Professional Documents
Culture Documents
َفقَدْ كَذّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ ()6
أي :كلما جاءهم ِذكْر من الرحمن ،وآية من آياته أصرّوا على تكذيبها { فَسَيَأْتِي ِهمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ ِبهِ
يَسْ َتهْزِئُونَ } [الشعراء.]6 :
كما جاء في آيات أخرى {:وَسَ َيعَْلمْ الّذِينَ ظََلمُواْ َأيّ مُنقََلبٍ يَنقَلِبُونَ }[الشعراء.]227 :
وقال {:وَلَ َتعَْلمُنّ نَبََأهُ َبعْدَ حِينِ }[ص.]88 :
يعني :غدا تعلمون عاقبة تكذيبكم ،فآيات ال تسير أمامكم ،فكلّ يوم يزداد المؤمنون بمحمد،
ويتناقص عدد الكافرين ،كل يوم تزداد أرض اليمان ،وتتراجع أرض الكفر.
صهَا مِنْ َأطْرَا ِفهَآ }[النبياء:
ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى لهمَ {:أفَلَ يَ َروْنَ أَنّا نَأْتِي الَرْضَ نَن ُق ُ
.]44
فهذه ـ إذن ـ مقدمات تروْنها بأعينكم ،وكان ينبغي عليكم أن تأخذوا منها عبرةً وعظة ،فبوادر
نجاح الدعوة وظهور الدين واضحة ،هذا معنى { :فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ }
[الشعراء.]6 :
فليتهم اقتصروا على التكذيب والصرار عليه ،إنما تعدّى المر منهم إلى الستهزاء بالرسل
وبكلم ال ،ألم يقولوا على سبيل الستهزاءَ {:أهَـاذَا الّذِي َب َعثَ اللّهُ َرسُولً }[الفرقان.]41 :
ثم يقول الحق سبحانهَ { :أوَلَمْ يَ َروْاْ إِلَى الَ ْرضِ }
()2909 /
َأوَلَمْ يَ َروْا إِلَى الْأَ ْرضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ ()7
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نظرةَ اعتبار ،فيسألون عن مبدعها؟
ضربنا لذلك مثلً بالنسان الذي انقطعتْ به السّبُل في صحراء جرداء حتى أشرف على الهلك،
فأخذته سِنَة فنام ،ولما استيقظ وجد في هذا المكان المنقطع مائدةً ،عليها أطايب الطعام والشراب،
أَل ينبغي عليه قبل أنْ تمتدّ يده إلى هذا الطعام أن يسأل نفسه من الذي أعده له؟
كذلك النسان طرأ على كوْن ُم َعدّ لستقباله ،وعلى وجود ل تتناوله قدرته ،ول سلطانَ له عليه،
فهو ل يتناول الشمس مثلً ليُوقِدها ولم ي ّدعِ هذه اليات الكونية أحدَ ،ألَ يدلّ ذلك على الخالق ـ
عزَ وجل ـ ويُوجِب علينا اليمان به؟
ت وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[لقمان.]25 :
سمَاوَا ِ
لذلك يقول سبحانه{ وَلَئِن سَأَلْ َت ُهمْ مّنْ خََلقَ ال ّ
وقال {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[الزخرف.]87 :
ولو تأمل النسان في (اللمبة) الصغيرة التي تضيء غرفة ،ولها عمر افتراضي ل يتعدّى عدة
أشهر وهي عُ ْرضَة للكسر وللعطال ،ومع ذلك تكاتف في صناعتها فريق من المهندسين والعمال
والفنيين ،وكثير من اللت والعِدَد ،ومع ذلك نُؤرّخ لمخترع المصباح ،ونعرف تاريخه ،وكيفية
صنعه ..الخ .نعرف مخترع (التلفون والراديو) و..
لوْلَى أن ننظر ونتأمل في خَلْق الشمس ،هذا الكوكب العظيم الذي يضيء الدنيا كلها،
أليس من ا َ
طوَال هذه المدَد المتعاقبة؟
عطْل ِ
دون وقود ،أو قطعة غيار ،أو ُ
فإذا ما جاء رسول ،وقطع على الناس هذه الغفلة ،وقال لهمَ :ألَ أُنبّئكم بمَنْ خلق كل هذا؟ إنه ال.
كان يجب عليهم أنْ يُعيروه آذانهم ويؤمنوا.
هنا يقول تعالىَ { :أوََلمْ يَ َروْاْ إِلَى الَرْضِ } [الشعراء ]7 :وهي آية ظاهرة أمام أعينهم ،يروْنَها
هامدة جرداء ُمقْفرة ،فإذا نزل عليها الماء أحياها ال بالنبات،ألم ينظروا إلى الجبال والصحراء
بعد نزول المطر ،وكيف تكتسي ثوبا بديعا من النبات بعد َفصْل الشتاء.
ن نقل هذه البذور وبذرها في الجبال؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر{:
ألم يسألوا أنفسهم :مَ ْ
ت وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ }[الحج.]5 :
وَتَرَى الَ ْرضَ هَامِ َدةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّزتْ وَرَبَ ْ
وقوله تعالى هنا { :كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن ُكلّ َزوْجٍ كَرِيمٍ } [الشعراء ]7 :كم :خبرية تفيد الكثرة،
جاءت بصيغة الستفهام للتقرير ،كما تقول لصاحبك :كم أحسنتُ إليك ،بدل أنْ تُعدّد مظاهر
إحسانك إليه ،فتسأله لنك واثق أن الجابة في صالحك ،فالكلم بالخبار دَعْوى منك ،لكن الجابة
على سؤال إقرار منه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأ ِم الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَ ْرحَامُ الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُنتُمْ
ن الِ ْبلِ اثْنَيْنِ َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ }[النعام143 :ـ .]144
صَا ِدقِينَ * َومِ َ
فهذه أربعة أصناف ،فيها ثمانية أزواج ،فالزوج فرد واحد معه مثله ،فل تقول زوج أحذية .بل
َزوْجَا أحذية .والحق سبحانه وتعالى يقول {:وَأَنّهُ خََلقَ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا }[النجم.]45 :
وكذلك النبات ل ُبدّ فيه من ذكورة وأنوثة ،وإنْ كانت غير واضحة فيه كله كما هي واضحة مثلً
في النخل ،ففيه ذكر نُلقّح منه النثى لتثمر ،وكذلك شجرة الجميز منها ذكر وأنثى .لكن لم نَرَ
ذكورة وأنوثة في الجوافة مثلً أو في الليمون ،لماذا؟
قالوا :مرة توجد الذكورة والنوثة في الشيء الواحد كعود الذرة مثلً ،قبل أنْ يُخرِج ثمرته تخرج
سنبلة في أعله تحمل لقاح الذكورة ،وحينما يهزها الريح يقع اللقاح على شُرَابة (كوز) الذرة،
وتتم عملية التلقيح .وقد تكون الذكورة والنوثة في شيء ل تعرفه أنت كالمناجو والتفاح مثلً ،فلم
نعلم لها ذكرا وأنثى.
لكن الحق تعالى قال {:وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ }[الحجر.]22 :
شيْءٍ خََلقْنَا َز ْوجَيْنِ }[الذاريات.]49 :
وقالَ {:ومِن ُكلّ َ
ثم وصف الزوج بأنه } كَرِيمٍ { [الشعراء ]7 :فماذا يعني الكرم هنا؟ قالوا :لنك إذا أخذتَ الثمرة
الواحدة ونظرت وتأملتَ فيها لوجدتَ لها صفات متعددة و ِنعَما كثيرة ،كما قال سبحانه {:وَإِن
حصُوهَا }[إبراهيم ]34 :وهي نعمة واحدة بصيغة المفرد ولم يقل نعم ال.
َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ تُ ْ
قالوا :لن الحق ـ عزّ وجلّ ـ يريد أن يلفتنا إلى أن كل نعمة واحدة لو استقصيتَ عناصرها
حصَى.
وتكوينها لوجدتَ في طياتها ِنعَما ل ُتعَدّ ول تُ ْ
فمعنى } كَرِيمٍ { [الشعراء ]7 :يعني :كثير العطاء وكثير الخيرات.
()2910 /
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ ()8
قوله تعالى { :إِنّ فِي ذَِلكَ } [الشعراء ]8 :أي :في آية النبات ،وكل زوج كريم يخرج من
الرض { ليَةً } [الشعراء ]8 :شيء عجيب ودللة واضحة على مُكوّن حكيم يعمل الشيء بقصد
ونظام ،ينبغي أن تلفتنا إلى قدرة الخالق ـ عز وجل ـ.
{ َومَا كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ ّم ْؤمِنِينَ } [الشعراء ]8 :يعني :مع كل هذه اليات لم يؤمنوا ،إل القليل منهم
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا
كما قال تعالى في آية أخرىَ {:وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف ]105 :مع أنك لو تأملتَ آية واحدة لكانت كافية لنْ تلفتك إلى الَ .وفِي ُكلّ
شَيءٍ َلهُ آيةٌ تَدلّ عَلَى أَنّه الوَاحِدُثم يقول الحق سبحانه { :وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ }
()2911 /
جاء الحق تبارك وتعالى هنا بصفة { ا ْلعَزِيزُ } [الشعراء ]9 :بعد أن قال{ َومَا كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ ّم ْؤمِنِينَ
}[الشعراء ]8 :لنعلم أن الذين كفروا لم يكفروا رَغْما عن ال ،إنما كفروا بما أودع ال فيهم من
الختيار.
فهو سبحانه الذي أعانهم عليه َلمّا أحبوه وأصروا عليه؛ لنه تعالى ربّهم ،بدليل أنه تعالى لو
تركهم مجبرين مرغمين ما فعلوا شيئا يخالف منهج ال أبدا ،وبدليل أنهم مجبرون الن على أشياء
ومقهورون في حياتهم في مسائل كثيرة ،ومع ذلك ل يستطيع أحد منهم أن يخرج على شيء من
ذلك.
فمع إِلْفهم العناد والتمرد على منهج ال ،أيستطيع أحدهم أنْ يتأبّى على المرض ،أو على الموت،
أو على القدار التي تنزل به؟ أيختار أحد منهم يوم مولده مثلً ،أو يوم وفاته؟ أيختار طوله أو
قوته أو ذكاءه؟
لكن لما أعطاهم ال الصلحية والختيار اختاروا الكفر ،فأعانهم ال على ما أحبّوا ،وختم على
قلوبهم حتى ل يخرج منها كفر ،ول يدخلها إيمان.
وكلمة { ا ْلعَزِيزُ } [الشعراء ]9 :تعني :الذي ل يُغلَب ول ُيقْهر ،لكن هذه الصفة ل تكفي في حقّه
تعالى؛ لنها تفيد المساواة للمقابل ،فل ُبدّ أنْ نزيد عليها أنه سبحانه هو الغالب أيضا.
لذلك يقول سبحانه وتعالى {:وَاللّهُ غَاِلبٌ عَلَىا َأمْ ِرهِ }[يوسف ]21 :فال تعالى عزيز َيغْلِب ول
ُيغْلَب.
طعَمُ }[النعام.]14 :
طعِمُ وَلَ ُي ْ
ومثال ذلك قوله تعالى {:يُ ْ
شيْ ٍء وَ ُهوَ يُجْيِرُ وَلَ يُجَارُ عَلَيْهِ }[المؤمنون.]88 :
وقوله تعالىُ {:قلْ مَن بِ َي ِدهِ مََلكُوتُ ُكلّ َ
ثم يذكر سبحانه بعدها صفة الرحمة ،فهو سبحانه مع عزته رحيم ،إنه تعالى رحيم حين َيغْلب ،ألم
يتابع لهم اليات ويَدْعُهم إلى النظر والتأمل ،لعلّهم يثوبون إلى رُشْدهم فيؤمنوا؟ فلما أصرّوا على
الكفر أمهلهم ،ولم يأخذهم بعذاب الستئصال ،كما أخذ المم الخرى حين كذّبتْ رسلها.
كان الرسل قبل محمد صلى ال عليه وسلم يُبلّغون الدعوة ،ويُظهرون المعجزة ،فمَنْ لم يؤمن بعد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَ ْتهُ
خذْنَا بِذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا َ
ذلك يعاقبه ال ،كما قال سبحانهَ {:فكُلّ أَ َ
ض َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا }[العنكبوت.]40 :
سفْنَا بِهِ الَرْ َ
الصّيْحَةُ َومِنْهُمْ مّنْ خَ َ
أمّا أمة محمد صلى ال عليه وسلم فقد قال تعالى في شأنهاَ {:ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َب ُه ْم وَأَنتَ فِي ِه ْم َومَا
كَانَ اللّهُ ُم َعذّ َبهُ ْم وَهُمْ َيسْ َت ْغفِرُونَ }[النفال.]33 :
وقال هنا { :وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ } [الشعراء ]9 :فالحق ـ تبارك وتعالى ـ في كل هذه
اليات يُسلّي رسوله صلى ال عليه وسلم ،ويعطيه عبرةً من الرسل الذين سبقوه ،فليس محمد بِدْعا
في ذلك ،ألم يقل له ربه {:ياحَسْ َرةً عَلَى ا ْلعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رّسُولٍ ِإلّ كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ }[يس:
]30فالمسألة ـ إذن ـ قديمة ـ ِقدَم الرسالت.
لذلك ،يأخذنا السياق بعد ذلك إلى موكب النبوات ،فيذكر الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه
وسلم طرفا من قصة نبي ال موسى { :وَإِذْ نَادَىا رَ ّبكَ مُوسَىا }
()2912 /
الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقصّ على رسوله قصص النبياء ،وهو أحسن القصص لحكمة{:
سلِ مَا نُثَ ّبتُ ِبهِ ُفؤَا َدكَ }[هود.]120 :
َوكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
لن رسول ال صلى ال عليه وسلم مرّ بمعارك كثيرة مع الكفر ،فكان يحتاج إلى تثبيت مستمر
كلما تعرض لشدة؛ لذلك تكرر القصص القرآني لرسول ال على مدى عمر الدعوة ،والقصص
القرآني ل يراد به التأريخ لحياة الرسل السابقين ،إنما إعطاء النبي محمد صلى ال عليه وسلم
عِبرةً وعظة بمَنْ سبقه من إخوانه الرسل؛ لذلك كانت القصة تأتي في عدة مواضع ،وفي كل
موضع لقطة معينة تناسب الحدث الذي نزلت فيه.
وهنا يقول سبحانه { :وَإِذْ نَادَىا رَ ّبكَ مُوسَىا } [الشعراء ]10 :يعني :اذكر يا محمد ،إذ نادى ربك
موسى أي :دعاه .لكن لماذا بدأ بقصة موسى عليه السلم بالذات؟
قالوا :لن كفار مكة كفروا بك أنت ،فل تحزن؛ لن غيرهم كان أفظع منهم ،حيث ادعى
اللوهية ،وقال {:مَا عَِل ْمتُ َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي }[القصص.]38 :
والسياق هنا لم يذكر :أين ناداه ربه ،ول متى ناداه ،وبدأ الحوار معه مباشرة ،لكن في مواضع
أخرى جاء تفصيل هذا كله.
ثم يأتي المر المباشر من ال تعالى لنبيه موسى { :أَنِ ا ْئتِ ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } [الشعراء ]10 :أي:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذين ظلموا أنفسهم ،بأنْ جعلوا ل تعالى شريكا ،والشرك ِقمّة الظلم{ إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ عَظِيمٌ }
[لقمان.]13 :
ولم يُبيّن القرآن مَنْ هم هؤلء الظالمون؛ لنهم معروفون مشهورون ،فهم في مجال الشرك أغنياء
عن التعريف ،بحيث إذا قلنا { ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ } [الشعراء ]10 :انصرف الذّهْن إليهم ،إلى فرعون
وقومه؛ لنه الوحيد الذي تجرّأ على ادعاء اللوهية ،وبعد أنْ ذكرهم بالوصف يُعيّنهمَ { :قوْمَ
عوْنَ أَل يَ ّتقُونَ }
فِرْ َ
()2913 /
أيُ :قلْ لهم يا موسى أل تتقون ربكم؟ واعرض عليهم هذا العرض؛ لن الطلب يأتي مرة بالمر
الصريح :افعل كذا ،ومرة يتحنّن إليك بأسلوب العرض ،أل تفعل كذا؟ على سبيل الستفهام
والعرض والحضّ.
والمعنى :أل يتقون ال في ظلمهم لنفسهم باتخاذهم مع ال شريكا ول إله غيره ،وظلموا بني
إسرائيل في أنهم يُذبّحونَ أبناءهم ويستحيُون نساءهم.
لكن ،لماذا تكلم عن قوم فرعون أولً ،ولم يعرض عليه هو أولً ،وهو رأس الفساد في القوم؟
ويجيب على هذا السؤال المثل القائل (يا فرعون ماذا فرعنك؟ قال :لنني لم أجد أحدا يردني) فلو
وقف له قومه ورَدَعوه لرتدع ،لكنهم تركوه ،بل ساروا في َركْبه إلى أنْ صار طاغية ،وأعانوه
حتى أصبح طاغوتا.
فقال موسى { :قَالَ َربّ إِنّي أَخَافُ }
()2914 /
لما دعا الحق ـ تبارك وتعالى ،نبيه موسى ـ عليه السلم ـ لنْ يذهب إلى قوم فرعون لم
يبادر بالذهاب ،إنما أبدى لربه هواجس نفسه وخلجاتها؛ لنه يعلم مُقدّما مشقة هذه المهمة ،فقد
عاش مع فرعون ويعلم طبيعته ،فقال { :إِنّي أَخَافُ أَن ُيكَذّبُونِ } [الشعراء ]12 :وكيف لمن يدّعي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللوهية أنْ يسمع لرسول؟
ويُ ْروَى أنه في عهد الخليفة المأمون ادّعَى أحدهم النبوة ،فحبسوه ،ثم ادعاها آخر فقال :اجمعوا
بينهما حتى يواجه أحدهما الخر ،فلما حضرا قالوا :يا هذا إن هذا الرجل يدّعي النبوة ،فقال:
كذب ،أنا لم أُرسِل أحدا .وهكذا جعل من نفسه إلها بعد أن كان نبيا.
طلِقُ ِلسَانِي }
صدْرِي وَلَ يَن َ
ق َ
ويواصل موسى الحديث عن مخاوفه { :وَ َيضِي ُ
()2915 /
يضيق صدري ساعةَ يكذّبونني ،وضيق الصدر ينتج عنه أن أتلجلج وأتعصب ،فل أستطيع أن
أتكلم الكلم ال ُمقْنِع؛ ذلك لنني سأشاهد باطلً واضحا يُجابه حقا واضحا ،ول ُبدّ أنْ يضيق صدري
بذلك ،خاصة وأن موسى عليه السلم سابقه في مسألة الكلم.
سلْ إِلَىا هَارُونَ } [الشعراء ]13 :وفي آية أخرى {:وََأخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ مِنّي
لذلك قال { :فَأَرْ ِ
لِسَانا فَأَ ْرسِلْهُ َم ِعيَ رِدْءا ُيصَ ّدقُنِي إِنّي َأخَافُ أَن ُيكَذّبُونِ }[القصص.]34 :
يعني :مساعدا لي يتكلم بدلً عني ،إنْ عجز لساني عن الكلم ،وهذا يدل على حرصه ـ عليه
السلم ـ على تبليغ دعوة ربه إلى فرعون وقومه.
وعليه ،فقد كان موسى وهارون كلهما رسول ،إل أن القرآن قال مرة عنهما {:إِنّا َرسُولُ َربّ
ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء ]16 :بصيغة المفرد ،وقال مرة أخرى {:إِنّا َرسُولَ رَ ّبكَ }[طه ]47 :بصغية
المثنى.
الرسول :هو المرسَل من شخص لخر ،سواء كان واحدا أو مُثَنى أو جمعا.
ومعلوم أن النسان يحتاج ل ستبقاء حياته طعاما وشرابا ،وقبل ذلك وأهمَ منه يحتاج لستبقاء
نفسهَ ،ألَ تراه يصبر على الطعام ،ويصبر على الشراب ،لكنه ل يصبر بحال على الهواء ،فإنْ
حُبِس عنه شهيق أو زفير فارق الحياة؟
وسبق أن قلنا :إن من رحمة ال تعالى بنا أنْ يُملّك الطعام كثيرا ،وقليلً ما يُملّك الماء ،لكن الهواء
ل يُملّكه ال لحد ،لماذا؟ لنه لو ملّك عدوك الهواء فمنعه عنك ،فسوف تموت قبل أنْ يرضى
عنك ،بالضافة إلى أن الهواء هو العنصر الساسي في الحياة ،وعليه تقوم حركاتها.
ونلحظ أن النسان إذا صعد مكانا عاليا (ينهج) ،وتزداد ضربات قلبه وحركة تنفسه ،لماذا؟ لن
الحركة تحتاج لكثير من الهواء ،فإنْ َقلّ الهواء يضيق الصدر؛ لنه يكفي فقط ل ستبقاء الحياة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكنه ل يكفي الحركة الخارجية للنسان.
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلهُمْ عََليّ ذَنبٌ }
()2916 /
وليت المسألة تقف بين نبي ال موسى وبين قومه عند مسألة الكلم ،إنما لهم عنده ثَأْرٌ قديم؛ لنه
قتل منهم واحدا ،وإنْ كان عَنْ غير قصد ،كما قال تعالى في آية أخرىَ {:ف َوكَ َزهُ مُوسَىا َف َقضَىا
ن يقتلوني به.
عَلَيْهِ }[القصص ]15 :فأخاف أ ْ
فيقول الحق سبحانه لموسى وهارون { :قَالَ كَلّ فَاذْهَبَا }
()2917 /
(كَلّ) تفيد َنفْي ما قبلها ،وقبلها مسائل ثلث {:أَخَافُ أَن ُيكَذّبُونِ }[الشعراء {،]12 :وَ َيضِيقُ
ي منها
صَدْرِي َولَ يَنطَلِقُ لِسَانِي }[الشعراء {،]13 :فَأَخَافُ أَن َيقْتُلُونِ }[الشعراء ]14 :فعلى أ ّ
صبّ هذا النفي؟
ين َ
النفي هنا يتوجّه إلى ما يتعلق بموسى ـ عليه السلم ـ ل بما يتعلق بالقوم من تكذيبهم إياه ،يقول
له ربه :اطمئن ،فلن يحدث شيء من هذا كله .ول ينصبّ النفي على تكذيبهم له؛ لنه سيُكذّب؛
لذلك نرى دقة الداء القرآني حيث جاءت{ َأخَافُ أَن ُيكَذّبُونِ }[الشعراء ]12 :في نهاية الية،
صدْرِي }[الشعراء ]13 :وهو المقصود بالنفي.
ق َ
وبعدها كلم جديد{ وَ َيضِي ُ
لهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَهُ
وقد بيّ َنتْ سورة الفجر معنى (كل) بوضوح في قوله تعالى{ فََأمّا الِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَ َ
لهُ َفقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْز َقهُ فَ َيقُولُ رَبّي أَهَانَنِ }[الفجر15 :ـ
وَ َن ّعمَهُ فَيَقُولُ رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّآ ِإذَا مَا ابْتَ َ
.]16
فيقول تعالى بعدها ردا عليها{ كَلّ }[الفجر ]17 :يعني :ليس العطاء دليلَ إكرام ،ول المنعُ دليلَ
إهانة ،إنما المراد البتلء بالنعمة وبالنقمة.
وكيف يكون المر كما تظنون ،وقد أعطاكم ال فبخلتُم ،وأحببتم المال حُبّا جما ،فلم تنفقوا منه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جمْعه حتى أكلتم الميراث ،وأخذتم أموال الناس.
على اليتيم أو المسكين ،بل تنافستُم في َ
إذن :فالمال الذي أكرمكم ال به لم يكُنْ نعمة لكم؛ لنكم جعلتموه نقمة ووبالً ،حين أُعطيتم
فمنعتم.
وكلمة (كَلّ) هذه أصبح لها تاريخ مع موسى ـ عليه السلم ـ فقد تعلّمها من ربه ،ووعى درسها
جيدا ،فلما حُوصِر هو وأتباعه بين البحر من أمامهم ،وفرعون وجنوده من خلفهم ،حتى أيقن
أتباعه أنهم مُدْركون هالكون ،قالها موسى عليه السلم بملء فيه{ قَالَ كَلّ إِنّ َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }
[الشعراء.]62 :
وقوله تعالى { :فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ } [الشعرءا ]15 :اليات هنا يُقصَد بها المعجزات الدالة على صِدْقهما
في البلغ عن ال ،وهي هنا العصا { إِنّا َم َعكُمْ مّسْ َت ِمعُونَ } [الشعراء ]15 :كما قال لهما في
سمَ ُع وَأَرَىا }[طه.]46 :
موضع آخر {:إِنّنِي َم َعكُمَآ َأ ْ
فمرّة يأتي بالسمع فقط ،ومرّة بالسمع والرؤية ،لماذا؟ لن موقفه مع فرعون في المقام الول
سيكون جدلً ونقاشا ،وهذا يناسبه السمع ،وبعد ذلك ستحدث مقامات في (فعل) و(عمل) في مسألة
السحر وإلقاء العصا ،وهذا يحتاج إلى سمع وإلى بصر؛ لن اليذاء قد يكون من السمع فقط في
أول اللقاء ،وقد يكون من السمع والعين فيما بعد.
()2918 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَابَ
حتى دعا عليهم {:رَبّنَا ا ْ
الَلِيمَ }[يونس.]88 :
عوَ ُت ُكمَا }[يونس ]89 :بالمثنى مع أن
هذا كلم موسى ـ عليه السلم ـ فردّ ال عليه {:قَدْ ُأجِي َبتْ دّ ْ
المتكلم واحد .قالوا :لن موسى كان يدعو ،وهارون يُؤمّن على دعائه ،والمؤمّن أحد الداعيين،
وشريك في الدعوة.
سلْ َمعَنَا }
فما مطلوبك يا رسول رب العالمين؟ { أَنْ أَ ْر ِ
()2919 /
فالصل في لقاء موسى بفرعون أن ينقذ بني إسرائيل من العذاب ،ثم يُبلّغهم منهج ال ،ويأخذ
أيديهم إليه ،وجاءت دعوة فرعون لليمان ونقاشه في ادعائه اللوهية تابعة لهذا الصل.
ل َولَ ُتعَذّ ْبهُمْ َقدْ جِئْنَاكَ بِآ َيةٍ مّن رّ ّبكَ }[طه.]47 :
سلْ َمعَنَا بَنِي إِسْرَائِي َ
وفي موضع آخر {:فَأَرْ ِ
إذن :فتلوين الساليب في القصص القرآني يشرح لقطاتٍ مختلفة من القصة ،ويُوضّح بعض
جوانبها ،وإنْ بدا هذا تكرارا في المعنى الجمالي ،وهذا واضح في وقوله تعالى في أول قصة
عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ عَ ُدوّا وحَزَنا }[القصص.]8 :
طهُ آلُ فِرْ َ
موسى عليه السلم {:فَالْ َتقَ َ
وفي أية أخرى يقول تعالى على لسان امرأة فرعون {:قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََلكَ }[القصص ]9 :وكأن ال
تعالى يقول :ستأخذونه ليكون قُرّة عين لكم ،إنما هو سيكون عدوا.
وال تعالى يقول {:وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيحُولُ بَيْنَ ا ْلمَ ْر ِء َوقَلْبِهِ }[النفال ]24 :ففرعون في حين كان
يقتل الطفال من بني إسرائيل ،ويستحيي البنات ،جاءه هذا الطفل بهذه الطريقة اللفتة للنظر،
ن يفهموا أن مَنْ أُلقِي في التابتوت وفي اليمّ بافتعال ،هو بهدف نجاته من القتل ،فلو
فكان عليهم أ ْ
كان فرعون إلها ،فكيف مرّت عليه هذه الحيلة وجازتْ عليه؟
وهذا يدل على أن ال تعالى إذا أراد إنفاذ أمر سلب من ذوي العقول عقولهم ،وحال بين المرء
وقلبه ،ويدل على غباء قومه؛ لنهم لو تأملوا هذه المسألة لظهر لهم كذب فرعون في ادعائه
اللوهية.
فكان ردّ فرعون على موسى عليه السلم { :قَالَ أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا }
()2920 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمُ ِركَ سِنِينَ ()18
قَالَ أَلَمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِ ْثتَ فِينَا مِنْ ُ
ب وكبر ،وكأنه
ش ّ
يريد فرعون أنْ يُذكّر موسى بما كان من أمر تربيته في بيته لعدة سنوات ،حتى َ
يُوبّخه كيف يقف منه هذا الموقف العدائي بعدما كان منه.
عمُ ِركَ سِنِينَ } [الشعراء ]18 :ويقال :إن موسى لبث في بيت فرعون حتى سِنّ
{ وَلَبِ ْثتَ فِينَا مِنْ ُ
الثامنة عشرة ،أو سِنّ الثلثين ،فالمعنى أنه ربّاه ولبث معه أيضا عدة سنوات.
والمتأمل في هذه الحجة التي يظنها فرعون لصالحه يجد أنها ضده ،وأنها تكشف عن غبائه ،فلو
ضمّه إليه ورعاه.
كان إلها كما يدعي لعرف أن هلكه سيكون على يدي هذا الطفل الذي َ
()2921 /
َو َفعَلْتَ َفعْلَ َتكَ الّتِي َفعَ ْلتَ وَأَ ْنتَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ ()19
والمراد بال ِفعْلة قتل موسى عليه السلم للرجل الذي وكزه فمات { وَأَنتَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } [الشعراء:
]19يصح من الكافرين بألوهية فرعون ،أو من الجاحدين لنعمنا عليك وتربيتنا لك.
لذلك العقلء يروْنَ أن النسان حين يربي الولد ويراهم كما يحب ،فليعلم أنه توفيق وعناية من
ال تعالى ،بدليل أن البناء يُربّون في بيئة واحدة ،وربما كانا توأميْن ،ومع ذلك ترى أحدهما
صالحا والخر طالحا ،فالمسألة عناية إلهية عليا ،وقد التقط أحد الشعراء هذا المعنى فقال:إِذَا َلمْ
تُصاَ ِدفَ في بَنيكَ عِنَاي ًة فقَدْ ك َذبَ الراجي وخَابَ المؤَمّلُفمُوسى الذِي رَبّاه جِبْريلُ كَافِ ٌر ومُوسَى
الذي رَبّاهُ فِرْعَونُ مُرْسَلُوالمراد موسى السامري صاحب العجل ،وقد وضعته أمه في صحراء
وماتت ،فأرسل ال إليه جبريل عليه السلم يرعاه ويُربّيه .ول تأتي هذه المفارقات إل بعناية ال
سبحانه.
()2922 /
يقول موسى عليه السلم :أنا ل أنكر أنني قتلتُ ،لكنني قتلتُ وأنا من الضالين .يعني :الجاهلين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بما يترتب على عملية القتل ،وما كنت أعتقدُ أبدا أن هذه ال َوكْزة ستقضي على الرجل.
ضلّ
فكلمة { الضّالّينَ } [الشعراء ]20 :هنا ل تعني عدم الهدى ،فمن هذا المعنى للضلل قولهمَ :
الطريق ،وهو لم يتعمد أن يضل ،إنما تاه رَغْما عنه.
حدَا ُهمَا الُخْرَىا }[البقرة.]282 :
ضلّ ِإحْدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ إِ ْ
ومنه قوله تعالى في الشهادة {:أَن َت ِ
ك ضَآلّ َفهَدَىا }[الضحى ]7 :أي :متحيرا
وقوله تعالى مخاطبا نبيه صلى ال عليه وسلمَ {:ووَجَ َد َ
بين الباطل الذي يمارسه قومه ،وبين الحق الذي ل يجد له بينة.
()2923 /
سلِينَ ()21
جعَلَنِي مِنَ ا ْلمُرْ َ
ح ْكمًا وَ َ
خفْ ُتكُمْ َفوَ َهبَ لِي رَبّي ُ
َففَرَرْتُ مِ ْنكُمْ َلمّا ِ
حكْما } [الشعراء ]21 :أي :أنْ أضع الشياء في مواضعها ،وجاءت هذه الكلمة بعد{ َفعَلْ ُتهَآ إِذا
{ ُ
وَأَنَاْ مِنَ الضّالّينَ }[الشعراء ]20 :كأنه يقول :أنا وكزتُ الرجل ،هذا صحيح ،فمات ،وهذا خطأ
غير مقصود وإنني مظلوم فيه؛ لن ال قد أعطاني حكما وقدرة لضع الشياء في محلها.
جعَلَنِي مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } [الشعراء.]21 :
ليس هذا فحسب ،إنما أيضا { :وَ َ
()2924 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2925 /
يعني :مسألة جديدة هذه الذي جئتَ بها يا موسى ،فمن َربّ العالمين الذي تتحدث عنه؟
()2926 /
لن السماوات بما فيها من كواكب ونجوم وشمس وقمر وأفلك وأبراج ،والرض وما فيها من
بحار وأنهار وجبال و ِقفَار ونبات وحيوان وإنسان .قد وُجِدتْ قبل أن توجد أنت أيها الله
الفرعون!!
إذنَ :ردّ عليه بشيء ثبت في الكون قبل مجيئه ،وقبل مولده .وكأن المعنى المراد لموسى عليه
السلم :أخبرني يا فرعون ،يا مَنْ تدعي اللوهية ،ما الذي زاد في الكون بألوهيتك له؟ وإنْ كان
هذا الكون كله بسمائه وأرضه ل رب العالمين ،فماذا فعلتَ أنت؟
ولم يقتصر على السماوات والرض ،وإنما { َومَا بَيْ َن ُهمَآ } [الشعراء ]24 :أي :من هواء وطير
يَسْبح في الفضاء ،وكانوا ل يعرفون ما نعرفه الن من أسرار الهواء ،وانتقال الصوت والصورة
جوّ السماء فيما بين السماء والرض من السرار ما يستحق التأمل.
من خلله ،ففي َ
ثم يتلطف معهم فيقول { :إِن كُن ُتمْ مّوقِنِينَ } [الشعراء ]24 :يعني :إنْ كنتم موقنين بأن هذه الشياء
لم يخلقها إل ال.
حوْلَهُ }
ثم يقول الحق سبحانه ذاكرا جدال فرعون ،فقال { :قَالَ ِلمَنْ َ
()2927 /
يقول فرعون لمن حوله من أتباعه الذين أقروا له باللوهية :أل تستمعون لما يقول؟ يعني :موسى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه السلم .وهذه الكلمة ل يقولها فرعون إل إذا أحسّ من قومه ارتياحا لما قاله موسى من َنفْي
الربوبية واللوهية عن فرعون ونسبتها ل تعالى ،خالق السموات والرض.
سكِتوه ،لكن لم يحدث شيء
وكان فرعون ينتظر من قومه أنْ يتص ّدوْا لما يقوله موسى ،فينهروه ويُ ْ
من هذا ،مما يدل على أنهم كانوا يتمنْونَ أن ينتصر موسى ،وأن يندحر فرعون؛ لنه كبت
حرياتهم وآراءهم ،كما كانوا يعرفون كذبه وينتظرون الخلص منه.
بدليل ما حكاه القرآن عن الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه من آل فرعون ،وبدليل الذين أتوا
حسّنوا له مسألة السحرة وهم يريدون أن يُهزَم.
فيما بعد و َ
وقبل أنْ يردّ أحد من قوم فرعون بادرهم موسى عليه السلم { :قَالَ رَ ّبكُ ْم وَ َربّ آبَآ ِئكُمُ }
()2928 /
هنا ينقل موسى عليه السلم فرعونَ من الجو الكوني المحيط به في السماء والرض وما بينهما
إلى ذات نفسه ،يقول له :إنّ لك آباء قبل أنْ تُولد ،وقبل أن تدعي اللوهية ،فمن كان ربهم؟
فلما ضَيّق موسى عليه السلم الخناق على فرعون ،أراد أنْ يخرج من هذا الجدل وهذه المناظرة
الخاسرة فقال محاولً إنقاذ موقفه { :قَالَ إِنّ رَسُوَلكُمُ }
()2929 /
وهذه العبارة من فرعون تفضح المتكلّم بها ،فقد شهد لموسى بأنه رسول ،وخانه لفظه من حيث ل
يدري.
()2930 /
ق وَا ْل َمغْ ِربِ َومَا بَيْ َن ُهمَا إِنْ كُنْ ُتمْ َت ْعقِلُونَ ()28
قَالَ َربّ ا ْل َمشْرِ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يرد موسى عليه السلم بحجة أخرى ،لكن يختمها هذه المرة بقوله { :إِن كُنتُمْ َتعْقِلُونَ } [الشعراء:
]28وقد قال في سابقتها{ إِن كُنتُمْ مّوقِنِينَ }[الشعراء ]24 :كأنه يقول لفرعون :ما دام قد وصل
بك المر لنْ تتهمني بالجنون فلن أقول إنْ كنتم موقنين ،إنما إنْ كنتم تعقلون ،فجاء بمقابل
الجنون.
خ ْذتَ }
فيُنهي فرعون هذا النقاش ،ويأتي بخلصة المر كما يرى ،فيقول { :قَالَ لَئِنِ اتّ َ
()2931 /
وهذا من فرعون إفلس في الحجة ،ولو كان عنده رَدّ لما يقوله موسى لردّ عليه ،ولَقرع الحجة
خصْمه بأن هدده بالسجن والبعاد ،وكان المسجون عندهم يظل في
بالحجة ،لكنه تقوّى على َ
السجن حتى الموت.
ولم يُراع فرعون في هذه المسألة الناس من حوله ،أن يكتشفوا هذا الفلس ،وهذا الحمق في
رَدّه.
ويُؤخّر موسى عليه السلم ما معه من اليات ،ويستمر في الجدل وإظهار الحجة { :قَالَ َأوََلوْ
جِئْ ُتكَ }
()2932 /
يعني :إذا لم تقنع بكل الحجج السابقة ،فهل لو جئتك بآية واضحة دالة على صدق رسالتي،
أتجعلني أيضا من المسجونين؟
()2933 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
انظر إلى تعارض فرعون مع نفسه ،فكان عليه ساعةَ أنْ يسمع من موسى هذا الكلم أنْ يُصر
على سجنه ،لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أنْ يُظهر حجته ،فيجعل فرعون هو الذي يطلبها
بنفسه { قَالَ فَ ْأتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } [الشعراء ]31 :وما كان لموسى أن يأتي بآية إل أنْ
يطلبها منه فرعون.
()2934 /
إلقاء العصا له في القرآن ثلث مراحل :الولى :هي التي واكبتْ اختيار ال لموسى ليكون
رسولً ،حين قال لهَ {:ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه ]17 :وقلنا :إن موسى عليه السلم أطال في
عصَايَ أَ َت َوكّأُ
إجابة هذا السؤال لحرصه على إطالة مدة الُنْس بال ـ عز وجل ـ فقالِ {:هيَ َ
عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا }[اطه.]18 :
فالعصا في نظر موسى ـ عليه السلم ـ عود من الخشب قريب عهد بأصله ،كغصن في شجرة،
سعَىا }[طه19 :ـ
لكنها عند ال لها قصة أخرى {:قَالَ أَ ْل ِقهَا يامُوسَىا * فَأَ ْلقَاهَا فَإِذَا ِهيَ حَيّةٌ َت ْ
.]20
وما صارت العصا عصا إل بعد أنْ ُقطِعت من شجرتها ،وفقدت الحياة النباتية ،وتحولت إلى
جماد ،فلو عادت إلى أصلها وصارت شجرةً من جديد لكان المر معقولً ،لكنها تجاوزتْ مرتبة
النباتية ،وتحولت إلى الحيوانية ،وهي المرتبة العلى؛ لذلك فزع منها موسى وخاف فطمأنه ربه:
خفْ سَ ُنعِيدُهَا سِيَر َتهَا الُولَىا }[طه.]21 :
{ قَالَ خُذْهَا َولَ تَ َ
وكانت هذه المرة بمثابة تدريب لموسى عليه السلم؛ ليألف العصا على هذه الحالة ،وكأن ال
تعالى أراد لموسى أنْ يُجري هذه التجربة أمامه ،ليكون على ثقة من صِدْق هذه الية ،فإذا ما جاء
لقاء فرعون ألقاها دون خوف ،وهو واثق من نجاحه في هذه الجولة.
إذن :كان اللقاء الثاني للعصا أمام فرعون وخاصته ،ثم كان اللقاء للمرة الثالثة أمام السحرة.
ومعنى { ُثعْبَانٌ مّبِينٌ } [الشعراء ]32 :يعني :بيّن الثعبانية ،فيه حياة وحركة ،وقال { ُثعْبَانٌ مّبِينٌ }
[الشعراء ]32 :يعني :واضح للجميع؛ لنهم كانوا يجيدون هذه المسألة ويُخيّلون للناس مثل هذه
الشياء ،ويجعلونها تسعى وتتحرك ،ولم تكن عصا موسى كذلك ،إنما كانت ثعبانا مبينا واضحا
وحقيقيا ل يشكّ في حقيقته أحد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمتتبع للقطات المختلفة لهذه الحادثة في القرآن الكريم يجد السياق يُسمّيها مرة ثعبانا ،ومرة
حية ،ومرة جانا ،لماذا؟ قالوا :لنها جمعت كل هذه الصفات :فهي خفة حركتها كأنها جان ،وفي
شكلها المرعب كأنها حية ،وفي التلوّي كأنها ثعبان .والجان :فرخ الحية.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَنَ َزعَ يَ َدهُ فَِإذَا ِهيَ بَ ْيضَآءُ }
()2935 /
هنا يتكلم عن نزع اليد؛ لنه قال في آية أخرى {:اسُْلكْ يَ َدكَ فِي جَيْ ِبكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
}[القصص.]32 :
وهكذا تتكامل لطقات القصة الواحدة ،والتي يظنها البعض تكرارا ،وليست هي كذلك.
{ وَنَ َزعَ } [الشعراء ]33 :يعني :أخرج يده { فَإِذَا ِهيَ بَ ْيضَآءُ لِلنّاظِرِينَ } [الشعراء ]33 :مع أن
سمْرة ،ومع ذلك خرجتْ بيضاء ،لها شعاع وبريق
موسى عليه السلم كان آدم اللون يعني فيه ُ
يأخذ بالبصار.
وبمقارنة هذه الية بآية سورة القصص نجد أنه حذف من آية سورة الشعراء الجيب ،وهو فتحة
الثوب من أعلى ،ل الجيب المتعارف عليه ،والذي نضع فيه النقود مثلً ،وكانوا في الماضي
يجعلون الجيب بداخل ملبس النسان ،ليكون في مأمن ،فإذا أراد النسان شيئا فيه مَدّ يده من
سمّيتْ جيبا.
خلل الفتحة العليا للثوب ،ف ُ
()2936 /
المل :هم عليْة القوم ،الذين يملون العيون ،ويتصدّرون المجالس { إِنّ هَـاذَا َلسَاحِرٌ عَلِيمٌ }
[الشعراء ]34 :فاتهمه بالسحر ليخرج من ورطته وقال :ساحر لن موسى لم يمارس هذه المسألة
إل مرة واحدة هي التي أجراها أمام فرعون ،لكن المل على علم بالسحر وإِلْف له ،وعندهم
سحارون كثيرون.
وفَرْق بين ساحر وسحّار :ساحر لمن مارس هذه العملية مرة واحدة ،إنما سحّار مبالغة تدل على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنها أصبحت حِرْفته ،مثل ناجر ونجّار ،وخائط وخيّاط.
و { عَلِيمٌ } الشعراء ]34 :أي :بسحره.
()2937 /
هنا يستعدي فرعون قومه على موسى ،ويُحذرهم أنه سيفسد العامة والدهماء ،وتكون له الغلبية،
وتكون له شيعة يناصرونه عليكم حتى يُخرِجكم من أرضكم ،وهذا أقلّ ما يُنتظر منه ،يريد أن
صفّ فرعون.
يهيج عليه المل من قومه؛ ليكونوا أعداء له يقفون في َ
ن يقول الفرعون الله { َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ } [الشعراء ]35 :فهذه هي اللوهية الكاذبة التي
وعجيب أ ْ
انحدرتْ إلى مرتبة العبيد ،ومتى يأخذ الله رأي عبيده ،ويطلب منهم المعونة والمشورة؟ ولو كان
إلها بحق لكان عنده الحل ولديه الردّ.
فلما نزل فرعون من منزلة اللوهية ،وطلب الستعانة بالمل من قومه التفتوا إلى كذبه ،ووجدوا
الفرصة مواتية للخلص منه ،ومما يدل على أن أكثرهم وجمهرتهم كانوا يجارونه على مضض،
ج ْه وَأَخَاهُ }
وينتظرون لحظة الخلص من َقهْره وكذبه؛ لذلك قالوا { :قَالُواْ أَرْ ِ
()2938 /
{ أَ ْرجِهْ } [الشعراء ]36 :من الرجاء وهو التأخير ،أي :أخّره وأخاه لمدة { وَا ْب َعثْ فِي ا ْلمَدَآئِنِ
حَاشِرِينَ } [الشعراء ]36 :ابعث رسلك يجمعون السّحارين من أنحاء البلد ،ليقابلوا بسحرهم
موسى وهارون .والمدائن :جمع مدينة.
()2939 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سحّارٍ } [الشعراء ]37 :بصيغة المبالغة { عَلِيمٍ } [الشعراء ]37 :أي :بفنون السّحْر وأل
وقال { َ
عيب السّحَرة.
()2940 /
الميقات :أي الوقت المعلوم ،وفي آية أخرى {:قَالَ َموْعِ ُدكُمْ َيوْمُ الزّي َنةِ }[طه ]59 :وكان يوما
مشهودا عندهم ،ترتدي في الفتيات أبهى حُلَلها،وكان يوم عيد يختارون فيه عروس النيل التي
سيُلْقونها فيه ،فحدد اليوم ،ثم لم يترك اليوم على إطلقه ،إنما حدد من اليوم وقت الضحى{ وَأَن
س ضُحًى }[طه.]59 :
حشَرَ النّا ُ
يُ ْ
سوًى }[طه ]58 :يعني :فيه سوائية ،إما باستواء
وفي لقطة أخرى حدد المكان ،فقالَ {:مكَانا ُ
المكان حتى يتمكّن الجميع من رؤية هذه المباراة السحرية ،بحيث تكون في ساحة مستوية
الرض ،أو يكون مكانا سواسية متوسطا بين المدائن التي سيجمع منها السحرة ،بحيث ل يكون
متطرفا ،يشقّ على بعضهم حضوره.
وهكذا تتكاتف اللقطات المختلفة لترسم الصورة الكاملة للقصة.
ونرى في هذه المشورة حِ ْرصَ المل على إتمام هذا اللقاء ،وأن يكون على رؤوس الشهاد ،لنهم
يعلمون أنها ستكون لصالح موسى ،وسوف يفضح هذا اللقاءُ كذبَ فرعون في ادعائه اللوهية.
()2941 /
َوقِيلَ لِلنّاسِ َهلْ أَنْتُمْ ُمجْ َت ِمعُونَ (َ )39لعَلّنَا نَتّ ِبعُ السّحَ َرةَ إِنْ كَانُوا ُهمُ ا ْلغَالِبِينَ ()40
أي :أخذوا يدعُون الناس ،وكأنهم في حملة دعاية وتأييد ،إما لموسى من أنصاره الكارهين
لفرعون في الخفاء ،وإما لفرعون ،فكان هؤلء وهؤلء حريصين على حضور هذه المباراة.
إننا نشاهد الجمع الغفير من الجماهير يتجمع لمشاهدة مباراة في كرة القدم مثلً ،فما بالك بمباراة
بين سحرة مَنْ يدّعي اللوهية وموسى الذي جاء برسالة جديدة يقول :إن له إلها غير هذا الله؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنه حَ َدثٌ هَزّ الدنيا كلها ،وجذب الجميع لمشاهدته.
ثم يقول الحق سبحانه { :فََلمّا جَآءَ السّحَ َرةُ }
()2942 /
فََلمّا جَاءَ السّحَ َرةُ قَالُوا ِلفِرْعَوْنَ أَئِنّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنّا نَحْنُ ا ْلغَالِبِينَ ()41
()2943 /
هنا يتنازل فرعون عن تعاليه وكبريائه ويذعن لشروط سَحرته ،بل ويزيدهم فوق ما طلبوا
{ وَإِ ّنكُمْ إِذا ّلمِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ } [الشعراء ]42 :فسوف تكونون من خاصتنا ،نستعين بكم في مثل هذه
المور ،ول نستغني عنكم؛ لنكم الذين حافظتم على باطل ألوهيتنا.
()2944 /
هنا كلم محذوف ،نعرفه من سياق القصة؛ لن الية السابقة كان الكلم ما يزال بين فرعون
والسحرة ،والقرآن يحذف بعض الحداث اعتمادا على فِطْنة السامع أو القارىء ،كما قلنا في قصة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الهدهد مع سيدنا سليمان ،حيث قال له {:اذْهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا فَأَ ْلقِهْ ِإلَ ْيهِمْ ثُمّ َتوَلّ عَ ْنهُمْ فَا ْنظُرْ مَاذَا
جعُونَ }[النمل.]28 :
يَرْ ِ
ثم قال بعدها {:قَاَلتْ ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ إِنّي أُ ْل ِقيَ إَِليّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }[النمل ]29 :وحذف ما بين هذين
الحدثيْن مما نعلمه نحن من السياق.
وقوله { :أَ ْلقُواْ مَآ أَنتُمْ مّ ْلقُونَ } [الشعراء ]43 :هذه هي الغاية التي انتهى إليها بعد المحاورة مع
السحرة.
()2945 /
فكانت العصىّ والحبال هي آلت سحرهم { َوقَالُواْ ِبعِ ّزةِ فِرْعَونَ إِنّا لَنَحْنُ ا ْلغَالِبُونَ } [الشعراء:
]44بعزة فرعون :هذا قسمهم ،وما أخيبه من قسم؛ لن فرعون ل يُغلَب ول يُقهر في نظرهم،
وسبق أن أوضحنا أن العزة تعني عدم القهر وعدم الغلبة ،لكن عزة فرعون عزة كاذبة وأنفة
وكبرياء بل رصيد من حق ،وعزة بالثم كالتي قال ال عنها {:وَإِذَا قِيلَ َلهُ اتّقِ اللّهَ َأخَذَ ْتهُ ا ْلعِ ّزةُ
بِالِثْمِ }[البقرة.]206 :
شقَاقٍ }[ص1 :ـ ]2أي :عزة
وقال تعالى {:ص وَا ْلقُرْآنِ ذِي ال ّذكْرِ * َبلِ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي عِ ّز ٍة وَ ِ
بإثم ،وعزة بباطل.
ن الَعَزّ مِ ْنهَا الَ َذلّ }
جعْنَآ ِإلَى ا ْل َمدِينَةِ لَ ُيخْرِجَ ّ
ومنه أيضا قوله تعالى عن المنافقين {:لَئِن رّ َ
[المنافقون ]8 :فصدّق القرآن على قولهم بأن العزّ سيُخرج الذلّ ،لكن{ وَلِلّهِ ا ْلعِ ّز ُة وَلِرَسُولِهِ
وَلِ ْل ُمؤْمِنِينَ }[المنافقون.]8 :
وما دام المر كذلك فأنتم الذّلة ،وأنتم الخارجون ،وقد كان.
ويقال :إن أدوات سحرهم وهي العصيّ والحبال كانت مُجوفة وقد ملئوها بالزئبق ،فلما ألقوها في
ضوء الشمس وحرارتها أخذتْ تتلعب ،كأنها تتحرك ،وهذا من حيل السّحَرة وألعيبهم التي
تُخيّل للعين وهي غير حقيقية ،فحقيقة الشيء ثابتة ،أمّا المسحور فيخيل إليه أنها تتحرك.
عصَاهُ }
ثم يقول الحق سبحانه { :فَأَ ْلقَىا مُوسَىا َ
()2946 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عصَاهُ فَِإذَا ِهيَ تَ ْل َقفُ مَا يَ ْأ ِفكُونَ ()45
فَأَ ْلقَى مُوسَى َ
ولم يَأْت إلقاء موسى عليه السلم لعصاه مباشرة بعد أن ألقى السحرة ،إنما هنا أحداث ُذكِرتْ في
عصِيّهُمْ يُخَ ّيلُ إِلَيْهِ مِن سِحْ ِرهِمْ
آيات أخرى ،وفي لقطات أخرى للقصة ،يقول تعالى {:فَإِذَا حِبَاُل ُه ْم وَ ِ
سعَىا }[طه.]66 :
أَ ّنهَا تَ ْ
خفْ إِ ّنكَ أَنتَ الَعْلَىا * وَأَ ْلقِ مَا فِي َيمِي ِنكَ تَ ْل َقفْ مَا
سهِ خِيفَةً مّوسَىا * قُلْنَا لَ َت َ
جسَ فِي َنفْ ِ
{ فََأوْ َ
صَ َنعُواْ إِ ّنمَا صَ َنعُواْ }[طه67 :ـ .]69
هكذا كانت الصورة ،فلما خاف موسى ثبّته ربه ،وأيّده بالحق وبالحجة ،وتابعه فيما يفعل لحظةً
بلحظة؛ ليوجهه وليُعدّل سلوكه ،ويشدّ على قلبه ،وما كان الحق ـ تبارك وتعالى ـ ليرسله ثم
سمَعُ
يتخلى عنه ،وقد قال له ربه قبل ذلك {:وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه ]39 :وقال {:إِنّنِي َم َع ُكمَآ أَ ْ
وَأَرَىا }[طه ]46 :فالحق سبحانه يعطي نبيه موسى الوامر ،ويعطيه الحجة لتنفيذها ،ثم يتابعه
بعنايته ورعايته.
ومن ذلك قوله تعالى لنبيه نوح {:وَاصْنَعِ ا ْلفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا }[هود.]37 :
فحينما تجمع هذه اللقطات تجدها تستوعب الحدث ،ويُكمّل بعضها بعضا ،وهذا يظنه البعض
تكرارا ،وليس هو كذلك.
إذن :جاء إلقاء موسى لعصاه بعد توجيه جديد من ال أثناء المعركة {:وَأَلْقِ مَا فِي َيمِي ِنكَ }[طه:
عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ َت ْلقَفُ مَا يَ ْأ ِفكُونَ } [الشعراء ]45 :ومعنى { تَ ْل َقفُ }
]69وهنا { :فَأَ ْلقَىا مُوسَىا َ
[الشعراء ]45 :تبتلع وتلتهم في سرعة وقوة ،أما السرعة واختصار الزمن والقوة ،فتدل على
الخذ بشدة وعُنْف ،وفي هذا دليل على أنه خاض المعركة بقوة ،فلم تضعف قوته لما رأى من
ألعيب السّحَرة.
س ّموْا الكذب إفْكا؛ لنه
ومعنى { مَا يَ ْأ ِفكُونَ } [الشعراء ]45 :من الفك يعني :قلْب الحقائق؛ لذلك َ
يقلب الحقيقة ويُغير الواقع.
ومنها{ وَا ْلمُؤْ َت ِفكَةَ أَ ْهوَىا }[النجم ]53 :وهي القرى الظالمة التي أهلكها ال ،فجعل عاليها سافلها.
سبٌ ثلث :نسبة في
وسبق أن أوضحنا أن الكذب وقَلْب الحقائق يأتي من أنك حين تتكلم ،فللكلم نِ َ
الذّهْن ،ونسبة على اللسان ،ونسبة في الواقع .فإنْ طابقتْ النسبةُ الكلمية الواقع ،فأنت صادق،
وإنْ خالفتْه فأنت كاذب.
سمّى ما يفعله السحرة إفكا؛ لنهم يُغيّرون الحقيقة ،ويُخيّلون للناس غيرها.
وَ
()2947 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فَأُ ْلقِيَ السّحَ َرةُ سَاجِدِينَ ()46
()2948 /
وحين نتأمل ردّ ِفعْل السحرة هنا نجد أنهم خرّوا ل ساجدين أولً ،ثم أعلنوا إيمانهم ثانيا ،ومعلوم
أن اليمان يسبق العمل ،وأن السجود ل يتأتي إل بعد إيمان ،فكيف ذلك؟
قالوا :هناك فَرْق بين وقوع اليمان ،وبين أنْ تخبر أنت عن اليمان ،فالمتأخر منهم ليس اليمان
بل الخبار به؛ لنهم ما سجدوا إل عن إيمان واثق ينجلي معه كل شكّ ،إيمان خطف ألبابهم
وألقاهم على الرض ساجدين ل ،حتى لم يمهلهم إلى أنْ يعلنوا عنه ،لقد أعادهم إلى الفطرة
اليمانية في النفس البشرية ،والمسائل الفطرية ل علجَ للفكر فيها.
وكأن سائلً سألهم :لِمَ تسجدون؟ قالوا { :آمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * َربّ مُوسَىا وَهَارُونَ } [الشعراء:
47ـ .]48
وقالوا :ربّ موسى وهارون بعد رب العالمين ،ليقطعوا الطريق على فرعون وأتباعه أن يقول
مثلً :أنا رب العالمين ،فأزالوا هذا اللبْس بقولهم { َربّ مُوسَىا وَهَارُونَ } [الشعراء.]48 :
ومثال ذلك قول بلقيس عندما رأت عرشها عند سليمان ـ عليه السلم ـ لم تقل :أسلمت لسليمان،
إنما قالت {:وَأَسَْل ْمتُ مَعَ سُلَ ْيمَانَ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[النمل ]44 :فأنا وأنت مسلمان لله واحد هو
ال رب العالمين ،وهكذا يكون إسلم الملوك ،وحتى ل يظن أحد أنها إنما خضعتْ لسليمان؛ لذلك
احتاطتْ في لفظها لتزيل هذا الشك.
()2949 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طعَنّ أَ ْيدِ َيكُمْ
سوْفَ َتعَْلمُونَ لَُأقَ ّ
قَالَ َآمَنْتُمْ َلهُ قَ ْبلَ أَنْ َآذَنَ َلكُمْ إِنّهُ َلكَبِي ُركُمُ الّذِي عَّل َمكُمُ السّحْرَ فََل َ
ج َمعِينَ ()49
ف وَلَُأصَلّبَ ّنكُمْ أَ ْ
وَأَرْجَُلكُمْ مِنْ خِلَا ٍ
()2950 /
أي :ل ضررَ علينا إنْ قتلتنا؛ لن مصير الجميع إلى الموت ،لكن إنْ كانت نهايتنا على يديك
فوسف نسعد نحن بلقاء ربنا ،وتَشْقى أنت بجزاء ربك .كالطاغية الذي قال لعدوه :لقتلنك فضحك،
فقال له :أتسخر مني وتضحك؟ قال :كيف ل أضحك من أمر تفعله بي يُسعدني ال به ،وتشقى به
أنت؟
إذن :ل ضررَ علينا إنْ قُتِلْنا؛ لننا سنرجع إلى ال ربنا ،وسنخرج من ألوهية باطلة إلى لقاء
اللوهية الحقة ،فكأنك فعلتَ فينا جميلً ،وأسديتَ لنا معروفا إذْ أسرعتَ بنا إلى هذا اللقاء ،وما
ستُ أُبَالِي حِينَ ُأقْ َتلُ
تظنه في حقنا شَرّ هو عين الخير ،لذلك َفهِم الشاعر هذا المعنى ،فقال عنه:وَلَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن في الِ َمصْرعييعني :ما ُد ْمتُ قد ُمتّ في سبيل السلم ،فل يُهم بعد
مُسْلِما عَلى َأيّ جَ ْنبٍ كا َ
ذلك ،ول أبالي أيّ موتة هي.
والمؤمنون هنا حريصون على أمرين :الولَ :نفْي الضرر؛ لن دَرْء المفسدة مُقدّم على جَلْب
المصحلة ،والثاني :التأكيد على النفع الذي سينالونه من هذا القتل.
طمَعُ أَن َي ْغفِرَ }
ثم يقول الحق سبحانه { :إِنّا نَ ْ
()2951 /
لنك أكرهتنا على السحر ،وحملْتنا على الكذب ،ومكثنا عمرا نعتقد أنك إله ،فلعلّ مبادرتنا إلى
اليمان وكوْننا أولَ المؤمنين يشفع لنا عند ربنا ،فيغفر لنا خطايانا ،وفي موضع آخر {:إِنّآ آمَنّا
خطَايَانَا َومَآ َأكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ }[طه.]73 :
بِرَبّنَا لِ َي ْغفِرَ لَنَا َ
فذكر هناك مسألة الكراه ،وذكر هنا العلة { :أَن كُنّآ َأوّلَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [الشعراء.]51 :
()2952 /
وََأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ ِبعِبَادِي إِ ّن ُكمْ مُتّ َبعُونَ ()52
قلنا :الوحي لغةَ :إعلم بخفاء ،وشرعا :إعلم من ال لرسول من رسله بمنهج خير لخَلْقه.
خذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا }[النحل:
حلِ أَنِ اتّ ِ
ومن الوحي المطلق قوله تعالى {:وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ
.]68
وقوله سبحانه {:وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ ِإلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ }[النعام.]121 :
ضعِيهِ }[القصص.]7 :
وقوله تعالى {:وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
فالوحي العام إذن ل نسأل عن الموحِي ،أو الموحَى إليه ،أو موضوع الوحي ،فقد يكون الوحي
من الشيطان ،والموحَى إليه قد يكون الرض أو الملئكة أو الحيوان ،على خلف الوحي
الشرعي ،فهو محدد ومعلوم.
لقد قام فرعون بحملة دعاية لهذه المعركة مع موسى ـ عليه السلم ـ وحشد الناس لمشاهدة هذه
المباراة ،وهذا دليل على أنه قدّر أنه سيغَلِب ،لكن خيّب ال ظنه ،وكانت الجولة لمصلحة موسى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه السلم ،فآمن السحرة بال تعالى رب موسى وهارون ،فأخذ يهددهم ويتوعدهم ،وهو يعلم أنّ
ما رأوْه من اليات الباهرات يستوجب اليمان.
ومع ذلك لما غُلِب فرعون وضاعتْ هيبته وجباريته وقاهريته سكت جمهور الناس ،فلم ينادوا
بسقوطه ،واكتفوا بسماع أخبار موسى ،وظل هذا الوضع لمدة طويلة من الزمن حدث فيها اليات
التسع التي أنزلها ال ببني إسرائيل.
ومن غباء فرعون أن ينصرف عن موسى بعد أن أصبح له أتباع وأنصار ،ولم يحاول التخلص
منه حتى ل يزداد أتباعه وتقوى شوكته ،فكأن مسألة اليات التسع التي أرسلها ال عليهم قد هَ ّدتْ
كيانه وشغلته عن التفكير في آمر موسى عليه السلم.
وهكذا استشرى أمر موسى وأصبحت له إغلبية وشعبية ،حتى إن القباط أتباع فرعون كانوا
يعطفون على أمر موسى وقومه؛ لذلك استعاروا من القبط حُليّ النساء قبل الخروج مع موسى،
ومن هذه الحلي صنع السامري العجل الذي عبدوه فيما بعد.
وهنا يقول تعالى { :وََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا أَنْ َأسْرِ ِبعِبَادِي إِ ّنكُم مّتّ ِبعُونَ } [الشعراء ]52 :وقبل ذلك
سعَىا قَالَ يامُوسَىا إِنّ
جلٌ مّنْ َأ ْقصَى ا ْلمَدِي َنةِ يَ ْ
نبّهه ربه للخروج بعد أن قتل الرجل {:وَجَآءَ رَ ُ
صحِينَ }[القصص.]20 :
ا ْلمَلَ يَأْ َتمِرُونَ ِبكَ لِ َيقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي َلكَ مِنَ النّا ِ
أما الن ،فالمؤامرة عليه وعلى مَنْ معه من المؤمنين.
ومعنى { َأسْرِ } [الشعراء ]52 :السراء :المشي ليلً { إِ ّنكُم مّتّ ِبعُونَ } [الشعراء ]52 :يعني:
سيتبعكم جنود فرعون ويسيرون خلفكم.
سلَ فِرْعَونُ فِي ا ْلمَدَآئِنِ }
ثم يقول الحق سبحانه { :فَأَ ْر َ
()2953 /
عوْنُ فِي ا ْل َمدَائِنِ حَاشِرِينَ ( )53إِنّ َهؤُلَاءِ لَشِرْ ِذ َمةٌ قَلِيلُونَ ( )54وَإِ ّنهُمْ لَنَا َلغَا ِئظُونَ ()55
سلَ فِرْ َ
فَأَرْ َ
الفاء هنا للتعقيب ،فوَحْى ال لموسى أن َيسْري ببني إسرائيل تَمّ قبل أن يبعثَ فرعون في المدائن
حاشرين ،وكأن ال تعالى يحتاط لنبيه موسى ليخرج قبل أن يهيج فرعونُ الناسَ ،ويجمعهم ضد
موسى ويُجري لهم ما نسميه نحن الن (غسيل مخ) ،أو يعلن على موسى وقومه حرب العصاب
التي تؤثر على خروجهم.
و { حَاشِرِينَ } [الشعراء ]53 :من الحشر أي :الجمع ،لكن جمع هذه المرة للجنود ل للسحرة،
لنهم هُزِموا في مُباراة السحرة ،فأرادوا أنْ يستخدموا سلحا آخر هو سلح الجبروت والتسلّط
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحرب العسكرية ،فإنْ فشلت الولى فلعلّ الخرى تفلح ،لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ أخبر
نبيه موسى بما يُدبّر له وأمره بالخروج ببني إسرائيل.
وقَوْل فرعون عن أتباع موسى { :إِنّ هَـاؤُلءِ لَشِ ْر ِذمَةٌ قَلِيلُونَ } [الشعراء ]54 :يريد أن يُهوّن
من شأنهم ويُغري قومه بهم ،ويُشجّعهم على مواجهتهم ،لكن مع ذلك يُحذّرهم من خطرهم ،فيقول
{ وَإِ ّنهُمْ لَنَا َلغَآئِظُونَ } [الشعراء ]55 :فأَعِدّوا لهم العدة ،ول تستهينوا بأمرهم.
()2954 /
()2955 /
أي :لم ينفعه احتياطه ،ولم ُيجْدِ حذره ،فل يمنع حَذَر من َقدَر { فََأخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنّاتٍ } [الشعراء:
]57أي :بساتين وحدائق { وَعُيُونٍ } [الشعراء ]57 :أي :عيون تجري بالماء { َوكُنُوزٍ }
سعَةٍ ورَغَدٍ
[الشعراء ]58 :كانت عندهم { َومَقَامٍ كَرِيمٍ } [الشعراء ]58 :يعني :عيشة مُتْرفة في َ
من الحياة ،وخدَم وحَشَم.
ك وََأوْرَثْنَاهَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ }
ثم يقول الحق سبحانهَ { :كذَِل َ
()2956 /
{ َكذَِلكَ } [الشعراء ]59 :أي :المر كما أقول لكم وكما وصفتُ { وََأوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[الشعراء ]59 :أي :أورثنا هذا النعيم من بعدهم لبني إسرائيل ،وهنا قد يسأل سائل :كيف وقد
ترك بنو إسرائيل مصر وخرجوا منها ،ولم يأخذوا شيئا من هذا النعيم؟
قالوا :المعنى أورثهم ال أرضا مثلها ،قد وعدهم بها في الشام.
()2957 /
أي :عند الشروق ،وعادةً ما تكون الغارة على الجيش عند الصباح ،ومن ذلك قوله تعالى:
{ فَِإذَا نَ َزلَ بِسَاحَ ِتهِمْ فَسَآ َء صَبَاحُ ا ْلمُنْذَرِينَ }[الصافات.]177 :
وعاد ًة ما يقوم النسان من النوم كسولً غير نشيط ،فكيف بمَنْ هذه حاله إِن التقى بعدوه؟
ج ْمعَانِ }
ثم يقول الحق سبحانه { :فََلمّا تَرَاءَا ا ْل َ
()2958 /
ج ْمعَانِ } [الشعراء ]61 :أي :صار كل منهما يرى الخر ،وحدثتْ بينهما
معنى { :تَرَاءَا ا ْل َ
المواجهة ،وعندها { قَالَ َأصْحَابُ مُوسَىا إِنّا َل ُمدْ َركُونَ } [الشعراء ]61 :فالحال أن البحر من
ص ول مهرب ،لكن موسى ـ عليه السلم ـ وقد سبق
أمامهم وجنود فرعون من خلفهم ،فل منا َ
أن تعلم كلمة (كل) من ربه تعالى ،حينما قال {:وََلهُمْ عََليّ ذَنبٌ فََأخَافُ أَن َيقْتُلُونِ }[الشعراء]14 :
فردّ عليه ربه {:كَلّ }[الشعراء ]62 :عندها تعلّمها موسى ،وعرف كيف ومتى يقوله َقوْلةَ الواثق
بها.
()2959 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن كيف يقول موسى عليه السلم هذه الكلمة (كل) بملء فِيهِ ،والمر بقانون الماديات أنه
عُرْضة لنْ يُدْرَك قبل أن يكملها؟
والجابة في بقية الية { :إِنّ َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ } [الشعراء ]62 :فلم ي ُقلْ موسى :كَلّ اعتمادا على
قوته واحتياطه للمر ،إنما قالها اعتمادا على ربه الذي يكلؤه بعينه ،ويحرسه بعنايته.
فالواقع أنني ل أعرف ماذا أفعل ،ول كيف أتصرف ،لكن الشيء الذي أثق منه { إِنّ َم ِعيَ رَبّي
سَ َيهْدِينِ } [الشعراء ]62 :لذلك يأتي الفرج والخلص من هذا المأزق مباشرة { :فََأوْحَيْنَآ إِلَىا
مُوسَىا }
()2960 /
ذلك لن البحر هو عائقهم من أمامهم ،والبحر مياه لها قانونها الخاص من الستطراق والسيولة،
فلما ضرب موسى بعصاه البحر انفلق وانحصر الماء على الجانبين ،كل فِرْقٍ ـ أي :كل جانب
ـ كالطودْ يعني الجبل العظيم.
لكن بعد أن صار الماء إلى ضِدّه وتجمّد كالجبل ،وصنع بين الجبلين طريقا ،أليس في قاع البحر
بعد انحسار الماء طين ورواسب وأوحال وطمي يغوص فيها النسان؟
إننا نشاهد النسان ل يكاد يستطيع أن ينقل قدما إذا سار في وحل إلى ركبتيه مثلً ،فما بالك بوحْل
البحر؟
لذلك قال له ربه {:لّ َتخَافُ دَرَكا َولَ َتخْشَىا }[طه.]77 :
فالذي جعل الماء جبلً ،سيجعل لك الطريق يابسا.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يُبيّن لنا في انفلق البحر ،إلى كَمْ فلقة انفلق ،لكن العلماء يقولون:
إنه انفلق إلى اثنتي عشرة فلقة بعدد السباط ،بحيث يمر كل سَبْط من طريق.
وفي لقطة أخرى من القصة أراد موسى ـ عليه السلم ـ أنْ يضرب البحر مرة أخرى ليعود
ح ّد تفكيره كبشر ،لكن الحق ـ تبارك
إلى طبيعته ،فيسُدّ الطريق في وجه فرعون وجنوده على َ
وتعالى ـ نهاه عن ذلك {:فَأَسْرِ ِبعِبَادِي لَيْلً إِ ّنكُم مّتّ َبعُونَ * وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ رَهْوا إِ ّنهُمْ جُندٌ
ّمغْ َرقُونَ }[الدخان23 :ـ .]24
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اتركه على حاله ليُغري الطريق اليابس فرعون وجنوده ،لذلك قال سبحانه { :وَأَزَْلفْنَا َثمّ
الخَرِينَ }
()2961 /
أي :قرّبناهم من منتصف البحر ،ثم أطبقه ال عليهم حين أمر الماء أن يعود إلى سيولته وقانون
استطراقه ،وهكذا يُنجّي ال ويُهلِك بالشيء الواحد و { الخَرِينَ } [الشعراء ]64 :يعني :قوم
فرعون ،و { ثَمّ } [الشعراء ]64 :أي :هناك وسط البحر.
وللعصا مع موسى ـ عليه السلم ـ تاريخ طويل منذ أن سأله ربه{ َومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي }[طه:
[طه ]17 :فأخبر بما يعرفه عنها{ قَالَ ِهيَ َ
.]18
وقوله{ وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي }[طه ]18 :ل تعني كما يظن البعض أنها مجرد الشارة بها إلى
ش تعني أضرب بها أوراقَ الشجر لتتساقط ،فتأكلها الغنام الصغار التي ل
الغنم أو ضربها ،فأه ّ
تطول أوراقَ الشجر ،أو الكبار التي أكلتْ ما طالته أعناقها وتحتاج المزيد.
ولما وجد موسى نفسه قد أطال في هذا المقام قال{ وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَىا }[طه ]18 :كأنْ أدافع
بها عن نفسي ليلً ،إنْ تعرّض لي كلب أو ذئب مثلً ،أو أغرسها في الرض وأُلقي عليها بثوبي
لستظلّ به وقت القيلولة ،أو أجعلها على كتفي وأُعلّق عليها متاعي حين أسير..الخ.
هذه مهمة العصا كما يراها موسى ـ عليه السلم ـ لكن للعصا مهمة أخرى ل يعلمها ،فهي
حجّته وآية من اليات التي أعطاه ال ،فبها انتصر في معركة الحجة مع السّحَرة ،وبها انتصر في
ُ
معركة السلح حين ضرب بها البحر فانفلق.
ومن العجيب في أمر العصا أن يضرب بها البحر ،فيصر جبلً ،ويضرب بها الحجر فينفجر
بالماء ،وهذه آيات باهرات ل يقدر عليها إل ال عز وجل.
لذلك جعلوا عصا موسى حجة ودليلً وعَلَما على النتصار في كل شيء ،فلما كان الخصيب واليا
على مصر ،وتمرد عليه بعض قُطّاع الطرق ،وكانت لديه القوة التي قهرهم بها ،لذلك قال:فَإِنْ َيكُ
خصِيبِوفي هذا المعنى يقول شاعر آخر:إذَا جَاءَ
عصَا مُوسَى ب َكفّ َ
بَاقٍ ِإ ْفكُ فِرْعوْنَ فيكُمْ فَإنّ َ
طلَ السّحْرُ والسّاحِرُإذن :صارتْ عصا موسى عليه السلم مثَلً وعَلَما
مُوسَى وأَ ْلقَى ال َعصَا َفقَدْ َب ُ
للغَلبة في أيّ مجال من مجالت الحياة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2962 /
ج َمعِينَ ()65
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى َومَنْ َمعَهُ أَ ْ
حسِمتْ هذه المعركة لصالح موسى ومَنْ معه دون إراقة دماء ،ودون خسارة جندي واحد ،في
فقد ُ
حين أن المعارك على فرض النتصار فيها ل ُبدّ أن تكون لها نسبة خسائر في الرواح وفي
العَتَاد ،أما هذه فل.
()2963 /
أي :بنفس السبب الذي أنجى ال به موسى وقومَه أهلك فرعون وقومه؛ لنه وحده سبحانه القادر
على أن يُنجِي ،وأنْ يُهلِك بالشيء الواحد.
()2964 /
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ ()67
قوله سبحانه { إِنّ فِي ذَِلكَ } [الشعراء ]67 :أي :فيما حدث { ليَةً } [الشعراء ]67 :وهي المر
العجيب الذي يخرج عن المألوف وعن العادة ،فيثير إعجاب الناس ،ويستوجب اللتفات إليه
والنظر فيه ،والية تُقنِع العقل بأن ال هو مُجْريها على َي َديْ موسى ،وتدل على صِدْق رسالته
وبلغة عن ال ،وإل فهي مسألة فوق طاقة البشر.
ومع ذلك { َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُم ّم ْؤمِنِينَ } [الشعراء ]67 :أي :أن المحصلة النهائية للذين آمنوا كانوا
هم القلة مع هذه اليات ،حتى الذين آمنوا مع موسى عليه السلم واتبعوه وأنجاهم ال من آل
فرعون ومن الغرق ،سرعان ما تراجعوا وانتكسوا ،كما يحكي القرآن عنهم:
ج َعلْ لّنَآ
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَ َتوْاْ عَلَىا َقوْمٍ َي ْعكُفُونَ عَلَىا َأصْنَامٍ ّلهُمْ قَالُواْ يامُوسَىا ا ْ
إِلَـاها َكمَا َلهُمْ آِلهَةٌ }[العراف.]138 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحان ال ،لقد كفروا بال ،وما تزال أقدامهم مُبتلّة من عبور البحر ،وما زالوا في نَشوة النصر
وفرحة الغلبة!!
()2965 /
أي :بعد ما مرّ من حيثيات فإن ال تعالى هو العزيز ،أي :الذي ل يُغلَب ول يُقهَر ،إنماهو الغالب
وهو القاهر ،فهو سبحانه يغلِب ول يُغلب ،ويُطعِم ول يُطعَم ،ويُجير ول يُجار عليه .ومع عِزته
سبحانه وقوته بحيث يغلب ول يُغلب هو أيضا { الرّحِيمُ } الشعراء ]68 :لنه رب الخَلْق أجمعين،
يرحمهم إنْ تابوا ،ويقبلُهم إنْ رجعوا إلى ساحته ،كما جاء في الحديث الشريف:
" ل أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلة ،فانفلتت منه،
وعليها طعامه وشرابه ،فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ،قد أيس من راحلته ،فبينما هو
كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح :اللهم أنت عبدي وأنا ربك ،أخطأ
من شدة الفرح ".
()2966 /
جاءت هذه الية بعد النتهاء في إيجاز مُبسّط لقصة موسى عليه السلم مع فرعون ،وخُتمت بقوله
ك ليَ ًة َومَا كَانَ َأكْثَرُهُم ّمؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ }[الشعراء:
تعالى {:إِنّ فِي ذَِل َ
67ـ .]68
ثم تكلم الحق سبحانه عن نبيه إبراهيم عليه السلم { وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } [الشعراء ]69 :مما
يدل على أن المسألة في القرآن ليست سَرْدا للتاريخ ،فإبراهيم كان قبل موسى ،ولو أردنا التأريخ
لجاءت قصة إبراهيم أولً ،إنما الهدف من القصص في القرآن التقاط مواضع العِبْرة والعِظَة
واتخاذ الُسوة من تاريخ الرسل ،ليُثبّت ال بها فؤاد رسوله صلى ال عليه وسلم حينما يواجه
الحداث الشاقة والعصيبة.
والمتأمل في رسالة موسى ورسالة إبراهيم عليهما السلم يجد أن موسى جاء ليعالج مسألة هي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قمة العقيدة ،ويواجه مَنِ ادّعى اللوهية وقال :إني إله من دون ال ،أما إبراهيم فقد عالج مسألة
الشرك مع ال وعبادة الصنام ،فعندهم طَرَف من إيمان ،بدليل أنهم إذا ضيّقنا عليهم الخناق
قالوا {:مَا َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى }[الزمر.]3 :
لذلك كانت قصة موسى َأوْلَى بالتقديم هنا.
ومعنى { :وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ } [الشعراء ]69 :أي :اقرأ ،أو وضّح ،أو عبّر ،ونقول للقراءة (تلوة) لنه
ل يُتلَى إل المكتوب المعلوم المفهوم { عَلَ ْيهِمْ } [الشعراء ]69 :على أمة الدعوة كلها ،أَمْ على
المكذبين خاصة؟
قالوا :على المكذّبين خاصة؛ لن المصدّقين برسول ال ل يحتاجون هذه التلوة ،وإنْ تُل َيتْ عليهم
فإنما التلوة للتذكرة أو لعلم التاريخ .إذن :المراد هنا المكذّبون المنكرون ليعلموا أن نهاية كل
رسل ال في دعوتهم النصر والغلبة ،وأن نهاية المكذبين المخالفين الهزيمة والندحار.
فكأن القرآن يقول لهم :ل تغتروا بقوتكم ،ول بجاهكم ،ول تنخدعوا بسيادتكم على العرب ،ومعلوم
أن مكانة قريش بين العرب إنما أخذوها من خدمة بيت ال الحرام ،وما َأمِنُوا في طرق تجارتهم
إلّ بقداسة بيت ال وحُرْمته.
حلَةَ
ل ِفهِمْ رِ ْ
لفِ قُرَيْشٍ * إِي َ
ولول البيت ما كان لقريش كل هذه المكانة ،بدليل قوله تعالى {:لِي َ
الشّتَآ ِء وَالصّيْفِ }[قريش1 :ـ .]2
ولو انهدم البيت في قصة الفيل ما كان لقريش سيادة ول سيطرة على الجزيرة العربية ،وما دام
ع وَآمَ َنهُم مّنْ
ط َع َمهُم مّن جُو ٍ
أن ال تعالى فعل معهم هذا{ فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي َأ ْ
خ ْوفٍ }[قريش3 :ـ .]4
َ
ومعنى { نَبَأَ } [الشعراء ]69 :أي :الخبر الهام الذي يجب أنْ يُقال ،ويجب أنْ يُنصتَ له ،وأنْ
تُؤخَذ منه عِبْرة وعِظة ،فل يُقال (نبأ) للخبر العادي الذي ل يُؤبَهُ له.
ولو تتبعتَ كلمة (نبأ) في القرآن لوجدتها ل ُتقَال إل للمر الهام ،كما في قوله تعالى {:عَمّ
يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ }[النبأ1 :ـ .]2
وقوله تعالى في قصة سليمان عليه السلم والهدهد:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يتحملها.
ي وفي أمتي إلى يوم القيامة ".
لذلك جاء في الحديث الشريف " :الخير ِف ّ
الخير فيّ حصرا ،الخير على عمومه ،وفي كل جوانب شخصيته :داعيةً وأبا وزوجا ..الخ
وخصال الخير من شجاعة ،وحِلْم ،وعِلْم ،وكرم ..ألخ .وكذلك الخير في أمتي منثورٌ بين أفرادها،
يأخذ كل منهم من الخير بطرف ،وله منه نصيب ،لكن ل أحدَ يستطيع أن يجمع الكمال المحمدي
أبدا ،ول أن يتصف به.
كذلك كان سيدنا إبراهيم عليه السلم (أمة)؛ لن خصال الخير تُوزّع على أفراد المة :هذا ذكى،
وهذا حليم ،وهذا عالم ،وهذا حكيم ..الخ أما إبراهيم ـ عليه السلم ـ فقد جمع من الخير ما في
أمة بأكملها ،وهذا ليس كلما ُيقَال في مدح نبي ال إبراهيم ،إنما من واقع حياته العملية.
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى عن إبراهيم {:وَِإذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ
لِلنّاسِ ِإمَاما }[البقرة.]124 :
وحَسْب إبراهيم ـ عليه السلم ـ من الخير هذه الدعوة {:رَبّنَا وَا ْب َعثْ فِي ِهمْ رَسُولً مّ ْنهُمْ يَتْلُواْ
عَلَ ْيهِمْ آيَا ِتكَ }[البقرة.]129 :
فكان محمد صلى ال عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم.
()2967 /
فأول دعوته كانت لبيه ،وأقرب الناس إليه ل للغريب ،والدعوة التي توجه أولً للقريب ل بُدّ أنها
حقّ ودعوة خير؛ لن النسان يحب الخير أولً لنفسه ،ثم لقرب الناس إليه ،ولو كانت في
دعوة َ
شكّ لقصد بها الغرباء والباعد عنه.
خيريتها َ
والمراد بأبيه هو (آزر) الذي ورد ذكره في موضع آخر.
وسؤاله لبيه وقومه { مَا َتعْ ُبدُونَ } [الشعراء ]70 :سؤال استهجان واستنكار ،وسؤال استدلل
ليظهر لهم بطلن هذه العبادة؛ لن العبادة أنْ يطيعَ العابدُ المعبودَ فيما أمر وفيما نهى ،فالذين
يعبدون الصنام بماذا أمرتهم وعمّ نهتهم؟
إذن :فهي آلهة دون منهج ،وما أسهلَ أن يعبد النسان مثل هذا الله الذي يأمره بشيء ،ول ينهاه
عن شيء ،وكذلك هي آلهة دون جزاء ودون حساب؛ لنها ل تثيب مَنْ أطاعها ،ول تعاقب مَنْ
عصاها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فكلمة عباده هنا خطأ ،ومع ذلك يُسمّيها الناس آلهة ،لماذا؟ لن الله الحق له أوامر ل ُبدّ أن
تُنفّذ ،وإنْ كانت شاقة على النفس ،وله نواهٍ ل بُدّ أن تترك وإنْ كانت النفس تشتهيها ،فهي عبادة
شاقة ،أما عبادة الصنام فما أسهلها ،فليس عندها أمْر ول َنهْي ،وليس عندها منهج يُنظّم لهم
حركة الحياة؛ لذلك تمسّك هؤلء بعبادة الصنام ،وس ّموْها آلهة ،وهذا خبل واضح.
كما أن النسان في مجال العبادة إذا ع ّزتْ عليه أسباب الحياة وأعْيَتْه الحيل ،أو خرجت عن
طاقته ،عندها يجد له ربا يلجأ إليه ،ويستعين به فيقول :يا رب .فماذا عن عابد الصنام إذا
تعرّض لمثل هذه المسائل؟ هل يتوجه إليها بالدعاء؟ و َهبْ أنه يدعو إنسانا مثله يمكن أنْ يسمعه
أيستجيبُ له؟
س َمعُو َنكُمْ ِإذْ تَدْعُونَ * َأوْ
ظلّ َلهَا عَا ِكفِينَ * قَالَ َهلْ يَ ْ
لذلك يقول سبحانه {:قَالُواْ َنعْبُدُ َأصْنَاما فَ َن َ
يَن َفعُو َنكُمْ َأوْ َيضُرّونَ }[الشعراء71 :ـ .]73
حمْق وغباء.
إذن :فعبادة غير ال ُ
لكن هذا البحث من إبراهيم ،وهذا الجدل مع أبيه وقومه ،أكان بعد الرسالة أم قبلها؟ قالوا :إن
صغَره ،وكان مُنكرا لهذه العبادة قبل أن يُرسَل،
إبراهيم ـ عليه السلم ـ كان ناضجا مُتفتّحا منذ ِ
ل َوكُنّا بِهِ عَاِلمِينَ }[النبياء.]51 :
لذلك قال ال عنه {:وََلقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ ُرشْ َدهُ مِن قَ ْب ُ
وكذلك كان نبينا محمد صلى ال عليه وسلم قبل بعثته كارها للصنام ،معترضا على عبادتها،
يتعجب حين يرى قومه يعبدونها ،وقد رأى صلى ال عليه وسلم أحد اللهة وقد كُسر ذراعه
فاستعانوا بمَنْ يُصلح ذراع الله ،فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم وتعجّب لما يرى :العابد
يصلح المعبود؟ بعدها اعتزلهم رسول ال ،ولجأ إلى الغار يفكر في الله الحق والمعبود الحق.
فكأن أيّ دين يأمر ال به لو تفكّر فيه النسان برشد لنتهى إلى الحق بدون رسول؛ لن دين ال
هو دين الفطرة السليمة ،فإنْ توفّرت لدى النسان هذه الفطرة اهتدى بها إلى الحق.
بدليل ما كان يحدث من عمر ـ رضي ال عنه ـ وكان يُحدث رسول ال بالمر ،فتتنزل به
اليات من عند ال ،وقد وافقتْ اليات رأيه في أكثر من موقف ،وقد أقرّ رسول ال صلى ال
عليه وسلم ذلك ليبين لنا أن العقل السليم والفطرة المستقيمة يمكن أنْ ينتهيا إلى قضايا الدين دون
رسول.
وتستطيع أنت أنْ تعرض أيّ قضية من قضايا الدين على العقل السليم ،وسوف تجد أنها طيبة
وجميلة توافق ال ّذوْق السليم والتفكير السويّ ،فالكذب مثلً خُلُق يأباه العقل ويأباه الدين ،وكذلك
الرشوة؛ لنك بها تأخذ ما ليس لك ،وقد يُسلّط عليك رَاشٍ ،فيأخذ منك حقك ،كما أخذتَ أنت
حقوق الناس.
ولو تأمل العقل مثلً تحريم النظر إلى المحرمات ،لوجد أن الدين قيّد نظرك وأنت فرد ،وقيّد من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أجلك نظر الناس جميعا ،فكما طلب منك طلب لك ،وكذلك المر في تحريم السرقة والقتل..إلخ.
سلَ رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَىا وَدِينِ ا ْلحَقّ
وقد سُئلْنا في إحدى الرحلت عن قوله تعالىُ {:هوَ الّذِي أَرْ َ
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ }[التوبة ]33 :ومرة يقول {:وَلَوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }[التوبة ]33 :ومرة
لِيُ ْ
طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَيَأْبَىا اللّهُ ِإلّ أَن يُتِمّ نُو َر ُه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }
يقول {:يُرِيدُونَ أَن يُ ْ
[التوبة.]32 :
يقولون :وبعد أربعة عشر قرنا ،والمسلمون في الكون أقلية ،ولم يظهر الدين على الدين كله،
فكيف ـ إذن ـ نفهم هذه الية؟
طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَيَأْبَىا
فقلتُ للسائل :لو فهمتَ الية السابقة لعرفتَ الجواب {:يُرِيدُونَ أَن ُي ْ
اللّهُ ِإلّ أَن يُتِمّ نُو َر ُه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }[التوبة.]32 :
فالمعنى :أن الدين سيظهر في وجود الديان الخرى ،وليس المراد أن هذه الديان ستزول ،ولن
يكون لها وجود ،بل هي موجودة ،لكن يظهر عليها السلم ظهور حجة ،بدليل ما نراه من
هجمات على السلم وأحكامه وتشريعاته ،كما في مسألة الطلق مثلً ،أو مسألة تعدّد الزوجات
وغيرها .وبعد ذلك تُلجِئهم الحياة الجتماعية إلى هذه التشريعات ،ول يجدون غيرها لحل
مشاكلهم.
ولما قامت الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1917أول ما شرّعوا منعوا الربا الذي كان جائزا
عندهم ،لقد منعوا الربا مع أنهم غير مسلمين ،لكن مصالحهم في ذلك ،فهذه وأمثالها غلبة لدين ال
وظهور له على كل الديان.
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ }[التوبة ]33 :أن يصير الناس جميعا مؤمنين ،ل ،إنما يظل
وليس معنى{ لِيُ ْ
ل لقضاياه إل في السلم ،وهذا أوقع في
ُكلّ على دينه وعلى شِرْكه أو كفره ،لكن ل يجد ح ً
ظهور الدين.
ثم يقول الحق سبحانه عن قوم إبراهيم في ردّهم على إبراهيم عليه السلم } :قَالُواْ َنعْبُدُ َأصْنَاما {
()2968 /
إذن :شهد شاهد من أهلها ،وقالوا بأنفسهم { َنعْبُدُ َأصْنَاما } [الشعراء ]71 :والعبادة طاعة ،فماذا
قالت لهم الصنام؟ وبماذا أمرتهم؟ طبعا ،ليس عندهم جواب.
ظلّ َلهَا عَا ِكفِينَ } [الشعراء ]71 :أي :قائمين على عبادته
وليت المر يقف عند العبادة ،إنما { فَنَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليلَ نهار ،نعم ولكم حق؛ لنها آلهة دون تكليف ،وعبادة بل مشقة وبل التزام ،إنها بلطجة تأخذون
فيها حظّ أنفسكم ،وتفعلون معها ما تريدون.
لكن ،كيف جادلهم إبراهيم عليه السلم؟ وبم َردّ عليهم؟
()2969 /
س َمعُو َنكُمْ إِذْ َتدْعُونَ (َ )72أوْ يَ ْن َفعُو َنكُمْ َأوْ َيضُرّونَ ()73
قَالَ َهلْ يَ ْ
()2970 /
إذن :أنتم لم تُحكّموا عقولكم في هذه المسألة ،كما قالوا في موضع آخر {:إِنّا َوجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا
ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَىا آثَارِهِم ّمقْتَدُونَ }[الزخرف.]23 :
ونقول لهم :ومتى ظللتم على تقليد آبائكم فيما يفعلون؟ إنكم لو أقمتُم على تقليد الباء ما ارتقيتم في
حياتكم أبدا ،فلماذا إذن تحرصون على التقليد في هذه المسألة بالذات دون غيرها.
()2971 /
يقول إبراهيم عليه السلم :ل تلقوا بالمسألة على الباء ،وتُعلّقوا عليهم أخطاءكم ،ثم يعلنها
صريحة متحدية كأنه يقول لهم :الحمرة في خيلكم اركبوها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ فَإِ ّنهُمْ عَ ُدوّ لِي } [الشعراء ]77 :وكلمة عدو جاءت مفردة مع أنها مسبوقة بضمير جمع وتعود
على جمع { فَإِ ّنهُمْ } [الشعراء ]77 :ومع ذلك لم يقل :أعداء لي .قالوا :لن العداوة في أمر الدين
واحدة على خلف العداوة في أمر الدنيا؛ لنها متعددة السباب ،كما جاء في قوله تعالى{:
وَا ْذكُرُواْ ِن ْعمَتَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ }[آل عمران.]103 :
فجاءت {:أَعْدَآءً }[آل عمران ]103 :هنا جمع؛ لنها تعود على عداوة الدنيا ،وهي متعددة
السباب ،أمّا العداوة في الدين فواحدة على قلب رجل واحد.
ج َولَ عَلَى الَعْرَجِ
عمَىا حَرَ ٌ
ومن ذلك ما قلناه في سورة النور عند قوله تعالى {:لّيْسَ عَلَى الَ ْ
سكُمْ أَن تَ ْأكُلُواْ مِن بُيُو ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ آبَآ ِئكُمْ َأوْ بُيُوتِ
ج َولَ عَلَىا أَنفُ ِ
ج َولَ عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَ ٌ
حَرَ ٌ
ُأ ّمهَا ِتكُمْ }[النور.]61 :
كلها بصيغة الجمع إل في{ صَدِي ِقكُمْ }[النور ]61 :جاءت بصغية المفرد؛ لن الصداقة الحقة هي
ما كانت ل غير متعددة الغراض ،فهي إذن ل تتعدد.
وفي إعلن إبراهيم لعداوته لهذه الصنام تحدّ لهم :فها أنا ذا أعلن عداوتي لهم ،فإنْ كانوا يقدرون
على مضرّتي فليفعلوا .وبعد أن أعلن إبراهيم ـ عليه السلم ـ عداوته للصنام نجحت دعوته،
وظل إبراهيم هو إبراهيم لم يُصبْه شيء.
()2972 /
شفِينِ ()80
سقِينِ ( )79وَإِذَا مَ ِرضْتُ َف ُهوَ يَ ْ
ط ِعمُنِي وَيَ ْ
الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ َيهْدِينِ ( )78وَالّذِي ُهوَ يُ ْ
كأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول لهم :يا أغبياء ،اعلموا أن للعبادة أسبابا وحيثيات .ويوضح
إبراهيم عليه السلم حيثيات عبادة ربه ـ عزّ وجل ـ فيقول { :الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ َيهْدِينِ }
[الشعراء ]78 :أي :خلقني من عدم ،وأمدّني من عُدْم ،وجعل لي قانون صيانة يحفظ حياتي،
ويضمن سلمتي حيث كلّفني بشرعه :افعل كذا ول تفعل كذا ،وهو سبحانه ل ينتفع بشيء من
هذا ،بل النفع يعود علينا نحن ،وهل فعلتْ الصنام لكم شيئا من هذا؟ إذن :فهو واحده المستحق
للعبادة.
وقوله سبحانه { َف ُهوَ َيهْدِينِ } [الشعراء ]78 :أي :بقانون الصيانة الذي يشبه (الكتالوج) الذي
يجعله البشر لصناعتهم؛ ليضمنوا سلمتها وأدائها لمهمتها على أكمل وجه ،ول ُبدّ أن يحدّد لها
المهمة قبل أنْ يَشرَع في صناعتها ،وهل رأينا آلةَ صنعها صاحبها ،ثم قال لنا :انظروا في أيّ
شيء تستخدم هذه( ،بوتاجاز) أو ثلجة مثلً؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا ما حدث خلل في هذه اللة ،فعليك بالنظر في هذا (الكتالوج) أو أن تذهب بها إلى المهندس
المختص بها؛ لذلك إذا أردتَ أن تأخذ قانون صيانتك ،فل تأخذه إل من صانعك وخالقك ـ عز
وجل ـ ول يجوز أن يخلق ال تعالى وتضع أنت لخِلْقة ال قانون صيانتها ،فهذا مِثْل :أن تقول
للجزار مثلً :اعمل لي قانون صيانة (التلفزيون).
ضتُ
سقِينِ * وَإِذَا مَ ِر ْ
ط ِعمُنِي وَيَ ْ
ثم يذكر بعد ذلك مُقوّمات استبقاء الحياة ،فيقول { :وَالّذِي ُهوَ ُي ْ
شفِينِ } [الشعراء79 :ـ .]80
َف ُهوَ َي ْ
ونقف هنا عند الضمير المنفصل (هو) الذي جاء للتوكيد ،والتوكيد ل يأتي ابتداءً ،إنما يكون على
سقْيا والشفاء إليه
درجات النكار ،وقد أكّد الحق ـ تبارك وتعالى ـ نسبة الهداية والطعام وال ّ
تعالى؛ لن هذه المسائل الربع قد يدعيها غيره تعالى ،وقد يظن البعض أن الطبيب هو الشافي أو
أن الب مثلً هو الرازق؛ لنه الجالب له والمناول.
والهداية قد يدّعيها واضعوا القوانين من البشر ،وقد رأينا الشيوعية والرأسمالية والوجودية
والبعثية وغيرها ،وكلها تدّعي أنها لصالح البشر ،وأنها طريق هدايتهم؛ لذلك أكد ال تعالى لنفسه
هذه المسألة { الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ َيهْدِينِ } [الشعراء ]78 :فالهداية ل تكون إل من ال ،وفي شِرْعته
تعالى.
شفِينِ } [الشعراء ]80 :ولماذا نذهب إلى الطبيب
ضتُ َف ُهوَ َي ْ
وقد تسأل في قوله تعالى { :وَإِذَا مَ ِر ْ
إذن؟ نقول :الطبيب يعالج ،وهو سبب للشفاء ،أمّا الشفاء فمن ال ،بدليل أن الطبيب ربما يمرض،
ويعجز هو عن شفاء نفسه ،وقد يعطي المريض حقنة ويكون فيها حَتْفه.
ضتُ } [الشعراء ]80 :نقول :مرض فعل ماضٍ والتاء فاعل ،فهل أنا الذي
وحين نُعرب { :مَ ِر ْ
فعلتُ المرض؟ وهذا مِثْل أن نقول :مات فلن ،ففلن عامل مع أنه لم يحدث الموت؛ لذلك يجب
ن فعل الفعل ،أو اتصف به ،والفاعل هنا لم يفعل الفعل وإنما
أن نتنبه إلى أن الفاعل يعني مَ ْ
اتصف به .وقال { مَ ِرضْتُ } [الشعراء ]80 :تأدبا مع ال تعالى ،فلم يقل :أمرضني ونسب
المرض الظاهر إلى نفسه.
أما في المسائل التي ل يدّعيها أحد ،فتأتي بالفعل دون توكيد ،كما في الية بعدها { :وَالّذِي ُيمِيتُنِي
}
()2973 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلم يقُل؟ هنا :بميتني أو هو يُحييني؛ لن الحياة والموت بيده تعالى ل يدّعيها أحد ،فإنْ قُ ْلتَ :وماذا
عن قتْل النسان لغيره َألَ ُيعَ ّد موتا؟ وقد سبق أنْ أوضحنا الفرق بين الموت والقتل ،بدليل قوله
عقَا ِبكُمْ }[آل
سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ
تعالىَ {:ومَا ُم َ
عمران.]144 :
فالموت أن تخرج الروح ،والجسم سليم الجزاء كامل العضاء ،وبعد خروج الروح تُنقض البنية،
أما القتل فيكون بنقْض البنية َنقْضا يترتب عليه خروج الروح.
إذن :الموت لم يدّعه أحدٌ لنفسه ،ولما ادعاه النمرود جادله إبراهيم ـ عليه السلم ـ في ذلك،
وكشف زيف هذا الدعاء ،كما قال تعالى {:أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ
ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ قَالَ أَنَا ُأحْيِـي وَُأمِيتُ }[البقرة.]258 :
ولم يفعل إل أنْ جاء برجل فأمر بقتله ،ثم عفا عنه؛ لذلك رأى إبراهيم عليه السلم أنْ يقطع عليه
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْرِبِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ }[البقرة:
الطريق ،فقال {:فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
.]258
وهكذا أنهى هذه السفسطة ،وكشف حقيقة هذا المكابر المعاند.
وتأمل حرف العطف { وَالّذِي ُيمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ } [الشعراء ]81 :و(ثم) تفيد العطف مع التراخي،
ولم يقل :ويحيين؛ لن الواو تفيد مُطلَق العطف ،وبين الموت والحياء الخر مسافة طويلة ،أل
ترى قوله تعالى {:ثُمّ َأمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ * ثُمّ إِذَا شَآءَ أَنشَ َرهُ }[عبس21 :ـ .]22
()2974 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحياة.
وإقرار العبد بنعم ال عليه يقضي على كبرياء نفسه ،ويُصفّي روحه وأجهزته ،فيصير أهلً
لمناجاة ال ،وأهلً للدعاء ،فإن اعترفتَ ل بالنعم السابقة أجابك فيما تطلب من النعم اللحقة ،على
خلف مَنْ ل يذكر ل نعمة ،ول يقرّ له سبحانه بسابقة خير ،فكيف يقبل منه دعاء؟ وبأيّ وجه
يطلب من ال المزيد؟
إذن :ل تَ ْدعُ ربك إل بعد صفاء نفس وإخلص عبودية؛ لذلك ورد في حديث رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :مَنْ عمل بما علم أورثه ال علم ما لم يعلم ".
جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا }[النفال ]29 :يقول لك ربك :أنت مأمون على ما
ويقول سبحانه {:إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ َي ْ
علمتَ ،عامل به ،فخُذ المزيد من هدايتي ونوري وتوفيقي ،خُذ المزيد لما عندك من رصيد إيماني
وصفاء روحي ،جعلك أهلً للمناجاة والدعاء.
فإبراهيم ـ عليه السلم ـ وهو أبو النبياء لم يجترىء على الدعاء بشيء آتٍ إل بعد أنْ ذكر ل
شكَرْتُ ْم لَزِيدَ ّنكُمْ }[إبراهيم.]7 :
النعم السابقة ،وشكره عليها ،فوافق قوله تعالى {:لَئِن َ
لذلك فإن أهل المعرفة يقولون :إن العبد مهما اجتهد في الدعاء ،فإنه يدعو بالخير على حسْب
فهمه ومنطقه وبمقدار علمه ولو أنه ذكر النعيم الول ل تعالى ،وأقرّ له بالفضل ،ثم ترك المسألة
له تعالى يعطيه ويختار له لكان خيرا له؛ لن ربه عز وجل يعطيه على حَسْب قدرته تعالى
وحكمته.
وهذا المعنى واضح في الحديث القدسي " :مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي
السائلين ".
فعطاء ال ل شكّ أوسع ،واختياره لعبده أفضل من اختيار العبد لنفسه ،كما لو ذهبتَ في رحلة
مثلً وقلت لولدك :ماذا تريد أنْ أُحضر لك من البلد الفلني؟ فإنْ قال :أريد كذا وكذا فقد ضيّق
على نفسه ،وإنْ ترك لك الختيار جاء اختيارك له خيرا من اختياره لنفسه.
()2975 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقْنِي بِالصّالِحِينَ } [الشعراء ]83 :أي :ألحقني بهم في
أستحق ،فاجعلها لي هِبةَ من عندك { وَأَلْ ِ
العمل والُسْوة لنالَ بعدها الجزاء ،وليس المراد :ألحقني بهم في الجزاء ،إنما في العمل.
سمَاوَاتِ
وقد أجابه ال تعالى في هذه الدعوة ،فقال سبحانهَ {:وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
وَالَرْضِ }[النعام.]75 :
والملكوت :المخلوقات غير المحسّة ،أطلعه ال عليها؛ لنه عمل بما علم من الملك المحسّ،
جعَل
وكذلك قال {:وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ }[البقرة ]130 :فأجابه في الدعوة الخرى { .وَا ْ
لّي لِسَانَ }
()2976 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2977 /
بعد أن دعا لمر في الدنيا ،ثم لمر بعد موته دعا لنفسه بجنة النعيم الدائم في الخرة ،ول شك أن
ربه ـ عز وجل ـ قد أجابه إلى هذه ،فهو من ورثة جنة النعيم ،بدليل قوله تعالى {:وَإِنّهُ فِي
الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ }[البقرة.]130 :
وكلمة ميراث الجنة وردتْ في القرآن أيضا في قوله تعالى:
{ ُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْلوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[المؤمنون10 :ـ .]11
والميراث أنْ تأخذ مِلكا من آخر بعد موته ،فكيف تكون الجنة ميراثا؟
قال العلماء :إن الخالق ـ عز وجل ـ لم يخلق الجنة على قدر أهلها وكذلك النار ،إنما خلق الجنة
تتسع للناس جميعا ،إنْ آمنوا ،وخلق النار تتسع للناس جميعا إنْ كفروا؛ ذلك لنه سبحانه خلق
الخَلْق مختارين ،مَنْ شاء فليؤمن ،ومَنْ شاء فليكفر .وعليه ،فميراث الجنة يعني أنْ يرث
المؤمنون أماكن الذين كفروا في الجنة ،يتقاسمونها فيما بينهم.
والوارث يرث مال غيره وثمرة سعيه ،لكن ل يسأل عنها ،إنما يأخذها طيبة حتى إنْ جمعها
صاحبها من الحرام ،إل إنْ أراد الوارث أن يبرىء ذمة المورّث ،فيردَ المظالم إلى أهلها.
إذن :الوارث يأخذ الميراث دون مقابل فكأنه هِبة ،وعلى هذا المعنى يكون المراد بميراث الجنة
أن ال تعالى أعطى عباده الطائعين الجنة هبةً منه سبحانه ،وتفضّلً عليهم ،وليس بعملهم ،فالجنة
سعْي.
جاءتهم كما يأتي الميراث لهله دون تعب منهم ودون َ
وهذا تصديق لقول رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديث النبوي " :لن يدخل أحد منكم الجنة
بعمله ،قالوا :ول أنت يا رسول ال؟ قال :ول أنا ،إل أن يتغمدني ال برحمته ".
قالوا :فالجنة ميراث؛ لن الصل أنك ل تُجازَى على الخير الذي قدمته؛ لن تكليف من ال تعالى
يعود خيره عليك في الدنيا ،حيث تستقيم به حياتك وتسعد بها ،وما دام التكليف في صالحك ،فكيف
تأخذ أجرا عليه؟ كالوالد حيث يحثّ ولده على المذاكرة والجد في دروسه ،فهذا يعود نفعه على
الولد ،ل على الوالد.
وكأن ربك ـ عز وجل ـ يقول لك :ما ُد ْمتَ قد احترمتَ تكليفي لك ،وأطعتني فيما ينفعك أنت،
ول يعود عليّ منه شيء ،فحين أعطيك الجنة أعطيك بفضلي وهِبَة مني ،أو أننا نأخذ الجنة
بالعمل ،والمنازل بالفضل.
إذن :ل غِنَى لحد مِنّا عن َفضْل ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َمعُونَ }[يونس,]58 :
حمَتِهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا يَ ْ
ضلِ اللّهِ وَبِرَ ْ
لذلك يقول سبحانهُ {:قلْ ِبفَ ْ
ل تعوّل على عملك وطاعتك واجتهادك في العبادة،
هذا هو المعنى المراد بميراث الجنة ،وينبغي أ ّ
واعلم أن النجاة ل تكون إل برحمة ال وفضل منه سبحانه.
غفِ ْر لَبِي }
ثم ترك الدعاء لذاته وانتقل لمن رباه فقال { :وَا ْ
()2978 /
لم ي ْنسَ إبراهيم ـ عليه السلم ـ في دعائه أن يدعو لمن رباه؛ لن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ
هو الخالق ،إنما جعل الوالدين هما السبب المباشر في الخَلْق واليجاد؛ لذلك جعلهما أصحاب
الفضل والحق بالطاعة بعده تعالى ،لكن قد ينجب الوالدان ويهملن ولدهما فيربيه غيرهما؛ لذلك
يأخذ المنزلة الثالثة ،فعندنا ربوبية خَلقَت من عدم ،وأبوة جاءت بأسباب اليجاد ،وأبوة أخرى
ربّت واعتنتْ.
صغِيرا }[السراء]24 :
ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ
وهذا المعنى واضح في قوله سبحانهَ {:وقُل ّربّ ا ْر َ
فحيثية الدعاء بالرحمة هنا ،ل لنهما أبوان وهما سبب اليجاد ،إنما لنهما ربّياني صغيرا ،إذن:
لو ربّاني غير والديّ لخذوا هذه المنزلة واستحقوا مني هذا الدعاء.
جبْ لبراهيم عليه السلم في هذه ،لنه سأل ال لبيه قبل أن يعرف أنه عدو ل ،يقول
لكن لم يُست َ
ع ُدوّ للّهِ تَبَرّأَ
تعالىَ {:ومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِي َم لَبِيهِ ِإلّ عَن ّموْعِ َد ٍة وَعَ َدهَآ إِيّاهُ فََلمّا تَبَيّنَ َلهُ أَنّهُ َ
مِنْهُ }[التوبة.]114 :
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ولَ تُخْزِنِي َيوْمَ }
()2979 /
بأيّ شيء يكون الخزي في الخرة؟ الخزي يكون حين يعاتبك ربك يوم القيامة على رؤوس
الشهاد على ما فَرَط منك من تقصير؛ لذلك الحساب اليسير ما كان بين العبد وربه ،وقد أُجيب
إبراهيم عليه السلم في هذه الدعوة بقوله تعالى {:وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّاِلحِينَ }[البقرة.]130 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2980 /
ل وَلَا بَنُونَ ( )88إِلّا مَنْ أَتَى اللّهَ ِبقَ ْلبٍ سَلِيمٍ ()89
َيوْمَ لَا يَ ْنفَعُ مَا ٌ
ل َولَ بَنُونَ } [الشعراء ]88 :فأتى بالمسألة التي تشغل الناس جميعا ،فكل
قولهَ { :يوْمَ لَ يَنفَعُ مَا ٌ
إنسان يريد أن يكون غنيا صاحب مال وأولد وعِزْوة ،ومَنْ حُرِم واحدة منهما حَزِن وألم أشدّ
اللم.
والحق تبارك وتعالى يقول {:ا ْلمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا }[الكهف.]46 :
ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َهبِ
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ
حبّ ال ّ
ويقول سبحانه {:زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
وَا ْلفِضّةِ }[آل عمران.]14 :
حسْن غير الذاتي ،فالحُسْن قد يكون ذاتيا في الجوهر
نعم ،هي زينة الحياة الدنيا ،ومعنى الزينة :ال ُ
كالمرأة التي تكون جميلة بطبيعتها التي خلقها ال عليها ،دون أنْ تتكلّف الجمال ،أو الزينة
الظاهرة من مساحيق أو ذهب أو خلفه ،لذلك س ّموْها في اللغة (الغانية) وهي التي استغنْت
بجمالها الطبيعي الذاتي عن أنْ تتزّين بأيّ شيء آخر.
وقولهِ { :إلّ مَنْ أَتَى اللّهَ ِبقَ ْلبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء ]89 :يعني :مع أن المال والبنين زينة الحياة
الدنيا ،فهذا ل يمنع نفعهما لصاحبهما إنْ أحسن التصرّف في ماله ،فأنفقه في الخير ،وأحسن تربية
أولده التربية الصالحة ،لكن هذه أيضا ل تصفو له ول تستقيم إل إذا { أَتَى اللّهَ ِبقَ ْلبٍ سَلِيمٍ }
[الشعراء.]89 :
ن كنتَ
يعني :توفّر له الخلص في هذا كله ،وإلّ فالرياء يُحبط العمل ،ويجعله هباءً منثورا ،إ ْ
تفعل الخير في الدنيا ول تؤمن بال ول تُنزهه سبحانه عن الشريك ،فلن ينفعك عملك ،ولن يكون
لك منه نصيب في ثواب الخرة.
جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان.]23 :
ع َملٍ فَ َ
عمِلُواْ مِنْ َ
كما قال تعالىَ {:وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا َ
وفي الحديث القدسي ..." :فعلت ليقال وقد قيل." ...
فعلتَ ليُقام لك حفل تكريم وقد أقيم لك ،فعلتَ لتأخذ نيشانا وقد أخذتَه ،فعلتَ ليُكتب اسمك على
باب المسجد وقد كُتِب ،إذن :انتهت المسألة.
ل َولَ بَنُونَ } [الشعراء ]88 :ل ينفي نفع المال والبنين ،فهي نافعة
فقوله تعالىَ { :يوْ َم لَ يَنفَعُ مَا ٌ
ل بقلب سليم ،والسلمة هنا تعني :أن يظلَ الشيء على حاله وعلى صلحه
شريطة أنْ تأتي ا َ
الذي خلقه ال عليه ل يصيبه عطب في ذاته ،فيؤدي مهمته كما ينبغي.
فكأن السلمة تُوجد أولً ،ونحن الذين نُفسِد هذه السلمة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن ذلك قوله تعالى:
ن وَلَـاكِن لّ
{ وَإِذَا قِيلَ َلهُ ْم لَ ُتفْسِدُواْ فِي الَرْضِ قَالُواْ إِ ّنمَا َنحْنُ ُمصْلِحُونَ * أَل إِ ّنهُمْ هُمُ ا ْل ُمفْسِدُو َ
شعُرُونَ }[البقرة11 :ـ .]12
يَ ْ
لذلك لو تأمّل الناس فيما يُتعبهم في الحياة لوجدوا أنه ثمرة إفسادهم في الكون المنظم الذي خلقه
ال على مقتضى حكمته تعالى ،بدليل أن كل حركة في الكون ل يتدخل فيها النسان تراها
مُستقيمة منتظمة ل تتخلف ،فإنْ تدخّل النسان ُوجِد الفساد ووُجِد الظلم للغير ،حتى للنبات وللجماد
وللحيوان ،وقد نهانا الشارع الحكيم عن هذا كله.
هذا إنْ تدخّل النسان في الكون على غير مقتضى منهج ربه ،فإنْ تدخّل على َهدْى من منهج ال
استقامتْ المور وتحققتْ السلمة.
أل ترى قوله تعالى في سورة الرحمن:
سمَآءَ َر َف َعهَا َو َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن:
س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ * وَالنّجْ ُم وَالشّجَرُ َيسْجُدَانِ * وَال ّ
شمْ ُ
{ ال ّ
5ـ .]7
لذلك تجد كل شيء في الكون موزونا بقدر وبحكمة :الشمس والقمر والنجوم والهواء والماء ..الخ
خلَ للنسان
وكل عناصر الكون هذه تسير مستقيمة في منظومة الكون المتكاملة ،لماذا؟ لنه ل دَ ْ
فيها.
ن يعمُرَ به ،وقد ورد في الحديث
فمعنى القلب السليم :القلب الذي ل يعمُر إل بما أراد ال أ ْ
القدسي " :ما وسعتني أرضي ول سمائي ،ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ".
شغَله من أمور الدنيا ،واجعله خاليا ل مُنْشغلً به ،فهذه هي سلمة القلب؛
إذن :ل تزحم قلبك بما يَ ْ
لن القلب مفطور على هذا ،مطبوع عليه ..ساعة خلقه ال خلقه صافيا سليما من المشاغل؛ لذلك
س ْم َع وَالَبْصَارَ
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
يقول سبحانه {:وَاللّهُ أَخْ َر َ
شكُرُونَ }[النحل.]78 :
وَالَفْئِ َدةَ }[النحل ]78 :لماذا؟{ َلعَّلكُمْ َت ْ
إذن :ل تأخذ المال والبنين منفصليْن عن سلمة القلب؛ لن ربك يقول {:وَالْبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ خَيْرٌ
عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ َأمَلً }[الكهف.]46 :
ش َهوَاتِ }[آل عمران ]14 :ختمها الحق سبحانه بقوله {:ذاِلكَ مَتَاعُ
حبّ ال ّ
وفي آية {:زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْ َدهُ حُسْنُ ا ْلمَآبِ }[آل عمران.]14 :
ومن سلمة القلب أن يخلو من الشرك ،وأن يخلو من النفاق؛ لن المنافق يؤمن بلسانه ،ول يؤمن
بقلبه ،فقلبه ل يوافق لسانه؛ لذلك هو غير سليم القلب ،فكان أشد إثما من الكافر ،وجعله ال في
الدّرْك السفل من النار.
المنافق أشد تعذيبا من الكافر؛ لن الكافر مع ُكفْره هو منطقيّ مع نفسه ،حيث كفر بقلبه وبلسانه،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونطق بما يعتقده ،أما المنافق فقد غشّنا وحُسِب علينا ظاهرا ،ومنهم مَنْ كان يصلي خلف رسول
ال صلى ال عليه وسلم في الصف الول ،وهو في حقيقة المر من الطابور الخامس داخل
صفوف المسلمين.
وكذلك الرياء ينافي سلمة القلب ،فالمرائي يعمل للناس ول يعمل ل ،ونعجب حين نرى مَنْ يُقدّم
سمْعة ،ثم يتهم مَنْ أسدى إليه الجميل بأنه ناكر للجميل ،نقول له :لماذا تتهمه وقد
الجميل رياءً و ُ
سبقته فأنكرتَ جميل ال ،حيث لم تجعله على بالك حين فعلتَ الخير.
إذن :فهذا جزاؤك جزا ًء وفاقا ،لنك ما فعلتَ الخير ل ،إنما فعلته للعبد فانتظر منه الجزاء.
صفْر
وصَ ْفقَة المرائي خسارة ،وتجارته بائرة؛ لنه حين يعطي رياءً يستفيد منه الخذ ويخرج هو ُ
ص ْفوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َركَ ُه صَلْدا }[البقرة:
اليدين ،كما قال سبحانهَ {:فمَثَلُهُ َكمَ َثلِ َ
.]264
وبعد ذلك ترى الناس تكره المرائي ،ويُنكرون جميله في بناء مسجد أو مستشفى أو مدرسة مثلً،
ولو عمل ذلك ل لبقى ال ِذكْره بين الناس ،فحفظوا جميله ،وأَث َنوْا عليه بالخير.
" ويُرْوى أن السيدة فاطمة الزهراء دخل عليها سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم فوجدها تجلو
درهما في يدها ،فلما سألها عنه قالت :لنّي قد نويتُ أنْ أتصدّق به ،فقال لها :تصدّقي به وهو
على حاله ،فقالت :أنا أعلم أنه يقع في يد ال قبل أن يقع في يد الفقير ،وال طيب ل يقبل إل طيبا
".
ثم يذكر الحق ـ تبارك وتعالى ـ نتيجة سلمة القلب وثمرة الخلص في العلم ،فيقول} :
وَأُزِْلفَتِ ا ْلجَنّةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ {
()2981 /
{ وَأُزِْل َفتِ } [الشعراء ]90 :يعني :قرّبت ،لكن كيف تقرب منهم وهم بداخلها؟ قالوا :تُقرّب منهم
قبل أن يدخلوها ،وهم ما زالوا في شدة الموقف وهو القيامة والحساب ،فتُقرّب منهم الجنة
ليطمئنوا بها ،ويهون عليهم هذا الموقف الصعب.
وفي آية أخرى {:وَأُزِْلفَتِ ا ْلجَنّةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ غَيْرَ َبعِيدٍ }[ق ]31 :يعني :يروْنها عيانا ،ويعرفون أنها
النعيم الذي ينتظرهم ،وسوف يباشرونه عن قريب ،كما لو دُعِ ْيتَ إلى مائدة أحد العظماء ،وقد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أُع ّدتْ على أتمّ وجه ،فإن من النعيم أن تمر بها وتشاهد ما عليها من أطايب الطعام قبل أن يحين
وقت الجتماع عليه.
()2982 /
وهذه لمن أتى ال بقلب غير سليم ،قلب خالطه شرك أو نفاق أو رياء ،وفي آية أخرى يقول
ل وَارِدُهَا }[مريم.]71 :
تعالى {:وَإِن مّنكُمْ ِإ ّ
والورود ل يعني دخول النار ،إنما رؤيتها والمرور بها؛ لن الصراط مضروب على مَتْن جهنم،
فالورود شيء والدخول شيء آخر ،ومن ذلك قوله تعالى في قصة موسى عليه السلم {:وََلمّا وَرَدَ
سقُونَ }[القصص ]23 :مع أن موسى ـ عليه السلم ـ ورد
ن َوجَدَ عَلَ ْيهِ ُأمّةً مّنَ النّاسِ يَ ْ
مَآءَ مَدْيَ َ
الماء يعني :مكان الماء ،ولم يشرب منه.
والحكمة من ورود النار بهذا المعنى أنْ يعرف المؤمن َفضْل اليمان عليه ،وأنه سبب نجاته من
خلَ
هذه النار التي يراها ،وهذه أعظم نعمة عليه؛ لذلك يقول سبحانهَ {:فمَن زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُدْ ِ
الْجَنّةَ َفقَدْ فَازَ }[آل عمران.]185 :
ن يكون غاويا في نفسه ،أو أغوى غيره،
ومعنى { ِل ْلغَاوِينَ } [الشعراء ]91 :جمع غَاوٍ ،وهو إما أ ْ
فتطلق على الغاوي ،وعلى الذي يُغوِي غيره.
()2983 /
َوقِيلَ َلهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ َتعْ ُبدُونَ ( )92مِنْ دُونِ اللّهِ َهلْ يَ ْنصُرُو َنكُمْ َأوْ يَنْ َتصِرُونَ ()93
قوله تعالى { :أَيْنَ مَا كُن ُتمْ َتعْبُدُونَ } [الشعراء ]92 :أرونا مَنْ أشركتموهم مع ال ،أين هم الن؟
جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ فَا ْهدُوهُمْ
وفي موضع آخر {:احْشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُو ْا وَأَ ْزوَا َ
جحِيمِ * َو ِقفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ * مَا َل ُك ْم لَ تَنَاصَرُونَ }[الصافات22 :ـ .]25
إِلَىا صِرَاطِ الْ َ
لقد ضلوا عنكم ،وتركوكم ،بل وتبرأوا منكم {:إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ وَرََأوُاْ ا ْل َعذَابَ
ط َعتْ ِبهِ ُم الَسْبَابُ }[البقرة.]166 :
وَتَقَ ّ
حتَ َأ ْقدَامِنَا
جعَ ْل ُهمَا تَ ْ
ن وَالِنسِ نَ ْ
ثم ياتي الذين اتبعوا فيقولون {:رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ ا ْلجِ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سفَلِينَ }[فصلت.]29 :
ن الَ ْ
لِ َيكُونَا مِ َ
ع ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف:
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ
نعم ،إنها معركة؛ لن ال تعالى قال {:الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
.]67
وقوله تعالىَ { :هلْ يَنصُرُو َنكُمْ َأوْ يَن َتصِرُونَ } [الشعراء ]93 :يعني :ل يستطيعون نصركم ،أو
الدفاع عنكم ،ول حتى َنصْر أنفسهم ،فإنْ كان نصرهم لنفسهم ممنوعا فلغيرهم من باب َأوْلَى،
ففي الية تقريع لهم ولمن عبدوهم من دون ال ،وتحقير لشأنهم.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :فكُ ْبكِبُواْ فِيهَا ُهمْ }
()2984 /
الفعل كَبْكب ،يعني :كبّوا مرة بعد أخرى على وجوههم ،فهي تعني تكرار ال َكبّ ،فكلما قام ُكبّ
على وجهه مرة أخرى ،وهي على وزن فعللة الدال على التكرار كما تقول :زقزقة العصافير،
ونقنقة الضفادع .والمراد هنا الصنام تكبّ على وجوهها ،وتسبق مَنْ عبدها إلى النار ،كما قال
جهَنّمَ }[النبياء.]98 :
صبُ َ
ح َ
تعالى {:إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ َ
غ َووْهم وأضلوهم؛ ليقطع أمل
وقال { :هُ ْم وَا ْلغَاوُونَ } [الشعراء ]94 :فالغاوون يسبقون مَنْ أ ْ
التابعين لهم في النجاة ،فلو دخل التابعون أولً لقالوا :سيأتي منْ عبدناهم لينقذونا ،لكن يجدونهم
أمامهم قد سبقوهم ،كما قال تعالى عن فرعونَ {:يقْدُمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فََأوْرَدَهُمُ النّارَ }[هود.]98 :
()2985 /
ج َمعُونَ ()95
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَ ْ
()2986 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه لقطة من ساحة القيامة ،حيث يختصم أهل الضلل مع مَنْ أضلوهم ،ويُ ْلقِي كل منهم بالتبعة
على الخر.
وهذه الخصومة وردتْ في قوله تعالى على لسان الشيطانَ {:ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْي ُكمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن
سكُمْ }[إبراهيم ]22 :والمعنى :لم يكُنْ لي عليكم
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ
دَ َ
سلطانُ َقهْر أحملكم به على طاعتي ،ول سلطان حجة أقنعكم به.
ثم يعترف أهل الضلل بضللهم ويقسمون { تَاللّهِ } [الشعراء ]97 :يعني :وال { إِن كُنّا َلفِي
للٍ مّبِينٍ } [الشعراء ]97 :يعني :ظاهر ومحيط بنا من كل ناحية ،فأين كانت عقولنا { إِذْ
ضَ َ
سوّيكُمْ بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء ]98 :أي :في الحب ،وفي الطاعة ،وفي العبادة.
نُ َ
حبّ اللّهِ }[البقرة.]165 :
كما قال سبحانهَ {:ومِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادا ُيحِبّو َنهُمْ كَ ُ
()2987 /
يعني :يا رب أرنا هؤلء المجرمين ،و َمكِنّا منهم لننتقم لنفسنا ،ونجعلهم تحت أقدامنا ،وهكذا
سمّهم في هؤلء المجرمين ،وألقوا عليهم بتبعة ما هم فيه.
أخرجوا كل ُ
()2988 /
حمِيمٍ ()101
َفمَا لَنَا مِنْ شَا ِفعِينَ ( )100وَلَا صَدِيقٍ َ
شفْع أي :الثنين ،والشافع هو الذي يض ّم صوته إلى صوتك في أمر ل تستطيع أن
الشافع من ال ّ
تناله بذاتك ،فيتوسط لك عند مَنْ لديه هذا المر ،والشفاعة في الخرة ل تكون إل لمن أَذِن ال له،
ش َفعُونَ ِإلّ ِلمَنِ ارْ َتضَىا }[النبياء.]28 :
يقول تعالى {:وَلَ يَ ْ
ويقول سبحانه:
شفَعُ عِنْ َدهُ ِإلّ بِِإذْنِهِ }[البقرة.]255 :
{ مَن ذَا الّذِي يَ ْ
إذن :ليس كل أحد صالحا للشفاعة مُعدا لها ،وكذلك في الشفاعة في الدنيا فل يشفع لك إل صاحب
منزلة ومكانة ،وله عند الناس أيَادٍ تحملهم على احترامه وقبول وساطته ،فهي شفاعة مدفوعة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الثمن ،فللشافع رصيد من الجميل وسوابق الخير تزيد عما يطلب للمشفوع له.
لذلك نرى في الريف مثلً رجلً له جاه ومنزلة بين الناس ،فيحكم في النزاعات ويفصل في الدم،
فحين يتدخّل بين خصميْن ترى الجميع ينصاع له ويذعن لحكومته.
ومن ذلك ما عرفناه في الشرع من شركة الوجوه ،ومعلوم أن الشركة تحتاج إلى مال أو عمل،
لكن قد يوجد شخص ليس لديه مال ول يستطيع العمل ،لكن يتمتع بوجاهة ومنزلة بين الناس،
فنأخذه شريكا معنا بما لديه من هذه الميزة.
والحقيقة أن وجاهته ومنزلته بين الناس ُقوّمت بالمال؛ لنه ما نالها من فراغ ،إنما جاءت نتيجة
جهْد وعمل ومجاملت للناس ،احترموه لجلها ،فلما زال عنه المال وأنفقه في الخير َبقِي له
َ
رصيد من الحب والمكانة بين الناس ..ومن ذلك أيضا شراء العلمة التجارية.
حمِيمٍ } [الشعراء ]101 :فرْق بين الشافع والصديق ،فالشافع ل بُدّ أن تطلب
ل صَدِيقٍ َ
ومعنى { َو َ
منه أن يشفع لك ،أما الصديق وخاصة الحميم ل ينتظر أن تطلب منه ،إنما يبادرك بالمساعدة،
ووصف الصديق بأنه حميم؛ لن الصداقة وحدها في هذا الموقف ل تنفع حيث كل إنسان مشغول
بنفسه.
فإذا لم تكُنْ الصداقة داخلة في الحميمية ،فلن يسأل صديق عن صديقه ،كما قالت تعالىَ {:يوْمَ َيفِرّ
ا ْلمَرْءُ مِنْ َأخِيهِ * وَُأمّهِ وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }[عبس:
34ـ .]37
وقد أثارت مسألة الشفاعة لغطا كثيرا من المستشرقين الذين يريدون تصيّد المآخذ على القرآن
الكريم ،فجاء أحدهم يقول :تقولون إن القرآن معجزة في البلغة ،ونحن نرى فيه المعنى الواحد
ن كان الول بليغا فالخر غير بليغ ،وإنْ كان الثاني بليغا فالول غير بليغ،
يأتي في أسلوبين ،فإ ْ
ثم يقول عن مثل هذه اليات :إنها تكرار ل فائدة منه.
ونقول له :أنت تنظر إلى المعنى في إجماله ،وليس لديك الملَكة العربية التي تستقبل بها كلم ال،
ولو كانت عندك هذه الملَكة لما اتهمتَ القرآن ،فكل آية مما تظنه تكرارا إنما هي تأسيس في
مكانها ل تصلح إل له.
واليتان محل الكلم عن الشفاعة في سورة البقرة ،هما متفقتان في الصدر مختلفتان في ال َعجْز،
أحدهما:
{ وَا ّتقُواْ َيوْما لّ تَجْزِي َنفْسٌ عَن ّنفْسٍ شَيْئا }[البقرة.]48 :
والخرى:
{ وَا ّتقُواْ َيوْما لّ تَجْزِي َنفْسٌ عَن ّنفْسٍ شَيْئا }[البقرة.]123 :
ع ْدلٌ }[البقرة:
شفَاعَ ٌة َولَ ُيؤْخَذُ مِ ْنهَا َ
عجُز الولى {:وَلَ ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ
إذن :فصدْر اليتين متفق ،أما َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]48
شفَاعَةٌ }[البقرة ]123 :فهما مختلفتان.
ع ْدلٌ َولَ تَن َفعُهَا َ
وعَجُز الخرى {:وَلَ ُيقْ َبلُ مِ ْنهَا َ
وحين تتأمل صَدْ َريْ اليتين الذي تظنه واحدا في اليتين تجد أنه مختلف أيضا ،نعم هو مُتحد في
ظاهره ،لكن حين تتأمله تجد أن الضمير فيهما :إما يعود على الشافع ،وإما يعود على المشفوع
له ،فإنْ عاد الضمير على المشفوع له نقول له :ل نأخذ منك عدلً ،ول تنفعك شفاعة ،وإنْ عاد
الضمير على الشافع نقول له :ل نقبل منك شفاعة ـ ونُقدّم الشفاعة أولً ـ ول نأخذ منك عدلً.
ل منهما يحمل معنى ل تؤديه الية الخرى.
إذن :ليس في اليتين تكرار كما تظنون ،فك ّ
وقد أوضحنا هذه المسألة أيضا في قوله تعالى {:وَلَ َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ خَشْ َيةَ ِإمْلقٍ }[السراء.]31 :
والخرىَ {:ولَ َتقْتُلُواْ َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْلَقٍ }[النعام.]151 :
فصدْرا اليتين مختلف ،وكذلك العَجْز مختلف ،فعَجُز الولى {:نّحْنُ نَرْ ُز ُقهُمْ وَإِيّاكُم }[السراء:
.]31
وعَجُز الخرى {:نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُمْ وَإِيّاهُمْ }[النعام.]151 :
وحين نتأمل اليتين نجد أن لكل منهما معناها الخاص بها ،وليس فيهما تكرار كما يظن البعض.
ففي الية الولى {:وَلَ َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ خَشْ َيةَ ِإمْلقٍ }[السراء ]31 :إذن :فالفقر غير موجود،
والب يخاف أن يأتي الفقر بسبب الولد ،فهو مشغول برزق الولد ،ل برزقه هو؛ لنه غني غير
محتاج؛ لذلك قدّم الولد في عَجُز الية ،كأنه يقول للب :اطمئن فسوف نرزق هؤلء الولد
أولً ،وسوف تُرزَق أنت أيضاَ معهم.
أما الية الخرىَ {:ولَ َتقْتُلُواْ َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْلَقٍ }[النعام ]151 :فالفقر في هذه الحالة موجود
فعلً ،وشُغل الب برزق نفسه أوْلى من شغله برزق ولده؛ لذلك قال في عَجُز الية {:نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُمْ
وَإِيّاهُمْ }[النعام ]151 :فقدّمهم على الولد.
إذن :لكل آية معناها الذي ل تؤديه عنها الية الخرى.
ثم يقول الحق سبحانه عنهم أنهم قالوا } :فََلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً {
()2989 /
معنى { :كَ ّرةً } [الشعراء ]102 :أي :عودة إلى الدنيا ورجعة { فَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [الشعراء:
]102أي :نستأنف حياة جديدة ،فنؤمن بال ونطيعه ،ونستقيم على منهجه ،ول نقف هذا الموقف.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي آيات أخرى شرحت هذه المسألة ،يقول تعالى {:حَتّىا إِذَا جَآءَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ َربّ
ع َملُ صَالِحا فِيمَا تَ َر ْكتُ كَلّ إِ ّنهَا كَِلمَةٌ ُهوَ قَآئُِلهَا َومِن وَرَآ ِئهِمْ بَرْزَخٌ ِإلَىا َيوْمِ
جعُونِ * َلعَلّي أَ ْ
ارْ ِ
يُ ْبعَثُونَ }[المؤمنون99 :ـ .]100
يعني {:كَلّ }[المؤمنون ]100 :لن يعودوا مرة أخرى ،وما هي إل كلمة يقولونها بألسنتهم يريدون
النجاة بها ،لكن هيهات فبينهم وبين الدنيا برزخٌ يعزلهم عنها ،ويمنعهم العودة إليها ،وسوف يظل
هذا البرزخ إلى يوم يُبعثون.
وفي أية أخرى حول هذا المعنى يُرقّي الحق ـ تبارك وتعالى ـ المسألة من موقف الموت إلى
موقف القيامة ،فيقول سبحانه {:وََلوْ تَرَىا إِذْ ُوقِفُواْ عَلَى النّارِ َفقَالُواْ يالَيْتَنَا نُ َر ّد َولَ ُن َك ّذبَ بِآيَاتِ
رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النعام.]27 :
وهذا َكذِب منهم وقَوْل باللسان ل يوافقه العمل؛ لذلك ردّ الحق ـ تبارك وتعالى ـ عليهم بقوله{:
ل وََلوْ رُدّواْ َلعَادُواْ ِلمَا ُنهُواْ عَنْهُ وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }[النعام.]28 :
خفُونَ مِن قَ ْب ُ
َبلْ بَدَا َل ُهمْ مّا كَانُواْ ُي ْ
ك ليَةً }
ثم يقول الحق سبحانه { :إِنّ فِي ذَِل َ
()2990 /
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ ()103
الية :هي المر العجيب الملفت للنظر ،وما كان ينبغي أنْ يمرّ على العقول بدون تأمّل واعتبار {
َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُم ّم ْؤمِنِينَ } [الشعراء ]103 :رغم أن هذه اليات ظاهرة واضحة ،ومع ذلك كان
أكثرهم غير مؤمنين.
()2991 /
أي :مع كونهم لم يؤمن أكثرهم ،فال تعالى هو العزيز الذي ل يُغلَب ،إنما يغلِب ،ومع عِزّته
تعالى فهو رحيم بعباده يفتح باب التوبة لمن تاب.
ثم ينتقل السياق القرآني من قصة سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ إلى قصة أخرى من َركْب
النبياء ومواكب الرسل هي قصة نوح عليه السلم { :كَذّ َبتْ َقوْمُ نُوحٍ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2992 /
سمّوا قوما؛ لنهم هم الذين يقومون بأهم الشياء ،ويقابل القوم النساء،
القوم :هم الرجال خاصة ،و ُ
سخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ عَسَىا أَن
كما جاء شرح هذا المعنى في قوله سبحانه {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ يَ ْ
عسَىا أَن َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ }[الحجرات.]11 :
َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ َ
فالرجال هم القوم؛ لنهم يقومون بأهم المور ،وعليهم مدار حركة الحياة ،والنساء يستقبلْنَ ثمار
هذه الحركة ،فينقونها بأمانة ويُوجّهونها التوجيه السليم.
حصْنٍ َأمْ
ستُ إخََالُ أدْرِي َأ ْقوْمٌ آلُ ِ
والشاعر العربي أوضح هذا المعنى بقوله:وَمَا َأدْرِي ول ْ
نِسَاءُونفهم أيضاَ هذه القِوامة للرجل من َقوْل ال تعالى حينما وعظ آدم وحذّره من الشيطان {:إِنّ
جكَ فَلَ يُخْ ِرجَ ّن ُكمَا مِنَ الْجَنّةِ }[طه ]117 :وحسب القاعدة نقول :فتشقيا.
ك وَلِ َزوْ ِ
ع ُدوّ ّل َ
هَـاذَا َ
شقَىا }[طه ]117 :أنت يا آدم وحدك في حركة الحياة،
لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول {:فَتَ ْ
فالرجل يتحمل هذه المشقة ويكرم المرأة أن ُتهَان أو تشقى ،لكن ماذا نفعل وهي تريد أن تُشقِي
نفسها؟!
ونلحظ أن الية تقول { :كَذّ َبتْ َقوْمُ نُوحٍ ا ْلمُرْسَلِينَ } [الشعراء ]105 :كيف وهم ما كذّبوا إل
رسلهم نوحا عليه السلم؟ وكانوا مؤمنين قبله بآدم وإبراهيم مثلً.
قالوا :لن الرسل عن ال إنما جاءوا في أصول ثابتة في العقيدة وفي الخلق ل تتغير في أي
دين؛ لذلك فمن كذّب رسوله فكأنه كذّب كل الرسل ،ألَ ترى أن من أقوال المؤمنين أن يقولوا:
ط َومَا
ب وَالَسْبَا ِ
سحَاقَ وَ َيعْقُو َ
سمَاعِيلَ وَإِ ْ
{ ُقلْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَآ أُن ِزلَ عَلَيْنَا َومَآ أُن ِزلَ عَلَىا إِبْرَاهِيمَ وَإِ ْ
أُو ِتيَ مُوسَىا وَعِيسَىا وَالنّبِيّونَ مِن رّ ّبهِ ْم لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مّ ْنهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ }[آل عمران:
.]84
وقال تعالى {:آمَنَ الرّسُولُ ِبمَآ أُنْ ِزلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُِلهِ
حدٍ مّن رّسُِلهِ }[البقرة.]285 :
لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ
فإنْ قُ ْلتَ :فماذا عن اختلف المناهج والشرائع من نبي لخر؟ نقول :هذه اختلفات في مسائل
تقتضيها تطورات المجتمات ،وهي فرعيات ل تتصل بأصل العقائد والخلق الكريمة.
لذلك نجد هذه لزمة في ُكلّ مواكب الرسالت ،يقول :المرسِلِين ،المرسَلِين؛ لن الذي يُكذّب
رسوله فيما اتفق فيه الجيال من عقائد وأخلق ،فكأنه كذّب جميع المرسلين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2993 /
وقوله تعالى { :إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُهمْ نُوحٌ َألَ تَ ّتقُونَ } [الشعراء ]106 :يريد أن يُحنّن قلوبهم عليه
بكلمة { أَخُوهُمْ } [الشعراء ]106 :التي تعني أنه منهم وقريب الصّلة بهم ،ليس أجنبيا عنهم ،فهم
يعرفون أصله ونشأته .ويعلمون صفاته وأخلقه.
لذلك لما ُبعِث النبي صلى ال عليه وسلم وأبلغ الناس برسالته بادر إلى اليمان به أقرب الناس
إليه ،وهي السيدة خديجة دون أنْ تسمع منه آية واحدة ،وكذلك الصّديق أبو بكر وغيرهما من
المؤمنين الوائل ،لماذا؟
لنهم بَ َنوْا على تاريخه السابق ،واعتمدوا على سيرته فيهم قبل الرسالة ،فعلموا أن الذي ل يكذب
على الناس مستحيل أن يكذب على رب الناس.
والسيدة خديجة رضوان ال عليها تعتبر أول فقيهة ،وأول عالمة أصول في السلم ،حينما جاءها
رسول ال صلى ال عليه وسلم يشكو ما يعاني ،ويخشى أن يكون ما يأتيه من الوحي رئيا من
الجن أو توهمات تفسد عليه عقله وتفكيره ،قالت له ـ انظر إلى العظمة ـ " وال إنك لتصل
الرحم ،و َتقْرى الضيف ،وتحمل ال َكلّ ،وتُعين على نوائب الدهر ،وال ل يخزيك ال أبدا ".
ولما علم الصّدّيق بحادثة السراء والمعراج بادر بالتصديق ،ولم يتردد ،ولما سُئل عن ذلك قال:
إننا نصدقه في المر يأتي من السماء فكيف ل نصدقه في هذه ،فإنْ كان قال فقد صدق.
إذن :فمقياس الصدق لديه أن يقول رسول ال؛ لذلك استحق الصّديق هذا اللقب عن جدارة ،حتى "
إن رسول ال صلى ال عليه وسلم ليقول في حقه " :كنتُ أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان
ـ يعني :في خصال الخير ـ فسبقتُه إلى النبوة فاتبعني ،ولو سبقني لتبعته ".
ن نفهمها من قوله تعالى { :إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُهمْ نُوحٌ } [الشعراء.]106 :
هذه كلها معا ٍ
سكُمْ }[التوبة ]128 :فهذه من حكمة ال في
وهذا معنى قوله تعالىَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
الرسل ،وعجيب أن يقول أهل العناد من القوم :نريد ملكا رسولً ،وأن يقفوا من رسول ال موقف
ن تفهم ل أن
العداء ،وكان يجب عليهم على القل أن يُمكّنوه من دعوته ،ويُمكّنوا عقولهم من أ ْ
تدخل في المر على هوى سابق.
فالذي يتعب الناس في استقبال الحق أن تكون قلوبهم مشغولة بباطل ،والحق ل يجتمع مع الباطل
ول يضمهما محلّ واحد؛ لذلك إذا أردت أن تبحث في مسألة ،فعليك أنْ تُخرِج من قلبك الباطل
أولً ،ثم حكّم عقلك في المر ،واستفتِ قلبك فما سمح به فأدخله.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه نراها حتى في الماديات ،فالحيز الواحد ل يسع شيئين أبدا ،يقولون :عدم تداخل ،كما لو
ملت قارورة بالماء مثلً ،فقبل أن يدخل الماء ل بُدّ أنْ يخرج الهواء ،فنراه على شكل فقاعات.
()2994 /
وقوله تعالى { :إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ } [الشعراء ]107 :فإنْ كانت عندكم غفلة فقد َرحِم ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غفلتكم ،ونبّهكم برسول أمين َيعِظكم ويعلّمكم ويُبلّغكم منهج ال ،وهو أمين لن يغشّكم في شيء
حتى ل تقولوا :إنّا كنّا غافلين.
وما ُدمْت أنا مرسلً من ال إليكم ،وأمينا عليكم وعلى دعوتي ،فاسمعوا مني؛ لذلك كرّر المر
بالتقوى { :فَا ّتقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ }
()2995 /
وكأنه يتصالح معهم ،فيُخفف من أسلوب الّنصْح ،ويأتي بالمر صريحا بعد أن أتى به في صورة
ل يكونوا متقين .وثمرة التقوى طاعة الوامر واجتناب النواهي ،وهذه ل نعرفها إل من
إنكار أ ّ
الرسول حامل المنهج ومُبلّغ الدعوة والمين عليها.
وقد ترددتْ هذه الية على ألسنة كثير من رسل ال { :إِنّي َلكُمْ َرسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ
} [الشعراء107 :ـ .]108
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ومَآ َأسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ }
()2996 /
َومَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا عَلَى َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()109
هذه العبارة { َومَآ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ } [الشعراء ]109 :لم نسمعها على لسان إبراهيم عليه
السلم ،ول على لسان موسى عليه السلم ،فأول مَنْ قالها نوح عليه السلم ،وكوْنك تقول لخر:
أنا ل أسألك َأجْرا على هذا العمل ،فهذا يعني أنك تستحق أجرا على هذا العمل ،وأنت غير زاهد
في الجر ،إنما إنْ أخذته من المنتفع بعملك ،فسوف يُقوّمه لك بمقاييسه البشرية؛ لذلك من الفضل
أن تأخذ أجرك من ال.
فكأن نوحا عليه السلم يقول :أنتم أيها البشر ل تستطيعون أن تُقوّموا ما أقوم به من أجلكم؛ لنني
جئتكم بمنهج هداية يُسعِدكم في الدنيا ،ويُنجيكم في الخرة ،وأنتم لن تٌقوّموا هذا العمل ،وأجري
فيه على ال؛ لنكم تُعطون على قَدْر إمكاناتكم وعلمكم.
وسبق إنْ حكيْنَا لكم قصة الرجل الذي قابلناه في الجزائر ،وكان رجلً تبدو عليه علمات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصلح ،وقد أشار لنا لنقف بسيارتنا ونحمله معنا ،فلما توقفنا ليركب معنا مالَ إلى السائق ،وقال
(على كم) يعني :الجرة فقال له الرجل ،وكان المحافظ :نُوصلك ل ،فقال (غَلّتها يا شيخ) .نعم،
إنْ كان الجر على ال فهو غَالٍ.
وفي آية أخرى يقول تعالى {:أَمْ َتسْأَُلهُمْ َأجْرا َفهُم مّن ّمغْرَمٍ مّ ْثقَلُونَ }[الطور.]40 :
علَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء ]109 :إنْ هنا بمعنى ما النافية؛ لنه
ثم يقول { :إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ َ
تعالى القادر على أن يُكافئني على دعوتي ،فهو الذي أرسلني بها ،وهو سبحانه رب العالمين الذي
تبرع بالخَلْق من عدم ،وبالمداد من عدم ،وخلق لي ولكم الرزاق ،وهذا كله لصالحكم؛ لنه
سبحانه ل ينتفع من هذا بشيء.
والربوبية تقتضي عناية ،وتقتضي نفقة وخلقا وإمدادا ،فصاحب كل هذه الفضال والنعم هو الذي
يعطيني أجري.
()2997 /
بعد أن بيّن لهم كرم الربوبية في مسألة الجر على الدعوة وأعطاهم ما يشجعهم على التقوى
وعلى الطاعة؛ لنهم سينتفعون برسالة الرسول دون أجر منهم .ومعنى { فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ }
[الشعراء ]110 :أي :ليست لي طاعة ذاتية ،إنما أطيعوني؛ لني رسول من قِبَل ال تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه حاكيا ردّهم على نوح عليه السلم { :قَالُواْ أَ ُن ْؤمِنُ َلكَ }
()2998 /
الَرْذَلُونَ :جمع أرذل ،وهو الردىء من الشيء ،ورُذَال الفاكهة :المعطوب منها وما نسميه
(نقاضة) والستفهام هنا للتعجب :كيف نؤمن لك ونحن السادة ،والمؤمنون بك هم الرذلون؟
يقصدون الفقراء وأصحاب الحِرَف والذين ل ُيؤْبَه بهم ،وهؤلء عادة هم جنود الرسالة؛ لنهم هم
المطحونون من المجتمع الفاسد ،وطبيعي أن يتلقفوا مَنْ يعدل ميزان المجتمع.
وفي آية أخرى {:مَا نَرَاكَ ِإلّ بَشَرا مّثْلَنَا َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا }[هود.]27 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقولهم { :أَ ُن ْؤمِنُ َلكَ } [الشعراء ]111 :دليل على عدم فهمهم لحقيقة اليمان؛ لنه لم يقُلْ لهم:
آمنوا بي ،إنما آمنوا بال.
أو :أن المعنى { أَ ُن ْؤمِنُ َلكَ } [الشعراء ]111 :أي :نُصدّقك فمن معاني آمن أي :صدّق ،كما في
قوله تعالىَ {:فمَآ آمَنَ ِلمُوسَىا ِإلّ ذُرّيّةٌ مّن َق ْومِهِ }[يونس ]83 :أي :صَدّق به ،وآمن تكون بمعنى
صَدّق إذا جاءت بعدها اللم ،فإنْ جاء بعدها الباء فهي بمعنى اليمان.
()2999 /
شعُرُونَ ()113
قَالَ َومَا عِ ْلمِي ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ( )112إِنْ حِسَا ُبهُمْ إِلّا عَلَى رَبّي َلوْ تَ ْ
يعني :ما دام الحساب على ربي وهم يريدون اليمان ،فل بُدّ أنْ يأخذوا جزاءهم وافيا { َلوْ
شعُرُونَ } [الشعراء.]113 :
تَ ْ
()3000 /
وقد طلبوا منه أن يطرد هؤلء المؤمنين من مجلسه ليُجلِسهم هم ،وفي آية أخرى قال سبحانه لنبيه
جهَهُ مَا عَلَ ْيكَ
ن وَ ْ
شيّ يُرِيدُو َ
محمد صلى ال عليه وسلم {:وَلَ َتطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ
شيْءٍ فَتَطْ ُردَهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ }[النعام:
شيْ ٍء َومَا مِنْ حِسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مّن َ
حسَا ِبهِم مّن َ
مِنْ ِ
.]52
()3001 /
فمَنْ يسمع إنذاري ،ويسمع بشارتي ،ويأتي مجلسي ،فعلى عيني أرافقه .فال ما أرسلني لخص
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذوي الغنى دون الفقراء بمجلسي ،إنما أرسلني لبلغكم ما أرسلت به ،فمن أطاعني فذلك السعيد
عند ال ،وإن كان فقيرا.
()3002 /
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمَرْجُومِينَ ()116
وهكذا أعلنوا الحرب على نبي ال نوح ،يقولون :ل فائدةَ من تحذيرك ،وما زِ ْلتَ ُمصِرا على
دعوتك { لَئِنْ لّمْ تَنْ َتهِ } [الشعراء ]116 :عما تدعيه من الرسالة ،وما تقول به من تقوى ال
وطاعته ،وما تفعله من تقريب الرذلين إلى مجلسك ،لتكوّن جمهورا من صغار الناس.
{ لَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمَ ْرجُومِينَ } [الشعراء ]116 :أي :إذا لم تنتهِ فسوف نرجمك ،إنه تهديد صريح
للرسول الذي جاءهم من عند ال يدعوهم إلى الخير في الدنيا والخرة.
كما قال سبحانه {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْ َتجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا يُحْيِي ُكمْ }[النفال.]24 :
وهذا التهديد منهم لرسول ال يدلّ على أنهم كانوا أقوياء ،وأصحابَ جاه وبطْشٍ.
()3003 /
قَالَ َربّ إِنّ َقوْمِي كَذّبُونِ ( )117فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْ َنهُمْ فَ ْتحًا وَنَجّنِي َومَنْ َم ِعيَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ()118
تأمل هنا أدب نوح ـ عليه السلم ـ حين يشكو قومه إلى ال ويرفع إليه ما حدث منهم ،كل ما
قاله { :إِنّ َق ْومِي كَذّبُونِ } [الشعراء ]117 :ولم يذكر شيئا عن التهديد له بالرجم ،وإعلن الحرب
على دعوته ،لماذا؟ لن ما يهمه في المقام الول أن يُصدّقه قومه ،فهذا هو الصل في دعوته.
وقوله { :فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْ َنهُمْ فَتْحا } [الشعراء ]118 :الفتح في الشيء إما :حسيا وإما معنويا ،فمثلً
الباب المغلَق ب ُقفْل نقول :نفتح الباب :أي نزيل أغلقه.
فإنْ كان الشيء مربوطا نزيل الشكال ونفكّ الربطة.
جدُواْ ِبضَاعَ َتهُمْ رُ ّدتْ إِلَ ْيهِمْ }[يوسف:
عهُ ْم وَ َ
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف {:وََلمّا فَ َتحُواْ مَتَا َ
سيّ.
]65أي :أزالوا الرباط عن متاعهم ،هذا هو الفتح الح ّ
أما الفتح المعنوي فنُزيل الغلق والشكال المعنوية ليأتي الخير وتأتي البركة ،كما في قوله
سمَآءِ وَالَ ْرضِ }[العراف:
سبحانه {:وََلوْ أَنّ َأ ْهلَ ا ْلقُرَىا آمَنُو ْا وَا ّتقَواْ َلفَتَحْنَا عَلَ ْيهِمْ بَ َركَاتٍ مّنَ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]96
سلَ لَهُ مِن َبعْ ِدهِ }
سكْ فَلَ مُرْ ِ
سكَ َلهَا َومَا ُي ْم ِ
حمَةٍ فَلَ ُممْ ِ
وفي آية أخرى {:مّا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّ ْ
[فاطر.]2 :
علْما ،كما في قوله تعالى{:
والخير الذي يفتح ال به على الناس قد يكون خيرا ماديا ،وقد يكون ِ
حدّثُو َنهُم ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ }[البقرة.]76 :
أَتُ َ
أي :من العلم في التوراة ،يخافون أن يأخذه المؤمنون ،ويجعلوه حجة على أهل التوراة إذا ما كان
لهم الفتح والغَلَبة ،فمعنىِ {:بمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ }[البقرة ]76 :أي :بما علّمكم من علم لم يعلموه هم.
ق وَأَنتَ خَيْرُ
وقد يكون الفتح بمعنى الحكم ،مثل قوله سبحانه {:رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َق ْومِنَا بِا ْلحَ ّ
ا ْلفَاتِحِينَ }[العراف.]89 :
ويكون الفتح بمعنى النصر ،كما في قوله تعالى {:إِذَا جَآءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ }[النصر.]1 :
ثم يقول نوح عليه السلم { :وَنَجّنِي } [الشعراء ]118 :من كيدهم وما يُهدّدونني به من الرّجْم
{ َومَن ّمعِي مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ } [الشعراء ]118 :لن اليذاء قد يتعدّاه إلى المؤمنين معه ،وتأتي
الجابة سريعة { :فَأَنجَيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ }
()3004 /
وقد وردتْ قصة السفينة في العراف ،وفي هود ،ولنوح عليه السلم سورة خاصة هي سورة
نوح مثل سورة محمد؛ ذلك لن له في تاريخ الرسالت ألف سنة إل خمسين عاما ،ويستحق أنْ
يخصّه ال تعالى بسورة بأسمه.
لذلك عندما يكرر أحد الناس لك الكلم ،ويُعيده عليك ،تقول له (هيّه سورة) ،فكلم العامة والُميين
صلٌ من استعمال اللغة.
له َأ ْ
وفي موضع آخر ذكر الحق ـ تبارك وتعالى ـ قصة صُنْع السفينة في قوله تعالى {:وَيَصْنَعُ
ا ْلفُ ْلكَ َوكُّلمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلٌ مّن َقوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ }[هود ]38 :وهذا دليل على أنها كانت أول سفينة
يصنعها النسان ،وقد صنع نوح سفينته بأمر ال ووحيه وتحت عينه تعالى ،وفي رعايته{:
وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا }[هود.]37 :
وما كان ال تعالى ليُكلّفه بصُنْع السفينة ثم يتركه ،إنما تابعه ،حتى إذا ما حدث خطأ نبّهه إليه من
البداية ،كما قال تعالى لسيدنا موسى {:وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه.]39 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبمثل هذه اليات نردّ على الذين يقولون :إن ال تعالى زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة فخلق
الخَلْق ،ثم ترك القوانين تسيره ،ولو كان المر كذلك لوجدنا العالم كله يسير بحركة (ميكانيكية)،
خلْقه.
لكن ظواهر الكون وما فيه من معجزات تدلّ على قيوميته تعالى على َ
لذلك يقول لهم :ناموا ملء جفونكم ،فإن لكم ربا ل ينام ،كيف ل وأنت إذا استأجرتَ حارسا
لمنزلك مثلً تنام مطمئنا اعتمادا على أنه َيقِظ؟ وكيف إذا حرسك ربّك عز وجل الذي ل تأخذه
سِنَة ول َنوْمٌ؟ وَألَ يدلّ ذلك على قيوميته تعَالى؟
هذه القيومية التي تنقضُ العزائم ،وتفسَح القوانين ،قيومية تقول للنار كوني بردا وسلما فتكون،
وتقول للماء :تجمّد حتى تكون جبلً فيتجمد ،تقول للحجر :انفلق فينفلق ..ولو كان المر
(ميكانيكيا) كما يقولون لما حدث هذا ،ولما تخلّف قانون واحد من قوانين الكون.
والمشحون :الذي امتل ،ولم يَبْقَ به مكان خَالٍ ،فكانت السفينة مشحونة بما حمل فيها ،لنها
صُ ِنعَتْ بحساب دقيق ،ل يتسع إل لمن كُلّف نوح بحملهم في سفينته ،وكانوا ثمانين رجلً وثمانين
امرأة ومن كل حيوان زوجين اثنين.
والفلك المشحون يُطلَق ويُراد به الواحدة ،ويُطلَق ويراد به الجماعة كما في قوله سبحانه {:حَتّىا
إِذَا كُن ُتمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ وَجَرَيْنَ ِبهِم }[يونس.]22 :
()3005 /
وهم الكافرون الذين لم يركبوا معه ،و { َبعْدُ } [الشعراء ]120 :أي :بعد ما ركب من ركب،
سمَآءِ ِبمَاءٍ مّ ْن َهمِرٍ * َوفَجّرْنَا الَ ْرضَ عُيُونا فَالْ َتقَى المَآءُ عَلَىا َأمْرٍ قَدْ قُدِرَ }
وبعد{ َففَتَحْنَآ أَ ْبوَابَ ال ّ
[القمر11 :ـ .]12
()3006 /
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ ()121
والية :المر العجيب الذي يجب اللتفات إليه والعتبار به ،لكن مَنْ سيعتبر بعد أنْ غرق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الباقون؟ سيعتبر بهذه الية المؤمنون الذين ركبوا السفينة حين يروْنَ نتيجة التكذيب ،ومصير
المكذّبين الكافرين.
()3007 /
أي :ورغم ُكفْرهم وتكذيبهم ،ورغم أنه ما كان أكثرهم مؤمنين ،فال تعالى هو العزيز الذي َيغْلِب
ول ُيغْلَب ،وهو سبحانه الرحيم بعباده الذي يتوب على مَنْ تاب منهم.
ثم ينتقل السياق إلى قصة أخرى في موكب المم المكذّبة { :كَذّ َبتْ عَادٌ ا ْلمُ ْرسَلِينَ }
()3008 /
سلِينَ } [الشعراء ]123 :لن تكذيب رسول واحد تكذيبٌ لكل الرسل؛ لنهم
وقال هنا أيضا { ا ْلمُرْ َ
جميعا جاءوا بقواعد وأصول واحدة في العقائد وفي الخلق.
وعاد :اسم للقبيلة ،وكانت القبائل تُنسَب إلى الب الكبر فيها ،ولصاحب الشهرة والنباهة بين
قومه ،فعاد هو أبو هذه القبيلة ،وقد يُطلَق عليهم بنو فلن أو آل فلن ،ثم يذكر لنا قصتهم ،ومتى
كان منهم هذا التكذيب { :إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ }
()3009 /
ث والحضّ ،وحين يُنكّر النفي { َألَ تَ ّتقُونَ } [الشعراء ]124 :فإنه يريد الثبات
قلنا :إن (َألَ) للح ّ
فكأنه قال :اتقوا .وقال { َأخُوهُمْ } [الشعراء ]124 :ليرقق قلوبهم ويُحنّنهم إليه ،وليعرفوا أنه واحد
منهم ليس غريبا عنهم ،فهو أخوهم ،والخ من دَأبه الّنصْح والشفقة والرحمة ،وهذا إيناس للخَلْق.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3010 /
وهذه المقولة لزمة من لوازم الرسُل في دعوتهم ،سبق أنْ قالها نوح عليه السلم.
()3011 /
َومَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا عَلَى َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()127
قلنا :إن هذه العبارة أول مَنْ قالها نوح ـ عليه السلم ـ ثم سيقولها النبياء من بعده .لكن :لماذا
لم يقل هذه العبارة إبراهيم؟ ولم يقُلْها موسى؟
قالوا :لن إبراهيم ـ عليه السلم ـ أول ما دعا دعا عمه آزر ،فكيف يطلب منه أَجْرا؟ وكذلك
موسى ـ عليه السلم ـ أول دعوته دعا فرعون الذي ربّاه في بيته ،وله عليه فضل وجميل،
عمُ ِركَ سِنِينَ }
فكيف يطلب منه أجرا ،وقد قال له {:قَالَ أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ ُ
[الشعراء.]18 :
لذلك لم تأْت هذه المقولة على لسان أحد منهما.
وقال { :إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء ]127 :لن الربّ هو الذي يتولّى الخَلْق
بالبذْل والعطايا والمداد .وقلنا :إن عدم أخذ الجر ليس ُزهْدا فيه ،إنما طمعا في أنْ يأخذ أجره
من ال ،ل من الناس.
ثم يتوجّه إليهم ليُصحّح بعض المسائل الخاصة بهم { :أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ }
()3012 /
وهذه خصوصية من خصوصيات قوم هود ،والرّيع :هو المكان المرتفع ،لذلك بعض الناس
يقولون :كم رِيع بنائك؟ يعني :ارتفاعه كم مترا ،فكأن الرتفاع يُثمّن البقعة ،ويُطلق الريع على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرتفاع في كل شيء.
وكلمة { آيَةً } [الشعراء ]128 :بعد { أَتَبْنُونَ } [الشعراء ]128 :تعني :القصور العالية التي تعتبر ِ
آيةً في البداع وجمال العمارة والزخرفة والفخامة والتساع وال ّرفْعة في العُلُو.
وقال { َتعْبَثُونَ } [الشعراء ]128 :لنهم لن يخلُدوا في هذه القصور ،ومع ذلك يُشيّدونها لتبقى
أجيالً من بعدهم ،فعدّ هذا بعثا منهم؛ لن النسان يكفيه أقلّ بناء ليأويه فترة حياته.
أو { َتعْبَثُونَ } [الشعراء ]128 :لنهم كانوا يجلسون في شُرفات هذه القصور يصدّون الناس،
ويصرفونهم عن هود وسماع كلمه ودعوته التي تَ ْلفِتهم إلى منهج الحق.
ونحن لم نَرَ حضارة عاد ،ولم نَرَ آثارهم ،كما رأينا مثلً آثار الفراعنة في مصر؛ لن حضارة
عاد طمرتْها الرمال ،وكانوا بالجزيرة العربية في منطقة تُسمّى الن بالرّبْع الخالي؛ لنها منطقة
من الرمال الناعمة التي يصعب السير أو المعيشة بها ،لكن لكي نعرف هذه الحضارة نقرأ قوله
تعالى في سورة الفجر:
{ أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ }[الفجر6 :ـ .]8
وما دامت لم يُخلَق مثلها في البلد ،فهي أعظم من حضارة الفراعنة التي نشاهدها الن ،ويفد إليها
الناس من كل أنحاء العالم ليشاهدوا الهرام مثلً ،وقد بنيت لتكون مجرد مقابر ،ومع تقدّم العلم
في عصر الحضارة والتكنولوجيا ،ما زال هذا البناء مُحيّرا للعلماء ،لم يستطيعوا حتى الن معرفةَ
الكثير من أسراره.
ومن هذه السرار التي اهت َدوْا إليها حديثا كيفية بناء أحجار الهرام دون ملط مع ضخامتها ،وقد
توصّلوا إلى أنها بُن َيتْ بطريقة تفريغ الهواء مما بين الحجار ،وهذه النظرية تستطيع ملحظتها
حين تضع كوبا مُبلّلً بالماء على المنضدة مثلً ،ثم تتركه فترةً حتى يتبخر الماء من تحته ،فإذا
أردتَ أن ترفعه من مكانه تجده قد لصق بالمنضدة.
وليس عجيبا أنْ تختفي حضارةٌ ،كانت أعظم حضارات الدنيا تحت طبقات الرمال ،فالرمال حين
تثور تبتلع كل ما أمامها ،حتى إنها طمرتْ قبيلة كاملة بجِمالها ورجالها ،وهذه هبة واحدة ،فما
بالك بثورة الرمال ،وما تسفوه الريح طوال آلف السنين؟
وأنا واثق من أنهم إذا ما نبشوا هذه الرمال وأزاحوها لوجدوا تحتها أرضاَ خصبة وآثارا عظيمة،
كما نرى الكتشافات الثرية الن كلها تحت الرض ،وفي فيينا أثناء حفر أحد خطوط المجاري
هناك وجدوا آثارا لقصور ملوك سابقين.
وطالما أن ال تعالى قال عن عاد { :أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ آ َيةً َتعْبَثُونَ } [الشعراء ]128 :فل ُبدّ أن
هناك قصورا ومبانيَ مطمورة تحت هذه الرمال.
()3013 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَتَتّخِذُونَ َمصَانِعَ َلعَّلكُمْ تَخُْلدُونَ ()129
()3014 /
خذَ
خذُ بشدة وبعنف ،يقول تعالى {:إِنّ َبطْشَ رَ ّبكَ َلشَدِيد }[البروج ]12 :ويقول {:أَ ْ
والبَطْش :ال ْ
عِزِيزٍ ّمقْتَدِرٍ }[القمر.]42 :
لخْذ يأخذ صُورا متعددة :تأخذه بلين وبعطف وشفقة ،أو تأخذه بعنف.
لن ا َ
طشْتُمْ جَبّارِينَ } [الشعراء.]130 :
ثم يزيدهم صفة أخرى تؤكد بَطْشهم { بَ َ
لنك قد تأخذ عدوك بعنف ،لكن بعد ذلك يرقّ له قلبك ،فترحم ذِلّته لك ،فتُهوّن عليه وترحمه ،لكن
هؤلء جبارون ل ترقّ قلوبهم.
وهذه الصفات الثلثة السابقة لقوم هود {:أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ آيَةً َتعْبَثُونَ * وَتَتّخِذُونَ َمصَانِعَ َلعَّل ُكمْ
تَخُْلدُونَ * وَإِذَا َبطَشْتُمْ بَطَشْ ُتمْ جَبّارِينَ }[الشعراء128 :ـ .]130
هذه الصفات تخدم صفة التعالي ،وتسعى إلى الوصول إليه وكأنهم يريدون صفة العُلُو التي تُقرّبهم
من اللوهية؛ لنه ل أحدَ أعلى من الحق سبحانه ،ثم يريدون أيضا استدامة هذه الصفة واستبقاء
اللوهيةَ {:لعَّلكُمْ تَخُْلدُونَ }[الشعراء.]129 :
وفي صفة البَطش الشديد والجبارية يريدون التفرّد على الغير ،والقرآن يقول {:تِ ْلكَ الدّارُ الخِ َرةُ
ض َولَ فَسَادا }[القصص.]83 :
ن لَ يُرِيدُونَ عُُلوّا فِي الَرْ ِ
جعَُلهَا لِلّذِي َ
نَ ْ
ن كنتَ تريد أداء الخدمة المنوطة بك في الحياة ،فعليك أنْ تؤديها ،ل للتّعالي؛ لن حينئذ ستأخذ
فإ ْ
ت وفي بالك ربّك ،وفي بالك أنْ
ن فعل َ
حظك من العُلُو والغَلَبة في دار الدنيا وتنتهي المسألة ،أمّا إ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تُيسّر للناس مصالح الحياة ،فإنك تُرقّي عملك وتُثمّره ،ويظل لك أجره ،طالما وجد العمل ينتفع
ن تقوم الساعة ،وهذا أعظم تصعيد لعمل النسان.
الناس به إلى أ ْ
ولم يفعل قوم عاد شيئا من هذا ،إنما طلبوا العُلُو في الرض ،وبطشوا فيها جبارين ،لكن أيتركهم
ربهم عز وجل يستمرون على هذه الحال؟
إن من رحمة ال تعالى بعباده أنْ يُذكّرهم كلما نَسُوا ،ويُوقظهم كلما غفلوا ،فيرسل لهم الرسل
خذَ رَ ّبكَ مِن
المتوالين؛ لن الناس كثيرا ما تغفل عن العهد القديم الذي أخذوه على أنفسهم {:وَإِذْ أَ َ
شهِدْنَآ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ
ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ
بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َب ْعدِهِمْ
ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ َأشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ
َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }[العراف172 :ـ .]173
وقلنا :إن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يضع المناعة في خليفته في الرض ،ويعطيه المنهج الذي
يصلحه ،لكنه قد يغفل عن هذا المنهج أو تغلبه نفسه ،فينحرف عنه ،والنسان بطبيعته يحمل
مناعةً من الحق ضد الباطل وضد الشر ،فإنْ فس َدتْ فيه هذه المناعة فعلى الخر أن يُذكّره ويُوقظ
صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر.]3 :
ق وَ َتوَا َ
فيه دواعي الخير .ومن هنا كان قوله تعالى {:وَ َتوَاصَوْاْ بِا ْلحَ ّ
خذْ بيده إلى الحق.
فإنْ وجدتَ أخاك على باطل ف ُ
صوْاْ }[العصر ]3 :أي :تبادلوا التوصية ،فكل منكم عُرْضة للغفلة ،وعُرْضة
ومعنى{ وَ َتوَا َ
ن غفلتَ أنت أوصيك ،وهذه المناعة ليست في
ن غفلتُ أنا توصيني ،وإ ْ
للنحراف عن المنهج ،فإ ْ
الذات الن ،إنما في المجتمع المؤمن ،فمنْ رأى فيه اعوجاجا قوّمه.
لكن ما الحال إنْ فسدت المناعة في الفرد وفس َدتْ في المجتمع ،فصار الناس ل يعرفون معروفا،
ول يُنكِرون منكرا ،كما قال تعالى عن بني إسرائيل:
{ كَانُو ْا لَ يَتَنَا َهوْنَ عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ }[المائدة.]79 :
وعندها ل بد أن يرسل رب العزة سبحانه برسول جديد ،ومعجزة جديدة تُوقِظ الناس ،وتعيدهم
إلى جادة ربهم.
ومن شرف أمة محمد صلى ال عليه وسلم أن ال تعالى جعل المناعة في ذات نفوسها ،فجعلهم
ن فعل أحدهم الذنب تاب ورجع ،وإنْ لم يرجع وتمادى َردّه المجتمع اليماني وذكّره.
ال توابين ،إ ْ
ي وفي أمتي إلى
وهذه الصفة ملزمة لهذه المة إلى قيام الساعة ،كما ورد في الحديث " :الخير ف ّ
يوم القيامة ".
لذلك لن يأتي فيها رسول بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لن المناعة ملزمة لها في الذات،
وفي النفس اللوامة ،وفي المجتمع اليماني الذي ل يُعدم فيه الخير أبدا.
ف وَتَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
لذلك يقول سبحانه {:كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَ ُتؤْمِنُونَ بِاللّهِ }[آل عمران.]110 :
وهذه صفة تفردتْ بها هذه المة عن باقي المم؛ لذلك يقول هود ـ عليه السلم ـ مُذكّرا لقومه
ومُوقِظا لهم } :فَا ّتقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ {
()3015 /
أي :أن ربكم ـ عز وجل ـ لم يترككم على ما أنتم عليه من الضلل تعبثون باليات ،وتتخذون
مصانع تطلبون الخلود ،وأنكم بطشتم جبارين ،وها هو يدعوكم { :فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأطِيعُونِ }
[الشعراء ]131 :فتقوى ال تعالى وطاعته كفيلة أنْ تُذهب ماضيكم وتمحو ذنوبكم ،بل وتُبدّله خيرا
وصلحا{ إِنّ الْحَسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ }[هود.]114 :
وأنا حين أُوصيكم بتقوى ال وطاعته ،ل أوصيكم بهذا لصالحي أنا ،فل أقول لكم ،اتقوني أو
أطيعوني ولن أنتفع من طاعتكم بشيء .كذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ غني عنكم وعن طاعتكم؛
لن له سبحانه صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق ،فهو سبحانه متصف بالخَلْق قبل أن
يخلق ،وبالقدرة قبل أن يُوجَد المقدور عليه ..إلخ.
إذن :فوجودكم لم يَزِدْ شيئا في صفاته تعالى ،وما كانت الرسالت إل لمصلحتكم أنتم ،فإذا لم
تطيعوا أوامر ال ،وتأخذوا منهجه ،لنه يفيدكم فأطيعوه جزاءَ ما أنعم عليكم من ِنعَم ل تُع ّد ول
تُحصَى ،فالنسان طرأ على كون أُعِدّ لستقباله وهُيّىء لمعيشته ،وخلق له الكون كله :سماءً ،فيها
الشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر ،وأرضا فيها الخصب والماء والهواء .هذا كله قبل أن
تُوجَد أنت ،فطاعتك ل ـ إذن ـ ليست تفضّلً منك ،إنما جزاء ما قدّم لك من ِنعَم.
جعَِلتْ لخدمتك أطول عمرا منك ،فالنسان قد يموت يوم
وعجيب أن ترى هذه المخلوقات التي ُ
مولده ،وقد يعيش عدة أيام أو عدة سنوات ،أمّا الشمس مثلً فعمرها مليين السنين ،وهي تخدمك
دون سلطان لك عليها ،ودون أن تتدخل أنت في حركتها.
ثم يقول تعالى { :وَا ّتقُواْ الّذِي َأ َم ّدكُمْ }
()3016 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لم تعدد الية ما أمدنا ال به ،وتركتْ لنا أن نُعدّده نحن؛ لننا نعرفه جيدا ونعيشه ،وندركه بكل
حواسّنا ومداركنا ،فما من آلة عندك إل وتحت إدراكها نعمة ل ،بل عدة ِنعَم ،فالعين ترى
المناظر ،والذن تسمع الصوات ،والنف يشم الروائح ،واليد تبطش ..إلخ.
{ َأ َم ّدكُمْ ِبمَا َتعَْلمُونَ } [الشعراء ]132 :فقولوا أنتم واشهدوا على أنفسكم وعَدّدوا ِنعَم ربكم عليكم.
()3017 /
()3018 /
ت وَعُيُونٍ ()134
وَجَنّا ٍ
()3019 /
أي :أن تقوى ال وطاعته ل تعَدّ شكرا على نعمه فحسب ،إنما أيضا تكون لكم وقاية من عذاب
الخرة ،فل تظنوا أنكم أخذتُم ِنعَم ال ،ثم بإمكانكم النفلت منه أو الهرب من لقائه ،فالقاؤه حق ل
خفِ اللحق من ال ّنقَم.
خفْ السابق من النعم ،ف َ
مفرّ منه ،ول مهرب ،فإنْ لم َت َ
سوَآءٌ عَلَيْنَآ }
فماذا كان ردّهم على مقالة نبيّهم وموعظته لهم؟ { قَالُواْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3020 /
ظتَ } [الشعراء ]136 :دليل على أن الحق ل ُبدّ أن يظهر ،ولو على ألسنة
وقولهم { َأوَعَ ْ
المكابرين ،ول يكون الوعظ إل لمَنْ علم حكما ،ثم تركه ،فيأتي الواعظ ليُذكّره به ،فهو ـ إذن ـ
مرحلة ثانية بعد التعليم ،فهذا القول منهم اعتراف ودليل أنهم علموا المطلوب منهم ،ثم غفلوا عنه.
عظِينَ } [الشعراء ]136 :يعني:
ظتَ أَمْ لَمْ َتكُنْ مّنَ ا ْلوَا ِ
علَيْنَآ َأوَعَ ْ
سوَآءٌ َ
وهؤلء يقولون لنبيهم { َ
أرح نفسك ،فسواء علينا وعظُك وعدم وعظِك ،ونلحظ أنهم قالواَ { :أمْ لَمْ َتكُنْ مّنَ ا ْلوَاعِظِينَ }
[الشعراء ]136 :ولم يقولوا مثلً :سواء علينا أوعظتَ أم لم َت ِعظْ؛ لن نفي الوَعْظ يُثبت له القدرة
عليه.
إنما { َلمْ َتكُنْ مّنَ ا ْلوَاعِظِينَ } [الشعراء ]136 :يعني :امتنع منك الوعظ نهائيا ،وكأنهم ل يريدون
مسألة الوعظ هذه أبدا ،حتى في المستقبل لن يسمعوا له.
()3021 /
إنْ :بمعنى ما النافية ،يعني :ما هذا الذي جئتَ به إل { خُلُقُ } [الشعراء ]137 :الولين يعني:
ن وَآبَآؤُنَا
عادة مَنْ سبقوك واختلقهم ،يقصدون الرسل السابقين ،كما قالواَ {:لقَ ْد وُعِدْنَا هَـاذَا َنحْ ُ
لوّلِينَ }[النمل.]68 :
مِن قَ ْبلُ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ أَسَاطِي ُر ا َ
شيْءٍ إِنْ أَنتُمْ ِإلّ َتكْذِبُونَ }[يس.]15 :
حمَـانُ مِن َ
وقالوا {:مَآ أَنتُمْ ِإلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا َومَآ أَنَزلَ الرّ ْ
فوصفوا نبيهم ،ومَنْ سبقوه من الرسل بالكذب والختلق وإيجاد شيء لم يكن موجودا.
والخُلُق :صفة ترسخ في النفس تصدر عنها الفعال بُيسْر وسهولة ،والصفات التي يكتسبها
النسان ل تعطي مهارة من أول المر ،بل تعطي مهارة بعد الدّرْبة عليها ،فتصير عند صاحبها
كالحركة اللية ل تحتاج منه إلى مجهود أو معاناة.
وسبق أن ضربنا مثلً بالصبي الذي يتعلم مثلً الحياكة ،وكم يعاني ويضربه معلمه في سبيل تعلّم
لضم الخيط في البرة ،حتى إذا ما تعلمها الصبي وأجادها تراه فعل ذلك تلقائيا ،ودون مجهود
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وربما وهو ُمغْمض العينين.
ل لول مرة ،كم تعاني وتقع في أخطاء وأخطار؟ لكن بعد
وأنت حينما تتعلم قيادة السيارة مث ً
التدريب والدّرْبة تستطيع قيادتها بمهارة ،وكأنها مسألة آلية ،وكذلك الخُلُق المعنوي ،مثل هذه
الدّرْبة واللية في الماديات.
لوّلِينَ } [الشعراء ]137 :يعني :دعوى ادعوْهَا جميعا ـ أي :الرسل.
قاَ
إذن { :خُُل ُ
وفي قراءة أخرى تُوجه للمرسل إليهم بفتح الخاء وسكون اللم (خُلْق) أي :اختلق والمعنى :نحن
علَىا آثَارِهِم ّمقْتَدُونَ }
كمن سبقونا من المم ل نختلف عنهم {:إِنّا َوجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا ُأمّةٍ وَإِنّا َ
[الزخرف.]23 :
ت وَنَحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَآ ِإلّ الدّهْرُ }[الجاثية.]24 :
وهؤلء السابقون قالوا {:مَا ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُو ُ
فهذه الصفة أصبحت عندنا ثابتة متأصّلة في النفس ،فل تحاول زحزحتنا عنها ،فالمراد :نحن مثل
ي معنا وعْظُك.
السابقين ل نؤمن بمسألة البعث ،فأرح نفسك ،فلن يجد َ
()3022 /
يقولونها صريحة ردّا على قوله {:إِنّي َأخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ }[الشعراء.]135 :
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ف َكذّبُوهُ فََأهَْلكْنَاهُمْ }
()3023 /
َفكَذّبُوهُ فَأَهَْلكْنَاهُمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً َومَا كَانَ َأكْثَرُ ُهمْ ُم ْؤمِنِينَ ()139
وكانت السماء قبل محمد صلى ال عليه وسلم تجعل الرسول يُدلِي بمعجزته ،أو يقول بمنهجه،
لكن ل تطلب منه أن يُؤدّب المعاندين والمعارضين له إنما تتولّى السماء عنه هذه المهمة فتُوقِع
بالمكذبين عذابَ الستئصال.
وقد ُأمِ َنتْ أمة محمد صلى ال عليه وسلم من عذاب الستئصال ،فمَنْ كفر برسالة محمد صلى ال
عليه وسلم ل يأخذه ال كما أخذ المكذّبين من المم السابقة ،إنما يقول سبحانه {:قَاتِلُو ُهمْ ُيعَذّ ْبهُمُ
اللّهُ بِأَ ْيدِيكُ ْم وَيُخْ ِزهِ ْم وَيَ ْنصُ ْركُمْ عَلَ ْيهِمْ }[التوبة.]14 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكملة { فَأَهَْلكْنَاهُمْ } [الشعراء ]139 :كلمة صادقة ،لها دليل في الوجود نراه شاخصا ،كما يقول
الحق سبحانه {:أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِ َرمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ }
[الفجر6 :ـ .]8
ن تصون
نعم ،كانت لهم حضارة بلغتْ القمة ،ولم يكُنْ لها مثيل ،ومع هذا كله ما استطاعت أ ْ
نفسها ،وأخذها ال أَخْذ عزيز مقتدر.
قال تعالى {:وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْي ِهمْ ّمصْبِحِينَ * وَبِالّيلِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[الصافات137 :ـ .]138
وقال {:فَتِ ْلكَ بُيُو ُتهُمْ خَاوِيَةً ِبمَا ظََلمُواْ }[النمل.]52 :
أي :أنها شاخصة أمامكم تروْنها وتمرّون عليها ،وأنتم لم تبلغوا مبلغَ هذه الحضارة ،فإذا كانت
ن تتنبهوا إلى أنكم أضعف منهم،
حضارتهم لم تمنعهم من َأخْذ ال العزيز المقتدر ،فينبغي عليكم أ ْ
وأن ما حاق بالكافرين وما نزل بالمكذّبين ليس ببعيد عن أمثالهم من المم الخرى.
ت إلى زوال ،ولم نجد منها حضارة بقيتْ من
لذلك تجد الحضارات التي تُتوَارث في الكون كلها آل ْ
البداية إلى النهاية ،ولو بُنِ َيتْ هذه الحضارات على قيم ثابتة لكان فيها المناعة ضد الزوال.
ك ليَةً } [الشعراء ]139 :أي :في إهلك هذه الحضارة لمر عظيم،
وقوله تعالى { :إِنّ فِي ذَِل َ
يُلفِت النظار ،ويدعو للتأملَ { :ومَا كَانَ َأكْثَرُهُم ّم ْؤمِنِينَ } [الشعراء.]139 :
()3024 /
قال { رَ ّبكَ } [الشعراء ]140 :ولم ي ُقلْ ربهم؛ لن منزلة المربّي تعظم في التربية بمقدار كمال
المربّي ،فكأنه تعالى يقول :أنا ربّك الذي أكملت تربيتك على أحسن حال ،فَمنْ أراد أنْ يرى قدرة
الربوبية فليرها في تربيتك أنت ،والمربّى يبلغ القمة في التربية إنْ كان مَنْ ربّاه عظيما.
لذلك يقول صلى ال عليه وسلم " :أدّبني ربي فأحسن تأديبي ".
إذن :فمن عظمة الحق ـ تبارك وتعالى ـ أنْ يُعطي نموذجا لدقّة تربيته تعالى ولعظمة تكوينه،
ولما يصنعه على عَيْنه تعالى بمحمد صلى ال عليه وسلم ،فكأنه صلى ال عليه وسلم أكرمُ
مخلوق مُربّى في الرض؛ لذلك قال { رَ ّبكَ } [الشعراء ]140 :ولم يقل :ربهم مع أن الكلم ما
يزال مُتعلقا بهم.
وقوله تعالىَ { :ل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ } [الشعراء ]140 :العزيز قلنا :هو الذي َيغْلِب ول ُيغْلَب ،لكن
ل تظن أن في هذه الصفة جبروتا؛ لنه تعالى أيضا رحيم ،ومن عظمة السلوب القرآني أن يجمع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بين هاتين الصفتين :عزيز ورحيم وكأنه يشير لنا إلى مبدأ إسلمي يُربّي السلم عليه أتباعه ،أل
وهو العتدال فل تطغى عليك خصلة أو طبْع أو خُلُق ،والزم الوسط؛ لن كل طبْع في النسان له
مهمة.
وتأمل قول ال تعالى في صفات المؤمنين:
{ َأذِلّةٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[المائدة.]54 :
فالمسلم ليس مجبولً على الذلّة ول على العزة ،إنما الموقف هو الذي يجعله ذليلً ،أو يجعله
عزيزا ،فالمؤمن يتصف بالذلّة والخضوع للمؤمنين ،ويتصف بالعزّة على الكافرين.
حمَآءُ بَيْ َنهُمْ }[الفتح.]29 :
حمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ َمعَهُ َأشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ ُر َ
ومن ذلك أيضا {:مّ َ
خوَر ،فمثلً الوالد الذي يرفض أن يُجري لولده
ضعْف و َ
ومعلوم أن الرحمة في غير موضعها َ
جراحة خطرة فيها نجاته وسلمته خوفا عليه ،نقول له :إنها رحمة حمقاء وعطف في غير محلّه.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :كذّ َبتْ َثمُودُ ا ْلمُرْسَلِينَ }
()3025 /
بعد أن ذكر طرفا من قصة إبراهيم وموسى ونوح وهود عليهم السلم ذكر قصة ثمود قوم صالح
عليه السلم ،وقد تكررتْ هذه اللقطات في عدة مواضع من كتاب ال؛ ذلك لن القرآن في علجه
ل يعالج أم ًة واحدة في بيئة واحدة بخُلق واحد ،إنما يعالج عالما مختلف البيئات ومختلف الداءات
ومختلف المواهب والميول.
فل بُدّ أن يجمع ال له الرسل كلهم ،ليأخذ من كل واحد منهم لقطة؛ لنه سيكون منهجا للناس
جميعا في ُكلّ زمان وفي ُكلّ مكان ،أمّا هؤلء الرسل الذين جمعهم ال في سياق واحد فلم يكونوا
للناس كافة ،إنما كل واحد منهم لمة بعينها ،ولقابل واحد في زمن مخصوص ،ومكان
مخصوص.
لقد بُعث محمد صلى ال عليه وسلم ليكون رسولً يجمع الدنيا كلها على نظام واحد ،وخَلُق واحد،
ومنهج واحد ،مع تباين بيئاتهم ،وتباين داءاتهم ومواهبهم .إذن :ل بُدّ أن يذكر الحق ـ تبارك
وتعالى ـ لرسوله صلى ال عليه وسلم طرفا من سيرة كل نبي سبقه.
سلِ مَا نُثَ ّبتُ ِبهِ ُفؤَا َدكَ }[هود.]120 :
لذلك قال سبحانهَ {:وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
ورسول ال صلى ال عليه وسلم لم يكُنْ في حاجة لن يُثبّت ال فؤاده مرة واحدة ،إنما كلّما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تعرّض لمواقف احتاج إلى تثبيت ،فيُثّبته ال ،يقول له :تذكّر ما كان من أمر إبراهيم ،وما كان من
أمر نوح وهود ...إلخ فكان تكرار القصص لتكرار التثبيت ،فالقصة في القرآن وإنْ كانت في
ل منها معنى ل تؤديه الخرى.
مجموعها مكررة ،إنما لقطاتها مختلفة تؤدي ُك ّ
سلِينَ } [الشعراء ]141 :لن
وهنا يقول سبحانه كما قال عن المم السابقة { :كَذّ َبتْ َثمُودُ ا ْلمُرْ َ
الرسل جميعا إنما جاءوا بعقيدة واحدة ،ل يختلف فيها رسول عن الخر ،وصدروا من مصدر
واحد ،هو الحق تبارك وتعالى ،ول يختلف الرسل إل في المسائل الجتماعية والبيئية التي تناسب
كلً منهم.
لذلك يقول تعالى {:إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ ِإلَىا نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن َب ْع ِد ِه وََأوْحَيْنَآ إِلَىا إِبْرَاهِيمَ
ق وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَاطِ وَعِيسَىا }[النساء.]163 :
سمَاعِيلَ وَإسْحَا َ
وَإِ ْ
وقال تعالى {:شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ ِإلَ ْيكَ َومَا َوصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ }[الشورى.]13 :
َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ
ثم يقول الحق سبحانه { :إِذْ قَالَ َلهُمْ َأخُوهُ ْم صَالِحٌ }
()3026 /
إِذْ قَالَ َلهُمْ أَخُو ُه ْم صَالِحٌ أَلَا تَ ّتقُونَ ( )142إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ ( )143فَا ّتقُوا اللّ َه وََأطِيعُونِ (
)144
قال هنا أيضاَ { :أخُوهُمْ } [الشعراء ]142 :ليرقّق قلوبهم ويُحنّنها على نبيهم { أَل تَ ّتقُونَ }
حضّ على التقوى ،فحين
حثّ و َ
[الشعراء ]142 :قلنا :إنها استفهام إنكاري .تعني :اتقوا ال ،ففيها َ
تُنكر النفي ،فإنك تريد الثبات.
ولما كانت التقوى تقتضي وجود منهج نتقي ال به ،قال { :إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ } [الشعراء:
]143وما ُد ْمتُ أنا رسول أمين لن أغشّكم { فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأطِيعُونِ } [الشعراء ]144 :وكرر المر
بالتقوى مرة أخرى ،وقرنها بالطاعة.
()3027 /
َومَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا عَلَى َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()145
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكأن العمل الذي أقدمه من أجلكم ـ في عُرْف العقلء ـ يستحق أجرا ،فالعامل الذي يعمل لكم
شيئا جزئيا من مسائل الدنيا يزول وينتهي يأخذ أجرا عليه ،أما أنا قأقدّم لكم عملً يتعدّى الدنيا إلى
الخرة ،ويمدّ حياتك بالسعادة في الدنيا والخرة ،فأجْري ـ إذن ـ كبير؛ لذلك ل أطلبه منكم إنما
من ال.
()3028 /
يريد أن يُوبّخهم :أتظنون أنكم ستخلّدون في هذا النعيم ،وأنتم آمنون ،أو أنكم تأخذون ِنعَم ال ،ثم
تفرّون من حسابه ،كما قال سبحانه:
جعُونَ }[المؤمنون.]115 :
{ َأ َفحَسِبْ ُتمْ أَ ّنمَا خََلقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَ ّنكُمْ إِلَيْنَا لَ تُرْ َ
فمَنْ ظن ذلك فهو مخطيء قاصر الفهم؛ لن الشياء التي تخدمك في الحياة ل تخدمك بقدرة منك
عليها ،فأنت ل تقدر على الشمس فتأمرها أنْ تشرق كل يوم ،ول تقدر على السحاب أن ينزل
المطر ،ول تقدر على الرض أن تعطيها الخصوبة لتنبت ،ول تقدر على الهواء الذي تتنفسه..
إلخ وهذه من مُقوّمات حياتك التي ل تستطيع البقاء بدونها.
وكان من الواجب عليك أن تتأمل وتفكر :مَن الذي سخرّها لك ،وأقدرك عليها؟ كالرجل الذي
انقطع في الصحراء وفقد دابته وعليها طعامه وشرابه حتى أشرف على الهلك ،ثم أخذته سِنَة
أفاق منها على مائدة عليها أطايب الطعام والشراب ،بال ،أليس عليه قبل أنْ تمتد يده إليها إنْ
يسأل نفسه :مَنْ أعدّ لي هذه المائدة في هذا المكان.
عدّ لك فيه كل هذا الخير ،فكان عليك أن تنظر فيه ،وفيمَنْ
كذلك أنت طرأتَ على هذا الكون وقد أُ ِ
أعدّه لك .فإذا جاءك رسول من عند ال ليحلّ لك هذا اللغز ،ويخبرك بأن الذي فعل كل هذا هو
ال ،وأن من صفات كماله كذا وكذا ،فعليك أن تُصدّقه.
حلّ لغز حار فيه عقلك ،وإما هو كاذب ـ والعياذ بال وحاشا
لنه إما أن يكون صادقا يهديك إلى َ
ل أن يكذب رسول ال على ال ـ فإن صاحب هذا الخلق عليه أن يقوم ويدافع عن خَلْقه.
ويقول :هذا الرسول مُ ّدعٍ وكاذب ،وهذا الخَلْق لي :فإذا لم يقُمْ للخَلْق ُم ّدعٍ فقد ثبتتْ القضية ل
تعالى إلى أنْ يظهر مَنْ يدّعيها لنفسه.
()3029 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت وَعُيُونٍ ()147
فِي جَنّا ٍ
ت وَعُيُونٍ } [الشعراء ]147 :امتداد للية السابقة ،يعني :ل تظنوا أن هذا
وقوله تعالى { :فِي جَنّا ٍ
يدوم لكم .و(جنات) :جمع جنة ،وهي المكان المليء بالخيرات ،وكل ما يحتاجه النسان ،أو هي
المكان الذي إنْ سار فيه النسان سترتْه الشجار؛ لن جنّ يعني ستر .كما في قوله تعالى {:فََلمّا
جَنّ عَلَ ْيهِ الّ ْيلُ }[النعام ]76 :أي :ستره.
ومنه الجنون .ويعني :سَتْر العقل .وكذلك الجنة ،فهي تستر عن الوجود كله ،وتُغنيك عن الخروج
منها إلى غيرها ،ففيها كل ما تتطلبه نفسك ،وكل ما تحتاجه في حياتك.
ومن ذلك ما نسميه الن (قصرا) لن فيه كل ما تحتاجه بحيث يقصرك عن المجتمع البعيد.
وقال بعدها { :وَعُيُونٍ } [الشعراء ]147 :لن الجنة تحتاج دائما إلى الماء ،فقال { وَعُيُونٍ }
[الشعراء ]147 :ليضمن بقاءها.
خلٍ طَ ْل ُعهَا }
ثم يقول الحق سبحانه { :وَزُرُوعٍ وَنَ ْ
()3030 /
النخل من الزروع ،لكن خصّ النخل بال ّذكْر ،لن رسول ال صلى ال عليه وسلم اهتم به ،وشبّهه
بالمؤمن في الحديث " :إن من الشجر شجرة ل يسقط ورقها " قال الراوي :فوقع الناس في شجر
البوادي ،ولم يهتدوا إليها ،فلما خرج عمر وابنه عبد ال قال :يا أبي ،لقد وقع في ظني أنها
النخلة؛ لنها مثل المؤمن كل ما فيه خير.
نعم لو تأملتَ النخلة لوجدتَ أن كل شيء فيها نافع ،وله مهمة ،وينتفع الزارع به ،ول يُ ْلقَى منها
شيء منهما كان بسيطا .فالجذوع تُصنع منها السواري والعمدة ،وتُسقف بها البيوت قبل ظهور
الخرسانة ،ومن الجريد يصنعون القفاص ،والجزء المفلطح من الجريدة ويسمى (القحف) والذي
ل يصلح للقفاص كانوا يجعلونه على شكل معين ،فيصير (مقشّة) يكنسون بها المنازل.
ومن الليف يصنعون الحبال ،ويجعلونه في تنجيد الكراسي وغيرها ،حتى الشواك التي تراها في
جريد النخل خلقه ال لحكمة وبقدَرٍ؛ لنها تحمي النخلة من الفئران أثناء إثمارها ،والليف الذي
غضّة طرية ،فل
يمنو بين أصول الجريد جعله ال حماية للنخلة ،وهي في طور النمو ،وما تزال َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحمي بعضها على بعض.
إذن :هي شجرة خيّرة كالمؤمن ،وقد تم أخيرا في أحد البحوث أن أخذوا الجزء الذي يسمى
بالقحف ،وجعلوه في تربة مناسبة ،فأنبتوا منه نخلة جديدة.
لذلك " لما قال ابن عمر :إنها النخلة .ذهب عمر إلى رسول ال ،وحكى له مقالة ولده ،فقال صلى
ال عليه وسلم " :صدق ولدك " فقال عمر( :فوال ما يسرني أن فَطِن ولدي إليها أن لي حمر
النعم) ".
والذين يزرعون النخيل يروْنَ فيه آيات وعجائب دالّة على قدرة ال تعالى.
ومعنى { طَ ْل ُعهَا َهضِيمٌ } [الشعراء ]148 :الطّلْع :هو الكوز الذي تخرج منه الشماريخ في الُنْثى
ويخرج منه المادة المخصبة في الذكر ،والتي قال ال عنها {:قِ ْنوَانٌ دَانِيَةٌ }[النعام.]99 :
وفي الذّكر يخرج من الكوز المادة المخصّبة للنخلة ،وللقِنْوان أو الشماريخ أطوار في النمو
يُسمّونه (الخل) ،فيظل ينمو ويكبر إلى أنْ يصل إلى نهايته حَدّا حيث يجمد على هذه الحالة،
ويكتمل نموه الحجمي ،ثم تبدأ مرحلة اللون.
يقولون (عفّر) النخل :يعني شاب خضرته حمرة أو صفرة .فإذا اكتمل احمرار الحمر واصفرار
الصفر ،يسمى (بُسْر) ثم يتحول البُسْر إلى (الرطب) حيث تلين ثمرته وتنفصل قِشْرته ،فإنْ كان
الجو جافا فإنّ الرّطَب يَيْبس ،ويتحول إلى (التمر) حيث تتبخّر مائيته ،وتتماسك ِقشْرته ،وتلتصق
به.
غضّ ورَطْب طريّ ،وهذا يدل على خصوبة الرض،
ومعنى { َهضِيمٌ } [الشعراء ]148 :يعنيَ :
ومنه هضم الطعام حتى يصبر ليّنا مُسْتساغا.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَتَ ْنحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ }
()3031 /
وحين تذهب إلى مدائن صالح تجد البيوت منحوتة في الجبال كما ينحتون الن النفاق مثلً ،ل
يبنونها كما نبني بيوتنا ،ومعنى { فَا ِرهِينَ } [الشعراء ]149 :الفاره :النشط القوي ظاهر الموهبة،
يقولون :فلن فاره في كذا يعني؛ ماهر فيه ،نشط في ممارسته.
()3032 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فَا ّتقُوا اللّ َه وَأَطِيعُونِ ( )150وَلَا ُتطِيعُوا َأمْرَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ ()151
المسرف :هو الذي يتجاوز الحدّ؛ وتجاوز الحدّ له مراحل؛ لن ال تعالى أحلّ أشياء ،وحرّم
أشياء ،وجعل لكل منهما حدودا مرسومة ،فالسّرَف فيما شرع ال أن تتجاوز الحلل ،فتُدخل فيه
الحرام.
أو :يأتي السراف في الكَسْب فيدخل في كَسْبه الحرام .وقد يُلزم النسان نفسه بالحلل في
الكسب ،لكن يأتي السراف في النفاق فينفق فيما حرّمه ال .إذن :يأتي السراف في صور
ثلثة :إما في الصل ،وإما في الكسب ،وإما في النفاق.
ونلحظ أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يكلمنا عن الحلل ،يقول سبحانه {:تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ
َتعْتَدُوهَا }[البقرة.]229 :
أما في المحرمات فيقول سبحانه {:تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتقْرَبُوهَا }[البقرة ]187 :أي :ابتعد عنها؛
لنك ل تأمن الوقوع فيها ،ومَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .فلم يقل الحق سبحانه مثلً :ل
سكَارَىا }[النساء.]43 :
ل َة وَأَنْتُمْ ُ
ُتصَلّوا وأنتم سكارى .إنما قال {:لَ َتقْرَبُواْ الصّ َ
خذِ الحلل كله ،لكن ل تتعداه إلى المحرّم ،أما المحرّم فاحذر مجرد القتراب منه؛ لن
والمعنىُ :
له دواعي ستجذبك إليه.
ونقف عند قوله تعالى { :وَلَ تُطِيعُواْ َأمْرَ ا ْل ُمسْ ِرفِينَ } [الشعراء ]151 :حيث لم يقل :ول تسرفوا،
وكأن ربنا ـ عزّ وجلّ ـ يريد أن يُوقِظ غفلتنا ويُنبّهنا ويُحذّرنا من دعاة الباطل الذين يُزيّنون لنا
السراف في أمور حياتنا ،ويُهوّنون علينا الحرام يقولون :ل بأس في هذا ،ول مانع من هذا،
وهذا ليس حرام .ربنا يعطينا المناعة اللزمة ضد هؤلء حتى ل ننساق لضلللتهم.
ن أفتوك
ن أفتوك ،وإ ْ
ن أفتوك ،وإ ْ
لذلك جاء في الحديث الشريف " :استفت قلبك ،واستفتِ نفسك ،وإ ْ
".
وفي هذا دليل على أنه سيأتي أناس يُفتون بغير علم ،ويُزيّنون للناس الباطل ،ويُقنعونهم به.
س ِمعْنَا فَتًى َي ْذكُرُهُمْ ُيقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }[النبياء:
والفتوى من الفُتوة القوة ،ومنه قوله تعالى {:قَالُواْ َ
.]60
وقوله تعالى {:إِ ّنهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَ ّبهِ ْم وَزِدْنَا ُهمْ ُهدًى }[الكهف.]13 :
كذلك الفتوى تعني :القوة في أمر الدين والتمكّن من مسائله وقضاياه ،وإنْ كانت القوة المادية في
ن القوة في أمر الدين ل تنتهي إلى حَدّ ،لن الدين أمدُه واسع،
حدّ تنتهي عنده فإ ْ
أمر الدنيا لها َ
وبحره ل ساحلَ له .والقوة نعرفها في أي ناحية من النواحي ،لكن قوة القوى هي القوة في أمر
الدين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نقول :فلن فتيّ يعني :قويّ بذاته ،وأفتاه فلن أي :أعطاه القوة ،كأنه كان ضعيفا في حُكم من
أحكام الشرع ،فذهب إلى المفتي فأفتاه يعني :أعطاه فتوة في أمر الدين .مثل قولنا :غَنيَ فلن أي:
بذاته ،وأغناه أي :غيره ،كما يقول سبحانهَ {:ومَا َنقَمُواْ ِإلّ أَنْ أَغْنَا ُهمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن َفضْلِهِ }
[التوبة.]74 :
إذن :فمهمة المفتي أن يُقوّي عقيدتي ،ل أن يسرف لي في أمر من أمور الدين ،أو يُهوّن عليّ ما
حرّم ال فيُجرّئني عليه ،وعلى المفتي أن يتحرّى الدقة في فتواه خاصة في المسائل الخلفية التي
يقول البعض بحلّها ،والبعض بحرمتها ،يقف عند هذه المسائل وينظر فيها رأي السلم المتمثل
في الحديث الشريف:
" الحلل بيّن ،والحرام بيّن ،وبينهما أمور مُشْتبهات ،فمن ترك ما شُبّه له ـ ل من فعل ما شُبّه له
يعني على القل نترك ما فيه شبهة ـ فقد استبرأ لدينه ـ إن كان متدينا ـ وعِرْضه ـ إن لم يكُنْ
متدينا ".
إذن :مَنْ لم يقف هذا الموقف ويترك ما فيه شبهة لم يستبرىء لدينه ول لعِرْضه .ومَنْ لم ُي ْفتِ
على هذا الساس من العلماء فإنما يُضعِف أمر الدين ل يُقوّيه ،وبدل أن نقول :أفتاه .نقول:
أضعفه.
()3033 /
فوصف المسرفين بأنهم مفسدون في الرض غير مصلحين ،كأن الرض خلقها الخالق ـ عز
وجل ـ على هيئة الصلح في كل شيء ،لكن يفسدها النسان بتدخلّه في أمورها؛ لذلك سبق أن
قلنا :إنك لو نظرتَ إلى الكون من حولك لوجدته على أحسن حال ،وفي منتهى الستقامة ،طالما
ل تتناوله يد النسان ،فإنْ تدخّل النسان في شيء ظهرتْ فيه علمات الفساد.
ول يعني هذا ألّ يتدخل النسان في الكون ،ل إنما يتدخل على منهج مَنْ خَلقَ فيزيد الصالح
صلحا ،أو على القل يتركه على صلحه ل يفسده ،فإن تدخّل على غير هذا المنهج فل بُدّ له أن
يفسد.
فحين تمر مثلً ببئر ماء يشرب منه الناس ،فإما أنْ تُصلح من حاله وتزيده ميزة وتُيسّر استخدامه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على الناس ،كأن تبني له حافّة ،أو تجعل عليه آلة َرفْع تساعد الناس ،أو على القل تتركه على
سلَ
سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْرثَ وَالنّ ْ
حاله ل تفسده؛ لذلك يقول تعالى {:وَِإذَا َتوَلّىا َ
ب الفَسَادَ }[البقرة.]205 :
ح ّ
وَاللّ ُه لَ يُ ِ
أما هؤلء القوم فلم يك َتفِ القرآن بوصفهم بالفساد وحسب ،إنما أيضا هم { وَلَ ُيصْلِحُونَ }
[الشعراء ]152 :ذلك لن النسان قد يُفسِد في شيء ،ويُصلح في شيء ،إنما هؤلء دأبهم الفساد،
ول يأتي منهم الصلح أبدا.
ونكبة الوجود من الذين يصنعون أشياء يروْنها في ظاهرها صلحا ،وهي عَيْن الفساد؛ لنهم لم
يأخذوها بكل تقنيناتها القيمية ،وانظر مثلً إلى المبيدات الحشرية التي ابتكروها وقالوا :إنها فتح
علمي ،وسيكون لها دور كبير في القضاء على دودة القطن وآفات الزرع ،وبمرور الزمن
أصبحت هذه المبيدات وبالً على البشرية كلها ،كيث تسمّم الزرع وتسمّم الحيوان ،وبالتالي
النسان ،حتى الماء والتّرْبة والطيور ،لدرجة أنك تستطيع القول أنها أفسدت الطبيعة التي خلقها
ال.
وفي هؤلء قال تعالى:
سعْ ُيهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَ ّن ُهمْ
ضلّ َ
ن َ
عمَالً * الّذِي َ
{ ُقلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ
حسِنُونَ صُنْعا }[الكهف103 :ـ .]104
يُ ْ
ثم يقول الحق سبحانه { :قَالُواْ إِ ّنمَآ أَنتَ }
()3034 /
{ ا ْل ُمسَحّرِينَ } [الشعراء ]153 :جمع مُسحّر ،وهي صيغة مبالغة تدلّ على وقوع السحر عليه
سحّر يعني عدة مرات ،ومن ذلك قوله تعالى
أكثر من مرة ،نقول :مسحور يعني :مرة واحدة ومُ َ
علِيمٍ }[الشعراء:
عن مل فرعون أنهم قالوا له {:وَا ْب َعثْ فِي ا ْلمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ ِب ُكلّ سَحّارٍ َ
36ـ .]37
ولم يقل :بكل ساحر ،إنما سحّار يعني :هذه مهنته ،وكما تقول :ناجر ونجار ،وخائط وخياط.
وإنْ كان بعضهم قال عن نبيهم {:إِن تَتّ ِبعُونَ ِإلّ َرجُلً مّسْحُورا }[السراء ]47 :فهؤلء يقولون
سحّرِينَ } [الشعراء ]153 :وعجيب أمر أهل الباطل؛ لنهم يتخبطون في
لنبيهم { إِ ّنمَآ أَنتَ مِنَ ا ْلمُ َ
هجومهم على النبياء ،فمرّة يقولون :ساحر .ومرة يقولون :مسحور ،كيف والساحر ل يكون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مسحورا؛ لنه على القل يستطيع أن يحمي نفسه من السحر .قالوا :بل المراد بالمسحور اختلط
عقله ،حتى إنه ل يدري ما يقول.
ثم إن نبيكم صالحا ـ عليه السلم ـ إنْ كان مسحورا فمَنْ سحره؟ أنتم أم أتباعه؟ إنْ كان سحره
منكم فأنتم تقدرون على َكفّ سحركم عنه ،حتى يعود إلى طبيعته ،وترونه على حقيقته ،وإنْ كان
ن يعينوه على مهمته ،ل أن يُقعدوه عنها.
من أتباعه ،ل بُدّ أنهم سيحاولون أ ْ
سحّرِينَ } [الشعراء ]153 :يريدون أن يخُلصُوا إلى عدم
إذن :فقولهم لنبيهم { :إِ ّنمَآ أَنتَ مِنَ ا ْلمُ َ
اتباعه هو بالذات ،فهم يريدون تديّنا على حسب أهوائهم ،يريدون عبادة إله ل تكليفَ له ول
منهج .كالذين يعبدون الصنام وهم سعداء بهذه العبادة ،لماذا؟
لن آلهتهم ل تأمرهم بشيء ول تنهاهم عن شيء .لذلك ،فكل الدجالين ومُدّعُو النبوة رأيناهم
يُخفّفون التكاليف عن أتباعهم ،فقديما أسقطوا عن الناس الزكاة ،وحديثا أباحوا لهم الختلط ،فل
مانع لديهم من اللتقاء بالمرأة والجلوس معها ومخاطبتها والخُلْوة بها والرقص معها ،وماذا في
ذلك ونحن في القرن الحادي والعشرين؟
فإنْ قالوا :ساحر ،نردّ عليهم نعم هو ساحر ،قد سحر مَنْ آمنوا به ،فلماذا لم يسحركم أنتم وتنتهي
هذه المسألة؟ إذن :هذه ُتهَم ل تستقيم ،ل هو ساحر ،ول هو مسحور ،إنه مجرد كذب وافتراء
على أنبياء ال ،وعلى دعاة الخير في كل زمان ومكان.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى { :مَآ أَنتَ ِإلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا }
()3035 /
مَا أَ ْنتَ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَ ْأتِ بِآَ َيةٍ إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ ()154
وقولهم { :مَآ أَنتَ ِإلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَ ْأتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } [الشعراء ]154 :إذن :فوجه
اعتراضهم أن يكون النبي بَشَرا ،كما قال سبحانه في آية أخرىَ {:ومَا مَ َنعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ إِذْ
جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ َبشَرا رّسُولً }[السراء.]94 :
ولو بعث ال لهم مَلَكا لجاءهم على صورة بشر ،وستظل الشّبْهة قائمة ،فمن يدريكم أن هذا البشر
جعَلْنَاهُ رَجُلً وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا يَلْ ِبسُونَ }[النعام.]9 :
جعَلْنَاهُ مَلَكا لّ َ
أصله مَلَك؟{ وََلوْ َ
فالمعنى :ما دام أن الرسول بشر ،ل يمتاز علينا في شيء فنريد منه أنْ يأتينا بآية يعني :معجزة
تُثبِت لنا صِدْقه في البلغ عن ربه { إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } [الشعراء.]154 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونلحظ أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ ينتهز فرصة طلَبهم لية ومعجزة ،فأسرع إليهم بما طلبوا،
ليقيم عليهم الحُجة ،فقال بعدها { :قَالَ هَـا ِذهِ نَاقَةٌ }
()3036 /
()3037 /
عظِيمٍ ()156
وَلَا َتمَسّوهَا بِسُوءٍ فَيَ ْأخُ َذكُمْ عَذَابُ َيوْمٍ َ
يخبر الحق سبحانه رسوله بما سيكون ،وأن القوم لن يتركوا هذه الية ،إنما سيتعرضون لها
باليذاء ،فقالَ { :ولَ َت َمسّوهَا بِسُوءٍ } [الشعراء ]156 :لكنهم تع ّدوْا مجرد اليذاء والساءة
فعقروها.
خ َذكُمْ عَذَابُ َيوْمٍ عَظِيمٍ } [الشعراء.]156 :
ثم يتوعدهم { :فَيَأْ ُ
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ف َعقَرُوهَا فََأصْبَحُواْ نَا ِدمِينَ }
()3038 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عقْرها؟ ل بل عقرها واحد منهم ،هو
قال (عقروها) بصيغة الجمع ،فهل اشتركتْ كل القبيلة في َ
قدار بن سالف ،لكن وافقه الجميع على ذلك ،وساعدوه ،وارتضوا هذا الفعل ،فكأنهم فعلوا جميعا؛
لنه استشارهم فوافقوا.
{ فََأصْبَحُواْ نَا ِدمِينَ } [الشعراء ]157 :وقال العلماء :الندم مقدمة التوبة.
ثم يقول الحق سبحانه { :فََأخَ َذهُمُ ا ْل َعذَابُ إِنّ فِي ذَِلكَ }
()3039 /
خذَهُمُ ا ْلعَذَابُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ ()158
فَأَ َ
فإنْ قُ ْلتَ :كيف يأخذهم العذاب وقد ندموا ،والندم من مقدمات التوبة؟
ستِ ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ
نعم ،الندم من مقدمات التوبة ،لكن توبة هؤلء من التوبة التي قال ال عنها {:وَلَيْ َ
حضَرَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ النَ }[النساء.]18 :
َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىا ِإذَا َ
إذن :ندموا وتابوا في غير أوان التوبة ،أو :أنهم أصبحوا نادمين ل ندمَ توبة من الذنب ،إنما
نادمون؛ لنهم يخافون العذاب الذي هددهم ال به إنْ فعلوا.
ثم تُختم هذه القصة بهذا التذييل الذي عرفناه من قبل مع أمم أخرى مُكذّبة { :وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ
}
()3040 /
()3041 /
كَذّ َبتْ َقوْمُ لُوطٍ ا ْلمُرْسَلِينَ (ِ )160إذْ قَالَ َلهُمْ َأخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَ ّتقُونَ ()161
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقال هنا أيضا { َأخُوهُمْ } [الشعراء ]161 :لنه منهم ليس غريبا عنهم ،وليُحنّن قلوبهم عليه { أَل
تَ ّتقُونَ } [الشعراء ]161 :إنكار لعدم التقوى ،وإنكار النفي يطلب الثبات فكأنه قال :اتقوا ال.
()3042 /
إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ ( )162فَا ّتقُوا اللّ َه وََأطِيعُونِ (َ )163ومَا أَسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ إِلّا
عَلَى َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()164
وهكذا كانت مقالة لوط عليه السلم كما قال إخوانه السابقون من الرسل؛ لنهم يصدُرون جميعا
عن مصدر واحد.
ثم يخصّ الحق سبحانه قوم لوط لما اشتُهروا به وكان سببا في إهلكهم { :أَتَأْتُونَ ال ّذكْرَانَ مِنَ
ا ْلعَاَلمِينَ }
()3043 /
()3044 /
يعني :كان عندكم مندوحة عن هذه ال ِفعْلة النكراء بما خلق ال لكم من أزواجكم من النساء،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فتصرفون هذه الغريزة في محلها ،ول تنقلونها إلى الغير.
جكُمْ } [الشعراء ]166 :أي :أنهم كانوا يباشرون هذه
أو { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ َل ُكمْ رَ ّبكُمْ مّنْ أَ ْزوَا ِ
المسألة أيضا مع النساء في غير محلّ الستنبات ،فقوله تعالىِ {:نسَآ ُؤكُمْ حَ ْرثٌ ّلكُمْ فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ
أَنّىا شِئْ ُتمْ }[البقرة.]223 :
البعض يظنها على عمومها وأن{ أَنّىا شِئْتُمْ }[البقرة ]223 :تعطيهم الحرية في هذه المسألة ،إنما
الية محددة بمكان الحَرْث واستنبات الولد ،وهذا محله المام ل الخلف.
لذلك قال بعدهاَ { :بلْ أَن ُتمْ َقوْمٌ عَادُونَ } [الشعراء ]166 :والعادي هو الذي شُرع له شيء يقضي
فيه إربته ،فتجاوزه إلى شيء آخر حرّمه الشرع.
ثم يقول الحق سبحانه { :قَالُواْ لَئِن لّمْ تَن َتهِ }
()3045 /
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُخْرَجِينَ ()167
أي :إن لم تنته عن ملمنا ومعارضتنا فيما نفعله من هذه العملية { لَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُخْ َرجِينَ }
[الشعراء ]167 :كما قالوا في آية أخرى {:أَخْ ِرجُواْ آلَ لُوطٍ مّن قَرْيَ ِتكُمْ }[النمل ]56 :أي :ل مكان
طهّرُونَ }[النمل ]56 :سبحان ال جريمتهم أنهم يتطهرون ،ول
لهم بيننا ،لكن لماذا؟{ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَ َت َ
طهْر بين هؤلء القوم الراذل.
مكان لل ّ
ثم يقول الحق سبحانه عن لوط { :قَالَ إِنّي ِل َعمَِلكُمْ }
()3046 /
وفرْقٌ بين كوني ل أعمل العمل ،وكوْني أكره مَنْ يعمله ،فالمعنى :أنا ل أعمل هذا العمل ،إنما
أيضا أكره مَنْ يعمله ،وهذا مبالغة في إنكاره عليهم.
ثم يقول لوطَ { :ربّ نّجِنِي وَأَهْلِي }
()3047 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َمعِينَ ( )170إِلّا عَجُوزًا فِي ا ْلغَابِرِينَ (
َربّ نَجّنِي وَأَهْلِي ِممّا َي ْعمَلُونَ ( )169فَ َنجّيْنَا ُه وَأَهْلَهُ َأ ْ
)171
لم يملك لوط عليه السلم أمام عناد قومه وإصرارهم على هذه الفاحشة إل أنْ يدعو ربّه بالنجاة له
ولهله ،فأجابه ال تعالى { ِإلّ عَجُوزا فِي ا ْلغَابِرِينَ } [الشعراء.]171 :
ح وَامْرََأتَ لُوطٍ }
والمراد :امرأته التي قال ال في حقها {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُو ٍ
[التحريم.]10 :
ل للكفر والعياذ بال؛ لذلك لم تكُنْ من الناجين ،ولم تشملها دعوة
فجعلها ال ـ عز وجل ـ مثا ً
لوط عليه السلم ،وكانت من الغابرين .يعني :الهالكين.
()3048 /
ثُمّ َدمّرْنَا الْآَخَرِينَ ( )172وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ ا ْلمُنْذَرِينَ ()173
{ الخَرِينَ } [الشعراء ]172 :أي :الذين لم يؤمنوا بدعوته ،ولم ينتهوا عن هذه الفاحشة ،ثم بيّن
نوعية هذا التدمير ،فقال { :وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِم مّطَرا َفسَآءَ مَطَرُ ا ْلمُنذَرِينَ } [الشعراء ]173 :ولما
كان المطر من أسباب الخير وعلمات الرحمة ،حيث ينزل الماء من السماء ،فيُحيي الرض بعد
موتها ،وصف ال هذا المطر بأنه { فَسَآءَ مَطَرُ ا ْلمُنذَرِينَ } [الشعراء ]173 :فهو ليس مطرَ خَيْر
ورحمة ،إنما مطر عذاب ونقمة.
كماء جاء في آية أخرى {:فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ
شيْءٍ بَِأمْرِ رَ ّبهَا }[الحقاف24 :ـ .]25
جلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُ َدمّرُ ُكلّ َ
مَا اسْ َتعْ َ
وهذا يُسمّونه (يأس بعد إطماع) ،وهو أبلغ من العذاب واليلم ،حين تستشرف للخير فيُفاجئك
الشر ،وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بالسجين الذي يطلب من الحارس شَرْبة ماء ،ليروي بها
ن المر هيّنا لكنه يحضر له كوب الماء ،حتى إذا جعله
عطشه ،فلو حرمه الحارس من البداية لَكا َ
على فيه أراقه على الرض ،فهذا أشد وأنكَى؛ لنه حرمه بعد أن أطمعه ،وهذا عذاب آخر فوق
عذاب العطش.
جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهَا
وفي لقطة أخرى بينّ ما هية هذا المطر ،فقال {:فََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا َ
ك َومَا ِهيَ مِنَ الظّاِلمِينَ بِ َبعِيدٍ }[هود82 :ـ .]83
س ّومَةً عِندَ رَ ّب َ
سجّيلٍ مّ ْنضُودٍ * مّ َ
حجَا َرةً مّن ِ
ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س ّومَةً }[هود ]83 :يعني:
فالحجارة من{ سِجّيلٍ }[هود ]82 :أي :طين حُرِق حتى تحجّر وهي{ مّ َ
مُعلّمة بأسماء أصحابها ،تنزل عليهم بانتظام ،كل حجر منها على صاحبه.
وبجمع اللقطات المتفرقة تتبين معالم القصة كاملة.
()3049 /
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ ( )174وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ ()175
وتُختم القصة بنفس اليات التي خُت ِمتْ بها القصص السابقة من قصص المكذّبين المعاندين.
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قوم آخرين كذبوا رسولهم شعيباَ { :ك ّذبَ َأصْحَابُ الَ ْيكَةِ }
()3050 /
خصْب الذي بلغ من خصوبته أنْ تلتفّ أشجاره ،وتتشابك أغصانها ،وقال هنا
اليكة :هي المكان ال ِ
أيضا { ا ْلمُ ْرسَلِينَ } [الشعراء ]76 :مع أنهم ما كذّبوا إل رسولهم؛ لن تكذيب رسول واحد
كتكذيب ُكلّ الرسل؛ لنهم جميعا جاءوا بمنهج واحد في العقيدة والخلق.
()3051 /
شعَ ْيبٌ أَلَا تَ ّتقُونَ ( )177إِنّي َلكُمْ رَسُولٌ َأمِينٌ ( )178فَا ّتقُوا اللّ َه وََأطِيعُونِ (َ )179ومَا
إِذْ قَالَ َلهُمْ ُ
أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ إِلّا عَلَى َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()180
نلحظ اختلف السلوب هنا ،مما يدل على ِدقّة الداء القرآني ،فلم يقل :أخوهم شعيب ،كما قال في
نوح وهود وصالح ولوط ،ذلك لن شعيبا عليه السلم لم يكن من أصحاب اليكة ،إنما كان غريبا
عنهم.
وباقي اليات متفقة تماما مع مَنْ سبقه من إخوانه الرسل؛ لن الوحدة في المنهج العقدي أنتجتْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوحدة في علج المنهج؛ لذلك قرأنا هذه اليات عند كل الرسل الذين سبق ذكرهم.
ثم يأخذ في تفصيل المر الخاص بهم؛ لن كل أمة من المم التي جاءها رسول من عند ال إنما
جاء ليعالج داءً خاصا تفشّى بها ،وكانت المم من قبل منعزلةً ،بعضها عن بعض ،ول يوجد بينها
وسائل اتصال تنقل هذه الداءات من أمة لخرى.
فهؤلء قوم عاد ،وكان داءَهم التفاخُرُ بالبناء والتعالي على الناس ،فجاء هود ـ عليه السلم ـ
ليقول لهم:
طشْتُمْ جَبّارِينَ }
خذُونَ َمصَانِعَ َلعَّلكُمْ تَخُْلدُونَ * وَإِذَا َبطَشْ ُتمْ بَ َ
{ أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ آيَةً َتعْبَثُونَ * وَتَتّ ِ
[الشعراء128 :ـ .]130
وثمود كان داءهم الغفل ُة والنصراف بالنعمة عن المُنْعم ،فجاء صالح ـ عليه السلم ـ يقول
ط ْل ُعهَا َهضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ
خلٍ َ
ع وَنَ ْ
ت وَعُيُونٍ * وَزُرُو ٍ
لهم {:أَتُتْ َركُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ * فِي جَنّا ٍ
مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا فَارِهِينَ }[الشعراء146 :ـ .]149
أما قوم لوط ـ عليه السلم ـ فقد تفرّدوا بفاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين ،وهي إتيان
الذكْران ،فجاء لوط ـ عليه السلم ـ ليمنعهم ويدعوهم إلى التوبة والقلع:
جكُمْ َبلْ أَنتُمْ َقوْمٌ عَادُونَ }
{ أَتَأْتُونَ ال ّذكْرَانَ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ َل ُكمْ رَ ّبكُمْ مّنْ أَ ْزوَا ِ
[الشعراء165 :ـ .]166
أما أصحاب اليكة ،فكان داءهم أنْ يُطفّفوا المكيال والميزان ،فجاء شعيب ـ عليه السلم ـ
ليقول لهمَ { :أ ْوفُواْ ا ْلكَ ْيلَ َولَ َتكُونُواْ }
()3052 /
الكيل :آلة تُقدّر بها الشياء التي تُكال ،ووحدته :كَيْلة أو قَدح أو أردب .والميزان كذلك :آلة يُقدّر
بها ما يُوزَن.
ومعنى { َولَ َتكُونُواْ مِنَ ا ْل ُمخْسِرِينَ } [الشعراء ]181 :المخسِر :هو الذي يتسبب في خسارة
الطرف الخر في مسألة الكيل ،بأن يأخذ بالزيادة ،وإنْ أعطى يُعطِي بالنقصان .وفي الوزن قال {
بِا ْلقِسْطَاسِ ا ْلمُسْ َتقِيمِ } [الشعراء.]182 :
والقسطاس :يعني العدل المطلق في قدرة البشر وإمكاناتهم في تحرّي ال ّدقّة في الوزن ،مع مراعاة
اختلف الموزونات ،فوزن الذهب غير وزن التفاح مثلً ،غير وزن العدس أو السمسم ،فعليك أنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تتحرّى الدقة َقدْر إمكانك ،لتحقق هذا القسطاس المستقيم.
لكن ،لماذا خصّ الكيل والوزن من وسائل التقدير والتقييم ،ولم يذكر مثلً القياس في المساحات
والمسافات بالمتر أو بالذراع؟
قالوا :لن الناس قديما ـ وكانت أمما بدائية ـ ل تتعامل فيما يُقاس ،فل يشترون القماش مثلً:
لنه يُغزل ،تغزله النساء ويغزله الرجال ،ولم يكُنْ أحد يغزل لحد أو يبيع له ،فهذه صورة
حضارية رأيناها فيما بعد.
وقديما ،كان الناس يتعاملون بالتبادل والمقايضة ،وفي هذه الحالة ل يوجد بائع على حِدَة ول مُشْترٍ
على حِدَة ،فل يتفرد البائع بالبيع ،والمشتري بالشراء ،إل في حالة مبادلة السلعة بثمن ،كما قال
تعالى {:وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ َبخْسٍ دَرَاهِمَ َمعْدُو َدةٍ }[يوسف ]20 :أي :باعوه.
أما في حالة المقايضة ،فأنت تأخذ القمح تأكله ،وأنا آخذ التمر آكله ،فالنتفاع هنا انتفاع مباشر
بالسلعة ،فإنْ قدّ ْرتَ أن كل واحد في الصفقة بائع ومشترْ .تقول :شَرَى وباع .وإنْ قدّرْت الثمان
التي ل ينتفع بها انتفاعا مباشرا كالذهب والفضة ،أو أي معدن آخر ،وهذه الشياء ل تؤكل فهي
ن تكون ثمنا.
ثمن ،أمّا الشياء الخرى فصالحة أنْ تكون سلعة ،وصالحة ل ْ
وقد أفرد القرآن الكريم سورة مخصوصة لمسألة الكيل والميزان هي " سورة المطففين " ،يقول
ط ّففِينَ * الّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النّاسِ َيسْ َت ْوفُونَ * وَِإذَا كَالُوهُمْ َأ ْو وّزَنُوهُمْ
سبحانه {:وَ ْيلٌ لّ ْلمُ َ
خسِرُونَ }[المطففين1 :ـ .]3
يُ ْ
نقول :كال له يعني :أعطاه ،واكتال عليه يعني :أخذ منه .فإن أخذ أخذ وافيا ،وإنْ أعطى أعطى
حقّ
بالنقص والخسارة .والقرآن ل ينعى عليه أن يستوفى حقّه ،لكن ينعى عليه أن ينقص من َ
الخرين ،ولو شيئا يسيرا.
فمعنى (المطففين) من الشيء الطفيف اليسير ،فإذا كان الويل لمن يظلم في الشيء الطفيف ،فما
بال مَنْ يظلم من الكل؟
فاللوم هنا لمَنْ يجمع بين هذين المرين :يأخذ بالزيادة ويُعطي بالنقص ،أما مَنْ يعطي بالزيادة فل
بأس ،وجزاؤه على ال ،وهو من المحسنين ،الذين قال ال فيهم {:مَا عَلَى ا ْلمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ }
[التوبة.]91 :
ومع تطور المجتمعات بدأ الناس يهتمّون بقياس دقة آلت الكيل والوزن والقياسَ ،فوُجِدت هيئات
متخصصة في معايرتها والتفتيش عليها ومتابعة ِدقّتها؛ لنها مع مرور الزمن عُرْضة للنقص أو
الزيادة ،فمثلً سنجة الحديد ـ التي نزن بها قد تزيد إنْ كانت في مكان بحث تتراكم عليها الزيوت
والتراب ،وقد تنقص بالحركة مع مرور الوقت ،كما تنقص مثلً أكرة الباب من كثرة الستعمال،
فتراها لمعة ،ولمعانها دليل النقص ،وإنْ كان يسيرا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَِلتْ كمرجعٍ يُقاس عليه ،وتُضبط عليه
وفي فرنسا ،نموذج للياردة وللمتر من معدن ل يتآكلُ ،
آلت القياس.
ورأينا الن آلتٍ دقيقة جدا للوزن وللقياس ،تضمن لك منتهى الدقة ،خاصة في وزن الشياء
الثمينة؛ لذلك نراهم يضعون الميزان الدقيق في صندوق من الزجاج ،حتى ل تُؤثّر فيه حركة
الهواء من حوله.
خسُواْ النّاسَ َأشْيَآءَ ُهمْ {
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ولَ تَبْ َ
()3053 /
وَلَا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْيَاءَهُ ْم وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ ()183
البخس :النقص ،ومعنى { أَشْيَآءَهُمْ } [الشعراء ]183 :حقوقهم إذن :فالنقص من حَقّ الغير ذنب،
غصْبا ،أو بالتصرف فيه دون أمر صاحبه ،أو على وجه ل
وقد يكون البخس بأخْذ الشيء كله َ
يرضاه.
وهذا كله داخل في { َولَ تَ ْبخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَ ُهمْ } [الشعراء ]183 :كل ما ينقص الحق بأخذه
خسٌ للشيء.
غصْب أو تصرّف على غير إرادة صاحبه فهو بَ ْ
بإنقاص .أو َ
جلّ ـ{:
فكل ما ثبت أنه حق لغيرك إياك أنْ تعتدي عليه ،فالزكاة مثلً حينما يقول ربك ـ عَزّ و َ
حقّ ّمعْلُومٌ * لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }[المعارج24 :ـ ,]25
وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ َ
حقّ الفقير ،لنك حين تتأمل هذا الحق المعلوم الذي جعله
فما دام قد قيّده الشرع ،فل تبخس أنت َ
ال من مالك للفقير ،تجهد أنه ُوضِع بحكمة تُراعِي مدى حركة المموّل ،وما بذل من جهد ونفقات
في سبيل تنمية ماله ،حتى وجبتْ فيه الزكاة.
فكلما زادتْ حركتك َقلّ مقدار الزكاة في مالك ،فمثلً الرض التي تُسْقى بماء المطر فيها العُشْر،
والتي ُتسْقى بآلة ونفقات فيها نصف العشر ،وفي عروض التجارة وتحتاج إلى حركة أكثر قال
رُبْع العُشْر ،ذلك لن الشارع الحكيم يريد للناس الحركة والسعي وتثمير الموال ،حتى ل يأتي
مَنْ يقول :كيف أسعى ويأخذ غيري ثمرة سعيي؟
والشارع حين كفل هذا الحق للفقراء ،فإنما يحمي به الفقراء والغنياء على حَدّ سواء .وقد حدّد
الشارع هذا الحق ،حتى ل تزهد في العطاء ،خاصة في الزكاة.
إن منهج ال يريد أنْ يُصوّب حركة الحياة من الحياء ،يريد ألّ يجري دم في جسد إل بخروج
عَرق من هذا الجسد ،وأل يدخل دم في جسد من عرق سواه ،وإلّ فسد المجتمع ،وضَنّ كل قادر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على الحركة بحركته؛ لنه ل يطمئن إلى ثمار حركته أنها ل تعود عليه ،أو أن غيره سيغتصبها
منه بأيّ لون من ألوان الغتصاب.
عندما يفسد المجتمع؛ لن القوي القادر سيزهد في الحركة فيقعد ،والخذ سيتعوّد البطالة والكسل
والخمول ،ولماذا يعمل وما يجري في عروقه من دماء من عمل غيره ،وبمرور الوقت يصعب
عليه العمل ،وتثقُل عليه الحركة ،فيركَنُ إلى ما نُسمّيه (بلطجي) في الحياة ،يعيش عالة على
غيره.
سعْيه ،فل
إذن :الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يُطمئِن كل إنسان على حركته في الحياة وثمرة َ
يتلصص أحد على ثمرة حياة الخر؛ لنه إنْ كان عاجزا عن الحركة فقد ضمن له ربّه حقا في
حركة الخرين تأتيه إلى باب بيته ،سواء أكانت زكاةً أم كانت صدقة؛ وبذلك تسْلَم حركة الحياة
للجميع.
لذلك أراد ـ سبحانه وتعالى ـ أن يُعطينا الموازين الدقيقة التي تحفظ سلمة التعامل بين الناس:
ت ف َوفّ الميزان ،واجعله بالقسطاس المستقيم ،ول تبخس
ف الكيل ،وإنْ وزن َ
فإنْ كِ ْلتَ لغيرك فو ّ
الناس حقوقهم بأي صورة من الصور.
ول يقتصر المر على هذه المسائل فحسب ،إنما هي نماذج للتعامل ،تستطيع القياس عليها في كل
أمور الحياة فيما ُيقَاس وفيما ُيعَدّ ،في العمال وفي الصناعات ..إلخ.
غصْبا
إذن :فاحذر أنْ تتلصّص على حقوق الخرين ،أو أن تبخسها ،بأيّ نوع من أنواع التسلّطَ :
أو اختطافا أو سرقةً أو اختلسا أو ِرشْوة..إلخ.
وقلنا :إن السرقة أن تأخذ شيئا من حِرْزه في غير وجود صاحبه ،والخطف يكون صاحب الشيء
خطْفا وتفرّ به قبل أن يُمسك بك ،فإنْ أمسك بك فغالبْتَه وأخذتها رَغما عنه
موجودا ،لكنك تأخذه َ
ل أنت مؤتمَنٌ عليه ،مال يحقّ لك أخْذه.
غصْب ،أما الختلس فأنْ تأخذ من ما ٍ
فهي َ
فإذا علم ُكلّ متحرك في الحياة أن ثمرة حركته تعود عليه ،وعلم كل غير متحرك أنه يموت جوعا
إنْ لم يعمل وهو قادر د ّبتْ الحركة في كل الحياء ،وهذا ما يريده ال تعالى لخليفته في الرض
خاصة ،وقد خلق لنا سبحانه العقل الذي نفكر به ،والطاقة التي نعمل بها ،والمادة التي نستعين
بها ،فكلّ ما علينا أن نُوظّف هذه المكانات التي خلقها ال توظيفا مثمرا.
حقّ آخر غير ُمحّدد ،في قوله سبحانهَ {:وفِي
ق معلومة محددة ،فهناك َ
ثم إنْ كانت الزكاة كح ّ
حقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْل َمحْرُومِ }[الذاريات ]19 :ولم يقل (معلوم)؛ لن المراد هنا الصدقة المطلقة،
َأ ْموَاِلهِمْ َ
وقد تركها الحق ـ تبارك وتعالى ـ ولم يُقيّدها ليترك الباب مفتوحا أمام أريحية المعطي ،ومدى
كرمه وإحسانه؛ لذلك جاءت هذه الية في سياق الحديث عن صفات المحسنين:
ت وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ َذِلكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلً
{ إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعُونَ * وَبِالَسْحَارِ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }
مّن الّ ْيلِ مَا َيهْ َ
[الذاريات15 :ـ .]19
ولن الحق هنا تفضّل وزيادة تركه الشارع الحكيم دون تحديد.
وعجيب أن نرى أصحاب الموال حين يُخرِج أحدهم رُبْع الشعر مثلً من ماله ،ل ينظر إلى ما
ق الفقير وهو يسير .%2.5
تبقّى له من رأس المال ،وهي نسبة ،%97.5وينظر إلى حَ ّ
فنراه يحتال عليه فيُؤثِر به أقاربه أو معارفه ،أو يضعه بحيث يعفيه من حق آخر ،كالذي يعطي
زكاته للخادمة مثلً ،ليُرضِي أمها حتى ل تأخذها من يده ،ومنهم مَنْ يضع أموال الزكاة في بناء
مسجد أو مدرسة أو مستشفى؛ وهذا كله ل يجوز؛ لن مال الزكاة حَقّ للمستحقين المعروفين نصا
في كتاب ال ،ول يصح أنْ يُوجّه مال الزكاة لشيء ينتفع به الغني أبدا.
سدِينَ { [الشعراء ]183 :عثا :أي أفسد .فالمعنى :ل
ثم يقول سبحانهَ } :ولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ مُفْ ِ
تُفسِدوا في الرض ،فلماذا كرّر الفساد مرة أخرى فقال } ُمفْسِدِينَ { [الشعراء]183 :؟ قالوا:
المراد :ل تع َثوْا في الرض حال َة كونِكم مفسدين ،أو في نيتكم الفساد.
وليس في الية تكرار؛ لنه فرّق بين إفساد شيء وأنت ل تقصد إفساده ،إنما حركتك في الحياة
عمْد للفساد ،حتى ل نمنع العقول أن تفكر وتُج ّربَ لتصلَ إلى
أفسدتْه ،وبين أنْ تُفسد عن قصد و َ
الفضل ،وتُثري حركة الحياة ،فما ُد ْمتَ قد قصدتَ الصلح ،فل عليك إنْ أخطأتَ؛ لن ربك ـ
جلّ ـ يتولى تصحيح هذا الخطأ ،بل ويُعوّضك عنه ،فمَنِ اجتهد فأخطأ فله أجر ،ومَنِ اجتهد
عَزّ و َ
فأصاب فله أجران.
إذن :المعنى :ل تُفسِدوا في الرض وأنتم تقصدون الفساد ،لكن فكيف نُفسِد الرض؟ إن إفساد
ض َوضَ َعهَا لِلَنَامِ }
الرض يعني إفسادَ المتحرك عليها؛ لن الرض خُل َقتْ للنسان{ وَالَ ْر َ
[الرحمن.]10 :
وقد خلقها ال تعالى على هيئة الصلح ،والنسان هو الذي يُفسِدها ،بدليل أنك ل تجد الفساد إل
فيما للنسان دَخْل فيه ،أما مَا ل تطوله يده ،فيظل على صلحه ،وعلى استقامته وسلمته.
والنسان الذي خلقه ال وجعله خليفة له في أرضه طُلب منه عمارة هذه الرض وزيادة صلحها،
ض وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود.]61 :
ن الَ ْر ِ
جلُّ {:هوَ أَنشََأكُمْ مّ َ
تحقيقا لقول ربه عَزّ و َ
ول يصلح أن نستعمر الرض وهي خراب ،فإذا ما كَثُر النسل ل يقابل زيادة في استثمار
الرض ،فتحدث الزمات ،ولو أن استثمار الرض وإصلحها سار مع زيادة النسل في خطين
متوازيين لما شعر الناس بالحاجة والضيق ،ولما أحاطت بهم الزمات.
والن حين تسير في الطريق الصحراوي مثلً تجد المزارع في الصحراء ،وتجد القرى الجديدة
تحولت فيها الرض الجرداء إلى خضرة ونماء ،فأين كانت هذه الثورة؟ لقد كنا كُسالى وفي غفلة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عضّنا الجوع ،وضاقت بنا الرض الخضراء في الوادي والدلتا.
حتى َ
وإذا لم يُصلِح النسان في الرض فل أقلّ من أنْ يتركها على حالها الذي خلقها ال عليه .لكن
رأينا النسان يُفسد الماء ويُلوثه حين يصرف فيه مُخلّفاته ويُفسد الهواء بعادم السيارات والمصانع،
ويُفسِد التربة بالكيماويات والمبيدات ،وكل هذا الفساد خروج عن الطبيعة الصافية التي خلقها ال
لنا؛ ذلك لننا نظرنا إلى النفع العاجل ،وأغفلنا الضرر الجل.
حمِيرَ
ل وَالْ َ
ل وَالْ ِبغَا َ
لقد خلق ال لنا وسائل الركوب والنتقال ،وجعلها آمنة ل ضررَ منها {:وَالْخَ ْي َ
لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَةً }[النحل.]8 :
ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ ِإلَىا بَلَدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ بِشِقّ الَنفُسِ }[النحل ]7 :نعم ،وسائل النقل
وقال {:وَ َت ْ
الحديث أسرع ،وأراحتْ هذه المواشي ،لكنها أتعبتْ النسان الذي خلق ال الكون كله لراحته.
فترى الرجل يركب سيارته وكل َهمّه أنْ يُسرع بها دون أنْ يهتم بضبطها وصيانتها ،فينطلق بها
مُخلّفا سحابة من الدخان السّام الذي يؤذي الناس ،أما هو فغير مكترث بشيء؛ لن الدخان خلفه ل
يشعر به.
لكن ،احذر جيدا ،إن ربك ـ عز وجل ـ قيوم ل يغفل ول ينام ،وكما تدين تُدان في نفسك ،أو
في أولدك.
كذلك قبل أن نركب السيارات ونُسرِع بها يجب أنْ نُمهّد لها الطرق حتى ل تثير الغبار في وجوه
الناس ،وتؤذي تنفسهم ،بل وتؤذي الزرع أيضا ،كل هذه وُجوه للفساد في الرض؛ لننا ندرس
عاجلَ النفع ول ندرس آجل الضرر.
وعليك حين تجتهد أنْ تجتهد بمقدّمات سليمة ،لتصل إلى النتائج السليمة ،ول تكُنْ من المفسدين
في الرض.
ومن الفساد في الرض َقطْع الطريق ،وهو أن المتلصّص يقيم في مكانه يرصُد ضحيته إلى أن
تمر به ،والغارة وهي أنْ يذهب المغير إلى المغَار عليه في مَأْمنه ،فيسلبه ماله.
ومن الفساد في الرض الرّشْوة ،وهي من أنكَى النكبات التي بُلِي بها المجتمع ،وهي تُولّد التسيّب
وعدم النضباط ،فحين ترى غيرك يستغلك ،ويستحلّ مالك دون حق ،تعامله وتعامل غيره نفس
المعاملة ،فتصير المور في الجهزة والمصالح إلى فوضى ليعلم مداها إل ال.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَا ّتقُواْ الّذِي خََل َقكُمْ {
()3054 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإياك أن تظن أن ال تعالى خلقنا عبثا ،أو يتركنا هملً ،إنما خلقنا لمهمة في الكون ،وجعلنا جميعا
عبيدا بالنسبة له سواء ،فلم يُحَابِ من أحدا على أحد ،وليس عنده سبحانه مراكز قوى؛ لذلك لم
يتخذ صاحبه ول ولدا.
ولننا جميعا أمامه سبحانه سواء وهو خالقنا ،فقد تكفّل لنا بالرزق ورعاية المصالح ،فَمنِ ابتله
ال بالعجز عن الحركة فتحر ْكتَ أنت لقضاء مصالحه ،ل بُدّ ان ينظر ال إليك بعين البركة
والمضاعفة.
فالمعوّق والفقير بحقّ ـ ل الذي يتخذها مهنة وحرفة يرتزق بها ـ هذا الفقير وهذا المعوّق هم
خَلْق ال وأهل بلئه ،فحين تعطيه من ثمرة حركتك أنت ،وتذهب إليه وهو مطمئن في بيته ،أنت
بهذا العمل إنما تستر على ال بلءه ،وتكون يد ال التي يرزق بها هؤلء ،وعندها ل ُبدّ أن يحبك
الفقير ،وأنْ يدعو لك بالخير والبركة والزيادة والَجْر والعافية والثواب ،ويعلم أن ال خلقه ولم
يُسلمه.
ن الغنيّ الواجد على الفقير المعدَم ،وتخلى عن أهل البلء ،فل ُبدّ أنْ يسخط الفقير على
ن ضَ ّ
أمّا إ ْ
الغني ،بل يسخط على ال ـ والعياذ بال ـ لنه ما ذنبه أن يكون فقيرا ،وغيره غنيّ في مجتمع
ل يرحم.
وعجيب أن نرى مُبتليً يُظهر بلواه للناس ،بل ويستغلها في ابتزازهم ،فيُظهِر لهم إعاقته ،كأنه
يشكو الخالق للخَلْق ،ولو أنه ستر على ال بلءه وعَلِم أنه نعمة أنعم ال بها عليه لَسخّر ال له
عافية غير المبتلى ،ولجاءه رزقه على باب بيته ،فلو َرضِي أهل البلء لعطاهم ال على قَدْر ما
ابتلهم.
فمعنى { :وَاتّقُواْ الّذِي خََل َقكُمْ } [الشعراء ]184 :أي :احذروا جبروته؛ لنه خلقكم ،وضمن لكم
الرزاق ،وضمن لكم قضاء الحاجات ،حتى العاجز عن الحركة سخّر له القادر ،وجعل للغنى
سعْيه للفقير ،ويُوصّله إليه وهو مطمئن.
شرطا في إيمانه أنْ يُعطى جزءا من َ
لوّلِينَ } [الشعراء ]184 :الجبلة من الجبَل ،وكان له دور في حياة العربي،
ومعنى { :وَا ْلجِبِلّ َة ا َ
وعليه تدور الكثير من تعبيراتهم ،ففيه صفات الفخامة والعظمة والرسوخ والثبات ،فاشتقوا من
الجبل (الجبلّة) وتعني الملزمة والثبات على الشيء.
ومن ذلك نقول :فلن مجبول على الخير يعني :ملزم له ل يفارقه ،وفلن كالجبل ل تزحزحه
الحداث ،والعامة تقول :فلن جِبلّة يعني :ثقيل على النفس ،وقد يزيد فيقول( :مال جبلّتك وارمة)
مبالغة في الوصف.
حتى أن بعض الشعراء يمدح ممدوحه بأنه ثابت كالجبل ،حتى بعد موته ،فيقول عن ممدوحه وقد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكَ أنْ أَرَى َرضْوى عَلَى أيدي الرجَالِ يَسِيرو َرضْوى
سبُ قَبْل َنعْ ِ
حَحملوه في نعشه:مَا كنتُ أَ ْ
جبل اشْتُهر بين العرب بضخامته.
ضلّ مِ ْنكُمْ جِبِلّ كَثِيرا }[يس.]62 :
ومن ذلك قوله تعالى {:وََلقَدْ َأ َ
لوّلِينَ } [الشعراء ]184 :أي :الناس السابقين الذين جُبِلوا على العناد وتكذيب
ومعنى { :وَا ْلجِبِلّ َة ا َ
الرسُل ،فال خالقكم وخلقهم ،وقد رأيتُم ما فعل ال بهم لما كذّبوا رسُله ،لقد كتب ال النصر لرسله
والهزيمة لمن كذّبهم ،فهؤلء الذين سبقوكم من المم جُبِلوا على التكذيب ،وكانوا ثابتين عليه لم
يُزحزحهم عن التكذيب شيء ،فاحذروا أن تكونوا مثلهم فينزل بكم ما نزل بهم .فماذا كان ردّهم؟
()3055 /
قلنا :إن مُسحّر :أي سحَره غيره ،وهي صغية مبالغة للدلَلة على حدوث السحر ووقوعه عليه
أكثر من مرة ،فلو سُحِر مرة واحدة َلقُلْنا :مسحور والمعنى :أنك مخْ َتلّ العقل والتفكير ،مجنون،
لن نسمع لك.
()3056 /
َومَا أَ ْنتَ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ َنظُ ّنكَ َلمِنَ ا ْلكَاذِبِينَ ()186
وما ُدمْت أنت بشرا مثلنا ،ولم تتميز عنّا بشيء ،فكيف تكون رسولً؟ ثم { وَإِن نّظُ ّنكَ َلمِنَ ا ْلكَاذِبِينَ
} [الشعراء ]186 :أي :وما ظنك إل كذابا ،كالذين سبقوك.
()3057 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويستعجلونه ،كما قال سبحانه في آية أخرى {:قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَ ْأ ِفكَنَا عَنْ آِلهَتِنَا فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَآ إِن كُنتَ
مِنَ الصّا ِدقِينَ }[الحقاف.]22 :
ومن العجيب حين ينزل بهم العذاب يقولون انظرنا ،كيف وأنتم الذين استعجلتم العذاب؟
ومعنى { ِكسَفا } [الشعراء ]187 :مفردها كِسْفة ،مثل قِطَع وقطعة ،وقد وردتْ هذه الكلمة على
ألسنة كثير من المكذّبين ،وقالها الكفار للنبي محمد صلى ال عليه وسلمَ {:وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ
ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا
حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً }[السراء90 :ـ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
َتفْجِيرا * َأوْ تُ ْ
.]92
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ
حجَا َرةً مّنَ ال ّ
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا ِ
وقالوا{ الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ
}[النفال.]32 :
حمْقهم
وكان عليهم أن يقولوا :اللهم إنْ كان هذا هو الحقّ من عندك فاهْدِنا إليه ،وهذا يدلّك على ُ
وعنادهم.
()3058 /
()3059 /
عظِيمٍ ()189
عذَابُ َيوْمِ الظّلّةِ إِنّهُ كَانَ عَذَابَ َيوْمٍ َ
َفكَذّبُوهُ فَأَخَ َذهُمْ َ
فكيف يُكذّبونه ،وهو لم ينسب المر لنفسه ،ووكلهم إلى ربهم إذن :فهم ل يُكذّبونه إنما يُكذّبون
عذَابُ َيوْمِ الظّلّةِ } [الشعراء.]189 :
خذَهُمْ َ
ال؛ لذلك يأتي الجزاء { :فَأَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهو عذاب يوم مشهود ،حيث سلط ال عليهم الحرارة الشديدة سبعة أيام ،عاشوها في قيظ شديد،
وقد حجز ال عنهم الريح إل بمقدار ما يُبقي َرمَق الحياة فيهم ،حتى اشتد عليهم المر وحم َيتْ من
تحتهم الرمال ،فراحوا يلتمسون شيئا يُروّح عنهم ،فرأوا غمامة قادمة في جو السماء فاستشرفوا
لها وظنوها تخفف عنهم حرارة الشمس ،وتُروّح عن نفوسهم ،فلما استظلّوا بها ينتظرون الراحة
والطمأنينة عاجلتهم بالنار تسقط عليهم كالمطر.
على حَدّ قوْل الشاعرَ :كمَا أمطَرتْ َيوْما ظماءً غمامةٌ فلمّا رَأؤْهَا أقش َعتْ وتجلّتِويا ليت هذه السحابة
حمَم من فوقهم ،فزادتهم عذابا على عذابهم.
أقشعت وتركتهم على حالهم ،إنما قذفتهم بالنار وال ُ
كما قال سبحانه في آية أخرى:
{ فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ مَا اسْ َت ْعجَلْتُم ِبهِ رِيحٌ فِيهَا
شيْءٍ بَِأمْرِ رَ ّبهَا فَ ْأصْ َبحُواْ لَ يُرَىا ِإلّ مَسَاكِ ُنهُمْ }[الحقاف24 :ـ .]25
عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُ َدمّرُ ُكلّ َ
عظِيمٍ } [الشعراء ]189 :فما وَجْه
لذلك وصف ال عذاب هذا اليوم بأنه { إِنّهُ كَانَ عَذَابَ َيوْمٍ َ
عظمته وهو عذاب؟ قالوا :لنه جاء بعد استبشار واسترواح وأمل في الراحة ،ففاجأهم ما زادهم
عذابا ،وهذا ما نسميه " يأس بعد إطماع " وهو أنكَى في التعذيب وأشقّ على النفوس.
()3060 /
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َي ًة َومَا كَانَ َأكْثَ ُرهُمْ ُم ْؤمِنِينَ ()190
قوله سبحانه { :إِنّ فِي ذَِلكَ } [الشعراء ]190 :أي :فما حدثتكم به { ليَةً } [الشعراء ]190 :يعني:
سمّ َيتْ كذلك لنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال ،فإنْ كان مُكذبا آمن وصدق ،وإن
عبرة ،و ُ
كان معاندا لَنَ للحق وأطاع.
وما قصصتُه عليكم من مواكب الرسل وأقوامهم ،وهذا الموكب يضم سبعة من رسل ال مع
أممهم :موسى ،وإبراهيم ،ونوح ،وهود ،وصالح ،ولوط ،وشعيب عليهم جميعا وعلى نبينا السلم،
وقد مضى هذا الموكب على سنة ل ثابتة ل تتخلف ،هي :أن ينصر ال ـ عز وجل ـ رسله
والمؤمنين معهم ،ويخذل الكافرين المكذّبين.
ك ليَةً } [الشعراء ]190 :يعني عبرةً لكم،
فلتأخذوا يا آل محمد من هذا الموكب عبرة { إِنّ فِي ذَِل َ
سمّيتْ عبرة؛ لنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال ،فإن كان مُكذّبا آمن وصدّق ،وإنْ كان
وُ
معاندا لَنَ للحق وأطاع ،وقد رأيتم أننا لم نُسْلِم رسولً من رسلنا للمكذبين به ،وكانت سنتنا من
الرسل أن ننصرهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ }[الصافات171 :ـ .]172
وقال {:وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173 :
ومن العبرة نقول :عبر الطريق يعني :انتقل من جانب إلى جانب ،والعبرة هنا أن ننتقل من
التكذيب واللدَد والجحود والكبرياء إلى اليمان والتصديق والطاعة ،حتى العَبرة (ال ّدمْعة) مأخوذة
من هذا المعنى.
وفي قوله تعالىَ { :ومَا كَانَ َأكْثَرُهُم ّم ْؤمِنِينَ } [الشعراء ]190 :حماية واحتراس حتى ل نهضم
حق القِلّة التي آمنت.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَإِنّ رَ ّبكَ َل ُهوَ }
()3061 /
ربك :الرب هو المتولّي الرعاية والتربية .وبهذه الخاتمة خُتمتْ جميع القصص السابقة ،ومع ما
حدث منهم من تكذيب تُختم بهذه الخاتمة الدّالة على العزة والرحمة.
ثم ينتقل السياق إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم بعد أنْ قدّم لنا العبرة والعِظة
في موكب الرسل السابقين ،فيقول الحق سبحانه { :وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ َربّ }
()3062 /
{ وَإِنّهُ } [الشعراء ]192 :على أيّ شيء يعود هذا الضمير؟ المفروض أن يسبقه مرجع يرجع إليه
هذا الضمير وهو لم يُسبَق بشيء .تقول :جاءني رجل فأكرمتُه فيعود ضمير الغائب في أكرمته
على (رجل).
حدٌ }[الخلص ]1 :فالضمير هنا يعود على لفظ الجللة ،مع
وكما في قوله تعالىُ {:قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
أنه متأخر عنه ،ذلك لستحضار عظمته تعالى في النفس فل تغيب.
كذلك { وَإِنّهُ } [الشعراء ]192 :أي :القرآن الكريم وعرفناه من قوله سبحانه { لَتَنزِيلُ َربّ
ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء ]192 :وقُدّم الضمير على مرجعه لشهرته وعدم انصراف الذّهْن إل إليه،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فحين تقولُ {:هوَ اللّهُ أَحَدٌ }[الخلص ]1 :ل ينصرف إل إلى ال { ،وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
[الشعراء ]192 :ل ينصرف إل إلى القرآن الكريم.
وقال { :لَتَنزِيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء.]192 :
أي :أنه كلم ال لم أق ْلهُ من عندي ،خاصة وأن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يسبق له أنْ
وقف خطيبا في قومه ،ولم يُعرف عنه قبل الرسالة أنه خطيب أو صاحب َقوْل.
إذن :فهو بمقاييس الدنيا دونكم في هذه المسألة ،فإذا كان ما جاء به من عنده فلماذا لم تأتُوا بمثله؟
وأنتم أصحاب تجربة في القول والخطابة في عكاظ وذي المجاز وذي المجنة ،فإن كان محمد قد
افترى القرآن فأنتم أقدر على الفتراء؛ لنكم أهل دُرْبة في هذه المسألة.
و { ا ْلعَاَلمِينَ } [الشعراء :]190 :كل ما سوى ال عزّ وجلّ؛ لذلك كان صلى ال عليه وسلم رحمة
للعالمين للنس وللجن وللملئكة وغيرها من العوالم.
حمَةً لّ ْلعَاَلمِينَ }[النبياء " ]107 :سأل سيدنا رسول ال جبريل
لذلك لما نزلتَ {:ومَآ أَ ْرسَلْنَاكَ ِإلّ رَ ْ
عليه السلم " :أما لك من هذه الرحمة شيء يا أخي جبريل؟ " فقال :نعم ،كنت أخشى سوء العاقبة
كإبليس ،فلما أنزل ال عليك قوله { :ذِي ُق ّوةٍ عِندَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ } [التكوير ]20 :أم ْنتُ العاقبة،
فتلك هي الرحمة التي نالتني ".
وليس القرآن وحده تنزيلَ رب العالمين ،إما كل الكتب السابقة السماوية كانت تنزيلَ رب العالمين،
لكن الفرق بين القرآن والكتب السابقة أنها كانت تأتي بمنهج الرسول فقط ،ثم تكون له معجزة في
أمر آخر تثبت صِدْقه في البلغ عن ال.
فموسى عليه السلم كان كتابه التوراة ،ومعجزته العصا ،وعيسى عليه السلم كان كتابه النجيل،
ومعجزته إبراء الكمة والبرص بإذن ال ،أما محمد صلى ال عليه وسلم فكان كتابه ومنهجه
القرآن ومعجزته أيضا ،فالمعجزة هي عَيْن المنهج .فلماذا؟
قالوا :لن القرآن جاء منهجا للناس كافّةً في الزمان وفي المكان فل بد ـ إذن ـ أن يكون المنهج
هو عَيْن المعجزة ،والمعجزة هي عَيْن المنهج ،وما دام المر كذلك فل يصنع هذه المعجزة إل
ال ،فهو تنزيل رب العالمين.
أما الكتب السابقة فقد كانت لمة بعينها في فترة محددة من الزمن ،وقد نزلتْ هذه الكتب بمعناها
ل بنصّها؛ لذلك عيسى ـ عليه السلم ـ يقول " :سأجعل كلمي في فمه " أي :أن كلم ال
سكيون في فم الرسول بنصّه ومعناه من عند ال ،ما دام بنصّه من عند ال فهو تنزيل رب
العالمين.
ثم يقول الحق سبحانه { :نَ َزلَ ِبهِ الرّوحُ }
()3063 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ الَْأمِينُ ()193
كان من الممكن أن يكون الوحي من عند ال إلهاما أو َنفْثا في ال ّروْع؛ لذلك قال تعالى بعدها:
لمِينُ } [الشعراء ]193 :إذن :المر ليس َنفْثا في َروْع رسول ال بحكم ما ،إنما
{ نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ ا َ
يأتيه روح القُدُس وأمين الوحي يقول له :قال ال كذا وكذا.
لذلك لم يثبت القرآن إل بطريق الوحي ،بواسطة جبريل عليه السلم ،فيأتيه الملَك؛ ولذلك علمات
يعرفها ويحسّها ،ويتفصّد جبينه منه عرقا ،ثم يُسرّي عنه ،وهذه كلها علمات حضور الملَك
ومباشرته لرسول ال ،هذا هو الوحي ،أمّا مجرد اللهام أو ال ّنفْث في ال ّروْع فل يثبت به وَحْي.
لذلك كان جلساء رسول ال يعرفونه ساعة يأتيه الوحي ،وكانوا يسمعون فوق رأسه صلى ال
عليه وسلم كدويّ النحل أثناء نزول القرآن عليه ،وكان المر يثقل على رسول ال ،حتى إنه إنْ
أسند فَخِذه على أحد الصحابة أثناء الوحي يشعر الصحابي بثقلها كأنها جبل ،وإذا نزل الوحي
ورسول ال على دابته يثقل عليها حتى تنخّ به ،كما قال تعالى {:إِنّا سَنُ ْلقِي عَلَ ْيكَ َق ْولً َثقِيلً }
[المزمل.]5 :
ولم تهدأ مشقّة الوحي على رسول ال إل بعد أنْ فتَر عنه الوحي ،وانقطع فترة حتى تشوّق له
ك صَدْ َركَ *
رسول ال صلى ال عليه وسلم وانتظره ،وبعدها نزل عليه قوله تعالى {:أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ
ظهْ َركَ * وَ َر َفعْنَا َلكَ ِذكْ َركَ }[الشرح1 :ـ .]4
ك وِزْ َركَ * الّذِي أَن َقضَ َ
ضعْنَا عَن َ
َووَ َ
ك َومَا قَلَىا * وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ ّلكَ مِنَ
عكَ رَ ّب َ
سجَىا * مَا وَدّ َ
ونزلت عليه {:وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ
الُولَىا }[الضحى1 :ـ .]4
يعني :سيعاودك الوحي في سهولة ودون مشقّة ،ولن تتعب في تلقيه ،كما كنتَ تعاني من قبل.
وقوله { :نَ َزلَ } [الشعراء ]193 :تفيد العلو ،وأن القرآن نزل من أعلى من عند ال ،ليس من
وضع بشر يخطىء ويصيب ويجهل المصحلة ،كما نرى في القوانين الوضعية التي تُعدّل كل يوم،
عوَارها يوما بعد يوم.
ول تتناسب ومقتضيات التطور ،والتي يظهر ُ
ولن القرآن نزل من أعلى فيجب علينا أن نستقبله استقبالَ الواثقِ فيه المطمئن به ،ل نعانده ،ول
نتكبر عليه؛ لنك تتكبر على مساوٍ لك ،أمّا ما جاءك من أعلى فيلزمك النقياد له ،عن اقتناع.
وفي الريف نسمعهم يقولون (اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم) لماذا؟ لنه ُقطِع بأمر العلى
منك ،بأمر ال ل بأمر واحد مثلك.
وحين نتأمل قوله تعالى في التشريع لحكم من الحكامُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ عَلَ ْيكُمْ }
[النعام.]151 :
كلمة (تعالوا) تعني :اتركوا حضيض تشريع الرض ،وَأقْبلوا على ِرفْعة تشريع السماء ،فتعالوا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أيْ :تعلّوا وارتفعوا ،ل تهبطوا إلى مستوى الرض ،وإل تعبتُم وعضّتكم الحداث؛ لن الذي
يُشرّع لكم بشر أمثالكم وإنْ كانوا حتى حَسَنِي النية ،فهم ل يعلمون حقائق المور ،فإنْ أصابوا في
شيء أخطأوا في أشياء ،وسوف تُضطرون لتغيير هذه التشريعات وتعديلها.
إذن :فالسلم لكم أنْ تأخذوا من العلى؛ لنه سبحانه العليم بما يُصلحكم.
إذنك } نَ َزلَ { [الشعراء ]193 :تفيد أنه من العلى من مصدر الخير حتى الحديد وهو من ِنعَم
ط وَأَنزَلْنَا ا ْلحَدِيدَ
سِب وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِ ْ
ال ،لما تكلم عنه قال سبحانه {:وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَا َ
س وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُر ُه وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ }[الحديد.]25 :
فِيهِ بَأْسٌ شَدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّا ِ
ولم َي ُقلْ مثلً :أنزلناه اللماظ أو اللماس ،أو غيره من المعادن النفيسة ،لماذا؟ لن الحديد أداة من
أدوات ُنصْرة الدعوة وإعلء كلمة ال.
سمّي جبريل ـ عليه السلم ـ الروح؛ لن الروح بها الحياة ،والملئكة أحياء لكن ليس لهم
وُ
مادة ،فكأنهم أرواح مطلقة ،أما البشر فمادة فيها روح.
كما أن كلمة الروح استُعمَلتْ عدة استعمالت منها{ وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ ُقلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ
رَبّي }[السراء ]85 :والمراد الروح التي نحيا بها.
سمّي القرآن روحاَ {:وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا }[الشورى ]52 :إذن :فالقرآن روح،
وُ
ن قلتَ :فما حاجتي إلى الروح وفيّ روح؟
والملَك الذي نزل به روح ،فإ ْ
نقول لك :هذه الروح التي تحيا بها مادتك ،والتي تفارقك حين تموت وتنتهي المسألة ،أمّا الروح
التي تأتيك في القرآن فهي روح باقية خالدة ،إنها منهج ال الذي يعطيك الحياة البدية التي ل
تنتهي.
لذلك ،فالروح التي تحيا بها المادة للمؤمن وللكافر على حَدّ سواء ،أمّا الروح التي تأتيك من كتاب
ال وفي منهجه ،فهي للمؤمن خاصة ،وهي باقية ،وبها تستأنف حياة جديدة خالدة بعد حياة المادة
الفانية.
واقرأ إن شئت قوله تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ }
[النفال.]24 :
كيف وها نحن أحياء؟ نعم ،نحن أحياء بالروح الولى روح المادة الفانية ،أمّا رسول ال فهو
يدعونا للحياة الباقية ،وكأنه ـ عز وجل ـ يشير إلى أن هذه الحياة التي نحياها ليست هي الحياة
الحقيقية؛ لنها ستنتهي ،وهناك حياة أخرى باقية دائمة.
حتى مجرد قولنا نحن أحياء فيه تجاوز؛ لن الحياء هم الذين ل يموتون ،وهذه الحياة ل تأتي إل
بمنهج ال ،وهذا معنى قوله تعالى {:وَإِنّ الدّا َر الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت:
]64فالحيوان مبالغة في الحياة ،أي :الحياة الحقيقية ،أما حياة المادة فأيّ حياة هذه التي يموت فيها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المرء يوم مولده ،أو حتى بعد مائة عام؟!
لمِينُ { [الشعراء ]193 :أي :على الوحي،
ثم َيصِف الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الروح بأنه } ا َ
القرآن ـ إذن ـ َمصُون عند ال ،مصون عند الروح المين الذي نزل بهَ ،مصُون عند النبي
المين الذي نزل عليه.
طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ
لقَاوِيلِ * لَخَذْنَا مِ ْنهُ بِالْ َيمِينِ * ثُمّ َلقَ َ
لذلك يقول سبحانه {:وََلوْ َتقَ ّولَ عَلَيْنَا َب ْعضَ ا َ
* َفمَا مِنكُمْ مّنْ َأحَدٍ عَ ْنهُ حَاجِزِينَ }[الحاقة44 :ـ .]47
وقال تعالىَ {:ومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ * َومَا ُهوَ ِب َق ْولِ شَيْطَانٍ رّجِيمٍ }[التكوير24 :ـ .]25
علَىا قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ {
ثم يقول الحق سبحانهَ } :
()3064 /
نزل القرآن على أذن رسول ال ،أم على قبله؟ الذن هي :أداة السمع ،لكن قال تعالى { عَلَىا
قَلْ ِبكَ } [الشعراء ]194 :لن الذن وسيلة عبور للقلب ،لنه محلّ التلقّي ،وهو (دينامو) الحركة في
جسم النسان ،فبالدم الذي يضخُه في أعضاء الجسم وأجهزته تتولّد الطاقات والقدرة على الحركة
وأداء الوظائف.
لذلك نرى المريض مثلً يأخذ الدواء عن طريق الفم ،فيدور الدواء دروة الطعام،ـ ويُمتصّ ببطء،
فإنْ أردتَ سرعة وصول الدواء للجسم تعطيه حقنة في العضل ،لكن السرع من هذا أن تعطيه
حقنة في الوريد ،فتختلط بالدم مباشرة ،وتُحدِث أثرها في الجسم بسرعة ،فالدم هو وسيلة الحياة
في النفس البشرية.
إذن :قالقلب هو محلّ العتبار والتأمل ،وليس لسماع الذن قيمة إذا لم يَع القلب ما تسمع الذن؛
ع ُدوّا لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزَّلهُ عَلَىا قَلْ ِبكَ }[البقرة:
لذلك يقول سبحانه في موضع آخرُ {:قلْ مَن كَانَ َ
.]97
فالمعنى :نزّله على قلبك مباشرة ،كأنه لم يمرّ بالذن؛ لن ال ال تعالى اصطفى لذلك رسولً
صنعه على عينه ،وأزال عنه العقبات البشرية التي تعوق هذه المباشرة ،فكأن قلبه صلى ال عليه
وسلم منتبها لتلقّي كلم ال؛ لنه مصنوع على عَيْن ال ،أما الذين سمعوا كلم ال بآذانهم فلم
يتجاوبوا معه ،فكانت قلوبهم قاسية فلم تفهم.
حصّلة وسائل الدراك كلها ،فالعيْن ترى،
والقلب محل التكاليف ،ومُستقرّ العقائد ،وإليه تنتهي ُم ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والذن تسمع ،والنف يشمّ ،واليدي تلمس ..ثم يُعرض هذا كله على العقل ليختار بين البدائل،
فإذا اختار العقل واطمأن إلى قضية ينقلها إلى القلب لتستقر به؛ لذلك نسميها عقيدة يعني :أمْر عقد
القلب عليه ،فلم َي ُعدْ يطفو إلى العقل ليبحث من جديد ،لقد ترسّخ في القلب ،وأصبح عقيدة ثابتة.
وفي آيات كثيرة نجد المعوّل والنظر إلى القلب ،يقول تعالى {:لَن يَنَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا َولَ ِدمَآؤُهَا
وَلَـاكِن يَنَاُلهُ ال ّت ْقوَىا مِنكُمْ }[الحج.]37 :
شعَائِرَ اللّهِ فَإِ ّنهَا مِن َتقْوَى ا ْلقُلُوبِ }
ك َومَن ُيعَظّمْ َ
وفي آية أخرى يُبيّن أن التقوى محلّها القلب {:ذاِل َ
[الحج.]32 :
شهَا َد َة َومَن َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْ ُبهُ }[البقرة ]283 :من أن
وفي الشهادة يقول تعالىَ {:ولَ َتكْ ُتمُواْ ال ّ
الشهادة باللسان ،ل بالقلب.
لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير " :أل إن في الجسد
ُمضْغة ،إذا صَلُحتْ صَلُحَ الجسد كله ،وإذا فسدتْ فسد الجسد كله ،أل وهي القلب ".
ويُحدّثنا صحابة النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان ينزل عليه الوحي بآيات كثيرة بما يوازي
رُبْعين أو ثلثة أرباع مرة واحدة ،فإذا ما سُرّى عنه صلى ال عليه وسلم قال :اكتبوا ،ثم يقرؤها
عليهم مع َوضْع كل آية في مكانها من سورتها ،ثم يقرؤها صلى ال عليه وسلم في الصلة،
فتكون هي هي كما أملها عليهم؛ ذلك لن القرآن باشر قلبه ل أذنه.
وكان صلى ال عليه وسلم لحِرْصه على حفظ القرآن يُردّده خلف جبريل ويكرره حتى ل ينساه،
فأنزل ال عليه {:سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى.]6 :
ك وَحْ ُي ُه َوقُل ّربّ زِدْنِي عِلْما }
جلْ بِا ْلقُرْآنِ مِن قَ ْبلِ أَن ُيقْضَىا إِلَ ْي َ
وقال في موضع آخرَ {:ولَ َت ْع َ
[طه.]114 :
ج ْمعَ ُه َوقُرْآ َنهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآ َنهُ *
علَيْنَا َ
جلَ بِهِ * إِنّ َ
وقال تعالى {:لَ تُحَ ّركْ ِبهِ لِسَا َنكَ لِ َت ْع َ
ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }[القيامة16 :ـ .]19
ومن عجيب أمر القرآن أنك ل تجد شخصا يُلقي كلمة لمدة خمس دقائق مثلً ،ثم يعيدها عليك كما
قالها َنصّا ،أمّا النبي صلى ال عليه وسلم فكانت تُ ْلقَى عليه السورة ،فيعيدها كما هي ،ذلك من
قوله تعالى {:سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى.]6 :
وقوله سبحانه } :لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُ ْنذِرِينَ { [الشعراء ]194 :المنذر :الذي يُحذّر من الشر قبل وقوعه
ليحتاط السامع فل يقع في دواعي الشر ،ول يكون النذار ساع َة وقوع الشر ،لنه في هذه الحالة
ل ُيجْدي ،وكذلك البشارة بالخير تكون قبل حدوثه لتحثّ السامع على الخير ،وتحفزه إليه.
ويقول سبحانه في آية أخرى {:لِتُنذِرَ َقوْما مّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ }[يس.]6 :
فكما أنذر الرسلُ السابقون أقوامهم ،أ ْنذِر أنت قومك ،وانض ّم إلى موكب الرسالت.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول الحق سبحانهِ } :بلِسَانٍ عَرَ ِبيّ مّبِينٍ {
()3065 /
وقوله تعالى { :بِلِسَانٍ عَرَ ِبيّ مّبِينٍ } [الشعراء ]195 :فإنْ كان القرآن قد نزل على قلبك ،فكيف
يسمعونه؟ وكيف يكتبونه؟ ويحفظونه؟ يأتي هنا َدوْر اللسان العربي الذي يُخرِج القرآن إلى الناس.
إذن :فمنطق رسول ال بعد نزوله على القلب ،ويُؤخّر اللسان؛ لنه وسيلة الحفظ والصيانة
والقراءة.
ومعنى { مّبِينٍ } [الشعراء ]195 :أي :واضح ظاهر ،محيط بكل أقضية الحياة ،لكن يأتي مَنْ
يقول :إنْ كان القرآن نزل بلسان عربي ،فما بال الكلمات غير العربية التي نطق بها؟ فكلمة
قسطاس رومية ،وآمين حبشية ،وسجيل فارسية.
ونقول :معنى اللسان العربي ما نطق به العرب ،ودار على ألسنتهم؛ لنه أصبح من لغتهم وصار
عربيا ،وإنْ كان من لغات أخرى ،والمراد أنه لم يَ ْأتِ بكلم جديد لم تعرفه العرب ،فقبل أنْ ينزل
القرآن كانت هذه الكلمات شائعة في اللسان العربي.
ونزل القرآن باللسان العربي خاصةً؛ لن العرب هم أمة استقبال الدعوة وحاملوها إلى باقي المم،
فل بُدّ أنْ يفهموا عن القرآن .فإنْ قُ ْلتَ :فالمم الخرى غير العربية مخاطبةٌ أيضا بهذا القرآن
العربي ،فكيف يستقبلونه ويفهمون عنه؟ نقول :مَنْ سمعه من العرب عليه أن يُبلغه بلسان القوم
الذين يدعوهم ،وهذه مهمتنا نحن العرب تجاه كتاب ال.
()3066 /
الضمير في { وَإِنّهُ } [الشعراء ]196 :يصح أنْ يعود على القرآن كسابقه ،ويصح أنْ يعود على
رسول ال ،ومعنى { زُبُرِ } [الشعراء ]196 :جمع زبور يعني :مكتوب مسطور ،ولو أن العقول
التي عارضتْ رسول ال ،وأنكرتْ عليه رسالته ،وأنكرتْ عليه معجزته فَطنوا إلى الرسالت
السابقة عليه مباشرة ،وهي :اليهودية والنَصرانية في التوراة والنجيل لوجبَ عليهم أنْ يُصدّقوه؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لنه مذكور في كتب الولين.
حفِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا }
صُف الُولَىا * ُ
ح ِ
كما قال سبحانه في موضع آخر {:إِنّ هَـاذَا َلفِي الصّ ُ
[العلى18 :ـ .]19
فالمبادىء العامة من العقائد والخلق والعدل اللهي وقصص النبياء كلها أمور ثابتة في كل
الكتب وعند جميع النبياء ،ول يتغير إل الحكام من كتاب لخر ،لتناسب العصر والوان الذي
جاءتْ فيه.
ك َومَا َوصّيْنَا بِهِ
وحين تقرأ قوله تعالى {:شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْي َ
ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ }[الشورى.]13 :
إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ
تقول :ولماذا ـ إذن ـ نزل القرآن؟ ولماذا لم َيقُل وصّينا به محمدا؟
قالوا :لن الحكام ستتغير؛ لتناسب كل العصور التي نزل القرآن لهدايتها ،ولكل الماكن،
ولتناسب عمومية السلم.
لذلك رُوي عن عبد ال بن سلم وآخر اسمه ابن يامين ،وكانوا من أهل الكتاب ،وشهد كلهما أنه
رأى ذكر محمد صلى ال عليه وسلم في التوراة ،وفي النجيل .والقرآن يقول عنهمَ {:يعْ ِرفُونَهُ
َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }[البقرة.]146 :
ولما سمعها ابن سلم قال :ربنا تساهل معنا في هذه المسألة ،فوال إني لعرفه كمعرفتي لولدي،
ومعرفتي لمحمد أشد.
جدُونَهُ َمكْتُوبا عِندَهُمْ فِي
لمّيّ الّذِي يَ ِ
ياُ
ويقول تعالى في هذا المعنى {:الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِب ّ
ال ّتوْرَا ِة وَالِنْجِيلِ }[العراف.]157 :
ويقول سبحانه على لسان عيسى عليه السلم حين يقف خطيبا في قومهَ {:ومُبَشّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي
ح َمدُ }[الصف.]6 :
س ُمهُ أَ ْ
مِن َبعْدِي ا ْ
إذن { :وَإِنّهُ َلفِي زُبُرِ الَوّلِينَ } [الشعراء ]196 :أي :محمد صلى ال عليه وسلم أو هو القرآن
الكريم ،فكلهما صحيح؛ لن صفة رسول ال صلى ال عليه وسلم موجودة في هذه الكتب ،أو
القرآن في عموم مبادئه في العقائد والخلق والبعث وسير النبياء.
فكان الواجب على الذين جاءهم القرآن أنْ يؤمنوا به ،خاصة وأن رسول ال كان أميا لم يجلس
إلى معلم ،وتاريخه في ذلك معروف لهم ،حيث لم يسبق له أن قرأ أو كتب شيئا.
والقرآن يؤكد هذه المسألة ،فيقول تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم:
ب َولَ َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ إِذا لّرْتَابَ ا ْلمُبْطِلُونَ }[العنكبوت.]48 :
{ َومَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَا ٍ
{ َومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ َمدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا وََلكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ }[القصص.]45 :
لمْرَ }[القصص.]44 :
{ َومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْ َيمَ }[آل عمران.]44 :
{ َومَا كُنتَ لَدَ ْيهِمْ إِذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكل هذه اليات وغيرها دليل على أنه صلى ال عليه وسلم ل عِْلمَ له بها إل بواسطة ال َوحْي
المباشر في القرآن الكريم ،وكان على القوم أن يؤمنوا به أول ما سمعوه.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :أوَ َلمْ َيكُن ّلهُمْ }
()3067 /
َأوَلَمْ َيكُنْ َلهُمْ آَيَةً أَنْ َيعَْلمَهُ عَُلمَاءُ بَنِي ِإسْرَائِيلَ ()197
آية :أي دليلً وعلمةً على أن القرآن من عند ال؛ لن علماء بني إسرائيل كانوا يستفتحون به
على الذين كفروا ،فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ،أو لم يقولوا للوْس والخزرج في المدينة :لقد
أَطلّ زمان نبيّ يأتي سنتبعه ونقتلكم به أيها المشركون قَتْل عاد وإرم ،ومع ذلك لما ُبعِث النبي
صلى ال عليه وسلم أنكروه وكفروا به ،وهم يعرفون أنه حق ،لماذا؟
قالوا :لنهم تنبّهوا إلى أنه سيسلبهم القيادة ،وكانوا في المدينة أهل علم ،وأهل كتاب ،وأهل بصر،
وأهل حروب ..ألخ .وليلةَ هاجر النبي صلى ال عليه وسلم إلى المدينة كانوا يستعدون لتتويج عبد
ال بن أُبيّ ملِكا عليها ،فلما جاءها النبي صلى ال عليه وسلم أفسد عليهم هذه المسألة؛ لذلك
حسدوه على هذه المكانة ،فقد أخذ منهم السّلْطة الزمنية والتي كانت لهم.
وقال { عَُلمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء ]197 :لنهم كانوا يعرفون صِدْق رسول ال ،ولنه صلى
ال عليه وسلم جاء بأشياء ل يعرفها إل هم ،وقد اشتهر منهم خمسة ،هم :عبد ال بن سلم ،
وأسد ،وأسيد ،وثعلبة ،وابن يامين.
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلوْ نَزّلْنَاهُ عَلَىا َب ْعضِ }
()3068 /
جمِينَ (َ )198فقَرََأهُ عَلَ ْيهِمْ مَا كَانُوا بِهِ ُمؤْمِنِينَ ()199
عَعلَى َب ْعضِ الْأَ ْ
وََلوْ نَزّلْنَاهُ َ
لقد أنزلنا القرآن بلسان عربي على أمة عربية ،ولو أنزلناه على العاجم ما فهموه.
جمِيّا ّلقَالُواْ َل ْولَ ُفصَّلتْ آيَاتُهُ
عَجعَلْنَاهُ قُرْآنا أ ْ
وقال الحق وسبحانه وتعالى في موضع آخر {:وَلَوْ َ
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِمْ َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْيهِمْ
شفَآ ٌء وَالّذِي َ
ج ِميّ وَعَرَ ِبيّ ُقلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ
عَءَاْ ْ
عمًى ُأوْلَـا ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِن ّمكَانٍ َبعِيدٍ }[فصلت.]44 :
َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لماذا؟ لن المستقبل مقفول ،فإنْ أردتَ استقبال أيّ قضية فعليك أنْ تُخرِج من قبلك أيّ قضية
أخرى معارضة لها ،ثم بعد ذلك لك أنْ تدرس القضيتين ،فما وافق الحق فأدخِلْه.
ج ْوفِهِ }[الحزاب ]4 :فهو قلب واحد ،لذلك
جلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي َ
ج َعلَ اللّهُ لِ َر ُ
لذلك يقول تعالى {:مّا َ
أخرج منه كل قضية سابقة ،وها هو القرآن واحد ،وقائله واحد ،ومُبلّغه واحد ،ولسانه عربي.
ضهُمْ ِإلَىا َب ْعضٍ َهلْ
يقول تعالى في وصفهم حالَ سماع القرآن {:وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ نّظَرَ َب ْع ُ
يَرَاكُمْ مّنْ َأحَدٍ ُثمّ انصَ َرفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُو َبهُم بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لّ َي ْف َقهُونَ }[التوبة ]127 :أي :يريدون
التسلّل والخروج.
ويقول تعالى في آية أخرى {:وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ أَ ّي ُكمْ زَادَ ْتهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا }
[التوبة ]124 :أي :ماذا أفادتكم؟ وماذا زادتْ في إيمانكم.
ويقول سبحانهَ {:ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ
آنِفا ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىا قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُواْ أَ ْهوَآ َءهُمْ }[محمد ]16 :يعني :ما الجديد الذي
جاء به؟
ويقول عن الذين آمنوا {:وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَا َدهُمْ ُهدًى وَآتَا ُهمْ َتقْوَا ُهمْ }[محمد.]17 :
جمِينَ } [الشعراء ]198 :جمع :أعجمي ،والعجم هو الذي ل يُحسِن الكلم العربي ،وإنْ
و { الَعْ َ
ي والعجم غير العرب .فالمعنى { وََلوْ نَزّلْنَاهُ } [الشعراء]198 :
كان ينطق به ،والعجميّ ضد العرب ّ
أي :القرآن العربي على بعض العجمين ما فهمه ،وقال { َب ْعضِ } [الشعراء ]198 :لمراعاة
الحتمال ،فمن العجم مَنْ تعلّم العربية وأجادها ويستطيع َفهْم القرآن.
وقوله تعالىَ { :فقَرََأهُ عَلَ ْيهِم مّا كَانُوا بِهِ ُم ْؤمِنِينَ } [الشعراء ]199 :لنهم لم يفهموا منه شيئا،
فكذلك أنتم مثل هؤلء العجم في تلقّي واستقبال كلم ال ،لم تفهموا منه شيئا.
ذلك لنهم أحبوا الكفر والعناد وأصرّوا عليه ،واستراحتْ إليه قلوبهم حتى عَشقوه ،فأعانهم ال
عليه ،وختم على قلوبهم ،فل يدخلها إيمانٌ ،ولَ يخرج منها كفر.
()3069 /
كَذَِلكَ سََلكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ ( )200لَا ُي ْؤمِنُونَ بِهِ حَتّى يَ َروُا ا ْلعَذَابَ الْأَلِيمَ ( )201فَيَأْتِ َيهُمْ َبغْتَةً
شعُرُونَ ()202
وَهُمْ لَا َي ْ
معنى { سََلكْنَاهُ } [الشعراء ]200 :أدخلناه في قلوب المجرمين ،كأنهم عجم ل يفهمون منه شيئا،
ب الَلِيمَ } [الشعراء ]201 :وما داموا لن يؤمنوا به حتى
لذلك { لَ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يروا العذاب الليم فلن يُقبلَ منهم إيمان.
ومعنى { َبغْ َتةً } [الشعراء ]202 :أي :فجأة ،ومن حيث ل يشعرون.
لذلك لما نزل القرآن وآمن برسول ال بعض الصحابة اضْطهد رسول ال وصحابته ،وأوذوا حتى
صاروا ل يأمنون على أنفسهم من بَطْش الكفار ،حتى كانوا يبيتون في السلح ،ويستيقظون في
السلح ،ل يجدون مَنْ يحميه.
ج ْم ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر ]45 :فتعجب عمر رضي
وفي هذه الحالة نزل قوله تعالى {:سَ ُيهْ َزمُ الْ َ
ال عنه :أيّ جمع هذا الذي سيُهزم ،والمسلمون على هذه الحال؟ فلما شهد بدرا وما كان فيها من
قتْل المشركين و ُنصْرة دين ال ،قال :نعم صدق ال ،سيُهزم الجمع ويُولّون الدبر.
ثم يقول الحق سبحانه { :فَ َيقُولُواْ َهلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ }
()3070 /
جلُونَ ()204
فَ َيقُولُوا َهلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (َ )203أفَ ِب َعذَابِنَا يَسْ َتعْ ِ
أي :انظرونا وتمهّلوا علينا ،وأخّروا عَنّا العذاب ،سبحان ال ألم تستعجلوه؟ وهذه طبيعة أهل
العناد والكفر إنْ تركناهم طلبوا أنْ ينزل عليهم ،وإنْ نزل بهم العذاب قالوا :انظرونا وتمهّلوا
علينا.
ثم يقول رب العزة سبحانهَ { :أفَرَأَ ْيتَ إِن مّ ّتعْنَا ُهمْ سِنِينَ }
()3071 /
َأفَرَأَ ْيتَ إِنْ مَ ّتعْنَاهُمْ سِنِينَ (ُ )205ثمّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ( )206مَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا
ُيمَ ّتعُونَ ()207
عدُونَ }
{ َأفَرَأَ ْيتَ } [الشعراء ]205 :يعني :أخبرني { إِن مّ ّتعْنَا ُهمْ سِنِينَ * ُثمّ جَآءَهُم مّا كَانُواْ يُو َ
[الشعراء205 :ـ ]206ومع طول المدة ،إل أن الغاية واحدة { مَآ أَغْنَىا عَ ْن ُهمْ مّا كَانُواْ ُيمَ ّتعُونَ }
[الشعراء.]207 :
()3072 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َومَا َأهَْلكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلّا َلهَا مُنْذِرُونَ (ِ )208ذكْرَى َومَا كُنّا ظَاِلمِينَ ()209
كما قال سبحانه في آية أخرى {:ذاِلكَ أَن لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا ِبظُلْ ٍم وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ }[النعام:
،]131فقد جاءهم رسول يُعلّمهم وينذرهم؛ ليقيم عليهم الحجة ،كما قال تعالىَ {:ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ
حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً }[السراء.]15 :
هذا كله { ِذكْرَىا } [الشعراء ]209 :تعني :نذكره لنُوقِظ غفلتكم { َومَا كُنّا ظَاِلمِينَ } [الشعراء:
سهُمْ َيظِْلمُونَ }[النحل.]118 :
]209فأنتم الذين فعلتم هذا بأنفسكم{ َومَا ظََلمْنَا ُه ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ
ثم يقول الحق سبحانه عن القرآنَ { :ومَا تَنَزَّلتْ ِبهِ الشّيَاطِينُ }
()3073 /
َومَا تَنَزَّلتْ ِبهِ الشّيَاطِينُ (َ )210ومَا يَنْ َبغِي َلهُ ْم َومَا يَسْ َتطِيعُونَ ()211
لنهم قالوا :إنما تنزّلت الشياطين على محمد بالقرآن ،وكانوا يقولون ذلك لكل شاعر ماهر بشعره
شعْر ،وعندهم وادٍ يُسمّى وادي " عبقر " هو وادي الجن،
عندهم ،فلكل شاعر شيطان يُمليه ال ّ
فيقولون :فلن عبقري أي :موصول بالجن في هذا الوادي.
لكن ،كيف والكتاب نزل على محمد عدو للشياطين ،يلعنهم في كل مناسبة ،ويُحذّر أتباعه منهم{:
الشّ ْيطَانُ َيعِ ُدكُمُ ا ْلفَقْ َر وَيَ ْأمُ ُركُم بِا ْلفَحْشَآءِ }[البقرة ]268 :ويقول الحق سبحانه {:إِنّ الشّيْطَانَ َل ُكمْ
سعِيرِ }[فاطر.]6 :
خذُوهُ عَ ُدوّا إِ ّنمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِ َيكُونُواْ مِنْ َأصْحَابِ ال ّ
عَ ُدوّ فَاتّ ِ
فكيف ـ إذن ـ يمده الشيطان ويُمليه عليه ،وهو عدوه؟ ولماذا لم يأتكم وأنتم أحباءه؟ هذه واحدة.
الخرىَ { :ومَا يَن َبغِي َلهُ ْم َومَا يَسْ َتطِيعُونَ } [الشعراء ]211 :إن ال جعل القرآن ُمعْجزا ومنهجا،
والمعجزة ل يتسلّط عليها إنس ول جن فيفسدها ،لذلك قال سبحانه {:إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ
لَحَا ِفظُونَ }[الحجر.]9 :
أما الكتب السابقة فقد طلبتْ من المؤمنين بها أنْ يحفظوها ،وفَرْق بين الحفظ مني ،وطلب الحفظ
منكم؛ لن الطلب تكليف وهو عُرْضة لنْ يُطاع ولنْ يُعصَى ،وقد جربنا حفظ البشر فلم يحافظوا
حفْظ قرآنه بنفسه ،ولم يكِلْه إلى أحد من
على كتبهم السابقة؛ لذلك تولّى الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ِ
خَلْقه.
لذلك تجد في هذا المجال كثيرا من العجائب والمفارقات ،فمع تقدّم الزمن وطغيان الحضارات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المعادية للسلم ،والتي تُمطرنا كل يوم بوابل من النحرافات والخروج عن تعاليم الدين ،ومِنّا
مَنْ ينساق خلفهم ،وهذا كله ينقص من الحكام المطبّقة من السلم.
حفْظ
لكن مع هذا كله تجد القرآن يزداد توثيقا ،ويزداد حفظا ،ويتبارى حتى غير المسلمين في ِ
كتاب ال وتوثيقه ،والتجديد في طباعته ،حتى رأينا مصحفا في ورقة واحدة ،ومصحفا في حجم
عقلة الصبع ،ويفخر بعضهم الن بأنه يملك أصغر مصحف في العالم ..إلخ بصرف النظر عن
دوافعهم مِنْ وراء هذا.
حفْظ القرآن{ َومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُه َو َومَا ِهيَ ِإلّ
المهم أن ال تعالى يُسخّر حتى أعداء القرآن ل ِ
ِذكْرَىا لِلْبَشَرِ }[المدثر.]31 :
أليس من وسائل نَشْر القرآن والمحافظة عليه آلت التسجيل وآلت تكبير الصوت التي تنشر كلم
ال في كل مكان؟ ولم يَلْق شيءٌ من الكتب السابقة مثل هذه العناية.
ص ل تتناسب مع النقص في أحكامه وانصراف أهله عنها ،وكأن ال ـ
إذن :فالعناية بالقرآن كن ّ
عز وجل ـ يقول لنا :سأحفظ هذا النصّ بغير المؤمنين به ،وسأجعلهم يُوثّقونه ويهتمون به؛
ليكون ذلك حجة عليكم.
لذلك كان عند اللمان قبل الحرب العالمية خزانة بها أدراج ،في كل درج منها أية من القرآن،
يُحفظ به كل ما كُتب عن هذه الية بدايةً من تفسير ابن عباس إلى وقتها ،وهذا دليل على أنهم
مُسخّرون بقوة خفية ل يقدر عليها إل ال عز وجل
{ إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر.]9 :
وسبق أن قلنا :إن بعض النساء يَسِرْنَ في الشوارع كاشفات عن صدورهن ،ومع ذلك تتحلّى
بمصحف على صدرها ،وليتها تستر صدرها ول تُعلّق المصحف.
فكيف تقولون تنزلت به الشياطين ،وقد جاء القرآن ليعلن لهله عداءه لهم والحذر منهم؟ كيف
والشياطين ل تتنزل إل على كفّار أثيم ،وأنتم أوْلَى بأن تتنزّل عليكم{ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى
َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُمْ }[النعام.]121 :
ومعنىَ } :ومَا يَسْ َتطِيعُونَ { [الشعراء ]211 :أن هذه المسألة فوق قدراتهم؛ لن الحق تبارك
س ْمعِ َل َمعْزُولُونَ {
وتعالى قال } :إِ ّن ُهمْ عَنِ ال ّ
()3074 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءَ َفوَجَدْنَاهَا مُلِ َئتْ حَرَسا
وقد شرح الحق سبحانه هذا المعنى في قوله تعالى {:وَأَنّا َل َمسْنَا ال ّ
شهَابا ّرصَدا }[الجن8 :ـ
جدْ لَهُ ِ
سمْعِ َفمَن يَسْ َتمِعِ النَ يَ ِ
شهُبا * وَأَنّا كُنّا َن ْقعُدُ مِ ْنهَا َمقَاعِدَ لِل ّ
شَدِيدا وَ ُ
.]9
وبعد ذلك يتكلم عن استقبال المنهج من الرسول ومن آله وأتباعه ،ومن المؤمنين جميعا { :فَلَ
تَ ْدعُ مَعَ اللّهِ }
()3075 /
فَلَا تَ ْدعُ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آَخَرَ فَ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُمعَذّبِينَ ()213
خاطب الحق ـ تبارك وتعالى ـ نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم بقوله { :فَلَ تَ ْدعُ مَعَ اللّهِ إِلَـاها
آخَرَ } [الشعراء ]213 :فهل كان صلى ال عليه وسلم مظنة أن يدعو مع ال إلها آخر؟ قالوا :ل،
إنما المراد ابتداء توجيه ،وابتداء تكليف ،كأنه يقول له :اجعل عندك مبدءًا ،أنك ل تتخذ مع ال
إلها آخر ،ل أن الرسول اتخذ إلها ،فجاء الوحي لينهاه ،إنما هو بداية تشريع وتكليف ،وإذا كان
العظيم المرسَل صلى ال عليه وسلم يتوعده ال إنْ أراد أن يتخذ إلها آخر ،فما بالك بمَنْ هو
دونه؟
ن يصغوا إليه ،ويحذروا
فساعَة يسمع الناس هذا الخطاب مُوجّها إلى النبي المرسَل إليهم ،فل بُدّ أ ْ
ما فيه من تحذير ،كما لو وجّه رئيس الدولة أمرا إلى رئيس الوزراء مثلً ـ ول المثل العلى ـ
وحذّره من عاقبة مخالفته ،فل شكّ أن مَنْ دونه من الموظفين سيكون أطوع منه لهذا المر.
()3076 /
وهكذا نقل المر من رسول ال إلى أهله وعشيرته القربين ،ذلك ليطمئن الخرون من قومه ،فهو
يأمرهم بأمر ليس بنجْوة عنه ،فأول ما ألزم به ألزم نفسه ثم عشيرته ،وهذا أدْعى للطاعة وللقبول،
فأنت تردّ أمري إذا كنتُ آمرك به ول أفعله ،لكني آمرك وأسبقك إلى الفعل.
لذلك سيدنا عمر ـ رضي ال عنه ـ وكان على المنبر يخطب في الناس ،ويقول :أيها الناس،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اسمعوا وأطيعوا ،فقام أعرابي وقال :ل سمعَ لك ول طاعة ،انظر إلى هذه الجرأة على مَنْ؟ على
عمر وهو على المنبر ـ فقال له عمر :ولِمَ؟
قال :لن ثيابك أطول من ثيابنا ـ وكان القماش يُوزّع بين المسلمين بالتساوي ل فَرْق بين طويل
وقصير ـ فقال عمر لبنه عبد ال :قُم يا عبد ال لتُرِي الناس ،فقام عبد ال فقال :إن أبي رجل
طوَال ـ مبالغة في الطول ـ وثوبه في المسلمين لم ي ْكفِه ،فأعطيته ثوبي فوصَله بثوبه ،وها أنذا
ِ
بمُرقّعتي بينكم ،عندها قال العرابي :إذنْ نسمع ونطيع.
لكن أين القدوة في دوائرنا ومصالحنا الحكومية الن؟ وأين هو رئيس المصلحة الذي يحضر،
ويجلس على مكتبه في الثامنة صباحا ليكون قدوة لمرؤوسيه؟ وإن من أشد ما ابتُلينا به أن نفقد
القدوة في الرؤساء والمسئولين .لذلك أول ما وُجّه التشريع والتكليف وُجّه إلى رسول ال ،وإلى
أقرب الناس إليه وهم عشيرته القربون؛ لن الفساد يأتي أول ما يأتي من دوائر القُرْبى والحاشية
التي تحيط بالنسان ،وقد يكون الرئيس أو الحاكم بخير ،لكن حاشيته هي سبب الفساد ،حيث
تستغل اسمه في فسادها أو تُضلّله وتُعمّي عليه الحقائق ..إلخ.
لذلك كان سيدنا عمر ـ رضي ال عنه ـ ساعة يريد أن يُقرّر شيئا للمة ،ويعلم أنه قَاسٍ عليهم
ل ويقول لهم :لقد شاء ال أن أقرر كذا وكذا ،فمَنْ خالفني منكم في شيء من هذا
يجمع أهله أو ً
جعلته نكالً لعامة المسلمين ،وهكذا يضمن أهله وأقاربه أولً ،ويبدأ بهم تنفيذ ما أرادوه للمسلمين.
لقْرَبِينَ } [الشعراء ]214 :والنذار كما ذكرنا التحذير من الشرّ قبل
كاَ
وتأمل { وَأَنذِرْ عَشِيرَ َت َ
أوانه ،فلم يقُلْ :بشّر عشيرتك ،كأنه يقول له :إياك أنْ يأخذك به لين ورَأْفة ،أو عطف لقرابتهم
لك ،بل بهم فابدأ.
وقد امتثل رسول ال صلى ال عليه وسلم لهذا التوجيه ،فكان صلى ال عليه وسلم يقول لقرابته" :
يا عباس يا عم رسول ال ،يا صفية عمة رسول ال ،يا فاطمة بنت محمد ،اعملوا فإني ل أغني
عنكم من ال شيئا ،ول يأتيني الناس بأعمالهم ،وتأتوني بأنسابكم ".
حكَ ِلمَنِ
خ ِفضْ جَنَا َ
وفي الوقت الذي يدعوه إلى إنذار عشيرته القربين يقول في مقابلها { :وَا ْ
اتّ َب َعكَ }
()3077 /
خفْض
خفْض الجناح لباقي المؤمنين به ،و َ
بعد أن أمره بالشدة على أهله وقرابته يأمره باللين ،و َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الجناح كناية عن اللّطْف واللين في المعاملة ،وقَد أُخِذ هذا المعنى من الطائر حين يحنو على
فراخه ،ويضمهم بجناحه.
خفْض الجناح دليل الحنان ،ل الذلّة والنكسار ،وفي المقابل نقول (فلن فارد أجنحته) إذا تكبّر
وَ
وتجبّر ،وتقول (فلن مجنح لي) إذا عصا أوامرك.
حكَ لِ ْل ُمؤْمِنِينَ }[الحجر.]88 :
خ ِفضْ جَنَا َ
وفي موضع أخر {:وَا ْ
حمَةِ }[السراء ]24 :فل نقول :كُنْ ذليلً
خ ِفضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ الرّ ْ
حقّ الوالدين {:وَا ْ
وقال في َ
لهم ،إنما كُنْ رحيما بهم ،حَنُونا عليهم ،ففي هذا عِزّك ونجاتك.
()3078 /
فإنْ عصاك القارب فل تتردد في أنْ تعلنها { إِنّي بَرِيءٌ ّممّا َت ْعمَلُونَ } [الشعراء ]216 :وعندها
حقّ لهم؛ لذلك قال { َف ُقلْ } [الشعراء]216 :
حقّ الرحم ،ول حَقّ القُرْبى ،لنه ل َ
ل تراعي فيهم َ
ولم يقل تبرأ منهم؛ لنه قد يتبرأ منهم فيما بينه وبينهم.
لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أنْ يعلنها رسول ال على المل ليعلمها الجميع ،وربنا يُعلّمنا
هنا درسا حتى ل نحابي أحدا ،أو نجامله لقرابته ،أو لمكانته حتى تستقيم أمور الحياة.
والذي يُفسِد حياتنا وينشر فيها الفوضى والل مبالة أنْ ننافق ونجامل الرؤساء والمسئولين،
ونُغطّي على تجاوزاتهم ،ونأخذهم بالهوادة والرحمة ،وهذا كله يهدم معنويات المجتمع ،ويدعو
للفوضى والتهاون.
لذلك يعلمنا السلم أنْ نعلنها صراحة { َف ُقلْ إِنّي بَرِيءٌ ّممّا َت ْعمَلُونَ } [الشعراء ]216 :وليأخذ
القانون مجراه ،وليتساوى أمامه الجميع ،ولو عرف المخالف أنه سيكون عبرة لغيره لرتدع.
لذلك يُقال عن عمر رضي ال عنه أنه حكم الدنيا كلها ،والحقيقة أنه حكم نفسه أولً ،فحكمتْ له
الدنيا ،وكذلك مَنْ أراد أنْ يحكم الدنيا في كل زمان ومكان عليه أنْ يحكم نفسه ،فل يجرؤ أحد من
أتباعه أن يخالفه ،وساعة أن يراه الناس قدوة ينصاعون له بالسمع والطاعة.
()3079 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل أنصاري وتفرّق التباع والحاشية من حولي ،نقول لك :إياك أنْ تظنّ
ن فعلتَ هذا ق ّ
فقد تقول :إ ْ
أنهم يجلبون لك نفعا ،أو يدفعون عنك ضرا ،فالمر كله بيده تعالى وبأمره ،فخيرٌ لك أنْ تراعى
ال ،وأن تتوكل عليه.
{ وَتَو ّكلْ عَلَى ا ْلعَزِيزِ الرّحِيمِ } [الشعراء ]217 :العزيز الذي َيغْلِب ول ُيغْلب ،ويَقْهر ول يُقهر،
ومع ذلك فهو سبحانه رحيم بك وبهم .وصفة الرحمة هنا تنفي ما يظنه البعض أن العزة هنا
تقتضي الجبروت أو القهر أو الظلم ،فهو سبحانه في عِزّته رحيم ،لن عزة العزيز على المتكبّر
رحمة بالمتكبّر عليه.
وكأن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يُعلّم خليفته في أرضه خاصة أُولي المر منهم ،يُعلّمه أن يكون
ن تتوكّل على عبد مثلك إذا عجزتَ عن العمل؛ لنه عاجز مثلك،
أريبا ناصحا ،يقول له :إياك أ ْ
وما دام المر كذلك فتوكّل على العزيز الرحيم ،فعِزّته ورحمته لك أنت.
()3080 /
جدِينَ ()219
الّذِي يَرَاكَ حِينَ َتقُومُ ( )218وَ َتقَلّ َبكَ فِي السّا ِ
أي :توكل على الذي يحبك ،ويُقدّر عملك وعبادتك حين تقوم ،والمعنى تقوم له سبحانه بالليل
والناس نيام { وَ َتقَلّ َبكَ فِي السّاجِدِينَ } [الشعراء ]219 :ونفهم من ذلك أنه يصح أن تقوم وحدك
بالليل.
وقوله { :الّذِي يَرَاكَ حِينَ َتقُومُ } [الشعراء ]218 :يرى حالك في هذا القيام ،وما أنت عليه من
الفرح ،وسرعة الستجابة لنداء ال في قوله :ال أكبر ،يراك حين تقوم على حالة انشراح القلب
والقبال على ال والنشاط للعبادة ،ل على حال الكسل والتراخي.
وإنْ أقبلتَ على ال أعطاك من الفُيوضات ما يُعوّضك مكاسب الدنيا وتجارتها ،إنْ تركتها لجابة
النداء؛ لذلك كان شعار الذان الذي ارتضاه رسول ال صلى ال عليه وسلم (ال أكبر) أي :أكبر
ن كنتَ في تجارة ،فال أكبر من
ن كنتَ في نوم ،فال أكبر من النوم ،وإ ْ
من أيّ شيء غيره ،فإ ْ
ن كنتَ في عمل فال أكبر من العمل ..إلخ.
التجارة ،وإ ْ
وعجيب أن نرى مَنْ يُقدّم العمل على الصلة بحجة امتداد الوقت ،وإمكانية الصلة بعد انتهاء
العمل ،وهذه حجة واهية؛ لن ربك حين يناديك (ال أكبر) يريد أن تستجيب على الفور ل على
التراخي ،وإل كيف تسمى الستجابة للنداء إذا تأخرت عن وقتها؟ فطول الوقت خاصة بين الصبح
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والظهر وبين العشاء والصبح ل يعني أنْ تصلي في طول هذا الوقت؛ لن النداء يقتضي السراع
والستجابة.
ولنا ملحظ في (ال أكبر) فأكبر أفعل تفضيل تدلّ على المبالغة ودون أكبر نقول :كبير ،وكأنها
عصَب
إشارة إلى أن العمل والسعي ليس شيئا هينا أو تافها ،إنماهو كبير ،ينبغي الهتمام به؛ لنه َ
الحياة ،ول تستقيم المور في عمارة الرض إل به.
لكن ،إنْ كان العمل كبيرا فال أكبر ،فربّك ـ عز وجل ـ ل يُزهّدك في العمل ،ول يُزهّدك في
الدنيا؛ لنه خالقها على هذه الصورة وجاعل للعمل فيها دورا ،وإنْ شئتَ فاقرأ {:فَإِذَا ُقضِ َيتِ
ض وَابْ َتغُواْ مِن َفضْلِ اللّهِ }[الجمعة.]10 :
لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْر ِ
الصّ َ
وقال في موضع آخرَ {:ولَ تَنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا }[القصص ]77 :لن حركة الحياة هي التي
تُعينك على أداء الصلة وعلى عبادة ال ،فبها تقتات ،وبها تتقوّى ،وبها تستر عورتك ،وما ل يتم
الواجب إل به فهو واجب .ومع هذا فدعوة ال لك َأوْلَى بالتقديم ،وَأوْلَى بالجابة؛ لن الذي خلقك
وخلقها ناداك (ال أكبر).
و { وَ َتقَلّ َبكَ } [الشعراء ]119 :تعني :القعود والقيام والركوع والسجود ،فربّك يراك في كل هذه
الحوال ،ويرى سرورك بمقامك بين يديه ،فإذا ما توكلتَ عليه فأنت تستحق أن يكون ربّك عزيزا
رحيما من أجلك.
أو :أن المعنى { وَ َتقَلّ َبكَ فِي السّاجِدِينَ } [الشعراء ]119 :أنه صلى ال عليه وسلم كان يرى
صحابته وهم يُصلّون خلفه ،فيرى مَنْ خلفه ،كما يرى مَنْ أمامه ،وكانت هذه من خصائصه صلى
ال عليه وسلم.
لذلك كان يُحذّرهم أنْ يسبقوه في الصلة في ركوع أو سجود ،أو قيام أو قعود .ويحذرهم أنْ
يفعلوا في الصلة خلفه ما ل يصح من المصلى اعتمادا على أنه صلى ال عليه وسلم ل يراهم.
()3081 /
()3082 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َهلْ أُنَبّ ُئكُمْ عَلَى مَنْ تَنَ ّزلُ الشّيَاطِينُ ( )221تَنَ ّزلُ عَلَى ُكلّ َأفّاكٍ أَثِيمٍ ()222
وقد سبق أن قالوا عن القرآن تنزلت به الشياطين ،فيردّ عليهم :تعالوا أخبركم على مَنْ تتنزل
الشياطين ،وأصحح لكم هذه المعلومات الخاطئة :صحيح أن الشياطين تتنزل ،لكن ل تتنزل على
محمد؛ لنه عدوها ،إنما تتنزل على أوليائها.
قال الحق سبحانه {:وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ }[النعام.]121 :
{ تَنَ ّزلُ عَلَىا ُكلّ َأفّاكٍ أَثِيمٍ } [الشعراء ]222 :فهذا الذي يناسب الشياطين ويرضيهم ،والجن
قسمان :فمنه الصالح وغير الصالح وهذا الذي يسمونه الشياطين.
وكلمة { َأفّاكٍ } [الشعراء ]222 :مبالغة في الفك أي :قلب الحقائق .وكان هؤلء يخطفون الخبار
فيقولون شيئا قد يصادف الصدق ،ثم يجعلون معه كثيرا من الكذب.
()3083 /
السمع مصدر وألته الذن ،فالمراد يلقون الذن للسمع ،كما في قوله تعالى {:إِنّ فِي ذَِلكَ َل ِذكْرَىا
شهِيدٌ }[ق.]37 :
سمْ َع وَ ُهوَ َ
ِلمَن كَانَ لَهُ قَ ْلبٌ َأوْ أَ ْلقَى ال ّ
يعني :ألقى سمعه كي يستمع كمنْ يحرص على السماع من خفيض الصوت ،فيميل نحوه ليسمع
منه .وقال { وََأكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [الشعراء ]223 :لن بعضهم والقلة منهم قد يصدق ليُغلّف كذبه،
ويُغطي عليه ،فأنت تأخذ من صِدْقه هذه المرة دليلً على أنه صادق ،وهو يخلط الخبر الصادق
بأخبار كثيرة كاذبة.
شعَرَآءُ يَتّ ِب ُعهُمُ ا ْلغَاوُونَ }
ثم يقول الحق سبحانه { :وَال ّ
()3084 /
ن يقول الشعر ،وهو الكلم الموزون المُقفّى ،وقد اتهم الكفار رسول
الشعراء :جمع شاعر ،وهو مَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال صلى ال عليه وسلم بأنه شاعر ،وردّ عليهم القرآن الكريم في عدة مواضع ،منها قوله تعالى{:
َومَا ُهوَ ِب َق ْولِ شَاعِرٍ قَلِيلً مّا ُت ْؤمِنُونَ }[الحاقة.]41 :
وعجيب من كفار مكة ،وهم العرب أهل اللسان والبلغة والبيان ،وأهل الخبرة في الكلم
الموزون المُقفّى ،بحيث كانوا يجعلون للشعر أسواقا في ذي المجاز وذي المجنّة وعكاظ ،ويعلّقون
أجود أشعارهم على أستار الكعبة ،ومع ذلك ل يستطيعون التمييز بين الشعر وأسلوب القرآن
الكريم.
إذن :هم يعرفون الفَرْق ،لكن يقصدون بقولهم كما حكاه القرآنَ {:أمْ َيقُولُونَ شَاعِرٌ نّتَرَ ّبصُ ِبهِ
رَ ْيبَ ا ْلمَنُونِ }[الطور ]30 :يقصدون بالشعر الكلم العَذْب الذي يستميل النفس ،ويُؤثّر في
الوجدان ،ولو كان نثرا .وهذه ينادى بها الن أصحاب الشعر الحر؛ لنهم يقولون شعرا ،لكنه غير
موزون ،وغير مُق ّفىً.
ومعنى { ا ْلغَاوُونَ } [الشعراء ]224 :جمع غاوٍ .وهو الضال ،وهؤلء يتبعون الشعراء .لنهم
يؤيدون مذهبهم في الحياة بما يقولون من أشعار؛ ولنهم ل يحكم منطقهم مبدأ ول خُلُق ،بل هواهم
هو الذي يحكم المبدأ والخلق ،فإنْ أحبّوا مدحوا ،وإنْ كرِهوا َذمّوا.
والدليل على ذلك { :أَلَمْ تَرَ أَ ّنهُمْ فِي ُكلّ }
()3085 /
أَلَمْ تَرَ أَ ّنهُمْ فِي ُكلّ وَادٍ َيهِيمُونَ ( )225وَأَ ّنهُمْ َيقُولُونَ مَا لَا َي ْفعَلُونَ ()226
الضمير في { أَ ّنهُمْ } [الشعراء ]225 :يعود على الشعراء ،والوادي :هو المنخفض بين جبلين،
وكان محل السير ومحل نمو الشجار والبساتين واستقرار المياه.
{ َيهِيمُونَ } [الشعراء ]25 :نقول :فلن هَامَ على وجهه أي :سار على غير هدى ،وبدون هدف أو
ل وَادٍ َيهِيمُونَ } [الشعراء ]225 :أن هذه حال الشعراء ،لنهم أهل كلم
مقصد ،فالمعنى { فِي ُك ّ
وخيال يمدحك أحدهم إنْ طمع في خيرك ،فإنْ لم تُعطِه كال لك الذم وتفنّن في النّيل منك ،فليس له
وادٍ معين يسير فيه ،أو مبدأ يلتزم به ،كالهائم على وجهه في كل وَادٍ.
فالمتنبي وهو من أعظم شعراء العصر العباسي ويُضرب به المثل في الحكمة والبلغة ،من أشهر
س والقَلَمفلما كان في إحدى
شعره قوله:فَالخَيْل والل ْيلُ والبَيْدَاءُ َتعْ ِرفُني والسّ ْيفُ والرّمح والقِرْطَا ُ
رحلته خرج عليه قُطّاع الطرق ،فلما أراد أن يفرّ قال له خادمه :ألست القائل:فَالخَيْل والل ْيلُ
س والقَلَمفاستحى أنْ يفرّ ،وثبت أمامهم حتى قتلوه ،فقال
والبَيْدَاءُ َتعْ ِرفُني والسّ ْيفُ والرّمح والقِرْطَا ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قبل أنْ يموت :ما قتلني إل هذا العبد ،واشتهر هذا البيت في الدب العربي بأنه البيت الذي قتل
صاحبه.
ولما جاء المتنبي إلى مصر مدح حاكمها كافور الخشيدي طمعا فيه ،وكان كافور رجلً أسود؛
ب لَ أَبَا ال ِمسْك وَحْ َدهُ
لذلك كَ ّنوْه بأبي المِسْك ،ولما مدحه المتنبي حالَ الرضا قال فيه:أَبا ُكلّ طِي ٍ
وفي قصيدة أخرى يقولَ :قضَى الُ يَا كافُورُ أ ّنكَ َأ ّولٌ وليْسَ بقَاضٍ أنْ يُرَى َلكَ ثَانِفلما لم ُيعْطه
كافور طلبه ،وساءتْ العلقة بينهما ،قال يهجوه:أُريك الرضا لو أخْفت النفسُ خافيَا ومَا أَنَا عَنْ
حتَ لي أَمْ َمخَازِياوتُعجِبُني
خسّةً وجُبْنا أشخصا ُل ْ
لفَا وغَدْرا و ِ
نفسي َولَ عَ ْنكَ رَاضياَأمَيْنا وإخْ َ
حكَ ربّاتِ
لكَ في ال ّن ْعلِ إنني رأي ُتكَ ذَا َن ْعلٍ وإنْ كُ ْنتَ حَافِياومِثُْلكَ يُؤتَى مِنْ بِلَدٍ َبعِيدَة لِيُض ِ
رِجْ َ
حدَادِ ال َبوَاكِيَاوَل ْولَ ُفضُول الناسِ جِئْتُك مَادِحا بما كنتَ في َنفْسِي به َلكَ هَاجِيَاوقد يكون الشاعر
ال ِ
ضوْء نَارِه َتجِدْ
بخيلً ،ولكنه يمدح الكرم والكريم ،ويرفعه إلى عنان السماء:متّى تَأْتِهِ تَعشُو إلى َ
خَيْر نَارٍ عِنْدهَا خَيْ ُر موقِدِوالحطيئة مع ما عُرف عنه من البخل يمدح أحدهم ،ويصفه بالكرم
النادر ،لدرجة أنْ جعله يهِمّ بذبح ولده لضيفه؛ لنه لم يدد ما يذبحه ،وينظِم الحطيئة في الكرم هذه
القصيدة أو القصة الشعرية التي ُتعَدّ من عيون الشعر العربي ،ومع ذلك لم يأخذ مما يقول عبرةً،
وظلّ على إمساكه وبُخْله؟
يقول الحطيئة في وصف الكريم:وَطَاوٍ ثَلثا عَاصٍب ال َبطْنِ مُرْمل بِبَيْداءَ لمَ يَعرِف بها ساكِن
عجُوزا
ش ْعبٍ َ
ن الُنْس َوحْشةٌ يرى ال ُبؤْسَ فِيها مِنْ شراسَتِه ُنعْماوَأفْردَ في ِ
جفْوة فيه مِ َ
رَسْماأخِي َ
طعْمارَأى
إزَاءَهَا ثلثَة أشْباح تَخَالهوا ُبهْماحُفاةً عُراةً ما اغت َذوْا خُبْز مَلّة ولَ عَ ِرفُوا للبُرّ مُذْ خُِلقُوا َ
شَبَحا وَسْط الظّلم فَرَاعَه فلمّا رأى ضَيْفا تَشمّر واهْتَمافَقالَ ابنُه لما رَآهُ بحيْرةٍ أيَا أ َبتِ أذْبحْني
سعُنا َذمّافَبَيْنَا هُما عَ ّنتْ على ال ُبعْد
طعْماوَلَ تعتذر بالعُدْم على الذي طَرا يظنّ لَنَا مالً فَيُو ِ
ويَسّر لَهُ ُ
خ ْلفِ مِسْحلها َنظْماعِطَاشا تريد الماءَ فانسابَ نحوها عَلى أنّه مِنْها إلى َدمِها
عَانَةٌ َقدِ انتظمتْ من َ
سهْمافخ ّرتْ نَحْوصٌ ذَات جحش سمينةً قَد
ظمَافَأمْهلَها حتّى تر ّوتْ عِطَاشُها وأرسلَ فِيهَا مِنْ كِنَانتِه َ
أ ْ
شحْمافَيَا بشْ َرهُ إذْ جرّهَا نحو قَومِه ويَا بشْر ُهمْ لما رأوْا كَلْمها يَ ْدمَاوَبَاَتُوا
اكتنزتْ لَحْما وقد ط ّبقَتْ َ
ق ضَيْفهِمْ ومَا غَرمُوا غُرْما وقَدْ غَنموا غُنْماوَباتَ أبُوهم من بَشَاشتِه أبا ِلضَيْفهِمُ
حّضوْا َ
كِراما قَدْ َق َ
والم مِنْ بِشرها ُأمّا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعني :لم يُوفّني حقي ـ فقال الشاعر :أما وال وقد قال ما قال ،فإنه لضيق العطية ،أحمق الب،
لئيم العم والخال .سبحان ال في أول المجلس كان سيد قبيلته ،والن هو ضيق العطية ،أحمق
الب ،لئيم العم والخال!!
ثم قال :وال يا رسول ال ما كذبتُ في الولى ،ولقد صدقتُ في الثانية ـ يعني :أنا مصيب في
القولين ـ لكني رضيت فقلت أحسنَ ما علمت ،وغضبت فقلت أسوأ ما علمتُ .عندها قال سيدنا
رسول ال " إن من البيان لسحرا ".
عمِلُواْ {
ثم يستثني الحق سبحانه من هؤلء الغاوينِ } :إلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
()3086 /
ت وَ َذكَرُوا اللّهَ كَثِيرًا وَانْ َتصَرُوا مِنْ َبعْدِ مَا ظُِلمُوا وَسَ َيعْلَمُ الّذِينَ
عمِلُوا الصّالِحَا ِ
إِلّا الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
ظََلمُوا َأيّ مُ ْنقََلبٍ يَ ْنقَلِبُونَ ()227
كان بعض شعراء المشركين أمثال عبد ال بن الزبعري ،ومسافح الجمحي يهجون رسول ال
صلى ال عليه وسلم ويذمونه ،فيلتف الضالون الغاوون من حولهم ،يشجعونهم ويستزيدونهم من
شعَرَآءُ يَتّ ِب ُعهُمُ ا ْلغَاوُونَ }الشعراء]224 :
هجاء رسول ال ،وفي هؤلء نزل قوله تعالى {:وَال ّ
فأسرع إلى سيدنا رسول ال شعراءُ السلم :عبد ال بن رواحة وكعب بن زهير ،وكعب بن
مالك ،وحسان بن ثابت ،فقالوا :أنحن من هؤلء يا رسول ال؟ فقرأ عليهم رسول ال هذه الية:
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } [الشعراء.]227 :
{ ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
ن توفّرت فيه هذه الخصال الربع { ِإلّ الّذِينَ
فاستثنى الحق ـ تبارك وتعالى ـ من الشعرءا مَ ْ
ت وَ َذكَرُواْ اللّهَ كَثِيرا وَان َتصَرُواْ مِن َبعْدِ مَا ظُِلمُواْ } [الشعراء ]227 :أي:
عمِلُواْ الصّالِحَا ِ
آمَنُو ْا وَ َ
ذكروا ال في أشعارهم؛ لينبهوا الناس إلى مواجيد الدين ومواعظ اليمان ،فيلتفتون إليها ،ثم
جوْه.
ينتصرون لرسول ال من الذين َه َ
وكان هؤلء الثلثة ينتصرون للسلم ولرسول ال ،فكلما هجاه الكفار ردّوا عليهم ،وأبطلوا
حُججهم ،ودافعوا عن رسول ال ،حتى " أنه صلى ال عليه وسلم َنصَب منبرا لحسان بن ثابت،
كان يقول له " :قل وروح القدس معك ،اهجهم وجبريل معك "
وقال لكعب بن مالك " :اهجهم ،فإن كلمك أشدّ عليهم من رَشْق النّبال " كما سمح لهم بإلقاء
الشعر في المسجد؛ لنهم دخلوا في هذا الستثناء ،فهم من الذين آمنوا ،وعملوا الصالحات،
وذكروا ال كثيرا ،وهم الذين ينتصرون للسلم ويُمجّدون رسول ال ،ويدافعون عنه ،ويردّون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عنه ألسنة الكفار.
ومعنى { :وَان َتصَرُواْ مِن َبعْدِ مَا ظُِلمُواْ } [الشعراء ]227 :أنهم لم يكونوا سفهاء ،لم يبدأوا الكفار
بالهجاء ،إنما ينتصرون لنفسهم ،ويدفعون ما وقع على السلم من ظلم الكافرين؛ لذلك لما هجا
ستَ لَهُ بكُفْءٍ فَشرّكما
أبو سفيان رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قال أحدهم ردا عليهم:أتهْجُو ُه وَل ْ
لخيركما الفِدَا ُءفَإنّ أَبِي وَوَالِدهِ وعِرْضِي ِلعْرضِ مُحمدٍ منكمُ ِوقَاءُوقوله تعالى { :مِن َب ْعدِ مَا
ظُِلمُواْ } [الشعراء ]227 :ظُلِموا ِممّنْ؟ من الذين وقفوا من الدين ومن الرسول موقفَ العداء،
وتعرّضوا لرسول ال وللمؤمنين به باليذاء والكيد ،ظُلِموا من الذين عزلوا رسول ال ،وآله في
شعْب حتى أكلوا أوراق الشجر ،من الذين تآمروا على قتله صلى ال عليه وسلم إلى أنْ هاجر.
ال ّ
ومن رحمته تعالى وحكمته أنْ أباح للمظلوم أنْ ينتصر لنفسه ،وأنْ يُنفّس عنها ما يعانيه من وطأة
الظلم ،حتى ل تُكبتَ بداخله هذه المشاعر ،ول بُدّ لها أن تنفجر ،فقال سبحانه {:وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ
ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِ ِه وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }[النحل.]126 :
جهْرَ بِالسّوءِ مِنَ ا ْل َق ْولِ ِإلّ مَن ظُلِمَ }[النساء.]148 :
حبّ اللّهُ ا ْل َ
وقال تعالى {:لّ يُ ِ
أباح للمظلوم أن يُعبّر عن نفسه ،وأن يرفض الظلم ،ول عليه إنْ جهر بكلمة تُخفّف عنه ما يشعر
به من ظلم.
ثم تختم السورة بقوله تعالى } :وَسَ َيعْلَمْ الّذِينَ ظََلمُواْ َأيّ مُنقََلبٍ يَنقَلِبُونَ { [الشعراء ]227 :يعني:
غدا سيعلمون مرجعهم ونهايتهم كيف تكون؟ والمنقلب هو المرجع والمآب ،والمصير الذي
ينتظرهم.
فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يتوعدهم بما يؤذيهم ،وبما يسوؤهم فلن تنتهي المسألة بانتصار
المسلمين عليهم ،إنما ينتظرهم جزاء آخر في الخرة.
عذَابا دُونَ ذَِلكَ }[الطور.]47 :
كما قال سبحانه في موضع آخر {:وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ َ
لذلك أبهم ال تعالى هذا المنقلب ،وإبهامه للتعظيم والتهويل ،وقد بلغ من العِظَم أنه ل يُوصف ول
تؤدي العبارة مؤداه ،كما أبهم العذاب في قوله تعالىَ {:فغَشِ َي ُهمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِ َيهُمْ }[طه.]78 :
يعني :شيء عظيم ل ُيقَال ،والبهام هنا أبلغ؛ لن العقل يذهب في تصوّره كل مذهب ،وعلى كل
كيفية.
والمنقلب أو المرجع ل يُمدح في ذاته ،ول يُذمّ في ذاته ،فإن انتهى إلى السوء فهو مُنقلب سيء،
وإنِ انتهى إلى خير فهو مُنقلَب حسن ،فالذي نحن بصدده من مُنقلَب الكافرين المعاندين لرسول
ال منقلب سيء ُيذَم.
أما مُنْقلَب سحرة فرعون مثلً حين قال لهم {:آمَن ُتمْ لَهُ قَ ْبلَ أَنْ ءَاذَنَ َل ُكمْ إِنّهُ َلكَبِي ُر ُكمُ الّذِي عَّل َمكُمُ
لفٍ }[طه.]71 :
طعَنّ أَ ْيدِ َيكُ ْم وَأَرْجَُل ُكمْ مّنْ خِ َ
لقَ ّ
السّحْرَ فَ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل ضَيْرَ إِنّآ إِلَىا رَبّنَا مُنقَلِبُونَ }[الشعراء ]50 :فهذا مُنقلَب حَسَن يُمدح ويُحمد.
فماذا قالوا؟{ قَالُو ْا َ
وقد يظن المرء أن مُنقلَبه مُنقلَب خير ،وأنه سينتهي إلى ما يُفرح وهو واهم مخدوع في عمله
ينتظر الخير ،وال تعالى ُيعِد له منقلبا آخر ،كالذي أعطاه ال الجنتين من أعناب وخففهما بنخل،
وجعل بينهما زرعا ،فلما غرّته نعمة الدنيا ظنّ أن له مثلها ،أو خيرا منها في الخرة ،فقال{:
جدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف.]36 :
وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَ ِ
والنقلب والمرجع إلى ال ـ عز وجل ـ إنما يفرح به مَنْ آمن بال وعمل صالحا؛ لنه يعلم
أنه سيصير إلى جزاء من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ مؤكد؛ لذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ
ق الَنفُسِ }
شّح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَىا بََلدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ بِ ِ
يُعلّمنا حين نركب الدواب التي تحملنا{ وَتَ ْ
[النحل.]7 :
ك وَالَ ْنعَامِ مَا تَ ْركَبُونَ *
ج َعلَ َلكُمْ مّنَ ا ْلفُلْ ِ
علّمنا أن نذكره سبحانه {:وَالّذِي خَلَقَ الَزْوَاجَ كُّلهَا وَ َ
ظهُو ِرهِ ثُمّ َت ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ رَ ّبكُمْ ِإذَا اسْ َتوَيْتُمْ عَلَيْ ِه وَ َتقُولُواْ سُ ْبحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَـاذَا
لِتَسْ َتوُواْ عَلَىا ُ
َومَا كُنّا َلهُ ُمقْرِنِينَ * وَإِنّآ إِلَىا رَبّنَا َلمُنقَلِبُونَ }[الزخرف12 :ـ .]14
إذن :فالدوابّ وما يحلّ محلّها الن من وسائل المواصلت من أعظم ِنعَم ال علينا ،ولول أن ال
سخّرها لنا ما كان لنا قدرة عليها ،ول طاقة بتسخيرها؛ لذلك نقول{ َومَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ }
[الزخرف.]13 :
أي :ل نستطيع ترويضه ،فالصبي الصغير نراه يقود الجمل الضخم ،ويُنيخه ويُحمّله الثقال وهو
طائع منقاد ،لكنه يفزع إنْ رأى ثعبانا صغيرا ،لماذا؟ لن ال ـ سبحانه وتعالى ـ سخّر لنا
الجمل وذَلّله ،ولم يُسخّر لنا الثعبان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عشِيّةً َأ ْو ضُحَاهَا }[النازعات.]46 :
واقرأ قوله تعالى {:كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا لَمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ َ
وقلنا :إن في الية } وَسَ َيعْلَمْ الّذِينَ ظََلمُواْ َأيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ { [الشعراء ]227 :تهديدا ووعيدا،
حبّ لهم ،فيهددهم
خلْقه ،وهو ُم ِ
الحق ـ تبارك وتعالى ـ حين يُضخّم الوعيد إنما يريد الرحمة ب َ
الن ليَسلموا غدا ،ويُنبّههم ليعودوا إليه ،فينالوا جزاءه ورحمته.
وكأنه ـ تبارك وتعالى ـ يريد من وراء هذا التهديد أن يُوزّع رحمته ل جبروته ،كما تقسو على
ولدك ليذاكر وتهدده ليجتهد .إذن :فالوعد بالخير خير ،والوعيد بالشر أيضا خير ،فكل ما يأتيك
من ربك ،فاعلم أنه خير لك ،حتى وإنْ كان تهديدا ووعيدا.
وهكذا قدمتْ لنا سورة الشعراء نموذجا من تسلية الحق ـ تبارك وتعالى ـ لنبيه محمد صلى ال
عليه وسلم والتخفيف عنه ما يلقي من حزن وألم على حال قومه وعدم إيمانهم ،وعرضَتْ عليه
صلى ال عليه وسلم موكب الرسل ،وكيف أن ال أيّدهم ونصرهم وهزم أعداءهم ودحرهم.
ثم سلّه ربه بأنْ َر ّد على الكفار في افتراءاتهم ،وأبطل حججهم ،وأبان زَيْف قضاياهم ،ثم تختم
هذه التسلية ببيان أن للظالمين عاقبة سيئة تنتظرهم وأبهم هذه العاقبة } َأيّ مُنقََلبٍ يَنقَلِبُونَ
{ [الشعراء ]227 :ليضخمها.
حدّد إنما يأتي على َلوْن واحد ،وإنْ أُبهِم كان أبلغ؛ لن النفس تذهب في تصوّره كل
والشيء إذا ُ
مذْهب ،كما لو تأخّر مسافر عن موعد عودته فنجلس ننتظره في قلق تسرّح بنا الظنون في سبب
تأخره ،وفي احتمالت ما يمكن أنْ يحدث ،وتتوارد على خواطرنا الوهام ،وكل وهم يَرِد في
نفسك بألم ولذعة ،في حين أن الواقع شيء واحد.
()3087 /
تكلمنا كثيرا على هذه الحروف المقطّعة في أوائل السور ،وهنا (طس) وهما حرفان من حروف
المعجم ،وهي تُنطق هكذا (طاء) و(سين) لنهما أسماء حروف ،وفَرْق بين اسم الحرف ومُسمّاه،
فكلّ من المي والمتعلم يتكلم بحروف يقول مثلً :كتب محمد الدرس .فإنْ طلبتَ من المي أن
يتهجى هذه الحروف ل يستطيع لنه ل يعرف اسم الحرف ،وإنْ كان ينطق بمُسمّاه ،أمّا المتعلم
فيقول :كاف تاء باء.
ورسول ال صلى ال عليه وسلم كان أميا ل يعرف أسماء الحروف ،فهي إذن من ال؛ لذلك كانت
مسألة توقيفية ،فالحروف (الم) نطقنا بها في أول البقرة بأسماء الحروف (ألف) (لم) (ميم) ،أما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في أول النشراح فقلنا{ أََلمْ نَشْرَحْ َلكَ صَدْ َركَ }[الشرح ]1 :بمسميات الحروف نفسها ،فنقول :أَلَم.
و { تِ ْلكَ } [النمل ]1 :اسم إشارة لليات التية خلل هذه السورة ،وقُلْنا إن اليات لها َمعَانٍ
س وَا ْل َقمَرُ }
شمْ ُ
ل وَال ّنهَا ُر وَال ّ
متعددة ،فقد تعني اليات الكونية :كالشمس والقمرَ {،ومِنْ آيَاتِهِ الّي ُ
[فصلت.]37 :
سكُنُواْ إِلَ ْيهَا }[الروم ]21 :وهذه اليات الكونية هي
سكُمْ أَ ْزوَاجا لّتَ ْ
{ َومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ خَلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
التي تلفتنا إلى عظمة الخالق ـ عزّ وجلّ ـ وقدرته.
واليات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل ،والتي تثبت صِدْق بلغهم عن ال ،واليات بمعنى
ن َوكِتَابٍ مّبِينٍ } [النمل.]1 :
آيات القرآن الحاملة للحكام ،وهي المرادة هنا { تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلقُرْآ ِ
ب َوقُرْآنٍ مّبِينٍ }[الحجر ]1 :فمرة يقول{ َوقُرْآنٍ مّبِينٍ }
وسبق إنْ قال تعالى {:الرَ تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَا ِ
[الحجر ]1 :ومرة { َوكِتَابٍ مّبِينٍ } [النمل ]1 :ويأتي بالكتاب ويعطف عليه القرآن ،أو يأتي
بالقرآن ويعطف عليه الكتاب ،مع أنهما شيء واحد ،فكيف إذن يعطف الشيء على نفسه؟
قالوا :إذا عطف الشيء على نفسه ،فاعلم أنه لزيادة َوصْف الشيء ،تقول :جاءني زيد الشاعر
والخطيب والتاجر ،فلكلّ صفة منها إضافة في ناحية من نواحي الموصوف ،فهو القرآن لنه يُقرأ
في الصدور ،وهو نفسه الكتاب لنه مكتوب في السطور ،وهما معا نُسمّيهم مرة القرآن ومرة
الكتاب ،أمّا الوصف فيجعل المغايرة موجودة.
ومعنى { مّبِينٍ } [النمل ]1 :بيّن واضح ومحيط بكل شيء من أقضية الحياة وحركتها من أوامر
شيْءٍ }[النعام.]38 :
ونواهٍ ،كما قال سبحانه {:مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
وسبق أنْ حكينا ما حدث مع المام محمد عبده ـ رحمه ال ـ حينما كان في فرنسا ،وسأله أحد
المستشرقين :تقولون إن القرآن أحاط بكل شيء ،فكم رغيفا في إردبّ القمح؟ فدعا المام الخباز
وسأله فقال :كذا وكذا ،فقال المستشرق :أُريدها من القرآن ،قال المام :القرآن قال لنا {:فَاسْئَلُواْ
أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ }[النبياء.]7 :
شيْءٍ }[النعام.]38 :
فهو كما قال تعالى {:مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
ثم يقول الحق سبحانه { :هُدًى وَبُشْرَىا لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ }
()3088 /
الهدى :يأتي بمعنيين :بمعنى الدللة على طريق الخير ،وبمعنى المعونة ،فمن ناحية الدللة هو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدّ سواء؛ لنه دلّ الجميع وأرشدهم ،ثم تأتي هداية المعونة على حسب
هُدىً للمؤمن وللكافر على َ
اتباعك لهداية الدللة.
فمَنْ أطاع ال وآمن به وأخذ بدللته ،فكان الحق سبحانه يقول له :أنت استأمنتني على حركة
حياتك وأطعتني في أمري ونهيي ،فسوف أخفف عنك وأُهوّن عليك أمر العبادة وأُعينك عليها،
وهذه هي هداية المعونة التي قال ال عنها {:وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد:
.]17
وكذلك الكافر الذي لم يأخذ بهداية الدللة والرشاد ،واختار لنفسه طريقا آخر يُعينه ال عليه،
ويُيسّر له ما سعى إليه من الكفر؛ لذلك يختم ال على قلوب الكافرين حتى ل يدخلها إيمان ول
يخرج منها كفر.
لكن الهداية هنا :أهي دللة ،أم هداية معونة؟
نقول :هي هداية معونة ،بدليل قوله تعالى بعدها { وَبُشْرَىا لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } [النمل ]2 :فما كانوا
مؤمنين إل لنهم مهديون ،والبُشْرى ل تكون إل للمؤمنين ،إذن :هي معونة للمؤمنين بأنْ يزيدهم
سعَىا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ َيقُولُونَ رَبّنَآ
هدايةً إلى الطريق السّويّ ،وإلى جنات النعيم{ نُورُ ُهمْ يَ ْ
شيْءٍ َقدِيرٌ }[التحريم.]8 :
غفِرْ لَنَآ إِ ّنكَ عَلَىا ُكلّ َ
أَ ْتمِمْ لَنَا نُورَنَا وَا ْ
ولو أن الهداية هنا بمعنى الدللة التي تأتي للمؤمن والكافر لكانتْ بشرى وإنذارا ،لكن الية
{ وَبُشْرَىا لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } [النمل ]2 :فتعيّن أن يكون المعنى هداية المعونة وهداية البشرى.
()3089 /
الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلَا َة وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَهُمْ بِالْآَخِ َرةِ ُهمْ يُوقِنُونَ ()3
المؤمنون هم أصحاب عقيدة اليمان ،وهو أن تؤمن بقضية الحق الواحد الله المختار الفاعل الذي
له صفات الكمال ،تؤمن بها حتى تصير عقيدة في نفسك ثابتة ل تتزعزع ،واليمان اعتقاد بالقلب،
وقَوْل باللسان ،وعمل بالجوارح ،فل يكفي النطق باللسان ،إنما ل بد من أداء تكاليف اليمان
ومطلوباته ،وقمتها إقامة الصلة ،وإيتاء الزكاة وصَوْم رمضان ،والحج.
فالصلة دعوة من ال لخَلْقه ،دعوة من الصانع للمصنوع ،فربّك يستدعيك إلى حضرته ،وكيف
ضتْ على صانعها كل يوم خمس مرات ،ومع ذلك نرى مَنْ يُقدّم العمل على
بالصّنْعة إذا عُ ِر َ
الصلة ،وإذا سمع النداء قال عندي أعمال ومشاغل ،إياك أنْ تظن أن الصلة تعطيل للمصالح ،أو
إضاعة للوقت؛ لنك في حركة حياتكم مع ِنعَم ال وفي الصلة مع ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونقيس هذه المسأل َة ـ ول المثل العلى ـ لو أن أباك ناداك فلم تُجبه ،ماذا يفعل بك؟ فل يكُنْ
ربّك أهونَ عليك من أبيك ،ربك يناديك :ال أكبر يعني :أكبر من العمل ،وأكبر من كل شيء
يشغلك عن تلبية ندائه.
وفي الصلة نأخذ شحنة إيمانية تُقوّينا على حركة حياتنا ،كما لو ذهبتَ ببطارية السيارة مثلً
لجهاز الشحن أتقول :إنك عطلتَ البطارية؟
ولو حسبنا الوقت الذي تستغرقه الصلوات الخمس لوجدناه ل يتعدّى ساعة من الربع والعشرين
ساعة ،فل تضن على نفسك بها لتلتقي بربك ،وتقف بين يديه ،وتعرض نفسك عليه ،فيصلح فيك
ما أفسدته حركة الحياة ويعطيك المدد والعون و الشحنة اليمانية التي تدفعك إلى حركة منسجمة
مع الحياة والكون من حولك.
وإنْ كان مهندس اللة يُصلحها بشيء مادي ،فربّك ـ عز وجل ـ غَيْب ،فيصلحك بالغيب ،ومن
حيث ل تدري أنت ،لذلك كانت الصلة في قمة مطلوبات اليمان.
فإنْ كانت الصلة لصلح النفس ،فالزكاة لصلح المال؛ لذلك تجد دائما أن الصلة مقرونة
بالزكاة في معظم اليات ،وإنْ كان المال نتيجة العمل ،والعمل فرع الوقت ،فإن الصلة تأخذ
الوقت ،والزكاة تأخذ نتيجة الوقت ،الزكاة تأخذ %2.5أمّا الصلة فتأخذ الوقت نفقسه يعني بنسبة
.%100
ومع ذلك ل نقول :إن الصلة أضاعتْ الوقت ،لن الشحنة التي تأخذها في الصلة تجعلك تنجز
العمل الذي يستغرق عدة ساعات في نصف ساعة ،فتعطيك بركة في الوقت.
وسبق أن قلنا :إن نداء ال أكبر يعني :أن لقاء ال أكبر من أي شيء يشغلك مهما رأيته كبيرا؛
سعْي في مناكب الرض مطلوبا،
لنه سبحانه واهب البركة ،وواهب الطاقة ،وإنْ كان العمل وال ّ
لكن الصلة في وقتها َأوْلَى.
وحين نتأمل أطول الوقات بين كل صلتين نجد أنها من الصبح حتى الظهر ،وهو الوقت
المناسب للعمل ،ومن العشاء حتى الصبح ،وهو الوقت المناسب للنوم ،وهكذا تُنظّم لنا الصلة
حياتنا ،فمِنْ صلة الصبح إلى صلة الظهر سبع ساعات هي ساعات العمل.
لو أن المة السلمية تمسّكتْ بشرعها ومنهج ربها ،وبعد هذه الساعات السبع التي تقضيها في
عملك ،أنت حر بعد صلة الظهر ،أمّا التخصيص الذي طرأ على حركة الحياة فقد اقتضى أنْ
يأتي صلة الظهر بل والعصر والناس ما يزالون في أعمالهم.
أما الذين يُؤخرون الصلة عن وقتها بحجة امتداد الوقت بين الصلتين ،نعم الوقت ممتدّ ،لكن ل
يجوز لك تأخير الصلة ،ولبيان هذه المسألة نقولَ :هبْ أن غنيا مستطيعٌ للحج ،ولم يحج متى
يأثم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يأثم إذا ما غَرّه طول المل ،ثم عاجله الموت قبل أنْ يحجّ ،فإنْ أمهله العمر حتى يحج ،فقد سقط
ن يضمن له البقاء إلى أنْ يؤدي هذه الفريضة.
عنه هذا الفرض ،لكن مَ ْ
لذلك ورد في الحديث " :حُجّوا قبل ألّ تَحجّوا ".
كذلك الحال في وقت الصلة ،فهو ممتد ،لكن مَنْ يضمن لك امتداده؛ لذلك تارك الصلة يأثم في
آخر لحظة من حياته ،فإنْ ظلّ إلى أنْ يصلي فل شيء عليه.
إذن :ل تتعلّل بطول الوقت؛ لن طول الوقت جعله ال لحكمه ،ل لنأخذه ذريعة لتأخير الصلة
جعِل للنائم كي يستيقظ ،أو للناسي كي يتذكّر.
عن وقتها ،طول الوقت بين الصلوات ُ
ثم يقول سبحانه } وَهُم بِالخِ َرةِ ُهمْ يُوقِنُونَ { [النمل.]3 :
ت أمر المؤمن كله ،بداية من العقيدة واليمان بال ،ثم الصلة ،فالزكاة وهما المطلبان
فالية جمع ْ
ن يؤمن بالخرة وبالجزاء والمرجع والمصير.
العمليان بين إيمانين :اليمان الول بال ،والخر أ ْ
وقوله } يُوقِنُونَ { [النمل ]3 :اليقان :الحكم بثبات الشيء بدون توهّم شكّ؛ لذلك قلنا :إن العلم أنْ
تعرف قضية واقعة وتقول ،إنها صدق وتُدلّل عليها.
وقلنا :إن اليقين درجات؛ علم اليقين ،وعين اليقين ،وحقّ اليقين ،فمثلً حين أقول لك :إنني رأيتُ
ي ول تكذبني ،فهذا علم يقين ،فإنْ رأيته ،فهذا
في أحد البلد أصبع الموز نصف متر ،وأن تثق ف ّ
عَيْن اليقين ،فإن أخذته وذهبتَ تقطعه مثلً ،وتوزعه على الحاضرين فهذا حقّ اليقين .وهذه
الدرجة ل يمكن أن يتسرّب إليها شكّ.
لذلك لما " سأل النبي صلى ال عليه وسلم الصحابي الحارث بن مالك النصاري " :كيف أصبحتَ
حقّ حقيقة ،فما حقيقة إيمانك؟ " قال :عز َفتْ نفسي
"؟ قال :أصبحتُ بال مؤمنا حقا ،قال " فإنّ لكل َ
عن الدنيا ،فاستوى عندي ذهبها ومدرها ،كأنّي أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعّمون ،وإلى أهل
النار في النار يُعذّبون ،فقال له النبي صلى ال عليه وسلم " :عرفت فالزم ".
والمام على ـ رضي ال عنه ـ يعطينا صفة اليقين في قوله :لو كُشِف عني الحجاب ما ازددتُ
يقينا؛ لني صدقت بما قال ال ،وليست عيني أصدق عندي من ال.
صحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل ]1 :مع أن
ومن هذا اليقين ما ذكرنا في قوله تعالىَ {:ألَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأ ْ
النبي صلى ال عليه وسلم وُلِد في هذا العام ،فلم يَرَ هذه الحادثة ،فالمعنى :ألم تعلم ،وعدل عن
(تعلم) إلى (ترى) ليقول النبي صلى ال عليه وسلم أن إخبار ال لك أقوى صِدْقا من رؤية عينيك.
()3090 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هؤلء في مقابل الذين آمنوا وأقاموا الصلة وآتوا الزكاة؛ لن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعرض
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ
الشيء ومقابله لنُجري نحن مقارنة بين المتقابلت ،وفي هؤلء يقول تعالى { :إِنّ الّذِي َ
بِالخِ َرةِ } [النمل.]4 :
ل ل يؤمنون بال ،ول بالبعث
ولم يَ ْنفِ عنهم إقامة الصلة أو إيتاء الزكاة ،لماذا؟ لنهم أص ً
والحساب ،ولو علموا أنهم سيرجعون إلى ال لمنوا به ،ولَقدّموا العمل الصالح.
عمَاَلهُمْ } [النمل ]4 :أن الذين ل يؤمنون بال ،ول يؤمنون بالخرة ،ول يُؤدّون
ومعنى { زَيّنّا َلهُمْ أَ ْ
مطلوبات اليمان ل عُذْرَ لهم؛ لننا حينما عرضنا اليمان ومطلوباته عرضناه عَرْضا جيدا
مُستميلً مُشوّقا وزيّناه لكم.
فالصلة لقاء بينك وبين ربك يعبر عن دوام الولء ،ويعطيك شحنة إيمانية ،والزكاة تُؤمّنك حين
ل بك الفقر ،ولما نهيناك عن الكذب
حّضعفك وعدم قدرتك ،فنأخذ منك وأنت غني لنعطيك إنْ َ
نهينا الناس جميعا أن يكذبوا عليك ،ولما حذّرناك من الرشوة قلنا للخرين :ل تأكلوا ماله دون
وَجْه حقّ..إلخ.
وهكذا شرحنا التكاليف وبيّنا الحكمة منها ،وحبّبناها إليكم.
أو :يكون المعنى :زيّنّا لهم أعمالهم التي يعملونها ،فلما عَلم ال عشْقهم للضلل وللنحراف ختم
عمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنا }[فاطر.]8 :
على قلوبهم ،يقول تعالىَ {:أ َفمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ َ
عمَاَلهُمْ }[النحل ]63 :فالتزيين يأتي مرة من
لكن مَنِ الذي زيّن لهم {:فَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ
الشيطان ،ومرة مجهول الفاعل ،ومرة زيّن ال لهم.
لهُ زِينَةً
ن َومَ َ
عوْ َ
ومن تزيين ال قوله تعالى في شأن فرعونَ {:وقَالَ مُوسَىا رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ
وََأمْوَالً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِ ُيضِلّواْ عَن سَبِيِلكَ }[يونس ]88 :فلما أعطاهم ال النعمة فُتِنوا بها.
وإبليس خلقه ال ،وجعل له ذرية تتسلّط على الناس ،و ُتغْويهم ،وما ذلك إل للختبار ليرى مَنْ
سيقف على هذه البواب ،إذن :الحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يجعل حواجز عن المعصية ،وجعل
لكم دوافع على الطاعة ،فالمسألة منك أنتَ ،فإنْ رأيتُك مِ ْلتَ إلى شيء وأحببته أعنْ ُتكَ عليه.
والذي يموت له عزيز ،أو المرأة التي يموت ولدها ،فتظل حزينة عليه تُكدّر حياتها وحياة مَنْ
حولها ـ ويا ليت هذا يفيد أو يُعيد الميت ـ ونقول لمن يستقبل قضاء ال بهذا السّخْط :إن ربك
حين يعلم أنك أَِل ْفتَ الحزن وعشقْته وهو رب ،فل بُدّ أن يعطيك مطلوبك ،ويفتح عَليك كل يوم بابا
من أبوابه.
إذن :ينبغي على مَنْ يتعرّض لمثل هذا البلء أنْ يستقبله بالرضا ،وإنْ يغلق باب الحزن ،ول
يتركه مواربا.
ومن التزيين قوله سبحانه {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ َلهُ فِي حَرْثِهِ َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى.]20 :
ومعنى { َي ْع َمهُونَ } [النمل ]4 :يتحيرون ويضطربون ،ل يعرفون أين يذهبون؟
()3091 /
أُولَ ِئكَ الّذِينَ َل ُهمْ سُوءُ ا ْل َعذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِ َرةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ()5
أي :العذاب السيء ،وهذا في الخرة ،فبالضافة إلى ما حدث لهم من تقتيل في بدر ،وهزيمة
كسرتْ شوكتهم فلم ينته المر عند هذا الحد ،إنما هناك خسارة أخرى في الخرة { وَهُمْ فِي
الخِ َرةِ ُه ُم الَخْسَرُونَ } [النمل.]5 :
والخسر مبالغة في الخسران ،فلم َيقُلْ :خاسر إنما أخسر؛ لنه خسر النعيم؛ لنه لم يُقدّم صالحا
في الدنيا ،وليته ظل بل نعيم وتُ ِركَ في حاله ،إنما يأتيه العذاب الذي يسوؤه؛ لذلك قال تعالى { ُهمُ
الَخْسَرُونَ } [النمل ]5 :لنهم لم يدخلوا الجنة ،وهذه خسارة ،ثم هم في النار ،وهذه خسارة
أخرى.
()3092 /
يعني :هذه المسائل والقضايا إنما تأتيك من ال الحكيم الذي يضع الشيء في نصابه وفي محله،
فإنْ أثاب المحسن أو عاقب المسيء ،فكلّ من محلّه ،وهو سبحانه العليم بما يضع من الجزاءات
على الحسنة وعلى السيئة.
ويقصّ علينا الحق سبحانه قصة موسى عليه السلم { :إِذْ قَالَ مُوسَىا لَهْلِهِ }
()3093 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عهْد بذكر طرف من قصة موسى ـ عليه السلم ـ في سورة الشعراء ،وهنا يعود
ما زِلْنا قريبي َ
السياق إليه مرة أخرى ،لماذا؟ لن دعوة موسى ـ عليه السلم ـ أخذت حيّزا كبيرا من القرآن
الكريم ،ذلك لنهم أتبعوا أنبياءهم وعاندوهم حتى كَثّر الكلم عنهم.
وعجيب أنهم يفخرون بكثرة أنبيائهم ،وهم ل يعلمون أنها تُحسب عليهم ل لهم ،فالنبي ل يأتي إل
عند شقْوة أصحابه ،وبنوا إسرائيل كانوا من الضلل والعناد بحيث لَ يكفيهم رسول واحد ،بل
يلزمهم (كونسلتو) من النبياء ،فهم يعتبرونها مفخرة ،وهي مَنْقصة ومذمّة.
أما تكرار قصة بني إسرائيل وموسى ـ عليه السلم ـ كثيرا في القرآن ،فلن القرآن ل يروي
(حدوتة) و ،ل يذكر أحداثا للتأريخ لها ،إنما يأتي من القصة بما يناسب موطن العبرة والتثبيت
سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ }[هود.]120 :
لفؤاد رسول الَ {:وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
لن رسول ال صلى ال عليه وسلم تعرّض في رحلة الدعوة لكثير من المصاعب والمشاقّ،
ويحتاج لتسلية وتثبيت ،فيأتي له ربّه بلقطة معينة ،ولكن ل يُورد القصة كاملة ،وهذا ليس عَجْزا
ـ وحاشا ل ـ عن إيراد القصة كاملة مرة واحدة.
وقد أورد سبحانه قصة يوسف ـ عليه السلم ـ كاملة من اللف إلى الياء في صورة قصة
محبوكة على أتمّ ما يكون الفن القصصي ،ومع ذلك لم يأتِ لسيدنا يوسف عليه السلم ِذكْر ـ في
غير هذه القصة ـ إل في موضعين:
سفَ }[النعام.]84 :
ن وَأَيّوبَ وَيُو ُ
أحدهما :في سورة النعامَ {:ومِن ذُرّيّتِهِ دَاوُو َد وَسُلَ ْيمَا َ
شكّ ّممّا جَآ َءكُـمْ بِهِ
سفُ مِن قَ ْبلُ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا زِلْ ُتمْ فِي َ
والخر في سورة غافر {:وََلقَدْ جَآ َءكُـمْ يُو ُ
حَتّىا ِإذَا هََلكَ قُلْ ُتمْ لَن يَ ْب َعثَ اللّهُ مِن َبعْ ِدهِ رَسُولً }[غافر.]34 :
عجْزا عن إيرادها مُسْتوفاة كاملة في سياق
إذن :ورود القصة في لقطات مختلفة متفرقة ليس َ
واحد ،ولو فعل ذلك لكان التثبيت مرة واحدة.
ستُ نَارا } [النمل ،]7 :وفي موضع آخر
وهنا يقول الحق سبحانه { :إِذْ قَالَ مُوسَىا لَهْلِهِ إِنّي آنَ ْ
ستُ نَارا }[القصص ]29 :وفي هذه الية إضافة جديدة ليست في
ل لَهْلِهِ ا ْمكُثُواْ إِنّي آنَ ْ
يقول {:قَا َ
الولى.
ل وَسَارَ بَِأهْلِهِ آنَسَ مِن جَا ِنبِ الطّورِ نَارا }[القصص:
جَأما قوله تعالى {:فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ
]29أي :آنس في ذاته ،أمّا في اليتين السابقتين فيخبر بأنه آنسَ نارا ،إذن :كل آية في موقف،
وليس في المر تكرار ،كما يتوهمّ البعض.
فموسى ـ عليه السلم ـ يسير بأهله في هذا الطريق الوَعْر ويحلّ عليه الظلم ،ول يكاد يرى
ستُ نَارا } [النمل ]7 :يعني :سأذهب لقتبسَ منها ،ليهتدوا بها،
الطريق فيقول لزوجته { :إِنّي آ َن ْ
أو ليستدفئوا بها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وطبيعي أنْ تعارضه زوجته :كيف تتركني في هذا المكان المُوحِش وحدي ،فيقول لها{ ا ْمكُثُواْ إِنّي
ستُ نَارا }[القصص ]29 :يعني :أبقىْ هنا مستريحة ،وأنا الذي سأذهب ،فلربما تعرّضت
آنَ ْ
لمخاطر فكُوني أنت بعيدا عنها ،إذن :هي مواقف جديدة استدعاها الحال ،ليست تكرارا.
كذلك نجد اختلفا طبيعيا في قولهّ {:لعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا بِخَبَرٍ }[القصص ]29 :وقوله } سَآتِي ُكمْ مّ ْنهَا
بِخَبَرٍ { [النمل.]7 :
فالولى{ ّلعَلّي }[القصص ]29 :فيها رجاء؛ لنه مُقبل على شيء يشكّ فيه ،وغير متأكد منه ،وهو
في هذه الحالة صادق مع خواطر نفسه أمام شيء غائب عنه ،فلما تأكد قال } سَآتِيكُمْ { [النمل]7 :
على وجه اليقين.
ج ْذ َوةٍ }[القصص ]29 :وهنا قال } :سَآتِي ُكمْ
وفي هذه المسألة قال مرةّ {:لعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا ِبخَبَرٍ َأوْ َ
شهَابٍ قَبَسٍ ّلعَّلكُمْ َتصْطَلُونَ { [النمل.]7 :
مّ ْنهَا بِخَبَرٍ َأوْ آتِيكُمْ بِ ِ
ذلك لنه ل يدري حينما يصل إلى النار ،أيجدها مشتعلة لها لسان يقتبس من شعلة ،أم يجدها قد
هدأتْ ولم يَبْقَ منها إل جذوة ،وهي القطعة المتوهجة مثل الفحم مثلً ،فكلّ تكرار هنا له موضع،
وله معنى ،ويضيف شيئا جديدا إلى سياق القصة ،فهو تكامل في اللقطات تأتي متفرقة حَسْب
المراد من العبرة والتثبيت.
ومعنى } لَهِْلهِ { [النمل ]7 :قالوا :إنها تعني جماعة بدليل قوله لهم{ ا ْمكُثُواْ }[القصص]29 :
فكانت زوجته ،ومعه أيضا بعض الرّعْيان أو الخدم .والنسان منا يحتاج لشياء كثيرة تقتضي
التعدّد :فهذا يطبخ الطعام ،وهذا للنظافة ،وهذا ِل َكيّ الملبس ..إلخ.
لكن هناك شيء واحد ل يستطيع أحد أنْ يقضيَه لك إل زوجتك ،هي النسْل والمعاشرة الزوجية،
كما يمكن للزوجة وحدها أن تقوم لك بكل هذه العمال ،إذن :فهي ُتغْني عن الهل كلهم،
ونستطيع أن نقول :إنه لم يكُنْ معه إل زوجته.
وهذه شائعة في لغتنا :يقول الرجل :الجماعة أو جماعتي أو أهلي ويقصد زوجته ،وفي هذا تقدير
من الزوج لمكانة زوجته.
ستُ { [النمل ]7 :آنس :يعني شعر وأحسّ بشيء يُؤنسه ويُطمئنه ،وضده التوجس :أي
ومعنى } آنَ ْ
سهِ خِيفَةً مّوسَىا
جسَ فِي َنفْ ِ
شعر وأحسّ بشيء يخيفه ،ومنه قوله تعالى في شأن موسى أيضا {:فََأوْ َ
ت الَعْلَىا }[طه67 :ـ .]68
خفْ إِ ّنكَ أَن َ
* قُلْنَا لَ تَ َ
()3094 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :جاء النار فـ { نُو ِديَ } [النمل ]8 :النداء :طلب إقبال ،كما تقول :يا فلن ،فيأتيك فتقول له ما
تريد .فالنداء مثلً في قوله تعالى {:يامُوسَىا }[طه ]11 :نداء{ إِنّنِي أَنَا اللّهُ }[طه ]14 :خطاب
وإخبار.
حوَْلهَا } [النمل ]8 :ولم ي ُقلْ :يا موسى فليس
لكن ما معنى { نُو ِديَ أَن بُو ِركَ مَن فِي النّا ِر َومَنْ َ
هنا نداء ،قالوا :مجرد الخطاب هنا يُراد به النداء؛ لنه ما دام يخاطبه فكأنه يناديه ،ومثال ذلك
ل وَجَدتّم مّا
حقّا َفهَ ْ
جدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا َ
قوله سبحانه {:وَنَادَى َأصْحَابُ الْجَنّةِ َأصْحَابَ النّارِ أَن قَ ْد وَ َ
حقّا }[العراف.]44 :
وَعَدَ رَ ّبكُمْ َ
فذكر الخطاب مباشرة دون نداء؛ لن النداء هنا مُقدّر معلوم من سياق الكلم ،ومنه أيضا{:
ج ْم ُعكُمْ َومَا كُنْتُمْ
ب الَعْرَافِ ِرجَالً َيعْ ِرفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَىا عَنكُمْ َ
وَنَادَىا َأصْحَا ُ
تَسْ َتكْبِرُونَ }[العراف.]48 :
ومنه أيضا {:فَنَادَاهَا مِن تَحْ ِتهَآ َألّ َتحْزَنِي }[مريم ]24 :فجعل الخطاب نفسه هو النداء.
حوَْلهَا } [النمل ]8 :كلمة بُورِك ل تناسب النار؛ لن النار
وقوله { :أَن بُو ِركَ مَن فِي النّا ِر َومَنْ َ
خلْق ل يُحرق ،ول
تحرق ،وما دام قال { بُو ِركَ مَن فِي النّارِ } [النمل ]8 :فل ُبدّ أن مَنْ في النار َ
تؤثر فيه النار ،فمَنْ هم الذين ل تؤثر فيهم النار ،هم الملئكة.
وقد رأى موسى عليه السلم ـ مشهدا عجيبا ،رأى النار تشتعل في فرع من الشجرة ،فالنار
خضْرة ،فلن النار تحرق الخضرة ول رطوبة الخضرة ومائيتها تطفىء
تزداد ،والفرع يزداد ُ
النار ،فمَنْ يقدر على هذه المسألة؟ لذلك قال بعدها { :وَسُبْحَانَ اللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [النمل.]8 :
ن تقول :كيف ،بل نزّه ال عن تصرفاتك أنت ،فهذا عجيب ل يُتصوّر
ففي مثل هذا الموقف إياك أ ْ
بالنسبة لك ،أمّا عند ال فأمر يسير.
وقد رأينا مثل هذه المعجزة في قصة إبراهيم ـ عليه السلم ـ حين نجّاه ربه من النار ،ولم يكُنْ
المقصود من هذه الحادثة نجاة إبراهيم فقط ،فلو أن ال أراد نجاته فحسب َلمَا أمكنهم منه ،أو
لطفأ النار التي أوقدوها بسحابة ممطرة ،أسباب كثيرة كانت مُمكِنة لنجاة سيدنا إبراهيم.
لكن ال تعالى أرادهم أنْ يُمسِكوا به ،وأنْ ُيلْقوه في النار ،وهي على حال اشتعالها وتوهّجها ،ثم
يُلْقونه في النار بأنفسهم ،وهم يروْنَ هذا كله عَيَانا ،ثم ل تؤذيه النار ،كأنه يقول لهم :أنا أريد أن
أنجيه من النار ،رغم قوة أسبابكم في إحراقه ،فأنا خالق النار ومعطيها خاصية الحراق ،وهي
مُؤتمرةٌ بأمري أقول لها :كُونِي بَرْدا وسلما تكون ،فالمسألة ليست ناموسا وقاعدة تحكم الكون،
إنمَا هي قيوميتي على خَلْقي.
إذن :ما رآه موسى ـ عليه السلم ـ من النار التي تشتعل في خضرة الشجرة أمر عجيب
عندكم ،وليس عجيبا عند مَنْ له طلقة القدرة التي تخرق النواميس.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبناء الفعل { بُو ِركَ } [النمل ]8 :للمجهول تعني :أن ال تعالى هو الذي يبارك ،فهذه مسألة ل
حوَْلهَا } [النمل ]8 :يجوز أن يكون الملئكة ،أو :بُورِكت
يقدر عليها إل ال { مَن فِي النّا ِر َومَنْ َ
الشجرة ذاتها لنها ل تُحرق ،أو النار لنها ل تنطفىء فهي مُباركة.
وفي موضع آخر يُوسّع دائرة البركة ،فيقول سبحانه {:فِي الْ ُبقْعَةِ ا ْلمُبَا َركَةِ مِنَ الشّجَ َرةِ }[القصص:
.]30
ثم يخاطب الحق سبحانه موسى { :يامُوسَىا إِنّهُ أَنَا اللّهُ }
()3095 /
حكِيمُ ()9
يَا مُوسَى إِنّهُ أَنَا اللّهُ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
جاء هنا النداء على حقيقته بأداة ومنادى { إِنّهُ أَنَا اللّهُ } [النمل ]9 :هذا هو الصل ،وما ُد ْمتُ أن
ال فل تتعجّب مما ترى ،وساعةَ تسمع مَنْ يكلّمك دون أن ترى متكلما من جنسك ،فل تتعجب
ول تندهش.
()3096 /
ونلحظ أن هنا تفاصيلَ وأحداث لم تذكرها الية هنا ،و ُذكِرَت في موضع آخر في قوله تعالى{:
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي وَلِيَ فِيهَا مَآ ِربُ
َومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا * قَالَ ِهيَ َ
أُخْرَىا }[طه17 :ـ .]18
والدب يقتضي أن يأتي الجواب على َقدْر السؤال ،لكن موسى ـ عليه السلم ـ أراد أنْ يطيل
أمد الُنْس بال والبقاء في حضرته تعالى ،ولما أحسّ موسى أنه أطال في هذا المقام أجمل ،فقال{:
وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا }[طه ]18 :فللعصا مهام أخرى كثيرة في حياته.
عصَاكَ } [النمل ]10 :يعني :إنْ كانت العصا بالنسبة لك بهذه
وهنا يقول سبحانه { :وَأَلْقِ َ
البساطة ،وهذه مهمتها عندك فلها عندي مهمة أخرى ،فانظر إلى مهمتها عندي ،وإلى ما ل تعرفه
عنها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عصَاكَ } [النمل ]10 :فلمّا ألقى موسى عصاه وجدها { َتهْتَزّ كَأَ ّنهَا جَآنّ } [النمل]10 :
{ وَأَ ْلقِ َ
يعني :حية تسعى وتتحرك ،والعجيب أنها لم تتحول إلى شيء من جنسها ،فالعصا عود من
خشب ،كان فرعا في شجرة ،فجنسه النبات ولما قُطعت وج ّفتْ صارت جمادا ،فلو عادت إلى
النباتية يعني :إلى الجنس القريب منها واخضرتْ لكانت عجيبة.
أمّا الحق ـ تبارك وتعالى ـ فقد نقلها إلى جنس آخر إلى الحيوانية ،وهذه قفزة كبيرة تدعو إلى
الدهشة بل والخوف ،خاصة وهي { َتهْتَزّ كَأَ ّنهَا جَآنّ } [النمل ]10 :أي :تتحرك حركة سريعة هنا
وهناك.
وطبيعي في نفسية موسى حين يرى العصا التي في يده على هذه الصورة أنْ يخاف ويضطرب{
ت الَعْلَىا }[طه67 :ـ .]68
خفْ إِ ّنكَ أَن َ
فََأوْجَسَ فِي َنفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىا * قُلْنَا لَ تَ َ
ومعنى {:الَعْلَىا }[طه ]68 :إشارة إلى أنه تعالى يُعده لمهمة كبرى ،وأن لهذه العصا دورا من
الخصوم ،وسوف ينتصر عليهم ،ويكون هو العلى.
وحين تتتبع اللقطات المختلفة لهذه القصة تجدها مرة (جان) ومرة (حية) ومرة (ثعبان) ،وهي كلها
حالت للشيء الواحد ،فالجان فَرْخ الثعبان ،وله مِن خفة الحركة ما ليس للثعبان ،والحية هي
الثعبان الضخم.
وقوله تعالى { وَلّىا مُدْبِرا } [النمل ]10 :يعني :انصرف عنها وأعطاها ظهره { وَلَمْ ُي َع ّقبْ }
عقِبه ويرجع ،والمعنى أنه انصرف عنها ولم
[النمل ]10 :نقول :فلن يُعقّب يعني :يدور على َ
خفْ إِنّي لَ يَخَافُ َل َديّ ا ْلمُرْسَلُونَ }
يرجع إليها؛ لذلك ناداه ربه سبحانه وتعالى { :يامُوسَىا لَ َت َ
[النمل.]10 :
ونلحظ هنا نداءين اثنين يذكر فيهما ،المنادى موسى ـ عليه السلم ـ وكأنهما تعويض للنداء
حوَْلهَا }[النمل.]8 :
السابق الذي نُودِي فيه بالخبر{ أَن بُو ِركَ مَن فِي النّا ِر َومَنْ َ
خفْ } [النمل ]10 :ليعلمه أنه سيُضطر إلى معركة ،فليكُنْ ثابتَ الجأْش ل
وعلّة عدم الخوف { لَ َت َ
جمِعوا من كل أنحاء البلد ،وسبق
يخاف لنّه ل يحارب شخصا بمفرده ،إنما جمعا من السّحرة ُ
أنْ قال له:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أخاطبك؟
وكان إلقاء العصا من موسى هذه المرة مجرد تجربة (بروفة) ليألف هذه المسألة ويأنس إليها،
وتحدث له دُرْبة ورياضة ،فإذا ما أجرى هذه العملية أمام فرعون والسحرة أجراها بثقة وثبات
ويقين من إمكانية انقلب العصا إلى حية.
وبعد ذلك يأتي بآية تثبيت منطقة التكليف في البشر حتى الرسل ،والرسل أيضا مُكلّفون ،وكل
ل معصومون من المعصية ،أما موسى عليه السلم
مُكلّف يصح أن يطيع أو أن يعصي ،لكن الرس َ
فله حادثة مخصوصة حين وكَز الرجل فسقط ميتا ،فقال {:وََلهُمْ عََليّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن َيقْتُلُونِ }
[الشعراء.]14 :
وفي موضع آخر يُحدّد هذا الذنب {:قَتَ ْلتُ مِ ْنهُمْ َنفْسا فَأَخَافُ أَن َيقْتُلُونِ }[القصص.]33 :
ونضع هذه القصة أمامنا لنفهمِ } :إلّ مَن ظَلَمَ {
()3097 /
إذن :فالستثناء هنا من قوله تعالى {:إِنّي لَ يَخَافُ َل َديّ ا ْلمُرْسَلُونَ }[النمل ]10 :استثنى من ذلك {
ِإلّ مَن ظََلمَ ثُمّ َب ّدلَ حُسْنا َبعْدَ سُوءٍ } [النمل.]11 :
ظلَمَ } [النمل:
وكأنه ـ عز وجل ـ يُعرّض بهذه الحادثة الخاصة بموسى عليه السلمِ { :إلّ مَن َ
]11أي :حين قتَل القبطي ،لكن موسى ـ عليه السلم ـ اعترف بذنبه واستغفر ربه ،فقالَ {:ربّ
غفِرْ لِي َف َغفَرَ َلهُ }[القصص.]16 :
إِنّي ظََل ْمتُ َنفْسِي فَا ْ
ول كل َم لحد بعد مغفرة ال عز وجل للمذنب؛ لنه بعد أنْ ظلم { ثُمّ َب ّدلَ حُسْنا َبعْدَ سُوءٍ }
غفُورٌ رّحِيمٌ } [النمل.]11 :
[النمل ]11 :يعني :عمل عملً حسنا بعد الذنب الذي ارتكبه { فَإِنّي َ
خلْ يَ َدكَ فِي جَيْ ِبكَ }
ثم يقول الحق سبحانه { :وََأدْ ِ
()3098 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه آية أخرى ومعجزة جديدة ،قال عنها في موضع آخر {:اسُْلكْ َي َدكَ فِي جَيْ ِبكَ }[القصص.]32 :
فما الفرق بينَ :أدْخِل يدك ،واسْلُك يدك؟ قالوا :لنه ساعة يُدخِل يده في جيبه يعني :في فتحة
القميص ،إنْ كانت فتحة القميص مفتوحة أدخل يده بسهولة فيُسمّى (إدخال).
فإن كانت مغلقة (فيها أزرار مثلً) احتاج أنْ يسلك يده يعني :يُدخلها برفق ويُوسّع لها مكانا،
نقول :سلك الشيء يعني :أدخله بلُطْف و ِرفْق ،ومنه السلك الرفيع حين تُدخِله في شيء.
وساعةَ نسمع كلمة الجيب نجد أن لها معنىً عرفيا بين الناس ،ومعنى لُغويا :فمعناها في اللغة
فتحة القميص العليا ،والتي تكون للرقبة ،وهي في المعنى العُرْفي فتحة بداخل الثوب يضع فيها
حفْظ نقودهم داخل
عذْر في ذلك؛ لنهم اضطروا إلى ِ
النسان نقوده ،يقولون (جيب) والعوام لهم ُ
الثياب ،حتى ل تكون ظاهرة ،وربما سرقها منهم النشالون والشقياء.
ول يزال الفلحون في الريف يجعلون الجيب في (السديري) الداخلي؛ لذلك سمعنا الحاوي مثلً
يقول ـ ليُحنّن الناس عليه ـ بارك ال فيمَنْ يضع يده في جيبه ـ يعني :بارك ال في الذي
يعطيني جنيها.
وقوله تعالى { تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [النمل ]12 :أي :وأخرجها تخرج بيضاء ناصعة
مُنوّرة ،ومعلوم أن موسى ـ عليه السلم ـ كان آد َم اللون يعني :أسمر ،فحين يروْنَ لونه تغيّر
إلى البياض ،فربما قالوا :إن ذلك مرضٌ كالبرص مثلً.
لذلك أزال ال هذا الظنّ بقوله { :مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [النمل ]12 :من غير مرض { فِي ِتسْعِ آيَاتٍ
عوْنَ َوقَ ْومِهِ } [النمل ]12 :ليعلم موسى ـ عليه السلم ـ أن هذه الية واحدة من تسع
إِلَىا فِرْ َ
آيات أخرى يُثبّته ال بها أمام عدوه فرعون وقومه.
وهذه التسع هي :العصا ولها مهمتان :أن تتحول إلى حية أمام السحرة ،وأنْ يضرب بها البحر
أمام جيشه ،حينما يهاجمه فرعون وجنوده.
خذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِينَ
ثم اليد ،واثنتان هما الجدب ،ونقص الثمرات في قوله تعالى {:وََلقَدْ أَ َ
وَنَ ْقصٍ مّن ال ّثمَرَاتِ }[العراف.]130 :
ثم :الطوفان ،والجراد ،وال ُقمّل ،والضفادع ،والدّم .هذه تسع آيات .تُثبّت موسى أمام فرعون
وقومه .فهل أُرسل موسى ـ عليه السلم ـ إلى فرعون خاصة؟ ل ،إنما أُرسِل إلى بني إسرائيل،
لكنه أراد أنْ يُقنع فرعون بأنه مُرْسَل من عند ال حتى ل يحول بينه وبينهم ،وجاءت مسألة دعوة
فرعون إلى اليمان بال عَرَضا في أحداث القصة ،فليست هي أساسَ دعوة موسى عليه السلم.
سقِينَ } [النمل ]12 :إشارةً إلى أن النسان وإنْ كان كافرا خارجا عن
ومعنى { إِ ّن ُهمْ كَانُواْ َقوْما فَا ِ
طاعة ال إل أنّ أصله من أصلب مؤمنة ،والمراد اليمان الول في آدم عليه السلم ،وفي ذريته
من بعده ،لكنهم فسقوا أي :خرجوا من غشاء التكليف الذي يُغلّف حركة حياتهم ،كما نقول :فسقت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرطبة :يعني خرجت من غلفها ،كذلك َفسَق النسان أي :خرج عن حيّز التكليف الصائن له.
ثم يقول الحق سبحانه { :فََلمّا جَآءَ ْت ُهمْ آيَاتُنَا }
()3099 /
اليات :المعجزات التي تُثبت صِدْق الرسول ،واليات تكون مُ ْبصَرة بصيغة اسم المفعول ،لكن
كيف تكون هي المبصرة بصيغة اسم الفاعل ،وهذه المسألة عرفناها أخيرا ،فكانوا منذ القدم عند
اليونان والحضارات القديمة يظنون أن رؤية العين للشياء تحدث من شعاع يخرج من العين إلى
الشيء المرئي ،إلى أن جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم ليثبت خطأ هذه النظرية ويقول بعكسها.
فالرؤية تتم بخروج شعاع من الشيء المرئيّ إلى العين ،بدليل أننا ل نرى الشيء إنْ كان في
الظلم ،وأنت في النور ،فإنْ كان الشيء في النور وأنت في الظلم تراه.
إذن :فكأن اليات نفسها هي المبصِرة؛ لنها هي التي ترسل الشعة التي تسبب الرؤية .أو :أن
اليات من الوضوح كأنها ُتلِحّ على الناس أنْ يروْا وأنْ يتأملوا ،فكأنها أبصرُ منهم للحقائق.
حدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَتْهَآ }
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وجَ َ
()3100 /
سدِينَ ()14
سهُمْ ظُ ْلمًا وَعُُلوّا فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْلمُفْ ِ
حدُوا ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَا أَ ْنفُ ُ
وَجَ َ
سهُمْ } [النمل:
جحَدُواْ } [النمل ]14 :أي :باللسان { ِبهَا } [النمل ]14 :باليات { وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
{ وَ َ
]14أي :إيمانا بها ،إذن :المسألة عناد ولَدَد في الخصومة؛ لذلك قال تعالى بعدها { ظُلْما وَعُُلوّا }
سدِينَ } [النمل ]14 :وترْك
[النمل ]14 :أي :استكبارا عن الحق { فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمفْ ِ
عاقبتهم مبهمة لتعظيم شأنها وتهويلها.
ثم يترك قصة موسى مع فرعون وما كان من أمرهما لمناسبة أخرى تحتاج إلى تثبيت آخر،
وينتقل إلى قصة أخرى في موكب النبياء ،فيها هي الخرى مواطن للعِبْرة وللتثبيت { :وََلقَدْ آتَيْنَا
دَاوُو َد وَسُلَ ْيمَانَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3101 /
حمْدُ لِلّهِ الّذِي َفضّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ()15
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَ ْيمَانَ عِ ْلمًا َوقَالَا الْ َ
وتسأل :لقد أعطى ال داود وسليمان ـ عليهما السلم ـ ِنعَما كثيرة غير العلم َ ،ألَن لداود
الحديد ،وأعطى سليمان مُلْكا ل ينبغي لحد من بعده ،وسخّر له الريح والجن ،وعلّمه منطق
الطير ..إلخ ومع ذلك لم يمتنّ عليهما إل بالعلم وهو منهج الدين؟
قالوا :لن العلم هو النعمة الحقيقية التي يجب أن يفرح بها المؤمن ،ل الملْك ول المال ،ول الدنيا
كلها ،فلم يُعتد بشيء من هذا كله؛ لذلك حمد ال على أن آتاه ال العلم؛ لنه النعمة التي يحتاج
إليها كل الخَلْق ،أما المُلْك أو الجاه أو تسخير الكون لخدمته ،فيمكن للنسان الستغناء عنها.
والمام علي ـ كرم ال وجهه ـ حينما ُنفِى أبو ذر؛ لنه كان يتكلم عن المال وخطره والبنية
ومسائل الدنيا ،فَ َن َفوْه إلى الربذة حتى ل يثير فتنة ،لكنه قبل أن يذهب مرّ بالمام علي كي يتوسط
له ليعفوا عنه ،لكن المام عليا ـ رضي ال عنه ـ أراد ألّ يتدخل في هذه المسألة حتى ل يقال:
إن عليا سلّط أبا ذر على معارضة أهل الدنيا ومهاجمتهم ،فقال له :يا أبا ذر إنك قد غضبتَ ل
خفْتهم أنت على دينك فاهرب بما
ن غضبتَ له ،فإن القوم خافوك على دُنْياهم ومُلكهم ،و ِ
فارْجُ مَ ْ
خفْتَهم عليه ـ يعني :اهرب بدينك ـ واترك ما خافوك عليه ،فما أحوجهم إلى ما منعتهم ،وما
ِ
عمّا منعوك.
أغناك َ
هكذا أزال المام هذه الشكال ،وأظهر أهمية العلم ومنهج ال بحيث ل يستغني عنه المسلم بحال
من الحوال ،ول يعيش بدونه ،وبه ينال حياة أخرى رفعية باقية ،في حين يستطيع النسان أن
يعيش بدون المال وبدون الملك.
ولذلك يبعث خيلفة المسلمين إلى سيدنا جعفر الصادق :يا ابن بنت محمد صلى ال عليه وسلم ما
لك ل تغشانا كما يغشانا الناس؟ أي :تأتينا وتجالسنا وتسمر معنا ،فقال :ليس عندي من الدنيا ما
أخافك عليه ـ يعني :ليس عندي مال تصادره ـ وليس عندك من الخرة ما أرجوك له .وهذا
نفس المنطق الذي تكلم به المام علي.
حمْدُ لِلّهِ الّذِي َفضّلَنَا عَلَىا كَثِيرٍ مّنْ عِبَا ِدهِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [النمل ]15 :فالحمد
وقوله تعالىَ { :وقَالَ ا ْل َ
حفْظ منهج ال ،وفي الية مظهر من مظاهر أدب النبوة ،حيث قال { َفضّلَنَا
هنا على نعمة العلم و ِ
حجْرا
عَلَىا كَثِيرٍ مّنْ عِبَا ِدهِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [النمل ]15 :فكأن هناك مَنْ هم أفضل مِنّا ،وليس التفضيل َ
علينا ،وهذا من تواضعهما عليهما السلم.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ووَ ِرثَ سُلَ ْيمَانُ دَاوُودَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3102 /
قوله سبحانهَ { :ووَرِثَ سُلَ ْيمَانُ دَاوُودَ } [النمل ]16 :أي :بقيتْ فيه النبوة وحمل المنهج ،ل الملك
لن النبياء ل تورث كما جاء في الحديث الشريف " :نحن معاشر النبياء ل نورث ما تركناه
صدقة "
وهذا يدل على أن سليمان جاء بعد داود ،وقد ورث عنه النبوة مع أنهما متعاصران ،بدليل قوله
شتْ فِيهِ غَ َنمُ ا ْل َقوْ ِم َوكُنّا
ح ُكمَانِ فِي ا ْلحَ ْرثِ إِذْ َنفَ َ
تعالى في موضع آخر {:وَدَاوُو َد وَسُلَ ْيمَانَ ِإذْ يَ ْ
ح ْك ِمهِمْ شَاهِدِينَ }[النبياء.]78 :
لِ ُ
إذن :كان سليمان مع داود في هذه الحكومة وفي العلم ،لكن الحق سبحانه جعل العلم منازل ،بدليل
أنه قالَ {:ف َف ّهمْنَاهَا سُلَ ْيمَانَ }[النبياء ]79 :مع أن أباه موجود ،وحكم في القضية بأن يأخذ صاحبُ
الزرع الغنم التي أكلت.
فلما خرجوا من عند داود سألهم سليمان عن حكم أبيه ،فأخبروه بما قال ،فقال سليمان :بل يأخذ
صاحب الزرع الغنم ينتفع بها ،ويأخذ صاحب الغنم الزرع يصلحه حتى يعود كما كان ،وعندها
يأخذ صاحب الغنم غنمه ،وصاحب الزرع زرعه.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يعطينا هذا المثل مع نبي وأبيه ،ل مع نبيين مختلفين بعيدين ،وفي هذا
إشارة أن حقّ البوة على سليمان لم يمنعه من مخالفة أبيه في الحكم؛ لن ال تعالى قال عنهما{
ل منهما يحكم على مقتضى علمه الذي منحه ال.
حكْما وَعِلْما }[النبياء ]79 :فك ّ
َوكُلّ آتَيْنَا ُ
ومن هذه الحادثة أخذنا مشروعية الستئناف والنقض وفي أحكام المحاكم ،فقاضي الستئناف
حينما يُعدّل في حكم القاضي البتدائي ل ُيعَدّ هذا طعْنا فيه ،إنما كل منهما حكم بناءً على علمه،
وعلى ما توفّر له من أدلة ووقائع ،وربما فطِن القاضي الثاني لما لم يفطِنْ له القاضي الول.
إذنَ { :ووَرِثَ سُلَ ْيمَانُ دَاوُودَ } [النمل ]16 :ل تعني أنه جاء بعده ،إنما هما متعاصران ،وورثه
في العلم والنبوة والحكمة ،ل في الملْك والمال؛ لن ال تعالى يريد أن يكون الرسول بعيدا في
رسالته وتبليغه عن ال عن أيّ نفع يجيء له ،أو لذريته.
لذلك كان الفقراء من أهل النبي صلى ال عليه وسلم ل يأخذون من زكاة المؤمنين ،لكن أين هذا
التشريع الحكيم مما يحدث الن من الحكام والرؤساء والمسئولين ممّنْ يوالون أقاربهم ،وينهبون
البلد من أجلهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َوقَالَ ياأَ ّيهَا النّاسُ عُّلمْنَا مَنطِقَ الطّيْرِ } [النمل ]16 :فالطير له منطق ولغة؛ لنه كما قال
ض َولَ طَائِرٍ َيطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ }[النعام ]38 :والن
تعالىَ {:ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْر ِ
ومع تقدّم العلم يتحدث العلماء عن لغة للنمل ،ولغة للنحل ،ولغة للسمك..إلخ.
وهذه المخلوقات تتفاهم بلغاتها بدقّة تفاهم غريزي ،لكننا ل نفهم هذا المنطق ،والحق ـ تبارك
حهُمْ }
ح ْم ِد ِه وَلَـاكِن لّ َت ْفقَهُونَ تَسْبِي َ
شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ
وتعالى ـ يُعلّمنا {:وَإِن مّن َ
()3103 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جمِعوا من كل مكان ،ومنه قوله تعالى {:وَا ْب َعثْ فِي ا ْل َمدَآئِنِ حَاشِرِينَ }[الشعراء]36 :
حشِرواُ :
ُ
جمْع الناس للحساب يوم القيامة.
والحشْرَ :
سمّي الجمع حَشْرا؛ لن تجمع الناس من أماكن متفرقة في مكان واحد ،حتى يضيق بهم
وُ
ويزدحم ،وهذا معنى الحشْر المتعارف عليه عندنا ،نقول :نحشرهم على بعض.
ومعنى { َف ُهمْ يُوزَعُونَ } [النمل ]17 :يعني :يُمنعون ،ومنه قوله " إن ال ليزع بالسّلْطان ما يزع
بالقرآن " يعني :أن السلطان والقوة والبطش تمنع ما ل يستطيع القرآن منعه؛ ذلك لنهم يستبعدون
القيامة والعذاب ،أمّا السلطان فرادع حاضر الن.
لكن ،مِ ّم يمنعون وهم في موقف الحشر أمام سليمان؟ قالوا :يُمنعون أن يَسبق بعضهم بعضا إلى
سليمان ،إنما نمنعهم حتى يأتي المتأخر منهم ،ويدخلون جميعا عليه مرة واحدة ،وفي ذلك إحداثُ
توازنٍ بين الرعية كلها.
وقد حدّثونا أن النبي صلى ال عليه وسلم كان من صفاته إذا جلس في مجلس تزوعَتْ نظراته
وعينه على كل الجالسين حتى يُسوّي بينهم ،ول ينظر لحد أكثر من الخر ،ول يُميز أحدا منهم
على أحد ،حتى ل يظن أحدهم أن النبي فضّله على غيره.
وكان صلى ال عليه وسلم ل يُقرّب إل أهل الفضل والتقوى الذي يُعرف منهم أنهم ل يستغلون
هذه المكانة لنيل سلطة بين الناس؛ ولذلك كان صلى ال عليه وسلم ل يُوطّن وينهي عن ذلك على
ل في الصف الول يشغلون بها
خلف ما نراه الن من بعض المصلّين الذين يضعون سجادة مث ً
المكان ،ثم يذهب ويقضي حاجاته ،ويعود وقد امتل المسجد فيتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكان
في المقدمة ،وهي ليس مكانه عند ال.
فال تعالى قد وزّع الماكن على حَسْب الورود ،فإتيانك إلى بيت ال أولً يعطيك ثواب الصف
الول ،وإنْ صليت في الصفّ الخير ،وعدم توطين الماكن ينشر الُلْفة بين الناس ،ويزيل
الفوارق ويساعد على التعارف ،فكل صلة أنت بجانب شخص جديد تتعرف عليه وتعرف
أحواله.
وهذا معنى { َفهُمْ يُوزَعُونَ } [النمل ]17 :يمنع السابق أنْ يسبق حتى يأتي اللحق ،ليكونوا
سواسية في الدخول على نبي ال سليمان عليه السلم.
شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي
لكن في ضوء هذا المعنى لمادة (وزع) كيف نفهم قوله تعالىَ {:ربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَ ْ
أَ ْن َع ْمتَ عََليّ }[النمل.]19 :
أوزعني هنا يعني :أ ْقدِرني وامنعني من الغفلة عن نعمتك ،لضلّ شاكرا لك.
()3104 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن َوجُنُو ُدهُ
طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَا ُ
حِحَتّى إِذَا أَ َتوْا عَلَى وَادِ ال ّن ْملِ قَاَلتْ َنمْلَةٌ يَا أَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُوا مَسَاكِ َنكُمْ لَا يَ ْ
شعُرُونَ ()18
وَهُمْ لَا َي ْ
الضمير في { أَ َتوْا } [النمل ]18 :يعود على جنود سليمان من الِنس والجن والطير ،أي جاءوا
صفّا واحدا ومرّوا { عَلَىا وَادِ ال ّن ْملِ } [النمل ]18 :يعني :قرية النمل ،وقوله { عَلَىا وَادِ
جميعا َ
ال ّن ْملِ } [النمل ]18 :يدلّ على أنهم جاءوا من أعلى الجبل ،أو أنهم قطعوا الوادي كله ،كما نقول:
فلن أتى على الطعام كله.
طمَ ّنكُمْ
حِعندها { قَاَلتْ َنمْلَةٌ ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُواْ مَسَاكِ َن ُكمْ } [النمل ]18 :لماذا هذا التحذير؟ { لَ يَ ْ
شعُرُونَ } [النمل]18 :
ن وَجُنُو ُدهُ } [النمل ]18 :ثم احتاطتْ النملة للمر ،فقالت { وَهُ ْم لَ يَ ْ
سُلَ ْيمَا ُ
فما كان سليمان وجنوده ليُحطّموا بيوت النمل عن َقصْد منهم.
والمعنى :حالة كونهم ل يشعرون بكم ،وهذا من عدالة حكمها ومعرفتها بسليمان ،وأنه ليس جبارا
ول عاتيا .إذن :فالنملة رأتْ عن ُبعْد ،ونطقتْ عن حق ،وحكمتْ بعدل ،لهذا كله تبسّم سليمان
ضاحكا.
وواضح في هذا القول ما تتميز به مملكة النمل من نظام يعرف فيه ُكلّ مهمته ،ويؤديها على أكمل
وجه ،فهذه النملة ل بُدّ أنها كانت تقوم بمهمة الحراسة وتقف في الدّرَك ،ترقب الجو من حولها،
وكأنها جندي الدورية اليقظ.
وسبق أن قُلْنا :لو أنك جلستَ في مكان ،وتركتَ فيه بعض فضلت الطعام مثلً أو الحلوى لرأيتَ
بعض النمل يدور حولها دون أنْ يقربها ،ثم انصرفوا عنها ،وبعد مدة ترى جماعة منهم جاءت
وحملت هذه القطعة ،وكأن الجماعة الولى أفراد الستطلع الذين يكتشفون أماكن الطعام،
ويُقدّرون كم نملة تستطيع حمل هذا الشيء.
بدليل أنك لو ضاعفتَ القطعة الملقاة لرأيتَ عدد النمل الذي جاء لحملها قد تضاعفت هو أيضا.
ت النمل الول الذي جاء للستطلع تلحظ أن النمل امتنع عن هذا المكان ،لماذا؟ لن
ولو قتل َ
النملة التي نجتْ من القتل ذهبت إلى مملكتها ،وحذّرتهم من هذا المكان.
وفي مملكة النمل عجائب وآيات ،سبحان خالقها ،وسبحان مَنْ هداها إلى هذه الهندسة المحكومة
بالغريزة.
ومن عجائب النمل أنك ترى في عُشّ النمل الحبوب مفلوقة إلى نصفين حتى ل تنبت ،وتهدم
عشّهم ،لكن حبّة الكُسْبرة مثلً تنبت حتى لو انفلقتْ نصفين ،حيث ينبت كل نصف على
عليهم ُ
حدَة ،لذلك ل حظوا أن النمل يفلق هذه الحبة بالذات إلى أربعة أقسام.
ِ
كما لحظ المهتمون بدراسة النمل وجود حبات بيضاء صغيرة مثل رأس الدبوس أمام أعشاش
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النمل ،وبفحصها تبيّن أنها زريعة النبات التي تحمل خليا النبات أخرجوها كي ل تنبت.
ض َولَ طَائِرٍ َيطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ }[النعام:
وصدق ال العظيمَ {:ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْر ِ
.]38
وقد سمّى ال تعالى ما قالت النملة قولً { قَاَلتْ َنمْلَةٌ } [النملة ]18 :ول بُدّ أن هذا التحذير { ا ْدخُلُواْ
مَسَاكِ َنكُمْ } [النملة ]18 :جاء قبل أنْ يأتي سليمان وجنوده ،وهم على مشارف الوادي.
سبَ أرزاق،
وكلمة } مَسَاكِ َنكُمْ { [النمل ]18 :تدل على أن لهم بُيوتا ومساكنَ ،ومجالَ معيشة ،وك ْ
كما نقول (بيلقّطوا رزقهم) من هنا ومن هناك؛ لذلك تجده يتتبع مواضع الطعام والفضلت،
ويدخل إليها من أضيق الماكن ،لكن نرى مثلً محلت الحلوى مليئة بالسكر الذي يعشقه النمل،
ومع ذلك ل نجد في هذه المحلت نملة واحدة ،لماذا؟ لما تتبّعوا هذه الظاهرة بالدراسة وجدوا أن
سمْسم ،وهذه من عجائب النمل أيضا.
النمل ل يدخل المكان إذا كان به ِ
حطْم هو التكسير ،ومنه قوله سبحانه عن النارَ {:ومَآ
طمَ ّن ُكمْ { [النمل ]18 :ال َ
وقوله تعالى } :لَ َيحْ ِ
ط َمةُ }[الهمزة ]5 :لنها تحطم ما يُلْقى فيها.
أَدْرَاكَ مَا ا ْلحُ َ
()3105 /
ي وَأَنْ
ي وَعَلَى وَاِل َد ّ
شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َعمْتَ عََل ّ
حكًا مِنْ َقوِْلهَا َوقَالَ َربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَ ْ
فَتَبَسّمَ ضَا ِ
حمَ ِتكَ فِي عِبَا ِدكَ الصّالِحِينَ ()19
خلْنِي بِ َر ْ
ع َملَ صَاِلحًا تَ ْرضَا ُه وَأَدْ ِ
أَ ْ
تبسّم سليمان ـ عليه السلم ـ بالبسمة التي تتصل بالضحك لماذا؟ لنه سمعها قبل أنْ يصل
إليها ،ولنها رأتْ قبل أن يأتي المرئي ،وقد تكلم البعض في هذه المسألة فقالوا :إن الريح نقلتْ
إليه مقالة النملة ،وهو ما يزال بعيدا عنها ،وهذا الكلم يُقبل لو أن المسألة (ميكانيكا) إنما هي
عمل رب وقدرة خالق مُنعِم ينعم بما يشاء.
ونطق قائلً { َربّ َأوْزِعْنِي } [النمل ]19 :أي :امنعني أنْ أغفل ،أو أنْ أنسى هذه النّعم ،فأظل
شاكرا حامدا لك على الدوام؛ لن هذه النعَم فاقتْ ما أنعمت به على عامة الخَلْق ،وفوق ما أنعمتُ
به على إخواني من النبياء السابقين ،و على كل ملوك الدنيا؛ لنه عليه السلم جمع بين الملْك
والنّبوة ،وإنْ كان سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم عرض عليه الملْك فرفضه ،وآثر أن
يكون عبدا رسولً.
لذلك وجب على كل صاحب نعمة أنْ يستقبلها بحمد ال وشكْره ،وسبق أنْ قُلْنا في قوله تعالى {:ثُمّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لَتُسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ }[التكاثر ]8 :أن حق النعمة أن تحمد المنعم عليها ،فل تُسأل عنها يوم
القيامة.
وما أشبه الحمد على النعمة بما يُسمّونه عندنا في الريف (الرقوبة) ،وهي بيضة تضعها ربّة
المنزل في مكان أمين يصلح عُشّا يبيض فيه الدجاج ،فإذا رأتْ الدجاجة هذه البيضة جاءتْ
فباضتْ عليها ،وهكذا شكر ال وحمده على النعم هو النواة التي يتجمع عليها المزيد من ِنعَم ال.
شكَرْتُ ْم لَزِيدَ ّن ُكمْ }[إبراهيم ]7 :ألَ ترى أن مَنْ علم
وقد شُرح هذا المعنى في قوله سبحانه {:لَئِن َ
علما فعلم به أورثه ال علم ما لم يعلم؟ لماذا؟ لنه ما دام عمل بعلمه ،فهو ُمؤْتمن على العلم؛ لذلك
يزيده ال منه ويفتح له مغاليقه ،على خلف مَنْ عَلِم علما ولم يعمل به ،فإنّ ال يسلبه نور العلم،
فيغلق عليه ،وتصدأ ذاكرته ،وينسى ما تعلّمه.
شكُرُ لِ َنفْسِهِ }[لقمان ]12 :أي :تعود عليه
شكُرْ فَإِ ّنمَا َي ْ
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يقولَ {:ومَن يَ ْ
شكْره؛ لنه إنْ شكر ال بالحمد شكره ال بالزيادة؛ لذلك من أسمائه تعالى (الشكور).
ثمرة ُ
وقوله { :عََليّ } [النمل ]19 :هذه خصوصية { وَعَلَىا وَالِ َديّ } [النمل ]19 :لنه ورث عنهما
ع َملَ صَالِحا تَ ْرضَاهُ } [النمل ]19 :وهذا ثمن النعمة أن أؤدي خدمات
الملْك والنبوة { وَأَنْ أَ ْ
الصلح في المجتمع لكون ُمؤْتمنا على النعمة أهْلً للمزيد منها.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد منّا أنْ نُوسّع دائرة الصلح ودائرة المعروف في المجتمعَ ،ألَ
ضعَافا كَثِي َرةً }[البقرة:
حسَنا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ
ترى إلى قوله سبحانه {:مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا َ
.]245
فسمّى الخير الذي تقدمه قَرْضا ،مع أنه سبحانه واهب كل النّعم ،وذلك لِيُحنّن قلوب العباد بعضهم
على بعض؛ لنه تعالى خالقهم ،وهو سبحانه المتكفّل برزقهم.
حمَ ِتكَ فِي عِبَا ِدكَ الصّالِحِينَ { [النمل ]19 :وذكر الرحمة والفضل؛ لنهما
خلْنِي بِ َر ْ
ثم يقول } :وَأَدْ ِ
وسيلة النجاة ،وبهما ندخل الجنة ،وبدونهما لن ينجو أحد ،واقرأ قول رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله .قالوا :ول أنت يا رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ قال:
ن يتغمّدني ال برحمته ".
ول أنا إل أ ْ
حمَتِهِ فَ ِبذَِلكَ }[يونس ]58 :فالمؤمن الحق ل
ويقول سبحانه في هذا المعنىُ {:قلْ ِب َفضْلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ
ضلَ ال ورحمته ،كأنه يقول لربه :لن أتكل يا رب على عملي،
يفرح بعمله ،إنما يفرح:إنْ نال َف ْ
بل فضلك ورحمتك هما المتكل ،لنني لو قارنتُ العبادة التي كلفتني بها بما أسدْيتَ إليّ من ِنعَم
وآلء لَقصُرَتْ عبادتي عن أداء حقّك عليّ ،فإنْ أكرمتني بالجنة فبفضلك.
والبعض يقولون :كيف يعاملنا ربنا بالفضل والزيادة ،ويُحرّم علينا التعامل بالربا؟ أليست الحسنة
عنده بعشرة أمثالها أو يزيد؟ نقول :نعم ،لكن الزيادة هنا منه سبحانه وتعالى وليستْ من مُسَاو،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنها زيادة ربّ لعبيد.
وقوله } فِي عِبَا ِدكَ الصّاِلحِينَ { [النمل ]19 :دليل على تواضع سيدنا سليمان ـ عليه السلم ـ
فمع مكانته ومنزلته يطلب أنْ يُدخِله ال في الصالحين ،وأن يجعله في زمرتهم ،فلم يجعل لنفسه
مَيْزةً ول صدارة ول أدّعى خيرية على غيره من عباد ال ،مع ما أعطاه ال من الملْك الذي ل
ينبغي لحد من بعده.
وأعطاه النبوة وحمّله المنهج ،فلم يُورثه شيء من هذا غرورا ول تعاليا ،وها هو يطلب من ربه
أن يكون ضمن عباده الصالحين ،كما نقول (زقني مع الجماعة دول) ،حين تكون السيارة مثلً
كاملة العدد ،وليس لي مقعد أجلس عليه.
مَنْ يقول هذا الكلم؟ إنه سليمان بن داود ـ عليهما السلم ـ الذي آتاه ال مُلْكا ،ل ينبغي لحد
من بعده ،ومن ذلك كان يُؤثِر عبيده وجنوده على نفسه ،وكان يأكل (الردة) من الدقيق ،ويترك
النقي منه لرعيته.
إذن :لم ينتفع من هذا الملْك بشيء ،ولم يصنع لنفسه شيئا من مظاهر هذا الملك ،إنما صنعه له
عوْنه ،وأنت حين تُعين أخاك تُعينه بقدرتك
عوْن عباد ال ،فكان ال في َ
ربه لنه كان في َ
وإمكاناتك المحدودة ،أما معونة ال تعالى فتأتي على َقدْر قوته تعالى ،وقدرته وإمكاناته التي ل
حدودَ لها ،إذن :فأنت الرابح في هذه الصفقة.
()3106 /
وَتَ َفقّدَ الطّيْرَ َفقَالَ مَا ِليَ لَا أَرَى ا ْل ُهدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَائِبِينَ ()20
مادة :فقد الفاء والقاف والدال ،وكل ما يُشتقّ منها تأتي بمعنى ضاع منه الشيء ،ومنه قوله تعالى
في قصة إخوة يوسف {:قَالُو ْا وََأقْبَلُواْ عَلَ ْيهِمْ مّاذَا َتفْقِدُونَ }[يوسف ،]71 :فإنْ جاءت بصيغة (تفقّد)
بالتضعيف دّلتْ على أن الشيء موجود وأنا أبحث عنه في مظانّه.
فمعنى { وَتَ َفقّدَ الطّيْرَ } [النمل ]20 :أن الرئيس او المهيمن على شيء ل ُبدّ له من متابعته،
وسليمان ـ عليه السلم ـ ساعةَ جلس في مجلس العلم أو مجلس القضاء نظر للحاضرين من
مملكته ،كأنه القائد يستعرض جنوده ،وفي هذا إشارة إلى أنه ـ عليه السلم ـ مع أن هذا ملكه
ومُسخّر له ومُنقَاد لمره ،إل أنه لم يتركه َهمَلً دون متابعة.
لكن ،لماذا تفقّد الطير بالذات؟ قالوا :لنه أراد أنْ يقوم برحلة في الصحراء ،والهدهد هو الخبير
بهذه المسألة؛ لنه يعلم مجاهلها ،ويرى حتى الماء في باطن الرض ،يقولون :كما يرى أحدكم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الزيت في وعائه.
لذلك نرى أن من مميزات الهدهد أن ال تعالى جعل له منقارا طويلً؛ لنه ل يأكل مما على سطح
الرض ،إنما ينبش بمنقاره ليُخرج طعامه من تحت الرض.
جدُواْ للّهِ الّذِي
ألَ تراه حين كلّم سليمان في دقائق العقيدة واليمان بال يقول عن أهل سبأَ {:ألّ َيسْ ُ
ت وَالَرْضِ }[النمل ]25 :فاختار هذه المسألة بالذات؛ لنه الخبير بها
سمَاوَا ِ
خبْءَ فِي ال ّ
يُخْرِجُ الْ َ
ورزقه منها.
ي لَ أَرَى ا ْلهُدْ ُهدَ َأمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَآئِبِينَ } [النمل:
ولما لم يجد الهدهد في الحاضرين قال { َفقَالَ مَاِل َ
]20فساعةَ يستفهم النسان عن شيء يعلم حقيقته ،فإنه ل يقصد الستفهام ،إنما هو يستبعد أنْ
يتخلّف الهدهد عن مجلسه.
لذلك قال { مَاِليَ لَ أَرَى ا ْل ُهدْهُدَ } [النمل ]20 :يعني :ربما هو موجود ،لكنّي ل أراه لعلّة عندي
أنا ،فلما َدقّق النظر وتأكد من خُلوّ مكانه بين الطيور ،قال { َأمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَآئِبِينَ } [النمل]20 :
إذن :ل بد من معاقبته:
()3107 /
لَأُعَذّبَنّهُ عَذَابًا شَدِيدًا َأوْ لَأَذْ َبحَنّهُ َأوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ ()21
ومعاقبة المخالف أمر ضروري؛ لن أيّ مخالفة ل تُقابل بالجزاء المناسب ل بُدّ أن تثمر مخالفات
أخرى متعددة أعظم منها ،فحين نرى موظفا مُقصّرًا في عمله ل يحاسبه أحد ،فسوف نكون مثله،
نل
وتنتشر بيننا الفوضى والتكاسل واللمبالة ،وتحدث الطّامة حينما يُثاب المقصر ويُرَقى مَ ْ
يستحق.
شدِيدا َأ ْو لَذْ َبحَنّهُ } [النمل.]21 :
عذَابا َ
لذلك توعّد سليمان الهدهد { :لُعَذّبَنّهُ َ
وقد تكلّم العلماء في كيفية تعذيب الهدهد ،فقالوا :بنتف ريشه الجميل الذي يزهوا به بين الطيور،
حتى يصير لحما ثم يُسلط عليه النمل فيلدغه ،أو يجعْله مع غير بني جنسه ،فل يجد لها إلفا ول
مشابها له في حركته ونظامه ،أو :أنْ يُكلّفه بخدمة أقرانه من الهداهد التي لم تخالف ،أو :أجمعه
مع أضداده ،وبعض الطيور إذا اجتمعتْ تنافرتْ وتشاجرتْ ،ونتف بعضها ريش بعض؛ لنهم
أضداد؛ لذلك قالوا :أضيق من السجن عِشْرة الضداد.
ن صَدَاقَته بُدّثم رقّى المر من
عدُوا لَهُ مَا مِ ْ
والشاعر يقولَ :ومِنْ ن َكدِ الدّنْيا عليَ المرْءِ أنْ يرى َ
العذاب الشديد إلى الذبح ،وهذه المسألة أثار حولها المتمردون على منهج ال والذين يريدون أنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُعدّلوا على ال أحكامه ،أثاروا إشكالً حول قوله تعالى في حَدّ الزنا {:الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ ُكلّ
وَاحِدٍ مّ ْن ُهمَا مِئَةَ جَ ْل َدةٍ }[النور ]2 :أما الرّجْم فلم يَرِدْ فيه شيء ،فمن أين أتيتم به؟
نقول أتينا به أيضا من كتاب ال ،حيث قال سبحانه في جَلد المَة إنْ زنتْ وهي غير محْصنة{:
حصَنَاتِ مِنَ ا ْلعَذَابِ }[النساء ]25 :فقالوا :وكيف نُنصّف حدّ الرجم؟
َفعَلَ ْيهِنّ ِنصْفُ مَا عَلَى ا ْلمُ ْ
وهذا القول منهم دليل على عدم فهمهم لحكام ال.
حصَنَاتِ }[النساء:
صفُ مَا عَلَى ا ْل ُم ْ
فالمعنى{ َفعَلَ ْيهِنّ }[النساء ]25 :أي :على الماء الجواري{ ِن ْ
]25الحرائر ،ولم يسكت إنما خصص التنصيف هنا بالجَلْد ،فقال {:مِنَ ا ْلعَذَابِ }[النساء]25 :
لمَة خمسين جلدة ،وهذا التخصيص يدلّ على أن هناك عقوبة أخرى ل تُنصف هي الرجْم.
فتجلد ا َ
وينتهي تهديد سليمان للهدهد بقوله { َأوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ } [النمل ]21 :أ ي :حجة واضحة
تبرر غيابه ،فنفهم من الية أن المرؤوس يحوز له أنْ يتصرف برأيه ،ودون أن يأخذ الذن من
رئيسه إنْ رأى مصلحة للجماعة ل تستدعي التأخير.
وعلى الرئيس عندها أن يُقدّر لمرؤوسيه اجتهاده ،ويلتمس له عذرا ،فلعله عنده حجة أحمده عليها
بل وأكافئه؛ لن وقت فراغه مني كان في مصلحة عامة ،كما نقول في العامية (الغايب حجته
معاه).
إذن :المرؤوس إنْ رأى خيرا يخدم الفكر العام ،ووجد أن فرصته ضيقة يسمح له بالتصرف دون
إذن ،وفي الحرب العالمية الولى تصرّف أحد القادة اللمان تصرّفا يخالف القواعد الحربية ،لكنه
كان سببا في النصر؛ لذلك أعطوه وسام النصر ولم ينسُوا أنْ يُعاقبوه على مخالفة القواعد
والقانون.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ف َم َكثَ غَيْرَ َبعِيدٍ }
()3108 /
معنى { َف َمكَثَ } [النمل ]22 :أقام واستقر { غَيْرَ َبعِيدٍ } [النمل ]22 :مدة يسيرة ،فلم يتأخر كثيرا؛
لنه يعلم أنه تخلّف عن مجلس سليمان ،وذهب بدون إذنه؛ لذلك تعجّل العودة ،وما إنْ وصل إليه
إل وبادره { َفقَالَ } [النمل ]22 :بالفاء الدالة على التعقيب؛ لنه رأى سليمان غاضبا مُتحفّزا
لمعاقبته.
حطْ بِهِ } [النمل ]22 :أي :عرفتُ ما لم
لذلك بادره قبل أنْ ينطق ،وقبل أنْ ينهره { َأحَطتُ ِبمَا لَمْ تُ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تعرف ـ هذا الكلم مُوجّه إلى سليمان الذي ملَك الدنيا كلها ،وسخّر ال له كل شيء؛ لذلك ذُهل
سليمان من مقالة الهدهد وتشوّق إلى ما عنده من أخبار ل يعرفها هو.
ثم يستمر الهدهدَ { :وجِئْ ُتكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ َيقِينٍ } [النمل.]22:
أولً :نقف عند جمال التعبير في سبأ ونبأ ،فبينهما جناس ناقص ،وهو من المحسّنات البديعية في
لغتنا ،ويعطي للعبارة نغمة جميلة تتوافق مع المعنى المراد ،والجناس أن تتفق الكلمتان في
الحروف ،وتختلفا في المعنى ،كما في قول الشاعرَ :رحَ ْلتُ عَنِ الدّيَارِ لكُم أَسِيرُ َوقَلْبي في محبتكُمْ
أَسيرو َقوْل الخرَ:لمْ َي ْقضِ مِنْ حقّكم عَليّ َب ْعضَ الذي يَجِ ُبقَ ْلبٌ متَى مَا جَرَت ِذكْرَاكُمُ يَجِبُومن
عةُ ُيقْسِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ }[الروم:
الجناس التام في القرآن الكريم {:وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ
.]55
فالتعبير القرآني { وَجِئْ ُتكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [النمل ]22 :تعبير جميل لفظا ،دقيق مَعنىًَ ،ألَ تراه لو
قال (وجئتك من سبأ بخبر) ل ختلّ اللفظ والمعنى معا؛ لن الخبر يُرَاد به مُطلْق الخبر ،أمّا النبا
عمّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ
فل تُقال إل للخبر العجيب الهام الملفت للنظر ،كما في قوله تعالىَ {:
ا ْلعَظِيمِ }[النبأ1 :ـ .]2
والجناس ل يكون جميلً مؤثرا إل إذا جاء طبيعيا غير مُتكلّف ،ومثال ذلك هذا الجناس الناقص
في قوله تعالى {:ويْلٌ ّل ُكلّ ُهمَ َزةٍ ّلمَ َزةٍ }[الهمزة ]1 :فقد ورد اللفظ المناسب مُعبّرا عن المعنى
المراد دون تكلّف ،فال ُهمَزة هو الذي يعيب بالقول .واللمزة :الذي يعيب بالفعل ،فالقرآن ل يتصيّد
لفظا ليُحدِث جناسا ،إنما يأتي الجناس فيه طبيعيا يقتضيه المعنى.
ومن ذلك في الحديث الشريف " :الخيْل معقود بنواصيها الخير " فبيْن الخيل والخير جناس ناقص،
مُحسّنا للفظ ،مؤدّيا للمعنى.
وقد يأتي المحسّن البديعي مُضطربا مُتكلّفا ،يتصيده صاحبه ،كقول أحدهم ينحت الكلم نحتا فيأتي
بسجع ركيك :في أثناء ما كنا نسير نزل المطر كأفواه القِرَب ،فوقع رجل كان يحمل العنب.
حطْ بِهِ } [النمل ]22 :الحاطة :إدراك المعلوم من كل جوانبه ،ومنه
ومعنى { َأحَطتُ ِبمَا َلمْ تُ ِ
شيْءٍ مّحِيطا }[النساء ]126 :ومنه:
البحر المحيط لتساعه ،ويقول سبحانهَ {:وكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ
الحائط يجعلونه حول البستان ليحميه ويُحدّده ،ومنه :يحتاط للمر.
ومحيط الدائرة الذي يحيط بالمركز من كل ناحية إحاطة مستوية بأنصاف القطار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن نعرفها؛ لنها خدمة لي.
ليُخرجوا مواهبهم ،وأن يقول كل منهم ما عنده حتى لو لم نكُ ْ
أليس من الكرامة أن يُحضر سليمان عرش بلقيس وهو في مكانه{ قَالَ الّذِي عِن َدهُ عِلْمٌ مّنَ ا ْلكِتَابِ
أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن يَرْتَدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ }[النمل.]40 :
ونلحظ أن الهدهد لم يُعرّف سبأ ما هي ،وهذا دليل على أن سليمان ـ عليه السلم ـ يعرف سبأ،
وما فيها من ملك ،إنما ل يعرف أنه بهذه الفخامة وهذه العظمة.
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّي وَجَدتّ امْرََأةً َتمِْل ُكهُمْ {
()3109 /
وقوله { َتمِْل ُكهُمْ } [النمل ]23 :يعني :تحكمهم امرأة ،ورأينا نساءً كثيرات نابهات حكمْن الدول في
وجود الرجال.
شيْ } [النمل ]23 :وكأنها إشارة إلى ما سبق أنْ قاله
ثم يذكر من صفاتها { وَأُوتِ َيتْ مِن ُكلّ َ
شيْءٍ }[النمل ]16 :فهي كذلك أُوتيتْ من كل شيء بالنسبة
سليمان عليه السلم{ وَأُوتِينَا مِن ُكلّ َ
لقرانها ،وإل فسليمان أُوتي من الملْك ومن النبوة ما لم ُتؤْتهُ ملكة سبأ.
عظِيمٌ } [النمل ]23 :العرش مكان جلوس الملك ،وكان العرش عادةً يتوافق مع
{ وََلهَا عَرْشٌ َ
عظمة الملك ،فمثلً (شيخ الغفر) أو العمدة أو المحافظ ..إلخ لكل منهم كرسيّ يجلس عليه يناسب
مكانته ،إذن :العرش هو جِلْسة المتمكّن الذي يتولّى تَدبير المور.
ووصْف العرش بأنه عظيم مع أن هذا الوصف لعرش ال تعالى ،فكيف؟ قالوا :عظيم بالنسبة
لمثالها من الملوك ،أمّا عرْش ال فعظيم بالنسبة لكل الخَلْق عظمةً مُطْلقة.
هكذا حدّث الهدهُد سليمانَ فيما يخصّ ملكة سبأ من حيث الملك الذي تشبه فيه سليمان كملك ،ثم
يُحدّثه بعد ذلك عن مسألة تتعلق بالنبوة واليمان بال ،وهذه المسألة التي غار عليها سليمان ،وثار
جدُونَ }
من أجلها { :وَجَدّتهَا َو َق ْو َمهَا يَسْ ُ
()3110 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذلك لنه لما طاف حول قصر بلقيس وجد فيه ُكوّة تدخل منها الشمس ،كما نرى في معابد
الفراعنة ،ففي أحد هذه المعابد طاقات بعدد أيام السنة ،بحيث تدخل الشمس في كل يوم من واحدة
بعينها ل تدخل من الخرى .وكذلك كان عند بلقيس مثل هذه ال ُكوّة تدخل منها الشمس فتتنبه لها
وتستقبلها.
لذلك لما ذهب إليها بكتاب سليمان وقف على هذه ال ُكوّة وسدّها بجناحه ،فلم تدخل الشمس في
موعدها كما اعتادت الملكة ،فقامت حتى وصلتْ إلى هذه ال ُكوّة فرمى عندها الكتاب.
فالهدهد ـ إذن ـ مؤمن عارف بقضية العقيدة واليمان بال َيغَار عليها ويستنكر مخالفتها
شمْسِ مِن دُونِ اللّهِ } [النمل ]24 :فهو يعرف أن ال هو المعبود
سجُدُونَ لِل ّ
{ وَجَدّتهَا َو َقوْ َمهَا يَ ْ
بحقّ ،بل ويعلم أيضا قضية الشيطان ،وأنه سبب النصراف عن عبادة ال.
عمَاَلهُمْ َفصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ َفهُ ْم لَ َيهْتَدُونَ } [النمل ]24 :فالقضية عنده
{ وَزَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ
حمْ ِد ِه وَلَـاكِن
شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ بِ َ
كاملة بكل تفاصيلها ،ول تتعجب من مقالة الهدهد واقرأ {:وَإِن مّن َ
حهُمْ }[السراء.]44 :
لّ َت ْف َقهُونَ تَسْبِي َ
إنها موعظة بليغة من واعظ مُتمكّن يفهم عن ال ،ويعلم منهجه ويدعو إليه ،بل ويعزّ عليه ويحزّ
سجُدُواْ للّهِ }
في نفسه أن ينصرف العباد عن ال الم ْنعِمَ { :ألّ يَ ْ
()3111 /
{ َألّ } [النمل ]25 :مكوّنة من أنْ ،ل ،وعند إدغامهما تُقَلبُ النون لَما فتصير :ألّ ،فالمعنى:
وزيّن لهم الشيطان أعمالهم ،لماذا؟ للّ يسجدوا ،فهنا حرف جر محذوف كما تقول :عجبتُ من
أن َيقْدم علينا فلن ،أو عجبت أن يقدم علينا فلن.
وفي قراءة أخرىَ( :ألَ) للحثّ والحضّ.
ت وَالَ ْرضِ } [النمل]25 :
سمَاوَا ِ
خبْءَ فِي ال ّ
وقلنا :إنه اختار هذه الصفة بالذات { الّذِي ُيخْرِجُ الْ َ
لنه خبير في هذه المسألة ،حيث يرى الماء في باطن الرض ،كما يرى أحدكم الزيت في إنائه.
والمراد بالخبْء في السموات :المطر ،والخبْء في الرض .النبات ،ومنهما تأتي مُقوّمات الحياة،
فمن ماء المطر وخصوبة الرض يأتي النبات ،وعلى النبات يتغذّى الحيوان ،ويتغذّى النسان.
ن َومَا ُتعْلِنُونَ } [النمل ،]25 :كما قال في آية أخرىَ {:ومَا
خفُو َ
بل إن الحق سبحانه { وَ َيعْلَمُ مَا ُت ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ }[إبراهيم ،]38 :وفي آية أخرى يقول
ض َولَ فِي ال ّ
شيْءٍ فَي الَ ْر ِ
خفَىا عَلَى اللّهِ مِن َ
يَ ْ
خفُواْ مَا فِي صُدُو ِركُمْ َأوْ تُ ْبدُوهُ َيعَْلمْهُ اللّهُ }[آل عمران.]29 :
سبحانهُ {:قلْ إِن ُت ْ
()3112 /
لما تكلّم عن عرش بلقيس قال{ وََلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }[النمل ]23 :يعني :بالنسبة لمثالها من الملوك
ولهل زمانها .فإذا عُرّف { ا ْلعَرْشِ ا ْل َعظِيمِ } [النمل ]26 :فإنه ل ينصرف إل إلى عرشه تعالى،
فله العظمة المطلقة عند كل الخَلْق.
()3113 /
{ قَالَ سَنَنظُرُ } [النمل ]27 :والنظر محلّه العين ،لكن هل يُعرف الصدق والكذب بالعين؟ ل،
فالكلمة انتقلت من النظر بالعين إلى العلم بالحجة ،فهي بمعنى نعلم ،ونقول :هذا المر فيه نظر
يعني :يحتاج إلى دراسة وتمحيص.
وفي الية مظهر من مظاهر أدب سليمان ـ عليه السلم ـ وتلطّفه مع رعيته ،فهو السيد
المطاع ،ومع ذلك يقول للهدهدَ { :أصَ َد ْقتَ َأمْ كُنتَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } [النمل ]27 :والصّدْق يقابله
الكذب ،لكن سليمان ـ عليه السلم ـ يأبى عليه أدب النبوة أن يتهم أحد جنوده بالكذب فقال { :أَمْ
كُنتَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } [النمل.]27 :
يعني :حتى لو وقع منك الكذب فلست فذّا فيه ،فكثير من الخَلْق يكذبون ،أو :من الكاذبين مَيْلً لهم
وقُرْبا منهم ،مما يدلّ على أنه بإلهاماته كنبي يعرف أنه صادق ،إنما ما دام المر محلّ نظر فل
بُدّ أن نتأكد ،ولن أجامل جنديا من جنودي.
()3114 /
جعُونَ ()28
اذْ َهبْ ِبكِتَابِي َهذَا فَأَ ْلقِهِ إِلَ ْيهِمْ ُثمّ َت َولّ عَ ْن ُهمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا هو النظر الذي ارتآه سليمان ليتأكد من صِدْق الهدهد :أنْ يرسله بكتاب منه إلى هؤلء القوم،
وهنا مظهر من مظاهر اليجاز البليغ في القرآن الكريم ،فبعد أن قال سليمان{ سَنَنظُرُ }[النمل:
]27قال { اذْهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا } [النمل.]28 :
فهل كان الكتاب ُمعَدّا وجاهزا؟ ل ،إنما التقدير :قال سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين ،فكتب
إليها كتابا فيه كذا وكذا ثم قال للهدهد { :اذْهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا } [النمل ]28 :وقد حُذِف هذا للعلم
به من سياق القصة.
جعُونَ }
وقوله { :ثُمّ َتوَلّ عَ ْنهُمْ } [النمل ]28 :يعني :ابتعِدْ قليلً ،وحاول أنْ تعرف { مَاذَا يَ ْر ِ
[النمل ]28 :يعني :يراجع بعضهم بعضا ،ويتناقشون فيما في الكتاب ،ومن ذلك قوله تعالىَ {:أفَلَ
يَ َروْنَ َألّ يَ ْرجِعُ إِلَ ْي ِهمْ َق ْولً َولَ َيمِْلكُ َلهُ ْم ضَرّا َولَ َنفْعا }[طه.]89 :
والسياق يقتضي أن نقول :فذهب الهدهد بالكتاب ،وألقاه عند بلقيس فقرأتْه واستشارتْ فيه أتباعها
وخاصتها ،ثم قالت { :قَاَلتْ ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ }
()3115 /
قَاَلتْ يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ إِنّي أُ ْل ِقيَ إَِليّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ()29
نلحظ هنا سرعة جواب المر{ اذْهَب }[النمل ]28 :فبعده مباشرة قالت ملكة سبأ { :قَاَلتْ ياأَ ّيهَا
ا ْلمَلُ إِنّي أُ ْلقِيَ إَِليّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [النمل ]29 :وهذا يدل على أن أوامر سليمان كانت محوطة
بالتنفيذ العاجل؛ لذلك حذف السياق كل التفاصيل بين المر{ اذْهَب }[النمل ]28 :والجواب
{ قَاَلتْ } [النمل ]29 :هكذا على وجه السرعة.
ومعنى { ا ْلمَلُ } [النمل ]29 :هم أعيان القوم وأشرافهم والمستشارون والخاصة { إِنّي أُ ْل ِقيَ إَِليّ
كِتَابٌ كَرِيمٌ } [النمل ]29 :فوصفتْ الكتاب بأنه كريم إما لنها سمعتْ عن سليمان ـ عليه السلم
سطّر على ورق رَاقٍ وبخط جميل ،وبعد ذلك هو ممهور
ـ وعظمة مُلْكه ،أو :لن الكتاب ُ
بخاتمه الرسمي ،مما يدل على أنه كتاب هام ينبغي دراسته وأَخذْ الرأي فيه.
()3116 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فهي تعرف سليمان ،وتعرف نُبوّته وصفاته ،وأنه يكاتبهم باسْم ال و َيصْدُر في دعوتهم عن
أوامر ال ،وكان مجمل الكتاب بعد بسم ال الرحمن الرحيمَ { :ألّ َتعْلُواْ عََليّ وَأْتُونِي }
()3117 /
إنها برقية موجزة في أبلغ ما يكون اليجاز { َألّ َتعْلُواْ عََليّ } [النمل ]31 :العلو هنا بمعنى
الغطرسة والزّهو الذي يعتاده الملوك خاصة ،وهي مِثْله ،ملكة لها عَرْش عظيم ،وأُوتيتْ من كل
شيء وكونه يخاطبها بهذه اللهجة المختصرة البعيدة عن النقاش والجدال ،هذا أمر يحتاج منها إلى
نظر وإلى أَنَاةٍ.
لذلك بعد أن اخبرتْ مستشاريها بأمر الكتاب ،وما ورد فيه طلبتْ منهم الرأي والمشورة { :قَاَلتْ
ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ }
()3118 /
شهَدُونِ ()32
طعَةً َأمْرًا حَتّى تَ ْ
قَاَلتْ يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ َأفْتُونِي فِي َأمْرِي مَا كُ ْنتُ قَا ِ
سبق أن تكلمنا في معنى الفتوى ،وأنها من الفُتوة أي :القوة ،وهي مثل :غَ ِنيَ فلن أي :صار غنيا
بذاته ،وأغناه غيره أمدّه بالغنى ،كذلك أفتاه يعني :أعطاه قوة في الحكم والحجة.
وقالت { :فِي َأمْرِي } [النمل ]32 :مع أن المر خاصّ بالدولة كلها ،ل بها وحدها؛ لنها رمز
للدولة وللملْك ،وإنْ تعرض لها سليمان فسوف يُخدش مُلْكها أولً ،ويُنال من هيبتها قبل رعيتها.
شهَدُونِ } [النمل ]32 :يعني :ل أَ ُبتّ في أمر إل في حضوركم ،وبعد
ط َعةً َأمْرا حَتّىا َت ْ
{ مَا كُنتُ قَا ِ
استشارتكم .وهذا يدل على أنها كانت تأخذ بمبدأ الشورى رغم ما كان لها من الملْك والسيطرة
والهيمنة.
فردّ عليها المل من قومها { :قَالُواْ َنحْنُ ُأوْلُو ُق ّوةٍ }
()3119 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قَالُوا نَحْنُ أُولُو ُق ّوةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالَْأمْرُ إِلَ ْيكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَ ْأمُرِينَ ()33
يعني :نحن أصحاب قوة في أجسامنا ،وأصحاب شجاعة وبأس أي جيوش فيها عَدَد وعُدة
لمْرُ إِلَ ْيكِ } [النمل ]33 :أي :إنْ رأيتِ الحرب ،فنحن علىأُهْبة الستعداد ،فهم يعرضون
{ وَا َ
عليها رأيهم دون أنْ يُلزموها به ،فهو رَأْي سياسي ل رأي حربي ،فهي صاحبة قرار الحرب إنْ
أرادتْ { فَانظُرِي مَاذَا تَ ْأمُرِينَ } [النمل ]33 :يعني :نحن على استعداد للسّلْم وللحرب ،وننتظر
أمرك.
ثم يقول الحق سبحانه { :قَاَلتْ إِنّ ا ْلمُلُوكَ }
()3120 /
()3121 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَإِنّي مُرْسَِلةٌ إِلَ ْيهِمْ ِبهَدِيّةٍ فَنَاظِ َرةٌ بِمَ يَ ْرجِعُ ا ْلمُ ْرسَلُونَ ()35
بعد أنْ ترك لها المستشارون المر والتدبير أخذتْ تُعمِل عقلها ،وتستخدم فطنتها وخبرتها بحياة
الملوك ،فقالت :إنْ كان سليمان مَلِكا فسوف يطمع في خيرنا ،وإنْ كان نبيا فلن يهتم بشيء منه،
فقررتْ أنْ تُرسل له هدية تناسب مكانته كملك ومكانتها هي أيضا ،لتثبت له أنها على جانب كبير
من الثراء والغنى.
ول بد أنها كانت ثمينة لتستميل الملك ،أو كما نقول (تلوحه أو تلويه).
جعُ ا ْلمُرْسَلُونَ } [النمل ]35:فإنْ كان ملكا قَبِلها ،وعرفنا
{ وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَ ْيهِمْ ِبهَدِيّةٍ فَنَاظِ َرةٌ ِبمَ يَرْ ِ
أن علجه في بعض الخراج والموال تُسَاق إليه كل عام ،وإنْ كان نبيا فلن يقبل منها شيئا ،وهذا
ت قومها ويلت الحرب
رَأْي جميل من بلقيس يدل على فِطْنتها وذكائها وحصافتها ،حيث جنّب ْ
والمواجهة.
()3122 /
فََلمّا جَاءَ سُلَ ْيمَانَ قَالَ أَ ُتمِدّونَنِ ِبمَالٍ َفمَا آَتَا ِنيَ اللّهُ خَيْرٌ ِممّا آَتَا ُكمْ َبلْ أَنْتُمْ ِب َهدِيّ ِتكُمْ َتفْرَحُونَ ()36
أي :فلما جاء رسول بلقيس إلى سليمان بالهدية { قَالَ أَ ُتمِدّونَنِ ِبمَالٍ َفمَآ آتَا ِنيَ اللّهُ خَيْرٌ ّممّآ آتَاكُمْ }
[النمل ]36 :فأيّ هدية هذه ،وأنا أملك مُلْكا ل ينبغي لحد من بعدي؟ { َبلْ } [النمل ]36 :يعني:
اضرب عن الكلم السابق { أَنتُمْ ِب َهدِيّ ِتكُمْ َتفْرَحُونَ } [النمل.]36 :
أضاف الهدية إليهم ،ل إليه هو ،والضافة تأتي إما بمعنى اللم مثل :قلم زيد يعني لزيد ،أو:
ل يعني :في الليل.
بمعنى من مثل :إردب قمح يعني :من قمح ،أو :بمعنى في مثل :مكر اللي َ
فقوله { ِبهَدِيّ ِتكُمْ } [النمل ]36 :إما أن يكون المراد :هدية لكم .أي :فأنتم تفرحون إنْ جاءتكم هدية
ن يقول (بركة يا جامع) أو :هدية منكم .أي:
من أحد ،أو لنني سأردّها إليكم فتفرحوا بردّها كمَ ْ
أنكم تفرحون إنْ أهديتم لي هدية فقبلتُها منكم.
فهذه معَانٍ ثلثة لقولهَ { :بلْ أَن ُتمْ ِبهَدِيّ ِت ُكمْ َتفْرَحُونَ } [النمل.]36:
()3123 /
جعْ إِلَ ْيهِمْ فَلَنَأْتِيَ ّن ُهمْ بِجُنُودٍ لَا قِ َبلَ َلهُمْ ِبهَا وَلَنُخْ ِرجَ ّنهُمْ مِ ْنهَا أَ ِذلّ ًة وَهُمْ صَاغِرُونَ ()37
ارْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نذكر أن الملكة قالت{ فَنَاظِ َرةٌ بِمَ يَ ْرجِعُ ا ْلمُرْسَلُونَ }[النمل ]35 :فكأنه يستشعر نصّ ما قالت،
وينطق عن إشراقات النبوة فيه ،فيقول { :ارْجِعْ إِلَ ْيهِمْ فَلَنَأْتِيَ ّنهُم بِجُنُو ٍد لّ قِ َبلَ َلهُمْ ِبهَا } [النمل:
.]37
طوْر المواجهة؛ لن كلمنا كل ُم النبوة التي ل تقبل المساومة ،ل كلم
وهكذا دخلتْ المسألة في َ
الملك الذي يسعى لحطام الدنيا.
{ وَلَ ُنخْرِجَ ّنهُم مّ ْنهَآ َأذِلّ ًة وَ ُه ْم صَاغِرُونَ } [النمل ]37 :وكأنه يكشف لهم عن َقوْل ملكتهم {:إِنّ
جعَلُواْ أَعِ ّزةَ أَهِْلهَآ أَ ِذلّةً }[النمل ]34 :وهذه أيضا من إشراقات
ا ْلمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً َأفْسَدُوهَا َو َ
النبوة.
ومعنى { لّ قِ َبلَ َلهُمْ ِبهَا } [النمل ]37 :تقول :ل قِبَل لي بكذا .يعني :ل أستطيع مقابلته ،وأنا
أضعف من أنْ أقابلهَ ،أوْ ل طاقة لي به { وَلَ ُنخْرِجَ ّنهُم مّ ْنهَآ َأذِلّةً } [النمل ]37 :لنه سيسلب مُلْكهم،
حدّته عليهم { وَ ُه ْم صَاغِرُونَ } [النمل ]37 :لنهم
ن كانوا ملوكا صاروا عبيدا ،ثم يزيد في ِ
فبعد أ ْ
صغَار ل
قد يقبلون حالة العبودية وعيشة الرعية ،فزاد { وَهُ ْم صَاغِرُونَ } [النمل ]37 :لن ال ّ
يكون إل بالقَتْل والَسْر.
ثم يقول الحق سبحانه { :قَالَ ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ }
()3124 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3125 /
والجن في القدرة والمهارة مثل النس ،منهم القوى الماهر ،ومنهم العَييّ الذي ل يجيد شيئا .نقول
(لبخة) وكلمة عفريت من تعفير التراب ،وكانوا حينما يتسابقون في العَدُو بالخيل أو غيرها ،فمَنْ
يسبق منهم يُثير الغبار في وجه الخر فيُعطلّه عن السّبْق .فقالوا :عفريت يعني عفّر من وراءه.
سمّي عفريتا.
أو :المعنى أنه يُعفّر وجه مَنْ عارضه بالتراب ف ُ
إذن :فالعفريت هو الخبيث الماكر من الجنّ ،وصاحب القوة الخارقة فيهم ،وهو الذي تعرّض لهذه
المهمة ،وقال { أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن ّمقَا ِمكَ } [النمل.]39 :
وهذا كلم مُجْمل؛ لن مقام سليمان بين رعيته للحكم أو للمدارسة سوف يستغرق وقتا :ساعة أو
ساعتين مثلً ،وقد تعهّد العفريت أنْ يأتي بالعرش في هذا الوقت يعني :لن يُؤخّره إلى جلسة
أخرى.
وقوله { :وَإِنّي عَلَيْهِ َل َق ِويّ َأمِينٌ } [النمل ]39 :يدل على أن هذا العفريت يعلم فخامة هذا العرش
وضخامته ،وأنه شيء نفيس يستحق العتناء به ،خاصة في عملية نقله؛ لذلك قال من ناحية كبره
حمْله ،ومن ناحية نفاسته وفخامته ،فأنا عليه أمين لن أُبدّد
وضخامته " فأنا عليه قوي " قادر على َ
منه شيئا.
ثم تكلّم آخر لم يُحدّده القرآن إل بالوصف { :قَالَ الّذِي عِن َدهُ عِلْمٌ }
()3126 /
قَالَ الّذِي عِنْ َدهُ عِلْمٌ مِنَ ا ْلكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَنْ يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ فََلمّا َر َآهُ مُسْ َتقِرّا عِنْ َدهُ قَالَ َهذَا
شكُرُ لِ َنفْسِ ِه َومَنْ كَفَرَ فَإِنّ رَبّي غَ ِنيّ كَرِيمٌ
شكَرَ فَإِ ّنمَا َي ْ
شكُرُ َأمْ َأ ْكفُرُ َومَنْ َ
ضلِ رَبّي لِيَبُْلوَنِي أَأَ ْ
مِنْ َف ْ
()40
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
برخيا ،وكان رجلً صالحا أطلعه ال على أسرار الكون.
وقال آخرون :بل هو سليمان عليه السلم ،لما قال له العفريت{ أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن ّمقَا ِمكَ
}[النمل ]39 :قال هو { :أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ } [النمل ]40 :لنه لو كان شخصا
آخر لكان له تفوّق على سليمان في معرفة الكتاب.
لكن رَدّوا عليهم بأن من عظمة سليمان أنْ يعلمَ أحد رعيته هذا العلم ،فمَنْ عنده علم من الكتاب
بحيث يأتي بالعرش قبل طَرْفة عين هو خادم في مملكة سليمان ومُسخر له ،كما أن المزايا ل
تقتضي الفضلية ،وليس شَرْطا في المِلك أنْ يعرف كل شيء ،وإل َلقُلْنا للمِلكَ :تعَال أصلح لنا
دورة المياه.
أما نحن فنميل إلى أنه سليمان عليه السلم.
وفَرْق كبير في القدرات بين مَنْ يأتي بالعرش قبل أن يقوم الملك من مجلسه ،وبين مَنْ يأتي به
في طَرْفة عين ،و َنقْل العرش من مملكة بلقيس إلى مملكة سليمان يحتاج إلى وقت وإلى قوة.
والزمن يتناسب مع القوة تناسبا عكسيا :فكلما زادت القوة َقلّ الزمن ،فمثلً حين تُكلّف الطفل
الصغير بنقل شيء من مكانه إلى مكان ما ،فإنه يذهب إليه ببُطْء ويحمله ببُطء حتى يضعه في
مكانه ،أما الرجل فبيده وفي سرعة ينقله ،وهذه المسألة نلحظها في وسائل المواصلت ،ففرْق
بين السفر بالسيارة ،والسفر بالطائرة ،والسفر بالصاروخ مثلً.
وهذه تكلّمنا عنها في قصة " السراء والمعراج " فقد ُأسْرِي برسول ال صلى ال عليه وسلم بهذه
السرعة؛ لن ال تعالى َأسْرى به ،ونقله من مكان إلى مكان؛ لذلك جاءت الرحلة في سرعة فوق
تصوّر البشر.
وما دام الزمن يتناسب مع القوة ،فل تنسب الحدث إلى رسول ال ،إنما إلى ال ،إلى قوة القوى
ن قلتَ :فلماذا استغرقتْ الرحلة ليل َة وأخذت وقتا؟ نقول :لنه
التي ل تحتاج إلى زمن أصلً ،فإ ْ
صلى ال عليه وسلم مرّ بأشياء ،ورأى أشياء ،وقال ،وسأل ،وسمع ،فهو الذي شغل هذا الوقت،
أمّا السراء نفسه فل زمنَ له.
لذلك قبل أن يخبرنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ بهذه الحادثة العجيبة قال {:سُبْحَانَ الّذِي َأسْرَىا
ِبعَبْ ِدهِ }[السراء ]1 :أي :نزّهه عن مشابهة غيره ،كذلك مسألة َنقْل العرش في طرْفة عين ل بُدّ
ن فعلها فعلها بعون من ال وبعلم أطلعه ال عليه ،فنقله بكُنْ التي ل تحتاج وقتا ول قوة ،وما
أن مَ ْ
دام المر بإرادة ال وقوته وإلهامه فل نقول إل :آمين.
وفي قوله للجن } :أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن يَرْتَدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ { [النمل ]40 :تح ّد لعفريت الجن ،حتى ل
يظن أنه أقوى من النسان ،فإنْ أراد ال منحني من القوة ما أتفوّق عليك به ،بل وأُسخّرك بها
لخدمتي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جفَانٍ
ب وَ َتمَاثِيلَ وَ ِ
ومن ذلك قوله سبحانه عن تسخير الجنَ {:ي ْعمَلُونَ َلهُ مَا يَشَآءُ مِن مّحَارِي َ
ب َوقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ }[سبأ.]13 :
جوَا ِ
كَالْ َ
وليعلموا أنهم جهلء ،ظلّوا يعملون لسليمان وهو ميت ومُتكىء على عصاه أمامهم ،وهم
مرعوبون خائفون منه.
والتحدي قد يكون بالعُُلوّ ،وقد يكون بالدّنُو ،كالذي قال لصاحبه :أنا دارس باريس دراسة دقيقة،
ن أركب معك السيارة وأقول لك :أين نحن منها ،وأمام أيّ محل ،وأنا ُمغْمض العينين،
وأستطيع أ ْ
فقال الخر :وأنا أستطيع أن أخبرك بذلك بدون أن أُغمِض عَيْنيّ.
ضلِ رَبّي { [النمل:
وقوله } :فََلمّا رَآهُ { [النمل ]40 :أي :العرش } مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ قَالَ هَـاذَا مِن َف ْ
]40إما لنه أقدره على التيان به بنفسه ،أو سخّر له مَنْ عنده علم من الكتاب ،فأتاه به ،فهذه أو
ذلك فضل من ال.
شكُرُ أَمْ َأ ْكفُرُ { [النمل ]40 :يعني :أشكر ال فأُوفّق في هذا
} لِيَبُْلوَنِي { [النمل ]40 :يختبرني } أَأَ ْ
الختبار؟ أم أكفر بنعمة ال فأخفق فيه؟ لن الختبار إنما يكون بنتيجته.
والشكر بأن ينسب النعمة إلى المنعم وألّ يلهيه جمال النعمة عن جلل واهبها ومُسْديها ،فيقول
مثلً :إنما أوتيته على علم عندي.
شكْرنا شيئا ،فله
سهِ { [النمل ]40 :أي :أن ال تعالى ل يزيده ُ
شكُرُ لِ َنفْ ِ
شكَرَ فَإِ ّنمَا يَ ْ
وقولهَ } :ومَن َ
ـ سبحانه وتعالى ـ صفات الكمال المطلق قبل أنْ يشكره أحد ،فمَنْ يشكر فإنما يعود عليه ،وهو
شكْره.
ثمرة ُ
} َومَن َكفَرَ { [النمل ]40 :يعني :جحد النعمة ولم يشكر المنعم } فَإِنّ رَبّي غَ ِنيّ { [النمل]40 :
أي :عن شكره } كَرِيمٌ { [النمل ]40 :أي يعطي عبده رغم ما كان منه من جحود وكفر بالنعمة؛
لن نعمه تعالى كثيرة ل ُتعَدّ ،وهذا من حِلمه تعالى ورأفته بخَلْقه.
حصُوهَا }[إبراهيم ]34 :وقد تكررت هذه
لذلك لما نتأمل قوله تعالى {:وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ لَ ُت ْ
العبارة بنصّها في آيتين من كتاب ال ،مما جعل البعض يرى فيها تكرارا ل فائدة منه ،لكن لو
عجُز كل منهما لوجدناه مختلفا.
نظرنا إلى َ
فالولى تُختتم بقوله تعالى {:إِنّ النْسَانَ َلظَلُومٌ َكفّارٌ }[إبراهيم ]34 :و الخرى {:إِنّ اللّهَ َلغَفُورٌ
رّحِيمٌ }[النحل.]18 :
إذن :فهما متكاملتان ،لكلّ منهما معناها الخاص ،فالولى تبين ظلم النسان حين يكفر بنعمة ال
عليه ويجحدها ،وتضيف الخرى أن ال تعالى مع ذلك غفور لعبده رحيم به.
كما نلحظ في الية {:وَإِن َتعُدّواْ }[إبراهيم ]34 :استخدم (إنْ) الدالة على الشك؛ لن أحدا ل يجرؤ
على عَدّ ِنعَم ال في الكون ،فهي فوق الحصر؛ لذلك لم ُيقْدِم على هذه المسألة أحد ،مع أنهم
بوسائلهم الحديثة أحصُوا كل شيء إل نعم ال لم يتصَ ّد لحصائها أحد في معهد أو جامعة ممن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تخصصت في الحصاء.
وهذا دليل على أنها مقطوع بالعجز عنها ،كما لم نجد مثلً مَنْ تصدّى لحصاء عدد الرمل في
الصحراء .كما نقف عند قوله سبحانهِ {:ن ْع َمتَ اللّهِ }[إبراهيم ]34 :ولم ي ُقلِْ :نعَم ال ،فالعجز عن
الحصاء أمام نعمة واحدة؛ لن تحتها ِنعَم كثيرة لو تتبعتها لوجدتها فوق الحصر.
شهَا {
ثم لما جاءته بلقيس أراد أن يُجري لها اختبا َر عقلٍ ،واختبارَ إيمان } :قَالَ َنكّرُواْ َلهَا عَرْ َ
()3127 /
شهَا نَنْظُرْ أَ َتهْ َتدِي أَمْ َتكُونُ مِنَ الّذِينَ لَا َيهْتَدُونَ ()41
قَالَ َنكّرُوا َلهَا عَ ْر َ
قولهَ { :نكّرُواْ } [النمل ]41 :ضده عرّفوا؛ لنه جاء بالعرش على هيئته كما كان عندها في سبأ،
شهَا }
ولو رأتْه على حالته الولى لقالتْ هو هو ،ولم يظهر له ذكاؤها؛ لذلك قال { َنكّرُواْ َلهَا عَرْ َ
[النمل ]41 :يعني :غيّروا بعض معالمه ،ومنه شخص متنكر حين يُغيّر ملمحه وزيّه حتى ل
يعرف مَنْ حوله.
ن لَ َيهْتَدُونَ } [النمل ]41 :تهتدي إيمانا إلى السلم ،أو تهتدي
{ نَنظُرْ أَ َتهْتَدِي َأمْ َتكُونُ مِنَ الّذِي َ
عقليا إلى الجواب في مسألة العرش.
()3128 /
شكِ قَاَلتْ كَأَنّهُ ُهوَ وَأُوتِينَا ا ْلعِ ْلمَ مِنْ قَبِْلهَا َوكُنّا ُمسِْلمِينَ ()42
فََلمّا جَا َءتْ قِيلَ أَ َه َكذَا عَرْ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كما يسبّه الناس؟ فقال الحنف :اعفني يا أمير المؤمنين ،فقال معاوية :عزمتُ عليك إلّ فع ْلتَ،
فقال :أما وقد عزمت عليّ فسأصعد المنبر ،ولكني سأقول للناس :إن أمير المؤمنين معاوية أمرني
ن عليا ،فقولوا معي :لعنه ال .عندها قال معاوية :ل يا أحنفُ ،ل تقل شيئا.
أنْ ألع َ
عِليّ؟
لماذا؟ لن اللعن في هذه الحالة سيعود على مَنْ؟ على معاوية أو عَلَى َ
وتُحكَي قصة الخيّاط العور الذي خاط لحد الشعراء جُبّة فجاءت وَأحَد ال ُكمّيْن أطول من الخر،
فلم يستطع لبسها ،فلما سألوه عن عدم لُبْس الجبة الجديدة أخبرهم بما حدث من الخياط فقالوا:
سوَاءُفالكلم
عمْروا قُباء لَ ْيتَ عينيه َ
شعْرا لَيْس يُدْرَى أَمديحٌ أَمْ ِهجَا ُءخَاطَ لِي َ
أُهْجه ،فقال:قُلْت ِ
يحتمل المعنيين :الدعاء له ،والدعاء عليه .هذا هو الرد الدبلوماسي الذي يهرب به صاحبه من
المواجهة.
وكذلك قالتْ بلقيس جوابا دبلوماسيا { كَأَنّهُ ُهوَ } [النمل ]42 :أما { وَأُوتِينَا ا ْلعِلْمَ مِن قَبِْلهَا َوكُنّا
مُسِْلمِينَ } [النمل ]42 :فيحتمل أنْ يكون امتدادا لقوْل بلقيس ،يعني :أوتينا العلم من قبل هذه
الحادثة ،وعرفنا أنك نبيّ لما رددتَ إلينا الهدية ،وقلت ما قلت ،فلم نكُنْ في حاجة إلى مثل هذه
الحادثة لنعلم نُبوّتك.
ويُحتمل أنها من كلم سليمان عليه السلم.
()3129 /
َوصَدّهَا مَا كَا َنتْ َتعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّهِ إِ ّنهَا كَا َنتْ مِنْ َقوْمٍ كَافِرِينَ ()43
المعنى :صدّها ما فعل سليمان من أحداث ،وما أظهر لها من آيات ،صدّها عن الكفر الذي أَِلفَتْه {
إِ ّنهَا كَا َنتْ مِن َقوْمٍ كَافِرِينَ } [النمل ]43 :فصدّها سليمان بما فعل عما كانت تعبد من دون ال.
()3130 /
ش َفتْ عَنْ سَاقَ ْيهَا قَالَ إِنّ ُه صَرْحٌ ُممَرّدٌ مِنْ َقوَارِيرَ
قِيلَ َلهَا ا ْدخُلِي الصّرْحَ فََلمّا َرأَتْهُ حَسِبَتْهُ ُلجّ ًة َوكَ َ
سلَ ْيمَانَ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()44
قَاَلتْ َربّ إِنّي ظََل ْمتُ َنفْسِي وَأَسَْل ْمتُ مَعَ ُ
الصّرْح :إما أن يكون القصر المشيد الفخم , ،وإما أن يكون البهو الكبير الذي يجلس فيه الملوك
حسِبَتْهُ ُلجّةً } [النمل ]44 :ظنّته ماءً ،والنسان إذا رأى
مثل :إيوان كسرى مثلً ،فلما دخلتْ { َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أمامه ماءً أو بَلَلً يرفع ثيابه بعملية آلية َقسْرية حتى ل يصيبه البَلَل؛ لذلك كشفتْ بلقيس عن
ساقيها يعني :رفعتْ ذَيْل ثوبها.
وهنا نَبهها سليمان { إِنّ ُه صَرْحٌ ّممَرّدٌ مّن قَوارِيرَ } [النمل ]44 :يعني :ادخلي ل تخافي بللً ،فهذا
ليس لُجةَ ماء ،إنما صَرْح ممرد من قوارير يعني :مبنيّ من الزجاج والبللور أو الكريستال ،بحيث
يتموج الماء من تحته بما فيه من أسماك.
{ قَاَلتْ َربّ إِنّي ظََل ْمتُ َنفْسِي } [النمل ]44 :بالكفر أولً ،وبظنّ السوء في سليمان ،وأنه يريد أنْ
سلَ ْيمَانَ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [النمل ]44 :ويبدو أنها لم تنطق
يُغرقني في لجة الماء { وَأَسَْل ْمتُ مَعَ ُ
بكلمة السلم صريحة إل هذه المرة ،وأن القول السابق{ َوكُنّا مُسِْلمِينَ }[النمل ]42 :كان من كلم
سليمان عليه السلم.
وقولها { وَأَسَْل ْمتُ َمعَ سُلَ ْيمَانَ } [النمل ]44 :مثل قول سَحَرة فرعون لما رأوا المعجزة {:آمَنّا بِ َربّ
ن َومُوسَىا }[طه ]70 :لن اليمان إنما يكون بال والرسول دال على ال ،لذلك قالت:
هَارُو َ
{ وَأَسَْل ْمتُ مَعَ سُلَ ْيمَانَ } [النمل ]44 :ولم ت ُقلْ :أسلمتُ لسليمان ،نعم لقد دانتْ له ،واقتنعتْ بنبوته،
لكن كبرياء الملك فيها جعلها ل تخضع له ،وتعلن إسلمها ل مع سليمان؛ لنه السبب في ذلك،
وكأنها تقول له :ل تظن أنّي أسلمتُ لك ،إنما أسلمتُ معك ،إذن :أنا وأنت سواء ،ل يتعالى أحد
منا على الخر ،فكلنا عبد ل.
وقد دخل هذه القصة بعض السرائيليات ،منها أن سليمان ـ عليه السلم ـ جعل الصرح على
شعِرة الساقين ،وإلى غير هذا من
هذه الصورة لتكشف بلقيس عن ساقيها؛ لنه بلغه أنها مُ ْ
الفتراءات التي ل تليق بمقام النبوة.
ثم يأتي بنا الحق سبحانه إلى نبي آخر في موكب النبياء { :وََلقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىا َثمُودَ }
()3131 /
صمُونَ ()45
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى َثمُودَ َأخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْ ُبدُوا اللّهَ فَإِذَا ُهمْ فَرِيقَانِ يَخْ َت ِ
م ّرتْ بنا قصة نبي ال صالح ـ عليه السلم ـ مع قومه ثمود في سورة الشعراء ،وأُعيد ذكرها
هنا؛ لن القرآن يقصّ على رسول ال من موكب النبياء ما يُثبّت به فؤاده ،كلّما تعرض لحداث
تُزلزل الفؤاد ،يعطيه ال النّجْم من القرآن بما يناسب الظروف التي يمرّ بها ،وهذا ليس تكرارا
للحداث ،إنما توزيع للقطات ،بحيث إذا تجمعتْ تكاملتْ في بناء القصة.
وقوله سبحانه { وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَآ إِلَىا َثمُودَ َأخَاهُمْ صَالِحا } [النمل ]45 :ل بُدّ أنه أرسل بشيء ما هو؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمّيت (أنْ) التفسيرية ،كما في قوله تعالى {:وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ
{ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ } [النمل ]45 :لذلك ُ
ضعِيهِ }[القصص.]7 :
مُوسَىا }[القصص ]7 :ماذا؟{ أَنْ أَ ْر ِ
سوَسَ ِإلَيْهِ الشّيْطَانُ }[طه ]120 :بأي شيء؟{ قَالَ ياآدَمُ َهلْ
وقد يأتي التفسير بجملة ،كما فيَ {:فوَ ْ
أَدُّلكَ عَلَىا شَجَ َرةِ ا ْلخُلْدِ َومُ ْلكٍ لّ يَبْلَىا }[طه.]120 :
فشرح الوسوسة وهي شيء عام بقوله {:قَالَ ياآ َدمُ }[طه ]120 :فرسالتنا إلى ثمود ملخصها
ومؤداها { أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ } [النمل.]45 :
والعبادة كما ذكرنا أن نطيع ال بفعل ما أمر ،وبترْك ما نهى عنه وزَجر ،أما ما لم ي ِردْ فيه أمر
ول َنهْي فهو من المباحات إنْ شئتَ فعلتها ،وإنْ شئت تركتها ،وإذا ما استعرضنا حركة الحياء
والخلفاء في الرض وجدنا %5من حركتهم تدخّل فيها الشارع بافعل ول تفعل ،أما الباقي فهو
مُباح.
إذن :فالتكليف منُوط بأشياء يجب أنْ تفعلها؛ لن فيها صلحَ مجتمعك ،أو أشياء يجب أن تتركها؛
لن فيها فساد مجتمعك.
فماذا كانت النتيجة؟
صمُونَ } [النمل.]45 :
{ فَِإذَا ُهمْ فَرِيقَانِ َيخْ َت ِ
ن يقف فريق منهم ضد الخر ،والمراد أن فريقا منهم عبدوا ال وأطاعوا ،والفريق
والختصام أ ْ
الخر عارض وكفر بال.
وقد وقف عند هذه الية بعض الذين يحبون أنْ يتهجّموا على السلم وعلى أسلوب القرآن ،وهم
يفتقدون الملَكة العربية التي تساعدهم على َفهْم كلم ال ،وإنْ تعلّموها فنفوسهم غير صافية
لستقبال كلم ال ،وفيهم خُبْث وسُوء نية.
صمُونَ } [النمل ]45 :دالة على الجمع،
واعتراضهم أن { فَرِيقَانِ } [النمل ]45 :مثنى و { َيخْ َت ِ
فلماذا لم َيقُل :يختصمان؟ وهذه لغة القرآن في مواضع عدة.
حدَا ُهمَا عَلَىا
ومنها قوله تعالى {:وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا فَإِن َب َغتْ إِ ْ
الُخْرَىا َفقَاتِلُواْ الّتِي تَ ْبغِي حَتّىا َتفِيءَ إِلَىا َأمْرِ اللّهِ فَإِن فَآ َءتْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا }[الحجرات.]9 :
والقياس يقتضي أن يقول :اقتتلتا .لكن حين نتدبّر المعنى نجد أن الطائفة جماعة مقابل جماعة
أخرى ،فإنْ حدث قتالٌ حمل ُكلّ منهم السلح ،ل أن تتقدم الطائفة بسيف واحد ،فهم في حال
القتال جماعة.
لذلك قال (اقتتلوا) بصيغة الجمع ،أما في البداية وعند تقرير القتال فل ُكلّ طائفة منهما رأْي واحد
يعبر عنه قائدها ،إذن :فهما في هذه الحالة مثنى.
كما أن الطائفة وإنْ كانت مفردة لفظا إل أنها ل تُطلَق إل على جماعة ،فيقف كل واحد من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الجماعة بسيفه في مواجهة آخر من الطائفة الخرى.
صمُونَ { [النمل ]45 :لن
وهنا أيضا } فَِإذَا ُهمْ فَرِيقَانِ { [النمل ]45 :أي :مؤمنون وكافرون } َيخْ َت ِ
كل فرد في هذه الجماعة يقف في مواجهة فرد من الجماعة الخرى.
وفي موضع آخر ،شرح لنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ هذه المسألة ،فقال سبحانه {:فَالّذِينَ َكفَرُواْ
صهَرُ بِهِ مَا فِي ُبطُو ِنهِمْ وَالْجُلُودُ *
حمِيمُ * ُي ْ
س ِهمُ ا ْل َ
صبّ مِن َفوْقِ رُءُو ِ
ط َعتْ َلهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارٍ ُي َ
قُ ّ
وََلهُمْ ّمقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُّلمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْ ُرجُواْ مِ ْنهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا َوذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }
[الحج19 :ـ .]22
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ
خلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
أما الفريق الخر {:إِنّ اللّهَ يُ ْد ِ
س ُهمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَ ُهدُواْ إِلَى الطّ ّيبِ مِنَ ا ْل َق ْولِ وَ ُهدُواْ
ب وَُلؤْلُؤا وَلِبَا ُ
يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَ َه ٍ
حمِيدِ }[الحج23 :ـ .]24
إِلَىا صِرَاطِ الْ َ
فبيّن لنا الحق ـ سبحانه ـ كل فريق منهما ،وبيّن مصيره وجزاءه.
سدٌ بالباب،
ونلحظ هنا } فَإِذَا { [النمل ]45 :يسمّونها الفجائية ،ويُمثّلون لها بقولهم :خرجتُ فإذا أَ َ
والمعنى :أنك فُوجِئْت بشيء لم تكُنْ تتوقعه ،كذلك حدث من الكافرين من قوم ثمود حين قال لهم
نبيهم } أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ { [النمل ]45 :لكن يفاجئوننا بأنهم فريقان :مؤمنون وكافرون.
ومنطق العقل والحق والفطرة السليمة يقتضي أنْ يستقبلوا هذا المر بالطاعة والتسليم ،ول يختلفوا
ن الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي
فيه هذا الختلف :فريق في الجنة وفريق في السعير{ إِ ّ
جحِيمٍ }[النفطار13 :ـ .]14
َ
وقالوا :إن ال تعالى ل يرسل الرسل إل على فساد في المجتمع ،الخالق عز وجل خلق في
النسان النفس اللوامة التي تردّه إلى رُشْده وتنهاه ،والنفس المطمئنة التي اطمأنتْ باليمان ،وأَمنت
ال على الحكم في افعل ول تفعل ،والنفس المّارة بالسوء ،وهَي التي ل تعرف معروفا ،ول تنكر
مُ ْنكَرا ،ول تدعو صاحبها إل إلى السوء.
ن يتعهّد المربّي ليؤدي غايته على الوجه الكمل،
وال ـ عزّ وجلّ ـ رب ،ومن عادة الرب أ ْ
أرأيتم أبا يُربّي أبناءه إل لغاية؟ وما دام هو سبحانه ربي فل يأمرني إل لصالحي ،وصالح
مجتمعي ،فل شيء من طاعتنا يعود عليه بالنفع ول شيء من معاصينا يعود عليه بالضرر؛ لنه
سبحانه خلق الكون كله بصفات الكمال المطلق .إذن :كانت الفطرة السليمة تقتضي استقبال أوامر
ال بالقبول والتسليم.
وهذه الخصومة تجمع المؤمنين في جهة؛ لنهم اتفقوا على اليمان .والكافرين في جهة؛ لنهم
اتفقوا على الكفر .لكن يمتاز المؤمنون بأن يظل وفاقهم إلى نهاية العمر ،بل وعند لقاء ال تعالى
في الجنة؛ لنهم اتفقوا في الدنيا في خطة العمل وفي الخرة في غاية الجزاء ،كما يقول تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف.]67 :
{ الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
أما الكفار فسوف تقوم بينهم الخصومات يوم القيامة ،ويلعن بعضهم بعضا ،ويتبرّأ بعضهم من
بعض ،والقرآن حين يُصوّر تخاصم أهل النار يقول بعد أنْ ذكر نعيم أهل الجنة:
حمِي ٌم وَغَسّاقٌ *
جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا فَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ * هَـاذَا فَلْ َيذُوقُوهُ َ
{ هَـاذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ * َ
شكْلِهِ أَ ْزوَاجٌ * هَـاذَا َفوْجٌ ّمقْتَحِمٌ ّم َعكُ ْم لَ مَرْحَبا ِبهِمْ إِ ّنهُمْ صَالُواْ النّارِ * قَالُواْ َبلْ أَنتُمْ
وَآخَرُ مِن َ
ضعْفا فِي
لَ مَ ْرحَبا ِبكُمْ أَن ُتمْ قَ ّدمْ ُتمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ * قَالُواْ رَبّنَا مَن َقدّمَ لَنَا هَـاذَا فَ ِز ْدهُ عَذَابا ِ
غتْ عَ ْنهُمُ
خذْنَاهُمْ سِخْرِيّا َأمْ زَا َ
ن الَشْرَارِ * أَتّ َ
النّارِ * َوقَالُواْ مَا لَنَا لَ نَرَىا رِجَالً كُنّا َنعُدّهُمْ مّ َ
الَ ْبصَار * إِنّ ذَِلكَ َلحَقّ َتخَاصُمُ َأ ْهلِ النّارِ }[ص55 :ـ .]64
إذن :فالخصومة في الدنيا بين مؤمن وكافر ،أما في الخرة فبين الكافرين بعضهم البعض ،بين
الذين َأضَلّوا والذي ُأضِلّوا ،بين الذين اتّبعُوا ،والذي اتّبِعوا.
()3132 /
حمُونَ ()46
حسَنَةِ َلوْلَا َتسْ َتغْفِرُونَ اللّهَ َلعَّلكُمْ تُرْ َ
قَالَ يَا َقوْمِ لِمَ َتسْ َتعْجِلُونَ بِالسّيّ َئةِ قَ ْبلَ الْ َ
لما ُذكِرت قصة ثمود في الشعراء ،لم تذكر شيئا عن استعجال السيئة ،فما هي السيئة التي
استعجلوها وربهم عز وجل يلومهم عليها؟ هي قولهم {:فَأْتِنَا ِبمَا َت ِعدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ }
[العراف.]70 :
وعجيب أمْر هؤلء القوم ،ماذا يفعلون لو نزل بهم؟ قالوا معا :حينما تأتينا السيئة نستغفر ونتوب
يظنون أن الستغفار والتوبة تُقبل منهم في هذا الوقت.
جهَالَةٍ ُثمّ يَتُوبُونَ مِن
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول {:إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى اللّهِ ِللّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ ِب َ
ستِ ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ
حكِيما * وَلَيْ َ
قَرِيبٍ فَُأوْلَـا ِئكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَ ْي ِه ْم َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ
ن َولَ الّذِينَ َيمُوتُونَ وَ ُهمْ ُكفّارٌ ُأوْلَـائِكَ أَعْ َتدْنَا َلهُمْ
حضَرَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ ال َ
حَتّىا ِإذَا َ
عَذَابا َألِيما }[النساء17 :ـ .]18
فلماذا تستعجلون السيئة والعذاب ،وكان عليكم أن تستعجلوا الحسنة ،واستعجالكم السيئة يحول
حمُونَ } [النمل.]46 :
بينكم وبين الحسنة؛ لنها لن تُقبل منكم { َل ْولَ تَسْ َت ْغفِرُونَ اللّهَ َلعَّلكُمْ تُرْ َ
()3133 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ك وَ ِبمَنْ َم َعكَ قَالَ طَائِ ُركُمْ عِ ْندَ اللّهِ َبلْ أَنْتُمْ َقوْمٌ ُتفْتَنُونَ ()47
قَالُوا اطّيّرْنَا ِب َ
اطيّر :استعمل الطير ،وهذه عملية كانوا يلجئون إليها عند قضاء مصالحهم أو عند سفرهم مثلً،
فكان الواحد منهم يُمسك بالطائر ثم يرسله ،فإنْ طار ناحية اليمين تفاءل وأقبل على العمل ،وإنْ
طار ناحية الشمال تشاءم ،وامتنع عما هو قادم عليه ،يُسمّونها السانحات والبارحات .فالمعنى:
تشاءمنا منك ،وممّنْ اتبعك.
{ قَالَ طَائِ ُركُمْ عِندَ اللّهِ } [النمل ]47 :يعني :قضاء مقضيّ عليكم ،وليس للطير َدخْل في أقداركم،
وما يجري عليكم من أحكام ،فيكف تأخذون من حركته مُنطلقا لحركتكم؟ إنما طائركم وما يُقدّر
لكم من عند ال قضاء يقضيه.
وفي آية يس {:قَالُواْ طَائِ ُركُم ّم َعكُمْ }[يس ]19 :يعني تشاؤمكم هو كفركم الذي تمسكتم به.
لكن ،لماذا جاء التشاؤم هنا ،ونبيهم يدعوهم إلى ال؟ قالوا :لنه بمجرد أنْ جاءهم عارضوه،
فأصابهم قحْط شديد ،وض ّنتْ عليهم السماء بالمطر فقالوا :هو الذي جَرّ علينا القَحْط والخراب.
وقولهَ { :بلْ أَنتُمْ َقوْمٌ ُتفْتَنُونَ } [النمل ]47 :الفتنة :إما بمعنى الختبار والبتلء ،وإما بمعنى فتنة
الذهب في النار.
()3134 /
وهذه المسألة أيضا لقطة جديدة من القصة لم تُذكَر في الشعراء ،وهكذا كل ال َقصَص القرآني لو
ت متفرقة ،كلّ منها يضيف جديدا ،ويعالج أمرا يناسب النجْم القرآني
تدبّره النسان لوجده لقطا ٍ
الذي نزل فيه لتثبيت رسول ال صلى ال عليه وسلم.
سعَةُ
والرّهْط :اسم جمع ،ل واحدَ له من لفظه ،ويدل على العدد من الثلثة إلى العشرة ،فمعنى { ِت ْ
رَهْطٍ } [النمل ]48 :كأنهم كانوا قبائل أو أسرا أو فصائل ،قبيلة فلن وقبيلة فلن ..إلخ.
سدُونَ فِي الَ ْرضِ } [النمل ]48 :فلماذا قال بعدهاَ { :ولَ ُيصِْلحُونَ } [النمل]48 :؟ قالوا :لن
{ ُيفْ ِ
النسان قد يُفسد في شيء ،ويُصلح في آخر ،كالذين خلطوا عملً صالحا وآخر سيئا ،وهؤلء
ن يتوبَ عليهم.
عسى ال أ ْ
أما هؤلء القوم ،فكانوا أهل فساد َمحْض ل يعرفون الصلح ،فإنْ رأوْه عمدوا إليه فأفسدوه،
فكأنهم ُمصِرّون على الفساد ،وللفساد قوم ينتفعون به ،لذلك يدافعون عنه ويعارضون في سبيله
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أهل الصلح والخير؛ لنهم يُعطّلون عليهم هذه المنفعة.
وقلنا :إن صاحب الدين والخلق والمبادىء في أيّ مصلحة تراه مكروها من هذه الفئة التي تنتفع
من الفساد ،يهاجمونه ويتتبعونه بال َهمْز واللمز ،يقولون :حنبلي ،وربما يهزأون به ..إلخ؛ لذلك لم
يقف في وجه الرسل إل هذه الطائفة المنتفعة بالفساد.
()3135 /
()3136 /
شعُرُونَ ()50
َو َمكَرُوا َمكْرًا َو َمكَرْنَا َمكْرًا وَ ُهمْ لَا يَ ْ
معنى { َو َمكَرُواْ َمكْرا } [النمل ]50 :أي :ما دبّروه لقتل نبي ال ورسوله إليهم { َو َمكَرْنَا َمكْرا }
[النمل ]50 :وفَرْق بين مكر ال عز وجل{ وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل عمران ]54 :وبين مكْر
الكافرين{ َولَ يَحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّيّىءُ ِإلّ بِأَ ْهلِهِ }[فاطر.]43 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :حين تمكر بخير ،فل ُي َع ّد مكْرا ،إنما إبطال لمكْر العدو ،فل يجوز لك أنْ تتركه يُدبّر لك
ويمكُر بك ،وأنت ل تتحرك؛ لذلك قال تعالى{ وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال ]30 :لنهم يمكرون
بشرّ ،ونحن نمكر لدفع هذا الشر لِ ُنصْرة رسولنا ،ونجاته من تدبيركم.
والمكْر :مأخوذ من قولهم :شجرة ممكورة ،وهذا في الشجر رفيع السّاق المتسلق حين تلتفّ سيقانه
ل منها ممكور في الخر
وأغصانه ،بعضها على بعض ،فل تستطيع أن تُميّزها من بعضها ،ف ُك ّ
مستتر فيه ،وكذلك المكر أن تصنع شيئا تداريه عن الخصم.
شعُرُونَ } [النمل ]50 :أي :أنه مكْر محبوك ومحكم ،بحيث ل يدري به
وقوله تعالى { :وَهُ ْم لَ يَ ْ
الممكور به ،وإل ل يكون َمكْرا.
وحين نتأملَ {:ولَ َيحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّيّىءُ ِإلّ بِأَهِْلهِ }[فاطر ]43 :و{ وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل
عمران ]54 :نعلم أن المكر ل يُمدح ول ُيذَمّ لذاته ،إنما بالغاية من ورائه ،كما في قوله تعالى عن
الظن {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرا مّنَ الظّنّ }[الحجرات ]12 :فالظن منه الخيّر ومنه
السيىء.
ونسمع الن تعبيرا جديدا يعبر عما يدور في المجتمع من انتشار المكر وسوء الظن ،يقولون:
الصراحة مكر القرن العشرين ،فالذي يمكر بالناس يظن أنهم جميعا ماكرون فل يصدق كلمهم،
ويحتاط له حتى إنْ كان صدقا ،فأصبح المكر وسوء الظن هو القاعدة ،فإنْ صارحتَ الماكر ل
يُصدقك ويقول في نفسه :إنه يُعمى عليّ أو يُضلّلني.
()3137 /
ج َمعِينَ ()51
فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ َمكْرِ ِهمْ أَنّا َدمّرْنَاهُ ْم َو َق ْو َمهُمْ أَ ْ
أي :تأمل ما حاق بهم لما مكروا بنبي ال ،واتفقوا على التبييت له وقَتْله ،يُرْوى أنهم لما دخلوا
عليه أُلْقي على كل واحد منهم حجر ل يدري من أين أتاه ،فهلكوا جميعا ،فقد سخّر ال له ملئكة
توّلتْ حمايته والدفاع عنه.
أو :أن ال تعالى صنع له حيلة خرج بها وذهب إلى حضرموت ،وهناك مات عليه السلم،
سمّيت حضرموت .وآخرون قالوا :بل ذهبوا ينتظرونه في سفح جبل ،واستتروا خلف صخرة
فَ ُ
ليُوقِعوا به فسقطت عليهم الصخرة فماتوا جميعا.
المهم ،أن ال دمرهم بأيّ وسيلة من هذه{ َومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ }[المدثر ]31 :لقد أرادوا أنْ
يقتلوه وأهلَه ،فأهلكهم ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3138 /
فَتِ ْلكَ بُيُو ُتهُمْ خَاوِيَةً ِبمَا ظََلمُوا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َيةً ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ ()52
قوله تعالى { :فَتِ ْلكَ بُيُو ُتهُمْ خَاوِيَةً } [النمل ]52 :دليل على أن ال أهلكهم فلم يُ ْبقِ منهم أحدا،
ك ليَةً } [النمل ]52 :عبرة وعظة { ّلقَوْمٍ
وتُركَتْ بيوتهم خاوية بسبب ظلمهم { إِنّ فِي ذاِل َ
َيعَْلمُونَ } [النمل.]52 :
وفي مقابل إهلك الكافرين { :وَأَنجَيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ }
()3139 /
فمن آمن واتقى من قوم صالح نجّاه ال عز وجل من العذاب الذي نزل بقومهم قوم ثمود.
انتهى الكلم هنا عن قصة ثمود ،وحين نقارن الحداث هنا بما ورد في سورة الشعراء نجد أحداثا
جديدة لم تُذكَر هناك ،كما لم يذكر هنا شيئا عن قصة الناقة التي وردتْ هناك ،مما يدلّ على
تكامل لقطات القصة في السور المختلفة.
ثم يقصّ علينا طرفا من قصة نبي آخر ،وهو لوط عليه السلم { :وَلُوطا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ }
()3140 /
(لُوطا) جاءت منصوبة على أنها مفعول به ،والتقدير :أرسلنا لوطا ،كما قال سبحانه {:وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَآ
إِلَىا َثمُودَ َأخَاهُ ْم صَالِحا أَنِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ }[النمل.]45 :
وقوله تعالى { :إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُ ْبصِرُونَ } [النمل ]54 :فذكر الداء الذي
حدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ
استشرى فيهم .وفي سورة الشعراء قال سبحانه{ أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ أَ َ
}[العراف ]80 :وهنا قال { :وَأَن ُتمْ تُ ْبصِرُونَ } [النمل ]54 :أي :تتعالمون بها وتتجاهرون بها،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فدلّ على أنهم أجعوا عليها وارتضوْهَا ،وأنه لم َيعُدْ عندهم حياء من ممارستها.
حلّ بأصحاب الفساد قبلكم من أقضية ال عليهم.
أو :يكون المعنى :وأنتم تبصرون ما َ
()3141 /
جهَلُونَ ()55
ش ْه َوةً مِنْ دُونِ النّسَاءِ َبلْ أَنْتُمْ َقوْمٌ َت ْ
أَئِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ َ
جهَلُونَ } [النمل:
هذا بيان وتفصيل للداء وللفاحشة التي انتشرت بينهم ،ومعنىَ { :بلْ أَن ُتمْ َقوْمٌ َت ْ
جهَلُونَ }
]55الية في ظاهرها أنها تتعارض مع{ وَأَنتُمْ تُ ْبصِرُونَ }[النمل ]54 :لكن المعنى { َت ْ
[النمل ]55 :الجهل هنا ليس هو ضد العلم ،إنما الجهل بمعنى السّفه.
والبعض يظن أن الجهل َألّ تعلم ،ل إنما المية هي الّ تعلم ،أمّا الجهل فأنْ تعلم قضية مخالفة
للواقع؛ لذلك الميّ أسهل في القناع؛ لنه خالي الذّهْن ،أمّا الجاهل فلديه قضية خاطئة ،فيستدعي
المر أن تنزع منه قضية الباطل ،ثم تُدخِل قضية الحق ،فالجهل ـ إذن ـ أشقّ على الدعاة من
المية.
جوَابَ َق ْومِهِ }
ثم يقول الحق سبحانهَ { :فمَا كَانَ َ
()3142 /
طهّرُونَ ()56
جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا َأخْرِجُوا َآلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَ ِتكُمْ إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَ َت َ
َفمَا كَانَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3143 /
أي :من ال ُمهْلَكين مع قومها ،فقد كانت تدل قومها على ضيفان لوط؛ ليأتوا إليهم ليفعلوا معهم
الفاحشة ،لذلك أصابها من العذاب مثلما أصاب قومها.
()3144 /
أي :قَبُح هذا المطر ،وإنْ أبهم المطر هنا فقد وضّحه الحق ـ تبارك وتعالى ـ في آيات أخرى
سجّيل ،وهو الطين إذا حُرِق ،فصار فخّارا ،وهذه الحجارة منظمة مُسوّمة
فقال :من طين ،ومن ِ
ل واحد منهم حَجَره المسمّى باسمه ،والذي ل يُخطِئه إلى غيره.
صنعها ال لهم بحساب دقيق ،فل ُك ّ
()3145 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمٌ عَلَ ْيكُـمْ طِبْتُمْ
حتْ أَ ْبوَا ُبهَا َوقَالَ َلهُمْ خَزَنَ ُتهَا سَ َ
ألَ ترى َقوْلَ أهل الجنة {:حَتّىا ِإذَا جَآءُوهَا َوفُتِ َ
فَا ْدخُلُوهَا خَاِلدِينَ * َوقَـالُواْ الْحَـمْدُ للّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَعْ َد ُه وََأوْرَثَنَا الَ ْرضَ نَتَ َبوّأُ مِنَ ا ْلجَنّةِ حَ ْيثُ
نَشَآءُ }[الزمر73 :ـ .]74
كذلك حين نرى الشرير الذي شاع شرّه وكثُرَ فساده حين ينزل به ما يستحق من عقاب ال نقول
جميعا ساعةَ نسمع خبره :الحمد ل ،هكذا بعملية ل شعورية عند الجميع أنْ تلهج ألسنتُهم بالحمد
عند نزول النعمة على أصحابها ،والنقمة على مَنْ يستحقها.
خذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآ ِء وَالضّرّآءِ
ويقول تعالى عن أهل الشر والفساد {:وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىا ُأ َممٍ مّن قَبِْلكَ فَأَ َ
ستْ قُلُو ُبهُمْ وَزَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ مَا
َلعَّلهُمْ يَ َتضَرّعُونَ * فََلوْل ِإذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُو ْا وَلَـاكِن َق َ
شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ
كَانُواّ َي ْعمَلُونَ * فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[النعام:
طعَ دَابِرُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ ظََلمُواْ وَالْ َ
خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبِْلسُونَ * فَقُ ِ
أَ َ
42ـ .]45
فبعد أنْ قطع ال دابر الظالمين قال :الحمد ل رب العالمين ،ونلحظ هنا الفرق بين فتح لك ،وفتح
عليك؛ فتح لك يعني :فتح في صالحك ،ومنه {:إِنّا فَتَحْنَا َلكَ فَتْحا مّبِينا }[الفتح.]1 :
شيْءٍ }[النعام.]44 :
أما فتح عليهم يعني :بالسوء نكايةَ فيهم ،فمعنى{ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
أعطاهم الخير ليهلكهم به ،وهم في حال نعمة ومكانة ،حتى إذا أخذهم ال كان َأخْذه أليما شديدا.
حمْدُ للّهِ الّذِي نَجّانَا مِنَ
وفي قصة نوح عليه السلم {:فَإِذَا اسْ َتوَ ْيتَ أَنتَ َومَن ّم َعكَ عَلَى ا ْلفُ ْلكِ َف ُقلِ الْ َ
ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[المؤمنين.]28 :
حمْد ال هنا على أمرين :الحمد ل لنه أغرق الكافرين الظالمين وخلّصنا منهم ،والحمد ل لنه
فَ
نجّى المؤمنين.
طفَىا } [النمل ]59 :وهم المؤمنون الذين نصرهم
ثم يقول سبحانه { :وَسَلَمٌ عَلَىا عِبَا ِدهِ الّذِينَ اصْ َ
ال ،وجعل العاقبة لهم ،والسلم عليهم بعدها لقوه من عَ َنتِ الكفار وعنادهم ،فالحمد ل الذي أهلك
المفسدين ،وأتى بالسلم على المهتدين.
ثم يطرح الحق سبحانه قضية ،ويأتي بها في صورة سؤال واستفهام؛ لتكون أبلغ في النفس من
مجرد الخبار بها } :ءَآللّهُ خَيْرٌ َأمّا يُشْ ِركُونَ { [النمل.]59 :
ولو أن الية قالت :قل الحمد ل وسلم على عباده الذين اصطفى لن ال خير وما يشركون به
شرّ لكان الكلمُ خبرا ،والخبر في ذاته وبصرف النظر عن قائله يحتمل الصدق أو الكذب.
أمّا حين تُعرض هذه القضية في صورة الستفهام ،فقد جعلتَ مخاطبك هو الذي ينطق بها ،كما لو
أنكر أحد الصدقاء جميلَك وأياديك عليه ،فبدل أن تخبر أنت :فعلتُ لك كذا وكذا تدَعْه هو الذي
ق ومعتقدٌ أن الجابة ستكون في صالحه.
يُخبر فتقول :ألم أفعل لك كذا وكذا؟ ول يقول هذا إل واث ٌ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالمعنى } :ءَآللّهُ خَيْرٌ َأمّا يُشْ ِركُونَ { [النمل ]59 :قولوا لنا أنتم ونحن نرتضي حكمكم بعدما رأيتُم
وسمعتم من هذه القصة :آال خير أم الذين أشركوا به خير؟ ول بد أن تأتي الجابة :ال خير؛
لذلك لما نزلت هذه الية انفعل لها رسول ال صلى ال عليه وسلم وأسرع بالجواب " :بل ال خير
وأبقى وأجلّ وأكرم ".
مما يدل على أن النفعال بالقرآن واجب ونقصد النفعال بمعانيه ،ل النفعال بالصوت والنغمات
كالذي نسمعه من هؤلء (الذكّيرة) الذي يُشجّعون المقرئين بالصياح والضجيج الذي ل يتناسب
وجلل اليات ،وهم مع ذلك ل يفهمون المعاني ول يتأثرون بها ،لدرجة أن منهم مَنْ يسمع آيات
العذاب فيقول بأعلى صوته :اللهم ِزدْنا.
وقد كان الكتبة من الصحابة ينفعلون باليات معنىً ،حتى إن أحدهم ليكمل الية ويختمها بما
يناسبها قبل أن تُملَي عليه ،لماذا؟ لنهم فهموا عن ال وتأثروا بالمعنى ،مما يدل على أن القرآن
حسَنُ الْخَاِلقِينَ }
جاء موافقا للفطرة السليمة ،ومن هذا التوافق قول أحد الصحابة{ فَتَبَا َركَ اللّهُ أَ ْ
[المؤمنين ]14 :فنزل بها القرآن كما قالها.
والنبي صلى ال عليه وسلم يقول عن سورة الرحمن " لقد قرأتُ سورة الرحمن على إخوانكم
الجن ،فكانوا أحسن استجابة منكم ،فكانوا كلما قلت } فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ { [الرحمن.]13 :
قالوا :ل بشيء من نعمائك ربنا نكذب فلكَ الحمد ".
إذن :حين نسمع كلم ال علينا أن ننفعل به ،وأنْ نتجاوبَ معه تجاوبا واعيا ،فعند آية التسبيح
نُسبّح ،وعند آية الحمد نحمد ال ،وعند آية الدعاء نقول :آمين ،هذه مواجيد انفعالية لسماع القرآن
شعْر.
والتجاوب معه ،ل أنْ نسمعه أو نهذه كهذ ال ّ
ت وَالَرْضَ {
سمَاوَا ِ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :أمّنْ خََلقَ ال ّ
()3146 /
{ َأمّنْ } [النمل ]60 :هذا استفهام آخر ،وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ بعد أن كتب الهزيمة على
الكافرين والنصر للمؤمنين أراد أنْ يُربّب في النفس اليمان بال ،وأن تأخذ من نصر ال تعالى
للمؤمنين خميرة إيمانية ،ومواجيد جديدة تظل شحنة قوية تدفعهم بحيث يكونون هم أنفسهم على
استعداد للتصدي لعداء الدعوة والمناهضين لها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول سبحانه:
جةٍ مّا كَانَ َلكُمْ
حدَآئِقَ ذَاتَ َبهْ َ
سمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ َ
ض وَأَن َزلَ َل ُكمْ مّنَ ال ّ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر َ
{ َأمّنْ خَلَقَ ال ّ
شجَرَهَا أَإِلَـاهٌ مّعَ اللّهِ } [النمل.]60 :
أَن تُنبِتُواْ َ
إذن :المسألة ل تقف عند معركة انتصر فيها المؤمنين على الكافرين ،فهناك في خلق ال ما هو
أعظم من ذلك ،فلو سألتَهم :مَنْ خلق السموات والرض يقولون :ال ولئن سألتهم :مَنْ خلقهم
يقولون :ال ،فهذه مسائل ل يستطيعون إنكارها ،فكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول لهم :آل
خلق السموات والرض وأنزل لكم من السماء ماء ..أم ما تشركون؟
وما دام أن ال تعالى ادّعى مسألة الخَلْق لنفسه سبحانه ،ولم َيقُمْ لهذه الدعوى منازع ،فقد ثبتتْ له
سبحانه إلى أنْ يدّعيها غيره { أَِإلَـاهٌ مّعَ اللّهِ } [النمل ]60 :فإنْ كان هناك إله آخر خلق الخَلْق
فأين هو :إما أنه لم َيدْر بهذه الدعوى ،أو دَرَى بها وجَبُن عن المواجهة ،وفي كلتا الحالتين ل
يصلح إلها ،وإل فليأت هو الخر بخَلْق ومعجزات أعظم مما رأينا.
فإذا قال ال تعالى أنا ال ،ول إله غيري ،والخَلْق كله بسمائه وأرضه صنعتي ،ولم يوجد
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ وَا ْلمَلَئِكَ ُة وَُأوْلُواْ
معارض ،فقد ثبتت له القضية؛ لذلك يقول سبحانهَ {:
ا ْلعِلْمِ }[آل عمران.]18 :
فقضية الوحداينة شهد ال أولً بها لنفسه ،ثم شهد بها الملئكة أولو العلم من الخَلْق.
ويقول سبحانه في تأكيد هذا المعنىُ {:قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ
سَبِيلً }[السراء.]42 :
أي :لجتمع هؤلء اللهة ،وثاروا على الله الذي أخذ منهم مُلْكهم ،وادعاه لنفسه ،أو لذهبوا إليه
ليتقرّبوا منه ويتودّدوا إليه.
سمَآءِ مَآءً } [النمل ]60 :السماء :كلّ ما علك فأظلّك ،والماء
وقوله تعالى { :وَأَن َزلَ َل ُكمْ مّنَ ال ّ
معروف أنه ينزل من السحاب وهو مما علنا ،أو أن النزال يعني إرادة الكون ،وإرادة الكون في
ت وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ
كل كائن تكون من السماء ،ألَ ترى قوله تعالىَ {:لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَا ِ
وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْطِ }[الحديد.]25 :
شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ }[الحديد ]25 :ومعلوم أن الحديد يأتي
حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ
وقوله تعالى {:وَأَنزَلْنَا الْ َ
من الرض ،لكن إرادة كونه تأتي من السماء.
جةٍ } [النمل ]60 :للماء فوائد كثيرة في حياتنا ،بل هو
حدَآ ِئقَ ذَاتَ َبهْ َ
ثم يقول سبحانه { :فَأَنبَتْنَا ِبهِ َ
ِقوَام الحياة؛ لذلك اقتصرتْ الية على ذكْر الحدائق؛ لنها قوام حياة النسان في الكل والشرب.
فإنْ قُ ْلتَ :نحن نعتبر الن الحدائق الجميلة من باب الكماليات ،وليس بها مُقوّمات حياتنا .نقول:
نعم هي كذلك الن ،لكن في الماضي كانوا يسمون كل أرض زراعية محوطة بسور :حديقة ،أو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حائط.
عصَب القوت لوجدته أقل
ت إلى القمح مثلً وهو َ
جةٍ { [النمل ]60 :مع أنك لو نظر َ
وقال } ذَاتَ َبهْ َ
جمالً من الورد والياسمين والفُل مثلً ،وكأن ربك ـ عز وجل ـ يقول لك :لقد تكفلتُ لك
بالكماليات وبالجماليات ،فمن باب َأوْلَى أوفر لك الضروريات.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يرتقي بِذوْق عباده وبمشاعرهم ،واقرأ مثلً قوله تعالى{:
انْظُرُواْ إِلِىا َثمَ ِرهِ ِإذَآ أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ }[النعام ]99 :يعني :قبل أن تأكل من هذه الثمار تأمل في
جمالها ومنظرها البديع ،وكأنها دعوة للرقي بالذوق العام والتأمل في بديع صُنْع ال.
ل مما
َألَ ترى أن ال تعالى أباح لك النظر إلى كل الثمار لتشاهد جمالها ،ولم يُبح لك الكل إ ّ
تملك؟ لذلك قال {:ا ْنظُرُواْ إِلِىا َثمَ ِرهِ }[النعام ]99 :فإنْ لم تكونوا تملكونه ،فكفاكم التمتّع بالنظر
إليه.
جمَالٌ
ومن هذا الرتقاء الجمالي قوله تعالى بعد أنْ حدّثنا عن الضروريات في النعام {:وََلكُمْ فِيهَا َ
ن وَحِينَ تَسْ َرحُونَ }[النحل.]6 :
حِينَ تُرِيحُو َ
حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَةً }[النحل.]8 :
ل وَالْ َ
وقال {:وَا ْلخَ ْيلَ وَالْ ِبغَا َ
فأعطانا ربنا ـ عز وجل ـ ضروريات الحياة ،وأعطانا كمالياتها وجمالياتها .وتأمل دقة السلوب
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ { [النمل ]60 :فالضمير في } خََلقَ { ضمير الغائب (هو) يعود
في } َأمّنْ خَلَقَ ال ّ
على ال عز وجل ،وكذلك في (وَأَن َزلَ) أما في (فَأَنْبَتْنَا) فقد عدل عن ضمير الغائب إلى ضمير
المتكلم (نحن) الدال على التعظيم ،فلماذا؟
قالوا :لن ِنعَم ال فيها أشياء ل دخْل للنسان فيها كالخَلْق وإنزال المطر ،ومثل هذه المسائل ل
خلٌ فيها كالزرع والنبات ،فهو الذي يحرث
شبهةَ ل شتراك النسان فيها ،وهناك أشياء للنسان َد ْ
ويزرع ويسقي ..الخ مما يُوحِي بأن النسان هو الذي يُنبت النبات ،فأراد سبحانه أنْ يُزيل هذا
التوهم ،فنسب النبات صراحة إليه ـ عز وجل ـ ليزيل هذه الشبهة.
سعْيك ،فيقولَ {:أفَرَأَيْتُم مّا َتحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ
وربك ـ سبحانه وتعالى ـ يحترم فعْلَك ،ويذكر لك َ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة63 :ـ ]64نعم لك عمل وسعي في هذه المسألة ،لكنك
استخدمتَ الرض المخلوقة ل ،وآلة الحديد المخلوقة ل ،والبذور المخلوقة ل ،والماء المخلوق
خلَ لك بها ،فل َتقُلْ زرعت؛ لننها نحن الزارعون حقيقة ،لكن
ل ،أما مسألة النبات نفسها فل َد ْ
ت وسقيتُ.
ُقلْ :حرث ُ
جعَلْنَاهُ
لذلك تجد الرد في آخر الية نافيا ليّ شبهة في أن لك دَخْلً في مسألة الزرعَ {:لوْ نَشَآءُ لَ َ
حطَاما }[الواقعة ]65 :وأكّد الفعل بلم التوكيد لينفي هذه الشبهة.
ُ
على خلف الكلم عن الماء ،حيث ل شبهة لك فيه ،فيأتي نفس الفعل ،لكن بدون لم التوكيد:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلْنَاهُ أُجَاجا
{ َأفَرَأَيْ ُتمُ ا ْلمَآءَ الّذِي تَشْرَبُونَ * َأأَنتُمْ أَنزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ َأمْ نَحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ * َلوْ َنشَآءُ َ
شكُرُونَ }[الواقعة68 :ـ .]70
فََلوْلَ تَ ْ
ومعنىَ } :بلْ ُهمْ َقوْمٌ َيعْدِلُونَ { [النمل ]60 :العدل معلوم أنه صفة مدح فساعةَ تسمع } َبلْ ُهمْ َقوْمٌ
َيعْدِلُونَ { [النمل ]60 :قد تظن أنها صفة طيبة فيهم ،لكن ل بُ ّد في مثل هذا اللفظ من تدقيق؛ لنه
ل في كذا يعني :أنصف ،وعدل إلى كذا يعني :مال إليه ،وعدل عن
يحمل معاني كثيرة .نقول :عد َ
كذا :يعني :تركه وانصرف عنه ،وعدل بكذا ،يعني :سوّى.
فالمعنى هنا } َيعْدِلُونَ { [النمل ]60 :عنه ،ويا ليتهم يعدلون عنه فحسب ،إنما يعدلون عنه إلى
سمَاوَاتِ
حمْدُ للّهِ الّذِي خََلقَ ال ّ
غيره ،ويسوّون به غيره ،كما قال سبحانه في موضع آخر {:الْ َ
ج َعلَ الظُّلمَاتِ وَالنّورَ ثْمّ الّذِينَ َكفَرُواْ بِرَ ّب ِهمْ َيعْدِلُونَ }[النعام.]1 :
ض وَ َ
وَالَرْ َ
أي :يسوّونه سبحانه بغيره.
ل الَ ْرضَ {
ج َع َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :أمّن َ
()3147 /
لما تكلم الحق سبحانه في الية السابقة عن السموات والرض أتى بأشياء مشتركة بينهما ،فالسماء
ينزل منها الماء ،والرض تستقبل الماء ،وتنبت لنا الحدائق ذات البهجة.
ج َعلَ
أما في هذه الية ،فالكلم عن الرض ،لذلك ذكر لنا مسائل من خصوصيات الرضَ { ،أمّن َ
الَ ْرضَ قَرَارا } [النمل ]61 :معنى :قرارا أي استقرارا ،حيث خلقها سبحانه على هيئة مريحة
تصلح لنْ يستقرّ عليها النسان.
ج َعلَ خِلََلهَآ أَ ْنهَارا } [النمل ]61 :الماء ينزل من السماء وينتفع به مَنْ سقط عليه مباشرة ،أما
{ وَ َ
ما ينزل على الجبال فيجتمع في الوديان وتُصنع له السدود لينتفع الناس به عند القحط ،ومن الماء
المطر ما ينساب في َمجَارٍ تُسمّى النهار.
وتستطيع أنْ تُفرّق بين النهر والقناة الصناعية ،فالنهر ينساب الماء فيه من أعالي الجبال ،ومن
أماكن متفرقة تتتبع المنخفضات والسهل من الرض الذي يستطيع الماء أنْ يشقّ مجراه فيه فتراه
ملتويا متعرجا ،يدور حول الجبال أو الصخور ليشقّ مجراه.
أما القناة الصناعية ،فتراها على هيئة الستقامة ،إل إذا اعترض طريق حفرها مثلً أحد أصحاب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النفوذ ،فيحملهم على تعيير المسار والنحراف به ليتفادى المرور بأرضه.
وتستطيع أنْ تلحظ هذه الظاهرة إذا تبو ْلتَ في أرض رملية ونظرتَ إلى مجرى البول ،فتراه
يسير متعرجا حسب طبيعة الرض التي يمرّ بها.
سيَ } [النمل ]61 :الرواسي :هي الجبال الثابتة الراسية ،وفي موضع آخر بيّن
ج َعلَ َلهَا َروَا ِ
{ وَ َ
سيَ أَن َتمِيدَ ِبكُمْ }[النحل.]15 :
سبحانه الحكمة من هذه الجبال فقال {:وَأَ ْلقَىا فِي الَ ْرضِ َروَا ِ
فالحكمة من خَلْق الجبال تثبيت الرض حتى ل تضطرب ،ولو أنها خُِلقَتْ على هيئة الثبات
والستقرار لما احتاجتْ إلى الجبال ،إذن :هي مخلوقة على هيئة الحركة ،ول ُبدّ لها من مُثقّلت.
ول تقتصر الحكمة من خَلْق الجبال على تثبيت الرض ،إنما لها مهمة أخرى في قوله تعالى{:
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعا ّلكُ ْم َولَ ْنعَا ِمكُمْ }[النازعات32 :ـ .]33
فكيف تكون الجبال متاعا للنسان وللحيوان؟
نعم ،هي متاع؛ لنها مخزن مياه ،حينما ينقطع المطر نجد المياه التي تساقطت على الجبال ،إما
في النهار ،وإما في الشللت ،وخلف السدود بين الوديان ،أو في العيون والبار مما امتصته
الرض.
وكما أن الجبال هي مخازن للمياه ،هي أيضا مخازن للخصوبة التي تمدّ الرض الزراعية عاما
بعد عام بقدر ،بحيث تستمر خصوبة الرض ،وسبق أنْ تكلمنا عن ظاهرة التعرية التي تُفتّت
الطبقة العليا من الصخور ،فتنزل إلى الوديان مع ماء المطر ،وتختلط بالتربة الزراعية فتزيد من
خصوبتها.
ولول صلبة الجبال وتماسك صخورها لتفتتتْ في عدة سنوات ،ولفقدنا مصدر الخصوبة بعد
ذلك ،فهذه الظاهرة من علمات رحمة ال بخَلْقه؛ لنها تتناسب مع الزيادة السكانية بحيث كلما
زاد السكان زادتْ الرقعة الخصبة الصالحة للزراعة.
وسبق أنْ قُلْنا :إنك حين تتأمل وضع الجبال مع الوديان تجد أن الجبل مُثلث قاعدته إلى أسفل،
وقمته إلى أعلى ،أما الوديان فعلى عكس الجبال ،فهي مثلث قاعدته إلى أعلى وقمته إلى أسفل،
طمْى الجبل والغِرْين الذي يتفتت منه يزيد في مساحة الوادي ،فتزداد
وهكذا نرى أن كل زيادة من َ
الرقعة الخصبة كل عام مع زيادة السكان.
جعَلُونَ َلهُ أَندَادا
ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ
لذلك يقول تعالى عن الجبالُ {:قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خَلَ َ
سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا }[فصلت9 :ـ
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
.]10
فجعل الجبال الرواسي هي مخازن القوت من طعام وشراب ،ولك أن تتأمل نيل مصر وواديه،
خصْبة
كيف تكوّن من الطمي الذي حملتْه المياه من أعالي الجبال في إفريقيا ،ل ُي َكوّن هذه المنطقة ال ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في مصر.
ج َعلَ بَيْنَ الْ َبحْرَيْنِ حَاجِزا { [النمل.]61 :
ثم يقول سبحانه } :وَ َ
البحرين :أي العَذْب والمالح لن الماء :منه ال َعذْب ،ومنه المالح ،ومن قدرته تعالى وحكمته أنْ
يحجز بينهما ،وإنْ كان الماء المالح هو مصدر الماء العَذْب ،لذلك جعل ال تعالى مساحة السطح
للماء ثلثة أرباع الكرة الرضية ،وكلما اتسع سطح الماء اتسع ال َبخْر الذي يكوّن السحاب ،بحيث
يسقط المطر الكافي لمعيشة أهل الرض.
وما أجملَ قول الشاعر المادح:أهدى لمجلسه الكريم وإنّما أهدى َلهُ مَا حُ ْزتَ مَن َنعْما ِئ ِهكَالبَحْرِ
ضلٌ عليْه لنّه مِنْ مَا ِئهِولكي تعلم فضل ال علينا في إنزال المطر وتوفير
ب ومَا لَه َف ْ
يُمطِرهُ السّحا ُ
الماء ال َعذْب ،انظر إلى التكلفة والمشقة التي تعانيها لتقطير عدة سنتميترات من الماء ،في حين
أنك ل تدري بعملية التقطير الواسعة التي تسقي البلد والعباد في كل أنحاء الدنيا.
وقد مثّلنْا لمسألة اتساع رقعة ال َبحْر بكوب الماء إذا أرقْتَه على الرض ،فإنه يجفّ في عدة دقائق،
أمّا لو تركت الماء في الكوب لعدة أيام ،فإنه ل ينقص منه إل القليل.
ومن الماء العَذْب ما سلكه ال تعالى ينابيع في الرض ليخرجه النسان إذا أعوزه الماء على
السطح ،أو سلكه ينابيع في الرض بمعنى أن يسير ال َعذْب بجوار المالح ،ل يختلط أحدهما بالخر
مع ما عُرِف عن الماء من خاصية الستطراق.
وهذه من عجائب قدرة ال الخالق ،فمِنْ َقعْر البحر المالح تخرج عيون الماء ال َعذْب؛ لن لكل
منهما طريقا ومسلكا وشعيرات يسير فيها بحيث ل يبغي أحدهما على الخر ،كما قال تعالى:
خ لّ يَ ْبغِيَانِ }[الرحمن19 :ـ .]20
{ مَرَجَ الْ َبحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ * بَيْ َن ُهمَا بَرْزَ ٌ
وكما أن الماء العَذْب يتسرب إلى باطن الرض ليكوّن البار والعيون ،فكذلك الماء المالح يتسرب
في باطن الرض ليكوّن من تفاعلته الحجار الكريمة ،كالمرمر ،والمعادن كالحديد والمنجنيز
والجرانيت ..الخ.
وبعد أن ذكر لنا هذه اليات الخاصة بالرض جاء بهذا الستفهام
{ أَِإلَـاهٌ مّعَ اللّهِ }[النمل ]60 :يعني خلق هذه الشياء } َبلْ َأكْثَرُهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ { [النمل]61 :
والذين ل يعلمون أعلمناهم ،وقطعنا حُجّتهم بعدم العلم.
سكَنٌ ،فالرض كثيفة ،وفيها
ولو نظرنا إلى الرض لوجدنا فيها آيات أخرى غير أنها مُستقرّ و َ
غبرة ليست صافية البياض؛ ذلك لن ال تعالى يريد لها أنْ تستقبل حرارة الشمس وضوءها
ليستفيد منها النبات ،ولو أن الرض كانت شفافة تعكس الضوء والحرارة لما استفاد منها النبات؛
لذلك نجد بعض المشروعات تنمو في الصيف ،وأخرى في الشتاء.
ولما أج َروْا بعض التجارب على النبات ،فوضعوه في مكان مظلم ،ثم جعلوا ُثقْبا في ناحية بحيث
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يدخل الضوء وجدوا أن النّبْتة بما أودع الخالق فيها من غريزة تتجه ناحية الضوء لتأخذ حظها من
النور والدفء ،فسبحان الذي خلق فسوّى ،والذي قدّر فهدى.
ومن آيات ال في خَلْق الرض أنْ جعلها على هيئة الحركة والدوران ،لتأخذ كل مناطقها حظها
من الحرارة ومن البرودة ،ويتنوع فيها المناخ بين صيف وشتاء ،وخريف وربيع ،إنها أدوار
تتطلبها مُقوّمات الحياة.
لذلك تجد علماء النبات يُقسّمون المناطق الزراعية على الرض يقولون :هذا حزام القمح مثلً،
وهذا حزام الموز ،وهذا حزام البطاطس ،فتجد كل حزام منها يصلح لنوع خاص من المزروعات
يناسب سكان هذه المنطقة وبيئتها وجوّها.
لذلك نجد أن كل نوع من المزروعات في مكانه المناسب ل تصيبه الفات ،أمّا حين يُنقل إلى
مكان غير مكانه ،وبيئة غير بيئته ل ُبدّ أنْ يُصاب.
وفي الرض خاصية أخرى تتعلق بالنسان تعلقا مباشرا ،فمن خصائص الرض وهي من الطين
الذي خُلِق منه النسان ،فهي في الحقيقة أمه الولى ـ فإذا مات ل يسعه إل أحضان أمه حين
يتخلى عنه أقرب الناس إليه ،وألصق الناس به ،عندها تستقبله الم وتحتويه وتستر عليه ُكلّ ما
يسوؤه.
ومن خصائص الرض أنها تمتص فضلت النسان والحيوان ومخلّفاته وتُحوّلها بقدرة ال إلى
مُخصّب تزدهر به المزروعات ،ويزيد به المحصول ،وفي الريف يحملون َر َوثَ الحيوانات ذا
الرائحة الكريهة إلى الحقول ،فإذا به ينبت فيه الوردة الجميلة الذكية التي يتشوّق النسان
لرائحتها.
خلْق ،ل يقدر عليها إل ال عز وجل ،أتذكرون المثل الذي يقول( :فلن يعمل
إنها عجائب في ال َ
من الفسيخ شربات) هكذا قدرة ال التي تخلق الضداد.
َألَ تروْن أن أفضل الفاكهة نأكلها الن من الجبل الصفر بمصر وهي تُرْوى بماء المجاري.
وبعد أنْ حدّثنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ عن هذه المظاهر العامة التي يحتاجها كل الخلق في
السماء والرض والجبال والمطر ..الخ يُحدّثنا سبحانه عن مسائل خاصة يحتاجها إنسان دون
آخر ،وفي وقت دون آخر ،فيقول سبحانهَ } :أمّن يُجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ {
()3148 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
(يجيب) الجابة هي تحقيق المطلوب لداعية ،والمضطر :هو الذي استنفد السباب ،وأخذ بها فلم
جدِ معه ،فليس أمامه إل أنْ يترك السباب إلى المسبّب سبحانه فيلجأ إليه؛ ذلك لن الخالق ـ
تُ ْ
عز وجل ـ قبل أنْ يخلق النسان خلق له مُقوّمات حياته وضرورياتها وسخّرها لخدمته.
لذلك جاء في الحديث القدسي " :يا ابن آدم خلقت الشياء كلها من أجلك ،وخلقتك من أجلي فل
تنشغل بما هو لك عما أنت له ".
ثم خلق ال لك الطاقة التي تستطيع أن تُسخّر بها هذه الشياء وضمن لك القوت الضروري من
ماء ونبات ،فإنْ أردتَ أنْ تُرفّه حياتك فتحرك في الحياة بالسباب المخلوقة ل ،وبالطاقة الفاعلة
فيك ،وفكّر كيف ترتقي وتُثرِي حركة الحياة من حولك.
فالماء الذي ينساب في داخل البيت حين تفتح الصنبور ،والضوء الذي ينبعث بمجرد أن تضغط
على زر الكهرباء ،والسيارة التي تنقلك في بضع دقائق ..كلها ارتقاءات في حركة حياة الناس لما
أعملوا عقولهم فيما أعطاهم ال من مادة وعقل وفكر وأسباب ،وهذه كلها يد ال الممدودة لعباده،
والتي ل ينبغي لنا ردّها.
فإذا ما حاولتَ ولم تفلح ،ولم تثمر معك السباب ،فعليك أنْ تلجأ مباشرة إلى المسبّب سبحانه ،لنه
خالقك والمتكفّل بك.
س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما }[يونس ]12 :ويا ليته
واقرأ قوله تعالى {:وَإِذَا مَ ّ
ساعةَ دعا ربه ولجأ إليه فاستجاب له يجعل له عند ربه رَجْعة ،ويتوقع أنْ يصيبه الضّر مرة
أخرى؛ لكن إنْ كشف ال عنه سرعان ما يعود كما كان.
شفْنَا عَنْهُ ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ َيدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ كَذاِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }
{ فََلمّا كَ َ
[يونس.]12 :
{ َأمّن ُيجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ } [النمل ]62 :فالمضطر إذن ل بدّ أنْ يُجيبه ال ،فمَنْ قال :دعوتُ فلم
يُستجب لي .فاعلم أنه غير مضطر ،فليست كل ضائقة تمرّ بالعبد ُتعَدّ من قبيل الضطرار ،كالذي
يدعو ال أن يسكن في مسكن أفضل مما هو فيه ،أو براتب و َدخْل أوفر مما يأخذه ..الخ ،كلها
مسائل ل اضطرارَ فيها ،وربما علم ال أنها الفضل لك ،ولو زادك عن هذا القدر طغيتَ
وتكبرتَ.
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق6 :ـ .]7
ن الِنسَانَ لَ َي ْ
كما قال الحق سبحانه وتعالى {:كَلّ إِ ّ
ع الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِا ْلخَيْرِ
فلقد طلبتَ الخير من وجهة نظرك ،وربّك يعلم أنه ل خيرَ فيه{ وَيَ ْد ُ
َوكَانَ الِنْسَانُ عَجُولً }[السراء.]11 :
فربّك يُصحّح لك هذا الخطأ في فهمك للمسائل فيقول لك :سأحقق لك الخير ،لكن بطريقة أخرى
أنسب من هذه ،فلو أجبتُك إلى ما تريد لحدث مَا ل تُحمد عقباه ،وكأن ال ـ عز وجل ـ وهو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ربّنا والمتولّي أمرنا يجعل على دعائنا (كنترول) ولو كان ال سبحانه موظفا يلبي لكل مِنّا طلبه ما
استحق أن يكون إلها ـ حاشا ل.
فالنسان من طبيعته العجلة والتسرع ،فل ُبدّ للرب أن يتدخل في أقدار عبده بما يصلحه ،وأنْ
يختار له ما يناسبه؛ لنه سبحانه العلم بعواقب الشياء وبوقتها المناسب ،ولكل شيء عنده تعالى
موعد وميلد.
جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِت ْعجَاَلهُمْ بِا ْلخَيْرِ َل ُقضِيَ إِلَ ْيهِمْ أَجَُلهُمْ }[يونس:
واقرأ قول ال تعالى {:وََلوْ ُيعَ ّ
.]11
َألَ ترى بعض المهات تحب الواحدة ولدها وتشفق عليه ،فإنْ عصاها في شيء أو ضايقها تقول
رافعةً يديها إلى السماء (إلهي أشرب نارك) أو (إلهي أعمى ول أشوفك) فكيف لو أجاب ال هذه
الحمقاء؟
إذن :من رحمته تعالى بنا أنْ يختار لنا ما يُصلِحنا من الدعاء ،ويُعافينا من الحمق والعجلة.
شفُ السّوءَ { [النمل ]62 :فكما أنه ل يجيب المضطر إل ال ل يكشف السوء
وقوله تعالى } :وَ َيكْ ِ
إل ال ،ولو كان هناك إله آخر يجيب المضطر ويكشف السوء لتوجّه الناسُ إليه بالدعاء ،لكن
ش نفسه في حال
حينما يُصاب المرء ل يقول إل يا رب ،ول يجد غير ال يلجأ إليه لنه لن يغ ّ
الضائقة أو المصيبة التي ألمت به.
وقد مثّلنا لذلك ـ ول المثل العلى ـ بحلق الصحة في الماضي ،وكان يقوم بعمل الطبيب الن،
فلما أنشئت كلية الطب وتخرّج فيها أحد أبناء القرية اتجهتْ النظار إليه ،فكان الحلق يذ ّم في
الطب والطباء ،وأنهم ل خبرةَ لديهم لتبقى له مكانته بين أهل القرية ،لكن لما مرض ابن الحلق
ماذا فعل؟ إنْ غشّ الناس فلن يغشّ نفسه :أخذ الولد في ظلم الليل ولفّه في البطانية ،وذهب به
إلى (الدكتور) الجديد.
لذلك يقول كل مضطر وكل مَنْ أصابه سوء :يا رب يا رب حتى غير المؤمن ل ُب ّد أن يقولها،
ول ُبدّ أنْ يتجه بعينه وقلبه إلى السماء إلى الله الحق ،فالوقت جِدّ ل مساومة فيه.
جعَُل ُكمْ خَُلفَآ َء الَ ْرضِ { [النمل ]62 :أي :يخلفُ بعضكم بعضا فيها ،كما
ويقول تعالى بعدها } :وَيَ ْ
قال {:لَيَسْ َتخِْلفَ ّنهُمْ فِي الَ ْرضِ َكمَا اسْ َتخَْلفَ الّذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ }[النور.]55 :
فهل يملك هذه المسائل إل ال } :أَإِلَـاهٌ مّعَ اللّهِ { [النمل ]62 :والستفهام هنا ينكر وجودَ إله غير
ال يفعل هذا } قَلِيلً مّا تَ َذكّرُونَ { [النمل ]62 :يعني :لو تفكرتُم وتذكرتُم لعرفتم أنه ل إله إل ال.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :أمّن َيهْدِيكُمْ فِي ظُُلمَاتِ الْبَرّ {
()3149 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللّهِ َتعَالَى
سلُ الرّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَ َديْ َر ْ
أَمْ مَنْ َي ْهدِيكُمْ فِي ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْ َبحْ ِر َومَنْ يُ ْر ِ
عمّا ُيشْ ِركُونَ ()63
اللّهُ َ
هذه أيضا من المور الخاصة التي تخصّ بعض الناس دون بعض ،وكانت قبل تقدّم العلم ،حيث
كانت النجوم هي العلمات التي يهتدي بها الملحون في البحر والمسافرون في البر{ وَعَلمَاتٍ
وَبِالنّجْمِ هُمْ َيهْ َتدُونَ }[النحل.]16 :
وقد برع في علوم الفلك والنجوم وفي علوم البحار علماء من العرب وضَعُوا أُسسا لهذه العلوم ،ل
عن علم عندهم ،إنما عن مشاهدة لظواهر الكون ،وتوفيق وهداية من ال عز وجل.
وحين نتأمل ارتقاءات النسان في الحياة نجد أنها نتيجة مشاهدة حدثتْ صدفة ،أو حتى بطريق
الخطأ ،وإل فكيف اهتدى النسان إلى تخمير العجين ليخرج الخبز على هذه الصورة وبهذا
الطعم؟ لذلك يُسمّون العجين :فطير وهو المبلط الذي لم يتخمر ،وخمير وهو الذي تخمّر وارتفع
قليلً وتخلّله الهواء.
وقد نقلوا هذه المعنى للرأي ،يقولون :فلن رأيه فطير يعني :سطحي متعجل ،وفكرة مختمرة
يعني :مدروسة بتأنّ ،ومنه الفِطْرة يعني الشيء حين يكون على طبيعته.
وربما اكتشفتْ إحدى النساء مسألة الخمير هذه نتيجة خطأ أو مصادفة حين عجنتْ العجين،
وتأخرت في خَبْزه حتى خمر ،فلما خبزته جاء على هذه الصورة المحببة إلينا ،كذلك المر في
اكتشاف البنسلين مثلً ،والغواصات والبخار والعجلة ..الخ.
وتأمل مثلً :لماذا نطبخ الملوخية ول نطبخ النعناع ،إنها ـ إذن ـ هداية ال الذي خلق فسوّى،
والذي قدّر فهدى.
الحديد تعلمنا طَرْقه بعد إدخاله النار ليلين؛ لن ال تعالى علمها لنبيه داود عليه السلم حين قال{
وَأَلَنّا لَهُ ا ْلحَدِيدَ }[سبأ.]10 :
إذن :كثير من اكتشافات الكون وارتقاءاته تأتي بهداية ال ،وكلما مرّ الزمن تكشفتْ لنا أسرار
الكون ،كلّ في ميعاده وميلده الذي أراده ال ،إما أنْ يستنطبه الناس بمقدمات إذا جاء ميلده ،وإل
فيأتي ولو مصادفة.
شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ }[البقرة ]255 :فحين يشاء
واقرأ إن شئت قوله تعالىَ {:ولَ يُحِيطُونَ ِب َ
ال يكشف لك الشياء ،ويُيسر لك أسبابها ،فإذا لم تنتبه لها أراكها مصادفة ،ومن وسائل إعلم ال
لخَلْقه مثلً أهل البوادي ،ترى الواحد منهم متكئا ينظر إلى السماء ويقول لك :السماء ستمطر بعد
كم من الساعات ،وليس في السماء سحاب ول غَيْمٌ يدل على المطر ،لكنه عرفها بالستقراء
والتجربة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن هذه الهداية اللهية أن ترى البهائم العجماوات وهي تأكل بالغريزة ،تأكل الحشيش الجاف،
ول تأكل مثلً النعناع الخضر ،أو الريحان من أن رائحته جميلة ،لماذا؟
جعِل للرائحة الطيبة ،لكن طعمه غير طيب ،وإذا أكل الحيوان وشبع ل يمكن أن يأكل بعدها
لنه ُ
أبدا على خلف النسان الذي يأكل حتى التخمة ،ثم الحلو والبارد والساخن ،ويقولون (أَرِهَا
اللوان تريك الركان) .أي :أَرِ معدتك ألوان الطعام وأصنافه ،تريك الركان الخالية فيها.
لذلك تجد رائحة َروَث الحيوان أقلّ كراهية من رائحة فضلت النسان؛ لنها تأكل بالغريزة التي
خلقها ال فيها ،ونحن نأكل بالشهوة ،وبل نظام نلتزم به.
حمَتِهِ }
سلُ الرّيَاحَ بُشْرَا } [النمل ]63 :اي :مُبشّرات بالمطر { بَيْنَ يَ َديْ َر ْ
وقوله تعالىَ { :ومَن يُ ْر ِ
[النمل ]63 :والمطر مظهر من مظاهر رحمة ال { أَإِلَـاهٌ مّعَ اللّهِ } [النمل ]63 :أي :ل إله إل
عمّا
ال يهديكم في ظلمات البر والبحر ،ول إله إل ال يرسل الرياح تبشركم بالمطر { َتعَالَى اللّهُ َ
يُشْ ِركُونَ } [النمل ]63 :تنزّه أن يكون له في َكوْنه شريك.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :أمّن يَبْدَأُ ا ْلخَلْقَ }
()3150 /
سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللّهِ ُقلْ هَاتُوا بُرْهَا َنكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ
أَمْ مَنْ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه َومَنْ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ
صَا ِدقِينَ ()64
مسألة الخَلْق هذه ل يستطيعون إنكارها ،وقد سألهم ال{ وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }
[الزخرف.]87 :
ت وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[لقمان.]25 :
سمَاوَا ِ
وفي موضع آخر {:وَلَئِن سَأَلْ َت ُهمْ مّنْ خََلقَ ال ّ
لنهم ل يملَكون إنكارها ،وإنْ أنكروها فالردّ جاهز :على مَنْ خلق أولً أن يُرينا شيئا جديدا من
خَلْقه.
ومعنى { يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ } [النمل ]64 :يعني :الخلْق الول من العدم { ُثمّ يُعي ُدهُ } [النمل ]64 :لن
خلْق
الذي خلقنا من عدم كتب علينا الموت ،وأخبرنا بالغيب أننا سنُبعث يوم القيامة ،وسيعاد هذا ال َ
مرة أخرى ،فالذين لم يملكوا إنكار الخلق أنكروا البعث ،فقالوا كما حكى القرآن:
عجِيبٌ * أَإِذَا
شيْءٌ َ
{ ق وَا ْلقُرْآنِ ا ْلمَجِيدِ * َبلْ عَجِبُواْ أَن جَآ َءهُمْ مّنذِرٌ مّ ْنهُمْ َفقَالَ ا ْلكَافِرُونَ هَـاذَا َ
مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا ذَِلكَ َرجْعٌ َبعِيدٌ }[ق1 :ـ .]3
فاستبعدوا البعث بعد الموت ،وتحلّل الجساد في التراب .وهذه القضية خَاضَ فيها الفلسفة بكلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طويل ،وللردّ عليهم نقول :أنتم في القوانين الوضعية تجعلون الثواب لمن أحسن ،والعقوبة لمن
قصّر ،وتُجرّمون بعض العمال بعينها ،وتضعون لها العقوبة المناسبة ،وفي القانون :ل عقوب َة إل
بتجريم ،ول تجريمَ إل بنصّ ،ول نصّ إل بإعلم.
ولم نَ َر في القانون الوضعي جريمة تُرِكت بل عقوبة ،فإذا كان البشر يضعون لمجتمعاتهم هذه
القوانين التي تنظم حياتهم ،أليس رب البشر أوْلَى بقانون الثواب والعقاب؟ وإذا كنتَ ل ترضي
ن يفلتَ المجرم من العقاب ،فكيف ترضى ذلك ل؟
لنفسك أ ْ
ثم أل تعلم أن كثيرا من المجرمين يرتكبون جرائمهم في غفلة من القانون،ـ أو يُعمّون على
العدالة ويهربون من العقاب ،ويُفلِتون من القوانين الوضعية في الدنيا ،ولو تركنا هؤلء بل عقاب
أيضا في الخرة فهم إذن الفائزون ،وسوف نشجع بذلك كل منحرف خارج عن القانون.
أما إنْ علم أن له ربا قيوما عليه ،وإنْ عمّى على قضاء الرض فلن يُعمّي على قضاء السماء،
وإنْ أفلتَ من عقاب الدنيا فلن يُفِلتَ أبدا من عقاب الخرة ـ إنْ علم ذلك استقام.
لكن ،ما وجه استبعادهم للبعث{ ذَِلكَ رَجْعٌ َبعِيدٌ }[ق.]3 :
يقولونَ :هبْ إن إنسانا مات و ُدفِن وتحلّل جسده إلى عناصر امتصتها الرض ،ثم غُ ِرسَت شجرة
في هذا المكان وتغذْت على هذه العناصر ،وأكل من ثمارها عدة أشخاص ،وانتقلت جزئيات
الميت إلى الثمار ثم إلى من أكل منها ،فحين يُبعث الخَلْق يوم القيامة فليّهما تكون هذه الجزئيات:
للول أم للثاني؟ إذا بعثتها للول كانت نقصا في الثاني ،وإنْ بعثتها للثاني كانت نقصا في الول.
وهذا الكلم منهم على سبيل أن الشخص مادة فقط ،لكن التشخيصات مادة ومعنى .و َهبْ أن
شخصا بدينا يزن مثلً مائة كيلو أصابه مرض أهزله حتى َقلّ وزنه إلى خمسين كيلو مثلً ،ثم
عُولج وتحسنت صحته حتى عاد كحالته الولى.
فهل الجزئيات التي نقصت من وزنه هي نفسها التي دخلتْ فيه بالصحة والتغذية؟ بالطبع ل،
أتغيرتْ شخصيته بهذا النقص ،أو بهذه الزيادة؟ ل ،بل هو هو.
إذن :للشخص جزئيات مختلفة التكوين ،وله معنى وروح ،ساعةَ تتجمع هذه الشياء يأتي الشخص
المراد.
حفِيظٌ
لذلك يقول تعالى ردا على هؤلء المتفلسفينَ {:قدْ عَِلمْنَا مَا تَن ُقصُ الَ ْرضُ مِ ْنهُ ْم وَعِندَنَا كِتَابٌ َ
}[ق.]4 :
فلماذا تستبعدون العادة بعد الموت وقد أقررتُم بالخَلْق الول واعترفتم بأن ال هو الخالق،
وأليست العادة من موجود أهونَ من الخَلْق بدايةً من العدم؟ ثم إن العادة تحتاج إلى قدرة على
البراز وإلى علم.
أما العلم ،فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يقولَ {:قدْ عَِلمْنَا مَا تَن ُقصُ الَ ْرضُ مِ ْنهُ ْم وَعِندَنَا كِتَابٌ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حفِيظٌ }[ق ]4 :يعني :يعلم وزنك ،ويعلم جزئياتك ،ل يغيب منها ذرة واحدة.
َ
أما القدرة ،فقد آمنتُم بها حين أقررتُم بقدرته تعالى على الخَلْق من عدم ،والعادة أهون من
النشاء الول{ وَ ُهوَ الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ }[الروم.]27:
وإنْ كان الخالق ـ عز وجل ـ ل ُيقَال في حقه هيّن وأهْون ،لكنها بعُرْفكم أنتم ،وبما يُقرّب
المسألة إلى أذهانكم.
لوّلِ }[ق.]15 :
قاَ
وفي القدرة أيضا يقول الحق سبحانه وتعالىَ {:أ َفعَيِينَا بِالْخَ ْل ِ
سمَآ ِء والَ ْرضِ { [النمل.]64 :
ثم يقول سبحانهَ } :ومَن يَرْ ُز ُقكُم مّنَ ال ّ
الرزق :كلّ ما يُنتفع به ،وهو إما من السماء وإما من الرض ،وإما من التقائهما حين ينزل الماء
من السماء ،ويختلط بتربة الرض فيخرج النبات.
} أَِإلَـاهٌ مّعَ اللّهِ { [النمل ]64 :يكرر نفس الستفهام السابق لتأكيد أنه ل إله إل ال يأتيكم بهذه
النعم.
} ُقلْ هَاتُواْ بُرْهَا َن ُكمْ إِن كُنتُمْ صَا ِدقِينَ { [النمل ]64 :أي :هاتوا الدليل على وجود إله آخر يقول:
أنا الذي بدأتُ الخَلْق ،وأنا الذي أرزق من السماء والرض ،فإذا لم ي ْأتِ مَنْ يقول هذا فقد ثبتتْ
الدعوة لصاحبها حيث لم َيقُم معارضَ ـ ودَعْك من مسألة العادة هذه ،يكفي أن يدعي الخَلْق؛
لن القادر على الخَلْق قادر على العادة ،فل يستحيل على الذي خلق من أنْ يُعيد من موجود.
لكن ،ما مناسبة الكلم عن الرزق من السماء والرض بعد مسألة العادة؟ ل بُدّ أن تكون هناك
علقة بينهما ،فللرزق الذي يأتي عن طريق التقاء ماء السماء بتربة الرض وهو النبات دورة
مثل دورة النسان وإعادة كإعادته ،حيث يتغذى النسان على نبات الرض ،ويأخذ منه حاجته من
الطاقة والغذاء ،وما تبقى منه يخرج على صورة فضلت تتحلل في الرض ،حتى ما تبقّى منها
في جسم النسان يتحلل بعد موته إلى عناصر الرض.
فالوردة مثلً بعد نضارتها وطراوتها وجمالها حيث تُقطف تجفّ ويتبخر ماؤها ،وكذلك اللون
والرائحة في الثير الجوي ،وما تبقى منها من مادة جافة تتحلل في التربة ،فإذا ما زرعنا وردة
أخرى ،فإنها تتغذى على ما في التربة من عناصر ،ما في الثير الجوي من لون ورائحة.
إذن :فعناصر التكوين في الكون لم تَزِدْ ولم تنقص منذ خلق ال الخَلْق ،ولدورة النبات في الطبيعة
بدء ونهاية وإعادة أشبه ما تكون بخَلْق النسان ،ثم موته ،ثم إعادته يوم القيامة.
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعطينا الدليل على العادة بما نراه من دورة النبات ،دليلً بما
نراه على الغيب الذي ل نراه.
سمَاواتِ {
ثم يقول الحق سبحانه } :قُل لّ َيعْلَمُ مَن فِي ال ّ
()3151 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شعُرُونَ أَيّانَ يُ ْبعَثُونَ ()65
ت وَالْأَ ْرضِ ا ْلغَ ْيبَ ِإلّا اللّ ُه َومَا يَ ْ
سمَاوَا ِ
ُقلْ لَا َيعْلَمُ مَنْ فِي ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن يظل للقيامة وقتها الذي ل يعلمه إل ال؛ لذلك يقول عنها {:لَ يُجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَآ ِإلّ ُهوَ }
[العراف.]187 :
والنبي صلى ال عليه وسلم يفتخر بأنه ل يعلم موعدها ،فيقول حين سُئِل عنها " :ما المسئول عنها
بأعلم من السائل ".
فشَرفٌ لرسول ال ألّ يعلم شيئاَ استأثر ال بعلمه ،والقيامة غَ ْيبٌ مطلق لم ُيعْطِ ال مفاتحه لحد
حتى الرسل.
وقد يُكرِم ال تعالى بعض خَلْقه ،ويُطلِعه على شيء من الغيب ،ومن ذلك الغيبيات التي أخبر بها
النبي صلى ال عليه وسلم دون أن يكون لها مُقدّمات توصّل إليها ،فل بُدّ أنها أتته في وحي
القرآن ،كما في قوله تعالى {:الـم * غُلِ َبتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى الَ ْرضِ وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِب ِهمْ
سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ سِنِين }[الروم1 :ـ .]4
وكان الروم أقرب إلى ال؛ لنهم أهل كتاب ،وكان الفرس كفارا يعبدون النار ،لذلك كان رسول
ال صلى ال عليه وسلم وصحابته يتمنْون انتصار الروم على الفرس ،فنزل الوحي على رسول
ال يخبره{ غُلِ َبتِ الرّومُ }[الروم ]2 :لكنهم في النهاية{ سَ َيغْلِبُونَ }[الروم ]3 :ولول أن ال تعالى
حدد غلبهم{ فِي ِبضْعِ سِنِينَ }[الروم ]4 :لكان انتصارهم دائما ،لكن مَنْ يستطيع تحديد مصير
معركة بين قوتين عُظميين بعد بضع سنين إل ال؟
ولن انتصار الروم يُفرِح المؤمنين بال ،قال سبحانه {:وَ َي ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * بِ َنصْرِ اللّهِ }
[الروم4 :ـ .]5
وتشاء قدرة ال أنْ يأتيَ انتصار الروم على الفرس في نفس اليوم الذي انتصر فيه المؤمنون على
الكافرين في بدر.
ومن الغيب الذي يفيض ال به على عبد من عباده ما حدث من الصّديق أبي بكر ـ رضي ال
عنه ـ وقد أعطى ابنته عائشة ـ رضي ال عنها ـ مالً ،فلما حضرتْه الوفاة قال لها :هاتي ما
عندك من المال ،إنما هما أخواك وأختاك :أخواك هما محمد وعبد الرحمن ،وأختاك :ل نعلم أن
لعائشة أختا غير أسماء ،فمن هي الخرى؟
كان الصّديق قد تزوج من ابنة خالته وكانت حاملً ،لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ تجلى عليه
وألهمه أنها ستُنجب بنتا تنضم إلى عائشة وأسماء.
شعُرُونَ أَيّانَ يُ ْبعَثُونَ { [النمل ]65 :أي :كما أننا ل نشعر بالموت ول نعرف
وقوله تعالىَ } :ومَا َي ْ
ميعاده ،كذلك ل نشعر بالبعث ،ول متى سنُبعث.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :بلِ ادّا َركَ عِ ْل ُمهُمْ {
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3152 /
عمُونَ ()66
شكّ مِ ْنهَا َبلْ ُهمْ مِ ْنهَا َ
َبلِ ادّا َركَ عِ ْل ُمهُمْ فِي الَْآخِ َرةِ َبلْ هُمْ فِي َ
معنى { ادّا َركَ } [النمل ]66 :أي :تدارك ،يعني :توالى وتتابع الحديث عنها عند كل الرسل ،ومنه
جمِع بعضهم على بعض.
قوله تعالى {:حَتّىا ِإذَا ادّا َركُواْ فِيهَا }[العراف ]38 :يعنيُ :
إذن :تتابع العلم بالخرة عند كل رسل ال ،فما منهم إل وقد دعا إلى اليمان بال وباليوم
الخر ،وأتى بالدليل عليه.
شكّ مّ ْنهَا } [النمل ]66 :أي :من الخرة،
ومع متابعة التذكير بالخرة قال ال عنهم { َبلْ ُهمْ فِي َ
عمُونَ } [النمل ]66 :أي :عميتْ أبصارهم وبصائرهم عنها،
فلماذا؟ يقول تعالىَ { :بلْ هُم مّ ْنهَا َ
ت عيونهم وقلوبهم لمنوا بها.
فلم يهتدوا ،ولو تفتح ْ
يقول تعالى {:فَإِ ّنهَا لَ َت ْعمَى الَ ْبصَارُ وَلَـاكِن َت ْعمَىا ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ }[الحج.]46 :
إذن :هناك شيء موجود بالفعل ،لكني أغفلته ،أو تغافلت عنه بإرادتي ،فآيات البعث والقيامة
عمُوا عنها فلم يَ َروْها.
موجودة ومُتداركة ،لكن الناس َ
عمُونَ } [النمل ]66 :جمع عَمٍ ،وهو الذي عميتْ بصيرته عن دلئل القيامة الواضحة.
ومعنىَ { :
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ }
()3153 /
َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ِئذَا كُنّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنّا َل ُمخْرَجُونَ ()67
يريدون أنْ يستدلوا بعدم بعث الباء على عدم َبعْثهم ،لكن مَنْ قال لهم :إن الخرة ستأتي مع
الدنيا ،ما سُميّت الخرة إل لنها تأتي آخرا بعد انقضاء الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :لقَدْ وُعِدْنَا هَـاذَا }
()3154 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :من لدن آدم ـ عليه السلم ـ والناس يموتون والنبياء تذكر بهذا اليوم الخر ،لكنه لم يحدث
{ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ أَسَاطِيرُ الَوّلِينَ } [النمل ]68 :أي :كذِب وافتراء ونسج خيال كما في أساطير
السابقين ،لكن ما الدافع لهم لنْ يتهموا الرسل في بلغهم عن ال هذا التهام؟
ن يؤمّن نفسه،
قالوا :لن نفس المرء عزيزة عليه ،وكل مُسْرف على نفسه في المعاصي يريد أ ْ
ن يقول هذا الكلم كذب ،أو يتمنى أن يكون كذبا ،ولو اعترف
وأنْ يريحها ،وليس له راحة إل إ ْ
جعْبته إل كفر بال وعصيان لوامره،
بالقيامة وبالبعث والحساب فمصيبته عظيمة ،فليس في ُ
فكيف إذن يعترف بالعبث؟ فطبيعي أن يؤنس نفسه بتكذيب ما أخبره به الرسول.
ن يقول في القدر :إذا كان ال قد كتب عليّ المعصية ،فلماذا يُعذّبني بها؟
لذلك نجد من هؤلء مَ ْ
والمنطق يقتضي أن يكلموا الصورة فيقولون :وإذا كتب عليّ الطاعة ،فلماذا يثيبني عليها؟ فلماذا
ذكرتُم الشر وأغفلتم الخير؟
إذن :هؤلء يريدون المنفذ الذي ينجون منه ويهربون به من عاقبة أعمالهم.
()3155 /
ُقلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ ()69
يدعوهم ال تعالى إلى السير في مناكب الرض للنظر وللتأمل ل فيمن ُبعِث لن البعث لم يأتِ
َبعْد ،ولكن للنظر في عاقبة المجرمين الذي كّبوا رسلهم فيما أتَوا به ،وكيف أن هزمهم ودحرهم
وكتب النصر للرسل.
والبعث مما جاء به الرسل ،فمَنْ كذّب الرسل كذّب بالبعث مع أنه واقع ل شكّ فيه ،لكن الحق ـ
تبارك وتعالى ـ ُيخِفيه لوقته ،كما قال سبحانه {:لَ يُجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَآ ِإلّ ُهوَ }[العراف.]187 :
ثم يُسلّي ال تعالى رسوله صلى ال عليه وسلم ليُخفّف عنه ألم ما يلقي في سبيل الدعوة ،فيقول
تعالىَ { :ولَ َتحْزَنْ عَلَ ْيهِمْ }
()3156 /
وَلَا تَحْزَنْ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا َتكُنْ فِي ضَ ْيقٍ ِممّا َي ْمكُرُونَ ()70
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكَ عَلَىا آثَارِ ِهمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا
خعٌ ّنفْ َ
وقد خاطب الحق سبحانه رسوله بقوله {:فََلعَّلكَ بَا ِ
حدِيثِ أَسَفا }[الكهف.]6 :
الْ َ
والعنى :مُهلِك نفسَك من الحزن ،والبخع كما قلنا :المبالغة في الذبح بحيث توصله إلى البخاع.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يوضح أن مهمة الرسول البلغ عن ال فقط ،ول عليه آمن مَنْ آمن،
ن كفر ،إنما حب النبي صلى ال عليه وسلم لمته وحِرْصه على نجاتها جعله يحزن
أو كفر مَ ْ
س ُكمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
ويألم إنْ شرد منه واحدٍ من أمته ،ألم ي ُقلْ عنه ربهَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة.]128 :
ثم يقول الحق سبحانه عنهم { :وَ َيقُولُونَ مَتَىا هَـاذَا }
()3157 /
يقول المكذبون بالبعث { مَتَىا هَـاذَا ا ْلوَعْدُ } [النمل ]71 :أي :بالبعث { إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ }
[النمل ]71 :في أن هناك َبعْثا.
وس ّموْا إخبار ال لهم بالبعث وَعْدا ،مع أنه في حقهم وعيد ،وفَرْق بين وَعَد وأوعد :وَعَد للخير
وأوعد للشر ،لكن ال تعالى يطمس على ألسنتهم ،وهم أهل الفصاحة فيقولون { مَتَىا هَـاذَا ا ْلوَعْدُ
} [النمل ]71 :وهو بالنسبة لهم وعيد ،لن إيعاد المخالف لك بش ّر وَعْد لك بخير.
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول :لقد وعدنا بأمرين :وعدنا رسلنا بالتأييد والنصرة ،ووعدنا
العالم كله بالبعث ،فإذا كنا صادقين في الولى وهي مُشَاهدة لكم ومُحسّة فخذوها مقدمة ودليلً
على صِدْقنا في الخرى ،وقد عاينتُم أن جميع الرسل انتصروا على مُكذّبيهم ،إما بعذاب
الستئصال ،وإما بعذاب الهزيمة والنكسار.
عسَىا أَن َيكُونَ }
ثم يقول الحق سبحانهُ { :قلْ َ
()3158 /
عسَى أَنْ َيكُونَ َر ِدفَ َلكُمْ َب ْعضُ الّذِي َتسْ َتعْجِلُونَ ()72
ُقلْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كلمة { عَسَىا } [النمل ]72 :تفيد الرجاء ،لكنها من ال تفيد التحقيق ،فلو قُلْت مثلً :عسى أن
يعطيك فلنَ ،،لكَان الرجاء ضعيفا ،وأقوى منه لو قُلْت :عسى أن أعطيك لني ل أملك فلنا ،لكن
أملك نفسي ،وأقوى من ذلك أن أقول :عسى أن يُعطيك ال لن أسبابي أنا قد ل تمكّني من
الوفاء،أما إنْ قال ال تعالى عسى ،فهي قمة التأكيد والتحقيق في الرجاء ،وهي أعلى مراتبه
وأبلغها.
ومعنى { َر ِدفَ َلكُم } [النمل ]72 :أي :تبعكم وجاء بعدكم من أردفه إذا أركبه خلفه على الدابة،
فهو خلفه مباشرة ،وفعلً أصابهم ما يستعجلون ،فلم يمرّ طويلً حتى حاقت بهم الهزيمة في بدر،
جمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر ]45 :وقد عاينتُم ذلك ،فخذوه
فص َدقْنا في الولى حين قلنا {:سَ ُيهْزَمُ الْ َ
دليلً على الغَيْب الذي أخبرناكم به.
ضلٍ }
ثم يقول رب العزة سبحانه { :وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َف ْ
()3159 /
شكُرُونَ ()73
س وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا يَ ْ
علَى النّا ِ
ضلٍ َ
وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َف ْ
فمن فضله تعالى عليكم أنْ يُؤخّر القيامة لعل الناس يرعوون ،وإل لفاجأتهم من أول تكذيب ،وهذا
يبين أن ال تعالى يُمهل الخَلْق ليزداد فيهم أهل الهدى واليمانَ ،ألَ ترى أن المؤمنين برسول ال
لم يأتُوا جميعا مرة واحدة في وقت واحد ،إنما على فترات زمنية واسعة.
لذلك قلنا :إن المسلمين الوائل كانوا في معاركهم مع الكفر يألمون إنْ فاتهم قَتْل واحد من رؤوس
الكفر وقادته مثل عكرمة وعمرو وخالد وغيرهم ،ولو أطلعهم ال على الغيب لَعلِموا أن ال تعالى
نجّاهم من أيديهم ليدخرهم فيما َبعْد ل ُنصْرة السلم ،وليكونوا قادة من قادته ،وسيوفا من سيوفه
شهَرة في وجوه الكافرين.
الم ْ
شكُرُونَ } [النمل ]73 :دليل على أن البعض منهم يشكر.
وقوله تعالى { :وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ يَ ْ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َيعَْلمُ }
()3160 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولك أنْ تقول في هذه الية :إذا كان ال تعالى يعلم ما تُكنّ صدورهم وما تخفيه ،فمن باب َأوْلَى
يعلم ما يُعلنون ،فلماذا قال بعدهاَ { :ومَا ُيعْلِنُونَ } [النمل]74 :؟
نقول :لن ما في الصدور غَيْب وال غَيْب ،وقد يقول قائل :ما دام أن ال غيْب فل يعلم إل
الغيب .فنردّ عليه بأن ال تعالى يعلم الغيب ويعلم العلن.
()3161 /
معنى { غَآئِبَةٍ } [النمل ]75 :يعني :الشيء الغائب ،ولحقتْ به التاء الدالة على المبالغة ،كما نقول
في المبالغة :راوٍ ورواية ،ونسّاب ونسّابه ،وعالم وعلمة ،كذلك غائب وغائبة ،مبالغة في خفائها.
و(مِنْ) هنا يرى البعض أنها زائدة ،لكن كلمة زائدة ل تليق بأسلوب القرآن الكريم وفصاحته،
ونُنزّه كلم ال عن الحشو واللغو الذي ل معنى له ،والبعض تأدب مع القرآن فقال (من) هنا
صلة ،لكن صلة لي شيء؟
إذن :ل بد أن لها معنى لكي نوضحه نقول :إذا أردتَ أنْ تنفي وجود مال معك تقول :ما عندي
مال ،وهذا يعني أنه ل مالَ معك يُعتَدّ به ،ول يمنع أن يكون معك مثلً عدة قروش ل يقال لها
مال ،فإن أردتَ نفي المال على سبيل تأصيل العموم في النفس تقول :ما عندي من مال ،يعني
صغُر ،فمِنْ هنا إذن ليست زائدةً ول صلةً ،إنما هي للغاية وتأصيل
بداية ممّا يُقال له مال مهما َ
العموم في النفي.
سمَآ ِء وَالَ ْرضِ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } [النمل ]75 :أن ال تعالى يحيط
فالمعنى { َومَا مِنْ غَآئِ َبةٍ فِي ال ّ
علمه أزلً بكل شيء ،مهما كان صغيرا ل يُعتدّ به ،واقرأ قوله تعالى:
ب َولَ يَابِسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ
ط ٍ
ض َولَ َر ْ
سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الَ ْر ِ
{ َومَا تَ ْ
مّبِينٍ }[النعام.]59 :
كما أن قدرته تعالى ل تقف عند حد العلم إنما ويسجله { ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } [النمل ]75 :أي في
أُمّ الكتاب الذي سجّل ال فيه كل أحداث الكون ،فإذا ما جاءتْ الحداث نراها مُوافِقة لما سجّله ال
ل والمواصلت في زمن نزول
عنها أَ َزلً ،فمثلً لما ذكر الحق ـ تبارك وتعالى ـ وسائل النق ِ
حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَ ًة وَيَخُْلقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[النحل.]8 :
ل وَالْ َ
ل وَالْ ِبغَا َ
القرآن قال {:وَالْخَ ْي َ
خلُقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[النحل ]8 :لكان فيها مأخذ على القرآن ،وإلّ
فلول تذييل الية بقوله تعالى {:وَيَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فأين السيارة والطائرة والصاروخ في وسائل المواصلت؟
إذن :نستطيع الن أنْ نُدخِل كل الوسائل الحديثة تحت{ وَ َيخْلُقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[النحل.]8 :
وسبق أن قلنا :إن من عظمة الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ألّ يُعلم بشيء ل اختيار للعبد فيه ،إنما
س َفهَآءُ مِنَ النّاسِ
بما له فيه اختيار ويفضحه باختياره ،كما حدث في مسألة تحويل القبلة {:سَ َيقُولُ ال ّ
مَا وَلّ ُهمْ عَن قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَ ْيهَا }[البقرة.]142 :
فيعلنها ال تعالى صراحة ،ويُسمّيهم سفهاء؛ لنهم يعادون ال ويعادون رسول ال ،وبعد هذه
الخصومة وهذا التجريح قالوا فعلً ما حكاه القرآن عنهم.
ولم نَرَ منهم عاقلً يتأمل هذه الية ،ويقول :ما دام أن القرآن حكى عنا هذا فلن نقوله ،وفي هذه
ن يتهموا القرآن وينالوا من صِدْقه ومن مكانة رسول ال ،لكن لم يحدث وقالوا
الحالة يجوز لهم أ ْ
فعلً بعد نزول الية:
{ مَا َولّهُمْ عَن قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَ ْيهَا }[البقرة ]142 :يعني :تركوا التوجه إلى بيت المقدس
وتوجهوا إلى مكة ،قالوه مع ما لهم من عقل واختيار.
ب وَ َتبّ * مَآ أَغْنَىا
وهذه المسألة حدثتْ أيضا في شأن أبي لهب لما قال ال عنه {:تَ ّبتْ َيدَآ أَبِي َل َه ٍ
سبَ * سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ َل َهبٍ }[المسد1 :ـ .]3
عَنْهُ مَالُهُ َومَا كَ َ
لنه قالها لرسول ال صلى ال عليه وسلم لما جمعهم ليبلغهم دعوة ال ،فقال له :تبا لك ألهذا
جمعتنا .وأبو لهب عم رسول ال ،كحمزة والعباس ولم يكن رسول ال يدري مستقبل عمه ،فلعله
يؤمن كما آمن حمزة وصار أسد رسول ال ،وكما آمن العباس بن عبد المطلب.
فلما نزلت{ تَ ّبتْ يَدَآ }[المسد ]1 :كان بإمكانه أنْ يُكذّبها وأن يؤمن فينطق بالشهادتين ولو نفاقا ،فله
على ذلك قدرة ،وله فيه اختيار ،لكنه لم يفعل.
إذن :من عظمة كلم ال ومن وجوه العجاز فيه أنْ يحكم حكما على مختار كافر به ،وهو قرآن
يُتْلَى علني ًة على رؤوس الشهاد ،ومع ذلك ل يستطيع التصدّي له ،ويبقى القرآن حُجّة ال على
كل كافر ومعاند.
ولما نتأمل قوله تعالى {:إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر ]9 :نرى أن الحق سبحانه
أنزل القرآن وتولّى حفظه بنفسه ـ سبحانه وتعالى ـ ولم يُوكله إلى أحد ،مع أن في القرآن أشياء
وأحداثا لم توجد بعد ،فكأن ال تعالى يحفظها على نفسه ويُسجّلها ويعلنها ،لماذا؟ لنها ستحدث ل
محالة.
فالحق سبحانه ل يخشى واقع الشياء ألّ تطاوعه؛ لنه مالكها ،ألَ ترى أن النسان يحفظ
(الكمبيالة) التي له ،ول يهتم بالتي عليه؟ أما ربّنا عز وجل فيحفظ لنا الشياء وهي عليه سبحانه
وتعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر ]45 :فال يُسجّلها على نفسه ويحفظها؛ لنه
واقرأ إن شئت {:سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
القادر على النفاذ ،وفعلً هُزِم الجمع وولّوْا الدبار وصدق ال.
()3162 /
إِنّ َهذَا ا ْلقُرْآَنَ َي ُقصّ عَلَى بَنِي ِإسْرَائِيلَ َأكْثَرَ الّذِي ُهمْ فِيهِ َيخْتَِلفُونَ ()76
فَرْق بين أن تخاطب خاليَ الذهن ،وأنْ تخاطب مَنْ لديه فكرة ُمسْبقة ،فخالي الذهن يقبل منك ،أما
صاحب الفكرة المسْبقة فيعارضك ،كذلك جاء من الكفار ومن أهل الكتاب من يعارض كتاب ال
وينكر ما جاء به ،ومع أنهم أعداء السلم وكارهون له لكْن إنْ سألتَهم عما أخبر به القرآن
يقولون :نعم نعرف هذا من كتبنا{ فََلمّا جَآءَ ُهمْ مّا عَ َرفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }
[البقرة.]89 :
لذلك سيدنا عبد ال بن سلم عندما نظر إلى رسول ال علم أنه الرسول الحق ،فمالتْ نفسه إلى
السلم وقال :وال إنّي لعرف محمدا كمعرفتي بابني ،ومعرفتي بمحمد أشد ،وصدق ال حين
قال عنهمَ {:يعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَ ُهمْ }[البقرة.]146 :
علم عبد ال أن السلم هو الطريق الذي يُوصّله إلى ال والذي ينبغي لكل عاقل أنْ يتبعه ،فلما
أراد أنْ يُسلم أحب أنْ يكسب الجولة بإعلن إسلمه وفضيحة المنافقين والكفار وأهل الكتاب،فقال:
يا رسول ال لقد اشتشر َفتْ نفسي للسلم ،وأخاف إنْ أسملتُ أن يذمّني اليهود ويفعلوا بي كذا
وكذا ،فاسألهم عنّي قبل أنْ أُسلِم ،فسألهم رسول ال فقالوا :هو حَبْرنا وابن حَبْرنا..
وكالوا له الثناء والمديح ،عندها قال عبد ال :أَما وقد قلتم ما قلتم ،فأشهد أل إل إله ال وأن محمدا
رسول ال ،فقالوا :بل هو شرّنا وابن شرّنا .وكالوا له عبارات السب والشتم.
حمَةٌ }
ثم يصف الحق سبحانه القرآن فيقول { :وَإِنّهُ َل ُهدًى وَرَ ْ
()3163 /
حمَةٌ } [النمل:
معنى { َلهُدًى } [النمل ]77 :أي :هداية دللة وإرشاد ،وهذه للمؤمن وللكافر { وَرَ ْ
ح َمةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[السراء:
شفَآ ٌء وَرَ ْ
]77للمؤمنين فقط ،كما قال سبحانه {:وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]82وفَرْق بين الشفاء والرحمة؛ لن العطف هنا يقتضي المغايرة .الشفاء :من الداء الذي جاء
القرآن ليعالجه ،والرحمة ألّ يعاودك هذا الداء مرة أخرى.
ثم يقول الحق سبحانه { :إِن رَ ّبكَ َيقْضِي بَيْ َنهُم }
()3164 /
قوله تعالى { ا ْلعَزِيزُ } [النمل ]78 :أي :الذي يقهر ول يُقهر ،ويغلب ول ُيغْلب ،ويجير ول ُيجَار
عليه ،وهو مع ذلك في عزته { ا ْلعَلِيمُ } [النمل ]78 :فقد يكون عزيزا ل يُغلب ،لكن ل علم عنده،
فالحق سبحانه عزيز عليم يضع العزة في مكانها ،ويضع الذلة في مكانها.
كما قال سبحانهُ {:قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَنزِعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآ ُء وَ ُتعِزّ مَن
تَشَآءُ وَتُ ِذلّ مَن َتشَآءُ بِ َي ِدكَ الْخَيْرُ }[آل عمران.]26 :
وقد وقف العلماء عند قوله تعالى عن نفسه {:بِيَ ِدكَ ا ْلخَيْرُ }[آل عمران ]26 :فاجتهد بعضهم فقال:
التقدير :بيدك الخير والشر ،وهذا التقدير يدل على عدم فهْم لمعنى الية فما عند ال خير في كل
الحوال؛ لن إيتاء الملْك لمن ينصف في الرعية خير ،ونزع الملْك ممّنْ يطغى به ويظلم خير
أيضا؛ لن ال سلب منه أداة الطغيان حتى ل يتمادى ،ففي كلّ خير.
وما دام من صفاته تعالى أنه عزيز عليم حكيم رحيم ذو فضل ،فاطمئن أيها المؤمن بال ،وتوكل
على ال.
ثم يقول الحق سبحانه { :فَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ }
()3165 /
والتوكل :أن تستضعف نفسك في شيء تحاول أن تقضيه بقوة فل تجدها عندك ،والتوكل الحق ل
يكون إل على ال الحي الذي ل يموت ،أما إن توك ْلتَ على بشر مثلك فقد يُفاجِئه الموت قبل أنْ
يقضي لك حاجتك.
حقّ ا ْلمُبِينِ } [النمل ]79 :أي :أنك تتوكل على ال وأنت على الحق وعلى
وقال { إِ ّنكَ عَلَى الْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الطاعة له عز وجل ،ل على معصيته ،وما ُد ْمتَ تتوكل على ال وأنت على حال الطاعة فل بُدّ
أن يكون نصيركَ ومعينَك.
ثم يُسلّي الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم ويُعزيه كي ل يألم على مَنْ شردوا منه فلم
سمِعُ ا ْل َموْتَىا }
ك لَ ُت ْ
يؤمنوا { :إِ ّن َ
()3166 /
والمعنى :ل تحزن يا محمد ،ول تُهلك نفسك على هؤلء الذين لم يؤمنوا من قومك ،فما عليك إل
البلغ .والبلغ كلم له أداة استقبال في السامع هي الذن ،فإذا تعطَلتْ هذه الداة لن يسعموا،
وهؤلء القوم تعطَلتْ عندهم أداة السمع ،فهم كالموتى والذين أصابهم الصمم ،فآيات ال الكونية
كثيرة من حولهم ،لكن ل يروْن ول يسمعون.
وليت المر يقف بهم عند حَدّ الصمم ،إنما يُولّون مدبرين من سماع الدعوة ،وهذه مبالغة منهم من
النصراف عن دعوة الحق؛ لنهم إنْ جلسوا فلن يسمعوا ،فما بالك إذا وّلوْا مدبرين يجروُن بعيدا،
وكأن الواحد منهم يخاف أن يزول عنه الصمم وتلتقط أذنه نداء ال ،فيستميله النداء ،وعندها تكون
مصيبته كبيرة ـ على حَدّ زعمهم.
س َمعُواْ ِلهَـاذَا
ص َغوْا إليه ل تبعوه ،ألم يقولوا {:لَ تَ ْ
وهذا دليل على أنهم يعلمون أنه حق ،وأنهم لو َ
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ }[فصلت.]26 :
ا ْلقُرْآ ِ
عوْا إلى التشويش عليه،
ذلك لن القرآن جللً وجمالً ياسِرُ اللباب؛ لذلك َن َهوْا عن سماعه ،ودَ َ
حتى ل ينفذ إلى القلوب.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ومَآ أَنتَ ِبهَادِي ا ْل ُع ْميِ }
()3167 /
فرْق بين سماع قالة أو قضية الصدق ،وانت خالي الذّهْن ،وبين أن تسمعها وأنت مشغل بنقيضها،
فلكي يُثمِر السماع ينبغي أنْ تستقبل الدعوة بذهن خَالٍ ثم تبحث بعقلك الدعوة وما يناقضها ،فما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
انجذبتَ إليه واطمأنتْ إليه نفسك فأدخله.
وهذه يُسمّونها ـ حتى في الماديات ـ نظرية الحيز أي :أن الحيز الواحد ل يتسع لشيئين في
الوقت نفسه .وسبق أنْ مثّلْنا لذلك بالقارورة حين تملؤها بالماء ل ُبدّ أنْ يخرج منها الهواء أولً
على شكل فقاعات؛ لن الماء أكثفُ من الهواء.
سمِعُ ِإلّ مَن ُي ْؤمِنُ بِآيَاتِنَا َفهُم مّسِْلمُونَ } [النمل ]81 :ولقائل أن يقول :ما دام تُسمِع
ومعنى { :إِن تُ ْ
ن يؤمن بآياتنا ،فما فائدة السماع وهو مؤمن؟ نقول :اليات ثلثة؛ مترتبة بعضها على بعض،
مَ ْ
فأولها :اليات الكونية العقدية التي تشاهدها في الكون وتستدلّ بها على وجود إله خالق قادر
فتسأل :مَنْ هذه الله الخالق فيأتي دور الرسول الذي يُبيّن لك ويحلّ لك هذا اللغز ،ول ُبدّ له من
آيات تدل على صِدْقه في البلغ عن ال هي المعجزة ،فإنْ غفلنا عن اليات الكونية ذكرنا بها
الرسول ،فقال :ومن آياته كذا وكذا.
ن تؤمن بآيات الحكام التي جاءتْ بها
فإذا آمنتَ باليات الكونية وبآيات المعجزات ،فعليك أ ْ
معجزة النبي صلى ال عليه وسلم.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَِإذَا َوقَعَ ا ْل َقوْلُ }
()3168 /
وَإِذَا َوقَعَ ا ْل َق ْولُ عَلَ ْي ِهمْ أَخْ َرجْنَا َلهُمْ دَابّةً مِنَ الْأَ ْرضِ ُتكَّل ُمهُمْ أَنّ النّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ()82
كلمة { َوقَعَ ا ْلقَ ْولُ عَلَ ْيهِم } [النمل ]82 :أي :سقط :كأنه وبطبيعته يسقط ل يحتاج لمَنْ يُجبره على
س ْقفُ مِن َف ْو ِقهِمْ }
علَ ْيهِمُ ال ّ
السقوط .والسقوط { عَلَ ْيهِم } [النمل ]82 :كما في قوله تعالى{ فَخَرّ َ
[النحل.]26 :
والوقوع هنا يدل على أنهم سيتعرّضون لشدائد ومتاعب ،وبتتبع هذه المادة (وقع) في القرآن نجد
أنها جاءت كلها في الشدائد إل في موضع واحد هو قوله تعالىَ {:ومَن يَخْرُجْ مِن بَيْ ِتهِ ُمهَاجِرا إِلَى
اللّ ِه وَرَسُوِلهِ ثُمّ ُيدْ ِركْهُ ا ْل َم ْوتُ فَقَدْ َوقَعَ أَجْ ُرهُ عَلىَ اللّهِ }[النساء.]100 :
وما داموا لم يسمعوا لليات ،ولم يقبلوها ،ولم يلتفتوا إلى منهج ال وصمّوا عنه آذانهم ،فلم
يسمعوا كلم أمثالهم من البشر فسوف نُخرج لهم دابة تكلمهم.
ن الَ ْرضِ ُتكَّل ُمهُمْ } [النمل ]82 :وانظر إلى هذه الهانة وهذا التوبيخ :أنتم لم
{ َأخْرَجْنَا َلهُمْ دَآبّةً مّ َ
تسمعوا كلم أمثالكم من البشر ،ولم تفهموا مَنْ يخاطبكم بلغتكم ،فاسمعوا الن من الدنى ،وافهموا
عنها ،وفسّروا قولها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن ماذا ستقول الدابة لهم؟ وما نوع كلمها؟ { :أَنّ النّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَ يُوقِنُونَ } [النمل]82 :
أي :بآياتنا السابقة ل يؤمنون ،وها أنا ذا أُكلّمهم ،وعلى الماهر فيهم أن يقول لي :كيف أكلمه.
وقد اختلف الناس في هذه الدابة ،وفي شكلها وأوصافها ،وكيف يأتي القول من غير مألوف القول
وهو الدابة؟ لكن ما دام أن ال تعالى أخبر بها فهي حقّ ،ل ينبغي معارضته ،وعلينا أن نأخذ
وقوع ما حدّث به القرآن قبل أن يكون دليلً على صِدْقه فيما يحدّث به فيما يكون.
()3169 /
وَ َيوْمَ نَحْشُرُ مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َفوْجًا ِممّنْ ُيكَ ّذبُ بِآَيَاتِنَا َفهُمْ يُوزَعُونَ ()83
الفوج :هم الجماعة والزمرة من الناس .وأول مَنْ يُجمع في هذا الموقف هم العتاة والجبابرة الذين
توّلوْا تكذيب آيات ال ،يحشرهم ال أولً أمام العامة يتقدمونهم ويسبقونهم إلى النار ،كما قال
سبحانه عن فرعونَ {:يقْ ُدمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فََأوْرَدَ ُهمُ النّارَ }[هود.]98 :
فكما تقدّمهم من الضلل في الدنيا يتقدمهم إلى النار في الخرة ،وحين يرى الضالون إمامهم في
الضلل يقدمهم ينقطع أملهم في النجاة ،فربما تعلّقوا به في هذا الموقف ينتظرونه أنْ يُخلّصهم،
لكن كيف وهو يسبقهم إلى هذا المصير.
ومعنى { َف ُهمْ يُوزَعُونَ } [النمل ]83 :قلنا في معنى { يُوزَعُونَ } [النمل ]83 :أي :يُمنعون،
والمراد يمنعون أن يسبق أولهم آخرهم بحيث يدخلون جميعا ،فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يجمع
أولهم على آخرهم (ليشرفوا) سويا في النار :التابع والمتبوع كلهم سواء في الذلة والمهانة ،فربما
حاول أحد العتاة أو الجبابرة أن يسبق حتى ليراه تابعوه ،فيفتضح أمره ،فيؤخره ال ليفضحه على
رؤوس الشهاد.
()3170 /
حَتّى إِذَا جَاءُوا قَالَ َأ َكذّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ ُتحِيطُوا ِبهَا عِ ْلمًا َأمْ مَاذَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ ()84
في سورة العراف يُورِد الحق ـ تبارك وتعالى ـ مذكرة تفصيلية لهذا الموقف ،ولهذا الحوار
الذي يدور في عَرَصات القيامة ،فيقول تعالى:
{ َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا َأوْ كَ ّذبَ بِآيَا ِتهِ ُأوْلَـا ِئكَ يَنَاُلهُمْ َنصِي ُبهُم مّنَ ا ْلكِتَابِ حَتّىا إِذَا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شهِدُواْ عَلَىا
جَآءَ ْتهُمْ رُسُلُنَا يَ َت َوفّوْ َنهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُن ُتمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُو ْا ضَلّواْ عَنّا وَ َ
ن وَالِنْسِ فِي النّارِ كُّلمَا
سهِمْ أَ ّنهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * قَالَ ادْخُلُواْ فِي ُأمَمٍ َقدْ خََلتْ مِن قَبِْلكُمْ مّن الْجِ ّ
أَ ْنفُ ِ
جمِيعا قَاَلتْ ُأخْرَاهُ ْم لُولَهُمْ رَبّنَا هَـاؤُلءِ َأضَلّونَا
َدخََلتْ ُأمّةٌ ّلعَ َنتْ أُخْ َتهَا حَتّىا إِذَا ادّا َركُواْ فِيهَا َ
ف وَلَـاكِن لّ َتعَْلمُونَ * َوقَاَلتْ أُولَهُ ْم لُخْرَا ُهمْ َفمَا كَانَ
ضعْ ٌ
ل ِ
ضعْفا مّنَ النّارِ قَالَ ِل ُك ّ
فَآ ِتهِمْ عَذَابا ِ
ضلٍ فَذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنتُمْ َتكْسِبُونَ }[العراف37 :ـ .]39
َلكُمْ عَلَيْنَا مِن َف ْ
()3171 /
طقُونَ ()85
َووَقَعَ ا ْلقَ ْولُ عَلَ ْيهِمْ ِبمَا ظََلمُوا َف ُهمْ لَا يَنْ ِ
قوله { َو َوقَعَ } [النمل ]85 :أي :وجب لهم العذاب { ِبمَا ظََلمُواْ } [النمل ]85 :وكأنه شيء
طقُونَ } [النمل ]85 :فقد خرستْ ألسنتهم من َهوْل ما
محسوس يسقط على رؤوسهم { َف ُه ْم لَ يَن ِ
رأوْا ،فل يجدون كلما ينطقون به.
جعَلْنَا }
ثم يقول الحق سبحانه { :أَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا َ
()3172 /
سكُنُوا فِي ِه وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ ()86
جعَلْنَا اللّ ْيلَ لِ َي ْ
أَلَمْ يَ َروْا أَنّا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَتِهِ
تسكن فيه ،وتخلد للراحة ونهار تسعى فيه وتبتغي من فضل ال كما قال تعالىَ {:ومِن رّ ْ
شكُرُونَ }[القصص.]73 :
سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ وََلعَّلكُمْ تَ ْ
ج َعلَ َلكُمُ الّيلَ وَال ّنهَارَ لِ َت ْ
َ
ن قلبَ الناس هذه
ولن تستقيم لنا حركة الحياة إل إذا سِرْنا على هذا النظام الذي ارتضاه ال لنا ،فإ ْ
الطبيعة فسهروا حتى الفجر ،فل ُبدّ أنْ يلقوا عاقبة هذه المخالفة في حركة حياتهم :تكاسلً
وتراخيا وقِلة في النتاج ..إلخ.
ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يشرح لنا هذه القضية في موضع آخرُ {:قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِن َ
ج َعلَ
س َمعُونَ * ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِن َ
الّ ْيلَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبضِيَآءٍ َأفَلَ تَ ْ
سكُنُونَ فِيهِ أَفلَ تُ ْبصِرُونَ
علَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ ِإلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِي ُكمْ بِلَ ْيلٍ تَ ْ
اللّهُ َ
}[القصص71 :ـ .]72
س َمعُونَ }[القصص ]71 :وعن النهار قال {:أَفلَ تُ ْبصِرُونَ }
ففي الكلم عن الليل قالَ {:أفَلَ تَ ْ
[القصص ]72 :لماذا؟ قالوا :لن حاسة الدراك في الليل هي السمع ،وفي النهار البصر .وفي هذا
إشارة إلى طبيعة كل منهما حتى ل نُغيّرها نحن ،فنسهر الليل ،وننام النهار.
سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ }[القصص:
ج َعلَ َلكُمُ الّيلَ وَال ّنهَارَ لِ َت ْ
حمَ ِتهِ َ
وفي قوله تعالى{ َومِن رّ ْ
]73ما يسميه العلماء باللف والنشر ،اي :لفّ المحكوم عليه وهو الليل والنهار معا ،ثم نشر حكم
كل منهم على وجه الترتيب :لتسكنوا فيه وهي تقابل الليل ،ولتبتغوا من فضله ،وهي تقابل النهار.
إذن :بعد أنْ استدل الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالموجود فعلً من آيتي الليل والنهار أراد أنْ يستدل
ج َعلَ اللّهُ
ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمُ الّ ْيلَ سَ ْرمَدا }[القصص ]71 :و{ ُقلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِن َ
بعدمهما في{ ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِن َ
عَلَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ سَ ْرمَدا }[القصص.]72 :
ثم يعود السياق مرة أخرى إلى الحديث عن القيامة { :وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ }
()3173 /
سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا مَنْ شَاءَ اللّ ُه َوكُلّ أَ َت ْوهُ دَاخِرِينَ
وَ َيوْمَ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ َففَزِعَ مَنْ فِي ال ّ
()87
وكأن ال تعالى يقول لي :التفتْ إلى العبرة في اليات الكونية ،حيث ستنفعك في يوم آت هو يوم
ت َومَن فِي
سمَاوَا ِ
القيامة { وَ َيوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ } [النمل ]87 :وهو البوق { َففَزِعَ مَن فِي ال ّ
الَ ْرضِ ِإلّ مَن شَآءَ اللّهُ } [النمل ]87 :والفزع :الخوف الشديد الذي يأخذ كلّ مَنْ في السموات،
ن في الرض { ِإلّ مَن شَآءَ اللّهُ } [النمل ]87 :قالوا :هم الملئكة :إسرافيل الذي ينفخ في
وكل مَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصور ،وجبريل ،وميكائيل ،وعزرائيل.
لذلك لما تكلم سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن مسألة الصعق هذه قال " :فأفيق من
الصعقة فأجد أخي موسى ماسكا بالعرش " ذلك لن موسى عليه السلم صعق في الدنيا مرة حين
صعِقا }
جعَلَهُ َدكّا َوخَرّ موسَىا َ
تجلّى ربه للجبل ،كما حكى القرآن {:فََلمّا َتجَلّىا رَبّهُ لِلْجَ َبلِ َ
[العراف.]143 :
وما كان ال تعالى ليجمع على نبيه موسى عليه السلم صعقتين ،لذلك لم يُصعَق صعقة الخرة.
وقوله سبحانهَ { :و ُكلّ أَ َت ْوهُ دَاخِرِينَ } [النمل ]87 :أي :صاغرين أذلء ،ل يتأبى على ال منهم
أحد ،حيث ل قدرةَ له على ذلك؛ لن القيامة أنهتْ الختيار الذي كان لهم في الدنيا ،وبه ملّكهم ال
شيئا من المِلْكُ {:قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآءُ وَ ُتعِزّ مَن َتشَآءُ
وَتُ ِذلّ مَن تَشَآءُ }[آل عمران.]26 :
فأعطى ال تعالى طرفا من الملْك ،ووهبه لبعض عباده في دنيا السباب والختيار ،أمّا في الخرة
فالملْك ل تعالى وحده ،ل ينازعه فيه أحدّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
في القيامة يُنزع منك كلّ شيء تملكه وكلّ قدرة لك على ما تملك حتى جوارحك ل قدرةَ لك
عليها ،ول إرادةَ لتنفعل لك ،هي تبع إرادتك في الدنيا ،وبها ترى وتسمع وتمشي وتبطش ،أمّا في
الخرة فقد سُلِبت منك هذه الرادة ،بدليل أنها ستشهد عليك ،وتُحاجّك يوم القيامة.
حسَ ُبهَا }
ثم ينتقل السياق بنا مرة أخرى إلى آية كونية { :وَتَرَى الْجِبَالَ تَ ْ
()3174 /
قوله تعالى { َتحْسَ ُبهَا جَا ِم َدةً } [النمل ]88 :اي :تظنها ثابتة ،وتحكم عليها بعدم الحركة؛ لذلك
نسميها الرواسي والوتاد { وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ السّحَابِ } [النمل ]88 :أي :ليس المر كما تظن؛ لنها
تتحرك وتمر كما يمرّ السحاب ،لكنك ل تشعر بهذه الحركة ول تلحظها لنك تتحرك معها بنفس
حركتها.
و َهبْ أننا في هذا المجلس ،أنتم أمامي وأنا أمامكم ،وكان هذا المسجد على رحاية أو عجلة تدور
بنا ،أيتغير وضعنا وموقعنا بالنسبة لبعضنا؟
إذن :ل تستطيع أن تلحظ هذه الحركة إل إذا كنتَ أنت خارج الشيء المتحرك ،ألَ ترى أنك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تركب القطار مثلً ترى أن أعمدة التليفون هي التي تجري وأنت ثابت.
ولن هذه الظاهرة عجيبة سيقف عندها الخَلْق يزيل ال عنهم هذا العجب ،فيقول { صُنْعَ اللّهِ الّذِي
شيْءٍ } [النمل ]88 :يعني :ل تتعجب ،فالمسألة من صُنع ال وهندسته وبديع خَلْقه،
أَ ْتقَنَ ُكلّ َ
شيْءٍ } [النمل ]88 :يعني :كل خَلْق عنده بحساب
واختار هنا من صفاته تعالى { :الّذِي أَ ْتقَنَ ُكلّ َ
دقيق مُتقَن.
البعض فهم الية على أن مرّ السحاب سيكون في الخرة ،واستدل بقوله تعالى {:وَ َتكُونُ ا ْلجِبَالُ
كَا ْل ِعهْنِ ا ْلمَنفُوشِ }[القارعة.]5 :
وقد جانبه الصواب لن معنى{ كَا ْل ِعهْنِ ا ْلمَنفُوشِ }[القارعة ]5 :أنها ستتفتت وتتناثر ،ل أنها تمر،
وتسير هذه واحدة ،والخرى أن الكلم هنا مبنيّ على الظن { َتحْسَ ُبهَا جَا ِم َدةً } [النمل ]88 :وليس
في القيامة ظن؛ لنها إذا قامتْ أحداثها مُتيقنةٌ.
ثم إن السحاب ل يتحرك بذاته ،وليس له موتور يُحركّه ،إنما يُحرّكه الهواء ،كذلك الجبال حركتها
ليست ذاتيةٌ فيها ،فلم نَرَ جبلَ تحرّك من مكانه ،فحركة الجبال تابعة لحركة الرض؛ لنها أوتاد
عليها ،فحركة الوتد تابعة للموتود فيه.
سيَ أَن َتمِيدَ ِبكُمْ
لذلك لما تكلم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ عن الجبال قال {:وَأَلْقَىا فِي الَ ْرضِ َروَا ِ
}[النحل.]15 :
ولو خُلِقتْ الرض على هيئة السّكون ما احتاجتْ لما يُثبّتها ،فل ُبدّ أنها مخلوقة على هيئة
الحركة.
في الماضي وقبل تطور العلم كانوا يعتقدون في المنجّمين وعلماء الفلك الكفرة أنهم يعلمون
الغيب ،أما الن وقد توصّل العلماء إلى قوانين حركة الرض وحركة الكواكب الخرى في
المجموعة الشمسية واستطاعوا حساب ذلك كله بدقة مكّنتهم من معرفة ظاهرة الخسوف والكسوف
مثلً ونوع كل منهما ووقته وفعلً تحدث الظاهرة في نفس الوقت الذي حددوه ل تتخلف.
واستطاعوا بحساب هذه الحركة أنْ يصعدوا إلى سطح القمر ،وأن يُطلِقوا مركبات الفضاء
ويُسيّروها بدقة حتى إنّ إحداها تلتحم بالخرى في الفضاء الخارجي.
كل هذه الظواهر لو لم تكن مبنية على حقائق مُتيقّنة لدتْ إلى نتائج خاطئة وتخلفتْ.
ومن الدلة التي تثبت صحة ما نميل إليه في معنى حركة الجبال ،أن قوله تعالى { صُنْعَ اللّهِ الّذِي
شيْءٍ } [النمل ]88 :امتنان من ال تعالى بصنعته ،وال ل يمتنّ بصنعته يوم القيامة ،إنما
أَ ْتقَنَ ُكلّ َ
المتنان علينا الن ونحن في الدنيا.
()3175 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِ ْنهَا وَهُمْ مِنْ فَ َزعٍ َي ْومَئِذٍ َآمِنُونَ ()89
مَنْ جَاءَ بِالْ َ
لهذه الية صلة لطيفة بما قبلها :فكما أن اليات الكونية التي أخبر بها الحق ـ تبارك وتعالى ـ
حقيقة واقعة ،وتأكدتَ أنت من صِدْقها حيث شاهدتها بنفسك وأدركتها بحواسك ،فكما أخبرناك
بهذه اليات نُخبرك الن بحقيقة أخرى ينبغي أن تصدقها ،وأن تأخذ من صدْق ما شاهدتَ دليلً
حسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّ ْنهَا } [النمل.]89 :
على صِدْق ما غاب عنك ،فربّك يُخبِرك بأنه { مَن جَآءَ بِالْ َ
الحسنة :فعل النفعال فيه يكون لمطلوب ال في العبادة ،فإن فعلتَ الفعل على مراد ال تعالى
ضعْف على مقدار طاقة
كانت لك حسنة ،والحسنة عند ال بعشر أمثالها ،وتضاعف إلى سبعمائة ِ
الفاعل من الخلص والتجرّد ل في فعله.
والمعنى { :مَن جَآءَ بِالْحَسَ َنةِ } [النمل ]89 :أي :في الدنيا { فَلَهُ خَيْرٌ مّ ْنهَا } [النمل ]89 :أي:
ناشىء عنها في الخرة.
ن يقول :إذا كان قولنا :ل إله إل ال حسنة فالثواب عليها خَيْر منها .وهذا
ونسمع من البعض مَ ْ
القول ناتج عن َفهْم غير دقيق لمعنى الية؛ لن ال تعالى الذي أُقر به في الشهادة هو الذي يهبني
هذا الثواب ،فمَنْ جاء بالحسنة له خير ناشىء من هذه الحسنة ومُسبّب عنها .كما لو قلت :مأمور
المركز خير من وزير الداخلية :أي خَيْر جاءنا من ناحيته ،ووصل إلينا من طرفه ،أليس هو
صاحب قرار تعيينه؟
ومن ذلك ما يقوله أصحاب الطريق والمجاذيب يقولون :محمد خير من ربه ،وفي مثل هذه
القوال لعب بأفكار الناس وإثارة لمشاعرهم ،وربما تعرض لليذاء ،فكيف يقول هذه الكلمة
ومحمد مُرْسَل من عند ال؟ وحين تُمعِن النظر في العبارة تجدها صحيحة ،فمراد الرجل أن
محمدا خير جاءنا من عند ال.
أو :يكون المعنى { فََلهُ خَيْرٌ مّ ْنهَا } [النمل ]89 :أن الجزاء على الحسنة خير من الحسنة؛ لنك
ل موقوتا ،أمّا خيرها والثواب عليها ،فسيظل لك خالدا بل نهاية.
تفعل الحسنة ِفعْ ً
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ومَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ }
()3176 /
ت وُجُو ُههُمْ فِي النّارِ َهلْ ُتجْ َزوْنَ إِلّا مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ()90
َومَنْ جَاءَ بِالسّيّئَةِ َفكُ ّب ْ
معنىَ { :فكُ ّبتْ } [النمل ]90 :ألقيت بعنف ،وخصّ الوجوه مع أن العضاء كلها ستكبّ؛ لنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أشرفها وأكرمها عند صاحبها ،والوجه موضع العزة والشموخ ،فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد
لهم الذلّة والمهانة ،وفي موضع آخر يُبيّن أن كل العضاء ستكبّ في النار ،فيقول تعالى{:
َفكُ ْبكِبُواْ فِيهَا ُه ْم وَا ْلغَاوُونَ }[الشعراء.]94 :
وليس هذا المصير ظلما لهم ،ول افتراءً عليهم { َهلْ تُجْ َزوْنَ ِإلّ مَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ } [النمل]90 :
وكما يقول سبحانه {:لَ ظُ ْلمَ الْ َيوْمَ }[غافر ]17 :فلم نجامل صاحب الحسنة ،ولم نظلم صاحب
السيئة.
()3177 /
فما دام أن ال تعالى أعطانا هذه المعلومات التي تلفتنا إلى قدرته في آياته الكونية ،وذكّرنا
بالخرة ،وما فيها من الثواب والعقاب ،فما عليك إل أنْ تلتزم (عرفت فالزم) واعلم أن مَنْ أبلغك
منهج ال سيسبقك إلى اللتزام به ،فالشرع كما أمرك أمرني.
{ إِ ّنمَآ ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْ ُبدَ َربّ َه ِذهِ الْبَلْ َدةِ } [النمل ]91 :فإنْ طلبتُ منكم شيئا من التكاليف فقد طالبتُ
نفسي به أولً؛ لنني واثق بصدق تبليغي عن ال؛ لذلك ألزمتُ نفسي به.
عدَم ،وأمدك من
والعبادة كما قلنا :طاعة العابد للمعبود فيما أمر وفيما نهى؛ لن ربك خلقك من َ
عُدْم ،ونظّم لك حركة حياتك ،فإنْ كلّفك فاعلم أن التكليف من أجلك ولصالحك؛ لنه رب مُتولّ
لتربيتك ،فإنْ تركك بل منهج ،وبل افعل ول تفعل ،كانت التربية ناقصة.
إذن :من تمام الربوبية أن يوجهني ربي كما نُوجّه نحن أولدنا الصغار ونُربّيهم ،ومن تمام
الربوبية أن توجد هذه الوامر وهذه النواهي لمصلحة المربّي ،وما دام أن ربك قد وضعها لك فل
بُدّ أن تطيعه.
لذلك نلحظ في هذه الية { إِ ّنمَآ ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْبُدَ َربّ هَ ِذهِ الْبَ ْل َدةِ } [النمل ]91 :ولم ي ُقلُْ :أمِرت أن
أطيع ال؛ لن اللوهية تكليف ،أمّا الربوبية فعطاء وتربية ،فالية تُبيّن حيثية سماعك للحكم من
ال ،وهي أنه تعالى يُربّيك بهذه الوامر وبهذه النواهي ،وسوف تعود عليك ثمرة هذه التربية.
لذلك ،الصّديق أبو بكر حينما حدثوه عن السراء والمعراج لم يُمرّر المسألة على عقله ،ولم يفكر
في مدى صِدْقها ،إنما قال عن رسول ال " :إن كان قال فقد صدق " فالميزان عنده أن يقول
رسول ال ،ثم يُعلّل لذلك فيقول :إني لُصدّقه في الخبر يأتي من السماء ،فكيف ل أُصدّقه في
هذه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقال تعالىَ { :ربّ َه ِذهِ الْبَ ْل َدةِ } [النمل ]91 :أي :مكة وخصّها بالذكْر؛ لن فيها بيته{ إِنّ َأ ّولَ بَ ْيتٍ
ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا }[آل عمران ]96 :ثم يذكر سبحانه وتعالى من صفات مكة { الّذِي
حَ ّر َمهَا } [النمل ]91 :فهي مُحرّمة يحرم فيها القتال ،وهذه وسيلة لحماية العالم من فساد الحروب
وفساد الخلف الذي يُفضي بكل فريق لنْ تأخذه العزة ،فل يجد حلً إل في السيف.
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعطي لخَلْقه فرصة للمداراة وعُذْرا يستترون خلفه ،فل ينساقون
خلف غرورهم ،فحين تمنعهم من الحروب حُرْمة المكان في الحرم ،وحُرْمة الزمان في الشهر
الحرم ـ لن كل فعل ل بُدّ له من زمان ومكان ـ حين يمنعهم الشرع عن القتال فإن لحدهم أن
يقول :لم أمتنع عن ضعف .ولول أن ال منعني لفع ْلتُ وفع ْلتُ ،ويستتر خلف ما شرّع ال من منع
القتال ،إلى أنْ يذوق حلوة السلم فتلين نفسه ،وتتوق للمراجعة.
ولحرمة مكة كان الرجل يلقي فيها قاتل أبيه ،فل يتعرّض له احتراما لحرمة البيت ،وقد اتسعتْ
هذه الحرمة لتشمل أجناسا أخرى ،فل يُعضد شجرها ،ول يُصاد صَيْدها.
ثم يقول تعالى } :وََلهُ ُكلّ شَيءٍ { [النمل ]91 :لن ال تعالى حين يصطفي من الملئكة رسلً،
ومن الناس رسلً ،ويصطفي من الرض أمكنة ،ومن الزمان ،يريد أن يشيع الصطفاء في كل
شيء.
فالحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يُحَابي أحدا ،فحين يرسل رسولً يُبلّغ رسالته للناس كافة ،فيعود
نفعه على الجميع ،وكذلك في تحريم المكان أو الزمان يعود نفعه على الجميع؛ لذلك عطف على }
الّذِي حَ ّر َمهَا { [النمل ]91 :فقال } ُكلّ شَيءٍ { [النمل ]91 :فالتحريم جُعل من أجل هؤلء.
ثم يقول سبحانه } :وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ { [النمل ]91 :أي :المنفذين لمنهج ال يعني :ل
أعتقد عقائد أخبر بها ول أُنفّذها ،وقد قرن ال تعالى بين اليمان والعمل الصالح؛ لن فائدة
عمِلُواْ
ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
اليمان أنْ تعملَ به ،كما قال تعالى {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
الصّالِحَاتِ }[العصر1 :ـ .]3
فال تعالى يريد أن يُعدّي اليمان والحكام إلى أن تكون سلوكا عمليا في حركة الحياة.
()3178 /
أنت حين تقرأ القرآن في الحقيقة ل تقرأ إنما تسمع ربنا يتكلم ،ومعنى { وَأَنْ أَتُْلوَ ا ْلقُرْآنَ } [النمل:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]92يعني :استدم أُنْسك بالكتاب الذي كُلّفت به ،ليدل على أنك من عِشْقك للتكليف ،عشقتَ
المكلّف ،فأحببتَ سماعه ،وتلوة القرآن في ذاتها لذة ومتعة؟.
فأنا سآخذ من تلوته لذةَ ،وأستديم البلغ بالقرآن للناس ،وبعد ذلك أنا نموذج أمام أمتي ،كما قال
س َوةٌ حَسَ َنةٌ }[الحزاب.]21 :
سبحانهّ {:لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ
يعني :شيء يُقتدى به ،وما دام أن الرسول قدوة ،فكل مقام للرسول غير الرسالة مَنْ سار على
قدم الرسول يأخذ منه ،وكذلك مكان كل إنسان في التقوى ،على قَدْر اعتباره واقتدائه بالُسْوة ،أما
الرسالة فدَعْك منها؛ لنك لن تأخذها.
ومعنى { اهْتَدَىا } [النمل ]92 :أي :وصلتْه الدللة واقتنع بها { فَإِ ّنمَا َيهْ َتدِي لِ َنفْسِهِ } [النمل]92 :
لن ال سيعطيه المعونة ،ويزيده هداي ًة وتوفيقا{ وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ هُدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد:
.]17
إذن :فالهداية والتقوى ل تنفع المشرّع ،إنما تنفع العبد الذي اهتدى.
ضلّ َفقُلْ إِ ّنمَآ أَنَاْ مِنَ ا ْلمُنذِرِينَ } [النمل ]92 :أنا ل يعنيني إل أنني من
ثم يذكر المقابل { َومَن َ
المنذرين ،وأنت إنما تضلّ على نفسك ،وتتحمل عاقبة ضللك.
ن تلوتَ
ن أتممتَ ما خاطبك ربك به بأنْ تعبدَ ربّ هذه البلدة وكنتَ من المسلمين ،وبعد أ ْ
وبعد أ ْ
القرآن ،واستدمت الُنس واللذّة بسماع ال يتكلم ،ثم بلّغته للناس ،فإذا فعلتَ كل هذا أحمد ال الذي
حمْدُ للّهِ }
وفّقك إليهَ { :و ُقلِ الْ َ
()3179 /
أي :الحمد ل على نعمه وعلى ما هدانا ،والحمد ل الذي ل يُعذّب أحدا إل بعد قيام الحجة عليه،
والنذار إليه.
وال سيريكم آياته في أنفسكم وفي غيركم ،فتعرفون دلئل قدرته سبحانه ووحدانيته في أنفسكم،
وفي السماوات والرض.
عمّا َت ْعمَلُونَ } [النمل.]93 :
{ َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ
بل هو شهيد على كل شيء.
()3180 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طسم ()1
الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن مرة يأتي حرف واحد مثل (ق ،ن) أو حرفان مثل
(طس ،حم) أو ثلثة أحرف مثل (الم ،طسم) أو أربعة مثل (المر) أو خمسة مثل (حمعسق،
كهيعص) وكل منها له مفتاح وأسرار لم يفتح علينا بعد لمعرفته وما قلنا في معنى هذه الحروف
مجرد محاولت على الطريق.
()3181 /
()3182 /
نَتْلُوا عَلَ ْيكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى َوفِرْعَوْنَ بِا ْلحَقّ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ ()3
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا فيضع َبعْره مرة واحدة ،فعرفتُ أنه مقطوع الذنب ،ورأيت أحد أخفافه ل يؤثر في الرمل
فعرفتُ أنه أعرج ،ورأيته يأكل من ناحية ويترك الخرى فعرفتُ أنه أعور.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ حين يقصّ علينا يقصّ الواقع ،فقَصص القرآن ل يعرف الخيال
كقصص البشر؛ لذلك يسميه القصص الحق ،وأحسن القصص ،لنه يروي الواقع طِبْق الصل.
()3183 /
معنى { عَلَ } [القصص ]4 :من العلو أي :استعلى ،والمستعلَى عليه هم رعيته ،بل عل على
وزرائه والخاصة من رعيته ،وعل حتى على ال ـ عز وجل ـ فادّعى اللوهية ،وهذا منتهى
الستعلء ،ومنتهى الطغيان والتكبّر ،وما دامت عنده هذه الصفات وهو بشر وله هوىً فل ُبدّ أنْ
يستخدمها في إذلل رعيته.
ج َعلَ أَ ْهَلهَا شِيَعا } [القصص ]4 :جمع شيعة ،وهي الطائفة التي لها استقللها الخاص،
{ وَ َ
والمفروض في ال ُممَلّك أنْ يُسوّي بين رعيته ،فل تأخذ طبقة أو جماعة حظوه عن الخرى ،أما
فرعون فقد جعل الناس طوائف ،ثم يسلّط بعضها على بعض ،ويُسخّر بعضها لبعض.
جعْل المة الواحدة عدة طوائف له مَلْحظ عند الفاعل ،فمن مصلحته أن يزرع الخلف
ول شكّ أن َ
بين هذه الطوائف ويشغل بعضها ببعض ،فل تستقر بينهم المور ،ول يتفرغون للتفكير فيما يقلقه
ويهزّ عرشه من تحته ،فيظل هو مطلوبا من الجميع.
والقبط كانوا هم سكان مصر والجنس الساسي بها ،ثم لما جاءها يوسف ـ عليه السلم ـ
واستقرّ به المر حتى صار على خزائنها ،ثم جاء إخوته لخْذ أقواتهم من مصر ،ثم استقروا بها
وتناسلوا إل أنهم احتفظوا بهويتهم فلم يذوبوا في المجتمع القبطي.
وبالمناسبة يخطىء الكثيرون فيظنون أن القبطيّ يعني النصراني وهذا خطأ ،فالقطبي يعني
المصري كجنس أساسي في مصر ،لكن لما استعمرت الدولةُ الرومانية مصرَ كان مع قدوم
المسيحية فأطلقوا على القبطي (مسيحي).
ل منها الخرى؟ قالوا :لن بني
لكن ،ما السبب في أن فرعون جعل الناس طوائف ،تستعبد ك ّ
إسرائيل كانوا في خدمة المستعمر الذي أزاح حكم الفراعنة ،وهم ملوك الرعاة ،فلما طُرِد ملوك
الرعاة من مصر كان طبيعيا فيمَنْ يحكم مصر أن يضطهد بني إسرائيل؛ لنهم كانوا موالين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لعدائه ،ويسيرون في ركابهم ،ومن هنا جاء اضطهاد فرعون لبني إسرائيل.
والقرآن الكريم حينما يتحدث عن ملوك مصر في القديم وفي الحديث يُسمّيهم فراعنة ،كما في
لوْتَادِ }[الفجر.]10 :
عوْنَ ذِى ا َ
قوله تعالىَ {:وفِرْ َ
وهنا في قصة موسى ـ عليه السلم ـ قال أيضا :فرعون :أما في قصة يوسف عليه السلم فلم
ي ْأتِ ذكْر للفراعنة ،إنما قال{ ا ْلمَِلكُ }[يوسف ]43 :وهذه من مظاهر العجاز في القرآن الكريم؛
لن الحكم في مصر أيام يوسف كان لملوك الرعاة ،ولم يكُنْ للفراعنة ،حيث كانوا يحكمون مصر
قبله وبعده لما استردوا مُلْكهم من ملوك الرّعاة؛ لذلك في عهد يوسف بالذات قال{ ا ْلمَِلكُ }[يوسف:
ن للفرعون وجود في عصر يوسف.
]50فلم يكُ ْ
ض ِعفُ طَآ ِئفَةً مّ ْنهُمْ } [القصص ]4 :يعني :تستبد طائفة القباط ،وهم سكان مصر
فمعنى { سْ َت ْ
الصليون بطائفة بني إسرائيل لينتقموا منهم جزاءَ موالتهم لعدائهم.
وأول دليل على بطلن ألوهية فرعون أن يجعل أمته شِيَعا ،لن المألوهين ينبغي أن يكونوا جميعا
عند الله سواء؛ لذلك يقول تعالى في الحديث عن موكب النبوات:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين نتتبع هذه الية نجد أنها جاءت في مواضع ثلثة من كتاب ال ،لكل منها أسلوب خاص،
عوْنَ َيسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيذَبّحُونَ أَبْنَآ َء ُكمْ
ففي الية الولى يقول تعالى {:وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْ َ
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآ َءكُمْ }[البقرة.]49 :
وفي موضع آخر {:يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيقَتّلُونَ أَبْنَآ َءكُمْ }[العراف ]141 :وهاتان اليتان على
لسان الحق تبارك وتعالى.
أما الخرى فحكاية من ال على لسان موسى ـ عليه السلم ـ حين يُعدّد ِنعَم ال تعالى على بني
إسرائيل ،فيقول:
عوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَآ َءكُمْ }
علَ ْيكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ آلِ فِرْ َ
{ ا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ َ
[إبراهيم.]6 :
فالواو في{ وَيُذَبّحُونَ }[إبراهيم ]6 :لم ترد في الكلم على لسان ال تعالى ،إنما وردتْ في كلم
موسى؛ لنه في موقف تَعداد ِنعَم ال على قومه وقصده؛ لن يُضخّم نعم ال عليهم ويُذكّرهم بكل
النعم ،فعطف على{ َيسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ }[إبراهيم ]6 :قوله{ وَيُذَبّحُونَ }[إبراهيم.]6 :
لكن حين يتكَلّم ال تعالى فل يمتنّ إل بالشيء الصيل ،وهو قتْل الولد واستحياء النساء؛ لن
الحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يمتنّ بالصغيرة ،إنما يمتنّ بالشيء العظيم ،فتذبيح البناء واستحياء
النساء هو نفسه سوء العذاب.
وقوله مرة{ يُذَبّحُونَ }[البقرة ]49 :ومرة{ ُيقَتّلُونَ }[العراف ]141 :لن قتل ال ّذكْران أخذ أكثر من
صورة ،فمرّة يُذبّحونهم ومرة يخنقونهم.
سوْم ،وهو أنْ تطلب الماشية المرعى ،فنتركها تطلبه
ومعنى {:يَسُومُو َنكُمْ }[العراف ]141 :من ال ّ
في الخلء ،وتلتقط رزقها بنفسها ل نقدمه نحن لها ،وتسمى هذه سائمة ،أما التي نربطها ونُقدّم لها
غذاءها فل تُسمّى سائمة.
فالمعنى{ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ }[العراف ]141 :يعني :يطلبون لكم سوء العذاب ،وما داموا
كذلك فل بُدّ أنْ يتفنّنوا لكم فيه.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَنُرِيدُ أَن ّنمُنّ {
()3184 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسْبك من حادث
للمظلوم منه ،ويُريه فيه عاقبة ظلمه ،حتى إن المظلوم ربما رحم الظالم ،و َ
بامرىء ترى حاسديه بالمس ،راحمين له اليوم.
ض ِعفُواْ فِي
وهنا تُطالعنا غضبة الحق ـ تبارك وتعالى ـ للمؤمنين { وَنُرِيدُ أَن ّنمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْ ُت ْ
الَ ْرضِ } [القصص ]5 :والمنة :عطاء مُعوّض ،وبدون مجهود من معطي المنة ،كأنها هِبَة من
الحق سبحانه ،وغضبة لوليائه وأهل طاعته؛ لن الحق ـ تبارك وتعالى ـ كما قال المام علي:
إن ال ل يُسلِم الحق ،ولكن يتركه ليبلو غَيْرة الناس عليه ،فإذا لم يغاروا عليه غَارَ هو عليه.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يغَارُ على الذين استُضعِفوا ل يرفع عنهم الظلم فحسب ،وإنما
جعََل ُهمْ أَ ِئمّةً } [القصص ]5 :أئمة في الدين وفي القيم ،وأئمة في سياسة المور والملك {
أيضا { وَنَ ْ
جعََلهُمُ ا ْلوَارِثِينَ } [ القصص ]5 :أي :يرثون مَنْ ظلمهم ،ويكونون سادةً عليهم وأئمةً لهم،
وَنَ ْ
فانظر على كم مرحلة تأتي غيرة ال لهل الحق.
ولول أن فرعون ـ الذي قوي على المستضعفين وأذلّهم ـ تأبّى على ال ورفض النقياد لشملته
رحمة ال ،ولعاشَ هو ورعيته سواء؟
لذلك أهل الثورات الذين جاءوا للقضاء على أصحاب الفساد وإنصاف شعوبهم ممّنْ ظلمهم ،كان
ن يقضوا على الفساد ،وبعد أن يمنعوا المفسد أن يُفسِد ،ويحققوا العدالة في المجتمع،
عليهم بعد أ ْ
ن يضموا الجميع إلى أحضانهم ورعايتهم ،ويعيش الجميع بعد تعديل الوضاع
كان عليهم أ ْ
سواسية في مجتمعهم ،وبذلك نأمن الثورة المضادة.
ثم يقول تعالى استكمالً لمِنّته { :وَ ُن َمكّنَ َل ُهمْ فِي الَ ْرضِ }
()3185 /
قوله تعالى { وَ ُن َمكّنَ َلهُمْ فِي الَ ْرضِ } [القصص ]6 :نعرف أن الرض مكان يحدث فيه الحدَث،
لن كل حَدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان ،فالمعنى :نجعل الرض مكانا لممكّن فيها ،والتمكين
يعني :يتصرف فيها تسلطا ،ويأخذ خيرها.
وقد شرح الحق سبحانه لنا التمكين في عدة مواضع من القرآن ،ففي قصة يوسف عليه السلم{:
إِ ّنكَ الْ َيوْمَ َلدَيْنَا َمكِينٌ َأمِينٌ }[يوسف ]54 :مكين يعني :لك عندنا مكانة ومركز ثابت ل ينالُك أحد
سفَ فِي الَ ْرضِ }[يوسف ]21 :يعني :أعطيناه سلطة
بشيء ،ومنها قوله تعالىَ {:وكَذاِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ
يأخذ بها خير المكان ،ثم يُصرّف هذا الخير للخرين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن وَجُنُو َد ُهمَا مِ ْنهُمْ مّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } [القصص ]6 :وهامان
ن وَهَامَا َ
عوْ َ
وقوله تعالى { :وَنُ ِريَ فِرْ َ
هو وزير فرعون ،ول بد أنه كان لكل منهما جنود خاصة غير جنود الدولة عامة ،كما نقول
الن :الحرس الجمهوري ،و الحرس الملكي،ـ والجيش.
أو :أن هامان يصنع من باطن فرعون ،فالملِك ل يزاول أموره إل بواسطة وزرائه ،وفي هذه
الحالة يأخذ الجنود الوامر من هامان .أو :أن هامان كان له سلطة ومركز قوة ل تقل أهمية عن
سلطة فرعون ،وربما رفع رأسه وتطاول على فرعون في قوت من الوقات.
وقد رأينا هذا عندنا في مصر ـ لذلك يقولون في المثل الريفي المعروف :تقول لمن يحاول
خداعك (على هامان)؟ يعني :أنا ل تنطلي عليّ هذه الحيل.
والضمير في { مِ ْنهُمْ } [القصص ]6 :يعود على المستضعفين { مّا كَانُواْ َيحْذَرُونَ } [القصص]6 :
أي :سنريهم الشيء الذي يخافون منه ،والمراد النبوءة التي جاءتهم ،إما عن طريق الكهنة ،أوعن
طريق ال ّرؤْيا ،حيث رأى فرعون نارا تأتي من بيت المقدس ،وتتسلط على القِبْط في مصر ،لكنها
ل تؤذي بني إسرائيل ،فلما عبّروا له هذه الرؤيا قال :ل بد أنه سيأتي من هذه البلد من يسلب مني
مُلْكي.
ويُرْوى أنه الكهنة أخبروه أنه سيُولد في هذه السنة مولود يكون ذهاب مُلْكك على يديه.
فسوف يرى فرعون وقومه هذه المسألة بأعينهم ويباشرونها بأنفسهم ،وسيقع هذا الذي يخافون
منه؛ لذلك أمر فرعون بقتْل الذكْران من بني إسرائيل ليحتاط لمره ،ويُبقِي على مُلْكه ،لكن هذا
الحتياط لم يُغنِ عنه شيئا.
ثم يقول الحق سبحانه { :وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا }
()3186 /
خ ْفتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي الْ َي ّم وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنّا رَادّوهُ
ضعِيهِ فَِإذَا ِ
وََأوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَ ْر ِ
ك وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ ()7
إِلَ ْي ِ
عجيب أمر فرعون ،فبعد أن أمر بقتل الولد من بني إسرائيل يأتيه في البحر تابوت به طفل
رضيع ،فل يخطر على باله أن أهله ألقوه في البحر لينجو من فرعون ،فكيف فاتتْه هذه المسألة
وهو إله؟ لم يعرفها بألوهيته ،ول عرفها حتى بذكائه وفِطْنته.
وإذا كان الكهنة أخبروه بأن ذهاب مُلْكه على يد وليد من هؤلء الولد ،وإذا كانت هذه النبوءة
صحيحة فل بُدّ أن الولد سينجو من القتل ويكبر ،ويقضي على مُلْك فرعون ،وما دام المر كذلك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فسوف يقتل فرعون الولد غير الذي سيكون ذهاب مُلْكه على يديه.
وتشاء إرادة ال أنْ يتربّى موسى في قصر فرعون ،وأنْ تأتي إليه أمه السيدة الفقيرة لتعيش معه
عيشة الترف والثراء ،ويصير موسى بقدرة ال قُرّة عَيْن للملكة ،فانظر إلى هذا التغفيل ،تغفيل
عقل وطمس على بصيرة فرعون الذي ادّعى اللوهية.
وبذلك نفهم قول ال تعالى {:وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ ا ْلمَرْءِ َوقَلْبِهِ }[النفال ]24 :فقلبه يُغطّي
على بصيرته ويُعمّيها.
خ ْفتِ عَلَ ْيهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَمّ } [القصص ]7 :فمَنْ مِنَ النساء
ضعِيهِ فَإِذَا ِ
قوله تعالى لم موسى { :أَ ْر ِ
تقبل إنْ خافت على ولدها أنْ تُلقيه في اليم؟ مَنْ ترضى أَنْ تُنجيه من موت مظنون إلى موت
محقق؟ وقد جعل الحق سبحانه عاطفة المومة تتلشى أمام وارد الرحمن الذي أتاها ،والذي ل
يؤثر فيه وارد الشيطان.
ثم يهيىء الحق سبحانه كذلك امرأة فرعون ليتم هذا التدبير اللهي لموسى فتقول{ قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي
وََلكَ }[القصص.]9 :
فيرد عليها فرعون :بل لك أنت وحدك ،وكأنه يستشعر ما سيحدث ،ولكن إرادة ال ل ُبدّ نافذة ول
بُدّ أن يأخذ القدر مجراه ل يمنعه شيء؛ لن ال تعالى إذا أراد شيئا فل رادّ لرادته.
فمع ما علمه فرعون من أمر الرؤيا أو النبوءة رُبّي الوليد في بيته ،ول يخلو المر أيضا من
سيطرة المرأة على الرجل في مثل هذا الموقف.
لذلك النبي صلى ال عليه وسلم حينما قُرِئت هذه الية قال " :والذي يُحلف به ،لو قال فرعون كما
قالت امرأته ـ قرة عين لي ولك ـ لهداه ال كما هداها " إنما ردّ الخير الذي ساقه ال إليه؛ لذلك
أسلمتْ زوجته وماتت على اليمان.
عمَلِهِ وَنَجّنِي مِنَ ا ْلقَوْمِ
عوْنَ وَ َ
وهي التي قالتَ {:ربّ ابْنِ لِي عِن َدكَ بَيْتا فِي الْجَنّ ِة وَنَجّنِي مِن فِرْ َ
الظّاِلمِينَ }[التحريم ]11 :أما هو فمات على كفره شَرّ ميتة.
ضعِيهِ } [القصص]7 :
وسبق أنْ تكلّمنا في وحي ال لم موسى { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
وقلنا :إن الوحي في عموم اللغة :إعلم بطريق خفي دون أن تبحث عن الموحِي ،أو الموحَى إليه،
أو الموحَى به.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي }
ويُوحي للمؤمنين الصادقين في خدمة رسول {:وَِإذْ َأوْحَ ْيتُ إِلَى الْ َ
[المائدة.]111 :
ت الَ ْرضُ أَ ْثقَاَلهَا *
ج ِ
يوحي إلى النحل ،بل وإلى الجماد {:إِذَا زُلْزَِلتِ الَرْضُ زِلْزَاَلهَا * وَأَخْرَ َ
ح ّدثُ َأخْبَارَهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة1 :ـ .]5
ل الِنسَانُ مَا َلهَا * َي ْومَئِذٍ تُ َ
َوقَا َ
وقد يكون العلم والوحي من الشيطان {:وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ }[النعام.]121 :
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ ا ْلقَ ْولِ غُرُورا }[النعام.]112 :
ويكون من الضالين {:يُوحِي َب ْع ُ
فالوَحْي إلى أم موسى كان وَحْيا من المرتبة الرابعة بطريق ال ّنفْث في الروع ،أو اللهام ،أو
برؤيا ،أو بملَك يُكلّمها ،هذا كله يصح.
خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ { [القصص]7 :
ضعِيهِ فَِإذَا ِ
وهذا الوحي من ال ،وموضوعه } أَنْ أَ ْر ِ
علُوهُ مِنَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ {
ك وَجَا ِ
وهذا أمر } َولَ َتخَافِي وَلَ تَحْزَنِي { [القصص ]7 :نهى } إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ
[القصص ]7 :وهذه بشارة في خبرين .فهذه الية إذن جمعتْ لم موسى أمرين ،ونهيين،
وبشارتين في إيجاز بليغ ُمعْجز.
خفْتِ عَلَيْهِ { [القصص ]7 :ولم
ضعِيهِ { [القصص ]7 :يعني :مدة أمانك عليه } فَإِذَا ِ
ومعنى } أَ ْر ِ
يقل من أيّ شيء ليدلّ على أيّ مخوف تخشاه على وليدها } فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ { [القصص]7 :
ويراعي الحق سبحانه مشاعر الم وقَلقها على ولدها ،خاصة إذا ألقتْه في البحر فيطمئنها } َولَ
تَخَافِي { [القصص ]7 :لن ال سيُيسّر له تربية خيرا من تربيتك في ظل بيت الغِنَى والملْك.
} َولَ تَحْزَنِي { [القصص ]7 :أي :لفراقه؛ لن هذا الفراق سيُعوّضك ،ويُعوّض الدنيا كلها خيرا،
حين يقضي على هذا الطاغية ،ويأتي بمنهج ال الذي يحكم خَلْق ال في الرض.
ثم اعلمي بعد هذا أن ال رادّه إليك ،بل وجاعله من المرسلين ،إذن :أنا الذي أحفظه ،وليس من
أجلك فحسب ،إنما أيضا لن له مهمة عندي.
يقولون :ظلت أم موسى تُرضِعه في بيتها طالما كانت آمنة عليه من أعين فرعون ،إلى أنْ جاءها
أحَد العسس يفتش البيت فخافت على الولد فلفته في خرقة ودسته في فجوة بجوارها ،كانت هذه
الفجوة هي الفُرْن ،ألقتْه فيه وهو مسجور دون أن تشعر ـ يعني من شدة خوفها عليه ـ حتى إذا
ما انصرف ال َعسَس ذهبت إليه ،فإذا به سالما لم ُيصِبْه سوء .وكأن ال تعالى يريد لها أنْ تطمئن
حفْظ ال له ،وأن وعده الحق.
على ِ
وقد وردت مسألة وحي ال لم موسى في كتاب ال مرتين مما دعا السطحيين من المستشرقين
إلى اتهام القرآن بالتكرار الذي ل فائدةَ منه ،وذكروا قوله تعالى:
خ ْذهُ
حلِ يَأْ ُ
{ ِإذْ َأوْحَيْنَآ ِإلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا * أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ
علَ ْيكَ مَحَبّةً مّنّي وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه38 :ـ .]39
عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّ ُه وَأَ ْلقَ ْيتُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن فَرْق بين الوحي الول والوحي الخر :الوحي الول خاص بالرضاعة في مدة المان ،أما
الخر فبعد أنْ خافت عليه أوحى إليها لتقذفه في اليم.
وتأمل{ أَنِ اقْ ِذفِيهِ }[طه ]39 :والقذف إلقاء بقوة ،ل أنْ تضعه بحنان ورفق؛ لن عناية ال
حلِ }[طه ]39 :وهذا أمر من ال تعالى لليمّ أن يخرج
ستحفظه على أي حال{ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ
الوليد سالما إلى الساحل؛ لذلك لم يأت في هذا الوحي ِذكْر لعملية الرضاعة.
فكأن الوحي الول جاء تمهيدا لما سيحدث؛ لتستعد الم نفسيا لهذا العمل ،ثم جاء الوحي الثاني
للممارسة والتنفيذ ،كما تُحدّث جارك ،وتُحذّره من اللصوص وتنصحه أنْ يحتاط لهذا المر ،فإذا
ما دخل الليل حدث فعلً ما حذّرتَه منه فَرُحْت تنادي عليه ليسرع إليهم ويضربهم.
علَيْهِ
خ ْفتِ َ
ضعِيهِ فَإِذَا ِ
لذلك يختلف أسلوب الكلم في الوحي الول ،فيأتي رتيبا مطمئنا } :أَنْ أَ ْر ِ
ك َوجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ { [القصص ]7 :هكذا
فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَ ّم َولَ تَخَافِي وَلَ َتحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ
في نبرة هادئة لن المقام مقام نصح وتمهيد ،ل مقام أحداث وتنفيذ.
أما الوحي الثاني فيأتي في سرعة ،وبنبرة حادة {:أَنِ ا ْق ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَا ْق ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلُْي ْلقِهِ الْيَمّ
حلِ }[طه ]39 :فالعَجلة في اللفظ تدلّ على أن المقام مقام مباشرة للحدث فعلً.
بِالسّا ِ
وفي الولى قال } فَأَ ْلقِيهِ { [القصص ،]7 :أما في الثانية فقال{ فَاقْ ِذفِيهِ }[طه ]39 :والم ل تقذف
وليدها ،بل تضعه بحنان وشفقة ،لكن الوقت هنا ضيّق ل يتسع لممارسة الحنان والشفقة.
والمر لليمّ بأن يلقي التابوت بالساحل له حكمة؛ لن العمق موضع الحيوانات البحرية المتوحشة
التي يُخاف منها ،أمّا بالقُرْب من الساحل فل يوجد إل صغار السماك التي ل خطورة منها،
وكذلك ليكون على مَرْأى العين ،فيطمئن عليه أهله ،ويراه مَنْ ينقذه ليصل إلى البيت الذي قُدّر له
أنْ يتربّى فيه.
وفعلً ،وصل التابوت إلى الساحل ،وكان فرعون وزوجته آسية وابنته على الشاطىء ،فلما أُخرِج
لهم التابوت وجدوا فيه الطفل الرضيع ،وكان موسى عليه السلم أسمر اللون ،مُجعّد الشعر ،كبير
النف ،يعني لم يكُنْ ـ عليه السلم ـ جميلً تنجذب إليه النظار ويفرح به مَنْ يراه.
لذلك يمتنّ ال عليه بقوله {:وَأَ ْلقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ َمحَبّةً مّنّي }[طه ]39 :أي :ليس بذاتك أن يحبك مَنْ
يراك إنما بمحبة ال ،لذلك ساعة رأته آسية أحبّته وانشرح صدرها برؤيته ،فتمسكّت به رغم
معارضة فرعون لذلك.
كما أن ابنة فرعون ،وكانت فتاة مبروصة أصابها البرص ،ورأت في الرؤيا أن شفاءها سيكون
بشيء يخرج من البحر ،فتأخذ من ريقه ،وتدهن موضع البرص فيشفى ،فلما رأتْ موسى تذكرتْ
شفِيت في الحال فتشبثتْ به هي أيضا.
رؤياها ،فأخذت من ريقه ودهنتْ جلدها ،ف ُ
فاجتمع لموسى محبة الزوجة ،ومحبة البنت ،وهما بالذات أصحاب الكلمة المسموعة لدى فرعون،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بحيث ل يرد لهما طلبا.
وفي انصياع فرعون لرغبة زوجته وابنته وضعفه أمامهما رغم ما يعلم من أمر الطفل دليلٌ على
أن الزوجة والولد هما نقطة الضعف عند الرجل ،ووسيلة السيطرة على شهامته وحزمه،
والضغط على مراداته.
خ َذ صَاحِبَ ًة َولَ
لذلك يطمئننا الحق ـ تبارك وتعالى ـ على نفسه ،فيقول سبحانه وتعالى{ مَا اتّ َ
وَلَدا }[الجن.]3 :
ذلك لن الصاحبة غالبا ما تستميل زوجها بوسيلة أو بأخرى ،أما الولد فيدعو الب إلى الجبْن
والخضوع ،والحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يوجد لديه مراكز قوى ،تضغط عليه في أي شيء ،فهو
سبحانه مُنزّه عن كل نقص.
وحكوا في دعابات أبي نواس أن أحدهم وسّطه ليشفع له عند الخليفة هارون الرشيد ،فشفع له أبو
نواس ،لكن الخليفة لم ُيجِبْه إلى طلبه ،وانتظر الرجل دون جدوى ،ففكر في وساطة أخرى،
واستشفع بآخر عند زبيدة زوجة الرشيد ،فلما كلّمته أسرع إلى إجابة الرجل ،وهنا غضب أبو
شفِيعُ الذِي يأتِيكَ مُؤتزرا
نواس وعاتب صاحبه الرشيد ،لكنه لم يهتم به ،فقال له اسمع إذن:ليسَ ال ّ
شفِيع الذِي يأتِيكَ عُرْياناولهذه العناية اللهية بموسى عليه السلم نلحظ أنه لما قال له ربه{
م ْثلَ ال ّ
طغَىا }[طه ]24 :خاف موسى من هذه المهمة ،وكان اسم فرعون في هذا
عوْنَ إِنّهُ َ
اذْ َهبْ إِلَىا فِرْ َ
الوقت يُلقي الرعب في النفوس ،حتى أن موسى وهارون قال{ رَبّنَآ إِنّنَا َنخَافُ أَن َيفْرُطَ عَلَيْنَآ َأوْ
طغَىا }[طه.]45 :
أَن يَ ْ
لذلك طلب موسى من ربه ما يُعينه على القيام بمهمته {:قَالَ َربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسّرْ لِي
جعَل لّي وَزِيرا مّنْ َأهْلِي * هَارُونَ أَخِي *
عقْ َدةً مّن لّسَانِي * َي ْف َقهُواْ َقوْلِي * وَا ْ
َأمْرِي * وَاحُْللْ ُ
حكَ كَثِيرا * وَنَ ْذكُ َركَ كَثِيرا * إِ ّنكَ كُنتَ بِنَا َبصِيرا
شدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْ ِركْهُ فِي َأمْرِي * َكيْ نُسَبّ َ
اْ
سؤَْلكَ يامُوسَىا * وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً أُخْرَىا }[طه25 :ـ .]37
* قَالَ قَدْ أُوتِيتَ ُ
أي :أوتيت كل مسئولك ومطلوبك.
عوْنَ {
طهُ آلُ فِرْ َ
ثم يقول الحق سبحانه } :فَالْ َتقَ َ
()3187 /
اللّقطُ واللّقطة :أن تجد شيئا بدون طلب له ،ومنه اللقيط ،وهو الطفل الرضيع تجده في الطريق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دون َقصْد منك ،أو بحث .وكذلك كان المر مع التابوت ،فقد جاء آل فرعون وهم جلوس لم
يَسْم َعوْا إليه ،ولم يطلبوه ،فما أنْ رأوه أخذوه ،لكن ما علة التقاطه؟
عسَىا أَن يَ ْن َفعَنَا َأوْ
الزوجة قالت{ قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََلكَ }[القصص ]9 :وقالت في حيثية أخرىَ {:
خ َذ ُه وَلَدا }[القصص ]9 :فلم يكن لهم بنون ،فأرادوا أخا للبنت ،وأرادته البنت صيدلية علج،
نَتّ ِ
لكن هل ظلتْ هذه العلة قائمة ووجدت فعلً؟
ع ُدوّا وَحَزَنا } [القصص ]8 :ل ليكون قرة عين ،فاللم
ل ،إنما التقطوه لتقدير آخر { لِ َيكُونَ َلهُمْ َ
هنا في { لِ َيكُونَ } [القصص ]8 :لم العاقبة يعني :كان يفكر لشيء ،فجاءت العاقبة بشيء آخر.
وفي هذا إشارة وبيان لغباء فرعون والطمس على بصيرته وهو الله!! فبعد أنْ حذّره الكهنة،
وبعد ال ّرؤْيا الي رآها وعِلْمه بخطورة هذا المولود على مُلْكه وعلى حياته يرضى أنْ يُربّيه في
بيته ،وهذا دليل صِدْق قوله تعالى {:وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء َوقَلْبِهِ }[النفال.]24 :
سقْم ،وبَخَل وبُخْل ،فالمعنى
سقَم و ُ
عدْم ،و َ
عدَم و ُ
ومعنى { َوحَزَنا } [القصص ]8 :يعني حُزْن مثلَ :
يأتي بالصيغتين.
ن وَجُنُودَ ُهمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } [القصص.]8 :
ن وَهَامَا َ
عوْ َ
وقول الحق سبحانه { :إِنّ فِرْ َ
هم خاطئون؛ لن تصرفاتهم ل تتناسب مع ما عرفوه من أمر الوليد ،فلم يُقدّروا المسائل ،ولم
يستنبطوا العواقب ،وكان عليهم أن يشكّوا في أمر طفل جاء على هذه الحالة ،فل بُدّ أن أهله
قصدوا نجاته من يد فرعون.
()3188 /
شعُرُونَ ()9
عسَى أَنْ يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدًا وَهُمْ لَا َي ْ
عوْنَ قُ ّرةُ عَيْنٍ لِي وََلكَ لَا َتقْتُلُوهُ َ
َوقَاَلتِ امْرََأةُ فِرْ َ
معنى { قُ ّرةُ عَيْنٍ } [القصص ]9 :مادة ق ّر تقول :ق ّر بالمكان يعني :أقام وثبت به ،ومنه قرور
يعني :ثبات ،وتأتي قرّ بمعنى البرد الشديد ،ومنه قول الشاعرَ:أ ْوقِدْ فإنّ الل ْيلَ لَ ْيلٌ قُرّ والرّيحُ يَا
ت ضَيْفا فأنتَ حُرّ إذن :قرة العين إما بمعنى ثباتها وعدم حركتها ،وثبات
غُلَمُ رِيحٌ صرّإنْ جل ْب َ
العين واستقرارها إما يكون ثباتا حسيا ،أو معنويا ،والثبات المعنوي :أنْ تستقر العين على منظر
أو شيء بحيث تكتفي وتقنع به ،ويغنيها عن التطلّع لغيره.
ومنه قولهم :فلن ليس له تطلعات أخرى ،يعني اكتفى بما عنده ،ومنه ما قال تعالى مخاطبا نبيه
محمدا صلى ال عليه وسلمَ {:ولَ َتمُدّنّ عَيْنَ ْيكَ إِلَىا مَا مَ ّتعْنَا بِهِ أَ ْزوَاجا مّ ْنهُمْ }[طه.]131 :
لذلك يُسمّون الشيء الجميل الذي يجذب النظر ،فل ينظر إلى غيره (قيد النظر) يقول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسْنه قَيْد النّظرْأما الثبات
ت لئمي عذر ف ُ
سمّ ْرتُ عَيْني في ال َقمَرِ فَنَالَ مِنّي مَنْ نَظَريَا ل ْي َ
الشاعرَ :
الحسي فيعني :ثبات العين في ذاتها بحيث ل ترى ،ومنه قول المرأة للخليفة :أقرّ ال عينك ،وأتم
عليك نعمتك .تُوهِم أنها تدعو له ،وهي في الحقيقة تدعو عليه تقصد :أقرّ ال عينك.
ح ّد قول
يعني :سكّنها وجمدها بالعمى ،وأتمّ عليك نعمتك .وتمام الشيء بداية نقصه على َ
الشاعر:إذَا تَمّ شَيء بَدَا َنقْصُه تر ّقبْ َزوَالً إذاَ قِيلَ َتمّأما الق ّر بمعنى البرد ،فمن المعلوم عن
الحرارة أن من طبيعتها الستطراق والنتشار في المكان ،لكن حكمة ال خرقتْ هذه القاعدة في
حرارة جسم النسان ،حيث جعل لكل عضو فيه حرارته الخاصة ،فالجلد الخارجي تقف حرارته
الطبيعية عند ْ ، 37في حين أن الكبد مثلً ل يؤدي مهمته إل عند ْ.40
أما العين فإذا زادتْ حرارتها عن ْ 9تنصهر ،ويفقد النسان البصر ،والعجيب أنهما عضوان في
جسم واحد ،فهي آية من آيات ال في الخلق ،لذلك حين ندعو لشخص نقول له :أقرّ ال عينك
غضِب تسخنُ عينه ويحمّر وجهه؟
يعني :جعلها باردة سالمة ،ألَ ترى أن النسان إذا َ
فالمعنى هنا { قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََلكَ } [القصص ]9 :يعني يكون نعمة ومتعة لنا ،نفرح به ونقنع ،فل
ننظر إلى غيره.
وفي موضع آخر يشرح لنا الحق سبحانه قُرّة العين {:قَدْ َيعَْلمُ اللّهُ ا ْل ُمعَ ّوقِينَ مِنكُ ْم وَا ْلقَآئِلِينَ
خ ْوفُ رَأَيْ َتهُمْ يَنظُرُونَ إِلَ ْيكَ
علَ ْيكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْ َ
شحّةً َ
خوَا ِنهِمْ هَُلمّ إِلَيْنَا َولَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ ِإلّ قَلِيلً * أَ ِ
لِ ْ
تَدُورُ أَعْيُ ُنهُمْ كَالّذِي ُيغْشَىا عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َموْتِ }[الحزاب18 :ـ .]19
فهؤلء تدور أعينهم هنا وهناك كما نقول نحن( :فلن عينه ل يجة) يعني :ل تهدأ ،إما من خوف،
أو من قلق ،أو من اضطراب ،وهذا كله ينافي قُرّة العين.
وقولها بعد ذلك { لَ َتقْتُلُوهُ } [القصص ]9 :تعني :أنهم فعلً َهمّوا بقتله ،ففي بالهم إذن أن هلك
فرعون على يدي هذا الطفل ،وهم على يقين من ذلك.
شعُرُونَ } [القصص ]9 :يعني :ل يشعرون بنفعه لهم أو
عسَىا أَن يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدا وَهُ ْم لَ يَ ْ
{ َ
عدم نفعه ،وهل سيكون لهم ولدا أم عدوا؟
ثم يقول الحق سبحانه { :وََأصْبَحَ ُفؤَادُ ُأمّ مُوسَىا }
()3189 /
وََأصْبَحَ ُفؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَا َدتْ لَتُ ْبدِي بِهِ َلوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْ ِبهَا لِ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (
)10
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الفؤاد :هو القلب ،لكن ل يُسمى القلب فؤادا إل إذا كانت فيه قضايا تحكم حركتك ،فالمعنى :أصبح
ت لترمي
فؤاد أم موسى { فَارِغا } [القصص ]10 :أي :ل شيء فيه مما يضبط السلوك ،فحين ذهب ْ
بالطفل وتذكرت فراقه وما سيتعرض له من أخطار كادت مشاعر المومة عندها أن تكشف
سِرّها ،وكادت أنْ تسرقها هذه العاطفة.
{ إِن كَا َدتْ لَتُبْدِي بِهِ } [القصص ]10 :يعني :تكشف أمره { َلوْل أَن رّبَطْنَا عَلَىا قَلْ ِبهَا }
[القصص.]10 :
وسبق أنْ قُلْنا :إن النسان يدرك الشياء بآلت الدراك عنده ،ثم يتحول هذا الدراك إلى وجدان
وعاطفة ،ثم إلى نزوع وعمل ،ومثّلْنا لذلك بالوردة التي تراها بعينيك ،ثم تعجب بها ،ثم تنزع إلى
قطفها ،وعند النزوع تواجهك قضايا في الفؤاد تقول لك :ل يحق لك ذلك ،فربما رفض صاحب
البستان أو قاضاك ،فالوردة ليست مِلْكا لك.
وكذلك أم موسى ،كان فؤادها فارغا من القضية التي تُطمئنها على وليدها ،بحيث ل تُفشي
عواطفها هذا السر.
ومعنى { رّ َبطْنَا عَلَىا قَلْ ِبهَا } [القصص ]10 :أي :ثبّتْناها ليكون المر عندها عقيدة راسخة ل
تطفو على سطح العاطفة ،ومن ذلك قوله تعالى عن أهل الكهف {:وَرَبَطْنَا عَلَىا قُلُو ِبهِمْ إِذْ قَامُواْ
ت وَالَ ْرضِ }[الكهف.]14 :
سمَاوَا ِ
َفقَالُواْ رَبّنَا َربّ ال ّ
إذن :الربْط على القلب معناه الحتفاظ بالقضايا التي تتدخل في النزوع ،فإنْ كان ل يصح أن تفعل
ن تفعل فافعل ،فهذه القضايا الراسخة هي التي تضبط التصرفات،
فل تفعل ،وإنْ كان يصح أ ْ
وكان فؤاد أم موسى فارغا منها.
عكَ من هذا الكلم الفارغ ـ أي :الذي ل
لذلك نقول لمن يتكلم بالكلم الفارغ الذي ل معنى له :دَ ْ
معنى له ول فائدةَ منه ،ومن ذلك قولهم :فلن عقله فارغ يعني :من القضايا النافعة .وإل فليس
هناك شيء فارغ تماما ،ل بُدّ أن يكون فيه شيء ،حتى لو كان الهواء.
ومنه قوله تعالى {:وََأفْئِدَ ُتهُمْ َهوَآءٌ }[إبراهيم ]43 :ويقولون في العامية( :فلن معندوش ول الهوا)
ذلك لن الهواء آخر ما يمكن أن يفرغ منه الشيء.
ومعنى { :إِن كَا َدتْ لَتُبْدِي بِهِ } [القصص ]10 :يعني :قاربت من فراغ فؤادها أن تقول إنه ولدي
{ َلوْل أَن رّ َبطْنَا عَلَىا قَلْ ِبهَا لِ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [القصص ]10 :لن اليمان هو الذي يجلب لك
النفع ،ويمنعك من الضار ،وإنْ كان فيه شهوة عاجلة لك ،فمنعها إيمانُها من شهوة المومة في هذا
الموقف ،ومن ممارسة العطف والحنان الطبيعيين في الم؛ لن هذه شهوة عاجلة يتبعها ضرر
كبير ،فإنْ أحسّوا أنه ولدها قتلوه.
ت لُخْتِهِ ُقصّيهِ }
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وقَاَل ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3190 /
شعُرُونَ ()11
ب وَهُمْ لَا يَ ْ
َوقَاَلتْ لُِأخْتِهِ ُقصّيهِ فَ َبصُ َرتْ بِهِ عَنْ جُ ُن ٍ
ُقصّيه :يعني :تتبعي أثره ،وراقبي سيره إلى إين ذهب؟ وماذا ُفعِل به؟ وحين سمعت الخت هذا
المر سارعتْ إلى التنفيذ؛ لذلك استخدم الفاء الدالة على التعقيب وسرعة الستجابة { فَ َبصُ َرتْ
بِهِ } [القصص ]11 :ولم ي ُقلْ :فقصّته؛ لن البصر وإنْ كان بمعنى الرؤية إل أنه يدل على العناية
والهتمام بالمرئي.
ومعنى { :عَن جُ ُنبٍ } [القصص ]11 :من ناحية بحيث ل يراها أحد ،ول يشعر بتتبعها له،
واهتمامها به .ومن ذلك ما حكاه القرآن من قول السامريَ {:بصُ ْرتُ ِبمَا َلمْ يَ ْبصُرُواْ بِهِ }[طه:
]96أي :رأى من حيث ل يطّلِع أحد عليه.
ونلحظ هنا أن أخت موسى أخذتْ المر من أمها { ُقصّيهِ } [القصص ]11 :فقط ولم تلفت نظرها
إلى هذا الحتياط { عَن جُ ُنبٍ } [القصص ]11 :مما يدلّ على ذكاء الفتاة وقيامها بمهمتها على
أكمل وجه ،وإن لم تُكلّف بذلك ،وهذا من حكمة المرسَل الحريص على أداء رسالته على وجهها
الصحيح.
سلْ حَكيما ولَ تُوصِهْوقوله
ما أجملَ ما قاله الشاعر في هذا المعنى:إذَا كُ ْنتَ في حَاجةٍ مُرْسِلً فأَر ِ
تعالى { :عَن جُ ُنبٍ } [القصص ]11 :يظن البعض أن جنب يعني قريب مني ،وهذا غير صحيح؛
لن معنى الجنب ألّ تكون في مواجهتي ،لذلك يقول تعالى {:وَالْجَارِ ذِي ا ْلقُرْبَىا وَا ْلجَارِ الْجُ ُنبِ }
[النساء ]36 :إذن :الجار الجنب مقابل الجار القريب ،فمعناه الجار البعيد.
فكأن الفتاة حين ذهبت لتتبع سَيْر التابوت أخذتْ مكانا بعيدا منه ،حتى ل يفطن أحد إلى متابعتها
له.
ومن ذلك قولنا( :فلن تجنّبني ،أو فلن واخد جنب مني) أي :يبتعد عني ،إذن :البعض يفهم هذه
الكلمة على عكس مدلولها.
لصْنَامَ }[إبراهيم ]35 :وقوله تعالى{:
ألَ ترى لقول إبراهيم عليه السلم {:وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن ّنعْبُدَ ا َ
وَاجْتَنِبُواْ َق ْولَ الزّورِ }[الحج ]3 :فالجتناب يعني :البتعاد.
ع َملِ الشّيْطَانِ
جسٌ مّنْ َ
خمْ ُر وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَابُ وَالَ ْزلَمُ رِ ْ
وفي تحريم الخمر قال تعالى {:إِ ّنمَا الْ َ
ن يقول :هذا ليس نصا في التحريم ،لنه لم ي ُقلْ ح ّرمْت
فَاجْتَنِبُوهُ }[المائدة ]90 :فطلع علينا مَ ْ
عليكم ،فهي مجرد موعظة ونصيحة.
ونقول :لو فهمت معنى{ فَاجْتَنِبُوهُ }[المائدة ]90 :لعلمتَ أنها أقوى في التحريم من حرمت عليكم؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لن معنى حرّمتْ عليكم الخمر يعني :ل تشربوها ،أما{ فَاجْتَنِبُوهُ }[المائدة ]90 :يعني :ابتعدوا
عنها كليةً شُرْبا أو بَيْعا ،أو شراء ،أو نقلً ،أو حتى الجلوس في مجالسها.
ثم تتحدث اليات بعد ذلك عن تمهيدات القدار للقدار ،فتقول { :وَحَ ّرمْنَا عَلَيْهِ ا ْلمَرَاضِعَ }
()3191 /
وَحَ ّرمْنَا عَلَيْهِ ا ْلمَرَاضِعَ مِنْ قَ ْبلُ َفقَاَلتْ َهلْ أَدُّل ُكمْ عَلَى أَ ْهلِ بَ ْيتٍ َي ْكفُلُونَهُ َل ُك ْم وَهُمْ َلهُ نَاصِحُونَ ()12
التحريم هنا ل يعني التحريم بالنسبة للمكلّف :هذا حلل وهذا حرام ،إنما { وَحَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِ ا ْلمَرَاضِعَ
} [القصص ]12 :يعني :منعناه أنْ يرضع من المرضعات اللئي يأتونَ بهن لتتقلب عليه المراضع
واحدة بعد الخرى ،إلى أن تأتيه أمه.
و { ا ْلمَرَاضِعَ } [القصص ]12 :جمع مُرضِع ،ونقول أيضا :مرضعة ،ولكل من اللفظين مدلول،
على خلف ما يظنه البعض أنهما بمعنى واحد.
ضعَتْ }[الحج.]2 :
عمّآ أَ ْر َ
واقرأ أول سورة الحجَ {:ي ْومَ تَ َروْ َنهَا َتذْ َهلُ ُكلّ مُ ْرضِعَةٍ َ
المرضِع :التي من شأنها أنْ تُرضع ،وصالحة لهذه العملية ،لكن المرضعة التي تُرضع الن فعلً،
حجْرها طفل يلتقم ثديها ،وفي موقف القيامة ستذهل هذه عن طفلها من َهوْل ما ترى ،إذن:
وعلة ِ
فالتي تذهل هي المرضعة ل المرضع.
والضمير في { فَقَاَلتْ َهلْ أَ ُدّلكُمْ } [القصص ]12 :يعود على أخت موسى؛ لنها ما زالت في مهمة
تتبّع الولد ،وقد سمعها هامان تقول { َهلْ أَدُّلكُمْ عَلَىا أَ ْهلِ بَ ْيتٍ َي ْكفُلُونَهُ َل ُك ْم وَهُمْ َلهُ نَاصِحُونَ }
[القصص ]12 :فقال لها :ل بدّ أنك من أهل هذا الولد؟ وتعرفين قصّته ،فقالت :بل ناصحون للملك
ل وافقوها على ما نصحتْ به؛ لنهم معذورون ،فالولد يأبى الرضاعة من
مخلصون له .وفع ً
الخريات.
ثم يقول الحق سبحانه { :فَ َردَدْنَاهُ إِلَىا ُأمّهِ }
()3192 /
وسبق أنْ وعدها ال {:إِنّا رَآدّوهُ ِإلَ ْيكِ }[القصص ]7 :وها هو أوانُ تحقيق الوعد الول ،وهو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بُشْرى بتحقّق الوعد الثاني{ َوجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص ]7 :لكن هذا في مستقبل اليام،
وسوف يتحقق أيضا.
وقوله سبحانه { :فَ َردَدْنَاهُ إِلَىا ُأمّهِ } [القصص ]13 :يدل على أن السباب في يد المسبب سبحانه،
فنحن الذين رددناه ،ل أخته ول فرعون؛ لننا نُسيّر المور على َوفْق مرادنا ،ونُمهّد لها الطريق
حتى أننا نحول بين المرء وقلبه ،ولينفذ قضاؤنا فيه.
وقوله تعالى { :وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ } [القصص ]13 :يعني :ل يعلمون أن وَعْد ال حق.
ش ّدهُ }
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلمّا بََلغَ أَ ُ
()3193 /
حسِنِينَ ()14
ح ْكمًا وَعِ ْلمًا َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
ش ّد ُه وَاسْ َتوَى آَتَيْنَاهُ ُ
وََلمّا َبلَغَ أَ ُ
الشُدّ :يعني القوة واكتمال النمو ،وقد حدّدوا لذلك سِنّ الثامنة عشرة إلى العشرين { وَاسْ َتوَىا }
[القصص ]14 :الستواء هو بلوغُ العقلِ مرحلةَ النضج الفكري ،فلما اكتملت لموسى ـ عليه
حكْما وَعِلْما َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ } [القصص.]14 :
السلم ـ قوة الجسم و ُنضْج العقل { آتَيْنَاهُ ُ
غفْلَةٍ }
خلَ ا ْل َمدِينَةَ عَلَىا حِينِ َ
ثم يقصّ الحق سبحانه ،فيقول { :وَدَ َ
()3194 /
ع ُد ّوهِ
جدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ َيقْتَتِلَانِ َهذَا مِنْ شِيعَ ِت ِه وَهَذَا مِنْ َ
غفْلَةٍ مِنْ أَهِْلهَا َفوَ َ
خلَ ا ْل َمدِينَةَ عَلَى حِينِ َ
وَدَ َ
ع َملِ
فَاسْ َتغَاثَهُ الّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَ ُد ّوهِ َف َوكَ َزهُ مُوسَى َف َقضَى عَلَ ْيهِ قَالَ هَذَا مِنْ َ
ع ُدوّ ُمضِلّ مُبِينٌ ()15
الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َ
أراد موسى ـ عليه السلم ـ أن يدخل القرية على حين غفلة من أهلها ،لن بني إسرائيل كانوا
مُضطهدين ،وكان القبط في بعض المدن ذاتَ الكثافة العددية منهم يُحرّمون على بني إسرائيل
دخول قراهم؛ لذلك اختار موسى وقت غفلة الناس ،لكنه لم يدخل في الليل لنه ل يهتدي إلى
الطريق ،فقيل :دخلها وقت القيلولة والناس في بيوتهم.
جدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ َيقْتَتِلَنِ هَـاذَا مِن شِيعَتِهِ } [القصص ]15 :يعني :من بني إسرائيل { وَهَـاذَا
{ َفوَ َ
مِنْ عَ ُد ّوهِ } [القصص ]15 :يعني :القباط { فَاسْ َتغَاثَهُ } [القصص ]15 :أي :طلب منه ال َعوْن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جمْع يديه ،فجاءت نهاية القبطي وأجله
والنجدة { َف َوكَ َزهُ مُوسَىا } [القصص ]15 :يعني :ضربه ب ُ
مع هذه الضربة ،ل أنه مات بها ،وكثيرا ما تحدثُ هذه المسألة في شجار مثلً بين شخصين،
فيضرب أحدهما الخر فيقع ميتا ،وبتشريح جثته يتبين أنه مات بسبب آخر.
ومثال ذلك :حين تكلّف شخصا بقضاء حاجة لك ،أو تُوسّطه في أمر ما ،فيدخل عند المسئولين
ويسعى إلى أن يقضي لك حاجتك فتقول " :فلن قضالي كذا وكذا " وهو في الحقيقة ما قضى في
الرض إل بعد أن قضى ال في السماء.
لكن ال تعالى أراد أنْ يُكرم الواسطة ،فجعل قضاءها موافقا لقضائه سبحانه ،فنقول في هذه
الحالة :قضي ال المصلحة معه ل به.
كان القبط ـ كما قُلْنا ـ يكرهون بني إسرائيل ويُعذّبونهم ،فلما قتلَ موسى القبطي زاد غضبهم
وكراهيتهم لبني إسرائيل؛ لذلك أحسّ موسى أن هذا العمل من الشيطان ،ليزيد هذه العداوة { إِنّهُ
ضلّ مّبِينٌ } [القصص.]15 :
عَ ُدوّ ّم ِ
()3195 /
يُعلمنا موسى ـ عليه السلم ـ أن النسان ساعة يقترف الذنب ،ويعتقد أنه أذنب ل يكابر ،إنما
ينبغي عليه أنْ يعترف بذنبه وظلمه لنفسه ،ثم يبادر بالتوبة والستغفار { قَالَ َربّ إِنّي ظََل ْمتُ
غفِرْ لِي } [القصص ]16 :يعني :يا ربّ حكْمك هو الحقّ ،وأنا الظالم المعترف بظلمه.
َنفْسِي فَا ْ
ومن هنا كان الفَرْق بين معصية آدم عليه السلم ومعصية إبليس :آدم عصى واعترف بذنبه وأقرّ
ظَلمْنَآ أَنفُسَنَا }[العراف ]23 :فقبل ال منه وغفر له .أما إبليس فعلّل عدم سجوده{:
به ،فقال{ رَبّنَا َ
سجُدُ ِلمَنْ خََل ْقتَ طِينا }[السراء ]61 :وقال {:أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خََلقْتَنِي مِن نّارٍ وَخََلقْتَهُ مِن طِينٍ }
أَأَ ْ
[ص ]76 :فردّ الحكم على ال.
لذلك نقول لمن يُفتي بغير ما شرع ال فيُحلّل الحرام لسبب ما ،نقول له :احذر أنْ ترّد على ال
ن فعلتَ فأنت كإبليس حين ردّ على ال حُكمه ،لكن أ ْفتِ بالحكم الصحيح ،ثم تعلّل
حكمه؛ لنك إ ْ
بأن الظروف ل تساعد على تطبيقه ،فعلى القل تحتفظ بإيمانك ،والمعصية تمحوها التوبة
والستغفار ،أما الكفر فل حيلةَ معه.
فلما استغفر موسى ربه غفر له { إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } [القصص ]16 :يُعرف الذنب ،ثم يغفره
رحمة بنا؛ لن النسان حين تصيبه غفلة فيقع في المعصية إذا لم يجد بابا للتوبة وللرجوع يئس
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفقد المل ،وتمادى في معصيته ونسميه (فاقد) عنده سُعار للجريمة ،ول مانع لديه من ارتكاب
كل الذنوب.
إذن :فمشروعية التوبة الستغفار تعطي المؤمن أملً في أنه لن يُط َردَ من رحمة ال ،لن رحمة
ال واسعة تسَع كل ذنوبه مهما كثُرتْ.
لذلك يقول تعالى في مشروعية التوبة{ ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ }[التوبة ]118 :والمعنى :شرع لهم
التوبة ،وحثّهم عليها ليتوبوا بالفعل فيقبل منهم.
ثم يقول الحق سبحانه { :قَالَ َربّ ِبمَآ أَ ْن َع ْمتَ }
()3196 /
ظهِيرا
قولهِ { :بمَآ أَ ْن َع ْمتَ عََليّ } [القصص ]17 :يعني :بالمغفرة وعذرتني وتُبْت عليّ { فَلَنْ َأكُونَ َ
ل أكون مُعينا للمجرمين.
لّ ْلمُجْ ِرمِينَ } [القصص ]17 :أي :عهد ال عليّ أ ّ
ثم يقول الحق سبحانه { :فََأصْبَحَ فِي ا ْلمَدِي َنةِ }
()3197 /
أي :بعد أن قتل موسى القبطيّ صار خائفا منهم { يَتَ َر ّقبُ } [القصص.]18 :
ينظر في وجوه الناس ،يرقب انفعالتهم نحوه ،فربما جاءوا ليأخذوه ،كما يقولون :يكاد المريب أنْ
يقول :خذوني ،فلو جلس قوم في مكان ،ثم فاجأهم رجال الشرطة تراهم مطمئنين ل يخافون من
شيء ،أما المجرم فيفر هاربا.
ومن ذلك ما يقوله أهل الريف( :اللي على راسه بطحة يحسس عليها).
وهو على هذه الحال من الخوف والترقّب إذ بالسرائيلي الذي استغاث به بالمس { َيسْ َتصْرِخُهُ }
[القصص ]18 :استصرخ يعني :صرخ ،ونادى على مَنْ يُخلّصه ،وهو انفعال للستنجاد للخلص
خيّ }[إبراهيم:
خ ُك ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ
من مأزق ،ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس{ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]22
وسبق أن تكلّمنا في همزة الزالة نقول :صرخ فلن يعني استنجد بأحد فأصرخه يعني :أزال
سبب صراخه ،فمعنى الية :أنا ل أزيل صراخكم ،ول أنتم تزيلون صراخي.
عندها قال موسى عليه السلم لصاحبه الذي أوقعه في هذه الورطة بالمس { إِ ّنكَ َل َغوِيّ مّبِينٌ }
[القصص ]18 :تريد أنْ تُغويَني بأنْ أفعل كما فعلت بالمس ،وما كان موسى ـ عليه السلم ـ
ليقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه ،فل ُيلْدَغ المؤمن من جُحْر مرتين.
()3198 /
ع ُدوّ َل ُهمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ َتقْتُلَنِي َكمَا قَتَ ْلتَ َنفْسًا بِالَْأمْسِ
طشَ بِالّذِي ُهوَ َ
فََلمّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْ ِ
ض َومَا تُرِيدُ أَنْ َتكُونَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِينَ ()19
إِنْ تُرِيدُ إِلّا أَنْ َتكُونَ جَبّارًا فِي الْأَ ْر ِ
قوله تعالى { :فََلمّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَ ْبطِشَ بِالّذِي ُهوَ عَ ُدوّ ّل ُهمَا } [القصص ]19 :يعني :أن موسى حَنّ
مرة أخرى للذي من شيعته وهو السرائيلي وناصره ،ولكن الرجل القبطي هذه المرة واجهه
لمْسِ } [القصص ]19 :فهو يعرف ما حدث من موسى ،وما
{ أَتُرِيدُ أَن َتقْتُلَنِي َكمَا قَتَ ْلتَ َنفْسا بِا َ
داموا قد عرفوا أنه القاتل ،فل ُبدّ لهم أنْ يطلبوه ،وأن ينتقموا منه.
وقوله تعالى { :إِن تُرِيدُ ِإلّ أَن َتكُونَ جَبّارا فِي الَ ْرضِ َومَا تُرِيدُ أَن َتكُونَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِينَ }
[القصص ]19 :إنْ هنا نافية يعني :ما تريد إل أن تكون جبارا في الرض ،فقد قتلتَ نفسا
بالمس ،وتريد أنْ تقتلني اليوم.
إذن :عرفوا أن موسى هو القاتل ،وهناك ول بُدّ مَنْ يسعى للمساك به ،وفي هذا الموقف لحقه
جلٌ مّنْ َأ ْقصَى ا ْلمَدِي َنةِ }
الرجل المؤمنَ { :وجَآءَ َر ُ
()3199 /
سعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنّ ا ْلمَلَأَ يَأْ َتمِرُونَ ِبكَ لِ َيقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي َلكَ
جلٌ مِنْ َأ ْقصَى ا ْل َمدِينَةِ يَ ْ
وَجَاءَ َر ُ
مِنَ النّاصِحِينَ ()20
هو الرجل المؤمن من آل فرعون ،جاء لينصح موسى بالخروج والهرب قبل أنْ يُمسِكوا به
فيقتلوه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3200 /
فَخَرَجَ مِ ْنهَا خَا ِئفًا يَتَ َر ّقبُ قَالَ َربّ نَجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ ()21
()3201 /
معنى { َتوَجّهَ تِ ْلقَآءَ َمدْيَنَ } [القصص ]22 :يعني :ناحيتها ،وأراد أنْ يهرب من مصر كلها ،ولم
يكُنْ يقصد مدين بالذات ،إنما سار في طريق صادف أنْ يؤدي إلى مدين بلد شعيب عليه السلم.
سوَآءَ السّبِيلِ }
عسَىا رَبّي أَن َيهْدِيَنِي َ
ن مقصودة له لما قال بعد توجههَ { :
ولو كانت مَدْي ُ
[القصص ]22 :فموسى حينما خرج من مصر خائفا يريد الهرب لم يفكر في وجهة معينة ،فالذي
يُهمه أنْ يخرج من هذه البلدة ،وينجو بنفسه.
()3202 /
عرض القرآن الكريم هذه القصة في إيجاز بليغ ،ومع إيجازها فقد أوضحتْ مهمة المرأة في
مجتمعها ،ودور الرجل بالنسبة للمرأة ،والضرورة التي تُلجىء المرأة للخروج للعمل.
معنى { وَرَدَ مَآءَ َمدْيَنَ } [القصص ]23 :يعني :جاء عند الماء ،ول يقتضي الورود أن يكون
ل وَارِدُهَا }[مريم:
شَرِب منه .والورود بهذا المعنى حلّ لنا الشكال في قوله تعالى {:وَإِن مّنكُمْ ِإ ّ
]71فليس المعنى دخول النار ،ومباشرة حَرّها ،إنما ذاهبون إليها ،ونراها جميعنا ـ إذن :وردْنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العَيْن .يعني :جئنا عندها ورأيناها ،لكن الشرب منها ،شيء آخر.
سقُونَ }
جدَ عَلَيْهِ } [القصص ]23 :أي :على الماء { ُأمّةً } [القصص ]23 :جماعة { يَ ْ
{ وَ َ
جدَ مِن دُو ِنهِمُ } [القصص ]23 :يعني :بعيدا عن الماء
[القصص ]23 :أي :مواشيهم { وَوَ َ
{ امْرَأَتَينِ َتذُودَانِ } [القصص ]23 :أي :تكفّان الغنم وتمنعانها من الشّرْب لكثرة الزحام على الماء
{ قَالَ مَا خَطْ ُب ُكمَا } [القصص ]23 :أي :ما شأنكما؟
سقْيا؟
وفي الستفهام هنا معنى التعجّب يعني :لماذا تمنعان الغنم أنْ تشربَ ،وما أتيتُما إل لل ّ
سقِي حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآ ُء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [القصص.]23 :
{ قَالَتَا لَ َن ْ
وقولهما { حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآءُ } [القصص ]23 :يعني :ينصرفوا عن الماء ،فصدر مقابل ورد،
فالتي للماء :وارد ،والمنصرف عنه :صادر :نقول :صدر َيصْدُر أي :بذاته ،وأصدر ُيصْدر أي:
غيره.
فالمعنى :ل نَسْقي حتى يسقي الناس وينصرفوا .و { الرّعَآءُ } [القصص ]23 :جمع رَاعٍ .ثم
يذكران العلّة في خروجهما لِسقْي الغنم ومباشرة عمل الرجال { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [القصص:
.]23
سقَىا َل ُهمَا ُثمّ َتوَلّىا }
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ف َ
()3203 /
ظلّ َفقَالَ َربّ إِنّي ِلمَا أَنْزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ ()24
سقَى َل ُهمَا ُثمّ َتوَلّى إِلَى ال ّ
فَ َ
طتْ
سقِي حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآءُ }[القصص ]23 :أع َ
معنا ـ إذن ـ في هذه القصة أحكام ثلثة{ لَ نَ ْ
سقَىا َل ُهمَا } [القصص]24 :
حكْما و { فَ َ
حكما و{ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }[القصص ]23 :أعطتْ ُ
أعطت حكما ثالثا.
وهذه الحكام الثلثة تُنظم للمجتمع المسلم مسألة عمل المرأة ،وما يجب علينا حينما تُضطر المرأة
سقْي النعام من عمل الرجال ،ومن الحكم الثاني نعلم أن المرأة
للعمل ،فمن الحكم الول نعلم أن َ
ل تخرج للعمل إل للضرورة ،ول تؤدي مهمة الرجال إل إذا عجز الرجل عن أداء هذه المهمة{
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }[القصص.]23 :
أما الحكم الثالث فيعلم المجتمع المسلم أو حتى النساني إذا رأى المراة قد خرجت للعمل فل بد
أنه ليس لها رجل يقوم بهذه المهمة ،فعليه أن يساعدها وأنْ يُيسّر لها مهمتها.
وأذكر أنني حينما سافرت إلى السعودية سنة 1950ركبتُ مع أحد الزملء سيارته ،وفي الطريق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رأيته نزل من سيارته ،وذهب إلى أحد المنازل ،وكان أمامه طاولة من الخشب مُغطّاة بقطعة من
ت مثل
القماش ،فأخذها ووضعها في السيارة ،ثم سِرْنا فسألتُه عما يفعل ،فقال :من عاداتنا إذا رأي ُ
هذه الطاولة على باب البيت ،فهي تعني أن صاحب البيت غير موجود ،وأن ربة البيت قد أع ّدتْ
العجين ،وتريد مَنْ يخبزه فإذا مَرّ أحدنا أخذه فخبزه ،ثم أعاد الطاولة إلى مكانها.
سقِي حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآءُ }[القصص ]23 :إشارة إلى أن المرأة إذا
وفي قوله تعالى {:لَ نَ ْ
اضطرتْ للخروج للعمل ،وتوفرْت لها هذه الضرورة عليها أنْ تأخذَ الضرورة بقدرها ،فل تختلط
بالرجال ،وأنْ تعزل نفسها عن مزاحمتهم والحتكاك بهم ،وليس معنى أن الضرورة أخرجتْ
المرأة لتقوم بعمل الرجال أنها أصبحتْ مثلهم ،فتبيح لنفسها الختلط بهم.
ظلّ َفقَالَ َربّ إِنّي ِلمَآ أَنزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ } [القصص]24 :
وقوله تعالى { :ثُمّ َتوَلّىا إِلَى ال ّ
فكان موسى ـ عليه السلم ـ طوال رحلته إلى مَدْين مسافرا بل زاد حتى أجهده الجوع ،وأصابه
الهزال حتى صار جِلْدا على عظم ،وأكل من بقل الرض ،وبعد أن سقى للمرأتين تولّى إلى ظلّ
شجرة ليستريح ،وعندها َلهَج بهذا الدعاء { َربّ إِنّي ِلمَآ أَنزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ } [القصص:
.]24
كأن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يريد من الضعيف أنْ يتجه إلى المعونة ،وحين يتجه إليها فلن
يفعل هو ،إنما سيفعل ال له؛ لذلك نلحظ أن موسى في ندائه قال { َربّ } [القصص ]24 :واختار
صفة الربوبية ،ولم ي ُقلْ يا ال؛ لن اللوهية تقتضي معبودا ،له أوامر ونواهٍ ،أمّا الرب فهو
المتولّي للتربية والرعاية ،فقال :يا رب أنا عبدك ،وقد جئتَ بي إلى هذا الكون ،وأنا جائع أريد أن
آكل.
ومعنى { أَن َز ْلتَ } [القصص ]24 :أن الخير منك في الحقيقة ،وإنْ جاءني على يد عبد مثلي؛ ذلك
لنك حين تُسلسل أيّ خير في الدنيا ل ُبدّ أن ينتهي إلى ال المنعِم الول ،وضربنا لذلك مثلً
برغيف العيش الذي تأكله ،بدايته نبتة لول عناية ال ما نبتتْ.
لذلك يقولون في (الحمد ل) صيغة العموم في العموم ،حتى إنْ حمدتَ إنسانا على جميل أسداه
إليك ،فأنت في الحقيقة تحمد ال حيث ينتهي إليه ُكلّ جميل.
إذن :فحمْد الناس من باطن حمد ال ،والحمد بكل صوره وبكل توجهاته ،حتى ولو كانت السباب
عائدة على ال تعالى ،حتى يقول بعضهم :ل تحمد ال حتى تحمد الناس.
ذلك لن أَ ِزمّة المور بيده تعالى ،وإنْ جعل السباب في أيدينا ،وهو سبحانه القادر وحده على
تعطيل السباب ،وأذكر أن بعض الدول (باكستان) أعلنت عن وفرة عندهم في محصول القمح،
وأنها ستكفيهم وتفيض عنهم للتصدير ،وقبل أنْ ينضج المحصول أصابته جائحة فأهلكته ،فاختلفت
كل حساباتهم ،حتى استوردوا القمح في هذا العام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا معنى } َربّ إِنّي ِلمَآ أَن َز ْلتَ ِإَليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ { [القصص ]24 :فالخير منك يا رب ،وإنْ
سقْته إليّ على يد عبد من عبيدك ،وفقري ل يكون إل إليك ،وسؤالي ل يكون إل لك.
ُ
ولم يكَدْ موسى ـ عليه السلم ـ ينتهي من مناجاته لربه حتى جاءه الفرجَ } :فجَآءَتْهُ ِإحْدَا ُهمَا
َتمْشِي {
()3204 /
قولهِ { :إحْدَا ُهمَا } [القصص ]25 :أي :أحدى المرأتين { َتمْشِي عَلَى اسْ ِتحْيَآءٍ } [القصص]25 :
سقَيْتَ لَنَا }
يعني :مُستحية في مجيئها ،مُستحية في مِشْيتها { قَاَلتْ إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِ َيكَ أَجْرَ مَا َ
[القصص.]25 :
لما جاءتْه هذه الدعوة لم يتردد في قبولها ،وانتهز هذه الفرصة ،فهو يعلم أنها استجابة سريعة من
ربه حين دعاه{ َربّ إِنّي ِلمَآ أَنزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ }[القصص ]24 :وهي سبب من السباب
يَمدّه ال له ،وما كان له أنْ يردّ أسباب ال ،فلم يتأبّ ،ولم يرفض دعوة الب.
ولم يذكر لنا السياق هنا كيف سار موسى والفتاة أبيها ،لكن يُ ْروَى أنهما سارا في وقت تهبّ فيه
الرياح من خلفها ،وكانت الفتاة في المام لتدلّه على الطريق ،فلما ضمّ الهواء ملبسها ،فوصفت
عجيزتها ،قال لها :يا هذه ،سيري خلفي ودُلّيني على الطريق.
وهذا أدب آخر من آدام النبوة.
{ فََلمّا جَآ َءهُ } [القصص ]25 :أي :سيدنا شعيب عليه السلم { َو َقصّ عَلَ ْيهِ ا ْل َقصَصَ } [القصص:
ج ْوتَ مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [القصص]25 :
خفْ نَ َ
ل لَ َت َ
]25أي :ما كان بينه وبين القبطي { قَا َ
يعني :طمأنه وهدّأ من َروْعه.
()3205 /
حدَا ُهمَا يَا أَ َبتِ اسْتَ ْأجِ ْرهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَ ْأجَ ْرتَ ا ْلقَ ِويّ الَْأمِينُ ()26
قَاَلتْ إِ ْ
وهذا حكم رابع نستفيده من هذه اليات ،نأخذه من قول الفتاة { ياأَ َبتِ اسْتَ ْأجِ ْرهُ } [القصص.]26 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي قولها دليل على أنها لم تعشق الخروج للعمل ،إنما تطلب مَنْ يقوم به بدلً عنها؛ لِتقّر في
بيتها.
لمِينُ
ثم تذكر البنت حيثيات هذا العرض الذي عرضته على أبيها { إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَ ْرتَ ا ْل َق ِويّ ا َ
} [القصص ]26 :وهذان شرطان ل ُب ّد منهما في الجير :قوة على العمل ،وأمانة في الداء .وقد
تسأل :ومن أين عرفتْ البنت أنه قوي أمين؟
قالوا :لنه لما ذهب ليسقي لهما لم يزاحم الناس ،وإنما مال إلى ناحية أخرى وجد بها عُشْبا عرف
أنه ل ينبت إل عند ماء ،وفي هذا المكان أزاح حجرا كبيرا ل يقدر على إزاحته إل عدة رجال،
ثم سقى لهما من تحت هذا الحجر ،وعرفتْ أنه أمين حينما رفض أن تسير أمامه ،حتى ل تظهر
له مفاتن جسمها.
ويأتي دور الب ،وما ينبغي له من الحزم في مثل هذه المواقف ،فالرجل سيكون أجيرا عنده،
وفي بيته بنتان ،سيتردد عليهما ذهابا وإيابا ،ليلَ نهار ،والحكمة تقتضي إيجاد علقة شرعية
ق َوضْعا ،يستريح فيه الجميع { :قَالَ إِنّي أُرِيدُ
لوجوده في بيته؛ لذلك رأى أن يُزوّجه إحداهما ليخل َ
}
()3206 /
في المثال نقول( :اخطب لبنتك ول تخطب لبنك) ذلك لن كبرياء الب يمنعه أنْ يعرض ابنته
ل صفات الزوج الصالح ـ وإنْ كان القلة يفعلون ذلك ـ وهذه الحكمة من الب
على شاب فيه ك ّ
في أمر زواج ابنته تحلّ لنا إشكالت كثيرة ،فكثيرا ما نجد الشاب سويّ الدين ،سويّ الخلق،
لكن مركزه الجتماعي ـ كما نقول ـ دون مستوى البنت وأهلها ،فيتهيب أنْ يتقدّم لها فيُرفض.
وفي هذه الحالة على الب أنْ يُجَرّىء الشاب على التقدم ،وأن يُلمح له بالقبول إن تقدّم لبنته ،كأن
يقول له :لماذا لم تتزوج يا ولد حتى الن ،وألف بنت تتمناك؟ أو غير ذلك من عبارات التشجيع.
حدَى ابْنَ َتيّ هَاتَيْنِ }
حكَ إِ ْ
أما أن نرتقي إلى مستوى التصريح كسيدنا شعيب { إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُن ِك َ
ل من العارض ،ومن المعروض عليه ،وفي مجتمعاتنا
[القصص ]27 :فهذا شيء آخر ،وأدب عَا ٍ
كثير من الشباب والفتيات ينتظرون هذه الجرأة وهذا التشجيع من أولياء أمور النبات.
ألَ ترى أن ال تعالى أباح لنا أن نُعرّض بالزواج لمن تُوفّى عنها زوجها ،قال تعالىَ {:ولَ جُنَاحَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خطْبَةِ النّسَآءِ }[البقرة ]235 :ول تخفي علينا عبارات التلميح التي تلفت
عَلَ ْيكُمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ ِبهِ مِنْ ِ
نظر المرأة للزواج.
وقوله { :عَلَىا أَن تَ ْأجُرَنِي َثمَا ِنيَ حِجَجٍ } [القصص ]27 :أي :تكون أجيرا عندي ثماني سنوات،
وهذا َمهْر الفتاة ،أراد به أن يُغلِي من قيمة ابنته ،حتى ل يقول زوجها :إنها رخيصة ،أو أن أباها
رماها عليه.
جدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ }
ك َومَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقّ عَلَ ْيكَ سَتَ ِ
{ فَإِنْ أَ ْت َم ْمتَ عَشْرا َفمِنْ عِن ِد َ
[القصص ]27 :يعني :حينما تعايشني ستجدني طيبَ المعاملة ،وستعلم أنك مُوفّق في هذا النسب،
بل وستزيد هذه المدة محبة في البقاء معنا.
فأجاب موسى عليه السلم { :قَالَ ذَِلكَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ }
()3207 /
ل َوكِيلٌ } [القصص:
ي وَاللّهُ عَلَىا مَا َنقُو ُ
أي :أنا بالخيار ،أقضي ثمانية ،أم عشرة { فَلَ عُ ْدوَانَ عََل ّ
.]28
حكْما جديدا من هذه الية ،وهو أن المطلوب عند عقد الزواج تسمية المهر ،ول
وقد أ خذ العلماء ُ
يشترط قبضه عند العقد ،فلَك أنْ تُؤجله كله وتجعله مُؤخّرا ،او تُؤجل بعضه ،وتدفع بعضه.
والمهر ثمن ُبضْع المرأة ،بحيث إذا ماتت ذهب إلى تركتها ،وإذا مات الزوج يُؤخَذ من تركته،
بدليل أن شعيبا عليه السلم استأجر موسى ثماني أو عشر سنين ،وجعلها مهرا لبنته.
ونلحظ أن السياق هنا لم يذكر شيئا عن الطعام ،مع أن موسى عليه السلم كان جائعا ودعا ربه{:
َربّ إِنّي ِلمَآ أَنزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ }[القصص.]24 :
لكن يروي أهل السير أن شعيبا عليه السلم قدّم لموسى طعاما ،وطلب منه أن يأكل ،فقال:
أستغفر ال ،يعني :أنْ آكل من طعام .كأنه مقابل ما سقى للبنتين الغنم؛ لذلك قال :إنّا أهل بيت ل
نبيع عمل الخرة بملء الرض ذهبا ،فقال شعيبُ :كلْ ،فإنّا أهل بيت نطعم الطعام ونقري
الضيف ،قال :الن نأكل.
جلَ }
ثم يقول الحق سبحانه { :فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ
()3208 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ستُ نَارًا
ل وَسَارَ بَِأهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَا ِنبِ الطّورِ نَارًا قَالَ لِأَهِْلهِ ا ْمكُثُوا إِنّي آَنَ ْ
جَفََلمّا َقضَى مُوسَى الْأَ َ
ج ْذ َوةٍ مِنَ النّارِ َلعَّلكُمْ َتصْطَلُونَ ()29
َلعَلّي آَتِيكُمْ مِ ْنهَا ِبخَبَرٍ َأوْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3209 /
طئِ ا ْلوَادِ الْأَ ْيمَنِ فِي الْ ُب ْقعَةِ ا ْلمُبَا َركَةِ مِنَ الشّجَ َرةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنّي أَنَا اللّهُ
فََلمّا أَتَاهَا نُو ِديَ مِنْ شَا ِ
َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()30
()3210 /
وفي موضع آخر يسأله ربه ليُؤنسهَ {:ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه ]17 :وقلْنا :إن موسى -
عليه السلم -أطال في هذا الموقف ليطيل مُدّة الُنْس بربه ،فلما أحسّ أنه أسرف وأطال قال{:
وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا }[طه ]18 :فأطنب أولً ليزداد أُنْسه بربه ،ثم أوجز ليظل أدبه مع ربه.
عصَاكَ[ } ..القصص.]31 :
أما هنا فيأتي المر مباشرة ليُوظّف العصا { :وَأَنْ أَ ْلقِ َ
ن وَلّىا مُدْبِرا وَلَمْ ُي َعقّبْ[ } ...القصص ]31 :لنه رأى عجيبة
وقوله { :فََلمّا رَآهَا َتهْتَزّ كَأَ ّنهَا جَآ ّ
خضْرة الشجرة ،فكيف نُسلّم بانقلب العصا
أخرى أعجب مما سبق فلو سلّمنا باشتعال النار في ُ
جانا يسعى ويتحرك؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن تنقلبَ العصا الجافة إلى شجرة خضراء من جنس العصا ،وتكون أيضا
وكان من الممكن أ ْ
معجزة ،أما أنْ تتحول إلى جنس آخر ،وتتعدّى النباتية إلى الحيوانية والحيوانية المتحركة المخيفة،
فهذا شيء عجيب غير مألوف.
وهنا كلم محذوف؛ لن القرآن الكريم مبنيّ على اليجاز ،فالتقدير :فألقى موسى عصاه { فََلمّا
ن وَلّىا مُدْبِرا[ } ...القصص ]31 :ذلك ليترك للعقل فرصة الستنباط،
رَآهَا َتهْتَزّ كَأَ ّنهَا جَآ ّ
ويُحرّك الذّهْن لمتابعة الحداث.
صوّرَتْ العصا في هذه القصة بأنها :جانّ ،وثعبان ،وحية .وهي
والجانّ ،قُلْنا هو فرخ الحية ،وقد ُ
صورة ثلثة للشيء الواحد ،فهي في خفّتِها جانّ ،وفي طولها ثعبان ،وفي غِلَظها حية.
ومعنى { وَلّىا مُدْبِرا[ } ..القصص ]31 :يعني :انصرف خائفا { ،وَلَمْ ُي َع ّقبْ[ } ..القصص]31 :
خفْ[ } ...القصص ]31 :يعني :ارجع ول
ل َولَ تَ َ
لم يلتفت إلى الوراء ،فناداه ربه { :يامُوسَىا َأقْ ِب ْ
خفْ من شيء ،ثم يعطيه القضية التي يجب أن تصاحبه في كل تحركاته في دعوته { إِ ّنكَ مِنَ
تَ
ن المِنِينَ }
المِنِينَ } [القصص ]31 :فلم يقل ارجع فسوف أؤمنك في هذا الموقف إنما { إِ ّنكَ مِ َ
[القصص.]31 :
يعني :هي قضية مستمرة ملزمة لك؛ لنك في مَعيّة ال ،ومَنْ كان في معية ال ل يخاف ،وإل
خ ْفتَ الن ،فماذا ستفعل أمام فرعون.
لو ِ
وهكذا يعطي الحق -سبحانه وتعالى -لموسى -عليه السلم -دُرْبة معه سبحانه ،ودُرْبة حتى
يواجه فرعون وسَحرته والمل جميعا دُرْبة مع سبحانه ،ودُرْبة حتى يواجه فرعون وسَحرته
والمل جميعا دون خوف ول َوجَل ،وليكون على ثقة من نصر ال وتأييده في جولته الخيرة أمام
فرعون.
وقد انتفع موسى -عليه السلم -بكل هذه المواقف ،وتعلّم من هذه العجائب التي رآها فزادتْه ثقةً
وثباتا؛ لذلك لما كاد فرعون أنْ يلحقَ بجنوده موسى وقومه ،وقالوا {:إِنّا َلمُدْ َركُونَ }[الشعراء]61 :
استعاد موسى عليه السلم قضية { إِ ّنكَ مِنَ المِنِينَ } [القصص ]31 :فقال بملء فيه {:قَالَ كَلّ إِنّ
َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء.]62 :
فحيثية الثقة عند موسى -عليه السلم -هي معيّة ال له ،قالها موسى ،ويمكن أنْ تكذب في
وقتها حالً ،فهاجم البحر من أمامهم ،وفرعون من خلفهم ،لكنها ثقة مَنْ أمّنه ال ،وجعله في معيّته
حفْظه.
وِ
وهذا المن قد كفله ال تعالى لجميع أنبيائه ورسله ،فقال تعالى {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا
ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173-171 :
خفْ إِنّي لَ يَخَافُ َل َديّ ا ْلمُرْسَلُونَ }[النمل.]10 :
وقال {:يامُوسَىا لَ َت َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد ُقصّ هذا كله على نبينا محمد صلى ال عليه وسلم ،فانتفع به ووثق في نصر ال ،فلما قال له
الصّديق وهما في الغار :يا رسول ال ،لو نظر أحدهم تحت قدميْه لرآنَا ،قال صلى ال عليه
وسلم " :يا أبا بكر ،ما ظنّك باثنين ،ال ثالثهما ".
وحكى القرآن قوله صلى ال عليه وسلم لصاحبه {:لَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا[} ...التوبة ]40 :وما
ُدمْنا في معيّة مَنْ ل تدركه البصار ،فلن تدركنا البصار.
ثم ينقل الحق -تبارك -وتعالى -موسى عليه السلم إلى آية أخرى تضاف إلى معجزاته} :
اسُْلكْ َي َدكَ فِي جَيْ ِبكَ.{ ...
()3211 /
معنى { اسُْلكْ َي َدكَ[ } ...القصص ]32 :يعني :أدخلها { فِي جَيْ ِبكَ[ } ..القصص ]32 :الجيب:
حفْظ الموال في داخل
س ّموْها جَيْبا؛ لنهم كانوا يجعلون الجيوب مكان ِ
فتحة الثوب من أعلى ،و َ
الثياب حتى ل تُسرق ،فكان الواحد يُدخِل يده في قبّة الثوب لتصل إلى جيبه.
ونلحظ هنا دقة الداء القرآني { تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ[ } ...القصص ]32 :ولم ي ُقلْ بصيغة المر:
وأخرجها كما قال { اسُْلكْ َي َدكَ[ } ...القصص ]32 :وكأن العملية عملية آلية منضبطة بدقة،
فبمجرد أن يُدخِلها تخرج هي بيضاء ،فكأن إرادته على جوارحه كانت في الدخال ،أما في
الخراج فهي لقدرة ال.
وكلمة { بَ ْيضَآءَ[ } ...القصص ]32 :أي :مُنوّرة دون مرض ،والبياض ل بُدّ أن يكون عجيبا في
موسى -عليه السلم -لنه كان أسمر اللون؛ لذلك قال { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ[ } ...القصص]32 :
حتى ل يظنوا به بَرصا مثلً ،فهو بياض طبيعي ُمعْجِز.
حكَ مِنَ الرّ ْهبِ[ } ...القصص ]32 :الجناحان في الطائر كاليدين
ضمُمْ إِلَ ْيكَ جَنَا َ
وقوله تعالى { :وَا ْ
ل يفعل كما يفعل الطائر حين يطير ،فالمعنى :اضمُمْ
في النسان ،وإذا أراد النسان أن يعوم مث ً
إليك يديك يذهب عنك الخوف.
صدْرها
وهذه العملية يُصدّقها الواقع ،فنرى المرأة حين ترى ولدها مثلً يسئ التصرف تضرب َ
وتولول ،وسيدنا ابن عباس يقول :كل من خاف يجب عليه أن يضرب صدره بيديه ليذهب عنه ما
يلقي ،ولك أن تُجرّبها لتعلم صِدْق هذا الكلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى { َفذَا ِنكَ[ } ...القصص ]32 :ذا :اسم إشارة للمفرد ونقول :ذان اسم إشارةت للمثنى،
والكاف للخطاب ،والمراد :الشارة لمعجزتي العصا واليد { بُ ْرهَانَانِ مِن رّ ّبكَ[ } ...القصص:
عوْنَ[ } ...القصص ]32 :الرب الباطل ،ول يمكن أنْ يجتمع الحق
]32أي ربك الحق { إِلَىا فِرْ َ
حقّ عَلَى
والباطل ،ل بد للباطل أنْ يزهق؛ لنه ضعيف ل يصمد أمام قوة الحق{ َبلْ َنقْ ِذفُ بِالْ َ
طلِ فَ َي ْد َمغُهُ فَإِذَا ُهوَ زَاهِقٌ }[النبياء.]18 :
الْبَا ِ
ن َومَلَئِهِ[ } ...القصص]32 :
عوْ َ
والبرهان :هو الحجة والدليل على صِدْق المبرهَن عليه { إِلَىا فِرْ َ
سقِينَ } [القصص]32 :
لن فرعون ادّعى اللوهية ،وملؤه استخفهم فأطاعوه { إِ ّنهُمْ كَانُواْ َقوْما فَا ِ
سقِينَ } [القصص ]32 :أي :خارجين عن الطاعة من قولنا فسقتِ
أي :جميعا فرعون والمل { فَا ِ
الرّطَبة يعني :خرجتْ من قشرتها.
والمراد هنا الحجاب الديني الذي يُغلّف النسان ،ويحميه ويعصمه أنْ يتأثر بعوامل المعصية ،فإذا
سوْءَته.
انسلخ من هذا الثوب ،ونزع هذا الحجاب ،وتمرّد على المنهج تكشفتْ عورته ،وبانتْ َ
()3212 /
قَالَ َربّ إِنّي قَتَ ْلتُ مِ ْنهُمْ َنفْسًا فََأخَافُ أَنْ َيقْتُلُونِ ()33
فما زال موسى -عليه السلم -خائفا من مسألة قتْل القبطيّ؛ لذلك يطلب من ربه أنْ يؤيده،
ويعينه بأخيه.
()3213 /
وَأَخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ مِنّي ِلسَانًا فَأَرْسِ ْلهُ َم ِعيَ ِردْءًا ُيصَ ّدقُنِي إِنّي أَخَافُ أَنْ ُي َكذّبُونِ ()34
معنى الرّدْء :المعين ،وعرفنا من قصة موسى -عليه السلم -وهو صغير في بيت فرعون أنه
أصابته لَثْغة في لسانه ،فكان ثقيل النطق ل ينطلق لسانه؛ لذلك أراد أنْ يستعين بفصاحة أخيه
هارون ليؤيده ،ويُظهر حجته ،ويُزيل عنه الشبهات.
وكان بإمكان موسى أن يطلب من ربه أن يستعين بأخيه هارون ،فيكون هارون من باطن موسى،
لكنه أحب لخيه أن يشاركه في رسالته ،وأن ينال هذا الفضل وهذه ال ّرفْعة ،فقال { :فَأَرْسِ ْلهُ َم ِعيَ
رِدْءا ُيصَ ّدقُنِي[ } ...القصص ]34 :يعني :معينا لي حتى ل يُكذّبني الناس ،فيكون رسولً مِثْلِي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بتكليف من ال.
لذلك نرى اليات تتحدث عن هارون على أنه رسول شريك لموسى في رسالته ،يقول تعالى في
خشَىا }[طه-43 :
طغَىا * َفقُولَ لَهُ َقوْلً لّيّنا ّلعَلّهُ يَتَ َذكّرُ َأوْ يَ ْ
عوْنَ إِنّهُ َ
شأنهما {:اذْهَبَآ إِلَىا فِرْ َ
.]44
فإذا نظرنا إلى وحدة الرسالة َفهُما رسول واحد ،وهذا واضح في قوله تعالى:
عوْنَ َفقُول إِنّا َرسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء.]16 :
{ فَأْتِيَا فِرْ َ
سلَ إِلَ ْي ُكمْ َلمَجْنُونٌ }[الشعراء ]27 :بصيغة المفرد.
وجاء في قول فرعون {:إِنّ رَسُوَلكُمُ الّذِي أُرْ ِ
كما لو بعث رئيس الجمهورية رسالة مع اثنين أو ثلثة إلى نظيره في دولة أخرى ،نُسمّي هؤلء
جميعا (رسول)؛ لن رسالتهم واحدة ،فإذا نظرتَ إلى وحدة الرسالة من المرسل إلى المرسَل إليه
ت إلى كلّ على حِدَة فهما رسولن.
فهما واحد ،وإذا نظر َ
وقد ورد أيضا {:إِنّا رَسُولَ رَ ّبكَ[} ...طه ]47 :فخاطبهم مرة بالمفرد ،ومرة بالمثنى.
لذلك لما دعا موسى -عليه السلم -على قوم فرعون لما غرّتهم الموال ،وفتنتهم زينة الحياة
ب الَلِيمَ }
طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْ ُددْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ
الدنيا قال{ رَبّنَا ا ْ
[يونس.]88 :
عوَ ُت ُكمَا[} ...يونس ]89 :فنظر إلى
المتكلّم هنا موسى وحده ،ومع ذلك قال تعالى {:قَالَ قَدْ ُأجِي َبتْ دّ ْ
أنهما رسول واحد ،فموسى يدعو وهارون يُؤمّن على دعائه ،والمؤمّن أحد الدّاعِيَيْن.
()3214 /
سلْطَانًا فَلَا َيصِلُونَ إِلَ ْي ُكمَا بِآَيَاتِنَا أَنْ ُتمَا َومَنِ اتّ َب َع ُكمَا ا ْلغَالِبُونَ
ج َعلُ َل ُكمَا ُ
ك وَ َن ْ
عضُ َدكَ بِأَخِي َ
شدّ َ
قَالَ سَنَ ُ
()35
عضُ َدكَ بِأَخِيكَ[ } ...القصص ]35 :لن موسى قال في موضع آخر{:
شدّ َ
أجابه ربه { :قَالَ سَنَ ُ
عضُ َدكَ بَِأخِيكَ} ...
شدّ َ
شدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْ ِركْهُ فِي َأمْرِي }[طه ]32-31 :وقوله تعالى { سَنَ ُ
اْ
[القصص ]35 :تعبير بليغ يناسب المطلوب من موسى؛ لن النسان يزاول أغلب أعماله أو كلها
تقريبا بيديه ،والعضلة الفاعلة في الحمل والحركة هي ال َعضْد.
لذلك حين نمدح شخصا بالقوة نقول :فلن هذا (عضل) ،وحين يصاب النسان والعياذ بال
ل ل يقدر على فعْل شيء ،فالمعنى :سنُقوّيك بقوة مادية.
بمرض ضمور العضلت تجده هزي ً
ج َعلُ َل ُكمَا سُ ْلطَانا[ } ...القصص ]35 :هذه هي القوة المعنوية ،وهي قوة الحجة والمنطق
{ وَنَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والدليل ،فجمع لهما :القوة المادية ،والقوة المعنوية.
لذلك قال بعدها { فَلَ َيصِلُونَ إِلَ ْي ُكمَا[ } ...القصص ]35 :أي :نُنجيكم منهم ،لكن معركة الحق
والباطل ل تنتهي بنجاة أهل الحق ،إنما ل بُدّ من نُصرْتهم على أهل الباطل ،وفَرْق بين رجل
يهاجمه عدوه فيغلق دونه الباب ،وتنتهي المسألة عند هذا الحد ،وبين مَنْ يجرؤ على عدوه ويغالبه
حتى ينتصر عليه ،فيكون قد منع الضرر عن نفسه ،وألحق الضرر بعدوه.
وهذا هو المراد بقوله تعالى { :أَن ُتمَا َومَنِ اتّ َب َع ُكمَا ا ْلغَالِبُونَ } [القصص ]35 :وهكذا أزال ال عنهم
سلبية الضرر ،ومنحهم إيجابية الغلبة.
ونلحظ توسط كلمة { بِآيَاتِنَآ[ } ...القصص ]35 :بين العبارتين { :فَلَ َيصِلُونَ إِلَ ْي ُكمَا} ...
[القصص ]35 :و { أَن ُتمَا َومَنِ اتّ َب َع ُكمَا ا ْلغَالِبُونَ } [القصص ]35 :فهي إذن سبب فيهما :فبآياتنا
ومعجزاتنا الباهرات ننجيكم ،وبآياتنا ومعجزاتنا ننصركم ،فهي كلمة واحدة تخدم المعنيين ،وهذا
من وجوه بلغة القرآن الكريم.
س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ * وَالنّجْمُ وَالشّجَرُ
شمْ ُ
ومن عجائب ألفاظ القرآن كلمة (النجم) في قوله تعالى {:ال ّ
سجُدَانِ }[الرحمن ]6-5 :فجاءت النجم بين الشمس والقمر ،وهما آيتان سماويتان ،والشجر وهو
يَ ْ
من نبات الرض؛ لذلك صلحت النجم بمعنى نجم السماء ،أو النجم بمعنى النبات الصغير الذي ل
ساقَ له ،مثل العُشْب الذي ترعاه الماشية في الصحراء.
جوَادِيَثم يقول الحق سبحانه:
لذلك قال الشاعر:أُرَاعِي النّجْم في سَيْرى إليكُ ْم وَيرْعَاهُ مِنَ البَيْدا َ
{ فََلمّا جَآءَهُم مّوسَىا بِآيَاتِنَا.} ...
()3215 /
قوله تعالى { :بِآيَاتِنَا بَيّنَاتٍ[ } ...القصص ]36 :أي :بمعجزاتنا واضحات باهرات ،فلما ُبهِتوا أمام
آيات ال ،وحاروا كيف يخرجون من هذا المأزق ،فقد جاءهم موسى ليهدم عرش اللوهية الباطلة
س ِمعْنَا ِبهَـاذَا فِي آبَآئِنَا
عند فرعون ،ولم يملكوا إل أنْ قالوا { مَا هَـاذَآ ِإلّ سِحْرٌ ّمفْتَرًى َومَا َ
لوّلِينَ } [القصص.]36 :
اَ
لذلك يُعلّم الحق -تبارك وتعالى -موسى عليه السلم مُحَاجّة هؤلء ،فكأنه قال له :أنت مُقبل
ن قضيتَ
ن يغضبوا إ ْ
على أُنَاس متمسكين بالباطل ،حريصين عليه ،منتفعين من ورائه ،ول ُبدّ أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على باطلهم ،وصرفتهم عنه إلى الحق ،فقد أَِلفُوا الباطل ،فإنْ أخرجتَهم مما أَلِفوا إلى ما ل يألفون
فل بُدّ لك من اللين وألّ تُهيّجهم حين تجمع عليهم قسوة تَرْك ما ألِفوه مع قسوة الدعوة إلى ما لم
يألفوه.
ويكفي أنك ستسلبهم سلطان اللوهية الذي عاشوا في ظله ،فإنْ زِ ْدتَ في القسوة عليهم ولّ ْدتَ
عندهم لددا وعنادا في الخصومة.
لذلك قال تعالىَ {:فقُولَ لَهُ َق ْولً لّيّنا[} ...طه ]44 :يعني :اعذروه فيما يلقي حين تُسلَب منه
ألوهيته ،ويصير واحدا من الرعية.
س ِمعْنَا ِبهَـاذَا فِي آبَآئِنَا
سحْرٌ ّمفْتَرًى َومَا َ
وإنْ قابلوك هم بالقسوة حين قالوا { :مَا هَـاذَآ ِإلّ ِ
لوّلِينَ } [القصص ]36 :فقابلهم أنت باللين.
اَ
()3216 /
َوقَالَ مُوسَى رَبّي أَعْلَمُ ِبمَنْ جَاءَ بِا ْل ُهدَى مِنْ عِنْ ِد ِه َومَنْ َتكُونُ َلهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ (
)37
وتأمل هنا اللين وأدب الجدل عند موسى -عليه السلم -فلم يرد عليهم بالقسوة التي سمعها منهم
ولم يتهمهم كما اتهموه ،إنما ردّ بهذا السلوب اللّبِق ،وبهذا اليحاء { :رَبّي أَعَْلمُ ِبمَن جَآءَ بِا ْلهُدَىا
مِنْ عِن ِد ِه َومَن َتكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ[ } ...القصص ]37 :ولم ي ُقلْ :إني جئت بالهدى.
ثم قال { :إِنّ ُه لَ ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ } [القصص ]37 :سواء كنا نحن أم أنتم ،ولم ي ُقلْ :أنتم الظالمون،
لقد أطلق القضية ،وترك للعقول أنْ تميز.
ومعنى { عَاقِ َبةُ الدّارِ[ } ..القصص ]37 :الدار يعني :الدنيا وعاقبتها تعني :الخرة.
وهذا الدب النبوي في الجدل والحوار رأيناه في سيرة سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم مع
كفار مكة والمعاندين له ،وقد خاطبه ربهَ {:ولَ تُجَادِلُواْ أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ} ...
[العنكبوت.]46 :
والعلّة أنك ستُخرجهم من الباطل الذي أحبوه وأَلفوه إلى الحق الذي يكرهون ،فل تجمع عليهم
شدتين ،لذلك في أشد ما كان إيذاء الكفار لرسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقول " :اللهم اهد
قومي فإنهم ل يعلمون ".
ورحم ال شوقي الذي صاغ هذه المسألة في عبارة موجزة فقال( :الّنصْح ثقيل فل ترسله جبلً،
ول تجعله جدلً) ف ُنصْحك معناه أنك تقول لمن أمامك :أنت على خطأ وأنا على صواب .فلكي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يسمع لك ل ُبدّ أنْ تستميله أولً إليك ليقبل منك ،ول تجرح مشاعره فيزداد عنادا ومكابرة ،وما
أشبه صاحب الخطأ بالمريض الذي يحتاج لمن يأخذ بيده ،ويأسو مرضه.
وقد مثّلوا لذلك بشخص يغرق ،وصاحبه على الشاطيء يلومه على نزوله البحر ،وهو ل يجيد
السباحة ،فقال له( :آسِ ثم انصح) انقذني أولً وأدركني ،ثم ُقلْ ما شئتَ.
خفّة البيان.
وقال آخر :الحقائق مُرّة ،فاستعيروا لها ِ
أما إنْ يئس الناصح من استجابة المنصوح كما في قصة نبي ال نوح عليه السلم ،والذي ظل
يدعو قومه ألف سنة إل خمسين عاما ،فالمر يختلف .فالنبي صبر على قومه علّهم يثوبون إلى
رشدهم ،أو لعلهم ينجبون الذرية الصالحة التي تقبل ما رفضه الباء.
فما أطولَ صبر نوح على قومه ،وما أعظمَ أدبه في الحوار معهم وهو يقول لهم وقد اتهموه
بالكذب والفتراءُ {:قلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ َفعَلَيّ ِإجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا ُتجْ ِرمُونَ }[هود.]35 :
فنسب الجرام إلى نفسه ليُسوّي نفسه بهم لعلّه يستميل قلوبهم ،لكن ،لما كان في علم ال تعالى
ن قضى نوح في دعوتهم هذا
أنهم لن يؤمنوا ،ول فائدة منهم ،ول من أجيالهم المتعاقبة ،وبعد أ ْ
العمر المديد أمره ال أن يدعو عليهم ،حيث ل أملَ في هدايتهم ،فقال:
علَى الَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارا * إِ ّنكَ إِن َتذَرْهُمْ ُيضِلّواْ عِبَا َدكَ وَلَ يَلِدُواْ ِإلّ فَاجِرا
ب لَ تَذَرْ َ
{ ّر ّ
َكفّارا }[نوح.]27-26 :
عمّآ َأجْ َرمْنَا َولَ
ومحمد صلى ال عليه وسلم يقول في محاورته مع كفار مكة {:قُل لّ تُسْأَلُونَ َ
عمّا َت ْعمَلُونَ }[سبأ.]25 :
نُسَْألُ َ
سبحان ال ما هذا التواضع ،وهذا الدب الجم في استمالة القوم ،ينسب الجرام إلى نفسه وهو
رسول ال ،وحينما يتكلم عنهم يقول{ َت ْعمَلُونَ }[سبأ ]25 :فيُسمّي إجرامهم وإيذاءهم وكفرهم عملً،
ولو قال كما قال أخوه لكان تواضعا منه صلى ال عليه وسلم.
عوْنُ ياأَ ّيهَا الْملُ.} ...
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وقَالَ فِرْ َ
()3217 /
ج َعلْ لِي
عوْنُ يَا أَ ّيهَا ا ْلمَلَأُ مَا عَِل ْمتُ َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فََأ ْوقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطّينِ فَا ْ
َوقَالَ فِرْ َ
صَرْحًا َلعَلّي أَطّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنّي لَأَظُنّهُ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ ()38
خشي فرعون من كلم موسى على قومه ،وتصوّر أنه سيحدث لهم كما نقول (غسيل مخ) فأراد
عِل ْمتُ َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ
أن يُذكّرهم بألوهيته ،وأنه لم يتأثر بما سمع من موسى { ياأَ ّيهَا الْملُ مَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غَيْرِي[ } ...القصص ]38 :يعني :إياكم أنْ تصدّقوا كلم موسى ،فأنا إلهكم ،وليس لكم إله غيري.
جعَل لّي صَرْحا
ثم يؤكد هذه اللوهية فيقول لهامان وزيره { :فََأ ْوقِدْ لِي ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَا ْ
ّلعَلّي أَطّلِعُ إِلَىا إِلَـاهِ مُوسَىا[ } ...القصص ]38 :وفي موضع آخر قال {:ياهَامَانُ ابْنِ لِي
سمَاوَاتِ فََأطّلِعَ ِإلَىا إِلَـاهِ مُوسَىا[} ...غافر.]37 - 36 :
صَرْحا ّلعَـلّي أَبْلُ ُغ الَسْبَابَ * َأسْبَابَ ال ّ
وكأنه يريد أن يُرضي قومه ،فها هو يريد أنْ يبحث عن الله الذي يدّعيه موسى ،وكأنه إنْ بنى
صرحا واعتله سيرى رب موسى ،لكن هل بنى له هامان هذا الصرح؟ لم يَبْن له شيئا ،مما يدل
على أن المسألة هَزْل في هَزْل ،وضحك على القوم الذين استخفّهم ولعِب بعقولهم.
وإل ،فما حاجتهم لحرق الطين ليصير هذه القوالب الحمراء التي نراها ونبني بها الن وعندهم
الحجارة والجرانيت التي ب َنوْا بها الهرامات وصنعوا منها التماثيل؟ وعملية حَرْق الطين تحتاج
خصْم ،وتخدير المل من قومه.
إلى كثير من الوقت والجهد ،إذن :المسألة كسب الوقت من ال َ
وقولهّ { :لعَلّي أَطِّلعُ إِلَىا إِلَـاهِ مُوسَىا[ } ...القصص ]38 :وقبل أنْ يصل إلى حكم فيرى إله
موسى أو ل يراه ،يبادر بالحكم على موسى { وَإِنّي لَظُنّهُ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ } [القصص]38 :؛
ليصرف مله عن كلم موسى.
()3218 /
جعُونَ ()39
ق وَظَنّوا أَ ّن ُهمْ إِلَيْنَا لَا يُ ْر َ
وَاسْ َتكْبَرَ ُه َو وَجُنُو ُدهُ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَ ّ
أي :تكبروا دون حق ،وبغير مبررات للكِبْر ،فليس لديهم هذه المبررات؛ لن النسان يتكبّر حين
تكون عظمَته ذاتية فيه ،أمّا العظمة المخلوقة لك من الغير فل تتكبر بها ،مَنْ يتكبر يتكبّر بشيء
ذاتي فيه ،كما يقولون (اللي يخرز يخرز على وركه).
وكذلك في دواعي الكِبْر الخرى :الغِنَى ،القوة ،الجاه ،والسلطان ...إلخ.
لذلك يكره ال تعالى المتكبرين ،ويقول في الحديث القدسي " :الكبرياء ردائي ،والعظمة إزاري،
فمن نازعني واحدا منهما أدخلته جهنم ".
والكبرياء والعظمة صفة جلل وجمال ل تعالى تجعل الجميع أمام كبرياء ال سواء ،فل يتكبّر
أحد على أحد (ونرعى جميعا مساوي) في ظل كبرياء ال الذي يحمي تواضعنا ،فلو تكبّر أحدنا
على الخر لتكبّر بشيء موهوب له ،ليس ذاتيا فيه؛ لذلك ينتصر ال لمن تكبّرت عليه ،ويجعله
أعلى منك ،وعندنا في الرياف يقولون( :اللي يرمي أخاه بعيب لن يموت حتى يراه في نفسه).
والمتكبّر في الحقيقة ناقصُ اليمان؛ لنه ل يتكبّر إل حين يرى الناس جميعا دونه ،ولو أنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
استحضر كبرياء خالقه لستحيا أنْ يتكبّر أمامه ،وهكذا كان استكبار فرعون وجنوده في الرض
بغير حق.
أما إنْ كان الستكبار من أجل حماية الضعيف ليعيش في ظلله فهو استكبار بحق؛ لذلك نقول
حين يصف الحق -تبارك وتعالى -نفسه بأنه العظيم المتكبّر نقول :هذا حق .لنه حماية لنا
جميعا من أنْ يتكبّر بعضنا على بعض.
جعُونَ } [القصص ]39 :فاستكبارهم في الرض جاء نتيجة
وقوله تعالى { :وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ إِلَيْنَا لَ يُ ْر َ
ظنهم بأنهم لن يرجعوا إلى ال ،وأنه تعالى خلقهم ورزقهم ،ثم تفلّتوا منه ،ولن يعودوا إليه ،لكن
هيهات ،ل ُبدّ -كما نقول -لهم رَجْعة.
()3219 /
خذْنَاهُ وَجُنُو َدهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّاِلمِينَ ()40
فَأَ َ
{ فََأخَذْنَا ُه وَجُنُو َدهُ فَنَبَذْنَا ُهمْ فِي الْيَمّ فَانظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الظّاِلمِينَ }
كأن الحق سبحانه لم يُمهلهم إلى أن يعودوا إليه يوم القيامة ،إنما عاجلهم بالعذاب في الدنيا قبل
خذْنَا ُه وَجُنُو َدهُ[ } ..القصص ]40 :أي :جميعا في قبضة واحدة ،التابع والمتبوع
عذاب الخرة { فَأَ َ
{ فَنَ َبذْنَاهُمْ فِي الْ َيمّ } [القصص ]40 :ألقينا بهم في البحر ،وهذا الخذ الذي يشمل الجميع في قبضة
واحدة يدلّ على قدرة الخذ ،وهذه مسألة ل يقدر عليها إل ال القوي العزيز.
خ َذهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود.]102 :
كما قال سبحانهَ {:وكَذاِلكَ َأخْذُ رَ ّبكَ ِإذَا َأخَذَ ا ْلقُرَىا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ إِنّ أَ ْ
خذُواْ مَآ
ولم يُوصَف أخْذ النسان بالقوة إل في قوله تعالى يحثّنا على أنْ نأخذ مناهج الخير بقوةُ {:
ءَاتَيْنَاكُم ِبقُ ّوةٍ[} ...البقرة.]93 :
ثم يقول سبحانه { :فَانظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الظّاِلمِينَ } [القصص ]40 :أي :نهايتهم وقد جاءت
عجيبة من عجائب الزمن وآية من آيات ال ،فالبحر والماء جُنْد من جنود ال ،تنصر الحق وتهزم
الباطل ،وقد ذكرنا كيف أنجى ال موسى -عليه السلم -وأهلك فرعون بالشيء الواحد حين
أمر ال موسى أنْ يضرب بعصاه البحر ،فصار كل فِرْق كالطود العظيم.
فلما أنْ جازه موسى وقومه إلى الناحية الخرى أراد أنْ يضرب البحر مرة أخرى؛ ليعود الماء
إلى سيولته واستطراقه فيصُحّح ال له ويأمره أنْ يدَعَهُ على حاله ،فالحق -تبارك -وتعالى -
سمَ ُع وَأَرَىا }[طه.]46 :
يتابع نبيه موسى خُطْوة بخطوة كما قال له {:إِنّنِي َم َع ُكمَآ أَ ْ
وحاشا ل أن يُكلّفه بأمر ثم يتركه ،ولما رأى فرعون الطريق اليابس أمامه عبر بجنوده ،فأطبقه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال عليهم ،فصاروا آية وعبرة ،كما قال سبحانه {:فَالْ َيوْمَ نُنَجّيكَ بِ َبدَ ِنكَ لِ َتكُونَ ِلمَنْ خَ ْل َفكَ آيَةً} ...
[يونس.]92 :
جتْ موسى من الغرق ،وقد ألقتْه أمه بيديها في الماء ،وأغرقتْ فرعون.
وتأمّلْ قدرة ال التي أن َ
()3220 /
جعَلْنَاهُمْ أَ ِئمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ ا ْلقِيَامَةِ لَا يُ ْنصَرُونَ ()41
وَ َ
أئمة :جمع إمام ،وهو مَنْ يُؤتَم به ،والمأموم أسيرُ إمامه ،فلو كنا في الصلة ل نركع حتى يركع،
ول نرفع حتى يرفع ،فمتابعتنا له واجبة ،فإنْ أخطأ وجب على المأموم أنْ يُنبّهه وأن يُذكّره يقول
له :سبحان ال ،تنبه لخطأ عندك ،إذن :نحن مأمومون له في الحق فقط ،فإنْ أخطأ عدّلْنا له.
والمام أُسْوة وقدوة للمأمومين في الخير ومنهج الحق ،كما قال تعالى في حَقّ نبيه إبراهيم عليه
عُلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما[} ...البقرة.]124 :
السلم {:وَإِذِ ابْ َتلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَا ِ
ل َومِن ذُرّيّتِي} ...
وعندها أراد إبراهيم عليه السلم أنْ تظلّ المامة في ذريته من بعده ،فقال{ قَا َ
عهْدِي
ل لَ يَنَالُ َ
[البقرة ]124 :فصحّح ال له وأعلمه أن المامة ل تكون إل في أهل الخير{ قَا َ
الظّاِلمِينَ }[البقرة.]124 :
لذلك لما دعا نوح -عليه السلم -ربهَ {:ربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي[} ...هود ]45 :صحح ال له{
ع َملٌ غَيْرُ صَالِحٍ[} ...هود.]46 :
إِنّهُ لَ ْيسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ
إذن :أهلية النبوة وأهلية المامة عمل وسلوك ل قرابة ول نَسَب.
جعَلْنَا ُهمْ أَ ِئمّةً َيدْعُونَ إِلَى النّارِ} ...
وقد تكون المامة في الشر ،كهذه التي نتحدث عنها { :وَ َ
[القصص ]41 :فهم أُسْوة سيئة وقدوة للشر ،وقد جاء في الحديث الشريف " :من سَنّ سُنّة حسنة
ن عمل
فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ،ومَنْ سنّ سُنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَ ْ
بها إلى يوم القيامة ".
حمِلُواْ َأوْزَارَهُمْ كَامِلَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ
ويقول تعالى في أصحاب القدوة السيئة {:لِ َي ْ
ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِلْمٍ[} ...النحل.]25 :
فكان فرعون وملؤه أسوة في الشر ،وأسوة في الضلل والرهاب والجبروت ،وكذلك سيكونون
في الخرة أئمة وقادة ،لكن إلى النار { وَ َيوْمَ ا ْلقِيامَ ِة لَ يُنصَرُونَ } [القصص.]41 :
()3221 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَأَتْ َبعْنَاهُمْ فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َلعْ َن ًة وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ هُمْ مِنَ ا ْلمَقْبُوحِينَ ()42
قوله تعالى { :وَأَتْ َبعْنَاهُم[ } ...القصص ]42 :يعني :جعلنا من خلفهم { :فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا َلعْنَةً} ...
[القصص ]42 :فكل مَنْ ذكرهم في الدنيا يقول :لعنهم ال ،فعليهم لعنة دائمة باقية ما بقيتْ الدنيا،
وهذا اللعْن والطرد من رحمة ال ليس جزاء أعمالهم ،إنما هو مقدمة لعذاب بَاقٍ وخالد في
عذَابا دُونَ ذَِلكَ[} ...الطور.]47 :
الخرة ،كما قال تعالى {:وَإِنّ ِللّذِينَ ظََلمُواْ َ
{ وَ َيوْ َم القِيَامَةِ ُهمْ مّنَ ا ْل َمقْبُوحِينَ } [القصص ]42 :مادة :قبح ،تقول للشرير :قبّحك ال ،أي:
حتُ الدّمل أي :فتحته ونكأته قبل ُنضْجه
طردك وأبعدك عن الخير .ولها استعمال آخر :تقول :قَ َب ْ
فيخرج منه الدم مع الصديد ويشوه مكانه.
وسبق أنْ قُلْنا :إن ال ّدمّل إذا تركته للصيدلية الربانية في جسمك حتى يندمل بمناعة الجسم
ومقاومته تجده ل يترك أثرا ،أما إنْ تدخلت فيه بالدوية والجراحة ،فل بُدّ أنْ يترك أثرا ،ويُشوّه
المكان.
ويكون المعنى إذن { :هُمْ مّنَ ا ْل َمقْبُوحِينَ } [القصص ]42 :أي :الذين تشوّ َهتْ وجوههم بعد نعومة
الجلد ونضارته ،وقد عبّر القرآن عن هذا التشويه بصور مختلفة.
يقول تعالىَ {:ووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ عَلَ ْيهَا غَبَ َرةٌ * تَرْ َه ُقهَا قَتَ َرةٌ }[عبس.]41-40 :
سوَ ّد ُوجُوهٌ[} ...آل عمران.]106 :
ض وُجُو ٌه وَتَ ْ
ويقول سبحانه{ َيوْمَ تَبْ َي ّ
ويقول {:وَنَحْشُرُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ َي ْومِئِذٍ زُرْقا }[طه.]102 :
ومعلوم أن زُرْقة الجسم ل تأتي إل نتيجة ضربات شديدة وكدَمات تُحدِث تفاعلت ضارة تحت
الجلد ،فتُسبّب زُرْقته ،وكذلك زُرْقة العين ،ومن أمراض العيون المياه الزرقاء ،وهي أخطر من
البيضاء.
لذلك يقول الشاعر:وَللْبخيلِ عَلَى َأمْواله عَِللٌ زُرْق العُيونِ عَليْها َأوْجُه سُودُلنه حريص على
أمواله ول يريد إنفاقها.
ويُستخدم اللون الزرق للتبشيع والتخويف ،وقد كانوا في العصور الوسطى يَطْلُون وجوه الجنود
باللون الزرق لخافة العداء وإرهابهم ،وتعارف الناس أنه َلوْن الشيطان؛ لذلك نقول في لغتنا
العامية (العفاريت الزرق) ونقول في الذم( :فلن نابه أزرق).
ويقول الشاعر:أَ َيقْتلُنِي والمْشرَفيّ مُضاجِعي ومَسْنُونَة زُرْقٌ كأنْيابِ أغْوالِأما السواد فيقُصد به
الوجه المشوّه المنفّر ،وإل فالسواد ل ُيذَم في ذاته كلون ،وكثيرا ما نرى صاحب البشرة السوداء
حسْن ل لونَ له.
يُشع جاذبية وبشاشة ،بحيث ل تزهد في النظر إليه ،ومعلوم أن ال ُ
شعّهما في جميع الصور .وقد ترى للون السود في بعض
حسْن والبشاشة ويُ ِ
وال تعالى يَهبُ ال ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوجوه أَسْرا وإشراقا ،وترى صاحب اللون البيض كالحا ،ل حيوية فيه.
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ.} ...
()3222 /
ح َمةً َلعَّلهُمْ
س وَهُدًى وَرَ ْ
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ مِنْ َبعْدِ مَا أَهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ الْأُولَى َبصَائِرَ لِلنّا ِ
يَتَ َذكّرُونَ ()43
قوله تعالى { :وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ مِن َبعْدِ مَآ َأهَْلكْنَا ا ْلقُرُونَ الُولَىا[ } ...القصص ]43 :قوم
نوح وعاد وثمود وغيرهم ،يعني :أن موسى -عليه السلم -جاء بَرْزخا وواسطة بين رسل
كذّبتهم أممهم ،فأخذهم ال بالعذاب ،ولم يقاتل الرسل قبل موسى ،إنما كان الرسول منهم يُبلّغ
الرسالة ويُظهر الحجة ،وكانوا هم يقترحون اليات ،فإنْ أجابهم ال وكذّبوا أوقع ال بهم العذاب.
كما قال سبحانه:
سفْنَا بِهِ
{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَ ْرسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ الصّيْحَ ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ خَ َ
سهُمْ َيظِْلمُونَ }[العنكبوت.]40 :
الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َم ُه ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
وهذا كله عذاب استئصال ،ل يُبقي من المكذبين أحدا.
ثم جاء موسى -عليه السلم -برزخا بين عذاب الستئصال من ال تعالى للمكذّبين دون تدخّل
من الرسل في مسألة العذاب ،وبين رسالة محمد صلى ال عليه وسلم ،حيث أمره ال بقتال الكفار
والمكذّبين دون أن ينزل بهم عذاب الستئصال ،ذلك لن رسالته عامة في الزمان وفي المكان إلى
أن تقوم الساعة ،وهو صلى ال عليه وسلم مأمون على حياة الخَلْق أجمعين.
لذلك يقول تعالى في مسألة القتال في عهد موسى عليه السلم {:أَلَمْ تَرَ ِإلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي ِإسْرَائِيلَ
مِن َبعْدِ مُوسَى[} ...البقرة ]246 :إنما في عهده وعصره{ إِذْ قَالُواْ لِنَ ِبيّ ّلهُمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَلِكا ّنقَا ِتلْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ َهلْ عَسَيْ ُتمْ إِن كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ َألّ ُتقَاتِلُواْ قَالُو ْا َومَا لَنَآ َألّ ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
َوقَدْ أُخْ ِرجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْاْ ِإلّ قَلِيلً مّ ْنهُمْ }[البقرة.]246 :
وقد ورد أن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " ما عذّب ال قوما ول قرنا ،ول أمة ،ول
أهلَ قرية منذ أنزل ال التوراة على موسى ".
كأن عذاب الستئصال انتهى بنزول التوراة ،ولم يستثْن من ذلك إل قرية واحدة هي (أيلة) التي
بين مدين والردن.
والحق -تبارك وتعالى -يعطينا أول تجربة لمهمة ،وتدخّل الرسل في قصة موسى عليه السلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وروُى عن أبي أمامة أنه قال :وإني لتحت َرحْل رسول ال -يعني :ممسكا برحْل ناقة الرسول -
يوم الفتح ،فسمعته يقول كلما حسنا جميلً ،وقال فيما قال " :أيّما رجل من أهل الكتاب يؤمن بي
فَلَهُ أجران -أي :أجر إيمانه بموسى ،أو بعيسى ،وأجر إيمانه بي -له ما لنا وعليه ما علينا ".
وهذا يعني أن القتال لم يكُنْ قد كُتِب عليهم.
وقوله تعالى { :وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ[ } ...القصص ]43 :أي التوراة { :مِن َبعْدِ مَآ أَهَْلكْنَا
ا ْلقُرُونَ الُولَىا[ } ..القصص ]43 :أي :بدون تدخّل النبياء { َبصَآئِرَ لِلنّاسِ.
[ { ..القصص ]43 :أي :آتيناه الكتاب ليكون نورا يهديهم ،وبصيرة ترشدهم ،وتُنير قلوبهم }
حمَةً[ { ...القصص ]43 :هدى إلى طريق الخير ورحمة تعصم المجتمع من فساد
وَهُدًى وَرَ ْ
المناهج الباطلة ،وتعصمهم أن يكونوا من أهل النار } ّلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ { [القصص.]43 :
جتَ لمن يُذكرك بها ،فهي ليست جديدة عليك،
والتذكر يعني :أنه كان لديك قضية ،ثم نسيتها فاحت ْ
هذه القضية هي الفطرة:
{ ِفطْ َرتَ اللّهِ الّتِي َفطَرَ النّاسَ عَلَ ْيهَا[} ...الروم.]30 :
لكن هذه الفطرة السليمة تنتابها شهوات النفس ورغباتها ،وتطرأ عليها الغفلة والنسيان؛ لذلك يذكّر
الحق سبحانه الناس بما غفلوا عنه من منهج الحق ،إذن :في الفطرة السليمة المركوزة في كل
نفس مُقوّمات اليمان والهداية ،لول غفلة النسان.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ.{ ...
()3223 /
َومَا كُ ْنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْبِيّ ِإذْ َقضَيْنَا إِلَى مُوسَى الَْأمْ َر َومَا كُ ْنتَ مِنَ الشّا ِهدِينَ ()44
قولهِ { :بجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ[ } ...القصص ]44 :أي :الجانب الغربي من البقعة المباركة من الشجرة،
لمْرَ[ } ...القصص]44 :
وهو المكان الذي كلّم ال فيه موسى وأرسله { إِذْ َقضَيْنَآ ِإلَىا مُوسَى ا َ
يعني :أمرناه به أمرا مقطوعا به ،وهو الرسالة.
{ َومَا كنتَ مِنَ الشّا ِهدِينَ } [القصص.]44 :
ولك أنْ تسأل :إذا لم يكُنْ رسول ال صلى ال عليه وسلم شاهدا لهذه الحداث ،فمَنْ أخبره بها؟
نقول :أخبره ال تعالى ،فإنْ قُلْت فربما أخبره بها شخص آخر ،أو قرأها في كتب السابقين.
نقول :لقد شهد له قومه بأنه أُميّ ،ل يقرأ ول يكتب ،ولم ُيعْلَم عنه أنه جلس في يوم من اليام إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مُعلّم ،كذلك كانوا يعرفون سيرته في حياته وسفرياته ورحلته ،ولم يكُنْ فيها شيء من هذه
الحداث.
لذلك لما اتهموا رسول ال أنه جلس إلى معلم ،وقالوا :كما حكى القرآن {:وَلَقَدْ َنعَْلمُ أَ ّنهُمْ َيقُولُونَ
ج ِميّ
إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ[} ...النحل ]103 :ردّ القرآن عليهم في بساطة {:لّسَانُ الّذِي يُ ْلحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْ َ
وَهَـاذَا ِلسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل.]103 :
وكانوا يقصدون بذلك حدادين روميين تردد عليهما رسول ال .وكذلك كانت المة التي ُبعِث فيها
رسول ال أمة أمية ،فمّمن تعلّم إذن؟
وإذا كانت المية صفة مذمومة ننفر منها ،حتى أن أحد سطحيي الفهم يقول :ل تقولوا لرسول ال
أميّ ونقول :إن كانت المية مَذمّة ،فهي ميزة في حق رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لن المي
يعني المنسوب إلى الم وما يزال على طبيعته ل يعرف شيئا.
جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا[} ...النحل ]78 :ونقول في
واقرأ قوله تعالى {:وَاللّهُ َأخْرَ َ
المثل (فلن زي ما ولدتْه أمه) يعني :ل يعرف شيئا ،وهذه مذمة في عامة البشر؛ لنه لم يتعلم
ممّنْ حوله ،ولم يستفِدْ من خبرات الحياة.
أما المية عند رسول ال فشرف؛ لن قصارى المتعلّم في أيّ أمة من المم أنْ يأخذ بطرفٍ من
العلم من أمثاله من البشر ،فيكون مدينا له بهذا العلم ،أمّا رسول ال فقد تعلم من العليم العلى ،فلم
يتأثر في علمه بأحد ،وليس لحد فضل عليه ول منة.
لذلك تعجب الدنيا كلها من أمة العرب ،هذه المة المية المتبدية التي ل يجمعها قانون ،إنما لكل
قبيلة فيها قانونها الخاص ،يعجبون :كيف سادتْ هذه المةُ العالمَ ،وغزتْ حضارتهم الدنيا في
نصف قرن من الزمان.
ولو أن العرب أمة حضارة لقالوا عن السلم قفزة حضارية ،كما قالوا بعد انتصارنا في أكتوبر،
وبعد أن رأى رجالنا أشياء غير عادية تقاتل معهم ،حتى أنهم لم يشكّوا في أنها تأييد من ال تعالى
لجيش بدأ المعركة بصيحة ال أكبر ،لكن ثالث أيام المعركة طلع علينا في جرائدنا من يقول :إنه
نصر حضاري ،وفي نفس اليوم فُتحت الثغرة في (الدفرسوار).
وعجيب أمر هؤلء من أبناء جلدتنا؛ لماذا تردّون فضل ال وتنكرون تأييده لكم؟ وماذا يضايقكم
في نصر جاء بمدد من عند ال؟ ألم تقرأواَ {:ومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ[} ...المدثر ]31 :وبعد
أن فُتحت الثغرة ماذا قدمتم لسدّها ،تعالوا بفكركم الحضاري وأخرجونامن هذا المأزق.
وإذا َث ُقلَ على هؤلء العتراف بجنود ال بين صفوفهم ،أليس المهندس الذي اهتدى إلى فكرة
استخدام ضغط الماء في فتح الطريق في (بارليف) لينفذ منه الجنود ،أليس من جنود ال؟
لقد أخذتْ منّا هذه الفكرة كثيرا من الوقت والجهد دون فائدة ،إلى أن جاء هذا الرجل الذي نوّر ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بصيرته وهداه إلى هذه العملية التي لم تَ ْأتِ اعتباطا ،إنما نتيجة إيمان بال وقُرْب منه سبحانه
وتضرّع إليه ،فجزاه ال عن مصر وعن السلم خيرا.
ومن العجيب ،بعد نهاية الحرب أنْ يُجروا للحرب بروفة تمثيلية ،فلم يستطيعوا اجتياز خط
بارليف ،وهم في حال أمْن وسلم.
نعود إلى قضية المية ونقول لمن ينادي بمحو المية عند الناس بأن يعلمهم من علم البشر؛ ليتكم
قُلْتُم نمحو المية عندهم لنعلمهم عن ال.
لمْرَ َومَا كنتَ مِنَ الشّاهِدِينَ {
إذن :فقوله تعالىَ } :ومَا كُنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
[القصص ]44 :يعني :ما رأى محمد هذه الحداث ول حضرها ،ومنه قوله تعالى عن شهر
صمْهُ[} ...البقرة ]185 :يعني :حضره.
شهْرَ فَلْ َي ُ
شهِدَ مِن ُكمُ ال ّ
رمضانَ {:فمَن َ
ثم يقول الحق سبحانه } :وََلكِنّآ أَنشَأْنَا قُرُونا فَتَطَا َولَ.{ ...
()3224 /
وََلكِنّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَا َولَ عَلَ ْيهِمُ ا ْل ُعمُ ُر َومَا كُ ْنتَ ثَاوِيًا فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آَيَاتِنَا وََلكِنّا كُنّا
مُرْسِلِينَ ()45
()3225 /
ح َمةً مِنْ رَ ّبكَ لِتُنْذِرَ َق ْومًا مَا أَتَا ُهمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبِْلكَ َلعَّلهُمْ
َومَا كُ ْنتَ ِبجَا ِنبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا وََلكِنْ رَ ْ
يَتَ َذكّرُونَ ()46
قوله تعالىَ { :ومَا كُ ْنتَ ِبجَا ِنبِ الطّورِ ِإذْ نَادَيْنَا[ } ...القصص ]46 :أي :موسى عليه السلم
ح َمةً مّن رّ ّبكَ[ } ...القصص ]46 :أي :أنك يا محمد ما شهدت هذه الحداث ،إنما
{ وَلَـاكِن رّ ْ
جاءتْك بالفضل من ال { لِتُنذِرَ َقوْما مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبِْلكَ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ } [القصص]46 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يتذكّرون ما غفلوا عنه من الفطرة السليمة التي فطر ال الناس عليها.
وكلمة (وما كنت) في مواضع عدة في القرآن تدل على أن رسول ال جاء بأخبار لم يقرأها في
كتاب ،ولم يسمعها من مُعلّم؛ لنه ل يقرأ ،ولم يُعرف عنه أنه جلس إلى مُعلّم ،وأهل الكتاب هم
الذين يعرفون صدْق هذه الخبار؛ لنها ُذكِرت في كتبهم ،لذلك قال القرآن عنهمَ {:يعْ ِرفُونَهُ َكمَا
َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآءَهُمُ[} ..النعام.]20 :
حفِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا }[العلى.]19-18 :
حفِ الُولَىا * صُ ُ
ويقول سبحانه {:إِنّ هَـاذَا َلفِي الصّ ُ
ومن علمات النبوة أن يخرق الحق سبحانه لنبيه صلى ال عليه وسلم حُجُب الغيب ،والشيء
يغيب عنك إما لنه ماضٍ ،ول وسيلةَ لك إليه ،وهذا هو حجاب الزمن الماضي ،وهو ل يُعرف
إل بواسطة القراءة في كتاب أو التعلم من مُعلّم ،وقد نفى ال تعالى هذا بالنسبة لرسوله صلى ال
عليه وسلم ،وإما أن يكون الحجابُ الزمن المستقبل والحداث التي لم ت ْأتِ بعْد ،ول يستطيع أن
يخبرك بها إل الذي يعلمها أ َزلً.
لذلك يقول تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم {:سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى ]6 :فكان النجم من
القرآن ينزل على رسول ال فلما يُسرى عنه يُمليه على أصحابه ،كل آية في مكانها وترتيبها من
السورة ،ثم يقرؤها بعد ذلك كما أُنزلت ،وكما أملها.
وسبق أنْ قُلْنا :تستطيع أن تتحدّى أيّ شخص بأن يتكلم مثلً لمدة ثُلث الساعة ،ثم يعيد ما قال،
ولن يستطيع ،أما المسألة مع سيدنا رسول ال فتختلف؛ لنها من ال تعالى{ سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }
[العلى.]6 :
وقلنا :إن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم في أول نزول القرآن عليه كان يُردد الية خلف
جبريل عليه السلم مخافة أن ينساها ،فإنْ قال جبريل {:وَالضّحَىا }[الضحى ]1 :قال رسول ال{
ج ْمعَهُ
جلَ بِهِ * إِنّ عَلَيْنَا َ
وَالضّحَىا }[الضحى ]1 :وهكذا ،فأنزل ال عليه {:لَ ُتحَ ّركْ بِهِ لِسَا َنكَ لِ َتعْ َ
َوقُرْآنَهُ * فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ }[القيامة.]18-16 :
ك وَحْيُهُ[} ...طه.]114 :
جلْ بِا ْلقُرْآنِ مِن قَ ْبلِ أَن ُيقْضَىا إِلَ ْي َ
وقال سبحانهَ {:ولَ َت ْع َ
أي :أرح نفسك يا محمد ،ول تخْشَ النسيان ،وانتظر حتى تنتهي اليات ،وسوف تعيدها كما هي،
ل تَنْسى منها حرفا واحدا.
حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَةً} ...
ل وَالْ ِبغَالَ وَا ْل َ
ومن كشف حُجُب الغيب المستقبل قوله تعالى {:وَالْخَ ْي َ
[النحل ]8 :ولو انتهتْ الية إلى هذا الح ّد لقالوا :ذكر القرآن البدائيات ،ولم يذكر شيئا عن السيارة
والصاروخ ..إلخ.
لكن الحق -تبارك وتعالى -يكمل الية
خلُقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[النحل ]8 :ليجعل في القرآن رصيدا لكل ما يستجد من وسائل
{ وَيَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المواصلت والنتقال إلى يوم القيامة.
سهِمْ َومِمّا
ت الَ ْرضُ َومِنْ أَنفُ ِ
ومن ذلك أيضا قوله تعالى {:سُ ْبحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِب ُ
لَ َيعَْلمُونَ }[يس ]36 :فكلّ شيء في الوجود قائم على الزوجين ذكورةً وأنوثة حتى الجمادات التي
ل نرى فيها حياة.
ض وَهُم مّن َب ْعدِ غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ *
ومن ذلك قوله تعالى {:الـم * غُلِ َبتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى الَ ْر ِ
فِي ِبضْعِ سِنِينَ[} ...الروم]4-1 :
فمَنْ يستطيع أن يحكم على نتيجة معركة بعد سبع سنين؟ وبعد ذلك يُصدّقه ال ،وتنتصر الروم،
وكانوا أهل كتاب على الفرس ،وكانوا يعبدون النار؛ لذلك قال سبحانه {:وَ َي ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ *
بِ َنصْرِ اللّهِ[} ...الروم.]5-4 :
ولما تشوّق الصحابة لداء العمرة ونزل على رسول ال قوله تعالى {:لَتَ ْدخُلُنّ ا ْل َمسْجِدَ الْحَرَامَ إِن
ج َعلَ مِن دُونِ ذَِلكَ فَتْحا
سكُمْ َومُ َقصّرِينَ لَ َتخَافُونَ َفعَِلمَ مَا لَمْ َتعَْلمُواْ َف َ
شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَّلقِينَ رُءُو َ
قَرِيبا }[الفتح.]27 :
ضتْ لهم قريش،
" فخرج بهم رسول ال حتى بلغوا الحديبية على ُبعْد 22كيلو من مكة تع ّر َ
ومنعتهم من العمرة ،واشترطوا عليهم العودة في العام المقبل ،وقد كتبوا وثيقة تعاهدوا فيها ،فلما
أملى رسول ال على الكاتب :هذا ما تعاهد عليه محمد رسول ال ،قام عمرو بن سهيل فقال :لو
كنا نعلم أنك رسول ال ما حاربناك ول رددناك ،إنما اكتب :هذا ما تعاهد عليه محمد بن عبد ال.
وعندها ثار صحابة رسول ال وغضبوا حتى راجعوا رسول ال فقال عمر :يا رسول ال ألسْنا
على الحق؟ قال :بلى ،قال :أليسوا على الباطل؟ قال :بلى قال :فَلِمَ نعطى الدّنية في ديننا ،فقال
الصّديق :الزم غَرْ َزهُ يا عمر ،يعني قف عند حدّك -إنه رسول ال.
ولما أصر علي بن أبي طالب أن يكتب محمد رسول ال نظر إليه رسول ال ،وقال " :يا علي
ستُسام مثلها فتقبل " وم ّرتْ اليام والسنون ،وقُبض رسول ال ،ثم أبو بكر ،ثم عمر ،ثم عثمان،
فلما تولّى عليّ الخلفة وحدثت الفتنة بينه وبين معاوية ،وقامت بينهما حرب الجمل ثم صفّين
حتى اضطر عليّ لنْ يكتب مع معاوية وثيقة لنهاء القتال أملى عليّ :هذا ما تعاهد عليه علي بن
أبي طالب أمير المؤمنين ،فقالوا له :لو أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ،فاسترجع عليّ قول رسول
ال " :سَتُسام مثلها فتقبل ".
إذن :خرق ال لرسوله حجاب الزمن الماضي ،والزمن المستقبل ،فماذا عن الزمن الحاضر؟
سهِمْ َل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا
وكيف يكون خرق الحجاب فيه؟ هذا في مثل قوله تعالى {:وَيَقُولُونَ فِي أَنفُ ِ
َنقُولُ[} ...المجادلة ]8 :فأطلعه ال على ما في نفوس القوم.
وفي غزوة مؤتة ،وهي الغزوة الوحيدة التي لم يحضرها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ومع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمّيت غزوة -لن الغزوة ل ُتقَال إل للمعركة التي حضرها رسول ال ،أما في مؤتة فقد
ذلك ُ
حضرها وشاهدها وهو في المدينة ،حيث كشف ال له حجاب الحاضر ،فصار يخبر أصحابه في
المدينة بما يجري في مؤتة وكأنها رَ ْأيُ العين.
ويومها تولى القيادة جماعة من كبار الصحابة :زيد بن حارثة ،وابن رواحة ،وجعفر بن أبي
طالب ،وخالد بن الوليد ،فكان صلى ال عليه وسلم يقول :قُتِل فلن وسقطت الراية ،فأخذها فلن
وقُتِل وحملها فلن ..إلخ فلما عادوا من الغزوة أخبروا بنفس ما أخبر به رسول ال صلى ال عليه
وسلم.
ثم يقول الحق سبحانه } :وََلوْل أَن ُتصِي َبهُم.{ ...
()3226 /
ك وَ َنكُونَ
س ْلتَ ِإلَيْنَا رَسُولًا فَنَتّبِعَ آَيَا ِت َ
وََلوْلَا أَنْ ُتصِي َبهُمْ ُمصِيبَةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِي ِهمْ فَ َيقُولُوا رَبّنَا َلوْلَا أَرْ َ
مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ()47
المعنى :لول أن تصيبهم مصيبة بما ق ّد َمتْ أيديهم لَعذّبناهم فاحتجوا قائلين { :رَبّنَا َلوْل أَرْسَ ْلتَ إِلَيْنَا
ك وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [القصص ]47 :فلو عذّبهم ال دون أن يرسل إليهم
رَسُولً فَنَتّ ِبعَ آيَا ِت َ
رسولً لكانت حجة لهم.
ص ول نصّ إل بإعلم ،لذلك تُنشر
وسبق أنْ قُلْنا :إنه ل عقوبة إل بتجريم ،ول تجريم إل بن ّ
الحكام في الوقائع الرسمية ليعرفها الجميع ،فتلزمهم الحجة ،ول ُيعْذَر أحد بالجهل بالقانون ،ول
يُعفى من العقاب.
إذن :قطع ال عليهم الحجة ،حين بعث إليهم رسول ال بمنهج الحق الذي يدلهم على الخير
والثواب عليه في الجنة ،ويحذرهم من الشر والعقاب عليه في النار{ لِئَلّ َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ
سلِ[} ...النساء.]165 :
حجّةٌ َبعْدَ الرّ ُ
ُ
إذن :الحكمة من إرسال الرسول إقامة الحجة على المرسَل إليهم مجرد إقامة الحجة؛ لن قضايا
الدين قضايا حقّ فطري يهتدي إليها العقل السليم بفطرته؛ لذلك وقف المستشرقون طويلً عند
شخصية عمر -رضي ال عنه .-
يقولون :تذكرون عمر في كل شيء :في العدل تقولون عمر ،وفي القوة تقولون عمر ،وفي وجود
رسول ال تقولون نزل القرآن موافقا لكلم عمر ،أليس عندكم إل عمر؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكأن الحق -تبارك وتعالى -يدلّنا بشخصية عمر إلى أنه سبحانه لم يُكلّفنا بقضايا تنفر منها
الفطرة ،إنما بقضايا تقبلها فطرتنا السليمة ،وتهتدي إليها بطبيعتها السوية الخالية من الهوى ،وهذا
عمر لم يكُنْ نبيا ول رسولً ،لكن كان يصل إلى الحق بما فيه من فطرة إيمانية وعقلية سالمة من
الهواء ،حتى وصلت به الفطرة السليمة إلى أنْ ينطق القرآن بنفس ما نطق به.
وكلمة { وََلوْل[ } ...القصص ]47 :تأتي بأحد معنيين :إنْ دخلتْ على الجملة السمية فهي حرف
امتناع لوجود ،كما لو قلت :لول زيد عندك لَزر ُتكَ ،فامتنعتْ الزيارة لوجود زيد ،ومن هذه قوله
تعالى { :وََلوْل أَن ُتصِي َبهُم ّمصِيبَةٌ[ } ...القصص ]47 :والتقدير :لول إصابتهم.
فإنْ دخلتْ (لول) على الجملة الفعلية أفادتْ الحثّ والحضّ ،كما تقول لولدك :لول ذاكرتَ
دروسك ،وكذلك لول الثانية في الية { فَ َيقُولُواْ رَبّنَا َلوْل أَ ْرسَ ْلتَ إِلَيْنَا رَسُولً فَنَتّبِعَ آيَا ِتكَ وَ َنكُونَ
مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [القصص.]47 :
ثم يقول الحق سبحانه { :فََلمّا جَآ َءهُمُ ا ْلحَقّ مِنْ عِندِنَا.} ...
()3227 /
حقّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا َلوْلَا أُو ِتيَ مِ ْثلَ مَا أُو ِتيَ مُوسَى َأوَلَمْ َي ْكفُرُوا ِبمَا أُو ِتيَ مُوسَى مِنْ
فََلمّا جَاءَهُمُ الْ َ
قَ ْبلُ قَالُوا سِحْرَانِ َتظَاهَرَا َوقَالُوا إِنّا ِب ُكلّ كَافِرُونَ ()48
حقّ مِنْ عِندِنَا[ } ...القصص ]48 :أي :الرسول الذي طلبوه { قَالُواْ
قوله تعالى { :فََلمّا جَآءَ ُهمُ الْ َ
ن كنتَ كذوبا فكُنْ َذكُورا ،لقد
َلوْل أُو ِتيَ مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ مُوسَىا[ } ...القصص ]48 :سبحان ال ،إ ْ
طلبتم مجرد الرسول ولم تطلبوا معه معجزة معينة فقلتم {:رَبّنَا َلوْل أَ ْرسَ ْلتَ إِلَيْنَا رَسُولً} ...
[القصص ]47 :والن تطلبون آيات حِسيّة كالتي أرسل بها موسى من قبل.
والمتأمل يجد أن اليات قبل محمد صلى ال عليه وسلم كانت آيات حِسيّة كونية ،مثل سفينة نوح
عليه السلم ،وناقة صالح عليه السلم ،وعصا موسى عليه السلم ،وإبراء الكمه والبرص
وإحياء الموتى بإذن ال بالنسبة لسيدنا عيسى عليه السلم .وهذه كلها معجزات حسية تنتهي
بانتهاء وقتها ،فهي مناسبة للرسل المحدودي الزمن ،والمحدودي المكان.
سلَ للناس كافّة في الزمان وفي المكان ،فل تناسبه الية الحسيّة الوقتَية؛ لنها
أما الرسول الذي أُر ِ
ستكون معجزة لزمانها ،وتظل العصور فيما بعد بل معجزة ،لذلك جاء الحق -تبارك وتعالى -
حفْظ ال إلى يوم القيامة.
على يد محمد صلى ال عليه وسلم بمعجزة باقية خالدة محفوظة ب ِ
وقلنا :إن الرسل قبل محمد صلى ال عليه وسلم كان الرسول يأتي بمعجزة تثبت صِدْق بلغه عن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال ،ومعه كتاب يحمل منهجه ،فالكتاب غير المعجزة ،أما محمد صلى ال عليه وسلم فجاءت
معجزته هي عَيْن الكتاب والمنهج الذي أُرسِل به ليظل الدليل على صِدْقه باقيا مع المنهج الذي
يطالب الناس به ،وإلى أن تقوم الساعة نظل نقول :محمد رسول ال معجزته هي عَيْن الكتاب
والمنهج الذي أُرسل به ليظل الدليل على صِدقْه باقيا مع المنهج الذي يطالب الناس به ،وإلى أن
تقوم الساعة نظل نقول :محمد رسول ال وهذه معجزته.
أمّا إخوانه من الرسل السابقين فنقول فلن ،وكانت معجزته كذا على سبيل الخبار ،والخبر
يحتمل الصّدْق ويحتمل الكذب.
وقد صدّقنا بهذه المعجزات كلها؛ لن ال أخبرنا بها في القرآن الكريم ،فللقرآن الذي جاء معجزة
ومنهجا الفضل في إبقاء هذه المعجزات؛ لنه أخبر بها وخلّد ذكرها.
ثم يرد ال عليهمَ { :أوَلَمْ َي ْكفُرُواْ ِبمَآ أُوتِيَ مُوسَىا مِن قَ ْبلُ[ } ...القصص ]48 :ثم يحكي ما قالوا
سحْرَانِ َتظَاهَرَا[ } ...القصص ]48 :أي :أن
عن معجزة موسى ،وعن معجزة محمد { قَالُواْ ِ
موسى جاء بسحر ،ومحمد جاء بسحر آخر ،وقد { َتظَاهَرَا[ } ..القصص ]48 :علينا يعني:
حمْل معا ،والظهْر
تعاونا ،وهي مأخوذة من الظهر كأنك قُلْت :أعطني ظهرك مع ظهري لنحمل ال ِ
محلّ الحمل.
والرد على هذا التهام يسير ،فمعجزة موسى وإنْ كانت من جنس السحر إل أنها ليست سحْرا،
فالسحر يُخيّل لك أن الحبال حية تسعى ،أمّا ما فعله موسى فكان قلب العصا إلى حية حقيقية
تسعى وتبتلع سحرهم ،لذلك أُلقي السحرة ساجدين؛ لنهم رأوا معجزة ليستْ من جنس ما نبغوا
فيه فآمنوا من فورهم.
أما الذين قالوا عن محمد صلى ال عليه وسلم :إنه ساحر فالردّ عليهم بسيط :فلماذا لم يسحركم
أنتم أيضا كما سحر المؤمنين به؟
ثم يؤكدون كفرهم بكل من الرسولين :موسى ومحمدَ { :وقَالُواْ إِنّا ِب ُكلّ كَافِرُونَ } [القصص.]48 :
()3228 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا