حتى في العصر
الحديث ورغم تقدم العلوم ،فمثلً لما قال العلماء بكروية الرض ودورانها حول الشمس لم نصدق
هذه الحقائق حتى جاءتنا الصور الفضائية التي تؤكد ذلك.
وقلنا :إن ميلد سِرّ من أسرار الكون قد يصادف بحثا من البشر ،فيأتي السر ويظهر على أنه
نتيجة لهذا البحث ،وإل أظهره ال للناس بالمصادفة رحمة بهم وتفضّلً عليهم؛ لذلك نجد أن معظم
سعَ إليها البشر ،ولم يذهبوا إليها بمقدمات.
الكتشافات جاءت صدفة ،لم يَ ْ
والقرآن الكريم حين يتحدث عن الليل والنهار يقول كلما عاما يفهمه كل معاصر لمرحلة من
ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ[} ...السراء]12 :
جعَلْنَا الّي َ
مراحل التقدم العلمي {:وَ َ
شكُورا }[الفرقان]62 :
ل وَال ّنهَارَ خِ ْلفَةً ّلمَنْ أَرَادَ أَن يَ ّذكّرَ َأوْ أَرَادَ ُ
ج َعلَ الّي َ
ويقول {:وَ ُهوَ الّذِي َ
ومعنى خلفه يعني :يخالف أحدهما الخر ويأتي بعده ،وهذا صحيح الن ،فنحن نرى الليل يخلف
النهار ،والنهار يخلف الليل ،لكن كيف نتصور هذه المسألة في بَدْء الخَلْق؟
لو أن البداية كانت بخَلْق الرض مواجهة للشمس ،فالنهار إذن أولً ليس خِلْفة لشيء قبله ،ثم
تغيب الشمس فينشأ الليل ليكون خِلْفة للنهار ،وفي المقابل إن وجدت الرض غير مقابلة للشمس،
فالليل هو الول ليس خِلْفة لشيء قبله.
ل وَال ّنهَارَ خِ ْلفَةً[} ...الفرقان]62 :
ج َعلَ الّي َ
إذن :ل يحل لنا هذه المسألة إل قوله تعالى {:وَ ُهوَ الّذِي َ
أي :من بداية الخَلْق وهما خِلْفة ،وهذا ل يتأتى ول يسوغ إل إذا كانت الرض مكوّرة ،بحيث
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يكون الجزء المقابل للشمس منها مكوّنا للنهار ،والجزء الخر لليل في وقت واحد ،فلما تحركت
الرض في دورانها صار كل منها خِلْفة للخر ،إذن :معطيات القرآن يهضمها العقل ،ول
يعارضها أبدا.
تذكرون في الثلثينيات وبالتحديد عام 1928فسروا السماوات السبع بأنها الكواكب السبعة السيارة
التي تدور حول الشمس ،ذلك ليقربوا العلم للناس ،ويشاء ال -سبحانه وتعالى -أن يكتشفوا
بعدها (نبتون) ثم (بلوتو) فصاروا تسعة كواكب ،وأظهر ال لهم فساد هذا التأويل.
وفي الكون عجائب كثيرة نعرفها حتى عن طريق الكفار ،وكأن ال سخّر حتى الكافر ليُثبت إيمان
المؤمن ،فإذا كنا قد عرفنا اليوم عندنا على الرض ،وأنه ليل ونهار يُكوّنان أربعا وعشرين
ساعة ،فماذا يعني اليوم بالنسبة للكواكب الخرى؟
لما عرفوا أفلك الكواكب الخرى التي تدور حول الشمس وجدوا أقربها للشمس عطارد ،ثم
الزهرة ،ثم الرض ،ثم المريخ ،ثم المشتري ،ثم زحل ،ثم نبتون ،ثم بلوتو ،وهو أبعد الكواكب
عن الشمس.
ومن عجائب اليوم في هذه الكواكب أن يوم الزهرة مثلً 244يوما بيومنا نحن ،أما العام فيساوي
225يوما بيومنا ،فكأن يوم الزهرة أطول من عامها ،كيف؟ قالوا :لن المدار مختلف عن مدار
الرض ،فاليوم نتيجة دورة الكوكب حول نفسه ،والعام نتيجة دورة الكوكب حول الشمس.
س وَا ْل َقمَرَ[ { ...لقمان ]29 :ولك أن تلحظ دقة الداء القرآني في
شمْ َ
وقوله تعالى } :وَسَخّرَ ال ّ
النتقال من الفعل المضارع } يُولِجُ[ { ...لقمان ]29 :إلى الماضي } سَخّرَ[ { ...لقمان ]29 :ففي
الكلم عن حركة الليل والنهار قال } يُولِجُ[ { ...لقمان ]29 :ولما تكلم عن الشمس والقمر قال} :
سخّرَ[ { ...لقمان ]29 :لماذا؟
َ
قالوا :لن التسخير تم مرة واحدة ،ثم استقر على ذلك ،أما إيلج الليل في النهار ،وإيلج النهار
في الليل فأمر مستمر يتكرر كل يوم ،فناسبه المضارع الدالّ على التكرار.
سمّى[ { ...لقمان ]29 :أي :إلى غاية محدودة؛ لذلك نسمي
جلٍ مّ َ
وقوله تعالىُ } :كلّ َيجْرِي إِلَىا َأ َ
العمر النهائي :الجل .والمراد بالجل المسمى يوم القيامة ،فكأن الخالق سبحانه ضمن لنا
استمرار الشمس والقمر إلى قيام الساعة ،فاطمئنوا.
ثم أيّ عظمة هذه في كوكب مضيء ينير العالم كله منذ خلقه ال وإلى قيام الساعة ،دون صيانة
ودون قطعة غيار؛ ذلك لنه مبني على التسخير القهري الذي يمنع الختيار ،فليس للشمس أنْ
تمتنع عن الشروق وكذلك القمر ،ومن العظمة في اللوهية هذه الرحمانية الرحيمة التي تحتضن
الجميع المؤمن بها والكافر.
سمّى[ { ...لقمان ]29 :وفي مواضع أخرى ورد
جلٍ مّ َ
وفي هذه الية ورد التعبير بلفظ } إِلَىا َأ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمّـى[} ...الرعد ]2 :باللم بدلً من إلى ،وكذلك في سورتي فاطر ( )13والزمر (
جلٍ مّ َ
بلفظ{ لَ َ
جلٍ[ { ...لقمان ]39 :تعطينا الصورة لمشية الشمس والقمر
،)5ولكل من الحرفين معنى } ِإلَىا أَ َ
سمّى[} ...فاطر ]13 :أي :الوصول المباشر للجل.
جلٍ مّ َ
قبل وصولهما الجل ،إنما{ لَ َ
وكما أن لليل مهمة وللنهار مهمة ،كذلك للشمس مهمة ،وللقمر مهمة بيّنها ال في قوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا ..وهذا من رحمة ال تعالى بعبادة..
ثم يقول سبحانه } :وَأَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ { [لقمان ]29 :وما دام أنه سبحانه خبير بما
تعملون ،فهو الذي يهييء لكم صلح العمل بخبرته وحكمته وقدرته وقيوميته؛ لذلك شرع لكم
العمال التي تنظم حركة حياتكم وحركة عبادتكم؛ لذلك نجد رمضان مثلً يدخل بالليل فنقول هذه
الليلة من رمضان ،أما يوم عرفة فيدخل بيومه لنه يوم مجموع له الناس.
وقوله } :وَأَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ { [لقمان ]29 :معطوفة على } أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ...
{ [لقمان ]29 :فالتقدير :وألم تر أن ال بما تعملون خبير.
ثم يقول الحق سبحانه } :ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ.{ ...
()3423 /
قوله تعالىَ { :ذِلكَ[ } ..لقمان ]30 :إشارة إلى ما تقدم ِذكْره من دخول الليل في النهار ،ودخول
النهار في الليل ،وتسخير الشمس والقمر ،ذلك كله { ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ[ } ..لقمان ]30 :فكل
ما تقدم نشأ عن صفة من صفات ال وهو الحق ،والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير ،فكأن
ناموس الكون بكل أفلكه وبكل المخلوقات فيه له نظام ثابت ل يتغير؛ لن الذي خلقه وأبدعه حق
{ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ[ } ..لقمان]30 :
وما دام ال تعالى هو (الحق) فما يدّعونه من الشركاء هم الباطل { وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ
حقّان ،فإنْ كان أحدهما هو الحق فغيره هو
طلُ[ } ..لقمان ،]30 :فل يوجد في الشيء الواحد َ
الْبَا ِ
الباطل ،فالحق واحد ومقابله الباطل .وأيّ باطل أفظع من عبادتهم للصنام واتخاذها آلهة وشركاء
مع ال عز وجل؟
كيف وهي حجارة صوّروها بأيديهم وأقاموها ليعبدوها من دون ال ،والحجارة جماد من جمادات
الرض ،والجماد هو العبد الول لكل المخلوقات ،عبد للنبات ،وعبد للحيوان ،وعبد للنسان؛ لنه
مُسخّر لخدمة هؤلء جميعا.
فكيف بك وأنت النسان الذي كرّمك ربك وجعل لك عقلً مفكرا تتدنى بنفسك وترضى لها أنْ
تعبد أدنى أجناس الوجود ،وتتخذها شريكا مع ال ،وأنت ترى الريح إذا اشتدتْ أطاحتْ باللت أو
بالعزى ،وألقتْه على الرض ،وربما كُسرت ذراعه ،فاحتاج لمن يصلح هذا الله ،إذن { وَأَنّ مَا
طلُ[ } ..لقمان]30 :
يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك؛ قلنا في الحروب التي تنشب بين الناس :إنها ل تنشب بين حقين؛ لن الحقيقة ل يوجد فيها
حقّان ،إنما هو حق واحد ،والخر ل بُدّ أن يكون باطلً ،أو تنشأ بين باطلين ،أما نشأتها بين حق
وباطل فإنها في الغالب ل تطول؛ لن الباطل زهوق.
والعاقبة ل بُدّ أنْ تكون للحق ولو بعد حين ،أما الباطل فإنه زَهُوق ،إنما تطول المعركة إنْ نشبت
بين باطلين ،فليس أحد الطرفين فيها أهلً لنصرة ال ،فتظل الحروب بينهما حتى يتهالكا ،وتنتهي
مكاسب طغيان كل منهما ،ول يردهما إل مذلّة اللجوء إلى التصالح بعد أنْ فقدا كل شيء.
لذلك نرى هذه الظاهرة أيضا في توزيع التركات والمواريث بين المستحقين لها ،حيث ينشب بينهم
الخلف والطعن واللجوء إلى القضاء والمحامين حتى يستنفد هذا كله جزءا كبيرا من هذه التركة،
ت مما كان بها من أموال جُمعتْ بالباطل ترى الطراف يميلون إلى التفاق
حتى إذا ما صَ َف ْ
والتصالح وتقسم ما بقي.
ل من مهاوش أذهبه ال
ن أصاب ما ً
واقرأ إنْ شئت حديث رسول ال صلى ال عليهم وسلم " :مَ ْ
في نهابر " ومعنى :مهاوش يعني التهويش أو كما نقول (بيهبش) من هنا ومن هنا ،وطبيعي أن
يُذهِب ال هذا المال في الباطل وما ل فائدة منه.
ل لمصارف المال الحرام بالب يرجع إلى بيته ،فيجد ابنه مريضا حرارته
وسبق أن أعطينا مث ً
مرتفعة ،فيسرع به إلى الطبيب ويصيبه الرعب ،ويتراءى له شبح المرض ،فينفق على ابنه
المئات ،أما الذي يعيش على الكفاف ويعرق في كسب عيشه بالحلل فيكفيه في مثل هذه الحالة
قرص أسبرين وكوب ليمون ،فالول أصاب ماله من مهاوش ،والخر أصابه من الحلل.
حقّ[ { ..لقمان ]30 :يعني :أن الحق هو الظاهر وهو
فقول ال تعالى } :ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ الْ َ
الغالب ،فإنْ قلتَ كيف ونحن نرى الباطل قد يعلو على الحق ويظهر عليه؟ ونقول :نعم ،قد يعلو
الباطل لكن إلى حين ،وهو في هذه الحالة يكون جنديا من جنود الحق ،كيف؟ حينما يعلو الباطل
صوْلَة ل ُبدّ أن يعض الناس ويؤذيهم ويذيقهم ويلته ،فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه
وتكون له َ
ويتشوقون إليه.
إذن :لول الباطل ما عرفنا ميزة الحق ،ومثال ذلك اللم الذي يصيب النفس النسانية فينبهها إلى
المرض ،ويظهر لها علتها ،فتطلب الدواء ،فاللم جندي من جنود الشفاء ،وقلنا سابقا :إن الكفر
جندي من جنود اليمان.
لذلك ل تحزن إنْ رأيتَ الباطل عاليا ،فذلك في صالح الحق ،واقرأ قول ربك عز وجل {:أَنَ َزلَ مِنَ
سعَته من الماء{
سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِ َيةٌ ِبقَدَرِهَا[} ...الرعد ]17 :يعني :يأخذ كل وادٍ على قدره و ِ
ال ّ
فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا[} ...الرعد ]17 :وهو القش والفتات الذي يحمله الماء{ َو ِممّا يُوقِدُونَ
طلَ[} ...الرعد]17 :
ق وَالْبَا ِ
عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْ َيةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَ َبدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا ْلحَ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جفَآءً[} ...الرعد ]17 :يعني :مطرودا مُبْعدا من الجفوة{
أي :مثلً لكل منهما {.فََأمّا الزّ َبدُ فَيَ ْذ َهبُ ُ
لمْثَالَ }[الرعد]17 :
وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
حقّ[ { ..لقمان ]30 :وأن غيره من آلهة المشركين هم
وبعد أن بيّن الحق سبحانه وتعالى أنه } الْ َ
الباطل ذكر لنفسه سبحانه صفتين أخريين } وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ { [لقمان ]30 :العلي الكبير
يقولها ال تعالى ،ويقولها رسوله صلى ال عليه وسلم ،ونقولها نحن؛ لن ال قالها؛ ولن النبي
الصادق أخبرنا بها ،لكن المسألة أن يشهد بها مَنْ كفر بال.
لذلك يعلمنا ربنا -تبارك وتعالى -أن نحمد ال حينما يشهد الكافر ل رغم كفره به ،كما ورد في
حمْدُ لِلّهِ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَ
ت وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ ُقلِ ا ْل َ
سمَاوَا ِ
اليات السابقة {:وَلَئِن سَأَلْ َت ُهمْ مّنْ خََلقَ ال ّ
َيعَْلمُونَ }[لقمان]25 :
فهذه الشهادة منهم تستحق من المؤمن أن يقول :الحمد ل؛ لنها شهادة ممّنْ كفر بال وكذّب
رسوله وحاربه ،وأيضا تنظر إلى هذا الكافر الذي تأبّى على منهج ال وكذّب رسوله حين يصيبه
مرض مثلً ،أيستطيع أنْ يتأبى على المرض كما تأبّى على ال؟ هذا الذي أَلِف التمرد على ال:
أيتمرد إنْ جاءه الموت.
()3424 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكُورٍ (
ل صَبّارٍ َ
أَلَمْ تَرَ أَنّ ا ْلفُ ْلكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِ ِن ْعمَةِ اللّهِ لِيُرِ َيكُمْ مِنْ آَيَا ِتهِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل ُك ّ
)31
بعد أن ذكر الحق سبحانه بعض اليات الكونية البعيدة عنا أراد سبحانه أنْ يعطينا نموذجا آخر
لليات التي بيْن أيدينا في الرض فقال تعالى { :أََلمْ تَرَ أَنّ ا ْلفُ ْلكَ تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ بِ ِن ْعمَةِ اللّهِ} ..
[لقمان ]31 :ألم تر :يعني ألم تعلم { أَنّ ا ْلفُ ْلكَ[ } ..لقمان ]31 :أي :السفن.
وربما أن سيدنا رسول ال لم يَرَ هذه السفن في البحار ،ولم تكن قد ظهرت السفن العملقة التي
جوَارِ ا ْلمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالَعْلَمِ }[الرحمن:
نراها اليوم كالعلم ،كما في قوله سبحانه {:وَلَهُ ا ْل َ
]24
ومتى وُجِدت البوارج العالية التي تشبه الجبال والمكوّنة من عدة أدوار .لم توجد إل حديثا ،إذن:
فهذا مظهر من مظاهر إعجاز القرآن ،ومن ذلك قوله تعالى {:وََل ْولَ أَن َيكُونَ النّاسُ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً
ظهَرُونَ }[الزخرف]33 :
سقُفا مّن ِفضّ ٍة َو َمعَارِجَ عَلَ ْيهَا يَ ْ
حمَـانِ لِبُيُو ِتهِمْ ُ
جعَلْنَا ِلمَن َي ْكفُرُ بِالرّ ْ
لّ َ
ومَنْ يبحث في القرآن يجد فيه الكثير من هذه اليات التي تثبت صِدْق القرآن وصِدْق رسول ال
في البلغ عن ال.
وذكرنا قصة المرأة التي أسلمت لما قرأت التاريخ السلمي ،وقرأت في سيرة رسول ال أن
المؤمنين به كانوا يجعلون عليه حراسة دائمة يتبادلونها حماية له من أعدائه ،وفجأة صرف رسول
ص ُمكَ مِنَ النّاسِ[} ...المائدة:
ال هؤلء الحرس من حوله وقال لهم لقد أنزل ال عليّ{ وَاللّهُ َي ْع ِ
]67فوقفت المرأة عند هذه الية وقالت :وال لو أن هذا الرجل كان يخدع الناس جميعا ما خدع
نفسه في حياته.
وقلنا في معنى { أََلمْ تَرَ[ } ..لقمان ]31 :أنها بمعنى ألم تعلم ،لن إعلم ال لك أوثق من رؤية
عينيك.
وكلمة { َتجْرِي فِي الْبَحْرِ بِ ِن ْعمَةِ اللّهِ[ } ..لقمان ]31 :الجري :حركة تودع فيها مكانا إلى مكان
آخر ،هذا التوديع إما أن تمشي ال ُهوَيْنَا أو تجري .لكن ما هي نعمة ال في جريها؟ أولً كانت أول
سفينة من الخشب المربوط إلى بعضه بالحبال والدّسُر ،وكان الغاطس منها في الماء حوالي شبر
واحد يزيح من الماء بحجم وزن السفينة ،فإذا ما وضعت عليها ثقلً فإنها تغطس بمقدار هذا
الثقل ،حتى إذا ما زاد وزن الماء المزاح عن وزن السفينة وحمولتها فإنها تغرق.
وهذه الفكرة هي التي تُستخدم في الغواصات ،فبالوزن يتم التحكم في حركة الغواصة تحت الماء.
والن نرى السفن العملقة والتي تُصنع من الحديد ،والعجيب أن هذا الحديد الصلب يحمله الماء
السائل الليّن ويجري به ،ثم تأتي الريح فتدفع السفن إلى حيث تريد ،حتى وإنْ كانت تسير عكس
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جريان الماء ،ويتمكن ربان السفينة من التحكم في حركتها باستخدام بعض اللت البسيطة
وبتوجيه الشراع بطريقة معينة فتسير السفينة حسب ما أراد حتى لو كان اتجاهها عكس اتجاه
الريح ،ويسمون هذه الحركة (تسفيح).
()3425 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جحَدُ
عوُا اللّهَ مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ فََلمّا نَجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ َفمِ ْنهُمْ ُمقْ َتصِ ٌد َومَا يَ ْ
وَإِذَا غَشِ َي ُهمْ َموْجٌ كَالظَّللِ دَ َ
بِآَيَاتِنَا إِلّا ُكلّ خَتّارٍ كَفُورٍ ()32
معنى { غَشِ َيهُمْ ّموْجٌ[ } ..لقمان ]32 :يعني :غطاهم واحتواهم؛ لذلك قال { :كَالظَّللِ[ } ..لقمان:
]32جمع ظُلّة ،وهي التي تعلو النسان وتظلله ،ول يكون الموج كذلك إل إذا عل عن مستوى
النسان ،وخرج عن رتابة الماء وسجسجته .ومن ذلك قول ال تعالى {:وَإِذ نَ َتقْنَا الْجَ َبلَ َف ْو َقهُمْ كَأَنّهُ
ظُلّةٌ[} ...العراف]171 :
وأنت تشاهد هذه المظاهر إذا كنتَ في عرض البحر ،فترى الموجة من بعيد أعلى منك ،وأنها
حتما ستطمسك ،حتى إذا ما وصلتْ إليك شاهدتَ فيها مظهرا من لطف ال بك ،حيث تتلشى
وتمر من تحتك بسلم ،وهذا شيء عجيب ونعمة تستوجب الشكر.
عوُاْ اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ} ..
فالموج إذن شيء مخيف؛ لذلك لما غشيهم وأيقنوا الهلك { دَ َ
[لقمان ]32 :دعوا ال رغم أنهم كافرون به ،لكن المرء في مثل هذه الحال ل يخدع نفسه ول
يكذب عليها ،فالمر جد ،فلم يدعوا اللت أو العزى ،ولم ي ُقلْ أحد منهم يا هبل ،إنما دعوا ال
ن كانوا ملتفتين لدين آخر في عبادة الصنام ،ففي هذا الموقف ل ُبدّ أن يُخلصوا
بإخلص ل ،فإ ْ
ل؛ لنهم واثقون أن الصنام لن تنفعهم ،وأنها ل تملك لهم ضرا ول نفعا ،ولن يكون النفع وكشف
البلء إل من ال الحق.
فإنْ قُ ْلتَ :ما دام المر كذلك ،فما الذي صرفهم عن عبادة ال إلى عبادة الصنام.
قلنا :إن التديّن طبيعة في النفس البشرية ،وهذه الطبيعة باقية في ذرات كل إنسان منذ خلق ال
ستُ بِرَ ّبكُمْ[} ...العراف ]172 :فشهدوا.
آدم ،وأخذ من صُلْبه ذريته ،وأشهدهم على أنفسهم{ أَلَ ْ
فكل واحد منا فيه ذرة شهدتْ هذا العهد ،وهذه الذرة هي مصدر الشراقات في نفس المؤمن،
وعليه أنْ يحافظ عليها بأن يأخذ قانون صيانة هذه الذرة ممن خلقها ،ل أنْ يطمس نورها بمخالفة
قانون صيانته الذي وضعه له ربه -عز وجل -فيكون كمَنْ قال ال فيهَ {:ومَنْ أَعْ َرضَ عَن
عمَىا }[طه]124 :
ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِيشَ ًة ضَنكا وَنَحْشُ ُرهُ َي ْومَ ا ْلقِيامَةِ أَ ْ
النبي صلى ال عليه وسلم يُوضح لنا هذه المسألة بقوله " :كل مولود يولد على الفطرة ،فأبواه
يُهوّدانه ،أو يُنصرّانه أو ،يُمجّسانه ".
فالنفس النسانية بخير ما دام فيها الشراقيات اللهية الولى التي شهدتْ أن ال هو الرب ،لكن إذا
تضبّبت فل ُبدّ أن تحدث الخيبة ويدخل الفساد.
إذن :التديّن طَبْع في النفس ،لكن التديّن الحق له مطلوبات ومنهج بافعل كذا ،ول تفعل كذا ،وهذا
يريد أنْ يُرضي نفسه بأن يكون مُتدينا ،لكن يريد أنْ يريح نفسه من مطلوبات هذا التدين ،فماذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يفعل؟ يلجأ إلى عبادة إله ل مطلوبات له ،وقد توفرت هذه في عبادة الصنام.
لكن نقول لمن عبد الصنام :ل ُبدّ أنْ يأتي عليك الوقت الذي ل تلتفت فيه إلى الصنام ،بل إلى
الله الحق الذي هربتْ من مطلوباته وانصرفت عن عبادته ،ل بُدّ أن تُلجئك الحداث إلى أنْ تلوذ
به؛ لذلك يقولون في المثل (اللي متحبش تشوف وجهه ،يُحوجك الزمن لقفاه).
فأنتم أعرضتم عن ال وكفرتم به ،فلما نزلت بكم الحداث وأحاطت بكم المواج صِرْتم أرانب،
فلماذا الن تلجئون إلى ال؟ لماذا لم تستمروا على عنادكم وتكبّرهم حتى على ال؟
ثم يقول تعالى } :فََلمّا َنجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ َفمِ ْنهُمْ ّمقْ َتصِدٌ[ { ..لقمان ]32 :وكان ينبغي عليهم بعد أنْ
نجاهم وأسعفهم ،كان ينبغي عليهم أن يؤمنوا به ،وأنْ يطيعوه ،وأن تؤثر فيهم هذه الهزة التي
زلزلتهم ،إل أنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعراض عن ال ،وطاوع نفسه وشهوته.
هذه هي حال الكافر حينما يتعرض للبتلء والتمحيص ،فإنه ينتكس ول يرعوى على خلف
المؤمن ،فإنه إن تعرّض لمثل هذا الختبار يزداد إيمانا ويقينا.
والمقتصد هو البين بين ،تأخذه الحداث والخطوب ،فتردّه إلى ال حال الكرب والشدة ،لكنه إذا
كشف عنه تردد وضعفتْ عنده هذه الروح ،بدليل أن ال تعالى يذكر في مقابل المقتصد نوعا آخر
منهم غير مقتصد } َومَا َيجْحَدُ بِآيَاتِنَآ ِإلّ ُكلّ خَتّارٍ َكفُورٍ { [لقمان]32 :
فمنهم من بهت كفره حينما تنبه في الوازع اليماني ،لكنه لما نجا غرّته الدنيا من جديد ،ومنهم
الجاحد الختّار أي :الغادر.
ولك أنْ تلحظ المقابلة بين صبّار وختّار ،وبين شكور وكفور.
ثم يخاطب الحق سبحانه الناس ،فيقول } :ياأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُواْ.{ ...
()3426 /
خطاب الحق سبحانه لعباده بيأيها الناس يدل على أنه تعالى يريد أنْ يُسعدهم جميعا في الخرة،
وسبق أنْ ذكرنا الحديث القدسي الذي تقول فيه الرض :يارب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم،
وقالت البحار :نغرقه...إلخ ،فكان الرد من الخالق عز وجل " دعوني وخلقي ،فلو خلقتموهم
لرحمتموهم ،إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم ،وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله تعالى { :ا ّتقُواْ رَ ّبكُمْ[ } ..لقمان ]33 :التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما يضرك وقاية تقيك
وتحميك؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى{ وَا ّتقُواْ النّارَ[} ...آل عمران ]131 :وهما بمعنى واحد؛
لن معنى اتقوا ال :اجعلوا بينكم وبين صفات جلل ربكم وانتقامه وجبروته وقاية ،وكذلك في:
اتقوا النار.
فالخطاب هنا عام للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم ،فال تعالى يريد أن يُدخلهم جميعا حيّز اليمان
والطاعة ،ويريد أنْ يعطيهم ويمنّ عليهم ويعينهم ،وكأنه سبحانه يقول لهم :ل أريد لكم ِنعَم الدنيا
فحسب ،إنما أريد أنْ أعطيكم أيضا نعيم الخرة.
وكذلك النبي صلى ال عليه وسلم ،كان رحيما حتى بالكافرين والمعاندين له ،كما ذكرنا في قصة
اليهودي الذي اتهموه ظلما بسرقة درع أحد المسلمين ،وقد عزّ على المسلمين أنْ يُرمى واحد
منهم بالسرقة ،فجعلوها عند اليهودي ،وعرضوا المر على سيدنا رسول ال ،فأداره في رأسه:
كيف يتصرف فيه؟
حكُمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّهُ[} ...النساء:
حقّ لِ َت ْ
فأسعفه ال ،وأنزل عليه {:إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
خصِيما }[النساء ]105 :أي :ل تخاصم لصالح
]105ل بين المؤمنين فحسب{ َولَ َتكُنْ لّلْخَآئِنِينَ َ
الخائن ،وإن كان مسلما ،فالناس جميعا سواء أمام مسئولية اليمان.
وفَرْق بين :اتقوا ربكم واتقوا ال؛ لن عطاء الربوبية غير عطاء اللوهية ،عطاء الربوبية إيجاد
عدْم ،وتربية للمؤمن وللكافر ،أما عطاء اللوهية فطاعة وعبادة وتنفيذ
من عَدَم ،وإمداد من ُ
للوامر ،فاختار هنا الرب الذي خلق وربّى ،وكأنه سبحانه يقول للناس جميعا :من الواجب عليكم
أن تجعلوا تقوى ال شكرا لنعمته عليكم ،وإنْ كنتم قد كفرتُم بها.
شوْاْ َيوْما لّ َيجْزِي وَالِدٌ عَن وََل ِدهِ} ..
ول تنتهي المسألة عند تقوى الرب في الدنيا ،إنما { وَاخْ َ
[لقمان ]33 :أي :خافوا يوما تُرجعون فيه إلى ربكم ،وكلمة (يوم) تأتي ظرفا ،وتأتي اسما
خفْت شدة الملحظة
مُتصرّفا ،فهي ظرف إذا كان هناك حدث سيحدث في هذا اليوم كما تقولِ :
يوم المتحان ،فالخوف من الحدث ،ل من اليوم نفسه ،أمّا لو قلت خفت يوم المتحان ،فالخوف
من كل شيء في هذا اليوم ،أي من اليوم نفسه.
شوْاْ َيوْما[ } ..لقمان ]33 :لن اليوم نفسه مخيف بصرف النظر عن الجزاء
خَفالمعنى هنا { وَا ْ
فيه ،وفي هذا اليوم { لّ َيجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَ ِدهِ[ } ..لقمان ]33 :خصّ هنا الوالد والولد؛ لنه
سبحانه نصح الجميع ،ثم خصّ الوالدين في الوصية المعروفة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوالد لولده ينقطع في الخرة ،فكلّ منهما مشغول بنفسه ،فل ينفع النسان حتى أقرب الناس إليه.
وفي سورة البقرة {:وَا ّتقُواْ َيوْما لّ تَجْزِي َنفْسٌ عَن ّنفْسٍ شَيْئا[} ...البقرة ]48 :أي :مطلق النفس،
ل مجرد الوالد والولد ،إنما عامة الناس ل ينفع أحد منهم أحدا أيّا كان.
والية بهذا اللفظ وردت في موضعين :اتفقا في الصدر ،واختلفا في ال َعجُز ،وهي تتحدث عن
َنفْسين :الولى هي النفس الجازية أي :التي تتحمل الجزاء ،والخرى هي النفس المجزّية التي
تستحق العقوبة.
ع ْدلٌ َولَ تَن َف ُعهَا
عجُزها{ وَلَ ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ
فالية التي نظرت إلى النفس المجزّى عنها ،جاء َ
شفَاعَةٌ[} ...البقرة]123 :
َ
ومعنى :عَدْل أي فدية ،فالنفس المجزيّ عنها أول مرحلة عندها لتدفع عن نفسها العذاب أن
عمّنْ يشفع لها من أصحاب الجاه
تعرض الفدية ،فل يقبل منها فدية ،لكنها ل تيأس ،بل تبحث َ
والمنزلة يتوسط لها عند ال ،وهذه أيضا ل تنفع.
أما النفس الجازية ،فأول ما تعرض تعرض الشفاعة ،فإنْ لم تُقبل عرضت العدل والفدية؛ لذلك
جاء عَجز الية الخرى الذي اعتبر النفس الجازية بتقديم الشفاعة على العدل .إذن :ذَيْل الية
الولى عائد على النفس المجزىّ عنها ،وذيل الية الثانية يعود على النفس الجازية.
وهنا } لّ َيجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَ ِدهِ[ { ..لقمان ]33 :لن الوالد مظنّة الحنان على الولد ،وحين يرى
الوالد ولده يُعذّب يريد أنْ يفديه ،فقدّم هنا (الوالد) ثم قالَ } :ولَ َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَن وَالِ ِدهِ شَيْئا{ ..
ن نقول :ول يجزي ولده عن والده ،فلماذا عدل
[لقمان ]33 :فقدم المولود ،وكان مقتضى الكلم أ ْ
عن ولد إلى مولود؟
الكلم هنا كلم رب ،وفرْق كبير بين ولد ومولود؛ لن المسلمين الوائل كان لهم آباء ماتوا على
الكفر ،فظنوا أن وصية ال بالوالدين تبيح لهم أنْ يجزوا عنهم يوم القيامة ،فأنزل ال هذه الية
تبين لهؤلء ألّ يطمعوا في أنْ يدفعوا شيئا عن آبائهم الذين ماتوا على الكفر.
ن عل فهو
لذلك لم يقل هنا ولد ،إنما مولود ،لن المولود هو المباشر للوالد ،والولد يقال للجد وإ ْ
ولده ،والجد وإنْ عل والده ،فإذا كانت الشفاعة ل تُقبل من المولود لوالده المباشر له ،فهي من
باب َأوْلَى ل تُقبل للجدّ؛ لذلك عَدل عن ولد إلى مولود ،فالمسألة كلم رب حكيم ،ل مجرد َرصْف
كلم.
لكن ،متى يجزي الوالد عن الولد ،والمولود عن والده؟ قالوا :الولد ضعيف بالنسبة لوالده يحتاج
منه العطف والرعاية ،فإذا رأى الوالد ولده يتألم سارع إلى أنْ يشفع له ويدفع عنه اللم ،أما الولد
فل يدفع عن أبيه اللم لنه كبير ،إنما يدفع عنه الهانة ،فالوالد يشفع في اليلم ،والولد يشفع في
الهانة ،فكل منهما مقام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ[ { ..لقمان ]33 :عرفنا أن الوعد :إخبار بشيء يسر لم يَأْت
ثم يقول سبحانه } :إِ ّ
وقته ،وضده الوعيد ،وهو إخبار بشيء يؤذي لم ي ْأتِ وقته بعد ،لكن ما فائدة كل منهما؟
فائدة الوعد أنْ تستعدّ له ،وتأخذ في أسبابه ،فهو يشجعك على العمل والسعي الذي يُحقّق لك هذا
الوعد كأنْ َتعِد ولدك مثلً بجائزة إنْ نجح في المتحان ،وعلى العكس من ذلك الوعيد؛ لنه
يُخوّفك من عاقبته فتحترس ،وتأخذ بأسباب النجاة منه.
إذن :الوعد حق ،وكذلك الوعيد حق ،لكنه خصّ الوعد لنه يجلب للنفس ما تحب ،أمّا الوعيد فقد
يمنعها من شهوة تحبها ،ووضحنا هذه المسألة بأن الحق -سبحانه وتعالى -يتكلم في النعم أن
منها ِنعَم إيجاب ،و ِنعَم سلب.
شوَاظٌ مّن نّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
واقرأ في ذلك قول ربك {:يُرْ َ
ُتكَذّبَانِ }[الرحمن]36-35 :
فإذا كانت الجنة وما فيها نعما تستحق الشكر ،ويمتنّ ال بها علينا ،فأيّ نعمة في الشواظ والنار
والعذاب؟ قالوا :هي نعمة من حيث هي تحذير وتخويف من العذاب لتبتعد عن أسبابه ،وتنجو منه
ن تقع فيه ،نعمة لن ال لم يأخذنا على غِرّة ،ونبهنا إلى الخطر قبل أنْ نقع فيه.
قبل أ ْ
ووَعْد ال حقّ؛ لنه وعد ممّنْ يملك الوفاء بما وعد ،وإنفاذ ما وعد به ،أما غير ال سبحانه فل
يملك أسباب الوفاء ،فوعده ل يُوصَف بأنه حق؛ لذلك قال سبحانه في سورة الكهفَ {:ولَ َتقْولَنّ
علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن َيشَآءَ اللّهُ[} ...الكهف]24-23 :
شيْءٍ إِنّي فَا ِ
لِ َ
ن تفي بما وعدتَ ،فإنْ بقيت
ن كنتَ صادقا فيما وعدتَ به إل أنك ل تضمن البقاء إلى أ ْ
فأنت وإ ْ
فقد تتغير السباب فتحول بينك وبين الوفاء ،وأنت ل تملك سببا واحدا من هذه السباب.
إذن :تأدب ودَع المر لمَنْ يملك كل أسباب إنفاذ الوعد ،و ُقلْ سأفعل كذا إن شاء ال ،حتى إذا لم
تنفذ يكون لك حجة فتقول :أردتُ لكن ال لم يشأ.
وكأن ربنا -عز وجل -يريد أنْ يداري كذبنا ويستره علينا ،يريد ألّ يفضحنا به ،وأخرجنا من
هذه المسئولية بترك المشيئة له سبحانه ،وكأن قدر ال في الشياء صيانة لعبيده من عبيده .لذلك
كثيرا ما نقول حينما ل نستطيع الوفاء :هذا قدر ال ،وماذا أفعل أنا ،والمر ل يُقضى في الرض
حتى يُقضى في السماء.
وما دمنا قد آمنا بقدر ال والحكمة منه ،فل تغضب مني إنْ لم أفِ لك وأنت كذلك ،والعاقل يعلم
تماما حين يقضي أمرا لحد أن قضاء المر جاء معه ل به ،فالقدر قضاء ،ووافق قضاؤه قضاء
ن يقضي المر على يديه ،لذلك قلنا :إن الطبيب المؤمن يقول :جاء
ال للمر ،فكأن ال كرّمه بأ ْ
الشفاء معي ل بي ،وأن الطبيب يعالج وال يشفي ،إذن :ل يُوصَف الوعد بأنه حقّ إل وعد ال
عز وجل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن تفعل ما وعدك عليه بالخير وتجتنب ما توعّدك عليه بشرّ ،وألّ
وما دام وعد ال حقا فعليك أ ْ
تغرك الحياة } فَلَ َتغُرّ ّنكُمُ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا[ { ..لقمان ]33 :أي :بزينتها وزُخْرفها ،فهي سراب خادع
جعُونَ }
ليس وراءه شيء ،واقرأ قول ال تعالىَ {:أ َفحَسِبْتُمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَ ّنكُمْ ِإلَيْنَا لَ تُ ْر َ
[المؤمنون]115 :
والحق سبحانه يضرب لنا مثلً للدنيا ،ل ليُنفّرنا منها ،وإنما لنحتاط في القبال عليها ،وإل فحبّ
الحياة أمر مطلوب من حيث هي مجال للعمل للخرة ومضمار للتسابق إليها.
يقول تعالى في هذا المثل {:وَاضْ ِربْ َلهُم مّ َثلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا[} ...الكهف ]45 :فسماها دنيا ،وليس
سمَاءِ فَاخْتَلَطَ ِبهِ نَبَاتُ الَ ْرضِ
هناك وصف أبلغ في تحقيرها من أنها دنيا{ َكمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
فََأصْبَحَ هَشِيما َتذْرُوهُ الرّياحُ[} ...الكهف ]45 :نعم ،كذلك الدنيا تزدهي ،لكن سرعان ما تزول،
تبدأ ابتدا ًء مقنعا مغْريا ،وتنتهي انتها ًء مؤسفا.
وقوله تعالى } :وَلَ َيغُرّ ّنكُم بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ { [لقمان ]33 :والغَرور بالفتح الذي يغرّك في شيء ما،
والغرور يوضحه لنا الشاعر الجاهلي وهو يخاطب محبوبته فيقولَ:أفَاطِمُ َمهْلً َب ْعضَ هَذَا التدَلّل
ب يفعَلِفمعنى
جمِلِيأغرّك مني أنَ ح ّبكِ قَاتِلي وأَ ّنكِ َمهْما ت ْأمُري القَلْ َ
وإنْ كنت َقدْ أَزْمعتِ صَرْمي فأَ ْ
غرّك :أدخل فيك الغرور ،بحيث تُقبل على الشياء ،وتتصرف فيها في كنف هذا الغرور وعلى
ضوئه.
والغَرُور بالفتح هو الشيطان ،وله في غروره طرق وألوان ،فغرور للطائعين وغرور للعاصين،
فلكل منهما مدخل خاص ،فيغ ّر العاصي بالمعصية ،ويوسوس له بأن ال غفور رحيم ،وقد عصا
أبوه فغفر ال له .لذلك أحد الصالحين سمع قول ال تعالى {:ياأَ ّيهَا الِنسَانُ مَا غَ ّركَ بِرَ ّبكَ ا ْلكَرِيمِ
سوّاكَ َفعَدََلكَ }[النفطار ]7-6 :فأجاب هو :غرّني كرمه ،لنه خلقني وسوّاني في
* الّذِي خََل َقكَ فَ َ
أحسن صورة ،وعاملني بكرم ودلّّلني ،حتى أصابني الغرور بذلك ،ولو أنه عز وجل قسا علينا ما
اغتررنا.
وكان لحدهم دَيْن خمسة صاغ فضة عند آخر ،فردّها إليه ،فلما نظر فيها الدائن وجدها ممسوحة
فأعادها إليه ،فقال المدين :وال لو كنت كريما لقبلتها دون أنْ تنظر فيها.
فأخذ الواعظ هذه الواقعة وأراد أنْ يعظ بها الدائن ،وكان يصلي صلةً ل خشوعَ فيها ،فقال له :إن
صلتك هذه ل تعجبني،فهي َنقْر ل خشوع فيها ،أرأيت لو أن لك دَيْنا فأعطاك صاحب الدين نقودا
ممسوحة قديمة أكنت تقبلها؟ فقال الرجل :وال لو كنتُ كريما أقبلها ول أردها.
ثم يقول الحق سبحانه مختتما سورة لقمان } :إِنّ اللّهَ عِن َدهُ.{ ...
()3427 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبُ غَدًا َومَا
ع ِة وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْيثَ وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْأَ ْرحَا ِم َومَا تَدْرِي َنفْسٌ مَاذَا َتكْ ِ
إِنّ اللّهَ عِنْ َدهُ عِ ْلمُ السّا َ
تَدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ()34
بعد أن حذرنا ربنا -تبارك وتعالى -من الغرور في الحياة الدنيا يُذكّرنا أن بعد هذه الحياة حياة
أخرى ،وقيامه وساعة { إِنّ اللّهَ عِن َدهُ عِلْمُ السّاعَةِ[ } ..لقمان ]34 :والساعة ل تعني القيامة
فحسب ،إنما لكل منا ساعته ،لنه مَنْ مات فقد قامت قيامته.
لماذا؟ لنه انقطع عمله ،ول يمكنه تدارك ما فاته من اليمان أو العمل الصالح ،فكأن قيامته قامت
بموته.
وقلنا :إن عمر الدنيا بالنسبة لك هو مقدار عمرك فيها ،وإنْ كان عمر الدنيا على الحقيقة من لَدُن
آدم -عليه السلم -إلى قيام الساعة ،لكن ماذا استفدتَ أنت من عمر غيرك؟
إذن :ل ينبغي أن تقول :إن الدنيا طويلة؛ لن عمرك فيها قصير ،ثم إنك ل تعلمه ،ول تستطيع أنْ
تتحكم فيه ،وكما أبهم ال الساعة أبهم الجل؛ لن في إبهامه أنفع البيان ،فلما أبهم ال الجل جعل
النفس البشرية تترقبه في كل لحظة ،فكل لحظة تمر عليك يمكن أن يأتيك فيها الموت.
وهكذا أشاع الموت في كل الزمن ،وما دام المر كذلك فل بُدّ أن ينتبه النسان ويخشى أن يموت
وهو على معصية ،فالبهام هنا هو عَيْن البيان.
وقلنا :إن الذين ماتوا من َلدُن آدم عليه السلم يلبثون في قبورهم طوال هذه المدة ،فإذا ما قامت
القيامة{ كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا َلمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ عَشِيّةً َأوْ ضُحَاهَا }[النازعات ]46 :لماذا؟ قالوا :لن قياس
الزمن إنما يتأتى بالحداث ،فحيث ل توجد أحداث ل يوجد زمن.
ومثّلْنا لذلك بأهل الكهف الذين مكثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا ،ومع ذلك لما سأل
بعضهم بعضا{ كَم لَبِثْ ُتمْ قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ َي ْومٍ[} ...الكهف]19 :
لماذا؟ لن النوم يخلو من الحداث ،فل يشعر النائم فيه بالزمن ،كما أنهم لما رأى بعضهم بعضا
بعد هذه الفترة رآه على حالته التي نام عليها لم يتأثر بمرور هذه المدة ،ولم تتغير هيئته ،فأقصى
ما يمكن تصوّره أن يقول :لبثنا يوما أو بعض يوم.
وكذلك الحال في قصة العُزير الذي قال ال عنهَ {:أوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىا قَرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا
شهَا قَالَ أَنّىا يُحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا فََأمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمّ َبعَ َثهُ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ
عُرُو ِ
لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ[} ...البقرة]259 :؛ لن هذه هي أطول مدة يمكن أن ينامها النسان.
ثم أخبره ربه{ بَل لّبِ ْثتَ مِائَةَ عَامٍ[} ...البقرة ]259 :ويريد الحق سبحانه أن يُدلّل على صدق
الرجل في قوله يوما أو بعض يوم ،وعلى صدقه تعالى في قوله مائة عام ،فيقول سبحانه {:فَانْظُرْ
ك وَشَرَا ِبكَ َلمْ يَتَسَنّهْ[} ...البقرة ]259 :أي :لم يتغير.
طعَا ِم َ
إِلَىا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صدْقه في يوم أو بعض يوم
وهذا دليل على ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه خمس مسائل مخصوصة جاء بها الجواب من عند ال تعالى } إِنّ اللّهَ عِن َدهُ عِلْمُ السّاعَةِ
سبُ غَدا َومَا َتدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ
ث وَ َيعْلَمُ مَا فِي الَرْحَامِ َومَا َتدْرِي َنفْسٌ مّاذَا َتكْ ِ
وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْي َ
َتمُوتُ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مهما تقدمت العلوم ،ومها ادّعى الخَلْق أنهم يعلمون ما في الرحام ،والذي أحدث إشكالً في هذه
المسألة الن الجهزة الحديثة التي استطاعوا بها رؤية الجنين ،وتحديد نوعه أذكر أم أنثى ،فهذه
الخطوة العلمية أحدثتْ بلبلة عند بعض الناس ،فتوهموا أن الطباء يعلمون ما في الرحام ،وبناءً
عليه ظنوا أن هذه المسألة لم َت ُع ْد من مفاتح الغيب التي استأثر ال بها.
ونقول :أنتم بسلطان العلم علمتم ما في الرحام بعد أن تكوّن ووضحتْ معالمه ،واكتملتْ خِلْقته،
أما الخالق -عز وجل -فيعلم ما في الرحام قبل أنْ تحمل الم به ،ألم يُبشّر ال تعالى نبيه
زكريا عليه السلم بولده يحيى قبل أن تحمل فيه أمه؟ ونحن ل نعلم هذا الغيب بذواتنا ،إنما بما
علّمنا ال ،فالطبيب الذي يُخبرك بنوع الجنين ل يعلم الغيب ،إنما مُعلّم غيب.
وال -تبارك وتعالى -يكشف لبعض الخلق بعض الغيبيات ،ومن ذلك ما كان من الصّدّيق أبي
بكر -رضي ال عنه -حين أوصى ابنته عائشة -رضي ال عنها -قبل أن يموت وقال لها:
يا عائشة إنما هما أخواك وأختاك ،فتعجبت عائشة حيث لم يكن لها من الخوة سوى محمد وعبد
الرحمن ،ومن الخوات أسماء ،لكن كان الصّديق في هذا الوقت متزوجا من بنت خارجة ،وكانت
حاملً وبعد موته ولدتْ له بنتا ،فهل تقول :إن الصّدّيق كان يعلم الغيب؟ ل ،إنما أُعِلم من ال.
إذن :الممنوع هنا العلم الذاتي أن تعلم بذاتك.
ثم إن الطبيب يعلم الن نوع الجنين ،إما من صورة الشعة أو التحاليل الي يُجريها على عينة
الجنين ،وهذا ل يُعتبر علما للغيب ،و (الشطارة) أن تجلس المرأة الحامل أمامك وتقول لها :أنت
إنْ شاء ال ستلدين كذا أو كذا ،وهذا ل يحدث أبدا.
سبُ غَدا[ { ..لقمان ]34 :النسان يعمل ،إما لدنياه،
ثم يقول سبحانهَ } :ومَا تَدْرِي َنفْسٌ مّاذَا َتكْ ِ
لخْراه ،فالمعنى إما تكسب من الخير المادي لذاتك لتعيش ،وإن كان من مسألة التكليف،
وإما ُ
فالنفس إما تعمل الخير أو الشر ،الحسنة أو السيئة ،والنسان في حياته عُرضَة للتغيّر.
لذلك يقال في الثر " :يا ابن آدم ،ل تسألني عن رزق غدٍ ،كما لو أطالبك بعمل غد ".
وقوله تعالىَ } :ومَا َتدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ[ { ..لقمان ]34 :وهذه المسألة حدث فيها
إشكال؛ " لن رسول ال صلى ال عليه وسلم أخبر النصار أنه سيموت بالمدينة حينما وزع
الغنائم على الناس جميعا ما عدا النصار؛ لذلك غضبوا ووجدوا في أنفسهم شيئا؛ لن رسول ال
حرمهم ،لكن سيدنا رسول ال جمعهم وتلطّف معهم في الحديث واعترف لهم بالفضل فقال :وال
لو قلتم أني جئت مطرودا فآويتموني فأنتم صادقون ،وفقيرا فأغنيتموني فأنتم صادقون ..لكن ال
تحبون أن يرجع الناس بالشاه والبعير ،وترجعون أنتم برسول ال " ،وقال في مناسبة أخرى "
المحيا محياكم ،والممات مماتكم ".
سبُ غَدا َومَا تَدْرِي
إذن :نُبّئ رسول ال أنه سيموت بالمدينة ،وال يقولَ } :ومَا تَدْرِي َنفْسٌ مّاذَا َتكْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ.
[ { .لقمان ]34 :نقول :الرض منها عام ومنها خاصّ ،فأرض المدينة شيء عام ،نعم سيموت
ي بقعة منها ،وفي أي حجرة من حجرات زوجاته ،إذن :إذا علمتَ الرض
بالمدينة ،لكن في أ ّ
العامة ،فإن الرض الخاصة ما زالت مجهولة ل يعلمها أحد.
يُروى أن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي كان يحب الحياة ويحرص عليها ،ويخاف الموت،
وكان يستشير في ذلك المنجّمين والعرافين ،فأراد ال أنْ يقطع عليه هذه المسألة ،فأراه في المنام
أن يدا تخرج من البحر وتمتد إليه ،وهي مُفرّجة الصابع هكذا ،فأمر بإحضار مَنْ يُعبّر له هذه
الرؤيا ،فكان المتفائل منهم ،أو الذي يبغي نفاقه يقول له :هي خمس سنوات وآخرون قالوا :خمسة
أشهر ،أو خمسة أيام أو دقائق.
إلى أن انتهى المر عند أبي حنيفة رضي ال عنه فقال له :إنما يريد ال أن يقول لك :هي خمسة
ث وَ َيعْلَمُ مَا فِي الَرْحَا ِم َومَا تَدْرِي
ل يعلمها إل ال ،وهي } :إِنّ اللّهَ عِن َدهُ عِلْمُ السّاعَ ِة وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْي َ
سبُ غَدا َومَا َتدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ[ { ..لقمان]34 :
َنفْسٌ مّاذَا َتكْ ِ
وما دامت هذه المسائل كلها مجهولة ل يعلمها أحد ،فمن المناسب أن يكون ختام الية } إِنّ اللّهَ
عَلَيمٌ خَبِيرٌ { [لقمان]34 :
خلْقه من الفكر في هذه المسائل الخمس ،وكل ما يجب أن نعلمه
إذن :الحق سبحانه يريد أنْ يُريح َ
أن المقادير تجري بأمر ال لحكمة أرادها ال ،وأنها إلى أجل مسمى ،وأن العلم بها ل يُقدّم ول
يُؤخّر ،بال ماذا يحدث لو علمت ميعاد موتك؟ ل شيء أكثر من أنك ستعيش َنكِدا حزينا طول
الوقت ل تجد للحياة لذة.
لذلك أخفى ال عنّّا هذه المسألة لنُقبِل على ال بثقتنا في مجريات قدر ال فينا.
()3428 /
الم ()1
هذه من الحروف المقطّعة المبنية على الوقف ،على خلف آيات القرآن التي بُنِيتْ كما قُلْنا على
الوصل من أول القرآن إلى آخره ،بل على وصل آخره بأوله؛ لذلك ل ينبغي أن تقرأ القرآن على
سكَ يساعدك ،ول تقف إل إذا انقطع النفَس ،فتقف وتُسكّن الحرف الذي وقفتَ
الوصل ،ما دام َنفَ ُ
عليه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن وقف وجب؛ لنه بُني على الوصل ،فل تقف إل
وقد قال علماء القراءات :وليس في القرآن مِ ْ
إذا ضاق َنفَسُك؛ لذلك جعلوا في القرآن مواضع للوقف ،وتُرسم في المصحف (صِلى ،قِلى ،ج)،
لكن الصل الوصل.
وقلنا :إن أوضح مثال على الوصل في القرآن أن كلمة الناس في آخر سورة الناس ،وهي آخر
القرآن لم ت ْأتِ ساكنة ،إنما متحركة بالكسر (الناسِ)؛ لن ال تعالى قدّر حّلكَ في الناس فجعلك
ترحل إلى بسم ال الرحمن الرحيم في أول الفاتحة ،فل تقطع الصلة بين آخر القرآن وأوله،
وسمّيْنا قارئ القرآن لذلك (الحالّ المرتحل).
وهنا تأتي { الـم } [السجدة ]1 :بعد مفاتح الغيب الخمسة التي سبقتْ في آخر سورة لقمان،
وكأنها مُلْحقة بها ،فهي سِرّ استأثر ال تعالى بعلمه ،ونحن في تفسيرنا لها نحوم حولها؛ لذَلك كل
مَنْ فسّر الحروف المقطّعة في بدايات السور ل بُ ّد أن يقول بعدها :وال أعلم بمراده؛ لن
تفسيراتنا كلها اجتهادات تحوم حول المعنى المراد؛ لذلك نحن ل نقول هذه الكلمة في كل آيات
القرآن ،إنما في هذه اليات والحروف بالذات.
صدْق عند مليك مقتدر ،كيف بنا حين نسمع
وكيف بنا حين يجمعنا ال تعالى إنْ شاء ال في مقعد ِ
هذا القرآن مباشرة من ال عز وجل؟ ل شكّ أننا سنسمع كلما كثيرا غير الذي سمعناه ،ومعاني
كثيرة غير التي توصّلنا إليها في اجتهاداتنا ،وعندها سنعرف مرادات ال تعالى في هذه الحروف،
وسنعرف كم َقصُ َرتْ عقولنا عن فهمها ،وكم كنا أغبياء في َفهْمنا لمرادات ربنا.
وقوله تعالى { الـم } [السجدة ]1 :عادةً يأتي بعد هذه الحروف المقطعة أمر يخصّ الكتاب
العزيز.
وهنا يقول سبحانه { :تَنزِيلُ ا ْلكِتَابِ لَ.} ...
()3429 /
مادة (نزل) وردتْ في القرآن بلفظ :نزل ،ونزّل ،وأنزل ،أنزل تدل على التعدية ،يعني :أن ال
تعالى عدّى القرآن من اللوح المحفوظ ،إلى أنْ يباشر مهمته في السماء الدنيا ،وهذا النزال من
ال تعالى.
أما نزّل فالتنزيل مهمة الملئكة؛ لذلك يقول تعالى في النزال {:إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْر }[القدر:
]1أي :من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ،ثم تتنزّل به الملئكة مُنجّما حسب الحداث ،وفي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمِينُ }[الشعراء]193 :
ذلك يقول تعالى {:نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ ا َ
حقّ نَ َزلَ[} ...السراء ]105 :فقد كان محفوظا عندنا في
حقّ أَنْزَلْنَا ُه وَبِالْ َ
ويقول سبحانه {:وَبِالْ َ
طهّرُونَ }[الواقعة ]193 :ثم نزل به الروح المين جبريل.
اللوح المحفوظ{ لّ َيمَسّهُ ِإلّ ا ْلمُ َ
وما دام{ نَ َزلَ بِهِ[} ...الشعراء ]193 :فهذا يعني أن القرآن نزل معه ،فقوله {:نَ َزلَ ِبهِ الرّوحُ
حقّ نَ َزلَ[} ...السراء .]105 :فالنزول
حقّ أَنْزَلْنَا ُه وَبِالْ َ
لمِينُ }[الشعراء ]193 :تساوي تماما{ وَبِالْ َ
اَ
يُنسَب مرة إلى القرآن ،ومرّة إلى الروح المين.
ومادة نزل وما يُشتق منها من إنزال وتنزيل تفيد كلها أنه جاء من جهة العلو إلى جهة أسفل منه،
ن يضل بك
كأنك تتلقّى من جهة أعلى منك وأرفع ،وما ُد ْمتَ تتلقى من جهة أعلى منك ،فإيّاك أ ْ
الفكر لناحية أخرى.
لذلك يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى ال عليه وسلم في أمر التكليفُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ
رَ ّبكُمْ عَلَ ْيكُمْ[} ...النعام ]151 :فنحن نفهم أن تعالوا بمعنى تعالَ .أي :أقبل ،لكنها تحمل مع هذا
المعنى معنى العلو :أقبل دانيا إلى متعالٍ ،تعالَ من أوضاعك الرضية إلى عُلُو ربك في المل
العلى.
خ ْذ من العلى ،ارتفع عن مستوى
تعالَ يعني :ل تأخذ من نفسك ول من مُسَاوٍ لك ،إنما ارتفع و ُ
الرض وعقولهم وأفكارهم ،وخُذْ من الذي شرّع لك؛ لنه ل ُبدّ أن تكون عنده أمور ومواصفات
آمن لك وأسلم؛ لن علمه أوسع ،فل ُيشَرّع لك اليوم ما ينقضه غدا.
ثم إنّ شرعه لك يستوعب كل نواحي حياتك وأقضيتها ،وهذه المواصفات ل تكون إل في الحق -
تبارك وتعالى -وهو سبحانه أرحم بك من الوالدة بولدها ،فل يُشرّع لك إل ما يُصلحك ،ثم هو
سبحانه ليس له غرض أو مصلحة ذاتية من وراء هذا التشريع ،كما نرى في تشريعات البشر
للبشر.
وقد رأينا الرأسماليين حينما شرّعوا قانونا جاء يخدمهم ،وليكونوا هم أول المنتفعين به؛ لذلك
ق إل
سرعان ما تهاوى؛ لن شرط المشرّع الحق ألّ ينتفع هو بما يُشرّع ،وعليه فل مشرّع ح ّ
ال.
لذلك رأينا حتى غير المؤمنين بال من الكافرين أو المشركين بعد أنْ تعضّهم الحداث ،وتخفق
حلّ مشاكلهم يلجئون إلى حلول لها من قوانين السلم.
قوانينهم في َ
سلَ رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَىا وَدِينِ ا ْلحَقّ
ولما سُئلنا في سان فرانسيسكو عن قوله تعالىُ {:هوَ الّذِي أَرْ َ
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }
لِيُ ْ
طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَاللّهُ مُتِمّ نُو ِر ِه وََلوْ كَ ِرهَ
[التوبة ]33 :وفي موضع آخر{ يُرِيدُونَ لِ ُي ْ
ا ْلكَافِرُونَ }[الصف]8 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قالوا لنا :هذا يعني أن السلم ظاهر على الديان منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ،فما بالنا نرى
الن أكثر أهل الرض من غير المسلمين؟
فقلت في الرد عليهم :وال لو فهمتُم أسرار اللغة ،وتأملتُم هذه الية لوجدتم أن الرّد فيها ،فواحدة
تقول {:وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }[الصف ،]8 :والخرى تقول{ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمشْ ِركُونَ }[التوبة]33 :
إذن :فالكفر والشرك موجودان مع وجود السلم ،وليس معنى الظهور هنا أن يطمس هؤلء ،أو
أنْ ُي ْقضَى عليهم قضاء مبرما ،إنما يظهر عليهم بحيث يُضطرون إليه ،ويلجئون إلى أحكامه،
رغم عدم إيمانهم به ،وهذا أبلغ في الظهور ،أنْ تأخذ بما في القرآن وأنت غير مؤمن به؛ لنك ل
تجد حلً لقضاياك إل فيه.
وأوضح مثال على ذلك أنهم هاجموا شرع ال في مسألة الطلق ،وفي مسألة تعدّد الزوجات،
واتهموا السلم بالوحشية..إلخ ،ثم تضطرهم أقضية الحياة ومشاكلها أنْ يشرّعوا الطلق ،وأنْ
يأخذوا به على مرأى ومَسْمع من الفاتيكان ،فماذا جرى؟ فنقول لهم :هل أسلمتم وآمنتم؟ ل ،إنما
لجأنا إليه؛ لن فيه الحل لهذه المشاكل التي أحاطتْ بنا.
فهذه إذن شهادة العدو لدين ال ،وهذا هو أعظم الظهار للسلم على هذه الديان؛ لنهم أسلموا،
لقالوا عنهم :أخذوا بهذا الشرع لنهم لو أسلموا ،إنما ها هم يأخذون به وهم به كافرون مشركون.
ومعنى } لَ رَ ْيبَ فِيهِ[ { ..السجدة ]2 :أي :ل شكّ فيه ،وقلنا :إن النسب في القضايا .أي نسبة
شيء لشيء إما مجزوم بها أو غير مجزوم بها ،فلو قُلْنا :الرض كروية هذه قضية جزم بها
الن ،ونستطيع التدليل على صحتها دليلً حسيا ،فهذه قضية واقعة ومجزوم بصحتها ،وعليها دليل
في الكون.
فإنْ كانت القضية غَيْرَ مجزوم بها ،فهي بين ثلث حالت :إما فيها شكّ ،أو ظنّ ،أو وهم :الشك
أنْ تتساوى ال ِكفّتان :الثبات والنفي ،والظن أن تغلب جانب الثبات فل تجزم به إنما ترجّحه ،فإنْ
غلّ ْبتَ الخرى وجعلتها هي الراجحة ،فهذا توهم.
وهنا قال سبحانه } لَ رَ ْيبَ فِيهِ[ { ..السجدة ]2 :ل شكّ فيه ،فنفى الشكّ ،وهو تساوي النفي
ن يثبت العلى .أي :أنه حقّ ل يرقى إليه
والثبات ،وما دام قد نفى التساوي ،فهذا يعني أنه أراد أ ْ
الشك.
وجملة } لَ رَ ْيبَ فِيهِ[ { ..السجدة ]2 :جملة اعتراضية بين } ا ْلكِتَابِ[ { ..السجدة ،]2 :وبين } مِن
قل
ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ { [السجدة ]2 :وما دام أنه من } مِن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ { [السجدة ]2 :فل بُدّ أنه ح ّ
ريب فيه.
ثم يقول الحق سبحانه } :أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ َبلْ.{ ...
()3430 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّ مِنْ رَ ّبكَ لِتُنْذِرَ َقوْمًا مَا أَتَا ُهمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبِْلكَ َلعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ ()3
أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ َبلْ ُهوَ الْ َ
ن يقابلَ العربُ كلمَ ال بهذا التهام ،وهم أمة فصاحة وبلغة وبيان ،وقد بلغوا في هذا
عجيب أ ْ
شأنا عظيما ،حتى جعلوا للكلم معارض وأسواقا ،كما نقيم الن المعارض لمنتجاتنا ،ول يُعرض
في المعارض هذه إل السلع الجيدة محلّ الفخر ،فقبل السلم كان في عكاظ وذي المجاز مضمار
للقول وللداء البياني بين الدباء والشعراء.
ل يميزوا كلم ال عن كلم البشر ،خاصة وقد تحدّاهم وتحدّى فصاحتهم وبلغتهم
فعجيبٌ منهم أ ّ
أنْ تأتي بآية واحدة من مثله ،ومعلوم أن التحدي يكون للقوي ل للضعيف ،فتحدّى القرآن للعرب
سبُ لهم ،وهو اعتراف بمكانتهم ومكانة لغتهم ،فهو -إذن -شهادة لهم ،ويكفيهم أن ال تعالى
يُح َ
أدخلهم معه في مجال التحدي.
ولما عجزوا عن التيان بمثله راحوا يتهمونه ويتهمون رسول ال ،فمرة يقولون :شاعر ،ومرة:
ساحر ،وأخرى يقولون :مجنون ،ومرة يقولون :بل يُعلّمه ذلك أحد العاجم..إلخ ،وهذا كله إفلس
في الحجة ،فهم يريدون أنْ يُكذّبوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،أما القرآن في حدّ ذاته ،فل
يَخْفى عليهم أنه كلم ال ،وأن البشر ل يقولون مثل هذا الكلم ،بدليل أن الوليد بن المغيرة لما
سمعه قال " :وال ،إن أعله لمثمر ،وإن أسفله لمغْدِق ،وأنه يعلو ول يُعلى عليه ".
لذلك لما لم يجدوا في القرآن مطعنا اعترفوا بأنه من عند ال ،لكن كان اعتراضهم أنْ ينزل على
عظِيمٍ }[الزخرف:
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
هذا الرجل بالذاتَ {:وقَالُواْ َلوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
]31فكانوا ينتظرون أنْ يُنزّل القرآن على عظيم من عظمائهم او مِلَك من الملوك ،لكن أنْ ينزل
ح َمتَ رَ ّبكَ
سمُونَ رَ ْ
على محمد هذا اليتيم الفقير ،فهذا ل يُرضيهم ،وقد ردّ القرآن عليهمَ {:أهُمْ َيقْ ِ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ[} ...الزخرف]32 :
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
نَحْنُ َق َ
يعني :إذا كنا قد قسمنا بينهم أمور الدنيا وما يتفاضلون به من عرضها ،فهل نترك لهم أمور
الخرة يُقسمونها على هواهم وأمزجتهم؟ والرسالة رحمة من ال يختصّ بها مَنْ يشاء من عباده{
ج َعلُ ِرسَالَتَهُ[} ...النعام]124 :
واللّهُ أَعَْلمُ حَ ْيثُ َي ْ
وهذا يعني أنهم انتهوا إلى أن القرآن ُمعْجِز ،وأنه من عند ال ل غُبَار عليه ،والذي قرأه منهم،
سمَآءِ َأوِ
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ ال ّ
وأيقن أنه حق قال {:الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ
ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال]32 :
لوْلَى بهم أنْ يقولوا :اللهم إنْ
حمْقهم ،وكان ا َ
وهذا كلم ل يقول به عاقل ،وقد دلّ على غبائهم و ُ
كان هذا هو الحق من عندك فاهْدِنا إليه.
وقد ردّ القرآن على كل افتراءاتهم على رسول ال ،وفنّدها جميعا ،وأظهر بطلنها ،لما قالوا عن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رسول ال إنه مجنون ردّ ال عليهم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا عن قولهم عن رسول ال :مجنون ،أما قولهم :ساحر.
فالردّ عليها ميسور ،فإذا كان محمد ساحرا ،سحر مَنْ آمن به ،فلماذا لم يَسْحركم أنتم أيضا؟
فكونكم سالمين من السحر دليل على أنه صلى ال عليه وسلم ليس ساحرا ،بل هذا كذب وافتراء
على رسول ال.
خلْق ال تمييزا للشعر من
أما قولهم :شاعر ،فهذا عجيب منهم ،وهم أمة كلم وبلغة ،وهم أكثر َ
النثر ،وخير مَنْ يفرق بين الساليب وطرق الداء ،وقد تولى ال تعالى الردّ عليهم ،فقالَ {:ومَا
شعْ َر َومَا يَن َبغِي لَهُ[} ...يس]69 :
عَّلمْنَاهُ ال ّ
وفي سورة الحاقة ،يقول سبحانهَ {:ومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ شَاعِرٍ قَلِيلً مّا ُت ْؤمِنُونَ * وَلَ ِب َقوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلً مّا
تَ َذكّرُونَ }[الحاقة]42-41 :
فلما خابتْ ُكلّ هذه الحيل ،وكذبتْ كل هذه الفتراءات قالوا :بل له شيطان يُعلّمه ،وكانوا يقولون
شقّ له غبار في الفصاحة وحُسْن الداء ،حتى جعلوا لهؤلء الجن
ذلك للشاعر البليغ الذي ل يُ َ
مكانا خاصا بهم ،فقالوا (وادي عبقر) ،وهو مسكن هؤلء الجن الذي يُ ْلهِمون البشر ويُعلّمونهم.
والشعر كلم موزون مُقفّى ،وله بحور معروفة ،فهل القرآن على هذه الشاكلة؟ ل ،إنما هو افتراء
على رسول ال ،كافترائهم عليه هناَ } :أمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ[ { ..السجدة]3 :
فقوله تعالى } :أَمْ َيقُولُونَ[ { ..السجدة ]3 :أم تعني أن لها مقابلً :يعني :أيقولون كذا؟ أم يقولون:
ب لَ رَ ْيبَ فِيهِ مِن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ { [السجدة]2 :
افتراه ،فماذا هذا المقابل؟ المقابل } تَنزِيلُ ا ْلكِتَا ِ
فالمعنى :أيُصدّقون بأن هذا الكتاب من عند رب العالمين ،وأنه ل رَ ْيبَ فيه؟ أم يقولون افتراه
محمد ،فَأمْ هنا جاءت لتنقض ما يُفهَم من الكلم السابق عليها.
وقولهَ } :بلْ ُهوَ ا ْلحَقّ مِن رّ ّبكَ[ { ..السجدة ]3 :نعرف أن (بل) تأتي للستدراك ،لكنها هنا ليست
للستدراك ،إنما لبطال قولهم } :افْتَرَاهُ[ { ..السجدة ]3 :كما لو قُلْت :زيد ليس عندي بل عمرو،
ت الضراب عما قبلها ،وإثبات الحكم لما بعدها ،وهم يقولون افتراه وال يقولَ } :بلْ ُهوَ
فأفاد ْ
حقّ مِن رّ ّبكَ[ { ..السجدة 3ٍ :فكلمهم واتهامهم باطل ،والقرآن هو الحق من عند ال.
الْ َ
وقُلْنا :إن } ا ْلحَقّ[ { ..السجدة ]3 :هو الشيء الثابت الذي ل يطرأ عليه التغيير؛ لذلك فالحقائق
ثابتة ل تتغير أبدا ،كيف؟ َهبْ أن حادثة وقعتْ نتج عنها ُمدّع ومُدّعًى عليه وشهود ،واجتمعوا
جميعا أمام القاضي ،وقد يحدث أن يُغيّر أحدهم أقواله ،أو يشهد الشهود شهادة زور.
لكن خبرة القاضي ودُرْبته تكشف الحقائق وتُظهِر كذبهم حين يضرب أقوال بعضهم ببعض،
ويسألهم ويحاورهم إلى أنْ يصل إلى الحقيقة؛ ذلك لن الواقع شيء واحد ،ولو أنهم يصفون واقعا
ق وتغلب الحق الذي ل
ل تفقوا فيه ،ولباقة القاضي هي التي تُظهِر الباطل المتناقض وتُبِطله وتُحِ ّ
يمكن أن يتناقض.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كالقاضي الذي اجتمع أمامه خَصمْان ،يدّعي أحدهما على الخر أنه أخذ منه مالً ولم يردّه إليه،
فقال المدّعَي عليه :بل رددته إليه في مكان كذا وكذا ،فأنكر المدّعى ،فقال القاضي للمدّعَى عليه:
اذهب إلى هذا المكان ،فلعل هذا المال وقع منك هناك ،فذهب الرجل وأبطأ بعض الوقت ،فقال
القاضي للمدعى :لقد أبطأ صاحبك ،فقال :أبطأ؛ لن المكان بعيد ،فوقع في الحقيقة التي كان
ينكرها.
ثم يقول سبحانه } :لِتُنذِرَ َقوْما مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبِْلكَ[ { ..السجدة ]3 :ومعلوم أنه سيدنا
رسول ال جاء بشيرا ونذيرا ،لكن خصّ هنا النذير؛ لنه جاء ليصلح معتقدات فاسدة ،وإصلح
الفاسدل بُدّ أن يسبق ما يُبشر به ،ولم ي ْأتِ ذكر البشارة هنا؛ لنهم ما سمعوا للنذارة ،وما استفادوا
بها.
لكن قوله تعالى } :مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبِْلكَ[ { ..السجدة ]3 :تصطدم لفظيا بقوله تعالى {:وَإِن
مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا َنذِيرٌ }[فاطر ]24 :وقوله تعالىَ {:ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً }
[السراء ]15 :وليس بين هذه اليات تناقض؛ لن المعنى :ما أتاهم من نذير قريب ،ول مانع من
علَىا فَتْ َرةٍ مّنَ
وجود نذير بعيد ،كما قال تعالى {:يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ قَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ َ
سلِ[} ...المائدة]19 :
الرّ ُ
وإل ،فمن أين عرفوا أن ال تعالى خالق السموات والرض ،كما حكى القرآن عنهم {:وَلَئِن
حمْدُ لِلّهِ[} ...لقمان ]25 :فهذا أثر من آثار
ت وَالَرْضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ ُقلِ ا ْل َ
سمَاوَا ِ
سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خََلقَ ال ّ
الرسل السابقين ،كما كان فيهم أناس متبعون لمنهج الدين الحق ،والذين سماهم ال الحنفاء ،وهم
الذين لم يسجدوا لصنم ،ولم ينحرفوا عن الفطرة السوية.
وقوله تعالىَ } :لعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ { [السجدة ]3 :لعل تفيد الرجاء ،والرجاء من ال كأنه واقع متحقق؛
لن ال تعالى يحب لعباده جميعا أنْ يؤمنوا به؛ ليأخذوا جميل عطائه في الخرة ،كما أخذوا
عطاءه في الدنيا ،وهم جميعا خَلْقه وصَنْعته ،وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي..." :دعوني وما
خلقت ،إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم ،وإنْ لم يتوبوا إلىّ فأنا طبيبهم." ..
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية من قضايا أصول الكون } :اللّهُ الّذِي.{ ...
()3431 /
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ مَا َلكُمْ مِنْ دُونِهِ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ
اللّهُ الّذِي خَلَقَ ال ّ
شفِيعٍ َأفَلَا تَتَ َذكّرُونَ ()4
ن وَِليّ وَلَا َ
مِ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يخبرنا الحق -تبارك وتعالى -أنه خلق السماوات والرض وما بينهما لخدمة النسان ،وهو
المكرّم الول في هذا الكون ،وجميع الجناس في خدمته حيوانا ونباتا وجمادا ،فهو سيد في هذا
الكون ،لكن هل أخذ هذا السيد سيادته بذاته وبفعله؟ ل إنما أخذها بفضل ال عليه ،فكان عليه أولً
أنْ يشكر مَنْ أعطاه هذه السيادة على غيره.
وهذا السيد عمره ومروره في الحياة عبور ،فعمره فيها يطول أو يقصر ينتهي إلى الموت ،في
ن يتأمل
حين أن الجمادات التي تخدمه عمرها أطول من عمره ،وهي خادمة له ،فكان لزاما عليه أ ْ
هذه المسألة :كيف يكون عمر الخادم أطول وأبقى من عمر السيد المخدوم؟
إذن :ل بد أن لي عمرا آخر أطول من هذا ،عمرا يناسب تكريم ال لي ،ويناسب سيادتي في هذا
الكون ،إنها الخرة حيث تندثر هذه المخلوقات التي خدمتني في الدنيا وأبقى أنا ،ل أعيش مع
السباب ،إنما مع المسبب سبحانه ،فل أحتاج إلى السباب التي خدمتني في الدنيا ،إنما أجد كل ما
سعْى ،وهذه ارتقاءات ل تكون إل لمَنْ يطيع المرقى المعطي.
أشتهيه بين يديّ دون تعب ودون َ
لذلك ،الحق -سبحانه وتعالى -يلفتنا ويقول :صحيح أنت أيها النسان سيد هذا الكون وكل
ت وَالَرْضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ
سمَاوَا ِ
مخلوقاتي في خدمتك ،لكن خَلْقها أكبر من خَلْقك {:لَخَ ْلقُ ال ّ
النّاسِ[} ...غافر]57 :
لماذا؟ لن الناس أعمارا محددة ،مهما طالت ل بُدّ أن تنتهي إلى أجل ،ثم إن هذه العمار ل ًتسْلم
لهم ،إنما تنتابها الغيار ،فالغنيّ قد يفتقر ،والصحيح قد يمرض ،والقوي قد يضعف ،أمّا الشمس
والقمر والنجوم والكون كله فل يتعرض لهذه الغيار فما رأينا الشمس أو القمر أو النجوم
أصابتها علة وانتهت كانتهاء النسان ،ثم أنتَ لستَ مثلها في العظمة المستوعبة؛ لن قصارى ما
فيك أنك تخدم نفسك أو تخدم البيئة التي حولك ،أمّا هذه المخلوقات فتخدم الكون كله.
فإذا اقرّ -حتى الكفار -بأن ال تعالى هو خالق السماء والرض إذن :فهي دليل أول على وجود
الحق تبارك وتعالى.
ن يقول :كيف
ومسألة خَلْق السماوات والرض من الشياء التي استأثر ال بعلمها وليس لحد أ ْ
خُلقت ول حتى كيف خُلق النسان؛ لن مسائل الخَلْق لم يشهدها أحد فيخبرنا بها؛ لذلك يقول
عضُدا }
سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
ت وَالَ ْرضِ َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ
سمَاوَا ِ
شهَدّت ُهمْ خَ ْلقَ ال ّ
تعالى {:مّآ أَ ْ
[الكهف]51 :
فسماهم ال مُضلّين ،والمضلّ هو الذي يجنح بك إلى طريق باطل ،ويصرفك عن الحق ،وقد رأينا
فعلً هؤلء المضلّين وسمعنا افتراءاتهم في مسألة خَلْق السماوات والرض.
إذن :خَلْق السماوات والرض مسألة ل تُوخَذ إل ممّنْ خلق؛ لذلك َقصّ لنا ربنا -تبارك وتعالى
-قصة خَلْق آدم ،وقصّ لنا قصة خلق السماوات والرض ،لكن الخَلْق حدث وفعل ،والفعل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحتاج إلى زمن تعالج فيه الحدث وتزاوله ،والشكال هنا في قوله تعالى { فِي سِتّةِ أَيّامٍ.
[ { .السجدة .]4 :فهل الحدث بالنسبة ل تعالى يحتاج إلى زمن؟
ال ِفعْل من النسان يحتاج إلى علج يستغرق زمنا ،حيث نوزع جزيئات الفعل على جزئيات
الزمن ،أما في حقه تعالى فهو سبحانه يفعل بل علج للمور ،إنما يقول :للشيء كن فيكون ،أما
قوله تعالى } :فِي سِتّةِ أَيّامٍ[ { ..السجدة ]4 :فقد أوضحناها بمثال ،ول المثل العلى.
قلنا :أنت حين تصنع الزبادي مثلً تأتي بالحليب ،ثم تضع عليه خميرة زبادي سبق إعداده ،ثم
تتركه في درجة حرارة معينة سبع أو ثماني ساعات بعدها تجد الحليب قد تحوّل إلى زبادي ،فهل
تقول :إن صناعة الزبادي استغرقت مني سبعا أو ثماني ساعات؟ ل ،إنها استغرقتْ مجرد إعداد
المواد اللزمة ،ثم أخذت هذه المواد تتفاعل بعضها ببعض،ـ إلى أن تحولت إلى المادة الجديدة.
كذلك الحق -تبارك وتعالى -خلق السماوات والرض بأمره (كُنْ) ،فتفاعلت هذه الشياء مُكوّنه
السماوات والرض.
ومسألة خلق السماوات والرض في ستة أيام عُولجت في سبع سور من القرآن ،أربع منها تكلمْن
عن خلق السماوات والرض ولم تتعرض لما بينهما ،وثلث تعرضتْ لخَلْق السماوات والرض
وما بينهما ،ففي العراف مثلً ،وفي يونس ،وهود ،والحديد .تعرضت اليات لخلق السماوات
والرض فقط.
وفي الفرقان والسجدة وق .فتكلّمتْ عن البينية ،فكأن السماوات والرض ظرف خُلق أولً ،ثم
خُلِق المظروف في الظرف ،وهذا هو الترتيب المنطقي أنْ ُتعِدّ الظرف أولً ،ثم تضع فيه
المظروف.
وقوله تعالى } :فِي سِتّةِ أَيّامٍ[ { ..السجدة ]4 :ال يخاطب بهذه اليات العرب ،واليوم له مدلول
عند العرب مرتبط بحركة الشمس والقمر ،فكيف يقول سبحانه } فِي سِتّةِ أَيّامٍ[ { ..السجدة ]4 :ولم
تخلق بعد ل الشمس ول القمر؟
نقول :المعنى خلقها في زمن يساوي ستة أيام بتقديرنا نحن الن ،وإل فاليوم عند ال تعالى يختلف
عن يومنا ،ألم يقل سبحانه وتعالى {:وَإِنّ َيوْما عِندَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَنَةٍ ّممّا َتعُدّونَ }[الحج ]47 :أي:
في الدنيا.
خمْسِينَ أَ ْلفَ سَ َنةٍ }
وقال عن اليوم في الخرةَ {:تعْرُجُ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَالرّوحُ إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
[المعارج ]4 :فلله تعالى تقدير لليوم في الدنيا ،ولليوم في الخرة.
ت القول في
خلْق هذه إل في سورة ( ُفصّلَت) فهي التي فصَّل ْ
والحق سبحانه لم يُفصّل لنا مسألة ال َ
خَلْق السماوات والرض ،وهذه من عجائب هذه السورة.
جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ
ن وَتَ ْ
ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْ ِ
خلَ َ
فقال تعالىُ {:قلْ أَئ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ[} ...فصلت]10-9 :
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
* وَ َ
طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا
سمَآ ِء وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ
هذه ستة أيامُ {.ثمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ
سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْنِ} ...
طَآ ِئعِينَ * َف َقضَاهُنّ سَ ْبعَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْبَحْرِ ضَلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ[} ...السراء ]67 :فل
لذلك يقول سبحانه {:وَإِذَا َم ّ
أحد ينجيكم ،ول أحدَ يُسعفكم إل ال } َأفَلَ تَتَ َذكّرُونَ { [السجدة]4 :
ن تكون على بالك دائما ،فل تغفل عن ال؛ لنك ابْنُ أغيار ،والحداث
كأن هذه المسألة يجب أ ْ
تتناوبك ،فل يستقرّ بك حال ،فأنت بين الغِنَى والفقر ،والصحة والمرض ،والقوة والضعف.
()3432 /
سمَاءِ إِلَى الْأَ ْرضِ ُثمّ َيعْرُجُ إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َأ ْلفَ سَنَةٍ ِممّا َتعُدّونَ ()5
يُدَبّرُ الَْأمْرَ مِنَ ال ّ
في هذه الية ردّ على الفلسفة الذين قالوا بأن ال تعالى قادر وخالق ،لكنه سبحانه زاول سلطانه
في مُلْكه مرة واحدة ،فخلق النواميس ،وخلق القوانين ،ثم تركها تعمل في إدارة هذا الكون،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمْرَ[ } ..السجدة ]5 :أي :أمْر الخَلْق ،وهو سبحانه قيّوم عليه.
ونقول :ل بل هو سبحانه { يُدَبّ ُر ا َ
خ ُذهُ سِنَةٌ وَلَ َنوْمٌ[} ...البقرة ]255 :إن قُلْنا بصحة ما تقولون؟ بل هو سبحانه
وإل فما معنى{ لَ تَأْ ُ
خلق الكون ،ويُدبّر شئونه على عينه عز وجل ،والدليل على قيوميته تعالى على خَلْقه أنه خلق
السباب على رتابة خاصة ،فإذا أراد سبحانه خَرْق هذه الرتابة بشواذ تخرج عن القوانين
المعروفة كما خرق لبراهيم -عليه السلم -قانون الحراق ،وكما خرق لموسى -عليه السلم
-قانون سيولة الماء ،ومسألة خَرْق القوانين في الكون دليل على قيوميته تعالى ،ودليل على أن
خلْق ما يزال في يده سبحانه.
أمر ال َ
ولو أن المسألة كما يقول الفلسفة لكان الكون مثل المنبه حين تضبطه ثم تتركه ليعمل هو من
تلقاء نفسه ،ولو كان المر كذلك لنطفأتْ النار التي أُلقِي فيها إبراهيم عليه السلم مثلً.
لذلك لما سُئِل أحد العارفين عن قوله تعالىُ {:كلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن ]29 :ما شأن ربك
الن ،وقد صحّ أن القلم قد جفّ؟ قال :أمور يبديها ول يبتديها ،يرفع أقواما ويضع آخرين.
إذن :مسألة الخَلْق إبداء ل ابتداء ،فأمور الخَلْق مُعدّة جاهزة مُسْبقا ،تنتظر المر من ال لها
بالظهور.
وقلنا هذا المعنى في تفسير قوله تعالى {:إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس:
ن يقول ال له:
]82فكلمة{ َيقُولَ لَهُ[} ...يس ]82 :تدل على أن هذا الشيء موجود بالفعل ينتظر أ ْ
اظهر إلى حيّز الوجود.
سمَآءِ إِلَى الَ ْرضِ[ } ..السجدة ]5 :ثم تعود إليه سبحانه النتائج {
لمْرَ مِنَ ال ّ
فالحق سبحانه { يُدَبّ ُر ا َ
ثُمّ َيعْرُجُ إِلَ ْيهِ[ } ..السجدة ]5 :فال سبحانه يرسل إلى الرض ،ثم يستقبل منها؛ لن المدبّرات
أمرا من الملئكة لكل منهم عمله واختصاصه ،وهذه المسألة نسميها في عالمنا عملية المتابعة عند
البشر ،فرئيس العمل يكلف مجموعة من موظفيه بالعمل ،ثم ل يتركهم إنما يتابعهم ليستقيم العمل،
بل ويحاسبهم كلً بما يستحق.
والملئكة هي التي تعرج بالنتائج إليه سبحانه { فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ أَ ْلفَ سَ َنةٍ ّممّا َتعُدّونَ }
طوِك؛ لذلك الذي يعمله البشر في
[السجدة ]5 :فالعود سيكون للملئكة ،وخَطْو الملئكة ليس كخَ ْ
ألف سنة تعمله الملئكة في يوم.
شهَا قَ ْبلَ أَن
ومثال ذلك ما قرأناه في قصة سليمان -عليه السلم -حين قال {:أَ ّيكُمْ يَأْتِينِي ِبعَرْ ِ
يَأْتُونِي مُسِْلمِينَ }[النمل]38 :
وهذا الطلب من سليمان -عليه السلم -كان على مل من النس والجن ،لكن لم يتكلم بشريّ،
ولم يتصدّ أحد منهم لهذا العمل ،إنما تصدّى له عفريت ،وليس جِنّيا عاديا ،والعفريت جنى ماهر
له قدراته الخاصة ،وإل ففي الجن أيضا من هو (لبخة) ل يجيد مثل هذه المهام ،كما في النسان
تماما.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قال العفريت {:أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن ّمقَا ِمكَ[} ...النمل ]39 :وهذا يعني أنه سيتغرق وقتا،
ساعة أو ساعتين ،أما الذي عنده علم من الكتاب فقال {:أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ} ...
[النمل]40 :
يعني :في طرفة عين لما عنده من العلم؛ لذلك لما رأى سليمانُ العرشَ مستقرا عنده في لمح
شكُرُ أَمْ َأ ْكفُرُ[} ...النمل]40 :
ضلِ رَبّي لِيَبُْلوَنِي أََأ ْ
البصر ،قال {:قَالَ هَـاذَا مِن َف ْ
ت القوة َقلّ الزمن ،وقد أوضحنا
إذن :الفعل يستغرق من الزمن على قدْر قوة الفاعل ،فكلما زاد ْ
هذه المسألة في كلمنا على السراء والمعراج.
ومعنىّ } :ممّا َتعُدّونَ { [السجدة ]5 :أي :من سنينكم أنتم.
ثم يقول الحق سبحانه } :ذاِلكَ عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ.{ ..
()3433 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا