You are on page 1of 252

‫تفسير الشعراوي‬

‫َفقَدْ كَذّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ (‪)6‬‬

‫أي‪ :‬كلما جاءهم ِذكْر من الرحمن‪ ،‬وآية من آياته أصرّوا على تكذيبها { فَسَيَأْتِي ِهمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ ِبهِ‬
‫يَسْ َتهْزِئُونَ } [الشعراء‪.]6 :‬‬
‫كما جاء في آيات أخرى‪ {:‬وَسَ َيعَْلمْ الّذِينَ ظََلمُواْ َأيّ مُنقََلبٍ يَنقَلِبُونَ }[الشعراء‪.]227 :‬‬
‫وقال‪ {:‬وَلَ َتعَْلمُنّ نَبََأهُ َبعْدَ حِينِ }[ص‪.]88 :‬‬
‫يعني‪ :‬غدا تعلمون عاقبة تكذيبكم‪ ،‬فآيات ال تسير أمامكم‪ ،‬فكلّ يوم يزداد المؤمنون بمحمد‪،‬‬
‫ويتناقص عدد الكافرين‪ ،‬كل يوم تزداد أرض اليمان‪ ،‬وتتراجع أرض الكفر‪.‬‬
‫صهَا مِنْ َأطْرَا ِفهَآ }[النبياء‪:‬‬
‫ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى لهم‪َ {:‬أفَلَ يَ َروْنَ أَنّا نَأْتِي الَرْضَ نَن ُق ُ‬
‫‪.]44‬‬
‫فهذه ـ إذن ـ مقدمات تروْنها بأعينكم‪ ،‬وكان ينبغي عليكم أن تأخذوا منها عبرةً وعظة‪ ،‬فبوادر‬
‫نجاح الدعوة وظهور الدين واضحة‪ ،‬هذا معنى‪ { :‬فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ }‬
‫[الشعراء‪.]6 :‬‬
‫فليتهم اقتصروا على التكذيب والصرار عليه‪ ،‬إنما تعدّى المر منهم إلى الستهزاء بالرسل‬
‫وبكلم ال‪ ،‬ألم يقولوا على سبيل الستهزاء‪َ {:‬أهَـاذَا الّذِي َب َعثَ اللّهُ َرسُولً }[الفرقان‪.]41 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬أوَلَمْ يَ َروْاْ إِلَى الَ ْرضِ }‬

‫(‪)2909 /‬‬

‫َأوَلَمْ يَ َروْا إِلَى الْأَ ْرضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ (‪)7‬‬

‫عوُوا‪ .‬ردّهم ال تعالى إلى‬


‫َلمّا لم يفلح الذكر المُحْدث واليات المتجددة مع هؤلء المعاندين فلم يَرْ َ‬
‫اليات الكونية الظاهرة لهم والتي سبقتهم في الوجود‪ ،‬آيات في السماء‪ :‬الشمس والقمر والنجوم‪،‬‬
‫وآيات في الرض‪ :‬البحار والقفار والجبال والنبات والحيوان‪.‬‬
‫وكلها آيات كونية لم يدّعها أحد منهم‪ ،‬بل جاء النسان إلى الوجود وطرأ عليها‪ ،‬وقد سبقتْه هذه‬
‫اليات التي يراها‪ :‬الكبير والصغير‪ ،‬والرجل والمرأة‪ ،‬والعاقل وغير العاقل‪َ ،‬ألَ ينظرون فيها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نظرةَ اعتبار‪ ،‬فيسألون عن مبدعها؟‬
‫ضربنا لذلك مثلً بالنسان الذي انقطعتْ به السّبُل في صحراء جرداء حتى أشرف على الهلك‪،‬‬
‫فأخذته سِنَة فنام‪ ،‬ولما استيقظ وجد في هذا المكان المنقطع مائدةً‪ ،‬عليها أطايب الطعام والشراب‪،‬‬
‫أَل ينبغي عليه قبل أنْ تمتدّ يده إلى هذا الطعام أن يسأل نفسه من الذي أعده له؟‬
‫كذلك النسان طرأ على كوْن ُم َعدّ لستقباله‪ ،‬وعلى وجود ل تتناوله قدرته‪ ،‬ول سلطانَ له عليه‪،‬‬
‫فهو ل يتناول الشمس مثلً ليُوقِدها ولم ي ّدعِ هذه اليات الكونية أحد‪َ ،‬ألَ يدلّ ذلك على الخالق ـ‬
‫عزَ وجل ـ ويُوجِب علينا اليمان به؟‬
‫ت وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[لقمان‪.]25 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لذلك يقول سبحانه{ وَلَئِن سَأَلْ َت ُهمْ مّنْ خََلقَ ال ّ‬
‫وقال‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[الزخرف‪.]87 :‬‬
‫ولو تأمل النسان في (اللمبة) الصغيرة التي تضيء غرفة‪ ،‬ولها عمر افتراضي ل يتعدّى عدة‬
‫أشهر وهي عُ ْرضَة للكسر وللعطال‪ ،‬ومع ذلك تكاتف في صناعتها فريق من المهندسين والعمال‬
‫والفنيين‪ ،‬وكثير من اللت والعِدَد‪ ،‬ومع ذلك نُؤرّخ لمخترع المصباح‪ ،‬ونعرف تاريخه‪ ،‬وكيفية‬
‫صنعه‪ ..‬الخ‪ .‬نعرف مخترع (التلفون والراديو) و‪..‬‬
‫لوْلَى أن ننظر ونتأمل في خَلْق الشمس‪ ،‬هذا الكوكب العظيم الذي يضيء الدنيا كلها‪،‬‬
‫أليس من ا َ‬
‫طوَال هذه المدَد المتعاقبة؟‬
‫عطْل ِ‬
‫دون وقود‪ ،‬أو قطعة غيار‪ ،‬أو ُ‬
‫فإذا ما جاء رسول‪ ،‬وقطع على الناس هذه الغفلة‪ ،‬وقال لهم‪َ :‬ألَ أُنبّئكم بمَنْ خلق كل هذا؟ إنه ال‪.‬‬
‫كان يجب عليهم أنْ يُعيروه آذانهم ويؤمنوا‪.‬‬
‫هنا يقول تعالى‪َ { :‬أوََلمْ يَ َروْاْ إِلَى الَرْضِ } [الشعراء‪ ]7 :‬وهي آية ظاهرة أمام أعينهم‪ ،‬يروْنَها‬
‫هامدة جرداء ُمقْفرة‪ ،‬فإذا نزل عليها الماء أحياها ال بالنبات‪،‬ألم ينظروا إلى الجبال والصحراء‬
‫بعد نزول المطر‪ ،‬وكيف تكتسي ثوبا بديعا من النبات بعد َفصْل الشتاء‪.‬‬
‫ن نقل هذه البذور وبذرها في الجبال؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر‪{:‬‬
‫ألم يسألوا أنفسهم‪ :‬مَ ْ‬
‫ت وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ }[الحج‪.]5 :‬‬
‫وَتَرَى الَ ْرضَ هَامِ َدةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّزتْ وَرَبَ ْ‬
‫وقوله تعالى هنا‪ { :‬كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ } [الشعراء‪ ]7 :‬كم‪ :‬خبرية تفيد الكثرة‪،‬‬
‫جاءت بصيغة الستفهام للتقرير‪ ،‬كما تقول لصاحبك‪ :‬كم أحسنتُ إليك‪ ،‬بدل أنْ تُعدّد مظاهر‬
‫إحسانك إليه‪ ،‬فتسأله لنك واثق أن الجابة في صالحك‪ ،‬فالكلم بالخبار دَعْوى منك‪ ،‬لكن الجابة‬
‫على سؤال إقرار منه‪.‬‬

‫فالمعنى‪ :‬أن نبات الرض كثير يفوق الحصر‪.‬‬


‫والزوج‪ :‬الصنف‪ ،‬والزوج أيضا الذكر أو النثى‪ ،‬والبعض من العامة يظن أن الزوج يعني الثنين‬
‫وهذا خطأ‪ ،‬فالزوج واحد معه مثله‪ ،‬كما في قوله سبحانه‪َ {:‬ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ َومِنَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأ ِم الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَ ْرحَامُ الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُنتُمْ‬
‫ن الِ ْبلِ اثْنَيْنِ َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ }[النعام‪143 :‬ـ ‪.]144‬‬
‫صَا ِدقِينَ * َومِ َ‬
‫فهذه أربعة أصناف‪ ،‬فيها ثمانية أزواج‪ ،‬فالزوج فرد واحد معه مثله‪ ،‬فل تقول زوج أحذية‪ .‬بل‬
‫َزوْجَا أحذية‪ .‬والحق سبحانه وتعالى يقول‪ {:‬وَأَنّهُ خََلقَ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا }[النجم‪.]45 :‬‬
‫وكذلك النبات ل ُبدّ فيه من ذكورة وأنوثة‪ ،‬وإنْ كانت غير واضحة فيه كله كما هي واضحة مثلً‬
‫في النخل‪ ،‬ففيه ذكر نُلقّح منه النثى لتثمر‪ ،‬وكذلك شجرة الجميز منها ذكر وأنثى‪ .‬لكن لم نَرَ‬
‫ذكورة وأنوثة في الجوافة مثلً أو في الليمون‪ ،‬لماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬مرة توجد الذكورة والنوثة في الشيء الواحد كعود الذرة مثلً‪ ،‬قبل أنْ يُخرِج ثمرته تخرج‬
‫سنبلة في أعله تحمل لقاح الذكورة‪ ،‬وحينما يهزها الريح يقع اللقاح على شُرَابة (كوز) الذرة‪،‬‬
‫وتتم عملية التلقيح‪ .‬وقد تكون الذكورة والنوثة في شيء ل تعرفه أنت كالمناجو والتفاح مثلً‪ ،‬فلم‬
‫نعلم لها ذكرا وأنثى‪.‬‬
‫لكن الحق تعالى قال‪ {:‬وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ }[الحجر‪.]22 :‬‬
‫شيْءٍ خََلقْنَا َز ْوجَيْنِ }[الذاريات‪.]49 :‬‬
‫وقال‪َ {:‬ومِن ُكلّ َ‬
‫ثم وصف الزوج بأنه } كَرِيمٍ { [الشعراء‪ ]7 :‬فماذا يعني الكرم هنا؟ قالوا‪ :‬لنك إذا أخذتَ الثمرة‬
‫الواحدة ونظرت وتأملتَ فيها لوجدتَ لها صفات متعددة و ِنعَما كثيرة‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَإِن‬
‫حصُوهَا }[إبراهيم‪ ]34 :‬وهي نعمة واحدة بصيغة المفرد ولم يقل نعم ال‪.‬‬
‫َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ تُ ْ‬
‫قالوا‪ :‬لن الحق ـ عزّ وجلّ ـ يريد أن يلفتنا إلى أن كل نعمة واحدة لو استقصيتَ عناصرها‬
‫حصَى‪.‬‬
‫وتكوينها لوجدتَ في طياتها ِنعَما ل ُتعَدّ ول تُ ْ‬
‫فمعنى } كَرِيمٍ { [الشعراء‪ ]7 :‬يعني‪ :‬كثير العطاء وكثير الخيرات‪.‬‬

‫(‪)2910 /‬‬

‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)8‬‬

‫قوله تعالى‪ { :‬إِنّ فِي ذَِلكَ } [الشعراء‪ ]8 :‬أي‪ :‬في آية النبات‪ ،‬وكل زوج كريم يخرج من‬
‫الرض { ليَةً } [الشعراء‪ ]8 :‬شيء عجيب ودللة واضحة على مُكوّن حكيم يعمل الشيء بقصد‬
‫ونظام‪ ،‬ينبغي أن تلفتنا إلى قدرة الخالق ـ عز وجل ـ‪.‬‬
‫{ َومَا كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ ّم ْؤمِنِينَ } [الشعراء‪ ]8 :‬يعني‪ :‬مع كل هذه اليات لم يؤمنوا‪ ،‬إل القليل منهم‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا‬
‫كما قال تعالى في آية أخرى‪َ {:‬وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪ ]105 :‬مع أنك لو تأملتَ آية واحدة لكانت كافية لنْ تلفتك إلى ال‪َ .‬وفِي ُكلّ‬
‫شَيءٍ َلهُ آيةٌ تَدلّ عَلَى أَنّه الوَاحِدُثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ }‬

‫(‪)2911 /‬‬

‫وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ (‪)9‬‬

‫جاء الحق تبارك وتعالى هنا بصفة { ا ْلعَزِيزُ } [الشعراء‪ ]9 :‬بعد أن قال{ َومَا كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ ّم ْؤمِنِينَ‬
‫}[الشعراء‪ ]8 :‬لنعلم أن الذين كفروا لم يكفروا رَغْما عن ال‪ ،‬إنما كفروا بما أودع ال فيهم من‬
‫الختيار‪.‬‬
‫فهو سبحانه الذي أعانهم عليه َلمّا أحبوه وأصروا عليه؛ لنه تعالى ربّهم‪ ،‬بدليل أنه تعالى لو‬
‫تركهم مجبرين مرغمين ما فعلوا شيئا يخالف منهج ال أبدا‪ ،‬وبدليل أنهم مجبرون الن على أشياء‬
‫ومقهورون في حياتهم في مسائل كثيرة‪ ،‬ومع ذلك ل يستطيع أحد منهم أن يخرج على شيء من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فمع إِلْفهم العناد والتمرد على منهج ال‪ ،‬أيستطيع أحدهم أنْ يتأبّى على المرض‪ ،‬أو على الموت‪،‬‬
‫أو على القدار التي تنزل به؟ أيختار أحد منهم يوم مولده مثلً‪ ،‬أو يوم وفاته؟ أيختار طوله أو‬
‫قوته أو ذكاءه؟‬
‫لكن لما أعطاهم ال الصلحية والختيار اختاروا الكفر‪ ،‬فأعانهم ال على ما أحبّوا‪ ،‬وختم على‬
‫قلوبهم حتى ل يخرج منها كفر‪ ،‬ول يدخلها إيمان‪.‬‬
‫وكلمة { ا ْلعَزِيزُ } [الشعراء‪ ]9 :‬تعني‪ :‬الذي ل يُغلَب ول ُيقْهر‪ ،‬لكن هذه الصفة ل تكفي في حقّه‬
‫تعالى؛ لنها تفيد المساواة للمقابل‪ ،‬فل ُبدّ أنْ نزيد عليها أنه سبحانه هو الغالب أيضا‪.‬‬
‫لذلك يقول سبحانه وتعالى‪ {:‬وَاللّهُ غَاِلبٌ عَلَىا َأمْ ِرهِ }[يوسف‪ ]21 :‬فال تعالى عزيز َيغْلِب ول‬
‫ُيغْلَب‪.‬‬
‫طعَمُ }[النعام‪.]14 :‬‬
‫طعِمُ وَلَ ُي ْ‬
‫ومثال ذلك قوله تعالى‪ {:‬يُ ْ‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ يُجْيِرُ وَلَ يُجَارُ عَلَيْهِ }[المؤمنون‪.]88 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ُ {:‬قلْ مَن بِ َي ِدهِ مََلكُوتُ ُكلّ َ‬
‫ثم يذكر سبحانه بعدها صفة الرحمة‪ ،‬فهو سبحانه مع عزته رحيم‪ ،‬إنه تعالى رحيم حين َيغْلب‪ ،‬ألم‬
‫يتابع لهم اليات ويَدْعُهم إلى النظر والتأمل‪ ،‬لعلّهم يثوبون إلى رُشْدهم فيؤمنوا؟ فلما أصرّوا على‬
‫الكفر أمهلهم‪ ،‬ولم يأخذهم بعذاب الستئصال‪ ،‬كما أخذ المم الخرى حين كذّبتْ رسلها‪.‬‬
‫كان الرسل قبل محمد صلى ال عليه وسلم يُبلّغون الدعوة‪ ،‬ويُظهرون المعجزة‪ ،‬فمَنْ لم يؤمن بعد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫علَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَ ْتهُ‬
‫خذْنَا بِذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا َ‬
‫ذلك يعاقبه ال‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬فكُلّ أَ َ‬
‫ض َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا }[العنكبوت‪.]40 :‬‬
‫سفْنَا بِهِ الَرْ َ‬
‫الصّيْحَةُ َومِنْهُمْ مّنْ خَ َ‬
‫أمّا أمة محمد صلى ال عليه وسلم فقد قال تعالى في شأنها‪َ {:‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َب ُه ْم وَأَنتَ فِي ِه ْم َومَا‬
‫كَانَ اللّهُ ُم َعذّ َبهُ ْم وَهُمْ َيسْ َت ْغفِرُونَ }[النفال‪.]33 :‬‬
‫وقال هنا‪ { :‬وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ } [الشعراء‪ ]9 :‬فالحق ـ تبارك وتعالى ـ في كل هذه‬
‫اليات يُسلّي رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويعطيه عبرةً من الرسل الذين سبقوه‪ ،‬فليس محمد بِدْعا‬
‫في ذلك‪ ،‬ألم يقل له ربه‪ {:‬ياحَسْ َرةً عَلَى ا ْلعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رّسُولٍ ِإلّ كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ }[يس‪:‬‬
‫‪ ]30‬فالمسألة ـ إذن ـ قديمة ـ ِقدَم الرسالت‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬يأخذنا السياق بعد ذلك إلى موكب النبوات‪ ،‬فيذكر الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه‬
‫وسلم طرفا من قصة نبي ال موسى‪ { :‬وَإِذْ نَادَىا رَ ّبكَ مُوسَىا }‬

‫(‪)2912 /‬‬

‫وَإِذْ نَادَى رَ ّبكَ مُوسَى أَنِ ا ْئتِ ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ (‪)10‬‬

‫الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقصّ على رسوله قصص النبياء‪ ،‬وهو أحسن القصص لحكمة‪{:‬‬
‫سلِ مَا نُثَ ّبتُ ِبهِ ُفؤَا َدكَ }[هود‪.]120 :‬‬
‫َوكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ‬
‫لن رسول ال صلى ال عليه وسلم مرّ بمعارك كثيرة مع الكفر‪ ،‬فكان يحتاج إلى تثبيت مستمر‬
‫كلما تعرض لشدة؛ لذلك تكرر القصص القرآني لرسول ال على مدى عمر الدعوة‪ ،‬والقصص‬
‫القرآني ل يراد به التأريخ لحياة الرسل السابقين‪ ،‬إنما إعطاء النبي محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫عِبرةً وعظة بمَنْ سبقه من إخوانه الرسل؛ لذلك كانت القصة تأتي في عدة مواضع‪ ،‬وفي كل‬
‫موضع لقطة معينة تناسب الحدث الذي نزلت فيه‪.‬‬
‫وهنا يقول سبحانه‪ { :‬وَإِذْ نَادَىا رَ ّبكَ مُوسَىا } [الشعراء‪ ]10 :‬يعني‪ :‬اذكر يا محمد‪ ،‬إذ نادى ربك‬
‫موسى أي‪ :‬دعاه‪ .‬لكن لماذا بدأ بقصة موسى عليه السلم بالذات؟‬
‫قالوا‪ :‬لن كفار مكة كفروا بك أنت‪ ،‬فل تحزن؛ لن غيرهم كان أفظع منهم‪ ،‬حيث ادعى‬
‫اللوهية‪ ،‬وقال‪ {:‬مَا عَِل ْمتُ َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي }[القصص‪.]38 :‬‬
‫والسياق هنا لم يذكر‪ :‬أين ناداه ربه‪ ،‬ول متى ناداه‪ ،‬وبدأ الحوار معه مباشرة‪ ،‬لكن في مواضع‬
‫أخرى جاء تفصيل هذا كله‪.‬‬
‫ثم يأتي المر المباشر من ال تعالى لنبيه موسى‪ { :‬أَنِ ا ْئتِ ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } [الشعراء‪ ]10 :‬أي‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذين ظلموا أنفسهم‪ ،‬بأنْ جعلوا ل تعالى شريكا‪ ،‬والشرك ِقمّة الظلم{ إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ عَظِيمٌ }‬
‫[لقمان‪.]13 :‬‬
‫ولم يُبيّن القرآن مَنْ هم هؤلء الظالمون؛ لنهم معروفون مشهورون‪ ،‬فهم في مجال الشرك أغنياء‬
‫عن التعريف‪ ،‬بحيث إذا قلنا { ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ } [الشعراء‪ ]10 :‬انصرف الذّهْن إليهم‪ ،‬إلى فرعون‬
‫وقومه؛ لنه الوحيد الذي تجرّأ على ادعاء اللوهية‪ ،‬وبعد أنْ ذكرهم بالوصف يُعيّنهم‪َ { :‬قوْمَ‬
‫عوْنَ أَل يَ ّتقُونَ }‬
‫فِرْ َ‬

‫(‪)2913 /‬‬

‫عوْنَ أَلَا يَ ّتقُونَ (‪)11‬‬


‫َقوْمَ فِرْ َ‬

‫أي‪ُ :‬قلْ لهم يا موسى أل تتقون ربكم؟ واعرض عليهم هذا العرض؛ لن الطلب يأتي مرة بالمر‬
‫الصريح‪ :‬افعل كذا‪ ،‬ومرة يتحنّن إليك بأسلوب العرض‪ ،‬أل تفعل كذا؟ على سبيل الستفهام‬
‫والعرض والحضّ‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬أل يتقون ال في ظلمهم لنفسهم باتخاذهم مع ال شريكا ول إله غيره‪ ،‬وظلموا بني‬
‫إسرائيل في أنهم يُذبّحونَ أبناءهم ويستحيُون نساءهم‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا تكلم عن قوم فرعون أولً‪ ،‬ولم يعرض عليه هو أولً‪ ،‬وهو رأس الفساد في القوم؟‬
‫ويجيب على هذا السؤال المثل القائل (يا فرعون ماذا فرعنك؟ قال‪ :‬لنني لم أجد أحدا يردني) فلو‬
‫وقف له قومه ورَدَعوه لرتدع‪ ،‬لكنهم تركوه‪ ،‬بل ساروا في َركْبه إلى أنْ صار طاغية‪ ،‬وأعانوه‬
‫حتى أصبح طاغوتا‪.‬‬
‫فقال موسى‪ { :‬قَالَ َربّ إِنّي أَخَافُ }‬

‫(‪)2914 /‬‬

‫قَالَ َربّ إِنّي َأخَافُ أَنْ ُيكَذّبُونِ (‪)12‬‬

‫لما دعا الحق ـ تبارك وتعالى ‪ ،‬نبيه موسى ـ عليه السلم ـ لنْ يذهب إلى قوم فرعون لم‬
‫يبادر بالذهاب‪ ،‬إنما أبدى لربه هواجس نفسه وخلجاتها؛ لنه يعلم مُقدّما مشقة هذه المهمة‪ ،‬فقد‬
‫عاش مع فرعون ويعلم طبيعته‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّي أَخَافُ أَن ُيكَذّبُونِ } [الشعراء‪ ]12 :‬وكيف لمن يدّعي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اللوهية أنْ يسمع لرسول؟‬
‫ويُ ْروَى أنه في عهد الخليفة المأمون ادّعَى أحدهم النبوة‪ ،‬فحبسوه‪ ،‬ثم ادعاها آخر فقال‪ :‬اجمعوا‬
‫بينهما حتى يواجه أحدهما الخر‪ ،‬فلما حضرا قالوا‪ :‬يا هذا إن هذا الرجل يدّعي النبوة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫كذب‪ ،‬أنا لم أُرسِل أحدا‪ .‬وهكذا جعل من نفسه إلها بعد أن كان نبيا‪.‬‬
‫طلِقُ ِلسَانِي }‬
‫صدْرِي وَلَ يَن َ‬
‫ق َ‬
‫ويواصل موسى الحديث عن مخاوفه‪ { :‬وَ َيضِي ُ‬

‫(‪)2915 /‬‬

‫سلْ ِإلَى هَارُونَ (‪)13‬‬


‫ق صَدْرِي وَلَا يَنْطَِلقُ ِلسَانِي فَأَ ْر ِ‬
‫وَ َيضِي ُ‬

‫يضيق صدري ساعةَ يكذّبونني‪ ،‬وضيق الصدر ينتج عنه أن أتلجلج وأتعصب‪ ،‬فل أستطيع أن‬
‫أتكلم الكلم ال ُمقْنِع؛ ذلك لنني سأشاهد باطلً واضحا يُجابه حقا واضحا‪ ،‬ول ُبدّ أنْ يضيق صدري‬
‫بذلك‪ ،‬خاصة وأن موسى عليه السلم سابقه في مسألة الكلم‪.‬‬
‫سلْ إِلَىا هَارُونَ } [الشعراء‪ ]13 :‬وفي آية أخرى‪ {:‬وََأخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ مِنّي‬
‫لذلك قال‪ { :‬فَأَرْ ِ‬
‫لِسَانا فَأَ ْرسِلْهُ َم ِعيَ رِدْءا ُيصَ ّدقُنِي إِنّي َأخَافُ أَن ُيكَذّبُونِ }[القصص‪.]34 :‬‬
‫يعني‪ :‬مساعدا لي يتكلم بدلً عني‪ ،‬إنْ عجز لساني عن الكلم‪ ،‬وهذا يدل على حرصه ـ عليه‬
‫السلم ـ على تبليغ دعوة ربه إلى فرعون وقومه‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فقد كان موسى وهارون كلهما رسول‪ ،‬إل أن القرآن قال مرة عنهما‪ {:‬إِنّا َرسُولُ َربّ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء‪ ]16 :‬بصيغة المفرد‪ ،‬وقال مرة أخرى‪ {:‬إِنّا َرسُولَ رَ ّبكَ }[طه‪ ]47 :‬بصغية‬
‫المثنى‪.‬‬
‫الرسول‪ :‬هو المرسَل من شخص لخر‪ ،‬سواء كان واحدا أو مُثَنى أو جمعا‪.‬‬
‫ومعلوم أن النسان يحتاج ل ستبقاء حياته طعاما وشرابا‪ ،‬وقبل ذلك وأهمَ منه يحتاج لستبقاء‬
‫نفسه‪َ ،‬ألَ تراه يصبر على الطعام‪ ،‬ويصبر على الشراب‪ ،‬لكنه ل يصبر بحال على الهواء‪ ،‬فإنْ‬
‫حُبِس عنه شهيق أو زفير فارق الحياة؟‬
‫وسبق أن قلنا‪ :‬إن من رحمة ال تعالى بنا أنْ يُملّك الطعام كثيرا‪ ،‬وقليلً ما يُملّك الماء‪ ،‬لكن الهواء‬
‫ل يُملّكه ال لحد‪ ،‬لماذا؟ لنه لو ملّك عدوك الهواء فمنعه عنك‪ ،‬فسوف تموت قبل أنْ يرضى‬
‫عنك‪ ،‬بالضافة إلى أن الهواء هو العنصر الساسي في الحياة‪ ،‬وعليه تقوم حركاتها‪.‬‬
‫ونلحظ أن النسان إذا صعد مكانا عاليا (ينهج)‪ ،‬وتزداد ضربات قلبه وحركة تنفسه‪ ،‬لماذا؟ لن‬
‫الحركة تحتاج لكثير من الهواء‪ ،‬فإنْ َقلّ الهواء يضيق الصدر؛ لنه يكفي فقط ل ستبقاء الحياة‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكنه ل يكفي الحركة الخارجية للنسان‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلهُمْ عََليّ ذَنبٌ }‬

‫(‪)2916 /‬‬

‫وََلهُمْ عََليّ ذَ ْنبٌ فَأَخَافُ أَنْ َيقْتُلُونِ (‪)14‬‬

‫وليت المسألة تقف بين نبي ال موسى وبين قومه عند مسألة الكلم‪ ،‬إنما لهم عنده ثَأْرٌ قديم؛ لنه‬
‫قتل منهم واحدا‪ ،‬وإنْ كان عَنْ غير قصد‪ ،‬كما قال تعالى في آية أخرى‪َ {:‬ف َوكَ َزهُ مُوسَىا َف َقضَىا‬
‫ن يقتلوني به‪.‬‬
‫عَلَيْهِ }[القصص‪ ]15 :‬فأخاف أ ْ‬
‫فيقول الحق سبحانه لموسى وهارون‪ { :‬قَالَ كَلّ فَاذْهَبَا }‬

‫(‪)2917 /‬‬

‫قَالَ كَلّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنّا َم َعكُمْ مُسْ َت ِمعُونَ (‪)15‬‬

‫(كَلّ) تفيد َنفْي ما قبلها‪ ،‬وقبلها مسائل ثلث‪ {:‬أَخَافُ أَن ُيكَذّبُونِ }[الشعراء‪ {،]12 :‬وَ َيضِيقُ‬
‫ي منها‬
‫صَدْرِي َولَ يَنطَلِقُ لِسَانِي }[الشعراء‪ {،]13 :‬فَأَخَافُ أَن َيقْتُلُونِ }[الشعراء‪ ]14 :‬فعلى أ ّ‬
‫صبّ هذا النفي؟‬
‫ين َ‬
‫النفي هنا يتوجّه إلى ما يتعلق بموسى ـ عليه السلم ـ ل بما يتعلق بالقوم من تكذيبهم إياه‪ ،‬يقول‬
‫له ربه‪ :‬اطمئن‪ ،‬فلن يحدث شيء من هذا كله‪ .‬ول ينصبّ النفي على تكذيبهم له؛ لنه سيُكذّب؛‬
‫لذلك نرى دقة الداء القرآني حيث جاءت{ َأخَافُ أَن ُيكَذّبُونِ }[الشعراء‪ ]12 :‬في نهاية الية‪،‬‬
‫صدْرِي }[الشعراء‪ ]13 :‬وهو المقصود بالنفي‪.‬‬
‫ق َ‬
‫وبعدها كلم جديد{ وَ َيضِي ُ‬
‫لهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَهُ‬
‫وقد بيّ َنتْ سورة الفجر معنى (كل) بوضوح في قوله تعالى{ فََأمّا الِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَ َ‬
‫لهُ َفقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْز َقهُ فَ َيقُولُ رَبّي أَهَانَنِ }[الفجر‪15 :‬ـ‬
‫وَ َن ّعمَهُ فَيَقُولُ رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّآ ِإذَا مَا ابْتَ َ‬
‫‪.]16‬‬
‫فيقول تعالى بعدها ردا عليها{ كَلّ }[الفجر‪ ]17 :‬يعني‪ :‬ليس العطاء دليلَ إكرام‪ ،‬ول المنعُ دليلَ‬
‫إهانة‪ ،‬إنما المراد البتلء بالنعمة وبالنقمة‪.‬‬
‫وكيف يكون المر كما تظنون‪ ،‬وقد أعطاكم ال فبخلتُم‪ ،‬وأحببتم المال حُبّا جما‪ ،‬فلم تنفقوا منه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جمْعه حتى أكلتم الميراث‪ ،‬وأخذتم أموال الناس‪.‬‬
‫على اليتيم أو المسكين‪ ،‬بل تنافستُم في َ‬
‫إذن‪ :‬فالمال الذي أكرمكم ال به لم يكُنْ نعمة لكم؛ لنكم جعلتموه نقمة ووبالً‪ ،‬حين أُعطيتم‬
‫فمنعتم‪.‬‬
‫وكلمة (كَلّ) هذه أصبح لها تاريخ مع موسى ـ عليه السلم ـ فقد تعلّمها من ربه‪ ،‬ووعى درسها‬
‫جيدا‪ ،‬فلما حُوصِر هو وأتباعه بين البحر من أمامهم‪ ،‬وفرعون وجنوده من خلفهم‪ ،‬حتى أيقن‬
‫أتباعه أنهم مُدْركون هالكون‪ ،‬قالها موسى عليه السلم بملء فيه{ قَالَ كَلّ إِنّ َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }‬
‫[الشعراء‪.]62 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ } [الشعرءا‪ ]15 :‬اليات هنا يُقصَد بها المعجزات الدالة على صِدْقهما‬
‫في البلغ عن ال‪ ،‬وهي هنا العصا { إِنّا َم َعكُمْ مّسْ َت ِمعُونَ } [الشعراء‪ ]15 :‬كما قال لهما في‬
‫سمَ ُع وَأَرَىا }[طه‪.]46 :‬‬
‫موضع آخر‪ {:‬إِنّنِي َم َعكُمَآ َأ ْ‬
‫فمرّة يأتي بالسمع فقط‪ ،‬ومرّة بالسمع والرؤية‪ ،‬لماذا؟ لن موقفه مع فرعون في المقام الول‬
‫سيكون جدلً ونقاشا‪ ،‬وهذا يناسبه السمع‪ ،‬وبعد ذلك ستحدث مقامات في (فعل) و(عمل) في مسألة‬
‫السحر وإلقاء العصا‪ ،‬وهذا يحتاج إلى سمع وإلى بصر؛ لن اليذاء قد يكون من السمع فقط في‬
‫أول اللقاء‪ ،‬وقد يكون من السمع والعين فيما بعد‪.‬‬

‫(‪)2918 /‬‬

‫عوْنَ فَقُولَا إِنّا رَسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)16‬‬


‫فَأْتِيَا فِرْ َ‬

‫عوْنَ }[الشعراء‪10 :‬ـ ‪ ]11‬فذكر قومَ‬


‫وسبق أن قال سبحانه‪ {:‬أَنِ ا ْئتِ ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ * َقوْمَ فِرْ َ‬
‫عوْنَ }‬
‫فرعن أولً؛ لنهم سبب فرعنته‪ ،‬حين سمعوا كلمه وأعانوه عليه‪ ،‬وهنا يُذكّره { فَأْتِيَا فِرْ َ‬
‫[الشعراء‪ ]16 :‬لن حين يُهزَم فرعون يُهزَم قومه الذين أيّدوه‪ ،‬فالكلم هنا مع قمة الكفر مع‬
‫فرعون‪.‬‬
‫{ َفقُول إِنّا َرسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء‪ ]16 :‬إنّا‪ :‬جمع ُيقَال للمثنى‪ ،‬ومع ذلك جاءت رسول‬
‫بصيغة الفراد‪ ،‬ولم يقُل‪ :‬رسُول؛ لن الرسول واسطة بين المرسَل والمرسَل إليه‪ ،‬سواء أكان‬
‫مفردا أو مُثَنى أو جمعا‪.‬‬
‫وكلمة { إِنّا } [الشعراء‪ ]16 :‬سيقولها موسى وهارون في َنفَس واحد؟ ل‪ ،‬إنما سيتكلم المقدّم‬
‫منهما‪ ،‬وينصت الخر‪ ،‬فيكون كمنْ يُؤمّن على كلم صاحبه‪ .‬ألَ ترى القرآن الكريم حينما عرض‬
‫قضية موسى وقومه يوضح أن فرعون عل في الرض واستكبر‪..‬الخ‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَابَ‬
‫حتى دعا عليهم‪ {:‬رَبّنَا ا ْ‬
‫الَلِيمَ }[يونس‪.]88 :‬‬
‫عوَ ُت ُكمَا }[يونس‪ ]89 :‬بالمثنى مع أن‬
‫هذا كلم موسى ـ عليه السلم ـ فردّ ال عليه‪ {:‬قَدْ ُأجِي َبتْ دّ ْ‬
‫المتكلم واحد‪ .‬قالوا‪ :‬لن موسى كان يدعو‪ ،‬وهارون يُؤمّن على دعائه‪ ،‬والمؤمّن أحد الداعيين‪،‬‬
‫وشريك في الدعوة‪.‬‬
‫سلْ َمعَنَا }‬
‫فما مطلوبك يا رسول رب العالمين؟ { أَنْ أَ ْر ِ‬

‫(‪)2919 /‬‬

‫سلْ َمعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (‪)17‬‬


‫أَنْ أَرْ ِ‬

‫فالصل في لقاء موسى بفرعون أن ينقذ بني إسرائيل من العذاب‪ ،‬ثم يُبلّغهم منهج ال‪ ،‬ويأخذ‬
‫أيديهم إليه‪ ،‬وجاءت دعوة فرعون لليمان ونقاشه في ادعائه اللوهية تابعة لهذا الصل‪.‬‬
‫ل َولَ ُتعَذّ ْبهُمْ َقدْ جِئْنَاكَ بِآ َيةٍ مّن رّ ّبكَ }[طه‪.]47 :‬‬
‫سلْ َمعَنَا بَنِي إِسْرَائِي َ‬
‫وفي موضع آخر‪ {:‬فَأَرْ ِ‬
‫إذن‪ :‬فتلوين الساليب في القصص القرآني يشرح لقطاتٍ مختلفة من القصة‪ ،‬ويُوضّح بعض‬
‫جوانبها‪ ،‬وإنْ بدا هذا تكرارا في المعنى الجمالي‪ ،‬وهذا واضح في وقوله تعالى في أول قصة‬
‫عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ عَ ُدوّا وحَزَنا }[القصص‪.]8 :‬‬
‫طهُ آلُ فِرْ َ‬
‫موسى عليه السلم‪ {:‬فَالْ َتقَ َ‬
‫وفي أية أخرى يقول تعالى على لسان امرأة فرعون‪ {:‬قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََلكَ }[القصص‪ ]9 :‬وكأن ال‬
‫تعالى يقول‪ :‬ستأخذونه ليكون قُرّة عين لكم‪ ،‬إنما هو سيكون عدوا‪.‬‬
‫وال تعالى يقول‪ {:‬وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيحُولُ بَيْنَ ا ْلمَ ْر ِء َوقَلْبِهِ }[النفال‪ ]24 :‬ففرعون في حين كان‬
‫يقتل الطفال من بني إسرائيل‪ ،‬ويستحيي البنات‪ ،‬جاءه هذا الطفل بهذه الطريقة اللفتة للنظر‪،‬‬
‫ن يفهموا أن مَنْ أُلقِي في التابتوت وفي اليمّ بافتعال‪ ،‬هو بهدف نجاته من القتل‪ ،‬فلو‬
‫فكان عليهم أ ْ‬
‫كان فرعون إلها‪ ،‬فكيف مرّت عليه هذه الحيلة وجازتْ عليه؟‬
‫وهذا يدل على أن ال تعالى إذا أراد إنفاذ أمر سلب من ذوي العقول عقولهم‪ ،‬وحال بين المرء‬
‫وقلبه‪ ،‬ويدل على غباء قومه؛ لنهم لو تأملوا هذه المسألة لظهر لهم كذب فرعون في ادعائه‬
‫اللوهية‪.‬‬
‫فكان ردّ فرعون على موسى عليه السلم‪ { :‬قَالَ أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا }‬

‫(‪)2920 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمُ ِركَ سِنِينَ (‪)18‬‬
‫قَالَ أَلَمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِ ْثتَ فِينَا مِنْ ُ‬

‫ب وكبر‪ ،‬وكأنه‬
‫ش ّ‬
‫يريد فرعون أنْ يُذكّر موسى بما كان من أمر تربيته في بيته لعدة سنوات‪ ،‬حتى َ‬
‫يُوبّخه كيف يقف منه هذا الموقف العدائي بعدما كان منه‪.‬‬
‫عمُ ِركَ سِنِينَ } [الشعراء‪ ]18 :‬ويقال‪ :‬إن موسى لبث في بيت فرعون حتى سِنّ‬
‫{ وَلَبِ ْثتَ فِينَا مِنْ ُ‬
‫الثامنة عشرة‪ ،‬أو سِنّ الثلثين‪ ،‬فالمعنى أنه ربّاه ولبث معه أيضا عدة سنوات‪.‬‬
‫والمتأمل في هذه الحجة التي يظنها فرعون لصالحه يجد أنها ضده‪ ،‬وأنها تكشف عن غبائه‪ ،‬فلو‬
‫ضمّه إليه ورعاه‪.‬‬
‫كان إلها كما يدعي لعرف أن هلكه سيكون على يدي هذا الطفل الذي َ‬

‫(‪)2921 /‬‬

‫َو َفعَلْتَ َفعْلَ َتكَ الّتِي َفعَ ْلتَ وَأَ ْنتَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ (‪)19‬‬

‫والمراد بال ِفعْلة قتل موسى عليه السلم للرجل الذي وكزه فمات { وَأَنتَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } [الشعراء‪:‬‬
‫‪ ]19‬يصح من الكافرين بألوهية فرعون‪ ،‬أو من الجاحدين لنعمنا عليك وتربيتنا لك‪.‬‬
‫لذلك العقلء يروْنَ أن النسان حين يربي الولد ويراهم كما يحب‪ ،‬فليعلم أنه توفيق وعناية من‬
‫ال تعالى‪ ،‬بدليل أن البناء يُربّون في بيئة واحدة‪ ،‬وربما كانا توأميْن‪ ،‬ومع ذلك ترى أحدهما‬
‫صالحا والخر طالحا‪ ،‬فالمسألة عناية إلهية عليا‪ ،‬وقد التقط أحد الشعراء هذا المعنى فقال‪:‬إِذَا َلمْ‬
‫تُصاَ ِدفَ في بَنيكَ عِنَاي ًة فقَدْ ك َذبَ الراجي وخَابَ المؤَمّلُفمُوسى الذِي رَبّاه جِبْريلُ كَافِ ٌر ومُوسَى‬
‫الذي رَبّاهُ فِرْعَونُ مُرْسَلُوالمراد موسى السامري صاحب العجل‪ ،‬وقد وضعته أمه في صحراء‬
‫وماتت‪ ،‬فأرسل ال إليه جبريل عليه السلم يرعاه ويُربّيه‪ .‬ول تأتي هذه المفارقات إل بعناية ال‬
‫سبحانه‪.‬‬

‫(‪)2922 /‬‬

‫قَالَ َفعَلْ ُتهَا ِإذًا وَأَنَا مِنَ الضّالّينَ (‪)20‬‬

‫يقول موسى عليه السلم‪ :‬أنا ل أنكر أنني قتلتُ‪ ،‬لكنني قتلتُ وأنا من الضالين‪ .‬يعني‪ :‬الجاهلين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بما يترتب على عملية القتل‪ ،‬وما كنت أعتقدُ أبدا أن هذه ال َوكْزة ستقضي على الرجل‪.‬‬
‫ضلّ‬
‫فكلمة { الضّالّينَ } [الشعراء‪ ]20 :‬هنا ل تعني عدم الهدى‪ ،‬فمن هذا المعنى للضلل قولهم‪َ :‬‬
‫الطريق‪ ،‬وهو لم يتعمد أن يضل‪ ،‬إنما تاه رَغْما عنه‪.‬‬
‫حدَا ُهمَا الُخْرَىا }[البقرة‪.]282 :‬‬
‫ضلّ ِإحْدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ إِ ْ‬
‫ومنه قوله تعالى في الشهادة‪ {:‬أَن َت ِ‬
‫ك ضَآلّ َفهَدَىا }[الضحى‪ ]7 :‬أي‪ :‬متحيرا‬
‫وقوله تعالى مخاطبا نبيه صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬ووَجَ َد َ‬
‫بين الباطل الذي يمارسه قومه‪ ،‬وبين الحق الذي ل يجد له بينة‪.‬‬

‫(‪)2923 /‬‬

‫سلِينَ (‪)21‬‬
‫جعَلَنِي مِنَ ا ْلمُرْ َ‬
‫ح ْكمًا وَ َ‬
‫خفْ ُتكُمْ َفوَ َهبَ لِي رَبّي ُ‬
‫َففَرَرْتُ مِ ْنكُمْ َلمّا ِ‬

‫حكْما } [الشعراء‪ ]21 :‬أي‪ :‬أنْ أضع الشياء في مواضعها‪ ،‬وجاءت هذه الكلمة بعد{ َفعَلْ ُتهَآ إِذا‬
‫{ ُ‬
‫وَأَنَاْ مِنَ الضّالّينَ }[الشعراء‪ ]20 :‬كأنه يقول‪ :‬أنا وكزتُ الرجل‪ ،‬هذا صحيح‪ ،‬فمات‪ ،‬وهذا خطأ‬
‫غير مقصود وإنني مظلوم فيه؛ لن ال قد أعطاني حكما وقدرة لضع الشياء في محلها‪.‬‬
‫جعَلَنِي مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } [الشعراء‪.]21 :‬‬
‫ليس هذا فحسب‪ ،‬إنما أيضا‪ { :‬وَ َ‬

‫(‪)2924 /‬‬

‫عَليّ أَنْ عَبّ ْدتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (‪)22‬‬


‫وَتِ ْلكَ ِن ْعمَةٌ َتمُّنهَا َ‬

‫يعني‪ :‬ما مّن به فرعون على موسى من قوله‪:‬‬


‫عمُ ِركَ سِنِينَ * َو َفعَلْتَ َفعْلَ َتكَ الّتِي َفعَ ْلتَ }[الشعراء‪18 :‬ـ‬
‫{ أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ ُ‬
‫‪.]19‬‬
‫كأنه يقول له‪ :‬أتمُنّ عليّ بهذه الشياء‪ ،‬وتذكر هذه الحسنة‪ ،‬وهي ل تساوي شيئا لو قارنتَها بما‬
‫حدث منك من استعباد بني إسرائيل وتذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم‪ ،‬وتسخيرهم في خدمتك‪.‬‬
‫وقتل ال ّذكْران واستحياء الناث‪ ،‬ل يعني الرأفة بهن‪ ،‬إنما يعني َلهُنّ الذلة والهوان‪ ،‬حين ل تجد‬
‫المرأة من محارمها مَنْ يحميها أو يدافع عنها‪ ،‬فتبقى بعد الرجال في هوان وذِلّة في خدمة‬
‫فرعون‪.‬‬
‫ن َومَا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫عوْ ُ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالَ فِرْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2925 /‬‬

‫ن َومَا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)23‬‬


‫عوْ ُ‬
‫قَالَ فِرْ َ‬

‫يعني‪ :‬مسألة جديدة هذه الذي جئتَ بها يا موسى‪ ،‬فمن َربّ العالمين الذي تتحدث عنه؟‬

‫(‪)2926 /‬‬

‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (‪)24‬‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫قَالَ َربّ ال ّ‬

‫لن السماوات بما فيها من كواكب ونجوم وشمس وقمر وأفلك وأبراج‪ ،‬والرض وما فيها من‬
‫بحار وأنهار وجبال و ِقفَار ونبات وحيوان وإنسان‪ .‬قد وُجِدتْ قبل أن توجد أنت أيها الله‬
‫الفرعون!!‬
‫إذن‪َ :‬ردّ عليه بشيء ثبت في الكون قبل مجيئه‪ ،‬وقبل مولده‪ .‬وكأن المعنى المراد لموسى عليه‬
‫السلم‪ :‬أخبرني يا فرعون‪ ،‬يا مَنْ تدعي اللوهية‪ ،‬ما الذي زاد في الكون بألوهيتك له؟ وإنْ كان‬
‫هذا الكون كله بسمائه وأرضه ل رب العالمين‪ ،‬فماذا فعلتَ أنت؟‬
‫ولم يقتصر على السماوات والرض‪ ،‬وإنما { َومَا بَيْ َن ُهمَآ } [الشعراء‪ ]24 :‬أي‪ :‬من هواء وطير‬
‫يَسْبح في الفضاء‪ ،‬وكانوا ل يعرفون ما نعرفه الن من أسرار الهواء‪ ،‬وانتقال الصوت والصورة‬
‫جوّ السماء فيما بين السماء والرض من السرار ما يستحق التأمل‪.‬‬
‫من خلله‪ ،‬ففي َ‬
‫ثم يتلطف معهم فيقول‪ { :‬إِن كُن ُتمْ مّوقِنِينَ } [الشعراء‪ ]24 :‬يعني‪ :‬إنْ كنتم موقنين بأن هذه الشياء‬
‫لم يخلقها إل ال‪.‬‬
‫حوْلَهُ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه ذاكرا جدال فرعون‪ ،‬فقال‪ { :‬قَالَ ِلمَنْ َ‬

‫(‪)2927 /‬‬

‫حوْلَهُ أَلَا تَسْ َت ِمعُونَ (‪)25‬‬


‫قَالَ ِلمَنْ َ‬

‫يقول فرعون لمن حوله من أتباعه الذين أقروا له باللوهية‪ :‬أل تستمعون لما يقول؟ يعني‪ :‬موسى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليه السلم‪ .‬وهذه الكلمة ل يقولها فرعون إل إذا أحسّ من قومه ارتياحا لما قاله موسى من َنفْي‬
‫الربوبية واللوهية عن فرعون ونسبتها ل تعالى‪ ،‬خالق السموات والرض‪.‬‬
‫سكِتوه‪ ،‬لكن لم يحدث شيء‬
‫وكان فرعون ينتظر من قومه أنْ يتص ّدوْا لما يقوله موسى‪ ،‬فينهروه ويُ ْ‬
‫من هذا‪ ،‬مما يدل على أنهم كانوا يتمنْونَ أن ينتصر موسى‪ ،‬وأن يندحر فرعون؛ لنه كبت‬
‫حرياتهم وآراءهم‪ ،‬كما كانوا يعرفون كذبه وينتظرون الخلص منه‪.‬‬
‫بدليل ما حكاه القرآن عن الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه من آل فرعون‪ ،‬وبدليل الذين أتوا‬
‫حسّنوا له مسألة السحرة وهم يريدون أن يُهزَم‪.‬‬
‫فيما بعد و َ‬
‫وقبل أنْ يردّ أحد من قوم فرعون بادرهم موسى عليه السلم‪ { :‬قَالَ رَ ّبكُ ْم وَ َربّ آبَآ ِئكُمُ }‬

‫(‪)2928 /‬‬

‫قَالَ رَ ّب ُك ْم وَ َربّ آَبَا ِئكُمُ الَْأوّلِينَ (‪)26‬‬

‫هنا ينقل موسى عليه السلم فرعونَ من الجو الكوني المحيط به في السماء والرض وما بينهما‬
‫إلى ذات نفسه‪ ،‬يقول له‪ :‬إنّ لك آباء قبل أنْ تُولد‪ ،‬وقبل أن تدعي اللوهية‪ ،‬فمن كان ربهم؟‬
‫فلما ضَيّق موسى عليه السلم الخناق على فرعون‪ ،‬أراد أنْ يخرج من هذا الجدل وهذه المناظرة‬
‫الخاسرة فقال محاولً إنقاذ موقفه‪ { :‬قَالَ إِنّ رَسُوَلكُمُ }‬

‫(‪)2929 /‬‬

‫سلَ إِلَ ْيكُمْ َلمَجْنُونٌ (‪)27‬‬


‫قَالَ إِنّ رَسُوَلكُمُ الّذِي أُرْ ِ‬

‫وهذه العبارة من فرعون تفضح المتكلّم بها‪ ،‬فقد شهد لموسى بأنه رسول‪ ،‬وخانه لفظه من حيث ل‬
‫يدري‪.‬‬

‫(‪)2930 /‬‬

‫ق وَا ْل َمغْ ِربِ َومَا بَيْ َن ُهمَا إِنْ كُنْ ُتمْ َت ْعقِلُونَ (‪)28‬‬
‫قَالَ َربّ ا ْل َمشْرِ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يرد موسى عليه السلم بحجة أخرى‪ ،‬لكن يختمها هذه المرة بقوله‪ { :‬إِن كُنتُمْ َتعْقِلُونَ } [الشعراء‪:‬‬
‫‪ ]28‬وقد قال في سابقتها{ إِن كُنتُمْ مّوقِنِينَ }[الشعراء‪ ]24 :‬كأنه يقول لفرعون‪ :‬ما دام قد وصل‬
‫بك المر لنْ تتهمني بالجنون فلن أقول إنْ كنتم موقنين‪ ،‬إنما إنْ كنتم تعقلون‪ ،‬فجاء بمقابل‬
‫الجنون‪.‬‬
‫خ ْذتَ }‬
‫فيُنهي فرعون هذا النقاش‪ ،‬ويأتي بخلصة المر كما يرى‪ ،‬فيقول‪ { :‬قَالَ لَئِنِ اتّ َ‬

‫(‪)2931 /‬‬

‫جعَلَ ّنكَ مِنَ ا ْل َمسْجُونِينَ (‪)29‬‬


‫خ ْذتَ إَِلهًا غَيْرِي لَأَ ْ‬
‫قَالَ لَئِنِ اتّ َ‬

‫وهذا من فرعون إفلس في الحجة‪ ،‬ولو كان عنده رَدّ لما يقوله موسى لردّ عليه‪ ،‬ولَقرع الحجة‬
‫خصْمه بأن هدده بالسجن والبعاد‪ ،‬وكان المسجون عندهم يظل في‬
‫بالحجة‪ ،‬لكنه تقوّى على َ‬
‫السجن حتى الموت‪.‬‬
‫ولم يُراع فرعون في هذه المسألة الناس من حوله‪ ،‬أن يكتشفوا هذا الفلس‪ ،‬وهذا الحمق في‬
‫رَدّه‪.‬‬
‫ويُؤخّر موسى عليه السلم ما معه من اليات‪ ،‬ويستمر في الجدل وإظهار الحجة‪ { :‬قَالَ َأوََلوْ‬
‫جِئْ ُتكَ }‬

‫(‪)2932 /‬‬

‫شيْءٍ مُبِينٍ (‪)30‬‬


‫قَالَ َأوَلَوْ جِئْ ُتكَ بِ َ‬

‫يعني‪ :‬إذا لم تقنع بكل الحجج السابقة‪ ،‬فهل لو جئتك بآية واضحة دالة على صدق رسالتي‪،‬‬
‫أتجعلني أيضا من المسجونين؟‬

‫(‪)2933 /‬‬

‫قَالَ فَ ْأتِ ِبهِ إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ (‪)31‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫انظر إلى تعارض فرعون مع نفسه‪ ،‬فكان عليه ساعةَ أنْ يسمع من موسى هذا الكلم أنْ يُصر‬
‫على سجنه‪ ،‬لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أنْ يُظهر حجته‪ ،‬فيجعل فرعون هو الذي يطلبها‬
‫بنفسه { قَالَ فَ ْأتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } [الشعراء‪ ]31 :‬وما كان لموسى أن يأتي بآية إل أنْ‬
‫يطلبها منه فرعون‪.‬‬

‫(‪)2934 /‬‬

‫عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مُبِينٌ (‪)32‬‬


‫فَأَ ْلقَى َ‬

‫إلقاء العصا له في القرآن ثلث مراحل‪ :‬الولى‪ :‬هي التي واكبتْ اختيار ال لموسى ليكون‬
‫رسولً‪ ،‬حين قال له‪َ {:‬ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه‪ ]17 :‬وقلنا‪ :‬إن موسى عليه السلم أطال في‬
‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ‬
‫إجابة هذا السؤال لحرصه على إطالة مدة الُنْس بال ـ عز وجل ـ فقال‪ِ {:‬هيَ َ‬
‫عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا }[اطه‪.]18 :‬‬
‫فالعصا في نظر موسى ـ عليه السلم ـ عود من الخشب قريب عهد بأصله‪ ،‬كغصن في شجرة‪،‬‬
‫سعَىا }[طه‪19 :‬ـ‬
‫لكنها عند ال لها قصة أخرى‪ {:‬قَالَ أَ ْل ِقهَا يامُوسَىا * فَأَ ْلقَاهَا فَإِذَا ِهيَ حَيّةٌ َت ْ‬
‫‪.]20‬‬
‫وما صارت العصا عصا إل بعد أنْ ُقطِعت من شجرتها‪ ،‬وفقدت الحياة النباتية‪ ،‬وتحولت إلى‬
‫جماد‪ ،‬فلو عادت إلى أصلها وصارت شجرةً من جديد لكان المر معقولً‪ ،‬لكنها تجاوزتْ مرتبة‬
‫النباتية‪ ،‬وتحولت إلى الحيوانية‪ ،‬وهي المرتبة العلى؛ لذلك فزع منها موسى وخاف فطمأنه ربه‪:‬‬
‫خفْ سَ ُنعِيدُهَا سِيَر َتهَا الُولَىا }[طه‪.]21 :‬‬
‫{ قَالَ خُذْهَا َولَ تَ َ‬
‫وكانت هذه المرة بمثابة تدريب لموسى عليه السلم؛ ليألف العصا على هذه الحالة‪ ،‬وكأن ال‬
‫تعالى أراد لموسى أنْ يُجري هذه التجربة أمامه‪ ،‬ليكون على ثقة من صِدْق هذه الية‪ ،‬فإذا ما جاء‬
‫لقاء فرعون ألقاها دون خوف‪ ،‬وهو واثق من نجاحه في هذه الجولة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كان اللقاء الثاني للعصا أمام فرعون وخاصته‪ ،‬ثم كان اللقاء للمرة الثالثة أمام السحرة‪.‬‬
‫ومعنى { ُثعْبَانٌ مّبِينٌ } [الشعراء‪ ]32 :‬يعني‪ :‬بيّن الثعبانية‪ ،‬فيه حياة وحركة‪ ،‬وقال { ُثعْبَانٌ مّبِينٌ }‬
‫[الشعراء‪ ]32 :‬يعني‪ :‬واضح للجميع؛ لنهم كانوا يجيدون هذه المسألة ويُخيّلون للناس مثل هذه‬
‫الشياء‪ ،‬ويجعلونها تسعى وتتحرك‪ ،‬ولم تكن عصا موسى كذلك‪ ،‬إنما كانت ثعبانا مبينا واضحا‬
‫وحقيقيا ل يشكّ في حقيقته أحد‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمتتبع للقطات المختلفة لهذه الحادثة في القرآن الكريم يجد السياق يُسمّيها مرة ثعبانا‪ ،‬ومرة‬
‫حية‪ ،‬ومرة جانا‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬لنها جمعت كل هذه الصفات‪ :‬فهي خفة حركتها كأنها جان‪ ،‬وفي‬
‫شكلها المرعب كأنها حية‪ ،‬وفي التلوّي كأنها ثعبان‪ .‬والجان‪ :‬فرخ الحية‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَنَ َزعَ يَ َدهُ فَِإذَا ِهيَ بَ ْيضَآءُ }‬

‫(‪)2935 /‬‬

‫وَنَزَعَ َي َدهُ فَإِذَا ِهيَ بَ ْيضَاءُ لِلنّاظِرِينَ (‪)33‬‬

‫هنا يتكلم عن نزع اليد؛ لنه قال في آية أخرى‪ {:‬اسُْلكْ يَ َدكَ فِي جَيْ ِبكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ‬
‫}[القصص‪.]32 :‬‬
‫وهكذا تتكامل لطقات القصة الواحدة‪ ،‬والتي يظنها البعض تكرارا‪ ،‬وليست هي كذلك‪.‬‬
‫{ وَنَ َزعَ } [الشعراء‪ ]33 :‬يعني‪ :‬أخرج يده { فَإِذَا ِهيَ بَ ْيضَآءُ لِلنّاظِرِينَ } [الشعراء‪ ]33 :‬مع أن‬
‫سمْرة‪ ،‬ومع ذلك خرجتْ بيضاء‪ ،‬لها شعاع وبريق‬
‫موسى عليه السلم كان آدم اللون يعني فيه ُ‬
‫يأخذ بالبصار‪.‬‬
‫وبمقارنة هذه الية بآية سورة القصص نجد أنه حذف من آية سورة الشعراء الجيب‪ ،‬وهو فتحة‬
‫الثوب من أعلى‪ ،‬ل الجيب المتعارف عليه‪ ،‬والذي نضع فيه النقود مثلً‪ ،‬وكانوا في الماضي‬
‫يجعلون الجيب بداخل ملبس النسان‪ ،‬ليكون في مأمن‪ ،‬فإذا أراد النسان شيئا فيه مَدّ يده من‬
‫سمّيتْ جيبا‪.‬‬
‫خلل الفتحة العليا للثوب‪ ،‬ف ُ‬

‫(‪)2936 /‬‬

‫حوْلَهُ إِنّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (‪)34‬‬


‫قَالَ لِ ْلمَلَإِ َ‬

‫المل‪ :‬هم عليْة القوم‪ ،‬الذين يملون العيون‪ ،‬ويتصدّرون المجالس { إِنّ هَـاذَا َلسَاحِرٌ عَلِيمٌ }‬
‫[الشعراء‪ ]34 :‬فاتهمه بالسحر ليخرج من ورطته وقال‪ :‬ساحر لن موسى لم يمارس هذه المسألة‬
‫إل مرة واحدة هي التي أجراها أمام فرعون‪ ،‬لكن المل على علم بالسحر وإِلْف له‪ ،‬وعندهم‬
‫سحارون كثيرون‪.‬‬
‫وفَرْق بين ساحر وسحّار‪ :‬ساحر لمن مارس هذه العملية مرة واحدة‪ ،‬إنما سحّار مبالغة تدل على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنها أصبحت حِرْفته‪ ،‬مثل ناجر ونجّار‪ ،‬وخائط وخيّاط‪.‬‬
‫و { عَلِيمٌ } الشعراء‪ ]34 :‬أي‪ :‬بسحره‪.‬‬

‫(‪)2937 /‬‬

‫ضكُمْ ِبسِحْ ِرهِ َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ (‪)35‬‬


‫جكُمْ مِنْ أَ ْر ِ‬
‫يُرِيدُ أَنْ يُخْ ِر َ‬

‫هنا يستعدي فرعون قومه على موسى‪ ،‬ويُحذرهم أنه سيفسد العامة والدهماء‪ ،‬وتكون له الغلبية‪،‬‬
‫وتكون له شيعة يناصرونه عليكم حتى يُخرِجكم من أرضكم‪ ،‬وهذا أقلّ ما يُنتظر منه‪ ،‬يريد أن‬
‫صفّ فرعون‪.‬‬
‫يهيج عليه المل من قومه؛ ليكونوا أعداء له يقفون في َ‬
‫ن يقول الفرعون الله { َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ } [الشعراء‪ ]35 :‬فهذه هي اللوهية الكاذبة التي‬
‫وعجيب أ ْ‬
‫انحدرتْ إلى مرتبة العبيد‪ ،‬ومتى يأخذ الله رأي عبيده‪ ،‬ويطلب منهم المعونة والمشورة؟ ولو كان‬
‫إلها بحق لكان عنده الحل ولديه الردّ‪.‬‬
‫فلما نزل فرعون من منزلة اللوهية‪ ،‬وطلب الستعانة بالمل من قومه التفتوا إلى كذبه‪ ،‬ووجدوا‬
‫الفرصة مواتية للخلص منه‪ ،‬ومما يدل على أن أكثرهم وجمهرتهم كانوا يجارونه على مضض‪،‬‬
‫ج ْه وَأَخَاهُ }‬
‫وينتظرون لحظة الخلص من َقهْره وكذبه؛ لذلك قالوا‪ { :‬قَالُواْ أَرْ ِ‬

‫(‪)2938 /‬‬

‫ج ْه وَأَخَا ُه وَا ْب َعثْ فِي ا ْل َمدَائِنِ حَاشِرِينَ (‪)36‬‬


‫قَالُوا أَرْ ِ‬

‫{ أَ ْرجِهْ } [الشعراء‪ ]36 :‬من الرجاء وهو التأخير‪ ،‬أي‪ :‬أخّره وأخاه لمدة { وَا ْب َعثْ فِي ا ْلمَدَآئِنِ‬
‫حَاشِرِينَ } [الشعراء‪ ]36 :‬ابعث رسلك يجمعون السّحارين من أنحاء البلد‪ ،‬ليقابلوا بسحرهم‬
‫موسى وهارون‪ .‬والمدائن‪ :‬جمع مدينة‪.‬‬

‫(‪)2939 /‬‬

‫سحّارٍ عَلِيمٍ (‪)37‬‬


‫يَأْتُوكَ ِب ُكلّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سحّارٍ } [الشعراء‪ ]37 :‬بصيغة المبالغة { عَلِيمٍ } [الشعراء‪ ]37 :‬أي‪ :‬بفنون السّحْر وأل‬
‫وقال { َ‬
‫عيب السّحَرة‪.‬‬

‫(‪)2940 /‬‬

‫جمِعَ السّحَ َرةُ ِلمِيقَاتِ َيوْمٍ َمعْلُومٍ (‪)38‬‬


‫فَ ُ‬

‫الميقات‪ :‬أي الوقت المعلوم‪ ،‬وفي آية أخرى‪ {:‬قَالَ َموْعِ ُدكُمْ َيوْمُ الزّي َنةِ }[طه‪ ]59 :‬وكان يوما‬
‫مشهودا عندهم‪ ،‬ترتدي في الفتيات أبهى حُلَلها‪،‬وكان يوم عيد يختارون فيه عروس النيل التي‬
‫سيُلْقونها فيه‪ ،‬فحدد اليوم‪ ،‬ثم لم يترك اليوم على إطلقه‪ ،‬إنما حدد من اليوم وقت الضحى{ وَأَن‬
‫س ضُحًى }[طه‪.]59 :‬‬
‫حشَرَ النّا ُ‬
‫يُ ْ‬
‫سوًى }[طه‪ ]58 :‬يعني‪ :‬فيه سوائية‪ ،‬إما باستواء‬
‫وفي لقطة أخرى حدد المكان‪ ،‬فقال‪َ {:‬مكَانا ُ‬
‫المكان حتى يتمكّن الجميع من رؤية هذه المباراة السحرية‪ ،‬بحيث تكون في ساحة مستوية‬
‫الرض‪ ،‬أو يكون مكانا سواسية متوسطا بين المدائن التي سيجمع منها السحرة‪ ،‬بحيث ل يكون‬
‫متطرفا‪ ،‬يشقّ على بعضهم حضوره‪.‬‬
‫وهكذا تتكاتف اللقطات المختلفة لترسم الصورة الكاملة للقصة‪.‬‬
‫ونرى في هذه المشورة حِ ْرصَ المل على إتمام هذا اللقاء‪ ،‬وأن يكون على رؤوس الشهاد‪ ،‬لنهم‬
‫يعلمون أنها ستكون لصالح موسى‪ ،‬وسوف يفضح هذا اللقاءُ كذبَ فرعون في ادعائه اللوهية‪.‬‬

‫(‪)2941 /‬‬

‫َوقِيلَ لِلنّاسِ َهلْ أَنْتُمْ ُمجْ َت ِمعُونَ (‪َ )39‬لعَلّنَا نَتّ ِبعُ السّحَ َرةَ إِنْ كَانُوا ُهمُ ا ْلغَالِبِينَ (‪)40‬‬

‫أي‪ :‬أخذوا يدعُون الناس‪ ،‬وكأنهم في حملة دعاية وتأييد‪ ،‬إما لموسى من أنصاره الكارهين‬
‫لفرعون في الخفاء‪ ،‬وإما لفرعون‪ ،‬فكان هؤلء وهؤلء حريصين على حضور هذه المباراة‪.‬‬
‫إننا نشاهد الجمع الغفير من الجماهير يتجمع لمشاهدة مباراة في كرة القدم مثلً‪ ،‬فما بالك بمباراة‬
‫بين سحرة مَنْ يدّعي اللوهية وموسى الذي جاء برسالة جديدة يقول‪ :‬إن له إلها غير هذا الله؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنه حَ َدثٌ هَزّ الدنيا كلها‪ ،‬وجذب الجميع لمشاهدته‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََلمّا جَآءَ السّحَ َرةُ }‬

‫(‪)2942 /‬‬

‫فََلمّا جَاءَ السّحَ َرةُ قَالُوا ِلفِرْعَوْنَ أَئِنّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنّا نَحْنُ ا ْلغَالِبِينَ (‪)41‬‬

‫طعِم ول ُيطْعم‪ ،‬ويجير ول يُجَار عليه‪،‬‬


‫فانظر إلى مسيرة الله فرعون في رعيته‪ ،‬فالله الحق يُ ْ‬
‫الله الحق يُعطي ول يأخذ‪ ،‬ولما اجتمع السحرة وهم أبطال هذه المباراة‪ ،‬ويعلمون مدى حاجة‬
‫فرعون إليهم في هذا الموقف؛ لذلك بادروا بالتفاق معه والشتراط عليه‪ :‬إنْ كنت تُسخّر الناس‬
‫في خدتمك دون أجر‪ ،‬فهذه المسألة تختلف‪ ،‬ولن تمر هكذا دون أجر‪.‬‬
‫ن كانوا هم‬
‫وهذا دليل على معرفتهم بفرعون‪ ،‬وأنه رجل (َأكَلْتى)‪ ،‬لذلك اشترطوا عليه أجرا إ ْ‬
‫الغالبين‪ ،‬ول ندري فربما جاء آخر يهدد هذه اللوهية‪ ،‬فنحن ندخركم لمثل هذا الموقف‪.‬‬

‫(‪)2943 /‬‬

‫قَالَ َن َع ْم وَإِ ّنكُمْ ِإذًا َلمِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ (‪)42‬‬

‫هنا يتنازل فرعون عن تعاليه وكبريائه ويذعن لشروط سَحرته‪ ،‬بل ويزيدهم فوق ما طلبوا‬
‫{ وَإِ ّنكُمْ إِذا ّلمِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ } [الشعراء‪ ]42 :‬فسوف تكونون من خاصتنا‪ ،‬نستعين بكم في مثل هذه‬
‫المور‪ ،‬ول نستغني عنكم؛ لنكم الذين حافظتم على باطل ألوهيتنا‪.‬‬

‫(‪)2944 /‬‬

‫قَالَ َلهُمْ مُوسَى أَ ْلقُوا مَا أَنْ ُتمْ مُ ْلقُونَ (‪)43‬‬

‫هنا كلم محذوف‪ ،‬نعرفه من سياق القصة؛ لن الية السابقة كان الكلم ما يزال بين فرعون‬
‫والسحرة‪ ،‬والقرآن يحذف بعض الحداث اعتمادا على فِطْنة السامع أو القارىء‪ ،‬كما قلنا في قصة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الهدهد مع سيدنا سليمان‪ ،‬حيث قال له‪ {:‬اذْهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا فَأَ ْلقِهْ ِإلَ ْيهِمْ ثُمّ َتوَلّ عَ ْنهُمْ فَا ْنظُرْ مَاذَا‬
‫جعُونَ }[النمل‪.]28 :‬‬
‫يَرْ ِ‬
‫ثم قال بعدها‪ {:‬قَاَلتْ ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ إِنّي أُ ْل ِقيَ إَِليّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }[النمل‪ ]29 :‬وحذف ما بين هذين‬
‫الحدثيْن مما نعلمه نحن من السياق‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬أَ ْلقُواْ مَآ أَنتُمْ مّ ْلقُونَ } [الشعراء‪ ]43 :‬هذه هي الغاية التي انتهى إليها بعد المحاورة مع‬
‫السحرة‪.‬‬

‫(‪)2945 /‬‬

‫عوْنَ إِنّا لَنَحْنُ ا ْلغَالِبُونَ (‪)44‬‬


‫عصِ ّيهُ ْم َوقَالُوا ِبعِ ّزةِ فِرْ َ‬
‫فَأَ ْلقَوْا حِبَاَلهُ ْم وَ ِ‬

‫فكانت العصىّ والحبال هي آلت سحرهم { َوقَالُواْ ِبعِ ّزةِ فِرْعَونَ إِنّا لَنَحْنُ ا ْلغَالِبُونَ } [الشعراء‪:‬‬
‫‪ ]44‬بعزة فرعون‪ :‬هذا قسمهم‪ ،‬وما أخيبه من قسم؛ لن فرعون ل يُغلَب ول يُقهر في نظرهم‪،‬‬
‫وسبق أن أوضحنا أن العزة تعني عدم القهر وعدم الغلبة‪ ،‬لكن عزة فرعون عزة كاذبة وأنفة‬
‫وكبرياء بل رصيد من حق‪ ،‬وعزة بالثم كالتي قال ال عنها‪ {:‬وَإِذَا قِيلَ َلهُ اتّقِ اللّهَ َأخَذَ ْتهُ ا ْلعِ ّزةُ‬
‫بِالِثْمِ }[البقرة‪.]206 :‬‬
‫شقَاقٍ }[ص‪1 :‬ـ ‪ ]2‬أي‪ :‬عزة‬
‫وقال تعالى‪ {:‬ص وَا ْلقُرْآنِ ذِي ال ّذكْرِ * َبلِ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي عِ ّز ٍة وَ ِ‬
‫بإثم‪ ،‬وعزة بباطل‪.‬‬
‫ن الَعَزّ مِ ْنهَا الَ َذلّ }‬
‫جعْنَآ ِإلَى ا ْل َمدِينَةِ لَ ُيخْرِجَ ّ‬
‫ومنه أيضا قوله تعالى عن المنافقين‪ {:‬لَئِن رّ َ‬
‫[المنافقون‪ ]8 :‬فصدّق القرآن على قولهم بأن العزّ سيُخرج الذلّ‪ ،‬لكن{ وَلِلّهِ ا ْلعِ ّز ُة وَلِرَسُولِهِ‬
‫وَلِ ْل ُمؤْمِنِينَ }[المنافقون‪.]8 :‬‬
‫وما دام المر كذلك فأنتم الذّلة‪ ،‬وأنتم الخارجون‪ ،‬وقد كان‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إن أدوات سحرهم وهي العصيّ والحبال كانت مُجوفة وقد ملئوها بالزئبق‪ ،‬فلما ألقوها في‬
‫ضوء الشمس وحرارتها أخذتْ تتلعب‪ ،‬كأنها تتحرك‪ ،‬وهذا من حيل السّحَرة وألعيبهم التي‬
‫تُخيّل للعين وهي غير حقيقية‪ ،‬فحقيقة الشيء ثابتة‪ ،‬أمّا المسحور فيخيل إليه أنها تتحرك‪.‬‬
‫عصَاهُ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَأَ ْلقَىا مُوسَىا َ‬

‫(‪)2946 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عصَاهُ فَِإذَا ِهيَ تَ ْل َقفُ مَا يَ ْأ ِفكُونَ (‪)45‬‬
‫فَأَ ْلقَى مُوسَى َ‬

‫ولم يَأْت إلقاء موسى عليه السلم لعصاه مباشرة بعد أن ألقى السحرة‪ ،‬إنما هنا أحداث ُذكِرتْ في‬
‫عصِيّهُمْ يُخَ ّيلُ إِلَيْهِ مِن سِحْ ِرهِمْ‬
‫آيات أخرى‪ ،‬وفي لقطات أخرى للقصة‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬فَإِذَا حِبَاُل ُه ْم وَ ِ‬
‫سعَىا }[طه‪.]66 :‬‬
‫أَ ّنهَا تَ ْ‬
‫خفْ إِ ّنكَ أَنتَ الَعْلَىا * وَأَ ْلقِ مَا فِي َيمِي ِنكَ تَ ْل َقفْ مَا‬
‫سهِ خِيفَةً مّوسَىا * قُلْنَا لَ َت َ‬
‫جسَ فِي َنفْ ِ‬
‫{ فََأوْ َ‬
‫صَ َنعُواْ إِ ّنمَا صَ َنعُواْ }[طه‪67 :‬ـ ‪.]69‬‬
‫هكذا كانت الصورة‪ ،‬فلما خاف موسى ثبّته ربه‪ ،‬وأيّده بالحق وبالحجة‪ ،‬وتابعه فيما يفعل لحظةً‬
‫بلحظة؛ ليوجهه وليُعدّل سلوكه‪ ،‬ويشدّ على قلبه‪ ،‬وما كان الحق ـ تبارك وتعالى ـ ليرسله ثم‬
‫سمَعُ‬
‫يتخلى عنه‪ ،‬وقد قال له ربه قبل ذلك‪ {:‬وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه‪ ]39 :‬وقال‪ {:‬إِنّنِي َم َع ُكمَآ أَ ْ‬
‫وَأَرَىا }[طه‪ ]46 :‬فالحق سبحانه يعطي نبيه موسى الوامر‪ ،‬ويعطيه الحجة لتنفيذها‪ ،‬ثم يتابعه‬
‫بعنايته ورعايته‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى لنبيه نوح‪ {:‬وَاصْنَعِ ا ْلفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا }[هود‪.]37 :‬‬
‫فحينما تجمع هذه اللقطات تجدها تستوعب الحدث‪ ،‬ويُكمّل بعضها بعضا‪ ،‬وهذا يظنه البعض‬
‫تكرارا‪ ،‬وليس هو كذلك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬جاء إلقاء موسى لعصاه بعد توجيه جديد من ال أثناء المعركة‪ {:‬وَأَلْقِ مَا فِي َيمِي ِنكَ }[طه‪:‬‬
‫عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ َت ْلقَفُ مَا يَ ْأ ِفكُونَ } [الشعراء‪ ]45 :‬ومعنى { تَ ْل َقفُ }‬
‫‪ ]69‬وهنا‪ { :‬فَأَ ْلقَىا مُوسَىا َ‬
‫[الشعراء‪ ]45 :‬تبتلع وتلتهم في سرعة وقوة‪ ،‬أما السرعة واختصار الزمن والقوة‪ ،‬فتدل على‬
‫الخذ بشدة وعُنْف‪ ،‬وفي هذا دليل على أنه خاض المعركة بقوة‪ ،‬فلم تضعف قوته لما رأى من‬
‫ألعيب السّحَرة‪.‬‬
‫س ّموْا الكذب إفْكا؛ لنه‬
‫ومعنى { مَا يَ ْأ ِفكُونَ } [الشعراء‪ ]45 :‬من الفك يعني‪ :‬قلْب الحقائق؛ لذلك َ‬
‫يقلب الحقيقة ويُغير الواقع‪.‬‬
‫ومنها{ وَا ْلمُؤْ َت ِفكَةَ أَ ْهوَىا }[النجم‪ ]53 :‬وهي القرى الظالمة التي أهلكها ال‪ ،‬فجعل عاليها سافلها‪.‬‬
‫سبٌ ثلث‪ :‬نسبة في‬
‫وسبق أن أوضحنا أن الكذب وقَلْب الحقائق يأتي من أنك حين تتكلم‪ ،‬فللكلم نِ َ‬
‫الذّهْن‪ ،‬ونسبة على اللسان‪ ،‬ونسبة في الواقع‪ .‬فإنْ طابقتْ النسبةُ الكلمية الواقع‪ ،‬فأنت صادق‪،‬‬
‫وإنْ خالفتْه فأنت كاذب‪.‬‬
‫سمّى ما يفعله السحرة إفكا؛ لنهم يُغيّرون الحقيقة‪ ،‬ويُخيّلون للناس غيرها‪.‬‬
‫وَ‬

‫(‪)2947 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فَأُ ْلقِيَ السّحَ َرةُ سَاجِدِينَ (‪)46‬‬

‫جدِينَ } [الشعراء‪ ]46 :‬واللقاء يدل‬


‫لم يقُل الحق سبحانه‪ :‬فسجد السحرة‪ ،‬إنما { فَأُ ْل ِقيَ السّحَ َرةُ سَا ِ‬
‫على سرعة الستجابة‪ ،‬وأن السجود َتمّ منهم دون تفكير؛ لنه أمر فوق إرادتهم‪ ،‬وكأن جلل‬
‫الموقف وهيبته وروعة ما رَأوْا ألقاهم على الرض ساجدين ل‪ ،‬صاحب هذه الية الباهرة؛ لذلك‬
‫لم يقولوا عندها آمنّا بربّ موسى وهارون‪ ،‬إنما قالوا‪ { :‬قَالُواْ ءَامَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬

‫(‪)2948 /‬‬

‫قَالُوا َآمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪َ )47‬ربّ مُوسَى وَهَارُونَ (‪)48‬‬

‫وحين نتأمل ردّ ِفعْل السحرة هنا نجد أنهم خرّوا ل ساجدين أولً‪ ،‬ثم أعلنوا إيمانهم ثانيا‪ ،‬ومعلوم‬
‫أن اليمان يسبق العمل‪ ،‬وأن السجود ل يتأتي إل بعد إيمان‪ ،‬فكيف ذلك؟‬
‫قالوا‪ :‬هناك فَرْق بين وقوع اليمان‪ ،‬وبين أنْ تخبر أنت عن اليمان‪ ،‬فالمتأخر منهم ليس اليمان‬
‫بل الخبار به؛ لنهم ما سجدوا إل عن إيمان واثق ينجلي معه كل شكّ‪ ،‬إيمان خطف ألبابهم‬
‫وألقاهم على الرض ساجدين ل‪ ،‬حتى لم يمهلهم إلى أنْ يعلنوا عنه‪ ،‬لقد أعادهم إلى الفطرة‬
‫اليمانية في النفس البشرية‪ ،‬والمسائل الفطرية ل علجَ للفكر فيها‪.‬‬
‫وكأن سائلً سألهم‪ :‬لِمَ تسجدون؟ قالوا‪ { :‬آمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * َربّ مُوسَىا وَهَارُونَ } [الشعراء‪:‬‬
‫‪47‬ـ ‪.]48‬‬
‫وقالوا‪ :‬ربّ موسى وهارون بعد رب العالمين‪ ،‬ليقطعوا الطريق على فرعون وأتباعه أن يقول‬
‫مثلً‪ :‬أنا رب العالمين‪ ،‬فأزالوا هذا اللبْس بقولهم { َربّ مُوسَىا وَهَارُونَ } [الشعراء‪.]48 :‬‬
‫ومثال ذلك قول بلقيس عندما رأت عرشها عند سليمان ـ عليه السلم ـ لم تقل‪ :‬أسلمت لسليمان‪،‬‬
‫إنما قالت‪ {:‬وَأَسَْل ْمتُ مَعَ سُلَ ْيمَانَ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[النمل‪ ]44 :‬فأنا وأنت مسلمان لله واحد هو‬
‫ال رب العالمين‪ ،‬وهكذا يكون إسلم الملوك‪ ،‬وحتى ل يظن أحد أنها إنما خضعتْ لسليمان؛ لذلك‬
‫احتاطتْ في لفظها لتزيل هذا الشك‪.‬‬

‫(‪)2949 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طعَنّ أَ ْيدِ َيكُمْ‬
‫سوْفَ َتعَْلمُونَ لَُأقَ ّ‬
‫قَالَ َآمَنْتُمْ َلهُ قَ ْبلَ أَنْ َآذَنَ َلكُمْ إِنّهُ َلكَبِي ُركُمُ الّذِي عَّل َمكُمُ السّحْرَ فََل َ‬
‫ج َمعِينَ (‪)49‬‬
‫ف وَلَُأصَلّبَ ّنكُمْ أَ ْ‬
‫وَأَرْجَُلكُمْ مِنْ خِلَا ٍ‬

‫شكّك في ذلك‪ ،‬لكن المسألة كلها‬


‫إذن‪ :‬فهو ل يشك في أن ما رآه السحرة موجب لليمان‪ ،‬ول يُ َ‬
‫{ قَ ْبلَ أَنْ آذَنَ َل ُكمْ } [الشعراء‪ ]49 :‬فما يزال حريصا على ألوهيته وجبروته‪ ،‬حتى بعد أن ُكشِف‬
‫أمره وظهر كذبه‪ ،‬وآمن المل بالله الحق‪.‬‬
‫ثم أراد أنْ يبرر موقفه بين دهماء العامة حتى ل يقول أحد‪ :‬إنه هزم وضاعت هيبته‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّهُ‬
‫َلكَبِي ُركُمُ الّذِي عَّل َمكُمُ السّحْرَ } [الشعراء‪ ]49 :‬في حين أن القوم يعلمون أن موسى عليه السلم لم‬
‫يجلس طيلة عمره إلى ساحر‪ ،‬لكن فرعون يأخذها ذريعة‪ ،‬لينقذ ما يمكن إنقاذه من مركزه الذي‬
‫تهدّم‪ ،‬وألوهيته التي ضاعت‪.‬‬
‫ثم يُهدّدهم بأسلوب ينمّ عن اضطرابه‪ ،‬وأنه فقد توازنه‪ ،‬اختلّ حتى في تعبيره‪ ،‬حيث يقول‬
‫سوْفَ َتعَْلمُونَ } [الشعراء‪ ]49 :‬وسوف تدل على المستقبل مع أنه لم يُؤخّر تهديده لهم بدليل‬
‫{ فََل َ‬
‫ج َمعِينَ } [الشعراء‪ { ]49 :‬مّنْ‬
‫لصَلّبَنّكُمْ أَ ْ‬
‫ف َو ُ‬
‫ل ٍ‬
‫طعَنّ أَ ْيدِ َيكُ ْم وَأَرْجَُل ُكمْ مّنْ خِ َ‬
‫لقَ ّ‬
‫أنه قال بعدها‪ُ { :‬‬
‫لفٍ } [الشعراء‪ ]49 :‬يعني‪ :‬اليد اليمنى مع الرّجْل اليُسْرى‪ ،‬أو اليد اليسرى مع الرّجْل اليمنى‪.‬‬
‫خِ َ‬
‫خلِ }[طه‪:‬‬
‫جذُوعِ النّ ْ‬
‫لصَلّبَ ّنكُمْ فِي ُ‬
‫لصَلّبَنّكُمْ } [الشعراء‪ ]49 :‬أوضحه في آية أخرى‪ {:‬وَ ُ‬
‫وقوله‪َ { :‬و ُ‬
‫‪.]71‬‬
‫فما كان جواب المؤمنين برب العالمين؟ { قَالُو ْا لَ ضَيْرَ }‬

‫(‪)2950 /‬‬

‫قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنّا إِلَى رَبّنَا مُ ْنقَلِبُونَ (‪)50‬‬

‫أي‪ :‬ل ضررَ علينا إنْ قتلتنا؛ لن مصير الجميع إلى الموت‪ ،‬لكن إنْ كانت نهايتنا على يديك‬
‫فوسف نسعد نحن بلقاء ربنا‪ ،‬وتَشْقى أنت بجزاء ربك‪ .‬كالطاغية الذي قال لعدوه‪ :‬لقتلنك فضحك‪،‬‬
‫فقال له‪ :‬أتسخر مني وتضحك؟ قال‪ :‬كيف ل أضحك من أمر تفعله بي يُسعدني ال به‪ ،‬وتشقى به‬
‫أنت؟‬
‫إذن‪ :‬ل ضررَ علينا إنْ قُتِلْنا؛ لننا سنرجع إلى ال ربنا‪ ،‬وسنخرج من ألوهية باطلة إلى لقاء‬
‫اللوهية الحقة‪ ،‬فكأنك فعلتَ فينا جميلً‪ ،‬وأسديتَ لنا معروفا إذْ أسرعتَ بنا إلى هذا اللقاء‪ ،‬وما‬
‫ستُ أُبَالِي حِينَ ُأقْ َتلُ‬
‫تظنه في حقنا شَرّ هو عين الخير‪ ،‬لذلك َفهِم الشاعر هذا المعنى‪ ،‬فقال عنه‪:‬وَلَ ْ‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن في الِ َمصْرعييعني‪ :‬ما ُد ْمتُ قد ُمتّ في سبيل السلم‪ ،‬فل يُهم بعد‬
‫مُسْلِما عَلى َأيّ جَ ْنبٍ كا َ‬
‫ذلك‪ ،‬ول أبالي أيّ موتة هي‪.‬‬
‫والمؤمنون هنا حريصون على أمرين‪ :‬الول‪َ :‬نفْي الضرر؛ لن دَرْء المفسدة مُقدّم على جَلْب‬
‫المصحلة‪ ،‬والثاني‪ :‬التأكيد على النفع الذي سينالونه من هذا القتل‪.‬‬
‫طمَعُ أَن َي ْغفِرَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِنّا نَ ْ‬

‫(‪)2951 /‬‬

‫خطَايَانَا أَنْ كُنّا َأ ّولَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)51‬‬


‫ط َمعُ أَنْ َي ْغفِرَ لَنَا رَبّنَا َ‬
‫إِنّا نَ ْ‬

‫لنك أكرهتنا على السحر‪ ،‬وحملْتنا على الكذب‪ ،‬ومكثنا عمرا نعتقد أنك إله‪ ،‬فلعلّ مبادرتنا إلى‬
‫اليمان وكوْننا أولَ المؤمنين يشفع لنا عند ربنا‪ ،‬فيغفر لنا خطايانا‪ ،‬وفي موضع آخر‪ {:‬إِنّآ آمَنّا‬
‫خطَايَانَا َومَآ َأكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ }[طه‪.]73 :‬‬
‫بِرَبّنَا لِ َي ْغفِرَ لَنَا َ‬
‫فذكر هناك مسألة الكراه‪ ،‬وذكر هنا العلة‪ { :‬أَن كُنّآ َأوّلَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [الشعراء‪.]51 :‬‬

‫(‪)2952 /‬‬

‫وََأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ ِبعِبَادِي إِ ّن ُكمْ مُتّ َبعُونَ (‪)52‬‬

‫قلنا‪ :‬الوحي لغةَ‪ :‬إعلم بخفاء‪ ،‬وشرعا‪ :‬إعلم من ال لرسول من رسله بمنهج خير لخَلْقه‪.‬‬
‫خذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا }[النحل‪:‬‬
‫حلِ أَنِ اتّ ِ‬
‫ومن الوحي المطلق قوله تعالى‪ {:‬وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ‬
‫‪.]68‬‬
‫وقوله سبحانه‪ {:‬وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ ِإلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ }[النعام‪.]121 :‬‬
‫ضعِيهِ }[القصص‪.]7 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ‬
‫فالوحي العام إذن ل نسأل عن الموحِي‪ ،‬أو الموحَى إليه‪ ،‬أو موضوع الوحي‪ ،‬فقد يكون الوحي‬
‫من الشيطان‪ ،‬والموحَى إليه قد يكون الرض أو الملئكة أو الحيوان‪ ،‬على خلف الوحي‬
‫الشرعي‪ ،‬فهو محدد ومعلوم‪.‬‬
‫لقد قام فرعون بحملة دعاية لهذه المعركة مع موسى ـ عليه السلم ـ وحشد الناس لمشاهدة هذه‬
‫المباراة‪ ،‬وهذا دليل على أنه قدّر أنه سيغَلِب‪ ،‬لكن خيّب ال ظنه‪ ،‬وكانت الجولة لمصلحة موسى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليه السلم‪ ،‬فآمن السحرة بال تعالى رب موسى وهارون‪ ،‬فأخذ يهددهم ويتوعدهم‪ ،‬وهو يعلم أنّ‬
‫ما رأوْه من اليات الباهرات يستوجب اليمان‪.‬‬
‫ومع ذلك لما غُلِب فرعون وضاعتْ هيبته وجباريته وقاهريته سكت جمهور الناس‪ ،‬فلم ينادوا‬
‫بسقوطه‪ ،‬واكتفوا بسماع أخبار موسى‪ ،‬وظل هذا الوضع لمدة طويلة من الزمن حدث فيها اليات‬
‫التسع التي أنزلها ال ببني إسرائيل‪.‬‬
‫ومن غباء فرعون أن ينصرف عن موسى بعد أن أصبح له أتباع وأنصار‪ ،‬ولم يحاول التخلص‬
‫منه حتى ل يزداد أتباعه وتقوى شوكته‪ ،‬فكأن مسألة اليات التسع التي أرسلها ال عليهم قد هَ ّدتْ‬
‫كيانه وشغلته عن التفكير في آمر موسى عليه السلم‪.‬‬
‫وهكذا استشرى أمر موسى وأصبحت له إغلبية وشعبية‪ ،‬حتى إن القباط أتباع فرعون كانوا‬
‫يعطفون على أمر موسى وقومه؛ لذلك استعاروا من القبط حُليّ النساء قبل الخروج مع موسى‪،‬‬
‫ومن هذه الحلي صنع السامري العجل الذي عبدوه فيما بعد‪.‬‬
‫وهنا يقول تعالى‪ { :‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا أَنْ َأسْرِ ِبعِبَادِي إِ ّنكُم مّتّ ِبعُونَ } [الشعراء‪ ]52 :‬وقبل ذلك‬
‫سعَىا قَالَ يامُوسَىا إِنّ‬
‫جلٌ مّنْ َأ ْقصَى ا ْلمَدِي َنةِ يَ ْ‬
‫نبّهه ربه للخروج بعد أن قتل الرجل‪ {:‬وَجَآءَ رَ ُ‬
‫صحِينَ }[القصص‪.]20 :‬‬
‫ا ْلمَلَ يَأْ َتمِرُونَ ِبكَ لِ َيقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي َلكَ مِنَ النّا ِ‬
‫أما الن‪ ،‬فالمؤامرة عليه وعلى مَنْ معه من المؤمنين‪.‬‬
‫ومعنى { َأسْرِ } [الشعراء‪ ]52 :‬السراء‪ :‬المشي ليلً { إِ ّنكُم مّتّ ِبعُونَ } [الشعراء‪ ]52 :‬يعني‪:‬‬
‫سيتبعكم جنود فرعون ويسيرون خلفكم‪.‬‬
‫سلَ فِرْعَونُ فِي ا ْلمَدَآئِنِ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَأَ ْر َ‬

‫(‪)2953 /‬‬

‫عوْنُ فِي ا ْل َمدَائِنِ حَاشِرِينَ (‪ )53‬إِنّ َهؤُلَاءِ لَشِرْ ِذ َمةٌ قَلِيلُونَ (‪ )54‬وَإِ ّنهُمْ لَنَا َلغَا ِئظُونَ (‪)55‬‬
‫سلَ فِرْ َ‬
‫فَأَرْ َ‬

‫الفاء هنا للتعقيب‪ ،‬فوَحْى ال لموسى أن َيسْري ببني إسرائيل تَمّ قبل أن يبعثَ فرعون في المدائن‬
‫حاشرين‪ ،‬وكأن ال تعالى يحتاط لنبيه موسى ليخرج قبل أن يهيج فرعونُ الناسَ‪ ،‬ويجمعهم ضد‬
‫موسى ويُجري لهم ما نسميه نحن الن (غسيل مخ)‪ ،‬أو يعلن على موسى وقومه حرب العصاب‬
‫التي تؤثر على خروجهم‪.‬‬
‫و { حَاشِرِينَ } [الشعراء‪ ]53 :‬من الحشر أي‪ :‬الجمع‪ ،‬لكن جمع هذه المرة للجنود ل للسحرة‪،‬‬
‫لنهم هُزِموا في مُباراة السحرة‪ ،‬فأرادوا أنْ يستخدموا سلحا آخر هو سلح الجبروت والتسلّط‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحرب العسكرية‪ ،‬فإنْ فشلت الولى فلعلّ الخرى تفلح‪ ،‬لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ أخبر‬
‫نبيه موسى بما يُدبّر له وأمره بالخروج ببني إسرائيل‪.‬‬
‫وقَوْل فرعون عن أتباع موسى‪ { :‬إِنّ هَـاؤُلءِ لَشِ ْر ِذمَةٌ قَلِيلُونَ } [الشعراء‪ ]54 :‬يريد أن يُهوّن‬
‫من شأنهم ويُغري قومه بهم‪ ،‬ويُشجّعهم على مواجهتهم‪ ،‬لكن مع ذلك يُحذّرهم من خطرهم‪ ،‬فيقول‬
‫{ وَإِ ّنهُمْ لَنَا َلغَآئِظُونَ } [الشعراء‪ ]55 :‬فأَعِدّوا لهم العدة‪ ،‬ول تستهينوا بأمرهم‪.‬‬

‫(‪)2954 /‬‬

‫جمِيعٌ حَاذِرُونَ (‪)56‬‬


‫وَإِنّا لَ َ‬

‫يعني‪ :‬ل بُدّ أن نأخذ حذرنا ونحتاط للمر‪.‬‬


‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََأخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنّاتٍ }‬

‫(‪)2955 /‬‬

‫ت وَعُيُونٍ (‪َ )57‬وكُنُوزٍ َومَقَامٍ كَرِيمٍ (‪)58‬‬


‫فَأَخْ َرجْنَاهُمْ مِنْ جَنّا ٍ‬

‫أي‪ :‬لم ينفعه احتياطه‪ ،‬ولم ُيجْدِ حذره‪ ،‬فل يمنع حَذَر من َقدَر { فََأخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنّاتٍ } [الشعراء‪:‬‬
‫‪ ]57‬أي‪ :‬بساتين وحدائق { وَعُيُونٍ } [الشعراء‪ ]57 :‬أي‪ :‬عيون تجري بالماء { َوكُنُوزٍ }‬
‫سعَةٍ ورَغَدٍ‬
‫[الشعراء‪ ]58 :‬كانت عندهم { َومَقَامٍ كَرِيمٍ } [الشعراء‪ ]58 :‬يعني‪ :‬عيشة مُتْرفة في َ‬
‫من الحياة‪ ،‬وخدَم وحَشَم‪.‬‬
‫ك وََأوْرَثْنَاهَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬كذَِل َ‬

‫(‪)2956 /‬‬

‫ك وََأوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (‪)59‬‬


‫كَذَِل َ‬

‫{ َكذَِلكَ } [الشعراء‪ ]59 :‬أي‪ :‬المر كما أقول لكم وكما وصفتُ { وََأوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[الشعراء‪ ]59 :‬أي‪ :‬أورثنا هذا النعيم من بعدهم لبني إسرائيل‪ ،‬وهنا قد يسأل سائل‪ :‬كيف وقد‬
‫ترك بنو إسرائيل مصر وخرجوا منها‪ ،‬ولم يأخذوا شيئا من هذا النعيم؟‬
‫قالوا‪ :‬المعنى أورثهم ال أرضا مثلها‪ ،‬قد وعدهم بها في الشام‪.‬‬

‫(‪)2957 /‬‬

‫فَأَتْ َبعُوهُمْ مُشْ ِرقِينَ (‪)60‬‬

‫أي‪ :‬عند الشروق‪ ،‬وعادةً ما تكون الغارة على الجيش عند الصباح‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫{ فَِإذَا نَ َزلَ بِسَاحَ ِتهِمْ فَسَآ َء صَبَاحُ ا ْلمُنْذَرِينَ }[الصافات‪.]177 :‬‬
‫وعاد ًة ما يقوم النسان من النوم كسولً غير نشيط‪ ،‬فكيف بمَنْ هذه حاله إِن التقى بعدوه؟‬
‫ج ْمعَانِ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََلمّا تَرَاءَا ا ْل َ‬

‫(‪)2958 /‬‬

‫صحَابُ مُوسَى إِنّا َل ُمدْ َركُونَ (‪)61‬‬


‫ج ْمعَانِ قَالَ َأ ْ‬
‫فََلمّا تَرَاءَى ا ْل َ‬

‫ج ْمعَانِ } [الشعراء‪ ]61 :‬أي‪ :‬صار كل منهما يرى الخر‪ ،‬وحدثتْ بينهما‬
‫معنى‪ { :‬تَرَاءَا ا ْل َ‬
‫المواجهة‪ ،‬وعندها { قَالَ َأصْحَابُ مُوسَىا إِنّا َل ُمدْ َركُونَ } [الشعراء‪ ]61 :‬فالحال أن البحر من‬
‫ص ول مهرب‪ ،‬لكن موسى ـ عليه السلم ـ وقد سبق‬
‫أمامهم وجنود فرعون من خلفهم‪ ،‬فل منا َ‬
‫أن تعلم كلمة (كل) من ربه تعالى‪ ،‬حينما قال‪ {:‬وََلهُمْ عََليّ ذَنبٌ فََأخَافُ أَن َيقْتُلُونِ }[الشعراء‪]14 :‬‬
‫فردّ عليه ربه‪ {:‬كَلّ }[الشعراء‪ ]62 :‬عندها تعلّمها موسى‪ ،‬وعرف كيف ومتى يقوله َقوْلةَ الواثق‬
‫بها‪.‬‬

‫(‪)2959 /‬‬

‫قَالَ كَلّا إِنّ َم ِعيَ رَبّي سَ َي ْهدِينِ (‪)62‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكن كيف يقول موسى عليه السلم هذه الكلمة (كل) بملء فِيهِ‪ ،‬والمر بقانون الماديات أنه‬
‫عُرْضة لنْ يُدْرَك قبل أن يكملها؟‬
‫والجابة في بقية الية‪ { :‬إِنّ َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ } [الشعراء‪ ]62 :‬فلم ي ُقلْ موسى‪ :‬كَلّ اعتمادا على‬
‫قوته واحتياطه للمر‪ ،‬إنما قالها اعتمادا على ربه الذي يكلؤه بعينه‪ ،‬ويحرسه بعنايته‪.‬‬
‫فالواقع أنني ل أعرف ماذا أفعل‪ ،‬ول كيف أتصرف‪ ،‬لكن الشيء الذي أثق منه { إِنّ َم ِعيَ رَبّي‬
‫سَ َيهْدِينِ } [الشعراء‪ ]62 :‬لذلك يأتي الفرج والخلص من هذا المأزق مباشرة‪ { :‬فََأوْحَيْنَآ إِلَىا‬
‫مُوسَىا }‬

‫(‪)2960 /‬‬

‫طوْدِ ا ْلعَظِيمِ (‪)63‬‬


‫فََأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ الْ َبحْرَ فَا ْنفَلَقَ َفكَانَ ُكلّ فِرْقٍ كَال ّ‬

‫ذلك لن البحر هو عائقهم من أمامهم‪ ،‬والبحر مياه لها قانونها الخاص من الستطراق والسيولة‪،‬‬
‫فلما ضرب موسى بعصاه البحر انفلق وانحصر الماء على الجانبين‪ ،‬كل فِرْقٍ ـ أي‪ :‬كل جانب‬
‫ـ كالطودْ يعني الجبل العظيم‪.‬‬
‫لكن بعد أن صار الماء إلى ضِدّه وتجمّد كالجبل‪ ،‬وصنع بين الجبلين طريقا‪ ،‬أليس في قاع البحر‬
‫بعد انحسار الماء طين ورواسب وأوحال وطمي يغوص فيها النسان؟‬
‫إننا نشاهد النسان ل يكاد يستطيع أن ينقل قدما إذا سار في وحل إلى ركبتيه مثلً‪ ،‬فما بالك بوحْل‬
‫البحر؟‬
‫لذلك قال له ربه‪ {:‬لّ َتخَافُ دَرَكا َولَ َتخْشَىا }[طه‪.]77 :‬‬
‫فالذي جعل الماء جبلً‪ ،‬سيجعل لك الطريق يابسا‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يُبيّن لنا في انفلق البحر‪ ،‬إلى كَمْ فلقة انفلق‪ ،‬لكن العلماء يقولون‪:‬‬
‫إنه انفلق إلى اثنتي عشرة فلقة بعدد السباط‪ ،‬بحيث يمر كل سَبْط من طريق‪.‬‬
‫وفي لقطة أخرى من القصة أراد موسى ـ عليه السلم ـ أنْ يضرب البحر مرة أخرى ليعود‬
‫ح ّد تفكيره كبشر‪ ،‬لكن الحق ـ تبارك‬
‫إلى طبيعته‪ ،‬فيسُدّ الطريق في وجه فرعون وجنوده على َ‬
‫وتعالى ـ نهاه عن ذلك‪ {:‬فَأَسْرِ ِبعِبَادِي لَيْلً إِ ّنكُم مّتّ َبعُونَ * وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ رَهْوا إِ ّنهُمْ جُندٌ‬
‫ّمغْ َرقُونَ }[الدخان‪23 :‬ـ ‪.]24‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اتركه على حاله ليُغري الطريق اليابس فرعون وجنوده‪ ،‬لذلك قال سبحانه‪ { :‬وَأَزَْلفْنَا َثمّ‬
‫الخَرِينَ }‬

‫(‪)2961 /‬‬

‫وَأَزَْلفْنَا َثمّ الْآَخَرِينَ (‪)64‬‬

‫أي‪ :‬قرّبناهم من منتصف البحر‪ ،‬ثم أطبقه ال عليهم حين أمر الماء أن يعود إلى سيولته وقانون‬
‫استطراقه‪ ،‬وهكذا يُنجّي ال ويُهلِك بالشيء الواحد و { الخَرِينَ } [الشعراء‪ ]64 :‬يعني‪ :‬قوم‬
‫فرعون‪ ،‬و { ثَمّ } [الشعراء‪ ]64 :‬أي‪ :‬هناك وسط البحر‪.‬‬
‫وللعصا مع موسى ـ عليه السلم ـ تاريخ طويل منذ أن سأله ربه{ َومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }‬
‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي }[طه‪:‬‬
‫[طه‪ ]17 :‬فأخبر بما يعرفه عنها{ قَالَ ِهيَ َ‬
‫‪.]18‬‬
‫وقوله{ وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي }[طه‪ ]18 :‬ل تعني كما يظن البعض أنها مجرد الشارة بها إلى‬
‫ش تعني أضرب بها أوراقَ الشجر لتتساقط‪ ،‬فتأكلها الغنام الصغار التي ل‬
‫الغنم أو ضربها‪ ،‬فأه ّ‬
‫تطول أوراقَ الشجر‪ ،‬أو الكبار التي أكلتْ ما طالته أعناقها وتحتاج المزيد‪.‬‬
‫ولما وجد موسى نفسه قد أطال في هذا المقام قال{ وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَىا }[طه‪ ]18 :‬كأنْ أدافع‬
‫بها عن نفسي ليلً‪ ،‬إنْ تعرّض لي كلب أو ذئب مثلً‪ ،‬أو أغرسها في الرض وأُلقي عليها بثوبي‬
‫لستظلّ به وقت القيلولة‪ ،‬أو أجعلها على كتفي وأُعلّق عليها متاعي حين أسير‪..‬الخ‪.‬‬
‫هذه مهمة العصا كما يراها موسى ـ عليه السلم ـ لكن للعصا مهمة أخرى ل يعلمها‪ ،‬فهي‬
‫حجّته وآية من اليات التي أعطاه ال‪ ،‬فبها انتصر في معركة الحجة مع السّحَرة‪ ،‬وبها انتصر في‬
‫ُ‬
‫معركة السلح حين ضرب بها البحر فانفلق‪.‬‬
‫ومن العجيب في أمر العصا أن يضرب بها البحر‪ ،‬فيصر جبلً‪ ،‬ويضرب بها الحجر فينفجر‬
‫بالماء‪ ،‬وهذه آيات باهرات ل يقدر عليها إل ال عز وجل‪.‬‬
‫لذلك جعلوا عصا موسى حجة ودليلً وعَلَما على النتصار في كل شيء‪ ،‬فلما كان الخصيب واليا‬
‫على مصر‪ ،‬وتمرد عليه بعض قُطّاع الطرق‪ ،‬وكانت لديه القوة التي قهرهم بها‪ ،‬لذلك قال‪:‬فَإِنْ َيكُ‬
‫خصِيبِوفي هذا المعنى يقول شاعر آخر‪:‬إذَا جَاءَ‬
‫عصَا مُوسَى ب َكفّ َ‬
‫بَاقٍ ِإ ْفكُ فِرْعوْنَ فيكُمْ فَإنّ َ‬
‫طلَ السّحْرُ والسّاحِرُإذن‪ :‬صارتْ عصا موسى عليه السلم مثَلً وعَلَما‬
‫مُوسَى وأَ ْلقَى ال َعصَا َفقَدْ َب ُ‬
‫للغَلبة في أيّ مجال من مجالت الحياة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2962 /‬‬

‫ج َمعِينَ (‪)65‬‬
‫وَأَنْجَيْنَا مُوسَى َومَنْ َمعَهُ أَ ْ‬

‫حسِمتْ هذه المعركة لصالح موسى ومَنْ معه دون إراقة دماء‪ ،‬ودون خسارة جندي واحد‪ ،‬في‬
‫فقد ُ‬
‫حين أن المعارك على فرض النتصار فيها ل ُبدّ أن تكون لها نسبة خسائر في الرواح وفي‬
‫العَتَاد‪ ،‬أما هذه فل‪.‬‬

‫(‪)2963 /‬‬

‫ثُمّ أَغْ َرقْنَا الْآَخَرِينَ (‪)66‬‬

‫أي‪ :‬بنفس السبب الذي أنجى ال به موسى وقومَه أهلك فرعون وقومه؛ لنه وحده سبحانه القادر‬
‫على أن يُنجِي‪ ،‬وأنْ يُهلِك بالشيء الواحد‪.‬‬

‫(‪)2964 /‬‬

‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)67‬‬

‫قوله سبحانه { إِنّ فِي ذَِلكَ } [الشعراء‪ ]67 :‬أي‪ :‬فيما حدث { ليَةً } [الشعراء‪ ]67 :‬وهي المر‬
‫العجيب الذي يخرج عن المألوف وعن العادة‪ ،‬فيثير إعجاب الناس‪ ،‬ويستوجب اللتفات إليه‬
‫والنظر فيه‪ ،‬والية تُقنِع العقل بأن ال هو مُجْريها على َي َديْ موسى‪ ،‬وتدل على صِدْق رسالته‬
‫وبلغة عن ال‪ ،‬وإل فهي مسألة فوق طاقة البشر‪.‬‬
‫ومع ذلك { َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُم ّم ْؤمِنِينَ } [الشعراء‪ ]67 :‬أي‪ :‬أن المحصلة النهائية للذين آمنوا كانوا‬
‫هم القلة مع هذه اليات‪ ،‬حتى الذين آمنوا مع موسى عليه السلم واتبعوه وأنجاهم ال من آل‬
‫فرعون ومن الغرق‪ ،‬سرعان ما تراجعوا وانتكسوا‪ ،‬كما يحكي القرآن عنهم‪:‬‬
‫ج َعلْ لّنَآ‬
‫{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَ َتوْاْ عَلَىا َقوْمٍ َي ْعكُفُونَ عَلَىا َأصْنَامٍ ّلهُمْ قَالُواْ يامُوسَىا ا ْ‬
‫إِلَـاها َكمَا َلهُمْ آِلهَةٌ }[العراف‪.]138 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سبحان ال‪ ،‬لقد كفروا بال‪ ،‬وما تزال أقدامهم مُبتلّة من عبور البحر‪ ،‬وما زالوا في نَشوة النصر‬
‫وفرحة الغلبة!!‬

‫(‪)2965 /‬‬

‫وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ (‪)68‬‬

‫أي‪ :‬بعد ما مرّ من حيثيات فإن ال تعالى هو العزيز‪ ،‬أي‪ :‬الذي ل يُغلَب ول يُقهَر‪ ،‬إنماهو الغالب‬
‫وهو القاهر‪ ،‬فهو سبحانه يغلِب ول يُغلب‪ ،‬ويُطعِم ول يُطعَم‪ ،‬ويُجير ول يُجار عليه‪ .‬ومع عِزته‬
‫سبحانه وقوته بحيث يغلب ول يُغلب هو أيضا { الرّحِيمُ } الشعراء‪ ]68 :‬لنه رب الخَلْق أجمعين‪،‬‬
‫يرحمهم إنْ تابوا‪ ،‬ويقبلُهم إنْ رجعوا إلى ساحته‪ ،‬كما جاء في الحديث الشريف‪:‬‬
‫" ل أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلة‪ ،‬فانفلتت منه‪،‬‬
‫وعليها طعامه وشرابه‪ ،‬فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها‪ ،‬قد أيس من راحلته‪ ،‬فبينما هو‬
‫كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح‪ :‬اللهم أنت عبدي وأنا ربك‪ ،‬أخطأ‬
‫من شدة الفرح "‪.‬‬

‫(‪)2966 /‬‬

‫وَا ْتلُ عَلَ ْي ِهمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (‪)69‬‬

‫جاءت هذه الية بعد النتهاء في إيجاز مُبسّط لقصة موسى عليه السلم مع فرعون‪ ،‬وخُتمت بقوله‬
‫ك ليَ ًة َومَا كَانَ َأكْثَرُهُم ّمؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ }[الشعراء‪:‬‬
‫تعالى‪ {:‬إِنّ فِي ذَِل َ‬
‫‪67‬ـ ‪.]68‬‬
‫ثم تكلم الحق سبحانه عن نبيه إبراهيم عليه السلم { وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } [الشعراء‪ ]69 :‬مما‬
‫يدل على أن المسألة في القرآن ليست سَرْدا للتاريخ‪ ،‬فإبراهيم كان قبل موسى‪ ،‬ولو أردنا التأريخ‬
‫لجاءت قصة إبراهيم أولً‪ ،‬إنما الهدف من القصص في القرآن التقاط مواضع العِبْرة والعِظَة‬
‫واتخاذ الُسوة من تاريخ الرسل‪ ،‬ليُثبّت ال بها فؤاد رسوله صلى ال عليه وسلم حينما يواجه‬
‫الحداث الشاقة والعصيبة‪.‬‬
‫والمتأمل في رسالة موسى ورسالة إبراهيم عليهما السلم يجد أن موسى جاء ليعالج مسألة هي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قمة العقيدة‪ ،‬ويواجه مَنِ ادّعى اللوهية وقال‪ :‬إني إله من دون ال‪ ،‬أما إبراهيم فقد عالج مسألة‬
‫الشرك مع ال وعبادة الصنام‪ ،‬فعندهم طَرَف من إيمان‪ ،‬بدليل أنهم إذا ضيّقنا عليهم الخناق‬
‫قالوا‪ {:‬مَا َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى }[الزمر‪.]3 :‬‬
‫لذلك كانت قصة موسى َأوْلَى بالتقديم هنا‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ } [الشعراء‪ ]69 :‬أي‪ :‬اقرأ‪ ،‬أو وضّح‪ ،‬أو عبّر‪ ،‬ونقول للقراءة (تلوة) لنه‬
‫ل يُتلَى إل المكتوب المعلوم المفهوم { عَلَ ْيهِمْ } [الشعراء‪ ]69 :‬على أمة الدعوة كلها‪ ،‬أَمْ على‬
‫المكذبين خاصة؟‬
‫قالوا‪ :‬على المكذّبين خاصة؛ لن المصدّقين برسول ال ل يحتاجون هذه التلوة‪ ،‬وإنْ تُل َيتْ عليهم‬
‫فإنما التلوة للتذكرة أو لعلم التاريخ‪ .‬إذن‪ :‬المراد هنا المكذّبون المنكرون ليعلموا أن نهاية كل‬
‫رسل ال في دعوتهم النصر والغلبة‪ ،‬وأن نهاية المكذبين المخالفين الهزيمة والندحار‪.‬‬
‫فكأن القرآن يقول لهم‪ :‬ل تغتروا بقوتكم‪ ،‬ول بجاهكم‪ ،‬ول تنخدعوا بسيادتكم على العرب‪ ،‬ومعلوم‬
‫أن مكانة قريش بين العرب إنما أخذوها من خدمة بيت ال الحرام‪ ،‬وما َأمِنُوا في طرق تجارتهم‬
‫إلّ بقداسة بيت ال وحُرْمته‪.‬‬
‫حلَةَ‬
‫ل ِفهِمْ رِ ْ‬
‫لفِ قُرَيْشٍ * إِي َ‬
‫ولول البيت ما كان لقريش كل هذه المكانة‪ ،‬بدليل قوله تعالى‪ {:‬لِي َ‬
‫الشّتَآ ِء وَالصّيْفِ }[قريش‪1 :‬ـ ‪.]2‬‬
‫ولو انهدم البيت في قصة الفيل ما كان لقريش سيادة ول سيطرة على الجزيرة العربية‪ ،‬وما دام‬
‫ع وَآمَ َنهُم مّنْ‬
‫ط َع َمهُم مّن جُو ٍ‬
‫أن ال تعالى فعل معهم هذا{ فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي َأ ْ‬
‫خ ْوفٍ }[قريش‪3 :‬ـ ‪.]4‬‬
‫َ‬
‫ومعنى { نَبَأَ } [الشعراء‪ ]69 :‬أي‪ :‬الخبر الهام الذي يجب أنْ يُقال‪ ،‬ويجب أنْ يُنصتَ له‪ ،‬وأنْ‬
‫تُؤخَذ منه عِبْرة وعِظة‪ ،‬فل يُقال (نبأ) للخبر العادي الذي ل يُؤبَهُ له‪.‬‬
‫ولو تتبعتَ كلمة (نبأ) في القرآن لوجدتها ل ُتقَال إل للمر الهام‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬عَمّ‬
‫يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ }[النبأ‪1 :‬ـ ‪.]2‬‬
‫وقوله تعالى في قصة سليمان عليه السلم والهدهد‪:‬‬

‫{ وَجِئْ ُتكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ َيقِينٍ }[النمل‪.]22 :‬‬


‫إذن‪ } :‬نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ { [الشعراء‪ ]69 :‬يعني‪ :‬الخبر الهام عنه‪ .‬وإبراهيم هو أبو النبياء الذي مدحه‬
‫ربه مدحا عظيما في مواضع عدة من القرآن‪ ،‬فقال الحق سبحانه عنه‪ {:‬إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتا‬
‫لِلّهِ حَنِيفا }[النحل‪.]120 :‬‬
‫والمة ل تُطلَق إل على جماعة تنتسب إلى شيء خاص‪ ،‬ويجمعهم مكان وزمان وحال‪ .‬كذلك‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد أضفى ال عليه كمالت من صفات كماله ل يستطيع بشر أن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يتحملها‪.‬‬
‫ي وفي أمتي إلى يوم القيامة "‪.‬‬
‫لذلك جاء في الحديث الشريف‪ " :‬الخير ِف ّ‬
‫الخير فيّ حصرا‪ ،‬الخير على عمومه‪ ،‬وفي كل جوانب شخصيته‪ :‬داعيةً وأبا وزوجا‪ ..‬الخ‬
‫وخصال الخير من شجاعة‪ ،‬وحِلْم‪ ،‬وعِلْم‪ ،‬وكرم‪ ..‬ألخ‪ .‬وكذلك الخير في أمتي منثورٌ بين أفرادها‪،‬‬
‫يأخذ كل منهم من الخير بطرف‪ ،‬وله منه نصيب‪ ،‬لكن ل أحدَ يستطيع أن يجمع الكمال المحمدي‬
‫أبدا‪ ،‬ول أن يتصف به‪.‬‬
‫كذلك كان سيدنا إبراهيم عليه السلم (أمة)؛ لن خصال الخير تُوزّع على أفراد المة‪ :‬هذا ذكى‪،‬‬
‫وهذا حليم‪ ،‬وهذا عالم‪ ،‬وهذا حكيم‪ ..‬الخ أما إبراهيم ـ عليه السلم ـ فقد جمع من الخير ما في‬
‫أمة بأكملها‪ ،‬وهذا ليس كلما ُيقَال في مدح نبي ال إبراهيم‪ ،‬إنما من واقع حياته العملية‪.‬‬
‫واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى عن إبراهيم‪ {:‬وَِإذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ‬
‫لِلنّاسِ ِإمَاما }[البقرة‪.]124 :‬‬
‫وحَسْب إبراهيم ـ عليه السلم ـ من الخير هذه الدعوة‪ {:‬رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِي ِهمْ رَسُولً مّ ْنهُمْ يَتْلُواْ‬
‫عَلَ ْيهِمْ آيَا ِتكَ }[البقرة‪.]129 :‬‬
‫فكان محمد صلى ال عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم‪.‬‬

‫(‪)2967 /‬‬

‫إِذْ قَالَ لِأَبِي ِه َوقَ ْومِهِ مَا َتعْ ُبدُونَ (‪)70‬‬

‫فأول دعوته كانت لبيه‪ ،‬وأقرب الناس إليه ل للغريب‪ ،‬والدعوة التي توجه أولً للقريب ل بُدّ أنها‬
‫حقّ ودعوة خير؛ لن النسان يحب الخير أولً لنفسه‪ ،‬ثم لقرب الناس إليه‪ ،‬ولو كانت في‬
‫دعوة َ‬
‫شكّ لقصد بها الغرباء والباعد عنه‪.‬‬
‫خيريتها َ‬
‫والمراد بأبيه هو (آزر) الذي ورد ذكره في موضع آخر‪.‬‬
‫وسؤاله لبيه وقومه { مَا َتعْ ُبدُونَ } [الشعراء‪ ]70 :‬سؤال استهجان واستنكار‪ ،‬وسؤال استدلل‬
‫ليظهر لهم بطلن هذه العبادة؛ لن العبادة أنْ يطيعَ العابدُ المعبودَ فيما أمر وفيما نهى‪ ،‬فالذين‬
‫يعبدون الصنام بماذا أمرتهم وعمّ نهتهم؟‬
‫إذن‪ :‬فهي آلهة دون منهج‪ ،‬وما أسهلَ أن يعبد النسان مثل هذا الله الذي يأمره بشيء‪ ،‬ول ينهاه‬
‫عن شيء‪ ،‬وكذلك هي آلهة دون جزاء ودون حساب؛ لنها ل تثيب مَنْ أطاعها‪ ،‬ول تعاقب مَنْ‬
‫عصاها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فكلمة عباده هنا خطأ‪ ،‬ومع ذلك يُسمّيها الناس آلهة‪ ،‬لماذا؟ لن الله الحق له أوامر ل ُبدّ أن‬
‫تُنفّذ‪ ،‬وإنْ كانت شاقة على النفس‪ ،‬وله نواهٍ ل بُدّ أن تترك وإنْ كانت النفس تشتهيها‪ ،‬فهي عبادة‬
‫شاقة‪ ،‬أما عبادة الصنام فما أسهلها‪ ،‬فليس عندها أمْر ول َنهْي‪ ،‬وليس عندها منهج يُنظّم لهم‬
‫حركة الحياة؛ لذلك تمسّك هؤلء بعبادة الصنام‪ ،‬وس ّموْها آلهة‪ ،‬وهذا خبل واضح‪.‬‬
‫كما أن النسان في مجال العبادة إذا ع ّزتْ عليه أسباب الحياة وأعْيَتْه الحيل‪ ،‬أو خرجت عن‬
‫طاقته‪ ،‬عندها يجد له ربا يلجأ إليه‪ ،‬ويستعين به فيقول‪ :‬يا رب‪ .‬فماذا عن عابد الصنام إذا‬
‫تعرّض لمثل هذه المسائل؟ هل يتوجه إليها بالدعاء؟ و َهبْ أنه يدعو إنسانا مثله يمكن أنْ يسمعه‬
‫أيستجيبُ له؟‬
‫س َمعُو َنكُمْ ِإذْ تَدْعُونَ * َأوْ‬
‫ظلّ َلهَا عَا ِكفِينَ * قَالَ َهلْ يَ ْ‬
‫لذلك يقول سبحانه‪ {:‬قَالُواْ َنعْبُدُ َأصْنَاما فَ َن َ‬
‫يَن َفعُو َنكُمْ َأوْ َيضُرّونَ }[الشعراء‪71 :‬ـ ‪.]73‬‬
‫حمْق وغباء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فعبادة غير ال ُ‬
‫لكن هذا البحث من إبراهيم‪ ،‬وهذا الجدل مع أبيه وقومه‪ ،‬أكان بعد الرسالة أم قبلها؟ قالوا‪ :‬إن‬
‫صغَره‪ ،‬وكان مُنكرا لهذه العبادة قبل أن يُرسَل‪،‬‬
‫إبراهيم ـ عليه السلم ـ كان ناضجا مُتفتّحا منذ ِ‬
‫ل َوكُنّا بِهِ عَاِلمِينَ }[النبياء‪.]51 :‬‬
‫لذلك قال ال عنه‪ {:‬وََلقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ ُرشْ َدهُ مِن قَ ْب ُ‬
‫وكذلك كان نبينا محمد صلى ال عليه وسلم قبل بعثته كارها للصنام‪ ،‬معترضا على عبادتها‪،‬‬
‫يتعجب حين يرى قومه يعبدونها‪ ،‬وقد رأى صلى ال عليه وسلم أحد اللهة وقد كُسر ذراعه‬
‫فاستعانوا بمَنْ يُصلح ذراع الله‪ ،‬فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم وتعجّب لما يرى‪ :‬العابد‬
‫يصلح المعبود؟ بعدها اعتزلهم رسول ال‪ ،‬ولجأ إلى الغار يفكر في الله الحق والمعبود الحق‪.‬‬
‫فكأن أيّ دين يأمر ال به لو تفكّر فيه النسان برشد لنتهى إلى الحق بدون رسول؛ لن دين ال‬
‫هو دين الفطرة السليمة‪ ،‬فإنْ توفّرت لدى النسان هذه الفطرة اهتدى بها إلى الحق‪.‬‬

‫بدليل ما كان يحدث من عمر ـ رضي ال عنه ـ وكان يُحدث رسول ال بالمر‪ ،‬فتتنزل به‬
‫اليات من عند ال‪ ،‬وقد وافقتْ اليات رأيه في أكثر من موقف‪ ،‬وقد أقرّ رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ذلك ليبين لنا أن العقل السليم والفطرة المستقيمة يمكن أنْ ينتهيا إلى قضايا الدين دون‬
‫رسول‪.‬‬
‫وتستطيع أنت أنْ تعرض أيّ قضية من قضايا الدين على العقل السليم‪ ،‬وسوف تجد أنها طيبة‬
‫وجميلة توافق ال ّذوْق السليم والتفكير السويّ‪ ،‬فالكذب مثلً خُلُق يأباه العقل ويأباه الدين‪ ،‬وكذلك‬
‫الرشوة؛ لنك بها تأخذ ما ليس لك‪ ،‬وقد يُسلّط عليك رَاشٍ‪ ،‬فيأخذ منك حقك‪ ،‬كما أخذتَ أنت‬
‫حقوق الناس‪.‬‬
‫ولو تأمل العقل مثلً تحريم النظر إلى المحرمات‪ ،‬لوجد أن الدين قيّد نظرك وأنت فرد‪ ،‬وقيّد من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أجلك نظر الناس جميعا‪ ،‬فكما طلب منك طلب لك‪ ،‬وكذلك المر في تحريم السرقة والقتل‪..‬إلخ‪.‬‬
‫سلَ رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَىا وَدِينِ ا ْلحَقّ‬
‫وقد سُئلْنا في إحدى الرحلت عن قوله تعالى‪ُ {:‬هوَ الّذِي أَرْ َ‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ }[التوبة‪ ]33 :‬ومرة يقول‪ {:‬وَلَوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }[التوبة‪ ]33 :‬ومرة‬
‫لِيُ ْ‬
‫طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَيَأْبَىا اللّهُ ِإلّ أَن يُتِمّ نُو َر ُه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }‬
‫يقول‪ {:‬يُرِيدُونَ أَن يُ ْ‬
‫[التوبة‪.]32 :‬‬
‫يقولون‪ :‬وبعد أربعة عشر قرنا‪ ،‬والمسلمون في الكون أقلية‪ ،‬ولم يظهر الدين على الدين كله‪،‬‬
‫فكيف ـ إذن ـ نفهم هذه الية؟‬
‫طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَيَأْبَىا‬
‫فقلتُ للسائل‪ :‬لو فهمتَ الية السابقة لعرفتَ الجواب‪ {:‬يُرِيدُونَ أَن ُي ْ‬
‫اللّهُ ِإلّ أَن يُتِمّ نُو َر ُه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }[التوبة‪.]32 :‬‬
‫فالمعنى‪ :‬أن الدين سيظهر في وجود الديان الخرى‪ ،‬وليس المراد أن هذه الديان ستزول‪ ،‬ولن‬
‫يكون لها وجود‪ ،‬بل هي موجودة‪ ،‬لكن يظهر عليها السلم ظهور حجة‪ ،‬بدليل ما نراه من‬
‫هجمات على السلم وأحكامه وتشريعاته‪ ،‬كما في مسألة الطلق مثلً‪ ،‬أو مسألة تعدّد الزوجات‬
‫وغيرها‪ .‬وبعد ذلك تُلجِئهم الحياة الجتماعية إلى هذه التشريعات‪ ،‬ول يجدون غيرها لحل‬
‫مشاكلهم‪.‬‬
‫ولما قامت الثورة الشيوعية في روسيا سنة ‪ 1917‬أول ما شرّعوا منعوا الربا الذي كان جائزا‬
‫عندهم‪ ،‬لقد منعوا الربا مع أنهم غير مسلمين‪ ،‬لكن مصالحهم في ذلك‪ ،‬فهذه وأمثالها غلبة لدين ال‬
‫وظهور له على كل الديان‪.‬‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ }[التوبة‪ ]33 :‬أن يصير الناس جميعا مؤمنين‪ ،‬ل‪ ،‬إنما يظل‬
‫وليس معنى{ لِيُ ْ‬
‫ل لقضاياه إل في السلم‪ ،‬وهذا أوقع في‬
‫ُكلّ على دينه وعلى شِرْكه أو كفره‪ ،‬لكن ل يجد ح ً‬
‫ظهور الدين‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عن قوم إبراهيم في ردّهم على إبراهيم عليه السلم‪ } :‬قَالُواْ َنعْبُدُ َأصْنَاما {‬

‫(‪)2968 /‬‬

‫ظلّ َلهَا عَا ِكفِينَ (‪)71‬‬


‫قَالُوا َنعْبُدُ َأصْنَامًا فَنَ َ‬

‫إذن‪ :‬شهد شاهد من أهلها‪ ،‬وقالوا بأنفسهم { َنعْبُدُ َأصْنَاما } [الشعراء‪ ]71 :‬والعبادة طاعة‪ ،‬فماذا‬
‫قالت لهم الصنام؟ وبماذا أمرتهم؟ طبعا‪ ،‬ليس عندهم جواب‪.‬‬
‫ظلّ َلهَا عَا ِكفِينَ } [الشعراء‪ ]71 :‬أي‪ :‬قائمين على عبادته‬
‫وليت المر يقف عند العبادة‪ ،‬إنما { فَنَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ليلَ نهار‪ ،‬نعم ولكم حق؛ لنها آلهة دون تكليف‪ ،‬وعبادة بل مشقة وبل التزام‪ ،‬إنها بلطجة تأخذون‬
‫فيها حظّ أنفسكم‪ ،‬وتفعلون معها ما تريدون‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬كيف جادلهم إبراهيم عليه السلم؟ وبم َردّ عليهم؟‬

‫(‪)2969 /‬‬

‫س َمعُو َنكُمْ إِذْ َتدْعُونَ (‪َ )72‬أوْ يَ ْن َفعُو َنكُمْ َأوْ َيضُرّونَ (‪)73‬‬
‫قَالَ َهلْ يَ ْ‬

‫ن كفر بها؛ لذلك لم‬


‫فالصنام ل تسمع مَنْ توجّه إليها بالدعاء‪ ،‬ول تنفع مَنْ عبدها‪ ،‬ول تضر مَ ْ‬
‫حجّة إل أن قالوا‪:‬‬
‫يجدوا ردا‪ ،‬وحاروا جوابا‪ ،‬ولم يجدوا ُ‬
‫جدْنَآ }‬
‫ل وَ َ‬
‫{ قَالُواْ َب ْ‬

‫(‪)2970 /‬‬

‫قَالُوا َبلْ َوجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَِلكَ َي ْفعَلُونَ (‪)74‬‬

‫إذن‪ :‬أنتم لم تُحكّموا عقولكم في هذه المسألة‪ ،‬كما قالوا في موضع آخر‪ {:‬إِنّا َوجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا‬
‫ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَىا آثَارِهِم ّمقْتَدُونَ }[الزخرف‪.]23 :‬‬
‫ونقول لهم‪ :‬ومتى ظللتم على تقليد آبائكم فيما يفعلون؟ إنكم لو أقمتُم على تقليد الباء ما ارتقيتم في‬
‫حياتكم أبدا‪ ،‬فلماذا إذن تحرصون على التقليد في هذه المسألة بالذات دون غيرها‪.‬‬

‫(‪)2971 /‬‬

‫ع ُدوّ لِي إِلّا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‬


‫قَالَ َأفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ َتعْبُدُونَ (‪ )75‬أَنْتُ ْم َوآَبَا ُؤكُمُ الَْأقْ َدمُونَ (‪ )76‬فَإِ ّنهُمْ َ‬
‫‪)77‬‬

‫يقول إبراهيم عليه السلم‪ :‬ل تلقوا بالمسألة على الباء‪ ،‬وتُعلّقوا عليهم أخطاءكم‪ ،‬ثم يعلنها‬
‫صريحة متحدية كأنه يقول لهم‪ :‬الحمرة في خيلكم اركبوها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ فَإِ ّنهُمْ عَ ُدوّ لِي } [الشعراء‪ ]77 :‬وكلمة عدو جاءت مفردة مع أنها مسبوقة بضمير جمع وتعود‬
‫على جمع { فَإِ ّنهُمْ } [الشعراء‪ ]77 :‬ومع ذلك لم يقل‪ :‬أعداء لي‪ .‬قالوا‪ :‬لن العداوة في أمر الدين‬
‫واحدة على خلف العداوة في أمر الدنيا؛ لنها متعددة السباب‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪{:‬‬
‫وَا ْذكُرُواْ ِن ْعمَتَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ }[آل عمران‪.]103 :‬‬
‫فجاءت‪ {:‬أَعْدَآءً }[آل عمران‪ ]103 :‬هنا جمع؛ لنها تعود على عداوة الدنيا‪ ،‬وهي متعددة‬
‫السباب‪ ،‬أمّا العداوة في الدين فواحدة على قلب رجل واحد‪.‬‬
‫ج َولَ عَلَى الَعْرَجِ‬
‫عمَىا حَرَ ٌ‬
‫ومن ذلك ما قلناه في سورة النور عند قوله تعالى‪ {:‬لّيْسَ عَلَى الَ ْ‬
‫سكُمْ أَن تَ ْأكُلُواْ مِن بُيُو ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ آبَآ ِئكُمْ َأوْ بُيُوتِ‬
‫ج َولَ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ج َولَ عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَ ٌ‬
‫حَرَ ٌ‬
‫ُأ ّمهَا ِتكُمْ }[النور‪.]61 :‬‬
‫كلها بصيغة الجمع إل في{ صَدِي ِقكُمْ }[النور‪ ]61 :‬جاءت بصغية المفرد؛ لن الصداقة الحقة هي‬
‫ما كانت ل غير متعددة الغراض‪ ،‬فهي إذن ل تتعدد‪.‬‬
‫وفي إعلن إبراهيم لعداوته لهذه الصنام تحدّ لهم‪ :‬فها أنا ذا أعلن عداوتي لهم‪ ،‬فإنْ كانوا يقدرون‬
‫على مضرّتي فليفعلوا‪ .‬وبعد أن أعلن إبراهيم ـ عليه السلم ـ عداوته للصنام نجحت دعوته‪،‬‬
‫وظل إبراهيم هو إبراهيم لم يُصبْه شيء‪.‬‬

‫(‪)2972 /‬‬

‫شفِينِ (‪)80‬‬
‫سقِينِ (‪ )79‬وَإِذَا مَ ِرضْتُ َف ُهوَ يَ ْ‬
‫ط ِعمُنِي وَيَ ْ‬
‫الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ َيهْدِينِ (‪ )78‬وَالّذِي ُهوَ يُ ْ‬

‫كأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول لهم‪ :‬يا أغبياء‪ ،‬اعلموا أن للعبادة أسبابا وحيثيات‪ .‬ويوضح‬
‫إبراهيم عليه السلم حيثيات عبادة ربه ـ عزّ وجل ـ فيقول‪ { :‬الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ َيهْدِينِ }‬
‫[الشعراء‪ ]78 :‬أي‪ :‬خلقني من عدم‪ ،‬وأمدّني من عُدْم‪ ،‬وجعل لي قانون صيانة يحفظ حياتي‪،‬‬
‫ويضمن سلمتي حيث كلّفني بشرعه‪ :‬افعل كذا ول تفعل كذا‪ ،‬وهو سبحانه ل ينتفع بشيء من‬
‫هذا‪ ،‬بل النفع يعود علينا نحن‪ ،‬وهل فعلتْ الصنام لكم شيئا من هذا؟ إذن‪ :‬فهو واحده المستحق‬
‫للعبادة‪.‬‬
‫وقوله سبحانه { َف ُهوَ َيهْدِينِ } [الشعراء‪ ]78 :‬أي‪ :‬بقانون الصيانة الذي يشبه (الكتالوج) الذي‬
‫يجعله البشر لصناعتهم؛ ليضمنوا سلمتها وأدائها لمهمتها على أكمل وجه‪ ،‬ول ُبدّ أن يحدّد لها‬
‫المهمة قبل أنْ يَشرَع في صناعتها‪ ،‬وهل رأينا آلةَ صنعها صاحبها‪ ،‬ثم قال لنا‪ :‬انظروا في أيّ‬
‫شيء تستخدم هذه‪( ،‬بوتاجاز) أو ثلجة مثلً؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا ما حدث خلل في هذه اللة‪ ،‬فعليك بالنظر في هذا (الكتالوج) أو أن تذهب بها إلى المهندس‬
‫المختص بها؛ لذلك إذا أردتَ أن تأخذ قانون صيانتك‪ ،‬فل تأخذه إل من صانعك وخالقك ـ عز‬
‫وجل ـ ول يجوز أن يخلق ال تعالى وتضع أنت لخِلْقة ال قانون صيانتها‪ ،‬فهذا مِثْل‪ :‬أن تقول‬
‫للجزار مثلً‪ :‬اعمل لي قانون صيانة (التلفزيون)‪.‬‬
‫ضتُ‬
‫سقِينِ * وَإِذَا مَ ِر ْ‬
‫ط ِعمُنِي وَيَ ْ‬
‫ثم يذكر بعد ذلك مُقوّمات استبقاء الحياة‪ ،‬فيقول‪ { :‬وَالّذِي ُهوَ ُي ْ‬
‫شفِينِ } [الشعراء‪79 :‬ـ ‪.]80‬‬
‫َف ُهوَ َي ْ‬
‫ونقف هنا عند الضمير المنفصل (هو) الذي جاء للتوكيد‪ ،‬والتوكيد ل يأتي ابتداءً‪ ،‬إنما يكون على‬
‫سقْيا والشفاء إليه‬
‫درجات النكار‪ ،‬وقد أكّد الحق ـ تبارك وتعالى ـ نسبة الهداية والطعام وال ّ‬
‫تعالى؛ لن هذه المسائل الربع قد يدعيها غيره تعالى‪ ،‬وقد يظن البعض أن الطبيب هو الشافي أو‬
‫أن الب مثلً هو الرازق؛ لنه الجالب له والمناول‪.‬‬
‫والهداية قد يدّعيها واضعوا القوانين من البشر‪ ،‬وقد رأينا الشيوعية والرأسمالية والوجودية‬
‫والبعثية وغيرها‪ ،‬وكلها تدّعي أنها لصالح البشر‪ ،‬وأنها طريق هدايتهم؛ لذلك أكد ال تعالى لنفسه‬
‫هذه المسألة { الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ َيهْدِينِ } [الشعراء‪ ]78 :‬فالهداية ل تكون إل من ال‪ ،‬وفي شِرْعته‬
‫تعالى‪.‬‬
‫شفِينِ } [الشعراء‪ ]80 :‬ولماذا نذهب إلى الطبيب‬
‫ضتُ َف ُهوَ َي ْ‬
‫وقد تسأل في قوله تعالى‪ { :‬وَإِذَا مَ ِر ْ‬
‫إذن؟ نقول‪ :‬الطبيب يعالج‪ ،‬وهو سبب للشفاء‪ ،‬أمّا الشفاء فمن ال‪ ،‬بدليل أن الطبيب ربما يمرض‪،‬‬
‫ويعجز هو عن شفاء نفسه‪ ،‬وقد يعطي المريض حقنة ويكون فيها حَتْفه‪.‬‬
‫ضتُ } [الشعراء‪ ]80 :‬نقول‪ :‬مرض فعل ماضٍ والتاء فاعل‪ ،‬فهل أنا الذي‬
‫وحين نُعرب‪ { :‬مَ ِر ْ‬
‫فعلتُ المرض؟ وهذا مِثْل أن نقول‪ :‬مات فلن‪ ،‬ففلن عامل مع أنه لم يحدث الموت؛ لذلك يجب‬
‫ن فعل الفعل‪ ،‬أو اتصف به‪ ،‬والفاعل هنا لم يفعل الفعل وإنما‬
‫أن نتنبه إلى أن الفاعل يعني مَ ْ‬
‫اتصف به‪ .‬وقال { مَ ِرضْتُ } [الشعراء‪ ]80 :‬تأدبا مع ال تعالى‪ ،‬فلم يقل‪ :‬أمرضني ونسب‬
‫المرض الظاهر إلى نفسه‪.‬‬
‫أما في المسائل التي ل يدّعيها أحد‪ ،‬فتأتي بالفعل دون توكيد‪ ،‬كما في الية بعدها‪ { :‬وَالّذِي ُيمِيتُنِي‬
‫}‬

‫(‪)2973 /‬‬

‫وَالّذِي ُيمِيتُنِي ثُمّ ُيحْيِينِ (‪)81‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فلم يقُل؟ هنا‪ :‬بميتني أو هو يُحييني؛ لن الحياة والموت بيده تعالى ل يدّعيها أحد‪ ،‬فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬وماذا‬
‫عن قتْل النسان لغيره َألَ ُيعَ ّد موتا؟ وقد سبق أنْ أوضحنا الفرق بين الموت والقتل‪ ،‬بدليل قوله‬
‫عقَا ِبكُمْ }[آل‬
‫سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ‬
‫حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ‬
‫تعالى‪َ {:‬ومَا ُم َ‬
‫عمران‪.]144 :‬‬
‫فالموت أن تخرج الروح‪ ،‬والجسم سليم الجزاء كامل العضاء‪ ،‬وبعد خروج الروح تُنقض البنية‪،‬‬
‫أما القتل فيكون بنقْض البنية َنقْضا يترتب عليه خروج الروح‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الموت لم يدّعه أحدٌ لنفسه‪ ،‬ولما ادعاه النمرود جادله إبراهيم ـ عليه السلم ـ في ذلك‪،‬‬
‫وكشف زيف هذا الدعاء‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ‬
‫ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ قَالَ أَنَا ُأحْيِـي وَُأمِيتُ }[البقرة‪.]258 :‬‬
‫ولم يفعل إل أنْ جاء برجل فأمر بقتله‪ ،‬ثم عفا عنه؛ لذلك رأى إبراهيم عليه السلم أنْ يقطع عليه‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْرِبِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ }[البقرة‪:‬‬
‫الطريق‪ ،‬فقال‪ {:‬فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫‪.]258‬‬
‫وهكذا أنهى هذه السفسطة‪ ،‬وكشف حقيقة هذا المكابر المعاند‪.‬‬
‫وتأمل حرف العطف { وَالّذِي ُيمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ } [الشعراء‪ ]81 :‬و(ثم) تفيد العطف مع التراخي‪،‬‬
‫ولم يقل‪ :‬ويحيين؛ لن الواو تفيد مُطلَق العطف‪ ،‬وبين الموت والحياء الخر مسافة طويلة‪ ،‬أل‬
‫ترى قوله تعالى‪ {:‬ثُمّ َأمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ * ثُمّ إِذَا شَآءَ أَنشَ َرهُ }[عبس‪21 :‬ـ ‪.]22‬‬

‫(‪)2974 /‬‬

‫طمَعُ أَنْ َي ْغفِرَ لِي خَطِيئَتِي َيوْمَ الدّينِ (‪)82‬‬


‫وَالّذِي َأ ْ‬

‫عجيب أن يصدر هذا الدعاء من إبراهيم‪ ،‬وما أدراك ما إبراهيم؟‬


‫إنه أبو النبياء الذي وصفه ربه بأنه أمة قانتا ل‪ ،‬ولم يكن من المشركين‪ ،‬إبراهيم الذي ابتله ربه‬
‫طمَعُ أَن َي ْغفِرَ لِي خَطِيئَتِي َيوْمَ الدّينِ } [الشعراء‪.]82 :‬‬
‫بكلمات فأتمهن‪ ،‬ومع هذا كله يقول‪ { :‬أَ ْ‬
‫إنه أدب عَالٍ مع ال وهضم لعمله؛ لن النسان مهما قدّم من الخير فهو دون ما يستحق ال تعالى‬
‫من العبادة؛ لذلك كان طلب المغفرة من الطمع‪.‬‬
‫ويجب أن ننظر هنا‪ :‬متى دعا إبراهيم ربه ومتى تضرع إليه؟ بعد أن ذكر حيثيات اللوهية‪،‬‬
‫واعترف ل بالنعم السابقة وأقرّ بها‪ ،‬فقد خلقه من عدم‪ ،‬وأمدّه من عُدْم‪ ،‬وووفّر له كل مقومات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحياة‪.‬‬
‫وإقرار العبد بنعم ال عليه يقضي على كبرياء نفسه‪ ،‬ويُصفّي روحه وأجهزته‪ ،‬فيصير أهلً‬
‫لمناجاة ال‪ ،‬وأهلً للدعاء‪ ،‬فإن اعترفتَ ل بالنعم السابقة أجابك فيما تطلب من النعم اللحقة‪ ،‬على‬
‫خلف مَنْ ل يذكر ل نعمة‪ ،‬ول يقرّ له سبحانه بسابقة خير‪ ،‬فكيف يقبل منه دعاء؟ وبأيّ وجه‬
‫يطلب من ال المزيد؟‬
‫إذن‪ :‬ل تَ ْدعُ ربك إل بعد صفاء نفس وإخلص عبودية؛ لذلك ورد في حديث رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ " :‬مَنْ عمل بما علم أورثه ال علم ما لم يعلم "‪.‬‬
‫جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا }[النفال‪ ]29 :‬يقول لك ربك‪ :‬أنت مأمون على ما‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ َي ْ‬
‫علمتَ‪ ،‬عامل به‪ ،‬فخُذ المزيد من هدايتي ونوري وتوفيقي‪ ،‬خُذ المزيد لما عندك من رصيد إيماني‬
‫وصفاء روحي‪ ،‬جعلك أهلً للمناجاة والدعاء‪.‬‬
‫فإبراهيم ـ عليه السلم ـ وهو أبو النبياء لم يجترىء على الدعاء بشيء آتٍ إل بعد أنْ ذكر ل‬
‫شكَرْتُ ْم لَزِيدَ ّنكُمْ }[إبراهيم‪.]7 :‬‬
‫النعم السابقة‪ ،‬وشكره عليها‪ ،‬فوافق قوله تعالى‪ {:‬لَئِن َ‬
‫لذلك فإن أهل المعرفة يقولون‪ :‬إن العبد مهما اجتهد في الدعاء‪ ،‬فإنه يدعو بالخير على حسْب‬
‫فهمه ومنطقه وبمقدار علمه ولو أنه ذكر النعيم الول ل تعالى‪ ،‬وأقرّ له بالفضل‪ ،‬ثم ترك المسألة‬
‫له تعالى يعطيه ويختار له لكان خيرا له؛ لن ربه عز وجل يعطيه على حَسْب قدرته تعالى‬
‫وحكمته‪.‬‬
‫وهذا المعنى واضح في الحديث القدسي‪ " :‬مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي‬
‫السائلين "‪.‬‬
‫فعطاء ال ل شكّ أوسع‪ ،‬واختياره لعبده أفضل من اختيار العبد لنفسه‪ ،‬كما لو ذهبتَ في رحلة‬
‫مثلً وقلت لولدك‪ :‬ماذا تريد أنْ أُحضر لك من البلد الفلني؟ فإنْ قال‪ :‬أريد كذا وكذا فقد ضيّق‬
‫على نفسه‪ ،‬وإنْ ترك لك الختيار جاء اختيارك له خيرا من اختياره لنفسه‪.‬‬

‫(‪)2975 /‬‬

‫حقْنِي بِالصّاِلحِينَ (‪)83‬‬


‫ح ْكمًا وَأَلْ ِ‬
‫َربّ َهبْ لِي ُ‬

‫حكْما } [الشعراء‪ ]83 :‬فرق بين الحكم والحكمة‪:‬‬


‫نلحظ أنه لم ي ْدعُ بشيء من الدنيا‪ ،‬ومعنى { ُ‬
‫الحكمة أن تضع الشيء في موضعه‪ ،‬أما الحكم فأنْ تعلم الخير أولً‪ ،‬ثم تعمل بما علمت ثانيا‪.‬‬
‫وقال في دعائه‪َ { :‬هبْ لِي } [الشعراء‪ ]83 :‬لن الهبة عطاء دون مقابل‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬يا رب أنا ل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حقْنِي بِالصّالِحِينَ } [الشعراء‪ ]83 :‬أي‪ :‬ألحقني بهم في‬
‫أستحق‪ ،‬فاجعلها لي هِبةَ من عندك { وَأَلْ ِ‬
‫العمل والُسْوة لنالَ بعدها الجزاء‪ ،‬وليس المراد‪ :‬ألحقني بهم في الجزاء‪ ،‬إنما في العمل‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫وقد أجابه ال تعالى في هذه الدعوة‪ ،‬فقال سبحانه‪َ {:‬وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬
‫وَالَرْضِ }[النعام‪.]75 :‬‬
‫والملكوت‪ :‬المخلوقات غير المحسّة‪ ،‬أطلعه ال عليها؛ لنه عمل بما علم من الملك المحسّ‪،‬‬
‫جعَل‬
‫وكذلك قال‪ {:‬وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ }[البقرة‪ ]130 :‬فأجابه في الدعوة الخرى‪ { .‬وَا ْ‬
‫لّي لِسَانَ }‬

‫(‪)2976 /‬‬

‫ن صِ ْدقٍ فِي الْآَخِرِينَ (‪)84‬‬


‫ج َعلْ لِي لِسَا َ‬
‫وَا ْ‬

‫ن صِ ْدقٍ } [الشعراء‪ ]84 :‬يعني‪ :‬ذكرا حسنا يذكر‬


‫نعرف أن اللسان وسيلة التعبير‪ ،‬ومعنى { لِسَا َ‬
‫بحق‪ ،‬ويذكر بصدق‪ ،‬ل كما نفعل الن حين نقيم ذكرى لحد الشخاص‪ ،‬فنظل نكيل له المدائح‬
‫ونُثني عليه بالصّدْق وبالكذب‪ ،‬وبما فعل وبما لم يفعل‪ ،‬فهذا ذكر‪ ،‬لكنه ذكر غير صادق ومخالف‬
‫للحقيقة وللواقع‪.‬‬
‫وسبق أن أوضحنا أن الصدق هو الكلم المطابق للواقع‪ ،‬وقد ورد هذا المعنى في المهات الخمس‬
‫ق وَأَخْ ِرجْنِي‬
‫ل صِ ْد ٍ‬
‫خَ‬‫في القرآن الكريم‪ ،‬في قول الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬وقُل ّربّ أَ ْدخِلْنِي مُدْ َ‬
‫ج صِ ْدقٍ }[السراء‪.]80 :‬‬
‫مُخْرَ َ‬
‫يعني‪ :‬أدخلني بصدق ـ ل بغشّ يعني ـ مدخلً أستطيع منه الخروج‪ ،‬وكذلك أخرجني مُخرج‬
‫صدق‪.‬‬
‫وفي قوله تعالى‪ {:‬فِي َم ْقعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ ّمقْتَدِرٍ }[القمر‪.]55 :‬‬
‫وفي قوله تعالى‪ {:‬وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }[الحقاف‪ ]16 :‬هذه المواضع الخمس لكلمة‬
‫الصدق‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬فِي الخِرِينَ } [الشعراء‪ ]84 :‬يعني‪ :‬يتعدى ال ّذكْر الحسن مدة حياتي إلى مَنْ بعدي‪،‬‬
‫فاجعل لي لسان صدق في المعاصرين‪ ،‬وفيمن يأتي بعدك أترك أثرا طيبا يُذكَر من بعدي؛ لن لي‬
‫نصيبا من الخير والثواب في كل مَن اقتدى بي‪ ،‬وجعلني ُأسْوة‪.‬‬
‫وقد أجابه ال في هذه‪ ،‬فقال سبحانه‪ {:‬وَتَ َركْنَا عَلَيْهِ فِي الخِرِينَ * سَلَمٌ عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[الصافات‪:‬‬
‫‪108‬ـ ‪.]109‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2977 /‬‬

‫جعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنّةِ ال ّنعِيمِ (‪)85‬‬


‫وَا ْ‬

‫بعد أن دعا لمر في الدنيا‪ ،‬ثم لمر بعد موته دعا لنفسه بجنة النعيم الدائم في الخرة‪ ،‬ول شك أن‬
‫ربه ـ عز وجل ـ قد أجابه إلى هذه‪ ،‬فهو من ورثة جنة النعيم‪ ،‬بدليل قوله تعالى‪ {:‬وَإِنّهُ فِي‬
‫الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ }[البقرة‪.]130 :‬‬
‫وكلمة ميراث الجنة وردتْ في القرآن أيضا في قوله تعالى‪:‬‬
‫{ ُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْلوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[المؤمنون‪10 :‬ـ ‪.]11‬‬
‫والميراث أنْ تأخذ مِلكا من آخر بعد موته‪ ،‬فكيف تكون الجنة ميراثا؟‬
‫قال العلماء‪ :‬إن الخالق ـ عز وجل ـ لم يخلق الجنة على قدر أهلها وكذلك النار‪ ،‬إنما خلق الجنة‬
‫تتسع للناس جميعا‪ ،‬إنْ آمنوا‪ ،‬وخلق النار تتسع للناس جميعا إنْ كفروا؛ ذلك لنه سبحانه خلق‬
‫الخَلْق مختارين‪ ،‬مَنْ شاء فليؤمن‪ ،‬ومَنْ شاء فليكفر‪ .‬وعليه‪ ،‬فميراث الجنة يعني أنْ يرث‬
‫المؤمنون أماكن الذين كفروا في الجنة‪ ،‬يتقاسمونها فيما بينهم‪.‬‬
‫والوارث يرث مال غيره وثمرة سعيه‪ ،‬لكن ل يسأل عنها‪ ،‬إنما يأخذها طيبة حتى إنْ جمعها‬
‫صاحبها من الحرام‪ ،‬إل إنْ أراد الوارث أن يبرىء ذمة المورّث‪ ،‬فيردَ المظالم إلى أهلها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الوارث يأخذ الميراث دون مقابل فكأنه هِبة‪ ،‬وعلى هذا المعنى يكون المراد بميراث الجنة‬
‫أن ال تعالى أعطى عباده الطائعين الجنة هبةً منه سبحانه‪ ،‬وتفضّلً عليهم‪ ،‬وليس بعملهم‪ ،‬فالجنة‬
‫سعْي‪.‬‬
‫جاءتهم كما يأتي الميراث لهله دون تعب منهم ودون َ‬
‫وهذا تصديق لقول رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديث النبوي‪ " :‬لن يدخل أحد منكم الجنة‬
‫بعمله‪ ،‬قالوا‪ :‬ول أنت يا رسول ال؟ قال‪ :‬ول أنا‪ ،‬إل أن يتغمدني ال برحمته "‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فالجنة ميراث؛ لن الصل أنك ل تُجازَى على الخير الذي قدمته؛ لن تكليف من ال تعالى‬
‫يعود خيره عليك في الدنيا‪ ،‬حيث تستقيم به حياتك وتسعد بها‪ ،‬وما دام التكليف في صالحك‪ ،‬فكيف‬
‫تأخذ أجرا عليه؟ كالوالد حيث يحثّ ولده على المذاكرة والجد في دروسه‪ ،‬فهذا يعود نفعه على‬
‫الولد‪ ،‬ل على الوالد‪.‬‬
‫وكأن ربك ـ عز وجل ـ يقول لك‪ :‬ما ُد ْمتَ قد احترمتَ تكليفي لك‪ ،‬وأطعتني فيما ينفعك أنت‪،‬‬
‫ول يعود عليّ منه شيء‪ ،‬فحين أعطيك الجنة أعطيك بفضلي وهِبَة مني‪ ،‬أو أننا نأخذ الجنة‬
‫بالعمل‪ ،‬والمنازل بالفضل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل غِنَى لحد مِنّا عن َفضْل ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ج َمعُونَ }[يونس‪,]58 :‬‬
‫حمَتِهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا يَ ْ‬
‫ضلِ اللّهِ وَبِرَ ْ‬
‫لذلك يقول سبحانه‪ُ {:‬قلْ ِبفَ ْ‬
‫ل تعوّل على عملك وطاعتك واجتهادك في العبادة‪،‬‬
‫هذا هو المعنى المراد بميراث الجنة‪ ،‬وينبغي أ ّ‬
‫واعلم أن النجاة ل تكون إل برحمة ال وفضل منه سبحانه‪.‬‬
‫غفِ ْر لَبِي }‬
‫ثم ترك الدعاء لذاته وانتقل لمن رباه فقال‪ { :‬وَا ْ‬

‫(‪)2978 /‬‬

‫وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنّهُ كَانَ مِنَ الضّالّينَ (‪)86‬‬

‫لم ي ْنسَ إبراهيم ـ عليه السلم ـ في دعائه أن يدعو لمن رباه؛ لن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ‬
‫هو الخالق‪ ،‬إنما جعل الوالدين هما السبب المباشر في الخَلْق واليجاد؛ لذلك جعلهما أصحاب‬
‫الفضل والحق بالطاعة بعده تعالى‪ ،‬لكن قد ينجب الوالدان ويهملن ولدهما فيربيه غيرهما؛ لذلك‬
‫يأخذ المنزلة الثالثة‪ ،‬فعندنا ربوبية خَلقَت من عدم‪ ،‬وأبوة جاءت بأسباب اليجاد‪ ،‬وأبوة أخرى‬
‫ربّت واعتنتْ‪.‬‬
‫صغِيرا }[السراء‪]24 :‬‬
‫ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ‬
‫وهذا المعنى واضح في قوله سبحانه‪َ {:‬وقُل ّربّ ا ْر َ‬
‫فحيثية الدعاء بالرحمة هنا‪ ،‬ل لنهما أبوان وهما سبب اليجاد‪ ،‬إنما لنهما ربّياني صغيرا‪ ،‬إذن‪:‬‬
‫لو ربّاني غير والديّ لخذوا هذه المنزلة واستحقوا مني هذا الدعاء‪.‬‬
‫جبْ لبراهيم عليه السلم في هذه‪ ،‬لنه سأل ال لبيه قبل أن يعرف أنه عدو ل‪ ،‬يقول‬
‫لكن لم يُست َ‬
‫ع ُدوّ للّهِ تَبَرّأَ‬
‫تعالى‪َ {:‬ومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِي َم لَبِيهِ ِإلّ عَن ّموْعِ َد ٍة وَعَ َدهَآ إِيّاهُ فََلمّا تَبَيّنَ َلهُ أَنّهُ َ‬
‫مِنْهُ }[التوبة‪.]114 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ولَ تُخْزِنِي َيوْمَ }‬

‫(‪)2979 /‬‬

‫وَلَا تُخْزِنِي َيوْمَ يُ ْبعَثُونَ (‪)87‬‬

‫بأيّ شيء يكون الخزي في الخرة؟ الخزي يكون حين يعاتبك ربك يوم القيامة على رؤوس‬
‫الشهاد على ما فَرَط منك من تقصير؛ لذلك الحساب اليسير ما كان بين العبد وربه‪ ،‬وقد أُجيب‬
‫إبراهيم عليه السلم في هذه الدعوة بقوله تعالى‪ {:‬وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ }[البقرة‪.]130 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2980 /‬‬

‫ل وَلَا بَنُونَ (‪ )88‬إِلّا مَنْ أَتَى اللّهَ ِبقَ ْلبٍ سَلِيمٍ (‪)89‬‬
‫َيوْمَ لَا يَ ْنفَعُ مَا ٌ‬

‫ل َولَ بَنُونَ } [الشعراء‪ ]88 :‬فأتى بالمسألة التي تشغل الناس جميعا‪ ،‬فكل‬
‫قوله‪َ { :‬يوْمَ لَ يَنفَعُ مَا ٌ‬
‫إنسان يريد أن يكون غنيا صاحب مال وأولد وعِزْوة‪ ،‬ومَنْ حُرِم واحدة منهما حَزِن وألم أشدّ‬
‫اللم‪.‬‬
‫والحق تبارك وتعالى يقول‪ {:‬ا ْلمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا }[الكهف‪.]46 :‬‬
‫ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َهبِ‬
‫ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ‬
‫حبّ ال ّ‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬زُيّنَ لِلنّاسِ ُ‬
‫وَا ْلفِضّةِ }[آل عمران‪.]14 :‬‬
‫حسْن غير الذاتي‪ ،‬فالحُسْن قد يكون ذاتيا في الجوهر‬
‫نعم‪ ،‬هي زينة الحياة الدنيا‪ ،‬ومعنى الزينة‪ :‬ال ُ‬
‫كالمرأة التي تكون جميلة بطبيعتها التي خلقها ال عليها‪ ،‬دون أنْ تتكلّف الجمال‪ ،‬أو الزينة‬
‫الظاهرة من مساحيق أو ذهب أو خلفه‪ ،‬لذلك س ّموْها في اللغة (الغانية) وهي التي استغنْت‬
‫بجمالها الطبيعي الذاتي عن أنْ تتزّين بأيّ شيء آخر‪.‬‬
‫وقوله‪ِ { :‬إلّ مَنْ أَتَى اللّهَ ِبقَ ْلبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء‪ ]89 :‬يعني‪ :‬مع أن المال والبنين زينة الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬فهذا ل يمنع نفعهما لصاحبهما إنْ أحسن التصرّف في ماله‪ ،‬فأنفقه في الخير‪ ،‬وأحسن تربية‬
‫أولده التربية الصالحة‪ ،‬لكن هذه أيضا ل تصفو له ول تستقيم إل إذا { أَتَى اللّهَ ِبقَ ْلبٍ سَلِيمٍ }‬
‫[الشعراء‪.]89 :‬‬
‫ن كنتَ‬
‫يعني‪ :‬توفّر له الخلص في هذا كله‪ ،‬وإلّ فالرياء يُحبط العمل‪ ،‬ويجعله هباءً منثورا‪ ،‬إ ْ‬
‫تفعل الخير في الدنيا ول تؤمن بال ول تُنزهه سبحانه عن الشريك‪ ،‬فلن ينفعك عملك‪ ،‬ولن يكون‬
‫لك منه نصيب في ثواب الخرة‪.‬‬
‫جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان‪.]23 :‬‬
‫ع َملٍ فَ َ‬
‫عمِلُواْ مِنْ َ‬
‫كما قال تعالى‪َ {:‬وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا َ‬
‫وفي الحديث القدسي‪ ..." :‬فعلت ليقال وقد قيل‪." ...‬‬
‫فعلتَ ليُقام لك حفل تكريم وقد أقيم لك‪ ،‬فعلتَ لتأخذ نيشانا وقد أخذتَه‪ ،‬فعلتَ ليُكتب اسمك على‬
‫باب المسجد وقد كُتِب‪ ،‬إذن‪ :‬انتهت المسألة‪.‬‬
‫ل َولَ بَنُونَ } [الشعراء‪ ]88 :‬ل ينفي نفع المال والبنين‪ ،‬فهي نافعة‬
‫فقوله تعالى‪َ { :‬يوْ َم لَ يَنفَعُ مَا ٌ‬
‫ل بقلب سليم‪ ،‬والسلمة هنا تعني‪ :‬أن يظلَ الشيء على حاله وعلى صلحه‬
‫شريطة أنْ تأتي ا َ‬
‫الذي خلقه ال عليه ل يصيبه عطب في ذاته‪ ،‬فيؤدي مهمته كما ينبغي‪.‬‬
‫فكأن السلمة تُوجد أولً‪ ،‬ونحن الذين نُفسِد هذه السلمة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫ن وَلَـاكِن لّ‬
‫{ وَإِذَا قِيلَ َلهُ ْم لَ ُتفْسِدُواْ فِي الَرْضِ قَالُواْ إِ ّنمَا َنحْنُ ُمصْلِحُونَ * أَل إِ ّنهُمْ هُمُ ا ْل ُمفْسِدُو َ‬
‫شعُرُونَ }[البقرة‪11 :‬ـ ‪.]12‬‬
‫يَ ْ‬
‫لذلك لو تأمّل الناس فيما يُتعبهم في الحياة لوجدوا أنه ثمرة إفسادهم في الكون المنظم الذي خلقه‬
‫ال على مقتضى حكمته تعالى‪ ،‬بدليل أن كل حركة في الكون ل يتدخل فيها النسان تراها‬
‫مُستقيمة منتظمة ل تتخلف‪ ،‬فإنْ تدخّل النسان ُوجِد الفساد ووُجِد الظلم للغير‪ ،‬حتى للنبات وللجماد‬
‫وللحيوان‪ ،‬وقد نهانا الشارع الحكيم عن هذا كله‪.‬‬

‫هذا إنْ تدخّل النسان في الكون على غير مقتضى منهج ربه‪ ،‬فإنْ تدخّل على َهدْى من منهج ال‬
‫استقامتْ المور وتحققتْ السلمة‪.‬‬
‫أل ترى قوله تعالى في سورة الرحمن‪:‬‬
‫سمَآءَ َر َف َعهَا َو َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن‪:‬‬
‫س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ * وَالنّجْ ُم وَالشّجَرُ َيسْجُدَانِ * وَال ّ‬
‫شمْ ُ‬
‫{ ال ّ‬
‫‪5‬ـ ‪.]7‬‬
‫لذلك تجد كل شيء في الكون موزونا بقدر وبحكمة‪ :‬الشمس والقمر والنجوم والهواء والماء‪ ..‬الخ‬
‫خلَ للنسان‬
‫وكل عناصر الكون هذه تسير مستقيمة في منظومة الكون المتكاملة‪ ،‬لماذا؟ لنه ل دَ ْ‬
‫فيها‪.‬‬
‫ن يعمُرَ به‪ ،‬وقد ورد في الحديث‬
‫فمعنى القلب السليم‪ :‬القلب الذي ل يعمُر إل بما أراد ال أ ْ‬
‫القدسي‪ " :‬ما وسعتني أرضي ول سمائي‪ ،‬ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن "‪.‬‬
‫شغَله من أمور الدنيا‪ ،‬واجعله خاليا ل مُنْشغلً به‪ ،‬فهذه هي سلمة القلب؛‬
‫إذن‪ :‬ل تزحم قلبك بما يَ ْ‬
‫لن القلب مفطور على هذا‪ ،‬مطبوع عليه‪ ..‬ساعة خلقه ال خلقه صافيا سليما من المشاغل؛ لذلك‬
‫س ْم َع وَالَبْصَارَ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ‬
‫يقول سبحانه‪ {:‬وَاللّهُ أَخْ َر َ‬
‫شكُرُونَ }[النحل‪.]78 :‬‬
‫وَالَفْئِ َدةَ }[النحل‪ ]78 :‬لماذا؟{ َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫إذن‪ :‬ل تأخذ المال والبنين منفصليْن عن سلمة القلب؛ لن ربك يقول‪ {:‬وَالْبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ خَيْرٌ‬
‫عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ َأمَلً }[الكهف‪.]46 :‬‬
‫ش َهوَاتِ }[آل عمران‪ ]14 :‬ختمها الحق سبحانه بقوله‪ {:‬ذاِلكَ مَتَاعُ‬
‫حبّ ال ّ‬
‫وفي آية‪ {:‬زُيّنَ لِلنّاسِ ُ‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْ َدهُ حُسْنُ ا ْلمَآبِ }[آل عمران‪.]14 :‬‬
‫ومن سلمة القلب أن يخلو من الشرك‪ ،‬وأن يخلو من النفاق؛ لن المنافق يؤمن بلسانه‪ ،‬ول يؤمن‬
‫بقلبه‪ ،‬فقلبه ل يوافق لسانه؛ لذلك هو غير سليم القلب‪ ،‬فكان أشد إثما من الكافر‪ ،‬وجعله ال في‬
‫الدّرْك السفل من النار‪.‬‬
‫المنافق أشد تعذيبا من الكافر؛ لن الكافر مع ُكفْره هو منطقيّ مع نفسه‪ ،‬حيث كفر بقلبه وبلسانه‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونطق بما يعتقده‪ ،‬أما المنافق فقد غشّنا وحُسِب علينا ظاهرا‪ ،‬ومنهم مَنْ كان يصلي خلف رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم في الصف الول‪ ،‬وهو في حقيقة المر من الطابور الخامس داخل‬
‫صفوف المسلمين‪.‬‬
‫وكذلك الرياء ينافي سلمة القلب‪ ،‬فالمرائي يعمل للناس ول يعمل ل‪ ،‬ونعجب حين نرى مَنْ يُقدّم‬
‫سمْعة‪ ،‬ثم يتهم مَنْ أسدى إليه الجميل بأنه ناكر للجميل‪ ،‬نقول له‪ :‬لماذا تتهمه وقد‬
‫الجميل رياءً و ُ‬
‫سبقته فأنكرتَ جميل ال‪ ،‬حيث لم تجعله على بالك حين فعلتَ الخير‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهذا جزاؤك جزا ًء وفاقا‪ ،‬لنك ما فعلتَ الخير ل‪ ،‬إنما فعلته للعبد فانتظر منه الجزاء‪.‬‬
‫صفْر‬
‫وصَ ْفقَة المرائي خسارة‪ ،‬وتجارته بائرة؛ لنه حين يعطي رياءً يستفيد منه الخذ ويخرج هو ُ‬
‫ص ْفوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َركَ ُه صَلْدا }[البقرة‪:‬‬
‫اليدين‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬فمَثَلُهُ َكمَ َثلِ َ‬
‫‪.]264‬‬
‫وبعد ذلك ترى الناس تكره المرائي‪ ،‬ويُنكرون جميله في بناء مسجد أو مستشفى أو مدرسة مثلً‪،‬‬
‫ولو عمل ذلك ل لبقى ال ِذكْره بين الناس‪ ،‬فحفظوا جميله‪ ،‬وأَث َنوْا عليه بالخير‪.‬‬
‫" ويُرْوى أن السيدة فاطمة الزهراء دخل عليها سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم فوجدها تجلو‬
‫درهما في يدها‪ ،‬فلما سألها عنه قالت‪ :‬لنّي قد نويتُ أنْ أتصدّق به‪ ،‬فقال لها‪ :‬تصدّقي به وهو‬
‫على حاله‪ ،‬فقالت‪ :‬أنا أعلم أنه يقع في يد ال قبل أن يقع في يد الفقير‪ ،‬وال طيب ل يقبل إل طيبا‬
‫"‪.‬‬
‫ثم يذكر الحق ـ تبارك وتعالى ـ نتيجة سلمة القلب وثمرة الخلص في العلم‪ ،‬فيقول‪} :‬‬
‫وَأُزِْلفَتِ ا ْلجَنّةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ {‬

‫(‪)2981 /‬‬

‫وَأُزِْلفَتِ ا ْلجَنّةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ (‪)90‬‬

‫{ وَأُزِْل َفتِ } [الشعراء‪ ]90 :‬يعني‪ :‬قرّبت‪ ،‬لكن كيف تقرب منهم وهم بداخلها؟ قالوا‪ :‬تُقرّب منهم‬
‫قبل أن يدخلوها‪ ،‬وهم ما زالوا في شدة الموقف وهو القيامة والحساب‪ ،‬فتُقرّب منهم الجنة‬
‫ليطمئنوا بها‪ ،‬ويهون عليهم هذا الموقف الصعب‪.‬‬
‫وفي آية أخرى‪ {:‬وَأُزِْلفَتِ ا ْلجَنّةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ غَيْرَ َبعِيدٍ }[ق‪ ]31 :‬يعني‪ :‬يروْنها عيانا‪ ،‬ويعرفون أنها‬
‫النعيم الذي ينتظرهم‪ ،‬وسوف يباشرونه عن قريب‪ ،‬كما لو دُعِ ْيتَ إلى مائدة أحد العظماء‪ ،‬وقد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أُع ّدتْ على أتمّ وجه‪ ،‬فإن من النعيم أن تمر بها وتشاهد ما عليها من أطايب الطعام قبل أن يحين‬
‫وقت الجتماع عليه‪.‬‬

‫(‪)2982 /‬‬

‫وَبُرّ َزتِ ا ْلجَحِيمُ لِ ْلغَاوِينَ (‪)91‬‬

‫وهذه لمن أتى ال بقلب غير سليم‪ ،‬قلب خالطه شرك أو نفاق أو رياء‪ ،‬وفي آية أخرى يقول‬
‫ل وَارِدُهَا }[مريم‪.]71 :‬‬
‫تعالى‪ {:‬وَإِن مّنكُمْ ِإ ّ‬
‫والورود ل يعني دخول النار‪ ،‬إنما رؤيتها والمرور بها؛ لن الصراط مضروب على مَتْن جهنم‪،‬‬
‫فالورود شيء والدخول شيء آخر‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى في قصة موسى عليه السلم‪ {:‬وََلمّا وَرَدَ‬
‫سقُونَ }[القصص‪ ]23 :‬مع أن موسى ـ عليه السلم ـ ورد‬
‫ن َوجَدَ عَلَ ْيهِ ُأمّةً مّنَ النّاسِ يَ ْ‬
‫مَآءَ مَدْيَ َ‬
‫الماء يعني‪ :‬مكان الماء‪ ،‬ولم يشرب منه‪.‬‬
‫والحكمة من ورود النار بهذا المعنى أنْ يعرف المؤمن َفضْل اليمان عليه‪ ،‬وأنه سبب نجاته من‬
‫خلَ‬
‫هذه النار التي يراها‪ ،‬وهذه أعظم نعمة عليه؛ لذلك يقول سبحانه‪َ {:‬فمَن زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُدْ ِ‬
‫الْجَنّةَ َفقَدْ فَازَ }[آل عمران‪.]185 :‬‬
‫ن يكون غاويا في نفسه‪ ،‬أو أغوى غيره‪،‬‬
‫ومعنى { ِل ْلغَاوِينَ } [الشعراء‪ ]91 :‬جمع غَاوٍ‪ ،‬وهو إما أ ْ‬
‫فتطلق على الغاوي‪ ،‬وعلى الذي يُغوِي غيره‪.‬‬

‫(‪)2983 /‬‬

‫َوقِيلَ َلهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ َتعْ ُبدُونَ (‪ )92‬مِنْ دُونِ اللّهِ َهلْ يَ ْنصُرُو َنكُمْ َأوْ يَنْ َتصِرُونَ (‪)93‬‬

‫قوله تعالى‪ { :‬أَيْنَ مَا كُن ُتمْ َتعْبُدُونَ } [الشعراء‪ ]92 :‬أرونا مَنْ أشركتموهم مع ال‪ ،‬أين هم الن؟‬
‫جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ فَا ْهدُوهُمْ‬
‫وفي موضع آخر‪ {:‬احْشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُو ْا وَأَ ْزوَا َ‬
‫جحِيمِ * َو ِقفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ * مَا َل ُك ْم لَ تَنَاصَرُونَ }[الصافات‪22 :‬ـ ‪.]25‬‬
‫إِلَىا صِرَاطِ الْ َ‬
‫لقد ضلوا عنكم‪ ،‬وتركوكم‪ ،‬بل وتبرأوا منكم‪ {:‬إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ وَرََأوُاْ ا ْل َعذَابَ‬
‫ط َعتْ ِبهِ ُم الَسْبَابُ }[البقرة‪.]166 :‬‬
‫وَتَقَ ّ‬
‫حتَ َأ ْقدَامِنَا‬
‫جعَ ْل ُهمَا تَ ْ‬
‫ن وَالِنسِ نَ ْ‬
‫ثم ياتي الذين اتبعوا فيقولون‪ {:‬رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ ا ْلجِ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سفَلِينَ }[فصلت‪.]29 :‬‬
‫ن الَ ْ‬
‫لِ َيكُونَا مِ َ‬
‫ع ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف‪:‬‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ‬
‫نعم‪ ،‬إنها معركة؛ لن ال تعالى قال‪ {:‬الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ‬
‫‪.]67‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬هلْ يَنصُرُو َنكُمْ َأوْ يَن َتصِرُونَ } [الشعراء‪ ]93 :‬يعني‪ :‬ل يستطيعون نصركم‪ ،‬أو‬
‫الدفاع عنكم‪ ،‬ول حتى َنصْر أنفسهم‪ ،‬فإنْ كان نصرهم لنفسهم ممنوعا فلغيرهم من باب َأوْلَى‪،‬‬
‫ففي الية تقريع لهم ولمن عبدوهم من دون ال‪ ،‬وتحقير لشأنهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬فكُ ْبكِبُواْ فِيهَا ُهمْ }‬

‫(‪)2984 /‬‬

‫َفكُ ْبكِبُوا فِيهَا ُه ْم وَا ْلغَاوُونَ (‪)94‬‬

‫الفعل كَبْكب‪ ،‬يعني‪ :‬كبّوا مرة بعد أخرى على وجوههم‪ ،‬فهي تعني تكرار ال َكبّ‪ ،‬فكلما قام ُكبّ‬
‫على وجهه مرة أخرى‪ ،‬وهي على وزن فعللة الدال على التكرار كما تقول‪ :‬زقزقة العصافير‪،‬‬
‫ونقنقة الضفادع‪ .‬والمراد هنا الصنام تكبّ على وجوهها‪ ،‬وتسبق مَنْ عبدها إلى النار‪ ،‬كما قال‬
‫جهَنّمَ }[النبياء‪.]98 :‬‬
‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫تعالى‪ {:‬إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ َ‬
‫غ َووْهم وأضلوهم؛ ليقطع أمل‬
‫وقال‪ { :‬هُ ْم وَا ْلغَاوُونَ } [الشعراء‪ ]94 :‬فالغاوون يسبقون مَنْ أ ْ‬
‫التابعين لهم في النجاة‪ ،‬فلو دخل التابعون أولً لقالوا‪ :‬سيأتي منْ عبدناهم لينقذونا‪ ،‬لكن يجدونهم‬
‫أمامهم قد سبقوهم‪ ،‬كما قال تعالى عن فرعون‪َ {:‬يقْدُمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فََأوْرَدَهُمُ النّارَ }[هود‪.]98 :‬‬

‫(‪)2985 /‬‬

‫ج َمعُونَ (‪)95‬‬
‫وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَ ْ‬

‫ولبليس جنودٌ من الجن‪ ،‬وجنود من النس‪ ،‬سيجتمعون جمعيا في النار‪.‬‬

‫(‪)2986 /‬‬

‫سوّيكُمْ بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)98‬‬


‫صمُونَ (‪ )96‬تَاللّهِ إِنْ كُنّا َلفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (‪ )97‬إِذْ ُن َ‬
‫قَالُوا وَهُمْ فِيهَا َيخْ َت ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه لقطة من ساحة القيامة‪ ،‬حيث يختصم أهل الضلل مع مَنْ أضلوهم‪ ،‬ويُ ْلقِي كل منهم بالتبعة‬
‫على الخر‪.‬‬
‫وهذه الخصومة وردتْ في قوله تعالى على لسان الشيطان‪َ {:‬ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْي ُكمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن‬
‫سكُمْ }[إبراهيم‪ ]22 :‬والمعنى‪ :‬لم يكُنْ لي عليكم‬
‫عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ‬
‫دَ َ‬
‫سلطانُ َقهْر أحملكم به على طاعتي‪ ،‬ول سلطان حجة أقنعكم به‪.‬‬
‫ثم يعترف أهل الضلل بضللهم ويقسمون { تَاللّهِ } [الشعراء‪ ]97 :‬يعني‪ :‬وال { إِن كُنّا َلفِي‬
‫للٍ مّبِينٍ } [الشعراء‪ ]97 :‬يعني‪ :‬ظاهر ومحيط بنا من كل ناحية‪ ،‬فأين كانت عقولنا { إِذْ‬
‫ضَ َ‬
‫سوّيكُمْ بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء‪ ]98 :‬أي‪ :‬في الحب‪ ،‬وفي الطاعة‪ ،‬وفي العبادة‪.‬‬
‫نُ َ‬
‫حبّ اللّهِ }[البقرة‪.]165 :‬‬
‫كما قال سبحانه‪َ {:‬ومِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادا ُيحِبّو َنهُمْ كَ ُ‬

‫(‪)2987 /‬‬

‫َومَا َأضَلّنَا إِلّا ا ْلمُجْ ِرمُونَ (‪)99‬‬

‫يعني‪ :‬يا رب أرنا هؤلء المجرمين‪ ،‬و َمكِنّا منهم لننتقم لنفسنا‪ ،‬ونجعلهم تحت أقدامنا‪ ،‬وهكذا‬
‫سمّهم في هؤلء المجرمين‪ ،‬وألقوا عليهم بتبعة ما هم فيه‪.‬‬
‫أخرجوا كل ُ‬

‫(‪)2988 /‬‬

‫حمِيمٍ (‪)101‬‬
‫َفمَا لَنَا مِنْ شَا ِفعِينَ (‪ )100‬وَلَا صَدِيقٍ َ‬

‫شفْع أي‪ :‬الثنين‪ ،‬والشافع هو الذي يض ّم صوته إلى صوتك في أمر ل تستطيع أن‬
‫الشافع من ال ّ‬
‫تناله بذاتك‪ ،‬فيتوسط لك عند مَنْ لديه هذا المر‪ ،‬والشفاعة في الخرة ل تكون إل لمن أَذِن ال له‪،‬‬
‫ش َفعُونَ ِإلّ ِلمَنِ ارْ َتضَىا }[النبياء‪.]28 :‬‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وَلَ يَ ْ‬
‫ويقول سبحانه‪:‬‬
‫شفَعُ عِنْ َدهُ ِإلّ بِِإذْنِهِ }[البقرة‪.]255 :‬‬
‫{ مَن ذَا الّذِي يَ ْ‬
‫إذن‪ :‬ليس كل أحد صالحا للشفاعة مُعدا لها‪ ،‬وكذلك في الشفاعة في الدنيا فل يشفع لك إل صاحب‬
‫منزلة ومكانة‪ ،‬وله عند الناس أيَادٍ تحملهم على احترامه وقبول وساطته‪ ،‬فهي شفاعة مدفوعة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الثمن‪ ،‬فللشافع رصيد من الجميل وسوابق الخير تزيد عما يطلب للمشفوع له‪.‬‬
‫لذلك نرى في الريف مثلً رجلً له جاه ومنزلة بين الناس‪ ،‬فيحكم في النزاعات ويفصل في الدم‪،‬‬
‫فحين يتدخّل بين خصميْن ترى الجميع ينصاع له ويذعن لحكومته‪.‬‬
‫ومن ذلك ما عرفناه في الشرع من شركة الوجوه‪ ،‬ومعلوم أن الشركة تحتاج إلى مال أو عمل‪،‬‬
‫لكن قد يوجد شخص ليس لديه مال ول يستطيع العمل‪ ،‬لكن يتمتع بوجاهة ومنزلة بين الناس‪،‬‬
‫فنأخذه شريكا معنا بما لديه من هذه الميزة‪.‬‬
‫والحقيقة أن وجاهته ومنزلته بين الناس ُقوّمت بالمال؛ لنه ما نالها من فراغ‪ ،‬إنما جاءت نتيجة‬
‫جهْد وعمل ومجاملت للناس‪ ،‬احترموه لجلها‪ ،‬فلما زال عنه المال وأنفقه في الخير َبقِي له‬
‫َ‬
‫رصيد من الحب والمكانة بين الناس‪ ..‬ومن ذلك أيضا شراء العلمة التجارية‪.‬‬
‫حمِيمٍ } [الشعراء‪ ]101 :‬فرْق بين الشافع والصديق‪ ،‬فالشافع ل بُدّ أن تطلب‬
‫ل صَدِيقٍ َ‬
‫ومعنى { َو َ‬
‫منه أن يشفع لك‪ ،‬أما الصديق وخاصة الحميم ل ينتظر أن تطلب منه‪ ،‬إنما يبادرك بالمساعدة‪،‬‬
‫ووصف الصديق بأنه حميم؛ لن الصداقة وحدها في هذا الموقف ل تنفع حيث كل إنسان مشغول‬
‫بنفسه‪.‬‬
‫فإذا لم تكُنْ الصداقة داخلة في الحميمية‪ ،‬فلن يسأل صديق عن صديقه‪ ،‬كما قالت تعالى‪َ {:‬يوْمَ َيفِرّ‬
‫ا ْلمَرْءُ مِنْ َأخِيهِ * وَُأمّهِ وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }[عبس‪:‬‬
‫‪34‬ـ ‪.]37‬‬
‫وقد أثارت مسألة الشفاعة لغطا كثيرا من المستشرقين الذين يريدون تصيّد المآخذ على القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬فجاء أحدهم يقول‪ :‬تقولون إن القرآن معجزة في البلغة‪ ،‬ونحن نرى فيه المعنى الواحد‬
‫ن كان الول بليغا فالخر غير بليغ‪ ،‬وإنْ كان الثاني بليغا فالول غير بليغ‪،‬‬
‫يأتي في أسلوبين‪ ،‬فإ ْ‬
‫ثم يقول عن مثل هذه اليات‪ :‬إنها تكرار ل فائدة منه‪.‬‬
‫ونقول له‪ :‬أنت تنظر إلى المعنى في إجماله‪ ،‬وليس لديك الملَكة العربية التي تستقبل بها كلم ال‪،‬‬
‫ولو كانت عندك هذه الملَكة لما اتهمتَ القرآن‪ ،‬فكل آية مما تظنه تكرارا إنما هي تأسيس في‬
‫مكانها ل تصلح إل له‪.‬‬

‫واليتان محل الكلم عن الشفاعة في سورة البقرة‪ ،‬هما متفقتان في الصدر مختلفتان في ال َعجْز‪،‬‬
‫أحدهما‪:‬‬
‫{ وَا ّتقُواْ َيوْما لّ تَجْزِي َنفْسٌ عَن ّنفْسٍ شَيْئا }[البقرة‪.]48 :‬‬
‫والخرى‪:‬‬
‫{ وَا ّتقُواْ َيوْما لّ تَجْزِي َنفْسٌ عَن ّنفْسٍ شَيْئا }[البقرة‪.]123 :‬‬
‫ع ْدلٌ }[البقرة‪:‬‬
‫شفَاعَ ٌة َولَ ُيؤْخَذُ مِ ْنهَا َ‬
‫عجُز الولى‪ {:‬وَلَ ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ‬
‫إذن‪ :‬فصدْر اليتين متفق‪ ،‬أما َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]48‬‬
‫شفَاعَةٌ }[البقرة‪ ]123 :‬فهما مختلفتان‪.‬‬
‫ع ْدلٌ َولَ تَن َفعُهَا َ‬
‫وعَجُز الخرى‪ {:‬وَلَ ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ‬
‫وحين تتأمل صَدْ َريْ اليتين الذي تظنه واحدا في اليتين تجد أنه مختلف أيضا‪ ،‬نعم هو مُتحد في‬
‫ظاهره‪ ،‬لكن حين تتأمله تجد أن الضمير فيهما‪ :‬إما يعود على الشافع‪ ،‬وإما يعود على المشفوع‬
‫له‪ ،‬فإنْ عاد الضمير على المشفوع له نقول له‪ :‬ل نأخذ منك عدلً‪ ،‬ول تنفعك شفاعة‪ ،‬وإنْ عاد‬
‫الضمير على الشافع نقول له‪ :‬ل نقبل منك شفاعة ـ ونُقدّم الشفاعة أولً ـ ول نأخذ منك عدلً‪.‬‬
‫ل منهما يحمل معنى ل تؤديه الية الخرى‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ليس في اليتين تكرار كما تظنون‪ ،‬فك ّ‬
‫وقد أوضحنا هذه المسألة أيضا في قوله تعالى‪ {:‬وَلَ َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ خَشْ َيةَ ِإمْلقٍ }[السراء‪.]31 :‬‬
‫والخرى‪َ {:‬ولَ َتقْتُلُواْ َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْلَقٍ }[النعام‪.]151 :‬‬
‫فصدْرا اليتين مختلف‪ ،‬وكذلك العَجْز مختلف‪ ،‬فعَجُز الولى‪ {:‬نّحْنُ نَرْ ُز ُقهُمْ وَإِيّاكُم }[السراء‪:‬‬
‫‪.]31‬‬
‫وعَجُز الخرى‪ {:‬نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُمْ وَإِيّاهُمْ }[النعام‪.]151 :‬‬
‫وحين نتأمل اليتين نجد أن لكل منهما معناها الخاص بها‪ ،‬وليس فيهما تكرار كما يظن البعض‪.‬‬
‫ففي الية الولى‪ {:‬وَلَ َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ خَشْ َيةَ ِإمْلقٍ }[السراء‪ ]31 :‬إذن‪ :‬فالفقر غير موجود‪،‬‬
‫والب يخاف أن يأتي الفقر بسبب الولد‪ ،‬فهو مشغول برزق الولد‪ ،‬ل برزقه هو؛ لنه غني غير‬
‫محتاج؛ لذلك قدّم الولد في عَجُز الية‪ ،‬كأنه يقول للب‪ :‬اطمئن فسوف نرزق هؤلء الولد‬
‫أولً‪ ،‬وسوف تُرزَق أنت أيضاَ معهم‪.‬‬
‫أما الية الخرى‪َ {:‬ولَ َتقْتُلُواْ َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْلَقٍ }[النعام‪ ]151 :‬فالفقر في هذه الحالة موجود‬
‫فعلً‪ ،‬وشُغل الب برزق نفسه أوْلى من شغله برزق ولده؛ لذلك قال في عَجُز الية‪ {:‬نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُمْ‬
‫وَإِيّاهُمْ }[النعام‪ ]151 :‬فقدّمهم على الولد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لكل آية معناها الذي ل تؤديه عنها الية الخرى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عنهم أنهم قالوا‪ } :‬فََلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً {‬

‫(‪)2989 /‬‬

‫فََلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً فَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)102‬‬

‫معنى‪ { :‬كَ ّرةً } [الشعراء‪ ]102 :‬أي‪ :‬عودة إلى الدنيا ورجعة { فَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [الشعراء‪:‬‬
‫‪ ]102‬أي‪ :‬نستأنف حياة جديدة‪ ،‬فنؤمن بال ونطيعه‪ ،‬ونستقيم على منهجه‪ ،‬ول نقف هذا الموقف‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفي آيات أخرى شرحت هذه المسألة‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬حَتّىا إِذَا جَآءَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ َربّ‬
‫ع َملُ صَالِحا فِيمَا تَ َر ْكتُ كَلّ إِ ّنهَا كَِلمَةٌ ُهوَ قَآئُِلهَا َومِن وَرَآ ِئهِمْ بَرْزَخٌ ِإلَىا َيوْمِ‬
‫جعُونِ * َلعَلّي أَ ْ‬
‫ارْ ِ‬
‫يُ ْبعَثُونَ }[المؤمنون‪99 :‬ـ ‪.]100‬‬
‫يعني‪ {:‬كَلّ }[المؤمنون‪ ]100 :‬لن يعودوا مرة أخرى‪ ،‬وما هي إل كلمة يقولونها بألسنتهم يريدون‬
‫النجاة بها‪ ،‬لكن هيهات فبينهم وبين الدنيا برزخٌ يعزلهم عنها‪ ،‬ويمنعهم العودة إليها‪ ،‬وسوف يظل‬
‫هذا البرزخ إلى يوم يُبعثون‪.‬‬
‫وفي أية أخرى حول هذا المعنى يُرقّي الحق ـ تبارك وتعالى ـ المسألة من موقف الموت إلى‬
‫موقف القيامة‪ ،‬فيقول سبحانه‪ {:‬وََلوْ تَرَىا إِذْ ُوقِفُواْ عَلَى النّارِ َفقَالُواْ يالَيْتَنَا نُ َر ّد َولَ ُن َك ّذبَ بِآيَاتِ‬
‫رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النعام‪.]27 :‬‬
‫وهذا َكذِب منهم وقَوْل باللسان ل يوافقه العمل؛ لذلك ردّ الحق ـ تبارك وتعالى ـ عليهم بقوله‪{:‬‬
‫ل وََلوْ رُدّواْ َلعَادُواْ ِلمَا ُنهُواْ عَنْهُ وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }[النعام‪.]28 :‬‬
‫خفُونَ مِن قَ ْب ُ‬
‫َبلْ بَدَا َل ُهمْ مّا كَانُواْ ُي ْ‬
‫ك ليَةً }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِنّ فِي ذَِل َ‬

‫(‪)2990 /‬‬

‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)103‬‬

‫الية‪ :‬هي المر العجيب الملفت للنظر‪ ،‬وما كان ينبغي أنْ يمرّ على العقول بدون تأمّل واعتبار {‬
‫َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُم ّم ْؤمِنِينَ } [الشعراء‪ ]103 :‬رغم أن هذه اليات ظاهرة واضحة‪ ،‬ومع ذلك كان‬
‫أكثرهم غير مؤمنين‪.‬‬

‫(‪)2991 /‬‬

‫وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ (‪)104‬‬

‫أي‪ :‬مع كونهم لم يؤمن أكثرهم‪ ،‬فال تعالى هو العزيز الذي ل يُغلَب‪ ،‬إنما يغلِب‪ ،‬ومع عِزّته‬
‫تعالى فهو رحيم بعباده يفتح باب التوبة لمن تاب‪.‬‬
‫ثم ينتقل السياق القرآني من قصة سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ إلى قصة أخرى من َركْب‬
‫النبياء ومواكب الرسل هي قصة نوح عليه السلم‪ { :‬كَذّ َبتْ َقوْمُ نُوحٍ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2992 /‬‬

‫كَذّ َبتْ َقوْمُ نُوحٍ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪)105‬‬

‫سمّوا قوما؛ لنهم هم الذين يقومون بأهم الشياء‪ ،‬ويقابل القوم النساء‪،‬‬
‫القوم‪ :‬هم الرجال خاصة‪ ،‬و ُ‬
‫سخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ عَسَىا أَن‬
‫كما جاء شرح هذا المعنى في قوله سبحانه‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ يَ ْ‬
‫عسَىا أَن َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ }[الحجرات‪.]11 :‬‬
‫َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ َ‬
‫فالرجال هم القوم؛ لنهم يقومون بأهم المور‪ ،‬وعليهم مدار حركة الحياة‪ ،‬والنساء يستقبلْنَ ثمار‬
‫هذه الحركة‪ ،‬فينقونها بأمانة ويُوجّهونها التوجيه السليم‪.‬‬
‫حصْنٍ َأمْ‬
‫ستُ إخََالُ أدْرِي َأ ْقوْمٌ آلُ ِ‬
‫والشاعر العربي أوضح هذا المعنى بقوله‪:‬وَمَا َأدْرِي ول ْ‬
‫نِسَاءُونفهم أيضاَ هذه القِوامة للرجل من َقوْل ال تعالى حينما وعظ آدم وحذّره من الشيطان‪ {:‬إِنّ‬
‫جكَ فَلَ يُخْ ِرجَ ّن ُكمَا مِنَ الْجَنّةِ }[طه‪ ]117 :‬وحسب القاعدة نقول‪ :‬فتشقيا‪.‬‬
‫ك وَلِ َزوْ ِ‬
‫ع ُدوّ ّل َ‬
‫هَـاذَا َ‬
‫شقَىا }[طه‪ ]117 :‬أنت يا آدم وحدك في حركة الحياة‪،‬‬
‫لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول‪ {:‬فَتَ ْ‬
‫فالرجل يتحمل هذه المشقة ويكرم المرأة أن ُتهَان أو تشقى‪ ،‬لكن ماذا نفعل وهي تريد أن تُشقِي‬
‫نفسها؟!‬
‫ونلحظ أن الية تقول‪ { :‬كَذّ َبتْ َقوْمُ نُوحٍ ا ْلمُرْسَلِينَ } [الشعراء‪ ]105 :‬كيف وهم ما كذّبوا إل‬
‫رسلهم نوحا عليه السلم؟ وكانوا مؤمنين قبله بآدم وإبراهيم مثلً‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬لن الرسل عن ال إنما جاءوا في أصول ثابتة في العقيدة وفي الخلق ل تتغير في أي‬
‫دين؛ لذلك فمن كذّب رسوله فكأنه كذّب كل الرسل‪ ،‬ألَ ترى أن من أقوال المؤمنين أن يقولوا‪:‬‬
‫ط َومَا‬
‫ب وَالَسْبَا ِ‬
‫سحَاقَ وَ َيعْقُو َ‬
‫سمَاعِيلَ وَإِ ْ‬
‫{ ُقلْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَآ أُن ِزلَ عَلَيْنَا َومَآ أُن ِزلَ عَلَىا إِبْرَاهِيمَ وَإِ ْ‬
‫أُو ِتيَ مُوسَىا وَعِيسَىا وَالنّبِيّونَ مِن رّ ّبهِ ْم لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مّ ْنهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ }[آل عمران‪:‬‬
‫‪.]84‬‬
‫وقال تعالى‪ {:‬آمَنَ الرّسُولُ ِبمَآ أُنْ ِزلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِلهِ‬
‫حدٍ مّن رّسُِلهِ }[البقرة‪.]285 :‬‬
‫لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ‬
‫فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬فماذا عن اختلف المناهج والشرائع من نبي لخر؟ نقول‪ :‬هذه اختلفات في مسائل‬
‫تقتضيها تطورات المجتمات‪ ،‬وهي فرعيات ل تتصل بأصل العقائد والخلق الكريمة‪.‬‬
‫لذلك نجد هذه لزمة في ُكلّ مواكب الرسالت‪ ،‬يقول‪ :‬المرسِلِين‪ ،‬المرسَلِين؛ لن الذي يُكذّب‬
‫رسوله فيما اتفق فيه الجيال من عقائد وأخلق‪ ،‬فكأنه كذّب جميع المرسلين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2993 /‬‬

‫إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُهمْ نُوحٌ أَلَا تَ ّتقُونَ (‪)106‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُهمْ نُوحٌ َألَ تَ ّتقُونَ } [الشعراء‪ ]106 :‬يريد أن يُحنّن قلوبهم عليه‬
‫بكلمة { أَخُوهُمْ } [الشعراء‪ ]106 :‬التي تعني أنه منهم وقريب الصّلة بهم‪ ،‬ليس أجنبيا عنهم‪ ،‬فهم‬
‫يعرفون أصله ونشأته‪ .‬ويعلمون صفاته وأخلقه‪.‬‬
‫لذلك لما ُبعِث النبي صلى ال عليه وسلم وأبلغ الناس برسالته بادر إلى اليمان به أقرب الناس‬
‫إليه‪ ،‬وهي السيدة خديجة دون أنْ تسمع منه آية واحدة‪ ،‬وكذلك الصّديق أبو بكر وغيرهما من‬
‫المؤمنين الوائل‪ ،‬لماذا؟‬
‫لنهم بَ َنوْا على تاريخه السابق‪ ،‬واعتمدوا على سيرته فيهم قبل الرسالة‪ ،‬فعلموا أن الذي ل يكذب‬
‫على الناس مستحيل أن يكذب على رب الناس‪.‬‬
‫والسيدة خديجة رضوان ال عليها تعتبر أول فقيهة‪ ،‬وأول عالمة أصول في السلم‪ ،‬حينما جاءها‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يشكو ما يعاني‪ ،‬ويخشى أن يكون ما يأتيه من الوحي رئيا من‬
‫الجن أو توهمات تفسد عليه عقله وتفكيره‪ ،‬قالت له ـ انظر إلى العظمة ـ " وال إنك لتصل‬
‫الرحم‪ ،‬و َتقْرى الضيف‪ ،‬وتحمل ال َكلّ‪ ،‬وتُعين على نوائب الدهر‪ ،‬وال ل يخزيك ال أبدا "‪.‬‬
‫ولما علم الصّدّيق بحادثة السراء والمعراج بادر بالتصديق‪ ،‬ولم يتردد‪ ،‬ولما سُئل عن ذلك قال‪:‬‬
‫إننا نصدقه في المر يأتي من السماء فكيف ل نصدقه في هذه‪ ،‬فإنْ كان قال فقد صدق‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمقياس الصدق لديه أن يقول رسول ال؛ لذلك استحق الصّديق هذا اللقب عن جدارة‪ ،‬حتى "‬
‫إن رسول ال صلى ال عليه وسلم ليقول في حقه‪ " :‬كنتُ أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان‬
‫ـ يعني‪ :‬في خصال الخير ـ فسبقتُه إلى النبوة فاتبعني‪ ،‬ولو سبقني لتبعته "‪.‬‬
‫ن نفهمها من قوله تعالى‪ { :‬إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُهمْ نُوحٌ } [الشعراء‪.]106 :‬‬
‫هذه كلها معا ٍ‬
‫سكُمْ }[التوبة‪ ]128 :‬فهذه من حكمة ال في‬
‫وهذا معنى قوله تعالى‪َ {:‬لقَدْ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫الرسل‪ ،‬وعجيب أن يقول أهل العناد من القوم‪ :‬نريد ملكا رسولً‪ ،‬وأن يقفوا من رسول ال موقف‬
‫ن تفهم ل أن‬
‫العداء‪ ،‬وكان يجب عليهم على القل أن يُمكّنوه من دعوته‪ ،‬ويُمكّنوا عقولهم من أ ْ‬
‫تدخل في المر على هوى سابق‪.‬‬
‫فالذي يتعب الناس في استقبال الحق أن تكون قلوبهم مشغولة بباطل‪ ،‬والحق ل يجتمع مع الباطل‬
‫ول يضمهما محلّ واحد؛ لذلك إذا أردت أن تبحث في مسألة‪ ،‬فعليك أنْ تُخرِج من قلبك الباطل‬
‫أولً‪ ،‬ثم حكّم عقلك في المر‪ ،‬واستفتِ قلبك فما سمح به فأدخله‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذه نراها حتى في الماديات‪ ،‬فالحيز الواحد ل يسع شيئين أبدا‪ ،‬يقولون‪ :‬عدم تداخل‪ ،‬كما لو‬
‫ملت قارورة بالماء مثلً‪ ،‬فقبل أن يدخل الماء ل بُدّ أنْ يخرج الهواء‪ ،‬فنراه على شكل فقاعات‪.‬‬

‫سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ }[المؤمنون‪.]71 :‬‬


‫س َدتِ ال ّ‬
‫حقّ أَ ْهوَآ َءهُمْ َلفَ َ‬
‫لذلك يقول تعالى‪ {:‬وََلوِ اتّبَعَ الْ َ‬
‫ولك أن تلحظ مثلً زجاجة (الكولونيا) ذات الّثقْب الضيق إذا وضعْتها في الماء‪ ،‬ل يمكن أن‬
‫يدخلها الماء‪ ،‬لماذا؟ لن ثقبها ضيق‪ ،‬ل يسمح بخروج الهواء أو دخول الماء‪.‬‬
‫سمّي الهوى من الهواء‪ ،‬فكما أن الهواء الذي نُحِسّه لو أتى من ناحية واحدة لمبنى أو‬
‫ولمر ما ُ‬
‫حفْظ توازن هذه المباني‬
‫جبل مثلً لنهدم إلى الناحية الخرى‪ ،‬لماذا؟ لن الهواء هو الذي يتولّى ِ‬
‫العالية وناطحات السحاب التي نراها‪ ،‬يحفظ توازنها حين يحيط بها من كل جهاتها‪ ،‬فإنْ فرّغتَ‬
‫الهواء من أحدى الجهات انهدم المبنى في نفس هذه الجهة‪.‬‬
‫ل إلى قوة تفريغ‬
‫والهواء من القوى العظيمة التي يستخدمها النسان ويُحولّها إلى طاقة‪ ،‬وانظر مث ً‬
‫الهواء وما تُحدِثه من هزة عنيفة‪ ،‬أو إلى الحاويات والشاحنات العملقة التي تسير على الهواء في‬
‫سمّي السقوط‬
‫عجلتها‪ ،‬وكذلك الهوى إنْ كان في الباطل كان قويا ومدمرا‪ ،‬ومن هذا المعنى ُ‬
‫هويّا‪ ،‬تقول‪َ :‬هوَى الشيء يعني‪ :‬سقط‪.‬‬
‫وقوله‪َ } :‬ألَ تَ ّتقُونَ { [الشعراء‪ ]106 :‬هذه الكلمة جاءت على لسان كل الرسل أو يقولها الرسول‬
‫أ ّولَ ما يبعث‪ ،‬ومعناها‪ :‬اتقوا ال و(َألَ) أداة للخصّ‪ ،‬والحثّ على الفعل‪ .‬كما تقول للولد المهمل‪:‬‬
‫َألَ تذاكر أو هَلّ تذاكر‪.‬‬
‫وحين نحلل أسلوب الحضّ أو الحثّ نجد أنه يأتي على صورة التعجب من نفي الفعل‪ ،‬كما تقول‬
‫للولد الذي ل يصلي وتريد أن تحثّه على الصلة‪ :‬أل تصلي؟ استفهام بالنفي وعندها يستحي الولد‬
‫أن يقولها‪ ،‬لكن حين تستفهم بالثبات‪ :‬أتصلي؟ يقولها بفخر‪ :‬نعم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬معنى الحثّ‪ :‬تعجّب من ترْك الفعل وإنكار يحمل معنى المر‪.‬‬
‫ل تكونوا متقين‪ ،‬والمراد‪ :‬أطلب منكم أن‬
‫فمعنى‪َ } :‬ألَ تَ ّتقُونَ { [الشعراء‪ ]106 :‬أُنكِر عليكم أ ّ‬
‫تكونوا متقين‪ ،‬وما ُدمْت قد أنكرت النفي فل بُدّ أنك تريد الثبات‪.‬‬

‫(‪)2994 /‬‬

‫إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ (‪)107‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ } [الشعراء‪ ]107 :‬فإنْ كانت عندكم غفلة فقد َرحِم ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غفلتكم‪ ،‬ونبّهكم برسول أمين َيعِظكم ويعلّمكم ويُبلّغكم منهج ال‪ ،‬وهو أمين لن يغشّكم في شيء‬
‫حتى ل تقولوا‪ :‬إنّا كنّا غافلين‪.‬‬
‫وما ُدمْت أنا مرسلً من ال إليكم‪ ،‬وأمينا عليكم وعلى دعوتي‪ ،‬فاسمعوا مني؛ لذلك كرّر المر‬
‫بالتقوى‪ { :‬فَا ّتقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ }‬

‫(‪)2995 /‬‬

‫فَا ّتقُوا اللّ َه وَأَطِيعُونِ (‪)108‬‬

‫وكأنه يتصالح معهم‪ ،‬فيُخفف من أسلوب الّنصْح‪ ،‬ويأتي بالمر صريحا بعد أن أتى به في صورة‬
‫ل يكونوا متقين‪ .‬وثمرة التقوى طاعة الوامر واجتناب النواهي‪ ،‬وهذه ل نعرفها إل من‬
‫إنكار أ ّ‬
‫الرسول حامل المنهج ومُبلّغ الدعوة والمين عليها‪.‬‬
‫وقد ترددتْ هذه الية على ألسنة كثير من رسل ال‪ { :‬إِنّي َلكُمْ َرسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ‬
‫} [الشعراء‪107 :‬ـ ‪.]108‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومَآ َأسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ }‬

‫(‪)2996 /‬‬

‫َومَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا عَلَى َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)109‬‬

‫هذه العبارة { َومَآ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ } [الشعراء‪ ]109 :‬لم نسمعها على لسان إبراهيم عليه‬
‫السلم‪ ،‬ول على لسان موسى عليه السلم‪ ،‬فأول مَنْ قالها نوح عليه السلم‪ ،‬وكوْنك تقول لخر‪:‬‬
‫أنا ل أسألك َأجْرا على هذا العمل‪ ،‬فهذا يعني أنك تستحق أجرا على هذا العمل‪ ،‬وأنت غير زاهد‬
‫في الجر‪ ،‬إنما إنْ أخذته من المنتفع بعملك‪ ،‬فسوف يُقوّمه لك بمقاييسه البشرية؛ لذلك من الفضل‬
‫أن تأخذ أجرك من ال‪.‬‬
‫فكأن نوحا عليه السلم يقول‪ :‬أنتم أيها البشر ل تستطيعون أن تُقوّموا ما أقوم به من أجلكم؛ لنني‬
‫جئتكم بمنهج هداية يُسعِدكم في الدنيا‪ ،‬ويُنجيكم في الخرة‪ ،‬وأنتم لن تٌقوّموا هذا العمل‪ ،‬وأجري‬
‫فيه على ال؛ لنكم تُعطون على قَدْر إمكاناتكم وعلمكم‪.‬‬
‫وسبق إنْ حكيْنَا لكم قصة الرجل الذي قابلناه في الجزائر‪ ،‬وكان رجلً تبدو عليه علمات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الصلح‪ ،‬وقد أشار لنا لنقف بسيارتنا ونحمله معنا‪ ،‬فلما توقفنا ليركب معنا مالَ إلى السائق‪ ،‬وقال‬
‫(على كم) يعني‪ :‬الجرة فقال له الرجل‪ ،‬وكان المحافظ‪ :‬نُوصلك ل‪ ،‬فقال (غَلّتها يا شيخ)‪ .‬نعم‪،‬‬
‫إنْ كان الجر على ال فهو غَالٍ‪.‬‬
‫وفي آية أخرى يقول تعالى‪ {:‬أَمْ َتسْأَُلهُمْ َأجْرا َفهُم مّن ّمغْرَمٍ مّ ْثقَلُونَ }[الطور‪.]40 :‬‬
‫علَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء‪ ]109 :‬إنْ هنا بمعنى ما النافية؛ لنه‬
‫ثم يقول‪ { :‬إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ َ‬
‫تعالى القادر على أن يُكافئني على دعوتي‪ ،‬فهو الذي أرسلني بها‪ ،‬وهو سبحانه رب العالمين الذي‬
‫تبرع بالخَلْق من عدم‪ ،‬وبالمداد من عدم‪ ،‬وخلق لي ولكم الرزاق‪ ،‬وهذا كله لصالحكم؛ لنه‬
‫سبحانه ل ينتفع من هذا بشيء‪.‬‬
‫والربوبية تقتضي عناية‪ ،‬وتقتضي نفقة وخلقا وإمدادا‪ ،‬فصاحب كل هذه الفضال والنعم هو الذي‬
‫يعطيني أجري‪.‬‬

‫(‪)2997 /‬‬

‫فَا ّتقُوا اللّ َه وَأَطِيعُونِ (‪)110‬‬

‫بعد أن بيّن لهم كرم الربوبية في مسألة الجر على الدعوة وأعطاهم ما يشجعهم على التقوى‬
‫وعلى الطاعة؛ لنهم سينتفعون برسالة الرسول دون أجر منهم‪ .‬ومعنى { فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ }‬
‫[الشعراء‪ ]110 :‬أي‪ :‬ليست لي طاعة ذاتية‪ ،‬إنما أطيعوني؛ لني رسول من قِبَل ال تعالى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه حاكيا ردّهم على نوح عليه السلم‪ { :‬قَالُواْ أَ ُن ْؤمِنُ َلكَ }‬

‫(‪)2998 /‬‬

‫ك وَاتّ َب َعكَ الْأَ ْرذَلُونَ (‪)111‬‬


‫قَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ َل َ‬

‫الَرْذَلُونَ‪ :‬جمع أرذل‪ ،‬وهو الردىء من الشيء‪ ،‬ورُذَال الفاكهة‪ :‬المعطوب منها وما نسميه‬
‫(نقاضة) والستفهام هنا للتعجب‪ :‬كيف نؤمن لك ونحن السادة‪ ،‬والمؤمنون بك هم الرذلون؟‬
‫يقصدون الفقراء وأصحاب الحِرَف والذين ل ُيؤْبَه بهم‪ ،‬وهؤلء عادة هم جنود الرسالة؛ لنهم هم‬
‫المطحونون من المجتمع الفاسد‪ ،‬وطبيعي أن يتلقفوا مَنْ يعدل ميزان المجتمع‪.‬‬
‫وفي آية أخرى‪ {:‬مَا نَرَاكَ ِإلّ بَشَرا مّثْلَنَا َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا }[هود‪.]27 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقولهم‪ { :‬أَ ُن ْؤمِنُ َلكَ } [الشعراء‪ ]111 :‬دليل على عدم فهمهم لحقيقة اليمان؛ لنه لم يقُلْ لهم‪:‬‬
‫آمنوا بي‪ ،‬إنما آمنوا بال‪.‬‬
‫أو‪ :‬أن المعنى { أَ ُن ْؤمِنُ َلكَ } [الشعراء‪ ]111 :‬أي‪ :‬نُصدّقك فمن معاني آمن أي‪ :‬صدّق‪ ،‬كما في‬
‫قوله تعالى‪َ {:‬فمَآ آمَنَ ِلمُوسَىا ِإلّ ذُرّيّةٌ مّن َق ْومِهِ }[يونس‪ ]83 :‬أي‪ :‬صَدّق به‪ ،‬وآمن تكون بمعنى‬
‫صَدّق إذا جاءت بعدها اللم‪ ،‬فإنْ جاء بعدها الباء فهي بمعنى اليمان‪.‬‬

‫(‪)2999 /‬‬

‫شعُرُونَ (‪)113‬‬
‫قَالَ َومَا عِ ْلمِي ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪ )112‬إِنْ حِسَا ُبهُمْ إِلّا عَلَى رَبّي َلوْ تَ ْ‬

‫يعني‪ :‬ما دام الحساب على ربي وهم يريدون اليمان‪ ،‬فل بُدّ أنْ يأخذوا جزاءهم وافيا { َلوْ‬
‫شعُرُونَ } [الشعراء‪.]113 :‬‬
‫تَ ْ‬

‫(‪)3000 /‬‬

‫َومَا أَنَا بِطَا ِردِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)114‬‬

‫وقد طلبوا منه أن يطرد هؤلء المؤمنين من مجلسه ليُجلِسهم هم‪ ،‬وفي آية أخرى قال سبحانه لنبيه‬
‫جهَهُ مَا عَلَ ْيكَ‬
‫ن وَ ْ‬
‫شيّ يُرِيدُو َ‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ {:‬وَلَ َتطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫شيْءٍ فَتَطْ ُردَهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ }[النعام‪:‬‬
‫شيْ ٍء َومَا مِنْ حِسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مّن َ‬
‫حسَا ِبهِم مّن َ‬
‫مِنْ ِ‬
‫‪.]52‬‬

‫(‪)3001 /‬‬

‫إِنْ أَنَا إِلّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (‪)115‬‬

‫فمَنْ يسمع إنذاري‪ ،‬ويسمع بشارتي‪ ،‬ويأتي مجلسي‪ ،‬فعلى عيني أرافقه‪ .‬فال ما أرسلني لخص‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذوي الغنى دون الفقراء بمجلسي‪ ،‬إنما أرسلني لبلغكم ما أرسلت به‪ ،‬فمن أطاعني فذلك السعيد‬
‫عند ال‪ ،‬وإن كان فقيرا‪.‬‬

‫(‪)3002 /‬‬

‫قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمَرْجُومِينَ (‪)116‬‬

‫وهكذا أعلنوا الحرب على نبي ال نوح‪ ،‬يقولون‪ :‬ل فائدةَ من تحذيرك‪ ،‬وما زِ ْلتَ ُمصِرا على‬
‫دعوتك { لَئِنْ لّمْ تَنْ َتهِ } [الشعراء‪ ]116 :‬عما تدعيه من الرسالة‪ ،‬وما تقول به من تقوى ال‬
‫وطاعته‪ ،‬وما تفعله من تقريب الرذلين إلى مجلسك‪ ،‬لتكوّن جمهورا من صغار الناس‪.‬‬
‫{ لَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمَ ْرجُومِينَ } [الشعراء‪ ]116 :‬أي‪ :‬إذا لم تنتهِ فسوف نرجمك‪ ،‬إنه تهديد صريح‬
‫للرسول الذي جاءهم من عند ال يدعوهم إلى الخير في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫كما قال سبحانه‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْ َتجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا يُحْيِي ُكمْ }[النفال‪.]24 :‬‬
‫وهذا التهديد منهم لرسول ال يدلّ على أنهم كانوا أقوياء‪ ،‬وأصحابَ جاه وبطْشٍ‪.‬‬

‫(‪)3003 /‬‬

‫قَالَ َربّ إِنّ َقوْمِي كَذّبُونِ (‪ )117‬فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْ َنهُمْ فَ ْتحًا وَنَجّنِي َومَنْ َم ِعيَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)118‬‬

‫تأمل هنا أدب نوح ـ عليه السلم ـ حين يشكو قومه إلى ال ويرفع إليه ما حدث منهم‪ ،‬كل ما‬
‫قاله‪ { :‬إِنّ َق ْومِي كَذّبُونِ } [الشعراء‪ ]117 :‬ولم يذكر شيئا عن التهديد له بالرجم‪ ،‬وإعلن الحرب‬
‫على دعوته‪ ،‬لماذا؟ لن ما يهمه في المقام الول أن يُصدّقه قومه‪ ،‬فهذا هو الصل في دعوته‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْ َنهُمْ فَتْحا } [الشعراء‪ ]118 :‬الفتح في الشيء إما‪ :‬حسيا وإما معنويا‪ ،‬فمثلً‬
‫الباب المغلَق ب ُقفْل نقول‪ :‬نفتح الباب‪ :‬أي نزيل أغلقه‪.‬‬
‫فإنْ كان الشيء مربوطا نزيل الشكال ونفكّ الربطة‪.‬‬
‫جدُواْ ِبضَاعَ َتهُمْ رُ ّدتْ إِلَ ْيهِمْ }[يوسف‪:‬‬
‫عهُ ْم وَ َ‬
‫ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف‪ {:‬وََلمّا فَ َتحُواْ مَتَا َ‬
‫سيّ‪.‬‬
‫‪ ]65‬أي‪ :‬أزالوا الرباط عن متاعهم‪ ،‬هذا هو الفتح الح ّ‬
‫أما الفتح المعنوي فنُزيل الغلق والشكال المعنوية ليأتي الخير وتأتي البركة‪ ،‬كما في قوله‬
‫سمَآءِ وَالَ ْرضِ }[العراف‪:‬‬
‫سبحانه‪ {:‬وََلوْ أَنّ َأ ْهلَ ا ْلقُرَىا آمَنُو ْا وَا ّتقَواْ َلفَتَحْنَا عَلَ ْيهِمْ بَ َركَاتٍ مّنَ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]96‬‬
‫سلَ لَهُ مِن َبعْ ِدهِ }‬
‫سكْ فَلَ مُرْ ِ‬
‫سكَ َلهَا َومَا ُي ْم ِ‬
‫حمَةٍ فَلَ ُممْ ِ‬
‫وفي آية أخرى‪ {:‬مّا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّ ْ‬
‫[فاطر‪.]2 :‬‬
‫علْما‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{:‬‬
‫والخير الذي يفتح ال به على الناس قد يكون خيرا ماديا‪ ،‬وقد يكون ِ‬
‫حدّثُو َنهُم ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ }[البقرة‪.]76 :‬‬
‫أَتُ َ‬
‫أي‪ :‬من العلم في التوراة‪ ،‬يخافون أن يأخذه المؤمنون‪ ،‬ويجعلوه حجة على أهل التوراة إذا ما كان‬
‫لهم الفتح والغَلَبة‪ ،‬فمعنى‪ِ {:‬بمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ }[البقرة‪ ]76 :‬أي‪ :‬بما علّمكم من علم لم يعلموه هم‪.‬‬
‫ق وَأَنتَ خَيْرُ‬
‫وقد يكون الفتح بمعنى الحكم‪ ،‬مثل قوله سبحانه‪ {:‬رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َق ْومِنَا بِا ْلحَ ّ‬
‫ا ْلفَاتِحِينَ }[العراف‪.]89 :‬‬
‫ويكون الفتح بمعنى النصر‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬إِذَا جَآءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ }[النصر‪.]1 :‬‬
‫ثم يقول نوح عليه السلم‪ { :‬وَنَجّنِي } [الشعراء‪ ]118 :‬من كيدهم وما يُهدّدونني به من الرّجْم‬
‫{ َومَن ّمعِي مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ } [الشعراء‪ ]118 :‬لن اليذاء قد يتعدّاه إلى المؤمنين معه‪ ،‬وتأتي‬
‫الجابة سريعة‪ { :‬فَأَنجَيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ }‬

‫(‪)3004 /‬‬

‫فَأَنْجَيْنَا ُه َومَنْ َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ ا ْلمَشْحُونِ (‪)119‬‬

‫وقد وردتْ قصة السفينة في العراف‪ ،‬وفي هود‪ ،‬ولنوح عليه السلم سورة خاصة هي سورة‬
‫نوح مثل سورة محمد؛ ذلك لن له في تاريخ الرسالت ألف سنة إل خمسين عاما‪ ،‬ويستحق أنْ‬
‫يخصّه ال تعالى بسورة بأسمه‪.‬‬
‫لذلك عندما يكرر أحد الناس لك الكلم‪ ،‬ويُعيده عليك‪ ،‬تقول له (هيّه سورة)‪ ،‬فكلم العامة والُميين‬
‫صلٌ من استعمال اللغة‪.‬‬
‫له َأ ْ‬
‫وفي موضع آخر ذكر الحق ـ تبارك وتعالى ـ قصة صُنْع السفينة في قوله تعالى‪ {:‬وَيَصْنَعُ‬
‫ا ْلفُ ْلكَ َوكُّلمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلٌ مّن َقوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ }[هود‪ ]38 :‬وهذا دليل على أنها كانت أول سفينة‬
‫يصنعها النسان‪ ،‬وقد صنع نوح سفينته بأمر ال ووحيه وتحت عينه تعالى‪ ،‬وفي رعايته‪{:‬‬
‫وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا }[هود‪.]37 :‬‬
‫وما كان ال تعالى ليُكلّفه بصُنْع السفينة ثم يتركه‪ ،‬إنما تابعه‪ ،‬حتى إذا ما حدث خطأ نبّهه إليه من‬
‫البداية‪ ،‬كما قال تعالى لسيدنا موسى‪ {:‬وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه‪.]39 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبمثل هذه اليات نردّ على الذين يقولون‪ :‬إن ال تعالى زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة فخلق‬
‫الخَلْق‪ ،‬ثم ترك القوانين تسيره‪ ،‬ولو كان المر كذلك لوجدنا العالم كله يسير بحركة (ميكانيكية)‪،‬‬
‫خلْقه‪.‬‬
‫لكن ظواهر الكون وما فيه من معجزات تدلّ على قيوميته تعالى على َ‬
‫لذلك يقول لهم‪ :‬ناموا ملء جفونكم‪ ،‬فإن لكم ربا ل ينام‪ ،‬كيف ل وأنت إذا استأجرتَ حارسا‬
‫لمنزلك مثلً تنام مطمئنا اعتمادا على أنه َيقِظ؟ وكيف إذا حرسك ربّك عز وجل الذي ل تأخذه‬
‫سِنَة ول َنوْمٌ؟ وَألَ يدلّ ذلك على قيوميته تعَالى؟‬
‫هذه القيومية التي تنقضُ العزائم‪ ،‬وتفسَح القوانين‪ ،‬قيومية تقول للنار كوني بردا وسلما فتكون‪،‬‬
‫وتقول للماء‪ :‬تجمّد حتى تكون جبلً فيتجمد‪ ،‬تقول للحجر‪ :‬انفلق فينفلق‪ ..‬ولو كان المر‬
‫(ميكانيكيا) كما يقولون لما حدث هذا‪ ،‬ولما تخلّف قانون واحد من قوانين الكون‪.‬‬
‫والمشحون‪ :‬الذي امتل‪ ،‬ولم يَبْقَ به مكان خَالٍ‪ ،‬فكانت السفينة مشحونة بما حمل فيها‪ ،‬لنها‬
‫صُ ِنعَتْ بحساب دقيق‪ ،‬ل يتسع إل لمن كُلّف نوح بحملهم في سفينته‪ ،‬وكانوا ثمانين رجلً وثمانين‬
‫امرأة ومن كل حيوان زوجين اثنين‪.‬‬
‫والفلك المشحون يُطلَق ويُراد به الواحدة‪ ،‬ويُطلَق ويراد به الجماعة كما في قوله سبحانه‪ {:‬حَتّىا‬
‫إِذَا كُن ُتمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ وَجَرَيْنَ ِبهِم }[يونس‪.]22 :‬‬

‫(‪)3005 /‬‬

‫ثُمّ أَغْ َرقْنَا َب ْعدُ الْبَاقِينَ (‪)120‬‬

‫وهم الكافرون الذين لم يركبوا معه‪ ،‬و { َبعْدُ } [الشعراء‪ ]120 :‬أي‪ :‬بعد ما ركب من ركب‪،‬‬
‫سمَآءِ ِبمَاءٍ مّ ْن َهمِرٍ * َوفَجّرْنَا الَ ْرضَ عُيُونا فَالْ َتقَى المَآءُ عَلَىا َأمْرٍ قَدْ قُدِرَ }‬
‫وبعد{ َففَتَحْنَآ أَ ْبوَابَ ال ّ‬
‫[القمر‪11 :‬ـ ‪.]12‬‬

‫(‪)3006 /‬‬

‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)121‬‬

‫والية‪ :‬المر العجيب الذي يجب اللتفات إليه والعتبار به‪ ،‬لكن مَنْ سيعتبر بعد أنْ غرق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الباقون؟ سيعتبر بهذه الية المؤمنون الذين ركبوا السفينة حين يروْنَ نتيجة التكذيب‪ ،‬ومصير‬
‫المكذّبين الكافرين‪.‬‬

‫(‪)3007 /‬‬

‫وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ (‪)122‬‬

‫أي‪ :‬ورغم ُكفْرهم وتكذيبهم‪ ،‬ورغم أنه ما كان أكثرهم مؤمنين‪ ،‬فال تعالى هو العزيز الذي َيغْلِب‬
‫ول ُيغْلَب‪ ،‬وهو سبحانه الرحيم بعباده الذي يتوب على مَنْ تاب منهم‪.‬‬
‫ثم ينتقل السياق إلى قصة أخرى في موكب المم المكذّبة‪ { :‬كَذّ َبتْ عَادٌ ا ْلمُ ْرسَلِينَ }‬

‫(‪)3008 /‬‬

‫كَذّ َبتْ عَادٌ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪)123‬‬

‫سلِينَ } [الشعراء‪ ]123 :‬لن تكذيب رسول واحد تكذيبٌ لكل الرسل؛ لنهم‬
‫وقال هنا أيضا { ا ْلمُرْ َ‬
‫جميعا جاءوا بقواعد وأصول واحدة في العقائد وفي الخلق‪.‬‬
‫وعاد‪ :‬اسم للقبيلة‪ ،‬وكانت القبائل تُنسَب إلى الب الكبر فيها‪ ،‬ولصاحب الشهرة والنباهة بين‬
‫قومه‪ ،‬فعاد هو أبو هذه القبيلة‪ ،‬وقد يُطلَق عليهم بنو فلن أو آل فلن‪ ،‬ثم يذكر لنا قصتهم‪ ،‬ومتى‬
‫كان منهم هذا التكذيب‪ { :‬إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ }‬

‫(‪)3009 /‬‬

‫إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُهمْ هُودٌ أَلَا تَ ّتقُونَ (‪)124‬‬

‫ث والحضّ‪ ،‬وحين يُنكّر النفي { َألَ تَ ّتقُونَ } [الشعراء‪ ]124 :‬فإنه يريد الثبات‬
‫قلنا‪ :‬إن (َألَ) للح ّ‬
‫فكأنه قال‪ :‬اتقوا‪ .‬وقال { َأخُوهُمْ } [الشعراء‪ ]124 :‬ليرقق قلوبهم ويُحنّنهم إليه‪ ،‬وليعرفوا أنه واحد‬
‫منهم ليس غريبا عنهم‪ ،‬فهو أخوهم‪ ،‬والخ من دَأبه الّنصْح والشفقة والرحمة‪ ،‬وهذا إيناس للخَلْق‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3010 /‬‬

‫إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ (‪ )125‬فَا ّتقُوا اللّ َه وََأطِيعُونِ (‪)126‬‬

‫وهذه المقولة لزمة من لوازم الرسُل في دعوتهم‪ ،‬سبق أنْ قالها نوح عليه السلم‪.‬‬

‫(‪)3011 /‬‬

‫َومَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا عَلَى َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)127‬‬

‫قلنا‪ :‬إن هذه العبارة أول مَنْ قالها نوح ـ عليه السلم ـ ثم سيقولها النبياء من بعده‪ .‬لكن‪ :‬لماذا‬
‫لم يقل هذه العبارة إبراهيم؟ ولم يقُلْها موسى؟‬
‫قالوا‪ :‬لن إبراهيم ـ عليه السلم ـ أول ما دعا دعا عمه آزر‪ ،‬فكيف يطلب منه أَجْرا؟ وكذلك‬
‫موسى ـ عليه السلم ـ أول دعوته دعا فرعون الذي ربّاه في بيته‪ ،‬وله عليه فضل وجميل‪،‬‬
‫عمُ ِركَ سِنِينَ }‬
‫فكيف يطلب منه أجرا‪ ،‬وقد قال له‪ {:‬قَالَ أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ ُ‬
‫[الشعراء‪.]18 :‬‬
‫لذلك لم تأْت هذه المقولة على لسان أحد منهما‪.‬‬
‫وقال‪ { :‬إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء‪ ]127 :‬لن الربّ هو الذي يتولّى الخَلْق‬
‫بالبذْل والعطايا والمداد‪ .‬وقلنا‪ :‬إن عدم أخذ الجر ليس ُزهْدا فيه‪ ،‬إنما طمعا في أنْ يأخذ أجره‬
‫من ال‪ ،‬ل من الناس‪.‬‬
‫ثم يتوجّه إليهم ليُصحّح بعض المسائل الخاصة بهم‪ { :‬أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ }‬

‫(‪)3012 /‬‬

‫أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ آَيَةً َتعْبَثُونَ (‪)128‬‬

‫وهذه خصوصية من خصوصيات قوم هود‪ ،‬والرّيع‪ :‬هو المكان المرتفع‪ ،‬لذلك بعض الناس‬
‫يقولون‪ :‬كم رِيع بنائك؟ يعني‪ :‬ارتفاعه كم مترا‪ ،‬فكأن الرتفاع يُثمّن البقعة‪ ،‬ويُطلق الريع على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرتفاع في كل شيء‪.‬‬
‫وكلمة { آيَةً } [الشعراء‪ ]128 :‬بعد { أَتَبْنُونَ } [الشعراء‪ ]128 :‬تعني‪ :‬القصور العالية التي تعتبر ِ‬
‫آيةً في البداع وجمال العمارة والزخرفة والفخامة والتساع وال ّرفْعة في العُلُو‪.‬‬
‫وقال { َتعْبَثُونَ } [الشعراء‪ ]128 :‬لنهم لن يخلُدوا في هذه القصور‪ ،‬ومع ذلك يُشيّدونها لتبقى‬
‫أجيالً من بعدهم‪ ،‬فعدّ هذا بعثا منهم؛ لن النسان يكفيه أقلّ بناء ليأويه فترة حياته‪.‬‬
‫أو { َتعْبَثُونَ } [الشعراء‪ ]128 :‬لنهم كانوا يجلسون في شُرفات هذه القصور يصدّون الناس‪،‬‬
‫ويصرفونهم عن هود وسماع كلمه ودعوته التي تَ ْلفِتهم إلى منهج الحق‪.‬‬
‫ونحن لم نَرَ حضارة عاد‪ ،‬ولم نَرَ آثارهم‪ ،‬كما رأينا مثلً آثار الفراعنة في مصر؛ لن حضارة‬
‫عاد طمرتْها الرمال‪ ،‬وكانوا بالجزيرة العربية في منطقة تُسمّى الن بالرّبْع الخالي؛ لنها منطقة‬
‫من الرمال الناعمة التي يصعب السير أو المعيشة بها‪ ،‬لكن لكي نعرف هذه الحضارة نقرأ قوله‬
‫تعالى في سورة الفجر‪:‬‬
‫{ أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ }[الفجر‪6 :‬ـ ‪.]8‬‬
‫وما دامت لم يُخلَق مثلها في البلد‪ ،‬فهي أعظم من حضارة الفراعنة التي نشاهدها الن‪ ،‬ويفد إليها‬
‫الناس من كل أنحاء العالم ليشاهدوا الهرام مثلً‪ ،‬وقد بنيت لتكون مجرد مقابر‪ ،‬ومع تقدّم العلم‬
‫في عصر الحضارة والتكنولوجيا‪ ،‬ما زال هذا البناء مُحيّرا للعلماء‪ ،‬لم يستطيعوا حتى الن معرفةَ‬
‫الكثير من أسراره‪.‬‬
‫ومن هذه السرار التي اهت َدوْا إليها حديثا كيفية بناء أحجار الهرام دون ملط مع ضخامتها‪ ،‬وقد‬
‫توصّلوا إلى أنها بُن َيتْ بطريقة تفريغ الهواء مما بين الحجار‪ ،‬وهذه النظرية تستطيع ملحظتها‬
‫حين تضع كوبا مُبلّلً بالماء على المنضدة مثلً‪ ،‬ثم تتركه فترةً حتى يتبخر الماء من تحته‪ ،‬فإذا‬
‫أردتَ أن ترفعه من مكانه تجده قد لصق بالمنضدة‪.‬‬
‫وليس عجيبا أنْ تختفي حضارةٌ‪ ،‬كانت أعظم حضارات الدنيا تحت طبقات الرمال‪ ،‬فالرمال حين‬
‫تثور تبتلع كل ما أمامها‪ ،‬حتى إنها طمرتْ قبيلة كاملة بجِمالها ورجالها‪ ،‬وهذه هبة واحدة‪ ،‬فما‬
‫بالك بثورة الرمال‪ ،‬وما تسفوه الريح طوال آلف السنين؟‬
‫وأنا واثق من أنهم إذا ما نبشوا هذه الرمال وأزاحوها لوجدوا تحتها أرضاَ خصبة وآثارا عظيمة‪،‬‬
‫كما نرى الكتشافات الثرية الن كلها تحت الرض‪ ،‬وفي فيينا أثناء حفر أحد خطوط المجاري‬
‫هناك وجدوا آثارا لقصور ملوك سابقين‪.‬‬
‫وطالما أن ال تعالى قال عن عاد‪ { :‬أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ آ َيةً َتعْبَثُونَ } [الشعراء‪ ]128 :‬فل ُبدّ أن‬
‫هناك قصورا ومبانيَ مطمورة تحت هذه الرمال‪.‬‬

‫(‪)3013 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَتَتّخِذُونَ َمصَانِعَ َلعَّلكُمْ تَخُْلدُونَ (‪)129‬‬

‫المصانع تُطلَق على موارد الماء‪ ،‬وتطلق على الحصون‪ ،‬لماذا‪.‬‬


‫قالوا‪ :‬لن الحصون ل تُبنَى لليواء فقط؛ لن اليواء يمنع النسان من هوام الحياة العادية‪ ،‬أمّا‬
‫الحصون فمتنعه أيضا من العداء الشرسين الذي يتربصون به‪ ،‬فكأنهم جعلوها صنعة مثمرة‪،‬‬
‫لماذا؟‬
‫{ َلعَّل ُكمْ تَخُْلدُونَ } [الشعراء‪ ]129 :‬يعني‪ :‬أتبنون هذه الحصون هذا البناء القوي المسلح تريدون‬
‫الخلود؟ وهل أنتم مُخلّدون في الحياة؟ إن فترة ُمكْث النسان في الدنيا يسيرة ل تحتاج كل هذا‬
‫التحصين‪ ،‬فهي كظلّ شجرة‪ ،‬سرعان ما يزول‪.‬‬

‫(‪)3014 /‬‬

‫وَإِذَا َبطَشْتُمْ بَطَشْ ُتمْ جَبّارِينَ (‪)130‬‬

‫خذَ‬
‫خذُ بشدة وبعنف‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬إِنّ َبطْشَ رَ ّبكَ َلشَدِيد }[البروج‪ ]12 :‬ويقول‪ {:‬أَ ْ‬
‫والبَطْش‪ :‬ال ْ‬
‫عِزِيزٍ ّمقْتَدِرٍ }[القمر‪.]42 :‬‬
‫لخْذ يأخذ صُورا متعددة‪ :‬تأخذه بلين وبعطف وشفقة‪ ،‬أو تأخذه بعنف‪.‬‬
‫لن ا َ‬
‫طشْتُمْ جَبّارِينَ } [الشعراء‪.]130 :‬‬
‫ثم يزيدهم صفة أخرى تؤكد بَطْشهم { بَ َ‬
‫لنك قد تأخذ عدوك بعنف‪ ،‬لكن بعد ذلك يرقّ له قلبك‪ ،‬فترحم ذِلّته لك‪ ،‬فتُهوّن عليه وترحمه‪ ،‬لكن‬
‫هؤلء جبارون ل ترقّ قلوبهم‪.‬‬
‫وهذه الصفات الثلثة السابقة لقوم هود‪ {:‬أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ آيَةً َتعْبَثُونَ * وَتَتّخِذُونَ َمصَانِعَ َلعَّل ُكمْ‬
‫تَخُْلدُونَ * وَإِذَا َبطَشْتُمْ بَطَشْ ُتمْ جَبّارِينَ }[الشعراء‪128 :‬ـ ‪.]130‬‬
‫هذه الصفات تخدم صفة التعالي‪ ،‬وتسعى إلى الوصول إليه وكأنهم يريدون صفة العُلُو التي تُقرّبهم‬
‫من اللوهية؛ لنه ل أحدَ أعلى من الحق سبحانه‪ ،‬ثم يريدون أيضا استدامة هذه الصفة واستبقاء‬
‫اللوهية‪َ {:‬لعَّلكُمْ تَخُْلدُونَ }[الشعراء‪.]129 :‬‬
‫وفي صفة البَطش الشديد والجبارية يريدون التفرّد على الغير‪ ،‬والقرآن يقول‪ {:‬تِ ْلكَ الدّارُ الخِ َرةُ‬
‫ض َولَ فَسَادا }[القصص‪.]83 :‬‬
‫ن لَ يُرِيدُونَ عُُلوّا فِي الَرْ ِ‬
‫جعَُلهَا لِلّذِي َ‬
‫نَ ْ‬
‫ن كنتَ تريد أداء الخدمة المنوطة بك في الحياة‪ ،‬فعليك أنْ تؤديها‪ ،‬ل للتّعالي؛ لن حينئذ ستأخذ‬
‫فإ ْ‬
‫ت وفي بالك ربّك‪ ،‬وفي بالك أنْ‬
‫ن فعل َ‬
‫حظك من العُلُو والغَلَبة في دار الدنيا وتنتهي المسألة‪ ،‬أمّا إ ْ‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تُيسّر للناس مصالح الحياة‪ ،‬فإنك تُرقّي عملك وتُثمّره‪ ،‬ويظل لك أجره‪ ،‬طالما وجد العمل ينتفع‬
‫ن تقوم الساعة‪ ،‬وهذا أعظم تصعيد لعمل النسان‪.‬‬
‫الناس به إلى أ ْ‬
‫ولم يفعل قوم عاد شيئا من هذا‪ ،‬إنما طلبوا العُلُو في الرض‪ ،‬وبطشوا فيها جبارين‪ ،‬لكن أيتركهم‬
‫ربهم عز وجل يستمرون على هذه الحال؟‬
‫إن من رحمة ال تعالى بعباده أنْ يُذكّرهم كلما نَسُوا‪ ،‬ويُوقظهم كلما غفلوا‪ ،‬فيرسل لهم الرسل‬
‫خذَ رَ ّبكَ مِن‬
‫المتوالين؛ لن الناس كثيرا ما تغفل عن العهد القديم الذي أخذوه على أنفسهم‪ {:‬وَإِذْ أَ َ‬
‫شهِدْنَآ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ‬
‫ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ‬
‫سهِمْ أََل ْ‬
‫شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ‬
‫بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ‬
‫ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َب ْعدِهِمْ‬
‫ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ َأشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ‬
‫َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }[العراف‪172 :‬ـ ‪.]173‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يضع المناعة في خليفته في الرض‪ ،‬ويعطيه المنهج الذي‬
‫يصلحه‪ ،‬لكنه قد يغفل عن هذا المنهج أو تغلبه نفسه‪ ،‬فينحرف عنه‪ ،‬والنسان بطبيعته يحمل‬
‫مناعةً من الحق ضد الباطل وضد الشر‪ ،‬فإنْ فس َدتْ فيه هذه المناعة فعلى الخر أن يُذكّره ويُوقظ‬
‫صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر‪.]3 :‬‬
‫ق وَ َتوَا َ‬
‫فيه دواعي الخير‪ .‬ومن هنا كان قوله تعالى‪ {:‬وَ َتوَاصَوْاْ بِا ْلحَ ّ‬
‫خذْ بيده إلى الحق‪.‬‬
‫فإنْ وجدتَ أخاك على باطل ف ُ‬
‫صوْاْ }[العصر‪ ]3 :‬أي‪ :‬تبادلوا التوصية‪ ،‬فكل منكم عُرْضة للغفلة‪ ،‬وعُرْضة‬
‫ومعنى{ وَ َتوَا َ‬
‫ن غفلتَ أنت أوصيك‪ ،‬وهذه المناعة ليست في‬
‫ن غفلتُ أنا توصيني‪ ،‬وإ ْ‬
‫للنحراف عن المنهج‪ ،‬فإ ْ‬
‫الذات الن‪ ،‬إنما في المجتمع المؤمن‪ ،‬فمنْ رأى فيه اعوجاجا قوّمه‪.‬‬

‫لكن ما الحال إنْ فسدت المناعة في الفرد وفس َدتْ في المجتمع‪ ،‬فصار الناس ل يعرفون معروفا‪،‬‬
‫ول يُنكِرون منكرا‪ ،‬كما قال تعالى عن بني إسرائيل‪:‬‬
‫{ كَانُو ْا لَ يَتَنَا َهوْنَ عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ }[المائدة‪.]79 :‬‬
‫وعندها ل بد أن يرسل رب العزة سبحانه برسول جديد‪ ،‬ومعجزة جديدة تُوقِظ الناس‪ ،‬وتعيدهم‬
‫إلى جادة ربهم‪.‬‬
‫ومن شرف أمة محمد صلى ال عليه وسلم أن ال تعالى جعل المناعة في ذات نفوسها‪ ،‬فجعلهم‬
‫ن فعل أحدهم الذنب تاب ورجع‪ ،‬وإنْ لم يرجع وتمادى َردّه المجتمع اليماني وذكّره‪.‬‬
‫ال توابين‪ ،‬إ ْ‬
‫ي وفي أمتي إلى‬
‫وهذه الصفة ملزمة لهذه المة إلى قيام الساعة‪ ،‬كما ورد في الحديث‪ " :‬الخير ف ّ‬
‫يوم القيامة "‪.‬‬
‫لذلك لن يأتي فيها رسول بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لن المناعة ملزمة لها في الذات‪،‬‬
‫وفي النفس اللوامة‪ ،‬وفي المجتمع اليماني الذي ل يُعدم فيه الخير أبدا‪.‬‬
‫ف وَتَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ‬
‫جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫لذلك يقول سبحانه‪ {:‬كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَ ُتؤْمِنُونَ بِاللّهِ }[آل عمران‪.]110 :‬‬
‫وهذه صفة تفردتْ بها هذه المة عن باقي المم؛ لذلك يقول هود ـ عليه السلم ـ مُذكّرا لقومه‬
‫ومُوقِظا لهم‪ } :‬فَا ّتقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ {‬

‫(‪)3015 /‬‬

‫فَا ّتقُوا اللّ َه وَأَطِيعُونِ (‪)131‬‬

‫أي‪ :‬أن ربكم ـ عز وجل ـ لم يترككم على ما أنتم عليه من الضلل تعبثون باليات‪ ،‬وتتخذون‬
‫مصانع تطلبون الخلود‪ ،‬وأنكم بطشتم جبارين‪ ،‬وها هو يدعوكم‪ { :‬فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأطِيعُونِ }‬
‫[الشعراء‪ ]131 :‬فتقوى ال تعالى وطاعته كفيلة أنْ تُذهب ماضيكم وتمحو ذنوبكم‪ ،‬بل وتُبدّله خيرا‬
‫وصلحا{ إِنّ الْحَسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ }[هود‪.]114 :‬‬
‫وأنا حين أُوصيكم بتقوى ال وطاعته‪ ،‬ل أوصيكم بهذا لصالحي أنا‪ ،‬فل أقول لكم‪ ،‬اتقوني أو‬
‫أطيعوني ولن أنتفع من طاعتكم بشيء‪ .‬كذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ غني عنكم وعن طاعتكم؛‬
‫لن له سبحانه صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق‪ ،‬فهو سبحانه متصف بالخَلْق قبل أن‬
‫يخلق‪ ،‬وبالقدرة قبل أن يُوجَد المقدور عليه‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فوجودكم لم يَزِدْ شيئا في صفاته تعالى‪ ،‬وما كانت الرسالت إل لمصلحتكم أنتم‪ ،‬فإذا لم‬
‫تطيعوا أوامر ال‪ ،‬وتأخذوا منهجه‪ ،‬لنه يفيدكم فأطيعوه جزاءَ ما أنعم عليكم من ِنعَم ل تُع ّد ول‬
‫تُحصَى‪ ،‬فالنسان طرأ على كون أُعِدّ لستقباله وهُيّىء لمعيشته‪ ،‬وخلق له الكون كله‪ :‬سماءً‪ ،‬فيها‬
‫الشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر‪ ،‬وأرضا فيها الخصب والماء والهواء‪ .‬هذا كله قبل أن‬
‫تُوجَد أنت‪ ،‬فطاعتك ل ـ إذن ـ ليست تفضّلً منك‪ ،‬إنما جزاء ما قدّم لك من ِنعَم‪.‬‬
‫جعَِلتْ لخدمتك أطول عمرا منك‪ ،‬فالنسان قد يموت يوم‬
‫وعجيب أن ترى هذه المخلوقات التي ُ‬
‫مولده‪ ،‬وقد يعيش عدة أيام أو عدة سنوات‪ ،‬أمّا الشمس مثلً فعمرها مليين السنين‪ ،‬وهي تخدمك‬
‫دون سلطان لك عليها‪ ،‬ودون أن تتدخل أنت في حركتها‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَا ّتقُواْ الّذِي َأ َم ّدكُمْ }‬

‫(‪)3016 /‬‬

‫وَاتّقُوا الّذِي َأمَ ّدكُمْ ِبمَا َتعَْلمُونَ (‪)132‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لم تعدد الية ما أمدنا ال به‪ ،‬وتركتْ لنا أن نُعدّده نحن؛ لننا نعرفه جيدا ونعيشه‪ ،‬وندركه بكل‬
‫حواسّنا ومداركنا‪ ،‬فما من آلة عندك إل وتحت إدراكها نعمة ل‪ ،‬بل عدة ِنعَم‪ ،‬فالعين ترى‬
‫المناظر‪ ،‬والذن تسمع الصوات‪ ،‬والنف يشم الروائح‪ ،‬واليد تبطش‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫{ َأ َم ّدكُمْ ِبمَا َتعَْلمُونَ } [الشعراء‪ ]132 :‬فقولوا أنتم واشهدوا على أنفسكم وعَدّدوا ِنعَم ربكم عليكم‪.‬‬

‫(‪)3017 /‬‬

‫َأمَ ّدكُمْ بِأَ ْنعَا ٍم وَبَنِينَ (‪)133‬‬

‫المراد النعام‪ :‬الضأن والماعز والبل والبقر‪ ،‬ثمانية أزواج‪.‬‬

‫(‪)3018 /‬‬

‫ت وَعُيُونٍ (‪)134‬‬
‫وَجَنّا ٍ‬

‫سفُو فيه الرياح‪ ،‬نعم لقد كانت لهم جنات وعيون‬


‫ن قلت‪ :‬فنحن نمرّ بديارهم‪ ،‬فل نرى إل خلءً ت ْ‬
‫فإ ْ‬
‫سمَعُ َلهُمْ ِركْزا }[مريم‪.]98 :‬‬
‫حدٍ َأوْ تَ ْ‬
‫هي الن تحت أطباق التراب{ َهلْ تُحِسّ مِ ْنهُمْ مّنْ أَ َ‬

‫(‪)3019 /‬‬

‫عذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ (‪)135‬‬


‫إِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َ‬

‫أي‪ :‬أن تقوى ال وطاعته ل تعَدّ شكرا على نعمه فحسب‪ ،‬إنما أيضا تكون لكم وقاية من عذاب‬
‫الخرة‪ ،‬فل تظنوا أنكم أخذتُم ِنعَم ال‪ ،‬ثم بإمكانكم النفلت منه أو الهرب من لقائه‪ ،‬فالقاؤه حق ل‬
‫خفِ اللحق من ال ّنقَم‪.‬‬
‫خفْ السابق من النعم‪ ،‬ف َ‬
‫مفرّ منه‪ ،‬ول مهرب‪ ،‬فإنْ لم َت َ‬
‫سوَآءٌ عَلَيْنَآ }‬
‫فماذا كان ردّهم على مقالة نبيّهم وموعظته لهم؟ { قَالُواْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3020 /‬‬

‫ظتَ أَمْ َلمْ َتكُنْ مِنَ ا ْلوَاعِظِينَ (‪)136‬‬


‫سوَاءٌ عَلَيْنَا َأوَعَ ْ‬
‫قَالُوا َ‬

‫ظتَ } [الشعراء‪ ]136 :‬دليل على أن الحق ل ُبدّ أن يظهر‪ ،‬ولو على ألسنة‬
‫وقولهم { َأوَعَ ْ‬
‫المكابرين‪ ،‬ول يكون الوعظ إل لمَنْ علم حكما‪ ،‬ثم تركه‪ ،‬فيأتي الواعظ ليُذكّره به‪ ،‬فهو ـ إذن ـ‬
‫مرحلة ثانية بعد التعليم‪ ،‬فهذا القول منهم اعتراف ودليل أنهم علموا المطلوب منهم‪ ،‬ثم غفلوا عنه‪.‬‬
‫عظِينَ } [الشعراء‪ ]136 :‬يعني‪:‬‬
‫ظتَ أَمْ لَمْ َتكُنْ مّنَ ا ْلوَا ِ‬
‫علَيْنَآ َأوَعَ ْ‬
‫سوَآءٌ َ‬
‫وهؤلء يقولون لنبيهم { َ‬
‫أرح نفسك‪ ،‬فسواء علينا وعظُك وعدم وعظِك‪ ،‬ونلحظ أنهم قالوا‪َ { :‬أمْ لَمْ َتكُنْ مّنَ ا ْلوَاعِظِينَ }‬
‫[الشعراء‪ ]136 :‬ولم يقولوا مثلً‪ :‬سواء علينا أوعظتَ أم لم َت ِعظْ؛ لن نفي الوَعْظ يُثبت له القدرة‬
‫عليه‪.‬‬
‫إنما { َلمْ َتكُنْ مّنَ ا ْلوَاعِظِينَ } [الشعراء‪ ]136 :‬يعني‪ :‬امتنع منك الوعظ نهائيا‪ ،‬وكأنهم ل يريدون‬
‫مسألة الوعظ هذه أبدا‪ ،‬حتى في المستقبل لن يسمعوا له‪.‬‬

‫(‪)3021 /‬‬

‫إِنْ َهذَا إِلّا خُلُقُ الَْأوّلِينَ (‪)137‬‬

‫إنْ‪ :‬بمعنى ما النافية‪ ،‬يعني‪ :‬ما هذا الذي جئتَ به إل { خُلُقُ } [الشعراء‪ ]137 :‬الولين يعني‪:‬‬
‫ن وَآبَآؤُنَا‬
‫عادة مَنْ سبقوك واختلقهم‪ ،‬يقصدون الرسل السابقين‪ ،‬كما قالوا‪َ {:‬لقَ ْد وُعِدْنَا هَـاذَا َنحْ ُ‬
‫لوّلِينَ }[النمل‪.]68 :‬‬
‫مِن قَ ْبلُ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ أَسَاطِي ُر ا َ‬
‫شيْءٍ إِنْ أَنتُمْ ِإلّ َتكْذِبُونَ }[يس‪.]15 :‬‬
‫حمَـانُ مِن َ‬
‫وقالوا‪ {:‬مَآ أَنتُمْ ِإلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا َومَآ أَنَزلَ الرّ ْ‬
‫فوصفوا نبيهم‪ ،‬ومَنْ سبقوه من الرسل بالكذب والختلق وإيجاد شيء لم يكن موجودا‪.‬‬
‫والخُلُق‪ :‬صفة ترسخ في النفس تصدر عنها الفعال بُيسْر وسهولة‪ ،‬والصفات التي يكتسبها‬
‫النسان ل تعطي مهارة من أول المر‪ ،‬بل تعطي مهارة بعد الدّرْبة عليها‪ ،‬فتصير عند صاحبها‬
‫كالحركة اللية ل تحتاج منه إلى مجهود أو معاناة‪.‬‬
‫وسبق أن ضربنا مثلً بالصبي الذي يتعلم مثلً الحياكة‪ ،‬وكم يعاني ويضربه معلمه في سبيل تعلّم‬
‫لضم الخيط في البرة‪ ،‬حتى إذا ما تعلمها الصبي وأجادها تراه فعل ذلك تلقائيا‪ ،‬ودون مجهود‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وربما وهو ُمغْمض العينين‪.‬‬
‫ل لول مرة‪ ،‬كم تعاني وتقع في أخطاء وأخطار؟ لكن بعد‬
‫وأنت حينما تتعلم قيادة السيارة مث ً‬
‫التدريب والدّرْبة تستطيع قيادتها بمهارة‪ ،‬وكأنها مسألة آلية‪ ،‬وكذلك الخُلُق المعنوي‪ ،‬مثل هذه‬
‫الدّرْبة واللية في الماديات‪.‬‬
‫لوّلِينَ } [الشعراء‪ ]137 :‬يعني‪ :‬دعوى ادعوْهَا جميعا ـ أي‪ :‬الرسل‪.‬‬
‫قاَ‬
‫إذن‪ { :‬خُُل ُ‬
‫وفي قراءة أخرى تُوجه للمرسل إليهم بفتح الخاء وسكون اللم (خُلْق) أي‪ :‬اختلق والمعنى‪ :‬نحن‬
‫علَىا آثَارِهِم ّمقْتَدُونَ }‬
‫كمن سبقونا من المم ل نختلف عنهم‪ {:‬إِنّا َوجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا ُأمّةٍ وَإِنّا َ‬
‫[الزخرف‪.]23 :‬‬
‫ت وَنَحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَآ ِإلّ الدّهْرُ }[الجاثية‪.]24 :‬‬
‫وهؤلء السابقون قالوا‪ {:‬مَا ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُو ُ‬
‫فهذه الصفة أصبحت عندنا ثابتة متأصّلة في النفس‪ ،‬فل تحاول زحزحتنا عنها‪ ،‬فالمراد‪ :‬نحن مثل‬
‫ي معنا وعْظُك‪.‬‬
‫السابقين ل نؤمن بمسألة البعث‪ ،‬فأرح نفسك‪ ،‬فلن يجد َ‬

‫(‪)3022 /‬‬

‫َومَا َنحْنُ ِب ُمعَذّبِينَ (‪)138‬‬

‫يقولونها صريحة ردّا على قوله‪ {:‬إِنّي َأخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ }[الشعراء‪.]135 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ف َكذّبُوهُ فََأهَْلكْنَاهُمْ }‬

‫(‪)3023 /‬‬

‫َفكَذّبُوهُ فَأَهَْلكْنَاهُمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً َومَا كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)139‬‬

‫وكانت السماء قبل محمد صلى ال عليه وسلم تجعل الرسول يُدلِي بمعجزته‪ ،‬أو يقول بمنهجه‪،‬‬
‫لكن ل تطلب منه أن يُؤدّب المعاندين والمعارضين له إنما تتولّى السماء عنه هذه المهمة فتُوقِع‬
‫بالمكذبين عذابَ الستئصال‪.‬‬
‫وقد ُأمِ َنتْ أمة محمد صلى ال عليه وسلم من عذاب الستئصال‪ ،‬فمَنْ كفر برسالة محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم ل يأخذه ال كما أخذ المكذّبين من المم السابقة‪ ،‬إنما يقول سبحانه‪ {:‬قَاتِلُو ُهمْ ُيعَذّ ْبهُمُ‬
‫اللّهُ بِأَ ْيدِيكُ ْم وَيُخْ ِزهِ ْم وَيَ ْنصُ ْركُمْ عَلَ ْيهِمْ }[التوبة‪.]14 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكملة { فَأَهَْلكْنَاهُمْ } [الشعراء‪ ]139 :‬كلمة صادقة‪ ،‬لها دليل في الوجود نراه شاخصا‪ ،‬كما يقول‬
‫الحق سبحانه‪ {:‬أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِ َرمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ }‬
‫[الفجر‪6 :‬ـ ‪.]8‬‬
‫ن تصون‬
‫نعم‪ ،‬كانت لهم حضارة بلغتْ القمة‪ ،‬ولم يكُنْ لها مثيل‪ ،‬ومع هذا كله ما استطاعت أ ْ‬
‫نفسها‪ ،‬وأخذها ال أَخْذ عزيز مقتدر‪.‬‬
‫قال تعالى‪ {:‬وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْي ِهمْ ّمصْبِحِينَ * وَبِالّيلِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[الصافات‪137 :‬ـ ‪.]138‬‬
‫وقال‪ {:‬فَتِ ْلكَ بُيُو ُتهُمْ خَاوِيَةً ِبمَا ظََلمُواْ }[النمل‪.]52 :‬‬
‫أي‪ :‬أنها شاخصة أمامكم تروْنها وتمرّون عليها‪ ،‬وأنتم لم تبلغوا مبلغَ هذه الحضارة‪ ،‬فإذا كانت‬
‫ن تتنبهوا إلى أنكم أضعف منهم‪،‬‬
‫حضارتهم لم تمنعهم من َأخْذ ال العزيز المقتدر‪ ،‬فينبغي عليكم أ ْ‬
‫وأن ما حاق بالكافرين وما نزل بالمكذّبين ليس ببعيد عن أمثالهم من المم الخرى‪.‬‬
‫ت إلى زوال‪ ،‬ولم نجد منها حضارة بقيتْ من‬
‫لذلك تجد الحضارات التي تُتوَارث في الكون كلها آل ْ‬
‫البداية إلى النهاية‪ ،‬ولو بُنِ َيتْ هذه الحضارات على قيم ثابتة لكان فيها المناعة ضد الزوال‪.‬‬
‫ك ليَةً } [الشعراء‪ ]139 :‬أي‪ :‬في إهلك هذه الحضارة لمر عظيم‪،‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬إِنّ فِي ذَِل َ‬
‫يُلفِت النظار‪ ،‬ويدعو للتأمل‪َ { :‬ومَا كَانَ َأكْثَرُهُم ّم ْؤمِنِينَ } [الشعراء‪.]139 :‬‬

‫(‪)3024 /‬‬

‫وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ (‪)140‬‬

‫قال { رَ ّبكَ } [الشعراء‪ ]140 :‬ولم ي ُقلْ ربهم؛ لن منزلة المربّي تعظم في التربية بمقدار كمال‬
‫المربّي‪ ،‬فكأنه تعالى يقول‪ :‬أنا ربّك الذي أكملت تربيتك على أحسن حال‪ ،‬فَمنْ أراد أنْ يرى قدرة‬
‫الربوبية فليرها في تربيتك أنت‪ ،‬والمربّى يبلغ القمة في التربية إنْ كان مَنْ ربّاه عظيما‪.‬‬
‫لذلك يقول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أدّبني ربي فأحسن تأديبي "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمن عظمة الحق ـ تبارك وتعالى ـ أنْ يُعطي نموذجا لدقّة تربيته تعالى ولعظمة تكوينه‪،‬‬
‫ولما يصنعه على عَيْنه تعالى بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكأنه صلى ال عليه وسلم أكرمُ‬
‫مخلوق مُربّى في الرض؛ لذلك قال { رَ ّبكَ } [الشعراء‪ ]140 :‬ولم يقل‪ :‬ربهم مع أن الكلم ما‬
‫يزال مُتعلقا بهم‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬ل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ } [الشعراء‪ ]140 :‬العزيز قلنا‪ :‬هو الذي َيغْلِب ول ُيغْلَب‪ ،‬لكن‬
‫ل تظن أن في هذه الصفة جبروتا؛ لنه تعالى أيضا رحيم‪ ،‬ومن عظمة السلوب القرآني أن يجمع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بين هاتين الصفتين‪ :‬عزيز ورحيم وكأنه يشير لنا إلى مبدأ إسلمي يُربّي السلم عليه أتباعه‪ ،‬أل‬
‫وهو العتدال فل تطغى عليك خصلة أو طبْع أو خُلُق‪ ،‬والزم الوسط؛ لن كل طبْع في النسان له‬
‫مهمة‪.‬‬
‫وتأمل قول ال تعالى في صفات المؤمنين‪:‬‬
‫{ َأذِلّةٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[المائدة‪.]54 :‬‬
‫فالمسلم ليس مجبولً على الذلّة ول على العزة‪ ،‬إنما الموقف هو الذي يجعله ذليلً‪ ،‬أو يجعله‬
‫عزيزا‪ ،‬فالمؤمن يتصف بالذلّة والخضوع للمؤمنين‪ ،‬ويتصف بالعزّة على الكافرين‪.‬‬
‫حمَآءُ بَيْ َنهُمْ }[الفتح‪.]29 :‬‬
‫حمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ َمعَهُ َأشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ ُر َ‬
‫ومن ذلك أيضا‪ {:‬مّ َ‬
‫خوَر‪ ،‬فمثلً الوالد الذي يرفض أن يُجري لولده‬
‫ضعْف و َ‬
‫ومعلوم أن الرحمة في غير موضعها َ‬
‫جراحة خطرة فيها نجاته وسلمته خوفا عليه‪ ،‬نقول له‪ :‬إنها رحمة حمقاء وعطف في غير محلّه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬كذّ َبتْ َثمُودُ ا ْلمُرْسَلِينَ }‬

‫(‪)3025 /‬‬

‫كَذّ َبتْ َثمُودُ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪)141‬‬

‫بعد أن ذكر طرفا من قصة إبراهيم وموسى ونوح وهود عليهم السلم ذكر قصة ثمود قوم صالح‬
‫عليه السلم‪ ،‬وقد تكررتْ هذه اللقطات في عدة مواضع من كتاب ال؛ ذلك لن القرآن في علجه‬
‫ل يعالج أم ًة واحدة في بيئة واحدة بخُلق واحد‪ ،‬إنما يعالج عالما مختلف البيئات ومختلف الداءات‬
‫ومختلف المواهب والميول‪.‬‬
‫فل بُدّ أن يجمع ال له الرسل كلهم‪ ،‬ليأخذ من كل واحد منهم لقطة؛ لنه سيكون منهجا للناس‬
‫جميعا في ُكلّ زمان وفي ُكلّ مكان‪ ،‬أمّا هؤلء الرسل الذين جمعهم ال في سياق واحد فلم يكونوا‬
‫للناس كافة‪ ،‬إنما كل واحد منهم لمة بعينها‪ ،‬ولقابل واحد في زمن مخصوص‪ ،‬ومكان‬
‫مخصوص‪.‬‬
‫لقد بُعث محمد صلى ال عليه وسلم ليكون رسولً يجمع الدنيا كلها على نظام واحد‪ ،‬وخَلُق واحد‪،‬‬
‫ومنهج واحد‪ ،‬مع تباين بيئاتهم‪ ،‬وتباين داءاتهم ومواهبهم‪ .‬إذن‪ :‬ل بُدّ أن يذكر الحق ـ تبارك‬
‫وتعالى ـ لرسوله صلى ال عليه وسلم طرفا من سيرة كل نبي سبقه‪.‬‬
‫سلِ مَا نُثَ ّبتُ ِبهِ ُفؤَا َدكَ }[هود‪.]120 :‬‬
‫لذلك قال سبحانه‪َ {:‬وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ‬
‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم لم يكُنْ في حاجة لن يُثبّت ال فؤاده مرة واحدة‪ ،‬إنما كلّما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تعرّض لمواقف احتاج إلى تثبيت‪ ،‬فيُثّبته ال‪ ،‬يقول له‪ :‬تذكّر ما كان من أمر إبراهيم‪ ،‬وما كان من‬
‫أمر نوح وهود‪ ...‬إلخ فكان تكرار القصص لتكرار التثبيت‪ ،‬فالقصة في القرآن وإنْ كانت في‬
‫ل منها معنى ل تؤديه الخرى‪.‬‬
‫مجموعها مكررة‪ ،‬إنما لقطاتها مختلفة تؤدي ُك ّ‬
‫سلِينَ } [الشعراء‪ ]141 :‬لن‬
‫وهنا يقول سبحانه كما قال عن المم السابقة‪ { :‬كَذّ َبتْ َثمُودُ ا ْلمُرْ َ‬
‫الرسل جميعا إنما جاءوا بعقيدة واحدة‪ ،‬ل يختلف فيها رسول عن الخر‪ ،‬وصدروا من مصدر‬
‫واحد‪ ،‬هو الحق تبارك وتعالى‪ ،‬ول يختلف الرسل إل في المسائل الجتماعية والبيئية التي تناسب‬
‫كلً منهم‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى‪ {:‬إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ ِإلَىا نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن َب ْع ِد ِه وََأوْحَيْنَآ إِلَىا إِبْرَاهِيمَ‬
‫ق وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَاطِ وَعِيسَىا }[النساء‪.]163 :‬‬
‫سمَاعِيلَ وَإسْحَا َ‬
‫وَإِ ْ‬
‫وقال تعالى‪ {:‬شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ ِإلَ ْيكَ َومَا َوصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ‬
‫ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ }[الشورى‪.]13 :‬‬
‫َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِذْ قَالَ َلهُمْ َأخُوهُ ْم صَالِحٌ }‬

‫(‪)3026 /‬‬

‫إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُه ْم صَالِحٌ أَلَا تَ ّتقُونَ (‪ )142‬إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ (‪ )143‬فَا ّتقُوا اللّ َه وََأطِيعُونِ (‬
‫‪)144‬‬

‫قال هنا أيضا‪َ { :‬أخُوهُمْ } [الشعراء‪ ]142 :‬ليرقّق قلوبهم ويُحنّنها على نبيهم { أَل تَ ّتقُونَ }‬
‫حضّ على التقوى‪ ،‬فحين‬
‫حثّ و َ‬
‫[الشعراء‪ ]142 :‬قلنا‪ :‬إنها استفهام إنكاري‪ .‬تعني‪ :‬اتقوا ال‪ ،‬ففيها َ‬
‫تُنكر النفي‪ ،‬فإنك تريد الثبات‪.‬‬
‫ولما كانت التقوى تقتضي وجود منهج نتقي ال به‪ ،‬قال‪ { :‬إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ } [الشعراء‪:‬‬
‫‪ ]143‬وما ُد ْمتُ أنا رسول أمين لن أغشّكم { فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأطِيعُونِ } [الشعراء‪ ]144 :‬وكرر المر‬
‫بالتقوى مرة أخرى‪ ،‬وقرنها بالطاعة‪.‬‬

‫(‪)3027 /‬‬

‫َومَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا عَلَى َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)145‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فكأن العمل الذي أقدمه من أجلكم ـ في عُرْف العقلء ـ يستحق أجرا‪ ،‬فالعامل الذي يعمل لكم‬
‫شيئا جزئيا من مسائل الدنيا يزول وينتهي يأخذ أجرا عليه‪ ،‬أما أنا قأقدّم لكم عملً يتعدّى الدنيا إلى‬
‫الخرة‪ ،‬ويمدّ حياتك بالسعادة في الدنيا والخرة‪ ،‬فأجْري ـ إذن ـ كبير؛ لذلك ل أطلبه منكم إنما‬
‫من ال‪.‬‬

‫(‪)3028 /‬‬

‫أَتُتْ َركُونَ فِي مَا هَاهُنَا َآمِنِينَ (‪)146‬‬

‫يريد أن يُوبّخهم‪ :‬أتظنون أنكم ستخلّدون في هذا النعيم‪ ،‬وأنتم آمنون‪ ،‬أو أنكم تأخذون ِنعَم ال‪ ،‬ثم‬
‫تفرّون من حسابه‪ ،‬كما قال سبحانه‪:‬‬
‫جعُونَ }[المؤمنون‪.]115 :‬‬
‫{ َأ َفحَسِبْ ُتمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَ ّنكُمْ إِلَيْنَا لَ تُرْ َ‬
‫فمَنْ ظن ذلك فهو مخطيء قاصر الفهم؛ لن الشياء التي تخدمك في الحياة ل تخدمك بقدرة منك‬
‫عليها‪ ،‬فأنت ل تقدر على الشمس فتأمرها أنْ تشرق كل يوم‪ ،‬ول تقدر على السحاب أن ينزل‬
‫المطر‪ ،‬ول تقدر على الرض أن تعطيها الخصوبة لتنبت‪ ،‬ول تقدر على الهواء الذي تتنفسه‪..‬‬
‫إلخ وهذه من مُقوّمات حياتك التي ل تستطيع البقاء بدونها‪.‬‬
‫وكان من الواجب عليك أن تتأمل وتفكر‪ :‬مَن الذي سخرّها لك‪ ،‬وأقدرك عليها؟ كالرجل الذي‬
‫انقطع في الصحراء وفقد دابته وعليها طعامه وشرابه حتى أشرف على الهلك‪ ،‬ثم أخذته سِنَة‬
‫أفاق منها على مائدة عليها أطايب الطعام والشراب‪ ،‬بال‪ ،‬أليس عليه قبل أنْ تمتد يده إليها إنْ‬
‫يسأل نفسه‪ :‬مَنْ أعدّ لي هذه المائدة في هذا المكان‪.‬‬
‫عدّ لك فيه كل هذا الخير‪ ،‬فكان عليك أن تنظر فيه‪ ،‬وفيمَنْ‬
‫كذلك أنت طرأتَ على هذا الكون وقد أُ ِ‬
‫أعدّه لك‪ .‬فإذا جاءك رسول من عند ال ليحلّ لك هذا اللغز‪ ،‬ويخبرك بأن الذي فعل كل هذا هو‬
‫ال‪ ،‬وأن من صفات كماله كذا وكذا‪ ،‬فعليك أن تُصدّقه‪.‬‬
‫حلّ لغز حار فيه عقلك‪ ،‬وإما هو كاذب ـ والعياذ بال وحاشا‬
‫لنه إما أن يكون صادقا يهديك إلى َ‬
‫ل أن يكذب رسول ال على ال ـ فإن صاحب هذا الخلق عليه أن يقوم ويدافع عن خَلْقه‪.‬‬
‫ويقول‪ :‬هذا الرسول مُ ّدعٍ وكاذب‪ ،‬وهذا الخَلْق لي‪ :‬فإذا لم يقُمْ للخَلْق ُم ّدعٍ فقد ثبتتْ القضية ل‬
‫تعالى إلى أنْ يظهر مَنْ يدّعيها لنفسه‪.‬‬

‫(‪)3029 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ت وَعُيُونٍ (‪)147‬‬
‫فِي جَنّا ٍ‬

‫ت وَعُيُونٍ } [الشعراء‪ ]147 :‬امتداد للية السابقة‪ ،‬يعني‪ :‬ل تظنوا أن هذا‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فِي جَنّا ٍ‬
‫يدوم لكم‪ .‬و(جنات)‪ :‬جمع جنة‪ ،‬وهي المكان المليء بالخيرات‪ ،‬وكل ما يحتاجه النسان‪ ،‬أو هي‬
‫المكان الذي إنْ سار فيه النسان سترتْه الشجار؛ لن جنّ يعني ستر‪ .‬كما في قوله تعالى‪ {:‬فََلمّا‬
‫جَنّ عَلَ ْيهِ الّ ْيلُ }[النعام‪ ]76 :‬أي‪ :‬ستره‪.‬‬
‫ومنه الجنون‪ .‬ويعني‪ :‬سَتْر العقل‪ .‬وكذلك الجنة‪ ،‬فهي تستر عن الوجود كله‪ ،‬وتُغنيك عن الخروج‬
‫منها إلى غيرها‪ ،‬ففيها كل ما تتطلبه نفسك‪ ،‬وكل ما تحتاجه في حياتك‪.‬‬
‫ومن ذلك ما نسميه الن (قصرا) لن فيه كل ما تحتاجه بحيث يقصرك عن المجتمع البعيد‪.‬‬
‫وقال بعدها‪ { :‬وَعُيُونٍ } [الشعراء‪ ]147 :‬لن الجنة تحتاج دائما إلى الماء‪ ،‬فقال { وَعُيُونٍ }‬
‫[الشعراء‪ ]147 :‬ليضمن بقاءها‪.‬‬
‫خلٍ طَ ْل ُعهَا }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَزُرُوعٍ وَنَ ْ‬

‫(‪)3030 /‬‬

‫خلٍ طَ ْل ُعهَا َهضِيمٌ (‪)148‬‬


‫ع وَنَ ْ‬
‫وَزُرُو ٍ‬

‫النخل من الزروع‪ ،‬لكن خصّ النخل بال ّذكْر‪ ،‬لن رسول ال صلى ال عليه وسلم اهتم به‪ ،‬وشبّهه‬
‫بالمؤمن في الحديث‪ " :‬إن من الشجر شجرة ل يسقط ورقها " قال الراوي‪ :‬فوقع الناس في شجر‬
‫البوادي‪ ،‬ولم يهتدوا إليها‪ ،‬فلما خرج عمر وابنه عبد ال قال‪ :‬يا أبي‪ ،‬لقد وقع في ظني أنها‬
‫النخلة؛ لنها مثل المؤمن كل ما فيه خير‪.‬‬
‫نعم لو تأملتَ النخلة لوجدتَ أن كل شيء فيها نافع‪ ،‬وله مهمة‪ ،‬وينتفع الزارع به‪ ،‬ول يُ ْلقَى منها‬
‫شيء منهما كان بسيطا‪ .‬فالجذوع تُصنع منها السواري والعمدة‪ ،‬وتُسقف بها البيوت قبل ظهور‬
‫الخرسانة‪ ،‬ومن الجريد يصنعون القفاص‪ ،‬والجزء المفلطح من الجريدة ويسمى (القحف) والذي‬
‫ل يصلح للقفاص كانوا يجعلونه على شكل معين‪ ،‬فيصير (مقشّة) يكنسون بها المنازل‪.‬‬
‫ومن الليف يصنعون الحبال‪ ،‬ويجعلونه في تنجيد الكراسي وغيرها‪ ،‬حتى الشواك التي تراها في‬
‫جريد النخل خلقه ال لحكمة وبقدَرٍ؛ لنها تحمي النخلة من الفئران أثناء إثمارها‪ ،‬والليف الذي‬
‫غضّة طرية‪ ،‬فل‬
‫يمنو بين أصول الجريد جعله ال حماية للنخلة‪ ،‬وهي في طور النمو‪ ،‬وما تزال َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يحمي بعضها على بعض‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هي شجرة خيّرة كالمؤمن‪ ،‬وقد تم أخيرا في أحد البحوث أن أخذوا الجزء الذي يسمى‬
‫بالقحف‪ ،‬وجعلوه في تربة مناسبة‪ ،‬فأنبتوا منه نخلة جديدة‪.‬‬
‫لذلك " لما قال ابن عمر‪ :‬إنها النخلة‪ .‬ذهب عمر إلى رسول ال‪ ،‬وحكى له مقالة ولده‪ ،‬فقال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ " :‬صدق ولدك " فقال عمر‪( :‬فوال ما يسرني أن فَطِن ولدي إليها أن لي حمر‬
‫النعم) "‪.‬‬
‫والذين يزرعون النخيل يروْنَ فيه آيات وعجائب دالّة على قدرة ال تعالى‪.‬‬
‫ومعنى { طَ ْل ُعهَا َهضِيمٌ } [الشعراء‪ ]148 :‬الطّلْع‪ :‬هو الكوز الذي تخرج منه الشماريخ في الُنْثى‬
‫ويخرج منه المادة المخصبة في الذكر‪ ،‬والتي قال ال عنها‪ {:‬قِ ْنوَانٌ دَانِيَةٌ }[النعام‪.]99 :‬‬
‫وفي الذّكر يخرج من الكوز المادة المخصّبة للنخلة‪ ،‬وللقِنْوان أو الشماريخ أطوار في النمو‬
‫يُسمّونه (الخل)‪ ،‬فيظل ينمو ويكبر إلى أنْ يصل إلى نهايته حَدّا حيث يجمد على هذه الحالة‪،‬‬
‫ويكتمل نموه الحجمي‪ ،‬ثم تبدأ مرحلة اللون‪.‬‬
‫يقولون (عفّر) النخل‪ :‬يعني شاب خضرته حمرة أو صفرة‪ .‬فإذا اكتمل احمرار الحمر واصفرار‬
‫الصفر‪ ،‬يسمى (بُسْر) ثم يتحول البُسْر إلى (الرطب) حيث تلين ثمرته وتنفصل قِشْرته‪ ،‬فإنْ كان‬
‫الجو جافا فإنّ الرّطَب يَيْبس‪ ،‬ويتحول إلى (التمر) حيث تتبخّر مائيته‪ ،‬وتتماسك ِقشْرته‪ ،‬وتلتصق‬
‫به‪.‬‬
‫غضّ ورَطْب طريّ‪ ،‬وهذا يدل على خصوبة الرض‪،‬‬
‫ومعنى { َهضِيمٌ } [الشعراء‪ ]148 :‬يعني‪َ :‬‬
‫ومنه هضم الطعام حتى يصبر ليّنا مُسْتساغا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَتَ ْنحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ }‬

‫(‪)3031 /‬‬

‫وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (‪)149‬‬

‫وحين تذهب إلى مدائن صالح تجد البيوت منحوتة في الجبال كما ينحتون الن النفاق مثلً‪ ،‬ل‬
‫يبنونها كما نبني بيوتنا‪ ،‬ومعنى { فَا ِرهِينَ } [الشعراء‪ ]149 :‬الفاره‪ :‬النشط القوي ظاهر الموهبة‪،‬‬
‫يقولون‪ :‬فلن فاره في كذا يعني؛ ماهر فيه‪ ،‬نشط في ممارسته‪.‬‬

‫(‪)3032 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فَا ّتقُوا اللّ َه وَأَطِيعُونِ (‪ )150‬وَلَا ُتطِيعُوا َأمْرَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ (‪)151‬‬

‫المسرف‪ :‬هو الذي يتجاوز الحدّ؛ وتجاوز الحدّ له مراحل؛ لن ال تعالى أحلّ أشياء‪ ،‬وحرّم‬
‫أشياء‪ ،‬وجعل لكل منهما حدودا مرسومة‪ ،‬فالسّرَف فيما شرع ال أن تتجاوز الحلل‪ ،‬فتُدخل فيه‬
‫الحرام‪.‬‬
‫أو‪ :‬يأتي السراف في الكَسْب فيدخل في كَسْبه الحرام‪ .‬وقد يُلزم النسان نفسه بالحلل في‬
‫الكسب‪ ،‬لكن يأتي السراف في النفاق فينفق فيما حرّمه ال‪ .‬إذن‪ :‬يأتي السراف في صور‬
‫ثلثة‪ :‬إما في الصل‪ ،‬وإما في الكسب‪ ،‬وإما في النفاق‪.‬‬
‫ونلحظ أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يكلمنا عن الحلل‪ ،‬يقول سبحانه‪ {:‬تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ‬
‫َتعْتَدُوهَا }[البقرة‪.]229 :‬‬
‫أما في المحرمات فيقول سبحانه‪ {:‬تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتقْرَبُوهَا }[البقرة‪ ]187 :‬أي‪ :‬ابتعد عنها؛‬
‫لنك ل تأمن الوقوع فيها‪ ،‬ومَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه‪ .‬فلم يقل الحق سبحانه مثلً‪ :‬ل‬
‫سكَارَىا }[النساء‪.]43 :‬‬
‫ل َة وَأَنْتُمْ ُ‬
‫ُتصَلّوا وأنتم سكارى‪ .‬إنما قال‪ {:‬لَ َتقْرَبُواْ الصّ َ‬
‫خذِ الحلل كله‪ ،‬لكن ل تتعداه إلى المحرّم‪ ،‬أما المحرّم فاحذر مجرد القتراب منه؛ لن‬
‫والمعنى‪ُ :‬‬
‫له دواعي ستجذبك إليه‪.‬‬
‫ونقف عند قوله تعالى‪ { :‬وَلَ تُطِيعُواْ َأمْرَ ا ْل ُمسْ ِرفِينَ } [الشعراء‪ ]151 :‬حيث لم يقل‪ :‬ول تسرفوا‪،‬‬
‫وكأن ربنا ـ عزّ وجلّ ـ يريد أن يُوقِظ غفلتنا ويُنبّهنا ويُحذّرنا من دعاة الباطل الذين يُزيّنون لنا‬
‫السراف في أمور حياتنا‪ ،‬ويُهوّنون علينا الحرام يقولون‪ :‬ل بأس في هذا‪ ،‬ول مانع من هذا‪،‬‬
‫وهذا ليس حرام‪ .‬ربنا يعطينا المناعة اللزمة ضد هؤلء حتى ل ننساق لضلللتهم‪.‬‬
‫ن أفتوك‬
‫ن أفتوك‪ ،‬وإ ْ‬
‫ن أفتوك‪ ،‬وإ ْ‬
‫لذلك جاء في الحديث الشريف‪ " :‬استفت قلبك‪ ،‬واستفتِ نفسك‪ ،‬وإ ْ‬
‫"‪.‬‬
‫وفي هذا دليل على أنه سيأتي أناس يُفتون بغير علم‪ ،‬ويُزيّنون للناس الباطل‪ ،‬ويُقنعونهم به‪.‬‬
‫س ِمعْنَا فَتًى َي ْذكُرُهُمْ ُيقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }[النبياء‪:‬‬
‫والفتوى من الفُتوة القوة‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬قَالُواْ َ‬
‫‪.]60‬‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬إِ ّنهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَ ّبهِ ْم وَزِدْنَا ُهمْ ُهدًى }[الكهف‪.]13 :‬‬
‫كذلك الفتوى تعني‪ :‬القوة في أمر الدين والتمكّن من مسائله وقضاياه‪ ،‬وإنْ كانت القوة المادية في‬
‫ن القوة في أمر الدين ل تنتهي إلى حَدّ‪ ،‬لن الدين أمدُه واسع‪،‬‬
‫حدّ تنتهي عنده فإ ْ‬
‫أمر الدنيا لها َ‬
‫وبحره ل ساحلَ له‪ .‬والقوة نعرفها في أي ناحية من النواحي‪ ،‬لكن قوة القوى هي القوة في أمر‬
‫الدين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نقول‪ :‬فلن فتيّ يعني‪ :‬قويّ بذاته‪ ،‬وأفتاه فلن أي‪ :‬أعطاه القوة‪ ،‬كأنه كان ضعيفا في حُكم من‬
‫أحكام الشرع‪ ،‬فذهب إلى المفتي فأفتاه يعني‪ :‬أعطاه فتوة في أمر الدين‪ .‬مثل قولنا‪ :‬غَنيَ فلن أي‪:‬‬
‫بذاته‪ ،‬وأغناه أي‪ :‬غيره‪ ،‬كما يقول سبحانه‪َ {:‬ومَا َنقَمُواْ ِإلّ أَنْ أَغْنَا ُهمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن َفضْلِهِ }‬
‫[التوبة‪.]74 :‬‬
‫إذن‪ :‬فمهمة المفتي أن يُقوّي عقيدتي‪ ،‬ل أن يسرف لي في أمر من أمور الدين‪ ،‬أو يُهوّن عليّ ما‬
‫حرّم ال فيُجرّئني عليه‪ ،‬وعلى المفتي أن يتحرّى الدقة في فتواه خاصة في المسائل الخلفية التي‬
‫يقول البعض بحلّها‪ ،‬والبعض بحرمتها‪ ،‬يقف عند هذه المسائل وينظر فيها رأي السلم المتمثل‬
‫في الحديث الشريف‪:‬‬

‫" الحلل بيّن‪ ،‬والحرام بيّن‪ ،‬وبينهما أمور مُشْتبهات‪ ،‬فمن ترك ما شُبّه له ـ ل من فعل ما شُبّه له‬
‫يعني على القل نترك ما فيه شبهة ـ فقد استبرأ لدينه ـ إن كان متدينا ـ وعِرْضه ـ إن لم يكُنْ‬
‫متدينا "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬مَنْ لم يقف هذا الموقف ويترك ما فيه شبهة لم يستبرىء لدينه ول لعِرْضه‪ .‬ومَنْ لم ُي ْفتِ‬
‫على هذا الساس من العلماء فإنما يُضعِف أمر الدين ل يُقوّيه‪ ،‬وبدل أن نقول‪ :‬أفتاه‪ .‬نقول‪:‬‬
‫أضعفه‪.‬‬

‫(‪)3033 /‬‬

‫ض وَلَا ُيصِْلحُونَ (‪)152‬‬


‫سدُونَ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫الّذِينَ ُيفْ ِ‬

‫فوصف المسرفين بأنهم مفسدون في الرض غير مصلحين‪ ،‬كأن الرض خلقها الخالق ـ عز‬
‫وجل ـ على هيئة الصلح في كل شيء‪ ،‬لكن يفسدها النسان بتدخلّه في أمورها؛ لذلك سبق أن‬
‫قلنا‪ :‬إنك لو نظرتَ إلى الكون من حولك لوجدته على أحسن حال‪ ،‬وفي منتهى الستقامة‪ ،‬طالما‬
‫ل تتناوله يد النسان‪ ،‬فإنْ تدخّل النسان في شيء ظهرتْ فيه علمات الفساد‪.‬‬
‫ول يعني هذا ألّ يتدخل النسان في الكون‪ ،‬ل إنما يتدخل على منهج مَنْ خَلقَ فيزيد الصالح‬
‫صلحا‪ ،‬أو على القل يتركه على صلحه ل يفسده‪ ،‬فإن تدخّل على غير هذا المنهج فل بُدّ له أن‬
‫يفسد‪.‬‬
‫فحين تمر مثلً ببئر ماء يشرب منه الناس‪ ،‬فإما أنْ تُصلح من حاله وتزيده ميزة وتُيسّر استخدامه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على الناس‪ ،‬كأن تبني له حافّة‪ ،‬أو تجعل عليه آلة َرفْع تساعد الناس‪ ،‬أو على القل تتركه على‬
‫سلَ‬
‫سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْرثَ وَالنّ ْ‬
‫حاله ل تفسده؛ لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَِإذَا َتوَلّىا َ‬
‫ب الفَسَادَ }[البقرة‪.]205 :‬‬
‫ح ّ‬
‫وَاللّ ُه لَ يُ ِ‬
‫أما هؤلء القوم فلم يك َتفِ القرآن بوصفهم بالفساد وحسب‪ ،‬إنما أيضا هم { وَلَ ُيصْلِحُونَ }‬
‫[الشعراء‪ ]152 :‬ذلك لن النسان قد يُفسِد في شيء‪ ،‬ويُصلح في شيء‪ ،‬إنما هؤلء دأبهم الفساد‪،‬‬
‫ول يأتي منهم الصلح أبدا‪.‬‬
‫ونكبة الوجود من الذين يصنعون أشياء يروْنها في ظاهرها صلحا‪ ،‬وهي عَيْن الفساد؛ لنهم لم‬
‫يأخذوها بكل تقنيناتها القيمية‪ ،‬وانظر مثلً إلى المبيدات الحشرية التي ابتكروها وقالوا‪ :‬إنها فتح‬
‫علمي‪ ،‬وسيكون لها دور كبير في القضاء على دودة القطن وآفات الزرع‪ ،‬وبمرور الزمن‬
‫أصبحت هذه المبيدات وبالً على البشرية كلها‪ ،‬كيث تسمّم الزرع وتسمّم الحيوان‪ ،‬وبالتالي‬
‫النسان‪ ،‬حتى الماء والتّرْبة والطيور‪ ،‬لدرجة أنك تستطيع القول أنها أفسدت الطبيعة التي خلقها‬
‫ال‪.‬‬
‫وفي هؤلء قال تعالى‪:‬‬
‫سعْ ُيهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَ ّن ُهمْ‬
‫ضلّ َ‬
‫ن َ‬
‫عمَالً * الّذِي َ‬
‫{ ُقلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ‬
‫حسِنُونَ صُنْعا }[الكهف‪103 :‬ـ ‪.]104‬‬
‫يُ ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالُواْ إِ ّنمَآ أَنتَ }‬

‫(‪)3034 /‬‬

‫قَالُوا إِ ّنمَا أَ ْنتَ مِنَ ا ْلمُسَحّرِينَ (‪)153‬‬

‫{ ا ْل ُمسَحّرِينَ } [الشعراء‪ ]153 :‬جمع مُسحّر‪ ،‬وهي صيغة مبالغة تدلّ على وقوع السحر عليه‬
‫سحّر يعني عدة مرات‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‬
‫أكثر من مرة‪ ،‬نقول‪ :‬مسحور يعني‪ :‬مرة واحدة ومُ َ‬
‫علِيمٍ }[الشعراء‪:‬‬
‫عن مل فرعون أنهم قالوا له‪ {:‬وَا ْب َعثْ فِي ا ْلمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ ِب ُكلّ سَحّارٍ َ‬
‫‪36‬ـ ‪.]37‬‬
‫ولم يقل‪ :‬بكل ساحر‪ ،‬إنما سحّار يعني‪ :‬هذه مهنته‪ ،‬وكما تقول‪ :‬ناجر ونجار‪ ،‬وخائط وخياط‪.‬‬
‫وإنْ كان بعضهم قال عن نبيهم‪ {:‬إِن تَتّ ِبعُونَ ِإلّ َرجُلً مّسْحُورا }[السراء‪ ]47 :‬فهؤلء يقولون‬
‫سحّرِينَ } [الشعراء‪ ]153 :‬وعجيب أمر أهل الباطل؛ لنهم يتخبطون في‬
‫لنبيهم { إِ ّنمَآ أَنتَ مِنَ ا ْلمُ َ‬
‫هجومهم على النبياء‪ ،‬فمرّة يقولون‪ :‬ساحر‪ .‬ومرة يقولون‪ :‬مسحور‪ ،‬كيف والساحر ل يكون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مسحورا؛ لنه على القل يستطيع أن يحمي نفسه من السحر‪ .‬قالوا‪ :‬بل المراد بالمسحور اختلط‬
‫عقله‪ ،‬حتى إنه ل يدري ما يقول‪.‬‬
‫ثم إن نبيكم صالحا ـ عليه السلم ـ إنْ كان مسحورا فمَنْ سحره؟ أنتم أم أتباعه؟ إنْ كان سحره‬
‫منكم فأنتم تقدرون على َكفّ سحركم عنه‪ ،‬حتى يعود إلى طبيعته‪ ،‬وترونه على حقيقته‪ ،‬وإنْ كان‬
‫ن يعينوه على مهمته‪ ،‬ل أن يُقعدوه عنها‪.‬‬
‫من أتباعه‪ ،‬ل بُدّ أنهم سيحاولون أ ْ‬
‫سحّرِينَ } [الشعراء‪ ]153 :‬يريدون أن يخُلصُوا إلى عدم‬
‫إذن‪ :‬فقولهم لنبيهم‪ { :‬إِ ّنمَآ أَنتَ مِنَ ا ْلمُ َ‬
‫اتباعه هو بالذات‪ ،‬فهم يريدون تديّنا على حسب أهوائهم‪ ،‬يريدون عبادة إله ل تكليفَ له ول‬
‫منهج‪ .‬كالذين يعبدون الصنام وهم سعداء بهذه العبادة‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن آلهتهم ل تأمرهم بشيء ول تنهاهم عن شيء‪ .‬لذلك‪ ،‬فكل الدجالين ومُدّعُو النبوة رأيناهم‬
‫يُخفّفون التكاليف عن أتباعهم‪ ،‬فقديما أسقطوا عن الناس الزكاة‪ ،‬وحديثا أباحوا لهم الختلط‪ ،‬فل‬
‫مانع لديهم من اللتقاء بالمرأة والجلوس معها ومخاطبتها والخُلْوة بها والرقص معها‪ ،‬وماذا في‬
‫ذلك ونحن في القرن الحادي والعشرين؟‬
‫فإنْ قالوا‪ :‬ساحر‪ ،‬نردّ عليهم نعم هو ساحر‪ ،‬قد سحر مَنْ آمنوا به‪ ،‬فلماذا لم يسحركم أنتم وتنتهي‬
‫هذه المسألة؟ إذن‪ :‬هذه ُتهَم ل تستقيم‪ ،‬ل هو ساحر‪ ،‬ول هو مسحور‪ ،‬إنه مجرد كذب وافتراء‬
‫على أنبياء ال‪ ،‬وعلى دعاة الخير في كل زمان ومكان‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬مَآ أَنتَ ِإلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا }‬

‫(‪)3035 /‬‬

‫مَا أَ ْنتَ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَ ْأتِ بِآَ َيةٍ إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ (‪)154‬‬

‫وقولهم‪ { :‬مَآ أَنتَ ِإلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَ ْأتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } [الشعراء‪ ]154 :‬إذن‪ :‬فوجه‬
‫اعتراضهم أن يكون النبي بَشَرا‪ ،‬كما قال سبحانه في آية أخرى‪َ {:‬ومَا مَ َنعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ إِذْ‬
‫جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ َبشَرا رّسُولً }[السراء‪.]94 :‬‬
‫ولو بعث ال لهم مَلَكا لجاءهم على صورة بشر‪ ،‬وستظل الشّبْهة قائمة‪ ،‬فمن يدريكم أن هذا البشر‬
‫جعَلْنَاهُ رَجُلً وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا يَلْ ِبسُونَ }[النعام‪.]9 :‬‬
‫جعَلْنَاهُ مَلَكا لّ َ‬
‫أصله مَلَك؟{ وََلوْ َ‬
‫فالمعنى‪ :‬ما دام أن الرسول بشر‪ ،‬ل يمتاز علينا في شيء فنريد منه أنْ يأتينا بآية يعني‪ :‬معجزة‬
‫تُثبِت لنا صِدْقه في البلغ عن ربه { إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } [الشعراء‪.]154 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونلحظ أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ ينتهز فرصة طلَبهم لية ومعجزة‪ ،‬فأسرع إليهم بما طلبوا‪،‬‬
‫ليقيم عليهم الحُجة‪ ،‬فقال بعدها‪ { :‬قَالَ هَـا ِذهِ نَاقَةٌ }‬

‫(‪)3036 /‬‬

‫ب وََلكُمْ شِ ْربُ َيوْمٍ َمعْلُومٍ (‪)155‬‬


‫قَالَ هَ ِذهِ نَاقَةٌ َلهَا شِ ْر ٌ‬

‫سقْبا ل يكون صغيرا‬


‫هذا إجابة لهم؛ لنهم طلبوا من نبيهم أنْ يُخرِج لهم من الصخرة ناقة تلد َ‬
‫سقْبا في نفس حجمها‪ ،‬فأجابهم { قَالَ هَـا ِذهِ نَاقَةٌ ّلهَا شِ ْربٌ } [الشعراء‪]155 :‬‬
‫كولد الناقة‪ ،‬إنما تلد َ‬
‫يعني‪ :‬يوم تشرب فيه‪ ،‬ل يشاركها في شُرْبها شيء من مواشيكم‪.‬‬
‫{ وََلكُمْ شِ ْربُ َيوْمٍ ّمعْلُومٍ } [الشعراء‪ ]155 :‬أي‪ :‬تشربون فيه أنتم‪ ،‬وكانت الناقة تشرب من الماء‬
‫في يومها ما تشربه كلّ مواشيهم في يومهم‪ ،‬وهذه معجزة في حَدّ ذاتها‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ولَ َتمَسّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُ َذ ُكمْ }‬

‫(‪)3037 /‬‬

‫عظِيمٍ (‪)156‬‬
‫وَلَا َتمَسّوهَا بِسُوءٍ فَيَ ْأخُ َذكُمْ عَذَابُ َيوْمٍ َ‬

‫يخبر الحق سبحانه رسوله بما سيكون‪ ،‬وأن القوم لن يتركوا هذه الية‪ ،‬إنما سيتعرضون لها‬
‫باليذاء‪ ،‬فقال‪َ { :‬ولَ َت َمسّوهَا بِسُوءٍ } [الشعراء‪ ]156 :‬لكنهم تع ّدوْا مجرد اليذاء والساءة‬
‫فعقروها‪.‬‬
‫خ َذكُمْ عَذَابُ َيوْمٍ عَظِيمٍ } [الشعراء‪.]156 :‬‬
‫ثم يتوعدهم‪ { :‬فَيَأْ ُ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ف َعقَرُوهَا فََأصْبَحُواْ نَا ِدمِينَ }‬

‫(‪)3038 /‬‬

‫َفعَقَرُوهَا فََأصْبَحُوا نَا ِدمِينَ (‪)157‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عقْرها؟ ل بل عقرها واحد منهم‪ ،‬هو‬
‫قال (عقروها) بصيغة الجمع‪ ،‬فهل اشتركتْ كل القبيلة في َ‬
‫قدار بن سالف‪ ،‬لكن وافقه الجميع على ذلك‪ ،‬وساعدوه‪ ،‬وارتضوا هذا الفعل‪ ،‬فكأنهم فعلوا جميعا؛‬
‫لنه استشارهم فوافقوا‪.‬‬
‫{ فََأصْبَحُواْ نَا ِدمِينَ } [الشعراء‪ ]157 :‬وقال العلماء‪ :‬الندم مقدمة التوبة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََأخَ َذهُمُ ا ْل َعذَابُ إِنّ فِي ذَِلكَ }‬

‫(‪)3039 /‬‬

‫خذَهُمُ ا ْلعَذَابُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)158‬‬
‫فَأَ َ‬

‫فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬كيف يأخذهم العذاب وقد ندموا‪ ،‬والندم من مقدمات التوبة؟‬
‫ستِ ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ‬
‫نعم‪ ،‬الندم من مقدمات التوبة‪ ،‬لكن توبة هؤلء من التوبة التي قال ال عنها‪ {:‬وَلَيْ َ‬
‫حضَرَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ النَ }[النساء‪.]18 :‬‬
‫َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىا ِإذَا َ‬
‫إذن‪ :‬ندموا وتابوا في غير أوان التوبة‪ ،‬أو‪ :‬أنهم أصبحوا نادمين ل ندمَ توبة من الذنب‪ ،‬إنما‬
‫نادمون؛ لنهم يخافون العذاب الذي هددهم ال به إنْ فعلوا‪.‬‬
‫ثم تُختم هذه القصة بهذا التذييل الذي عرفناه من قبل مع أمم أخرى مُكذّبة‪ { :‬وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ‬
‫}‬

‫(‪)3040 /‬‬

‫وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ (‪)159‬‬

‫عزيز‪ :‬يَغلِب ول ُيغْلَب‪ ،‬ومع ذلك هو رحيم في غَلَبه‪.‬‬


‫ثم ينتقل الحق سبحانه إلى قصة أخرى من مواكب النبياء والرسل‪ { :‬كَذّ َبتْ َقوْمُ لُوطٍ }‬

‫(‪)3041 /‬‬

‫كَذّ َبتْ َقوْمُ لُوطٍ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪ِ )160‬إذْ قَالَ َلهُمْ َأخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَ ّتقُونَ (‪)161‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فقال هنا أيضا { َأخُوهُمْ } [الشعراء‪ ]161 :‬لنه منهم ليس غريبا عنهم‪ ،‬وليُحنّن قلوبهم عليه { أَل‬
‫تَ ّتقُونَ } [الشعراء‪ ]161 :‬إنكار لعدم التقوى‪ ،‬وإنكار النفي يطلب الثبات فكأنه قال‪ :‬اتقوا ال‪.‬‬

‫(‪)3042 /‬‬

‫إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ (‪ )162‬فَا ّتقُوا اللّ َه وََأطِيعُونِ (‪َ )163‬ومَا أَسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ إِلّا‬
‫عَلَى َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)164‬‬

‫وهكذا كانت مقالة لوط عليه السلم كما قال إخوانه السابقون من الرسل؛ لنهم يصدُرون جميعا‬
‫عن مصدر واحد‪.‬‬
‫ثم يخصّ الحق سبحانه قوم لوط لما اشتُهروا به وكان سببا في إهلكهم‪ { :‬أَتَأْتُونَ ال ّذكْرَانَ مِنَ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ }‬

‫(‪)3043 /‬‬

‫أَتَأْتُونَ ال ّذكْرَانَ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)165‬‬

‫فكأنها مسألة وخصلة تفردوا بها دون العالم كله‪.‬‬


‫شةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ }[العراف‪.]80 :‬‬
‫لذلك قال في موضع آخر‪ {:‬أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ‬
‫أي‪ :‬أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لنها عملية مستقذرة؛ لن الرجل إنما يأتي الرجل في محل‬
‫القذارة‪ ،‬ولكنهم فعلوها‪ ،‬ف َوصْفه لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها مسألة فظيعة للغاية‪.‬‬

‫(‪)3044 /‬‬

‫جكُمْ َبلْ أَنْ ُتمْ َقوْمٌ عَادُونَ (‪)166‬‬


‫وَتَذَرُونَ مَا خََلقَ َلكُمْ رَ ّب ُكمْ مِنْ أَ ْزوَا ِ‬

‫يعني‪ :‬كان عندكم مندوحة عن هذه ال ِفعْلة النكراء بما خلق ال لكم من أزواجكم من النساء‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فتصرفون هذه الغريزة في محلها‪ ،‬ول تنقلونها إلى الغير‪.‬‬
‫جكُمْ } [الشعراء‪ ]166 :‬أي‪ :‬أنهم كانوا يباشرون هذه‬
‫أو { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ َل ُكمْ رَ ّبكُمْ مّنْ أَ ْزوَا ِ‬
‫المسألة أيضا مع النساء في غير محلّ الستنبات‪ ،‬فقوله تعالى‪ِ {:‬نسَآ ُؤكُمْ حَ ْرثٌ ّلكُمْ فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ‬
‫أَنّىا شِئْ ُتمْ }[البقرة‪.]223 :‬‬
‫البعض يظنها على عمومها وأن{ أَنّىا شِئْتُمْ }[البقرة‪ ]223 :‬تعطيهم الحرية في هذه المسألة‪ ،‬إنما‬
‫الية محددة بمكان الحَرْث واستنبات الولد‪ ،‬وهذا محله المام ل الخلف‪.‬‬
‫لذلك قال بعدها‪َ { :‬بلْ أَن ُتمْ َقوْمٌ عَادُونَ } [الشعراء‪ ]166 :‬والعادي هو الذي شُرع له شيء يقضي‬
‫فيه إربته‪ ،‬فتجاوزه إلى شيء آخر حرّمه الشرع‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالُواْ لَئِن لّمْ تَن َتهِ }‬

‫(‪)3045 /‬‬

‫قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُخْرَجِينَ (‪)167‬‬

‫أي‪ :‬إن لم تنته عن ملمنا ومعارضتنا فيما نفعله من هذه العملية { لَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُخْ َرجِينَ }‬
‫[الشعراء‪ ]167 :‬كما قالوا في آية أخرى‪ {:‬أَخْ ِرجُواْ آلَ لُوطٍ مّن قَرْيَ ِتكُمْ }[النمل‪ ]56 :‬أي‪ :‬ل مكان‬
‫طهّرُونَ }[النمل‪ ]56 :‬سبحان ال جريمتهم أنهم يتطهرون‪ ،‬ول‬
‫لهم بيننا‪ ،‬لكن لماذا؟{ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَ َت َ‬
‫طهْر بين هؤلء القوم الراذل‪.‬‬
‫مكان لل ّ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عن لوط‪ { :‬قَالَ إِنّي ِل َعمَِلكُمْ }‬

‫(‪)3046 /‬‬

‫قَالَ إِنّي ِل َعمَِلكُمْ مِنَ ا ْلقَالِينَ (‪)168‬‬

‫وفرْقٌ بين كوني ل أعمل العمل‪ ،‬وكوْني أكره مَنْ يعمله‪ ،‬فالمعنى‪ :‬أنا ل أعمل هذا العمل‪ ،‬إنما‬
‫أيضا أكره مَنْ يعمله‪ ،‬وهذا مبالغة في إنكاره عليهم‪.‬‬
‫ثم يقول لوط‪َ { :‬ربّ نّجِنِي وَأَهْلِي }‬

‫(‪)3047 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ج َمعِينَ (‪ )170‬إِلّا عَجُوزًا فِي ا ْلغَابِرِينَ (‬
‫َربّ نَجّنِي وَأَهْلِي ِممّا َي ْعمَلُونَ (‪ )169‬فَ َنجّيْنَا ُه وَأَهْلَهُ َأ ْ‬
‫‪)171‬‬

‫لم يملك لوط عليه السلم أمام عناد قومه وإصرارهم على هذه الفاحشة إل أنْ يدعو ربّه بالنجاة له‬
‫ولهله‪ ،‬فأجابه ال تعالى { ِإلّ عَجُوزا فِي ا ْلغَابِرِينَ } [الشعراء‪.]171 :‬‬
‫ح وَامْرََأتَ لُوطٍ }‬
‫والمراد‪ :‬امرأته التي قال ال في حقها‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُو ٍ‬
‫[التحريم‪.]10 :‬‬
‫ل للكفر والعياذ بال؛ لذلك لم تكُنْ من الناجين‪ ،‬ولم تشملها دعوة‬
‫فجعلها ال ـ عز وجل ـ مثا ً‬
‫لوط عليه السلم‪ ،‬وكانت من الغابرين‪ .‬يعني‪ :‬الهالكين‪.‬‬

‫(‪)3048 /‬‬

‫ثُمّ َدمّرْنَا الْآَخَرِينَ (‪ )172‬وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ ا ْلمُنْذَرِينَ (‪)173‬‬

‫{ الخَرِينَ } [الشعراء‪ ]172 :‬أي‪ :‬الذين لم يؤمنوا بدعوته‪ ،‬ولم ينتهوا عن هذه الفاحشة‪ ،‬ثم بيّن‬
‫نوعية هذا التدمير‪ ،‬فقال‪ { :‬وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِم مّطَرا َفسَآءَ مَطَرُ ا ْلمُنذَرِينَ } [الشعراء‪ ]173 :‬ولما‬
‫كان المطر من أسباب الخير وعلمات الرحمة‪ ،‬حيث ينزل الماء من السماء‪ ،‬فيُحيي الرض بعد‬
‫موتها‪ ،‬وصف ال هذا المطر بأنه { فَسَآءَ مَطَرُ ا ْلمُنذَرِينَ } [الشعراء‪ ]173 :‬فهو ليس مطرَ خَيْر‬
‫ورحمة‪ ،‬إنما مطر عذاب ونقمة‪.‬‬
‫كماء جاء في آية أخرى‪ {:‬فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ‬
‫شيْءٍ بَِأمْرِ رَ ّبهَا }[الحقاف‪24 :‬ـ ‪.]25‬‬
‫جلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُ َدمّرُ ُكلّ َ‬
‫مَا اسْ َتعْ َ‬
‫وهذا يُسمّونه (يأس بعد إطماع)‪ ،‬وهو أبلغ من العذاب واليلم‪ ،‬حين تستشرف للخير فيُفاجئك‬
‫الشر‪ ،‬وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بالسجين الذي يطلب من الحارس شَرْبة ماء‪ ،‬ليروي بها‬
‫ن المر هيّنا لكنه يحضر له كوب الماء‪ ،‬حتى إذا جعله‬
‫عطشه‪ ،‬فلو حرمه الحارس من البداية لَكا َ‬
‫على فيه أراقه على الرض‪ ،‬فهذا أشد وأنكَى؛ لنه حرمه بعد أن أطمعه‪ ،‬وهذا عذاب آخر فوق‬
‫عذاب العطش‪.‬‬
‫جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهَا‬
‫وفي لقطة أخرى بينّ ما هية هذا المطر‪ ،‬فقال‪ {:‬فََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا َ‬
‫ك َومَا ِهيَ مِنَ الظّاِلمِينَ بِ َبعِيدٍ }[هود‪82 :‬ـ ‪.]83‬‬
‫س ّومَةً عِندَ رَ ّب َ‬
‫سجّيلٍ مّ ْنضُودٍ * مّ َ‬
‫حجَا َرةً مّن ِ‬
‫ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س ّومَةً }[هود‪ ]83 :‬يعني‪:‬‬
‫فالحجارة من{ سِجّيلٍ }[هود‪ ]82 :‬أي‪ :‬طين حُرِق حتى تحجّر وهي{ مّ َ‬
‫مُعلّمة بأسماء أصحابها‪ ،‬تنزل عليهم بانتظام‪ ،‬كل حجر منها على صاحبه‪.‬‬
‫وبجمع اللقطات المتفرقة تتبين معالم القصة كاملة‪.‬‬

‫(‪)3049 /‬‬

‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪ )174‬وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ (‪)175‬‬

‫وتُختم القصة بنفس اليات التي خُت ِمتْ بها القصص السابقة من قصص المكذّبين المعاندين‪.‬‬
‫ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قوم آخرين كذبوا رسولهم شعيبا‪َ { :‬ك ّذبَ َأصْحَابُ الَ ْيكَةِ }‬

‫(‪)3050 /‬‬

‫كَ ّذبَ َأصْحَابُ الْأَ ْيكَةِ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪)176‬‬

‫خصْب الذي بلغ من خصوبته أنْ تلتفّ أشجاره‪ ،‬وتتشابك أغصانها‪ ،‬وقال هنا‬
‫اليكة‪ :‬هي المكان ال ِ‬
‫أيضا { ا ْلمُ ْرسَلِينَ } [الشعراء‪ ]76 :‬مع أنهم ما كذّبوا إل رسولهم؛ لن تكذيب رسول واحد‬
‫كتكذيب ُكلّ الرسل؛ لنهم جميعا جاءوا بمنهج واحد في العقيدة والخلق‪.‬‬

‫(‪)3051 /‬‬

‫شعَ ْيبٌ أَلَا تَ ّتقُونَ (‪ )177‬إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ (‪ )178‬فَا ّتقُوا اللّ َه وََأطِيعُونِ (‪َ )179‬ومَا‬
‫إِذْ قَالَ َلهُمْ ُ‬
‫أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ إِلّا عَلَى َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)180‬‬

‫نلحظ اختلف السلوب هنا‪ ،‬مما يدل على ِدقّة الداء القرآني‪ ،‬فلم يقل‪ :‬أخوهم شعيب‪ ،‬كما قال في‬
‫نوح وهود وصالح ولوط‪ ،‬ذلك لن شعيبا عليه السلم لم يكن من أصحاب اليكة‪ ،‬إنما كان غريبا‬
‫عنهم‪.‬‬
‫وباقي اليات متفقة تماما مع مَنْ سبقه من إخوانه الرسل؛ لن الوحدة في المنهج العقدي أنتجتْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الوحدة في علج المنهج؛ لذلك قرأنا هذه اليات عند كل الرسل الذين سبق ذكرهم‪.‬‬
‫ثم يأخذ في تفصيل المر الخاص بهم؛ لن كل أمة من المم التي جاءها رسول من عند ال إنما‬
‫جاء ليعالج داءً خاصا تفشّى بها‪ ،‬وكانت المم من قبل منعزلةً‪ ،‬بعضها عن بعض‪ ،‬ول يوجد بينها‬
‫وسائل اتصال تنقل هذه الداءات من أمة لخرى‪.‬‬
‫فهؤلء قوم عاد‪ ،‬وكان داءَهم التفاخُرُ بالبناء والتعالي على الناس‪ ،‬فجاء هود ـ عليه السلم ـ‬
‫ليقول لهم‪:‬‬
‫طشْتُمْ جَبّارِينَ }‬
‫خذُونَ َمصَانِعَ َلعَّلكُمْ تَخُْلدُونَ * وَإِذَا َبطَشْ ُتمْ بَ َ‬
‫{ أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ آيَةً َتعْبَثُونَ * وَتَتّ ِ‬
‫[الشعراء‪128 :‬ـ ‪.]130‬‬
‫وثمود كان داءهم الغفل ُة والنصراف بالنعمة عن المُنْعم‪ ،‬فجاء صالح ـ عليه السلم ـ يقول‬
‫ط ْل ُعهَا َهضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ‬
‫خلٍ َ‬
‫ع وَنَ ْ‬
‫ت وَعُيُونٍ * وَزُرُو ٍ‬
‫لهم‪ {:‬أَتُتْ َركُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ * فِي جَنّا ٍ‬
‫مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا فَارِهِينَ }[الشعراء‪146 :‬ـ ‪.]149‬‬
‫أما قوم لوط ـ عليه السلم ـ فقد تفرّدوا بفاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين‪ ،‬وهي إتيان‬
‫الذكْران‪ ،‬فجاء لوط ـ عليه السلم ـ ليمنعهم ويدعوهم إلى التوبة والقلع‪:‬‬
‫جكُمْ َبلْ أَنتُمْ َقوْمٌ عَادُونَ }‬
‫{ أَتَأْتُونَ ال ّذكْرَانَ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ َل ُكمْ رَ ّبكُمْ مّنْ أَ ْزوَا ِ‬
‫[الشعراء‪165 :‬ـ ‪.]166‬‬
‫أما أصحاب اليكة‪ ،‬فكان داءهم أنْ يُطفّفوا المكيال والميزان‪ ،‬فجاء شعيب ـ عليه السلم ـ‬
‫ليقول لهم‪َ { :‬أ ْوفُواْ ا ْلكَ ْيلَ َولَ َتكُونُواْ }‬

‫(‪)3052 /‬‬

‫سطَاسِ ا ْلمُسْ َتقِيمِ (‪)182‬‬


‫ل وَلَا َتكُونُوا مِنَ ا ْلمُخْسِرِينَ (‪ )181‬وَزِنُوا بِا ْلقِ ْ‬
‫َأ ْوفُوا ا ْلكَ ْي َ‬

‫الكيل‪ :‬آلة تُقدّر بها الشياء التي تُكال‪ ،‬ووحدته‪ :‬كَيْلة أو قَدح أو أردب‪ .‬والميزان كذلك‪ :‬آلة يُقدّر‬
‫بها ما يُوزَن‪.‬‬
‫ومعنى { َولَ َتكُونُواْ مِنَ ا ْل ُمخْسِرِينَ } [الشعراء‪ ]181 :‬المخسِر‪ :‬هو الذي يتسبب في خسارة‬
‫الطرف الخر في مسألة الكيل‪ ،‬بأن يأخذ بالزيادة‪ ،‬وإنْ أعطى يُعطِي بالنقصان‪ .‬وفي الوزن قال {‬
‫بِا ْلقِسْطَاسِ ا ْلمُسْ َتقِيمِ } [الشعراء‪.]182 :‬‬
‫والقسطاس‪ :‬يعني العدل المطلق في قدرة البشر وإمكاناتهم في تحرّي ال ّدقّة في الوزن‪ ،‬مع مراعاة‬
‫اختلف الموزونات‪ ،‬فوزن الذهب غير وزن التفاح مثلً‪ ،‬غير وزن العدس أو السمسم‪ ،‬فعليك أنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تتحرّى الدقة َقدْر إمكانك‪ ،‬لتحقق هذا القسطاس المستقيم‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا خصّ الكيل والوزن من وسائل التقدير والتقييم‪ ،‬ولم يذكر مثلً القياس في المساحات‬
‫والمسافات بالمتر أو بالذراع؟‬
‫قالوا‪ :‬لن الناس قديما ـ وكانت أمما بدائية ـ ل تتعامل فيما يُقاس‪ ،‬فل يشترون القماش مثلً‪:‬‬
‫لنه يُغزل‪ ،‬تغزله النساء ويغزله الرجال‪ ،‬ولم يكُنْ أحد يغزل لحد أو يبيع له‪ ،‬فهذه صورة‬
‫حضارية رأيناها فيما بعد‪.‬‬
‫وقديما‪ ،‬كان الناس يتعاملون بالتبادل والمقايضة‪ ،‬وفي هذه الحالة ل يوجد بائع على حِدَة ول مُشْترٍ‬
‫على حِدَة‪ ،‬فل يتفرد البائع بالبيع‪ ،‬والمشتري بالشراء‪ ،‬إل في حالة مبادلة السلعة بثمن‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪ {:‬وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ َبخْسٍ دَرَاهِمَ َمعْدُو َدةٍ }[يوسف‪ ]20 :‬أي‪ :‬باعوه‪.‬‬
‫أما في حالة المقايضة‪ ،‬فأنت تأخذ القمح تأكله‪ ،‬وأنا آخذ التمر آكله‪ ،‬فالنتفاع هنا انتفاع مباشر‬
‫بالسلعة‪ ،‬فإنْ قدّ ْرتَ أن كل واحد في الصفقة بائع ومشترْ‪ .‬تقول‪ :‬شَرَى وباع‪ .‬وإنْ قدّرْت الثمان‬
‫التي ل ينتفع بها انتفاعا مباشرا كالذهب والفضة‪ ،‬أو أي معدن آخر‪ ،‬وهذه الشياء ل تؤكل فهي‬
‫ن تكون ثمنا‪.‬‬
‫ثمن‪ ،‬أمّا الشياء الخرى فصالحة أنْ تكون سلعة‪ ،‬وصالحة ل ْ‬
‫وقد أفرد القرآن الكريم سورة مخصوصة لمسألة الكيل والميزان هي " سورة المطففين " ‪ ،‬يقول‬
‫ط ّففِينَ * الّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النّاسِ َيسْ َت ْوفُونَ * وَِإذَا كَالُوهُمْ َأ ْو وّزَنُوهُمْ‬
‫سبحانه‪ {:‬وَ ْيلٌ لّ ْلمُ َ‬
‫خسِرُونَ }[المطففين‪1 :‬ـ ‪.]3‬‬
‫يُ ْ‬
‫نقول‪ :‬كال له يعني‪ :‬أعطاه‪ ،‬واكتال عليه يعني‪ :‬أخذ منه‪ .‬فإن أخذ أخذ وافيا‪ ،‬وإنْ أعطى أعطى‬
‫حقّ‬
‫بالنقص والخسارة‪ .‬والقرآن ل ينعى عليه أن يستوفى حقّه‪ ،‬لكن ينعى عليه أن ينقص من َ‬
‫الخرين‪ ،‬ولو شيئا يسيرا‪.‬‬
‫فمعنى (المطففين) من الشيء الطفيف اليسير‪ ،‬فإذا كان الويل لمن يظلم في الشيء الطفيف‪ ،‬فما‬
‫بال مَنْ يظلم من الكل؟‬
‫فاللوم هنا لمَنْ يجمع بين هذين المرين‪ :‬يأخذ بالزيادة ويُعطي بالنقص‪ ،‬أما مَنْ يعطي بالزيادة فل‬
‫بأس‪ ،‬وجزاؤه على ال‪ ،‬وهو من المحسنين‪ ،‬الذين قال ال فيهم‪ {:‬مَا عَلَى ا ْلمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ }‬
‫[التوبة‪.]91 :‬‬
‫ومع تطور المجتمعات بدأ الناس يهتمّون بقياس دقة آلت الكيل والوزن والقياس‪َ ،‬فوُجِدت هيئات‬
‫متخصصة في معايرتها والتفتيش عليها ومتابعة ِدقّتها؛ لنها مع مرور الزمن عُرْضة للنقص أو‬
‫الزيادة‪ ،‬فمثلً سنجة الحديد ـ التي نزن بها قد تزيد إنْ كانت في مكان بحث تتراكم عليها الزيوت‬
‫والتراب‪ ،‬وقد تنقص بالحركة مع مرور الوقت‪ ،‬كما تنقص مثلً أكرة الباب من كثرة الستعمال‪،‬‬
‫فتراها لمعة‪ ،‬ولمعانها دليل النقص‪ ،‬وإنْ كان يسيرا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَِلتْ كمرجعٍ يُقاس عليه‪ ،‬وتُضبط عليه‬
‫وفي فرنسا‪ ،‬نموذج للياردة وللمتر من معدن ل يتآكل‪ُ ،‬‬
‫آلت القياس‪.‬‬
‫ورأينا الن آلتٍ دقيقة جدا للوزن وللقياس‪ ،‬تضمن لك منتهى الدقة‪ ،‬خاصة في وزن الشياء‬
‫الثمينة؛ لذلك نراهم يضعون الميزان الدقيق في صندوق من الزجاج‪ ،‬حتى ل تُؤثّر فيه حركة‬
‫الهواء من حوله‪.‬‬
‫خسُواْ النّاسَ َأشْيَآءَ ُهمْ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ولَ تَبْ َ‬

‫(‪)3053 /‬‬

‫وَلَا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْيَاءَهُ ْم وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ (‪)183‬‬

‫البخس‪ :‬النقص‪ ،‬ومعنى { أَشْيَآءَهُمْ } [الشعراء‪ ]183 :‬حقوقهم إذن‪ :‬فالنقص من حَقّ الغير ذنب‪،‬‬
‫غصْبا‪ ،‬أو بالتصرف فيه دون أمر صاحبه‪ ،‬أو على وجه ل‬
‫وقد يكون البخس بأخْذ الشيء كله َ‬
‫يرضاه‪.‬‬
‫وهذا كله داخل في { َولَ تَ ْبخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَ ُهمْ } [الشعراء‪ ]183 :‬كل ما ينقص الحق بأخذه‬
‫خسٌ للشيء‪.‬‬
‫غصْب أو تصرّف على غير إرادة صاحبه فهو بَ ْ‬
‫بإنقاص‪ .‬أو َ‬
‫جلّ ـ‪{:‬‬
‫فكل ما ثبت أنه حق لغيرك إياك أنْ تعتدي عليه‪ ،‬فالزكاة مثلً حينما يقول ربك ـ عَزّ و َ‬
‫حقّ ّمعْلُومٌ * لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }[المعارج‪24 :‬ـ ‪,]25‬‬
‫وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ َ‬
‫حقّ الفقير‪ ،‬لنك حين تتأمل هذا الحق المعلوم الذي جعله‬
‫فما دام قد قيّده الشرع‪ ،‬فل تبخس أنت َ‬
‫ال من مالك للفقير‪ ،‬تجهد أنه ُوضِع بحكمة تُراعِي مدى حركة المموّل‪ ،‬وما بذل من جهد ونفقات‬
‫في سبيل تنمية ماله‪ ،‬حتى وجبتْ فيه الزكاة‪.‬‬
‫فكلما زادتْ حركتك َقلّ مقدار الزكاة في مالك‪ ،‬فمثلً الرض التي تُسْقى بماء المطر فيها العُشْر‪،‬‬
‫والتي ُتسْقى بآلة ونفقات فيها نصف العشر‪ ،‬وفي عروض التجارة وتحتاج إلى حركة أكثر قال‬
‫رُبْع العُشْر‪ ،‬ذلك لن الشارع الحكيم يريد للناس الحركة والسعي وتثمير الموال‪ ،‬حتى ل يأتي‬
‫مَنْ يقول‪ :‬كيف أسعى ويأخذ غيري ثمرة سعيي؟‬
‫والشارع حين كفل هذا الحق للفقراء‪ ،‬فإنما يحمي به الفقراء والغنياء على حَدّ سواء‪ .‬وقد حدّد‬
‫الشارع هذا الحق‪ ،‬حتى ل تزهد في العطاء‪ ،‬خاصة في الزكاة‪.‬‬
‫إن منهج ال يريد أنْ يُصوّب حركة الحياة من الحياء‪ ،‬يريد ألّ يجري دم في جسد إل بخروج‬
‫عَرق من هذا الجسد‪ ،‬وأل يدخل دم في جسد من عرق سواه‪ ،‬وإلّ فسد المجتمع‪ ،‬وضَنّ كل قادر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على الحركة بحركته؛ لنه ل يطمئن إلى ثمار حركته أنها ل تعود عليه‪ ،‬أو أن غيره سيغتصبها‬
‫منه بأيّ لون من ألوان الغتصاب‪.‬‬
‫عندما يفسد المجتمع؛ لن القوي القادر سيزهد في الحركة فيقعد‪ ،‬والخذ سيتعوّد البطالة والكسل‬
‫والخمول‪ ،‬ولماذا يعمل وما يجري في عروقه من دماء من عمل غيره‪ ،‬وبمرور الوقت يصعب‬
‫عليه العمل‪ ،‬وتثقُل عليه الحركة‪ ،‬فيركَنُ إلى ما نُسمّيه (بلطجي) في الحياة‪ ،‬يعيش عالة على‬
‫غيره‪.‬‬
‫سعْيه‪ ،‬فل‬
‫إذن‪ :‬الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يُطمئِن كل إنسان على حركته في الحياة وثمرة َ‬
‫يتلصص أحد على ثمرة حياة الخر؛ لنه إنْ كان عاجزا عن الحركة فقد ضمن له ربّه حقا في‬
‫حركة الخرين تأتيه إلى باب بيته‪ ،‬سواء أكانت زكاةً أم كانت صدقة؛ وبذلك تسْلَم حركة الحياة‬
‫للجميع‪.‬‬
‫لذلك أراد ـ سبحانه وتعالى ـ أن يُعطينا الموازين الدقيقة التي تحفظ سلمة التعامل بين الناس‪:‬‬
‫ت ف َوفّ الميزان‪ ،‬واجعله بالقسطاس المستقيم‪ ،‬ول تبخس‬
‫ف الكيل‪ ،‬وإنْ وزن َ‬
‫فإنْ كِ ْلتَ لغيرك فو ّ‬
‫الناس حقوقهم بأي صورة من الصور‪.‬‬

‫ول يقتصر المر على هذه المسائل فحسب‪ ،‬إنما هي نماذج للتعامل‪ ،‬تستطيع القياس عليها في كل‬
‫أمور الحياة فيما ُيقَاس وفيما ُيعَدّ‪ ،‬في العمال وفي الصناعات‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫غصْبا‬
‫إذن‪ :‬فاحذر أنْ تتلصّص على حقوق الخرين‪ ،‬أو أن تبخسها‪ ،‬بأيّ نوع من أنواع التسلّط‪َ :‬‬
‫أو اختطافا أو سرقةً أو اختلسا أو ِرشْوة‪..‬إلخ‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن السرقة أن تأخذ شيئا من حِرْزه في غير وجود صاحبه‪ ،‬والخطف يكون صاحب الشيء‬
‫خطْفا وتفرّ به قبل أن يُمسك بك‪ ،‬فإنْ أمسك بك فغالبْتَه وأخذتها رَغما عنه‬
‫موجودا‪ ،‬لكنك تأخذه َ‬
‫ل أنت مؤتمَنٌ عليه‪ ،‬مال يحقّ لك أخْذه‪.‬‬
‫غصْب‪ ،‬أما الختلس فأنْ تأخذ من ما ٍ‬
‫فهي َ‬
‫فإذا علم ُكلّ متحرك في الحياة أن ثمرة حركته تعود عليه‪ ،‬وعلم كل غير متحرك أنه يموت جوعا‬
‫إنْ لم يعمل وهو قادر د ّبتْ الحركة في كل الحياء‪ ،‬وهذا ما يريده ال تعالى لخليفته في الرض‬
‫خاصة‪ ،‬وقد خلق لنا سبحانه العقل الذي نفكر به‪ ،‬والطاقة التي نعمل بها‪ ،‬والمادة التي نستعين‬
‫بها‪ ،‬فكلّ ما علينا أن نُوظّف هذه المكانات التي خلقها ال توظيفا مثمرا‪.‬‬
‫حقّ آخر غير ُمحّدد‪ ،‬في قوله سبحانه‪َ {:‬وفِي‬
‫ق معلومة محددة‪ ،‬فهناك َ‬
‫ثم إنْ كانت الزكاة كح ّ‬
‫حقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْل َمحْرُومِ }[الذاريات‪ ]19 :‬ولم يقل (معلوم)؛ لن المراد هنا الصدقة المطلقة‪،‬‬
‫َأ ْموَاِلهِمْ َ‬
‫وقد تركها الحق ـ تبارك وتعالى ـ ولم يُقيّدها ليترك الباب مفتوحا أمام أريحية المعطي‪ ،‬ومدى‬
‫كرمه وإحسانه؛ لذلك جاءت هذه الية في سياق الحديث عن صفات المحسنين‪:‬‬
‫ت وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ َذِلكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلً‬
‫{ إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعُونَ * وَبِالَسْحَارِ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }‬
‫مّن الّ ْيلِ مَا َيهْ َ‬
‫[الذاريات‪15 :‬ـ ‪.]19‬‬
‫ولن الحق هنا تفضّل وزيادة تركه الشارع الحكيم دون تحديد‪.‬‬
‫وعجيب أن نرى أصحاب الموال حين يُخرِج أحدهم رُبْع الشعر مثلً من ماله‪ ،‬ل ينظر إلى ما‬
‫ق الفقير وهو يسير ‪.%2.5‬‬
‫تبقّى له من رأس المال‪ ،‬وهي نسبة ‪ ،%97.5‬وينظر إلى حَ ّ‬
‫فنراه يحتال عليه فيُؤثِر به أقاربه أو معارفه‪ ،‬أو يضعه بحيث يعفيه من حق آخر‪ ،‬كالذي يعطي‬
‫زكاته للخادمة مثلً‪ ،‬ليُرضِي أمها حتى ل تأخذها من يده‪ ،‬ومنهم مَنْ يضع أموال الزكاة في بناء‬
‫مسجد أو مدرسة أو مستشفى؛ وهذا كله ل يجوز؛ لن مال الزكاة حَقّ للمستحقين المعروفين نصا‬
‫في كتاب ال‪ ،‬ول يصح أنْ يُوجّه مال الزكاة لشيء ينتفع به الغني أبدا‪.‬‬
‫سدِينَ { [الشعراء‪ ]183 :‬عثا‪ :‬أي أفسد‪ .‬فالمعنى‪ :‬ل‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬ولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ مُفْ ِ‬
‫تُفسِدوا في الرض‪ ،‬فلماذا كرّر الفساد مرة أخرى فقال } ُمفْسِدِينَ { [الشعراء‪]183 :‬؟ قالوا‪:‬‬
‫المراد‪ :‬ل تع َثوْا في الرض حال َة كونِكم مفسدين‪ ،‬أو في نيتكم الفساد‪.‬‬

‫وليس في الية تكرار؛ لنه فرّق بين إفساد شيء وأنت ل تقصد إفساده‪ ،‬إنما حركتك في الحياة‬
‫عمْد للفساد‪ ،‬حتى ل نمنع العقول أن تفكر وتُج ّربَ لتصلَ إلى‬
‫أفسدتْه‪ ،‬وبين أنْ تُفسد عن قصد و َ‬
‫الفضل‪ ،‬وتُثري حركة الحياة‪ ،‬فما ُد ْمتَ قد قصدتَ الصلح‪ ،‬فل عليك إنْ أخطأتَ؛ لن ربك ـ‬
‫جلّ ـ يتولى تصحيح هذا الخطأ‪ ،‬بل ويُعوّضك عنه‪ ،‬فمَنِ اجتهد فأخطأ فله أجر‪ ،‬ومَنِ اجتهد‬
‫عَزّ و َ‬
‫فأصاب فله أجران‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المعنى‪ :‬ل تُفسِدوا في الرض وأنتم تقصدون الفساد‪ ،‬لكن فكيف نُفسِد الرض؟ إن إفساد‬
‫ض َوضَ َعهَا لِلَنَامِ }‬
‫الرض يعني إفسادَ المتحرك عليها؛ لن الرض خُل َقتْ للنسان{ وَالَ ْر َ‬
‫[الرحمن‪.]10 :‬‬
‫وقد خلقها ال تعالى على هيئة الصلح‪ ،‬والنسان هو الذي يُفسِدها‪ ،‬بدليل أنك ل تجد الفساد إل‬
‫فيما للنسان دَخْل فيه‪ ،‬أما مَا ل تطوله يده‪ ،‬فيظل على صلحه‪ ،‬وعلى استقامته وسلمته‪.‬‬
‫والنسان الذي خلقه ال وجعله خليفة له في أرضه طُلب منه عمارة هذه الرض وزيادة صلحها‪،‬‬
‫ض وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود‪.]61 :‬‬
‫ن الَ ْر ِ‬
‫جلّ‪ُ {:‬هوَ أَنشََأكُمْ مّ َ‬
‫تحقيقا لقول ربه عَزّ و َ‬
‫ول يصلح أن نستعمر الرض وهي خراب‪ ،‬فإذا ما كَثُر النسل ل يقابل زيادة في استثمار‬
‫الرض‪ ،‬فتحدث الزمات‪ ،‬ولو أن استثمار الرض وإصلحها سار مع زيادة النسل في خطين‬
‫متوازيين لما شعر الناس بالحاجة والضيق‪ ،‬ولما أحاطت بهم الزمات‪.‬‬
‫والن حين تسير في الطريق الصحراوي مثلً تجد المزارع في الصحراء‪ ،‬وتجد القرى الجديدة‬
‫تحولت فيها الرض الجرداء إلى خضرة ونماء‪ ،‬فأين كانت هذه الثورة؟ لقد كنا كُسالى وفي غفلة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عضّنا الجوع‪ ،‬وضاقت بنا الرض الخضراء في الوادي والدلتا‪.‬‬
‫حتى َ‬
‫وإذا لم يُصلِح النسان في الرض فل أقلّ من أنْ يتركها على حالها الذي خلقها ال عليه‪ .‬لكن‬
‫رأينا النسان يُفسد الماء ويُلوثه حين يصرف فيه مُخلّفاته ويُفسد الهواء بعادم السيارات والمصانع‪،‬‬
‫ويُفسِد التربة بالكيماويات والمبيدات‪ ،‬وكل هذا الفساد خروج عن الطبيعة الصافية التي خلقها ال‬
‫لنا؛ ذلك لننا نظرنا إلى النفع العاجل‪ ،‬وأغفلنا الضرر الجل‪.‬‬
‫حمِيرَ‬
‫ل وَالْ َ‬
‫ل وَالْ ِبغَا َ‬
‫لقد خلق ال لنا وسائل الركوب والنتقال‪ ،‬وجعلها آمنة ل ضررَ منها‪ {:‬وَالْخَ ْي َ‬
‫لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَةً }[النحل‪.]8 :‬‬
‫ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ ِإلَىا بَلَدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ بِشِقّ الَنفُسِ }[النحل‪ ]7 :‬نعم‪ ،‬وسائل النقل‬
‫وقال‪ {:‬وَ َت ْ‬
‫الحديث أسرع‪ ،‬وأراحتْ هذه المواشي‪ ،‬لكنها أتعبتْ النسان الذي خلق ال الكون كله لراحته‪.‬‬
‫فترى الرجل يركب سيارته وكل َهمّه أنْ يُسرع بها دون أنْ يهتم بضبطها وصيانتها‪ ،‬فينطلق بها‬
‫مُخلّفا سحابة من الدخان السّام الذي يؤذي الناس‪ ،‬أما هو فغير مكترث بشيء؛ لن الدخان خلفه ل‬
‫يشعر به‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬احذر جيدا‪ ،‬إن ربك ـ عز وجل ـ قيوم ل يغفل ول ينام‪ ،‬وكما تدين تُدان في نفسك‪ ،‬أو‬
‫في أولدك‪.‬‬

‫كذلك قبل أن نركب السيارات ونُسرِع بها يجب أنْ نُمهّد لها الطرق حتى ل تثير الغبار في وجوه‬
‫الناس‪ ،‬وتؤذي تنفسهم‪ ،‬بل وتؤذي الزرع أيضا‪ ،‬كل هذه وُجوه للفساد في الرض؛ لننا ندرس‬
‫عاجلَ النفع ول ندرس آجل الضرر‪.‬‬
‫وعليك حين تجتهد أنْ تجتهد بمقدّمات سليمة‪ ،‬لتصل إلى النتائج السليمة‪ ،‬ول تكُنْ من المفسدين‬
‫في الرض‪.‬‬
‫ومن الفساد في الرض َقطْع الطريق‪ ،‬وهو أن المتلصّص يقيم في مكانه يرصُد ضحيته إلى أن‬
‫تمر به‪ ،‬والغارة وهي أنْ يذهب المغير إلى المغَار عليه في مَأْمنه‪ ،‬فيسلبه ماله‪.‬‬
‫ومن الفساد في الرض الرّشْوة‪ ،‬وهي من أنكَى النكبات التي بُلِي بها المجتمع‪ ،‬وهي تُولّد التسيّب‬
‫وعدم النضباط‪ ،‬فحين ترى غيرك يستغلك‪ ،‬ويستحلّ مالك دون حق‪ ،‬تعامله وتعامل غيره نفس‬
‫المعاملة‪ ،‬فتصير المور في الجهزة والمصالح إلى فوضى ليعلم مداها إل ال‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَا ّتقُواْ الّذِي خََل َقكُمْ {‬

‫(‪)3054 /‬‬

‫وَاتّقُوا الّذِي خََل َقكُ ْم وَالْجِبِلّةَ الَْأوّلِينَ (‪)184‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإياك أن تظن أن ال تعالى خلقنا عبثا‪ ،‬أو يتركنا هملً‪ ،‬إنما خلقنا لمهمة في الكون‪ ،‬وجعلنا جميعا‬
‫عبيدا بالنسبة له سواء‪ ،‬فلم يُحَابِ من أحدا على أحد‪ ،‬وليس عنده سبحانه مراكز قوى؛ لذلك لم‬
‫يتخذ صاحبه ول ولدا‪.‬‬
‫ولننا جميعا أمامه سبحانه سواء وهو خالقنا‪ ،‬فقد تكفّل لنا بالرزق ورعاية المصالح‪ ،‬فَمنِ ابتله‬
‫ال بالعجز عن الحركة فتحر ْكتَ أنت لقضاء مصالحه‪ ،‬ل بُدّ ان ينظر ال إليك بعين البركة‬
‫والمضاعفة‪.‬‬
‫فالمعوّق والفقير بحقّ ـ ل الذي يتخذها مهنة وحرفة يرتزق بها ـ هذا الفقير وهذا المعوّق هم‬
‫خَلْق ال وأهل بلئه‪ ،‬فحين تعطيه من ثمرة حركتك أنت‪ ،‬وتذهب إليه وهو مطمئن في بيته‪ ،‬أنت‬
‫بهذا العمل إنما تستر على ال بلءه‪ ،‬وتكون يد ال التي يرزق بها هؤلء‪ ،‬وعندها ل ُبدّ أن يحبك‬
‫الفقير‪ ،‬وأنْ يدعو لك بالخير والبركة والزيادة والَجْر والعافية والثواب‪ ،‬ويعلم أن ال خلقه ولم‬
‫يُسلمه‪.‬‬
‫ن الغنيّ الواجد على الفقير المعدَم‪ ،‬وتخلى عن أهل البلء‪ ،‬فل ُبدّ أنْ يسخط الفقير على‬
‫ن ضَ ّ‬
‫أمّا إ ْ‬
‫الغني‪ ،‬بل يسخط على ال ـ والعياذ بال ـ لنه ما ذنبه أن يكون فقيرا‪ ،‬وغيره غنيّ في مجتمع‬
‫ل يرحم‪.‬‬
‫وعجيب أن نرى مُبتليً يُظهر بلواه للناس‪ ،‬بل ويستغلها في ابتزازهم‪ ،‬فيُظهِر لهم إعاقته‪ ،‬كأنه‬
‫يشكو الخالق للخَلْق‪ ،‬ولو أنه ستر على ال بلءه وعَلِم أنه نعمة أنعم ال بها عليه لَسخّر ال له‬
‫عافية غير المبتلى‪ ،‬ولجاءه رزقه على باب بيته‪ ،‬فلو َرضِي أهل البلء لعطاهم ال على قَدْر ما‬
‫ابتلهم‪.‬‬

‫فمعنى‪ { :‬وَاتّقُواْ الّذِي خََل َقكُمْ } [الشعراء‪ ]184 :‬أي‪ :‬احذروا جبروته؛ لنه خلقكم‪ ،‬وضمن لكم‬
‫الرزاق‪ ،‬وضمن لكم قضاء الحاجات‪ ،‬حتى العاجز عن الحركة سخّر له القادر‪ ،‬وجعل للغنى‬
‫سعْيه للفقير‪ ،‬ويُوصّله إليه وهو مطمئن‪.‬‬
‫شرطا في إيمانه أنْ يُعطى جزءا من َ‬
‫لوّلِينَ } [الشعراء‪ ]184 :‬الجبلة من الجبَل‪ ،‬وكان له دور في حياة العربي‪،‬‬
‫ومعنى‪ { :‬وَا ْلجِبِلّ َة ا َ‬
‫وعليه تدور الكثير من تعبيراتهم‪ ،‬ففيه صفات الفخامة والعظمة والرسوخ والثبات‪ ،‬فاشتقوا من‬
‫الجبل (الجبلّة) وتعني الملزمة والثبات على الشيء‪.‬‬
‫ومن ذلك نقول‪ :‬فلن مجبول على الخير يعني‪ :‬ملزم له ل يفارقه‪ ،‬وفلن كالجبل ل تزحزحه‬
‫الحداث‪ ،‬والعامة تقول‪ :‬فلن جِبلّة يعني‪ :‬ثقيل على النفس‪ ،‬وقد يزيد فيقول‪( :‬مال جبلّتك وارمة)‬
‫مبالغة في الوصف‪.‬‬
‫حتى أن بعض الشعراء يمدح ممدوحه بأنه ثابت كالجبل‪ ،‬حتى بعد موته‪ ،‬فيقول عن ممدوحه وقد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شكَ أنْ أَرَى َرضْوى عَلَى أيدي الرجَالِ يَسِيرو َرضْوى‬
‫سبُ قَبْل َنعْ ِ‬
‫حَ‬‫حملوه في نعشه‪:‬مَا كنتُ أَ ْ‬
‫جبل اشْتُهر بين العرب بضخامته‪.‬‬
‫ضلّ مِ ْنكُمْ جِبِلّ كَثِيرا }[يس‪.]62 :‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬وََلقَدْ َأ َ‬
‫لوّلِينَ } [الشعراء‪ ]184 :‬أي‪ :‬الناس السابقين الذين جُبِلوا على العناد وتكذيب‬
‫ومعنى‪ { :‬وَا ْلجِبِلّ َة ا َ‬
‫الرسُل‪ ،‬فال خالقكم وخلقهم‪ ،‬وقد رأيتُم ما فعل ال بهم لما كذّبوا رسُله‪ ،‬لقد كتب ال النصر لرسله‬
‫والهزيمة لمن كذّبهم‪ ،‬فهؤلء الذين سبقوكم من المم جُبِلوا على التكذيب‪ ،‬وكانوا ثابتين عليه لم‬
‫يُزحزحهم عن التكذيب شيء‪ ،‬فاحذروا أن تكونوا مثلهم فينزل بكم ما نزل بهم‪ .‬فماذا كان ردّهم؟‬

‫(‪)3055 /‬‬

‫قَالُوا إِ ّنمَا أَ ْنتَ مِنَ ا ْلمُسَحّرِينَ (‪)185‬‬

‫قلنا‪ :‬إن مُسحّر‪ :‬أي سحَره غيره‪ ،‬وهي صغية مبالغة للدلَلة على حدوث السحر ووقوعه عليه‬
‫أكثر من مرة‪ ،‬فلو سُحِر مرة واحدة َلقُلْنا‪ :‬مسحور والمعنى‪ :‬أنك مخْ َتلّ العقل والتفكير‪ ،‬مجنون‪،‬‬
‫لن نسمع لك‪.‬‬

‫(‪)3056 /‬‬

‫َومَا أَ ْنتَ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ َنظُ ّنكَ َلمِنَ ا ْلكَاذِبِينَ (‪)186‬‬

‫وما ُدمْت أنت بشرا مثلنا‪ ،‬ولم تتميز عنّا بشيء‪ ،‬فكيف تكون رسولً؟ ثم { وَإِن نّظُ ّنكَ َلمِنَ ا ْلكَاذِبِينَ‬
‫} [الشعراء‪ ]186 :‬أي‪ :‬وما ظنك إل كذابا‪ ،‬كالذين سبقوك‪.‬‬

‫(‪)3057 /‬‬

‫سمَاءِ إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ (‪)187‬‬


‫سفًا مِنَ ال ّ‬
‫سقِطْ عَلَيْنَا ِك َ‬
‫فَأَ ْ‬

‫سمَآءِ } [الشعراء‪ ]187 :‬يطلبون العذاب‬


‫سقِطْ عَلَيْنَا كِسَفا مّنَ ال ّ‬
‫ن كنتَ صادقا { فََأ ْ‬
‫أي‪ :‬إ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويستعجلونه‪ ،‬كما قال سبحانه في آية أخرى‪ {:‬قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَ ْأ ِفكَنَا عَنْ آِلهَتِنَا فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَآ إِن كُنتَ‬
‫مِنَ الصّا ِدقِينَ }[الحقاف‪.]22 :‬‬
‫ومن العجيب حين ينزل بهم العذاب يقولون انظرنا‪ ،‬كيف وأنتم الذين استعجلتم العذاب؟‬
‫ومعنى { ِكسَفا } [الشعراء‪ ]187 :‬مفردها كِسْفة‪ ،‬مثل قِطَع وقطعة‪ ،‬وقد وردتْ هذه الكلمة على‬
‫ألسنة كثير من المكذّبين‪ ،‬وقالها الكفار للنبي محمد صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ‬
‫ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا‬
‫حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً }[السراء‪90 :‬ـ‬
‫سمَآءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫َتفْجِيرا * َأوْ تُ ْ‬
‫‪.]92‬‬
‫سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ‬
‫حجَا َرةً مّنَ ال ّ‬
‫حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا ِ‬
‫وقالوا{ الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ‬
‫}[النفال‪.]32 :‬‬
‫حمْقهم‬
‫وكان عليهم أن يقولوا‪ :‬اللهم إنْ كان هذا هو الحقّ من عندك فاهْدِنا إليه‪ ،‬وهذا يدلّك على ُ‬
‫وعنادهم‪.‬‬

‫(‪)3058 /‬‬

‫قَالَ رَبّي أَعَْلمُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ (‪)188‬‬

‫ن تتوبوا فلن يصيبكم العذاب‪ ،‬أو كنتم‬


‫فهو سبحانه العليم بكم‪ :‬إنْ كنتم أهلً للتوبة والندم والمل‪ ،‬أ ْ‬
‫مُصرّين على العصيان والتكذيب‪ ،‬فسوف يصيبكم عذاب الهلك والستئصال‪ ،‬فأنا لن أحكمَ عليكم‬
‫بشيء؛ لنني بشر مثلكم ل أعرف ما في نياتكم؛ لذلك سأكلُ أمركم إلى ربكم ـ عز وجل ـ‬
‫الذي يعلم أمري وأمركم‪ ،‬وسِرّي وسرّكم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ف َكذّبُوهُ فََأخَذَ ُهمْ عَذَابُ }‬

‫(‪)3059 /‬‬

‫عظِيمٍ (‪)189‬‬
‫عذَابُ َيوْمِ الظّلّةِ إِنّهُ كَانَ عَذَابَ َيوْمٍ َ‬
‫َفكَذّبُوهُ فَأَخَ َذهُمْ َ‬

‫فكيف يُكذّبونه‪ ،‬وهو لم ينسب المر لنفسه‪ ،‬ووكلهم إلى ربهم إذن‪ :‬فهم ل يُكذّبونه إنما يُكذّبون‬
‫عذَابُ َيوْمِ الظّلّةِ } [الشعراء‪.]189 :‬‬
‫خذَهُمْ َ‬
‫ال؛ لذلك يأتي الجزاء‪ { :‬فَأَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهو عذاب يوم مشهود‪ ،‬حيث سلط ال عليهم الحرارة الشديدة سبعة أيام‪ ،‬عاشوها في قيظ شديد‪،‬‬
‫وقد حجز ال عنهم الريح إل بمقدار ما يُبقي َرمَق الحياة فيهم‪ ،‬حتى اشتد عليهم المر وحم َيتْ من‬
‫تحتهم الرمال‪ ،‬فراحوا يلتمسون شيئا يُروّح عنهم‪ ،‬فرأوا غمامة قادمة في جو السماء فاستشرفوا‬
‫لها وظنوها تخفف عنهم حرارة الشمس‪ ،‬وتُروّح عن نفوسهم‪ ،‬فلما استظلّوا بها ينتظرون الراحة‬
‫والطمأنينة عاجلتهم بالنار تسقط عليهم كالمطر‪.‬‬
‫على حَدّ قوْل الشاعر‪َ :‬كمَا أمطَرتْ َيوْما ظماءً غمامةٌ فلمّا رَأؤْهَا أقش َعتْ وتجلّتِويا ليت هذه السحابة‬
‫حمَم من فوقهم‪ ،‬فزادتهم عذابا على عذابهم‪.‬‬
‫أقشعت وتركتهم على حالهم‪ ،‬إنما قذفتهم بالنار وال ُ‬
‫كما قال سبحانه في آية أخرى‪:‬‬
‫{ فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ مَا اسْ َت ْعجَلْتُم ِبهِ رِيحٌ فِيهَا‬
‫شيْءٍ بَِأمْرِ رَ ّبهَا فَ ْأصْ َبحُواْ لَ يُرَىا ِإلّ مَسَاكِ ُنهُمْ }[الحقاف‪24 :‬ـ ‪.]25‬‬
‫عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُ َدمّرُ ُكلّ َ‬
‫عظِيمٍ } [الشعراء‪ ]189 :‬فما وَجْه‬
‫لذلك وصف ال عذاب هذا اليوم بأنه { إِنّهُ كَانَ عَذَابَ َيوْمٍ َ‬
‫عظمته وهو عذاب؟ قالوا‪ :‬لنه جاء بعد استبشار واسترواح وأمل في الراحة‪ ،‬ففاجأهم ما زادهم‬
‫عذابا‪ ،‬وهذا ما نسميه " يأس بعد إطماع " وهو أنكَى في التعذيب وأشقّ على النفوس‪.‬‬

‫(‪)3060 /‬‬

‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)190‬‬

‫قوله سبحانه‪ { :‬إِنّ فِي ذَِلكَ } [الشعراء‪ ]190 :‬أي‪ :‬فما حدثتكم به { ليَةً } [الشعراء‪ ]190 :‬يعني‪:‬‬
‫سمّ َيتْ كذلك لنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال‪ ،‬فإنْ كان مُكذبا آمن وصدق‪ ،‬وإن‬
‫عبرة‪ ،‬و ُ‬
‫كان معاندا لَنَ للحق وأطاع‪.‬‬
‫وما قصصتُه عليكم من مواكب الرسل وأقوامهم‪ ،‬وهذا الموكب يضم سبعة من رسل ال مع‬
‫أممهم‪ :‬موسى‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬ونوح‪ ،‬وهود‪ ،‬وصالح‪ ،‬ولوط‪ ،‬وشعيب عليهم جميعا وعلى نبينا السلم‪،‬‬
‫وقد مضى هذا الموكب على سنة ل ثابتة ل تتخلف‪ ،‬هي‪ :‬أن ينصر ال ـ عز وجل ـ رسله‬
‫والمؤمنين معهم‪ ،‬ويخذل الكافرين المكذّبين‪.‬‬
‫ك ليَةً } [الشعراء‪ ]190 :‬يعني عبرةً لكم‪،‬‬
‫فلتأخذوا يا آل محمد من هذا الموكب عبرة { إِنّ فِي ذَِل َ‬
‫سمّيتْ عبرة؛ لنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال‪ ،‬فإن كان مُكذّبا آمن وصدّق‪ ،‬وإنْ كان‬
‫وُ‬
‫معاندا لَنَ للحق وأطاع‪ ،‬وقد رأيتم أننا لم نُسْلِم رسولً من رسلنا للمكذبين به‪ ،‬وكانت سنتنا من‬
‫الرسل أن ننصرهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ }[الصافات‪171 :‬ـ ‪.]172‬‬
‫وقال‪ {:‬وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪.]173 :‬‬
‫ومن العبرة نقول‪ :‬عبر الطريق يعني‪ :‬انتقل من جانب إلى جانب‪ ،‬والعبرة هنا أن ننتقل من‬
‫التكذيب واللدَد والجحود والكبرياء إلى اليمان والتصديق والطاعة‪ ،‬حتى العَبرة (ال ّدمْعة) مأخوذة‬
‫من هذا المعنى‪.‬‬
‫وفي قوله تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ َأكْثَرُهُم ّم ْؤمِنِينَ } [الشعراء‪ ]190 :‬حماية واحتراس حتى ل نهضم‬
‫حق القِلّة التي آمنت‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ }‬

‫(‪)3061 /‬‬

‫وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ (‪)191‬‬

‫ربك‪ :‬الرب هو المتولّي الرعاية والتربية‪ .‬وبهذه الخاتمة خُتمتْ جميع القصص السابقة‪ ،‬ومع ما‬
‫حدث منهم من تكذيب تُختم بهذه الخاتمة الدّالة على العزة والرحمة‪.‬‬
‫ثم ينتقل السياق إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم بعد أنْ قدّم لنا العبرة والعِظة‬
‫في موكب الرسل السابقين‪ ،‬فيقول الحق سبحانه‪ { :‬وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ َربّ }‬

‫(‪)3062 /‬‬

‫وَإِنّهُ لَتَنْزِيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)192‬‬

‫{ وَإِنّهُ } [الشعراء‪ ]192 :‬على أيّ شيء يعود هذا الضمير؟ المفروض أن يسبقه مرجع يرجع إليه‬
‫هذا الضمير وهو لم يُسبَق بشيء‪ .‬تقول‪ :‬جاءني رجل فأكرمتُه فيعود ضمير الغائب في أكرمته‬
‫على (رجل)‪.‬‬
‫حدٌ }[الخلص‪ ]1 :‬فالضمير هنا يعود على لفظ الجللة‪ ،‬مع‬
‫وكما في قوله تعالى‪ُ {:‬قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫أنه متأخر عنه‪ ،‬ذلك لستحضار عظمته تعالى في النفس فل تغيب‪.‬‬
‫كذلك { وَإِنّهُ } [الشعراء‪ ]192 :‬أي‪ :‬القرآن الكريم وعرفناه من قوله سبحانه { لَتَنزِيلُ َربّ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء‪ ]192 :‬وقُدّم الضمير على مرجعه لشهرته وعدم انصراف الذّهْن إل إليه‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فحين تقول‪ُ {:‬هوَ اللّهُ أَحَدٌ }[الخلص‪ ]1 :‬ل ينصرف إل إلى ال‪ { ،‬وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫[الشعراء‪ ]192 :‬ل ينصرف إل إلى القرآن الكريم‪.‬‬
‫وقال‪ { :‬لَتَنزِيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء‪.]192 :‬‬
‫أي‪ :‬أنه كلم ال لم أق ْلهُ من عندي‪ ،‬خاصة وأن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يسبق له أنْ‬
‫وقف خطيبا في قومه‪ ،‬ولم يُعرف عنه قبل الرسالة أنه خطيب أو صاحب َقوْل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهو بمقاييس الدنيا دونكم في هذه المسألة‪ ،‬فإذا كان ما جاء به من عنده فلماذا لم تأتُوا بمثله؟‬
‫وأنتم أصحاب تجربة في القول والخطابة في عكاظ وذي المجاز وذي المجنة‪ ،‬فإن كان محمد قد‬
‫افترى القرآن فأنتم أقدر على الفتراء؛ لنكم أهل دُرْبة في هذه المسألة‪.‬‬
‫و { ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء‪ :]190 :‬كل ما سوى ال عزّ وجلّ؛ لذلك كان صلى ال عليه وسلم رحمة‬
‫للعالمين للنس وللجن وللملئكة وغيرها من العوالم‪.‬‬
‫حمَةً لّ ْلعَاَلمِينَ }[النبياء‪ " ]107 :‬سأل سيدنا رسول ال جبريل‬
‫لذلك لما نزلت‪َ {:‬ومَآ أَ ْرسَلْنَاكَ ِإلّ رَ ْ‬
‫عليه السلم‪ " :‬أما لك من هذه الرحمة شيء يا أخي جبريل؟ " فقال‪ :‬نعم‪ ،‬كنت أخشى سوء العاقبة‬
‫كإبليس‪ ،‬فلما أنزل ال عليك قوله‪ { :‬ذِي ُق ّوةٍ عِندَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ } [التكوير‪ ]20 :‬أم ْنتُ العاقبة‪،‬‬
‫فتلك هي الرحمة التي نالتني "‪.‬‬
‫وليس القرآن وحده تنزيلَ رب العالمين‪ ،‬إما كل الكتب السابقة السماوية كانت تنزيلَ رب العالمين‪،‬‬
‫لكن الفرق بين القرآن والكتب السابقة أنها كانت تأتي بمنهج الرسول فقط‪ ،‬ثم تكون له معجزة في‬
‫أمر آخر تثبت صِدْقه في البلغ عن ال‪.‬‬
‫فموسى عليه السلم كان كتابه التوراة‪ ،‬ومعجزته العصا‪ ،‬وعيسى عليه السلم كان كتابه النجيل‪،‬‬
‫ومعجزته إبراء الكمة والبرص بإذن ال‪ ،‬أما محمد صلى ال عليه وسلم فكان كتابه ومنهجه‬
‫القرآن ومعجزته أيضا‪ ،‬فالمعجزة هي عَيْن المنهج‪ .‬فلماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن القرآن جاء منهجا للناس كافّةً في الزمان وفي المكان فل بد ـ إذن ـ أن يكون المنهج‬
‫هو عَيْن المعجزة‪ ،‬والمعجزة هي عَيْن المنهج‪ ،‬وما دام المر كذلك فل يصنع هذه المعجزة إل‬
‫ال‪ ،‬فهو تنزيل رب العالمين‪.‬‬
‫أما الكتب السابقة فقد كانت لمة بعينها في فترة محددة من الزمن‪ ،‬وقد نزلتْ هذه الكتب بمعناها‬
‫ل بنصّها؛ لذلك عيسى ـ عليه السلم ـ يقول‪ " :‬سأجعل كلمي في فمه " أي‪ :‬أن كلم ال‬
‫سكيون في فم الرسول بنصّه ومعناه من عند ال‪ ،‬ما دام بنصّه من عند ال فهو تنزيل رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬نَ َزلَ ِبهِ الرّوحُ }‬

‫(‪)3063 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ الَْأمِينُ (‪)193‬‬

‫كان من الممكن أن يكون الوحي من عند ال إلهاما أو َنفْثا في ال ّروْع؛ لذلك قال تعالى بعدها‪:‬‬
‫لمِينُ } [الشعراء‪ ]193 :‬إذن‪ :‬المر ليس َنفْثا في َروْع رسول ال بحكم ما‪ ،‬إنما‬
‫{ نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ ا َ‬
‫يأتيه روح القُدُس وأمين الوحي يقول له‪ :‬قال ال كذا وكذا‪.‬‬
‫لذلك لم يثبت القرآن إل بطريق الوحي‪ ،‬بواسطة جبريل عليه السلم‪ ،‬فيأتيه الملَك؛ ولذلك علمات‬
‫يعرفها ويحسّها‪ ،‬ويتفصّد جبينه منه عرقا‪ ،‬ثم يُسرّي عنه‪ ،‬وهذه كلها علمات حضور الملَك‬
‫ومباشرته لرسول ال‪ ،‬هذا هو الوحي‪ ،‬أمّا مجرد اللهام أو ال ّنفْث في ال ّروْع فل يثبت به وَحْي‪.‬‬
‫لذلك كان جلساء رسول ال يعرفونه ساعة يأتيه الوحي‪ ،‬وكانوا يسمعون فوق رأسه صلى ال‬
‫عليه وسلم كدويّ النحل أثناء نزول القرآن عليه‪ ،‬وكان المر يثقل على رسول ال‪ ،‬حتى إنه إنْ‬
‫أسند فَخِذه على أحد الصحابة أثناء الوحي يشعر الصحابي بثقلها كأنها جبل‪ ،‬وإذا نزل الوحي‬
‫ورسول ال على دابته يثقل عليها حتى تنخّ به‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬إِنّا سَنُ ْلقِي عَلَ ْيكَ َق ْولً َثقِيلً }‬
‫[المزمل‪.]5 :‬‬
‫ولم تهدأ مشقّة الوحي على رسول ال إل بعد أنْ فتَر عنه الوحي‪ ،‬وانقطع فترة حتى تشوّق له‬
‫ك صَدْ َركَ *‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وانتظره‪ ،‬وبعدها نزل عليه قوله تعالى‪ {:‬أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ‬
‫ظهْ َركَ * وَ َر َفعْنَا َلكَ ِذكْ َركَ }[الشرح‪1 :‬ـ ‪.]4‬‬
‫ك وِزْ َركَ * الّذِي أَن َقضَ َ‬
‫ضعْنَا عَن َ‬
‫َووَ َ‬
‫ك َومَا قَلَىا * وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ ّلكَ مِنَ‬
‫عكَ رَ ّب َ‬
‫سجَىا * مَا وَدّ َ‬
‫ونزلت عليه‪ {:‬وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ‬
‫الُولَىا }[الضحى‪1 :‬ـ ‪.]4‬‬
‫يعني‪ :‬سيعاودك الوحي في سهولة ودون مشقّة‪ ،‬ولن تتعب في تلقيه‪ ،‬كما كنتَ تعاني من قبل‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬نَ َزلَ } [الشعراء‪ ]193 :‬تفيد العلو‪ ،‬وأن القرآن نزل من أعلى من عند ال‪ ،‬ليس من‬
‫وضع بشر يخطىء ويصيب ويجهل المصحلة‪ ،‬كما نرى في القوانين الوضعية التي تُعدّل كل يوم‪،‬‬
‫عوَارها يوما بعد يوم‪.‬‬
‫ول تتناسب ومقتضيات التطور‪ ،‬والتي يظهر ُ‬
‫ولن القرآن نزل من أعلى فيجب علينا أن نستقبله استقبالَ الواثقِ فيه المطمئن به‪ ،‬ل نعانده‪ ،‬ول‬
‫نتكبر عليه؛ لنك تتكبر على مساوٍ لك‪ ،‬أمّا ما جاءك من أعلى فيلزمك النقياد له‪ ،‬عن اقتناع‪.‬‬
‫وفي الريف نسمعهم يقولون (اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم) لماذا؟ لنه ُقطِع بأمر العلى‬
‫منك‪ ،‬بأمر ال ل بأمر واحد مثلك‪.‬‬
‫وحين نتأمل قوله تعالى في التشريع لحكم من الحكام‪ُ {:‬قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ عَلَ ْيكُمْ }‬
‫[النعام‪.]151 :‬‬
‫كلمة (تعالوا) تعني‪ :‬اتركوا حضيض تشريع الرض‪ ،‬وَأقْبلوا على ِرفْعة تشريع السماء‪ ،‬فتعالوا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أيْ‪ :‬تعلّوا وارتفعوا‪ ،‬ل تهبطوا إلى مستوى الرض‪ ،‬وإل تعبتُم وعضّتكم الحداث؛ لن الذي‬
‫يُشرّع لكم بشر أمثالكم وإنْ كانوا حتى حَسَنِي النية‪ ،‬فهم ل يعلمون حقائق المور‪ ،‬فإنْ أصابوا في‬
‫شيء أخطأوا في أشياء‪ ،‬وسوف تُضطرون لتغيير هذه التشريعات وتعديلها‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فالسلم لكم أنْ تأخذوا من العلى؛ لنه سبحانه العليم بما يُصلحكم‪.‬‬
‫إذنك } نَ َزلَ { [الشعراء‪ ]193 :‬تفيد أنه من العلى من مصدر الخير حتى الحديد وهو من ِنعَم‬
‫ط وَأَنزَلْنَا ا ْلحَدِيدَ‬
‫سِ‬‫ب وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِ ْ‬
‫ال‪ ،‬لما تكلم عنه قال سبحانه‪ {:‬وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَا َ‬
‫س وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُر ُه وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ }[الحديد‪.]25 :‬‬
‫فِيهِ بَأْسٌ شَدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّا ِ‬
‫ولم َي ُقلْ مثلً‪ :‬أنزلناه اللماظ أو اللماس‪ ،‬أو غيره من المعادن النفيسة‪ ،‬لماذا؟ لن الحديد أداة من‬
‫أدوات ُنصْرة الدعوة وإعلء كلمة ال‪.‬‬
‫سمّي جبريل ـ عليه السلم ـ الروح؛ لن الروح بها الحياة‪ ،‬والملئكة أحياء لكن ليس لهم‬
‫وُ‬
‫مادة‪ ،‬فكأنهم أرواح مطلقة‪ ،‬أما البشر فمادة فيها روح‪.‬‬
‫كما أن كلمة الروح استُعمَلتْ عدة استعمالت منها{ وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ ُقلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ‬
‫رَبّي }[السراء‪ ]85 :‬والمراد الروح التي نحيا بها‪.‬‬
‫سمّي القرآن روحا‪َ {:‬وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا }[الشورى‪ ]52 :‬إذن‪ :‬فالقرآن روح‪،‬‬
‫وُ‬
‫ن قلتَ‪ :‬فما حاجتي إلى الروح وفيّ روح؟‬
‫والملَك الذي نزل به روح‪ ،‬فإ ْ‬
‫نقول لك‪ :‬هذه الروح التي تحيا بها مادتك‪ ،‬والتي تفارقك حين تموت وتنتهي المسألة‪ ،‬أمّا الروح‬
‫التي تأتيك في القرآن فهي روح باقية خالدة‪ ،‬إنها منهج ال الذي يعطيك الحياة البدية التي ل‬
‫تنتهي‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالروح التي تحيا بها المادة للمؤمن وللكافر على حَدّ سواء‪ ،‬أمّا الروح التي تأتيك من كتاب‬
‫ال وفي منهجه‪ ،‬فهي للمؤمن خاصة‪ ،‬وهي باقية‪ ،‬وبها تستأنف حياة جديدة خالدة بعد حياة المادة‬
‫الفانية‪.‬‬
‫واقرأ إن شئت قوله تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ }‬
‫[النفال‪.]24 :‬‬
‫كيف وها نحن أحياء؟ نعم‪ ،‬نحن أحياء بالروح الولى روح المادة الفانية‪ ،‬أمّا رسول ال فهو‬
‫يدعونا للحياة الباقية‪ ،‬وكأنه ـ عز وجل ـ يشير إلى أن هذه الحياة التي نحياها ليست هي الحياة‬
‫الحقيقية؛ لنها ستنتهي‪ ،‬وهناك حياة أخرى باقية دائمة‪.‬‬
‫حتى مجرد قولنا نحن أحياء فيه تجاوز؛ لن الحياء هم الذين ل يموتون‪ ،‬وهذه الحياة ل تأتي إل‬
‫بمنهج ال‪ ،‬وهذا معنى قوله تعالى‪ {:‬وَإِنّ الدّا َر الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت‪:‬‬
‫‪ ]64‬فالحيوان مبالغة في الحياة‪ ،‬أي‪ :‬الحياة الحقيقية‪ ،‬أما حياة المادة فأيّ حياة هذه التي يموت فيها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المرء يوم مولده‪ ،‬أو حتى بعد مائة عام؟!‬
‫لمِينُ { [الشعراء‪ ]193 :‬أي‪ :‬على الوحي‪،‬‬
‫ثم َيصِف الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الروح بأنه } ا َ‬
‫القرآن ـ إذن ـ َمصُون عند ال‪ ،‬مصون عند الروح المين الذي نزل به‪َ ،‬مصُون عند النبي‬
‫المين الذي نزل عليه‪.‬‬
‫طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ‬
‫لقَاوِيلِ * لَخَذْنَا مِ ْنهُ بِالْ َيمِينِ * ثُمّ َلقَ َ‬
‫لذلك يقول سبحانه‪ {:‬وََلوْ َتقَ ّولَ عَلَيْنَا َب ْعضَ ا َ‬
‫* َفمَا مِنكُمْ مّنْ َأحَدٍ عَ ْنهُ حَاجِزِينَ }[الحاقة‪44 :‬ـ ‪.]47‬‬
‫وقال تعالى‪َ {:‬ومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ * َومَا ُهوَ ِب َق ْولِ شَيْطَانٍ رّجِيمٍ }[التكوير‪24 :‬ـ ‪.]25‬‬
‫علَىا قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬‬

‫(‪)3064 /‬‬

‫عَلَى قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُ ْنذِرِينَ (‪)194‬‬

‫نزل القرآن على أذن رسول ال‪ ،‬أم على قبله؟ الذن هي‪ :‬أداة السمع‪ ،‬لكن قال تعالى { عَلَىا‬
‫قَلْ ِبكَ } [الشعراء‪ ]194 :‬لن الذن وسيلة عبور للقلب‪ ،‬لنه محلّ التلقّي‪ ،‬وهو (دينامو) الحركة في‬
‫جسم النسان‪ ،‬فبالدم الذي يضخُه في أعضاء الجسم وأجهزته تتولّد الطاقات والقدرة على الحركة‬
‫وأداء الوظائف‪.‬‬
‫لذلك نرى المريض مثلً يأخذ الدواء عن طريق الفم‪ ،‬فيدور الدواء دروة الطعام‪،‬ـ ويُمتصّ ببطء‪،‬‬
‫فإنْ أردتَ سرعة وصول الدواء للجسم تعطيه حقنة في العضل‪ ،‬لكن السرع من هذا أن تعطيه‬
‫حقنة في الوريد‪ ،‬فتختلط بالدم مباشرة‪ ،‬وتُحدِث أثرها في الجسم بسرعة‪ ،‬فالدم هو وسيلة الحياة‬
‫في النفس البشرية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬قالقلب هو محلّ العتبار والتأمل‪ ،‬وليس لسماع الذن قيمة إذا لم يَع القلب ما تسمع الذن؛‬
‫ع ُدوّا لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزَّلهُ عَلَىا قَلْ ِبكَ }[البقرة‪:‬‬
‫لذلك يقول سبحانه في موضع آخر‪ُ {:‬قلْ مَن كَانَ َ‬
‫‪.]97‬‬
‫فالمعنى‪ :‬نزّله على قلبك مباشرة‪ ،‬كأنه لم يمرّ بالذن؛ لن ال ال تعالى اصطفى لذلك رسولً‬
‫صنعه على عينه‪ ،‬وأزال عنه العقبات البشرية التي تعوق هذه المباشرة‪ ،‬فكأن قلبه صلى ال عليه‬
‫وسلم منتبها لتلقّي كلم ال؛ لنه مصنوع على عَيْن ال‪ ،‬أما الذين سمعوا كلم ال بآذانهم فلم‬
‫يتجاوبوا معه‪ ،‬فكانت قلوبهم قاسية فلم تفهم‪.‬‬
‫حصّلة وسائل الدراك كلها‪ ،‬فالعيْن ترى‪،‬‬
‫والقلب محل التكاليف‪ ،‬ومُستقرّ العقائد‪ ،‬وإليه تنتهي ُم ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والذن تسمع‪ ،‬والنف يشمّ‪ ،‬واليدي تلمس‪ ..‬ثم يُعرض هذا كله على العقل ليختار بين البدائل‪،‬‬
‫فإذا اختار العقل واطمأن إلى قضية ينقلها إلى القلب لتستقر به؛ لذلك نسميها عقيدة يعني‪ :‬أمْر عقد‬
‫القلب عليه‪ ،‬فلم َي ُعدْ يطفو إلى العقل ليبحث من جديد‪ ،‬لقد ترسّخ في القلب‪ ،‬وأصبح عقيدة ثابتة‪.‬‬
‫وفي آيات كثيرة نجد المعوّل والنظر إلى القلب‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬لَن يَنَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا َولَ ِدمَآؤُهَا‬
‫وَلَـاكِن يَنَاُلهُ ال ّت ْقوَىا مِنكُمْ }[الحج‪.]37 :‬‬
‫شعَائِرَ اللّهِ فَإِ ّنهَا مِن َتقْوَى ا ْلقُلُوبِ }‬
‫ك َومَن ُيعَظّمْ َ‬
‫وفي آية أخرى يُبيّن أن التقوى محلّها القلب‪ {:‬ذاِل َ‬
‫[الحج‪.]32 :‬‬
‫شهَا َد َة َومَن َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْ ُبهُ }[البقرة‪ ]283 :‬من أن‬
‫وفي الشهادة يقول تعالى‪َ {:‬ولَ َتكْ ُتمُواْ ال ّ‬
‫الشهادة باللسان‪ ،‬ل بالقلب‪.‬‬
‫لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير‪ " :‬أل إن في الجسد‬
‫ُمضْغة‪ ،‬إذا صَلُحتْ صَلُحَ الجسد كله‪ ،‬وإذا فسدتْ فسد الجسد كله‪ ،‬أل وهي القلب "‪.‬‬
‫ويُحدّثنا صحابة النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان ينزل عليه الوحي بآيات كثيرة بما يوازي‬
‫رُبْعين أو ثلثة أرباع مرة واحدة‪ ،‬فإذا ما سُرّى عنه صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬اكتبوا‪ ،‬ثم يقرؤها‬
‫عليهم مع َوضْع كل آية في مكانها من سورتها‪ ،‬ثم يقرؤها صلى ال عليه وسلم في الصلة‪،‬‬
‫فتكون هي هي كما أملها عليهم؛ ذلك لن القرآن باشر قلبه ل أذنه‪.‬‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم لحِرْصه على حفظ القرآن يُردّده خلف جبريل ويكرره حتى ل ينساه‪،‬‬
‫فأنزل ال عليه‪ {:‬سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى‪.]6 :‬‬
‫ك وَحْ ُي ُه َوقُل ّربّ زِدْنِي عِلْما }‬
‫جلْ بِا ْلقُرْآنِ مِن قَ ْبلِ أَن ُيقْضَىا إِلَ ْي َ‬
‫وقال في موضع آخر‪َ {:‬ولَ َت ْع َ‬
‫[طه‪.]114 :‬‬
‫ج ْمعَ ُه َوقُرْآ َنهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآ َنهُ *‬
‫علَيْنَا َ‬
‫جلَ بِهِ * إِنّ َ‬
‫وقال تعالى‪ {:‬لَ تُحَ ّركْ ِبهِ لِسَا َنكَ لِ َت ْع َ‬
‫ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }[القيامة‪16 :‬ـ ‪.]19‬‬
‫ومن عجيب أمر القرآن أنك ل تجد شخصا يُلقي كلمة لمدة خمس دقائق مثلً‪ ،‬ثم يعيدها عليك كما‬
‫قالها َنصّا‪ ،‬أمّا النبي صلى ال عليه وسلم فكانت تُ ْلقَى عليه السورة‪ ،‬فيعيدها كما هي‪ ،‬ذلك من‬
‫قوله تعالى‪ {:‬سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى‪.]6 :‬‬
‫وقوله سبحانه‪ } :‬لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُ ْنذِرِينَ { [الشعراء‪ ]194 :‬المنذر‪ :‬الذي يُحذّر من الشر قبل وقوعه‬
‫ليحتاط السامع فل يقع في دواعي الشر‪ ،‬ول يكون النذار ساع َة وقوع الشر‪ ،‬لنه في هذه الحالة‬
‫ل ُيجْدي‪ ،‬وكذلك البشارة بالخير تكون قبل حدوثه لتحثّ السامع على الخير‪ ،‬وتحفزه إليه‪.‬‬
‫ويقول سبحانه في آية أخرى‪ {:‬لِتُنذِرَ َقوْما مّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ }[يس‪.]6 :‬‬
‫فكما أنذر الرسلُ السابقون أقوامهم‪ ،‬أ ْنذِر أنت قومك‪ ،‬وانض ّم إلى موكب الرسالت‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ِ } :‬بلِسَانٍ عَرَ ِبيّ مّبِينٍ {‬

‫(‪)3065 /‬‬

‫بِلِسَانٍ عَرَ ِبيّ مُبِينٍ (‪)195‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬بِلِسَانٍ عَرَ ِبيّ مّبِينٍ } [الشعراء‪ ]195 :‬فإنْ كان القرآن قد نزل على قلبك‪ ،‬فكيف‬
‫يسمعونه؟ وكيف يكتبونه؟ ويحفظونه؟ يأتي هنا َدوْر اللسان العربي الذي يُخرِج القرآن إلى الناس‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمنطق رسول ال بعد نزوله على القلب‪ ،‬ويُؤخّر اللسان؛ لنه وسيلة الحفظ والصيانة‬
‫والقراءة‪.‬‬
‫ومعنى { مّبِينٍ } [الشعراء‪ ]195 :‬أي‪ :‬واضح ظاهر‪ ،‬محيط بكل أقضية الحياة‪ ،‬لكن يأتي مَنْ‬
‫يقول‪ :‬إنْ كان القرآن نزل بلسان عربي‪ ،‬فما بال الكلمات غير العربية التي نطق بها؟ فكلمة‬
‫قسطاس رومية‪ ،‬وآمين حبشية‪ ،‬وسجيل فارسية‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬معنى اللسان العربي ما نطق به العرب‪ ،‬ودار على ألسنتهم؛ لنه أصبح من لغتهم وصار‬
‫عربيا‪ ،‬وإنْ كان من لغات أخرى‪ ،‬والمراد أنه لم يَ ْأتِ بكلم جديد لم تعرفه العرب‪ ،‬فقبل أنْ ينزل‬
‫القرآن كانت هذه الكلمات شائعة في اللسان العربي‪.‬‬
‫ونزل القرآن باللسان العربي خاصةً؛ لن العرب هم أمة استقبال الدعوة وحاملوها إلى باقي المم‪،‬‬
‫فل بُدّ أنْ يفهموا عن القرآن‪ .‬فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬فالمم الخرى غير العربية مخاطبةٌ أيضا بهذا القرآن‬
‫العربي‪ ،‬فكيف يستقبلونه ويفهمون عنه؟ نقول‪ :‬مَنْ سمعه من العرب عليه أن يُبلغه بلسان القوم‬
‫الذين يدعوهم‪ ،‬وهذه مهمتنا نحن العرب تجاه كتاب ال‪.‬‬

‫(‪)3066 /‬‬

‫وَإِنّهُ َلفِي زُبُرِ الَْأوّلِينَ (‪)196‬‬

‫الضمير في { وَإِنّهُ } [الشعراء‪ ]196 :‬يصح أنْ يعود على القرآن كسابقه‪ ،‬ويصح أنْ يعود على‬
‫رسول ال‪ ،‬ومعنى { زُبُرِ } [الشعراء‪ ]196 :‬جمع زبور يعني‪ :‬مكتوب مسطور‪ ،‬ولو أن العقول‬
‫التي عارضتْ رسول ال‪ ،‬وأنكرتْ عليه رسالته‪ ،‬وأنكرتْ عليه معجزته فَطنوا إلى الرسالت‬
‫السابقة عليه مباشرة‪ ،‬وهي‪ :‬اليهودية والنَصرانية في التوراة والنجيل لوجبَ عليهم أنْ يُصدّقوه؛‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لنه مذكور في كتب الولين‪.‬‬
‫حفِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا }‬
‫صُ‬‫ف الُولَىا * ُ‬
‫ح ِ‬
‫كما قال سبحانه في موضع آخر‪ {:‬إِنّ هَـاذَا َلفِي الصّ ُ‬
‫[العلى‪18 :‬ـ ‪.]19‬‬
‫فالمبادىء العامة من العقائد والخلق والعدل اللهي وقصص النبياء كلها أمور ثابتة في كل‬
‫الكتب وعند جميع النبياء‪ ،‬ول يتغير إل الحكام من كتاب لخر‪ ،‬لتناسب العصر والوان الذي‬
‫جاءتْ فيه‪.‬‬
‫ك َومَا َوصّيْنَا بِهِ‬
‫وحين تقرأ قوله تعالى‪ {:‬شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْي َ‬
‫ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ }[الشورى‪.]13 :‬‬
‫إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ‬
‫تقول‪ :‬ولماذا ـ إذن ـ نزل القرآن؟ ولماذا لم َيقُل وصّينا به محمدا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن الحكام ستتغير؛ لتناسب كل العصور التي نزل القرآن لهدايتها‪ ،‬ولكل الماكن‪،‬‬
‫ولتناسب عمومية السلم‪.‬‬
‫لذلك رُوي عن عبد ال بن سلم وآخر اسمه ابن يامين‪ ،‬وكانوا من أهل الكتاب‪ ،‬وشهد كلهما أنه‬
‫رأى ذكر محمد صلى ال عليه وسلم في التوراة‪ ،‬وفي النجيل‪ .‬والقرآن يقول عنهم‪َ {:‬يعْ ِرفُونَهُ‬
‫َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }[البقرة‪.]146 :‬‬
‫ولما سمعها ابن سلم قال‪ :‬ربنا تساهل معنا في هذه المسألة‪ ،‬فوال إني لعرفه كمعرفتي لولدي‪،‬‬
‫ومعرفتي لمحمد أشد‪.‬‬
‫جدُونَهُ َمكْتُوبا عِندَهُمْ فِي‬
‫لمّيّ الّذِي يَ ِ‬
‫ياُ‬
‫ويقول تعالى في هذا المعنى‪ {:‬الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِب ّ‬
‫ال ّتوْرَا ِة وَالِنْجِيلِ }[العراف‪.]157 :‬‬
‫ويقول سبحانه على لسان عيسى عليه السلم حين يقف خطيبا في قومه‪َ {:‬ومُبَشّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي‬
‫ح َمدُ }[الصف‪.]6 :‬‬
‫س ُمهُ أَ ْ‬
‫مِن َبعْدِي ا ْ‬
‫إذن‪ { :‬وَإِنّهُ َلفِي زُبُرِ الَوّلِينَ } [الشعراء‪ ]196 :‬أي‪ :‬محمد صلى ال عليه وسلم أو هو القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬فكلهما صحيح؛ لن صفة رسول ال صلى ال عليه وسلم موجودة في هذه الكتب‪ ،‬أو‬
‫القرآن في عموم مبادئه في العقائد والخلق والبعث وسير النبياء‪.‬‬
‫فكان الواجب على الذين جاءهم القرآن أنْ يؤمنوا به‪ ،‬خاصة وأن رسول ال كان أميا لم يجلس‬
‫إلى معلم‪ ،‬وتاريخه في ذلك معروف لهم‪ ،‬حيث لم يسبق له أن قرأ أو كتب شيئا‪.‬‬
‫والقرآن يؤكد هذه المسألة‪ ،‬فيقول تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ب َولَ َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ إِذا لّرْتَابَ ا ْلمُبْطِلُونَ }[العنكبوت‪.]48 :‬‬
‫{ َومَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَا ٍ‬
‫{ َومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ َمدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا وََلكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ }[القصص‪.]45 :‬‬
‫لمْرَ }[القصص‪.]44 :‬‬
‫{ َومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ‬
‫ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْ َيمَ }[آل عمران‪.]44 :‬‬
‫{ َومَا كُنتَ لَدَ ْيهِمْ إِذْ يُ ْلقُون َأقْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فكل هذه اليات وغيرها دليل على أنه صلى ال عليه وسلم ل عِْلمَ له بها إل بواسطة ال َوحْي‬
‫المباشر في القرآن الكريم‪ ،‬وكان على القوم أن يؤمنوا به أول ما سمعوه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬أوَ َلمْ َيكُن ّلهُمْ }‬

‫(‪)3067 /‬‬

‫َأوَلَمْ َيكُنْ َلهُمْ آَيَةً أَنْ َيعَْلمَهُ عَُلمَاءُ بَنِي ِإسْرَائِيلَ (‪)197‬‬

‫آية‪ :‬أي دليلً وعلمةً على أن القرآن من عند ال؛ لن علماء بني إسرائيل كانوا يستفتحون به‬
‫على الذين كفروا‪ ،‬فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‪ ،‬أو لم يقولوا للوْس والخزرج في المدينة‪ :‬لقد‬
‫أَطلّ زمان نبيّ يأتي سنتبعه ونقتلكم به أيها المشركون قَتْل عاد وإرم‪ ،‬ومع ذلك لما ُبعِث النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم أنكروه وكفروا به‪ ،‬وهم يعرفون أنه حق‪ ،‬لماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لنهم تنبّهوا إلى أنه سيسلبهم القيادة‪ ،‬وكانوا في المدينة أهل علم‪ ،‬وأهل كتاب‪ ،‬وأهل بصر‪،‬‬
‫وأهل حروب‪ ..‬ألخ‪ .‬وليلةَ هاجر النبي صلى ال عليه وسلم إلى المدينة كانوا يستعدون لتتويج عبد‬
‫ال بن أُبيّ ملِكا عليها‪ ،‬فلما جاءها النبي صلى ال عليه وسلم أفسد عليهم هذه المسألة؛ لذلك‬
‫حسدوه على هذه المكانة‪ ،‬فقد أخذ منهم السّلْطة الزمنية والتي كانت لهم‪.‬‬
‫وقال { عَُلمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء‪ ]197 :‬لنهم كانوا يعرفون صِدْق رسول ال‪ ،‬ولنه صلى‬
‫ال عليه وسلم جاء بأشياء ل يعرفها إل هم‪ ،‬وقد اشتهر منهم خمسة‪ ،‬هم‪ :‬عبد ال بن سلم ‪،‬‬
‫وأسد‪ ،‬وأسيد‪ ،‬وثعلبة‪ ،‬وابن يامين‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلوْ نَزّلْنَاهُ عَلَىا َب ْعضِ }‬

‫(‪)3068 /‬‬

‫جمِينَ (‪َ )198‬فقَرََأهُ عَلَ ْيهِمْ مَا كَانُوا بِهِ ُمؤْمِنِينَ (‪)199‬‬
‫عَ‬‫علَى َب ْعضِ الْأَ ْ‬
‫وََلوْ نَزّلْنَاهُ َ‬

‫لقد أنزلنا القرآن بلسان عربي على أمة عربية‪ ،‬ولو أنزلناه على العاجم ما فهموه‪.‬‬
‫جمِيّا ّلقَالُواْ َل ْولَ ُفصَّلتْ آيَاتُهُ‬
‫عَ‬‫جعَلْنَاهُ قُرْآنا أ ْ‬
‫وقال الحق وسبحانه وتعالى في موضع آخر‪ {:‬وَلَوْ َ‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِمْ َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْيهِمْ‬
‫شفَآ ٌء وَالّذِي َ‬
‫ج ِميّ وَعَرَ ِبيّ ُقلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ‬
‫عَ‬‫ءَاْ ْ‬
‫عمًى ُأوْلَـا ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِن ّمكَانٍ َبعِيدٍ }[فصلت‪.]44 :‬‬
‫َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لماذا؟ لن المستقبل مقفول‪ ،‬فإنْ أردتَ استقبال أيّ قضية فعليك أنْ تُخرِج من قبلك أيّ قضية‬
‫أخرى معارضة لها‪ ،‬ثم بعد ذلك لك أنْ تدرس القضيتين‪ ،‬فما وافق الحق فأدخِلْه‪.‬‬
‫ج ْوفِهِ }[الحزاب‪ ]4 :‬فهو قلب واحد‪ ،‬لذلك‬
‫جلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ لِ َر ُ‬
‫لذلك يقول تعالى‪ {:‬مّا َ‬
‫أخرج منه كل قضية سابقة‪ ،‬وها هو القرآن واحد‪ ،‬وقائله واحد‪ ،‬ومُبلّغه واحد‪ ،‬ولسانه عربي‪.‬‬
‫ضهُمْ ِإلَىا َب ْعضٍ َهلْ‬
‫يقول تعالى في وصفهم حالَ سماع القرآن‪ {:‬وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ نّظَرَ َب ْع ُ‬
‫يَرَاكُمْ مّنْ َأحَدٍ ُثمّ انصَ َرفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُو َبهُم بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لّ َي ْف َقهُونَ }[التوبة‪ ]127 :‬أي‪ :‬يريدون‬
‫التسلّل والخروج‪.‬‬
‫ويقول تعالى في آية أخرى‪ {:‬وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ أَ ّي ُكمْ زَادَ ْتهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا }‬
‫[التوبة‪ ]124 :‬أي‪ :‬ماذا أفادتكم؟ وماذا زادتْ في إيمانكم‪.‬‬
‫ويقول سبحانه‪َ {:‬ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ‬
‫آنِفا ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىا قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُواْ أَ ْهوَآ َءهُمْ }[محمد‪ ]16 :‬يعني‪ :‬ما الجديد الذي‬
‫جاء به؟‬
‫ويقول عن الذين آمنوا‪ {:‬وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَا َدهُمْ ُهدًى وَآتَا ُهمْ َتقْوَا ُهمْ }[محمد‪.]17 :‬‬
‫جمِينَ } [الشعراء‪ ]198 :‬جمع‪ :‬أعجمي‪ ،‬والعجم هو الذي ل يُحسِن الكلم العربي‪ ،‬وإنْ‬
‫و { الَعْ َ‬
‫ي والعجم غير العرب‪ .‬فالمعنى { وََلوْ نَزّلْنَاهُ } [الشعراء‪]198 :‬‬
‫كان ينطق به‪ ،‬والعجميّ ضد العرب ّ‬
‫أي‪ :‬القرآن العربي على بعض العجمين ما فهمه‪ ،‬وقال { َب ْعضِ } [الشعراء‪ ]198 :‬لمراعاة‬
‫الحتمال‪ ،‬فمن العجم مَنْ تعلّم العربية وأجادها ويستطيع َفهْم القرآن‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬فقَرََأهُ عَلَ ْيهِم مّا كَانُوا بِهِ ُم ْؤمِنِينَ } [الشعراء‪ ]199 :‬لنهم لم يفهموا منه شيئا‪،‬‬
‫فكذلك أنتم مثل هؤلء العجم في تلقّي واستقبال كلم ال‪ ،‬لم تفهموا منه شيئا‪.‬‬
‫ذلك لنهم أحبوا الكفر والعناد وأصرّوا عليه‪ ،‬واستراحتْ إليه قلوبهم حتى عَشقوه‪ ،‬فأعانهم ال‬
‫عليه‪ ،‬وختم على قلوبهم‪ ،‬فل يدخلها إيمانٌ‪ ،‬ولَ يخرج منها كفر‪.‬‬

‫(‪)3069 /‬‬

‫كَذَِلكَ سََلكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ (‪ )200‬لَا ُي ْؤمِنُونَ بِهِ حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ الْأَلِيمَ (‪ )201‬فَيَأْتِ َيهُمْ َبغْتَةً‬
‫شعُرُونَ (‪)202‬‬
‫وَهُمْ لَا َي ْ‬

‫معنى { سََلكْنَاهُ } [الشعراء‪ ]200 :‬أدخلناه في قلوب المجرمين‪ ،‬كأنهم عجم ل يفهمون منه شيئا‪،‬‬
‫ب الَلِيمَ } [الشعراء‪ ]201 :‬وما داموا لن يؤمنوا به حتى‬
‫لذلك { لَ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يروا العذاب الليم فلن يُقبلَ منهم إيمان‪.‬‬
‫ومعنى { َبغْ َتةً } [الشعراء‪ ]202 :‬أي‪ :‬فجأة‪ ،‬ومن حيث ل يشعرون‪.‬‬
‫لذلك لما نزل القرآن وآمن برسول ال بعض الصحابة اضْطهد رسول ال وصحابته‪ ،‬وأوذوا حتى‬
‫صاروا ل يأمنون على أنفسهم من بَطْش الكفار‪ ،‬حتى كانوا يبيتون في السلح‪ ،‬ويستيقظون في‬
‫السلح‪ ،‬ل يجدون مَنْ يحميه‪.‬‬
‫ج ْم ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪ ]45 :‬فتعجب عمر رضي‬
‫وفي هذه الحالة نزل قوله تعالى‪ {:‬سَ ُيهْ َزمُ الْ َ‬
‫ال عنه‪ :‬أيّ جمع هذا الذي سيُهزم‪ ،‬والمسلمون على هذه الحال؟ فلما شهد بدرا وما كان فيها من‬
‫قتْل المشركين و ُنصْرة دين ال‪ ،‬قال‪ :‬نعم صدق ال‪ ،‬سيُهزم الجمع ويُولّون الدبر‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَ َيقُولُواْ َهلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ }‬

‫(‪)3070 /‬‬

‫جلُونَ (‪)204‬‬
‫فَ َيقُولُوا َهلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (‪َ )203‬أفَ ِب َعذَابِنَا يَسْ َتعْ ِ‬

‫أي‪ :‬انظرونا وتمهّلوا علينا‪ ،‬وأخّروا عَنّا العذاب‪ ،‬سبحان ال ألم تستعجلوه؟ وهذه طبيعة أهل‬
‫العناد والكفر إنْ تركناهم طلبوا أنْ ينزل عليهم‪ ،‬وإنْ نزل بهم العذاب قالوا‪ :‬انظرونا وتمهّلوا‬
‫علينا‪.‬‬
‫ثم يقول رب العزة سبحانه‪َ { :‬أفَرَأَ ْيتَ إِن مّ ّتعْنَا ُهمْ سِنِينَ }‬

‫(‪)3071 /‬‬

‫َأفَرَأَ ْيتَ إِنْ مَ ّتعْنَاهُمْ سِنِينَ (‪ُ )205‬ثمّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (‪ )206‬مَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا‬
‫ُيمَ ّتعُونَ (‪)207‬‬

‫عدُونَ }‬
‫{ َأفَرَأَ ْيتَ } [الشعراء‪ ]205 :‬يعني‪ :‬أخبرني { إِن مّ ّتعْنَا ُهمْ سِنِينَ * ُثمّ جَآءَهُم مّا كَانُواْ يُو َ‬
‫[الشعراء‪205 :‬ـ ‪ ]206‬ومع طول المدة‪ ،‬إل أن الغاية واحدة { مَآ أَغْنَىا عَ ْن ُهمْ مّا كَانُواْ ُيمَ ّتعُونَ }‬
‫[الشعراء‪.]207 :‬‬

‫(‪)3072 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َومَا َأهَْلكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلّا َلهَا مُنْذِرُونَ (‪ِ )208‬ذكْرَى َومَا كُنّا ظَاِلمِينَ (‪)209‬‬

‫كما قال سبحانه في آية أخرى‪ {:‬ذاِلكَ أَن لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا ِبظُلْ ٍم وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ }[النعام‪:‬‬
‫‪ ،]131‬فقد جاءهم رسول يُعلّمهم وينذرهم؛ ليقيم عليهم الحجة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ‬
‫حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً }[السراء‪.]15 :‬‬
‫هذا كله { ِذكْرَىا } [الشعراء‪ ]209 :‬تعني‪ :‬نذكره لنُوقِظ غفلتكم { َومَا كُنّا ظَاِلمِينَ } [الشعراء‪:‬‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ }[النحل‪.]118 :‬‬
‫‪ ]209‬فأنتم الذين فعلتم هذا بأنفسكم{ َومَا ظََلمْنَا ُه ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عن القرآن‪َ { :‬ومَا تَنَزَّلتْ ِبهِ الشّيَاطِينُ }‬

‫(‪)3073 /‬‬

‫َومَا تَنَزَّلتْ ِبهِ الشّيَاطِينُ (‪َ )210‬ومَا يَنْ َبغِي َلهُ ْم َومَا يَسْ َتطِيعُونَ (‪)211‬‬

‫لنهم قالوا‪ :‬إنما تنزّلت الشياطين على محمد بالقرآن‪ ،‬وكانوا يقولون ذلك لكل شاعر ماهر بشعره‬
‫شعْر‪ ،‬وعندهم وادٍ يُسمّى وادي " عبقر " هو وادي الجن‪،‬‬
‫عندهم‪ ،‬فلكل شاعر شيطان يُمليه ال ّ‬
‫فيقولون‪ :‬فلن عبقري أي‪ :‬موصول بالجن في هذا الوادي‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬كيف والكتاب نزل على محمد عدو للشياطين‪ ،‬يلعنهم في كل مناسبة‪ ،‬ويُحذّر أتباعه منهم‪{:‬‬
‫الشّ ْيطَانُ َيعِ ُدكُمُ ا ْلفَقْ َر وَيَ ْأمُ ُركُم بِا ْلفَحْشَآءِ }[البقرة‪ ]268 :‬ويقول الحق سبحانه‪ {:‬إِنّ الشّيْطَانَ َل ُكمْ‬
‫سعِيرِ }[فاطر‪.]6 :‬‬
‫خذُوهُ عَ ُدوّا إِ ّنمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِ َيكُونُواْ مِنْ َأصْحَابِ ال ّ‬
‫عَ ُدوّ فَاتّ ِ‬
‫فكيف ـ إذن ـ يمده الشيطان ويُمليه عليه‪ ،‬وهو عدوه؟ ولماذا لم يأتكم وأنتم أحباءه؟ هذه واحدة‪.‬‬
‫الخرى‪َ { :‬ومَا يَن َبغِي َلهُ ْم َومَا يَسْ َتطِيعُونَ } [الشعراء‪ ]211 :‬إن ال جعل القرآن ُمعْجزا ومنهجا‪،‬‬
‫والمعجزة ل يتسلّط عليها إنس ول جن فيفسدها‪ ،‬لذلك قال سبحانه‪ {:‬إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ‬
‫لَحَا ِفظُونَ }[الحجر‪.]9 :‬‬
‫أما الكتب السابقة فقد طلبتْ من المؤمنين بها أنْ يحفظوها‪ ،‬وفَرْق بين الحفظ مني‪ ،‬وطلب الحفظ‬
‫منكم؛ لن الطلب تكليف وهو عُرْضة لنْ يُطاع ولنْ يُعصَى‪ ،‬وقد جربنا حفظ البشر فلم يحافظوا‬
‫حفْظ قرآنه بنفسه‪ ،‬ولم يكِلْه إلى أحد من‬
‫على كتبهم السابقة؛ لذلك تولّى الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ِ‬
‫خَلْقه‪.‬‬
‫لذلك تجد في هذا المجال كثيرا من العجائب والمفارقات‪ ،‬فمع تقدّم الزمن وطغيان الحضارات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المعادية للسلم‪ ،‬والتي تُمطرنا كل يوم بوابل من النحرافات والخروج عن تعاليم الدين‪ ،‬ومِنّا‬
‫مَنْ ينساق خلفهم‪ ،‬وهذا كله ينقص من الحكام المطبّقة من السلم‪.‬‬
‫حفْظ‬
‫لكن مع هذا كله تجد القرآن يزداد توثيقا‪ ،‬ويزداد حفظا‪ ،‬ويتبارى حتى غير المسلمين في ِ‬
‫كتاب ال وتوثيقه‪ ،‬والتجديد في طباعته‪ ،‬حتى رأينا مصحفا في ورقة واحدة‪ ،‬ومصحفا في حجم‬
‫عقلة الصبع‪ ،‬ويفخر بعضهم الن بأنه يملك أصغر مصحف في العالم‪ ..‬إلخ بصرف النظر عن‬
‫دوافعهم مِنْ وراء هذا‪.‬‬
‫حفْظ القرآن{ َومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُه َو َومَا ِهيَ ِإلّ‬
‫المهم أن ال تعالى يُسخّر حتى أعداء القرآن ل ِ‬
‫ِذكْرَىا لِلْبَشَرِ }[المدثر‪.]31 :‬‬
‫أليس من وسائل نَشْر القرآن والمحافظة عليه آلت التسجيل وآلت تكبير الصوت التي تنشر كلم‬
‫ال في كل مكان؟ ولم يَلْق شيءٌ من الكتب السابقة مثل هذه العناية‪.‬‬
‫ص ل تتناسب مع النقص في أحكامه وانصراف أهله عنها‪ ،‬وكأن ال ـ‬
‫إذن‪ :‬فالعناية بالقرآن كن ّ‬
‫عز وجل ـ يقول لنا‪ :‬سأحفظ هذا النصّ بغير المؤمنين به‪ ،‬وسأجعلهم يُوثّقونه ويهتمون به؛‬
‫ليكون ذلك حجة عليكم‪.‬‬
‫لذلك كان عند اللمان قبل الحرب العالمية خزانة بها أدراج‪ ،‬في كل درج منها أية من القرآن‪،‬‬
‫يُحفظ به كل ما كُتب عن هذه الية بدايةً من تفسير ابن عباس إلى وقتها‪ ،‬وهذا دليل على أنهم‬
‫مُسخّرون بقوة خفية ل يقدر عليها إل ال عز وجل‬

‫{ إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر‪.]9 :‬‬
‫وسبق أن قلنا‪ :‬إن بعض النساء يَسِرْنَ في الشوارع كاشفات عن صدورهن‪ ،‬ومع ذلك تتحلّى‬
‫بمصحف على صدرها‪ ،‬وليتها تستر صدرها ول تُعلّق المصحف‪.‬‬
‫فكيف تقولون تنزلت به الشياطين‪ ،‬وقد جاء القرآن ليعلن لهله عداءه لهم والحذر منهم؟ كيف‬
‫والشياطين ل تتنزل إل على كفّار أثيم‪ ،‬وأنتم أوْلَى بأن تتنزّل عليكم{ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى‬
‫َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُمْ }[النعام‪.]121 :‬‬
‫ومعنى‪َ } :‬ومَا يَسْ َتطِيعُونَ { [الشعراء‪ ]211 :‬أن هذه المسألة فوق قدراتهم؛ لن الحق تبارك‬
‫س ْمعِ َل َمعْزُولُونَ {‬
‫وتعالى قال‪ } :‬إِ ّن ُهمْ عَنِ ال ّ‬

‫(‪)3074 /‬‬

‫سمْعِ َل َمعْزُولُونَ (‪)212‬‬


‫إِ ّنهُمْ عَنِ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآءَ َفوَجَدْنَاهَا مُلِ َئتْ حَرَسا‬
‫وقد شرح الحق سبحانه هذا المعنى في قوله تعالى‪ {:‬وَأَنّا َل َمسْنَا ال ّ‬
‫شهَابا ّرصَدا }[الجن‪8 :‬ـ‬
‫جدْ لَهُ ِ‬
‫سمْعِ َفمَن يَسْ َتمِعِ النَ يَ ِ‬
‫شهُبا * وَأَنّا كُنّا َن ْقعُدُ مِ ْنهَا َمقَاعِدَ لِل ّ‬
‫شَدِيدا وَ ُ‬
‫‪.]9‬‬
‫وبعد ذلك يتكلم عن استقبال المنهج من الرسول ومن آله وأتباعه‪ ،‬ومن المؤمنين جميعا‪ { :‬فَلَ‬
‫تَ ْدعُ مَعَ اللّهِ }‬

‫(‪)3075 /‬‬

‫فَلَا تَ ْدعُ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آَخَرَ فَ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُمعَذّبِينَ (‪)213‬‬

‫خاطب الحق ـ تبارك وتعالى ـ نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم بقوله‪ { :‬فَلَ تَ ْدعُ مَعَ اللّهِ إِلَـاها‬
‫آخَرَ } [الشعراء‪ ]213 :‬فهل كان صلى ال عليه وسلم مظنة أن يدعو مع ال إلها آخر؟ قالوا‪ :‬ل‪،‬‬
‫إنما المراد ابتداء توجيه‪ ،‬وابتداء تكليف‪ ،‬كأنه يقول له‪ :‬اجعل عندك مبدءًا‪ ،‬أنك ل تتخذ مع ال‬
‫إلها آخر‪ ،‬ل أن الرسول اتخذ إلها‪ ،‬فجاء الوحي لينهاه‪ ،‬إنما هو بداية تشريع وتكليف‪ ،‬وإذا كان‬
‫العظيم المرسَل صلى ال عليه وسلم يتوعده ال إنْ أراد أن يتخذ إلها آخر‪ ،‬فما بالك بمَنْ هو‬
‫دونه؟‬
‫ن يصغوا إليه‪ ،‬ويحذروا‬
‫فساعَة يسمع الناس هذا الخطاب مُوجّها إلى النبي المرسَل إليهم‪ ،‬فل بُدّ أ ْ‬
‫ما فيه من تحذير‪ ،‬كما لو وجّه رئيس الدولة أمرا إلى رئيس الوزراء مثلً ـ ول المثل العلى ـ‬
‫وحذّره من عاقبة مخالفته‪ ،‬فل شكّ أن مَنْ دونه من الموظفين سيكون أطوع منه لهذا المر‪.‬‬

‫(‪)3076 /‬‬

‫وَأَنْذِرْ عَشِيرَ َتكَ الَْأقْرَبِينَ (‪)214‬‬

‫وهكذا نقل المر من رسول ال إلى أهله وعشيرته القربين‪ ،‬ذلك ليطمئن الخرون من قومه‪ ،‬فهو‬
‫يأمرهم بأمر ليس بنجْوة عنه‪ ،‬فأول ما ألزم به ألزم نفسه ثم عشيرته‪ ،‬وهذا أدْعى للطاعة وللقبول‪،‬‬
‫فأنت تردّ أمري إذا كنتُ آمرك به ول أفعله‪ ،‬لكني آمرك وأسبقك إلى الفعل‪.‬‬
‫لذلك سيدنا عمر ـ رضي ال عنه ـ وكان على المنبر يخطب في الناس‪ ،‬ويقول‪ :‬أيها الناس‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اسمعوا وأطيعوا‪ ،‬فقام أعرابي وقال‪ :‬ل سمعَ لك ول طاعة‪ ،‬انظر إلى هذه الجرأة على مَنْ؟ على‬
‫عمر وهو على المنبر ـ فقال له عمر‪ :‬ولِمَ؟‬
‫قال‪ :‬لن ثيابك أطول من ثيابنا ـ وكان القماش يُوزّع بين المسلمين بالتساوي ل فَرْق بين طويل‬
‫وقصير ـ فقال عمر لبنه عبد ال‪ :‬قُم يا عبد ال لتُرِي الناس‪ ،‬فقام عبد ال فقال‪ :‬إن أبي رجل‬
‫طوَال ـ مبالغة في الطول ـ وثوبه في المسلمين لم ي ْكفِه‪ ،‬فأعطيته ثوبي فوصَله بثوبه‪ ،‬وها أنذا‬
‫ِ‬
‫بمُرقّعتي بينكم‪ ،‬عندها قال العرابي‪ :‬إذنْ نسمع ونطيع‪.‬‬
‫لكن أين القدوة في دوائرنا ومصالحنا الحكومية الن؟ وأين هو رئيس المصلحة الذي يحضر‪،‬‬
‫ويجلس على مكتبه في الثامنة صباحا ليكون قدوة لمرؤوسيه؟ وإن من أشد ما ابتُلينا به أن نفقد‬
‫القدوة في الرؤساء والمسئولين‪ .‬لذلك أول ما وُجّه التشريع والتكليف وُجّه إلى رسول ال‪ ،‬وإلى‬
‫أقرب الناس إليه وهم عشيرته القربون؛ لن الفساد يأتي أول ما يأتي من دوائر القُرْبى والحاشية‬
‫التي تحيط بالنسان‪ ،‬وقد يكون الرئيس أو الحاكم بخير‪ ،‬لكن حاشيته هي سبب الفساد‪ ،‬حيث‬
‫تستغل اسمه في فسادها أو تُضلّله وتُعمّي عليه الحقائق‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫لذلك كان سيدنا عمر ـ رضي ال عنه ـ ساعة يريد أن يُقرّر شيئا للمة‪ ،‬ويعلم أنه قَاسٍ عليهم‬
‫ل ويقول لهم‪ :‬لقد شاء ال أن أقرر كذا وكذا‪ ،‬فمَنْ خالفني منكم في شيء من هذا‬
‫يجمع أهله أو ً‬
‫جعلته نكالً لعامة المسلمين‪ ،‬وهكذا يضمن أهله وأقاربه أولً‪ ،‬ويبدأ بهم تنفيذ ما أرادوه للمسلمين‪.‬‬
‫لقْرَبِينَ } [الشعراء‪ ]214 :‬والنذار كما ذكرنا التحذير من الشرّ قبل‬
‫كاَ‬
‫وتأمل { وَأَنذِرْ عَشِيرَ َت َ‬
‫أوانه‪ ،‬فلم يقُلْ‪ :‬بشّر عشيرتك‪ ،‬كأنه يقول له‪ :‬إياك أنْ يأخذك به لين ورَأْفة‪ ،‬أو عطف لقرابتهم‬
‫لك‪ ،‬بل بهم فابدأ‪.‬‬
‫وقد امتثل رسول ال صلى ال عليه وسلم لهذا التوجيه‪ ،‬فكان صلى ال عليه وسلم يقول لقرابته‪" :‬‬
‫يا عباس يا عم رسول ال‪ ،‬يا صفية عمة رسول ال‪ ،‬يا فاطمة بنت محمد‪ ،‬اعملوا فإني ل أغني‬
‫عنكم من ال شيئا‪ ،‬ول يأتيني الناس بأعمالهم‪ ،‬وتأتوني بأنسابكم "‪.‬‬
‫حكَ ِلمَنِ‬
‫خ ِفضْ جَنَا َ‬
‫وفي الوقت الذي يدعوه إلى إنذار عشيرته القربين يقول في مقابلها‪ { :‬وَا ْ‬
‫اتّ َب َعكَ }‬

‫(‪)3077 /‬‬

‫حكَ ِلمَنِ اتّ َب َعكَ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ (‪)215‬‬


‫خ ِفضْ جَنَا َ‬
‫وَا ْ‬

‫خفْض‬
‫خفْض الجناح لباقي المؤمنين به‪ ،‬و َ‬
‫بعد أن أمره بالشدة على أهله وقرابته يأمره باللين‪ ،‬و َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الجناح كناية عن اللّطْف واللين في المعاملة‪ ،‬وقَد أُخِذ هذا المعنى من الطائر حين يحنو على‬
‫فراخه‪ ،‬ويضمهم بجناحه‪.‬‬
‫خفْض الجناح دليل الحنان‪ ،‬ل الذلّة والنكسار‪ ،‬وفي المقابل نقول (فلن فارد أجنحته) إذا تكبّر‬
‫وَ‬
‫وتجبّر‪ ،‬وتقول (فلن مجنح لي) إذا عصا أوامرك‪.‬‬
‫حكَ لِ ْل ُمؤْمِنِينَ }[الحجر‪.]88 :‬‬
‫خ ِفضْ جَنَا َ‬
‫وفي موضع أخر‪ {:‬وَا ْ‬
‫حمَةِ }[السراء‪ ]24 :‬فل نقول‪ :‬كُنْ ذليلً‬
‫خ ِفضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ الرّ ْ‬
‫حقّ الوالدين‪ {:‬وَا ْ‬
‫وقال في َ‬
‫لهم‪ ،‬إنما كُنْ رحيما بهم‪ ،‬حَنُونا عليهم‪ ،‬ففي هذا عِزّك ونجاتك‪.‬‬

‫(‪)3078 /‬‬

‫ص ْوكَ َف ُقلْ إِنّي بَرِيءٌ ِممّا َت ْعمَلُونَ (‪)216‬‬


‫ع َ‬
‫فَإِنْ َ‬

‫فإنْ عصاك القارب فل تتردد في أنْ تعلنها { إِنّي بَرِيءٌ ّممّا َت ْعمَلُونَ } [الشعراء‪ ]216 :‬وعندها‬
‫حقّ لهم؛ لذلك قال { َف ُقلْ } [الشعراء‪]216 :‬‬
‫حقّ الرحم‪ ،‬ول حَقّ القُرْبى‪ ،‬لنه ل َ‬
‫ل تراعي فيهم َ‬
‫ولم يقل تبرأ منهم؛ لنه قد يتبرأ منهم فيما بينه وبينهم‪.‬‬
‫لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أنْ يعلنها رسول ال على المل ليعلمها الجميع‪ ،‬وربنا يُعلّمنا‬
‫هنا درسا حتى ل نحابي أحدا‪ ،‬أو نجامله لقرابته‪ ،‬أو لمكانته حتى تستقيم أمور الحياة‪.‬‬
‫والذي يُفسِد حياتنا وينشر فيها الفوضى والل مبالة أنْ ننافق ونجامل الرؤساء والمسئولين‪،‬‬
‫ونُغطّي على تجاوزاتهم‪ ،‬ونأخذهم بالهوادة والرحمة‪ ،‬وهذا كله يهدم معنويات المجتمع‪ ،‬ويدعو‬
‫للفوضى والتهاون‪.‬‬
‫لذلك يعلمنا السلم أنْ نعلنها صراحة { َف ُقلْ إِنّي بَرِيءٌ ّممّا َت ْعمَلُونَ } [الشعراء‪ ]216 :‬وليأخذ‬
‫القانون مجراه‪ ،‬وليتساوى أمامه الجميع‪ ،‬ولو عرف المخالف أنه سيكون عبرة لغيره لرتدع‪.‬‬
‫لذلك يُقال عن عمر رضي ال عنه أنه حكم الدنيا كلها‪ ،‬والحقيقة أنه حكم نفسه أولً‪ ،‬فحكمتْ له‬
‫الدنيا‪ ،‬وكذلك مَنْ أراد أنْ يحكم الدنيا في كل زمان ومكان عليه أنْ يحكم نفسه‪ ،‬فل يجرؤ أحد من‬
‫أتباعه أن يخالفه‪ ،‬وساعة أن يراه الناس قدوة ينصاعون له بالسمع والطاعة‪.‬‬

‫(‪)3079 /‬‬

‫وَ َتوَ ّكلْ عَلَى ا ْلعَزِيزِ الرّحِيمِ (‪)217‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل أنصاري وتفرّق التباع والحاشية من حولي‪ ،‬نقول لك‪ :‬إياك أنْ تظنّ‬
‫ن فعلتَ هذا ق ّ‬
‫فقد تقول‪ :‬إ ْ‬
‫أنهم يجلبون لك نفعا‪ ،‬أو يدفعون عنك ضرا‪ ،‬فالمر كله بيده تعالى وبأمره‪ ،‬فخيرٌ لك أنْ تراعى‬
‫ال‪ ،‬وأن تتوكل عليه‪.‬‬
‫{ وَتَو ّكلْ عَلَى ا ْلعَزِيزِ الرّحِيمِ } [الشعراء‪ ]217 :‬العزيز الذي َيغْلِب ول ُيغْلب‪ ،‬ويَقْهر ول يُقهر‪،‬‬
‫ومع ذلك فهو سبحانه رحيم بك وبهم‪ .‬وصفة الرحمة هنا تنفي ما يظنه البعض أن العزة هنا‬
‫تقتضي الجبروت أو القهر أو الظلم‪ ،‬فهو سبحانه في عِزّته رحيم‪ ،‬لن عزة العزيز على المتكبّر‬
‫رحمة بالمتكبّر عليه‪.‬‬
‫وكأن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يُعلّم خليفته في أرضه خاصة أُولي المر منهم‪ ،‬يُعلّمه أن يكون‬
‫ن تتوكّل على عبد مثلك إذا عجزتَ عن العمل؛ لنه عاجز مثلك‪،‬‬
‫أريبا ناصحا‪ ،‬يقول له‪ :‬إياك أ ْ‬
‫وما دام المر كذلك فتوكّل على العزيز الرحيم‪ ،‬فعِزّته ورحمته لك أنت‪.‬‬

‫(‪)3080 /‬‬

‫جدِينَ (‪)219‬‬
‫الّذِي يَرَاكَ حِينَ َتقُومُ (‪ )218‬وَ َتقَلّ َبكَ فِي السّا ِ‬

‫أي‪ :‬توكل على الذي يحبك‪ ،‬ويُقدّر عملك وعبادتك حين تقوم‪ ،‬والمعنى تقوم له سبحانه بالليل‬
‫والناس نيام { وَ َتقَلّ َبكَ فِي السّاجِدِينَ } [الشعراء‪ ]219 :‬ونفهم من ذلك أنه يصح أن تقوم وحدك‬
‫بالليل‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬الّذِي يَرَاكَ حِينَ َتقُومُ } [الشعراء‪ ]218 :‬يرى حالك في هذا القيام‪ ،‬وما أنت عليه من‬
‫الفرح‪ ،‬وسرعة الستجابة لنداء ال في قوله‪ :‬ال أكبر‪ ،‬يراك حين تقوم على حالة انشراح القلب‬
‫والقبال على ال والنشاط للعبادة‪ ،‬ل على حال الكسل والتراخي‪.‬‬
‫وإنْ أقبلتَ على ال أعطاك من الفُيوضات ما يُعوّضك مكاسب الدنيا وتجارتها‪ ،‬إنْ تركتها لجابة‬
‫النداء؛ لذلك كان شعار الذان الذي ارتضاه رسول ال صلى ال عليه وسلم (ال أكبر) أي‪ :‬أكبر‬
‫ن كنتَ في تجارة‪ ،‬فال أكبر من‬
‫ن كنتَ في نوم‪ ،‬فال أكبر من النوم‪ ،‬وإ ْ‬
‫من أيّ شيء غيره‪ ،‬فإ ْ‬
‫ن كنتَ في عمل فال أكبر من العمل‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫التجارة‪ ،‬وإ ْ‬
‫وعجيب أن نرى مَنْ يُقدّم العمل على الصلة بحجة امتداد الوقت‪ ،‬وإمكانية الصلة بعد انتهاء‬
‫العمل‪ ،‬وهذه حجة واهية؛ لن ربك حين يناديك (ال أكبر) يريد أن تستجيب على الفور ل على‬
‫التراخي‪ ،‬وإل كيف تسمى الستجابة للنداء إذا تأخرت عن وقتها؟ فطول الوقت خاصة بين الصبح‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والظهر وبين العشاء والصبح ل يعني أنْ تصلي في طول هذا الوقت؛ لن النداء يقتضي السراع‬
‫والستجابة‪.‬‬
‫ولنا ملحظ في (ال أكبر) فأكبر أفعل تفضيل تدلّ على المبالغة ودون أكبر نقول‪ :‬كبير‪ ،‬وكأنها‬
‫عصَب‬
‫إشارة إلى أن العمل والسعي ليس شيئا هينا أو تافها‪ ،‬إنماهو كبير‪ ،‬ينبغي الهتمام به؛ لنه َ‬
‫الحياة‪ ،‬ول تستقيم المور في عمارة الرض إل به‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬إنْ كان العمل كبيرا فال أكبر‪ ،‬فربّك ـ عز وجل ـ ل يُزهّدك في العمل‪ ،‬ول يُزهّدك في‬
‫الدنيا؛ لنه خالقها على هذه الصورة وجاعل للعمل فيها دورا‪ ،‬وإنْ شئتَ فاقرأ‪ {:‬فَإِذَا ُقضِ َيتِ‬
‫ض وَابْ َتغُواْ مِن َفضْلِ اللّهِ }[الجمعة‪.]10 :‬‬
‫لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْر ِ‬
‫الصّ َ‬
‫وقال في موضع آخر‪َ {:‬ولَ تَنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا }[القصص‪ ]77 :‬لن حركة الحياة هي التي‬
‫تُعينك على أداء الصلة وعلى عبادة ال‪ ،‬فبها تقتات‪ ،‬وبها تتقوّى‪ ،‬وبها تستر عورتك‪ ،‬وما ل يتم‬
‫الواجب إل به فهو واجب‪ .‬ومع هذا فدعوة ال لك َأوْلَى بالتقديم‪ ،‬وَأوْلَى بالجابة؛ لن الذي خلقك‬
‫وخلقها ناداك (ال أكبر)‪.‬‬
‫و { وَ َتقَلّ َبكَ } [الشعراء‪ ]119 :‬تعني‪ :‬القعود والقيام والركوع والسجود‪ ،‬فربّك يراك في كل هذه‬
‫الحوال‪ ،‬ويرى سرورك بمقامك بين يديه‪ ،‬فإذا ما توكلتَ عليه فأنت تستحق أن يكون ربّك عزيزا‬
‫رحيما من أجلك‪.‬‬
‫أو‪ :‬أن المعنى { وَ َتقَلّ َبكَ فِي السّاجِدِينَ } [الشعراء‪ ]119 :‬أنه صلى ال عليه وسلم كان يرى‬
‫صحابته وهم يُصلّون خلفه‪ ،‬فيرى مَنْ خلفه‪ ،‬كما يرى مَنْ أمامه‪ ،‬وكانت هذه من خصائصه صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.‬‬
‫لذلك كان يُحذّرهم أنْ يسبقوه في الصلة في ركوع أو سجود‪ ،‬أو قيام أو قعود‪ .‬ويحذرهم أنْ‬
‫يفعلوا في الصلة خلفه ما ل يصح من المصلى اعتمادا على أنه صلى ال عليه وسلم ل يراهم‪.‬‬

‫(‪)3081 /‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ (‪)220‬‬


‫إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬

‫السميع لما يقال‪ ،‬العليم بما يجول في الخواطر‪.‬‬

‫(‪)3082 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َهلْ أُنَبّ ُئكُمْ عَلَى مَنْ تَنَ ّزلُ الشّيَاطِينُ (‪ )221‬تَنَ ّزلُ عَلَى ُكلّ َأفّاكٍ أَثِيمٍ (‪)222‬‬

‫وقد سبق أن قالوا عن القرآن تنزلت به الشياطين‪ ،‬فيردّ عليهم‪ :‬تعالوا أخبركم على مَنْ تتنزل‬
‫الشياطين‪ ،‬وأصحح لكم هذه المعلومات الخاطئة‪ :‬صحيح أن الشياطين تتنزل‪ ،‬لكن ل تتنزل على‬
‫محمد؛ لنه عدوها‪ ،‬إنما تتنزل على أوليائها‪.‬‬
‫قال الحق سبحانه‪ {:‬وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ }[النعام‪.]121 :‬‬
‫{ تَنَ ّزلُ عَلَىا ُكلّ َأفّاكٍ أَثِيمٍ } [الشعراء‪ ]222 :‬فهذا الذي يناسب الشياطين ويرضيهم‪ ،‬والجن‬
‫قسمان‪ :‬فمنه الصالح وغير الصالح وهذا الذي يسمونه الشياطين‪.‬‬
‫وكلمة { َأفّاكٍ } [الشعراء‪ ]222 :‬مبالغة في الفك أي‪ :‬قلب الحقائق‪ .‬وكان هؤلء يخطفون الخبار‬
‫فيقولون شيئا قد يصادف الصدق‪ ،‬ثم يجعلون معه كثيرا من الكذب‪.‬‬

‫(‪)3083 /‬‬

‫سمْ َع وََأكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (‪)223‬‬


‫يُ ْلقُونَ ال ّ‬

‫السمع مصدر وألته الذن‪ ،‬فالمراد يلقون الذن للسمع‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬إِنّ فِي ذَِلكَ َل ِذكْرَىا‬
‫شهِيدٌ }[ق‪.]37 :‬‬
‫سمْ َع وَ ُهوَ َ‬
‫ِلمَن كَانَ لَهُ قَ ْلبٌ َأوْ أَ ْلقَى ال ّ‬
‫يعني‪ :‬ألقى سمعه كي يستمع كمنْ يحرص على السماع من خفيض الصوت‪ ،‬فيميل نحوه ليسمع‬
‫منه‪ .‬وقال { وََأكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [الشعراء‪ ]223 :‬لن بعضهم والقلة منهم قد يصدق ليُغلّف كذبه‪،‬‬
‫ويُغطي عليه‪ ،‬فأنت تأخذ من صِدْقه هذه المرة دليلً على أنه صادق‪ ،‬وهو يخلط الخبر الصادق‬
‫بأخبار كثيرة كاذبة‪.‬‬
‫شعَرَآءُ يَتّ ِب ُعهُمُ ا ْلغَاوُونَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَال ّ‬

‫(‪)3084 /‬‬

‫شعَرَاءُ يَتّ ِب ُعهُمُ ا ْلغَاوُونَ (‪)224‬‬


‫وَال ّ‬

‫ن يقول الشعر‪ ،‬وهو الكلم الموزون المُقفّى‪ ،‬وقد اتهم الكفار رسول‬
‫الشعراء‪ :‬جمع شاعر‪ ،‬وهو مَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال صلى ال عليه وسلم بأنه شاعر‪ ،‬وردّ عليهم القرآن الكريم في عدة مواضع‪ ،‬منها قوله تعالى‪{:‬‬
‫َومَا ُهوَ ِب َق ْولِ شَاعِرٍ قَلِيلً مّا ُت ْؤمِنُونَ }[الحاقة‪.]41 :‬‬
‫وعجيب من كفار مكة‪ ،‬وهم العرب أهل اللسان والبلغة والبيان‪ ،‬وأهل الخبرة في الكلم‬
‫الموزون المُقفّى‪ ،‬بحيث كانوا يجعلون للشعر أسواقا في ذي المجاز وذي المجنّة وعكاظ‪ ،‬ويعلّقون‬
‫أجود أشعارهم على أستار الكعبة‪ ،‬ومع ذلك ل يستطيعون التمييز بين الشعر وأسلوب القرآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هم يعرفون الفَرْق‪ ،‬لكن يقصدون بقولهم كما حكاه القرآن‪َ {:‬أمْ َيقُولُونَ شَاعِرٌ نّتَرَ ّبصُ ِبهِ‬
‫رَ ْيبَ ا ْلمَنُونِ }[الطور‪ ]30 :‬يقصدون بالشعر الكلم العَذْب الذي يستميل النفس‪ ،‬ويُؤثّر في‬
‫الوجدان‪ ،‬ولو كان نثرا‪ .‬وهذه ينادى بها الن أصحاب الشعر الحر؛ لنهم يقولون شعرا‪ ،‬لكنه غير‬
‫موزون‪ ،‬وغير مُق ّفىً‪.‬‬
‫ومعنى { ا ْلغَاوُونَ } [الشعراء‪ ]224 :‬جمع غاوٍ‪ .‬وهو الضال‪ ،‬وهؤلء يتبعون الشعراء‪ .‬لنهم‬
‫يؤيدون مذهبهم في الحياة بما يقولون من أشعار؛ ولنهم ل يحكم منطقهم مبدأ ول خُلُق‪ ،‬بل هواهم‬
‫هو الذي يحكم المبدأ والخلق‪ ،‬فإنْ أحبّوا مدحوا‪ ،‬وإنْ كرِهوا َذمّوا‪.‬‬
‫والدليل على ذلك‪ { :‬أَلَمْ تَرَ أَ ّنهُمْ فِي ُكلّ }‬

‫(‪)3085 /‬‬

‫أَلَمْ تَرَ أَ ّنهُمْ فِي ُكلّ وَادٍ َيهِيمُونَ (‪ )225‬وَأَ ّنهُمْ َيقُولُونَ مَا لَا َي ْفعَلُونَ (‪)226‬‬

‫الضمير في { أَ ّنهُمْ } [الشعراء‪ ]225 :‬يعود على الشعراء‪ ،‬والوادي‪ :‬هو المنخفض بين جبلين‪،‬‬
‫وكان محل السير ومحل نمو الشجار والبساتين واستقرار المياه‪.‬‬
‫{ َيهِيمُونَ } [الشعراء‪ ]25 :‬نقول‪ :‬فلن هَامَ على وجهه أي‪ :‬سار على غير هدى‪ ،‬وبدون هدف أو‬
‫ل وَادٍ َيهِيمُونَ } [الشعراء‪ ]225 :‬أن هذه حال الشعراء‪ ،‬لنهم أهل كلم‬
‫مقصد‪ ،‬فالمعنى { فِي ُك ّ‬
‫وخيال يمدحك أحدهم إنْ طمع في خيرك‪ ،‬فإنْ لم تُعطِه كال لك الذم وتفنّن في النّيل منك‪ ،‬فليس له‬
‫وادٍ معين يسير فيه‪ ،‬أو مبدأ يلتزم به‪ ،‬كالهائم على وجهه في كل وَادٍ‪.‬‬
‫فالمتنبي وهو من أعظم شعراء العصر العباسي ويُضرب به المثل في الحكمة والبلغة‪ ،‬من أشهر‬
‫س والقَلَمفلما كان في إحدى‬
‫شعره قوله‪:‬فَالخَيْل والل ْيلُ والبَيْدَاءُ َتعْ ِرفُني والسّ ْيفُ والرّمح والقِرْطَا ُ‬
‫رحلته خرج عليه قُطّاع الطرق‪ ،‬فلما أراد أن يفرّ قال له خادمه‪ :‬ألست القائل‪:‬فَالخَيْل والل ْيلُ‬
‫س والقَلَمفاستحى أنْ يفرّ‪ ،‬وثبت أمامهم حتى قتلوه‪ ،‬فقال‬
‫والبَيْدَاءُ َتعْ ِرفُني والسّ ْيفُ والرّمح والقِرْطَا ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قبل أنْ يموت‪ :‬ما قتلني إل هذا العبد‪ ،‬واشتهر هذا البيت في الدب العربي بأنه البيت الذي قتل‬
‫صاحبه‪.‬‬
‫ولما جاء المتنبي إلى مصر مدح حاكمها كافور الخشيدي طمعا فيه‪ ،‬وكان كافور رجلً أسود؛‬
‫ب لَ أَبَا ال ِمسْك وَحْ َدهُ‬
‫لذلك كَ ّنوْه بأبي المِسْك‪ ،‬ولما مدحه المتنبي حالَ الرضا قال فيه‪:‬أَبا ُكلّ طِي ٍ‬
‫وفي قصيدة أخرى يقول‪َ :‬قضَى الُ يَا كافُورُ أ ّنكَ َأ ّولٌ وليْسَ بقَاضٍ أنْ يُرَى َلكَ ثَانِفلما لم ُيعْطه‬
‫كافور طلبه‪ ،‬وساءتْ العلقة بينهما‪ ،‬قال يهجوه‪:‬أُريك الرضا لو أخْفت النفسُ خافيَا ومَا أَنَا عَنْ‬
‫حتَ لي أَمْ َمخَازِياوتُعجِبُني‬
‫خسّةً وجُبْنا أشخصا ُل ْ‬
‫لفَا وغَدْرا و ِ‬
‫نفسي َولَ عَ ْنكَ رَاضياَأمَيْنا وإخْ َ‬
‫حكَ ربّاتِ‬
‫لكَ في ال ّن ْعلِ إنني رأي ُتكَ ذَا َن ْعلٍ وإنْ كُ ْنتَ حَافِياومِثُْلكَ يُؤتَى مِنْ بِلَدٍ َبعِيدَة لِيُض ِ‬
‫رِجْ َ‬
‫حدَادِ ال َبوَاكِيَاوَل ْولَ ُفضُول الناسِ جِئْتُك مَادِحا بما كنتَ في َنفْسِي به َلكَ هَاجِيَاوقد يكون الشاعر‬
‫ال ِ‬
‫ضوْء نَارِه َتجِدْ‬
‫بخيلً‪ ،‬ولكنه يمدح الكرم والكريم‪ ،‬ويرفعه إلى عنان السماء‪:‬متّى تَأْتِهِ تَعشُو إلى َ‬
‫خَيْر نَارٍ عِنْدهَا خَيْ ُر موقِدِوالحطيئة مع ما عُرف عنه من البخل يمدح أحدهم‪ ،‬ويصفه بالكرم‬
‫النادر‪ ،‬لدرجة أنْ جعله يهِمّ بذبح ولده لضيفه؛ لنه لم يدد ما يذبحه‪ ،‬وينظِم الحطيئة في الكرم هذه‬
‫القصيدة أو القصة الشعرية التي ُتعَدّ من عيون الشعر العربي‪ ،‬ومع ذلك لم يأخذ مما يقول عبرةً‪،‬‬
‫وظلّ على إمساكه وبُخْله؟‬
‫يقول الحطيئة في وصف الكريم‪:‬وَطَاوٍ ثَلثا عَاصٍب ال َبطْنِ مُرْمل بِبَيْداءَ لمَ يَعرِف بها ساكِن‬
‫عجُوزا‬
‫ش ْعبٍ َ‬
‫ن الُنْس َوحْشةٌ يرى ال ُبؤْسَ فِيها مِنْ شراسَتِه ُنعْماوَأفْردَ في ِ‬
‫جفْوة فيه مِ َ‬
‫رَسْماأخِي َ‬
‫طعْمارَأى‬
‫إزَاءَهَا ثلثَة أشْباح تَخَالهوا ُبهْماحُفاةً عُراةً ما اغت َذوْا خُبْز مَلّة ولَ عَ ِرفُوا للبُرّ مُذْ خُِلقُوا َ‬
‫شَبَحا وَسْط الظّلم فَرَاعَه فلمّا رأى ضَيْفا تَشمّر واهْتَمافَقالَ ابنُه لما رَآهُ بحيْرةٍ أيَا أ َبتِ أذْبحْني‬
‫سعُنا َذمّافَبَيْنَا هُما عَ ّنتْ على ال ُبعْد‬
‫طعْماوَلَ تعتذر بالعُدْم على الذي طَرا يظنّ لَنَا مالً فَيُو ِ‬
‫ويَسّر لَهُ ُ‬
‫خ ْلفِ مِسْحلها َنظْماعِطَاشا تريد الماءَ فانسابَ نحوها عَلى أنّه مِنْها إلى َدمِها‬
‫عَانَةٌ َقدِ انتظمتْ من َ‬
‫سهْمافخ ّرتْ نَحْوصٌ ذَات جحش سمينةً قَد‬
‫ظمَافَأمْهلَها حتّى تر ّوتْ عِطَاشُها وأرسلَ فِيهَا مِنْ كِنَانتِه َ‬
‫أ ْ‬
‫شحْمافَيَا بشْ َرهُ إذْ جرّهَا نحو قَومِه ويَا بشْر ُهمْ لما رأوْا كَلْمها يَ ْدمَاوَبَاَتُوا‬
‫اكتنزتْ لَحْما وقد ط ّبقَتْ َ‬
‫ق ضَيْفهِمْ ومَا غَرمُوا غُرْما وقَدْ غَنموا غُنْماوَباتَ أبُوهم من بَشَاشتِه أبا ِلضَيْفهِمُ‬
‫حّ‬‫ضوْا َ‬
‫كِراما قَدْ َق َ‬
‫والم مِنْ بِشرها ُأمّا‬

‫ل وَادٍ َيهِيمُونَ * وَأَ ّنهُمْ َيقُولُونَ مَا لَ َي ْفعَلُونَ { [الشعراء‪225 :‬ـ‬


‫وصدق ال العظيم‪ } :‬أَ ّنهُمْ فِي ُك ّ‬
‫‪ ]226‬يصفون الكرم وهم بخلء‪ ،‬والشجاعة وهو جبناء‪...‬إلخ‪.‬‬
‫وفي مرة‪ ،‬اجتمع عند النبي صلى ال عليه وسلم اثنان من الشعراء‪ :‬الزبرقان بن بدر‪ ،‬وقيس بن‬
‫عاصم‪ ،‬وعمرو بن الهتم فقال أحدهم عبارتين في مدح أحد الحاضرين بأنه سيد القبيلة‪ .‬فغضب‬
‫الممدوح ورأى أن هذا قليل في حقّه‪ ،‬فقال‪ :‬وال يا رسول ال‪ ،‬إنه ليعلم مني فوق الذي قال ـ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يعني‪ :‬لم يُوفّني حقي ـ فقال الشاعر‪ :‬أما وال وقد قال ما قال‪ ،‬فإنه لضيق العطية‪ ،‬أحمق الب‪،‬‬
‫لئيم العم والخال‪ .‬سبحان ال في أول المجلس كان سيد قبيلته‪ ،‬والن هو ضيق العطية‪ ،‬أحمق‬
‫الب‪ ،‬لئيم العم والخال!!‬
‫ثم قال‪ :‬وال يا رسول ال ما كذبتُ في الولى‪ ،‬ولقد صدقتُ في الثانية ـ يعني‪ :‬أنا مصيب في‬
‫القولين ـ لكني رضيت فقلت أحسنَ ما علمت‪ ،‬وغضبت فقلت أسوأ ما علمتُ‪ .‬عندها قال سيدنا‬
‫رسول ال " إن من البيان لسحرا "‪.‬‬
‫عمِلُواْ {‬
‫ثم يستثني الحق سبحانه من هؤلء الغاوين‪ِ } :‬إلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬

‫(‪)3086 /‬‬

‫ت وَ َذكَرُوا اللّهَ كَثِيرًا وَانْ َتصَرُوا مِنْ َبعْدِ مَا ظُِلمُوا وَسَ َيعْلَمُ الّذِينَ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَا ِ‬
‫إِلّا الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬
‫ظََلمُوا َأيّ مُ ْنقََلبٍ يَ ْنقَلِبُونَ (‪)227‬‬

‫كان بعض شعراء المشركين أمثال عبد ال بن الزبعري‪ ،‬ومسافح الجمحي يهجون رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ويذمونه‪ ،‬فيلتف الضالون الغاوون من حولهم‪ ،‬يشجعونهم ويستزيدونهم من‬
‫شعَرَآءُ يَتّ ِب ُعهُمُ ا ْلغَاوُونَ }الشعراء‪]224 :‬‬
‫هجاء رسول ال‪ ،‬وفي هؤلء نزل قوله تعالى‪ {:‬وَال ّ‬
‫فأسرع إلى سيدنا رسول ال شعراءُ السلم‪ :‬عبد ال بن رواحة وكعب بن زهير‪ ،‬وكعب بن‬
‫مالك‪ ،‬وحسان بن ثابت‪ ،‬فقالوا‪ :‬أنحن من هؤلء يا رسول ال؟ فقرأ عليهم رسول ال هذه الية‪:‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } [الشعراء‪.]227 :‬‬
‫{ ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫ن توفّرت فيه هذه الخصال الربع { ِإلّ الّذِينَ‬
‫فاستثنى الحق ـ تبارك وتعالى ـ من الشعرءا مَ ْ‬
‫ت وَ َذكَرُواْ اللّهَ كَثِيرا وَان َتصَرُواْ مِن َبعْدِ مَا ظُِلمُواْ } [الشعراء‪ ]227 :‬أي‪:‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَا ِ‬
‫آمَنُو ْا وَ َ‬
‫ذكروا ال في أشعارهم؛ لينبهوا الناس إلى مواجيد الدين ومواعظ اليمان‪ ،‬فيلتفتون إليها‪ ،‬ثم‬
‫جوْه‪.‬‬
‫ينتصرون لرسول ال من الذين َه َ‬
‫وكان هؤلء الثلثة ينتصرون للسلم ولرسول ال‪ ،‬فكلما هجاه الكفار ردّوا عليهم‪ ،‬وأبطلوا‬
‫حُججهم‪ ،‬ودافعوا عن رسول ال‪ ،‬حتى " أنه صلى ال عليه وسلم َنصَب منبرا لحسان بن ثابت‪،‬‬
‫كان يقول له‪ " :‬قل وروح القدس معك‪ ،‬اهجهم وجبريل معك "‬
‫وقال لكعب بن مالك‪ " :‬اهجهم‪ ،‬فإن كلمك أشدّ عليهم من رَشْق النّبال " كما سمح لهم بإلقاء‬
‫الشعر في المسجد؛ لنهم دخلوا في هذا الستثناء‪ ،‬فهم من الذين آمنوا‪ ،‬وعملوا الصالحات‪،‬‬
‫وذكروا ال كثيرا‪ ،‬وهم الذين ينتصرون للسلم ويُمجّدون رسول ال‪ ،‬ويدافعون عنه‪ ،‬ويردّون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عنه ألسنة الكفار‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬وَان َتصَرُواْ مِن َبعْدِ مَا ظُِلمُواْ } [الشعراء‪ ]227 :‬أنهم لم يكونوا سفهاء‪ ،‬لم يبدأوا الكفار‬
‫بالهجاء‪ ،‬إنما ينتصرون لنفسهم‪ ،‬ويدفعون ما وقع على السلم من ظلم الكافرين؛ لذلك لما هجا‬
‫ستَ لَهُ بكُفْءٍ فَشرّكما‬
‫أبو سفيان رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال أحدهم ردا عليهم‪:‬أتهْجُو ُه وَل ْ‬
‫لخيركما الفِدَا ُءفَإنّ أَبِي وَوَالِدهِ وعِرْضِي ِلعْرضِ مُحمدٍ منكمُ ِوقَاءُوقوله تعالى‪ { :‬مِن َب ْعدِ مَا‬
‫ظُِلمُواْ } [الشعراء‪ ]227 :‬ظُلِموا ِممّنْ؟ من الذين وقفوا من الدين ومن الرسول موقفَ العداء‪،‬‬
‫وتعرّضوا لرسول ال وللمؤمنين به باليذاء والكيد‪ ،‬ظُلِموا من الذين عزلوا رسول ال‪ ،‬وآله في‬
‫شعْب حتى أكلوا أوراق الشجر‪ ،‬من الذين تآمروا على قتله صلى ال عليه وسلم إلى أنْ هاجر‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫ومن رحمته تعالى وحكمته أنْ أباح للمظلوم أنْ ينتصر لنفسه‪ ،‬وأنْ يُنفّس عنها ما يعانيه من وطأة‬
‫الظلم‪ ،‬حتى ل تُكبتَ بداخله هذه المشاعر‪ ،‬ول بُدّ لها أن تنفجر‪ ،‬فقال سبحانه‪ {:‬وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ‬
‫ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِ ِه وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }[النحل‪.]126 :‬‬
‫جهْرَ بِالسّوءِ مِنَ ا ْل َق ْولِ ِإلّ مَن ظُلِمَ }[النساء‪.]148 :‬‬
‫حبّ اللّهُ ا ْل َ‬
‫وقال تعالى‪ {:‬لّ يُ ِ‬

‫أباح للمظلوم أن يُعبّر عن نفسه‪ ،‬وأن يرفض الظلم‪ ،‬ول عليه إنْ جهر بكلمة تُخفّف عنه ما يشعر‬
‫به من ظلم‪.‬‬
‫ثم تختم السورة بقوله تعالى‪ } :‬وَسَ َيعْلَمْ الّذِينَ ظََلمُواْ َأيّ مُنقََلبٍ يَنقَلِبُونَ { [الشعراء‪ ]227 :‬يعني‪:‬‬
‫غدا سيعلمون مرجعهم ونهايتهم كيف تكون؟ والمنقلب هو المرجع والمآب‪ ،‬والمصير الذي‬
‫ينتظرهم‪.‬‬
‫فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يتوعدهم بما يؤذيهم‪ ،‬وبما يسوؤهم فلن تنتهي المسألة بانتصار‬
‫المسلمين عليهم‪ ،‬إنما ينتظرهم جزاء آخر في الخرة‪.‬‬
‫عذَابا دُونَ ذَِلكَ }[الطور‪.]47 :‬‬
‫كما قال سبحانه في موضع آخر‪ {:‬وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ َ‬
‫لذلك أبهم ال تعالى هذا المنقلب‪ ،‬وإبهامه للتعظيم والتهويل‪ ،‬وقد بلغ من العِظَم أنه ل يُوصف ول‬
‫تؤدي العبارة مؤداه‪ ،‬كما أبهم العذاب في قوله تعالى‪َ {:‬فغَشِ َي ُهمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِ َيهُمْ }[طه‪.]78 :‬‬
‫يعني‪ :‬شيء عظيم ل ُيقَال‪ ،‬والبهام هنا أبلغ؛ لن العقل يذهب في تصوّره كل مذهب‪ ،‬وعلى كل‬
‫كيفية‪.‬‬
‫والمنقلب أو المرجع ل يُمدح في ذاته‪ ،‬ول يُذمّ في ذاته‪ ،‬فإن انتهى إلى السوء فهو مُنقلب سيء‪،‬‬
‫وإنِ انتهى إلى خير فهو مُنقلَب حسن‪ ،‬فالذي نحن بصدده من مُنقلَب الكافرين المعاندين لرسول‬
‫ال منقلب سيء ُيذَم‪.‬‬
‫أما مُنْقلَب سحرة فرعون مثلً حين قال لهم‪ {:‬آمَن ُتمْ لَهُ قَ ْبلَ أَنْ ءَاذَنَ َل ُكمْ إِنّهُ َلكَبِي ُر ُكمُ الّذِي عَّل َمكُمُ‬
‫لفٍ }[طه‪.]71 :‬‬
‫طعَنّ أَ ْيدِ َيكُ ْم وَأَرْجَُل ُكمْ مّنْ خِ َ‬
‫لقَ ّ‬
‫السّحْرَ فَ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل ضَيْرَ إِنّآ إِلَىا رَبّنَا مُنقَلِبُونَ }[الشعراء‪ ]50 :‬فهذا مُنقلَب حَسَن يُمدح ويُحمد‪.‬‬
‫فماذا قالوا؟{ قَالُو ْا َ‬
‫وقد يظن المرء أن مُنقلَبه مُنقلَب خير‪ ،‬وأنه سينتهي إلى ما يُفرح وهو واهم مخدوع في عمله‬
‫ينتظر الخير‪ ،‬وال تعالى ُيعِد له منقلبا آخر‪ ،‬كالذي أعطاه ال الجنتين من أعناب وخففهما بنخل‪،‬‬
‫وجعل بينهما زرعا‪ ،‬فلما غرّته نعمة الدنيا ظنّ أن له مثلها‪ ،‬أو خيرا منها في الخرة‪ ،‬فقال‪{:‬‬
‫جدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف‪.]36 :‬‬
‫وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَ ِ‬
‫والنقلب والمرجع إلى ال ـ عز وجل ـ إنما يفرح به مَنْ آمن بال وعمل صالحا؛ لنه يعلم‬
‫أنه سيصير إلى جزاء من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ مؤكد؛ لذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ‬
‫ق الَنفُسِ }‬
‫شّ‬‫ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَىا بََلدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ بِ ِ‬
‫يُعلّمنا حين نركب الدواب التي تحملنا{ وَتَ ْ‬
‫[النحل‪.]7 :‬‬
‫ك وَالَ ْنعَامِ مَا تَ ْركَبُونَ *‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مّنَ ا ْلفُلْ ِ‬
‫علّمنا أن نذكره سبحانه‪ {:‬وَالّذِي خَلَقَ الَزْوَاجَ كُّلهَا وَ َ‬
‫ظهُو ِرهِ ثُمّ َت ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ رَ ّبكُمْ ِإذَا اسْ َتوَيْتُمْ عَلَيْ ِه وَ َتقُولُواْ سُ ْبحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَـاذَا‬
‫لِتَسْ َتوُواْ عَلَىا ُ‬
‫َومَا كُنّا َلهُ ُمقْرِنِينَ * وَإِنّآ إِلَىا رَبّنَا َلمُنقَلِبُونَ }[الزخرف‪12 :‬ـ ‪.]14‬‬
‫إذن‪ :‬فالدوابّ وما يحلّ محلّها الن من وسائل المواصلت من أعظم ِنعَم ال علينا‪ ،‬ولول أن ال‬
‫سخّرها لنا ما كان لنا قدرة عليها‪ ،‬ول طاقة بتسخيرها؛ لذلك نقول{ َومَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ }‬
‫[الزخرف‪.]13 :‬‬
‫أي‪ :‬ل نستطيع ترويضه‪ ،‬فالصبي الصغير نراه يقود الجمل الضخم‪ ،‬ويُنيخه ويُحمّله الثقال وهو‬
‫طائع منقاد‪ ،‬لكنه يفزع إنْ رأى ثعبانا صغيرا‪ ،‬لماذا؟ لن ال ـ سبحانه وتعالى ـ سخّر لنا‬
‫الجمل وذَلّله‪ ،‬ولم يُسخّر لنا الثعبان‪.‬‬

‫عمَِلتْ أَيْدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا‬


‫وصدق ال العظيم إذ يقول سبحانه‪َ {:‬أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا خََلقْنَا َلهُم ِممّا َ‬
‫مَاِلكُونَ * َوذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُ ْم َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس‪71 :‬ـ ‪.]72‬‬
‫ولكن ما علقة قولنا‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَـاذَا َومَا كُنّا َلهُ ُمقْرِنِينَ }[الزخرف‪ ]13 :‬بقولنا‪{:‬‬
‫وَإِنّآ إِلَىا رَبّنَا َلمُنقَلِبُونَ }[الزخرف‪.]14 :‬‬
‫قالوا‪ :‬لننا سننقلب إلى ال في الخرة‪ ،‬وسنُسأل عن هذا النعيم‪ ،‬فإنْ شكرنا ربنا على هذه النعمة‬
‫فقد أدّيْنا حقها‪ ،‬ومَنْ شكر ال على نعمة في الدنيا ل يسأل عنها في الخرة؛ لنه أدّى حقّها‪.‬‬
‫وقال سبحانه‪ } :‬وَسَ َيعْلَمْ { [الشعراء‪ ]227 :‬بالسين الدالة على الستقبال‪ ،‬لكنها ل تعني طول‬
‫الزمن كما يظن البعض؛ لن ال تعالى أخفى الموت ميعادا‪ ،‬وأخفاه سببا ومكانا‪ ،‬وهذا البهام‬
‫للموت هو عَيْن البيان‪ ،‬لنك في هذه الحالة ستنتظره وتتوقعه في كل وقت‪ ،‬ولو علم النسانُ‬
‫موعد موته لقال‪ :‬أفعل ما أريد ثم أتوب قبل أن أموت‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الوقت الذي تقتضيه السين هنا ل يطول‪ ،‬فقد يفاجئك الموت‪ ،‬وليس بعد الموت عمل أو توبة‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عشِيّةً َأ ْو ضُحَاهَا }[النازعات‪.]46 :‬‬
‫واقرأ قوله تعالى‪ {:‬كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا لَمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ َ‬
‫وقلنا‪ :‬إن في الية } وَسَ َيعْلَمْ الّذِينَ ظََلمُواْ َأيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ { [الشعراء‪ ]227 :‬تهديدا ووعيدا‪،‬‬
‫حبّ لهم‪ ،‬فيهددهم‬
‫خلْقه‪ ،‬وهو ُم ِ‬
‫الحق ـ تبارك وتعالى ـ حين يُضخّم الوعيد إنما يريد الرحمة ب َ‬
‫الن ليَسلموا غدا‪ ،‬ويُنبّههم ليعودوا إليه‪ ،‬فينالوا جزاءه ورحمته‪.‬‬
‫وكأنه ـ تبارك وتعالى ـ يريد من وراء هذا التهديد أن يُوزّع رحمته ل جبروته‪ ،‬كما تقسو على‬
‫ولدك ليذاكر وتهدده ليجتهد‪ .‬إذن‪ :‬فالوعد بالخير خير‪ ،‬والوعيد بالشر أيضا خير‪ ،‬فكل ما يأتيك‬
‫من ربك‪ ،‬فاعلم أنه خير لك‪ ،‬حتى وإنْ كان تهديدا ووعيدا‪.‬‬
‫وهكذا قدمتْ لنا سورة الشعراء نموذجا من تسلية الحق ـ تبارك وتعالى ـ لنبيه محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم والتخفيف عنه ما يلقي من حزن وألم على حال قومه وعدم إيمانهم‪ ،‬وعرضَتْ عليه‬
‫صلى ال عليه وسلم موكب الرسل‪ ،‬وكيف أن ال أيّدهم ونصرهم وهزم أعداءهم ودحرهم‪.‬‬
‫ثم سلّه ربه بأنْ َر ّد على الكفار في افتراءاتهم‪ ،‬وأبطل حججهم‪ ،‬وأبان زَيْف قضاياهم‪ ،‬ثم تختم‬
‫هذه التسلية ببيان أن للظالمين عاقبة سيئة تنتظرهم وأبهم هذه العاقبة } َأيّ مُنقََلبٍ يَنقَلِبُونَ‬
‫{ [الشعراء‪ ]227 :‬ليضخمها‪.‬‬
‫حدّد إنما يأتي على َلوْن واحد‪ ،‬وإنْ أُبهِم كان أبلغ؛ لن النفس تذهب في تصوّره كل‬
‫والشيء إذا ُ‬
‫مذْهب‪ ،‬كما لو تأخّر مسافر عن موعد عودته فنجلس ننتظره في قلق تسرّح بنا الظنون في سبب‬
‫تأخره‪ ،‬وفي احتمالت ما يمكن أنْ يحدث‪ ،‬وتتوارد على خواطرنا الوهام‪ ،‬وكل وهم يَرِد في‬
‫نفسك بألم ولذعة‪ ،‬في حين أن الواقع شيء واحد‪.‬‬

‫(‪)3087 /‬‬

‫ن َوكِتَابٍ مُبِينٍ (‪)1‬‬


‫طس تِ ْلكَ آَيَاتُ ا ْلقُرْآَ ِ‬

‫تكلمنا كثيرا على هذه الحروف المقطّعة في أوائل السور‪ ،‬وهنا (طس) وهما حرفان من حروف‬
‫المعجم‪ ،‬وهي تُنطق هكذا (طاء) و(سين) لنهما أسماء حروف‪ ،‬وفَرْق بين اسم الحرف ومُسمّاه‪،‬‬
‫فكلّ من المي والمتعلم يتكلم بحروف يقول مثلً‪ :‬كتب محمد الدرس‪ .‬فإنْ طلبتَ من المي أن‬
‫يتهجى هذه الحروف ل يستطيع لنه ل يعرف اسم الحرف‪ ،‬وإنْ كان ينطق بمُسمّاه‪ ،‬أمّا المتعلم‬
‫فيقول‪ :‬كاف تاء باء‪.‬‬
‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم كان أميا ل يعرف أسماء الحروف‪ ،‬فهي إذن من ال؛ لذلك كانت‬
‫مسألة توقيفية‪ ،‬فالحروف (الم) نطقنا بها في أول البقرة بأسماء الحروف (ألف) (لم) (ميم)‪ ،‬أما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في أول النشراح فقلنا{ أََلمْ نَشْرَحْ َلكَ صَدْ َركَ }[الشرح‪ ]1 :‬بمسميات الحروف نفسها‪ ،‬فنقول‪ :‬أَلَم‪.‬‬
‫و { تِ ْلكَ } [النمل‪ ]1 :‬اسم إشارة لليات التية خلل هذه السورة‪ ،‬وقُلْنا إن اليات لها َمعَانٍ‬
‫س وَا ْل َقمَرُ }‬
‫شمْ ُ‬
‫ل وَال ّنهَا ُر وَال ّ‬
‫متعددة‪ ،‬فقد تعني اليات الكونية‪ :‬كالشمس والقمر‪َ {،‬ومِنْ آيَاتِهِ الّي ُ‬
‫[فصلت‪.]37 :‬‬
‫سكُنُواْ إِلَ ْيهَا }[الروم‪ ]21 :‬وهذه اليات الكونية هي‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجا لّتَ ْ‬
‫{ َومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ خَلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬
‫التي تلفتنا إلى عظمة الخالق ـ عزّ وجلّ ـ وقدرته‪.‬‬
‫واليات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل‪ ،‬والتي تثبت صِدْق بلغهم عن ال‪ ،‬واليات بمعنى‬
‫ن َوكِتَابٍ مّبِينٍ } [النمل‪.]1 :‬‬
‫آيات القرآن الحاملة للحكام‪ ،‬وهي المرادة هنا { تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلقُرْآ ِ‬
‫ب َوقُرْآنٍ مّبِينٍ }[الحجر‪ ]1 :‬فمرة يقول{ َوقُرْآنٍ مّبِينٍ }‬
‫وسبق إنْ قال تعالى‪ {:‬الرَ تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَا ِ‬
‫[الحجر‪ ]1 :‬ومرة { َوكِتَابٍ مّبِينٍ } [النمل‪ ]1 :‬ويأتي بالكتاب ويعطف عليه القرآن‪ ،‬أو يأتي‬
‫بالقرآن ويعطف عليه الكتاب‪ ،‬مع أنهما شيء واحد‪ ،‬فكيف إذن يعطف الشيء على نفسه؟‬
‫قالوا‪ :‬إذا عطف الشيء على نفسه‪ ،‬فاعلم أنه لزيادة َوصْف الشيء‪ ،‬تقول‪ :‬جاءني زيد الشاعر‬
‫والخطيب والتاجر‪ ،‬فلكلّ صفة منها إضافة في ناحية من نواحي الموصوف‪ ،‬فهو القرآن لنه يُقرأ‬
‫في الصدور‪ ،‬وهو نفسه الكتاب لنه مكتوب في السطور‪ ،‬وهما معا نُسمّيهم مرة القرآن ومرة‬
‫الكتاب‪ ،‬أمّا الوصف فيجعل المغايرة موجودة‪.‬‬
‫ومعنى { مّبِينٍ } [النمل‪ ]1 :‬بيّن واضح ومحيط بكل شيء من أقضية الحياة وحركتها من أوامر‬
‫شيْءٍ }[النعام‪.]38 :‬‬
‫ونواهٍ‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ‬
‫وسبق أنْ حكينا ما حدث مع المام محمد عبده ـ رحمه ال ـ حينما كان في فرنسا‪ ،‬وسأله أحد‬
‫المستشرقين‪ :‬تقولون إن القرآن أحاط بكل شيء‪ ،‬فكم رغيفا في إردبّ القمح؟ فدعا المام الخباز‬
‫وسأله فقال‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬فقال المستشرق‪ :‬أُريدها من القرآن‪ ،‬قال المام‪ :‬القرآن قال لنا‪ {:‬فَاسْئَلُواْ‬
‫أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ }[النبياء‪.]7 :‬‬
‫شيْءٍ }[النعام‪.]38 :‬‬
‫فهو كما قال تعالى‪ {:‬مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬هُدًى وَبُشْرَىا لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬

‫(‪)3088 /‬‬

‫هُدًى وَبُشْرَى ِل ْل ُمؤْمِنِينَ (‪)2‬‬

‫الهدى‪ :‬يأتي بمعنيين‪ :‬بمعنى الدللة على طريق الخير‪ ،‬وبمعنى المعونة‪ ،‬فمن ناحية الدللة هو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدّ سواء؛ لنه دلّ الجميع وأرشدهم‪ ،‬ثم تأتي هداية المعونة على حسب‬
‫هُدىً للمؤمن وللكافر على َ‬
‫اتباعك لهداية الدللة‪.‬‬
‫فمَنْ أطاع ال وآمن به وأخذ بدللته‪ ،‬فكان الحق سبحانه يقول له‪ :‬أنت استأمنتني على حركة‬
‫حياتك وأطعتني في أمري ونهيي‪ ،‬فسوف أخفف عنك وأُهوّن عليك أمر العبادة وأُعينك عليها‪،‬‬
‫وهذه هي هداية المعونة التي قال ال عنها‪ {:‬وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد‪:‬‬
‫‪.]17‬‬
‫وكذلك الكافر الذي لم يأخذ بهداية الدللة والرشاد‪ ،‬واختار لنفسه طريقا آخر يُعينه ال عليه‪،‬‬
‫ويُيسّر له ما سعى إليه من الكفر؛ لذلك يختم ال على قلوب الكافرين حتى ل يدخلها إيمان ول‬
‫يخرج منها كفر‪.‬‬
‫لكن الهداية هنا‪ :‬أهي دللة‪ ،‬أم هداية معونة؟‬
‫نقول‪ :‬هي هداية معونة‪ ،‬بدليل قوله تعالى بعدها { وَبُشْرَىا لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } [النمل‪ ]2 :‬فما كانوا‬
‫مؤمنين إل لنهم مهديون‪ ،‬والبُشْرى ل تكون إل للمؤمنين‪ ،‬إذن‪ :‬هي معونة للمؤمنين بأنْ يزيدهم‬
‫سعَىا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ َيقُولُونَ رَبّنَآ‬
‫هدايةً إلى الطريق السّويّ‪ ،‬وإلى جنات النعيم{ نُورُ ُهمْ يَ ْ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ }[التحريم‪.]8 :‬‬
‫غفِرْ لَنَآ إِ ّنكَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫أَ ْتمِمْ لَنَا نُورَنَا وَا ْ‬
‫ولو أن الهداية هنا بمعنى الدللة التي تأتي للمؤمن والكافر لكانتْ بشرى وإنذارا‪ ،‬لكن الية‬
‫{ وَبُشْرَىا لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } [النمل‪ ]2 :‬فتعيّن أن يكون المعنى هداية المعونة وهداية البشرى‪.‬‬

‫(‪)3089 /‬‬

‫الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلَا َة وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَهُمْ بِالْآَخِ َرةِ ُهمْ يُوقِنُونَ (‪)3‬‬

‫المؤمنون هم أصحاب عقيدة اليمان‪ ،‬وهو أن تؤمن بقضية الحق الواحد الله المختار الفاعل الذي‬
‫له صفات الكمال‪ ،‬تؤمن بها حتى تصير عقيدة في نفسك ثابتة ل تتزعزع‪ ،‬واليمان اعتقاد بالقلب‪،‬‬
‫وقَوْل باللسان‪ ،‬وعمل بالجوارح‪ ،‬فل يكفي النطق باللسان‪ ،‬إنما ل بد من أداء تكاليف اليمان‬
‫ومطلوباته‪ ،‬وقمتها إقامة الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة وصَوْم رمضان‪ ،‬والحج‪.‬‬
‫فالصلة دعوة من ال لخَلْقه‪ ،‬دعوة من الصانع للمصنوع‪ ،‬فربّك يستدعيك إلى حضرته‪ ،‬وكيف‬
‫ضتْ على صانعها كل يوم خمس مرات‪ ،‬ومع ذلك نرى مَنْ يُقدّم العمل على‬
‫بالصّنْعة إذا عُ ِر َ‬
‫الصلة‪ ،‬وإذا سمع النداء قال عندي أعمال ومشاغل‪ ،‬إياك أنْ تظن أن الصلة تعطيل للمصالح‪ ،‬أو‬
‫إضاعة للوقت؛ لنك في حركة حياتكم مع ِنعَم ال وفي الصلة مع ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونقيس هذه المسأل َة ـ ول المثل العلى ـ لو أن أباك ناداك فلم تُجبه‪ ،‬ماذا يفعل بك؟ فل يكُنْ‬
‫ربّك أهونَ عليك من أبيك‪ ،‬ربك يناديك‪ :‬ال أكبر يعني‪ :‬أكبر من العمل‪ ،‬وأكبر من كل شيء‬
‫يشغلك عن تلبية ندائه‪.‬‬
‫وفي الصلة نأخذ شحنة إيمانية تُقوّينا على حركة حياتنا‪ ،‬كما لو ذهبتَ ببطارية السيارة مثلً‬
‫لجهاز الشحن أتقول‪ :‬إنك عطلتَ البطارية؟‬
‫ولو حسبنا الوقت الذي تستغرقه الصلوات الخمس لوجدناه ل يتعدّى ساعة من الربع والعشرين‬
‫ساعة‪ ،‬فل تضن على نفسك بها لتلتقي بربك‪ ،‬وتقف بين يديه‪ ،‬وتعرض نفسك عليه‪ ،‬فيصلح فيك‬
‫ما أفسدته حركة الحياة ويعطيك المدد والعون و الشحنة اليمانية التي تدفعك إلى حركة منسجمة‬
‫مع الحياة والكون من حولك‪.‬‬
‫وإنْ كان مهندس اللة يُصلحها بشيء مادي‪ ،‬فربّك ـ عز وجل ـ غَيْب‪ ،‬فيصلحك بالغيب‪ ،‬ومن‬
‫حيث ل تدري أنت‪ ،‬لذلك كانت الصلة في قمة مطلوبات اليمان‪.‬‬
‫فإنْ كانت الصلة لصلح النفس‪ ،‬فالزكاة لصلح المال؛ لذلك تجد دائما أن الصلة مقرونة‬
‫بالزكاة في معظم اليات‪ ،‬وإنْ كان المال نتيجة العمل‪ ،‬والعمل فرع الوقت‪ ،‬فإن الصلة تأخذ‬
‫الوقت‪ ،‬والزكاة تأخذ نتيجة الوقت‪ ،‬الزكاة تأخذ ‪ %2.5‬أمّا الصلة فتأخذ الوقت نفقسه يعني بنسبة‬
‫‪.%100‬‬
‫ومع ذلك ل نقول‪ :‬إن الصلة أضاعتْ الوقت‪ ،‬لن الشحنة التي تأخذها في الصلة تجعلك تنجز‬
‫العمل الذي يستغرق عدة ساعات في نصف ساعة‪ ،‬فتعطيك بركة في الوقت‪.‬‬
‫وسبق أن قلنا‪ :‬إن نداء ال أكبر يعني‪ :‬أن لقاء ال أكبر من أي شيء يشغلك مهما رأيته كبيرا؛‬
‫سعْي في مناكب الرض مطلوبا‪،‬‬
‫لنه سبحانه واهب البركة‪ ،‬وواهب الطاقة‪ ،‬وإنْ كان العمل وال ّ‬
‫لكن الصلة في وقتها َأوْلَى‪.‬‬
‫وحين نتأمل أطول الوقات بين كل صلتين نجد أنها من الصبح حتى الظهر‪ ،‬وهو الوقت‬
‫المناسب للعمل‪ ،‬ومن العشاء حتى الصبح‪ ،‬وهو الوقت المناسب للنوم‪ ،‬وهكذا تُنظّم لنا الصلة‬
‫حياتنا‪ ،‬فمِنْ صلة الصبح إلى صلة الظهر سبع ساعات هي ساعات العمل‪.‬‬

‫لو أن المة السلمية تمسّكتْ بشرعها ومنهج ربها‪ ،‬وبعد هذه الساعات السبع التي تقضيها في‬
‫عملك‪ ،‬أنت حر بعد صلة الظهر‪ ،‬أمّا التخصيص الذي طرأ على حركة الحياة فقد اقتضى أنْ‬
‫يأتي صلة الظهر بل والعصر والناس ما يزالون في أعمالهم‪.‬‬
‫أما الذين يُؤخرون الصلة عن وقتها بحجة امتداد الوقت بين الصلتين‪ ،‬نعم الوقت ممتدّ‪ ،‬لكن ل‬
‫يجوز لك تأخير الصلة‪ ،‬ولبيان هذه المسألة نقول‪َ :‬هبْ أن غنيا مستطيعٌ للحج‪ ،‬ولم يحج متى‬
‫يأثم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يأثم إذا ما غَرّه طول المل‪ ،‬ثم عاجله الموت قبل أنْ يحجّ‪ ،‬فإنْ أمهله العمر حتى يحج‪ ،‬فقد سقط‬
‫ن يضمن له البقاء إلى أنْ يؤدي هذه الفريضة‪.‬‬
‫عنه هذا الفرض‪ ،‬لكن مَ ْ‬
‫لذلك ورد في الحديث‪ " :‬حُجّوا قبل ألّ تَحجّوا "‪.‬‬
‫كذلك الحال في وقت الصلة‪ ،‬فهو ممتد‪ ،‬لكن مَنْ يضمن لك امتداده؛ لذلك تارك الصلة يأثم في‬
‫آخر لحظة من حياته‪ ،‬فإنْ ظلّ إلى أنْ يصلي فل شيء عليه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل تتعلّل بطول الوقت؛ لن طول الوقت جعله ال لحكمه‪ ،‬ل لنأخذه ذريعة لتأخير الصلة‬
‫جعِل للنائم كي يستيقظ‪ ،‬أو للناسي كي يتذكّر‪.‬‬
‫عن وقتها‪ ،‬طول الوقت بين الصلوات ُ‬
‫ثم يقول سبحانه } وَهُم بِالخِ َرةِ ُهمْ يُوقِنُونَ { [النمل‪.]3 :‬‬
‫ت أمر المؤمن كله‪ ،‬بداية من العقيدة واليمان بال‪ ،‬ثم الصلة‪ ،‬فالزكاة وهما المطلبان‬
‫فالية جمع ْ‬
‫ن يؤمن بالخرة وبالجزاء والمرجع والمصير‪.‬‬
‫العمليان بين إيمانين‪ :‬اليمان الول بال‪ ،‬والخر أ ْ‬
‫وقوله } يُوقِنُونَ { [النمل‪ ]3 :‬اليقان‪ :‬الحكم بثبات الشيء بدون توهّم شكّ؛ لذلك قلنا‪ :‬إن العلم أنْ‬
‫تعرف قضية واقعة وتقول‪ ،‬إنها صدق وتُدلّل عليها‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن اليقين درجات؛ علم اليقين‪ ،‬وعين اليقين‪ ،‬وحقّ اليقين‪ ،‬فمثلً حين أقول لك‪ :‬إنني رأيتُ‬
‫ي ول تكذبني‪ ،‬فهذا علم يقين‪ ،‬فإنْ رأيته‪ ،‬فهذا‬
‫في أحد البلد أصبع الموز نصف متر‪ ،‬وأن تثق ف ّ‬
‫عَيْن اليقين‪ ،‬فإن أخذته وذهبتَ تقطعه مثلً‪ ،‬وتوزعه على الحاضرين فهذا حقّ اليقين‪ .‬وهذه‬
‫الدرجة ل يمكن أن يتسرّب إليها شكّ‪.‬‬
‫لذلك لما " سأل النبي صلى ال عليه وسلم الصحابي الحارث بن مالك النصاري‪ " :‬كيف أصبحتَ‬
‫حقّ حقيقة‪ ،‬فما حقيقة إيمانك؟ " قال‪ :‬عز َفتْ نفسي‬
‫"؟ قال‪ :‬أصبحتُ بال مؤمنا حقا‪ ،‬قال " فإنّ لكل َ‬
‫عن الدنيا‪ ،‬فاستوى عندي ذهبها ومدرها‪ ،‬كأنّي أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعّمون‪ ،‬وإلى أهل‬
‫النار في النار يُعذّبون‪ ،‬فقال له النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬عرفت فالزم "‪.‬‬
‫والمام على ـ رضي ال عنه ـ يعطينا صفة اليقين في قوله‪ :‬لو كُشِف عني الحجاب ما ازددتُ‬
‫يقينا؛ لني صدقت بما قال ال‪ ،‬وليست عيني أصدق عندي من ال‪.‬‬
‫صحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل‪ ]1 :‬مع أن‬
‫ومن هذا اليقين ما ذكرنا في قوله تعالى‪َ {:‬ألَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأ ْ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم وُلِد في هذا العام‪ ،‬فلم يَرَ هذه الحادثة‪ ،‬فالمعنى‪ :‬ألم تعلم‪ ،‬وعدل عن‬
‫(تعلم) إلى (ترى) ليقول النبي صلى ال عليه وسلم أن إخبار ال لك أقوى صِدْقا من رؤية عينيك‪.‬‬

‫(‪)3090 /‬‬

‫عمَاَلهُمْ َفهُمْ َي ْع َمهُونَ (‪)4‬‬


‫إِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالَْآخِ َرةِ زَيّنّا َلهُمْ أَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هؤلء في مقابل الذين آمنوا وأقاموا الصلة وآتوا الزكاة؛ لن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعرض‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ‬
‫الشيء ومقابله لنُجري نحن مقارنة بين المتقابلت‪ ،‬وفي هؤلء يقول تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِي َ‬
‫بِالخِ َرةِ } [النمل‪.]4 :‬‬
‫ل ل يؤمنون بال‪ ،‬ول بالبعث‬
‫ولم يَ ْنفِ عنهم إقامة الصلة أو إيتاء الزكاة‪ ،‬لماذا؟ لنهم أص ً‬
‫والحساب‪ ،‬ولو علموا أنهم سيرجعون إلى ال لمنوا به‪ ،‬ولَقدّموا العمل الصالح‪.‬‬
‫عمَاَلهُمْ } [النمل‪ ]4 :‬أن الذين ل يؤمنون بال‪ ،‬ول يؤمنون بالخرة‪ ،‬ول يُؤدّون‬
‫ومعنى { زَيّنّا َلهُمْ أَ ْ‬
‫مطلوبات اليمان ل عُذْرَ لهم؛ لننا حينما عرضنا اليمان ومطلوباته عرضناه عَرْضا جيدا‬
‫مُستميلً مُشوّقا وزيّناه لكم‪.‬‬
‫فالصلة لقاء بينك وبين ربك يعبر عن دوام الولء‪ ،‬ويعطيك شحنة إيمانية‪ ،‬والزكاة تُؤمّنك حين‬
‫ل بك الفقر‪ ،‬ولما نهيناك عن الكذب‬
‫حّ‬‫ضعفك وعدم قدرتك‪ ،‬فنأخذ منك وأنت غني لنعطيك إنْ َ‬
‫نهينا الناس جميعا أن يكذبوا عليك‪ ،‬ولما حذّرناك من الرشوة قلنا للخرين‪ :‬ل تأكلوا ماله دون‬
‫وَجْه حقّ‪..‬إلخ‪.‬‬
‫وهكذا شرحنا التكاليف وبيّنا الحكمة منها‪ ،‬وحبّبناها إليكم‪.‬‬
‫أو‪ :‬يكون المعنى‪ :‬زيّنّا لهم أعمالهم التي يعملونها‪ ،‬فلما عَلم ال عشْقهم للضلل وللنحراف ختم‬
‫عمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنا }[فاطر‪.]8 :‬‬
‫على قلوبهم‪ ،‬يقول تعالى‪َ {:‬أ َفمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ َ‬
‫عمَاَلهُمْ }[النحل‪ ]63 :‬فالتزيين يأتي مرة من‬
‫لكن مَنِ الذي زيّن لهم‪ {:‬فَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬
‫الشيطان‪ ،‬ومرة مجهول الفاعل‪ ،‬ومرة زيّن ال لهم‪.‬‬
‫لهُ زِينَةً‬
‫ن َومَ َ‬
‫عوْ َ‬
‫ومن تزيين ال قوله تعالى في شأن فرعون‪َ {:‬وقَالَ مُوسَىا رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ‬
‫وََأمْوَالً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّواْ عَن سَبِيِلكَ }[يونس‪ ]88 :‬فلما أعطاهم ال النعمة فُتِنوا بها‪.‬‬
‫وإبليس خلقه ال‪ ،‬وجعل له ذرية تتسلّط على الناس‪ ،‬و ُتغْويهم‪ ،‬وما ذلك إل للختبار ليرى مَنْ‬
‫سيقف على هذه البواب‪ ،‬إذن‪ :‬الحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يجعل حواجز عن المعصية‪ ،‬وجعل‬
‫لكم دوافع على الطاعة‪ ،‬فالمسألة منك أنتَ‪ ،‬فإنْ رأيتُك مِ ْلتَ إلى شيء وأحببته أعنْ ُتكَ عليه‪.‬‬
‫والذي يموت له عزيز‪ ،‬أو المرأة التي يموت ولدها‪ ،‬فتظل حزينة عليه تُكدّر حياتها وحياة مَنْ‬
‫حولها ـ ويا ليت هذا يفيد أو يُعيد الميت ـ ونقول لمن يستقبل قضاء ال بهذا السّخْط‪ :‬إن ربك‬
‫حين يعلم أنك أَِل ْفتَ الحزن وعشقْته وهو رب‪ ،‬فل بُدّ أن يعطيك مطلوبك‪ ،‬ويفتح عَليك كل يوم بابا‬
‫من أبوابه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ينبغي على مَنْ يتعرّض لمثل هذا البلء أنْ يستقبله بالرضا‪ ،‬وإنْ يغلق باب الحزن‪ ،‬ول‬
‫يتركه مواربا‪.‬‬
‫ومن التزيين قوله سبحانه‪ {:‬مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ َلهُ فِي حَرْثِهِ َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى‪.]20 :‬‬
‫ومعنى { َي ْع َمهُونَ } [النمل‪ ]4 :‬يتحيرون ويضطربون‪ ،‬ل يعرفون أين يذهبون؟‬

‫(‪)3091 /‬‬

‫أُولَ ِئكَ الّذِينَ َل ُهمْ سُوءُ ا ْل َعذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِ َرةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (‪)5‬‬

‫أي‪ :‬العذاب السيء‪ ،‬وهذا في الخرة‪ ،‬فبالضافة إلى ما حدث لهم من تقتيل في بدر‪ ،‬وهزيمة‬
‫كسرتْ شوكتهم فلم ينته المر عند هذا الحد‪ ،‬إنما هناك خسارة أخرى في الخرة { وَهُمْ فِي‬
‫الخِ َرةِ ُه ُم الَخْسَرُونَ } [النمل‪.]5 :‬‬
‫والخسر مبالغة في الخسران‪ ،‬فلم َيقُلْ‪ :‬خاسر إنما أخسر؛ لنه خسر النعيم؛ لنه لم يُقدّم صالحا‬
‫في الدنيا‪ ،‬وليته ظل بل نعيم وتُ ِركَ في حاله‪ ،‬إنما يأتيه العذاب الذي يسوؤه؛ لذلك قال تعالى { ُهمُ‬
‫الَخْسَرُونَ } [النمل‪ ]5 :‬لنهم لم يدخلوا الجنة‪ ،‬وهذه خسارة‪ ،‬ثم هم في النار‪ ،‬وهذه خسارة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫(‪)3092 /‬‬

‫حكِيمٍ عَلِيمٍ (‪)6‬‬


‫وَإِ ّنكَ لَتَُلقّى ا ْلقُرْآَنَ مِنْ َلدُنْ َ‬

‫يعني‪ :‬هذه المسائل والقضايا إنما تأتيك من ال الحكيم الذي يضع الشيء في نصابه وفي محله‪،‬‬
‫فإنْ أثاب المحسن أو عاقب المسيء‪ ،‬فكلّ من محلّه‪ ،‬وهو سبحانه العليم بما يضع من الجزاءات‬
‫على الحسنة وعلى السيئة‪.‬‬
‫ويقصّ علينا الحق سبحانه قصة موسى عليه السلم‪ { :‬إِذْ قَالَ مُوسَىا لَهْلِهِ }‬

‫(‪)3093 /‬‬

‫شهَابٍ قَبَسٍ َلعَّلكُمْ َتصْطَلُونَ (‪)7‬‬


‫ستُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِ ْنهَا بِخَبَرٍ َأوْ آَتِيكُمْ ِب ِ‬
‫إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنّي آَنَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عهْد بذكر طرف من قصة موسى ـ عليه السلم ـ في سورة الشعراء‪ ،‬وهنا يعود‬
‫ما زِلْنا قريبي َ‬
‫السياق إليه مرة أخرى‪ ،‬لماذا؟ لن دعوة موسى ـ عليه السلم ـ أخذت حيّزا كبيرا من القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ذلك لنهم أتبعوا أنبياءهم وعاندوهم حتى كَثّر الكلم عنهم‪.‬‬
‫وعجيب أنهم يفخرون بكثرة أنبيائهم‪ ،‬وهم ل يعلمون أنها تُحسب عليهم ل لهم‪ ،‬فالنبي ل يأتي إل‬
‫عند شقْوة أصحابه‪ ،‬وبنوا إسرائيل كانوا من الضلل والعناد بحيث لَ يكفيهم رسول واحد‪ ،‬بل‬
‫يلزمهم (كونسلتو) من النبياء‪ ،‬فهم يعتبرونها مفخرة‪ ،‬وهي مَنْقصة ومذمّة‪.‬‬
‫أما تكرار قصة بني إسرائيل وموسى ـ عليه السلم ـ كثيرا في القرآن‪ ،‬فلن القرآن ل يروي‬
‫(حدوتة) و‪ ،‬ل يذكر أحداثا للتأريخ لها‪ ،‬إنما يأتي من القصة بما يناسب موطن العبرة والتثبيت‬
‫سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ }[هود‪.]120 :‬‬
‫لفؤاد رسول ال‪َ {:‬وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ‬
‫لن رسول ال صلى ال عليه وسلم تعرّض في رحلة الدعوة لكثير من المصاعب والمشاقّ‪،‬‬
‫ويحتاج لتسلية وتثبيت‪ ،‬فيأتي له ربّه بلقطة معينة‪ ،‬ولكن ل يُورد القصة كاملة‪ ،‬وهذا ليس عَجْزا‬
‫ـ وحاشا ل ـ عن إيراد القصة كاملة مرة واحدة‪.‬‬
‫وقد أورد سبحانه قصة يوسف ـ عليه السلم ـ كاملة من اللف إلى الياء في صورة قصة‬
‫محبوكة على أتمّ ما يكون الفن القصصي‪ ،‬ومع ذلك لم يأتِ لسيدنا يوسف عليه السلم ِذكْر ـ في‬
‫غير هذه القصة ـ إل في موضعين‪:‬‬
‫سفَ }[النعام‪.]84 :‬‬
‫ن وَأَيّوبَ وَيُو ُ‬
‫أحدهما‪ :‬في سورة النعام‪َ {:‬ومِن ذُرّيّتِهِ دَاوُو َد وَسُلَ ْيمَا َ‬
‫شكّ ّممّا جَآ َءكُـمْ بِهِ‬
‫سفُ مِن قَ ْبلُ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا زِلْ ُتمْ فِي َ‬
‫والخر في سورة غافر‪ {:‬وََلقَدْ جَآ َءكُـمْ يُو ُ‬
‫حَتّىا ِإذَا هََلكَ قُلْ ُتمْ لَن يَ ْب َعثَ اللّهُ مِن َبعْ ِدهِ رَسُولً }[غافر‪.]34 :‬‬
‫عجْزا عن إيرادها مُسْتوفاة كاملة في سياق‬
‫إذن‪ :‬ورود القصة في لقطات مختلفة متفرقة ليس َ‬
‫واحد‪ ،‬ولو فعل ذلك لكان التثبيت مرة واحدة‪.‬‬
‫ستُ نَارا } [النمل‪ ،]7 :‬وفي موضع آخر‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِذْ قَالَ مُوسَىا لَهْلِهِ إِنّي آنَ ْ‬
‫ستُ نَارا }[القصص‪ ]29 :‬وفي هذه الية إضافة جديدة ليست في‬
‫ل لَهْلِهِ ا ْمكُثُواْ إِنّي آنَ ْ‬
‫يقول‪ {:‬قَا َ‬
‫الولى‪.‬‬
‫ل وَسَارَ بَِأهْلِهِ آنَسَ مِن جَا ِنبِ الطّورِ نَارا }[القصص‪:‬‬
‫جَ‬‫أما قوله تعالى‪ {:‬فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ‬
‫‪ ]29‬أي‪ :‬آنس في ذاته‪ ،‬أمّا في اليتين السابقتين فيخبر بأنه آنسَ نارا‪ ،‬إذن‪ :‬كل آية في موقف‪،‬‬
‫وليس في المر تكرار‪ ،‬كما يتوهمّ البعض‪.‬‬
‫فموسى ـ عليه السلم ـ يسير بأهله في هذا الطريق الوَعْر ويحلّ عليه الظلم‪ ،‬ول يكاد يرى‬
‫ستُ نَارا } [النمل‪ ]7 :‬يعني‪ :‬سأذهب لقتبسَ منها‪ ،‬ليهتدوا بها‪،‬‬
‫الطريق فيقول لزوجته‪ { :‬إِنّي آ َن ْ‬
‫أو ليستدفئوا بها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وطبيعي أنْ تعارضه زوجته‪ :‬كيف تتركني في هذا المكان المُوحِش وحدي‪ ،‬فيقول لها{ ا ْمكُثُواْ إِنّي‬
‫ستُ نَارا }[القصص‪ ]29 :‬يعني‪ :‬أبقىْ هنا مستريحة‪ ،‬وأنا الذي سأذهب‪ ،‬فلربما تعرّضت‬
‫آنَ ْ‬
‫لمخاطر فكُوني أنت بعيدا عنها‪ ،‬إذن‪ :‬هي مواقف جديدة استدعاها الحال‪ ،‬ليست تكرارا‪.‬‬
‫كذلك نجد اختلفا طبيعيا في قوله‪ّ {:‬لعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا بِخَبَرٍ }[القصص‪ ]29 :‬وقوله } سَآتِي ُكمْ مّ ْنهَا‬
‫بِخَبَرٍ { [النمل‪.]7 :‬‬
‫فالولى{ ّلعَلّي }[القصص‪ ]29 :‬فيها رجاء؛ لنه مُقبل على شيء يشكّ فيه‪ ،‬وغير متأكد منه‪ ،‬وهو‬
‫في هذه الحالة صادق مع خواطر نفسه أمام شيء غائب عنه‪ ،‬فلما تأكد قال } سَآتِيكُمْ { [النمل‪]7 :‬‬
‫على وجه اليقين‪.‬‬
‫ج ْذ َوةٍ }[القصص‪ ]29 :‬وهنا قال‪ } :‬سَآتِي ُكمْ‬
‫وفي هذه المسألة قال مرة‪ّ {:‬لعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا ِبخَبَرٍ َأوْ َ‬
‫شهَابٍ قَبَسٍ ّلعَّلكُمْ َتصْطَلُونَ { [النمل‪.]7 :‬‬
‫مّ ْنهَا بِخَبَرٍ َأوْ آتِيكُمْ بِ ِ‬
‫ذلك لنه ل يدري حينما يصل إلى النار‪ ،‬أيجدها مشتعلة لها لسان يقتبس من شعلة‪ ،‬أم يجدها قد‬
‫هدأتْ ولم يَبْقَ منها إل جذوة‪ ،‬وهي القطعة المتوهجة مثل الفحم مثلً‪ ،‬فكلّ تكرار هنا له موضع‪،‬‬
‫وله معنى‪ ،‬ويضيف شيئا جديدا إلى سياق القصة‪ ،‬فهو تكامل في اللقطات تأتي متفرقة حَسْب‬
‫المراد من العبرة والتثبيت‪.‬‬
‫ومعنى } لَهِْلهِ { [النمل‪ ]7 :‬قالوا‪ :‬إنها تعني جماعة بدليل قوله لهم{ ا ْمكُثُواْ }[القصص‪]29 :‬‬
‫فكانت زوجته‪ ،‬ومعه أيضا بعض الرّعْيان أو الخدم‪ .‬والنسان منا يحتاج لشياء كثيرة تقتضي‬
‫التعدّد‪ :‬فهذا يطبخ الطعام‪ ،‬وهذا للنظافة‪ ،‬وهذا ِل َكيّ الملبس‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫لكن هناك شيء واحد ل يستطيع أحد أنْ يقضيَه لك إل زوجتك‪ ،‬هي النسْل والمعاشرة الزوجية‪،‬‬
‫كما يمكن للزوجة وحدها أن تقوم لك بكل هذه العمال‪ ،‬إذن‪ :‬فهي ُتغْني عن الهل كلهم‪،‬‬
‫ونستطيع أن نقول‪ :‬إنه لم يكُنْ معه إل زوجته‪.‬‬
‫وهذه شائعة في لغتنا‪ :‬يقول الرجل‪ :‬الجماعة أو جماعتي أو أهلي ويقصد زوجته‪ ،‬وفي هذا تقدير‬
‫من الزوج لمكانة زوجته‪.‬‬
‫ستُ { [النمل‪ ]7 :‬آنس‪ :‬يعني شعر وأحسّ بشيء يُؤنسه ويُطمئنه‪ ،‬وضده التوجس‪ :‬أي‬
‫ومعنى } آنَ ْ‬
‫سهِ خِيفَةً مّوسَىا‬
‫جسَ فِي َنفْ ِ‬
‫شعر وأحسّ بشيء يخيفه‪ ،‬ومنه قوله تعالى في شأن موسى أيضا‪ {:‬فََأوْ َ‬
‫ت الَعْلَىا }[طه‪67 :‬ـ ‪.]68‬‬
‫خفْ إِ ّنكَ أَن َ‬
‫* قُلْنَا لَ تَ َ‬

‫(‪)3094 /‬‬

‫حوَْلهَا وَسُبْحَانَ اللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)8‬‬


‫فََلمّا جَاءَهَا نُو ِديَ أَنْ بُو ِركَ مَنْ فِي النّا ِر َومَنْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي‪ :‬جاء النار فـ { نُو ِديَ } [النمل‪ ]8 :‬النداء‪ :‬طلب إقبال‪ ،‬كما تقول‪ :‬يا فلن‪ ،‬فيأتيك فتقول له ما‬
‫تريد‪ .‬فالنداء مثلً في قوله تعالى‪ {:‬يامُوسَىا }[طه‪ ]11 :‬نداء{ إِنّنِي أَنَا اللّهُ }[طه‪ ]14 :‬خطاب‬
‫وإخبار‪.‬‬
‫حوَْلهَا } [النمل‪ ]8 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬يا موسى فليس‬
‫لكن ما معنى { نُو ِديَ أَن بُو ِركَ مَن فِي النّا ِر َومَنْ َ‬
‫هنا نداء‪ ،‬قالوا‪ :‬مجرد الخطاب هنا يُراد به النداء؛ لنه ما دام يخاطبه فكأنه يناديه‪ ،‬ومثال ذلك‬
‫ل وَجَدتّم مّا‬
‫حقّا َفهَ ْ‬
‫جدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا َ‬
‫قوله سبحانه‪ {:‬وَنَادَى َأصْحَابُ الْجَنّةِ َأصْحَابَ النّارِ أَن قَ ْد وَ َ‬
‫حقّا }[العراف‪.]44 :‬‬
‫وَعَدَ رَ ّبكُمْ َ‬
‫فذكر الخطاب مباشرة دون نداء؛ لن النداء هنا مُقدّر معلوم من سياق الكلم‪ ،‬ومنه أيضا‪{:‬‬
‫ج ْم ُعكُمْ َومَا كُنْتُمْ‬
‫ب الَعْرَافِ ِرجَالً َيعْ ِرفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَىا عَنكُمْ َ‬
‫وَنَادَىا َأصْحَا ُ‬
‫تَسْ َتكْبِرُونَ }[العراف‪.]48 :‬‬
‫ومنه أيضا‪ {:‬فَنَادَاهَا مِن تَحْ ِتهَآ َألّ َتحْزَنِي }[مريم‪ ]24 :‬فجعل الخطاب نفسه هو النداء‪.‬‬
‫حوَْلهَا } [النمل‪ ]8 :‬كلمة بُورِك ل تناسب النار؛ لن النار‬
‫وقوله‪ { :‬أَن بُو ِركَ مَن فِي النّا ِر َومَنْ َ‬
‫خلْق ل يُحرق‪ ،‬ول‬
‫تحرق‪ ،‬وما دام قال { بُو ِركَ مَن فِي النّارِ } [النمل‪ ]8 :‬فل ُبدّ أن مَنْ في النار َ‬
‫تؤثر فيه النار‪ ،‬فمَنْ هم الذين ل تؤثر فيهم النار‪ ،‬هم الملئكة‪.‬‬
‫وقد رأى موسى عليه السلم ـ مشهدا عجيبا‪ ،‬رأى النار تشتعل في فرع من الشجرة‪ ،‬فالنار‬
‫خضْرة‪ ،‬فلن النار تحرق الخضرة ول رطوبة الخضرة ومائيتها تطفىء‬
‫تزداد‪ ،‬والفرع يزداد ُ‬
‫النار‪ ،‬فمَنْ يقدر على هذه المسألة؟ لذلك قال بعدها‪ { :‬وَسُبْحَانَ اللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [النمل‪.]8 :‬‬
‫ن تقول‪ :‬كيف‪ ،‬بل نزّه ال عن تصرفاتك أنت‪ ،‬فهذا عجيب ل يُتصوّر‬
‫ففي مثل هذا الموقف إياك أ ْ‬
‫بالنسبة لك‪ ،‬أمّا عند ال فأمر يسير‪.‬‬
‫وقد رأينا مثل هذه المعجزة في قصة إبراهيم ـ عليه السلم ـ حين نجّاه ربه من النار‪ ،‬ولم يكُنْ‬
‫المقصود من هذه الحادثة نجاة إبراهيم فقط‪ ،‬فلو أن ال أراد نجاته فحسب َلمَا أمكنهم منه‪ ،‬أو‬
‫لطفأ النار التي أوقدوها بسحابة ممطرة‪ ،‬أسباب كثيرة كانت مُمكِنة لنجاة سيدنا إبراهيم‪.‬‬
‫لكن ال تعالى أرادهم أنْ يُمسِكوا به‪ ،‬وأنْ ُيلْقوه في النار‪ ،‬وهي على حال اشتعالها وتوهّجها‪ ،‬ثم‬
‫يُلْقونه في النار بأنفسهم‪ ،‬وهم يروْنَ هذا كله عَيَانا‪ ،‬ثم ل تؤذيه النار‪ ،‬كأنه يقول لهم‪ :‬أنا أريد أن‬
‫أنجيه من النار‪ ،‬رغم قوة أسبابكم في إحراقه‪ ،‬فأنا خالق النار ومعطيها خاصية الحراق‪ ،‬وهي‬
‫مُؤتمرةٌ بأمري أقول لها‪ :‬كُونِي بَرْدا وسلما تكون‪ ،‬فالمسألة ليست ناموسا وقاعدة تحكم الكون‪،‬‬
‫إنمَا هي قيوميتي على خَلْقي‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ما رآه موسى ـ عليه السلم ـ من النار التي تشتعل في خضرة الشجرة أمر عجيب‬
‫عندكم‪ ،‬وليس عجيبا عند مَنْ له طلقة القدرة التي تخرق النواميس‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبناء الفعل { بُو ِركَ } [النمل‪ ]8 :‬للمجهول تعني‪ :‬أن ال تعالى هو الذي يبارك‪ ،‬فهذه مسألة ل‬
‫حوَْلهَا } [النمل‪ ]8 :‬يجوز أن يكون الملئكة‪ ،‬أو‪ :‬بُورِكت‬
‫يقدر عليها إل ال { مَن فِي النّا ِر َومَنْ َ‬
‫الشجرة ذاتها لنها ل تُحرق‪ ،‬أو النار لنها ل تنطفىء فهي مُباركة‪.‬‬
‫وفي موضع آخر يُوسّع دائرة البركة‪ ،‬فيقول سبحانه‪ {:‬فِي الْ ُبقْعَةِ ا ْلمُبَا َركَةِ مِنَ الشّجَ َرةِ }[القصص‪:‬‬
‫‪.]30‬‬
‫ثم يخاطب الحق سبحانه موسى‪ { :‬يامُوسَىا إِنّهُ أَنَا اللّهُ }‬

‫(‪)3095 /‬‬

‫حكِيمُ (‪)9‬‬
‫يَا مُوسَى إِنّهُ أَنَا اللّهُ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬

‫جاء هنا النداء على حقيقته بأداة ومنادى { إِنّهُ أَنَا اللّهُ } [النمل‪ ]9 :‬هذا هو الصل‪ ،‬وما ُد ْمتُ أن‬
‫ال فل تتعجّب مما ترى‪ ،‬وساعةَ تسمع مَنْ يكلّمك دون أن ترى متكلما من جنسك‪ ،‬فل تتعجب‬
‫ول تندهش‪.‬‬

‫(‪)3096 /‬‬

‫خفْ إِنّي لَا َيخَافُ َل َديّ‬


‫ن وَلّى مُدْبِرًا وَلَمْ ُيعَ ّقبْ يَا مُوسَى لَا تَ َ‬
‫عصَاكَ فََلمّا رَ َآهَا َتهْتَزّ كَأَ ّنهَا جَا ّ‬
‫وَأَلْقِ َ‬
‫ا ْلمُرْسَلُونَ (‪)10‬‬

‫ونلحظ أن هنا تفاصيلَ وأحداث لم تذكرها الية هنا‪ ،‬و ُذكِرَت في موضع آخر في قوله تعالى‪{:‬‬
‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي وَلِيَ فِيهَا مَآ ِربُ‬
‫َومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا * قَالَ ِهيَ َ‬
‫أُخْرَىا }[طه‪17 :‬ـ ‪.]18‬‬
‫والدب يقتضي أن يأتي الجواب على َقدْر السؤال‪ ،‬لكن موسى ـ عليه السلم ـ أراد أنْ يطيل‬
‫أمد الُنْس بال والبقاء في حضرته تعالى‪ ،‬ولما أحسّ موسى أنه أطال في هذا المقام أجمل‪ ،‬فقال‪{:‬‬
‫وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا }[طه‪ ]18 :‬فللعصا مهام أخرى كثيرة في حياته‪.‬‬
‫عصَاكَ } [النمل‪ ]10 :‬يعني‪ :‬إنْ كانت العصا بالنسبة لك بهذه‬
‫وهنا يقول سبحانه‪ { :‬وَأَلْقِ َ‬
‫البساطة‪ ،‬وهذه مهمتها عندك فلها عندي مهمة أخرى‪ ،‬فانظر إلى مهمتها عندي‪ ،‬وإلى ما ل تعرفه‬
‫عنها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عصَاكَ } [النمل‪ ]10 :‬فلمّا ألقى موسى عصاه وجدها { َتهْتَزّ كَأَ ّنهَا جَآنّ } [النمل‪]10 :‬‬
‫{ وَأَ ْلقِ َ‬
‫يعني‪ :‬حية تسعى وتتحرك‪ ،‬والعجيب أنها لم تتحول إلى شيء من جنسها‪ ،‬فالعصا عود من‬
‫خشب‪ ،‬كان فرعا في شجرة‪ ،‬فجنسه النبات ولما قُطعت وج ّفتْ صارت جمادا‪ ،‬فلو عادت إلى‬
‫النباتية يعني‪ :‬إلى الجنس القريب منها واخضرتْ لكانت عجيبة‪.‬‬
‫أمّا الحق ـ تبارك وتعالى ـ فقد نقلها إلى جنس آخر إلى الحيوانية‪ ،‬وهذه قفزة كبيرة تدعو إلى‬
‫الدهشة بل والخوف‪ ،‬خاصة وهي { َتهْتَزّ كَأَ ّنهَا جَآنّ } [النمل‪ ]10 :‬أي‪ :‬تتحرك حركة سريعة هنا‬
‫وهناك‪.‬‬
‫وطبيعي في نفسية موسى حين يرى العصا التي في يده على هذه الصورة أنْ يخاف ويضطرب{‬
‫ت الَعْلَىا }[طه‪67 :‬ـ ‪.]68‬‬
‫خفْ إِ ّنكَ أَن َ‬
‫فََأوْجَسَ فِي َنفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىا * قُلْنَا لَ تَ َ‬
‫ومعنى‪ {:‬الَعْلَىا }[طه‪ ]68 :‬إشارة إلى أنه تعالى يُعده لمهمة كبرى‪ ،‬وأن لهذه العصا دورا من‬
‫الخصوم‪ ،‬وسوف ينتصر عليهم‪ ،‬ويكون هو العلى‪.‬‬
‫وحين تتتبع اللقطات المختلفة لهذه القصة تجدها مرة (جان) ومرة (حية) ومرة (ثعبان)‪ ،‬وهي كلها‬
‫حالت للشيء الواحد‪ ،‬فالجان فَرْخ الثعبان‪ ،‬وله مِن خفة الحركة ما ليس للثعبان‪ ،‬والحية هي‬
‫الثعبان الضخم‪.‬‬
‫وقوله تعالى { وَلّىا مُدْبِرا } [النمل‪ ]10 :‬يعني‪ :‬انصرف عنها وأعطاها ظهره { وَلَمْ ُي َع ّقبْ }‬
‫عقِبه ويرجع‪ ،‬والمعنى أنه انصرف عنها ولم‬
‫[النمل‪ ]10 :‬نقول‪ :‬فلن يُعقّب يعني‪ :‬يدور على َ‬
‫خفْ إِنّي لَ يَخَافُ َل َديّ ا ْلمُرْسَلُونَ }‬
‫يرجع إليها؛ لذلك ناداه ربه سبحانه وتعالى‪ { :‬يامُوسَىا لَ َت َ‬
‫[النمل‪.]10 :‬‬
‫ونلحظ هنا نداءين اثنين يذكر فيهما‪ ،‬المنادى موسى ـ عليه السلم ـ وكأنهما تعويض للنداء‬
‫حوَْلهَا }[النمل‪.]8 :‬‬
‫السابق الذي نُودِي فيه بالخبر{ أَن بُو ِركَ مَن فِي النّا ِر َومَنْ َ‬
‫خفْ } [النمل‪ ]10 :‬ليعلمه أنه سيُضطر إلى معركة‪ ،‬فليكُنْ ثابتَ الجأْش ل‬
‫وعلّة عدم الخوف { لَ َت َ‬
‫جمِعوا من كل أنحاء البلد‪ ،‬وسبق‬
‫يخاف لنّه ل يحارب شخصا بمفرده‪ ،‬إنما جمعا من السّحرة ُ‬
‫أنْ قال له‪:‬‬

‫ت الَعْلَىا }[طه‪ ]68 :‬حتى ل تُرهبه هذه الكثرة‪.‬‬


‫{ إِ ّنكَ أَن َ‬
‫وهنا قال } إِنّي لَ يَخَافُ لَ َديّ ا ْلمُرْسَلُونَ { [النمل‪ ]10 :‬والمعنى‪ :‬ل تخفْ‪ ،‬لني أنا الذي أرسلتُك‪،‬‬
‫وأنا الذي أتولّى حمايتك وتأييدك‪ ،‬كما قال الحق سبحانه في موضع آخر‪:‬‬
‫{ وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َل ُهمُ ا ْلغَالِبُونَ }‬
‫[الصافات‪171 :‬ـ ‪.]173‬‬
‫ن كنتَ بعيدا عني‪ ،‬فكيف وأنت في جواري وأنا معك‪ ،‬وها أنذا‬
‫فأنت معذور في الخوف‪ ،‬إ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أخاطبك؟‬
‫وكان إلقاء العصا من موسى هذه المرة مجرد تجربة (بروفة) ليألف هذه المسألة ويأنس إليها‪،‬‬
‫وتحدث له دُرْبة ورياضة‪ ،‬فإذا ما أجرى هذه العملية أمام فرعون والسحرة أجراها بثقة وثبات‬
‫ويقين من إمكانية انقلب العصا إلى حية‪.‬‬
‫وبعد ذلك يأتي بآية تثبيت منطقة التكليف في البشر حتى الرسل‪ ،‬والرسل أيضا مُكلّفون‪ ،‬وكل‬
‫ل معصومون من المعصية‪ ،‬أما موسى عليه السلم‬
‫مُكلّف يصح أن يطيع أو أن يعصي‪ ،‬لكن الرس َ‬
‫فله حادثة مخصوصة حين وكَز الرجل فسقط ميتا‪ ،‬فقال‪ {:‬وََلهُمْ عََليّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن َيقْتُلُونِ }‬
‫[الشعراء‪.]14 :‬‬
‫وفي موضع آخر يُحدّد هذا الذنب‪ {:‬قَتَ ْلتُ مِ ْنهُمْ َنفْسا فَأَخَافُ أَن َيقْتُلُونِ }[القصص‪.]33 :‬‬
‫ونضع هذه القصة أمامنا لنفهم‪ِ } :‬إلّ مَن ظَلَمَ {‬

‫(‪)3097 /‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪)11‬‬


‫إِلّا مَنْ ظَلَمَ ُثمّ بَ ّدلَ حُسْنًا َبعْدَ سُوءٍ فَإِنّي َ‬

‫إذن‪ :‬فالستثناء هنا من قوله تعالى‪ {:‬إِنّي لَ يَخَافُ َل َديّ ا ْلمُرْسَلُونَ }[النمل‪ ]10 :‬استثنى من ذلك {‬
‫ِإلّ مَن ظََلمَ ثُمّ َب ّدلَ حُسْنا َبعْدَ سُوءٍ } [النمل‪.]11 :‬‬
‫ظلَمَ } [النمل‪:‬‬
‫وكأنه ـ عز وجل ـ يُعرّض بهذه الحادثة الخاصة بموسى عليه السلم‪ِ { :‬إلّ مَن َ‬
‫‪ ]11‬أي‪ :‬حين قتَل القبطي‪ ،‬لكن موسى ـ عليه السلم ـ اعترف بذنبه واستغفر ربه‪ ،‬فقال‪َ {:‬ربّ‬
‫غفِرْ لِي َف َغفَرَ َلهُ }[القصص‪.]16 :‬‬
‫إِنّي ظََل ْمتُ َنفْسِي فَا ْ‬
‫ول كل َم لحد بعد مغفرة ال عز وجل للمذنب؛ لنه بعد أنْ ظلم { ثُمّ َب ّدلَ حُسْنا َبعْدَ سُوءٍ }‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ } [النمل‪.]11 :‬‬
‫[النمل‪ ]11 :‬يعني‪ :‬عمل عملً حسنا بعد الذنب الذي ارتكبه { فَإِنّي َ‬
‫خلْ يَ َدكَ فِي جَيْ ِبكَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََأدْ ِ‬

‫(‪)3098 /‬‬

‫ن َوقَ ْومِهِ إِ ّن ُهمْ كَانُوا‬


‫عوْ َ‬
‫سعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْ َ‬
‫خلْ َي َدكَ فِي جَيْ ِبكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِ ْ‬
‫وَأَدْ ِ‬
‫سقِينَ (‪)12‬‬
‫َق ْومًا فَا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه آية أخرى ومعجزة جديدة‪ ،‬قال عنها في موضع آخر‪ {:‬اسُْلكْ َي َدكَ فِي جَيْ ِبكَ }[القصص‪.]32 :‬‬
‫فما الفرق بين‪َ :‬أدْخِل يدك‪ ،‬واسْلُك يدك؟ قالوا‪ :‬لنه ساعة يُدخِل يده في جيبه يعني‪ :‬في فتحة‬
‫القميص‪ ،‬إنْ كانت فتحة القميص مفتوحة أدخل يده بسهولة فيُسمّى (إدخال)‪.‬‬
‫فإن كانت مغلقة (فيها أزرار مثلً) احتاج أنْ يسلك يده يعني‪ :‬يُدخلها برفق ويُوسّع لها مكانا‪،‬‬
‫نقول‪ :‬سلك الشيء يعني‪ :‬أدخله بلُطْف و ِرفْق‪ ،‬ومنه السلك الرفيع حين تُدخِله في شيء‪.‬‬
‫وساعةَ نسمع كلمة الجيب نجد أن لها معنىً عرفيا بين الناس‪ ،‬ومعنى لُغويا‪ :‬فمعناها في اللغة‬
‫فتحة القميص العليا‪ ،‬والتي تكون للرقبة‪ ،‬وهي في المعنى العُرْفي فتحة بداخل الثوب يضع فيها‬
‫حفْظ نقودهم داخل‬
‫عذْر في ذلك؛ لنهم اضطروا إلى ِ‬
‫النسان نقوده‪ ،‬يقولون (جيب) والعوام لهم ُ‬
‫الثياب‪ ،‬حتى ل تكون ظاهرة‪ ،‬وربما سرقها منهم النشالون والشقياء‪.‬‬
‫ول يزال الفلحون في الريف يجعلون الجيب في (السديري) الداخلي؛ لذلك سمعنا الحاوي مثلً‬
‫يقول ـ ليُحنّن الناس عليه ـ بارك ال فيمَنْ يضع يده في جيبه ـ يعني‪ :‬بارك ال في الذي‬
‫يعطيني جنيها‪.‬‬
‫وقوله تعالى { تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [النمل‪ ]12 :‬أي‪ :‬وأخرجها تخرج بيضاء ناصعة‬
‫مُنوّرة‪ ،‬ومعلوم أن موسى ـ عليه السلم ـ كان آد َم اللون يعني‪ :‬أسمر‪ ،‬فحين يروْنَ لونه تغيّر‬
‫إلى البياض‪ ،‬فربما قالوا‪ :‬إن ذلك مرضٌ كالبرص مثلً‪.‬‬
‫لذلك أزال ال هذا الظنّ بقوله‪ { :‬مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [النمل‪ ]12 :‬من غير مرض { فِي ِتسْعِ آيَاتٍ‬
‫عوْنَ َوقَ ْومِهِ } [النمل‪ ]12 :‬ليعلم موسى ـ عليه السلم ـ أن هذه الية واحدة من تسع‬
‫إِلَىا فِرْ َ‬
‫آيات أخرى يُثبّته ال بها أمام عدوه فرعون وقومه‪.‬‬
‫وهذه التسع هي‪ :‬العصا ولها مهمتان‪ :‬أن تتحول إلى حية أمام السحرة‪ ،‬وأنْ يضرب بها البحر‬
‫أمام جيشه‪ ،‬حينما يهاجمه فرعون وجنوده‪.‬‬
‫خذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِينَ‬
‫ثم اليد‪ ،‬واثنتان هما الجدب‪ ،‬ونقص الثمرات في قوله تعالى‪ {:‬وََلقَدْ أَ َ‬
‫وَنَ ْقصٍ مّن ال ّثمَرَاتِ }[العراف‪.]130 :‬‬
‫ثم‪ :‬الطوفان‪ ،‬والجراد‪ ،‬وال ُقمّل‪ ،‬والضفادع‪ ،‬والدّم‪ .‬هذه تسع آيات‪ .‬تُثبّت موسى أمام فرعون‬
‫وقومه‪ .‬فهل أُرسل موسى ـ عليه السلم ـ إلى فرعون خاصة؟ ل‪ ،‬إنما أُرسِل إلى بني إسرائيل‪،‬‬
‫لكنه أراد أنْ يُقنع فرعون بأنه مُرْسَل من عند ال حتى ل يحول بينه وبينهم‪ ،‬وجاءت مسألة دعوة‬
‫فرعون إلى اليمان بال عَرَضا في أحداث القصة‪ ،‬فليست هي أساسَ دعوة موسى عليه السلم‪.‬‬
‫سقِينَ } [النمل‪ ]12 :‬إشارةً إلى أن النسان وإنْ كان كافرا خارجا عن‬
‫ومعنى { إِ ّن ُهمْ كَانُواْ َقوْما فَا ِ‬
‫طاعة ال إل أنّ أصله من أصلب مؤمنة‪ ،‬والمراد اليمان الول في آدم عليه السلم‪ ،‬وفي ذريته‬
‫من بعده‪ ،‬لكنهم فسقوا أي‪ :‬خرجوا من غشاء التكليف الذي يُغلّف حركة حياتهم‪ ،‬كما نقول‪ :‬فسقت‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرطبة‪ :‬يعني خرجت من غلفها‪ ،‬كذلك َفسَق النسان أي‪ :‬خرج عن حيّز التكليف الصائن له‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََلمّا جَآءَ ْت ُهمْ آيَاتُنَا }‬

‫(‪)3099 /‬‬

‫سحْرٌ مُبِينٌ (‪)13‬‬


‫فََلمّا جَاءَ ْتهُمْ آَيَاتُنَا مُ ْبصِ َرةً قَالُوا َهذَا ِ‬

‫اليات‪ :‬المعجزات التي تُثبت صِدْق الرسول‪ ،‬واليات تكون مُ ْبصَرة بصيغة اسم المفعول‪ ،‬لكن‬
‫كيف تكون هي المبصرة بصيغة اسم الفاعل‪ ،‬وهذه المسألة عرفناها أخيرا‪ ،‬فكانوا منذ القدم عند‬
‫اليونان والحضارات القديمة يظنون أن رؤية العين للشياء تحدث من شعاع يخرج من العين إلى‬
‫الشيء المرئي‪ ،‬إلى أن جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم ليثبت خطأ هذه النظرية ويقول بعكسها‪.‬‬
‫فالرؤية تتم بخروج شعاع من الشيء المرئيّ إلى العين‪ ،‬بدليل أننا ل نرى الشيء إنْ كان في‬
‫الظلم‪ ،‬وأنت في النور‪ ،‬فإنْ كان الشيء في النور وأنت في الظلم تراه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكأن اليات نفسها هي المبصِرة؛ لنها هي التي ترسل الشعة التي تسبب الرؤية‪ .‬أو‪ :‬أن‬
‫اليات من الوضوح كأنها ُتلِحّ على الناس أنْ يروْا وأنْ يتأملوا‪ ،‬فكأنها أبصرُ منهم للحقائق‪.‬‬
‫حدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَتْهَآ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وجَ َ‬

‫(‪)3100 /‬‬

‫سدِينَ (‪)14‬‬
‫سهُمْ ظُ ْلمًا وَعُُلوّا فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْلمُفْ ِ‬
‫حدُوا ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَا أَ ْنفُ ُ‬
‫وَجَ َ‬

‫سهُمْ } [النمل‪:‬‬
‫جحَدُواْ } [النمل‪ ]14 :‬أي‪ :‬باللسان { ِبهَا } [النمل‪ ]14 :‬باليات { وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ‬
‫{ وَ َ‬
‫‪ ]14‬أي‪ :‬إيمانا بها‪ ،‬إذن‪ :‬المسألة عناد ولَدَد في الخصومة؛ لذلك قال تعالى بعدها { ظُلْما وَعُُلوّا }‬
‫سدِينَ } [النمل‪ ]14 :‬وترْك‬
‫[النمل‪ ]14 :‬أي‪ :‬استكبارا عن الحق { فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمفْ ِ‬
‫عاقبتهم مبهمة لتعظيم شأنها وتهويلها‪.‬‬
‫ثم يترك قصة موسى مع فرعون وما كان من أمرهما لمناسبة أخرى تحتاج إلى تثبيت آخر‪،‬‬
‫وينتقل إلى قصة أخرى في موكب النبياء‪ ،‬فيها هي الخرى مواطن للعِبْرة وللتثبيت‪ { :‬وََلقَدْ آتَيْنَا‬
‫دَاوُو َد وَسُلَ ْيمَانَ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3101 /‬‬

‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي َفضّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)15‬‬
‫وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَ ْيمَانَ عِ ْلمًا َوقَالَا الْ َ‬

‫وتسأل‪ :‬لقد أعطى ال داود وسليمان ـ عليهما السلم ـ ِنعَما كثيرة غير العلم ‪َ ،‬ألَن لداود‬
‫الحديد‪ ،‬وأعطى سليمان مُلْكا ل ينبغي لحد من بعده‪ ،‬وسخّر له الريح والجن‪ ،‬وعلّمه منطق‬
‫الطير‪ ..‬إلخ ومع ذلك لم يمتنّ عليهما إل بالعلم وهو منهج الدين؟‬
‫قالوا‪ :‬لن العلم هو النعمة الحقيقية التي يجب أن يفرح بها المؤمن‪ ،‬ل الملْك ول المال‪ ،‬ول الدنيا‬
‫كلها‪ ،‬فلم يُعتد بشيء من هذا كله؛ لذلك حمد ال على أن آتاه ال العلم؛ لنه النعمة التي يحتاج‬
‫إليها كل الخَلْق‪ ،‬أما المُلْك أو الجاه أو تسخير الكون لخدمته‪ ،‬فيمكن للنسان الستغناء عنها‪.‬‬
‫والمام علي ـ كرم ال وجهه ـ حينما ُنفِى أبو ذر؛ لنه كان يتكلم عن المال وخطره والبنية‬
‫ومسائل الدنيا‪ ،‬فَ َن َفوْه إلى الربذة حتى ل يثير فتنة‪ ،‬لكنه قبل أن يذهب مرّ بالمام علي كي يتوسط‬
‫له ليعفوا عنه‪ ،‬لكن المام عليا ـ رضي ال عنه ـ أراد ألّ يتدخل في هذه المسألة حتى ل يقال‪:‬‬
‫إن عليا سلّط أبا ذر على معارضة أهل الدنيا ومهاجمتهم‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أبا ذر إنك قد غضبتَ ل‬
‫خفْتهم أنت على دينك فاهرب بما‬
‫ن غضبتَ له‪ ،‬فإن القوم خافوك على دُنْياهم ومُلكهم‪ ،‬و ِ‬
‫فارْجُ مَ ْ‬
‫خفْتَهم عليه ـ يعني‪ :‬اهرب بدينك ـ واترك ما خافوك عليه‪ ،‬فما أحوجهم إلى ما منعتهم‪ ،‬وما‬
‫ِ‬
‫عمّا منعوك‪.‬‬
‫أغناك َ‬
‫هكذا أزال المام هذه الشكال‪ ،‬وأظهر أهمية العلم ومنهج ال بحيث ل يستغني عنه المسلم بحال‬
‫من الحوال‪ ،‬ول يعيش بدونه‪ ،‬وبه ينال حياة أخرى رفعية باقية‪ ،‬في حين يستطيع النسان أن‬
‫يعيش بدون المال وبدون الملك‪.‬‬
‫ولذلك يبعث خيلفة المسلمين إلى سيدنا جعفر الصادق‪ :‬يا ابن بنت محمد صلى ال عليه وسلم ما‬
‫لك ل تغشانا كما يغشانا الناس؟ أي‪ :‬تأتينا وتجالسنا وتسمر معنا‪ ،‬فقال‪ :‬ليس عندي من الدنيا ما‬
‫أخافك عليه ـ يعني‪ :‬ليس عندي مال تصادره ـ وليس عندك من الخرة ما أرجوك له‪ .‬وهذا‬
‫نفس المنطق الذي تكلم به المام علي‪.‬‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي َفضّلَنَا عَلَىا كَثِيرٍ مّنْ عِبَا ِدهِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [النمل‪ ]15 :‬فالحمد‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬وقَالَ ا ْل َ‬
‫حفْظ منهج ال‪ ،‬وفي الية مظهر من مظاهر أدب النبوة‪ ،‬حيث قال { َفضّلَنَا‬
‫هنا على نعمة العلم و ِ‬
‫حجْرا‬
‫عَلَىا كَثِيرٍ مّنْ عِبَا ِدهِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [النمل‪ ]15 :‬فكأن هناك مَنْ هم أفضل مِنّا‪ ،‬وليس التفضيل َ‬
‫علينا‪ ،‬وهذا من تواضعهما عليهما السلم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ووَ ِرثَ سُلَ ْيمَانُ دَاوُودَ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3102 /‬‬

‫شيْءٍ إِنّ هَذَا َل ُهوَ‬


‫طقَ الطّيْ ِر وَأُوتِينَا مِنْ ُكلّ َ‬
‫َووَرِثَ سُلَ ْيمَانُ دَاوُو َد َوقَالَ يَا أَ ّيهَا النّاسُ عُّلمْنَا مَنْ ِ‬
‫ا ْل َفضْلُ ا ْلمُبِينُ (‪)16‬‬

‫قوله سبحانه‪َ { :‬ووَرِثَ سُلَ ْيمَانُ دَاوُودَ } [النمل‪ ]16 :‬أي‪ :‬بقيتْ فيه النبوة وحمل المنهج‪ ،‬ل الملك‬
‫لن النبياء ل تورث كما جاء في الحديث الشريف‪ " :‬نحن معاشر النبياء ل نورث ما تركناه‬
‫صدقة "‬
‫وهذا يدل على أن سليمان جاء بعد داود‪ ،‬وقد ورث عنه النبوة مع أنهما متعاصران‪ ،‬بدليل قوله‬
‫شتْ فِيهِ غَ َنمُ ا ْل َقوْ ِم َوكُنّا‬
‫ح ُكمَانِ فِي ا ْلحَ ْرثِ إِذْ َنفَ َ‬
‫تعالى في موضع آخر‪ {:‬وَدَاوُو َد وَسُلَ ْيمَانَ ِإذْ يَ ْ‬
‫ح ْك ِمهِمْ شَاهِدِينَ }[النبياء‪.]78 :‬‬
‫لِ ُ‬
‫إذن‪ :‬كان سليمان مع داود في هذه الحكومة وفي العلم‪ ،‬لكن الحق سبحانه جعل العلم منازل‪ ،‬بدليل‬
‫أنه قال‪َ {:‬ف َف ّهمْنَاهَا سُلَ ْيمَانَ }[النبياء‪ ]79 :‬مع أن أباه موجود‪ ،‬وحكم في القضية بأن يأخذ صاحبُ‬
‫الزرع الغنم التي أكلت‪.‬‬
‫فلما خرجوا من عند داود سألهم سليمان عن حكم أبيه‪ ،‬فأخبروه بما قال‪ ،‬فقال سليمان‪ :‬بل يأخذ‬
‫صاحب الزرع الغنم ينتفع بها‪ ،‬ويأخذ صاحب الغنم الزرع يصلحه حتى يعود كما كان‪ ،‬وعندها‬
‫يأخذ صاحب الغنم غنمه‪ ،‬وصاحب الزرع زرعه‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ يعطينا هذا المثل مع نبي وأبيه‪ ،‬ل مع نبيين مختلفين بعيدين‪ ،‬وفي هذا‬
‫إشارة أن حقّ البوة على سليمان لم يمنعه من مخالفة أبيه في الحكم؛ لن ال تعالى قال عنهما{‬
‫ل منهما يحكم على مقتضى علمه الذي منحه ال‪.‬‬
‫حكْما وَعِلْما }[النبياء‪ ]79 :‬فك ّ‬
‫َوكُلّ آتَيْنَا ُ‬
‫ومن هذه الحادثة أخذنا مشروعية الستئناف والنقض وفي أحكام المحاكم‪ ،‬فقاضي الستئناف‬
‫حينما يُعدّل في حكم القاضي البتدائي ل ُيعَدّ هذا طعْنا فيه‪ ،‬إنما كل منهما حكم بناءً على علمه‪،‬‬
‫وعلى ما توفّر له من أدلة ووقائع‪ ،‬وربما فطِن القاضي الثاني لما لم يفطِنْ له القاضي الول‪.‬‬
‫إذن‪َ { :‬ووَرِثَ سُلَ ْيمَانُ دَاوُودَ } [النمل‪ ]16 :‬ل تعني أنه جاء بعده‪ ،‬إنما هما متعاصران‪ ،‬وورثه‬
‫في العلم والنبوة والحكمة‪ ،‬ل في الملْك والمال؛ لن ال تعالى يريد أن يكون الرسول بعيدا في‬
‫رسالته وتبليغه عن ال عن أيّ نفع يجيء له‪ ،‬أو لذريته‪.‬‬
‫لذلك كان الفقراء من أهل النبي صلى ال عليه وسلم ل يأخذون من زكاة المؤمنين‪ ،‬لكن أين هذا‬
‫التشريع الحكيم مما يحدث الن من الحكام والرؤساء والمسئولين ممّنْ يوالون أقاربهم‪ ،‬وينهبون‬
‫البلد من أجلهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ َوقَالَ ياأَ ّيهَا النّاسُ عُّلمْنَا مَنطِقَ الطّيْرِ } [النمل‪ ]16 :‬فالطير له منطق ولغة؛ لنه كما قال‬
‫ض َولَ طَائِرٍ َيطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ }[النعام‪ ]38 :‬والن‬
‫تعالى‪َ {:‬ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْر ِ‬
‫ومع تقدّم العلم يتحدث العلماء عن لغة للنمل‪ ،‬ولغة للنحل‪ ،‬ولغة للسمك‪..‬إلخ‪.‬‬
‫وهذه المخلوقات تتفاهم بلغاتها بدقّة تفاهم غريزي‪ ،‬لكننا ل نفهم هذا المنطق‪ ،‬والحق ـ تبارك‬
‫حهُمْ }‬
‫ح ْم ِد ِه وَلَـاكِن لّ َت ْفقَهُونَ تَسْبِي َ‬
‫شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ‬
‫وتعالى ـ يُعلّمنا‪ {:‬وَإِن مّن َ‬

‫ق ومقال‪ ،‬نقول‪ :‬طالما أن ال تعالى‬


‫[السراء‪ .]44 :‬فإنْ قلتَ كمَنْ قالوا‪ :‬هو تسبيح دللة ل منط َ‬
‫حهُمْ }[السراء‪ ]44 :‬فل بُدّ أنه مقال وكلم‪ ،‬ولكن أنت ل تفهمه‪.‬‬
‫قال{ وَلَـاكِن لّ َت ْف َقهُونَ تَسْبِي َ‬
‫وعلماء اللغة يقولون‪ :‬إن النطق خاصّ بالنسان‪ ،‬أما ما تُحدثه الحيوانات والطيور فأصوات‬
‫خوَار البقر ونقيق الضفادع‪ ،‬لكن هذه‬
‫تُحدِثها في كل وقت‪ ،‬مثل مواء القطة‪ ،‬ونُباح الكلب‪ ،‬و ُ‬
‫الصوات لها معنى (فنونوه) القطة حين تجوع غير (نونوتها) حين تخاف‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهي تُعبّر‪ ،‬لكننا ل نعرف هذه التعبيرات‪ ،‬كيف ونحن البشر ل يعرف بعضنا لغات بعض؛‬
‫لننا لم نتعلمها‪ ،‬وللغة ضرورة اجتماعية نتواضع عليها أي‪ :‬نتفق أن هذا اللفظ يعني كذا‪ ،‬فإذا‬
‫نطقتَ به أفهمك‪ ،‬وإن نطقتُ به تفهمني‪.‬‬
‫واللغة بنت الستماع‪ ،‬فاللفظ الذي تسمعه تستطيع نُطْقه‪ ،‬والذي لم تسمعه ل تستطيع نُطْقه‪ ،‬حتى‬
‫لو كان لفظا عربيا من لغتك‪ ،‬ول تعرف أيضا معناه‪ ،‬فلو قلت لك‪( :‬إنما الحيزبون و الدردبيس‬
‫والطخا والنخالح والعصلبيص) فل شكّ أن ل تعرف لهذا معنى؛ لننا لم نتواضع على معناه‪.‬‬
‫والطفل الذي نشأ في بيئة عربية يتكلم العربية؛ لنه سمعها و ليتكلم النجليزية مثلً‪ :‬لنه لم‬
‫يسمعها‪ ،‬ولو وضعتَ نفس الطفل في بيئة إنجليزية لتكلم النجليزية؛ لن اللغة ل ترتبط بجنس ول‬
‫دم‪ ،‬اللغة سماع‪.‬‬
‫شيْءٍ { [النمل‪ ]16 :‬أي‪ :‬من ال ّنعَم على الطلق‪ ،‬وبعد قليل سنسمع نفس‬
‫ومعنى } وَأُوتِينَا مِن ُكلّ َ‬
‫شيْءٍ }[النمل‪ ]23 :‬إذن‪ :‬فهي مثله فيما‬
‫هذه العبارة يقولها الهدهد عن ملكة سبأ{ وَأُوتِ َيتْ مِن ُكلّ َ‬
‫ضلُ ا ْلمُبِينُ { [النمل‪]16 :‬‬
‫حمْل المنهج } إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ ا ْل َف ْ‬
‫يناسب أمثالها من الملوك ل في النبوة و َ‬
‫الفضل المحيط بكل الفضائل‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬وحُشِرَ ِلسْلَ ْيمَانَ جُنُو ُدهُ {‬

‫(‪)3103 /‬‬

‫ن وَالْإِنْسِ وَالطّيْرِ َفهُمْ يُوزَعُونَ (‪)17‬‬


‫وَحُشِرَ ِلسُلَ ْيمَانَ جُنُو ُدهُ مِنَ الْجِ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جمِعوا من كل مكان‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬وَا ْب َعثْ فِي ا ْل َمدَآئِنِ حَاشِرِينَ }[الشعراء‪]36 :‬‬
‫حشِروا‪ُ :‬‬
‫ُ‬
‫جمْع الناس للحساب يوم القيامة‪.‬‬
‫والحشْر‪َ :‬‬
‫سمّي الجمع حَشْرا؛ لن تجمع الناس من أماكن متفرقة في مكان واحد‪ ،‬حتى يضيق بهم‬
‫وُ‬
‫ويزدحم‪ ،‬وهذا معنى الحشْر المتعارف عليه عندنا‪ ،‬نقول‪ :‬نحشرهم على بعض‪.‬‬
‫ومعنى { َف ُهمْ يُوزَعُونَ } [النمل‪ ]17 :‬يعني‪ :‬يُمنعون‪ ،‬ومنه قوله " إن ال ليزع بالسّلْطان ما يزع‬
‫بالقرآن " يعني‪ :‬أن السلطان والقوة والبطش تمنع ما ل يستطيع القرآن منعه؛ ذلك لنهم يستبعدون‬
‫القيامة والعذاب‪ ،‬أمّا السلطان فرادع حاضر الن‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬مِ ّم يمنعون وهم في موقف الحشر أمام سليمان؟ قالوا‪ :‬يُمنعون أن يَسبق بعضهم بعضا إلى‬
‫سليمان‪ ،‬إنما نمنعهم حتى يأتي المتأخر منهم‪ ،‬ويدخلون جميعا عليه مرة واحدة‪ ،‬وفي ذلك إحداثُ‬
‫توازنٍ بين الرعية كلها‪.‬‬
‫وقد حدّثونا أن النبي صلى ال عليه وسلم كان من صفاته إذا جلس في مجلس تزوعَتْ نظراته‬
‫وعينه على كل الجالسين حتى يُسوّي بينهم‪ ،‬ول ينظر لحد أكثر من الخر‪ ،‬ول يُميز أحدا منهم‬
‫على أحد‪ ،‬حتى ل يظن أحدهم أن النبي فضّله على غيره‪.‬‬
‫وكان صلى ال عليه وسلم ل يُقرّب إل أهل الفضل والتقوى الذي يُعرف منهم أنهم ل يستغلون‬
‫هذه المكانة لنيل سلطة بين الناس؛ ولذلك كان صلى ال عليه وسلم ل يُوطّن وينهي عن ذلك على‬
‫ل في الصف الول يشغلون بها‬
‫خلف ما نراه الن من بعض المصلّين الذين يضعون سجادة مث ً‬
‫المكان‪ ،‬ثم يذهب ويقضي حاجاته‪ ،‬ويعود وقد امتل المسجد فيتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكان‬
‫في المقدمة‪ ،‬وهي ليس مكانه عند ال‪.‬‬
‫فال تعالى قد وزّع الماكن على حَسْب الورود‪ ،‬فإتيانك إلى بيت ال أولً يعطيك ثواب الصف‬
‫الول‪ ،‬وإنْ صليت في الصفّ الخير‪ ،‬وعدم توطين الماكن ينشر الُلْفة بين الناس‪ ،‬ويزيل‬
‫الفوارق ويساعد على التعارف‪ ،‬فكل صلة أنت بجانب شخص جديد تتعرف عليه وتعرف‬
‫أحواله‪.‬‬
‫وهذا معنى { َفهُمْ يُوزَعُونَ } [النمل‪ ]17 :‬يمنع السابق أنْ يسبق حتى يأتي اللحق‪ ،‬ليكونوا‬
‫سواسية في الدخول على نبي ال سليمان عليه السلم‪.‬‬
‫شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي‬
‫لكن في ضوء هذا المعنى لمادة (وزع) كيف نفهم قوله تعالى‪َ {:‬ربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَ ْ‬
‫أَ ْن َع ْمتَ عََليّ }[النمل‪.]19 :‬‬
‫أوزعني هنا يعني‪ :‬أ ْقدِرني وامنعني من الغفلة عن نعمتك‪ ،‬لضلّ شاكرا لك‪.‬‬

‫(‪)3104 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن َوجُنُو ُدهُ‬
‫طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫حِ‬‫حَتّى إِذَا أَ َتوْا عَلَى وَادِ ال ّن ْملِ قَاَلتْ َنمْلَةٌ يَا أَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُوا مَسَاكِ َنكُمْ لَا يَ ْ‬
‫شعُرُونَ (‪)18‬‬
‫وَهُمْ لَا َي ْ‬

‫الضمير في { أَ َتوْا } [النمل‪ ]18 :‬يعود على جنود سليمان من الِنس والجن والطير‪ ،‬أي جاءوا‬
‫صفّا واحدا ومرّوا { عَلَىا وَادِ ال ّن ْملِ } [النمل‪ ]18 :‬يعني‪ :‬قرية النمل‪ ،‬وقوله { عَلَىا وَادِ‬
‫جميعا َ‬
‫ال ّن ْملِ } [النمل‪ ]18 :‬يدلّ على أنهم جاءوا من أعلى الجبل‪ ،‬أو أنهم قطعوا الوادي كله‪ ،‬كما نقول‪:‬‬
‫فلن أتى على الطعام كله‪.‬‬
‫طمَ ّنكُمْ‬
‫حِ‬‫عندها { قَاَلتْ َنمْلَةٌ ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُواْ مَسَاكِ َن ُكمْ } [النمل‪ ]18 :‬لماذا هذا التحذير؟ { لَ يَ ْ‬
‫شعُرُونَ } [النمل‪]18 :‬‬
‫ن وَجُنُو ُدهُ } [النمل‪ ]18 :‬ثم احتاطتْ النملة للمر‪ ،‬فقالت { وَهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫سُلَ ْيمَا ُ‬
‫فما كان سليمان وجنوده ليُحطّموا بيوت النمل عن َقصْد منهم‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬حالة كونهم ل يشعرون بكم‪ ،‬وهذا من عدالة حكمها ومعرفتها بسليمان‪ ،‬وأنه ليس جبارا‬
‫ول عاتيا‪ .‬إذن‪ :‬فالنملة رأتْ عن ُبعْد‪ ،‬ونطقتْ عن حق‪ ،‬وحكمتْ بعدل‪ ،‬لهذا كله تبسّم سليمان‬
‫ضاحكا‪.‬‬
‫وواضح في هذا القول ما تتميز به مملكة النمل من نظام يعرف فيه ُكلّ مهمته‪ ،‬ويؤديها على أكمل‬
‫وجه‪ ،‬فهذه النملة ل بُدّ أنها كانت تقوم بمهمة الحراسة وتقف في الدّرَك‪ ،‬ترقب الجو من حولها‪،‬‬
‫وكأنها جندي الدورية اليقظ‪.‬‬
‫وسبق أن قُلْنا‪ :‬لو أنك جلستَ في مكان‪ ،‬وتركتَ فيه بعض فضلت الطعام مثلً أو الحلوى لرأيتَ‬
‫بعض النمل يدور حولها دون أنْ يقربها‪ ،‬ثم انصرفوا عنها‪ ،‬وبعد مدة ترى جماعة منهم جاءت‬
‫وحملت هذه القطعة‪ ،‬وكأن الجماعة الولى أفراد الستطلع الذين يكتشفون أماكن الطعام‪،‬‬
‫ويُقدّرون كم نملة تستطيع حمل هذا الشيء‪.‬‬
‫بدليل أنك لو ضاعفتَ القطعة الملقاة لرأيتَ عدد النمل الذي جاء لحملها قد تضاعفت هو أيضا‪.‬‬
‫ت النمل الول الذي جاء للستطلع تلحظ أن النمل امتنع عن هذا المكان‪ ،‬لماذا؟ لن‬
‫ولو قتل َ‬
‫النملة التي نجتْ من القتل ذهبت إلى مملكتها‪ ،‬وحذّرتهم من هذا المكان‪.‬‬
‫وفي مملكة النمل عجائب وآيات‪ ،‬سبحان خالقها‪ ،‬وسبحان مَنْ هداها إلى هذه الهندسة المحكومة‬
‫بالغريزة‪.‬‬
‫ومن عجائب النمل أنك ترى في عُشّ النمل الحبوب مفلوقة إلى نصفين حتى ل تنبت‪ ،‬وتهدم‬
‫عشّهم‪ ،‬لكن حبّة الكُسْبرة مثلً تنبت حتى لو انفلقتْ نصفين‪ ،‬حيث ينبت كل نصف على‬
‫عليهم ُ‬
‫حدَة‪ ،‬لذلك ل حظوا أن النمل يفلق هذه الحبة بالذات إلى أربعة أقسام‪.‬‬
‫ِ‬
‫كما لحظ المهتمون بدراسة النمل وجود حبات بيضاء صغيرة مثل رأس الدبوس أمام أعشاش‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النمل‪ ،‬وبفحصها تبيّن أنها زريعة النبات التي تحمل خليا النبات أخرجوها كي ل تنبت‪.‬‬
‫ض َولَ طَائِرٍ َيطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ }[النعام‪:‬‬
‫وصدق ال العظيم‪َ {:‬ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْر ِ‬
‫‪.]38‬‬
‫وقد سمّى ال تعالى ما قالت النملة قولً { قَاَلتْ َنمْلَةٌ } [النملة‪ ]18 :‬ول بُدّ أن هذا التحذير { ا ْدخُلُواْ‬
‫مَسَاكِ َنكُمْ } [النملة‪ ]18 :‬جاء قبل أنْ يأتي سليمان وجنوده‪ ،‬وهم على مشارف الوادي‪.‬‬

‫سبَ أرزاق‪،‬‬
‫وكلمة } مَسَاكِ َنكُمْ { [النمل‪ ]18 :‬تدل على أن لهم بُيوتا ومساكنَ‪ ،‬ومجالَ معيشة‪ ،‬وك ْ‬
‫كما نقول (بيلقّطوا رزقهم) من هنا ومن هناك؛ لذلك تجده يتتبع مواضع الطعام والفضلت‪،‬‬
‫ويدخل إليها من أضيق الماكن‪ ،‬لكن نرى مثلً محلت الحلوى مليئة بالسكر الذي يعشقه النمل‪،‬‬
‫ومع ذلك ل نجد في هذه المحلت نملة واحدة‪ ،‬لماذا؟ لما تتبّعوا هذه الظاهرة بالدراسة وجدوا أن‬
‫سمْسم‪ ،‬وهذه من عجائب النمل أيضا‪.‬‬
‫النمل ل يدخل المكان إذا كان به ِ‬
‫حطْم هو التكسير‪ ،‬ومنه قوله سبحانه عن النار‪َ {:‬ومَآ‬
‫طمَ ّن ُكمْ { [النمل‪ ]18 :‬ال َ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬لَ َيحْ ِ‬
‫ط َمةُ }[الهمزة‪ ]5 :‬لنها تحطم ما يُلْقى فيها‪.‬‬
‫أَدْرَاكَ مَا ا ْلحُ َ‬

‫(‪)3105 /‬‬

‫ي وَأَنْ‬
‫ي وَعَلَى وَاِل َد ّ‬
‫شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َعمْتَ عََل ّ‬
‫حكًا مِنْ َقوِْلهَا َوقَالَ َربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَ ْ‬
‫فَتَبَسّمَ ضَا ِ‬
‫حمَ ِتكَ فِي عِبَا ِدكَ الصّالِحِينَ (‪)19‬‬
‫خلْنِي بِ َر ْ‬
‫ع َملَ صَاِلحًا تَ ْرضَا ُه وَأَدْ ِ‬
‫أَ ْ‬

‫تبسّم سليمان ـ عليه السلم ـ بالبسمة التي تتصل بالضحك لماذا؟ لنه سمعها قبل أنْ يصل‬
‫إليها‪ ،‬ولنها رأتْ قبل أن يأتي المرئي‪ ،‬وقد تكلم البعض في هذه المسألة فقالوا‪ :‬إن الريح نقلتْ‬
‫إليه مقالة النملة‪ ،‬وهو ما يزال بعيدا عنها‪ ،‬وهذا الكلم يُقبل لو أن المسألة (ميكانيكا) إنما هي‬
‫عمل رب وقدرة خالق مُنعِم ينعم بما يشاء‪.‬‬
‫ونطق قائلً { َربّ َأوْزِعْنِي } [النمل‪ ]19 :‬أي‪ :‬امنعني أنْ أغفل‪ ،‬أو أنْ أنسى هذه النّعم‪ ،‬فأظل‬
‫شاكرا حامدا لك على الدوام؛ لن هذه النعَم فاقتْ ما أنعمت به على عامة الخَلْق‪ ،‬وفوق ما أنعمتُ‬
‫به على إخواني من النبياء السابقين‪ ،‬و على كل ملوك الدنيا؛ لنه عليه السلم جمع بين الملْك‬
‫والنّبوة‪ ،‬وإنْ كان سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم عرض عليه الملْك فرفضه‪ ،‬وآثر أن‬
‫يكون عبدا رسولً‪.‬‬
‫لذلك وجب على كل صاحب نعمة أنْ يستقبلها بحمد ال وشكْره‪ ،‬وسبق أنْ قُلْنا في قوله تعالى‪ {:‬ثُمّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لَتُسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ }[التكاثر‪ ]8 :‬أن حق النعمة أن تحمد المنعم عليها‪ ،‬فل تُسأل عنها يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫وما أشبه الحمد على النعمة بما يُسمّونه عندنا في الريف (الرقوبة)‪ ،‬وهي بيضة تضعها ربّة‬
‫المنزل في مكان أمين يصلح عُشّا يبيض فيه الدجاج‪ ،‬فإذا رأتْ الدجاجة هذه البيضة جاءتْ‬
‫فباضتْ عليها‪ ،‬وهكذا شكر ال وحمده على النعم هو النواة التي يتجمع عليها المزيد من ِنعَم ال‪.‬‬
‫شكَرْتُ ْم لَزِيدَ ّن ُكمْ }[إبراهيم‪ ]7 :‬ألَ ترى أن مَنْ علم‬
‫وقد شُرح هذا المعنى في قوله سبحانه‪ {:‬لَئِن َ‬
‫علما فعلم به أورثه ال علم ما لم يعلم؟ لماذا؟ لنه ما دام عمل بعلمه‪ ،‬فهو ُمؤْتمن على العلم؛ لذلك‬
‫يزيده ال منه ويفتح له مغاليقه‪ ،‬على خلف مَنْ عَلِم علما ولم يعمل به‪ ،‬فإنّ ال يسلبه نور العلم‪،‬‬
‫فيغلق عليه‪ ،‬وتصدأ ذاكرته‪ ،‬وينسى ما تعلّمه‪.‬‬
‫شكُرُ لِ َنفْسِهِ }[لقمان‪ ]12 :‬أي‪ :‬تعود عليه‬
‫شكُرْ فَإِ ّنمَا َي ْ‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول‪َ {:‬ومَن يَ ْ‬
‫شكْره؛ لنه إنْ شكر ال بالحمد شكره ال بالزيادة؛ لذلك من أسمائه تعالى (الشكور)‪.‬‬
‫ثمرة ُ‬
‫وقوله‪ { :‬عََليّ } [النمل‪ ]19 :‬هذه خصوصية { وَعَلَىا وَالِ َديّ } [النمل‪ ]19 :‬لنه ورث عنهما‬
‫ع َملَ صَالِحا تَ ْرضَاهُ } [النمل‪ ]19 :‬وهذا ثمن النعمة أن أؤدي خدمات‬
‫الملْك والنبوة { وَأَنْ أَ ْ‬
‫الصلح في المجتمع لكون ُمؤْتمنا على النعمة أهْلً للمزيد منها‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد منّا أنْ نُوسّع دائرة الصلح ودائرة المعروف في المجتمع‪َ ،‬ألَ‬
‫ضعَافا كَثِي َرةً }[البقرة‪:‬‬
‫حسَنا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ‬
‫ترى إلى قوله سبحانه‪ {:‬مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا َ‬
‫‪.]245‬‬
‫فسمّى الخير الذي تقدمه قَرْضا‪ ،‬مع أنه سبحانه واهب كل النّعم‪ ،‬وذلك لِيُحنّن قلوب العباد بعضهم‬
‫على بعض؛ لنه تعالى خالقهم‪ ،‬وهو سبحانه المتكفّل برزقهم‪.‬‬

‫حمَ ِتكَ فِي عِبَا ِدكَ الصّالِحِينَ { [النمل‪ ]19 :‬وذكر الرحمة والفضل؛ لنهما‬
‫خلْنِي بِ َر ْ‬
‫ثم يقول‪ } :‬وَأَدْ ِ‬
‫وسيلة النجاة‪ ،‬وبهما ندخل الجنة‪ ،‬وبدونهما لن ينجو أحد‪ ،‬واقرأ قول رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ " :‬لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله‪ .‬قالوا‪ :‬ول أنت يا رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ قال‪:‬‬
‫ن يتغمّدني ال برحمته "‪.‬‬
‫ول أنا إل أ ْ‬
‫حمَتِهِ فَ ِبذَِلكَ }[يونس‪ ]58 :‬فالمؤمن الحق ل‬
‫ويقول سبحانه في هذا المعنى‪ُ {:‬قلْ ِب َفضْلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ‬
‫ضلَ ال ورحمته‪ ،‬كأنه يقول لربه‪ :‬لن أتكل يا رب على عملي‪،‬‬
‫يفرح بعمله‪ ،‬إنما يفرح‪:‬إنْ نال َف ْ‬
‫بل فضلك ورحمتك هما المتكل‪ ،‬لنني لو قارنتُ العبادة التي كلفتني بها بما أسدْيتَ إليّ من ِنعَم‬
‫وآلء لَقصُرَتْ عبادتي عن أداء حقّك عليّ‪ ،‬فإنْ أكرمتني بالجنة فبفضلك‪.‬‬
‫والبعض يقولون‪ :‬كيف يعاملنا ربنا بالفضل والزيادة‪ ،‬ويُحرّم علينا التعامل بالربا؟ أليست الحسنة‬
‫عنده بعشرة أمثالها أو يزيد؟ نقول‪ :‬نعم‪ ،‬لكن الزيادة هنا منه سبحانه وتعالى وليستْ من مُسَاو‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنها زيادة ربّ لعبيد‪.‬‬
‫وقوله } فِي عِبَا ِدكَ الصّاِلحِينَ { [النمل‪ ]19 :‬دليل على تواضع سيدنا سليمان ـ عليه السلم ـ‬
‫فمع مكانته ومنزلته يطلب أنْ يُدخِله ال في الصالحين‪ ،‬وأن يجعله في زمرتهم‪ ،‬فلم يجعل لنفسه‬
‫مَيْزةً ول صدارة ول أدّعى خيرية على غيره من عباد ال‪ ،‬مع ما أعطاه ال من الملْك الذي ل‬
‫ينبغي لحد من بعده‪.‬‬
‫وأعطاه النبوة وحمّله المنهج‪ ،‬فلم يُورثه شيء من هذا غرورا ول تعاليا‪ ،‬وها هو يطلب من ربه‬
‫أن يكون ضمن عباده الصالحين‪ ،‬كما نقول (زقني مع الجماعة دول)‪ ،‬حين تكون السيارة مثلً‬
‫كاملة العدد‪ ،‬وليس لي مقعد أجلس عليه‪.‬‬
‫مَنْ يقول هذا الكلم؟ إنه سليمان بن داود ـ عليهما السلم ـ الذي آتاه ال مُلْكا‪ ،‬ل ينبغي لحد‬
‫من بعده‪ ،‬ومن ذلك كان يُؤثِر عبيده وجنوده على نفسه‪ ،‬وكان يأكل (الردة) من الدقيق‪ ،‬ويترك‬
‫النقي منه لرعيته‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لم ينتفع من هذا الملْك بشيء‪ ،‬ولم يصنع لنفسه شيئا من مظاهر هذا الملك‪ ،‬إنما صنعه له‬
‫عوْنه‪ ،‬وأنت حين تُعين أخاك تُعينه بقدرتك‬
‫عوْن عباد ال‪ ،‬فكان ال في َ‬
‫ربه لنه كان في َ‬
‫وإمكاناتك المحدودة‪ ،‬أما معونة ال تعالى فتأتي على َقدْر قوته تعالى‪ ،‬وقدرته وإمكاناته التي ل‬
‫حدودَ لها‪ ،‬إذن‪ :‬فأنت الرابح في هذه الصفقة‪.‬‬

‫(‪)3106 /‬‬

‫وَتَ َفقّدَ الطّيْرَ َفقَالَ مَا ِليَ لَا أَرَى ا ْل ُهدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَائِبِينَ (‪)20‬‬

‫مادة‪ :‬فقد الفاء والقاف والدال‪ ،‬وكل ما يُشتقّ منها تأتي بمعنى ضاع منه الشيء‪ ،‬ومنه قوله تعالى‬
‫في قصة إخوة يوسف‪ {:‬قَالُو ْا وََأقْبَلُواْ عَلَ ْيهِمْ مّاذَا َتفْقِدُونَ }[يوسف‪ ،]71 :‬فإنْ جاءت بصيغة (تفقّد)‬
‫بالتضعيف دّلتْ على أن الشيء موجود وأنا أبحث عنه في مظانّه‪.‬‬
‫فمعنى { وَتَ َفقّدَ الطّيْرَ } [النمل‪ ]20 :‬أن الرئيس او المهيمن على شيء ل ُبدّ له من متابعته‪،‬‬
‫وسليمان ـ عليه السلم ـ ساعةَ جلس في مجلس العلم أو مجلس القضاء نظر للحاضرين من‬
‫مملكته‪ ،‬كأنه القائد يستعرض جنوده‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى أنه ـ عليه السلم ـ مع أن هذا ملكه‬
‫ومُسخّر له ومُنقَاد لمره‪ ،‬إل أنه لم يتركه َهمَلً دون متابعة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا تفقّد الطير بالذات؟ قالوا‪ :‬لنه أراد أنْ يقوم برحلة في الصحراء‪ ،‬والهدهد هو الخبير‬
‫بهذه المسألة؛ لنه يعلم مجاهلها‪ ،‬ويرى حتى الماء في باطن الرض‪ ،‬يقولون‪ :‬كما يرى أحدكم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الزيت في وعائه‪.‬‬
‫لذلك نرى أن من مميزات الهدهد أن ال تعالى جعل له منقارا طويلً؛ لنه ل يأكل مما على سطح‬
‫الرض‪ ،‬إنما ينبش بمنقاره ليُخرج طعامه من تحت الرض‪.‬‬
‫جدُواْ للّهِ الّذِي‬
‫ألَ تراه حين كلّم سليمان في دقائق العقيدة واليمان بال يقول عن أهل سبأ‪َ {:‬ألّ َيسْ ُ‬
‫ت وَالَرْضِ }[النمل‪ ]25 :‬فاختار هذه المسألة بالذات؛ لنه الخبير بها‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خبْءَ فِي ال ّ‬
‫يُخْرِجُ الْ َ‬
‫ورزقه منها‪.‬‬
‫ي لَ أَرَى ا ْلهُدْ ُهدَ َأمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَآئِبِينَ } [النمل‪:‬‬
‫ولما لم يجد الهدهد في الحاضرين قال { َفقَالَ مَاِل َ‬
‫‪ ]20‬فساعةَ يستفهم النسان عن شيء يعلم حقيقته‪ ،‬فإنه ل يقصد الستفهام‪ ،‬إنما هو يستبعد أنْ‬
‫يتخلّف الهدهد عن مجلسه‪.‬‬
‫لذلك قال { مَاِليَ لَ أَرَى ا ْل ُهدْهُدَ } [النمل‪ ]20 :‬يعني‪ :‬ربما هو موجود‪ ،‬لكنّي ل أراه لعلّة عندي‬
‫أنا‪ ،‬فلما َدقّق النظر وتأكد من خُلوّ مكانه بين الطيور‪ ،‬قال { َأمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَآئِبِينَ } [النمل‪]20 :‬‬
‫إذن‪ :‬ل بد من معاقبته‪:‬‬

‫(‪)3107 /‬‬

‫لَأُعَذّبَنّهُ عَذَابًا شَدِيدًا َأوْ لَأَذْ َبحَنّهُ َأوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ (‪)21‬‬

‫ومعاقبة المخالف أمر ضروري؛ لن أيّ مخالفة ل تُقابل بالجزاء المناسب ل بُدّ أن تثمر مخالفات‬
‫أخرى متعددة أعظم منها‪ ،‬فحين نرى موظفا مُقصّرًا في عمله ل يحاسبه أحد‪ ،‬فسوف نكون مثله‪،‬‬
‫نل‬
‫وتنتشر بيننا الفوضى والتكاسل واللمبالة‪ ،‬وتحدث الطّامة حينما يُثاب المقصر ويُرَقى مَ ْ‬
‫يستحق‪.‬‬
‫شدِيدا َأ ْو لَذْ َبحَنّهُ } [النمل‪.]21 :‬‬
‫عذَابا َ‬
‫لذلك توعّد سليمان الهدهد‪ { :‬لُعَذّبَنّهُ َ‬
‫وقد تكلّم العلماء في كيفية تعذيب الهدهد‪ ،‬فقالوا‪ :‬بنتف ريشه الجميل الذي يزهوا به بين الطيور‪،‬‬
‫حتى يصير لحما ثم يُسلط عليه النمل فيلدغه‪ ،‬أو يجعْله مع غير بني جنسه‪ ،‬فل يجد لها إلفا ول‬
‫مشابها له في حركته ونظامه‪ ،‬أو‪ :‬أنْ يُكلّفه بخدمة أقرانه من الهداهد التي لم تخالف‪ ،‬أو‪ :‬أجمعه‬
‫مع أضداده‪ ،‬وبعض الطيور إذا اجتمعتْ تنافرتْ وتشاجرتْ‪ ،‬ونتف بعضها ريش بعض؛ لنهم‬
‫أضداد؛ لذلك قالوا‪ :‬أضيق من السجن عِشْرة الضداد‪.‬‬
‫ن صَدَاقَته بُدّثم رقّى المر من‬
‫عدُوا لَهُ مَا مِ ْ‬
‫والشاعر يقول‪َ :‬ومِنْ ن َكدِ الدّنْيا عليَ المرْءِ أنْ يرى َ‬
‫العذاب الشديد إلى الذبح‪ ،‬وهذه المسألة أثار حولها المتمردون على منهج ال والذين يريدون أنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يُعدّلوا على ال أحكامه‪ ،‬أثاروا إشكالً حول قوله تعالى في حَدّ الزنا‪ {:‬الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ ُكلّ‬
‫وَاحِدٍ مّ ْن ُهمَا مِئَةَ جَ ْل َدةٍ }[النور‪ ]2 :‬أما الرّجْم فلم يَرِدْ فيه شيء‪ ،‬فمن أين أتيتم به؟‬
‫نقول أتينا به أيضا من كتاب ال‪ ،‬حيث قال سبحانه في جَلد المَة إنْ زنتْ وهي غير محْصنة‪{:‬‬
‫حصَنَاتِ مِنَ ا ْلعَذَابِ }[النساء‪ ]25 :‬فقالوا‪ :‬وكيف نُنصّف حدّ الرجم؟‬
‫َفعَلَ ْيهِنّ ِنصْفُ مَا عَلَى ا ْلمُ ْ‬
‫وهذا القول منهم دليل على عدم فهمهم لحكام ال‪.‬‬
‫حصَنَاتِ }[النساء‪:‬‬
‫صفُ مَا عَلَى ا ْل ُم ْ‬
‫فالمعنى{ َفعَلَ ْيهِنّ }[النساء‪ ]25 :‬أي‪ :‬على الماء الجواري{ ِن ْ‬
‫‪ ]25‬الحرائر‪ ،‬ولم يسكت إنما خصص التنصيف هنا بالجَلْد‪ ،‬فقال‪ {:‬مِنَ ا ْلعَذَابِ }[النساء‪]25 :‬‬
‫لمَة خمسين جلدة‪ ،‬وهذا التخصيص يدلّ على أن هناك عقوبة أخرى ل تُنصف هي الرجْم‪.‬‬
‫فتجلد ا َ‬
‫وينتهي تهديد سليمان للهدهد بقوله { َأوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ } [النمل‪ ]21 :‬أ ي‪ :‬حجة واضحة‬
‫تبرر غيابه‪ ،‬فنفهم من الية أن المرؤوس يحوز له أنْ يتصرف برأيه‪ ،‬ودون أن يأخذ الذن من‬
‫رئيسه إنْ رأى مصلحة للجماعة ل تستدعي التأخير‪.‬‬
‫وعلى الرئيس عندها أن يُقدّر لمرؤوسيه اجتهاده‪ ،‬ويلتمس له عذرا‪ ،‬فلعله عنده حجة أحمده عليها‬
‫بل وأكافئه؛ لن وقت فراغه مني كان في مصلحة عامة‪ ،‬كما نقول في العامية (الغايب حجته‬
‫معاه)‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المرؤوس إنْ رأى خيرا يخدم الفكر العام‪ ،‬ووجد أن فرصته ضيقة يسمح له بالتصرف دون‬
‫إذن‪ ،‬وفي الحرب العالمية الولى تصرّف أحد القادة اللمان تصرّفا يخالف القواعد الحربية‪ ،‬لكنه‬
‫كان سببا في النصر؛ لذلك أعطوه وسام النصر ولم ينسُوا أنْ يُعاقبوه على مخالفة القواعد‬
‫والقانون‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ف َم َكثَ غَيْرَ َبعِيدٍ }‬

‫(‪)3108 /‬‬

‫حطْ بِ ِه وَجِئْ ُتكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ َيقِينٍ (‪)22‬‬


‫َف َمكَثَ غَيْرَ َبعِيدٍ َفقَالَ َأحَطتُ ِبمَا لَمْ تُ ِ‬

‫معنى { َف َمكَثَ } [النمل‪ ]22 :‬أقام واستقر { غَيْرَ َبعِيدٍ } [النمل‪ ]22 :‬مدة يسيرة‪ ،‬فلم يتأخر كثيرا؛‬
‫لنه يعلم أنه تخلّف عن مجلس سليمان‪ ،‬وذهب بدون إذنه؛ لذلك تعجّل العودة‪ ،‬وما إنْ وصل إليه‬
‫إل وبادره { َفقَالَ } [النمل‪ ]22 :‬بالفاء الدالة على التعقيب؛ لنه رأى سليمان غاضبا مُتحفّزا‬
‫لمعاقبته‪.‬‬
‫حطْ بِهِ } [النمل‪ ]22 :‬أي‪ :‬عرفتُ ما لم‬
‫لذلك بادره قبل أنْ ينطق‪ ،‬وقبل أنْ ينهره { َأحَطتُ ِبمَا لَمْ تُ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تعرف ـ هذا الكلم مُوجّه إلى سليمان الذي ملَك الدنيا كلها‪ ،‬وسخّر ال له كل شيء؛ لذلك ذُهل‬
‫سليمان من مقالة الهدهد وتشوّق إلى ما عنده من أخبار ل يعرفها هو‪.‬‬
‫ثم يستمر الهدهد‪َ { :‬وجِئْ ُتكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ َيقِينٍ } [النمل‪.]22:‬‬
‫أولً‪ :‬نقف عند جمال التعبير في سبأ ونبأ‪ ،‬فبينهما جناس ناقص‪ ،‬وهو من المحسّنات البديعية في‬
‫لغتنا‪ ،‬ويعطي للعبارة نغمة جميلة تتوافق مع المعنى المراد‪ ،‬والجناس أن تتفق الكلمتان في‬
‫الحروف‪ ،‬وتختلفا في المعنى‪ ،‬كما في قول الشاعر‪َ :‬رحَ ْلتُ عَنِ الدّيَارِ لكُم أَسِيرُ َوقَلْبي في محبتكُمْ‬
‫أَسيرو َقوْل الخر‪َ:‬لمْ َي ْقضِ مِنْ حقّكم عَليّ َب ْعضَ الذي يَجِ ُبقَ ْلبٌ متَى مَا جَرَت ِذكْرَاكُمُ يَجِبُومن‬
‫عةُ ُيقْسِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ }[الروم‪:‬‬
‫الجناس التام في القرآن الكريم‪ {:‬وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ‬
‫‪.]55‬‬
‫فالتعبير القرآني { وَجِئْ ُتكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [النمل‪ ]22 :‬تعبير جميل لفظا‪ ،‬دقيق مَعنىً‪َ ،‬ألَ تراه لو‬
‫قال (وجئتك من سبأ بخبر) ل ختلّ اللفظ والمعنى معا؛ لن الخبر يُرَاد به مُطلْق الخبر‪ ،‬أمّا النبا‬
‫عمّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ‬
‫فل تُقال إل للخبر العجيب الهام الملفت للنظر‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬‬
‫ا ْلعَظِيمِ }[النبأ‪1 :‬ـ ‪.]2‬‬
‫والجناس ل يكون جميلً مؤثرا إل إذا جاء طبيعيا غير مُتكلّف‪ ،‬ومثال ذلك هذا الجناس الناقص‬
‫في قوله تعالى‪ {:‬ويْلٌ ّل ُكلّ ُهمَ َزةٍ ّلمَ َزةٍ }[الهمزة‪ ]1 :‬فقد ورد اللفظ المناسب مُعبّرا عن المعنى‬
‫المراد دون تكلّف‪ ،‬فال ُهمَزة هو الذي يعيب بالقول‪ .‬واللمزة‪ :‬الذي يعيب بالفعل‪ ،‬فالقرآن ل يتصيّد‬
‫لفظا ليُحدِث جناسا‪ ،‬إنما يأتي الجناس فيه طبيعيا يقتضيه المعنى‪.‬‬
‫ومن ذلك في الحديث الشريف‪ " :‬الخيْل معقود بنواصيها الخير " فبيْن الخيل والخير جناس ناقص‪،‬‬
‫مُحسّنا للفظ‪ ،‬مؤدّيا للمعنى‪.‬‬
‫وقد يأتي المحسّن البديعي مُضطربا مُتكلّفا‪ ،‬يتصيده صاحبه‪ ،‬كقول أحدهم ينحت الكلم نحتا فيأتي‬
‫بسجع ركيك‪ :‬في أثناء ما كنا نسير نزل المطر كأفواه القِرَب‪ ،‬فوقع رجل كان يحمل العنب‪.‬‬
‫حطْ بِهِ } [النمل‪ ]22 :‬الحاطة‪ :‬إدراك المعلوم من كل جوانبه‪ ،‬ومنه‬
‫ومعنى { َأحَطتُ ِبمَا َلمْ تُ ِ‬
‫شيْءٍ مّحِيطا }[النساء‪ ]126 :‬ومنه‪:‬‬
‫البحر المحيط لتساعه‪ ،‬ويقول سبحانه‪َ {:‬وكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫الحائط يجعلونه حول البستان ليحميه ويُحدّده‪ ،‬ومنه‪ :‬يحتاط للمر‪.‬‬
‫ومحيط الدائرة الذي يحيط بالمركز من كل ناحية إحاطة مستوية بأنصاف القطار‪.‬‬

‫حطْ بِهِ { [النمل‪ ]22 :‬نقصا في سليمان عليه‬


‫لكن أَ ُيعَدّ قول الهدهد لسليمان } َأحَطتُ ِبمَا لَمْ تُ ِ‬
‫السلم؟ ل‪ ،‬إنما ُي َعدّ تكريما له؛ لن ربه ـ عز وجل ـ سخّر له مَنْ يخدمه‪ ،‬وفَرْق بين أن تفعل‬
‫أنت الشيء وبين أن يُفعل لك‪ ،‬فحين يفعل لك‪ ،‬فهذه زيادة سيادة‪ ،‬وعُلًُو مكانة‪.‬‬
‫كما أن ال تعالى يُعلّمنا ألّ نكتم مواهب التابعين‪ ،‬وأن نعطي لهم الفرصة‪ ،‬ونُفسِح لهم المجال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن نعرفها؛ لنها خدمة لي‪.‬‬
‫ليُخرجوا مواهبهم‪ ،‬وأن يقول كل منهم ما عنده حتى لو لم نكُ ْ‬
‫أليس من الكرامة أن يُحضر سليمان عرش بلقيس وهو في مكانه{ قَالَ الّذِي عِن َدهُ عِلْمٌ مّنَ ا ْلكِتَابِ‬
‫أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن يَرْتَدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ }[النمل‪.]40 :‬‬
‫ونلحظ أن الهدهد لم يُعرّف سبأ ما هي‪ ،‬وهذا دليل على أن سليمان ـ عليه السلم ـ يعرف سبأ‪،‬‬
‫وما فيها من ملك‪ ،‬إنما ل يعرف أنه بهذه الفخامة وهذه العظمة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّي وَجَدتّ امْرََأةً َتمِْل ُكهُمْ {‬

‫(‪)3109 /‬‬

‫شيْءٍ وََلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (‪)23‬‬


‫إِنّي وَجَ ْدتُ امْرََأةً َتمِْل ُكهُ ْم وَأُوتِ َيتْ مِنْ ُكلّ َ‬

‫وقوله { َتمِْل ُكهُمْ } [النمل‪ ]23 :‬يعني‪ :‬تحكمهم امرأة‪ ،‬ورأينا نساءً كثيرات نابهات حكمْن الدول في‬
‫وجود الرجال‪.‬‬
‫شيْ } [النمل‪ ]23 :‬وكأنها إشارة إلى ما سبق أنْ قاله‬
‫ثم يذكر من صفاتها { وَأُوتِ َيتْ مِن ُكلّ َ‬
‫شيْءٍ }[النمل‪ ]16 :‬فهي كذلك أُوتيتْ من كل شيء بالنسبة‬
‫سليمان عليه السلم{ وَأُوتِينَا مِن ُكلّ َ‬
‫لقرانها‪ ،‬وإل فسليمان أُوتي من الملْك ومن النبوة ما لم ُتؤْتهُ ملكة سبأ‪.‬‬
‫عظِيمٌ } [النمل‪ ]23 :‬العرش مكان جلوس الملك‪ ،‬وكان العرش عادةً يتوافق مع‬
‫{ وََلهَا عَرْشٌ َ‬
‫عظمة الملك‪ ،‬فمثلً (شيخ الغفر) أو العمدة أو المحافظ‪ ..‬إلخ لكل منهم كرسيّ يجلس عليه يناسب‬
‫مكانته‪ ،‬إذن‪ :‬العرش هو جِلْسة المتمكّن الذي يتولّى تَدبير المور‪.‬‬
‫ووصْف العرش بأنه عظيم مع أن هذا الوصف لعرش ال تعالى‪ ،‬فكيف؟ قالوا‪ :‬عظيم بالنسبة‬
‫لمثالها من الملوك‪ ،‬أمّا عرْش ال فعظيم بالنسبة لكل الخَلْق عظمةً مُطْلقة‪.‬‬
‫هكذا حدّث الهدهُد سليمانَ فيما يخصّ ملكة سبأ من حيث الملك الذي تشبه فيه سليمان كملك‪ ،‬ثم‬
‫يُحدّثه بعد ذلك عن مسألة تتعلق بالنبوة واليمان بال‪ ،‬وهذه المسألة التي غار عليها سليمان‪ ،‬وثار‬
‫جدُونَ }‬
‫من أجلها‪ { :‬وَجَدّتهَا َو َق ْو َمهَا يَسْ ُ‬

‫(‪)3110 /‬‬

‫عمَاَلهُمْ َفصَدّ ُهمْ عَنِ السّبِيلِ َف ُهمْ‬


‫شمْسِ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ‬
‫جدُونَ لِل ّ‬
‫وَجَدْ ُتهَا َو َق ْو َمهَا َيسْ ُ‬
‫لَا َيهْتَدُونَ (‪)24‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذلك لنه لما طاف حول قصر بلقيس وجد فيه ُكوّة تدخل منها الشمس‪ ،‬كما نرى في معابد‬
‫الفراعنة‪ ،‬ففي أحد هذه المعابد طاقات بعدد أيام السنة‪ ،‬بحيث تدخل الشمس في كل يوم من واحدة‬
‫بعينها ل تدخل من الخرى‪ .‬وكذلك كان عند بلقيس مثل هذه ال ُكوّة تدخل منها الشمس فتتنبه لها‬
‫وتستقبلها‪.‬‬
‫لذلك لما ذهب إليها بكتاب سليمان وقف على هذه ال ُكوّة وسدّها بجناحه‪ ،‬فلم تدخل الشمس في‬
‫موعدها كما اعتادت الملكة‪ ،‬فقامت حتى وصلتْ إلى هذه ال ُكوّة فرمى عندها الكتاب‪.‬‬
‫فالهدهد ـ إذن ـ مؤمن عارف بقضية العقيدة واليمان بال َيغَار عليها ويستنكر مخالفتها‬
‫شمْسِ مِن دُونِ اللّهِ } [النمل‪ ]24 :‬فهو يعرف أن ال هو المعبود‬
‫سجُدُونَ لِل ّ‬
‫{ وَجَدّتهَا َو َقوْ َمهَا يَ ْ‬
‫بحقّ‪ ،‬بل ويعلم أيضا قضية الشيطان‪ ،‬وأنه سبب النصراف عن عبادة ال‪.‬‬
‫عمَاَلهُمْ َفصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ َفهُ ْم لَ َيهْتَدُونَ } [النمل‪ ]24 :‬فالقضية عنده‬
‫{ وَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬
‫حمْ ِد ِه وَلَـاكِن‬
‫شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ بِ َ‬
‫كاملة بكل تفاصيلها‪ ،‬ول تتعجب من مقالة الهدهد واقرأ‪ {:‬وَإِن مّن َ‬
‫حهُمْ }[السراء‪.]44 :‬‬
‫لّ َت ْف َقهُونَ تَسْبِي َ‬
‫إنها موعظة بليغة من واعظ مُتمكّن يفهم عن ال‪ ،‬ويعلم منهجه ويدعو إليه‪ ،‬بل ويعزّ عليه ويحزّ‬
‫سجُدُواْ للّهِ }‬
‫في نفسه أن ينصرف العباد عن ال الم ْنعِم‪َ { :‬ألّ يَ ْ‬

‫(‪)3111 /‬‬

‫خفُونَ َومَا ُتعْلِنُونَ (‪)25‬‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَ َيعْلَمُ مَا ُت ْ‬
‫خبْءَ فِي ال ّ‬
‫سجُدُوا لِلّهِ الّذِي ُيخْرِجُ ا ْل َ‬
‫أَلّا يَ ْ‬

‫{ َألّ } [النمل‪ ]25 :‬مكوّنة من أنْ‪ ،‬ل‪ ،‬وعند إدغامهما تُقَلبُ النون لَما فتصير‪ :‬ألّ‪ ،‬فالمعنى‪:‬‬
‫وزيّن لهم الشيطان أعمالهم‪ ،‬لماذا؟ للّ يسجدوا‪ ،‬فهنا حرف جر محذوف كما تقول‪ :‬عجبتُ من‬
‫أن َيقْدم علينا فلن‪ ،‬أو عجبت أن يقدم علينا فلن‪.‬‬
‫وفي قراءة أخرى‪َ( :‬ألَ) للحثّ والحضّ‪.‬‬
‫ت وَالَ ْرضِ } [النمل‪]25 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خبْءَ فِي ال ّ‬
‫وقلنا‪ :‬إنه اختار هذه الصفة بالذات { الّذِي ُيخْرِجُ الْ َ‬
‫لنه خبير في هذه المسألة‪ ،‬حيث يرى الماء في باطن الرض‪ ،‬كما يرى أحدكم الزيت في إنائه‪.‬‬
‫والمراد بالخبْء في السموات‪ :‬المطر‪ ،‬والخبْء في الرض‪ .‬النبات‪ ،‬ومنهما تأتي مُقوّمات الحياة‪،‬‬
‫فمن ماء المطر وخصوبة الرض يأتي النبات‪ ،‬وعلى النبات يتغذّى الحيوان‪ ،‬ويتغذّى النسان‪.‬‬
‫ن َومَا ُتعْلِنُونَ } [النمل‪ ،]25 :‬كما قال في آية أخرى‪َ {:‬ومَا‬
‫خفُو َ‬
‫بل إن الحق سبحانه { وَ َيعْلَمُ مَا ُت ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآءِ }[إبراهيم‪ ،]38 :‬وفي آية أخرى يقول‬
‫ض َولَ فِي ال ّ‬
‫شيْءٍ فَي الَ ْر ِ‬
‫خفَىا عَلَى اللّهِ مِن َ‬
‫يَ ْ‬
‫خفُواْ مَا فِي صُدُو ِركُمْ َأوْ تُ ْبدُوهُ َيعَْلمْهُ اللّهُ }[آل عمران‪.]29 :‬‬
‫سبحانه‪ُ {:‬قلْ إِن ُت ْ‬

‫(‪)3112 /‬‬

‫اللّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلعَظِيمِ (‪)26‬‬

‫لما تكلّم عن عرش بلقيس قال{ وََلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }[النمل‪ ]23 :‬يعني‪ :‬بالنسبة لمثالها من الملوك‬
‫ولهل زمانها‪ .‬فإذا عُرّف { ا ْلعَرْشِ ا ْل َعظِيمِ } [النمل‪ ]26 :‬فإنه ل ينصرف إل إلى عرشه تعالى‪،‬‬
‫فله العظمة المطلقة عند كل الخَلْق‪.‬‬

‫(‪)3113 /‬‬

‫قَالَ سَنَنْظُرُ َأصَ َد ْقتَ أَمْ كُ ْنتَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ (‪)27‬‬

‫{ قَالَ سَنَنظُرُ } [النمل‪ ]27 :‬والنظر محلّه العين‪ ،‬لكن هل يُعرف الصدق والكذب بالعين؟ ل‪،‬‬
‫فالكلمة انتقلت من النظر بالعين إلى العلم بالحجة‪ ،‬فهي بمعنى نعلم‪ ،‬ونقول‪ :‬هذا المر فيه نظر‬
‫يعني‪ :‬يحتاج إلى دراسة وتمحيص‪.‬‬
‫وفي الية مظهر من مظاهر أدب سليمان ـ عليه السلم ـ وتلطّفه مع رعيته‪ ،‬فهو السيد‬
‫المطاع‪ ،‬ومع ذلك يقول للهدهد‪َ { :‬أصَ َد ْقتَ َأمْ كُنتَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } [النمل‪ ]27 :‬والصّدْق يقابله‬
‫الكذب‪ ،‬لكن سليمان ـ عليه السلم ـ يأبى عليه أدب النبوة أن يتهم أحد جنوده بالكذب فقال‪ { :‬أَمْ‬
‫كُنتَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } [النمل‪.]27 :‬‬
‫يعني‪ :‬حتى لو وقع منك الكذب فلست فذّا فيه‪ ،‬فكثير من الخَلْق يكذبون‪ ،‬أو‪ :‬من الكاذبين مَيْلً لهم‬
‫وقُرْبا منهم‪ ،‬مما يدلّ على أنه بإلهاماته كنبي يعرف أنه صادق‪ ،‬إنما ما دام المر محلّ نظر فل‬
‫بُدّ أن نتأكد‪ ،‬ولن أجامل جنديا من جنودي‪.‬‬

‫(‪)3114 /‬‬

‫جعُونَ (‪)28‬‬
‫اذْ َهبْ ِبكِتَابِي َهذَا فَأَ ْلقِهِ إِلَ ْيهِمْ ُثمّ َت َولّ عَ ْن ُهمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا هو النظر الذي ارتآه سليمان ليتأكد من صِدْق الهدهد‪ :‬أنْ يرسله بكتاب منه إلى هؤلء القوم‪،‬‬
‫وهنا مظهر من مظاهر اليجاز البليغ في القرآن الكريم‪ ،‬فبعد أن قال سليمان{ سَنَنظُرُ }[النمل‪:‬‬
‫‪ ]27‬قال { اذْهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا } [النمل‪.]28 :‬‬
‫فهل كان الكتاب ُمعَدّا وجاهزا؟ ل‪ ،‬إنما التقدير‪ :‬قال سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين‪ ،‬فكتب‬
‫إليها كتابا فيه كذا وكذا ثم قال للهدهد‪ { :‬اذْهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا } [النمل‪ ]28 :‬وقد حُذِف هذا للعلم‬
‫به من سياق القصة‪.‬‬
‫جعُونَ }‬
‫وقوله‪ { :‬ثُمّ َتوَلّ عَ ْنهُمْ } [النمل‪ ]28 :‬يعني‪ :‬ابتعِدْ قليلً‪ ،‬وحاول أنْ تعرف { مَاذَا يَ ْر ِ‬
‫[النمل‪ ]28 :‬يعني‪ :‬يراجع بعضهم بعضا‪ ،‬ويتناقشون فيما في الكتاب‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪َ {:‬أفَلَ‬
‫يَ َروْنَ َألّ يَ ْرجِعُ إِلَ ْي ِهمْ َق ْولً َولَ َيمِْلكُ َلهُ ْم ضَرّا َولَ َنفْعا }[طه‪.]89 :‬‬
‫والسياق يقتضي أن نقول‪ :‬فذهب الهدهد بالكتاب‪ ،‬وألقاه عند بلقيس فقرأتْه واستشارتْ فيه أتباعها‬
‫وخاصتها‪ ،‬ثم قالت‪ { :‬قَاَلتْ ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ }‬

‫(‪)3115 /‬‬

‫قَاَلتْ يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ إِنّي أُ ْل ِقيَ إَِليّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (‪)29‬‬

‫نلحظ هنا سرعة جواب المر{ اذْهَب }[النمل‪ ]28 :‬فبعده مباشرة قالت ملكة سبأ‪ { :‬قَاَلتْ ياأَ ّيهَا‬
‫ا ْلمَلُ إِنّي أُ ْلقِيَ إَِليّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [النمل‪ ]29 :‬وهذا يدل على أن أوامر سليمان كانت محوطة‬
‫بالتنفيذ العاجل؛ لذلك حذف السياق كل التفاصيل بين المر{ اذْهَب }[النمل‪ ]28 :‬والجواب‬
‫{ قَاَلتْ } [النمل‪ ]29 :‬هكذا على وجه السرعة‪.‬‬
‫ومعنى { ا ْلمَلُ } [النمل‪ ]29 :‬هم أعيان القوم وأشرافهم والمستشارون والخاصة { إِنّي أُ ْل ِقيَ إَِليّ‬
‫كِتَابٌ كَرِيمٌ } [النمل‪ ]29 :‬فوصفتْ الكتاب بأنه كريم إما لنها سمعتْ عن سليمان ـ عليه السلم‬
‫سطّر على ورق رَاقٍ وبخط جميل‪ ،‬وبعد ذلك هو ممهور‬
‫ـ وعظمة مُلْكه‪ ،‬أو‪ :‬لن الكتاب ُ‬
‫بخاتمه الرسمي‪ ،‬مما يدل على أنه كتاب هام ينبغي دراسته وأَخذْ الرأي فيه‪.‬‬

‫(‪)3116 /‬‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ (‪)30‬‬


‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫ن وَإِنّهُ بِ ْ‬
‫إِنّهُ مِنْ سُلَ ْيمَا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فهي تعرف سليمان‪ ،‬وتعرف نُبوّته وصفاته‪ ،‬وأنه يكاتبهم باسْم ال و َيصْدُر في دعوتهم عن‬
‫أوامر ال‪ ،‬وكان مجمل الكتاب بعد بسم ال الرحمن الرحيم‪َ { :‬ألّ َتعْلُواْ عََليّ وَأْتُونِي }‬

‫(‪)3117 /‬‬

‫ي وَأْتُونِي مُسِْلمِينَ (‪)31‬‬


‫أَلّا َتعْلُوا عََل ّ‬

‫إنها برقية موجزة في أبلغ ما يكون اليجاز { َألّ َتعْلُواْ عََليّ } [النمل‪ ]31 :‬العلو هنا بمعنى‬
‫الغطرسة والزّهو الذي يعتاده الملوك خاصة‪ ،‬وهي مِثْله‪ ،‬ملكة لها عَرْش عظيم‪ ،‬وأُوتيتْ من كل‬
‫شيء وكونه يخاطبها بهذه اللهجة المختصرة البعيدة عن النقاش والجدال‪ ،‬هذا أمر يحتاج منها إلى‬
‫نظر وإلى أَنَاةٍ‪.‬‬
‫لذلك بعد أن اخبرتْ مستشاريها بأمر الكتاب‪ ،‬وما ورد فيه طلبتْ منهم الرأي والمشورة‪ { :‬قَاَلتْ‬
‫ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ }‬

‫(‪)3118 /‬‬

‫شهَدُونِ (‪)32‬‬
‫طعَةً َأمْرًا حَتّى تَ ْ‬
‫قَاَلتْ يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ َأفْتُونِي فِي َأمْرِي مَا كُ ْنتُ قَا ِ‬

‫سبق أن تكلمنا في معنى الفتوى‪ ،‬وأنها من الفُتوة أي‪ :‬القوة‪ ،‬وهي مثل‪ :‬غَ ِنيَ فلن أي‪ :‬صار غنيا‬
‫بذاته‪ ،‬وأغناه غيره أمدّه بالغنى‪ ،‬كذلك أفتاه يعني‪ :‬أعطاه قوة في الحكم والحجة‪.‬‬
‫وقالت‪ { :‬فِي َأمْرِي } [النمل‪ ]32 :‬مع أن المر خاصّ بالدولة كلها‪ ،‬ل بها وحدها؛ لنها رمز‬
‫للدولة وللملْك‪ ،‬وإنْ تعرض لها سليمان فسوف يُخدش مُلْكها أولً‪ ،‬ويُنال من هيبتها قبل رعيتها‪.‬‬
‫شهَدُونِ } [النمل‪ ]32 :‬يعني‪ :‬ل أَ ُبتّ في أمر إل في حضوركم‪ ،‬وبعد‬
‫ط َعةً َأمْرا حَتّىا َت ْ‬
‫{ مَا كُنتُ قَا ِ‬
‫استشارتكم‪ .‬وهذا يدل على أنها كانت تأخذ بمبدأ الشورى رغم ما كان لها من الملْك والسيطرة‬
‫والهيمنة‪.‬‬
‫فردّ عليها المل من قومها‪ { :‬قَالُواْ َنحْنُ ُأوْلُو ُق ّوةٍ }‬

‫(‪)3119 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قَالُوا نَحْنُ أُولُو ُق ّوةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالَْأمْرُ إِلَ ْيكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَ ْأمُرِينَ (‪)33‬‬

‫يعني‪ :‬نحن أصحاب قوة في أجسامنا‪ ،‬وأصحاب شجاعة وبأس أي جيوش فيها عَدَد وعُدة‬
‫لمْرُ إِلَ ْيكِ } [النمل‪ ]33 :‬أي‪ :‬إنْ رأيتِ الحرب‪ ،‬فنحن علىأُهْبة الستعداد‪ ،‬فهم يعرضون‬
‫{ وَا َ‬
‫عليها رأيهم دون أنْ يُلزموها به‪ ،‬فهو رَأْي سياسي ل رأي حربي‪ ،‬فهي صاحبة قرار الحرب إنْ‬
‫أرادتْ { فَانظُرِي مَاذَا تَ ْأمُرِينَ } [النمل‪ ]33 :‬يعني‪ :‬نحن على استعداد للسّلْم وللحرب‪ ،‬وننتظر‬
‫أمرك‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَاَلتْ إِنّ ا ْلمُلُوكَ }‬

‫(‪)3120 /‬‬

‫جعَلُوا أَعِ ّزةَ أَهِْلهَا َأذِلّ ًة َوكَذَِلكَ َي ْفعَلُونَ (‪)34‬‬


‫قَاَلتْ إِنّ ا ْلمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً َأفْسَدُوهَا َو َ‬

‫سدُوهَا } [النمل‪ ،]34 :‬ذلك لنهم يريدون‬


‫وتعرض بلقيس رأيها { إِنّ ا ْلمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْ َيةً َأفْ َ‬
‫مُلْكا‪ ،‬فينهبون كل ما يمرّون به بل ويُخربون ويفسدون لماذا؟ لنهم ساعةَ يصل الملِك المغير ل‬
‫يضمن النصر؛ لذلك يُخرّب كل شيء‪ ،‬حتى إذا ما عرف أنه انتصر‪ ،‬وأن المور قد استقرتْ له‬
‫يحافظ على الشياء ول يُخربها‪.‬‬
‫جعَلُواْ أَعِ ّزةَ أَهِْلهَآ أَذِلّةً } [النمل‪ ]34 :‬لن الملْك يقوم على أنقاض مُلْك قديم‪ ،‬فيكون أصحاب‬
‫{ وَ َ‬
‫العزة والسيادة هم أول مَنْ يُبدأ بهم؛ لن المر ُأخِذ من أيديهم‪ ،‬وسوف يس َعوْن لستعادته‪ ،‬ول بُدّ‬
‫ن يكون عندهم غَيْظ ولَدَد في الخصومة‪.‬‬
‫أْ‬
‫أما قوله تعالى‪َ { :‬وكَذاِلكَ َي ْفعَلُونَ } [النمل‪ ]34 :‬فللعلماء فيه كلم‪ :‬قالوا إنه من كلم بلقيس‪،‬‬
‫وكأنه تذييل لكلمها السابق‪ ،‬لكن ماذا يضيف { َوكَذاِلكَ َي ْفعَلُونَ } [النمل‪ ]34 :‬بعد أن قالت { إِنّ‬
‫جعَلُواْ أَعِ ّزةَ أَهِْلهَآ أَ ِذلّةً } [النمل‪.]34 :‬‬
‫ا ْلمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً َأفْسَدُوهَا َو َ‬
‫فالرأي الصواب أن هذه العبارة من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ليُصدّق على كلمها‪ ،‬وأنها‬
‫أصابت في رأيها‪ ،‬فكذلك يفعل الملوك إذا دخلوا قرية‪ ،‬مما يدل على أن الحق سبحانه رب الخلْق‬
‫أجمعين‪ ،‬إذا سمع من عبد من عبيده كلمة حق يؤيده فيها‪ ،‬ل يتعصب ضده‪ ،‬ول يهضمه حقه‪.‬‬

‫(‪)3121 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَإِنّي مُرْسَِلةٌ إِلَ ْيهِمْ ِبهَدِيّةٍ فَنَاظِ َرةٌ بِمَ يَ ْرجِعُ ا ْلمُ ْرسَلُونَ (‪)35‬‬

‫بعد أنْ ترك لها المستشارون المر والتدبير أخذتْ تُعمِل عقلها‪ ،‬وتستخدم فطنتها وخبرتها بحياة‬
‫الملوك‪ ،‬فقالت‪ :‬إنْ كان سليمان مَلِكا فسوف يطمع في خيرنا‪ ،‬وإنْ كان نبيا فلن يهتم بشيء منه‪،‬‬
‫فقررتْ أنْ تُرسل له هدية تناسب مكانته كملك ومكانتها هي أيضا‪ ،‬لتثبت له أنها على جانب كبير‬
‫من الثراء والغنى‪.‬‬
‫ول بد أنها كانت ثمينة لتستميل الملك‪ ،‬أو كما نقول (تلوحه أو تلويه)‪.‬‬
‫جعُ ا ْلمُرْسَلُونَ } [النمل‪ ]35:‬فإنْ كان ملكا قَبِلها‪ ،‬وعرفنا‬
‫{ وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَ ْيهِمْ ِبهَدِيّةٍ فَنَاظِ َرةٌ ِبمَ يَرْ ِ‬
‫أن علجه في بعض الخراج والموال تُسَاق إليه كل عام‪ ،‬وإنْ كان نبيا فلن يقبل منها شيئا‪ ،‬وهذا‬
‫ت قومها ويلت الحرب‬
‫رَأْي جميل من بلقيس يدل على فِطْنتها وذكائها وحصافتها‪ ،‬حيث جنّب ْ‬
‫والمواجهة‪.‬‬

‫(‪)3122 /‬‬

‫فََلمّا جَاءَ سُلَ ْيمَانَ قَالَ أَ ُتمِدّونَنِ ِبمَالٍ َفمَا آَتَا ِنيَ اللّهُ خَيْرٌ ِممّا آَتَا ُكمْ َبلْ أَنْتُمْ ِب َهدِيّ ِتكُمْ َتفْرَحُونَ (‪)36‬‬

‫أي‪ :‬فلما جاء رسول بلقيس إلى سليمان بالهدية { قَالَ أَ ُتمِدّونَنِ ِبمَالٍ َفمَآ آتَا ِنيَ اللّهُ خَيْرٌ ّممّآ آتَاكُمْ }‬
‫[النمل‪ ]36 :‬فأيّ هدية هذه‪ ،‬وأنا أملك مُلْكا ل ينبغي لحد من بعدي؟ { َبلْ } [النمل‪ ]36 :‬يعني‪:‬‬
‫اضرب عن الكلم السابق { أَنتُمْ ِب َهدِيّ ِتكُمْ َتفْرَحُونَ } [النمل‪.]36 :‬‬
‫أضاف الهدية إليهم‪ ،‬ل إليه هو‪ ،‬والضافة تأتي إما بمعنى اللم مثل‪ :‬قلم زيد يعني لزيد‪ ،‬أو‪:‬‬
‫ل يعني‪ :‬في الليل‪.‬‬
‫بمعنى من مثل‪ :‬إردب قمح يعني‪ :‬من قمح‪ ،‬أو‪ :‬بمعنى في مثل‪ :‬مكر اللي َ‬
‫فقوله { ِبهَدِيّ ِتكُمْ } [النمل‪ ]36 :‬إما أن يكون المراد‪ :‬هدية لكم‪ .‬أي‪ :‬فأنتم تفرحون إنْ جاءتكم هدية‬
‫ن يقول (بركة يا جامع) أو‪ :‬هدية منكم‪ .‬أي‪:‬‬
‫من أحد‪ ،‬أو لنني سأردّها إليكم فتفرحوا بردّها كمَ ْ‬
‫أنكم تفرحون إنْ أهديتم لي هدية فقبلتُها منكم‪.‬‬
‫فهذه معَانٍ ثلثة لقوله‪َ { :‬بلْ أَن ُتمْ ِبهَدِيّ ِت ُكمْ َتفْرَحُونَ } [النمل‪.]36:‬‬

‫(‪)3123 /‬‬

‫جعْ إِلَ ْيهِمْ فَلَنَأْتِيَ ّن ُهمْ بِجُنُودٍ لَا قِ َبلَ َلهُمْ ِبهَا وَلَنُخْ ِرجَ ّنهُمْ مِ ْنهَا أَ ِذلّ ًة وَهُمْ صَاغِرُونَ (‪)37‬‬
‫ارْ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نذكر أن الملكة قالت{ فَنَاظِ َرةٌ بِمَ يَ ْرجِعُ ا ْلمُرْسَلُونَ }[النمل‪ ]35 :‬فكأنه يستشعر نصّ ما قالت‪،‬‬
‫وينطق عن إشراقات النبوة فيه‪ ،‬فيقول‪ { :‬ارْجِعْ إِلَ ْيهِمْ فَلَنَأْتِيَ ّنهُم بِجُنُو ٍد لّ قِ َبلَ َلهُمْ ِبهَا } [النمل‪:‬‬
‫‪.]37‬‬
‫طوْر المواجهة؛ لن كلمنا كل ُم النبوة التي ل تقبل المساومة‪ ،‬ل كلم‬
‫وهكذا دخلتْ المسألة في َ‬
‫الملك الذي يسعى لحطام الدنيا‪.‬‬
‫{ وَلَ ُنخْرِجَ ّنهُم مّ ْنهَآ َأذِلّ ًة وَ ُه ْم صَاغِرُونَ } [النمل‪ ]37 :‬وكأنه يكشف لهم عن َقوْل ملكتهم‪ {:‬إِنّ‬
‫جعَلُواْ أَعِ ّزةَ أَهِْلهَآ أَ ِذلّةً }[النمل‪ ]34 :‬وهذه أيضا من إشراقات‬
‫ا ْلمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً َأفْسَدُوهَا َو َ‬
‫النبوة‪.‬‬
‫ومعنى { لّ قِ َبلَ َلهُمْ ِبهَا } [النمل‪ ]37 :‬تقول‪ :‬ل قِبَل لي بكذا‪ .‬يعني‪ :‬ل أستطيع مقابلته‪ ،‬وأنا‬
‫أضعف من أنْ أقابله‪َ ،‬أوْ ل طاقة لي به { وَلَ ُنخْرِجَ ّنهُم مّ ْنهَآ َأذِلّةً } [النمل‪ ]37 :‬لنه سيسلب مُلْكهم‪،‬‬
‫حدّته عليهم { وَ ُه ْم صَاغِرُونَ } [النمل‪ ]37 :‬لنهم‬
‫ن كانوا ملوكا صاروا عبيدا‪ ،‬ثم يزيد في ِ‬
‫فبعد أ ْ‬
‫صغَار ل‬
‫قد يقبلون حالة العبودية وعيشة الرعية‪ ،‬فزاد { وَهُ ْم صَاغِرُونَ } [النمل‪ ]37 :‬لن ال ّ‬
‫يكون إل بالقَتْل والَسْر‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالَ ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ }‬

‫(‪)3124 /‬‬

‫شهَا قَ ْبلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسِْلمِينَ (‪)38‬‬


‫قَالَ يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ أَ ّيكُمْ يَأْتِينِي ِبعَرْ ِ‬

‫شهَا قَ ْبلَ أَن يَأْتُونِي مُسِْلمِينَ }‬


‫المل‪ :‬أشراف القوم وسادتهم وأصحاب الرأي فيهم { أَ ّيكُمْ يَأْتِينِي ِبعَرْ ِ‬
‫[النمل‪ ]38 :‬هنا أيضا مظهر من إشراقات النبوة عند سليمان‪ ،‬فهو يعلم ما سيحدث عندهم حينما‬
‫تعود إليهم هديتهم‪ ،‬وأنهم سيسارعون إلى السلم‪ ،‬فردّ الهدية يعني أننا أصحاب كلمة ورسالة‬
‫ومبدأ ندافع عنه ل أصحاب مصلحة‪.‬‬
‫ولما علم أنهم سيأتون مسلمين طلب من جنوده أنْ يأتوه بعرشها‪ ،‬وحدّد زمن التيان بهذا العرش {‬
‫قَ ْبلَ أَن يَأْتُونِي مُسِْلمِينَ } [النمل‪.]38 :‬‬
‫حمْله إلى مملكة سليمان‪ ،‬ثم إعادة تركيبه‬
‫إذن‪ :‬ل بُدّ من الذهاب إلى مملكة سبأ وفكّ العرش‪ ،‬و َ‬
‫عنده‪ ،‬وهذه مهمة بالطبع فوق قدرة البشر؛ لذلك لم يتكلم منهم أحد‪ ،‬حتى الجن العادي لم يعرض‬
‫عفْرِيتٌ مّن الْجِنّ }‬
‫على سليمان استعداده للقيام بهذه المهمة‪ { :‬قَالَ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3125 /‬‬

‫ك وَإِنّي عَلَ ْيهِ َل َقوِيّ َأمِينٌ (‪)39‬‬


‫عفْريتٌ مِنَ الْجِنّ أَنَا آَتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَنْ َتقُومَ مِنْ مَقَا ِم َ‬
‫قَالَ ِ‬

‫والجن في القدرة والمهارة مثل النس‪ ،‬منهم القوى الماهر‪ ،‬ومنهم العَييّ الذي ل يجيد شيئا‪ .‬نقول‬
‫(لبخة) وكلمة عفريت من تعفير التراب‪ ،‬وكانوا حينما يتسابقون في العَدُو بالخيل أو غيرها‪ ،‬فمَنْ‬
‫يسبق منهم يُثير الغبار في وجه الخر فيُعطلّه عن السّبْق‪ .‬فقالوا‪ :‬عفريت يعني عفّر من وراءه‪.‬‬
‫سمّي عفريتا‪.‬‬
‫أو‪ :‬المعنى أنه يُعفّر وجه مَنْ عارضه بالتراب ف ُ‬
‫إذن‪ :‬فالعفريت هو الخبيث الماكر من الجنّ‪ ،‬وصاحب القوة الخارقة فيهم‪ ،‬وهو الذي تعرّض لهذه‬
‫المهمة‪ ،‬وقال { أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن ّمقَا ِمكَ } [النمل‪.]39 :‬‬
‫وهذا كلم مُجْمل؛ لن مقام سليمان بين رعيته للحكم أو للمدارسة سوف يستغرق وقتا‪ :‬ساعة أو‬
‫ساعتين مثلً‪ ،‬وقد تعهّد العفريت أنْ يأتي بالعرش في هذا الوقت يعني‪ :‬لن يُؤخّره إلى جلسة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَإِنّي عَلَيْهِ َل َق ِويّ َأمِينٌ } [النمل‪ ]39 :‬يدل على أن هذا العفريت يعلم فخامة هذا العرش‬
‫وضخامته‪ ،‬وأنه شيء نفيس يستحق العتناء به‪ ،‬خاصة في عملية نقله؛ لذلك قال من ناحية كبره‬
‫حمْله‪ ،‬ومن ناحية نفاسته وفخامته‪ ،‬فأنا عليه أمين لن أُبدّد‬
‫وضخامته " فأنا عليه قوي " قادر على َ‬
‫منه شيئا‪.‬‬
‫ثم تكلّم آخر لم يُحدّده القرآن إل بالوصف‪ { :‬قَالَ الّذِي عِن َدهُ عِلْمٌ }‬

‫(‪)3126 /‬‬

‫قَالَ الّذِي عِنْ َدهُ عِلْمٌ مِنَ ا ْلكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَنْ يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ فََلمّا َر َآهُ مُسْ َتقِرّا عِنْ َدهُ قَالَ َهذَا‬
‫شكُرُ لِ َنفْسِ ِه َومَنْ كَفَرَ فَإِنّ رَبّي غَ ِنيّ كَرِيمٌ‬
‫شكَرَ فَإِ ّنمَا َي ْ‬
‫شكُرُ َأمْ َأ ْكفُرُ َومَنْ َ‬
‫ضلِ رَبّي لِيَبُْلوَنِي أَأَ ْ‬
‫مِنْ َف ْ‬
‫(‪)40‬‬

‫جفْن العلى للعين‪.‬‬


‫الطرف‪ :‬ال ِ‬
‫تكلم العلماء في هذه الية‪ :‬أولً‪ :‬قالوا { ا ْلكِتَابِ } [النمل‪ ]40 :‬يُراد به اللوح المحفوظ‪ ،‬يُعلم ال‬
‫تعالى بعض خَلْقه أسرارا من اللوح المحفوظ‪ ،‬أما الذي عنده علم من الكتاب فقالوا‪ :‬هو آصف بن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫برخيا‪ ،‬وكان رجلً صالحا أطلعه ال على أسرار الكون‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬بل هو سليمان عليه السلم‪ ،‬لما قال له العفريت{ أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن ّمقَا ِمكَ‬
‫}[النمل‪ ]39 :‬قال هو‪ { :‬أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ } [النمل‪ ]40 :‬لنه لو كان شخصا‬
‫آخر لكان له تفوّق على سليمان في معرفة الكتاب‪.‬‬
‫لكن رَدّوا عليهم بأن من عظمة سليمان أنْ يعلمَ أحد رعيته هذا العلم‪ ،‬فمَنْ عنده علم من الكتاب‬
‫بحيث يأتي بالعرش قبل طَرْفة عين هو خادم في مملكة سليمان ومُسخر له‪ ،‬كما أن المزايا ل‬
‫تقتضي الفضلية‪ ،‬وليس شَرْطا في المِلك أنْ يعرف كل شيء‪ ،‬وإل َلقُلْنا للمِلك‪َ :‬تعَال أصلح لنا‬
‫دورة المياه‪.‬‬
‫أما نحن فنميل إلى أنه سليمان عليه السلم‪.‬‬
‫وفَرْق كبير في القدرات بين مَنْ يأتي بالعرش قبل أن يقوم الملك من مجلسه‪ ،‬وبين مَنْ يأتي به‬
‫في طَرْفة عين‪ ،‬و َنقْل العرش من مملكة بلقيس إلى مملكة سليمان يحتاج إلى وقت وإلى قوة‪.‬‬
‫والزمن يتناسب مع القوة تناسبا عكسيا‪ :‬فكلما زادت القوة َقلّ الزمن‪ ،‬فمثلً حين تُكلّف الطفل‬
‫الصغير بنقل شيء من مكانه إلى مكان ما‪ ،‬فإنه يذهب إليه ببُطْء ويحمله ببُطء حتى يضعه في‬
‫مكانه‪ ،‬أما الرجل فبيده وفي سرعة ينقله‪ ،‬وهذه المسألة نلحظها في وسائل المواصلت‪ ،‬ففرْق‬
‫بين السفر بالسيارة‪ ،‬والسفر بالطائرة‪ ،‬والسفر بالصاروخ مثلً‪.‬‬
‫وهذه تكلّمنا عنها في قصة " السراء والمعراج " فقد ُأسْرِي برسول ال صلى ال عليه وسلم بهذه‬
‫السرعة؛ لن ال تعالى َأسْرى به‪ ،‬ونقله من مكان إلى مكان؛ لذلك جاءت الرحلة في سرعة فوق‬
‫تصوّر البشر‪.‬‬
‫وما دام الزمن يتناسب مع القوة‪ ،‬فل تنسب الحدث إلى رسول ال‪ ،‬إنما إلى ال‪ ،‬إلى قوة القوى‬
‫ن قلتَ‪ :‬فلماذا استغرقتْ الرحلة ليل َة وأخذت وقتا؟ نقول‪ :‬لنه‬
‫التي ل تحتاج إلى زمن أصلً‪ ،‬فإ ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم مرّ بأشياء‪ ،‬ورأى أشياء‪ ،‬وقال‪ ،‬وسأل‪ ،‬وسمع‪ ،‬فهو الذي شغل هذا الوقت‪،‬‬
‫أمّا السراء نفسه فل زمنَ له‪.‬‬
‫لذلك قبل أن يخبرنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ بهذه الحادثة العجيبة قال‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي َأسْرَىا‬
‫ِبعَبْ ِدهِ }[السراء‪ ]1 :‬أي‪ :‬نزّهه عن مشابهة غيره‪ ،‬كذلك مسألة َنقْل العرش في طرْفة عين ل بُدّ‬
‫ن فعلها فعلها بعون من ال وبعلم أطلعه ال عليه‪ ،‬فنقله بكُنْ التي ل تحتاج وقتا ول قوة‪ ،‬وما‬
‫أن مَ ْ‬
‫دام المر بإرادة ال وقوته وإلهامه فل نقول إل‪ :‬آمين‪.‬‬

‫وفي قوله للجن‪ } :‬أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن يَرْتَدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ { [النمل‪ ]40 :‬تح ّد لعفريت الجن‪ ،‬حتى ل‬
‫يظن أنه أقوى من النسان‪ ،‬فإنْ أراد ال منحني من القوة ما أتفوّق عليك به‪ ،‬بل وأُسخّرك بها‬
‫لخدمتي‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جفَانٍ‬
‫ب وَ َتمَاثِيلَ وَ ِ‬
‫ومن ذلك قوله سبحانه عن تسخير الجن‪َ {:‬ي ْعمَلُونَ َلهُ مَا يَشَآءُ مِن مّحَارِي َ‬
‫ب َوقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ }[سبأ‪.]13 :‬‬
‫جوَا ِ‬
‫كَالْ َ‬
‫وليعلموا أنهم جهلء‪ ،‬ظلّوا يعملون لسليمان وهو ميت ومُتكىء على عصاه أمامهم‪ ،‬وهم‬
‫مرعوبون خائفون منه‪.‬‬
‫والتحدي قد يكون بالعُُلوّ‪ ،‬وقد يكون بالدّنُو‪ ،‬كالذي قال لصاحبه‪ :‬أنا دارس باريس دراسة دقيقة‪،‬‬
‫ن أركب معك السيارة وأقول لك‪ :‬أين نحن منها‪ ،‬وأمام أيّ محل‪ ،‬وأنا ُمغْمض العينين‪،‬‬
‫وأستطيع أ ْ‬
‫فقال الخر‪ :‬وأنا أستطيع أن أخبرك بذلك بدون أن أُغمِض عَيْنيّ‪.‬‬
‫ضلِ رَبّي { [النمل‪:‬‬
‫وقوله‪ } :‬فََلمّا رَآهُ { [النمل‪ ]40 :‬أي‪ :‬العرش } مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ قَالَ هَـاذَا مِن َف ْ‬
‫‪ ]40‬إما لنه أقدره على التيان به بنفسه‪ ،‬أو سخّر له مَنْ عنده علم من الكتاب‪ ،‬فأتاه به‪ ،‬فهذه أو‬
‫ذلك فضل من ال‪.‬‬
‫شكُرُ أَمْ َأ ْكفُرُ { [النمل‪ ]40 :‬يعني‪ :‬أشكر ال فأُوفّق في هذا‬
‫} لِيَبُْلوَنِي { [النمل‪ ]40 :‬يختبرني } أَأَ ْ‬
‫الختبار؟ أم أكفر بنعمة ال فأخفق فيه؟ لن الختبار إنما يكون بنتيجته‪.‬‬
‫والشكر بأن ينسب النعمة إلى المنعم وألّ يلهيه جمال النعمة عن جلل واهبها ومُسْديها‪ ،‬فيقول‬
‫مثلً‪ :‬إنما أوتيته على علم عندي‪.‬‬
‫شكْرنا شيئا‪ ،‬فله‬
‫سهِ { [النمل‪ ]40 :‬أي‪ :‬أن ال تعالى ل يزيده ُ‬
‫شكُرُ لِ َنفْ ِ‬
‫شكَرَ فَإِ ّنمَا يَ ْ‬
‫وقوله‪َ } :‬ومَن َ‬
‫ـ سبحانه وتعالى ـ صفات الكمال المطلق قبل أنْ يشكره أحد‪ ،‬فمَنْ يشكر فإنما يعود عليه‪ ،‬وهو‬
‫شكْره‪.‬‬
‫ثمرة ُ‬
‫} َومَن َكفَرَ { [النمل‪ ]40 :‬يعني‪ :‬جحد النعمة ولم يشكر المنعم } فَإِنّ رَبّي غَ ِنيّ { [النمل‪]40 :‬‬
‫أي‪ :‬عن شكره } كَرِيمٌ { [النمل‪ ]40 :‬أي يعطي عبده رغم ما كان منه من جحود وكفر بالنعمة؛‬
‫لن نعمه تعالى كثيرة ل ُتعَدّ‪ ،‬وهذا من حِلمه تعالى ورأفته بخَلْقه‪.‬‬
‫حصُوهَا }[إبراهيم‪ ]34 :‬وقد تكررت هذه‬
‫لذلك لما نتأمل قوله تعالى‪ {:‬وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ لَ ُت ْ‬
‫العبارة بنصّها في آيتين من كتاب ال‪ ،‬مما جعل البعض يرى فيها تكرارا ل فائدة منه‪ ،‬لكن لو‬
‫عجُز كل منهما لوجدناه مختلفا‪.‬‬
‫نظرنا إلى َ‬
‫فالولى تُختتم بقوله تعالى‪ {:‬إِنّ النْسَانَ َلظَلُومٌ َكفّارٌ }[إبراهيم‪ ]34 :‬و الخرى‪ {:‬إِنّ اللّهَ َلغَفُورٌ‬
‫رّحِيمٌ }[النحل‪.]18 :‬‬
‫إذن‪ :‬فهما متكاملتان‪ ،‬لكلّ منهما معناها الخاص‪ ،‬فالولى تبين ظلم النسان حين يكفر بنعمة ال‬
‫عليه ويجحدها‪ ،‬وتضيف الخرى أن ال تعالى مع ذلك غفور لعبده رحيم به‪.‬‬
‫كما نلحظ في الية‪ {:‬وَإِن َتعُدّواْ }[إبراهيم‪ ]34 :‬استخدم (إنْ) الدالة على الشك؛ لن أحدا ل يجرؤ‬
‫على عَدّ ِنعَم ال في الكون‪ ،‬فهي فوق الحصر؛ لذلك لم ُيقْدِم على هذه المسألة أحد‪ ،‬مع أنهم‬
‫بوسائلهم الحديثة أحصُوا كل شيء إل نعم ال لم يتصَ ّد لحصائها أحد في معهد أو جامعة ممن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تخصصت في الحصاء‪.‬‬
‫وهذا دليل على أنها مقطوع بالعجز عنها‪ ،‬كما لم نجد مثلً مَنْ تصدّى لحصاء عدد الرمل في‬
‫الصحراء‪ .‬كما نقف عند قوله سبحانه‪ِ {:‬ن ْع َمتَ اللّهِ }[إبراهيم‪ ]34 :‬ولم ي ُقلْ‪ِ :‬نعَم ال‪ ،‬فالعجز عن‬
‫الحصاء أمام نعمة واحدة؛ لن تحتها ِنعَم كثيرة لو تتبعتها لوجدتها فوق الحصر‪.‬‬
‫شهَا {‬
‫ثم لما جاءته بلقيس أراد أن يُجري لها اختبا َر عقلٍ‪ ،‬واختبارَ إيمان‪ } :‬قَالَ َنكّرُواْ َلهَا عَرْ َ‬

‫(‪)3127 /‬‬

‫شهَا نَنْظُرْ أَ َتهْ َتدِي أَمْ َتكُونُ مِنَ الّذِينَ لَا َيهْتَدُونَ (‪)41‬‬
‫قَالَ َنكّرُوا َلهَا عَ ْر َ‬

‫قوله‪َ { :‬نكّرُواْ } [النمل‪ ]41 :‬ضده عرّفوا؛ لنه جاء بالعرش على هيئته كما كان عندها في سبأ‪،‬‬
‫شهَا }‬
‫ولو رأتْه على حالته الولى لقالتْ هو هو‪ ،‬ولم يظهر له ذكاؤها؛ لذلك قال { َنكّرُواْ َلهَا عَرْ َ‬
‫[النمل‪ ]41 :‬يعني‪ :‬غيّروا بعض معالمه‪ ،‬ومنه شخص متنكر حين يُغيّر ملمحه وزيّه حتى ل‬
‫يعرف مَنْ حوله‪.‬‬
‫ن لَ َيهْتَدُونَ } [النمل‪ ]41 :‬تهتدي إيمانا إلى السلم‪ ،‬أو تهتدي‬
‫{ نَنظُرْ أَ َتهْتَدِي َأمْ َتكُونُ مِنَ الّذِي َ‬
‫عقليا إلى الجواب في مسألة العرش‪.‬‬

‫(‪)3128 /‬‬

‫شكِ قَاَلتْ كَأَنّهُ ُهوَ وَأُوتِينَا ا ْلعِ ْلمَ مِنْ قَبِْلهَا َوكُنّا ُمسِْلمِينَ (‪)42‬‬
‫فََلمّا جَا َءتْ قِيلَ أَ َه َكذَا عَرْ ُ‬

‫شكِ } [النمل‪ ]42 :‬ليُعمّي عليها أمر العرش‪ ،‬وليختبر دقة‬


‫جاء السؤال بهذه الصيغة { أَ َه َكذَا عَرْ ُ‬
‫شكِ } [النمل‪]42 :‬‬
‫ملحظتها‪ ،‬فلو قال لها‪ :‬أهذا عرشك؟ لكان إيحاءً لها بالجواب إنما { َأ َهكَذَا عَرْ ُ‬
‫كأنه يقول‪ :‬ليس هذا عرشك‪ ،‬فلما نظرتْ إليه اجمالً عرفتْ أنه عرشها‪ ،‬فلما رأتْ ما فيه من‬
‫تغيير وتنكير ظنتْ أنه غيره؛ لذلك اختارتْ جوابا دبلوماسيا يحتمل هذه وهذه‪ ،‬فقالت { كَأَنّهُ ُهوَ }‬
‫[النمل‪ ]42 :‬وعندها فهم سليمان أنها على َقدْر كبير من الذكاء والفِطْنة وحصافة الرأي‪.‬‬
‫وكذلك كلم السّاسَة والدبلوماسيين تجده كلما يصلح لكل الحتمالت وليّ واقع بعده‪ ،‬فإذا جاء‬
‫المر على خلف ما قال لك يسبقك بالقول‪ :‬ألم َأ ُقلْ لك كذا وكذا‪.‬‬
‫ومن ذلك ما قاله معاوية بن أبي سفيان للحنف بن قيس‪ :‬يا أحنف لماذا ل تسبّ عليا على المنبر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كما يسبّه الناس؟ فقال الحنف‪ :‬اعفني يا أمير المؤمنين‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬عزمتُ عليك إلّ فع ْلتَ‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أما وقد عزمت عليّ فسأصعد المنبر‪ ،‬ولكني سأقول للناس‪ :‬إن أمير المؤمنين معاوية أمرني‬
‫ن عليا‪ ،‬فقولوا معي‪ :‬لعنه ال‪ .‬عندها قال معاوية‪ :‬ل يا أحنفُ‪ ،‬ل تقل شيئا‪.‬‬
‫أنْ ألع َ‬
‫عِليّ؟‬
‫لماذا؟ لن اللعن في هذه الحالة سيعود على مَنْ؟ على معاوية أو عَلَى َ‬
‫وتُحكَي قصة الخيّاط العور الذي خاط لحد الشعراء جُبّة فجاءت وَأحَد ال ُكمّيْن أطول من الخر‪،‬‬
‫فلم يستطع لبسها‪ ،‬فلما سألوه عن عدم لُبْس الجبة الجديدة أخبرهم بما حدث من الخياط فقالوا‪:‬‬
‫سوَاءُفالكلم‬
‫عمْروا قُباء لَ ْيتَ عينيه َ‬
‫شعْرا لَيْس يُدْرَى أَمديحٌ أَمْ ِهجَا ُءخَاطَ لِي َ‬
‫أُهْجه‪ ،‬فقال‪:‬قُلْت ِ‬
‫يحتمل المعنيين‪ :‬الدعاء له‪ ،‬والدعاء عليه‪ .‬هذا هو الرد الدبلوماسي الذي يهرب به صاحبه من‬
‫المواجهة‪.‬‬
‫وكذلك قالتْ بلقيس جوابا دبلوماسيا { كَأَنّهُ ُهوَ } [النمل‪ ]42 :‬أما { وَأُوتِينَا ا ْلعِلْمَ مِن قَبِْلهَا َوكُنّا‬
‫مُسِْلمِينَ } [النمل‪ ]42 :‬فيحتمل أنْ يكون امتدادا لقوْل بلقيس‪ ،‬يعني‪ :‬أوتينا العلم من قبل هذه‬
‫الحادثة‪ ،‬وعرفنا أنك نبيّ لما رددتَ إلينا الهدية‪ ،‬وقلت ما قلت‪ ،‬فلم نكُنْ في حاجة إلى مثل هذه‬
‫الحادثة لنعلم نُبوّتك‪.‬‬
‫ويُحتمل أنها من كلم سليمان عليه السلم‪.‬‬

‫(‪)3129 /‬‬

‫َوصَدّهَا مَا كَا َنتْ َتعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّهِ إِ ّنهَا كَا َنتْ مِنْ َقوْمٍ كَافِرِينَ (‪)43‬‬

‫المعنى‪ :‬صدّها ما فعل سليمان من أحداث‪ ،‬وما أظهر لها من آيات‪ ،‬صدّها عن الكفر الذي أَِلفَتْه {‬
‫إِ ّنهَا كَا َنتْ مِن َقوْمٍ كَافِرِينَ } [النمل‪ ]43 :‬فصدّها سليمان بما فعل عما كانت تعبد من دون ال‪.‬‬

‫(‪)3130 /‬‬

‫ش َفتْ عَنْ سَاقَ ْيهَا قَالَ إِنّ ُه صَرْحٌ ُممَرّدٌ مِنْ َقوَارِيرَ‬
‫قِيلَ َلهَا ا ْدخُلِي الصّرْحَ فََلمّا َرأَتْهُ حَسِبَتْهُ ُلجّ ًة َوكَ َ‬
‫سلَ ْيمَانَ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)44‬‬
‫قَاَلتْ َربّ إِنّي ظََل ْمتُ َنفْسِي وَأَسَْل ْمتُ مَعَ ُ‬

‫الصّرْح‪ :‬إما أن يكون القصر المشيد الفخم‪ , ،‬وإما أن يكون البهو الكبير الذي يجلس فيه الملوك‬
‫حسِبَتْهُ ُلجّةً } [النمل‪ ]44 :‬ظنّته ماءً‪ ،‬والنسان إذا رأى‬
‫مثل‪ :‬إيوان كسرى مثلً‪ ،‬فلما دخلتْ { َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أمامه ماءً أو بَلَلً يرفع ثيابه بعملية آلية َقسْرية حتى ل يصيبه البَلَل؛ لذلك كشفتْ بلقيس عن‬
‫ساقيها يعني‪ :‬رفعتْ ذَيْل ثوبها‪.‬‬
‫وهنا نَبهها سليمان { إِنّ ُه صَرْحٌ ّممَرّدٌ مّن قَوارِيرَ } [النمل‪ ]44 :‬يعني‪ :‬ادخلي ل تخافي بللً‪ ،‬فهذا‬
‫ليس لُجةَ ماء‪ ،‬إنما صَرْح ممرد من قوارير يعني‪ :‬مبنيّ من الزجاج والبللور أو الكريستال‪ ،‬بحيث‬
‫يتموج الماء من تحته بما فيه من أسماك‪.‬‬
‫{ قَاَلتْ َربّ إِنّي ظََل ْمتُ َنفْسِي } [النمل‪ ]44 :‬بالكفر أولً‪ ،‬وبظنّ السوء في سليمان‪ ،‬وأنه يريد أنْ‬
‫سلَ ْيمَانَ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [النمل‪ ]44 :‬ويبدو أنها لم تنطق‬
‫يُغرقني في لجة الماء { وَأَسَْل ْمتُ مَعَ ُ‬
‫بكلمة السلم صريحة إل هذه المرة‪ ،‬وأن القول السابق{ َوكُنّا مُسِْلمِينَ }[النمل‪ ]42 :‬كان من كلم‬
‫سليمان عليه السلم‪.‬‬
‫وقولها { وَأَسَْل ْمتُ َمعَ سُلَ ْيمَانَ } [النمل‪ ]44 :‬مثل قول سَحَرة فرعون لما رأوا المعجزة‪ {:‬آمَنّا بِ َربّ‬
‫ن َومُوسَىا }[طه‪ ]70 :‬لن اليمان إنما يكون بال والرسول دال على ال‪ ،‬لذلك قالت‪:‬‬
‫هَارُو َ‬
‫{ وَأَسَْل ْمتُ مَعَ سُلَ ْيمَانَ } [النمل‪ ]44 :‬ولم ت ُقلْ‪ :‬أسلمتُ لسليمان‪ ،‬نعم لقد دانتْ له‪ ،‬واقتنعتْ بنبوته‪،‬‬
‫لكن كبرياء الملك فيها جعلها ل تخضع له‪ ،‬وتعلن إسلمها ل مع سليمان؛ لنه السبب في ذلك‪،‬‬
‫وكأنها تقول له‪ :‬ل تظن أنّي أسلمتُ لك‪ ،‬إنما أسلمتُ معك‪ ،‬إذن‪ :‬أنا وأنت سواء‪ ،‬ل يتعالى أحد‬
‫منا على الخر‪ ،‬فكلنا عبد ل‪.‬‬
‫وقد دخل هذه القصة بعض السرائيليات‪ ،‬منها أن سليمان ـ عليه السلم ـ جعل الصرح على‬
‫شعِرة الساقين‪ ،‬وإلى غير هذا من‬
‫هذه الصورة لتكشف بلقيس عن ساقيها؛ لنه بلغه أنها مُ ْ‬
‫الفتراءات التي ل تليق بمقام النبوة‪.‬‬
‫ثم يأتي بنا الحق سبحانه إلى نبي آخر في موكب النبياء‪ { :‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىا َثمُودَ }‬

‫(‪)3131 /‬‬

‫صمُونَ (‪)45‬‬
‫وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى َثمُودَ َأخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْ ُبدُوا اللّهَ فَإِذَا ُهمْ فَرِيقَانِ يَخْ َت ِ‬

‫م ّرتْ بنا قصة نبي ال صالح ـ عليه السلم ـ مع قومه ثمود في سورة الشعراء‪ ،‬وأُعيد ذكرها‬
‫هنا؛ لن القرآن يقصّ على رسول ال من موكب النبياء ما يُثبّت به فؤاده‪ ،‬كلّما تعرض لحداث‬
‫تُزلزل الفؤاد‪ ،‬يعطيه ال النّجْم من القرآن بما يناسب الظروف التي يمرّ بها‪ ،‬وهذا ليس تكرارا‬
‫للحداث‪ ،‬إنما توزيع للقطات‪ ،‬بحيث إذا تجمعتْ تكاملتْ في بناء القصة‪.‬‬
‫وقوله سبحانه { وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَآ إِلَىا َثمُودَ َأخَاهُمْ صَالِحا } [النمل‪ ]45 :‬ل بُدّ أنه أرسل بشيء ما هو؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمّيت (أنْ) التفسيرية‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ‬
‫{ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ } [النمل‪ ]45 :‬لذلك ُ‬
‫ضعِيهِ }[القصص‪.]7 :‬‬
‫مُوسَىا }[القصص‪ ]7 :‬ماذا؟{ أَنْ أَ ْر ِ‬
‫سوَسَ ِإلَيْهِ الشّيْطَانُ }[طه‪ ]120 :‬بأي شيء؟{ قَالَ ياآدَمُ َهلْ‬
‫وقد يأتي التفسير بجملة‪ ،‬كما في‪َ {:‬فوَ ْ‬
‫أَدُّلكَ عَلَىا شَجَ َرةِ ا ْلخُلْدِ َومُ ْلكٍ لّ يَبْلَىا }[طه‪.]120 :‬‬
‫فشرح الوسوسة وهي شيء عام بقوله‪ {:‬قَالَ ياآ َدمُ }[طه‪ ]120 :‬فرسالتنا إلى ثمود ملخصها‬
‫ومؤداها { أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ } [النمل‪.]45 :‬‬
‫والعبادة كما ذكرنا أن نطيع ال بفعل ما أمر‪ ،‬وبترْك ما نهى عنه وزَجر‪ ،‬أما ما لم ي ِردْ فيه أمر‬
‫ول َنهْي فهو من المباحات إنْ شئتَ فعلتها‪ ،‬وإنْ شئت تركتها‪ ،‬وإذا ما استعرضنا حركة الحياء‬
‫والخلفاء في الرض وجدنا ‪ %5‬من حركتهم تدخّل فيها الشارع بافعل ول تفعل‪ ،‬أما الباقي فهو‬
‫مُباح‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالتكليف منُوط بأشياء يجب أنْ تفعلها؛ لن فيها صلحَ مجتمعك‪ ،‬أو أشياء يجب أن تتركها؛‬
‫لن فيها فساد مجتمعك‪.‬‬
‫فماذا كانت النتيجة؟‬
‫صمُونَ } [النمل‪.]45 :‬‬
‫{ فَِإذَا ُهمْ فَرِيقَانِ َيخْ َت ِ‬
‫ن يقف فريق منهم ضد الخر‪ ،‬والمراد أن فريقا منهم عبدوا ال وأطاعوا‪ ،‬والفريق‬
‫والختصام أ ْ‬
‫الخر عارض وكفر بال‪.‬‬
‫وقد وقف عند هذه الية بعض الذين يحبون أنْ يتهجّموا على السلم وعلى أسلوب القرآن‪ ،‬وهم‬
‫يفتقدون الملَكة العربية التي تساعدهم على َفهْم كلم ال‪ ،‬وإنْ تعلّموها فنفوسهم غير صافية‬
‫لستقبال كلم ال‪ ،‬وفيهم خُبْث وسُوء نية‪.‬‬
‫صمُونَ } [النمل‪ ]45 :‬دالة على الجمع‪،‬‬
‫واعتراضهم أن { فَرِيقَانِ } [النمل‪ ]45 :‬مثنى و { َيخْ َت ِ‬
‫فلماذا لم َيقُل‪ :‬يختصمان؟ وهذه لغة القرآن في مواضع عدة‪.‬‬
‫حدَا ُهمَا عَلَىا‬
‫ومنها قوله تعالى‪ {:‬وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا فَإِن َب َغتْ إِ ْ‬
‫الُخْرَىا َفقَاتِلُواْ الّتِي تَ ْبغِي حَتّىا َتفِيءَ إِلَىا َأمْرِ اللّهِ فَإِن فَآ َءتْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا }[الحجرات‪.]9 :‬‬
‫والقياس يقتضي أن يقول‪ :‬اقتتلتا‪ .‬لكن حين نتدبّر المعنى نجد أن الطائفة جماعة مقابل جماعة‬
‫أخرى‪ ،‬فإنْ حدث قتالٌ حمل ُكلّ منهم السلح‪ ،‬ل أن تتقدم الطائفة بسيف واحد‪ ،‬فهم في حال‬
‫القتال جماعة‪.‬‬
‫لذلك قال (اقتتلوا) بصيغة الجمع‪ ،‬أما في البداية وعند تقرير القتال فل ُكلّ طائفة منهما رأْي واحد‬
‫يعبر عنه قائدها‪ ،‬إذن‪ :‬فهما في هذه الحالة مثنى‪.‬‬

‫كما أن الطائفة وإنْ كانت مفردة لفظا إل أنها ل تُطلَق إل على جماعة‪ ،‬فيقف كل واحد من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الجماعة بسيفه في مواجهة آخر من الطائفة الخرى‪.‬‬
‫صمُونَ { [النمل‪ ]45 :‬لن‬
‫وهنا أيضا } فَِإذَا ُهمْ فَرِيقَانِ { [النمل‪ ]45 :‬أي‪ :‬مؤمنون وكافرون } َيخْ َت ِ‬
‫كل فرد في هذه الجماعة يقف في مواجهة فرد من الجماعة الخرى‪.‬‬
‫وفي موضع آخر‪ ،‬شرح لنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ هذه المسألة‪ ،‬فقال سبحانه‪ {:‬فَالّذِينَ َكفَرُواْ‬
‫صهَرُ بِهِ مَا فِي ُبطُو ِنهِمْ وَالْجُلُودُ *‬
‫حمِيمُ * ُي ْ‬
‫س ِهمُ ا ْل َ‬
‫صبّ مِن َفوْقِ رُءُو ِ‬
‫ط َعتْ َلهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارٍ ُي َ‬
‫قُ ّ‬
‫وََلهُمْ ّمقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُّلمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْ ُرجُواْ مِ ْنهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا َوذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }‬
‫[الحج‪19 :‬ـ ‪.]22‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ‬
‫خلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ‬
‫أما الفريق الخر‪ {:‬إِنّ اللّهَ يُ ْد ِ‬
‫س ُهمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَ ُهدُواْ إِلَى الطّ ّيبِ مِنَ ا ْل َق ْولِ وَ ُهدُواْ‬
‫ب وَُلؤْلُؤا وَلِبَا ُ‬
‫يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَ َه ٍ‬
‫حمِيدِ }[الحج‪23 :‬ـ ‪.]24‬‬
‫إِلَىا صِرَاطِ الْ َ‬
‫فبيّن لنا الحق ـ سبحانه ـ كل فريق منهما‪ ،‬وبيّن مصيره وجزاءه‪.‬‬
‫سدٌ بالباب‪،‬‬
‫ونلحظ هنا } فَإِذَا { [النمل‪ ]45 :‬يسمّونها الفجائية‪ ،‬ويُمثّلون لها بقولهم‪ :‬خرجتُ فإذا أَ َ‬
‫والمعنى‪ :‬أنك فُوجِئْت بشيء لم تكُنْ تتوقعه‪ ،‬كذلك حدث من الكافرين من قوم ثمود حين قال لهم‬
‫نبيهم } أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ { [النمل‪ ]45 :‬لكن يفاجئوننا بأنهم فريقان‪ :‬مؤمنون وكافرون‪.‬‬
‫ومنطق العقل والحق والفطرة السليمة يقتضي أنْ يستقبلوا هذا المر بالطاعة والتسليم‪ ،‬ول يختلفوا‬
‫ن الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي‬
‫فيه هذا الختلف‪ :‬فريق في الجنة وفريق في السعير{ إِ ّ‬
‫جحِيمٍ }[النفطار‪13 :‬ـ ‪.]14‬‬
‫َ‬
‫وقالوا‪ :‬إن ال تعالى ل يرسل الرسل إل على فساد في المجتمع‪ ،‬الخالق عز وجل خلق في‬
‫النسان النفس اللوامة التي تردّه إلى رُشْده وتنهاه‪ ،‬والنفس المطمئنة التي اطمأنتْ باليمان‪ ،‬وأَمنت‬
‫ال على الحكم في افعل ول تفعل‪ ،‬والنفس المّارة بالسوء‪ ،‬وهَي التي ل تعرف معروفا‪ ،‬ول تنكر‬
‫مُ ْنكَرا‪ ،‬ول تدعو صاحبها إل إلى السوء‪.‬‬
‫ن يتعهّد المربّي ليؤدي غايته على الوجه الكمل‪،‬‬
‫وال ـ عزّ وجلّ ـ رب‪ ،‬ومن عادة الرب أ ْ‬
‫أرأيتم أبا يُربّي أبناءه إل لغاية؟ وما دام هو سبحانه ربي فل يأمرني إل لصالحي‪ ،‬وصالح‬
‫مجتمعي‪ ،‬فل شيء من طاعتنا يعود عليه بالنفع ول شيء من معاصينا يعود عليه بالضرر؛ لنه‬
‫سبحانه خلق الكون كله بصفات الكمال المطلق‪ .‬إذن‪ :‬كانت الفطرة السليمة تقتضي استقبال أوامر‬
‫ال بالقبول والتسليم‪.‬‬
‫وهذه الخصومة تجمع المؤمنين في جهة؛ لنهم اتفقوا على اليمان‪ .‬والكافرين في جهة؛ لنهم‬
‫اتفقوا على الكفر‪ .‬لكن يمتاز المؤمنون بأن يظل وفاقهم إلى نهاية العمر‪ ،‬بل وعند لقاء ال تعالى‬
‫في الجنة؛ لنهم اتفقوا في الدنيا في خطة العمل وفي الخرة في غاية الجزاء‪ ،‬كما يقول تعالى‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف‪.]67 :‬‬
‫{ الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ‬
‫أما الكفار فسوف تقوم بينهم الخصومات يوم القيامة‪ ،‬ويلعن بعضهم بعضا‪ ،‬ويتبرّأ بعضهم من‬
‫بعض‪ ،‬والقرآن حين يُصوّر تخاصم أهل النار يقول بعد أنْ ذكر نعيم أهل الجنة‪:‬‬
‫حمِي ٌم وَغَسّاقٌ *‬
‫جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا فَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ * هَـاذَا فَلْ َيذُوقُوهُ َ‬
‫{ هَـاذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ * َ‬
‫شكْلِهِ أَ ْزوَاجٌ * هَـاذَا َفوْجٌ ّمقْتَحِمٌ ّم َعكُ ْم لَ مَرْحَبا ِبهِمْ إِ ّنهُمْ صَالُواْ النّارِ * قَالُواْ َبلْ أَنتُمْ‬
‫وَآخَرُ مِن َ‬
‫ضعْفا فِي‬
‫لَ مَ ْرحَبا ِبكُمْ أَن ُتمْ قَ ّدمْ ُتمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ * قَالُواْ رَبّنَا مَن َقدّمَ لَنَا هَـاذَا فَ ِز ْدهُ عَذَابا ِ‬
‫غتْ عَ ْنهُمُ‬
‫خذْنَاهُمْ سِخْرِيّا َأمْ زَا َ‬
‫ن الَشْرَارِ * أَتّ َ‬
‫النّارِ * َوقَالُواْ مَا لَنَا لَ نَرَىا رِجَالً كُنّا َنعُدّهُمْ مّ َ‬
‫الَ ْبصَار * إِنّ ذَِلكَ َلحَقّ َتخَاصُمُ َأ ْهلِ النّارِ }[ص‪55 :‬ـ ‪.]64‬‬
‫إذن‪ :‬فالخصومة في الدنيا بين مؤمن وكافر‪ ،‬أما في الخرة فبين الكافرين بعضهم البعض‪ ،‬بين‬
‫الذين َأضَلّوا والذي ُأضِلّوا‪ ،‬بين الذين اتّبعُوا‪ ،‬والذي اتّبِعوا‪.‬‬

‫(‪)3132 /‬‬

‫حمُونَ (‪)46‬‬
‫حسَنَةِ َلوْلَا َتسْ َتغْفِرُونَ اللّهَ َلعَّلكُمْ تُرْ َ‬
‫قَالَ يَا َقوْمِ لِمَ َتسْ َتعْجِلُونَ بِالسّيّ َئةِ قَ ْبلَ الْ َ‬

‫لما ُذكِرت قصة ثمود في الشعراء‪ ،‬لم تذكر شيئا عن استعجال السيئة‪ ،‬فما هي السيئة التي‬
‫استعجلوها وربهم عز وجل يلومهم عليها؟ هي قولهم‪ {:‬فَأْتِنَا ِبمَا َت ِعدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ }‬
‫[العراف‪.]70 :‬‬
‫وعجيب أمْر هؤلء القوم‪ ،‬ماذا يفعلون لو نزل بهم؟ قالوا معا‪ :‬حينما تأتينا السيئة نستغفر ونتوب‬
‫يظنون أن الستغفار والتوبة تُقبل منهم في هذا الوقت‪.‬‬
‫جهَالَةٍ ُثمّ يَتُوبُونَ مِن‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول‪ {:‬إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى اللّهِ ِللّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ ِب َ‬
‫ستِ ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ‬
‫حكِيما * وَلَيْ َ‬
‫قَرِيبٍ فَُأوْلَـا ِئكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَ ْي ِه ْم َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ‬
‫ن َولَ الّذِينَ َيمُوتُونَ وَ ُهمْ ُكفّارٌ ُأوْلَـائِكَ أَعْ َتدْنَا َلهُمْ‬
‫حضَرَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ ال َ‬
‫حَتّىا ِإذَا َ‬
‫عَذَابا َألِيما }[النساء‪17 :‬ـ ‪.]18‬‬
‫فلماذا تستعجلون السيئة والعذاب‪ ،‬وكان عليكم أن تستعجلوا الحسنة‪ ،‬واستعجالكم السيئة يحول‬
‫حمُونَ } [النمل‪.]46 :‬‬
‫بينكم وبين الحسنة؛ لنها لن تُقبل منكم { َل ْولَ تَسْ َت ْغفِرُونَ اللّهَ َلعَّلكُمْ تُرْ َ‬

‫(‪)3133 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ك وَ ِبمَنْ َم َعكَ قَالَ طَائِ ُركُمْ عِ ْندَ اللّهِ َبلْ أَنْتُمْ َقوْمٌ ُتفْتَنُونَ (‪)47‬‬
‫قَالُوا اطّيّرْنَا ِب َ‬

‫اطيّر‪ :‬استعمل الطير‪ ،‬وهذه عملية كانوا يلجئون إليها عند قضاء مصالحهم أو عند سفرهم مثلً‪،‬‬
‫فكان الواحد منهم يُمسك بالطائر ثم يرسله‪ ،‬فإنْ طار ناحية اليمين تفاءل وأقبل على العمل‪ ،‬وإنْ‬
‫طار ناحية الشمال تشاءم‪ ،‬وامتنع عما هو قادم عليه‪ ،‬يُسمّونها السانحات والبارحات‪ .‬فالمعنى‪:‬‬
‫تشاءمنا منك‪ ،‬وممّنْ اتبعك‪.‬‬
‫{ قَالَ طَائِ ُركُمْ عِندَ اللّهِ } [النمل‪ ]47 :‬يعني‪ :‬قضاء مقضيّ عليكم‪ ،‬وليس للطير َدخْل في أقداركم‪،‬‬
‫وما يجري عليكم من أحكام‪ ،‬فيكف تأخذون من حركته مُنطلقا لحركتكم؟ إنما طائركم وما يُقدّر‬
‫لكم من عند ال قضاء يقضيه‪.‬‬
‫وفي آية يس‪ {:‬قَالُواْ طَائِ ُركُم ّم َعكُمْ }[يس‪ ]19 :‬يعني تشاؤمكم هو كفركم الذي تمسكتم به‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا جاء التشاؤم هنا‪ ،‬ونبيهم يدعوهم إلى ال؟ قالوا‪ :‬لنه بمجرد أنْ جاءهم عارضوه‪،‬‬
‫فأصابهم قحْط شديد‪ ،‬وض ّنتْ عليهم السماء بالمطر فقالوا‪ :‬هو الذي جَرّ علينا القَحْط والخراب‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬بلْ أَنتُمْ َقوْمٌ ُتفْتَنُونَ } [النمل‪ ]47 :‬الفتنة‪ :‬إما بمعنى الختبار والبتلء‪ ،‬وإما بمعنى فتنة‬
‫الذهب في النار‪.‬‬

‫(‪)3134 /‬‬

‫ض وَلَا ُيصِْلحُونَ (‪)48‬‬


‫سعَةُ رَهْطٍ ُيفْسِدُونَ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫َوكَانَ فِي ا ْلمَدِي َنةِ تِ ْ‬

‫وهذه المسألة أيضا لقطة جديدة من القصة لم تُذكَر في الشعراء‪ ،‬وهكذا كل ال َقصَص القرآني لو‬
‫ت متفرقة‪ ،‬كلّ منها يضيف جديدا‪ ،‬ويعالج أمرا يناسب النجْم القرآني‬
‫تدبّره النسان لوجده لقطا ٍ‬
‫الذي نزل فيه لتثبيت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫سعَةُ‬
‫والرّهْط‪ :‬اسم جمع‪ ،‬ل واحدَ له من لفظه‪ ،‬ويدل على العدد من الثلثة إلى العشرة‪ ،‬فمعنى { ِت ْ‬
‫رَهْطٍ } [النمل‪ ]48 :‬كأنهم كانوا قبائل أو أسرا أو فصائل‪ ،‬قبيلة فلن وقبيلة فلن‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫سدُونَ فِي الَ ْرضِ } [النمل‪ ]48 :‬فلماذا قال بعدها‪َ { :‬ولَ ُيصِْلحُونَ } [النمل‪]48 :‬؟ قالوا‪ :‬لن‬
‫{ ُيفْ ِ‬
‫النسان قد يُفسد في شيء‪ ،‬ويُصلح في آخر‪ ،‬كالذين خلطوا عملً صالحا وآخر سيئا‪ ،‬وهؤلء‬
‫ن يتوبَ عليهم‪.‬‬
‫عسى ال أ ْ‬
‫أما هؤلء القوم‪ ،‬فكانوا أهل فساد َمحْض ل يعرفون الصلح‪ ،‬فإنْ رأوْه عمدوا إليه فأفسدوه‪،‬‬
‫فكأنهم ُمصِرّون على الفساد‪ ،‬وللفساد قوم ينتفعون به‪ ،‬لذلك يدافعون عنه ويعارضون في سبيله‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أهل الصلح والخير؛ لنهم يُعطّلون عليهم هذه المنفعة‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن صاحب الدين والخلق والمبادىء في أيّ مصلحة تراه مكروها من هذه الفئة التي تنتفع‬
‫من الفساد‪ ،‬يهاجمونه ويتتبعونه بال َهمْز واللمز‪ ،‬يقولون‪ :‬حنبلي‪ ،‬وربما يهزأون به‪ ..‬إلخ؛ لذلك لم‬
‫يقف في وجه الرسل إل هذه الطائفة المنتفعة بالفساد‪.‬‬

‫(‪)3135 /‬‬

‫شهِدْنَا َمهِْلكَ أَهِْل ِه وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ (‪)49‬‬


‫سمُوا بِاللّهِ لَنُبَيّتَنّ ُه وَأَ ْهلَهُ ثُمّ لَ َنقُولَنّ ِلوَلِيّهِ مَا َ‬
‫قَالُوا َتقَا َ‬

‫سمُواْ بِاللّهِ لَنُبَيّتَنّهُ وَأَهْلَهُ } [النمل‪ ]49 :‬انظر إلى هذه‬


‫{ قَالُواْ } [النمل‪ ]49 :‬أي‪ :‬الرهط { َتقَا َ‬
‫البجاحة وقلة العقل وتفاهة التفكير‪ :‬إنهم يتعاهدون ويُقسمون بال أنْ يقتلوا رسول ال‪ ،‬وهذا دليل‬
‫حمْقهم وقِلّة عقولهم‪.‬‬
‫غبائهم‪ ،‬وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يجعل لهم منافذ يظهر منها ُ‬
‫ومعنى { لَنُبَيّتَنّهُ } [النمل‪ ]49 :‬نُبيّته‪ :‬نجعله ينام بالليل‪ ،‬والبيتوتة أن ينقطع النسان عن الحركة‬
‫حالَ نومه‪ ،‬ثم يعاود الحركة بالستيقاظ في الصباح‪ ،‬لكن هؤلء يريدون أنْ يُبيّتوه بيتوتة ل قيامَ‬
‫منها‪ .‬والمعنى‪ :‬نقلته‪.‬‬
‫عصْبته‬
‫فإذا ما جاء أولياء الدم يطالبوننا بدمه { لَ َنقُولَنّ ِلوَلِيّهِ } [النمل‪ ]49 :‬أي‪ :‬وليّ الدم من ُ‬
‫شهِدْنَا َمهِْلكَ َأهْلِ ِه وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ } [النمل‪ ]49 :‬أي‪ :‬ما شهدنا مقتل أهله‪ ،‬فمن باب‬
‫ورحمه { مَا َ‬
‫َأوْلَى ما شهدنا مقْتله‪ ،‬ول نعرف عنه شيئا‪.‬‬
‫هذا ما دبره القوم لنبي ال صالح ـ عليه السلم ـ يظنون أن ال ُيسْلِم رسوله‪ ،‬أو يُمكّنهم من‬
‫قتله‪ ،‬فحاكوا هذه المؤامرة ولم يفتهم تجهيز الدفاع عن أنفسهم حين المساءلة‪ ،‬هذا مكرهم‬
‫وتدبيرهم‪.‬‬

‫(‪)3136 /‬‬

‫شعُرُونَ (‪)50‬‬
‫َو َمكَرُوا َمكْرًا َو َمكَرْنَا َمكْرًا وَ ُهمْ لَا يَ ْ‬

‫معنى { َو َمكَرُواْ َمكْرا } [النمل‪ ]50 :‬أي‪ :‬ما دبّروه لقتل نبي ال ورسوله إليهم { َو َمكَرْنَا َمكْرا }‬
‫[النمل‪ ]50 :‬وفَرْق بين مكر ال عز وجل{ وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل عمران‪ ]54 :‬وبين مكْر‬
‫الكافرين{ َولَ يَحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّيّىءُ ِإلّ بِأَ ْهلِهِ }[فاطر‪.]43 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬حين تمكر بخير‪ ،‬فل ُي َع ّد مكْرا‪ ،‬إنما إبطال لمكْر العدو‪ ،‬فل يجوز لك أنْ تتركه يُدبّر لك‬
‫ويمكُر بك‪ ،‬وأنت ل تتحرك؛ لذلك قال تعالى{ وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال‪ ]30 :‬لنهم يمكرون‬
‫بشرّ‪ ،‬ونحن نمكر لدفع هذا الشر لِ ُنصْرة رسولنا‪ ،‬ونجاته من تدبيركم‪.‬‬
‫والمكْر‪ :‬مأخوذ من قولهم‪ :‬شجرة ممكورة‪ ،‬وهذا في الشجر رفيع السّاق المتسلق حين تلتفّ سيقانه‬
‫ل منها ممكور في الخر‬
‫وأغصانه‪ ،‬بعضها على بعض‪ ،‬فل تستطيع أن تُميّزها من بعضها‪ ،‬ف ُك ّ‬
‫مستتر فيه‪ ،‬وكذلك المكر أن تصنع شيئا تداريه عن الخصم‪.‬‬
‫شعُرُونَ } [النمل‪ ]50 :‬أي‪ :‬أنه مكْر محبوك ومحكم‪ ،‬بحيث ل يدري به‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫الممكور به‪ ،‬وإل ل يكون َمكْرا‪.‬‬
‫وحين نتأمل‪َ {:‬ولَ َيحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّيّىءُ ِإلّ بِأَهِْلهِ }[فاطر‪ ]43 :‬و{ وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل‬
‫عمران‪ ]54 :‬نعلم أن المكر ل يُمدح ول ُيذَمّ لذاته‪ ،‬إنما بالغاية من ورائه‪ ،‬كما في قوله تعالى عن‬
‫الظن‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرا مّنَ الظّنّ }[الحجرات‪ ]12 :‬فالظن منه الخيّر ومنه‬
‫السيىء‪.‬‬
‫ونسمع الن تعبيرا جديدا يعبر عما يدور في المجتمع من انتشار المكر وسوء الظن‪ ،‬يقولون‪:‬‬
‫الصراحة مكر القرن العشرين‪ ،‬فالذي يمكر بالناس يظن أنهم جميعا ماكرون فل يصدق كلمهم‪،‬‬
‫ويحتاط له حتى إنْ كان صدقا‪ ،‬فأصبح المكر وسوء الظن هو القاعدة‪ ،‬فإنْ صارحتَ الماكر ل‬
‫يُصدقك ويقول في نفسه‪ :‬إنه يُعمى عليّ أو يُضلّلني‪.‬‬

‫(‪)3137 /‬‬

‫ج َمعِينَ (‪)51‬‬
‫فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ َمكْرِ ِهمْ أَنّا َدمّرْنَاهُ ْم َو َق ْو َمهُمْ أَ ْ‬

‫أي‪ :‬تأمل ما حاق بهم لما مكروا بنبي ال‪ ،‬واتفقوا على التبييت له وقَتْله‪ ،‬يُرْوى أنهم لما دخلوا‬
‫عليه أُلْقي على كل واحد منهم حجر ل يدري من أين أتاه‪ ،‬فهلكوا جميعا‪ ،‬فقد سخّر ال له ملئكة‬
‫توّلتْ حمايته والدفاع عنه‪.‬‬
‫أو‪ :‬أن ال تعالى صنع له حيلة خرج بها وذهب إلى حضرموت‪ ،‬وهناك مات عليه السلم‪،‬‬
‫سمّيت حضرموت‪ .‬وآخرون قالوا‪ :‬بل ذهبوا ينتظرونه في سفح جبل‪ ،‬واستتروا خلف صخرة‬
‫فَ ُ‬
‫ليُوقِعوا به فسقطت عليهم الصخرة فماتوا جميعا‪.‬‬
‫المهم‪ ،‬أن ال دمرهم بأيّ وسيلة من هذه{ َومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ }[المدثر‪ ]31 :‬لقد أرادوا أنْ‬
‫يقتلوه وأهلَه‪ ،‬فأهلكهم ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3138 /‬‬

‫فَتِ ْلكَ بُيُو ُتهُمْ خَاوِيَةً ِبمَا ظََلمُوا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َيةً ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ (‪)52‬‬

‫قوله تعالى‪ { :‬فَتِ ْلكَ بُيُو ُتهُمْ خَاوِيَةً } [النمل‪ ]52 :‬دليل على أن ال أهلكهم فلم يُ ْبقِ منهم أحدا‪،‬‬
‫ك ليَةً } [النمل‪ ]52 :‬عبرة وعظة { ّلقَوْمٍ‬
‫وتُركَتْ بيوتهم خاوية بسبب ظلمهم { إِنّ فِي ذاِل َ‬
‫َيعَْلمُونَ } [النمل‪.]52 :‬‬
‫وفي مقابل إهلك الكافرين‪ { :‬وَأَنجَيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ }‬

‫(‪)3139 /‬‬

‫وَأَنْجَيْنَا الّذِينَ َآمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ (‪)53‬‬

‫فمن آمن واتقى من قوم صالح نجّاه ال عز وجل من العذاب الذي نزل بقومهم قوم ثمود‪.‬‬
‫انتهى الكلم هنا عن قصة ثمود‪ ،‬وحين نقارن الحداث هنا بما ورد في سورة الشعراء نجد أحداثا‬
‫جديدة لم تُذكَر هناك‪ ،‬كما لم يذكر هنا شيئا عن قصة الناقة التي وردتْ هناك‪ ،‬مما يدلّ على‬
‫تكامل لقطات القصة في السور المختلفة‪.‬‬
‫ثم يقصّ علينا طرفا من قصة نبي آخر‪ ،‬وهو لوط عليه السلم‪ { :‬وَلُوطا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ }‬

‫(‪)3140 /‬‬

‫ش َة وَأَنْتُمْ تُ ْبصِرُونَ (‪)54‬‬


‫وَلُوطًا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ‬

‫(لُوطا) جاءت منصوبة على أنها مفعول به‪ ،‬والتقدير‪ :‬أرسلنا لوطا‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَآ‬
‫إِلَىا َثمُودَ َأخَاهُ ْم صَالِحا أَنِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ }[النمل‪.]45 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُ ْبصِرُونَ } [النمل‪ ]54 :‬فذكر الداء الذي‬
‫حدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ‬
‫استشرى فيهم‪ .‬وفي سورة الشعراء قال سبحانه{ أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ أَ َ‬
‫}[العراف‪ ]80 :‬وهنا قال‪ { :‬وَأَن ُتمْ تُ ْبصِرُونَ } [النمل‪ ]54 :‬أي‪ :‬تتعالمون بها وتتجاهرون بها‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فدلّ على أنهم أجعوا عليها وارتضوْهَا‪ ،‬وأنه لم َيعُدْ عندهم حياء من ممارستها‪.‬‬
‫حلّ بأصحاب الفساد قبلكم من أقضية ال عليهم‪.‬‬
‫أو‪ :‬يكون المعنى‪ :‬وأنتم تبصرون ما َ‬

‫(‪)3141 /‬‬

‫جهَلُونَ (‪)55‬‬
‫ش ْه َوةً مِنْ دُونِ النّسَاءِ َبلْ أَنْتُمْ َقوْمٌ َت ْ‬
‫أَئِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ َ‬

‫جهَلُونَ } [النمل‪:‬‬
‫هذا بيان وتفصيل للداء وللفاحشة التي انتشرت بينهم‪ ،‬ومعنى‪َ { :‬بلْ أَن ُتمْ َقوْمٌ َت ْ‬
‫جهَلُونَ }‬
‫‪ ]55‬الية في ظاهرها أنها تتعارض مع{ وَأَنتُمْ تُ ْبصِرُونَ }[النمل‪ ]54 :‬لكن المعنى { َت ْ‬
‫[النمل‪ ]55 :‬الجهل هنا ليس هو ضد العلم‪ ،‬إنما الجهل بمعنى السّفه‪.‬‬
‫والبعض يظن أن الجهل َألّ تعلم‪ ،‬ل إنما المية هي الّ تعلم‪ ،‬أمّا الجهل فأنْ تعلم قضية مخالفة‬
‫للواقع؛ لذلك الميّ أسهل في القناع؛ لنه خالي الذّهْن‪ ،‬أمّا الجاهل فلديه قضية خاطئة‪ ،‬فيستدعي‬
‫المر أن تنزع منه قضية الباطل‪ ،‬ثم تُدخِل قضية الحق‪ ،‬فالجهل ـ إذن ـ أشقّ على الدعاة من‬
‫المية‪.‬‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬فمَا كَانَ َ‬

‫(‪)3142 /‬‬

‫طهّرُونَ (‪)56‬‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا َأخْرِجُوا َآلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَ ِتكُمْ إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَ َت َ‬
‫َفمَا كَانَ َ‬

‫طهّرُونَ } [النمل‪ ]56 :‬سبحان‬


‫عجيبٌ أمر هؤلء‪ ،‬فعِلّة الخراج عندهم وحيثيته { إِنّهمْ أُنَاسٌ يَ َت َ‬
‫طهْر ذنبا وجريمة تستوجب أنْ يخرج صاحبها من بلدة؟ إنها نغمة نسمعها دائما‬
‫ال‪ ،‬ومتى كان ال ّ‬
‫س َعوْن لبعادهم من الساحة‬
‫من أهل الباطل في كل زمان ومكان حينما يهاجمون أهل الحق‪ ،‬ويَ ْ‬
‫لتخلو لباطلهم‪.‬‬
‫طهّرُونَ }‬
‫عدْل ال تعالى أن يظهر في منطقهم دليل إدانتهم وخُبْث طباعهم‪ ،‬فكلمة { يَتَ َ‬
‫ومن َ‬
‫[النمل‪ ]56 :‬التي نطقوا بها تعني‪ :‬أنهم أنفسهم أنجاسٌ تزعجهم الطهارة‪ ،‬وما أحلّ ال من‬
‫الطيبات‪ ،‬وكأن ال تعالى يجعل في كلمهم منافذ لدانتهم‪ ،‬وليحكموا بها على أنفسهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَأَنجَيْنَا ُه وَأَهْلَهُ ِإلّ امْرَأَ َتهُ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3143 /‬‬

‫فَأَنْجَيْنَا ُه وَأَهَْلهُ إِلّا امْرَأَتَهُ قَدّرْنَاهَا مِنَ ا ْلغَابِرِينَ (‪)57‬‬

‫أي‪ :‬من ال ُمهْلَكين مع قومها‪ ،‬فقد كانت تدل قومها على ضيفان لوط؛ ليأتوا إليهم ليفعلوا معهم‬
‫الفاحشة‪ ،‬لذلك أصابها من العذاب مثلما أصاب قومها‪.‬‬

‫(‪)3144 /‬‬

‫وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ َمطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ ا ْلمُ ْنذَرِينَ (‪)58‬‬

‫أي‪ :‬قَبُح هذا المطر‪ ،‬وإنْ أبهم المطر هنا فقد وضّحه الحق ـ تبارك وتعالى ـ في آيات أخرى‬
‫سجّيل‪ ،‬وهو الطين إذا حُرِق‪ ،‬فصار فخّارا‪ ،‬وهذه الحجارة منظمة مُسوّمة‬
‫فقال‪ :‬من طين‪ ،‬ومن ِ‬
‫ل واحد منهم حَجَره المسمّى باسمه‪ ،‬والذي ل يُخطِئه إلى غيره‪.‬‬
‫صنعها ال لهم بحساب دقيق‪ ،‬فل ُك ّ‬

‫(‪)3145 /‬‬

‫طفَى آَللّهُ خَيْرٌ َأمّا ُيشْ ِركُونَ (‪)59‬‬


‫حمْدُ لِلّ ِه وَسَلَامٌ عَلَى عِبَا ِدهِ الّذِينَ اصْ َ‬
‫ُقلِ الْ َ‬

‫حمْدُ لِلّهِ } [النمل‪ ]59 :‬جاءت بعد نقمة‬


‫نعرف أن ال تعالى يُحمد على النعمة‪ ،‬لكن هناك { ا ْل َ‬
‫وعذاب وأَخْذ للمكذّبين‪ .‬قالوا‪ :‬الخطاب هنا مُوجّه لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفيه إشارة‬
‫إلى أن جُنْد ال هم الغالبون‪ ،‬وأن العاقبة لهم ليطمئن رسول ال‪ ،‬كما أن تطهير الكون من‬
‫حمْدُ لِلّهِ } [النمل‪.]59 :‬‬
‫المفسدين فيه‪ ،‬وحين تستريح منهم البلد والعباد‪ ،‬هذه نعمة تستوجب { ا ْل َ‬
‫وفي أهلك الكافرين والمكذّبين عبرة ودرسٌ لغيرهم‪ ،‬حتى ل يتورطوا في أسباب الهلك‪ ،‬وهذه‬
‫نعمة أخرى تستحق الحمد‪.‬‬
‫حلّ‬
‫لذلك أمرنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ أن نحمده إنْ رأينا خيرا نزل بالخيار‪ ،‬أو شرا َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ } [النمل‪ ]59 :‬أن الرسل انتصروا وغلبوا‪ ،‬وأن المفسدين‬
‫بالشرار‪ .‬فالمعنى { ُقلِ الْ َ‬
‫انهزموا واندحروا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لمٌ عَلَ ْيكُـمْ طِبْتُمْ‬
‫حتْ أَ ْبوَا ُبهَا َوقَالَ َلهُمْ خَزَنَ ُتهَا سَ َ‬
‫ألَ ترى َقوْلَ أهل الجنة‪ {:‬حَتّىا ِإذَا جَآءُوهَا َوفُتِ َ‬
‫فَا ْدخُلُوهَا خَاِلدِينَ * َوقَـالُواْ الْحَـمْدُ للّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَعْ َد ُه وََأوْرَثَنَا الَ ْرضَ نَتَ َبوّأُ مِنَ ا ْلجَنّةِ حَ ْيثُ‬
‫نَشَآءُ }[الزمر‪73 :‬ـ ‪.]74‬‬
‫كذلك حين نرى الشرير الذي شاع شرّه وكثُرَ فساده حين ينزل به ما يستحق من عقاب ال نقول‬
‫جميعا ساعةَ نسمع خبره‪ :‬الحمد ل‪ ،‬هكذا بعملية ل شعورية عند الجميع أنْ تلهج ألسنتُهم بالحمد‬
‫عند نزول النعمة على أصحابها‪ ،‬والنقمة على مَنْ يستحقها‪.‬‬
‫خذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآ ِء وَالضّرّآءِ‬
‫ويقول تعالى عن أهل الشر والفساد‪ {:‬وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىا ُأ َممٍ مّن قَبِْلكَ فَأَ َ‬
‫ستْ قُلُو ُبهُمْ وَزَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ مَا‬
‫َلعَّلهُمْ يَ َتضَرّعُونَ * فََلوْل ِإذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُو ْا وَلَـاكِن َق َ‬
‫شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ‬
‫كَانُواّ َي ْعمَلُونَ * فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[النعام‪:‬‬
‫طعَ دَابِرُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ ظََلمُواْ وَالْ َ‬
‫خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبِْلسُونَ * فَقُ ِ‬
‫أَ َ‬
‫‪42‬ـ ‪.]45‬‬
‫فبعد أنْ قطع ال دابر الظالمين قال‪ :‬الحمد ل رب العالمين‪ ،‬ونلحظ هنا الفرق بين فتح لك‪ ،‬وفتح‬
‫عليك؛ فتح لك يعني‪ :‬فتح في صالحك‪ ،‬ومنه‪ {:‬إِنّا فَتَحْنَا َلكَ فَتْحا مّبِينا }[الفتح‪.]1 :‬‬
‫شيْءٍ }[النعام‪.]44 :‬‬
‫أما فتح عليهم يعني‪ :‬بالسوء نكايةَ فيهم‪ ،‬فمعنى{ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫أعطاهم الخير ليهلكهم به‪ ،‬وهم في حال نعمة ومكانة‪ ،‬حتى إذا أخذهم ال كان َأخْذه أليما شديدا‪.‬‬
‫حمْدُ للّهِ الّذِي نَجّانَا مِنَ‬
‫وفي قصة نوح عليه السلم‪ {:‬فَإِذَا اسْ َتوَ ْيتَ أَنتَ َومَن ّم َعكَ عَلَى ا ْلفُ ْلكِ َف ُقلِ الْ َ‬
‫ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[المؤمنين‪.]28 :‬‬
‫حمْد ال هنا على أمرين‪ :‬الحمد ل لنه أغرق الكافرين الظالمين وخلّصنا منهم‪ ،‬والحمد ل لنه‬
‫فَ‬
‫نجّى المؤمنين‪.‬‬
‫طفَىا } [النمل‪ ]59 :‬وهم المؤمنون الذين نصرهم‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَسَلَمٌ عَلَىا عِبَا ِدهِ الّذِينَ اصْ َ‬
‫ال‪ ،‬وجعل العاقبة لهم‪ ،‬والسلم عليهم بعدها لقوه من عَ َنتِ الكفار وعنادهم‪ ،‬فالحمد ل الذي أهلك‬
‫المفسدين‪ ،‬وأتى بالسلم على المهتدين‪.‬‬

‫ثم يطرح الحق سبحانه قضية‪ ،‬ويأتي بها في صورة سؤال واستفهام؛ لتكون أبلغ في النفس من‬
‫مجرد الخبار بها‪ } :‬ءَآللّهُ خَيْرٌ َأمّا يُشْ ِركُونَ { [النمل‪.]59 :‬‬
‫ولو أن الية قالت‪ :‬قل الحمد ل وسلم على عباده الذين اصطفى لن ال خير وما يشركون به‬
‫شرّ لكان الكلمُ خبرا‪ ،‬والخبر في ذاته وبصرف النظر عن قائله يحتمل الصدق أو الكذب‪.‬‬
‫أمّا حين تُعرض هذه القضية في صورة الستفهام‪ ،‬فقد جعلتَ مخاطبك هو الذي ينطق بها‪ ،‬كما لو‬
‫أنكر أحد الصدقاء جميلَك وأياديك عليه‪ ،‬فبدل أن تخبر أنت‪ :‬فعلتُ لك كذا وكذا تدَعْه هو الذي‬
‫ق ومعتقدٌ أن الجابة ستكون في صالحه‪.‬‬
‫يُخبر فتقول‪ :‬ألم أفعل لك كذا وكذا؟ ول يقول هذا إل واث ٌ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالمعنى‪ } :‬ءَآللّهُ خَيْرٌ َأمّا يُشْ ِركُونَ { [النمل‪ ]59 :‬قولوا لنا أنتم ونحن نرتضي حكمكم بعدما رأيتُم‬
‫وسمعتم من هذه القصة‪ :‬آال خير أم الذين أشركوا به خير؟ ول بد أن تأتي الجابة‪ :‬ال خير؛‬
‫لذلك لما نزلت هذه الية انفعل لها رسول ال صلى ال عليه وسلم وأسرع بالجواب‪ " :‬بل ال خير‬
‫وأبقى وأجلّ وأكرم "‪.‬‬
‫مما يدل على أن النفعال بالقرآن واجب ونقصد النفعال بمعانيه‪ ،‬ل النفعال بالصوت والنغمات‬
‫كالذي نسمعه من هؤلء (الذكّيرة) الذي يُشجّعون المقرئين بالصياح والضجيج الذي ل يتناسب‬
‫وجلل اليات‪ ،‬وهم مع ذلك ل يفهمون المعاني ول يتأثرون بها‪ ،‬لدرجة أن منهم مَنْ يسمع آيات‬
‫العذاب فيقول بأعلى صوته‪ :‬اللهم ِزدْنا‪.‬‬
‫وقد كان الكتبة من الصحابة ينفعلون باليات معنىً‪ ،‬حتى إن أحدهم ليكمل الية ويختمها بما‬
‫يناسبها قبل أن تُملَي عليه‪ ،‬لماذا؟ لنهم فهموا عن ال وتأثروا بالمعنى‪ ،‬مما يدل على أن القرآن‬
‫حسَنُ الْخَاِلقِينَ }‬
‫جاء موافقا للفطرة السليمة‪ ،‬ومن هذا التوافق قول أحد الصحابة{ فَتَبَا َركَ اللّهُ أَ ْ‬
‫[المؤمنين‪ ]14 :‬فنزل بها القرآن كما قالها‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يقول عن سورة الرحمن " لقد قرأتُ سورة الرحمن على إخوانكم‬
‫الجن‪ ،‬فكانوا أحسن استجابة منكم‪ ،‬فكانوا كلما قلت } فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ { [الرحمن‪.]13 :‬‬
‫قالوا‪ :‬ل بشيء من نعمائك ربنا نكذب فلكَ الحمد "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬حين نسمع كلم ال علينا أن ننفعل به‪ ،‬وأنْ نتجاوبَ معه تجاوبا واعيا‪ ،‬فعند آية التسبيح‬
‫نُسبّح‪ ،‬وعند آية الحمد نحمد ال‪ ،‬وعند آية الدعاء نقول‪ :‬آمين‪ ،‬هذه مواجيد انفعالية لسماع القرآن‬
‫شعْر‪.‬‬
‫والتجاوب معه‪ ،‬ل أنْ نسمعه أو نهذه كهذ ال ّ‬
‫ت وَالَرْضَ {‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬أمّنْ خََلقَ ال ّ‬

‫(‪)3146 /‬‬

‫جةٍ مَا كَانَ َلكُمْ‬


‫سمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَا ِئقَ ذَاتَ َبهْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ وَأَنْ َزلَ َلكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫أَمْ مَنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫شجَرَهَا أَئَِلهٌ مَعَ اللّهِ َبلْ هُمْ َقوْمٌ َيعْدِلُونَ (‪)60‬‬
‫أَنْ تُنْبِتُوا َ‬

‫{ َأمّنْ } [النمل‪ ]60 :‬هذا استفهام آخر‪ ،‬وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ بعد أن كتب الهزيمة على‬
‫الكافرين والنصر للمؤمنين أراد أنْ يُربّب في النفس اليمان بال‪ ،‬وأن تأخذ من نصر ال تعالى‬
‫للمؤمنين خميرة إيمانية‪ ،‬ومواجيد جديدة تظل شحنة قوية تدفعهم بحيث يكونون هم أنفسهم على‬
‫استعداد للتصدي لعداء الدعوة والمناهضين لها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يقول سبحانه‪:‬‬
‫جةٍ مّا كَانَ َلكُمْ‬
‫حدَآئِقَ ذَاتَ َبهْ َ‬
‫سمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ َ‬
‫ض وَأَن َزلَ َل ُكمْ مّنَ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر َ‬
‫{ َأمّنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫شجَرَهَا أَإِلَـاهٌ مّعَ اللّهِ } [النمل‪.]60 :‬‬
‫أَن تُنبِتُواْ َ‬
‫إذن‪ :‬المسألة ل تقف عند معركة انتصر فيها المؤمنين على الكافرين‪ ،‬فهناك في خلق ال ما هو‬
‫أعظم من ذلك‪ ،‬فلو سألتَهم‪ :‬مَنْ خلق السموات والرض يقولون‪ :‬ال ولئن سألتهم‪ :‬مَنْ خلقهم‬
‫يقولون‪ :‬ال‪ ،‬فهذه مسائل ل يستطيعون إنكارها‪ ،‬فكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول لهم‪ :‬آل‬
‫خلق السموات والرض وأنزل لكم من السماء ماء‪ ..‬أم ما تشركون؟‬
‫وما دام أن ال تعالى ادّعى مسألة الخَلْق لنفسه سبحانه‪ ،‬ولم َيقُمْ لهذه الدعوى منازع‪ ،‬فقد ثبتتْ له‬
‫سبحانه إلى أنْ يدّعيها غيره { أَِإلَـاهٌ مّعَ اللّهِ } [النمل‪ ]60 :‬فإنْ كان هناك إله آخر خلق الخَلْق‬
‫فأين هو‪ :‬إما أنه لم َيدْر بهذه الدعوى‪ ،‬أو دَرَى بها وجَبُن عن المواجهة‪ ،‬وفي كلتا الحالتين ل‬
‫يصلح إلها‪ ،‬وإل فليأت هو الخر بخَلْق ومعجزات أعظم مما رأينا‪.‬‬
‫فإذا قال ال تعالى أنا ال‪ ،‬ول إله غيري‪ ،‬والخَلْق كله بسمائه وأرضه صنعتي‪ ،‬ولم يوجد‬
‫شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ وَا ْلمَلَئِكَ ُة وَُأوْلُواْ‬
‫معارض‪ ،‬فقد ثبتت له القضية؛ لذلك يقول سبحانه‪َ {:‬‬
‫ا ْلعِلْمِ }[آل عمران‪.]18 :‬‬
‫فقضية الوحداينة شهد ال أولً بها لنفسه‪ ،‬ثم شهد بها الملئكة أولو العلم من الخَلْق‪.‬‬
‫ويقول سبحانه في تأكيد هذا المعنى‪ُ {:‬قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ‬
‫سَبِيلً }[السراء‪.]42 :‬‬
‫أي‪ :‬لجتمع هؤلء اللهة‪ ،‬وثاروا على الله الذي أخذ منهم مُلْكهم‪ ،‬وادعاه لنفسه‪ ،‬أو لذهبوا إليه‬
‫ليتقرّبوا منه ويتودّدوا إليه‪.‬‬
‫سمَآءِ مَآءً } [النمل‪ ]60 :‬السماء‪ :‬كلّ ما علك فأظلّك‪ ،‬والماء‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَأَن َزلَ َل ُكمْ مّنَ ال ّ‬
‫معروف أنه ينزل من السحاب وهو مما علنا‪ ،‬أو أن النزال يعني إرادة الكون‪ ،‬وإرادة الكون في‬
‫ت وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ‬
‫كل كائن تكون من السماء‪ ،‬ألَ ترى قوله تعالى‪َ {:‬لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَا ِ‬
‫وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْطِ }[الحديد‪.]25 :‬‬
‫شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ }[الحديد‪ ]25 :‬ومعلوم أن الحديد يأتي‬
‫حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬وَأَنزَلْنَا الْ َ‬
‫من الرض‪ ،‬لكن إرادة كونه تأتي من السماء‪.‬‬
‫جةٍ } [النمل‪ ]60 :‬للماء فوائد كثيرة في حياتنا‪ ،‬بل هو‬
‫حدَآ ِئقَ ذَاتَ َبهْ َ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬فَأَنبَتْنَا ِبهِ َ‬
‫ِقوَام الحياة؛ لذلك اقتصرتْ الية على ذكْر الحدائق؛ لنها قوام حياة النسان في الكل والشرب‪.‬‬

‫فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬نحن نعتبر الن الحدائق الجميلة من باب الكماليات‪ ،‬وليس بها مُقوّمات حياتنا‪ .‬نقول‪:‬‬
‫نعم هي كذلك الن‪ ،‬لكن في الماضي كانوا يسمون كل أرض زراعية محوطة بسور‪ :‬حديقة‪ ،‬أو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حائط‪.‬‬
‫عصَب القوت لوجدته أقل‬
‫ت إلى القمح مثلً وهو َ‬
‫جةٍ { [النمل‪ ]60 :‬مع أنك لو نظر َ‬
‫وقال } ذَاتَ َبهْ َ‬
‫جمالً من الورد والياسمين والفُل مثلً‪ ،‬وكأن ربك ـ عز وجل ـ يقول لك‪ :‬لقد تكفلتُ لك‬
‫بالكماليات وبالجماليات‪ ،‬فمن باب َأوْلَى أوفر لك الضروريات‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يرتقي بِذوْق عباده وبمشاعرهم‪ ،‬واقرأ مثلً قوله تعالى‪{:‬‬
‫انْظُرُواْ إِلِىا َثمَ ِرهِ ِإذَآ أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ }[النعام‪ ]99 :‬يعني‪ :‬قبل أن تأكل من هذه الثمار تأمل في‬
‫جمالها ومنظرها البديع‪ ،‬وكأنها دعوة للرقي بالذوق العام والتأمل في بديع صُنْع ال‪.‬‬
‫ل مما‬
‫َألَ ترى أن ال تعالى أباح لك النظر إلى كل الثمار لتشاهد جمالها‪ ،‬ولم يُبح لك الكل إ ّ‬
‫تملك؟ لذلك قال‪ {:‬ا ْنظُرُواْ إِلِىا َثمَ ِرهِ }[النعام‪ ]99 :‬فإنْ لم تكونوا تملكونه‪ ،‬فكفاكم التمتّع بالنظر‬
‫إليه‪.‬‬
‫جمَالٌ‬
‫ومن هذا الرتقاء الجمالي قوله تعالى بعد أنْ حدّثنا عن الضروريات في النعام‪ {:‬وََلكُمْ فِيهَا َ‬
‫ن وَحِينَ تَسْ َرحُونَ }[النحل‪.]6 :‬‬
‫حِينَ تُرِيحُو َ‬
‫حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَةً }[النحل‪.]8 :‬‬
‫ل وَالْ َ‬
‫وقال‪ {:‬وَا ْلخَ ْيلَ وَالْ ِبغَا َ‬
‫فأعطانا ربنا ـ عز وجل ـ ضروريات الحياة‪ ،‬وأعطانا كمالياتها وجمالياتها‪ .‬وتأمل دقة السلوب‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ { [النمل‪ ]60 :‬فالضمير في } خََلقَ { ضمير الغائب (هو) يعود‬
‫في } َأمّنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫على ال عز وجل‪ ،‬وكذلك في (وَأَن َزلَ) أما في (فَأَنْبَتْنَا) فقد عدل عن ضمير الغائب إلى ضمير‬
‫المتكلم (نحن) الدال على التعظيم‪ ،‬فلماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن ِنعَم ال فيها أشياء ل دخْل للنسان فيها كالخَلْق وإنزال المطر‪ ،‬ومثل هذه المسائل ل‬
‫خلٌ فيها كالزرع والنبات‪ ،‬فهو الذي يحرث‬
‫شبهةَ ل شتراك النسان فيها‪ ،‬وهناك أشياء للنسان َد ْ‬
‫ويزرع ويسقي‪ ..‬الخ مما يُوحِي بأن النسان هو الذي يُنبت النبات‪ ،‬فأراد سبحانه أنْ يُزيل هذا‬
‫التوهم‪ ،‬فنسب النبات صراحة إليه ـ عز وجل ـ ليزيل هذه الشبهة‪.‬‬
‫سعْيك‪ ،‬فيقول‪َ {:‬أفَرَأَيْتُم مّا َتحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ‬
‫وربك ـ سبحانه وتعالى ـ يحترم فعْلَك‪ ،‬ويذكر لك َ‬
‫تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة‪63 :‬ـ ‪ ]64‬نعم لك عمل وسعي في هذه المسألة‪ ،‬لكنك‬
‫استخدمتَ الرض المخلوقة ل‪ ،‬وآلة الحديد المخلوقة ل‪ ،‬والبذور المخلوقة ل‪ ،‬والماء المخلوق‬
‫خلَ لك بها‪ ،‬فل َتقُلْ زرعت؛ لننها نحن الزارعون حقيقة‪ ،‬لكن‬
‫ل‪ ،‬أما مسألة النبات نفسها فل َد ْ‬
‫ت وسقيتُ‪.‬‬
‫ُقلْ‪ :‬حرث ُ‬
‫جعَلْنَاهُ‬
‫لذلك تجد الرد في آخر الية نافيا ليّ شبهة في أن لك دَخْلً في مسألة الزرع‪َ {:‬لوْ نَشَآءُ لَ َ‬
‫حطَاما }[الواقعة‪ ]65 :‬وأكّد الفعل بلم التوكيد لينفي هذه الشبهة‪.‬‬
‫ُ‬
‫على خلف الكلم عن الماء‪ ،‬حيث ل شبهة لك فيه‪ ،‬فيأتي نفس الفعل‪ ،‬لكن بدون لم التوكيد‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَلْنَاهُ أُجَاجا‬
‫{ َأفَرَأَيْ ُتمُ ا ْلمَآءَ الّذِي تَشْرَبُونَ * َأأَنتُمْ أَنزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ َأمْ نَحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ * َلوْ َنشَآءُ َ‬
‫شكُرُونَ }[الواقعة‪68 :‬ـ ‪.]70‬‬
‫فََلوْلَ تَ ْ‬
‫ومعنى‪َ } :‬بلْ ُهمْ َقوْمٌ َيعْدِلُونَ { [النمل‪ ]60 :‬العدل معلوم أنه صفة مدح فساعةَ تسمع } َبلْ ُهمْ َقوْمٌ‬
‫َيعْدِلُونَ { [النمل‪ ]60 :‬قد تظن أنها صفة طيبة فيهم‪ ،‬لكن ل بُ ّد في مثل هذا اللفظ من تدقيق؛ لنه‬
‫ل في كذا يعني‪ :‬أنصف‪ ،‬وعدل إلى كذا يعني‪ :‬مال إليه‪ ،‬وعدل عن‬
‫يحمل معاني كثيرة‪ .‬نقول‪ :‬عد َ‬
‫كذا‪ :‬يعني‪ :‬تركه وانصرف عنه‪ ،‬وعدل بكذا‪ ،‬يعني‪ :‬سوّى‪.‬‬
‫فالمعنى هنا } َيعْدِلُونَ { [النمل‪ ]60 :‬عنه‪ ،‬ويا ليتهم يعدلون عنه فحسب‪ ،‬إنما يعدلون عنه إلى‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫حمْدُ للّهِ الّذِي خََلقَ ال ّ‬
‫غيره‪ ،‬ويسوّون به غيره‪ ،‬كما قال سبحانه في موضع آخر‪ {:‬الْ َ‬
‫ج َعلَ الظُّلمَاتِ وَالنّورَ ثْمّ الّذِينَ َكفَرُواْ بِرَ ّب ِهمْ َيعْدِلُونَ }[النعام‪.]1 :‬‬
‫ض وَ َ‬
‫وَالَرْ َ‬
‫أي‪ :‬يسوّونه سبحانه بغيره‪.‬‬
‫ل الَ ْرضَ {‬
‫ج َع َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬أمّن َ‬

‫(‪)3147 /‬‬

‫ج َعلَ بَيْنَ الْ َبحْرَيْنِ حَاجِزًا أَ ِئلَهٌ‬


‫سيَ وَ َ‬
‫ج َعلَ َلهَا َروَا ِ‬
‫ج َعلَ خِلَاَلهَا أَ ْنهَارًا وَ َ‬
‫ج َعلَ الْأَ ْرضَ قَرَارًا وَ َ‬
‫أَمْ مَنْ َ‬
‫مَعَ اللّهِ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ (‪)61‬‬

‫لما تكلم الحق سبحانه في الية السابقة عن السموات والرض أتى بأشياء مشتركة بينهما‪ ،‬فالسماء‬
‫ينزل منها الماء‪ ،‬والرض تستقبل الماء‪ ،‬وتنبت لنا الحدائق ذات البهجة‪.‬‬
‫ج َعلَ‬
‫أما في هذه الية‪ ،‬فالكلم عن الرض‪ ،‬لذلك ذكر لنا مسائل من خصوصيات الرض‪َ { ،‬أمّن َ‬
‫الَ ْرضَ قَرَارا } [النمل‪ ]61 :‬معنى‪ :‬قرارا أي استقرارا‪ ،‬حيث خلقها سبحانه على هيئة مريحة‬
‫تصلح لنْ يستقرّ عليها النسان‪.‬‬
‫ج َعلَ خِلََلهَآ أَ ْنهَارا } [النمل‪ ]61 :‬الماء ينزل من السماء وينتفع به مَنْ سقط عليه مباشرة‪ ،‬أما‬
‫{ وَ َ‬
‫ما ينزل على الجبال فيجتمع في الوديان وتُصنع له السدود لينتفع الناس به عند القحط‪ ،‬ومن الماء‬
‫المطر ما ينساب في َمجَارٍ تُسمّى النهار‪.‬‬
‫وتستطيع أنْ تُفرّق بين النهر والقناة الصناعية‪ ،‬فالنهر ينساب الماء فيه من أعالي الجبال‪ ،‬ومن‬
‫أماكن متفرقة تتتبع المنخفضات والسهل من الرض الذي يستطيع الماء أنْ يشقّ مجراه فيه فتراه‬
‫ملتويا متعرجا‪ ،‬يدور حول الجبال أو الصخور ليشقّ مجراه‪.‬‬
‫أما القناة الصناعية‪ ،‬فتراها على هيئة الستقامة‪ ،‬إل إذا اعترض طريق حفرها مثلً أحد أصحاب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النفوذ‪ ،‬فيحملهم على تعيير المسار والنحراف به ليتفادى المرور بأرضه‪.‬‬
‫وتستطيع أنْ تلحظ هذه الظاهرة إذا تبو ْلتَ في أرض رملية ونظرتَ إلى مجرى البول‪ ،‬فتراه‬
‫يسير متعرجا حسب طبيعة الرض التي يمرّ بها‪.‬‬
‫سيَ } [النمل‪ ]61 :‬الرواسي‪ :‬هي الجبال الثابتة الراسية‪ ،‬وفي موضع آخر بيّن‬
‫ج َعلَ َلهَا َروَا ِ‬
‫{ وَ َ‬
‫سيَ أَن َتمِيدَ ِبكُمْ }[النحل‪.]15 :‬‬
‫سبحانه الحكمة من هذه الجبال فقال‪ {:‬وَأَ ْلقَىا فِي الَ ْرضِ َروَا ِ‬
‫فالحكمة من خَلْق الجبال تثبيت الرض حتى ل تضطرب‪ ،‬ولو أنها خُِلقَتْ على هيئة الثبات‬
‫والستقرار لما احتاجتْ إلى الجبال‪ ،‬إذن‪ :‬هي مخلوقة على هيئة الحركة‪ ،‬ول ُبدّ لها من مُثقّلت‪.‬‬
‫ول تقتصر الحكمة من خَلْق الجبال على تثبيت الرض‪ ،‬إنما لها مهمة أخرى في قوله تعالى‪{:‬‬
‫وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعا ّلكُ ْم َولَ ْنعَا ِمكُمْ }[النازعات‪32 :‬ـ ‪.]33‬‬
‫فكيف تكون الجبال متاعا للنسان وللحيوان؟‬
‫نعم‪ ،‬هي متاع؛ لنها مخزن مياه‪ ،‬حينما ينقطع المطر نجد المياه التي تساقطت على الجبال‪ ،‬إما‬
‫في النهار‪ ،‬وإما في الشللت‪ ،‬وخلف السدود بين الوديان‪ ،‬أو في العيون والبار مما امتصته‬
‫الرض‪.‬‬
‫وكما أن الجبال هي مخازن للمياه‪ ،‬هي أيضا مخازن للخصوبة التي تمدّ الرض الزراعية عاما‬
‫بعد عام بقدر‪ ،‬بحيث تستمر خصوبة الرض‪ ،‬وسبق أنْ تكلمنا عن ظاهرة التعرية التي تُفتّت‬
‫الطبقة العليا من الصخور‪ ،‬فتنزل إلى الوديان مع ماء المطر‪ ،‬وتختلط بالتربة الزراعية فتزيد من‬
‫خصوبتها‪.‬‬
‫ولول صلبة الجبال وتماسك صخورها لتفتتتْ في عدة سنوات‪ ،‬ولفقدنا مصدر الخصوبة بعد‬
‫ذلك‪ ،‬فهذه الظاهرة من علمات رحمة ال بخَلْقه؛ لنها تتناسب مع الزيادة السكانية بحيث كلما‬
‫زاد السكان زادتْ الرقعة الخصبة الصالحة للزراعة‪.‬‬

‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إنك حين تتأمل وضع الجبال مع الوديان تجد أن الجبل مُثلث قاعدته إلى أسفل‪،‬‬
‫وقمته إلى أعلى‪ ،‬أما الوديان فعلى عكس الجبال‪ ،‬فهي مثلث قاعدته إلى أعلى وقمته إلى أسفل‪،‬‬
‫طمْى الجبل والغِرْين الذي يتفتت منه يزيد في مساحة الوادي‪ ،‬فتزداد‬
‫وهكذا نرى أن كل زيادة من َ‬
‫الرقعة الخصبة كل عام مع زيادة السكان‪.‬‬
‫جعَلُونَ َلهُ أَندَادا‬
‫ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ‬
‫لذلك يقول تعالى عن الجبال‪ُ {:‬قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خَلَ َ‬
‫سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا }[فصلت‪9 :‬ـ‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫‪.]10‬‬
‫فجعل الجبال الرواسي هي مخازن القوت من طعام وشراب‪ ،‬ولك أن تتأمل نيل مصر وواديه‪،‬‬
‫خصْبة‬
‫كيف تكوّن من الطمي الذي حملتْه المياه من أعالي الجبال في إفريقيا‪ ،‬ل ُي َكوّن هذه المنطقة ال ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في مصر‪.‬‬
‫ج َعلَ بَيْنَ الْ َبحْرَيْنِ حَاجِزا { [النمل‪.]61 :‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَ َ‬
‫البحرين‪ :‬أي العَذْب والمالح لن الماء‪ :‬منه ال َعذْب‪ ،‬ومنه المالح‪ ،‬ومن قدرته تعالى وحكمته أنْ‬
‫يحجز بينهما‪ ،‬وإنْ كان الماء المالح هو مصدر الماء العَذْب‪ ،‬لذلك جعل ال تعالى مساحة السطح‬
‫للماء ثلثة أرباع الكرة الرضية‪ ،‬وكلما اتسع سطح الماء اتسع ال َبخْر الذي يكوّن السحاب‪ ،‬بحيث‬
‫يسقط المطر الكافي لمعيشة أهل الرض‪.‬‬
‫وما أجملَ قول الشاعر المادح‪:‬أهدى لمجلسه الكريم وإنّما أهدى َلهُ مَا حُ ْزتَ مَن َنعْما ِئ ِهكَالبَحْرِ‬
‫ضلٌ عليْه لنّه مِنْ مَا ِئهِولكي تعلم فضل ال علينا في إنزال المطر وتوفير‬
‫ب ومَا لَه َف ْ‬
‫يُمطِرهُ السّحا ُ‬
‫الماء ال َعذْب‪ ،‬انظر إلى التكلفة والمشقة التي تعانيها لتقطير عدة سنتميترات من الماء‪ ،‬في حين‬
‫أنك ل تدري بعملية التقطير الواسعة التي تسقي البلد والعباد في كل أنحاء الدنيا‪.‬‬
‫وقد مثّلنْا لمسألة اتساع رقعة ال َبحْر بكوب الماء إذا أرقْتَه على الرض‪ ،‬فإنه يجفّ في عدة دقائق‪،‬‬
‫أمّا لو تركت الماء في الكوب لعدة أيام‪ ،‬فإنه ل ينقص منه إل القليل‪.‬‬
‫ومن الماء العَذْب ما سلكه ال تعالى ينابيع في الرض ليخرجه النسان إذا أعوزه الماء على‬
‫السطح‪ ،‬أو سلكه ينابيع في الرض بمعنى أن يسير ال َعذْب بجوار المالح‪ ،‬ل يختلط أحدهما بالخر‬
‫مع ما عُرِف عن الماء من خاصية الستطراق‪.‬‬
‫وهذه من عجائب قدرة ال الخالق‪ ،‬فمِنْ َقعْر البحر المالح تخرج عيون الماء ال َعذْب؛ لن لكل‬
‫منهما طريقا ومسلكا وشعيرات يسير فيها بحيث ل يبغي أحدهما على الخر‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫خ لّ يَ ْبغِيَانِ }[الرحمن‪19 :‬ـ ‪.]20‬‬
‫{ مَرَجَ الْ َبحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ * بَيْ َن ُهمَا بَرْزَ ٌ‬
‫وكما أن الماء العَذْب يتسرب إلى باطن الرض ليكوّن البار والعيون‪ ،‬فكذلك الماء المالح يتسرب‬
‫في باطن الرض ليكوّن من تفاعلته الحجار الكريمة‪ ،‬كالمرمر‪ ،‬والمعادن كالحديد والمنجنيز‬
‫والجرانيت‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫وبعد أن ذكر لنا هذه اليات الخاصة بالرض جاء بهذا الستفهام‬

‫{ أَِإلَـاهٌ مّعَ اللّهِ }[النمل‪ ]60 :‬يعني خلق هذه الشياء } َبلْ َأكْثَرُهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ { [النمل‪]61 :‬‬
‫والذين ل يعلمون أعلمناهم‪ ،‬وقطعنا حُجّتهم بعدم العلم‪.‬‬
‫سكَنٌ‪ ،‬فالرض كثيفة‪ ،‬وفيها‬
‫ولو نظرنا إلى الرض لوجدنا فيها آيات أخرى غير أنها مُستقرّ و َ‬
‫غبرة ليست صافية البياض؛ ذلك لن ال تعالى يريد لها أنْ تستقبل حرارة الشمس وضوءها‬
‫ليستفيد منها النبات‪ ،‬ولو أن الرض كانت شفافة تعكس الضوء والحرارة لما استفاد منها النبات؛‬
‫لذلك نجد بعض المشروعات تنمو في الصيف‪ ،‬وأخرى في الشتاء‪.‬‬
‫ولما أج َروْا بعض التجارب على النبات‪ ،‬فوضعوه في مكان مظلم‪ ،‬ثم جعلوا ُثقْبا في ناحية بحيث‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يدخل الضوء وجدوا أن النّبْتة بما أودع الخالق فيها من غريزة تتجه ناحية الضوء لتأخذ حظها من‬
‫النور والدفء‪ ،‬فسبحان الذي خلق فسوّى‪ ،‬والذي قدّر فهدى‪.‬‬
‫ومن آيات ال في خَلْق الرض أنْ جعلها على هيئة الحركة والدوران‪ ،‬لتأخذ كل مناطقها حظها‬
‫من الحرارة ومن البرودة‪ ،‬ويتنوع فيها المناخ بين صيف وشتاء‪ ،‬وخريف وربيع‪ ،‬إنها أدوار‬
‫تتطلبها مُقوّمات الحياة‪.‬‬
‫لذلك تجد علماء النبات يُقسّمون المناطق الزراعية على الرض يقولون‪ :‬هذا حزام القمح مثلً‪،‬‬
‫وهذا حزام الموز‪ ،‬وهذا حزام البطاطس‪ ،‬فتجد كل حزام منها يصلح لنوع خاص من المزروعات‬
‫يناسب سكان هذه المنطقة وبيئتها وجوّها‪.‬‬
‫لذلك نجد أن كل نوع من المزروعات في مكانه المناسب ل تصيبه الفات‪ ،‬أمّا حين يُنقل إلى‬
‫مكان غير مكانه‪ ،‬وبيئة غير بيئته ل ُبدّ أنْ يُصاب‪.‬‬
‫وفي الرض خاصية أخرى تتعلق بالنسان تعلقا مباشرا‪ ،‬فمن خصائص الرض وهي من الطين‬
‫الذي خُلِق منه النسان‪ ،‬فهي في الحقيقة أمه الولى ـ فإذا مات ل يسعه إل أحضان أمه حين‬
‫يتخلى عنه أقرب الناس إليه‪ ،‬وألصق الناس به‪ ،‬عندها تستقبله الم وتحتويه وتستر عليه ُكلّ ما‬
‫يسوؤه‪.‬‬
‫ومن خصائص الرض أنها تمتص فضلت النسان والحيوان ومخلّفاته وتُحوّلها بقدرة ال إلى‬
‫مُخصّب تزدهر به المزروعات‪ ،‬ويزيد به المحصول‪ ،‬وفي الريف يحملون َر َوثَ الحيوانات ذا‬
‫الرائحة الكريهة إلى الحقول‪ ،‬فإذا به ينبت فيه الوردة الجميلة الذكية التي يتشوّق النسان‬
‫لرائحتها‪.‬‬
‫خلْق‪ ،‬ل يقدر عليها إل ال عز وجل‪ ،‬أتذكرون المثل الذي يقول‪( :‬فلن يعمل‬
‫إنها عجائب في ال َ‬
‫من الفسيخ شربات) هكذا قدرة ال التي تخلق الضداد‪.‬‬
‫َألَ تروْن أن أفضل الفاكهة نأكلها الن من الجبل الصفر بمصر وهي تُرْوى بماء المجاري‪.‬‬
‫وبعد أنْ حدّثنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ عن هذه المظاهر العامة التي يحتاجها كل الخلق في‬
‫السماء والرض والجبال والمطر‪ ..‬الخ يُحدّثنا سبحانه عن مسائل خاصة يحتاجها إنسان دون‬
‫آخر‪ ،‬وفي وقت دون آخر‪ ،‬فيقول سبحانه‪َ } :‬أمّن يُجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ {‬

‫(‪)3148 /‬‬

‫جعَُلكُمْ خَُلفَاءَ الْأَ ْرضِ أَئِلَهٌ َمعَ اللّهِ قَلِيلًا مَا‬


‫شفُ السّوءَ وَيَ ْ‬
‫أَمْ مَنْ ُيجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ ِإذَا دَعَا ُه وَ َيكْ ِ‬
‫تَ َذكّرُونَ (‪)62‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(يجيب) الجابة هي تحقيق المطلوب لداعية‪ ،‬والمضطر‪ :‬هو الذي استنفد السباب‪ ،‬وأخذ بها فلم‬
‫جدِ معه‪ ،‬فليس أمامه إل أنْ يترك السباب إلى المسبّب سبحانه فيلجأ إليه؛ ذلك لن الخالق ـ‬
‫تُ ْ‬
‫عز وجل ـ قبل أنْ يخلق النسان خلق له مُقوّمات حياته وضرورياتها وسخّرها لخدمته‪.‬‬
‫لذلك جاء في الحديث القدسي‪ " :‬يا ابن آدم خلقت الشياء كلها من أجلك‪ ،‬وخلقتك من أجلي فل‬
‫تنشغل بما هو لك عما أنت له "‪.‬‬
‫ثم خلق ال لك الطاقة التي تستطيع أن تُسخّر بها هذه الشياء وضمن لك القوت الضروري من‬
‫ماء ونبات‪ ،‬فإنْ أردتَ أنْ تُرفّه حياتك فتحرك في الحياة بالسباب المخلوقة ل‪ ،‬وبالطاقة الفاعلة‬
‫فيك‪ ،‬وفكّر كيف ترتقي وتُثرِي حركة الحياة من حولك‪.‬‬
‫فالماء الذي ينساب في داخل البيت حين تفتح الصنبور‪ ،‬والضوء الذي ينبعث بمجرد أن تضغط‬
‫على زر الكهرباء‪ ،‬والسيارة التي تنقلك في بضع دقائق‪ ..‬كلها ارتقاءات في حركة حياة الناس لما‬
‫أعملوا عقولهم فيما أعطاهم ال من مادة وعقل وفكر وأسباب‪ ،‬وهذه كلها يد ال الممدودة لعباده‪،‬‬
‫والتي ل ينبغي لنا ردّها‪.‬‬
‫فإذا ما حاولتَ ولم تفلح‪ ،‬ولم تثمر معك السباب‪ ،‬فعليك أنْ تلجأ مباشرة إلى المسبّب سبحانه‪ ،‬لنه‬
‫خالقك والمتكفّل بك‪.‬‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما }[يونس‪ ]12 :‬ويا ليته‬
‫واقرأ قوله تعالى‪ {:‬وَإِذَا مَ ّ‬
‫ساعةَ دعا ربه ولجأ إليه فاستجاب له يجعل له عند ربه رَجْعة‪ ،‬ويتوقع أنْ يصيبه الضّر مرة‬
‫أخرى؛ لكن إنْ كشف ال عنه سرعان ما يعود كما كان‪.‬‬
‫شفْنَا عَنْهُ ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ َيدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ كَذاِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }‬
‫{ فََلمّا كَ َ‬
‫[يونس‪.]12 :‬‬
‫{ َأمّن ُيجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ } [النمل‪ ]62 :‬فالمضطر إذن ل بدّ أنْ يُجيبه ال‪ ،‬فمَنْ قال‪ :‬دعوتُ فلم‬
‫يُستجب لي‪ .‬فاعلم أنه غير مضطر‪ ،‬فليست كل ضائقة تمرّ بالعبد ُتعَدّ من قبيل الضطرار‪ ،‬كالذي‬
‫يدعو ال أن يسكن في مسكن أفضل مما هو فيه‪ ،‬أو براتب و َدخْل أوفر مما يأخذه‪ ..‬الخ‪ ،‬كلها‬
‫مسائل ل اضطرارَ فيها‪ ،‬وربما علم ال أنها الفضل لك‪ ،‬ولو زادك عن هذا القدر طغيتَ‬
‫وتكبرتَ‪.‬‬
‫طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق‪6 :‬ـ ‪.]7‬‬
‫ن الِنسَانَ لَ َي ْ‬
‫كما قال الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬كَلّ إِ ّ‬
‫ع الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِا ْلخَيْرِ‬
‫فلقد طلبتَ الخير من وجهة نظرك‪ ،‬وربّك يعلم أنه ل خيرَ فيه{ وَيَ ْد ُ‬
‫َوكَانَ الِنْسَانُ عَجُولً }[السراء‪.]11 :‬‬
‫فربّك يُصحّح لك هذا الخطأ في فهمك للمسائل فيقول لك‪ :‬سأحقق لك الخير‪ ،‬لكن بطريقة أخرى‬
‫أنسب من هذه‪ ،‬فلو أجبتُك إلى ما تريد لحدث مَا ل تُحمد عقباه‪ ،‬وكأن ال ـ عز وجل ـ وهو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ربّنا والمتولّي أمرنا يجعل على دعائنا (كنترول) ولو كان ال سبحانه موظفا يلبي لكل مِنّا طلبه ما‬
‫استحق أن يكون إلها ـ حاشا ل‪.‬‬

‫فالنسان من طبيعته العجلة والتسرع‪ ،‬فل ُبدّ للرب أن يتدخل في أقدار عبده بما يصلحه‪ ،‬وأنْ‬
‫يختار له ما يناسبه؛ لنه سبحانه العلم بعواقب الشياء وبوقتها المناسب‪ ،‬ولكل شيء عنده تعالى‬
‫موعد وميلد‪.‬‬
‫جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِت ْعجَاَلهُمْ بِا ْلخَيْرِ َل ُقضِيَ إِلَ ْيهِمْ أَجَُلهُمْ }[يونس‪:‬‬
‫واقرأ قول ال تعالى‪ {:‬وََلوْ ُيعَ ّ‬
‫‪.]11‬‬
‫َألَ ترى بعض المهات تحب الواحدة ولدها وتشفق عليه‪ ،‬فإنْ عصاها في شيء أو ضايقها تقول‬
‫رافعةً يديها إلى السماء (إلهي أشرب نارك) أو (إلهي أعمى ول أشوفك) فكيف لو أجاب ال هذه‬
‫الحمقاء؟‬
‫إذن‪ :‬من رحمته تعالى بنا أنْ يختار لنا ما يُصلِحنا من الدعاء‪ ،‬ويُعافينا من الحمق والعجلة‪.‬‬
‫شفُ السّوءَ { [النمل‪ ]62 :‬فكما أنه ل يجيب المضطر إل ال ل يكشف السوء‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَ َيكْ ِ‬
‫إل ال‪ ،‬ولو كان هناك إله آخر يجيب المضطر ويكشف السوء لتوجّه الناسُ إليه بالدعاء‪ ،‬لكن‬
‫ش نفسه في حال‬
‫حينما يُصاب المرء ل يقول إل يا رب‪ ،‬ول يجد غير ال يلجأ إليه لنه لن يغ ّ‬
‫الضائقة أو المصيبة التي ألمت به‪.‬‬
‫وقد مثّلنا لذلك ـ ول المثل العلى ـ بحلق الصحة في الماضي‪ ،‬وكان يقوم بعمل الطبيب الن‪،‬‬
‫فلما أنشئت كلية الطب وتخرّج فيها أحد أبناء القرية اتجهتْ النظار إليه‪ ،‬فكان الحلق يذ ّم في‬
‫الطب والطباء‪ ،‬وأنهم ل خبرةَ لديهم لتبقى له مكانته بين أهل القرية‪ ،‬لكن لما مرض ابن الحلق‬
‫ماذا فعل؟ إنْ غشّ الناس فلن يغشّ نفسه‪ :‬أخذ الولد في ظلم الليل ولفّه في البطانية‪ ،‬وذهب به‬
‫إلى (الدكتور) الجديد‪.‬‬
‫لذلك يقول كل مضطر وكل مَنْ أصابه سوء‪ :‬يا رب يا رب حتى غير المؤمن ل ُب ّد أن يقولها‪،‬‬
‫ول ُبدّ أنْ يتجه بعينه وقلبه إلى السماء إلى الله الحق‪ ،‬فالوقت جِدّ ل مساومة فيه‪.‬‬
‫جعَُل ُكمْ خَُلفَآ َء الَ ْرضِ { [النمل‪ ]62 :‬أي‪ :‬يخلفُ بعضكم بعضا فيها‪ ،‬كما‬
‫ويقول تعالى بعدها‪ } :‬وَيَ ْ‬
‫قال‪ {:‬لَيَسْ َتخِْلفَ ّنهُمْ فِي الَ ْرضِ َكمَا اسْ َتخَْلفَ الّذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ }[النور‪.]55 :‬‬
‫فهل يملك هذه المسائل إل ال‪ } :‬أَإِلَـاهٌ مّعَ اللّهِ { [النمل‪ ]62 :‬والستفهام هنا ينكر وجودَ إله غير‬
‫ال يفعل هذا } قَلِيلً مّا تَ َذكّرُونَ { [النمل‪ ]62 :‬يعني‪ :‬لو تفكرتُم وتذكرتُم لعرفتم أنه ل إله إل ال‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬أمّن َيهْدِيكُمْ فِي ظُُلمَاتِ الْبَرّ {‬

‫(‪)3149 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللّهِ َتعَالَى‬
‫سلُ الرّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَ َديْ َر ْ‬
‫أَمْ مَنْ َي ْهدِيكُمْ فِي ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْ َبحْ ِر َومَنْ يُ ْر ِ‬
‫عمّا ُيشْ ِركُونَ (‪)63‬‬
‫اللّهُ َ‬

‫هذه أيضا من المور الخاصة التي تخصّ بعض الناس دون بعض‪ ،‬وكانت قبل تقدّم العلم‪ ،‬حيث‬
‫كانت النجوم هي العلمات التي يهتدي بها الملحون في البحر والمسافرون في البر{ وَعَلمَاتٍ‬
‫وَبِالنّجْمِ هُمْ َيهْ َتدُونَ }[النحل‪.]16 :‬‬
‫وقد برع في علوم الفلك والنجوم وفي علوم البحار علماء من العرب وضَعُوا أُسسا لهذه العلوم‪ ،‬ل‬
‫عن علم عندهم‪ ،‬إنما عن مشاهدة لظواهر الكون‪ ،‬وتوفيق وهداية من ال عز وجل‪.‬‬
‫وحين نتأمل ارتقاءات النسان في الحياة نجد أنها نتيجة مشاهدة حدثتْ صدفة‪ ،‬أو حتى بطريق‬
‫الخطأ‪ ،‬وإل فكيف اهتدى النسان إلى تخمير العجين ليخرج الخبز على هذه الصورة وبهذا‬
‫الطعم؟ لذلك يُسمّون العجين‪ :‬فطير وهو المبلط الذي لم يتخمر‪ ،‬وخمير وهو الذي تخمّر وارتفع‬
‫قليلً وتخلّله الهواء‪.‬‬
‫وقد نقلوا هذه المعنى للرأي‪ ،‬يقولون‪ :‬فلن رأيه فطير يعني‪ :‬سطحي متعجل‪ ،‬وفكرة مختمرة‬
‫يعني‪ :‬مدروسة بتأنّ‪ ،‬ومنه الفِطْرة يعني الشيء حين يكون على طبيعته‪.‬‬
‫وربما اكتشفتْ إحدى النساء مسألة الخمير هذه نتيجة خطأ أو مصادفة حين عجنتْ العجين‪،‬‬
‫وتأخرت في خَبْزه حتى خمر‪ ،‬فلما خبزته جاء على هذه الصورة المحببة إلينا‪ ،‬كذلك المر في‬
‫اكتشاف البنسلين مثلً‪ ،‬والغواصات والبخار والعجلة‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫وتأمل مثلً‪ :‬لماذا نطبخ الملوخية ول نطبخ النعناع‪ ،‬إنها ـ إذن ـ هداية ال الذي خلق فسوّى‪،‬‬
‫والذي قدّر فهدى‪.‬‬
‫الحديد تعلمنا طَرْقه بعد إدخاله النار ليلين؛ لن ال تعالى علمها لنبيه داود عليه السلم حين قال{‬
‫وَأَلَنّا لَهُ ا ْلحَدِيدَ }[سبأ‪.]10 :‬‬
‫إذن‪ :‬كثير من اكتشافات الكون وارتقاءاته تأتي بهداية ال‪ ،‬وكلما مرّ الزمن تكشفتْ لنا أسرار‬
‫الكون‪ ،‬كلّ في ميعاده وميلده الذي أراده ال‪ ،‬إما أنْ يستنطبه الناس بمقدمات إذا جاء ميلده‪ ،‬وإل‬
‫فيأتي ولو مصادفة‪.‬‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ }[البقرة‪ ]255 :‬فحين يشاء‬
‫واقرأ إن شئت قوله تعالى‪َ {:‬ولَ يُحِيطُونَ ِب َ‬
‫ال يكشف لك الشياء‪ ،‬ويُيسر لك أسبابها‪ ،‬فإذا لم تنتبه لها أراكها مصادفة‪ ،‬ومن وسائل إعلم ال‬
‫لخَلْقه مثلً أهل البوادي‪ ،‬ترى الواحد منهم متكئا ينظر إلى السماء ويقول لك‪ :‬السماء ستمطر بعد‬
‫كم من الساعات‪ ،‬وليس في السماء سحاب ول غَيْمٌ يدل على المطر‪ ،‬لكنه عرفها بالستقراء‬
‫والتجربة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومن هذه الهداية اللهية أن ترى البهائم العجماوات وهي تأكل بالغريزة‪ ،‬تأكل الحشيش الجاف‪،‬‬
‫ول تأكل مثلً النعناع الخضر‪ ،‬أو الريحان من أن رائحته جميلة‪ ،‬لماذا؟‬
‫جعِل للرائحة الطيبة‪ ،‬لكن طعمه غير طيب‪ ،‬وإذا أكل الحيوان وشبع ل يمكن أن يأكل بعدها‬
‫لنه ُ‬
‫أبدا على خلف النسان الذي يأكل حتى التخمة‪ ،‬ثم الحلو والبارد والساخن‪ ،‬ويقولون (أَرِهَا‬
‫اللوان تريك الركان)‪ .‬أي‪ :‬أَرِ معدتك ألوان الطعام وأصنافه‪ ،‬تريك الركان الخالية فيها‪.‬‬
‫لذلك تجد رائحة َروَث الحيوان أقلّ كراهية من رائحة فضلت النسان؛ لنها تأكل بالغريزة التي‬
‫خلقها ال فيها‪ ،‬ونحن نأكل بالشهوة‪ ،‬وبل نظام نلتزم به‪.‬‬
‫حمَتِهِ }‬
‫سلُ الرّيَاحَ بُشْرَا } [النمل‪ ]63 :‬اي‪ :‬مُبشّرات بالمطر { بَيْنَ يَ َديْ َر ْ‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬ومَن يُ ْر ِ‬
‫[النمل‪ ]63 :‬والمطر مظهر من مظاهر رحمة ال { أَإِلَـاهٌ مّعَ اللّهِ } [النمل‪ ]63 :‬أي‪ :‬ل إله إل‬
‫عمّا‬
‫ال يهديكم في ظلمات البر والبحر‪ ،‬ول إله إل ال يرسل الرياح تبشركم بالمطر { َتعَالَى اللّهُ َ‬
‫يُشْ ِركُونَ } [النمل‪ ]63 :‬تنزّه أن يكون له في َكوْنه شريك‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬أمّن يَبْدَأُ ا ْلخَلْقَ }‬

‫(‪)3150 /‬‬

‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللّهِ ُقلْ هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ‬
‫أَمْ مَنْ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه َومَنْ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫صَا ِدقِينَ (‪)64‬‬

‫مسألة الخَلْق هذه ل يستطيعون إنكارها‪ ،‬وقد سألهم ال{ وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }‬
‫[الزخرف‪.]87 :‬‬
‫ت وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[لقمان‪.]25 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وفي موضع آخر‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َت ُهمْ مّنْ خََلقَ ال ّ‬
‫لنهم ل يملَكون إنكارها‪ ،‬وإنْ أنكروها فالردّ جاهز‪ :‬على مَنْ خلق أولً أن يُرينا شيئا جديدا من‬
‫خَلْقه‪.‬‬
‫ومعنى { يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ } [النمل‪ ]64 :‬يعني‪ :‬الخلْق الول من العدم { ُثمّ يُعي ُدهُ } [النمل‪ ]64 :‬لن‬
‫خلْق‬
‫الذي خلقنا من عدم كتب علينا الموت‪ ،‬وأخبرنا بالغيب أننا سنُبعث يوم القيامة‪ ،‬وسيعاد هذا ال َ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬فالذين لم يملكوا إنكار الخلق أنكروا البعث‪ ،‬فقالوا كما حكى القرآن‪:‬‬
‫عجِيبٌ * أَإِذَا‬
‫شيْءٌ َ‬
‫{ ق وَا ْلقُرْآنِ ا ْلمَجِيدِ * َبلْ عَجِبُواْ أَن جَآ َءهُمْ مّنذِرٌ مّ ْنهُمْ َفقَالَ ا ْلكَافِرُونَ هَـاذَا َ‬
‫مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا ذَِلكَ َرجْعٌ َبعِيدٌ }[ق‪1 :‬ـ ‪.]3‬‬
‫فاستبعدوا البعث بعد الموت‪ ،‬وتحلّل الجساد في التراب‪ .‬وهذه القضية خَاضَ فيها الفلسفة بكلم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طويل‪ ،‬وللردّ عليهم نقول‪ :‬أنتم في القوانين الوضعية تجعلون الثواب لمن أحسن‪ ،‬والعقوبة لمن‬
‫قصّر‪ ،‬وتُجرّمون بعض العمال بعينها‪ ،‬وتضعون لها العقوبة المناسبة‪ ،‬وفي القانون‪ :‬ل عقوب َة إل‬
‫بتجريم‪ ،‬ول تجريمَ إل بنصّ‪ ،‬ول نصّ إل بإعلم‪.‬‬
‫ولم نَ َر في القانون الوضعي جريمة تُرِكت بل عقوبة‪ ،‬فإذا كان البشر يضعون لمجتمعاتهم هذه‬
‫القوانين التي تنظم حياتهم‪ ،‬أليس رب البشر أوْلَى بقانون الثواب والعقاب؟ وإذا كنتَ ل ترضي‬
‫ن يفلتَ المجرم من العقاب‪ ،‬فكيف ترضى ذلك ل؟‬
‫لنفسك أ ْ‬
‫ثم أل تعلم أن كثيرا من المجرمين يرتكبون جرائمهم في غفلة من القانون‪،‬ـ أو يُعمّون على‬
‫العدالة ويهربون من العقاب‪ ،‬ويُفلِتون من القوانين الوضعية في الدنيا‪ ،‬ولو تركنا هؤلء بل عقاب‬
‫أيضا في الخرة فهم إذن الفائزون‪ ،‬وسوف نشجع بذلك كل منحرف خارج عن القانون‪.‬‬
‫أما إنْ علم أن له ربا قيوما عليه‪ ،‬وإنْ عمّى على قضاء الرض فلن يُعمّي على قضاء السماء‪،‬‬
‫وإنْ أفلتَ من عقاب الدنيا فلن يُفِلتَ أبدا من عقاب الخرة ـ إنْ علم ذلك استقام‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما وجه استبعادهم للبعث{ ذَِلكَ رَجْعٌ َبعِيدٌ }[ق‪.]3 :‬‬
‫يقولون‪َ :‬هبْ إن إنسانا مات و ُدفِن وتحلّل جسده إلى عناصر امتصتها الرض‪ ،‬ثم غُ ِرسَت شجرة‬
‫في هذا المكان وتغذْت على هذه العناصر‪ ،‬وأكل من ثمارها عدة أشخاص‪ ،‬وانتقلت جزئيات‬
‫الميت إلى الثمار ثم إلى من أكل منها‪ ،‬فحين يُبعث الخَلْق يوم القيامة فليّهما تكون هذه الجزئيات‪:‬‬
‫للول أم للثاني؟ إذا بعثتها للول كانت نقصا في الثاني‪ ،‬وإنْ بعثتها للثاني كانت نقصا في الول‪.‬‬
‫وهذا الكلم منهم على سبيل أن الشخص مادة فقط‪ ،‬لكن التشخيصات مادة ومعنى‪ .‬و َهبْ أن‬
‫شخصا بدينا يزن مثلً مائة كيلو أصابه مرض أهزله حتى َقلّ وزنه إلى خمسين كيلو مثلً‪ ،‬ثم‬
‫عُولج وتحسنت صحته حتى عاد كحالته الولى‪.‬‬

‫فهل الجزئيات التي نقصت من وزنه هي نفسها التي دخلتْ فيه بالصحة والتغذية؟ بالطبع ل‪،‬‬
‫أتغيرتْ شخصيته بهذا النقص‪ ،‬أو بهذه الزيادة؟ ل‪ ،‬بل هو هو‪.‬‬
‫إذن‪ :‬للشخص جزئيات مختلفة التكوين‪ ،‬وله معنى وروح‪ ،‬ساعةَ تتجمع هذه الشياء يأتي الشخص‬
‫المراد‪.‬‬
‫حفِيظٌ‬
‫لذلك يقول تعالى ردا على هؤلء المتفلسفين‪َ {:‬قدْ عَِلمْنَا مَا تَن ُقصُ الَ ْرضُ مِ ْنهُ ْم وَعِندَنَا كِتَابٌ َ‬
‫}[ق‪.]4 :‬‬
‫فلماذا تستبعدون العادة بعد الموت وقد أقررتُم بالخَلْق الول واعترفتم بأن ال هو الخالق‪،‬‬
‫وأليست العادة من موجود أهونَ من الخَلْق بدايةً من العدم؟ ثم إن العادة تحتاج إلى قدرة على‬
‫البراز وإلى علم‪.‬‬
‫أما العلم‪ ،‬فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول‪َ {:‬قدْ عَِلمْنَا مَا تَن ُقصُ الَ ْرضُ مِ ْنهُ ْم وَعِندَنَا كِتَابٌ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حفِيظٌ }[ق‪ ]4 :‬يعني‪ :‬يعلم وزنك‪ ،‬ويعلم جزئياتك‪ ،‬ل يغيب منها ذرة واحدة‪.‬‬
‫َ‬
‫أما القدرة‪ ،‬فقد آمنتُم بها حين أقررتُم بقدرته تعالى على الخَلْق من عدم‪ ،‬والعادة أهون من‬
‫النشاء الول{ وَ ُهوَ الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ }[الروم‪.]27:‬‬
‫وإنْ كان الخالق ـ عز وجل ـ ل ُيقَال في حقه هيّن وأهْون‪ ،‬لكنها بعُرْفكم أنتم‪ ،‬وبما يُقرّب‬
‫المسألة إلى أذهانكم‪.‬‬
‫لوّلِ }[ق‪.]15 :‬‬
‫قاَ‬
‫وفي القدرة أيضا يقول الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬أ َفعَيِينَا بِالْخَ ْل ِ‬
‫سمَآ ِء والَ ْرضِ { [النمل‪.]64 :‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬ومَن يَرْ ُز ُقكُم مّنَ ال ّ‬
‫الرزق‪ :‬كلّ ما يُنتفع به‪ ،‬وهو إما من السماء وإما من الرض‪ ،‬وإما من التقائهما حين ينزل الماء‬
‫من السماء‪ ،‬ويختلط بتربة الرض فيخرج النبات‪.‬‬
‫} أَِإلَـاهٌ مّعَ اللّهِ { [النمل‪ ]64 :‬يكرر نفس الستفهام السابق لتأكيد أنه ل إله إل ال يأتيكم بهذه‬
‫النعم‪.‬‬
‫} ُقلْ هَاتُواْ بُرْهَا َن ُكمْ إِن كُنتُمْ صَا ِدقِينَ { [النمل‪ ]64 :‬أي‪ :‬هاتوا الدليل على وجود إله آخر يقول‪:‬‬
‫أنا الذي بدأتُ الخَلْق‪ ،‬وأنا الذي أرزق من السماء والرض‪ ،‬فإذا لم ي ْأتِ مَنْ يقول هذا فقد ثبتتْ‬
‫الدعوة لصاحبها حيث لم َيقُم معارضَ ـ ودَعْك من مسألة العادة هذه‪ ،‬يكفي أن يدعي الخَلْق؛‬
‫لن القادر على الخَلْق قادر على العادة‪ ،‬فل يستحيل على الذي خلق من أنْ يُعيد من موجود‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما مناسبة الكلم عن الرزق من السماء والرض بعد مسألة العادة؟ ل بُدّ أن تكون هناك‬
‫علقة بينهما‪ ،‬فللرزق الذي يأتي عن طريق التقاء ماء السماء بتربة الرض وهو النبات دورة‬
‫مثل دورة النسان وإعادة كإعادته‪ ،‬حيث يتغذى النسان على نبات الرض‪ ،‬ويأخذ منه حاجته من‬
‫الطاقة والغذاء‪ ،‬وما تبقى منه يخرج على صورة فضلت تتحلل في الرض‪ ،‬حتى ما تبقّى منها‬
‫في جسم النسان يتحلل بعد موته إلى عناصر الرض‪.‬‬
‫فالوردة مثلً بعد نضارتها وطراوتها وجمالها حيث تُقطف تجفّ ويتبخر ماؤها‪ ،‬وكذلك اللون‬
‫والرائحة في الثير الجوي‪ ،‬وما تبقى منها من مادة جافة تتحلل في التربة‪ ،‬فإذا ما زرعنا وردة‬
‫أخرى‪ ،‬فإنها تتغذى على ما في التربة من عناصر‪ ،‬ما في الثير الجوي من لون ورائحة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فعناصر التكوين في الكون لم تَزِدْ ولم تنقص منذ خلق ال الخَلْق‪ ،‬ولدورة النبات في الطبيعة‬
‫بدء ونهاية وإعادة أشبه ما تكون بخَلْق النسان‪ ،‬ثم موته‪ ،‬ثم إعادته يوم القيامة‪.‬‬
‫وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعطينا الدليل على العادة بما نراه من دورة النبات‪ ،‬دليلً بما‬
‫نراه على الغيب الذي ل نراه‪.‬‬
‫سمَاواتِ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬قُل لّ َيعْلَمُ مَن فِي ال ّ‬

‫(‪)3151 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شعُرُونَ أَيّانَ يُ ْبعَثُونَ (‪)65‬‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ ا ْلغَ ْيبَ ِإلّا اللّ ُه َومَا يَ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ُقلْ لَا َيعْلَمُ مَنْ فِي ال ّ‬

‫ب لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُهوَ }[النعام‪.]59 :‬‬


‫كما قال الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫حسّْك‪ ،‬لكن مرة يكون الغيب غيبا إضافيا يغيب عنك‪ ،‬ول‬
‫والغيب‪ :‬كلّ ما غاب عن إدراكك و ِ‬
‫يغيب عن غيرك‪ ،‬فأنا ل أعرف مثلً ما في جيوبكم لكن أنتم تعرفون‪ ،‬والذي سُرِق منه شيء‬
‫وأخفاه السارق‪ ،‬فالمسروق منه ل يعلم أين هو‪ ،‬لكن السارق يعلم‪.‬‬
‫وإما يكون الغيب غيْبا مطلقا‪ ،‬وهو ما غاب عنّا جميعا وهو قسمان‪ :‬قسم يغيب عنا جميعا‪ ،‬لكن قد‬
‫نكتشفه ككل الكتشافات التي اهتدى إليها البشر‪ .‬وهذه يكون لها مقدمات تُوصّل إليها‪ ،‬وهذا غيب‬
‫نصف إضافي؛ لنه غيب اليوم لكن نراه مشهدا بعد ذلك‪ ،‬فل يكون غيبا‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬تمرين الهندسة الذي نعطيه للولد بمقدّمات ومعطيات‪ ،‬يُعمِلون فيها عقولهم حتى‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْل ِمهِ ِإلّ ِبمَا‬
‫يتوصلوا إلى الحل المطلوب‪ ،‬وهذا النوع يقول ال عنه‪ {:‬وَلَ ُيحِيطُونَ بِ َ‬
‫شَآءَ }[البقرة‪.]255 :‬‬
‫فإذا شاء ال وجاء ميلد هذا الغيب أطلعهم ال تعالى على المقدمات التي توصّل إليه‪ ،‬إما بالبحث‪،‬‬
‫س ِهمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َل ُهمْ‬
‫ق َوفِي أَنفُ ِ‬
‫وإما حتى مصادفة‪ ،‬وهذا يؤكده قوله تعالى‪ {:‬سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬
‫أَنّهُ ا ْلحَقّ }[فصلت‪.]53 :‬‬
‫ومن الغيب المطلق غَيْب حقيقي‪ ،‬ل يطلع عليه ول يعلمه إل ال فقد استقبل سبحانه وتفرّد‬
‫ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ َأحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا‬
‫بمعرفته‪ ،‬وهذا الغيب يقول تعالى عنه‪ {:‬عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ ُي ْ‬
‫مِن رّسُولٍ }[الجن‪26 :‬ـ ‪.]27‬‬
‫ت والَرْضِ ا ْلغَ ْيبَ ِإلّ اللّهُ }‬
‫سمَاوا ِ‬
‫ومن هذا الغيب المطلق قضية القيامة { قُل لّ َيعْلَمُ مَن فِي ال ّ‬
‫[النمل‪ ]65 :‬فالقيامة ل يعلم وقتها إل ال سبحانه‪ ،‬إل أنه جعل لها مُقدّمات وعلمات تدلّ عليها‬
‫وتُنبىء بقُرْبها‪.‬‬
‫خفِيهَا }[طه‪ ]15 :‬يعني‪ :‬أداريها وأسترها‪،‬‬
‫خفِيهَا }[طه‪ ]15 :‬البعض يظن أن{ ُأ ْ‬
‫قال عنها‪َ {:‬أكَادُ ُأ ْ‬
‫خفِيهَا }[طه‪ ]15 :‬يعني‪ :‬أزيل خفاءها‪ ،‬ففرْق بين خَفي الشيء وأخفاه‪:‬‬
‫لكن المعنى ليس كذلك{ أُ ْ‬
‫خفَى الشيء عني‪ :‬ستره وداراه‪ ،‬أما أخفاه فيعني‪ :‬أظهره‪ ،‬وهذه تُسمّى همزة الزالة‪ ،‬مثل‪ :‬أعجم‬
‫َ‬
‫الشيء يعني‪ :‬أزال عُجْمته‪ .‬ومنه المعجم الذي يُوضّح معاني المفردات‪.‬‬
‫وكما تكون الزالة بالهمزة تكون بالتضعيف‪ .‬نقول‪ :‬مرض فلن يعني‪ :‬أصابه المرض‪ ،‬ومرّض‬
‫فلنا يعني‪ :‬عالجه وأزال مرضه‪ ،‬ومنه‪ :‬قشّر البرتقالة‪ :‬يعني أزال قشرها‪.‬‬
‫خفِيهَا }[طه‪ ]15 :‬أي‪ :‬أكاد أُظهِرها‪ ،‬ألَ ترى أن للساعة علمات كبرى وعلمات‬
‫فالمعنى{ َأكَادُ ُأ ْ‬
‫صغرى‪ ،‬نرى بعضها الن‪ ،‬وتتكشف لنا من اليام علمة بعد أخرى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكن يظل للقيامة وقتها الذي ل يعلمه إل ال؛ لذلك يقول عنها‪ {:‬لَ يُجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَآ ِإلّ ُهوَ }‬
‫[العراف‪.]187 :‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يفتخر بأنه ل يعلم موعدها‪ ،‬فيقول حين سُئِل عنها‪ " :‬ما المسئول عنها‬
‫بأعلم من السائل "‪.‬‬

‫فشَرفٌ لرسول ال ألّ يعلم شيئاَ استأثر ال بعلمه‪ ،‬والقيامة غَ ْيبٌ مطلق لم ُيعْطِ ال مفاتحه لحد‬
‫حتى الرسل‪.‬‬
‫وقد يُكرِم ال تعالى بعض خَلْقه‪ ،‬ويُطلِعه على شيء من الغيب‪ ،‬ومن ذلك الغيبيات التي أخبر بها‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم دون أن يكون لها مُقدّمات توصّل إليها‪ ،‬فل بُدّ أنها أتته في وحي‬
‫القرآن‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬الـم * غُلِ َبتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى الَ ْرضِ وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِب ِهمْ‬
‫سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ سِنِين }[الروم‪1 :‬ـ ‪.]4‬‬
‫وكان الروم أقرب إلى ال؛ لنهم أهل كتاب‪ ،‬وكان الفرس كفارا يعبدون النار‪ ،‬لذلك كان رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم وصحابته يتمنْون انتصار الروم على الفرس‪ ،‬فنزل الوحي على رسول‬
‫ال يخبره{ غُلِ َبتِ الرّومُ }[الروم‪ ]2 :‬لكنهم في النهاية{ سَ َيغْلِبُونَ }[الروم‪ ]3 :‬ولول أن ال تعالى‬
‫حدد غلبهم{ فِي ِبضْعِ سِنِينَ }[الروم‪ ]4 :‬لكان انتصارهم دائما‪ ،‬لكن مَنْ يستطيع تحديد مصير‬
‫معركة بين قوتين عُظميين بعد بضع سنين إل ال؟‬
‫ولن انتصار الروم يُفرِح المؤمنين بال‪ ،‬قال سبحانه‪ {:‬وَ َي ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * بِ َنصْرِ اللّهِ }‬
‫[الروم‪4 :‬ـ ‪.]5‬‬
‫وتشاء قدرة ال أنْ يأتيَ انتصار الروم على الفرس في نفس اليوم الذي انتصر فيه المؤمنون على‬
‫الكافرين في بدر‪.‬‬
‫ومن الغيب الذي يفيض ال به على عبد من عباده ما حدث من الصّديق أبي بكر ـ رضي ال‬
‫عنه ـ وقد أعطى ابنته عائشة ـ رضي ال عنها ـ مالً‪ ،‬فلما حضرتْه الوفاة قال لها‪ :‬هاتي ما‬
‫عندك من المال‪ ،‬إنما هما أخواك وأختاك‪ :‬أخواك هما محمد وعبد الرحمن‪ ،‬وأختاك‪ :‬ل نعلم أن‬
‫لعائشة أختا غير أسماء‪ ،‬فمن هي الخرى؟‬
‫كان الصّديق قد تزوج من ابنة خالته وكانت حاملً‪ ،‬لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ تجلى عليه‬
‫وألهمه أنها ستُنجب بنتا تنضم إلى عائشة وأسماء‪.‬‬
‫شعُرُونَ أَيّانَ يُ ْبعَثُونَ { [النمل‪ ]65 :‬أي‪ :‬كما أننا ل نشعر بالموت ول نعرف‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬ومَا َي ْ‬
‫ميعاده‪ ،‬كذلك ل نشعر بالبعث‪ ،‬ول متى سنُبعث‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬بلِ ادّا َركَ عِ ْل ُمهُمْ {‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3152 /‬‬

‫عمُونَ (‪)66‬‬
‫شكّ مِ ْنهَا َبلْ ُهمْ مِ ْنهَا َ‬
‫َبلِ ادّا َركَ عِ ْل ُمهُمْ فِي الَْآخِ َرةِ َبلْ هُمْ فِي َ‬

‫معنى { ادّا َركَ } [النمل‪ ]66 :‬أي‪ :‬تدارك‪ ،‬يعني‪ :‬توالى وتتابع الحديث عنها عند كل الرسل‪ ،‬ومنه‬
‫جمِع بعضهم على بعض‪.‬‬
‫قوله تعالى‪ {:‬حَتّىا ِإذَا ادّا َركُواْ فِيهَا }[العراف‪ ]38 :‬يعني‪ُ :‬‬
‫إذن‪ :‬تتابع العلم بالخرة عند كل رسل ال‪ ،‬فما منهم إل وقد دعا إلى اليمان بال وباليوم‬
‫الخر‪ ،‬وأتى بالدليل عليه‪.‬‬
‫شكّ مّ ْنهَا } [النمل‪ ]66 :‬أي‪ :‬من الخرة‪،‬‬
‫ومع متابعة التذكير بالخرة قال ال عنهم { َبلْ ُهمْ فِي َ‬
‫عمُونَ } [النمل‪ ]66 :‬أي‪ :‬عميتْ أبصارهم وبصائرهم عنها‪،‬‬
‫فلماذا؟ يقول تعالى‪َ { :‬بلْ هُم مّ ْنهَا َ‬
‫ت عيونهم وقلوبهم لمنوا بها‪.‬‬
‫فلم يهتدوا‪ ،‬ولو تفتح ْ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬فَإِ ّنهَا لَ َت ْعمَى الَ ْبصَارُ وَلَـاكِن َت ْعمَىا ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ }[الحج‪.]46 :‬‬
‫إذن‪ :‬هناك شيء موجود بالفعل‪ ،‬لكني أغفلته‪ ،‬أو تغافلت عنه بإرادتي‪ ،‬فآيات البعث والقيامة‬
‫عمُوا عنها فلم يَ َروْها‪.‬‬
‫موجودة ومُتداركة‪ ،‬لكن الناس َ‬
‫عمُونَ } [النمل‪ ]66 :‬جمع عَمٍ‪ ،‬وهو الذي عميتْ بصيرته عن دلئل القيامة الواضحة‪.‬‬
‫ومعنى‪َ { :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ }‬

‫(‪)3153 /‬‬

‫َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ِئذَا كُنّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنّا َل ُمخْرَجُونَ (‪)67‬‬

‫يريدون أنْ يستدلوا بعدم بعث الباء على عدم َبعْثهم‪ ،‬لكن مَنْ قال لهم‪ :‬إن الخرة ستأتي مع‬
‫الدنيا‪ ،‬ما سُميّت الخرة إل لنها تأتي آخرا بعد انقضاء الدنيا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬لقَدْ وُعِدْنَا هَـاذَا }‬

‫(‪)3154 /‬‬

‫ن وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَ ْبلُ إِنْ هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ (‪)68‬‬


‫َلقَ ْد وُعِدْنَا َهذَا َنحْ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي‪ :‬من لدن آدم ـ عليه السلم ـ والناس يموتون والنبياء تذكر بهذا اليوم الخر‪ ،‬لكنه لم يحدث‬
‫{ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ أَسَاطِيرُ الَوّلِينَ } [النمل‪ ]68 :‬أي‪ :‬كذِب وافتراء ونسج خيال كما في أساطير‬
‫السابقين‪ ،‬لكن ما الدافع لهم لنْ يتهموا الرسل في بلغهم عن ال هذا التهام؟‬
‫ن يؤمّن نفسه‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬لن نفس المرء عزيزة عليه‪ ،‬وكل مُسْرف على نفسه في المعاصي يريد أ ْ‬
‫ن يقول هذا الكلم كذب‪ ،‬أو يتمنى أن يكون كذبا‪ ،‬ولو اعترف‬
‫وأنْ يريحها‪ ،‬وليس له راحة إل إ ْ‬
‫جعْبته إل كفر بال وعصيان لوامره‪،‬‬
‫بالقيامة وبالبعث والحساب فمصيبته عظيمة‪ ،‬فليس في ُ‬
‫فكيف إذن يعترف بالعبث؟ فطبيعي أن يؤنس نفسه بتكذيب ما أخبره به الرسول‪.‬‬
‫ن يقول في القدر‪ :‬إذا كان ال قد كتب عليّ المعصية‪ ،‬فلماذا يُعذّبني بها؟‬
‫لذلك نجد من هؤلء مَ ْ‬
‫والمنطق يقتضي أن يكلموا الصورة فيقولون‪ :‬وإذا كتب عليّ الطاعة‪ ،‬فلماذا يثيبني عليها؟ فلماذا‬
‫ذكرتُم الشر وأغفلتم الخير؟‬
‫إذن‪ :‬هؤلء يريدون المنفذ الذي ينجون منه ويهربون به من عاقبة أعمالهم‪.‬‬

‫(‪)3155 /‬‬

‫ُقلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ (‪)69‬‬

‫يدعوهم ال تعالى إلى السير في مناكب الرض للنظر وللتأمل ل فيمن ُبعِث لن البعث لم يأتِ‬
‫َبعْد‪ ،‬ولكن للنظر في عاقبة المجرمين الذي كّبوا رسلهم فيما أتَوا به‪ ،‬وكيف أن هزمهم ودحرهم‬
‫وكتب النصر للرسل‪.‬‬
‫والبعث مما جاء به الرسل‪ ،‬فمَنْ كذّب الرسل كذّب بالبعث مع أنه واقع ل شكّ فيه‪ ،‬لكن الحق ـ‬
‫تبارك وتعالى ـ ُيخِفيه لوقته‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬لَ يُجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَآ ِإلّ ُهوَ }[العراف‪.]187 :‬‬
‫ثم يُسلّي ال تعالى رسوله صلى ال عليه وسلم ليُخفّف عنه ألم ما يلقي في سبيل الدعوة‪ ،‬فيقول‬
‫تعالى‪َ { :‬ولَ َتحْزَنْ عَلَ ْيهِمْ }‬

‫(‪)3156 /‬‬

‫وَلَا تَحْزَنْ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا َتكُنْ فِي ضَ ْيقٍ ِممّا َي ْمكُرُونَ (‪)70‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكَ عَلَىا آثَارِ ِهمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا‬
‫خعٌ ّنفْ َ‬
‫وقد خاطب الحق سبحانه رسوله بقوله‪ {:‬فََلعَّلكَ بَا ِ‬
‫حدِيثِ أَسَفا }[الكهف‪.]6 :‬‬
‫الْ َ‬
‫والعنى‪ :‬مُهلِك نفسَك من الحزن‪ ،‬والبخع كما قلنا‪ :‬المبالغة في الذبح بحيث توصله إلى البخاع‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ يوضح أن مهمة الرسول البلغ عن ال فقط‪ ،‬ول عليه آمن مَنْ آمن‪،‬‬
‫ن كفر‪ ،‬إنما حب النبي صلى ال عليه وسلم لمته وحِرْصه على نجاتها جعله يحزن‬
‫أو كفر مَ ْ‬
‫س ُكمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا‬
‫ويألم إنْ شرد منه واحدٍ من أمته‪ ،‬ألم ي ُقلْ عنه ربه‪َ {:‬لقَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة‪.]128 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عنهم‪ { :‬وَ َيقُولُونَ مَتَىا هَـاذَا }‬

‫(‪)3157 /‬‬

‫وَيَقُولُونَ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (‪)71‬‬

‫يقول المكذبون بالبعث { مَتَىا هَـاذَا ا ْلوَعْدُ } [النمل‪ ]71 :‬أي‪ :‬بالبعث { إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ }‬
‫[النمل‪ ]71 :‬في أن هناك َبعْثا‪.‬‬
‫وس ّموْا إخبار ال لهم بالبعث وَعْدا‪ ،‬مع أنه في حقهم وعيد‪ ،‬وفَرْق بين وَعَد وأوعد‪ :‬وَعَد للخير‬
‫وأوعد للشر‪ ،‬لكن ال تعالى يطمس على ألسنتهم‪ ،‬وهم أهل الفصاحة فيقولون { مَتَىا هَـاذَا ا ْلوَعْدُ‬
‫} [النمل‪ ]71 :‬وهو بالنسبة لهم وعيد‪ ،‬لن إيعاد المخالف لك بش ّر وَعْد لك بخير‪.‬‬
‫وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول‪ :‬لقد وعدنا بأمرين‪ :‬وعدنا رسلنا بالتأييد والنصرة‪ ،‬ووعدنا‬
‫العالم كله بالبعث‪ ،‬فإذا كنا صادقين في الولى وهي مُشَاهدة لكم ومُحسّة فخذوها مقدمة ودليلً‬
‫على صِدْقنا في الخرى‪ ،‬وقد عاينتُم أن جميع الرسل انتصروا على مُكذّبيهم‪ ،‬إما بعذاب‬
‫الستئصال‪ ،‬وإما بعذاب الهزيمة والنكسار‪.‬‬
‫عسَىا أَن َيكُونَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬قلْ َ‬

‫(‪)3158 /‬‬

‫عسَى أَنْ َيكُونَ َر ِدفَ َلكُمْ َب ْعضُ الّذِي َتسْ َتعْجِلُونَ (‪)72‬‬
‫ُقلْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كلمة { عَسَىا } [النمل‪ ]72 :‬تفيد الرجاء‪ ،‬لكنها من ال تفيد التحقيق‪ ،‬فلو قُلْت مثلً‪ :‬عسى أن‬
‫يعطيك فلن‪َ ،،‬لكَان الرجاء ضعيفا‪ ،‬وأقوى منه لو قُلْت‪ :‬عسى أن أعطيك لني ل أملك فلنا‪ ،‬لكن‬
‫أملك نفسي‪ ،‬وأقوى من ذلك أن أقول‪ :‬عسى أن يُعطيك ال لن أسبابي أنا قد ل تمكّني من‬
‫الوفاء‪،‬أما إنْ قال ال تعالى عسى‪ ،‬فهي قمة التأكيد والتحقيق في الرجاء‪ ،‬وهي أعلى مراتبه‬
‫وأبلغها‪.‬‬
‫ومعنى { َر ِدفَ َلكُم } [النمل‪ ]72 :‬أي‪ :‬تبعكم وجاء بعدكم من أردفه إذا أركبه خلفه على الدابة‪،‬‬
‫فهو خلفه مباشرة‪ ،‬وفعلً أصابهم ما يستعجلون‪ ،‬فلم يمرّ طويلً حتى حاقت بهم الهزيمة في بدر‪،‬‬
‫جمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪ ]45 :‬وقد عاينتُم ذلك‪ ،‬فخذوه‬
‫فص َدقْنا في الولى حين قلنا‪ {:‬سَ ُيهْزَمُ الْ َ‬
‫دليلً على الغَيْب الذي أخبرناكم به‪.‬‬
‫ضلٍ }‬
‫ثم يقول رب العزة سبحانه‪ { :‬وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َف ْ‬

‫(‪)3159 /‬‬

‫شكُرُونَ (‪)73‬‬
‫س وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا يَ ْ‬
‫علَى النّا ِ‬
‫ضلٍ َ‬
‫وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َف ْ‬

‫فمن فضله تعالى عليكم أنْ يُؤخّر القيامة لعل الناس يرعوون‪ ،‬وإل لفاجأتهم من أول تكذيب‪ ،‬وهذا‬
‫يبين أن ال تعالى يُمهل الخَلْق ليزداد فيهم أهل الهدى واليمان‪َ ،‬ألَ ترى أن المؤمنين برسول ال‬
‫لم يأتُوا جميعا مرة واحدة في وقت واحد‪ ،‬إنما على فترات زمنية واسعة‪.‬‬
‫لذلك قلنا‪ :‬إن المسلمين الوائل كانوا في معاركهم مع الكفر يألمون إنْ فاتهم قَتْل واحد من رؤوس‬
‫الكفر وقادته مثل عكرمة وعمرو وخالد وغيرهم‪ ،‬ولو أطلعهم ال على الغيب لَعلِموا أن ال تعالى‬
‫نجّاهم من أيديهم ليدخرهم فيما َبعْد ل ُنصْرة السلم‪ ،‬وليكونوا قادة من قادته‪ ،‬وسيوفا من سيوفه‬
‫شهَرة في وجوه الكافرين‪.‬‬
‫الم ْ‬
‫شكُرُونَ } [النمل‪ ]73 :‬دليل على أن البعض منهم يشكر‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ يَ ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َيعَْلمُ }‬

‫(‪)3160 /‬‬

‫ن صُدُورُ ُه ْم َومَا ُيعْلِنُونَ (‪)74‬‬


‫وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َيعْلَمُ مَا ُتكِ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولك أنْ تقول في هذه الية‪ :‬إذا كان ال تعالى يعلم ما تُكنّ صدورهم وما تخفيه‪ ،‬فمن باب َأوْلَى‬
‫يعلم ما يُعلنون‪ ،‬فلماذا قال بعدها‪َ { :‬ومَا ُيعْلِنُونَ } [النمل‪]74 :‬؟‬
‫نقول‪ :‬لن ما في الصدور غَيْب وال غَيْب‪ ،‬وقد يقول قائل‪ :‬ما دام أن ال غيْب فل يعلم إل‬
‫الغيب‪ .‬فنردّ عليه بأن ال تعالى يعلم الغيب ويعلم العلن‪.‬‬

‫(‪)3161 /‬‬

‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (‪)75‬‬


‫َومَا مِنْ غَائِ َبةٍ فِي ال ّ‬

‫معنى { غَآئِبَةٍ } [النمل‪ ]75 :‬يعني‪ :‬الشيء الغائب‪ ،‬ولحقتْ به التاء الدالة على المبالغة‪ ،‬كما نقول‬
‫في المبالغة‪ :‬راوٍ ورواية‪ ،‬ونسّاب ونسّابه‪ ،‬وعالم وعلمة‪ ،‬كذلك غائب وغائبة‪ ،‬مبالغة في خفائها‪.‬‬
‫و(مِنْ) هنا يرى البعض أنها زائدة‪ ،‬لكن كلمة زائدة ل تليق بأسلوب القرآن الكريم وفصاحته‪،‬‬
‫ونُنزّه كلم ال عن الحشو واللغو الذي ل معنى له‪ ،‬والبعض تأدب مع القرآن فقال (من) هنا‬
‫صلة‪ ،‬لكن صلة لي شيء؟‬
‫إذن‪ :‬ل بد أن لها معنى لكي نوضحه نقول‪ :‬إذا أردتَ أنْ تنفي وجود مال معك تقول‪ :‬ما عندي‬
‫مال‪ ،‬وهذا يعني أنه ل مالَ معك يُعتَدّ به‪ ،‬ول يمنع أن يكون معك مثلً عدة قروش ل يقال لها‬
‫مال‪ ،‬فإن أردتَ نفي المال على سبيل تأصيل العموم في النفس تقول‪ :‬ما عندي من مال‪ ،‬يعني‬
‫صغُر‪ ،‬فمِنْ هنا إذن ليست زائدةً ول صلةً‪ ،‬إنما هي للغاية وتأصيل‬
‫بداية ممّا يُقال له مال مهما َ‬
‫العموم في النفي‪.‬‬
‫سمَآ ِء وَالَ ْرضِ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } [النمل‪ ]75 :‬أن ال تعالى يحيط‬
‫فالمعنى { َومَا مِنْ غَآئِ َبةٍ فِي ال ّ‬
‫علمه أزلً بكل شيء‪ ،‬مهما كان صغيرا ل يُعتدّ به‪ ،‬واقرأ قوله تعالى‪:‬‬
‫ب َولَ يَابِسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ‬
‫ط ٍ‬
‫ض َولَ َر ْ‬
‫سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الَ ْر ِ‬
‫{ َومَا تَ ْ‬
‫مّبِينٍ }[النعام‪.]59 :‬‬
‫كما أن قدرته تعالى ل تقف عند حد العلم إنما ويسجله { ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } [النمل‪ ]75 :‬أي في‬
‫أُمّ الكتاب الذي سجّل ال فيه كل أحداث الكون‪ ،‬فإذا ما جاءتْ الحداث نراها مُوافِقة لما سجّله ال‬
‫ل والمواصلت في زمن نزول‬
‫عنها أَ َزلً‪ ،‬فمثلً لما ذكر الحق ـ تبارك وتعالى ـ وسائل النق ِ‬
‫حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَ ًة وَيَخُْلقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[النحل‪.]8 :‬‬
‫ل وَالْ َ‬
‫ل وَالْ ِبغَا َ‬
‫القرآن قال‪ {:‬وَالْخَ ْي َ‬
‫خلُقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[النحل‪ ]8 :‬لكان فيها مأخذ على القرآن‪ ،‬وإلّ‬
‫فلول تذييل الية بقوله تعالى‪ {:‬وَيَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فأين السيارة والطائرة والصاروخ في وسائل المواصلت؟‬
‫إذن‪ :‬نستطيع الن أنْ نُدخِل كل الوسائل الحديثة تحت{ وَ َيخْلُقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[النحل‪.]8 :‬‬
‫وسبق أن قلنا‪ :‬إن من عظمة الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ألّ يُعلم بشيء ل اختيار للعبد فيه‪ ،‬إنما‬
‫س َفهَآءُ مِنَ النّاسِ‬
‫بما له فيه اختيار ويفضحه باختياره‪ ،‬كما حدث في مسألة تحويل القبلة‪ {:‬سَ َيقُولُ ال ّ‬
‫مَا وَلّ ُهمْ عَن قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَ ْيهَا }[البقرة‪.]142 :‬‬
‫فيعلنها ال تعالى صراحة‪ ،‬ويُسمّيهم سفهاء؛ لنهم يعادون ال ويعادون رسول ال‪ ،‬وبعد هذه‬
‫الخصومة وهذا التجريح قالوا فعلً ما حكاه القرآن عنهم‪.‬‬
‫ولم نَرَ منهم عاقلً يتأمل هذه الية‪ ،‬ويقول‪ :‬ما دام أن القرآن حكى عنا هذا فلن نقوله‪ ،‬وفي هذه‬
‫ن يتهموا القرآن وينالوا من صِدْقه ومن مكانة رسول ال‪ ،‬لكن لم يحدث وقالوا‬
‫الحالة يجوز لهم أ ْ‬
‫فعلً بعد نزول الية‪:‬‬

‫{ مَا َولّهُمْ عَن قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَ ْيهَا }[البقرة‪ ]142 :‬يعني‪ :‬تركوا التوجه إلى بيت المقدس‬
‫وتوجهوا إلى مكة‪ ،‬قالوه مع ما لهم من عقل واختيار‪.‬‬
‫ب وَ َتبّ * مَآ أَغْنَىا‬
‫وهذه المسألة حدثتْ أيضا في شأن أبي لهب لما قال ال عنه‪ {:‬تَ ّبتْ َيدَآ أَبِي َل َه ٍ‬
‫سبَ * سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ َل َهبٍ }[المسد‪1 :‬ـ ‪.]3‬‬
‫عَنْهُ مَالُهُ َومَا كَ َ‬
‫لنه قالها لرسول ال صلى ال عليه وسلم لما جمعهم ليبلغهم دعوة ال‪ ،‬فقال له‪ :‬تبا لك ألهذا‬
‫جمعتنا‪ .‬وأبو لهب عم رسول ال‪ ،‬كحمزة والعباس ولم يكن رسول ال يدري مستقبل عمه‪ ،‬فلعله‬
‫يؤمن كما آمن حمزة وصار أسد رسول ال‪ ،‬وكما آمن العباس بن عبد المطلب‪.‬‬
‫فلما نزلت{ تَ ّبتْ يَدَآ }[المسد‪ ]1 :‬كان بإمكانه أنْ يُكذّبها وأن يؤمن فينطق بالشهادتين ولو نفاقا‪ ،‬فله‬
‫على ذلك قدرة‪ ،‬وله فيه اختيار‪ ،‬لكنه لم يفعل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬من عظمة كلم ال ومن وجوه العجاز فيه أنْ يحكم حكما على مختار كافر به‪ ،‬وهو قرآن‬
‫يُتْلَى علني ًة على رؤوس الشهاد‪ ،‬ومع ذلك ل يستطيع التصدّي له‪ ،‬ويبقى القرآن حُجّة ال على‬
‫كل كافر ومعاند‪.‬‬
‫ولما نتأمل قوله تعالى‪ {:‬إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر‪ ]9 :‬نرى أن الحق سبحانه‬
‫أنزل القرآن وتولّى حفظه بنفسه ـ سبحانه وتعالى ـ ولم يُوكله إلى أحد‪ ،‬مع أن في القرآن أشياء‬
‫وأحداثا لم توجد بعد‪ ،‬فكأن ال تعالى يحفظها على نفسه ويُسجّلها ويعلنها‪ ،‬لماذا؟ لنها ستحدث ل‬
‫محالة‪.‬‬
‫فالحق سبحانه ل يخشى واقع الشياء ألّ تطاوعه؛ لنه مالكها‪ ،‬ألَ ترى أن النسان يحفظ‬
‫(الكمبيالة) التي له‪ ،‬ول يهتم بالتي عليه؟ أما ربّنا عز وجل فيحفظ لنا الشياء وهي عليه سبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪ ]45 :‬فال يُسجّلها على نفسه ويحفظها؛ لنه‬
‫واقرأ إن شئت‪ {:‬سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ‬
‫القادر على النفاذ‪ ،‬وفعلً هُزِم الجمع وولّوْا الدبار وصدق ال‪.‬‬

‫(‪)3162 /‬‬

‫إِنّ َهذَا ا ْلقُرْآَنَ َي ُقصّ عَلَى بَنِي ِإسْرَائِيلَ َأكْثَرَ الّذِي ُهمْ فِيهِ َيخْتَِلفُونَ (‪)76‬‬

‫فَرْق بين أن تخاطب خاليَ الذهن‪ ،‬وأنْ تخاطب مَنْ لديه فكرة ُمسْبقة‪ ،‬فخالي الذهن يقبل منك‪ ،‬أما‬
‫صاحب الفكرة المسْبقة فيعارضك‪ ،‬كذلك جاء من الكفار ومن أهل الكتاب من يعارض كتاب ال‬
‫وينكر ما جاء به‪ ،‬ومع أنهم أعداء السلم وكارهون له لكْن إنْ سألتَهم عما أخبر به القرآن‬
‫يقولون‪ :‬نعم نعرف هذا من كتبنا{ فََلمّا جَآءَ ُهمْ مّا عَ َرفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫[البقرة‪.]89 :‬‬
‫لذلك سيدنا عبد ال بن سلم عندما نظر إلى رسول ال علم أنه الرسول الحق‪ ،‬فمالتْ نفسه إلى‬
‫السلم وقال‪ :‬وال إنّي لعرف محمدا كمعرفتي بابني‪ ،‬ومعرفتي بمحمد أشد‪ ،‬وصدق ال حين‬
‫قال عنهم‪َ {:‬يعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَ ُهمْ }[البقرة‪.]146 :‬‬
‫علم عبد ال أن السلم هو الطريق الذي يُوصّله إلى ال والذي ينبغي لكل عاقل أنْ يتبعه‪ ،‬فلما‬
‫أراد أنْ يُسلم أحب أنْ يكسب الجولة بإعلن إسلمه وفضيحة المنافقين والكفار وأهل الكتاب‪،‬فقال‪:‬‬
‫يا رسول ال لقد اشتشر َفتْ نفسي للسلم‪ ،‬وأخاف إنْ أسملتُ أن يذمّني اليهود ويفعلوا بي كذا‬
‫وكذا‪ ،‬فاسألهم عنّي قبل أنْ أُسلِم‪ ،‬فسألهم رسول ال فقالوا‪ :‬هو حَبْرنا وابن حَبْرنا‪..‬‬
‫وكالوا له الثناء والمديح‪ ،‬عندها قال عبد ال‪ :‬أَما وقد قلتم ما قلتم‪ ،‬فأشهد أل إل إله ال وأن محمدا‬
‫رسول ال‪ ،‬فقالوا‪ :‬بل هو شرّنا وابن شرّنا‪ .‬وكالوا له عبارات السب والشتم‪.‬‬
‫حمَةٌ }‬
‫ثم يصف الحق سبحانه القرآن فيقول‪ { :‬وَإِنّهُ َل ُهدًى وَرَ ْ‬

‫(‪)3163 /‬‬

‫ح َمةٌ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)77‬‬


‫وَإِنّهُ َلهُدًى وَرَ ْ‬

‫حمَةٌ } [النمل‪:‬‬
‫معنى { َلهُدًى } [النمل‪ ]77 :‬أي‪ :‬هداية دللة وإرشاد‪ ،‬وهذه للمؤمن وللكافر { وَرَ ْ‬
‫ح َمةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[السراء‪:‬‬
‫شفَآ ٌء وَرَ ْ‬
‫‪ ]77‬للمؤمنين فقط‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪ ]82‬وفَرْق بين الشفاء والرحمة؛ لن العطف هنا يقتضي المغايرة‪ .‬الشفاء‪ :‬من الداء الذي جاء‬
‫القرآن ليعالجه‪ ،‬والرحمة ألّ يعاودك هذا الداء مرة أخرى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِن رَ ّبكَ َيقْضِي بَيْ َنهُم }‬

‫(‪)3164 /‬‬

‫ح ْكمِ ِه وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلعَلِيمُ (‪)78‬‬


‫إِنّ رَ ّبكَ َي ْقضِي بَيْ َنهُمْ ِب ُ‬

‫قوله تعالى { ا ْلعَزِيزُ } [النمل‪ ]78 :‬أي‪ :‬الذي يقهر ول يُقهر‪ ،‬ويغلب ول ُيغْلب‪ ،‬ويجير ول ُيجَار‬
‫عليه‪ ،‬وهو مع ذلك في عزته { ا ْلعَلِيمُ } [النمل‪ ]78 :‬فقد يكون عزيزا ل يُغلب‪ ،‬لكن ل علم عنده‪،‬‬
‫فالحق سبحانه عزيز عليم يضع العزة في مكانها‪ ،‬ويضع الذلة في مكانها‪.‬‬
‫كما قال سبحانه‪ُ {:‬قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَنزِعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآ ُء وَ ُتعِزّ مَن‬
‫تَشَآءُ وَتُ ِذلّ مَن َتشَآءُ بِ َي ِدكَ الْخَيْرُ }[آل عمران‪.]26 :‬‬
‫وقد وقف العلماء عند قوله تعالى عن نفسه‪ {:‬بِيَ ِدكَ ا ْلخَيْرُ }[آل عمران‪ ]26 :‬فاجتهد بعضهم فقال‪:‬‬
‫التقدير‪ :‬بيدك الخير والشر‪ ،‬وهذا التقدير يدل على عدم فهْم لمعنى الية فما عند ال خير في كل‬
‫الحوال؛ لن إيتاء الملْك لمن ينصف في الرعية خير‪ ،‬ونزع الملْك ممّنْ يطغى به ويظلم خير‬
‫أيضا؛ لن ال سلب منه أداة الطغيان حتى ل يتمادى‪ ،‬ففي كلّ خير‪.‬‬
‫وما دام من صفاته تعالى أنه عزيز عليم حكيم رحيم ذو فضل‪ ،‬فاطمئن أيها المؤمن بال‪ ،‬وتوكل‬
‫على ال‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ }‬

‫(‪)3165 /‬‬

‫حقّ ا ْلمُبِينِ (‪)79‬‬


‫فَ َت َوكّلْ عَلَى اللّهِ إِ ّنكَ عَلَى الْ َ‬

‫والتوكل‪ :‬أن تستضعف نفسك في شيء تحاول أن تقضيه بقوة فل تجدها عندك‪ ،‬والتوكل الحق ل‬
‫يكون إل على ال الحي الذي ل يموت‪ ،‬أما إن توك ْلتَ على بشر مثلك فقد يُفاجِئه الموت قبل أنْ‬
‫يقضي لك حاجتك‪.‬‬
‫حقّ ا ْلمُبِينِ } [النمل‪ ]79 :‬أي‪ :‬أنك تتوكل على ال وأنت على الحق وعلى‬
‫وقال { إِ ّنكَ عَلَى الْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الطاعة له عز وجل‪ ،‬ل على معصيته‪ ،‬وما ُد ْمتَ تتوكل على ال وأنت على حال الطاعة فل بُدّ‬
‫أن يكون نصيركَ ومعينَك‪.‬‬
‫ثم يُسلّي الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم ويُعزيه كي ل يألم على مَنْ شردوا منه فلم‬
‫سمِعُ ا ْل َموْتَىا }‬
‫ك لَ ُت ْ‬
‫يؤمنوا‪ { :‬إِ ّن َ‬

‫(‪)3166 /‬‬

‫سمِعُ الصّمّ الدّعَاءَ ِإذَا وَّلوْا مُدْبِرِينَ (‪)80‬‬


‫سمِعُ ا ْل َموْتَى وَلَا تُ ْ‬
‫إِ ّنكَ لَا تُ ْ‬

‫والمعنى‪ :‬ل تحزن يا محمد‪ ،‬ول تُهلك نفسك على هؤلء الذين لم يؤمنوا من قومك‪ ،‬فما عليك إل‬
‫البلغ‪ .‬والبلغ كلم له أداة استقبال في السامع هي الذن‪ ،‬فإذا تعطَلتْ هذه الداة لن يسعموا‪،‬‬
‫وهؤلء القوم تعطَلتْ عندهم أداة السمع‪ ،‬فهم كالموتى والذين أصابهم الصمم‪ ،‬فآيات ال الكونية‬
‫كثيرة من حولهم‪ ،‬لكن ل يروْن ول يسمعون‪.‬‬
‫وليت المر يقف بهم عند حَدّ الصمم‪ ،‬إنما يُولّون مدبرين من سماع الدعوة‪ ،‬وهذه مبالغة منهم من‬
‫النصراف عن دعوة الحق؛ لنهم إنْ جلسوا فلن يسمعوا‪ ،‬فما بالك إذا وّلوْا مدبرين يجروُن بعيدا‪،‬‬
‫وكأن الواحد منهم يخاف أن يزول عنه الصمم وتلتقط أذنه نداء ال‪ ،‬فيستميله النداء‪ ،‬وعندها تكون‬
‫مصيبته كبيرة ـ على حَدّ زعمهم‪.‬‬
‫س َمعُواْ ِلهَـاذَا‬
‫ص َغوْا إليه ل تبعوه‪ ،‬ألم يقولوا‪ {:‬لَ تَ ْ‬
‫وهذا دليل على أنهم يعلمون أنه حق‪ ،‬وأنهم لو َ‬
‫ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ }[فصلت‪.]26 :‬‬
‫ا ْلقُرْآ ِ‬
‫عوْا إلى التشويش عليه‪،‬‬
‫ذلك لن القرآن جللً وجمالً ياسِرُ اللباب؛ لذلك َن َهوْا عن سماعه‪ ،‬ودَ َ‬
‫حتى ل ينفذ إلى القلوب‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومَآ أَنتَ ِبهَادِي ا ْل ُع ْميِ }‬

‫(‪)3167 /‬‬

‫سمِعُ إِلّا مَنْ ُي ْؤمِنُ بِآَيَاتِنَا َفهُمْ مُسِْلمُونَ (‪)81‬‬


‫ن ضَلَالَ ِتهِمْ إِنْ تُ ْ‬
‫َومَا أَ ْنتَ ِبهَادِي ا ْل ُعمْيِ عَ ْ‬

‫فرْق بين سماع قالة أو قضية الصدق‪ ،‬وانت خالي الذّهْن‪ ،‬وبين أن تسمعها وأنت مشغل بنقيضها‪،‬‬
‫فلكي يُثمِر السماع ينبغي أنْ تستقبل الدعوة بذهن خَالٍ ثم تبحث بعقلك الدعوة وما يناقضها‪ ،‬فما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫انجذبتَ إليه واطمأنتْ إليه نفسك فأدخله‪.‬‬
‫وهذه يُسمّونها ـ حتى في الماديات ـ نظرية الحيز أي‪ :‬أن الحيز الواحد ل يتسع لشيئين في‬
‫الوقت نفسه‪ .‬وسبق أنْ مثّلْنا لذلك بالقارورة حين تملؤها بالماء ل ُبدّ أنْ يخرج منها الهواء أولً‬
‫على شكل فقاعات؛ لن الماء أكثفُ من الهواء‪.‬‬
‫سمِعُ ِإلّ مَن ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َفهُم مّسِْلمُونَ } [النمل‪ ]81 :‬ولقائل أن يقول‪ :‬ما دام تُسمِع‬
‫ومعنى‪ { :‬إِن تُ ْ‬
‫ن يؤمن بآياتنا‪ ،‬فما فائدة السماع وهو مؤمن؟ نقول‪ :‬اليات ثلثة؛ مترتبة بعضها على بعض‪،‬‬
‫مَ ْ‬
‫فأولها‪ :‬اليات الكونية العقدية التي تشاهدها في الكون وتستدلّ بها على وجود إله خالق قادر‬
‫فتسأل‪ :‬مَنْ هذه الله الخالق فيأتي دور الرسول الذي يُبيّن لك ويحلّ لك هذا اللغز‪ ،‬ول ُبدّ له من‬
‫آيات تدل على صِدْقه في البلغ عن ال هي المعجزة‪ ،‬فإنْ غفلنا عن اليات الكونية ذكرنا بها‬
‫الرسول‪ ،‬فقال‪ :‬ومن آياته كذا وكذا‪.‬‬
‫ن تؤمن بآيات الحكام التي جاءتْ بها‬
‫فإذا آمنتَ باليات الكونية وبآيات المعجزات‪ ،‬فعليك أ ْ‬
‫معجزة النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَِإذَا َوقَعَ ا ْل َقوْلُ }‬

‫(‪)3168 /‬‬

‫وَإِذَا َوقَعَ ا ْل َق ْولُ عَلَ ْي ِهمْ أَخْ َرجْنَا َلهُمْ دَابّةً مِنَ الْأَ ْرضِ ُتكَّل ُمهُمْ أَنّ النّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (‪)82‬‬

‫كلمة { َوقَعَ ا ْلقَ ْولُ عَلَ ْيهِم } [النمل‪ ]82 :‬أي‪ :‬سقط‪ :‬كأنه وبطبيعته يسقط ل يحتاج لمَنْ يُجبره على‬
‫س ْقفُ مِن َف ْو ِقهِمْ }‬
‫علَ ْيهِمُ ال ّ‬
‫السقوط‪ .‬والسقوط { عَلَ ْيهِم } [النمل‪ ]82 :‬كما في قوله تعالى{ فَخَرّ َ‬
‫[النحل‪.]26 :‬‬
‫والوقوع هنا يدل على أنهم سيتعرّضون لشدائد ومتاعب‪ ،‬وبتتبع هذه المادة (وقع) في القرآن نجد‬
‫أنها جاءت كلها في الشدائد إل في موضع واحد هو قوله تعالى‪َ {:‬ومَن يَخْرُجْ مِن بَيْ ِتهِ ُمهَاجِرا إِلَى‬
‫اللّ ِه وَرَسُوِلهِ ثُمّ ُيدْ ِركْهُ ا ْل َم ْوتُ فَقَدْ َوقَعَ أَجْ ُرهُ عَلىَ اللّهِ }[النساء‪.]100 :‬‬
‫وما داموا لم يسمعوا لليات‪ ،‬ولم يقبلوها‪ ،‬ولم يلتفتوا إلى منهج ال وصمّوا عنه آذانهم‪ ،‬فلم‬
‫يسمعوا كلم أمثالهم من البشر فسوف نُخرج لهم دابة تكلمهم‪.‬‬
‫ن الَ ْرضِ ُتكَّل ُمهُمْ } [النمل‪ ]82 :‬وانظر إلى هذه الهانة وهذا التوبيخ‪ :‬أنتم لم‬
‫{ َأخْرَجْنَا َلهُمْ دَآبّةً مّ َ‬
‫تسمعوا كلم أمثالكم من البشر‪ ،‬ولم تفهموا مَنْ يخاطبكم بلغتكم‪ ،‬فاسمعوا الن من الدنى‪ ،‬وافهموا‬
‫عنها‪ ،‬وفسّروا قولها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكن ماذا ستقول الدابة لهم؟ وما نوع كلمها؟‪ { :‬أَنّ النّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَ يُوقِنُونَ } [النمل‪]82 :‬‬
‫أي‪ :‬بآياتنا السابقة ل يؤمنون‪ ،‬وها أنا ذا أُكلّمهم‪ ،‬وعلى الماهر فيهم أن يقول لي‪ :‬كيف أكلمه‪.‬‬
‫وقد اختلف الناس في هذه الدابة‪ ،‬وفي شكلها وأوصافها‪ ،‬وكيف يأتي القول من غير مألوف القول‬
‫وهو الدابة؟ لكن ما دام أن ال تعالى أخبر بها فهي حقّ‪ ،‬ل ينبغي معارضته‪ ،‬وعلينا أن نأخذ‬
‫وقوع ما حدّث به القرآن قبل أن يكون دليلً على صِدْقه فيما يحدّث به فيما يكون‪.‬‬

‫(‪)3169 /‬‬

‫وَ َيوْمَ نَحْشُرُ مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َفوْجًا ِممّنْ ُيكَ ّذبُ بِآَيَاتِنَا َفهُمْ يُوزَعُونَ (‪)83‬‬

‫الفوج‪ :‬هم الجماعة والزمرة من الناس‪ .‬وأول مَنْ يُجمع في هذا الموقف هم العتاة والجبابرة الذين‬
‫توّلوْا تكذيب آيات ال‪ ،‬يحشرهم ال أولً أمام العامة يتقدمونهم ويسبقونهم إلى النار‪ ،‬كما قال‬
‫سبحانه عن فرعون‪َ {:‬يقْ ُدمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فََأوْرَدَ ُهمُ النّارَ }[هود‪.]98 :‬‬
‫فكما تقدّمهم من الضلل في الدنيا يتقدمهم إلى النار في الخرة‪ ،‬وحين يرى الضالون إمامهم في‬
‫الضلل يقدمهم ينقطع أملهم في النجاة‪ ،‬فربما تعلّقوا به في هذا الموقف ينتظرونه أنْ يُخلّصهم‪،‬‬
‫لكن كيف وهو يسبقهم إلى هذا المصير‪.‬‬
‫ومعنى { َف ُهمْ يُوزَعُونَ } [النمل‪ ]83 :‬قلنا في معنى { يُوزَعُونَ } [النمل‪ ]83 :‬أي‪ :‬يُمنعون‪،‬‬
‫والمراد يمنعون أن يسبق أولهم آخرهم بحيث يدخلون جميعا‪ ،‬فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يجمع‬
‫أولهم على آخرهم (ليشرفوا) سويا في النار‪ :‬التابع والمتبوع كلهم سواء في الذلة والمهانة‪ ،‬فربما‬
‫حاول أحد العتاة أو الجبابرة أن يسبق حتى ليراه تابعوه‪ ،‬فيفتضح أمره‪ ،‬فيؤخره ال ليفضحه على‬
‫رؤوس الشهاد‪.‬‬

‫(‪)3170 /‬‬

‫حَتّى إِذَا جَاءُوا قَالَ َأ َكذّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ ُتحِيطُوا ِبهَا عِ ْلمًا َأمْ مَاذَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ (‪)84‬‬

‫في سورة العراف يُورِد الحق ـ تبارك وتعالى ـ مذكرة تفصيلية لهذا الموقف‪ ،‬ولهذا الحوار‬
‫الذي يدور في عَرَصات القيامة‪ ،‬فيقول تعالى‪:‬‬
‫{ َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا َأوْ كَ ّذبَ بِآيَا ِتهِ ُأوْلَـا ِئكَ يَنَاُلهُمْ َنصِي ُبهُم مّنَ ا ْلكِتَابِ حَتّىا إِذَا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شهِدُواْ عَلَىا‬
‫جَآءَ ْتهُمْ رُسُلُنَا يَ َت َوفّوْ َنهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُن ُتمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُو ْا ضَلّواْ عَنّا وَ َ‬
‫ن وَالِنْسِ فِي النّارِ كُّلمَا‬
‫سهِمْ أَ ّنهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * قَالَ ادْخُلُواْ فِي ُأمَمٍ َقدْ خََلتْ مِن قَبِْلكُمْ مّن الْجِ ّ‬
‫أَ ْنفُ ِ‬
‫جمِيعا قَاَلتْ ُأخْرَاهُ ْم لُولَهُمْ رَبّنَا هَـاؤُلءِ َأضَلّونَا‬
‫َدخََلتْ ُأمّةٌ ّلعَ َنتْ أُخْ َتهَا حَتّىا إِذَا ادّا َركُواْ فِيهَا َ‬
‫ف وَلَـاكِن لّ َتعَْلمُونَ * َوقَاَلتْ أُولَهُ ْم لُخْرَا ُهمْ َفمَا كَانَ‬
‫ضعْ ٌ‬
‫ل ِ‬
‫ضعْفا مّنَ النّارِ قَالَ ِل ُك ّ‬
‫فَآ ِتهِمْ عَذَابا ِ‬
‫ضلٍ فَذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنتُمْ َتكْسِبُونَ }[العراف‪37 :‬ـ ‪.]39‬‬
‫َلكُمْ عَلَيْنَا مِن َف ْ‬

‫(‪)3171 /‬‬

‫طقُونَ (‪)85‬‬
‫َووَقَعَ ا ْلقَ ْولُ عَلَ ْيهِمْ ِبمَا ظََلمُوا َف ُهمْ لَا يَنْ ِ‬

‫قوله { َو َوقَعَ } [النمل‪ ]85 :‬أي‪ :‬وجب لهم العذاب { ِبمَا ظََلمُواْ } [النمل‪ ]85 :‬وكأنه شيء‬
‫طقُونَ } [النمل‪ ]85 :‬فقد خرستْ ألسنتهم من َهوْل ما‬
‫محسوس يسقط على رؤوسهم { َف ُه ْم لَ يَن ِ‬
‫رأوْا‪ ،‬فل يجدون كلما ينطقون به‪.‬‬
‫جعَلْنَا }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬أَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا َ‬

‫(‪)3172 /‬‬

‫سكُنُوا فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ (‪)86‬‬
‫جعَلْنَا اللّ ْيلَ لِ َي ْ‬
‫أَلَمْ يَ َروْا أَنّا َ‬

‫سمَة من سمات أسلوب القرآن الكريم‪،‬‬


‫ينتقل السياق من الكلم عن الخرة إلى آية كونية‪ ،‬وهذه ِ‬
‫حيث يراوح بين الدعوة إلى اليمان وبين بيان اليات الكونية‪ ،‬فبعد أن حدثنا عن الخرة ذكر هذه‬
‫الية الكونية‪ ،‬وكأنه يقول‪ :‬ل عُذْر لمن يُكذّب بآيات ال؛ لن اليات موجودة مشاهدة‪.‬‬
‫سكُنُواْ فِيهِ }‬
‫جعَلْنَا الّ ْيلَ لِيَ ْ‬
‫لذلك قال‪ { :‬أَلَمْ يَ َروْاْ } [النمل‪ ]86 :‬أي‪ :‬ألم يعلموا ويشاهدوا { أَنّا َ‬
‫[النمل‪ ]86 :‬أي‪ :‬للنوم وللراحة { وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرا } [النمل‪ ]86 :‬أي‪ :‬بما فيه من الشعة والضوء‬
‫الذي يُسبب الرؤيا‪.‬‬
‫وسبق أنْ بيّنا دور العالم المسلم ابن الهيثم في تصحيح نظرية رؤية الشياء‪ ،‬وكانوا يعتقدون أن‬
‫الشيء يُرى إذا خرج الشعاع من العين إليه‪ ،‬والصحيح أن الشعاع يخرج من الشيء المرئي إلى‬
‫العين‪ ،‬فكأن الشعاع هو الذي يُبصر‪ ،‬فهو سبب الرؤيا‪ ،‬ولوله ل نرى الشياء‪.‬‬
‫ك ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } [النمل‪ ]86 :‬فربك ـ عزّ وجلّ ـ نظّم لك حركة حياتك بليل‬
‫{ إِنّ فِي ذَِل َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمَتِهِ‬
‫تسكن فيه‪ ،‬وتخلد للراحة ونهار تسعى فيه وتبتغي من فضل ال كما قال تعالى‪َ {:‬ومِن رّ ْ‬
‫شكُرُونَ }[القصص‪.]73 :‬‬
‫سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الّيلَ وَال ّنهَارَ لِ َت ْ‬
‫َ‬
‫ن قلبَ الناس هذه‬
‫ولن تستقيم لنا حركة الحياة إل إذا سِرْنا على هذا النظام الذي ارتضاه ال لنا‪ ،‬فإ ْ‬
‫الطبيعة فسهروا حتى الفجر‪ ،‬فل ُبدّ أنْ يلقوا عاقبة هذه المخالفة في حركة حياتهم‪ :‬تكاسلً‬
‫وتراخيا وقِلة في النتاج‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ يشرح لنا هذه القضية في موضع آخر‪ُ {:‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِن َ‬
‫ج َعلَ‬
‫س َمعُونَ * ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِن َ‬
‫الّ ْيلَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبضِيَآءٍ َأفَلَ تَ ْ‬
‫سكُنُونَ فِيهِ أَفلَ تُ ْبصِرُونَ‬
‫علَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ ِإلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِي ُكمْ بِلَ ْيلٍ تَ ْ‬
‫اللّهُ َ‬
‫}[القصص‪71 :‬ـ ‪.]72‬‬
‫س َمعُونَ }[القصص‪ ]71 :‬وعن النهار قال‪ {:‬أَفلَ تُ ْبصِرُونَ }‬
‫ففي الكلم عن الليل قال‪َ {:‬أفَلَ تَ ْ‬
‫[القصص‪ ]72 :‬لماذا؟ قالوا‪ :‬لن حاسة الدراك في الليل هي السمع‪ ،‬وفي النهار البصر‪ .‬وفي هذا‬
‫إشارة إلى طبيعة كل منهما حتى ل نُغيّرها نحن‪ ،‬فنسهر الليل‪ ،‬وننام النهار‪.‬‬
‫سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ }[القصص‪:‬‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الّيلَ وَال ّنهَارَ لِ َت ْ‬
‫حمَ ِتهِ َ‬
‫وفي قوله تعالى{ َومِن رّ ْ‬
‫‪ ]73‬ما يسميه العلماء باللف والنشر‪ ،‬اي‪ :‬لفّ المحكوم عليه وهو الليل والنهار معا‪ ،‬ثم نشر حكم‬
‫كل منهم على وجه الترتيب‪ :‬لتسكنوا فيه وهي تقابل الليل‪ ،‬ولتبتغوا من فضله‪ ،‬وهي تقابل النهار‪.‬‬
‫إذن‪ :‬بعد أنْ استدل الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالموجود فعلً من آيتي الليل والنهار أراد أنْ يستدل‬
‫ج َعلَ اللّهُ‬
‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمُ الّ ْيلَ سَ ْرمَدا }[القصص‪ ]71 :‬و{ ُقلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِن َ‬
‫بعدمهما في{ ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِن َ‬
‫عَلَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ سَ ْرمَدا }[القصص‪.]72 :‬‬
‫ثم يعود السياق مرة أخرى إلى الحديث عن القيامة‪ { :‬وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ }‬

‫(‪)3173 /‬‬

‫سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا مَنْ شَاءَ اللّ ُه َوكُلّ أَ َت ْوهُ دَاخِرِينَ‬
‫وَ َيوْمَ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ َففَزِعَ مَنْ فِي ال ّ‬
‫(‪)87‬‬

‫وكأن ال تعالى يقول لي‪ :‬التفتْ إلى العبرة في اليات الكونية‪ ،‬حيث ستنفعك في يوم آت هو يوم‬
‫ت َومَن فِي‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫القيامة { وَ َيوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ } [النمل‪ ]87 :‬وهو البوق { َففَزِعَ مَن فِي ال ّ‬
‫الَ ْرضِ ِإلّ مَن شَآءَ اللّهُ } [النمل‪ ]87 :‬والفزع‪ :‬الخوف الشديد الذي يأخذ كلّ مَنْ في السموات‪،‬‬
‫ن في الرض { ِإلّ مَن شَآءَ اللّهُ } [النمل‪ ]87 :‬قالوا‪ :‬هم الملئكة‪ :‬إسرافيل الذي ينفخ في‬
‫وكل مَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الصور‪ ،‬وجبريل‪ ،‬وميكائيل‪ ،‬وعزرائيل‪.‬‬
‫لذلك لما تكلم سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن مسألة الصعق هذه قال‪ " :‬فأفيق من‬
‫الصعقة فأجد أخي موسى ماسكا بالعرش " ذلك لن موسى عليه السلم صعق في الدنيا مرة حين‬
‫صعِقا }‬
‫جعَلَهُ َدكّا َوخَرّ موسَىا َ‬
‫تجلّى ربه للجبل‪ ،‬كما حكى القرآن‪ {:‬فََلمّا َتجَلّىا رَبّهُ لِلْجَ َبلِ َ‬
‫[العراف‪.]143 :‬‬
‫وما كان ال تعالى ليجمع على نبيه موسى عليه السلم صعقتين‪ ،‬لذلك لم يُصعَق صعقة الخرة‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ { :‬و ُكلّ أَ َت ْوهُ دَاخِرِينَ } [النمل‪ ]87 :‬أي‪ :‬صاغرين أذلء‪ ،‬ل يتأبى على ال منهم‬
‫أحد‪ ،‬حيث ل قدرةَ له على ذلك؛ لن القيامة أنهتْ الختيار الذي كان لهم في الدنيا‪ ،‬وبه ملّكهم ال‬
‫شيئا من المِلْك‪ُ {:‬قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآءُ وَ ُتعِزّ مَن َتشَآءُ‬
‫وَتُ ِذلّ مَن تَشَآءُ }[آل عمران‪.]26 :‬‬
‫فأعطى ال تعالى طرفا من الملْك‪ ،‬ووهبه لبعض عباده في دنيا السباب والختيار‪ ،‬أمّا في الخرة‬
‫فالملْك ل تعالى وحده‪ ،‬ل ينازعه فيه أحد‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر‪.]16 :‬‬
‫في القيامة يُنزع منك كلّ شيء تملكه وكلّ قدرة لك على ما تملك حتى جوارحك ل قدرةَ لك‬
‫عليها‪ ،‬ول إرادةَ لتنفعل لك‪ ،‬هي تبع إرادتك في الدنيا‪ ،‬وبها ترى وتسمع وتمشي وتبطش‪ ،‬أمّا في‬
‫الخرة فقد سُلِبت منك هذه الرادة‪ ،‬بدليل أنها ستشهد عليك‪ ،‬وتُحاجّك يوم القيامة‪.‬‬
‫حسَ ُبهَا }‬
‫ثم ينتقل السياق بنا مرة أخرى إلى آية كونية‪ { :‬وَتَرَى الْجِبَالَ تَ ْ‬

‫(‪)3174 /‬‬

‫شيْءٍ إِنّهُ خَبِيرٌ ِبمَا‬


‫ب صُنْعَ اللّهِ الّذِي أَ ْتقَنَ ُكلّ َ‬
‫حسَ ُبهَا جَامِ َدةً وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ السّحَا ِ‬
‫وَتَرَى الْجِبَالَ تَ ْ‬
‫َت ْفعَلُونَ (‪)88‬‬

‫قوله تعالى { َتحْسَ ُبهَا جَا ِم َدةً } [النمل‪ ]88 :‬اي‪ :‬تظنها ثابتة‪ ،‬وتحكم عليها بعدم الحركة؛ لذلك‬
‫نسميها الرواسي والوتاد { وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ السّحَابِ } [النمل‪ ]88 :‬أي‪ :‬ليس المر كما تظن؛ لنها‬
‫تتحرك وتمر كما يمرّ السحاب‪ ،‬لكنك ل تشعر بهذه الحركة ول تلحظها لنك تتحرك معها بنفس‬
‫حركتها‪.‬‬
‫و َهبْ أننا في هذا المجلس‪ ،‬أنتم أمامي وأنا أمامكم‪ ،‬وكان هذا المسجد على رحاية أو عجلة تدور‬
‫بنا‪ ،‬أيتغير وضعنا وموقعنا بالنسبة لبعضنا؟‬
‫إذن‪ :‬ل تستطيع أن تلحظ هذه الحركة إل إذا كنتَ أنت خارج الشيء المتحرك‪ ،‬ألَ ترى أنك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تركب القطار مثلً ترى أن أعمدة التليفون هي التي تجري وأنت ثابت‪.‬‬
‫ولن هذه الظاهرة عجيبة سيقف عندها الخَلْق يزيل ال عنهم هذا العجب‪ ،‬فيقول { صُنْعَ اللّهِ الّذِي‬
‫شيْءٍ } [النمل‪ ]88 :‬يعني‪ :‬ل تتعجب‪ ،‬فالمسألة من صُنع ال وهندسته وبديع خَلْقه‪،‬‬
‫أَ ْتقَنَ ُكلّ َ‬
‫شيْءٍ } [النمل‪ ]88 :‬يعني‪ :‬كل خَلْق عنده بحساب‬
‫واختار هنا من صفاته تعالى‪ { :‬الّذِي أَ ْتقَنَ ُكلّ َ‬
‫دقيق مُتقَن‪.‬‬
‫البعض فهم الية على أن مرّ السحاب سيكون في الخرة‪ ،‬واستدل بقوله تعالى‪ {:‬وَ َتكُونُ ا ْلجِبَالُ‬
‫كَا ْل ِعهْنِ ا ْلمَنفُوشِ }[القارعة‪.]5 :‬‬
‫وقد جانبه الصواب لن معنى{ كَا ْل ِعهْنِ ا ْلمَنفُوشِ }[القارعة‪ ]5 :‬أنها ستتفتت وتتناثر‪ ،‬ل أنها تمر‪،‬‬
‫وتسير هذه واحدة‪ ،‬والخرى أن الكلم هنا مبنيّ على الظن { َتحْسَ ُبهَا جَا ِم َدةً } [النمل‪ ]88 :‬وليس‬
‫في القيامة ظن؛ لنها إذا قامتْ أحداثها مُتيقنةٌ‪.‬‬
‫ثم إن السحاب ل يتحرك بذاته‪ ،‬وليس له موتور يُحركّه‪ ،‬إنما يُحرّكه الهواء‪ ،‬كذلك الجبال حركتها‬
‫ليست ذاتيةٌ فيها‪ ،‬فلم نَرَ جبلَ تحرّك من مكانه‪ ،‬فحركة الجبال تابعة لحركة الرض؛ لنها أوتاد‬
‫عليها‪ ،‬فحركة الوتد تابعة للموتود فيه‪.‬‬
‫سيَ أَن َتمِيدَ ِبكُمْ‬
‫لذلك لما تكلم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ عن الجبال قال‪ {:‬وَأَلْقَىا فِي الَ ْرضِ َروَا ِ‬
‫}[النحل‪.]15 :‬‬
‫ولو خُلِقتْ الرض على هيئة السّكون ما احتاجتْ لما يُثبّتها‪ ،‬فل ُبدّ أنها مخلوقة على هيئة‬
‫الحركة‪.‬‬
‫في الماضي وقبل تطور العلم كانوا يعتقدون في المنجّمين وعلماء الفلك الكفرة أنهم يعلمون‬
‫الغيب‪ ،‬أما الن وقد توصّل العلماء إلى قوانين حركة الرض وحركة الكواكب الخرى في‬
‫المجموعة الشمسية واستطاعوا حساب ذلك كله بدقة مكّنتهم من معرفة ظاهرة الخسوف والكسوف‬
‫مثلً ونوع كل منهما ووقته وفعلً تحدث الظاهرة في نفس الوقت الذي حددوه ل تتخلف‪.‬‬
‫واستطاعوا بحساب هذه الحركة أنْ يصعدوا إلى سطح القمر‪ ،‬وأن يُطلِقوا مركبات الفضاء‬
‫ويُسيّروها بدقة حتى إنّ إحداها تلتحم بالخرى في الفضاء الخارجي‪.‬‬
‫كل هذه الظواهر لو لم تكن مبنية على حقائق مُتيقّنة لدتْ إلى نتائج خاطئة وتخلفتْ‪.‬‬
‫ومن الدلة التي تثبت صحة ما نميل إليه في معنى حركة الجبال‪ ،‬أن قوله تعالى { صُنْعَ اللّهِ الّذِي‬
‫شيْءٍ } [النمل‪ ]88 :‬امتنان من ال تعالى بصنعته‪ ،‬وال ل يمتنّ بصنعته يوم القيامة‪ ،‬إنما‬
‫أَ ْتقَنَ ُكلّ َ‬
‫المتنان علينا الن ونحن في الدنيا‪.‬‬

‫(‪)3175 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِ ْنهَا وَهُمْ مِنْ فَ َزعٍ َي ْومَئِذٍ َآمِنُونَ (‪)89‬‬
‫مَنْ جَاءَ بِالْ َ‬

‫لهذه الية صلة لطيفة بما قبلها‪ :‬فكما أن اليات الكونية التي أخبر بها الحق ـ تبارك وتعالى ـ‬
‫حقيقة واقعة‪ ،‬وتأكدتَ أنت من صِدْقها حيث شاهدتها بنفسك وأدركتها بحواسك‪ ،‬فكما أخبرناك‬
‫بهذه اليات نُخبرك الن بحقيقة أخرى ينبغي أن تصدقها‪ ،‬وأن تأخذ من صدْق ما شاهدتَ دليلً‬
‫حسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّ ْنهَا } [النمل‪.]89 :‬‬
‫على صِدْق ما غاب عنك‪ ،‬فربّك يُخبِرك بأنه { مَن جَآءَ بِالْ َ‬
‫الحسنة‪ :‬فعل النفعال فيه يكون لمطلوب ال في العبادة‪ ،‬فإن فعلتَ الفعل على مراد ال تعالى‬
‫ضعْف على مقدار طاقة‬
‫كانت لك حسنة‪ ،‬والحسنة عند ال بعشر أمثالها‪ ،‬وتضاعف إلى سبعمائة ِ‬
‫الفاعل من الخلص والتجرّد ل في فعله‪.‬‬
‫والمعنى‪ { :‬مَن جَآءَ بِالْحَسَ َنةِ } [النمل‪ ]89 :‬أي‪ :‬في الدنيا { فَلَهُ خَيْرٌ مّ ْنهَا } [النمل‪ ]89 :‬أي‪:‬‬
‫ناشىء عنها في الخرة‪.‬‬
‫ن يقول‪ :‬إذا كان قولنا‪ :‬ل إله إل ال حسنة فالثواب عليها خَيْر منها‪ .‬وهذا‬
‫ونسمع من البعض مَ ْ‬
‫القول ناتج عن َفهْم غير دقيق لمعنى الية؛ لن ال تعالى الذي أُقر به في الشهادة هو الذي يهبني‬
‫هذا الثواب‪ ،‬فمَنْ جاء بالحسنة له خير ناشىء من هذه الحسنة ومُسبّب عنها‪ .‬كما لو قلت‪ :‬مأمور‬
‫المركز خير من وزير الداخلية‪ :‬أي خَيْر جاءنا من ناحيته‪ ،‬ووصل إلينا من طرفه‪ ،‬أليس هو‬
‫صاحب قرار تعيينه؟‬
‫ومن ذلك ما يقوله أصحاب الطريق والمجاذيب يقولون‪ :‬محمد خير من ربه‪ ،‬وفي مثل هذه‬
‫القوال لعب بأفكار الناس وإثارة لمشاعرهم‪ ،‬وربما تعرض لليذاء‪ ،‬فكيف يقول هذه الكلمة‬
‫ومحمد مُرْسَل من عند ال؟ وحين تُمعِن النظر في العبارة تجدها صحيحة‪ ،‬فمراد الرجل أن‬
‫محمدا خير جاءنا من عند ال‪.‬‬
‫أو‪ :‬يكون المعنى { فََلهُ خَيْرٌ مّ ْنهَا } [النمل‪ ]89 :‬أن الجزاء على الحسنة خير من الحسنة؛ لنك‬
‫ل موقوتا‪ ،‬أمّا خيرها والثواب عليها‪ ،‬فسيظل لك خالدا بل نهاية‪.‬‬
‫تفعل الحسنة ِفعْ ً‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ }‬

‫(‪)3176 /‬‬

‫ت وُجُو ُههُمْ فِي النّارِ َهلْ ُتجْ َزوْنَ إِلّا مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ (‪)90‬‬
‫َومَنْ جَاءَ بِالسّيّئَةِ َفكُ ّب ْ‬

‫معنى‪َ { :‬فكُ ّبتْ } [النمل‪ ]90 :‬ألقيت بعنف‪ ،‬وخصّ الوجوه مع أن العضاء كلها ستكبّ؛ لنه‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أشرفها وأكرمها عند صاحبها‪ ،‬والوجه موضع العزة والشموخ‪ ،‬فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد‬
‫لهم الذلّة والمهانة‪ ،‬وفي موضع آخر يُبيّن أن كل العضاء ستكبّ في النار‪ ،‬فيقول تعالى‪{:‬‬
‫َفكُ ْبكِبُواْ فِيهَا ُه ْم وَا ْلغَاوُونَ }[الشعراء‪.]94 :‬‬
‫وليس هذا المصير ظلما لهم‪ ،‬ول افتراءً عليهم { َهلْ تُجْ َزوْنَ ِإلّ مَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ } [النمل‪]90 :‬‬
‫وكما يقول سبحانه‪ {:‬لَ ظُ ْلمَ الْ َيوْمَ }[غافر‪ ]17 :‬فلم نجامل صاحب الحسنة‪ ،‬ولم نظلم صاحب‬
‫السيئة‪.‬‬

‫(‪)3177 /‬‬

‫شيْ ٍء وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ (‪)91‬‬


‫إِ ّنمَا ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْبُدَ َربّ هَ ِذهِ الْبَ ْل َدةِ الّذِي حَ ّر َمهَا وَلَهُ ُكلّ َ‬

‫فما دام أن ال تعالى أعطانا هذه المعلومات التي تلفتنا إلى قدرته في آياته الكونية‪ ،‬وذكّرنا‬
‫بالخرة‪ ،‬وما فيها من الثواب والعقاب‪ ،‬فما عليك إل أنْ تلتزم (عرفت فالزم) واعلم أن مَنْ أبلغك‬
‫منهج ال سيسبقك إلى اللتزام به‪ ،‬فالشرع كما أمرك أمرني‪.‬‬
‫{ إِ ّنمَآ ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْ ُبدَ َربّ َه ِذهِ الْبَلْ َدةِ } [النمل‪ ]91 :‬فإنْ طلبتُ منكم شيئا من التكاليف فقد طالبتُ‬
‫نفسي به أولً؛ لنني واثق بصدق تبليغي عن ال؛ لذلك ألزمتُ نفسي به‪.‬‬
‫عدَم‪ ،‬وأمدك من‬
‫والعبادة كما قلنا‪ :‬طاعة العابد للمعبود فيما أمر وفيما نهى؛ لن ربك خلقك من َ‬
‫عُدْم‪ ،‬ونظّم لك حركة حياتك‪ ،‬فإنْ كلّفك فاعلم أن التكليف من أجلك ولصالحك؛ لنه رب مُتولّ‬
‫لتربيتك‪ ،‬فإنْ تركك بل منهج‪ ،‬وبل افعل ول تفعل‪ ،‬كانت التربية ناقصة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬من تمام الربوبية أن يوجهني ربي كما نُوجّه نحن أولدنا الصغار ونُربّيهم‪ ،‬ومن تمام‬
‫الربوبية أن توجد هذه الوامر وهذه النواهي لمصلحة المربّي‪ ،‬وما دام أن ربك قد وضعها لك فل‬
‫بُدّ أن تطيعه‪.‬‬
‫لذلك نلحظ في هذه الية { إِ ّنمَآ ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْبُدَ َربّ هَ ِذهِ الْبَ ْل َدةِ } [النمل‪ ]91 :‬ولم ي ُقلْ‪ُ :‬أمِرت أن‬
‫أطيع ال؛ لن اللوهية تكليف‪ ،‬أمّا الربوبية فعطاء وتربية‪ ،‬فالية تُبيّن حيثية سماعك للحكم من‬
‫ال‪ ،‬وهي أنه تعالى يُربّيك بهذه الوامر وبهذه النواهي‪ ،‬وسوف تعود عليك ثمرة هذه التربية‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬الصّديق أبو بكر حينما حدثوه عن السراء والمعراج لم يُمرّر المسألة على عقله‪ ،‬ولم يفكر‬
‫في مدى صِدْقها‪ ،‬إنما قال عن رسول ال‪ " :‬إن كان قال فقد صدق " فالميزان عنده أن يقول‬
‫رسول ال‪ ،‬ثم يُعلّل لذلك فيقول‪ :‬إني لُصدّقه في الخبر يأتي من السماء‪ ،‬فكيف ل أُصدّقه في‬
‫هذه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬ربّ َه ِذهِ الْبَ ْل َدةِ } [النمل‪ ]91 :‬أي‪ :‬مكة وخصّها بالذكْر؛ لن فيها بيته{ إِنّ َأ ّولَ بَ ْيتٍ‬
‫ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا }[آل عمران‪ ]96 :‬ثم يذكر سبحانه وتعالى من صفات مكة { الّذِي‬
‫حَ ّر َمهَا } [النمل‪ ]91 :‬فهي مُحرّمة يحرم فيها القتال‪ ،‬وهذه وسيلة لحماية العالم من فساد الحروب‬
‫وفساد الخلف الذي يُفضي بكل فريق لنْ تأخذه العزة‪ ،‬فل يجد حلً إل في السيف‪.‬‬
‫وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعطي لخَلْقه فرصة للمداراة وعُذْرا يستترون خلفه‪ ،‬فل ينساقون‬
‫خلف غرورهم‪ ،‬فحين تمنعهم من الحروب حُرْمة المكان في الحرم‪ ،‬وحُرْمة الزمان في الشهر‬
‫الحرم ـ لن كل فعل ل بُدّ له من زمان ومكان ـ حين يمنعهم الشرع عن القتال فإن لحدهم أن‬
‫يقول‪ :‬لم أمتنع عن ضعف‪ .‬ولول أن ال منعني لفع ْلتُ وفع ْلتُ‪ ،‬ويستتر خلف ما شرّع ال من منع‬
‫القتال‪ ،‬إلى أنْ يذوق حلوة السلم فتلين نفسه‪ ،‬وتتوق للمراجعة‪.‬‬

‫ولحرمة مكة كان الرجل يلقي فيها قاتل أبيه‪ ،‬فل يتعرّض له احتراما لحرمة البيت‪ ،‬وقد اتسعتْ‬
‫هذه الحرمة لتشمل أجناسا أخرى‪ ،‬فل يُعضد شجرها‪ ،‬ول يُصاد صَيْدها‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وََلهُ ُكلّ شَيءٍ { [النمل‪ ]91 :‬لن ال تعالى حين يصطفي من الملئكة رسلً‪،‬‬
‫ومن الناس رسلً‪ ،‬ويصطفي من الرض أمكنة‪ ،‬ومن الزمان‪ ،‬يريد أن يشيع الصطفاء في كل‬
‫شيء‪.‬‬
‫فالحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يُحَابي أحدا‪ ،‬فحين يرسل رسولً يُبلّغ رسالته للناس كافة‪ ،‬فيعود‬
‫نفعه على الجميع‪ ،‬وكذلك في تحريم المكان أو الزمان يعود نفعه على الجميع؛ لذلك عطف على }‬
‫الّذِي حَ ّر َمهَا { [النمل‪ ]91 :‬فقال } ُكلّ شَيءٍ { [النمل‪ ]91 :‬فالتحريم جُعل من أجل هؤلء‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ { [النمل‪ ]91 :‬أي‪ :‬المنفذين لمنهج ال يعني‪ :‬ل‬
‫أعتقد عقائد أخبر بها ول أُنفّذها‪ ،‬وقد قرن ال تعالى بين اليمان والعمل الصالح؛ لن فائدة‬
‫عمِلُواْ‬
‫ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ‬
‫اليمان أنْ تعملَ به‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ‬
‫الصّالِحَاتِ }[العصر‪1 :‬ـ ‪.]3‬‬
‫فال تعالى يريد أن يُعدّي اليمان والحكام إلى أن تكون سلوكا عمليا في حركة الحياة‪.‬‬

‫(‪)3178 /‬‬

‫ضلّ َف ُقلْ إِ ّنمَا أَنَا مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ (‪)92‬‬


‫ن َ‬
‫وَأَنْ أَتُْلوَ ا ْلقُرْآَنَ َفمَنِ اهْ َتدَى فَإِ ّنمَا َيهْ َتدِي لِ َنفْسِ ِه َومَ ْ‬

‫أنت حين تقرأ القرآن في الحقيقة ل تقرأ إنما تسمع ربنا يتكلم‪ ،‬ومعنى { وَأَنْ أَتُْلوَ ا ْلقُرْآنَ } [النمل‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪ ]92‬يعني‪ :‬استدم أُنْسك بالكتاب الذي كُلّفت به‪ ،‬ليدل على أنك من عِشْقك للتكليف‪ ،‬عشقتَ‬
‫المكلّف‪ ،‬فأحببتَ سماعه‪ ،‬وتلوة القرآن في ذاتها لذة ومتعة؟‪.‬‬
‫فأنا سآخذ من تلوته لذةَ‪ ،‬وأستديم البلغ بالقرآن للناس‪ ،‬وبعد ذلك أنا نموذج أمام أمتي‪ ،‬كما قال‬
‫س َوةٌ حَسَ َنةٌ }[الحزاب‪.]21 :‬‬
‫سبحانه‪ّ {:‬لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ‬
‫يعني‪ :‬شيء يُقتدى به‪ ،‬وما دام أن الرسول قدوة‪ ،‬فكل مقام للرسول غير الرسالة مَنْ سار على‬
‫قدم الرسول يأخذ منه‪ ،‬وكذلك مكان كل إنسان في التقوى‪ ،‬على قَدْر اعتباره واقتدائه بالُسْوة‪ ،‬أما‬
‫الرسالة فدَعْك منها؛ لنك لن تأخذها‪.‬‬
‫ومعنى { اهْتَدَىا } [النمل‪ ]92 :‬أي‪ :‬وصلتْه الدللة واقتنع بها { فَإِ ّنمَا َيهْ َتدِي لِ َنفْسِهِ } [النمل‪]92 :‬‬
‫لن ال سيعطيه المعونة‪ ،‬ويزيده هداي ًة وتوفيقا{ وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ هُدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد‪:‬‬
‫‪.]17‬‬
‫إذن‪ :‬فالهداية والتقوى ل تنفع المشرّع‪ ،‬إنما تنفع العبد الذي اهتدى‪.‬‬
‫ضلّ َفقُلْ إِ ّنمَآ أَنَاْ مِنَ ا ْلمُنذِرِينَ } [النمل‪ ]92 :‬أنا ل يعنيني إل أنني من‬
‫ثم يذكر المقابل { َومَن َ‬
‫المنذرين‪ ،‬وأنت إنما تضلّ على نفسك‪ ،‬وتتحمل عاقبة ضللك‪.‬‬
‫ن تلوتَ‬
‫ن أتممتَ ما خاطبك ربك به بأنْ تعبدَ ربّ هذه البلدة وكنتَ من المسلمين‪ ،‬وبعد أ ْ‬
‫وبعد أ ْ‬
‫القرآن‪ ،‬واستدمت الُنس واللذّة بسماع ال يتكلم‪ ،‬ثم بلّغته للناس‪ ،‬فإذا فعلتَ كل هذا أحمد ال الذي‬
‫حمْدُ للّهِ }‬
‫وفّقك إليه‪َ { :‬و ُقلِ الْ َ‬

‫(‪)3179 /‬‬

‫عمّا َت ْعمَلُونَ (‪)93‬‬


‫حمْدُ لِلّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَ َتعْ ِرفُو َنهَا َومَا رَ ّبكَ ِبغَافِلٍ َ‬
‫َوقُلِ ا ْل َ‬

‫أي‪ :‬الحمد ل على نعمه وعلى ما هدانا‪ ،‬والحمد ل الذي ل يُعذّب أحدا إل بعد قيام الحجة عليه‪،‬‬
‫والنذار إليه‪.‬‬
‫وال سيريكم آياته في أنفسكم وفي غيركم‪ ،‬فتعرفون دلئل قدرته سبحانه ووحدانيته في أنفسكم‪،‬‬
‫وفي السماوات والرض‪.‬‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ } [النمل‪.]93 :‬‬
‫{ َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ‬
‫بل هو شهيد على كل شيء‪.‬‬

‫(‪)3180 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طسم (‪)1‬‬

‫الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن مرة يأتي حرف واحد مثل (ق ‪ ،‬ن) أو حرفان مثل‬
‫(طس ‪ ،‬حم) أو ثلثة أحرف مثل (الم ‪ ،‬طسم) أو أربعة مثل (المر) أو خمسة مثل (حمعسق‪،‬‬
‫كهيعص) وكل منها له مفتاح وأسرار لم يفتح علينا بعد لمعرفته وما قلنا في معنى هذه الحروف‬
‫مجرد محاولت على الطريق‪.‬‬

‫(‪)3181 /‬‬

‫تِ ْلكَ آَيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ (‪)2‬‬

‫يعني‪ :‬ما يأتي في هذه السورة آيات الكتاب المبين‪.‬‬

‫(‪)3182 /‬‬

‫نَتْلُوا عَلَ ْيكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى َوفِرْعَوْنَ بِا ْلحَقّ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ (‪)3‬‬

‫عوْنَ } [القصص‪ ]3 :‬والنبأ‪ :‬الخبر الهام الذي يجب اللتفات‬


‫أي‪ :‬نقص عليك { مِن نّبَإِ مُوسَىا َوفِرْ َ‬
‫إليه‪ ،‬وهل هناك أهم من إرسال موسى ـ عليه السلم ـ إلى مَن ادعى اللوهية؟ لذلك أفرد لهما‬
‫هذه السورة‪ ،‬فلم يَ ِردْ فيها ِذكْر آخر إل لقارون؛ لنها تعالج مسألة القمة‪ ،‬مسألة التوحيد‪ ،‬وتردّ‬
‫علىَ مَنِ ادّعى اللوهية‪ ،‬ونازع ال تعالى في صفاته‪.‬‬
‫حقّ } [القصص‪ ]3 :‬لن تلوته وقصصه حق‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ‬
‫قوله { بِالْ َ‬
‫ا ْل َقصَصُ ا ْلحَقّ }[آل عمران‪.]62 :‬‬
‫والقصص مأخوذ من قصّ الثر وتتبّعه‪ ،‬وقد اش ُتهِر به بعض العرب قديما‪ ،‬ومهروا فيه حتى إنهم‬
‫ليعرفون أثر الرجل من أثر المرأة‪ ..‬ألخ‪ ،‬وقد اش ُتهِرت عندهم قصة الرجل الذي فقد جمله‪ ،‬وقابل‬
‫أحد القصاصين‪ ،‬وسأله عنه فقال‪ :‬جملك أبتر الذّنَب؟ قال‪ :‬نعم‪،‬ـ قال‪ :‬أعور؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أعرج؟ عندها لم يشكّ صاحب الجمل أن هذا الرجل هو الذي أخذ جمله‪ ،‬فأمسك به وقاضاه‪.‬‬
‫وفي مجلس القضاء‪ ،‬قال الرجل‪ :‬وال ما أخذتُ جملك‪ ،‬كلني رأيتُ الجمل يبعثر َبعْره خلفه‪ ،‬أما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا فيضع َبعْره مرة واحدة‪ ،‬فعرفتُ أنه مقطوع الذنب‪ ،‬ورأيت أحد أخفافه ل يؤثر في الرمل‬
‫فعرفتُ أنه أعرج‪ ،‬ورأيته يأكل من ناحية ويترك الخرى فعرفتُ أنه أعور‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ حين يقصّ علينا يقصّ الواقع‪ ،‬فقَصص القرآن ل يعرف الخيال‬
‫كقصص البشر؛ لذلك يسميه القصص الحق‪ ،‬وأحسن القصص‪ ،‬لنه يروي الواقع طِبْق الصل‪.‬‬

‫(‪)3183 /‬‬

‫ضعِفُ طَا ِئفَةً مِ ْن ُهمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي‬


‫ج َعلَ أَهَْلهَا شِ َيعًا َيسْ َت ْ‬
‫ض وَ َ‬
‫عوْنَ عَلَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫إِنّ فِرْ َ‬
‫نِسَا َءهُمْ إِنّهُ كَانَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ (‪)4‬‬

‫معنى { عَلَ } [القصص‪ ]4 :‬من العلو أي‪ :‬استعلى‪ ،‬والمستعلَى عليه هم رعيته‪ ،‬بل عل على‬
‫وزرائه والخاصة من رعيته‪ ،‬وعل حتى على ال ـ عز وجل ـ فادّعى اللوهية‪ ،‬وهذا منتهى‬
‫الستعلء‪ ،‬ومنتهى الطغيان والتكبّر‪ ،‬وما دامت عنده هذه الصفات وهو بشر وله هوىً فل ُبدّ أنْ‬
‫يستخدمها في إذلل رعيته‪.‬‬
‫ج َعلَ أَ ْهَلهَا شِيَعا } [القصص‪ ]4 :‬جمع شيعة‪ ،‬وهي الطائفة التي لها استقللها الخاص‪،‬‬
‫{ وَ َ‬
‫والمفروض في ال ُممَلّك أنْ يُسوّي بين رعيته‪ ،‬فل تأخذ طبقة أو جماعة حظوه عن الخرى‪ ،‬أما‬
‫فرعون فقد جعل الناس طوائف‪ ،‬ثم يسلّط بعضها على بعض‪ ،‬ويُسخّر بعضها لبعض‪.‬‬
‫جعْل المة الواحدة عدة طوائف له مَلْحظ عند الفاعل‪ ،‬فمن مصلحته أن يزرع الخلف‬
‫ول شكّ أن َ‬
‫بين هذه الطوائف ويشغل بعضها ببعض‪ ،‬فل تستقر بينهم المور‪ ،‬ول يتفرغون للتفكير فيما يقلقه‬
‫ويهزّ عرشه من تحته‪ ،‬فيظل هو مطلوبا من الجميع‪.‬‬
‫والقبط كانوا هم سكان مصر والجنس الساسي بها‪ ،‬ثم لما جاءها يوسف ـ عليه السلم ـ‬
‫واستقرّ به المر حتى صار على خزائنها‪ ،‬ثم جاء إخوته لخْذ أقواتهم من مصر‪ ،‬ثم استقروا بها‬
‫وتناسلوا إل أنهم احتفظوا بهويتهم فلم يذوبوا في المجتمع القبطي‪.‬‬
‫وبالمناسبة يخطىء الكثيرون فيظنون أن القبطيّ يعني النصراني وهذا خطأ‪ ،‬فالقطبي يعني‬
‫المصري كجنس أساسي في مصر‪ ،‬لكن لما استعمرت الدولةُ الرومانية مصرَ كان مع قدوم‬
‫المسيحية فأطلقوا على القبطي (مسيحي)‪.‬‬
‫ل منها الخرى؟ قالوا‪ :‬لن بني‬
‫لكن‪ ،‬ما السبب في أن فرعون جعل الناس طوائف‪ ،‬تستعبد ك ّ‬
‫إسرائيل كانوا في خدمة المستعمر الذي أزاح حكم الفراعنة‪ ،‬وهم ملوك الرعاة‪ ،‬فلما طُرِد ملوك‬
‫الرعاة من مصر كان طبيعيا فيمَنْ يحكم مصر أن يضطهد بني إسرائيل؛ لنهم كانوا موالين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لعدائه‪ ،‬ويسيرون في ركابهم‪ ،‬ومن هنا جاء اضطهاد فرعون لبني إسرائيل‪.‬‬
‫والقرآن الكريم حينما يتحدث عن ملوك مصر في القديم وفي الحديث يُسمّيهم فراعنة‪ ،‬كما في‬
‫لوْتَادِ }[الفجر‪.]10 :‬‬
‫عوْنَ ذِى ا َ‬
‫قوله تعالى‪َ {:‬وفِرْ َ‬
‫وهنا في قصة موسى ـ عليه السلم ـ قال أيضا‪ :‬فرعون‪ :‬أما في قصة يوسف عليه السلم فلم‬
‫ي ْأتِ ذكْر للفراعنة‪ ،‬إنما قال{ ا ْلمَِلكُ }[يوسف‪ ]43 :‬وهذه من مظاهر العجاز في القرآن الكريم؛‬
‫لن الحكم في مصر أيام يوسف كان لملوك الرعاة‪ ،‬ولم يكُنْ للفراعنة‪ ،‬حيث كانوا يحكمون مصر‬
‫قبله وبعده لما استردوا مُلْكهم من ملوك الرّعاة؛ لذلك في عهد يوسف بالذات قال{ ا ْلمَِلكُ }[يوسف‪:‬‬
‫ن للفرعون وجود في عصر يوسف‪.‬‬
‫‪ ]50‬فلم يكُ ْ‬
‫ض ِعفُ طَآ ِئفَةً مّ ْنهُمْ } [القصص‪ ]4 :‬يعني‪ :‬تستبد طائفة القباط‪ ،‬وهم سكان مصر‬
‫فمعنى { سْ َت ْ‬
‫الصليون بطائفة بني إسرائيل لينتقموا منهم جزاءَ موالتهم لعدائهم‪.‬‬
‫وأول دليل على بطلن ألوهية فرعون أن يجعل أمته شِيَعا‪ ،‬لن المألوهين ينبغي أن يكونوا جميعا‬
‫عند الله سواء؛ لذلك يقول تعالى في الحديث عن موكب النبوات‪:‬‬

‫شيْءٍ }[النعام‪.]159 :‬‬


‫ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ‬
‫{ إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َن ُه ْم َوكَانُواْ شِيَعا لّ ْ‬
‫ذلك لن دين ال واحد‪ ،‬وأوامره واحدة للجميع‪ ،‬فلو كنتم مُتمسّكين بالدين الحق لجعلتُم الناس‬
‫جميعا شيعة واحدة‪ ،‬ل يكون لبعضهم سلطة زمنية على الخرين‪ ،‬فإذا رأيت في المة هذه التفرقة‬
‫وهذا التحزّب فاعلم أنهم جميعا مدينون؛ لن السلم ـ كما قُلْنا ـ في صفائه كالماء الذي ل طعمَ‬
‫له‪ ،‬ول لون‪ ،‬ول رائحة‪.‬‬
‫وهذا الماء يحبه الجميع ول ُبدّ لهم منه لستبقاء حياتهم‪ ،‬أما أن نُلوّن هذا الماء بما نحب‪ ،‬فأنت‬
‫تحب البرتقال‪ ،‬وأنا أحب المانجو‪ .‬وهذا يحب الليمون‪ ..‬إلخ إذن‪ :‬تدخلتْ الهواء‪ ،‬وتفرّق الدين‬
‫الذي أراده ال مجتمعا‪.‬‬
‫لذلك يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ستفترق أمتي ِبضْع وستون‪ ،‬أو بضع وسبعون‬
‫فرقة‪ ،‬كلّهم في النار إل ما أنا عليه وأصحابي "‪.‬‬
‫فشيعة السلم إذن واحدة‪ ،‬أما أن نرى على الساحة عشرات الفِرَق والشّيَع والجماعات‪ ،‬فأيّها يتبع‬
‫ستَ منهم في شيء‪.‬‬
‫المسلم؟ إذن‪ :‬ما داموا قد فرّقوا دينهم‪ ،‬وكانوا شِيعا فل ْ‬
‫ض ِعفُ طَآ ِئفَةً مّ ْنهُمْ { [القصص‪ ]4 :‬فيقول } يُذَبّحُ‬
‫ثم يُفسّر الحق سبحانه هذا الستضعاف } يَسْ َت ْ‬
‫أَبْنَآءَ ُه ْم وَيَسْتَحْيِي ِنسَاءَ ُهمْ { [القصص‪ ]4 :‬وقلنا‪ :‬إن الفساد أن تأتي على الصالح بذاته فتفسده‪،‬‬
‫فمن الفساد ـ إذن ـ قتْل ال ّذكْران واستحياء النساء؛ لن حياة الناس ل تقوم إل باستبقاء النوع‪،‬‬
‫فقتل ال ّذكْران يمنع استبقاء النوع‪ ،‬واختار قَتْل الذكْران‪ :‬لنهم مصدر الشر بالنسبة له‪ ،‬أمّا النساء‬
‫فل شوكة لهُنّ‪ ،‬ول خوفَ منهن؛ لذلك اتسبقاهُنّ للخدمة وللستذلل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحين نتتبع هذه الية نجد أنها جاءت في مواضع ثلثة من كتاب ال‪ ،‬لكل منها أسلوب خاص‪،‬‬
‫عوْنَ َيسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيذَبّحُونَ أَبْنَآ َء ُكمْ‬
‫ففي الية الولى يقول تعالى‪ {:‬وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْ َ‬
‫وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآ َءكُمْ }[البقرة‪.]49 :‬‬
‫وفي موضع آخر‪ {:‬يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيقَتّلُونَ أَبْنَآ َءكُمْ }[العراف‪ ]141 :‬وهاتان اليتان على‬
‫لسان الحق تبارك وتعالى‪.‬‬
‫أما الخرى فحكاية من ال على لسان موسى ـ عليه السلم ـ حين يُعدّد ِنعَم ال تعالى على بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫عوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَآ َءكُمْ }‬
‫علَ ْيكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ آلِ فِرْ َ‬
‫{ ا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ َ‬
‫[إبراهيم‪.]6 :‬‬
‫فالواو في{ وَيُذَبّحُونَ }[إبراهيم‪ ]6 :‬لم ترد في الكلم على لسان ال تعالى‪ ،‬إنما وردتْ في كلم‬
‫موسى؛ لنه في موقف تَعداد ِنعَم ال على قومه وقصده؛ لن يُضخّم نعم ال عليهم ويُذكّرهم بكل‬
‫النعم‪ ،‬فعطف على{ َيسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ }[إبراهيم‪ ]6 :‬قوله{ وَيُذَبّحُونَ }[إبراهيم‪.]6 :‬‬
‫لكن حين يتكَلّم ال تعالى فل يمتنّ إل بالشيء الصيل‪ ،‬وهو قتْل الولد واستحياء النساء؛ لن‬
‫الحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يمتنّ بالصغيرة‪ ،‬إنما يمتنّ بالشيء العظيم‪ ،‬فتذبيح البناء واستحياء‬
‫النساء هو نفسه سوء العذاب‪.‬‬
‫وقوله مرة{ يُذَبّحُونَ }[البقرة‪ ]49 :‬ومرة{ ُيقَتّلُونَ }[العراف‪ ]141 :‬لن قتل ال ّذكْران أخذ أكثر من‬
‫صورة‪ ،‬فمرّة يُذبّحونهم ومرة يخنقونهم‪.‬‬
‫سوْم‪ ،‬وهو أنْ تطلب الماشية المرعى‪ ،‬فنتركها تطلبه‬
‫ومعنى‪ {:‬يَسُومُو َنكُمْ }[العراف‪ ]141 :‬من ال ّ‬
‫في الخلء‪ ،‬وتلتقط رزقها بنفسها ل نقدمه نحن لها‪ ،‬وتسمى هذه سائمة‪ ،‬أما التي نربطها ونُقدّم لها‬
‫غذاءها فل تُسمّى سائمة‪.‬‬
‫فالمعنى{ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ }[العراف‪ ]141 :‬يعني‪ :‬يطلبون لكم سوء العذاب‪ ،‬وما داموا‬
‫كذلك فل بُدّ أنْ يتفنّنوا لكم فيه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَنُرِيدُ أَن ّنمُنّ {‬

‫(‪)3184 /‬‬

‫جعََلهُمُ ا ْلوَارِثِينَ (‪)5‬‬


‫جعََلهُمْ أَ ِئمّ ًة وَنَ ْ‬
‫ض وَنَ ْ‬
‫ض ِعفُوا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫وَنُرِيدُ أَنْ َنمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْ ُت ْ‬

‫ل يموت ظلوم‪ ،‬حتى ينتقم‬


‫فلن يدوم لفرعون هذا الظلم؛ لن ال تعالى كتب ألّ يفلح ظَلُوم‪ ،‬وأ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسْبك من حادث‬
‫للمظلوم منه‪ ،‬ويُريه فيه عاقبة ظلمه‪ ،‬حتى إن المظلوم ربما رحم الظالم‪ ،‬و َ‬
‫بامرىء ترى حاسديه بالمس‪ ،‬راحمين له اليوم‪.‬‬
‫ض ِعفُواْ فِي‬
‫وهنا تُطالعنا غضبة الحق ـ تبارك وتعالى ـ للمؤمنين { وَنُرِيدُ أَن ّنمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫الَ ْرضِ } [القصص‪ ]5 :‬والمنة‪ :‬عطاء مُعوّض‪ ،‬وبدون مجهود من معطي المنة‪ ،‬كأنها هِبَة من‬
‫الحق سبحانه‪ ،‬وغضبة لوليائه وأهل طاعته؛ لن الحق ـ تبارك وتعالى ـ كما قال المام علي‪:‬‬
‫إن ال ل يُسلِم الحق‪ ،‬ولكن يتركه ليبلو غَيْرة الناس عليه‪ ،‬فإذا لم يغاروا عليه غَارَ هو عليه‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يغَارُ على الذين استُضعِفوا ل يرفع عنهم الظلم فحسب‪ ،‬وإنما‬
‫جعََل ُهمْ أَ ِئمّةً } [القصص‪ ]5 :‬أئمة في الدين وفي القيم‪ ،‬وأئمة في سياسة المور والملك {‬
‫أيضا { وَنَ ْ‬
‫جعََلهُمُ ا ْلوَارِثِينَ } [ القصص‪ ]5 :‬أي‪ :‬يرثون مَنْ ظلمهم‪ ،‬ويكونون سادةً عليهم وأئمةً لهم‪،‬‬
‫وَنَ ْ‬
‫فانظر على كم مرحلة تأتي غيرة ال لهل الحق‪.‬‬
‫ولول أن فرعون ـ الذي قوي على المستضعفين وأذلّهم ـ تأبّى على ال ورفض النقياد لشملته‬
‫رحمة ال‪ ،‬ولعاشَ هو ورعيته سواء؟‬
‫لذلك أهل الثورات الذين جاءوا للقضاء على أصحاب الفساد وإنصاف شعوبهم ممّنْ ظلمهم‪ ،‬كان‬
‫ن يقضوا على الفساد‪ ،‬وبعد أن يمنعوا المفسد أن يُفسِد‪ ،‬ويحققوا العدالة في المجتمع‪،‬‬
‫عليهم بعد أ ْ‬
‫ن يضموا الجميع إلى أحضانهم ورعايتهم‪ ،‬ويعيش الجميع بعد تعديل الوضاع‬
‫كان عليهم أ ْ‬
‫سواسية في مجتمعهم‪ ،‬وبذلك نأمن الثورة المضادة‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى استكمالً لمِنّته‪ { :‬وَ ُن َمكّنَ َل ُهمْ فِي الَ ْرضِ }‬

‫(‪)3185 /‬‬

‫ن وَجُنُودَ ُهمَا مِ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيحْذَرُونَ (‪)6‬‬


‫ن وَهَامَا َ‬
‫عوْ َ‬
‫وَ ُن َمكّنَ َل ُهمْ فِي الْأَ ْرضِ وَنُ ِريَ فِرْ َ‬

‫قوله تعالى { وَ ُن َمكّنَ َلهُمْ فِي الَ ْرضِ } [القصص‪ ]6 :‬نعرف أن الرض مكان يحدث فيه الحدَث‪،‬‬
‫لن كل حَدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان‪ ،‬فالمعنى‪ :‬نجعل الرض مكانا لممكّن فيها‪ ،‬والتمكين‬
‫يعني‪ :‬يتصرف فيها تسلطا‪ ،‬ويأخذ خيرها‪.‬‬
‫وقد شرح الحق سبحانه لنا التمكين في عدة مواضع من القرآن‪ ،‬ففي قصة يوسف عليه السلم‪{:‬‬
‫إِ ّنكَ الْ َيوْمَ َلدَيْنَا َمكِينٌ َأمِينٌ }[يوسف‪ ]54 :‬مكين يعني‪ :‬لك عندنا مكانة ومركز ثابت ل ينالُك أحد‬
‫سفَ فِي الَ ْرضِ }[يوسف‪ ]21 :‬يعني‪ :‬أعطيناه سلطة‬
‫بشيء‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪َ {:‬وكَذاِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ‬
‫يأخذ بها خير المكان‪ ،‬ثم يُصرّف هذا الخير للخرين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن وَجُنُو َد ُهمَا مِ ْنهُمْ مّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } [القصص‪ ]6 :‬وهامان‬
‫ن وَهَامَا َ‬
‫عوْ َ‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَنُ ِريَ فِرْ َ‬
‫هو وزير فرعون‪ ،‬ول بد أنه كان لكل منهما جنود خاصة غير جنود الدولة عامة‪ ،‬كما نقول‬
‫الن‪ :‬الحرس الجمهوري‪ ،‬و الحرس الملكي‪،‬ـ والجيش‪.‬‬
‫أو‪ :‬أن هامان يصنع من باطن فرعون‪ ،‬فالملِك ل يزاول أموره إل بواسطة وزرائه‪ ،‬وفي هذه‬
‫الحالة يأخذ الجنود الوامر من هامان‪ .‬أو‪ :‬أن هامان كان له سلطة ومركز قوة ل تقل أهمية عن‬
‫سلطة فرعون‪ ،‬وربما رفع رأسه وتطاول على فرعون في قوت من الوقات‪.‬‬
‫وقد رأينا هذا عندنا في مصر ـ لذلك يقولون في المثل الريفي المعروف‪ :‬تقول لمن يحاول‬
‫خداعك (على هامان)؟ يعني‪ :‬أنا ل تنطلي عليّ هذه الحيل‪.‬‬
‫والضمير في { مِ ْنهُمْ } [القصص‪ ]6 :‬يعود على المستضعفين { مّا كَانُواْ َيحْذَرُونَ } [القصص‪]6 :‬‬
‫أي‪ :‬سنريهم الشيء الذي يخافون منه‪ ،‬والمراد النبوءة التي جاءتهم‪ ،‬إما عن طريق الكهنة‪ ،‬أوعن‬
‫طريق ال ّرؤْيا‪ ،‬حيث رأى فرعون نارا تأتي من بيت المقدس‪ ،‬وتتسلط على القِبْط في مصر‪ ،‬لكنها‬
‫ل تؤذي بني إسرائيل‪ ،‬فلما عبّروا له هذه الرؤيا قال‪ :‬ل بد أنه سيأتي من هذه البلد من يسلب مني‬
‫مُلْكي‪.‬‬
‫ويُرْوى أنه الكهنة أخبروه أنه سيُولد في هذه السنة مولود يكون ذهاب مُلْكك على يديه‪.‬‬
‫فسوف يرى فرعون وقومه هذه المسألة بأعينهم ويباشرونها بأنفسهم‪ ،‬وسيقع هذا الذي يخافون‬
‫منه؛ لذلك أمر فرعون بقتْل الذكْران من بني إسرائيل ليحتاط لمره‪ ،‬ويُبقِي على مُلْكه‪ ،‬لكن هذا‬
‫الحتياط لم يُغنِ عنه شيئا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا }‬

‫(‪)3186 /‬‬

‫خ ْفتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي الْ َي ّم وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنّا رَادّوهُ‬
‫ضعِيهِ فَِإذَا ِ‬
‫وََأوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَ ْر ِ‬
‫ك وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪)7‬‬
‫إِلَ ْي ِ‬

‫عجيب أمر فرعون‪ ،‬فبعد أن أمر بقتل الولد من بني إسرائيل يأتيه في البحر تابوت به طفل‬
‫رضيع‪ ،‬فل يخطر على باله أن أهله ألقوه في البحر لينجو من فرعون‪ ،‬فكيف فاتتْه هذه المسألة‬
‫وهو إله؟ لم يعرفها بألوهيته‪ ،‬ول عرفها حتى بذكائه وفِطْنته‪.‬‬
‫وإذا كان الكهنة أخبروه بأن ذهاب مُلْكه على يد وليد من هؤلء الولد‪ ،‬وإذا كانت هذه النبوءة‬
‫صحيحة فل بُدّ أن الولد سينجو من القتل ويكبر‪ ،‬ويقضي على مُلْك فرعون‪ ،‬وما دام المر كذلك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فسوف يقتل فرعون الولد غير الذي سيكون ذهاب مُلْكه على يديه‪.‬‬
‫وتشاء إرادة ال أنْ يتربّى موسى في قصر فرعون‪ ،‬وأنْ تأتي إليه أمه السيدة الفقيرة لتعيش معه‬
‫عيشة الترف والثراء‪ ،‬ويصير موسى بقدرة ال قُرّة عَيْن للملكة‪ ،‬فانظر إلى هذا التغفيل‪ ،‬تغفيل‬
‫عقل وطمس على بصيرة فرعون الذي ادّعى اللوهية‪.‬‬
‫وبذلك نفهم قول ال تعالى‪ {:‬وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ ا ْلمَرْءِ َوقَلْبِهِ }[النفال‪ ]24 :‬فقلبه يُغطّي‬
‫على بصيرته ويُعمّيها‪.‬‬
‫خ ْفتِ عَلَ ْيهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَمّ } [القصص‪ ]7 :‬فمَنْ مِنَ النساء‬
‫ضعِيهِ فَإِذَا ِ‬
‫قوله تعالى لم موسى‪ { :‬أَ ْر ِ‬
‫تقبل إنْ خافت على ولدها أنْ تُلقيه في اليم؟ مَنْ ترضى أَنْ تُنجيه من موت مظنون إلى موت‬
‫محقق؟ وقد جعل الحق سبحانه عاطفة المومة تتلشى أمام وارد الرحمن الذي أتاها‪ ،‬والذي ل‬
‫يؤثر فيه وارد الشيطان‪.‬‬
‫ثم يهيىء الحق سبحانه كذلك امرأة فرعون ليتم هذا التدبير اللهي لموسى فتقول{ قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي‬
‫وََلكَ }[القصص‪.]9 :‬‬
‫فيرد عليها فرعون‪ :‬بل لك أنت وحدك‪ ،‬وكأنه يستشعر ما سيحدث‪ ،‬ولكن إرادة ال ل ُبدّ نافذة ول‬
‫بُدّ أن يأخذ القدر مجراه ل يمنعه شيء؛ لن ال تعالى إذا أراد شيئا فل رادّ لرادته‪.‬‬
‫فمع ما علمه فرعون من أمر الرؤيا أو النبوءة رُبّي الوليد في بيته‪ ،‬ول يخلو المر أيضا من‬
‫سيطرة المرأة على الرجل في مثل هذا الموقف‪.‬‬
‫لذلك النبي صلى ال عليه وسلم حينما قُرِئت هذه الية قال‪ " :‬والذي يُحلف به‪ ،‬لو قال فرعون كما‬
‫قالت امرأته ـ قرة عين لي ولك ـ لهداه ال كما هداها " إنما ردّ الخير الذي ساقه ال إليه؛ لذلك‬
‫أسلمتْ زوجته وماتت على اليمان‪.‬‬
‫عمَلِهِ وَنَجّنِي مِنَ ا ْلقَوْمِ‬
‫عوْنَ وَ َ‬
‫وهي التي قالت‪َ {:‬ربّ ابْنِ لِي عِن َدكَ بَيْتا فِي الْجَنّ ِة وَنَجّنِي مِن فِرْ َ‬
‫الظّاِلمِينَ }[التحريم‪ ]11 :‬أما هو فمات على كفره شَرّ ميتة‪.‬‬
‫ضعِيهِ } [القصص‪]7 :‬‬
‫وسبق أنْ تكلّمنا في وحي ال لم موسى { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ‬
‫وقلنا‪ :‬إن الوحي في عموم اللغة‪ :‬إعلم بطريق خفي دون أن تبحث عن الموحِي‪ ،‬أو الموحَى إليه‪،‬‬
‫أو الموحَى به‪.‬‬

‫أما الوَحْي الشرعي فإعلم من ال تعالى لرسوله بمنهج لخَلْقه‪.‬‬


‫فال تعالى يوحي للملئكة‪ {:‬إِذْ يُوحِي رَ ّبكَ ِإلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ }[النفال‪:‬‬
‫‪.]12‬‬
‫ح وَالنّبِيّينَ مِن َبعْ ِد ِه وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا إِبْرَاهِيمَ‬
‫ويُوحى إلى الرسل‪ {:‬إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ إِلَىا نُو ٍ‬
‫ق وَ َيعْقُوبَ }[النساء‪.]163 :‬‬
‫سمَاعِيلَ وَإسْحَا َ‬
‫وَإِ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي }‬
‫ويُوحي للمؤمنين الصادقين في خدمة رسول‪ {:‬وَِإذْ َأوْحَ ْيتُ إِلَى الْ َ‬
‫[المائدة‪.]111 :‬‬
‫ت الَ ْرضُ أَ ْثقَاَلهَا *‬
‫ج ِ‬
‫يوحي إلى النحل‪ ،‬بل وإلى الجماد‪ {:‬إِذَا زُلْزَِلتِ الَرْضُ زِلْزَاَلهَا * وَأَخْرَ َ‬
‫ح ّدثُ َأخْبَارَهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة‪1 :‬ـ ‪.]5‬‬
‫ل الِنسَانُ مَا َلهَا * َي ْومَئِذٍ تُ َ‬
‫َوقَا َ‬
‫وقد يكون العلم والوحي من الشيطان‪ {:‬وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ }[النعام‪.]121 :‬‬
‫ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ ا ْلقَ ْولِ غُرُورا }[النعام‪.]112 :‬‬
‫ويكون من الضالين‪ {:‬يُوحِي َب ْع ُ‬
‫فالوَحْي إلى أم موسى كان وَحْيا من المرتبة الرابعة بطريق ال ّنفْث في الروع‪ ،‬أو اللهام‪ ،‬أو‬
‫برؤيا‪ ،‬أو بملَك يُكلّمها‪ ،‬هذا كله يصح‪.‬‬
‫خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ { [القصص‪]7 :‬‬
‫ضعِيهِ فَِإذَا ِ‬
‫وهذا الوحي من ال‪ ،‬وموضوعه } أَنْ أَ ْر ِ‬
‫علُوهُ مِنَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ {‬
‫ك وَجَا ِ‬
‫وهذا أمر } َولَ َتخَافِي وَلَ تَحْزَنِي { [القصص‪ ]7 :‬نهى } إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ‬
‫[القصص‪ ]7 :‬وهذه بشارة في خبرين‪ .‬فهذه الية إذن جمعتْ لم موسى أمرين‪ ،‬ونهيين‪،‬‬
‫وبشارتين في إيجاز بليغ ُمعْجز‪.‬‬
‫خفْتِ عَلَيْهِ { [القصص‪ ]7 :‬ولم‬
‫ضعِيهِ { [القصص‪ ]7 :‬يعني‪ :‬مدة أمانك عليه } فَإِذَا ِ‬
‫ومعنى } أَ ْر ِ‬
‫يقل من أيّ شيء ليدلّ على أيّ مخوف تخشاه على وليدها } فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ { [القصص‪]7 :‬‬
‫ويراعي الحق سبحانه مشاعر الم وقَلقها على ولدها‪ ،‬خاصة إذا ألقتْه في البحر فيطمئنها } َولَ‬
‫تَخَافِي { [القصص‪ ]7 :‬لن ال سيُيسّر له تربية خيرا من تربيتك في ظل بيت الغِنَى والملْك‪.‬‬
‫} َولَ تَحْزَنِي { [القصص‪ ]7 :‬أي‪ :‬لفراقه؛ لن هذا الفراق سيُعوّضك‪ ،‬ويُعوّض الدنيا كلها خيرا‪،‬‬
‫حين يقضي على هذا الطاغية‪ ،‬ويأتي بمنهج ال الذي يحكم خَلْق ال في الرض‪.‬‬
‫ثم اعلمي بعد هذا أن ال رادّه إليك‪ ،‬بل وجاعله من المرسلين‪ ،‬إذن‪ :‬أنا الذي أحفظه‪ ،‬وليس من‬
‫أجلك فحسب‪ ،‬إنما أيضا لن له مهمة عندي‪.‬‬
‫يقولون‪ :‬ظلت أم موسى تُرضِعه في بيتها طالما كانت آمنة عليه من أعين فرعون‪ ،‬إلى أنْ جاءها‬
‫أحَد العسس يفتش البيت فخافت على الولد فلفته في خرقة ودسته في فجوة بجوارها‪ ،‬كانت هذه‬
‫الفجوة هي الفُرْن‪ ،‬ألقتْه فيه وهو مسجور دون أن تشعر ـ يعني من شدة خوفها عليه ـ حتى إذا‬
‫ما انصرف ال َعسَس ذهبت إليه‪ ،‬فإذا به سالما لم ُيصِبْه سوء‪ .‬وكأن ال تعالى يريد لها أنْ تطمئن‬
‫حفْظ ال له‪ ،‬وأن وعده الحق‪.‬‬
‫على ِ‬
‫وقد وردت مسألة وحي ال لم موسى في كتاب ال مرتين مما دعا السطحيين من المستشرقين‬
‫إلى اتهام القرآن بالتكرار الذي ل فائدةَ منه‪ ،‬وذكروا قوله تعالى‪:‬‬

‫خ ْذهُ‬
‫حلِ يَأْ ُ‬
‫{ ِإذْ َأوْحَيْنَآ ِإلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا * أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ‬
‫علَ ْيكَ مَحَبّةً مّنّي وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه‪38 :‬ـ ‪.]39‬‬
‫عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّ ُه وَأَ ْلقَ ْيتُ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكن فَرْق بين الوحي الول والوحي الخر‪ :‬الوحي الول خاص بالرضاعة في مدة المان‪ ،‬أما‬
‫الخر فبعد أنْ خافت عليه أوحى إليها لتقذفه في اليم‪.‬‬
‫وتأمل{ أَنِ اقْ ِذفِيهِ }[طه‪ ]39 :‬والقذف إلقاء بقوة‪ ،‬ل أنْ تضعه بحنان ورفق؛ لن عناية ال‬
‫حلِ }[طه‪ ]39 :‬وهذا أمر من ال تعالى لليمّ أن يخرج‬
‫ستحفظه على أي حال{ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ‬
‫الوليد سالما إلى الساحل؛ لذلك لم يأت في هذا الوحي ِذكْر لعملية الرضاعة‪.‬‬
‫فكأن الوحي الول جاء تمهيدا لما سيحدث؛ لتستعد الم نفسيا لهذا العمل‪ ،‬ثم جاء الوحي الثاني‬
‫للممارسة والتنفيذ‪ ،‬كما تُحدّث جارك‪ ،‬وتُحذّره من اللصوص وتنصحه أنْ يحتاط لهذا المر‪ ،‬فإذا‬
‫ما دخل الليل حدث فعلً ما حذّرتَه منه فَرُحْت تنادي عليه ليسرع إليهم ويضربهم‪.‬‬
‫علَيْهِ‬
‫خ ْفتِ َ‬
‫ضعِيهِ فَإِذَا ِ‬
‫لذلك يختلف أسلوب الكلم في الوحي الول‪ ،‬فيأتي رتيبا مطمئنا‪ } :‬أَنْ أَ ْر ِ‬
‫ك َوجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ { [القصص‪ ]7 :‬هكذا‬
‫فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَ ّم َولَ تَخَافِي وَلَ َتحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ‬
‫في نبرة هادئة لن المقام مقام نصح وتمهيد‪ ،‬ل مقام أحداث وتنفيذ‪.‬‬
‫أما الوحي الثاني فيأتي في سرعة‪ ،‬وبنبرة حادة‪ {:‬أَنِ ا ْق ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَا ْق ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلُْي ْلقِهِ الْيَمّ‬
‫حلِ }[طه‪ ]39 :‬فالعَجلة في اللفظ تدلّ على أن المقام مقام مباشرة للحدث فعلً‪.‬‬
‫بِالسّا ِ‬
‫وفي الولى قال } فَأَ ْلقِيهِ { [القصص‪ ،]7 :‬أما في الثانية فقال{ فَاقْ ِذفِيهِ }[طه‪ ]39 :‬والم ل تقذف‬
‫وليدها‪ ،‬بل تضعه بحنان وشفقة‪ ،‬لكن الوقت هنا ضيّق ل يتسع لممارسة الحنان والشفقة‪.‬‬
‫والمر لليمّ بأن يلقي التابوت بالساحل له حكمة؛ لن العمق موضع الحيوانات البحرية المتوحشة‬
‫التي يُخاف منها‪ ،‬أمّا بالقُرْب من الساحل فل يوجد إل صغار السماك التي ل خطورة منها‪،‬‬
‫وكذلك ليكون على مَرْأى العين‪ ،‬فيطمئن عليه أهله‪ ،‬ويراه مَنْ ينقذه ليصل إلى البيت الذي قُدّر له‬
‫أنْ يتربّى فيه‪.‬‬
‫وفعلً‪ ،‬وصل التابوت إلى الساحل‪ ،‬وكان فرعون وزوجته آسية وابنته على الشاطىء‪ ،‬فلما أُخرِج‬
‫لهم التابوت وجدوا فيه الطفل الرضيع‪ ،‬وكان موسى عليه السلم أسمر اللون‪ ،‬مُجعّد الشعر‪ ،‬كبير‬
‫النف‪ ،‬يعني لم يكُنْ ـ عليه السلم ـ جميلً تنجذب إليه النظار ويفرح به مَنْ يراه‪.‬‬
‫لذلك يمتنّ ال عليه بقوله‪ {:‬وَأَ ْلقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ َمحَبّةً مّنّي }[طه‪ ]39 :‬أي‪ :‬ليس بذاتك أن يحبك مَنْ‬
‫يراك إنما بمحبة ال‪ ،‬لذلك ساعة رأته آسية أحبّته وانشرح صدرها برؤيته‪ ،‬فتمسكّت به رغم‬
‫معارضة فرعون لذلك‪.‬‬
‫كما أن ابنة فرعون‪ ،‬وكانت فتاة مبروصة أصابها البرص‪ ،‬ورأت في الرؤيا أن شفاءها سيكون‬
‫بشيء يخرج من البحر‪ ،‬فتأخذ من ريقه‪ ،‬وتدهن موضع البرص فيشفى‪ ،‬فلما رأتْ موسى تذكرتْ‬
‫شفِيت في الحال فتشبثتْ به هي أيضا‪.‬‬
‫رؤياها‪ ،‬فأخذت من ريقه ودهنتْ جلدها‪ ،‬ف ُ‬

‫فاجتمع لموسى محبة الزوجة‪ ،‬ومحبة البنت‪ ،‬وهما بالذات أصحاب الكلمة المسموعة لدى فرعون‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بحيث ل يرد لهما طلبا‪.‬‬
‫وفي انصياع فرعون لرغبة زوجته وابنته وضعفه أمامهما رغم ما يعلم من أمر الطفل دليلٌ على‬
‫أن الزوجة والولد هما نقطة الضعف عند الرجل‪ ،‬ووسيلة السيطرة على شهامته وحزمه‪،‬‬
‫والضغط على مراداته‪.‬‬
‫خ َذ صَاحِبَ ًة َولَ‬
‫لذلك يطمئننا الحق ـ تبارك وتعالى ـ على نفسه‪ ،‬فيقول سبحانه وتعالى{ مَا اتّ َ‬
‫وَلَدا }[الجن‪.]3 :‬‬
‫ذلك لن الصاحبة غالبا ما تستميل زوجها بوسيلة أو بأخرى‪ ،‬أما الولد فيدعو الب إلى الجبْن‬
‫والخضوع‪ ،‬والحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يوجد لديه مراكز قوى‪ ،‬تضغط عليه في أي شيء‪ ،‬فهو‬
‫سبحانه مُنزّه عن كل نقص‪.‬‬
‫وحكوا في دعابات أبي نواس أن أحدهم وسّطه ليشفع له عند الخليفة هارون الرشيد‪ ،‬فشفع له أبو‬
‫نواس‪ ،‬لكن الخليفة لم ُيجِبْه إلى طلبه‪ ،‬وانتظر الرجل دون جدوى‪ ،‬ففكر في وساطة أخرى‪،‬‬
‫واستشفع بآخر عند زبيدة زوجة الرشيد‪ ،‬فلما كلّمته أسرع إلى إجابة الرجل‪ ،‬وهنا غضب أبو‬
‫شفِيعُ الذِي يأتِيكَ مُؤتزرا‬
‫نواس وعاتب صاحبه الرشيد‪ ،‬لكنه لم يهتم به‪ ،‬فقال له اسمع إذن‪:‬ليسَ ال ّ‬
‫شفِيع الذِي يأتِيكَ عُرْياناولهذه العناية اللهية بموسى عليه السلم نلحظ أنه لما قال له ربه{‬
‫م ْثلَ ال ّ‬
‫طغَىا }[طه‪ ]24 :‬خاف موسى من هذه المهمة‪ ،‬وكان اسم فرعون في هذا‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫اذْ َهبْ إِلَىا فِرْ َ‬
‫الوقت يُلقي الرعب في النفوس‪ ،‬حتى أن موسى وهارون قال{ رَبّنَآ إِنّنَا َنخَافُ أَن َيفْرُطَ عَلَيْنَآ َأوْ‬
‫طغَىا }[طه‪.]45 :‬‬
‫أَن يَ ْ‬
‫لذلك طلب موسى من ربه ما يُعينه على القيام بمهمته‪ {:‬قَالَ َربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسّرْ لِي‬
‫جعَل لّي وَزِيرا مّنْ َأهْلِي * هَارُونَ أَخِي *‬
‫عقْ َدةً مّن لّسَانِي * َي ْف َقهُواْ َقوْلِي * وَا ْ‬
‫َأمْرِي * وَاحُْللْ ُ‬
‫حكَ كَثِيرا * وَنَ ْذكُ َركَ كَثِيرا * إِ ّنكَ كُنتَ بِنَا َبصِيرا‬
‫شدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْ ِركْهُ فِي َأمْرِي * َكيْ نُسَبّ َ‬
‫اْ‬
‫سؤَْلكَ يامُوسَىا * وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً أُخْرَىا }[طه‪25 :‬ـ ‪.]37‬‬
‫* قَالَ قَدْ أُوتِيتَ ُ‬
‫أي‪ :‬أوتيت كل مسئولك ومطلوبك‪.‬‬
‫عوْنَ {‬
‫طهُ آلُ فِرْ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَالْ َتقَ َ‬

‫(‪)3187 /‬‬

‫ن وَجُنُو َد ُهمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (‪)8‬‬


‫ن وَهَامَا َ‬
‫عوْ َ‬
‫ع ُدوّا وَحَزَنًا إِنّ فِرْ َ‬
‫عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ َ‬
‫فَالْ َتقَطَهُ َآلُ فِرْ َ‬

‫اللّقطُ واللّقطة‪ :‬أن تجد شيئا بدون طلب له‪ ،‬ومنه اللقيط‪ ،‬وهو الطفل الرضيع تجده في الطريق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫دون َقصْد منك‪ ،‬أو بحث‪ .‬وكذلك كان المر مع التابوت‪ ،‬فقد جاء آل فرعون وهم جلوس لم‬
‫يَسْم َعوْا إليه‪ ،‬ولم يطلبوه‪ ،‬فما أنْ رأوه أخذوه‪ ،‬لكن ما علة التقاطه؟‬
‫عسَىا أَن يَ ْن َفعَنَا َأوْ‬
‫الزوجة قالت{ قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََلكَ }[القصص‪ ]9 :‬وقالت في حيثية أخرى‪َ {:‬‬
‫خ َذ ُه وَلَدا }[القصص‪ ]9 :‬فلم يكن لهم بنون‪ ،‬فأرادوا أخا للبنت‪ ،‬وأرادته البنت صيدلية علج‪،‬‬
‫نَتّ ِ‬
‫لكن هل ظلتْ هذه العلة قائمة ووجدت فعلً؟‬
‫ع ُدوّا وَحَزَنا } [القصص‪ ]8 :‬ل ليكون قرة عين‪ ،‬فاللم‬
‫ل‪ ،‬إنما التقطوه لتقدير آخر { لِ َيكُونَ َلهُمْ َ‬
‫هنا في { لِ َيكُونَ } [القصص‪ ]8 :‬لم العاقبة يعني‪ :‬كان يفكر لشيء‪ ،‬فجاءت العاقبة بشيء آخر‪.‬‬
‫وفي هذا إشارة وبيان لغباء فرعون والطمس على بصيرته وهو الله!! فبعد أنْ حذّره الكهنة‪،‬‬
‫وبعد ال ّرؤْيا الي رآها وعِلْمه بخطورة هذا المولود على مُلْكه وعلى حياته يرضى أنْ يُربّيه في‬
‫بيته‪ ،‬وهذا دليل صِدْق قوله تعالى‪ {:‬وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء َوقَلْبِهِ }[النفال‪.]24 :‬‬
‫سقْم‪ ،‬وبَخَل وبُخْل‪ ،‬فالمعنى‬
‫سقَم و ُ‬
‫عدْم‪ ،‬و َ‬
‫عدَم و ُ‬
‫ومعنى { َوحَزَنا } [القصص‪ ]8 :‬يعني حُزْن مثل‪َ :‬‬
‫يأتي بالصيغتين‪.‬‬
‫ن وَجُنُودَ ُهمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } [القصص‪.]8 :‬‬
‫ن وَهَامَا َ‬
‫عوْ َ‬
‫وقول الحق سبحانه‪ { :‬إِنّ فِرْ َ‬
‫هم خاطئون؛ لن تصرفاتهم ل تتناسب مع ما عرفوه من أمر الوليد‪ ،‬فلم يُقدّروا المسائل‪ ،‬ولم‬
‫يستنبطوا العواقب‪ ،‬وكان عليهم أن يشكّوا في أمر طفل جاء على هذه الحالة‪ ،‬فل بُدّ أن أهله‬
‫قصدوا نجاته من يد فرعون‪.‬‬

‫(‪)3188 /‬‬

‫شعُرُونَ (‪)9‬‬
‫عسَى أَنْ يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدًا وَهُمْ لَا َي ْ‬
‫عوْنَ قُ ّرةُ عَيْنٍ لِي وََلكَ لَا َتقْتُلُوهُ َ‬
‫َوقَاَلتِ امْرََأةُ فِرْ َ‬

‫معنى { قُ ّرةُ عَيْنٍ } [القصص‪ ]9 :‬مادة ق ّر تقول‪ :‬ق ّر بالمكان يعني‪ :‬أقام وثبت به‪ ،‬ومنه قرور‬
‫يعني‪ :‬ثبات‪ ،‬وتأتي قرّ بمعنى البرد الشديد‪ ،‬ومنه قول الشاعر‪َ:‬أ ْوقِدْ فإنّ الل ْيلَ لَ ْيلٌ قُرّ والرّيحُ يَا‬
‫ت ضَيْفا فأنتَ حُرّ إذن‪ :‬قرة العين إما بمعنى ثباتها وعدم حركتها‪ ،‬وثبات‬
‫غُلَمُ رِيحٌ صرّإنْ جل ْب َ‬
‫العين واستقرارها إما يكون ثباتا حسيا‪ ،‬أو معنويا‪ ،‬والثبات المعنوي‪ :‬أنْ تستقر العين على منظر‬
‫أو شيء بحيث تكتفي وتقنع به‪ ،‬ويغنيها عن التطلّع لغيره‪.‬‬
‫ومنه قولهم‪ :‬فلن ليس له تطلعات أخرى‪ ،‬يعني اكتفى بما عنده‪ ،‬ومنه ما قال تعالى مخاطبا نبيه‬
‫محمدا صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬ولَ َتمُدّنّ عَيْنَ ْيكَ إِلَىا مَا مَ ّتعْنَا بِهِ أَ ْزوَاجا مّ ْنهُمْ }[طه‪.]131 :‬‬
‫لذلك يُسمّون الشيء الجميل الذي يجذب النظر‪ ،‬فل ينظر إلى غيره (قيد النظر) يقول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسْنه قَيْد النّظرْأما الثبات‬
‫ت لئمي عذر ف ُ‬
‫سمّ ْرتُ عَيْني في ال َقمَرِ فَنَالَ مِنّي مَنْ نَظَريَا ل ْي َ‬
‫الشاعر‪َ :‬‬
‫الحسي فيعني‪ :‬ثبات العين في ذاتها بحيث ل ترى‪ ،‬ومنه قول المرأة للخليفة‪ :‬أقرّ ال عينك‪ ،‬وأتم‬
‫عليك نعمتك‪ .‬تُوهِم أنها تدعو له‪ ،‬وهي في الحقيقة تدعو عليه تقصد‪ :‬أقرّ ال عينك‪.‬‬
‫ح ّد قول‬
‫يعني‪ :‬سكّنها وجمدها بالعمى‪ ،‬وأتمّ عليك نعمتك‪ .‬وتمام الشيء بداية نقصه على َ‬
‫الشاعر‪:‬إذَا تَمّ شَيء بَدَا َنقْصُه تر ّقبْ َزوَالً إذاَ قِيلَ َتمّأما الق ّر بمعنى البرد‪ ،‬فمن المعلوم عن‬
‫الحرارة أن من طبيعتها الستطراق والنتشار في المكان‪ ،‬لكن حكمة ال خرقتْ هذه القاعدة في‬
‫حرارة جسم النسان‪ ،‬حيث جعل لكل عضو فيه حرارته الخاصة‪ ،‬فالجلد الخارجي تقف حرارته‬
‫الطبيعية عند ْ‪ ، 37‬في حين أن الكبد مثلً ل يؤدي مهمته إل عند ْ‪.40‬‬
‫أما العين فإذا زادتْ حرارتها عن ْ‪ 9‬تنصهر‪ ،‬ويفقد النسان البصر‪ ،‬والعجيب أنهما عضوان في‬
‫جسم واحد‪ ،‬فهي آية من آيات ال في الخلق‪ ،‬لذلك حين ندعو لشخص نقول له‪ :‬أقرّ ال عينك‬
‫غضِب تسخنُ عينه ويحمّر وجهه؟‬
‫يعني‪ :‬جعلها باردة سالمة‪ ،‬ألَ ترى أن النسان إذا َ‬
‫فالمعنى هنا { قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََلكَ } [القصص‪ ]9 :‬يعني يكون نعمة ومتعة لنا‪ ،‬نفرح به ونقنع‪ ،‬فل‬
‫ننظر إلى غيره‪.‬‬
‫وفي موضع آخر يشرح لنا الحق سبحانه قُرّة العين‪ {:‬قَدْ َيعَْلمُ اللّهُ ا ْل ُمعَ ّوقِينَ مِنكُ ْم وَا ْلقَآئِلِينَ‬
‫خ ْوفُ رَأَيْ َتهُمْ يَنظُرُونَ إِلَ ْيكَ‬
‫علَ ْيكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْ َ‬
‫شحّةً َ‬
‫خوَا ِنهِمْ هَُلمّ إِلَيْنَا َولَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ ِإلّ قَلِيلً * أَ ِ‬
‫لِ ْ‬
‫تَدُورُ أَعْيُ ُنهُمْ كَالّذِي ُيغْشَىا عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َموْتِ }[الحزاب‪18 :‬ـ ‪.]19‬‬
‫فهؤلء تدور أعينهم هنا وهناك كما نقول نحن‪( :‬فلن عينه ل يجة) يعني‪ :‬ل تهدأ‪ ،‬إما من خوف‪،‬‬
‫أو من قلق‪ ،‬أو من اضطراب‪ ،‬وهذا كله ينافي قُرّة العين‪.‬‬
‫وقولها بعد ذلك { لَ َتقْتُلُوهُ } [القصص‪ ]9 :‬تعني‪ :‬أنهم فعلً َهمّوا بقتله‪ ،‬ففي بالهم إذن أن هلك‬
‫فرعون على يدي هذا الطفل‪ ،‬وهم على يقين من ذلك‪.‬‬
‫شعُرُونَ } [القصص‪ ]9 :‬يعني‪ :‬ل يشعرون بنفعه لهم أو‬
‫عسَىا أَن يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدا وَهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫{ َ‬
‫عدم نفعه‪ ،‬وهل سيكون لهم ولدا أم عدوا؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََأصْبَحَ ُفؤَادُ ُأمّ مُوسَىا }‬

‫(‪)3189 /‬‬

‫وََأصْبَحَ ُفؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَا َدتْ لَتُ ْبدِي بِهِ َلوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْ ِبهَا لِ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‬
‫‪)10‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الفؤاد‪ :‬هو القلب‪ ،‬لكن ل يُسمى القلب فؤادا إل إذا كانت فيه قضايا تحكم حركتك‪ ،‬فالمعنى‪ :‬أصبح‬
‫ت لترمي‬
‫فؤاد أم موسى { فَارِغا } [القصص‪ ]10 :‬أي‪ :‬ل شيء فيه مما يضبط السلوك‪ ،‬فحين ذهب ْ‬
‫بالطفل وتذكرت فراقه وما سيتعرض له من أخطار كادت مشاعر المومة عندها أن تكشف‬
‫سِرّها‪ ،‬وكادت أنْ تسرقها هذه العاطفة‪.‬‬
‫{ إِن كَا َدتْ لَتُبْدِي بِهِ } [القصص‪ ]10 :‬يعني‪ :‬تكشف أمره { َلوْل أَن رّبَطْنَا عَلَىا قَلْ ِبهَا }‬
‫[القصص‪.]10 :‬‬
‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن النسان يدرك الشياء بآلت الدراك عنده‪ ،‬ثم يتحول هذا الدراك إلى وجدان‬
‫وعاطفة‪ ،‬ثم إلى نزوع وعمل‪ ،‬ومثّلْنا لذلك بالوردة التي تراها بعينيك‪ ،‬ثم تعجب بها‪ ،‬ثم تنزع إلى‬
‫قطفها‪ ،‬وعند النزوع تواجهك قضايا في الفؤاد تقول لك‪ :‬ل يحق لك ذلك‪ ،‬فربما رفض صاحب‬
‫البستان أو قاضاك‪ ،‬فالوردة ليست مِلْكا لك‪.‬‬
‫وكذلك أم موسى‪ ،‬كان فؤادها فارغا من القضية التي تُطمئنها على وليدها‪ ،‬بحيث ل تُفشي‬
‫عواطفها هذا السر‪.‬‬
‫ومعنى { رّ َبطْنَا عَلَىا قَلْ ِبهَا } [القصص‪ ]10 :‬أي‪ :‬ثبّتْناها ليكون المر عندها عقيدة راسخة ل‬
‫تطفو على سطح العاطفة‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى عن أهل الكهف‪ {:‬وَرَبَطْنَا عَلَىا قُلُو ِبهِمْ إِذْ قَامُواْ‬
‫ت وَالَ ْرضِ }[الكهف‪.]14 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫َفقَالُواْ رَبّنَا َربّ ال ّ‬
‫إذن‪ :‬الربْط على القلب معناه الحتفاظ بالقضايا التي تتدخل في النزوع‪ ،‬فإنْ كان ل يصح أن تفعل‬
‫ن تفعل فافعل‪ ،‬فهذه القضايا الراسخة هي التي تضبط التصرفات‪،‬‬
‫فل تفعل‪ ،‬وإنْ كان يصح أ ْ‬
‫وكان فؤاد أم موسى فارغا منها‪.‬‬
‫عكَ من هذا الكلم الفارغ ـ أي‪ :‬الذي ل‬
‫لذلك نقول لمن يتكلم بالكلم الفارغ الذي ل معنى له‪ :‬دَ ْ‬
‫معنى له ول فائدةَ منه‪ ،‬ومن ذلك قولهم‪ :‬فلن عقله فارغ يعني‪ :‬من القضايا النافعة‪ .‬وإل فليس‬
‫هناك شيء فارغ تماما‪ ،‬ل بُدّ أن يكون فيه شيء‪ ،‬حتى لو كان الهواء‪.‬‬
‫ومنه قوله تعالى‪ {:‬وََأفْئِدَ ُتهُمْ َهوَآءٌ }[إبراهيم‪ ]43 :‬ويقولون في العامية‪( :‬فلن معندوش ول الهوا)‬
‫ذلك لن الهواء آخر ما يمكن أن يفرغ منه الشيء‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬إِن كَا َدتْ لَتُبْدِي بِهِ } [القصص‪ ]10 :‬يعني‪ :‬قاربت من فراغ فؤادها أن تقول إنه ولدي‬
‫{ َلوْل أَن رّ َبطْنَا عَلَىا قَلْ ِبهَا لِ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [القصص‪ ]10 :‬لن اليمان هو الذي يجلب لك‬
‫النفع‪ ،‬ويمنعك من الضار‪ ،‬وإنْ كان فيه شهوة عاجلة لك‪ ،‬فمنعها إيمانُها من شهوة المومة في هذا‬
‫الموقف‪ ،‬ومن ممارسة العطف والحنان الطبيعيين في الم؛ لن هذه شهوة عاجلة يتبعها ضرر‬
‫كبير‪ ،‬فإنْ أحسّوا أنه ولدها قتلوه‪.‬‬
‫ت لُخْتِهِ ُقصّيهِ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وقَاَل ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3190 /‬‬

‫شعُرُونَ (‪)11‬‬
‫ب وَهُمْ لَا يَ ْ‬
‫َوقَاَلتْ لُِأخْتِهِ ُقصّيهِ فَ َبصُ َرتْ بِهِ عَنْ جُ ُن ٍ‬

‫ُقصّيه‪ :‬يعني‪ :‬تتبعي أثره‪ ،‬وراقبي سيره إلى إين ذهب؟ وماذا ُفعِل به؟ وحين سمعت الخت هذا‬
‫المر سارعتْ إلى التنفيذ؛ لذلك استخدم الفاء الدالة على التعقيب وسرعة الستجابة { فَ َبصُ َرتْ‬
‫بِهِ } [القصص‪ ]11 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬فقصّته؛ لن البصر وإنْ كان بمعنى الرؤية إل أنه يدل على العناية‬
‫والهتمام بالمرئي‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬عَن جُ ُنبٍ } [القصص‪ ]11 :‬من ناحية بحيث ل يراها أحد‪ ،‬ول يشعر بتتبعها له‪،‬‬
‫واهتمامها به‪ .‬ومن ذلك ما حكاه القرآن من قول السامري‪َ {:‬بصُ ْرتُ ِبمَا َلمْ يَ ْبصُرُواْ بِهِ }[طه‪:‬‬
‫‪ ]96‬أي‪ :‬رأى من حيث ل يطّلِع أحد عليه‪.‬‬
‫ونلحظ هنا أن أخت موسى أخذتْ المر من أمها { ُقصّيهِ } [القصص‪ ]11 :‬فقط ولم تلفت نظرها‬
‫إلى هذا الحتياط { عَن جُ ُنبٍ } [القصص‪ ]11 :‬مما يدلّ على ذكاء الفتاة وقيامها بمهمتها على‬
‫أكمل وجه‪ ،‬وإن لم تُكلّف بذلك‪ ،‬وهذا من حكمة المرسَل الحريص على أداء رسالته على وجهها‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫سلْ حَكيما ولَ تُوصِهْوقوله‬
‫ما أجملَ ما قاله الشاعر في هذا المعنى‪:‬إذَا كُ ْنتَ في حَاجةٍ مُرْسِلً فأَر ِ‬
‫تعالى‪ { :‬عَن جُ ُنبٍ } [القصص‪ ]11 :‬يظن البعض أن جنب يعني قريب مني‪ ،‬وهذا غير صحيح؛‬
‫لن معنى الجنب ألّ تكون في مواجهتي‪ ،‬لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَالْجَارِ ذِي ا ْلقُرْبَىا وَا ْلجَارِ الْجُ ُنبِ }‬
‫[النساء‪ ]36 :‬إذن‪ :‬الجار الجنب مقابل الجار القريب‪ ،‬فمعناه الجار البعيد‪.‬‬
‫فكأن الفتاة حين ذهبت لتتبع سَيْر التابوت أخذتْ مكانا بعيدا منه‪ ،‬حتى ل يفطن أحد إلى متابعتها‬
‫له‪.‬‬
‫ومن ذلك قولنا‪( :‬فلن تجنّبني‪ ،‬أو فلن واخد جنب مني) أي‪ :‬يبتعد عني‪ ،‬إذن‪ :‬البعض يفهم هذه‬
‫الكلمة على عكس مدلولها‪.‬‬
‫لصْنَامَ }[إبراهيم‪ ]35 :‬وقوله تعالى‪{:‬‬
‫ألَ ترى لقول إبراهيم عليه السلم‪ {:‬وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن ّنعْبُدَ ا َ‬
‫وَاجْتَنِبُواْ َق ْولَ الزّورِ }[الحج‪ ]3 :‬فالجتناب يعني‪ :‬البتعاد‪.‬‬
‫ع َملِ الشّيْطَانِ‬
‫جسٌ مّنْ َ‬
‫خمْ ُر وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَابُ وَالَ ْزلَمُ رِ ْ‬
‫وفي تحريم الخمر قال تعالى‪ {:‬إِ ّنمَا الْ َ‬
‫ن يقول‪ :‬هذا ليس نصا في التحريم‪ ،‬لنه لم ي ُقلْ ح ّرمْت‬
‫فَاجْتَنِبُوهُ }[المائدة‪ ]90 :‬فطلع علينا مَ ْ‬
‫عليكم‪ ،‬فهي مجرد موعظة ونصيحة‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬لو فهمت معنى{ فَاجْتَنِبُوهُ }[المائدة‪ ]90 :‬لعلمتَ أنها أقوى في التحريم من حرمت عليكم؛‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لن معنى حرّمتْ عليكم الخمر يعني‪ :‬ل تشربوها‪ ،‬أما{ فَاجْتَنِبُوهُ }[المائدة‪ ]90 :‬يعني‪ :‬ابتعدوا‬
‫عنها كليةً شُرْبا أو بَيْعا‪ ،‬أو شراء‪ ،‬أو نقلً‪ ،‬أو حتى الجلوس في مجالسها‪.‬‬
‫ثم تتحدث اليات بعد ذلك عن تمهيدات القدار للقدار‪ ،‬فتقول‪ { :‬وَحَ ّرمْنَا عَلَيْهِ ا ْلمَرَاضِعَ }‬

‫(‪)3191 /‬‬

‫وَحَ ّرمْنَا عَلَيْهِ ا ْلمَرَاضِعَ مِنْ قَ ْبلُ َفقَاَلتْ َهلْ أَدُّل ُكمْ عَلَى أَ ْهلِ بَ ْيتٍ َي ْكفُلُونَهُ َل ُك ْم وَهُمْ َلهُ نَاصِحُونَ (‪)12‬‬

‫التحريم هنا ل يعني التحريم بالنسبة للمكلّف‪ :‬هذا حلل وهذا حرام‪ ،‬إنما { وَحَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِ ا ْلمَرَاضِعَ‬
‫} [القصص‪ ]12 :‬يعني‪ :‬منعناه أنْ يرضع من المرضعات اللئي يأتونَ بهن لتتقلب عليه المراضع‬
‫واحدة بعد الخرى‪ ،‬إلى أن تأتيه أمه‪.‬‬
‫و { ا ْلمَرَاضِعَ } [القصص‪ ]12 :‬جمع مُرضِع‪ ،‬ونقول أيضا‪ :‬مرضعة‪ ،‬ولكل من اللفظين مدلول‪،‬‬
‫على خلف ما يظنه البعض أنهما بمعنى واحد‪.‬‬
‫ضعَتْ }[الحج‪.]2 :‬‬
‫عمّآ أَ ْر َ‬
‫واقرأ أول سورة الحج‪َ {:‬ي ْومَ تَ َروْ َنهَا َتذْ َهلُ ُكلّ مُ ْرضِعَةٍ َ‬
‫المرضِع‪ :‬التي من شأنها أنْ تُرضع‪ ،‬وصالحة لهذه العملية‪ ،‬لكن المرضعة التي تُرضع الن فعلً‪،‬‬
‫حجْرها طفل يلتقم ثديها‪ ،‬وفي موقف القيامة ستذهل هذه عن طفلها من َهوْل ما ترى‪ ،‬إذن‪:‬‬
‫وعلة ِ‬
‫فالتي تذهل هي المرضعة ل المرضع‪.‬‬
‫والضمير في { فَقَاَلتْ َهلْ أَ ُدّلكُمْ } [القصص‪ ]12 :‬يعود على أخت موسى؛ لنها ما زالت في مهمة‬
‫تتبّع الولد‪ ،‬وقد سمعها هامان تقول { َهلْ أَدُّلكُمْ عَلَىا أَ ْهلِ بَ ْيتٍ َي ْكفُلُونَهُ َل ُك ْم وَهُمْ َلهُ نَاصِحُونَ }‬
‫[القصص‪ ]12 :‬فقال لها‪ :‬ل بدّ أنك من أهل هذا الولد؟ وتعرفين قصّته‪ ،‬فقالت‪ :‬بل ناصحون للملك‬
‫ل وافقوها على ما نصحتْ به؛ لنهم معذورون‪ ،‬فالولد يأبى الرضاعة من‬
‫مخلصون له‪ .‬وفع ً‬
‫الخريات‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَ َردَدْنَاهُ إِلَىا ُأمّهِ }‬

‫(‪)3192 /‬‬

‫ق وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ (‪)13‬‬


‫ن وَعْدَ اللّهِ حَ ّ‬
‫ن وَلِ َتعْلَمَ أَ ّ‬
‫فَرَدَدْنَاهُ إِلَى ُأمّهِ َكيْ َتقَرّ عَيْ ُنهَا وَلَا َتحْزَ َ‬

‫وسبق أنْ وعدها ال‪ {:‬إِنّا رَآدّوهُ ِإلَ ْيكِ }[القصص‪ ]7 :‬وها هو أوانُ تحقيق الوعد الول‪ ،‬وهو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بُشْرى بتحقّق الوعد الثاني{ َوجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص‪ ]7 :‬لكن هذا في مستقبل اليام‪،‬‬
‫وسوف يتحقق أيضا‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬فَ َردَدْنَاهُ إِلَىا ُأمّهِ } [القصص‪ ]13 :‬يدل على أن السباب في يد المسبب سبحانه‪،‬‬
‫فنحن الذين رددناه‪ ،‬ل أخته ول فرعون؛ لننا نُسيّر المور على َوفْق مرادنا‪ ،‬ونُمهّد لها الطريق‬
‫حتى أننا نحول بين المرء وقلبه‪ ،‬ولينفذ قضاؤنا فيه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ } [القصص‪ ]13 :‬يعني‪ :‬ل يعلمون أن وَعْد ال حق‪.‬‬
‫ش ّدهُ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلمّا بََلغَ أَ ُ‬

‫(‪)3193 /‬‬

‫حسِنِينَ (‪)14‬‬
‫ح ْكمًا وَعِ ْلمًا َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬
‫ش ّد ُه وَاسْ َتوَى آَتَيْنَاهُ ُ‬
‫وََلمّا َبلَغَ أَ ُ‬

‫الشُدّ‪ :‬يعني القوة واكتمال النمو‪ ،‬وقد حدّدوا لذلك سِنّ الثامنة عشرة إلى العشرين { وَاسْ َتوَىا }‬
‫[القصص‪ ]14 :‬الستواء هو بلوغُ العقلِ مرحلةَ النضج الفكري‪ ،‬فلما اكتملت لموسى ـ عليه‬
‫حكْما وَعِلْما َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ } [القصص‪.]14 :‬‬
‫السلم ـ قوة الجسم و ُنضْج العقل { آتَيْنَاهُ ُ‬
‫غفْلَةٍ }‬
‫خلَ ا ْل َمدِينَةَ عَلَىا حِينِ َ‬
‫ثم يقصّ الحق سبحانه‪ ،‬فيقول‪ { :‬وَدَ َ‬

‫(‪)3194 /‬‬

‫ع ُد ّوهِ‬
‫جدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ َيقْتَتِلَانِ َهذَا مِنْ شِيعَ ِت ِه وَهَذَا مِنْ َ‬
‫غفْلَةٍ مِنْ أَهِْلهَا َفوَ َ‬
‫خلَ ا ْل َمدِينَةَ عَلَى حِينِ َ‬
‫وَدَ َ‬
‫ع َملِ‬
‫فَاسْ َتغَاثَهُ الّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَ ُد ّوهِ َف َوكَ َزهُ مُوسَى َف َقضَى عَلَ ْيهِ قَالَ هَذَا مِنْ َ‬
‫ع ُدوّ ُمضِلّ مُبِينٌ (‪)15‬‬
‫الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َ‬

‫أراد موسى ـ عليه السلم ـ أن يدخل القرية على حين غفلة من أهلها‪ ،‬لن بني إسرائيل كانوا‬
‫مُضطهدين‪ ،‬وكان القبط في بعض المدن ذاتَ الكثافة العددية منهم يُحرّمون على بني إسرائيل‬
‫دخول قراهم؛ لذلك اختار موسى وقت غفلة الناس‪ ،‬لكنه لم يدخل في الليل لنه ل يهتدي إلى‬
‫الطريق‪ ،‬فقيل‪ :‬دخلها وقت القيلولة والناس في بيوتهم‪.‬‬
‫جدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ َيقْتَتِلَنِ هَـاذَا مِن شِيعَتِهِ } [القصص‪ ]15 :‬يعني‪ :‬من بني إسرائيل { وَهَـاذَا‬
‫{ َفوَ َ‬
‫مِنْ عَ ُد ّوهِ } [القصص‪ ]15 :‬يعني‪ :‬القباط { فَاسْ َتغَاثَهُ } [القصص‪ ]15 :‬أي‪ :‬طلب منه ال َعوْن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جمْع يديه‪ ،‬فجاءت نهاية القبطي وأجله‬
‫والنجدة { َف َوكَ َزهُ مُوسَىا } [القصص‪ ]15 :‬يعني‪ :‬ضربه ب ُ‬
‫مع هذه الضربة‪ ،‬ل أنه مات بها‪ ،‬وكثيرا ما تحدثُ هذه المسألة في شجار مثلً بين شخصين‪،‬‬
‫فيضرب أحدهما الخر فيقع ميتا‪ ،‬وبتشريح جثته يتبين أنه مات بسبب آخر‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬حين تكلّف شخصا بقضاء حاجة لك‪ ،‬أو تُوسّطه في أمر ما‪ ،‬فيدخل عند المسئولين‬
‫ويسعى إلى أن يقضي لك حاجتك فتقول‪ " :‬فلن قضالي كذا وكذا " وهو في الحقيقة ما قضى في‬
‫الرض إل بعد أن قضى ال في السماء‪.‬‬
‫لكن ال تعالى أراد أنْ يُكرم الواسطة‪ ،‬فجعل قضاءها موافقا لقضائه سبحانه‪ ،‬فنقول في هذه‬
‫الحالة‪ :‬قضي ال المصلحة معه ل به‪.‬‬
‫كان القبط ـ كما قُلْنا ـ يكرهون بني إسرائيل ويُعذّبونهم‪ ،‬فلما قتلَ موسى القبطي زاد غضبهم‬
‫وكراهيتهم لبني إسرائيل؛ لذلك أحسّ موسى أن هذا العمل من الشيطان‪ ،‬ليزيد هذه العداوة { إِنّهُ‬
‫ضلّ مّبِينٌ } [القصص‪.]15 :‬‬
‫عَ ُدوّ ّم ِ‬

‫(‪)3195 /‬‬

‫غفِرْ لِي َف َغفَرَ لَهُ إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ (‪)16‬‬


‫قَالَ َربّ إِنّي ظََل ْمتُ َنفْسِي فَا ْ‬

‫يُعلمنا موسى ـ عليه السلم ـ أن النسان ساعة يقترف الذنب‪ ،‬ويعتقد أنه أذنب ل يكابر‪ ،‬إنما‬
‫ينبغي عليه أنْ يعترف بذنبه وظلمه لنفسه‪ ،‬ثم يبادر بالتوبة والستغفار { قَالَ َربّ إِنّي ظََل ْمتُ‬
‫غفِرْ لِي } [القصص‪ ]16 :‬يعني‪ :‬يا ربّ حكْمك هو الحقّ‪ ،‬وأنا الظالم المعترف بظلمه‪.‬‬
‫َنفْسِي فَا ْ‬
‫ومن هنا كان الفَرْق بين معصية آدم عليه السلم ومعصية إبليس‪ :‬آدم عصى واعترف بذنبه وأقرّ‬
‫ظَلمْنَآ أَنفُسَنَا }[العراف‪ ]23 :‬فقبل ال منه وغفر له‪ .‬أما إبليس فعلّل عدم سجوده‪{:‬‬
‫به‪ ،‬فقال{ رَبّنَا َ‬
‫سجُدُ ِلمَنْ خََل ْقتَ طِينا }[السراء‪ ]61 :‬وقال‪ {:‬أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خََلقْتَنِي مِن نّارٍ وَخََلقْتَهُ مِن طِينٍ }‬
‫أَأَ ْ‬
‫[ص‪ ]76 :‬فردّ الحكم على ال‪.‬‬
‫لذلك نقول لمن يُفتي بغير ما شرع ال فيُحلّل الحرام لسبب ما‪ ،‬نقول له‪ :‬احذر أنْ ترّد على ال‬
‫ن فعلتَ فأنت كإبليس حين ردّ على ال حُكمه‪ ،‬لكن أ ْفتِ بالحكم الصحيح‪ ،‬ثم تعلّل‬
‫حكمه؛ لنك إ ْ‬
‫بأن الظروف ل تساعد على تطبيقه‪ ،‬فعلى القل تحتفظ بإيمانك‪ ،‬والمعصية تمحوها التوبة‬
‫والستغفار‪ ،‬أما الكفر فل حيلةَ معه‪.‬‬
‫فلما استغفر موسى ربه غفر له { إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } [القصص‪ ]16 :‬يُعرف الذنب‪ ،‬ثم يغفره‬
‫رحمة بنا؛ لن النسان حين تصيبه غفلة فيقع في المعصية إذا لم يجد بابا للتوبة وللرجوع يئس‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفقد المل‪ ،‬وتمادى في معصيته ونسميه (فاقد) عنده سُعار للجريمة‪ ،‬ول مانع لديه من ارتكاب‬
‫كل الذنوب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمشروعية التوبة الستغفار تعطي المؤمن أملً في أنه لن يُط َردَ من رحمة ال‪ ،‬لن رحمة‬
‫ال واسعة تسَع كل ذنوبه مهما كثُرتْ‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى في مشروعية التوبة{ ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ }[التوبة‪ ]118 :‬والمعنى‪ :‬شرع لهم‬
‫التوبة‪ ،‬وحثّهم عليها ليتوبوا بالفعل فيقبل منهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالَ َربّ ِبمَآ أَ ْن َع ْمتَ }‬

‫(‪)3196 /‬‬

‫ظهِيرًا لِ ْل ُمجْ ِرمِينَ (‪)17‬‬


‫قَالَ َربّ ِبمَا أَ ْن َع ْمتَ عََليّ فَلَنْ َأكُونَ َ‬

‫ظهِيرا‬
‫قوله‪ِ { :‬بمَآ أَ ْن َع ْمتَ عََليّ } [القصص‪ ]17 :‬يعني‪ :‬بالمغفرة وعذرتني وتُبْت عليّ { فَلَنْ َأكُونَ َ‬
‫ل أكون مُعينا للمجرمين‪.‬‬
‫لّ ْلمُجْ ِرمِينَ } [القصص‪ ]17 :‬أي‪ :‬عهد ال عليّ أ ّ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََأصْبَحَ فِي ا ْلمَدِي َنةِ }‬

‫(‪)3197 /‬‬

‫خهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِ ّنكَ َل َغ ِويّ‬


‫فََأصْبَحَ فِي ا ْل َمدِينَةِ خَا ِئفًا يَتَ َر ّقبُ فَإِذَا الّذِي اسْتَ ْنصَ َرهُ بِالَْأمْسِ يَسْ َتصْرِ ُ‬
‫مُبِينٌ (‪)18‬‬

‫أي‪ :‬بعد أن قتل موسى القبطيّ صار خائفا منهم { يَتَ َر ّقبُ } [القصص‪.]18 :‬‬
‫ينظر في وجوه الناس‪ ،‬يرقب انفعالتهم نحوه‪ ،‬فربما جاءوا ليأخذوه‪ ،‬كما يقولون‪ :‬يكاد المريب أنْ‬
‫يقول‪ :‬خذوني‪ ،‬فلو جلس قوم في مكان‪ ،‬ثم فاجأهم رجال الشرطة تراهم مطمئنين ل يخافون من‬
‫شيء‪ ،‬أما المجرم فيفر هاربا‪.‬‬
‫ومن ذلك ما يقوله أهل الريف‪( :‬اللي على راسه بطحة يحسس عليها)‪.‬‬
‫وهو على هذه الحال من الخوف والترقّب إذ بالسرائيلي الذي استغاث به بالمس { َيسْ َتصْرِخُهُ }‬
‫[القصص‪ ]18 :‬استصرخ يعني‪ :‬صرخ‪ ،‬ونادى على مَنْ يُخلّصه‪ ،‬وهو انفعال للستنجاد للخلص‬
‫خيّ }[إبراهيم‪:‬‬
‫خ ُك ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫من مأزق‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس{ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]22‬‬
‫وسبق أن تكلّمنا في همزة الزالة نقول‪ :‬صرخ فلن يعني استنجد بأحد فأصرخه يعني‪ :‬أزال‬
‫سبب صراخه‪ ،‬فمعنى الية‪ :‬أنا ل أزيل صراخكم‪ ،‬ول أنتم تزيلون صراخي‪.‬‬
‫عندها قال موسى عليه السلم لصاحبه الذي أوقعه في هذه الورطة بالمس { إِ ّنكَ َل َغوِيّ مّبِينٌ }‬
‫[القصص‪ ]18 :‬تريد أنْ تُغويَني بأنْ أفعل كما فعلت بالمس‪ ،‬وما كان موسى ـ عليه السلم ـ‬
‫ليقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه‪ ،‬فل ُيلْدَغ المؤمن من جُحْر مرتين‪.‬‬

‫(‪)3198 /‬‬

‫ع ُدوّ َل ُهمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ َتقْتُلَنِي َكمَا قَتَ ْلتَ َنفْسًا بِالَْأمْسِ‬
‫طشَ بِالّذِي ُهوَ َ‬
‫فََلمّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْ ِ‬
‫ض َومَا تُرِيدُ أَنْ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِينَ (‪)19‬‬
‫إِنْ تُرِيدُ إِلّا أَنْ َتكُونَ جَبّارًا فِي الْأَ ْر ِ‬

‫قوله تعالى‪ { :‬فََلمّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَ ْبطِشَ بِالّذِي ُهوَ عَ ُدوّ ّل ُهمَا } [القصص‪ ]19 :‬يعني‪ :‬أن موسى حَنّ‬
‫مرة أخرى للذي من شيعته وهو السرائيلي وناصره‪ ،‬ولكن الرجل القبطي هذه المرة واجهه‬
‫لمْسِ } [القصص‪ ]19 :‬فهو يعرف ما حدث من موسى‪ ،‬وما‬
‫{ أَتُرِيدُ أَن َتقْتُلَنِي َكمَا قَتَ ْلتَ َنفْسا بِا َ‬
‫داموا قد عرفوا أنه القاتل‪ ،‬فل ُبدّ لهم أنْ يطلبوه‪ ،‬وأن ينتقموا منه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬إِن تُرِيدُ ِإلّ أَن َتكُونَ جَبّارا فِي الَ ْرضِ َومَا تُرِيدُ أَن َتكُونَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِينَ }‬
‫[القصص‪ ]19 :‬إنْ هنا نافية يعني‪ :‬ما تريد إل أن تكون جبارا في الرض‪ ،‬فقد قتلتَ نفسا‬
‫بالمس‪ ،‬وتريد أنْ تقتلني اليوم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬عرفوا أن موسى هو القاتل‪ ،‬وهناك ول بُدّ مَنْ يسعى للمساك به‪ ،‬وفي هذا الموقف لحقه‬
‫جلٌ مّنْ َأ ْقصَى ا ْلمَدِي َنةِ }‬
‫الرجل المؤمن‪َ { :‬وجَآءَ َر ُ‬

‫(‪)3199 /‬‬

‫سعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنّ ا ْلمَلَأَ يَأْ َتمِرُونَ ِبكَ لِ َيقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي َلكَ‬
‫جلٌ مِنْ َأ ْقصَى ا ْل َمدِينَةِ يَ ْ‬
‫وَجَاءَ َر ُ‬
‫مِنَ النّاصِحِينَ (‪)20‬‬

‫هو الرجل المؤمن من آل فرعون‪ ،‬جاء لينصح موسى بالخروج والهرب قبل أنْ يُمسِكوا به‬
‫فيقتلوه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3200 /‬‬

‫فَخَرَجَ مِ ْنهَا خَا ِئفًا يَتَ َر ّقبُ قَالَ َربّ نَجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ (‪)21‬‬

‫ن وجدوا فرصة وذريعة ليزدادوا‬


‫لنهم يضطهدوننا ويعذبوننا من غير ما جريرة‪ ،‬فما بالك بعد أ ْ‬
‫ظلما لنا؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلمّا َتوَجّهَ تِ ْلقَآءَ مَدْيَنَ }‬

‫(‪)3201 /‬‬

‫سوَاءَ السّبِيلِ (‪)22‬‬


‫عسَى رَبّي أَنْ َي ْهدِيَنِي َ‬
‫وََلمّا َت َوجّهَ تِ ْلقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ َ‬

‫معنى { َتوَجّهَ تِ ْلقَآءَ َمدْيَنَ } [القصص‪ ]22 :‬يعني‪ :‬ناحيتها‪ ،‬وأراد أنْ يهرب من مصر كلها‪ ،‬ولم‬
‫يكُنْ يقصد مدين بالذات‪ ،‬إنما سار في طريق صادف أنْ يؤدي إلى مدين بلد شعيب عليه السلم‪.‬‬
‫سوَآءَ السّبِيلِ }‬
‫عسَىا رَبّي أَن َيهْدِيَنِي َ‬
‫ن مقصودة له لما قال بعد توجهه‪َ { :‬‬
‫ولو كانت مَدْي ُ‬
‫[القصص‪ ]22 :‬فموسى حينما خرج من مصر خائفا يريد الهرب لم يفكر في وجهة معينة‪ ،‬فالذي‬
‫يُهمه أنْ يخرج من هذه البلدة‪ ،‬وينجو بنفسه‪.‬‬

‫(‪)3202 /‬‬

‫جدَ مِنْ دُو ِنهِمُ امْرَأتَيْنِ َتذُودَانِ قَالَ مَا‬


‫سقُونَ َووَ َ‬
‫ن َوجَدَ عَلَ ْيهِ ُأمّةً مِنَ النّاسِ يَ ْ‬
‫وََلمّا وَ َردَ مَاءَ مَدْيَ َ‬
‫سقِي حَتّى ُيصْدِرَ الرّعَا ُء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (‪)23‬‬
‫خطْ ُب ُكمَا قَالَتَا لَا نَ ْ‬
‫َ‬

‫عرض القرآن الكريم هذه القصة في إيجاز بليغ‪ ،‬ومع إيجازها فقد أوضحتْ مهمة المرأة في‬
‫مجتمعها‪ ،‬ودور الرجل بالنسبة للمرأة‪ ،‬والضرورة التي تُلجىء المرأة للخروج للعمل‪.‬‬
‫معنى { وَرَدَ مَآءَ َمدْيَنَ } [القصص‪ ]23 :‬يعني‪ :‬جاء عند الماء‪ ،‬ول يقتضي الورود أن يكون‬
‫ل وَارِدُهَا }[مريم‪:‬‬
‫شَرِب منه‪ .‬والورود بهذا المعنى حلّ لنا الشكال في قوله تعالى‪ {:‬وَإِن مّنكُمْ ِإ ّ‬
‫‪ ]71‬فليس المعنى دخول النار‪ ،‬ومباشرة حَرّها‪ ،‬إنما ذاهبون إليها‪ ،‬ونراها جميعنا ـ إذن‪ :‬وردْنا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العَيْن‪ .‬يعني‪ :‬جئنا عندها ورأيناها‪ ،‬لكن الشرب منها‪ ،‬شيء آخر‪.‬‬
‫سقُونَ }‬
‫جدَ عَلَيْهِ } [القصص‪ ]23 :‬أي‪ :‬على الماء { ُأمّةً } [القصص‪ ]23 :‬جماعة { يَ ْ‬
‫{ وَ َ‬
‫جدَ مِن دُو ِنهِمُ } [القصص‪ ]23 :‬يعني‪ :‬بعيدا عن الماء‬
‫[القصص‪ ]23 :‬أي‪ :‬مواشيهم { وَوَ َ‬
‫{ امْرَأَتَينِ َتذُودَانِ } [القصص‪ ]23 :‬أي‪ :‬تكفّان الغنم وتمنعانها من الشّرْب لكثرة الزحام على الماء‬
‫{ قَالَ مَا خَطْ ُب ُكمَا } [القصص‪ ]23 :‬أي‪ :‬ما شأنكما؟‬
‫سقْيا؟‬
‫وفي الستفهام هنا معنى التعجّب يعني‪ :‬لماذا تمنعان الغنم أنْ تشربَ‪ ،‬وما أتيتُما إل لل ّ‬
‫سقِي حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآ ُء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [القصص‪.]23 :‬‬
‫{ قَالَتَا لَ َن ْ‬
‫وقولهما { حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآءُ } [القصص‪ ]23 :‬يعني‪ :‬ينصرفوا عن الماء‪ ،‬فصدر مقابل ورد‪،‬‬
‫فالتي للماء‪ :‬وارد‪ ،‬والمنصرف عنه‪ :‬صادر‪ :‬نقول‪ :‬صدر َيصْدُر أي‪ :‬بذاته‪ ،‬وأصدر ُيصْدر أي‪:‬‬
‫غيره‪.‬‬
‫فالمعنى‪ :‬ل نَسْقي حتى يسقي الناس وينصرفوا‪ .‬و { الرّعَآءُ } [القصص‪ ]23 :‬جمع رَاعٍ‪ .‬ثم‬
‫يذكران العلّة في خروجهما لِسقْي الغنم ومباشرة عمل الرجال { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [القصص‪:‬‬
‫‪.]23‬‬
‫سقَىا َل ُهمَا ُثمّ َتوَلّىا }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ف َ‬

‫(‪)3203 /‬‬

‫ظلّ َفقَالَ َربّ إِنّي ِلمَا أَنْزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ (‪)24‬‬
‫سقَى َل ُهمَا ُثمّ َتوَلّى إِلَى ال ّ‬
‫فَ َ‬

‫طتْ‬
‫سقِي حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآءُ }[القصص‪ ]23 :‬أع َ‬
‫معنا ـ إذن ـ في هذه القصة أحكام ثلثة{ لَ نَ ْ‬
‫سقَىا َل ُهمَا } [القصص‪]24 :‬‬
‫حكْما و { فَ َ‬
‫حكما و{ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }[القصص‪ ]23 :‬أعطتْ ُ‬
‫أعطت حكما ثالثا‪.‬‬
‫وهذه الحكام الثلثة تُنظم للمجتمع المسلم مسألة عمل المرأة‪ ،‬وما يجب علينا حينما تُضطر المرأة‬
‫سقْي النعام من عمل الرجال‪ ،‬ومن الحكم الثاني نعلم أن المرأة‬
‫للعمل‪ ،‬فمن الحكم الول نعلم أن َ‬
‫ل تخرج للعمل إل للضرورة‪ ،‬ول تؤدي مهمة الرجال إل إذا عجز الرجل عن أداء هذه المهمة{‬
‫وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }[القصص‪.]23 :‬‬
‫أما الحكم الثالث فيعلم المجتمع المسلم أو حتى النساني إذا رأى المراة قد خرجت للعمل فل بد‬
‫أنه ليس لها رجل يقوم بهذه المهمة‪ ،‬فعليه أن يساعدها وأنْ يُيسّر لها مهمتها‪.‬‬
‫وأذكر أنني حينما سافرت إلى السعودية سنة ‪ 1950‬ركبتُ مع أحد الزملء سيارته‪ ،‬وفي الطريق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رأيته نزل من سيارته‪ ،‬وذهب إلى أحد المنازل‪ ،‬وكان أمامه طاولة من الخشب مُغطّاة بقطعة من‬
‫ت مثل‬
‫القماش‪ ،‬فأخذها ووضعها في السيارة‪ ،‬ثم سِرْنا فسألتُه عما يفعل‪ ،‬فقال‪ :‬من عاداتنا إذا رأي ُ‬
‫هذه الطاولة على باب البيت‪ ،‬فهي تعني أن صاحب البيت غير موجود‪ ،‬وأن ربة البيت قد أع ّدتْ‬
‫العجين‪ ،‬وتريد مَنْ يخبزه فإذا مَرّ أحدنا أخذه فخبزه‪ ،‬ثم أعاد الطاولة إلى مكانها‪.‬‬
‫سقِي حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآءُ }[القصص‪ ]23 :‬إشارة إلى أن المرأة إذا‬
‫وفي قوله تعالى‪ {:‬لَ نَ ْ‬
‫اضطرتْ للخروج للعمل‪ ،‬وتوفرْت لها هذه الضرورة عليها أنْ تأخذَ الضرورة بقدرها‪ ،‬فل تختلط‬
‫بالرجال‪ ،‬وأنْ تعزل نفسها عن مزاحمتهم والحتكاك بهم‪ ،‬وليس معنى أن الضرورة أخرجتْ‬
‫المرأة لتقوم بعمل الرجال أنها أصبحتْ مثلهم‪ ،‬فتبيح لنفسها الختلط بهم‪.‬‬
‫ظلّ َفقَالَ َربّ إِنّي ِلمَآ أَنزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ } [القصص‪]24 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬ثُمّ َتوَلّىا إِلَى ال ّ‬
‫فكان موسى ـ عليه السلم ـ طوال رحلته إلى مَدْين مسافرا بل زاد حتى أجهده الجوع‪ ،‬وأصابه‬
‫الهزال حتى صار جِلْدا على عظم‪ ،‬وأكل من بقل الرض‪ ،‬وبعد أن سقى للمرأتين تولّى إلى ظلّ‬
‫شجرة ليستريح‪ ،‬وعندها َلهَج بهذا الدعاء { َربّ إِنّي ِلمَآ أَنزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ } [القصص‪:‬‬
‫‪.]24‬‬
‫كأن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يريد من الضعيف أنْ يتجه إلى المعونة‪ ،‬وحين يتجه إليها فلن‬
‫يفعل هو‪ ،‬إنما سيفعل ال له؛ لذلك نلحظ أن موسى في ندائه قال { َربّ } [القصص‪ ]24 :‬واختار‬
‫صفة الربوبية‪ ،‬ولم ي ُقلْ يا ال؛ لن اللوهية تقتضي معبودا‪ ،‬له أوامر ونواهٍ‪ ،‬أمّا الرب فهو‬
‫المتولّي للتربية والرعاية‪ ،‬فقال‪ :‬يا رب أنا عبدك‪ ،‬وقد جئتَ بي إلى هذا الكون‪ ،‬وأنا جائع أريد أن‬
‫آكل‪.‬‬
‫ومعنى { أَن َز ْلتَ } [القصص‪ ]24 :‬أن الخير منك في الحقيقة‪ ،‬وإنْ جاءني على يد عبد مثلي؛ ذلك‬
‫لنك حين تُسلسل أيّ خير في الدنيا ل ُبدّ أن ينتهي إلى ال المنعِم الول‪ ،‬وضربنا لذلك مثلً‬
‫برغيف العيش الذي تأكله‪ ،‬بدايته نبتة لول عناية ال ما نبتتْ‪.‬‬

‫لذلك يقولون في (الحمد ل) صيغة العموم في العموم‪ ،‬حتى إنْ حمدتَ إنسانا على جميل أسداه‬
‫إليك‪ ،‬فأنت في الحقيقة تحمد ال حيث ينتهي إليه ُكلّ جميل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فحمْد الناس من باطن حمد ال‪ ،‬والحمد بكل صوره وبكل توجهاته‪ ،‬حتى ولو كانت السباب‬
‫عائدة على ال تعالى‪ ،‬حتى يقول بعضهم‪ :‬ل تحمد ال حتى تحمد الناس‪.‬‬
‫ذلك لن أَ ِزمّة المور بيده تعالى‪ ،‬وإنْ جعل السباب في أيدينا‪ ،‬وهو سبحانه القادر وحده على‬
‫تعطيل السباب‪ ،‬وأذكر أن بعض الدول (باكستان) أعلنت عن وفرة عندهم في محصول القمح‪،‬‬
‫وأنها ستكفيهم وتفيض عنهم للتصدير‪ ،‬وقبل أنْ ينضج المحصول أصابته جائحة فأهلكته‪ ،‬فاختلفت‬
‫كل حساباتهم‪ ،‬حتى استوردوا القمح في هذا العام‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا معنى } َربّ إِنّي ِلمَآ أَن َز ْلتَ ِإَليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ { [القصص‪ ]24 :‬فالخير منك يا رب‪ ،‬وإنْ‬
‫سقْته إليّ على يد عبد من عبيدك‪ ،‬وفقري ل يكون إل إليك‪ ،‬وسؤالي ل يكون إل لك‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولم يكَدْ موسى ـ عليه السلم ـ ينتهي من مناجاته لربه حتى جاءه الفرج‪َ } :‬فجَآءَتْهُ ِإحْدَا ُهمَا‬
‫َتمْشِي {‬

‫(‪)3204 /‬‬

‫سقَ ْيتَ لَنَا فََلمّا جَا َءهُ‬


‫فَجَاءَ ْتهُ ِإحْدَا ُهمَا َتمْشِي عَلَى اسْ ِتحْيَاءٍ قَاَلتْ إِنّ أَبِي َيدْعُوكَ لِيَجْزِ َيكَ َأجْرَ مَا َ‬
‫ج ْوتَ مِنَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ (‪)25‬‬
‫خفْ َن َ‬
‫َو َقصّ عَلَ ْيهِ ا ْل َقصَصَ قَالَ لَا َت َ‬

‫قوله‪ِ { :‬إحْدَا ُهمَا } [القصص‪ ]25 :‬أي‪ :‬أحدى المرأتين { َتمْشِي عَلَى اسْ ِتحْيَآءٍ } [القصص‪]25 :‬‬
‫سقَيْتَ لَنَا }‬
‫يعني‪ :‬مُستحية في مجيئها‪ ،‬مُستحية في مِشْيتها { قَاَلتْ إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِ َيكَ أَجْرَ مَا َ‬
‫[القصص‪.]25 :‬‬
‫لما جاءتْه هذه الدعوة لم يتردد في قبولها‪ ،‬وانتهز هذه الفرصة‪ ،‬فهو يعلم أنها استجابة سريعة من‬
‫ربه حين دعاه{ َربّ إِنّي ِلمَآ أَنزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ }[القصص‪ ]24 :‬وهي سبب من السباب‬
‫يَمدّه ال له‪ ،‬وما كان له أنْ يردّ أسباب ال‪ ،‬فلم يتأبّ‪ ،‬ولم يرفض دعوة الب‪.‬‬
‫ولم يذكر لنا السياق هنا كيف سار موسى والفتاة أبيها‪ ،‬لكن يُ ْروَى أنهما سارا في وقت تهبّ فيه‬
‫الرياح من خلفها‪ ،‬وكانت الفتاة في المام لتدلّه على الطريق‪ ،‬فلما ضمّ الهواء ملبسها‪ ،‬فوصفت‬
‫عجيزتها‪ ،‬قال لها‪ :‬يا هذه‪ ،‬سيري خلفي ودُلّيني على الطريق‪.‬‬
‫وهذا أدب آخر من آدام النبوة‪.‬‬
‫{ فََلمّا جَآ َءهُ } [القصص‪ ]25 :‬أي‪ :‬سيدنا شعيب عليه السلم { َو َقصّ عَلَ ْيهِ ا ْل َقصَصَ } [القصص‪:‬‬
‫ج ْوتَ مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [القصص‪]25 :‬‬
‫خفْ نَ َ‬
‫ل لَ َت َ‬
‫‪ ]25‬أي‪ :‬ما كان بينه وبين القبطي { قَا َ‬
‫يعني‪ :‬طمأنه وهدّأ من َروْعه‪.‬‬

‫(‪)3205 /‬‬

‫حدَا ُهمَا يَا أَ َبتِ اسْتَ ْأجِ ْرهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَ ْأجَ ْرتَ ا ْلقَ ِويّ الَْأمِينُ (‪)26‬‬
‫قَاَلتْ إِ ْ‬

‫وهذا حكم رابع نستفيده من هذه اليات‪ ،‬نأخذه من قول الفتاة { ياأَ َبتِ اسْتَ ْأجِ ْرهُ } [القصص‪.]26 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفي قولها دليل على أنها لم تعشق الخروج للعمل‪ ،‬إنما تطلب مَنْ يقوم به بدلً عنها؛ لِتقّر في‬
‫بيتها‪.‬‬
‫لمِينُ‬
‫ثم تذكر البنت حيثيات هذا العرض الذي عرضته على أبيها { إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَ ْرتَ ا ْل َق ِويّ ا َ‬
‫} [القصص‪ ]26 :‬وهذان شرطان ل ُب ّد منهما في الجير‪ :‬قوة على العمل‪ ،‬وأمانة في الداء‪ .‬وقد‬
‫تسأل‪ :‬ومن أين عرفتْ البنت أنه قوي أمين؟‬
‫قالوا‪ :‬لنه لما ذهب ليسقي لهما لم يزاحم الناس‪ ،‬وإنما مال إلى ناحية أخرى وجد بها عُشْبا عرف‬
‫أنه ل ينبت إل عند ماء‪ ،‬وفي هذا المكان أزاح حجرا كبيرا ل يقدر على إزاحته إل عدة رجال‪،‬‬
‫ثم سقى لهما من تحت هذا الحجر‪ ،‬وعرفتْ أنه أمين حينما رفض أن تسير أمامه‪ ،‬حتى ل تظهر‬
‫له مفاتن جسمها‪.‬‬
‫ويأتي دور الب‪ ،‬وما ينبغي له من الحزم في مثل هذه المواقف‪ ،‬فالرجل سيكون أجيرا عنده‪،‬‬
‫وفي بيته بنتان‪ ،‬سيتردد عليهما ذهابا وإيابا‪ ،‬ليلَ نهار‪ ،‬والحكمة تقتضي إيجاد علقة شرعية‬
‫ق َوضْعا‪ ،‬يستريح فيه الجميع‪ { :‬قَالَ إِنّي أُرِيدُ‬
‫لوجوده في بيته؛ لذلك رأى أن يُزوّجه إحداهما ليخل َ‬
‫}‬

‫(‪)3206 /‬‬

‫حجَجٍ فَإِنْ أَ ْت َم ْمتَ عَشْرًا َفمِنْ‬


‫حدَى ابْنَ َتيّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي َثمَا ِنيَ ِ‬
‫حكَ إِ ْ‬
‫قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُ ْن ِك َ‬
‫شقّ عَلَ ْيكَ سَ َتجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ (‪)27‬‬
‫ك َومَا أُرِيدُ أَنْ أَ ُ‬
‫عِنْ ِد َ‬

‫في المثال نقول‪( :‬اخطب لبنتك ول تخطب لبنك) ذلك لن كبرياء الب يمنعه أنْ يعرض ابنته‬
‫ل صفات الزوج الصالح ـ وإنْ كان القلة يفعلون ذلك ـ وهذه الحكمة من الب‬
‫على شاب فيه ك ّ‬
‫في أمر زواج ابنته تحلّ لنا إشكالت كثيرة‪ ،‬فكثيرا ما نجد الشاب سويّ الدين‪ ،‬سويّ الخلق‪،‬‬
‫لكن مركزه الجتماعي ـ كما نقول ـ دون مستوى البنت وأهلها‪ ،‬فيتهيب أنْ يتقدّم لها فيُرفض‪.‬‬
‫وفي هذه الحالة على الب أنْ يُجَرّىء الشاب على التقدم‪ ،‬وأن يُلمح له بالقبول إن تقدّم لبنته‪ ،‬كأن‬
‫يقول له‪ :‬لماذا لم تتزوج يا ولد حتى الن‪ ،‬وألف بنت تتمناك؟ أو غير ذلك من عبارات التشجيع‪.‬‬
‫حدَى ابْنَ َتيّ هَاتَيْنِ }‬
‫حكَ إِ ْ‬
‫أما أن نرتقي إلى مستوى التصريح كسيدنا شعيب { إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُن ِك َ‬
‫ل من العارض‪ ،‬ومن المعروض عليه‪ ،‬وفي مجتمعاتنا‬
‫[القصص‪ ]27 :‬فهذا شيء آخر‪ ،‬وأدب عَا ٍ‬
‫كثير من الشباب والفتيات ينتظرون هذه الجرأة وهذا التشجيع من أولياء أمور النبات‪.‬‬
‫ألَ ترى أن ال تعالى أباح لنا أن نُعرّض بالزواج لمن تُوفّى عنها زوجها‪ ،‬قال تعالى‪َ {:‬ولَ جُنَاحَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خطْبَةِ النّسَآءِ }[البقرة‪ ]235 :‬ول تخفي علينا عبارات التلميح التي تلفت‬
‫عَلَ ْيكُمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ ِبهِ مِنْ ِ‬
‫نظر المرأة للزواج‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬عَلَىا أَن تَ ْأجُرَنِي َثمَا ِنيَ حِجَجٍ } [القصص‪ ]27 :‬أي‪ :‬تكون أجيرا عندي ثماني سنوات‪،‬‬
‫وهذا َمهْر الفتاة‪ ،‬أراد به أن يُغلِي من قيمة ابنته‪ ،‬حتى ل يقول زوجها‪ :‬إنها رخيصة‪ ،‬أو أن أباها‬
‫رماها عليه‪.‬‬
‫جدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ }‬
‫ك َومَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقّ عَلَ ْيكَ سَتَ ِ‬
‫{ فَإِنْ أَ ْت َم ْمتَ عَشْرا َفمِنْ عِن ِد َ‬
‫[القصص‪ ]27 :‬يعني‪ :‬حينما تعايشني ستجدني طيبَ المعاملة‪ ،‬وستعلم أنك مُوفّق في هذا النسب‪،‬‬
‫بل وستزيد هذه المدة محبة في البقاء معنا‪.‬‬
‫فأجاب موسى عليه السلم‪ { :‬قَالَ ذَِلكَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ }‬

‫(‪)3207 /‬‬

‫ي وَاللّهُ عَلَى مَا َنقُولُ َوكِيلٌ (‪)28‬‬


‫قَالَ ذَِلكَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ أَ ّيمَا الْأَجَلَيْنِ َقضَ ْيتُ فَلَا عُ ْدوَانَ عََل ّ‬

‫ل َوكِيلٌ } [القصص‪:‬‬
‫ي وَاللّهُ عَلَىا مَا َنقُو ُ‬
‫أي‪ :‬أنا بالخيار‪ ،‬أقضي ثمانية‪ ،‬أم عشرة { فَلَ عُ ْدوَانَ عََل ّ‬
‫‪.]28‬‬
‫حكْما جديدا من هذه الية‪ ،‬وهو أن المطلوب عند عقد الزواج تسمية المهر‪ ،‬ول‬
‫وقد أ خذ العلماء ُ‬
‫يشترط قبضه عند العقد‪ ،‬فلَك أنْ تُؤجله كله وتجعله مُؤخّرا‪ ،‬او تُؤجل بعضه‪ ،‬وتدفع بعضه‪.‬‬
‫والمهر ثمن ُبضْع المرأة‪ ،‬بحيث إذا ماتت ذهب إلى تركتها‪ ،‬وإذا مات الزوج يُؤخَذ من تركته‪،‬‬
‫بدليل أن شعيبا عليه السلم استأجر موسى ثماني أو عشر سنين‪ ،‬وجعلها مهرا لبنته‪.‬‬
‫ونلحظ أن السياق هنا لم يذكر شيئا عن الطعام‪ ،‬مع أن موسى عليه السلم كان جائعا ودعا ربه‪{:‬‬
‫َربّ إِنّي ِلمَآ أَنزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ }[القصص‪.]24 :‬‬
‫لكن يروي أهل السير أن شعيبا عليه السلم قدّم لموسى طعاما‪ ،‬وطلب منه أن يأكل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أستغفر ال‪ ،‬يعني‪ :‬أنْ آكل من طعام‪ .‬كأنه مقابل ما سقى للبنتين الغنم؛ لذلك قال‪ :‬إنّا أهل بيت ل‬
‫نبيع عمل الخرة بملء الرض ذهبا‪ ،‬فقال شعيب‪ُ :‬كلْ‪ ،‬فإنّا أهل بيت نطعم الطعام ونقري‬
‫الضيف‪ ،‬قال‪ :‬الن نأكل‪.‬‬
‫جلَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ‬

‫(‪)3208 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ستُ نَارًا‬
‫ل وَسَارَ بَِأهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَا ِنبِ الطّورِ نَارًا قَالَ لِأَهِْلهِ ا ْمكُثُوا إِنّي آَنَ ْ‬
‫جَ‬‫فََلمّا َقضَى مُوسَى الْأَ َ‬
‫ج ْذ َوةٍ مِنَ النّارِ َلعَّلكُمْ َتصْطَلُونَ (‪)29‬‬
‫َلعَلّي آَتِيكُمْ مِ ْنهَا ِبخَبَرٍ َأوْ َ‬

‫جلَ } [القصص‪ ]29 :‬أي‪ :‬الذي اتفق عليه مع شعيب عليه‬


‫قوله تعالى‪ { :‬فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ‬
‫السلم { وَسَارَ بَِأهْلِهِ } [القصص‪ ]29 :‬قلنا‪ :‬إن الهل تُطلق على الزوجة‪ ،‬وفي لغتنا العامية‬
‫نقول‪ :‬معي أهلي أو الجماعة ونقصد الزوجة؛ لذلك لن الزوجة تقضي لزوجها من المصالح ما ل‬
‫يقدر عليه إل جماعة‪ ،‬بل وتزيد على الجماعة بشيء خاص ل يؤديه عنها غيرها‪ ،‬وهو مسألة‬
‫المعاشرة؛ لذلك حَّلتْ محلّ جماعة‪.‬‬
‫ومعنى { آنَسَ } [القصص‪ ]29 :‬يعني‪ :‬أبصر ورأى أو أحسّ بشيء من الُنْس‪ { ،‬الطّورِ }‬
‫ستُ نَارا }‬
‫[القصص‪ ]29 :‬اسم الجبل { قَالَ لَهِْلهِ ا ْمكُثُواْ } [القصص‪ ]29 :‬انتظروا { إِنّي آ َن ْ‬
‫[القصص‪ ]29 :‬يخبرها بوجود النار‪ ،‬وهذا يعني أنها لم تَرَها كما رآها هو‪.‬‬
‫وهذا دليل على أنها ليست نارا مادية يُوقِدها بشر‪ ،‬وإل لستوى أهله معه في رؤيتها‪ ،‬فهذا ـ إذن‬
‫ـ أمر خاص به { ّلعَلّي آتِي ُكمْ مّ ْنهَا بِخَبَرٍ } [القصص‪ ]29 :‬يعني‪ :‬رجاءَ أنْ أجد مَنْ يخبرنا عن‬
‫الطريق‪ ،‬ويهدينا إلى أين نتوجه { َأوْ جَ ْذ َوةٍ مّنَ النّارِ َلعَّل ُكمْ َتصْطَلُونَ } [القصص‪.]29 :‬‬
‫الجذوة‪ :‬قطعة من نار متوهجة ليس لها َلهَب‪ ،‬ومعنى تصطلون أي‪ :‬تستدفئون بها‪ ،‬وفي موضع‬
‫شهَابٍ قَبَسٍ‪[} ...‬النمل‪ ]7 :‬يعني‪ :‬شعلة لها لسان ولهب‪ ،‬فمأربهم ‪ -‬إذن ‪ -‬على هذه‬
‫آخر قال‪ {:‬بِ ِ‬
‫خطَى في مكان ل يعرفونه‪ ،‬ثم جذوة نار‬
‫الحال أمران‪ :‬مَنْ يخبرهم بالطريق حيث تا َهتْ بهم ال ُ‬
‫يستدفئون بها من البرد‪.‬‬
‫وفي موضع آخر لهذه القصة لم يذكر قوله تعالى‪ { :‬قَالَ لَهِْلهِ } [القصص‪ ]29 :‬وهذا من المآخذ‬
‫التي يأخذها السطحيون على أسلوب القرآن‪ ،‬لكن بتأمل الموقف نرى أنه أخذ صورة المحاورة‬
‫بين موسى وأهله‪.‬‬
‫ضمّهما الظلم في مكان موحش‪ ،‬ل يعرفون به شيئا‪ ،‬ول يهتدون إلى طريق‪،‬‬
‫فزوجة وزوجها َ‬
‫والجو شديد البرودة‪ ،‬فمن الطبيعي حين يقول لها‪ :‬إني رأيت نارا سأذهب لقتبس منها أن تقول‬
‫ل أنت أو أضلّ أنا‪ ،‬فيقول لها { ا ْمكُثُواْ‪} ...‬‬
‫له‪ :‬كيف تتركني وحدي في هذا المكان؟ فربما تض ّ‬
‫[القصص‪ ]29 :‬إذن‪ :‬ل بُدّ أن هذه العبارة تكررتْ على صيغتين كما حكاها القرآن الكريم‪.‬‬
‫كذلك في‪ {:‬سَآتِي ُكمْ‪[} ...‬النمل‪ ]7 :‬وفي مرة أخرى { ّلعَلّي آتِيكُمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]29 :‬قالوا‪ :‬لنه‬
‫لما رأى النار قال‪ {:‬سَآتِيكُمْ‪[} ....‬النمل‪ ]7 :‬على وجه اليقين‪ ،‬لكن لما راجع نفسه‪ ،‬فربما طفئت‬
‫قبل أن يصل إليها استدراك‪ ،‬فقال { ّلعَلّي آتِي ُكمْ‪[ } ..‬القصص‪ ]29 :‬على سبيل رجاء غير المتيقن‪.‬‬
‫{ فََلمّآ أَتَاهَا نُو ِديَ مِن شَاطِىءِ ا ْلوَادِي‪.} ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3209 /‬‬

‫طئِ ا ْلوَادِ الْأَ ْيمَنِ فِي الْ ُب ْقعَةِ ا ْلمُبَا َركَةِ مِنَ الشّجَ َرةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنّي أَنَا اللّهُ‬
‫فََلمّا أَتَاهَا نُو ِديَ مِنْ شَا ِ‬
‫َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)30‬‬

‫ن قال‪ :‬من جانب‬


‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يريد أنْ يعطينا خريطة تفصيلية للمكان‪ ،‬فهناك مَ ْ‬
‫الطور‪ ،‬والجانب اليمن من الطور‪ .‬وهنا‪ { :‬مِن شَاطِىءِ ا ْلوَادِي الَ ْيمَنِ فِي الْ ُب ْقعَةِ ا ْلمُبَا َركَةِ مِنَ‬
‫الشّجَ َرةِ‪[ } ...‬القصص‪.]30 :‬‬
‫ومضمون النداء‪ { :‬يامُوسَىا إِنّي أَنَا اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [القصص‪ ]30 :‬سمع موسى هذا النداء‬
‫يأتيه من كل نواحيه‪ ،‬وينساب في كل اتجاه؛ لن ال تعالى ل تحيزه جهة؛ لذلك ل ت ُقلْ‪ :‬من أين‬
‫يأتي الصوت؟ وليس له إِ ْلفٌ بأن يخاطبه الرب ‪ -‬تبارك وتعالى‪.‬‬
‫ومع النداء يرى النار تشتعل في فرع من الشجرة‪ ،‬النار تزداد اشتعالً‪ ،‬والشجرة تزداد خضرة‪،‬‬
‫فل النار تحرق الشجرة بحرارتها‪ ،‬ول الشجرة تُطفيء النار برطوبتها‪ .‬فهي ‪ -‬إذن ‪ -‬مسألة‬
‫عجيبة يحَارُ فيها الفكر‪ ،‬فهل يستقبل ُكلّ هذه العجائب بسهولة أم ل بُدّ له من مراجعة؟‬
‫عصَاكَ فََلمّا رَآهَا َتهْتَزّ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَأَنْ َألْقِ َ‬

‫(‪)3210 /‬‬

‫خفْ إِ ّنكَ مِنَ‬


‫عصَاكَ فََلمّا َرآَهَا َتهْتَزّ كَأَ ّنهَا جَانّ وَلّى مُدْبِرًا وَلَمْ ُي َعقّبْ يَا مُوسَى َأقْ ِبلْ وَلَا تَ َ‬
‫وَأَنْ أَلْقِ َ‬
‫الَْآمِنِينَ (‪)31‬‬

‫وفي موضع آخر يسأله ربه ليُؤنسه‪َ {:‬ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه‪ ]17 :‬وقلْنا‪ :‬إن موسى ‪-‬‬
‫عليه السلم ‪ -‬أطال في هذا الموقف ليطيل مُدّة الُنْس بربه‪ ،‬فلما أحسّ أنه أسرف وأطال قال‪{:‬‬
‫وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا }[طه‪ ]18 :‬فأطنب أولً ليزداد أُنْسه بربه‪ ،‬ثم أوجز ليظل أدبه مع ربه‪.‬‬
‫عصَاكَ‪[ } ..‬القصص‪.]31 :‬‬
‫أما هنا فيأتي المر مباشرة ليُوظّف العصا‪ { :‬وَأَنْ أَ ْلقِ َ‬
‫ن وَلّىا مُدْبِرا وَلَمْ ُي َعقّبْ‪[ } ...‬القصص‪ ]31 :‬لنه رأى عجيبة‬
‫وقوله‪ { :‬فََلمّا رَآهَا َتهْتَزّ كَأَ ّنهَا جَآ ّ‬
‫خضْرة الشجرة‪ ،‬فكيف نُسلّم بانقلب العصا‬
‫أخرى أعجب مما سبق فلو سلّمنا باشتعال النار في ُ‬
‫جانا يسعى ويتحرك؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن تنقلبَ العصا الجافة إلى شجرة خضراء من جنس العصا‪ ،‬وتكون أيضا‬
‫وكان من الممكن أ ْ‬
‫معجزة‪ ،‬أما أنْ تتحول إلى جنس آخر‪ ،‬وتتعدّى النباتية إلى الحيوانية والحيوانية المتحركة المخيفة‪،‬‬
‫فهذا شيء عجيب غير مألوف‪.‬‬
‫وهنا كلم محذوف؛ لن القرآن الكريم مبنيّ على اليجاز‪ ،‬فالتقدير‪ :‬فألقى موسى عصاه { فََلمّا‬
‫ن وَلّىا مُدْبِرا‪[ } ...‬القصص‪ ]31 :‬ذلك ليترك للعقل فرصة الستنباط‪،‬‬
‫رَآهَا َتهْتَزّ كَأَ ّنهَا جَآ ّ‬
‫ويُحرّك الذّهْن لمتابعة الحداث‪.‬‬
‫صوّرَتْ العصا في هذه القصة بأنها‪ :‬جانّ‪ ،‬وثعبان‪ ،‬وحية‪ .‬وهي‬
‫والجانّ‪ ،‬قُلْنا هو فرخ الحية‪ ،‬وقد ُ‬
‫صورة ثلثة للشيء الواحد‪ ،‬فهي في خفّتِها جانّ‪ ،‬وفي طولها ثعبان‪ ،‬وفي غِلَظها حية‪.‬‬
‫ومعنى { وَلّىا مُدْبِرا‪[ } ..‬القصص‪ ]31 :‬يعني‪ :‬انصرف خائفا‪ { ،‬وَلَمْ ُي َع ّقبْ‪[ } ..‬القصص‪]31 :‬‬
‫خفْ‪[ } ...‬القصص‪ ]31 :‬يعني‪ :‬ارجع ول‬
‫ل َولَ تَ َ‬
‫لم يلتفت إلى الوراء‪ ،‬فناداه ربه‪ { :‬يامُوسَىا َأقْ ِب ْ‬
‫خفْ من شيء‪ ،‬ثم يعطيه القضية التي يجب أن تصاحبه في كل تحركاته في دعوته { إِ ّنكَ مِنَ‬
‫تَ‬
‫ن المِنِينَ }‬
‫المِنِينَ } [القصص‪ ]31 :‬فلم يقل ارجع فسوف أؤمنك في هذا الموقف إنما { إِ ّنكَ مِ َ‬
‫[القصص‪.]31 :‬‬
‫يعني‪ :‬هي قضية مستمرة ملزمة لك؛ لنك في مَعيّة ال‪ ،‬ومَنْ كان في معية ال ل يخاف‪ ،‬وإل‬
‫خ ْفتَ الن‪ ،‬فماذا ستفعل أمام فرعون‪.‬‬
‫لو ِ‬
‫وهكذا يعطي الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬لموسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬دُرْبة معه سبحانه‪ ،‬ودُرْبة حتى‬
‫يواجه فرعون وسَحرته والمل جميعا دُرْبة مع سبحانه‪ ،‬ودُرْبة حتى يواجه فرعون وسَحرته‬
‫والمل جميعا دون خوف ول َوجَل‪ ،‬وليكون على ثقة من نصر ال وتأييده في جولته الخيرة أمام‬
‫فرعون‪.‬‬
‫وقد انتفع موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬بكل هذه المواقف‪ ،‬وتعلّم من هذه العجائب التي رآها فزادتْه ثقةً‬
‫وثباتا؛ لذلك لما كاد فرعون أنْ يلحقَ بجنوده موسى وقومه‪ ،‬وقالوا‪ {:‬إِنّا َلمُدْ َركُونَ }[الشعراء‪]61 :‬‬
‫استعاد موسى عليه السلم قضية { إِ ّنكَ مِنَ المِنِينَ } [القصص‪ ]31 :‬فقال بملء فيه‪ {:‬قَالَ كَلّ إِنّ‬
‫َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء‪.]62 :‬‬
‫فحيثية الثقة عند موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬هي معيّة ال له‪ ،‬قالها موسى‪ ،‬ويمكن أنْ تكذب في‬
‫وقتها حالً‪ ،‬فهاجم البحر من أمامهم‪ ،‬وفرعون من خلفهم‪ ،‬لكنها ثقة مَنْ أمّنه ال‪ ،‬وجعله في معيّته‬
‫حفْظه‪.‬‬
‫وِ‬

‫وهذا المن قد كفله ال تعالى لجميع أنبيائه ورسله‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا‬
‫ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪.]173-171 :‬‬
‫خفْ إِنّي لَ يَخَافُ َل َديّ ا ْلمُرْسَلُونَ }[النمل‪.]10 :‬‬
‫وقال‪ {:‬يامُوسَىا لَ َت َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد ُقصّ هذا كله على نبينا محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فانتفع به ووثق في نصر ال‪ ،‬فلما قال له‬
‫الصّديق وهما في الغار‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬لو نظر أحدهم تحت قدميْه لرآنَا‪ ،‬قال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ " :‬يا أبا بكر‪ ،‬ما ظنّك باثنين‪ ،‬ال ثالثهما "‪.‬‬
‫وحكى القرآن قوله صلى ال عليه وسلم لصاحبه‪ {:‬لَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا‪[} ...‬التوبة‪ ]40 :‬وما‬
‫ُدمْنا في معيّة مَنْ ل تدركه البصار‪ ،‬فلن تدركنا البصار‪.‬‬
‫ثم ينقل الحق ‪ -‬تبارك ‪ -‬وتعالى ‪ -‬موسى عليه السلم إلى آية أخرى تضاف إلى معجزاته‪} :‬‬
‫اسُْلكْ َي َدكَ فِي جَيْ ِبكَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3211 /‬‬

‫حكَ مِنَ الرّ ْهبِ فَذَا ِنكَ بُرْهَانَانِ‬


‫ضمُمْ إِلَ ْيكَ جَنَا َ‬
‫اسُْلكْ َي َدكَ فِي جَيْ ِبكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُو ٍء وَا ْ‬
‫سقِينَ (‪)32‬‬
‫عوْنَ َومَلَئِهِ إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ‬
‫مِنْ رَ ّبكَ إِلَى فِرْ َ‬

‫معنى { اسُْلكْ َي َدكَ‪[ } ...‬القصص‪ ]32 :‬يعني‪ :‬أدخلها { فِي جَيْ ِبكَ‪[ } ..‬القصص‪ ]32 :‬الجيب‪:‬‬
‫حفْظ الموال في داخل‬
‫س ّموْها جَيْبا؛ لنهم كانوا يجعلون الجيوب مكان ِ‬
‫فتحة الثوب من أعلى‪ ،‬و َ‬
‫الثياب حتى ل تُسرق‪ ،‬فكان الواحد يُدخِل يده في قبّة الثوب لتصل إلى جيبه‪.‬‬
‫ونلحظ هنا دقة الداء القرآني { تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ‪[ } ...‬القصص‪ ]32 :‬ولم ي ُقلْ بصيغة المر‪:‬‬
‫وأخرجها كما قال { اسُْلكْ َي َدكَ‪[ } ...‬القصص‪ ]32 :‬وكأن العملية عملية آلية منضبطة بدقة‪،‬‬
‫فبمجرد أن يُدخِلها تخرج هي بيضاء‪ ،‬فكأن إرادته على جوارحه كانت في الدخال‪ ،‬أما في‬
‫الخراج فهي لقدرة ال‪.‬‬
‫وكلمة { بَ ْيضَآءَ‪[ } ...‬القصص‪ ]32 :‬أي‪ :‬مُنوّرة دون مرض‪ ،‬والبياض ل بُدّ أن يكون عجيبا في‬
‫موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬لنه كان أسمر اللون؛ لذلك قال { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ‪[ } ...‬القصص‪]32 :‬‬
‫حتى ل يظنوا به بَرصا مثلً‪ ،‬فهو بياض طبيعي ُمعْجِز‪.‬‬
‫حكَ مِنَ الرّ ْهبِ‪[ } ...‬القصص‪ ]32 :‬الجناحان في الطائر كاليدين‬
‫ضمُمْ إِلَ ْيكَ جَنَا َ‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَا ْ‬
‫ل يفعل كما يفعل الطائر حين يطير‪ ،‬فالمعنى‪ :‬اضمُمْ‬
‫في النسان‪ ،‬وإذا أراد النسان أن يعوم مث ً‬
‫إليك يديك يذهب عنك الخوف‪.‬‬
‫صدْرها‬
‫وهذه العملية يُصدّقها الواقع‪ ،‬فنرى المرأة حين ترى ولدها مثلً يسئ التصرف تضرب َ‬
‫وتولول‪ ،‬وسيدنا ابن عباس يقول‪ :‬كل من خاف يجب عليه أن يضرب صدره بيديه ليذهب عنه ما‬
‫يلقي‪ ،‬ولك أن تُجرّبها لتعلم صِدْق هذا الكلم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومعنى { َفذَا ِنكَ‪[ } ...‬القصص‪ ]32 :‬ذا‪ :‬اسم إشارة للمفرد ونقول‪ :‬ذان اسم إشارةت للمثنى‪،‬‬
‫والكاف للخطاب‪ ،‬والمراد‪ :‬الشارة لمعجزتي العصا واليد { بُ ْرهَانَانِ مِن رّ ّبكَ‪[ } ...‬القصص‪:‬‬
‫عوْنَ‪[ } ...‬القصص‪ ]32 :‬الرب الباطل‪ ،‬ول يمكن أنْ يجتمع الحق‬
‫‪ ]32‬أي ربك الحق { إِلَىا فِرْ َ‬
‫حقّ عَلَى‬
‫والباطل‪ ،‬ل بد للباطل أنْ يزهق؛ لنه ضعيف ل يصمد أمام قوة الحق{ َبلْ َنقْ ِذفُ بِالْ َ‬
‫طلِ فَ َي ْد َمغُهُ فَإِذَا ُهوَ زَاهِقٌ }[النبياء‪.]18 :‬‬
‫الْبَا ِ‬
‫ن َومَلَئِهِ‪[ } ...‬القصص‪]32 :‬‬
‫عوْ َ‬
‫والبرهان‪ :‬هو الحجة والدليل على صِدْق المبرهَن عليه { إِلَىا فِرْ َ‬
‫سقِينَ } [القصص‪]32 :‬‬
‫لن فرعون ادّعى اللوهية‪ ،‬وملؤه استخفهم فأطاعوه { إِ ّنهُمْ كَانُواْ َقوْما فَا ِ‬
‫سقِينَ } [القصص‪ ]32 :‬أي‪ :‬خارجين عن الطاعة من قولنا فسقتِ‬
‫أي‪ :‬جميعا فرعون والمل { فَا ِ‬
‫الرّطَبة يعني‪ :‬خرجتْ من قشرتها‪.‬‬
‫والمراد هنا الحجاب الديني الذي يُغلّف النسان‪ ،‬ويحميه ويعصمه أنْ يتأثر بعوامل المعصية‪ ،‬فإذا‬
‫سوْءَته‪.‬‬
‫انسلخ من هذا الثوب‪ ،‬ونزع هذا الحجاب‪ ،‬وتمرّد على المنهج تكشفتْ عورته‪ ،‬وبانتْ َ‬

‫(‪)3212 /‬‬

‫قَالَ َربّ إِنّي قَتَ ْلتُ مِ ْنهُمْ َنفْسًا فََأخَافُ أَنْ َيقْتُلُونِ (‪)33‬‬

‫فما زال موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬خائفا من مسألة قتْل القبطيّ؛ لذلك يطلب من ربه أنْ يؤيده‪،‬‬
‫ويعينه بأخيه‪.‬‬

‫(‪)3213 /‬‬

‫وَأَخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ مِنّي ِلسَانًا فَأَرْسِ ْلهُ َم ِعيَ ِردْءًا ُيصَ ّدقُنِي إِنّي أَخَافُ أَنْ ُي َكذّبُونِ (‪)34‬‬

‫معنى الرّدْء‪ :‬المعين‪ ،‬وعرفنا من قصة موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬وهو صغير في بيت فرعون أنه‬
‫أصابته لَثْغة في لسانه‪ ،‬فكان ثقيل النطق ل ينطلق لسانه؛ لذلك أراد أنْ يستعين بفصاحة أخيه‬
‫هارون ليؤيده‪ ،‬ويُظهر حجته‪ ،‬ويُزيل عنه الشبهات‪.‬‬
‫وكان بإمكان موسى أن يطلب من ربه أن يستعين بأخيه هارون‪ ،‬فيكون هارون من باطن موسى‪،‬‬
‫لكنه أحب لخيه أن يشاركه في رسالته‪ ،‬وأن ينال هذا الفضل وهذه ال ّرفْعة‪ ،‬فقال‪ { :‬فَأَرْسِ ْلهُ َم ِعيَ‬
‫رِدْءا ُيصَ ّدقُنِي‪[ } ...‬القصص‪ ]34 :‬يعني‪ :‬معينا لي حتى ل يُكذّبني الناس‪ ،‬فيكون رسولً مِثْلِي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بتكليف من ال‪.‬‬
‫لذلك نرى اليات تتحدث عن هارون على أنه رسول شريك لموسى في رسالته‪ ،‬يقول تعالى في‬
‫خشَىا }[طه‪-43 :‬‬
‫طغَىا * َفقُولَ لَهُ َقوْلً لّيّنا ّلعَلّهُ يَتَ َذكّرُ َأوْ يَ ْ‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫شأنهما‪ {:‬اذْهَبَآ إِلَىا فِرْ َ‬
‫‪.]44‬‬
‫فإذا نظرنا إلى وحدة الرسالة َفهُما رسول واحد‪ ،‬وهذا واضح في قوله تعالى‪:‬‬
‫عوْنَ َفقُول إِنّا َرسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء‪.]16 :‬‬
‫{ فَأْتِيَا فِرْ َ‬
‫سلَ إِلَ ْي ُكمْ َلمَجْنُونٌ }[الشعراء‪ ]27 :‬بصيغة المفرد‪.‬‬
‫وجاء في قول فرعون‪ {:‬إِنّ رَسُوَلكُمُ الّذِي أُرْ ِ‬
‫كما لو بعث رئيس الجمهورية رسالة مع اثنين أو ثلثة إلى نظيره في دولة أخرى‪ ،‬نُسمّي هؤلء‬
‫جميعا (رسول)؛ لن رسالتهم واحدة‪ ،‬فإذا نظرتَ إلى وحدة الرسالة من المرسل إلى المرسَل إليه‬
‫ت إلى كلّ على حِدَة فهما رسولن‪.‬‬
‫فهما واحد‪ ،‬وإذا نظر َ‬
‫وقد ورد أيضا‪ {:‬إِنّا رَسُولَ رَ ّبكَ‪[} ...‬طه‪ ]47 :‬فخاطبهم مرة بالمفرد‪ ،‬ومرة بالمثنى‪.‬‬
‫لذلك لما دعا موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬على قوم فرعون لما غرّتهم الموال‪ ،‬وفتنتهم زينة الحياة‬
‫ب الَلِيمَ }‬
‫طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْ ُددْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ‬
‫الدنيا قال{ رَبّنَا ا ْ‬
‫[يونس‪.]88 :‬‬
‫عوَ ُت ُكمَا‪[} ...‬يونس‪ ]89 :‬فنظر إلى‬
‫المتكلّم هنا موسى وحده‪ ،‬ومع ذلك قال تعالى‪ {:‬قَالَ قَدْ ُأجِي َبتْ دّ ْ‬
‫أنهما رسول واحد‪ ،‬فموسى يدعو وهارون يُؤمّن على دعائه‪ ،‬والمؤمّن أحد الدّاعِيَيْن‪.‬‬

‫(‪)3214 /‬‬

‫سلْطَانًا فَلَا َيصِلُونَ إِلَ ْي ُكمَا بِآَيَاتِنَا أَنْ ُتمَا َومَنِ اتّ َب َع ُكمَا ا ْلغَالِبُونَ‬
‫ج َعلُ َل ُكمَا ُ‬
‫ك وَ َن ْ‬
‫عضُ َدكَ بِأَخِي َ‬
‫شدّ َ‬
‫قَالَ سَنَ ُ‬
‫(‪)35‬‬

‫عضُ َدكَ بِأَخِيكَ‪[ } ...‬القصص‪ ]35 :‬لن موسى قال في موضع آخر‪{:‬‬
‫شدّ َ‬
‫أجابه ربه‪ { :‬قَالَ سَنَ ُ‬
‫عضُ َدكَ بَِأخِيكَ‪} ...‬‬
‫شدّ َ‬
‫شدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْ ِركْهُ فِي َأمْرِي }[طه‪ ]32-31 :‬وقوله تعالى { سَنَ ُ‬
‫اْ‬
‫[القصص‪ ]35 :‬تعبير بليغ يناسب المطلوب من موسى؛ لن النسان يزاول أغلب أعماله أو كلها‬
‫تقريبا بيديه‪ ،‬والعضلة الفاعلة في الحمل والحركة هي ال َعضْد‪.‬‬
‫لذلك حين نمدح شخصا بالقوة نقول‪ :‬فلن هذا (عضل)‪ ،‬وحين يصاب النسان والعياذ بال‬
‫ل ل يقدر على فعْل شيء‪ ،‬فالمعنى‪ :‬سنُقوّيك بقوة مادية‪.‬‬
‫بمرض ضمور العضلت تجده هزي ً‬
‫ج َعلُ َل ُكمَا سُ ْلطَانا‪[ } ...‬القصص‪ ]35 :‬هذه هي القوة المعنوية‪ ،‬وهي قوة الحجة والمنطق‬
‫{ وَنَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والدليل‪ ،‬فجمع لهما‪ :‬القوة المادية‪ ،‬والقوة المعنوية‪.‬‬
‫لذلك قال بعدها { فَلَ َيصِلُونَ إِلَ ْي ُكمَا‪[ } ...‬القصص‪ ]35 :‬أي‪ :‬نُنجيكم منهم‪ ،‬لكن معركة الحق‬
‫والباطل ل تنتهي بنجاة أهل الحق‪ ،‬إنما ل بُدّ من نُصرْتهم على أهل الباطل‪ ،‬وفَرْق بين رجل‬
‫يهاجمه عدوه فيغلق دونه الباب‪ ،‬وتنتهي المسألة عند هذا الحد‪ ،‬وبين مَنْ يجرؤ على عدوه ويغالبه‬
‫حتى ينتصر عليه‪ ،‬فيكون قد منع الضرر عن نفسه‪ ،‬وألحق الضرر بعدوه‪.‬‬
‫وهذا هو المراد بقوله تعالى‪ { :‬أَن ُتمَا َومَنِ اتّ َب َع ُكمَا ا ْلغَالِبُونَ } [القصص‪ ]35 :‬وهكذا أزال ال عنهم‬
‫سلبية الضرر‪ ،‬ومنحهم إيجابية الغلبة‪.‬‬
‫ونلحظ توسط كلمة { بِآيَاتِنَآ‪[ } ...‬القصص‪ ]35 :‬بين العبارتين‪ { :‬فَلَ َيصِلُونَ إِلَ ْي ُكمَا‪} ...‬‬
‫[القصص‪ ]35 :‬و { أَن ُتمَا َومَنِ اتّ َب َع ُكمَا ا ْلغَالِبُونَ } [القصص‪ ]35 :‬فهي إذن سبب فيهما‪ :‬فبآياتنا‬
‫ومعجزاتنا الباهرات ننجيكم‪ ،‬وبآياتنا ومعجزاتنا ننصركم‪ ،‬فهي كلمة واحدة تخدم المعنيين‪ ،‬وهذا‬
‫من وجوه بلغة القرآن الكريم‪.‬‬
‫س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ * وَالنّجْمُ وَالشّجَرُ‬
‫شمْ ُ‬
‫ومن عجائب ألفاظ القرآن كلمة (النجم) في قوله تعالى‪ {:‬ال ّ‬
‫سجُدَانِ }[الرحمن‪ ]6-5 :‬فجاءت النجم بين الشمس والقمر‪ ،‬وهما آيتان سماويتان‪ ،‬والشجر وهو‬
‫يَ ْ‬
‫من نبات الرض؛ لذلك صلحت النجم بمعنى نجم السماء‪ ،‬أو النجم بمعنى النبات الصغير الذي ل‬
‫ساقَ له‪ ،‬مثل العُشْب الذي ترعاه الماشية في الصحراء‪.‬‬
‫جوَادِيَثم يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫لذلك قال الشاعر‪:‬أُرَاعِي النّجْم في سَيْرى إليكُ ْم وَيرْعَاهُ مِنَ البَيْدا َ‬
‫{ فََلمّا جَآءَهُم مّوسَىا بِآيَاتِنَا‪.} ...‬‬

‫(‪)3215 /‬‬

‫س ِمعْنَا ِب َهذَا فِي آَبَائِنَا الَْأوّلِينَ (‬


‫سحْرٌ ُمفْتَرًى َومَا َ‬
‫فََلمّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيّنَاتٍ قَالُوا مَا َهذَا إِلّا ِ‬
‫‪)36‬‬

‫قوله تعالى‪ { :‬بِآيَاتِنَا بَيّنَاتٍ‪[ } ...‬القصص‪ ]36 :‬أي‪ :‬بمعجزاتنا واضحات باهرات‪ ،‬فلما ُبهِتوا أمام‬
‫آيات ال‪ ،‬وحاروا كيف يخرجون من هذا المأزق‪ ،‬فقد جاءهم موسى ليهدم عرش اللوهية الباطلة‬
‫س ِمعْنَا ِبهَـاذَا فِي آبَآئِنَا‬
‫عند فرعون‪ ،‬ولم يملكوا إل أنْ قالوا { مَا هَـاذَآ ِإلّ سِحْرٌ ّمفْتَرًى َومَا َ‬
‫لوّلِينَ } [القصص‪.]36 :‬‬
‫اَ‬
‫لذلك يُعلّم الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬موسى عليه السلم مُحَاجّة هؤلء‪ ،‬فكأنه قال له‪ :‬أنت مُقبل‬
‫ن قضيتَ‬
‫ن يغضبوا إ ْ‬
‫على أُنَاس متمسكين بالباطل‪ ،‬حريصين عليه‪ ،‬منتفعين من ورائه‪ ،‬ول ُبدّ أ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على باطلهم‪ ،‬وصرفتهم عنه إلى الحق‪ ،‬فقد أَِلفُوا الباطل‪ ،‬فإنْ أخرجتَهم مما أَلِفوا إلى ما ل يألفون‬
‫فل بُدّ لك من اللين وألّ تُهيّجهم حين تجمع عليهم قسوة تَرْك ما ألِفوه مع قسوة الدعوة إلى ما لم‬
‫يألفوه‪.‬‬
‫ويكفي أنك ستسلبهم سلطان اللوهية الذي عاشوا في ظله‪ ،‬فإنْ زِ ْدتَ في القسوة عليهم ولّ ْدتَ‬
‫عندهم لددا وعنادا في الخصومة‪.‬‬
‫لذلك قال تعالى‪َ {:‬فقُولَ لَهُ َق ْولً لّيّنا‪[} ...‬طه‪ ]44 :‬يعني‪ :‬اعذروه فيما يلقي حين تُسلَب منه‬
‫ألوهيته‪ ،‬ويصير واحدا من الرعية‪.‬‬
‫س ِمعْنَا ِبهَـاذَا فِي آبَآئِنَا‬
‫سحْرٌ ّمفْتَرًى َومَا َ‬
‫وإنْ قابلوك هم بالقسوة حين قالوا‪ { :‬مَا هَـاذَآ ِإلّ ِ‬
‫لوّلِينَ } [القصص‪ ]36 :‬فقابلهم أنت باللين‪.‬‬
‫اَ‬

‫(‪)3216 /‬‬

‫َوقَالَ مُوسَى رَبّي أَعْلَمُ ِبمَنْ جَاءَ بِا ْل ُهدَى مِنْ عِنْ ِد ِه َومَنْ َتكُونُ َلهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ (‬
‫‪)37‬‬

‫وتأمل هنا اللين وأدب الجدل عند موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬فلم يرد عليهم بالقسوة التي سمعها منهم‬
‫ولم يتهمهم كما اتهموه‪ ،‬إنما ردّ بهذا السلوب اللّبِق‪ ،‬وبهذا اليحاء‪ { :‬رَبّي أَعَْلمُ ِبمَن جَآءَ بِا ْلهُدَىا‬
‫مِنْ عِن ِد ِه َومَن َتكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ‪[ } ...‬القصص‪ ]37 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬إني جئت بالهدى‪.‬‬
‫ثم قال‪ { :‬إِنّ ُه لَ ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ } [القصص‪ ]37 :‬سواء كنا نحن أم أنتم‪ ،‬ولم ي ُقلْ‪ :‬أنتم الظالمون‪،‬‬
‫لقد أطلق القضية‪ ،‬وترك للعقول أنْ تميز‪.‬‬
‫ومعنى { عَاقِ َبةُ الدّارِ‪[ } ..‬القصص‪ ]37 :‬الدار يعني‪ :‬الدنيا وعاقبتها تعني‪ :‬الخرة‪.‬‬
‫وهذا الدب النبوي في الجدل والحوار رأيناه في سيرة سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم مع‬
‫كفار مكة والمعاندين له‪ ،‬وقد خاطبه ربه‪َ {:‬ولَ تُجَادِلُواْ أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ‪} ...‬‬
‫[العنكبوت‪.]46 :‬‬
‫والعلّة أنك ستُخرجهم من الباطل الذي أحبوه وأَلفوه إلى الحق الذي يكرهون‪ ،‬فل تجمع عليهم‬
‫شدتين‪ ،‬لذلك في أشد ما كان إيذاء الكفار لرسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقول‪ " :‬اللهم اهد‬
‫قومي فإنهم ل يعلمون "‪.‬‬
‫ورحم ال شوقي الذي صاغ هذه المسألة في عبارة موجزة فقال‪( :‬الّنصْح ثقيل فل ترسله جبلً‪،‬‬
‫ول تجعله جدلً) ف ُنصْحك معناه أنك تقول لمن أمامك‪ :‬أنت على خطأ وأنا على صواب‪ .‬فلكي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يسمع لك ل ُبدّ أنْ تستميله أولً إليك ليقبل منك‪ ،‬ول تجرح مشاعره فيزداد عنادا ومكابرة‪ ،‬وما‬
‫أشبه صاحب الخطأ بالمريض الذي يحتاج لمن يأخذ بيده‪ ،‬ويأسو مرضه‪.‬‬
‫وقد مثّلوا لذلك بشخص يغرق‪ ،‬وصاحبه على الشاطيء يلومه على نزوله البحر‪ ،‬وهو ل يجيد‬
‫السباحة‪ ،‬فقال له‪( :‬آسِ ثم انصح) انقذني أولً وأدركني‪ ،‬ثم ُقلْ ما شئتَ‪.‬‬
‫خفّة البيان‪.‬‬
‫وقال آخر‪ :‬الحقائق مُرّة‪ ،‬فاستعيروا لها ِ‬
‫أما إنْ يئس الناصح من استجابة المنصوح كما في قصة نبي ال نوح عليه السلم‪ ،‬والذي ظل‬
‫يدعو قومه ألف سنة إل خمسين عاما‪ ،‬فالمر يختلف‪ .‬فالنبي صبر على قومه علّهم يثوبون إلى‬
‫رشدهم‪ ،‬أو لعلهم ينجبون الذرية الصالحة التي تقبل ما رفضه الباء‪.‬‬
‫فما أطولَ صبر نوح على قومه‪ ،‬وما أعظمَ أدبه في الحوار معهم وهو يقول لهم وقد اتهموه‬
‫بالكذب والفتراء‪ُ {:‬قلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ َفعَلَيّ ِإجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا ُتجْ ِرمُونَ }[هود‪.]35 :‬‬
‫فنسب الجرام إلى نفسه ليُسوّي نفسه بهم لعلّه يستميل قلوبهم‪ ،‬لكن‪ ،‬لما كان في علم ال تعالى‬
‫ن قضى نوح في دعوتهم هذا‬
‫أنهم لن يؤمنوا‪ ،‬ول فائدة منهم‪ ،‬ول من أجيالهم المتعاقبة‪ ،‬وبعد أ ْ‬
‫العمر المديد أمره ال أن يدعو عليهم‪ ،‬حيث ل أملَ في هدايتهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫علَى الَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارا * إِ ّنكَ إِن َتذَرْهُمْ ُيضِلّواْ عِبَا َدكَ وَلَ يَلِدُواْ ِإلّ فَاجِرا‬
‫ب لَ تَذَرْ َ‬
‫{ ّر ّ‬
‫َكفّارا }[نوح‪.]27-26 :‬‬
‫عمّآ َأجْ َرمْنَا َولَ‬
‫ومحمد صلى ال عليه وسلم يقول في محاورته مع كفار مكة‪ {:‬قُل لّ تُسْأَلُونَ َ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ }[سبأ‪.]25 :‬‬
‫نُسَْألُ َ‬
‫سبحان ال ما هذا التواضع‪ ،‬وهذا الدب الجم في استمالة القوم‪ ،‬ينسب الجرام إلى نفسه وهو‬
‫رسول ال‪ ،‬وحينما يتكلم عنهم يقول{ َت ْعمَلُونَ }[سبأ‪ ]25 :‬فيُسمّي إجرامهم وإيذاءهم وكفرهم عملً‪،‬‬
‫ولو قال كما قال أخوه لكان تواضعا منه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫عوْنُ ياأَ ّيهَا الْملُ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وقَالَ فِرْ َ‬

‫(‪)3217 /‬‬

‫ج َعلْ لِي‬
‫عوْنُ يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ مَا عَِل ْمتُ َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فََأ ْوقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطّينِ فَا ْ‬
‫َوقَالَ فِرْ َ‬
‫صَرْحًا َلعَلّي أَطّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنّي لَأَظُنّهُ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ (‪)38‬‬

‫خشي فرعون من كلم موسى على قومه‪ ،‬وتصوّر أنه سيحدث لهم كما نقول (غسيل مخ) فأراد‬
‫عِل ْمتُ َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ‬
‫أن يُذكّرهم بألوهيته‪ ،‬وأنه لم يتأثر بما سمع من موسى { ياأَ ّيهَا الْملُ مَا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غَيْرِي‪[ } ...‬القصص‪ ]38 :‬يعني‪ :‬إياكم أنْ تصدّقوا كلم موسى‪ ،‬فأنا إلهكم‪ ،‬وليس لكم إله غيري‪.‬‬
‫جعَل لّي صَرْحا‬
‫ثم يؤكد هذه اللوهية فيقول لهامان وزيره‪ { :‬فََأ ْوقِدْ لِي ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَا ْ‬
‫ّلعَلّي أَطّلِعُ إِلَىا إِلَـاهِ مُوسَىا‪[ } ...‬القصص‪ ]38 :‬وفي موضع آخر قال‪ {:‬ياهَامَانُ ابْنِ لِي‬
‫سمَاوَاتِ فََأطّلِعَ ِإلَىا إِلَـاهِ مُوسَىا‪[} ...‬غافر‪.]37 - 36 :‬‬
‫صَرْحا ّلعَـلّي أَبْلُ ُغ الَسْبَابَ * َأسْبَابَ ال ّ‬
‫وكأنه يريد أن يُرضي قومه‪ ،‬فها هو يريد أنْ يبحث عن الله الذي يدّعيه موسى‪ ،‬وكأنه إنْ بنى‬
‫صرحا واعتله سيرى رب موسى‪ ،‬لكن هل بنى له هامان هذا الصرح؟ لم يَبْن له شيئا‪ ،‬مما يدل‬
‫على أن المسألة هَزْل في هَزْل‪ ،‬وضحك على القوم الذين استخفّهم ولعِب بعقولهم‪.‬‬
‫وإل‪ ،‬فما حاجتهم لحرق الطين ليصير هذه القوالب الحمراء التي نراها ونبني بها الن وعندهم‬
‫الحجارة والجرانيت التي ب َنوْا بها الهرامات وصنعوا منها التماثيل؟ وعملية حَرْق الطين تحتاج‬
‫خصْم‪ ،‬وتخدير المل من قومه‪.‬‬
‫إلى كثير من الوقت والجهد‪ ،‬إذن‪ :‬المسألة كسب الوقت من ال َ‬
‫وقوله‪ّ { :‬لعَلّي أَطِّلعُ إِلَىا إِلَـاهِ مُوسَىا‪[ } ...‬القصص‪ ]38 :‬وقبل أنْ يصل إلى حكم فيرى إله‬
‫موسى أو ل يراه‪ ،‬يبادر بالحكم على موسى { وَإِنّي لَظُنّهُ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } [القصص‪]38 :‬؛‬
‫ليصرف مله عن كلم موسى‪.‬‬

‫(‪)3218 /‬‬

‫جعُونَ (‪)39‬‬
‫ق وَظَنّوا أَ ّن ُهمْ إِلَيْنَا لَا يُ ْر َ‬
‫وَاسْ َتكْبَرَ ُه َو وَجُنُو ُدهُ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَ ّ‬

‫أي‪ :‬تكبروا دون حق‪ ،‬وبغير مبررات للكِبْر‪ ،‬فليس لديهم هذه المبررات؛ لن النسان يتكبّر حين‬
‫تكون عظمَته ذاتية فيه‪ ،‬أمّا العظمة المخلوقة لك من الغير فل تتكبر بها‪ ،‬مَنْ يتكبر يتكبّر بشيء‬
‫ذاتي فيه‪ ،‬كما يقولون (اللي يخرز يخرز على وركه)‪.‬‬
‫وكذلك في دواعي الكِبْر الخرى‪ :‬الغِنَى‪ ،‬القوة‪ ،‬الجاه‪ ،‬والسلطان‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫لذلك يكره ال تعالى المتكبرين‪ ،‬ويقول في الحديث القدسي‪ " :‬الكبرياء ردائي‪ ،‬والعظمة إزاري‪،‬‬
‫فمن نازعني واحدا منهما أدخلته جهنم "‪.‬‬
‫والكبرياء والعظمة صفة جلل وجمال ل تعالى تجعل الجميع أمام كبرياء ال سواء‪ ،‬فل يتكبّر‬
‫أحد على أحد (ونرعى جميعا مساوي) في ظل كبرياء ال الذي يحمي تواضعنا‪ ،‬فلو تكبّر أحدنا‬
‫على الخر لتكبّر بشيء موهوب له‪ ،‬ليس ذاتيا فيه؛ لذلك ينتصر ال لمن تكبّرت عليه‪ ،‬ويجعله‬
‫أعلى منك‪ ،‬وعندنا في الرياف يقولون‪( :‬اللي يرمي أخاه بعيب لن يموت حتى يراه في نفسه)‪.‬‬
‫والمتكبّر في الحقيقة ناقصُ اليمان؛ لنه ل يتكبّر إل حين يرى الناس جميعا دونه‪ ،‬ولو أنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫استحضر كبرياء خالقه لستحيا أنْ يتكبّر أمامه‪ ،‬وهكذا كان استكبار فرعون وجنوده في الرض‬
‫بغير حق‪.‬‬
‫أما إنْ كان الستكبار من أجل حماية الضعيف ليعيش في ظلله فهو استكبار بحق؛ لذلك نقول‬
‫حين يصف الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬نفسه بأنه العظيم المتكبّر نقول‪ :‬هذا حق‪ .‬لنه حماية لنا‬
‫جميعا من أنْ يتكبّر بعضنا على بعض‪.‬‬
‫جعُونَ } [القصص‪ ]39 :‬فاستكبارهم في الرض جاء نتيجة‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ إِلَيْنَا لَ يُ ْر َ‬
‫ظنهم بأنهم لن يرجعوا إلى ال‪ ،‬وأنه تعالى خلقهم ورزقهم‪ ،‬ثم تفلّتوا منه‪ ،‬ولن يعودوا إليه‪ ،‬لكن‬
‫هيهات‪ ،‬ل ُبدّ ‪ -‬كما نقول ‪ -‬لهم رَجْعة‪.‬‬

‫(‪)3219 /‬‬

‫خذْنَاهُ وَجُنُو َدهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّاِلمِينَ (‪)40‬‬
‫فَأَ َ‬

‫{ فََأخَذْنَا ُه وَجُنُو َدهُ فَنَبَذْنَا ُهمْ فِي الْيَمّ فَانظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الظّاِلمِينَ }‬
‫كأن الحق سبحانه لم يُمهلهم إلى أن يعودوا إليه يوم القيامة‪ ،‬إنما عاجلهم بالعذاب في الدنيا قبل‬
‫خذْنَا ُه وَجُنُو َدهُ‪[ } ..‬القصص‪ ]40 :‬أي‪ :‬جميعا في قبضة واحدة‪ ،‬التابع والمتبوع‬
‫عذاب الخرة { فَأَ َ‬
‫{ فَنَ َبذْنَاهُمْ فِي الْ َيمّ } [القصص‪ ]40 :‬ألقينا بهم في البحر‪ ،‬وهذا الخذ الذي يشمل الجميع في قبضة‬
‫واحدة يدلّ على قدرة الخذ‪ ،‬وهذه مسألة ل يقدر عليها إل ال القوي العزيز‪.‬‬
‫خ َذهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود‪.]102 :‬‬
‫كما قال سبحانه‪َ {:‬وكَذاِلكَ َأخْذُ رَ ّبكَ ِإذَا َأخَذَ ا ْلقُرَىا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ إِنّ أَ ْ‬
‫خذُواْ مَآ‬
‫ولم يُوصَف أخْذ النسان بالقوة إل في قوله تعالى يحثّنا على أنْ نأخذ مناهج الخير بقوة‪ُ {:‬‬
‫ءَاتَيْنَاكُم ِبقُ ّوةٍ‪[} ...‬البقرة‪.]93 :‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬فَانظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الظّاِلمِينَ } [القصص‪ ]40 :‬أي‪ :‬نهايتهم وقد جاءت‬
‫عجيبة من عجائب الزمن وآية من آيات ال‪ ،‬فالبحر والماء جُنْد من جنود ال‪ ،‬تنصر الحق وتهزم‬
‫الباطل‪ ،‬وقد ذكرنا كيف أنجى ال موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬وأهلك فرعون بالشيء الواحد حين‬
‫أمر ال موسى أنْ يضرب بعصاه البحر‪ ،‬فصار كل فِرْق كالطود العظيم‪.‬‬
‫فلما أنْ جازه موسى وقومه إلى الناحية الخرى أراد أنْ يضرب البحر مرة أخرى؛ ليعود الماء‬
‫إلى سيولته واستطراقه فيصُحّح ال له ويأمره أنْ يدَعَهُ على حاله‪ ،‬فالحق ‪ -‬تبارك ‪ -‬وتعالى ‪-‬‬
‫سمَ ُع وَأَرَىا }[طه‪.]46 :‬‬
‫يتابع نبيه موسى خُطْوة بخطوة كما قال له‪ {:‬إِنّنِي َم َع ُكمَآ أَ ْ‬
‫وحاشا ل أن يُكلّفه بأمر ثم يتركه‪ ،‬ولما رأى فرعون الطريق اليابس أمامه عبر بجنوده‪ ،‬فأطبقه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال عليهم‪ ،‬فصاروا آية وعبرة‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬فَالْ َيوْمَ نُنَجّيكَ بِ َبدَ ِنكَ لِ َتكُونَ ِلمَنْ خَ ْل َفكَ آيَةً‪} ...‬‬
‫[يونس‪.]92 :‬‬
‫جتْ موسى من الغرق‪ ،‬وقد ألقتْه أمه بيديها في الماء‪ ،‬وأغرقتْ فرعون‪.‬‬
‫وتأمّلْ قدرة ال التي أن َ‬

‫(‪)3220 /‬‬

‫جعَلْنَاهُمْ أَ ِئمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ ا ْلقِيَامَةِ لَا يُ ْنصَرُونَ (‪)41‬‬
‫وَ َ‬

‫أئمة‪ :‬جمع إمام‪ ،‬وهو مَنْ يُؤتَم به‪ ،‬والمأموم أسيرُ إمامه‪ ،‬فلو كنا في الصلة ل نركع حتى يركع‪،‬‬
‫ول نرفع حتى يرفع‪ ،‬فمتابعتنا له واجبة‪ ،‬فإنْ أخطأ وجب على المأموم أنْ يُنبّهه وأن يُذكّره يقول‬
‫له‪ :‬سبحان ال‪ ،‬تنبه لخطأ عندك‪ ،‬إذن‪ :‬نحن مأمومون له في الحق فقط‪ ،‬فإنْ أخطأ عدّلْنا له‪.‬‬
‫والمام أُسْوة وقدوة للمأمومين في الخير ومنهج الحق‪ ،‬كما قال تعالى في حَقّ نبيه إبراهيم عليه‬
‫عُلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما‪[} ...‬البقرة‪.]124 :‬‬
‫السلم‪ {:‬وَإِذِ ابْ َتلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَا ِ‬
‫ل َومِن ذُرّيّتِي‪} ...‬‬
‫وعندها أراد إبراهيم عليه السلم أنْ تظلّ المامة في ذريته من بعده‪ ،‬فقال{ قَا َ‬
‫عهْدِي‬
‫ل لَ يَنَالُ َ‬
‫[البقرة‪ ]124 :‬فصحّح ال له وأعلمه أن المامة ل تكون إل في أهل الخير{ قَا َ‬
‫الظّاِلمِينَ }[البقرة‪.]124 :‬‬
‫لذلك لما دعا نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ربه‪َ {:‬ربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي‪[} ...‬هود‪ ]45 :‬صحح ال له{‬
‫ع َملٌ غَيْرُ صَالِحٍ‪[} ...‬هود‪.]46 :‬‬
‫إِنّهُ لَ ْيسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ‬
‫إذن‪ :‬أهلية النبوة وأهلية المامة عمل وسلوك ل قرابة ول نَسَب‪.‬‬
‫جعَلْنَا ُهمْ أَ ِئمّةً َيدْعُونَ إِلَى النّارِ‪} ...‬‬
‫وقد تكون المامة في الشر‪ ،‬كهذه التي نتحدث عنها‪ { :‬وَ َ‬
‫[القصص‪ ]41 :‬فهم أُسْوة سيئة وقدوة للشر‪ ،‬وقد جاء في الحديث الشريف‪ " :‬من سَنّ سُنّة حسنة‬
‫ن عمل‬
‫فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة‪ ،‬ومَنْ سنّ سُنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَ ْ‬
‫بها إلى يوم القيامة "‪.‬‬
‫حمِلُواْ َأوْزَارَهُمْ كَامِلَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ‬
‫ويقول تعالى في أصحاب القدوة السيئة‪ {:‬لِ َي ْ‬
‫ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِلْمٍ‪[} ...‬النحل‪.]25 :‬‬
‫فكان فرعون وملؤه أسوة في الشر‪ ،‬وأسوة في الضلل والرهاب والجبروت‪ ،‬وكذلك سيكونون‬
‫في الخرة أئمة وقادة‪ ،‬لكن إلى النار { وَ َيوْمَ ا ْلقِيامَ ِة لَ يُنصَرُونَ } [القصص‪.]41 :‬‬

‫(‪)3221 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَأَتْ َبعْنَاهُمْ فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َلعْ َن ًة وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ هُمْ مِنَ ا ْلمَقْبُوحِينَ (‪)42‬‬

‫قوله تعالى‪ { :‬وَأَتْ َبعْنَاهُم‪[ } ...‬القصص‪ ]42 :‬يعني‪ :‬جعلنا من خلفهم‪ { :‬فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َلعْنَةً‪} ...‬‬
‫[القصص‪ ]42 :‬فكل مَنْ ذكرهم في الدنيا يقول‪ :‬لعنهم ال‪ ،‬فعليهم لعنة دائمة باقية ما بقيتْ الدنيا‪،‬‬
‫وهذا اللعْن والطرد من رحمة ال ليس جزاء أعمالهم‪ ،‬إنما هو مقدمة لعذاب بَاقٍ وخالد في‬
‫عذَابا دُونَ ذَِلكَ‪[} ...‬الطور‪.]47 :‬‬
‫الخرة‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَإِنّ ِللّذِينَ ظََلمُواْ َ‬
‫{ وَ َيوْ َم القِيَامَةِ ُهمْ مّنَ ا ْل َمقْبُوحِينَ } [القصص‪ ]42 :‬مادة‪ :‬قبح‪ ،‬تقول للشرير‪ :‬قبّحك ال‪ ،‬أي‪:‬‬
‫حتُ الدّمل أي‪ :‬فتحته ونكأته قبل ُنضْجه‬
‫طردك وأبعدك عن الخير‪ .‬ولها استعمال آخر‪ :‬تقول‪ :‬قَ َب ْ‬
‫فيخرج منه الدم مع الصديد ويشوه مكانه‪.‬‬
‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن ال ّدمّل إذا تركته للصيدلية الربانية في جسمك حتى يندمل بمناعة الجسم‬
‫ومقاومته تجده ل يترك أثرا‪ ،‬أما إنْ تدخلت فيه بالدوية والجراحة‪ ،‬فل بُدّ أنْ يترك أثرا‪ ،‬ويُشوّه‬
‫المكان‪.‬‬
‫ويكون المعنى إذن‪ { :‬هُمْ مّنَ ا ْل َمقْبُوحِينَ } [القصص‪ ]42 :‬أي‪ :‬الذين تشوّ َهتْ وجوههم بعد نعومة‬
‫الجلد ونضارته‪ ،‬وقد عبّر القرآن عن هذا التشويه بصور مختلفة‪.‬‬
‫يقول تعالى‪َ {:‬ووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ عَلَ ْيهَا غَبَ َرةٌ * تَرْ َه ُقهَا قَتَ َرةٌ }[عبس‪.]41-40 :‬‬
‫سوَ ّد ُوجُوهٌ‪[} ...‬آل عمران‪.]106 :‬‬
‫ض وُجُو ٌه وَتَ ْ‬
‫ويقول سبحانه{ َيوْمَ تَبْ َي ّ‬
‫ويقول‪ {:‬وَنَحْشُرُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ َي ْومِئِذٍ زُرْقا }[طه‪.]102 :‬‬
‫ومعلوم أن زُرْقة الجسم ل تأتي إل نتيجة ضربات شديدة وكدَمات تُحدِث تفاعلت ضارة تحت‬
‫الجلد‪ ،‬فتُسبّب زُرْقته‪ ،‬وكذلك زُرْقة العين‪ ،‬ومن أمراض العيون المياه الزرقاء‪ ،‬وهي أخطر من‬
‫البيضاء‪.‬‬
‫لذلك يقول الشاعر‪:‬وَللْبخيلِ عَلَى َأمْواله عَِللٌ زُرْق العُيونِ عَليْها َأوْجُه سُودُلنه حريص على‬
‫أمواله ول يريد إنفاقها‪.‬‬
‫ويُستخدم اللون الزرق للتبشيع والتخويف‪ ،‬وقد كانوا في العصور الوسطى يَطْلُون وجوه الجنود‬
‫باللون الزرق لخافة العداء وإرهابهم‪ ،‬وتعارف الناس أنه َلوْن الشيطان؛ لذلك نقول في لغتنا‬
‫العامية (العفاريت الزرق) ونقول في الذم‪( :‬فلن نابه أزرق)‪.‬‬
‫ويقول الشاعر‪:‬أَ َيقْتلُنِي والمْشرَفيّ مُضاجِعي ومَسْنُونَة زُرْقٌ كأنْيابِ أغْوالِأما السواد فيقُصد به‬
‫الوجه المشوّه المنفّر‪ ،‬وإل فالسواد ل ُيذَم في ذاته كلون‪ ،‬وكثيرا ما نرى صاحب البشرة السوداء‬
‫حسْن ل لونَ له‪.‬‬
‫يُشع جاذبية وبشاشة‪ ،‬بحيث ل تزهد في النظر إليه‪ ،‬ومعلوم أن ال ُ‬
‫شعّهما في جميع الصور‪ .‬وقد ترى للون السود في بعض‬
‫حسْن والبشاشة ويُ ِ‬
‫وال تعالى يَهبُ ال ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الوجوه أَسْرا وإشراقا‪ ،‬وترى صاحب اللون البيض كالحا‪ ،‬ل حيوية فيه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3222 /‬‬

‫ح َمةً َلعَّلهُمْ‬
‫س وَهُدًى وَرَ ْ‬
‫وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ مِنْ َبعْدِ مَا أَهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ الْأُولَى َبصَائِرَ لِلنّا ِ‬
‫يَتَ َذكّرُونَ (‪)43‬‬

‫قوله تعالى‪ { :‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ مِن َبعْدِ مَآ َأهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ الُولَىا‪[ } ...‬القصص‪ ]43 :‬قوم‬
‫نوح وعاد وثمود وغيرهم‪ ،‬يعني‪ :‬أن موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬جاء بَرْزخا وواسطة بين رسل‬
‫كذّبتهم أممهم‪ ،‬فأخذهم ال بالعذاب‪ ،‬ولم يقاتل الرسل قبل موسى‪ ،‬إنما كان الرسول منهم يُبلّغ‬
‫الرسالة ويُظهر الحجة‪ ،‬وكانوا هم يقترحون اليات‪ ،‬فإنْ أجابهم ال وكذّبوا أوقع ال بهم العذاب‪.‬‬
‫كما قال سبحانه‪:‬‬
‫سفْنَا بِهِ‬
‫{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَ ْرسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ الصّيْحَ ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ خَ َ‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ }[العنكبوت‪.]40 :‬‬
‫الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َم ُه ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬
‫وهذا كله عذاب استئصال‪ ،‬ل يُبقي من المكذبين أحدا‪.‬‬
‫ثم جاء موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬برزخا بين عذاب الستئصال من ال تعالى للمكذّبين دون تدخّل‬
‫من الرسل في مسألة العذاب‪ ،‬وبين رسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حيث أمره ال بقتال الكفار‬
‫والمكذّبين دون أن ينزل بهم عذاب الستئصال‪ ،‬ذلك لن رسالته عامة في الزمان وفي المكان إلى‬
‫أن تقوم الساعة‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم مأمون على حياة الخَلْق أجمعين‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى في مسألة القتال في عهد موسى عليه السلم‪ {:‬أَلَمْ تَرَ ِإلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي ِإسْرَائِيلَ‬
‫مِن َبعْدِ مُوسَى‪[} ...‬البقرة‪ ]246 :‬إنما في عهده وعصره{ إِذْ قَالُواْ لِنَ ِبيّ ّلهُمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَلِكا ّنقَا ِتلْ‬
‫فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ َهلْ عَسَيْ ُتمْ إِن كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ َألّ ُتقَاتِلُواْ قَالُو ْا َومَا لَنَآ َألّ ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫َوقَدْ أُخْ ِرجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْاْ ِإلّ قَلِيلً مّ ْنهُمْ }[البقرة‪.]246 :‬‬
‫وقد ورد أن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " ما عذّب ال قوما ول قرنا‪ ،‬ول أمة‪ ،‬ول‬
‫أهلَ قرية منذ أنزل ال التوراة على موسى "‪.‬‬
‫كأن عذاب الستئصال انتهى بنزول التوراة‪ ،‬ولم يستثْن من ذلك إل قرية واحدة هي (أيلة) التي‬
‫بين مدين والردن‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يعطينا أول تجربة لمهمة‪ ،‬وتدخّل الرسل في قصة موسى عليه السلم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وروُى عن أبي أمامة أنه قال‪ :‬وإني لتحت َرحْل رسول ال ‪ -‬يعني‪ :‬ممسكا برحْل ناقة الرسول ‪-‬‬
‫يوم الفتح‪ ،‬فسمعته يقول كلما حسنا جميلً‪ ،‬وقال فيما قال‪ " :‬أيّما رجل من أهل الكتاب يؤمن بي‬
‫فَلَهُ أجران ‪ -‬أي‪ :‬أجر إيمانه بموسى‪ ،‬أو بعيسى‪ ،‬وأجر إيمانه بي ‪ -‬له ما لنا وعليه ما علينا "‪.‬‬
‫وهذا يعني أن القتال لم يكُنْ قد كُتِب عليهم‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ‪[ } ...‬القصص‪ ]43 :‬أي التوراة‪ { :‬مِن َبعْدِ مَآ أَهَْلكْنَا‬
‫ا ْلقُرُونَ الُولَىا‪[ } ..‬القصص‪ ]43 :‬أي‪ :‬بدون تدخّل النبياء { َبصَآئِرَ لِلنّاسِ‪.‬‬

‫‪[ { ..‬القصص‪ ]43 :‬أي‪ :‬آتيناه الكتاب ليكون نورا يهديهم‪ ،‬وبصيرة ترشدهم‪ ،‬وتُنير قلوبهم }‬
‫حمَةً‪[ { ...‬القصص‪ ]43 :‬هدى إلى طريق الخير ورحمة تعصم المجتمع من فساد‬
‫وَهُدًى وَرَ ْ‬
‫المناهج الباطلة‪ ،‬وتعصمهم أن يكونوا من أهل النار } ّلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ { [القصص‪.]43 :‬‬
‫جتَ لمن يُذكرك بها‪ ،‬فهي ليست جديدة عليك‪،‬‬
‫والتذكر يعني‪ :‬أنه كان لديك قضية‪ ،‬ثم نسيتها فاحت ْ‬
‫هذه القضية هي الفطرة‪:‬‬
‫{ ِفطْ َرتَ اللّهِ الّتِي َفطَرَ النّاسَ عَلَ ْيهَا‪[} ...‬الروم‪.]30 :‬‬
‫لكن هذه الفطرة السليمة تنتابها شهوات النفس ورغباتها‪ ،‬وتطرأ عليها الغفلة والنسيان؛ لذلك يذكّر‬
‫الحق سبحانه الناس بما غفلوا عنه من منهج الحق‪ ،‬إذن‪ :‬في الفطرة السليمة المركوزة في كل‬
‫نفس مُقوّمات اليمان والهداية‪ ،‬لول غفلة النسان‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3223 /‬‬

‫َومَا كُ ْنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْبِيّ ِإذْ َقضَيْنَا إِلَى مُوسَى الَْأمْ َر َومَا كُ ْنتَ مِنَ الشّا ِهدِينَ (‪)44‬‬

‫قوله‪ِ { :‬بجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ‪[ } ...‬القصص‪ ]44 :‬أي‪ :‬الجانب الغربي من البقعة المباركة من الشجرة‪،‬‬
‫لمْرَ‪[ } ...‬القصص‪]44 :‬‬
‫وهو المكان الذي كلّم ال فيه موسى وأرسله { إِذْ َقضَيْنَآ ِإلَىا مُوسَى ا َ‬
‫يعني‪ :‬أمرناه به أمرا مقطوعا به‪ ،‬وهو الرسالة‪.‬‬
‫{ َومَا كنتَ مِنَ الشّا ِهدِينَ } [القصص‪.]44 :‬‬
‫ولك أنْ تسأل‪ :‬إذا لم يكُنْ رسول ال صلى ال عليه وسلم شاهدا لهذه الحداث‪ ،‬فمَنْ أخبره بها؟‬
‫نقول‪ :‬أخبره ال تعالى‪ ،‬فإنْ قُلْت فربما أخبره بها شخص آخر‪ ،‬أو قرأها في كتب السابقين‪.‬‬
‫نقول‪ :‬لقد شهد له قومه بأنه أُميّ‪ ،‬ل يقرأ ول يكتب‪ ،‬ولم ُيعْلَم عنه أنه جلس في يوم من اليام إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مُعلّم‪ ،‬كذلك كانوا يعرفون سيرته في حياته وسفرياته ورحلته‪ ،‬ولم يكُنْ فيها شيء من هذه‬
‫الحداث‪.‬‬
‫لذلك لما اتهموا رسول ال أنه جلس إلى معلم‪ ،‬وقالوا‪ :‬كما حكى القرآن‪ {:‬وَلَقَدْ َنعَْلمُ أَ ّنهُمْ َيقُولُونَ‬
‫ج ِميّ‬
‫إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ‪[} ...‬النحل‪ ]103 :‬ردّ القرآن عليهم في بساطة‪ {:‬لّسَانُ الّذِي يُ ْلحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْ َ‬
‫وَهَـاذَا ِلسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل‪.]103 :‬‬
‫وكانوا يقصدون بذلك حدادين روميين تردد عليهما رسول ال‪ .‬وكذلك كانت المة التي ُبعِث فيها‬
‫رسول ال أمة أمية‪ ،‬فمّمن تعلّم إذن؟‬
‫وإذا كانت المية صفة مذمومة ننفر منها‪ ،‬حتى أن أحد سطحيي الفهم يقول‪ :‬ل تقولوا لرسول ال‬
‫أميّ ونقول‪ :‬إن كانت المية مَذمّة‪ ،‬فهي ميزة في حق رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لن المي‬
‫يعني المنسوب إلى الم وما يزال على طبيعته ل يعرف شيئا‪.‬‬
‫جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا‪[} ...‬النحل‪ ]78 :‬ونقول في‬
‫واقرأ قوله تعالى‪ {:‬وَاللّهُ َأخْرَ َ‬
‫المثل (فلن زي ما ولدتْه أمه) يعني‪ :‬ل يعرف شيئا‪ ،‬وهذه مذمة في عامة البشر؛ لنه لم يتعلم‬
‫ممّنْ حوله‪ ،‬ولم يستفِدْ من خبرات الحياة‪.‬‬
‫أما المية عند رسول ال فشرف؛ لن قصارى المتعلّم في أيّ أمة من المم أنْ يأخذ بطرفٍ من‬
‫العلم من أمثاله من البشر‪ ،‬فيكون مدينا له بهذا العلم‪ ،‬أمّا رسول ال فقد تعلم من العليم العلى‪ ،‬فلم‬
‫يتأثر في علمه بأحد‪ ،‬وليس لحد فضل عليه ول منة‪.‬‬
‫لذلك تعجب الدنيا كلها من أمة العرب‪ ،‬هذه المة المية المتبدية التي ل يجمعها قانون‪ ،‬إنما لكل‬
‫قبيلة فيها قانونها الخاص‪ ،‬يعجبون‪ :‬كيف سادتْ هذه المةُ العالمَ‪ ،‬وغزتْ حضارتهم الدنيا في‬
‫نصف قرن من الزمان‪.‬‬
‫ولو أن العرب أمة حضارة لقالوا عن السلم قفزة حضارية‪ ،‬كما قالوا بعد انتصارنا في أكتوبر‪،‬‬
‫وبعد أن رأى رجالنا أشياء غير عادية تقاتل معهم‪ ،‬حتى أنهم لم يشكّوا في أنها تأييد من ال تعالى‬
‫لجيش بدأ المعركة بصيحة ال أكبر‪ ،‬لكن ثالث أيام المعركة طلع علينا في جرائدنا من يقول‪ :‬إنه‬
‫نصر حضاري‪ ،‬وفي نفس اليوم فُتحت الثغرة في (الدفرسوار)‪.‬‬

‫وعجيب أمر هؤلء من أبناء جلدتنا؛ لماذا تردّون فضل ال وتنكرون تأييده لكم؟ وماذا يضايقكم‬
‫في نصر جاء بمدد من عند ال؟ ألم تقرأوا‪َ {:‬ومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ‪[} ...‬المدثر‪ ]31 :‬وبعد‬
‫أن فُتحت الثغرة ماذا قدمتم لسدّها‪ ،‬تعالوا بفكركم الحضاري وأخرجونامن هذا المأزق‪.‬‬
‫وإذا َث ُقلَ على هؤلء العتراف بجنود ال بين صفوفهم‪ ،‬أليس المهندس الذي اهتدى إلى فكرة‬
‫استخدام ضغط الماء في فتح الطريق في (بارليف) لينفذ منه الجنود‪ ،‬أليس من جنود ال؟‬
‫لقد أخذتْ منّا هذه الفكرة كثيرا من الوقت والجهد دون فائدة‪ ،‬إلى أن جاء هذا الرجل الذي نوّر ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بصيرته وهداه إلى هذه العملية التي لم تَ ْأتِ اعتباطا‪ ،‬إنما نتيجة إيمان بال وقُرْب منه سبحانه‬
‫وتضرّع إليه‪ ،‬فجزاه ال عن مصر وعن السلم خيرا‪.‬‬
‫ومن العجيب‪ ،‬بعد نهاية الحرب أنْ يُجروا للحرب بروفة تمثيلية‪ ،‬فلم يستطيعوا اجتياز خط‬
‫بارليف‪ ،‬وهم في حال أمْن وسلم‪.‬‬
‫نعود إلى قضية المية ونقول لمن ينادي بمحو المية عند الناس بأن يعلمهم من علم البشر؛ ليتكم‬
‫قُلْتُم نمحو المية عندهم لنعلمهم عن ال‪.‬‬
‫لمْرَ َومَا كنتَ مِنَ الشّاهِدِينَ {‬
‫إذن‪ :‬فقوله تعالى‪َ } :‬ومَا كُنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ‬
‫[القصص‪ ]44 :‬يعني‪ :‬ما رأى محمد هذه الحداث ول حضرها‪ ،‬ومنه قوله تعالى عن شهر‬
‫صمْهُ‪[} ...‬البقرة‪ ]185 :‬يعني‪ :‬حضره‪.‬‬
‫شهْرَ فَلْ َي ُ‬
‫شهِدَ مِن ُكمُ ال ّ‬
‫رمضان‪َ {:‬فمَن َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََلكِنّآ أَنشَأْنَا قُرُونا فَتَطَا َولَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3224 /‬‬

‫وََلكِنّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَا َولَ عَلَ ْيهِمُ ا ْل ُعمُ ُر َومَا كُ ْنتَ ثَاوِيًا فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آَيَاتِنَا وََلكِنّا كُنّا‬
‫مُرْسِلِينَ (‪)45‬‬

‫شغُل بالقراءة‪ ،‬لذلك قال تعالى لنبيه محمد صلى‬


‫أهل مدين هم قوم شعيب عليه السلم‪ ،‬وكان لهم ُ‬
‫ال عليه وسلم‪َ { :‬ومَا كُنتَ ثَاوِيا‪[ } ...‬القصص‪ ]45 :‬أي‪ :‬مقيما { فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَ ْي ِهمْ‬
‫آيَاتِنَا‪[ } ...‬القصص‪ ]45 :‬أي‪ :‬تلوة المتعلم كما يتلو التلميذ على أستاذه ليُصحّح له { وََلكِنّا كُنّا‬
‫مُرْسِلِينَ } [القصص‪ ]45 :‬أي‪ :‬أن الرسالت كلها منا‪ :‬مَنْ كان يقرأ‪ ،‬ومن كان أميا‪.‬‬

‫(‪)3225 /‬‬

‫ح َمةً مِنْ رَ ّبكَ لِتُنْذِرَ َق ْومًا مَا أَتَا ُهمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبِْلكَ َلعَّلهُمْ‬
‫َومَا كُ ْنتَ ِبجَا ِنبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا وََلكِنْ رَ ْ‬
‫يَتَ َذكّرُونَ (‪)46‬‬

‫قوله تعالى‪َ { :‬ومَا كُ ْنتَ ِبجَا ِنبِ الطّورِ ِإذْ نَادَيْنَا‪[ } ...‬القصص‪ ]46 :‬أي‪ :‬موسى عليه السلم‬
‫ح َمةً مّن رّ ّبكَ‪[ } ...‬القصص‪ ]46 :‬أي‪ :‬أنك يا محمد ما شهدت هذه الحداث‪ ،‬إنما‬
‫{ وَلَـاكِن رّ ْ‬
‫جاءتْك بالفضل من ال { لِتُنذِرَ َقوْما مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبِْلكَ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ } [القصص‪]46 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يتذكّرون ما غفلوا عنه من الفطرة السليمة التي فطر ال الناس عليها‪.‬‬
‫وكلمة (وما كنت) في مواضع عدة في القرآن تدل على أن رسول ال جاء بأخبار لم يقرأها في‬
‫كتاب‪ ،‬ولم يسمعها من مُعلّم؛ لنه ل يقرأ‪ ،‬ولم يُعرف عنه أنه جلس إلى مُعلّم‪ ،‬وأهل الكتاب هم‬
‫الذين يعرفون صدْق هذه الخبار؛ لنها ُذكِرت في كتبهم‪ ،‬لذلك قال القرآن عنهم‪َ {:‬يعْ ِرفُونَهُ َكمَا‬
‫َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآءَهُمُ‪[} ..‬النعام‪.]20 :‬‬
‫حفِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا }[العلى‪.]19-18 :‬‬
‫حفِ الُولَىا * صُ ُ‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬إِنّ هَـاذَا َلفِي الصّ ُ‬
‫ومن علمات النبوة أن يخرق الحق سبحانه لنبيه صلى ال عليه وسلم حُجُب الغيب‪ ،‬والشيء‬
‫يغيب عنك إما لنه ماضٍ‪ ،‬ول وسيلةَ لك إليه‪ ،‬وهذا هو حجاب الزمن الماضي‪ ،‬وهو ل يُعرف‬
‫إل بواسطة القراءة في كتاب أو التعلم من مُعلّم‪ ،‬وقد نفى ال تعالى هذا بالنسبة لرسوله صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وإما أن يكون الحجابُ الزمن المستقبل والحداث التي لم ت ْأتِ بعْد‪ ،‬ول يستطيع أن‬
‫يخبرك بها إل الذي يعلمها أ َزلً‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ {:‬سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى‪ ]6 :‬فكان النجم من‬
‫القرآن ينزل على رسول ال فلما يُسرى عنه يُمليه على أصحابه‪ ،‬كل آية في مكانها وترتيبها من‬
‫السورة‪ ،‬ثم يقرؤها بعد ذلك كما أُنزلت‪ ،‬وكما أملها‪.‬‬
‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬تستطيع أن تتحدّى أيّ شخص بأن يتكلم مثلً لمدة ثُلث الساعة‪ ،‬ثم يعيد ما قال‪،‬‬
‫ولن يستطيع‪ ،‬أما المسألة مع سيدنا رسول ال فتختلف؛ لنها من ال تعالى{ سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }‬
‫[العلى‪.]6 :‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم في أول نزول القرآن عليه كان يُردد الية خلف‬
‫جبريل عليه السلم مخافة أن ينساها‪ ،‬فإنْ قال جبريل‪ {:‬وَالضّحَىا }[الضحى‪ ]1 :‬قال رسول ال{‬
‫ج ْمعَهُ‬
‫جلَ بِهِ * إِنّ عَلَيْنَا َ‬
‫وَالضّحَىا }[الضحى‪ ]1 :‬وهكذا‪ ،‬فأنزل ال عليه‪ {:‬لَ ُتحَ ّركْ بِهِ لِسَا َنكَ لِ َتعْ َ‬
‫َوقُرْآنَهُ * فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ }[القيامة‪.]18-16 :‬‬
‫ك وَحْيُهُ‪[} ...‬طه‪.]114 :‬‬
‫جلْ بِا ْلقُرْآنِ مِن قَ ْبلِ أَن ُيقْضَىا إِلَ ْي َ‬
‫وقال سبحانه‪َ {:‬ولَ َت ْع َ‬
‫أي‪ :‬أرح نفسك يا محمد‪ ،‬ول تخْشَ النسيان‪ ،‬وانتظر حتى تنتهي اليات‪ ،‬وسوف تعيدها كما هي‪،‬‬
‫ل تَنْسى منها حرفا واحدا‪.‬‬
‫حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَةً‪} ...‬‬
‫ل وَالْ ِبغَالَ وَا ْل َ‬
‫ومن كشف حُجُب الغيب المستقبل قوله تعالى‪ {:‬وَالْخَ ْي َ‬
‫[النحل‪ ]8 :‬ولو انتهتْ الية إلى هذا الح ّد لقالوا‪ :‬ذكر القرآن البدائيات‪ ،‬ولم يذكر شيئا عن السيارة‬
‫والصاروخ‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫لكن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يكمل الية‬

‫خلُقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[النحل‪ ]8 :‬ليجعل في القرآن رصيدا لكل ما يستجد من وسائل‬
‫{ وَيَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المواصلت والنتقال إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫سهِمْ َومِمّا‬
‫ت الَ ْرضُ َومِنْ أَنفُ ِ‬
‫ومن ذلك أيضا قوله تعالى‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِب ُ‬
‫لَ َيعَْلمُونَ }[يس‪ ]36 :‬فكلّ شيء في الوجود قائم على الزوجين ذكورةً وأنوثة حتى الجمادات التي‬
‫ل نرى فيها حياة‪.‬‬
‫ض وَهُم مّن َب ْعدِ غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ *‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬الـم * غُلِ َبتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى الَ ْر ِ‬
‫فِي ِبضْعِ سِنِينَ‪[} ...‬الروم‪]4-1 :‬‬
‫فمَنْ يستطيع أن يحكم على نتيجة معركة بعد سبع سنين؟ وبعد ذلك يُصدّقه ال‪ ،‬وتنتصر الروم‪،‬‬
‫وكانوا أهل كتاب على الفرس‪ ،‬وكانوا يعبدون النار؛ لذلك قال سبحانه‪ {:‬وَ َي ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ *‬
‫بِ َنصْرِ اللّهِ‪[} ...‬الروم‪.]5-4 :‬‬
‫ولما تشوّق الصحابة لداء العمرة ونزل على رسول ال قوله تعالى‪ {:‬لَتَ ْدخُلُنّ ا ْل َمسْجِدَ الْحَرَامَ إِن‬
‫ج َعلَ مِن دُونِ ذَِلكَ فَتْحا‬
‫سكُمْ َومُ َقصّرِينَ لَ َتخَافُونَ َفعَِلمَ مَا لَمْ َتعَْلمُواْ َف َ‬
‫شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَّلقِينَ رُءُو َ‬
‫قَرِيبا }[الفتح‪.]27 :‬‬
‫ضتْ لهم قريش‪،‬‬
‫" فخرج بهم رسول ال حتى بلغوا الحديبية على ُبعْد ‪ 22‬كيلو من مكة تع ّر َ‬
‫ومنعتهم من العمرة‪ ،‬واشترطوا عليهم العودة في العام المقبل‪ ،‬وقد كتبوا وثيقة تعاهدوا فيها‪ ،‬فلما‬
‫أملى رسول ال على الكاتب‪ :‬هذا ما تعاهد عليه محمد رسول ال‪ ،‬قام عمرو بن سهيل فقال‪ :‬لو‬
‫كنا نعلم أنك رسول ال ما حاربناك ول رددناك‪ ،‬إنما اكتب‪ :‬هذا ما تعاهد عليه محمد بن عبد ال‪.‬‬

‫وعندها ثار صحابة رسول ال وغضبوا حتى راجعوا رسول ال فقال عمر‪ :‬يا رسول ال ألسْنا‬
‫على الحق؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬أليسوا على الباطل؟ قال‪ :‬بلى قال‪ :‬فَلِمَ نعطى الدّنية في ديننا‪ ،‬فقال‬
‫الصّديق‪ :‬الزم غَرْ َزهُ يا عمر‪ ،‬يعني قف عند حدّك ‪ -‬إنه رسول ال‪.‬‬
‫ولما أصر علي بن أبي طالب أن يكتب محمد رسول ال نظر إليه رسول ال‪ ،‬وقال‪ " :‬يا علي‬
‫ستُسام مثلها فتقبل " وم ّرتْ اليام والسنون‪ ،‬وقُبض رسول ال‪ ،‬ثم أبو بكر‪ ،‬ثم عمر‪ ،‬ثم عثمان‪،‬‬
‫فلما تولّى عليّ الخلفة وحدثت الفتنة بينه وبين معاوية‪ ،‬وقامت بينهما حرب الجمل ثم صفّين‬
‫حتى اضطر عليّ لنْ يكتب مع معاوية وثيقة لنهاء القتال أملى عليّ‪ :‬هذا ما تعاهد عليه علي بن‬
‫أبي طالب أمير المؤمنين‪ ،‬فقالوا له‪ :‬لو أنك أمير المؤمنين ما حاربناك‪ ،‬فاسترجع عليّ قول رسول‬
‫ال‪ " :‬سَتُسام مثلها فتقبل "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬خرق ال لرسوله حجاب الزمن الماضي‪ ،‬والزمن المستقبل‪ ،‬فماذا عن الزمن الحاضر؟‬
‫سهِمْ َل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا‬
‫وكيف يكون خرق الحجاب فيه؟ هذا في مثل قوله تعالى‪ {:‬وَيَقُولُونَ فِي أَنفُ ِ‬
‫َنقُولُ‪[} ...‬المجادلة‪ ]8 :‬فأطلعه ال على ما في نفوس القوم‪.‬‬
‫وفي غزوة مؤتة‪ ،‬وهي الغزوة الوحيدة التي لم يحضرها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمّيت غزوة ‪ -‬لن الغزوة ل ُتقَال إل للمعركة التي حضرها رسول ال‪ ،‬أما في مؤتة فقد‬
‫ذلك ُ‬
‫حضرها وشاهدها وهو في المدينة‪ ،‬حيث كشف ال له حجاب الحاضر‪ ،‬فصار يخبر أصحابه في‬
‫المدينة بما يجري في مؤتة وكأنها رَ ْأيُ العين‪.‬‬

‫ويومها تولى القيادة جماعة من كبار الصحابة‪ :‬زيد بن حارثة‪ ،‬وابن رواحة‪ ،‬وجعفر بن أبي‬
‫طالب‪ ،‬وخالد بن الوليد‪ ،‬فكان صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬قُتِل فلن وسقطت الراية‪ ،‬فأخذها فلن‬
‫وقُتِل وحملها فلن‪ ..‬إلخ فلما عادوا من الغزوة أخبروا بنفس ما أخبر به رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََلوْل أَن ُتصِي َبهُم‪.{ ...‬‬

‫(‪)3226 /‬‬

‫ك وَ َنكُونَ‬
‫س ْلتَ ِإلَيْنَا رَسُولًا فَنَتّبِعَ آَيَا ِت َ‬
‫وََلوْلَا أَنْ ُتصِي َبهُمْ ُمصِيبَةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِي ِهمْ فَ َيقُولُوا رَبّنَا َلوْلَا أَرْ َ‬
‫مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)47‬‬

‫المعنى‪ :‬لول أن تصيبهم مصيبة بما ق ّد َمتْ أيديهم لَعذّبناهم فاحتجوا قائلين‪ { :‬رَبّنَا َلوْل أَرْسَ ْلتَ إِلَيْنَا‬
‫ك وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [القصص‪ ]47 :‬فلو عذّبهم ال دون أن يرسل إليهم‬
‫رَسُولً فَنَتّ ِبعَ آيَا ِت َ‬
‫رسولً لكانت حجة لهم‪.‬‬
‫ص ول نصّ إل بإعلم‪ ،‬لذلك تُنشر‬
‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إنه ل عقوبة إل بتجريم‪ ،‬ول تجريم إل بن ّ‬
‫الحكام في الوقائع الرسمية ليعرفها الجميع‪ ،‬فتلزمهم الحجة‪ ،‬ول ُيعْذَر أحد بالجهل بالقانون‪ ،‬ول‬
‫يُعفى من العقاب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬قطع ال عليهم الحجة‪ ،‬حين بعث إليهم رسول ال بمنهج الحق الذي يدلهم على الخير‬
‫والثواب عليه في الجنة‪ ،‬ويحذرهم من الشر والعقاب عليه في النار{ لِئَلّ َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ‬
‫سلِ‪[} ...‬النساء‪.]165 :‬‬
‫حجّةٌ َبعْدَ الرّ ُ‬
‫ُ‬
‫إذن‪ :‬الحكمة من إرسال الرسول إقامة الحجة على المرسَل إليهم مجرد إقامة الحجة؛ لن قضايا‬
‫الدين قضايا حقّ فطري يهتدي إليها العقل السليم بفطرته؛ لذلك وقف المستشرقون طويلً عند‬
‫شخصية عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪.-‬‬
‫يقولون‪ :‬تذكرون عمر في كل شيء‪ :‬في العدل تقولون عمر‪ ،‬وفي القوة تقولون عمر‪ ،‬وفي وجود‬
‫رسول ال تقولون نزل القرآن موافقا لكلم عمر‪ ،‬أليس عندكم إل عمر؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يدلّنا بشخصية عمر إلى أنه سبحانه لم يُكلّفنا بقضايا تنفر منها‬
‫الفطرة‪ ،‬إنما بقضايا تقبلها فطرتنا السليمة‪ ،‬وتهتدي إليها بطبيعتها السوية الخالية من الهوى‪ ،‬وهذا‬
‫عمر لم يكُنْ نبيا ول رسولً‪ ،‬لكن كان يصل إلى الحق بما فيه من فطرة إيمانية وعقلية سالمة من‬
‫الهواء‪ ،‬حتى وصلت به الفطرة السليمة إلى أنْ ينطق القرآن بنفس ما نطق به‪.‬‬
‫وكلمة { وََلوْل‪[ } ...‬القصص‪ ]47 :‬تأتي بأحد معنيين‪ :‬إنْ دخلتْ على الجملة السمية فهي حرف‬
‫امتناع لوجود‪ ،‬كما لو قلت‪ :‬لول زيد عندك لَزر ُتكَ‪ ،‬فامتنعتْ الزيارة لوجود زيد‪ ،‬ومن هذه قوله‬
‫تعالى‪ { :‬وََلوْل أَن ُتصِي َبهُم ّمصِيبَةٌ‪[ } ...‬القصص‪ ]47 :‬والتقدير‪ :‬لول إصابتهم‪.‬‬
‫فإنْ دخلتْ (لول) على الجملة الفعلية أفادتْ الحثّ والحضّ‪ ،‬كما تقول لولدك‪ :‬لول ذاكرتَ‬
‫دروسك‪ ،‬وكذلك لول الثانية في الية { فَ َيقُولُواْ رَبّنَا َلوْل أَ ْرسَ ْلتَ إِلَيْنَا رَسُولً فَنَتّبِعَ آيَا ِتكَ وَ َنكُونَ‬
‫مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [القصص‪.]47 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََلمّا جَآ َءهُمُ ا ْلحَقّ مِنْ عِندِنَا‪.} ...‬‬

‫(‪)3227 /‬‬

‫حقّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا َلوْلَا أُو ِتيَ مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ مُوسَى َأوَلَمْ َي ْكفُرُوا ِبمَا أُو ِتيَ مُوسَى مِنْ‬
‫فََلمّا جَاءَهُمُ الْ َ‬
‫قَ ْبلُ قَالُوا سِحْرَانِ َتظَاهَرَا َوقَالُوا إِنّا ِب ُكلّ كَافِرُونَ (‪)48‬‬

‫حقّ مِنْ عِندِنَا‪[ } ...‬القصص‪ ]48 :‬أي‪ :‬الرسول الذي طلبوه { قَالُواْ‬
‫قوله تعالى‪ { :‬فََلمّا جَآءَ ُهمُ الْ َ‬
‫ن كنتَ كذوبا فكُنْ َذكُورا‪ ،‬لقد‬
‫َلوْل أُو ِتيَ مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ مُوسَىا‪[ } ...‬القصص‪ ]48 :‬سبحان ال‪ ،‬إ ْ‬
‫طلبتم مجرد الرسول ولم تطلبوا معه معجزة معينة فقلتم‪ {:‬رَبّنَا َلوْل أَ ْرسَ ْلتَ إِلَيْنَا رَسُولً‪} ...‬‬
‫[القصص‪ ]47 :‬والن تطلبون آيات حِسيّة كالتي أرسل بها موسى من قبل‪.‬‬
‫والمتأمل يجد أن اليات قبل محمد صلى ال عليه وسلم كانت آيات حِسيّة كونية‪ ،‬مثل سفينة نوح‬
‫عليه السلم‪ ،‬وناقة صالح عليه السلم‪ ،‬وعصا موسى عليه السلم‪ ،‬وإبراء الكمه والبرص‬
‫وإحياء الموتى بإذن ال بالنسبة لسيدنا عيسى عليه السلم‪ .‬وهذه كلها معجزات حسية تنتهي‬
‫بانتهاء وقتها‪ ،‬فهي مناسبة للرسل المحدودي الزمن‪ ،‬والمحدودي المكان‪.‬‬
‫سلَ للناس كافّة في الزمان وفي المكان‪ ،‬فل تناسبه الية الحسيّة الوقتَية؛ لنها‬
‫أما الرسول الذي أُر ِ‬
‫ستكون معجزة لزمانها‪ ،‬وتظل العصور فيما بعد بل معجزة‪ ،‬لذلك جاء الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪-‬‬
‫حفْظ ال إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫على يد محمد صلى ال عليه وسلم بمعجزة باقية خالدة محفوظة ب ِ‬
‫وقلنا‪ :‬إن الرسل قبل محمد صلى ال عليه وسلم كان الرسول يأتي بمعجزة تثبت صِدْق بلغه عن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال‪ ،‬ومعه كتاب يحمل منهجه‪ ،‬فالكتاب غير المعجزة‪ ،‬أما محمد صلى ال عليه وسلم فجاءت‬
‫معجزته هي عَيْن الكتاب والمنهج الذي أُرسِل به ليظل الدليل على صِدْقه باقيا مع المنهج الذي‬
‫يطالب الناس به‪ ،‬وإلى أن تقوم الساعة نظل نقول‪ :‬محمد رسول ال معجزته هي عَيْن الكتاب‬
‫والمنهج الذي أُرسل به ليظل الدليل على صِدقْه باقيا مع المنهج الذي يطالب الناس به‪ ،‬وإلى أن‬
‫تقوم الساعة نظل نقول‪ :‬محمد رسول ال وهذه معجزته‪.‬‬
‫أمّا إخوانه من الرسل السابقين فنقول فلن‪ ،‬وكانت معجزته كذا على سبيل الخبار‪ ،‬والخبر‬
‫يحتمل الصّدْق ويحتمل الكذب‪.‬‬
‫وقد صدّقنا بهذه المعجزات كلها؛ لن ال أخبرنا بها في القرآن الكريم‪ ،‬فللقرآن الذي جاء معجزة‬
‫ومنهجا الفضل في إبقاء هذه المعجزات؛ لنه أخبر بها وخلّد ذكرها‪.‬‬
‫ثم يرد ال عليهم‪َ { :‬أوَلَمْ َي ْكفُرُواْ ِبمَآ أُوتِيَ مُوسَىا مِن قَ ْبلُ‪[ } ...‬القصص‪ ]48 :‬ثم يحكي ما قالوا‬
‫سحْرَانِ َتظَاهَرَا‪[ } ...‬القصص‪ ]48 :‬أي‪ :‬أن‬
‫عن معجزة موسى‪ ،‬وعن معجزة محمد { قَالُواْ ِ‬
‫موسى جاء بسحر‪ ،‬ومحمد جاء بسحر آخر‪ ،‬وقد { َتظَاهَرَا‪[ } ..‬القصص‪ ]48 :‬علينا يعني‪:‬‬
‫حمْل معا‪ ،‬والظهْر‬
‫تعاونا‪ ،‬وهي مأخوذة من الظهر كأنك قُلْت‪ :‬أعطني ظهرك مع ظهري لنحمل ال ِ‬
‫محلّ الحمل‪.‬‬
‫والرد على هذا التهام يسير‪ ،‬فمعجزة موسى وإنْ كانت من جنس السحر إل أنها ليست سحْرا‪،‬‬
‫فالسحر يُخيّل لك أن الحبال حية تسعى‪ ،‬أمّا ما فعله موسى فكان قلب العصا إلى حية حقيقية‬
‫تسعى وتبتلع سحرهم‪ ،‬لذلك أُلقي السحرة ساجدين؛ لنهم رأوا معجزة ليستْ من جنس ما نبغوا‬
‫فيه فآمنوا من فورهم‪.‬‬
‫أما الذين قالوا عن محمد صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنه ساحر فالردّ عليهم بسيط‪ :‬فلماذا لم يسحركم‬
‫أنتم أيضا كما سحر المؤمنين به؟‬
‫ثم يؤكدون كفرهم بكل من الرسولين‪ :‬موسى ومحمد‪َ { :‬وقَالُواْ إِنّا ِب ُكلّ كَافِرُونَ } [القصص‪.]48 :‬‬

‫(‪)3228 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like