You are on page 1of 230

‫تفسير الشعراوي‬

‫س َمعُونَ (‪)23‬‬
‫َومِنْ آَيَاتِهِ مَنَا ُمكُمْ بِاللّ ْيلِ وَال ّنهَا ِر وَابْ ِتغَا ُؤكُمْ مِنْ َفضْلِهِ إِنّ فِي َذِلكَ لَآَيَاتٍ ِلقَوْمٍ َي ْ‬

‫كذلك من اليات العجيبة الدالة على قدرة ال { مَنَا ُمكُم‪[ } ..‬الروم‪ ]23 :‬فحتى الن لم يكشف‬
‫علماء وظائف العضاء والتشريح عن سِرّ النوم‪ ،‬ولم يعرفوا ‪ -‬رغم ما قاموا به من تجارب ‪-‬‬
‫ما هو النوم‪ .‬لكن هو ظاهرة موجودة وغالبة ل يقاومها أحد مهما أُوتِي من القوة‪ ،‬ومهما حاول‬
‫السهر دون أنْ ينام‪ ،‬ل بُدّ أن يغلبه النوم فينام‪ ،‬ولو على الحصى والقتاد‪ ،‬ينام وهو واقف وهو‬
‫يحمل شيئا ل ُبدّ أنْ ينام على أية حالة‪.‬‬
‫وفلسفة النوم‪ ،‬ل أن نعرف كيف ننام‪ ،‬إنما أن نعرف لماذا ننام؟ قالوا‪ :‬لن النسان مُكوّن من‬
‫طاقات وأجهزة لكل منها مهمة‪ ،‬فالعين للرؤية‪ ،‬والذن للسمع‪ ..‬الخ‪ ،‬فساعة تُجهد أجهزة الجسم‬
‫تصل بك إلى مرحلة ليستْ قادرة عندها على العمل‪ ،‬فتحتاج أنت ‪ -‬بدون شعورك وبأمر غريزي‬
‫‪ -‬إلى أن يرتاح كأنها تقول لك كفى لم َتعُد صالحا للعمل ول للحركة فنم‪.‬‬
‫ومن عجيب أمر النوم أنه ل يأتي بالستدعاء؛ لنك قد تستدعي النوم بشتى الطرق فل يطاوعك‬
‫ول تنام‪ ،‬فإنْ جاءك هو غلبك على أيّ حال كنتَ‪ ،‬ورغم الضوضاء والصوات المزعجة تنام‪.‬‬
‫لذلك يقول الرجل العربي‪ :‬النوم طيف إنْ طلبتَه أعْنَتك‪ ،‬وإنْ طلبك أراحك‪.‬‬
‫شيْءٍ ِإلّ‬
‫ولهل المعرفة نظرة ومعنى كوني جميل في النوم‪ ،‬يقولون في قوله تعالى‪ {:‬وَإِن مّن َ‬
‫حمْ ِدهِ‪[} ...‬السراء‪ ]44 :‬فكل ما في الوجود يُسبّح حتى أبعاض الكافر وأعضاؤه مُسبحة‪،‬‬
‫يُسَبّحُ ِب َ‬
‫ن تنفكّ عن هذه الرادة‬
‫إنما إرادته هي الكافرة‪ ،‬وتظل هذه البعاض خاضعة لرادة صاحبها إلى أ ْ‬
‫يوم القيامة‪ ،‬فتشهد عليه بما كان منه‪ ،‬وبما أجبرها عليه من معصية ال‪.‬‬
‫وسبق أنْ مثّلْنَا لذلك بقائد الكتيبة حين يطيعه جنوده ولو في الخطأ؛ لن طاعته واجبة إلى أنْ‬
‫يعودوا إلى القائد العلى فيتظلمون عنده‪ ،‬ويخبرونه بما كان من قائدهم‪.‬‬
‫وذكرنا أن أحد قواد الحرب العالمية أراد أنْ يستخدم خدعة يتفوق بها على عدوه‪ ،‬رغم أنها‬
‫خطّته وانتصر على عدوه كرّموه على اجتهاده‪ ،‬لكن لم‬
‫تخالف قانون الحرب عندهم‪ ،‬فلما أفلحتْ ْ‬
‫ن يعاقبوه على مخالفته للقوانين العسكرية‪ ،‬وإنْ كان عقابا صُوريا لتظل للقانون مهابته‪.‬‬
‫َيفُتهم أ ْ‬
‫شهَدُ عَلَ ْيهِمْ أَلْسِنَ ُتهُمْ‬
‫كذلك أبعاض الكافر تخضع له في الدنيا‪ ،‬وتشهد عليه يوم القيامة‪َ {:‬يوْمَ َت ْ‬
‫وَأَيْدِيهِ ْم وَأَ ْرجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النور‪.]24 :‬‬
‫مع أن هذه الجوارح هي التي نطقتْ بكلمة الكفر‪ ،‬وهي التي سرقتْ‪ ..‬الخ؛ لن ال أخضعها‬
‫شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ‬
‫لرادة صاحبها‪ ،‬أما يوم القيامة فل إرادةَ له على جوارحه‪َ {:‬وقَالُواْ لِجُلُو ِدهِمْ ِلمَ َ‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيْءٍ‪[} ...‬فصلت‪ ]21 :‬لذلك يُطمئننا الحق سبحانه بقوله‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ‬
‫طقَنَا اللّهُ الّذِي أَنطَقَ ُكلّ َ‬
‫أَن َ‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر‪.]16 :‬‬
‫الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫فإذا ما نام الكافر ارتاحتْ منه أبعاضه وجوارحه‪ ،‬ارتاحتْ من مرادات الشر عنده؛ لذلك يُحدّثنا‬
‫إخواننا الذين يحجّون بيت ال يقولون‪ :‬هناك النوم فيه بركة‪ ،‬ويكفيني أقلّ وقت لرتاح‪ ،‬لماذا؟ لن‬
‫فكرك في الحج مشغول بطاعة ال‪ ،‬ووقتك كله للعبادة‪ ،‬فجوارحك في راحة واطمئنان لم ترهقها‬
‫المعصية؛ لذلك يكفيها أقل وقت من النوم لترتاح‪.‬‬

‫وفي ضوء هذا الفهم نفهم قول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬تنام عيني ول ينام قلبي " لنه صلى‬
‫ال عليه وسلم حياته كلها للطاعة‪ ،‬فجوارحه مستريحة‪ ،‬فيكفيه من النوم مجرد الغفاءة‪.‬‬
‫وفي العامية يقول أهل الريف‪ :‬نوم الظالم عبادة‪ ،‬لماذا؟ لنه مدة نومه ل يأمر جوارحه بشرّ‪ ،‬ول‬
‫يُرغمها على معصية فتستريح منه أبعاضه‪ ،‬ويستريح الناس والدنيا من شره‪ ،‬وأيّ عبادة أعظم‬
‫من هذه؟‬
‫ونلحظ في هذه الية } َومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالّيلِ وَال ّنهَا ِر وَابْ ِتغَآ ُؤكُمْ مّن َفضْلِهِ‪[ { ...‬الروم‪]23 :‬‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الّيلَ‬
‫حمَتِهِ َ‬
‫فجعل الليل والنهار محلً للنوم‪ ،‬ولبتغاء الرزق‪ ،‬وفي آية أخرى‪َ {:‬ومِن رّ ْ‬
‫سكُنُواْ فِيهِ‬
‫سكُنُواْ فِيهِ }[القصص‪ ]73 :‬فجمعهما معا‪ ،‬ثم ذكر تفصيل ذلك على الترتيب{ لِ َت ْ‬
‫وَال ّنهَارَ لِتَ ْ‬
‫}[القصص‪ ]73 :‬أي‪ :‬في الليل{ وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ }[القصص‪ ]73 :‬أي‪ :‬في النهار‪.‬‬
‫وهذا أسلوب يُعرف في اللغة باللفّ والنشر‪ ،‬وهو أنْ تذكر عدة أشياء محكوما عليها‪ ،‬ثم تذكر‬
‫بعدها الحكمَ عليها جملة‪ ،‬وتتركه لذكاء السامع لِيُرجِع كل حكم إلى المحكوم عليه المناسب‪.‬‬
‫ض وبَاكٍ شَاكِر وغَفُورفجمع المحكوم عليه‬
‫جفْنِي واللسَان وخَالِقي رَا ٍ‬
‫ومن ذلك قول الشاعر‪:‬قَلْبي و َ‬
‫جمْع الحكم يُسمى َنشْرا‪.‬‬
‫جمْع المحكوم عليه يسمى َلفّا‪ ،‬و َ‬
‫في ناحية‪ ،‬ثم الحكم في ناحية‪ ،‬ف َ‬
‫وهاتان اليتان من اليات التي وقف أمامها العلماء‪ ،‬ول نستطيع أنْ نخرج منهما بحكم إل بالجمع‬
‫بين اليات‪ ،‬ل أن نفهم كل آية على حدة‪ ،‬فنلحظ هنا في الية التي معنا } َومِنْ آيَا ِتهِ مَنَا ُمكُم بِالّيلِ‬
‫وَال ّنهَارِ وَابْ ِتغَآ ُؤكُمْ مّن َفضْلِهِ‪[ { ....‬الروم‪ ]23 :‬أن ال تعالى جعل كلً من الليل والنهار محلً‬
‫للنوم‪ ،‬ومحلً للسعي‪.‬‬
‫سكُنُواْ فِيهِ }[القصص‪ ]73 :‬ثم قال{‬
‫ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ الّي َ‬
‫حمَتِهِ َ‬
‫وفي الية الخرى‪َ {:‬ومِن رّ ْ‬
‫وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ }[القصص‪ ]73 :‬ولم يقل (فيه) ويجب هنا أنْ نتنبه‪ ،‬فهذه آية كونية أن يكون‬
‫الليل للنوم والسكون والراحة‪ ،‬والنهار للعمل وللحركة‪ ،‬فل مانع أن نعمل بالليل أيضا‪ ،‬فبعض‬
‫العمال ل تكون إل بليل‪ ،‬كالحراس ورجال المن والعسس والخبازين في المخابز وغيرهم‪،‬‬
‫وسكن هؤلء يكون بالنهار‪ ،‬وبهذا الفهم تتكامل اليات في الموضوع الواحد‪.‬‬
‫سعْي إليه يكون‬
‫إذن‪ :‬فقوله تعالى‪ } :‬وَابْ ِتغَآ ُؤكُمْ مّن َفضْلِهِ‪[ { ...‬الروم‪ ]23 :‬يعني‪ :‬طلب الرزق وال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في النهار ويكون في الليل‪ ،‬لكن جمهرة الناس يبتغونه بالنهار ويسكنون بالليل‪ ،‬والقلة على عكس‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ن قلتَ‪ :‬هذا عندنا حيث يتساوى الليل والنهار‪ ،‬فما بالك بالبلد التي يستمر ليلها مثلً ثلثة‬
‫فإ ْ‬
‫أشهر‪ ،‬ونهارها كذلك‪ ،‬نريد أن نفسر الية على هذا الساس‪ ،‬هل يعملون ثلثة أشهر وينامون‬
‫ثلثة أشهر؟ أم يجعلون من أشهر الليل ونهارا‪ ،‬ومن أشهر النهار أيضا ليلً ونهارا؟ ل مانع من‬
‫ذلك؛ لن النسان ل يخلو من ليل للراحة‪ ،‬ونهار للعمل أو العكس‪ ،‬فكل من الليل والنهار ظرف‬
‫للعمل أو للراحة‪.‬‬

‫لذلك‪ ،‬فالحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يمتنّ علينا بتعاقُب الليل والنهار‪ ،‬فيقول سبحانه‪ُ {:‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِن‬
‫س َمعُونَ }‬
‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ الْلّ ْيلَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِي ُكمْ ِبضِيَآءٍ َأفَلَ َت ْ‬
‫َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ‬
‫[القصص‪ ]71 :‬وذيّل الية بأفل تسمعون{ ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِن َ‬
‫سكُنُونَ فِيهِ أَفلَ تُ ْبصِرُونَ }[القصص‪.]72 :‬‬
‫ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَ ْيلٍ تَ ْ‬
‫قالوا‪ :‬لن النهار محلّ الرؤية والبصر‪ ،‬أما الليل فل بصرَ فيه‪ ،‬فيناسبه السمع‪ ،‬والذن هي‬
‫الوسيلة التي تؤدي مهمتها في الليل عندما ل تتوفر الرؤية‪.‬‬
‫شكُورا }‬
‫ج َعلَ الّيلَ وَال ّنهَارَ خِ ْلفَةً ّلمَنْ أَرَادَ أَن َي ّذكّرَ َأوْ أَرَادَ ُ‬
‫وفي موضع آخر‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫[الفرقان‪ ]62 :‬فالليل يخلُف النهار‪ ،‬والنهار يخلُف الليل‪ ،‬هذا في الزمن العادي الذي نعيشه‪ ،‬أما‬
‫في بدْء الخَلْق فأيهما كان أولً‪ ،‬ثم خلفه الخر؟‬
‫ن قلت‪ :‬إن الليل جاء أولً‪ ،‬فالنهار بعده خِلْفة له‪ ،‬لكن الليل في هذه الحالة ل يكون خِلفة لشيء‪،‬‬
‫فإ ْ‬
‫حلّ هذا اللغز؟‬
‫ل منهما خِلْفة للخر‪ ،‬إذن‪ :‬فما َ‬
‫والنص السابق يوضح أن ك ً‬
‫مفتاح هذه المسألة يكمن في كروية الرض‪ ،‬ولو أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أخبر في‬
‫بداية البعثة بهذه الحقيقة لما صدّقوه‪ ،‬كيف ونحن نرى مَنْ ينكر هذه الحقيقة حتى الن‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ل يترك قضية كونية كهذه دون أنْ يمسّها ولو بُلطْف وخِفة‪ ،‬حتى إذا‬
‫ارتقت العقول تنبهتْ إليها‪ ،‬فلو أن الرض مسطوحة وخلقَ ال تعالى الشمس في مواجهة الرض‬
‫ن نقول‪ :‬إن النهار جاء أولً‪ ،‬ثم عندما تغيب الشمس يأتي الليل‪ ،‬أما إنْ كانت البداية‬
‫لستطعنا أ ْ‬
‫خلْق الرض غير مواجهة للشمس‪ ،‬فالليل في هذه الحالة أولً‪ ،‬ثم يعقبه النهار‪ ،‬هذا على اعتبار‬
‫أن الرض مسطوحة‪.‬‬
‫وما دام أن الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬أخبر أن الليل والنهار كل منهما خِلْفة للخر‪ ،‬فل بُدّ أنه سبحانه‬
‫خلق الرض على هيئة بحيث يوجد الليل ويوجد النهار معا‪ ،‬فإذا ما دارت دورة الكون خلف كل‬
‫منهما الخر‪ ،‬ول يتأتّى ذلك إل إذا كانت الرض مُكوّرة‪ ،‬فما واجه الشمس منها صار نهارا‪ ،‬وما‬
‫لم يواجه الشمس صار ليلً‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ك ال َقمَرَ وَلَ الّيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ‬
‫شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ‬
‫لذلك يقول سبحانه في آية أخرى‪ {:‬لَ ال ّ‬
‫فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس‪.]40 :‬‬
‫فالحق سبحانه ينفي هنا أنْ يسبقَ الليلُ النهارَ‪ ،‬فلماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬يعتقدون أن الليلَ سابقُ النهار‪َ ،‬ألَ تراهم يلتمسون أول رمضان بليله ل بنهاره؟ وما داموا‬
‫يعتقدون أن الليل سابق النهار‪ ،‬فالمقابل عندهم أن النهار ل يسبق الليل‪ ،‬هذه قضية أقرّها الحق‬
‫سبحانه؛ لذلك لم يعدل فيها شيئا إنما نفى الولى{ وَلَ الّيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَارِ‪[} ...‬يس‪.]40 :‬‬
‫إذن‪ :‬نفى ما كانوا يعتقدونه{ وَلَ الّيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَارِ‪[} ...‬يس‪ ]40 :‬وصدّق على ما كانوا يعتقدونه‬
‫من أن النهار ل يسبق الليل‪ .‬فنشأ عن هذه المسألة‪ :‬ل الليل سابق النهار‪ ،‬ول النهار سابق الليل‪،‬‬
‫وهذا ل يتأتّى إل إذا وُجدوا في وقت واحد‪ ،‬فما واجه الشمسَ كان نهارا‪ ،‬وما لم يواجه الشمس‬
‫كان ليلً‪.‬‬
‫طمَعا‪.{ ...‬‬
‫خوْفا وَ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ َ‬

‫(‪)3357 /‬‬

‫سمَاءِ مَاءً فَ ُيحْيِي بِهِ الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْتِهَا إِنّ فِي‬
‫ط َمعًا وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ‬
‫خ ْوفًا وَ َ‬
‫َومِنْ آَيَاتِهِ يُرِي ُكمُ الْبَرْقَ َ‬
‫ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ (‪)24‬‬

‫نلحظ في تذييل اليات مرة يقول سبحانه‪ّ {:‬ل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }[الروم‪ ]21 :‬ومرة{ لّ ْلعَاَلمِينَ }[الروم‪:‬‬
‫س َمعُونَ }[الروم‪ ]23 :‬أو { ّلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ } [الروم‪ ]24 :‬فتختلف الدوات الباحثة‬
‫‪ ]22‬ومرة{ ّل َقوْمٍ يَ ْ‬
‫في اليات‪.‬‬
‫والبعض يظن أن العقل آلة يُعملها في كل شيء‪ ،‬فالعقل هو الذي يُصدّق أو ل يُصدّق‪ ،‬والحقيقة‬
‫أنك تستعمل العقل في مسألة الدين مرة واحدة تُغنيك عن استعماله بعد ذلك‪ ،‬فأنت تستعمل العقل‬
‫في أنْ تؤمن أو ل تؤمن‪ ،‬فإنْ هداك العقل إلى أن الكون له إله قادر حكيم خالق ل إله إل هو‬
‫ووثقتَ بهذه القضية‪ ،‬فإنها ل تطرأ على تفكيرك مرة أخرى‪ ،‬ول يبحثها العقل بعد ذلك‪ ،‬ثم إنك‬
‫في القضايا الفرعية تسير فيها على َوفْق قضية اليمان الولى فل تحتاج فيها للعقل‪.‬‬
‫لذلك العقلء يقولون‪ :‬العقل كالمطية توصلك إلى حضرة السلطان‪ ،‬لكن ل تدخل معك عليه‪،‬‬
‫وهكذا العقل أوصلك إلى اليمان ثم انتهى دوره‪ ،‬فإذا ما سمعتَ قال ال فأنت اثق من صِدْق القول‬
‫دون أنْ تُعمل فيه العقل‪.‬‬
‫وحين يقول سبحانه‪ :‬يعقلون يتفكرون يعلمون‪ ،‬حين يدعوك للتدبّر والعِظَة إنما ينبه فيك أدوات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المعارضة لتتأكد‪ ،‬والعقل هنا مهمته النظر في البدائل وفي المقدمات والنتائج‪.‬‬
‫كما لو ذهبتَ مثلً لتاجر القماش فيعرض عليك بضاعته‪ :‬فهذا صوف أصلي‪ ،‬وهذا فطن خالص‪،‬‬
‫ول يكتفي بذلك إنما يُريك جودة بضاعته‪ ،‬فيأخذ (فتلة) من الصوف‪ ،‬و (فتلة) من القطن‪ ،‬ويشعل‬
‫النار في كل منهما لترى بنفسك‪ ،‬فالصوف ل ترعى فيه النار على خلف القطن‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هو الذي يُنبّه فيك وسائل النقد‪ ،‬ول يفعل ذلك إل وهو واثق من جودة بضاعته‪ ،‬أما الخر‬
‫الذي ل يثق في جودة بضاعته فإنه يلجأ إل ألعيب وحيل يغري بها المشتري ليغُرّه‪.‬‬
‫كذلك الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يُنبّهنا إلى البحث والتأمل في آياته فيقول‪ :‬تفكّروا تدبّروا‪ ،‬تعقّلوا‪،‬‬
‫كونوا علماء واعين لما يدور حولكم‪ ،‬وهذا دليل على أننا لو بحثنا هذه اليات لتوصّلْنا إلى‬
‫مطلوبه سبحانه‪ ،‬وهو اليمان‪.‬‬
‫والبرق‪ :‬ظاهرة من ظواهر فصل الشتاء‪ ،‬حيث نسمع صوتا مُدوّيا نسميه الرعد‪ ،‬بعد أن نرى‬
‫ضوءا شديدا يلمع في الجو نسميه (برق)‪ ،‬وهو عامل من عوامل كهربة الجو التي توصّل إليها‬
‫العلم الحديث‪ ،‬لكن قبل ذلك كان الناس عندما يروْن البرق ل يفهمون منه إل أحد أمرين‪ :‬إما أنْ‬
‫يأتي بصاعقة تحرقهم‪ ،‬أو ينزل عليهم المطر‪ ،‬فيخافون من الصاعقة ويرجون المطر‪.‬‬
‫سمَآءِ مَآءً‪[ } ...‬الروم‪ ]24 :‬ليظل العبد دائما‬
‫طمَعا وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ‬
‫خوْفا َو َ‬
‫{ َومِنْ آيَا ِتهِ يُرِيكُمُ الْبَ ْرقَ َ‬
‫مع ربه بين الخوف والرجاء‪.‬‬
‫لكن أ ُكلّ الناس يرجون المطر؟ َهبْ أنك مسافر أو مقيم في بادية ليس لك كِنّ تكِنّ فيه‪ ،‬ول مأوى‬
‫يأويك من المطر‪ ،‬فهذا ل يرجو المطر ول ينتظره‪ ،‬لذلك من رحمته تعالى أن يغلب انفعال الطمع‬
‫في الماء الذي به تحيا الرض بالنبات‪.‬‬

‫سمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الَ ْرضَ َبعْدَ َموْتِهَا‪[ { ...‬الروم‪ ]24 :‬وكلمة السماء لها‬
‫} وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ‬
‫مدلولن‪ :‬مدلولٌ غالب‪ ،‬وهي السماوات السبع‪ ،‬ومدلول لُغوي‪ ،‬وهي كل ما علّك فأظلّك‪ ،‬وهذا‬
‫سمَآءِ مَآءً‪[ { ...‬الروم‪ ]24 :‬لن المطر إنما ينزل من‬
‫هو المعنى المراد هنا } وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ‬
‫السحاب‪ ،‬فالسماء هنا تعني‪ :‬كل ما علك فأظلّك‪.‬‬
‫ولو تأملتَ الماء الذي ينزل من السماء لوجدتّه من سحاب متراكم{ َألَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُ ْزجِي سَحَابا ثُمّ‬
‫جعَلُهُ ُركَاما فَتَرَى ا ْلوَ ْدقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ‪[} ...‬النور‪.]43 :‬‬
‫ُيؤَّلفُ بَيْ َنهُ ثُمّ َي ْ‬
‫وسبق أنْ تحدّثنا عن كيفية تكوّن السّحُب‪ ،‬وأنها نتيجة لبخر الماء‪ ،‬لذلك من حكمته تعالى أنْ جعل‬
‫ثلثة أرباع الرض ماءً والربع يابسة‪ ،‬ذلك لتتسع رقعة َبخْر الماء‪ ،‬فكأن الثلثة الرباع جعلت‬
‫لخدمة الرّبْع‪ ،‬وليكفي ماء المطر سكان اليابسة‪.‬‬
‫وبيّنا أهمية اتساع مسطح الماء في عملية البخر‪ ،‬بأنك حين تترك مثلً كوبا من الماء على‬
‫المنضدة لمدة طويلة يظل كما هو‪ ،‬ولو َنقُص منه الماء لكان قليلً‪ ،‬أمّا لو سكبتَ ماء الكوب على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أرض الغرفة مثلً فإنه يجفّ في عدة دقائق لماذا؟ لن مسطح الماء اتسع فكَثُر الماء المتبخّر‪.‬‬
‫ومثّلْنا لتكوّن السّحُب بعملية التقطير التي نُجريها في الصيدليات لنحصل منها على الماء النقي‬
‫المعقم‪ ،‬وهذه تقوم على نظرية استقبال بخار الماء من الماء المغلي‪ ،‬ثم تمريره على سطح بارد‬
‫فيتكثف البخار مُكوّنا الماء الصافي‪ ،‬إذن‪ :‬فأنت حينما تستقبل ماء المطر إنما تستقبل ماءً مقطرا‬
‫في غاية الصفاء والنقاء‪ ،‬دون أن تشعر أنت بهذه العملية‪ ،‬ودون أن نُكلّفك فيها شيئا‪.‬‬
‫وتأمل هذه الهندسة الكونية العجيبة التي ينشأ عنها المطر‪ ،‬فحرارة الشمس على سطح الرض‬
‫تُبخّر الماء بالحرارة‪ ،‬وفي طبقات الجو العليا تنخفض الحرارة فيحدث تكثّف للماء ويتكوّن‬
‫السحاب‪ ،‬ومن العجيب أننا كلما ارتفعنا ‪ 30‬مترا عن الرض تقل الحرارة درجة‪ ،‬مع أننا نقترب‬
‫من الشمس؛ ذلك لن الشمس ل تُسخّن الجو‪ ،‬إنما تُسخّن سطح الرض‪ ،‬وهو بدوره يعطي‬
‫الحرارة للجو؛ لذلك كلما َبعُدنا عن الرض قّلتْ درجة الحرارة‪.‬‬
‫ومن حكمة ال أنْ جعل ماء الرض الذي يتبخر منه الماء العَذْب جعله مالحا؛ لن ملوحته تحفظه‬
‫أنْ يأسن‪ ،‬أو يعطن‪ ،‬أو تتغير رائحته‪ ،‬تحفظه أن تنمو به الطفيليات الضارة‪ ،‬وليظلّ على‬
‫صلحه؛ لنه مخزن للماء العذب الذي يروي بعذوبته الرض‪.‬‬
‫سمَآ ُء وَالَرْضُ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومِنْ آيَاتِهِ أَن َتقُومَ ال ّ‬

‫(‪)3358 /‬‬

‫ع َوةً مِنَ الْأَ ْرضِ ِإذَا أَنْتُمْ تَخْ ُرجُونَ (‪)25‬‬


‫سمَا ُء وَالْأَ ْرضُ بَِأمْ ِرهِ ثُمّ ِإذَا دَعَاكُمْ دَ ْ‬
‫َومِنْ آَيَاتِهِ أَنْ َتقُومَ ال ّ‬

‫عمَد‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن الشيء الذي يعلوك إما أنْ يُحمل‬


‫السماء هنا بمعنى السماوات السبع التي تقوم بل َ‬
‫على أعمدة‪ ،‬وإما أنْ يُش ّد إلى أعلى‪ ،‬مثل الكبارى المعلقة مثلً‪ ،‬وكذلك السماء سقف مرفوع ل‬
‫سمَآءَ أَن َتقَعَ عَلَى‬
‫سكُ ال ّ‬
‫نرى له أعمدة‪ .‬إذن‪ :‬ل تبقى إل الوسيلة الخرى‪ ،‬وهي أن ال تعالى{ وَ ُيمْ ِ‬
‫الَ ْرضِ ِإلّ بِِإذْنِهِ‪[} ...‬الحج‪ ]65 :‬فهي قائمة بأمره‪.‬‬
‫سمَآ ُء وَالَرْضُ بَِأمْ ِرهِ‪[ } ...‬الروم‪ ]25 :‬ل يهتز لها نظام أبدا‪ ،‬ول تجد فيها‬
‫{ َومِنْ آيَا ِتهِ أَن َتقُومَ ال ّ‬
‫حكَمة البناء‪ ،‬وانظر إليها حين صفاء السماء وخُلوّها من السحب تجدها ملساء ذات‬
‫فروجا‪ ،‬لنها م ْ‬
‫لون واحد على اتساعها‪ ،‬أيستطيع أحد من رجال الدهانات أن يطلي لنا مثل هذه المساحة بلون‬
‫واحد ل يختلف؟‬
‫وإذا أخذنا السماء على أنها ُكلّ ما علك فأظلّك‪ ،‬فانظر إلى الشمس والقمر والنجوم والكواكب‪،‬‬
‫ل كوكبا اصطدم بآخر‪،‬‬
‫وكيف أنها تقوم بأمر ال خالقها على نظام دقيق ل اختللَ فيه‪ ،‬فلم نَر مث ً‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ول شيئا منها خرج عن مساره‪.‬‬
‫وصدق ال تعالى{ ُكلّ فِي فََلكٍ يَسْ َبحُونَ }[النبياء‪ ]33 :‬فلكل منها سرعة‪ ،‬ولكل منها مداره‬
‫الخاص ونظام بحسبان؛ ذلك لنها تقوم بأمر ال وقدرته تعالى فهي منضبطة تؤدي مهمتها دون‬
‫خلل‪ ،‬ودون تخلّف‪.‬‬
‫فمعنى { َتقُومَ‪[ } ...‬الروم‪ ]25 :‬يعني‪ :‬تظل قائمة على حالها دون فساد‪ ،‬وهو فعل مضارع دالّ‬
‫على استمرار‪ .‬وحين تتأمل‪ :‬قبل أن يخترع النسان المجاهر والميكروسكوبات لم نكن نرى من‬
‫المجموعة الشمسية غير الشمس‪ ،‬فلما اخترعوا المجهر رأينا الكواكب الخرى التي تدور حولها‪.‬‬
‫والعجيب أنها ل تدور في دوائر متساوية‪ ،‬إنما في شكل إهليلي‪ ،‬يتسع من ناحية‪ ،‬ويضيق من‬
‫ناحية‪ ،‬وهذه الكواكب لها دورة حول الشمس‪ ،‬ودورة أخرى حول نفسها‪ .‬فالرض مثلً لها مدار‬
‫حول الشمس ينشأ عنه الفصول الربعة‪ ،‬ولها دورة حول نفسها ينشأ عنها الليل والنهار‪ ،‬وكل هذه‬
‫الحركة المركبة تتم بنظام دقيق محكم منضبط غاية النضباط‪.‬‬
‫وهذه الكواكب تتفاوت في قُرْبها أو ُبعْدها عن الشمس‪ ،‬فأقربها من الشمس عطارد‪ ،‬ثم الزهرة‪ ،‬ثم‬
‫الرض‪ ،‬ثم المشتري‪ ،‬ثم المريخ‪ ،‬ثم زحل‪ ،‬ثم أورانوس‪ ،‬ثم نبتون‪ ،‬ثم أبعدها عن الشمس بلوتو‪.‬‬
‫ولكل منها مداره الخاص حول الشمس وتسمى (عام)‪ ،‬ودورة حول نفسه تسمى (يوم)‪.‬‬
‫وعجيب أن يوم الزهرة‪ ،‬وهو ثاني كوكب من الشمس يُقدّر بـ ‪ 44‬يوما من أيام الرض‪ ،‬في‬
‫حين أن العام بالنسبة لها يُقدّر بـ ‪ 25‬يوما من أيام الرض‪ ،‬فالعام أقل من اليوم‪ ،‬كيف؟ قالوا‪:‬‬
‫لن هذه دورة مستقلة‪ ،‬وهذه دورة مستقلة‪ ،‬فهي سريعة في دورانها حول الشمس‪ ،‬وبطيئة في‬
‫دورانها حول نفسها‪.‬‬
‫ولو علمتَ أن في الفضاء وفي كون ال الواسع مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية في (سكة‬
‫التبّانة)‪ ،‬وهذا كله في المجرة التي نعرفها ‪ -‬لو علمت ذلك لتبيّن لك عظَم هذا الكون الذي ل‬
‫نعرف عنه إل القليل؛ لذلك حين تقرأ‪:‬‬

‫سعُونَ }[الذاريات‪ ]47 :‬فاعلم أنها مسألة ل نهاية لها ول حدودَ في‬
‫سمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَي ْي ٍد وَإِنّا َلمُو ِ‬
‫{ وَال ّ‬
‫علمنا وفي عقولنا‪ ،‬لكن لها نهاية عند ال‪.‬‬
‫ول أدلّ على انضباط حركة هذه الكونيات من انضباط موعد الكسوف أو الخسوف الذي يحسبه‬
‫العلماء فيأتي منضبطا تماما‪ ،‬وهم يبنون حساباتهم على حركة الكواكب ودورانها؛ لذلك نقول لمن‬
‫يكابر حتى الن ويقول بعدم دوران الرض‪ :‬عليك أن تعترف إذن أن هؤلء الذين يتنبأون‬
‫بالكسوف والخسوف يعلمون الغيب‪ .‬فالقرب ‪ -‬إذن ‪ -‬أن نقول‪ :‬إنها ل الذي خلقها على هذه‬
‫الهيئة من النضباط والدقة‪ ،‬فاجعلها ل بدل أنْ تجعلها للعلماء‪.‬‬
‫ع َوةً مّنَ‬
‫ن الَ ْرضِ‪[ { ...‬الروم‪ ]25 :‬معنى } دَعَاكُمْ دَ ْ‬
‫ع َوةً مّ َ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ُ } :‬ثمّ إِذَا دَعَاكُمْ دَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل صَيْحَةً‬
‫الَ ْرضِ‪[ { ...‬الروم‪ ]25 :‬المراد النفخة الثانية‪ ،‬فالولى التي يقول ال عنها‪ {:‬إِن كَا َنتْ ِإ ّ‬
‫جمِيعٌ‬
‫ح ًة وَاحِ َدةً فَِإذَا ُهمْ َ‬
‫ل صَيْ َ‬
‫وَاحِ َدةً فَِإذَا ُهمْ خَا ِمدُونَ }[يس‪ ]29 :‬والثانية يقول فيها‪ {:‬إِن كَا َنتْ ِإ ّ‬
‫حضَرُونَ }[يس‪.]53 :‬‬
‫لّدَيْنَا ُم ْ‬
‫فالولى للموت الكلي‪ ،‬والثانية للبعث الكلي‪ ،‬ولو نظرت إلى هاتين النفختين وما جعل ال فيهما‬
‫من أسرار تلتقي بما في الحياة الدنيا من أسرار لوجدتَ عجبا‪.‬‬
‫فكل لحظة من لحظات الزمن يحدث فيها ميلد‪ ،‬ويحدث فيها موت‪ ،‬فنحن مختلفون في مواليدنا‬
‫وفي آجالنا‪ ،‬أما في الخرة فالمر على التفاق‪ ،‬فالذين اختلفوا في المواليد سيتفقون في البعث{ إِن‬
‫حضَرُونَ }[يس‪.]53 :‬‬
‫جمِيعٌ لّدَيْنَا مُ ْ‬
‫ح َدةً فَإِذَا هُمْ َ‬
‫ح ًة وَا ِ‬
‫ل صَيْ َ‬
‫كَا َنتْ ِإ ّ‬
‫ح ًة وَاحِ َدةً فَإِذَا ُهمْ خَا ِمدُونَ }[يس‪:‬‬
‫ل صَيْ َ‬
‫والذين اختلفوا في الموت سيتفقون في الخمود‪ {:‬إِن كَا َنتْ ِإ ّ‬
‫‪ ]29‬فالميلد يقابله البعث‪ ،‬والموت يقابله الخمود‪ .‬إذن‪ :‬اختلف هذه يعالج اتفاق هذه‪ ،‬واتفاق هذه‬
‫ج ْمعِ‪[} ...‬التغابن‪.]9 :‬‬
‫ج َم ُعكُمْ لِ َيوْمِ الْ َ‬
‫يعالج اختلف هذه؛ لذلك يقول‪َ {:‬يوْمَ يَ ْ‬
‫والنفخة الثانية يؤديها إسرافيل بأمر ال؛ لن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يزاول أشياء بذاته‪ ،‬ول‬
‫نعلم منها إل أنه سبحانه وتعالى خلق النسان وسّواه بيده‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬ياإِبْلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَن‬
‫خلْقه في‬
‫سجُدَ ِلمَا خََلقْتُ بِ َي َديّ‪[} ...‬ص‪ ]75 :‬أما غير ذلك فهو سبحانه يزاول الشياء بواسطة َ‬
‫تَ ْ‬
‫كل مسائل الكونيات‪.‬‬
‫تأمل مثلً‪ {:‬اللّهُ يَ َت َوفّى الَنفُسَ حِينَ َموْتِـهَا‪[} ...‬الزمر‪ ]42 :‬فالمتوفّي هنا ال عز وجل‪ ،‬وفي‬
‫موضع آخر‪ُ {:‬قلْ يَ َت َوفّاكُم مَّلكُ ا ْل َموْتِ الّذِي ُوكّلَ ِبكُمْ‪[} ...‬السجدة‪ ]11 :‬فنقلها إلى ملَك الموت‪،‬‬
‫وفي موضع آخر‪َ {:‬ت َوفّتْهُ ُرسُلُنَا‪[} ...‬النعام‪ ]61 :‬فنقلها إلى رسل الموت من الملئكة‪ ،‬وهم جنود‬
‫لملَك الموت‪.‬‬
‫وبيان ذلك أنه سبحانه نسب الموت لنفسه أولً؛ لنه صاحب المر العلى فيه‪ ،‬فيأمر به ملَك‬
‫الموت‪ ،‬وملَك الموت بدوره يأمر جنوده‪ ،‬إذن‪ :‬فمردّها إلى ال‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ِ } :‬إذَآ أَن ُتمْ تَخْ ُرجُونَ { [الروم‪ ]25 :‬أي‪ :‬حين يسمع الموتى هذه الصيحة يهبّون‬
‫جميعا أحياء‪ ،‬فإذا هنا الفجائية الدالة على الفجأة‪ ،‬وهذا هو الفارق بين ميلد الدنيا وميلد الخرة‪،‬‬
‫ميلد الدنيا لم يكُنْ فجأة‪ ،‬بل على مهل‪ ،‬فالمرأة قبل أنْ تلد نشاهد حملها عدة أشهر‪ ،‬وتعاني هي‬
‫آلم الحمل عدة أشهر‪ ،‬فل فجأة إذن‪.‬‬

‫(‪)3359 /‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُكلّ لَهُ قَانِتُونَ (‪)26‬‬


‫وَلَهُ مَنْ فِي ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نعرف أن (مَنْ) للعاقل‪ ،‬ولنا أن نسأل‪ :‬لماذا خصّ العاقل مع أن لك ما في الكون خاضع ل طائع‬
‫مُسبّح يدخل في دائرة القنوت ل؟ قالوا‪ :‬لن التمرد ل يأتي إل من ناحية العقل؛ لذلك بدأ ال به‪،‬‬
‫أما الجماد الذي ل عقلَ له‪ ،‬فأمره يسير حيث ل يتأبّى منه شيء على ال‪ ،‬ل الجماد ول الحيوان‬
‫ول النبات‪.‬‬
‫تأمل مثلً الحمار تُحمّله القاذورات فيحمل‪ ،‬فإذا رقّيْته وجعلته مطية للركوب ل يعترض‪ ،‬ل‬
‫عصى في الولى‪ ،‬ول عصى في الخرى؛ لنه مُذلّل لك بتذليل ال‪ ،‬ما ذلّلته لك بعقلك ول‬
‫عمَِلتْ أَ ْيدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا‬
‫بقوتك{ َأوََلمْ يَ َروْاْ أَنّا خََلقْنَا َلهُم ِممّا َ‬
‫َركُو ُبهُمْ َومِنْهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس‪.]72-71 :‬‬
‫وضربنا لذلك مثلً بالجمل لما ذلّله ال لك استطاع الغلم الصغير أنْ يقوده ويُنيخه ويركبه‬
‫صغَره؛ لن ال لم يُذلّله لك‪.‬‬
‫ويحمله‪ ،‬أما الثعبان الصغير فيُخيفك رغم ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‪[ } ...‬الروم‪ ]26 :‬فمن في السماوات نعم‬
‫ونقف هنا عند قوله تعالى { مَن فِي ال ّ‬
‫هم قانتون ل أي‪ :‬خاضعون له سبحانه‪ ،‬مطيعون لرادته لنهم ملئكة مُكرّمون{ لّ َي ْعصُونَ اللّهَ‬
‫مَآ َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم‪.]6 :‬‬
‫ل وَال ّنهَا َر لَ َيفْتُرُونَ }[النبياء‪.]20 :‬‬
‫{ ُيسَبّحُونَ الّي َ‬
‫فما بال أهل الرض‪ ،‬وفيهم ملحدة وكفار ليسوا قانتين‪ ،‬فكيف إذن نفهم { ُكلّ لّهُ قَانِتُونَ } [الروم‪:‬‬
‫‪.]26‬‬
‫قالوا‪ :‬لنهم لما تمرّدوا على ال وكفروا به‪ ،‬أو تمرّدوا على حكمه فعصَوْه لم يتمردوا بذواتهم‪،‬‬
‫إنما بما خلق ال فيهم من اختيار‪ ،‬ولو أرادهم سبحانه مقهورين ما ش ّذ واحد منهم عن مراد ربه‪،‬‬
‫وال عز وجل ل يريد أنْ يحكم النسان بقهر القدرة‪ ،‬إنما يريد لعبده أنْ يأتيه طواعية مختارا‪،‬‬
‫فإمكانه أن يكفر ومع ذلك آمن‪ ،‬وبإمكانه أن يعصي ومع ذلك أطاع‪.‬‬
‫فلو أرادهم ال مؤمنين ما وجدوا إلى الكفر سبيلً‪ ،‬ولعصمهم كما عصم النبياء‪ ،‬ربك يريدك‬
‫غوِيَ ّنهُمْ‬
‫مؤمنا عن محبة وإخلص ل عن قهر وغلبة؛ لذلك قال إبليس في جداله‪ {:‬فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ‬
‫ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص‪.]83-82 :‬‬
‫أَ ْ‬
‫فل قدرة له على عباد ال المخلصين‪ ،‬الذين اختارهم ال لنفسه‪ ،‬ول سلطانَ له عليهم‪ ،‬فإبليس إذن‬
‫ليس في معركة مع ربه‪ ،‬إنما في معركة مع النسان‪ .‬وفي موضع آخر قال تعالى‪ {:‬إِنّ عِبَادِي‬
‫لَيْسَ َلكَ عَلَ ْي ِهمْ سُ ْلطَانٌ‪[} ...‬الحجر‪.]42 :‬‬
‫ولما عشق هؤلء المتمرّدون على ال التمرد‪ ،‬وأحبوه زادهم ال منه وأعانهم عليه؛ لنه سبحانه ل‬
‫تنفعه طاعة الطائعين‪ ،‬ول تضره معصية العاصين‪ ،‬فختم على قلوبهم فل يدخلها إيمان‪ ،‬ول‬
‫يخرج منها كفر‪ ،‬وهو سبحانه الغني عن خَلْقه؛ لذلك لما خلق الجنة خلقها لتتسع للناس جميعا إنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن كفروا‪ ،‬وترك لنا سبحانه الختيار‪:‬‬
‫آمنوا‪ ،‬ولما خلق النار خلقها لتتسع للناس جميعا إ ْ‬

‫{ َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف‪.]29 :‬‬
‫وكأن الحق سبحانه يقول لنا‪ :‬أنتم أحرار‪ ،‬فأنا مستعد للجزاء على أيّ حال تسعكم جنتي‪ ،‬إنْ آمنتم‬
‫جميعا‪ ،‬ول تضيق بكم النار إنْ كفرتم جميعا‪.‬‬
‫ونقول لمن تمرّد على ال‪ :‬ينبغي أن تكون منطقيا مع نفسك‪ ،‬وأن تظل متمردا على ال في كل‬
‫شيء ما دمت قد ألفتَ التمرد‪ ،‬فإنْ جاءك المرض تتأبى عليه‪ ،‬وإنْ جاءك الموت ترفضه‪ ،‬فإذا لم‬
‫تستطع فأنت مقهور ل خاضع له } ُكلّ لّهُ قَانِتُونَ { [الروم‪ ]26 :‬خاضعون‪ ،‬إما عن اختيار‪ ،‬وإما‬
‫عن قهر في كل أمر ل اختيار لك فيه‪ ،‬إذن‪ :‬فأنت قانت رغما عنك‪ ،‬وقنوتك مع تمرّدك أبلغ في‬
‫الشهادة ل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمؤمن خاضع ل في منطقة الختيار‪ ،‬وهي اليمان والتكاليف‪ ،‬وخاضع ل فيما ل اختيار‬
‫له فيه كالقضاء والمور الضطرارية‪ ،‬فهو يستقبلها عن رضا‪ ،‬أما الكافر فهو خاضع ل ل‬
‫يستطيع الفكاك عن قضائه ول عن قدره رغما عنه في المور التي ل اختيارَ له فيها‪ ،‬لكنه‬
‫يستقبلها بالسّخْط وعدم الرضا‪ ،‬فهو كافر بال كاره لقضائه‪.‬‬
‫فنقول لمن تمرد على ال فكفر به‪ ،‬أو تمرّد على أحكامه فعصاها‪ :‬ما لكم ل تتمردون على ال‬
‫فيما يقضيه عليكم من أمور اضطرارية؟ هذا دليل على أنكم اتخذتم الختيار في غير محلّه؛ لن‬
‫الذي يختار ينبغي أنْ يأخذ الختيار في كل شيء‪ ،‬لكن أنْ تختار في شيء ول تختار في شيء‬
‫آخر‪ ،‬فهذا ل يجوز‪.‬‬

‫(‪)3360 /‬‬

‫ض وَ ُهوَ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدأُ الْخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ا ْلمَ َثلُ الْأَعْلَى فِي ال ّ‬
‫حكِيمُ (‪)27‬‬
‫ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬

‫كثيرا ما يُحدّثنا القرآن الكريم عن هذه المسألة ويُذكّرنا بالبدء والعادة‪ ،‬لماذا؟ يهتم القرآن بهذه‬
‫ن كانوا يؤمنون بأنهم يرجعون إلى ال‬
‫المسألة ويؤكد عليها لنها كانت الساس في دعوته؛ لنهم إ ْ‬
‫لخافوا من عقابه؛ لذلك يؤكد لهم في مواضع كثيرة حتمية العادة وأنها حَقّ‪.‬‬
‫قوله تعالى‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ‪[ } ...‬الروم‪ ]27 :‬استُهلّت الية بقوله تعالى (وَ ُهوَ)‬
‫وفي آية أخرى{ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ‪[} ...‬الروم‪ ]11 :‬فكأن ( ُهوَ) مدلولها (ال) وهو كما نعلم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضمير غيبة‪ ،‬والحق سبحانه غَيْب عن النظار‪ ،‬ومن عظمته سبحانه أنه غيب‪ ،‬فلو كان ُمدْركا‬
‫ن يكون إلها‪ ،‬وكيف نطمع في إدراكه سبحانه ونحن ل نستطيع أن ندرك بعض‬
‫مُحسّا ما استحق أ ْ‬
‫مخلوقاته؟‬
‫فالمعاني التي خلقها ال لتسوس حركة الحياة‪ :‬كلمة الحق‪ ،‬العدل‪ ،‬الحق الذي يقف القضاء كله‬
‫ليؤيده ويُعلنه‪ ،‬والعدل الذي يحكم موازين الحياة؛ ليوازن بين الشهوات وبين الحقائق‪ ،‬هذه المعاني‬
‫ل تُدرَك بالحواس‪ ،‬فهل رأيتم العدل؟ هل سمعتم العدل؟ هل شممتم العدل؟‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمعاني العالية ل يمكن أنْ تُدرك لنها أرفع من الدراك؛ لن بها يكون الدراك‪ ،‬أيكون‬
‫المخلوق للحق أسمى من أنْ يُدرك‪ ،‬ويكون الحق سبحانه موضعا للدراك‪.‬‬
‫فإذا سمعت ( ُهوَ) فاعلم أنها ل تنصرف إل إلى الله الواحد الذي من عظمته أنه ل يُدرَك{ لّ‬
‫ك الَ ْبصَارَ‪[} ...‬النعام‪.]103 :‬‬
‫تُدْ ِركُ ُه الَ ْبصَا ُر وَ ُهوَ يُدْ ِر ُ‬
‫حدٌ }[الخلص‪ ]1 :‬فترى أن (ال) لفظ الجللة‪ ،‬وهو‬
‫لذلك نقرأ في سورة الخلص{ ُقلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫عَلَم على واجب الوجود يأتي بعد ( ُهوَ) فكأن ( ُهوَ) أدلّ على وجود الحق سبحانه من لفظ الجللة‬
‫(ال)‪ ،‬فكأنه ل يصح حين يُطلَق ضمير الغيبة ( ُهوَ) على شيء إل ال؛ لنه ل شيء في الكون إل‬
‫ال‪.‬‬
‫وقوله تعالى هنا { وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَلْقَ‪[ } ...‬الروم‪ ]27 :‬بالفعل المضارع الدالّ على‬
‫الستمرارية‪ ،‬مع أنه سبحانه بدأ الخَلْق بالفعل{ َكمَا بَدََأ ُكمْ َتعُودُونَ }[العراف‪ ]29 :‬فإنْ ذكرت‬
‫الولى فقد بدأ الخَلْق‪ ،‬وإن ذكرت الستمرارية في اليجاد فهو يبدأ دائما‪ ،‬وفي كل وقت ترى في‬
‫خَلْق ال شيئا جديدا‪ ،‬فالخَلْق لم يأتِ مرة واحدة‪ ،‬ثم توقف‪ ،‬بل بدأ ثم استمر‪.‬‬
‫ونلحظ أن القرآن يذكر هذه المسألة مرة بالماضي (بَدَأ) ومرة بالمضارع (يَبْدأ)؛ لن الخالق‬
‫شيْءٍ خََلقَ ُه وَبَدَأَ‬
‫خلْق آدم عليه السلم النسان الول‪ {:‬الّذِي أَحْسَنَ ُكلّ َ‬
‫سبحانه بدأ الخلق فعلً ب َ‬
‫ق الِنْسَانِ مِن طِينٍ }[السجدة‪ ]7 :‬ول يزال سبحانه بقيوميته خالقا‪ ،‬يبدأ كل يوم وكل لحظة خَلْقا‬
‫خَ ْل َ‬
‫جديدا نشاهده في النسان‪ ،‬وفي الحيوان‪ ،‬وفي النبات‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫وبالخَلْق المتجدّد للنسان‪ ،‬حيث يُولَد كل لحظة مولود جديد نردّ على الذين يقولون بتناسخ‬
‫الرواح ‪ -‬يعني‪ :‬أن الروح تخرج من جسد فتحلّ في جسد آخر ‪ -‬وهذا يعني أن تكون المواليد‬
‫على قدر الوَفيَات‪ ،‬ويعني أن يظل العالم على تعداد واحد دون زيادة‪ ،‬ونحن نرى الن مدى‬
‫الكثافة السكانية التي يشكو العالم منها الن‪ ،‬وهذه تكفي لهدم هذه النظرية‪.‬‬

‫والحق سبحانه يُحذّرنا أن نأخذ قصة بَدْء الخلق من غير الخالق سبحانه‪ ،‬فمن الناس مضلون‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫شهَدّتهُمْ خَلْقَ ال ّ‬
‫سيضلونكم في هذه المسألة‪ ،‬فل تُصغْون إليهم؛ لن ال يقول‪ {:‬مّآ َأ ْ‬
‫عضُدا }[الكهف‪.]51 :‬‬
‫سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫ض َولَ خَلْقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫وَالَرْ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن يقول بأن النسان أصله قرد متطور إلى إنسان‪ ،‬والردّ على هذه‬
‫وقد رأينا من هؤلء المضلين مَ ْ‬
‫الضللت يسير‪ ،‬فإذا كان القرد تطور إلى إنسان‪ ،‬فلماذا لم تتطور باقي القرود؟ ولماذا لم يتطور‬
‫النسان منذ أنْ خُلِق آدم وحتى الن إلى شيء آخر؟ وكيف نصدق هذه الضللت‪ ،‬وربنا سبحانه‬
‫شيْءٍ خََلقْنَا َزوْجَيْنِ َلعَّل ُكمْ تَ َذكّرُونَ }[الذاريات‪.]49 :‬‬
‫يقول‪َ {:‬ومِن ُكلّ َ‬
‫سهِمْ َومِمّا لَ َيعَْلمُونَ }‬
‫ت الَ ْرضُ َومِنْ أَنفُ ِ‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِب ُ‬
‫[يس‪ ]36 :‬فإياك أنْ تقول‪ :‬إن شيئا تطور عن شيء‪ ،‬فكل جنس قائم بذاته منذ خلقه ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬احذروا مثل هذه القوال‪ ،‬ول تأخذوا قصة َبدْء الخَلْق إل من ال وحده‪.‬‬
‫كلمة } ُيعِي ُدهُ‪[ { ...‬الروم‪ ]27 :‬أي‪ :‬إلى الخَلْق فهي بمعنى يخلقه‪ ،‬فالمعنى‪ :‬يبدأ الخلق ثم يميته ثم‬
‫يُعيده‪ ،‬البعض يظن أن يعيده يعني يبعثه في الخرة‪ ،‬لكن ال تعالى يقول‪ {:‬اللّهُ يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ‬
‫جعُونَ }[الروم‪ ]11 :‬فيعيده غير تُرجعون‪ ،‬ترجعون أي‪ :‬في القيامة‪.‬‬
‫ثُمّ إِلَ ْيهِ تُرْ َ‬
‫حسْب فهمكم أنتم للشياء‪ ،‬وإل فال تعالى ل‬
‫وقوله } وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ‪[ { ...‬الروم‪ ]27 :‬أي‪ :‬على َ‬
‫يقال في حقه هذا سهل وهذا أسهل‪ ،‬ول هيّن وأهون؛ لنه سبحانه ل يزاول الشياء كما نزاولها‬
‫نحن‪ ،‬ول يعالج الفعال‪ ،‬إنما يفعل سبحانه بكُنْ فيكون‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى لزكريا عليه السلم لما تعجب أن يكون له ولد‪ ،‬وقد بلغ من الكِبَر عتيا‬
‫وامرأته عاقر‪ُ {:‬هوَ عََليّ هَيّنٌ‪[} ...‬مريم‪ ]9 :‬ذلك لن طلقَة القدرة ل تقف عند أسبابكم‪ .‬وكذلك‬
‫قال لمريم‪ {:‬كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ هَيّنٌ‪[} ...‬مريم‪.]21 :‬‬
‫ن كانت‬
‫فالمر عجيب في نظر مريم‪ ،‬أن تأتي بولد بدون زوج؛ لكنه ليس عجيبا في قدرة ال‪ ،‬فإ ْ‬
‫العادة أنْ يأتي الولد بالسباب فال سبحانه هو خالق السباب‪ ،‬يفعل ما يشاء بدونها‪.‬‬
‫وسبق أن تحدثنا عن طلقة قدرة ال في قصة إبراهيم عليه السلم حينما أراد القوم أنْ يحرقوه‪،‬‬
‫فلو كانت المسألة مسألة نجاة إبراهيم من النار ما مكّنهم ال من المساك به‪ ،‬أو‪ :‬حتى إنْ أمسكوه‬
‫وألقَوْه في النار كان بالمكان أنْ يُنزِل ال على النار مطرا فتنطفيء‪.‬‬
‫حجَاج‪ ،‬ويبطل كفرهم‪ ،‬فهاهم قد ظفروا به‬
‫لكن الحق سبحانه يريد أن يسدّ على الكافرين منافذ ال ِ‬
‫وألقَوْه في َقعْر النار‪ ،‬وهي على حال الشتعال والحراق‪ ،‬لكنهم غفلوا عن شيء هام‪ ،‬هو أن ال‬
‫تعالى ربّ هذه النار وخالقها وخالق قوة الحراق فيها‪ ،‬وهو وحده القادر على أنْ يسلبها هذه‬
‫الخاصية‪ ،‬فيلقى فيها نبيه إبراهيم دون أن يحترق‪.‬‬

‫وهنا تكِمن العظمة وتظهر الحجة{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء‪.]69 :‬‬
‫ونلحظ فصاحة الداء في } وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَلْقَ‪[ { ...‬الروم‪ ]27 :‬فهو أسلوب َقصْر‪ ،‬حيث قدّم‬
‫المتعلق الذي حقّه أن يكون مؤخرا‪ ،‬كما في{ إِيّاكَ َنعْ ُبدُ‪[} ...‬الفاتحة‪ ]5 :‬فقدّم المفعول‪ ،‬ومن حق‬
‫المفعول أن يُؤخّر عن الفعل والفاعل‪ ،‬وقدّمه هنا‪ ،‬لنقصر العبادة على ال وحده دون سواه‪ ،‬وحتى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل نعطف على ال تعالى شيئا‪ ،‬فلو قلت نعبدك لجاز أن تقول‪ :‬ونعبد غيرك‪ ،‬كذلك هنا } وَ ُهوَ‬
‫الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْخَ ْلقَ‪[ { ...‬الروم‪ ]27 :‬أفادت تخصيص الخلق ل وحده دون أن نعطف عليه أحدا‪.‬‬
‫وقوله تعالى } وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ‪[ { ...‬الروم‪ ]27 :‬الحقيقة ليس في المور بالنسبة ل تعالى هَيّن‬
‫وأهون‪ ،‬إنما في عُرْفنا نحن‪ ،‬وليُقرّب لنا الحق سبحانه َفهْم المسائل‪ ،‬وإل فالحق سبحانه ل يعالج‬
‫ن فيكون‪.‬‬
‫المور ول يزاولها كما نعالجها نحن‪ ،‬وإنما يفعل سبحانه بكُ ْ‬
‫لذلك لما نتأمل َقوْل مريم عليها السلم لما بشّرتها الملئكة بالمسيح قالت‪َ {:‬ربّ أَنّىا َيكُونُ لِي وَلَدٌ‬
‫سسْنِي َبشَرٌ‪[} ...‬آل عمران‪ ]47 :‬فكيف فهمتْ مريم هذه المسألة‪ ،‬ومَنْ أخبرها بأن الولد‬
‫وَلَمْ َيمْ َ‬
‫سيكون دون أن يمسّها بشر؟‬
‫سمُهُ ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ‬
‫لقد فهمت مريم هذا من قول الملئكة{ إِنّ اللّهَ يُبَشّ ُركِ ِبكَِلمَةٍ مّنْهُ ا ْ‬
‫مَرْيَمَ‪[} ...‬آل عمران‪ .]45 :‬فلو كان له أبٌ لذكرته الملئكة‪ ،‬وما داموا قد نسبوه إلى أمه فل أب‬
‫له‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‪[ { ...‬الروم‪ ]27 :‬له المثل العلى‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَلَهُ ا ْلمَ َثلُ الَعْلَىا فِي ال ّ‬
‫خذْها في‬
‫يعني‪ :‬أن ال تعالى ل مثيل له‪ ،‬فإنْ شابهه سبحانه شيء من خَلْقه في صفة من الصفات ف ُ‬
‫شيْءٌ‪[} ...‬الشورى‪ ]11 :‬فلك وجود ل تعالى‬
‫إطار التقريب للمعنى‪ ،‬وفي إطار{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫حيّ‪ ،‬لكن حياتك ليست كحياته عز وجل‪..‬‬
‫حيّ وال َ‬
‫وجود‪ ،‬لكن وجودك ليس كوجود ال‪ ،‬أنت َ‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫ل وأعلى‪ ،‬فهي أفعل تفضيل بمعنى‪ :‬الذي ل‬
‫ل الَعْلَىا‪[ { ...‬الروم‪ ]27 :‬نقول‪ :‬عا ٍ‬
‫وقوله } ا ْلمَ َث ُ‬
‫شيْءٌ‪[} ...‬الشورى‪ ]1 :‬فينفي أن يوجد شبيه‬
‫يُشابه ول يُضاهي؛ لذلك يقول سبحانه{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫لمثل ال ل شبيه ل؛ لن الكاف هنا بمعنى‪ :‬مثل‪ .‬فكأنك قلت‪ :‬ليس مِثْل مِثْله شيء‪.‬‬
‫وطريقة العرب في الداء في مسألة المشابهة يقولون‪ :‬زيد مثل السد في الشجاعة‪ ،‬فأنت تريد أن‬
‫تعطيني صورة لشجاعة زيد‪ ،‬فذكرت أوضح شيء لهذه الصفة وهو السد‪ ،‬فهو مُشبّه به‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالسد أقوى من زيد في هذه الصفة‪ ،‬وإل لما جعلتَ المشبّه به توضيحا لما ل تعلم‪.‬‬
‫ن وُجد مِثْل ل ل يوجد مثل لهذا المثْل‪،‬‬
‫شيْءٌ‪[} ....‬الشورى‪ ]1 :‬تعني‪ :‬إ ْ‬
‫فحين تقول‪ {:‬لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫فنفيتَ المثل من باب َأوْلَى؛ لن الضعف وهو المثل المشبه أضعف من المشبه به‪ ،‬فإذا كان المثل‬
‫أضعف من الممثّل ول يوجد مثل للضعف‪ ،‬فكيف يوجد مثل للقوى؟‬

‫وانظر إلى جمال الحق سبحانه حين يُجلّي للخَلْق مثَلً في دنياهم‪ ،‬ويجعل من ذاته ‪ -‬سبحانه‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ مَ َثلُ‬
‫وتعالى ‪ -‬المماثلة‪ ،‬يقول تعالى ليُقرّب لفهامنا كيفية نوره‪ {:‬اللّهُ نُورُ ال ّ‬
‫جةُ كَأَ ّنهَا َكوْ َكبٌ دُ ّريّ يُوقَدُ مِن شَجَ َرةٍ‬
‫شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ ا ْل ِمصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزّجَا َ‬
‫نُو ِرهِ َكمِ ْ‬
‫سهُ نَارٌ نّورٌ عَلَىا نُورٍ َيهْدِي‬
‫مّبَا َركَةٍ زَيْتُونَ ٍة لّ شَ ْرقِيّةٍ وَلَ غَرْبِيّةٍ َيكَادُ زَيْ ُتهَا ُيضِي ُء وََلوْ َلمْ َتمْسَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن َيشَآءُ‪[} ...‬النور‪.]35 :‬‬
‫فال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يضرب المثَل لنوره بالمشكاة‪ ،‬السطحيون يظنون أن المشكاة هي‬
‫شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ‪[} ...‬النور‪ ]35 :‬والمشكاة تجويف في الحائط‪ ،‬مثل‬
‫المصباح‪ ،‬لكن ال يقول{ َكمِ ْ‬
‫الطاقة غير نافذة‪ ،‬فإنْ كانت نافذة نسميها شباكا‪ ،‬وكانوا في الماضي يضعون المصباح في هذه‬
‫الفجوة ليضيء الحجرة‪ ،‬والفجوة هذه أو المشكاة تجمع الضوء وتُقوّيه؛ لذلك يكون الضوء فيها‬
‫أقوى من ضوء الحجرة‪ ،‬أو‪ :‬أن المصباح يستوعب المشكاة أكثر من استيعابه للحجرة كلها‪.‬‬
‫وبتأمل هذا المعنى نرى أن الحق سبحانه ل يضرب لنا مثَلً لنوره إنما لتنويره‪ ،‬فتنوير ال تعالى‬
‫مِثْل المشكاة التي فيها المصباح‪ ،‬والمصباح يدلّ على الرقي في وسائل الضاءة‪ ،‬فدونه مثلً‬
‫الشعلة‪ ،‬وهو فتيل يُوقَد في الهواء ويكون له دخان أسود‪ ،‬أما المصباح فله زجاجة تحجز عنه‬
‫الهواء إل بقدر ما يكفي لحتراق الفتيل‪ ،‬فيأتي الضوء منه صافيا‪.‬‬
‫ثم هو فضلً عن ذلك في زجاجة ليست عادية‪ ،‬إنما{ كَأَ ّنهَا َك ْو َكبٌ دُ ّريّ‪[} ...‬النور‪ ]35 :‬أي‪ :‬مثل‬
‫الدرة التي تضيء بذاتها‪ ،‬هذا المصباح يُوقَد من شجرة زيتونة معتدلة المزاج{ لّ شَ ْرقِيّ ٍة َولَ‬
‫غَرْبِيّةٍ‪[} ...‬النور‪ ]35 :‬فتصوّر هذا المصباح في مكان ضيق ل في الحجرة كلها‪ ،‬إنما في المشكاة‬
‫كيف يكون ضوؤه؟‬
‫كذلك تنوير ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬للسماوات والرض على سعتهما‪ ،‬فنوره تعالى يستوعبهما‪ ،‬ل‬
‫يترك منهما مكانا مظلما كالطاقة بالنسبة لهذا المصباح الذي وصفنا‪.‬‬
‫ولهذا المثل قصة شهيرة في الدب العربي‪ ،‬فقد فطن إليها أبو تمام في مدحه أحد الخلفاء‪ ،‬وحين‬
‫أراد أنْ يجمع له مَلَكات العرب ومواهبهم من الجود والشجاعة والحِلْم والذكاء‪ ،‬قال مادحا‪:‬إ ْقدَامُ‬
‫سمَاحَةِ حَات ٍم وفي حِلْم أحْنفَ في ذَكاءِ إيَاسِوقد اشتهر عمرو بن معدي كرب بالشجاعة‬
‫عمْروٍ في َ‬
‫َ‬
‫والقدام‪ ،‬واشتهر حاتم الطائي بالكرم‪ ،‬وأحنف بن قيس بالحلم حتى قيل " أحلم العرب " فل‬
‫حلْمه‪ ،‬حتى أن جماعة قصدوا أنْ يخرجوه عن حِلْمه‪ ،‬فتكون‬
‫يُغضِبه شيء أبدا‪ ،‬ول يُخرجه عن ِ‬
‫سابقة لهم فتبعوه في الطريق‪ ،‬وأخذوا يهزءُون به وهو يضحك‪ ،‬حتى قارب من الحي‪ ،‬فنظر إلى‬
‫هؤلء الفتية وقال‪ :‬أيها الفتية‪ ،‬لقد قربنا من الحيّ‪ ،‬فإنْ كان في جوفكم استهزاء بي فافرغوا منه؛‬
‫لنهم لو ظفروا بكم لقتلوكم‪.‬‬

‫أما إياس بن معاوية فكان َمضْرب المثَل في الذكاء‪ ،‬وهكذا جمع أبو تمام لممدوحه خلصة ما‬
‫تعرفه العرب من مواهب‪ .‬وهنا قام له واحد من خصومه وقال‪ :‬أتُشبّه الخليفة بأجلف العرب‪،‬‬
‫فمَنْ يكون هؤلء إذا ما قُورِنوا بأمير المؤمنين؟‬
‫ن لوْ رآهُ كانَ أصْغر‬
‫وهذا العتراض مأخوذ من قول الشاعر‪:‬وشَبّهه المدّاحُ في البَأْسِ والنّدَى بمَ ْ‬
‫خَادمِ َففِي جيشه خَمسُونَ ألفا كَعنت ٍر وَأ ْمضَى وفي خُدّامهِ ألفُ حاتمِفلما قيل لبي تمام‪ :‬كيف تشبه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الخليفة بأجلف العرب أحجم هنيهة ثم رفع رأسه‪ ،‬وقال‪:‬لَ تُنكِروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثَلً‬
‫شكَاةِ والنّبراسِومع دقّة الستشهاد‬
‫شَرُودا في النّدَى والبَاسفال قد ضَربَ القلّ لِنُورِه مَثَلً من الم ْ‬
‫وطرافته إل أن خصومه اتهموه بأن ذلك ليس ارتجالً لوقته‪ ،‬إنما هو مُعدّ لهذا الموقف سلفا‪،‬‬
‫وبعض الدارسين للدب يقول بذلك وقاله لنا مدرس الدب‪ ،‬لكن يُروَى أنهم لما أخذوا الورقة التي‬
‫مع أبي تمام لم يجدوا فيها هذه البيات‪ ،‬ثم على فرض أن الرجل أعدّها قبل هذا الموقف فإنها‬
‫تُحسَب له ل عليه‪ ،‬وتضيف إليه ذكاءً آخر؛ لنه استدرك على ما يمكن أنْ يُقال فاستعد له‪.‬‬
‫وكما أن الحق سبحانه وتعالى له المثَل العلى في الرض‪ ،‬فل مثيلَ له‪ ،‬كذلك له المثل العلى‬
‫في السماء فل مثيلَ له‪ ،‬مع أن ما في السماء غيب‪ ،‬وهم الملئكة من صفاتهم كذا وكذا‪ ،‬فلله المثَل‬
‫العلى في السماوات‪.‬‬
‫حكِيمُ { [الروم‪ ]27 :‬أي‪ :‬أنه سبحانه وتعالى بذاته عزيز ل‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫يُغلب‪ ،‬ومع عزته سبحانه حكيم ل يظلم‪.‬‬
‫سكُمْ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ضَ َربَ َلكُمْ مّثَلً مّنْ أَنفُ ِ‬

‫(‪)3361 /‬‬

‫سوَاءٌ‬
‫سكُمْ َهلْ َل ُكمْ مِنْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُن ُكمْ مِنْ شُ َركَاءَ فِي مَا رَ َزقْنَاكُمْ فَأَنْ ُتمْ فِيهِ َ‬
‫ضَ َربَ َل ُكمْ مَثَلًا مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫صلُ الْآَيَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ (‪)28‬‬
‫سكُمْ كَذَِلكَ ُن َف ّ‬
‫تَخَافُو َنهُمْ َكخِيفَتِكُمْ أَ ْنفُ َ‬

‫ضَرْب المثل أسلوب من أساليب القرآن للبيان والتوضيح وتقريب المسائل إلى الفهام‪ ،‬ففي‬
‫موضع آخر يقول سبحانه‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا‪[} ..‬البقرة‪:‬‬
‫‪.]26‬‬
‫س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُواْ لَهُ‪[} ...‬الحج‪ ]73 :‬فهذا كثير من كتاب ال‪،‬‬
‫وقال سبحانه‪ {:‬ياأَ ّيهَا النّا ُ‬
‫والمثَل يُضرب ليُجلّي حقيقة‪ .‬والضّرْب هنا ل يعني إحداث أثر ضار بالمضروب‪ ،‬إنما إحداث أثر‬
‫نافع إيجابي كما في قوله تعالى‪ {:‬وَآخَرُونَ َيضْرِبُونَ فِي الَ ْرضِ‪[} ...‬المزمل‪.]20 :‬‬
‫وقولنا في مسألة سكّ العملة‪ :‬ضُ ِربَ في كذا‪ ،‬فكأن الضرب يُحدث في المضروب أثرا باقيا‪ ،‬ففي‬
‫الرض بإثارة دفائنها واستخراج كنوزها‪ ،‬وفي العملة بتَ ْركِ أثر بارز ل تمحوه اليدي في حركة‬
‫سكّ العملة‪ ،‬ويجعل الفكرة‬
‫ل يوضح الشيء الغامض توضيحا بيّنا كما تُ َ‬
‫التداول‪ ،‬وكأن ضَرْب الم َث َ‬
‫في الذهن قائمة واضحة المعالم‪ .‬وللضرب عناصر ثلثة‪ :‬الضارب‪ ،‬والمضروب‪ ،‬والمضروب‬
‫به‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعْبة السهام‪ ،‬والسهام‪،‬‬
‫ويُروى في مجال المثال أن رجلً خرج للصيد معه آلته‪ :‬الكنانة وهي ُ‬
‫والقوس‪ ،‬فلما رأى ظبيا أخذ يُعدّ كنانته وقَوْسه للرمي لكن لم يمهله الظبي وفَرّ هاربا‪ ،‬فقال له‬
‫آخر وقد رأى ما كان منه‪ :‬قبل الرّماء تُمل الكنائن‪ ،‬فصارت مثلً وإن قيل في مناسبة بعينها إل‬
‫ي موضع كما هو وبنفس ألفاظه دون أن نُغيّر فيه‬
‫أنه يُضرَب في كل مناسبة مشابهة‪ ،‬ويقال في أ ّ‬
‫شيئا‪.‬‬
‫فمثلً‪ ،‬حين ترى التلميذ المهمل يذاكر قبيل المتحان‪ ،‬وحين ترى مَنْ يُقدِم على أمر دون أنْ يُعدّ‬
‫عدّته لك أنْ تقول‪ :‬قبل الرّماء تُمل الكنائن‪ .‬إذن‪ :‬هذه العبارة صار لها مدلولها الواضح‪،‬‬
‫له ُ‬
‫ختْ في الذّهْن حتى صارتْ مثَلً يُضرب‪.‬‬
‫وترسّ َ‬
‫ن كنتَ ريحا فقد لقيتَ إعصارا‪.‬‬
‫وتقول لمن تسلّط عليك وادّعى أنه أقْوى منك‪ :‬إ ْ‬
‫والحق سبحانه يضرب لنا المثل للتوضيح ولتقريب المعاني للفهام؛ لذلك يقول سبحانه‪ {:‬إِنّ اللّهَ‬
‫لَ َيسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا‪[} ...‬البقرة‪ ]26 :‬يقف هنا بعض المتمحكين الذين‬
‫ن يضرب مثلً‬
‫يحبون أنْ يستدركوا على كلم ال‪ ،‬يقولون‪ :‬ما دام ال تعالى ل يستحي أ ْ‬
‫بالبعوضة فما فوقها من باب َأوْلى‪ ،‬فلماذا يقول{ َفمَا َف ْو َقهَا‪[} ...‬البقرة‪.]26 :‬‬
‫وهذا يدل على عدم فهمهم للمعنى المراد ل عز وجل‪ ،‬فالمعنى‪ :‬فما فوقها أي‪ :‬في الغرابة وفي‬
‫القلة والصّغر‪ ،‬ل ما فوقها في الكِبَر‪.‬‬
‫ومن المثلة التي ضربها ال لنا ليوضح لنا قضية التوحيد قوله تعالى‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ‬
‫ح ْمدُ للّهِ َبلْ َأكْثَ ُرهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }[الزمر‪:‬‬
‫جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً الْ َ‬
‫شُ َركَآءُ مُ َتشَاكِسُونَ وَرَجُلً سَلَما لّ َر ُ‬
‫‪]29‬‬
‫فالذي يتخذ مع ال إلها آخر كالذي يخدم سيدين وليتهما متفقان‪ ،‬إنما متشاكسان مختلفا‪ ،‬فإنْ‬
‫أرضى أحدهما أسخط الخر‪ ،‬فهو متعب بينهما‪ ،‬فهل يستوي هذا العبد وعبد آخر يخدم سيدا‬
‫واحدا؟ كذلك في عبادة ال وحده ل شريك له‪.‬‬

‫فبالمثال اتضحت القضية‪ ،‬ورسختْ في الذها؛ لذلك يقول سبحانه‪ :‬أنا ل أستحي أنْ أضرب‬
‫المثال؛ لنني أريد أن أوضح لعبادي الحقائق‪ ،‬وأُبيّن لهم المعاني‪.‬‬
‫سكُمْ‪[ { ...‬الروم‪.]28 :‬‬
‫} ضَ َربَ َلكُمْ مّثَلً مّنْ أَنفُ ِ‬
‫في هذه الية وبهذا المثَل يؤكد الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬في قمة تربية العقيدة اليمانية‪ ،‬يؤكد‬
‫على واحدية ال وعلى أحديته‪ ،‬فالواحدية شيء والحدية شيء آخر‪ :‬الواحدية أنه سبحانه واحد ل‬
‫فرد آخر معه‪ ،‬لكن هذا الفرد الواحد قد يكون في ذاته مُركّبا من أجزاء‪ ،‬فوصف نفسه سبحانه‬
‫بأنه أحدٌ أي‪ :‬ليس مُركّبا من أجزاء‪ .‬أكّد ال هذه الحقيقة في قرآنه بالحجج وبالبراهين‪ ،‬وضرب‬
‫لها المثل‪ .‬وهنا يضرب لنا مثلً من أنفسنا ليؤكد على هذه الوحدانية‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكُمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]28 :‬يعني‪ :‬ليس بعيدا عنكم‪ ،‬وأقرب شيء للنسان نفسه‪،‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬مّنْ أَنفُ ِ‬
‫إذن‪ :‬فأوضح مثَل لما غاب عنك أنْ يكون من نفسك‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪َ {:‬لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ‬
‫سكُمْ‪[} ...‬التوبة‪ ]128 :‬أي‪ :‬من جنسكم تعرفون نشأته‪ ،‬وتعرفون خُلُقه وسيرته‪.‬‬
‫أَنفُ ِ‬
‫لكن‪ ،‬ما المثَل المراد؟‬
‫سوَآءٌ َتخَافُونَهُمْ كَخِيفَ ِتكُمْ‬
‫المثل‪َ } :‬هلْ ّلكُمْ مّن مّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مّن شُ َركَآءَ فِي مَا رَ َزقْنَاكُمْ فَأَن ُتمْ فِيهِ َ‬
‫سكُمْ‪[ { ...‬الروم‪.]28 :‬‬
‫أَنفُ َ‬
‫يقول سبحانه‪ :‬أريد أنْ أضرب لكم مثلً على أن الله الواحد يجب عقلً ألّ تشركوا به أشياء‬
‫أخرى‪ ،‬والمثل أنّي أرزقكم‪ ،‬ومن رزقي لكم َموَال وعبيد‪ ،‬فهل جئتم للرزق الذي رزقكم ال‬
‫وللعبيد وقلتم لهم‪ :‬أنتم شركاء لنا في أموالنا تتصرفون فيها كما نتصرف نحن‪ ،‬ثم جعلتم لهم‬
‫مطلق الحرية والتصرف‪ ،‬ليكونوا أحرارا أمثالكم تخافونهم في أنْ تتصرفوا دونهم في شيء‬
‫كخيفتكم أنفسكم؟ هل فعلتم ذلك؟ بل هل تقبلونه على أنفسكم؟ إذن‪ :‬لماذا تقبلونه في حق ال تعالى‬
‫وترضَوْن أنْ يشاركه عبيده في مكله؟‬
‫إنكم لم تقبلوا ذلك مع مواليكم وهم بشر أمثالكم ملكتموهم بشرع ال فائتمروا بأمركم‪ .‬هذا معنى }‬
‫سكُمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]28 :‬أي‪ :‬من البشر‪ ،‬فهم مثلكم في الدمية‪ ،‬وملكيتكم لهم ليست مُطْلقة‪،‬‬
‫مّنْ أَنفُ ِ‬
‫فأنتم تملكون رقابهم‪ ،‬وتملكون حركة حياتهم‪ ،‬لكن ل تملكون مثلً قتلهم‪ ،‬ول تملكون منعهم من‬
‫فضاء الحاجة‪ ،‬ل تملكون قلوبهم وإرادتهم‪ ،‬ثم هو مُلْك قد يفوتك‪ ،‬كأن تبيعه أو تعتقه أو حتى‬
‫بالموت‪ .‬ومع ذلك ما اتخذتموهم شركاء‪ ،‬فعَيْب أنْ تجعلوا ل ما تستنكفون منه لنفسكم‪.‬‬
‫ونلحظ هنا أن ال تعالى لم يناقشهم في مسألة الشركاء بأسلوب الخبر منه سبحانه‪ ،‬إنما اختار‬
‫أسلوب الستفهام وهو أبلغ في تقرير الحقيقة‪َ } :‬هلْ ّلكُمْ مّن مّا مََلكَتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مّن شُ َركَآءَ فِي مَا‬
‫رَ َزقْنَاكُمْ‪[ { ...‬الروم‪.]28 :‬‬
‫وأنت ل تعدل عن الخبر إلى الستفهام عنه إل وأنت تعلم وتثق بأن الجابة ستكون في صالحك‪،‬‬
‫فمثلً حين ينكر شخصٌ جميلَك فتقول مُخبرا‪ :‬فعلتُ معك كذا وكذا‪ ،‬والخبر يحتمل الصدق‬
‫ويحتمل الكذب‪ ،‬وقد ينكر فيقول‪ :‬ل لم تفعل معي شيئا‪.‬‬

‫أما حين تقول مستفهما‪ :‬ألم أفعل فعل كذا وكذا؟ فإنك تُلجئه إلى واقع ل يملك إنكاره‪ ،‬ول يستطيع‬
‫أنْ يفرّ منه‪ ،‬ول يملك إل أنْ يعترف لك بجميلك ول أقلّ من أنْ يسكت‪ ،‬والسكوت يعني أن الواقع‬
‫كما قلت‪.‬‬
‫لذلك يستفهم الحق سبحانه وهو أعلم بخَلْقه } َهلْ ّلكُمْ مّن مّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مّن شُ َركَآءَ‪[ { ...‬الروم‪:‬‬
‫‪ ]28‬ل بدّ أنْ يقولوا‪ :‬ل ليس لنا شركاء في أموالنا‪ ،‬إذن‪ :‬لماذا جعلتم ل شركاء؟‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬فِي مَا رَ َزقْنَا ُكمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]28 :‬سبق أنْ تحدثنا في مسألة الرزق وقلنا‪ :‬إن ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تعالى هو الرازق‪ ،‬ومع ذلك احترم ملكية خَلْقه‪ ،‬واحترم سعيهم‪ :‬لنه سبحانه واهب هذا الملك‪،‬‬
‫ول يعود سبحانه في هبته لخَلْقه؛ لذلك لما أراد أنْ يُحنن قلوب خَلْقه على خَلْقه قال‪ {:‬مّن ذَا الّذِي‬
‫حسَنا‪[} ...‬البقرة‪ ]245 :‬فاعتبر صدقتك على أخيك الفقير قرضا يردّه إليك‬
‫ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا َ‬
‫ُمضَاعفا‪.‬‬
‫والرزق ل يقتصر على المال ‪ -‬كما يظن البعض ‪ -‬إنما رزقك كلّ ما انتفعتَ به فهو رزق ينبغي‬
‫عليك أن تفيض منه على مَنْ يحتاجه‪ ،‬وأن تُعدّيه إلى مَنْ يفتقده‪ ،‬فالقويّ رزقه القوة يُعدّيها‬
‫للضعيف‪ ،‬والعالم رزقه العلم يُعدّيه للجاهل‪ ،‬والحليم رزقه حلْم يُعدّيه للغضوب وهكذا‪ ،‬وإل فالمال‬
‫أهون ألوان الرزق؛ لن الفقير الذي ل يملك مالً ولم يتصدق أحد عليه قصارى ما يحدث له أن‬
‫يجوع ويُباح له في هذه الحالة أنْ يسأل الناس‪ ،‬وما رأينا أحدا مات جوعا‪.‬‬
‫لكن ينبغي على الفقير إنْ ألجأتْه الحاجة للسؤال أنْ يسأل بتلطّف ولين‪ ،‬فإنْ كان جائعا ل يسأل‬
‫جوْعته‪ ،‬وسائل الطعام ل‬
‫سدّ َ‬
‫الناس مالً إنما لقمة عيش وقطعة جبن أو ما تيسّر من الطعام لي ُ‬
‫ن يأكل‪ ،‬أما‬
‫يكذبه أحد لنه ل سأل إل عن جوع‪ ،‬حتى لو سألك وهو شبعان فأعطيتَه ما استطاع أ ْ‬
‫سائل المال فقد نظن فيه الطمع وقصد الدخار‪ .‬إذن‪ :‬أفضح سؤال سؤال القوت‪.‬‬
‫ط َعمَآ أَهَْلهَا‬
‫لذلك في قصة الخضر وموسى عليهما السلم‪ {:‬فَانطََلقَا حَتّىا إِذَآ أَتَيَآ َأ ْهلَ قَرْ َيةٍ اسْ َت ْ‬
‫ن يوصفوا بألَم‬
‫فَأَ َبوْاْ أَن ُيضَ ّيفُو ُهمَا‪[} ..‬الكهف‪ ]77 :‬فلما منعوهم حتى لقمة العيش استحقّوا أ ْ‬
‫الناسِ‪ ،‬وقد أباح الشرع للجائع أن يسأل الطعام من اللئيم فإن منعه فللجائع أن يأخذه ولو بالقوة‪،‬‬
‫وإذا رفع أمره إلى القاضي أيّده القاضي‪ ،‬لذلك يقولون فيه‪ :‬طالب قُوتٍ ما تعدّى‪.‬‬
‫والحق سبحانه تكفّل لك برزقك‪ ،‬إنما جعل للرزق أسبابا وكل ما عليك أنْ تأخذ بهذه السباب ثم ل‬
‫سعْي هو مصدر الرزق‪ ،‬فالسعي سبب‪،‬‬
‫تشغل بالك هما في موضوعه‪ ،‬وإيالك أن تظن أن ال ّ‬
‫والرزق من ال‪ ،‬وما عليك إل أنْ تتحرى السباب‪ ،‬فإنْ أبطأ رزقك فأرحْ نفسك؛ لنك ل تعرف‬
‫عنوانه‪ ،‬أمّا هو فيعرف عنوانك وسوف يَأتيك يطرق عليك الباب‪.‬‬

‫والذي يُتعب الناس أنْ يظل الواحد منهم مهموما لمر الرزق مُفكّرا فيه‪ ،‬ولو علم أن الذي خلقه‬
‫واستدعاه للوجود قد تكفّل برزقه لستراح‪ ،‬فإنْ أخطأت أسباب الرزق في ناحية اطمئن فسوف‬
‫يأتيك من ناحية أخرى‪.‬‬
‫ونذكر هنا قصة عروة بن أذينة وكان صديقا لهشام بن عبد الملك بالمدينة قبل أنْ يتولى هشامٌ‬
‫الخلفة‪ ،‬فلما أصبح هشام أميرا للمؤمنين انتقل إلى دمشق بالشام‪ ،‬أما عروة فقد أصابته فاقة‪ ،‬فلما‬
‫ضاق به الحال تذكّر صداقته القديمة لهشام‪ ،‬وما كان بينهما من وُدّ‪ ،‬فقصده في دمشق علّه يُفرّج‬
‫ضائقته‪.‬‬
‫جاء عروة إلى دمشق واستأذن على الخليفة فأذن له‪ ،‬فدخل وعرض على صاحبه حاجته وكله‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أمل في أنْ ينصفه ويجبر خاطره‪ ،‬لكن هشاما لم يكن مُوفّقا في الردّ على صديقه حيث قال‪ :‬أتيتَ‬
‫من المدينة تسألني حاجتك وأنت القائل‪:‬لَقد عَل ْمتِ ومَا الِسْرافُ مِنْ خُلُقي أنّ الذي هُو رِزْقي‬
‫سوفَ يَأْتِينيفقال عروة بعد أن كسر صديقه بخاطره‪ :‬جزاك ال عني خيرا يا أمير المؤمنين‪ ،‬لقد‬
‫نبّهتَ مني غافلً‪ ،‬وذكّرتَ مني ناسيا‪ ،‬ثم استدار وخرج‪.‬‬
‫وعندها أدار هشام المر في نفسه وتذكّر ما كان لعروة من وُدّ وصداقة‪ ،‬وشعر بأنه أساء إليه‬
‫فأنّبه ضميره‪ ،‬فاستدعى صاحب الخزانة‪ ،‬وأمر لعروة بعطية كبيرة‪ ،‬وأرسل بها مَنْ يلحق به‪.‬‬
‫لكن كلما وصل الرسول إلى (محطة) وجد عروة قد فارقها حتى وصل إلى المدينة‪ ،‬ودقّ على‬
‫عروة بابه‪ ،‬وكان الرسول لَبِقا‪ ،‬فلما فتح عروة الباب قال‪ :‬ما بكم؟ قال‪ :‬رسل هشام‪ ،‬وتلك صِلَة‬
‫حمْلها‪ ،‬فأرسلنا‬
‫هشام لك لم يَ ْرضَ أنْ تحملها أنت خوفا عليك من قُطاع الطريق‪ ،‬أو تحمل مؤونة َ‬
‫بها إليك‪.‬‬
‫فقال عروة‪ :‬جزى ال أمير المؤمنين خيرا‪ ،‬قولوا له لقد ذكرت البيت الول‪ ،‬ولو ذكرت الثاني‬
‫لرحتَ واسترحتَ‪ ،‬لقد قلت‪:‬لَقد عَل ْمتِ ومَا الِسْرافُ مِنْ خُلُقي أنّ الذي هُو رِزْقي سوفَ‬
‫يَأْتِينيأَسْعى إِليْهِ فَ ْيعْييني تطلبّه وَلوْ َق َع ْدتُ أتَاني ل يُعنّينَيثم يقول سبحانه بعد هذا المثل‪َ } :‬كذَِلكَ‬
‫صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ { [الروم‪ ]28 :‬أي‪ :‬نُبيّنها إل إليها‪ ،‬ومعنى } َي ْعقِلُونَ { [الروم‪ ]28 :‬من‬
‫ُنفَ ّ‬
‫سمّي عقلً؛ لنه يعقل صاحبه ويقيده عما ل يليق‪.‬‬
‫العقل‪ ،‬و ُ‬
‫والبعض يظن أن العقل إنما جُعل لترتع به في خواطرك‪ ،‬إنما هو جاء ليقيد هذه الخواطر‪،‬‬
‫ويضبط السلوك‪ ،‬يقول لك‪ :‬اعقل خواطرك وادرسها ل تنطلق فيها على هواك تفعل ما تحب‪ ،‬بل‬
‫تفعل ما يصح وتقول ما ينبغي‪ .‬إذن‪ :‬ما قصّرنا في البيان ول في التوضيح‪.‬‬
‫ويتجلّى دور العقل المجرد وموافقته حتى للوحي في سيرة الفاروق عمر رضي ال عنه‪ ،‬وفي‬
‫وجود رسول ال‪ ،‬وهو ينزل عليه الوحي يأتي عمر ويشير على رسول ال بأمور‪ ،‬فينزل الوحي‬
‫موافقا لرأي عمر‪ ،‬وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يلفت أنظارنا إلى أن العقل الفطري إذا فكّر في‬
‫أمر بعيدا عن الهوى ل بُدّ أنْ يصل إلى الصواب وأنْ يوافق حقائق الدين‪ ،‬أمّا إنْ تدخّل الهوى‬
‫فسد الفكر‪.‬‬

‫صلُ اليَاتِ ِلقَوْمٍ َيعْقِلُونَ { [الروم‪ ]28 :‬العقل وسيلة من وسائل الدراك في‬
‫وقوله تعالى } كَذَِلكَ ُن َف ّ‬
‫س ْمعَ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ‬
‫النسان؛ لن ال تعالى قال‪ {:‬وَاللّهُ أَخْ َر َ‬
‫شكُرُونَ }[النحل‪.]78 :‬‬
‫لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫وَالَبْصَا َر وَا َ‬
‫لكن‪ ،‬كيف تُربّى المور العقلية في الناس؟ تُربّى عن طريق الحواس والدراك‪ ،‬فالعين ترى‪،‬‬
‫والذن تسمع‪ ،‬واللسان يتذوق‪ ،‬واليد تلمس‪ ،‬والنف يشمّ‪ ،‬إلى آخر الحواس التي توصلنا إليها‬
‫كحاسة البين‪ ،‬وحاسة العضل وغيرها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك احتاط العلماء في تسمية الحواس فقالوا " الحواس الخمس الظاهرة " ليدعوا المجال مفتوحا‬
‫لحواس أخرى‪ ،‬فهذه الوسائل تدرك المعلومات وتنقلها إلى العقل ليراجعها وينتهي فيها إلى قضايا‬
‫يجعلها دستورا لحياته‪ ،‬فأنت تأكل مثلً العسل فتدرك حلوته‪ ،‬وتأكل الجبن فتدرك ملوحته‪،‬‬
‫فتتكون لديك قضية عقلية أن هذا حلو‪ ،‬وهذا مالح‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وحين تستقر هذه القضايا في القلب تصير عقيدة ل تخرج للتفكير مرة أخرى‪ ،‬ول تمر على العقل‬
‫بعد ذلك‪ ،‬فقد انعقد عليها الفؤاد‪ ،‬وترسختْ في الذهن‪.‬‬
‫و َدوْر العقل أن يعقل هذه القضايا‪ ،‬وأنْ يختار بين البدائل‪ ،‬والمر الذي ل بديلَ له ل عملَ للعقل‬
‫فيه‪ ،‬فلو أنك مثلً ستذهب إلى مكان ليس له إل طريق واحد فل مجال للتكفير فيه‪ ،‬لكن إنْ كان‬
‫ن يفاضل بينها ويختار النسب منها فيسلكه‪.‬‬
‫لهذا المكان أكثر من طريق فللعقل أ ْ‬
‫وما دام العقل هو الذي يختار فهو الميزان الذي تَزِن به الشياء‪ ،‬وتحكم به القضايا؛ لذلك ل بُدّ له‬
‫ن يكون سليما لتأتي نتائجه كذلك سليمة وموضوعية‪ ،‬ومعلوم أن الميزان يختلف باختلف‬
‫أْ‬
‫الموزون وأهميته‪.‬‬
‫س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ }‬
‫شمْ ُ‬
‫والحق سبحانه يعطينا مثالً لدقة الميزان في الشمس والقمر‪ ،‬فيقول{ ال ّ‬
‫[الرحمن‪ ]5 :‬أي‪ :‬بحساب دقيق‪ ،‬ولول الدقة فيهما ما أخذناهما ميزانا للوقت‪ ،‬فبالشمس نعرف‬
‫الليل والنهار‪ ،‬وبالقمر نعرف الشهور‪.‬‬
‫صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ { [الروم‪ ]28 :‬يعني‪ :‬أننا عملنا ما علينا من‬
‫فحين يقول سبحانه } كَ َذِلكَ ُنفَ ّ‬
‫التفصيل والبيان‪ ،‬وتوضيح الحجج والبراهين‪ ،‬ولكن أنتم الذين ل تعقلون‪.‬‬
‫ن ل عقل له من‬
‫ولما كان العقل هو آلة الختيار بين البدائل وآلة التمييز أعفى الحق سبحانه مَ ْ‬
‫التكاليف‪ ،‬أعفى الطفل الصغير الذي لم يبلغ؛ لن عقله لم ينضج بعد‪ ،‬ولن حواسّه لم تكتمل‪.‬‬
‫وتتجلى حكمة الشارع في قول النبي صلى ال عليه وسلم " مروا أولدكم بالصلة لسبع‪،‬‬
‫واضربوهم عليها لعشر " فجعل من ضمن تكليف الباء أنْ يُكلّفوا هم البناء في هذه السنّ‪ ،‬لتكون‬
‫لهم دُرْبة على طاعة المر والنهي في وقت ليس عليهم تكليف مباشر من ال تعالى‪.‬‬

‫فإذا كبر الصغير يستقبل تكليفي كما استقبل تكليفك أولً‪ ،‬وربّك ما افتات عليك في هذه المسألة‪،‬‬
‫ن قصّر‪ ،‬فأنت الذي تُكلّف‪ ،‬وأنت الذي‬
‫فأعطاك حق التكليف بالصلة‪ ،‬وأعطاك حق أنْ تعاقبه إ ْ‬
‫تعاقب‪.‬‬
‫وأعفى المجنون لن آلة الختيار عنده غير سليمة وغير صالحة‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن علمة النضج في‬
‫النسان أن يصير قادرا على إنجاب مثله‪ ،‬ومثّلْنا لذلك بالثمرة التي ل تحلو إل بعد نضجها‪ ،‬بحيث‬
‫إذا أكلت زرعتَ بذرتها‪ ،‬فأنبتت ثمرة جديدة‪ ،‬وهكذا يحدث بقاء النوع وتستمر الدورة‪.‬‬
‫فربك ل يريد أن تأكل أكلة واحدة‪ ،‬ثم تُحرم أو يُحرم مَنْ يأتي بعدك‪ ،‬إنما يريد أنْ تأكل ويأكل كل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مَنْ يأتي بعدك‪ ،‬فل تأخذ الثمرةُ حلوتها إل بعد ُنضْج بذرتها‪ ،‬وصلحيتها للنبات‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ِ } :‬لقَوْمٍ َيعْقِلُونَ { [الروم‪ ]28 :‬يدل على أن الذين يتخذون مع ال شركاء غير‬
‫عاقلين‪ ،‬وإل فما معنى عبادة الصنام أو الشجار أو الشمس أو القمر؟ وقد قالوا بألسنتهم‪ {:‬مَا‬
‫َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى‪[} ...‬الزمر‪.]3 :‬‬
‫فما هي العبادة؟ العبادة طاعة العابد لمر المعبود و َنهْيه‪ ،‬إذن‪ :‬بماذا أمرَ ْتكُم هذه اللهة؟ وعَمّ‬
‫نه ْتكُم؟ ما المنهج الذي وضعتْه لكم؟ ماذا أعدتْ لمن أطاعها من النعيم؟ وماذا أعدتْ لمن عصاها‬
‫من العذاب؟ ل شيء إل أنها آلهة بدون تكاليف‪ ،‬وما أيسرَ أنْ يعبد النسانُ إلها ل تكاليف له‪ ،‬ل‬
‫يُقيدك فيما تحب من شهوات‪ ،‬ول يُحمّلك مشقة العبادة‪ ،‬وهنا يتضح عدم العقل‪.‬‬
‫وأيضا عدم العقل في ماذا؟ ال خلقك في كون فيه أجناس‪ ،‬والجناس تحكمها سلسلة الرتقاء‪،‬‬
‫فجنس أعلى من جنس‪ ،‬والجنس العلى في خدمة الجنس القل‪.‬‬
‫ولو استقرأتَ أجناس الوجود تجد أن معك أيها النسان جنسا آخر يشاركك الحسّ والحركة‪ ،‬لكن‬
‫ليس له عقل واختيار بين البدائل؛ لنه محكوم بالغريزة منضبط بها‪ ،‬وهذا هو الحيوان الذي ل‬
‫ينفكّ عن الغريزة أبدا‪.‬‬
‫وسبق أنْ ضربنا مثلً لذلك بالغريزة الجنسية عند النسان وعند الحيوان‪ ،‬وأن ال تعالى إنما‬
‫حفْظ النوع‪ ،‬فالحيوان المحكوم بالغريزة يؤدي هذه المهمة للتكاثر ويقف بها عند‬
‫جعلها لتكاثر و ِ‬
‫ن تمكّنه من نفسها بعد ذلك‪ ،‬وهو أيضا يشمّ رائحة النثى‪،‬‬
‫حدّها‪ ،‬فإذا لقّح الذكر النثى يستحيل أ ْ‬
‫فإنْ كانت حاملً ينصرف عنها‪.‬‬
‫أما النسان فغير ذلك؛ لن له شهوة تتحكم فيه‪ ،‬فالمرأة تتحمل مشقة الحمل وألم الولدة‪ ،‬ثم تربية‬
‫حفْظ النوع في النسان بشهوة هي أعنف شهوات‬
‫المولود إلى أنْ يكبر‪ ،‬ولول أن ال تعالى ربط ِ‬
‫النفس ما أقدمتْ المرأة على الحمل مرة أخرى‪.‬‬
‫وما قُلْناه في غريزة الجنس نقوله في الطعام والشراب‪ ،‬الحيوان محكوم فيها بالغريزة المطلقة التي‬
‫خلَ للهوى فيها‪ ،‬فإذا شبع ل يأكل مهما حاولتَ معه‪ ،‬بل ونرى الحمار الذي نقول عنه إنه‬
‫ل دَ ْ‬
‫حمار ل يأكل عودا واحدا بعد شِبَعه‪ ،‬ويمر على النعناع الخضر مثلً أو على الملوخية فل‬
‫يأكلها‪ ،‬ويذهب إلى الحشائش اليابسة‪ ،‬فهو يعرف طعامه بالغريزة التي جعلها ال فيه‪.‬‬

‫أما النسان فيأكل حتى التّخْمة‪ ،‬ثم ل ينسى بعد ذلك الحلو والبارد والمهضم‪ ..‬الخ ذلك؛ لنه أسير‬
‫لشهوة بطنه‪ ،‬حتى إن من الناس مَنْ يغضب؛ لنه شبع فهو يريد ألّ يفارق المائدة‪.‬‬
‫وقد حدثنا رجال حديقة الحيوان بعد زلزال ‪ 1992‬أنهم شاهدوا هياجا في الحيوانات المحبوسة في‬
‫القفاص قبل حدوث الزلزال‪ ،‬كان أولها الوطواط‪ ،‬ثم الزرافة‪ ،‬ثم التمساح‪ ،‬ثم القرود‪ ،‬ثم الحمير‪،‬‬
‫وكأنهم يريدون تحطيم القفاص والخروج منها‪ ،‬بعدها حدث الزلزال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكذلك ما شاهده أهل أغادير بالدار البيضاء قبل الزلزال الذي وقع بها‪ ،‬حيث شاهدوا الحمير تفك‬
‫قيودها‪ ،‬وتفرّ هاربة إلى الخلء‪ ،‬وبعدها وقع الزلزال‪ .‬إذن‪ :‬لدى هذه الحيوانات استشعار بالزلزال‬
‫قبل أن يقع‪.‬‬
‫وقد أعطانا الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬مثالً لهذه الغريزة في قصة الغراب الذي علّم النسان كيف‬
‫حثُ فِي الَ ْرضِ لِيُرِيَهُ كَ ْيفَ‬
‫يُواري الميت‪ ،‬فقال تعالى في قصة وَلَ َديْ آدم‪ {:‬فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا يَ ْب َ‬
‫سوْ َءةَ أَخِيهِ‪[} ...‬المائدة‪.]31 :‬‬
‫ُيوَارِي َ‬
‫عقْل هؤلء الذين جعلوا ل شركاء‪ ،‬فأجناس الوجود‪:‬‬
‫نعود إلى حديثنا عن أجناس الكون لبيان عدم َ‬
‫النسان‪ ،‬ثم الحيوان‪ ،‬ثم النبات‪ ،‬ففيه حياة ونمو‪ ،‬ثم الجماد أقل الموجودات درجة‪ ،‬وهو خادم‬
‫للنبات وللحيوان وللنسان‪ ،‬فكل جنس من هذه يخدم الجنس العلى منه‪.‬‬
‫فماذا فعل الكفار حينما عبدوا الصنام؟ جعلوا الجماد الذي هو أدنى المخلوقات أرقاها وأعظمها‪،‬‬
‫ل عقلً من هؤلء؟‬
‫جعلوه إلها ُيعْبد‪ ،‬وهل هناك أق ّ‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه‪َ } :‬بلِ اتّ َبعَ الّذِينَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3362 /‬‬

‫ضلّ اللّهُ َومَا َل ُهمْ مِنْ نَاصِرِينَ (‪)29‬‬


‫َبلِ اتّبَعَ الّذِينَ ظََلمُوا أَ ْهوَاءَهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ َفمَنْ َيهْدِي مَنْ َأ َ‬

‫ن ل منهجَ له ول تكليف‪ ،‬عبدا إلها ل أمر له ول نهي‪ ،‬ل‬


‫اتبعوا اهواءهم‪ :‬لنهم اختاروا عبادة مَ ْ‬
‫يرتب على التقصير عقوبة‪ ،‬ول على العمل ثوابا‪ ،‬وهذا كله من وحي الهوى الذي اتبعوه‪.‬‬
‫إياك أن تُقدّم الهوى على العقل؛ لنك حين تُقدّم الهوى يصير العقل عقلً تبريريا‪ ،‬يحاول أنْ‬
‫يعطيك ما تريد بصرف النظر عن عاقبته‪ ،‬لكن بالعقل أولً حدّد الهوى‪ ،‬ثم اجعل حركة حياتك‬
‫تبعا له‪.‬‬
‫والبعض يظن أن الهوى شيء مذموم على إطلقه‪ ،‬لكن الهوى الواحد غير مذموم‪ ،‬أما المذموم‬
‫فهي الهواء المتعددة المتضاربة؛ لن الهوى الواحد في القلب يُجنّد القالب كله لخدمة هذا الهوى‪،‬‬
‫فحين يكون هواى أنْ أذهب إلى مكان كذا‪ ،‬فإن القالب يسعى ويخطط لهذه الغاية‪ ،‬فيحدد الطريق‪،‬‬
‫ويُعد الزاد‪ ،‬ويأخذ بأسباب الوصول‪.‬‬
‫وهذا الهوى هو المعنىّ في الحديث الشريف‪ " :‬ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "‬
‫فالنبي صلى ال عليه وسلم لم يمنع أن يكون للنسان هوى تميل إليه نفسه وتحبه؛ لن ذلك الهوى‬
‫يُعينه على الجهاد والكفاح في حركة الحياة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أما حين تتعدد الهواء فَلَك محبوب‪ ،‬ولي محبوب آخر‪ ،‬فإنها ل شكّ تتعارض وتتعاند‪ ،‬وال تعالى‬
‫يريد من المجتمع اليماني أن تتساند كل أهوائه‪ ،‬وأن تتعاضد ل تتعارض‪ ،‬وأن تتضافر ل‬
‫تتضارب؛ لن تضارب الهواء يُبدّد حركة الحياة ويضيع ثمرتها‪.‬‬
‫أمّا إنْ كان هواي هو هواك‪ ،‬وهو هوى ليس بشريا‪ ،‬إنما هوى رسمه لنا الخالق ‪ -‬عز وجل ‪-‬‬
‫ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك‪:‬‬
‫فسوف نتفق فيه‪ ،‬وتثمر حركة حياتنا من خلله{ َألَ َيعَْلمُ مَنْ خََل َ‬
‫‪.]14‬‬
‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن صاحب الصّنْعة في الدنيا يجعل معها كتالوجا يُبيّن طريقة صيانتها‪ ،‬والحق ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬هو الذي خلقك‪ ،‬وهو الذي يُحدّد لك هواك‪ ،‬وأول فشل في الكون أن الناس‬
‫المخلوقين ل يريدون أنْ يضعوا للبشر قانون صيانتهم من عند أنفسهم‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬هذا ل يصح؛ لن الذي يُقنّن ويضع للناس ما يصونهم ينبغي أن تتوفر فيه شروط‪ :‬أولها‪:‬‬
‫أن يكون على علم محيط ل يستدرك عليه‪ ،‬وأنت أيها النسان عِلْمك محدود كثيرا ما تستدرك أنت‬
‫عليه بعد حين‪ ،‬ويتبين لك عدم مناسبته وعدم صلحيته‪.‬‬
‫بل وتبين أنت بنفسك فساد رأيك فترجع عنه إلى غيره‪ ،‬كما يجب على مَنْ يشرّع للناس الهوى‬
‫الوحد أن يكونوا جميعا بالنسبة له سواء‪ ،‬وأل ينتفع هو بما يشرّع‪ ،‬وإل لو كانت له منفعة فإنه‬
‫سوف يميل إلى ما ينفعه‪ ،‬فل يكون موضوعيا كما رأينا في الشيوعية وفي الرأسمالية وغيرها من‬
‫المذاهب البشرية‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬هو وحده الذي ل يُستْدرك عليه؛ لن علمه محيط بكل شيء ل تخْفى‬
‫خلْق جميعا الذين يشرع لهم أمامه سواء‪ ،‬وكلهم عباده‪ ،‬ل يحابي منهم أحدا‪ ،‬ول‬
‫عليه خافية‪ ،‬وال َ‬
‫يميز أحدا على أحد‪ ،‬وليس له سبحانه من خَلْقه صاحبة ول ولد‪.‬‬

‫ل وَلَدا }[الجن‪.]3 :‬‬


‫خ َذ صَاحِبَةً وَ َ‬
‫لذلك يطمئننا سبحانه بقوله‪ {:‬وَأَنّهُ َتعَالَىا جَدّ رَبّنَا مَا اتّ َ‬
‫وكأن ال تعالى يقول‪ :‬اطمئنوا‪ ،‬فربّكم ليس له صاحبة تُؤثّر عليه‪ ،‬ول ولد يُحابيه‪ ،‬فالصاحبة‬
‫والولد نقطة الضعف‪ ،‬وسبب الميْل في مسألة التشريع‪.‬‬
‫وكذلك هو سبحانه ل ينتفع بما يُشرّعه لنا‪ ،‬لنه سبحانه خلقنا بقدرته‪ ،‬وهو الغني عنّا ل تنفعه‬
‫طاعة الطائعين‪ ،‬ول تضره معصية العاصي‪ ،‬إذن‪ :‬فهو سبحانه وحده المستكمل لشروط التشريع‪،‬‬
‫والمستحق لها سبحانه‪ ،‬وبيان الهوى الواحد الذي يجتمع عليه كل الخَلْق‪.‬‬
‫وسبق أن ذكرنا في مسألة التشريع أنه ل ينبغي أن تنظر إلى ما ُأخِذ منك‪ ،‬بل قارن بين ما أخذتَ‬
‫وما أعطيتَ‪ ،‬فالذي منعك أنْ تعتدي على الخرين وأنت فرد واحد منع الخَلْق جميعا أنْ يعتدوا‬
‫عليك‪ ،‬فالتشريع إذن في صالحك أنت‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لو عقلنا لخذنا هوانا الواحد من إله واحد هو ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬لكن الخيبة أنهم ما استمعوا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا الكلم وما عقلوه‪.‬‬
‫} َبلِ اتّبَعَ الّذِينَ ظََلمُواْ أَ ْهوَآ َءهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ‪[ { ...‬الروم‪ ]29 :‬ظلموا لنهم عزلوا الهوى الواحد‪،‬‬
‫ت وتضاربت‪ ،‬فلم يصلوا منها إلى نتيجة‪.‬‬
‫ونَحّوه جانبا‪ ،‬وأخذوا أهواءً شتى تعارض ْ‬
‫وما ظلموا بالشرك إل أنفسهم‪ ،‬وال تعالى يقول‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان‪ ]13 :‬ظلموا‬
‫أنفسهم حينما أعطوها شهوة عاجلة ولذة فانية‪ ،‬وغفلوا عن عاقبة ذلك‪ ،‬فهم إما كارهون لنفسهم‪،‬‬
‫أو يحبونها حبا أحمق‪ ،‬وهذه آفة الهوى حينما يسبق العقل ويتحكم فيه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ِ } :‬بغَيْرِ عِلْمٍ‪[ { ...‬الروم‪ ]29 :‬أولً‪ :‬ما هو العلم؟ في الكون قضايا نجزم بها‪ ،‬فإنْ‬
‫كان ما نجزم به مطابقا للواقع ونستطيع أن ندلل عليه ‪ -‬كما نُعلّم مثلً الولد الصغير‪ :‬ال أحد‪،‬‬
‫فإن استطاع أن يدلل عليها فهي عِلْم‪ ،‬وإنْ لم يستطع فهي تقليد‪.‬‬
‫وكمن يقول مثلً‪ :‬الرض كروية وهي فعلً كذلك‪ ،‬أما مَنْ يكابر حتى الن ويقول ليست كروية‪،‬‬
‫والواقع أنها كروية‪ ،‬فهذا جهل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نقول ليس الجهل ألّ تعلم‪ ،‬إنما الجهل أنْ تععلم قضية على خلف الواقع؛ لذلك نُفرّق بين‬
‫الجاهل والمي‪ :‬المي خالي الذّهْن ليست لديه قضية من أساسه‪ ،‬فإنْ أخبرته بقضية أخذها منك‬
‫دون عناد‪ ،‬ودون مكابرة أمّا الجاهل فعنده قضية خاطئة معاندة‪ ،‬فيحتاج منك أولً لنْ تُخرِج‬
‫القضية الفاسدة لتُلِقي إليه بالقضية الصحيحة‪.‬‬
‫فإنْ كانت القضية ل تصل إلى مرتبة أنْ نجزم بها‪ ،‬فتنظر‪ :‬إنْ تساوي الثبات فيها مع النفي فهي‬
‫الشك‪ ،‬إذن‪ :‬فالشكّ قضية غير مجزوم بها يستوي فيها الثبات والنفي‪ ،‬فإنْ غلّ ْبتَ جانب الثبات‬
‫ورجّحته فهو ظن‪ ،‬أما إنْ غلّبت جانب النفي فهو وهم‪.‬‬

‫فعندنا ‪ -‬إذن ‪ -‬من أنواع القضايا‪ :‬علم‪ ،‬وجهل وتقليد‪ ،‬وظن‪ ،‬ووَهْم‪.‬‬
‫فالحق سبحانه يريد الهوى الذي تخدمه حركة حياتنا هوى عن علم وعن قضية مجزوم بها‪،‬‬
‫مطابقة للواقع‪ ،‬وعليها دليل‪ ،‬لكن ما دام هؤلء قد اتبعوا أهواءهم المتفرقة‪ ،‬وأخذوها بدون‬
‫ضلّ اللّهُ‪...‬‬
‫أصولها من العلم‪ ،‬فسوف أكمل لهم ما أرادوا وأعينهم على ما أحبّوا } َفمَن َيهْدِي مَنْ َأ َ‬
‫سقْنا لهم الدلة والبراهين‪.‬‬
‫{ [الروم‪ ]29 :‬فقد ألغواْ عقولهم وعطّلوها وعشقوا الكفر بعد ما ُ‬
‫إذن‪ :‬لم يَبْقَ إل أنْ أعينكم على ما تعتقدون‪ ،‬وأنْ أساعدكم عليه‪ ،‬فأختم على قلوبكم‪ ،‬فل يدخلها‬
‫إيمان ول يفارقها كفر‪ ،‬لنني رب أعين عبدي على ما يريد‪ .‬وهكذا يُضل ال هؤلء‪ ،‬بمعنى‪:‬‬
‫شقَوه‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬خَتَمَ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ‬
‫يعينهم على ما هم عليه من الضلل بعد أنْ عَ ِ‬
‫غشَا َوةٌ وََلهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }[البقرة‪.]7 :‬‬
‫س ْم ِعهِ ْم وَعَلَىا أَ ْبصَارِهِمْ ِ‬
‫وَعَلَىا َ‬
‫لذلك نحذر الذين يصابون بمصيبة‪ ،‬ثم ل يَسْلُون‪ ،‬ول ينسون‪ ،‬ويلزمون الحزن‪ ،‬نحذرهم ونقول‬
‫لهم‪ :‬ل تدعوا باب الحزن مفتوحا‪ ،‬وأغلقوه بمسامير الرضا‪ ،‬وإل تتابعتْ عليكم الحزان؛ لن ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تعالى رب يُعين عبده على ما يحب‪ ،‬حتى الساخط على قدره تعالى‪.‬‬
‫ضلّ اللّهُ‪[ { ...‬الروم‪ ]29 :‬يعني‪ :‬مَنْ ينقذه؟ ومَنْ يضع له قانون‬
‫فالمعنى } َفمَن َيهْدِي مَنْ َأ َ‬
‫صيانته إنْ تخلّى عنه ربه وتركه يفعل ما بدا له؟ ل أحد‪ .‬وأنت إذا نصحتَ صاحبك وكررتَ له‬
‫النصْح فلم يُطعْك تتخلى عنه‪ ،‬بل إن أحد الحكماء يقول‪ :‬انصح صاحبك من الصبح إلى الظهر‪،‬‬
‫ومن الظهر إلى العصر‪ ،‬فإنْ لم يطاوعك ضلّله ‪ -‬أو أكمل له بقية النهار غِشّا‪.‬‬
‫وسبق أن تحدثنا عن الطريقة الصحيحة في بحث القضايا لتصل إلى الحكم الصائب فيها‪ ،‬فل‬
‫تدخل إلى العلم بهوى سابق‪ ،‬بل أخرج كل ما في قلبك يؤيد هذه القضية أو يعارضها‪ ،‬ثم ابحث‬
‫القضية بموضوعية‪ ،‬فما تقتنع به الموازين العقلية وتُرجّحه أدخله إلى قلبك‪.‬‬
‫ل وفي القلب مَيْل للشيوعية مثلً‪ ،‬فننتهي إلى‬
‫والذي يُتعب الناس الن أن نناقش قضية السلم مث ً‬
‫نتيجة غير سليمة‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬ومَا َلهُمْ مّن نّاصِرِينَ { [الروم‪ ]29 :‬يعني‪ :‬يا ليت لهم مَنْ ينقذهم إنْ أضلّهم‬
‫ال فختم على قلوبهم‪ ،‬فل يدخلها إيمان‪ ،‬ول يخرج منها كفر‪ ،‬فليس لهم من ال نصير ينصرهم‪،‬‬
‫ول مجير يجيرهم من ال‪ ،‬وهو سبحانه يجير ول ُيجَار عليه‪.‬‬
‫ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفا فِطْ َرتَ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فََأ ِق ْم وَ ْ‬

‫(‪)3363 /‬‬

‫خلْقِ اللّهِ ذَِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّ ُم وََلكِنّ‬


‫ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفًا فِطْ َرةَ اللّهِ الّتِي َفطَرَ النّاسَ عَلَ ْيهَا لَا تَبْدِيلَ لِ َ‬
‫فََأقِ ْم وَ ْ‬
‫َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ (‪)30‬‬

‫الخطاب هنا للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬يا محمد‪ ،‬ما دام المر كذلك‪ ،‬وما داموا قد اتبعوا‬
‫أهواءهم وضلوا‪ ،‬وأصروا على ضللهم‪ ،‬فدَعْك منهم ول تتأثر بإعراضهم‪.‬‬
‫سكَ‬
‫خعٌ ّنفْ َ‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }[الشعراء‪ ]3 :‬وقال له‪ {:‬فََلعَّلكَ بَا ِ‬
‫كما قال له ربه‪َ {:‬لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫حدِيثِ أَسَفا }[الكهف‪.]6 :‬‬
‫عَلَىا آثَارِ ِهمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا الْ َ‬
‫فما عليك يا محمد إل البلغ‪ ،‬واتركهم لي‪ ،‬وإياك أن يؤثر فيك عنادهم‪ ،‬أو يحزنك أن يأتمروا‬
‫بك‪ ،‬أو يكيدوا لك‪ ،‬فقد سبق القول مني أنهم لن ينتصروا عليك‪ ،‬بل ستنتصر عليهم‪.‬‬
‫وهذه قضية قرآنية أقولها‪ ،‬وتُسجّل عليّ‪ {:‬وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ‬
‫ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪.]173-171 :‬‬
‫{ وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ‪[} ...‬الحج‪.]40 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُ ْركُمْ‪[} ...‬محمد‪.]7 :‬‬
‫هذه قضية قرآنية مُسلّم بها ومفروغ منها‪ ،‬وهي على ألسنتنا وفي قلوبنا‪ ،‬فإنْ جاء واقعنا مخالفا‬
‫لهذه القضية‪ ،‬فقد سبق أنْ أكدها واقع المم السابقة‪ ،‬وسيحدث معك مثل ذلك؛ لذلك يُطمئن الحق‬
‫جعُونَ }[غافر‪:‬‬
‫نبيه صلى ال عليه وسلم‪ {:‬فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُهُمْ َأوْ نَ َت َوفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا يُ ْر َ‬
‫‪.]77‬‬
‫عكَ من هؤلء الضالين‪ ،‬وتفرّغ لمهمتك في‬
‫ج َهكَ لِلدّينِ حَنِيفا‪[ } ...‬الروم‪ ]30 :‬أي‪ :‬د ْ‬
‫فهنا { فََأقِمْ وَ ْ‬
‫الدعوة إلى ال‪ ،‬وإياك أنْ يشغلوك عن دعوتك‪.‬‬
‫ومعنى إقامة الوجه للدين يعني‪ :‬اجعل وجهْتك لربك وحده‪ ،‬ول تلتفت عنه يمينا ول شمالً‪ ،‬وذكر‬
‫الوجه خاصة وهو يعني الذات كلها؛ لن الوجه سِمة القبال‪.‬‬
‫جهَهُ‪[} ...‬القصص‪ ]88 :‬يعني‪ :‬ذاته تعالى‪.‬‬
‫ل وَ ْ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ‬
‫ومنه قوله سبحانه‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫ومعنى { حَنِيفا‪[ } ...‬الروم‪ ]30 :‬هذه الكلمة من الكلمات التي أثارت تذبذبا عند الذين يحاولون أنْ‬
‫يستدركوا على كلم ال؛ لن معنى الحنيف‪ :‬مائل الساقين فترى في رِجلْه انحناء للداخل‪ ،‬يقال‪:‬‬
‫في قدمه حنف أي ميل‪ ،‬فالمعنى‪ :‬فأقم وجهك للدين مائلً‪ ،‬نعم هكذا المعنى‪ ،‬لكن مائلً عن أيّ‬
‫شيء؟‬
‫ل ُبدّ أن تفهم المعنى هنا‪ ،‬حتى ل تتهم أسلوب القرآن‪ ،‬فإن الرسول صلى ال عليه وسلم جاء‬
‫ليصلح مجتمعا فاسدا منحرفا يدين بالشرك والوثنية‪ ،‬فالمعنى‪ :‬مائلً عن هذا الفساد‪ ،‬ومائلً عن‬
‫هذا الشرك‪ ،‬وهذه الوثنية التي جئت لهدمها والقضاء عليها‪ ،‬ومعنى‪ :‬مال عن الباطل‪ .‬يعني‪ :‬ذهب‬
‫إلى الحق‪.‬‬
‫و (َأقِمْ) هنا بمعنى‪ :‬أقيموا‪ ،‬لن خطاب الرسول خطاب لمته‪ ،‬بدليل أنه سبحانه سيقول في الية‬
‫بعدها‪ {:‬مُنِيبِينَ إِلَيْهِ‪[} ...‬الروم‪ ]31 :‬ولو كان المر له وحده لَقالَ منيبا إليه‪ ،‬ومثال ذلك أيضا قوله‬
‫تعالى‪ {:‬ياأ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ َفطَّلقُوهُنّ ِل ِعدّ ِتهِنّ‪[} ...‬الطلق‪.]1 :‬‬
‫فالخطاب للمة كلها في شخص رسول ال؛ لنه صلى ال عليه وسلم هو المبلّغ‪ ،‬والمبلّغ هو الذي‬
‫يتلقى المر‪ ،‬ويقتنع به أولً ليستطيع أنْ يُبلّغه؛ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى‪ّ {:‬لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي‬
‫س َوةٌ حَسَ َنةٌ‪} ...‬‬
‫رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ‬

‫[الحزاب‪.]21 :‬‬
‫وقال } حَنِيفا‪[ { ...‬الروم‪ ]30 :‬لن الرسل ل تأتي إل على فساد شمل الناس جميعا؛ لن الحق‬
‫سبحانه كما خلق في الجسم مناعة مادية خلق فيه مناعة قيمية‪ ،‬فالنسان تُحدّثه نفسه بشهوة وتغلبه‬
‫عليها‪ ،‬فيقع فيها‪ ،‬لكن ساعة ينتهي منها يندم عليها ويُؤنّبه ضميره‪ ،‬فيبكي على ما كان منه‪ ،‬وربما‬
‫يكره من أعانه على المعصية‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذه هي النفس اللوامة‪ ،‬وهي علمة وجود الخير في النسان‪ ،‬وهذه هي المناعة الذاتية التي‬
‫تصدر من الذات‪.‬‬
‫وفَرْق بين مَنْ تنزل عليه المعصية وتعترض طريقه‪ ،‬ومَنْ يُرتّب لها ويسعى إليها‪ ،‬وهذا بيّن في‬
‫جهَاَلةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ‪[} ...‬النساء‪:‬‬
‫قوله تعالى‪ {:‬إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ بِ َ‬
‫‪.]17‬‬
‫فَرْق بين مَنْ يذهب إلى باريس لطلب العلم‪ ،‬فتعترض طريقه إحدى الفتيات‪ ،‬ومَنْ يذهب إلى‬
‫باريس لنه سمع عما فيها من إغراء‪ ،‬فهذا وقع في المعصية رغما عنه‪ ،‬ودون ترتيب لها‪ ،‬وهذا‬
‫قصدها وسعى إليها‪ ،‬الول غالبا ما يُؤنّب نفسه وتتحرك بداخله النفس اللوامة والمناعة الذاتية‪ ،‬أما‬
‫الخر فقد أِل َفتْ نفسه المعصية واستشرتْ فيها‪ ،‬فل بُدّ أن تكون له مناعة‪ ،‬ليست من ذاته‪ ،‬بل من‬
‫المجتمع المحيط به‪ ،‬على المجتمع أن يمنعه‪ ،‬وأن يضرب على يديه‪.‬‬
‫والمناعة في المجتمع ل تعني أن يكون مجتمعا مثاليا ل يعرف المعصية‪ ،‬بل تحدث منه‬
‫المعاصي‪ ،‬لكنها مُفرّقة على أهواء الناس‪ ،‬فهذا يميل إلى السرقة‪ ،‬وهذا يميل إلى النظر إلى‬
‫المحرمات‪ ،‬وهذا يحب كذا‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ففي الناس مواطن القوة‪ ،‬ومواطن ضعف‪ ،‬وعلى القوي في شيء أن يمنع الضعيف فيه‪ ،‬وأنْ‬
‫عمِلُواْ‬
‫ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫يزجره ويُقومّه؛ لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ‬
‫صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر‪.]3-1 :‬‬
‫ق وَ َتوَا َ‬
‫ت وَ َتوَاصَوْاْ بِا ْلحَ ّ‬
‫الصّالِحَا ِ‬
‫عمّ الفساد وطَمّ كما قال تعالى عن اليهود‪ {:‬كَانُو ْا لَ يَتَنَا َهوْنَ عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ‪[} ...‬المائدة‪:‬‬
‫فإذا َ‬
‫‪ ]79‬وفقد المجتمع أيضا مناعته‪ .‬فل بُدّ أنْ تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة‪ ،‬لينقذ‬
‫هؤلء‪.‬‬
‫علَ ْيهَا‪[ { ...‬الروم‪ ]30 :‬فنحن نرى البشر يتخذون‬
‫ثم يقول تعالى‪ِ } :‬فطْ َرتَ اللّهِ الّتِي َفطَرَ النّاسَ َ‬
‫الطعوم والمصال للتحصين من المراض‪ ،‬كذلك الحق سبحانه ‪ -‬وله المثل العلى ‪ -‬جعل هذا‬
‫المصل التطعيمي في كل نفس بشرية‪ ،‬حتى في التكوين المادي‪.‬‬
‫أل ترى قوله تعالى في تكوين النسان‪ {:‬ياأَ ّيهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَ ْيبٍ مّنَ الْ َب ْعثِ فَإِنّا خََلقْنَاكُمْ مّن‬
‫خّلقَةٍ‪[} ...‬الحج‪.]5 :‬‬
‫ضغَةٍ مّخَّلقَ ٍة وَغَيْرِ مُ َ‬
‫طفَةٍ ثُمّ مِنْ عََلقَةٍ ُثمّ مِن ّم ْ‬
‫تُرَابٍ ثُمّ مِن نّ ْ‬
‫فالمخلّقة هي التي تكوّن العضاء‪ ،‬وغير المُخلّقة هي الرصيد المختزن في الجسم‪ ،‬وبه يعوّض‬
‫أيّ خلل في العضاء المخلّقة‪ ،‬فهي التي تمده بما يصلحه‪ ،‬كذلك في القيم جاء دين ال فطرت ال‬
‫التي فطر الناس عليها‪ ،‬فإذا تدخلتْ الهواء وحدثتْ الغفلة جاءتْ المناعة‪ ،‬إما من ذات النفس‪،‬‬
‫وإما من المجتمع‪ ،‬وإما برسول ومنهج جديد‪.‬‬

‫وقد كرّم ال أمة محمد بأن يكون رسولُها خاتَم الرسل‪ ،‬فهذه بُشْرى لنا بأن الخير باقٍ فينا‪ ،‬ول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يزال في يوم القيامة‪ ،‬ولن يفسد مجتمع المسلمين أبدا بحيث يفقد كله هذه المناعة‪ ،‬فإذا فسدتْ فيه‬
‫طائفة وجدت أخرى تُقوّمها‪ ،‬وهذا واضح في قول النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫" ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق‪ ،‬ل يضرهم من خذلهم‪ ،‬حتى يأتي أمر ال وهم‬
‫كذلك "‪.‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة "‪.‬‬
‫عمّ الفساد هذه المة لقتضى المر شيئا آخر‪.‬‬
‫وإل لو َ‬
‫وحين نقرأ الية نجد أن كلمة } ِفطْ َرتَ‪[ { ...‬الروم‪ ]30 :‬منصوبة‪ ،‬ولم يتقدم عليها ما ينصبها‪،‬‬
‫فلماذا ُنصِ َبتْ؟ السلوب هنا يريد أن يلفتك لسبب النصب‪ ،‬وللفعل المحذوف هنا‪ ،‬لتبحث عنه‬
‫بنفسك‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬فأقم وجهك للدين حنيفا والزم فطرت ال التي فطر الناس عليها‪.‬‬
‫لذلك يسمي علماء النحو هذا السلوب أسلوب الغراء‪ ،‬وهو أن أغريك بأمر محبوب وأحثّك على‬
‫ِفعْله‪ ،‬كذلك الحق سبحانه يغري رسوله صلى ال عليه وسلم بأنْ يُقيم وجهه نحو الدين الخالص‪،‬‬
‫وأنْ يلزم فطرت ال‪ ،‬وأل يلتفت إلى هؤلء المفسدين‪ ،‬أو المعوّقين له‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‪[} ...‬يوسف‪ ]101 :‬يعني‪:‬‬
‫والفطرة‪ :‬يعني الخلقة كما قال سبحانه‪ {:‬فَاطِرَ ال ّ‬
‫ن وَالِنسَ ِإلّ لِ َيعْبُدُونِ }[الذاريات‪.]56 :‬‬
‫خالقهما‪ ،‬والفطرة المرادة هنا قوله تعالى‪َ {:‬ومَا خََل ْقتُ ا ْلجِ ّ‬
‫فالزم هذه الفطرة‪ ،‬واعلم أنك مخلوق للعبادة‪.‬‬
‫أو‪ :‬أن فطرت ال تعني‪ :‬الطبيعة التي أودعها ال في تكوينك منذ خلق الُ آدم‪ ،‬وخلق منه ذريته‪،‬‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا‪[} ...‬العراف‪.]172 :‬‬
‫وأشهدهم على أنفسهم{ أَلَ ْ‬
‫وسبق أنْ بيّنا كيف أن في كل منا ذرة حية من أبينا آدم باقية في كل واحد منا‪ ،‬فالنسان ل ينشأ‬
‫إل من الميكروب الذكري الحي الذي يُخصّب البويضة‪ ،‬وحين تسلسل هذه العملية ل ُبدّ أن تصل‬
‫بها إلى آدم عليه السلم‪.‬‬
‫وهذه الذرة الباقية في كل منا هي التي شهدتْ العهد الول الذي أخذه ال علينا‪ ،‬وإل فالكفار في‬
‫الجاهلية الذين جاء رسول ال لهدايتهم‪ ،‬كيف اعترفوا ل تعالى بالخلق‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ‪[} ...‬الزمر‪.]38 :‬‬
‫ال ّ‬
‫من أين عرفوا هذه الحقيقة؟ ُنقِلت إليهم من هذا العهد الول‪ ،‬فمنذ هذا العهد لم يجرؤ أحد من خَلْق‬
‫ال أنْ يدّعي هذا الخَلْق لنفسه‪ ،‬فظلت هذه القضية سليمة في الذهان مع ما حدث من فساد في‬
‫معتقدات البشر‪.‬‬
‫وتظل هذه القضية قائمة بالبقية الباقية من هذا العهد الول‪ ،‬حتى عند الكفار والملحدة‪ ،‬فحين‬
‫تكتنفهم الحداث وتضيق بهم أسبابهم‪ ،‬تراهم يقولون وبل شعور‪ :‬يا رب‪ ،‬ل يدْعون صنما ول‬
‫شجرا‪ ،‬ول يذهبون إلى آلهتهم التي اصطنعوها‪ ،‬فهم يعلمون أنها كذب في كذب‪ ،‬ونصب في‬
‫نصب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والن ل يخدعون أنفسهم ول يكذبون عليها‪ ،‬الن وفي وقت الشدة وحلول الكرب ليس إل ال‬
‫يلجئون إليه‪ ،‬ليس إل الحق والفطرة السليمة التي فطر ال الناس عليها‪.‬‬
‫وما دام ال قد فطرنا على هذه الفطرة‪ ،‬فل تبديل لما أراده سبحانه‪ } :‬ذَِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ‪[ { ...‬الروم‪:‬‬
‫س لَ َيعَْلمُونَ { [الروم‪ ]30 :‬أي‪ :‬ل يعلمون العلم على‬
‫‪ ]30‬أي‪ :‬الدين الحق } وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫حقيقته والتي بيّناها أنها الجزم بقضية مطابقة للواقع‪ ،‬ويمكن إقامة الدليل عليها‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬مُنِيبِينَ إِلَيْ ِه وَا ّتقُوهُ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3364 /‬‬

‫مُنِيبِينَ إِلَيْ ِه وَا ّتقُوهُ وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَلَا َتكُونُوا مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ (‪)31‬‬

‫أناب‪ :‬يعني رجع وقطع صلته بغير الحق { إِلَيْهِ‪[ } ...‬الروم‪ ]31 :‬إلى ال‪ ،‬فل علقة له بالخَلْق‬
‫في مسألة العقائد‪ ،‬فجعل كل علقته بال‪.‬‬
‫ومنه يسمون الناب؛ لنه يقطع الشياء‪ ،‬ويقولون‪ :‬ناب إلى الرشد‪,،‬وثاب إلى رشده‪ ،‬كلها بمعنى‪:‬‬
‫رجع‪ ،‬وما دام هناك رجوع فهناك أصل يُرجع إليه‪ ،‬وهو أصل الفطرة‪.‬‬
‫وقوله تعالى { وَا ّتقُوهُ‪[ } ...‬الروم‪ ]31 :‬لنه ل يجوز أنْ تنيب إلى ال‪ ،‬وأن ترجع إليه‪ ،‬وأن‬
‫تجعله في بالك ثم تنصرف عن منهجه الذي شرّعه لينظم حركة حياتك‪ ،‬فالنابة وحدها واليمان‬
‫بال ل يكفيان؛ بل ل ُبدّ من تطبيق المنهج بتقوى ال‪ ،‬لذلك كثيرا ما يجمع القرآن بين اليمان‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ‪[} ...‬الشعراء‪.]227 :‬‬
‫والعمل الصالح‪ِ {:‬إلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫لن فائدة اليمان وثمرته بعد أن تؤمن بالله الحق‪ ،‬وأن منهجه هو الصدق‪ ،‬وفيه نفعك وسلمتك‬
‫في حركة حياتك‪ ،‬وأنه الذي يُوصلّك إلى سعادة الدارين‪ ،‬ول معنى لهذا كله إل بالعمل والتطبيق‪.‬‬
‫{ وَا ّتقُوهُ‪[ } ...‬الروم‪ ]31 :‬أي‪ :‬اتقوا غضبه‪ ،‬واجعلوا بينكم وبين غضب ال وقاية‪ ،‬وهذه الوقاية‬
‫تتحقق باتباع المنهج في افعل ول تفعل‪ .‬وسبق أن تكلمنا في معنى التقوى وكلنا‪ :‬إنها تحمل‬
‫معنيين يظن البعض أنهما متضاربان حين نقول‪ :‬اتقوا ال‪ .‬واتقوا النار‪ .‬لكن المعنى واحد في‬
‫النهاية؛ لن معنى اتق ال‪ :‬اجعل بينك وبين عذاب ال وغضبه وقاية‪ ،‬وهذا نفسه معنى‪ :‬اتق‬
‫النار‪ .‬يعني‪ :‬ابتعد عن اسبابها حتى ل تمسّك‪.‬‬
‫لةَ‪[ } ...‬الروم‪ ]31 :‬أقيموا الصلة أدّوها على الوجه الكمل‪ ،‬وأدّوها‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وََأقِيمُواْ الصّ َ‬
‫على ما أُحبّ منكم في أدائها‪ ،‬فساعة أناديك‪ :‬ال أكبر يجب أن تقبل عليّ‪ ،‬وأنت حين تُلبّي النداء‬
‫ل تأتي لتعينني على شيء‪ ،‬ول أنتفع بك في شيء‪ ،‬إنما تنتفع أنت بهذا اللقاء‪ ،‬وتستمد مني العون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والقوة‪ ،‬وتأخذ شحنة إيمان ويقين من ربك‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬ما تصورك للة تُعرَض على صانعها كل يوم خمس مرات أيبقى بها عَطَب؟ لذلك يُعلّمنا‬
‫نبينا صلى ال عليه وسلم أنه إذا حزبنا أمر أن نهرع إلى الصلة‪ ،‬وكذلك كان يفعل صلى ال‬
‫عليه وسلم إذا عزّ عليه شيء‪ ،‬أو ضاقت به السباب‪ ،‬وإل فما معنى اليمان بال إنْ لم تلجأ إليه‪.‬‬
‫وما دام ربك غيبا‪ ،‬فهو سبحانه يُصلحك بالغيب أيضا‪ ،‬ومن حيث ل تدري؛ لذلك أمرنا ربنا بإقامة‬
‫الصلة‪ ،‬وجعلها عماد الدين والركْن الذي ل يسقط عنك بحال‪ ،‬فالزكاة والحج مثلً يسقطان عن‬
‫الفقير وعن غير القادر‪ ،‬والصوم يسقط عن المريض أو المسافر‪ ،‬في حين مرضه أو سفره‪ ،‬ثم‬
‫يقضيه بعد انقضاء سبب الفطار‪.‬‬
‫أما الصلة فهي الركْن الدائم‪ ،‬ليس مرة واحدة في العمر‪ ،‬ول مرة واحدة في العام‪ ،‬إنما خمس‬
‫مرات في اليوم والليلة‪ ،‬فبها يكون إعلن الولء ل تعالى إعلنا دائما‪ ،‬وهذا إنْ دلّ فإنما يدل على‬
‫عظمة النسان ومكانته عند ربه وخالقه‪.‬‬

‫وسبق أن قلنا‪ :‬إنك إنْ أردتَ مقابلة أحد المسئولين أو أصحاب المنزلة كم تعاني ليُؤذَن لك‪ ،‬ول ُبدّ‬
‫أن يُحدّد لك الموعد والمكان‪ ،‬بل وموضوع المقابلة وما ستقوله فيها‪ ،‬ثم لصاحب المقابلة أنْ‬
‫يُنهيها متى يشاء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل تملك من عناصر هذا اللقاء شيئا؟ أما في لقائك بربك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فالمر على خلف‬
‫ذلك‪ ،‬فربّك هو الذي يطلبك ويناديك لتُقبل عليه‪ ،‬ل مرة واحدة بل خمس مرات كل يوم‪ ،‬ويسمح‬
‫لك أنْ تناجيه بما تحب‪ ،‬وتطلب منه ما تريد‪.‬‬
‫ن تعتكف في بيت‬
‫ولك أن تنهي أنت المقابلة بقولك‪ :‬السلم عليكم‪ ،‬فإنْ أحببتَ أن تطيل اللقاء‪ ،‬أو أ ْ‬
‫ربك فإنه سبحانه ل يملّ حتى تملّوا‪ ،‬فهذه ‪ -‬إذن ‪ -‬ليست عبودية‪ ،‬بل عزّ وسيادة‪.‬‬
‫سبُ َنفْسِي عِزّا بأنّي عَبْدٌ يح َتفِي بي بلَ مَواعِيدَ رَ ّب ُهوَ‬
‫حْ‬‫وما أجملَ ما قاله الشاعر في هذا المعنى‪َ :‬‬
‫في ُقدْسِهِ العَزّ ولكِنْ أنَا َألْقى متَى وأيْنَ ُأحِبّولن للصلة هذه المنزلة بين أركان السلم لم‬
‫ضتْ مباشرة من ال تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حين‬
‫تُفرض بالوحي كباقي الركان‪ ،‬إنما فُر َ‬
‫استدعاه ربه للقائه في السماء في رحلة المعراج‪.‬‬
‫وسبق أنْ مثّلنا لذلك ‪ -‬ول تعالى المثل العلى ‪ -‬برئيس العمل الذي يُلقي أوامره بالتليفون‪ ،‬أو‬
‫بتأشيره على ورقة‪ ،‬فإنْ تعرّض لمر هام استدعى الموظف المختص إلى مكتبه‪ ،‬وأعطاه المر‬
‫ضتْ على سيدنا رسول ال بالتكليف المباشر‪.‬‬
‫مباشرة لهميته‪ ،‬كذلك كانت الصلة‪ ،‬وكذلك فُ ِر َ‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬ولَ َتكُونُواْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { [الروم‪ ]31 :‬وهنا وقفة‪ :‬فكيف بعد النابة إلى ال‬
‫والتقوى‪ ،‬وبعد المر بإقامة الصلة يقول } َولَ َتكُونُواْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { [الروم‪]31 :‬؟ وأين الشرك‬
‫ممّنْ يُؤدّي التعاليم على هذا الوجه؟ قالوا‪ :‬الشرك المنهيّ عنه هنا ليس الشراك مع ال إلها آخر‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنما أشركوا مع ال نية أخرى‪ ،‬فالشراك هنا بمعنى الرياء‪ ،‬والنظر إلى الناس ل إلى ال‪.‬‬
‫لذلك يقولون‪ :‬العمل من أجل الناس رياء‪ ،‬وترْك العمل من أجل الناس شرك‪ ،‬فالذي يصلي أو‬
‫يبني ل مسجدا للشهرة‪ ،‬وليحمده الناس فهو مُراءٍ‪ ،‬وهو خائب خاسر؛ لن الناس انتفعوا بعمله ولم‬
‫يُحصّل هو من عمله شيئا‪.‬‬
‫خ ْوفَ أن يُتّهم بالرياء‪،‬‬
‫أما مَنْ يترك العمل خوفا من الوقوع في الرياء‪ ،‬فيمتنع عن الزكاة مثلً‪َ ،‬‬
‫فهو والعياذ بال مشرك‪ ،‬لن الناس ينتفعون بالعمل حتى وإنْ كان رياءً‪ ،‬لكن إنِ امتنعتَ عن‬
‫العمل فل ينتفع الناس منك بشيء‪.‬‬
‫فالمعنى‪ } :‬وَلَ َتكُونُواْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { [الروم‪ ]31 :‬أي‪ :‬الشرك الخفي وهو الرياء؛ لذلك رأينا‬
‫سيدنا رسول ال وهو السوة للمة اليمانية يدعو ربه ويقول‬

‫" اللهم إنّي أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك "‪.‬‬
‫ن يفعل‬
‫فالعمل اليماني ما كان ل خالصا‪ ،‬وعلى َقدْر الخلص يكون الجزاء‪ ،‬فمن الناس مَ ْ‬
‫الصلح فيوافق شيئا في نفسه‪ ،‬كأن يساعده على استقامة الحياة أو على التوفير في النفقات أو‬
‫غير ذلك؛ فيستمر عليه‪ ،‬ل ل إنما لمصلحته هو‪.‬‬
‫طمَأَنّ ِب ِه وَإِنْ‬
‫وفي هؤلء يقول تعالى‪َ {:‬ومِنَ النّاسِ مَن َيعْبُدُ اللّهَ عَلَىا حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ‬
‫جهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا وَالَخِ َرةَ ذاِلكَ ُهوَ ا ْلخُسْرَانُ ا ْلمُبِينُ }[الحج‪.]11 :‬‬
‫َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ا ْنقَلَبَ عَلَىا وَ ْ‬
‫وكالتاجر الذي يلتزم الصدق في تجارته‪ ،‬ل حبا في الصدق ذاته‪ ،‬إنما طمعا في الشهرة والصّيت‬
‫وكَسْب المزيد من الزبائن‪ ،‬ومثل هؤلء ينالون من الدنيا على قَدْر سعيهم لها‪ ،‬ول يحرمهم الُ‬
‫ثمرةَ مجهوداتهم‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ َلهُ فِي حَرْثِهِ َومَن كَانَ يُرِيدُ‬
‫حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى‪.]20 :‬‬
‫فما أشبه الناس في نياتهم من العمال بركْب يقصدون وجهة واحدة‪ ،‬لكن لكل منهم غاية يسعى‬
‫إليها‪ ،‬فهذا يسعى للطعام أو أكلة شهية‪ ،‬وهذا يسعى لمرأة جميلة‪ ،‬وهذا يسعى لدرْس علم ينتفع‬
‫به‪ ،‬وآخر يسعى لرؤية مَنْ يحب‪ ،‬وقد عبّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله‪َ :‬قصَ ْدتُ بالر ْكبِ مَنْ‬
‫ن أؤملُهُ عَيْني تَرَا ُه َووُجَْدَاني‬
‫لقِي مَ ْ‬
‫خذُوا ما حَظكم فِيهِلكِنْ دَعُوني ُأ َ‬
‫أَهْوى وقُ ْلتُ َلهُم هَيّا كُلوا و ُ‬
‫يُنَاجِيهِكذلك الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يريد من عبده أنْ يقصده لذَاته‪ ،‬ل خوفا من ناره‪ ،‬ول طمعا‬
‫في جنته‪ ،‬وفَرْق بين أن تنعم بنعمة ال‪ ،‬وأن تنعم بالنظر إلى ال‪ ،‬فأنت في الجنة تأكل‪ ،‬ل عن‬
‫جوع ول عن حاجة‪ ،‬إنما لمجرد التنعّم‪.‬‬
‫حسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتا َبلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَ ّب ِهمْ‬
‫لذلك يقول سبحانه عن الشهداء‪َ {:‬ولَ تَ ْ‬
‫يُرْ َزقُونَ }[آل عمران‪ ]169 :‬فتكفيهم هذه العندية‪ ،‬وأنْ ينظروا إلى ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ن كنتَ‬
‫ن كنتَ تعلم أنّي أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها‪ ،‬وإ ْ‬
‫لذلك تقول رابعة العدوية‪ :‬اللهم إ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تعلم أني أعبدك خوفا من نارك فأدخِلني فيها‪ ،‬لكني أعبدك لنك أحقّ أنْ تُعبدَ‪.‬‬
‫ول شكّ أن القليل من الناس يخلصون النية ل‪ ،‬وأن الغالبية يعملون العمل كما اتفق على أية نية‪،‬‬
‫ل وَهُمْ‬
‫ل تعنيهم هذه المسألة‪ ،‬ول يهتمون بها‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬ومَا ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُهُمْ بِاللّهِ ِإ ّ‬
‫مّشْ ِركُونَ }[يوسف‪.]106 :‬‬

‫(‪)3365 /‬‬

‫مِنَ الّذِينَ فَ ّرقُوا دِي َنهُ ْم َوكَانُوا شِ َيعًا ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا لَدَ ْي ِهمْ فَرِحُونَ (‪)32‬‬

‫فرّقوا دينهم كالركْب الذين اختلفتْ وجهاتهم ونياتهم { َوكَانُواْ شِيَعا‪[ } ...‬الروم‪ ]32 :‬جمع شيعة‪،‬‬
‫وهم الجماعة المتعاونة على أمر من المور‪ ،‬خيرا كان أو شرا‪ ،‬خيرا مثل قوله تعالى‪ {:‬وَإِنّ مِن‬
‫شِيعَتِ ِه لِبْرَاهِيمَ }[الصافات‪.]83 :‬‬
‫ج َعلَ َأهَْلهَا شِيَعا‪[} ...‬القصص‪.]4 :‬‬
‫عوْنَ عَلَ فِي الَ ْرضِ وَ َ‬
‫أو شرا مثل‪ {:‬إِنّ فِرْ َ‬
‫حتِ أَ ْرجُِلكُمْ َأوْ‬
‫عذَابا مّن َف ْو ِقكُمْ َأوْ مِن تَ ْ‬
‫وفي آية أخرى‪ُ {:‬قلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ عَلَىا أَن يَ ْب َعثَ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ‪[} ...‬النعام‪.]65 :‬‬
‫سكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ َب ْع َ‬
‫يَلْبِ َ‬
‫وقوله تعالى‪ُ { :‬كلّ حِ ْزبٍ ِبمَا لَدَ ْيهِمْ فَرِحُونَ } [الروم‪ ]32 :‬لما لهم من سلطة زمنية‪ ،‬ولما لهم من‬
‫مكانة يخافون أنْ تهتز كالسلطة الزمنية التي منعتْ يهود المدينة من اليمان برسول ال‪ ،‬مع أنهم‬
‫كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويعرفون زمانه‪ ،‬وكانوا يقيمون بالمدينة ينتظرون ظهوره‪،‬‬
‫وكل ذلك عندهم في التوراة‪ ،‬حتى إنهم كانوا يصطدمون بعبدة الصنام‪ ،‬فيقولون لهم‪ .‬لقد أطلّ‬
‫زمن نبي يظهر آخر الزمان سنتبعه‪ ،‬ونقتلكم به قتْل عاد وإرم‪.‬‬
‫{ فََلمّا جَآءَ ُهمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ بِهِ‪[} ...‬البقرة‪.]89 :‬‬
‫لماذا؟ حفاظا على سلطتهم الزمنية‪ ،‬وقد كانوا أهل علم وغِنيً ومكانة‪ ،‬فلما بُعث محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم ألغى هذه السلطة‪ ،‬فل كلم بعد كلمه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أما مَنْ ثبت منهم على‬
‫دينه الحق‪ ،‬وعمل بما في التوراة فقد آمن بمحمد كعبد ال بن سلم وغيره من أحبار اليهود‪.‬‬
‫فالسلطة الزمنية هي التي حالتْ بين الناس وبين الحق الذي يؤمنون به‪ ،‬وهذه السلطة الزمنية هي‬
‫التي نراها الن في هذه الفِرَق والحزاب التي يدّعي كل منها أنها على الحق وما سواها على‬
‫الباطل‪.‬‬
‫ض َومَن فِيهِنّ‪[} ...‬المؤمنون‪.]71 :‬‬
‫ت وَالَرْ ُ‬
‫سمَاوَا ُ‬
‫حقّ أَ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وََلوِ اتّ َبعَ الْ َ‬
‫فكل منهم يناطح الخرين ليعلي مذهبه‪ ،‬ويظهر هو على الساحة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بعد ذلك يُبيّن لنا الحق سبحانه أن الذين يكفرون بال‪ ،‬أو يتمردون على منهج ال يظلون هكذا‬
‫أسْرى هذه السلطة الزمنية‪ ،‬فإذا أصابتهم هزة أو بلء ل تقوى أسبابهم على دفعه لم يجدوا ملجأ‬
‫س ضُرّ‪.} ...‬‬
‫إل ال‪ ،‬فقال سبحانه‪ { :‬وَإِذَا مَسّ النّا َ‬

‫(‪)3366 /‬‬

‫حمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ بِرَ ّبهِمْ يُشْ ِركُونَ‬


‫عوْا رَ ّبهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ُثمّ إِذَا أَذَا َقهُمْ مِ ْنهُ رَ ْ‬
‫س ضُرّ دَ َ‬
‫وَإِذَا مَسّ النّا َ‬
‫(‪)33‬‬

‫الضر‪ :‬هو الشيء الذي نتضرر منه‪ ،‬ول تستطيبه النفس‪ ،‬فإنْ أصابهم الضر وأسبابهم ل تفي‬
‫عوْاْ رَ ّب ُهمْ مّنِيبِينَ إِلَيْهِ‪[ } ...‬الروم‪ ]33 :‬أي‪ :‬رجعوا إليه سبحانه‪ ،‬والن علموا‬
‫بالخلص منه { دَ َ‬
‫أن لهم ربا يلجئون إليه‪ ،‬وهذا يُذكّرنا بما قاله العرب عندما فتر الوحي عن رسول ال‪ ،‬فسرّهم‬
‫ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن رب محمد قله‪ .‬سبحان ال الن عرفتم أن لمحمد ربا‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن ساعة الضيق والمحنة ل َيكْذب النسان نفسه ول يخدعها‪ ،‬وسبق أنْ ذكرنا قصة حلق‬
‫الصحة الذي كان يحلّ محلّ الطبيب الن‪ ،‬فلما أنشئت كليات للطب وخرّجت أطباء‪ ،‬وذهب أحدهم‬
‫إلى قرية الحلق‪ ،‬فأخذ الحلق يهاجمه ويدّعي أنه حديث ل خبرةَ له‪ ،‬فلما مرض ابنه وأحسّ‬
‫خفْية في ظلم الليل‪ ،‬وذهب به إلى الطبيب‪ ،‬لماذا؟ لنه لن يغشّ نفسه في هذه‬
‫بالخطر أخذه ُ‬
‫اللحظة‪.‬‬
‫حمَةً ِإذَا فَرِيقٌ مّ ْنهُمْ بِرَ ّبهِمْ يُشْ ِركُونَ } [الروم‪ ]33 :‬أي‪ :‬يعودون إلى ما كانوا‬
‫{ ُثمّ إِذَآ أَذَا َقهُمْ مّنْهُ َر ْ‬
‫عليه من الشرك بال‪.‬‬
‫س الِنسَانَ‬
‫وحين نتأمل هذه المسألة نجد أن القرآن عرضها مرة بصيغة الفراد‪ ،‬فقال‪ {:‬وَِإذَا مَ ّ‬
‫ضُرّ دَعَا رَبّهُ مُنِيبا‪[} ....‬الزمر‪.]8 :‬‬
‫شفْنَا عَنْهُ ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ‬
‫وقال‪ {:‬وَِإذَا مَ ّ‬
‫يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ‪[} ...‬يونس‪.]12 :‬‬
‫لكن الكلم عن النسان المفرد ل يكفي لثبات الظاهرة؛ لن النسان الواحد يمكن أن يستذل أمام‬
‫ربه‪ ،‬ويعود إليه بعد أنْ تجرّأ على معصيته‪ ،‬يكون ذلك بينه وبين نفسه‪ ،‬فل يفضح نفسه أمام‬
‫الناس‪ ،‬فأراد سبحانه أنْ يثبت هذه المسألة عند الناس جميعا؛ ليفضح بعضهم بعضا‪ ،‬فذكر هنا‬
‫عوْاْ رَ ّبهُمْ مّنِيبِينَ إِلَ ْيهِ‪[ } ...‬الروم‪.]33 :‬‬
‫س ضُرّ دَ َ‬
‫{ وَإِذَا مَسّ النّا َ‬
‫عوُاْ اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ فََلمّا َنجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ‬
‫وفي آية أخرى‪ {:‬فَإِذَا َركِبُواْ فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يُشْ ِركُونَ }[العنكبوت‪.]65 :‬‬
‫فجاء بصيغة الجمع ليفضح الكافرين بعضهم أمام بعض‪ ،‬وقد يكون في هؤلء الداعين مَنْ كان‬
‫يُؤلّبهم على ال‪ ،‬ويصرفهم عن اليمان به‪ ،‬وها هو الن يدعو ويتضرع‪ ،‬وحين يُفتضح أمرهم‬
‫يكون ذلك أَدْعى لستقامتهم وأدعى ألّ يتكبر أحد على أحد‪.‬‬
‫لذلك قلنا في ميزات الصلة أنها تُسوّي بين الناس‪ ،‬فيجلس الرجل العادي بجوار مَنْ لم يكُن ُي ْؤمَل‬
‫أنْ يجلس بجواره‪ ،‬ويجده خاضعا معه مطاوعا للمام‪ ..‬الخ ففي الصلة‪ ،‬الجميع سواء‪ ،‬والجميع‬
‫منتفع بهذه المساواة‪ ،‬آخذ منها عبرة‪ ،‬فل يتكبر بعدها أحد على أحد‪.‬‬
‫ونقف هنا عند { مَسّ‪[ } ...‬الروم‪ ]33 :‬وهو اللمس الخفيف‪ ،‬فالمعنى مسّهم اليسير من الضر‪،‬‬
‫ومع ذلك ضاقتْ أسبابهم عن دفعه‪ ،‬وضَجّوا يطلبون ال َغوْث‪.‬‬
‫وكلمة { َأذَا َقهُمْ‪[ } ...‬الروم‪ ]33 :‬الذوق حاسة من حواس النسان يُحِسّ بها الطعام عند مروره‬
‫على منطقة معينة في اللسان‪ ،‬فإذا ما تجاوز الطعامُ هذه المنطقةَ ل يشعر النسان بطعمه‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فَلذّة الطعام مقصورة على هذه المنطقة في الفم‪ ،‬والتذوق أقوى انفعالت النفس في استقبال‬
‫المذاق؛ لذلك يقولون في المثال (اللي يفوت من اللسان بقي نتان)‪.‬‬
‫وتأمل‪ ،‬كيف استعمل الحق سبحانه الذاقةَ في مجال العذاب حبن ضرب لنا هذا المثل‪َ {:‬وضَ َربَ‬
‫طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَرَتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فََأذَا َقهَا اللّهُ‬
‫اللّهُ مَثَلً قَرْ َيةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ‬
‫خوْفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }[النحل‪.]112 :‬‬
‫لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ‬
‫فذكر الذاقة مع أن اللباسَ يستوعب الجسم كله‪ ،‬وكذلك الجوع والخوف‪ ،‬فكل منهما إحساس‬
‫يستولي على النسان كله‪ ،‬ومع ذلك قال{ فََأذَا َقهَا‪[} ...‬النحل‪ ]112 :‬لن الذاقة أقوى أنواع‬
‫الدراك‪.‬‬
‫وكلمة } مّنْهُ‪[ { ...‬الروم‪ ]33 :‬أي‪ :‬من ال تعالى‪ ،‬يعني بل أسباب‪ ،‬أو } أَذَا َقهُمْ مّنْهُ‪[ { ...‬الروم‪:‬‬
‫‪ ]33‬أي‪ :‬بدّل الضر برحمة‪ ،‬وخلّصهم من الضّرّ برحمة‪ ،‬كما أن الذاقة وإنْ دّلتْ على النفعال‬
‫الشديد للمستقبل‪ ،‬فإنها أيضا تدلّ على التناول الخفيف بُلطْف‪ ،‬كما تقول‪ُ :‬ذ ْقتُ الطعام‪ .‬أو تقول‪:‬‬
‫وال ما ُذ ْقتُ لفلن طعاما يعني‪ :‬ما أكلتُ عنده من باب أَو َأوْلى‪.‬‬
‫لذلك الحق سبحانه وتعالى عبر عن الرحمة هنا بالذاقة؛ لن رحمة الدنيا ل تستوعب كل رحمة‬
‫جلّها في الخرة‪.‬‬
‫ال‪ ،‬فالقليل منها في الدنيا‪ ،‬و ُ‬
‫ونلحظ في قوله تعالى‪ } :‬إِذَا فَرِيقٌ مّ ْنهُمْ بِرَ ّبهِمْ يُشْ ِركُونَ { [الروم‪ ،]33 :‬أما في الية الخرى‪{:‬‬
‫عوُاْ اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ فََلمّا َنجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ ُيشْ ِركُونَ }[العنكبوت‪:‬‬
‫فَإِذَا َركِبُواْ فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ‬
‫‪.]65‬‬
‫فلماذا قال في الولى } ِإذَا فَرِيقٌ مّ ْنهُمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]33 :‬وفي الخرى‪ {:‬إِذَا هُمْ يُشْ ِركُونَ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[العنكبوت‪ ]65 :‬فلم يستثْنِ منهم أحدا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن الية الولى تتكلم عن الذين دَعَوا ال في البَرّ‪ ،‬والناس في البر عادة ما يكونون‬
‫مختلفين‪ ،‬فيهم الصالح والطالح‪ ،‬والمطيع والعاصي‪ ،‬فهم مختلفون في َر ّد الفعل‪ ،‬فالمؤمنون لما‬
‫عَينوا النجاة ورحمة ال قالوا‪ :‬الحمد ال الذي نجانا‪ ،‬أما المشركون فعادوا إلى ُكفْرهم وعنادهم‪.‬‬
‫أما الية الخرى فتتكلم عن الذين دَعَوا ال في البحر‪ ،‬وعادة ما نرى الذين يركبون البحر على‬
‫شاكلة واحدة‪ ،‬وهم ل يركبونه كوسيلة للسفر‪ ،‬إنما للترف‪ ،‬كما نرى البعض يتخذ لنفسه يختا مثلً‬
‫أو عوّامة يجمع فيها أتباعه ومَنْ هم على شاكلته‪ ،‬ول ُبدّ أنهم يجتمعون على شيء يحبونه‪ ،‬فهم‬
‫على مذهب واحد‪ ،‬وطريقة واحدة‪ ،‬وسلوك واحد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ما دام هؤلء كانوا في البحر فل بُدّ أنهم كانوا مجرمين عتاة‪ ،‬وكانوا سواسية في الشرك‬
‫وفي التخلّي عن ال‪ ،‬بمجرد أنْ أمِنوا الخطر‪ ،‬لذلك استخدم السلوب هنا } ِإذَا‪[ { ...‬الروم‪]33 :‬‬
‫الفجائية واستخدمه في آية أخرى{ ِإذَا ُهمْ يُشْ ِركُونَ }[العنكبوت‪ ]65 :‬فبعد أنْ أنجاهم ال أسرعوا‬
‫العودة إلى ما كانوا عليه من الشرك‪.‬‬
‫ففي هذه الية الحق سبحانه يُبيّن لنا حقيقة النسان‪ ،‬ومدى حرصه على جَلْب الخير لنفسه‪ ،‬فإنْ‬
‫كان الخير الذي أعدّه ال له يُبطره ويُطغيه كما قال سبحانه‪:‬‬

‫طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق‪.]7-6 :‬‬


‫ن الِنسَانَ لَيَ ْ‬
‫{ كَلّ إِ ّ‬
‫فإنه ل مناصَ له من أنْ يرجع إلى ربه حين ينفض ال عنه ُكلّ أسباب الخير‪ ،‬ويهدده في نفسه‬
‫وفي ذاته التي لم تنتفع بآيات ال في الكون‪ ،‬فتظل في حضانة ال‪ ،‬فيأتي له بالضرّ الذي ينفض‬
‫عنه كلّ أسباب البطَر والشرَ والستعلء‪.‬‬
‫ولكنه ل يسلم نفسه للضر الذي يهلكه‪ ،‬بل عندها يتنبه أن له ربا يلجأ إليه‪ ،‬ول يجد مفزعا في‬
‫الكون إل هو؛ لنه يعلم جيدا أن الذين أخذوه من ال فآمن بهم وكفر بال لن ينفعوه بشيء؛ لنه‬
‫عبد من دون ال آلهة ل تضر ول تنفع‪.‬‬
‫ضلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ‪[} ...‬السراء‪ ]67 :‬فهؤلء‬
‫سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ‬
‫لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَإِذَا مَ ّ‬
‫الذين تدعونهم ل يعرفون طريقكم‪ ،‬وإنْ عرفوا ل يملكون أنْ يصلوا إليكم‪ ،‬أما أنا فربكم العلم‬
‫بكم‪ ،‬والقادر على إغاثتكم‪ ،‬وإنزال الرحمة بكم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هؤلء المشركون أشركوا بال في وقت الرخاء‪ ،‬أما في وقت الضيق والكرب فلن يخدع‬
‫أحدهم نفسه‪ ،‬ولن يغشّها لن يقول‪ :‬يا هُبَل‪ .‬لنه يعلم أن هُ َبلَ ل يسمعه ول يجيبه‪ ،‬فل ينفعه الن‪،‬‬
‫ول ينجيه إل الله الحق‪ ،‬فقد ألجأتْه الضرورة أن يعترف به ويدعوه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬لِ َيكْفُرُواْ ِبمَآ آتَيْنَا ُهمْ‪.{ ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3367 /‬‬

‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ (‪)34‬‬


‫لِ َي ْكفُرُوا ِبمَا آَتَيْنَاهُمْ فَ َتمَ ّتعُوا فَ َ‬

‫يتبادر إلى الذهن أن اللم في { لِ َي ْكفُرُواْ‪[ } ...‬الروم‪ ]34 :‬لم التعليل‪ ،‬أو لم السببية التي يكون ما‬
‫بعدها سببا لما قبلها‪ ،‬كما تقول‪ :‬ذاكر لتنجح‪ ،‬وكذلك في الشرط والجواب‪ :‬إنْ تذاكر تنجح ِفعِلّة‬
‫المذاكرة النجاح‪.‬‬
‫فهل يستقيم المعنى هنا على هذا الفهم؟ وهل نجاهم ال وأذاقهم الرحمة ليكفروا به؟‬
‫نقول‪ :‬ليس الشرط سببا في مجيء الجواب كما يفهم السطحيون في اللغة‪ ،‬بل الجواب هو السبب‬
‫في الشرط‪ ،‬لكنهم لم يُفرّقوا بين سبب دافع وسبب واقع‪ ،‬فالتلميذ يذاكر لن النجاح ورد بباله‪،‬‬
‫وتراءتْ له آثاره الطيبة أولً فدفعتْه للمذاكرة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالجواب سبب في الشرط أي‪ :‬سبب دافع إليه‪ ،‬فإذا أردتَ أن يكون واقعا فقدّم الشرط ليجيء‬
‫الجواب‪.‬‬
‫وكما تقول‪ :‬ركبتُ السيارة لذهب إلى السكندرية‪ ،‬فركوب السيارة ليس سبب ذهابك للسكندرية‪،‬‬
‫ت بالفعل‪ .‬إذن‪ :‬نقول‪ :‬الشرط سبب‬
‫لنك أر ْدتَ أولً الذهاب فركبتَ السيارة‪ ،‬فلما ركبتها وصل َ‬
‫للجواب دافعا يدفع إليه‪ ،‬والجواب سبب للشرط واقعا‪.‬‬
‫فهنا نجّاهم ال من الكرب‪ ،‬وأذاقهم رحمته ل ليكفروا به‪ ،‬إنما ليُبيّن لهم أنه ل مفزعَ لهم إل إليه‪،‬‬
‫فيتمسكون به سبحانه‪ ،‬فيؤمن منهم الكافر‪ ،‬ويزداد مؤمنهم إيمانا‪ ،‬لكن جاء ر ّد الفعل منهم على‬
‫خلف ذلك‪ ،‬لقد كفروا بال؛ لذلك يسمون هذه اللم لم العاقبة أي‪ :‬أن كفرهم عاقبة النجاة‬
‫والرحمة‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬لو ضممتَ طفلً مسكينا إلى حضانتك وربّيته أحسن تربية‪،‬‬
‫ب وكَبِر تنكّر لك‪ ،‬واعتدى عليك‪ ،‬فقلت للناس‪ :‬ربّيته ليعتدي عليّ‪ ،‬والمعنى‪ :‬ربّيته‬
‫فلما ش ّ‬
‫ليحترمني ويحبني‪ ،‬لكن جاءت النتيجة والعاقبة خلف ذلك‪ ،‬وهذا يدل على فساد التقدير عند‬
‫الفاعل الذي ربّي‪ ،‬وعلى ُلؤْم وفساد طبع الذي رُبّي‪.‬‬
‫فالسلوب هنا { لِ َي ْكفُرُواْ‪[ } ...‬الروم‪ ]34 :‬يحمل معنى التقريع؛ لن ما بعد لم العاقبة ليس هو‬
‫العلة الحقيقية لما قبلها‪ ،‬إنما العلة الحقيقية لما قبلها هو المقابل لما بعد اللم‪ :‬أذاقهم الرحمة‪،‬‬
‫ن كفروا‪.‬‬
‫ونجاهم ليؤمنوا‪ ،‬أو ليزدادوا إيمانا‪ ،‬فما كان منهم إل أ ْ‬
‫عوْنَ لِ َيكُونَ‬
‫ولهذه المسألة نظائر كثيرة في القرآن‪ ،‬كقوله تعالى في قصة موسى‪ {:‬فَالْ َتقَطَهُ آلُ فِرْ َ‬
‫ع ُدوّا وَحَزَنا‪[} ...‬القصص‪.]8 :‬‬
‫َلهُمْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومعلوم أنهم التقطوه ليكون لهم قُرّة عين‪ ،‬ولو كانوا يعلمون هذه العاقبة لغرقوه أو قتلوه كما‬
‫قتلوا غيره من أطفال بني إسرائيل‪ ،‬وكما يقولون في المثال (بيربي خنّاقه)‪.‬‬
‫فهذا دليل على غفلة الملتقِط‪ ،‬وعلى غبائه أيضا‪ ،‬فكيف وهو يُقتّل الولد في هذا الوقت بالذات ل‬
‫يشكّ في ولد جاء في تابوت مُلْقىً في البحر؟ أليس في هذا دللة على أن أهله يريدون نجاته من‬
‫القتل؟ لكن كما قال سبحانه‪ {:‬وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيحُولُ بَيْنَ ا ْلمَ ْر ِء َوقَلْبِهِ‪[} ...‬النفال‪.]24 :‬‬
‫فأنت تُقتّل في الطفال لرؤيا أخبرك بها العرافون‪ ،‬فسيأتي مَنْ تخاف منه إلى بابك‪ ،‬وستأخذه‬
‫وتُربّيه في حضنك‪ ،‬وسيكون زوال مُلْكك على يديه‪ ،‬فل تظن أنك تمكر على ال‪.‬‬

‫والقصة تدل على خيبة فرعون وخيبة العرافين‪ ،‬فإذا كنتَ قد ص ّد ْقتَ العرافين فيما أخبروك به فما‬
‫جدوى قَتْل الطفال‪ ،‬وأنت لن تدرك مَنْ سيكون زوال مُلْكك على يديه ولن تتمكن منه؟ فلماذا‬
‫تحتاط إذن؟‬
‫لذلك يجب أن يكون تفكير البشر في إطار أن فوق البشر ربا‪ ،‬والرب يكلف العدو بعدو له ليقضي‬
‫خفْية بحيث ل يسشعر به الممكور به‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬وهو سبحانه خير الماكرين‪ ،‬والمكْر الحق أن يكون ُ‬
‫وقد وصل بنا الحال في القرن العشرين أن نقول‪ :‬الصراحة مكْر القرن العشرين‪ .‬يعني‪ :‬مَنْ أراد‬
‫ن يمكر فليقُل الحق وليكُنْ صريحا؛ لننا أصبحنا في زمن قّلتْ فيه الصراحة وقول الحق‪ ،‬لدرجة‬
‫أْ‬
‫أنك حين تُحدّث الناس بالحق يشكّون فيك‪ ،‬ويستبعدون أن يكون قولك هو الحق‪ ،‬كالذي قال‬
‫لجماعة يطلبونه ليقتلوه‪ :‬أنا سأذهب إلى المكان الفلني في الوقت الفلني فقالوا‪ :‬إنه يُضلّلنا ويمكر‬
‫بنا رغم أنه صادق فيما أخبرهم به‪.‬‬
‫وبعد أنْ تربّى موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬في بيت فرعون‪ ،‬ثم كلّفه ربه بالرسالة‪ ،‬وذهب إلى‬
‫عمُ ِركَ سِنِينَ }[الشعراء‪.]18 :‬‬
‫فرعون يدعوه إلى ال قال له‪ {:‬أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ ُ‬
‫نعم ربّيتني وليدا‪ ،‬لكن الذي ربّاني وربّاك هو الذي بعثني إليك‪ ،‬فأنا أبرّ المربي العلى قبل أنْ‬
‫ن تقول‪ :‬ربّ ْيتُ‬
‫أبرّ بك‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى أن عناية ال هي الصل في تربية مَنْ تحب‪ ،‬فإياك أ ْ‬
‫ولدي حتى صار كذا وكذا‪ ،‬بل عليك بالَخْذ بأسباب التربية‪ ،‬وتترك المربّي العلى هو الذي يُربّي‬
‫على الحقيقة‪.‬‬
‫وهذا المعنى فطن إليه الشاعر‪ ،‬فقال‪:‬إذَا لَمْ ُتصَا ِدفْ في بَنِيكَ عنَايةً َفقَدْ ك َذبَ الرّاجي وخَابَ‬
‫المؤملُ َفمُوسَى الذي ربّاه جِبْريلُ كَاف ٌر ومُوسى الذي ربّاهُ فِرْعَونُ مُرسَلثم يقول سبحانه‪ } :‬فَ َتمَ ّتعُواْ‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ { [الروم‪ ]34 :‬لنه كفر ليتمتع بكفره في الدنيا؛ لن لليمان مطلوبات صعبة تشقّ‬
‫فَ َ‬
‫على النفس‪ ،‬فيأمرك بالشيء الثقيل على نفسك‪ ،‬وينهاك عن الشيء المحبب إليها‪ ،‬أما الصنام التي‬
‫عبدوها من دون ال وغيرها من اللهة فل مطلوبَ لها ول منهج‪.‬‬
‫لكنه متاع الحياة الدنيا ومتاع الدنيا قليل؛ لن الدنيا بالنسبة لك مدة بقائك فيها فل ت ُقلْ إنها ممتدة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من آدم إلى قيام الساعة‪ ،‬فهذا العمر الطويل ل يعنيك في شيء‪ ،‬الذي يعنيك عمرك أنت‪.‬‬
‫ومهما كان عمر النسان في الدنيا فهو قصير وتمتّعه بها قليل‪ ،‬ثم إن هذا العمر القصير مظنون‬
‫غير مُتيقن‪ ،‬فربما داهمك الموت في أيّ لحظة‪ ،‬ومَنْ مات قامت قيامته‪.‬‬
‫لذلك أبهم الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬الموت‪ ،‬ونثر أزمانه في الخَلْق‪ :‬فهذا يموت قبل أن يولد‪،‬‬
‫وهذا يموت طفلً‪ ،‬وهذا يموت شابا‪.‬‬

‫‪ .‬الخ وإبهام الموت سببا وموعدا ومكانا هو عَيْن البيان؛ لنه أصبح شاخصا أمام كل مِنّا ينتظره‬
‫في أيّ لحظة‪ ،‬فيستعد له‪.‬‬
‫ونلحظ هنا أن السلوب القرآني عطف فعل المر } فَ َتمَ ّتعُواْ‪[ { ..‬الروم‪ ]34 :‬على الفعل المضارع‬
‫} لِ َي ْكفُرُواْ‪[ { ...‬الروم‪ ،]34 :‬وفي موضع آخر قال سبحانه‪ {:‬لِ َيكْفُرُواْ ِبمَآ آتَيْنَاهُ ْم وَلِيَ َتمَ ّتعُواْ‪} ...‬‬
‫[العنكبوت‪ ]66 :‬فجعل التمتّع ليس خاضعا لفعل المر‪ ،‬إنما للعلة‪ :‬ليكفروا وليتمتعوا‪.‬‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ { [الروم‪ ]34 :‬جاءت بعد }‬
‫لذلك اختلفوا حول هذه اللم‪ .‬أهي للمر أم للتعليل‪ } ،‬فَ َ‬
‫فَ َتمَ ّتعُواْ‪[ { ...‬الروم‪ ]34 :‬وهذه جاءتْ معطوفة على{ لِ َي ْكفُرُواْ‪[} ...‬العنكبوت‪ ]66 :‬فكأنه قال‪:‬‬
‫اكفروا وتمتعوا‪ ،‬لكن ستعلمون عاقبة ذلك‪.‬‬
‫والذي جعلهم يقولون عن اللم هنا لم التعليل أنها مكسورة‪ ،‬أما لم المر فساكنة‪ ،‬فلما رأوا اللم‬
‫مكسورة قالوا لم التعليل‪ ،‬أما الذي فهم المعنى منهم فقال‪ :‬ما دام السياق عطف فعل المر فتمتعوا‬
‫على المضارع المتصل باللم‪ ،‬فاللم للمر أيضا‪ ،‬لنه عطف عليها فعل المر‪ ،‬وهو هنا للتهديد‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا كُسِ َرتْ والقاعدة أنها ساكنة؟ قال أحد النحاة‪ :‬لم المر ساكنة‪ ،‬ويجوز أنْ ُتكْسَر‪،‬‬
‫واستشهد بهذه الية{ لِ َيكْفُرُواْ ِبمَآ آتَيْنَا ُه ْم وَلِيَ َتمَ ّتعُواْ‪[} ...‬العنكبوت‪.]66 :‬‬
‫ونقول لمن يقول‪ :‬إنها لم التعليل‪ :‬إذا سمعت لم التعليل فاعلم أنها تعني لم العاقبة؛ لن الكفر‬
‫والتمتّع لم يكُنْ سببا في إذاقة الرحمة‪.‬‬
‫ويا مَنْ تقول لم المر سيقولون لك‪ :‬لماذا ُكسِرت؟ وفي القرآن شواهد كثيرة تدل على أنها قد‬
‫ل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن ُكلّ فَجّ‬
‫ل وَعَلَىا ُك ّ‬
‫تُكسر‪ ،‬واقرأ قوله تعالى‪ {:‬وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَا ً‬
‫شهَدُواْ مَنَافِعَ‪[} ...‬الحج‪ ]28 :‬فاللم هنا مكسورة لنها لم التعليل‪.‬‬
‫عَميِقٍ * لّ َي ْ‬
‫سكّ َنتْ‬
‫ط ّوفُواْ بِالْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ }[الحج‪ ]29 :‬فاللم ُ‬
‫ثم قال بعدها‪ {:‬ثُمّ لْ َيقْضُواْ َتفَ َثهُ ْم وَلْيُوفُواْ نُذُورَ ُه ْم وَلْيَ ّ‬
‫لنها لم المر‪.‬‬
‫سعَ ِتهِ‪[} ...‬الطلق‪ ]7 :‬فجاءتْ لم المر‬
‫سعَةٍ مّن َ‬
‫جمِعت اللمان‪ {:‬لِيُنفِقْ ذُو َ‬
‫وفي آيةٍ أخرى ُ‬
‫مكسورة؛ لنها في أول الجملة‪ ،‬ول يُبتدأ في اللغة بساكن‪ ،‬فحُرّكت بالكسر للتخلص من السكون‪،‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ {:‬ومَن قُدِرَ عَلَ ْيهِ رِ ْزقُهُ فَلْيُنفِقْ ِممّآ آتَاهُ اللّهُ‪[} ...‬الطلق‪ ]7 :‬فجاءت لم المر‬
‫ساكنة؛ لنها واقعة في وسط الكلم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك يجب أن يتنبه إلى هذه المسألة كُتّاب المصحف‪ ،‬وأن يعلموا أن كلم ال غالب‪ ،‬فقد فات‬
‫أصحاب رسم المصحف أنه مبنيّ من أوله إلى آخره على الوصل‪ ،‬حتى في آخر آيات سورة‬
‫سوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ بسم ال الرّحْمانِ‬
‫الناس وأول الفاتحة نقول } الّذِى ُيوَ ْ‬
‫الرّحِيـم‪.{ ...‬‬
‫سعَتِهِ‪} ...‬‬
‫سعَةٍ مّن َ‬
‫فآخِرُ القرآن موصول بأوله‪ ،‬حتى ل ينتهي أبدا‪ .‬وعليه فل ترسم{ لِيُنفِقْ ذُو َ‬
‫[الطلق‪ ]7 :‬بالكسر‪ ،‬إنما بالسكون‪ ،‬لنها موصولة بما قبلها‪.‬‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ { [الروم‪ ]34 :‬تدلّ على التراخي واستيعاب كل المستقبل‪ ،‬سواء أكان‬
‫وكلمة } فَ َ‬
‫قريبا أم بعيدا‪ ،‬فهي احتياط لمن سيموت بعد الخطاب مباشرة‪ ،‬أو سيموت بعده بوقت طويل‪.‬‬
‫علَ ْيهِمْ سُ ْلطَانا‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬أَمْ أَنزَلْنَا َ‬

‫(‪)3368 /‬‬

‫أَمْ أَنْ َزلْنَا عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانًا َف ُهوَ يَ َتكَلّمُ ِبمَا كَانُوا بِهِ يُشْ ِركُونَ (‪)35‬‬

‫كلمة (أم) ل تأتي بداية؛ لنها أداة تفيد التخيير بين أمريْن‪ ،‬كما تقول‪ :‬أجاء زيد أم عمرو؟ فل بُدّ‬
‫أن تأتي بين متقابلين‪ ،‬والتقدير‪ :‬أهُمُ اتبعوا أهواءهم‪ ،‬أم عندهم كتاب أُنزِل إليهم فهو حجة لهم على‬
‫حجّة لهم فلم يَبْقَ إل الختيار الخر أنهم اتبعوا‬
‫الشرك؟ وحيث إنهم لم ينزل عليهم كتاب يكون ُ‬
‫أهواءهم‪.‬‬
‫والفعل { أَنزَلْنَا‪[ } ...‬الروم‪ ]35 :‬النزال يقتضي عُُلوّ المنزّل منه‪ ،‬وأن المن ّزلَ عليه َأدْنى‪،‬‬
‫فالنزال من عُلُو الربوبية إلى ُذلّ العبودية‪ .‬ونحن لم نَرَ النزال‪ ،‬إنما الذي تلقّى القرآن أول مرة‬
‫وباشر الوحي هو الذي رآه وأخبرنا به‪.‬‬
‫والصل في النزال أن يكون من ال تعالى‪ ،‬وحين ينزل ال علينا إنما ليعطينا سبحانه شيئا من‬
‫هذا العُلْو‪ ،‬سواء أكان العُلُو معنويا؛ لن ال سبحانه ليس له مكان‪ ،‬أم عُلْوا حِسّيا كما في{ وَأَنزَلْنَا‬
‫شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ‪[} ...‬الحديد‪.]25 :‬‬
‫حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ‬
‫الْ َ‬
‫والسلطان‪ :‬من التسلّط‪ ،‬وهي تدلّ على القوة‪ ،‬سواء أكانت قوة الحجة والبرهان‪ ،‬فمَنْ أقعنك‬
‫بالحجة والبرهان فهو قويّ عليك‪ ،‬أو قوة قهر وإجبار كمَنْ يُرغِمك على فعل شيء وأنت كاره‪،‬‬
‫ض ومقتنع‪.‬‬
‫أما سلطان الحجة فتفعل وأنت را ٍ‬
‫وإذا استقرأنا كلمة سلطان نجد أن ال تعالى عرضها لنا في موقف إبليس في الخرة‪ ،‬حين يتبرأ‬
‫عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ‬
‫من الذين اتبعوه‪َ {:‬ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكُمْ‪[} ...‬إبراهيم‪.]22 :‬‬
‫أَنفُ َ‬
‫أي‪ :‬لم يكُنْ لي عليكم سلطان حجة وإقناع أستحوذ به على قلوبكم‪ ،‬ولم يكُنْ لي عليكم سلطان‬
‫قهر‪ ،‬فأقهر به قوالبكم‪ ،‬والحقيقة أنكم كنتم (على تشويرة) مجرد أنْ دعوتكُم جئتم مُسرعين‪،‬‬
‫وأطعتُم مختارين‪.‬‬
‫وهذا المعنى يُفسّر لنا شيئا في القرآن خاض الناس فيه طويلً ‪ -‬عن خُبْث نية أو عن صدق نية‬
‫جدَ‪[} ...‬ص‪ ]75 :‬ومرة أخرى‪ {:‬مَا مَ َن َعكَ َألّ‬
‫‪ -‬هذا في قوله تعالى مرة لبليس{ مَا مَ َن َعكَ أَن تَسْ ُ‬
‫سجُدَ‪[} ...‬العراف‪.]12 :‬‬
‫تَ ْ‬
‫فالولى تدل على سُلْطان القهر‪ ،‬كأنك كنتَ تريد أنْ تسجد فجاء مَنْ منعك قهرا عن السجود‪،‬‬
‫ض ومقتنع بعدم السجود‪.‬‬
‫والخرى تدل على سلطان الحجة والقناع‪ ،‬فلم تسجد وأنت را ٍ‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬ف ُهوَ يَ َتكَلّمُ ِبمَا كَانُواْ بِهِ يُشْ ِركُونَ } [الروم‪ ]35 :‬أي‪ :‬ينطق بما كانوا به يشركون‪،‬‬
‫يقول‪ :‬اعملوا كذا وكذا‪ ،‬فجاء هذا على َوفْق هواهم‪.‬‬
‫حمَةً‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَِإذَآ َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ‬

‫(‪)3369 /‬‬

‫حمَةً فَرِحُوا ِبهَا وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ ِبمَا َق ّد َمتْ أَ ْيدِيهِمْ ِإذَا ُهمْ َيقْنَطُونَ (‪)36‬‬
‫وَإِذَا َأ َذقْنَا النّاسَ َر ْ‬

‫جميل أنْ يفرح الناس‪ ،‬وأنْ يستبشروا برحمة ال‪ ،‬لكن ما لهم إذا أصابتهم سيئة بما قدّمتْ أيديهم‬
‫يقنطون؟ فمُجري الرحمة هو مُجري السيئة‪ ،‬لكنهم فرحوا في الولى لنها نافعة في نظرهم‪،‬‬
‫ن يعلموا أن هذه وتلك من ال‪،‬‬
‫وقنطوا في الخرى؛ لنها غير نافعة في نظرهم‪ ،‬وكان عليهم أ ْ‬
‫وأن له سبحانه حكمةً في الرحمة وحكمةً في المصيبة أيضا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أنتم نظرتم إلى شيء وغفلتم عن شيء‪ ،‬نظرتُم إلى ما وُجِد من الرحمة وما وُجِد من‬
‫ن أوجد المصيبة‪ ،‬ولو ربطتم وجود الرحمة أو‬
‫المصيبة‪ ،‬ولم تنظروا إلى مَنْ أوجد الرحمةَ‪ ،‬ومَ ْ‬
‫المصيبة بمَنْ فعلها لَعلمتُم أنه حكيم في هذه وفي تلك‪ ،‬فآفة الناس أنْ يفصلوا بين القدار ومُقدّرها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ينبغي ألّ تنظروا إلى ذات الواقع‪ ،‬إنما إلى مَنْ أوقع هذا الواقع‪.‬‬
‫ن قال‬
‫فلو دخل عليك ولدك يبكي؛ لن شخصا ضربه‪ ،‬فأول شيء تبادر به‪ :‬مَنْ فعل بك هذا؟ فإ ْ‬
‫لك‪ :‬فلن تقول‪ :‬نعم إنه يكرهنا ويريد إيذاءنا‪ ..‬الخ فإنْ قال لك‪ :‬عمى ضربني فإنك تقول‪ :‬ل بُدّ‬
‫أنك فعلتَ شيئا أغضبه‪ ،‬أو أخطأتَ في شيء فعاقبك عليه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لم تنظر إلى الواقع في ذاته‪ ،‬إنما ربطت بينه وبين مَنْ أوقعه‪ ،‬فإنْ كان من العدو فل ُبدّ أنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يريد شرا‪ ،‬وإنْ كان من الحبيب فل ُبدّ أنه يريد بك خيرا‪.‬‬
‫ن أوجده‪ ،‬فإنْ كان الذي أوجد الواقع َربّ فيجب أنْ نتأمل‬
‫وهكذا ينبغي أن نربط بين الموجود ومَ ْ‬
‫الحكمة‪ ،‬ولن نتحدث عن الرحمة‪ ،‬لن النفع ظاهر فيها للجميع‪ ،‬لكن تعال نسأل عن المصيبة التي‬
‫تُحزِن الناس‪ ،‬فيقنطوا وييأسوا بسببها‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬لو نظرتَ إلى مَنْ أنزلها بك لرتاح بالك‪ ،‬واطمأنتْ نفسك‪ ،‬فالمصيبة تعني الشيء الذي‬
‫يصيبك‪ ،‬خيرا كان أم شرا‪َ ،‬ألَ ترى قوله تعالى‪ {:‬مّآ َأصَا َبكَ مِنْ حَسَنَةٍ َفمِنَ اللّ ِه َومَآ َأصَا َبكَ مِن‬
‫سكَ‪[} ...‬النساء‪.]79 :‬‬
‫سَيّئَةٍ َفمِن ّنفْ ِ‬
‫فالمصيبة ل تُذَمّ في ذاتها‪ ،‬إنما بالنتيجة منها‪ ،‬وكلمة أصاب في الحسنة وفي السيئة تدلّ على أن‬
‫سهمها أُطلِق عليك‪ ،‬وعمرها مقدار وصولها إليك‪ ،‬فهي ل ُبدّ صائبتك‪ ،‬لن تتخلّف عنك أبدا‪ ،‬ولن‬
‫تُخطئك؛ لن الذي أطلقها إله ورب حكيم‪ ،‬فإنْ كانت حسنة فسوف تأتيك فل تُتعِب نفسك‪ ،‬ول‬
‫ن تقول‪ :‬أحتاط لها لدفعها عن نفسي؛ لنه ل‬
‫تُزاحِم الناس عليها‪ ،‬وإنْ كانت مصيبة فإياك أ ْ‬
‫مهربَ لك منها‪.‬‬
‫ثم لماذا تقنط وتيأس إنْ أصابتْك مصيبة؟ لماذا ل تنتظر وتتأمل‪ ،‬لعل لها حكمة‪ ،‬ولعل من ورائها‬
‫خيرا ل تعلمه الن‪ ،‬وربما كانت ضائقة سوف يكون لها فرج قريب‪.‬‬
‫ألم تقرأ‪ {:‬وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُ ْم وَعَسَىا أَن ُتحِبّواْ شَيْئا وَ ُهوَ شَرّ ّلكُمْ‪} ...‬‬

‫[البقرة‪.]216 :‬‬
‫أتذكرون حادث عمارة الموت وقد طردوا منها البواب وأسرته‪ ،‬وجعلوا منها قضية في المحكمة‪،‬‬
‫وبعد أن انهارتْ العمارة‪ ،‬وتبيّن للبواب وأسرته أن ما ظنوه شرا ومصيبة كان هو عَيْن الخير‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل تقنط من ضُرّ أصابك‪ ،‬واعلم أن الذي أجراه عليك ربك‪ ،‬وأن له حكمة فانتظر حتى‬
‫تنكشف لك‪ ،‬ول يقنط إل مَنْ ليس له ربّ يلجأ إليه‪.‬‬
‫خلٌ فيها؟ أم ليس لك دَخْل؟ إنْ كان لك‬
‫ثم تعالَ نناقشك في المصيبة التي قَنَط من أجلها‪ :‬ألكَ دَ ْ‬
‫َدخْل فيها كالتلميذ الذي أهمل دروسه فرسب في المتحان‪ ،‬فعليك أن تستقبل هذه المصيبة‬
‫بالرّضا‪ ،‬فالرسوب يُعدّل لك خطأك‪ ،‬ويلفتك إلى ما كان منك من إهمال حتى تتدارك المر‬
‫وتجتهد‪.‬‬
‫خلَ لك فيها‪ ،‬كالذي ذاكر واجتهد‪ ،‬ومع ذلك لم يُوفّق لمرض ألمّ به ليلة‬
‫فإنْ كانت المصيبة ل دَ ْ‬
‫ن تفصل المصيبة عن مُجريها وفاعلها‪ ،‬بل تأمّل ما‬
‫المتحان‪ ،‬أو لعارض عرض له‪ ،‬نقول‪ :‬إياك أ ْ‬
‫يعقُبها من الخير‪ ،‬ول تفصل المصيبة عن مُجريها عليك ول تقنط‪.‬‬
‫وابحث عن حكمة ربك من إنزال هذه المصيبة بك‪ ،‬كالم التي تقول لبنها‪ :‬يا بُني أنت دائما‬
‫متفوق والناس تحسدك على تفوقك‪ ،‬فلعل رسوبك يصرف عنك حسدهم‪ ،‬ويُنجيك من أعينهم‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فيكفوا عنك‪.‬‬
‫وحينما يأتي أبوه يقول له‪ :‬يا بني َهوّن عليك‪ ،‬فلعلّك إنْ نجحت هذا العام لم تحصل على المجموع‬
‫الذي تريده‪ ،‬وهذه فرصة لتتقوى وتحصل على مجموع أعلى‪ .‬إذن‪ :‬لن تُعدم من وراء المصيبة‬
‫نفعا‪ ،‬لن ربك قيوم‪ ،‬ل يريد لك إل الخير‪.‬‬
‫لذلك حين تستقريء الحداث تجد أناسا فُضحوا وُأخِذوا بما لم يفعلوا‪ ،‬وذهبوا ضحية شاهد زور‪،‬‬
‫أو قاضٍ حكم عن هوى‪ ..‬الخ لكن لن ربك قيوم ل يغفل يُعوّض هذا المظلوم ويقول له‪ :‬لقد‬
‫أصبح لك نقطة عندي في حسابك‪ ،‬فأنت اتّه ْمتَ ظلما‪ ،‬فلك عندي إذا ارتكبتَ جريمة أَنْ أنجيك‬
‫عمّ ْيتَ على العدالة‪ ،‬وشهدتَ زورا‪ ،‬أو‪ :‬أخذت ما ليس لك‪ ،‬أو‬
‫منها فل تُعاقَب بها‪ ،‬وأنت يا من َ‬
‫أفلتّ من العقاب فسوف أُوقِعك في جريمة لم تفعلها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬القنوط عند المصيبة ل محلّ له‪ ،‬ولو ربطتَ المصيبة بمجريها لعلمتَ أنه حكيم‪ ،‬ول بُدّ أنْ‬
‫تكون له حكمة قد تغيب عنك الن‪ ،‬لكن إذا أدرتَ المسألة في نفسك‪ ،‬فسوف تصل إلى هذه‬
‫الحكمة‪.‬‬
‫وحين ننظر إلى أسلوب الية نجد فيه مفارقات عديدة‪ ،‬ففي الكلم عن الرحمة قال } وَِإذَآ َأ َذقْنَا‬
‫حمَةً فَرِحُواْ ِبهَا‪[ { ...‬الروم‪ ]36 :‬فاستخدم أداة الشرط (إذا)‪.‬‬
‫النّاسَ َر ْ‬
‫أما في المصيبة فقال } وَإِن ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ ِبمَا َق ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ ِإذَا ُهمْ َيقْنَطُونَ { [الروم‪ ]36 :‬فاستخدم‬
‫أداة الشرط (إنْ)‪ ،‬فلماذا عدلَ عن رتابة السلوب من إذا إلى إن؟‬
‫قالوا‪ :‬حين تقارن بين النعَم وبين المصائب التي تنزل بالنسان في دنياه تجد أن النعم كثيرة‬
‫والمصائب قليلة‪ ،‬فنعم ال متوالية عليك في كل وقت ل تُع ّد ول تحصى‪ ،‬أمّا المصائب فربما ُتعَدّ‬
‫على الصابع‪.‬‬

‫لذلك استخدم مع النعمَ (إذا) الدالة على التحقيق‪ ،‬ومع المصيبة استخدم (إنْ) الدالة على الشك‪،‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ِ {:‬إذَا جَآءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ }[النصر‪ ]1 :‬فاستعمل إذا لنها تدلّ على التحقيق‬
‫وتُرجّح حدوث النصر‪ ،‬وقال سبحانه‪ {:‬وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ اسْ َتجَا َركَ فَأَجِ ْرهُ‪[} ...‬التوبة‪.]6 :‬‬
‫كما نلحظ في أسلوب الية أنها لم تذكر السبب في إذاقة الرحمة‪ ،‬إنما ذكرت سبب المصيبة } ِبمَا‬
‫قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]36 :‬ليدلّ على عدله تعالى في إنزال المصيبة‪ ،‬وتفضّله في إذاقة‬
‫الرحمة؛ لن الرحمة من ال والنعَم فضل من ال‪.‬‬
‫لكن في المصيبة قال } ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيهِمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]36 :‬فذكر العِلّة حتى ل يظن أحد أن ال‬
‫تعالى يُجري المصيبة على عبده ظلما‪ ،‬بل بما ق ّد َمتْ يداه‪ ،‬فالمسألة محكومة بالعدل اللهي‪.‬‬
‫خصْمان لتحكم بينهما تقول‪ :‬أحكم بينكما بالعدل‪ ،‬أم‬
‫وبين الفضل والعدل بوْن شاسع‪ ،‬فلو جاءك َ‬
‫بأفضل من العدل؟ يقول‪ :‬وهل هناك أفضل من العدل؟ إذن‪ :‬نريد العدل‪ ،‬لكن تنبّه لن العدل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يعطيك حقك‪ ،‬والفضل يُتِركك حقك‪.‬‬
‫فكأن الحق سبحانه يقول لنا‪ :‬إياكم أنْ تظنوا أنكم ناجون بأعمالكم‪ ،‬ل إنما بالتفضل عليكم‪ُ {:‬قلْ‬
‫ج َمعُونَ }[يونس‪.]58 :‬‬
‫حمَتِهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا يَ ْ‬
‫ضلِ اللّهِ وَبِرَ ْ‬
‫ِبفَ ْ‬
‫يعني‪ :‬مهما جمعتُم من الطاعات فلن تكفيكم‪ ،‬ول نجاةَ لكم إل برحمة من ال وفضل‪.‬‬
‫فالحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يريد منا أن نعرف أن رحمة ال وسعتْ كل شيء‪ ،‬وأنه مع ما أنعم به‬
‫عليكم من ِنعَم ل ُت َع ّد ول تُحصي ل يُعاقبكم إل بشيء اقترفتموه يستحق العقاب؛ ذلك لنه َربّ‬
‫رحيم حكيم‪.‬‬
‫وما دام المر كذلك فانظر إلى آثار رحمة ربك في الكون‪ ،‬وتأمل هذه النعَم‪ ،‬وقفْ عند ِدقّة‬
‫حصُوهَا‪[} ...‬إبراهيم‪.]34 :‬‬
‫السلوب في قوله سبحانه‪ {:‬وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ تُ ْ‬
‫فالعَ ّد يقتضي الكثرة و{ ِن ْع َمتَ‪[} ...‬إبراهيم‪ ] :‬مفرد‪ ،‬فكيف نعدّ يا رب؟ قالوا‪ :‬نعم هي نعمة‬
‫واحدة‪ ،‬لكن في طياتها ِنعَم فلو فتشتها لوجدتَ عناصر الخيرية فيها ل ُتعَد ول تُحصىَ‪.‬‬
‫لذلك لما تعرضتْ اليات ِل َعدّ ِنعَم ال استخدمتْ (إنْ) الدالة على الشكّ؛ لنها ل تقع تحت الحصر‬
‫ول ال َعدّ‪ ،‬لكن على فرض إنْ حاولت عدّها فلن تُحصيها‪ ،‬والن ومع تقدّم العلوم وتخصّص كليات‬
‫بكاملها لدراسة علم الحصاء‪ ،‬وخرجوا علينا بإحصاءات لمور ولشياء كثيرة في حياتنا‪ ،‬لكن لم‬
‫يتعرض أحد لنْ يُحصي نعمة ال‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن القبال على الحصاء ل يكون إل مع مظنّة أنْ تُعدّ وتستوعب ما تحصيه‪ ،‬فإنْ كان خارج‬
‫نطاق استيعابك فلن تتعرض لحصائه كما لم يتع ّرضْ أحد مثلً ِلعَدّ الرمال في الصحراء؛ لذلك‬
‫يُشكككم ال في أنْ تعدّوها{ وَإِن َتعُدّواْ‪[} ...‬إبراهيم‪ ]34 :‬فهو أمر مُستبعد‪ ،‬ولن يكون‪.‬‬

‫(‪)3370 /‬‬

‫سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَيَقْدِرُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ (‪)37‬‬
‫َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ يَبْ ُ‬

‫يبسط‪ :‬يُوسّع‪ ،‬ويقدِر‪ :‬يعني يُضيّق‪.‬‬


‫يعني‪ :‬ألم يروا هذه المسألة‪ ،‬فواحد يُوسّع ال عليه الرزق‪ ،‬وآخر يُضيّق عليه‪ ،‬وربما صاحب‬
‫السعة لم يتعب فيها‪ ،‬إنما جاءته من ميراث أو خلفة‪ ،‬وصاحب الضيق يك ّد ويتعب‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فعيشته كفاف‪ ،‬لذلك استقبل الفلسفة هذه المسألة بما في ضمائرهم من إيمان أو إلحاد‪ ،‬فهذا ابن‬
‫الراوندي الملحد يقول‪:‬كَمْ عَالمٍ أعْ َيتْ مَذَاهِبه وجَاهلٍ جَاهلٍ تَ ْلقَاهُ مرْزُوقا َهذَا الذِي تركَ الوهامَ‬
‫حَائر ًة وَصيّر العَالِم النّحْرير زِ ْندِيقافردّ عليه آخر ممن امتلت قلوبهم باليمان‪:‬كَمْ عَالمٍ َقدْ باتَ في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عُسْرٍ وجَاهلٍ جاهلٍ قَدْ باتَ في يُسْرتحيّر الناسُ في هَذا فقُ ْلتُ لهم هَذا الذي أوجبَ اليمان‬
‫بالقدرِفالعالم ل يسير بحركة ميكانيكية ثابتة‪ ،‬إنما بقيومية الخالق سبحانه عليه‪ ،‬فانظر إلى البسط‬
‫لمن بسط ال له‪ ،‬والقبض لمن قبض ال عنه‪ ،‬ول تعزل الفعل عن فاعله سبحانه‪ ،‬وتأمل أن ال‬
‫تعالى واحد‪ ،‬وأن عباده عنده سواء‪ ،‬ومع ذلك يُوسّع على أحدهم ويُضيّق على الخر‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل بُدّ أن في هذه حكمة‪ ،‬وفي تلك حكمة أخرى‪ ،‬ولو تتبعتَ عواقب السعة هنا والتضييق‬
‫هناك لتراءتْ لك الحكمة‪.‬‬
‫أل ترى صاحب سعة ورزق ونعم كثيرة‪ ،‬ومع ذلك لم يستطع تربية أولده؛ لن مظاهر الترف‬
‫جرفتهم إلى النحراف‪ ،‬ففشلوا في حياتهم العملية‪ ،‬وفي المقابل نرى الفقير الذي يعيش على‬
‫سطُ الرّ ْزقَ ِلمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ‪} ....‬‬
‫الكفاف يتفوق أولده‪ ،‬ويأخذون أعلى المراتب؟ إذن‪ { :‬يَبْ ُ‬
‫[الروم‪ ]37 :‬وفق حكمة يعلمها سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وسبق أن ذكرنا أن في ألمانيا مدرستين فلسفيتين في اللحاد‪ ،‬إحداهما لواحد اسمه (جيبل)‪،‬‬
‫والخرى لـ (بختر) أحدهما‪ :‬ينكر أن يكون للعالم إله‪ ،‬يقول‪ :‬لو كان للعالم إله حكيم ما خلق‬
‫العمى والعرج والعور‪ ..‬الخ فالحكمة في الخَلْق تقتضي المساواة‪ ،‬فأخذ من الشذوذ في الخَلْق‬
‫دليلً على إلحاده‪.‬‬
‫أما الخر فقال‪ :‬ليس للكون إله‪ ،‬إنما يسير سَيْرا ميكانيكيا رتيبا‪ ،‬ولو كان فيه إله لكان يخلق الخَلْق‬
‫على صور مختلفة‪ ،‬وتكون له إرادة مطلقة عن الميكانيكا‪ ،‬فأخذ ثبات النظام دليلً على إلحاده‬
‫ليناقض مذهب سابقه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المسألة عندهم رغبة في اللحاد بأيّ شكل‪ ،‬وعلى أية صورة‪ ،‬واستخدام منهج ُمعْوج يخدم‬
‫القضية التي يسعون إلى إثباتها‪.‬‬
‫ونقول في الرد على الول الذي اتخذ من الشذوذ في الكون دليلً على عدم وجود إله حكيم‪:‬‬
‫الشذوذ الذي ذكرتَ شذوذ في الفراد الذين يُعوض بعضهم عن بعض‪ ،‬فواحد أعمى‪ ،‬وآخر أعور‬
‫يقابلهم مليين المبصرين‪ ،‬فوجود هذه النسبة الضئيلة ل تفسد القاعدة العامة في الخَلْق‪ ،‬ول تؤثر‬
‫على حركة البشر في الكون فالصحيح يعوض غير الصحيح‪.‬‬
‫أما النظام الثابت الذي يريده الثاني فعليه أن ينظر إلى المل العلى‪ ،‬وفي الكون العلى من شمس‬
‫وقمر ونجوم‪.‬‬

‫‪ .‬الخ فسيرى فيه نظاما ثابتا ل يتغير‪ ،‬لن الشذوذ في هذه المخلوقات يفسد الكون كله؛ لذلك خلقه‬
‫ال على هيئة الثبات وعدم الشذوذ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬في النظام العام للكون نجد الثبات‪ ،‬وفي الفراد الذين يغني الواحد منهم عن الخر نجد‬
‫الشذوذ والختلف‪ ،‬فالثبات يثبت حكمة القدرة‪ ،‬والشذوذ يثبت طلقة القدرة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فيا مَنْ تريد ثبات النظام دليلً على اليمان‪ ،‬فالثبات موجود‪ ،‬ويا مَنْ تريد شذوذ النظام دليلً على‬
‫اليمان‪ ،‬فالشذوذ موجود‪ ،‬فما عليككما إل أن تتفقا وأن ينفتح كل منكما على الخر لتصل إلى‬
‫الصواب‪.‬‬
‫ومسألة الرزق لها فلسفة في السلم‪ ،‬فالحق سبحانه أخبرنا بأنه الرزّاق‪ ،‬فمرة يرزق بالسباب‪،‬‬
‫ومرة يرزق بل أسباب‪ ،‬لكن إياك أنْ تغتر بالسباب‪ ،‬فقد تقدم السباب وتسعى ثم ل يأتيك منها‬
‫سعْيك كالفلح الذي يأخذ بالسباب حتى يقارب الزرع على الستواء فتأتيه جائحة‬
‫رزق‪ ،‬ويخيب َ‬
‫فتهلكه‪ ،‬فاحذر أن تغتر بالسباب‪ ،‬وانظر إلى المسبّب سبحانه‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬ينبغي أنْ تتحرى إلى الرزق أسبابه ول تشغلنّ بعدها بالك بأمره‪ ،‬فقد تكفل به خالقك الذي‬
‫استدعاك للوجود‪ ،‬وقد عبّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله‪َ :‬تحَرّ إلى الرزْقِ أَسْبابَهُ ولَ تشغلنْ بعدَهَا‬
‫بَالَكافَإنّك تجهلُ عنوانه ورِ ْز ُقكَ يعرِفُ عُنْوانَكاثم يقول سبحانه‪ } :‬إِنّ فِي َذِلكَ ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ {‬
‫[الروم‪ ]37 :‬قال (ِل َقوْمٍ يُؤمِنُونَ) لن مسألة الرزق هذه تحتاج إلى إيمان بحكمة الرازق سبحانه‬
‫في العطاء وفي المنع‪.‬‬
‫ونلحظ على أسلوب الية قوله تعالى في البسط‪ِ } :‬لمَن يَشَآءُ‪[ { ..‬الروم‪ ]37 :‬وفي التضييق }‬
‫وَيَقْدِرُ‪[ { ...‬الروم‪ ]37 :‬ولم ي ُقلْ لمن يشاء؛ لن البسط في نظرنا شيء محبوب نفرح له ونتمناه‬
‫فقال } ِلمَن يَشَآءُ‪[ { ...‬الروم‪ ]37 :‬لنطمئن نحن إلى أننا سندخل في هؤلء الذين سيُبْسط لهم في‬
‫الرزق‪ ،‬أما في التقتير فلم يقُلْ (لمنْ) ليظل مبهما يستبعده كلّ مِنّا عن نفسه‬
‫حقّهُ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول رب العزة سبحانه‪ } :‬فَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَىا َ‬

‫(‪)3371 /‬‬

‫ن وَابْنَ السّبِيلِ ذَِلكَ خَيْرٌ لِلّذِينَ يُرِيدُونَ َوجْهَ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ‬
‫سكِي َ‬
‫حقّ ُه وَا ْلمِ ْ‬
‫فََآتِ ذَا ا ْلقُرْبَى َ‬
‫(‪)38‬‬

‫حينما نتأمل النسق القرآني هنا نجد أن ال تعالى ذكر أولً البسْطَ في الرزق‪ ،‬ثم التقتير فيه‪ ،‬ثم‬
‫حقّ ذي القُرْبى والمسكين وابن السبيل‪ ،‬وكأنه يلفت أنظارنا أن هذه الحقوق‬
‫أكّد بعده مباشرة على َ‬
‫ل تقتصر على مَنْ بسط له الرزق‪ ،‬إنما هي على الجميع حتى مَنْ كان في خصاصه‪ ،‬وضُيّق‬
‫عليه رزقه‪ ،‬فل ينسي هؤلء‪.‬‬
‫ن وَجْهَ اللّ ِه وَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلمُفْلِحُونَ }‬
‫لذلك يذيل الحق سبحانه الية بقوله‪ { :‬ذَِلكَ خَيْرٌ لّلّذِينَ يُرِيدُو َ‬
‫[الروم‪ ]38 :‬والجميع‪ :‬مَنْ بُسِط له‪ ،‬ومَنْ قُتِر عليه يريدون وجه ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن وَا ْلعَامِلِينَ عَلَ ْيهَا وَا ْل ُمؤَّلفَةِ قُلُو ُبهُمْ‬
‫وبمقارنة هذه الية بآية الزكاة‪ {:‬إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ لِ ْل ُفقَرَآ ِء وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫حكِيمٌ }[التوبة‪:‬‬
‫علِيمٌ َ‬
‫ب وَا ْلغَا ِرمِينَ َوفِي سَبِيلِ اللّ ِه وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللّ ِه وَاللّهُ َ‬
‫َوفِي ال ّرقَا ِ‬
‫‪.]60‬‬
‫فلم تذكر ذا القربى الذي ذكر هنا‪ ،‬وكأن الية تشير لنا إلى أمر ينبغي أن نلتفت إليه‪ ،‬وهو أن‬
‫القريب عيب أن نعطيه من مال الزكاة‪ ،‬وهذه آفة وقع فيها كثير من الغنياء وحتى المتدينين‬
‫منهم‪ ،‬فكثيرا ما يسألون‪ :‬لي ابن عم‪ ،‬أو لي قريب أأعطيه شيئا من زكاة مالي؟‬
‫ت أقول للسائل‪ :‬وال‪ ،‬لو علم ابن عمك أنك تعطيه من مال الزكاة ما قبله منك؛ لن للقريب‬
‫وكن ُ‬
‫حقا‪ ،‬سواء أكنتَ غنيا تملك نصاب الزكاة‪ ،‬أو لم تصل إلى حد ال ّنصَاب‪.‬‬
‫حقّ حتى‬
‫إذن‪ :‬ل تربط هؤلء الثلثة ‪ -‬القريب والمسكين وابن السبيل ‪ -‬بمسألة الزكاة‪ ،‬فلهم َ‬
‫ن ضُيّقْ عليه رزقه‪.‬‬
‫على الفقير الذي ل يملك نصابا‪ ،‬وعلى مَ ْ‬
‫ومع هذا الحق الذي قرره الشرع للقريب نجد كثيرين يأكلون حقوق القارب‪ ،‬ويحتالون لحرمانهم‬
‫منها‪ ،‬فمثلً بعض الناس ل ينجب ذكورا‪ ،‬فيكتب أملكه للبنات ليحرم عمهم أو أبناء عمومتهم من‬
‫الميراث‪ ،‬مع أن البنت لها نصف التركة‪ ،‬وإنْ كُنّ أكثر من واحدة فلهُنّ الثلثان‪ ،‬ويُوزّع الثلث على‬
‫العم أو ابن العم؛ ذلك لن البنات في هذه الحالة ليس لهن َذكَر عصبة‪ ،‬فيجعلها الشرع في العم أو‬
‫ابن العم‪.‬‬
‫والشارع الحكيم يوازن بين الطراف‪ ،‬فيأخذ منك ويعطيك‪ ،‬فلماذا في حالة موت الوالد عن هؤلء‬
‫البنات‪ ،‬وليس لهُنّ ميراث َيعُدْن على العم أو ابن العم بالنفقة ويقاضونه في المحاكم‪ ،‬فلماذا‬
‫نحرمهم حقوقهم ونطالب نحن بحقوقنا‪ ،‬فهذا نوع من التغفيل‪.‬‬
‫لماذا ل نعطي العم أو ابن العم وهو الذي سيحمي البنات ويسهر على راحتهن‪ ،‬ويقف بجوارهن‬
‫حال شدتهن؟‬
‫إيّاك ‪ -‬إذن ‪ -‬أنْ تُدخِل القارب في الزكاة‪ ،‬أو تربط مساعدتهم بالقدرة؛ لن لهم عليك حقا حال‬
‫رخائك وحال شدتك‪.‬‬
‫ويكفي أن الحق سبحانه خصّهم بقوله { ذَا ا ْلقُرْبَىا‪[ } ...‬الروم‪ ]38 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬ذا المسكنة‪ ،‬أو ذا‬
‫السبيل‪ ،‬وكلمة (ذو) بمعنى صاحب‪ ،‬تدل على المصاحبة الدائمة والملزمة‪ ،‬فل نقول‪ :‬فلن ذو‬
‫علم لمن علم قضية أو قضيتين‪ ،‬إنما لمن اتصف بالعلم الوسع وتمكّن منه‪ ،‬كذلك ل نقول فلن ذو‬
‫خلق إل إذا كان الخُلُق صفة ملزمة له ل تنفك عنه‪.‬‬

‫ومن ذلك نقول‪ :‬ذو القربى يعني ملصقا لك ل ينفك عنك‪ ،‬فيجب أنْ تراعي حقّه عليك‪ ،‬فتجعل له‬
‫نصيبا‪ ،‬حتى إنْ لم تكُنْ تملك نصابا‪ ،‬وكذلك للمسكين وابن السبيل؛ لن ال ذكرهم معا في غير‬
‫بند الزكاة‪ ،‬فدلّ ذلك على أن لهم حقا غير الزكاة الواجبة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونلحظ أن القرآن رتّبهم حسب الهمية والحاجة‪ ،‬فأولهم القريب لقرابته الثابتة منك‪ ،‬ثم المسكين‬
‫وهو متوطن معروف لك‪ ،‬ثم ابن السبيل العابر الذي تراه يوما ول تراه بعد ذلك‪ ،‬فهو حسب‬
‫موضعه من الحال‪.‬‬
‫والمسكين قد يتغير حاله‪ ،‬ويتيسر له الرزق فيُوسّع ال عليه‪ ،‬وابن السبيل يعود إلى بلده‪ ،‬فالوصف‬
‫الثابت لذي القربى؛ لذلك وصفه ال تعالى بما يدل على الثبات‪.‬‬
‫حقّهُ‪[ { ...‬الروم‪ ]38 :‬فالحق ملزم له وهو َأوْلَى به‪ ،‬لذلك لم َيقُل مثلً‪ :‬وآت ذا القربى‬
‫ثم قال } َ‬
‫حقه‪ ،‬والمسكين‪ ،‬وابن السبيل حقوقهم‪.‬‬
‫وقد مثّلوا لذلك بقولهم‪ :‬قال المير‪ :‬يدخل عليّ فلن‪ ،‬وفلن‪ ،‬وفلن‪ ،‬فالذن بالدخول للول يتبعه‬
‫في ذلك االباقون‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لهؤلء الثلثة خصوصية‪ ،‬فقد أمرك ال أنْ تعطيهم من لحمك‪ ،‬وألّ تربطهم بالزكاة ول‬
‫ببسط الرزق‪ ،‬أما باقي السبعة المستحقون للزكاة فلم يُلزمك نحوهم بشيء غير الزكاة المفروضة‪.‬‬
‫ولما حدث نقاش بين العلماء حول المراد بالمسكين والفقير‪ ،‬أيهما أحوج من الخر؟ قالوا‪:‬‬
‫سفِينَةُ‬
‫المسكين مَنْ له مال‪ ،‬ولكن ل يكفيه‪ ،‬واستشهد أبو حنيفة على هذا المعنى بقوله تعالى‪َ {:‬أمّا ال ّ‬
‫َفكَا َنتْ ِل َمسَاكِينَ َي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ‪[} ...‬الكهف‪ ]79 :‬فأثبت لهم ملكية وسماهم مساكين‪ .‬أما الفقير‬
‫فهو الذي ل شيء له‪ ،‬وعلى هذا فالفقير أحوج من المسكين‪ ،‬فيدخل في هذه الية من باب َأوْلَى‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬ذَِلكَ‪[ { ...‬الروم‪ ]38 :‬أي‪ :‬اليفاء لهؤلء } خَيْرٌ‪[ { ...‬الروم‪ ]38 :‬كلمة خير‬
‫تُطلَق في اللغة‪ ،‬ويُراد بها أحد معنيين‪ :‬مرة نقول خير ويقابلها شر كما في قوله تعالى‪َ {:‬فمَن‬
‫َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة‪ ،]8-7 :‬ومرة نقول‪ :‬خير‬
‫س وابْنُ الَخْير‬
‫ونقصد الخْير كالحسن أي‪ :‬أفعل تفضيل‪ ،‬كما جاء في قول الشاعر‪:‬زَيْدٌ خِيَارُ النّا ِ‬
‫لكن الشائع أن تُستعمل خير في أفعل التفضيل كقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬المؤمن القوي‬
‫خير وأحبّ إلى ال من المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي ُكلّ خير " فخَيْر الولى بمعنى أخير‪ .‬لكن لمن؟‬
‫جهَ اللّ ِه وَُأوْلَـائِكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ { [الروم‪ ]38 :‬أي‪ :‬في الوفاء بحقّ ذي القربى‬
‫ن وَ ْ‬
‫} لّلّذِينَ يُرِيدُو َ‬
‫والمسكين وابن السبيل‪ ،‬يريد بذلك وجه ال‪ ،‬ل يريد رياءً ول سمعة؛ لن الذي يفعل خيرا يأخذ‬
‫أجره ِممّن فعل من أجله‪ ،‬فمَنْ عمل ل مخلصا فأجره على ال‪ ،‬ومَنْ عمل للناس رياءً وسمعةَ‬
‫فليأخذ أجره منهم‪.‬‬

‫ظمْآنُ مَآءً‬
‫عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ‬
‫وهؤلء الذين وصفهم ال تعالى بقوله‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫حسَابِ }[النور‪ ]39 :‬أي‪:‬‬
‫حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ يَجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ‬
‫فوجيء بوجود إله لم يكُنْ في باله ولم يعمل من أجله‪.‬‬
‫ن وَجْهَ اللّهِ‪[ { ...‬الروم‪ ]38 :‬أي‪ :‬يقصدون بعملهم وجه ال‪ ،‬سواء رآه الناس‪ ،‬أو‬
‫فمعنى } يُرِيدُو َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أخفى عمله‪ ،‬حتى ل تعلم شماله ما صنعتْ يمينه؛ لن المر قائم على النية‪ ،‬فقد تعطي أمام الناس‬
‫سوْا بك‪ ،‬أو لت ُكفّ عنك ألسنتهم وقدحهم في حقك‪.‬‬
‫ونيتك أنْ يتأ ّ‬
‫وحين تعطي علنية بنية خالصة ل فإنها صدقة مخصّبة للعطاء‪ ،‬مخصّبة للجر؛ لنك ستكون‬
‫ن عمل بها‬
‫أُسْوة لغيرك فيعطي‪ ،‬ويكون لك من الجر مثله؛ لن مَنْ سَنّ حسنة فله أجرها وأجر مَ ْ‬
‫إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫والقرآن عرض علينا هذه القضية في قوله تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تُ ْبطِلُواْ صَ َدقَا ِتكُم بِا ْلمَنّ‬
‫س َولَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ‪[} ...‬البقرة‪.]264 :‬‬
‫وَالَذَىا كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النّا ِ‬
‫صفْوَانٍ عَلَ ْيهِ تُرَابٌ فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َركَهُ صَلْدا لّ َيقْدِرُونَ‬
‫ل َ‬
‫ثم يعطينا مثلً توضيحيا‪َ {:‬فمَثَلُهُ َكمَ َث ِ‬
‫شيْءٍ ّممّا كَسَبُو ْا وَاللّهُ لَ َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة‪.]264 :‬‬
‫عَلَىا َ‬
‫فمثَل المرائي كهذا الحجر الناعم الملس حين يصيبه المطر‪ ،‬وعليه طبقة من التراب يزيحها‬
‫المطر‪ ،‬ويبقى هو صَلْدا ناعما ل يحتفظ بشيء‪ ،‬ول ينبت عليه شيء‪.‬‬
‫سعْيه‪ ،‬وتعدّى‬
‫سعْي المرائي‪ ،‬وأنه مغفل‪ ،‬سعى واجتهد فانتفع الناس ب َ‬
‫وهذا المثَل يُجسّد لنا خيبة َ‬
‫خيره إلى غيره‪ ،‬وخرج هو خالي الوفاض من الخير ومن الثواب‪.‬‬
‫سهِمْ‬
‫ثم يذكر الحق سبحانه المقابل‪َ {:‬ومَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَتَثْبِيتا مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫ل وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ‬
‫طّ‬‫ض ْعفَيْنِ فَإِن لّمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ َف َ‬
‫َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ‬
‫}[البقرة‪.]265 :‬‬
‫خصْبة حين ينزل عليها المطر‪ ،‬فيأتي نباتها مضاعفا مباركا‬
‫فالصدقة ابتغاء وجه ال كالرض ال ِ‬
‫فيه‪ ،‬فإنْ لم يكُمْ مطر كفاها الطّل لتنبت وتُؤتي ثمارها‪ ،‬ولو قال‪ :‬كمثل جنة لكانت كافية لكنها{‬
‫جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ‪[} ...‬البقرة‪ ]265 :‬يعني‪ :‬على مكان مرتفع ليدلّ على خصوبتها‪ ،‬فكلما كانت الرض‬
‫مرتفعة زادتْ خصوبتها‪ ،‬وخَلتْ من المياه الجوفية التي تؤثر على النبات‪.‬‬
‫وهذه الجنة تُرْوى بالمطر يأتيها من أعلى‪ ،‬فيغسل الوراق والغصون‪ ،‬فتزيد نضارتها وجودتها‪،‬‬
‫والوراق هي رئة النبات‪.‬‬
‫وال تعالى يترك لثار الذات في الناس تذكرةً وعبرة‪ ،‬فواحد يفعل الخير بآخر ليشتريه به‪ ،‬أو‬
‫ليُخضع عنقه بهذا الجميل‪ ،‬فتكون النتيجة الطبيعية أنْ ينكر الخر جميله‪ ،‬بل ويكرهه ويحقد عليه‪،‬‬
‫وهذا جزاء وفاقٌ لمن عمل العمل لغير وجه ال‪.‬‬
‫وهو معنى قولهم‪ :‬اتّقِ شر مَنْ أحسنتَ إليه‪ ،‬لماذا؟ لنه حين يراك يتذكر ما لك من يَد عليه‪ ،‬وما‬
‫لك من فضل‪ ،‬فيخزي ويشعر بالذلة؛ لن وجودك يدكّ كبرياءه؛ لذلك يكره وجودك‪ ،‬ويكره أنْ‬
‫يراك‪.‬‬

‫فالحق سبحانه يقول‪ :‬احذروا أنْ تُبطلوا المعروف بالرياء‪ ،‬أو بالغراض الدنية؛ لن معروفك هذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سيُنَكر‪ ،‬وسينقلب ما قدمتَ‪ ،‬من خير شرا عليك‪ .‬إذن‪ :‬عليكم بالنظر في أعمالكم إلى وجه ال ل‬
‫إلى غيره‪ ،‬فإنْ حدث وأنكر جميلك فجزاؤك محفوظ عند ال‪ ،‬وكأن ربك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يغار‬
‫عليك‪ ،‬ويريد أنْ يحفظ لك الجميل ويدخره عنده‪.‬‬
‫وهذا المعنى عبّر عنه الشاعر بقوله‪:‬أقُولُ لصْحاب المرٌوءَاتِ َقوْلةً تُريح ُهمُ إنْ أحسَنُوا‬
‫ع المعْروفَ مهما‬
‫خضّعا فَإِنْ أدْركُوها خّلفُوكَ وهَ ْروَلُوافَل تَد ِ‬
‫وتفضّلُوايَسيرُ ذوو الحَاجَاتِ خَ ْل َفكَ ُ‬
‫تنكّروا فَإِنّ ثوابَ ال أربى وأجْزَلُوسبق أنْ ذكرتُ قصة الرجل الذي قابلنا في الطريق ونحن في‬
‫الجزائر‪ ،‬فأشار لنا لنوصله في طريقنا‪ ،‬فتوقف صاحب السيارة وفتح له الباب‪ ،‬لكنه قبل أنْ يركب‬
‫قال (على كام)؟ يعني‪ :‬ثمن توصيله‪ .‬فقال صاحب السيارة‪ :‬ل‪ .‬فقال الرجل (غَلّتها يا شيخ)‪.‬‬
‫لذلك يقول بعض العارفين‪ :‬إن الذين يريدون بأعمالهم وجه ال هم الذين ُيغْلون أعمالهم‪ ،‬أي‪:‬‬
‫يرفعون قيمتها‪ ،‬ويضاعفون ثوابها‪.‬‬
‫ن وَابْنَ السّبِيلِ‪[ { ...‬الروم‪ ]38 :‬بعد قوله‪ {:‬وَيَقْدِرُ‪...‬‬
‫سكِي َ‬
‫حقّ ُه وَا ْلمِ ْ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬فَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَىا َ‬
‫}[الروم‪ ]37 :‬يدل في ظاهره على أنه يأخذ منك مع أنك مُ ِقلّ‪ ،‬وهذا يدخل في إطار قوله تعالى‪{:‬‬
‫خصَاصَةٌ‪[} ...‬الحشر‪.]9 :‬‬
‫سهِ ْم وََلوْ كَانَ ِبهِمْ َ‬
‫وَ ُيؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫وقلنا‪ :‬إن الشارع حكيم‪ ،‬فإذا ألزمك وأخذ منك فإنما ذلك ليعطيك إنْ احتجت‪ ،‬وكأنه يقول لك‪:‬‬
‫اطمئن فقد أمّ ْنتُ لك حياتك‪ ،‬إن أصابك الفقر‪ ،‬أو كنت في يوم من اليام مسكنا أو ابن سبيل‪ ،‬فكما‬
‫فعلتَ سيُفعل بك‪.‬‬
‫وهذه المسألة واضحة في كفالة اليتيم‪ ،‬فلو أن المجتمع اليماني عوّضه عن أبيه عملً بقول النبي‬
‫ن مات‬
‫ن كلّ أب على أولده إ ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " لطمأ ّ‬
‫وتركهم؛ لنهم في مجتمع يُعوضهم عن أبيهم بآباء كثيرين‪.‬‬
‫والنسان إنْ كان آمنا مُنعّما‪ ،‬فإنما يُنغّص هذه النعمة أنها عُرْضة لنْ تزول‪ ،‬فيريد ال أنْ يُؤمّن‬
‫لعبده الحياة الكريمة في امتداده من بعده‪ ،‬وهذا هو التأمين الحق الذي أرسله ال قضية تأمينية في‬
‫الكون‪ ،‬ليست في شركات التأمين‪ ،‬إنما في يده سبحانه حيث قال‪ {:‬وَلْ َيخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ‬
‫سدِيدا }[النساء‪ ]9 :‬فإذا اتقوا ال وقالوا‬
‫ضعَافا خَافُواْ عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُواّ اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َقوْلً َ‬
‫خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّ ًة ِ‬
‫القول السديد‪ ،‬فإن يتيمهم يصادف أناسا يكفلونه‪ ،‬ويخافون عليه‪ ،‬ويتوّلوْن أمره‪.‬‬
‫وسبق أنْ تع ّرضْنا في سورة الكهف لقصة الجدار الذي تبرع الخضر ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ببنائه مع‬
‫أنه في قرية أهلها لئام منعوهم حتى الطعام‪ .‬وقلنا‪ :‬إن سؤال الطعام هو أصدق سؤال‪ ،‬ول يُ َردّ‬
‫لمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي‬
‫سائله‪ ،‬ومع ذلك بناه الخضر‪ ،‬وقال في بيان أمر الجدار‪ {:‬وََأمّا ا ْلجِدَارُ َفكَانَ ِلغُ َ‬
‫ا ْلمَدِينَةِ َوكَانَ َتحْتَهُ كَنزٌ ّل ُهمَا َوكَانَ أَبُو ُهمَا صَالِحا‪[} ...‬الكهف‪.]82 :‬‬
‫فصلح البويْن ينفع الغلمين‪ ،‬فيُسخّر ال لهما مَنْ يبني لهما الجدار‪ ،‬ويحافظ لهما على كنزهما‬
‫حتى يكبرا‪ ،‬ويستطيعا حمايته من هؤلء اللئام الذين إذا علموا بأمره نهبوه من هذْين الصغيريْن‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يحدثنا الحق سبحانه عن الفارق بين الهدية والصدقة‪ ،‬فيقول‪َ } :‬ومَآ آتَيْ ُتمْ مّن رّبا لّيَرْ ُبوَ فِي‬
‫َأ ْموَالِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3372 /‬‬

‫جهَ اللّهِ‬
‫ن وَ ْ‬
‫َومَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَلَا يَرْبُو عِ ْندَ اللّ ِه َومَا آَتَيْتُمْ مِنْ َزكَاةٍ تُرِيدُو َ‬
‫ض ِعفُونَ (‪)39‬‬
‫فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُم ْ‬

‫الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يعرف أن خَلْقه يفعلون الخير‪ ،‬ويطلبون الجر عليه‪ ،‬لكن هذا الطلب‬
‫إذا خل من الرياء‪ ،‬لكن الحق سبحانه يريد أن يرتفع بالصدقة أو بالزكاة إلى مستوى عَالٍ‪ ،‬فيأخذ‬
‫صاحبها الثمن من يد ال سبحانه مضاعفا‪ ،‬وطلب الزيادات يكون في النية‪.‬‬
‫فالمؤمن مثلً يعلم أنه إذا حُ ّييَ بتحية فعليه أنْ يردّها بخير منها‪ ،‬فقد يأتي فقير ويقدم لحد‬
‫الغنياء هدية على قدر استطاعته‪ ،‬وفي نيته أنْ يردّها الغني بما يناسب غِنَاه‪ ،‬إذن‪ :‬فهو حين‬
‫أعطى يطمع في الزيادة‪ ،‬وإن كانت غير مشروطة‪ ،‬ويجوز أنْ يردّ الغنيّ على الهدية بأفضل‬
‫منها‪ ،‬ويجوز ألّ يردّها أصلً‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪َ { :‬ومَآ آتَيْتُمْ مّن رّبا‪[ } ...‬الروم‪ ]39 :‬أي‪ :‬الزيادة بأيّ ألوانها عما تعطي‪ ،‬وهذه‬
‫الزيادة غير مشروطة في عقد‪ ،‬والزيادة تكون في المال‪ ،‬أو بأيّ وسيلة أخرى فيها نفع؛ لنهم‬
‫قالوا في تعريف الربا‪ :‬كل قرض جَ ّر نفعا فهو ربا‪.‬‬
‫حتى أن المام أبا حنيفة كان يجلس في ظل لجاره‪ ،‬فلما طلب منه جاره مالً وأقرضه رآه الجار‬
‫ل يجلس في ظل الجدار كما كان يجلس‪ ،‬فسأله عن ذلك فقال‪ :‬كنت أجلس في ظل جدارك وأعلم‬
‫أنه تفضّل منك‪ ،‬أما الن فأخاف أنْ أجلس فيه حتى ل تظن أن هذه الجلسة للمال الذي أخذتَه‬
‫مني‪.‬‬
‫ت نفعا‪ ،‬أو مالً‪ ،‬أو غير مال‪ ،‬سواء أكانت‬
‫فالمعنى‪ :‬وما آتيتم من ربا تبغون به الزيادة سواء أكان ْ‬
‫مشروطة أو غير مشروطة‪ .‬قالوا‪ :‬فما حكم الهدايا إنْ رُ ّدتْ بأحسن منها؟ وما ذنبي أنا المعطي‬
‫ل تكون في نيتك الزيادة‪ ،‬وأل تكون هديتك مشروطة‪ ،‬إنما‬
‫في ذلك؟ قالوا‪ :‬ل شيء فيها بشرط أ ّ‬
‫تكون تحببا وتوددا ومعروفا بين الناس‪ ،‬إنما ل تأخذ عليها ثوابا من ال‪.‬‬
‫وقوله { لّيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ‪[ } ...‬الروم‪ ]39 :‬في هنا للظرفية‪ ،‬فالمال ظرف‪ ،‬وما تضعه فيه‬
‫ينقص منه‪ ،‬ويزيد ما عندك { فَلَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ‪[ } ...‬الروم‪ ]39 :‬يربو عندك أنت بالزيادة التي‬
‫تأخذها ممّنْ حيّيْته‪ ،‬أمّا عند ال فل يربو‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هكذا قال ابن عباس‪ ،‬وإن كان بعض العلماء قال‪ :‬هي مطلق في الربا الصل‪ ،‬وهذه مسألة كان‬
‫يجب أنْ يُشرّع لها‪ ،‬لكن رأى ابن عباس أن آية الربا معروفة‪ ،‬وهذه للربا في زيادات التحية‬
‫والمجاملت بين الناس‪.‬‬
‫ن وَجْهَ اللّهِ فَُأوْلَـا ِئكَ‪[ } ...‬الروم‪ ]39 :‬أي‪ :‬الذين‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ { :‬ومَآ آتَيْ ُتمْ مّن َزكَاةٍ تُرِيدُو َ‬
‫يؤتون الزكاة ويريدون بها وجه ال { هُمُ ا ْل ُمضْ ِعفُونَ } [الروم‪ ]39 :‬ليست من الضعاف‪ ،‬إنما من‬
‫حسَنا‬
‫الضعاف‪ ،‬فالزكاة أضعاف الفتح كما في قوله تعالى‪ {:‬مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا َ‬
‫فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ‪[} ...‬الحديد‪ ]11 :‬أما الربا فإضعاف بالكسر‪.‬‬

‫وهذه المسألة وقف عندها بعض المستشرقين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلم ال‪ ،‬قالوا‪ :‬في‬
‫عفَهُ‬
‫القرآن آيات تصادم الحديث النبوي‪ ،‬فالقرآن يقول‪ {:‬مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَا ِ‬
‫لَهُ‪[} ...‬الحديد‪ .]11 :‬إذن‪ :‬القرض الحسن يضاعف به ال الثواب‪ ،‬وعندكم أن الحسنة بعشر‬
‫أمثالها‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬مكتوب على باب الجنة‪ :‬الحسنة بعشر أمثالها‪،‬‬
‫والقرض بثمانية عشر " فلو أن القرض الحسن يضاعف الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬فهو بعشرين ل‬
‫بثمانية عشر‪.‬‬
‫فقلنا له‪ :‬لو تصد ْقتَ بدولر مثلً فقد عملتَ حسنة ُتضَاعف لك إلى عشر‪ ،‬لكن أردّ إليك دولرك‬
‫الذي تص ّد ْقتَ به؟ ل‪ ،‬إذن حقيقة المر أنك أخذتَ تسعة تضاعف إلى ثمانية عشر‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فلماذا زاد ثواب القرض؟ نقول‪ :‬لن المتصدّق حين يتصدق ينقطع أمله فيما قدّم‪ ،‬لكن‬
‫المقرض ل يزال مُعلّق البال في القرض ينتظر ردّه‪ ،‬فكلما صبر عليه أخذ أجرا‪ ،‬ثم إن المقترض‬
‫ل يقترض إل عن حاجة‪ ،‬أما المتصدّق عليه فقد يقبل الصدقة وهو غير محتاج إليها‪ ،‬وربما كان‬
‫ممّنْ يكنزون المال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه يريد أنْ يُنمي القرض لماذا؟ قالوا‪ :‬لن ال يريد أن تسير حركة الحياة‪ ،‬وأنْ‬
‫تتكامل‪ ،‬وأنت تعتز بمالك وتخاف عليه وتريد له النماء‪ ،‬وسوف تجد هذا كله في القرض‪ ،‬فاجعله‬
‫قرضا‪ ،‬فهو الباب الذي فتحه ال لك للزيادة وللثواب‪.‬‬
‫ثم إن ال تعالى احترم ملكيتك لمالك‪ ،‬وحرص على حمايته لك‪ ،‬فقال‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا‬
‫سمّى فَاكْتُبُوهُ‪[} ...‬البقرة‪.]282 :‬‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ِإلَىا أَ َ‬
‫فال يحفظ عليك مالك لتهدأ بالً من ناحيته‪ ،‬ومع ذلك يترك مجالً لريحية المعطي ومروءته{ فَإِنْ‬
‫ضكُم َبعْضا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ‪[} ...‬البقرة‪.]283 :‬‬
‫َأمِنَ َب ْع ُ‬
‫وبهذه الفلسفة اليمانية يدور المال وتسير به حركة الحياة‪ ،‬بحيث يضمن لصاحب المال ماله‪ ،‬لنه‬
‫حبّ له حريص عليه‪ ،‬ويضمن لمن ل مالَ له أنْ يتحرك من مال الغير‪ ،‬فإذا كانت هناك أمانة‬
‫مُ ِ‬
‫أداء‪ ،‬فكل صاحب أمانة عليه أنْ يؤدّيها لمستحقها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإن اختلت هذه الموازين‪ ،‬وماطل الفقي ُر الغنيّ‪ ،‬وضنّ عليه أنْ يردّ إليه حقه‪ ،‬فقد فسد حال‬
‫المجتمع وانهارت فيه هذه القيم‪ ،‬وساعتها ل نلوم القادر على العطاء إنْ أمسك ماله عن المحتاجين‬
‫للقرض ولِمَ ل؟ والناس يأكلون الحقوق‪ ،‬وبذلك تتوقف حركة الحياة ويتراجع المجتمع عن مسايرة‬
‫حركة التقدم‪.‬‬
‫فإذا كان الربا غير المشروط‪ ،‬وهو الربا في الهدايا والمجاملت والتحية بين الناس جعله ال‬
‫للمودّات وللمروءات بين الناس‪ ،‬ل يثيب عليه ول يعاقب‪ ،‬وقال عنه } فَلَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ‪...‬‬
‫{ [الروم‪.]39 :‬‬
‫أما الربا المشروط فقد وقف معه وقفة حازمة‪ ،‬وشرع له عقابا وجعل هذا العقاب من جنس ما‬
‫حقُ اللّهُ الْرّبَا‪} ...‬‬
‫يضادّ غرض الذي رَابَى‪ ،‬فأنت ترابي لتزيد من مالك‪ ،‬فيقابلك ال بالنقصان{ َيمْ َ‬

‫[البقرة‪ ]276 :‬لماذا؟‬


‫ي واجد‪ ،‬لديه فائض من المال يعطي منه‪ ،‬أما الخذ فمحتاج‪ ،‬فكيف نطلب‬
‫قالوا‪ :‬لن المعطي غن ّ‬
‫من المحتاج أنْ يزيد في مال الواجد غير المحتاج؟ وكيف تكون نظرة المحتاج إليك حين يعلم أن‬
‫عندك مالً يزيد عن حاجتك‪ ،‬ومع ذلك ترفض أن تُقرضه القرض الحسن‪ ،‬بل تشترط عليه‬
‫الزيادة‪ ،‬فتأخذ الزيادة منه وهو محتاج؟‬
‫ثم افرض أنني أخذت هذا القرض لثمره وأنميه فخسر‪ ،‬أليس كافيا أنْ أخسر أنا عملي‪ ،‬وأنْ‬
‫يضيع مجهودي؟ أمن العدل أن أخسر عملي‪ ،‬ثم أكون ضامنا للزيادة أيضا؟ هذه ليست من‬
‫العدالة؛ لن شرط العقد أن يحمي مصلحة الطرفين‪ ،‬أما عقد الربا فل يحمي إل مصلحة الدائن‪.‬‬
‫ونحن نرى حتى التشريعات الوضعية في القتصاد إذا أعطى البنك مالً لشخص لعمل مشروع‬
‫مثلً ثم خسر وأرادوا تسوية حالته‪ ،‬أول شيء في إجراءاتهم أنْ يُسقطوا عنه الفوائد‪.‬‬
‫وهذا يوافق شرع ال في قوله تعالى‪ {:‬وَإِنْ تُبْتُمْ فََلكُمْ ُرؤُوسُ َأ ْموَاِلكُ ْم لَ َتظِْلمُونَ َولَ تُظَْلمُونَ }‬
‫[البقرة‪( ]279 :‬لتُظلمون) بمعنى‪ :‬أن نردّ إليكم رءوس أموالكم؛ (ول تظلمون) أي‪ :‬ل نظلمك من‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬فنقول لك‪:‬‬
‫إنْ أردتَ أنْ تتوب فرُدّ ما أخذتَه بالربا بأثر رجعي؛ لن ما أخذتَه قد صُرِف وتصعب إعادته‪،‬‬
‫وبذلك نراعي مصلحة الدائن حين نعيد إليه رأس المال‪ ،‬ومصلحة المدين‪ ،‬فل نكلفه ردّ مَا ل يقدر‬
‫على ردّه‪.‬‬
‫وحين نتأمل هذه المسألة‪ :‬آلدول أقوى أم الفراد؟ الدول‪ ،‬أرأيتم دولة اقترضت مالً من دولة‬
‫أخرى‪ ،‬ثم استطاعت أن تُسدّد فوائد هذا الدين فضلً عن أصل الدّيْن؟ كذلك الفراد القوياء الذين‬
‫يأخذون القروض‪ ،‬ثم ل يسددون مجرد الفوائد‪ ،‬ول يستطيعون جدولتها ول تسوية حالتهم‪ ،‬فيقعون‬
‫في خصومات ومشاكل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيء آخر‪َ ،‬هبْ أن رجلً لديه مثلً ألف جنيه ورجل ل عند له‪ ،‬صاحب اللف يستطيع أن‬
‫يديرها‪ ،‬وأن يعيش منها‪ ،‬أما الخر الذي ل يملك شيئا فيقترض ليعيش مثل صاحبه‪ ،‬فإنْ قلت له‪:‬‬
‫اللف قرضا بمائة جنيه‪ ،‬فمن أين يوفر هذه المائة؟‬
‫إنْ أخذها من عائد المال يخسر‪ ،‬وإنْ أخذها من السلعة بأنْ يُقلل من الجودة أو من العناصر الفعالة‬
‫في السلعة‪ ،‬أو في التغليف‪ ،‬جاءت السلعة أقلّ من مثيلتها وبارت‪ .‬إذن‪ :‬ل بد أن يتحملها‬
‫المستهلك‪ ،‬وهذا إضرار به‪ ،‬وهو ليس طرفا في العقد‪ ،‬إذن‪ :‬العقد باطل‪.‬‬
‫وحين نقول‪ :‬إن السلم صالح لكل زمان ومكان يجب أن نفهم هذه القضية جيدا‪ ،‬وإياك أن تقول‪:‬‬
‫إن السلم ل يصلح في زمان كذا‪ ،‬أو في مكان كذا‪.‬‬
‫س َعهَا‪} ...‬‬
‫ل وُ ْ‬
‫والن نسمع البعض ينصرف عن منهج السلم ويقول لك{ لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ‬
‫[البقرة‪ ]286 :‬أي‪ :‬ليس في وُسْعه الن تنفيذ شرع ال‪ .‬لكن نقول له‪ :‬مَن الذي يحدد الوُسْع؟ أنت‬
‫أم المشرّع سبحانه؟‬
‫ما دام ال تعالى قد كلّف‪ ،‬فاعلم أن التكليف في وُسْعك‪ ،‬فخذ الوُسْع من التكليف‪ ،‬ل أن تُقدّر أنت‬
‫الوسع وتنسى ما كلّفك ال به‪.‬‬

‫لذلك ترى أن ال تعالى إذا ضاق الوُسْع يُخفّف عنك دون أنْ تطلب أنت التخفيف‪ ،‬كما في صلة‬
‫وصوم المريض والمسافر‪ ..‬الخ وكما في التيمم إنْ تعذّر استعمال الماء‪.‬‬
‫فل معنى لن نقول‪ :‬إن تعاليم الدين ل تناسب العصر‪ ،‬إذن‪ :‬اجعل العصر هو المشرّع‪ ،‬وانصرف‬
‫عن تشريع السماء إلى ما يحتمله العصر‪.‬‬
‫لذلك قلنا‪ :‬إن الحق سبحانه حينما يلقي تكاليفه يقول‪ُ {:‬قلْ َتعَاَلوْاْ‪[} ...‬النعام‪ ]151 :‬فمعنى تعالوا‪:‬‬
‫ارتفعوا عن مستوى أهواء البشر‪ ،‬واعلوا إلى تكاليف ال‪ ،‬فإنْ هبطت بالتكاليف إلى مستواك‪،‬‬
‫وقُلْت ظروف العصر تحتم عليّ كذا وكذا فقد أخضعتَ منطق السماء لمنطق الرض‪ ،‬وما جاء‬
‫منطق السماء إل ليعلو بك‪.‬‬
‫فإنْ نظرنا إلى مواقف العلماء من مسألة الربا‪ ،‬فمنهم مَنْ يُحلّل‪ ،‬ومنهم مَنْ يُحرّم وهم الكثرة‪،‬‬
‫و َهبْ أنهم متساوون مَنْ يحرم ومَنْ يحلل‪ ،‬فما حكم ال فيما تساوتْ فيه الجتهادات؟‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم أوضح لنا هذه القضية في قوله‪ " :‬الحلل بيّن‪ ،‬والحرام بيّن‪ ،‬وبينهما‬
‫أمور مشتبهات‪ ،‬فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضه‪ ،‬ومن وقع في الشبهات وقع في‬
‫الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه‪’،‬أل وإن لكل ملك حِمىً‪ ،‬أل وإن حمى ال‬
‫محارمه "‪.‬‬
‫ن فعل الشبهات أم‪ :‬فمَنْ ترك الشبهات؟ إذن‪ :‬مَنْ وقع في الشبهات لم‬
‫فهل قال رسول ال‪ :‬فمَ ْ‬
‫يستبريء‪ ،‬ل لدينه ول لِعرْضه‪ ،‬وهل يرضى أحد أنْ يُوصَف هذا الوصف؟ وعجيب أن نسمع مَنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يقول‪ :‬وما علقة العِرْض بهذه المسألة؟ نقول‪ :‬وال حتى غير المؤمن بدين يستنكف أن يقال عنه‬
‫أنه مُرابٍ‪ ،‬عِرْضه ل يقبلها فضلً عن دينه‪.‬‬
‫لذلك؛ فالمكارون الذين يريدون أن يُغلوها‪ ،‬ويريدون أن يعيشوا على دماء الناس ل يدرون أن‬
‫النفعية هي القانون الذي يحكم ال به خَلْقه‪ ،‬فيجعل لهم الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬لذلك يقول اليهود‪:‬‬
‫كيف تُحرّمون الربا وال يعاملكم به؟‬
‫نعم‪ ،‬الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يعاملنا بالربا‪ ،‬ويعطينا بالزيادة؛ لن هذه الزيادة ل تُنقِص مما‬
‫عنده سبحانه‪ ،‬أمّا الزيادة من الناس ومن المحتاجين فإنها ترهقهم وتزيدهم فقرا وحاجة‪.‬‬
‫عكَ من هذا كله‪ ،‬وتأمل في المحيط الذي تعيش فيه‪ ،‬ففي كل بلد أناس يحبون الربا ويتعاملون‬
‫ثم دَ ْ‬
‫حقُ‬
‫ب وثروته كاملة؟ ل‪ ،‬لن ال تعالى لم يكن ليقول{ َيمْ َ‬
‫به‪ ،‬أرأيتم مرابيا مات بخير؟ أمات مرا ٍ‬
‫اللّهُ الْرّبَا‪[} ...‬البقرة‪ ]276 :‬ثم يترك مرابيا ينمو ماله‪ ،‬ويسلم له إلى أنْ يموت‪ ،‬فإن اغتنى لحين‪،‬‬
‫فإنما غِنَاه كيد فيه‪ ،‬ومبالغة في إيذائه‪ ،‬كما جاء في الثر " إذا غضب ال على إنسان رزقه من‬
‫الحرام‪ ،‬فإن اشتد غضبه عليه بارك له فيه "‪.‬‬

‫شيْءٍ حَتّىا ِإذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ‬


‫واقرأ قول ال تعالى‪ {:‬فََلمّا نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫أُوتُواْ َأخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ مّبْلِسُونَ }[النعام‪.]44 :‬‬
‫لذلك نسمع " فلن ماهر في التجارة " ‪ " ،‬فلن يضع يده في التراب يصير ذهبا "‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫وسبق أن أوضحنا الفرق بين " فتحنا لهم " و " فتحنا عليهم "‪ " :‬لهم " أي لصالحم بالخير‪ ،‬أما "‬
‫عليهم " فيعني كيدا لهم وتحديا وإهلكا‪ ،‬فال تعالى يعطي الكافر ويُوسّع عليه زهرة الدنيا‪ ،‬حتى‬
‫إذا أخذه كان أخْذه أليما‪ ،‬كما قلنا‪ :‬إنك إنْ أردت أنَ تُوقِع عدوك ل توقعه من على الحصير‪ ،‬إنما‬
‫من مكان عالٍ حتى يكون السقوط مؤلما‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬حَتّىا ِإذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ‪[} ...‬النعام‪ ]44 :‬والفرح بالنعمة ليس ممنوعا‪ ،‬لكن‬
‫هناك فرح يُحب‪ ،‬وفرح يُكره‪ ،‬وإلّ فالحق سبحانه نسب الفرح للمؤمنين في قوله تعالى في سورة‬
‫الروم‪ {:‬وَ َي ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * بِ َنصْرِ اللّهِ‪[} ...‬الروم‪ ]5-4 :‬وقال سبحانه‪ {:‬فَ ِرحِينَ ِبمَآ آتَا ُهمُ‬
‫اللّهُ‪[} ...‬آل عمران‪ ]170 :‬وقال‪ {:‬فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ‪[} ...‬يونس‪ ]58 :‬فأثبت لهم الفرح المقبول‪،‬‬
‫وهو الفرح الذي يعقبه قولنا‪ :‬ما شاء ال ل قوة إل بال ثم تشكر ال الذي أنعم عليك‪ ،‬أما الفرح‬
‫المكروه فهوالفرح الذي يُورِثك بَطَرا وأَشَرا وكبرا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ ُثمّ رَ َز َقكُمْ ُثمّ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3373 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيْءٍ‬
‫اللّهُ الّذِي خََلقَكُمْ ثُمّ رَ َز َقكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ َهلْ مِنْ شُ َركَا ِئكُمْ مَنْ َي ْف َعلُ مِنْ ذَِلكُمْ مِنْ َ‬
‫عمّا ُيشْ ِركُونَ (‪)40‬‬
‫سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ‬

‫سبق أنْ قلنا‪ :‬إن قضية الخَلْق مُسلّم بها؛ لنها قضية لم يدّعها أحد لنفسه مع كثرة المتبجحين‬
‫بالكفر واللحاد؛ لذلك لما ادّعاها النمروذ الذي حاجّ إبراهيم في ربه فقال‪ :‬أنا أحيي وأميت‪ ،‬فعلم‬
‫إبراهيم عليه السلم أنه يريد اللجاج والسفسطة التي ل طائل منها‪ ،‬وإل فكيف يكون المر بقتل‬
‫واحد إماتة‪ ،‬والمر بترك الخر والعفو عنه إحياء؟‬
‫ثم ما بال الذين خُلِقوا قبلك وميلدهم قبل ميلدك؟ إذن‪ :‬أنت لم تخلق ولم تُحي أحدا‪ ،‬وسبق أنْ‬
‫بيّنا الفرق بين القتل والموت مع أنهما يشتركان في إنهاء الحياة وإزهاق الروح‪ ،‬لكن الموت يكون‬
‫بإزهاق الروح أولً‪ ،‬يتبعه َنقْض البنية وتحطم الجسم‪.‬‬
‫أما القتل فينقض البنية أولً َنقْضا يترتب عليه إزهاق الروح فالروح ل تقيم إل في بنية سليمة‪،‬‬
‫ومثّلنا لذلك بلمبة الكهرباء حين تحرق فينطفيء نورها‪ ،‬فهل يعني ذلك أن التيار انقطع عنها؟ ل‬
‫بل هو موجود لكنه يحتاج لبنية سليمة بدليل أننا إذا استبدلنا اللمبة تضيء‪.‬‬
‫حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يبين لنا هذا الفرق في قوله سبحانه‪َ {:‬ومَا مُ َ‬
‫عقَا ِبكُمْ‪[} ...‬آل عمران‪ ]144 :‬إذن‪ :‬فالنمروذ ل‬
‫سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ‬
‫مِن قَبْلِهِ الرّ ُ‬
‫يحيي‪ ،‬بل يُبقِي على الحياة‪ ،‬ول يُميت بل يقتل ويُزهِق الروح‪.‬‬
‫وكان بمقدور إبراهيم عليه السلم أنْ يردّ عليه هذه الحجة‪ ،‬وأنْ يكشف تزييفه‪ ،‬لكنه أراد أن يأخذه‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْل َمشْرِقِ‬
‫إلى ميدان آخر ل يستطيع التلفيق فيه ول التمحّك‪ ،‬فقال له‪ {:‬فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْرِبِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ‪[} ...‬البقرة‪.]258 :‬‬
‫كذلك مسألة الرزق فهي مُسلّمة ل لم يدّعِها أحد‪ { :‬خََل َقكُمْ ثُمّ رَ َز َقكُمْ‪[ } ...‬الروم‪.]40 :‬‬
‫بدليل أن ال تعالى جعل بعض المناطق جدباء‪ ،‬يجوع فيها القادر والعاجز‪ ،‬ويجوع فيها ذو المال‬
‫وغير ذو المال‪ ،‬ولو كان هناك رازق غير ال فَلْ ْيحُي هذه المناطق الجدباء‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬ثُمّ ُيمِي ُتكُمْ ثُمّ ُيحْيِيكُمْ‪[ } ..‬الروم‪ ]40 :‬ولم يقل‪ :‬يقتلكم { َهلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن َي ْف َعلُ‬
‫شيْءٍ‪[ } ...‬الروم‪ ]40 :‬أي‪ :‬اسألهم هذا السؤال‪ ،‬ودَعْهم يجيبون هم عليه‪ :‬أتستطيع‬
‫مِن ذَاِل ُكمْ مّن َ‬
‫ن تفعل شيئا من الخَلْق أو الرزق أو الحياء أو الماتة؟‬
‫الصنام التي تشركونها مع ال أ ْ‬
‫أفي قدرتها شيء من ذلك وأنتم الذين تصنعونها وتنحتون حجارتها بأيديكم‪ ،‬وتُصوّرونها كما‬
‫تشاؤون‪ ،‬فإذا ه ّبتْ عاصفة أطاحت بها وربما كسرت ذراع أحد الصنام فتجتمعون لقامتها‬
‫وإصلحها؟ فأين عقولكم؟ وما هذه الخيبة التي أصابتكم؟‬
‫لذلك يقول سبحانه عنهم‪ {:‬وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّ ِه لَ يَخُْلقُونَ شَيْئا وَ ُهمْ يُخَْلقُونَ }[النحل‪]20 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَهُ‪[} ...‬الحج‪ ]73 :‬بل‬
‫وأكثر من ذلك‬

‫ب وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج‪.]73 :‬‬


‫ض ُعفَ الطّاِل ُ‬
‫{ وَإِن َيسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْ ُه َ‬
‫بال‪ ،‬أيستطيع أحد أنْ يستردّ ما أخذتْه منه الذبابة؟‬
‫شيْءٍ‪{ ...‬‬
‫ونلحظ في الية تكرار (منْ) وهي للتبعيض‪َ } :‬هلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن َي ْف َعلُ مِن ذَاِلكُمْ مّن َ‬
‫[الروم‪ ]40 :‬والمعنى‪ :‬ل يستطيع أحد من شركائكم أن يفعل شيئا ولو هيّنا من الخلق‪ ،‬أو الرزق‪،‬‬
‫أو الحياء‪ ،‬أو الماتة‪.‬‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ‬
‫لذلك يجب أنْ تُعلّقوا على هذه القضايا من ال بقول واحد } سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَىا َ‬
‫{ [الروم‪ ]40 :‬ل تعليق إل هذا‪.‬‬
‫ع ُدوّ‪[} ...‬الشعراء‪ ]77 :‬أي‪ :‬أنتم وما تعبدون‬
‫لذلك لما تكلم سيدنا إبراهيم عن الصنام قال‪ {:‬فَإِ ّنهُمْ َ‬
‫من دون ال؛ لنهم كانوا يشركون آلهتهم مع ال‪ ،‬فال سبحانه داخل في هذه الشركة؛ لذلك استثناه‬
‫ربه{ ِإلّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ َيهْدِينِ }[الشعراء‪.]78-77 :‬‬
‫وتلحظ هنا في قوله{ الّذِي خََلقَنِي‪[} ...‬الشعراء‪ ]78 :‬أنه لم يؤكدها بشيء‪ ،‬ولم يذكر قبل الخَلْق‬
‫الضمير (هو)؛ لن مسألة الخَلْق كما قُلْنا لم يدّعها أحد‪ ،‬أمّا في الهداية وهي مجال ادعاء‪ ،‬فقال‬
‫(فهو) أي‪ :‬الحق سبحانه يقصر الهداية على ال{ َفهُوَ َيهْدِينِ }[الشعراء‪.]78 :‬‬
‫وفي هذا إشارة إلى أن القانون الذي يُنظم حياتي والمنهج الذي يهديني قانون ربي ل آخذه من أحد‬
‫سواه‪ ،‬وكثيرا ما نرى مَنْ يدّعي الهداية ويقول‪ :‬إنني وضعتُ قانونا يُسعِد حياة الناس‪ ،‬ويفعل كذا‬
‫وكذا‪ ،‬سمعنا هذه النغمة مرة من الرأسمالية‪ ،‬ومرة من الشتراكية‪ ،‬ومن الشيوعية‪..‬الخ‪.‬‬
‫ج إل‬
‫إذن‪ :‬هذا مجال ادعاء واسع‪ ،‬فقيّده إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬وقصره على ال‪ ،‬حيث ل منه َ‬
‫منهجُ ال‪ ،‬ول قانونَ يحكمنا إل قانون ربنا‪ ،‬كما نقول في العامية (مفيش إل هو)‪.‬‬
‫ط ِعمُنِي‪[} ...‬الشعراء‪ ]79 :‬فاستخدم القصر هنا بذكر‬
‫كذلك في مسألة الطعام قال‪ {:‬وَالّذِي ُهوَ ُي ْ‬
‫السم الموصول (الذي) ثم الضمير المفرد الغائب(هو)؛ ليؤكد أن الذي يطعمه إنما هو ال؛ لن‬
‫النسان قد يظن أن أباه هو الذي يطعمه‪ ،‬أو أن أمه هي التي تُطعمه؛ لنها ُتعِد له طعامه‪ ،‬فهما‬
‫السببان الظاهران في هذه المسألة‪ ،‬فاحتاج المر إلى أكثر من مؤكد‪.‬‬
‫ثم يقول عليه السلم‪ {:‬وَالّذِي ُيمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ }[الشعراء‪ ]81 :‬هكذا دون توكيد؛ لن الموت‬
‫طمَعُ أَن َي ْغفِرَ لِي خَطِيئَتِي َيوْمَ الدّينِ }‬
‫والحياة مسألتان مُسلّمتان ل مفروغ منهما‪ ،‬وكذلك‪ {:‬وَالّذِي أَ ْ‬
‫[الشعراء‪ ]82 :‬وهذه أيضا ل تكون إل ل تعالى‪.‬‬
‫خلَ لغير ال‬
‫إذن‪ :‬ما كان للغير فيه شبهة عمل يؤكدها ويخصّها ل تعالى‪ ،‬أما الخرى التي ل د ْ‬
‫فيها فيسوقها ُمطْلقة دون اختصاص‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ { [الروم‪]40 :‬‬
‫فالتعليق في هذا المر العجيب ل يكون إل بقولنا‪ } :‬سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَىا َ‬
‫أي‪ :‬تنزيها له عن الشركة‪ ،‬وإذا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أخبرنا أن ال تعالى قال‪:‬‬
‫ل إله إل أنا‪ ،‬ولم َيقُمْ لهذه القضية منازع‪ ،‬ولم يدّعها أحد لنفسه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهي مُسلّمٌ بها‪ ،‬وإل فإنْ كان هناك إله آخر فأين هو؟ ولماذا لم يدافع عن حقه في اللوهية؟‬
‫إن كان ل يدري فهو غافل‪ ،‬وإنْ كان يدري ولم يعارض فهو جبان‪ ،‬وفي كلتا الحالتين ل يصلح‬
‫أن يكون إلها‪.‬‬
‫لذلك ربنا حكمها بقضية واحدة‪ ،‬فقال‪ُ {:‬قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ إِلَىا ذِي‬
‫ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء‪.]42 :‬‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَرّ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬‬

‫(‪)3374 /‬‬

‫جعُونَ (‪)41‬‬
‫عمِلُوا َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ ِبمَا كَسَ َبتْ أَ ْيدِي النّاسِ لِ ُيذِي َقهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ‬
‫َ‬

‫ظهر‪ :‬بان ووضح‪ .‬والظهور‪ :‬أن يُبين شيء موجود بالفعل لكنّا ل نراه‪ ،‬وما دام الحق سبحانه‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ‪[ } ...‬الروم‪ ]41 :‬فل ُبدّ أن الفساد كان موجودا‪ ،‬لكن أصحاب الفساد عمّوه‬
‫قال‪َ { :‬‬
‫وجَنّوه إلى أن فقس وفرخ في المجتمع‪.‬‬
‫والفساد ل يظهر إنما يظهر أثره‪ ،‬أتذكرون الزلزال الذي حدث والذي كشف الفساد والغش‬
‫والتدليس بين المقاول والمهندس‪ ،‬وكانت المباني قائمة والفساد مستترا إما لغفلتنا عنه‪ ،‬أو لتواطئنا‬
‫معه‪ ،‬أو لعدم اهتمامنا بالشياء إلى أن ط ّمتْ المسائل‪ ،‬ففضح ال الرض بالزلزال‪ ،‬ليكشف ما‬
‫عندنا من فساد‪.‬‬
‫فإذا ازداد الغش‪ ،‬وانتشر وفَاقَ الحتمال ل بُدّ أن يُظهره ال للناس‪ ،‬فلم َيعُدْ أحد قادرا على أن‬
‫يقف في وجه الفساد‪ ،‬أو يمنعه؛ لذلك يتدخّل الحق سبحانه‪ ،‬ويفضح أهل الفساد ويذيقهم آثار ما‬
‫عملت أيديهم‪.‬‬
‫وتأتي ظهر بمعنى " الغلبة " كما في قوله تعالى‪ {:‬فَأَيّدْنَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَىا عَ ُدوّ ِهمْ فََأصْبَحُواْ‬
‫ظَاهِرِينَ }[الصف‪ ]14 :‬أي غالبين‪ .‬وفي سورة التحريم‪ {:‬وَإِن َتظَاهَرَا عَلَ ْيهِ‪[} ..‬التحريم‪.]4 :‬‬
‫ظهَرُوهُ َومَا اسْتَطَاعُواْ َلهُ َنقْبا }[الكهف‪.]97 :‬‬
‫وبمعنى " العلو " في قوله تعالى‪َ {:‬فمَا اسْطَاعُواْ أَن يَ ْ‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ‪[ } ...‬الروم‪ ]41 :‬أي‪ :‬غلب الصلح وعل عليه‪ ،‬والكون خلقه ال تعالى‬
‫فالمعنى { َ‬
‫على هيئة الصلح‪ ،‬وأعدّه لستقبال النسان إعدادا رائعا‪ ،‬وللتأكد من صدْق هذه المسألة انظر في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الكون وأجناسه وأفلكه وأجوائه‪ ،‬فلن ترى فسادا إل فيما تتناوله يد النسان‪.‬‬
‫أما ما ل تتناوله يد النسان‪ ،‬فل ترى فيه خللً؛ لن ال خلقه منسجمَ الجناس منسجمَ التكوين‪ {:‬لَ‬
‫ك ال َقمَرَ َولَ الّيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ يَسْ َبحُونَ }[يس‪.]40 :‬‬
‫شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ‬
‫ال ّ‬
‫فهل خلقنا الحق سبحانه وخلق اختيارنا لنفسد في الكون؟‬
‫ل‪ ،‬إنما هو ابتلء الختيار حين ينزل عليك المنهج ويجعله قانونا لحركتك بافعل ول تفعل‪ ،‬وما لم‬
‫أقُل فيه (افعل) أو (ل تفعل) فأنت حر فيه‪ ،‬فل يحدث من الفعل أو من عدمه ضرر في الكون‪،‬‬
‫أمّا أنا فقد قلت افعل في الذي يحصل منه ضرر بعدم فعله‪ ،‬وقلت ل تفعل في الذي يحصل ضرر‬
‫من فعله‪.‬‬
‫فالفساد يأتي حين تُدخِل يدك في شيء وأنت تطرح قانون ال في افعل ول تفعل‪ ،‬أما الصلح‬
‫فموجود وفيه مناعة يكافح بها الفساد‪ ،‬فإنْ عل تيار الفساد وظهر على الصلح وغلبه بان للناس‪.‬‬
‫وعندها يُنبّهنا الحق سبحانه بالحداث تطرقنا وتقول لنا‪ :‬انظروا إلى مَنْ خالف منهج ال ماذا‬
‫حدث له؛ لذلك في أعقاب الحداث نزداد عشقا ل‪ ،‬وحبا لطاعته‪ ،‬وترى الناس (تمشي على‬
‫العجين متلخبطه)‪ ،‬لكن سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه من الهمال والغفلة‪ ،‬على حَ ّد قول‬
‫ت ونلهُو حِين تَذ َهبُ مُدبرا ِتكَروْعَةِ ثُلّ ٍة لمغَارِ ذِ ْئبٍ فَلما غابَ عادتْ‬
‫الشاعر‪:‬تُروّعنا الجناَئِزُ ُمقْبِل ٍ‬
‫راتعاتِ‬

‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ‪[ { ...‬الروم‪ ]41 :‬أي‪ :‬غلب على قانون الصلح الذي أقام ال عليه‬
‫فالحق يقول‪َ } :‬‬
‫حقّ‬
‫نظام هذا الكون‪ ،‬الذي لو نالتْه يد النسان لَفسد هو الخر‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وََلوِ اتّبَعَ الْ َ‬
‫سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ‪[} ....‬المؤمنون‪.]71 :‬‬
‫س َدتِ ال ّ‬
‫أَ ْهوَآ َءهُمْ َلفَ َ‬
‫فظواهر الكون أشياء وقضايا لكل العامة‪ ،‬ومن الحكمة إلّ تنالها يد النسان؛ لن ال تعالى يريد‬
‫للكون البقاء‪ ،‬ولم ي ْأتِ أوان انتهائه‪ ،‬لذلك الحق سبحانه يجعل فينا مناعة تجعلنا نقبل الفساد إلى‬
‫حين‪ ،‬إلى أن يصل إلى درجة التشبّع‪ ،‬فتتفجر الوضاع‪.‬‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَرّ‪[ { ...‬الروم‪ ]41 :‬نتيجة لدعوته صلى ال عليه وسلم؛ لن كلمة‬
‫فقوله‪َ } :‬‬
‫(ظهر) تدل على أن شيئا وقع‪ ،‬فكأنه يقول لنا‪ :‬إنْ كررتم الفساد والغفلة تكرّر ظهور الفساد‪ ،‬فهو‬
‫يعطينا مُلخصا لما حدث بالفعل من عداوتهم لرسول ال‪ ،‬ومقاطعته وعزله وإغراء السفهاء منهم‬
‫للتحرش به‪ ،‬ثم عداوة أصحابه وإجبارهم على الهجرة إلى الحبشة حتى ل يستقر لهم قرار بمكة‪.‬‬
‫شدُد وطأتك على ُمضَر‪ ،‬واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف "‬
‫لذلك دعا عليهم رسول ال‪ " :‬اللهم ا ْ‬
‫جدْب والقحط‪ ،‬حتى ُروِي أنهم كانوا يذهبون للبحر لصيد السمك‪ ،‬فيبتعد عنهم ول‬
‫فأصابهم ال َ‬
‫يستقيم لهم فيعودون كما أتوا‪.‬‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ‪[ { ...‬الروم‪.]41 :‬‬
‫وهذا معنى } َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يوضح الحق سبحانه سبب هذا الفساد‪ِ } :‬بمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي النّاسِ‪[ { ...‬الروم‪ ]41 :‬فتلحظ هنا أن‬
‫الحق سبانه لما يذكرالرحمة ل يذكر عِلّتها‪ ،‬لكن يذكر عِلّة الفساد؛ لن الرحمة من ال سبحانه‬
‫أولً وأخيرا تفضّل‪ ،‬أما الخذ والعذاب فبَعدله تعالى؛ لذلك يُبّين لك أنك فعلت كذا‪ ،‬وتستحق كذا‪،‬‬
‫فالعلّة واضحة‪.‬‬
‫هناك قضية أخرى أحب أن أوضحها لكم‪ ،‬وهي أن الحق سبحانه يعامل خَلْقه معاملته في الجزاء‪،‬‬
‫فال يقول‪ {:‬مَن جَآءَ بِا ْلحَسَنَةِ فََلهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا‪[} ...‬النعام‪.]160 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالحسنة الواحدة تستر عشر سيئات‪ ،‬وكذلك في جسم النسان‪ ،‬فيقول بعض علماء وظائف‬
‫العضاء والتشريح‪ :‬إن الكلية بها مليون خلية يعمل منها العُشْر بالتبادل‪ ،‬فمجموعة تعمل‪ ،‬والباقي‬
‫يرتاح وهكذا‪ .‬فانظر كم ترتاح الخلية حتى يأتي عليها الدور في العمل‪.‬‬
‫فكأن ربنا ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬خلق لها العشر يقوم مقام المليون؛ لذلك قالوا لو أن في أحد‬
‫الدواوين عشرة موظفين‪ ،‬منهم واحد واحد محسن‪ ،‬يستر إساءة الباقين‪ ،‬وكثيرا ما تلحظ هذه‬
‫الظاهرة في دواوين الحكومة‪ ،‬فترى غالبية الموظفين منشغلين‪ :‬هذا يقرأ الجرائد‪ ،‬وهذا يشرب‬
‫الشاي‪ ،‬وآخر لم ي ْأتِ أصلً‪.‬‬
‫ل غارقا في العمل‪ ،‬يقصده الجميع‪ ،‬ويتحمل هو تقصير‬
‫وخلف كومة من الملفات تجد موظفا نحي ً‬
‫ظهَرَ‬
‫الخرين‪ ،‬ويؤدي عنهم‪ ،‬وبه تسير دفّة المور‪ ،‬لكن إنْ فقدنا هذا أيضا‪ ،‬فل بُدّ أن تأتي } َ‬
‫ا ْلفَسَادُ‪[ { ...‬الروم‪ ]41 :‬إذن‪ :‬إن رأيت الفساد فاعلم أنه نتيجة إهمال وغفلة فاقت كل الحدود‪.‬‬

‫وما دام الحق سبحانه قال‪ِ } :‬بمَا َكسَ َبتْ أَ ْيدِي النّاسِ‪[ { ...‬الروم‪ ]41 :‬فل بُدّ أن الفساد جاء من‬
‫ناحيتهم‪ ،‬وبال هل اشتكينا أزمة في الهواء مثلً؟ لكن نشتكي تلوث الهواء بما كسبتْ أيدي الناس‪،‬‬
‫أمّا حين نذهب إلى الخلء حيث ل يوجد النسان‪ ،‬نجد الهواء نقيا كما خلقه ال‪.‬‬
‫الحق سبحانه تكفّل لنا بالغذاء فقال‪َ {:‬وقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا‪[} ...‬فصلت‪ ]10 :‬لكنا نشتكي أزمة طعام‪،‬‬
‫لماذا؟ لن الطعام يحتاج إلى عمل‪ ،‬ونحن تكاسلنا‪ ،‬وأسأنا التصرّف في الكون‪ ،‬إما بالكسل‬
‫ن الواجد على غير‬
‫والخمول عن استخراج خيرات الرض وأقواتها‪ ،‬وإما بالنانية حيث يض ّ‬
‫الواجد‪.‬‬
‫وقد قرأنا مثلً أن أمريكا تسكب اللبن في البحر‪ ،‬وتعدم الكثير من المحصولت‪ ،‬وفي العالم أُناس‬
‫يموتون جوعا‪ ،‬إذن‪ :‬هذه أنانية‪ ،‬أما التكاسل فقد حدث منا في الماضي‪.‬‬
‫وانظر الن إلى صحرائنا التي كانت جرداء قاحلة‪ ،‬كيف اخضرت الن‪ ،‬وصارت مصدرا‬
‫للخيرات لما اهتممنا بها ويسّرنا ملكيتها للناس‪ ،‬فإنْ ض ّنتْ الرض في منقطة ما فقد جعل ال لنا‬
‫خلْق ال‬
‫سعة في غيرها‪ ،‬فالخالق سبحانه لم يجعل الرض لجنس ول لوطن‪ ،‬إنما جعلها مشاعا ل َ‬
‫جميعا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س َعةً فَ ُتهَاجِرُواْ فِيهَا‪[} ...‬النساء‪.]97 :‬‬
‫واقرأ قوله تعالى‪ {:‬أَلَمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ‬
‫ولذلك قلت في هيئة المم‪ :‬إن في القرآن آية واحدة‪ ،‬لو أخذ العالم بها لضمنت له الرخاء‬
‫ضعَهَا لِلَنَامِ }[الرحمن‪ ]10 :‬فالرض كل‬
‫ض َو َ‬
‫والستقرار والمان‪ ،‬إنها قوله تعالى‪ {:‬وَالَ ْر َ‬
‫الرض للنام كل النام‪ ،‬لكن الواقع خلف ذلك‪ ،‬فقد وضعوا للرض حدودا‪ ،‬وأقاموا عليها‬
‫الحواجز والسوار‪ ،‬فإنْ أردتَ التنقّل من قطر إلى آخر تجشّمت في سبيل ذلك كثيرا من المشاق‬
‫في إجراءات وتأشيرات‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وكانت نتيجة ذلك أن يوجد في الكون رجال ازدحموا بل أرض‪ ،‬وفي موضع آخر أرض بل‬
‫رجال‪ ،‬ولو حدث التكامل بين هذه وتلك لستقامت المور‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الذين وضعوا الحدود والحواجز في أرض ال أخذوها لنفسهم‪ ،‬فلم َت ُعدْ أرض ال الواسعة‬
‫التي تستقبل خَلْق ال من أي مكان آخر‪ ،‬إنما جعلوها أرضهم‪ ،‬وأخضعوها لقوانينهم هم‪ ،‬وتعجب‬
‫حين تتأمل حدود الدول على الخريطة‪ ،‬فهي متداخلة‪ ،‬فترى جزءا من هذه الدولة يدخل في نطاق‬
‫دولة أخرى‪ ،‬على شكل مثلث مثلً‪ ،‬أو تمتد أرض دولة في دولة أخرى على شكل لسان أو‬
‫مناطق متعرجة‪ ،‬فماذ ُدمْتم قد وضعتم بينكم حدودا‪ ،‬فلماذا ل تجعلونها مستقيمة؟‬
‫وكأن واضعي هذه الحدود أرادوها بُؤرا للخلف بين الدول‪ ،‬ول يخلو هذا التقسيم من الهوى‬
‫ض َعهَا‬
‫والعصبيات القبلية والجنسية والقومية والدينية‪ ،‬لكن لو أخذنا بقول ربنا‪ {:‬وَالَ ْرضَ َو َ‬
‫لِلَنَامِ }[الرحمن‪ ]10 :‬لما عانينا كل هذه المعاناة‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬كَسَ َبتْ‪[ { ...‬الروم‪ ]41 :‬عندنا‪ :‬كسب واكتسب‪ ،‬الغالب أن تكون كسب للحسنة‪،‬‬
‫واكتسب للسيئة؛ لن الحسنة تأتي من المؤمن طبيعة بدون تكلّف أو افتعال‪ ،‬فدلّ عليها بالفعل‬
‫المجرد (كسب)‪.‬‬

‫أما السيئة‪ ،‬فعلى خلف الطبيعة‪ ،‬فتحتاج منك إلى تكلّف وافتعال‪ ،‬فدلّ عليها بالفعل المزيد الدال‬
‫على الفتعال (اكتسب)‪.‬‬
‫َألَ ترى أنك في بيتك تنظر إلى زوجتك وبناتك كما تشاء‪ ،‬أما الجنبية فإنك تختلس النظرات إليها‬
‫وتحتال لذلك؟ فكل حركاتك مفتعلة‪ ،‬لماذا؟ لنك تفعل شيئا محرما وممنوعا‪ ،‬أما الخير فتصنعه‬
‫تلقائيا وطبيعيا بل تكلّف‪.‬‬
‫كما أن الحسنة ل تحتاج منك إلى مجهود‪ ،‬أمّا السيئة فتحتاج إلى أنْ تٌجنّد لها كل قواك‪ ،‬وأن‬
‫تحتاط‪ ،‬كالذي يسرق مثلً‪ ،‬فيحتاج إلى مجهود‪ ،‬وإلى محاربة لجوارحه؛ لنها على الحقيقة تأبى‬
‫ما يفعل‪.‬‬
‫صحَابُ‬
‫خطِيـئَتُهُ فَُأوْلَـ ِئكَ َأ ْ‬
‫طتْ بِهِ َ‬
‫سبَ سَيّئَ ًة وََأحَا َ‬
‫ومع ذلك نلحظ قوله تعالى‪ {:‬بَلَىا مَن كَ َ‬
‫النّارِ‪[} ...‬البقرة‪.]81 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فجعل السيئة كَسْبا ل اكتسابا‪ .‬قالوا‪ :‬لن السيئة هنا صارت عادة عنده‪ ،‬وسهلت عليه حتى صارت‬
‫أمرا طبيعيا يفعله ول يبالي كالذي يفعل الحسنة‪ ،‬وهذا النوع والعياذ بال أحب السيئة وعشقها‪،‬‬
‫حتى أصبح يتباهى بها ول يسترها ويتبجح بفعلها‪.‬‬
‫وهذا نسميه (فاقد)‪ ،‬فقد أصبح الشر والفساد حرفة له‪ ،‬فل يتأثر به‪ ،‬ول يخجل منه كالذي يقبل‬
‫الرّشْوة‪ ،‬ويفرح لستقبالها‪ ،‬فإن سألته قال لك‪ :‬وماذا فيها؟ أنا ل أسرق الناس‪.‬‬
‫عمِلُواْ‪[ { ...‬الروم‪ ]41 :‬الذاقة هنا عقوبة‪ ،‬لكنها عقوبة‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬لِيُذِي َقهُمْ َب ْعضَ الّذِي َ‬
‫الصلح كما تعاقب ولدك وتضر به حرصا عليه‪ ،‬وسبق أن قلنا‪ :‬إنه ل ينبغي أن نفصل الحدث‬
‫عن فاعله‪ ،‬فقد يعتدي ولد على ولدك‪ ،‬فيجرحه فتذهب به للطبيب‪ ،‬فيجرحه جرحا أبلغ‪ ،‬لكن هذا‬
‫جرح المعتدي‪ ،‬وهذا جرح المداوي‪.‬‬
‫وحين يُذيق ال النسانَ بعض ما قدّمت يداه يوقظه من غفلته‪ ،‬ويُنبّه فيه الفطرة اليمانية‪ ،‬فيحتاط‬
‫للمر ول يهمل ول يقصر‪ ،‬وتظل عنده هذه اليقظة اليمانية بمقدار وَعْيه اليماني‪ ،‬فواحد يظلّ‬
‫يقظا شهرا‪ ،‬ثم يعود إلى ما كان عليه‪ ،‬وآخر يظل سنة‪ ،‬وآخر يظل عمره كله ل تنتابه غفلة‪.‬‬
‫وقد أذاق الُ أهلَ مكة عاقبة كفرهم حتى جاعوا ولم يجدوا ما يأكلونه إل َدمَ البل المخلوط‬
‫بوبرها‪ ،‬وهو العِ ْلهِز‪.‬‬
‫جعُونَ { [الروم‪ ]41 :‬لن الكلم هنا في الدنيا‪ ،‬وهي ليستْ دار جزاء‪ ،‬فالحق‬
‫وقوله‪َ } :‬لعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫يُذيقهم بعض أعمالهم ليلتفتوا إليه سبحانه‪ ،‬ويتوبوا ويعودوا إلى حظيرة اليمان؛ لنهم عبيدة‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها‪.‬‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ‪[ { ...‬الروم‪ ]41 :‬أي‪ :‬على عهد رسول ال صلى ال‬
‫والحق سبحانه ساعة يقول } َ‬
‫عليه وسلم ليُبيّن لنا أن الرسل إنما جاءوا لنقاذ البشرية من هذا الفساد‪ ،‬لكن ما دام المر عُلّل‬
‫فالمر يدور مع العلة وجودا وعدما‪ ،‬فكلما ظهر الفساد حّلتْ العقوبة‪ ،‬فخذوها في الكون آية من‬
‫آيات ال إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫فظهر الفساد قديما{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ الصّيْحَةُ‬
‫سهُمْ‬
‫سفْنَا بِهِ الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َمهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬
‫َومِ ْنهُمْ مّنْ خَ َ‬
‫يَظِْلمُونَ }‬

‫[العنكبوت‪]40 :‬‬
‫لكن هذا الخْذ كان قبل سيدنا رسول ال في المم السابقة‪ ،‬وكان هلك استئصال؛ لن الرسل‬
‫السابقين لم يُكلّفوا بالمحاربة لجل نَشْر دعوتهم‪ ،‬فما عليهم إل نشر الدين وتبليغه‪ ،‬مع التأييد‬
‫بالمعجزات‪ ،‬فإنْ تأبّى عليهم أقوامهم تولّى الحق سبحانه عقابهم‪ ،‬أما أمة محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم فقد أكرمهم ال بألّ يعاقبها بعذاب الستئصال‪َ {.‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِ ْم َومَا كَانَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اللّهُ ُم َعذّ َبهُ ْم وَهُمْ َيسْ َت ْغفِرُونَ }[النفال‪.]33 :‬‬
‫ثم سيظهر الفساد حديثا وسيحدث العقاب‪ .‬إذن‪ :‬ليست المة السلمية بِدَعا في هذه المسألة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ‪.{ ....‬‬

‫(‪)3375 /‬‬

‫ُقلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَ ْبلُ كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ مُشْ ِركِينَ (‪)42‬‬

‫السير‪ :‬النتقال من حيز مكاني إلى حيز آخر‪ ،‬وسبق أنْ قلنا‪ :‬إن النظرة السطحية في ظاهر المر‬
‫أن السير يكون على الرض ل فيها؛ لننا نسكن على الرض ل فيها‪ ،‬لكن الحق سبحانه يُبصرنا‬
‫بقوله‪ُ { :‬قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ‪[ } ...‬الروم‪ ]42 :‬أن الرض ليست هي اليابسة والماء على سطح‬
‫الكرة الرضية‪ ،‬أما الرض فتشمل غلفها الجوي لذلك يدور معها وهو إكسير الحياة فيها؛ فل‬
‫حياة لها إل به‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهواء الرض من الرض‪ ،‬وهو أهم القوات للحياء عليها‪ ،‬فحين يقول تعالى‪َ {:‬وقَدّرَ فِيهَآ‬
‫َأ ْقوَا َتهَا‪[} ...‬فصلت‪ ]10 :‬فالهواء داخل فيها‪ ،‬لذلك قال { ُقلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ‪[ } ...‬الروم‪.]42 :‬‬
‫وقلنا‪ :‬لو أنك استقرأتَ أجناس الوجود لوجدت أنك الجنس العلى في الكون‪ ،‬وكل الجناس تحتك‬
‫تخدمك‪ ،‬فأنت تنتفع بالحيوان وبالنبات وبالجماد‪ ،‬فأدنى الجناس في الكون وهو الجماد له مهمة‬
‫يؤديها‪.‬‬
‫فأنت أيها النسان الذي كرّمك ال على كل أجناس الوجود إذا لم تبحث لك عن مهمة تؤديها في‬
‫الحياة‪ ،‬ودور تقوم به‪ ،‬فأنت أقل منزلةً من أدنى الجناس وهو الجماد‪ ،‬إذا لم تبحث بعقلك عن‬
‫شيء ترتبط به يناسب سيادتك على مَنْ دونك‪ ،‬فأنت أتفه من الحجر؛ لن الحجر له مهمة يؤديها‪،‬‬
‫وأنت ل مهمةَ لك‪.‬‬
‫لكن هذا الجنس الدنى إنْ أراد سبحانه أعطاه عزة فوق السيد المخدوم وهو النسان‪ ،‬ففي فَرْض‬
‫الحج يُسَنّ لك أن تُقبّل هذا الحجر‪ ،‬وتسعى جاهدا لكي تُقبّله‪ ،‬وتأمل النسان ‪ -‬وهو سيد هذا‬
‫الوجود ‪ -‬وهو يحاول أنْ يُقبّل الحجر‪ ،‬ويغضب إنْ لم يتمكن من ذلك‪.‬‬
‫وتأمل الردّ من دولة الحجار على مَنْ عبدها من دون ال‪:‬عَبَدُونَا ونَحْنُ أعبَدُ ل منَ القائمين‬
‫جهْلً كما َقدْ تج ّنوْه علَى ابْن مريم‬
‫صمْتنَا عَليْنَا دَليلً فَغدوْنَا َلهُم وقُودَ النا ِرقَدْ تجنّوا َ‬
‫بالسْحارِ َتخِذُوا َ‬
‫والحَوارِيَللمغَالِي جَزَاؤه والمغَالَي فيهِ تُنجِيهِ رَحْمةُ الغفّارِثم يقول سبحانه‪ { :‬فَا ْنظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ‬
‫عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَ ْبلُ‪[ } ...‬الروم‪ ]42 :‬فالسير في الرض يكون إما للسياحة والتأمل في آيات ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في كونه‪ ،‬لذلك يستخدم فيها الفاء { فَا ْنظُرُواْ‪[ } ...‬الروم‪ ]42 :‬أو يسير في الرض لطلب الرزق‪.‬‬
‫وفي آية أخرى‪ُ {:‬قلْ سِيرُواْ فِي الَرْضِ ُثمّ انْظُرُواْ‪[} ...‬النعام‪ ]11 :‬والمعنى‪ :‬سيروا في الرض‬
‫للستثمار‪ ،‬وطلب القوت‪ ،‬وقضاء المصالح‪ ،‬لكن ل يفوتكم النظر والتأمل في آيات ال وفي‬
‫مخلوقاته لتأخذوا منها العبرة والعظة‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَ ْبلُ‪[ } ...‬الروم‪ ]42 :‬أي الذين ظهر الفساد بينهم‪ ،‬فأذاقهم ال‬
‫اللم بما كسبتْ أيديهم‪ ،‬فهذه ليست عندك وحدك‪ ،‬إنما حدثتْ في المم السابقة‪ ،‬كما قال سبحانه‪{:‬‬
‫وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ّمصْبِحِينَ }[الصافات‪.]137 :‬‬
‫فهناك مدائن صالح والحقاف وعاد وثمود والفراعنة‪ ..‬إلخ انظر ما حلّ بهم بعد الحضارة‬
‫والنضارة‪ ،‬بعد ما توصلوا إليه من علم التحنيط الذي لم يعرف العلم أسراره حتى الن‪ ،‬ويضعون‬
‫مع جثث الموتى حبوب القمح أو الشعير‪ ،‬فتظل على حالها‪ ،‬بحيث إذا زُرِعت بعد آلف السنين‬
‫تنبت‪.‬‬

‫إنها قدرة علمية فائقة‪ ،‬ومع ذلك ما استطاعت هذه الحضارة أن تحمي نفسها من الندثار‪ ،‬وإذا‬
‫لوْتَادِ }[الفجر‪ ]10 :‬فقد قال عن إرم{‬
‫عوْنَ ذِى ا َ‬
‫كان القرآن قد قال عن الحضارة الفرعونية{ َوفِرْ َ‬
‫لدِ }[الفجر‪.]8 :‬‬
‫الّتِي لَمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي الْبِ َ‬
‫فأيّ حضارة هذه؟ وأين هي الن؟ طمرتها رمال الحقاف‪ ،‬ودفنتها تحت أطباق الثرى‪ ،‬ول تعجب‬
‫ت عاصفة واحدة‪ ،‬فإنها تغطي قافلة كاملة بجمالها ورجالها تحت‬
‫من ذلك‪ ،‬ففي هذه المنطقة إنْ ه ّب ْ‬
‫حفْرا‪.‬‬
‫الرض‪ ،‬فما بالك بالعواصف منذ قرون طوال؛ لذلك نجد كل الثار يتم التنقيب عنها َ‬
‫إذن‪ :‬فالحضارات مع عظمها لم تستطع أنْ تحمي نفسها من الزوال‪ ،‬وهذا دليل على وجود قوة‬
‫أعلى منها تزيلها وتقضي عليها‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬كَانَ َأكْثَرُهُمْ مّشْ ِركِينَ { [الروم‪ ]42 :‬أي‪ :‬أن القليل منهم لم يكُنْ مشركا‪ ،‬قالوا‪ :‬هذه‬
‫القِلّة هم الصبيان والمجانين‪ ،‬ومن ليس له إرادة حرة‪ ،‬وإن أخذت هذه القلة مع الكثرة المشركة‪،‬‬
‫فإن ال إنما أراد بهم خيرا؛ لن مثواهم إلى الجنة بغير حساب‪.‬‬
‫لذلك لما تكلمنا عن موسى والعبد الصالح في سورة الكهف‪ :‬لما قتل الخضر الغلم تعجّب موسى‪،‬‬
‫ففي المرة الولى خرق السفينة واعتدى على ملْك‪ ،‬أما في هذه المرة فقد أزهق روحا؛ لذلك قال‬
‫في الولى{ َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا ِإمْرا }[الكهف‪ ]71 :‬أي‪ :‬عجيبا‪ ،‬أما في الثانية فقال‪ّ {:‬لقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا‬
‫ّنكْرا }[الكهف‪.]74 :‬‬
‫ثم بيّن الخضر الحكمة من قتل الغلم فقال‪ :‬إن له أبوين صالحين‪ ،‬وفي علم ال تعالى أنه سيفسد‬
‫عليهما دينهما؛ لن الفتنة تأتي النسان غالبا من الزوجة أو من الولد‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬إِنّ مِنْ‬
‫ع ُدوّا ّلكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ‪[} ...‬التغابن‪ ]14 :‬لماذا؟ لنهما يحملنك على ما ل تطيق‪،‬‬
‫جكُ ْم وََأ ْولَ ِدكُمْ َ‬
‫أَ ْزوَا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويضطرانك ربما للسرقة أو للرشوة لتوفر لهما ما يلزمهما‪ ،‬ولن الفساد يأتي من ناحيتهما قال‬
‫ل وَلَدا }[الجن‪ ]3 :‬يعني‪ :‬طمئنوا عبادي‪ ،‬فل أحد يؤثر على إرادتي‪.‬‬
‫سبحانه‪ {:‬مَا اتّخَذَ صَاحِبَ ًة َو َ‬
‫إذن‪ :‬فالخضر صنع الجميل بالوالدين‪ ،‬حيث أنقذهما من هذا البن‪ ،‬وصنع أيضا جميلً بالغلم‬
‫ن التكليف‪ ،‬وجعل مصيره إلى الجنة‪ ،‬وربما لو تركه لكان كافرا بال عاقا‬
‫حيث قتله قبل سِ ّ‬
‫لوالديه‪ ،‬وهذا كله إنما جرى بأمر ال وحكمه‪َ } :‬ومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي‪[ { ...‬الكهف‪.]82 :‬‬
‫ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ‬
‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يقول لنبيه في هذه المسألة بداية من{ َ‬
‫ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي النّاسِ‪[} ...‬الروم‪ ]41 :‬ثم إنزال العقاب بهم جزاء ما عملتْ أيديهم وأجبتُك في‬
‫دعوتك عليهم‪.‬‬
‫كل ذلك إنما يعني أنني أقوّي مركزك‪ ،‬ولن أتخلى عنك‪ ،‬وما دام المر كذلك فإياك أن يُؤثّر فيك‬
‫مكرهم أو تركن إلى أحد منهم ممّنْ قالوا لك‪ :‬تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة‪ ،‬لكن يقول الحق‬
‫ج َهكَ لِلدّينَ ا ْلقِيّمِ‪.{ ...‬‬
‫سبحانه‪ } :‬فََأقِ ْم وَ ْ‬

‫(‪)3376 /‬‬

‫ج َهكَ لِلدّينِ ا ْلقَيّمِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا مَ َردّ لَهُ مِنَ اللّهِ َي ْومَئِذٍ َيصّدّعُونَ (‪)43‬‬
‫فََأقِ ْم وَ ْ‬

‫ج َهكَ لِلدّينَ ا ْلقِيّمِ‪[ } ...‬الروم‪ ]43 :‬يعني اطمئن يا محمد‪ ،‬وتفرغ لعبادة ال‬
‫قوله تعالى‪ { :‬فََأقِ ْم َو ْ‬
‫لنني وعدتُك بالنصر‪ ،‬وأجبتُك حين قُلْت‪ " :‬اللهم اشْ ُددْ وطأتك على ُمضَر‪ ،‬واجعلها عليهم سنين‬
‫جعُونَ }[غافر‪ ]77 :‬يعني‪:‬‬
‫كسنيّ يوسف "‪ { .‬فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُرْ َ‬
‫مَنْ لم تَنَ ْل ُه عقوبة الدنيا نالته عقوبة الخرة‪.‬‬
‫ج َهكَ‪[ } ...‬الروم‪ ]43 :‬لن الوجه محلّ التكريم‪ ،‬وسيد الكائن النساني‪ ،‬وموضع‬
‫وقال‪ { :‬فََأقِ ْم وَ ْ‬
‫العزة فيه‪ ،‬بدليل أن السجود والضراعة ل تعالى تكون بوضع هذا الوجه على الرض؛ لذلك حين‬
‫ترسل شخصا برسالة أو تُكلّفه أمرا يقضيه ب ِرجْله‪ ،‬أو بيده‪ ،‬أو بلسانه‪ ،‬أو بأيّ جارحة من‬
‫جوارحه تقول له‪ :‬أرجو أنْ تُبيّض وجهي؛ لن الوجه هو السيد‪.‬‬
‫ج َههُ‪[} ...‬القصص‪ ]88 :‬لنك ل تعرف سمة الناس‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ وَ ْ‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫إل بوجوههم‪ ،‬ومَنْ أراد أنْ يتنكر أو يُخفي شخصيته يستر مجرد عينيه‪ ،‬فما بالك إنْ ستر كل‬
‫وجهه‪ ،‬وأنت ل تعرف الشخص من قفاه‪ ،‬ول من كتفه‪ ،‬ول من رجله‪ ،‬إنما تعرفه بوجهه‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬فلن وجيه القوم‪ ،‬أو له وجاهته في القوم‪ ،‬كلها من ناحية الوجه‪.‬‬
‫وما دام قد خصّ الوجه‪ ،‬وهو أشرف شيء فيك‪ ،‬ف ُكلّ الجوارح مقصودة من باب َأوْلَى فهي تابعة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للوجه‪ ،‬فالمعنى‪ :‬أقِم يدك فيما أمرك ال أن تفعل ورجلك فيما أمرك ال أنْ تسعى‪ ،‬وقلبك فيما‬
‫أمرك ال أن تشغل به‪ ،‬وعينك فيما أمرك ال أن تنظر فيه‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫يعني‪ :‬انتهز فرصة حياتك { مِن قَ ْبلِ أَن يَأْ ِتيَ َيوْمٌ‪[ } ...‬الروم‪ ]43 :‬هو يوم القيامة { لّ مَ َردّ لَهُ‬
‫مِنَ اللّهِ‪[ } ...‬الروم‪ ]43 :‬المعنى‪ :‬أن ال حين يأتي به ل يستطيع أحد أنْ يسترده من ال‪ ،‬أو‬
‫يأخذه من يده‪ ،‬أو يمنعه أنْ يأتي به‪ ،‬أو أنه سبحانه إذا قضي المر ل يعود ول يرجع فيه‪.‬‬
‫فكلمة { مِنَ اللّهِ‪[ } ...‬الروم‪ ]43 :‬تعطينا المعنيين‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬لَهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ َيدَيْهِ‬
‫حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ‪[} ..‬الرعد‪ ]11 :‬فكيف تحفظه المعقّبات من أمر ال؟ قالوا‪ :‬كونهم‬
‫َومِنْ خَ ْلفِهِ يَ ْ‬
‫مُعقّبات للحفظ أمر صادر من ال أصلً‪ ،‬وبناءً على أمره تعالى بالحفظ‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬ي ْومَئِذٍ‪[ } ...‬الروم‪ ]43 :‬يعني‪ :‬في اليوم الذي ل مردّ له من ال { َيصّدّعُونَ } [الروم‪:‬‬
‫‪ ]43‬أي‪ :‬هؤلء الذين تكاتفوا على حربك وعلى عداوتك وإيذائك‪ ،‬وتعصّبوا ضدك { َيصّدّعُونَ }‬
‫[الروم‪ ]43 :‬أي‪ :‬ينشقّون بعضهم على بعض‪ ،‬ويتفرقون‪ ،‬وقد وردت هذه المسألة في آيات كثيرة‪.‬‬
‫والتفريق إما إيمان وكفر أي‪ :‬أشقياء وسعداء‪ ،‬وإما أن يكون التفريق في القوم الذين عاندوا‬
‫واتبعوا أتباعهم على الشرك‪ ،‬فيتبرأ كل منهم من الخر‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ‬
‫مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ‪[} ...‬البقرة‪.]166 :‬‬
‫ثم قال الحق ليبين لنا ذلك التفريق في الخرة بعلّته‪ ،‬وعِلّته ما حدث في الدنيا‪ ،‬فال تعالى ل يظلم‬
‫أحدا‪ ،‬فقال بعد ذلك‪ { :‬مَن كَفَرَ َفعَلَيْهِ ُكفْ ُر ُه َومَنْ‪.} ...‬‬

‫(‪)3377 /‬‬

‫سهِمْ َي ْمهَدُونَ (‪)44‬‬


‫ع ِملَ صَاِلحًا فَلِأَ ْنفُ ِ‬
‫مَنْ َكفَرَ َفعَلَيْهِ كُفْ ُر ُه َومَنْ َ‬

‫ن كفر فعليه‬
‫ما دامت القيامة أمرا ل مردّ له من ال‪ ،‬فلننتبه للعواقب‪ ،‬ولنحسب لها حسابا‪ ،‬فمَ ْ‬
‫كفره‪ ،‬عليه ل له‪ ،‬وهذه قضية تقتضي أن نقول في مقابلها‪ :‬ومَنْ آمن فله إيمانه‪.‬‬
‫بعد أن بيّن الدلئل الواضحة على واحديته في الكون‪ ،‬وأحديته في ذاته سبحانه‪ ،‬وبيّن الدلة‬
‫ل وتفصيلً بعد ذلك قال‪ :‬سأقول لكم أنكم‬
‫الكونية ب ُكلّ صورها برهانا وحجةً‪ ،‬وضرب أمثا ً‬
‫أصبحتم مختارين أي‪ :‬خلقتُ فيكم الختيار في التكليف حتى ل أقهر أحدا على اليمان بي‪.‬‬
‫وخَلْق الختيار في التكليف بعد القهر في غير التكليف يدلّ على أن ال تعالى ل يريد من عباده‬
‫قوالب تأتمر بأمر القهر‪ ،‬ولكنه يريد أنْ يجذب الناس بمحبوبيتهم للواحد الحد‪.‬‬
‫وإل فكان من الممكن أن يخلقهم جميعا مهتدين‪ ،‬وأنْ يخلقهم على هيئة ل تتمكّن من الكفر‪ ،‬وتسير‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إلى الطاعة مرغمة‪ ،‬كما قال سبحانه حكاية عن السماء والرض‪ {:‬أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت‪]11 :‬‬
‫وذلك يُفسّر لنا أمانة خَلْق الختيار في الناس‪.‬‬
‫لمَانَةَ عَلَى‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حينما تكلم عن هذه المسألة بوضوح قال‪ {:‬إِنّا عَ َرضْنَا ا َ‬
‫شفَقْنَ مِ ْنهَا‪[} ...‬الحزاب‪ ]72 :‬والباء هنا ليس‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫إباء تكبّر على مراد ال‪ ،‬إنما وضعوا أنفسهم في الموضع الطبيعي‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل لحمل المانة؛ لننا‬
‫ل نأمن أنفسنا ول نضمنها عند الداء‪.‬‬
‫والنسان كذلك ابن أغيار‪ ،‬فقد يحمل المانة‪ ،‬ويضمن أداءها في وقت التحمل‪ ،‬لكنه ل يضمن‬
‫ن يقبل المانة‪ ،‬ويرحب بها عند التحمل‪ ،‬ثم تطرأ عليه‬
‫نفسه عند الداء‪ ،‬وسبق أن مثّلْنا لذلك بمَ ْ‬
‫من أحداث الحياة ما يضطره لنْ يمدّ يده إلى هذه المانة وإنْ كان في نيته الداء‪ ،‬لكن يأتي وقته‬
‫فل يستطيع‪ ،‬وآخر يُقدّر هذه المسئولية ويرفض تحمل المانة‪ ،‬وهذا هو العاقل الذي يُقدّر‬
‫الظروف وتغيّر الحوال‪.‬‬
‫ن كتبتَ وشهد عليها فإنها لم َت ُعدْ أمانة‪ ،‬فالمانة إذن مردّها لختيار‬
‫ومعلوم أن المانة ل تُوثّق‪ ،‬فإ ْ‬
‫المؤتمن إنْ شاء أقرّ بها‪ ،‬وإنْ شاء أنكرها‪.‬‬
‫شفَقْنَ مِ ْنهَا‪} ..‬‬
‫حمِلْ َنهَا وََأ ْ‬
‫فالحق سبحانه قال حكاية عن السماوات والرض والجبال{ فَأبَيْنَ أَن َي ْ‬
‫[الحزاب‪ ]72 :‬لنهم يُقدّرون مسئوليتها‪ ،‬أما النسان فقد تعرّض لحملها وقال‪ :‬عندي عقل أفكر‬
‫به‪ ،‬وأختار بين البدائل‪ ،‬وسوف أؤدي‪ ،‬فضمن وقت التحمل‪ ،‬لكنهن ل يضمن وقت الداء‪ ،‬فظلم‬
‫نفسه وجهل حقائق المور‪.‬‬
‫جهُولً }[الحزاب‪ ]72 :‬ظلوما لنفسه‪ ،‬جهولً بما يمكن أنْ يطرأ‬
‫حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ‬
‫{ وَ َ‬
‫عليه من الغيار‪.‬‬
‫وما دام النسان ابن أغيار‪ ،‬فإنه ل يثبت على حال؛ لذلك قلنا‪ :‬إذا صعد النسان الجبل إلى قمته‬
‫وهو ابن أغيار فليس أمامه إل أنْ ينزل‪ ،‬والعقلء يخافون أنْ تتم لهم النعمة؛ لنه ليس بعد التمام‬
‫إل النقصان‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬

‫إِذَا َتمّ شيء بَدا َن ْقصُه تر ّقبْ َزوَالً إذَا قِيلَ َتمّفإذا قلت‪ :‬لماذا خلق ال الختيار في النسان ولم‬
‫يخلقه في الجناس التي تخدمه من جماد ونبات وحيوان؟ نقول‪ :‬كُنْ دقيقا‪ ،‬وافهم أنها أيضا خُيّرت‬
‫شفَقْنَ‪} ...‬‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ‬
‫لمَانَةَ عَلَى ال ّ‬
‫بقوله تعالى‪ {:‬إِنّا عَ َرضْنَا ا َ‬
‫[الحزاب‪.]72 :‬‬
‫إذن‪ :‬هذه الجناس أيضا خُيّرت‪ ،‬لكنها اختارت اختيارا واحدا يكفيها كل الختيارات‪ ،‬فقالت‪ :‬نريد‬
‫ن نكون مقهورين لكل ما تريد‪.‬‬
‫يا رب أ ْ‬
‫ولما كنا مختارين أعطانا ال تعالى هذه القضية‪ } :‬مَن كَفَرَ َفعَلَيْهِ ُكفْ ُرهُ‪[ { ...‬الروم‪ ]44 :‬وكلمة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(عَلَيْه) تفيد الدّيْن والوِزْر‪ ،‬و (له) تفيد النفع‪ ،‬فإذا جئنا بالمقابل بقول‪ :‬ومَنْ آمن فله إيمانه‪ ،‬كما‬
‫ن الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ }[النفطار‪.]14-13 :‬‬
‫في‪ {:‬إِ ّ‬
‫سهِمْ‬
‫ل صَالِحا فَلَنفُ ِ‬
‫ع ِم َ‬
‫عدَل إلى مسألة أخرى‪َ } :‬ومَنْ َ‬
‫لكن القرآن لم يَأْت بهذا المقابل‪ ،‬إنما َ‬
‫َي ْمهَدُونَ { [الروم‪ ]44 :‬فلماذا؟ قالوا‪ :‬لن فائدة اليمان أن تعتقد بوجود إله قادر واحد هو ال‬
‫فتؤمن به‪ ،‬فإذا ما أمرك تطيع‪ ،‬فعِلّة اليمان التكليف؛ لذلك حين تبحث أيّ تكليف إياك أنْ تنظر‬
‫إلى عِلّته فتقول‪ :‬كلفني بكذا لكذا‪ ،‬فعِلّة التكليف وحكمته عنده تعالى‪.‬‬
‫فإذا قلنا مثلً‪ :‬حكمة الصيام أنْ يشعر الغنيّ ويذوق ألم الجزع فيعطف على الفقير‪ ،‬فهل يعني هذا‬
‫ن تقول‪ :‬أصوم؛ لن ال‬
‫أن الفقير المعدَم ل يصوم؟ إذن‪ :‬ليست هذه حكمة الصيام‪ ،‬والصوب أ ْ‬
‫أراد مني أن أصوم‪ ،‬وحكمة الصيام عنده هو‪.‬‬
‫ومثّلنا لذلك ول تعالى المثل العلى‪ :‬أنت حين تشكو مرضا أو ألما تسأل عن الطبيب الماهر‬
‫والمتخصص حتى تنتهي إليه‪ ،‬وعندها تنتهي مهمة عقلك‪ ،‬فتضع نفسك بين يديه يفحصك‬
‫ويُشخّص مرضك‪ ،‬ويكتب لك الدواء‪ ،‬فل تعارضه في شيء‪ ،‬ول تسأله لماذا كتب هذا الدواء‪.‬‬
‫فإذا سألك زائر مثلً‪ :‬لماذا تأخذ هذا الدواء؟ ل تقول‪ :‬لن من خصائصه كذا‪ ،‬ومن تفاعلته كذا‪،‬‬
‫إنما تقول‪ :‬لن الطبيب وصفه لي‪ ،‬مع أن الطبيب بشر قد يخطيء‪ ،‬وقد يكتب لك دواءً‪ ،‬أو يعطيك‬
‫حقنة ترديك‪ ،‬ومع ذلك تُسلّم له بما يراه مناسبا لك‪ ،‬فإذا كنت ل تناقش الطبيب وهو خطأ‪ ،‬فكيف‬
‫تناقش ال فيما فرضه عليك وتطلب علّة لكل شيء؟‬
‫ول يناقش في عِلَل الشياء إل المساوي‪ ،‬فل يناقش الطبيبَ إلى طبيبٌ مثله‪ ،‬كذلك يجب أنْ نُسلّم‬
‫ل تعالى بعلل الشياء وحكمتها إلى أنْ يوجد ُمسَاوٍ له سبحانه يمكن أنْ يناقشه‪.‬‬
‫علّة اليمان ‪ -‬ل اليمان في ذاته ‪ -‬إنما ما يترتب عليه من طاعة أوامر‬
‫والحق سبحانه يُبيّن لنا ِ‬
‫هذا الله‪ ،‬وعلى طاعة هذه الوامر الوامر يترتب صلح الكون‪ ،‬بدليل أن ال يطلب من‬
‫ن يعارضها ويمنعهم من نشرها‪.‬‬
‫المؤمنين أنْ ينشروا الدعوة‪ ،‬وأن يُبلّغوها‪ ،‬وأن يحاربوا مَ ْ‬
‫ن تركوك وشأنك فدَعْهم‪ ،‬بدليل أن البلد‬
‫فما شُهر السيف في السلم إل لحماية بلغ الدعوة‪ ،‬فإ ْ‬
‫التي فتحها السلم ظل بها أصحاب ديانات أخرى على دياناتهم‪ ،‬وهذا دليل على أن السلم لم‬
‫يُرغِم أحدا على اعتناقه‪.‬‬

‫ل منهج‬
‫ظّ‬‫لكن ما دام السلم قد فتح البلد فل بُدّ أنْ تكون له الغَلَبة‪ ،‬وأنْ يسير الجميع معه في ِ‬
‫ال‪ ،‬فيكون للكافرِ ولغير ذي الدين ما لصاحب الدين‪.‬‬
‫فكأن الحق سبحانه يريد لقوانينه أنْ تحكم آمنت به أو لم تؤمن؛ لن صلح الكون ل يكون إل‬
‫بهذه القوانين‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فأنت حُرّ‪ ،‬تؤمن أو ل تؤمن‪ ،‬لكن مطلوب ممّنْ آمن أنْ يحمي الدعوة في البلغ‪ ،‬ثم يترك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن أبى نقول له‪ :‬لك ما لنا‪ ،‬وعليك ما علينا‪.‬‬
‫الناس أحرارا‪ ،‬مَنْ آمن فبها ونعمت‪ ،‬ومَ ْ‬
‫إذن‪ :‬فأصل اليمان لصلح الخلفة‪ ،‬ول يهتم ال سبحانه بأنك تؤمن أو ل تؤمن‪ ،‬ما دام منهج‬
‫الخلفة قائما‪ ،‬وهذا المنهج يعود نفعه على المؤمن وعلى الكافر‪ ،‬فإذا كان اليمان يُربّي النسان‬
‫على ألّ يفعل إل خيرا وصلحا‪ ،‬فالكافر ل بُدّ وأن يستفيد من هذا الصلح‪ .‬وهل قال الشرع‬
‫للمؤمن‪ :‬ل تسرق من المؤمن؟ ل إنما أيضا ل تسرق من الكافر‪ ..‬الخ‪ ،‬فالكل أمام منهج ال‬
‫سواء‪.‬‬
‫وفي القرآن آية ينبغي أنْ نتنبه لها‪ ،‬ونعرف غير المؤمنين بها‪ ،‬ليعلموا أن اليمان إنما يحمي‬
‫حكُمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ‬
‫مصلحة الناس جميعا‪ ،‬إنها قوله تعالى‪ {:‬إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِ َت ْ‬
‫خصِيما * وَاسْ َت ْغفِرِ اللّهَ‪[} ...‬النساء‪ ]106-105 :‬يعني‪ :‬إنْ خطر لك أن‬
‫اللّ ُه َولَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ َ‬
‫خوّانا أَثِيما }[النساء‪ ]107 :‬ولو‬
‫حبّ مَن كَانَ َ‬
‫تكون لصالح الخائن‪ ،‬استغفر ال من هذا{ إِنّ اللّهَ لَ ُي ِ‬
‫كان مؤمنا به‪.‬‬
‫ولهذه الية قصة مشهورة هي قصة اليهودي زيد بن السمين‪ ،‬وقد جاءت طعمة بن أبيريق ‪-‬‬
‫وكان مؤمنا ‪ -‬وقال‪ :‬يا زيد خُذْ هذه الدرع أمانة عندك فقبله زيد‪ ،‬وإذا بالدرع مسروق قد سرقه‬
‫ابن أبيريق من قتادة بن النعمان ووضعه في جوال من الدقيق‪ ،‬فكان على الدرع آثار الدقيق‪ ،‬فلما‬
‫بحث ابن النعمان عن دِرْعه دَلّه أثر الدقيق على بيت ابن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته‪.‬‬
‫ثم جاءوا به إلى النبي صلى ال عليه وسلم ليحكم في أمره‪ ،‬فقصّ عليه ما كان من أمر ابن‬
‫أبيريق‪ ،‬وأنه وضعه عنده على سبيل المانة‪.‬‬
‫حقّهم‪ ،‬وأخذ النبي‬
‫وعندها عَزّ على المسلمين أن يسرق واحد منهم‪ ،‬وأن يأخذها اليهود ذِلّة في َ‬
‫صلى ال عليه وسلم يدير المر في رأسه‪ ،‬فإنْ حكم على المسلم أخذها اليهود حجة‪ ،‬وإنْ حكم‬
‫حكُمَ بَيْنَ‬
‫للمسلم كانت عيبا وسُبّة في الدين‪ ،‬فأسعفه ربه بهذه الية‪ {:‬إِنّآ أَنْزَلْنَا ِإلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِتَ ْ‬
‫خصِيما }[النساء‪ ]105 :‬فقال‪ :‬بين الناس ل بين المؤمنين‬
‫النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّ ُه َولَ َتكُنْ لّلْخَآئِنِينَ َ‬
‫فحسب‪.‬‬

‫خصِيما }[النساء‪ ]105 :‬البعض يقولون‪ :‬ل تخاصم الخائن حتى ل‬


‫ومعنى{ َولَ َتكُنْ لّلْخَآئِنِينَ َ‬
‫يضطهدك‪ ،‬إنما المراد‪ :‬ل تكُنْ خصيما لصالحه‪ {.‬وَاسْ َت ْغفِرِ اللّهَ‪[} ...‬النساء‪ ]106 :‬إنْ طرأتْ‬
‫عليك مسألة السلم وصورته بين غير المسلمين؛ لن ال في مبدأ الصلح ل يحب كل خوّان‬
‫أثيم‪.‬‬
‫ولو أن غير المسلمين تنبهوا إلى هذه القضية‪ ،‬وعلموا أن ال تعالى عدل الحكم للمؤمنين‪ ،‬وأعلنه‬
‫لرسول ال‪ ،‬وقرر أن الحق هو الحق‪ ،‬والكل أمامه سواء المؤمن وغير المؤمن لعلموا أن السلم‬
‫هو الدين الحق ولقبلوا عليه‪ ،‬لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬من عادى ذميا فأنا خصيمه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يوم القيامة "‪.‬‬
‫لنك إنْ عاديتَه واضطهدته أو هددتْه في حياته‪ ،‬أو في عِرْضه‪ ،‬أو في ماله لصارتْ حجة له في‬
‫ل يؤمن‪ ،‬وله أنْ يقول‪ :‬إذا كان هذا هو حال المؤمنين‪ ،‬فما الميزة في السلم حتى أعتنقه؟ بل‬
‫أّ‬
‫من مصلحتي أنْ أبتعد عنه‪ ،‬لكن إنْ عاملتَه بالحق وبالخير والحسنى لعطفته إلى السلم‪ ،‬وجعلته‬
‫يُؤنّب نفسه ألّ يكون مسلما‪.‬‬
‫لذلك سبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن سيدنا إبراهيم ‪ -‬على نبينا وعليه أفضل الصلة والسلم ‪ -‬جاءه رجل‬
‫فاشتمّ منه أنه غير مسلم‪ ،‬فلما سأله قال‪ :‬أنا مجوسي فردّ الباب في وجهه‪ ،‬فانصرف الرجل‪ ،‬وإذا‬
‫بإبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬يتلقى الوحي من ال‪ :‬يا إبراهيم لم تقبل أنْ تُضيّفه لنه على غير دينك‪،‬‬
‫وأنا قبلته طوال عمره في مُلْكي وهو كافر بي‪.‬‬
‫فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به واسترضاه‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬وماذا جرى لقد طردتني‬
‫ونهرتني منذ قليل؟ فقال‪ :‬إن ربي عاتبني في أمرك‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬إنّ ربا يعاتب أنبياءه بشأن‬
‫إعدائه لحقيق أن يُعبد‪ .‬ل إله إل ال‪ ،‬إبراهيم رسول ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نفهم من هذا أن العمل الصالح هو مطلوب اليمان‪ ،‬وإذا آمنتَ بإله لتأخذ الحكم منه وأنت‬
‫ن تؤمن أو ل تؤمن المهم قاعدة الصلح في الكون وفي‬
‫مطمئن أنه إله حق‪ ،‬فل يهم بعد ذلك أ ْ‬
‫ع ِملَ صَالِحا‬
‫حركة الحياة؛ لذلك لم يقل ومَنْ آمن فله إيمانه‪ ،‬كأن المراد باليمان العمل } َومَنْ َ‬
‫سهِمْ َي ْمهَدُونَ { [الروم‪ ]44 :‬لنه ل يعمل صالحا إل إذا كان مؤمنا‪.‬‬
‫فَلَنفُ ِ‬
‫ع ِملَ صَالِحا‪...‬‬
‫ونلحظ هنا أن الية تتحدث عن صيغة المفرد‪ } :‬مَن َكفَرَ َفعَلَيْهِ ُكفْ ُرهُ َومَنْ َ‬
‫سهِمْ َي ْمهَدُونَ { [الروم‪ ]44 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬فهو يمهد‬
‫{ [الروم‪ ]44 :‬ثم يتحول إلى صيغة الجمع } فَلَنفُ ِ‬
‫لنفسه‪ ،‬فلماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن الذي يعمل الصالح ل يعمله لذاته‪ ،‬إنما له ولذريته من بعده‪ ،‬كما جاء في قوله سبحانه‪{:‬‬
‫حقْنَا ِب ِهمْ ذُرّيّ َت ُهمْ‪[} ...‬الطور‪ ]21 :‬إذن‪ :‬ساعةَ تكلم عن‬
‫وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُتهُم بِإِيمَانٍ أَ ْل َ‬
‫اليمان جاء بالمفرد‪ ،‬وساعةَ تكلم عن الجزاء جاء بصيغة الجمع‪.‬‬
‫كما أن العمل الصالح يأتي من ذات النسان‪ ،‬ويستقبله هو من غيره‪ ،‬وكلمة (مَنْ) هنا تصلح‬
‫للمفرد وللمثنى وللجمع بنوعية‪ ،‬وتحل محلّ جميع السماء الموصولة تقول‪ :‬من جاءك فأكرمه‪،‬‬
‫ومَنْ جاءتك فأكرمها‪ ،‬ومَنْ جاءاك فأكرمهما‪ ،‬ومَنْ جاءوك فأكرمهم‪.‬‬

‫‪ .‬الخ‪ .‬كذلك في هذه الية استعمل مَنْ للدللة على المفرد‪ ،‬وعلى الجمع‪.‬‬
‫س ُكمْ‪[} ...‬النور‪ ]61 :‬وهل يُسلّم النسان على‬
‫سّلمُواْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫وتأمّل قوله تعالى‪ {:‬فَِإذَا َدخَلْتُمْ بُيُوتا فَ َ‬
‫نفسه؟ قالوا‪ :‬نعم لن المؤمنين شيء واحد‪ ،‬إذا سّل ْمتَ على أحدهم فكأنك سلّمت على الجميع‪،‬‬
‫وأيضا إذا قُلْت لصاحبك السلم عليكم يردّ عليك‪ :‬وعليكم السلم‪ ،‬فكأنك سّل ْمتَ على نفسك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومعنى } َي ْمهَدُونَ { [الروم‪ ]44 :‬مأخوذة من المهْد‪ ،‬وهو فراش الطفل‪ ،‬والطفل ل ُيمَهده ول‬
‫يُسوّيه ويُهيّئه‪ ،‬ول بُدّ له من صدر حنون يُسوّي له مهده‪ ،‬ويفرشه ويُعده‪ ،‬فكأن الذي يعمل الصالح‬
‫في الدنيا يُمهّد لنفسه فراشا في الخرة‪ ،‬كما يحكي أبو منصور بن حازم عن أبي عبد ال بن‬
‫الحسين يقول‪ :‬العمل الصالح يسبق صاحبه إلى الجنة ليمهد له فراشه‪ ،‬كما يمهد الخادم لحدكم‬
‫فراشه‪.‬‬
‫لذلك سبق أن قلنا‪ :‬إن الذين يؤثرون على أنفسهم يؤثرون من الفانية ليُدّخر لهم في الباقية‪ ،‬و "‬
‫سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما أُهديت له الشاة‪ ،‬وعاد ليسأل أم المؤمنين عائشة عنها‬
‫فقال لها‪ " :‬ماذا صنعت بالشاة؟ " فقالت‪ :‬ذهبتْ كلّها إل كتفها‪ ،‬يعني‪ :‬تص ّد َقتْ بها إل كتفها‪ ،‬فقال‬
‫سيدنا رسول ال‪ " :‬بل‪ ،‬بقيت كلها إل كتفها "‪.‬‬
‫ستَ فأبليتَ‪ ،‬أو أكلتَ‬
‫وفي حديث آخر‪ " :‬يا بْن آدم‪ ،‬تقول‪ :‬مالي مالي‪ ،‬وهل لك من مالك إل ما لب ْ‬
‫ت فأبقيت "‪.‬‬
‫فأفنيتَ‪ ،‬أو تص ّد ْق َ‬
‫والمام علي رضي ال عنه يسأله أحدهم‪ :‬أنا من أهل الدنيا‪ ،‬أم من أهل الخرة؟ فقال المام‪:‬‬
‫الجواب عندك أنت‪ ،‬فقال‪ :‬كيف؟ قال‪َ :‬هبْ أنه دخل عليك شخص بهدية‪ ،‬وآخر يطلب منك صدقة‬
‫فليّهما تبشّ؟ إنْ كنت تبش لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا وأن كنت تبشّ لطالب الصدقة‬
‫فأنت من أهل الخرة‪.‬‬
‫ذلك لن النسان يحب ما يعمر له محبوبه‪ ،‬فإنْ كان من أهل الدنيا يحب ما يعمرها له‪ ،‬وإنْ كان‬
‫من أهل الخرة يحب مَنْ يعمر له آخرته‪.‬‬
‫ثم يعلل الحق سبحانه لماذا يمهدون لنفسهم‪ } :‬لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُواْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3378 /‬‬

‫حبّ ا ْلكَافِرِينَ (‪)45‬‬


‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ مِنْ َفضْلِهِ إِنّهُ لَا ُي ِ‬
‫لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬

‫عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ‪} ...‬‬


‫وذكر هنا اليمان فقال { لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُواْ‪[ } ...‬الروم‪ ]45 :‬ثم { وَ َ‬
‫[الروم‪ ]45 :‬حتى ل يظن أحد أن العمل الصالح ربما يُغني عن اليمان‪ .‬وهذه مسألة شغلتْ كثيرا‬
‫من الفلسفة‪ ،‬يقولون‪ :‬كيف أن الرجل الكافر الذي يعمل الصالحات ل يُجازى عليها؟‬
‫نقول له‪ :‬أُجر ويُجازى على عمله الصالح لكن في الدنيا؛ لنه لم يعمل ل‪ ،‬بل عمل للشهرة‬
‫وللصيت‪ ،‬وقد أخذ منها تكريما وشهوة وتخليدا لِذكْراه وأقيمت لهم التماثيل‪ ..‬إلخ‪ ،‬أما جزاء‬
‫الخرة فلمَنْ عمل العمل لوجه ال خالصا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والقرآن يُنبّهنا إلى هذه المسألة يقول‪ :‬إياكم أنْ ُتغَشّوا بمن يعمل العمال للدنيا‪َ {:‬وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا‬
‫جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان‪.]23 :‬‬
‫ع َملٍ َف َ‬
‫عمِلُواْ مِنْ َ‬
‫َ‬
‫وجاء في الحديث‪ " :‬فعلتَ ليُقال وقد قيل " نعم بنيت مسجدا‪ ،‬لكن كتبت عليه‪ :‬بناه فلن‪ ،‬وشرّف‬
‫الفتتاح فلن‪ ..‬الخ فماذا تنتظر بعد ذلك‪ ،‬إن ربك يريد العمل الخالص لوجهه تعالى‪ ،‬كما جاء في‬
‫الحديث " ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما فعلت يمينه "‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُواْ‪[ } ...‬الروم‪ ]45 :‬يدل على أن العمل الصالح إنْ كان صالحا‬
‫بحقّ يفيد صاحبه في الدنيا‪ ،‬لكن ل يفيده في الخرة إل أن يكون صادرا عن إيمان بال‪ ،‬ثم يربط‬
‫اليمان بالعمل الصالح حيث ل يغني أحدهما عن الخر‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬مِن َفضْلِهِ‪[ } ...‬الروم‪ ]45 :‬أي‪ :‬تفضّلً من ال‪ ،‬حتى ل ينخدع أحد بعمله‪ ،‬ويظن‬
‫أنه نجا به‪ ،‬وهذه المسألة موضع نقاش بين العلماء يقولون‪ :‬مرة يقول القرآن { مِن َفضْلِهِ‪} ...‬‬
‫[الروم‪ ]45 :‬ومرة يقول‪ {:‬ا ْدخُلُواْ الْجَنّةَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }[النحل‪ ]32 :‬أي‪ :‬أنها حق لكم بما قدّمتم‬
‫من عمل‪ ،‬فهل الجنة حق للمؤمنين أم فضل من ال؟‬
‫ونقول‪ :‬العمل الذي يطلبه ال تكليفا من المؤمنين به يعود على مَنْ؟ يعود على النسان‪ ،‬ول‬
‫يستفيد ال منه بشيء؛ لن له تعالى صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق‪.‬‬
‫لذلك قال في الحديث القدسي‪ " :‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى‬
‫قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكي قدر جناح بعوضة‪ ،‬ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم‬
‫وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلْكي قدر جناح بعوضة‪ ،‬ولو أن‬
‫أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد‪ ،‬فسألني ُكلّ مسألته فأعطيتها له ما نقص‬
‫جوَاد ماجد واجد‪ ،‬عطائي‬
‫ذلك مما عندي إل كمغرز إبرة إذا غمسه أحدكم في بحر‪ ،‬ذلك أنّي َ‬
‫كلم‪ ،‬وعذابي كلم‪ ،‬إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له‪ :‬كُنْ فيكون "‪.‬‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬مَا عِن َد ُكمْ يَنفَ ُد َومَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ‪} ...‬‬

‫[النحل‪.]96 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالعمال التكليفية لخير النسان نفسه‪ ،‬وإنْ كانت في الظاهر تقييدا لحريته‪ ،‬فهو مثلً يريد‬
‫أنْ يسرق ليزيد ماله‪ ،‬فنأخذ على يديه‪ ،‬ونمنعه ونقول له‪ :‬تنبّه أننا منعناك من السرقة وأنت واحد‪،‬‬
‫ومنعنا الناس جميعا أنْ يسرقوا منك‪ ،‬فأنت إذن المستفيد من منهج ال‪ ،‬فل تنظر إلى ما أخذه منك‬
‫التكليف‪ ،‬ولكن انظر إلى ما أعطاك هذا التكليف من الغير‪.‬‬
‫وما دام التكليف كله في مصلحتك ولخيرك أنت‪ ،‬فإنْ أثابك ال عليه بعد ذلك فهو فضل من ال‬
‫ن تفوقت سأعطيك كذا وكذا مع أنه المستفيد من التفوق‪ ،‬فتكون‬
‫عليك‪ ،‬كما تقول لولدك مثلً؛ إ ْ‬
‫الجائزة بعد ذلك فضلً‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن يتقن عمله‪ ،‬وأن يجتهد فيه؛ لذلك يعطيه مكافأة عليه مع‬
‫كذلك الحق تبارك وتعالى يحب عبده أ ْ‬
‫أننا المستفيدون منه‪.‬‬
‫حقّ‪[} ...‬النور‪ ]25 :‬فجعله حقا عليه سبحانه‪ ،‬كما قال‪{:‬‬
‫ويقول سبحانه‪َ {:‬ي ْومَئِذٍ ُي َوفّيهِمُ اللّهُ دِي َن ُهمُ الْ َ‬
‫حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنينَ }[الروم‪.]47 :‬‬
‫َوكَانَ َ‬
‫ولو بحثنا كلمة " حق " فلسفيا لوجدنا أن كل حق لك يقابله واجب على غيرك‪ ،‬فل يكون حقا لك‬
‫إل إذا كان واجبا على غيرك‪ ،‬فحقّك هنا واجب إذن على ال تعالى‪ ،‬لكن الواجب يقتضي مُوجبا‬
‫فمَنْ أوجب على ال؟ ل أحد؛ لنه سبحانه أوجبه على نفسه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق الذي جعله لك تفضّلً منه سبحانه‪ ،‬والحق في أنه جعل لك حقا‪ ،‬كالذي ليس له حق‬
‫في الميراث‪ ،‬فيتفضل عليه واحد في التركة ويجعل له وصية يكتبها له‪ ،‬فتصير حقا واجبا‪ ،‬له أن‬
‫يطالب الورثة به شرعا؛ لن المورّث تفضّل وجعله حقا له‪.‬‬
‫حبّ ا ْلكَافِرِينَ { [الروم‪ ]45 :‬نلحظ في الية أنها تتحدث عن جزاء‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬إِنّ ُه لَ ُي ِ‬
‫ن يلفت نظر عبده الكافر إلى‬
‫المؤمنين‪ ،‬فما مناسبة ِذكْر الكافرين هنا؟ قالوا‪ :‬لن ال تعالى يريد أ ْ‬
‫اليمان ومزاياه‪ ،‬كأنه يقول له‪ :‬تعال إلى اليمان لتنال هذا الجزاء‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ -‬ول المثَل العلى ‪ -‬رجل عنده ثلثة أولد وَعَدهم بهدية لكل مَنْ ينجح في دراسته‪،‬‬
‫فجاء آخر العام ونجح اثنان‪ ،‬وأخذ كل منهما هديته‪ ،‬وتألم الوالد للثالث الذي أخفق وتمنى لو كان‬
‫مثل أخويْه‪.‬‬
‫خلْق جميعا مؤمنين لينالوا جزاء‬
‫وكذلك الحق سبحانه ل يحب الكافرين؛ لنه يحب أن يكون ال َ‬
‫اليمان؛ لن الجميع عباده‪ ،‬وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها‪ ،‬وهم خِلْقته وصَنْعته‪ ،‬وهل‬
‫رأيتم صانعا حطم صنعته وكسرها‪ ،‬إذن‪ :‬فال تعالى حريص على عباده حتى الكافر منهم‪.‬‬
‫طعِم‬
‫وجاء في الحديث القدسي‪ " :‬قالت السماء‪ :‬يا رب ائذن لي أن أسقط كِسَفا على ابن آدم‪ ،‬فقد َ‬
‫خيرك‪ ،‬ومنع شكرك‪ ،‬وقالت الرض‪ :‬يا رب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع‬
‫شكرك‪ ،‬وقالت الجبال‪ :‬يا رب ائذن لي أن أخرّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك‪ ،‬وقالت‬
‫طعِم خيرك ومنع شكرك‪ .‬فماذا قال الرب الخالق‬
‫البحار‪ :‬يا رب ائذن لي أن أُغرق ابن آدم‪ ،‬فقط َ‬
‫للجميع؟ قال‪ " :‬دعوني ومن خلقتُ‪ ،‬لو خلقتموهم لرحمتموهم‪ ،‬إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم‪ ،‬وإنْ لم‬
‫يتوبوا فأنا طبيبهم "‪.‬‬

‫لذلك يفرح ال تعالى بتوبة عبده حين يعود إليه بعد إعراض‪ ،‬ويضرب لنا سيدنا رسول ال مثلً‬
‫لتوضيح هذه المسألة فيقول‪ " :‬ل أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره‪ ،‬وقد أضله‬
‫في فلة "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حبّ لهم‬
‫فال ل يحب الكافرين لنهم لم يكونوا أهلً لتناول هذا الفضل‪ ،‬وما ذاك إل لنه سبحانه ُم ِ‬
‫حريص على أن ينالهم خيره وعطاؤه‪.‬‬
‫سلَ الرّيَاحَ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومِنْ آيَاتِهِ أَن يُ ْر ِ‬

‫(‪)3379 /‬‬

‫حمَتِ ِه وَلِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ بَِأمْ ِر ِه وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضِْلهِ‬
‫ت وَلِيُذِي َقكُمْ مِنْ َر ْ‬
‫سلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَا ٍ‬
‫َومِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْ ِ‬
‫شكُرُونَ (‪)46‬‬
‫وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬

‫هذه ِنعَم خمس من ِنعَم ال على عباده‪.‬‬


‫فإرسال الرياح وحدها نعمة‪ ،‬وتبشيرها بالمطر نعمة‪ ،‬وإجراء الفُلْك نعمة‪ ،‬والبتغاء من فضل ال‬
‫شكْر على هذا كله نعمة أخرى‪.‬‬
‫نعمة‪ ،‬ثم ال ّ‬
‫ن يلفت النظار‪ ،‬وألّ يغفل النسان‬
‫واليات‪ :‬جمع آية‪ ،‬وهي كما قلنا‪ :‬الشيء العجيب الذي يجب أ ْ‬
‫عنه طرفة عَيْن‪ ،‬ومن ذلك قولنا‪ :‬فلن آية في الفصاحة‪ ،‬أو آية في الجمال‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وتُطلق اليات ويراد بها معَان ثلثة‪ :‬آيات كونية تلفت إلى المكوّن سبحانه‪ ،‬وتثبت قدرة الخالق‪{.‬‬
‫س وَا ْل َقمَرُ‪[} ...‬فصلت‪.]37 :‬‬
‫شمْ ُ‬
‫ل وَال ّنهَا ُر وَال ّ‬
‫َومِنْ آيَاتِهِ الّي ُ‬
‫صدْقهم في البلغ عن ال‪ ،‬ثم اليات التي‬
‫وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل؛ لتثبت ِ‬
‫تحمل الشرع والحكام‪ ،‬وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج ال‪.‬‬
‫صدْقهم في البلغ عن ال‪ ،‬ثم اليات التي‬
‫وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل؛ لتثبت ِ‬
‫تحمل الشرع والحكام‪ ،‬وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج ال‪.‬‬
‫سلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ‪[ } ...‬الروم‪:‬‬
‫وهنا يتكلم الحق سبحانه عن اليات الكونية { َومِنْ آيَا ِتهِ أَن يُ ْر ِ‬
‫‪ ]46‬كلمة الرياح جمع ريح‪ ،‬والرياح هنا بالمعنى العام‪ :‬الهواء‪ ،‬وهو أنواع‪ :‬هواء ساكن{ إِن يَشَأْ‬
‫سكِنِ الرّيحَ‪[} ...‬الشورى‪.]33 :‬‬
‫يُ ْ‬
‫والهواء الساكن يضايق النسان‪ ،‬حيث يُصعّب عليه عملية التنفس‪ ،‬فيجلب الهواء لنفسه إما بيده أو‬
‫بمروحة‪ .‬لماذا؟ ليجدد الكسوجين في الهواء المحيط به فيستطيع التنفس‪ ،‬والهواء يأتي مرة ساخنا‬
‫يلفح الوجوه‪ ،‬ومرة نسيما مُنعِشا عليلً‪ ،‬ويأتي عاصفا مدمرا‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫والحق سبحانه ‪ -‬كما سبق أنْ بينّا ‪ -‬رتّب مقومات حياة الخليقة في الرض على‪ :‬الهواء‪ ،‬ثم‬
‫الماء‪ ،‬ثم الطعام على هذا الترتيب‪ ،‬وحَسْب أهمية هذه المقومات‪ .‬فالهواء هو أهم مُقوّم في حياة‬
‫الكائن الحي‪ ،‬حيث ل يصبر عليه النسان إل لحظة بمقدار شهيق وزفير ولو حُبس عنه لمات‪ .‬ثم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الماء ويصبر عليه النسان إلى عشرة أيام‪ .‬ثم الطعام ويصبر عليه إلى شهر‪.‬‬
‫لذلك من حكمة الخالق سبحانه ألّ يُملّك الهواء لحد‪ ،‬ولو ملكه أحد وغضب عليك لمتّ قبل أنْ‬
‫يرضى عنك‪ ،‬أما الماء فقليل أنْ يُملكه للناس‪ ،‬أما الطعام فكثيرا ما يملك؛ لن النسان يصبر عليه‬
‫فترة طويلة تُمكّنه أن يكتسبه‪ ،‬ويحتال عليه‪ ،‬أو لعل مالكَ الطعام يرقّ قلبه ويعطيك‪.‬‬
‫لذلك نسمع من عبارات التهديد‪ :‬وال لكتم أنفاسه‪ ،‬كأن هذه العملية هي أقسى ما يمكن ِفعْله؛ لنك‬
‫ن منعتَ عنهَ الهواء فهي نهايته‪ ،‬وهي أسرع وسائل‬
‫قد تمنع عنه الماء أو الطعام ول يموت‪ ،‬لكن إ ْ‬
‫البادة للنسان وأيسرها وأقلّها أثرا‪ ،‬فل يترتب عليها دم ول جروح مجرد منديل مبلل بالماء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الهواء مُقوّم هام حياة وإماتة‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إذا حُبِس الهواء أو سكن ل يتجدد فيه الكسوجين فيتضايق النسان؛ لن أنفاسه تكتم‪ ،‬أما‬
‫إذا حدثت في المكان رائحة كريهة فترى الجميع يضج‪ :‬افتحوا النوافذ‪ ،‬لماذا؟ ليتجدد الهواء‪.‬‬

‫إذن‪ :‬إرسال الرياح في ذاتها نعمة‪ ،‬فإذا كان فيها برودة وشعرت بطراوتها فهي تُبشّرك بالمطر؛‬
‫لذلك كان العربي يعرف المطر قبل وقوعه ويُقدّر مسافة السحابة التي ستمطره‪ ،‬إذن‪ :‬فالتبشير‬
‫بالمطر نعمة أخرى‪.‬‬
‫حمَتِهِ‪...‬‬
‫وهاتان النعمتان إرسال الرياح وإنزال المطر‪ ،‬ل دخلَ للنسان فيهما } وَلِيُذِي َقكُمْ مّن رّ ْ‬
‫{ [الروم‪ ]46 :‬أي‪ :‬بالمطر أما في آية الفلك } وَلِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ بَِأمْ ِرهِ‪[ { ...‬الروم‪ ]46 :‬فنسب‬
‫الجريان إلى الفُلْك لن للنسان يدا فيها وعملً‪ ،‬فهو صانعها ومُسيّرها بأمر ال } وَلِتَبْ َتغُواْ مِن‬
‫شكُرُونَ { [الروم‪ ]46 :‬أي‪ :‬تسيرون في البحر للصيد وطلب الرزق‪ ،‬أو حتى‬
‫َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫للنزهة والسياحة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الية التي ل دخلَ للنسان فيها تُنسَب إلى ال وحده‪ ،‬وإنْ كان للنسان فيها عمل نسبها إليه‪،‬‬
‫كما في قوله تعالى‪َ {:‬أفَرَأَيْ ُتمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخُْلقُونَهُ أَم نَحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ * َنحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْوتَ‬
‫َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ * عَلَىا أَن نّ َب ّدلَ َأمْثَاَلكُ ْم وَنُنشِ َئكُمْ فِي مَا لَ َتعَْلمُونَ }[الواقعة‪.]61-58 :‬‬
‫فأعطانا نعمة الحياة‪ ،‬ثم ذكر ما ينقضها‪ ،‬حتى ل نستقبل الحياة بغرور‪ ،‬ولما كانت آية الحياة وآية‬
‫الموت ل دخلَ للنسان فيها اكتفى بهذا الستفهام{ أَأَن ُتمْ تَخُْلقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَاِلقُونَ }[الواقعة‪]59 :‬‬
‫ول أحدَ يستطيع أنْ يقول أنا خلقتُ‪.‬‬
‫أما في آية الحَرْث‪ ،‬فنسب الحرث إلى النسان؛ لن عمله كثير في هذه الية‪ ،‬حيث يحرث ويبذر‬
‫جعَلْنَاهُ حُطَاما‪[} ...‬الواقعة‪ ]65 :‬وأكدَ‬
‫ويروي‪ ..‬إلخ لذلك قال في َنقْض هذه النعمة{ َلوْ نَشَآءُ لَ َ‬
‫الفعل باللم حتى ل تغترّ بعملك في الزرع‪.‬‬
‫أما في الماء‪ ،‬فلم يذكر هذا التوكيد؛ لن الماء نعمة ل يدَ للنسان فيها؛ لذلك قال في نقضها{ َلوْ‬
‫جعَلْنَاهُ ُأجَاجا‪[} ...‬الواقعة‪ ]70 :‬بدون توكيد‪.‬‬
‫نَشَآءُ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شكُرُونَ { [الروم‪ ]46 :‬وهذه النعمة هي كنز النعم كلها وعقالها‪ ،‬فإنْ‬
‫النعمة الخامسة‪ } :‬وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫شكَرْتُ ْم لَزِيدَ ّنكُمْ‪[} ...‬إبراهيم‪.]7 :‬‬
‫شكرتَ ل نعمة عليك زادك منها‪ {:‬وَإِذْ تَأَذّنَ رَ ّبكُمْ لَئِن َ‬
‫وبعد ذلك يُسلّي الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم‪ } :‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ رُسُلً إِلَىا‬
‫َق ْومِهِمْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3380 /‬‬

‫حقّا عَلَيْنَا‬
‫وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ ُرسُلًا إِلَى َق ْومِهِمْ فَجَاءُو ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ فَانْ َتقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْ َرمُوا َوكَانَ َ‬
‫َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)47‬‬

‫ن كنتَ تعبت في الدعوة‪ ،‬ولقيت من صناديد قريش عنتا وعنادا وإيذا ًء ومكرا‬
‫يعني‪ :‬يا محمد‪ ،‬إ ْ‬
‫وتبييتا‪ ،‬فنحن مع ذلك نصرناك‪ ،‬وخُذْ لك أسوة في إخوانك من الرسل السابقين‪ ،‬فقد تعرّضوا لمثل‬
‫ما تعرضتَ له‪ ،‬فهل أسلمنا رسولنا لعدائه؟ إذن‪ :‬اطمئن‪ ،‬فلن ينال هؤلء منك شيئا‪.‬‬
‫ومعنى { َفجَآءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ‪[ } ...‬الروم‪ ]47 :‬أي‪ :‬اليات الواضحات التي تثبت صدقهم في البلغ‬
‫عن ال‪ ،‬ومع ذلك لم يؤمنوا وكذّبوا { فَان َت َقمْنَا مِنَ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ‪[ } ...‬الروم‪ ]47 :‬وهنا إيجاز‬
‫لمر يُفهم من السياق‪ ،‬فلم يقُل القرآن أنهم كذبوا‪ ،‬إنما جاء بعاقبة التكذيب { فَان َت َقمْنَا‪[ } ...‬الروم‪:‬‬
‫‪.]47‬‬
‫وهذا اليجاز واضح في قصة هدهد سليمان‪ ،‬في قوله تعالى‪ {:‬ا ْذهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا فَأَ ْلقِهْ إِلَ ْيهِمْ ُثمّ‬
‫جعُونَ }[النمل‪ ]28 :‬وحذف ما بين العبارتين من أحداث تُفهَم من السياق‪،‬‬
‫َت َولّ عَ ْنهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْ ِ‬
‫وهذا مظهر من مظاهر بلغة القرآن الكريم‪.‬‬
‫وتكذيب المم السابقة لليات التي جاءتهم على أيدي الرسل دليل على أنهم أهل فساد‪ ،‬ويريدون‬
‫أن ينتفعوا بهذا الفساد‪ ،‬فشيء طبيعي أنْ يعاندوا الرسل الذين جاءوا للقضاء على هذا الفساد‪ ،‬وأنْ‬
‫يضطهدوهم‪ ،‬فيغار ال تعالى على رسله { فَان َتقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْ َرمُواْ‪[ } ...‬الروم‪.]47 :‬‬
‫حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنينَ } [الروم‪ ]47 :‬وما كان ال تعالى ليرسل‬
‫ثم يقرر هذه القضية‪َ { :‬وكَانَ َ‬
‫رسولً‪ ،‬ثم يُسلِمه لعدائه‪ ،‬أو يتخلى عنه؛ لذلك قال سبحانه في موضع آخر‪ {:‬وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا‬
‫ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َل ُهمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪.]173-171 :‬‬
‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬ل ينبغي أن تبحث في هذه الجندية‪ :‬أصادق هذا الجندي في الدفاع عن السلم أم‬
‫غير صادق؟ إنما انظر في النتائج‪ ،‬إنْ كانت له الغلبة فاعلم أن طاقة اليمان فيه كانت مخلصة‪،‬‬
‫وإنْ كانت الخرى فعليه هو أن يراجع نفسه ويبحث عن معنى النهزام الذي كان ضد السلم في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نفسه‪ ،‬لنه لو كان من جٌنْد ال بحق لتحقق فيه{ وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪ ]173 :‬ول‬
‫يُغلب جند ال إل حين تنحلّ عنهم صفة من صفات الجندية‪.‬‬
‫وتأمل مثلً ما حدث في غزوة أحد‪ ،‬حيث انهزم المسلمون ‪ -‬وإنْ كانت كلمة الهزيمة هنا ليست‬
‫ن في‬
‫على سبيل التحقيق لن المعركة كانت سجالً‪ ،‬وقد انتصروا في أولها‪ ،‬لكن النهاية لم تكُ ْ‬
‫صالحهم؛ لن الرماة خالفوا أمر رسول ال‪ ،‬والهزيمة بعد هذه المخالفة أمر طبيعي‪.‬‬
‫وهل كان يسرّك أيها المسلم أنْ ينتصر المسلمون بعد مخالفتهم أمر رسولهم؟ وال لو انتصروا مع‬
‫مخالفتهم لمر رسولهم لهانَ كل أمر لرسول ال بعدها‪ ،‬ولقالوا‪ :‬لقد خالفنا أمره وانتصرنا‪ .‬إذا‬
‫صدْق‬
‫فمعنى ذلك أن المسلمين لم ينهزموا‪ ،‬إنما انهزمت النهزامية فيهم‪ ،‬وانتصر السلم ب ِ‬
‫مبادئه‪.‬‬
‫عجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُتكُمْ‪[} ...‬التوبة‪ ]25 :‬حتى أن‬
‫كذلك في يوم حنين الذي يقول ال فيه{ وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَ ْ‬
‫الصّديق نفسه يقول‪ :‬لن نُغلَب اليوم عن قلة‪ ،‬فبدأت المسألة بالهزيمة‪ ،‬لكن المر كما تقول‬
‫(صعبوا على ربنا) فأنزل السكينة عليهم‪ ،‬وشاء سبحانه أن يسامحهم في هذه الزلّة مراعاة لخاطر‬
‫أبي بكر‪.‬‬
‫حقّ على ال‪،‬‬
‫علَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنينَ } [الروم‪ ]47 :‬نعم‪ ،‬نصر المؤمنين َ‬
‫حقّا َ‬
‫فقوله تعالى { َوكَانَ َ‬
‫أوجبه سبحانه على نفسه‪ ،‬فهو تفضّل منه سبحانه‪ ،‬كما يتفضل الموصِي بماله على الموصى له‪.‬‬
‫سلُ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬اللّهُ الّذِي يُرْ ِ‬

‫(‪)3381 /‬‬

‫سفًا فَتَرَى ا ْلوَ ْدقَ‬


‫جعَلُهُ ِك َ‬
‫سمَاءِ كَ ْيفَ يَشَا ُء وَيَ ْ‬
‫طهُ فِي ال ّ‬
‫سلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُ ُ‬
‫اللّهُ الّذِي يُرْ ِ‬
‫يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا َأصَابَ بِهِ مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ إِذَا هُمْ َيسْتَبْشِرُونَ (‪)48‬‬

‫سوْق السحاب‪ ،‬وإنزال المطر‪،‬‬


‫الحق سبحانه يعطينا هنا مذكرة تفصيلية لعملية حركة الرياح‪ ،‬و َ‬
‫سلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ‪[} ...‬الحجر‪:‬‬
‫وكلمة الرياح إذا جُم َعتْ دّلتْ على الخير كما في قوله تعالى‪ {:‬وَأَرْ َ‬
‫‪.]22‬‬
‫أي‪ :‬تُلقّح النباتات فتأخذ من الذكَر‪ ،‬وتضع في النثى‪ ،‬فيحدث الثمار‪ ،‬ومن عجيب هذه العملية أن‬
‫ترى الذكر والنثى في العود الواحد كما في نبات الذرة مثلً‪ ،‬ففي (الشّوشة) أعلى العود حبات‬
‫اللقاح الذكر‪ ،‬وفي الشعيرات التي تخرج من الكوز متصلة بالحبات توجد أعضاء النوثة‪ ،‬ومع‬
‫حركة الرياح تتناثر حبات اللقاح من أعلى وتنزل على هذه الشعيرات‪ ،‬فتجد الشعيرة التي لُقحت‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تنمو الحبة المتصلة بها‪ ،‬أما الخرى التي ل يصلها اللقاح فتموت‪.‬‬
‫ل محصولً من التي تليها‪ ،‬لماذا؟‬
‫ولذلك نلحظ أن العيدان التي في مهبّ الريح أو ناحية بحري أق ّ‬
‫لن الرياح تحمل حبّات لقاحها إلى العيدان الخرى التي تليها‪ ،‬فيزداد محصولها‪.‬‬
‫فإذا كانت بعض النباتات نعرف فيها الذكر من النثى كالنخيل‪ ،‬والجميز مثلً‪ ،‬فأين الذكر والنثى‬
‫في القمح‪ ،‬أو في الجوافة‪ ،‬أو في الموز‪.‬‬
‫صغُرت فيها أهداب دقيقة مثل القطيفة‬
‫ولما درسوا حبوب اللقاح هذه وجدوا أن كل حبة مهما َ‬
‫تتناثر مع الرياح‪ ،‬ويحملها الهواء إلى أماكن بعيدة؛ لذلك ترى الجبال والصحراء تخضرّ بعد‬
‫نزول المطر‪ ،‬فمَنْ بذر فيها هذه البذور؟ إنها الرياح اللواقح بقدرة الخالق عز وجل‪.‬‬
‫ظهْ ِرهِ‪[} ...‬الشورى‪]33 :‬‬
‫سكِنِ الرّيحَ فَ َيظْلَلْنَ َروَاكِدَ عَلَىا َ‬
‫ولنا َوقْفة عند قوله تعالى‪ {:‬إِن َيشَأْ يُ ْ‬
‫أي‪ :‬السفن التي تسير بقوة الرياح تظل راكدة على صفحة الماء ل يحركها شيء‪ ،‬فإنْ قُلْت‪ :‬كيف‬
‫نفهم هذا المعنى الن مع تقدم العلم الذي سيّر السفن بقوة البخار والديزل أو الكهرباء‪ ،‬واستغنى‬
‫عن الرياح؟‬
‫ونقول‪ :‬الرياح من معانيها الهواء‪ ،‬وهي أيضا تعني القوة مطلقا‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬ولَ‬
‫ي وضع‪،‬‬
‫حكُمْ‪[} ...‬النفال‪ ]46 :‬أي‪ :‬قوتكم‪ ،‬فالريح تعني القوة على أ ّ‬
‫تَنَازَعُواْ فَ َتفْشَلُواْ وَتَ ْذ َهبَ رِي ُ‬
‫سواء أسارتْ بالرياح أو باللة‪ ،‬فهو سبحانه قادر على أنْ يُسكنها‪.‬‬
‫لذلك تجد أن الرياح بمعنى القوة لها قوة آنية‪ ،‬وقوة آتية‪ ،‬آنية يعني الن‪ ،‬وآتية تأتي فيما بعد‪،‬‬
‫وكذلك كل إنسان وكل شيء في الكون له َنفَس وريح وكيماوية خاصة به تميزه عن غيره وهذه‬
‫مهمة كلب البوليس التي تشم رائحة المتهمين والمجرمين في قضايا المخدرات مثلً‪ ،‬فالشخص له‬
‫رائحة الن وهو موجود‪ ،‬وله رائحة تظلّ في المكان حتى بعد أنْ يفارقه‪.‬‬
‫لذلك يُعلّمنا القرآن أن الريح هو أثبت الثار في النسان‪ ،‬واقرأ في ذلك قوله تعالى عن يوسف‬
‫جهِ أَبِي يَ ْأتِ َبصِيرا‪[} ...‬يوسف‪:‬‬
‫ويعقوب عليهما السلم‪ {:‬اذْهَبُواْ ِب َقمِيصِي هَـاذَا فَأَ ْلقُوهُ عَلَىا وَ ْ‬
‫‪.]93‬‬
‫وكان يوسف في مصر‪ ،‬ويعقوب في أرض فلسطين‪ ،‬فلما فصلت العير بقميص يوسف‪ ،‬وخرج‬
‫من نطاق المباني التي ربما حجزتْ الرياح‪ ،‬قال يعقوب‬

‫سفَ‪[} ...‬يوسف‪ ]94 :‬على ُبعْد ما بينهما من المسافات‪.‬‬


‫جدُ رِيحَ يُو ُ‬
‫{ إِنّي لَ ِ‬
‫وإذا أفردت الرياح دّلتْ على الشر‪ ،‬ومعنى الرياح أن تأتي ريح من هنا وريح من هنا‪ ..‬فتأتيك‬
‫بالكسوجين أينما كان‪ ،‬وتحمل إليك عبير العطور في الكون‪ ،‬فهي إذن تأتيك بالفائدة‪.‬‬
‫وإذا أُفردت الرياح دّلتْ على الشر‪ ،‬ومعنى الرياح أن تأتي ريح من هنا وريح من هنا‪ ..‬فتأتيك‬
‫بالكسوجين أينما كان‪ ،‬وتحمل إليك عبير العطور في الكون‪ ،‬فهي إذن تأتيك بالفائدة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غتَ‬
‫وقلنا‪ :‬إن الشياء الثابتة اكتسبتْ الثبات من وجود الهواء في ُكلّ نواحيها وجهاتها‪ ،‬ولو فرّ ْ‬
‫الهواء من ناحية من نواحي إحدى العمارات لنهارتْ في الحال‪ ،‬كذلك الريح إنْ جاءت مفردة‬
‫فهي مدمرة‪ ،‬وفيها العطب كما في قوله تعالى‪َ {:‬وفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِمُ الرّيحَ ا ْل َعقِيمَ }[الذاريات‪:‬‬
‫‪.]41‬‬
‫وقال‪ {:‬بِرِيحٍ صَ ْرصَرٍ عَاتِ َيةٍ }[الحاقة‪.]6 :‬‬
‫سلُ الرّيَاحَ‪[ { ...‬الروم‪ ]48 :‬فإرسال الرياح في ذاته نعمة } فَتُثِيرُ‬
‫فقوله تعالى‪ } :‬اللّهُ الّذِي يُرْ ِ‬
‫سحَابا‪[ { ...‬الروم‪ ]48 :‬إثارة السحاب أي‪ :‬تهيجه وتحركه‪ ،‬وهذه نعمة أخرى‪.‬‬
‫َ‬
‫والسحاب عبارة عن الماء المتبخّر من الرض‪ ،‬وتجمّع بعضه على بعض في طبقات الجو‪ ،‬وماء‬
‫المطر ماء مُقطر بقدرة ال‪ ،‬كما نُجِري نحن عملية التقطير في المعامل مثلً‪ ،‬فيأتينا المطر بالماء‬
‫العَذْب النقي الزلل الذي قطرته لنا عناية الخالق سبحانه دون أنْ ندري‪.‬‬
‫وإذا كان تقطير كوب واحد يحتاج إلى كل هذه العمليات‪ ،‬وكل هذه التكلفة‪ ،‬فما بالك بماء المطر؟‬
‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن من حكمة الخالق سبحانه أنْ جعل ثلثة أرباع اليابسة ماء لتتسع رقعة البَخْر‬
‫ل بكوب الماء حين تتركه على المنضدة مثلً‪ ،‬وحين‬
‫ليكفي الربع الباقي‪ ،‬وضربنا لتوضيح ذلك مث ً‬
‫تسكبه في أرض الغرفة‪ ،‬ففي الحالة الولى يظل الماء فترة طويلة؛ لن ال َبخْر قليل‪ ،‬أما في‬
‫الخرى فإنه سرعان ما يتبخر‪.‬‬
‫سمَآءِ كَ ْيفَ َيشَآءُ‪[ { ...‬الروم‪ ]48 :‬وانظر إلى طلقة المشيئة‪،‬‬
‫سطُهُ فِي ال ّ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬فَيَبْ ُ‬
‫فالمطر يصرفه ال كيف يشاء إلى الماكن التي تحتاج إلى مطر‪ ،‬ومن العجيب أن ال تعالى حين‬
‫يريد أن يرزق إنسانا ربما يرزقه من سحاب ل يمر على بلده‪ ،‬وانظر مثلً إلى النيل‪ ،‬من أين‬
‫يأتي ماؤه؟ وأين سقط المطر الذي يروي أرض النيل من أوله إلى آخره؟‬
‫جعَلُهُ كِسَفا‪[ { ...‬الروم‪ ]48 :‬كسفا‪ :‬جمع كِسْفة‪ ،‬وهي القطعة } فَتَرَى ا ْلوَدْقَ‪...‬‬
‫ومعنى } وَ َي ْ‬
‫{ [الروم‪ ]48 :‬المطر } َيخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ‪[ { ...‬الروم‪ ]48 :‬أي‪ :‬من بين هذه السحب‪.‬‬
‫} فَِإذَآ َأصَابَ بِهِ مَن َيشَآءُ مِنْ عِبَا ِدهِ إِذَا هُمْ َيسْتَبْشِرُونَ { [الروم‪ ]48 :‬والصابة قد تكون مباشرة‪،‬‬
‫فيهطل المطر عليهم مباشرة‪ ،‬وقد تكون غير مباشرة بأنْ تكون الرض منحدرة‪ ،‬فينزل المطر في‬
‫خصْب والنماء‪ ،‬كما كان النيل في الماضي يحمل‬
‫مكان ويسقي مكانا آخر‪ ،‬بل ويحمل إليه ال ِ‬
‫الطمي من الحبشة إلى السودان ومصر‪.‬‬

‫وكان هذا الطمي يستمر مع الماء طوال مجرى النيل وإلى دمياط‪ ،‬فلماذا لم يترسب طول هذه‬
‫المسافات؟‬
‫لم يترسب بسبب قوة دفع الماء وشدة انحداره‪ ،‬بحيث ل يستقر هذا الطمي ول يترسب‪.‬‬
‫وقوله‪ِ } :‬إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ { [الروم‪ ]48 :‬لن الرياح حين تمر عليهم تُبشّرهم بالمطر‪ ،‬وحين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خصْب والخير‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَتَرَى الَ ْرضَ هَامِ َدةً فَإِذَآ‬
‫ينزل المطر يُبشّرهم بالزرع والنماء وال ِ‬
‫ت وَرَ َبتْ وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ }[الحج‪.]5 :‬‬
‫أَنزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّز ْ‬
‫وأذكر وأنا صغير وبلدنا على النيل‪ ،‬والنيل من أمامها متسع‪ ،‬وبه عدة جزر يزرعها الناس‪،‬‬
‫فأذكر أننا كنا نزرع الذرة‪ ،‬وجاء الفيضان فأغرقه وهو ما يزال أخضر لم ينضج َبعْد‪ ،‬وكان‬
‫الناس يذهبون إليه ويجمعونه بالقوارب‪ ،‬ورأيت النساء تزغرد والفرحة على الوجوه‪ ،‬فكنت أسأل‬
‫أبي رحمه ال‪ :‬النيل أغرق الزرع‪ .‬فلماذا تزغرد النساء؟‬
‫فكان والدي يضحك ويقول‪ :‬تزغرد النساء لن النيل أغرق الزرع‪ ،‬وهذا هو مصدر الخير‪،‬‬
‫عهْدٍ‬
‫وسبب خصوبة الرض‪ ،‬فلما كبرتُ وقرأت قصيدة أحمد شوقي رحمه ال في النيل‪:‬مِنْ أيّ َ‬
‫ق وبأيّ َكفّ في المدائن تُغدِقالماءُ تُرسِلُه فيصبح عَسْجدا والرض تُغرقُها فيحيَا‬
‫في القُرَى تتدفّ ُ‬
‫المغرَقلما قرأتُ هذه القصيدة عرفت لماذا كانت النساء تزغرد حين يُغرق النيلُ الزرعَ‪.‬‬
‫والستبشار لنزول المطر يأتي على حسب الحوال‪ ،‬فإن جاء بعد يأس وقحط وجفاف كانت‬
‫الفرحة أكبر‪ ،‬والستبشار أبلغ حيث يأتي المطر مفاجئا } إِذَا ُهمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ { [الروم‪ ]48 :‬أما إنْ‬
‫جاء المطر في الحوال العادية فإن الستبشار به يكون أقلّ‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَإِن كَانُواْ مِن قَ ْبلِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3382 /‬‬

‫وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يُنَ ّزلَ عَلَ ْي ِهمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمُبِْلسِينَ (‪)49‬‬

‫معنى { َلمُبْلِسِينَ } [الروم‪ ]49 :‬آيسين من نزول المطر‪ ،‬فإنْ جاءهم المطر بعد هذا اليأس كانت‬
‫فرحتهم به مزودجة ومضاعفة‪.‬‬
‫وللعلماء وقفة حول هذه الية؛ لنها كررتْ كلمة من قبل‪ ،‬وبالتأمل نجد المعنى‪ :‬من قبل أنْ ينزل‬
‫عليهم‪ ،‬وإنْ كانوا من قبل هذا القبل يائسين‪ ،‬فهنا إذن قبلن‪.‬‬
‫ول ُبدّ أن نفهم أن هناك إرسالً للرياح التي تبشر بالمطر‪ ،‬وهناك إنزال المطر‪ ،‬فلما ينزل المطر‬
‫يكون هناك قبلية له هي الرسال‪ ،‬فقبل الرسال كان عندهم يأس‪ ،‬وبعد الرسال قالوا ربما ل‬
‫تمطر‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هنا كم قبل؟ قبل النزال وقبل الرسال‪ .‬فالمعنى‪ :‬فهُمْ من قبله ‪ -‬أي من قبل أن ينزل المطر‬
‫‪ -‬من قبل هذا عندهم يأس‪.‬‬

‫(‪)3383 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمَةِ اللّهِ كَ ْيفَ يُحْيِي الْأَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَا إِنّ ذَِلكَ َلمُحْيِي ا ْل َموْتَى وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ‬
‫فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَ ْ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ (‪)50‬‬
‫َ‬

‫حسّ المنظور في الكون على ما يريد أنْ يخبرنا به من‬


‫كأن الحق سبحانه أراد أنْ يستدلّ بالم َ‬
‫شيْءٍ‬
‫حيِ ا ْل َموْتَىا وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫الغيب من أمور البعث والخرة؛ لذلك يعلل بقوله‪ { :‬إِنّ ذَِلكَ َل ُم ْ‬
‫قَدِيرٌ } [الروم‪ ]50 :‬فذكر مع الرض الفعل المضارع يحيي‪ ،‬والفعل المضارع يدل على التجدد‬
‫والستمرار وهذه عملية مُحسّة لنا‪.‬‬
‫أما في إحياء الموتى فجاء بالسم محيي‪ ،‬والسم يفيد ثبوت الصفة؛ ليؤكد إحياء الموتى‪ ،‬ومعلوم‬
‫أن الموت ل يشك فيه أحد؛ لنه مُشَاهد لنا‪ ،‬أما البعث فهو محلّ شكّ لدى البعض لنه غيب‪.‬‬
‫ومع ذلك يقول تعالى عن الموت‪ {:‬ثُمّ إِ ّن ُكمْ َبعْدَ ذاِلكَ َلمَيّتُونَ }[المؤمنون‪ ،]15 :‬فيؤكد هذه القضية‬
‫مرة بإنْ‪ ،‬ومرة باللم‪ ،‬والموت شيء واقع ل ننكره‪ ،‬فلماذا كل هذا التأكيد؟‬
‫قالوا‪ :‬نعم هو واقع ل نشك فيه‪ ،‬لكنه واقع مغفول عنه‪ ،‬فكأن الغفلة عنه كالنكار‪ ،‬ولو كنتم‬
‫متأكدين منه ما غفلتم عنه‪.‬‬
‫فلما ذكر البعث قال‪ {:‬ثُمّ إِ ّنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تُ ْبعَثُونَ }[المؤمنون‪ ]16 :‬فأكدها بمؤكد واحد‪ ،‬مع أنه‬
‫محلّ شكّ‪ ،‬فكأنه لما قامت الدلة عليه كان ينبغي ألّ يشك فيه؛ لذلك لم يؤكده كما أكّد الموت‪،‬‬
‫ولما غفلنا عن الدلة كان واجبا أنْ يُؤكّد الموت‪ ،‬فأكّد الموت‪ ،‬ولم يؤكد البعث‪.‬‬
‫ومعنى { فَانظُرْ‪[ } ...‬الروم‪ ]50 :‬المر بالنظر هنا ليس (فنطزية) ول (للفرجة) أو التسلية‪ ،‬لننا‬
‫نقول‪ :‬هذا المر فيه نظر يعني‪ :‬محلً للبحث والتقصي لنصل إلى وجه الحق فيه‪ ،‬بترجيح بعض‬
‫الدلة على بعض‪.‬‬
‫إذن‪( :‬فانظر) أي‪ :‬نظر اعتبار وتأمل؛ لننا نريد أن نقيس الغائب عنا والذي نريد أن نخبر به من‬
‫أمور الخرة بالمنظور لنا من إحياء الرض بعد موتها‪.‬‬
‫ففي الية دليل جديد من أدلة قدرة الحق ووحدانيته‪ ،‬وهو دليل كوني نراه جميعا‪ ،‬والحق سبحانه‬
‫يُلوّن الدلة ليلفت المخلوق إلى عظمة الخالق ليؤمن به إلها واحدا قاهرا قيوما مقتدرا‪ ،‬وهذه الدلة‬
‫حجة تضيء العقل‪ ،‬وآيات في الكون تبرهن على الصّدق‪ ،‬وأمثال يضربها للناس في الكون وفي‬
‫أنفسهم‪ ،‬ووعد لمن آمن‪ ،‬ووعيد لمن خالف‪.‬‬
‫وهنا أيضا دليل كوني مشهود في الكون‪ ،‬فالذي أحيا الرض الميتة كما تشاهدون (لمحي الموتى)‬
‫في الخرة كما يخبركم‪ ،‬وجاء بصيغة اسم الفاعل الدال على ثبوت صفة الحياء قبل أنْ يُحيي‪،‬‬
‫كما نقول‪ :‬فلن شاعر فلم يكتسب هذه الصفة لنه قال شعرا‪ ،‬إنما هو إنما هو شاعر قبل أن‬
‫يقول‪ ،‬كذلك الخالق سبحانه (محي) قبل أن يوجد منه الفعل‪ ،‬وقادر قبل أنْ يخلق مقدورا له‪،‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وخالق قبل أنْ يخلق خَلْقا‪ ،‬فبالصفة فيه سبحانه خلق‪.‬‬
‫ولكي نُقرّب الشبة بين إحياء الرض بالنبات وإحياء الموتى يوم القيامة نقول‪ :‬لو نظرنا إلى‬
‫النسان لوجدنا هذا الهيكل الضخم الذي يزن إلى مائة كيلو أو يزيد‪ ،‬أصل تكوينه ميكروب ل‬
‫ن توضع في‬
‫يُرَى بالعين المجردة‪ ،‬حتى قالوا‪ :‬إن أنسال العالم كله من الحيوان المنوي يمكن أ ْ‬
‫حجم كستبان الخياطة‪ ،‬إذا مليء نصفه من المني‪ ،‬ثم يأخذ هذا الحيوان المنوي من الغذاء من‬
‫الرزق فينمو ويكبر في الحجم فقط‪ ،‬لكن تظل الشخصية كما هي‪.‬‬

‫فإذا مات النسان يبْلَى هذا الجسد‪ ،‬ويتحلل إل عظمة الذنب‪ ،‬فتبقى ل تتحلل ول تأكلها الرض‬
‫لتكون هي البذرة التي تنبت النسان بقدرة ال يوم القيامة؛ لذلك جاء في حديث إحياء الموتى يوم‬
‫القيامة؛ " فينبتون كما ينبت البقل "‪.‬‬
‫ففي هذه العظمة الصغيرة كل صفات النسان وخصائصه‪ ،‬ومنها يعود كما كان قبل الموت‪ ،‬كما‬
‫صغَرها إل أنها تحمل كل خصائص هذا النبات كلها‪ ،‬إذن‪:‬‬
‫نرى حبة السمسم مثلً‪ ،‬فهي رغم ِ‬
‫صغَر الحجم دليل على القدرة‪ ،‬فإذا ما وضعت هذه الحبة الصغيرة في البيئة المناسبة تأخذ الغذاء‬
‫ِ‬
‫من التربة ومن الهواء وتنمو وتكبر‪ ،‬وهذا النمو وهذا الكبر ل يعطي شخصية جديدة إنما‬
‫الشخصية ثابتة‪ ،‬إنما يعطي تكبيرا لها فحسب‪.‬‬
‫لذلك لما شرّحوا الرنب وجدوه صورة طبق الصل من تشريح النسان‪ ،‬بمعنى أن فيه كل‬
‫جوارح النسان وكل أجهزته‪ ،‬حتى البعوضة في حجمها الضئيل فيها كل الجهزة‪ ،‬لكن أين‬
‫جهازها الهضمي وجهازها الدموي وجهازها العصبي والسمبتاوي والبولي‪ ..‬الخ‪ ،‬فدقّة هذه‬
‫المخلوقات دليل على القدرة‪.‬‬
‫وفي حضارتنا الحالية نجد أن من علمات التقدم العلمي أنْ نُصغّر الكبير إلى أقصى درجة‬
‫ممكنة‪ ،‬وانظر مثلً إلى الراديو أول ما اخترعوه كان في حجم النورج‪ ،‬أما الن فهو في حجم‬
‫علبة الكبريت‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالعظمة أن تضع كل الجهزة في هذا الحجم الصغير‪ ،‬أو تجعلها كبيرة فوق العادة وفوق‬
‫القدرة‪ ،‬كما في ساعة " بج بن " مثلً‪.‬‬
‫صغَر‪ ،‬بحيث ل يُدرك بالعين‬
‫لذلك نرى الخالق سبحانه خلق الشيء الدقيق المتناهي في ال ّ‬
‫المجردة‪ ،‬ومع ذلك يحتوي على كل خصائص الشيء الكبير‪ ،‬وخلق من المخلوقات الضخم الذي‬
‫ل تستطيع أن تحدّه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬حينما ينمو الشيء ل يزداد خصائص جديدة‪ ،‬إنما تكبُر عنده نفس الخصائص ونفس‬
‫المشخّصات الصلية فيه‪.‬‬
‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬لو أن إنسانا يزن مثلً مائة كيلو أصابه مرض والعياذ بال أفقده نصف وزنه‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نقول‪ :‬أين ذهب هذا النقص؟ ذهب إلى فضلت نزلتْ منه؛ لن النسان ينمو حينما يكون الداخل‬
‫ح ّد معين ل يزيد ول‬
‫إليه من الغذاء أكثر من الخارج منه من الفضلت‪ ،‬فإنْ تساوى يقف عند َ‬
‫ينقص‪.‬‬
‫فإذا سخر ال لهذا المريض طبيبا يداويه‪ ،‬فإنه يستعيد عافيته إلى أنْ يعود إلى وزنه الطبيعي مائة‬
‫كيلو كما كان‪ ،‬فهل عاد إليه ما فقده في نقص الوزن‪ ،‬أم عاد إليه مثله من عناصر الغذاء‬
‫والتكوين؟ عاد إليه مثل الذي فقده‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فالشخصية هي هي باقية ل تتغير مع النقص أو الزيادة‪.‬‬


‫كذلك فالشخصية أو الخصائص موجودة في هذا الميكروب الدقيق أو في هذه الحبة الصغيرة‪ ،‬إلى‬
‫أنْ تُوضع في بيئتها المناسبة‪ ،‬فتعطي نفس الشخصية أو نفس الخصائص لنوعها‪ ،‬حتى قالوا‪ :‬إن‬
‫قدماء المصريين وضعوا مع الموتى بعض الحبوب‪ ،‬وحفظوها طوال آلف السنين‪ ،‬بحيث إذا‬
‫ُوضِعت الحبة منها في التربة المناسبة فإنها تنبت‪.‬‬
‫فإذا كان النسان يستطيع أن يستنبت الحبة بعد بضعة آلف من السنين‪ ،‬أيكون عزيزا على ال أنْ‬
‫يستنبت بذرة النسان‪ ،‬ويُحيي الذرة الباقية منه في الرض حين ينزل عليها المطر بأمره تعالى‬
‫يوم القيامة؟‬
‫ثم إن الحبة الواحدة التي يستنبتها النسان تعطيه آلفا من نوعها‪ ،‬أما بذرة النسان والذرة الباقية‬
‫منه فتعطي شخصا واحدا ل غير‪ ،‬أيصعب هذا على القدرة اللهية‪.‬‬
‫لذلك يحثّنا الحق سبحانه على التأمل في قوله } فَانظُرْ‪[ { ...‬الروم‪ ]50 :‬ل نظر عين‪ ،‬ولكن نظر‬
‫تأمّل وتعقّل واستنباط‪ ،‬وربنا ينعى علينا الغفلة في التأمل‪ ،‬فيقول سبحانه‪َ {:‬وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪.]105 :‬‬
‫ال ّ‬
‫عقْل‬
‫ونسمي الجدل لظهار الحقائق (مناظرة)‪ ،‬يناظر كل مِنّا الخر‪ ،‬ل نظرَ عين‪ ،‬ولكن نظر َ‬
‫واستنباط‪.‬‬
‫حيِ ا ْل َموْتَىا‪[ { ...‬الروم‪:‬‬
‫حيِ الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَآ إِنّ ذَِلكَ َلمُ ْ‬
‫ح َمتِ اللّهِ كَيْفَ ُي ْ‬
‫} فَانظُرْ إِلَىا آثَارِ رَ ْ‬
‫حيِ ا ْل َموْتَىا‪[ { ...‬الروم‪ ]50 :‬وما دام قد ثبتتْ له صفة الحياء‪ ،‬فإذا‬
‫‪ ]50‬أي‪ :‬الذي أحياها } َل ُم ْ‬
‫خذْ مما شاهدته دليلً على ما غاب عنك‪.‬‬
‫أخبرك بأنه يُحيي الموتى‪ ،‬فصدّق و ُ‬
‫شيْءٍ‬
‫ثم يختم الحق سبحانه هذه الية بصفة أخرى تؤكد صفة الخَلْق والحياء } وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫قَدِيرٌ { [الروم‪ ]50 :‬فغير أنه سبحانه حيّ ومحيي له سبحانه صفات الكمال‪ ،‬والقدرة على كل‬
‫شيء علما وقدرةً وحكمة وبَسْطا وقبضا ونفعا وضرا‪..‬إلخ‪.‬‬
‫حيِ‪[ { ...‬الروم‪ ]50 :‬ذكر السم‬
‫فبعد أنْ ذكر الحدث في الفعل المضارع الدال على الستمرار } ُي ْ‬
‫حيِ‪[ { ...‬الروم‪ ]50 :‬ثم جاء بكل صفات الكمال في } وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ‬
‫الدال على ثبوت الصفة } َلمُ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ { [الروم‪.]50 :‬‬
‫َ‬
‫يريد ال أن يبين أن النسان كنود‪ ،‬وأنه خُلِق جزوعا‪ ،‬إنْ مسّه الشر يجزع‪ ،‬وإنْ مسه الخير يمنع‪،‬‬
‫فلما كان يائسا من الهواء يهبّ عليه أرسل ال إليه الرياح‪ ،‬وبعد أنْ كان يائسا من قطرة الماء‬
‫أنزل ال عليه المطر مدرارا‪ ،‬فهل أخذ في باله هذا العطاء‪ ،‬بحيث إذا أصابه يأس من شيء طلب‬
‫فرجه من ال‪ ،‬وأزاح اليأس عن نفسه وقال‪ :‬إن لي ربا ألجأ إليه‪ ،‬ول ينبغي لي أن أقنط وهو‬
‫موجود؟‬
‫فالذي فرج عليك من يأس الرياح ومن يأس المطر قادر أنْ يُفرّج عنك كل كَرْب؛ لذلك ينبغي أن‬
‫يكون شعار كل مؤمن‪ :‬ل ك ْربَ وأنت ربّ‪ ،‬ما دام لك ربّ فل تهتم ول تيأس‪ ،‬فليستْ مع ال‬
‫ل يكون لك ربّ تلجأ إليه‪.‬‬
‫مشكلة المشكلة أ ّ‬

‫وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر المؤمن له َربّ يلجأ إليه إنْ ع ّزتْ عليه السباب‪ ،‬أما الكافر‬
‫فما أشقاه‪ ،‬فإنْ ضاقت به السباب ل يحد صدرا حنونا يحتويه‪ ،‬فيلجأ في كثير من الحوال إلى‬
‫النتحار‪.‬‬
‫لذلك كان سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا حَزَبه أمر يقوم إلى الصلة‪ ،‬وكان يقول‪" :‬‬
‫ارحنا بها يا بلل " ففي الصلة تختلي بربك وخالقك‪ ،‬وتعرض عليه حاجتك‪ ،‬وتستمد منه العون‬
‫والقوة‪.‬‬
‫كذلك يُعلّمنا هذا الدرس نبي ال موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬فحينما خرج ببني إسرائيل وأدركه‬
‫فرعون وقومه‪ ،‬فوجدوا أنفسهم محاصرين‪ ،‬البحر من أمامهم والعدو من خلفهم‪ ،‬قالوا لموسى } إِنّا‬
‫َلمُدْ َركُونَ { [الشعراء‪ ]61 :‬وهذا منطق البشر وواقع الشياء‪ ،‬لكن كان لموسى منطق آخر ينطلق‬
‫فيه من وجود َربّ قادر يلجأ إليه في وقت الشدة فيفرجها عنه‪.‬‬
‫فقال موسى بملء فيه (كل) قالها على سبيل اليقين َقوْلة الواثق من أن ربه لن يتخلى عنه‪ ،‬لم يقُلْها‬
‫برصيد من عنده‪ ،‬إنما برصيد إيمانه في ال{ إِنّ َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء‪ ]62 :‬وهذا هو‬
‫ال َمفْزَع لكل مؤمن‪.‬‬
‫ن وكّلت رب‬
‫لِ َم ل‪ ،‬وأنت إنْ كانت لديك قضية ترتاح إنْ وكّلْتَ فيها محاميا يدافعَ عنك‪ ،‬فما بالك إ ْ‬
‫الرض والسماء‪ ،‬فكان هو سبحانه المحامي والقاضي والشاهد والمنفّذ للحكم؟‬
‫وأنت ترى القاضي في الدنيا يحكم ببينة قد يُدلّس فيها ويحكم‪ ،‬ويحكم بإقرار ل يستطيع أنْ يتنزعه‬
‫من صاحبه‪ ،‬أو بشهادة الشهود‪ ،‬وقد يكونون شهودَ زور‪ ،‬ثم هو بعد ذلك ل يملك تنفيذ حكمه‪،‬‬
‫فهناك سلطة قضائية تحكم وسلطة تنفيذية تنفذ‪ ،‬حتى السلطة التنفيذية يستطيع المجرم أن يفلت‬
‫منها‪.‬‬
‫أما في محكمة العدل اللهي‪ ،‬فقاضيها هو الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فل يحتاج إلى بينة أو إقرار‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أو شهود‪ ،‬ول يستطيع أحد أنْ يُدلّس عليه سبحانه‪ ،‬أو أنْ ُيفِلت من حكمة؛ لذلك قال تعالى عن‬
‫نفسه‪ {:‬وَ ُهوَ خَيْرُ الْحَا ِكمِينَ }[العراف‪.]87 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَلَئِنْ أَ ْرسَلْنَا رِيحا‪.{ ...‬‬

‫(‪)3384 /‬‬

‫وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرََأ ْوهُ ُمصْفَرّا َلظَلّوا مِنْ َبعْ ِدهِ َي ْكفُرُونَ (‪)51‬‬

‫لك أن تلحظ الفرق بين أسلوب هذه الية { وَلَئِنْ أَ ْرسَلْنَا رِيحا‪[ } ...‬الروم‪ ]51 :‬والية السابقة{‬
‫سلُ الرّيَاحَ‪[} ...‬الروم‪ ]48 :‬فيرسل‪ :‬مضارع دالّ على الستمرار‪ ،‬والرياح كما قلنا‬
‫اللّهُ الّذِي يُرْ ِ‬
‫ل تُستعمل إل في الخير‪ ،‬فكأن إرسال الرياح أمر متوافر‪ ،‬وكثيرا ما يحدث فضلً من ال وتكرّما‪.‬‬
‫أما هنا‪ ،‬وفي الحديث عن الريح‪ ،‬وسبق أن قُلْنا‪ :‬إنها ل تستعمل إل في الشر‪ ،‬فلم ي ُقلْ يرسل‪ ،‬بل‬
‫اختار (إن) الدالة على الشك‪ ،‬والفعل الماضي الدال على النتهاء لماذا؟ لن ريح الشر نادرا ما‬
‫سمُوم تأتي مرة في السنة‪ ،‬كذلك الريح‬
‫تحدث‪ ،‬ونادرا ما يُسلّطها ال على عباده‪ ،‬فمثلً ريح ال ّ‬
‫العقيم جاءتْ في الماضي مرة واحدة‪ ،‬كذلك الريح الصرصر العاتية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهي قليلة نادرة‪ ،‬ومع ذلك إنْ أصابتهم يجزعون وييأسون‪ ،‬وهذا ل ينبغي منهم‪ ،‬أليست لهم‬
‫سابقة في عدم اليأس حين يئسوا من إرسال الرياح‪ ،‬فأرسلها ال عليهم ومن إنزال المطر فأنزله‬
‫ال لهم‪ ،‬فلماذا القنوط والرب موجود؟‬
‫صفَرّا‪[ } ...‬الروم‪:‬‬
‫ومعنى { فَرََأ ْوهُ‪[ } ...‬الروم‪ ]51 :‬أي‪ :‬رأوا الزرع الذي كان أخضر نضرا { ُم ْ‬
‫‪ ]51‬أي‪ :‬متغيرا ذابلً { لّظَلّواْ مِن َبعْ ِدهِ َي ْكفُرُونَ } [الروم‪ ]51 :‬يكفرون باليأس الذي يعزل الحق‬
‫سبحانه عن الحداث‪ ،‬مع أن لهم سابقة‪ ،‬وقد يئسوا وفرّج ال عليهم‪.‬‬
‫ذلك لن النسان ل صبرَ له على البلء‪ ،‬فإنْ أصابه سرعان ما يجزع‪ ،‬ولو قال أنا لي رب أفزع‬
‫ح ولهانَ عليه المر‪.‬‬
‫إليه فيرفع عني البلء‪ ،‬وأن له حكمة سأعرفها لسترا َ‬
‫ولك أنْ تسأل‪ :‬لماذا قال القرآن { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا‪[ } ...‬الروم‪ ]51 :‬ولم ي ُقلْ وإن؟ قالوا‪ :‬هذه اللم‬
‫الزائدة يُسمّونها اللم واو القسم واللم مُوطّئة له‪ ،‬وللحق سبحانه أن يقسم بما يشاء على ما يشاء‪،‬‬
‫وكل قسم يحتاج إلى جواب‪ ،‬تقول‪ :‬وال لضربنّك‪.‬‬
‫كذلك الشرط في (إن) يحتاج إلى جواب للشرط‪ ،‬والحق سبحانه هنا مزج بين القسمَ والشرط في‬
‫جملة واحدة‪ ،‬فإنْ قلت فالجواب هنا للقسمَ أم للشرط؟‬
‫ن يوجد جوابان في جملة واحدة‪ ،‬فيأتي السياق بجواب واحد نستغني به‬
‫قالوا‪ :‬فطنة العرب تأبى أ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عن الجواب الخر‪ ،‬والجواب يكون لما تقدّم‪ ،‬فإنْ تقدم القسَم فالجواب للقسم‪ ،‬وإنْ تقدّم الشرط‬
‫فالجواب للشرط‪ .‬وهنا { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحا‪[ } ...‬الروم‪ ]51 :‬قدم القسم؛ لن التقدير‪ :‬وال لئن‬
‫أرسلنا ريحا‪..‬‬
‫ل فعل مَاضٍ ناقص مثل بات يعني في‬
‫وكلمة { لّظَلّواْ‪[ } ...‬الروم‪ ]51 :‬مأخوذة من الظل وظ ّ‬
‫البيتوتة‪ ،‬وأضحى يعني‪ :‬استمر في وقت الضحى‪ ،‬وأمسى في وقت المساء‪ ،‬كذلك ظلّ أي‪ :‬استمر‬
‫ظلّ يعني‪ :‬طوال النهار‪ ،‬إذن‪ :‬نأخذ الزمن من المشتق منه‪.‬‬
‫في الوقت الذي فيه ِ‬
‫س ِمعُ ا ْل َموْتَىا‪.} ...‬‬
‫ك لَ تُ ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَإِ ّن َ‬

‫(‪)3385 /‬‬

‫سمِعُ الصّمّ الدّعَاءَ إِذَا وَّلوْا ُمدْبِرِينَ (‪)52‬‬


‫سمِعُ ا ْل َموْتَى وَلَا تُ ْ‬
‫فَإِ ّنكَ لَا تُ ْ‬

‫يريد الحق سبحانه أن يُسلّي رسوله صلى ال عليه وسلم حتى ل يألم لما يلقيه من قومه‪ ،‬يقول‬
‫له‪ :‬يا محمد ل تُتعب نفسك؛ لن هؤلء ل يؤمنوا‪ ،‬وما عليك إل البلغ‪ ،‬فل تيأس لعراض‬
‫هؤلء‪ ،‬ول تتراجع عن تبليغ دعوتك والجهاد في سبيلها والجهر بها؛ لنني أرسلتك لمهمة‪ ،‬ولن‬
‫أتخلى عنك‪ ،‬وما كان ال ليرسل رسولً ثم يخذله أو يُسْلمه‪.‬‬
‫سكَ عَلَىا آثَا ِرهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ أَسَفا }[الكهف‪:‬‬
‫وقد قال تعالى لنبيه‪ {:‬فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫سمَآءِ آيَةً‬
‫ن يكفروا‪ {:‬إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْي ِهمْ مّنَ ال ّ‬
‫‪ ]6‬ولو أردتُ لجعلتُهم مؤمنين قَسرا ل يملكون أ ْ‬
‫ضعِينَ }[الشعراء‪.]4 :‬‬
‫فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ‬
‫إنما أريد أنْ يأتوني طواعية عن محبة‪ ،‬ل عن قهر؛ لنني ل أريد قوالبَ تخضع‪ ،‬إنما قلوبا‬
‫تخشع‪ ،‬ويستطيع أيّ بشر بجبروته أنْ يجعلَ الناس تخضع له أو تسجد‪ ،‬لكنه ل يستطيع مهما‬
‫خضِع قلوبهم‪ ،‬أو يحملهم على حُبّه‪.‬‬
‫أُوتِي من قوة أنْ ُت ْ‬
‫سمِعُ ا ْل َموْتَىا‪[ } ...‬الروم‪ ]52 :‬فجعلهم في حكم الموات‪ ،‬وهم‬
‫وهنا يقول تعالى لنبيه‪ { :‬فَإِ ّنكَ لَ ُت ْ‬
‫أحياء يُرْزَقون‪ ،‬لماذا؟ لن الذي ل ينفعل لما يسمع ول يتأثر به‪ ،‬هو والميت سواء‪.‬‬
‫أو نقول‪ :‬إن للنسان حياتين‪ :‬حياة الروح التي يستوي فيها المؤمن والكافر‪ ،‬والطائع والعاصي‪،‬‬
‫وحياة المنهج والقيم‪ ،‬وهذه للمؤمن خاصة‪ ،‬والتي يقول ال فيها‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُفواْ اسْ َتجِيبُواْ للّهِ‬
‫وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ‪[} ...‬النفال‪.]24 :‬‬
‫فهو سبحانه يخاطبهم هذا الخطاب وهم أحياء‪ ،‬لكن المراد هنا حياة المنهج والقيم‪ ،‬وهي الحياة‬
‫التي تُورِثك نعيما دائما باقيا ل يزول‪ ،‬خالدا ل تتركه ول يتركك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك يقول سبحانه عن هذه الحياة‪ {:‬وَإِنّ الدّا َر الخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت‪:‬‬
‫‪.]64‬‬
‫لذلك سمّى ال المنهج الذي أنزله على رسوله روحا‪َ {:‬وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا‪} ...‬‬
‫[الشورى‪ ]52 :‬لن المنهج يعطيك حياة باقية ل تنزوي ول تزول‪.‬‬
‫لمِينُ }[الشعراء‪ ]193 :‬فالمنهج روح من ال‪،‬‬
‫حاَ‬
‫وسمّى الملَك الذي نزل به روحا‪ {:‬نَ َزلَ بِهِ الرّو ُ‬
‫نزل به روح من الملئكة هو جبريل عليه السلم على قلب سيدنا رسول ال ليحمله رسول‬
‫مصطفى فيبثّه في الناس جميعا‪ ،‬فَيح َيوْن الحياة الخرة‪.‬‬
‫فالكفار بهذا المعنى يح َيوْن حياة روح القالب التي يستوي فيها جميع البشر‪ ،‬لكن هم أموات بالنسبة‬
‫للروح الثانية‪ ،‬روح القيم والمنهج‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬إذا كان عندنا شخص شقي أو بلطجي يفسد في المجتمع أكثر مما يصلح نقول له‪ :‬أنت‬
‫وجودك مثل عدمه‪ ،‬لماذا؟ لن الحياة إذا لم تُستغل في النافع الدائم‪ ،‬فل معنى لها‪.‬‬
‫وهنا يقول تعالى لنبيه‪ :‬ل تحزن‪ ،‬ول تذهب نفسك على هؤلء القوم الحسرات‪ ،‬فهم موتى لم‬
‫يقبلوا روح المنهج وروح القيم‪ ،‬وما داموا لم تدخلهم هذه الروح‪ ،‬فل أملَ في إصلحهم‪ ،‬ولن‬
‫يستجيبوا لك‪ ،‬فالستجابة تأتي من أصغى سمعه‪ ،‬وأعمل عقله في الكون من حوله ليصل إلى‬
‫حقيقة الحياة ولغز الوجود‪.‬‬

‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إنك إذا سقطتْ بك طائرة مثلً في صحراء‪ ،‬وانقطعت عن الناس‪ ،‬فل أنيس ول‬
‫شيء من حولك‪ ،‬ثم فجأة رأيتَ أمامك مائدة عليها أطايب الطعام والشراب‪ ،‬فطبيعي قبل أنْ تمتد‬
‫يدك إليها ل بُدّ أنْ تسأل نفسك‪ :‬مَنْ أتى بها؟‬
‫كذلك أنت أيها النسان طرأتَ على كون ُمعَدّ لستقبالك‪ ،‬مليء بكل هذا الخير‪ ،‬بال ألَ يستدعي‬
‫هذا أنْ تسأل مَنْ أعد لي هذا الكون؟‬
‫ثم لم يدّع أحد هذا الكون لنفسه‪ ،‬ثم جاءك رسول من عند ال يخبرك بحقائق الكون‪ ،‬ويحل لك‬
‫لغز الحياة والوجود‪ ،‬لكن هؤلء القوم لما جاءهم رسول ال أ َبوْا أن يستمعوا إليه‪ ،‬ولم يقبلوا‬
‫الروح الذي جاءهم به‪.‬‬
‫والحق سبحانه يعرض لنا هذه المسألة في آية أخرى‪َ {:‬ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َت ِمعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَرَجُواْ‬
‫مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا‪[} ...‬محمد‪ ]16 :‬وهذا يعني أن روح المنهج لم‬
‫تباشر قلوبهم‪.‬‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْ ٌر وَ ُهوَ عَلَ ْيهِمْ‬
‫شفَآءٌ وَالّذِي َ‬
‫ويردّ الحق عليهم‪ُ {:‬قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ ُهدًى وَ ِ‬
‫عمًى ُأوْلَـا ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِن ّمكَانٍ َبعِيدٍ }[فصلت‪.]44 :‬‬
‫َ‬
‫فالقرآن واحد‪ ،‬لكن المستقبل للقرآن مختلف‪ ،‬فواحد يسمعه بأذن مُرْهفة وقلب واعٍ فيستفيد‪ ،‬ويصل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل اللغز في الكون وفي الخَلْق؛ لنه استجاب للروح الجديدة التي أرسلها ال له‪ ،‬وآخر‬
‫حّ‬‫إلى َ‬
‫أعرض‪.‬‬
‫وهؤلء الذين أعرضوا عن القرآن إنما يخافون على مكانتهم وسيادتهم‪ ،‬فهم أهل فساد وطغيان‪،‬‬
‫ويعلمون أن هذا المنهج جاء ليقيد حرياتهم‪ ،‬ويقضي على فسادهم وطغيانهم؛ لذلك رفضوه‪.‬‬
‫لذلك تجد أن الذين تص ّدوْا لدعوات الرسل وعارضوهم هم السادة والكبراء‪َ ،‬ألَ تقرأ قول الحق‬
‫طعْنَا سَادَتَنَا َوكُبَرَآءَنَا فََأضَلّونَا السّبِيلْ }[الحزاب‪.]67 :‬‬
‫سبحانه عن مقالتهم‪ {:‬إِنّآ أَ َ‬
‫عدْ‪ ،‬وآخر ينصرف عنه ل‬
‫إذن‪ :‬ل تتعجب من أنّ القرآن يسمعه إنسان فيقول مُستلذا به‪ :‬ال‪ ،‬أ ِ‬
‫يدري ما يقول‪ ،‬والمنصرف عن القرآن نوعان‪ :‬إما ينصرف عنه تكبّرا يعني‪ :‬وعي القرآن وفهمه‬
‫لكن تكبّر على النصياع لوامره‪ ،‬وآخر سمعه لكن لم يفهمه؛ لن ال ختم على قلبه‪.‬‬
‫ومهمة الداعي أنْ يتعهد المدعو‪ ،‬وألّ ييأس لعدم استجابته‪ ،‬وعليه بتكرار الدعوة له‪ ،‬لعله يصادف‬
‫عنده فترة صفاء وفطرة‪ ،‬وخلو نفس‪ ،‬فتثمر فيه الدعوة ويستجيب‪.‬‬
‫وإل فقد رأينا من أهل الجاهلية مَنْ أسلم بعد فترة طويلة من عمر الدعوة أمثال‪ :‬خالد بن الوليد‪،‬‬
‫وعمرو بن العاص‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫ونعلم كم كان عمر بن الخطاب كارها للسلم معاديا لهله‪ ،‬وقصة ضَرْبه لخته بعد أنْ أسلمتْ‬
‫قصة مشهورة لنها كانت سبب إسلمه‪ ،‬فلما ضربها وشجّها حتى سال الدم منها رقّ قلبه لخته‪،‬‬
‫فلما قرأت عليه القرآن صادف منه قلبه صافيا‪ ،‬وفطرة نقية نفضت عنه عصبية الجاهلية الكاذبة‬
‫فانفعل لليات وباشرتْ بشاشتها قلبه فأسلم‪.‬‬

‫لذلك أمر الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم أنْ يجهر بالدعوة‪ ،‬وأنْ يصدع بما يُؤمر‪ ،‬لعلّ‬
‫السامع تصادفه فترة تنبه لفطرته‪ ،‬كما حدث مع عمر‪.‬‬
‫سمِعُ ا ْل َموْتَىا‪[ { ...‬الروم‪ ]52 :‬نجد أن التقدير‪:‬‬
‫وحين نلحظ الفاء في بداية هذه الية } فَإِ ّنكَ لَ ُت ْ‬
‫فل تحزن‪ ،‬ول يهولنك إعراضهم؛ لنك ما قص ْرتَ في البلغ‪ ،‬إنما التقصير من المستقبل؛ لنهم‬
‫لم يقبلوا الروح السامية التي جاءتهم‪ ،‬بل نفروا من السماع‪ ،‬وتناهوا عنه‪ ،‬كما حكى القرآن عنهم‪{:‬‬
‫ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ }[فصلت‪.]26 :‬‬
‫س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُو ْا لَ تَ ْ‬
‫و َنهْى بعضهم بعضا عن سماع القرآن دليل على أنهم يعلمون أن مَنْ يسمع القرآن بأذن واعية ل‬
‫بُدّ أنْ يؤمن به وأنْ يقتنع‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ {:‬صُمّ ُب ْكمٌ‪[} ...‬البقرة‪.]18 :‬‬
‫وقد علمنا من وظائف العضاء أن البكَم يأتي نتيجة الصمم؛ لن اللسان يحكي ما سمعته الذن‪،‬‬
‫فإذا كانت الذن صماء فل ُبدّ أن يكون اللسان أبكمَ‪ ،‬ليس لديه شيء يحكيه‪.‬‬
‫لذلك نجد الطفل العربي مثلً حين ينشأ في بيئة إنجليزية يتكلم النجليزية لنه سمعها وتعلمها‪ ،‬بل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نجد صاحب اللغة نفسه تُعرض عليه الكلمات الغربية من لغته فل يعرفها لماذا؟ لنه لم يسمعها‪،‬‬
‫فحين يقول العربي عن العجوز‪ :‬إنها الحَيْزبون والدّردبيس‪ ..‬الخ تقول‪ :‬ما هذا الكلم‪ ،‬مع أنه‬
‫عربي لكن لم تسمعه أذنك‪.‬‬
‫والذن هي أداة اللتقاط الولى لبلغ الرسالة‪ ،‬وما دام ال تعالى قد حكم عليهم بأنهم في حكم‬
‫الموات‪ ،‬فالحساس لديهم ممتنع‪ ،‬فالذن ل تسمع آيات القرآن‪ ،‬والعين ل ترى آيات الكون ول‬
‫تتأملها‪.‬‬
‫لذلك قال تعالى عنهم‪ {:‬فَإِ ّنهَا لَ َت ْعمَى الَبْصَا ُر وَلَـاكِن َت ْعمَىا ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ }[الحج‪:‬‬
‫‪.]46‬‬
‫وكلمة أعمى نقولها للمبصر صحيح العينين حينما يخطيء في شيء‪ ،‬فتقول له‪ :‬أنت أعمى؟ لماذا‪،‬‬
‫لنه وإنْ كان صحيح العينين‪ ،‬إل أنه لم يستعملها في مهمتهما‪ ،‬فهو والعمى سواء‪.‬‬
‫وهؤلء القوم وصفهم ال بأنهم أولً في حكم الموات‪ ،‬ثم هم مصابون بالصمم‪ ،‬فل يسمعون‬
‫عمْى ل يروْنَ آيات العجاز في الكون‪ ،‬وليتهم صُمّ فحسب‪،‬‬
‫البلغ‪ ،‬وتكتمل الصورة بأنهم ُ‬
‫فالصم يمكن أن تتفاهم معه بالشارة فينتفع بعينيه إنْ كان مقبلً عليك‪ ،‬لكن ما الحال إذا كان‬
‫مدبرا‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬إِذَا وَّلوْاْ ُمدْبِرِينَ { [الروم‪ ]52 :‬يعني‪ :‬أعط ْوكَ ظهورهم‪ ،‬إذن‪ :‬لم َيعُدْ لهم‬
‫ل في مثل‬
‫منفذ للتلقي ول للدراك‪ ،‬فهم صُم ُبكْم‪ ،‬وبالدبار تعطلت أيضا حاسة البصر‪ ،‬فل أم َ‬
‫هؤلء‪ ،‬ول سبيل إلى هدايتهم‪.‬‬

‫(‪)3386 /‬‬

‫سمِعُ إِلّا مَنْ ُي ْؤمِنُ بِآَيَاتِنَا َفهُمْ مُسِْلمُونَ (‪)53‬‬


‫ن ضَلَالَ ِتهِمْ إِنْ تُ ْ‬
‫َومَا أَ ْنتَ ِبهَادِي ا ْل ُعمْيِ عَ ْ‬

‫والدللة على الطريق والهداية إليه ل تتأتّى مع العمى‪ ،‬خصوصا إذا أص ّر العمى على عماه‪،‬‬
‫حقّه) يعني‪ :‬يأنف أنْ يستعين بالمبصر‪ ،‬ولو‬
‫ونقول لمن يكابر في العمى (فلن ل يعطي العمى َ‬
‫استعان بالناس من حوله لوجدهم خدما له ولصار هو مُبصرا ببصرهم‪.‬‬
‫سمِعُ‪[ } ...‬الروم‪ ]53 :‬أي‪ :‬ما تُسمِع { ِإلّ مَن ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َف ُهمْ مّسِْلمُونَ }‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬إِن تُ ْ‬
‫[الروم‪ ]53 :‬وهؤلء هم أصفياء القلوب والفطرة‪ ،‬الذين يلتفتون إلى كون ال‪ ،‬يتأملون أسراره وما‬
‫فيه من وجوه العجاز والقدرة‪ ،‬فيستدلون بالخَلْق على الخالق‪ ،‬وبالكون على المكوّن سبحانه‪ ،‬وِلمَ‬
‫ل‪ ،‬ونحن نعرف مَنِ اخترع أبسط الشياء في حياتنا ونُؤرّخ له‪ ،‬ونُخلّد ذكراه‪ ،‬ألسنا نعرف‬
‫أديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي‪ ،‬وال الذي خلق الشمس َل ُه َو أوْلَى بالمعرفة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا جاءك رسول من عند ال يخبرك بوجوده تعالى‪ ،‬ويحل لك لغز هذا الوجود الذي تحتار فيه‪،‬‬
‫ن يقولوا للناس في‬
‫فعليك أنْ تُصدّقه‪ ،‬وأن تؤمن بما جاءك به؛ لذلك الحق سبحانه يُعلّم الرسل أ ْ‬
‫أعقاب البلغ{ َومَآ أَسَْأُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‪[} ...‬الشعراء‪.]109 :‬‬
‫وفي هذا إشارة إلى أن العمل الذي يُؤدّيه الرسل لقوامهم عمل يستحقون عليه أجرا بحكم العقل‪،‬‬
‫لكنهم يترفعون عن أجوركم؛ لن عملهم غالٍ ل يُقدّره إل مَنْ أرسلهم‪ ،‬وهو وحده القادر على أنْ‬
‫يُوفّيهم أجورهم‪.‬‬
‫ومعنى { ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا‪[ } ...‬الروم‪ ]53 :‬يعني‪ :‬ينظر فيها ويتأملها‪ ،‬ويقف على ما في الكون من‬
‫عجائب الخَلْق الدالة على قدرة الخالق‪ ،‬فإذا ما جاءه رسول من عند ال أقبل عليه وآمن به؛ لذلك‬
‫قال بعدها‪َ { :‬فهُمْ مّسِْلمُونَ } [الروم‪.]53 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ مّن‪.} ...‬‬

‫(‪)3387 /‬‬

‫ضعْفًا وَشَيْبَةً يَخُْلقُ مَا‬


‫ج َعلَ مِنْ َبعْدِ ُق ّو ٍة َ‬
‫ض ْعفٍ ُق ّوةً ثُمّ َ‬
‫ج َعلَ مِنْ َبعْ ِد َ‬
‫ضعْفٍ ثُمّ َ‬
‫اللّهُ الّذِي خََلقَكُمْ مِنْ َ‬
‫يَشَاءُ وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ (‪)54‬‬

‫الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬بعد أنْ عرض علينا بعض الدلة في الكون من حولنا يقول لنا‪ :‬ولماذا‬
‫نذهب بعيدا إذا لم ت ْكفِ اليات في الكون من حولك‪ ،‬فانظر في آيات نفسك‪ ،‬كما قال سبحانه‪{:‬‬
‫سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات‪ ]21 :‬وجمع بين النوعين في قوله سبحانه‪ {:‬سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا‬
‫َوفِي أَنفُ ِ‬
‫سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ ا ْلحَقّ‪[} ...‬فصلت‪.]53 :‬‬
‫فِي الفَاقِ َوفِي أَنفُ ِ‬
‫ض ْعفٍ‪[ } ...‬الروم‪ ،]54 :‬فإنْ قال النسان‬
‫فهنا يقول‪ :‬تأمل في نفسك أنت‪ { :‬اللّهُ الّذِي خََل َقكُمْ مّن َ‬
‫المكلف الن‪ :‬أنا لم أشاهد مرحلة الضعف التي خُِل ْقتُ منها‪.‬‬
‫نقول‪ :‬نعم لم تشاهدها في نفسك‪ ،‬فلم تكُنْ لك ساعتها مشاهدة‪ ،‬لكن شاهدتها في غيرك‪ ،‬شاهدتها‬
‫في الماء المهين الذي يتكوّن منه الجنين‪ ،‬وفي الم الحامل‪ ،‬وفي المرأة حين تضع وليدها صغيرا‬
‫ن تقطع‪ ،‬ومع ذلك رُبي بعناية ال حتى صار‬
‫ضعيفا‪ ،‬ليس له قَدَم تسعى‪ ،‬ول يَدٌ تبطش‪ ،‬ول سِ ّ‬
‫إلى مرحلة القوة التي أنت فيها الن‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فدليل الضعف مشهود لكل إنسان‪ ،‬ل في ذاته‪ ،‬لكن في غيره‪ ،‬وفي مشاهداته كل يوم‪ ،‬وكل‬
‫منا شاهد مئات الطفال في مراحل النمو المختلفة‪ ،‬فالطفل يُولَد ل حولَ له ول قوة‪ ،‬ثم يأخذ في‬
‫ن تكتمل أجهزته ويبلغ مرحلة الرشْد‬
‫النمو والكَِبَر فيستطيع الجلوس‪ ،‬ثم الحَبْو‪ ،‬ثم المشي‪ ،‬إلى أ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والفتوة‪.‬‬
‫وعندها يُكلّفه الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬وينبغي أنْ نكلفه نحن أيضا‪ ،‬وأنْ نستغل فترة الشباب هذه‬
‫في العمل المثمر‪ ،‬فنحن نرى الثمرة الناضجة إذا لم يقطفها صاحبها تسقط هي بين يديه‪ ،‬وكأنها‬
‫تريد أنْ تؤدي مهمتها التي خلقها ال من أجلها‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن آفتنا نحن ومن أسباب تأخّر مجتمعاتنا أننا نطيل عمر طفولة أبنائنا‪ ،‬فنعامل الشاب حتى‬
‫سِنّ الخامسة والعشرين على أنه طفل‪ ،‬ينبغي علينا أن نلبي كل رغباته ل ينقصنا إل أنْ نرضعه‪.‬‬
‫آفتنا أن لدينا حنانا (مرق) ل معنى له‪ ،‬أما في خارج بلدنا‪ ،‬فمبجرد أن يبلغ الشاب رُشَدْه لم َيعُدْ‬
‫له حق على أبيه‪ ،‬بل ينتقل الحق لبيه عليه‪ ،‬ويتحمل هو المسئولية‪.‬‬
‫والحق سبحانه يُعلّمنا في تربية البناء أنْ نُعوّدهم تحمّل المسئولية في هذه السّنّ‪ {:‬وَِإذَا بَلَغَ‬
‫طفَالُ مِنكُمُ الْحُُلمَ فَلْيَسْتَ ْأذِنُواْ َكمَا اسْتَأْذَنَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ‪[} ...‬النور‪.]59 :‬‬
‫الَ ْ‬
‫فانظر أنت أيها النسان الذي جعلتَ كل الجناس القوى منك في خدمتك‪ ،‬انظر في نفسك وما‬
‫فيها من آيات وما بين جنبيك من مظاهر قدرة ال‪ ،‬فقد نشأتَ ضعيفا ل تقدر على شيء يخدمك‬
‫غيرك‪.‬‬
‫ومن حكمته تعالى في الطفل ألّ تظهر أسنانه طوال فترة الرضاعة حتى ل يؤذي أمه‪ ،‬ثم تخرج‬
‫له أسنان مؤقتة يسمونها السنان اللبنية؛ لنه ما يزال صغيرا ل يستطيع تنظيفها‪ ،‬فيجعلها ال‬
‫ت في‬
‫مؤقتة إلى أن يكبر ويتمكّن من تنظيفها‪ ،‬فتسقط ويخرج مكانها السنان الدائمة‪ ،‬ولو تأمل َ‬
‫نفسك لوجدتَ ما ل يُحصى من اليات‪.‬‬

‫ج َعلَ مِن َبعْدِ ُق ّوةٍ‬


‫ض ْعفٍ ُق ّوةً‪[ { ...‬الروم‪ ]54 :‬أي‪ :‬قوة الشباب وفتوته‪ } :‬ثُمّ َ‬
‫ج َعلَ مِن َبعْ ِد َ‬
‫} ُثمّ َ‬
‫ضعْفا وَشَيْبَةً‪[ { ...‬الروم‪ ]54 :‬أي‪ :‬ضعف الشيخوخة‪ ،‬وهذا الضعف يسري في كل العضاء‪،‬‬
‫َ‬
‫علْمٍ شَيْئا‪[} ...‬الحج‪.]5 :‬‬
‫حتى في العلم‪ ،‬وفي الذاكرة{ ِلكَيْلَ َيعْلَمَ مِن َبعْدِ ِ‬
‫ويظل بك هذا الضعف حتى تصير إلى مثل الطفل في كل شيء تحتاج إلى مَنْ يحملك ويخدمك‬
‫إذن‪ :‬ل تأخذ هذه المسألة بطبع تكوينك‪ ،‬ولكن بإرادة مُكوّنك سبحانه‪ ،‬فبعد أنْ كنتَ ضعيفا يُقوِيك‪،‬‬
‫وهو سبحانه القادر على أنْ يعيدك إلى الضعف‪ ،‬بحيث ل تستطيع عقاقير الدنيا أنْ تعيدك إلى‬
‫القوة؛ لذلك يسخر أحد العقلء ممن يتناولون (الفيتامينات) في سِنّ الشيخوخة‪ ،‬ويقول‪ :‬يا ويل مَنْ‬
‫لم تكُنْ (فيتاميناته) من ظهره‪.‬‬
‫ظمُ مِنّي‪[} ...‬مريم‪]4 :‬؛‬
‫لذلك تلحظ الدقة في الداء في قول سيدنا زكريا‪ {:‬قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَ ْ‬
‫لن العظم آخر مخزن لقُوت النسان‪ ،‬حيث يختزن فيه ما زاد عن حاجة الجسم من الطاقة‪ ،‬فإذا‬
‫لم يتغذّ الجسم بالطعام يمتصّ من هذا المخزون من الشحوم والدهون‪ ،‬ثم من العضل‪ ،‬ثم من نخاع‬
‫العظم‪ ،‬وهو آخر مخزن للقوت في جسمك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ظمُ مِنّي‪[} ...‬مريم‪ ]4 :‬يعني‪ :‬وصلتُ إلى مرحلة الحرض‬
‫فمعنى قول سيدنا زكريا‪ {:‬إِنّي وَهَنَ ا ْلعَ ْ‬
‫ل معها في قوة‪ ،‬ويؤكد هذا المعنى بقوله{ وَاشْ َت َعلَ الرّ ْأسُ شَيْبا‪[} ...‬مريم‪.]4 :‬‬
‫التي ل أم َ‬
‫وقلنا‪ :‬إن بياض الشعر ليس لونا‪ ،‬إنما البياض انعدام اللون؛ لذلك فاللون البيض ليس من ألوان‬
‫الطيف‪ ،‬ومع الشيخوخة تضعف أجهزة النسان‪ ،‬وتضعف الغدد المسئولة عن لون الشعر عن‬
‫إفراز اللون السود‪ ،‬فيظهر الشعر بل لون‪.‬‬
‫ونلحظ أن أغلب ما يشيب الناس يشيبون مما يُعرف بـ " السوالف " من هنا ومن هنا‪ ،‬لماذا؟‬
‫صتْ أثناء الحلق ينفتح هذا النبوب‪ ،‬وتدخله‬
‫قالوا‪ :‬لن الشعرة عبارة عن أنبوب دقيق‪ ،‬فإذا ُق ّ‬
‫بعض المواد الكيمياوية مثل الصابون والكولونيا‪ ،‬فتؤثر على الحويصلت الملوّنة وتقضي عليها؛‬
‫لذلك نلحظ هذه الظاهرة كثيرا في المترفين خاصة؛ لذلك تجد بعض الشباب يظهر عندهم الشيب‬
‫في هذه المناطق من الرأس‪.‬‬
‫ظمُ مِنّي‪[} ...‬مريم‪]4 :‬‬
‫وقد رتب سيدنا زكريا مظاهر الضعف بحسب الهمية‪ ،‬فقال أولً{ وَهَنَ ا ْلعَ ْ‬
‫ثم{ وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبا‪[} ...‬مريم‪ ]4 :‬ومع كِبَر سيدنا زكريا وضعفه‪ ،‬ومع أن امرأته كانت‬
‫عاقرا إل أن ال تعالى استجاب له في طلبه للولد الذي يرث عنه النبوة‪ ،‬فبشّره بولد وسمّاه يحيى‪،‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يقول لنا‪ :‬إياكم‪ ،‬أل أستطيع أنْ أخلق مع الشيب والكبر والضعف؟‬
‫لذلك قال بعدها‪َ } :‬يخْلُقُ مَا َيشَآءُ‪[ { ...‬الروم‪.]54 :‬‬
‫ن َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْبلُ وََلمْ َتكُ‬
‫وقال في شأن زكريا عليه السلم‪ {:‬قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ هَيّ ٌ‬
‫شَيْئا }‬

‫[مريم‪.]9 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ { [الروم‪ ]54 :‬أي‪ :‬أن هذا الخَلْق ناشيء عن علم{ َألَ َيعَْلمُ مَنْ‬
‫ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك‪ ]14 :‬لكن العلم وحده ل يكفي‪ ،‬فقد تكون عالما لكنك غير قادر‬
‫خََل َ‬
‫على تنفيذ ما تعلم‪ ،‬كمهندس الكهرباء‪ ،‬لديه علم واسع عنها‪ ،‬لكنه ل يستطيع تنفيذ شبكة أو معمل‬
‫كهرباء‪ ،‬فيذهب إلى أحد الممولين ليعينه على التنفيذ؛ لذلك وصف الحق سبحانه نفسه بالعلم‬
‫والقدرة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هذا هو الدليل النفسي على الموجد الحق الفاعل المختار الذي يفعل الشياء بعلم وقدرة‪ ،‬ول‬
‫يكلفه العمل شيئا ول يستغرق وقتا؛ لنه سبحانه يقول للشيء‪ :‬كن فيكون‪ ،‬ول تتعجب أن ربك‬
‫ن فيكون؛ لنك أيها المخلوق الضعيف تفعل هذا مع أعضائك وجوارحك‪.‬‬
‫يقول للشيء كُ ْ‬
‫وإلّ ف ُقلْ لي‪ :‬ماذا تفعل إنْ أردتَ أنْ تقوم مثلً أو تحمل شيئا مجرد أن تريد الحركة تجد‬
‫أعضاءك طوع إرادتك‪ ،‬ودون أنْ تدري بما يحدث بداخلك من انفعالت وحركات‪ ،‬وإنْ قُلت فأنا‬
‫كبير وأستطيع أداء هذه الحركات كما أريد‪ ،‬فما بالك بالطفل الصغير؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسبق أن ضربنا مثلً لتوضيح هذه المسألة بالبلدوزر‪ ،‬فلكل حركة منه ذراع خاص بها يُحرّكه‬
‫السائق‪ ،‬وأزرار يضرب عليها‪ ،‬وربما احتاج السائق لكثر من أداة التحريك هذه اللة حركة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫أما أنت فمجرد أن تريد تحريك العضو تجده يتحرك معك كما تريد دون أن تعرف العضلت‬
‫والعصاب التي شاركت في حركته‪ ،‬فإذا كنتَ أنت على هذه الصورة‪ ،‬أتعجب من أن ال تعالى‬
‫يقول للشيء كن فيكون؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3388 /‬‬

‫عةٍ كَذَِلكَ كَانُوا ُي ْؤ َفكُونَ (‪)55‬‬


‫سمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَا َ‬
‫وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ ُيقْ ِ‬

‫بعد أنْ عرض الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬الدليل ليهتدي به مَنْ يشاء‪ ،‬ومَنْ لم يهتَد يُلوّح له بهذا‬
‫عةُ ُيقْسِمُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ‪[ } ...‬الروم‪ ]55 :‬معنى كلمة { َتقُومُ السّاعَةُ‪} ...‬‬
‫التهديد‪ { :‬وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ‬
‫[الروم‪ ]55 :‬تدل على أنها موجودة‪ ،‬لكن نائمة تنتظر الذن لها‪ ،‬فتقوم تنتظر أنْ نقول لها‪ :‬كُنْ‬
‫فتكون‪.‬‬
‫فالقيام هنا له دللته؛ لن الساعة أمر ل يتأتّى به القيام‪ ،‬إنما يقيمها الحق سبحانه‪ ،‬فقوله‬
‫{ َتقُومُ‪[ } ...‬الروم‪ ]55 :‬كأنها منضبطة كما تضبط المنبه مثلً‪ ،‬ولها وقت تنتظره‪ ،‬وهي من تلقاء‬
‫نفسها إنْ جاء وقتُها قامتْ‪.‬‬
‫وحين تتأمل كلمة { َتقُومُ‪[ } ...‬الروم‪ ]55 :‬تجد أن القيام آخر مرحلة للنسان ليؤدي مهمته‪،‬‬
‫فيقابلها ما قبلها‪ ،‬فقبل القيام القعود‪ ،‬ثم الضطجاع‪ ،‬ثم النوم‪ ،‬فمعنى قيام الساعة يعني‪ :‬أنها جاءت‬
‫لتؤدي مهمتها أدا ًء كاملً‪.‬‬
‫سمّ َيتْ الساعة؛ لنها دالة على الوقت الذي يأذن ال فيه بإنهاء العالم‪ ،‬وإنْ كانت الساعة عندنا‬
‫وُ‬
‫كوحدة الحساب الزمن نقول‪ :‬صباحا أو مسا ًء َوفْق حساب الحكومة أو الهالي‪ ،‬توقيت كذا أو‬
‫كذا‪.‬‬
‫هذه اللة التي في أيدينا بما تضبطه لنا من وقت أمرها هيّن‪ ،‬ليست مشكلة أنْ تُقدّم أو تُؤخّر عدة‬
‫ثوانٍ أو عدة دقائق‪ ،‬تعمل (أتوماتيكيا) أو بالحجارة‪ ،‬صُنِعتْ في سويسرا‪ ،‬أو في الصين‪ ،‬هذه‬
‫الساعة ل تهم‪ ،‬المهم الساعة الخرى‪ ،‬الساعة التي ل ساعة بعدها‪ ،‬واعلم أنها منضبطةٌ سبحانه‪،‬‬
‫وما عليك إل أنْ تضبط نفسك عليها‪ ،‬وتعمل لها ألف حساب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عةٍ‪[ } ...‬الروم‪ ]55 :‬فإنْ كذبوا في الدنيا‪،‬‬
‫وعجيب أنْ يقسم الكفار يوم القيامة { مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَا َ‬
‫فهل يَكذْبون أيضا في الخرة؟ قالوا‪ :‬بل يقولون ذلك على ظنهم‪ ،‬وإل فالكلم منهم في هذا الوقت‬
‫ليس اختياريا‪ ،‬فقد مضى وقت الختيار‪ ،‬ولم َيعُدْ الن قادرا على الكذب‪.‬‬
‫لذلك سيقول الحق سبحانه في آخر الية‪ { :‬كَذَِلكَ كَانُواْ ُي ْؤ َفكُونَ } [الروم‪ ]55 :‬فقد كانوا يقلبون‬
‫الحقائق في الدنيا‪ ،‬أما في الخرة فلن يقلبوا الحقائق‪ ،‬إنما يقولون على حَسْب نظرهم‪.‬‬
‫والمجرمون‪ :‬المجرم هو الذي خرج عن المطلوب منه بذنب يخالفه‪ ،‬فنقول‪ :‬فلن أجرم‪ ،‬والقانون‬
‫يُسمّى الفعل جريمة‪.‬‬
‫ومعنى { مَا لَبِثُواْ‪[ } ...‬الروم‪ ]55 :‬اللبث‪ :‬المكْث طويلً أي في الدنيا‪ ،‬أو‪ :‬ما لبثوا في قبورهم‬
‫بعد الموت إلى قيام الساعة‪ ،‬أو‪ :‬ما لبثوا بعد النفخة التي تميت إلى النفخة التي تُحيي‪.‬‬
‫فهذه فترات ثلث للبثهم في القبور‪ ،‬أطولها للذين ماتوا منذ آدم عليه السلم‪ ،‬ثم أوسطهم الذين‬
‫جاءوا بعد ذلك أمثالنا‪ ،‬ثم أقلّهم لُبْثا وهم الذين يموتون بين النفختين‪ ،‬وفي كل هذه الفترات يوجد‬
‫كفار‪ ،‬وعلى عهد آدم كان هناك كفار‪ ،‬وعلى مَ ّر العصور بعده يُوجَد كفار‪ ،‬حتى بين النفختين‬
‫يوجد كفار‪ ،‬إذن‪ :‬فكلمة لبثوا هنا على عمومها‪ :‬أطول‪ ،‬وطويل‪ ،‬وقصيرة‪ ،‬وأقصر‪.‬‬

‫وهؤلء يقولون يوم القيامة " ما لبثنا غير ساعة " مع أن الخرة ل كذب فيها‪ ،‬لكنهم يقولون ذلك‬
‫على حسب ظنهم؛ لن الغائب عن الزمن ل يدري به‪ ،‬والزمن ظرف لوقت الحداث‪ ،‬كما أن‬
‫المكان ظرف لمكانها‪ ،‬فالنائم مثلً ل يشعر بالزمن؛ لن الزمن يُحسب بتوالي الحداث فيه‪ ،‬فإذا‬
‫كنتَ ل تشعر بالحدث فبالتالي ل تشعر بالوقت‪ ،‬سواء أكان بنوم كأهل الكهف‪ ،‬أو بموت كالذي‬
‫أماته ال مائة عام ثم بعثه‪.‬‬
‫ولما قاموا من النوم أو الموت لم يُوقّتوا إل على عادة الناس في النوم‪ ،‬فقالوا‪ {:‬لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ‬
‫َيوْمٍ‪[} ...‬الكهف‪]19 :‬؛ لنه في هذه الحالة ل يدري بالزمن‪ ،‬إنما يدري بالزمن الذي يتتبع‬
‫الحداث‪ ،‬وما دام النسان في هذه الحالة ل يدرك الزمن‪ ،‬فهو صادق فيما يخبر به على ظنه‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى في آية أخرى‪ {:‬قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الَ ْرضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ‬
‫َيوْمٍ فَسْ َئلِ ا ْلعَآدّينَ }[المؤمنون‪ ]113-112 :‬أي‪ :‬اسأل الذين يعدّون الزمن ويحصونه علينا‪،‬‬
‫والمقصود والملئكة‪ ،‬فهم الذين يعرفون الحداث‪ ،‬ويسجلونها من خَلْق آدم عليه السلم وإلى‬
‫الن‪ ،‬وإلى قيام الساعة‪.‬‬
‫فل يسأل عن عدد إل مَنْ عدّ بالفعل‪ ،‬أو مَنْ يمكن أنْ يعُدّ‪ ،‬أما الشيء الذي ل يكون مظنة العدّ‬
‫والحصاء فل ُيعَدّ‪ ،‬وهل عَدّ أحد في الدنيا رمال الصحراء مثلً؟ لذلك نسمع في الفكاهات‪ :‬أن‬
‫واحدا سأل الخر‪ :‬تعرف في السماء كم نجم؟ قال‪ :‬تسعة آلف مليون وخمسمائة ألف وثلثة‬
‫وتسعون نجما‪ ،‬فقال الول‪ :‬أنت كذاب‪ ،‬فقال الخر‪ :‬اطلع عِدّهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل الكفار الزمن فيُقسمون يوم تقوم الساعة ما لبثوا غير ساعة؟ وفي موضع آخر‬
‫لكن‪ ،‬لماذا يستق ّ‬
‫يقول عنهم‪ {:‬كَأَ ّن ُهمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا لَمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ عَشِيّةً َأ ْو ضُحَاهَا }[النازعات‪.]46 :‬‬
‫قالوا‪ :‬لن الزمن يختلف بحسْب أحوال الناس فيه‪ ،‬فواحد يتمنى لو طال به الزمن‪ ،‬وآخر يتمنى لو‬
‫قصر‪ ،‬فالوقت الذي يجمعك ومَنْ تحب يمضي سريعا وتتمنى لو طال‪ ،‬على خلف الوقت الذي‬
‫تقضيه على مَضض مع مَنْ تكره‪ ،‬فيمر بطيئا متثاقلً‪.‬‬
‫على حدّ قول الشاعر‪:‬حَادِثَاتُ السّرورِ تُوزَنُ وَزْنا والبَلَيَا ُتكَالُ بالقُفزانويقول آخر‪:‬وَدّع الصّبر‬
‫خطَى إذْ ش ّي َعكْإلى‬
‫عكْ َيقْرعُ السّنّ على أنْ لم يكُنْ زَادَ في تِ ْلكَ ال ُ‬
‫محبّ ودّعكَ ذائعٌ مِن سِ ّرهِ مَا اسْتوْد َ‬
‫ل معكْففي أوقات السرور‪ ،‬الزمن قصير‪،‬‬
‫طلْ بعدكَ لَيْلى فل َكمْ ِبتّ أشكُو ِقصَر الل ْي ِ‬
‫ن يقولَ‪:‬إنْ يَ ُ‬
‫أْ‬
‫وفي أوقات الغَمّ الزمن طويل ثقيل‪ ،‬ألم تسمع للذي يقول ‪ -‬لما جمع الليل شمله بمَنْ يحب‪:‬يَا لَ ْيلُ‬
‫طلْ يا َنوْمُ ُزلْ يَا صُبْحُ ِقفْ ل تطُْلعٍكذلك الذي ينتظر سرورا يستبطيء الزمن‪ ،‬ويود لو مرّ‬
‫ُ‬
‫سريعا ليعاين السرور الذي ينتظره‪ ،‬أما الذي يتوقع شرا أو ينتظره فيودّ لو طالَ الزمن ليبعده عن‬
‫الشر الذي يخافه‪.‬‬

‫لذلك نجد المؤمنين يودّون لو قصر الزمن؛ لنهم واثقون من الخير الذي ينتظرهم والنعيم الذي‬
‫وُعدوا به‪ ،‬أما المجرمون فعلى خلف ذلك‪ ،‬يودّون لو طال الزمن ليبعَدهم عما ينتظرهم من‬
‫العذاب؛ لذلك يقولون ما لبثنا في الدنيا إل قليلً ويا ليتها طالتْ بنا‪ .‬إما لنهم ل يدرون بالزمن‬
‫ويقولون حَسْب ظنهم‪ ،‬أو لنهم يريدون شيئا يُبعد عنهم العذاب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أقسموا ما لبثوا غير ساعة‪ ،‬إما على سبيل الظن‪ ،‬أو لن الغافل عن الحداث ل يدري‬
‫بالزمن‪ ،‬ول يستطيع أنْ يُحِصيه‪ ،‬كالعُزير الذي أماته ال مائة عام ثم بعثه{ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ‬
‫َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ‪[} ...‬البقرة‪ ]259 :‬فأخبره ربه أنه لبث مائة عام{ قَالَ بَل لّبِ ْثتَ مِ َئةَ عَامٍ‪} ...‬‬
‫[البقرة‪.]259 :‬‬
‫والذي ل شكّ فيه أن ال تعالى صادق فيما أخبر به‪ ،‬وكذلك العزير كان صادقا في حكمه على‬
‫طعَا ِمكَ‬
‫الزمن؛ لذلك أقام الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬الدليل على صِدْق القولين فقال‪ {:‬فَانْظُرْ إِلَىا َ‬
‫وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَ َتسَنّهْ‪[} ...‬البقرة‪ ]259 :‬والطعام ل يتغير في يوم أو بعض يوم‪ ،‬فقام الطعام والشراب‬
‫دليلً على صِدْق الرجل‪.‬‬
‫س وَا ْنظُرْ إِلَى العِظَامِ كَ ْيفَ نُ ْنشِزُهَا ثُمّ‬
‫جعََلكَ آ َيةً لِلنّا ِ‬
‫ك وَلِنَ ْ‬
‫حمَا ِر َ‬
‫ثم قال سبحانه{ وَانْظُرْ إِلَىا ِ‬
‫َنكْسُوهَا َلحْما‪[} ...‬البقرة‪.]259 :‬‬
‫فقامت العظام البالية دليلً على صِدْقه تعالى في المائة عام‪ .‬ول تقل‪ :‬كيف نجمع بين صدق‬
‫حقّ‬
‫القولين؟ لن الذي أجرى هذه المسألة رب‪ ،‬هو سبحانه القابض الباسط‪ ،‬يقبض الزمن في َ‬
‫قوم‪ ،‬ويبسطه في حَقّ آخرين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذه الية } وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ‪[ { ...‬الروم‪ ]55 :‬جاءت بعد إعذار ال للكافرين برسله‪ ،‬ومعنى‬
‫إعذارهم أي‪ :‬إسقاط عذرهم في أنه سبحانه لم يُبيّن لهم أدلة اليمان في قمته بإله واحد‪ ،‬وأدلة‬
‫اليمان بالرسول بواسطة المعجزات حتى يؤمنوا بآيات الحكام في‪ :‬افعل‪ ،‬ول تفعل‪.‬‬
‫فاليات كما قلنا ثلث‪ :‬آيات تثبت قمة العقيدة‪ ،‬وهو اليمان بوجود الله القادر الحكيم‪ ،‬وآيات‬
‫تثبت صِدْق البلغ عن ال بواسطة رسله‪ ،‬وهذه هي المعجزات‪ ،‬وآيات تحمل الحكام‪.‬‬
‫والحق سبحانه ل يطلب من المؤمنين به أنْ يؤمنوا بأحكامه في‪ :‬افعل ول تفعل إل إذا اقتنعوا أولً‬
‫بالرسول المبلّغ عن ال بواسطة المعجزة‪ ،‬ول يمكن أنْ يؤمنوا بالرسول المبلّغ عن ال إل إذا ثبتَ‬
‫عندهم وجود ال‪ ،‬ووجود ال ثابت في آيات الكون‪.‬‬
‫لذلك دائما ما يعرض علينا الحق سبحانه آياته في الكون‪ ،‬لكن يعرضها متفرقة‪ ،‬فلم يصبّها علينا‬
‫صَبّا‪ ،‬إنما يأتي بالية ثم يُردِفها بما حدث منهم من التكذيب والنكران‪ ،‬فيأتي بالية ونتيجتها منهم‪،‬‬
‫ل يؤمنوا‪.‬‬
‫ذلك ليكرر العذار لهم في أنه لم َيعُدْ لهم عُذْر في أ ّ‬
‫حمَتِهِ‬
‫ت وَلِيُذِي َقكُمْ مّن رّ ْ‬
‫سلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَا ٍ‬
‫فنلحظ هذا التكرار في قوله سبحانه‪َ {:‬ومِنْ آيَاتِهِ أَن يُ ْر ِ‬
‫شكُرُونَ }[الروم‪.]46 :‬‬
‫وَلِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ بَِأمْ ِرهِ وَلِتَبْ َتغُواْ مِن َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ َت ْ‬

‫ثم يذكر أن هذه اليات لم تُجْد معهم‪ {:‬وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ رُسُلً إِلَىا َق ْو ِمهِمْ َفجَآءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ‬
‫حقّا عَلَيْنَا َنصْرُ ا ْل ُم ْؤمِنينَ }[الروم‪.]47 :‬‬
‫فَان َتقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْ َرمُو ْا َوكَانَ َ‬
‫جعَلُهُ‬
‫سمَآءِ كَ ْيفَ يَشَآ ُء وَيَ ْ‬
‫طهُ فِي ال ّ‬
‫سحَابا فَيَبْسُ ُ‬
‫سلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ َ‬
‫ثم يسوق آية أخرى‪ {:‬اللّهُ الّذِي يُرْ ِ‬
‫كِسَفا فَتَرَى ا ْلوَدْقَ َيخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ فَإِذَآ َأصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَا ِدهِ إِذَا ُهمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ * وَإِن‬
‫ي الَ ْرضَ‬
‫حِ‬‫ح َمتِ اللّهِ كَ ْيفَ يُ ْ‬
‫كَانُواْ مِن قَ ْبلِ أَن يُنَ ّزلَ عَلَ ْي ِهمْ مّن قَبْلِهِ َلمُبِْلسِينَ * فَانظُرْ إِلَىا آثَارِ َر ْ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }[الروم‪.]50-48 :‬‬
‫حيِ ا ْل َموْتَىا وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫َبعْدَ َموْ ِتهَآ إِنّ ذَِلكَ َل ُم ْ‬
‫صفَرّا لّظَلّواْ مِن َبعْ ِدهِ‬
‫ثم يذكر سبحانه ما كان منهم بعد كلّ هذه اليات‪ {:‬وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحا فَرََأ ْوهُ ُم ْ‬
‫َي ْكفُرُونَ }[الروم‪.]51 :‬‬
‫وهكذا يذكر الحق سبحانه الية‪ ،‬ويُتبعها بما حدث منهم من نكران‪ ،‬ويكررها حتى ل تبقى لهم‬
‫عةٍ‪...‬‬
‫حجة للكفر‪ ،‬ثم تأتي هذه الية‪ } :‬وَيَوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ ُيقْسِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَا َ‬
‫{ [الروم‪ ]55 :‬لتقول لهم‪ :‬إنْ كنتم قد كذّبتم بكل هذه اليات‪ ،‬فستأتيكم آية ل تستطيعون تكذيبها‬
‫هي القيامة‪.‬‬
‫وعجيب أنْ يُقسِموا بال في الخرة ما لبثوا غير ساعة‪ ،‬وقد كفروا به سبحانه في الدنيا‪.‬‬
‫وفي الية جناس تام بين كلمة الساعة الولى‪ ،‬والساعة الثانية‪ ،‬فاللفظ واحد لكن المعنى مختلف }‬
‫عةٍ‪...‬‬
‫وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ‪[ { ...‬الروم‪ ]55 :‬أي‪ :‬القيامة } ُيقْسِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَا َ‬
‫{ [الروم‪ ]55 :‬أي‪ :‬من الوقت‪ ،‬ومن ذلك قول الشاعر‪:‬رَح ْلتُ عَنِ الديارِ لكُمْ أَسِي ُر وقَلْبي فِي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫محبِتكُمْ أَسِيرُأي‪ :‬مأسور‪.‬‬
‫ولي أنا وزميلي الدكتور محمد عبد المنعم خفاجة ‪ -‬أطال ال بقاءه ‪ -‬قصة مع الجناس‪ ،‬ففي‬
‫إحدى حصص البلغة‪ ،‬قال الستاذ‪ :‬ل يوجد في القرآن جناس تام إل في هذه الية بين ساعة‬
‫وساعة‪ ،‬لكن يوجد فيه جناس ناقص‪ ،‬فرفع الدكتور محمد أصبعه وقال‪ :‬يا أستاذ أنا ل أحب أنْ‬
‫يُقال‪ :‬في القرآن شيء ناقص‪.‬‬
‫فضحك الشيخ منه وقال له‪ :‬إذن ماذا نقول؟ وقد قسم أهل البلغة الجناس إلى تام وناقص‪ :‬الول‬
‫تتفق فيه الكلمتان في عدد الحروف وترتيبها وشكلها‪ ،‬فإن اختلف من ذلك شيء فالجناس بينهما‬
‫ناقص‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬و ْيلٌ ّل ُكلّ ُهمَ َزةٍ ّلمَ َزةٍ }[الهمزة‪ ]1 :‬فبين هُمزة ولمزة جناس ناقص؛‬
‫لنهما اختلفا في الحرف الول‪.‬‬
‫ي وقال‪ :‬ما رأيك فيما يقول صاحبك؟ فقلت‪ :‬نسميه جناس كُل‪ ،‬وجناس‬
‫أذكر أن الشيخ أشار إل ّ‬
‫بعض‪ ،‬يعني‪ :‬تتفق الكلمتان في كل الحروف أو في بعضها‪ ،‬وبذلك ل نقول في القرآن‪ :‬جناس‬
‫ناقص‪.‬‬
‫عةٍ‪[ { ...‬الروم‪ ]55 :‬أي‪ :‬الساعة الزمنية التي نعرفها‪ ،‬والزمن له‬
‫فقولهم } مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَا َ‬
‫مقاييس‪ :‬ثانية‪ ،‬ودقيقة‪ ،‬وساعة‪ ،‬ويوم‪ ،‬وأسبوع‪ ،‬وشهر‪ ،‬وسنة‪ ،‬وقرن‪ ،‬ودهر‪ ،‬وهم يقصدون‬
‫الساعة الزمنية المعروفة لنا‪.‬‬
‫سعَة‬
‫إذن‪ :‬فهم يُقلّلون مدة ُمكْثهم في الدنيا أو في القبور لما فاجأتهم القيامة‪ ،‬وقد أخبرناهم وهم في َ‬
‫الدنيا أن متاع الدنيا قليل‪ ،‬وأنها قصيرة وإلى زوال‪ ،‬فلم يُصدّقوا والن يقولون‪ :‬إنها كانت مجرد‬
‫ساعة‪ ،‬ولم يقولوا حتى شهر أو سنة‪ ،‬فكيف تستقل ما سبق أن استكثرته‪ ،‬وظننتَ أنك خالد فيه‬
‫حتى قلتَ‬

‫ت وَنَحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَآ ِإلّ الدّهْرُ‪[} ...‬الجاثية‪.]24 :‬‬


‫{ مَا ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُو ُ‬
‫ففي الدنيا كذّبتم وأنكرتم‪ ،‬ولم تستجيبوا لداعي اليمان‪ ،‬أما الن في الخرة فسوف تستجيبون‬
‫حمْ ِدهِ‪[} ...‬السراء‪:‬‬
‫استجابة مصحوبة بحمده تعالى‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬يوْمَ َيدْعُوكُمْ فَتَسْ َتجِيبُونَ ِب َ‬
‫‪ ]52‬أي‪ :‬تقولون الحمد ل والنسان ل يحمد إل على شيء محبوب‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬كَذَِلكَ‪[ { ...‬الروم‪ ]55 :‬أي‪ :‬كهذا الكذب } كَانُواْ ُي ْؤفَكُونَ { [الروم‪]55 :‬‬
‫سمّي الكذب إفكا؛ لن الكاذب يخبر‬
‫والفك من أَفك إفكا‪ ،‬أي‪ :‬صرف الشيء عن وجهه؛ لذلك ُ‬
‫بقضية تخالف الواقع‪ ،‬فيأتي بها على غير وجهها‪ ،‬أو يُوجِدها وهي غير موجودة‪ ،‬أو ينكر‬
‫وجودها‪.‬‬
‫ومنه قوله تعالى‪ {:‬وَا ْل ُمؤْتَ ِفكَةَ أَ ْهوَىا }[النجم‪ ]53 :‬وهي القرى التي قلبها ال‪ ،‬فجعل عاليها سافلها‪.‬‬
‫فقوله } كَذَِلكَ‪[ { ...‬الروم‪ ]55 :‬أي‪ :‬كهذا الفك كانوا ُيؤْفكون‪ ،‬يعني‪ :‬يكذّبون الرسل في الحقائق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التي جاءوا بها من قِبلَ ربهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬وقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِ ْلمَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3389 /‬‬

‫َوقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْ َم وَالْإِيمَانَ َلقَدْ لَبِثْ ُتمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَى َيوْمِ الْ َب ْعثِ َفهَذَا َيوْمُ الْ َب ْعثِ وََلكِ ّنكُمْ كُنْ ُتمْ‬
‫لَا َتعَْلمُونَ (‪)56‬‬

‫قال هنا { ا ْلعِلْ َم وَالِيمَانَ‪[ } ...‬الروم‪ ]56 :‬فهل العِلم ينافي اليمان؟ ل‪ ،‬لكن هناك فَرْق بينهما‪،‬‬
‫فالعلم كسب‪ ،‬واليمان أنت تؤمن بال وإنْ لم تَرَه‪ .‬إذن‪ :‬شيء أنت تراه وتعلمه‪ ،‬وشيء يخبرك به‬
‫غيرك بأنه رآه‪ ،‬فآمنتَ بصدقه فص ّدقْتَه‪ ،‬فهناك تصديق للعلم وتصديق لليمان؛ لذلك دائما ُيقَال‪:‬‬
‫اليمان للغيبية عنك‪ ،‬أما حين َيقْوى إيمانك‪ ،‬ويَقْوى يقينك يصير الغيب كالمشاهَد بالنسبة لك‪.‬‬
‫وقد أوضحنا هذه المسألة في الكلم عن قوله تعالى في خطابه لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪{:‬‬
‫أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل‪.]1 :‬‬
‫فقال‪ :‬ألم تَرَ مع أن النبي صلى ال عليه وسلم وُلِد عام الفيل‪ ،‬ولم يتسَنّ له رؤية هذه الحادثة‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬لن إخبار ال له أصدق من رؤيته بعينه‪.‬‬
‫فقوله‪ { :‬أُوتُواْ ا ْلعِلْ َم وَالِيمَانَ‪[ } ...‬الروم‪ ]56 :‬لن العلم تأخذه أنت بالستنباط والدلة‪ ...‬الخ‪ ،‬أو‬
‫تأخذه ممن يخبرك وتُصدّقه فيما أخبر‪ " ،‬لذلك النبي صلى ال عليه وسلم لما سأل الصحابي‪" :‬‬
‫كيف أصبحتَ "؟ قال‪ :‬أصبحتُ مؤمنا حقا‪ ،‬قال‪ " :‬لكلّ حقّ حقيقة‪ ،‬فما حقيقة إيمانك "؟‬
‫يعني‪ :‬ما مدلول هذه الكلمة التي قلتها؟‬
‫فقال الصحابي‪ :‬عزفتْ نفسي عن الدنيا‪ ،‬فاستوى عندي ذهبها‪ ،‬ومدرها‪ ،‬وكأني أنظر إلى أهل‬
‫الجنة في الجنة يُنعّمون‪ ،‬وإلى أهل النار في النار يُعذّبون ‪ -‬يريد أن يقول لرسول ال‪ :‬لقد‬
‫ت وكأني أرى ما أخبرتنا به ‪ -‬فقال له رسول ال‪ " :‬عرفتَ فالزم "‪.‬‬
‫أصبح ُ‬
‫لكن‪ ،‬مَن هم الذين أوتوا العلم؟ هم الملئكة الذين عاصروا كل شيء‪ ،‬لنهم ل يموتون‪ ،‬أو النبياء‬
‫لن الذي أرسلهم أخبره‪ ،‬أو المؤمنون لنهم صدّقوا الرسول فيما أخبر به‪.‬‬
‫وقال { أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ‪[ } ...‬الروم‪ ]56 :‬ولم يقل‪ :‬علموا‪ ،‬كأن العلم ليس كَسْبا‪ ،‬إنما إيتاء من عَالِم‬
‫منك يعطيك‪ .‬فإنْ قُلتَ‪ :‬أليس للعلماء دور في الستدلل والنَظر في الدلة؟ نقول‪ :‬نعم‪ ،‬لكن مَنْ‬
‫نصب لهم هذه الدلة؟ إذن‪ :‬فالعلم عطاء من ال‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ { :‬لقَدْ لَبِثْ ُتمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَىا َيوْمِ الْ َب ْعثِ َفهَـاذَا َيوْمُ الْ َب ْعثِ‪[ } ...‬الروم‪]56 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يعني‪ :‬مسألة مرسومة ومنضبطة في اللوح المحفوظ إلى يوم البعث { َفهَـاذَا َيوْمُ الْ َب ْعثِ‪} ...‬‬
‫[الروم‪ ]56 :‬الذي كنتم تكذبون به‪ ،‬أما الن فل بُدّ أنْ تُصدّقوا فقد جاءكم شيء ل تقدرون على‬
‫تكذيبه؛ لنه أصبح واقعا ومن مصلحتكم أنْ يقبل عذركم‪ ،‬لكن لن يقبل منكم‪ ،‬ولن نسمع لكم كلما‬
‫لننا قدمنا العذار سابقا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَلَـاكِنّكُمْ كُنت ْم لَ َتعَْلمُونَ } [الروم‪ ]56 :‬في أول الية قال‪ { :‬أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ‪} ...‬‬
‫[الروم‪ ]56 :‬فنسب العلم إلى ال‪ ،‬أما هنا فنسبه إليهم؛ لن ال تعالى نصب لهم الدلة فلم يأخذوا‬
‫منها شيئا‪ ،‬ونصب لهم الحجج والبراهين واليات فغفلوا عنها‪ ،‬إذن‪ :‬لم يأخذوا من الدلئل والحجج‬
‫ما يُوصّلهم إلى العلم‪.‬‬
‫ل ينفَعُ الّذِينَ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَ َي ْومَئِ ٍذ ّ‬

‫(‪)3390 /‬‬

‫فَ َي ْومَئِذٍ لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ ظََلمُوا َمعْذِرَ ُتهُ ْم وَلَا هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ (‪)57‬‬

‫ل ينفَعُ الّذِينَ ظََلمُواْ َمعْذِرَ ُتهُ ْم َولَ هُمْ‬


‫قوله { فَ َي ْومَئِذٍ‪[ } ...‬الروم‪ ]57 :‬أي‪ :‬يوم قيام الساعة { ّ‬
‫يُسْ َتعْتَبُونَ } [الروم‪ ]57 :‬أي‪ :‬ل يُقبَل منهم عذر‪ ،‬ومعنى { ظََلمُواْ‪[ } ...‬الروم‪ ]57 :‬أي‪ :‬ظلموا‬
‫أنفسهم‪ ،‬والظالم يلجأ إلى الظلم؛ لنه يريد أن يأخذ من الغير ما عجزتْ حركته هو عن إدراكه‪.‬‬
‫فالظلم أنْ تأخذ نتيجة عرق غيرك لتحوله إلى دم فيك‪ ،‬لكن دمك إنْ لم يكُنْ من عَرَقك فهو دم‬
‫فاسد عليك‪ ،‬ول تأتي منه أبدا حركة إجابة في الوجود ل بُدّ أن تكون نتيجته حركات شر؛ لنه دم‬
‫حرام‪ ،‬فكيف يتحرك في سبيل الحلل؟‬
‫لذلك ورد في الحديث الشريف أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬أيها الناس إن ال طيب‬
‫سلُ كُلُواْ مِنَ‬
‫ل يقبل إلى طيبا‪ ،‬وإن ال أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين " ‪ ،‬فقال‪ {:‬ياأَ ّيهَا الرّ ُ‬
‫عمَلُو ْا صَالِحا إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ }[المؤمنون‪ ]51 :‬وقال‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن‬
‫ت وَا ْ‬
‫الطّيّبَا ِ‬
‫شكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ }[البقرة‪ ]172 :‬ثم ذكر " الرجل يطيل السفر‪،‬‬
‫طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم وَا ْ‬
‫أشعث أغبر ثم يمد يديه إلى السماء‪ :‬يا رب يا رب‪ ،‬ومطعمه من حرام‪ ،‬ومشربه من حرام‪ ،‬فأنّى‬
‫يُستجاب له " "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كيف يُستجاب لنا وأبعاضنا كلها غير أ ْهلِ لمناجاة ال بالدعاء؟‬
‫ول يقف المر عند عدم قبول العذر‪ ،‬إنما { َولَ هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ } [الروم‪ ]57 :‬العتاب‪ :‬حوار بُلطْف‬
‫ل يكون‪ ،‬ويجب أن يعرض عليه‬
‫ودلل بين اثنين في أمر أغضب أحدهما‪ ،‬وكان من المظنون أ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن كنتَ حريصا على‬
‫ليصفي نفسه منه‪ ،‬كأن يمر عليك صديق فل يسلم عليك فتغضب منه‪ ،‬فإ ْ‬
‫مودته تقابله وتقول‪ :‬وال أنا في نفسي شيء منك‪ ،‬لنك مررتَ فلم تسلم عليّ يوم كذا‪ ،‬فيقول لك‪:‬‬
‫ت مشغولً بكذا وكذا ولم أَرَك‪ ،‬فيزيل هذا العذر ما في نفسك من صاحبك‪.‬‬
‫وال كن ُ‬
‫ونقول‪ :‬عتب فلن على فلن فأعتبه أي‪ :‬أزال عتابه؛ لذلك يقولون‪ :‬ويبقى الود ما بقي العتاب‪،‬‬
‫حبّ َيصْلُح بالعِتَاب ويصْ ُدقُوالهمزة في أعتب تسمى‬
‫ويقول الشاعر‪َ:‬أمّا العِتَابُ فبالحِبّة َأخْلَق وال ُ‬
‫همزة الزالة‪ ،‬ومنها قول الشاعر‪:‬أُرِيدُ سُلوّكم ‪ -‬أي بعقلي ‪ -‬والقَ ْلبُ يأْبَى وأعْتِبكُم ومِلءُ ال َنفْسِ‬
‫عَتْبىومنه ما جاء في مناجاة النبي صلى ال عليه وسلم لربه يوم الطائف بعد أن لَقي منهم ما‬
‫ب إلى مَنْ َتكِلني‪ ،‬إلى بعيد يتجهمني‪ ،‬أم إلى عدو‬
‫َلقِي‪ ،‬حتى لجأ إلى حائط‪ ،‬وأخذ يناجي ربه‪ " :‬ر ّ‬
‫ن يقول‪:‬‬
‫ملّكته أمري؟ إنْ لم يكنْ بك عليّ غضب فل أُبالي‪ ،‬ولكن عافيتك هي أوسع لي‪ ..‬إلى أ ْ‬
‫لك العُتْبى حتى ترضى "‪.‬‬
‫ن كنت غضبتَ لشيء بدر مني‪ ،‬فأنا أريد أن أزيل عتباك عليّ‪.‬‬
‫يعني‪ :‬يا رب إ ْ‬

‫عجْمتها وخفاءها‪ ،‬وأوضحت معناها‪ ،‬ومن‬


‫ومن همزة الزالة قولنا‪ :‬أعجمت الكلمة أي‪ :‬أز ْلتُ ٌ‬
‫ذلك نُسمّي المعجم لنه يزيل خفاء الكلمات ويُبيّنها‪.‬‬
‫خفِيهَا‪[} ...‬طه‪ ]15 :‬أي‪ :‬أقرب أنْ أزيل خفاءها‬
‫عةَ آتِيَةٌ َأكَادُ ُأ ْ‬
‫وتقرأ في ذلك قوله تعالى‪ {:‬إِنّ السّا َ‬
‫باليات والعلمات‪.‬‬
‫وهذه الكلمة } يُسْ َتعْتَبُونَ { [الروم‪ ]57 :‬وردتْ في القرآن ثلث مرات‪ ،‬ووردت مرة واحدة مبنية‬
‫للفاعل (يَسْتعتبون)‪ ،‬لنهم طلبوا إزالة عتابهم‪ ،‬فلم يُزِلْه ال ولم يسمح لهم في إزالته‪ ،‬أما‬
‫(يُستعتبون) فلنهم لم يطلبوا العتب بأنفسهم‪ ،‬إنما جعلوا لهم شفعاء يطلبون لهم‪ ،‬لكن خَاب ظنهم‬
‫في هذه وفي هذه‪.‬‬
‫ن يقول لهم‪ :‬استعتبوا ربكم‪ ،‬واسألوه‬
‫فالمعنى } وَلَ ُهمْ يُسْ َتعْتَبُونَ { [الروم‪ ]57 :‬ل يجرؤ شفيع أ ْ‬
‫أنْ يعتبكم أي‪ :‬يزيل العتاب عنكم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََلقَ ْد ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَـاذَا‪.{ ...‬‬

‫(‪)3391 /‬‬

‫ل وَلَئِنْ جِئْ َتهُمْ بِآَيَةٍ لَ َيقُولَنّ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا‬
‫وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا ا ْلقُرْآَنِ مِنْ ُكلّ مَ َث ٍ‬
‫مُبْطِلُونَ (‪)58‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذه الية تعني أننا لم نترك معذرة لحد ممن كفروا برسلهم؛ لننا جئنا لهم بأمثال متعددة وألوان‬
‫شتى من الدلة المشاهدة ليستدلوا بها على غير المشاهد ليأخذوا من مرائيهم ومن حواسهم دليلً‬
‫على ما غاب عنهم‪.‬‬
‫فحين يريد سبحانه أن يقنعهم بأن يؤمنوا بإله واحد ل شريك له يضرب لهم هذا الم َثلَ من واقع‬
‫جلٍ َهلْ َيسْ َتوِيَانِ مَثَلً‪} ...‬‬
‫ن وَرَجُلً سَلَما لّرَ ُ‬
‫حياتهم‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُتَشَاكِسُو َ‬
‫[الزمر‪.]29 :‬‬
‫هل يستوي عبد لسيد واحد مع عبد لعدة أسياد يتجاذبونه‪ ،‬إنْ أرضي واحد أسخط الخرين؟‬
‫ثم يُقرّب المسألة بم َثلٍ من النفس‪ ،‬وليس شيء أقرب إلى النسان من نفسه‪ ،‬فيقول الحق سبحانه‬
‫س ُكمْ َهلْ ّلكُمْ مّن مّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مّن شُ َركَآءَ فِي مَا رَ َزقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ‬
‫وتعالى‪ {:‬ضَ َربَ َلكُمْ مّثَلً مّنْ أَنفُ ِ‬
‫صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ }[الروم‪.]28 :‬‬
‫سكُمْ كَذَِلكَ ُن َف ّ‬
‫سوَآءٌ َتخَافُونَهُمْ كَخِيفَ ِتكُمْ أَنفُ َ‬
‫فِيهِ َ‬
‫والمعنى‪ :‬إذا كنتم ل تقبلون أنْ يشارككم مواليكم فيما رزقكم ال‪ ،‬فتكونون في هذا الرزق سواء‪،‬‬
‫فكيف تقبلون الشركة في حق ال تعالى؟‬
‫وحين يريد الحق سبحانه أنْ يبطل شرْكهم وعبادتهم لللهة يضرب لهم هذا المثل{ إِنّ الّذِينَ‬
‫تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن َيخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَ ُه وَإِن يَسْلُ ْب ُهمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ‬
‫ضعُفَ الطّاِلبُ وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج‪.]73 :‬‬
‫َ‬
‫والمَثَل يعني أنْ تُشبّه شيئا بشيء‪ ،‬وتلحق خفيا بجلى‪ ،‬لتوضحه وليستقر في ِذهْن السامع‪ ،‬كأن‬
‫سمّى هذا‪ :‬مثْل أو مَثَل‪ ،‬نقول‪ :‬فلن مثْل فلن‪.‬‬
‫تشبه شخصا غير معروف بشخص معروف‪ ،‬ويُ َ‬
‫أما المثل فقول من حكيم شاع على اللسنة‪ ،‬وتناقله الناس كلما جاءت مناسبته‪ ،‬وسبق أنْ مثّلنا‬
‫لذلك بالملك الذي أرسل امرأة تخطب له أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني‪ ،‬وكان اسمها‬
‫(عصام)‪ ،‬فلما عادت من المهمة بادرها بقوله‪ :‬ما وراءكِ يا عصام؟ فصارت مثلً يُقال في مثل‬
‫هذه المناسبة مع أنه قيل في حادثة مخصوصة‪.‬‬
‫والمثل يقال كما هو‪ ،‬ل نغير فيه شيئا‪ ،‬فنقول‪ :‬ما وراءك يا عصام للمذكر وللمؤنث‪ ،‬وللمفرد‬
‫وللمثنى وللجمع‪.‬‬
‫ومن ذلك نُشبّه الكريم بحاتم‪ ،‬والشجاع بعنترة‪ ..‬الخ لن حاتما الطائي صار مضربَ المثل في‬
‫الكرم‪ ،‬وعنترة في الشجاعة‪ .‬وفي المثال نقول لمن يواجه بمَنْ هو أقوى منه‪ :‬إنْ كنت ريحا فقد‬
‫لقيتَ إعصارا‪ ،‬ونقول لمن لم ُي ِعدّ للمر عُدّته‪ :‬قبل الرماء تُمل الكنائن‪.‬‬
‫حفِظ وتناقلته‬
‫إذن‪ :‬المثل قول شبه مضربه الن بمورده‪ ،‬سابقا لن المورد كان قويا وموجزا لذلك ُ‬
‫اللسنة‪.‬‬
‫والقرآن يسير على أسلوب العرب وطريقتهم في التعبير وتوضيح المعنى بالمثال حتى يضرب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المثل بالبعوضة‪ ،‬والبعض يأنف أنْ يضرب القرآن بجلله وعظمته مثلً بالبعوضة‪ ،‬وهو ل يعلم‬
‫أن ال يقول‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا‪} ...‬‬

‫[البقرة‪.]26 :‬‬
‫وليس معنى‪َ {:‬فمَا َف ْو َقهَا‪[} ...‬البقرة‪ ]26 :‬أي‪ :‬في الكِبَر كما يظن البعض‪ ،‬فيقولون‪ :‬لماذا يقول فما‬
‫صغَر وفيما تستنكرونه من الضآلة‪ ،‬كالكائنات‬
‫فوقها وهو من باب َأوْلى‪ ،‬لكن المراد ما فوقها في ال ّ‬
‫الدقيقة والفيروسات‪...‬الخ‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا يضرب ال المثال للناس؟ قالوا‪ :‬لن النسان له حواسّ متعددة‪ ،‬فهو يرى ويسمع‬
‫ويشم ويتذوق ويلمس‪ ..‬الخ‪ ،‬ولو تأملتَ كل هذه الحواس لوجدتَ أن ألصق شيء بالحس أنْ‬
‫يضرب؛ لذلك حين تريد أنْ تُوقِظ شخصا من النوم فقد ل يسمع نداءك فتذهب إليه وتهزّه كأنك‬
‫تضربه فيقوم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالضرب هو الثر الذي ل يتخلف مدلوله أبدا‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬وَآخَرُونَ َيضْرِبُونَ‬
‫فِي الَ ْرضِ يَبْ َتغُونَ مِن َفضْلِ اللّهِ‪[} ...‬المزمل‪ ]20 :‬أي‪ :‬يُؤثرون فيها تأثيرا واضحا كالحرث‬
‫مثلً‪ ،‬وهو أشبه ما يكون بالضرب‪.‬‬
‫والضرب ل يكون ضربا يؤدي مهمة وله أثر إل إذا كان بحيث يُؤلم المضروب‪ ،‬ول يُوجع‬
‫الضارب‪ ،‬وإل فقد تضرب شيئا بقوة فتؤلمك يدك‪ ،‬فكأنك ضربتَ نفسك‪ .‬وهذا المعنى َفطِن إليه‬
‫ك تعنف لَ بالقَد ْروَيَا‬
‫سَ‬‫الشاعر‪ ،‬فقال للذين ل يؤمنون بقدر ال‪:‬أيَا هَازئا من صُنُوف القَدَرِ بنف ِ‬
‫ضَارِبا صَخْرةً بِالعصَا ضربتَ ال َعصَا َأمْ ضر ْبتَ الحجَرْفالحق سبحانه يضرب المثل ليُشعركم به‪،‬‬
‫س اللم من الضرب‪ ،‬فإذا لم يحسّ النسان بضرب المثل فهو كالذي ل يحسّ‬
‫وتُحسون به حِ ّ‬
‫بالضرب الحقيقي المادي‪ ،‬وهذا والعياذ بال عديم الحساس أو مشلول الحسّ‪.‬‬
‫فالمعنى‪ } :‬وَلَقَ ْد ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ مِن ُكلّ مَ َثلٍ‪[ { ...‬الروم‪ ]58 :‬يعني‪ :‬أتيناهم‬
‫بأمثال ودلئل ل يمكن لحد إل أنْ يستقبلها كما يستقبل الضرب؛ لن الضرب آخر مرحلة من‬
‫مراحل الدراك‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫وسبق أنْ قلنا‪ :‬إن الحق سبحانه ضرب المثل لنفسه سبحانه في قوله‪ {:‬اللّهُ نُورُ ال ّ‬
‫شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ ا ْل ِمصْبَاحُ‪[} ...‬النور‪.]35 :‬‬
‫وَالَرْضِ مَ َثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْ‬
‫والمثل هنا ليس لنوره تعالى كما يظن البعض‪ ،‬إنما مَ َثلٌ لتنويره للكون الواسع‪ ،‬وهو سبحانه‬
‫يُنوّرك حِسّيا بالشمس وبالقمر وبالنجوم‪ ،‬ويُنوّرك معنويا بالمنهج وبالقيم‪.‬‬
‫ففائدة النور الحسي أن يزيل الظلمة‪ ،‬وأنْ تسير على هُدى وعلى بصيرة فتسلم خطاك واتجاهك‬
‫ل تضر الضعف منك‪،‬‬
‫من أنْ تحطم ما هو أقلّ منك أو يحطمك ما هو أقوى منك‪ ،‬والمحصلة أ ّ‬
‫وألّ يضرك القوى منك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كذلك النور المعنوي‪ ،‬وهو نور القيم والمنهج يمنعك أنْ تضرّ غيرك‪ ،‬ويمنع غيرك أنْ يضرّك‪،‬‬
‫وكما ينجيك النور الحسي من المعاطب الحسية كذلك ينجيك نور القيم من المعاطب المعنوية‪.‬‬
‫لذلك يقول سبحانه بعد أن ضرب لنا هذا المثل‪ {:‬نّورٌ عَلَىا نُورٍ َيهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن يَشَآءُ‬
‫شيْءٍ عَلَ ِيمٌ }[النور‪.]35 :‬‬
‫لمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫وَ َيضْرِبُ اللّ ُه ا َ‬
‫سمَاحةِ حَاتمٍ في حِلْم‬
‫وسبق أنْ ذكرنا ما كان من مدح أبي تمام لحد الخلفاء‪:‬إقْدامُ عَمروٍ في َ‬
‫حسّاده على مكانته من الخليفة‪ :‬أتشبه الخليفة بأجلف العرب؟‬
‫أحْ َنفَ في َذكَاءِ إيَاسِفقال أحد ُ‬
‫فأطرق هنيهة‪ ،‬ثم أكمل على نفس الوزن والقافية‪:‬‬

‫لَ تُنكِروا ضرْبي لَهُ مَنْ دُونَه مثَلً شَرُودا في النّدَى والبَاسِفالُ َق ْد ضربَ القلّ لِنُورهِ مَثَلً من‬
‫شكَاةِ والنبراسِالعجب من هذا أنهم أخذوا الورقة التي معه‪ ،‬فلم يجدوا فيها هذين البيتين‪ ،‬وهذا‬
‫الم ْ‬
‫يعني أنه ارتجلهما لتوّه‪ ،‬وقد قلت‪ :‬وال لو وجدوا هذه البيات مُعدة معه لما قلّل ذلك من شأنه‪ ،‬بل‬
‫فيه دللة على ذكائه واحتياطه لمره وتوقعه لما قد يقوله الحساد والحاقدون عليه‪.‬‬
‫لكن لم تُجد هذه المثال ولم ينتفعوا بها‪ ،‬وليت المر ينتهي عند هذا الحد بل‪ } :‬وَلَئِن جِئْ َت ُهمْ‬
‫بِآيَةٍ‪[ { ...‬الروم‪ ]58 :‬أي‪ :‬جديدة } لّ َيقُولَنّ الّذِينَ َكفَرُواْ إِنْ أَن ُتمْ ِإلّ مُبْطِلُونَ { [الروم‪]58 :‬‬
‫فيتهمون الرسل في بلغهم عن ال بأنهم أهل باطل وكذب‪.‬‬
‫والحق سبحانه يحتجّ على الناس في أنه لم يُجبهم إلى اليات التي اقترحوها؛ لن السوابق مع‬
‫المم التي كذّبت الرسل تؤيد ذلك‪ ،‬فقد كانوا يطلبون اليات‪ ،‬فيجيبهم ال إلى ما طلبوا‪ ،‬فما‬
‫يزدادون إل تكذيبا‪.‬‬
‫لوّلُونَ‪[} ...‬السراء‪.]59 :‬‬
‫سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن َك ّذبَ ِبهَا ا َ‬
‫لذلك يقول سبحانه‪َ {:‬ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ‬
‫فالمر ل يتعدى كونهم يريدون إطالة الجراءات وامتداد الوقت في جدل ل يجدي‪ ،‬ثم إن في‬
‫إجابتهم إلى ما طلبوا رغم تكذيبهم باليات السابقة احتراما لعدم إيمانهم‪ ،‬ودليلً على أن اليات‬
‫السابقة كانت غير كافية‪ ،‬بدليل أنه جاءهم بآية أخرى‪ ،‬إذن‪ :‬فعدم مجيء اليات يعني أن اليات‬
‫السابقة كانت كافية لليمان لكنهم لم يؤمنوا؛ لذلك لن نجيبهم في طلب آيات أخرى جديدة‪.‬‬
‫وهذه القضية واضحة في جدل إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬مع النمروذ في قوله تعالى‪ {:‬أََلمْ تَرَ إِلَى‬
‫الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِـي وَ ُيمِيتُ‪[} ...‬البقرة‪:‬‬
‫‪.]258‬‬
‫خصْمه يميل إلى الجدل والسفسطة‪ ،‬وأنه يريد إطالة مد‬
‫وعندها شعر إبراهيم عليه السلم بأن َ‬
‫خصْمه ل يميت‬
‫الجدل‪ ،‬ويريد تضييع الوقت في أخذ وردّ؛ لذلك أضرب عن هذه الحجة ‪ -‬مع أن َ‬
‫ول يحيى على الحقيقة ‪ -‬وألجأه إلى حجة أخرى ل يستطيع منها فكاكا‪ ،‬ول يجد معها سبيلً‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْرِبِ‪[} ...‬البقرة‪ ]258 :‬فماذا‬
‫للمراوغة فقال‪ {:‬فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يقول هذا المعاند؟{ فَ ُب ِهتَ الّذِي كَفَ َر وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ }[البقرة‪.]258 :‬‬
‫كذلك كان فرعون يلجأ إلى هذا السلوب في حواره مع موسى وهارون عليهما السلم‪ ،‬ففي كل‬
‫موقف كان يقول‪َ {:‬فمَن رّ ّب ُكمَا يامُوسَىا }[طه‪ ]49 :‬إنه الجدل العقيم‪ ،‬يلجأ إليه مَنْ أفلس‪ ،‬فلم يجد‬
‫حجة يستند إليها‪.‬‬
‫ونلحظ في أسلوب الية صيغة الفراد في } وَلَئِن جِئْ َت ُهمْ بِآيَةٍ‪[ { ...‬الروم‪ ]58 :‬ثم تنتقل إلى صيغة‬
‫الجمع في } إِنْ أَن ُتمْ ِإلّ مُبْطِلُونَ { [الروم‪ ]58 :‬فلم يقولوا لرسولهم مثلً‪ :‬أنت مبطل‪ ،‬فلماذا؟ قالوا‪:‬‬
‫لن الرسول حين يُكذّبه قومه فيقولون‪ :‬أنت مبطل‪ ،‬فلعل من أتباعه المؤمنين به مَنْ يدافع عنه‬
‫ويشهد بصدقه‪ ،‬فجاءت صيغة الجمع لتفيد الشمول‪ ،‬فكأنهم يقولون‪ :‬أنت مبطل وكل مَنْ (يتشدد‬
‫لك)‪.‬‬

‫أو يكون المعنى } إِنْ أَنتُمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]58 :‬يعني‪ :‬كل الرسل } مُبْطِلُونَ { [الروم‪ ]58 :‬أي‪:‬‬
‫كاذبون تختلفون من عند أنفسكم وتقولون‪ :‬هو من عند ال‪ .‬وعجيب من هؤلء أن يؤمنوا بال‬
‫ويُكذّبوا رسله‪ ،‬ككفار مكة الذين شمتوا في رسول ال حين فتر عنه الوحي فقالوا‪ " :‬إن رب محمد‬
‫قله "‪.‬‬
‫وهم ل يدرون أو الوحي كان يجهد رسول ال‪ ،‬وكان يشقّ عليه في بداية المر‪ ،‬حتى جاء زوجه‬
‫خديجة يقول‪ :‬زملوني زملوني‪ ،‬دثروني دثروني‪ ،‬وكان جبينه يتفصد عرقا‪ ،‬وكان صلى ال عليه‬
‫وسلم يقول عن الملَك‪ " :‬وضمني حتى بلغ مني الجهد "‪.‬‬
‫وما ذاك إل للتقاء الملكية بالبشرية؛ لذلك كان جبريل عليه السلم يتمثل لسيدنا رسول ال في‬
‫صورة بشر‪ ،‬ليس عليه غبار السفر ول يعرفه أحد‪ ،‬كما جاء لرسول ال وهو في مجلس الصحابة‬
‫يسأله عن اليمان والسلم والحسان‪.‬‬
‫إذن‪ :‬مسألة فتور الوحي وانقطاعه مدة عن رسول ال أراد ال به أن يستريح رسول ال من مشقة‬
‫الوحي حتى يزول عنه اللم والعناء وعندها يشتاق للوحي من جديد‪ ،‬ويهون عليه فيتحمله ويصير‬
‫شوْق النسان إلى الشيء يجعله يتحمل المشاقّ في سبيله‪ ،‬ويُهوّن‬
‫له دُرْبه على تلقيه من الملك‪ ،‬ف َ‬
‫عليه الصعاب‪ ،‬كالذي يسير إلى محبوبه فل يبالي حتى لو سار على الشوك‪ ،‬أو اعترضته‬
‫المخاوف والخطار‪.‬‬
‫والوحي لقاء بشري بملكي‪ ،‬فإما أنْ ينتقل الرسول إلى مرتبة الملَك‪ ،‬أو ينتقل الملك إلى مرتبة‬
‫البشر‪ ،‬وهذا التقارب لم يحدث في بداية نزول الوحي فأجهد رسول ال واحتاج إلى هذه الراحة‬
‫بانقطاع الوحي‪.‬‬
‫ظهْ َركَ }[الشرح‪ ]3-2 :‬أي‪ :‬جعلناه‬
‫ك وِزْ َركَ * الّذِي أَنقَضَ َ‬
‫لذلك يقول سبحانه‪َ {:‬و َوضَعْنَا عَن َ‬
‫عكَ رَ ّبكَ‬
‫سجَىا * مَا وَدّ َ‬
‫خفيفا ل يجهدك‪ ،‬ويقول سبحانه في الرد عليهم‪ {:‬وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َومَا قَلَىا }[الضحى‪.]3-1 :‬‬
‫ن يقولوا‪ " :‬إن رب محمد قله " فيعترفون برب محمد ساعة الشدة والضيق الذي نزل‬
‫فعجيب أ ْ‬
‫به‪ ،‬فأشمتهم فيه حتى قالوا‪ :‬إن رب محمد جفاه‪ ،‬فلما وصله ربه بالوحي ودعاهم إلى اليمان‬
‫كفروا وكذّبوا‪.‬‬

‫(‪)3392 /‬‬

‫كَذَِلكَ َيطْبَعُ اللّهُ عَلَى قُلُوبِ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ (‪)59‬‬

‫قوله سبحانه‪ { :‬كَذَِلكَ‪[ } ...‬الروم‪ .]59 :‬أي‪ :‬كتكذيبهم لكل آية تأتيهم بها { كَ َذِلكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىا‬
‫ن لَ َيعَْلمُونَ } [الروم‪ .]59 :‬أي ختمها وأغلقها‪.‬‬
‫قُلُوبِ الّذِي َ‬
‫ن قلتَ‪ :‬فمن المصلحة أنْ تظل قلوبهم مفتوحة لعلها تستقبل شيئا من الهداية والنور‪ .‬نقول‪ :‬الخَتْم‬
‫فإ ْ‬
‫على قلوب هؤلء ل يكون إل بعد استنفاد كل وسائل الدعوة‪ ،‬فلم يستجيبوا فل أملَ في هدايتهم‬
‫ول جدوى من سماعهم‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ربّ يعين عبده على ما يحب ويلبي له رغبته‪ ،‬حتى وإنْ كانت الكفر‪،‬‬
‫وهؤلء أرادوا الكفر وأحبوه‪ ،‬فأعانهم ال على ما أرادوا‪ ،‬وختم على قلوبهم حتى ل يدخلها إيمان‪،‬‬
‫ول يفارقها كفر‪.‬‬
‫لذلك سبق أنْ حذّرنا أصحاب المصائب‪ ،‬أو الذين يفقدون عزيزا‪ ،‬حذرناهم أنْ يستديموا الحزن‪،‬‬
‫ن يوافقكم ال على هواكم في محبة الحزن وعِشْقه‪ ،‬فتتوالى عليكم الحزان‬
‫وأنْ يألفوه مخافة أ ْ‬
‫وتتتابع المصائب‪ ،‬إياكم ان تدعوا باب الحزن مواربا‪ ،‬بل أغلقوه بمسمار الرضا‪ ،‬فالحزن إنْ ظلّ‬
‫بك فلن يدعَ لك حبيبا‪.‬‬
‫وكذلك نقول‪ :‬إن شُغل عنك شخص فل تُذكّره بنفسك‪ ،‬بل أَعِنْهُ على هجرك‪ ،‬وساعده بألّ تذكره‪.‬‬
‫فإذا قلتَ‪ :‬إذا كان الحق سبحانه قد وصفهم بأنهم ل يعلمون‪ ،‬فلماذا يختم على قلوبهم‪ ،‬ولماذا‬
‫يحاسبهم؟ نقول‪ :‬لن عدم العلم نتيجة تقصيرهم‪ ،‬فالحق سبحانه أقام لهم الدلة واليات الكونية‬
‫الدالة على وجوده تعالى‪ ،‬فلم ينظروا في هذه اليات ولم يستدلوا بالدلة على وجود الخالق القادر‬
‫سبحانه‪ ،‬وضرورة البلغ من ال‪ ،‬إذن‪ :‬فعدم علمهم نتيجة غفلتهم وتقصيرهم‪.‬‬
‫صمّوا آذانهم عنها؟‬
‫لكن‪ ،‬ماذا بعد أنْ كذّبوا الرسل وأنكروا اليات‪ ،‬أتتوقف مسيرة الدعوة‪ ،‬لنهم َ‬
‫لقد خلق ال الكون ونثر فيه اليات التي تدل على وجود الله الواحد الحد‪ ،‬وجعل فيه المعجزات‬
‫صدْق الرسُل في البلغ عن ال‪ ،‬والحق سبحانه ل ينتفع بهذه اليات؛ لن مُ ْلكِه تعالى‬
‫التي تثبت ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل يزيد بطاعتنا‪ ،‬ول ينقص بمعاصينا‪ ،‬فالمسألة تعود إلينا نحن أولً وآخرا‪ ،‬إذن‪ :‬فالحسم في هذه‬
‫عكَ من هؤلء المكذّبين يا محمد‪ ،‬وات ُبتْ على ما أنت عليه‪.‬‬
‫المسألة‪ :‬دَ ْ‬
‫حقّ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ‬

‫(‪)3393 /‬‬

‫خفّ ّنكَ الّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (‪)60‬‬


‫ق وَلَا يَسْ َت ِ‬
‫حّ‬‫ن وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫فَاصْبِرْ إِ ّ‬

‫اصبر على كرههم‪ ،‬واصبر على لَدَدهم وعنادهم‪ ،‬واصبر على إيذائهم لك ولمن يؤمن بك‪ ،‬اصبر‬
‫حقّ‪[ } ...‬الروم‪ .]60 :‬وقد وعد ال رسله‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫على هذا كله؛ لن العاقبة في صالحك { إِ ّ‬
‫بالنصرة والغَلَبة‪ ،‬ووَعْد ال حق‪ ،‬فتأكد أن النصر آتٍ‪.‬‬
‫لكن ما دام النصر آتيا‪ ،‬فلماذا هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين؟ ولماذا كل هذه المشقة والعناء‬
‫في سبيل الدعوة؟ قالوا‪ :‬لن ال تعالى يريد أن يُمحّص أتباع محمد‪ ،‬وأن يُدرّبهم على مسئولية‬
‫حمل أمانة الدعوة وشعلة النور من بعد رسول ال‪ ،‬ل إلى اهل الجزيرة العربية وحدها‪ ،‬إنما إلى‬
‫الكون كله‪.‬‬
‫فل بُدّ أنْ يكونوا من أهل الثبات على المبدأ الذين ل تزعزعهم الشدائد‪ ،‬والدليل على ذلك أنهم‬
‫يُؤ ّذوْن ويُضطهدون فيصبرون‪ ،‬وهذه أهم صفة فيمن يُعدّ لتحمّل المانة‪.‬‬
‫لذلك نقول‪ :‬إذا رأيتَ منهجا أو مبدأ يغدق على أصحابه أولً‪ ،‬فاعلم أنه مبدأ باطل؛ لن المبدأ‬
‫الحق يضحي أهله من أجله بأنفسهم وبأموالهم‪ ،‬يعطونه قبل أنْ يأخذوا منه‪ ،‬لماذا؟ لن صاحب‬
‫المبدأ الباطل لن يجد مَنْ يناصره على باطله إل إذا أغراهم بالمال أولً واشترى ذممهم‪ ،‬وإل فماذا‬
‫يلجئه إلى مبدأ باطل‪ ،‬ويحمله على اتباعه؟ إذن‪ :‬ل بد أن يقبض الثمن أولً‪.‬‬
‫أما المبدأ الحق فيعلم صاحبه أن الثمن مُؤجّل للخرة‪ ،‬فهو ممنّى بأشياء فوق هذه الدنيا يؤمن بها‬
‫ويعمل من أجلها‪ ،‬فتهون عليه نفسه‪ ،‬ويهون عليه ماله في سبيل هذا المبدأ‪.‬‬
‫وفي رحلة الدعوة‪ ،‬رأينا الكثيرين يتساقطون بالردة عندما َتحْدثُ لرسول ال آية أو هزة تهزّ‬
‫الناس‪ ،‬وكأن الشدة غربال يميز هؤلء وهؤلء‪ ،‬حتى ل يبقى تحت راية ل إله إل ال إل الصناديد‬
‫القوياء القادرون على حمل هذا اللواء إلى العالم كله‪.‬‬
‫فال يقول لنبيه‪ :‬اصبر على تكذيبهم وعلى إنكارهم وعلى ائتمارهم عليك‪ ،‬فنحن مُؤيدوك‪ ،‬ولن‬
‫نتخلى عنك‪ ،‬وقد وضح لك هذا التأييد حين جاهروك فانتصرت على جهرهم وبيّتوا لك في الخفاء‬
‫فانتصرتَ على تبييتهم‪ ،‬واستعانوا حتى بالجن ليفسدوا عليك أمرك‪ ،‬ففضح ال تدبيرهم ونجاك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫منهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاطمئن‪ ،‬فنحن لهم بالمرصاد‪ ،‬ولن نُسْلِمك أبدا‪ ،‬بل وسوف نريك فيهم ما يستحقون من‬
‫العقاب في الدنيا‪ ،‬وتراه بعينك‪ ،‬أو في الخرة بعد موتك‪ {:‬فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِ ُدهُمْ َأوْ‬
‫جعُونَ }[غافر‪.]77 :‬‬
‫نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُ ْر َ‬
‫ومن هذا العقاب الذي نزل بهم في الدنيا ورآه سيدنا رسول ال ما حاق بهم يوم بدر من قَتْل‬
‫وأسْر وتشريد‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن عمر رضي ال عنه وما أدراك ما عمر‪ ،‬فقد كان القرآن ينزل على َوفْق‬
‫رأيه‪ ،‬ومع ذلك لما نزلت‪:‬‬

‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪ ]45 :‬تعجب وقال‪ :‬أيّ جمع هذا الذي سيُهزم‪ ،‬ونحن‬
‫{ سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ‬
‫عاجزون حتى حماية أنفسنا‪ ،‬فلما كانت بدر‪ ،‬ورأى ما رأى قال‪ :‬صدق ال{ سَ ُيهْ َزمُ ا ْل َ‬
‫الدّبُرَ }[القمر‪]45 :‬‬
‫حقّ‪[ { ...‬الروم‪ ]60 :‬الوعد‪ :‬هو البشارة بخير لم يأت زمنه الن‪،‬‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬إِ ّ‬
‫وفَرْق بين الوعد بالخير من إنسان‪ ،‬والوعد من ال تعالى‪ ،‬فوَعْدكَ قد يختلف لنك ابن أغيار‪ ،‬ول‬
‫تملك كل عناصر الوفاء بالوعد‪ ،‬وربما جاء وقت الوفاء فلم تقدر عليه أو تتغير نفسك من ناحيته‬
‫فتبخل عليه‪ ،‬أو تراه ل يستحق‪...‬إلخ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الغيار التي تنتابك أو تنتابه أو تنتاب قيمة ما تؤديه من الخير موجودة‪ ،‬وقد تحول بينك‬
‫وبين الوفاء بما وعدتَ‪.‬‬
‫علٌ ذاِلكَ‬
‫شيْءٍ إِنّي فَا ِ‬
‫لذلك يعلمنا الحق سبحانه أنْ نحتاط لهذا المر‪ ،‬فيقول سبحانه‪َ {:‬ولَ َتقْولَنّ لِ َ‬
‫غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ‪[} ...‬الكهف‪ ]24-23 :‬فاربط ِفعْلك بمشيئة ال التي تُيسّر لك الفعل‪ ،‬ول‬
‫ينبغي أنْ تجزم بشيء أنتَ ل تملك شيئا من أسبابه‪.‬‬
‫قلنا‪َ :‬هبْ أنك قلتَ‪ :‬سألقاك غدا في المكان الفلني‪ ،‬وسأعطيك كذا وكذا‪ ،‬فأنت قلتَ هذه المقولة‬
‫عشْتُما لغد‬
‫ووعدتَ هذا الوعد وأنت ل تضمن أن تعيش لغد‪ ،‬ول تضمن أنْ يعيش صاحبك‪ ،‬وإنْ ِ‬
‫فقد يتغير رأيك‪ ،‬أو يصيبك شيء يعوقك عن الوفاء‪ ،‬إذَن‪ :‬فقولك إنْ شاء ال يحميك أنْ تُوصف‬
‫بالكذب في حالة عدم الوفاء؛ لنك وعدتَ ولم يشأ ال‪ ،‬فل دخلَ لك في المر‪.‬‬
‫فالوعد الحق يأتي ممّنْ؟ مِنَ الذي يملك ُكلّ أسباب الوفاء‪ ،‬ول يمنعه عنه مانع‪.‬‬
‫ن لَ يُوقِنُونَ { [الروم‪ ]60 :‬خف الشيء‪ :‬لم َيعُدْ له ِثقَل‪،‬‬
‫خفّ ّنكَ الّذِي َ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَلَ يَسْ َت ِ‬
‫واستخفّ غيره‪ :‬طلب منه أنْ يكون خفيفا‪ ،‬فمثلً حين تقسو على شخص يأتي آخر فيقول لك‪:‬‬
‫ب واقفا‪.‬‬
‫خف عنه‪ .‬واستخفّه مثل استفزّه يعني‪ :‬حرّكة وذبذبة من ثباته‪ ،‬فإنْ كان قاعدا مثلً َه ّ‬
‫لذلك نقول في مثل هذه المواقف (خليك ثقيل‪ ..‬فلن بيستفزك يعني‪ :‬يريد أنْ يُخرجك عن حلمك‬
‫ف انهض‪ ،‬ومنه قوله تعالى{ وَاسْ َتفْزِزْ مَنِ‬
‫وثباتك‪ ..‬متبقاش خفيف‪..‬إلخ) ونقول للولد (فز) يعني ِق ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ك وَرَجِِلكَ‪[} ...‬السراء‪]64 :‬‬
‫ك وَأَجِْلبْ عَلَ ْيهِم بِخَيِْل َ‬
‫ط ْعتَ مِ ْنهُمْ ِبصَوْ ِت َ‬
‫اسْ َت َ‬
‫إذن‪ :‬فالمعنى استخفه‪ :‬حمله على الخفة وأن يتحول عن الثبات الذي هو عليه‪.‬‬
‫فالمعنى‪ :‬إياك يا محمد أنْ يستقزّك القوم‪ ،‬أو يُخرجوك عن ثباتك‪ ،‬فتتصادم معهم‪ ،‬لكن ظلّ على‬
‫حقّ‪ .‬والحق سبحانه ساعة يُرخِى‬
‫ثباتك في دعوتك ول تقلق؛ لن ال وعدك بالنصرة ووَعْد ال َ‬
‫العنان لمن كفر به إنما يريد أنْ يُخرِج كل ما عندهم حتى ل يبقى لهم عذر‪ ،‬ثم يقابلهم ببعض ما‬
‫عنده مما يستحقون في الدنيا‪ ،‬والباقي سيرونه في الخرة‪.‬‬
‫وال يقول‪ {:‬وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ‬
‫}‬

‫[الصافات‪.]173-171 :‬‬
‫ومن سيرة المام علي ‪ -‬رضي ال عنه وكرّم ال وجهه ‪ -‬علمنا أنه ابتُلي بجماعتين‪ :‬الخوارج‬
‫الذين يُكفّرونه‪ ،‬والشيعة الذين يُؤلهونه ويصلون به إلى درجة النبوة‪ ،‬حتى صدق فيه قول رسول‬
‫ال‪ " :‬هلك فيك اثنان‪ :‬مُحب غالٍ‪ ،‬ومبغض قَالٍ "‪.‬‬
‫ويروى أنه ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬كان يصلي يوما الفجر بالناس‪ ،‬فلما قرأ‪( :‬ول الضالين) اقترب‬
‫عمَُلكَ‬
‫ك وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبِْلكَ لَئِنْ أَشْ َر ْكتَ لَيَحْ َبطَنّ َ‬
‫حيَ إِلَ ْي َ‬
‫منه أحد الخوارج وقرأ‪ {:‬وََلقَدْ ُأوْ ِ‬
‫وَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ }[الزمر‪ ]65 :‬يريد أن يقول له‪ :‬أنت كافر ولن يقبل منك عملك‪.‬‬
‫ق َولَ‬
‫حّ‬‫وسرعان ما فطن علي لما أراده الرجل‪ ،‬فقرأ بعدها مباشرة‪ } :‬فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫ن لَ يُوقِنُونَ { [الروم‪ .]60 :‬يعني‪ :‬لن تُخرِجني عن ثباتي وحِلْمي ولن تستفزني‪.‬‬
‫خفّنّكَ الّذِي َ‬
‫يَسْ َت ِ‬
‫والعظمة في هذا الموقف أنْ يرد عليه لتوّه بالقول الشافي من كتاب ال دون سابق إعداد أو‬
‫ترتيب‪ ،‬وِل َم ل‪ ،‬وهو علي بن أبي طالب الذي أُوتِي باعا طويلً في البلغة والفصاحة والحجة‪.‬‬
‫ن لَ يُوقِنُونَ { [الروم‪ ]60 :‬من اليقين‪ ،‬وهو اليمان الثابت الذي ل يتزعزع‪،‬‬
‫ومعنى‪ } :‬الّذِي َ‬
‫فيصير عقيدة في القلب ل تطفو إلى العقل لتناقش من جديد‪.‬‬

‫(‪)3394 /‬‬

‫الم (‪)1‬‬

‫{ الـم }‬
‫ن فصّلنا القول في الحروف المقطعّة في بدايات السور‪ ،‬وذكرنا كل ما يمكن أن يقوله بشر‪،‬‬
‫سبق أ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبعد هذا كله نقول‪ :‬وال أعلم بمراده؛ لننا مهما أوتينا من العلم فلن نصل إلى غاية هذه‬
‫الحروف‪ ،‬وسيظل فيها من المعاني ما نعجز نحن عن الوصول إليه‪.‬‬
‫ن كانت غير معلومة المعنى؟ نقول‪ :‬نحن نناقشكم‬
‫ن قلتَ‪ :‬فما فائدة هذه الحروف المقطعة إ ْ‬
‫فإ ْ‬
‫بالعقل وبالمنطق‪ ،‬فالقرآن نزل بأسلوب عربي‪ ،‬وتحدى العرب وهم أهل الفصاحة والبلغة‬
‫والبيان وأصحاب التعبير الجميل والداء الرائع‪ ،‬ونزل في قريش التي جمعتْ في لغتها كل لغات‬
‫ن يقول‬
‫القبائل العربية‪ ،‬وقد خرج منها صناديد كذبوا محمدا‪ ،‬وكفروا بدعوته‪ ،‬فهل سمعنا منهم مَ ْ‬
‫مثلً‪ :‬ما معنى (الم) أو (حم)‪.‬‬
‫وال لو كان فيها مطعن ما تركوه‪ ،‬إذن‪ :‬فهذا دليل على أنهم فهموا هذه الحروف‪ ،‬وعرفوا أن لها‬
‫معنى أبسطها أن نقول‪ :‬هي من حروف التنبيه التي كان يستخدمها العرب في كلمهم‪ ،‬فهي مثل‬
‫(إل) في قول الشاعر‪:‬ألَ هُبّي بِصحْنك فَاصْبِحينا ولَ تُبْقِ خُمور الَنْدرينَافأل أداة للتنبيه‪ ،‬وتأتي‬
‫أهمية التنبيه في أول الكلم من أن المتكلم يملك زمام منطقه فيرتبه ويُعده‪ ،‬ويدير المسائل بنسب‬
‫ذهنية في ذِهْنه‪ ،‬لكن السامع قد يكون غافلً‪ ،‬فيُفاجأ بالكلم دون استعداد‪ ،‬فيفوته منه شيء‪ ،‬فتأتي‬
‫حروف التنبيه لتُخرِجه من غفلته‪ ،‬وتسترعي انتباهه‪ ،‬فل يفوته من كلمك شيء‪ ،‬إذن‪ :‬أبسط ما‬
‫يقال في هذه الحروف أنها للتنبيه على طريقة العرب في كلمهم‪.‬‬
‫وسبق أنْ بيّنا أن القرآن مبني كله على الوصل في آياته وسوره‪ ،‬بل في آخره وأوله نقول‪( :‬من‬
‫الجنة والناس بسم ال الرحمن الرحيم الحمد ل رب العالمين) وكذلك في اليات والسور‪ .‬وكأن‬
‫ال تعالى يريد منك ألّ تفصل آية من القرآن عن التي بعدها؛ لذلك يقولون عن قارئ القرآن‪ :‬هو‬
‫الحالّ المرتحل‪ ،‬فهو حالّ في آية أو سورة‪ ،‬مرتحل إلى التي تليها‪.‬‬
‫سمَة عامة في القرآن كله ل يستثنى من ذلك إل الحروف المقطعة في بدايات‬
‫إذن‪ :‬الوصْل ِ‬
‫السور‪ ،‬فهي قائمة على القطع‪ ،‬فل نقول هنا ألفٌ لمٌ ميمٌ‪ ،‬لكن نقول ألفْ لمْ ميمْ‪ ،‬فلماذا اختلفت‬
‫هذه الحروف عن السمة العامة للقرآن كله؟‬
‫قالوا‪ :‬ليدلّك على أن اللف أو اللم أو الميم‪ ،‬لكل منها معناه المستقل‪ ،‬وليست مجرد حروف‬
‫كغيرها من حروف القرآن؛ لذلك خالفتْ نسق القرآن في الوصل؛ لن لها معنىً مستقلً تؤديه‪.‬‬
‫ويفسر هذا قول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬مَنْ قرأ حرفا من كتاب ال فله به حسنة‪ ،‬والحسنة‬
‫بعشر أمثالها‪ ،‬ل أقول الم حرف‪ ،‬ولكن ألف حرف‪ ،‬ولم حرف‪ ،‬وميم حرف "‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ِ { :‬ت ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ‪.} ...‬‬

‫(‪)3395 /‬‬

‫حكِيمِ (‪)2‬‬
‫تِ ْلكَ آَيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْل َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تلك‪ :‬اسم إشارة للمؤنت مثل ذلك المذكر‪ ،‬وهي عبارة عن التاء للشارة‪ ،‬واللم لل ُبعْد‪ ،‬سواء أكان‬
‫في المكان أو في المكانة والمنزلة‪ ،‬ثم الكاف للخطاب‪ ،‬وتأتي بحسب المخاطب مذكرا أو مؤنثا‪،‬‬
‫مفردا أو مثنىً أو جمعا‪.‬‬
‫فتقول في خطاب المفرد المذكر‪ :‬تلك‪ .‬وللمفردة المؤنثة‪ :‬تلك‪ .‬وللمثنى تلكما‪..‬إلخ‪ ،‬ومن ذلك قول‬
‫امرأة العزيز في شأن يوسف عليه السلم‪ {:‬فَذاِلكُنّ الّذِي ُلمْتُنّنِي فِيهِ‪[} ....‬يوسف‪.]32 :‬‬
‫فذا اسم اشارة ليوسف‪ ،‬واللم للبعد وكُنّ ضمير لمخاطبة جمع المؤنث ويقول تعالى في خطاب‬
‫موسى‪ {:‬فَذَا ِنكَ بُرْهَانَانِ مِن رّ ّبكَ‪[} ...‬القصص‪ ]32 :‬أي اليد والعصا‪ ،‬فذانِ اسم إشارة للمثنى‪،‬‬
‫والكاف للخطاب‪.‬‬
‫والشارة هنا { ِت ْلكَ آيَاتُ‪[ } ...‬لقمان‪ ]2 :‬لمؤنث وهي اليات‪ ،‬والمخاطب سيدنا رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم وأمته تبع له‪ ،‬والقرآن الكريم مرة يشير إلى اليات‪ ،‬ومرة يشير إلى الكتاب نفسه‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬الكتاب أو الفرقان‪ ،‬أو القرآن ولكل منها معنى‪.‬‬
‫فالكتاب دلّ على أنه يُكتب وتحويه السطور‪ ،‬والقرآن دلّ على أنه يُقرأ وتحويه الصدور‪ ،‬أما‬
‫الفرقان فهذه هي المهمة التي يقوم بها‪ :‬أنْ يفرق بين الحق والباطل‪.‬‬
‫حكِيمِ } [لقمان‪ ]2 :‬فوصفه بالحكمة‪ ،‬أما في أول البقرة فقال‪ {:‬ذَِلكَ‬
‫وهنا قال‪ { :‬تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْل َ‬
‫ا ْلكِتَابُ لَ رَ ْيبَ فِيهِ هُدًى‪[} ...‬البقرة‪ ]2 :‬فلم يُوصَف بالحكمة‪ ،‬إنما نفى عنه أن يكون فيه ريب‪.‬‬
‫أي‪ :‬شك‪.‬‬
‫صدْق الرسول في البلغ عن ال‪ ،‬وصَدْق الملك الذي‬
‫وكلمة{ لَ رَ ْيبَ فِيهِ‪[} ...‬البقرة‪ ]2 :‬تؤكد لنا ِ‬
‫حمله من اللوح المحفوظ إلى رسول ال‪ ،‬وقد مدحه ال بقوله{ ذِي ُق ّوةٍ عِندَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ }‬
‫[التكوير‪.]20 :‬‬
‫خذْنَا مِنْهُ‬
‫لقَاوِيلِ * لَ َ‬
‫ضاَ‬
‫وقال عن سيدنا رسول ال في شأن تبليغ القرآن{ وََلوْ َت َقوّلَ عَلَيْنَا َب ْع َ‬
‫طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ }[الحاقة‪.]46-44 :‬‬
‫بِالْ َيمِينِ * ثُمّ َلقَ َ‬
‫إذن‪ :‬فالقرآن كما نزل من عند ال‪ ،‬لم يُغيّر فيه حرف واحد‪ ،‬وسيظل كذلك محفوظا بحفظ ال له‬
‫ن تقوم الساعة‪ ،‬وسنظل نقرأ{ لَ رَ ْيبَ فِيهِ‪[} ...‬البقرة‪.]2 :‬‬
‫إلى أ ْ‬
‫ويقرؤها مَنْ بعدنا إلى قيام الساعة‪ ،‬فقد حكم الحق سبحانه بأنه ل ريْب في هذا القرآن منذ نزل‬
‫إلى قيام الساعة‪ ،‬فإنْ شككونا في شيء من كتاب ربنا فعلينا أن نقرأ‪ {:‬ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ لَ رَ ْيبَ فِيهِ‬
‫هُدًى لّ ْلمُتّقِينَ }[البقرة‪.]2 :‬‬
‫فهذه قضية حكم ال بها‪ ،‬وهي ممتدة وباقية ما بقيتْ الدنيا‪ ،‬كما سبق أنْ قُلْنا ذلك في قوله تعالى‪{:‬‬
‫سهِمْ‪[} ...‬فصلت‪ .]53 :‬فالية تستوعب المستقبل كله‪ ،‬مستقبل مَنْ‬
‫ق َوفِي أَنفُ ِ‬
‫سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬
‫عاصر نزول القرآن‪ ،‬ومستقبل مَنْ يأتي بعد إلى قيام الساعة‪ ،‬بل مستقبل مَنْ تقوم الساعة عليه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالقرآن لم ينزله ال ليُفرغ كل أسراره وكل معجزاته في قَرْن واحد‪ ،‬ول في أمة واحدة‪ ،‬ثم‬
‫يستقبل القرون والمم الخرى دون عطاء‪ ،‬ال يريد للقرآن أنْ يظل جديدا تأخذ منه كل المم‬
‫وكل العصور‪ ،‬وتقف على أسراره ومعجزاته وآياته في الكون‪.‬‬

‫حكِيمِ { [لقمان‪ ]2 :‬الكتاب ل يُوصَف بالحكمة إنما يُوصَف بالحكمة مَنْ يعلم‪،‬‬
‫ومعنى } ا ْلكِتَابِ ا ْل َ‬
‫فالمعنى‪ :‬الكتاب الحكيم أي‪ :‬الموصوف بالحكمة‪ ،‬أو الحكيم قائله‪ ،‬أو الحكيم مُنزِله‪ .‬ومعنى حكيم‪:‬‬
‫هو الذي يضع الشيء في موضعه‪ ،‬ول يضعَ الشيء في موضعه إل ال؛ لنه هو الذي يعلم‬
‫صِدْق الشيء في موضعه‪.‬‬
‫أما نحن فنهتدى إلى موضع الشيء‪ ،‬ثم يتبين لنا خطؤه في موضعه‪ ،‬ونضطر إلى تغييره أو‬
‫تعديله ككثير من المخترعات التي ظننا أنها تخدم البشرية قد رأينا مضارها‪ ،‬واكتويْنا بنارها فيما‬
‫بعد‪.‬‬
‫فكل آية ذكرت ناحية من نواحي كمال القرآن وجهة من جهات عظمته‪ ،‬إذن‪ :‬فهي لقطات مختلفة‬
‫لشيء واحد متعدد الملكات في الكمال‪ ،‬وكذلك تجد تعدد الكمالت في الية بعدها‪ُ } :‬هدًى‬
‫حمَةً‪.{ ...‬‬
‫وَرَ ْ‬

‫(‪)3396 /‬‬

‫حسِنِينَ (‪)3‬‬
‫حمَةً لِ ْلمُ ْ‬
‫هُدًى وَ َر ْ‬

‫حمَةً لّ ْل ُمحْسِنِينَ } [لقمان‪ ]3 :‬أما في صدر سورة البقرة فيقول{ ُهدًى‬


‫هنا يقول سبحانه { ُهدًى وَرَ ْ‬
‫لّ ْلمُ ّتقِينَ }[البقرة‪ ]2 :‬وفَرْق بين المعنيين‪ ،‬فالتقوى تقتضي اليمان‪ ،‬ومطلوب اليمان الفتراض‬
‫يعني‪ :‬أنْ تؤدي ما فرضه ال عليك‪.‬‬
‫أما مطلوب الحسان ففوق ذلك‪ ،‬فالحسان في الداء أن تُحسن في َكمّه‪ ،‬وأن تحسن في كيفه‪:‬‬
‫تحسن في كيفه بأن تستطحب مع العمل الخلصَ للمعمول له‪ ،‬وهو الحق سبحانه‪ ،‬وتحسن في‬
‫َكمّه بأنْ تعشق التكليف حتى تؤدي فوق ما فُرِض عليك‪ ،‬فبدل أنْ تصلي ركعتين أن تصلي ثلثا‬
‫أو أربعا‪ ،‬هذا إحسان في الكم‪.‬‬
‫والتقوى من عجائب التأويل القرآني كما سبق أنْ قلنا‪ .‬فالقرآن يقول (اتقوا ال) ويقول (اتقوا‬
‫النار)‪ ،‬والمعنى عند التحقيق واحد؛ لن اتق النار يعني‪ :‬اجعل بينك وبينها وقاية وحاجزا يمنعك‬
‫منها‪ ،‬كذلك اتق ال‪ ،‬ل أن تجعل بينك وبين ربك حاجزا؛ لن المؤمن دائما يكون في معية ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنما اجعل بيك وبين صفات الجلل ومتعلقاتها من ال وقاية‪ ،‬اتق صفات المنتقم الجبار‬
‫القهار‪..‬إلخ؛ لنك لستَ مطيقا لهذه الصفات‪ ،‬ول شكّ أن النار جندي من جند ال‪ ،‬ومتعلق من‬
‫متعلقات صفات الجلل إذن‪ :‬فالمعني واحد‪.‬‬
‫والبعض يأخذون بالظاهر فيقولون‪ :‬كيف نتقي ال‪ ،‬والتقوى أن تبعد شيئا ضارا عنك؟ نقول‪ :‬نعم‬
‫ل يكونوا‬
‫ن يتقوا ال بأ ّ‬
‫أنت تبعد عنك الكفر‪ ،‬وهذا هو عين التقوى‪ ،‬والمتقون هم الذين يحبون أ ْ‬
‫كافرين به‪ ،‬وما دام النسان اتقى الكفر فهو مُحسِن ومؤمن‪ ،‬فالقرآن مرة يأتي باللزم‪ ،‬ومرة‬
‫بالملزوم‪ ،‬ليؤدي كل منهما معنى جديدا‬
‫لذلك لما سُئِل سيدنا رسول ال عن الحسان ‪ -‬في حديث جبريل ‪ -‬قال‪ " :‬أنْ تعبد ال كأنك تراه‪،‬‬
‫فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك "‪.‬‬
‫حسِنِينَ } [لقمان‪ ]3 :‬نرى‬
‫حمَةً لّ ْلمُ ْ‬
‫فحين نوازن بين صدر سورة البقرة‪ ،‬وبين هذه الية { هُدًى وَ َر ْ‬
‫أن القرآن ل يقوم على التكرار‪ ،‬إنما هي لقطات إعجازية كل منها يؤدي معنى‪ ،‬وإنْ ظن البعض‬
‫في النظرة السطحية أنه تكرار‪ ،‬لكن هو في حقيقة المر عطاء جديد لو تأملته‪.‬‬
‫فهنا وصف الكتاب بأنه حكيم‪ ،‬وأنه هدى ورحمة‪ :‬والهدى هو الدللة على الخير بأقصر طريق‪،‬‬
‫وقد نزل القرآن لهداية قوم قد ضلوا‪ ،‬فلما هداهم إلى الصواب وأراهم النور أراد أنْ يحفظ لهم‬
‫ل يعودوا‬
‫حمَةً } [لقمان‪ ]3 :‬يعني‪ :‬من رحمة ال بهم أ ّ‬
‫هذه الهداية‪ ،‬وألّ يخرجوا عنها فقال { وَرَ ْ‬
‫إلى الضلل مرة أخرى‪.‬‬
‫ح َمةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ َولَ يَزِيدُ الظّاِلمِينَ َإلّ‬
‫شفَآ ٌء وَرَ ْ‬
‫كما في قوله سبحانه‪ {:‬وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫خسَارا }[السراء‪ .]82 :‬فالمعنى‪ :‬شفاء لمن كان مريضا‪ ،‬ورحمة بألّ يمرض أبدا بعد ذلك‪.‬‬
‫َ‬
‫لةَ وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَاةَ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّ َ‬

‫(‪)3397 /‬‬

‫الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلَا َة وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَهُمْ بِالْآَخِ َرةِ ُهمْ يُوقِنُونَ (‪)4‬‬

‫جاءت هذه الية كوصف للمحسنين‪ ،‬فهل هذه هي كل صفاتهم‪ ،‬أنهم يقيمون الصلة ويؤتون‬
‫الزكاة‪ ،‬وبالخرة هم يوقنون؟ قالوا‪ :‬ل لكن هذه الصفات هي العُمد الساسية‪ ،‬والحق سبحانه يريد‬
‫من خَلْقه سواسية في العبودية‪ ،‬وهذه السواسية ل تتأتى إل إذا تساوى الجميع‪.‬‬
‫وفي الصلة بالذات تتجلى هذه المساواة‪ ،‬وفيها يظهر عِزّ الربوبية وذل العبودية‪ ،‬وفيها منتهى‬
‫الخضوع ل عز وجل‪ ،‬ثم هي تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حقّهُ‬
‫أما الفرائض الخرى فل تأخذ هذه الصورة‪ ،‬فالزكاة مثلً تجب مرة واحدة في العام{ وَآتُواْ َ‬
‫حصَا ِدهِ }[النعام‪ ]141 :‬وتجب على القادر فقط دون غيره‪ ،‬كذلك الصوم والحج‪ ،‬فكأن‬
‫َيوْمَ َ‬
‫الصلة هي عمدة العبادات كلها‪ ،‬ولشرفها ومنزلتها جعلها ال لزمة للعبد ول تسقط عنه بحال‬
‫إبدا؛ لذلك شُرعت صلة المريض والمسافر والخائف‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫وفي الصلة استطراق للعبودية في الخَلْق جميعا‪ ،‬حيث نخلع أقدارنا حين نخلع نعالنا على باب‬
‫المسجد‪ ،‬ففي الصف الواحد‪ ،‬الرئيس والمرءوس‪ ،‬والكبير والصغير‪ ،‬والرفيع والوضيع ‪ -‬نقصد‬
‫الوضيع في نظر الناس‪ ،‬وربما ل يكون وضيعا عند ربه ‪ -‬فالجميع هنا سواء‪ ،‬ثم حين نرى‬
‫الكبار والرؤساء والسادة معنا في الصفوف خاضعين ل أذلء تزول بيننا الفوارق‪ ،‬ويدكّ في‬
‫نفوسهم الكبرياء‪ ،‬فل يتعالى أحد في مجتمع المسلمين على أحد‪.‬‬
‫ولمنزلة الصلة وأهميتها رأينا كيف أنها الفريضة الوحيدة التي فرضها ال علينا بالمباشرة‪ ،‬أما‬
‫ضتْ بواسطة الوحي‪ ،‬وسبق أنْ ضربنا مثلً لذلك برئيس العمل حينما يأتيه‬
‫باقي التكاليف فقد فُ ِر َ‬
‫أمر هام‪ ،‬فل يأمر به بمكاتبة أو بالتليفون‪ ،‬إنما يستدعي الموظف المختص إلى مكتبه‪ ،‬ويلقي إليه‬
‫المر مباشرة‪.‬‬
‫وكذلك رسول ال استدعاه ربه إلى السماء‪ ،‬وأخذ حظا بالقُرْب من ال تعالى‪ ،‬وال سبحانه يعلم‬
‫حب الرسول لمته وحرصه عليهم‪ ،‬وعلى أنْ ينالوا هم أيضا هذا القرب من حضرته تعالى‪،‬‬
‫فأجابه ربه‪ ،‬وجعل الصلة حضورا للعبد في حضرته تعالى‪ ،‬وقربا كقرب رسول ال في رحلة‬
‫المعراج‪.‬‬
‫س ْوفَ ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَىا }[الضحى‪]5 :‬‬
‫لذلك خاطبه ربه بقوله‪ {:‬وَلَ َ‬
‫فقال سيدنا رسول ال‪ " :‬إذن‪ ،‬ل أرضى وواحد من أمتي في النار "‪.‬‬
‫وكما تُحدِث الصلة استطراق عبودية ُتحِدث الزكاةُ في المجتمع استطراقا اقتصاديا‪ ،‬فيعيش‬
‫الجميع الغني والفقير عيشة كريمة مُيسّرة‪ ،‬فل يشبع واحد حتى التخمة‪ ،‬والخر يموت جوعا‪ .‬وما‬
‫بالك بمجتمع ل يتعالى فيه الكبير على الصغير ول يبخل فيه الغني على الفقير؟ إذن‪ :‬في الصلة‬
‫والزكاة ما يكفل سعادة المجتمع كله‪.‬‬
‫وقد فرض ال الزكاة للفقراء؛ لن ال سبحانه حين يستدعي عبد إلى كونه ل ُبدّ أنْ يضمن له‬
‫مُقومات الحياة‪ ،‬ولم ل وأنت إذا دع ْوتَ شخصا إلى بيتك ل بُدّ أنْ تكرمه‪ ،‬وأنْ ُتعِد له على القل‬
‫ضروريات ما يلزمه فضلً عن الكرام والحفاوة ورفاهية المأكل والمشرب‪.‬‬

‫‪.‬الخ‪.‬‬
‫فال سبحانه استدعى عباده إلى الوجود مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬وعليه سبحانه أنْ يوفر لهم القوت‪ ،‬بل‬
‫كل مقومات حياتهم‪ ،‬كذلك يضمن للعاجز غير القادر قوته‪ ،‬لذلك يفرض الزكاة حقا معلوما للسائل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ت والولى صلة‪.‬‬
‫والمحروم‪ ،‬فهي صِل ٌ‬
‫ولهذه المسألة قصة في الدب العربي‪ ،‬فيُرْوى أن ابن مدبر وكنيته أبو الحسن‪ ،‬كان الشعراء‬
‫يقصدونه للنيل من عطاياه‪ ،‬يقولون‪ :‬إن الّها تفتح اللّها‪ ،‬أي‪ :‬أن العطايا تفتح الفواه بالمدح والثناء‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬كان ابن المدبر إذا مدحه شاعر بشعر لم يعجبه يأمر رجاله أنْ يأخذوه إلى المسجد ول‬
‫يتركوه حتى يصلي ل مائة ركعة‪ ،‬وبذلك خافه الشعراء وتحاشوْا الذهاب إليه إل أبو عبدال‬
‫الحسين بن عبدالسلم البشري‪ ،‬ذهب إليه وقال‪ :‬عندي شعر أحب أنْ أنشده لك‪.‬‬
‫فقال‪ :‬أتدري ما الشرط؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ُ :‬قلْ ما عندك‪ ،‬فقال‪:‬أَرَدْنَ فِي أَبي حَسَنٍ َمدِيحا َكمَا بالمْدحِ‬
‫ن كفّيْهِ دجلَةُ‬
‫تُنْتَجَعُ ال ُولَةيعني‪ :‬يذهب الشعراء إليهم لينالوا من خيراتهم‪َ .‬فقْلْنا أكْرَمُ الثّقلَيْنِ طُرّا ومِ ْ‬
‫لةُفقُ ْلتُ لهم ومَا ُتغَني صَلَتِي عِيَالي إنما الشْأنُ‬
‫جوَائِ ُزهُ عليهِنّ الصّ َ‬
‫والفُراتُوقالوا يَقبل المدحاةَ لكنْ َ‬
‫ال ّزكَا ُةفَيأمُر لي بِكسْر الصّادِ منها فَتُصبح ليِ الصّلت هِي الصّلةُفلما تجرّأ عليه أحدهم وسأله‪:‬‬
‫لماذا تعاقب مَنْ لم يعجبك شعره بصلة مائة ركعة؟ فقال‪ :‬لنه إما مسيء وإما محسن‪ ،‬فإنْ كان‬
‫مسيئا فهي كفارة لساءته في شعره‪ ،‬وإنْ كان محسنا فهي كفارة لكذبه فيّ‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه في وصفهم‪ } :‬وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ { [لقمان‪ ]4 :‬لن اليمان باليوم الخر‬
‫ن نعمل بمنهج ال في (افعل كذا) و (ل تفعل كذا)‪ ،‬ونحن على يقين من أننا لن نفلت من‬
‫يقتضي أ ْ‬
‫ال ولن نهرب من عقابه في الخرة‪ ،‬وأننا مُحَاسبون على أعمالنا‪ ،‬فلم نُخلق عبثا‪ ،‬ولن نُتْرك‬
‫جعُونَ }[المؤمنون‪.]115 :‬‬
‫سدى‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬أفَحَسِبْ ُتمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَ ّنكُمْ إِلَيْنَا لَ تُ ْر َ‬
‫ونلحظ هما في السلوب تكرار ضمير الغيبة (هم) فقال‪ } :‬وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ يُوقِنُونَ { [لقمان‪]4 :‬‬
‫وهذا يدلّنا على أن اليمان بالخرة أمر مؤكد ل شكّ فيه‪ ،‬ومع أن الناس يؤمنون بهذا اليوم‪،‬‬
‫ويؤمنون أنهم محاسبون‪ ،‬وأن ال لم يكلفهم عبثا ‪ -‬مع هذا ‪ -‬يؤكد الحق سبحانه على أمر‬
‫الخرة؛ لنها مسألة بعيدة في نظر الناس‪ ،‬وربما غفلوا عنها ل ُبعْدها عنهم‪ ،‬ولم ل وهم يغفلون‬
‫حتى عن الموت الذي يرونه أمامهم كل يوم‪ ،‬ولكن عادة النسان أن يستعبده في حق نفسه‪.‬‬
‫لذلك يقول الحسن البصري‪ :‬ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت‪.‬‬
‫أما الكفار فينكرون هذا اليوم‪ ،‬ول يؤمنون به؛ لذلك أكد ال عليه‪.‬‬
‫ولما " سأل النبي صلى ال عليه وسلم حذيفة رضي ال عنه‪ " :‬كيف أصبحت يا حذيفة؟ " قال‪:‬‬
‫أصبحت مؤمنا حقا‪ ،‬فقال‪ " :‬لكلّ حقّ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال‪ :‬عزفتْ نفسي عن الدنيا‬
‫فاستوى عندي ذهبها ومدرها‪ ،‬وكأني أنظر إلى أهل الجنة يُنعّمون‪ ،‬وإلى أهل النار في النار‬
‫يُعذّبون " فقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬عرفتَ فالزم " "‪.‬‬

‫وقوله } يُوقِنُونَ { [لقمان‪ ]4 :‬من اليقين‪ ،‬وهو اليمان الراسخ الذي ل يتزعزع‪ ،‬ول يطرأ عليه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شكّ فيطفو إلى العقل ليناقش من جديد وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن المعلومة تتدرج على ثلث مراحل‪ :‬علم‬
‫اليقين‪ ،‬وعين اليقين‪ ،‬وحق اليقين‪.‬‬
‫علم اليقين إذا أخبرك به مَنْ تثق به‪ ،‬فإذا رأيتَ ما أخبرك به فهو عين اليقين‪ ،‬فإذا باشرتَ ذلك‬
‫بنفسك فهو حَقّ اليقين‪.‬‬
‫وضربنا لذلك مثلً إذا قلت لك‪ :‬إن البيت الحرام في مكة وصفَته كذا وكذا‪ ،‬وقد حدثت فيه‬
‫توسعات كذا وكذا‪ ،‬فهذه المعلومات بالنسبة لك علم يقين‪ ،‬فإذا رأيتَ الحرم فهي عَيْن يقين‪ ،‬فإذا‬
‫يسّر ال لك الحج أو العمرة فباشرْتَه بنفسك‪ ،‬فهو حَقّ اليقين‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى عالج هذه المراتب في سورتين‪ {:‬أَ ْلهَاكُمُ ال ّتكّاثُرُ * حَتّىا زُرْتُمُ ا ْل َمقَابِرَ *‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ * كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ عِلْمَ الْ َيقِينِ * لَتَ َروُنّ ا ْلجَحِيمَ * ثُمّ‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ * ُثمّ كَلّ َ‬
‫كَلّ َ‬
‫لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ * ثُمّ لَُتسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ }[التكاثر‪.]8-1 :‬‬
‫وذلك حين يمرون على الصراط ويروْنَ النار بأعينهم رأي العين‪.‬‬
‫أما حق اليقين بالنسبة للنار‪ ،‬فقد جاء في قوله تعالى‪ {:‬فََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ * فَ َروْحٌ وَرَيْحَانٌ‬
‫صحَابِ الْ َيمِينِ * فَسَلَمٌ ّلكَ مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ * وََأمّآ إِن كَانَ‬
‫وَجَ ّنتُ َنعِيمٍ * وََأمّآ إِن كَانَ مِنْ َأ ْ‬
‫حقّ الْ َيقِينِ * فَسَبّحْ‬
‫حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ َ‬
‫مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُ ُزلٌ مّنْ َ‬
‫بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ }[الواقعة‪.]96-88 :‬‬
‫لكن‪ ،‬هل القرآن نزل هُدى للمتقين‪ ،‬وهدى للمحسنين فحسب؟ قلنا‪ :‬إن الهداية تأتي بمعنيين‪ :‬هداية‬
‫دللة وإرشاد‪ ،‬وهداية توفيق ومعونة‪ ،‬فإن كانت هداية دللة فقد دلّ ال المؤمن والكافر بدليل قوله‬
‫تعالى{ وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى ا ْلهُدَىا }[فصلت‪]17 :‬‬
‫ن رفضها‬
‫فالحق سبحانه دلّ الجميع لنهم عباده‪ ،‬فمنهم من قَبِل الدللة واقتنع بها فآمن‪ ،‬ومنهم مَ ْ‬
‫فكفر‪ ،‬أما الذي قَبِل دلَلة ال وآمن به فيزيده ال هداية أخرى‪ ،‬هي المعونة علىَ اليمان‪ ،‬ف ُيحّببه‬
‫إليه حتى يعشقه‪ ،‬ثم يعينه عليه‪ ،‬كما قال سبحانه{ وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }‬
‫[محمد‪.]17 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬أوْلَـائِكَ عَلَىا ُهدًى مّن رّ ّبهِمْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3398 /‬‬

‫أُولَ ِئكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَ ّبهِ ْم وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ (‪)5‬‬

‫وصف الحق سبحانه قرآنه بأنه هدى‪ ،‬أما هنا فيقول‪ُ { :‬أوْلَـا ِئكَ عَلَىا ُهدًى } [لقمان‪ ]5 :‬والمتكلم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن نتأمل المعنى‪ ،‬ربنا عز وجل يريد أنْ يقول لنا نعم القرآن هُدى‪،‬‬
‫هو ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فل ُبدّ أ ْ‬
‫لكن إياك أنْ تظن أنك حين تتبع هذا الهدى تنفعه بشيء‪ ،‬إنما المنتفع بالهداية أنت‪ ،‬فحين تكون‬
‫على الهدى يدلّك ويسير بك إلى الخير‪ ،‬فالهدى كأنه مطية يُوصّلك إلى الخير والصلح‪ ،‬فأنت‬
‫مُسْتعلٍ على الهدى إنْ قَبِلْتَه‪ ،‬وإنْ كان هو ُمسْتَعليا عليك تشريعا‪.‬‬
‫ثم هو هدى ممّنْ؟ { هُدًى مّن رّ ّبهِمْ } [لقمان‪ ]5 :‬ممن ل يستدرك عليه‪ ،‬فإنْ دلّك دلّك بحق‪ ،‬و َهبْ‬
‫أن البشر اهتدوْا إلى شيء فيه خير‪ ،‬لكن بعد فترة يعارضون هم أنفسهم هذا الطريق‪ ،‬ويكتشفون‬
‫له مضا ّر ومثالب‪ ،‬ويستدركون عليه‪ ،‬وربما يعدلون عنه إلى غيره‪ ،‬وكم هي القوانين البشرية‬
‫عدّلت؟‬
‫التي أُلغيت أو ُ‬
‫إذن‪ :‬الهداية والدللة الحقة ل تكون إل ل‪ ،‬والقانون الذي ينبغي أن يحكمنا ونطمئن إليه ل يكون‬
‫إل ل‪ ،‬لماذا؟ لن البشر ربما ينتفعون من قوانينهم‪ ،‬وقد تتحكم فيهم الهواء أو يميلون لشخص‬
‫على حساب الخر‪ ،‬أما الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فهو وحده سبحانه الذي ل ينتفع بشبء مما‬
‫شرع لعباده‪ ،‬ول يحابي أحدا على حساب أحد‪ ،‬والعباد كلهم عباده وعنده سواء‪.‬‬
‫لذلك يطمئننا الحق سبحانه على تشريعه وعدالته سبحانه‪ ،‬فيقول{ مَا اتّخَ َذ صَاحِبَ ًة َولَ وَلَدا }[الجن‪:‬‬
‫‪ ]3‬يعني‪ :‬اطمئنوا‪ ،‬فربكم ليس له صاحبة تؤثر عليه‪ ،‬ول ولد يظلم الناس فيحابيه‪ ،‬فأنتم جميعا‬
‫عنده سواسية‪.‬‬
‫ثم هناك فَرْق بين هُدى من ال‪ ،‬وهدى من الرب‪ ،‬فالرب هو الذي ربّاك‪ ،‬هو الذي أوجدك من‬
‫عَدم‪ ،‬وأمدك من عُدْم‪ ،‬وأعطاك قبل أنْ تعرف السؤال‪ ،‬وتركك تربع في كونه وتتمتع بنعمه‪.‬‬
‫لذلك يُعلمك ربك‪ :‬إياك أنْ تسألني عن رزق غدٍ؛ لنني رزقْتُك قبل أنْ تعرف أن تسأل‪ ،‬ثم لم‬
‫أطالبك بعبادة غدٍ‪ ،‬إذن‪ :‬ليكُنْ العبد مؤدبا مع ربه عزوجل‪.‬‬
‫وهكذا نتبين أن الربوبية عطاء‪ ،‬أما اللوهية فتكليف‪.‬‬
‫ثم يخبر الحق سبحانه عنهم بخبر آخر { وَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } [لقمان‪ ]5 :‬فالفلح نتيجة الهدى‬
‫الذي ساروا عليه واتبعوه‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }[المؤمنون‪.]1 :‬‬
‫سقْى‪..‬الخ‪ ،‬فاستعارها أسلوب القرآن للعمل‬
‫الفلح أصله من فلحة الرض بالحرث والبَذْر وال ّ‬
‫الصالح‪ ،‬ووجه الشبه بين المرين واضح‪ ،‬فالفلح يلقى الحبة فيضاعفها له ربه سبعمائة حبة‪،‬‬
‫كذلك العمل الصالح ُيضَاعَف لصاحبه‪ ،‬فالحسنة عند ال بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف{ وَاللّهُ‬
‫عفُ ِلمَن َيشَآءُ }[البقرة‪]261 :‬‬
‫ُيضَا ِ‬
‫واقرأ في كتاب ال هذا المثل‪ {:‬مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ‬
‫عفُ ِلمَن َيشَآ ُء وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة‪.]261 :‬‬
‫سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبُلَةٍ مّائَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَا ِ‬
‫وتأمل الستدلل هنا‪ :‬إذا كانت الرض وهي مخلوقة ل تعطي كل هذا العطاء‪ ،‬فكيف يكون‬
‫عطاء مَنْ خلقها؟ إذن‪ :‬فهم لشكّ مفلحون أي‪ :‬فائزون بالثمرة الطيبة التي تفوق ما بذلوه من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مشقة‪ ،‬كما يزرع الفلح الرض فتعطيه أضعاف ما ُوضِح فيها‪.‬‬
‫ضلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ ِبغَيْرِ‪.} ...‬‬
‫حدِيثِ لِ ُي ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي َل ْهوَ الْ َ‬

‫(‪)3399 /‬‬

‫خذَهَا هُ ُزوًا أُولَ ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ‬


‫ضلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ِبغَيْرِ عِلْ ٍم وَيَتّ ِ‬
‫َومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي َل ْهوَ ا ْلحَدِيثِ لِ ُي ِ‬
‫ُمهِينٌ (‪)6‬‬

‫بعد أن ذكر الحق سبحانه الكتاب وآياته‪ ،‬وأن فيه هدى ورحمة لمن اتبعه وفلحا لمن سار على‬
‫هديه يبين لنا أن هناك نوعا آخر من الناس ينتفعون بالضلل ويستفيدون منه‪ ،‬وإل ما راجتْ‬
‫ل وألوانا‪.‬‬
‫سوقه‪ ،‬ولما انتشر بين الناس أشكا ً‬
‫لذلك نرى للضلل فئة مخصوصة حظهم أن يستمر وأن ينتشر‬
‫لتظل مكاسبهم‪ ،‬ولتظل لهم سيادتهم على الخَلْق وعبوديتهم لهم واستنزاف خيراتهم‪.‬‬
‫ن وُجِد قانون يعيد توازن الصلح للمجتمع ل يقف في وجهه إل هؤلء يحاربونه‬
‫وطبيعي إ ْ‬
‫ويحاربون أهله ويتهمونهم ويُشككون في نواياهم‪ ،‬بل ويواجهونهم بالسخرية والستهزاء مرة‬
‫وبالتعدي مرة أخرى‪.‬‬
‫شعْب أبي طالب‪،‬‬
‫وربما قطعوا عليهم سبل الحياة‪ ،‬كما عزلوا رسول ال صلى ال عليه وسلم في ِ‬
‫ثم يُكرهون أهل الحق على الهجرة والخروج من أموالهم وأهلهم إلى الحبشة مرة‪ ،‬وإلى المدينة‬
‫مرة أخرى‪ ،‬لماذا؟ لن حياتهم تقوم على هذا الضلل فل ُبدّ أنْ يحافظوا عليه‪.‬‬
‫والحق سبحانه يبين لنا أن هؤلء الذين يحاربون الحق ويقفون في وجه الدعوة إلى اليمان‬
‫يعرفون تماما أنهم لو تركوا الناس يسمعون منهج ال وداعي الخير ل بُدّ أنْ يميلوا إليه؛ لذلك‬
‫س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآنِ وَا ْلغَوْاْ‬
‫يَحُولُون بين آذان الناس ومنطق الحق‪ ،‬فهم الذين قالوا للناس‪ {:‬لَ تَ ْ‬
‫فِيهِ‪[} ...‬فصلت‪]26 :‬‬
‫وما ذلك إل أنهم واثقون من لغة القرآن وجمال أسلوبه‪ ،‬واستمالته للقلوب بحلو بيانه‪ ،‬فلو سمعتْه‬
‫الذن العربية ل ُبدّ وأنْ تتأثر به‪ ،‬وتقف على وجوه إعجازه‪ ،‬وتنتهي إلى اليمان‪.‬‬
‫فإذا ما أفلتَ منهم أحد‪ ،‬وانصرف إلى سماع الحق أت ْو ُه بصوارف أخرى وأصوات تصرفه عن‬
‫الحق إلى الباطل‪.‬‬
‫وقوله { َومِنَ النّاسِ } [لقمان‪ ]6 :‬من هنا للتبعيض أي‪ :‬الناس المستفيدون من الضلل‪ ،‬والذين‬
‫يسؤوهم أنْ يأتم الناس جميعا بمنطق واحد‪ ،‬وهدف واحد؛ وهدى واحد لن هذه الوحدة تقضي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على تميزهم وجبروتهم وظلمهم في الرض؛ لذلك يبذلون قصارى جهدهم في الضلل { َومِنَ‬
‫ضلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ‪[ } ...‬لقمان‪]6 :‬‬
‫النّاسِ مَن َيشْتَرِي َل ْهوَ ا ْلحَدِيثِ لِ ُي ِ‬
‫قوله تعالى‪ { :‬يَشْتَرِي } [لقمان‪ ]6 :‬من الشراء الذي يقابله البيع‪ ،‬والشراء أنْ تدفع ثمنا وتأخذ في‬
‫مقابله مُثمنا‪ ،‬وهذا بعدما وُجِد النقد‪ ،‬لكن قبل وجود النقد كان الناس يتعاملون بالمقايضة والتبادل‬
‫سلعة بسلعة‪ ،‬وفي هذه الحالة فكل سلعة مباعة وكل سلعة مشتراة‪ ،‬وكل منهما بائع ومُشْتر‪.‬‬
‫خسٍ دَرَاهِمَ َمعْدُو َد ٍة َوكَانُواْ فِيهِ‬
‫ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلم‪ {:‬وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ بَ ْ‬
‫مِنَ الزّا ِهدِينَ }[يوسف‪.]20 :‬‬
‫والمعنى‪ :‬شروه أي‪ :‬باعوه‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضا قوله تعالى‪َ {:‬ومِنَ النّاسِ مَن َيشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ‪[} ...‬البقرة‪.]207 :‬‬
‫أي‪ :‬يبيعها‪ ،‬إذن‪ :‬الفعل (شَرَى) يأتي بمعنى البيع‪ ،‬وبمعنى الشراء‪.‬‬

‫أما إذا جاء الفعل بصيغة (اشترى) فإنه يدل على الشراء الذي يُدفع له ثمن‪ ،‬ومن ذلك قوله‬
‫شعِينَ للّ ِه لَ‬
‫تعالى‪ {:‬وَإِنّ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلمَن ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َومَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيكُ ْم َومَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيهِمْ خَا ِ‬
‫يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنا قَلِيلً‪[} ...‬آل عمران‪]199 :‬‬
‫سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ الّجَنّةَ }[التوبة‪]111 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ‬
‫وعادة تدخل الباء على المتروك تقول‪ :‬اشِتريتُ كذا بكذا‬
‫وحين نتأمل قوله تعالى‪َ } :‬ومِنَ النّاسِ مَن َيشْتَرِي َل ْهوَ ا ْلحَدِيثِ‪[ { ...‬لقمان‪ ]6 :‬نجد أن هذه عملية‬
‫تحتاج إلى طلب للشيء المشترَى‪ ،‬ثم إلى ثمن يُدفع فيه‪ ،‬وليت الشراء لشيء مفيد إنما } َل ْهوَ‬
‫حدِيثِ { [لقمان‪ ]6 :‬وهذه سلعة خسيسة‪.‬‬
‫الْ َ‬
‫إذن‪ :‬هؤلء الذين يريدون أنْ يصدوا عن سبيل ال تحملوا مشقة الطلب‪ ،‬وتحملوا غُرْم الثمن‪ ،‬ثم‬
‫ُوصِفوا بالخيبة لنهم رَضوا بسلعة خسيسة‪ ،‬والدهى من ذلك والمرّ منَه أن يضعوا هذا في‬
‫مقابل الحق الذي جاءهم من عند ال على يد رسوله بل تعب وبل مشقة وبل ثمن‪ ،‬جاءهم فضلً‬
‫من عند ال وتكرما‪ {:‬قُل لّ أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ َأجْرا ِإلّ ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَىا }[الشورى‪]23 :‬‬
‫فأيّ حمق هذا الذي يوصفون به؟‬
‫وكلمة اللهو‪ :‬ذكر القرآن اللهو وذكر اللعب في عدة آيات‪ ،‬قدّمت اللعب على اللهو في قوله‬
‫تعالى‪َ {:‬ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ِعبٌ وََل ْه ٌو وَلَلدّا ُر الخِ َرةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[النعام‪]32 :‬‬
‫وفي قوله تعالى‪ {:‬اعَْلمُواْ أَ ّنمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََل ْهوٌ }[الحديد‪]20 :‬‬
‫وقدمت اللهو في قوله تعالى‪َ {:‬ومَا هَـا ِذهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ْهوٌ وََل ِعبٌ }[العنكبوت‪]64 :‬‬
‫فقدمت اليات اللعب في آيتين؛ لن اللعب أن تصنع حركة غير مقصودة لمصلحة‪ ،‬كما يلعب‬
‫سمّيت لعبا؛ لن الطفل يلعب قبل‬
‫الطفال‪ ،‬يعني‪ :‬حركة ل هدفَ لها‪ ،‬ونقول عنها (لعب عيال) و ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنْ يُكلّف بشيء‪ ،‬فلم يشغل باللعب عن غيره من المهمات‪.‬‬
‫لكن إذا انتقل إلى مرحلة التكليف‪ ،‬فإن اللعب يشغله عن شيء طُلب منه‪ ،‬ويُسمّى في هذه الحالة‬
‫لهوا‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬وَإِذَا رََأوْاْ ِتجَا َرةً َأوْ َلهْوا ان َفضّواْ إِلَ ْيهَا وَتَ َركُوكَ قَآئِما }[الجمعة‪]11 :‬‬
‫إذن‪ :‬فاللهو هو الشيء الذي ل مصلحة فيه‪ ،‬ويشغلك عن مطلوب منك‪.‬‬
‫فآية سورة العنكبوت التي قدمت اللهو على اللعب تعني أن أمور الشتغال بغير الدين قد بلغت‬
‫مبلغا‪ ،‬وأن الفساد قد طمّ واستشرى النشغال بغير المطلوب عن المطلوب‪ ،‬فهذه أبلغ في المعنى‬
‫من تقديم اللعب؛ لن اللعب لم يُلهه عن شيء‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما اللهو الذي اشتروه ليصرفوا الناس به عن الحق وعن دعوة السلم؟ إنهم لما سمعوا‬
‫القرآن فيه قصصا عن عاد وثمود‪ ،‬وعن مدين وفرعون‪..‬الخ‪ ،‬فأرادوا أنْ يشغلوا الناس بمثل هذه‬
‫القصص‪.‬‬
‫وقد ذهب واحد منهم وهو النضر بن الحارث إلى بلد فارس وجاءهم من هناك بقصص مسلية‬
‫حمْيَر‪ ،‬اشتراها وجاء بها‪ ،‬وجعل له مجلسا يجتمع الناس فيه‬
‫عن رستم وعن الكاسرة وعن ملوك ِ‬
‫ليقصّها عليهم‪ ،‬ويصرفهم بسماعها عن سماع منطق الحق في رسول ال‪.‬‬

‫وآخر يقول‪ :‬بل جاء أحدهم بمغنية تغنيهم أغاني ماجنة متكسرة‪.‬‬
‫ن في‬
‫ومعنى‪َ } :‬ل ْهوَ ا ْلحَدِيثِ { [لقمان‪ ]6 :‬قال العلماء‪ :‬هو كل ما يُلهي عن مطلوب ل‪ ،‬وإنْ لم يكُ ْ‬
‫ذاته في غير مطلوب ال َلهْوا‪ ،‬وعليه فالعمل الذي يُلهي صاحبه من صناعة أو زراعة‪..‬الخ ُيعَدّ‬
‫من اللهو إنْ شغله مثلً عن الصلة‪ ،‬أو عن أداء واجب ل تعالى‪.‬‬
‫ومن التصرفات ما ُيعَ ّد لهوا‪ ،‬وإنْ لم يشغلك عن شيء كالغناء‪ ،‬وللعلماء فيه كلم كثير خاصة بعد‬
‫أنْ صاحبته الموسيقى وآلت الطرب والحركات الخليعة الماجنة‪ ،‬ولفقهائنا القدامى رأيهم في هذا‬
‫الموضوع‪ ،‬لكن العلماء المحدثين والذين يريدون أنْ يُجيزوا هذه المسألة يأخذون من كلم القدماء‬
‫زاوية ويُطبّقونها على غير كلمهم‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬أباح علماؤنا الُنْس بالغناء في الفراح وفي العياد اعتمادا على " قول النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم لبي بكر الصديق الذي رأى جاريتين تغنيان في بيت رسول ال فنهرهما‪ ،‬وقال‪ :‬أمزمار‬
‫الشيطان في بيت رسول ال‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬دعهما‪ ،‬فإننا في يوم عيد " "‪.‬‬
‫وكذلك أباحوا الناشيد التي تقال لتلهب حماس الجنود في الحرب‪ ،‬أو التي ينشدها العمال ليطربوا‬
‫بها أنفسهم وينشغلوا بها عن متاعب العمل‪ ،‬أو المرأة التي تهدهد ولدها لينام‪.‬‬
‫ومن ذلك حداء البل لتسرع في سيرها‪ ،‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم لنجشة‪ " :‬رفقا‬
‫بالقوارير " فشبّه النساء في لُطفهن ورقّتهن بالقوارير‪ ،‬فإذا ما أسرعتْ بهن البل هُزّت بهن‬
‫الهوادج‪ ،‬وهذا يشقّ على النساء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬ل مانع من كل نصّ له غرض نبيل‪ ،‬أما إنْ أهاج الغرائز فهو حرام ‪ -‬والكلم هنا عن‬
‫مجرد النص ‪ -‬لن الخالق سبحانه يعلم طبيعة الغرائز في البشر؛ لذلك نسميها غريزة؛ لن لها‬
‫ي مؤثرات خارجية‪ ،‬ولها طاقة ل بُدّ أنْ تتحرك‪ ،‬فإنْ أثرْتَها أنت‬
‫عملً وتفاعلً في نفسك بدون أ ّ‬
‫عقْباه‪.‬‬
‫ثارتْ ونزعتْ إلى ما ل تُحمدَ ُ‬
‫وسبق أن أوضحنا أن مراتب الشعور ثلث‪ :‬يدرك بحواسه‪ ،‬ثم وجدان يتكوّن في النفس نتيجة‬
‫للدراك‪ ،‬ثم النزوع والعمل الذي يترجم هذا الوجدان‪.‬‬
‫ومن رحمة ال بنا أن الشرع ل يتدخل في هذه المسألة إل في مرحلة النزوع‪ ،‬فيقول لك‪ِ :‬قفْ ل‬
‫تمدّ يدك إلى ما ليس لك‪ :‬ومثّلنا لهذه المسألة بالوردة تراها في البستان‪ ،‬ويُعجبك منظرها‪،‬‬
‫وتجذبك رائحتها فتعشقها وهذا لك‪ ،‬فإن مد ْدتَ يدك لتقطفها يقول لك الشارع ِقفْ ليس من حقك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالشارع الحكيم ل يتدخّل في مرحلة الدراك‪ ،‬ول في المواجيد إل في مسألة واحدة ل يمكن‬
‫الفصل فيها بين الدراك والوجدان والنزوع‪ ،‬لنها جميعها شيء واحد‪ ،‬إنها عملية نظر الرجل‬
‫إلى المرأة التي ل تحل له‪ ،‬لماذا هذه المسألة بالذات؟‬
‫حدّ العجاب بالمنظر‪ ،‬إنما يُرثك هذا العجاب انفعالً خاصا في نفسك‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬لنها ل تقف عند َ‬
‫ويُورثك تشكلً خاصا ل يهدأ‪ ،‬إل بأن تنزع‪ ،‬فرحمة بك يا عبدي أنا سأتدخل في هذا المر بالذات‬
‫من أوله‪ ،‬وأمنعك من مجرد الدراك‪ ،‬لنك إنْ أدركتَ وجدتَ‪ ،‬وإنْ وجدتَ نزعتَ إلى ما تجد‬
‫فأثمت في أعراض الناس أو كبت في نفسك‪ ،‬فأضررتَ بها‪ ،‬وربك يريد أنْ يُبرئك من الثم ومن‬
‫ن تغضّوا أبصاركم‪.‬‬
‫الضرار بالنفس‪ ،‬فالسلم لكم أ ْ‬

‫إذن‪ :‬ل تقُل الغناء لكن ُقلْ النص نفسه‪ :‬إنْ حثّ على فضيلة فهو حلل‪ ،‬وإنْ أهاج الغرائز فهو‬
‫حرام وباطل‪ ،‬كالذي يُشبّب بالمرأة ويذكر مفاتنها‪ ،‬فهذا حرام حتى في غير الغناء‪ ،‬فإذا ما أضفتَ‬
‫إليه الموسيقى واللحان والتكسر والميوعة ازدادت حرمته وتضاعف إثمه‪.‬‬
‫أما ما نراه الن وما نسمعه مما يُسمّونه غناء‪ ،‬وما يصاحبه من حركات ورقصات وخلعات‬
‫ك في حرمته‪.‬‬
‫وموسيقى صاخبة‪ ،‬فل ش ّ‬
‫فكل ما يُخرج النسان عن وقاره ورزانته وكل ما يجرح المشاعر المهذبة فهو حرام‪ ،‬ثم إن الغناء‬
‫صوت فإنْ خرج عن الصوت إلى أداء آخر مُهيّج‪ ،‬تستعمل فيه اليدي والرجل والعينان‬
‫والوسط‪ ..‬الخ فهذا كله باطل ومحرم‪.‬‬
‫ول ينبغي للمؤمن الذي يملك زمام نفسه أن يقول‪ :‬إنهم يفرضون ذلك علينا‪ ،‬فالمؤمن له بصيرة‬
‫يهتدي بها‪ ،‬ويُميز بين الغثّ والسمين‪ ،‬والحق والباطل‪ ،‬فكُنْ أنت حكما على ما ترى وما تسمع‪،‬‬
‫بل ما يرى وما يسمع أهلك وأولدك‪ ،‬وبيدك أنت الزمام إنْ شئتَ سمعتَ‪ ،‬وإنْ شئتَ أغلقتَ‬
‫الجهاز‪ ،‬فل حجة لك لن أحدا ل يستطيع أنْ يجبرك على سماع أو رؤية ما تكره‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ففي رمضان مثلً‪ ،‬وهو شهر للعبادة نصوم يومه‪ ،‬ونقوم ليله‪ ،‬وينبغي أن نكرمه‪ ،‬ونحتفظ فيه‬
‫بالوقار والروحانية‪ ،‬ومع ذلك يخرجون علينا بألوان اللهو الذي يتنافى والصيام‪ ،‬فإنْ سألتهم قالوا‪:‬‬
‫الناس مختلفو المزجة‪ ،‬وواجبنا أن نوفر لهم أمزجتهم‪ ،‬لكن للمؤمن ولية على نفسه وهو يملك‬
‫زمامها‪ ،‬فل داعي أن تتهم أحدا ما دام المر في يدك‪ ،‬وعليك أن تنفذ الولية التي ولك ال‪ ،‬فإنْ‬
‫فعلتَ ففي يدك خمسة وتسعون بالمائة من حركة الحياة‪ ،‬ولغيرك الخمسة الباقية‪.‬‬
‫ثم إن ما يحلّ من الغناء مشروط بوقت ل يكون سمة عامة ول عادة مُلِحّة على النسان يجعلها‬
‫ديدنه؛ لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬روّحوا القَلوب ساعة بعد ساعة "‪.‬‬
‫وهؤلء المغنون والمغنيات الذين يُدخِلون في الغناء ما ليس منه من الحركات والرقصات ل‬
‫يدرون أنهم يَثيرون الغرائز‪ ،‬ويستعدون على الشباب غير القادر على الزواج‪ ،‬ويلبهون مشاعر‬
‫الناس ويثيرون الغيرة‪.‬‬

‫‪.‬الخ‬
‫إذن‪ :‬القضية واضحة ل تحتاج منا إلى فلسفة حول حكم الغناء أو الموسيقى‪ ،‬فكل ما يثير الغرائز‪،‬‬
‫سمْت العتدال والوقار فهو باطل وحرام‪ ،‬سواء أكان نصا بل لحن‪ ،‬أو لحنا بدون‬
‫ويُخرجك عن َ‬
‫أداء‪ ،‬أو أداء مصحوبا بما ل دخلَ له بالغناء‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا يكلفون أنفسهم ويشترون لهو الحديث؟‬
‫ضلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ { [لقمان‪ ]6 :‬وفرْق بين مَنْ يشتري اللهو‬
‫العلة كما قال الحق سبحانه‪ } :‬لِ ُي ِ‬
‫ل ويُضل غيره؛ لذلك فعليه‬
‫ضّ‬‫لنفسه يتسلى به‪ ،‬ويقصر ضلله على نفسه وبين مَنْ يقصد أن َي ِ‬
‫تبعة الضّللَيْن‪ :‬ضللة في نفسه‪ ،‬وإضلله لغيره‪.‬‬
‫حدِيثِ { [لقمان‪ ]6 :‬ل يقتصر على الغناء والكلم‪ ،‬إنما يشمل الفعل أيضا‪ ،‬وربما‬
‫وقوله‪َ } :‬ل ْهوَ الْ َ‬
‫كان الفعل أغلب‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ِ } :‬بغَيْرِ عِلْمٍ { [لقمان‪ ]6 :‬يدل على عدم معرفتهم حتى بأصول التجارة في البيع‬
‫والشراء‪ ،‬فالتاجر الحق هو الذي يشتري السلعة‪ ،‬بحيث يكون نفعها أكثر من ثمنها‪ ،‬أما هؤلء‬
‫حتْ تّجَارَ ُتهُمْ }[البقرة‪]16 :‬‬
‫فيشترون الضلل؛ لذلك يقول الحق عنهم‪َ {:‬فمَا رَبِ َ‬
‫والسبيل‪ :‬هو الطريق الموصل إلى الخير من أقصر طريق‪ ،‬وهو الصراط المستقيم الذي قال ال‬
‫تعالى عنه{ اهْدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[الفاتحة‪ ]6 :‬لذلك نقول في علم الهندسة‪ :‬المستقيم هو أقصر‬
‫بُعد بين نقطتين‪.‬‬
‫خذَهَا هُزُوا { [لقمان‪ ]6 :‬أي‪ :‬السبيل؛ لن السبيلِ تُذكّر وتؤنث‪ ،‬تُذكّرِ باعتبار‬
‫وقوله‪ } :‬وَيَتّ ِ‬
‫الطريق‪ ،‬كقوله تعالى‪ {:‬وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً }[العراف‪]146 :‬‬
‫وتُؤنّث على اعتبار الشّرْعة‪ ،‬كقوله تعالى‪ُ {:‬قلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىا اللّهِ عَلَىا َبصِي َرةٍ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[يوسف‪]108 :‬‬
‫هؤلء الذين يشترون الضلل لضلل الناس ل يكتفون بذلك‪ ،‬إنما يسخرون من أهل الصلح‪،‬‬
‫ويهزأون من أصحاب الطريق المستقيم والنهج القويم‪ ،‬ويُسفّهون رأيهم وأفعالهم‪.‬‬
‫ثم يذكر الحق سبحانه عاقبة هذا كله‪ُ } :‬أوْلَـا ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ ّمهِينٌ { [لقمان‪ ]6 :‬أولئك‪ :‬أي الذين‬
‫عذَابٌ ّمهِينٌ { [لقمان‪ ]6 :‬ووصْف العذاب هنا‬
‫سبق الحديث عنهم‪ ،‬وهم أهل الضلل } َلهُمْ َ‬
‫بالمهانة دليل على أن من العذاب ما ليس مُهينا‪ ،‬بل ربما كان تكريما لمن وقع عليه كالرجل الذي‬
‫يضرب ولده ليُعلّمه ويُربّيه‪ ،‬فهو يضربه ل ليعذبه ويؤلمه ويهينه‪ ،‬إنما لكي ل يعود إلى الخطأ‬
‫ح ّد قول الشاعر‪َ :‬فقَسَا لِيزْدجِرُوا ومَنْ َيكُ حَازِما فَلْيقسُ أحْيَانا على مَنْ‬
‫مرة أخرى‪ .‬على َ‬
‫سمّي عذابا‬
‫يَرْحَمإذن‪ :‬فمن العذاب ما هو تذكير وتطهير أو ترضية وتكريم لمستقبل‪ ،‬وإنما ُ‬
‫تجاوزا‪ ،‬فهو في هذه الحالة ل ُيعَدّ عذابا‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى قال الزمخشري رضي ال عنه‪ :‬الملك يكون عنده الخادم‪ ،‬فيفعل ما ل يُرضي‬
‫سيده‪ ،‬فيأمر صاحب الشرطة أنْ يأخذه ويعذبه جزاء ما فعل‪ ،‬فيأخذه الشرطي ويُعذّبه بقدر ل‬
‫يتعداه‪ ،‬لنه يعلم أنه سيعود مرة أخرى إلى خدمة السيد‪ ،‬فالعذاب في هذه الحالة يكون بقدر ما‬
‫فعل الخادم ليس مهنيا له‪ .‬لكن إنْ قال له‪ :‬خُذْ هذا الخادم وا ْقصِه عن الخدمة أو افصله‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫ليست له عودة فل شكّ أن العذاب سيكون مهنيا وأليما‪.‬‬
‫فالعذاب إنْ سمّيناه عذابا يكون إكراما لمن تحب وتريد أن تطهره‪ ،‬أما العذاب المهين فهو لمن ل‬
‫أمل في عودته‪ ،‬والهانة تقتضي البدية والخلود‪.‬‬
‫س َم ْعهَا كَأَنّ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِ آيَاتُنَا وَلّىا مُسْ َتكْبِرا كَأَن لّمْ يَ ْ‬

‫(‪)3400 /‬‬

‫س َم ْعهَا كَأَنّ فِي ُأذُنَيْ ِه َوقْرًا فَبَشّ ْرهُ ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ (‪)7‬‬
‫وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلّى مُسْ َتكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَ ْ‬

‫قوله تعالى‪ { :‬وَإِذَا تُ ْتلَىا عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلّىا ُمسْ َتكْبِرا‪[ } ...‬لقمان‪ ]7 :‬بعد قوله‪َ {:‬ومِنَ النّاسِ مَن‬
‫ضلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ }[لقمان‪ ]6 :‬يدلنا على حرص النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫حدِيثِ لِ ُي ِ‬
‫يَشْتَرِي َل ْهوَ الْ َ‬
‫على تبليغ أمر دعوته‪ ،‬حتى لمن يعلم عنه أنه ضَلّ في نفسه‪ ،‬بل ويريد أنْ يُضل غيره‪.‬‬
‫ومعنى { وَلّىا } [لقمان‪ ]7 :‬يعني‪ :‬أعرض وأعطانا (عرض أكتافه) كما نقول‪ :‬وتولى وهو‬
‫مستكبر { وَلّىا مُسْ َتكْبِرا } [لقمان‪ ]7 :‬أي‪ :‬تكبّر على ما ُيدْعى إليه‪ ،‬أنت دُعيت إلى حق‬
‫فاستكبرت‪ ،‬ولو كنت مستكبرا في ذاتك لما لجأت إلى باطل لتشتريه‪ ،‬إذن‪ :‬فكيف تستكبر عن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قبول الحق وأنت محتاج حتى إلى الباطل؟‬
‫ولماذا تتكبّر وليس عندك مُقوّمات الكِبْر؟ ومعلوم أنك تستكبر عن قبول الشيء إنْ كان عندك‬
‫مثله‪ ،‬فكيف وأنت ل تملك ل مثله ول أقل منه؟‬
‫إذن‪ :‬فاستكبارك في غير محله‪ ،‬والمستكبر دائما إنسان في غفلة عن ال؛ لنه نظر إلى نفسه‬
‫بالنسبة للناس ‪ -‬وربما كان لديه من المقومات ما يستكبر به على الناس ‪ -‬لكنه غفل عن ال‪ ،‬ولو‬
‫استحضر جلل ربه وكبرياءه سبحانه لستحى أنْ يتكبّر‪ ،‬فالكبرياء صفة العظمة وصفة الجلل‬
‫التي ل تنبغي إل ل تعالى‪ ،‬فكبرياؤه سبحانه شرف لنا وحماية تمنعنا أن نكون عبيدا لغيره‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫لذلك نسمع في المثال العامية (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) فإنْ كان لي كبير خافني الناس‬
‫واحتميتُ به‪ ،‬كذلك المؤمن يحتمي بكبرياء ربه؛ لن كبرياء ال على الجميع والكل أمامه‬
‫سواسية‪ ،‬ل أحد يستطيع أن يرفع رأسه أمام الحق سبحانه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكبرياؤه تعالى لصالحنا نحن‪.‬‬
‫صمَم‬
‫وهذا المستكبر استكبر عن سماع اليات { كَأَنّ فِي أُذُنَ ْي ِه َوقْرا } [لقمان‪ ]7 :‬أي‪ِ :‬ثقَل و َ‬
‫{ فَ َبشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ } [لقمان‪ ]7 :‬ونحن نعلم أن البشارة ل تكون إل في الخير‪ ،‬فهي الخبار بأمر‬
‫سارّ لم يأْت زمنه‪ ،‬كما تبشر ولدك بالنجاح قبل أنْ تظهر النتيجة‪.‬‬
‫أما البشارة بالعذاب فعلى سبيل التهكّم بهم والسخرية منهم‪ ،‬كما تتهكم من التلميذ المهمل فتقول له‪:‬‬
‫أبشرك رسبت هذا العام‪ .‬واستخدام البُشرى في العذاب كأنك تنقله فجأة من النبساط إلى‬
‫النقباض‪ ،‬وفي هذا إيلم للنفس قبل أن تُقاسي ألم العذاب‪ ،‬فالتلميذ الذي تقول له‪ :‬أُبشّرك يستبشر‬
‫الخير بالبشرى‪ ،‬ويظن أنه نجح لكن ُيفَاجأ بالحقيقة التي تؤلمه‪.‬‬
‫والشاعر يُصوّر لنا هذه الصدمة الشعورية بقوله‪:‬كَما أبر َقتْ َيوْما عِطَاشَا غَمامَةٌ فَلمّا رأوْهَا‬
‫ش َعتْ وتجلّتِويقول آخر‪:‬فَأصْبحتُ من ليلى الغَدا َة كقَا ِبضٍ علَى الماء خَانتْه فُروجُ الصَابِعلذلك‬
‫أقْ َ‬
‫يقولون‪ :‬ليس أشرّ على النفس من البتداء المطمع يأتي بعده النتهاء الموئس‪ ،‬وسبق أن مثلنا لذلك‬
‫بالسجين الذي بلغ به العطش منتهاه‪ ،‬ورجا السجان‪ ،‬إلى أنْ جاء له بكوب من الماء‪ ،‬ففرح‬
‫واستبشر‪ ،‬وظن أن سبحانه رجل طيب أصيل فلما رفع الكوب إلى فيه ضربه السجان من يده‬
‫فأراقه على الرض‪.‬‬

‫ول شكّ أن هذا آلم وأشدّ على نفس السجين‪ ،‬ولو رفض السجان أنْ يأتي له بالماء من البداية لكان‬
‫أخفّ ألما‪ .‬وهذا الفعل يسمونه " يأس بعد إطماع " فقد ابتدأ معه بداية مُطمِعة‪ ،‬وانتهى به إلى‬
‫نهاية موئسة‪ ،‬نعوذ بال من القبض بعد البسط‪.‬‬
‫ثم يذكر الحق سبحانه عقوبة الضلل عن سبيل ال والتولّي والستكبار } فَبَشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ [لقمان‪ ]7 :‬فعذابهم مرة (مهين) ومرة (أليم)‪.‬‬
‫عمِلُواْ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ‬

‫(‪)3401 /‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ َلهُمْ جَنّاتُ ال ّنعِيمِ (‪)8‬‬


‫إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬

‫وهؤلء الذين آمنوا وعملوا الصالحات في مقابل الذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل ال‪،‬‬
‫حسْنا‪،‬‬
‫سمَة من سمات السلوب القرآني؛ لن ذكر الشيء مع مقابله يُوضّح المعنى ويعطيه ُ‬
‫وهذه ِ‬
‫كما في قوله تعالى‪ {:‬إِنّ الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ }[النفطار‪]14-13 :‬‬
‫فالجمع بين المتقابلت يُفرح المؤمن بالنعيم‪ ،‬ثم يفرحه بأنْ يجد أعداءه من الكفار الذين غاظوه‬
‫واضطهدوه وعذّبوه يجدهم في النار‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حينما يتكلم عن اليمان يردفه بالعمل الصالح { إِنّ الّذِينَ‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } [لقمان‪ ]8 :‬لن اليمان أن تعلم قضايا غيبية فتُصدّق بها‪ ،‬لكن ما قيمة‬
‫آمَنُو ْا وَ َ‬
‫هذا اليمان إذا لم تنفذ مطلوبه؟‬
‫عمِلُواْ‬
‫ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫وكذلك في سورة العصر‪ {:‬وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ‬
‫الصّالِحَاتِ‪[} ...‬العصر‪ ]3-1 :‬ففائدة اليمان العمل بمقتضاه‪ ،‬وإل فما جدوى أن تؤمن بأشياء‬
‫ت باليمان ككلمة‬
‫ن اكتفي َ‬
‫كثيرة‪ ،‬لكن ل تُوظف ما تؤمن به‪ ،‬ول تترجمه إلى عمل وواقع؛ لذلك إ ْ‬
‫تقال دون عمل‪ ،‬فقد جعلت اليمانَ حجة عليك ل حجةً لك‪.‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } [لقمان‪ ]8 :‬أي‪ :‬الصالح‪ ،‬والحق سبحانه خلق الكون على هيئة‬
‫ومعنى { وَ َ‬
‫الصلح‪ ،‬فالشيء الصالح عليك أنْ تزيد من صلحه‪ ،‬فإنْ لم تقدر فل أقلّ من أنْ تدعَ الصالح‬
‫على صلحه فل تفسده‪.‬‬
‫ثم يذكر سبحانه جزاء اليمان والعمل الصالح { َلهُمْ جَنّاتُ ال ّنعِيمِ } [لقمان‪ ]8 :‬فهي جنات ل جنة‬
‫واحدة‪ ،‬ثم هي جنات النعيم أي‪ :‬المقيم الذي ل تفوته ول يفوتك‪.‬‬
‫حقّا‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللّهِ َ‬

‫(‪)3402 /‬‬

‫حكِيمُ (‪)9‬‬
‫حقّا وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫خَاِلدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللّهِ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل وأضلّ‪ ،‬ومع ذلك فال‬
‫حين نتأمل هذه اليات نلمس رحمة ال بعباده حتى الكافر منهم الذي ض ّ‬
‫رحيم به حتى في تناول عذابهم‪ ،‬أل ترى أن ال تعالى قال في عذابهم أنه مهين‪ ،‬وأنه أليم‪ ،‬لكن لم‬
‫يذكر معه خلودا كما ذكر هنا الخلود لنعيم الجنات‪ ،‬كما أن العذاب جاء بصيغة المفرد‪ ،‬أما الجنة‬
‫حقّا } [لقمان‪]9 :‬‬
‫فجاءت بصيغة الجمع‪ ،‬ثم أخبر عنها أنها { وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫والوعد يستخدم دائما ِلعَدةٍ بخير يأتيك‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن العبد يِعد وقد ل يفي بوعده؛ لنه ل يملك كل‬
‫مُقوّمات الوفاء‪ ،‬أما الوعد إنْ كان من ال فهو محقق لنه سبحانه يملك كل أسباب الوفاء‪ ،‬ول‬
‫يمنعه أحد عن تحقيق ما أراد؛ لنه سبحانه يملك كل أسباب الوفاء‪ ،‬ول يمنعه أحد عن تحقيق ما‬
‫أراد؛ لنه سبحانه ليس له شريك‪ ،‬كالرجل الذي أراد أنْ يذم آخر فقال له‪ :‬الدليل على أن ال ليس‬
‫له شريك أنه خلقك‪ ،‬فلو كان له شريك لقال له‪ :‬ل داعي لنْ تخلق هذا‪.‬‬
‫لذلك يعلمنا الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أنْ نردف وَعْدنا بقولنا‪ :‬إن شاء ال حتى نكون منصفين‬
‫لنفسنا من الناس‪ ،‬ول نُتهم بالكذب إذا لم َنفِ‪ ،‬وعندها لي أن أقول‪ :‬أردت ولكن ال لم يُرِد‪،‬‬
‫فجعلت المسألة في ساحة ربك عز وجل‪.‬‬
‫وبهذه المشيئة رحم ال الناس من ألسنة الناس‪ ،‬فإذا كلفتني بشيء فلم أقضه لك فاعلم أن له قدرا‬
‫عند ال لم يأتِ وقته بعد‪ ،‬واعلم أن المر ل ُيقْضي في الرض حتى ُيقْضي في السماء‪ ،‬فل‬
‫تغضب ول تتحامل على الناس‪ ،‬فالمور ليست بإرادة الناس‪ ،‬وإنما بإرادة ال‪.‬‬
‫لذلك حين تتوسط لخيك في قضاء مصلحة و ُتقْضي على يديك‪ ،‬المؤمن الحق الذي يؤمن بقدر ال‬
‫ن يقضيها فأكرمني أن أتكلم فيها وقت‬
‫يتأدب مع ال فيقول‪ُ :‬قضِ ْيتْ معي ل بي‪ ،‬يعني‪ :‬شاء ال أ ْ‬
‫مشيئته تعالى‪ ،‬كذلك يقول الطبيب المؤمن‪ :‬جاء الشفاء عندي ل بي‪.‬‬
‫ولو فهم الناس معنى قدر ال لستراحوا‪ ،‬فحين ترى المج ّد العامل ُيقْصي ويُبعد‪ ،‬وحين ترى‬
‫الخامل والمنافق يُقرّب ويعتلي أرفع المناصب فل تغضب‪ ،‬وإذا لم تحترمه لذاته فاحترم قدر ال‬
‫فيه‪.‬‬
‫فالمسائل ل تجري في َكوْن ال بحركة (ميكانيكية)‪ ،‬إنما بقدر ال الذي يرفع مَنْ يشاء ويضع مَنْ‬
‫يشاء‪ ،‬وله سبحانه الحكمة البالغة في هذه وتلك‪ ،‬وإل لقلنا كما يقول الفلسفة‪ :‬إن ال تعالى خلق‬
‫القضايا الكونية ثم تركها للناس يُسيّرونها‪.‬‬
‫والحق سبحانه ما ترك هذه القضايا‪ ،‬بدليل قوله تعالى‪ {:‬يَخُْلقُ مَا يَشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َيهَبُ‬
‫عقِيما }‬
‫ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ‬
‫جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ‬
‫ِلمَن يَشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ‬

‫[الشورى‪.]50-49 :‬‬
‫فبعد هذه الية ل يقل أحد‪ :‬إن فلنا ل ينجب أو فلنه ل تنجب؛ لن هذه مرادات عليا ل تعالى‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولو أن العقيم احترم قَدَر ال في العقم لجعل ال كل مَنْ يراهم من الولد أولده‪ ،‬وما دام ال‬
‫ل لحد في‬
‫خَ‬‫تعالى قال{ َي َهبُ }[الشورى‪ ]49 :‬فالمسألة في كل حالتها هبة من ال تعالى ل دَ ْ‬
‫الذكورة أو النوثة أو العقم‪ .‬فلماذا ‪ -‬إذن ‪ -‬قبلتَ هبة ال في الذكور‪ ،‬ولم تقبل هبة ال في العقم؟‬
‫وسبق أن تحدثنا عن وَأْد البنات قبل السلم؛ لن البنت كانت ل تركب الخيل‪ ،‬ول تدافع عن‬
‫قومها‪ ،‬ول تحمل السلح‪ ..‬إلخ‪ ،‬فلما جاء السلم حرم ذلك وكرّم المرأة‪ ،‬وأعلى من شأنها‪ ،‬لكن‬
‫ما زالت المفاضلة قائمة بين الولد والبنت‪.‬‬
‫والن احتدم صراع مفتعل بين أنصار الرجل وأنصار المرأة‪ ،‬والسلم بريء من هذا الصراع؛‬
‫لن الرجل والمرأة في السلم متكاملن ل متضادان‪ ،‬وعجيب أنْ نرى من النساء مَنْ تتعصب‬
‫ضد الرجال وهي ُتجَنّ إنْ لم تنجب الولد‪ ،‬وهذه شهادة منهن بأفضليته‪.‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يعلمنا أن مَنْ يحترم قدره في إنجاب البنات يقول ال له‪ :‬لقد‬
‫احترمتَ قدري فسوف أعطيك على قدرْي‪ ،‬فيعطيه ال البنين‪ ،‬أو يُيسّر لبناته أزواجا يكونون أبرّ‬
‫به من أولده وأطوع‪.‬‬
‫ثم َألَ ترى أن ال تعالى قدم البنات‪ ،‬في الهبة‪ ،‬فقال‪َ {:‬ي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ ال ّذكُورَ‬
‫جهُهُ‬
‫ل وَ ْ‬
‫ظّ‬‫حدُ ُهمْ بِالُنْثَىا َ‬
‫}[الشورى‪ ]49 :‬لماذا؟ لنه سبحانه يعلم محبة الناس للذكور‪ {:‬وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ‬
‫سوَدّا وَ ُهوَ كَظِيمٌ * يَ َتوَارَىا مِنَ ا ْل َقوْمِ مِن سُوءِ مَا ُبشّرَ بِهِ }[النحل‪.]59-58 :‬‬
‫مُ ْ‬
‫حكِيمُ { [لقمان‪ ]9 :‬العزيز الذي ل يغلب‪ ،‬ول يستشير أحدا فيما‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫حكِيمُ { [لقمان‪ ]9 :‬أي‪ :‬حين يعِد‪ ،‬وحين يفي بالوعد‪.‬‬
‫يفعل } الْ َ‬
‫عمَدٍ‪.{ ...‬‬
‫سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ‬
‫ثم تنتقل اليات إلى دليل من أدلة اليمان الفطري بوجود الله‪ } :‬خََلقَ ال ّ‬

‫(‪)3403 /‬‬

‫سيَ أَنْ َتمِيدَ ِب ُك ْم وَ َبثّ فِيهَا مِنْ ُكلّ دَابّةٍ‬


‫عمَدٍ تَ َروْ َنهَا وَأَ ْلقَى فِي الْأَ ْرضِ َروَا ِ‬
‫سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ‬
‫خََلقَ ال ّ‬
‫سمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ (‪)10‬‬
‫وَأَنْزَلْنَا مِنَ ال ّ‬

‫أولً‪ :‬ذكر الحق سبحانه آية كونية لم يدّعها أحد لنفسه من الكفار أو من الملحدة‪ ،‬وهي آية‬
‫موجودة ومُشَاهدة‪ ،‬وبعد أن قال سبحانه أنا خالق السماء والرض لم يعارضه أحد‪ ،‬ولم ي ْأتِ مَنْ‬
‫يعارضه فيقول‪ :‬بل أنا خالق السماء والرض‪.‬‬
‫وسبق أنْ قلنا‪ :‬إن القضية تسلم لصاحبها ومدعيها إذا لم َيقُمْ لها معارض‪ ،‬فإن كانت هذه القضية‬
‫صحيحة‪ ،‬والحق سبحانه هو الخالق فقد انتهتْ المسألة‪ ،‬وإذا كان هناك خالق غيره سبحانه فأين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هو؟ هل درى أن واحدا آخر أخذ منه الخَلْق‪ ،‬ولماذا لم يعارض ويدافع عن حقّه؟ أو أنه لم َيدْرِ‬
‫بشيء فهو إله (نائم على ودنه)‪ ،‬وفي كل الحالين ل يصلح أن يكون إلها يُعبد‪.‬‬
‫ش ِهدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }[آل عمران‪ ،]18 :‬فهذه شهادة الذات للذات‪ ،‬ولم‬
‫لذلك قال تعالى‪َ {:‬‬
‫حتْ لصاحبها إلى أنْ يوجد معارض‪.‬‬
‫يعارضها معارض فصَ ّ‬
‫وسبق أن مثّلنا لذلك ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬بجماعة جلسوا في مجلس فلما انفضّ مجلسهم وجد‬
‫صاحب البيت حافظة نقود ل يعرف صاحبها‪ ،‬فاتصل بمن كانوا في مجلسه‪ ،‬وسألهم عنها فلم يقُلْ‬
‫واحد منهم أنها له‪ ،‬إلى أن طرق الباب أحدهم وقال‪ :‬وال لقد نسيت حافظة نقودي هنا‪ ،‬فل شكّ‬
‫إذن أنها له وهو صاحبها حيث لم يدّعها واحد آخر منهم‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول في إثبات هذه القضية‪ُ {:‬قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ إِلَىا ذِي‬
‫ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء‪ ]42 :‬أي‪ :‬لذهبوا يبحون عمّنْ أخذ منهم الخَلْق والناس‪ ،‬وأخذ منهم‬
‫اللوهية‪.‬‬
‫ض َولَ‬
‫ت وَالَرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شهَدّتهُمْ خَ ْلقَ ال ّ‬
‫فإنْ قالوا نحن آلهة لكن فوقنا إله أكبر يردّ الحق عليهم‪ {:‬مّآ أَ ْ‬
‫عضُدا }[الكهف‪]51 :‬‬
‫سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫عمَدٍ تَ َروْ َنهَا } [لقمان‪ ]10 :‬حين تدور في أنحاء الكرة الرضية من شمالها‬
‫وقوله تعالى‪ِ { :‬بغَيْرِ َ‬
‫إلى جنوبها‪ ،‬ومن شرقها إلى غربها تجد السماء تظلّك‪ ،‬ومع سعة السماء ل تجد لها عمدا ترفعها‪،‬‬
‫وكلمة { تَ َروْ َنهَا } [لقمان‪ ]10 :‬تحمل معنيين‪ :‬إما هي فعلً بغير عمد‪ ،‬أو لها عمد لكن ل نراها‬
‫ع َمدٍ تَ َروْ َنهَا } [لقمان‪ ]10 :‬يعني‪ :‬ل نرى لها عمدا‪ ،‬لكن الحقيقة أن لها عمدا ل ترونها‬
‫{ ِبغَيْرِ َ‬
‫بإحساسكم ومقاييسكم‪.‬‬
‫ن قلت‪ ،‬فما هذه العمد التي ل نراها؟ البعض يقول‪ :‬هي الجاذبية‪ ،‬وهذا القول مجانب للصواب‪،‬‬
‫فإ ْ‬
‫سمَآءَ أَن َتقَعَ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫والحق سبحانه يكفينا مؤنة البحث في هذه المسألة‪ ،‬فيقول سبحانه‪ ... {:‬وَ ُيمْ ِ‬
‫عَلَى الَرْضِ ِإلّ بِإِذْ ِنهِ }[الحج‪]65 :‬‬
‫ن نقول إنها ممسوكة بقدرة ال‪ ،‬ولكي ل نحار في كيفية ذلك يُقرّب ال لنا هذه‬
‫إذن‪ :‬ل نملك إل أ ْ‬
‫المسألة بمثال مُشاهد لنا‪ ،‬فالطير يمسكه ال في جو السماء‪:‬‬

‫س ُكهُنّ ِإلّ اللّهُ‪[} ...‬النحل‪]79 :‬‬


‫سمَآءِ مَا ُي ْم ِ‬
‫جوّ ال ّ‬
‫سخّرَاتٍ فِي َ‬
‫{ أََلمْ يَ َروْاْ إِلَىا الطّيْرِ مُ َ‬
‫ت وَالَرْضَ أَن تَزُولَ }[فاطر‪]41 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫وفي موضوع آخر يقول الحق سبحانه‪ {:‬إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ‬
‫إذن‪ :‬فهو سبحانه يمسكها بقانون‪ ،‬لكن ل نعرفه نحن ول ندركه‪.‬‬
‫والسماء في اللغة‪ :‬كل مَا علك فأظلّك‪ ،‬فالغيم الذي يعلوك وتراه قريبا منك يُعد من السماء بدليل‬
‫سمَآءِ مَآءً { [لقمان‪ ]10 :‬والماء ينزل من الغيم‪ ،‬ل من السماوات‬
‫قول ال تعالى‪ } :‬وَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫العل‪ ،‬والفرق بينهما أن الغيم تراه في مكان دون آخر‪ ،‬وتراه مُتقطعا منفطرا‪ ،‬أمّا السماء العليا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهي بشكل واحد‪ ،‬ل ترى فيها من فطور‪.‬‬
‫وحين تكلم الحق سبحانه عن الرض والسماء قال‪ :‬إنها سبع سماوات‪ ،‬ولم ي ُقلْ سبع أراضين‪ ،‬بل{‬
‫َومِنَ الَ ْرضِ مِثَْلهُنّ }[الطلق‪ ]12 :‬فدلّ على أن الرض سبع كالسماء‪ ،‬وإنْ كانت السماء كل ما‬
‫أظلّك‪ ،‬فالرض كل ما أقلّك‪ ،‬لكن أين هذه الرَضين السبع؟‬
‫لقد أخبرنا القرآن الكريم أن السماوات سبع‪ ،‬وأخبرنا النبي صلى ال عليه وسلم أنه م ّر بها في‬
‫مرحلة المعراج فقال في الولى كذا وكذا‪ ،‬وفي الثانية كذا وكذا‪ ،‬وما دامتْ السماء كل ما أظلك‪،‬‬
‫والرض كل ما أقلك فالخَلْق في السماء الولى مثلً سماؤهم السماء الثانية‪ ،‬وأرضهم سماؤنا‬
‫الولى‪ ،‬وهكذا وهكذا‪.‬‬
‫سيَ { [لقمان‪ ]10 :‬أي‪ :‬الجبال الراسية الثابتة المتصلة‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَأَ ْلقَىا فِي الَ ْرضِ َروَا ِ‬
‫ل وثيقا بحيث ل تتخلخل منها‪ ،‬والعلة في خَلْق الجبال الرواسي على الرض } أَن‬
‫بالرض اتصا ً‬
‫َتمِيدَ ِبكُمْ { [لقمان‪ ]10 :‬أي‪ :‬تميل وتضطرب بكم‪ ،‬ولو أن الرض مخلوقة على هيئة الثبات لما‬
‫احتاجت إلى ما يثبتها‪.‬‬
‫خلِقت الجبال إل لتثبيتها وضبط حركتها‪ ،‬فدّلت هذه الية على صِدْق‬
‫إذن‪ :‬فالرض متحركة‪ ،‬وما ُ‬
‫النظرية القائلة بدوران الرض‪ ،‬كذلك في قوله تعالى‪ {:‬وَتَرَى الْجِبَالَ َتحْسَ ُبهَا جَامِ َد ًة وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ‬
‫السّحَابِ }[النمل‪]88 :‬‬
‫إذن‪ :‬فللجبال حركة مرتبطة بحركة الرض‪ ،‬فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬ولماذا ل نراها؟ نقول‪ :‬لن وحدة المكان‬
‫تجعلك ل تدرك هذه الحركة‪ ،‬فالمتحد في مكان ل تختلف مرائي الشياء بالنسبة له‪.‬‬
‫حىً تدور بنا‪ ،‬فهل نشعر بدورانه‬
‫صمّم على هيئة َر َ‬
‫فلو تصوّرنا أن هذا المسجد الذي يجمعنا ُ‬
‫ونحن ندور بدورانه؟ ل نشعر‪ ،‬لماذا؟ لن مواقعنا من بعض ثابتة ل تتغير‪ ،‬كذلك موقعنا من‬
‫المكان؛ لذلك ل نشعر بالحركة لكن نشعر بالحركة حين نقيس متحركا بثابت‪ ،‬فلو فتحنا الباب مثلً‬
‫أو الشباك ورأينا ما هو خارج المسجد‪ ،‬عندها نشعر أننا نتحرك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل يمكن لمَنْ على الرض أن يشعر بحركتها؛ لنه يتحرك معها‪ ،‬وما دامت الجبال أوتادا في‬
‫الرض وهي ‪ -‬أي الجبال ‪ -‬تمر مرّ السحاب فل بُدّ أن الرض كذلك تمر وتتحرك بنفس‬
‫الحركة‪ ،‬وحركة الجبال ليست ذاتية‪ ،‬إنما هي تابعة لحركة الرض‪ ،‬والحق سبحانه شبّه حركة‬
‫الجبال بحركة السحاب‪ ،‬والسحاب حركته غير ذاتية‪ ،‬إنما هي تابعة لحركة الرياح‪.‬‬

‫ثم يذكر الحق سبحانه علة أخرى لخَلْق الجبال‪ } :‬وَ َبثّ فِيهَا مِن ُكلّ دَآبّةٍ { [لقمان‪ ]10 :‬وسبق أنْ‬
‫أوضحنا أن الجبال تمثل مخازن للقوت الذي به قوام الحياة للنسان وللحيوان والذي ينشأ من‬
‫ت بعوامل التعرية‪ ،‬ثم يحملها ماء المطر إلى الوديان‬
‫الزرع‪ ،‬وبيّنا أن الطبقة الخارجية للجبال تتفت ْ‬
‫فتزيد من خصوبة الرض بمقدار كل عام‪ ،‬ومن الجبال أيضا يتكون الماء في النهار او في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مسارب الرض فنخرجه حين الحاجة إليه‪.‬‬
‫ومن حكمته تعالى أنْ جعل الجبال راسية ثابتة‪ ،‬وجعلها صلدة وإل لو كانت هشّة لذابتها المطار‬
‫وفتتها في عدة سنوات‪ ،‬ثم حرمت الرض من الخصوبة التي تستمدها من الجبال؛ لذلك يقول ال‬
‫خصْبة التي‬
‫تعالى‪َ {:‬ومَا نُنَزُّلهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }[الحجر‪ ]21 :‬فمع زيادة السكان تزداد المساحة ال ِ‬
‫يُكوّنها الغِرْين الذي يتفتت من الجبال عاما بعد عام‪.‬‬
‫جعَلُونَ َلهُ أَندَادا‬
‫ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَ َت ْ‬
‫واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى‪ُ {:‬قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َتكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَ َ‬
‫سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا‪[} ...‬فصلت‪-9 :‬‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫‪]10‬‬
‫خصْب الذي‬
‫فالجبال جعلها ال راسية حتى ل تضطرب بنا الرض‪ ،‬وجعلها صلبة لنها مخزن ال ِ‬
‫ُيمِدّنا بالزرع الذي به ِقوَام حياتنا‪.‬‬
‫ومن رحمة ال بالنسان أنْ جعل فيه ذاتية استبقاء الحياة‪ ،‬فإن مُنِع عنه الطعام أو الشراب تغذّى‬
‫من المخزون في جسمه؛ فيأخذ أولً من الدهن‪ ،‬ثم من اللحم‪ ،‬ثم من العظم؛ لذلك قلنا‪ :‬إن العظم‬
‫هو آخر مخازن القوت في جسم النسان‪ ،‬وفي ضوء ذلك نفهم قول سيدنا زكريا‪ {:‬إِنّي وَهَنَ‬
‫ظمُ مِنّي }[مريم‪]4 :‬‬
‫ا ْلعَ ْ‬
‫يعني‪ :‬قد بلغتُ آخر مرحلة من مراحل استبقاء الحياة‪.‬‬
‫فكان من رحمة ال بالخَلْق أنْ جعل حتى شَرَه النسان للطعام والشراب رحمة به‪ ،‬حيث يتحول‬
‫الزائد عن طاقته وحاجته إلى مخزون في جسمه‪ ،‬فإذا انقطعتْ به السّبُل أو تعذّر عليه الطعام‬
‫والشراب استمد مما في جسمه‪.‬‬
‫كذلك من رحمة ال بالنسان أنْ جعله يصبر على الطعام إلى شهر‪ ،‬ويصبر على الماء من ثلثة‬
‫أيام إلى عشرة بحسب ما في جسمه من مخزون الطعام والشراب‪ ،‬اما الهواء فل يصبر عليه إل‬
‫بمقدار شهيق وزفير؛ لذلك تتجلى رحمته تعالى وحكمته في خَلْقه بألّ يُملّك الهواء لحد‪ ،‬فلو مَلكه‬
‫عدوك لمتّ قبل أن يرضى عنك‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬وَ َبثّ فِيهَا مِن ُكلّ دَآبّةٍ { [لقمان‪ ]10 :‬بث أي‪ :‬نشر‪ ،‬والدابة‪ :‬كل ما له دبيب على‬
‫ب على الرض‪ ،‬وكل ما يمشي على الرض له دبيب نسمعه في‬
‫الرض‪ ،‬والدبيب بحسب ما يد ّ‬
‫الحيوان الضخم مثلً‪ ،‬لكن ل نسمعه في النملة مثلً‪ ،‬فهي أيضا لها دبيب بدليل قولنا‪ :‬فلن يسمع‬
‫دبّة النملة‪ ،‬إذن‪ :‬لها دبيب على الرض‪ ،‬لكن أذن مَنْ التي تستطيع أنْ تسمعه؟‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬مِن ُكلّ دَآبّةٍ { [لقمان‪ ]10 :‬كل تعني سورا كليا يضم كل ما له حركة ودبيب على‬
‫الرض‪ ،‬يعني‪ :‬كل ما يقال له دابة بداية من النملة أو الفيروسات الن إلى أكبر حيوان على‬
‫الرض‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله (من) تتدرج من الصغير إلى الكبير فتدلّ على الشمول‪.‬‬
‫ومن هذه الدواب ما أحله ال ومنها ما حرمه؛ لذلك يقول البعض‪ :‬ما دام ال حرّم هذه الحيوانات‪،‬‬
‫خلْقها؟ وهل كل شيء مخلوق يُؤكل؟‬
‫فما الضرورة في َ‬
‫ل‪ ،‬ليس كل مخلوق من الحيوانات يؤكل؛ لن له مهمة أخرى يؤديها‪.‬‬
‫ولو تأملت ما حُرّم عليك لوجدته يخدمك في ناحية أخرى‪ ،‬فمنه ما يمد الحيوانات التي تأكلها‪،‬‬
‫ل ل نرى فيه إل أنه مخلوق ضار‪،‬‬
‫ومنه ما فيه خاصية تحتاج إليها في غير الكل‪ ،‬فالثعبان مث ً‬
‫سمّه الن‪ ،‬ونجعله َمصْلً نافعا؟ ألسنا ننتفع بجلوده؟ الخ‪ ،‬فإذا كنا ل نأكله فنحن‬
‫لكن ألم نحتَجْ إلى ُ‬
‫نستفيد من وجوده في نواحٍ أخرى‪.‬‬
‫كذلك الخنزير مثلً‪ :‬البعض يقول‪ :‬ما دام ال تعالى حرمه‪ ،‬فلماذا خلقه؟ سبحان ال‪ ،‬هل خلق ال‬
‫كل شيء لتأكله أنت؟ ليس بالضرورة أنْ تأكل كل شيء‪ ،‬لن ال جعل لك طعامك الذي يناسبك‪،‬‬
‫أتأكل مثلً البترول؟ كيف ونحن نرى حتى السيارات والقطارات والطائرات لكل منها وقوده‬
‫ل ل تعمل بالسولر‪..‬الخ‪ ،‬فربك أعطاك قُوتَك كما‬
‫المناسب له‪ ،‬فالسيارة التي تعمل بالبنزين مث ً‬
‫أعطى لغيرك من المخلوقات أقواتها‪.‬‬
‫لذلك؛ إذا نظرت في غابة لم تمتد إليها يد النسان تجد فيها جميع الحيوانات والطيور والدواب‬
‫والحشرات‪ ..‬الخ دون أنْ تجد فيها رائحة كريهة أو منظرا مُنْفرا‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن الحيوانات يحدث بينها وبين بعضها توازن بيئي‪ ،‬فالضعيف منها والمريض طعام للقوي‪،‬‬
‫والخارج من حيوان طعام لحيوان آخر‪ ..‬وهكذا‪ ،‬فهي محكومة بالغريزة ل بالعقل والختيار‪.‬‬
‫خلَ للنسان فيه يسير على أدقّ نظام فل تجد فيه فسادا أبدا إل إذا طالتْه يد البشر‪،‬‬
‫وكل شيء ل دَ ْ‬
‫ولك أنْ تذهب إلى إحدى الحدائق أو المنتزهات في شم النسيم مثلً لترى ما تتركه يد النسان في‬
‫الطبيعة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا ُوصِف النسان بهذا الوصف؟ ولماذا قُرِن وجوده بالفساد؟ نقول‪ :‬لَنه يتناول الشياء‬
‫بغير قانون خالقها‪ ،‬ولو تناول الشياء بقانون الخالق عز وجل ما أحدث في الطبيعة هذا الفساد‪.‬‬
‫وسبق أنْ بيّنا أن النسان ل قدرةَ له على شيء من مخلوقات ال إل إذا ذلّلها ال له ويسّرها‬
‫لخدمته‪ ،‬بدليل أن الولد الصغير يركب الفيل ويسحب الجمل ويُنيخه ويحمله الثقال في حين ل‬
‫قدر َة لحدنا على ثعبان صغير‪ ،‬أو حتى برغوث‪ ،‬لماذا؟ لن ال تعالى ذّللَ لنا هذا‪ ،‬ولم يُذلّل لنا‬
‫هذا‪.‬‬

‫سمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ { [لقمان‪ ]10 :‬من السماء‪:‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫أي من جهة العلو ومن ناحية السماء‪ ،‬وإل فالمطر ل ينزل من السماء‪ ،‬إنما من الغمام } فَأَنْبَتْنَا‬
‫فِيهَا‪[ { ..‬لقمان‪ ]10 :‬أي‪ :‬في الرض‪ } :‬مِن ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ { [لقمان‪ ]10 :‬زوج أي‪ :‬نوع من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النبات‪ ،‬فهي كلمة تدل على مفرد‪ ،‬لكن معه مثله‪ ،‬والبعض يظن أنها تعني اثنين وهذا خطأ؛ لذلك‬
‫نقول عن الرجل زوج‪ ،‬وعن المرأة زوج رغم أنه مفرد‪ ،‬لكن قُرِن بغيره‪.‬‬
‫شيْءٍ خََلقْنَا َز ْوجَيْنِ‪[} ..‬الذاريات‪ ]49 :‬فَسمّي الذكر (زوج)‬
‫وقال تعالى عن التكاثر‪َ {:‬ومِن ُكلّ َ‬
‫وسمّي النثى (زوج)‪.‬‬
‫ومثلها كلمة (توأم) فهي تدل على مفرد‪ ،‬لكن مفرد لم يُولَد وحده إنما معه غيره‪ ،‬والبعض يقول‬
‫(توأم) ويقصد الثنين‪ ،‬إنما الصواب أن نقول هما توأمان‪.‬‬
‫ووصف الحق سبحانه الزوج أي النوع من النبات بأنه } كَرِيمٍ { [لقمان‪ ]10 :‬لنه يعطيك بكرم‬
‫وسخاء‪ ،‬فالحبة تعطيك سبعمائة حبة‪ ،‬وهذا عطاء المخلوق ل‪ ،‬فما بالك بعطاء الخالق عز وجل؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬هَـاذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِن‪.{ ...‬‬

‫(‪)3404 /‬‬

‫هَذَا خَ ْلقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خََلقَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ َبلِ الظّاِلمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (‪)11‬‬

‫والكلم هنا مُوجّه للمكابرين وللمعاندين الجاحدين ليات ال‪ { :‬هَـاذَا } [لقمان‪ ]11 :‬أي‪ :‬ما سبق‬
‫ِذكْره لكم من خَلْق السماوات بغير عمد‪ ،‬ومن خَلَق الجبال الرواسي والدواب وإنزال المطر‬
‫وإحياء النبات‪..‬الخ‪.‬‬
‫هذا كله { خَ ْلقُ اللّهِ‪[ } ...‬لقمان‪ ]11 :‬فلم يدّعهِ أحد لنفسه‪ ،‬وليس ل فيه شريك { فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ‬
‫الّذيِنَ مِن دُونه‪[ } ..‬لقمان‪ ]11 :‬أي‪ :‬الذين اتخذتموهم شركاء مع ال‪ ،‬ماذا خلقوا؟‬
‫وليس لهذا السؤال إجابة عندهم‪ ،‬حيث ل واقع له يستدلون به‪ ،‬ول حتى بالمكابرة؛ لن الحق أبلج‬
‫ل على أن يقول آلهتنا خلقت‬
‫والباطل لجلج‪ ،‬لذلك لم نسمع لهم صوتا ولم يجرؤ واحد منهم مث ً‬
‫الجبال مثلً أو الشمس أو القمر‪ ،‬فلم يستطيعوا الردّ رغم كفرهم وعنادهم‪.‬‬
‫والحق سبحانه في الرد عليهم يبين لهم أن المسألة ل تقف عند عدم قدرتهم على الخَلْق‪ ،‬إنما ل‬
‫سهِ ْم َومَا كُنتُ‬
‫ض َولَ خَلْقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫شهَدّتهُمْ خَ ْلقَ ال ّ‬
‫يعرفون كيف خُلُقوا هم أنفسهم‪ {:‬مّآ َأ ْ‬
‫عضُدا }[الكهف‪]51 :‬‬
‫عضُدا }[الكهف‪ ]11 :‬وفي قول ال{ َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫دليل على صِدْق القرآن ومظهر من مظاهر إعجازه‪ ،‬فقد أخبرنا الحق سبحانه أنه سيُوجد مُضلون‬
‫يضلون الناس في مسألة الخَلْق‪ ،‬ويصرفونهم عن الحق بكلم باطل‪.‬‬
‫ن يقول‪ :‬إن الرض قطعة من الشمس انفصلتْ‬
‫وفعلً صدق ال وسمعنا من هؤلء المضلين مَ ْ‬
‫ن يقول إن النسان في أصله قرد‪..‬الخ‪ ،‬ولول هذه القاويل وغيرها ما صدقت‬
‫عنها‪ ،‬وسمعنا مَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه الية‪ ،‬ولجاء أعداء السلم يقولون لنا‪ :‬أين المضلون الذين أخبر عنهم القرآن؟‬
‫فكأن كل كلم يناقض { هَـاذَا خَ ْلقُ اللّهِ‪[ } ..‬لقمان‪ ]11 :‬هو كلم ُمضِل‪ ،‬وكأن هؤلء المضلين‬
‫عضُدا }[الكهف‪]51 :‬‬
‫‪ -‬في غفلة منهم ودون قصد ‪ -‬يؤيدون كلم ال{ َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫ونجد هذه المسألة أيضا في سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حيث يطلع علينا من حين لخر‬
‫مَنْ ينكر سنة رسول ال ويقول‪ :‬بيننا وبينكم كتاب ال‪ ،‬فما كان فيه من حلل حللناه‪ ،‬وما كان فيه‬
‫من حرام حرمناه‪.‬‬
‫وعندها نقول‪ :‬سبحان ال‪ ،‬كأن ال تعالى أقامكم دليلً على صِدْق رسوله‪ ،‬فقد أخبر الرسول‬
‫حقّ سنته‪ ،‬حيث قال‪ " :‬يوشك رجل يتكئ على أريكته‪ ،‬يُحدّث بالحديث‬
‫عنكم‪ ،‬وعما تقولونه في َ‬
‫عني فيقول‪ :‬بيننا وبينكم كتاب ال‪ ،‬فما وجدنا فيه من حلل حللناه‪ ،‬وما وجدنا فيه من حرام‬
‫حرمناه "‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬هَـاذَا خَلْقُ اللّهِ } [لقمان‪ ]11 :‬أي‪ :‬مخلوقاته { فَأَرُونِي مَاذَا خََلقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ‪} ..‬‬
‫[لقمان‪ ]11 :‬ولن نطلب منك خَلْقا كخَلْق السماء والرض والجبال‪ ،‬ول إنزال المطر وإحياء‬
‫الرض بالنبات‪ ،‬بل اختلقوا أقلّ شيء في الموجودات التي ترونْها‪ ،‬وليس هناك أقل من الذباب‪{:‬‬
‫إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن َيخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَهُ‪[} ..‬الحج‪ ]73 :‬بل وأبلغ من ذلك{‬
‫ض ُعفَ الطّاِلبُ وَا ْل َمطْلُوبُ }[الحج‪]73 :‬‬
‫وَإِن يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْ ُه َ‬
‫للٍ مّبِينٍ } [لقمان‪ ]11 :‬أي‪ :‬ضلل‬
‫ثم يختم الحق سبحانه الية بقوله‪َ { :‬بلِ الظّاِلمُونَ فِي ضَ َ‬
‫محيط بهم من كل اتجاه‪ ،‬والضلل المبين المحيط ل تُرْجى معه هداية‪ ،‬فلن يهتدي هؤلء‪ ،‬وما‬
‫عليك إل أنْ تصبر على دعوتك يا محمد حتى يُبدلك ال خيرا من هؤلء‪ ،‬ويكونون لك جنودا‬
‫يؤمنون بك‪ ،‬وينصرون دعوتك‪ .‬وقد كان‪.‬‬
‫شكُرْ‪.} ...‬‬
‫ح ْكمَةَ أَنِ ا ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلقَدْ آتَيْنَا ُل ْقمَانَ الْ ِ‬

‫(‪)3405 /‬‬

‫حمِيدٌ (‬
‫شكُرُ لِ َنفْسِهِ َومَنْ َكفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ‬
‫شكُرْ فَإِ ّنمَا يَ ْ‬
‫شكُرْ لِلّ ِه َومَنْ يَ ْ‬
‫ح ْكمَةَ أَنِ ا ْ‬
‫وَلَقَدْ آَتَيْنَا ُل ْقمَانَ الْ ِ‬
‫‪)12‬‬

‫الحق سبحانه آتانا قبل أنْ يخلقنا‪ ،‬وآتانا بعد أن خلقنا بالمنهج ثم وَالَى إلينا بمواكب الرسالت التي‬
‫تحمل إلى كل بيئة المنهج الذي يناسبها‪ ،‬وقبل أن يخرج آدم عليه السلم لتحمّل عبء هذه الخلفة‬
‫أعطى ال له تجربة‪ ،‬هذه التجربة مفادها أن يحافظ على منهج ربه في (افعل) و (ل تفعل) وأن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يحذر كيد الشيطان‪.‬‬
‫وقد مرّ آدم بهذه التجربة البيانية قبل أن يجتبيه ال للنبوة وكثيرون يظنون أن عصيان آدم جاء‬
‫بعد أن كُلّف بالنبوة فيقولون‪ :‬كيف يعصي آدم ربه‪ ،‬وهو نبي والنبي معصوم؟‬
‫ونقول‪ :‬نعم‪ ،‬عصى آدم ربه‪ ،‬لكن قبل النبوة‪ ،‬وهو ما يزال بشرا عاديا؛ لذلك قال سبحانه في‬
‫حقه‪ {:‬وَعَصَىا ءَادَمُ رَبّهُ َف َغوَىا * ُثمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىا }[طه‪]122-121 :‬‬
‫ن قلتَ‪ :‬فما الداعي للعصيان يصدر من آدم‪ ،‬وهو يُعد للنبوة؟‬
‫إذن‪ :‬جاء الجتباء بعد المعصية‪ ،‬فإ ْ‬
‫قالوا‪ :‬لنه أبو البشر‪ ،‬والبشر قسمان‪ :‬بشر معصومون‪ ،‬وهم النبياء‪ ،‬وبشر ليست لهم عصمة‬
‫وهم عامة الناس غير النبياء‪ ،‬ول بُ ّد لدم أنْ يمثل النوعين لنه أبو الجميع‪ ،‬فمثّل البشر عامة‬
‫حين وقع في المعصية‪ ،‬ومثّل النبياء حين اجتباه ربه وتاب عليه‪ ،‬فجمع بذلك بين الملحظين‪.‬‬
‫هنا يقول سبحانه‪ { :‬وََلقَدْ آتَيْنَا‪[ } ..‬لقمان‪ ]12 :‬واليتاء يُطلَق على الوحي مع الفارق بينهما‪ ،‬فإنْ‬
‫أطلق الوحي فإنه ينصرف إلى الوحي للرسول بمنهج من ال‪ ،‬ويُعرَف الوحي عامة بأنه إعلم‬
‫بخفاء‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى في الوحي للملئكة‪ِ {:‬إذْ يُوحِي رَ ّبكَ إِلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ‬
‫آمَنُواْ‪[} ...‬النفال‪]12 :‬‬
‫ضعِيهِ‪[} ..‬القصص‪]7 :‬‬
‫ويُوحِي للبشر‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ‬
‫حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتا‪[} ...‬النحل‪]68 :‬‬
‫ويوحى للحيوان{ وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ‬
‫ومن ذلك أيضا يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من شياطين النس أو الجن‪ {:‬وَإِنّ الشّيَاطِينَ‬
‫لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُمْ‪[} ...‬النعام‪]121 :‬‬
‫حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي‬
‫كذلك يوحي ال إلى أهل الخير من أتباع الرسل‪ {:‬وَِإذْ َأوْحَ ْيتُ إِلَى الْ َ‬
‫وَبِرَسُولِي‪[} ...‬المائدة‪]111 :‬‬
‫هذا في المعنى اللغوي للوحي وهو‪ :‬إعلم بخفاء‪ ،‬فإنْ قصدت الوحي الشرعي الصطلحي‪ :‬فهو‬
‫إعلم من ال لرسوله بمنهجه‪ .‬وهذا التعريف يُخرِج كل النواع السابقة‪.‬‬
‫ل وَحْيا َأوْ مِن وَرَآءِ‬
‫والحق سبحانه عبّر عن اليتاء العام بقوله‪َ {:‬ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ‬
‫حيَ بِِإذْنِهِ مَا يَشَآءُ‪[} ..‬الشورى‪]51 :‬‬
‫سلَ رَسُولً فَيُو ِ‬
‫حجَابٍ َأوْ يُ ْر ِ‬
‫ِ‬
‫واليتاء يُقصد به اللهام‪ ،‬ويكون حين تتوفر للنسان آلة استقبال سليمة صالحة لستقبال اللهام‬
‫والخاطر من الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬وآلة الستقبال ل تصلح للستقبال عن ال تعالى إل إذا كانت‬
‫على مواصفات الخالق سبحانه صانعها ومبدعها‪ ،‬كما يلتقط (الراديو أو التليفزيون) الرسال‪ ،‬فإنِ‬
‫انقطع عنك الرسال فاعلم أن جهاز استقبالك به عطب‪ ،‬أما الرسال فموجود ل ينقطع‪ ،‬ول تعالى‬
‫المثل العلى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن ص َفتْ آلة استقباله‪ ،‬وصلحت للتلقي عن ال‪،‬‬
‫وله سبحانه إرسال دائم إلى عباده‪ ،‬ل يلتقطه إل مَ ْ‬
‫وهذه اللة ل تصلح إل إذا كانت على المنهج في افعل ول تفعل‪ ،‬ل تصلح إذا تكونت من الحرام‬
‫وتغ ّذتْ به؛ لن الحرام يفسد كيماوية الفطرة التي خلقها ال في عباده يوم أن أخذ عليهم العهد‪{:‬‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا‪} ..‬‬
‫سهِمْ أَلَ ْ‬
‫شهَ َدهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ‬
‫وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ُ‬
‫[العراف‪]172 :‬‬
‫فهذه الذرية لو ظلتْ على حالها من الصفاء يوم كانت في ظهر آدم ويوم أخذ ال عليها العهد‪ ،‬ولو‬
‫التزمت منهج ربها في (افعل) و (ل تفعل) لكانت أهلً للهام ال؛ لن آلة استقبالها عن ال سليمة‪.‬‬
‫خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َي ّم َولَ َتخَافِي وَلَ‬
‫ضعِيهِ فَإِذَا ِ‬
‫وتأمل في وحي ال إلى أم موسى‪ {:‬أَنْ أَ ْر ِ‬
‫تَحْزَنِي‪[} ..‬القصص‪]7 :‬‬
‫ن تفكر‬
‫فأيّ آلة استقبال هذه التي استقبلتْ هذا المر ونفذته دون أنْ تناقشه‪ ،‬واطمأنتْ إليه قبل أ ْ‬
‫فيه؟ وكيف تقتنع الم أن الموت المحقق يُنجي وليدها من موت مظنون؟‬
‫لذلك نقول‪ :‬إذا صادف اللهام آلة استقبال سليمة فإنه ل يوجد في النفس ما يصادره‪ ،‬ول ما يبحث‬
‫عن دليل‪ ،‬فقامت أم موسى ونفذت المر كما أُلقي إليها‪ ،‬هذا هو اليتاء‪.‬‬
‫حمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَّلمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْما }‬
‫ومنه أيضا قوله تعالى‪َ {:‬فوَجَدَا عَبْدا مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ َر ْ‬
‫[الكهف‪ ]65 :‬والعبد الصالح لم يكن نبيا‪ ،‬ومع ذلك آتاه ال بدون واسطة‪ ،‬فكان هو مُعلّما للنبي‪،‬‬
‫وما ذلك إل لنه عبد ل على منهج موسى‪ ،‬وأخلص ل تعالى فآتاه ال من عنده‪.‬‬
‫جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا‪[} ..‬النفال‪ ]29 :‬وقال‬
‫واقرأ قول ال تعالى‪ {:‬يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ يَ ْ‬
‫سبحانه‪ {:‬وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ هُدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد‪]17 :‬‬
‫إذن‪ :‬كلّ ما علينا لنأخذ إلهامات الحق سبحانه أنْ نحتفظ بصفاء البنية التي خلقها ال لتظل‬
‫بمواصفات خالقها‪ ،‬ثم نسير بها على منهجه تعالى في افعل ول تفعل‪ ،‬وكان سيدنا لقمان من هذا‬
‫النوع الصافي الطاهر النقي‪ ،‬الذي لم يخالط جسمه حرام‪ ،‬والذي ل يغفل عن منهج ربه؛ لذلك آتاه‬
‫ح ْكمَةَ‪[ { ..‬لقمان‪]12 :‬‬
‫ال الحكمة‪ ،‬وقال فيه‪ } :‬وََلقَدْ آتَيْنَا ُل ْقمَانَ ا ْل ِ‬
‫وقد اختلف العلماء فيه‪ :‬أهو نبي أم غير نبي‪ ،‬والغالب أنه غير نبي؛ لن القائلين بنبوته ليس لهم‬
‫س كما‬
‫سند صحيح‪ ،‬والجمهور اجتمعوا على أنه رجل صالح مرهف الحس‪ ،‬دقيق الدراك‪ ،‬والح ّ‬
‫قلنا هو الصل الول في المعلومات‪ ،‬وكان لقمان ل يمر على الشياء إل بهذا الحسّ المرهف‬
‫والدراك الدقيق العميق‪ ،‬فتتكون لديه مُدْركات ومواجيد دقيقة تختمر في نفسه‪ ،‬فتتجمع لديه‬
‫مجموعة من الفضائل والقيم التي تسوس حركة حياته‪ ،‬فيسعد بها في نفسه‪ ،‬بل ويسعد غيره من‬
‫حوله بما يملك من المنطق المناسب والتعبير الحسن‪ ،‬كذلك كان لقمان‪.‬‬

‫وللعلماء أبحاث حول شخصية لقمان وجنسيته‪ ،‬فمنهم مَنْ ذهب إلى أنه كان أسود اللون غليظ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الشفتين كأهل جنوب إفريقيا‪ ،‬لكنه مع ذلك أبيض القلب نقي السريرة‪ ،‬تخرج من بين شفتيه‬
‫حكَم الرقيقة والمعاني الدقيقة‪.‬‬
‫الغليظتين ال ِ‬
‫وصدق رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قالوا‪ " :‬إن ال ل ينظر إلى أجسادكم ول إلى‬
‫صوركم‪ ،‬ولكن ينظر إلى قلوبكم "‪.‬‬
‫لذلك حين ترى مَنْ هو أقل منك في مال‪ ،‬أو صحة‪ ،‬أو جاه‪ ،‬أو منظر فل تغتر بذلك‪ ،‬وانظر‬
‫وتأمل ما تميزّ به عليك؛ لن الخالق سبحانه ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬وزّع فضله بين عباده بالتساوي‪ ،‬بحيث‬
‫يكون مجموع كل إنسان يساوي مجموع الخر‪ ،‬ول تفاضلَ بين المجموعات إل بالتقوى‪ " :‬ل‬
‫فضل لعربي على أعجمي إل بالتقوى والعمل الصالح "‪.‬‬
‫فالذين يحلو لهم أنْ يقسموا المهن مثلً إلى مهن شريفة وأخرى حقيرة نقول‪ :‬ليست هناك مهنة‬
‫حقيرة ما دام المجتمع في حاجة إليها ول تستقيم حركة الحياة إل بها‪ ،‬فكيف تحقرها؟ وكيف تحقر‬
‫ل أو‬
‫أهلها؟ وال لو قعد الوزراء في بيوتهم أسبوعا ما حدث شيء‪ ،‬لكن لو تعطل عمال النظافة مث ً‬
‫الصرف الصحي ليوم واحد لحدثتْ مشكلة‪ ،‬ولصبحت الدنيا (خرارة)‪.‬‬
‫وكيف نحقر هذه المهن ونحقر أصحابها‪ ،‬وهم يرضوْنَ باليسير‪ ،‬ويتحملون ما ل يطيقه غيرهم‪،‬‬
‫كيف نحقرهم‪ ،‬وال تعالى يقول‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ يَسْخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ عَسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا‬
‫مّ ْنهُمْ‪[} ...‬الحجرات‪]11 :‬‬
‫فإن قلت‪ :‬ما دام ليس نبيا‪ ،‬فكيف يؤتيه ال؟ نقول‪ :‬بالمدد واللهام الذي قال ال فيه‪ {:‬إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ‬
‫جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا }[النفال‪ ]29 :‬فمَنْ يحافظ على مواصفات التكوين بمنطق ال يأخذ من ال‬
‫يَ ْ‬
‫مباشرة‪.‬‬
‫كما لو طلب منك ولدك مبلغا من المال يتاجر به في السوق‪ ،‬فتعطيه مبلغا يسيرا تُجرّبه به‪ ،‬فإنْ‬
‫أفلح وربحت تجارته يطمئن قلبك فتزيده أضعاف ما أخذ في المرة الولى‪ ،‬كذلك النسان إن‬
‫أحسن صحبته لربه داوم ال عليه فضله ووالى إليه فيضه‪.‬‬
‫لذلك يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز‪ :‬ما قصر بنا في علم ما نجهل إل عدم عملنا بما علمنا ‪-‬‬
‫يعني‪ :‬لو كنا أهلً للزيادة لزادنا‪ ،‬لو كنا مأمونين على ما علمنا فوظّفناه في حركة حياتنا لجاءتنا‬
‫فيوضات إشراقية وعطاءات من ربنا ممتدة ل تنتهي‪ ،‬أما إنْ أخذنا العلم فألقيناه جانبا ولم نعمل‬
‫به‪ ،‬فما الداعي للزيادة‪ ،‬وأنت لم تستفِدْ بما عندك؟‬
‫وكما تكلم العلماء في شخصية لقمان وجنسيته تكلموا في حكمته‪ ،‬فسأله أحدهم وقد تبسّط معه في‬
‫الحديث‪ :‬ألم تكُنْ عبدا تخدم فلنا؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فَ ِبمَ أوتيت الحكمة؟ قال‪ :‬باحترامي قدر ربي‪،‬‬
‫وأدائي المانة فيما وليت من عَمل‪ ،‬وصدق الحديث‪ ،‬وعدم تعرّضي لما ل يعنيني‪.‬‬

‫وهذه الصفات كافية لنْ تكون منهجا لكل مؤمن‪ ،‬ولنْ ينطق صاحبها بالحكمة‪ ،‬وال لو كانت فيه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صفة الصدق في الحديث لكانت كافية‪.‬‬
‫لذلك وصل لقمان إلى هذه المرتبة وهو العبد السود‪ ،‬فآتاه ال الحكمة مباشرة‪ ،‬وهو ليس نبيا ول‬
‫سمّيت إحدى سور القرآن باسمه‪ ،‬وهذا يدلك على أن النسان إذا اعتدل مع ال وأخلص‬
‫رسولً‪ ،‬و ُ‬
‫في طاعته فإن ال يعطيه من فيضه الواسع‪ ،‬فيكون له ِذكْر في مصافّ الرسل والنبياء‪.‬‬
‫ويُ ْروَى من حكمة لقمان أن سيده أمره أن يذبح له شاة ثم يأتيه بأطيب ُمضْغتين فيها‪ ،‬فذبح الشاة‬
‫وجاءه بالقلب واللسان‪ ،‬وفي اليوم التالي قال له‪ :‬اذبح لي شاة وأتني بأخبث مُضغتين فيها‪ ،‬فجاءه‬
‫ت بهما بالمس على أنهما أطيب مضغتين في الشاة؟ قال‪ :‬بلى‬
‫أيضا بالقلب واللسان فسأله‪ :‬ألم تَ ْأ ِ‬
‫فليس شيء أطيب منهما إذا طَابَا‪ ،‬ول شيء أخبث منهما إذا خَبُثَا‪.‬‬
‫وبعد لقمان جاء سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يُعلّمنا هذا الدرس فيقول‪ ..." :‬أل أن في‬
‫الجسد مضغة إذا صَلُحت صلح الجسد كله‪ ،‬وإذا فسدتْ فسد الجسد كله‪ ،‬أل وهي القلب "‪.‬‬
‫ويقول صلى ال عليه وسلم في حديث آخر‪ " :‬من حفظ ما بين لحييه وما بين ِرجْليه دخل الجنة "‪.‬‬

‫ويُروى أن لقمان كان يفتي الناس‪ ،‬وكانوا يثقون بكلمه‪ ،‬وكان ذلك قبل داود عليه السلم‪ ،‬فلما‬
‫ف لقمان عن الفُتْيا‪ ،‬فلما سألوه‪ :‬لماذا امتنعتَ عن الفُتْيا؟ فقال ‪ -‬وهذه أيضا من‬
‫جاء داود ك ّ‬
‫ل أكتفي إذا كُفيت؟‬
‫حكمته‪ :‬أ َ‬
‫يعني‪ :‬لماذا أتمسّك بها وقد بعث ال لي مَنْ حملها عني‪ ،‬وهو يعلم تماما أنه مجرد عبد صالح‬
‫(أي‪ :‬أنه أخذ الحكمة من منازلهم كما يقال)‪ ،‬أما داود فرسول من عند ال‪ ،‬ومن الحكمة أنْ يُفسِح‬
‫له هذا المجال‪ ،‬ويترك له ساحة الفُتْيا في القوم لعله يأتي بأفضلَ مما عند لقمان؛ لذلك تركها له‬
‫عن رضا وطيب خاطر‪.‬‬
‫والبعض يقول‪ :‬إن ال خيّره بين أن يكون نبيا أو حكيما‪ ،‬فقال‪ :‬أما وقد خيّرتني يا رب‪ ،‬فأنا أختار‬
‫الراحة ـ وأترك البتلء‪ ،‬أما إنْ أردْتها يا رب عزمة فأنا سأقبلها سمعا وطاعة؛ لني أعلم أنك‬
‫لن تخذلني‪.‬‬
‫والحق سبحانه يُنطق لقمان بأشياء من الحكمة يسبق بها النبوة؛ ليبين لنا أن النسان من الممكن أن‬
‫ن فيكون "‪.‬‬
‫يكون ربانيا‪ ،‬كما جاء في الحديث القدسي‪ " :‬عبدي‪ ،‬أطعني تكُنْ ربانيا‪ ،‬تقول للشيء كُ ْ‬

‫ذلك لن فضل ال ليس له حدود‪ ،‬وليس عليه حرج‪ ،‬وبابه تعالى مفتوح‪ ،‬المهم أن تكون أهلً لنْ‬
‫ن تكون في معية ربك دائما‪.‬‬
‫تلِجَ هذا الباب‪ ،‬وأ ْ‬

‫سفْرة‪ ،‬ثم عاد فلقيه تابعه‪ ،‬فقال له‪ :‬مَا حال أبي؟ فقال‪:‬‬
‫ومما يُ ْروَى من حكمة لقمان أنه غاب في َ‬
‫مات‪ ،‬فقال لقمان‪ :‬الن مل ْكتُ أمري‪ ،‬ثم سأل‪ :‬فما حال زوجتي؟ فقال‪ :‬ماتت‪ ،‬فقال‪ :‬جدّدتُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فراشي‪ ،‬ثم سأل عن أخته‪ ،‬فقال‪ :‬ماتت‪ ،‬فقال‪ :‬ستَر ال عِرْضي‪ ،‬ثم سأل عن أخيه‪ ،‬فقال‪ :‬مات‪،‬‬
‫فقال‪ :‬انقصم ظهري‪.‬‬
‫وهذا الكلم ل يصدر إل عن حكمة‪ ،‬فكثيرا ما يفرح البن ‪ -‬خاصة العاق ‪ -‬بموت أبيه؛ لنه‬
‫سيترك له المال يتمتع به‪ ،‬أما لقمان فيقول عندما علم بموت أبيه‪ :‬الن مل ْكتَ أمري؛ لنه في حياة‬
‫أبيه كان له أمر‪ ،‬لكن أمره ليس في يده إنما في يد أبيه‪ ،‬فلما مات أبوه صار أمره بيده‪.‬‬
‫وهذه الحكمة توضح لنا قول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أنت وما ملكت يداك لبيك " كأنه من‬
‫العيب أن تقول في حياة أبيك‪ :‬أنا أملك كذا وكذا‪ .‬أما الن فقد تجاوز البناء كل هذه القيم‪ ،‬ونسمع‬
‫البن يقول لبيه‪ :‬اكتب لي كذا وكذا‪.‬‬
‫أما قوله‪ " :‬جددت فراشي " فهي كلمة لها معنى كبير‪ :‬أنا ل أُدخِل الجديدة على فراش القديمة‬
‫حتى ل أجرح مشاعرها‪ ،‬أو أنني ل أتزوج إل بعد وفاة زوجتي الولى؛ ذلك لن الغيرة طبع في‬
‫النساء‪.‬‬
‫وكانت أم المؤمنين عائشة تغار حتى من ذكر السيدة خديجة‪ ،‬فقد " دخلت فاطمة بنت محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم على أبيها ُمغْضبة فقال صلى ال عليهم وسلم‪ " :‬ما أغضبك يا أم أبيها " فقالت‪:‬‬
‫وال إن عائشة قالت لي‪ :‬إن رسول ال تزوج أمك ثيبا‪ ،‬ولم يتزوج ِبكْرا غيري‪ ،‬فقال لها رسول‬
‫ال‪ " :‬إذا أعادت عليك هذا القول ‪ -‬وانظر هنا إلى أدب النبوة في الردّ وفي سرعة الخاطر ‪-‬‬
‫فقولي لها‪ :‬ولكن أمي تزوجتْ رسول ال وهو بكر‪ ،‬وتزوجيته أنت وهو ثيّب " هذا كلم النبوة‪،‬‬
‫ومن بعدها لم ُتعِدْها عائشة مرة أخرى‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬وكيف تغار عائشة‪ ،‬وهي أم المؤمنين وزوج رسول ال؟ قالوا‪ :‬هذه الغيرة لها‬
‫معنى‪ ،‬فقد عقد رسول ال عليها وهي بنت السادسة‪ ،‬ودخل بها وهي بنت التاسعة‪ ،‬وقد جاوز‬
‫صلى ال عليه وسلم الخمسين من عمره‪ ،‬ومع فارق السن بينهما رضيتْ عائشة برسول ال؛ لنها‬
‫صغَر سنها‪ ،‬فلم تنظر إليه على أنه‬
‫رأتْ فيه من مزايا نوره ما جعلها َتغَار عليه رغم كِبَر سنّه و ِ‬
‫رجل عجوز يكبرها‪ ،‬بل رَأتْ فيه ما يفوق ويعلو على مجرد الشباب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمعنى‪ " :‬جددت فراشي " أنني أراعي مشاعر الزوجة الجديدة‪ ،‬فل ُأدِخلها على فراش‬
‫القديمة فأصدمها به‪ ،‬وأُلِهب مشاعر الغيرة عندها‪ ،‬حتى من التي ماتت‪ ،‬وأنا أريد أن تكون صافية‬
‫التكوين لذاتي‪ ،‬راضية عن كل تصرفاتي‪ ،‬أريد أن أمنع كل شبهة تقلق كونها سكنا لي‪ ،‬وأنا سَكن‬
‫لها‪.‬‬

‫ح ْكمَةَ‪[ { ...‬لقمان‪ ]12 :‬فالذي آتى هو ال عز وجل‪،‬‬


‫نعود إلى قوله تعالى‪ } :‬وََلقَدْ آتَيْنَا ُلقْمَانَ ا ْل ِ‬
‫والحكمة‪ :‬مادة حكَم تدل على َوضْع الشيء في موضعه‪ ،‬ومنها الحاكم؛ لنه يضع الحق في‬
‫حكَمه)؛ لن‬
‫نصابه‪ ،‬حتى في الدواب نسمي الحديدة التي توضع في فم الفرس لتحكم في حركته ( َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الهدف من ركوب الخيل مختلف‪ ،‬فمرة أركبه للنزهة‪ ،‬ومرة أركبه لدرك به صَيْدا‪ ،‬ومرة للكّر‬
‫وللفرّ في المعركة‪ ،‬ف ُكلّ هدف من هذه له حركة‪ ،‬وينبغي أنْ أتحكم في حصاني ليؤدي لي ما‬
‫أريده منه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحكمة تعني في معناها العام َوضَع الشيء في موضعه‪ ،‬وهي مجموعة من مَلَكات الفضائل‬
‫تصدر عنها الشياء التي تضع كل أمر في محله لكن بيُسْر وبل مشقة ول تعب‪ ،‬كالشيخ الذي ظل‬
‫يدرس في الزهر مثلً عشرين أو ثلثين سنة تذهب إليه‪ ،‬وتستفتيه في أمر من المور‪ ،‬فيجيبك‬
‫بيُسْر وسهولة‪ ،‬وبدون تفكير أو إعداد‪ ،‬لماذا؟ لن الفُتْيا أصبحت مَلكَه عنده ل تحتاج منه إلى‬
‫مجهود ول مشقة‪.‬‬
‫ومن الحكمة أنْ يخلق ال لك أشياءً‪ ،‬ويهديك لنْ تستنبط منها أشياءً أخرى‪.‬‬
‫وساعة تسمع من ال تعالى‪ } :‬وََلقَدْ‪[ { ..‬لقمان‪ ]12 :‬فاعلم أن هنا قَسَما فالواو واو القسم‪ ،‬والمقسَم‬
‫عليه مُؤكّد باللم ومُؤكّد بقد التي تفيد التحقيق‪.‬‬
‫قوله سبحانه‪ } :‬آتَيْنَا‪[ { ..‬لقمان‪ ]12 :‬الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬في إتيانه للشياء يعني تعدّي ما‬
‫قدره لمن قدره من خير ظاهر ومن خير مستور‪ .‬وقبل أنْ يخلق ال النسان خلق له‪ ،‬فجاء‬
‫النسان الول (آدم عليه السلم) وطرأ على كون فيه كل مُقوّمات حياته من هواء وماء وأرض‬
‫وسماء وطعام وشراب‪..‬الخ‪.‬‬
‫خلَ للمنتفع به فيه‪ ،‬وهذا أول اليتاء‪ ،‬بل قبل ذلك‪ ،‬وفي الزل‬
‫وكل ذلك مُسخّر له تسخيرا ل َد ْ‬
‫قبل أن يخلق النسان خلق له مُقوّمات مادته ومُقوّمات قيمه وروحه ‪ -‬أي‪ :‬أوجدها‪.‬‬
‫لننا نعلم أن كل صانع قبل أن يُقدِم على صَنْعة ل ُبدّ أن يُحدّد الغاية‪ ،‬ويضع الهدف منها أولً‪ ،‬ل‬
‫أنْ يصنع الشيء ثم ينظر فيه‪ :‬ليّ شيء يصلح هذا الشيء‪ ،‬كذلك ل بُدّ أنْ يسبق الصنعةَ منهجُ‬
‫صيانتها‪.‬‬
‫فالحق سبحانه قبل أنْ يخلق النسان وضع له مُقوّماته المادية والمعنوية‪ ،‬والمنهج الذي يُصلِحه‬
‫حمَـانُ *‬
‫وحدّد الهدف من وجوده؛ لذلك يُنبّهنا الحق سبحانه إلى هذه المسألة في قوله تعالى‪ {:‬الرّ ْ‬
‫ق الِنسَانَ }[الرحمن‪ ]3-1 :‬فقبل أنْ يخلق ال النسانَ وضع المنهج الذي به‬
‫عَلّمَ ا ْلقُرْآنَ * خََل َ‬
‫صيانته‪ ،‬وهو القرآن الكريم‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فمعنى اليتاء أنْ يعدي ال ما قدره من خير ظاهر أو خير مستور لمن قدره‪ ،‬والخير يكون‬
‫على نوعين‪ :‬خير يقيم المادة‪ ،‬وخير يقيم القيم الروحية‪ ،‬المادة تقوم بالهواء وبالطعام‬
‫وبالشراب‪..‬الخ‪ ،‬والقيم تقوم بالوحي وبالمنهج الذي حمله الرسل بافعل ول تفعل‪.‬‬
‫ح ْكمَةَ‪..‬‬
‫ص لقمان بالذات‪ ،‬فقال } وَلَقَدْ آتَيْنَا ُل ْقمَانَ الْ ِ‬
‫خ ّ‬
‫وال تعالى آتى كثيرا من خلقه‪ ،‬فلماذا َ‬
‫{ [لقمان‪]12 :‬؟ قالوا‪ :‬لن ال تعالى حين يأمر الرسل بأمر ليُبلّغوه ُيعِد الرسل لهذا المر‪ ،‬وكأن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن يقول لنا‪ ،‬إن الفَطرة السليمة تهتدي إلى ال‪ ،‬وإلى المطلوب من ال بدون‬
‫الحق سبحانه يريد أ ْ‬
‫وحي‪ ،‬وبدون إعداد‪.‬‬
‫ومن ذلك ما ُروِي عن سيدنا عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬من أنه كان يُحدّث سيدنا رسول ال‬
‫بالمر‪ ،‬ويقترح عليه فيأتي الوحي موافقا لرأيه‪ ،‬فكيف يتسنى لعمر أن يقترح على رسول ال وفي‬
‫وجوده‪ ،‬وهو المشرع الثاني بعد القرآن؟‬
‫نقول‪ :‬لن ال تعالى يريد أنْ يثبت لنا أن الفطرة السليمة إذا صَفتْ ل تستطيع أنْ تهتدي إلى‬
‫الشياء‪ ،‬وتصل إلى الحق قبل أنْ ينزل الوحي به‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاليتاء من ال ل يأتي عبثا‪ ،‬فاليتاء الول كان لدم عليه السلم‪ ،‬وآدم شاء ال أنْ يجعله‬
‫خليفة له في الرض‪ ،‬ول يعني هذا أنه أول المخلوقات في الرض‪ ،‬والحق سبحانه لم َي ُقلْ إنني‬
‫سمُومِ }[الحجر‪:‬‬
‫أول ما خلقتُ خلقتُ آدم‪ ،‬وبدليل قوله تعالى‪ {:‬وَالْجَآنّ خََلقْنَاهُ مِن قَ ْبلُ مِن نّارِ ال ّ‬
‫‪.]27‬‬
‫جدِيدٍ * َومَا ذاِلكَ‬
‫ومسألة الخلْق هذه هيّنة على ال‪ ،‬بدليل قوله تعالى‪ {:‬إِن يَشَأْ ُيذْهِ ْبكُ ْم وَيَ ْأتِ بِخَ ْلقٍ َ‬
‫عَلَى اللّهِ ِبعَزِيزٍ }[إبراهيم‪ ]20-19 :‬فالمسألة ليست نادرة حدثت مرة واحدة‪ ،‬ولن تحدث بعد ذلك‪.‬‬
‫وللعلماء كلم طويل في عوالم أخرى غير عالمنا كعالم الحن‪ ،‬وعالم البنّ‪ ،‬وعالم الجن وغيرها‬
‫مما ل يعمله إل ال‪ ،‬لكن إنْ حدّثك المضللون الذين يريدون أنْ يستدركوا على الدين ويقولون‪ :‬إن‬
‫الحفريات أثبتت وجود مخلوقات قبل آدم‪ ،‬فكيف تقولون‪ :‬إن آدم أول مخلوق؟‬
‫ونقول لهؤلء‪ :‬لم يقُلْ أحد‪ :‬إن آدم أول مخلوق على الرض‪ ،‬إنما هو أول هذا الجنس البشري‬
‫الذي نسميه " إنسان " لكن سبقته أجناس أخرى‪ ،‬وشاء ال أنْ يجعل آدم خليفة في الرض‪ ،‬ثم‬
‫علٌ فِي الَ ْرضِ خَلِيفَةً‪[} ..‬البقرة‪]30 :‬‬
‫أخبر الملئكة{ إِنّي جَا ِ‬
‫وال حين يخبر الملئكة هذا الخبر ل يستشيرهم‪ ،‬إنما ليبين لهم أمرا واقعا‪ ،‬وخصّ الملئكة بهذا‬
‫علٌ فِي‬
‫الخبار؛ لنه سيكون لهم دور مع هذا الخليفة الجديد‪ .‬إذن‪ :‬فالذين قال ال لهم‪ {:‬إِنّي جَا ِ‬
‫الَ ْرضِ خَلِيفَةً‪[} ..‬البقرة‪ ]30 :‬ليسوا كل الملئكة‪ ،‬إنما الذين لهم دور ومهمة مع هذا المخلوق‪ ،‬أما‬
‫باقي الملئكة فل يدرون بآدم‪ ،‬ول يعرفون عنه شيئا‪ ،‬وليس في بالهم إل ال‪.‬‬

‫والقرآن الكريم يشير لنا إلى هذه المسألة إشارةً دقيقة في قوله تعالى مخاطبا إبليس لما رفض‬
‫السجود لدم‪ {:‬أَسْ َتكْبَ ْرتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص‪ ]75 :‬والعالون هم الملئكة الذين لم يشملهم‬
‫المر بالسجود‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن ال تعالى كرّم آدم حين خلقه تعالى‪ ،‬وباشر خَلْقه بيده سبحانه‪ ،‬ولم يخلقه كباقي‬
‫سجُدَ ِلمَا خََل ْقتُ‬
‫المخلوقات (بكُنْ)؛ لذلك جاء في حيثية النقد على إبليس‪ {:‬قَالَ ياإِ ْبلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَن تَ ْ‬
‫بِيَ َديّ‪[} ..‬ص‪]75 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬مباشرة الخَلْق باليد دليل على العناية بالمخلوق؛ لن اليد هي اللة الفاعلة لكثر الشياء‪،‬‬
‫وحتى الن نفخر بعمل اليد فنقول (هذا الشيء يدويّ) يعني‪ :‬لم تصنعه آلة صماء‪ ،‬إنما يد مفكر‬
‫يتقن الصنعة‪.‬‬
‫وفي مسألة خَلْق آدم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬يحلو للبعض أن يقول‪ :‬هو الذي أخرجنا من الجنة‪ ،‬فهل‬
‫قال ال تعالى قبل أن يصدر أول بيان عن آدم أنني خلقُته للجنة‪ ،‬ثم عصى آدم ربه وتسبب في أنْ‬
‫نخرج منها؟‬
‫علٌ فِي الَ ْرضِ خَلِيفَةً‪[} ..‬البقرة‪ ]30 :‬فهو ‪ -‬إذن ‪ -‬مخلوق‬
‫لم ي ُقلْ ذلك‪ ،‬إنما قال‪ {:‬إِنّي جَا ِ‬
‫للرض‪ ،‬وما الجنة التي دخلها إل جنة التجربة ل جنة الخلد‪ ،‬والبعض يظن أن كلمة الجنة إذا‬
‫أُطل َقتْ تعني جنة الخرة‪ ،‬وهذا خطأ بدليل قول ال تعالى‪ {:‬إِنّا بََلوْنَا ُهمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ الْجَنّةِ إِذْ‬
‫سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْ ِبحِينَ }[القلم‪]17 :‬‬
‫َأقْ َ‬
‫جعَلْنَا لَحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ‪[} ..‬الكهف‪]32 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلً رّجُلَيْنِ َ‬
‫فالجنة في اللغة هي المكان المليء بالشجار الكثيفة التي تستر مَنْ يسير فيها‪ ،‬كما تستره أيضا‬
‫عن البيئة الخارجية؛ لنها تكفيه بما فيها عن الحتياج إلى غيرها‪ ،‬فبها كل مُقوّمات الحياة‪ ،‬ومن‬
‫ذلك الجنة التي دخلها آدم؛ لن ال تعالى أراد أنْ يصنع لدم تدريبا على مهمة الخلفة‪ ،‬ولم ل‬
‫ن يقوم بها‪ ،‬حتى لعب الكرة‪.‬‬
‫ونحن نُدرّب كل صاحب مهمة على مهمته قبل أ ْ‬
‫وحين نأخذ المتدرب لندربه على أداء مهمته ل بُدّ أن نوفر له كل مُقوّمات حياته‪ ،‬ونتكفل له بكل‬
‫ما يعينه على أداء مهمته‪ ،‬فنقدم له إقامة كاملة من طعام وشراب ومسكن‪..‬إلخ وكذلك فعل ال‬
‫جكَ الْجَنّ َة َوكُلَ مِ ْنهَا رَغَدا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَلَ َتقْرَبَا هَـا ِذهِ‬
‫ت وَ َزوْ ُ‬
‫سكُنْ أَ ْن َ‬
‫تعالى لدم فقال له{ يَآءَادَمُ ا ْ‬
‫الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ الْظّاِلمِينَ }[البقرة‪]35 :‬‬
‫وحين نقارن بين ما أباحه ال لدم وما حظره عليه نجد أنه تعالى أباح له ُكلّ ما في الجنة ولم‬
‫يحرم عليه إل هذه الشجرة التي أوضحها وبيّنها له‪ .‬كما نلحظ قوله تعالى‪ {:‬لَ َتقْرَبَا‪[} ..‬البقرة‪:‬‬
‫‪ ]35‬ولم ي ُقلْ‪ :‬ل تأكل؛ لن القرب من الشيء قد يُغرِي بمزاولته‪ ،‬فاحتطْ أنت لنفسك بعدم القرب‬
‫منه‪.‬‬
‫وهذا التدريب لدم فيه إشارة رمزية لكل تكليف من ال لخَلْقه في (افعل) و (ل تفعل)‪.‬‬
‫ثم يذكّر الحق سبحانه آدم بالمقدمة العدائية التي حدثتْ بينه وبين إبليس‪ ،‬وينصحه بأنْ يحذر هذا‬
‫العدو؛ لنه أبى أنْ يسجد له لما أمره ال بالسجود استكبارا وعُتوا‪.‬‬

‫وال حين يأمر بالسجود لدم إنما يريد السجود للمر والنصياع له‪ ،‬ل السجود لدم في ذاته؛‬
‫لذلك نجد المر من ال تعالى يختلف باختلف المأمورين‪ ،‬فمرة ينهي عن شيء ويأمر بمثله ليرى‬
‫مدى انضباطك للمر وللنهي‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ففي الحج مثلً‪ ،‬يأمرك أنْ تُقبّل حجرا‪ ،‬وأنْ ترمي حجرا آخر وترجمه‪ ،‬وهذا حجر وذاك حجر‪،‬‬
‫إذن‪ :‬فالحجرية غير منظورة‪ ،‬لكن المنظور فيه إلى المر أو النهي‪.‬‬
‫وبصرف النظر عن المصلحة أو الحكمة من المر أو النهي‪ ،‬فمثلً حينما يتعذر الماء يشرع التيمم‬
‫ن يقول‪ :‬الوضوء للنظافة‪ ،‬فما النظافة في التيمم‪ ،‬وهو يُلوّث الجسم؟‬
‫ل من الوضوء‪ ،‬فيأتي مَ ْ‬
‫بد ً‬
‫ونقول‪ :‬فَرْق بين النظافة والتطهير‪ ،‬والمراد من التيمم التطهير بشيء هو أصل في مادتك‬
‫وتكوينك‪ ،‬فالمسألة انضباط في طاعة المر بأن تفعل شيئا تجعله مقدمة لصلتك‪ ،‬كأنك ل تُقبل‬
‫على الصلة إل بتهيئة‪ ،‬وأيضا لن الصلة بها قِوامَ روحك وحياتك‪ ،‬وحياتك في الصل ومادتك‬
‫من الماء الذي تستخدمه في الوضوء والتراب الذي تستخدمه التيمم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لهاتين المادتين رمزية يجب أن تُلحظ في الدخول على ال في الصلة‪ ،‬ول يليق بالمؤمن أنْ‬
‫يُفلسف أمور العبادات ويبحث عن عِلّتها والحكمة أو المصلحة من أدائها‪ ،‬إنما يكفي أن يقول‪ :‬عِلّة‬
‫ن يفعل‪ ،‬وعلة هذا الحكم أن ال أمر به ألّ يُفعل‪.‬‬
‫هذا المر أن ال أمر به أ ْ‬
‫ف أوْلَى‬
‫خ ّ‬
‫لذلك ورد عن المام علي رضي ال عنه أنه قال‪ :‬لو كانت المسألة بالعقل لكان أسفل ال ُ‬
‫بالمسح من أعله‪ ،‬إذن‪ :‬المسألة طاعة والتزام للمر وللنهي؛ لذلك من غير المناسب أن نقول‪ :‬إن‬
‫من حكمة الصوم‪ :‬أنْ يَشعر الغني بألم الجوع‪ ،‬فيعطف على الفقير؛ لنني سأقول لك إذن‪ :‬لماذا‬
‫يصوم الفقير؟‬
‫ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلً وما زْلنا نكرره‪ .‬قلنا‪ :‬إن أعز شيء على المرء صحته‪ ،‬فإنْ‬
‫أصابته علة‪ ،‬فأول ما يُعمِل عقله يبحث عن الطبيب المتخصص في مرضه فيذهب إليه‪ ،‬ثم يسلم‬
‫له نفسه ليفحصه‪ ،‬ثم يكتب له الدواء فيأخذه ويتناوله دون أنْ يسأل عن عِلّته‪ ،‬أو لماذا وصفه‬
‫الطبيب‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن الطبيب مؤتمن بعد أنْ تعلّم ودرس وتخصّص‪ ،‬فأنت ل تسأله ول تناقشه‪ :‬لماذا كتب لك هذا‬
‫الدواء‪ ،‬وهو مع ذلك إنسان وعُرْضة للخطأ وللسهو وللنسيان‪ ،‬ومع ذلك ل يناقش‪ .‬إذن‪ :‬علة تناول‬
‫الدواء أن الطبيب وصفه لي‪ ،‬وعلة كل أمر عند المر به‪.‬‬
‫والمر في العبادات هو الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فل يليق بالمؤمن بعد أن آمن بال وبحكمته‬
‫وقدرته أنْ يبحث ليعلم الحكمة من كل أمر يأتيه من ربه عز وجل‪.‬‬

‫نعود إلى آدم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬وأن الجنة التي دخلها كانت للتدريب والتجربة ولم تكُنْ جنة الخلد‪،‬‬
‫تدرّب فيها آدم على‪ :‬كل (افعل) وعلى‪ :‬ل تقرب (ل تفعل) واحذر الشيطان فإنه عدو لك‪ ،‬وسوف‬
‫ن يكونَ عاصيا وحده‪ ،‬يريد أنْ يجرّك معه إلى حمأة‬
‫يوسوس لك‪ ،‬ويغويك؛ لنه ل يريد أ ْ‬
‫المعصية‪.‬‬
‫وظل آدم وزوجته يأكلن كما قال تعالى من الجنة رغدا حيث شاءا‪ ،‬دون أنْ يقربا هذه الشجرة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التي بيّنها ال لهما إلى أنْ وسوس لهما الشيطان وأغراهما بالكل منها‪ ،‬مع أن ال تعالى حذّرهما‪،‬‬
‫وأعطاهما حقنة مناعة ضد الشيطان ووسوسته‪ ،‬ومع ذلك حدثتْ من آدم الغفلة‪.‬‬
‫وهذه الغفلة ال يُنبّه بها ذرية آدم من بعده‪ :‬أن الشيطان لن يدعكم‪ ،‬وسوف يدخل عليكم بألعيبه‬
‫وحيله‪ ،‬كما دخل على أبيكم آدم‪ ،‬فكونوا منه على حذر‪ ،‬وابحثوا بعقولكم ما يلقيه إليكم من‬
‫وساوس بال‪.‬‬
‫ماذا قال إبليس لدم حين أغواه بالكل من الشجرة؟ قال‪ {:‬مَا َنهَا ُكمَا رَ ّب ُكمَا عَنْ هَـا ِذهِ الشّجَ َرةِ ِإلّ‬
‫أَن َتكُونَا مََلكَيْنِ َأوْ َتكُونَا مِنَ ا ْلخَالِدِينَ }[العراف‪]20 :‬‬
‫أليس من المنطق أن نقول‪ :‬ولماذا لم تأكل أنت منها يا إبليس فتصير مَلَكا‪ ،‬وتصير من الخالدين‪،‬‬
‫ول تتمحك فتقول‪ {:‬فَأَنظِرْنِي إِلَىا َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }[الحجر‪ ]36 :‬إذن‪ :‬كان على آدم أنْ ينتبه إلى‬
‫مكايد الشيطان وألعيبه‪.‬‬
‫ثم يُنبّهنا ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬من خلل هذه القصة إلى أن الشيطان سيأتينا في مقام الطاعة‪ ،‬فلو‬
‫أن آدم وزوجه ذهبا إلى هذه ذهبا إلى هذه الشجرة وأكل منها ما وسوس لهما‪ ،‬فهذا دليل على‬
‫أنهما احتاطا للمر‪ ،‬فلم يقربا من الشجرة تنفيذا لمر ال؛ لذلك تدخّل الشيطان‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نقول إن الشيطان ل يتدخل إلّ في مجال الطاعة‪ ،‬أما المعصية فصاحبها كفاه مؤنة‬
‫الوسوسة‪ ،‬الشيطان يذهب إلى المسجد ل يذهب إلى الخمارة؛ لن الذي يذهب إلى الخمارة صار‬
‫شيطانا في ذاته‪ ،‬فما حاجته لبليس؟‬
‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف‪ ]16 :‬أي‪ :‬في‬
‫ل ْقعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ‬
‫لذلك يقول تعالى حكاية عن إبليس‪َ {:‬‬
‫مواضع الخير وطرق الصلح والهداية لبطل أعمالهم‪ ،‬وأفسد عليهم أمرهم‪ ،‬ونحن نلحظ ذلك في‬
‫صلتنا مثلً‪ ،‬فقد تنسى شيئا‪ ،‬وتحاول أن تتذكره فل تستطيع‪ ،‬وفجأة وأنت تصلى تتذكره‪.‬‬
‫فلو أننا أخذنا (الروشتة) من خالقنا عز وجل وبمجرد أنْ ينزغنا الشيطان نقول‪ :‬أعوذ بال من‬
‫الشيطان الرجيم لتنبّه الشيطان‪ ،‬وعلم أننا لسنا في غفلة‪ ،‬وأننا نكشف ألعيبه‪ ،‬ونعرف حيله‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ }‬
‫وصدق ال العظيم حين قال‪ {:‬وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ‬
‫[العراف‪]200 :‬‬
‫وقد وصف ال الشيطان بأنه خنّاس‪ ،‬يعني‪ :‬إذا ُذكِر ال خنس وتضاءل‪ ،‬فإنْ جاءك هذا الخاطر‬
‫ن كنتَ تقرأ القرآن ‪ُ -‬قلْ بجرأة وقوة‪ :‬أعوذ بال من الشيطان الرجيم؛ ليعلم‬
‫الشيطاني ‪ -‬حتى وإ ْ‬
‫أن ألعيبه ل تخفي عليك فينصرف عنك‪ ،‬أما أن تخضع له فإنه يعطيك فقط طرف الخيط‪ ،‬ويفتح‬
‫لك بابا يشغلك به‪ ،‬ثم يتركك أنت (تكُرّ) هذا الخيط من نفسك‪ ،‬ويذهب هو (يستغفل) واحدا غيرك‪.‬‬

‫والشيطان رغم عِلْمه‪ ،‬إل أن فيه تغفيلً بدليل أنه أعلن عن خطته‪ ،‬وأظهر لنا مكايده قبل أنْ يكيدنا‬
‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف‪ ]16 :‬وقال{ لتِيَ ّنهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ َومِنْ‬
‫ل ْقعُدَنّ َلهُمْ صِرَا َ‬
‫بها‪ ،‬فقال‪َ {:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شمَآئِِلهِمْ‪[} ..‬العراف‪ ،]17 :‬فالذي يدبر المكايد ويتآمر على غيره ل‬
‫خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ أَ ْيمَا ِنهِ ْم وَعَن َ‬
‫يعلن عن مكايده مُقدما‪ ،‬ونحن أيضا كان علينا أنْ نحذر هذه المكايد خاصة‪ ،‬وقد أعلن عدونا‬
‫عنها‪.‬‬
‫ولك أنْ تلحظ في خطة إبليس أنه يأتيك من جهاتك الربع‪ ،‬ومعلوم أن الجهات ست‪ ،‬فلماذا لم يذكر‬
‫فوقنا وتحتنا؟ قالوا‪ :‬لن هاتين الجهتين محلّ نظر إلى ال عز وجل‪ ،‬فالعبد ينظر إلى عِزّ الربوبية‬
‫في عليائه و ُذلّ العبودية إذا اتجه في سجوده إلى أسفل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فأنت في معية ربك في هاتين الجهتين‪ ،‬والشيطان ل ينال منك إل وأنت بعيد عن معية ربك‪.‬‬
‫ومثّلْنا لذلك‪ ،‬ول المثل العلى؛ قلنا‪ :‬إن الغلم إذا كان يسير في يد أبيه وفي صحبته‪ ،‬ل يجرؤ‬
‫أحد من أمثاله على العتداء عليه‪ ،‬إنما إنْ سار وحده فهو عُرْضة لليذاء‪.‬‬
‫ج َمعِينَ * ِإلّ‬
‫غوِيَنّهُمْ أَ ْ‬
‫وهذا دليل على علم إبليس وعلى ذكائه‪ ،‬ونلحظ هذا أيضا في قوله‪ {:‬لُ ْ‬
‫عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص‪ ]83-82 :‬كأنه يقول لربه‪ :‬أنا ل أقترب من عبادك الذين هم في‬
‫حضانتك‪ ،‬وفي معيتك‪.‬‬
‫والتغفيل الكبر في إبليس أنه مع علمه بمقام ربه يتمرد على أمره‪ ،‬حين يأمره بالسجود فل‬
‫يسجد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نبّه ال تعالى آدم وحذره من كيْد إبليس‪ ،‬وكان عليه أنْ يحذر وألّ تدخل عليه حيلة الكل من‬
‫الشجرة إل أنه في غفلة منه عن أمر ربه أكل من الشجرة‪ ،‬فلما خالف المر اختلفتْ طبيعته‪،‬‬
‫سوْءة‪ ،‬وكانت المرة الولى التي يشعر فيها آدم بعورته عند خروج الغائط‪.‬‬
‫وب َدتْ له ولزوجه ال ّ‬
‫لكن‪ ،‬ما الفرق بين فتحة دخول الطعام (الفم) وفتحة خروجه؟ ولماذا أصبحت هذه عورة‪ ،‬وهذه‬
‫غير عورة؟‬
‫قالوا‪ :‬لن آدم حال طاعته لمر ربه في الكل من ثمار الجنة كان يأكل بطهي ربه‪ ،‬وهو طهي‬
‫بحكمة وبقدر معلوم‪ ،‬يكفي مقومات الحياة ول يزيد عنها‪ ،‬لذلك لم يَبْق في بطن آدم فضلت‪ ،‬ولم‬
‫توجد عنده غازات أو أرياح‪ ،‬فلم يشعر في هذه الحالة بحاجة إلى التغوط‪ ،‬فكانت الفتحتان‬
‫متساويتين‪ ،‬هذه فتحة‪ ،‬وهذه فتحة‪.‬‬
‫فلما خالف آدم ربه وذاق الشجرة اختلفتْ الغذية في بطنه‪ ،‬وحدث لها تفاعلت‪ ،‬ونتج عنها‬
‫فضلت وأرياح‪ ،‬ولما أحسّ بها آدم نفر منها وأصابه الخجل‪ ،‬وشعر أنها عورة ينبغي أنْ تُستر‪،‬‬
‫فالطبع السليم ل بُدّ أنْ ينفر منها؛ لذلك أخذ يزيل هذا الذى عن نفسه‪ ،‬ويستره بأوراق الشجر‪،‬‬
‫ومنذ ذلك الحين لم يستطع آدم أن يسدّ هذه الفتحة‪ ،‬ولن تُسدّ‪.‬‬

‫إذن‪ :‬الحق سبحانه جعل الدّرْبة لدم في الجنة هذه‪ ،‬وهيّأ له فيها طعامه‪ ،‬ونهاه عن نوع بعينه‪،‬‬
‫فأمره ونهاه وعلّمه وحذّره‪ ،‬فلما وقع في المخالفة وأغواه الشيطان‪ ،‬ولم يعمل بنصيحة ربه أخرجه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إلى الرض بهذه التجربة‪ ،‬لتكون رمزا له ولذريته من بعده‪ :‬إنْ سِ ْرتَ على منهجي و ِوفْق‬
‫أوامري في (فعل) و (ل تفعل) فلن تجد عورة في الكون كله‪ ،‬ونحن نرى ذلك فعلً في حركة‬
‫حياتنا في الكون‪ ،‬فل نرى عورة في المجتمع ول خللً إل إذا خُوِل َفتْ أوامر ال‪.‬‬
‫هذا هو التيان الول‪ ،‬بعد ذلك قدّر ال غفلة البشر‪ ،‬فأرسل إليهم الرسل بالمنهج‪ ،‬فكان إتيان آخر‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪ {:‬وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورا }[النساء‪ ]163 :‬وقال في عيسى عليه السلم‪ {:‬وَآتَيْنَا ُه الِنجِيلَ‬
‫}[الحديد‪]27 :‬‬
‫وهذا اليتاء من ال يتم في خفاء؛ لذلك يُسمونه وحيا‪ ،‬وهو من الغيبيات‪ ،‬فال تعالى ل يمدّ يده‬
‫فيعطي النبي أو الرسول شيئا حسّيا‪ ،‬ومن هنا ارتبط اليمان بالغيبيات دون المحسّات‪ ،‬فأنا ل أقول‬
‫جمْع من الخوة‪..‬الخ‪ .‬إذن‪ :‬ل بُدّ أنْ‬
‫مثلً‪ :‬آمنتُ بأنني قاعد في مسجد الشيخ سليمان وأمامي َ‬
‫يكون اليمان بأمر غيبي‪.‬‬
‫الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يُؤتِى على توالي العصور أنبياءه معجزات‪ ،‬ويؤتيهم منهجا يسوس‬
‫حركة الحياة‪ ،‬ول يقتصر إيتاء ال على الرسل‪ ،‬إنما يؤتى غير الرسل‪ ،‬ويؤتى الحيوان‪..‬الخ‪.‬‬
‫شكُرْ للّهِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]12 :‬هذه هي‬
‫ثم يعطينا الحق سبحانه نموذجا للحكمة التي آتاها لقمان‪ } :‬أَنِ ا ْ‬
‫الحكمة الولى في الوجود؛ لنك إنْ شكرتَ ال على ما قدّم لك قبل أنْ توجد‪ ،‬وعلى ما أعطاك‬
‫قبل تسأل‪ ،‬وعلى ما هدى جوارحك لتؤدي مهمتها حتى وأنت نائم‪ ،‬كأنه تعالى يقول لعباده‪ :‬ناموا‬
‫أنتم فربكم ل تأخذه سنة ول نوم‪.‬‬
‫فإن شكرك ل يهدم أول لبنة من لبنات الغترار‪ ،‬فالذي يفسد خلفة النسان في الرض أنْ يغترّ‬
‫ل في الكون‪ ،‬والشكر ل تعالى‬
‫بما أعطاه ال وبما وهبه‪ ،‬وينسى أنه خليفة‪ ،‬ويعتبر نفسه أصي ً‬
‫يكون على ما قدّم لك من نعم‪.‬‬
‫سمْعَ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬وَاللّهُ أَخْ َر َ‬
‫شكُرُونَ }[النحل‪ ]78 :‬أي‪ :‬تشكر ال على ما سبق‪ ،‬فقد وُلدتَ ل تعلم‬
‫لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫وَالَبْصَا َر وَا َ‬
‫شيئا‪ ،‬ثم تكونت عندك آلت الدراك والعلم‪ ،‬فعلمتَ وملت قلبك بالمعاني الجميلة؛ لذلك تشكر ال‬
‫جعْل هذه اللت لك‪ ،‬عِلّته أنْ تشكر أي‪ :‬على ما مضى‪.‬‬
‫عليها‪ ،‬ف َ‬
‫ثم هناك شكر آخر‪ ،‬ل على ما فات‪ ،‬لكن شكر هو في ذاته نعمة جديدة‪ ،‬وتأمل في ذلك قول ال‬
‫تعالى‪:‬‬

‫حمَتِهِ وَلِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ بَِأمْ ِرهِ وَلِتَبْ َتغُواْ مِن‬
‫ت وَلِيُذِي َقكُمْ مّن رّ ْ‬
‫سلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَا ٍ‬
‫{ َومِنْ آيَا ِتهِ أَن يُرْ ِ‬
‫شكُرُونَ }[الروم‪]46 :‬‬
‫َفضْلِهِ‪[} ..‬الروم‪ ]46 :‬هذه كلها ِنعَم يعطف عليها بقوله‪ {:‬وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫فعطف الشكر على النعم السابقة يعني أنه في ذاته نعمة‪ ،‬وإل لقال كما في الية السابقة{ َلعَّلكُمْ‬
‫شكُرُونَ }[النحل‪]78 :‬‬
‫تَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شكَرْتُمْ لَزِيدَ ّنكُمْ‪[} ..‬إبراهيم‪ ]7 :‬فهذا شكر‬
‫والشكر بهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى‪ {:‬لَئِن َ‬
‫لما سبق‪ ،‬وهذا شكر لما هو آتٍ‪.‬‬
‫شكُرْ للّهِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]12 :‬مُوجه إلى ال تعالى‪ ،‬فكيف إذا توجه‬
‫والشكر في قوله تعالى‪ } :‬أَنِ ا ْ‬
‫الشكر في أسباب تناوله إلى غير ال‪ ،‬كأنْ تشكر صاحبك الذي قدم لك معروفا مثلً؟ قالوا‪ :‬لو‬
‫تأملتَ شكر غير ال ممن قدّم لك معروفا يستوجب الشكر لوجدته يؤول إلى شكر ال في النهاية‪.‬‬
‫لذلك قالوا‪ :‬ل تشكر ال إل حين تشكر مَنْ ساق لك الجميل على يديه‪ ،‬يعني‪ :‬جعله سببا في قضاء‬
‫حاجتك‪ ،‬ثم إن الذي قدّم لك جميلً‪ ،‬ما قدّمه لك وما آثرك على نفسه إل لن ال أمره بذلك‪ ،‬ودعاه‬
‫إليه‪ .‬وأثابه على فعله‪ ،‬فإذا سلسلتَ الشكر لنتهى إلى شكر ال تعالى‪.‬‬
‫حمِيدٌ { [لقمان‪]12 :‬‬
‫س ِه َومَن َكفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ‬
‫شكُرُ لِ َنفْ ِ‬
‫شكُرْ فَإِ ّنمَا يَ ْ‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬ومَن يَ ْ‬
‫علمنا أن الشكر ل هو أول الحكمة‪ ،‬فلماذا؟ لن مَنْ يشكر تعود إليه ثمرة شكره‪.‬‬
‫وإياك أن تظن أن من مقومات قيومية ربك أنْ تشكره‪ ،‬فشكْرك وعدمه سواء بالنسبة ل تعالى‪،‬‬
‫كيف وقد وسِع سبحانه الكافر الذي كفر به‪ ،‬ولم يقطع عنه نعمه؛ ذلك لنه سبحانه غني عن‬
‫حمِيدٌ { [لقمان‪ ]12 :‬لنه سبحانه يعرف أنه رب‪ ،‬حتى للكافر‬
‫خَلْقه } َومَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ‬
‫الجاحد‪.‬‬
‫شكُرْ‪[ { ..‬لقمان‪ ]12 :‬أما‬
‫ونلحظ في السلوب هنا عظمة وروعة‪ ،‬ففي الشكر قال سبحانه } َومَن يَ ْ‬
‫ن يكفر‪ ،‬وفَرْق بين السلوبين‪ ،‬والكلم‬
‫في الكفر فقال‪َ } :‬ومَن َكفَرَ‪[ { ..‬لقمان‪ ]12 :‬ولم يقل‪ :‬ومَ ْ‬
‫شكُرْ‪[ { ...‬لقمان‪ ]12 :‬الدال على الحال‬
‫هنا كلم ربّ‪ ،‬ففي الشكر جاء بالفعل المضارع } َي ْ‬
‫والستقبال‪ ،‬فالشكر متجدد ودائم على خلف الكفر‪.‬‬
‫وكأنه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ل يريد من عبده الدوام على كفره‪ ،‬فلعله يتوب ويرجع إلى ساحة‬
‫اليمان‪ ،‬فجاء بالفعل الماضي } كَفَر‪[ { ..‬لقمان‪ ]12 :‬أي‪ :‬في الماضي فحسب‪ ،‬وقد ل يعود في‬
‫المستقبل‪ ،‬وهذا مظهر من مظاهر العجاز البياني في القرآن الكريم‪.‬‬
‫حمِيدٌ { [لقمان‪ ]12 :‬من صيغ المبالغة على وزن " فعيل " وتأتي مرة بمعنى " فاعل "‬
‫ومعنى } َ‬
‫حمِيدٌ { [لقمان‪ ]12 :‬أي‪:‬‬
‫مثل رحيم‪ ،‬ومرة بمعنى " مفعول " مثل قتيل أي‪ :‬مقتول‪ ،‬والمعنى هنا } َ‬
‫محمود وجاءت هذه الصفة بعد } غَ ِنيّ { [لقمان‪ ]12 :‬لن الكافر لو كان يعلم أن ال لم يقطع عنه‬
‫نعمه رغم كفره به لحمد هذا الله الذي حلم عليه‪ ،‬ولم يعامله بالمثل‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَِإذْ قَالَ ُلقْمَانُ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3406 /‬‬

‫وَإِذْ قَالَ ُل ْقمَانُ لِابْ ِن ِه وَ ُهوَ َيعِظُهُ يَا بُ َنيّ لَا تُشْ ِركْ بِاللّهِ إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ (‪)13‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن لبْنِ ِه وَ ُهوَ‬
‫يعطينا الحق سبحانه طرفا من حكَم لقمان التي رواها القرآن الكريم‪ { :‬وَِإذْ قَالَ ُلقْمَا ُ‬
‫َيعِظُهُ‪[ } ..‬لقمان‪ ]13 :‬قوله‪ { :‬وَإِذْ‪[ } ..‬لقمان‪ ]13 :‬أي‪ :‬اذكر يا محمد حين قال لقمان لبنه‪،‬‬
‫وتوجيه حكمة لقمان ونصيحته لبنه يدلّنا على صدق ما رُويَ عنه أنه كان يفتي الناس ويعظهم‬
‫قبل سيدنا داود عليه السلم‪ ،‬فلما جاء داود أمسك لقمان وقال‪ :‬أل أكتفى وقد ُكفِيت‪ ،‬ثم وجه‬
‫نصائحه لمن يحب وهو ولده‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فالمام أبو حنيفة ‪ -‬رضوان ال عليه ‪ -‬عندما شكاه القاضي ابن أبي ليلى إلى الخليفة أنه‬
‫يفند شكاواه وأحكامه‪ ،‬فأرسل إليه الخليفة بأنْ يترك الفتوى‪ ،‬وبينما هو في بيته إذ جاءته ابنته‬
‫وقالت له‪ :‬يا أبي حدث لي كذا وكذا ‪ -‬تريد أن تستفتيه ‪ -‬فماذا قال لها وهي ابنته؟ قال‪ :‬سِلَى‬
‫أخاك حمادا‪ ،‬فإن أمير المؤمنين نهاني عن الفُتْيا‪.‬‬
‫وفَرْق بين أنْ يتكلم النسان مع عامة الخَلْق‪ ،‬وبين أنْ يتكلم مع ولده‪ ،‬فالبن هو النسان الوحيد‬
‫ل وأحسن حالً منه‪ ،‬ويتمنى أن يُعوّض ما فاته في‬
‫في الوجود الذي يودّ أبوه أن يكون البن أفض َ‬
‫نفسه في ولده ويتدارك فيه ما فاته من خير‪.‬‬
‫علِمت من قبل مخافة أنْ تُنْسى‪،‬‬
‫ظهُ‪[ } ..‬لقمان‪ ]13 :‬الوعظ‪ :‬هو التذكير بمعلومة ُ‬
‫ومعنى { وَ ُهوَ َيعِ ُ‬
‫فالوعظ ل يكون بمعلومة جديدة‪ ،‬إنما يُنبه غفلتك إلى شيء موجود عندك‪ ،‬لكن غفلت عنه‪ ،‬فهناك‬
‫فَرْق بين عالم يُعلم‪ ،‬وواعظ يعظ‪ ،‬والوعظ للبن يعني أنه كان على علم أيضا بالمسائل‪ ،‬وكان‬
‫دور الوالد أنْ يعظه ويُذكّره‪.‬‬
‫ن لبْنِهِ‪[ } ..‬لقمان‪]13 :‬‬
‫ونلحظ في أسلوب الية أن ال تعالى لما أخبر عنه قال { وَإِذْ قَالَ ُل ْقمَا ُ‬
‫ولما تكلم لقمان عن ابنه قال { يابُ َنيّ‪[ } ..‬لقمان‪ ]13 :‬ولم يقل يا ابني‪ ،‬فصغّره تصغير التلطف‬
‫والترقيق‪ ،‬وليوحي له‪ :‬إنك ل تزال في حاجة إلى نصائحي‪ ،‬وإياك أنْ تظن أنك كَبِرت وتزوجت‬
‫فاستغنيتَ عني‪.‬‬
‫وأول عِظَة من الوالد للولد { لَ ُتشْ ِركْ بِاللّهِ‪[ } ..‬لقمان‪ ]13 :‬وهذه قمة العقائد؛ لذلك بدأ بها؛ لنه‬
‫يريد أنْ يُصحّح له مفهومه في الوجود‪ ،‬ويلفت نظره إلى أن الشياء التي نعم بها آباؤك وأجدادك‬
‫ل تزال تعطي في الكون‪ ،‬ومن العجيب أنها باقية‪ ،‬وهي تعطِي في حين يموت المعطَى المستفيد‬
‫بها‪.‬‬
‫وتأمل منذ خلق ال الكون كم جيل من البشر انتفع بالشمس؟ ومع ذلك انذثروا جميعا‪ ،‬وما زالت‬
‫الشمس باقية‪ ،‬كذلك القمر والهواء والجبال‪..‬الخ‪ .‬فكيف وأنت سيد هذا الكون يكون خادمك أطول‬
‫عمرا منك؟‬
‫إذن‪ :‬على العاقل أن يتأمل‪ ،‬وعلى النسان الذي كرّمه ال على سائر المخلوقات أن يقول‪ :‬ل ُبدّ‬
‫أن لي عمرا أطول من عمر هذه المخلوقات التي تخدمني‪ ،‬وهذا ل يتأتى إل حين تصل عمرك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في الدنيا بعمرك في الخرة‪ ،‬وهذا يستدعي أن تؤمن بال وألّ تشرك به شيئا‪ ،‬فهو وحده سبحانه‬
‫الذي خلق لك هذا كله‪ ،‬وأعدّه لخدمتك قبل أن توجد‪:‬‬
‫واقرأ‪:‬‬

‫{ هَـاذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خََلقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ‪[} ..‬لقمان‪]11 :‬‬
‫فكيف تدعي أن ل شركاء في الخَلْق‪ ،‬وهم أنفسهم لم يدّعوا أنهم آلهة‪ ،‬أو أنهم خلقوا شيئا في كون‬
‫ال؟ كيف وأنت تسير في الصحراء‪ ،‬فترى الحجر يعجبك فتأخذه وتُسوّيه وتجعله إلها ولو ه ّبتْ‬
‫الريح لطاحتْ به؟‬
‫ثم ما المنهج الذي جاءتكم به هذه اللهة ِبمَ أمرتكم وعَمّ نهتكم؟ ماذا أعدت من نعيم لمن عبدها‪،‬‬
‫وماذا أعدّت من عذاب لمن كفر بها؟ إذن‪ :‬فهذه آلهة بل تكليف‪ ،‬والعبادة في حقيقتها أنْ يطيع‬
‫العابد أمر معبوده‪ ،‬إذن‪ :‬هي آلهة باطلة ل يخفى بطلنها على العاقل‪.‬‬
‫عظِيمٌ { [لقمان‪ ]13 :‬نعم الشرك ظلم؛ لن الظلم يعني‪َ :‬نقْل‬
‫لذلك يقول لقمان‪ } :‬إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ‬
‫حق الغير إلى الغير‪ ،‬وقمة الظلم ومنتهاه أن تأخذ حق ال‪ ،‬وتعطيه لغير ال‪ ،‬أل ترى أن الصحابة‬
‫ن وَهُمْ‬
‫لمْ ُ‬
‫ضجّوا لما نزل قوله تعالى‪ {:‬الّذِينَ آمَنُو ْا وَلَمْ يَلْ ِبسُواْ إِيمَا َنهُمْ بِظُ ْلمٍ ُأوْلَـا ِئكَ َلهُ ُم ا َ‬
‫ّمهْتَدُونَ }[النعام‪]82 :‬‬
‫وقالوا‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ومَنْ منا لم يخالط إيمانه ظلم؟ فهدّأ رسول ال من َروْعهم وطمأنهم أن‬
‫عظِيمٌ { [لقمان‪]13 :‬‬
‫المراد بالظلم هنا ظلم القمة أي‪ :‬الشرك بال } إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬و َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3407 /‬‬

‫شكُرْ لِي وَِلوَالِدَ ْيكَ إَِليّ‬


‫ن َو ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ا ْ‬
‫حمَلَتْهُ ُأمّ ُه وَهْنًا عَلَى وَهْ ٍ‬
‫َووَصّيْنَا الْإِنْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ َ‬
‫ا ْل َمصِيرُ (‪)14‬‬

‫أهذه وصية من وصايا لقمان لبنه‪ ،‬أم هي كلم جديد من ال تعالى جاء في سياق كلم لقمان؟‬
‫قالوا‪ :‬هو من كلم الحق تبارك وتعالى‪ ،‬بدليل قوله تعالى بعد ذلك‪ {:‬وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن ُتشْ ِركَ‬
‫ط ْع ُهمَا‪[} ...‬لقمان‪]15 :‬‬
‫علْمٌ فَلَ ُت ِ‬
‫بِي مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ ِ‬
‫ومن التكريم للقمان أن ال تعالى ساق هذه الوصية بعد وصيته لبنه‪ ،‬فجاءت وكأنها حكاية عنه‪.‬‬
‫ومعنى { َو َوصّيْنَا‪[ } ..‬لقمان‪ ]14 :‬يعني‪ :‬علّمنا ووعظنا‪ ،‬وهما يدلن على معلومات تبتدئ بعلمنا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويذكر بها في وعظنا‪ ،‬ويُوفى بها حين جمعنا كل الخير في كلمة واحدة؛ لذلك فالنبي صلى ال‬
‫عليه وسلم عندما خطب الناس في حجة الوداع ذكر أمهات الفضائل‪ ،‬لماذا؟ لنه آخر كلمه إليهم‪،‬‬
‫والموقف ل يناسب أنْ يذكر فيه تفاصيل الدين كله‪ ،‬فاكتفى بذكر أسسه وقواعده‪ ،‬كالرجل منّا حين‬
‫تحضره الوفاة يجمع أولده‪ ،‬ويوصيهم‪ ،‬فيختار المور الهامة والخلصة في أضيق نطاق‪.‬‬
‫ال تعالى يقول‪َ { :‬و َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَاِلدَيْهِ‪[ } ...‬لقمان‪ ]14 :‬والوصية بالوالدين بالذات أخذتْ‬
‫علَىا وَهْنٍ‬
‫حمَلَتْهُ ُأمّ ُه وَهْنا َ‬
‫رقعة واسعة في كتاب ال‪ ،‬في هذه الية ذكر علة الوصية‪ ،‬فقال‪َ { :‬‬
‫َو ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ‪[ } ...‬لقمان‪]14 :‬‬
‫خذْنَا مِيثَاقَ بَنِي ِإسْرَائِيلَ لَ‬
‫وفي خمس آيات أخرى وردتْ كلمة (إحسانا)‪ ،‬في قوله تعالى‪ {:‬وَِإذْ أَ َ‬
‫َتعْبُدُونَ ِإلّ اللّ َه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِحْسَانا‪[} ...‬البقرة‪]83 :‬‬
‫وفي سورة النساء‪ {:‬وَاعْ ُبدُواْ اللّ َه َولَ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا‪[} ...‬النساء‪]36 :‬‬
‫علَ ْيكُمْ َألّ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا‪} ...‬‬
‫وفي النعام‪ُ {:‬قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ َ‬
‫[النعام‪]151 :‬‬
‫وفي السراء‪َ {:‬و َقضَىا رَ ّبكَ َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ إِيّا ُه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِحْسَانا‪[} ...‬السراء‪]23 :‬‬
‫حمُْل ُه َو ِفصَالُهُ‬
‫ضعَتْهُ كُرْها وَ َ‬
‫حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْها وَ َو َ‬
‫وفي الحقاف‪َ {:‬ووَصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ ِإحْسَانا َ‬
‫شهْرا‪[} ...‬الحقاف‪]15 :‬‬
‫ثَلَثُونَ َ‬
‫وفي آية واحدة وردت كلمة (حسنا) في سورة العنكبوت‪َ {:‬و َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ حُسْنا‪} ...‬‬
‫[العنكبوت‪]8 :‬‬
‫وفي آية واحدة أيضا جاءت الوصية بالوالدين دون ذكر لهاتين الكلمتين‪( :‬حُسْنا وإحسانا) هي‬
‫الية التي نحن بصدد الحديث عنها‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما الفرق بين (إحسانا) و (حُسنا)؟ الفرق أن الحسان مصدر أحسن‪ ،‬وأحسن حدث‪ ،‬تقول‪:‬‬
‫أحسن فلن إحسانا‪ .‬أما حُسنا فمن الحسن وهو المصدر الصيل لهذه المادة كما تقول‪ :‬فلن‬
‫عدْل أي‪ :‬في ذاته‪ ،‬ل‬
‫عادل‪ ،‬فوصفته بالعدل‪ ،‬فإنْ أردتَ أنْ تبالغ في هذا الوصف تقول‪ :‬فلن َ‬
‫مجرد َوصْف له‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فحُسْنا آكد في الوصف من إحسانا‪ ،‬فلماذا جاءت في هذه الية بالذات‪ {:‬وَ َوصّيْنَا الِنْسَانَ‬
‫ِبوَالِدَيْهِ حُسْنا‪[} ...‬العنكبوت‪ ]8 :‬قالوا‪ :‬لن هذه الية تتعرض لمسألة صعبة تمسّ قمة العقيدة‪،‬‬
‫فسوف يطلب الوالدان من البن أنْ يشرك بال‪.‬‬
‫حسَانا) إنما‬
‫ن نوصي البن بالحُسْن في ذاته‪ ،‬وفي أسمى توكيداته فلم ي ُقلْ هنا (إ ْ‬
‫لذلك احتاج المر أ ْ‬
‫قال (حُسْنا) حتى ل يظن أن دعوتهما إياه إلى الشرك مبرر لهانتهما‪ ،‬أو التخلي عنهما؛ لذلك‬
‫يُعلّمنا ربنا‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ط ْع ُهمَا َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا }[لقمان‪]15 :‬‬
‫{ فَلَ ُت ِ‬
‫حمَلَتْهُ ُأمّهُ وَهْنا عَلَىا وَهْنٍ‬
‫وإنْ كانت الوصية هنا بالوالدين أل أن حيثيات الوصية خاصة بالم } َ‬
‫َو ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ { [لقمان‪ ]14 :‬فلم يذكر شيئا عن دور الب‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬لن الكلم هنا كلم‬
‫رب‪ ،‬وما عليك إل أنْ تُعمِل فيه فكرك وقلبك لتصل إلى دقائقه‪.‬‬
‫ال تعالى يُذكّرنا هنا بدور الم خاصة‪ ،‬لنها تصنع لك وأنت صغير ل تدرك صُنْعها‪ ،‬فهو مستور‬
‫عنك ل تعرفه‪ ،‬أما الفعال الب وصنعه لك فجاء حال كِبَرك وإدراكك للمور من حولك‪ ،‬فالبن‬
‫يعرف ما قدّم أبوه من أجله‪.‬‬
‫فكأن أفعال الب وُجِدت حين تم تكوين العمر العقلي الواعي‪ ،‬ففهم البن ما فعل أبوه‪ ،‬وكثيرا ما‬
‫سمع البن‪ :‬أبوك ذهب إلى كذا‪ ،‬أبوك أحضر لك كذا‪ ،‬وهذا المر عندما يأتي أبوك‪..‬الخ‪ ،‬فدوْر‬
‫حمَلَتْهُ ُأمّ ُه وَهْنا‬
‫الب ظاهر على خلف دور الم؛ لذلك ذكره الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬هنا } َ‬
‫عَلَىا وَهْنٍ { [لقمان‪]14 :‬‬
‫ن يقول‪ :‬أليس البن نتيجة التقاء الب والم‪ ،‬فهما فيه سواء؟ ونقول‪ :‬بلى‪ ،‬لكن مشقة الم‬
‫ويأتي مَ ْ‬
‫فيه أوضح أثناء الحمل وعند الولدة‪ ،‬ولول أن ال تعالى ربط النسل بالشهوة لَزهدَ الناس فيه لما‬
‫تتحمله الم من مشاق‪ ،‬ولما يتحمله الب من تبعات الولد‪.‬‬
‫ونعرف قصة المرأة التي ذهبت تقاضي زوجها لنه يريد يأخذ ولدها منها‪ ،‬فقالت للقاضي وقد قال‬
‫خفّا ووضعه شهوة‪ ،‬وحملتُه وهنا على وهن‪،‬‬
‫لها‪ :‬أليس الولد ولدكما معا؟ قالت‪ :‬بلى‪ ،‬ولكنه حمله ِ‬
‫فحكم لها‪.‬‬
‫ومعنى‪ } :‬وَهْنا عَلَىا وَهْنٍ‪[ { ..‬لقمان‪ ]14 :‬أي‪ :‬ضعفا على ضعف‪ ،‬والمرأة بذاتها ضعيفة‪،‬‬
‫فاجتمع لها ضعفها الذاتي مع ضعف بسبب الجنين الذي يتغذى منها‪ ،‬ويكبر في أحشائها يوما بعد‬
‫يوم؛ لذلك قلنا‪ :‬إن من حكمة ال تعالى في خَلْق الرحم أنْ جعله قابلً للتمدد والتساع ليحتوي‬
‫الجنين في مراحل الحمل المختلفة إلى أنْ يزيد الجنين زيادةً ل يتحملها اتساع الرحم فينفجر إيذانا‬
‫بولدة إنسان جديد وخَلْق آخر كما قال تعالى‪ُ {:‬ثمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ ا ْلخَاِلقِينَ }‬
‫[المؤمنون‪]14 :‬‬
‫فالجنين كان خَلْقا تابعا لمه في غذائه وفي تنفسه وحركته‪ ،‬لكن حينما جاء أمر ال وأذن بميلده‬
‫أنشأه خَلْقا آخر له مُقوّمات حياة مستقلة غير متصل بأمه‪.‬‬
‫ويقولون في هذه العملية (القرن طش) كما تنفجر البالونة إذا نُفخت لدرجة أكثر مما تتحمل‪ ،‬ومن‬
‫العجيب أن الرحم يتسع بقدرة ال لعدة توائم كما نرى ونسمع‪.‬‬
‫ومن عظمة الخالق سبحانه في مسألة الرزق أن رزق الجنين يأتيه منفصل عن رزق أمه‪ ،‬فلكل‬
‫حمْل ينقطع عنها الدم الذي كان ينزل‬
‫منها رزق ل يأخذه الخر‪ ،‬ومعلوم أن المرأة حين يُقدّر لها َ‬
‫بصفة دورية حال فراغ الرحم من الحمل‪ ،‬هذا الدم هو الذي جعله ال غذاءً للجنين الجديد‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أما إذا لم يُقدّر لها حمل فإنّ جسمها يطرد هذا الدم ويتخلص منه ول يستفيد به‪ ،‬لماذا؟ لنه ليس‬
‫غذاءها‪ ،‬وكأن الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يُنبّهنا أن لكل منا رزقه الذي ل يتعدّاه إلى غيره‪.‬‬
‫وأيضا من حكمته تعالى في َوضْع الجنين في بطن أمه عند الولدة أنْ ينزل برأسه‪ ،‬وهذا هو‬
‫الوضع الطبيعي لولدة طفل سليم؛ لن أول ضروريات الحياة للطفل ساعةَ ينفصل عن أمه أنْ‬
‫يتنفس‪ ،‬فإذا نزل برأسه ‪ -‬وهذا الوضع يحاول أطباء الولدة التأكد منه ‪ -‬استطاع التنفس حتى‬
‫وإنْ تعسر نزول باقي جسمه‪ ،‬أمّا إنْ نزل الطفل بعكس هذا الوضع فإنه يختنق ويموت قبل أنْ يتم‬
‫نزوله‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬و ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]14 :‬الفصال‪ :‬أي النفصال عن الم في مسألة‬
‫الرضاعة‪ ،‬ومنه‪ :‬يسمون ولد الناقة الذي استغنى عن لبنها‪ :‬الفصيل أي الذي ُفصِل عن أمه‪،‬‬
‫ن يأكل‪ ،‬وأن يعيش دون مساعدتها‪ ،‬وحتى عملية فصال الولد عن أمه فيها‬
‫وأصبح قادرا على أ ْ‬
‫مشقة وألم للم‪.‬‬
‫أما العملية الجنسية التي أثمرتْ الولد فكانت شركة بينهما‪ ،‬وبذلك ل بُدّ أن نعترف أن للم الدور‬
‫الكبر وعليها العبء الكبر في مسألة الولد؛ لذلك كان لها الحظ الفر في وصية النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم للصحابي الذي سأله‪ :‬مَنْ أحق الناس بحُسْن صحابتي يا رسول ال؟ فقال صلى ال‬
‫ل منهما على قدر ما قدّم‪.‬‬
‫عليه وسلم‪ :‬أمك‪ ،‬ثم أمك‪ ،‬ثم أمك‪ ،‬ثم أبوك‪ ،‬فأعطى ك ً‬
‫ضعْنَ َأ ْولَدَهُنّ‬
‫ومسألة الفصال هذه شُرحت في آيات أخرى‪ ،‬ففي سورة البقرة‪ {:‬وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَن يُ ِتمّ ال ّرضَاعَةَ‪[} ...‬البقرة‪ ]233 :‬وهذه تؤكد } َو ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ‬
‫َ‬
‫{ [لقمان‪]14 :‬‬
‫شهْرا‪[} ...‬الحقاف‪]15 :‬‬
‫حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ‬
‫وفي آية أخرى تجمع الحمل والرضاعة معا‪ {:‬وَ َ‬
‫وبخصم العامين من الثلثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر‪ ،‬وهي أقلّ مدة للحمل‪.‬‬
‫وهذه المسألة اعتمد عليها المام علي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬حينما رأى عمر رضي ال عنه يريد‬
‫أن يُقيم الحد على امرأة ولدتْ لستة أشهر؛ لنه يعتقد أن مدة الحمل تسعة أشهر‪ ،‬فقال لعمر‪ :‬يا‬
‫حمْلُهُ‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬ال يقول غير ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬وماذا يقول ال؟ فذكر عليّ اليتين السابقتين‪ {:‬وَ َ‬
‫شهْرا‪[} ...‬الحقاف‪]15 :‬‬
‫َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ‬
‫شكُرْ لِي وَِلوَالِدَ ْيكَ إَِليّ ا ْل َمصِيرُ { [لقمان‪]14 :‬‬
‫والخرى‪َ } :‬و ِفصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ا ْ‬
‫ثم بيّن له عليّ أن أقلّ مدة للحمل بناءً على هاتين اليتين ستة أشهر‪ ،‬فقال عمر‪ :‬بئس المقام‬
‫بأرض ليس فيها أبو الحسن‪.‬‬
‫شكُرْ لِي وَِلوَالِدَ ْيكَ إَِليّ ا ْل َمصِيرُ { [لقمان‪ ]14 :‬فال تعالى هو المستحق للشكر‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬أَنِ ا ْ‬
‫أولً؛ لنه سبحانه هو الذي أنشأ من عدم‪ ،‬وأمدّ من عُدْم‪ ،‬ثم الوالدان لنهما السبب في اليجاد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإنشاء الولد‪.‬‬

‫فكأن الحق سبحانه مسبّب أعلى؛ لنه خلق من ل شيء‪ ،‬والوالدان سبب من أسباب ال في‬
‫الوجود‪ ،‬إذن‪ :‬ل تُحسِن شكر ال الخالق الول والمسبّب العلى حتى تُحسِن شكر الوالدين‪ ،‬وهما‬
‫السبب الثاني في وجودك‪.‬‬
‫شكُرْ لِي وَِلوَالِدَ ْيكَ إَِليّ ا ْل َمصِيرُ { [لقمان‪ ]14 :‬أي‪ :‬على اليجاد‪ ،‬لكن في‬
‫فقوله سبحانه‪ } :‬أَنِ ا ْ‬
‫صغِيرا }[السراء‪ ]24 :‬وهذه لليجاد وللتربية‬
‫ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ‬
‫موضع آخر‪َ {:‬وقُل ّربّ ا ْر َ‬
‫وللرعاية‪ ،‬فكما أن هناك أبوةً لليجاد هناك أبوة للتربية‪ ،‬فكثيرا ما نجد الطفل يريبه غير أبيه‬
‫ن يكون لهؤلء نصيب من الشكر ومن الولء والبرّ ما دام أن ال تعالى‬
‫وغير أمه‪ ،‬ول ُبدّ أ ْ‬
‫صغِيرا }[السراء‪]24 :‬‬
‫ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ‬
‫ذكرهم في العلة{ َوقُل ّربّ ارْ َ‬
‫والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما‪ ،‬فإذا لم يكُنْ للب الحقيقي وجود‪ ،‬فالبوة لمن ربّى‪ ،‬وله‬
‫نفس حقوق الب من حيث الشكْر والبر والمودة‪ ،‬بل ينبغي أن يكون حقّه مضاعفا؛ لن في الب‬
‫الحقيقي عطف البُضع على البُضع‪ ،‬وفي الب المربّي عطف الدين على الدين‪ ،‬وهذه مسألة أخرى‬
‫غير مجرد البوة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬هل شكر ال أولً دُرْبة على أنْ تشكر الوالدين‪ ،‬وهما السبب المباشر في وجودك؟ أم أن‬
‫شكْر ال يستلزم‬
‫شكرَ الوالدين دربةٌ على أن تشكر ال الذي خلقك وأوجدك؟ نقول‪ :‬هما معا‪ ،‬ف ُ‬
‫شكْر ال‪.‬‬
‫شكْر الوالدين‪ ،‬وشكر الوالدين ينتهي إلى ُ‬
‫وقوله‪ } :‬إَِليّ ا ْل َمصِيرُ { [لقمان‪ ]14 :‬أي‪ :‬المرجع‪ ،‬والمعنى‪ :‬أنني أوصيك بأهم شيء فاحذر أنْ‬
‫تخالف وصيتي؛ لنني أقدر على أنْ أعاقب مَنْ خالف‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَإِن جَا َهدَاكَ عَلَىا أَن‪.{ ...‬‬

‫(‪)3408 /‬‬

‫ط ْع ُهمَا َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفًا وَاتّبِعْ‬


‫وَإِنْ جَا َهدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ فَلَا تُ ِ‬
‫ج ُعكُمْ فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ (‪)15‬‬
‫سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إَِليّ ثُمّ إَِليّ مَ ْر ِ‬

‫يؤكد الحق سبحانه على أمر الوالدين‪ ،‬وكأنه سبحانه استدرك غير مُستدَرك‪ ،‬فليس لحد أنْ‬
‫يستدرك على ال‪ ،‬وكأن واحدا كان يناقش رسول ال صلى ال عليه وسلم في أمر الوالدين وما‬
‫نزل في شأنهما‪ ،‬فسأل‪ :‬كيف لو أمراني بالكفر‪ ،‬أأكفر طاعة لهما؟ لذلك جاء الحكم من ال في هذه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المسألة‪.‬‬
‫حسْنا وَإِن جَا َهدَاكَ لِتُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ فَلَ‬
‫وفي آية العنكبوت‪ {:‬وَ َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ ُ‬
‫ج ُعكُمْ فَأُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ }[العنكبوت‪]8 :‬‬
‫ط ْع ُهمَآ إَِليّ مَرْ ِ‬
‫تُ ِ‬
‫فذكر فيها (حُسنْا) ولم يقل فيها { َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا } [لقمان‪ ]15 :‬فكأن كلمة الحُسْن‪،‬‬
‫حسْن أغنتْ عن المصاحبة بالمعروف‪.‬‬
‫وهي الوصف الجامع لكلّ مدلولت ال ُ‬
‫ومعنى { جَا َهدَاكَ‪[ } ..‬لقمان‪ ]15 :‬نقول‪ :‬جاهد وجهد‪ ،‬جهد أي في نفسه‪ ،‬أما جهاد ففيها مفاعلة‬
‫مع الغير‪ ،‬نقول‪ :‬جاهد فلن فلنا مثل قاتل‪ ،‬فهي تدل على المشاركة في الفعل‪ ،‬كما لو قلت‪:‬‬
‫شارك عمرو زيدا‪ ،‬فكل منهما فاعل‪ ،‬وكل منهما مفعول‪ ،‬لكن تغلب الفاعلية في واحد‪ ،‬والمفعولية‬
‫في الخر‪.‬‬
‫فمعنى { وَإِن جَا َهدَاكَ‪[ } ..‬لقمان‪ ]15 :‬ل تعني مجرد كلمة عَ َرضَا فيها عليك أن تشرك بال‪ ،‬إنما‬
‫حدث منهما مجهود ومحاولت لجذبك إلى مجاراتها في الشرك بال‪ ،‬فإن حدث منهما ذلك‬
‫ط ْع ُهمَا‪[ } ..‬لقمان‪]15 :‬‬
‫فنصيحتي لك { فَلَ ُت ِ‬
‫ثم إياك أنْ تتخذ من كفرهما ودعوتهما لك إلى الكفر سببا في اللدد معهما‪ ،‬أو قطع الرحم‪ ،‬فحتى‬
‫مع الكفر يكون لهما حق عليك { َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا‪[ } ..‬لقمان‪ ]15 :‬ثم إنهما كفرا بي‬
‫أنا‪ ،‬وأنا الذي أوصيك بهما معروفا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إَِليّ‪[ } ..‬لقمان‪ ]15 :‬أي‪ :‬لن تكون وحدك‪ ،‬إنما سبقك أُنَاسٌ‬
‫ج ُعكُمْ‪[ } ..‬لقمان‪ ]15 :‬أي‪ :‬مأواكم جميعا‪.‬‬
‫قبلك تابوا وأنابوا فكُنْ معهم { ثُمّ إَِليّ مَ ْر ِ‬
‫قالوا‪ :‬إن هذه الية نزلت في سعد بن أبي وقاص‪ ،‬الذي قال فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬‬
‫خالي سعد‪ ،‬فليُرني امرؤ خاله " ولما أسلم سعد غضبت أمه ‪ -‬وكانت شديدة الحب له فكادت تُجَنّ‬
‫وحلفتْ ل تأكل ول تشرب ول تغتسل‪ ،‬وأنْ تتعرّى في حَرّ الشمس حتى يرجع دينه‪ ،‬فلما علم‬
‫سعد بذلك قال‪ :‬دعوها وال لو عضّها الجوع لكلتْ‪ ،‬ولو عضّها العطش لشربتْ‪ ،‬ولو أذاها القمل‬
‫لغتسلتْ‪ ،‬أما أنا فلن أحيد عن الدين الذي أنا عليه‪ ،‬فنزل‪ { :‬وَإِن جَا َهدَاكَ‪[ } ..‬لقمان‪]15 :‬‬
‫ن يكفر معه كابن أو غيره‪ ،‬ثم يرى وصية ال‬
‫ولو أن الذي يكفر بال ويريد لغير من المؤمنين أ ْ‬
‫به رغم كفره لعلم إن ال تعالى رب رحيم ل يستحق منه هذا الجحود‪.‬‬
‫وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي الذي قالت فيه الرض‪:‬‬

‫" رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم‪ ،‬فقد طعم خيرك ومنع شكرك وقالت السماء‪ :‬رب ائذن لي أن‬
‫أسقط كسَفا على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك‪ ،‬وقالت البحار‪ :‬يا رب ائذن لي أن أُغرق‬
‫ابن آدم فقد طعم خيرك‪ ،‬ومنع شكرك‪..‬الخ‪ ،‬فقال الحق تبارك وتعالى‪ :‬لو خلقتموهم لرحمتموهم "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذلك لنهم عباد ال وصَنْعته‪ ،‬وهل رأيتم صاحب صنعة يُحطّم صنعته‪ ،‬وجاء في الحديث النبوي‪:‬‬
‫" ال أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره‪ ،‬وقد أضله في أرض فلة "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ف ِنعْمَ الرب هو‪.‬‬
‫سمْت المؤمنين‪،‬‬
‫سمْته غير َ‬
‫ويُروى أن سيدنا إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬جاءه ضيف‪ ،‬فرأى أن َ‬
‫فسأله عن دينه فقال‪ :‬إنه من عُبّاد النار‪ ،‬فردّ إبراهيم الباب في وجهه‪ ،‬فانصرف الرجل‪ ،‬فعاتب‬
‫ال نبيه إبراهيم في شأن هذا الرجل فقال‪ :‬يا إبراهيم‪ ،‬تريد أن تصرفه عن دينه لضيافة ليلة‪ ،‬وقد‬
‫سعْتُه طوال عمره‪ ،‬وهو كافر بي؟‬
‫وَ ِ‬
‫فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به‪ ،‬وأخبره بما كان من عتاب ال له‪ ،‬فقال الرجل‪ِ :‬نعْم‬
‫الرب ربّ يعاتب أحبابه في أعدائه‪ ،‬ثم شهد ألّ إله إل ال‪.‬‬
‫فلو أن الكافر الذي يريد الكفر لغيره يعرف أن ال يوصي به وهو كافر‪ ،‬ويُرقّق له القلوب لَعاد‬
‫إلى ساحة اليمان بال؛ لذلك كثيرا ما نقابل أصحاب ديانات أخرى يعشقون السلم فيختارونه‪،‬‬
‫ن في دينك الجديد أبرّ بهم من دينك القديم‪ ،‬ليعلموا‬
‫فيغضب عليهم أهلهم فنقول للواحد منهم‪ :‬كُ ْ‬
‫محاسن دينك‪ ،‬فضاعف لهم البر‪ ،‬وضاعف لهم المعروف‪ ،‬لعل ذلك يُرقّق قلوبهم ويعطفهم نحو‬
‫دينك‪.‬‬
‫وتأمل عظمة السلوب في } َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا‪[ { ..‬لقمان‪ ]15 :‬فلم يقل مثلً أعطهم‬
‫معروفا‪ ،‬إنما جعل المعروف مصاحبة تقتضي متابعتهما وتفقّد شأنهما‪ ،‬بحيث يعرف البن حاجة‬
‫أبويْه‪ ،‬ويعطيهما قبل أنْ يسأل‪ ،‬فل يلجئهما إلى ُذلّ السؤال‪ ،‬وهذا في ذاته إحسان آخر‪.‬‬
‫كالرجل الذي طرق بابه صديق له‪ ،‬فلما فتح له الباب أسرّ له الصديق بشيء فدخل الرجل وأعطى‬
‫صديقه ما طلب‪ ،‬ثم دخل بيته يبكي فسألته زوجته‪ :‬لم تبكي وقد وصلْته؟ فقال‪ :‬أبكي لنني لم أتفقد‬
‫حاله فأعطيه قبل أن يذّل نفسه بالسؤال‪.‬‬
‫ج ُعكُمْ فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُن ُتمْ‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬حين يقول بعد الوصية بالوالدين‪ } :‬إَِليّ مَ ْر ِ‬
‫َت ْعمَلُونَ { [لقمان‪ ]15 :‬إنما لينبهنا أن البرّ بالوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لم يُنسى لك ذلك‪ ،‬إنما‬
‫سيُكتب لك‪ ،‬وسيكون في ميزانك؛ لنك أطعتَ تكليفي وأمري‪ ،‬وأدّ ْيتَ‪ ،‬فلك الجزاء لنك عملتَ‬
‫عملً إيمانيا ل ُبدّ أن تُثاب عليه‪.‬‬

‫(‪)3409 /‬‬

‫سمَاوَاتِ َأوْ فِي الْأَ ْرضِ يَ ْأتِ ِبهَا‬


‫صخْ َرةٍ َأوْ فِي ال ّ‬
‫يَا بُ َنيّ إِ ّنهَا إِنْ َتكُ مِ ْثقَالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْ َدلٍ فَ َتكُنْ فِي َ‬
‫اللّهُ إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (‪)16‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ يابُ َنيّ‪[ } ..‬لقمان‪ ]16 :‬نداء أيضا للتطلف والترقيق { إِ ّنهَآ إِن َتكُ مِ ْثقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَ ْر َدلٍ‪} ..‬‬
‫[لقمان‪ ]16 :‬يريد لقمان أن يدل ولده على صفة من صفات الحق سبحانه‪ ،‬هي صفة العلم المطلق‬
‫الذي ل تخفى عليه خافية‪ ،‬وكأنه يقول له‪ :‬إياك أن تظن أن ما يخفى على الناس يخفى على ال‬
‫ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك‪]14 :‬‬
‫تعالى{ َألَ َيعْلَمُ مَنْ خَلَ َ‬
‫وكما ان ال تعالى ل يخفى عليه مثقال حبة من خردل‪ ،‬حتى إن كانت في باطن صخرة‪ ،‬أو في‬
‫السماوات‪ ،‬أو في الرض‪ ،‬كذلك ل تخفى عليه حسنة ول سيئة مهما َد ّقتْ‪ ،‬ومهما حاول صاحبها‬
‫إخفاءها‪.‬‬
‫جهْرَ‬
‫وقلنا‪ :‬إن المستشرقين وقفوا عند مسألة علم ال الخفي بخفايا خَلْقه‪ ،‬وعند قوله تعالى‪َ {:‬يعْلَمُ ا ْل َ‬
‫ل وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ }[النبياء‪ ]110 :‬يقولون‪ :‬ال يمتنّ بعلم ما نكْتُم‪ ،‬فكيف يمتنّ بعلم‬
‫مِنَ ا ْل َقوْ ِ‬
‫الجهر‪ ،‬وهو معلوم للجميع؟‬
‫ل وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ }[النبياء‪ ]110 :‬ل‬
‫جهْرَ مِنَ ا ْل َقوْ ِ‬
‫ونقول‪ :‬الحق سبحانه في قوله‪ {:‬إِنّهُ َيعْلَمُ ا ْل َ‬
‫جهْر الجماعة في وقت واحد‪ ،‬ومثّلْنا لذلك بمظاهرة‬
‫يخاطب فردا‪ ،‬إنما يخاطب جماعة‪ ،‬فهو يعلم َ‬
‫مثلً‪ ،‬فيها اللف من البشر يهتفون بأصوات مختلفة وشعارات شتى‪ ،‬منها ما يعاقب عليه‬
‫القانون‪ ،‬فهل تستطيع مع اختلط الصوات وتداخلها أن تُميّز بينها‪ ،‬وتُرجع كل كلمة إلى‬
‫صاحبها؟‬
‫إنك ل تستطيع‪ ،‬مع أن هذا جهر يسمعه الجميع‪ ،‬أما الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬فيعلم كل كلمة‪،‬‬
‫ويعلم مَنْ نطق بها ويردّ كل لفظ إلى صاحبه‪ .‬إذن‪ :‬من حقه تعالى أن يمتنّ بعلم الجهر‪ ،‬بل إن‬
‫عِلْم الجهر أعظم من علْم السرّ وأبلغ‪.‬‬
‫وقوله تعالى{ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَ ْر َدلٍ‪[} ..‬لقمان‪ ]16 :‬أي‪ :‬وزن حبة الخردل‪ ،‬وكانت أصغر شيء‬
‫وقتها‪ ،‬فجعلوها وحدة قياس للقلة‪ ،‬وليس لك الن أن تقول‪ :‬وهل حبة الخردل أصغر شيء في‬
‫صغَر على قدر معرفة الناس بالشياء عند نزوله‪ ،‬أما من حيث‬
‫الوجود؟ فالقرآن ذكرها مثالً لل ّ‬
‫التحقيق فقد ذكر القرآن الذرة والقلّ منها‪.‬‬
‫لذلك لما اخترعوا في ألمانيا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد (أي الجزء الذي ل يتجزأ)‪،‬‬
‫واستطاعوا تفتيت الذرة‪ ،‬ظنوا أن في هذه العملية مأخذا على القرآن‪ ،‬فقد ذكر القرآن الذرة‪،‬‬
‫وجعلها مقياسا دينيا في قوله تعالى‪َ {:‬فمَن َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ‬
‫ل منها‪ ،‬ومعلوم أن الجزء أصغر من كله‪.‬‬
‫شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة‪ ]8-7 :‬لكن لم يذكر الق ّ‬
‫ونقول‪ :‬قرأتم شيئا وغابت عنكم أشياء‪ ،‬ولو كان لديكم إلمام بكلم ال لعلمتم أن فيه احتياطا لما‬
‫توصلتم إليه‪ ،‬ولما ستتوصلون إليه فيما بعد‪ ،‬واقرأوا إن شئتم قول ال تعالى عن الذرة‪َ {:‬ولَ‬
‫ك وَل َأكْبَرَ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }‬
‫صغَرَ مِن ذاِل َ‬
‫َأ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[يونس‪]61 :‬‬
‫بل نقول‪ :‬إن الحتياط هنا احتياط مركب‪ ،‬فلم يقل صغير إنما قال (أصغر) وهذا يدل على وجود‬
‫رصيد في كلم ال لكل مُفتّت من الذرة‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ َأوْ فِي الَ ْرضِ يَ ْأتِ ِبهَا اللّهُ‪[ { ..‬لقمان‪ } ]16 :‬فِي‬
‫وقوله‪ } :‬فَ َتكُنْ فِي صَخْ َرةٍ َأوْ فِي ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ َأوْ فِي‬
‫صَخْ َرةٍ‪[ { ..‬لقمان‪ ]16 :‬أي‪ :‬على حبكة الوجود‪ ،‬وفي أضيق مكان } َأوْ فِي ال ّ‬
‫الَ ْرضِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]16 :‬يعني‪ :‬في المتسع الذي ل حدود له‪ ،‬فل في الضيق المحكم‪ ،‬ول في‬
‫المتسع يخفى على ال شيء } يَ ْأتِ ِبهَا اللّهُ‪[ { ..‬لقمان‪ ]16 :‬واستصحب حيثيات التيان بها‬
‫بوصفين ل تعالى‪ } :‬إِنّ اللّهَ َلطِيفٌ خَبِيرٌ { [لقمان‪]16 :‬‬
‫وجمع بين هاتين الصفتين؛ لنك قد تكون خبيرا بالشيء عالما بمكانه‪ ،‬لكنك ل تستطيع الوصول‬
‫إليه‪ ،‬كأنْ يكون في مكان ضيق ل تنفذ إليه يدك‪ ،‬وعندها تستعين بآلة دقيقة كالملقاط مثلً‪ ،‬فالخبرة‬
‫موجودة‪ ،‬لكن ينقصك اللطف في الدخول‪.‬‬
‫صغُرت الشياء ود ّقتْ يصل إليها‪ ،‬فهو إذن عليم خبير‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬لطيف‪ ،‬فمهما َ‬
‫بكل شيء مهما صغر‪ ،‬قادر على التيان به مهما دقّ؛ لنه لطيف ل يمنعه مانع‪ ،‬فصفة اللطف‬
‫هذه للتغلغل في الشياء‪.‬‬
‫ق وَلطُف كان أعنف حتى في المخلوقات الضارة‪ ،‬وسبق أن أوضحنا‬
‫ونحن نعلم أن الشيء كلما د ّ‬
‫هذه المسألة بمَنْ بنى بيتا في الخلء‪ ،‬وأراد أنْ يؤمّن نوافذه من الحيوانات والحشرات الضارة‪،‬‬
‫فوضع على النوافذ شبكة من الحديد تمنع اللصوص والحيوانات الكبيرة‪ ،‬ثم تذكّر الفئران والثعابين‬
‫قضيّق الحديد‪ ،‬ثم تذكّر الذباب والناموس فاحتاج إلى شيء أضيق وأدقّ‪ ،‬إذن‪ :‬كلما كان عدوك‬
‫لطيفا دقيقا كان أعنف‪ ،‬واحتاج إلى احتياط أكثر‪.‬‬
‫فقوله تعالى } إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [لقمان‪ ]16:‬يعني‪ :‬ل يعوزه علم بالمكان‪ ،‬ول سهولة ويُسْر‬
‫في الوصول إلى الشياء‪.‬‬
‫كانت هذه بعض وصايا لقمان ومواعظه لولده‪ ،‬ولم يأمره حتى الن بشيء من التكاليف‪ ،‬إنما‬
‫حرص أنْ يُنبه‪ :‬أنك قد آمنت بال وبلغَك منهجه واستمعت إليه‪ ،‬فأطع ذلك المنهج في افعل ول‬
‫تفعل‪ ،‬لكن قبل أنْ تباشر منهج ربك في سلوكك اعلم أنك تتعامل مع إله قيوم‪ ،‬ل تأخذه سنة ول‬
‫نوم‪ ،‬ول يغيب عنه شيء‪ ،‬فادخل على المنهج بهذا العتقاد‪.‬‬
‫وإياك أنْ تتغلّب عليك شبهة أنك ل ترى ال‪ ،‬فإنك إنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك‪ ،‬واعلم أن عملك‬
‫محسوب عليك‪ ،‬وإنْ كان في صخرة صماء ضيقة‪ ،‬أو في سماء‪ ،‬أو في أرض شاسعة‪.‬‬
‫ويؤكد هذه المسألة قوله تعالى في الحديث القدسي‪ " :‬يا عبادي‪ :‬إنْ كنتم تعتقدون أني ل أراكم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالخلل في إيمانكم‪ ،‬وإنْ كنتم تعتقدون أنّي أراكم‪ ،‬فَِلمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟ "‪.‬‬
‫لةَ‪.{ ...‬‬
‫بعد ذلك يدخل لقمان في وعظه لولده مجال التكليف‪ ،‬فيقول له‪ } :‬يابُ َنيّ َأ ِقمِ الصّ َ‬

‫(‪)3410 /‬‬

‫يَا بُ َنيّ َأقِمِ الصّلَا َة وَ ْأمُرْ بِا ْل َمعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ‬
‫الُْأمُورِ (‪)17‬‬

‫هذه مسائل أربع بدأها لقمان بإقامة الصلة‪ ،‬والصلة هي الركن الول بعد أنْ تشهد أل إله إل‬
‫ال‪ ،‬وأن محمدا رسول ال‪ ،‬وعلمنا أن الصلة لهميتها فُرِضت بالمباشرة‪ ،‬ولهميتها جُعلِت‬
‫ملزمة للمؤمن ل تسقط عنه بحال‪ ،‬أما بقية الركان فقد تسقط عنك لسبب أو لخر‪ ،‬كالصوم‬
‫والزكاة والحج‪ ،‬فإذا سقطت عنك هذه الركان لم يَبْق معك إل الشهادتان والصلة؛ لذلك جعلها‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم عماد الدين‪.‬‬
‫لةَ‪[ } ..‬لقمان‪ ]17 :‬لنها استدامة إعلن الولء ل تعالى‬
‫ولذلك بدأ بها لقمان‪ { :‬يابُ َنيّ َأقِمِ الصّ َ‬
‫خمس مرات في اليوم والليلة‪ ،‬فحين يناديك ربك (ال أكبر) فل ينبغي أن تنشغل بمخلوق عن نداء‬
‫الخالق‪ ،‬وإل فما موقف الب مثلً حين ينادي ولده فل يجيبه؟ فاحذر إذا ناداك ربك أل تجيب‪.‬‬
‫ثم تأمل النداء للصلة الذي اهتدتْ إليه الفطرة البشرية السليمة‪ ،‬وأقرّه سيدنا رسول ال‪ :‬ال أكبر‬
‫ال أكبر‪ ،‬يعني أكبر من كل ما يشغلك عنه‪ ،‬فإياك أن تعتذر بالعمل في زراعة أو صناعة أو‬
‫تجارة عن إقامة الصلة‪.‬‬
‫وقد ناقشتُ أحد أطباء الجراحة في هذه المسألة‪ ،‬فقال‪ :‬كيف أترك عملية جراحية من أجل‬
‫الصلة؟ فقلت له‪ :‬بال لو اضطررتَ لقضاء الحاجة تذهب أم ل؟ فضحك وقال‪ :‬أذهب‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫فالصلة أوْلَى‪ ،‬ول تعتقد أن ال تعالى يكلّف العبد تكليفا‪ ،‬ثم يضنّ عليه باتساع الزمن له‪ ،‬بدليل‬
‫أنه تعالى يراعي وقت العبد ومصالحه وإمكاناته‪ ،‬ففي السفر مثلً يشرع لك الجمع والقصر‪.‬‬
‫فبإمكانك أنْ تُوفّق صلتك حسب وقتك المتاح لك‪ ،‬إما بجمع التقديم أو التأخير‪ ،‬وكم يتسع وقتك‬
‫جمْع تأخير‬
‫ويخلو من مشغولية العبادة إذا جمعتَ الظهر والعصر جمْعَ تقديم‪ ،‬والمغرب والعشاء َ‬
‫في آخر وقت العشاء؟ أو حين تجمع الظهر والعصر جمعَ تأخير‪ ،‬فتصليهما قبل المغرب‪ ،‬ثم‬
‫تصلي المغرب والعشاء جمع تقديم؟‬
‫سعَة‪ ،‬ول حجةَ لحد في تَرْك الصلة بالذات‪ ،‬أما الذين يقولون في مثل هذه‬
‫إذن‪ :‬المسألة فيها ِ‬
‫س َعهَا‪[} ...‬البقرة‪ ]286 :‬وأن هذا ليس في وُسْعي‪ ..‬فنقول لهم‪ :‬ل‬
‫المور{ لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإلّ وُ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ينبغي أنْ تجعل وُسْعك هو الحكم‪ ،‬إنما التكليف هو الحكم في الوُسْع‪ ،‬وما دام ربك ‪ -‬عز وجل ‪-‬‬
‫سعْك وكلّفك على قدره بدليل ما شرعه لك من ُرخَص إذا خرجتْ‬
‫قد كلّفك فقد علم سبحانه وُ ْ‬
‫العبادة عن الوُسْع‪.‬‬
‫لةَ‪[ } ..‬لقمان‪ ]17 :‬لن الصلة أول اكتمال في الجماع لمنهج ال‪ ،‬وبها يكتمل‬
‫وقال { َأقِمِ الصّ َ‬
‫إيمان النسان في ذاته‪ ،‬وسبق أن قلنا‪ :‬إن هناك فرقا بين أركان السلم وأركان المسلم‪ ،‬أركان‬
‫السلم هي الخمس المعروفة‪ ،‬أمّا أركان المسلم فهي الملزمة له التي ل تسقط عنه بحال‪ ،‬وهي‬
‫الشهادتان والصلة‪ ،‬وإنْ كان على المسلم أنْ يؤمن بها جميعا‪ ،‬لكن في العمل قد تسقط عنه عدا‬
‫الصلة والشهادتين‪.‬‬

‫ثم يبين لقمان لولده‪ :‬أن اليمان ل يقف عند حدّ الستجابة لهذين الركنين الساسيين‪ ،‬إنما من‬
‫ف وَانْهَ عَنِ‬
‫اليمان ومن كمال اليمان أنْ تحب لخيك ما تحب لنفسك‪ ،‬فيقول له‪ } :‬وَ ْأمُرْ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫ا ْلمُ ْنكَرِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]17 :‬فانشغل بعد كمالك بإقامة الصلة‪ ،‬بأنْ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر‪،‬‬
‫فبالصلة َكمُ ْلتَ في ذاتك‪ ،‬وبالمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنقل الكمال إلى الغير‪ ،‬وفي ذلك‬
‫كمال اليمان‪.‬‬
‫وأنت حين تأمر بالمعروف‪ ،‬وحين تنهي عن المنكر ل تظن أنك تتصدّق على الخرين‪ ،‬إنما‬
‫ل يعود نفعه عليك‪ ،‬فبه تجد سعة الراحة في اليمان‪ ،‬وتجد الطمأنينة والراحة الذاتية؛‬
‫تؤدي عم ً‬
‫لنك أد ْيتَ التكاليف في حين قصرّ غيرك وتخاذل‪.‬‬
‫ول شك أن في التزام غيرك وفي سيره على منهج ال راحة لك أنت أيضا‪ ،‬وإل فالمجتمع كله‬
‫يَشْقى بهذه الفئة القليلة الخارجة عن منهج ال‪.‬‬
‫ومن إعزاز العلم أنك ل تنتفع به النتفاع الكامل إل إذا عدّيْته للغير‪ ،‬فإنْ كتمته انتفع الخرون‬
‫بخيرك‪ ،‬وشقيتَ أنت بشرّهم‪ .‬إذن‪ :‬ل تنتفع بخير غيرك إل حين تؤدي هذه الفريضة‪ ،‬فتأمر‬
‫غيرك بالمعروف‪ ،‬وتنهاه عن المنكر‪ ،‬وتحب لهم ما تحب لنفسك‪ ،‬وبذلك تنال الحظين‪ ،‬حظك عند‬
‫ال لنك أد ْيتَ‪ ،‬وحظك عند الناس لنك في مجتمع متكامل اليمان ينفعك ول يضرك‪.‬‬
‫ولك هذا أن تلحظ أن هذه الية لم تقرن إقامة الصلة بإيتاء الزكاة كعادة اليات‪ ،‬فغالبا ما نقرأ‪{:‬‬
‫ل َة وَآتُواْ ال ّزكَاةَ‪[} ...‬البقرة‪]43 :‬‬
‫وََأقِيمُواْ الصّ َ‬
‫وحين نستقرئ كلمة الزكاة في القرآن الكريم نجد أنها وردت اثنتين وثلثين مرة‪ ،‬اثنتان منها‬
‫ليستا في معنى زكاة المال المعروفة النماء العام إنما بمعنى التطهر‪ ،‬وذلك في قوله تعالى في‬
‫قصة الخضر وموسى عليه السلم‪َ {:‬أقَتَ ْلتَ َنفْسا َزكِيّةً ِبغَيْرِ َنفْسٍ‪[} ...‬الكهف‪]74 :‬‬
‫ثم قوله تعالى‪ {:‬فَأَ َردْنَآ أَن يُ ْبدَِل ُهمَا رَ ّب ُهمَا خَيْرا مّنْهُ َزكَـا ًة وََأقْ َربَ رُحْما }[الكهف‪]81 :‬‬
‫والمعنى‪ :‬طهرناهم حينما رفعنا عنهم بابا من أبواب الفتنة في دين ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والموضع الخر في قوله تعالى‪َ {:‬وحَنَانا مّن لّدُنّا وَ َزكَا ًة َوكَانَ َتقِيّا }[مريم‪ ]13 :‬فالمعنى‪ :‬وهبنا‬
‫لمريم شيئا نُزكيها به؛ ذلك لن الزكاة أول ما تتعدى تتعدّى من واجد لمعدم‪ ،‬ومريم لم تتزوج‬
‫فهي ُمعْدَمة في هذه الناحية؛ لذلك وهبها ال النماء الخاص من ناحية أخرى حين نفخ فيها الروح‬
‫من عنده تعالى‪.‬‬
‫وفي موضع واحد‪ ،‬جاءت الزكاة بمعنى زكاة المال‪ ،‬لكن غير مقرونة بالصلة‪ ،‬وذلك في قوله‬
‫تعالى‪َ {:‬ومَآ آتَيْتُمْ مّن رّبا لّيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَلَ يَرْبُو عِندَ اللّ ِه َومَآ آتَيْ ُتمْ مّن َزكَاةٍ تُرِيدُونَ‬
‫ضعِفُونَ }[الروم‪]39 :‬‬
‫وَجْهَ اللّهِ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُم ْ‬
‫لةَ وَ ْأمُرْ بِا ْل َمعْرُوفِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]17 :‬ولم يقل‪:‬‬
‫وفي هذه الية قال لقمان لولده‪ } :‬يابُ َنيّ َأقِمِ الصّ َ‬
‫وآتِ الزكاة‪ ،‬فلماذا؟‬
‫ينبغي أن نشير إلى أن القرآن جمع بين الصلة والزكاة؛ لن الصلة فيها تضحية بالوقت‪ ،‬والوقت‬
‫زمن العمل‪ ،‬والعمل وسيلة الكسب والمال‪ ،‬إذن؛ ساعة تصلي فقد ضح ْيتَ بالوقت الذي هو أصل‬
‫المال‪ ،‬فكأن في الصلة تصدقت بمائة في المائة من المال المكتسب في هذا الوقت‪ ،‬أمّا في الزكاة‬
‫فأنت تتصدّق بال ُعشْر‪ ،‬أو نصف العشر‪ ،‬أو رُبْع العشر‪ ،‬ويبقى لك معظم كسبك‪ ،‬فالواقع أن الزكاة‬
‫في الصلة أكبر وأبلغ من الزكاة نفسها‪.‬‬

‫إذن‪ :‬لما كانت الزكاة في كل منهما‪ ،‬قرن القرآن بينهما إل في هذا الموضع‪ ،‬ولما تتأمله تجده من‬
‫دقائق السلوب القرآني‪ ،‬فالقرآن يحكي هذه الوصايا عن لقمان لولده‪ ،‬ولنا فيه ملحظان‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن ال تعالى لم يكلّف العبد إل بعد سِنّ البلوغ إل في الصلة‪ ،‬وجعل هذا التكليف مُوجها‬
‫إلى الوالد أو ولي المر‪ ،‬فأنابه أن يكلف ولده بالصلة‪ ،‬وأن يعاقبه إنْ أهمل في أدائها‪ ،‬ذلك ليربي‬
‫ن التكليف‪ ،‬وقد ألفَها الولد وتعوّد عليها‪ ،‬فهي عبادة‬
‫عند ولده الدّرْبة على الصلة‪ ،‬بحيث يأتي سِ ّ‬
‫تحتاج في البداية إلى مران وأخذ وردّ‪ ،‬وهذا أنسب للسنّ المبكرة‪.‬‬
‫والوالد يُكلف ولده على اعتبار أنه الموجد الثاني له‪ ،‬والسبب المباشر في وجوده‪ ،‬وكأن ال تعالى‬
‫يقول‪ :‬أنا الموجد لكم جميعا وقد وكّلتُك في أنْ تكلّف ولدك؛ لن معروفك ظاهر عنده‪ ،‬وأياديك‬
‫عليه كثيرة‪ ،‬فأنت القائم بمصالحه المُلَبّي لرغباته‪ ،‬فإنْ أمرته قَبِل منك واطاعك‪ ،‬فهي طاعة‬
‫بثمنها‪.‬‬
‫وطالما وكلتك في التكليف فطبيعي أنْ أُوكّلك في العقوبة‪ ،‬فإنْ حدث تقصير في هذه المسألة‬
‫فالمخالفة منك‪ ،‬ل من الولد؛ لنني لم أُكلّفه إنما كّلفْتُك أنت‪.‬‬
‫لذلك بدأ لقمان أوامره لولده بإقامة الصلة‪ ،‬لنه مُكلّف بهذا المر‪ ،‬فولده ما يزال صغيرا بدليل‬
‫قوله } يابُ َنيّ‪[ { ..‬لقمان‪ ]17 :‬فالتكليف هنا من الوالد‪ ،‬فإنْ كان الولد بالغا حال هذا المر فالمعنى‪:‬‬
‫لحظ التكليف من ال بإقامة الصلة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أما الزكاة‪ ،‬وهي تكليف من ال أيضا فلم يذكرها هنا ‪ -‬وهذه من حكمة لقمان ودقّة تعبيره‪ ،‬وقد‬
‫حكاها لنا القرآن الكريم لنأخذ منها مبادئ نعيش بها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إنْ كلّفه بالزكاة فقال‪ :‬أقم الصلة وآتِ الزكاة فقد أثبت لولده ملكية‪ ،‬ومعروف أن الولد ل‬
‫ملكيةَ له في وجود والده‪ ،‬بدليل قول الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أنت ومالك لبيك " وذكرنا‬
‫أن لقمان لما علم بموت أبيه قال‪ :‬إذن ملكتُ أمري فأمره ليس مِلْكا له في حياة أبيه؛ لذلك لم يأمر‬
‫ولده بالزكاة‪ ،‬فالزكاة في ذمته هو‪ ،‬ل في ذمة ولده‪.‬‬
‫ج َولَ عَلَى الَعْرَجِ‬
‫عمَىا حَرَ ٌ‬
‫علَى الَ ْ‬
‫وتتأكد لدينا هذه المسألة حين نقرأ قول ال تعالى‪ {:‬لّيْسَ َ‬
‫سكُمْ أَن تَ ْأكُلُواْ مِن بُيُو ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ آبَآ ِئكُمْ َأوْ بُيُوتِ‬
‫ج َولَ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ج َولَ عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَ ٌ‬
‫حَرَ ٌ‬
‫خوَاِل ُكمْ‬
‫عمّا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ أَ ْ‬
‫عمَا ِمكُمْ َأوْ بُيُوتِ َ‬
‫خوَا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ أَ ْ‬
‫خوَا ِنكُمْ َأوْ بُيُوتِ أَ َ‬
‫ُأ ّمهَا ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ ِإ ْ‬
‫َأوْ بُيُوتِ خَالَ ِتكُمْ َأوْ مَا مََلكْتُمْ ّمفَاتِحهُ َأ ْو صَدِي ِقكُمْ }‬

‫[النور‪]61 :‬‬
‫فال تعالى رفع عنّا الحرج أنْ نأكل من هذه البيوت‪ ،‬ونلحظ أن الية ذكرتْ القارب عدا البناء‪،‬‬
‫وكان الترتيب المنطقي أن يقول بعد أمهاتكم‪ :‬أو بيوت أبنائكم‪ ،‬فلماذا لم يذكر هنا بيوت البناء؟‬
‫قالوا‪ :‬لنها داخلة في قوله‪ :‬بيوتكم‪ ،‬فبيت البن هو بيت الب‪ ،‬والولد وما ملكتْ يداه مِ ْلكٌ لبيه‪.‬‬
‫حمْل النفس على التجلّد‬
‫ثم يقول لقمان لولده‪ } :‬وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ‪[ { ..‬لقمان‪ ]17 :‬الصبر‪َ :‬‬
‫ن الحداث على نفسك بالجزع‪ ،‬فأنت أمام الحداث تحتاج إلى قوة مضاعفة‪،‬‬
‫للحداث‪ ،‬حتى ل تعي َ‬
‫فكيف تُضعِف نفسك أمامها؟‬
‫والمصيبة تقع إما لك فيها غريم‪ ،‬أو ليس لك فيها غريم‪ ،‬فالذي يسقط مثلً‪ ،‬فتنكسر ساقه‪ ،‬أو الذي‬
‫يفاجئه المرض‪..‬الخ هذه أقدار ساقها ال إليك بل سبب فل غريم لك فيها؛ لذلك يجعلها في‬
‫ميزامك‪:‬إما أنْ يعلي بها درجاتك‪ ،‬وإما أنْ يُكفّر بها سيئاتك؛ لذلك كان الكفار بفرحون إذا أصاب‬
‫المسلمين مصيبة‪ ،‬كما فرحوا يوم أُحُد‪ ،‬وقد ردّ ال عليهم وبيّن غباءهم‪ ،‬وقال سبحانه‪ {:‬قُل لّن‬
‫ُيصِيبَنَآ ِإلّ مَا كَ َتبَ اللّهُ لَنَا‪[} ...‬التوبة‪]51 :‬وتأمل الجار والمجرور (لنا) ولم يقُلْ كتب علينا‪ ،‬إذن‪:‬‬
‫فالمعصية في حساب (له) ل (عليه) فلماذا تفرحون في المصيبة تقع بالمسلمين؟‬
‫وأوصى بالصبر بعد المر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لن الذي يتعرض لهذين المرين ل ُبدّ‬
‫ن تعرضتْ لليذاء فاصبر؛ لن‬
‫أن يصيبه سوء من جراء أمره بالمعروف أو َنهْيه عن المنكر‪ ،‬فإ ْ‬
‫هذا الصبر يعطيك جزاءً واسعا‪.‬‬
‫وتغيير المنكر له مراحل وضحها النبي صلى ال عليه وسلم في قوله‪ " :‬مَنْ رأى منكم منكرا‬
‫فليُغيّره بيده‪ ،‬فإنْ لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإنْ لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اليمان "‪.‬‬
‫فال أمرك أنْ تُغيّر المنكر‪ ،‬لكن جعل لك تقدير المسألة ومدى إمكانك فيها‪ ،‬فالدين يريدك مُصلحا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن تلقى بنفسك إلى التهلكة‪ ،‬فلك أنْ تُغيّر المنكر بيدكَ فتضرب وتمنع إذا كان لك‬
‫لكن ل يريد أ ْ‬
‫ولية على صاحب المنكر‪ ،‬كأن يكون ولدك أو أخاك‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫فلك أن تضربه مثلً إنْ رأيتَ سيجارة في فمه‪ ،‬أو أنْ تكسر له كأس الخمر إنْ شربها أو تمزق له‬
‫مثلً ورق " الكوتشينة " ‪ ،‬فإنْ لم تكُنْ لك هذه الستطاعة فيكفي أنْ تُغيّر بلسانك إنْ كانت لديك‬
‫الكلمة الطيبة التي تداوي دون أن تجرح الخرين‪ ،‬ودون أنْ يؤدي النصح إلى فتنة‪ ،‬فيكون‬
‫ضرره أكثر من نفعه‪.‬‬
‫ن في استطاعتك هذه أيضا‪ ،‬فليكُنْ تغيير المنكر بالقلب‪ ،‬فإنْ رأيتَ منكرا ل تملك إل أنّ‬
‫فإنْ لم يكُ ْ‬
‫تقول‪ :‬اللهم إنّ هذا منكر ل يرضيك لكن أ ُيعَ ّد عمل القلب تغييرا للمنكر وأنت مطالب بأنْ تُغيّره‬
‫بيدك يعني‪ :‬إلى ضده؟ وهل هذه الكلمة تغير من الواقع شيئا؟‬
‫قالوا‪ :‬ل يحدث التغيير بالقلب إل إذا كان القالب تابعا للقلب‪ ،‬فالقلب يشهد أنّ هذا منكر ل يُرضي‬
‫ال‪ ،‬والقالب يساند حتى ل تكون منافقا‪ ،‬فأنت أنكرتَ عليه الفعل‪ ،‬ول استطاعة لك على أنْ‬
‫تمنعه‪ ،‬ول أن تنصحه‪ ،‬فل أقلّ من أنْ تعزله عن حياتك وتقاطعه‪ ،‬وإلّ فكيف تُغيّر بقلبك إنْ‬
‫أنكرتَ عليه فعله وأبقيتَ على وُدّه ومعاملته؟‬
‫إذن‪ :‬ل يكون التغيير بالقلب إل إذا أحسّ صاحب المنكر أنه في عزلة‪ ،‬فل تهنئه في فرح‪ ،‬ول‬
‫ن كنتَ صاحب تجارة‪ ،‬فل تَ ِبعْ له ول تشتر منه‪.‬‬
‫تعزيه في حزن‪ ،‬وإ ْ‬

‫‪.‬الخ‪.‬‬
‫وما استشرى الباطل وتَبجح أهل الفساد وأهل المنكر إل لن الناس يحترمونهم ويعاملونهم على‬
‫هذه الحال‪ ،‬بل ربما زاد احترام الناس لهم خوفا من باطلهم ومن ظلمهم‪.‬‬
‫فالتغيير بالقلب ليس كلمة تقال إنما فعل وموقف‪ ،‬وقد علّمنا ربنا ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬هذه القضية‬
‫س ِمعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ ُي ْكفَرُ ِبهَا وَيُسْ َتهْزَأُ ِبهَا فَلَ‬
‫في قوله سبحانه‪َ {:‬وقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي ا ْلكِتَابِ أَنْ إِذَا َ‬
‫َت ْقعُدُواْ َم َعهُمْ حَتّىا يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ إِ ّن ُكمْ إِذا مّثُْلهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ ا ْلمُنَا ِفقِينَ وَا ْلكَافِرِينَ فِي‬
‫جمِيعا }[النساء‪]140 :‬‬
‫جهَنّمَ َ‬
‫َ‬
‫ويقول سبحانه في آية أخرى‪ {:‬وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ حَتّىا‬
‫يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْ ِر ِه وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ الشّيْطَانُ فَلَ َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَىا مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[النعام‪:‬‬
‫‪]68‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم في قصة الثلثة الذين خُلّفوا بغير عذر في غزوة تبوك‪ ،‬يُعلّمنا كيف‬
‫نعزل أصحاب المنكر‪ ،‬ل بأن نعزلهم في زنزانة كما نفعل الن‪ ،‬إنما بأن نعزل المجتمع عنهم‪،‬‬
‫ليس المجتمع العام فحسب‪ ،‬بل عن المجتمع الخاص‪ ،‬وعن أقرب الناس إليه‪.‬‬
‫وقد تخلف عن هذه الغزوة عدة رجال اعتذروا لرسول ال فقَبِل علنيتهم وترك سرائرهم ل‪ ،‬لكن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هؤلء الثلثة لم يجدوا لنفسهم عذرا‪ ،‬ورأوا أنهم ل يستطعيون أنْ يكذبوا على رسول ال‪ ،‬ولم‬
‫يحبسهم الرسول‪ ،‬إنما حبس المجتمع عنهم حتى القارب‪ ،‬فكان الواحد منهم يمشي و (يتمحك) في‬
‫الناس ليكلمه أحد منهم‪ ،‬فل يكلمه أحد‪ ،‬وكعب بن مالك يتسوّر على ابن عمه الحديقة‪ ،‬ويقول له‪:‬‬
‫تعلم أني أحب ال ورسوله فل يجيبه‪ ،‬ويصلي بجوار الرسول يلتمس أنْ ينظر إليه‪ ،‬فل ينظر‬
‫إليه‪.‬‬
‫ولما نجحت هذه المقاطعة على هذا المستوى أعلها الشرع وتسلسل بها إلى الخصوصيات في‬
‫ل يقربها زوجها إلى أن يحكم ال في‬
‫ل منهن أ ّ‬
‫البيت‪ ،‬فعزل هؤلء الثلثة عن زوجاتهم‪ ،‬فأمر ك ً‬
‫أمرهم‪ ،‬حتى أن واحدة من هؤلء جاءت لرسول ال وقالت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن زوجي رجل كهدبة‬
‫ل يقربها‪.‬‬
‫الثوب (يعني‪ :‬ليست له رغبة في أمر النساء) فأذن لها رسول ال في أن تخدمه على أ ّ‬

‫ظل هؤلء الثلثة ثلثين يوما في هذا المتحان العام وعشرة أيام في المتحان الخاص‪ ،‬ونجح‬
‫المجتمع العام‪ ،‬ونجح المجتمع الخاص‪ ،‬وهكذا علّمنا الشرع كيف نعزل أصحاب المنكر وأهل‬
‫الجريمة‪ ،‬فعزل المجتمع عنهم أبلغ من عزلهم عن المجتمع‪ ،‬لذلك كان َوقْع هذه العزلة قاسيا على‬
‫هؤلء‪.‬‬
‫فهذا كعب بن مالك يحكي قصته ويقول‪ :‬لقد ضاقت بي الرض على سعتها‪ ،‬والحق يقول في‬
‫سهُ ْم َوظَنّواْ أَن لّ‬
‫وصف حالهم‪ {:‬حَتّىا إِذَا ضَا َقتْ عَلَ ْيهِ ُم الَ ْرضُ ِبمَا َرحُ َبتْ َوضَا َقتْ عَلَ ْيهِمْ أَنفُ ُ‬
‫مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ ِإلّ إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[التوبة‪]118 :‬‬
‫فلما استوى المجتمع العام والمجتمع الخاص على منهج ال فرّج ال عن هؤلء الثلثة‪ ،‬ونزل قوله‬
‫تعالى‪ {:‬ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[التوبة‪]118 :‬‬
‫فأسرع أحدهم يبشر كعبا بهذه البشرى فطار كعب فرحا بها‪ ،‬وقال‪ :‬فوال ما ملكتُ أنْ أخلع عليه‬
‫ثيابي كلها‪ ،‬ثم أستعير ثيابا أذهب بها إلى رسول ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ينبغي أن نعزل المجتمع كله عن أصحاب المنكر‪ ،‬ل أن نعزلهم هم في السجون‪ ،‬لكن مَنْ‬
‫يضمن لنا استقامة المجتمع في تنفيذ هذه العزلة كما نفذها المجتمع المسلم على عهد رسول ال؟‬
‫نعود إلى ما كنا نتحدث عنه من أن المصيبة إذا كانت قدرا من ال ليس لك فيها غريم‪ ،‬فإن‬
‫الصبر عليها هيّن‪ ،‬فالمر بينك وبين ربك‪ ،‬أما إنْ كان لك في المصيبة غريم كأن يعتدي عليك‬
‫أحد فيحرق زرعك أو يقتل ولدك‪ ،‬فهذه تحتاج إلى صبر أشد‪ ،‬فكلما رأيتَ غريمك هاجتْ نفسك‬
‫وغلى الدم في عروقك‪ ،‬فيحتاج إلى طاقة أكبر ليحمل نفسه على الصبر‪.‬‬
‫لمُورِ }[الشورى‪]43 :‬‬
‫غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْز ِم ا ُ‬
‫لذلك يقول سبحانه في هذه المسألة‪ {:‬وََلمَن صَبَ َر وَ َ‬
‫فأكّدها باللم؛ لنها تحتاج إلى طاقة أكبر من الصبر وضبط النفس حتى ل تتعدى كلما رأيت‬
‫الغريم‪ ،‬وهذا من المواضع التي وقف عندها المستشرقون يلتمسون فيها مأخذا على كلم ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لمُورِ { [لقمان‪ ]17 :‬وقوله‪ {:‬إِنّ َذِلكَ َلمِنْ‬
‫يقولون‪ :‬ما الفرق بين قول القرآن } إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَ ْز ِم ا ُ‬
‫لمُورِ }[الشورى‪]43 :‬‬
‫عَزْ ِم ا ُ‬
‫ثم أيهما أبلغ من الخرى‪ ،‬فإنْ كانت الولى بليغة فالخرى غير بليغة‪.‬‬
‫ونقول في الرد عليهم‪ :‬كل من اليتين بليغة في سياقها‪ ،‬فالتي ُأكّدت باللم جاءت في المصيبة التي‬
‫لك فيها غريم وتحتاج إلى صبر أكبر‪ ،‬أما الخرى ففي المصيبة التي ليس لك فيها غريم‪ ،‬فهي‬
‫بينك وبين ربك‪ ،‬والصبر عليها هيّن يسير‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالحق سبحانه يعالج هذه المسألة ليُصفّي النفس ويمنع ثورتها‪ ،‬فيقول‪ {:‬وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ‬
‫مّثُْلهَا }[الشورى‪ ]40 :‬لتقف النفس عند حدّ الرد بالمثل‪ ،‬ثم يُرقّى المسألة‪ ،‬ويفتح بابا للعفو‪:‬‬

‫عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ‪[} ...‬الشورى‪ ]40 :‬وقال في موضع آخر‪ {:‬وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ‬
‫{ َفمَنْ َ‬
‫ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِ ِه وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }[النحل‪]126 :‬‬
‫فحين يبيح لك ربك أنْ تأخذ بحقك تهدأ نفسك‪ ،‬وربما تتنازل عن هذا الحق بعد أن أصبح في يدك؛‬
‫لذلك كثيرا ما نرى ‪ -‬خاصة في صعيد مصر حيث توجد عادة الخذ بالثأر ‪ -‬القاتل يأخذ كفنه‬
‫على يديه‪ ،‬ويدخل به على ولي الدم‪ ،‬ويُسلّم نفسه إليه‪ ،‬وعندها ل يملك ولي الدم إل أن يعفو‪.‬‬
‫حتى في مسألة القتل والقصاص يجعل الحق سبحانه مجالً لترقية النفس البشرية وأريحيتها‪ ،‬بل‬
‫شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ وَأَدَآءٌ ِإلَيْهِ‬
‫ع ِفيَ َلهُ مِنْ َأخِيهِ َ‬
‫ويُسمّي الطرفين إخوة في قوله تعالى‪َ {:‬فمَنْ ُ‬
‫حسَانٍ‪[} ...‬البقرة‪]178 :‬‬
‫بِإِ ْ‬
‫ففي هذا الجو وفي أثناء ما تسيل الدماء يُحدّثنا ربنا عن العفو والحسان والخوة‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫هناك فَرْقا بين أن تأخذ الحق‪ ،‬وبين أنْ تنفذ أخذ الحق بيدك‪.‬‬
‫فال تعالى خالق النفس البشرية ويعلم ما جُبَلتْ عليه من الغرائز وما ُتكِنّه من العواطف‪ ،‬وما‬
‫يستقر فيها من القيم والمبادئ‪ ،‬لكنه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ل يبني الحكم على ارتفاع المناهج في‬
‫النسان‪ ،‬إنما على ضوء هذه الطبيعة التي خلقه عليها‪ ،‬فليس الخَلْق كلهم على درجة من الورع‬
‫تدعوهم إلى العفو والصفح؛ لذلك أعطاك حقّ الرد بالمثل على مَن اعتدى عليك{ وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ‬
‫سَيّئَةٌ مّثُْلهَا‪[} ...‬الشورى‪ ]40 :‬وقال‪ {:‬وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‪[} ...‬النحل‪]126 :‬‬
‫ومع ذلك حين تتأمل هذه اليات تجد أن تنفيذها من الصعوبة بمكان‪ ،‬فمَنْ لديه القدرة والمقاييس‬
‫الدقيقة التي تُوقِفه عند حدّ المثلية التي أمر ال بها؟‬
‫وسبق أنْ بيّنا‪ :‬أنه إذا اعتدى عليك شخص وضربك مثلً‪ ،‬أتستطيع أنْ تضربه مثل ضربته ل‬
‫عفَا وََأصْلَحَ فََأجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ‬
‫تزيد عليها‪ ،‬لنك إنْ زدتَ ص ْرتَ ظالما‪ ،‬واقرأ بقية الية‪َ {:‬فمَنْ َ‬
‫حبّ الظّاِلمِينَ }[الشورى‪]40 :‬‬
‫لَ ُي ِ‬
‫وسبق أنْ ذكرنا قصة المرابي اليهودي الذي اتفق مع مدينه على أنْ يقطع من جسمه رطلً‪ ،‬إذا لم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يُؤدّ في الموعد المحدد‪ ،‬وفعلً جاء موعد السداد‪ ،‬ولم يَف المدين‪ ،‬فرفع اليهودي أمره إلى القاضي‬
‫حقٌ في أن‬
‫وأخبره بشرطه ‪ -‬وكان القاضي مُوفّقا قد نوّر ال بصيرته‪ ،‬فقال لليهودي‪ :‬نعم لك َ‬
‫تُنفذ ما اتفقنا عليه‪ ،‬وسأعطيك السكين على أنْ تأخذ من المدين رطلً من لحمه في ضربة واحدة‪،‬‬
‫بشرط إذا زدتَ عنها أو نقصتَ أخذناه من لحمك‪.‬‬
‫وعندها انصرف اليهودي؛ لن المثلية ل يمكن أن تتحقق‪ ،‬فكأن ال تعالى بهذا الشرط ‪ -‬شرط‬
‫المثلية في الردّ ‪ -‬يلفت انتباهك إلى أن العفو أوْلَى بك وأصلح‪.‬‬
‫إذن‪ :‬يُحدّثنا الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬عن العفو وعن الحسان في المصيبة التي لك فيها غريم‪،‬‬
‫ويبين لنا أنك إذا أخذتَ حقك الذي قرره لك فقد أرحتَ نفسك‪ ،‬لكن حرمتها الجر الذي تكفّل ال‬
‫لك به إنْ أنت عفوتَ‪.‬‬

‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يريد أنْ يولد من أسباب البغضاء أسبابا للولء‪ ،‬فالذي كان من‬
‫حقك أنْ تقتله ثم عفوتَ عنه أصبحت حياته مِلْكا لك‪ ،‬فهل يفكر لك في سوء بعدها؟‬
‫حمِيمٌ }[فصلت‪:‬‬
‫لذلك يُعلّمنا ربنا‪ {:‬ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَِإذَا الّذِي بَيْ َنكَ وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫‪]34‬‬
‫ن يقول‪ :‬وال أنا دفعتُ بالتي هي أحسن مع خصمي‪ ،‬فلم أجده وليا حميما‬
‫وأذكر أنني جاءني مَ ْ‬
‫كما قال ال تعالى‪ ،‬فقلت له‪ :‬عليك أن تراجع نفسك؛ لنك ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن‪ ،‬لكن‬
‫خصْمك وليا حميما‪ ،‬إنما‬
‫الواقع غير ذلك‪ ،‬ولو دفعتَ بالتي هي أحسن لَصدق ال معك‪ ،‬ورأيت َ‬
‫أنت تريد أنْ تُجرّب مع ال والتجربة مع ال شكّ‪.‬‬
‫ن نبقى على يقين التوكل ساريا دون أنْ نفكر كيف يحدث‪،‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يُعلّمنا أ ْ‬
‫وقصة الصحابية أم مالك شاهدَة على ذلك‪ ،‬فقد كان عندها غنم تحلب لبنها‪ ،‬فتصنع مما زاد عن‬
‫حاجتها وحاجة أولدها زبدا‪ ،‬وكانت تهدي منه إلى رسول ال في عكة عندها‪ ،‬فكان أهل بيت‬
‫رسول يُفرغون هذه العكة في آنيتهم‪ ،‬ثم يعيدونها إليها وهكذا‪.‬‬
‫حتى قالت أم مالك‪ :‬وال ما أصبتُ إداما إل من هذه العكة‪ ،‬وكانت كلما احتاجت الدام أفرغتْ‬
‫العكة‪ ،‬فوجدت بها الدام حتى بعد أن أفرغها أهل بيت الرسول‪ ،‬لكن خُيّل لها في يوم من اليام‬
‫أنها أسرفت في استعمال هذه العكة‪ ،‬وظنت أن ما بها من إدام قد نفد‪ ،‬فأخذتها وعصرتها‪ ،‬فلم تجد‬
‫فيها شيئا‪ ،‬فظنت أن رسول ال غاضب منها‪ ،‬فذهبت إليه وقصّتْ عليه هذه المسألة‪ ،‬فقال لها‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ " " :‬أعَصريتها يا أم مالك؟ " فقالت‪ :‬نعم يا رسول ال‪ ،‬فأخبرها أن التجربة‬
‫مع ال شكّ وأنها لو لم تعصرها ولم تظن هذا الظن لبقيتْ ال ُعكّة على حالها " ‪ ،‬وكما تعودت‬
‫منها‪.‬‬
‫وتلحظ أن كلمة (أصابك) والمصيبة تدل على أنها واقعة بك ولن تنجو منها؛ لنها قدر أرسل إليك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالفعل‪ ،‬وسيصيبك ل محالة‪ ،‬والمسألة مسألة وقت إلى أنْ يصلك هذا السهم الذي ُأطِلق عليك‪،‬‬
‫سمّيت المصيبة بهذا السم إل لنها صائبتك ل‬
‫ن تقول‪ :‬لو أني فعلت كذا لكان كذا‪ ،‬فما ُ‬
‫فإياك أ ْ‬
‫تستطيع أنْ تف ّر منها‪ .‬كما يقولون عن الموت‪ :‬تأكد أنك ستموت‪ ،‬وعمرك بمقدار أنْ يصلك سهم‬
‫الموت‪.‬‬
‫لمُورِ { [لقمان‪ ]17 :‬نقول‪ :‬فلن له عزم‪ ،‬ونسمع القرآن يقول‪ {:‬فَِإذَا عَ َز ْمتَ‬
‫وكلمة } مِنْ عَ ْز ِم ا ُ‬
‫فَ َت َوكّلْ عَلَى اللّهِ‪[} ...‬آل عمران‪ ]159 :‬العزم‪ :‬الفرض المقطوع به‪ ،‬والذي ل مناص عنه‪ ،‬ومنه‬
‫ما جاء في قول لقمان لما خيّره ربه بين أن يكون رسولً أو حكيما‪ ،‬فاختار الراحة وترك‬
‫البتلء‪ ،‬لكنه قال‪ :‬يارب إنْ كانت عزمة منك فسمعا وطاعة‪ ،‬يعني‪ :‬أمرا مفروضا ينبغي ألّ نحيد‬
‫عنه‪.‬‬

‫والعزم يعني شحن كل طاقات النفس للفعل والقطع به‪ ،‬فالصلة على الميت مثلً ل تُسمّى عزيمة؛‬
‫لنها فرض كفاية إنْ فعلها البعض سقطتْ عن الباقين‪ ،‬على خلف الصلة التامة في السفر مثلً‬
‫ل بقول‬
‫حيث يعتبرها المام أبو حنيفة عزيمة ل رخصة‪ ،‬فإن أتممت الصلة في السفر أسأْت‪ ،‬عم ً‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن ال يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه "‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬ل ترد يد ال المبسوطة لك بالتيسير في الصلة أثناء السفر‪.‬‬
‫ضتْ في الصل مثنى‬
‫ثم يعتمد في هذا الرأي على دليل آخر من علم الصول هو أن الصلة فُر َ‬
‫مثنى‪ ،‬ثم أقرت في السفر وزيدت في الحضر‪ .‬إذن‪ :‬فصلة السفر مع الصل‪ ،‬فلو أتممتَ الصلة‬
‫في السفر أس ْأتَ‪.‬‬
‫خ ّدكَ لِلنّاسِ‪.{ ...‬‬
‫صعّرْ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ولَ ُت َ‬

‫(‪)3411 /‬‬

‫حبّ ُكلّ ُمخْتَالٍ فَخُورٍ (‪)18‬‬


‫س وَلَا َتمْشِ فِي الْأَ ْرضِ مَرَحًا إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ‬
‫صعّرْ خَ ّدكَ لِلنّا ِ‬
‫وَلَا ُت َ‬

‫صعَر‪ ،‬وهو في الصل داء يصيب البعير يجعله يميل برقبته‪ ،‬ويشبه به‬
‫معنى‪ :‬تصعر من ال ّ‬
‫النسان المتكبر الذي يميل بخدّه‪ ،‬ويُعرض عن الناس تكبّرا‪ ،‬ونسمع في العامية يقولون للمتكبر‬
‫(فلن ماشي لوي رقبته)‪.‬‬
‫صعّرْ خَ ّدكَ لِلنّاسِ‪[ } ..‬لقمان‪ ]18 :‬واختيار هذا التشبيه بالذات كأن الحق‬
‫فقول ال تعالى‪َ { :‬ولَ ُت َ‬
‫سبحانه يُنبّهنا أن التكبّر وتصعير الخدّ داء‪ ،‬فهذا داء جسدي‪ ،‬وهذا داء خلقي‪ .‬وقد تنبه الشاعر إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صعَريعني‪ :‬إذا لم يستطع أبناء الزمان‬
‫هذا المعنى فقال‪:‬فَ َدعْ ُكلّ طَاغِيةٍ للزّمانِ فإنّ الزمانَ يُقيم ال ّ‬
‫تقويم صعر المتكبر‪ ،‬فدعْه للزمان فهو جدير بتقويمه‪ ،‬وكثيرا ما نرى نماذج لناس تكبروا‬
‫وتجبروا‪ ،‬وهم الن ل يستطيع الواحد منهم قياما أو قعودا‪ ،‬بل ل يستطيع أنْ يذب الطير عن‬
‫وجهه‪.‬‬
‫والنسان عادة ل يتكبر إل إذا شعر في نفسه بميزة عن الخرين‪ ،‬بدليل أنه إذا رأى مَنْ هو أعلى‬
‫منه انكسر وتواضع وقوّم من صَعره‪ ،‬ومثّلنا لذلك بـ (فتوة) الحارة الذي يجلس على القهوة مثلً‬
‫واضعا قدما على قدم‪ ،‬غير مُبَال بأحد‪ ،‬فإذا دخل عليه (فتوة) آخر أقوى منه تلقائيا يعتدل في‬
‫جلسته‪.‬‬
‫وهذه المسألة تفسر لنا الحكمة التي تقول (اتق شر من أحسنت إليه) لماذا؟ لن الذي أحسنتَ إليه‬
‫مرتْ به فترة كان ضعيفا محتاجا وأنت قوي فأحسنتَ إليه‪ ،‬وق ّد ْمتَ له المعروف الذي قوّم حياته‬
‫فأصبح لك يَدٌ عليه‪ ،‬وكلما رآك ذكّرته بفترة ضعفه‪ ،‬ثم إن اليام ُدوَل تدور بين الخَلْق‪ ،‬والضعيف‬
‫يصبح قويا ويحب أنْ يُعلي نفسه بين معارفه‪ ،‬لكنه ل بُدّ أن يتواضع حينما يرى مَنْ أحسن إليه‪،‬‬
‫وكأن وجود مَنْ أحسن إليه هو العقبة أمام عُُلوّه وكبريائه؛ لذلك قبل‪( :‬اتق شر من أحسنت إليه)‪.‬‬
‫ثم أن الذي يتكبر ينبغي أنْ يتكبّر بشيء ذاتي فيه ل بشيء موهوب له‪ ،‬وإذا رأيتَ في نفسك ميزة‬
‫عن الخرين فانظر فيما تميزوا وهم به عليك‪ ،‬وساعة تنظر إلى الخَلْق والخالق تجد كل مخلوق‬
‫ل جميلً‪.‬‬
‫لذلك تروى قصة الجارية التي كانت تداعب سيدتها‪ ،‬وهي تزينها وتدعو لها بفارس الحلم ابن‬
‫الحلل‪ ،‬فقالت سيدتها‪ :‬لكني مشفقة عليك؛ لنك سوداء لم ينظر أحد إليك‪ ،‬فقالت الجارية‪ :‬يا‬
‫حسْنك ل يظهر لعين الناس إل إذا رأوا قُبْحي ‪ -‬فالذي تراه أنت قبيحا هو‬
‫سيدتي‪ ،‬اذكري أن ُ‬
‫في ذاته جميل‪ ،‬لنه يبدي جمال ال تعالى في طلقة القدرة ‪ -‬ثم قالت‪ :‬يا هذه‪ ،‬ل تغضبي ال‬
‫بشيءٍ من هذا‪ ،‬أتعيبين النقش‪ ،‬أم تعيبين النقاش؟ ولو أدركت ما فيّ من أمانة التناول لك في كل‬
‫ما أكلف به وعدم أمانتك فيما يكلفك به أبوك لعلمت في أي شيء أنا جميلة‪.‬‬

‫سوَ ّدضِدّانِ لما‬


‫شعْر مثْل الليْل مُ ْ‬
‫ويقول الشاعر في هذا المعنى‪:‬فَالوَجْه مِ ْثلُ الصّبْح مُبيضّ وال ّ‬
‫ظهِر حُسْنَهُ الضّدّوال تعالى يُعلّمنا هذا الدرس في قوله تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ‬
‫اسْتجْمعَا حَسُنَا والضّد يُ ْ‬
‫آمَنُو ْا لَ يَسْخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ عَسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ ِنسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىا أَن َيكُنّ خَيْرا‬
‫مّ ْنهُنّ‪[} ...‬الحجرات‪]11 :‬‬
‫فإذا رأيتَ إنسانا دونك في شيء ففتش في نفسك‪ ،‬وانظر‪ ،‬فل ُبدّ أنه متميز عليك في شيء آخر‪،‬‬
‫وبذلك يعتدل الميزان‪.‬‬
‫فال تعالى وزّع المواهب بين الخَلْق جميعا‪ ،‬ولم يحابِ منهم أحدا على أحد‪ ،‬وكما قلنا‪ :‬مجموع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الخر‪.‬‬
‫وسبق أن ذكرنا أن رجلً قال للقمان‪ :‬لقد عرفناك عبدا أسود غليظ الشفاه‪ ،‬تخدم فلنا وترعى‬
‫الغنم‪ ،‬فقال لقمان‪ :‬نعم‪ ،‬لكني أحمل قلبا أبيض‪ ،‬ويخرج من بين شفتيّ الغليظتين الكلم العذب‬
‫الرقيق‪.‬‬
‫ويكفي لقمان فخرا أن ال تعالى ذكر كلمه‪ ،‬وحكاه في قرآنه وجعله خالدا يُتْلى ويُتعبّد به‪،‬‬
‫ويحفظه ال بحفظه لقرآنه‪.‬‬
‫خ ّدكَ لِلنّاسِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]18 :‬فكلمة للناس هنا لها مدخل‪،‬‬
‫صعّرْ َ‬
‫ولنا مَلْحظ في قوله تعالى } َولَ ُت َ‬
‫وكأن ال تعالى يقول لمن يُصعّر خده؛ ل تَ ْدعُ الناس إلى العصيان والتمرد على أقدار ال بتكبّرك‬
‫ل اليمان الذي يتمرد على ال ويعترض‬
‫عليهم وإظهار مزاياك وسَتْر مزاياهم‪ ،‬فقد تصادف قلي َ‬
‫صعَر و (كييف)‬
‫على قدره فيه حينما يراك متكبرا متعاليا وهو حقير متواضع‪ ،‬فإنْ كنت محترف َ‬
‫ل وتفعل ما يحلو لك مما يُشْبع عندك‬
‫تكبّر‪ ،‬فليكُنْ ذلك بينك وبين نفسك‪ ،‬كأن تقف أمام المرآة مث ً‬
‫هذا الداء‪.‬‬
‫فكأن كلمة } لِلنّاسِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]18 :‬تعني‪ :‬أن ال تعالى يريد أنْ يمنع رؤية الناس لك على هذا‬
‫الحال؛ لنك قد تفتن الضعاف في دينهم وفي رضاهم عن ربهم‪.‬‬
‫ثم يقول لقمان‪َ } :‬ولَ َتمْشِ فِي الَ ْرضِ مَرَحا‪[ { ..‬لقمان‪ ]18 :‬المرح هو الختيال والتبختر‪ ،‬فر ّبكَ‬
‫ل يمنعك أنْ تمشي في الرض‪ ،‬لكن يمنعك أنْ تمشي مِشيْة المتعالي على الناس‪ ،‬المختال بنفسه‪،‬‬
‫وال تعالى يأمرنا‪ {:‬فَا ْمشُواْ فِي مَنَاكِ ِبهَا َوكُلُواْ مِن رّ ْز ِق ِه وَإِلَيْهِ النّشُورُ }[الملك‪]15 :‬‬
‫فالمشي في الرض مطلوب‪ ،‬لكن بهيئة خاصة تمشي مَشْيا سويا معتدلً‪ ،‬فعمر ‪ -‬رضي ال عنه‬
‫‪ -‬رأى رجلً يسير متماوتا فنهره‪ ،‬وقال‪ :‬ما هذا التماوت يا هذا ‪ ،‬وقد وهبك ال عافية‪ ،‬دَعْها‬
‫لشيخوختك‪.‬‬
‫ورأى رجلً يمشي مشية الشطار ‪ -‬يعني‪ُ :‬قطّاع الطرق ‪ -‬فنهاه عن القفز أو الجري والسراع‬
‫في المشي‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المطلوب في المشي هيئة العتدال‪ ،‬لذلك سيأتي في قول لقمان‪ {:‬وَا ْقصِدْ فِي مَشْ ِيكَ‪} ...‬‬
‫[لقمان‪ ]19 :‬يعني‪ :‬ل تمشِ مشية المتهالك المتماوت‪ ،‬ول تقفز قفز أهل الشر وقُطّاع الطريق‪.‬‬
‫حبّ ُكلّ مُخْتَالٍ َفخُورٍ { [لقمان‪ ]18 :‬المختال‪ :‬هو الذي وجد له مزية عند الناس‪،‬‬
‫} إِنّ اللّ َه لَ ُي ِ‬
‫والفخور الذي يجد مزية في نفسه‪ ،‬وال تعالى ل يحب هذا ول ذاك؛ لنه سبحانه يريد أنْ يحكم‬
‫الناس بمبدأ المساواة ليعلم الناس أنه تعالى ربّ الجميع‪ ،‬وهو سبحانه المتكبّر وحده في الكون‪،‬‬
‫وإذا كان الكبرياء ل وحده فهذا يحمينا أنْ يتكبّر علينا غيره‪ ،‬على حدّ قول الناظم‪:‬‬
‫والسّجُود الذي َتجْتويه من أُلُوفِ السّجُودِ فيه َنجَاةُفسجودنا جميعا للله الحق يحمينا أن نسجد لكل‬
‫طاغية ولكل متكبر ومتجبر‪ ،‬فكأن كبرياء الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬في صالح العباد‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يقول الحق سبحانه على لسان لقمان عليه السلم‪ } :‬وَا ْقصِدْ فِي مَشْ ِيكَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3412 /‬‬

‫حمِيرِ (‪)19‬‬
‫ص ْوتُ الْ َ‬
‫صوَاتِ َل َ‬
‫صوْ ِتكَ إِنّ أَ ْنكَرَ الَْأ ْ‬
‫ن َ‬
‫غضُضْ مِ ْ‬
‫وَا ْقصِدْ فِي َمشْ ِيكَ وَا ْ‬

‫القصد‪ :‬هو القبال على الحدث‪ ،‬إقبالً ل نقيضَ فيه لطرفين‪ ،‬يعني‪ :‬توسطا واعتدالً‪ ،‬هذا في‬
‫صوْ ِتكَ‪[ } ..‬لقمان‪ ]19 :‬أي‪ :‬اخفضه وحَسْبك من الداء ما بلغ الذن‪.‬‬
‫ضضْ مِن َ‬
‫غ ُ‬
‫المشي { وَا ْ‬
‫لكن‪ ،‬لماذا جمع السياق القرآني بين المشي والصوت؟ قالوا‪ :‬لن للنسان مطلوبات في الحياة‪،‬‬
‫هذه المطلوبات يصل إليها‪ ،‬إما بالمشي ‪ -‬فأنا ل أمشي إلى مكان إل إذا كان لي فيه مصلحة‬
‫وغرض ‪ -‬وإما بالصوت فإذا لم أستطع المشي إليه ناديته بصوتي‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إما تذهب إلى مطلوبك‪ ،‬أو أنْ تستدعيه إليك‪ .‬والقصد أي التوسط في المر مطلوب في كل‬
‫شيء؛ لن كل شيء له طرفان ل بُدّ أن يكون في أحدهما مبالغة‪ ،‬وفي الخرة تقصير؛ لذلك‬
‫قالوا‪ :‬كل طرفي قصد المور ذميم‪.‬‬
‫حمِيرِ }‬
‫ص ْوتُ ا ْل َ‬
‫لصْوَاتِ َل َ‬
‫ثم يقول سبحانه مُشبّها الصوت المرتفع بصوت الحمار‪ { :‬إِنّ أَنكَ َر ا َ‬
‫[لقمان‪ ]19 :‬والبعض يفهم هذه الية فهما يظلم فيه الحمير‪ ،‬وعادة ما يتهم البشرُ الحميرَ بالغباء‬
‫وبالذلة‪ ،‬لذلك يقول الشاعر‪:‬ولَ يُقيم علَى ضيَمْ يُرَادُ به إلّ الذلّنِ عَيْرُ الحيّ والوَتِدُهذا على‬
‫الخسفْ مربوطٌ برمته وذَا ُيشَدّ فَلَ يَرْثِى لَهُ أَحَدونعيب على الشاعر أن يصف عِيرَ الحي ‪-‬‬
‫والمراد الحمار ‪ -‬بالذلة‪ ،‬ويقرنه في هذه الصفة بالوتد الذي صار مضرب المثل في الذلة حتى‬
‫قالوا (أذلّ من وتد) لنك تدقّ عليه باللة الثقيلة حتى ينفلق نصفين‪ ،‬فل يعترض عليك‪ ،‬ول يتبرم‬
‫ول يغيثه أحد‪ ،‬فالحمار مُسخّر‪ ،‬وليس ذليلً‪ ،‬بل هو مذلّل لك من ال سبحانه‪.‬‬
‫ولو تأملنا طبيعة الحمير لوجدنا كم هي مظلومة مع البشر‪ ،‬فالحمار تجعله لحمل السباخ‬
‫والقاذورات‪ ،‬وتتركه ينام في الوحل فل يعترض عليك‪ ،‬وتريده دابة للركوب فتنظفه وتضع عليه‬
‫السّرْج‪ ،‬وفي فمه اللجام‪ ،‬فيسرع بك إلى حيث تريد دون تذمر أو اعتراض‪.‬‬
‫وقالوا في الحكمة من علو صوت الحمار حين ينهق‪ :‬أن الحمار قصير غير مرتفع كالجمل مثلً‪،‬‬
‫وإذا خرج لطلب المرعى ربما ستره تلّ أو شجرة فل يهتدي إليه صاحبه إل إذا نهق‪ ،‬فكأن صوته‬
‫آلة من آلت البادية الطبيعية ولزمة من لوازمه الضرورية التي تناسب طبيعته‪.‬‬
‫حمِيرِ } [لقمان‪ ]19 :‬فنهيق‬
‫صوْتُ ا ْل َ‬
‫لصْوَاتِ َل َ‬
‫لذلك يجب أن نفهم قول ال تعالى‪ { :‬إِنّ أَنكَ َر ا َ‬
‫الحمار ليس مُنكَرا من الحمار‪ ،‬إنما المنكر أن يشبه صوت النسان صوت الحمار‪ ،‬فكأن نهيق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحمار كمال فيه‪ ،‬وصوتك الذي يشبهه مُنكَر مذموم فيك‪ ،‬وإل فما ذنب الحمار؟‬
‫حمْلً فإنه (ينعّر) إذا ثقل عليه‪ ،‬أما‬
‫ل وهو أضخم وأقوى من الحمار إذا حمّلته ِ‬
‫إنك تلحظ الجمل مث ً‬
‫الحمار فتُحمّله فوق طاقته فيحمل دون أنْ يتكلم أو يبدي اعتراضا‪ ،‬الحمار بحكم ما جعل ال فيه‬
‫من الغريزة ينظر مثلً إلى (القناة) فإنْ كانت في طاقته قفز‪ ،‬وإنْ كانت فوق طاقته امتنع مهما‬
‫أجبرته على عبورها‪.‬‬

‫أما النسان فيدعوه غروره بنفسه أنْ يتحمّل ماَل يطيق‪ .‬ويُقال‪ :‬إن الحمار إذا نهق فإنه يرى‬
‫شيطانا‪ ،‬وعلمنا بالتجربة أن الحيوانات ومنها الحمير تشعر بالزلزال قبل وقوعه‪ ،‬وأنها تقطّع‬
‫قيودها وتفرّ إلى الخلء‪ ،‬وقد لوحظ هذا في زلزال أغادير بالمغرب‪ ،‬ولحظناه في زلزال عام‬
‫‪1992‬م عندما هاجت الحيوانات في حديقة الحيوان قبيل الزلزال‪.‬‬
‫ثم إن الحمار إنْ سار بك في طريق مهما كان طويلً فإنه يعود بك من نفس الطريق دون أنْ‬
‫تُوجّهه أنت‪ ،‬ويذهب إليه مرة أخرى دون أنْ يتعدّاه‪ ،‬لكن المتحاملين على الحمير يقولون‪ :‬ومع‬
‫ذلك هو حمار لنه ل يتصرف‪ ،‬إنما يضع الخطوة على الخطوة‪ ،‬ونحن نقول‪ :‬بل يُمدح الحمار‬
‫حتى وإنْ لم يتصرف؛ لنه محكوم بالغريزة‪.‬‬
‫ح ِملُ‬
‫حمَارِ َي ْ‬
‫حمِلُوهَا َكمَ َثلِ الْ ِ‬
‫حمّلُواْ ال ّتوْرَاةَ ُثمّ َلمْ يَ ْ‬
‫كذلك الحال في قول ال تعالى‪ {:‬مَ َثلُ الّذِينَ ُ‬
‫سفَارا‪[} ...‬الجمعة‪]5 :‬‬
‫أَ ْ‬
‫فمتى نثبت الفعل وننفيه في آن واحد؟ المعنى‪ :‬حملوها أي‪ :‬عرفوها وحفظوها في كتبهم وفي‬
‫حمَارِ‬
‫صدورهم‪ ،‬ولم يحملوها أي‪ :‬لم يؤدوا حق حملها ولم يعملوا بها‪ ،‬مثَلهم في ذلك{ َكمَ َثلِ الْ ِ‬
‫سفَارا‪[} ...‬الجمعة‪ ]5 :‬فهل ُيعَدّ هذا ذَما للحمار؟ ل‪ ،‬لن الحمار مهمته الحمل فحسب‪ ،‬إنما‬
‫ح ِملُ أَ ْ‬
‫يَ ْ‬
‫يُ َذمّ منهم أَنْ يحملوا كتاب ال ول يعملوا به‪ ،‬فالحمار مهمته أنْ يحمل‪ ،‬وأنت مهمتك أنْ تفقه ما‬
‫حملت وأنْ تؤديه‪.‬‬
‫فالعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلة وفي التعبد يُعلّمنا الحق‬
‫ك َولَ ُتخَا ِفتْ ِبهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذاِلكَ سَبِيلً }[السراء‪ ]110 :‬أما ما تسمعه‬
‫جهَرْ ِبصَلَ ِت َ‬
‫سبحانه‪َ {:‬ولَ تَ ْ‬
‫من (الجعر) في مكبرات الصوت والنّواح طوال الليل فل ينالنا منه إل سخط المريض وسخط‬
‫صاحب العمل وغيرهم‪ ،‬ولقد تعمدنا عمل إحصاء فوجدنا أن الذين يأتون إلى المسجد هم هم لم‬
‫يزيدوا شيئا بـ (الميكروفونات)‪.‬‬
‫كذلك الذين يعرفون أصواتهم بقراءة القرآن في المساجد فيشغلون الناس‪ ،‬وينبغي أن نترك كل‬
‫ن يصلي‪ ،‬وهذا يريد أن يُسبّح أو يستغفر‪،‬‬
‫إنسان يتقرب إلى ال بما يخفّ على نفسه‪ :‬هذا يريد أ ْ‬
‫وهذا يريد أنْ يقرأ في كتاب ال‪ ،‬فلماذا تحمل الناس على تطوعك أنت؟‬
‫ن عرضتْ لنا اليات طرفا من حكمة لقمان ووصاياه لولده تنقلنا إلى معنى كوني جديد‪} :‬‬
‫بعد أ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أَلَمْ تَ َروْاْ أَنّ اللّهَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3413 /‬‬

‫ض وَأَسْبَغَ عَلَ ْي ُكمْ ِن َعمَهُ ظَاهِ َر ًة وَبَاطِنَةً َومِنَ‬


‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫أَلَمْ تَ َروْا أَنّ اللّهَ سَخّرَ َل ُكمْ مَا فِي ال ّ‬
‫النّاسِ مَنْ ُيجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِ ْل ٍم وَلَا ُهدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (‪)20‬‬

‫التسخير‪ :‬هو النقياد للخالق العلى بمهمة يؤديها بل اختيار في التنقّل منها‪ ،‬كما سخر ال الشمس‬
‫والقمر‪..‬إلخ‪ ،‬فعلى الرغم من أن كثيرا من الناس منصرفون عن ال وعن منهج ال لم تتأبّ‬
‫الشمس في يوم من اليام أنْ تشرق عليهم‪ ،‬ول امتنع عنهم الهواء‪ ،‬ول ض ّنتْ عليهم الرض‬
‫بخيراتها ول السماء بمائها‪ ،‬لماذا؟ لنها مُسخّرة ل اختيار لها‪.‬‬
‫ول نفهم من ذلك أن ال سخّر هذه المخلوقات رغما عنها‪ ،‬فهذا فهم سطحي لهذه المسألة‪ ،‬حيث‬
‫يرى البعض أن النسان فقط هو الذي خُيّر‪ ،‬إنما الحقيقة أن الكون كله خُيّر‪ ،‬وهذا واضح في قول‬
‫شفَقْنَ مِ ْنهَا‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ‬
‫ت وَالَرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لمَانَةَ عَلَى ال ّ‬
‫ال تعالى‪ {:‬إِنّا عَ َرضْنَا ا َ‬
‫جهُولً }[الحزاب‪]72 :‬‬
‫حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ‬
‫وَ َ‬
‫إذن‪ :‬فالجميع خُيّر‪ ،‬خُيّرت السماوات والرض والجبال فاختارت أن تكون مُسخّرة ل إرادة لها‪،‬‬
‫ل يفكر به ويقارن بين البدائل‪.‬‬
‫وخُيّر النسان فاختار أنْ يكون مختارا؛ لن له عق ً‬
‫ومعنى التسخير أنك ل تستطيع أن تخضع ما ينفعك من الشياء في الكون بعقلك ول بإرادتك ول‬
‫بالمنهج‪ ،‬والدليل على ذلك أنك إذا صِ ْدتَ طيرا وحبسته في قفص ومنعته من أنْ يطير في السماء‬
‫وتريد أن تعرف‪ :‬أهو مُسخّر لك أم غير مسخر وحبسه حلل أم حرام؟ فافتح له باب القفص‪ ،‬فإنْ‬
‫ظلّ في صحبتك فهو مُسخّر لك‪ ،‬راضٍ عن بقائه معك باللقمة التي يأكلها أو المكان الذي أعدد َتهُ‬
‫له‪ ،‬وإنّ خرج وترك صحبتك فاعلم أنه غير مُسخّر لك‪ ،‬ول يحقّ لك أن تستأنسه رغما عنه‪.‬‬
‫لذلك سيدنا عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬لما مَرّ بغلم صغير يلعب بعصفور أراد أنْ يُعلّمه درسا‬
‫وهو ما يزال (عجينة) طيّعة‪ ،‬فأقنعه أنْ يبيعه العصفور‪ ،‬فلما اشتراه عمر وصار في حوزته‬
‫أطلقه‪ ،‬فقال الغلم‪ :‬فو ال ما َقصَ ْرتُ بعدها حيوانا على النس به‪.‬‬
‫وسبق أنْ تكلمنا عن مسألة التسخير‪ ،‬وكيف أن ال سخر الجمل الضخم بحيث يسوقه الصبي‬
‫الصغير ولم يُسخّر لك مثلً البرغوث فلو لم يُذلّل ال لك هذه المخلوقات ويجعلها في خدمتك ما‬
‫استطعت أنت تسخيرها بقوتك‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَأَسْبَغَ عَلَ ْي ُكمْ ِن َعمَهُ ظَاهِ َر ًة وَبَاطِنَةً‪[ } ..‬لقمان‪ ]20 :‬أسبغ‪ :‬أتمّ وأكمل‪ ،‬ومنها قوله‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ع َملْ سَا ِبغَاتٍ‪[} ...‬سبأ‪ ]11 :‬أي‪ :‬دروعا ساترة محكمة تقي لبسها من‬
‫تعالى عن سيدنا داود‪ {:‬أَنِ ا ْ‬
‫ضربات السيوف وطعنات الرماح‪ ،‬والدروع تُجعل على العضاء الهامة من الجسم كالقلب‬
‫والرئتين‪ ،‬وقد علّم ال تعالى داود أن يصنع الدروع على هيئة الضلوع‪ ،‬ليست ملساء‪ ،‬إنما فيها‬
‫نتوءات تتحطم عليها قوة الضربة‪ ،‬ول تتزحلق فتصيب مكانا آخر‪.‬‬
‫و ُروِي أن لقمان رأى دواد ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬يعجن الحديد بين يديه فتعجب‪ ،‬لكنه لم يبادر بالسؤال‬
‫عما يرى وأمهله إلى أن انتهى من صنعته للدرع‪ ،‬فأخذه ولبسه وقال‪ِ :‬نعْمَ لَبُوس الحرب أنت‪،‬‬
‫حكْ ٌم وقليل فاعله فظلت حكمة تتردد إلى آخر الزمان‪.‬‬
‫فقال لقمان‪ :‬الصمت ُ‬

‫فمعنى أسبغ علينا النعمة‪ :‬أتمها إتماما يستوعب كل حركة حياتكم‪ ،‬ويمدكم دائما بمقوّمات هذه‬
‫الحياة بحيث ل ينقصكم شيء‪ ،‬ل في استبقاء الحياة‪ ،‬ول في استبقاء النوع؛ لن الذي خلق سبحانه‬
‫يعلم كل ما يحتاجه المخلوق‪.‬‬
‫أما إذا رأيتَ قصورا في ناحية‪ ،‬فالقصور من ناحية الخَلْق في أنهم لم يستنبطوا من معطيات‬
‫الكون‪ ،‬أو استنبطوا خيرات الكون‪ ،‬لكن بخلوا بها وضنّوا على غيرهم‪ ،‬وهذه هي آفة العالم في‬
‫العصر الحديث‪ ،‬حيث تجد قوما قعدوا وتكاسلوا عن البحث وعن الستنباط‪ ،‬وآخرين جدّوا‪ ،‬لكنهم‬
‫بخلوا بثمرات جدهم‪ ،‬وربما فاضتْ عندهم الخيرات حتى أل َقوْها في البحر‪ ،‬وأتلفوها في الوقت‬
‫الذي يموت فيه آخرون جوعا وفقرا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فآفة العالم ليس في أنه ل يجد‪ ،‬إنما في أنه ل يحسن استغلل ما يجد من خيرات‪ ،‬ومن‬
‫مُقوّمات ل تعالى في كونه‪ .‬فقوله تعالى‪ } :‬وََأسْبَغَ عَلَ ْيكُمْ ِن َعمَهُ ظَاهِ َر ًة وَبَاطِنَةً‪[ { ..‬لقمان‪]20 :‬‬
‫هذه حقيقة ل ينكرها أحد‪ ،‬فهل تنكرون أنه خلقكم‪ ،‬وخلق لكم من أنفسكم أزواجا منها تتناسلون؟‬
‫هل تنكرون أنه خلق السماوات بما فيها من الكواكب والمجرّات‪ ،‬وخلق الليل فيه منامكم‪ ،‬والنهار‬
‫وفيه سعيكم على معايشكم؟ ثم في أنفسكم وما خلقه فيكم من الحواس الظاهرة وغير الظاهرة‪،‬‬
‫وجعل لكل منها مجالً ومهمة تؤديها دون أنْ تشعر أنت بما أودعه ال في جسمك من اليات‬
‫والمعجزات‪ ،‬وكل يوم يطلع علينا العلم بجديد من ِنعَم ال علينا في أنفسنا وفي الكون من حولنا‪.‬‬
‫فمعنى } ظَاهِ َرةً‪[ { ..‬لقمان‪ ]20 :‬أي‪ :‬التي ظهرتْ لنا‪ } :‬وَبَاطِنَةً‪[ { ..‬لقمان‪ ]20 :‬لم نصل إليها‬
‫بعد‪ ،‬ومن ِنعَم ال علينا ما ندركه‪ ،‬ومنها ما ل ندركه‪.‬‬
‫تأمل في نفسك مثلً الكليتين وكيف يعمل بداخلك وتصفي الدم من البولينا‪ ،‬فتنقيه وأنت ل تشعر‬
‫بها‪ ،‬وأول ما فكر العلماء في عمل بديل لها حال فشلها صمموا جهازا يمل حجرة كبيرة‪ ،‬كانت‬
‫نصف هذا المسجد من المعدات لتعمل عمل الكليتين‪ ،‬ثم تبين لهم أن الكُلْية عبارة عن مليون خلية‬
‫ل يعمل منها إل مائة بالتناوب‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬إن الفشل الكُلَوي عبارة عن عدم تنبه المائة خلية المناط بها العمل في الوقت المناسب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ت مهمتها وتوقفت دون أنْ تنبه المائة الخرى‪ ،‬ومن هندسة الجسم البشري‬
‫يعني المائة الولى أ ّد ْ‬
‫أن خلق ال للنسان كليتين‪ ،‬حتى إذا تعطلت إحداهما قامت الخرى بدورها‪.‬‬
‫أما النعم الباطنة فمنه ما يُكتشف في مستقبل اليام من آيات و ِنعَم‪ ،‬فمنذ عدة سنوات أو عدة قرون‬
‫لم نكُنْ نعرف شيئا عن الكهرباء مثلً‪ ،‬ول عن السيارات وآلت النقل وعصر العجلة والبخار‪.‬‬

‫‪.‬إلخ‪.‬‬
‫كلها ِنعَم ظاهرة لنا الن‪ ،‬وكانت مستورة قبل ذلك أظهرها النشاط العلمي والبحث والستنباط من‬
‫معطيات الكون‪ ،‬وحين تحسب ما أظهره العلم من ِنعَم ال تجده حوالي ‪ %3‬ونسبة ‪ %97‬عرفها‬
‫النسان بالصدفة‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن أسرار ال ونعمه في كونه ل تتناهى‪ ،‬وليس لحد أن يقول‪ :‬إن ما وضعه ال في‬
‫الرض من آيات وأسرار أدى مهمته؛ لنه باقٍ ببقاء الحياة الدنيا‪ ،‬ول يتوقف إل إذا تحقّق قوله‬
‫ت وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً‬
‫ت الَ ْرضُ زُخْ ُر َفهَا وَازّيّ َن ْ‬
‫تعالى‪ {:‬حَتّىا ِإذَآ َأخَ َذ ِ‬
‫لمْسِ‪[} ...‬يونس‪]24 :‬‬
‫حصِيدا كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ‬
‫جعَلْنَاهَا َ‬
‫َأوْ َنهَارا فَ َ‬
‫وفي الخرة سنرى من آيات ال ومن عجائب مخلوقاته شيئا آخر‪ ،‬وكأن الحق تعالى يقول لنا‪ :‬لقد‬
‫رأيتُم آياتي في الدنيا واستوعبتموها‪ ،‬فتعالوا لُريكم اليات الكبرى التي أعددتها لكم في الخرة‪.‬‬
‫ففي الخرة سأنشئكم نشأة أخرى‪ ،‬بحيث تأكلون ول تتغوّطون ول تتألمون‪ ،‬وتمر عليكم العوام‬
‫ول تشيبون‪ ،‬ول تمرضون‪ ،‬ول تموتون‪ ،‬لقد كنتم في الدنيا تعيشون بأسبابي‪ ،‬أما في الخرة فأنتم‬
‫معي مع المسبّب سبحانه‪ ،‬فل حاجة لكم للسباب‪ ،‬ل لشمس ول لقمر ول‪..‬إلخ‪.‬‬
‫ن يقولوا اكتشفنا ل اخترعنا؛ لن آيات ال و ِنعَمه مطمورة في كونه‬
‫لذلك نقول‪ :‬من أدب العلماء أ ْ‬
‫تحتاج لمن يُنقّب عنها ويستنتجها مما جعله ال في كونه من معطيات ومقدمات‪.‬‬
‫وسبق أنْ قلنا‪ :‬إن كل سرّ من أسرار ال في كونه له ميلد كميلد النسان‪ ،‬فإذا حان وقته أظهره‬
‫ال‪ ،‬إما ببحث العلماء وإل جاء مصادفة تكرّما من ال تعالى على خَلْقه الذين َقصُرَت جهودهم‬
‫عن الوصول إلى أسراره تعالى في كونه‪.‬‬
‫ن نؤمن بالغيب الذي أخبرنا ال به‪ ،‬فما ُدمْنا قد رأينا ِنعَمه التي كانت‬
‫وفي هذا إشارة مقدمة ل ْ‬
‫ن نؤمنَ بما يخبرنا به من الغيب‪ ،‬وأنْ نأخذَ من المُشاهَد دليلً‬
‫مطمورة في كونه فينبغي علينا أ ْ‬
‫على ما غاب‪.‬‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ‪[} ...‬البقرة‪:‬‬
‫واقرأ في هذه المسألة قول ال تعالى‪َ {:‬ولَ يُحِيطُونَ بِ َ‬
‫ن يوجد هذا الغيب‪ ،‬وأن يظهر للناس بعد أنْ كان مطمورا‪ ،‬فإنْ صادف‬
‫‪ ]255‬أي‪ :‬شاء سبحانه أ ْ‬
‫بحثا جاء مع البحث‪ ،‬وإنْ لم يصادف جاء مصادفة وبل أسباب‪ ،‬بدليل أنه نسب إحاطة العلم لهم‪.‬‬
‫أما الغيب الذي ليس له مُقدّمات توصل إليه‪ ،‬ول يطلع عليه إل ال فهو المعنيّ بقوله تعالى‪ {:‬عَاِلمُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ‪[} ...‬الجن‪]27-26 :‬‬
‫ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ‬
‫وقال سبحانه‪ } :‬ظَاهِ َر ًة وَبَاطِنَةً‪[ { ..‬لقمان‪ ]20 :‬لن الظاهرة تلفتنا إلى اليمان بال واجب الوجود‬
‫العلى‪ ،‬والباطنة يدخرها ال لمن يأتي بعد‪ ،‬ثم يدخر ادخارا آخر‪ ،‬بحيث ل يظهر إل حين نكون‬
‫مع ال في جنة ال‪.‬‬

‫وقد حاول العلماء أن يُعدّدوا النعم واليات الظاهرة والباطنة‪ ،‬فالظاهرة ما يعطيه لنا في الدنيا‬
‫عدّته من سلح‬
‫ظاهرا‪ ،‬والباطنة ما أخبرنا ال بها‪ ،‬فمثلً حين تريد الجهاد في سبيل ال ُت ِعدّ لذلك ُ‬
‫وجنود‪..‬إلخ وتأخذ بالسباب‪ ،‬فيؤيدك ال بجنود من عنده لم ت َروْها‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬إِذْ يُوحِي‬
‫رَ ّبكَ إِلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ‪[} ...‬النفال‪]12 :‬‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم يخبرنا ببعض هذه النعم الباطنة‪ ،‬فيقول‪ " :‬للمؤمن ثلثة هي له‬
‫وليست له ‪ -‬يعني ليست من عمله ‪ -‬أما الولى‪ :‬أن المؤمنين يصلون عليه‪ ،‬وأما الثانية فجعل ال‬
‫له ثلث ماله يوصي به ‪ -‬يعني‪ :‬ل يتركه للورثة إنما يتصرف هو فيه‪ ،‬وكان المنطق أن تستفيد‬
‫بما لك وأنت حيّ‪ ،‬فإذا ما انتهيت فليس لك منه شيء وينتقل إلى الورثة يوزعه ال تعالى بينهم‬
‫بالميراث الذي شرعه‪ ،‬فمن النعم أن يباح لك التصرف في ثلث ما لك توصي به لتُكفّر به عن‬
‫سيئاتك وتُطَهر به ذنوبك ‪ -‬أما الثالثة‪ :‬أن ال تعالى ستر مساويك عن خَلْقه‪ ،‬ولو فضحك بها‬
‫لنبذك أهلك وأحبابك وأقرباؤك "‪.‬‬
‫إن من أعظم النعم علينا أن يحجب ال الغيب عن خَلْق ال‪ ،‬ولو خيّرتَ أيّ إنسان‪ :‬أتحب أن‬
‫تعرف غَيْب الناس ويعرفوا غيبك؟ فل شكّ في أنه لن يرضى بذلك أبدا‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يوضح هذه المسألة في قوله‪ " :‬لو تكاشفتم ما تدافنتم " يعني‪ :‬لو ظهر‬
‫المستور من غيب النسان‪ ،‬واطلع الناس على ما في قلبه لتركوه إنْ مات ل يدفنونه‪ ،‬ولقالوا دَعُوه‬
‫للكلب تأكله‪ ،‬جزاءً له على ما فعل‪.‬‬
‫لكن لما ستر ال غيوب الناس وجدنا حتى عدو النسان يُسرع بحمله ودفنه‪ ،‬كما قال القائل‪ :‬محا‬
‫الموت أسباب العداوة بيننا‪ .‬لكن من غباء النسان أن ينبشَ عن عيوب الخرين‪ ،‬وأنْ يتتبعَ‬
‫عوراتهم‪ ،‬فهل ترضى أنْ يعاملك الناس بالمثل‪ ،‬فيتتبعون عوراتك‪ ،‬ويبحثون عن عيوبك؟‬
‫ثم إن سيئة واحدة يعرفها الناس عنك كفيلة بأن تُزهّدهم في كل حسناتك‪ ،‬وال تعالى يريد أنْ ينتفع‬
‫الناس بعضهم ببعض ليثرى حركة الحياة‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪َ } :‬ومِنَ النّاسِ مَن يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِلْ ٍم َولَ ُهدًى وَلَ كِتَابٍ مّنِيرٍ { [لقمان‪]20 :‬‬
‫المجادلة‪ :‬الحوار في أمر‪ ،‬لكل طرف فيه جنود‪ ،‬وكل منهم ل يؤمن برأي الخر‪ ،‬والجدل ل‬
‫يكون إل في سبيل الوصول إلى الحقيقة‪ ،‬ويسمونه الجدل الحتمي‪ ،‬وهذا يكون موضوعيا ل لَددَ‬
‫فيه‪ ،‬ويعتمد على العلم والهدى والكتاب المنير‪ ،‬وفيه نقابل الرأي بالرأي ليثمر الجدال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪َ {:‬ولَ ُتجَادِلُواْ َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ‪[} ...‬العنكبوت‪ ]46 :‬أما‬
‫الجدل الذي يريد فيه كل طرف أنْ يُعلي رأيه ولو بالباطل فهو مماراة وسفسطة ل توصل إلى‬
‫شيء‪.‬‬
‫والجدل مأخوذ من الجَدْل أي الفَتْل‪ ،‬والشيء حين يُفتل على مثله يقويه‪ ،‬كذلك الرأي في الجدل‬
‫يُقوّي الرأي الخر‪ ،‬فإذا ما انتهيا إلى الصواب تكاتفا على إظهاره وتقويته‪ ،‬فالجدل المراد به‬
‫تقوية الحق وإظهاره‪.‬‬

‫فإنْ كان الجدل غير ذلك فهو مماراة يحرص فيها كل طرف على أن يعلي رأيه ولو بالباطل‪.‬‬
‫والحق سبحانه يبين لنا أن من الناس من أِلفَ الجدل في ال على غير علم ول هُدىً ول كتاب‬
‫منير‪ ،‬فيقولون مثلً في جدالهم‪ :‬أللكون إله موجود؟ وإنْ كان موجودا‪ ،‬أهو واحد أم متعدد؟ وإنْ‬
‫كان موجودا أيعلم الجزئيات أم الكليات؟ أيزاول مُلْكه كل وقت؟ أم أنه خلق القوانين‪ ،‬ثم تركها‬
‫تعمل في الكون وتُسيّره؟ كأن ال تعالى زاول سلطانه في الملْك مرة واحدة‪.‬‬
‫ومعلوم أن ال تعالى قيّوم أي‪ :‬قائم على أمر الخلَقْ كله في كل وقت‪ ،‬والدليل على ذلك هذه‬
‫صدْق الرسل في البلغ عن ال‪ ،‬كما عرفنا في قصة‬
‫المعجزات التي خرقتْ النواميس لتدلّ على ِ‬
‫إحراق إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬فلو أن المسألة إنجاء إبراهيم من النار لما مكّنهم ال منه‪ ،‬أو‬
‫مكَنهم منه ومن إلقائه في النار‪ ،‬ثم أرسل على النار سحابة تُطفِئها‪.‬‬
‫لكن أراد سبحانه أن يشعلوا النار‪ ،‬وأنْ يُلقوا بإبراهيم فيها‪ ،‬ومع ذلك يخرج منها سالما ليروْا‬
‫بأعينهم هذه المعجزة الخارقة لقانون النار ليكبتهم ال‪ ،‬ول يعطيهم الفرصة ليخدعوا الناس‪ ،‬ولو‬
‫أفلتَ إبراهيم من قبضتهم لوجودا هذه الفرصة ولقالوا‪ :‬لو أمسكنا به لفعلنا به كذا وكذا‪.‬‬
‫ومعنى } ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ‪[ { ..‬لقمان‪ ]20 :‬العلم أن تعرف قضية وتجزم بها‪ ،‬وهي واقعة وتستطيع أنْ‬
‫تُدلّل عليها‪ ،‬فإنْ كانت القضية التي تؤمن بها غير واقعة‪ ،‬فهذا هو الجهل‪ ،‬فالجاهل ل يوضع في‬
‫مقابل العالم؛ لن الجاهل لديه علم بقضية لكنها باطلة‪ ،‬وهذا يتعبك في القناع؛ لنه ليس خالي‬
‫الذهن‪ ،‬فيحتاج أولً لنْ تُخرج من ذهنْه القضية الباطلة وتُحلِ محلها القضية الصحيحة‪ ،‬أما الُميّ‬
‫فهو خالي الذّهن من أي قضيةَ‪.‬‬
‫فإنْ كانت القضية التي تجزم بها واقعة لكن ل تستطيع أنْ تُدلّل عليها‪ ،‬كالولد الصغير الذي علمناه‬
‫أن (ال أحد) واستقرتْ في ذهنه هذه المسألة؛ لن أباه أو معلمه لقّنه هذه القضية حتى أصبحتْ‬
‫ن لقنّها له إلى أنْ يكبر‪ ،‬ويستطيع هو أن يُدلّل عليها‪.‬‬
‫عقيدة عنده‪ ،‬فالذي يُدلّل عليها مَ ْ‬
‫والعلم أنواع‪ ،‬منها وأولها‪ :‬العلم البدهي الذي نصل إليه بالبديهة دون بحث‪ ،‬فمثلً حين نرى‬
‫النسان يتنفس نعلم أنه حيّ بالبديهة‪ ،‬ونعلم أن الواحد نصف الثنين‪ ،‬وأن السماء فوقنا‪ ،‬والرض‬
‫تحتنا‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإذا نظرتَ إلى معلومات الرض كلها تجد أن أم هذه المعلومات البديهة‪ .‬فعلم الهندسة مثلً يقوم‬
‫على نظريات تستخدم الولى منها مقدمة لثبات الثانية‪ ،‬والثانية مقدمة لثبات الثالثة وهكذا‪.‬‬

‫فحين تعيد تسلسل النظريات الهندسية فإنك ل بُدّ عائد إلى النظرية الولى وهي بديهة تقول‪ :‬إذا‬
‫التقى مستقيم بآخر نتج عن هذا اللتقاء زاويتان قائمتان‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فأعقد النظريات ل بُدّ أن تعود إلى أمر بدهي منثور في كون ال‪ ،‬المهم مَنْ يلتفت إليه‪ ،‬وقد‬
‫ت وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫قال الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي ال ّ‬
‫ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪]105 :‬‬
‫فقوله تعالى‪َ } :‬ومِنَ النّاسِ مَن يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ‪[ { ...‬لقمان‪ ]20 :‬أي‪ :‬وجودا وصفاتا } ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ‬
‫وَلَ ُهدًى َولَ كِتَابٍ مّنِيرٍ { [لقمان‪ ]20 :‬يعني‪ :‬أن الجدل يصحّ إنْ كان بعلم وهدى وكتاب منير‪،‬‬
‫فإنْ كان بغير ذلك فل ُي َعدّ جدلً إنما مراء ل طائلَ من ورائه‪.‬‬
‫ضلّ في الصحراء‪ ،‬فلما رأى على‬
‫ومعنى الهدى‪ :‬أي الستدلل بشيء على آخر‪ ،‬كالعربي الذي َ‬
‫الرمال َبعْرا وأثرا لقدام استأنس بها‪ ،‬وعلم أنه على طريق مطروق ول بُدّ أن يمرّ به أحد‪ ،‬فلما‬
‫عرضتْ له قضية اليمان استدل عليها بما رأى فقال‪:‬‬
‫البعرة تدل على البعير‪ ،‬والقدم تدل على المسير‪ ،‬سماء ذات أبراج‪ ،‬وأرض ذات فجاج‪ ،‬نجوم‬
‫تزهر‪ ،‬وبحار تزخر‪َ..‬ألَ يدل ذلك على اللطيف الخبير‪.‬‬
‫فالنسان حين ينظر في الكون وفي آياته ل بُدّ أنْ يصل من خللها إلى الخالق عز وجل‪ ،‬فما كان‬
‫لها أنْ تتأتى وحدها‪ ،‬ثم إنه لم يدّعها أحدٌ لنفسه ممّنْ ينكرون وجود ال‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن أتفه الشياء‬
‫التي نراها ل يمكن ان توجد هكذا بدون صانع‪ ،‬فمثلً الكوب الذي نشرب فيه‪ ،‬هل رأينا مثلً‬
‫شجرة تطرح لنا أكوابا؟‬
‫إذن‪ :‬ل بُدّ أن لها صانعا فكر في الحاجة إليها‪ ،‬فصنعها بعد أنْ كان النسان يشرب الماء عبا‪ ،‬أو‬
‫نزحا بالكفن وما توصلنا إلى هذا الكوب الرقيق النظيف إل بعد بحث العلماء في عناصر الوجود‪،‬‬
‫صهْره تحت درجة‬
‫أيها يمكن أنْ يعطيني هذه الزجاجة الشفافة‪ ،‬فوجدوا أنها تُصنَع من الرمل بعد َ‬
‫حرارة عالية‪ ،‬فهذا الكوب الذي يمكن أنْ نستغني عنه أخذ منا خبرة وقدرة وعلما‪..‬إلخ‪.‬‬
‫فما بالك بالشمس التي تنير الكون كله منذ خلق ال هذا الكون دون أنْ تكلّ أو تملّ أو تتخلف يوما‬
‫واحدا‪ ،‬وهي ل تحتاج إلى صيانة ول إلى قطعة غيار‪ ،‬أليست جديرة بأن نسأل عمّنْ خلقها‬
‫وأبدعها على هذه الصورة‪ ،‬خاصة وانها فوق قدرتنا ول تنالها إمكاناتنا‪.‬‬
‫هذه هي اليات التي نأخذها بالدلة‪ ،‬لكن هذه الدلة ل تُوصّلنا إل إلى أن لهذا الكون بآياته العجيبة‬
‫ن هو‪ ،‬وما اسمه‪ ،‬إذن‪ :‬ل بُدّ من بلغ عن‬
‫خالقا مبدعا‪ ،‬لكن العقل ل يصل بي إلى هذا الخالق‪ :‬مَ ْ‬
‫ال على يد رسول يبلغنا مَنْ هذا الخالق وما اسمه وما مطلوباته‪ ،‬وماذا أعدّ لمن أطاعه‪ ،‬وماذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أعدّ لمن عصاه‪.‬‬

‫وفَرْق بين التعقّل والتصوّر‪ ،‬والذي أتعب الفلسفة أنهم خلطوا بينهما‪ ،‬فالتعقل أن أنظر في آيات‬
‫الكون‪ ،‬وأرى أن لها موجدا‪ ،‬أمّا التصور فبأنْ أتصور هذا الموجِد‪ :‬شكله‪ ،‬اسمه‪ ،‬صفاته‪..‬إلخ‬
‫وهذه ل تتأتى بالعقل‪ ،‬إنما بالرسول الذي يأتي من قِبَل الله الموجد‪.‬‬
‫وسبق أن ضربنا مثلً ‪ -‬ول تعالى المثل العلى ‪ -‬قلنا‪ :‬لو أننا نجلس في مكان مغلق‪ ،‬وطرق‬
‫الباب طارق‪ ،‬فكلنا يتفق على أن طارقا بالباب ل خلف في هذه‪ ،‬لكن نختلف في تصوّره‪ ،‬فواحد‬
‫يتصور انه رجل‪ ،‬وآخر يقول‪ :‬طفل‪ ،‬وآخر يتصوّره امرأة‪ ،‬وواحد يتصوره بشيرا‪ ،‬وآخر‬
‫يتصوره نذيرا‪..‬إلخ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬اتفقنا في التعقّل‪ ،‬واختلفنا في التصور‪ ،‬ولكي تعرف مَن الطارق فعلينا أن نقول‪ :‬من‬
‫الطارق؟ ليعلن هو عن نفسه ويخبرنا مَنْ هو؟ ولماذا جاء؟ ويُنهي لنا في هذا الخلف‪.‬‬
‫كذلك الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬هو الذي يخبرنا عن نفسه‪ ،‬لكن كيف يتم ذلك؟ من خلل رسول‬
‫من البشر يستطيع أنْ يتجلى ال عليه بالخطاب‪ ،‬بأن يكون مُعدّا لتلقّي هذا الخطاب‪ ،‬ل أنْ يخاطب‬
‫كل الناس‪.‬‬
‫وقد مثّلْنا لذلك أيضا (بلمبة) الكهرباء الصغيرة أو (الراديو) الذي ل يتحمل التيار المباشر‪ ،‬يل‬
‫يحتاج إلى (ترانس) أو منظم يعطيه الكهرباء على َقدْره وإل حُرق‪ ،‬فحتى في الماديات ل بد من‬
‫قوي يستقبل ليعطي الضعيف‪.‬‬
‫والحق سبحانه يُعد من خَلْقه مَنْ يتلقى عنه‪ ،‬ويُبلّغ الناس‪ ،‬فيكلم ال الملئكة‪ ،‬والملئكة تكلم الرسل‬
‫ل وَحْيا‪[} ...‬الشورى‪]51 :‬‬
‫من البشر؛ لذلك يقول سبحانه‪َ {:‬ومَا كَانَ لِ َبشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ‬
‫وإل لو كلّم ال جميع البشر‪ ،‬فما الحاجة للرسل؟ لذلك لما سُئِل المام علي رضي ال عنه‪:‬‬
‫أعرفتَ ربك بمحمد‪ ،‬أم عرفتَ محمدا بربك؟ فقال‪ :‬لو عرفتُ ربي بمحمد لكان محمد أوثقَ عندي‬
‫من ربي‪ ،‬ولو عرفتُ محمدا بربي‪ ،‬فما الحاجة إذن للرسل‪ ،‬لكن عرفتُ ربي بربي‪ ،‬وجاء محمد‪،‬‬
‫فبلّغني مراد ربي منى‪ .‬إذن‪ :‬ل ُبدّ من هذه الواسطة‪.‬‬
‫ل يوضح هذه المسألة في قوله تعالى عن سيدنا موسى‪ {:‬قَالَ‬
‫والحق سبحانه يعطينا في القرآن مثا ً‬
‫َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ‪[} ..‬العراف‪ ]143 :‬فبماذا أجابه ربه؟{ قَالَ لَن تَرَانِي‪[} ...‬العراف‪]143 :‬‬
‫ولم يقل سبحانه‪ :‬أنا ل أُرىَ‪ ،‬والمعنى‪ :‬لو أعدد ُتكَ العدادَ المناسب لهذه الرؤية لرأيتَ بدليل أننا‬
‫س ُنعَدّ في الخرة على هيئة نرى فيها ال عز وجل‪ُ {:‬وجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ }‬
‫[القيامة‪]23-22 :‬‬
‫حجُوبُونَ }‬
‫وفي المقابل يقول عن الكفار الذين سيُحرمون هذه الرؤية{ كَلّ إِ ّنهُمْ عَن رّ ّبهِمْ َي ْومَئِذٍ ّلمَ ْ‬
‫[المطففين‪]15 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم لما تجلى الحق سبحانه للجبل‪ ،‬وهو الجنس القوى من موسى ماد ًة وصلبة أندكّ الجبل‪ ،‬ونظر‬
‫موسى إلى الجبل المتجلّي عليه فخ ّر صَعقا‪ ،‬فما بالك لو نظر إلى المتجلّي سبحانه؟‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه حينما يريد أنْ يخاطب أحدا من خَلْقه‪ ،‬أو يتجلى عليه ُيعِدّه لذلك‪ ،‬ويُربّيه على‬
‫عينه‪ ،‬كما قال عن موسى‬

‫{ وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه‪ ]39 :‬وقال في موضع آخر‪ {:‬وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي }[طه‪ ]41 :‬ثم يقوم‬
‫هذا المربي الذي رباه ال بتربية الخَلْق‪.‬‬
‫وقد ربى محمد صلى ال عليه وسلم أمته في ثلث وعشرين سنة‪ ،‬ولو أن ال تعالى خاطب كل‬
‫إنسان بالمنهج لستغرقتْ تربية الناس وقتا طويلً؛ لذلك يصطفي ال الرسل‪ ،‬ويعطيهم من‬
‫الخصائص ما يُمكّنهم من تربية المم بعد أنْ ربّاهم ال‪ ،‬واصطنعهم على عينه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كان ول بُدّ من إرسال الرسل للبلغ عن ال‪ :‬مَنْ هو‪ ،‬ما اسمه‪ ،‬ما صفاته؟ ما مطلوباته؟‬
‫ن تقول‬
‫ماذا أعدّ لمن اطاعه؟ وماذا أعد لمن عصاه‪..‬إلخ‪ .‬لذلك فأول دليل على بطلن الشرك أ ْ‬
‫للذي يشرك الشمس أو القمر أو الصنام مع ال في العبادة‪ :‬وماذا قالت لك هذه الشياء؟ ما‬
‫مطلوباتها؟ ما مرادها منك؟ وإل‪ ،‬فلماذا تعبدها والعبادة في أوضح معانيها‪ :‬طاعة العابد لمر‬
‫المعبود ونهيه؟‬
‫فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬إذن لماذا قَبَِلتْ عقول هؤلء القوم أنْ يعبدوا هذه الشياء؟ نقول‪ :‬لن التديّنَ طبيعة في‬
‫النفس البشرية ومركوز في الفطرة التي فطر ال الناس عليها‪ ،‬وسبق أنْ أوضحنا أن كلً منا فيه‬
‫ذرة حية من أبيه ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬لم يطرأ عليها الفناء‪ ،‬وإل لما وُجِد النسان‪ ،‬وهذه الذرة في‬
‫ستُ‬
‫كل منا هي التي شهدتْ الفطرة‪ ،‬وشهدتْ الخلقَ‪ ،‬وشهدتْ العهد الذي أخذه ال علينا جميعا{ أَلَ ْ‬
‫بِرَ ّبكُمْ‪[} ...‬العراف‪]172 :‬‬
‫فإنْ حافظتَ على إشراقية هذه الذرة فيك‪ ،‬ولم تُعرّضها لما يطمس نورها ‪ -‬ول يكون ذلك إل‬
‫ن فعلتَ ذلك أنار ال وجهك‬
‫بالسير على منهج خالقك وبناء لبنات جسمه مما أحل ال ‪ -‬إ ْ‬
‫وبصيرتك‪.‬‬
‫لذلك جاء في الحديث أن العبد يشكو‪ :‬يقول " دعوتُ فلم يُستجب لي‪ ،‬لكن أنّى يستجاب له‪،‬‬
‫ومطعمه من حرام‪ ،‬ومشربه من حرام‪ ،‬وملبسه من حرام؟ " كيف وقد طمس الذرة النورانية فيه‪،‬‬
‫شقَىا * َومَنْ‬
‫ل َولَ يَ ْ‬
‫وغفل عن قانون صيانتها؟ واقرأ قوله تعالى‪َ {:‬فمَنِ اتّ َبعَ هُدَايَ فَلَ َيضِ ّ‬
‫عمَىا }[طه‪]124-123 :‬‬
‫حشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ أَ ْ‬
‫أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ َلهُ َمعِيشَ ًة ضَنكا وَنَ ْ‬
‫فالمعيشة الضنك والعياذ بال تأتي حين تنطمس النورانية اليمانية‪ ،‬وحين ل تحافظ على إشراقية‬
‫هذه الذرة التي شهدتْ خَلْق ال‪ ،‬وشهدتْ له بالربوبية‪ ،‬ولو حافظت عليها لظّلتْ كل التعاليم‬
‫واضحة أمامك‪ ،‬وما غفلت عن منهج ربك هذه الغفلة التي ج ّرتْ عليك المعيشة الضنك‪ ،‬واقرأ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا‪[} ...‬النفال‪ ]29 :‬أي‪ :‬نورا‬
‫قول ال تعالى‪ {:‬يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ يَ ْ‬
‫يهديكم وتُفرّقون به بين الحق والباطل‪.‬‬
‫والحق سبحانه يوضح لنا ما يطمس الفطرة اليمانية‪ ،‬وهما أمران‪ :‬الغفلة والتي قال ال عنها‪ {:‬أَن‬
‫َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[العراف‪ ]172 :‬والقدوة التي قال ال عنها‪ {:‬إِ ّنمَآ‬
‫ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ‪} ...‬‬
‫أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ‬

‫[العراف‪]173 :‬‬
‫فالذي يطمس الفطرة اليمانية الغفلة عن المنهج‪ ،‬هذه الغفلة تُوجِد جيلً ل يتمسك بمنهج الحق‪،‬‬
‫وبذلك تكون العقبة في الجيل الول الغفلة‪ ،‬لكن في الجيال اللحقة الغفلة والقدوة السيئة‪ ،‬وهكذا‬
‫كلما تنقضي الجيال تزداد الغفلة‪ ،‬وتزداد القدوة السيئة؛ لذلك يوالي الحق سبحانه إرسال الرسل‬
‫ليزيح عن الخَلْق هذه الغفلة‪ ،‬وليوجد لهم من جديد قدوةً حسنة‪ ،‬ليقارنوا بين منهج الحق ومنهج‬
‫الخَلْق‪.‬‬
‫فمَنْ أراد أنء يجادل في ال فليجادل بعلم وبهدى وبكتاب منير مُن ّزلٍ من عند ال‪ ،‬و َوصْف الكتاب‬
‫بأنه منير يدلّنا على أن الكتاب المنسوب إلى ال تعالى لبُدّ أن يكون منيرا؛ لكنه قد يفقد هذا النور‬
‫بما يطرأ عليه من تحريف وتبديل ونسيان وكتمان‪..‬إلخ‪.‬‬
‫وقد أوضح ال تعالى هذه المراحل في قوله تعالى‪ {:‬فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ‪[} ...‬النعام‪]44:‬‬
‫ثم‪َ {:‬يكْ ُتمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَا ْل ُهدَىا‪[} ..‬البقرة‪]159 :‬‬
‫وإن كان النسان يُعذَر في النسيان‪ ،‬فل يُعذَر في الكتمان‪ ،‬ثم الذي نجا من النسيان ومن الكتمان‬
‫ضعِهِ‪[} ..‬المائدة‪ ]13 :‬ولَيْتهم اقتصروا على ذلك‪ ،‬إنما‬
‫وقع في التحريف{ ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَن ّموَا ِ‬
‫اختلفوا من عند أنفسهم كلما‪ ،‬ثم نسبوه إلى ال‪َ {:‬فوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ‬
‫هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ‪[} ...‬البقرة‪ ]79 :‬فأنواع الطمس هذه أربعة ظهرت كلها في اليهود‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالكتب التي بأيديهم ل تصلح للجدل في ال؛ لنها تفقد العلم والحجة والهدى‪ ،‬ول ُتعَدّ من‬
‫الكتاب المنير المشرق الذي يخلو من التضبيبات والفجوات‪ ،‬فجوات النسيان والكتمان‪ ،‬والتحريف‬
‫والختلق‪.‬‬
‫فمَنْ يريد أنْ يجادل في ال فليجادل بناء على علم بدهىّ أو هدى استدللي‪ ،‬أو كتاب منير‪.‬‬
‫والكتب المنزلّة كثيرة‪ ،‬منها صحف إبراهيم وموسى‪ ،‬ومنها زُبُر الولين‪ ،‬والزبور نزل على‬
‫سيدنا داود‪ ،‬والتوراة على موسى‪ ،‬والنجيل على عيسى ‪ -‬عليهم جميعا السلم ‪ -‬وهذه كلها كتب‬
‫من عند ال‪ ،‬لكن هل طرأ عليها حالة عدم النارة؟‬
‫نقول‪ :‬نعم‪ ،‬لنها انطمست بشهوات البشر فيها وبأهوائهم التي شوّهتها وأخرجتها عن الشراقية‬
‫والنورانية التي كانت لها‪ ،‬وهذا نتيجة السلطة الزمنية وهي أقسى شيء في تغيير المناهج‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه السلطة الزمنية هي التي منعتْ اليهود أن يؤمنوا برسول ال‪ ،‬وهم يعلمون بعثته في بلد‬
‫العرب‪ ،‬ويعلمون موعده وأوصافه‪ ،‬وأنه صلى ال عليه وسلم خاتم الرسل؛ لذلك يقول القرآن‬
‫عنهم‪َ {:‬يعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآءَ ُهمُ‪[} ...‬النعام‪]20 :‬‬
‫ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ }[البقرة‪ ]146 :‬لذلك‪ ،‬سيدنا عبدال بن‬
‫حّ‬‫ويقول عنهم‪ {:‬وَإِنّ فَرِيقا مّ ْنهُمْ لَ َيكْ ُتمُونَ الْ َ‬
‫سلم يقول عن سيدنا رسول ال‪ :‬وال لقد عرفتُه حين رأيته كمعرفتي لبني‪ ،‬ومعرفتي لمحمد‬
‫أشد‪.‬‬
‫ويحكي القرآن عن أهل الكتاب أنهم كانوا يستفتحون برسول ال على الكفار فيقولون لهم‪ :‬لقد أظل‬
‫زمان نبي جديد نسبقكم إليه‪ ،‬ونقتلكم به قتل عاد وإرم{ َوكَانُواْ مِن قَ ْبلُ َيسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ‬
‫فََلمّا جَآءَهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }‬

‫[البقرة‪]89 :‬‬
‫لماذا؟ لنهم يعلمون أنه سيسلبهم المكانة التي كانت لهم‪ ،‬والريادة التي أخذوها في العلم والقتصاد‬
‫والحرب‪..‬إلخ‪ ،‬لقد كانوا ُيعِدّون واحدا منهم ليُنصّبوه ملكا عليهم في المدينة ليلة هاجر إليها رسول‬
‫ال‪ ،‬فلما دخلها رسول ال لم ًتعُد لحد مكانة الريادة بعد رسول ال‪ ،‬فرفض هذا الملك الجديد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكل الكتب السماوية لحقها التحريف والتغيير‪ ،‬فلم يضمن لها الحق سبحانه الصيانات التي‬
‫تحميها كما حمى القرآن‪ ،‬وما ذاك إل ليظهر شرف النبي الخاتم‪ ،‬فالكتب السابقة للقرآن جاءت‬
‫كتبَ أحكام‪ ،‬ولم تكن معجزة في ذاتها‪ ،‬فالرسل السابقون كانت لهم معجزات منفصلة عن الكتب‬
‫وعن المنهج‪ ،‬فموسى عليه السلم معجزته‪ :‬العصا واليد‪..‬إلخ وكتابه ومنهجه التوراة‪ ،‬وعيسى‬
‫عليه السلم معجزته أنْ يُبرئ الكمه والبرص ويحيى الموتى بإذن ال وكتابه ومنهجه النجيل‪.‬‬
‫أما محمد صلى ال عليه وسلم فمعجزته وكتابه ومنهجه هو القرآن‪ ،‬فهو منهج ومعجزة ستصاحب‬
‫الزمان إلى أنْ تقوم الساعة؛ لن رسالته هي الرسالة الخاتمة‪ ،‬فل ُبدّ أن يكون كتابه ومعجزته‬
‫كذلك فنقول‪ :‬هذا محمد وهذه معجزته‪.‬‬
‫أما الرسالت السابقة فكانت المعجزة وقتية لمن رآها وعاصرها ولول أن ال أخبرنا بها ما عرفنا‬
‫عنها شيئا‪ ،‬وما صدّقنا بها‪ ،‬وسبق أنْ شبّهناها بعود الكبريت الذي يشعل مرة واحدة رآه مَنْ رآه‪،‬‬
‫ثم يصبح خبرا؛ لذلك ل نستطيع أن نقول مثلً‪ :‬هذا موسى عليه السلم وهذه معجزته؛ لننا لم نَرَ‬
‫هذه المعجزة‪.‬‬
‫ولما كانت الكتب السابقة كتبا تحمل المنهج‪ ،‬وليست معجزة في ذاتها ترك ال تعالى حفظها لهلها‬
‫الذين آمنوا بها‪ ،‬وهذا أمر تكليفي عُرْضة لنْ يُطاع‪ ،‬ولنْ يُعصَى‪ ،‬فكان منهم أنْ عصوا هذا‬
‫المر فحدث تضبيب في هذه الكتب‪.‬‬
‫سَلمُواْ لِلّذِينَ هَادُواْ‬
‫حكُمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَ ْ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬إِنّآ أَنزَلْنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا ُهدًى وَنُورٌ َي ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ‪[} ...‬المائدة‪]44 :‬‬
‫وَالرّبّانِيّونَ وَالَحْبَارُ ِبمَا اسْتُ ْ‬
‫حفْظه‪،‬‬
‫وساعة تسمع الهمزة والسين والتاء‪ ،‬فاعلم أنها للطلب‪ :‬استحفظتُك كذا يعني‪ :‬طلبتُ منك ِ‬
‫مثل‪ :‬استفهمتُ يعني طلبت الفهم‪ ،‬واستخرجت‪ ،‬واستوضحت‪..‬إلخ‪.‬‬
‫فلما جُرّب الخَلْق في حفظ كلم الخالق فلم يؤدوا‪ ،‬ولم يحفظوا‪ ،‬تكفّل ال سبحانه بذاته بحفظ‬
‫القرآن‪ ،‬وقال‪ {:‬إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر‪]9 :‬‬
‫لذلك ظلّ القرآن كما نزل لم تَنَلْه يد التحريف أو الزيادة أو النقصان‪ ،‬وصدق ال تعالى حين قال‬
‫ب لَ رَ ْيبَ فِيهِ‪[} ...‬البقرة‪ ]2 :‬ل الن‪ ،‬ول بعد‪ ،‬ول إلى قيام الساعة‪،‬‬
‫في أول سوره{ ذَِلكَ ا ْلكِتَا ُ‬
‫حتى أن أعداء القرآن أنفسهم قالوا‪ :‬ل يوجد كتاب مُوثّق في التاريخ إل القرآن‪.‬‬
‫حفْظ القرآن أن الذي يحفظ شيئا يحفظه ليكون حجة له‪ ،‬ل حجة عليه‪ ،‬كما‬
‫والعجيب في مسألة ِ‬
‫حفْظ القرآن‪،‬‬
‫تحفظ أنت الكمبيالة التي لك على خصمك‪ ،‬أما الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فقد ضمن ِ‬
‫والقرآن ينبئ بأشياء ستوجد فيما بعد‪ ،‬والحق سبحانه ل يحفظ هذا ويُسجّله على نفسه‪ ،‬إل إذا‬
‫حفْظ الحق سبحانه للقرآن دليل على أنه ل‬
‫صدْق وتحقّق ما أخبر به وإل لما حفظه‪ ،‬إذن‪ :‬ف ِ‬
‫ضمن ِ‬
‫يطرأ شيء في الكون أبدا يناقض كلم ال في القرآن‪:‬‬

‫{ وََلوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ َل َوجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفا كَثِيرا }[النساء‪]82 :‬‬
‫وسبق أنْ قُلنا‪ :‬إن القرآن حكم في أشياء مستقبلية للخلق فيها اختيار‪ ،‬فيأتي اختيار الخَلْق وفق ما‬
‫حكم‪ ،‬مع أنهم كافرون بالقرآن‪ ،‬مكذبون له‪ ،‬ومع ذلك لم يحدث منهم إل ما أخبر ال به‪ ،‬وكان‬
‫ن يمتنعوا‪ ،‬لكن هيهات فل يتم في كون ال إل ما أراد‪.‬‬
‫بإمكانهم أ ْ‬
‫لكن‪ ،‬ماذا نفعل فيمَنْ يجادل في ال بغير علم ول هُدىً ول كتاب منير؟ نلفته إلى العلم‪ ،‬وإلى‬
‫الهدى‪ ،‬وإلى الكتاب المنير‪.‬‬
‫ندعوهم إلى النظر في اليات الكونية‪ ،‬وفي البدهيات التي تثبت وجود الخالق عز وجل‪ ،‬ندعوهم‬
‫إلى الهدى‪ ،‬والستدلل وإلى النظر في المعجزة التي جاء بها رسول ال‪ ،‬ألم يخبر وهو في شدة‬
‫الحصارالذي ضربه عليه وعلى آله كفار مكة حتى اضطروهم إلى أكل الميتة وأوراق‬
‫الشجر‪..‬إلخ‪.‬‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪ ]45 :‬حتى أن‬
‫إلم يُخبر القرآن في هذه الثناء بقوله تعالى‪ {:‬سَ ُيهْزَمُ الْ َ‬
‫سيدنا عمر ليتعجب‪ :‬أيّ جمع هذا؟ ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ فلما جاء يوم بدر ورأى‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪.]45 :‬‬
‫بعينه ما حاق بالكفار قال‪ :‬صدق ال{ سَ ُيهْزَمُ الْ َ‬
‫سمُهُ عَلَى ا ْلخُرْطُومِ }[القلم‪ ]16 :‬وفعلً‪ ،‬لم يعرفوا الوليد‬
‫ألم يقل القرآن عن الوليد بن المغيرة{ سَنَ ِ‬
‫يوم بدر بين القتلى إل بضربة على خرطومه‪ .‬ألم يُشِرْ رسول ال قبل المعركة إلى مصارع‬
‫القوم‪ ،‬فيقول وهو يشير إلى مكان بعينه‪ :‬هذا مصرع فلن‪ ،‬وهذا مصرع فلن‪ ،‬ثم تأتي المعركة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويُقتل هؤلء في نفس الماكن التي أشار إليها سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫والحق سبحانه أعطانا في القرآن أشياء تدل على أنه كتاب يُنوّر لنا الماضي‪ ،‬ويُنوّر لنا الحاضر‬
‫والمستقبل‪ .‬وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن الغيب دونه حجب الزمان‪ ،‬أو حجب المكان‪ ،‬فما سبقك من أحداث‬
‫يحجبها عنك حجاب الزمان الماضي‪ ،‬وما سيحدث في المستقبل يحجبه عنك حجاب الزمان‬
‫المستقبل‪ ،‬أما الحاضر الذي تعيشه فيحجبه عنك المكان‪ ،‬بل وقد تكون في نفس المكان وتجلس‬
‫معي‪ ،‬لكنك ل تعرف ما في صدري مثلً‪.‬‬
‫ل في غزوة مؤتة لما‬
‫وكل هذه الحجب خرقها الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فمث ً‬
‫بعث النبي صلى ال عليه وسلم جيشه إليها‪ ،‬وبقي هو في المدينة قال‪ :‬حين وزّع القيادة‪ :‬يحمل‬
‫الراية فلن‪ ،‬فإذا قُتِل يحملها فلن‪ ،‬فإذا قُتِل يحملها فلن وسمّى هؤلء الثلثة‪ ،‬ثم قال‪ :‬فإذا قُتِل‬
‫الثالث فاختاروا من بينكم مَنْ يحملها‪.‬‬

‫وجلس النبي صلى ال عليه وسلم بين أصحابه في المدينة‪ ،‬وأخذ يصف لهم المعركة وصفا‬
‫تفصيليا‪ ،‬فلما عاد الجيش من مؤتة وجدوا واقع المعركة وفق ما أخبر به النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم وهو في المدينة‪.‬‬
‫وقد نبهتنا هذه المسألة إلى السر في تسمية مؤتة (غزوة) وكانوا ل يقولون غزوة إل للتي شهدها‬
‫رسول ال بنفسه‪ ،‬أما التي ل يخرج فيها فتسمّى (سرية) فلما أخبر صلى ال عليه وسلم بما يدور‬
‫في المعركة مع بُعد المسافات اعتبرها المسلمون غزوة‪.‬‬
‫بل وأبلغ من ذلك‪ ،‬فالحق سبحانه كسف لرسوله صلى ال عليه وسلم ما يدور في نفوس قومه‪{:‬‬
‫سهِمْ َلوْلَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ‪[} ...‬المجادلة‪]8 :‬‬
‫وَيَقُولُونَ فِي أَنفُ ِ‬
‫ت الماضي والحاضر والمستقبل‪.‬‬
‫هذه كلها من آيات النارة في القرآن التي استوعب ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَِإذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُواْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3414 /‬‬

‫جدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا َأوََلوْ كَانَ الشّ ْيطَانُ َيدْعُوهُمْ إِلَى‬


‫وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ قَالُوا َبلْ نَتّبِعُ مَا وَ َ‬
‫سعِيرِ (‪)21‬‬
‫عَذَابِ ال ّ‬

‫كلمة { مَآ أَن َزلَ اللّهُ‪[ } ..‬لقمان‪ ]21 :‬عامة تشمل كل الكتب المنزّلة‪ ،‬وأقرب شيء في معناها أن‬
‫نقول‪ :‬اتبعوا ما أنزل ال على رسلكم الذين آمنتم بهم‪ ،‬ولو فعلتم ذلك لَسلّمتم بصدق رسول ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأقررتم برسالته‪.‬‬
‫أو‪ :‬يكون المعنى { اتّ ِبعُواْ مَآ أَن َزلَ اللّهُ‪[ } ..‬لقمان‪ ]21 :‬أي‪ :‬تصحيحا للوضاع‪ ،‬واعرضوه على‬
‫عقولكم وتأملوه‪.‬‬
‫جدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا‪[ } ..‬لقمان‪:‬‬
‫لكن يأتي ردهم‪َ ( :‬بلْ) وبل تفيد إضرابهم عما أنزل ال { نَتّبِعُ مَا وَ َ‬
‫‪ ]21‬وفي آية أخرى{ قَالُواْ َبلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَ ْيهِ آبَآءَنَآ‪[} ...‬البقرة‪]170 :‬‬
‫فما الفرق بين (وجدنا) و (ألفينا) وهما بمعنى واحد؟ قالوا‪ :‬لن أعمار المخاطبين مختلفة في‬
‫صُحْبة آبائهم والتأثر بهم‪ ،‬فبعضهم عاش مع آبائه يُقلّدهم فترة قصيرة‪ ،‬وبعضهم عاصر الباء‬
‫فترة طويلة حتى أَلف ما هم عليه وعشقه؛ لذلك قال القرآن مرة (َألْفيْنَا) ومرة (وَجَدَنْا)‪.‬‬
‫والختلف الثاني نلحظه في اختلف تذييل اليتين‪ ،‬فمرة يقول‪َ {:‬أوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ شَيْئا‬
‫وَلَ َيهْتَدُونَ }[البقرة‪ ]170 :‬ومرة أخرى يقول‪َ {:‬أوََلوْ كَانَ آبَاؤُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ شَيْئا وَلَ َيهْتَدُونَ }‬
‫[المائدة‪]104 :‬‬
‫فما الفرق بين‪ :‬يعقلون ويعلمون؟‬
‫الذي يعقل هو الذي يستطيع بعقله أنْ يستنبط الشياء‪ ،‬فإذا لم يكن لديه العقل الستنباطي عرف‬
‫المسألة ممّنْ يستنبطها‪ ،‬وعليه فالعلم أوسع دائرة من العقل؛ لن العقل يعلم ما عقله‪ ،‬أما العلم‬
‫فيعلم ما عقله هو ما عقله غيره‪ ،‬فقوله ( َيعَْلمُونَ) تشمل أيضا ( َي ْعقِلوُن)‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إذا نُفي العقل ل يُنفي العلم؛ لن غيرك يستنبط لك فالرجل الريفي البسيط يستطيع أن يدير‬
‫التلفزيون مثلً ويستفيد به ويتجول بين قنواته‪ ،‬وهو ل يعرف شيئا عن طبيعة عمل هذا الجهاز‬
‫الذي بين يديه‪ ،‬إنما تعلّمه من الذي يعلمه‪ ،‬فالنسان يعلم ما يعقله بذاته‪ ،‬ويعلم ما يعقله غيره‪،‬‬
‫ويؤديه إليه؛ لذلك ف َنفْي العلم دليل على الجهل المطبق الذي ل أملَ معه في إصلح الحال‪.‬‬
‫جدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا‪[ } ..‬لقمان‪ ،]21 :‬وفي‬
‫ونلحظ أيضا أن القرآن يقول هنا‪ { :‬قَالُواْ َبلْ نَتّبِعُ مَا وَ َ‬
‫علَيْهِ آبَاءَنَآ‪[} ...‬المائدة‪ ]104 :‬فقولهم‪ :‬نتبع ما وجدنا‬
‫حسْبُنَا مَا وَجَدْنَا َ‬
‫موضع آخر يقول‪ {:‬قَالُواْ َ‬
‫عليه آباءنا فيه دللة على إمكانية اتباعهم الحق‪ ،‬فالنكار هنا بسيط‪ ،‬أما الذين قالوا{ حَسْبُنَا‪} ...‬‬
‫[المائدة‪ ]104 :‬يعني‪ :‬يكفينا ول نريد غيره‪ ،‬فهو دللة على شدة النكار؛ لذلك في الولى نفى‬
‫عنهم العقل‪ ،‬أما في الخرى فنفى عنهم العلم‪ ،‬ف َعجُز اليات يأتي مناسبا لصدرها‪.‬‬
‫سعِيرِ } [لقمان‪:‬‬
‫وهنا يقول تعالى في تذييل هذه الية { َأوََلوْ كَانَ الشّ ْيطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىا عَذَابِ ال ّ‬
‫‪ ]21‬لن آباءهم ما ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من عبادة الصنام والكفر بال إل بوسوسة الشيطان‪،‬‬
‫فالشيطان قَدْر مشترك بينهم وبين آبائهم‪.‬‬
‫وهذا يدلنا على أن منافذ الغواء مرة تأتي من النفس‪ ،‬ومرة تأتي من الشيطان‪ ،‬وبهما يُطمس نور‬
‫اليمان ونور المنهج في نفس المؤمن‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسبق أنْ بينّا أنك تستطيع أن تفرق بين المعصية التي تأتيك من قِبَل الشيطان‪ ،‬والتي تأتيك من‬
‫قِبَل نفسك‪ ،‬فالشيطان يريدك عاصيا على أيّ وجه من الوجوه‪ ،‬فإذا تأب ْيتَ عليه في ناحية نقلك إلى‬
‫ناحية أخرى‪.‬‬
‫أما النفس فتريد معصية بعينها تقف عندها ل تتحول عنها‪ ،‬فالنفس تميل إلى شيء بعينه‪ ،‬ويصعب‬
‫ن تتوبَ منه‪ ،‬ولكل نفس نقطة ضعف أو شهوة تفضلها؛ لذلك بعض الناس لديهم كما قلنا‬
‫عليها أ ْ‬
‫(طفاشات) للنفوس؛ لنهم بالممارسة والتجربة يعرفون نقطة الضعف في النسان ويصلون إليه‬
‫من خللها‪ ،‬فهذا مدخله كذا‪ ،‬وهذا مدخله كذا‪.‬‬
‫لكن نرى الكثيرين ممن يقعون في المعصية يُلْقون بالتبعة على الشيطان‪ ،‬فيقول الواحد منهم‪ :‬لقد‬
‫أغواني الشيطان‪ ،‬ول يتهم نفسه‪ ،‬وهذا يكذّبه الحديث النبوي في رمضان‪:‬‬
‫صفّدت الشياطين "‪.‬‬
‫" إذا جاء رمضان فُتِحت أبواب الجنة‪ ،‬وغُلّقت أبواب النار‪ ،‬و ُ‬
‫فلو أن المعاصي كلها من قِبَل الشيطان ما رأينا معصية في رمضان‪ ،‬ول ارتكبت فيه جريمة‪ ،‬أما‬
‫وتقع فيه المعاصي وتُرتكب الجرائم‪ ،‬فل بُدّ أن لها سببا آخر غير الشيطان؛ لن الشياطين مُصفّدة‬
‫فيه مقيدة‪.‬‬
‫جهَهُ‪.{ ...‬‬
‫سلِ ْم وَ ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومَن يُ ْ‬

‫(‪)3415 /‬‬

‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَى وَإِلَى اللّهِ عَاقِبَةُ الُْأمُورِ (‪)22‬‬
‫جهَهُ إِلَى اللّهِ وَ ُهوَ ُمحْسِنٌ َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫َومَنْ ُيسْلِ ْم َو ْ‬

‫يعني‪ :‬مَنْ أراد أن يُخلّص نفسه من الجدل بغير علم‪ ،‬وبغير هدى‪ ،‬وبغير كتاب منير‪ ،‬فعليه أنْ‬
‫ج َمعِينَ }[ص‪]82 :‬‬
‫غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫يُسلم وجهه إلى ال؛ لن ال تعالى قال في آية أخرى‪ {:‬قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ‬
‫ثم استثنى منهم{ ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[الحجر‪]40 :‬‬
‫وقال سبحانه‪ {:‬إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانٌ‪[} ...‬السراء‪]65 :‬‬
‫جهَهُ إِلَى اللّهِ‪[ } ..‬لقمان‪ ]22 :‬أخلص وجهه في عبادته ل وحده‪ ،‬وبذلك يكون في‬
‫ومعنى { ُيسْلِ ْم َو ْ‬
‫معية ال‪ ،‬ومَنْ كان في معية ربه فل يجرؤ الشيطان على غوايته‪ ،‬ول يُضيع وقته معه‪ ،‬إنما‬
‫ينصرف عنه إلى غافل يستطيع الدخول إليه‪ ،‬فالذي ينجيك من الشيطان أن تُسلم وجهك ل‪.‬‬
‫وقد ضربنا لذلك مثلً بالولد الصغير حينما يسير في صحبة أبيه فل يجرؤ أحد من الصبيان أن‬
‫ن انفلتَ من يد‬
‫يعتدي عليه‪ ،‬أما إنْ سار بمفرده فهو عُرْضة لذلك‪ ،‬ل َيسْلم منه بحال‪ ،‬كذلك العبد إ ِ‬
‫ال ومعيته‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جهَهُ للّهِ‪[} ...‬البقرة‪ ]112 :‬وهنا قال‬
‫وهذا المعنى ورد أيضا في قوله سبحانه‪ {:‬بَلَىا مَنْ أَسَْل َم وَ ْ‬
‫{ إِلَى اللّهِ‪[ } ...‬لقمان‪ ]22 :‬فما الفرق بين حرفي الجر‪ :‬إلى‪ ،‬اللم؟‬
‫استعمال (إلى) تدل على أن ال تعالى هو الغاية‪ ،‬والغاية ل بُدّ لها من طريق للهداية يُوصّل إليها‪.‬‬
‫أمّا (اللم) فتعني ال َوصْل ل مباشرة دون قطع طريق‪ ،‬وهذا الوصول المباشر ل يكون إل بدرجة‬
‫عالية من الخلص ل‪.‬‬
‫ج َههُ إِلَى اللّهِ‪[ } ..‬لقمان‪ ]22 :‬يعني‪ :‬أنك على الطريق الموصّل إلى‬
‫فقوله تعالى‪َ { :‬ومَن ُيسْلِ ْم وَ ْ‬
‫ال تعالى‪ ،‬وأنك تؤدي ما افترضته عليك‪.‬‬
‫ومن إسلم الوجه ل َقوْل ملكة سبأ‪ {:‬وَأَسَْل ْمتُ َمعَ سُلَ ْيمَانَ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[النمل‪ ]44 :‬الكلم‬
‫هنا كلم ملكة‪ ،‬فلم تقل‪ :‬أسلمتُ لسليمان‪ ،‬لكن مع سليمان ل‪ ،‬فل غضاضة إذن‪.‬‬
‫وإسلم الوجه ل‪ ،‬أو إخلص العمل ل تعالى عملية دقيقة تحتاج من العبد إلى قدر كبير من‬
‫المجاهدة؛ لن النفس ل تخلو من هفوة‪ ،‬وكثيرا ما يبدأ النسان العمل مخلصا ل‪ ،‬لكن سرعان ما‬
‫تتدخل النفس بما لها من حب الصّيت والسمعة‪ ،‬فيخالط العملَ شيء من الرياء ولو كان يسيرا‪.‬‬
‫لذلك؛ فإن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يتحمل عنا هذه المسألة ويطمئن المسلم على‬
‫عمله‪ ،‬فيقول في دعائه‪ " :‬اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك‪ ،‬فخالطني فيه ما ليس‬
‫لك "‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم ليس مظنة ذلك‪ ،‬لكن الحق سبحانه علّمه أن يتحمل عن أمته كما‬
‫تحمّل ال عنه في قوله تعالى‪َ {:‬قدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َنكَ‪[} ...‬النعام‪:‬‬
‫‪ ]33‬أي‪ :‬أنك أسمى عندهم من أن تكون كاذبا‪ {.‬وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ َيجْحَدُونَ }[النعام‪:‬‬
‫‪]33‬‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬فقَدِ اسْ َتمْ َ‬

‫‪[ { .‬لقمان‪ ]22 :‬كلمة استمسك تدلّ على القوة في الفعل والتشبّث بالشيء؛ كما نقول (تبّت فيه)‪،‬‬
‫وهي تعني‪ :‬طلب أنْ يمسك؛ لذلك لم َيقُل مسكَ إنما (استمسك)‪.‬‬
‫وأول مظاهر الستمساك أنك ل تطمئن إلى ضعف نفسك‪ ،‬فيكون تمسك بالعروة الوثقى أشدّ‪ ،‬كما‬
‫ن تهاونت في الستمساك به‬
‫لو أنك ستنزل من مكان عالٍ على حبل مثلً فتتشبت به بشدة؛ لنك إ ْ‬
‫سقطت‪ ،‬وهذا دليل على ثقتك بضعف نفسك‪ ،‬وأنه ل ينُجيك من الهلك‪ ،‬ول واقي لك إل أنْ‬
‫تستمسك بهذا الحبل‪.‬‬
‫كذلك الذي يُسِلْم وجهه ل ويُمسِك بالعروة الوثقى‪ ،‬فليس له إل هذه مُنْجية وواقية‪.‬‬
‫وكلمة } بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا‪[ { ..‬لقمان‪ ]22 :‬العروة‪ :‬هي اليد التي نمسك بها الكوز أو الكوب أو‬
‫البريق‪ ،‬وهي التي تفرق بين الكوب والكأس‪ ،‬فالكأس ل عروة لها‪ ،‬إل إذا شُرب فيها الشراب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الساخن‪ ،‬فيجعلون لها يدا‪.‬‬
‫ومعنى } ا ْلوُثْقَىا‪[ { ..‬لقمان‪ ]22 :‬أي‪ :‬المحكمة‪ ،‬وهي تأنيث أوثق‪ ،‬نقول‪ :‬هذا أوثق‪ ،‬وهذه وُثْقى‪،‬‬
‫صغْرى‪ ،‬وهي تعني الشيء المرتبط ارتباطا وثيقا بأصله‪ ،‬فإنْ كان دَلْوا فهي وُثْقى‬
‫مثل أصغر و ُ‬
‫بالدلو‪ ،‬وإنْ كان كوبا فهي وُثْقى بالكوب‪ ،‬فهي الموثقة التي ل تنقطع‪ ،‬ول تنفصل عن أصلها‪.‬‬
‫والعُرْوة تختلف باختلف الموثّق‪ ،‬فإنْ صنع العروة صانع غاشّ‪ ،‬جاءت ضعيفة هشّة‪ ،‬بمجرد أنْ‬
‫تمسك بها وتنخلع في يدك‪ ،‬وهذا ما نسميه " الغش التجاري " وهو احتيال لتكون السلعة رخيصة‬
‫يقبل عليها المشتري‪ ،‬ثم يكون المعوّض في ارتفاع قطع الغيار‪ ،‬كما نرى في السيارات مثلً‪،‬‬
‫فترى السيارة رخيصة وتنظر إلى ثمن قطع الغيار تجده مرتفعا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إرادة عدم التوثيق لها مقصد عند المنتفع‪ ،‬فإذا كان الموثّق هو ال تعالى فليس أوثق من‬
‫عُرْوته‪.‬‬
‫جمِيعا َولَ َتفَ ّرقُواْ‪[} ...‬آل عمران‪]103 :‬‬
‫وفي موضع آخر يقول الحق عنها{ وَاعْ َتصِمُواْ بِحَ ْبلِ اللّهِ َ‬
‫فالعروة الوُثْقى هي حبل ال المتين الذي يجمعنا فل نتفرق؛ لذلك في الصطلح نسمي الفتحة في‬
‫الثوب والتي يدخل فيها الزرار (عروة) لماذا؟ لنها هي التي تجمع الثوب‪ ،‬فل يتفرق‪.‬‬
‫ل ان ِفصَامَ َلهَا‪[} ..‬البقرة‪]256 :‬‬
‫ف العروة الوثقى بقوله سبحانه‪َ {:‬‬
‫وفي آية أخرى وص َ‬
‫لمُورِ { [لقمان‪ ]22 :‬أي‪ :‬مرجعها‪ ،‬فل نظن أن ال تعالى‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَإِلَىا اللّهِ عَاقِبَ ُة ا َ‬
‫جعُونَ }‬
‫حسِبْتُمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَ ّنكُمْ إِلَيْنَا لَ تُ ْر َ‬
‫سدًى‪َ {:‬أفَ َ‬
‫خلقنا عبثا‪ ،‬أو أنه سبحانه يتركنا ُ‬
‫[المؤمنون‪ .]115 :‬ولو تركنا ال تعالى بل حساب لكان المنحرف الذي أعطى لنفسه شهواتها في‬
‫الدنيا أوفر حظا من المستقيم‪ ،‬وما كان ال تعالى ليغشّ عبده الذي آمن به‪ ،‬وسار على منهجه‪ ،‬أو‬
‫يسلمه للظلمة والمنحرفين‪.‬‬
‫وإذا كانت ل تعالى عاقبة المور أي‪ :‬في الخرة‪ ،‬فإنه سبحانه يترك لنا شيئا من ذلك في الدنيا‬
‫نصنعه بذواتنا لتستقيم بنا مسيرة الحياة وتثمر حركتها‪ ،‬ومن ذلك مثلً ما نجريه من المتحانات‬
‫للطلب آخر العام لنميز المجدّ من الخامل‪ ،‬وإل تساوى الجميع ولم يذاكر أحد‪ ،‬ولم يتفوق أحد؛‬
‫لذلك ل بُدّ من مبدأ الثواب والعقاب لتستقيم حركة الحياة‪ ،‬فإذا كنا نُجري هذا المبدأ في دنيانا‪،‬‬
‫فلماذا نستنكره في الخرة؟‬
‫فهل يليق بهذا العالمَ الذي خلقه ال على هذه الدقة؛ وكوّنه بهذه الحكمة أن يتركه هكذا هَملً‬
‫يستشري فيه الفساد‪ ،‬ويرتع فيه المفسدون‪ ،‬ثم ل يُحاسبون؟ إن كانت هذه هي العاقبة‪ ،‬فيا خسارة‬
‫كل مؤمن‪ ،‬وكل مستقيم في الدنيا‪.‬‬
‫ج ُعهُمْ فَنُنَبّ ُئهُم‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومَن َكفَرَ فَلَ يَحْزُنكَ ُكفْ ُرهُ إِلَيْنَا مَرْ ِ‬

‫(‪)3416 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمِلُوا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ (‪)23‬‬
‫ج ُعهُمْ فَنُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ‬
‫َومَنْ َكفَرَ فَلَا َيحْزُ ْنكَ كُفْ ُرهُ إِلَيْنَا مَ ْر ِ‬

‫بعد أن بيّن الحق سبحانه أن إليه مرجع كل شيء ونهاية المور كلها‪ ،‬أراد أن يُسلّى رسوله صلى‬
‫ال عليه وسلم فقال‪َ { :‬ومَن َكفَرَ‪[ } ..‬لقمان‪ ]23 :‬أي‪ :‬بعدما قلناه من الجدل بالعلم وبالهدى‬
‫وبالكتاب المنير‪ ،‬وبعدما بيناه من ضرورة إسلم الوجه ل‪ ،‬مَنْ يكفر بعد ذلك { فَلَ َيحْزُنكَ ُكفْ ُرهُ‪..‬‬
‫} [لقمان‪]23 :‬‬
‫وهذا القول من ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم يدل على أن ال علم أن رسوله يحب أن‬
‫تكون أمته كلها مؤمنة‪ ،‬وأنه يحزن لكفر من كفر منهم ويؤلمه ذلك‪ ،‬وقد كرر القرآن هذا المعنى‬
‫سكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ‬
‫في عدة مواضع‪ ،‬منها قوله تعالى‪ {:‬فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُمؤْمِنِينَ }[الشعراء‪]3 :‬‬
‫أَسَفا }[الكهف‪ ]6 :‬ويقول‪َ {:‬لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫ن يقول لرسوله‪ :‬أنا أرسلتُك للبلغ فحسب‪ ،‬فإذا بّلغْت فل عليك بعد ذلك‪ ،‬وكثيراُ‬
‫فال تعالى يريد أ ْ‬
‫ما تجد في القرآن عتابا لرسول ال في هه المسألة‪ ،‬وهو عتاب لصالحه ل عليه‪ ،‬كما تعاتب ولدك‬
‫الذي أجهد نفسه في المذاكرة خوفا عليه‪.‬‬
‫عمَىا * َومَا‬
‫ومن ذلك قوله تعالى معاتبا نبيه صلى ال عليه وسلم‪ {:‬عَبَسَ وَتَوَلّىا * أَن جَآ َء ُه الَ ْ‬
‫يُدْرِيكَ َلعَلّهُ يَ ّزكّىا }[عبس‪]3-1 :‬‬
‫والعتاب هنا لن رسول ال صلى ال عليه وسلم ترك الرجل المؤمن الذي جاءه يستفهم عن أمور‬
‫دينه‪ ،‬وذهب يدعو الكفار والمكّذبين به‪ ،‬فكأنه اختار الصعب الشاق وترك السهل اليسير‪ ،‬إذن‪:‬‬
‫فالعتاب هنا عتاب لصالح الرسول ل ضده‪ ،‬كما يظن البعض في فهمهم لهذه اليات‪.‬‬
‫حلّ اللّهُ َلكَ‪[} ...‬التحريم‪ ]1 :‬فال يعاتب‬
‫كذلك المر في قوله تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ لِمَ ُتحَرّمُ مَآ َأ َ‬
‫رسوله لنه ضيّق على نفسه‪ ،‬فحرّم عليها ما أحله ال لها‪.‬‬
‫ج ُعهُمْ‪[ } ..‬لقمان‪ ]23 :‬يعني‪ :‬إذا لم تَرَ فيهم عاقبة كفرهم‪ ،‬وما ينزل‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬إِلَيْنَا مَ ْر ِ‬
‫بهم في الدنيا‪ ،‬فسوف يرجعون إلينا ونحاسبهم في الخرة‪ ،‬كما قال سبحانه في موضع آخر‪{:‬‬
‫فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ‪[} ...‬غافر‪ ]77 :‬أي‪ :‬ترى بعينك ما ينزل بهم من العقاب{ َأوْ‬
‫جعُونَ }[غافر‪]77 :‬‬
‫نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُ ْر َ‬
‫ج ُعهُمْ‪[ } ..‬لقمان‪ ]23 :‬هذه هي الغاية النهائية‪ ،‬وهذه ل تمنع أن نُريَك فيهم أشياء‬
‫إذن‪ { :‬إِلَيْنَا مَ ْر ِ‬
‫تُظهر عزتك وانتصارك عليهم‪ ،‬وانكسارهم وذِلّتهم أمامك‪ ،‬وهذا ما حدث يوم الفتح يوم أنْ دخل‬
‫النبي مكة منصرا ومتواضعا يطأطئ رأسه بأدب وتواضع؛ لنه يعلم أن النصر من ال‪ ،‬وكأنه‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول لهل مكة‪ :‬لقد كنتم تريدون الملْك لتتكبروا به‪ ،‬وأنا أريده لتواضع به‪،‬‬
‫وهذا هو الفرق بين عزّة المؤمن وعِزّة الكافر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك لما تمكن رسول ال من رقابهم ‪ -‬بعد أنْ فعلوا به ما فعلوا ‪ -‬جمعهم وقال قولته المشهورة‪:‬‬

‫" يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ " قالوا‪ :‬خيرا‪ ،‬أخ كريم‪ ،‬وابن أخ كريم‪ ،‬قال‪ " :‬اذهبوا‬
‫فأنتم الطلقاء "‪.‬‬
‫ولك أنْ تلحظ تحوّل السلوب من صيغة الفراد في } َومَن َكفَرَ فَلَ َيحْزُنكَ‪[ { ..‬لقمان‪ ]23 :‬إلى‬
‫ج ُعهُمْ‪[ { ..‬لقمان‪ ]23 :‬ولم يقل‪ :‬إليّ مرجعه؛ لن مَنْ في اللغة تقوم‬
‫صيغة الجمع في } إِلَيْنَا مَ ْر ِ‬
‫مقام السماء الموصولة كلها‪ ،‬فإنْ أردتَ لفظها فأفردها‪ ،‬وإن أردتَ معناها فاجمعه‪.‬‬
‫عمِلُواْ‪[ { ..‬لقمان‪ ]23 :‬لننا نُسجّله عليهم ونحصيه‪ ،‬كما قال سبحانه‪{:‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬فَنُنَبّ ُئهُم ِبمَا َ‬
‫حصَاهُ اللّ ُه وَنَسُوهُ‪[} ...‬المجادلة‪ } ]6 :‬إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ { [لقمان‪ ]23 :‬أي‪ :‬بنات‬
‫أَ ْ‬
‫الصدر ومكنوناته يعلمها ال‪ ،‬حتى قبل أنْ تُترجم إلى نزوع سلوكي عملي أو َقوْلي‪ ،‬فال يعلم ما‬
‫يختلج في صدورهم من حقد أو غلّ أو حسد أو تآمر‪.‬‬
‫و{ عَلِيمٌ‪[} ...‬آل عمران‪ ]119 :‬صيغة مبالغة من العلم‪ ،‬وفَرْق بين عالم وعليم‪ :‬عالم‪ :‬ذاتٌ ثبت‬
‫لها العلم‪ ،‬أما عليم فذات عِلْمها ذاتي؛ لذلك يقول تعالى‪َ {:‬و َفوْقَ ُكلّ ذِي عِ ْلمٍ عَلِيمٌ }[يوسف‪]76 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬نمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلً ثُمّ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3417 /‬‬

‫ُنمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلًا ثُمّ َنضْطَرّ ُهمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (‪)24‬‬

‫الحق سبحانه يُبيّن لكل مؤمن ألّ يغتر بحال الكفار حين يراهم في حال رَغَد من العيش‪ ،‬وسعة‬
‫وعافية وتمكّن؛ لن ذلك كله متاع قليل‪ ،‬والحق سبحانه يريد من أتباع النبياء أنْ يدخلوا الدين‬
‫على أنه تضحية ل مغنم‪.‬‬
‫وسبق أن أوضحنا أنك تستطيع أن تُفرّق بين مبدأ الحق ومبدأ الباطل بشيء واحد‪ ،‬هو استهلل‬
‫الثنين‪ ،‬فالداخل في مبدأ الحق مستعد لنْ يُضحّي‪ ،‬والداخل في مبدأ الباطل ينتظر أنْ يأخذ‬
‫المقابل؛ لذلك ضحّى المسلمون الوائل في سبيل دينهم بالنفس والموال‪ ،‬وتركوا بلدهم وأبناءهم‬
‫لماذا؟ لنهم مُكلّفون بأداء مهمة إنسانية عالمية‪ ،‬ل يحملها إل مَنْ كان مستعدا للعطاء‪ ،‬أما‬
‫أصحاب الدعوات الباطلة كالشيوعية وغيرها فل بُدّ أنْ يأخذوا أولً‪.‬‬
‫لذلك روُي أن صحابيا حين سمع من رسول ال صلى ال عليه وسلم البشرى بالجنة‪ ،‬وأنه ليس‬
‫بينه وبينها إل أنْ يحارب فيُقتل ألقى تمرات كانت في يده‪ ،‬ولم ينتظر حتى يمضغها‪ ،‬وأسرع إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المعركة مُبتغيا الشهادة وطامعا فيما عند ال‪ ،‬وقد سُمع منهم في ساحة القتال أنْ ينادي أحدهم‪:‬‬
‫هُبّي يا رياح الجنة‪ ،‬وآخر يقول‪ :‬إني لجد ريح الجنة دون أحد‪.‬‬
‫ضطَرّهُمْ ِإلَىا عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان‪ ]24 :‬هذا التمتّع بزينه الحياة‬
‫فقوله تعالى‪ُ { :‬نمَ ّت ُعهُمْ قَلِيلً ثُمّ َن ْ‬
‫الدنيا ما هو إل استدراج لهم ل تكريم‪ ،‬وقلنا‪ :‬إنك ل تلقى بعدوك من على الحصيرة مثلً‪ ،‬إنما‬
‫تعليه وترفعه ليكون أَخْذه أليما وشديدا‪ ،‬كذلك الحق سبحانه يُمتّعهم‪ ،‬لكن لفترة محدودة لتكون‬
‫حسرتهم أعظم إذا ما أخذهم من هذا النعيم‪.‬‬
‫شيْءٍ حَتّىا‬
‫واقرأ في هذا المعنى قول ال تعالى‪ {:‬فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ مّبْلِسُونَ }[النعام‪ ]44 :‬أي‪ :‬يائسون‪.‬‬
‫وكلمة الفتح ل تؤدي نفعا إل إذا جاءت معرفة (الفتح) وقلنا‪ :‬هناك فرق بين فتح لك وفتح عليك‪،‬‬
‫حمْلً فوق رأسك‪.‬‬
‫فتح لك أي‪ :‬لصالحك‪ ،‬أمّا فتح عليك أي‪ :‬أعطاك الدنيا لتكون ِ‬
‫إذن‪ :‬فإذا رأيت لهم هذا الفتح فل تغترّ به‪ ،‬واعلم انهم َنسُوا ما ُذكّروا به‪ .‬وقد ورد في الثر أن‬
‫ال تعالى إذا غضب من المرء رزقه من الحرام‪ ،‬فإذا اشتد غضبه عليه بارك له فيه‪.‬‬
‫خذُ‬
‫سعَة ورَغَد عيش وعُلو مكان‪ ،‬حتى إذا أخذه ال آلمه الخذ واشتد عليه‪ ،‬فأ ْ‬
‫ذلك ليظل في َ‬
‫الكافر وهو في َأوْج قوته وجبروته يدل على قوة الَخْذ وقدرته‪ ،‬أما الضعيف فل مزيّة في َأخْذه‪،‬‬
‫كالذي يريد أنْ يحطم الرقم القياسي مثلً‪ ،‬فإنه يعمد إلى أعلى الرقام فيحطمها ليثبت جدارته‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضا نرى أن القرآن لما أراد التحدي ببلغته وفصاحته تحدّى العرب‪ ،‬وهم أهل‬
‫الفصاحة والبلغة وفن الداء البياني‪ ،‬ول معنى لنْ يتحدى عَيّيا ل يقدر على الكلم‪.‬‬
‫ضطَرّهُمْ‪[ } ..‬لقمان‪ ]24 :‬نلجئهم أي‪ :‬نُضيّق عليهم الخناق‪ ،‬بحيث ل يجدون إل العذابَ‬
‫ومعنى { َن ْ‬
‫الغليظ‪ ،‬أو‪ :‬أن فترة الحساب وما قبل العذاب أشدّ من العذاب نفسه‪ ،‬كما جاء في الحديث من " أن‬
‫ف ولو إلى النار "‪.‬‬
‫س النصرا َ‬
‫الشمس تدنو من الرؤوس‪ ،‬حتى ليتمنى النا ُ‬
‫سمْك‪ ،‬فالمعنى أنه عذاب كبير‬
‫ووصف العذاب هنا بأنه { غَلِيظٍ } [لقمان‪ ]24 :‬والغِلظ يعني ال ّ‬
‫يصعب قلقلة النفس منه‪ ،‬فلو كان رقيقا لربما أمكن الفلت منه‪.‬‬
‫ثم يعود السياق إليهم‪ { :‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3418 /‬‬

‫حمْدُ لِلّهِ َبلْ َأكْثَرُ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ (‪)25‬‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ ُقلِ الْ َ‬
‫وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خََلقَ ال ّ‬

‫هذا إفحام لهم‪ ،‬حيث شهدوا بأنفسهم أن ال تعالى هو خالق السماوات والرض‪ ،‬وتعجب بعد ذلك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لنهم ينصرفون عن عبادة الخالق سبحانه إلى عبادة مَنْ ل يخلق ول يرى ول يسمع‪.‬‬
‫حمْدُ لِلّهِ‪} ..‬‬
‫لذلك بعد هذه الشهادة منهم‪ ،‬وبعد أنْ قالوا (ال) يُتبعها الحق سبحانه بقول { ُقلِ الْ َ‬
‫[لقمان‪ ]25 :‬أي‪ :‬الحمد ل؛ لنهم أقروا على أنفسهم‪ ،‬ونحن في معاملتنا نفعل مثل هذا‪ ،‬فحين‬
‫يعترف لك خَصمْك تقول‪ :‬الحمد ل‪.‬‬
‫خصْم بما تريد تقول‪ :‬الحمد ل‪،‬‬
‫وهذه الكلمة تُقال تعليقا على أشياء كثيرة‪ ،‬فحين يعترف لك ال َ‬
‫وحين يُخلّصك ال من أذى أحد الشرار تقول‪ :‬الحمد ل أي‪ :‬الذي نجانا من فساد هذا المفسد‪.‬‬
‫فلو بلغنا خبر موت أحد الشقياء أو قُطّاع الطرق نقول‪ :‬الحمد ل أي‪ :‬الذي خلصنا من شرّه‪،‬‬
‫حمْدُ للّهِ َربّ‬
‫طعَ دَابِرُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ ظََلمُواْ وَالْ َ‬
‫وأراح منه البلد والعباد‪ ،‬ومن ذلك قول ال تعالى‪ {:‬فَقُ ِ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَْ }[النعام‪]45 :‬‬
‫كذلك تقال حينما يُنصَف المظلوم‪ ،‬وتُردّ إليه مظلمته‪ ،‬أو تظهر براءته‪ ،‬كما سنقول ‪ -‬إنْ شاء ال‬
‫شكُورٌ }[فاطر‪ {]34 :‬وَسِيقَ الّذِينَ‬
‫حمْدُ للّهِ الّذِي أَذْ َهبَ عَنّا ا ْلحَزَنَ إِنّ رَبّنَا َلغَفُورٌ َ‬
‫‪ -‬في الخرة‪ {:‬ا ْل َ‬
‫لمٌ عَلَ ْيكُـمْ طِبْتُمْ‬
‫حتْ أَ ْبوَا ُبهَا َوقَالَ َلهُمْ خَزَنَ ُتهَا سَ َ‬
‫ا ّتقَوْاْ رَ ّبهُمْ إِلَى الّجَنّةِ ُزمَرا حَتّىا ِإذَا جَآءُوهَا َوفُتِ َ‬
‫فَا ْدخُلُوهَا خَاِلدِينَ * َوقَـالُواْ الْحَـمْدُ للّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَعْ َد ُه وََأوْرَثَنَا الَ ْرضَ نَتَ َبوّأُ مِنَ ا ْلجَنّةِ حَ ْيثُ‬
‫نَشَآءُ فَ ِنعْمَ أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ }[الزمر‪]74-73 :‬‬
‫فالحمد ل تُقال أيضا عند خلوصك إلى غاية تُخرِجك مما كنتَ فيه من الضيق‪ ،‬ومن الهَمّ‪ ،‬ومن‬
‫الحزن‪ ،‬وتقال حين ندخل الجنة‪ ،‬وننعم بنعيمها ونعلم صِدْق ال تعالى فيما أخبرنا به من نعيمها‪.‬‬
‫حمْد على نِعمه‪ ،‬وهناك الحمد العلى‪ :‬ألم تقرأ الحديث القدسي‪ " :‬إن ال يتجلى على خَلْقه‬
‫هذا كله َ‬
‫المؤمنين في الجنة فيقول‪ :‬يا عبادي‪ ،‬أل أزيدكم؟ فيقولون‪ :‬وكيف تزيدنا وقد أعطيْتنا مَا ل عين‬
‫حلّ عليكم رضواني‪ ،‬فل أسخط عليكم‬
‫رأتْ‪ ،‬ول أذن سمعتْ‪ ،‬ول خطر على قلب بشر؟ قال‪ :‬أُ ِ‬
‫بعدها أبدا " فماذا بعد هذا الرضوان؟‬
‫ضيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلحَقّ‬
‫حمْدِ رَ ّبهِمْ َوقُ ِ‬
‫ح ْولِ ا ْلعَرْشِ يُسَبّحُونَ ِب َ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وَتَرَى ا ْلمَلَ ِئكَةَ حَآفّينَ مِنْ َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الزمر‪]75 :‬‬
‫َوقِيلَ ا ْل َ‬
‫هذا هو الحمد العلى‪ ،‬فقد كنت في الحمد مع النعمة‪ ،‬وأنت الن في الحمد مع المنعم سبحانه‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ { :‬بلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ } [لقمان‪ ]25 :‬وهم أهل الغفلة عن ال‪ ،‬أو { لَ َيعَْلمُونَ }‬
‫ن كانوا يعلمون العلم من كتاب غير منير‪ ،‬أو‪ :‬يعلمون‬
‫[لقمان‪ ]25 :‬أي‪ :‬العلم الحقيقي‪ ،‬النافع‪ ،‬وإ ْ‬
‫العلم الذي يُحقّق لهم شهواتهم‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ‪.} ...‬‬
‫ثم ينتقل السياق إلى آيات كونية فيقول سبحانه‪ { :‬لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬

‫(‪)3419 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمِيدُ (‪)26‬‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ الْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬

‫بعد أن سجّل ال تعالى عليهم اعترافهم وشهادتهم بأنه سبحانه خالق السماوات والرض‪ ،‬أراد‬
‫سبحانه أنْ يُبيّن لنا أن السماوات والرض ظرف لما فيهما‪ ،‬وفيهما أشياء كثيرة‪ ،‬منها ما نعرفه‪،‬‬
‫ومنها ما ل نعرفه‪ ،‬والمظروف دائما أغلى من المظروف فيه‪ ،‬فما في (المحفظة) من نقود عادة‬
‫أغلى من المحفظة ذاتها‪ ،‬وما في الخزانة من جواهر وأموال أو أوراق هامة أنفَسُ من الخزانة‬
‫وأهمّ‪.‬‬
‫لذلك قلنا‪ :‬إياك أنْ تجعل كتاب ال حافظة لشيء هام عندك؛ لنه أغلى من أيّ شيء فينبغي أنْ‬
‫نحفظه‪ ،‬ل أنْ نحفظ فيه‪.‬‬
‫وكأن في الية إشارة إلى أنهم كما اقرّوا ل تعالى بخَلْق السماوات والرض ينبغي أنْ يُقروا كذلك‬
‫بأن له سبحانه ما فيهما‪ ،‬وهذه مسألة عقلية يهتدي إليها كل ذي فكر سليم‪ ،‬فما دامت السماوات‬
‫والرض ل‪ ،‬فله ما فيهما‪ ،‬و َهبْ أن لك قطعة أرض تمتلكها‪ ،‬ثم عثرتَ فيها على شيء ثمين‪ ،‬إنه‬
‫في هذه الحالة يكون مِلكك شرعا وعقلً‪.‬‬
‫وينبغي للعاقل أنْ يتأمل هذه المسألة‪ :‬ل تعالى ما في السماوات وما في الرض‪ ،‬ومن هذه‬
‫الشياء النسان الذي كرّمه ال‪ ،‬وجعله سيدا لجميع المخلوقات وأعلى منها‪ ،‬بدليل أنها مُسخّرة‬
‫لخدمته‪ :‬الحيوان والنبات والجماد‪ ،‬فهل يصح أن يكون الخادم أعظم من سيده أو أطول عمرا منه؟‬
‫فعلى العاقل أن يتأمل هذه المسألة‪ ،‬وأن يستعرض أجناس الكون ويتساءل‪ :‬أيكون الجماد الذي‬
‫يخدمني أطول عمرا مني؟‬
‫إذن‪ :‬ل بد أن لي حياة أخرى تكون أطول من حياة الشمس والقمر وسائر الجمادات التي تخدمني‪،‬‬
‫وهذا ل يكون إل في الخرة حيث تنكدر الشمس‪ ،‬وتتلشى كل هذه المخلوقات ويبقى النسان‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أنت محتاج لما في الرض ولما في السماء من مخلوقات ال‪ ،‬وبه وحده سبحانه قوامها مع‬
‫أنه سبحانه غنيّ عنها ل يستفيد منها بشيء‪ ،‬فال سبحانه خلق ما هو غنيّ عنه؛ لذلك يقول‪ { :‬إِنّ‬
‫حمِيدُ } [لقمان‪ ]26 :‬لنه سبحانه بصفات الكمال خلق‪ ،‬فلم يزِدْه الخلق صفة كمال‬
‫اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ ا ْل َ‬
‫ن يوجد من يعزه‪.‬‬
‫حيٍ قبل أنْ يوجد مَنْ يُحييه‪ُ ،‬معِزّ قبل أ ْ‬
‫لم تكُنْ له‪ ،‬فهو ُم ْ‬
‫وقلنا‪ :‬إنك ل تقول فلن شاعر لنك رأيته يقول قصيده؛ بل لنه شاعر قبل أن يقولها‪ ،‬ولول أنه‬
‫شاعر ما قال‪.‬‬
‫فمعنى { إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ‪[ } ...‬لقمان‪ ]26 :‬أي‪ :‬الغني المطلق؛ لن له سبحانه كل هذه الملْك في‬
‫السماوات والرض‪ ،‬بل جاء في الحديث القدسي أن السماء والرض بالنسبة لملْك ال تعالى‬
‫كحلقة ألقاها مُ ْلقٍ في فلة‪ ،‬فل تظن أن مُلْك ال هو مجرد هذه المخلوقات التي نعلمها‪ ،‬رغم ما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫توصّل إليه العلم من الهندسة وحساب المسافات الضوئية‪.‬‬

‫فال سبحانه هو الغنيّ الغِنَي المطلق؛ لنه خلق هذا الخَلْق وهو غني عنه‪ ،‬ثم أعطاه لعبيده وجعله‬
‫حمِيدُ { [لقمان‪:‬‬
‫في خدمتهم‪ ،‬فكان من الواجب لهذا الخالق أن يكون محمودا } إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ الْ َ‬
‫‪ ]26‬وحميد فعيل بمعنى محمود‪ ،‬وهو أيضا حامد كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }‬
‫[البقرة‪ ]158 :‬لكن‪ ،‬شاكر لمن؟‬
‫قالوا‪ :‬إذا كان العبد يشكر ربه‪ ،‬وقد علّمه ال‪ :‬أن الذي يحيّيك بتحية ينبغي عليك أنْ تُحيّيَه بأحسن‬
‫شكْرك لربك‪ .‬أي‪:‬‬
‫شكْر لك على ُ‬
‫منها‪ ،‬فربّك يعاملك هذه المعاملة‪ ،‬فإنْ شكرْ َتهُ يزدك‪ ،‬فهذه الزيادة ُ‬
‫مكافأة لك‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََلوْ أَ ّنمَا فِي الَ ْرضِ مِن شَجَ َرةٍ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3420 /‬‬

‫شجَ َرةٍ َأقْلَا ٌم وَالْبَحْرُ َيمُ ّدهُ مِنْ َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَبْحُرٍ مَا َنفِ َدتْ كَِلمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ‬
‫وََلوْ أَ ّنمَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ َ‬
‫حكِيمٌ (‪)27‬‬
‫عَزِيزٌ َ‬

‫شجَ َرةٍ‪[ } ..‬لقمان‪ ]27 :‬مِنْ‪ :‬هنا تفيد العموم أي‪ :‬من بداية ما يُقال له شجرة‪،‬‬
‫قوله تعالى { مِن َ‬
‫ن تقول‪ :‬ما عندي مال‪ ،‬وما عندي من مال‪ ،‬فالولى ل تمنع أن يكون عندك القليل من‬
‫وفرق بين أ ْ‬
‫ال الذي ل يُعتدّ به‪ ،‬أمّا (من مال) فقد نفيت جنس المال قليله وكثيره‪ .‬وتقول‪ :‬ما في الدار أحد‪.‬‬
‫وربما يكون فيها طفل مثلً أو امرأة‪ ،‬أمّا لو ق ْلتَ‪ :‬ما في الدار من أحد‪ ،‬فهذا يعني خُلوها من كل‬
‫ما يقال له أحد‪.‬‬
‫والشجرة‪ :‬هي النبات الذي له ساق‪ ،‬وقد تشابكتْ أغصانها‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬فِيمَا شَجَرَ‬
‫بَيْ َنهُمْ‪[} ...‬النساء‪]65 :‬‬
‫أما النبات الذي ليس له ساق فهو العُشْب أو النجم الذي ينتشر على سطح الرض‪ ،‬خاصة بعد‬
‫سقوط المطار‪ ،‬وهذا ل تُؤخذ منه القلم‪ ،‬إنما من الشجرة ذات الغصون والفروع‪.‬‬
‫س وَا ْلقَمَرُ ِبحُسْبَانٍ *‬
‫شمْ ُ‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم هذين النوعين في كلم معجز‪ ،‬فقال سبحانه‪ {:‬ال ّ‬
‫حسْبَانٍ }[الرحمن‪ ]5 :‬أي‪ :‬حساب‬
‫جدَانِ }[الرحمن‪ ]6-5 :‬فالشمس والقمر{ بِ ُ‬
‫وَالنّجْمُ وَالشّجَرُ َيسْ ُ‬
‫سجُدَانِ }[الرحمن‪ ]6 :‬أي‪ :‬في خضوع ل‬
‫ج ُم وَالشّجَرُ يَ ْ‬
‫دقيق محكم؛ لن بهما حساب الزمن‪ {،‬وَالنّ ْ‬
‫تعالى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكلمة النجم هنا يصح أنْ تُضاف إلى الشمس والقمر‪ ،‬ويصح أنْ تضاف للشجر‪ ،‬فهو لفظ يستخدم‬
‫في معنى‪ ،‬ويؤدي معنى آخر بضميمة ضميره‪.‬‬
‫جمَ في سَيْرِى إليكُمُ ويرعَاهُ مِنَ البَيْدا جَوادِيفهو‬
‫وقد تنبه الشاعر إلى هذه المسألة‪ ،‬فقال‪:‬أُرَاعِي الن ْ‬
‫ينظر إلى نجم السماء ليهتدي به في سيره‪ ،‬ويرعى جواده َنجْم الرض‪ ،‬ومن ذلك أيضا كلمة‬
‫العين‪ ،‬فتأتي بمعنى الذهب والفضة‪ ،‬وبمعنى الجاسوس‪ ،‬وبمعنى عين الماء‪ ،‬وبمعنى العين‬
‫المبصرة‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬وَالْ َبحْرُ َيمُ ّدهُ مِن َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَ ْبحُرٍ‪[ } ..‬لقمان‪ ]27 :‬أي‪ :‬يُعينه ويساعده إنْ نفذ ماؤه‪ .‬ولك‬
‫هنا أن تسأل‪ :‬لماذا جعل المداد للماء‪ ،‬ولم يجعله للشجر؟ قالوا‪ :‬لن القلم الواحد يكتب بحبر كثير‬
‫حصْر له‪ ،‬فالحبر مظنة النتهاء‪ ،‬كما أن الشجر ينمو ويتجدد‪ ،‬أما ماء البحر فثابت ل يزيد‪.‬‬
‫ل َ‬
‫واقرأ أيضا في هذه المسألة‪ {:‬قُل ّلوْ كَانَ الْ َبحْرُ مِدَادا ّلكَِلمَاتِ رَبّي لَ َنفِدَ الْبَحْرُ قَ ْبلَ أَن تَنفَدَ كَِلمَاتُ‬
‫رَبّي وََلوْ جِئْنَا ِبمِثْلِهِ مَدَدا }[الكهف‪]109 :‬‬
‫والعدد سبعة هنا { سَ ْب َعةُ أَبْحُرٍ‪[ } ..‬لقمان‪ ]27 :‬ل يُراد به العدد‪ ،‬إنما يراد به الكثرة كما في قوله‬
‫سمَاوَاتٍ‪[} ...‬الطلق‪ ]12 :‬فهذه مجرتنا الشمسية‪ ،‬فما بالك بالسموات في المجرات‬
‫تعالى‪ {:‬سَبْعَ َ‬
‫الخرى‪ ،‬وقد علمنا أن السماء هي كل ما علك فأظلك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬يرد العدد سبعة على سبيل الكثرة‪ ،‬والعرب كانوا يعتبرون هذا العدد نهاية للعدد؛ لن العدد‬
‫معناه الرقام التي تبين المعدود‪ ،‬فهناك فرق بين العدد والمعدود‪ ،‬ولما تبينّا هذا الفرق استطعنا أنْ‬
‫نرد على المستشرقين في مسألة تعدد الزوجان‪ ،‬فالعدد يعني ‪ 5 ،4 ،3 ،2 ،1‬أما المعدود‪ ،‬فما‬
‫يميز هذه العداد‪.‬‬

‫والرسول صلى ال عليه وسلم حينما أراد أن يُنهي التعدد المطلق للزوجات لما أنزل ال عليه أن‬
‫يأمر الناس أن مَنْ معه أكثر من أربع زوجات أنْ يُمسك أربعا منهن ويفارق الباقيات‪.‬‬
‫وكان عند رسول ال في هذا الوقت تسع زوجات لم يشملهُنّ هذا الحكم‪ ،‬فقالوا‪ :‬لماذا استثنى ال‬
‫محمدا من هذا الحكم؟ وكيف يكون عنده تسع‪ ،‬وعند امته أربع؟ ولم يفطنوا إلى مسألة العدد‬
‫والمعدود‪ :‬هل استثنى ال تعالى رسوله في العدد‪ ،‬أم في المعدود؟‬
‫حلّ َلكَ النّسَآءُ مِن َبعْ ُد َولَ‬
‫نقول‪ :‬استثناه في المعدود؛ لنه تعالى خاطب نبيه في آية أخرى‪ {:‬لّ يَ ِ‬
‫ج وََلوْ أَعْجَ َبكَ حُسْ ُنهُنّ‪[} ...‬الحزاب‪ ]52 :‬ففرض على رسول ال أنْ‬
‫أَن تَبَ ّدلَ ِبهِنّ مِنْ أَ ْزوَا ٍ‬
‫يقتصر على هؤلء‪ ،‬ل يزيد عليهن‪ ،‬ول يتزوج بعدهن حتى لو مُتْنَ جميعا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لم يستثنه في العدد‪ ،‬وإل لكان من حقّه إذا ماتت واحدة من زوجاته أنْ يتزوج بأخرى‪ ،‬وإنْ‬
‫مُتْن جميعا يأتي بغيرهن‪.‬‬
‫ولك أن تقول‪ :‬ولماذا جعل ال الستثناء في المعدود ل في العدد؟ قالوا‪ :‬لن زوجات غير النبي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صلى ال عليه وسلم إذا طلّقها زوجها لها أن تتزوج بغيره‪ ،‬لكن زوجات النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم أمهات للمؤمنين ومحرمات عليهم‪ ،‬فإنْ طلّق رسول ال إحدى زوجاته بقيت بل زواج‪.‬‬
‫لذلك ُأمِر رسول ال أنْ يمسك زوجاته التسع‪ ،‬شريطة ألّ يزيد عليهن‪ ،‬في حين يُباح لغيره أن‬
‫ل يبقى معه أكثر من أربع‪ ،‬وعليه‪ ،‬فهذا الحكم ضيّق على رسول‬
‫يتزوج بأكثر من تسع‪ ،‬بشرط أ ّ‬
‫ال في هذه المسألة في حين وسّع على أمته‪.‬‬
‫ن معظم زوجات النبي كُنّ كبيرات في السّن‪ ،‬وبعضهن كُنّ ل إرْبة لهن في مسألة الرجل‪،‬‬
‫ونعلم أ ّ‬
‫لكنهن يحرصن على شرف النتساب لرسول ال‪ ،‬وعلى شرف َكوْنهن أمهات المؤمنين؛ لذلك‬
‫كانت الواحدة منهن تتنازل عن قَسمْها في البيتوتة لضرتها مكتفية بهذا الشرف‪.‬‬
‫إذن‪ :‬التفريق بين العدد والمعدود خلّصنا من إفك المستشرقين‪ ،‬ومن تحاملهم على رسول ال‬
‫واتهامهم له بتعدد الزوجات‪ ،‬وأنه صلى ال عليه وسلم وسّع على نفسه وضيّق على أمته‪.‬‬
‫ومسألة العدد والمعدود هذه مسألة واسعة حيّرت حتى الدارسين للنحو‪ ،‬فل إشكال في العدد واحد‬
‫والعدد اثنان؛ لننا نقول في المفرد المذكر‪ :‬واحد والمؤنث‪ :‬واحدة‪ .‬وللمثنى المذكر‪ :‬اثنان‪،‬‬
‫وللمؤنث‪ :‬اثنتان‪ .‬فالعدد يوافق المعدود تذكيرا وتأنيثا‪ ،‬لكن الخلف يبدأ من العدد ثلثة‪ ،‬حيث‬
‫يذكّر العدد مع المعدود المؤنث‪ ،‬ويُؤنّث مع المعدود المذكّر‪ ،‬فمن أين جاء هذا الختلف؟‬
‫قالوا‪ :‬لحظ أن التذكير هو الصل؛ ولذلك احتاج التأنيث إلى علمة‪ ،‬أما المذكّر وهو الصل فل‬
‫يحتاج إلى علمة‪ ،‬تقول‪ :‬قلم‪ .‬وتقول‪ :‬دواة‪ .‬فاحتاجت إلى علمة للتأنيث فهي الفرع والمذكر هو‬
‫الصل‪.‬‬

‫وتعالَ إلى العداد من ثلثة إلى عشرة‪ ،‬تقول‪ :‬ثلثة‪ ،‬أربعة‪ ،‬خمسة‪ ،‬ستة‪...‬إلخ فالعدد نفسه مبنيّ‬
‫على التاء‪ ،‬وليست هي تاء التأنيث‪ ،‬لنها أعداد مجردة بل معدود‪ ،‬فإذا أردنا تأنيث هذا العدد وبه‬
‫تاء ل نضيف إليه تاءً أخرى‪ ،‬إنما نحذف التاء فيكون الحذف هو علمة التأنيث ويبقى العدد مع‬
‫المذكر على الصل بالتاء‪.‬‬
‫فما حكاية العدد سبعة بالذات؟ قالوا‪ :‬إن العدد واحد هو الصل في العداد؛ لن العدّ ينشأ من ضم‬
‫واحد إلى آخر‪ ،‬فواحد هو الخامة التي تتكون منها العداد فتضم واحدا إلى واحد وتقول‪ :‬اثنان‬
‫وتضم إلى الثنين واحدا‪ ،‬فيصير العدد ثلثة‪..‬وهكذا‪.‬‬
‫ومعلوم أن أقلّ الجمع ثلثة‪ ،‬والعدد إما شفع وإما وتر‪ ،‬الشفع هو الذي يقبل القسمة على الثنين‪،‬‬
‫شفْ ِع وَا ْلوَتْرِ }[الفجر‪ ]3 :‬فبدأ بالشفع‬
‫والوتر ل يقبل القسمة على الثنين‪ ،‬وال تعالى يقول‪ {:‬وَال ّ‬
‫وأوله الثنان ثم الثلثة‪ ،‬وهي أول الوتر‪ ،‬أما الواحد فقد تركناه لنه كما قلنا الخامة التي يتكون‬
‫منها جميع العداد‪.‬‬
‫شفْ ِع وَا ْلوَتْرِ }[الفجر‪ ]3 :‬فالثنان أول الشفع‪ ،‬والثلثة أول الوتر‪،‬‬
‫وما دام ال تعالى قال‪ {:‬وَال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأربعة ثاني الشفع‪ ،‬وخمسة ثاني الوتر‪ ،‬وستة ثالث الشفع‪ ،‬وسبعة ثالث الوتر‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن الجمع أقلّه ثلثة‪ ،‬فاعتبرت العرب العدد سبعة أقصى الجمع وترا وزوجا‪ ،‬وانتهت عند‬
‫هذا العدد‪ ،‬فإذا أرادوا العدّ أكثر من ذلك أتوْا بواو يسمونها واو الثمانية‪ ،‬وقد سار القرآن الكريم‬
‫في أحكام العدد هذه على ما سارت عليه العرب‪.‬‬
‫حتْ‬
‫جهَنّمَ ُزمَرا حَتّىا إِذَا جَآءُوهَا فُ ِت َ‬
‫واقرأ إنْ شئت هذه اليات‪ {:‬وَسِيقَ الّذِينَ كَـفَرُواْ إِلَىا َ‬
‫أَ ْبوَا ُبهَا‪[} ...‬الزمر‪]71 :‬‬
‫حتْ‬
‫أما في الجنة فيقول سبحانه‪ {:‬وَسِيقَ الّذِينَ ا ّتقَوْاْ رَ ّبهُمْ إِلَى الّجَنّةِ ُزمَرا حَتّىا ِإذَا جَآءُوهَا َوفُتِ َ‬
‫أَ ْبوَا ُبهَا‪[} ...‬الزمر‪]73 :‬‬
‫فما الفرق بين اليتين؟ ولماذا جاءت الواو في الثانية‪ ،‬ولم ُتذْكر في الولى؟‬
‫حتْ‪[} ...‬الزمر‪ ]71 :‬في الولى جواب شرط‪ ،‬وهذا الجواب كانوا يُكذّبونه‬
‫قالوا‪ :‬لن{ فُتِ َ‬
‫حتْ أَ ْبوَا ُبهَا‪} ...‬‬
‫وينكرونه‪ .‬والشرط تأسيس{ حَتّىا إِذَا جَآءُوهَا‪[} ...‬الزمر‪ ]71 :‬ماذا حدث؟{ فُتِ َ‬
‫[الزمر‪ ]71 :‬إنما هل كان المؤمنون المتقون الذين يذهبون إلى الجنة يُكذّبون بهذا اليوم؟‬
‫حتْ‪[} ...‬الزمر‪ ]71 :‬هنا ل تكون جوابا؛ لنهم يعلمون يقينا أنها ستفتح‪ ،‬أما الجواب‬
‫إذن فـ‪ {:‬فُتِ َ‬
‫لمٌ عَلَ ْيكُـمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * َوقَـالُواْ ا ْلحَـمْدُ للّهِ الّذِي‬
‫فسيأتي في‪َ {:‬وقَالَ َلهُمْ خَزَنَ ُتهَا سَ َ‬
‫صَ َدقَنَا وَعْ َد ُه وََأوْرَثَنَا الَ ْرضَ نَتَ َبوّأُ مِنَ ا ْلجَنّةِ حَ ْيثُ نَشَآءُ فَ ِنعْمَ أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ }[الزمر‪]74-73 :‬‬
‫ولما كانت أبواب النار سبعة لم يذكر الواو‪ ،‬أما في الجنة فذكر الواو‪ ،‬لن أبوابها ثمانية‪.‬‬
‫عسَىا رَبّهُ إِن طَّل َقكُنّ أَن يُبْدَِلهُ أَ ْزوَاجا خَيْرا‬
‫كذلك اقرأ قول ال تعالى ولحظ متى تستخدم الواو‪َ {:‬‬
‫ت وَأَ ْبكَارا }[التحريم‪]5 :‬‬
‫مّنكُنّ مُسِْلمَاتٍ ّم ْؤمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَا ِبدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَا ٍ‬
‫تجد الواو قبل الثمانية‪ ،‬ذلك لن العرب تعتبر السبعة منتهى العدد بما فيه من زوج وفرد‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَالْبَحْرُ َيمُ ّدهُ‪[ { ..‬لقمان‪ ]27 :‬أي‪ :‬يُجعل مِدادا لكلمات ال } مّا َنفِ َدتْ كَِلمَاتُ اللّهِ‪.‬‬

‫‪[ { .‬لقمان‪ ]27 :‬كلمات ال هي السبب في إيجاد المقدورات العجيبة؛ لن ال تعالى يقول‪ {:‬إِ ّنمَآ‬
‫َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ َلهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪ ]82 :‬فكل مراد من شيء سببه كن‪.‬‬
‫وهنا عجيبة ينبغي أنْ نتأملها‪ :‬فال تعالى يقول للشيء وهو لم ُيخْلق بعد (كن)‪ ،‬كأن كل الشياء‬
‫موجودة في الزل ومكتوبة‪ ،‬تنتظر هذا المر (كن)‪ ،‬فتبرز إلى الوجود‪ ،‬كما يقول أهل المعرفة‪:‬‬
‫أمور يبديها ول يبتديها‪.‬‬
‫إذن‪ } :‬كَِلمَاتُ اللّهِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]27 :‬هي كن وكل مرادات ال في كونه‪ ،‬ما علمنا منه وما سنعلم‪،‬‬
‫وما لم نعلم إل حين تقوم الساعة‪.‬‬
‫ألم َي ُقلْ في العجيب من أمر عيسى عليه السلم{ َوكَِلمَتُهُ أَ ْلقَاهَا إِلَىا مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ‪[} ...‬النساء‪:‬‬
‫‪ ]171‬والمعنى أنه لم يُخلق بالطريق الطبيعي في خَلْق البشر من أب وأم‪ ،‬إنما خَلِق بهذه الكلمة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(كن)‪ .‬لماذا؟‬
‫لن ال تعالى يريد أنْ يثبت لنفسه طلقة القدرة في اليجادات وأنه سبحانه يخلق كما يشاء‪ ،‬فمرة‬
‫يخلق بل أب وبل أم‪ ،‬كما خلق آدم عليه السلم‪ ،‬ومرة يخلق بأم دون أب كما خلق عيسى عليه‬
‫السلم‪ ،‬ومرة يخلق بأب وأم‪ ،‬ويخلق بأب دون أم كما خلق حواء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬القسمة العقلية موجودة بكل وجوهها‪.‬‬
‫ن تكوّن مثلً قطرة الماء‪ ،‬فعليك أن‬
‫إذن‪ :‬مع طلقة القدرة ل اعتبارَ للسباب‪ ،‬فأنت إنْ أردتَ أ ْ‬
‫تأتي بالكسوجين واليدروجين بطريقة معينة ليخرج لك الماء وإل فل‪ ،‬أما الخالق ‪ -‬عز وجل ‪-‬‬
‫فيخلق بالشياء وبدون شيء‪ ،‬لن الشياء بالنسبة ل تعالى ليست فاعلة بذاتها‪ ،‬وإنما هي فاعلة‬
‫بمراد ال فيها‪.‬‬
‫حكِيمٌ { [لقمان‪ ]27 :‬والعزيز هو الذي يَغلب و َيقْهر ول يُقهر‪،‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫ول يستدرك أحد على فعله حتى لو كان مخالفا لعقله هو‪ ،‬وتأمل معنى العزة‪ ،‬وكيف وردت في‬
‫هذا الموقف من قوله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلم‪ {.‬وَإِذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ َأأَنتَ قُلتَ‬
‫لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأمّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُ ْبحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي ِبحَقّ إِن‬
‫سكَ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة‪:‬‬
‫كُنتُ قُلُْتهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعَْلمُ مَا فِي َنفْسِي َولَ أَعْلَمُ مَا فِي َنفْ ِ‬
‫حكِيمُ }[المائدة‪:‬‬
‫ك وَإِن َت ْغفِرْ َل ُهمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫‪ ]116‬إلى أن يقول‪ {:‬إِن ُت َعذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُد َ‬
‫‪]118‬‬
‫والمنطق العقلي يقتضي أن نقول في عرف البشر‪ :‬فإنك أنت الغفور الرحيم‪ ،‬فالمقام مقام مغفرة‪،‬‬
‫لكن عيسى عليه السلم يأتي بها‪ ،‬ل من ناحية الغفران والرحمة‪ ،‬وإنما من ناحية طلقة القدرة‬
‫حكِيمُ }[المائدة‪ ]118 :‬والمعنى‪ :‬لو قال‬
‫والعزة التي ل يستدرك عليها أحد‪ {.‬فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫الناس لماذا غفرتَ لهم مع أنهم قالوا كذا وكذا؟ فالجابة أنني أنا العزيز الذي أغلب ول أُغلب‪،‬‬
‫ول يستدرك أحد على حكمي‪ ،‬إذن‪ :‬ذيّل الية بالعزة لعزة ال تعالى في خَلْقه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬مّا خَ ْل ُقكُ ْم َولَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3421 /‬‬

‫سمِيعٌ َبصِيرٌ (‪)28‬‬


‫مَا خَ ْل ُقكُ ْم وَلَا َبعْ ُثكُمْ ِإلّا كَ َنفْسٍ وَاحِ َدةٍ إِنّ اللّهَ َ‬

‫الحق سبحانه وتعالى يؤكد دائما على قضية البعث والقيامة‪ ،‬ويريد سبحانه أنْ ينصب للناس في‬
‫حركة حياتهم موازين الجزاء؛ لن كل عمل ل توجد فيه موازين للجزاء يعتبر عملً باطلً‪ ،‬ول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن كان معصوما او مُسخّرا‪ ،‬فالمعصوم قائم دائما‬
‫يمكن أنْ يستغنى عن الجزاء ثوابا وعقابا إل مَ ْ‬
‫ن يفعل أو ل يفعل‪.‬‬
‫على ِفعْل الخير‪ ،‬والمسخّر ل خيارَ له في أ ْ‬
‫إذن‪ :‬إذا لم يتوفر مبدأ الجزاء ثوابا وعقابا في غير هذين ل بُدّ أنْ يوجد فساد‪ ،‬إذا لم يُثب المختار‬
‫على الفعل‪ ،‬ويعاقب على الترك اضطربت حركة الحياة‪ ،‬حتى في المجتمعات التي ل تؤمن بإله‬
‫وضعت لنفسها هذا القنون‪ ،‬قانون الثواب والعقاب‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يعطينا مثالً لهذا المبدأ في قوله تعالى من قصة ذي القرنين‪ {:‬إِنّا َمكّنّا‬
‫شيْءٍ سَبَبا * فَأَتْ َبعَ سَبَبا }[الكهف‪]85-84 :‬‬
‫لَهُ فِي الَ ْرضِ وَآتَيْنَاهُ مِن ُكلّ َ‬
‫أراد الحق سبحانه أن يبين أن الرجل الممكّن في الرض له مهمة‪ ،‬هذه المهمة هي شكر ال على‬
‫شمْسِ‪[} ...‬الكهف‪:‬‬
‫التمكين ول يكون إل بإقامة ميزان العدالة في الكون{ حَتّىا إِذَا بََلغَ َمغْ ِربَ ال ّ‬
‫‪ ]86‬أي‪ :‬في رأي العين‪ ،‬وإل فهي ل تغرب أبدا‪ ،‬إنما تغرب عن جماعة في مكان‪ ،‬وتشرق على‬
‫حمِ َئ ٍة َووَجَدَ عِندَهَا َقوْما قُلْنَا ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّآ أَن‬
‫جماعة في مكان آخر‪َ {.‬وجَدَهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ‬
‫خذَ فِيهِمْ حُسْنا }[الكهف‪]86 :‬‬
‫ب وَِإمّآ أَن تَتّ ِ‬
‫ُتعَ ّذ َ‬
‫ول يُفوّض إنسان في أنْ يُعذّب أو يتخذ الحسنى إل إذا كانت لديه مقاييس وميزان العدالة‪ ،‬وقد قال‬
‫شيْءٍ سَبَبا }[الكهف‪ ]84 :‬أي‪ :‬نعمة وميزانا لتوزيع هذه النعمة‪ ،‬فلم‬
‫ال عنه‪ {:‬وَآتَيْنَاهُ مِن ُكلّ َ‬
‫تقتصر نعمة ال عليه في أنه صاحب سلطان وجبروت‪ ،‬إنما عنده المقوّمات الحياتية‪ ،‬وعنده‬
‫ميزان العدالة الذي يضبط استطراق ال ّنعَم في الكون كله‪.‬‬
‫ن يفعل أو ل يفعل أراد أنْ يبين منهجه في أنه لم يأخذ الختيار وسيلة لتثبيت‬
‫فالذي خُيّر في أ ْ‬
‫س ْوفَ ُنعَذّبُهُ ثُمّ يُ َردّ إِلَىا رَبّهِ فَ ُي َعذّبُهُ عَذَابا ّنكْرا }‬
‫ظلَمَ فَ َ‬
‫الهواء؛ لذلك قال بعدها‪ {:‬قَالَ َأمّا مَن َ‬
‫ل صَالِحا فََلهُ جَزَآءً ا ْلحُسْنَىا وَسَ َنقُولُ َلهُ مِنْ‬
‫عمِ َ‬
‫[الكهف‪ ]87 :‬هذا هو العقاب{ وََأمّا مَنْ آمَنَ وَ َ‬
‫َأمْرِنَا يُسْرا }[الكهف‪ ]88 :‬أي‪ :‬بعد أنْ ينال ثوابه‪ ،‬نعطيه فوق ذلك حوافز تشجعه‪ ،‬ونقيم له حفلة‬
‫تكريم لنغري غيره بأن يسلك مسلكه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقضية الثواب والعقاب أمر لزم‪ ،‬وإذا كان هذا في المور الحياتية الجزئية‪ ،‬فهو َأوْلى في‬
‫أمور الدين والقيم التي تسيطر على كل موازين الحياة‪ ،‬ل بُ ّد من وقت للثواب وللعقاب‪ ،‬وإل‬
‫استشرى الظلم واغتال الناس‪ ،‬وقضى عليهم وأخذ منهم كل مُتع الحياة‪ ،‬فانتفع بذلك المفسد‪،‬‬
‫وخاب كل مَن التزم بدين ال وقيم منهجه‪.‬‬

‫لذلك تجد الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يؤكد دائماًَ على مسألة البعث والقيامة والحساب‪ ،‬وترى أعداء‬
‫الدين يحاولون أنْ يُشككوا في هذه القضية‪ ،‬وأنْ يُزحزحوا الناس عن اليمان بها بطرق شتى‪.‬‬
‫فالفلسفة لهم في ذلك دور‪ ،‬وللملحدة دور‪ ،‬ولهل الكتاب دور؛ لذلك تجد التوراة مثلً تكاد تخلو‬
‫من إشارة عن اليوم الخر‪ ،‬وهذا أمر غريب ل يمكن تصوره في كتاب ودين سماوي ومنهج‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حياة‪.‬‬
‫وما ذلك إل لن أهل التوراة أرادوا أنْ يُزحزحوا الناس عن أمور عدة ليثبتوا لنفسهم سلطة‬
‫زمنية مادية‪ ،‬حتى إنهم طمعوا في أنْ يرتقوا بهذه السلطة حتى يصلوا إلى ال تعالى‪ ،‬كما حكى‬
‫جهْ َرةً‪[} ...‬البقرة‪]55 :‬‬
‫القرآن عنهم‪ {:‬وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىا لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا نَرَى اللّهَ َ‬
‫ولما أنزل ال عليهم المنّ‪ ،‬وهو مادة حُلْوة كطعم القشدة جعلها تتساقط عليهم‪ ،‬وأنزل عليهم‬
‫السلوى‪ ،‬وهي طيور مثل السمان تنزل عليهم جاهزة مُعدّة للتناول رفضوا عطية ال لهم‪ ،‬وطعامه‬
‫طعَامٍ‬
‫الذي أُعدّ من أجلهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬بل نريد طعاما نصنعه بأيدينا‪ ،‬وقالوا‪ {:‬لَن ّنصْبِرَ عَلَىا َ‬
‫وَاحِدٍ‪[} ...‬البقرة‪ ،]61 :‬فقال لهم‪ {:‬اهْ ِبطُواْ ِمصْرا فَإِنّ َلكُمْ مّا سَأَلْتُمْ‪[} ...‬البقرة‪]61:‬‬
‫وما دام المر بالنسبة لهؤلء ماديا فل ُبدّ أنْ يزحزح نفسه عن الخرة وعن القيامة والحساب‪،‬‬
‫لذلك راحوا يُشكّكون فيها‪ ،‬أما الفلسفة فقالوا‪ :‬حين يبعث ال إنسانا بعد الموت وقد تحللتْ‬
‫أعضاؤه وصارت ترابا‪ ،‬ثم غرست في هذا المكان شجرة فتغذتْ من هذا التراب‪ ،‬وأكل إنسان‬
‫آخر من ثمارها وانتقلتْ إليه بعض خليا وجزيئات الول‪ ،‬فإذا كان هناك بعث أتُبعت هذه‬
‫الجزئيات مع الول أم مع الخر؟ فإنْ كانت مع الول فهي نقص في الخر والعكس‪ .‬هذه هي‬
‫شبهة الفلسفة‪.‬‬
‫وقد تخبّط الفلسفة هذا التخبّط؛ لنهم لم يفطنوا إلى شيء في الوجود يعطي قيما للغيبيات‪ ،‬وقد‬
‫أوضحنا هذه المسألة فقلنا لهم‪ :‬لو أن إنسانا يزن مائة كيلو مثلً أصيب بمرض أفقده أربعين كيلو‬
‫من وزنه‪ ،‬فماذا يعني هذا النقص بالنسبة للشخص نفسه؟‬
‫هذه المسألة يتحكم فيها أمران‪ :‬الغذاء والخراج‪ ،‬ففي فترة النمو يكون الداخل للجسم أكثر من‬
‫الخارج‪ ،‬أما في فترة الشيخوخة مثلً فالخارج أكثر‪ ،‬فإنْ توازن المران كانت حالة من الثبات ل‬
‫يزيد فيها الشخص ول ينقص‪ ،‬وهي فترة الثبات‪.‬‬
‫فالشخص الذي نقص من وزنه أربعون كيلو‪ ،‬ثم شفاه ال وعادت إليه عافيته حتى زاد وزنه وعاد‬
‫إلى حالته الطبيعية‪ ،‬فهل تغيّر الشخص حال نقصان وزنه؟ وهل تغيّر حال عودته إلى طبيعته؟ أم‬
‫ظلت الشخصية والذاتية هي هي؟‬
‫إذن‪ :‬المسألة في تكوين الجسم ليست ذرات وجزئيات‪ ،‬إنما هي شخصية معنوية خاصة وإنْ‬
‫تكوّنت من جزيئات المادة وهي الستة عشر عنصرا التي تكوّن جسم النسان‪ ،‬والتي تبدأ‬
‫بالكسوجين وتنتهي بالمنجنيز‪ ،‬وهي نفس العناصر المكوّنة لتربة الرض التي نأكل منها‪ ،‬وهذه‬
‫العناصر بنسب تختلف من شخص لخر‪.‬‬

‫حفِيظٌ }[ق‪ ]4 :‬يعني‪:‬‬


‫ص الَ ْرضُ مِ ْنهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ َ‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪ {:‬قَدْ عَِلمْنَا مَا تَن ُق ُ‬
‫نعرف ما نقص من كل إنسان‪ :‬كذا في الحديد‪ ،‬وكذا من الكسوجين‪ ،‬وكذا من الفسفور‪..‬إلخ‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬حين يبعث ال النسان بعد الموت يبعث هذه الشخصية المعنوية بهذه الجزاء المعروفة‪،‬‬
‫فيأتي الشخص هو هو‪.‬‬
‫ومن القضايا التي أثاروها في مسألة البعث وللتباسات التي يحاولونها يقولون‪ :‬ال تعالى يخلق‬
‫النسان في مدة تسعة أشهر‪ ،‬أو ستة أشهر‪ ،‬يمر خللها بعدة مراحل‪ :‬نطفة‪ ،‬ثم علقة‪ ،‬ثم مضغة‪،‬‬
‫ثم عظاما‪ ،‬ثم يكسو هذه العظام لحما‪ ،‬هذا للنسان الواحد‪ ،‬فكم تستغرق إعادة خَلْق البشر من لَدُن‬
‫آدم عليه السلم حتى قيام الساعة؟‬
‫ونقول‪ :‬لقد ذكرتم كيفية خَلْق سللة النسان والتي تستغرق تسعة أو ستة أشهر‪ ،‬لكن لم تذكروا‬
‫خَلْق الصل‪ ،‬وهو آدم عليه السلم‪ ،‬وقد خلقه ال على هيئته وصورته التي كان عليها‪ ،‬فلم يكُنْ‬
‫صغيرا وكبر‪ ،‬إنما خُلِق كبيرا مستويا كاملً‪ ،‬ثم ُنفِخت فيه الروح‪.‬‬
‫ثم إن عناصر الفعل هي‪ :‬الفعل‪ ،‬والفاعل‪ ،‬والمنفعل‪ ،‬يُضاف إليها الزمن الذي سيتم فيه الفعل‪ ،‬فأنا‬
‫أريد أنْ أنقل هذه (الحملة) من هنا إلى هناك فنقلنا فعل‪ ،‬وأنا الفاعل‪ ،‬والجملة هي المنفعل ثم‬
‫الزمن الذي يستغرقه الحدث‪ ،‬والزمن يعني توزيع جزئيات الحدث على جزيئات الزمن فإذا أردت‬
‫أن تخيط ثوبا بطريقة يدوية فإنه يأخذ منك وقتا طويلً‪ ،‬فإن خِطّه بالماكينة أخذ وقتا أقلّ بكثير‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فزمن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل‪ ،‬وتذكرون أنه في الماضي كانت الشوارع تضاء‬
‫بمصابيح الزيت‪ ،‬وكان لكل منطقة عامل يصعد إلى سلم إلى كل فانوس ليشعله‪ ،‬أما الن فتستطيع‬
‫أن تنير مدينة بأكملها بضغط زر واحد‪ .‬إذن‪ :‬كلما زادتْ القوة قلّ الزمن‪.‬‬
‫فتعال إذن إلى مسألة البعث والعادة بعد الموت‪ :‬أهي بقوتك أنت لتحسبها بما يناسب قوتك‬
‫وقدرتك؟ إنها بقوة ال عز وجل‪ ،‬وال ل يعالج المور كما نفعل ول يزاولها‪ ،‬إنما يفعل سبحانه‬
‫بكُنْ‪ .‬إذن‪ :‬فالفعل بالنسبة ل تعالى ل يحتاج إلى زمن تُوزّع فيه جزئيات الفعل على جزئيات‬
‫الزمن‪.‬‬
‫ولمَ تستبعد هذا في حقّ ال تعالى‪ ،‬وقد أعطاك ربك طرفا منه رغم قدرتك المحدودة؟ ألستَ تجلس‬
‫في مثل هذا المجلس فترانا جميعا مرة واحدة في نظرة واحدة‪ ،‬كذلك تسمع الجميع دفعة واحدة؟‬
‫ألستَ تقوم بمجرد أن تريد أنْ تقوم‪ ،‬وتنفعل جوارحك لك بمجرد أنْ يخطر الفعل على بالك؟‬
‫أتفكر أنت في العضلت التي تحركتْ والشارات التي تمتْ بداخلك لتقوم من مجلسك؟‬
‫وقد سبق أنْ أوضحنا هذه المسألة حين قارنّا حركة النسان في سلستها وطواعية الجوارح لمراد‬
‫صاحبها بحركة الحفار مثلً‪ ،‬فهو ل يؤدي حركة إل بالضغط على زر خاص بها‪.‬‬

‫فإذا كنت أنت أيها العبد تنفعل لك جوارحك وأعضاؤك بمرادك في الشياء‪ ،‬فهل تستبعد في حق‬
‫ن يفعل بكلمة كُنْ؟ كيف وأنت ذاتك تفعل بدون أنْ تقولها؟ مجرد الرادة منك تفعل ما تريد‪.‬‬
‫ال أ ْ‬
‫ن أقولها؟ نقول‪ :‬نعم أنت تفعل‬
‫ن قلتَ‪ :‬كيف يفعل الحق سبحانه بكلمة كُنْ‪ ،‬وأنا أفعل بدون أ ْ‬
‫فإ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن الولى حين قال ال لها كوني‬
‫بدون كُنْ؛ لن الشياء ليست منفعلة لك أنت‪ ،‬إنما هي مُسخّرة بكُ ْ‬
‫مُسخّرة لرادته‪ ،‬إذن‪ :‬أنا أفعل بدون كُنْ؛ لنها ليست في مقدوري أنا‪ ،‬فكأن كُنْ الولى من ال‬
‫تعالى هي كُنْ لنا جميعا‪.‬‬
‫وبهذا الفهم استطعنا تفسير حادثة السراء والمعراج‪ ،‬واستطعنا الرد على منكريها‪ ،‬فال يقول‪{:‬‬
‫لقْصَى‪[} ...‬السراء‪]1 :‬‬
‫سجِدِ ا َ‬
‫سُ ْبحَانَ الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ‬
‫فلما سمع الكفار بالحادثة أنكروها وقالوا‪ :‬كيف ونحن نضرب إليها أكباد البل شهرا؟ نعم أنتم‬
‫تضربون إليها أكباد البل شهرا؛ لن فعلكم يحتاج إلى زمن ومزاولة نوزع فيها جزئيات الفعل‬
‫على جزئيات الزمن‪ ،‬أمّا محمد فلم ي ُقلْ سريتُ‪ ،‬فيكون في الفعل كأحدكم إنما قال‪ :‬أُسرِي بي‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهو محمول على قدرة أخرى‪ ،‬فالفعل ل يُنسب إليه إنما إلى حامله إلى ال‪ ،‬وقلنا‪ :‬كلما‬
‫ت القوة قلّ الزمن‪ ،‬فإذا كانت القوة قوة الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬فل زمن؛ لذلك يقول سبحانه‬
‫زاد ْ‬
‫في مسألة الخلق والعادة‪ } :‬مّا خَ ْل ُقكُ ْم َولَ َبعْ ُثكُمْ ِإلّ كَ َنفْسٍ وَاحِ َدةٍ‪[ { ..‬لقمان‪]28 :‬‬
‫فالمر يسير على ال؛ لن خَلْق النفس الواحدة وخَلْق جميع النفس يتم بكُنْ‪ ،‬فالمسألة ل تحتاج‬
‫إلى تسعة أو ستة أشهر‪.‬‬
‫وضربنا مثلً لتوضيح هذه المسألة بصناعة الزبادي مثلً‪ ،‬فأنت تأتي باللبن وتضع عليه المادة‬
‫المعروفة وتتركه في درجة حرارة معينة فيتحول تلقائيا إلى الزبادي الذي تريده‪ ،‬فهل جلستَ أمام‬
‫كل علبة تُحوّلها بنفسك‪ ،‬أم أنك عملت العملية المعروفة في هذه الصناعة‪ ،‬ثم تركت هذه المواد‬
‫تتفاعل بذاتها؟‬
‫كذلك شاء ال تعالى أنْ يوجد النسان جنينا في بطن أمه‪ ،‬وأن تجري عليه أمور النمو بطبيعتها‪،‬‬
‫حلّ لنا المام علي كرم ال وجهه هذه‬
‫إذن‪ :‬خَلْق النسان ل يقاس بالنسبة ل تعالى بالزمن‪ ،‬وقد َ‬
‫القضية حينما سُئِل‪ :‬كيف يحاسب ال الناس جميعا من َلدُن آدم عليه السلم إلى قيام الساعة في‬
‫وقت واحد؟‬
‫فقال‪ :‬يحاسبهم جميعا في وقت واحد‪ ،‬كما أنه يرزقهم جميعا في وقت واحد؛ لنه سبحانه ل يشغله‬
‫شأن عن شأن‪.‬‬
‫سمِيعٌ َبصِيرٌ { [لقمان‪ ]28 :‬سميع بصير‬
‫ثم يذيل الحق سبحانه هذه الية بقوله تعالى‪ } :‬إِنّ اللّهَ َ‬
‫صيغة مبالغة من السمع والبصر‪ ،‬وقلنا‪ :‬إنك وأنت العبد المخلوق تستطيع أن ترى هذا الجمع مرة‬
‫واحدة في نظرة واحدة‪ ،‬وكذلك تسمعه‪ ،‬فما بالك بسمَ ْع ال تعالى وبصره؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3422 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س وَا ْل َقمَرَ ُكلّ َيجْرِي إِلَى‬
‫شمْ َ‬
‫ل وَسَخّرَ ال ّ‬
‫أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْي ِ‬
‫سمّى وَأَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ (‪)29‬‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫أَ َ‬

‫هذه آيات كونية واضحة مرئية للجميع‪ :‬للمؤمن وللكافر‪ ،‬للطائع وللعاصي‪ ،‬فالحق سبحانه يوزع‬
‫لنا الوقت بين ليل ونهار‪ ،‬لكنه ليس توزيعا متساويا (ميكانيكيا)‪ ،‬بحيث يكون كل منهما أربعا‬
‫وعشرين ساعة ثابتة على التقدير الجبري كما يقولون؛ لذلك نرى اليوم ينقص مثلً عن الربع‬
‫وعشرين ساعة عدة دقائق تُضاف إلى زمن الليل أو العكس‪.‬‬
‫لذلك قالوا من أيام بطليموس‪ :‬السنة ‪ 365‬يوما وخمس ساعات‪ ،‬وخمس وخمسون دقيقة‪ ،‬واثنتا‬
‫عشرة ثانية بالدقة‪ .‬بعدها انتهوا إلى أنّ السنة ‪ 365‬يوما وربع يوم عن طريق الجبر‪ ،‬فكل ثلث‬
‫سنين نجبر الرابعة‪ ،‬ويقولون‪ :‬سنة بسيطة‪ ،‬وسنة كبيسة أي‪ :‬طويلة‪ ،‬فالتي تقبل القسمة على أربعة‬
‫سنة كبيسة‪ ،‬لذلك نجد شهر فبراير في هذه السنة ‪ 29‬يوما‪ ،‬ذلك لنعوض اليوم‪.‬‬
‫وكلمة يوم تعني الليل والنهار‪ ،‬لكن القسمة بينهما ليست متساوية‪ ،‬فالحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪-‬‬
‫بصنعته الحكيمة أراد أنْ يُوزع الحرارة والبرودة على كل مناطق المعمورة‪ ،‬ويعطي لكل منطقة‬
‫ما تحتاجه لتنبت أرضها‪ ،‬وتعطينا نحن مقومات حياتنا‪ ،‬بدليل أن من النباتات ما ل ينمو إل في‬
‫الصيف‪ ،‬ومنها ما ل ينمو إل في الشتاء‪ ،‬كذلك في العتدال الربيعي والعتدال الخريفي‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬عرفنا أخيرا أن الخالق سبحانه جعل لمحور الرض ميلً بمقدار ‪ 23.5‬درجة عن مستوى‬
‫مدارها فهي إذن غير مستوية‪ ،‬ففي فصل الشتاء يكون القسم الكبير منها مواجها لليل‪ ،‬والخر‬
‫مواجها للنهار‪ ،‬فتجد ليل الشتاء أطول من ليل الصيف وأبرد منه‪ ،‬ويبلغ ليل الشتاء أقصى ما‬
‫يمكن من الطول وهو ‪ 12‬ساعة فهي شهر كيهك‪ ،‬حتى أن الفلحين يقولون في كيهك (كياك‬
‫صباحك مساك قوم من نومك حضر عشاك)‪.‬‬
‫ومقابل ذلك في فصل الصيف‪ ،‬فكأن ميل محور الرض سرّ من أسرار هندسة هذا الكون‪ ،‬ففي‬
‫الحادي والعشرين من حزيران (يونيو) يبدأ النقلب الصيفي‪ ،‬وفي الثالث والعشرين من كانون‬
‫الول (ديسمبر) يبدأ النقلب الشتوي‪ ،‬ثم العتدال الربيعي في الحادي والعشرين من آذار‬
‫(مارس)‪ ،‬والعتدال الخريفي في الثاني والعشرين من أيلول (سبتمبر)‪ .‬وفي الستواء الربيعي‬
‫والستواء الخريفي تجد أن الليل مساو للنهار‪ ،‬وجوّهما معتدل ل حر ول برد‪.‬‬
‫فقول ال تعالى‪ { :‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ الْلّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي الْلّ ْيلِ‪[ } ..‬لقمان‪]29 :‬‬
‫يعني‪ :‬ل تظن أن الليل والنهار قسمة متساوية؛ لن ال تعالى بحكمته يُدخل جزءا من الليل في‬
‫النهار‪ ،‬أو جزءا من النهار في الليل‪ ،‬فيزيد في أحدهما‪ ،‬وينقص من الخر لحكمة أرادها سبحانه‬
‫وتعالى لصالح النسان‪ ،‬وإمدادا له بمقوّمات حياته‪ ،‬لتعلم أن ما يطرأ على الليل أو النهار من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تغيير الشياء لها مناط في الحكمة اللهية العليا‪.‬‬

‫وحين نُقسّم اليوم إلى ليل ونهار ‪ -‬وهي قسمة كما قلنا ليست رتيبة ول متساوية ‪ -‬فإن لليل مهمة‬
‫جعَلْنَا ال ّنهَارَ َمعَاشا }[النبأ‪:‬‬
‫جعَلْنَا الّيلَ لِبَاسا *وَ َ‬
‫في الحياة وللنهار مهمة‪ ،‬كما بيّن لنا سبحانه‪ {:‬وَ َ‬
‫‪]11-10‬‬
‫معنى اللباس أن تسكن فيه وتكِنّ وتستر نفسك؛ لذلك عرفنا فيما بعد أن الضوء أثناء النوم أمر‬
‫غي َر صحي‪ ،‬وفهمنا قول رسول ال‪ " :‬أطفئوا المصابيح إذا رقدتم "‪.‬‬
‫سجَىا }[الضحى‪:‬‬
‫والحق سبحانه يوضح لنا هذه المسألة في قوله تعالى‪ {:‬وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ‬
‫‪ ]2-1‬ويقول‪ {:‬وَالْلّ ْيلِ إِذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ إِذَا تَجَلّىا }[الليل‪ ]2-1 :‬ليبين لك أن لكل منهما مهمة‬
‫في حركة حياتك‪ ،‬فالنهار للحركة‪ ،‬والليل للسكون‪ ،‬وعليك أل تخلط بين هاتين المهمتين دون داع‪،‬‬
‫وقد استثنينا من هذه القاعدة مَنْ تحتم عليهم طبيعة عملهم أنْ يعملوا بالليل ويرتاحوا بالنهار‪.‬‬
‫والخالق عز وجل في حركة الليل والنهار أسرارا وعجائب ينبغي أن نتنبه إليها بمعطيات العلم‪،‬‬
‫ومن حكمة الخالق سبحانه أنْ جعل لكل سر في الكون ميلدا يولد فيه‪ ،‬ونثر أسرار كونه على‬
‫خَلْقه ولم يُظهرها لجيل واحد‪ ،‬وإل لو كشف القرآن كل أسراره للمة المية التي عاصرتْ نزوله‬
‫لنصرفتْ عن الدعوة الجديدة بتكذيب هذه القضايا التي لم تصدقها العقول حتى في العصر‬
‫الحديث ورغم تقدم العلوم‪ ،‬فمثلً لما قال العلماء بكروية الرض ودورانها حول الشمس لم نصدق‬
‫هذه الحقائق حتى جاءتنا الصور الفضائية التي تؤكد ذلك‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن ميلد سِرّ من أسرار الكون قد يصادف بحثا من البشر‪ ،‬فيأتي السر ويظهر على أنه‬
‫نتيجة لهذا البحث‪ ،‬وإل أظهره ال للناس بالمصادفة رحمة بهم وتفضّلً عليهم؛ لذلك نجد أن معظم‬
‫سعَ إليها البشر‪ ،‬ولم يذهبوا إليها بمقدمات‪.‬‬
‫الكتشافات جاءت صدفة‪ ،‬لم يَ ْ‬
‫والقرآن الكريم حين يتحدث عن الليل والنهار يقول كلما عاما يفهمه كل معاصر لمرحلة من‬
‫ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ‪[} ...‬السراء‪]12 :‬‬
‫جعَلْنَا الّي َ‬
‫مراحل التقدم العلمي‪ {:‬وَ َ‬
‫شكُورا }[الفرقان‪]62 :‬‬
‫ل وَال ّنهَارَ خِ ْلفَةً ّلمَنْ أَرَادَ أَن يَ ّذكّرَ َأوْ أَرَادَ ُ‬
‫ج َعلَ الّي َ‬
‫ويقول‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫ومعنى خلفه يعني‪ :‬يخالف أحدهما الخر ويأتي بعده‪ ،‬وهذا صحيح الن‪ ،‬فنحن نرى الليل يخلف‬
‫النهار‪ ،‬والنهار يخلف الليل‪ ،‬لكن كيف نتصور هذه المسألة في بَدْء الخَلْق؟‬
‫لو أن البداية كانت بخَلْق الرض مواجهة للشمس‪ ،‬فالنهار إذن أولً ليس خِلْفة لشيء قبله‪ ،‬ثم‬
‫تغيب الشمس فينشأ الليل ليكون خِلْفة للنهار‪ ،‬وفي المقابل إن وجدت الرض غير مقابلة للشمس‪،‬‬
‫فالليل هو الول ليس خِلْفة لشيء قبله‪.‬‬
‫ل وَال ّنهَارَ خِ ْلفَةً‪[} ...‬الفرقان‪]62 :‬‬
‫ج َعلَ الّي َ‬
‫إذن‪ :‬ل يحل لنا هذه المسألة إل قوله تعالى‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫أي‪ :‬من بداية الخَلْق وهما خِلْفة‪ ،‬وهذا ل يتأتى ول يسوغ إل إذا كانت الرض مكوّرة‪ ،‬بحيث‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يكون الجزء المقابل للشمس منها مكوّنا للنهار‪ ،‬والجزء الخر لليل في وقت واحد‪ ،‬فلما تحركت‬
‫الرض في دورانها صار كل منها خِلْفة للخر‪ ،‬إذن‪ :‬معطيات القرآن يهضمها العقل‪ ،‬ول‬
‫يعارضها أبدا‪.‬‬

‫تذكرون في الثلثينيات وبالتحديد عام ‪ 1928‬فسروا السماوات السبع بأنها الكواكب السبعة السيارة‬
‫التي تدور حول الشمس‪ ،‬ذلك ليقربوا العلم للناس‪ ،‬ويشاء ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أن يكتشفوا‬
‫بعدها (نبتون) ثم (بلوتو) فصاروا تسعة كواكب‪ ،‬وأظهر ال لهم فساد هذا التأويل‪.‬‬
‫وفي الكون عجائب كثيرة نعرفها حتى عن طريق الكفار‪ ،‬وكأن ال سخّر حتى الكافر ليُثبت إيمان‬
‫المؤمن‪ ،‬فإذا كنا قد عرفنا اليوم عندنا على الرض‪ ،‬وأنه ليل ونهار يُكوّنان أربعا وعشرين‬
‫ساعة‪ ،‬فماذا يعني اليوم بالنسبة للكواكب الخرى؟‬
‫لما عرفوا أفلك الكواكب الخرى التي تدور حول الشمس وجدوا أقربها للشمس عطارد‪ ،‬ثم‬
‫الزهرة‪ ،‬ثم الرض‪ ،‬ثم المريخ‪ ،‬ثم المشتري‪ ،‬ثم زحل‪ ،‬ثم نبتون‪ ،‬ثم بلوتو‪ ،‬وهو أبعد الكواكب‬
‫عن الشمس‪.‬‬
‫ومن عجائب اليوم في هذه الكواكب أن يوم الزهرة مثلً ‪ 244‬يوما بيومنا نحن‪ ،‬أما العام فيساوي‬
‫‪ 225‬يوما بيومنا‪ ،‬فكأن يوم الزهرة أطول من عامها‪ ،‬كيف؟ قالوا‪ :‬لن المدار مختلف عن مدار‬
‫الرض‪ ،‬فاليوم نتيجة دورة الكوكب حول نفسه‪ ،‬والعام نتيجة دورة الكوكب حول الشمس‪.‬‬
‫س وَا ْل َقمَرَ‪[ { ...‬لقمان‪ ]29 :‬ولك أن تلحظ دقة الداء القرآني في‬
‫شمْ َ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَسَخّرَ ال ّ‬
‫النتقال من الفعل المضارع } يُولِجُ‪[ { ...‬لقمان‪ ]29 :‬إلى الماضي } سَخّرَ‪[ { ...‬لقمان‪ ]29 :‬ففي‬
‫الكلم عن حركة الليل والنهار قال } يُولِجُ‪[ { ...‬لقمان‪ ]29 :‬ولما تكلم عن الشمس والقمر قال‪} :‬‬
‫سخّرَ‪[ { ...‬لقمان‪ ]29 :‬لماذا؟‬
‫َ‬
‫قالوا‪ :‬لن التسخير تم مرة واحدة‪ ،‬ثم استقر على ذلك‪ ،‬أما إيلج الليل في النهار‪ ،‬وإيلج النهار‬
‫في الليل فأمر مستمر يتكرر كل يوم‪ ،‬فناسبه المضارع الدالّ على التكرار‪.‬‬
‫سمّى‪[ { ...‬لقمان‪ ]29 :‬أي‪ :‬إلى غاية محدودة؛ لذلك نسمي‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫وقوله تعالى‪ُ } :‬كلّ َيجْرِي إِلَىا َأ َ‬
‫العمر النهائي‪ :‬الجل‪ .‬والمراد بالجل المسمى يوم القيامة‪ ،‬فكأن الخالق سبحانه ضمن لنا‬
‫استمرار الشمس والقمر إلى قيام الساعة‪ ،‬فاطمئنوا‪.‬‬
‫ثم أيّ عظمة هذه في كوكب مضيء ينير العالم كله منذ خلقه ال وإلى قيام الساعة‪ ،‬دون صيانة‬
‫ودون قطعة غيار؛ ذلك لنه مبني على التسخير القهري الذي يمنع الختيار‪ ،‬فليس للشمس أنْ‬
‫تمتنع عن الشروق وكذلك القمر‪ ،‬ومن العظمة في اللوهية هذه الرحمانية الرحيمة التي تحتضن‬
‫الجميع المؤمن بها والكافر‪.‬‬
‫سمّى‪[ { ...‬لقمان‪ ]29 :‬وفي مواضع أخرى ورد‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫وفي هذه الية ورد التعبير بلفظ } إِلَىا َأ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمّـى‪[} ...‬الرعد‪ ]2 :‬باللم بدلً من إلى‪ ،‬وكذلك في سورتي فاطر (‪ )13‬والزمر (‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫بلفظ{ لَ َ‬
‫جلٍ‪[ { ...‬لقمان‪ ]39 :‬تعطينا الصورة لمشية الشمس والقمر‬
‫‪ ،)5‬ولكل من الحرفين معنى } ِإلَىا أَ َ‬
‫سمّى‪[} ...‬فاطر‪ ]13 :‬أي‪ :‬الوصول المباشر للجل‪.‬‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫قبل وصولهما الجل‪ ،‬إنما{ لَ َ‬
‫وكما أن لليل مهمة وللنهار مهمة‪ ،‬كذلك للشمس مهمة‪ ،‬وللقمر مهمة بيّنها ال في قوله‪:‬‬

‫س ضِيَآ ًء وَا ْل َقمَرَ نُورا‪[} ...‬يونس‪.]5 :‬‬


‫شمْ َ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫{ ُهوَ الّذِي َ‬
‫ج َعلَ فِيهَا سِرَاجا َو َقمَرا‬
‫سمَآءِ بُرُوجا وَ َ‬
‫ج َعلَ فِي ال ّ‬
‫وفي موضع آخر قال سبحانه‪ {:‬تَبَا َركَ الّذِي َ‬
‫مّنِيرا }[الفرقان‪ ]61 :‬فالضياء للشمس فيه نور وحرارة‪ ،‬على خلف نور القمر الذي يناسب حالما‬
‫ل حرارة فيه‪.‬‬
‫ومن عجائب أمر القمر أننا كُنّا نحسبه قطعة من اللؤلؤ مضيئة في السماء‪ ،‬حتى إن الشعراء‬
‫درجوا على تشبيه المحبوبة بالقمر‪ ،‬ولو عرفوا حقيقة القمر التي عرفناها نحن اليوم ما صحّ منهم‬
‫هذا التشبيه‪ ،‬فقد أطلعنا العلم أن القمر ما هو إل حجارة وجسم معتم ل يضيء بذاته‪ ،‬إنما يعكس‬
‫فقط ضوء الشمس؛ لذلك لما شبّه أحد الشعراء محبوبته بالقمر أنكرتْ عليه هذا التشبه‪:‬ش ّبهْتُها‬
‫جتُ حتى‬
‫سمُ ْ‬
‫ت قوْلي وقَاَلتْ متَى َ‬
‫بالبدْرِ فَاسْتضْحكتْ وقابَلَتْ َقوْلِي بالّنكْرأي‪ :‬تكلفت الضحك‪.‬وَس ّفهَ ْ‬
‫صِ ْرتُ كالبدْرِولك أن تسأل فمن أين عرفت سماجة البدر‪ ،‬وأنه حجارة ل جمالَ فيها؟ تجيب هي‬
‫حين تقول‪:‬البَدْ ُر لَ يرنُو بعيْن كَما أَرْنُو ولَ يَبْسِمُ عن َثغْرولَ يُميط المرْطَ عن نَاهدٍ ول يشدّ العقد‬
‫في َنحْرمَنْ قَاسَ بال َبدْر صَفائي فَل زَالَ أَسِيرا في يَدِي هَجْريإذن‪ :‬فحقيقة القمر التي عرفناها‬
‫أخيرا آية من آيات ال الظاهرة والباطنة في الكون أطلعنا ال عليها بسلطان العلم‪ ،‬فلما تيسّر‬
‫للبشر الصعود إلى سطحه عرفنا أنه جسم ُمعْتم‪ ،‬وصخور ل تنير بذاتها‪ ،‬إنما تعكس أشعة‬
‫الشمس‪ ،‬فتصل إلينا هادئة حالمة‪ ،‬وكأن القمر كما يقولون‪( :‬يصنع من الفسيخ شربات)‪.‬‬
‫ومن حكمة الخالق سبحانه في خَلْق الشمس والقمر أن تكون الشمس ميزانا لمعرفة اليوم‪ ،‬والقمر‬
‫لمعرفة الشهر‪ ،‬وهو الصل في التكليفات‪ ،‬لن له شكلً مميزا في أول الشهر على خلف‬
‫س ضِيَآ ًء وَا ْل َقمَرَ نُورا َوقَدّ َرهُ مَنَا ِزلَ لِ َتعَْلمُواْ عَ َددَ‬
‫شمْ َ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫الشمس؛ لذلك يقول سبحانه‪ُ {:‬هوَ الّذِي َ‬
‫ن وَا ْلحِسَابَ‪[} ...‬يونس‪.]5 :‬‬
‫السّنِي َ‬
‫وتتجلى عظمة التكليف اللهي وارتباطه بالقمر في فريضة الحج مثلً‪ ،‬بحيث يتنقل موعد الحج‬
‫على مدار العام كله‪ ،‬فمرة يأتي في الصيف‪ ،‬وأخرى في الشتاء‪ ..‬إلخ مما يُيسّر للحجاج ما يناسب‬
‫كلً منهم من الجو الملئم‪ ،‬ويقطع العذار في التخلف عن أداء هذه الفريضة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬بالتوقيت القمري يأتي الحج في كل أوقات السنة؛ لذلك قال البعض‪ :‬إن ليلة القدر دائرة في‬
‫العام كله إذا ما قارنا التوقيت الشمسي بالتوقيت القمري‪ ،‬فإنِ اتفقنا على أن ليلة القدر في السابع‬
‫والعشرين من رمضان‪ ،‬فإنها ستوافق أول يناير مثلً‪ ،‬وفي العام التالي توافق الثاني‪ ،‬ثم الثالث‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا‪ ..‬وهذا من رحمة ال تعالى بعبادة‪..‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَأَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ { [لقمان‪ ]29 :‬وما دام أنه سبحانه خبير بما‬
‫تعملون‪ ،‬فهو الذي يهييء لكم صلح العمل بخبرته وحكمته وقدرته وقيوميته؛ لذلك شرع لكم‬
‫العمال التي تنظم حركة حياتكم وحركة عبادتكم؛ لذلك نجد رمضان مثلً يدخل بالليل فنقول هذه‬
‫الليلة من رمضان‪ ،‬أما يوم عرفة فيدخل بيومه لنه يوم مجموع له الناس‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬وَأَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ { [لقمان‪ ]29 :‬معطوفة على } أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ‪...‬‬
‫{ [لقمان‪ ]29 :‬فالتقدير‪ :‬وألم تر أن ال بما تعملون خبير‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3423 /‬‬

‫ل وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ (‪)30‬‬


‫طُ‬‫ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ وَأَنّ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَا ِ‬

‫قوله تعالى‪َ { :‬ذِلكَ‪[ } ..‬لقمان‪ ]30 :‬إشارة إلى ما تقدم ِذكْره من دخول الليل في النهار‪ ،‬ودخول‬
‫النهار في الليل‪ ،‬وتسخير الشمس والقمر‪ ،‬ذلك كله { ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ‪[ } ..‬لقمان‪ ]30 :‬فكل‬
‫ما تقدم نشأ عن صفة من صفات ال وهو الحق‪ ،‬والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير‪ ،‬فكأن‬
‫ناموس الكون بكل أفلكه وبكل المخلوقات فيه له نظام ثابت ل يتغير؛ لن الذي خلقه وأبدعه حق‬
‫{ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ‪[ } ..‬لقمان‪]30 :‬‬
‫وما دام ال تعالى هو (الحق) فما يدّعونه من الشركاء هم الباطل { وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ‬
‫حقّان‪ ،‬فإنْ كان أحدهما هو الحق فغيره هو‬
‫طلُ‪[ } ..‬لقمان‪ ،]30 :‬فل يوجد في الشيء الواحد َ‬
‫الْبَا ِ‬
‫الباطل‪ ،‬فالحق واحد ومقابله الباطل‪ .‬وأيّ باطل أفظع من عبادتهم للصنام واتخاذها آلهة وشركاء‬
‫مع ال عز وجل؟‬
‫كيف وهي حجارة صوّروها بأيديهم وأقاموها ليعبدوها من دون ال‪ ،‬والحجارة جماد من جمادات‬
‫الرض‪ ،‬والجماد هو العبد الول لكل المخلوقات‪ ،‬عبد للنبات‪ ،‬وعبد للحيوان‪ ،‬وعبد للنسان؛ لنه‬
‫مُسخّر لخدمة هؤلء جميعا‪.‬‬
‫فكيف بك وأنت النسان الذي كرّمك ربك وجعل لك عقلً مفكرا تتدنى بنفسك وترضى لها أنْ‬
‫تعبد أدنى أجناس الوجود‪ ،‬وتتخذها شريكا مع ال‪ ،‬وأنت ترى الريح إذا اشتدتْ أطاحتْ باللت أو‬
‫بالعزى‪ ،‬وألقتْه على الرض‪ ،‬وربما كُسرت ذراعه‪ ،‬فاحتاج لمن يصلح هذا الله‪ ،‬إذن { وَأَنّ مَا‬
‫طلُ‪[ } ..‬لقمان‪]30 :‬‬
‫يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك؛ قلنا في الحروب التي تنشب بين الناس‪ :‬إنها ل تنشب بين حقين؛ لن الحقيقة ل يوجد فيها‬
‫حقّان‪ ،‬إنما هو حق واحد‪ ،‬والخر ل بُدّ أن يكون باطلً‪ ،‬أو تنشأ بين باطلين‪ ،‬أما نشأتها بين حق‬
‫وباطل فإنها في الغالب ل تطول؛ لن الباطل زهوق‪.‬‬
‫والعاقبة ل بُدّ أنْ تكون للحق ولو بعد حين‪ ،‬أما الباطل فإنه زَهُوق‪ ،‬إنما تطول المعركة إنْ نشبت‬
‫بين باطلين‪ ،‬فليس أحد الطرفين فيها أهلً لنصرة ال‪ ،‬فتظل الحروب بينهما حتى يتهالكا‪ ،‬وتنتهي‬
‫مكاسب طغيان كل منهما‪ ،‬ول يردهما إل مذلّة اللجوء إلى التصالح بعد أنْ فقدا كل شيء‪.‬‬
‫لذلك نرى هذه الظاهرة أيضا في توزيع التركات والمواريث بين المستحقين لها‪ ،‬حيث ينشب بينهم‬
‫الخلف والطعن واللجوء إلى القضاء والمحامين حتى يستنفد هذا كله جزءا كبيرا من هذه التركة‪،‬‬
‫ت مما كان بها من أموال جُمعتْ بالباطل ترى الطراف يميلون إلى التفاق‬
‫حتى إذا ما صَ َف ْ‬
‫والتصالح وتقسم ما بقي‪.‬‬
‫ل من مهاوش أذهبه ال‬
‫ن أصاب ما ً‬
‫واقرأ إنْ شئت حديث رسول ال صلى ال عليهم وسلم‪ " :‬مَ ْ‬
‫في نهابر " ومعنى‪ :‬مهاوش يعني التهويش أو كما نقول (بيهبش) من هنا ومن هنا‪ ،‬وطبيعي أن‬
‫يُذهِب ال هذا المال في الباطل وما ل فائدة منه‪.‬‬

‫ل لمصارف المال الحرام بالب يرجع إلى بيته‪ ،‬فيجد ابنه مريضا حرارته‬
‫وسبق أن أعطينا مث ً‬
‫مرتفعة‪ ،‬فيسرع به إلى الطبيب ويصيبه الرعب‪ ،‬ويتراءى له شبح المرض‪ ،‬فينفق على ابنه‬
‫المئات‪ ،‬أما الذي يعيش على الكفاف ويعرق في كسب عيشه بالحلل فيكفيه في مثل هذه الحالة‬
‫قرص أسبرين وكوب ليمون‪ ،‬فالول أصاب ماله من مهاوش‪ ،‬والخر أصابه من الحلل‪.‬‬
‫حقّ‪[ { ..‬لقمان‪ ]30 :‬يعني‪ :‬أن الحق هو الظاهر وهو‬
‫فقول ال تعالى‪ } :‬ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ الْ َ‬
‫الغالب‪ ،‬فإنْ قلتَ كيف ونحن نرى الباطل قد يعلو على الحق ويظهر عليه؟ ونقول‪ :‬نعم‪ ،‬قد يعلو‬
‫الباطل لكن إلى حين‪ ،‬وهو في هذه الحالة يكون جنديا من جنود الحق‪ ،‬كيف؟ حينما يعلو الباطل‬
‫صوْلَة ل ُبدّ أن يعض الناس ويؤذيهم ويذيقهم ويلته‪ ،‬فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه‬
‫وتكون له َ‬
‫ويتشوقون إليه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لول الباطل ما عرفنا ميزة الحق‪ ،‬ومثال ذلك اللم الذي يصيب النفس النسانية فينبهها إلى‬
‫المرض‪ ،‬ويظهر لها علتها‪ ،‬فتطلب الدواء‪ ،‬فاللم جندي من جنود الشفاء‪ ،‬وقلنا سابقا‪ :‬إن الكفر‬
‫جندي من جنود اليمان‪.‬‬
‫لذلك ل تحزن إنْ رأيتَ الباطل عاليا‪ ،‬فذلك في صالح الحق‪ ،‬واقرأ قول ربك عز وجل‪ {:‬أَنَ َزلَ مِنَ‬
‫سعَته من الماء{‬
‫سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِ َيةٌ ِبقَدَرِهَا‪[} ...‬الرعد‪ ]17 :‬يعني‪ :‬يأخذ كل وادٍ على قدره و ِ‬
‫ال ّ‬
‫فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا‪[} ...‬الرعد‪ ]17 :‬وهو القش والفتات الذي يحمله الماء{ َو ِممّا يُوقِدُونَ‬
‫طلَ‪[} ...‬الرعد‪]17 :‬‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْ َيةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَ َبدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا ْلحَ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جفَآءً‪[} ...‬الرعد‪ ]17 :‬يعني‪ :‬مطرودا مُبْعدا من الجفوة{‬
‫أي‪ :‬مثلً لكل منهما‪ {.‬فََأمّا الزّ َبدُ فَيَ ْذ َهبُ ُ‬
‫لمْثَالَ }[الرعد‪]17 :‬‬
‫وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ‬
‫حقّ‪[ { ..‬لقمان‪ ]30 :‬وأن غيره من آلهة المشركين هم‬
‫وبعد أن بيّن الحق سبحانه وتعالى أنه } الْ َ‬
‫الباطل ذكر لنفسه سبحانه صفتين أخريين } وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ { [لقمان‪ ]30 :‬العلي الكبير‬
‫يقولها ال تعالى‪ ،‬ويقولها رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونقولها نحن؛ لن ال قالها؛ ولن النبي‬
‫الصادق أخبرنا بها‪ ،‬لكن المسألة أن يشهد بها مَنْ كفر بال‪.‬‬
‫لذلك يعلمنا ربنا ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬أن نحمد ال حينما يشهد الكافر ل رغم كفره به‪ ،‬كما ورد في‬
‫حمْدُ لِلّهِ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَ‬
‫ت وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ ُقلِ ا ْل َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫اليات السابقة‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َت ُهمْ مّنْ خََلقَ ال ّ‬
‫َيعَْلمُونَ }[لقمان‪]25 :‬‬
‫فهذه الشهادة منهم تستحق من المؤمن أن يقول‪ :‬الحمد ل؛ لنها شهادة ممّنْ كفر بال وكذّب‬
‫رسوله وحاربه‪ ،‬وأيضا تنظر إلى هذا الكافر الذي تأبّى على منهج ال وكذّب رسوله حين يصيبه‬
‫مرض مثلً‪ ،‬أيستطيع أنْ يتأبى على المرض كما تأبّى على ال؟ هذا الذي أَلِف التمرد على ال‪:‬‬
‫أيتمرد إنْ جاءه الموت‪.‬‬

‫ضلّ مَن تَدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ‪[} ...‬السراء‪ ]76 :‬أي‪ :‬ل‬


‫س ُكمُ ا ْلضّرّ فِي الْبَحْ ِر َ‬
‫واقرأ قوله تعالى‪ {:‬وَإِذَا مَ ّ‬
‫يجدون أمامهم ساعة الكرب والهلك إل ال؛ لن النسان في هذه الحالة ل يخدع نفسه ول يكذب‬
‫عليها‪ ،‬بال أرأيتم إنسانا أحاطتْ به المواج‪ ،‬وأشرف على الهلك يدعو يقول‪ :‬يا هبل؟ إذن‪ :‬ال‬
‫هو العلي وهو الكبير‪ ،‬وغيره شرك وباطل‪.‬‬
‫وسبق أن ضربنا مثلً للنسان‪ ،‬وأنه ل يغشّ نفسه‪ ،‬ول يخدعها خاصة إذا نزلتْ به ضائقة‬
‫بالحلق أو حكيم الصحة كما يطلقون عليه‪ ،‬فهو يداوي أهل القرية ويسخر من طبيب الوحدة‬
‫الصحية‪ ،‬ويتهمه بعدم الخبره لكن حين مرض ولده وأحسّ بالخطر أخذ الولد وتسلّل به في ظلم‬
‫الليل‪ ،‬وذهب إلى الطبيب‪.‬‬
‫فلله وحده العلو‪ ،‬ول وحده الكبرياء‪ ،‬بدليل أن الكافر حين تضطره أمور الحياة وتُلجئه إلى‬
‫ج منها ل يقول إل‪ :‬يال يا رب‪.‬‬
‫ضرورة ل مخر َ‬
‫فال هو العليّ بشهادة مَنْ كفر به‪ ،‬ثم أردف صفة (العلى) بصفة (الكبير)؛ لن العلى يجوز أنه‬
‫عل بطغيان وعدم استحقاق للعلو‪ ،‬لكن الحق سبحانه هو العلي‪ ،‬وهو الكبير الذي يستحق هذا‬
‫العلو‪.‬‬
‫ثم يلفتنا الحق سبحانه إلى آية أخرى من آياته في الكون‪ } :‬أََلمْ تَرَ أَنّ ا ْلفُ ْلكَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3424 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شكُورٍ (‬
‫ل صَبّارٍ َ‬
‫أَلَمْ تَرَ أَنّ ا ْلفُ ْلكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِ ِن ْعمَةِ اللّهِ لِيُرِ َيكُمْ مِنْ آَيَا ِتهِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل ُك ّ‬
‫‪)31‬‬

‫بعد أن ذكر الحق سبحانه بعض اليات الكونية البعيدة عنا أراد سبحانه أنْ يعطينا نموذجا آخر‬
‫لليات التي بيْن أيدينا في الرض فقال تعالى‪ { :‬أََلمْ تَرَ أَنّ ا ْلفُ ْلكَ تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ بِ ِن ْعمَةِ اللّهِ‪} ..‬‬
‫[لقمان‪ ]31 :‬ألم تر‪ :‬يعني ألم تعلم { أَنّ ا ْلفُ ْلكَ‪[ } ..‬لقمان‪ ]31 :‬أي‪ :‬السفن‪.‬‬
‫وربما أن سيدنا رسول ال لم يَرَ هذه السفن في البحار‪ ،‬ولم تكن قد ظهرت السفن العملقة التي‬
‫جوَارِ ا ْلمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالَعْلَمِ }[الرحمن‪:‬‬
‫نراها اليوم كالعلم‪ ،‬كما في قوله سبحانه‪ {:‬وَلَهُ ا ْل َ‬
‫‪]24‬‬
‫ومتى وُجِدت البوارج العالية التي تشبه الجبال والمكوّنة من عدة أدوار‪ .‬لم توجد إل حديثا‪ ،‬إذن‪:‬‬
‫فهذا مظهر من مظاهر إعجاز القرآن‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬وََل ْولَ أَن َيكُونَ النّاسُ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً‬
‫ظهَرُونَ }[الزخرف‪]33 :‬‬
‫سقُفا مّن ِفضّ ٍة َو َمعَارِجَ عَلَ ْيهَا يَ ْ‬
‫حمَـانِ لِبُيُو ِتهِمْ ُ‬
‫جعَلْنَا ِلمَن َي ْكفُرُ بِالرّ ْ‬
‫لّ َ‬
‫ومَنْ يبحث في القرآن يجد فيه الكثير من هذه اليات التي تثبت صِدْق القرآن وصِدْق رسول ال‬
‫في البلغ عن ال‪.‬‬
‫وذكرنا قصة المرأة التي أسلمت لما قرأت التاريخ السلمي‪ ،‬وقرأت في سيرة رسول ال أن‬
‫المؤمنين به كانوا يجعلون عليه حراسة دائمة يتبادلونها حماية له من أعدائه‪ ،‬وفجأة صرف رسول‬
‫ص ُمكَ مِنَ النّاسِ‪[} ...‬المائدة‪:‬‬
‫ال هؤلء الحرس من حوله وقال لهم لقد أنزل ال عليّ{ وَاللّهُ َي ْع ِ‬
‫‪ ]67‬فوقفت المرأة عند هذه الية وقالت‪ :‬وال لو أن هذا الرجل كان يخدع الناس جميعا ما خدع‬
‫نفسه في حياته‪.‬‬
‫وقلنا في معنى { أََلمْ تَرَ‪[ } ..‬لقمان‪ ]31 :‬أنها بمعنى ألم تعلم‪ ،‬لن إعلم ال لك أوثق من رؤية‬
‫عينيك‪.‬‬
‫وكلمة { َتجْرِي فِي الْبَحْرِ بِ ِن ْعمَةِ اللّهِ‪[ } ..‬لقمان‪ ]31 :‬الجري‪ :‬حركة تودع فيها مكانا إلى مكان‬
‫آخر‪ ،‬هذا التوديع إما أن تمشي ال ُهوَيْنَا أو تجري‪ .‬لكن ما هي نعمة ال في جريها؟ أولً كانت أول‬
‫سفينة من الخشب المربوط إلى بعضه بالحبال والدّسُر‪ ،‬وكان الغاطس منها في الماء حوالي شبر‬
‫واحد يزيح من الماء بحجم وزن السفينة‪ ،‬فإذا ما وضعت عليها ثقلً فإنها تغطس بمقدار هذا‬
‫الثقل‪ ،‬حتى إذا ما زاد وزن الماء المزاح عن وزن السفينة وحمولتها فإنها تغرق‪.‬‬
‫وهذه الفكرة هي التي تُستخدم في الغواصات‪ ،‬فبالوزن يتم التحكم في حركة الغواصة تحت الماء‪.‬‬
‫والن نرى السفن العملقة والتي تُصنع من الحديد‪ ،‬والعجيب أن هذا الحديد الصلب يحمله الماء‬
‫السائل الليّن ويجري به‪ ،‬ثم تأتي الريح فتدفع السفن إلى حيث تريد‪ ،‬حتى وإنْ كانت تسير عكس‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جريان الماء‪ ،‬ويتمكن ربان السفينة من التحكم في حركتها باستخدام بعض اللت البسيطة‬
‫وبتوجيه الشراع بطريقة معينة فتسير السفينة حسب ما أراد حتى لو كان اتجاهها عكس اتجاه‬
‫الريح‪ ،‬ويسمون هذه الحركة (تسفيح)‪.‬‬

‫ظهْ ِرهِ‪} ...‬‬


‫علَىا َ‬
‫سكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ َروَاكِدَ َ‬
‫لذلك يقول سبحانه عن حركة السفن‪ {:‬إِن َيشَأْ يُ ْ‬
‫[الشورى‪]33 :‬‬
‫وكأن الحق سبحانه يريد أن يُبيّن لنا أن أقل الشياء كثافة بقوة الحق له يحمل أكثر الشياء كثافة‪،‬‬
‫وانظر إنْ شئتَ إلى جرارات النقل الثقيل‪ ،‬هذه الجرارات العملقة التي تحمل عدة أطنان من‬
‫الحديد مثلً على أي شيء تسير وتتحرك؟ إنها تسير وتتحرك على الهواء المضغوط في عجلتها‪،‬‬
‫والذي يأخذ قوته من هذا الضغط‪ ،‬بحيث إذا زدتَ في ضغط هذه العجلت تقوي على نفسها‬
‫فتنفجر‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬لِيُرِ َيكُمْ مّنْ آيَاتِهِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]31 :‬أي‪ :‬من عجائبه في كونه في البحار‪ ،‬ففي‬
‫الماضي كنا ل نرى من المخلوقات في العماق إل السمك الذي يصطاده الصيادون‪ ،‬أما الن‬
‫ومع تطور علوم البحار وطرق التصوير تحت الماء أصبحنا نرى في أعماق البحار عجائب أكثر‬
‫مما نراه على اليابسة‪.‬‬
‫ل صَبّارٍ‪{ ..‬‬
‫شكُورٍ { [لقمان‪ ]31 :‬قوله تعالى‪ّ } :‬ل ُك ّ‬
‫ل صَبّارٍ َ‬
‫ك ليَاتٍ ّل ُك ّ‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬إِنّ فِي ذَِل َ‬
‫[لقمان‪ ]31 :‬توحي بأن آيات ال في كونه كثيرة‪ ،‬لكن على النسان أنْ يبذل جهدا في البحث عنها‬
‫واكتشافها‪ ،‬وعليه أن يكون صبّارا على مشقة البحث والغوص تحت الماء‪ ،‬فإذا ما رأينا ما في‬
‫شكُورٍ { [لقمان‪]31 :‬‬
‫أعماق البحار من عجائب مخلوقات ال فقد وجب علينا الشكر } ّل ُكلّ صَبّارٍ َ‬
‫والشكر ل يكون إل عن نعمة جدّت لم تكُنْ موجودة من قبل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يريد منا أن نستقبل آياته في الكون استقبالَ بحث وتأمل ونظر‪ ،‬ل‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا‬
‫استقبال غفلة وإعراض‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي ال ّ‬
‫وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪]105 :‬‬
‫وتقديم صبّار على شكور دليل على أن الصبر على مشقات العمل والبحث والستنباط والكتشاف‬
‫يُؤتى نعمة كبيرة تدعو النسان إلى شكرها‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَِإذَا غَشِ َيهُمْ ّموْجٌ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3425 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جحَدُ‬
‫عوُا اللّهَ مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ فََلمّا نَجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ َفمِ ْنهُمْ ُمقْ َتصِ ٌد َومَا يَ ْ‬
‫وَإِذَا غَشِ َي ُهمْ َموْجٌ كَالظَّللِ دَ َ‬
‫بِآَيَاتِنَا إِلّا ُكلّ خَتّارٍ كَفُورٍ (‪)32‬‬

‫معنى { غَشِ َيهُمْ ّموْجٌ‪[ } ..‬لقمان‪ ]32 :‬يعني‪ :‬غطاهم واحتواهم؛ لذلك قال‪ { :‬كَالظَّللِ‪[ } ..‬لقمان‪:‬‬
‫‪ ]32‬جمع ظُلّة‪ ،‬وهي التي تعلو النسان وتظلله‪ ،‬ول يكون الموج كذلك إل إذا عل عن مستوى‬
‫النسان‪ ،‬وخرج عن رتابة الماء وسجسجته‪ .‬ومن ذلك قول ال تعالى‪ {:‬وَإِذ نَ َتقْنَا الْجَ َبلَ َف ْو َقهُمْ كَأَنّهُ‬
‫ظُلّةٌ‪[} ...‬العراف‪]171 :‬‬
‫وأنت تشاهد هذه المظاهر إذا كنتَ في عرض البحر‪ ،‬فترى الموجة من بعيد أعلى منك‪ ،‬وأنها‬
‫حتما ستطمسك‪ ،‬حتى إذا ما وصلتْ إليك شاهدتَ فيها مظهرا من لطف ال بك‪ ،‬حيث تتلشى‬
‫وتمر من تحتك بسلم‪ ،‬وهذا شيء عجيب ونعمة تستوجب الشكر‪.‬‬
‫عوُاْ اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ‪} ..‬‬
‫فالموج إذن شيء مخيف؛ لذلك لما غشيهم وأيقنوا الهلك { دَ َ‬
‫[لقمان‪ ]32 :‬دعوا ال رغم أنهم كافرون به‪ ،‬لكن المرء في مثل هذه الحال ل يخدع نفسه ول‬
‫يكذب عليها‪ ،‬فالمر جد‪ ،‬فلم يدعوا اللت أو العزى‪ ،‬ولم ي ُقلْ أحد منهم يا هبل‪ ،‬إنما دعوا ال‬
‫ن كانوا ملتفتين لدين آخر في عبادة الصنام‪ ،‬ففي هذا الموقف ل ُبدّ أن يُخلصوا‬
‫بإخلص ل‪ ،‬فإ ْ‬
‫ل؛ لنهم واثقون أن الصنام لن تنفعهم‪ ،‬وأنها ل تملك لهم ضرا ول نفعا‪ ،‬ولن يكون النفع وكشف‬
‫البلء إل من ال الحق‪.‬‬
‫فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬ما دام المر كذلك‪ ،‬فما الذي صرفهم عن عبادة ال إلى عبادة الصنام‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬إن التديّن طبيعة في النفس البشرية‪ ،‬وهذه الطبيعة باقية في ذرات كل إنسان منذ خلق ال‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ‪[} ...‬العراف‪ ]172 :‬فشهدوا‪.‬‬
‫آدم‪ ،‬وأخذ من صُلْبه ذريته‪ ،‬وأشهدهم على أنفسهم{ أَلَ ْ‬
‫فكل واحد منا فيه ذرة شهدتْ هذا العهد‪ ،‬وهذه الذرة هي مصدر الشراقات في نفس المؤمن‪،‬‬
‫وعليه أنْ يحافظ عليها بأن يأخذ قانون صيانة هذه الذرة ممن خلقها‪ ،‬ل أنْ يطمس نورها بمخالفة‬
‫قانون صيانته الذي وضعه له ربه ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فيكون كمَنْ قال ال فيه‪َ {:‬ومَنْ أَعْ َرضَ عَن‬
‫عمَىا }[طه‪]124 :‬‬
‫ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِيشَ ًة ضَنكا وَنَحْشُ ُرهُ َي ْومَ ا ْلقِيامَةِ أَ ْ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم يُوضح لنا هذه المسألة بقوله‪ " :‬كل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه‬
‫يُهوّدانه‪ ،‬أو يُنصرّانه أو‪ ،‬يُمجّسانه "‪.‬‬
‫فالنفس النسانية بخير ما دام فيها الشراقيات اللهية الولى التي شهدتْ أن ال هو الرب‪ ،‬لكن إذا‬
‫تضبّبت فل ُبدّ أن تحدث الخيبة ويدخل الفساد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬التديّن طَبْع في النفس‪ ،‬لكن التديّن الحق له مطلوبات ومنهج بافعل كذا‪ ،‬ول تفعل كذا‪ ،‬وهذا‬
‫يريد أنْ يُرضي نفسه بأن يكون مُتدينا‪ ،‬لكن يريد أنْ يريح نفسه من مطلوبات هذا التدين‪ ،‬فماذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يفعل؟ يلجأ إلى عبادة إله ل مطلوبات له‪ ،‬وقد توفرت هذه في عبادة الصنام‪.‬‬
‫لكن نقول لمن عبد الصنام‪ :‬ل ُبدّ أنْ يأتي عليك الوقت الذي ل تلتفت فيه إلى الصنام‪ ،‬بل إلى‬
‫الله الحق الذي هربتْ من مطلوباته وانصرفت عن عبادته‪ ،‬ل بُدّ أن تُلجئك الحداث إلى أنْ تلوذ‬
‫به؛ لذلك يقولون في المثل (اللي متحبش تشوف وجهه‪ ،‬يُحوجك الزمن لقفاه)‪.‬‬

‫فأنتم أعرضتم عن ال وكفرتم به‪ ،‬فلما نزلت بكم الحداث وأحاطت بكم المواج صِرْتم أرانب‪،‬‬
‫فلماذا الن تلجئون إلى ال؟ لماذا لم تستمروا على عنادكم وتكبّرهم حتى على ال؟‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬فََلمّا َنجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ َفمِ ْنهُمْ ّمقْ َتصِدٌ‪[ { ..‬لقمان‪ ]32 :‬وكان ينبغي عليهم بعد أنْ‬
‫نجاهم وأسعفهم‪ ،‬كان ينبغي عليهم أن يؤمنوا به‪ ،‬وأنْ يطيعوه‪ ،‬وأن تؤثر فيهم هذه الهزة التي‬
‫زلزلتهم‪ ،‬إل أنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعراض عن ال‪ ،‬وطاوع نفسه وشهوته‪.‬‬
‫هذه هي حال الكافر حينما يتعرض للبتلء والتمحيص‪ ،‬فإنه ينتكس ول يرعوى على خلف‬
‫المؤمن‪ ،‬فإنه إن تعرّض لمثل هذا الختبار يزداد إيمانا ويقينا‪.‬‬
‫والمقتصد هو البين بين‪ ،‬تأخذه الحداث والخطوب‪ ،‬فتردّه إلى ال حال الكرب والشدة‪ ،‬لكنه إذا‬
‫كشف عنه تردد وضعفتْ عنده هذه الروح‪ ،‬بدليل أن ال تعالى يذكر في مقابل المقتصد نوعا آخر‬
‫منهم غير مقتصد } َومَا َيجْحَدُ بِآيَاتِنَآ ِإلّ ُكلّ خَتّارٍ َكفُورٍ { [لقمان‪]32 :‬‬
‫فمنهم من بهت كفره حينما تنبه في الوازع اليماني‪ ،‬لكنه لما نجا غرّته الدنيا من جديد‪ ،‬ومنهم‬
‫الجاحد الختّار أي‪ :‬الغادر‪.‬‬
‫ولك أنْ تلحظ المقابلة بين صبّار وختّار‪ ،‬وبين شكور وكفور‪.‬‬
‫ثم يخاطب الحق سبحانه الناس‪ ،‬فيقول‪ } :‬ياأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُواْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3426 /‬‬

‫ن وَالِ ِدهِ شَيْئًا‬


‫ن وَلَ ِد ِه وَلَا َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَ ْ‬
‫شوْا َي ْومًا لَا يَجْزِي وَاِلدٌ عَ ْ‬
‫يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُوا رَ ّبكُ ْم وَاخْ َ‬
‫حقّ فَلَا َتغُرّ ّنكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلَا َيغُرّ ّنكُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ (‪)33‬‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫إِ ّ‬

‫خطاب الحق سبحانه لعباده بيأيها الناس يدل على أنه تعالى يريد أنْ يُسعدهم جميعا في الخرة‪،‬‬
‫وسبق أنْ ذكرنا الحديث القدسي الذي تقول فيه الرض‪ :‬يارب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم‪،‬‬
‫وقالت البحار‪ :‬نغرقه‪...‬إلخ‪ ،‬فكان الرد من الخالق عز وجل " دعوني وخلقي‪ ،‬فلو خلقتموهم‬
‫لرحمتموهم‪ ،‬إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم‪ ،‬وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬ا ّتقُواْ رَ ّبكُمْ‪[ } ..‬لقمان‪ ]33 :‬التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما يضرك وقاية تقيك‬
‫وتحميك؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى{ وَا ّتقُواْ النّارَ‪[} ...‬آل عمران‪ ]131 :‬وهما بمعنى واحد؛‬
‫لن معنى اتقوا ال‪ :‬اجعلوا بينكم وبين صفات جلل ربكم وانتقامه وجبروته وقاية‪ ،‬وكذلك في‪:‬‬
‫اتقوا النار‪.‬‬
‫فالخطاب هنا عام للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬فال تعالى يريد أن يُدخلهم جميعا حيّز اليمان‬
‫والطاعة‪ ،‬ويريد أنْ يعطيهم ويمنّ عليهم ويعينهم‪ ،‬وكأنه سبحانه يقول لهم‪ :‬ل أريد لكم ِنعَم الدنيا‬
‫فحسب‪ ،‬إنما أريد أنْ أعطيكم أيضا نعيم الخرة‪.‬‬
‫وكذلك النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كان رحيما حتى بالكافرين والمعاندين له‪ ،‬كما ذكرنا في قصة‬
‫اليهودي الذي اتهموه ظلما بسرقة درع أحد المسلمين‪ ،‬وقد عزّ على المسلمين أنْ يُرمى واحد‬
‫منهم بالسرقة‪ ،‬فجعلوها عند اليهودي‪ ،‬وعرضوا المر على سيدنا رسول ال‪ ،‬فأداره في رأسه‪:‬‬
‫كيف يتصرف فيه؟‬
‫حكُمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّهُ‪[} ...‬النساء‪:‬‬
‫حقّ لِ َت ْ‬
‫فأسعفه ال‪ ،‬وأنزل عليه‪ {:‬إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫خصِيما }[النساء‪ ]105 :‬أي‪ :‬ل تخاصم لصالح‬
‫‪ ]105‬ل بين المؤمنين فحسب{ َولَ َتكُنْ لّلْخَآئِنِينَ َ‬
‫الخائن‪ ،‬وإن كان مسلما‪ ،‬فالناس جميعا سواء أمام مسئولية اليمان‪.‬‬
‫وفَرْق بين‪ :‬اتقوا ربكم واتقوا ال؛ لن عطاء الربوبية غير عطاء اللوهية‪ ،‬عطاء الربوبية إيجاد‬
‫عدْم‪ ،‬وتربية للمؤمن وللكافر‪ ،‬أما عطاء اللوهية فطاعة وعبادة وتنفيذ‬
‫من عَدَم‪ ،‬وإمداد من ُ‬
‫للوامر‪ ،‬فاختار هنا الرب الذي خلق وربّى‪ ،‬وكأنه سبحانه يقول للناس جميعا‪ :‬من الواجب عليكم‬
‫أن تجعلوا تقوى ال شكرا لنعمته عليكم‪ ،‬وإنْ كنتم قد كفرتُم بها‪.‬‬
‫شوْاْ َيوْما لّ َيجْزِي وَالِدٌ عَن وََل ِدهِ‪} ..‬‬
‫ول تنتهي المسألة عند تقوى الرب في الدنيا‪ ،‬إنما { وَاخْ َ‬
‫[لقمان‪ ]33 :‬أي‪ :‬خافوا يوما تُرجعون فيه إلى ربكم‪ ،‬وكلمة (يوم) تأتي ظرفا‪ ،‬وتأتي اسما‬
‫خفْت شدة الملحظة‬
‫مُتصرّفا‪ ،‬فهي ظرف إذا كان هناك حدث سيحدث في هذا اليوم كما تقول‪ِ :‬‬
‫يوم المتحان‪ ،‬فالخوف من الحدث‪ ،‬ل من اليوم نفسه‪ ،‬أمّا لو قلت خفت يوم المتحان‪ ،‬فالخوف‬
‫من كل شيء في هذا اليوم‪ ،‬أي من اليوم نفسه‪.‬‬
‫شوْاْ َيوْما‪[ } ..‬لقمان‪ ]33 :‬لن اليوم نفسه مخيف بصرف النظر عن الجزاء‬
‫خَ‬‫فالمعنى هنا { وَا ْ‬
‫فيه‪ ،‬وفي هذا اليوم { لّ َيجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَ ِدهِ‪[ } ..‬لقمان‪ ]33 :‬خصّ هنا الوالد والولد؛ لنه‬
‫سبحانه نصح الجميع‪ ،‬ثم خصّ الوالدين في الوصية المعروفة‬

‫{ َو َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ‪[} ...‬لقمان‪]14 :‬‬


‫شكُرْ لِي وَِلوَالِدَ ْيكَ‪[} ...‬لقمان‪ ]14 :‬فجعل لهما فضلً‬
‫ثم ذكر حيثيات هذه الوصية وقال‪ {:‬أَنِ ا ْ‬
‫ومَيْزة ومنزلة عند ال‪ ،‬حتى أصبحا مظنة النفع حتى يوم القيامة‪ ،‬فأراد سبحانه أنْ يُبينّ لنا أن نفع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الوالد لولده ينقطع في الخرة‪ ،‬فكلّ منهما مشغول بنفسه‪ ،‬فل ينفع النسان حتى أقرب الناس إليه‪.‬‬
‫وفي سورة البقرة‪ {:‬وَا ّتقُواْ َيوْما لّ تَجْزِي َنفْسٌ عَن ّنفْسٍ شَيْئا‪[} ...‬البقرة‪ ]48 :‬أي‪ :‬مطلق النفس‪،‬‬
‫ل مجرد الوالد والولد‪ ،‬إنما عامة الناس ل ينفع أحد منهم أحدا أيّا كان‪.‬‬
‫والية بهذا اللفظ وردت في موضعين‪ :‬اتفقا في الصدر‪ ،‬واختلفا في ال َعجُز‪ ،‬وهي تتحدث عن‬
‫َنفْسين‪ :‬الولى هي النفس الجازية أي‪ :‬التي تتحمل الجزاء‪ ،‬والخرى هي النفس المجزّية التي‬
‫تستحق العقوبة‪.‬‬
‫ع ْدلٌ َولَ تَن َف ُعهَا‬
‫عجُزها{ وَلَ ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ‬
‫فالية التي نظرت إلى النفس المجزّى عنها‪ ،‬جاء َ‬
‫شفَاعَةٌ‪[} ...‬البقرة‪]123 :‬‬
‫َ‬
‫ومعنى‪ :‬عَدْل أي فدية‪ ،‬فالنفس المجزيّ عنها أول مرحلة عندها لتدفع عن نفسها العذاب أن‬
‫عمّنْ يشفع لها من أصحاب الجاه‬
‫تعرض الفدية‪ ،‬فل يقبل منها فدية‪ ،‬لكنها ل تيأس‪ ،‬بل تبحث َ‬
‫والمنزلة يتوسط لها عند ال‪ ،‬وهذه أيضا ل تنفع‪.‬‬
‫أما النفس الجازية‪ ،‬فأول ما تعرض تعرض الشفاعة‪ ،‬فإنْ لم تُقبل عرضت العدل والفدية؛ لذلك‬
‫جاء عَجز الية الخرى الذي اعتبر النفس الجازية بتقديم الشفاعة على العدل‪ .‬إذن‪ :‬ذَيْل الية‬
‫الولى عائد على النفس المجزىّ عنها‪ ،‬وذيل الية الثانية يعود على النفس الجازية‪.‬‬
‫وهنا } لّ َيجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَ ِدهِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]33 :‬لن الوالد مظنّة الحنان على الولد‪ ،‬وحين يرى‬
‫الوالد ولده يُعذّب يريد أنْ يفديه‪ ،‬فقدّم هنا (الوالد) ثم قال‪َ } :‬ولَ َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَن وَالِ ِدهِ شَيْئا‪{ ..‬‬
‫ن نقول‪ :‬ول يجزي ولده عن والده‪ ،‬فلماذا عدل‬
‫[لقمان‪ ]33 :‬فقدم المولود‪ ،‬وكان مقتضى الكلم أ ْ‬
‫عن ولد إلى مولود؟‬
‫الكلم هنا كلم رب‪ ،‬وفرْق كبير بين ولد ومولود؛ لن المسلمين الوائل كان لهم آباء ماتوا على‬
‫الكفر‪ ،‬فظنوا أن وصية ال بالوالدين تبيح لهم أنْ يجزوا عنهم يوم القيامة‪ ،‬فأنزل ال هذه الية‬
‫تبين لهؤلء ألّ يطمعوا في أنْ يدفعوا شيئا عن آبائهم الذين ماتوا على الكفر‪.‬‬
‫ن عل فهو‬
‫لذلك لم يقل هنا ولد‪ ،‬إنما مولود‪ ،‬لن المولود هو المباشر للوالد‪ ،‬والولد يقال للجد وإ ْ‬
‫ولده‪ ،‬والجد وإنْ عل والده‪ ،‬فإذا كانت الشفاعة ل تُقبل من المولود لوالده المباشر له‪ ،‬فهي من‬
‫باب َأوْلَى ل تُقبل للجدّ؛ لذلك عَدل عن ولد إلى مولود‪ ،‬فالمسألة كلم رب حكيم‪ ،‬ل مجرد َرصْف‬
‫كلم‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬متى يجزي الوالد عن الولد‪ ،‬والمولود عن والده؟ قالوا‪ :‬الولد ضعيف بالنسبة لوالده يحتاج‬
‫منه العطف والرعاية‪ ،‬فإذا رأى الوالد ولده يتألم سارع إلى أنْ يشفع له ويدفع عنه اللم‪ ،‬أما الولد‬
‫فل يدفع عن أبيه اللم لنه كبير‪ ،‬إنما يدفع عنه الهانة‪ ،‬فالوالد يشفع في اليلم‪ ،‬والولد يشفع في‬
‫الهانة‪ ،‬فكل منهما مقام‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ‪[ { ..‬لقمان‪ ]33 :‬عرفنا أن الوعد‪ :‬إخبار بشيء يسر لم يَأْت‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬إِ ّ‬
‫وقته‪ ،‬وضده الوعيد‪ ،‬وهو إخبار بشيء يؤذي لم ي ْأتِ وقته بعد‪ ،‬لكن ما فائدة كل منهما؟‬
‫فائدة الوعد أنْ تستعدّ له‪ ،‬وتأخذ في أسبابه‪ ،‬فهو يشجعك على العمل والسعي الذي يُحقّق لك هذا‬
‫الوعد كأنْ َتعِد ولدك مثلً بجائزة إنْ نجح في المتحان‪ ،‬وعلى العكس من ذلك الوعيد؛ لنه‬
‫يُخوّفك من عاقبته فتحترس‪ ،‬وتأخذ بأسباب النجاة منه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الوعد حق‪ ،‬وكذلك الوعيد حق‪ ،‬لكنه خصّ الوعد لنه يجلب للنفس ما تحب‪ ،‬أمّا الوعيد فقد‬
‫يمنعها من شهوة تحبها‪ ،‬ووضحنا هذه المسألة بأن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يتكلم في النعم أن‬
‫منها ِنعَم إيجاب‪ ،‬و ِنعَم سلب‪.‬‬
‫شوَاظٌ مّن نّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا‬
‫سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ‬
‫واقرأ في ذلك قول ربك‪ {:‬يُرْ َ‬
‫ُتكَذّبَانِ }[الرحمن‪]36-35 :‬‬
‫فإذا كانت الجنة وما فيها نعما تستحق الشكر‪ ،‬ويمتنّ ال بها علينا‪ ،‬فأيّ نعمة في الشواظ والنار‬
‫والعذاب؟ قالوا‪ :‬هي نعمة من حيث هي تحذير وتخويف من العذاب لتبتعد عن أسبابه‪ ،‬وتنجو منه‬
‫ن تقع فيه‪ ،‬نعمة لن ال لم يأخذنا على غِرّة‪ ،‬ونبهنا إلى الخطر قبل أنْ نقع فيه‪.‬‬
‫قبل أ ْ‬
‫ووَعْد ال حقّ؛ لنه وعد ممّنْ يملك الوفاء بما وعد‪ ،‬وإنفاذ ما وعد به‪ ،‬أما غير ال سبحانه فل‬
‫يملك أسباب الوفاء‪ ،‬فوعده ل يُوصَف بأنه حق؛ لذلك قال سبحانه في سورة الكهف‪َ {:‬ولَ َتقْولَنّ‬
‫علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن َيشَآءَ اللّهُ‪[} ...‬الكهف‪]24-23 :‬‬
‫شيْءٍ إِنّي فَا ِ‬
‫لِ َ‬
‫ن تفي بما وعدتَ‪ ،‬فإنْ بقيت‬
‫ن كنتَ صادقا فيما وعدتَ به إل أنك ل تضمن البقاء إلى أ ْ‬
‫فأنت وإ ْ‬
‫فقد تتغير السباب فتحول بينك وبين الوفاء‪ ،‬وأنت ل تملك سببا واحدا من هذه السباب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬تأدب ودَع المر لمَنْ يملك كل أسباب إنفاذ الوعد‪ ،‬و ُقلْ سأفعل كذا إن شاء ال‪ ،‬حتى إذا لم‬
‫تنفذ يكون لك حجة فتقول‪ :‬أردتُ لكن ال لم يشأ‪.‬‬
‫وكأن ربنا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يريد أنْ يداري كذبنا ويستره علينا‪ ،‬يريد ألّ يفضحنا به‪ ،‬وأخرجنا من‬
‫هذه المسئولية بترك المشيئة له سبحانه‪ ،‬وكأن قدر ال في الشياء صيانة لعبيده من عبيده‪ .‬لذلك‬
‫كثيرا ما نقول حينما ل نستطيع الوفاء‪ :‬هذا قدر ال‪ ،‬وماذا أفعل أنا‪ ،‬والمر ل يُقضى في الرض‬
‫حتى يُقضى في السماء‪.‬‬
‫وما دمنا قد آمنا بقدر ال والحكمة منه‪ ،‬فل تغضب مني إنْ لم أفِ لك وأنت كذلك‪ ،‬والعاقل يعلم‬
‫تماما حين يقضي أمرا لحد أن قضاء المر جاء معه ل به‪ ،‬فالقدر قضاء‪ ،‬ووافق قضاؤه قضاء‬
‫ن يقضي المر على يديه‪ ،‬لذلك قلنا‪ :‬إن الطبيب المؤمن يقول‪ :‬جاء‬
‫ال للمر‪ ،‬فكأن ال كرّمه بأ ْ‬
‫الشفاء معي ل بي‪ ،‬وأن الطبيب يعالج وال يشفي‪ ،‬إذن‪ :‬ل يُوصَف الوعد بأنه حقّ إل وعد ال‬
‫عز وجل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن تفعل ما وعدك عليه بالخير وتجتنب ما توعّدك عليه بشرّ‪ ،‬وألّ‬
‫وما دام وعد ال حقا فعليك أ ْ‬
‫تغرك الحياة } فَلَ َتغُرّ ّنكُمُ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا‪[ { ..‬لقمان‪ ]33 :‬أي‪ :‬بزينتها وزُخْرفها‪ ،‬فهي سراب خادع‬
‫جعُونَ }‬
‫ليس وراءه شيء‪ ،‬واقرأ قول ال تعالى‪َ {:‬أ َفحَسِبْتُمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَ ّنكُمْ ِإلَيْنَا لَ تُ ْر َ‬
‫[المؤمنون‪]115 :‬‬
‫والحق سبحانه يضرب لنا مثلً للدنيا‪ ،‬ل ليُنفّرنا منها‪ ،‬وإنما لنحتاط في القبال عليها‪ ،‬وإل فحبّ‬
‫الحياة أمر مطلوب من حيث هي مجال للعمل للخرة ومضمار للتسابق إليها‪.‬‬
‫يقول تعالى في هذا المثل‪ {:‬وَاضْ ِربْ َلهُم مّ َثلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا‪[} ...‬الكهف‪ ]45 :‬فسماها دنيا‪ ،‬وليس‬
‫سمَاءِ فَاخْتَلَطَ ِبهِ نَبَاتُ الَ ْرضِ‬
‫هناك وصف أبلغ في تحقيرها من أنها دنيا{ َكمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫فََأصْبَحَ هَشِيما َتذْرُوهُ الرّياحُ‪[} ...‬الكهف‪ ]45 :‬نعم‪ ،‬كذلك الدنيا تزدهي‪ ،‬لكن سرعان ما تزول‪،‬‬
‫تبدأ ابتدا ًء مقنعا مغْريا‪ ،‬وتنتهي انتها ًء مؤسفا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَلَ َيغُرّ ّنكُم بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ { [لقمان‪ ]33 :‬والغَرور بالفتح الذي يغرّك في شيء ما‪،‬‬
‫والغرور يوضحه لنا الشاعر الجاهلي وهو يخاطب محبوبته فيقول‪َ:‬أفَاطِمُ َمهْلً َب ْعضَ هَذَا التدَلّل‬
‫ب يفعَلِفمعنى‬
‫جمِلِيأغرّك مني أنَ ح ّبكِ قَاتِلي وأَ ّنكِ َمهْما ت ْأمُري القَلْ َ‬
‫وإنْ كنت َقدْ أَزْمعتِ صَرْمي فأَ ْ‬
‫غرّك‪ :‬أدخل فيك الغرور‪ ،‬بحيث تُقبل على الشياء‪ ،‬وتتصرف فيها في كنف هذا الغرور وعلى‬
‫ضوئه‪.‬‬
‫والغَرُور بالفتح هو الشيطان‪ ،‬وله في غروره طرق وألوان‪ ،‬فغرور للطائعين وغرور للعاصين‪،‬‬
‫فلكل منهما مدخل خاص‪ ،‬فيغ ّر العاصي بالمعصية‪ ،‬ويوسوس له بأن ال غفور رحيم‪ ،‬وقد عصا‬
‫أبوه فغفر ال له‪ .‬لذلك أحد الصالحين سمع قول ال تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الِنسَانُ مَا غَ ّركَ بِرَ ّبكَ ا ْلكَرِيمِ‬
‫سوّاكَ َفعَدََلكَ }[النفطار‪ ]7-6 :‬فأجاب هو‪ :‬غرّني كرمه‪ ،‬لنه خلقني وسوّاني في‬
‫* الّذِي خََل َقكَ فَ َ‬
‫أحسن صورة‪ ،‬وعاملني بكرم ودلّّلني‪ ،‬حتى أصابني الغرور بذلك‪ ،‬ولو أنه عز وجل قسا علينا ما‬
‫اغتررنا‪.‬‬
‫وكان لحدهم دَيْن خمسة صاغ فضة عند آخر‪ ،‬فردّها إليه‪ ،‬فلما نظر فيها الدائن وجدها ممسوحة‬
‫فأعادها إليه‪ ،‬فقال المدين‪ :‬وال لو كنت كريما لقبلتها دون أنْ تنظر فيها‪.‬‬
‫فأخذ الواعظ هذه الواقعة وأراد أنْ يعظ بها الدائن‪ ،‬وكان يصلي صلةً ل خشوعَ فيها‪ ،‬فقال له‪ :‬إن‬
‫صلتك هذه ل تعجبني‪،‬فهي َنقْر ل خشوع فيها‪ ،‬أرأيت لو أن لك دَيْنا فأعطاك صاحب الدين نقودا‬
‫ممسوحة قديمة أكنت تقبلها؟ فقال الرجل‪ :‬وال لو كنتُ كريما أقبلها ول أردها‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه مختتما سورة لقمان‪ } :‬إِنّ اللّهَ عِن َدهُ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3427 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سبُ غَدًا َومَا‬
‫ع ِة وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْيثَ وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْأَ ْرحَا ِم َومَا تَدْرِي َنفْسٌ مَاذَا َتكْ ِ‬
‫إِنّ اللّهَ عِنْ َدهُ عِ ْلمُ السّا َ‬
‫تَدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (‪)34‬‬

‫بعد أن حذرنا ربنا ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬من الغرور في الحياة الدنيا يُذكّرنا أن بعد هذه الحياة حياة‬
‫أخرى‪ ،‬وقيامه وساعة { إِنّ اللّهَ عِن َدهُ عِلْمُ السّاعَةِ‪[ } ..‬لقمان‪ ]34 :‬والساعة ل تعني القيامة‬
‫فحسب‪ ،‬إنما لكل منا ساعته‪ ،‬لنه مَنْ مات فقد قامت قيامته‪.‬‬
‫لماذا؟ لنه انقطع عمله‪ ،‬ول يمكنه تدارك ما فاته من اليمان أو العمل الصالح‪ ،‬فكأن قيامته قامت‬
‫بموته‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن عمر الدنيا بالنسبة لك هو مقدار عمرك فيها‪ ،‬وإنْ كان عمر الدنيا على الحقيقة من لَدُن‬
‫آدم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬إلى قيام الساعة‪ ،‬لكن ماذا استفدتَ أنت من عمر غيرك؟‬
‫إذن‪ :‬ل ينبغي أن تقول‪ :‬إن الدنيا طويلة؛ لن عمرك فيها قصير‪ ،‬ثم إنك ل تعلمه‪ ،‬ول تستطيع أنْ‬
‫تتحكم فيه‪ ،‬وكما أبهم ال الساعة أبهم الجل؛ لن في إبهامه أنفع البيان‪ ،‬فلما أبهم ال الجل جعل‬
‫النفس البشرية تترقبه في كل لحظة‪ ،‬فكل لحظة تمر عليك يمكن أن يأتيك فيها الموت‪.‬‬
‫وهكذا أشاع الموت في كل الزمن‪ ،‬وما دام المر كذلك فل بُدّ أن ينتبه النسان ويخشى أن يموت‬
‫وهو على معصية‪ ،‬فالبهام هنا هو عَيْن البيان‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن الذين ماتوا من َلدُن آدم عليه السلم يلبثون في قبورهم طوال هذه المدة‪ ،‬فإذا ما قامت‬
‫القيامة{ كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا َلمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ عَشِيّةً َأوْ ضُحَاهَا }[النازعات‪ ]46 :‬لماذا؟ قالوا‪ :‬لن قياس‬
‫الزمن إنما يتأتى بالحداث‪ ،‬فحيث ل توجد أحداث ل يوجد زمن‪.‬‬
‫ومثّلْنا لذلك بأهل الكهف الذين مكثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا‪ ،‬ومع ذلك لما سأل‬
‫بعضهم بعضا{ كَم لَبِثْ ُتمْ قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ َي ْومٍ‪[} ...‬الكهف‪]19 :‬‬
‫لماذا؟ لن النوم يخلو من الحداث‪ ،‬فل يشعر النائم فيه بالزمن‪ ،‬كما أنهم لما رأى بعضهم بعضا‬
‫بعد هذه الفترة رآه على حالته التي نام عليها لم يتأثر بمرور هذه المدة‪ ،‬ولم تتغير هيئته‪ ،‬فأقصى‬
‫ما يمكن تصوّره أن يقول‪ :‬لبثنا يوما أو بعض يوم‪.‬‬
‫وكذلك الحال في قصة العُزير الذي قال ال عنه‪َ {:‬أوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىا قَرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا‬
‫شهَا قَالَ أَنّىا يُحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا فََأمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمّ َبعَ َثهُ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ‬
‫عُرُو ِ‬
‫لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ‪[} ...‬البقرة‪]259 :‬؛ لن هذه هي أطول مدة يمكن أن ينامها النسان‪.‬‬
‫ثم أخبره ربه{ بَل لّبِ ْثتَ مِائَةَ عَامٍ‪[} ...‬البقرة‪ ]259 :‬ويريد الحق سبحانه أن يُدلّل على صدق‬
‫الرجل في قوله يوما أو بعض يوم‪ ،‬وعلى صدقه تعالى في قوله مائة عام‪ ،‬فيقول سبحانه‪ {:‬فَانْظُرْ‬
‫ك وَشَرَا ِبكَ َلمْ يَتَسَنّهْ‪[} ...‬البقرة‪ ]259 :‬أي‪ :‬لم يتغير‪.‬‬
‫طعَا ِم َ‬
‫إِلَىا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صدْقه في يوم أو بعض يوم‬
‫وهذا دليل على ِ‬

‫حمَا ِركَ‪[} ...‬البقرة‪]259 :‬‬


‫{ وَا ْنظُرْ إِلَىا ِ‬
‫وهذا دل على صدق الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬في قوله{ ما َئةَ عَامٍ‪[} ...‬البقرة‪ ]259 :‬فكل القولين‬
‫صادق؛ لن ال تعالى هو القابض الباسط‪ ،‬يقبض الزمن في حق قوم‪ ،‬ويبسطه في حق آخرين‪.‬‬
‫ع ِة وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْيثَ‬
‫وهذه الية جمعتْ خمسة أمور استأثر ال تعالى بعلمها‪ } :‬إِنّ اللّهَ عِن َدهُ عِ ْلمُ السّا َ‬
‫سبُ غَدا َومَا تَدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ‪..‬‬
‫وَ َيعْلَمُ مَا فِي الَرْحَا ِم َومَا تَدْرِي َنفْسٌ مّاذَا َتكْ ِ‬
‫{ [لقمان‪]34 :‬‬
‫فهل هذه هي كل الغيبيات في الكون؟ نقول‪ :‬في الكون غيبيات كثيرة ل نعرفها‪ ،‬فل بُدّ أن هذه‬
‫ت معها‬
‫الخمس هي المسئول عنها‪ ،‬وجاء الجواب على قدر السؤال‪ ،‬بال لو هَ ّبتْ الريح‪ ،‬وحمل ْ‬
‫بعض الرمال‪ ،‬أنعرف أين ذهبت هذه الذرات؟ وفي أي ناحية‪ ،‬أنعرف ورق الشجر كم تساقط‬
‫منها؟‬
‫هذه كلها غيبيات ل يعلمها أيضا إل ال‪ ،‬أما نحن فل نعلم حتى عدد ال ّنعَم التي أنعم ال بها علينا{‬
‫حصُوهَا‪[} ...‬إبراهيم‪]34 :‬‬
‫وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ تُ ْ‬
‫لمٌ‬
‫إذن‪ :‬فهذه نماذج لما استأثر ال بعلمه؛ لن ال تعالى قال‪ {:‬وََلوْ أَ ّنمَا فِي الَ ْرضِ مِن شَجَ َرةٍ َأقْ َ‬
‫حكِيمٌ }[لقمان‪]27 :‬‬
‫وَالْبَحْرُ َيمُ ّدهُ مِن َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَبْحُرٍ مّا َنفِ َدتْ كَِلمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫فلله تعالى في كونه أسرار ل تُحصى‪ ،‬أجّل ال ميلدها؛ لنعلم أننا في كل يوم نجهل ما عند ال‪،‬‬
‫وكل يوم يطلع علينا العلماء والباحثون بجديد من أسرار الكون ‪ -‬هذا ونحن ل نزال في الدنيا‪،‬‬
‫فما بالنا في الخرة‪ ،‬وفي الجنة إن شاء ال؟‬
‫وقد أخبر النبي صلى ال عليه وسلم عنها فقال‪ " :‬فيها ما ل عين رأتْ‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول‬
‫خطر على قلب بشر "‪.‬‬
‫والنسان يكتسب المعلومات‪ ،‬إما برؤية العين‪ ،‬أو بسماع الذن‪ ،‬ومعلوم أن رقعة السمع أوسع من‬
‫البصر؛ لنك ل ترى إل ما تراه عيناك‪ ،‬لكن تسمع لمرائي الخرين‪ ،‬ثم أنت تسمع وترى‬
‫موجودا‪ ،‬لكن هناك ما ل يخطر على قلب بشر يعني‪ :‬أشياء غيبية لم تطرأ على بال أحد‪ ،‬وفي‬
‫خفِيَ َلهُم مّن قُ ّرةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[السجدة‪:‬‬
‫ذلك يقول سبحانه‪ {:‬فَلَ َتعْلَمُ َنفْسٌ مّآ ُأ ْ‬
‫‪]17‬‬
‫وقد ورد في أسباب نزول مفاتح الغيب هذه‪ ،‬أن رجلً من محارب‪ ،‬اسمه الحارث بن عمرو بن‬
‫حارثة أتى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال‪ :‬يا رسول ال‪ :‬أريد أنْ أعرف متى الساعة‪ ،‬وقد‬
‫بذرْت بذري‪ ،‬وأنتظر المطر فمتى ينزل؟ وامرأتي حامل‪ ،‬وأريد أن تلد ذكرا‪ ،‬وقد أعددت لليوم‬
‫عُدّته‪ ،‬فماذا أُعِد لغد؟ وقد عرفت موقع حياتي‪ ،‬فكيف أعرف موقع مماتي؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه خمس مسائل مخصوصة جاء بها الجواب من عند ال تعالى } إِنّ اللّهَ عِن َدهُ عِلْمُ السّاعَةِ‬
‫سبُ غَدا َومَا َتدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ‬
‫ث وَ َيعْلَمُ مَا فِي الَرْحَامِ َومَا َتدْرِي َنفْسٌ مّاذَا َتكْ ِ‬
‫وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْي َ‬
‫َتمُوتُ‪.‬‬

‫‪[ { .‬لقمان‪.]34 :‬‬


‫خلْق ال مَنْ يحاول أن يستدرك على مقولة ال في هذه الغيبيات الخمس‪،‬‬
‫وعجيب أنْ نرى من َ‬
‫كالذين حاولوا أنْ يتنبأوا بموعد قيام الساعة‪ ،‬وقد كذبوا جميعا‪ ،‬ولو ُقدّر لهم اليمان بال‪ ،‬والعلم‬
‫كما قاله ال في قيام الساعة ما تجرأ منهم أحد على هذه المسألة‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن الحق سبحانه أخفى موعد الساعة لكي نستشعرها دائما‪ ،‬وفي كل وقت‪ ،‬حتى الذين ل‬
‫يؤمنون بها ويشكّون فيها‪ ،‬وإذا ما استشعرها الناس عملوا لها‪ ،‬واستعدوا لهوالها‪ ،‬كما أخفى ال‬
‫عن النسان ساعة موته ومكان أجله‪ ،‬وجعل الموت يدور على العباد على غير قاعدة‪.‬‬
‫ن يموت بعد دقائق من مولده‪ ،‬ومنهم مَنْ يعمر مئات السنين‪ ،‬كما أنه سبحانه لم يجعل‬
‫فمنهم مَ ْ‬
‫للموت مقدمات من مرض أو غيره‪ ،‬فكم من مريض يُعافى‪ ،‬وصحيح يموت‪ ،‬كما يقولون‪ :‬كيف‬
‫سقْما شَديد‬
‫سقْم كأْسَ الممات وإنْ كَان ُ‬
‫مريضكم؟ قال‪ :‬سليمنا مات‪ ،‬وصدق القائل‪:‬فل َتحْسَب ال ّ‬
‫الثَرفرُبّ عليل تَرَاهُ اسْتفَاق و ُربّ سِلَيم تَرَاه اسْتتركذلك الموت ل يرتبط بالسّن‪:‬كم بُودرت غادة‬
‫كعَابٌ وغُودِ َرتْ أمّها العَجُوزُيجوُزُ أنْ تبطئ المنَايَا والخُ ْلدُ في الدّهْرل ل يَجُوزُإذن‪ :‬أخفى ال‬
‫القيامة وأخفى الموت؛ لنظل على ُذكْر له نتوقعه في كل لحظة‪ ،‬فنعمل له‪ ،‬ولنتوقع دائما أننا‬
‫سنلقى ال‪ ،‬فنعد للمر عُدته؛ لن مَنْ مات فقد قامت قيامته؛ لنه انقطع عمله‪ ،‬ففي إبهام موعد‬
‫القيامة وساعة الموت عَيْن البيان لكل منهما‪ ،‬فالبهام أشاعه في كل وقت‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْيثَ‪[ { ..‬لقمان‪ ]34 :‬وهذا أيضا‪ ،‬ومع تقدّم العلوم حاول البعض التنبؤ به بناء‬
‫حتْ حساباتهم‪ ،‬لكن فاتهم أن‬
‫صّ‬‫على حسابات دقيقة لسرعة الرياح ودرجة الحرارة‪..‬إلخ‪ ،‬وربما َ‬
‫ال أقدارا في الكون تحدث ول تدخل في حساباتهم‪ ،‬فكثيرا ما ُنفَاجأ بتغيّر درجة الحرارة أو اتجاه‬
‫الريح‪ ،‬فتنقلب كل حساباتنا‪.‬‬
‫لذلك من عجائب الخَلْق أنك كلما اقتربتَ من الشمس وهي مصدر الحرارة ت ِقلّ درجة الحرارة‪،‬‬
‫وكلما ابتعدت عنها زادت درجة الحرارة‪ ،‬إذن‪ :‬المسألة ليست روتينية‪ ،‬إنما هي قدرة ل سبحانه‪،‬‬
‫ن فيكون‪.‬‬
‫وال يجمع لك السباب ليثبت لك طلقة قدرته التي تقول للشيء‪ :‬كُ ْ‬
‫ألسنا نُؤمر في الحج بأن نُقبّل حجرا ونرمي آخر‪ ،‬وكل منهما إيمان وطاعة‪ ،‬هذا يُباس وهذا‬
‫يُداس‪ ،‬هذا يُقبّل وهذا يقنبل‪ ،‬لماذا؟ لن ال تعالى يريد منا اللتزام بأمره‪ ،‬وانصياع النفس المؤمنة‬
‫للرب الذي أحيا‪ ،‬والرب الذي كلّف‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَ َيعْلَمُ مَا فِي الَرْحَامِ‪[ { ..‬لقمان‪ ]34 :‬هذه أيضا من مفاتح الغيب‪ ،‬وستظل كذلك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مهما تقدمت العلوم‪ ،‬ومها ادّعى الخَلْق أنهم يعلمون ما في الرحام‪ ،‬والذي أحدث إشكالً في هذه‬
‫المسألة الن الجهزة الحديثة التي استطاعوا بها رؤية الجنين‪ ،‬وتحديد نوعه أذكر أم أنثى‪ ،‬فهذه‬
‫الخطوة العلمية أحدثتْ بلبلة عند بعض الناس‪ ،‬فتوهموا أن الطباء يعلمون ما في الرحام‪ ،‬وبناءً‬
‫عليه ظنوا أن هذه المسألة لم َت ُع ْد من مفاتح الغيب التي استأثر ال بها‪.‬‬

‫ونقول‪ :‬أنتم بسلطان العلم علمتم ما في الرحام بعد أن تكوّن ووضحتْ معالمه‪ ،‬واكتملتْ خِلْقته‪،‬‬
‫أما الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فيعلم ما في الرحام قبل أنْ تحمل الم به‪ ،‬ألم يُبشّر ال تعالى نبيه‬
‫زكريا عليه السلم بولده يحيى قبل أن تحمل فيه أمه؟ ونحن ل نعلم هذا الغيب بذواتنا‪ ،‬إنما بما‬
‫علّمنا ال‪ ،‬فالطبيب الذي يُخبرك بنوع الجنين ل يعلم الغيب‪ ،‬إنما مُعلّم غيب‪.‬‬
‫وال ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يكشف لبعض الخلق بعض الغيبيات‪ ،‬ومن ذلك ما كان من الصّدّيق أبي‬
‫بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬حين أوصى ابنته عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬قبل أن يموت وقال لها‪:‬‬
‫يا عائشة إنما هما أخواك وأختاك‪ ،‬فتعجبت عائشة حيث لم يكن لها من الخوة سوى محمد وعبد‬
‫الرحمن‪ ،‬ومن الخوات أسماء‪ ،‬لكن كان الصّديق في هذا الوقت متزوجا من بنت خارجة‪ ،‬وكانت‬
‫حاملً وبعد موته ولدتْ له بنتا‪ ،‬فهل تقول‪ :‬إن الصّدّيق كان يعلم الغيب؟ ل‪ ،‬إنما أُعِلم من ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الممنوع هنا العلم الذاتي أن تعلم بذاتك‪.‬‬
‫ثم إن الطبيب يعلم الن نوع الجنين‪ ،‬إما من صورة الشعة أو التحاليل الي يُجريها على عينة‬
‫الجنين‪ ،‬وهذا ل يُعتبر علما للغيب‪ ،‬و (الشطارة) أن تجلس المرأة الحامل أمامك وتقول لها‪ :‬أنت‬
‫إنْ شاء ال ستلدين كذا أو كذا‪ ،‬وهذا ل يحدث أبدا‪.‬‬
‫سبُ غَدا‪[ { ..‬لقمان‪ ]34 :‬النسان يعمل‪ ،‬إما لدنياه‪،‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬ومَا تَدْرِي َنفْسٌ مّاذَا َتكْ ِ‬
‫لخْراه‪ ،‬فالمعنى إما تكسب من الخير المادي لذاتك لتعيش‪ ،‬وإن كان من مسألة التكليف‪،‬‬
‫وإما ُ‬
‫فالنفس إما تعمل الخير أو الشر‪ ،‬الحسنة أو السيئة‪ ،‬والنسان في حياته عُرضَة للتغيّر‪.‬‬
‫لذلك يقال في الثر‪ " :‬يا ابن آدم‪ ،‬ل تسألني عن رزق غدٍ‪ ،‬كما لو أطالبك بعمل غد "‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬ومَا َتدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ‪[ { ..‬لقمان‪ ]34 :‬وهذه المسألة حدث فيها‬
‫إشكال؛ " لن رسول ال صلى ال عليه وسلم أخبر النصار أنه سيموت بالمدينة حينما وزع‬
‫الغنائم على الناس جميعا ما عدا النصار؛ لذلك غضبوا ووجدوا في أنفسهم شيئا؛ لن رسول ال‬
‫حرمهم‪ ،‬لكن سيدنا رسول ال جمعهم وتلطّف معهم في الحديث واعترف لهم بالفضل فقال‪ :‬وال‬
‫لو قلتم أني جئت مطرودا فآويتموني فأنتم صادقون‪ ،‬وفقيرا فأغنيتموني فأنتم صادقون‪ ..‬لكن ال‬
‫تحبون أن يرجع الناس بالشاه والبعير‪ ،‬وترجعون أنتم برسول ال " ‪ ،‬وقال في مناسبة أخرى "‬
‫المحيا محياكم‪ ،‬والممات مماتكم "‪.‬‬
‫سبُ غَدا َومَا تَدْرِي‬
‫إذن‪ :‬نُبّئ رسول ال أنه سيموت بالمدينة‪ ،‬وال يقول‪َ } :‬ومَا تَدْرِي َنفْسٌ مّاذَا َتكْ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ‪.‬‬

‫‪[ { .‬لقمان‪ ]34 :‬نقول‪ :‬الرض منها عام ومنها خاصّ‪ ،‬فأرض المدينة شيء عام‪ ،‬نعم سيموت‬
‫ي بقعة منها‪ ،‬وفي أي حجرة من حجرات زوجاته‪ ،‬إذن‪ :‬إذا علمتَ الرض‬
‫بالمدينة‪ ،‬لكن في أ ّ‬
‫العامة‪ ،‬فإن الرض الخاصة ما زالت مجهولة ل يعلمها أحد‪.‬‬
‫يُروى أن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي كان يحب الحياة ويحرص عليها‪ ،‬ويخاف الموت‪،‬‬
‫وكان يستشير في ذلك المنجّمين والعرافين‪ ،‬فأراد ال أنْ يقطع عليه هذه المسألة‪ ،‬فأراه في المنام‬
‫أن يدا تخرج من البحر وتمتد إليه‪ ،‬وهي مُفرّجة الصابع هكذا‪ ،‬فأمر بإحضار مَنْ يُعبّر له هذه‬
‫الرؤيا‪ ،‬فكان المتفائل منهم‪ ،‬أو الذي يبغي نفاقه يقول له‪ :‬هي خمس سنوات وآخرون قالوا‪ :‬خمسة‬
‫أشهر‪ ،‬أو خمسة أيام أو دقائق‪.‬‬
‫إلى أن انتهى المر عند أبي حنيفة رضي ال عنه فقال له‪ :‬إنما يريد ال أن يقول لك‪ :‬هي خمسة‬
‫ث وَ َيعْلَمُ مَا فِي الَرْحَا ِم َومَا تَدْرِي‬
‫ل يعلمها إل ال‪ ،‬وهي‪ } :‬إِنّ اللّهَ عِن َدهُ عِلْمُ السّاعَ ِة وَيُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْي َ‬
‫سبُ غَدا َومَا َتدْرِي َنفْسٌ بَِأيّ أَ ْرضٍ َتمُوتُ‪[ { ..‬لقمان‪]34 :‬‬
‫َنفْسٌ مّاذَا َتكْ ِ‬
‫وما دامت هذه المسائل كلها مجهولة ل يعلمها أحد‪ ،‬فمن المناسب أن يكون ختام الية } إِنّ اللّهَ‬
‫عَلَيمٌ خَبِيرٌ { [لقمان‪]34 :‬‬
‫خلْقه من الفكر في هذه المسائل الخمس‪ ،‬وكل ما يجب أن نعلمه‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه يريد أنْ يُريح َ‬
‫أن المقادير تجري بأمر ال لحكمة أرادها ال‪ ،‬وأنها إلى أجل مسمى‪ ،‬وأن العلم بها ل يُقدّم ول‬
‫يُؤخّر‪ ،‬بال ماذا يحدث لو علمت ميعاد موتك؟ ل شيء أكثر من أنك ستعيش َنكِدا حزينا طول‬
‫الوقت ل تجد للحياة لذة‪.‬‬
‫لذلك أخفى ال عنّّا هذه المسألة لنُقبِل على ال بثقتنا في مجريات قدر ال فينا‪.‬‬

‫(‪)3428 /‬‬

‫الم (‪)1‬‬

‫هذه من الحروف المقطّعة المبنية على الوقف‪ ،‬على خلف آيات القرآن التي بُنِيتْ كما قُلْنا على‬
‫الوصل من أول القرآن إلى آخره‪ ،‬بل على وصل آخره بأوله؛ لذلك ل ينبغي أن تقرأ القرآن على‬
‫سكَ يساعدك‪ ،‬ول تقف إل إذا انقطع النفَس‪ ،‬فتقف وتُسكّن الحرف الذي وقفتَ‬
‫الوصل‪ ،‬ما دام َنفَ ُ‬
‫عليه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن وقف وجب؛ لنه بُني على الوصل‪ ،‬فل تقف إل‬
‫وقد قال علماء القراءات‪ :‬وليس في القرآن مِ ْ‬
‫إذا ضاق َنفَسُك؛ لذلك جعلوا في القرآن مواضع للوقف‪ ،‬وتُرسم في المصحف (صِلى‪ ،‬قِلى‪ ،‬ج)‪،‬‬
‫لكن الصل الوصل‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن أوضح مثال على الوصل في القرآن أن كلمة الناس في آخر سورة الناس‪ ،‬وهي آخر‬
‫القرآن لم ت ْأتِ ساكنة‪ ،‬إنما متحركة بالكسر (الناسِ)؛ لن ال تعالى قدّر حّلكَ في الناس فجعلك‬
‫ترحل إلى بسم ال الرحمن الرحيم في أول الفاتحة‪ ،‬فل تقطع الصلة بين آخر القرآن وأوله‪،‬‬
‫وسمّيْنا قارئ القرآن لذلك (الحالّ المرتحل)‪.‬‬
‫وهنا تأتي { الـم } [السجدة‪ ]1 :‬بعد مفاتح الغيب الخمسة التي سبقتْ في آخر سورة لقمان‪،‬‬
‫وكأنها مُلْحقة بها‪ ،‬فهي سِرّ استأثر ال تعالى بعلمه‪ ،‬ونحن في تفسيرنا لها نحوم حولها؛ لذَلك كل‬
‫مَنْ فسّر الحروف المقطّعة في بدايات السور ل بُ ّد أن يقول بعدها‪ :‬وال أعلم بمراده؛ لن‬
‫تفسيراتنا كلها اجتهادات تحوم حول المعنى المراد؛ لذلك نحن ل نقول هذه الكلمة في كل آيات‬
‫القرآن‪ ،‬إنما في هذه اليات والحروف بالذات‪.‬‬
‫صدْق عند مليك مقتدر‪ ،‬كيف بنا حين نسمع‬
‫وكيف بنا حين يجمعنا ال تعالى إنْ شاء ال في مقعد ِ‬
‫هذا القرآن مباشرة من ال عز وجل؟ ل شكّ أننا سنسمع كلما كثيرا غير الذي سمعناه‪ ،‬ومعاني‬
‫كثيرة غير التي توصّلنا إليها في اجتهاداتنا‪ ،‬وعندها سنعرف مرادات ال تعالى في هذه الحروف‪،‬‬
‫وسنعرف كم َقصُ َرتْ عقولنا عن فهمها‪ ،‬وكم كنا أغبياء في َفهْمنا لمرادات ربنا‪.‬‬
‫وقوله تعالى { الـم } [السجدة‪ ]1 :‬عادةً يأتي بعد هذه الحروف المقطعة أمر يخصّ الكتاب‬
‫العزيز‪.‬‬
‫وهنا يقول سبحانه‪ { :‬تَنزِيلُ ا ْلكِتَابِ لَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3429 /‬‬

‫تَنْزِيلُ ا ْلكِتَابِ لَا رَ ْيبَ فِيهِ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)2‬‬

‫مادة (نزل) وردتْ في القرآن بلفظ‪ :‬نزل‪ ،‬ونزّل‪ ،‬وأنزل‪ ،‬أنزل تدل على التعدية‪ ،‬يعني‪ :‬أن ال‬
‫تعالى عدّى القرآن من اللوح المحفوظ‪ ،‬إلى أنْ يباشر مهمته في السماء الدنيا‪ ،‬وهذا النزال من‬
‫ال تعالى‪.‬‬
‫أما نزّل فالتنزيل مهمة الملئكة؛ لذلك يقول تعالى في النزال‪ {:‬إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْر }[القدر‪:‬‬
‫‪ ]1‬أي‪ :‬من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا‪ ،‬ثم تتنزّل به الملئكة مُنجّما حسب الحداث‪ ،‬وفي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لمِينُ }[الشعراء‪]193 :‬‬
‫ذلك يقول تعالى‪ {:‬نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ ا َ‬
‫حقّ نَ َزلَ‪[} ...‬السراء‪ ]105 :‬فقد كان محفوظا عندنا في‬
‫حقّ أَنْزَلْنَا ُه وَبِالْ َ‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬وَبِالْ َ‬
‫طهّرُونَ }[الواقعة‪ ]193 :‬ثم نزل به الروح المين جبريل‪.‬‬
‫اللوح المحفوظ{ لّ َيمَسّهُ ِإلّ ا ْلمُ َ‬
‫وما دام{ نَ َزلَ بِهِ‪[} ...‬الشعراء‪ ]193 :‬فهذا يعني أن القرآن نزل معه‪ ،‬فقوله‪ {:‬نَ َزلَ ِبهِ الرّوحُ‬
‫حقّ نَ َزلَ‪[} ...‬السراء‪ .]105 :‬فالنزول‬
‫حقّ أَنْزَلْنَا ُه وَبِالْ َ‬
‫لمِينُ }[الشعراء‪ ]193 :‬تساوي تماما{ وَبِالْ َ‬
‫اَ‬
‫يُنسَب مرة إلى القرآن‪ ،‬ومرّة إلى الروح المين‪.‬‬
‫ومادة نزل وما يُشتق منها من إنزال وتنزيل تفيد كلها أنه جاء من جهة العلو إلى جهة أسفل منه‪،‬‬
‫ن يضل بك‬
‫كأنك تتلقّى من جهة أعلى منك وأرفع‪ ،‬وما ُد ْمتَ تتلقى من جهة أعلى منك‪ ،‬فإيّاك أ ْ‬
‫الفكر لناحية أخرى‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى ال عليه وسلم في أمر التكليف‪ُ {:‬قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ‬
‫رَ ّبكُمْ عَلَ ْيكُمْ‪[} ...‬النعام‪ ]151 :‬فنحن نفهم أن تعالوا بمعنى تعالَ‪ .‬أي‪ :‬أقبل‪ ،‬لكنها تحمل مع هذا‬
‫المعنى معنى العلو‪ :‬أقبل دانيا إلى متعالٍ‪ ،‬تعالَ من أوضاعك الرضية إلى عُلُو ربك في المل‬
‫العلى‪.‬‬
‫خ ْذ من العلى‪ ،‬ارتفع عن مستوى‬
‫تعالَ يعني‪ :‬ل تأخذ من نفسك ول من مُسَاوٍ لك‪ ،‬إنما ارتفع و ُ‬
‫الرض وعقولهم وأفكارهم‪ ،‬وخُذْ من الذي شرّع لك؛ لنه ل ُبدّ أن تكون عنده أمور ومواصفات‬
‫آمن لك وأسلم؛ لن علمه أوسع‪ ،‬فل ُيشَرّع لك اليوم ما ينقضه غدا‪.‬‬
‫ثم إنّ شرعه لك يستوعب كل نواحي حياتك وأقضيتها‪ ،‬وهذه المواصفات ل تكون إل في الحق ‪-‬‬
‫تبارك وتعالى ‪ -‬وهو سبحانه أرحم بك من الوالدة بولدها‪ ،‬فل يُشرّع لك إل ما يُصلحك‪ ،‬ثم هو‬
‫سبحانه ليس له غرض أو مصلحة ذاتية من وراء هذا التشريع‪ ،‬كما نرى في تشريعات البشر‬
‫للبشر‪.‬‬
‫وقد رأينا الرأسماليين حينما شرّعوا قانونا جاء يخدمهم‪ ،‬وليكونوا هم أول المنتفعين به؛ لذلك‬
‫ق إل‬
‫سرعان ما تهاوى؛ لن شرط المشرّع الحق ألّ ينتفع هو بما يُشرّع‪ ،‬وعليه فل مشرّع ح ّ‬
‫ال‪.‬‬
‫لذلك رأينا حتى غير المؤمنين بال من الكافرين أو المشركين بعد أنْ تعضّهم الحداث‪ ،‬وتخفق‬
‫حلّ مشاكلهم يلجئون إلى حلول لها من قوانين السلم‪.‬‬
‫قوانينهم في َ‬
‫سلَ رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَىا وَدِينِ ا ْلحَقّ‬
‫ولما سُئلنا في سان فرانسيسكو عن قوله تعالى‪ُ {:‬هوَ الّذِي أَرْ َ‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }‬
‫لِيُ ْ‬

‫طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَاللّهُ مُتِمّ نُو ِر ِه وََلوْ كَ ِرهَ‬
‫[التوبة‪ ]33 :‬وفي موضع آخر{ يُرِيدُونَ لِ ُي ْ‬
‫ا ْلكَافِرُونَ }[الصف‪]8 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قالوا لنا‪ :‬هذا يعني أن السلم ظاهر على الديان منذ أربعة عشر قرنا من الزمان‪ ،‬فما بالنا نرى‬
‫الن أكثر أهل الرض من غير المسلمين؟‬
‫فقلت في الرد عليهم‪ :‬وال لو فهمتُم أسرار اللغة‪ ،‬وتأملتُم هذه الية لوجدتم أن الرّد فيها‪ ،‬فواحدة‬
‫تقول‪ {:‬وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }[الصف‪ ،]8 :‬والخرى تقول{ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمشْ ِركُونَ }[التوبة‪]33 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالكفر والشرك موجودان مع وجود السلم‪ ،‬وليس معنى الظهور هنا أن يطمس هؤلء‪ ،‬أو‬
‫أنْ ُي ْقضَى عليهم قضاء مبرما‪ ،‬إنما يظهر عليهم بحيث يُضطرون إليه‪ ،‬ويلجئون إلى أحكامه‪،‬‬
‫رغم عدم إيمانهم به‪ ،‬وهذا أبلغ في الظهور‪ ،‬أنْ تأخذ بما في القرآن وأنت غير مؤمن به؛ لنك ل‬
‫تجد حلً لقضاياك إل فيه‪.‬‬
‫وأوضح مثال على ذلك أنهم هاجموا شرع ال في مسألة الطلق‪ ،‬وفي مسألة تعدّد الزوجات‪،‬‬
‫واتهموا السلم بالوحشية‪..‬إلخ‪ ،‬ثم تضطرهم أقضية الحياة ومشاكلها أنْ يشرّعوا الطلق‪ ،‬وأنْ‬
‫يأخذوا به على مرأى ومَسْمع من الفاتيكان‪ ،‬فماذا جرى؟ فنقول لهم‪ :‬هل أسلمتم وآمنتم؟ ل‪ ،‬إنما‬
‫لجأنا إليه؛ لن فيه الحل لهذه المشاكل التي أحاطتْ بنا‪.‬‬
‫فهذه إذن شهادة العدو لدين ال‪ ،‬وهذا هو أعظم الظهار للسلم على هذه الديان؛ لنهم أسلموا‪،‬‬
‫لقالوا عنهم‪ :‬أخذوا بهذا الشرع لنهم لو أسلموا‪ ،‬إنما ها هم يأخذون به وهم به كافرون مشركون‪.‬‬
‫ومعنى } لَ رَ ْيبَ فِيهِ‪[ { ..‬السجدة‪ ]2 :‬أي‪ :‬ل شكّ فيه‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن النسب في القضايا‪ .‬أي نسبة‬
‫شيء لشيء إما مجزوم بها أو غير مجزوم بها‪ ،‬فلو قُلْنا‪ :‬الرض كروية هذه قضية جزم بها‬
‫الن‪ ،‬ونستطيع التدليل على صحتها دليلً حسيا‪ ،‬فهذه قضية واقعة ومجزوم بصحتها‪ ،‬وعليها دليل‬
‫في الكون‪.‬‬
‫فإنْ كانت القضية غَيْرَ مجزوم بها‪ ،‬فهي بين ثلث حالت‪ :‬إما فيها شكّ‪ ،‬أو ظنّ‪ ،‬أو وهم‪ :‬الشك‬
‫أنْ تتساوى ال ِكفّتان‪ :‬الثبات والنفي‪ ،‬والظن أن تغلب جانب الثبات فل تجزم به إنما ترجّحه‪ ،‬فإنْ‬
‫غلّ ْبتَ الخرى وجعلتها هي الراجحة‪ ،‬فهذا توهم‪.‬‬
‫وهنا قال سبحانه } لَ رَ ْيبَ فِيهِ‪[ { ..‬السجدة‪ ]2 :‬ل شكّ فيه‪ ،‬فنفى الشكّ‪ ،‬وهو تساوي النفي‬
‫ن يثبت العلى‪ .‬أي‪ :‬أنه حقّ ل يرقى إليه‬
‫والثبات‪ ،‬وما دام قد نفى التساوي‪ ،‬فهذا يعني أنه أراد أ ْ‬
‫الشك‪.‬‬
‫وجملة } لَ رَ ْيبَ فِيهِ‪[ { ..‬السجدة‪ ]2 :‬جملة اعتراضية بين } ا ْلكِتَابِ‪[ { ..‬السجدة‪ ،]2 :‬وبين } مِن‬
‫قل‬
‫ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ { [السجدة‪ ]2 :‬وما دام أنه من } مِن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ { [السجدة‪ ]2 :‬فل بُدّ أنه ح ّ‬
‫ريب فيه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ َبلْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3430 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبكَ لِتُنْذِرَ َقوْمًا مَا أَتَا ُهمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبِْلكَ َلعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ (‪)3‬‬
‫أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ َبلْ ُهوَ الْ َ‬

‫ن يقابلَ العربُ كلمَ ال بهذا التهام‪ ،‬وهم أمة فصاحة وبلغة وبيان‪ ،‬وقد بلغوا في هذا‬
‫عجيب أ ْ‬
‫شأنا عظيما‪ ،‬حتى جعلوا للكلم معارض وأسواقا‪ ،‬كما نقيم الن المعارض لمنتجاتنا‪ ،‬ول يُعرض‬
‫في المعارض هذه إل السلع الجيدة محلّ الفخر‪ ،‬فقبل السلم كان في عكاظ وذي المجاز مضمار‬
‫للقول وللداء البياني بين الدباء والشعراء‪.‬‬
‫ل يميزوا كلم ال عن كلم البشر‪ ،‬خاصة وقد تحدّاهم وتحدّى فصاحتهم وبلغتهم‬
‫فعجيبٌ منهم أ ّ‬
‫أنْ تأتي بآية واحدة من مثله‪ ،‬ومعلوم أن التحدي يكون للقوي ل للضعيف‪ ،‬فتحدّى القرآن للعرب‬
‫سبُ لهم‪ ،‬وهو اعتراف بمكانتهم ومكانة لغتهم‪ ،‬فهو ‪ -‬إذن ‪ -‬شهادة لهم‪ ،‬ويكفيهم أن ال تعالى‬
‫يُح َ‬
‫أدخلهم معه في مجال التحدي‪.‬‬
‫ولما عجزوا عن التيان بمثله راحوا يتهمونه ويتهمون رسول ال‪ ،‬فمرة يقولون‪ :‬شاعر‪ ،‬ومرة‪:‬‬
‫ساحر‪ ،‬وأخرى يقولون‪ :‬مجنون‪ ،‬ومرة يقولون‪ :‬بل يُعلّمه ذلك أحد العاجم‪..‬إلخ‪ ،‬وهذا كله إفلس‬
‫في الحجة‪ ،‬فهم يريدون أنْ يُكذّبوا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أما القرآن في حدّ ذاته‪ ،‬فل‬
‫يَخْفى عليهم أنه كلم ال‪ ،‬وأن البشر ل يقولون مثل هذا الكلم‪ ،‬بدليل أن الوليد بن المغيرة لما‬
‫سمعه قال‪ " :‬وال‪ ،‬إن أعله لمثمر‪ ،‬وإن أسفله لمغْدِق‪ ،‬وأنه يعلو ول يُعلى عليه "‪.‬‬
‫لذلك لما لم يجدوا في القرآن مطعنا اعترفوا بأنه من عند ال‪ ،‬لكن كان اعتراضهم أنْ ينزل على‬
‫عظِيمٍ }[الزخرف‪:‬‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ‬
‫هذا الرجل بالذات‪َ {:‬وقَالُواْ َلوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ‬
‫‪ ]31‬فكانوا ينتظرون أنْ يُنزّل القرآن على عظيم من عظمائهم او مِلَك من الملوك‪ ،‬لكن أنْ ينزل‬
‫ح َمتَ رَ ّبكَ‬
‫سمُونَ رَ ْ‬
‫على محمد هذا اليتيم الفقير‪ ،‬فهذا ل يُرضيهم‪ ،‬وقد ردّ القرآن عليهم‪َ {:‬أهُمْ َيقْ ِ‬
‫ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ‪[} ...‬الزخرف‪]32 :‬‬
‫سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ‬
‫نَحْنُ َق َ‬
‫يعني‪ :‬إذا كنا قد قسمنا بينهم أمور الدنيا وما يتفاضلون به من عرضها‪ ،‬فهل نترك لهم أمور‬
‫الخرة يُقسمونها على هواهم وأمزجتهم؟ والرسالة رحمة من ال يختصّ بها مَنْ يشاء من عباده{‬
‫ج َعلُ ِرسَالَتَهُ‪[} ...‬النعام‪]124 :‬‬
‫واللّهُ أَعَْلمُ حَ ْيثُ َي ْ‬
‫وهذا يعني أنهم انتهوا إلى أن القرآن ُمعْجِز‪ ،‬وأنه من عند ال ل غُبَار عليه‪ ،‬والذي قرأه منهم‪،‬‬
‫سمَآءِ َأوِ‬
‫حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ ال ّ‬
‫وأيقن أنه حق قال‪ {:‬الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ‬
‫ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال‪]32 :‬‬
‫لوْلَى بهم أنْ يقولوا‪ :‬اللهم إنْ‬
‫حمْقهم‪ ،‬وكان ا َ‬
‫وهذا كلم ل يقول به عاقل‪ ،‬وقد دلّ على غبائهم و ُ‬
‫كان هذا هو الحق من عندك فاهْدِنا إليه‪.‬‬
‫وقد ردّ القرآن على كل افتراءاتهم على رسول ال‪ ،‬وفنّدها جميعا‪ ،‬وأظهر بطلنها‪ ،‬لما قالوا عن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رسول ال إنه مجنون ردّ ال عليهم‪:‬‬

‫ك لَجْرا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ‬


‫سطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبمَجْنُونٍ * وَإِنّ َل َ‬
‫{ ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَ ْ‬
‫َلعَلَىا خُُلقٍ عَظِيمٍ }[القلم‪]4-1 :‬‬
‫والمجنون ل يكون أبدا على خلق عظيم؛ لنه محكوم بالغريزة ل يختار بين البدائل والتصرفات‬
‫كالحيوان‪ ،‬ول ينشأ عن ذلك خُلق كريم‪.‬‬
‫أما النسان السّويّ فإنه يختار بين البدائل المتعددة‪ ،‬فلو اعتدى عليه إنسان فقد يردّ عليه‪ .‬بمثل هذا‬
‫العتداء‪ ،‬وقد يفكر في المثلية‪ ،‬وأن اعتداءه قد يزيد فيميل إلى التسامح‪ ،‬واحد يكظم غيظه وآخر‬
‫ل بقوله تعالى‪َ {:‬ألَ ُتحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ‬
‫يزيل كل أثر للغيظ‪ ،‬ويبغي الجر على ذلك من ال‪ ،‬عم ً‬
‫َلكُمْ‪[} ...‬النور‪ ]22 :‬وكأن ال يشجعنا على عمل الخير‪.‬‬
‫لذلك لما سُئل الحسن البصري‪ :‬كيف يطلب ال منّا أنْ نُحسن إلى مَنْ أساء إلينا؟ قال‪ :‬هذه مَرَاق‬
‫في مجال الفضائل‪ ،‬وقد أباح ال لك أنْ تردّ الساءة بمثلها{ وَجَزَآءُ سَيّ َئةٍ سَيّئَةٌ مّثُْلهَا‪[} ...‬الشورى‪:‬‬
‫عفَا وََأصْلَحَ فََأجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ‪} ...‬‬
‫‪ ]40‬لكن بترك الباب مفتوحا أمام أريحية النفس المؤمنة{ َفمَنْ َ‬
‫[الشورى‪]40 :‬‬
‫ثم إذا حسبنا هذه المسألة بمقاييس العقل‪ ،‬فإن الخَلْق كلهم عيال ال‪ ،‬وهم عنده سبحانه سواء‪ ،‬فماذا‬
‫لو اعتدى أحد عيالك على الخر؟ ل شكّ أنك ستكون في جانب المظلوم‪ ،‬فتأخذه في حضنك‬
‫وترعاه وتعطف عليه‪ ،‬وكذلك الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يكون في جانب عبده إذا ظلم‪ .‬وقد قال‬
‫أحدهم‪ :‬ألَ أُحسن إلى مَنْ جعل ال في جانبي؟‬
‫من هنا يقولون‪ :‬أنت ل تكسب كثيرا من الخيار‪ ،‬إنما كل كسب لك يأتي من الشرار حين‬
‫يسيئون إليك وتحسِن إليهم؛ لذلك يقولون‪ :‬فلن هذا رجل طيب‪ ،‬لكن مَنْ يمشي معه ل يستفيد منه‬
‫حسنة أبدا‪ ،‬لماذا؟ يقولون‪ :‬لنه خادم للجميع‪ ،‬وجعل خدّه (مداسا) لمن معه‪ ،‬فل يجعل أحد‬
‫(يستفتح) منه بحسنة‪.‬‬
‫ورُوي عن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه تبسّم في مجلس مع أصحابه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما‬
‫خصْمين‪ ،‬فقال أحدهما‪ :‬يا ربّ إن‬
‫يُضحك يا رسول ال؟ فقال‪ " :‬رأيتُ ربي‪ ،‬وقد أجلس بين يديه َ‬
‫خذْ لي حقّي منه‪ ،‬فقال‪ :‬كيف آخذ لك حقك منه؟ قال‪ :‬أعطني من حسناته بقدر ما‬
‫هذا ظلمني ف ُ‬
‫ل تكون‬
‫أساء إليّ‪ ،‬فقال‪ :‬ليست له حسنات‪ ،‬فقال‪ :‬فخُذْ من سيئاتي واطرح عليه‪ ،‬فقال َأوَيرضيك أ ّ‬
‫لك سيئة؟ قال‪ :‬إذن‪ ،‬يا رب كيف أقضي حقي منه؟ قال‪ :‬انظر يمينك‪ ،‬فنظر الرجل يمينه‪ ،‬فوجد‬
‫قصورا وبساتين وجِنَانا‪ ،‬مما ل عَيْنٌ رأت‪ ،‬ول أذنٌ سمعتْ‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ ،‬فقال‪ :‬لمَنْ‬
‫هذه يا ربّ؟ قال‪ :‬لمن يدفع ثمنها‪ ،‬فقال‪ :‬وما ثمنها يا رب؟ قال‪ :‬أنْ تأخذَ بيد أخيك إلى الجنة‪،‬‬
‫فعجبتُ من َربّ ُيصِلح بين عباده "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا عن قولهم عن رسول ال‪ :‬مجنون‪ ،‬أما قولهم‪ :‬ساحر‪.‬‬

‫فالردّ عليها ميسور‪ ،‬فإذا كان محمد ساحرا‪ ،‬سحر مَنْ آمن به‪ ،‬فلماذا لم يَسْحركم أنتم أيضا؟‬
‫فكونكم سالمين من السحر دليل على أنه صلى ال عليه وسلم ليس ساحرا‪ ،‬بل هذا كذب وافتراء‬
‫على رسول ال‪.‬‬
‫خلْق ال تمييزا للشعر من‬
‫أما قولهم‪ :‬شاعر‪ ،‬فهذا عجيب منهم‪ ،‬وهم أمة كلم وبلغة‪ ،‬وهم أكثر َ‬
‫النثر‪ ،‬وخير مَنْ يفرق بين الساليب وطرق الداء‪ ،‬وقد تولى ال تعالى الردّ عليهم‪ ،‬فقال‪َ {:‬ومَا‬
‫شعْ َر َومَا يَن َبغِي لَهُ‪[} ...‬يس‪]69 :‬‬
‫عَّلمْنَاهُ ال ّ‬
‫وفي سورة الحاقة‪ ،‬يقول سبحانه‪َ {:‬ومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ شَاعِرٍ قَلِيلً مّا ُت ْؤمِنُونَ * وَلَ ِب َقوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلً مّا‬
‫تَ َذكّرُونَ }[الحاقة‪]42-41 :‬‬
‫فلما خابتْ ُكلّ هذه الحيل‪ ،‬وكذبتْ كل هذه الفتراءات قالوا‪ :‬بل له شيطان يُعلّمه‪ ،‬وكانوا يقولون‬
‫شقّ له غبار في الفصاحة وحُسْن الداء‪ ،‬حتى جعلوا لهؤلء الجن‬
‫ذلك للشاعر البليغ الذي ل يُ َ‬
‫مكانا خاصا بهم‪ ،‬فقالوا (وادي عبقر)‪ ،‬وهو مسكن هؤلء الجن الذي يُ ْلهِمون البشر ويُعلّمونهم‪.‬‬
‫والشعر كلم موزون مُقفّى‪ ،‬وله بحور معروفة‪ ،‬فهل القرآن على هذه الشاكلة؟ ل‪ ،‬إنما هو افتراء‬
‫على رسول ال‪ ،‬كافترائهم عليه هنا‪َ } :‬أمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ‪[ { ..‬السجدة‪]3 :‬‬
‫فقوله تعالى‪ } :‬أَمْ َيقُولُونَ‪[ { ..‬السجدة‪ ]3 :‬أم تعني أن لها مقابلً‪ :‬يعني‪ :‬أيقولون كذا؟ أم يقولون‪:‬‬
‫ب لَ رَ ْيبَ فِيهِ مِن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ { [السجدة‪]2 :‬‬
‫افتراه‪ ،‬فماذا هذا المقابل؟ المقابل } تَنزِيلُ ا ْلكِتَا ِ‬
‫فالمعنى‪ :‬أيُصدّقون بأن هذا الكتاب من عند رب العالمين‪ ،‬وأنه ل رَ ْيبَ فيه؟ أم يقولون افتراه‬
‫محمد‪ ،‬فَأمْ هنا جاءت لتنقض ما يُفهَم من الكلم السابق عليها‪.‬‬
‫وقوله‪َ } :‬بلْ ُهوَ ا ْلحَقّ مِن رّ ّبكَ‪[ { ..‬السجدة‪ ]3 :‬نعرف أن (بل) تأتي للستدراك‪ ،‬لكنها هنا ليست‬
‫للستدراك‪ ،‬إنما لبطال قولهم‪ } :‬افْتَرَاهُ‪[ { ..‬السجدة‪ ]3 :‬كما لو قُلْت‪ :‬زيد ليس عندي بل عمرو‪،‬‬
‫ت الضراب عما قبلها‪ ،‬وإثبات الحكم لما بعدها‪ ،‬وهم يقولون افتراه وال يقول‪َ } :‬بلْ ُهوَ‬
‫فأفاد ْ‬
‫حقّ مِن رّ ّبكَ‪[ { ..‬السجدة‪ 3ٍ :‬فكلمهم واتهامهم باطل‪ ،‬والقرآن هو الحق من عند ال‪.‬‬
‫الْ َ‬
‫وقُلْنا‪ :‬إن } ا ْلحَقّ‪[ { ..‬السجدة‪ ]3 :‬هو الشيء الثابت الذي ل يطرأ عليه التغيير؛ لذلك فالحقائق‬
‫ثابتة ل تتغير أبدا‪ ،‬كيف؟ َهبْ أن حادثة وقعتْ نتج عنها ُمدّع ومُدّعًى عليه وشهود‪ ،‬واجتمعوا‬
‫جميعا أمام القاضي‪ ،‬وقد يحدث أن يُغيّر أحدهم أقواله‪ ،‬أو يشهد الشهود شهادة زور‪.‬‬
‫لكن خبرة القاضي ودُرْبته تكشف الحقائق وتُظهِر كذبهم حين يضرب أقوال بعضهم ببعض‪،‬‬
‫ويسألهم ويحاورهم إلى أنْ يصل إلى الحقيقة؛ ذلك لن الواقع شيء واحد‪ ،‬ولو أنهم يصفون واقعا‬
‫ق وتغلب الحق الذي ل‬
‫ل تفقوا فيه‪ ،‬ولباقة القاضي هي التي تُظهِر الباطل المتناقض وتُبِطله وتُحِ ّ‬
‫يمكن أن يتناقض‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كالقاضي الذي اجتمع أمامه خَصمْان‪ ،‬يدّعي أحدهما على الخر أنه أخذ منه مالً ولم يردّه إليه‪،‬‬
‫فقال المدّعَي عليه‪ :‬بل رددته إليه في مكان كذا وكذا‪ ،‬فأنكر المدّعى‪ ،‬فقال القاضي للمدّعَى عليه‪:‬‬
‫اذهب إلى هذا المكان‪ ،‬فلعل هذا المال وقع منك هناك‪ ،‬فذهب الرجل وأبطأ بعض الوقت‪ ،‬فقال‬
‫القاضي للمدعى‪ :‬لقد أبطأ صاحبك‪ ،‬فقال‪ :‬أبطأ؛ لن المكان بعيد‪ ،‬فوقع في الحقيقة التي كان‬
‫ينكرها‪.‬‬

‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬لِتُنذِرَ َقوْما مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبِْلكَ‪[ { ..‬السجدة‪ ]3 :‬ومعلوم أنه سيدنا‬
‫رسول ال جاء بشيرا ونذيرا‪ ،‬لكن خصّ هنا النذير؛ لنه جاء ليصلح معتقدات فاسدة‪ ،‬وإصلح‬
‫الفاسدل بُدّ أن يسبق ما يُبشر به‪ ،‬ولم ي ْأتِ ذكر البشارة هنا؛ لنهم ما سمعوا للنذارة‪ ،‬وما استفادوا‬
‫بها‪.‬‬
‫لكن قوله تعالى‪ } :‬مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبِْلكَ‪[ { ..‬السجدة‪ ]3 :‬تصطدم لفظيا بقوله تعالى‪ {:‬وَإِن‬
‫مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا َنذِيرٌ }[فاطر‪ ]24 :‬وقوله تعالى‪َ {:‬ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً }‬
‫[السراء‪ ]15 :‬وليس بين هذه اليات تناقض؛ لن المعنى‪ :‬ما أتاهم من نذير قريب‪ ،‬ول مانع من‬
‫علَىا فَتْ َرةٍ مّنَ‬
‫وجود نذير بعيد‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ قَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ َ‬
‫سلِ‪[} ...‬المائدة‪]19 :‬‬
‫الرّ ُ‬
‫وإل‪ ،‬فمن أين عرفوا أن ال تعالى خالق السموات والرض‪ ،‬كما حكى القرآن عنهم‪ {:‬وَلَئِن‬
‫حمْدُ لِلّهِ‪[} ...‬لقمان‪ ]25 :‬فهذا أثر من آثار‬
‫ت وَالَرْضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ ُقلِ ا ْل َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خََلقَ ال ّ‬
‫الرسل السابقين‪ ،‬كما كان فيهم أناس متبعون لمنهج الدين الحق‪ ،‬والذين سماهم ال الحنفاء‪ ،‬وهم‬
‫الذين لم يسجدوا لصنم‪ ،‬ولم ينحرفوا عن الفطرة السوية‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬لعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ { [السجدة‪ ]3 :‬لعل تفيد الرجاء‪ ،‬والرجاء من ال كأنه واقع متحقق؛‬
‫لن ال تعالى يحب لعباده جميعا أنْ يؤمنوا به؛ ليأخذوا جميل عطائه في الخرة‪ ،‬كما أخذوا‬
‫عطاءه في الدنيا‪ ،‬وهم جميعا خَلْقه وصَنْعته‪ ،‬وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي‪..." :‬دعوني وما‬
‫خلقت‪ ،‬إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم‪ ،‬وإنْ لم يتوبوا إلىّ فأنا طبيبهم‪." ..‬‬
‫ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية من قضايا أصول الكون‪ } :‬اللّهُ الّذِي‪.{ ...‬‬

‫(‪)3431 /‬‬

‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ مَا َلكُمْ مِنْ دُونِهِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ‬
‫اللّهُ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫شفِيعٍ َأفَلَا تَتَ َذكّرُونَ (‪)4‬‬
‫ن وَِليّ وَلَا َ‬
‫مِ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يخبرنا الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬أنه خلق السماوات والرض وما بينهما لخدمة النسان‪ ،‬وهو‬
‫المكرّم الول في هذا الكون‪ ،‬وجميع الجناس في خدمته حيوانا ونباتا وجمادا‪ ،‬فهو سيد في هذا‬
‫الكون‪ ،‬لكن هل أخذ هذا السيد سيادته بذاته وبفعله؟ ل إنما أخذها بفضل ال عليه‪ ،‬فكان عليه أولً‬
‫أنْ يشكر مَنْ أعطاه هذه السيادة على غيره‪.‬‬
‫وهذا السيد عمره ومروره في الحياة عبور‪ ،‬فعمره فيها يطول أو يقصر ينتهي إلى الموت‪ ،‬في‬
‫ن يتأمل‬
‫حين أن الجمادات التي تخدمه عمرها أطول من عمره‪ ،‬وهي خادمة له‪ ،‬فكان لزاما عليه أ ْ‬
‫هذه المسألة‪ :‬كيف يكون عمر الخادم أطول وأبقى من عمر السيد المخدوم؟‬
‫إذن‪ :‬ل بد أن لي عمرا آخر أطول من هذا‪ ،‬عمرا يناسب تكريم ال لي‪ ،‬ويناسب سيادتي في هذا‬
‫الكون‪ ،‬إنها الخرة حيث تندثر هذه المخلوقات التي خدمتني في الدنيا وأبقى أنا‪ ،‬ل أعيش مع‬
‫السباب‪ ،‬إنما مع المسبب سبحانه‪ ،‬فل أحتاج إلى السباب التي خدمتني في الدنيا‪ ،‬إنما أجد كل ما‬
‫سعْى‪ ،‬وهذه ارتقاءات ل تكون إل لمَنْ يطيع المرقى المعطي‪.‬‬
‫أشتهيه بين يديّ دون تعب ودون َ‬
‫لذلك‪ ،‬الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يلفتنا ويقول‪ :‬صحيح أنت أيها النسان سيد هذا الكون وكل‬
‫ت وَالَرْضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫مخلوقاتي في خدمتك‪ ،‬لكن خَلْقها أكبر من خَلْقك‪ {:‬لَخَ ْلقُ ال ّ‬
‫النّاسِ‪[} ...‬غافر‪]57 :‬‬
‫لماذا؟ لن الناس أعمارا محددة‪ ،‬مهما طالت ل بُدّ أن تنتهي إلى أجل‪ ،‬ثم إن هذه العمار ل ًتسْلم‬
‫لهم‪ ،‬إنما تنتابها الغيار‪ ،‬فالغنيّ قد يفتقر‪ ،‬والصحيح قد يمرض‪ ،‬والقوي قد يضعف‪ ،‬أمّا الشمس‬
‫والقمر والنجوم والكون كله فل يتعرض لهذه الغيار فما رأينا الشمس أو القمر أو النجوم‬
‫أصابتها علة وانتهت كانتهاء النسان‪ ،‬ثم أنتَ لستَ مثلها في العظمة المستوعبة؛ لن قصارى ما‬
‫فيك أنك تخدم نفسك أو تخدم البيئة التي حولك‪ ،‬أمّا هذه المخلوقات فتخدم الكون كله‪.‬‬
‫فإذا اقرّ ‪ -‬حتى الكفار ‪ -‬بأن ال تعالى هو خالق السماء والرض إذن‪ :‬فهي دليل أول على وجود‬
‫الحق تبارك وتعالى‪.‬‬
‫ن يقول‪ :‬كيف‬
‫ومسألة خَلْق السماوات والرض من الشياء التي استأثر ال بعلمها وليس لحد أ ْ‬
‫خُلقت ول حتى كيف خُلق النسان؛ لن مسائل الخَلْق لم يشهدها أحد فيخبرنا بها؛ لذلك يقول‬
‫عضُدا }‬
‫سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫ت وَالَ ْرضِ َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شهَدّت ُهمْ خَ ْلقَ ال ّ‬
‫تعالى‪ {:‬مّآ أَ ْ‬
‫[الكهف‪]51 :‬‬
‫فسماهم ال مُضلّين‪ ،‬والمضلّ هو الذي يجنح بك إلى طريق باطل‪ ،‬ويصرفك عن الحق‪ ،‬وقد رأينا‬
‫فعلً هؤلء المضلّين وسمعنا افتراءاتهم في مسألة خَلْق السماوات والرض‪.‬‬
‫إذن‪ :‬خَلْق السماوات والرض مسألة ل تُوخَذ إل ممّنْ خلق؛ لذلك َقصّ لنا ربنا ‪ -‬تبارك وتعالى‬
‫‪ -‬قصة خَلْق آدم‪ ،‬وقصّ لنا قصة خلق السماوات والرض‪ ،‬لكن الخَلْق حدث وفعل‪ ،‬والفعل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يحتاج إلى زمن تعالج فيه الحدث وتزاوله‪ ،‬والشكال هنا في قوله تعالى { فِي سِتّةِ أَيّامٍ‪.‬‬

‫‪[ { .‬السجدة‪ .]4 :‬فهل الحدث بالنسبة ل تعالى يحتاج إلى زمن؟‬
‫ال ِفعْل من النسان يحتاج إلى علج يستغرق زمنا‪ ،‬حيث نوزع جزيئات الفعل على جزئيات‬
‫الزمن‪ ،‬أما في حقه تعالى فهو سبحانه يفعل بل علج للمور‪ ،‬إنما يقول‪ :‬للشيء كن فيكون‪ ،‬أما‬
‫قوله تعالى‪ } :‬فِي سِتّةِ أَيّامٍ‪[ { ..‬السجدة‪ ]4 :‬فقد أوضحناها بمثال‪ ،‬ول المثل العلى‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬أنت حين تصنع الزبادي مثلً تأتي بالحليب‪ ،‬ثم تضع عليه خميرة زبادي سبق إعداده‪ ،‬ثم‬
‫تتركه في درجة حرارة معينة سبع أو ثماني ساعات بعدها تجد الحليب قد تحوّل إلى زبادي‪ ،‬فهل‬
‫تقول‪ :‬إن صناعة الزبادي استغرقت مني سبعا أو ثماني ساعات؟ ل‪ ،‬إنها استغرقتْ مجرد إعداد‬
‫المواد اللزمة‪ ،‬ثم أخذت هذه المواد تتفاعل بعضها ببعض‪،‬ـ إلى أن تحولت إلى المادة الجديدة‪.‬‬
‫كذلك الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬خلق السماوات والرض بأمره (كُنْ)‪ ،‬فتفاعلت هذه الشياء مُكوّنه‬
‫السماوات والرض‪.‬‬
‫ومسألة خلق السماوات والرض في ستة أيام عُولجت في سبع سور من القرآن‪ ،‬أربع منها تكلمْن‬
‫عن خلق السماوات والرض ولم تتعرض لما بينهما‪ ،‬وثلث تعرضتْ لخَلْق السماوات والرض‬
‫وما بينهما‪ ،‬ففي العراف مثلً‪ ،‬وفي يونس‪ ،‬وهود‪ ،‬والحديد‪ .‬تعرضت اليات لخلق السماوات‬
‫والرض فقط‪.‬‬
‫وفي الفرقان والسجدة وق‪ .‬فتكلّمتْ عن البينية‪ ،‬فكأن السماوات والرض ظرف خُلق أولً‪ ،‬ثم‬
‫خُلِق المظروف في الظرف‪ ،‬وهذا هو الترتيب المنطقي أنْ ُتعِدّ الظرف أولً‪ ،‬ثم تضع فيه‬
‫المظروف‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬فِي سِتّةِ أَيّامٍ‪[ { ..‬السجدة‪ ]4 :‬ال يخاطب بهذه اليات العرب‪ ،‬واليوم له مدلول‬
‫عند العرب مرتبط بحركة الشمس والقمر‪ ،‬فكيف يقول سبحانه } فِي سِتّةِ أَيّامٍ‪[ { ..‬السجدة‪ ]4 :‬ولم‬
‫تخلق بعد ل الشمس ول القمر؟‬
‫نقول‪ :‬المعنى خلقها في زمن يساوي ستة أيام بتقديرنا نحن الن‪ ،‬وإل فاليوم عند ال تعالى يختلف‬
‫عن يومنا‪ ،‬ألم يقل سبحانه وتعالى‪ {:‬وَإِنّ َيوْما عِندَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَنَةٍ ّممّا َتعُدّونَ }[الحج‪ ]47 :‬أي‪:‬‬
‫في الدنيا‪.‬‬
‫خمْسِينَ أَ ْلفَ سَ َنةٍ }‬
‫وقال عن اليوم في الخرة‪َ {:‬تعْرُجُ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَالرّوحُ إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ‬
‫[المعارج‪ ]4 :‬فلله تعالى تقدير لليوم في الدنيا‪ ،‬ولليوم في الخرة‪.‬‬
‫ت القول في‬
‫خلْق هذه إل في سورة ( ُفصّلَت) فهي التي فصَّل ْ‬
‫والحق سبحانه لم يُفصّل لنا مسألة ال َ‬
‫خَلْق السماوات والرض‪ ،‬وهذه من عجائب هذه السورة‪.‬‬
‫جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ‬
‫ن وَتَ ْ‬
‫ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْ ِ‬
‫خلَ َ‬
‫فقال تعالى‪ُ {:‬قلْ أَئ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ‪[} ...‬فصلت‪]10-9 :‬‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫* وَ َ‬
‫طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا‬
‫سمَآ ِء وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ‬
‫هذه ستة أيام‪ُ {.‬ثمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ‬
‫سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْنِ‪} ...‬‬
‫طَآ ِئعِينَ * َف َقضَاهُنّ سَ ْبعَ َ‬

‫[فصلت‪ ]12-11 :‬وهكذا يصبح المجموع ثمانية أيام‪.‬‬


‫إذن‪ :‬كيف نُوفّق بين ستة أيام في الجمال‪ ،‬وثمانية أيام في التفصيل؟ قالوا‪ :‬العداد يُحمل ُمجْملها‬
‫على مفصّلها؛ لن المفصّل تستطيع أن تضم بعضه إلى بعض‪ ،‬أما المجمل فهو النهاية‪.‬‬
‫جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ‬
‫ن وَتَ ْ‬
‫ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْ ِ‬
‫وأَعْد معي قراءة اليات‪ُ {:‬قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خََل َ‬
‫سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا‪[} ...‬فصلت‪]10-9 :‬‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫وهذا كله من لوازم الرض{ فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ‪[} ...‬فصلت‪ ]10 :‬أي‪ :‬أن هذه اللوازم تابعة لما قبلها‪.‬‬
‫فالمعنى‪ :‬في تتمة أربعة أيام‪ ،‬فاليومان الولن داخلن في الربعة‪ ،‬كما لو قلت‪ :‬سِ ْرتُ من‬
‫القاهرة إلى طنطا في ساعة‪ ،‬وإلى السكندرية في ساعتين‪ ،‬فالساعة الولى محسوبة من هاتين‬
‫الساعتين‪.‬‬
‫فالحق سبحانه خلق الرض في يومين‪ ،‬وخلق ما يلزمها في تتمة الربعة اليام‪ ،‬فالزمن تتمة‬
‫للزمن؛ لن الحدث يُتمّم الحدث‪ ،‬إذن‪ :‬المحصلة النهائية ستة أيام‪ ،‬وليس هناك خلف بين اليات{‬
‫وََلوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ َلوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفا كَثِيرا }[النساء‪ ]82 :‬ومن العجيب أن يأتي هذا‬
‫التفصيل في ( َفصّلت)‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬ثُمّ اسْ َتوَىا عَلَى ا ْلعَرْشِ‪[ { ..‬السجدة‪ ]4 :‬الحق ‪ -‬سبحانه ‪ -‬تبارك وتعالى ‪-‬‬
‫يخاطب الخَلْق بما يُقرّب الشياء إلى أذهانهم؛ لن الملوك أو أصحاب الولية في الرض ل‬
‫يستقرون على كراسيهم إل بعد أنْ يستتبّ لهم المر‪.‬‬
‫فمعنى } اسْ َتوَىا‪[ { ..‬السجدة‪ ]4 :‬صعد وجلس واستقر‪ ،‬كل هذه المعاني تناسب الية‪ ،‬لكن في‬
‫شيْءٌ‪[} ...‬الشورى‪]11 :‬‬
‫إطار قول الحق سبحانه وتعالى{ لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫سمْعا ليس كسمعك‪ ،‬وفعلً ليس ك ِفعْلك‪ ،‬فكذلك له‬
‫فكما أن ل تعالى وجودا ليس كوجودك‪ ،‬و َ‬
‫سبحانه استواء‪ ،‬لكن ليس كاستوائك‪ ،‬وإذا دخلت حجرة الجلوس مثلً عند شيخ البلد وعند العمدة‬
‫والمحافظ ورئيس الجمهورية ستجد مستويات متباينة‪ ،‬كلّ على حسب ما يناسبه‪ ،‬فإذا كان البشر‬
‫يتفاوتون في الشيء الواحد‪ ،‬فهل نُسوّى بينا وبين الخالق عز وجل؟‬
‫فالمعنى إذن } ُثمّ اسْ َتوَىا عَلَى ا ْلعَرْشِ‪[ { ..‬السجدة‪ ]4 :‬استتبّ له أمر الخَلْق‪ } ،‬مَا َلكُمْ مّن دُونِهِ‬
‫ن يليك‪ ،‬ويكون قريبا منك‪ ،‬وإليه تفزع في الحداث‪،‬‬
‫شفِيعٍ‪[ { ..‬السجدة‪ ]4 :‬الوليّ‪ :‬مَ ْ‬
‫مِن وَِليّ َولَ َ‬
‫ن يملك أمرك‪ ،‬فالوليّ هو الذي ينصرك بنفسه‪،‬‬
‫فهو ملجؤك الول‪ .‬والشفيع‪ :‬الذي يشفع لك عند مَ ْ‬
‫أمّا الشفيع فهو يتوسط لك عند مَنْ ينصرك‪ ،‬فليس لك وليّ ول شفيع من دون ال عز وجل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْبَحْرِ ضَلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ‪[} ...‬السراء‪ ]67 :‬فل‬
‫لذلك يقول سبحانه‪ {:‬وَإِذَا َم ّ‬
‫أحد ينجيكم‪ ،‬ول أحدَ يُسعفكم إل ال } َأفَلَ تَتَ َذكّرُونَ { [السجدة‪]4 :‬‬
‫ن تكون على بالك دائما‪ ،‬فل تغفل عن ال؛ لنك ابْنُ أغيار‪ ،‬والحداث‬
‫كأن هذه المسألة يجب أ ْ‬
‫تتناوبك‪ ،‬فل يستقرّ بك حال‪ ،‬فأنت بين الغِنَى والفقر‪ ،‬والصحة والمرض‪ ،‬والقوة والضعف‪.‬‬

‫ي ول نصير لك إى ال‪ ،‬وإذا استحضرتَ ذلك دائما اطمأنّ قلبك‪ ،‬ولم ل‬


‫لذلك تذكّر دائما أنه ل ول ّ‬
‫ل وإلى نصير ل يخذلك أبدا‪ ،‬ول يتخلى عنك لحظة‪ ،‬فإذا خالط هذا الشعورُ‬
‫وأنت تستند إلى و ّ‬
‫قلبَك أقبلتَ على الحداث بجسارة‪ ،‬وإذا أقبلتَ على الحدث بجسارة لم يأخذ الحدث من قوتك شيئا؛‬
‫لن الذي يخاف الحداث يُضعِف قوته الفاعلة‪.‬‬
‫فمثلً صاحب العيال الذي يخاف الموت فيتركهم صغارا ل عائلَ لهم لو راجع نفسه لقال لها‪ :‬وَلِمَ‬
‫الخوفُ على العيال من بعدي‪ ،‬فهل أنا خلقتهُم‪ ،‬أم لهم خالق يرعاهم ويجعل لهم من المجتمع‬
‫اليماني آباءً متعددين؟ لو قال لنفسه ذلك ما اهتم لمرهم‪ ،‬وصَدَق الذي قال مادحا‪ :‬أنتَ طِ ْرتَ‬
‫باليُتْم إلى حَدّ الكَمالِ‬
‫وقال آخر‪:‬قَال ذُو البَاءِ لَيْتِى لَ أبَا لِي ولَم ل؟ وقد كفل السلم لليتام أنْ يعيشوا في ظل‬
‫المجتمع المسلم أفضل مما يعيش مَنْ له أب وأم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالنسان حينما يعلم أن له سندا من ألوهية قادرة وربوبية ل تُسلمه يستقبل الحوادث بقوة‪،‬‬
‫ويقين‪ ،‬ورضا‪ ،‬وإيمان بأنه لن يُسْلَم أبدا ما دام له إيمان برب‪ ،‬وكلمة رب هذه ستأتي على باله‬
‫قَسْرا في وقت الشدة‪ ،‬حين يخذله الناس و ُتعْييه السباب‪ ،‬فل يجد إل ال ‪ -‬حتى ولو كان كافرا‬
‫لقال في الشدة‪ :‬يارب‪.‬‬
‫ن وُجِد غَيْرٌ فبتحنين ال للغير‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬مّن دُونِهِ‪[ { ..‬السجدة‪ ]4 :‬يعني‪ :‬ل يوجد غيره‪ ،‬وإ ْ‬
‫عليك‪ ،‬فالخير أيّا كان فمردّه إلى ال‪.‬‬
‫سمَآءِ‪.{ ...‬‬
‫لمْرَ مِنَ ال ّ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬يُدَبّ ُر ا َ‬

‫(‪)3432 /‬‬

‫سمَاءِ إِلَى الْأَ ْرضِ ُثمّ َيعْرُجُ إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َأ ْلفَ سَنَةٍ ِممّا َتعُدّونَ (‪)5‬‬
‫يُدَبّرُ الَْأمْرَ مِنَ ال ّ‬

‫في هذه الية ردّ على الفلسفة الذين قالوا بأن ال تعالى قادر وخالق‪ ،‬لكنه سبحانه زاول سلطانه‬
‫في مُلْكه مرة واحدة‪ ،‬فخلق النواميس‪ ،‬وخلق القوانين‪ ،‬ثم تركها تعمل في إدارة هذا الكون‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لمْرَ‪[ } ..‬السجدة‪ ]5 :‬أي‪ :‬أمْر الخَلْق‪ ،‬وهو سبحانه قيّوم عليه‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬ل بل هو سبحانه { يُدَبّ ُر ا َ‬
‫خ ُذهُ سِنَةٌ وَلَ َنوْمٌ‪[} ...‬البقرة‪ ]255 :‬إن قُلْنا بصحة ما تقولون؟ بل هو سبحانه‬
‫وإل فما معنى{ لَ تَأْ ُ‬
‫خلق الكون‪ ،‬ويُدبّر شئونه على عينه عز وجل‪ ،‬والدليل على قيوميته تعالى على خَلْقه أنه خلق‬
‫السباب على رتابة خاصة‪ ،‬فإذا أراد سبحانه خَرْق هذه الرتابة بشواذ تخرج عن القوانين‬
‫المعروفة كما خرق لبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬قانون الحراق‪ ،‬وكما خرق لموسى ‪ -‬عليه السلم‬
‫‪ -‬قانون سيولة الماء‪ ،‬ومسألة خَرْق القوانين في الكون دليل على قيوميته تعالى‪ ،‬ودليل على أن‬
‫خلْق ما يزال في يده سبحانه‪.‬‬
‫أمر ال َ‬
‫ولو أن المسألة كما يقول الفلسفة لكان الكون مثل المنبه حين تضبطه ثم تتركه ليعمل هو من‬
‫تلقاء نفسه‪ ،‬ولو كان المر كذلك لنطفأتْ النار التي أُلقِي فيها إبراهيم عليه السلم مثلً‪.‬‬
‫لذلك لما سُئِل أحد العارفين عن قوله تعالى‪ُ {:‬كلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن‪ ]29 :‬ما شأن ربك‬
‫الن‪ ،‬وقد صحّ أن القلم قد جفّ؟ قال‪ :‬أمور يبديها ول يبتديها‪ ،‬يرفع أقواما ويضع آخرين‪.‬‬
‫إذن‪ :‬مسألة الخَلْق إبداء ل ابتداء‪ ،‬فأمور الخَلْق مُعدّة جاهزة مُسْبقا‪ ،‬تنتظر المر من ال لها‬
‫بالظهور‪.‬‬
‫وقلنا هذا المعنى في تفسير قوله تعالى‪ {:‬إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪:‬‬
‫ن يقول ال له‪:‬‬
‫‪ ]82‬فكلمة{ َيقُولَ لَهُ‪[} ...‬يس‪ ]82 :‬تدل على أن هذا الشيء موجود بالفعل ينتظر أ ْ‬
‫اظهر إلى حيّز الوجود‪.‬‬
‫سمَآءِ إِلَى الَ ْرضِ‪[ } ..‬السجدة‪ ]5 :‬ثم تعود إليه سبحانه النتائج {‬
‫لمْرَ مِنَ ال ّ‬
‫فالحق سبحانه { يُدَبّ ُر ا َ‬
‫ثُمّ َيعْرُجُ إِلَ ْيهِ‪[ } ..‬السجدة‪ ]5 :‬فال سبحانه يرسل إلى الرض‪ ،‬ثم يستقبل منها؛ لن المدبّرات‬
‫أمرا من الملئكة لكل منهم عمله واختصاصه‪ ،‬وهذه المسألة نسميها في عالمنا عملية المتابعة عند‬
‫البشر‪ ،‬فرئيس العمل يكلف مجموعة من موظفيه بالعمل‪ ،‬ثم ل يتركهم إنما يتابعهم ليستقيم العمل‪،‬‬
‫بل ويحاسبهم كلً بما يستحق‪.‬‬
‫والملئكة هي التي تعرج بالنتائج إليه سبحانه { فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ أَ ْلفَ سَ َنةٍ ّممّا َتعُدّونَ }‬
‫طوِك؛ لذلك الذي يعمله البشر في‬
‫[السجدة‪ ]5 :‬فالعود سيكون للملئكة‪ ،‬وخَطْو الملئكة ليس كخَ ْ‬
‫ألف سنة تعمله الملئكة في يوم‪.‬‬
‫شهَا قَ ْبلَ أَن‬
‫ومثال ذلك ما قرأناه في قصة سليمان ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬حين قال‪ {:‬أَ ّيكُمْ يَأْتِينِي ِبعَرْ ِ‬
‫يَأْتُونِي مُسِْلمِينَ }[النمل‪]38 :‬‬
‫وهذا الطلب من سليمان ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬كان على مل من النس والجن‪ ،‬لكن لم يتكلم بشريّ‪،‬‬
‫ولم يتصدّ أحد منهم لهذا العمل‪ ،‬إنما تصدّى له عفريت‪ ،‬وليس جِنّيا عاديا‪ ،‬والعفريت جنى ماهر‬
‫له قدراته الخاصة‪ ،‬وإل ففي الجن أيضا من هو (لبخة) ل يجيد مثل هذه المهام‪ ،‬كما في النسان‬
‫تماما‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قال العفريت‪ {:‬أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن ّمقَا ِمكَ‪[} ...‬النمل‪ ]39 :‬وهذا يعني أنه سيتغرق وقتا‪،‬‬
‫ساعة أو ساعتين‪ ،‬أما الذي عنده علم من الكتاب فقال‪ {:‬أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ‪} ...‬‬
‫[النمل‪]40 :‬‬
‫يعني‪ :‬في طرفة عين لما عنده من العلم؛ لذلك لما رأى سليمانُ العرشَ مستقرا عنده في لمح‬
‫شكُرُ أَمْ َأ ْكفُرُ‪[} ...‬النمل‪]40 :‬‬
‫ضلِ رَبّي لِيَبُْلوَنِي أََأ ْ‬
‫البصر‪ ،‬قال‪ {:‬قَالَ هَـاذَا مِن َف ْ‬
‫ت القوة َقلّ الزمن‪ ،‬وقد أوضحنا‬
‫إذن‪ :‬الفعل يستغرق من الزمن على قدْر قوة الفاعل‪ ،‬فكلما زاد ْ‬
‫هذه المسألة في كلمنا على السراء والمعراج‪.‬‬
‫ومعنى‪ّ } :‬ممّا َتعُدّونَ { [السجدة‪ ]5 :‬أي‪ :‬من سنينكم أنتم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ذاِلكَ عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ‪.{ ..‬‬

‫(‪)3433 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like